الامام الصادق و المذاهب الاربعه المجلد 4

اشارة

عنوان و نام پدیدآور:الامام الصادق و المذاهب الاربعه / اسد حیدر

مشخصات نشر:دارالکتاب الاسلامی - بیروت - لبنان- 1422

زبان: عربی

مشخصات ظاهری:4ج

موضوع:امام صادق علیه السلام

موضوع:مذاهب اربعه - اهل سنت

ص :1

ص :2

الامام الصادق و المذاهب الاربعه / اسد حیدر

ص :3

عنوان و نام پدیدآور:الامام الصادق و المذاهب الاربعه / اسد حیدر

مشخصات نشر:دارالتعارف للمطبوعات - بیروت - لبنان- 1422

زبان: عربی

مشخصات ظاهری:4ج

موضوع:امام صادق علیه السلام

موضوع:مذاهب اربعه - اهل سنت

ص :4

صوره

ص :5

الجزء السابع

اشارة

ص :6

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِیاً یُنادِی لِلْإِیمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّکُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ کَفِّرْ عَنّا سَیِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ. رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلی رُسُلِکَ وَ لا تُخْزِنا یَوْمَ الْقِیامَةِ إِنَّکَ لا تُخْلِفُ الْمِیعادَ [آل عمران:193 و 194]

ص:7

ص:8

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

و ما توفیقی إلا باللّه علیه توکلت و إلیه أنیب

تقدیم:

اشارة

کان تأخر صدور هذا الجزء من کتابنا(الإمام الصادق و المذاهب الأربعة)-و هو السابع-فترة انقطاع بیننا و بین القراء،لم تکن مقصودة و کنا ننوی أن یکون الجزء السابع نهایة البحث و خاتمة المطاف فی سفر کلّفنا ثمنا غالیا من الجهد و العناء،و قد خفف عنا ما لقیه من استجابة و إقبال لدی القراء،کم حاولت أن أتخطی عوائق العمل،و أذلل ما أواجه من صعاب لمواصلة و إکمال البحث فیه،لیخرج هذا الجزء إلی أیدی القراء قبل هذا الوقت،إلا أن العوائق تلک و الصعاب کانت تزداد اتساعا و تعقیدا،و ها أنا ذا أزاول نشاطی لإکمال السلسلة،فأتناول أهم الأبحاث المخصصة للحدیث عن کل واحد من أئمة المذاهب الأربعة بإیجاز استکمالا لما سبق و استدراکا لأمور لم نذکرها،إذ لم نتعرض لها من قبل کمعرفة الأولاد و الأحفاد،و الوقوف علی بعض الآثار و الآراء و أمور فکریة و فقهیة أخری مما یضیق بها حیز الجزء السابع فأتبعناه بثامن.

نرجو اللّه أن یکون به کمال الفائدة و نهایة القصد.و قد آثرت تأخیر الحدیث عن الإمام الصادق علیه السّلام لما یتطلبه ذلک من إفاضة فی بعض الأمور کالإشارة إلی أولاده و أحفاده الذین ورثوا مدرسته،و ما یتعلق بذلک من استطراد یقتضیه البحث فی الحدیث عن الطائفة الإسماعیلیة التی تنسب إلی إسماعیل ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق،و ما یحیط حیاته من ملابسات،و ما وقع فی ذلک من اختلاف.

ص:9

و ألتزم هنا نهج البحث فی عوامل التعصب الطائفی و أسباب الخلاف المذهبی کمشکلة تاریخیة سببت الفرقة بین المسلمین و فککت وحدتهم و باعدت بینهم،و قد خصصت فی الأجزاء السابقة من الکتاب حیزا کبیرا لدراسة نتائج التعصب و عوامل قیامه،و أوضحت ما علق بفعل ذلک فی أذهان الناس من أمور تسیء إلی مفهوم الانتماء إلی المذاهب و غلبة نزعة العداء علی جوهر المبادئ،حتی أدی ظاهر الالتزام بها إلی الخروج عن میزان الشرع،و حدوث انعکاسات سلبیة علی المجتمع فأحدثت خللا فیه،إذ خرجت المنازعات عن حدود التوازن الفکری أو الخلاف الواعی، فتعددت حدود الاستقامة و الاعتدال-فی السلوک و التصرف-إلی الاعتقاد،حتی أصبح النص الوارد فی الکتاب(عند بعضهم)لا یعمل به إن خالفه رئیس المذهب الذی أصبحت أقواله سنة،و مخالفته بدعة،و عدم اتباعه کفرا،حتی قالوا أن الکتاب تنسخه مخالفة أقوال علماء المذهب،یقول الکرخی (1):«الأصل أن کل آیة تخالف قول أصحابنا فإنها محمولة علی النسخ،أو علی الترجیح و الأولی علی التأویل،من جهة التوفیق.الأصل أن کل خبر یجیء بخلاف قول أصحابنا فإنه یحمل علی النسخ،أو یحمل علی أنه معارض بمثله،ثم صار إلی دلیل آخر أو ترجیح فیه،بما یحتج به أصحابنا من وجوه الترجیح،أو یحمل علی التوفیق» (2).

و یبین لنا هذا النص مدی الارتباط بالمذهبیة و الالتزام بأقوال الأئمة حتی و إن خالفت الواقع،و یخضعون الکتاب لموافقة أقوالها،و إذا امتنع النص القرآنی فإنهم ینسخون و یعملون بما جاء عن أصحاب المذاهب«فهم مدفوعون وراء المذهبیة تعصبا،و یطرحون الدلیل و یؤوّلونه تأویلا بعیدا لا یتفق مع الحقیقة.فهذه هی المذهبیة التی یبغضها اللّه و رسوله» (3).

و لقد أدت شئون الحکم و مقتضیات السلطان إلی تبنی التمذهب و جعل الرئاسة فی الفقه من أعمدة السیاسة،فتأثر-تبعا لمواقف الملوک و الحکام،وجود و نشاط

ص:10


1- (1) عبید اللّه بن الحسن أبو الحسن الکرخی.ولد سنة ستین و مائتین،و مات سنة أربعین و ثلاثمائة، انتهت إلیه رئاسة الحنفیة،کان من المجتهدین فی المسائل علی مذهب أبی حنیفة،و له المختصر و شرح الجامع الصغیر و شرح الجامع الکبیر.
2- (2) الدکتور مصطفی سعید الجن،نقلا عن أصول الکرخی،ص 84 القاهرة 1972.
3- (3) الدکتور مصطفی سعید الجن،أثر الأخلاق فی القواعد الأصولیة،ص 9.

و انتشار المذاهب إذ لم یجر الحکام علی مذهب بعینه،و إنما یتقرر ذلک بحسب الظروف و الملابسات و عوامل النفوذ و الغلبة سیما و إن العالم الإسلامی بات مسرحا للقوة یشهد نتائج الغلبة علی شکل دول و وزارات و جیوش.و لا بد أن یکون القضاء- و هو من أکثر الوظائف استقرارا لأصوله المعروفة و أهمیته فی حیاة الناس-من أولیات شئون السلطان التی تتسرب إلیها موجات التمذهب،و تتطلع إلیها الرغبات،فحصرت بعد زمن بالمذاهب الأربعة،و سارت الأمور علی الاستعانة بما کان من مقتضیات السلطان فی الأساس،و هو تحدید المراتب الفقهیة و المراجع فی أشخاص بأعیانهم.

یحکی عن أبی زرعة-تلمیذ البلقینی-أنه سأل أستاذه عن المانع للشیخ تقی الدین السبکی عن الاجتهاد و هو جامع للشروط.فسکت البلقینی و لم یجب.فقال أبو زرعة:«فما عندی ان الامتناع عن ذلک لیس إلا للوظائف التی قدرت للفقهاء علی المذاهب الأربعة،و إن من خرج عن ذلک و اجتهد لم ینل شیئا من ذلک،و حرم ولایة القضاء،و امتنع الناس عن استفتائه،و نسبت إلیه البدعة.فتبسم و وافقنی علی ذلک».

و امتد تأثیر ذلک لینعکس علی نهج التعامل مع وقائع التاریخ و روح المبادئ، فراح أغلب المؤرخین ینقادون للنزعة الطائفیة المشبعة بالعصبیة الإقلیمیة أو القبلیة معتمدین علی الخرافات و الادعاءات التی تؤجج نار الفرقة و تزید الانقسام،لتطغی حدة الخلاف علی الحقیقة،و تدفع الأمور فی مسار لا یخضع لمنطق و لا یأبه بالشواهد إرضاء لرغبة الحکام،و تزلفا لذوی السلطة،و بذلک عجّ التاریخ بما نجم عن تلک النزعات،فأصبح البحث عن الحقیقة و التوسل إلی استخلاص الواقع،أو استنباط الجوهر محاطا بعوائق و صعوبات،بعد أن أدی تقادم الزمن و استمرار القناعة بما صدر عن مصادر التعصب و جهات الانقسام،إلی أن تکتسب شکلا ثابتا یقف بوجه موجات الوعی التی تنمو بین شبابنا المسلم المتصف بروح العلم و الموضوعیة.

لقد کان التحیّز فی طرح مواضیع لها أهمیتها لتعلّقها بحیاة المسلمین و تفاصیل وجودهم هویة الباحثین المرتبطین بالسلطة،و کانت نبرة الفرقة و دعوة الانقسام،بطاقة الدخول إلی عالم القصور و الرفاه السلطوی،و بذلک ارتکب هؤلاء جنایة علی أجیالنا إذ تنصلوا من مهمات الباحث و مسئولیاته،و تخلوا عن أصول الأمانة فی نقل الأحداث و تصویر الظروف و العوامل،فساقوا الآراء دون تمحیص أو تقدیر لمرحلة أو وضع تاریخی معین.و أنّی لنا الحصول علی نهج تاریخی یراعی مصلحة الأمّة و یقدّر

ص:11

ضرورات الدین أو الدّعوة،ما دامت أهواء السلطة و التحکم کامنة وراء ما یصدر عن الباحثین.

و رغم ذلک،لم یتعدّ الخلاف بین المسلمین المسائل الثانویة و الفقهیة،إذ لم یکن الخلاف یوما فی التوحید أو الکتاب أو السنة،فهم بحمد اللّه متفقون علی توحید اللّه و علی کتابه،و مجمعون علی أن ما بین الدّفتین هو القرآن بدون زیادة أو نقصان، و لم یختلفوا فی وجوب الأخذ بسنة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و إن اختلفوا فی الفهم أو التفسیر،أو توقفوا فی تحقیق الطریق الموصل إلی أخذ الحدیث صدر عن الرسول أو لم یصدر.

و لقد هیأ اللّه لهذه الأمة علماء جنّدوا أقلامهم لمواجهة نتائج دعوات التعصب و الانقسام،فکتب الکثیر منهم فی ذلک حرصا علی سنة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و منعا لأیدی العابثین من الوصول إلیها،و دحضا للکذابین و الجهال.

و قد رکزنا فی البحث حول الخلافات المذهبیة و النزعات الطائفیة التی أدت إلی الفتنة و الشقاق،فعطلت قوی الأمة و شلّت طاقاتها.

و إذا کان التاریخ الإسلامی قد شهد منذ فجر الدعوة بذور الفرقة و الشقاق،فإننا لا نود أن نتعرض فی بحثنا إلی مجریات عهد الخلافة و آثار الخلافات علی المجتمع الإسلامی،و بروز النزعات الشخصیة و المصالح الذاتیة.و لا للخصومة فی مرتکب الکبیرة و غیرها.و إنما بحثنا فی المذاهب و اتساع عوامل الفرقة و الخلاف التی أدت إلی فتن غذّاها الاختلاف فی الآراء،و ما رافق ذلک من مهاترات و خصومات تطورت إلی حروب سالت فیها دماء،و أهینت کرامات،و انتهکت حرمات.

و قد رأینا فیما سبق من أجزاء البحث،کیف تضافرت عوامل عدیدة علی إثارة المشاکل،و کیف وقعت الأمة فی امتحان قاس،و قد کانت ظروف الفتنة و شیوع الاضطراب،فرصة للجهلة و الغوغاء من الناس للظهور و احتلال مواقع،فیما اضطهد المفکرون و کمّت أفواههم،و نورد هنا قول العلامة المصلح الشیخ محمد عبده الذی یعکس هذا الظرف فیقول:«و السبب فی بقاء قوة سلطان الخلاف و النزاع هو تفشی الجهل،و تعصب أهل الجاه من العلماء لمذاهبهم التی ینتسبون إلیها،و بجاهها یعیشون و یکرمون،و تأیید الأمراء و السلاطین لهم،استعانة بهم علی إخضاع العامة، و قطع طریق الاستقلال العقلی علی الأمة.لأن هذا أعون علی الاستبداد،و أشدّ

ص:12

تمکینا لهم مما یحبون من الفساد و الإفساد.فاتفاق کلمة علماء الأمة و اجتماعها علی أن الحق کذا بدلیل کذا ملزم للحاکم باتباعهم فیه،لأن الخواص إذا اتحدوا اتبعهم العوام،و هذه هی الوسیلة الوحیدة لمنع استبداد الحکام،فالدّین یأمر برفع الشقاق و التنازع و بالاعتصام بحبل الوحدة،و هذا معنی قوله تعالی: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا و قوله تعالی: وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا و قول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«و لا ترجعوا بعدی کفارا یضرب بعضکم أعناق بعض».

ثم یقول المرحوم الشیخ محمد عبده:و قد خالفنا کل هذه النصوص،فتفرقنا و تنازعنا،و حارب بعضنا بعضا باسم الدین،لأننا سلکنا مذاهب متفرقة،کل فریق یتعصب لمذهبه،و یعادی سائر إخوانه المسلمین لأجله،زاعما أنه بهذا ینصر الدین، و لیس فی ذلک إلا خذلانه بتفریق کلمة المسلمین،هذا سنّی یقاتل شیعیا،و هذا شافعی یغری التتار بحنفی،و هذا حنفی یقیس الشافعیة علی الذمیة» (1).

و یقول السید رشید رضا:«حتی أن من اتباعهم(أی أئمة المذاهب)من قدّمهم علی الأنبیاء عند تعارض کلامهم مع الحدیث الصحیح،فإنهم یردّون کلام النبی المعصوم-مع اعتقاد صحة سنده-بقول نقل عن إمامهم،و یتعللون باحتمالات ضعیفة» (2).

و لا أملک أن أستطرد دون أن أشیر إلی أن هذا القول هو تعبیر عن واقع یأتی مصحوبا بخروج عنه،و میل إلی ما استنکر فیه،إذ أن السید رشید رضا شهد فترة نضج جهود المصلحین المحدّثین،و تبلور أفکار الوعی،غیر أنه أسهم هنا و هناک فیما یخالف اتجاه التحرر من التعصب و نهج التحقق و البحث اللذین اتسم بهما فکر الفترة الدینیة التی یتصدرها المرحومان السید جمال الدین الأفغانی و تلمیذه الشیخ محمد عبده،و الذی تلاقح و تمازج مع تیارات الوعی و دعوات الوحدة الإسلامیة.

و هناک صور من حالات الانقسام و الشقاق ذکرها ابن قدامة:«ففی طرابلس الغرب،ذهب بعضهم إلی المفتی و قال له:اقسم المساجد بیننا و بین الحنفیة،لأن فلانا من فقهائهم یعبر عنا کأهل الذمة،بما أذاع فی هذه الأیام من اختلاف الأحناف

ص:13


1- (1) ما لا یجوز فیه الخلاف بین المسلمین ص 65-66.
2- (2) انظر مقدمة المغنی لابن قدامة.

فی:هل یجوز للحنفی أن یتزوج الشافعیة؟فقال بعض الأحناف:لا یصح لأنها تشک فی إیمانها،لأن الشافعیة یجیزون أن یقول المسلم:أنا مؤمن إن شاء اللّه.و هذا یدل علی عدم تیقنها فی إیمانها فی اللّه،و الإیمان لا بد له من الیقین.

و أن بعض الأتباع سمع رجلا یصلی مأموما یقرأ الفاتحة،فضربه بیده علی صدره ضربة قویة وقع منها علی ظهره و کاد یموت.و أن بعضهم کسر سبّابة رجل لأنه رفعها فی التشهد،بفتوی أحد علماء الحنفیة-و هو الکیدانی-بحرمة رفع السبابة، و اعتبروا ذلک نصا إلهیا،و حکما قطعیا فمن خالفه عوقب علی جریمته» (1).

و یذکر العلامة العز بن عبد السلام الشافعی فی أمور الأخذ بما فیه اختلاف، و أن لا بأس بفعل أو ترک ما لا ینقض الحکم الشرعی:أن الناس لم یزالوا علی ذلک یسألون من اتفق من العلماء من غیر تقیید بمذهب و لا إنکار علی أحد من السائلین، إلی أن ظهرت هذه المذاهب و متعصبوها من المقلدین،فإن أحدهم یتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدا له فیما قال،فکأنه نبی أرسل إلیه.و هذا نأی عن الحق،و بعد عن الصواب لا یرضی به أحد من أولی الألباب...الخ (2).

و یقول التاج السبکی:و لقد رأیت فی طوائف المذاهب من یبالغ فی العصبیة بحیث یمتنع بعضهم عن الصلاة خلف بعض إلی غیر هذا مما یستقبح ذکره،و یا ویح هؤلاء أین هم من اللّه.و لو کان الشافعی و أبو حنیفة رحمهما اللّه حیین لشددا النکیر علی هذه الطائفة (3).

کما یذکر ابن قدامة أن أربعمائة قاض حنفی و شافعی هاجروا فرارا من تحکم الغوغاء.و حدثت بدمشق عدة حوادث بین الشافعیة و الحنابلة،و بین الشافعیة و الحنفیة،کل ذلک بسبب الطعن فی المعتقدات لأمور تافهة.فمثلا أن ابن القشیری- و هو أحد علماء الشافعیة-یدخل بغداد،و یرقی المنابر للوعظ،فتقوم قائمة الحنابلة، و تقع بینهم و بین الشافعیة فتنة،و بسبب ذلک یسجن بعض العلماء لإطفاء نارها.

و فی سنة 421 هجری بین بعض الأتراک و بعض الهاشمیین منازعة،فاجتمع

ص:14


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) انظر عقد الجید فی أحکام الاجتهاد و التقلید للدهلوی ص 12.
3- (3) الإعلان بالتوبیخ لمن ذم التاریخ للسخاوی ص 130 و 131. [1]

الهاشمیون و من والاهم من الشیعة و غیرهم فی مسجد المدینة،و رفعوا المصاحف و استفزوا الناس،فاجتمع لهم العدد الکبیر من الکرخ.و اجتمع الأتراک و هم جند الدولة و أعیان بغداد فی ذلک الیوم و اشتد القتال بین الطرفین (1).

و لا یخفی دور السلطة فیما یحدث،و أن الفتن التی تجری-و ما یتخللها من نیل من مقامات العلم،و تعد علی أصحاب المکانات الدینیة-من صنعها،فینحاز الحکام إلی طرف دون آخر.فی حین یعلم أن ذلک من تعاطی السفهاء-کما ینص ابن کثیر فی وصفهم-و إلا کیف یضرب خطیب جامع بالآجر و یکسر أنفه و یخلع کتفه؟و لما ذا یقبل آخرون علی أناس یحیون ذکری عاشوراء بالحدید،فیقتتلون اقتتالا شدیدا، و یقتل من الفریقین طوائف کثیرة،و تجری بینهم فتن و شرور مستطیرة.

و یحدثنا ابن الجوزی فی حوادث سنة 494 ه أن السلطان قتل خلقا من الباطنیة یبلغ عددهم ثلاثمائة و نیفا،و کتب بذلک کتابا للخلیفة،فتقدم بالقبض علی قوم یظن فیهم ذلک المذهب،و زاد تتبع العوام لکل من أرادوا،و صار کل من فی نفسه شیء من إنسان یرمیه بهذا المذهب،فیقصد و ینهب (2).

کما وقع کثیر من الفتن بین الناس بسبب اختلاف الآراء بین العلماء من فقهاء و مفسرین،فبدلا من أن تعقد المجالس لرفع ذلک الالتباس و إزالة الخلافات، أصبحت مثار فتن و سببا لتدخل الغوغاء و أصحاب الأهواء الفاسدة،المندسّین فی صفوف المسلمین.

و قد حدث أن اختلف الحنابلة و غیرهم من السنة فی تفسیر قوله تعالی: عَسی أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقاماً مَحْمُوداً فقالت الحنابلة أن المقصود من هذه الآیة أن یقعد اللّه نبیه علی عرشه.و قال غیرهم:أن المقصود هو الشفاعة،و احتدم الجدل،و اتسع النزاع بسبب ذلک الخلاف،و اقتتل الحنابلة مع خصومهم (3)إذ کانت لهم القوة فی بغداد لمساندة السلطة لهم و التفاف العامة حولهم و انضمام کثیر من الجند إلیهم.و قتل منهم قتلی کثیرة، و کان جماعة أبی بکر المروزی أبطال هذه الفتنة (4)و اعتمدوا علی القوة.

ص:15


1- (1) ابن کثیر،البدایة و النهایة ج 12 ص 26 و 28. [1]
2- (2) المنتظم ج 9 ص 120. [2]
3- (3) السیوطی،تاریخ الخلفاء ص 154. [3]
4- (4) الکامل لابن الأثیر ج 8 ص 132. [4]

و استمر مدة من الزمن یرهبون قلوب الناس،و یتعرضون بالشرّ لغیرهم من الطوائف،و إغراء بعضهم بعضا.مما حمل الخلیفة الراضی علی إصدار منشور فی ردعهم بالقتل إن لم یرجعوا عن غیّهم (1).

و من الملاحظ أن هذا المنشور قد أوقف نشاطهم.عن إثارة الفتن و الوقیعة بغیرهم،و خفف عن الناس بعض تلک الشرور التی لحقتهم بفعل التعصب لعقائد فی التجسیم و آراء واهیة مشبهة تجعل اللّه کالمخلوقات و المحدثات،و من نیل لمقامات الأولیاء و مظاهر الاحتفال بسیرهم.و کان الراضی صریحا فی إعلانه و شدیدا فی بیانه و قد توعّدهم فی ختامه بالعقوبات الصارمة.و مما جاء فی منشوره:«ثم استدعاؤکم المسلمین إلی الدین بالبدع الظاهرة و المذاهب الفاجرة التی لا یشهد بها القرآن، و إنکارکم زیارة قبور الأئمة و تشنیعکم علی زوّارها بالابتداع،و أنتم مع ذلک تجتمعون علی زیارة قبر رجل من العوام...الخ»و مضمون البیان یعبّر عن عودة إلی أصول الحق و قواعد التفکیر السلیم.

و فی أحضان الحکام و المتنفّذین،نشأ التعصب عنیفا،و غدا من أسلحتهم الفتاکة،فاستغل الحنابلة وجود من یتعصب لمذهبهم فی فترة ردود الفعل و انعطاف الخلفاء الحکام لاستمالتهم فی مواجهة آثار التطرف و التجاوز التی ارتکبت من المعتزلة عند ما رکنوا إلی السلطان و تناءوا عن مصادر الفکر.فکان الوزیر یحیی بن محمد بن هبیرة حنبلیا متعصبا لمذهبه،فنعموا فی ظل سلطته،و تصرفوا فی أمور لا یسوغ لهم الدخول بها.و لم تعدم المذاهب الأخری من مناصرین لها باستعمال سلاح التعصب و الطائفیة،فکان من یعهد إلیه بوظیفة یوجه جهوده لنصرة مذهبه،و التحامل علی غیره.فکان مرجان الخادم شافعی المذهب،تعصب علی الحنابلة،و کان بینه و بین الوزیر بن هبیرة عداء لأنه حنبلی و یتعصب لهم،کما نصب العداء لابن الجوزی، -و هو عالم الحنابلة و المبرز فی عصره-و کان فی عصرهما الأمیر محمد بن موسی الترکی أمیر دمشق-و هو حنفی المذهب-و یتعصب للحنفیة تعصبا مفرطا،و یعادی بقیة المذاهب،و بالأخص الشافعیة،و کان یعلن بأنهم لیسوا من المسلمین،و یقول:

لو کانت لی الولایة لأخذت من الشافعیة الجزیة (2)و عند ما برز الوزیر نظام الملک فی

ص:16


1- (1) ابن مسکویه،تجارب الأمم ج 1 ص 322.
2- (2) ابن کثیر ج 12 ص 175. [1]

محافل الملوک لم یقدر علی تحقیق السیادة للشافعیة،و الحدّ من تعصّبات الجماعات التی عکفت علی حسّ المعاداة،فکان یختار من العلماء من یستشعر فیه القدرة و المنزلة،و یبعثه إلی بغداد.و لکن الحنابلة کانوا لا یترددون عن استخدام الشتم و السب،و دفع الأمور إلی الاضطراب و الهیاج.و قد تکلمنا غیر مرة عن الأسباب التی أدت بالمسلمین إلی هذه الحالة التی أصبحوا علیها من تباعد و تباغض و تراشق بالکفر و الزندقة.

و لنمضی قلیلا مع ألوان الأحداث و صور المجتمع و هو یقاسی الفرقة،و ما أحدثه التعصب من تباعد و عداء و تباغض تسیء إلی رابطة العقیدة،و تبعد عن روح الإسلام و نظمه التی تجعل لکل حقه،و قد کان أبطال التعصب و دعاة الفرقة و جنود الشغب یتعاهدون عوامل معینة بالرعایة،و یعملون علی إذکائها و یحاربون کل ما من شأنه العودة إلی روح الدین و فضح البواعث و کشف الدوافع التی تقف وراء تلک الأحداث.

فهی إذا ما قامت من مستوی السلاطین،تلونت بحسب الرغبات و مصالح الحکم التی تمحورت حول أغراض ضیقة و غایات خاصة،و هی إذا ما بدرت من أصحاب المواقع علی اختلافها و هیئاتها،کانت ستارا للإبقاء علی واقع التمتّع و النفوذ،فیما نری الناس تکتوی بنار الفرقة،و یتمزّق کیان المجتمع الإسلامی، و تسود روح من العداء التی تنکرها أبسط روابط الإنسانیة،فکیف إذا کان الأمر بین أقوام و طوائف تجمعهم کلمة التوحید،و یفترض أن تشدّ قلوبهم و تجمعها شریعة النبی المصطفی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و سنعرض فیما یلی بإجمال بعض العوامل الکثیرة الأخری:

ص:17

ص:18

1-الجمود الفکری

فقد ضمن الإسلام بمبادئه و قیمه وضعا فکریا یؤدی إلی تطور حالات الإنسان و تقدمه الحضاری،و یدفع بمن امتلک قدرة الفکر و موهبة العلم إلی اغتراف مناهل المعرفة و الأخذ بمضامینها،فکان التفاعل الفکری و العطاء العلمی سمة المجتمع فی صدر الإسلام،و صفة الدعوة المحمدیة التی بدّلت أوضاع الإنسانیة،و أحدثت الثورة فی حیاة الشعوب التی آمنت بها و انشدّت إلیها.

و کان التطور الفکری مقیاسا أساسیا فی التعامل الحیاتی و الوجود الإنسانی للمجتمع المسلم،حتی إذا حدثت الفرقة بعد استحکام النزعة الطائفیة،و استفحال التعصب المذهبی،برزت عناصر کثیرة تقف بوجه ذلک التطور و التقدم الفکری،إذ لا یمکن للآراء المنحرفة و الدعاوی الفارغة أن تجد لها موقع قدم أمام ما بلغه المسلمون من مستوی فکری.فکان الجمود العقائدی أو الفکری أقرب إلی الجهلة و ذوی الأغراض و الأفکار المنحرفة،و أنفع لهم،فلقی المفکرون ضروبا من المقاومة الشدیدة و الجفاء الظاهر،لکی یعطل وعیهم،و یبعد أثرهم،و تتاح لأولئک الذین یعملون علی نشر الفرقة الفرصة لیغطوا جهلهم،و یحققوا لأنفسهم مکانة علی حساب وحدة المسلمین و مصلحتهم.

و نحن عند ما نستعرض جوانب و صورا من هذا الواقع-بعد قرون طویلة و مراحل متعددة-نرمی إلی کشف عوامل ذلک و عواقبه فی مرحلة یتصاعد فیها وعی نشئنا المسلم و أجیالنا الواعیة،حتی یتبینوا واقع الدعوات و التیارات التی تحاول تجدید تلک الفرقة،و إعادة ذلک الخلاف بعقلیات متحجّرة و دعوات متخلّفة،لا تختلف فی دوافعها و حقیقتها عن عوامل و أسباب قیام الفرقة فی المراحل الأولی من التاریخ الإسلامی.

ص:19

و الدعوة الصادقة تبقی محتفظة بتأثیرها و نقائها،و دعوات الفرقة مفضوحة مهما تلبّست ستار العلم أو برقع الثقافة،و إسهاما فی تحمل مسئولیة نشر الألفة و المحبة، نبعد عن التحامل علی أحد،و لا نتجاهل واقعا نقف علیه،أو برهانا یفرض نفسه.

فالتزام النظرة الصائبة و الدعوة الصادقة یجعل ترسّبات الماضی موضعا للانتقاء و الاختیار،فیهمل ما کان منه مشوبا بهذه الصفحات،و یعتمد ما کان منها مدعاة للوحدة و الائتلاف.

لقد عصفت بالمجتمع الإسلامی عواصف الخلاف،و ظهر التصدّع فی الصفوف بعد أن منی الإسلام بداء عصبیة عمیاء،و مذهبیة ما أنزل اللّه بها من سلطان،و کثرت عوامل الخلاف،و قویت شوکة الجهلة عند ما حورب العلماء،و رمی الفلاسفة بوجه عام بالزندقة،و تشعّبت فروع ذلک،و أصبح المجال واسعا لزرع بذور الفرقة،و کثر الصراع فی مسائل افترق المجتمع حولها،فتفرّقت الکلمة،فمنها الجمود الفکری.

و الجمود الفکری-کما تقدم-کظاهرة قویة فی هذا الواقع المؤلم،بعد أن جعل الإسلام حریة الفکر نبراسا للعقول و الأفهام،و طریقا للاهتداء إلی عالم الحق،و أصبح المفکرون فی نظر ذوی الجمود و فی نظر من آثر التسرّع فی الحکم علی الأشیاء قبل معرفتها،لعجزه عن المجاراة و المساهمة فی حرکة الفکر أهواء أو زندقة،فذهبت الدعوة الصادقة ضحیة الحجر علی حریة العقل،أو نتیجة الجمود الفکری الذی أقرّته سلطات جائرة و أوضاع منحرفة و تدخلات مختلفة،فکان ذلک حائلا دون تمتع الناس بحقوقهم.

و کان الذین یلتزمون نهج التحرّر الفکری و الاحتکام إلی العقل کالشیعة و المعتزلة و غیرهم من رجال الفکر قد لاقوا فی سبیل حریة الفکر بلاء،و واجهوا محنا،لأنهم لم یحجبوا نور العقل بظلمة التبعیة العمیاء،فربطوا بینهم و بین من شذّ فی علم الکلام عن النهج القویم،و ذلک عند ما أقبل المسلمون علی دراسة الکتب المنقولة من کتب الأوائل من:منطق و ریاضیات و طبیعیات و العلوم الإلهیة و الطب و الحکمة العملیة و غیرها من علوم الأوائل التی نقل شطر منها فی عهد الأمویین،ثم أکمل فی عهد العباسیین.فقد ترجموا مئات الکتب الیونانیة و الرومیة و الهندیة و الفارسیة و السریانیة إلی العربیة،و أقبل الناس یتدارسون مختلف العلوم،و لم یلبثوا کثیرا حتی استقلوا بالنظر،و صنّفوا فیها کتبا و رسائل،و کان ذلک یغیض علماء

ص:20

الوقت،و لا سیما ما کانوا یشاهدونه من تظاهر الملاحدة و الدهریین،و الطبیعیة و المانویة الخ (1).

و من المظاهر المؤلمة ما تعرّض له أبو جعفر بن جریر الطبری-صاحب التاریخ و التفسیر المشهورین-سواء فی حیاته أو فی مماته،فنحن نعلم أن للأموات حرمة، و لأن کانت غریزة الکره و الحقد تجد مجالها بین الأحیاء،فإن ارتحال الطرف الآخر کاف للکفّ عن استمرار الغرائز الملتویة.یقول ابن کثیر:«و دفن فی داره لأن بعض عوام الحنابلة و رعاعهم منعوا من دفنه نهارا،و نسبوه إلی الرفض.و من الجهلة من رماه بالإلحاد،و حاشاه من ذلک کله.بل کان أحد أئمة الإسلام علما و عملا بکتاب اللّه و سنة رسوله،و إنما تقلدوا ذلک عن أبی بکر محمد بن داود الفقیه الظاهری، حیث کان یتکلم فیه و یرمیه بالعظائم و بالرفض.و لما توفی اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد،و صلوا علیه بداره،و دفن بها،و مکث الناس یترددون إلی قبره شهورا یصلون علیه.و قد رأیت له کتابا جمع فیه أحادیث غدیر خم فی مجلدین ضخمین، و کتابا جمع فیه طریق حدیث الطیر.و نسب إلیه،أنه کان یقول بجواز مسح القدمین فی الوضوء،و إنه لا یوجب غسلهما»و بمرور الوقت عجز خصومه عن طمس شواهد علمه،فأخذوا بالقول بأن هناک طبریین أحدهما شیعی یستحق هذا العداء.و إن کل ما جاء من الحق علی لسان الطبری،و کل ما ذکره هذا المؤرخ و المفسر الکبیر من الحقائق هو من الطبری الآخر،یقصدون محمد بن جریر بن رستم المحدث الإمامی الثقة،و قد اشتهر بکتابه(المسترشد فی الإمامة)و عرف بالمناظرة و الکلام،و لیس هناک ما یساعد علی الخلط بین الاثنین،فآثار کلّ منهما مستقلة و معروفة،و القول بمثل هذا ینمّ عن القصد السیئ.

و کان للمسلمین مکانة فی علم الکلام و غیره،و امتازوا عن سواهم بأمور کثیرة.

و کانت مقاومة المفکرین بأسالیب مختلفة و عبارات لا تعبّر إلا عن سوء الفهم.فقد رمی المتکلّمون بالکفر و الزندقة و الخروج عن الدین حسب ما ترتضیه السیاسة،و ما تراه فی خدمة مصالحها،فوسعت شقّة الخلاف بین المتکلّمین و بین الفقهاء،و شجعت الحملة علی المتکلمین و رمیهم بالکفر.فکانت تلک الحرکة ضد علم الکلام سببا فی تضییق آفاق الفکر،و سد أبعاده،و تقیید روح الإبداع،حتی هدّد العلماء من المتکلمین.

ص:21


1- (1) الطباطبائی،المیزان ج 5 ص 179. [1]

و قد ساعد علی ذلک آراء بعض أئمة المذاهب و أتباعهم،إذ کان بعضهم یری لزوم تعزیر أهل الکلام و ضربهم و إهانتهم،و أن یطاف بهم فی العشائر.و اشتهر عن الشافعی أنه قال:إیاکم و الکلام.و قال:لأن یبتلی اللّه المرء بکل ما نهی عنه ما عدا الشرک به خیر من أن ینظر فی علم الکلام.

و وجد زعماء الفتن و عناصر الشغب فیما أوثر عن الإمام الشافعی و غیره سلاحا مجردا یستخدمونه لتحقیق أغراضهم،و تغییر الواقع إلی جمود و تخلف.رغم أن هذه الآراء فی حقیقتها و ظروفها تعبّر عن حریة الرأی و قدرة الاجتهاد،و مع هذا نجد أن الإمام الشافعی ینص علی دوافع مثل هذا التوجه،و یلتفت إلی تلک الأجواء،إذ قال للربیع:إیاک و علم الکلام.و علیک بالاشتغال بالفقه و الحدیث.و لئن یقال لک أخطأت خیر من أن یقال لک کفرت (1).

و قد نضج علم الکلام فی عصر الشافعی،و اتسع نشاط المتکلمین،و أثیرت هناک مسائل کثیرة دار حولها النقاش و الجدل.و لا بد لکل عالم أن یلتمس الدلائل و البراهین من طریق المعقول لتقویة جانبه،و الردّ علی مخالفیه،و لکن من باب درء الخطر من الانهزام أمام المفکرین،أغلق الباب بحرمة تعلم علم الکلام،بل حرمة الاستماع إلیه،و حکموا بکفر من یتعلمه.

و کان للفلسفة فی أول زمن الدولة العباسیة سوقا رائجا،فقد کانت بغداد فی أواسط القرن الثانی إلی أواخر القرن الخامس میدان الأفکار الجدیدة،کما کانت البصرة کذلک منذ القرن الأول،یقصدها العلماء من البلدان القاصیة،و یتذاکرون صنوف العلم،و یتقارضون بأنواع الحکمة.و کانت بغداد مدة ثلاثة قرون مبعث الحرکات الفکریة،و العلماء فیها یوحدون صفوفهم.

و کانت الحکومة لا تعارض مجالس النظر و الحجاج ما لم یضر بمصالحها،أما إذا کان البحث فی الإمامة و ما یتعلق بها من إعطاء الفکر مجالا فی أمور یتطلب البحث فیها إیضاحا لما أبهم منها؛فإن ذلک محظور لا تسمح الدولة فی خوضه.

و اشتدت الحکومات فی القرن السادس بمطاردة علوم الحکمة.و حرّم ابن الصلاح المنطق و الفلسفة،و لم یتمکن أحد فی دمشق من قراءة کتبها،و کان المنادی

ص:22


1- (1) الجواهر و الیواقیت ج 1 ص 17.

ینادی:من ذکر غیر التفسیر و الحدیث و الفقه،و تعرّض لکلام الفلاسفة ینفی.و أفتی الذهبی بتحریق کتب علوم الفلسفة،و إعدام علمائها و القائمین علیها،إذ یقول:و ما دواء هذه العلوم،و علمائها القائمین بها علما و عملا إلا التحریق و الإعدام من الوجود (1).حتی عدّ الاضطهاد فی سبیل المذاهب و الأفکار سمة السیاسة لأنه«منذ ظهر الإسلام کان من یخالف الجمهور فی المعتقدات و الآراء یحمل إلی الولاة،فإما أن یستتیبوه أو یعاقبوه،و ما فتئ المهیمنون علی الشریعة یثیرونها حربا شعواء علی کل من جاهر بفکرة دعا إلیها أو لم یدع،و یکفی فی بلائه خروجه عن المألوف و العرف» (2).

و انتهز العوام و المتفقهة فرصة غضب الملوک علی الفلاسفة،فراحوا یروّجون التهم حول کثیر من علماء الأمة إذا وجدوا میلا من السلطان نحوهم،و کان شهاب الدین السهروردی من الحکماء الذین قربه الملک الظاهر غازی ولد السلطان صلاح الدین،فحسده علماء عصره،و ناظروه فانتصر علیهم.فالتجئوا إلی الدسّ و الکذب، و رموه بالکفر و الإلحاد،و طلبوا استئصال الشرّ بقتله حتی لا ینفذ إلحاده،فتمّ لهم ما أرادوا،و أمر السلطان ولده بقتله بلا مراجعة،فقتله سنة 586 ه عن 36 سنة،و عرف فی التاریخ بالشاب المقتول.

و قد أورد ابن أبی أصیبعة أن الظاهر غازی بن صلاح الدین،دعا الفقهاء إلی مساجلة السهروردی،فانتصر علیهم و أفحمهم،فزاد حقدهم علیه،فدبروا له تهمة المروق عن الدین،و عملوا محاضرة بکفره،و سیّروها إلی الملک الناصر صلاح الدین و قالوا:إن بقی هذا فإنه یفسد اعتقاد الملک الظاهر،و کذلک إن أطلق فإنه یفسد أی ناحیة یکون بها من البلاد.و زادوا علیه أشیاء کثیرة من ذلک،فبعث صلاح الدین إلی ولده الملک الظاهر بحلب کتابا فی حقّه بخط القاضی الفاضل و هو یقول فیه:إنّ هذا الشاب السهروردی لا بد من قتله (3).

و مکانته فی الفلسفة لا ینکرها حتی أعداؤه،فهی من أبرز صفاته عندهم،کما

ص:23


1- (1) کرد علی،الحضارة الإسلامیة 43/2.
2- (2) المصدر نفسه ج 2 ص 69.
3- (3) ابن أبی أصیبعة،الطبقات ص 642.

أن من أبرز معالم سیرته هو قتله دون بینة.حتی أن السلطان الذی غلب علیه الذین ساءهم انتصار السهروردی علیهم ندم و نقم علی الذین أفتوا فی دمه،و قبض علی جماعة منهم و أهانهم و أخذ منهم أموالا عظیمة (1)کذلک فإنّ الذین یرمونه بالزندقة من المؤرخین لا یملکون إنکار براعته فی علم الکلام،و کونه مناظرا محجاجا زاهدا من أذکیاء بنی آدم و رأسا فی معرفة علوم الأوائل (2).

و ذکر العماد الأصفهانی-المعاصر له-أن الفقهاء دعوا السهروردی للمناقشة فی المسائل الفقهیة،و فی مسائل الأصول،فظهر علیهم،فحقدوا علیه،و بیّتوا أمرهم إلی الثأر منه،فدعوه إلی مناقشة علنیة أخری فی مسجد حلب،و سألوه:هل یقدر اللّه علی أن یخلق نبیا آخر بعد محمد؟فأجابهم الشیخ:بأن لا حدّ لقدرته.ففهموا من إجابته أنه یجیز خلق نبی بعد محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هو خاتم النبیین،و من ثمة أعلنوا مروقه من الدین،و کتبوا محضرا بکفره،سیروه إلی السلطان،فأمر بإعدامه و إحراق کتبه (3).

و استمر أعداء حریة الفکر و دعاة الخضوع لسلطان الجهل و التقلید الأعمی بالحرب لعلماء الأمر،فثارت الأحقاد،و ظهرت العداوات و الانتقام.فهذا الفیلسوف ابن رشد-و کان مالکی المذهب و من فقهائهم-تولی القضاء بإشبیلیة مدة تزید علی عشر سنوات،و قد قربه الملک أبو یوسف الملقب بالمنصور،مما أثار حسد الفقهاء و المتزمتین،فرموه بالکفر و الزندقة،و تمکنوا من تغییر الخلیفة،فنقم علیه و استجوبه فقهاء قرطبة،و قرروا أن تعالیمه کفر،و لعنوا من یقرأها،و حکموا علیه بالکفر و النفی من بلده.و أمر الخلیفة بحرق کتبه و کتب الفلسفة فی جمیع البلاد،و لعن ابن رشد، و نفی إلی جزیرة فی قرطبة.و إنما لم یحکم علی ابن رشد بالقتل أسوة بغیره ممن اتهم بسوء الاعتقاد لأن الذی یرأس المحکمة و یصدر الأحکام کان من علماء المالکیة، فکانت المحکمة التی تعقد لمحاکمة المتهمین بالبدعة أو الضلالة أو الزندقة إنما یسند أمرها إلی القضاة المالکیة لأنهم یخالفون سائر المذاهب فی هذه التهم التی تلصق بمن تحاول الدولة قتله باسم الدین.

ص:24


1- (1) المصدر نفسه ص 644.
2- (2) شذرات الذهب ج 2 ص 290. [1]
3- (3) انظر مقدمة کتاب هیاکل النور.

فعند المالکیة یقتل المتهم بالضلال أو الزندقة أو البدعة أو ما شئت فقل من مقررات الحکم الجائر.فیصدر الحکم فی حقه و إن تاب،بخلاف بقیة المذاهب.

لأن رأی مالک أن المبتدع أو الزندیق ینفذ فیه حکم الإعدام و إن تاب.

لقد أدی شیوع ذلک إلی حالات من الجهل و الجمود و تحکم الفوضی.فنشط العامة بما یرضی أطماعهم و یجلب علیهم نعم السلطة و المتحکمین،فأصبحت الطبقات الحاکمة هی التی تقرّ العقائد التی تراها أکثر نفعا لها و أقرب إلی الاستجابة علیها،فتلتقی إرادة المتحکمین مع رغبة المتنفّذین و المستفیدین من تیارات التعصب هذه.ففی سنة 433 ه تصدر الدولة أمرا باتّباع ما تراه من العقائد،فکان منشورها یتضمن أهم المسائل العقائدیة التی هی محور الخلاف فی ذلک العصر،فهو یتضمن بعد التوحید و الأقرار لمحمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالرسالة:عقائد مذاهب أهل السنة.و جاء فیه:أن من قال أن القرآن مخلوق فهو کافر حلال الدم.و أن یلتزم الناس بحب الصحابة کلهم.و أنهم خیر الخلق بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أن خیرهم کلهم و أفضلهم بعد رسول اللّه أبو بکر الصدیق،ثم عمر،ثم عثمان،ثم علی،و أن یشهدوا للعشرة المبشّرة بالجنة،و أن یترحّموا علی أزواج النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و من سبّ عائشة فلا حظّ له فی الإسلام،و لا یقول فی معاویة إلاّ خیرا،و لا یدخل فی شیء شجر بینهم (1).

و وقع المنشور فی أغلب ما تضمنه موافقا لرغبة العامة،حیث یؤدی بمحتواه إلی شلّ الحرکة العلمیة التی تخالف آرائهم.فاتباع ذلک النظام لازم،و مخالفه یعدّ کافرا،و قد کتب الفقهاء خطوطهم،و حکموا بفسق و کفر المخالف.کما أصبحت السلطة القضائیة تخضع لهذا المرسوم،و تعاقب بموجبه،فمن اتهم بالمخالفة حکم بکفره،و حلّیة دمه،فأصبح العلماء بین خوف العامة و غضب السلطة،و لیس وراءه إلاّ سیف النقمة،فلا یستطیع أحد أن یبدی رأیا فیما توصّل إلیه من وراء تفکیره و النظر العقلی،و لا یستطیع المؤرخ أن یسجّل حادثة فیها مخالفة لرأی السلطة،و لیس لباحث أن یثبت شیئا بعد تحقیقه و صحته،کما لیس للمحدّث أن یناقش حدیثا أو یثبت ما لا یتفق و آراء العامة.فکم ضاع من وراء هذا التحجیر من الأفکار الحرّة و الحقائق التاریخیة التی أهملها العلماء مخافة أن یعرفوا بها فیهلکوا،و بذلک حقنوا دماءهم،

ص:25


1- (1) المنتظم ج 8 ص 110-111. [1]

و اتقوا تقاة أنجتهم من تسلط العتاة.فضاعت أخبار کثیرة،و خمدت القرائح،و شاع الجمود الفکری،و فشی الجهل.و السلطة من وراء الجهّال تشدّ أزرهم،و تفتک بمن یحاول الخروج عن الطاعة«و إنه لطبیعی کذلک فی أن یکون الملک عدوا لدودا لکل بحث و لو کان علمیا یتخیل أنه قد یمس قواعد ملکه و تقویض کرسیّه و لهذا ضغطوا علی حرّیّة العلم،و استبدّوا بمعاهد التعلیم،و ربطوها بعجلة الدولة» (1).

و برغم رکام الأهواء تجد الحقیقة لها ألسنة و أقلاما تعبّر عن جوهر الدافع فی الإبقاء علی الجمود و بواعث سیاسة الحکام الذین أحکموا إغلاق منافذ الفکر لیهیمنوا علی الأمة،و أغلقوا باب الاجتهاد الذی تشبّث الشیعة لفتحه حمایة للفکر و إغناء للفقه،فلما رأی بنو العباس أن وسائلهم فی القهر لا تجدیهم،أرادوا أن یأتوا الناس من باب التعلیم،فیتولوا أمره بأنفسهم،لیربوا العلماء علی الخضوع لهم،و یملکوهم بالمال من أول أمرهم،و کانت الأمة هی التی تتولی أمر التعلیم بعیدا عن الحکومة، کما تتولاه الآن الأمم الراقیة..فیقوم فی المساجد حرا لا یخضع لحکم ملک أو أمیر،و یتربی العلماء بین جدرانها أحرارا لا یرقبون إلا اللّه فی علمهم،و لا یتأثرون بهوی حاکم،و لا تلین قناتهم لطاغیة أو ظالم.فأراد بنو العباس أن یقضوا علی هذا التقلید الکریم،و یتولوا بأنفسهم أمر التعلیم بین المسلمین،فأخذوا ینشئون له المدارس بدل المساجد،و یحبسون علیها من الأوقاف الکثیرة ما یرغب العلماء فیها، و یجعل لهم سلطانا علیهم،و أخذت الممالک التابعة لهم تعمل فی هذا بسنّتهم،حتی صار التعلیم خاضعا للحکومات بعد أن کان أمره بید الرعیة،و کان لهذا أثره فی نفوس العلماء فنزلوا علی إرادة الملوک،و لم تقو نفوسهم علی مخالفتهم فی رأیهم أو توجیه شیء من النصح إلیهم (2)فلما انتشرت المدارس الحکومیة قام بنو العباس بالخطوة المکمّلة،فطلب من المنفّذین لسیاستهم المشتغلین بالعلم ألا یذکروا شیئا من تصانیفهم،و ألا یلزموا الفقهاء بحفظ شیء منها؛بل یذکروا کلام الشیوخ السابقین تأدّبا معهم،و تبرّکا بهم.فأجاب جمال الدین عبد الرحمن بن الجوزی الحنبلی بالسمع و الطاعة.

ص:26


1- (1) کرد علی:الحضارة الإسلامیة.
2- (2) انظر:عبد المتعال،الصعیدی،فی میدان الاجتهاد ص 7.

فیما کان نهج الشیعة منذ صدر الإسلام حتی یومنا هذا یقوم علی إثبات مذهبهم بالأدلة المنطقیة،و الکتابة العلمیة،و کان مدار الإمامة و مصطلحاتها الفنیة من أکبر ما اهتموا به لأنها من أرکان الدین،و هی أصل إقامة المجتمع و مصدر بناء هیئاته،و هم الذین قسّموا علمها،و بوّبوا أبوابه،و عیّنوا مجاله،و رسموا حدوده (1).

و کان للشیعة بتلک العصور ألمع الشخصیات الإسلامیة کهشام بن الحکم، و کان یرأس مدرسة فکریة إسلامیة أخذ تعالیمها من أستاذه الإمام الصادق علیه السّلام و یقول فیه ابن الندیم:أنه هو الذی فتق الکلام فی الإمامة،و هذّب المذهب،و سهّل طریق الحجاج.و کان حاذقا بصناعة الکلام،حاضر الجواب (2).و من جرّاء شهرته فی الکلام مع علوّ رتبته بالفقه و سائر العلوم،فقد تحاملوا علیه،و نسبوه إلی سوء الاعتقاد،کما طاردته السلطة أیام هارون الرشید،فهرب و مات متخفیا.و هکذا غیره من فلاسفة الشیعة و علمائها الذین امتحنوا فی سبیل عقیدتهم أمثال:مؤمن الطاق محمد بن النعمان،و أبو یوسف الکندی،و بنی نوبخت،و الرازی،و الهمدانی و غیرهم من متکلمی الشیعة و فلاسفتهم.و کان اشتهارهم بعلم الکلام مهّد لأعدائهم أن یتّهموهم بسوء الاعتقاد،و البدعة و الکفر،و هذه البدعة هی بدعة سیاسیة،لإن مخالفتهم لنظام الحکم السائد جعلتهم مبتدعة فی نظر أعوان السلطة.و نتیجة لذلک التعصّب الأعمی شاعت الافتراءات،و موّهت فی إطار فقهی أو مذهبی.لأن الشیعة التزموا نهج أهل البیت کأئمة هداة و صفوة معصومة تمثّل الرسالة فی أصولها و المبادئ فی نقائها.و الذین کان نصیبهم الاضطهاد و الظلم،و الابتعاد عن السلطة التی انجرّت إلی القیم الدنیویة و المادیة.فوضعت السلطة مخططا لمواجهة التیار الذی یمثل الالتزام بخط أهل البیت،و التخلص من رجالات الشیعة و أفکارهم بکل السبل، سواء کانت بالقتل و الاعتداء،أو التحریف و قلب الحقائق،و العمل علی نبذ کل ما یمتّ لهم بصلة.فوصل الأمر بالمتفقّهین إلی الدعوة إلی ترک أحکام الشرع إذا کانت تشبه أحکام الشیعة.فعلی سبیل المثال لا الحصر:

1-قالوا:و من المصلحة أن یمنع المصلی عن اختصاص جبهته بما یسجد علیه

ص:27


1- (1) النظریات السیاسیة الإسلامیة ص 81-82.
2- (2) الفهرست ص 249-250. [1]

من أرض و غیرها لأن ذلک الاختصاص من شعار الشیعة (1).

2-حکم بعضهم بأفضلیة المسح علی الخفّین بدون دلیل،و إنما کان ذلک الحکم،لأن الشیعة طعنوا فی المسح علی الخفّین،و إحیاء ما طعن فیه المخالفون من السنن أفضل من ترکه (2).

3-یقول ابن تیمیة فی منهاجه-عند بیان حرمة التشبه بالشیعة-:و من هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلی ترک بعض المستحبّات.إذ صارت شعارا لهم(الشیعة)فإنه و إن لم یکن الترک واجبا لذلک،لکن فی إظهار ذلک مشابهة لهم،فلا یتمیّز السنّی من الرافضی،و مصلحة التمییز عنهم لأجل هجرانهم و مخالفتهم أعظم من مصلحة المستحب.و إن هذا لمن الإفراط فی الانحراف و الغفلة عن أکبر خطأ یرتکب فی ترک أوامر اللّه سبحانه.

و لا زالت الحالة هذه تشقّ طریقها حتی فی العصور المتأخرة،کما یحدثنا الشیخ القاسمی عنهم بقوله:

«یدرّس کثیر من العلماء للطلبة فی المساجد،و هؤلاء المدرّسون ندر من یکون منهم غیر متعصب أو لا یوجد،و لذلک لا تخلو المساجد العامة التی یکثر مدرّسوها من ثورات تتناقلها الأفواه،و ما منشؤها إلا التعصب،و هاک بیان ذلک:نری مدرّس الفقه غیر الحکیم یقرأ الفروع قراءة مشوبة بهضم المخالف لمذهبه و عدم رؤیاه بشیء، و عدم الاعتداد بمذهبه کلیا إلا ظاهرا،فلا ینصرف تلامذته من دراسة إلا و هم مملوءون قوة بها،یدفعون من خالفهم فی تلک الفروع،و قد یرون بطلان ما علیه غیرهم.کما یعلّمونه کراهة الاقتداء بالمخالف،مما یتبرّأ منه هدی السلف و الأئمة المتبوعین علیهم الرحمة و الرضوان.و کما یحاولون دلیلا ضعیفا فی مقابلة قوی کمرسل فی مقابل مسند،و إیثار ما رواه غیر الشیخین علی ما رویاه مما یتبرّأ منه الإنصاف» (3).

و علی أی حال فإنّ التعصب المذهبی قد أحدث مظاهر شاذة فی المجتمع الإسلامی،و ولّد مراحل سوداء،سادتها ظروف سیئة و متباینة،و قد رأینا ما أحدث

ص:28


1- (1) انظر غایة المنتهی فی الجمع بین الإقناع و المنتهی ج 1 ص 135.
2- (2) نیل الأوطار ج 1 ص 176.
3- (3) إصلاح المساجد ص 164.

التعصب من فرقة و انقسام بین صفوف أمة واحدة ذات کتاب واحد و نبی واحد،و لکنه -و الحمد للّه-لم یبلغ الخلاف إلی مستوی العقائد الأساسیة التی هی دعامة الإسلام و رکیزة وحدة الأمة.و رغم أن روح التعصّب و نزعات التحکّم قد أدّت إلی اختلال القیم و تشویه المبادئ من خلال إخضاعها للأهواء و التعصب و التحزب؛فإن روح الحرص و الإیمان بقیت تواجه حملات التضلیل و تیارات الانقسام،فراح الکثیرون من علماء هذه الأمة و رجالاتها ینبذون الخصومة،و یرفضون التحزّب و إثارة روح الحقد، و یتمسّکون بروح الإخاء إطاعة لأمر اللّه و عملا بمبادئه،و یبثّون روح التفاهم،لتنمو من جدید.و عملوا جاهدین لحفظ تراث الإسلام،و إزالة کل ما یحول دون التقاء أبنائه علی صعید الأخوة الإسلامیة.

و لو حاول مثیر و الفتنة الاحتکام إلی مبادئ الإسلام و إلی روح الرسالة فیما یدّعون من أمور و مسائل،لباءت حملاتهم و تحرّکاتهم بالفشل و الخسران.لکنّهم توسّلوا بأمور اختلفوها،و نصوص أوّلوها لترضی مرامیهم و أغراضهم؛فضاعت فی غمرة الفهم و التقوّلات أسس و أصول الحیاة التی أرسی دعائمها الإسلام،فکان من البدیهی أن یکون الجمود الفکری غطاء لموجات التعصّب و التحزّب التی أحالت الألفة إلی تناحر،و الأخوّة إلی عداء.

و من تلک المشاکل مسألة خلق القرآن.و قد أشرنا لها سابقا،و زیادة فی البحث نذکر هنا بعض ما تدعو الحاجة لذکره:

ص:29

ص:30

2-خلق القرآن

تأثر المأمون بحرکة العلوم التی کانت سائدة فی عصره،و کانت حالة الأمة الفکریة قد اتسمت بخصائص و ظواهر مهمة،أثرت فی السیاسة من خلال شخصیة الحاکم الذی نشأ و میله إلی العلوم ینمو معه،حتی تفرّد بمواقف تکشف عن وعی و تصوّر خضوعا للمنطق،و إذعانا للحق،خاصة فی الأمور و الأحداث التی اکتنفت مسیرة الخلافة منذ قیام نظام الخلافة.

و کان من أبرز جوانب الحیاة الفکریة،ظهور تیارات و اتجاهات کلامیة و عقلیة اهتمّت بعقائد و أدیان الأمم الأخری،التی راحت بقایاها تکید للإسلام.فتعرّف المسلمون علی مضامین و مناهج النشاطات المعادیة،و تمثّلوها،و صاغوها.فماجت مواطن الفکر الإسلامی بدراسات و أصناف من العلوم،عبّرت عن قدرات العلماء و المتکلمین الإسلامیین،فأسهموا مساهمة کبری فی ردّ کید الأعداء إلی نحورهم، و مناجزتهم بنفس السلاح الذی أشهروه بوجه الإسلام.

و لمّا تسلّم المأمون سدّة الحکم-بعد الأحداث الدامیة المعروفة-مال بالنظام إلی الجهة التی تنسجم مع میوله،و تناسب ما نطلق علیه«الحرکة الفکریة»حیث غلبت صفة البحث و الطابع العلمی،فکان المعتزلة فی هذه الفترة من أبرز المناظرین و أنشط المتکلمین،فکانوا أصحاب جدل و أنصار رأی.غیر أنهم فی الفقه و الأصول لم یتفقوا علی قواعد ثابتة،لذلک لم یخرجوا من تیار الجدل و النظریات،و قد حسبوا کثیرا علی الشیعة،بل أن البعض نظر إلی الأمر معکوسا و تناسی أصول الشیعة و وجودها التأریخی الذی یسبق ظهور المعتزلة.و ظل الالتباس قائما حتی الیوم من جرّاء اشتراک المعتزلة مع الشیعة فی بعض الخصائص الفکریة:من اهتمامهم بالعقل،و رعایتهم

ص:31

الفکر.و قد أسهم المأمون نفسه فی إثارة القضایا التی تخصّ عقیدة الشیعة،منها:

مسألة الخلافة،و الأحقّیّة و الأفضلیة؟و لکن العمل السیاسی کان یتمثّل فی الموقف من العلویین،و إرساء قواعد الحکم علی أساس رضا الناس و قبولهم النظام العباسی عن قناعة،بعد أن فضحت سیاسة السابقین من آبائه خدعة الدعوة إلی الرضا من آل محمد،و کیف کشّر العباسیون عن أنیاب حقد أشدّ و أدهی علی العلویین من حقد الأمویین.فکان أن حمل المأمون العلویین من المدینة و فیهم الإمام الرضا علی بن موسی،و جاء بهم إلی خراسان.و کان غرضه شخص الإمام الرضا علیه السّلام فأنزل العلویین دارا،و أنزل الإمام الرضا دارا و أکرمه و عظم أمره.

و اختار المأمون أن یعلم الإمام الرضا بقصده من وراء ذلک عن طریق الوسطاء، و ادّعی أنه یرید أن یخلع نفسه من الخلافة و یقلّدها إلی الرضا علیه السّلام و کل الدلائل تشیر إلی کذب هذا الادعاء.فالمأمون حاکم لم یتورّع عن قتل أخیه فی سبیل کرسی الخلافة،و لا یمکن بأی حال أن یخرج عن أهم قواعد الحکم الجائر،و یتخلّص من کره آل علی،و إن ادعی ذلک و جاهر بأنه وجد أن العباسیین قد ظلموا و غصبوا آل علی حقهم.هذا من جهة،و من جهة ثانیة فإن الإمام الرضا فی سیرته و وجوده،هو امتداد حی و استمرار متوقّد لسیرة ابن الشهید الإمام موسی بن جعفر،لم یحفل بالدنیا،و لم تبعده نوائب الدهر عن أمور دینه و رعایة أهل الإسلام بالدعوة إلی التمسّک بالعقیدة و الاتجاه إلی الإخلاص فی الدین.

و إن قدّر المأمون بعض نظرة الإمام الرضا إلی السلطة السیاسة من حیث تصنیفات الواقع،فلیس من السهولة بمکان تناسی حقائق التاریخ الأسود للعباسیین و فظائعه.

و یروی الشیخ المفید-قدس سره-فی الإرشاد،أن الإمام الرضا أنکر هذا الأمر و قال:«أعیذک باللّه یا أمیر المؤمنین من هذا الکلام،و أن یسمع به أحد»فردّ علیه الرسالة:فإذا أبیت ما عرضت علیک،فلا بد من ولایة العهد من بعدی.فأبی علیه الرضا أباء شدیدا.فاستدعاه،و خلا به و معه الفضل بن سهل ذو الرئاستین،لیس فی المجلس غیرهم و قال:إنی قد رأیت أن أقلّدک أمر المسلمین،و أفسخ ما فی رقبتی و أضعه فی رقبتک.فقال له الرضا علیه السّلام:«اللّه اللّه یا أمیر المؤمنین،إنه لا طاقة لی بذلک،و لا قوة لی علیه..»قال له:فإنی مولّیک العهد من بعدی.فقال له:«اعفنی

ص:32

من ذلک یا أمیر المؤمنین».فقال له المأمون کلاما فیه تهدید له علی الامتناع علیه، و قال فی کلامه:إن عمر بن الخطاب جعل الشوری فی ستة أحدهم جدّک أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السّلام و شرط فیمن خالف منهم،أن یضرب عنقه،و لا بد من قبولک ما أریده منک،فإننی لا أجد محیصا عنه.

فکان جواب الإمام الرضا أبلغ تعبیر عن فهم البواعث التی وراء مثل هذا الأمر، و خیر ردّ یعرّی الخطة التی ترمی إلی ترمیم کیان الظلم بالإساءة إلی نهج آل البیت، و محاولة ثنیهم عن الابتعاد عن الرکون إلی الظلمة،و جهادهم للإبقاء علی سلطان الدین فی روحانیة النفوس و علاقات المجتمع.و لما لم یجد الإمام الرضا أمامه إلا سیف الحکام قال للمأمون:«فإنی أجیبک إلی ما ترید من ولایة العهد علی أننی لا آمر و لا أنهی،و لا أقضی،و لا أولی و لا أعزل،و لا أغیّر شیئا مما هو قائم».فأجابه المأمون إلی ذلک کله،لکی یحقق الغرض السیاسی الذی أراده،و زیّن له و همه ذلک، فظن أن خدعة ولایة العهد تنطلی علی الناس فیما جعلها فارغة لیست بشروطه التی عوّل علیها،بل بشروط الإمام الرضا.

و علی هذا المنوال،عالج الجانب الفکری و الحیاة العقلیة النشطة،فأقحمها فی دوائر السیاسة و الحکم،و جعل رجال الفکر و أصحاب الاتجاهات العقلیة-التی یفترض فیها ممارسة الدفاع عن الرأی-أعمدة للتحکم،فأوقع الحرکة الفکریة فی تناقض.و هکذا استطاع المأمون أن یستفید من میوله و اهتماماته،و یؤثر فی أولئک الذین ارتضوا أن یکونوا جزءا من السلطة علی ما هم علیه من صفات و سمات فکریة، تجعلهم من أهل العدل.

فی سنة 212 ه أظهر المأمون القول بخلق القرآن،و تفضیل الإمام علی بن أبی طالب علیه السّلام و قال:هو أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1).

و فی سنة 218 ه أعلن وجوب الاعتقاد بخلق القرآن،و أنه حادث غیر قدیم، و ذلک لنفی التشبیه عن ذات اللّه،و نفی الصفات عن الذات العلیة،لئلا تتصف الذات بما یعددها.و نفی المعتزلة و من وافقهم من المسلمین الاعتقاد بقدم الصفات کقدم

ص:33


1- (1) الطبری ج 10 ص 279. [1]

الذات،لأن الذات هی وحدها متّصفة بالقدم،و من أجله کانت الصفات محدثة ظاهرة فی الغیر،و الکلام محدث،و القرآن محدث لأنه من الکلام.

و لجأ المأمون إلی استخدام القوة لفرض هذا الرأی،و أعدّ لسیاسته فی هذا المجال العدة زمنا طویلا،و نصب دیوانا للمحنة،و حمل الناس علی هذا الاعتقاد، و محاربة من یقول بأن القرآن قدیم.لأنه من صفات اللّه،و الذین لم یروا بدّا من إثبات الصفات للذات و إنها قدیمة قدمها الخ...

فحصل الانقسام،و عقد مجلس للامتحان،و اختارت الدولة له أشد الناس جدلا من المعتزلة و غیرهم،کما اختار جماعة من الجلاّدین الأشداء الجفاة الذین مرنوا علی الضرب بالسیاط،و الحراس الغلاظ،و جعل فی الدیوان عقابا لکل ممتنع عن الأقرار(و تبتدئ العقوبة بالحرمان من الحق-الذی نسمیه فی حیاتنا-بالحق المدنی فی الحیاة،و تنتهی بخشبة الصلب،فإذا لم یکن للرجل رزق و وظیفة عوقب عقوبة بدنیة بقدر ما یمتنع عن الإجابة أو یحتال فی الإنکار،أو یصطنع الخلاص) (1).

و هنا لا بد من الإشارة إلی التقاء المعتزلة مع الشیعة فی القول فی کون کلامه تعالی لا یکون إلا بکلام محدث،لأن حقیقة المتکلم من وقع منه الکلام الذی هو هذا المعقول بحسب دواعیه و أحواله،و الکلام المعقول ما انتظم من حرفین فصاعدا من هذه الحروف المعقولة التی هی ثمانیة و عشرون حرفا،إذا وقع ممن یصح منه أو من قبیل الإفادة.و الدلیل علی ذلک أنه إذا وجدت هذه الحروف علی هذا الوجه سمّی کلاما،و إذا اختلّ واحد من الشروط لا یسمی بذلک.فعلمنا أنه حقیقة الکلام،و متی ما وقع ما سمیناه کلاما بحسب دواعیه و أحواله سمی متکلما،فعرفنا بذلک حقیقة المتکلم (2).

و لکن الشیعة لا یطلقون صفة«مخلوق»علی القرآن،فکانوا أکثر حرصا علی التنزیه و قالوا:ینبغی أن یوصف کلام اللّه بما سمّاه اللّه تعالی به من کونه محدثا،قال اللّه تعالی: ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ .و قال عز و جل: وَ ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ .

ص:34


1- (1) عبد العزیز سید الأهل،شیخ الأمة أحمد بن حنبل ص 218.
2- (2) الشیخ الطوسی،الاقتصاد ص 65-67. [1]

و الذکر هو القرآن بدلالة قوله تعالی: وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ و قوله تعالی: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ .و قد روی عن الإمام الصادق علیه السّلام قوله:«القرآن محدث غیر مخلوق و غیر أزلی مع اللّه سبحانه».کما ورد عن غیره من أئمة الهدی النهی عن جعل اسم آخر للقرآن غیر ما ورد عن اللّه.

لقد وصف الشیعة القرآن بما وصفه اللّه تعالی،فقالوا عربی لقوله تعالی:

بِلِسانٍ عَرَبِیٍّ مُبِینٍ و العربیة محدثة.و منعوا وصفه بأنه مخلوق،لأنه یوهم بأنه مکذوب أو مضاف إلی غیر قائله،لأنه کالمعتاد من هذه اللفظة،قال اللّه تعالی: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ و: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِینَ .و قال تعالی: وَ تَخْلُقُونَ إِفْکاً فنری أن وصف الکلام بالخلق یأتی إذا أرید به الکذب أو الانتحال،کما یقولون هذه قصیدة مخلوقة و مختلقة،إذا کانت منتحلة مضافة إلی غیر قائلها (1).

أما الأشعریة فیقولون إن الصفات التی أنیطت بها الأقوال و ابتنیت علیها المسألة هی صفات معنویة،و هی صفات زائدة علی ذاته،و بیان وجوب المشکلة یقتضی التفصیل،و نحن نقصد هنا الإشارة و ذکر إحدی القضایا التی نجم عنها أضرار و فرقة استمرت قرونا عدیدة بآثارها،و توارثها حتی الیوم خلق عن أسلاف أورثوهم التعصب،و راحوا یستهزءون بما منّ اللّه علیهم من عقل و إدراک،و یؤثرون الجمود و التوقف عن النمو.

و القصد فإن المأمون أظهر من ألوان الاعتماد علی المعتزلة و تقریبهم،ما جعلهم أعلی الناس مکانة و أوفرهم حظا،و خضعت مجالس المناظرات و النقاش لأهواء الحاکم،فکان مدارها المواضیع التی یرغب بها المأمون.و لا جدال فی تبنی المأمون لفکر المعتزلة،لکن نزعات الحاکم أو السلطان قد تغلبت علی شخصیة التلمیذ أو میول المتعلم،بل جعلها مادة للسیاسة.

و المؤسف المؤلم أن توضع عناصر الغنی الفکری و مناهج البحث فی خدمة أغراض السلطان،و تصبح من أسباب التدهور،و من وسائل الحاکمین و المتنفذین، فتؤدی إلی نتائج و عواقب لا تلیق بالفکر الحر و العقل النیر.و مع ما اتصف به المأمون من إلمام و درایة،فإن کتابه السلطانی الذی أصدره سنة 218 ه کان فی حقیقة أمره

ص:35


1- (1) أیضا نفس المصدر.

تصرفا إداریا لا یختلف بشیء عن بقیة إرادات الحکام،و لکنه تضمّن أفکار المعتزلة و آراءها،مما أساء إلی أهدافهم الأخری التی تتصل بالعقل و حریة الفکر.

أما تنزیه اللّه سبحانه و تعالی عن الصفات التی یتصف بها المخلوقون،فالقرآن عندهم مخلوق و لیس بقدیم،فاللّه وحده قدیم،و ما ورد فی القرآن هو کلام اللّه، و لکن عندهم أن الکلام لا یمکن أن یکون صفة للّه تعالی هی ذاته کالعلم و القدرة، و أنکروا أن تکون الصفات أشیاء و ذواتا قدیمة قائمة وراء الذات،لأن هذا یؤدی إلی تعدد القدماء،لذا فإن الذات و الصفات شیء واحد.و یردّ الفلاسفة أن ذلک بعید من المعارف،بل یظن أنه مضادّ لها،و ذلک أن العلم یجب أن یکون غیر العالم،و إنه لیس یجوز أن یکون العلم هو العالم إلا إذا جاز أن یکون أحد المتضایفین قرینة مثل أن یکون الأب و الابن معنی واحدا بعینه (1)بالنسبة لعقیدة الثالوث.

و أدت السیاسة إلی أن یکون ذلک مثار فتنة شملت أیام المأمون و المعتصم و الواثق،و حصلت من ورائها فرقة و تباعد،و وصل الأمر إلی أن من یذهب إلی قدم القرآن یکفّر من یقول بأنه مخلوق،و ذلک فی عهد المتوکل،حیث ارتد عن تلک السیاسة إلی منحی آخر،بعد أن کان بعض القضاة یسأل الشاهد عن هذه القضیة،فإن أقر بأنه مخلوق قبلت شهادته و إلا ردّها (2).

ثم أفتی-بعضهم و بتأثیر السلطة-بوجوب قتل من یقول بخلق القرآن،و بدیهی أن هذا المفتی لم یستند بفتواه إلی دلیل عقلی أو نقلی،بل کان مستندا إلی أمر تافه، و ذلک أنه عند ما سئل عن دلیل هذه الفتوی أجاب:أن رجلا رأی من منامه إبلیس قد اجتاز بباب المدینة و لم یدخلها،فقیل لم لم تدخلها؟قال إبلیس:أغنانی عن دخولها رجل یقول بخلق القرآن (3).

و نظیر هذا ما حدثنا به التاریخ عن المهدی العباسی عند ما دخل علیه شریک بن عبد اللّه القاضی،فلما رآه المهدی،قال:علیّ بالسیف و النطع.قال شریک:و لم یا أمیر المؤمنین؟قال:رأیت فی منامی کأنک تطأ بساطی،و أنت معرض عنی، و قصصت رؤیای علی من عبّرها فقال:إنه یظهر لک طاعة،و یضمر لک معصیة ما.

ص:36


1- (1) ابن رشد،الکشف عن مناهج الأدلة فی عقائد الملة ص 84-85. [1]
2- (2) الکندی،کتاب القضاة ص 447. [2]
3- (3) الاعتصام للشاطبی ج 1 ص 262.

فقال له شریک:و اللّه ما رؤیاک برؤیا إبراهیم الخلیل،و لا کأن معبّرک بیوسف الصدیق،فبالأحلام الکاذبة تضرب أعناق المؤمنین؟فاستحی المهدی و قال:أخرج عنی.ثم صرفه عن القضاء و أبعده (1).

و مرّت مشکلة خلق القرآن عبر التاریخ تتوارثها الأجیال،و استغل الحنابلة میول بعض الأمراء إلیهم فراحوا یوقعون المکروه بمن یخالفهم،و قد استمالوا الملک الأشرف فأصبح یعتقد بأن من یخالف عقیدة الحنابلة فهو کافر حلال الدم،و أصبح هذا الاعتقاد هو الاعتقاد الرسمی (2).

و کان العز بن عبد السلام المتوفی سنة 660 ه من العلماء المبرزین،و من الدعاة إلی التحرر من نیر التقلید الأعمی،و کان أشعری العقیدة،فتقدم الحنابلة إلی الملک الأشرف بأن الشیخ العز زائغ العقیدة،منحرف عمّا صحّ من العقائد الدینیة الصحیحة،و أن الدین الذی هم علیه هو اعتقاد السلف و الإمام أحمد و فضلاء أصحابه،و علی هذا الاعتقاد الذی فرضه السلطان یقول الرستمی:

الأشعریة ضلاّل زنادقة إخوان من عبد العزّی مع اللات

بربّهم کفروا جهرا و قولهم إذا تدبّرته أسوأ مقالات

ینفون ما أثبتوا عودا لبدئهم عقائد القوم من أوهی المحالات

(3)و قد امتحن العز بن عبد السلام و غیره ممن یخالف الحنابلة فی شیء من الاعتقاد،و کانت السلطة هی العامل الوحید فی بعث نشاطهم و امتداد حرکاتهم،و بها ینتصرون علی خصومهم الذین نبذوا الجمود و آثروا التدبّر و الاحتکام إلی القرآن و السنّة،فالشیخ عز الدین بن عبد السلام إنما کان غرضا لهم لما عرف عنه من أقوال و مواقف ثابتة تغایر ما یدعون إلیه-و قد ذکرنا بعض أقواله-و التی نذکر منها قوله:

(و من العجب العجیب أن الفقهاء المقلدین یقف أحدهم علی ضعف مأخذ إمامه بحیث لا یجد لضعفه مدفعا،و هو مع ذلک یقلده فیه،و یترک من شهد الکتاب و السنّة

ص:37


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) هامش ذیل تذکرة الحفاظ ص 263.
3- (3) المصدر السابق.

و الأقیسة الصحیحة لمذهبهم جمودا علی تقلید إمامه،بل یتحیل لدفع الکتاب و السنّة و یتأولها بالتأویلات البعیدة الباطلة نضالا عن مقلّده).

و فی بغداد جلس أحد الحنفیة المقربین عند السلطان بجامع القصر و جامع المنصور،و أخذ یلعن الأشعری علی المنبر و یقول:کن شافعیا و لا تکن أشعریا،و کن حنفیا و لا تک معتزلیا،و کن حنبلیا و لا تکن مشبّها،و أخذ یذم الأشعری و یمدح المذاهب الأربعة (1).

و شاعت الاتهامات بالباطل،و مضی الحنابلة فی نشاطهم،فارتکبوا أعمال الفتک بمن لم یکن علی عقیدتهم لأنه عندهم کافر حلال الدم استنادا إلی فتوی أحمد بن حنبل،فقد جاء عنه أنه یذهب إلی کفر من یقول بخلق القرآن،و سئل یوما عن رجل وجب علیه تحریر رقبة مؤمنة و کان عنده مملوک یقول بخلق القرآن؟فقال:

لا یجزی،لأن اللّه تبارک و تعالی أمر بتحریر رقبة مؤمنة و لیس هذا بمؤمن هذا کافر (2).

و قال أبو الولید:من قال:القرآن مخلوق فهو کافر،و من لم یعقد علیه قلبه علی أن القرآن لیس بمخلوق فهو خارج عن الإسلام (3).

و قال علی بن عبد اللّه:القرآن کلام اللّه،من قال أنه مخلوق فهو کافر لا یصلّی خلفه.

و قال أبو عبد اللّه الذهلی المتوفی سنة 255 ه:من زعم أن القرآن مخلوق فقد کفر،و بانت منه امرأته،فإن تاب و إلاّ ضربت عنقه،و لا یدفن فی مقابر المسلمین، و من وقف و قال:لا أقول مخلوق:و قد ضاهی الکفر،و من زعم أن لفظی بالقرآن مخلوق فهو مبتدع،و لا یدفن فی مقابر المسلمین.

و سئل أحمد بن حنبل عمن قال:لفظی بالقرآن مخلوق.فقال:هذا لا یکلّم و لا یصلّی خلفه،و إن صلّی أعاد.و ان لا یسمح لأصحابه بالسلام علی من یخالفه فی رأیه.

ص:38


1- (1) المنتظم ج 9 ص 107. [1]
2- (2) ذیل طبقات الحنابلة ج 1 ص 133.
3- (3) ابن العماد،شذرات الذهب ج 2 ص 322. [2]

و علی أی حال،فإن مشکلة القول بخلق القرآن-کما مرت الإشارة إلیها-بلغت حدّا یستغرب فیه الإنسان وقوع تلک الأحداث المؤلمة فی زمن اشتدت الصراعات فأصبحت فیه مقیاسا یقاس به إیمان المرء و کفره،و بهذا انعطفت موجة الصراع المذهبی نحو مرحلة جدیدة من الخلاف،خلّفت وراءها مادة أخری،و محورا جدیدا تدور علیه مشاکل الأمة فی خلافاتها المتواصلة.

و فی عهد المتوکل العباسی،عند ما أفل نجم المعتزلة،و أفلت منهم زمام الحکم،و انحازت السلطة لجانب أهل الحدیث و هو الجانب المعارض الذی یمثله جماعة أحمد بن حنبل،فانصبّ الغضب علی المعتزلة بعد أفول نجمهم،و استغل دعاة الفرقة فرصة انتصار جانب المعارضة،و طلوع نجم أحمد بن حنبل باعتباره من الشخصیات المعارضة للدولة فی فرض القول بخلق القرآن.

فکثر أتباع هذا الجانب،و ظهرت الضغائن،و نبشت الدفائن،و سارت جموع مختلفة الاتجاهات،متباینة القومیات فی رکاب اتباع أحمد بن حنبل إذ کان لهم دور السلطة فی الدولة،و قد تجاوزوا أقصی حدّ فی العقوبة و الانتقام ممن خالفهم و بالأخص من المعتزلة و الشیعة لعنا و قتلا و تکفیرا،و تمادوا فی مهاجمة المعتزلة حتی قالوا:أن المعتزلی لا تجوز الصلاة علیه،و أن دماءهم حلال للمسلمین،و فی أموالهم الخمس،و لیس علی قاتل الواحد منهم قود و لا دیة و لا کفارة،بل لقاتله عند اللّه القربة و الزلفی (1).

و قد ابتعدوا عن کل مبادئ العدالة،و خالفوا قواعد العلم مع المنطق،ففی سنة 323 ه أحرق الحنابلة فی الکرخ طرف البزازین،فذهبت فیه أموال کثیرة للتجار، و أطلق لهم الراضی ثلاثة آلاف دینار،و کان العقار لقوم من الهاشمیین،فأعطاهم عشرة آلاف دینار،و احترق ثمانیة و أربعون صنفا من أسواق الکرخ طرح فیه النار قوم من الحنابلة،حیث قبض بدر الخرشی علی رجل من أصحاب البربهاری یعرف بالدلاّل،و احترق خلق من الرجال و النساء (2).

و خلفت الانفعالات و حالات التعصب و الجهل جنودا و أبطالا ماهرین فی الأذی

ص:39


1- (1) انظر الفرق بین الفرق ص 151. [1]
2- (2) تکملة تاریخ الطبری ص 93.

و شجعانا فی الأضرار.و فی هذا الخضمّ استبیحت الدماء و الأموال ففی سنة 495 ه قدم بغداد عیسی بن عبد اللّه الغزنوی،فوعظ الناس-و کان شافعیا أشعریا-فوقعت فتنة بین الأشعریة و الحنابلة (1)إذ لا یروق لهم أن یکون أشعری أو شافعی بوظیفة الوعظ فی تلک الأیام.فهاجوا لذلک،و وقعت الفتنة،و وقع فیها حریق ببغداد.

و فی سنة 513 ه دخل أبو نصر القشیری بغداد،فوعظ بها،فثارت الحنابلة و وقعت فتنة بینهم و بین الشافعیة،و أخرج القشیری من بغداد (2).و فی خوارزم أحرق الحنابلة جامعا عظیما فی مرو بناه نظام الدین مسعود بن علی المتوفی سنة 596،بناه للشافعیة،فحسدتهم الحنابلة و أحرقوا الجامع.

یقول أبو حامد الغزالی المتوفی سنة 505 ه:و قد سلمت المدارس لأقوام قل من اللّه خوفهم،و ضعفت فی الدین بصیرتهم،و قویت فی الدنیا رغبتهم،و اشتدّ علی الاستتباع حرصهم،و لم یتمکنوا من الاستتباع و إقامة الجاه إلا بالتعصب،فحبسوا ذلک فی صدورهم،و لم ینبهوهم علی مکاید الشیطان فیه،بل نابوا عن الشیطان فی تنفیذ مکیدته،فاستمرّ الناس علیه،و نسوا أمهات دینهم.فقد هلکوا و أهلکوا،فاللّه تعالی یتوب علینا و علیهم.

و قال ابن کثیر و هو فی واقعه و حقیقته من کبار علماء الحنابلة رغم صبغة الشافعیة بعد ذکره لهذا الحادث فی تاریخه:(و هذا إنما یحمل علیه قلة الدین و العقل).

و الواقع أن قضیة خلق القرآن،هیأت للحنابلة عهدا بعث لهم النشاط فی أعمالهم التی لا تدخل تحت نطاق الدین،و لا تخضع لحکم العقل،لأنهم قاموا بدور الغوغاء من الهمجیة فی کثیر من القضایا،فقد کمّوا أفواه العلماء بغوغائهم من الردّ علیهم.خذ مثلا قضیة الشریف عبد الخالق بن عیسی شیخ الحنابلة عند ما توفی و أراد العوام أن ینبشوا قبر أحمد بن حنبل و یدفنوه معه،و لم یستطع أحد من العلماء أن یردّ علیهم و یمنعهم عن نبش القبر،فقال أبو محمد التمیمی من بین الجماعة:کیف

ص:40


1- (1) راجع الطبری 286/10 و ابن طیفور 181 و 182.
2- (2) راجع ابن کثیر ج 12 ص 162. [1]

تدفنونه فی قبر أحمد و ابنة أحمد مدفونة معه؟فإن جاز دفنه مع الإمام،لا یجوز دفنه مع ابنته.فقال بعض العوام:أسکت فقد زوّجنا بنت أحمد من الشریف،فسکت التمیمی و دفنوه مع أحمد فی قبره (1).

و نشط العوام فی شذوذهم،فقابلوا حملة الفکر،و علماء الأمة بالعنف، و عاملوهم بالغلظة،و حجبوهم عن الاتصال بالمجتمع.

فهذا محمد بن أحمد المعتزلی الفیلسوف المتکلم،لزم داره مدة من السنین، لم یستطع الخروج لأنهم غضبوا علیه.

و الحافظ أبو نعیم صاحب الحلیة المتوفی سنة 430 ه تعصّب الحنابلة علیه، فهجره الناس خوفا منهم.

قال محمد بن عبد الجبار:حضرت مجلس أبی بکر بن علی المعدّل،و کان بین الأشعریة و الحنابلة تعصّب زائد،فقام إلی ذلک الرجل أصحاب الحدیث بسکاکین الأقلام،و کاد أن یقتل (2).

کما أنهم رجموا أبا الفرج الأسفرایئینی الواعظ فی الأسواق مرات عدیدة، و أظهروا لعنه و سبّه لأنه لم یکن منهم.کما تعصبوا علی الفقیه جعفر بن محمد الشافعی الموصلی و کان مقدما عند السلطان،فحسدوه،و کتبوا محضرا نسبوه لکل قبیح،فنفی من الموصل سنة 323 ه.

و لقی ابن عساکر شیخ الشافعیة المتوفی سنة 620 ه من الحنابلة أذی کثیرا، تعصبا علیه و تحدّیا لمقامه،و کان یتجنّب المرور بهم خشیة إیقاع المکروه به منهم.

و کان ابن قدامة عالم الحنابلة بدمشق یذهب إلی عدم إسلام ابن عساکر،لأنه یقول بالکلام النفسی،فلا یرد السلام علیه (3).

و کذلک الخطیب البغدادی المتوفی سنة 463 ه تحامل علیه الحنابلة و اتهموه بالمیل إلی المبتدعة،و یقصدون المبتدعة المتکلمین و الأشاعرة،و قد حملهم التعصب

ص:41


1- (1) شذرات الذهب ص 337. [1]
2- (2) تذکرة الحفاظ ج 3 ص 277.
3- (3) طبقات الشافعیة ج 5 ص 69.

فقالوا:إن الکتب التی تنسب إلیه لیست له،و إنها للصولی،فسرقها و نسبها لنفسه (1).

و اتسع نشاطهم فعمّت الفوضی فی البلاد،و ذلک فی عهد الراضی،فأصدر منشورا یردّ علیهم و یعدّد مساوئهم،و یهدّدهم بالعقاب،و النکال.و جاء فی المنشور الذی وجهه إلیهم قوله:

و قد تأمل أمیر المؤمنین أمر جماعتکم،و کشفت له الخبرة عن مذهب صاحبکم.... (2)زیّن لحزبه المحظور،و یدلی لهم حبل الغرور،فمن ذلک تشاغلکم بالکلام فی ربّ العزّة تبارکت أسماؤه،و فی نبیّه و العرش و الکرسی، و طعنکم علی خیار الأمة،و نسبتکم شیعة أهل بیت رسول اللّه إلی الکفر و الضلال، و إرصادهم فی الطرقات و المحال،ثم استدعاؤکم المسلمین إلی التدین بالبدع الظاهرة و المذاهب الفاجرة التی لا یشهد بها القرآن.إلی آخر ما یتضمنه المنشور من تعداد مساوئ تلک الخصال،و التهدید لهم بالعقوبة و عظیم النکال.

إذن،تمکّن التعصب من نفوس العامة،و اشتدّ أمر الحنابلة،و کان منهجهم یتّسم بالعنف،و التعدی علی کل من خالفهم الرأی.و هکذا تلونت الأحداث بتعدد الحکام و تغیّر الأغراض،فإذا ارتأی المأمون أن تکون قضایا الفکر و العمل شعارا لدولته فقد کان ینزع إلی خدمة الحکم و توطید أرکان السلطان،حتی استطاع أن یجعل المتعلقین بالحکم و المستفیدین من الخلافة تبعا له فی رأیه.

و یقتضی البحث أن نشیر دون تفصیل إلی أوامره فی هذه المشکلة،و هی إن أدرجت فی عرض للمقارنة نراها تضمّ أفکار المعتزلة،و هذه الأوامر تذکر دوما فی المراجع و الکتب التی تؤرخ لهذه القضیة،و تجدها مبسوطة فیها،و نحن نختار ما صدر من المأمون عند ما کان فی الرّقة،و نقتصر منه علی الجزء الذی یتناول مسألة خلق القرآن،و کان ذلک سنة 218 ه-کما ذکرنا-فقد قرر المأمون أن یتولی إلزام الناس بالقول فی خلق القرآن،و اختار أن یبدأ بأنفار عیّن أسماءهم،منهم:محمد بن سعد کاتب الواقدی،و أبو مسلم مستملی یزید بن هارون،و یحیی بن معین، و زهیر بن حرب أبو خیثمة،و إسماعیل بن داود،و إسماعیل بن أبی مسعود،

ص:42


1- (1) ابن مسکویه،تجارب الأمم ج 1 ص 322.
2- (2) بیاض فی الأصل.

و أحمد بن الدورقی.فأشخصوا إلیه،فامتحنهم و سألهم عن خلق القرآن،فأجابوا جمیعا أن القرآن مخلوق.و تبنّت سلطته فی بغداد أمر إشاعة ذلک عنهم و تقریر قولهم بحضور الفقهاء و رجال أهل الحدیث (1).

و اتخذت أفکار المعتزلة و معتقداتهم صفة الأمر السلطانی کما جاءت علی لسان المأمون فی أمره إلی إسحاق بن إبراهیم(...و اللّه عز و جل یقول: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِیًّا و تأویل ذلک:إنا خلقناه.کما قال جل جلاله: وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِیَسْکُنَ إِلَیْها و قال: وَ جَعَلْنَا اللَّیْلَ لِباساً. وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ فسوّی عز و جل بین القرآن و بین هذه الخلائق التی ذکرها فی مشیئة الصنعة،و أخبر أنه جاعله وحده فقال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِیدٌ. فِی لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فقال ذلک علی إحاطة اللوح بالقرآن،و لا یحاط إلا بمخلوق.و قال لنبیه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم: لا تُحَرِّکْ بِهِ لِسانَکَ لِتَعْجَلَ بِهِ و قال: ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ و قال: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَری عَلَی اللّهِ کَذِباً أَوْ کَذَّبَ بِآیاتِهِ و أخبر عن قوم ذمهم بکذبهم أنهم قالوا: ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلی بَشَرٍ مِنْ شَیْءٍ ثم أکذبهم علی لسان رسوله فقال لرسوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْکِتابَ الَّذِی جاءَ بِهِ مُوسی فسمی اللّه تعالی القرآن قرآنا و ذکرا و إیمانا و نورا و هدی و مبارکا و عربیا و قصصا فقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَیْکَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَیْنا إِلَیْکَ هذَا الْقُرْآنَ و قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی أَنْ یَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا یَأْتُونَ بِمِثْلِهِ و قال: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَیاتٍ و قال: لا یَأْتِیهِ الْباطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ فجعل له أولا و آخرا،و دلّ علیه أنه محدود مخلوق.و قد عظم هؤلاء بقولهم فی القرآن المتکلم فی دینهم و الحرج فی أمانتهم،و سهلوا السبیل لعدو الإسلام،و اعترفوا بالتبدیل و الإلحاد علی قلوبهم،حتی عرفوا و وصفوا خلق اللّه و فعله بالصفة التی هی للّه وحده،و شبّهوه و الأشباه أولی بخلقه،و لیس یری أمیر المؤمنین لمن قال بهذه المقالة حظا فی الدین،و لا نصیبا من الإیمان و الیقین،و لا یری أن یحل أحدا منهم محل الثقة فی أمانة و لا عدالة و لا شهادة و لا صدق فی قول و لا حکایة،و لا تولیه لشیء من أمر الرعیة...) إلی آخر کتابه.

و مع هذه الحالة الفکریة و الصیاغة الدینیة،و ما اتصف به حکم المأمون من

ص:43


1- (1) راجع الطبری 286/10 و [1]ابن طیفور 181 و 182.

ظاهر المیل إلی العلویین،فإن أغراض الحکام الشخصیة تکاد فی دوافعها تکون واحدة علی مرّ الأجیال فی التاریخ الإسلامی،فعندنا أن القالب جدید،غیر أن الجوهر واحد،و هو استخدام الدین للمصالح و المنافع،و تأکید السیطرة و الهیمنة.فها نحن أولاء أمام الحکام و هم یعرّضون الأمة للبلاء مرة أخری،و یعدّون لأخصامهم النقمة و المحن.و عند ما یبدأ معاویة بإسقاط من یری فضل علی أو یروی حدیثه من الدیوان،و یأمر بهدم دار من یوالی علیا،حتی کانت النقمة علی الزنادقة أهون من أفعال السلطة بمن یودّ أهل البیت.فقد کان رجال أهل البیت و الأئمة منهم قد تعاهدوا أمر أصحابهم بالسیاسة الملائمة،أو بالثورة و السیف منذ عهد الإمام الحسن حتی نهایة عهد الإمام الصادق علیه السّلام ثم جاءت الفترة العباسیة،فکانت القیادة للإمام موسی بن جعفر بتقواه و زهده،ثم للإمام الرضا بعلمه و حکمته.فلم تحدث النتائج التی سنراها فیما بعد هذه الفترة،و قد استعرضنا فی الأجزاء السابقة من کتابنا آثار مواقف الأئمة و علی الأخص موقف الإمام الصادق و کیف اتّجه إلی تربیة النفوس و شدّ القلوب بروابط الإیمان و العلم،و کان سلطانه علی أتباعه و محبیه سلطان دین و عقیدة،فکانت طرقه فی الدعوة إلی الدین و منهجه فی الأحکام و الفقه منهلا أغنی الأمة،و اغترفت منه فطاحل الرجال.

و فی مشکلة خلق القرآن،اتبع المأمون السیاسة ذاتها،لأن الظاهر قد یتغیر،أما الجوهر و حقیقة الدوافع فلیس لها علی صعید الحکم غیر القوة و التعدّی و العنف و إراقة الدماء،فکأننا إذا ما قرأنا أوامر المأمون نقرأ تعلیمات الأمویین و أوامرهم،فتراه یتّهم بالکفر من یخالفه،و یأمر بضرب الأعناق.لیتسلّی برؤیة الرءوس.و لا نرید أن نذکر أوامره لطولها و تفاصیلها،إنما نذکر شیئا یسیرا(...و من لم یرجع عن شرکه ممن سمّیت لأمیر المؤمنین فی کتابک و ذکره أمیر المؤمنین لک أو أمسک عن ذکره فی کتابه هذا و لم یقل أن القرآن مخلوق بعد بشر بن الولید و إبراهیم بن المهدی، فاحملهم أجمعین موثقین إلی عسکر أمیر المؤمنین،مع من یقوم بحفظهم و حراستهم فی طریقهم،حتی یؤدیهم إلی عسکر أمیر المؤمنین،و یسلمهم إلی من یؤمن بتسلیمهم إلیه،لینصحهم أمیر المؤمنین،فإن لم یرجعوا و یتوبوا حملهم جمیعا علی السیف).

و لقد فتح المأمون علی الأمة بابا من البلاء لم یغلق،فقد بلغت سیاسة حدّ الولع بما تواضع علیه الناس و استلموه و توارثوه ناجزا،عملت علی تکوین عوامل

ص:44

السلطة و أصحاب الأغراض المختلفة،فعمد إلی سلطة الحکم لأحداث هزّة فی طریقة بقاء الناس علی استسلامهم و استمرارهم علی موروثهم،و فکّر فی المجاهرة بأمور ینتهی إلیها النظر الجریء و الحرّ،لکن حرکة الرأی و نشاط العقل مهما شهدت من ألوان و ضروب متطورة،لم تشمل المجتمع بأسره،و لم تسع الناس جمیعا،و لا بد أن یبرز للموروث موقف،کما أنها لیست هی الدین کله.و قد أساء بذلک.

لقد تهیأت الظروف لأن یبرز أحمد بن حنبل.و کان وراءه شیوخ آخرون دفعوه إلی الثبات بوجه المأمون و عدم الإذعان،کأبی جعفر الأنباری الذی لحق بابن حنبل لمّا حمل إلی المأمون و قال له:یا هذا،أنت الیوم رأس و الناس یقتدون بک،فو اللّه لأن أجبت إلی خلق القرآن لیجیبنی بإجابتک خلق من خلق اللّه،و إن أنت لم تجب لیمتنعنّ خلق من الناس کثیر،و مع هذا فإن الرجل إن لم یقتلک فأنت تموت،و لا بد من الموت،فاتق اللّه و لا تجبهم إلی شیء.فجعل أحمد یبکی و یقول:ما شاء اللّه،ما شاء اللّه.ثم قال أحمد:یا أبا جعفر،أعد علیّ ما قلت.فأعاد علیه،فجعل یقول:ما شاء اللّه،ما شاء اللّه (1).

و قد انتهی الأمر إلی أن یبقی أحمد بن حنبل وحده فی امتحان السلطة له، حیث تخلّی کل نفر عن الثبات،و لم یبق معه إلا محمد بن نوح الذی کان معه فی الاقتیاد إلی المأمون،و قام محمد بن نوح بما یقوم به الآخرون و هم خارج الاعتقال، و الذین أخذوا یرون فی أحمد رمزا لبقاء مناهجهم و طرقهم فی القول و الحکم.و قد کان محمد بن نوح حدثا و هو یمثل حالة أو مرحلة عمریة تشد إلیها من کانوا فی عمره،فکیف إذا کانت نهایته الموت و هو فی ظل الاعتقال و التعذیب،فقد مات و هما فی الطریق إلی المأمون.و لکن محمد بن نوح کان یقول لأحمد بن حنبل:یا أبا عبد اللّه اللّه اللّه،إنک لست مثلی،أنت رجل یقتدی بک،و قد مدّ الخلق أعناقهم إلیک بما یکون منک.فاتق اللّه و اثبت لأمر اللّه (2).

و توفی المأمون فی السنة نفسها،و خلفه المعتصم،و کان المأمون قد وضع لأخیه السیاسة التی یلتزمها،و قد کان استمراره علی القول بخلق القرآن لا عن وعی

ص:45


1- (1) ابن الجوزی،مناقب الإمام أحمد بن حنبل ص 314.
2- (2) أیضا ص 315.

و إلمام،و إنما سیاسة و تقلیدا،فهو لا یرقی إلی درجة أخیه فی الاطلاع،فقد عرف عنه قلة علمه،و یروی أن أباه کان عنی بتأدیبه فی أول أمره،فمرّت به جنازة لبعض الخدم فقال:لیتنی کنت هذه الجنازة،لأتخلص من همّ المکتب.فأخبر الرشید بذلک،فقال:و اللّه لأعذّبنه بشیء یختار الموت من أجله.و أقسم ألا یقرأ طول حیاته، و یبدو أنه کان قریبا من الأمیة کما وصف نفسه فی بعض الروایات،و لهذا فإن بقاء القول بخلق القرآن یفقد فی عهده الجوانب الفکریة،و یبقی الدافع السیاسی الذی شمل المتنفذین من المعتزلة أیضا ممن أغرتهم السلطة کأحمد بن أبی دؤاد الذی کان یمثل عامل بقاء سیاسة المأمون،و فی الوقت الذی نجد فیه إشارات إلی خروج المعتصم عن نهج العنف،نجد ابن أبی دؤاد یذکّر المعتصم أنه لو سلّم و لان،فسیقال حتما عن المعتصم أنه ناهض مذهب المأمون،و أن الناس سیرون أن أحمد قد أحرز نصرا علی خلیفتین،و هی نتیجة قد تحفّز أحمد بن حنبل علی أن یعدّ نفسه زعیما،مما یفضی بدولة الخلفاء إلی أوخم العواقب،و هو ما نص علیه المقریزی فی المقفی الذی نقل عنه المستشرق الأمریکی ولتر ملفیل و الذی نحن فی سیاق قوله الآن (1)ذکر المقریزی:قال أبو عبد اللّه و جعلت بین العقابین.فقلت:یا أمیر المؤمنین إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«لا یحل دم امرئ مسلم یشهد أن لا إله إلا اللّه و إنی رسول اللّه إلا بإحدی ثلاث...»الحدیث (2)و قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم«أمرت بأن أقاتل الناس..» الحدیث (3)فبم تستحل دمی،و لم آت شیئا من هذا؟یا أمیر المؤمنین أذکر وقوفک بین یدی اللّه عز و جل کوقوفی بین یدیک،یا أمیر المؤمنین راقب اللّه.فلما رأی المعتصم ثبوت أبی عبد اللّه و تصمیمه،لان لأبی عبد اللّه،فخشی ابن أبی دؤاد من رأفته علیه فقال:یا أمیر المؤمنین،إن ترکته،قیل أنک ترکت مذهب المأمون و سخطت قوله، و أنه غلب خلیفتین.فهاجه ذلک و طلب کرسیا،جلس علیه و قام ابن أبی دؤاد و أصحابه علی رأسه.انتهی.

و من الصورة التی نطلع علیها،و فی وسطها أحمد بن حنبل،نری أن ابن حنبل

ص:46


1- (1) ولتر ملفیل پاتون،أحمد بن حنبل و المحنة،ترجمة عبد العزیز عبد الحق ص 150.
2- (2) تکملة الحدیث:«کفر بعد إیمان،و زنا بعد إحصان،و قتل النفس بدون نفس»و فی بعضها غیره.
3- (3) تکملة الحدیث:«حتی یقولوا لا إله إلا اللّه،فإن قالوها عصموا منی دماءهم و أموالهم»و فی بعضها غیر هذا النص.

فی السلوک و التصرّف یلتزم بتعالیم السنة،و یحتج بأحادیث النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یحاول بهما أن یحمی نفسه و یصون کرامته،و یلوذ بالعلم،و یتوسّل بالفقه لیردّ عنه کید السلطة،حتی لتطالعنا من بین ملامح تلک الصورة أن أحمد بن حنبل سایر قوة السلطان،و أظهر ما یرید الحکام تحت وقع السیاط،لیکفّ الأذی و یدفع العذاب، فهذا مؤرخنا الیعقوبی یقول:و امتحن المعتصم أحمد بن حنبل فی خلق القرآن، فقال:أنا رجل علمت علما،و لم أعلم فیه بهذا.فأحضر له الفقهاء،و ناظر عبد الرحمن بن إسحاق و غیره،فامتنع أن یقول أن القرآن مخلوق،فضرب عدة سیاط.

فقال إسحاق بن إبراهیم:ولّنی یا أمیر المؤمنین مناظرته.فقال:شأنک به.فقال إسحاق:هذا العلم الذی علّمته نزل به ملک،أو علمته من الرجال؟فقال:بل علّمته من الرجال.فقال:شیئا بعد شیء أو جملة؟فقال:علمته شیئا بعد شیء.قال:فبقی علیک شیء لم تعلمه؟قال:بقی علیّ.قال:فهذا مما لم تعلمه،و قد علمک أمیر المؤمنین.قال:فإنی أقول بقول أمیر المؤمنین.قال:فی خلق القرآن؟قال:فی خلق القرآن.قال:فأشهد علیه،فخلع علیه و أطلقه.انتهی.و هنا نلاحظ أن أحمد بن حنبل بعد خروجه من السجن و امتحان القوة له،قد وجد العامة التی تضرّرت بمواقف و سیاسة المأمون و خلفه تنتظر خروجه و تتشوق للقیاه،فیبالغ فی الرد،و یسمح لنفسه بالحکم علی مخالفیه بما لم یرد به نص،و بما یخالف ما احتج به أمام قوة السلطان و هو یمتحن أمام خلفاء بنی العباس و یتقی اعتداءهم.کما نلاحظ فی عموم سیرته غموضا،و أحیانا خفاء فی رأیه فی الإمام علی علیه السّلام أو یزید بن معاویة،إذ تضطرب کما فی الروایات،و مهما یکن من أمر،فإن العامة قد وجدت نفسها مستهدفة من قبل سیاسة بنی العباس فی عهد المأمون و خلفیه حیث ظهرت السلطة بمظهر العلم و صفة المتکلّمین.و قد کان المأمون شدیدا علیهم و هو یستعیر منطق المعتزلة و أفکارهم،و یصدر أوامره السلطانیة من مرو لیلبس حکمه لبوس المرحلة،فیقول فی أول کتاب له:و قد عرف أمیر المؤمنین أن الجمهور الأعظم و السواد الأکبر من حشو الرعیة و سفلة العامة فمن لا نظر له،و لا رؤیة و لا استدلال له بدلالة اللّه و هدایته،و لا استضاء بنور العلم و برهانه فی جمیع الأقطار و الآفاق،أهل جهالة باللّه و عمی عنه، و ضلالة عن حقیقة دینه و توحیده و الإیمان به،و نکوب عن واضحات إعلامه و واجب سبیله،و قصور عن أن یقدروا اللّه حق قدره،و یعرفوه کنه معرفته،و یفرقوا بینه و بین

ص:47

خلقه بضعف آرائهم و نقص عقولهم،و خفائهم عن التفکیر و التذکر (1).هذا و السلطة تتحول إلی الخضرة و تغیّر شعارها الأسود تقربا إلی الشیعة،و قضیة إسناد ولایة العهد إلی الإمام الرضا ما زالت فی الأذهان،و لا بد أن قضیة سمّه و قتله لا تهمّ الآخرین أکثر مما تهمّهم المظاهر،و بین فترة و أخری یهمّ المأمون فی القول بمسألة علی رأی الشیعة،بینما قضیة امتحان السلطة للعلماء لها طابع معتزلی،و العامة أخذت تنظر إلی أهل الرأی و الفکر نظرة واحدة،لأن الفترة حدیثة عهد،و الحرکة ما زالت فی بواکیرها،و مناهج الکلام و أسالیب القول قامت کالموجة التی تهدد رکود الغدران بالتحول أو الفناء.

لقد أعلنت السلطة طابعها أو انحیازها إلی أهل الفکر و تیارات الکلام،و جاء بیانها شدیدا استفزّ العامة الذین کانوا قاعدة الحکام منذ عهد معاویة،و تهیأ علی مر المراحل ممن لبس لبوس الدین،و تجلبب بجلباب العلم،أن یبذل أقصی ما یستطیع لیرضی السلطان،و یجعل الجمهور ینظر إلی حال الحاکم من خلال ما یصوّرونه لهم، فاحتل الحکام فی أنظارهم موقع القداسة،و أحنوا الرءوس برغم ما یسفک من دماء، و تنتهک من حرمات،و یستباح من أعراض،فألفوا أمورا فی کل شأن من شئون الاعتقاد و الحیاة،و ورثوها علی نمط الحکام و صیاغة المنتفعین.

و للأسف،فإن تحوّل السیاسة و انعطاف المأمون إلی أوجه جدیدة فکریة متکلّفة،و ما أحدث ذلک من هزّة عنیفة،لم تعالج بما یساعد علی کبح جماع الانفعالات و لجم الجهل،فإضافة إلی توافر أسباب الهیاج و شیوع مضمون سیاسة السلطة،و ما یوفره ذلک من مادة غنیة لشدّ الجمهور و التلاعب بعواطفه،و دفع مشاعره إلی أشد حالات النقمة،أصبحت کلمة الجهل أو الأوصاف التی یطلقها رجال المناظرات و أساتیذ الکلام علی خصومهم الذین یسترون جهلهم بالعناد و التعصب، أدلة أخری ألّبت الناس علی أهل الفکر قبل أن تألبهم علی العباسیین و أغراضهم السیاسیة،فضاعت فی وسط ذلک الأسباب الحقیقیة لقیام مثل هذه المرحلة،و کان تقصیر الجهات فیها متماثلا،إذ لم یبذل المعتزلة ما یکفی من جهد بعیدا عن السلطة، بل انتقلت حصیلة اعتقاداتهم إلی الحکام و ألحقتهم السلطة بها.

ص:48


1- (1) ابن طیفور،ص 181.

کما کان الطرف الآخر یعتمد علی الاستشارة و الاستفزاز،لیستفید من نتائجهما فی الإبقاء علی ممسک الجمهور و محافظتهم علی الأوضاع التی ألفوها و عاشوها، و لمّا اجتاز أحمد بن حنبل الأزمة صبّ جام غضبه علی أصل القضیة،فأباح لنفسه الفتوی و القول بکفر من یقول بخلق القرآن.و قد مرّ بنا ذلک و أشرنا إلی ما جاء عنه فی کفر من یقول بخلق القرآن،إذ سئل عن رجل وجب علیه تحریر رقبة مؤمنة و کان عنده مملوک یقول بخلق القرآن؟فقال:لا یجزی،لأن اللّه تبارک و تعالی أمر بتحریر رقبة مؤمنة.

و لم یکن أحمد بن حنبل أو الجمهور فی حال یجاهرون بها بالخروج علی رأی الحاکم أیام المعتصم،إذ یروی أن أحمد أمسک فی عهد المعتصم حتی عن روایة الحدیث الذی هو عماد مکانته و مقوم شخصیته،فهو الحافظ الذی ینبسط فی الروایة و یتقید بها حتی قیل:إنه أقرب إلی الحدیث منه إلی الفقه.و لا ننسی أن هذه الفترة شهدت غیاب الإمام الرضا،و کون ابنه الإمام محمد الجواد ما زال فی مقتبل العمر، و تتضافر الروایات علی ما بلغه فی العلم و الحکمة و الأدب و کمال العقل،حتی أن المأمون أراد أن یوجد للصبغة التی أرادها لحکمه دلالة جدیدة،فزوّجه ابنته أم الفضل،و اتجه إلی المدینة،و ابتعاده عن العراق أمر له مغزی کبیر،اختیارا منه و عملا بنهج أبیه،و کیف حمل ولایة العهد اسما،و لم تنجح وسائل المأمون مع الإمام الرضا فی زجّه فی شئون السلطان،و إذا کان أهل البیت قد عملوا علی تهذیب النفوس بتعالیم الإسلام و ترسیخ الأحکام فی المجتمع بتربیة النشأ و إرشاد الناس،فقد کان الرضا علیه السّلام یقول:«إنما یؤمر بالمعروف و ینهی عن المنکر مؤمن فیتعظ،فأما صاحب سیف و سوط فلا».و کان قوله المشهور للمأمون:«ما التقت فئتان قط إلا نضر اللّه أعظمهما عفوا».فعاد الإمام الجواد إلی مهبط الوحی و مهد النبوة، و سعی علیه السّلام إلی توجیه الناس و بث العلم و نشر الأحکام،و کانت الوفود تأتیه من الأقطار النائیة لأنه وارث علم أهل البیت عن أبیه الرضا علیه السّلام غیر أن المعتصم أعاده إلی بغداد و انتهی شهیدا مسموما علی ید بنی العباس.

فکأن الناظر إلی أعمال بنی العباس فی هذه الفترة یجد تقربا و رعایة إلی آل علی،فی حین أن حقیقة ما یعیشونه مکابدة رهیبة تنتهی بهم إلی الموت.کما أن العلویین استمروا فی مناهضتهم للسلطة،و لم تنطل علیهم خدع الحکام و تکریم

ص:49

المأمون للطالبیین أو العلویین،و عدم منعهم من الدخول علیه؛حتی ثار عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عمر بن علی بن أبی طالب ببلاد الیمن و دعا إلی الرضا من آل محمد.فأرسل إلیه المأمون جیشا کثیفا تحت قیادة دینار بن عبد اللّه، و کتب معه أمانا لعبد الرحمن،فقبله و سار إلی المأمون،فمنع المأمون عند ذلک الطالبیین من الدخول علیه،و أمرهم بلبس السواد (1)و امتنع أکثرهم عن لبس السواد، فکان عقابهم السجن.فهذا عبد اللّه بن الحسین بن عبد اللّه بن إسماعیل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبی طالب امتنع عن لبس السواد و حرّمه لما طولب به،فحبس بسر من رأی فی أیام المعتصم حتی مات فی الحبس (2)کما استمر علی رفض سلطة العباسیین جماعة من العلویین و لجئوا إلی الثورة.و یمکننا القول أن محاولات بنی العباس بلونها هذا قد استطاعت أن تجعل الرقابة و القیود التی اعتاد علیها أئمة أهل البیت و المفروضة علیهم من قبل الحکام مناسبة لأصول اتجاهات الرأی و مدارس الکلام،لکنها فی حقیقتها واحدة.فعلم أهل البیت و تعلیمات الأئمة کانت منهلا و ینبوعا لهذه الاتجاهات،و کان المعتزلة علی الأخص من أقرب الناس رأیا إلی فقه أهل البیت،و إن ضمّت صفوفهم رجالا أبعد ما یکونون عن الولاء،حیث تأثر معتزلة البصرة بما یحیط بهم،و تأثر معتزلة بغداد بغیر ذلک،و بناء علیه فکیف یدّعی المأمون العلم و الانتصار للفکر،و یتبع سیاسة السجن و اعتقال رجال أهل البیت الذین لا ینکر المعتزلة تأثرهم و اقتدائهم بهم؟فأخذ بالتظاهر الذی یصعب معه الاطمئنان إلی زوال نوازع الکره و العداء لأهل البیت.

و کان المعتصم مقلدا و منفذا لسیاسة المأمون بجوانبها المختلفة فی الموقف من رجال الفکر و معاملة أهل البیت،ثم جاءت مرحلة الواثق التی تمثل المرحلة الوسطی التی تسبق عودة السیاسة العباسیة إلی عهدها علی ید المتوکل.و مع أن رجل المعتزلة السلطانی أحمد بن أبی دؤاد قد تمکّن من إبقاء قضیة خلق القرآن علی واجهة الحکم، إلا أن الواثق لم یتعرّض إلی أحمد بسوء،و أرسل إلیه و قال له:لا تساکنّی بأرض، فاختفی أحمد بقیة حیاة الواثق.

ص:50


1- (1) ابن الأثیر 156/4. [1]
2- (2) المقاتل 385. [2]

و نحن نجد فی أحداث هذه المشکلة من مظاهر الظلم و العنف ما تأباه النفوس، لکنها تصبح غیر ملفتة إذا ما قورنت بأهوال السجون و مصائب التعذیب التی یلقاها آخرون،فدع عنک کیف استشهد الإمامان الرضا و الجواد علی ید حکام یتظاهرون بالودّ،و خذ مثلا من عرف من العباسیین بعدائه لأهل البیت.و مع ذلک فلا یقرّ ما یجری فی ظل الحکام من اعتداء علی حرمة الرأی أو العلماء،بل نذکره للإدانة و نسطّره لتعرف الأجیال ما ارتکب الحکام.و من أحداث هذه الفترة التی تتصل بالقول بخلق القرآن أن شیخا من الشام جیء به إلی الواثق،فلما دار النقاش اتفق الواثق مع رأی الشیخ فی جواز الإمساک عن هذه المقالة ما اتسع لهم کما اتسع لرسول اللّه و أبی بکر و عمر و عثمان و علی،و أمر الواثق بقطع قید الشیخ،فلما قطعوا القید ضرب الشیخ بیده إلی القید حتی یأخذه،فجاز به الحداد،و أخذه من الحداد قائلا:لأنی نویت أن أتقدم إلی من أوصی إلیه أن یجعله بینی و بین کفنی حتی أخاصم به هذا الظالم عند اللّه یوم القیامة و أقول:یا ربّ،سل عبدک هذا لم قیدنی و روّع أهلی و ولدی و إخوانی بلا حق أوجب ذلک علیّ؟ ثم جاءت فترة عهد المتوکل الذی استلم الحکم فی سنة 232 ه فعاد النصب بأوضح صوره (1)و تجدّد العداء لآل البیت بأقبح أشکاله،و لیس ذلک بردّ فعل لما سبق،و إنما ردود الفعل تمثلت فی موقعه فی مسلسل الحکام من بنی العباس.یقول ابن کثیر:و کان المتوکل محببا إلی رعیته؟قائما فی نصرة أهل السنة،و قد شبهه بعضهم بالصدّیق فی قتله أهل الردّة لأنه نصر الحق و ردّه علیهم حتی رجعوا إلی الدین،و بعمر بن عبد العزیز حین ردّ مظالم بنی أمیة،و قد أظهر السنّة بعد البدعة، و أخمد أهل البدع و بدعتهم بعد انتشارها و اشتهارها.

و أکرم المتوکل أحمد بن حنبل،و کتب إلی نائبه ببغداد أن یبعثه إلیه،و کان حتی وفاة أحمد یتفقده و یوفد إلیه فی أمور یشاوره فیها و یستشیره فی أشیاء تقع له (2).

و بدأ الحنابلة مع السلطة منذ هذا التاریخ یسهمون فی تعمیق روح الخلاف،و نحن -و إن قلنا برد الفعل-إلا أن الأمر تجاوز ذلک لاستسهال أمر الاتهام بالکفر و الخروج

ص:51


1- (1) انظر الجزء الأول من الإمام الصادق و المذاهب الأربعة.
2- (2) ابن کثیر 340/10. [1]

علی الدین.فاهتزّ کیان الأمة،و اختلّ بناء المجتمع،و قد أطلعنا فیما مضی علی جانب من الأحداث التی تقوم بتأثیر العصبیة و الجهل.و استمر الحنابلة یعنون بالهیمنة علی الحکم،حتی أن المطیع باللّه کان یتقرّب إلیهم بالتظاهر بسماعه و تردیده أقوالا لأحمد بن حنبل،و قد کان یحدّق به خلق کثیر من الحنابلة قدروا بثلاثین ألفا،فأراد أن یتقرب إلیهم،فی حین کان الناس یأکلون الأطفال و الجیف لشدة الجوع،و إذا رأثت الدواب اجتمع جماعة من الضعفاء علی الروث،فالتقطوا ما فیه من حبّ الشعیر فأکلوه،و کانت الموتی مطرحین فربما أکلت الکلاب لحومهم (1).

و امتدت مشکلة خلق القرآن لعهود طویلة،و بتأثیر الحنابلة شملت الاتهامات أغلب الطوائف،ففی سنة 408 ه استتاب القادر باللّه فقهاء المعتزلة الحنفیة،فأظهروا الرجوع و تبرّءوا من الاعتزال،ثم نهاهم عن الکلام و التدریس و المناظرة فی الاعتزال و الرفض و المقالات المخالفة للإسلام،و أخذ خطوطهم بذلک،و إنهم متی خالفوه حلّ بهم من النکال و العقوبة ما یتّعظ به أمثالهم،و امتثل یمین الدولة و أمین الملة أبو القاسم محمود أمر أمیر المؤمنین و استنّ بسنّته فی أعماله التی استخلفه علیها من خراسان و غیرها فی قتل المعتزلة و الرافضة و الإسماعیلیة و القرامطة و الجهمیة و المشبّهة،و صلبهم و حبسهم و نفاهم،و أمر بلعنهم علی منابر المسلمین،و إبعاد کل طائفة من أهل البدع،و طردهم من دیارهم،و صار ذلک سنّة فی الإسلام (2).

ثم تبادل الناس فیما بینهم الاتهامات،و غدت سنّة الحکام شاملة،و شاع التعصب مع سعی حثیث إلی إدخال الحکام فی صمیم الأمر،و الاستعانة بقوة السلطان،و نحن سنعرض إلی جوانب من ذلک بحسب مواقعها من الکتاب.

ص:52


1- (1) المنتظم 344/6. [1]
2- (2) المنتظم 287/7. [2]

3-البدع و الضلالات

اشارة

و هکذا أدّت تدخلات الحکام إلی نتائج أساءت کثیرا إلی حرکة الفکر و الکلام، و شجعت قیام ظروف ملائمة للاتهامات و العداء.و إذا نظرنا إلی تاریخ الحکام فی الإسلام و موقفهم من أعدائهم،رأینا أن سلاح التکفیر و الخروج عن الدین کان من أهم ما یشهره الحکام لاجتناب العامة و استغلال مشاعرهم المختلفة،و البروز بمظهر دینی غیر حقیقی،و لما حدثت هذه الأحداث و تحکّمت النزعات و هیمن التعصب علی النفوس،تبادلت الطوائف الاتهامات،و أصبح الاتهام بالبدعة و الضلالة أمرا مألوفا،کما أصبح استحلال الدم و ما یتبع ذلک من فظائع الأمور التی تشلّ حرکة الفکر و تمزّق المجتمع شرّ ممزّق،إذ لم یکن استخدام لفظی البدعة و الضلالة قائما علی أساس صحیح مجرد من العواطف و النزعات الخاصة.فقد تدخلت الأغراض المختلفة:أغراض الملوک،و أغراض المتنفذین و المتزعمین فی شتی المیادین.و قوبل استسهال الحکم بالکفر أو الضلال بأعمال و فتاوی مقابلة،و مرّت الأعوام و لفظ الضلالة و البدعة یستخدمان وفق الأغراض،و کل جهة یصدر منها الاتهام یصدر من أختها فی الدین ما یقابل ذلک.

و أصبحت حرکة المذاهب تتبادلها بسهولة،و هی فی کل الأحوال تحدث فی حالة تتغلب فیها العواطف علی حکم الدین،فعقیدة الإسلام واضحة جلیة و إن استجد ما یخرج علی القواعد و الأصول و روح الإیمان،فالتصدی لهذا الخروج و إطفاء باطله واجب علی کل مسلم،فإذا کانت مبادئ الإسلام واضحة و عقائده جلیة،فما لا یجری علی منواله و یقتدی بروح القرآن بیّن معروف یکون من السهولة الإجماع علیه، أما إذا کان تحکما و خضوعا للأهواء فهو المصیبة التی نحن بصدد بیان بعض أجزائها و جوانبها.

ص:53

فالمذاهب أصبحت تدّعی أن کلاّ منها علی حق،و غیرها علی الضلالة.

و البدعة لغویا کل شیء أحدث علی غیر مثال سابق،سواء کان محمودا أو مذموما.و البدیع:محدث عجیب غیر معروف،و هی تفید معنی الأحداث و الاختراع.أما البدعة اصطلاحا فهی مدار اختلاف الفقهاء شرعا،و یمیل أغلب العلماء إلی أنها إحداث فی الشرع،و عند بعضهم قد یکون مذموما أو محمودا.و لکن روح العداء أخضعت اللفظین لأغراضها،فاتهمت کل طائفة الأخری بالبدعة و الضلالة دون تمییز و هو انحراف عن واقع الحال،و بعد عن الحقیقة،و من هذا ما ذهب إلیه ابن المقری الشافعی فی تمثیله للمبتدع بالحنفی،و صاحب البزازیة الحنفی یمثل المبتدع بالشافعی،و أمثال هؤلاء کثیرون بین المذاهب الأربعة (1).

کما و قد وضعت کتب تتضمن بیان الفرق الإسلامیة و شرح عقائدها و تصف الکثیر منها بالبدعة أو الضلالة أو الکفر أخیرا.

و تمرّ السنون،و تکثر الکتب من دون جدوی فی تحدید هذین الاصطلاحین لنعرف ما هی البدعة التی یستوجب صاحبها النار،بسبب الضلال عن الهدی؟کما ورد فی الحدیث:«کل بدعة ضلالة،و کل ضلالة فی النار».فکیف نتعرف علی البدعة و نجتنبها؟و ما هی الضلالة التی توجب دخول النار؟هل لها حدّ شرعی أو تعریف لغوی؟و قد اختلفت المصادیق و تعدّدت الأقوال.و حدیث الفرق أن النبی قال:«ستفترق أمتی علی ثلاث و سبعین فرقة،اثنتان و سبعون فی النار،و واحدة فی الجنة»و بلفظ آخر«کل علی الضلالة إلا السواد الأعظم»فلهذا الحدیث شأن و قد تعرّضنا له سابقا و شکّکنا فی صحة نسبته إلی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی إجماله بدون بیان،و هذا ما یوجب إغراء الأمة بعضها ببعض،و تحامل الناس بعضهم علی بعض،و سنعود للحدیث عنه إن شاء اللّه.

و بقی تعریف البدعة هو ما اخترع علی غیر مثال سابق،فهی لغویا کما فی لسان العرب:بدعه أنشأه کابتدعه.و بدع اللّه الخلق أحدثهم لا علی مثال سابق.و بدع سمن،و بدع بداعة و بدوعا صار بدیعا،و أبدع أبدا و الشاعر أتی بالبدیع فهو مبدع، و منه البدیع الخالق المخترع،و فی المذهب أنها إیراد أقوال لم یستند فاعلها أو قائلها

ص:54


1- (1) سر انحلال الأمة ص 189.

فیها لصاحب الشریعة لأن أصل مادة بدع الاختراع علی غیر مثال سابق،کقوله تعالی:

قُلْ ما کُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ و لکن مجریات الأحداث و تطورات الأمور جعلت التعریف فی اختلاف و مذاهب،فمنهم من جعلها فی العبادات خاصة،و منهم من جعلها فی العبادات و العادات.

فتعدّدت وجهات النظر فی إطلاق البدعة أو الضلالة،و استهل الناس قذف الآخرین بها مما عمّق الخلاف بین المذاهب أو الطوائف،فطائفة تتهم الأخری بالبدعة و الضلالة و تتوهم أنها تحتکر،الهدی و تسیطر علی الحق دون غیرها،و هذا یحدث ردّ فعل عند الطائفة الأخری،فیردّ الاتهام علی الطائفة بنفس الأسلوب،و بأنها مبتدعة خارجة عن الدین،و هی علی الهدی.و بهذا فقد اشتدّ الهیاج،و کثرت الفتن، و انتشرت الفوضی،و هنا نری لزوم الحدیث عن الفوارق التی حلت بین المسلمین، و کیف أصبحت کلمة بدعة أو مبتدعة سلاحا یوجه للناس و هم فی حالات أقرب بها إلی اللّه و مبادئ الإسلام من أولئک الذین یستخدمونها لتغطیة ضعفهم و انهزامهم.

و کیف وجّهت إلی الجماعات التی تهدّد مناهج الجمود و الانغلاق ظلما،کما وجّهت توجیها سلیما إلی الجماعات التی لا غبار علی بعدها عن السنة و خروجها علی ما جاء به صاحب الشریعة صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

من هو المبتدع

؟ لقد حدثت أمور بسبب الاختلاف فی تمییز البدعة و من هو المبتدع فخلطوا بین السقیم و الصحیح و سارت الأمور علی غیر المنهج العلمی،فکانت هناک أشیاء هی مدعاة للأسف لأنها تعکس سلوک رجال لم یسلکوا مع خصومهم الطریق التجرّدی المعقول،بل التجئوا إلی استخدام القوة و کل ما یتعارض مع حریة الفکر التی ضمنها الإسلام،و جعلها إحدی مقومات المجتمع الإسلامی،و لنقف علی بعض الأقوال فی لزوم تجنب صاحب البدعة،و لنأخذ صورة عن تلک العصور المظلمة،و الوقوف علی تلک المفارقات التی حدثت بالمجتمع.

یقول بعضهم:من جالس صاحب بدعة،نزعت منه العصمة و وکل إلی نفسه.

و عن یحیی بن کثیر أنه قال:إذا لقیت صاحب بدعة فی طریق،فخذ طریقا آخر.

و عن الفضیل أنه قال:من جلس مع صاحب بدعة لم یعط الحکمة،و الماشی إلیه معین علی هدم الإسلام.

ص:55

و قال هشام بن حسان:لا یقبل اللّه من صاحب بدعة صلاة و لا صیاما،و لا زکاة و لا حجا،و لا جهادا،و لا عمرة،و لا صرفا،و لا عدلا (1).

و قد أوردوا عن صاحب الرسالة صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أحادیث تدعم هذه الآراء،فعن هشام بن عرفة مرفوعا«من وقّر صاحب بدعة فقد أعان علی هدم الإسلام».

و عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«من أتی صاحب بدعة لیوقّره فقد أعان علی هدم الإسلام،و من أعرض عن صاحب بدعة بغضا له فی اللّه ملأ اللّه قلبه أمنا و إیمانا،و من انتهر صاحب بدعة آمنه اللّه یوم الفزع الأکبر،و من أهان صاحب بدعة رفعه اللّه مائة درجة،و من سلّم علی صاحب بدعة أو استقبله بالبشر،أو استقبله بما یسرّه،فقد استخفّ بما نزل علی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم».

و جاء عن عائشة،أنها سألت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عن قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ فَرَّقُوا دِینَهُمْ وَ کانُوا شِیَعاً ؟فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«هم أصحاب الأهواء و أصحاب البدع و أصحاب الضلالة من هذه الأمة،یا عائشة:إن لکل ذنب توبة،ما خلا أصحاب الأهواء و البدع لیس لهم توبة، و أنا بریء منهم،و هم براء منی».

و غیر ذلک من الآثار التی أسندت إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و لسنا فی معرض نقدها من حیث الصحة أو الدلالة،و بیان علتها،و لکن الأمر المهم أن ننظر إلی الواقع العملی و کیف استعملت کلمة البدعة فی معان مختلفة،و اتّهم بها رجال هم مثال التمسک بالسنّة.و نود هنا استکشاف الواقع حول انطباق هذه التسمیة لنخرج بنتیجة و هی:من هو الذی تنطبق علیه هذه السمة فی الإسلام؟و من هو صاحب السنّة المتمسک بها؟ 1-فهذا أحمد بن حنبل فی معرض کلامه عن الفرق المبتدعة یقول:ذکر محاسن أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کلهم أجمعین،و الکف عن مساوئهم،و الخلاف الذی یشجر بینهم،فمن سبّ أصحاب رسول اللّه،أو واحدا منهم،أو تنقّصهم أو طعن علیهم أو عرض بعیبهم،أو عاب أحدا منهم فهو مبتدع رافضی خبیث مخالف، لا یقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا،بل حبهم سنّة،و الدعاء لهم قربة،و الاقتداء بهم وسیلة،و الأخذ بآثارهم فضیلة.

ص:56


1- (1) الشاطبی ج 1 ص 60 و 107.

2-و قال:من زعم أنه لا یری التقلید،و لا یقلد دینه أحدا فهو قول فاسق عند اللّه و رسوله،إنما یرید بذلک إبطال الأثر،و التفرّد بالرأی و الکلام و البدعة.

3-و أصحاب الرأی و هم مبتدعة ضلال،أعداء للسنة و الأثر،و یبطلون الحدیث،و یردّون علی الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یتّخذون أبا حنفیة و من قال بقوله إماما و یدینون بدینه،و أی ضلالة أبین ممن قال بهذا و ترک قول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أصحابه.

4-و الولایة بدعة،و البراءة بدعة،و هم الذین یقولون:نتولی فلانا و نتبرأ من فلان،و هذا القول بدعة فاجتنبوه.

فمن قال بشیء من هذه الأقاویل أو رآها،أو صوّبها،أو رضیها،أو أحبها فقد خالف،و خرج من الجماعة و ترک الأثر،و قال بالخلاف،و دخل فی البدعة و زلّ عن الطریق،و ما توفیقی إلا باللّه.

و بهذا ختم الإمام أحمد هذا الفصل من رسالته أو اعتقاده الذی رواه عنه أحمد بن جعفر الأصطخری و التی یقول فی أولها:هذه مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر.(إلی أن یقول)فمن خالف شیئا من هذه المذاهب أو طعن فیها،أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة.ثم یعدّد العقائد أولا مما ینطبق علی ما تذهب إلیه الحنابلة فقط.و یذکر الأقوال ثم یعدد الفرق المبتدعة و منهم المرجئة و الخوارج و المعتزلة إلی آخر ما ورد فی الرسالة من أمور هامة.

و إذا وقفنا وقفة المتأمل فی عبارات هذه الرسالة،أو المرسوم الذی اتخذه الحنابلة منهجا و دستورا یسیرون علیه فی معاملة المسلمین و بیان منزلتهم الدینیة،یبدو لنا جلیا أنه لم یسلم أحد من جمیع الأمة الإسلامیة من الضلالة،و ارتکاب البدعة.أو بعبارة أوضح،لم تسلم فرقة من فرق المسلمین من ذلک،إلا الحنابلة أنفسهم فهم المسلمون،و لهم الإسلام وحدهم دون سواهم کما یدّعون و یصرّحون بذلک.فهذا الشیخ عبد الغنی المقدسی من أشهر علماء الحنابلة،ذکر شیئا من العقائد أنکرها علیه بقیة المذاهب،فعقدوا له مجلسا،و أصرّ علی رأیه،فقال له الأمیر برغش:کل هؤلاء ضلاّل و أنت وحدک علی الحق؟قال:نعم.فغضب الأمیر،و أمر بنفیه من البلد، و کسر منبر الحنابلة.

ص:57

قال ابن کثیر:و جرت خبطة شدیدة نعوذ باللّه من الفتن ما ظهر منها و ما بطن (1)و یؤید ذلک تصریح شیوخهم بأن غیر الحنابلة مبتدعة.یقول قتیبة بن سعید:أحمد بن حنبل إمام،و من لا یرضی بإمامته فهو مبتدع.و ادعوا علی الشافعی أنه قال:من أبغض أحمد بن حنبل فهو کافر.فقیل له:تطلق اسم الکفر علیه؟فقال:نعم،من أبغض أحمد بن حنبل عائد السنة،و من عائد السنّة قصد الصحابة،و من قصد الصحابة أبغض النبی،و من أبغض النبی کفر باللّه العظیم (2).

و قال أحمد الدورقی:من سمعتموه یذکر أحمد بن حنبل بسوء،فاتهموه علی الإسلام.

و قال بعض الحنابلة:إذا رأیت البغدادی یحبّ أبا الحسن بن بشار،و أبا محمد البربهاری-و هما من شیوخ الحنابلة-فاعلم أنه صاحب سنّة.

و من الصعب الإحاطة بما خلّفته تلک الظروف من ادعاءات و تقوّلات،و قد أعرضنا عن کثیر مما وصلنا من ادعاءات الحنابلة فی علمائهم عامة و ابن حنبل خاصة، و سواء صحّت تلک الأقوال أم لم تصح،فالعامة یأخذون بها و یجعلونها شعارا فی مسیرتهم نحو أهدافهم،و قد أوردوا عن أحمد بن حنبل و غیره أمورا لا یمکننا أن نصدّقها،فهی بعیدة کل البعد عمّا اتصف به أحمد من العلم،و الاتزان.و لکن الحنابلة جعلوا ذلک دستور حیاتهم،بدون تثبّت،و قد دعمت تلک الأقوال حرکاتهم فی مقابلاتهم لجمیع الفرق،و اشتدوا بصورة خاصة علی الشیعة.

أما المعتزلة-و هم خصوم الحنابلة السیاسیین-فقد نالوا من الأذی ما لا یوصف،و کذلک الأشعریة الذین اختلفوا معهم فی العقائد،و قد صرّحوا بالطعن علی الأشعری و نسبوا له أقوالا مخالفة لروح الإسلام،و ذهب بعضهم إلی کفر أصحابه، و خروجهم عن حظیرة الإسلام نظرا لما یعتقدونه مما یخالف عقائد الحنابلة،و بهذا وصفوا الأشعری نفسه بأنه مبتدع،ففی سنة 445 ه أعلن بنیسابور لعن الأشعری رسمیا،و کان قد رفع إلی السلطان طغرلبک من مقالات الأشعری،فأمر بلعنه.

ص:58


1- (1) البدایة و النهایة ج 13 ص 2. [1]
2- (2) طبقات الحنابلة ج 1 ص 136. [2]

و وقعت فتنة عظیمة بین الحنابلة و الأشعریة حتی تأخر الأشاعرة عن حضور الجمعات خوفا من الحنابلة.

و خلاصة القول،أن الحنابلة یرون من خالفهم من المسلمین کفارا.و یقابلهم الأشعریة کلهم أو بعضهم بتکفیر شامل لمن لا یعرف وجود الباری بالطرق التی وضعوها،و قد خالفهم الحنابلة فی جمیع ذلک.

و ذهبوا إلی أن العدول عن مذهب الأشعری و لو قید شبر فهو کفر،و لو کان العدول فی شیء نزر فهو ضلال و خسر.و هکذا فالأشعریة و الحنابلة یکفّر بعضهم بعضا،و قد لقی الأشعری من الحنابلة فی حیاته،عنتا و تحاملا علیه و علی أتباعه و مؤیدی أفکاره و آرائه،و لشدّة تعصّبهم علیه أخفی أصحابه قبره بعد وفاته سنة 333 ه حذرا من أن تنبشه الحنابلة،لأنهم حکموا بکفره و إباحة دمه.و لقد وقعت بین الحنابلة و الأشاعرة حوادث کثیرة و حروب و قتال فی شوارع بغداد،أهمها یوم دخلها القشیری،و وعظ بها.فاضطر إلی الخروج من بغداد،و کانت اللعنات تنهال علی الأشعری،و نسبوا إلیه بعض الآراء الشاذة لیوجهوا الرأی العام ضد الأشعریة،و قد اتخذ الحنابلة یوم الجنائز إعلانا لمبدئهم،و تکفیرا لمن خالفهم،و قد کانوا یردّدون فی تشییع الجنائز هتافات معادیة للأشعریة و غیرهم من خصومهم،و بهذه الأمور المحزنة یستمر الوضع السیئ بین جماعات المسلمین،و تنتشر الفرقة بین صفوفهم،و الأمر یشتد کلّما مرّ الزمن.و قد قطع الحنابلة فی مسیرتهم أشواطا بعیدة فی الدعوة لآرائهم بعنف و قوة،کما صبّوا جام غضبهم علی من خالف بعض تلک الآراء.

و قد أفتی بعض علمائهم-و هو الشیخ عبد اللّه الأنصاری الملقب بشیخ السنّة فی خراسان-بعدم حلّیة ذبائح الأشعریة،لأنهم کفار فی نظره تبعا لرأی العامة من الحنابلة.

و قد امتحن کثیر من العلماء،و راحوا ضحیة الجهل و الفوضی،و اتّهم کثیر منهم بسوء الاعتقاد،کما رمی الکثیر منهم بالکفر و الزندقة.

و کان ابن جریر الطبری المتوفی سنة 340 ه من أولئک الرجال الذی نالهم غضب الحنابلة-کما أشرنا سابقا-مع عظیم منزلته و مکانته العلمیة،و هو صاحب التفسیر الشهیر و المؤلفات القیّمة،فرموه بالإلحاد و الزندقة لأنه خالفهم فی مسألة

ص:59

الیدین،فقال فی قوله تعالی: یَداهُ مَبْسُوطَتانِ أی نعمتاه.و هم یرون أن الید هی الید الجارحة،کما زادوا فی اتهامه أنه رافضی،لأنه کان یری جواز المسح بالوضوء علی القدمین،کما ألّف کتابا جمع فیه أحادیث غدیر خم،و آخر جمع فیه طرق حدیث الطائر المشوی (1).

و من هذا و ذاک،فقد امتحن و غضبوا علیه،و رموا داره بالحجارة حتی علت علی الباب،و منع من التحدیث،و لما مات منعوا دفنه نهارا،و دفن لیلا خوفا منهم.و کان أبو الحسن الآمدی حنبلیا،ثم انتقل لمذهب الشافعی،و حدث بمدرسة الشافعیة بالقرافة الصغری،و اشتهر فضله و انتشرت فضائله،فتعصّبوا علیه و کتبوا محضرا بخطوطهم،و اتهموه بمذاهب التعطیل و الانحلال،و خرج إلی دمشق و انعزل و لزم بیته إلی أن مات.و ألقی القبض علی ظهیر الدین الأردبیلی الشهیر بقاضی زاده،و هو حنفی المذهب،و قطعت رقبته و علقت علی باب زویلة بالقاهرة،لأنه ذهب إلی عدم وجوب ذکر الصحابة فی الخطبة،فاتهموه بالبدعة،أو أنه یتشیّع،فعوقب لذلک.و حکم علی الحسن بن أبی بکر السکاکینی بالزندقة و أنه یسبّ الصحابة،و أقیمت علیه الشهادة عند القاضی شرف الدین المالکی،فحکم علیه بالقتل،فضربت عنقه بسوق الخیل.

و اتّهم لسان الدین بن الخطیب-عالم الأندلس-بالزندقة،فحکم علیه بالقتل.

و ذلک أنهم أحصوا علیه کلمات فی مؤلفاته و رفعوها إلی القاضی،فسجّل علیه الحکم بالزندقة،و أفتی بعض الفقهاء بقتله،فطرقوا علیه السجن فخنقوه و أخرجوا شلوه و أحرقوه.

و قد أشرنا سابقا إلی أن المحکمة التی تعقد لمحاکمة المتّهمین بالبدعة أو الضلالة عن الدین هی تحت رئاسة قاض مالکی،و الزندیق أو المبتدع عن المالکیة ینفّذ فیه الحکم و إن تاب،بخلاف بقیّة المذاهب،و هو رأی مالک،و قد خالف ابن مخلد و ابن الموازی ذلک.

قال الشوکانی:أبتلی أهل تلک الدیار بقضاة من المالکیة یتجرءون علی سفک

ص:60


1- (1) و قد رواه عدة من الصحابة عن أنس بن مالک:أن النبی أهدی إلیه طائر مشوی،فقال:«اللهم ائتنی بأحبّ خلقک إلیک یأکل معی من هذا الطائر»فجاء علی علیه السّلام فأکل معه.رواه الترمذی و قال الحاکم فی المستدرک رواه عن أنس أکثر من ثلاثین.

الدماء بما لا یحلّ به أدنی تعزیر،فأراقوا دماء جماعة من أهل العلم بجهالة و ضلالة و جرأة علی اللّه،و مخالفة لشریعة رسول اللّه،و تلاعبا بدینه بمجرد نصوص فقهیة و استنباطات فرعیة لیس علیها آثار من علم،و إنّا للّه و إنّا إلیه راجعون.

و ربما کان حکم المالکی عن غضب و تأثر،فإن الباجریقی الشافعی الذی اتهم بانحلال العقیدة،حکم الحنبلی بعصمة دمه،فغضب قاضی المالکیة و حکم بقتله.

و قدم رجل متّهم بالبدعة،و لما أحضر أنکر ذلک.فحکم بقتله،فقال:کیف تقتلوننی و أنا أقول:لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه؟ قال ابن أبی عقیل:أنا أقتلک.

قال:بأی حجّة؟ قال:یقول اللّه تعالی: فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ .

و من الفظائع المؤلمة،إنهم حکموا علی إبراهیم الضبّی بالسجن،فضمّ إلیه فی السجن رجل یعرف بابن الهذیل،ثم صدر حکم بأن یضرب ابن الهذیل خمسمائة سوطا،و أن تخبط رقبة إبراهیم لیلا،فاشتبه العامل و ضرب إبراهیم خمسمائة سوطا و أعاده إلی السجن،و أخرج ابن الهذیل فضربت عنقه،ثم انتبه الوالی للغلطة،فأخرج إبراهیم و ضربت عنقه،ثم ربطت أرجلهما بالحبال و جرّا مکشوفین غیر مستورین من دار الإمارة،ثم صلبا ثلاثة أیام.

و استمر الحال علی هذه الفوضی و التحکّم بأرواح الناس باسم حمایة الدین و مقاومة المبتدعة و المفسدین،و کانوا یرون مؤاخذة هؤلاء بالشدّة،و معاملتهم بالعنف انتصارا لمبادئهم،و إنجاحا لمخططاتهم،فلا یسمعون قول أحد فی الدفاع عن نفسه، و ربما لم یسمحوا له بالدفاع عن نفسه،و لا یلتفت إلی ما یکتبه بالردّ علی ما اتهم به خوفا من وضوح الحجة و عجزهم عن نقضها،و عمدوا إلی الاستعانة بالسلطة لیرغّبوها فی إبادة المفکرین حمایة لأنفسهم،فأخذوا بفتوی مالک و من رافقه من أصحاب الشافعی إلی قتل الداعیة إلی البدع،فلا توبة له،و أعرضوا عن نصوص الدین فی قبول توبة المؤمن.

ص:61

ص:62

4-القصص و القصاصون

أدی تحول النظام الإسلامی إلی الملک،و تحکّم الأفراد،إلی ظهور وسیلة جدیدة من وسائل أصحاب السلطان فی توطید دعائم حکمهم و تثبیت نفوذ عوائلهم، فاستحدث القصص مرادفا لدور الخطباء أو الشعراء الذین انزلقوا مع الحکام فی سیاساتهم التی استخدموا بها الدین لأغراضهم و مصالحهم.و لا نعرف أثرا متفقا علیه یشیر إلی وجود القصص أو ظهور القصاصین کظهور الشعراء قبل الإسلام أو بعده،أو أن العرب عرفوا هذا النوع بما یقرب من الألوان التی عرفتها الشعوب الأخری،فلیس فی الجزیرة من أمثال تلک الأساطیر أو الحکایات،و ما کان فیها محدود التفاصیل و الأثر،أما فی الإسلام فقد تمیّز عن الأدیان السابقة بوحدة العلاقة و الواسطة،و عدم وجود وساطات أخری تفسح المجال للاستعانة بالخیال.و ما طرأ فی العقائد کان من مخلفات بنی إسرائیل التی منع الرسول محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من سلوک طریقها حیث یذکر أنه قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«إن بنی إسرائیل هلکوا لما قصّوا».

و نودّ هنا أن نشیر بعجالة إلی مبدأ هذا الأسلوب الذی وضع لخدمة أغراض الحکام،و الذی لعب دورا کبیرا فی إثارة الفوضی و إشاعة الفرقة و تأجیج نار العداء، و تطور إلی صنعة یتکسب منها من لم یفلح فی المجالات الأخری،أو من لم ینجح فی أمور الحیاة،أو تدفعه نیات خبیثة و أحقاد علی الإسلام.إضافة إلی کونها وظیفة من وظائف الدولة یتصل من خلالها القاصّ بأصحاب السلطة و الخلفاء من خلال ما یقوم بإشاعتها،و بقدر ما یحرّک فیهم الإعجاب،و هو یعبر عن أغراضهم و ما یعملون علی إشاعته و نشره.

و کان هذا النوع من النشاط من أشد الأسالیب فتکا فی جسد الأمة و تأثیرا سلبیا

ص:63

فی واقع الناس،و قد کانت لحمته مختلطة و متنوعة تجافی المنطق و العقل،و لعبت فی عقول الناس و میولهم،ثم جرأت السلطة القصاصین علی أن یتناولوا کل ما من شأنه خدمة دولهم و حکم أسرهم.

و القصاصون استعملوا قصصا تحمل الناس علی ارتکاب المعاصی،أو تدفعهم إلی القتال و النزاع.ففی سنة 284 ه أثار القصّاصون الفتن بین أتباع المذاهب الدینیة، مما حمل الخلیفة المعتضد علی منعهم (1).

و قد وصفوهم بالکذّابین،و أنهم یروون الأعاجیب (2)و منع عضد الدولة ظهورهم فی المساجد سنة 267 ه و غیرها،و اعتبرهم آفة المجتمع لأن أحادیثهم کانت سببا فی إثارة الناس (3).

و لم یعهد فی صدر الإسلام وجود قصاصین،و لکن الأمر محدث فی العهد الأموی،أحدثه معاویة حین کانت الفتنة،فکان للقصّاصین نشاط سیاسی یقومون به لتقویم دعائم الملک،إذ هم یحرّضون الناس علی تأیید الدولة،و یوغرون قلوب الناس بما یخترعونه من القصص،و یلهبون شعورهم بما یضعونه من الأحادیث، فیزداد نشاط الناس بالغیظ و حب الانتقام.

و کان الحکم الأموی منذ لحظاته الأولی یخطط لکسب الأکثریة من الناس، و إیهام الرعیة بشرعیة سلطانهم،فلجئوا إلی أسالیب کثیرة أهمها الدعایات الملفقة، و من صور الدعایة التی ابتکروها کان تجنید القصّاص لترسیخ دعائم حکمهم علی حساب مکانة الرسول و أصحابه الأخیار،و لکی یضمن الأمویون الإفادة من جهود القصاص ألزموا الناس بلزوم الاستماع إلیهم.

و لقد قام أولئک القصّاصون بکل جهدهم بصیاغة القصص و تلفیق الأحادیث.

قال حبیب بن الحرث الثمالی:بعث إلیّ عبد الملک بن مروان فقال:یا أبا

ص:64


1- (1) الطبری ص 182.و المنتظم ج 7 ص 88.
2- (2) مروج الذهب ج 5 ص 86 ط أوروبا.و المقدسی فی البدء و التاریخ ج 1 ص 199.
3- (3) العبر ص 65-66.

أسماء،إنّا قد جمعنا الناس علی أمرین.فقلت:و ما هما؟قال:رفع الأیدی علی المنابر یوم الجمعة،و القصص بعد الصبح و العصر (1).

کما اتخذت السلطات فی العهد الأموی استخدام القصاص وسیلة لتشویه مبادئ الإسلام و تعضید حکمهم و اختلاق النصوص و القصص بما ینسجم مع سیاستهم فی العنف و التحکم و إخماد حریة الرأی؛فکان القصّاصون رکیزة الدولة الأساسیة فی مواجهة القوی التی أخذت تکتشف حقیقة ترکیب النظام الأموی و سیاسته الظالمة،فبذل القصّاص غایة جهدهم فی تشویه الحقائق،و السماح لهم باختلاق الروایات و وضع الأحادیث،و الإغضاء عن الافتعالات المفضوحة التی انضم بها القصاص إلی رکب المدّاحین و أهل الخطب الذین شوّهوا دور المنابر،و أساءوا إلی مهمة رجال العلم بصمتهم المطبق،و هم یرون سفک الدماء و انتهاک الحرمات، و التعدّی علی تعالیم صاحب الرسالة و مبلّغ الشریعة و أهل بیته الأطیاب،و بجلجلة ألسنتهم و هم یرکبون الکذب،و یجمعون الموضوعات،و یسوقون الخرافات و المنامات و الأساطیر تزلفا و تکسّبا،فباعوا دینهم بأبخس الأثمان،و عند اللّه الجزاء.

ثم انتشرت خرافات القصص الإسرائیلیة المعروفة بالإسرائیلیات،و قد قام بذلک جماعة من الیهود،و فی طلیعتهم کعب الأحبار،تلک الشخصیة الیهودیة التی دخلت الإسلام و هو یحمل علی کتفیه مهمة نشر الإسرائیلیات و بثّها فی ثنایا علوم الإسلام و فنون القرآن،فکان أکبر و أخطر مصدر لهذا الفن.و قد سفنا الحدیث المروی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم الذی یشیر فیه إلی أن الیهود فی قصصهم قد هلکوا،و قصدنا إظهار ما فیه من تحذیر،و قد جاء کعب لیکون من دعائم بنیان فن القصص الذی عملوا علی توسیعه،فالتقت الأغراض.

فالیهود هم أکبر عامل لإثارة الحزازات و النعرات و النزعات العصبیة بین القومیات التی تعیش فی المجتمع الإسلامی،و طریقتهم فی تآمرهم علی الإسلام هی:

التظاهر باعتناقهم إیاه،ثم یبدءون ببثّ سمومهم بما یلقونه من قصص و أخبار و هی لیست بذات قیمة؛لکنهم یجیدون استغلال الظروف و التحرک المناسب.

و قد حذّر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من خطرهم،و أمر بإجلائهم،و کانت آخر وصیة له صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أن

ص:65


1- (1) الباعث علی إنکار البدع و الحوادث لشهاب الدین أبو شامة 66.

قال:«اللّه فی أهل بیتی،أوصیکم فی أهل بیتی خیرا،و أخرجوا الیهود من جزیرة العرب»و لکن المسلمین لم یأخذوا هذه الوصایا بعین الاعتبار،فکان ما کان من عواقب وخیمة.

و قد أجلی عمر بن الخطاب جماعة من الیهود،فسکنوا الکوفة،فکانوا قطب رحی الخلافات،و قد شوّهوا سمعة هذا البلد العربی المسلم.حتی عرف بالمکر و الخیانة،و الغدر،و الخدیعة.و لعب هؤلاء الیهود دورا مهما فی نشر الخلافات فی جیش الإمام الحسن علیه السّلام و تمزیق وحدة الصف،و إثارة النعرات.

و لا یتّسع المجال لشرح مواقفهم من قضیة الحسین علیه السّلام بدفع عجلة الحوادث،و تطویر الوقائع،للإسراع فی القضاء علی الحسین علیه السّلام لأنهم یعدّون ذلک نصرا لهم،و فتحا جدیدا فی موقفهم العدائی للإسلام،و استمرّت أعمالهم فی العهد الأموی یوسّعون دائرة الخلافات،و یقیمون العراقیل فی طریق التفاهم بین الفئات المتناحرة.

و علی کل حال،فقد استمر القصّاص بمساندة السلطة و تأییدهم الحاکم الذی یصبح وضعه ینذر بالخطر لسوء السیرة و قبح المعاملة،فیلجأ إلی استعمال سلاح الحمایة باسم الدین بشتی الوسائل،فیوعز إلی القصّاص بالنزول إلی غمار العامة یقصّون علیهم ما یحرّک شعورهم ضد الفئة المعارضة للدولة،أو یشغلونهم بحدوث فتنة.و قد استطاعوا أن یجلبوا أذهان السذّج،و یؤثروا علی تلک العقول فی وضع الأحادیث و اختراع القصص،فکانوا أداة فرقة،و أکبر عامل لإثارة الفتن.

قال ابن الجوزی:و کان القصّاص فی أواخر القرن الرابع أکبر مثیری الفتن بین السنة و الشیعة.

و یقول أیضا فی موضوعاته:إن معظم البلاء فی وضع الحدیث إنما یجری من القصّاص،لأنهم یروون أحادیث ترفق و الصحاح تقل فی هذا.و اختلف أهل البصرة فی القصص،فأتوا أنس بن مالک فسألوه:أ کان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقص؟قال:لا.

و أخرج الزبیر بن بکار فی أخبار المدینة عن نافع و غیره-من أهل العلم-أنهم قالوا:لم یقصّ فی زمان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و لا زمان أبی بکر و لا زمان عمر؛و إنما القصص محدثة،أحدثها معاویة حین کانت الفتنة.

ص:66

و لا شک أن معاویة استعمل تلک الفئة المرتزقة کما قدّمنا لیستعین بها فی وضع الأحادیث لدعم ملکه،و حمایته بوجه موجة الاستنکار،و قد استطاع أن ینشر بین الناس مناقب عثمان الموضوعة،و مناقب البلدان،و مناقب بعض الرجال و العشائر کما یشاء.

کما أنه استطاع أن یختلق لخصومه مثالب أبرزها فی قالب الابتکار و الخیال الواسع،و تمکّن بهذه القوة،أن یزوی ما لعلی علیه السّلام من مناقب و ما ورد فیه من أحادیث صحاح،فکان بحکم تلک الدعایات التی هی کأوامر رسمیة أن أصبح الخطباء یعلنون سبّ علی علیه السّلام و شیعته،و کان الوعّاظ یختمون مجالسهم بشتمه علیه السّلام و کان یلزم الناس بإعلان سبّه و البراءة منه،و فرض علیهم تعلیمه لأبنائهم،و أصبح معاویة بمقتضی تلک الأسالیب و بتلک الأکاذیب هو:أمین الأمة،و کاتب الوحی، و خال المؤمنین،إلی آخر ما هنالک من أساطیر.

و مهما حاول معاویة إخفاء فضل علی علیه السّلام فقد انهار ما بنی،و بقی ذکر علی و أهل بیته علیه السّلام تردّده الأجیال بفخر و اعتزاز علی مرّ العصور و الأیام.

إذا ما بناء شاده الدین و التقی تهدّمت الدنیا و لم یتهدّم

و لسنا هنا بمعرض البحث عن تلک الأزمنة،فقد أشرنا إلی بعضها فی الأجزاء السابقة،و جلّ اهتمامنا فی جمیع ما ذکرناه هنا و هناک،هو إعطاء صورة عن الأمور المحزنة التی تحزّ بالنفس،و التی حدثت فی أزمنة متأخرة من الزمن.الذی کان ظرف تلک الحوادث و هی امتداد لما حدث فیها من خلافات.

و علی أی حال،إن الأثر الذی أحدثه القصّاصون فی ذلک المجتمع من إثارة فتن،و إیقاد نار البغضاء بین طوائف المسلمین،و إشعال حروب طاحنة؛هو من أعظم الأمور التی ابتلی بها المسلمون فی تلک الفترة المظلمة.

لقد کان أولئک النفر یحرّضون الناس علی القتال و النهب،و یحرّکون القلوب، و یثیرون الشعور بما یفتعلونه من أقوال و یضعون من أحادیث،یغذّون بها أدمغة العامة،کما قاموا فی المساجد و الجوامع و الطرقات و الأندیة یبثّون سمومهم.

فاتخذتهم السیاسة سلاحا فاتکا-کما قدمنا-و هم ینتشرون فی ساحات الحرب

ص:67

یشجعون الجند علی القتال.و لقد خضعت العامة لتصدیقهم و قبول مفتریاتهم،حتی أصبح من العسیر الإنکار علی واحد منهم.و من تجرأ فأنکر،یکون عرضة لسخط العامة.و حیث عظم خطرهم و فشا کذبهم و ظهر تلاعبهم بتفسیر الکتاب العزیز،فأراد بعض العلماء أن یقوم بتوجیه الناس بحملة إنکار علی هؤلاء الذین فتکوا بجسم الأمة بأکاذیبهم،و لکن أقعد أولئک العلماء خوف العامة،فترکوا الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر تقیة و خشیة من السلطان،لأنهم تحت رعایة الدولة.و ربما خرج القاصّ محاطا بالجند و مزوّدا بالسلاح.

ففی سنة 475 ه عبر قاصّ من الأشعریة-یقال له البکری-إلی جامع المنصور و معه الشحنة و الأتراک بالسلاح،و کان البکری فی حدة و طیش،و کان النظام أنفذ ابن القشیری،فتلقاه الحنابلة بالسبّ،فأرسل إلیهم النظام هذا القاصّ،فأخذ یسبّ الحنابلة،و یستخفّ بهم،و قد أحیط بالسلاح من الأتراک،و صعد المنبر و قال: وَ ما کَفَرَ سُلَیْمانُ وَ لکِنَّ الشَّیاطِینَ کَفَرُوا ما کفر أحمد بن حنبل،و لکن أصحابه کفروا.و حکی علی الحنابلة فی صفات اللّه عز و جل ما لا یلیق،فأغری بهم الناس، و أعلن شتمهم (1).

و أراد جماعة من العلماء الإنکار علی محمد السمرقندی لأنه کان یقصّ و یحدّث بأحادیث منکرة،فلما حضروا عنده،اجتمع العامة،فخاف العلماء من شرّه.

و نزل قاصّ فی دار الحذائین و روی أحادیث منکرة،فأراد یحیی بن معین أن ینکر علیه،و لکنه ترک ذلک تقیة خشیة أن یقتله الحذائون بشفارهم.

و حکی السیوطی قصته مع القصاص الذی حدّث الناس بحدیث لا أصل له، و کذّبه السیوطی،و أفتی بأن هذا الحدیث لا أصل له و هو باطل لا تحلّ روایته و لا ذکره و خصوصا بین العوام،و السوقة،و النساء،و أنه یجب علی هذا الرجل أن یصحح الأحادیث التی یرویها فی مجلسه علی مشایخ الحدیث.

فنقل کلام السیوطی إلی ذلک القاص،فاستشاط غیظا و قام و قعد،و قال:مثلی من یصحح الحدیث عن المشایخ؟!مثلی یقال له فی حدیث رواه أنه باطل؟!أنا أصحح علی الناس،أنا أعلم أهل الأرض بالحدیث.ثم أغری الناس بالسیوطی

ص:68


1- (1) تحذیر الخواص للسیوطی ص 50. [1]

فهاجت العامة،و قامت الغوغاء،و تناولوه بألسنتهم،و توعّدوه بالقتل و الرجم (1).

و أنکر علی بن نبال علی قاص بما حدّث،فعظم ذلک علی العامة و همت بإیقاع المکروه فیه،فاختفی عنهم و تواری فی بیته.و سمع الأعمش أحد القصاص یقول:

حدثنا الأعمش.فقام و توسط الحلقة،و جعل ینتف شعر إبطه.فقال القاص:

یا شیخ،أ لا تستحی نحن فی حلقة علم،و أنت تفعل مثل هذا؟!! فقال الأعمش:الذی نحن فیه خیر من الذی أنت فیه.

قال:کیف؟ قال:إنی فی سنّة،و أنت فی کذب.أنا الأعمش،ما حدّثتک مما تقول شیئا (2).

و تجنّب العلماء معارضة القصّاصین،و الردّ علیهم تقیة و خوفا علی أنفسهم، لأن العامة ارتبطوا بالقصاص،و أقبلوا علیهم و تقبلوا کل ما یلقونه من الموضوعات، و القصص الخرافیة.و قد قام أحد القصّاصین فحدّث عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم یدخل النار.فلم یبق أحد منهم إلا و قد أخرج لسانه یومیء بها إلی أرنبة أنفه.و من هذا الباب تسرّبت أکثر الأحادیث المرغّبة فی کثیر من الأعمال.

و دخلت أذهان العامة تلک الخرافات و الأباطیل،و أصبحت و کأنها حقائق لا تقبل الشک و لا تخضع للجدل،کما أدخلوا کثیرا من العقائد المفتعلة ضمن أحادیث مکذوبة أحدثوها،و ربما خلقوا لها أسانید من أنفسهم.و من أغرب ما ورد عنهم أن أحدهم قام فحدّث عن أبی خلفة أنه قال:حدثنا الولید بن سعید،عن قتادة،عن أنس،عن النبی.فقام إلیه أبو حاتم البستی و قال له:رأیت أبا خلفة؟قال:لا.فقال له کیف تروی عنه و لم تره؟ فقال القاص:إن المناقشة معنا من قلة المروة،أنا أحفظ هذا الإسناد الواحد، و کلما أسمع حدیثا ضممته إلی هذا الإسناد.

و من ذلک أن قاصّا حدّث بحدیث و أسنده عن أحمد بن حنبل و یحیی بن معین

ص:69


1- (1) المصدر السابق فی المقدمة.
2- (2) الأسرار المرفوعة لعلی القاری 55.و الأحیاء للغزالی 58/1. [1]

و کانا حاضرین بالمجلس.و بعد أن فرغ أوحی إلیه ابن معین بیده،فأقبل متوهّما لنواله،لأن القصاص کانوا ینالون الأموال من المستمعین،فلما جلس قال ابن معین:

من حدثک بهذا الحدیث؟قال:حدثنی یحیی بن معین و أحمد بن حنبل.

فقال ابن معین:هذا أحمد بن حنبل و أنا ابن معین،ما سمعنا بهذا قط فی حدیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فإن کان و لا بد من الکذب فعلی غیرنا.فقال له:أنت یحیی؟ قال:نعم.

قال القاص:لم أزل أسمع أن یحیی بن معین أحمق،ما حققت إلا الساعة.

فقال له یحیی:کیف علمت أنی أحمق؟ فقال:کأنّ لیس فی الدنیا أحمد بن حنبل و ابن معین غیرکما؟قد کتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل و یحیی بن معین،فوضع أحمد بن حنبل کمّه علی وجهه.

و قال:دعه یقول.

و لم یستطع أحدهما و الحالة هذه أن یشتد فی الإنکار علیه مع عظیم منزلتهما و اشتهارهما بین الناس خوفا من الغوغاء (1).

و حدّث بعضهم عن الأعمش بلا سند قال:خرجت فی لیلة مقمرة أرید المسجد فإذا أنا بشیء عارضنی،فاقشعرّ منه جسدی،فقلت:أ مؤمن أنت أم کافر؟فقال:بل مؤمن.فقلت:أمن الأنس أنت أم من الجن؟ قال:بل من الجن.

فقلت:فیکم من هذه الأهواء و البدع شیء؟ قال:نعم.

ثم قال:وقع بینی و بین عفریت من الجن اختلاف فی أبی بکر و عمر فاحتکمنا لإبلیس.

قال العفریت:إنهما ظلما علیا و اعتدیا علیه.فحکینا ذلک لإبلیس فضحک و قال:هؤلاء-أی الذین یقولون بهذه المقالة-من شیعتی و أنصاری و أهل مودتی.ثم قال:أ لا أحدّثکم بحدیث؟قلنا:بلی.قال إبلیس:إنی عبدت اللّه فی سماء الدنیا ألف عام،ثم رفعت إلی الرابعة،و رأیت فیها سبعین ألف صف من الملائکة یستغفرون

ص:70


1- (1) الأسرار المرفوعة 53-55.

لمحبی أبی بکر و عمر،ثم رفعت إلی الخامسة فرأیت سبعین ألف ملک یلعنون مبغضی أبی بکر و عمر.

بهذا یتقدم قاصّ یعهد إلیه توجیه المجتمع حسب رغبات الدولة،و أی خدمة أعظم من هذه،و هی إبراز خصوم الدولة و هم الشیعة-أو المبتدعة فی منطق السیاسة -بمظهر یشمئز منه کل واحد،و قد وسموهم بأنهم یلعنون الشیخین و یبغضونهما، و شاع ذلک فی المجتمع بدون وقوف علی واقع الحال.

کما اتخذوا من القصص وسائل تدخل فی أذهان العوام عند ما یسندون ذلک إلی عالم الغیب أو الخضر علیه السّلام و هو یتردّد علی ألسنة القصّاص فی أکثر المناسبات لتوجیه الشعور إلی ما یمکن قبوله.

لقد حدّثوا عن بلال الخوّاص أنه قال:کنت فی تیه بنی إسرائیل،فإذا رجل یماشی،فتعجبت منه،ثم إنی ألهمت أنه الخضر علیه السّلام فقلت له:بحق الحق من أنت؟ فقال:أخوک الخضر.

فقلت له:أرید أن أسألک.

فقال:سل.

فقلت:ما تقول فی مالک بن أنس؟ قال:هو إمام الأمة.

فقلت:ما تقول فی أحمد بن حنبل؟ فقال:رجل صدق.

قلت:فما تقول فی بشر الحافی؟ فقال:لم یخلق بعده مثله (1).

و هکذا تدور هذه المحاورة الخیالیة،و تبرز للوجود بهذا الشکل،لتلعب دورا فی مجال الدعایة المذهبیة،و تأخذ طریقها إلی عقول تتقبل الخرافات و الأباطیل.

ص:71


1- (1) أحمد بن زین،شرح العینیة 511.

و لقد ابتلی الخضر علیه السّلام بأولئک القصاصین،فهم یزجّون بشخصه، و یدخلون اسمه فی کثیر من قصص الدعایة المذهبیة،کما جعله بعض الأحناف تلمیذا لأبی حنیفة فی حیاته و بعد مماته کما تقدم.

کما استعمل الصوفیة من شخصیته وسیلة إعلام لبعض شخصیّاتهم أو شاهدا علی صحة طریقتهم (1).

لقد دخل نشاط القصّاصین فی أغلب زوایا المجتمع،و استخدمه الناس فی أغراضهم المختلفة،و لجأ إلیه أصحاب المذاهب.و کانت القصص تتبدل شخصیاتها بحسب تغیّر المتنفّذین و الصنعة التی یحملونها:مذهبیة أو عرقیة أو إقلیمیة.و لکن الأمر الذی لا یتغیر هو العداء للشیعة و الهجوم علیهم تحت ستار سبّ الصحابة أو بغض الشیخین،لأن الحکام منذ عهد معاویة اعتمدوا هذه التهم،و راحوا یستمیلون الأمة،و یجعلون اتجاه وجودها و استمرارها عدائیا تجاه الشیعة،و تأکید سلطة الحکام و صفتهم الدینیة من خلال أصحاب الصنعة فی الخطابة و الحدیث و القصص.

کان مجلس القصّاصین یضمّ الرجل و المرأة و الطفل،و کلهم علی مستوی واحد من حیث قبول تلک القصص،و لا تتعدی أنظارهم و مدرکاتهم حدود المنابر التی یرقاها مرّة الوعاظ المرتزقة،و مرّة العلماء المأجورون،و مرّة القصّاص الکذبة و هو یسبّحون بحمد الظلمة و یأتمرون بأمر البغات منذ أن قامت الفتنة علی ید الطلقاء من الأمویین، و منذ أن اشرأبت الجاهلیة من علی دست حکمهم فی الشام،فراحت هذه الزمر و مؤسساتها تؤثر فی أذهان الناس،و تبنی عقائدهم کما تشاء.بحیث یصحّ الحاکم الظالم و الفاسق الفاجر إماما بنص مکذوب و أثر موضوع،فیتقبل الناس ما یلقونه إلیهم من سموم.

و فتح من جراء ذلک شدة البغض لهؤلاء الذین یوصفون أو یتهمون ببغض الشیخین أو لعنهما،و بالأخص تضاعف التهم علی الشیعة حتی أصبحت من الأمور الارتکازیة.لهذا ثبت فی أذهان السذّج أن بغض الشیعة من السنة،و أنه خیر عمل یقدمه الإنسان لربه.

ص:72


1- (1) انظر المصدر السابق 534.

و جاء فی النجوم الزاهرة فی ترجمة الخفّاف أنه کان شدیدا من السنّة،و لما مات ابن المعلم فقیه الشیعة-و هو الشیخ المفید رحمه اللّه-جلس للتهنئة و قال:ما أبالی أی وقت مت بعد أن شاهدت موته.

قال مؤلف النجوم الزاهرة:و مما یدل علی دینه و حسن اعتقاده بغضه للشیعة، و لو لم یکن من حسناته إلا ذلک لکفاه عند اللّه (1).فلا غرابة أن یصبح بغض الشیعة سنّة معمولا بها،و هی عندهم خیر ما یلقی الإنسان بها ربه.و قد أصبح الکثیر من هذه البدع من المسلّمات عن العوام لا تقبل الجدل و النقاش،و أن الکثیر من الخرافات قد ارتکزت فی الأذهان کحقیقة واقعیة لا لبس فیها و لا غموض.

و قد خفیت تلک الخرافات علی أکثر الناس،و أصبح لها مکانة.و هی عنصر فعّال فی توجیه الشعور ضد الخصوم،لا سیما أنهم أشرکوا الشیاطین و الجنّ فی المعاونة معهم بالعمل ضدّ کل من یخالف المتسلطین و دعاة التحجر و الجمود.

حدّث أحمد بن نصر قال:رأیت مصابا بالصرع،فقرأت فی أذنه،فکلّمتنی الجنیة من جوفه فقالت:یا أبا عبد اللّه،دعنی أخنقه،فإنه یقول بخلق القرآن (2).

و أحمد بن نصر هو من کبار العلماء،و ممن یقول بقدم القرآن،و قد امتنع عن القول بخلقه،فأحضره الواثق فقال له:ما تقول فی القرآن؟ فقال:کلام اللّه.

قال الواثق:افتری ربک یوم القیامة؟ قال:کذا جاءت الروایة.

فقام الواثق إلیه بنفسه،فقتله صبرا 3.

و یروی الخطیب البغدادی فی التاریخ أن الواثق قال له:ویحک یری کما یری المحدود المتجسّم؟یحویه مکان و یحصره الناظر.أنا أکفر برب هذه صفته (3)و قد کان أحمد بن نصر من ضحایا السلطان،نصب رأسه ببغداد علی رأس الجسر،و استخدم القصّاص من الحنابلة طریقة موته،و ادخلوا المنامات،و کم للمنامات و الرؤی من أهمیة عند ما یعزّ الأثر و تنعدم المادة،و هی من أسهل الأسالیب.و قد عجّت بها

ص:73


1- (1) النجوم الزاهرة ج 4 ص 161. [1]
2- ((2)و(3)) طبقات الحنابلة ج 1 ص 81. [2]
3- (4) انظر:الإمام الصادق و المذاهب الأربعة، [3]محنة خلق القرآن/الجزء الأول.

المصنّفات المختلفة،فأحاط القصّاص موت أحمد بن نصر بما یخدم عقیدة التجسیم،إذ یروی الخطیب البغدادی عن الحنابلة:رأی بعض أصحابنا أحمد بن نصر فی النوم بعد ما قتل،فقال:ما فعل بک ربک؟فقال:ما کانت إلا غفوة حتی لقیت اللّه،فضحک إلی.أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن طاهر الدقاق،أخبرنا أبو بکر النجاد،حدثنا عبد اللّه بن أحمد،حدثنا أبو الحسن بن العطار محمد بن محمد قال:سمعت محمد بن عبید-و کان من خیار الناس-یقول:

رأیت أحمد بن نصر فی منامی فقلت:یا أبا عبد اللّه،ما صنع بک ربک؟فقال:

غضبت له،فأباحنی النظر إلی وجهه(انتهی).ثم ینشرها المختصّون و یذیعونها.و قد ذکرنا فیما سبق أن الواثق کان یمثّل المرحلة الوسطی التی تجمع بین المأمون فی شدّته و بین المتوکل فی إدنائه الحنابلة و العامة،أو أن هناک ما یشیر إلی میل لتبرئة آل العباس من دماء الأبریاء و إبقاء صلة القرابة بالرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم معتمدا لمکانتهم المقدسة،فوضعوا علی لسانه أن أحدهم سأله و هو علیه السندس و الاستبرق و علی رأسه تاج:ما فعل اللّه بک یا أخی؟قال:غفر لی و أدخلنی الجنة،إلا أنی کنت مغموما ثلاثة أیام.قلت:

و لم؟قال رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مرّ بی،فلما بلغ خشبتی حوّل وجهه عنّی،فقلت له بعد ذلک:یا رسول اللّه،قتلت علی الحق أو علی الباطل؟فقال:أنت علی الحق، و لکن قتلک رجلا من أهل بیتی،فإذا بلغت أستحیی منک.

و یعقد ابن الجوزی بابین مستقلّین فی المناقب یذکر فیهما المنامات التی رؤی فیها أحمد بن حنبل،و بابا آخر یذکر فیه تأثیر موت أحمد عند الجن،نذکر منها علی لسان رجل بطرسوس:أنا من الیمن و کانت لی بنت مصابة،فجئت بالعزّامین،فعزموا علیها.ففارقها الجنّی علی أن لا یعاود،فعاود بعد سنة.فقلت:أ لیس قد فارقت علی أن لا تعاود؟قال:بلی.و لکن مات الیوم رجل بالعراق یقال له أحمد بن حنبل، فذهبت الجن کلها تصلّی علیه إلا المردة و أنا منهم،و لست أعود بعد یومی.فما عاد.

و من المضحک،بل المخزی فی آن واحد ما وقع فی سنة 456 ه أن قوما من الأکراد خرجوا متصیّدین،فرأوا بالبریة خیما سودا سمعوا فیها لطما شدیدا و عویلا کثیرا و قائلا یقول:مات سیدوک ملک الجن،و أی بلد لم یلطم علیه و لم یقم له فیه مأتم قلع أصله و هلک أهله.فخرجت النساء من حریم بغداد إلی المقابر یلطمن ثلاثة

ص:74

أیام و یخرّقن ثیابهنّ و ینشرن شعورهنّ،و خرج الرجال یفعلون مثل ذلک،و فعل هذا فی واسط و غیرها من البلدان (1).

بمثل هذه العقلیة الضحلة،أصبح الناس یعیشون تحت ظلال علماء و قادة یدفعون بهم إلی مهاوی الجهل و التعصب،و یقبعون فی ظلمات الفرقة،و قد نشرت تحت ستار الوعظ خرافات و أوهام و أباطیل،و طغت موجة الغلو و التحدی لتعالیم الإسلام،و انتشرت عقائد بعیدة عن روح الإسلام و نظمه،و مصدر ذلک تلک الحلقات التی اتخذت لأغراض خاصة و أبواق المأجورین.

و لقد أخذت تلک الخرافات مکانتها فی أدمغة السذّج،و هی السمّ القاتل، و السلاح الفاتک،ثم تحولت إلی مادة یشطح فیها الخیال،و یحاط بها الأشخاص.

و تظهر علی الساحة جماعات بمسوح دینیة و شعائر مبالغ فیها،تجعل لها قادة من الرجال الأحیاء أو الأموات،فتنسب إلیها الأعمال أو تصوّر سیرهم بأوضاع لا تجد لها مستندا من عقل أو حقیقة،و ما هی إلا أوهام تنجم عن حالات خاصة یمارسها الأشخاص،فتخلق أجواء یبرز بها مختصّون فی الأداء و التوجیه،تجتذب أفعالهم السذّج و البسطاء،فتصبح عندهم عقیدة و طریقة.و قد جاءوا بمناقب لمن و سموهم بالأولیاء أو الشیوخ ذوی الکرامات.

فهذا یدّعی له بأن الشمس وقفت له إکراما حتی یصل إلی وطنه عند ما ضایقه اللیل کالشیخ محمد الحضرمی حتی قالوا فی ذلک:

و من جاهه أومأ إلی الشمس أن قفی فلم تمش حتی أنزلوه بمقعد

(2)و قالوا:أنّ الکعبة توهّدت و هی تطوف بسریره.

و أوردوا عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أن من قبّل ید الشیخ الحضرمی دخل الجنة.إلی غیر ذلک من خرافات و أوهام (3).

و کذلک أدعی للسید أحمد الرفاعی أن الشمس وقفت فی قرصها إلی أن دخل قریة أم عبید (4)و أکثروا عن المشایخ نقل کرامات تدل علی مبلغ ما وصل إلیه

ص:75


1- (1) طبقات الحنابلة ج 1 ص 81.
2- (2) الیافعی،مرآة الجنان 188/4. [1]
3- (3) ابن العماد،شذرات الذهب 262/5.
4- (4) الشیخ أحمد الوتری،روضة الناظرین 99.

الانحطاط الفکری،و قد جعلوا الاعتراف بها و الخضوع لها من عقائد الإسلام،فمن ماری فیها شکّوا فی دینه (1).

فکانوا یلزمون الناس بالاعتقاد بأن شیبان العجمی سخرت السماء لخدمته، عند ما یرید أن یغتسل،فهناک تأتی سحابة تمطره فیغتسل،و نسبوا لآخر منهم أنه یخرج فی القافلة من البصرة یوم الترویة،فیدرک الحج أول النهار.

و قالوا:أن إبراهیم الخراسانی کان یمشی علی البحر بین الأمواج،و أحمد بن خضیر البلخی کان یفرش بساطه علی البحر (2).

و غیر ذلک من ادّعاءات کاذبة و مناقب مفتعلة،و لیت الأمر اقتصر علی تخیّل الکرامات و ادعاء المعجزات التی یسهل أمرها عند تحکیم العقل و تدقیق النظر،فإن قائمة الموضوعات امتدت إلی الأحکام الشرعیة و ابتغائها علی نتاج هذه الأمراض التی تکبّل طاقات البشر و تشلّ قدراتهم،فیعلم العید من امتناع الولید عن الرضاع و هو فی حضن أمه.أو ما أوردوا للسید البدوی من أنه بعد أن مات قام فغسّل نفسه،و بعد انتهائه من الغسل مات ثانیة.

و قد ابتنی علی هذا نزاع فقهی کما أورده الشیخ الباجوری و غیره فی تغسیل الجنائز فقالوا:إن المیت لو غسّل نفسه لا یحتاج إلی من یغسله ثانیة کما وقع للسید أحمد البدوی.

و یروون أن جماعة من الفقهاء و الفقراء اجتمعوا عنده فی المدرسة النظامیة،فتکلم فی القضاء و القدر،بینما هو یتکلم إذ سقطت علیه حیة من السقف،ففرّ منها کل من کان حاضرا عنده و لم یبق إلا هو،فدخلت الحیة تحت ثیابه،و مرت علی جسده،و خرجت من طوقه،و التوت علی عنقه،و هو لا یقطع کلامه و لا غیّر جلسته،ثم نزلت علی الأرض و قامت علی ذنبها بین یدیه،فصوتت،ثم کلّمها بکلام ما فهمه أحد من الحاضرین،ثم ذهبت.فرجع الناس و سألوه عما قالت؟فقال:قالت لی لقد اختبرت کثیرا من الأولیاء فلم أر مثل ثیابک.فقلت لها:و هل أنت إلا دویدة یحرّکک القضاء و القدر الذی أتکلم فیه (3).

ص:76


1- (1) محمد الغزالی،الإسلام و الطاقات المعطلة 124.
2- (2) المناوی،الکواکب الدریة 192/1-198.
3- (3) انظر:طبقات الشعرانی، [1]ترجمة الجیلی،الجزء الأول.

و من الغریب أنهم یربطون بین خرافاتهم و بین واقع الإسلام،کما أنهم اخترعوا أسطورة لرقصتهم فی مجالس الذکر،و أنهم یفعلون ذلک اقتداء بأبی بکر،و قالوا:

حدّث الأشنانی عن ابن عباس عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:هبط علیّ الأمین جبریل و علیه طنقسة و هو متخلل بها.فقلت:یا جبریل،ما نزلت إلی بزیّ مثل هذا الزیّ؟ قال:إن اللّه أمر الملائکة بأن تتخلل بالعباءة إکراما لأبی بکر.و رواها العلاء بسند عن ابن عمر.بینما الناس عند النبی و عنده أبو بکر و علیه عباءة،قد خللها علی صدره بخلال،إذ نزل جبرئیل و قال:مالی أری أبا بکر علیه عباءة قد خللها؟فقال النبی:یا جبرئیل قد أنفق ماله علیّ.قال جبرئیل:فأقرأه من اللّه السلام و قل له:یقول ربک:أراض أنت أم ساخط؟قال ابن حجر فی بقیة الحدیث:فبکی أبو بکر و قال:

أعلی ربی أغضب؟ و قد أورد هذه المنقبة صاحب الذهب الأبریز فی شرح الوجیز ص 392،و هی أن أبا بکر أنفق ماله فی سبیل اللّه،و أعتق عبیده حتی تخلل بالعباءة،و نزل جبرئیل و قال یا محمد:إن ملائکة السموات تخللت بالعباءة إکراما لأبی بکر من اللّه،و قل له:

إن ربک علیک راض فهل أنت عنه راض؟ فقال أبو بکر:إنی عن ربی راض.و صار یفتل(یفتر)کالدولاب.و عنه أخذت الصوفیة الدوران و الرقص.

و نسبوا إلی أبی بکر أنه ألبس أحدهم الخرقة فی المنام و هو ابن هواد البطائحی و کان شاطرا یقطع الطریق،فکان أول من ألبسه أبو بکر-کما یروی الشعرانی-ثوبا و طقیة فی النوم،فاستیقظ فوجدهما علیه؛و یرقی بهم الحال،فیدّعون للشیخ عبد القادر منزلة النبوة و درجة المناجاة مباشرة من دون واسطة،فیقول:یا رب.فیقول اللّه:لبیک.و قد جمعت هذه المناجاة و الوحی الإلهی فی رسالة أسموها:الرسالة الغوثیة.نقتطف منها ما یلی:

قال الشیخ عبد القادر الکیلانی:

الحمد للّه کاشف الغمّة،باسط النعمة،و الصلاة و السلام علی نبیه خیر البریة.

قال الغوث الأعظم المستوحش بغیر اللّه و المستأنس باللّه.

قال اللّه تعالی:یا غوث الأعظم.

ص:77

قلت:نبیک یا رب،الغوث.

قال:کل طور بین الناسوت و الملکوت فهو شریعة،و کل طور بین الجبروت و الملکوت فهو طریقة،و کل طور بین الجبروت و اللاهوت فهو حقیقة.

و قال لی:یا غوث الأعظم،ما ظهرت فی شیء کظهوری فی الإنسان.

ثم سألت فقلت:یا رب هل لک مکان؟ فقال لی:یا غوث الأعظم،إنا مکان المکان،و لیس لی مکان.و أنا سرّ الإنسان.

ثم سألت فقلت:یا رب هل لک شرب و أکل؟ قال:أکلی أکل الفقیر،و شربه شربی.

ثم سألت و قلت:یا ربّ من أی شیء خلقت الملائکة؟ إلی آخر ما جاء فی هذا الباب من المناجاة التی تضمنتها«الرسالة الغوثیة»و قد طبعت باللغة الترکیة،و ترجمت إلی العربیة،و یأتی ذکرها فی تعداد مؤلفات الشیخ عبد القادر (1)و فیها تلک المناجاة،أو المقابلة بین الشیخ و ربه.

و قالوا عنه:أنه کان فی حفرة أیام رضاعه دلیلا علی هلال شهر رمضان،لأنه

ص:78


1- (1) هو الشیخ عبد القادر بن موسی بن عبد اللّه.أمه أم الخیر فاطمة بنت السید عبد اللّه الصومعی الزاهد.ولد فی بنیق قصبة من بلاد جیلان وراء طبرستان سنة 470 ه 1077 میلادیة،و دخل بغداد فی سنة 488 ه 1095 میلادیة،فقرأ الفقه و الأصول،و سمع الحدیث،و اشتغل بالوعظ،و لازم الانقطاع و الخلوة،و أسند له الولایة.و عرف بالشیخ عبد القادر الکیلانی،و له مؤلفات کثیرة،کما ذکروا له کرامات و معاجز خصص لها کتب تنوف علی أکثر من 30 کتابا.توفی فی بغداد سنة 561 ه و قبره ظاهر یزار،و محلة تعرف بمحلة باب الشیخ نسبة له. جاء فی النظرات ج 2 ص 91 الطبعة 6-مطبعة الرحمانیة فی مصر سنة 1930 م.تحت عنوان: دمعة إلی الإسلام،یقول فیه: إنه ورده کتاب من الهند یصف کاتبه مؤلفا موضوعه تاریخ حیاة عبد القادر الجیلانی و ذکر مناقبه و کراماته و ما وصفه بصفات و ألقاب هی بمقام الألوهیة ألیق منها بمقام النبوة فضلا عن مقام الولایة. کقوله:سید السماوات و الأرض،النفاخ الضرّار المتصرّف فی الأکوان و المطلع علی أسرار الخلیفة محیی الموتی و مبرئ الأعمی و الأبرص و الأکمه،و أمره من أمر اللّه...إلی آخر تلک الألفاظ. و هلم معی فاقرأ بقیة الکتاب ص 93 یصف الکاتب أمة من الناس یسجدون لقبر ینسب لأولاد عبد اللّه سجود رق من دون اللّه،و إن فی کل بلاد صورة مزار لقبر عبد القادر،فیکون القبلة التی یتوجه إلیها المسلمون فی تلک البلاد الخ.أ صحیح هذا؟نحن قرأنا کما قرأت و السلام.

کان یمسک عن الرضاع فی شهر رمضان نهارا،و لأنه صائم و رضاعه فی آخر الشهر دلالة علی هلال شوال!! و صادف أن غمّ الهلال علی الناس فی آخر الشهر،فسألوا أمه:هل رضع الیوم؟ قالت:نعم.فعلموا أنه العید!!! و بعض المصادر الصوفیة تروی ذلک علی لسان والدته التی یصفونها بأنها:لها قدم فی الطریق.و أنها قالت:لما وضعت ولدی عبد القادر کان لا یرضع ثدیی فی نهار رمضان،فأتونی و سألونی عنه؟فقلت لهم:إنه لم یلتقم له ثدیا،ثم اتضح ذلک الیوم کان من رمضان (1).

لقد أدی إقبال العامة علی القصّاص،و وضوح أهداف مجالس القصّ فی تمجید الحکّام و الدفاع عن أصحاب القوة و النفوذ إلی ظاهرة أخری،هی التی نحن بصددها حیث نجمعها فی التأثیر السلبی مع القصاص.

و مع تباین الأغراض و النزعات فإننا إذا أخذنا بمقاییس البدعة و معاییر الأحداث،فإن ما یجمع بین هذه الأعمال هو تجاوز الحد و المبالغة فی السلوک،سواء فی الدفاع عن الظلمة و الکذب علی الرسول محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أو فی تعظیم الأشخاص و نسبة الأمور العظیمة إلیهم و التقیّد بشعائر تخرج الإنسان المسلم من حال الاتّزان و القبول.

و لا تحول صفة الزهد و التقشف أو أغراض الوعظ دون نظرنا إلی النتیجة.

یقول الإمام الحافظ أحمد بن محمد بن الصدیق فی کتابه(فتح الملک العلی بصحة حدیث باب مدینة العلم علی):و قد نص السلف علی أن القصص بدعة،و أن التزهّد و التقشّف الخارج عن السنّة بدعة أیضا،فکان مقتضی هذا أن تردّ روایة کل زاهد و مذکر،و یعلق ذلک بزهده و تذکیره،لأنه وجد الکذب شائعا،و وصفوا بالبدعة کما هو حال الآخرین.

(فإن قیل):لم یصدر الکذب إلا من جهلة الزهاد و من لا تقوی عنده من القصّاص و الوعاظ.

ص:79


1- (1) طبقات الشعرانی ج 1 ص 91. [1]

(قلنا):و کذلک المبتدعة،فإنّا لم نجد الکذب شائعا إلا فی فسقتهم،و من لا یخشی اللّه منهم.أما أهل الدین و التقوی فوجدناهم فی نهایة الصدق و غایة التحرّز من الکذب.انتهی.و بما أن المصنف من أصحاب التصوّف،فهو لم یتطرّق إلی الکرامات،و تناول الجانب الذی یهمّ بحثه فقط،و قد کان متّصفا فی محاولته تطبیق الأحکام التی تصدر بفعل العوامل التی ذکرناها و الظروف التی بیناها من تسلط الحکام و تأثیرهم علی أصحاب الفتوی و الحدیث،و استخدام البدعة فی الاتجاه الذی ترغب به السلطة.فهو یذکر ما ورد فی ترجمة أحمد بن عطاء الهجیمی الزاهد.قال ابن المدینی:أتیته یوما فجلست إلیه،فرأیت معه درجا یحدّث به،فلما تفرقوا عنه،قلت له:هذا سمعته؟قال:لا و لکن اشتریته و فیه أحادیث حسان أحدّث بها هؤلاء لیعملوا بها و أرغّبهم و أقرّبهم إلی اللّه،لیس فیه حکم و لا تبدیل سنّة.قلت له:أ ما تخاف اللّه،تقرّب العباد إلی اللّه بالکذب علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟.

کما یذکر ما ورد فی ترجمة زکریا بن یحیی الوقار:کان یتهم بوضع الأحادیث لأنه یروی عن قوم ثقات أحادیث موضوعة قال:و الصالحون قد وسموا بهذا أن یرووا أحادیث فی فضائل الأعمال موضوعة،و یتهم جماعة منهم بوضعها (1).

و لقد ظلت الصوفیة تحتفظ بعناصرها العلمیة و فلسفتها،و هی کطریقة فی الحیاة أو فی العبادة لا نتناولها،فلا یعنینا ذلک،فهی قد تکون من أصول قدیمة أبعد من الإسلام،ثم تجددت بعد فجر الإسلام،فوجدت فی المنهج الحیاتی للإمام علی علیه السّلام خیر تعبیر عن اتجاهها،فجعلته القدوة.أو قد تکون إسلامیة بحتة لها صفة العلم،و حمل ما جاء به رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و إن اللّه أعد لقبول ما جاء به الرسول أصفی القلوب و أزکی النفوس،فظهر تفاوت الصفاء،و اختلاف التزکیة فی تفاوت الفائدة و النفع.و سوقهم حدیث أبی حمزة الثمالی:حدثنی عبد اللّه بن الحسن قال:

حین نزلت هذه الآیة: وَ تَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لعلی:سألت اللّه سبحانه و تعالی أن یجعلها أذنک یا علی.قال علی:فما نسیت شیئا بعد،و ما کان لی أن أنسی.قال أبو بکر الواسطی:آذان وعت عن اللّه تعالی أسراره (2).

ص:80


1- (1) فتح الملک العلمی ص 60.
2- (2) السهروردی،عوارف المعارف ص 12 و 13. [1]

و حرصهم علی الاتصال بالإمام علی علیه السّلام شدید،حتی شملهم نصب ابن تیمیة فتناولهم بلسانه و دبجت یراعه فی النیل،فهم جزءا من تراثه الحنبلی السلفی.

و أیا کان،فإن الکرامات و الأحوال و تناقل خوارق الأعمال،یؤدی إلی بقاء المتعلقین بهم فی حالة من ضعف الإدراک و وهن العزیمة،و طریقة أداء الأذکار قد شجعت علی الحلول،و أدت إلی اعتقادات بعیدة عن الإسلام.و فی موضوع التصوف نتلمّس آثار القصّاص بمحاولات إبعاد طرق المتصوّفة أو حالات الزهد الکامل و التقشف المقبول عن أی صبغة شیعیة.و الشیعة لیس لهم رغبة أو ید فی ذلک،لکن الکثیر من طوائف المتصوفة مقیمون علی ولائهم للإمام علی و لآل البیت صلوات اللّه علیهم أجمعین،و عبر المراحل الزمنیة و اختلاط المحدثین و القصاص بأهل الذکر، و تطور أحوال المتصوفة نبع بینهم من أصناف إلی«الهوس»أصلا«سیئا»حرصا منه، ثم انتهت المجالس إلی غایة بذاتها تفوق أو تعلو علی أیة غایة.لتکون مسرحا لروایة الخوارق،و إقامة الحرکات،و الدقّ التی یعجز أی عاقل عن اختلاق أصل إسلامی لها.

و علی أی حال،فلقد اشتد نشاط القصّاص،و أخذوا مکانتهم من السلطتین الزمنیة و التشریعیة،فهم ینشرون بین الناس أحکاما ما أنزل اللّه بها من سلطان،کما أنهم یتمتعون باحترام العامة و تقدیرهم،لأنهم یمثّلون الجانب الروحی.و إلی جانب ذلک،لهم نفوذ إرادة،إذ الدولة تمنحهم رعایتها،و تعتنی بشئونهم،و قد استعملوا نفوذهم هذا ضد کثیر من الطوائف و جماعات من الناس.و بدأت روح الاستیاء تسری فی جسم الأمة،و نمت خلال ذلک فکرة إیجاد مجالس لذکر اللّه و للوعظ،لیشغل الناس عن مجالس القصّاص،فاتجه الأفراد إلی هذا اللون الجدید.وصفها أبو طالب المکی بقوله:إن مجالس أهل العلم باللّه و أهل التوحید و المعرفة،هی مجالس الذکر (1).

و تطوّرت هذه المجالس،و تسرّبت إلیها ید القصّاصین،فتدخلوا فیها،و قد وضعت فیها أحادیث،و أحیطت بهالة من التعظیم و التقدیس تشجیعا للناس و الالتفاف حولها،حتی أصبح لها بین العامة شأن من الشأن،و تعلقوا بها و جعلوا الحضور فیها

ص:81


1- (1) أبو طالب المکی،قوت القلوب ج 1 ص 152. [1]

من أعظم الطاعات و أفضل القربات،و تزاحم الناس علی تلک المجالس،و لا ندری هل استغل المتصوفة هذه الفرصة،و من هنا انتشر ذکرهم؟و هل کان ظهور التصوف قبل انتشار هذه المجالس،أم أنه انطلق منها فکانت نقطة بدایة؟و من المستحسن هنا الإشارة إلی نشأة التصوف و تطوره،و کیف أصبح وسیلة لنشر الخرافات و بعث الحزازات.

و الذی یظهر أن بدایة التصوف کان سنة 200 ه فی الاسکندریة عند ما ظهرت طائفة یسمّون الصوفیة،یأمرون بالمعروف و ینهون عن المنکر فیما زعموا،و یعارضون السلطان فی أمره،و ترأس علیهم رجل منهم یسمی أبو عبد الرحمن الصوفی (1).

و یقول القشیری:انفرد خواصّ أهل السّنة المراعون أنفاسهم مع اللّه تعالی، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف،و اشتهر هذا الاسم بهؤلاء الأکابر قبل المائتین من الهجرة (2).

و أول من سلک طریق الملامة:أبو صالح حمدون بن عمارة القصّار المتوفی سنة 271 ه و کان یفضل أن یکون مظهره مظهر المذنبین علی أنه یخشی أن یصرفه تعظیم الناس له عن اللّه.

و قیل:إن فکرة الملاقیة قدیمة،فقد وصفها أفلاطون فی أول الکتاب الثانی من الجمهوریة،العادل:الحق الذی یظن الناس أنه لیس عادلا.

و کان التصوّف قد شغل ناحیة هامة من نواحی الحرکة العقلیة الإسلامیة،بل العالمیة من جهة،و کان لأعلام مفکری الإسلام کالفارابی و إخوان الصفا و ابن سینا و الغزالی و الحلاّج و ابن العربی فی التصوف آراء نظریة و خطط عملیة.

و لسنا بهذا العرض نرید-کما قلنا-أن نتعمّق فی البحث عن التصوّف،و نشأته و تطویره فی مجال الفکر،و قد تناولت ذلک أقلام الکتّاب و المؤرخین.و الذی یغنینا هنا،هو أن نعرف کیف تطوّر التصوّف،و متی حصلت فیه تلک الآراء الخاطئة، و تحول إلی ادعاءات فارغة و وقوع أعمال منکرة،و قد أصبح ضرره علی المجتمع لا یقل عن أضرار القصّاصین؛بل ربما اختلط المنهجان،و انطلقا سویة فی طریق البعد عن کثیر من المدّعین الصلة به،إذ أصبح فیه من الدخلاء و دعاة السوء ما تشوّه

ص:82


1- (1) الکندی،الولاة و القضاة ص 162. [1]
2- (2) الرسالة ص 17.

حقیقته،و فتح علی المجتمع حکایات خرافیة و أساطیر ادّعوا أنها دینیة،و وضعوا أحادیث الرقائق،و یرون فی ذلک طاعة اللّه و نصرة الدین،و أصبحت فکرة الاتحاد أو الحلول خارجة عما کان یسلکه القدماء من طریق النور و البصیرة الذی لا یتیسر إلا بطریقة العبادة،فکثرت ادّعاءاتهم فی قربهم للّه،و وضع الکرامات الخارقة للعادة فی حق أصحابهم الذین لهم مراتب و أسماء و منازل و ألقاب تجعل منهم نظاما متکاملا فی الأفضلیة و التأثیر و المقامات و الدرجات،طالما تدخلت الأهواء الخاصة و الرغبات الشخصیة فی إبرازها فی زمننا لتحقیق المصالح و التظاهر بالعظمة الروحیة و الخصائص الذاتیة التی تجعل له مقدرة علی الأعمال فی أمور الدعاء أو الشفاء،و اللّه أعلم بسرّ تلک الحالات التی اشتهرت بین الناس و أصبحت عندهم بمستوی الیقین.

و إضافة إلی ما أدی إلیه التصوف و ما قام علی حالاته من اعتقادات و أفکار،فإن من دواعی الإشارة إلیه فی کتابنا و فی هذا الموضع،تلک الأفکار التی وجدت مع البدایات،و لقد لمّحنا إلی الاختلاف فی أصل أو مصدر التصوّف،و کان هذا الاختلاف موضع نقاش واسع و کبیر اختص به کتّاب کثیرون،و قد کان المتحاملون منهم یتّبعون الأسس التی وضعها المستشرقون للطعن فی الإسلام و الدخول إلی أفکار الطبقة المثقفة منهم بطابع جدید،و علی الأخص أولئک الذین تلقّوا دراساتهم فی أروقة الغرب،و تلمذوا علی أساتذة الجامعات الإنکلیزیة و الألمانیة و الفرنسیة و الأمریکیة،و کان مذهب أهل البیت غرضهم الأول الذی وجهوا إلیه سهام الاتهام، فاختلقوا الأفکار الساذجة التی لا تستقیم و لا تثبت أمام الحقائق المعروفة،فادّعوا أن موقع القیادة التی أحل بها الشیعة أئمتهم،و نظرة الاحترام و الإجلال التی أحاطوا بها زعماءهم من أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لها مصادرها الأجنبیة.و فی ذلک خروج علی المنطق،و تجاوز و تعدّ علی أبسط قوانین البحث و النظر،احتاج دحضه و الردّ علیه إلی جهود کبیرة،و ذلک لاتساع الجهات التی تولّت القول،و نصبت نفسها بالنیابة عن أعداء الأمة لترویج هذه الأقوال،و قد جئنا علی بعضها فی الأجزاء السابقة من الکتاب،لکن الملاحظة الهامة أن أتباع الغرب من أبناء الیوم أو غیرهم من حشویة السلف و عاشقی الجمود لا یصرّحون بالتجریح،و یتردّدون فی الشتم و الاتهام فی عرضهم لحالات الهوس،و الأفکار التی جعلتنا نضمّ نتائج التصوف إلی العوامل التی أدت إلی تخلف و فرقة شدیدین.و لا بد أن نذکر أن«الشیخ»ابن تیمیة یکشف فی رده

ص:83

علی ابن عربی و محتویات کتابه«فصوص الحکم»عن غرضه الحقیقی،و هو تناول الشیعة و الإساءة إلیهم،إذ ینسب کبارهم کالتلمسانی و ابن سبعین إلی الفرق الغالیة التی اقتضت الأغراض السیاسیة أن تحسب علی الشیعة و تقرن بالإمامیة،و کان یکفی «لشیخهم»ابن تیمیة ذرّة من إنصاف أو اطلاع و تحقیق لیعلم الفرق،و لو تخلی لحظة عن مرض الحقد الأعمی،و أنصت إلی ما یقوله الشیعة عن مذهبهم،لبعد عن الزلل و الخطأ الذی هو فیه و لو بقید شعرة.

و عندنا أن حالات الحلول و المعتقدات الأخری التی اتّسم بها التصوف،تعود إلی الوضع النفسی الذی یتخلل أوقات القیام بطقوس الصوفیة،و هی لا شک متفرعة عن تصرفات أشیاخهم الأوائل الذین فی نظرهم أمسکوا بأصول المعرفة و مفاهیم المحبة الإلهیة،و راحوا یبیحون لأنفسهم تصرفات و أفعالا غزت عقول مریدیهم، و حجبت الأصول الحقیقیة و المفاهیم الجلیة التی سنطّلع علیها فی مظانّها الصافیة و مصادرها النقیة عند رجالات أهل البیت النبوی،و موقع الإمام الصادق علیه السّلام فی هذه السلسلة.

و نقف قلیلا لنوضّح بموجز من البیان منشأ کلمة الصوفی فی الإسلام،و مبدأ اشتقاقها،فإنا نجد هناک زخما من الأقوال فلا حاجة للبسط فی ذلک،و لعل أهمها أنها نسبة إلی الصفّة الأولی التی کان المتنسّکون یجتمعون علیها فی عهد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أکثرهم من الفقراء،حتی نسب إلیها جماعة فیقال فلان من أهل الصفة،و الصفة مکان فی مسجد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عند یمین الداخل من باب جبرئیل،و هناک قوم یقولون أنها نسبة إلی الصفاء-کما قلنا سابقا-أو انها نسبة من صافا ربّه فصوفی،و قیل أنها الصف الأول فی الصلاة،و قیل نسبة إلی بنی صفة.و فریق یقولون إنها مشتقة من لفظة یونانیة الأصل هی صوفینا و معناها الحکمة،فیکون الصوفیة قد لقبوا به نسبة إلی الحکمة لأنهم کانوا یبحثون فیما یقولونه بحثا فلسفیا،و آخرون یقولون نسبة إلی الصوف الذی اشتهر المتنسکون به،و قد اختار هذا الاسم جماعة منهم.

و نجد التنسّک فی الإسلام حیث تنسّک جماعة من الصحابة فی عهد النبی و عرفوا به کأبی ذر و حذیفة و أویس القرنی و غیرهم.و کان المتصوّفون فی أول نشأتهم یتنسّکون و یتعبّدون من دون إطلاق لتسمیة المتصوّفة علیهم،لأن تنسّکهم و زهدهم من وجوه إیمانهم بأحکام القرآن و عقائد الإسلام،و هو ما کان سبب مأساة أبی ذر

ص:84

الذی قصد إلی تطبیق نظام الإسلام و ضمان حق الفقراء.و تمسک بمبدإ الآخرة و زوال الدنیا،فکان شعاره قول اللّه سبحانه و تعالی: وَ الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا یُنْفِقُونَها فِی سَبِیلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِیمٍ فامتدت إلیه ید الأغنیاء.و رمته فی أحضان حکم معاویة،فکان لا یخفی إنکاره لما فیه معاویة من بذخ و ترف یتعارض مع الإسلام، و زاد علی تردیده قول اللّه،قوله لمعاویة جهارا:إن کان ما أنفقت من مال اللّه فهو خیانة، و إن کان من مالک فإسراف.

و لقد أدت أوضاع الدعوة فی زمن الرسالة و ضرورات نشر الدین إلی معاناة کبیرة و تضحیة بالغة شملت الأهل و المال و المسکن،فقد کان أهل الصّفة(غرباء فقراء مهاجرین أخرجوا من دیارهم و أموالهم)و وصفهم أبو هریرة و فضالة بن عبید فقالا:

یخرّون من الجوع حتی تحسبهم الأعراب مجانین،و کان لباسهم الصوف حتی أن کان بعضهم یعرق فیه فیوجد منه ریح الضأن إذا أصابه المطر.هذا وصف بعضهم لهم حتی قال عینیة بن حصن للنبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أنه لیؤذینی ریح هؤلاء،أ ما یؤذیک ریحهم؟ و المتصوفة یتمسّکون بنسبتهم إلی حال أهل الصّفة،و أن التسمیة منها،غیر أن ذلک لا یتفق مع اللغة،و تأباه قواعد الصرف.أما النسبة إلی الصوف فقد تکون من حیث اتفاقها مع قواعد اللغة و التاریخ هی الأصح.و لا نعنی بالقطع و اختیار أحدها علی وجه الیقین،فلیس لذلک أهمیة فی نظرنا،و قد یخرج عن صلب البحث.کما أن الصوفیة یریدون أن یجمعوا بین کل التسمیات،و ربطها بالصّفة و الصوف اللذین یتوحّدان فی نظرهم،و من نسبهم إلیهما فإنه عبّر عن ظاهر أحوالهم،و ذلک أنهم قد ترکوا الدنیا فخرجوا عن الأوطان،و هجروا الأخدان،و ساحوا فی البلاد،و أجاعوا الأکباد،و أعروا الأجساد،لم یأخذوا من الدنیا إلا ما لا یجوز ترکه من ستر عورة و سدّ جوعة (1).

و نختصر القول فی نصّین کلیهما لأحمد أمین،لأنی فی دار الغربة و الابتعاد عن الوطن حیث داری و مکتبتی،أعانی معاناة لا یعرفها إلا اللّه من توفیر ما احتاج إلیه من ضرورات البحث و أمهات المصادر التی کانت متیسرة فی داری فی النجف الأشرف، و أنفقت بین ریاض الأفکار الشطر الأوفی من عمری،کان حصیلته الأجزاء الستة

ص:85


1- (1) انظر:أبو بکر محمد الکلاباذی،التعرف لمذهب أهل التصوف ص 29،30،31.

الماضیة من کتاب الإمام الصادق و المذاهب الأربعة و مخطوطاتی الأخری.ناهیک عن و هن البدن و ضعف البصر حتی الکلل.لک الحمد اللهم أولا و آخرا.

یقول أحمد أمین:و من ناحیة أخری تغالی الصوفیة فی الأعمال النفسیة الروحیة،و لم یضغطوا ضغطا کافیا علی الأعمال الظاهرة،فکان هناک فقهاء و صوفیة، و عداء بین الفقه و التصوف.الصوفیة یرمون الفقهاء بأنهم لا یعبئون إلا بالقشور من مظاهر الأمور،و الفقهاء یرمون الصوفیة بأنهم غلوا فی أحوال الروح أکثر مما کان یعرفه الإسلام و سمّوهم أهل الباطن (1).

و یقول الدکتور أحمد أمین:و کان التصوّف یغلو فی الباطن،و کان مرتعا خصبا للخرافات و الأوهام و التحرّر من الشعائر،و ارتکاب الموبقات،و اخترعوا بجانب التصوف الموسیقی و الذکر و الشطح و الرقص و غیر ذلک،و کان لهم أثر کبیر فی النظام الاجتماعی المتهافت،و کان من نتائج الصراع الشدید بین الفقهاء و المتصوّفة أن آل الأمر إلی سجن بعضهم (2).

و هذا ما یکشف لنا جانبا من جوانب الصراع الحاد،مما یحدث رد فعل فی نفوس أکثر الناس،فالمتصوفة سلکوا الجانب الروحی ادّعاء،و دعوا الناس إلی الاعتقاد بما لا یقبله العقل و لا ینطبق مع نظم الإسلام،و أصبح جانب التصوّف یدعم تلک الخرافات التی انثالت علی المجتمع بسمّ قاتل،و کانت تلک الرباطات مصدرا لأمور لا رابطة لها بالإسلام.و وجهوا الناس إلی تعظیم قبور من یسمونهم بأولیاء علی طرقهم المعروفة و أسالیبهم الخاصة،یکمل هذا و ذاک ادّعاءات الأحداث و الأفعال للأموات و الأحیاء الذین یتّصلون بهم،فتسود حالة من الإیمان بقدرات المخلوقین و الاعتقاد بکرامات أولیائهم،و تتحجّر الأذهان و الأفهام علی ألوان من الإیحاء التی یستفید منها الذین یحتلّون الصدارة.

و فی وسط فوضی القیام بأعمالهم و أشکال طرقهم،کان الناس یساقون إلی مستویات عقلیة واهیة،و یرفعون إلی مهاوی الجهل کما علمنا سابقا و مرّ بنا فی ثنایا البحث.

ص:86


1- (1) ظهر الإسلام 57/2.
2- (2) أحمد أمین،یوم الإسلام 101.

خلاصة البحث

إن روح العداء التی سقط بها المجتمع فی مخالفة صریحة لأحکام الشریعة و تعالیم السنة النبویة،تظافر علی ظهورها عوامل عدیدة و أسباب شتی،کانت ید المصالح الخاصة و أغراض السلطان هی الأقوی و الأغلب.

و من عوامل نجاح الدعوة إلی القضاء علی محاولات استمرار العداء و الانقسام، قیامها علی التحقیق و التثبّت و الابتعاد عن حمی الفرقة و داء التعصب الذی ما زال ینخر فی نفوس بعض الناس فی عصرنا الحاضر.

و قد بحثنا الجمود الفکری،و اطلعنا علی آثار الجهل و نتائج مقاومة روح العقل و حریة الأفکار،و کیف التقت مصالح الحکام و أصحاب السلطان مع ذوی النفوذ و المکانات،و اجتمعت الجهود و الطاقات للوقوف بوجه انفتاح آفاق الفکر،و أسهم کلّ من موقعه و مسئولیاته فی محاربة أصحاب الأفکار و العقائد،و احتل التعصب المنزلة العالیة لدی الذین یخشون آراء الناس و إطلاق حریتهم،و تکوّنت لدی السلطان و الحکام فکرة تحدّد الخطر فی جهة النظر و الاعتماد علی الفکر،و تماسکت فی العهد العباسی الأجزاء التی أوجدها الحکام المتسلّطون منذ أن انحرفوا بالنظام الإسلامی و استبدّوا بالحکم بعد الإمام علی علیه السّلام و أصبحت مساهمتها فی إرساء الظلم أعظم من السابق،فإننا نلاحظ أن معاویة کان یملی إرادته دوما علی فقهائه و خطبائه و المنضمّین إلی سلطانه،أما فی حکم بنی العباس فقد بات الاتجاه إلی تأسیس المذاهب أولا،و کانت العلاقات متبادلة و متوازنة فی کثیر من الأحیان بین تدخل الخلیفة و رأی رجال الفقه،ثم برز علی السطح من استهان بروابط العقیدة و روح الأخوة فی الدین و أغرته السلطة بمنافعها و ملاذها.

ص:87

کذلک بحثنا مسألة خلق القرآن،و هی من أعظم المشاکل و أشدّها تعقیدا،و من وجوه تعقیدها أن تحسب من عوامل الانحطاط فی المجتمع،و من أسباب دفعه إلی التفرقة،فهی قد تکون مشکلة تتجه إلیها الأفکار و تعقد حولها المناظرات لتکون مادة تسلک بها مسالک الاستدلال و طرق الاستنتاج،و تقابل الحجة بالحجة،و یلاقی الرأی بالرأی علی منهج التیارات الفکریة التی ظهرت فی تلک المرحلة،و تمثلت فی أفکار و اعتقادات کان حافزها الدفاع عن الإسلام و دحض افتراءات أهل الکتاب.لکن أغراض أهل الحکم و السلطان جعلتها کبقیة الأفکار و التیارات،و سلبتها میزتها و أهم خصائصها،فباتت واحدة من أسلحة الخلفاء التی تنتهک بسببها الحرمات و الأموال و الدماء،و أحدثت نتائج بالغة الضرر ترتّبت علی أسالیب السلطة الملتویة و السیئة فی تبنّیها لأفکار المعتزلة،و قد أشرنا إلی مسئولیة رجال العقل من المعتزلة فی ذلک و کأنهم التذّوا بالسلطة کما التذّ بها من سبقهم.

و کانت مرحلة المأمون و خلفیه،قد أدت إلی زیادة و ترسیخ علاقة العامة بالسلطة،و استسلامها للنظرة التقلیدیة التی عمل علی رسمها بصفتها الدینیة و صلاحیاتها الواسعة رجال متعددون،ارتبطوا بالخلفاء،و أذعنوا لرغبات الحکام فکانوا من أسباب الفرقة و حمایة الظلم.

ثم اخترنا قضیة البدع و الضلالات،و التی أصبحت تطلق بلا رویة،و تخضع للأهواء حتی شملت الطوائف جمیعها.

کما اخترنا من عوامل تخلف المجتمع و انقسامه مسألة القصّاص و دورهم فی استماله العامة و خدمة الحکام و جبروت الملوک،ثم ألحقنا بهذا العامل-من حیث التأثیر-قضیة التصوّف و ما أدت إلیه من مستوی عقلی یتقبّل الخرافات و یقبل علی الأوهام.

و من یبحث یر أمورا أخری عملت فی جسم المجتمع تمزیقا،و دفعت به إلی مهاوی التخلف.غیر أنّا اخترنا هذه العوامل من غیر أن ننکر دور العوامل الأخری، و هی فی عمومها ما زالت آثارها باقیة حتی الآن نسعی-و اللّه من وراء القصد-إلی إظهار ظروف قیامها و تحکیم العقل و النظرة الواعیة التی تسمو عن التعصب و الجهل لنعود إلی أصول العقیدة،و البحث المنصف یسهم بتحقیق هذا الهدف،لأن الکشف

ص:88

عن ملابسات وجود هذه العوامل،و التأکید علی حقائق قیامها،من أهم أسباب النجاح فی إدانة الطائفیة و التخلی عن التعصب و العناد.

و قد بحثنا مشکلة خلق القرآن،و طرفا من أثر القصّاصین و الوضّاع فی عقول العامة فی الجزء الأول من کتابنا،و زدنا هنا ما اقتضته ضرورة البحث و متطلبات اکتمال کل جزء من الأجزاء الأخیرة السابع و الثامن بمواد البحث المطلوبة التی تتیح الفائدة.و فی هذا الجزء مهّدنا من خلال التطرّق للبدع التی طرأت علی الصوفیة إلی التفسیر الصوفی لسیرة الأئمة الأطهار.

ص:89

ص:90

الإمام الصادق و التفسیر الصوفی

اشارة

من الأمور التی ثبتت و استقرت علی أسسها،و احتفظت بملامحها الأصلیة، و قاومت موجات العداء،هی سیرة الأئمة الطاهرین من أهل البیت علیهم أفضل الصلاة و السلام،فظلت شخصیاتهم الفذّة مصادر إلهام تستمدّ منها الأمة العبر و الدروس،و تتأسی بمواقفها و تجربتها.و بقی الشیعة یتلقون أمور دینهم من هؤلاء الرجال الذین تعرضوا لمختلف أنواع المحن و ضروب التجارب القاسیة،فرسم الأئمة علیهم السّلام لمحبیهم و أتباعهم فی کل مرحلة طریق العمل،و وضعوا لهم سبل النجاة من خلال نماذج سلوکیة و مواقف جهادیة و فکریة تنیر الطریق أمام شیعتهم، و هم یعانون الویلات علی أیدی الحکام و الملوک و أصحاب السلطان و الجبروت.

و لا تحتکر الشیعة طرق الاتصال بتاریخ الأئمة الطاهرین،و لا تدّعی اختصاص الأخذ عن تراث و أحکام أهل البیت بأحد،بل یرون أنهم رجال الإسلام و أعلام الهدی الذین تتجه رسالتهم إلی کل الطوائف من المسلمین،و تسع تعالیمهم جمیع المسلمین.

و قد واجه الشیعة حملات ظالمة،و موجات عنیفة تزعّمها رجال مختلفون علی مرّ العصور،و إن لم تکن علی هیئة حملات الحکام و موجات ظلمهم المتکررة ضد أهل البیت و أتباعهم،و ما یعنی ذلک من ألسن ترقی منابر یفترض أن تقوم بمهمات المنبر المحمدی،و قصاصات و مراسیم،و جنود و دماء و أسلحة تلاحق أهل البیت و شیعتهم.إلا أن الحملات التی یقوم بها نفر بین فترة زمنیة و أخری،و بین مرحلة و مرحلة،تجد لها آذانا صاغیة لما تتستّر به من مراکز احتلتها بفعل ظروف سیاسیة و اجتماعیة غلب علیها الطابع الدینی،و قد مهروا فی دفع العامة إلی الإیمان بأقوالهم

ص:91

و الاعتراف بوجهات نظرهم التی هی فی حقیقتها غیر سلیمة لقیامها علی الاجتراء و التحکم.و قد تطرّقنا إلی ما انتهی إلیه التصوّف من طقوس أسهمت فی تخلف العامة،و تشجیع ظهور حالات یؤدون بها حرکات تخرجهم عن الاتزان و السلامة،أو ادّعاء الکرامات التی یرافقها بیان و شرح تجعلها بمستوی المعجزات.

فکانت هذه النهایات فی المتصوفة،إضافة إلی الأفکار و المعتقدات التی تأولوها عن شواهد و أحداث لآل بیت الرسول محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مادة تعمیق الانقسام فی المجتمع الإسلامی،و تأکید الفرقة بین السنة و الشیعة و ذلک لضیاع التحقیق و فقدان التدقیق.

و لئن أدت حرکة العلم و النشاط الفکری إلی اختلاط و تداخل بین دوائر الشیعة الفکریة و بین المعتزلة،فقد حسمتها دلائل کثیرة مادیة و معنویة فی الفکر و التصرف، و بات واضحا لکل ذی بصر ینظر بتجرد،أن تشابه المناهج و تقارب المنحی الفکری بین الشیعة و المعتزلة،لا یعنی اتحادهما المطلق أو تشابههما التام،و مع هذا بقیت إلی یومنا هذا،کمثل قضیة تشیّع ابن أبی الحدید شارح کتاب نهج البلاغة،و عدم الالتفات إلی اعتزاله،و ما ینطوی ذلک علی أمور لا تقرّها الشیعة،و ما ذلک إلا من نتائج إغفال التحقیق و إهمال أمانة البحث.و إلا فإن أصول التشیّع تقترن بأصول الدعوة الإسلامیة وجودا و مضمونا،و کان أهل البیت من أئمة الشیعة قد امتازوا عبر کل عهود الحکام-و قبل ظهور تیارات الجدل و الکلام-برعایة الفکر و تحفیز الرأی فی حدود الشریعة و الأحکام،و ضرورة العقل.و کانت مدرسة الإمام الصادق علیه السّلام من أعظم صروح الفکر الإسلامی،لما اضطلعت به من نشاطات و مهمات تعنی بالفکر و الدین،و قد تقدمت الإشارة فی الأجزاء السابقة من الکتاب-و سنأتی علی ذکرها فی موضعها فی الجزء الثامن إن شاء اللّه-إلی اتصال رجال المعتزلة بالإمام الصادق علیه السّلام و لقد أصبحت مسألة تأثر الشیعة بالمعتزلة و أخذهم عنها من جملة المحاولات التی ترمی إلی الإساءة إلی مذهب الشیعة،و التقلیل من شأنه،فالنظرة العجلی تظهر الحقائق،فما ظنّک بالتحقیق و رعایة الأمانة؟ فما المعتزلة إلا تیار لا یختلف عن بقیة التیارات التی تهب بعوامل مختلفة لفترة معینة،و قد نمت فی ظل المماحکات و المناظرات،و قامت علی أسس المناظرة و الجدل،فهی فی إطار الکلام و فی مناحی العقیدة،تمثل مجموعة من الأفکار و النشاطات التی تتصل بالعقیدة،و القصد منها الردّ علی جهات داخل صفوف الأمة

ص:92

الإسلامیة أو خارجها،و تبنّی اعتقادات جدیدة و اجتهادات فی الجزئیات و الفروع و أقوال فی الصفات،إلی غیرها من أبواب نشاط المعتزلة،و لا ندری کیف یسمح لنفسه منصف أن یجعل الشیعة بفکرهم و بفقههم و برجال مذهبهم من أئمة الهدی و سادة أهل البیت تابعا و متأثرا بالمعتزلة،الذین کان أفضل رجالهم تبعا لأفکار الشیعة.و هو ما تمیّزت به مدرسة بغداد الاعتزالیة.و لقد کان من أخص الخصائص فی وجود الشیعة تاریخیا و دینیا،استقلالهم بالفقه و الروایة،و قیام أسسها علی مدرسة أهل البیت الطاهرین علیهم أفضل الصلاة و السلام.و ما انتظم فکر المعتزلة من قضایا رئیسیة انطوی فکر الشیعة علی أصولها و أمهاتها قبل أن تستجد عوامل انبعاث تیار المعتزلة و ظهور أصولهم التی نادوا بها.

و فی الحقیقة،فإن قضیة العلاقة بین الشیعة و المعتزلة،تبقی قضیة من قضایا الفکر،تبرز فی مستویات للبحث تستلزم الأمانة و تتطلب الموضوعیة،و أی تناول یزلّ عن غرض العلم،و یلجأ إلی أسالیب التهجّم و الاتهام،یفضح دوافعه و یعری أغراضه،و لهذا وجدنا الکثیر من الباحثین المعاصرین،یتناولون القضیة بطابعها الفکری و فی حدود ظروف قیامها،و انتهاء تیار المعتزلة و بقاء طائفة الشیعة.

أما القضیة ذات الخطر الجسیم،فهی قضیة التصوف التی قصد فی کثیر من استخداماتها إلی الطعن بالشیعة،و إبقاء الخلط بین الفرق التی تحسب علی الشیعة، و بین طائفة الشیعة الإمامیة.

یقول ابن تیمیة فی ردّه علی ابن عربی:

(ما تضمّنه کتاب«فصوص الحکم»و ما شاکله من الکلام فإنه کفر باطنا و ظاهرا،و باطنه أقبح من ظاهره.و هذا یسمی مذهب أهل الوحدة و أهل الحلول، و أهل الاتحاد،و هم یسمون بالمحققین...فأقوال هؤلاء و نحوها باطنها أعظم کفرا و إلحادا من ظاهرها،فإنه قد یظن أن ظاهرها من جنس کلام الشیوخ العارفین أهل التحقیق و التوحید.

و أما باطنها فإنه أعظم کفرا و کذبا و جهلا من کلام الیهود و النصاری و عبّاد الأصنام.

و لهذا فإن کل من کان منهم أعرف هؤلاء بهذا المذهب و حقیقته،کان أعظم کفرا و فسقا.

ص:93

کالتلمسانی،فإنه کان من أعرف هؤلاء بهذا المذهب،و أخبرهم بحقیقته.

فأخرجه ذلک إلی الفعل،فکان یعظّم الیهود و النصاری و المشرکین،و یستحل المحرمات،و یصنف للنصیریة کتبا علی مذهبهم،یقرّهم فیها علی عقیدتهم الشرکیة.

و کذلک ابن سبعین کان من أئمة هؤلاء،و کان له من الکفر و السحر الذی یسمی «السیمیا»و الموافقة للنصاری و القرامطة و الرافضة ما یناسب أصوله) (1).

و لا نحتاج إلی بیان القصد عند ما أوضح ابن تیمیة و جاء علی أسماء الفرق لیجعل من إدراجه«الرافضة»بهذا الشکل دلالة علی لون من ألوان نیله من الشیعة، و کم له من نصوص لا یتردد فیها فی ذلک دون رویة أو معتمد أو مسوّغ.

أما ابن خلدون،فهو أیضا من أبطال الدعوة و رجال الحملة الظالمة علی الشیعة،و کغیره من الذین استسلموا لأسلافهم،و لعبت بعقولهم الأهواء،یجد فی الصوفیّة مادة للطعن علی الشیعة و یساهم فی إثارة الغبار الذی یحجب الفوارق و الحدود بین الشیعة و من ینسب إلیهم،و لو طبقت المناهج المحدثة التی استمدّت من ابن خلدون أفکارها الاجتماعیة علی هذا الجانب،لأصبحت قضیة ما یحمل علی الشیعة و ما یتّهمون به من الأفکار الغالیة و الحلولیة من أسس مناهج البحث التأریخی المعاصر،و لأدی تطبیقها إلی زوال ما ألصق بالشیعة ظلما،غیر أن ابن خلدون اتّخذ حجة و علما فی فن-کما یرون-و أسهم فی أمر لا یقوم علی فن أو شیء من الصحة، فمتی کان التعصب علما،و متی کان الهوی منهجا؟فما التعصب إلا من صور الجهل، و ما المیل إلی الهوی إلا من قلة الإدراک،و لکنها إرادة الحکام و سیاساتهم فی التأثیر علی أفکار العامة،و حملهم علی الاعتقاد بأن کلما یصدر عن السلطان هو الحق،و ما یقوم به حاکم الزمان هو العدل،فکان ابن خلدون و غیره من خدمة حضرات الملوک و المتزلّفین لکراسی السلاطین من الدعاة إلی ذلک.فانظر مقدمة مقدمته و ما خلع من ألقاب علی الذین جعلهم کعبة تطلعه و مهوی أحلامه،و لقد کان أبعد الناس عن منهح التاریخ الذی أورده فی فصل علم التاریخ،لأنه راعی الملوک فی دولهم و الحکام فی سیاستهم علی مدی الأقطار،فأخلاقه تجعله یمدّ لکل حاکم یدا لأجل أن یستقرّ یوما فی أحد الدواوین أو یضمّه أحد القصور،و ما التزم بما قال من أن فن التاریخ(محتاج

ص:94


1- (1) ابن تیمیة،الصوفیة و الفقراء ص 44 و 55.

إلی مآخذ متعددة و معارف متنوعة و حسن نظر و تثبت یفضیان بصاحبهما إلی الحق و ینکبان به عن المزلات و المغالط).

یقول ابن خلدون:

(ثم إن هؤلاء المتأخرین من المتصوّفة،المتکلمین فی الکشف و فیما وراء الحسّ توغّلوا فی ذلک،فذهب الکثیر منهم إلی الحلول و الوحدة کما أشرنا إلیه، و ملأوا الصحف منه،مثل الهروی فی کتاب المقامات له،و غیره،و تبعهم ابن العربی و ابن سبعین و تلمیذهما ابن العفیف،و ابن الفارض،و النجم الإسرائیلی فی قصائدهم،و کان سلفهم مخالطین للإسماعیلیة المتأخرین من الرافضة،الدائنین أیضا بالحلول و ألوهیة الأئمة مذهبا لم یعرف لأولهم،فأشرب کل واحد من الفریقین مذهب الآخر،و اختلط کلامهم،و تشابهت عقائدهم،و ظهر فی کلام المتصوّفة القول بالقطب و معناه رأس العارفین) (1).

لقد حاولنا الاقتصار علی بعض أهم الأمور التی لا بد منها فی تناولنا للتصوف، و علی أبرز الجوانب التی جعلوها فی طرقهم،و قلنا فی السابق أنهم أوجدوا لهم نظاما متکاملا علی رأیهم حسب المراتب و الدرجات و المقامات و الأحوال،کالمرید و الغوث و القطب و الأبدال.و هی منازل وضعوا رجالهم بها،اصطلحوا علی خصائصها،و اتفقوا علی ماهیتها بحسب تکوین عقائدهم،و ظروف نشأتهم و مع وضوح اختصاص المراتب بالتدرج الذی یدخل فی أسالیب الدعوات السریة و التعالیم الباطنیة،فإن ابن خلدون یری أن ذلک هو ما تقوله الشیعة فی النقباء.

یقول ابن خلدون:

(و هذا کلام لا تقوم علیه حجة عقلیة و لا دلیل شرعی،و إنما هو من أنواع الخطابة،و هو بعینه ما تقوله الرافضة،و دانوا به،ثم قالوا بترتیب وجود الإبدال بعد هذا القطب کما قاله الشیعة فی النقباء،حتی أنهم لمّا أسندوا لباس خرقة التصوّف لیجعلوه أصلا لطریقتهم و تخلیهم،رفعوه إلی علی رضی اللّه عنه،و هو من هذا المعنی أیضا،و إلا فعلی رضی اللّه عنه لم یختص من بین الصحابة بتخلیة و لا طریقة فی لباس و لا حال؛بل کان أبو بکر و عمر رضی اللّه عنهما أزهد الناس بعد

ص:95


1- (1) مقدمة ابن خلدون ص 396. [1]

رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أکثرهم عبادة،و لم یختص أحد منهم فی الدین بشیء یؤثر عنه فی الخصوص،بل کان الصحابة کلهم أسوة فی الدین و الزهد و المجاهدة،یشهد لذلک من کلام هؤلاء المتصوفة فی أمر الفاطمی و ما شحنوا کتبهم فی ذلک مما لیس لسلف المتصوفة فیه کلام بنفی أو إثبات،و إنما هو مأخوذ من کلام الشیعة و الرافضة و مذاهبهم فی کتبهم و اللّه یهدی إلی الحق) (1).

و یضطرنا تحامل ابن خلدون فی الأمور الاعتقادیة و التاریخیة التی تخص الشیعة، إلی مناقشته بنصوصه،و الجدیر بالذکر،أن تحامل ابن خلدون کان من أسباب أقدامنا علی تألیف الکتاب،فهو یقول عن مذاهب الشیعة فی حکم الإمامة(إن الإمامة لیست من المصالح العامة التی تفوّض إلی نظر الأمة،و یتعین القائم بها بتعیینهم،بل هی رکن الدین و قاعدة الإسلام،و لا یجوز لنبی إغفاله و لا تفویضه إلی الأمة) (2).

و لنوضح أن لا حجة و لا دلیل لابن خلدون فی الربط بین عقائد الشیعة و أقوال المتصوفة عن رجالاتهم و النظام الذی وصفوهم فیه:

1-إن أمر الرسالة یحتاج إلی دوام فی الدعوة،و بقاء فی التوجیه یقوم علی میزات و صفات تتصل بصاحب الرسالة و القائم بالدعوة،و تنتمی إلیه فی التوجه و المضمون،لذلک فهی من أرکان الدین.و حدیثه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«من مات و لم یعرف إمام زمانه مات میتة جاهلیة»و یروی:«من مات بغیر إمام مات میتة جاهلیة»صریح فی الدلالة علی وجوب معرفة الإمام لأغراض الدین و استیضاح الأحکام.

لذلک نری الإمام أمیر المؤمنین یقول:«و إنما الأئمة قوام اللّه علی خلقه، و عرفاؤه علی عباده،و لا یدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه،و لا یدخل النار إلا من أنکرهم و أنکروه».

و قد کان الإمام علی عند ما آلت إلیه الخلافة،قد أرسی حکمه علی نظام الإمامة لأنها أقرب إلی جوهر الإسلام،و تمثل سلطانه الروحی.قال اللّه تعالی: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا (3)و قال اللّه تعالی: إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ

ص:96


1- (1) أیضا ص 397.
2- (2) المقدمة أیضا ص 164.
3- (3) سورة الأنبیاء،آیة:73. [1]

عَهْدِی الظّالِمِینَ (1)و قد أوضح الإمام علی علیه السّلام الحالات التی تخرج صاحبها عن حدود رعایة الدین عند ما بیّن أصناف الناس فی حدیثه لکمیل بن زیاد،و بیّن أصل الإمامة الدینی حیث قال:«اللهم بلی لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة إما ظاهرا مشهورا و إما خائفا مغمورا،لئلا تبطل حجج اللّه و بیناته،و کم ذا و أین أولئک،أولئک و اللّه الأقلّون عددا،الأعظمون عند اللّه قدرا،بهم یحفظ اللّه حججه و بیناته حتی یودعها إلی نظرائهم، یزرعوها فی قلوب أشباههم،هجم بهم العلم علی حقیقة البصیرة،و باشروا روح الیقین، و استلانوا ما استوعره المترفون،و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون،و صحبوا الدنیا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلی،أولئک خلفاء اللّه فی أرضه و الدعاة إلی دینه» (2).

کما أوضح الإمام أمیر المؤمنین علیه أفضل الصلاة و السلام أن الضلال فی عدم التعرّف علی الإمام،فلما سئل علیه السّلام:ما أدنی ما یکون به الرجل ضالا؟ قال علیه السّلام:«أن لا یعرف من أمر اللّه بطاعته،و فرض ولایته،و جعله حجته فی أرضه،و شاهده علی خلقه».

فإذن،اتصال الإمامة بشئون الدین و أصوله یجعلها من أرکان الدین،فهی لحفظ الشریعة و تدبیر أمر الناس و استمرار الدعوة إلی الهدی و الإیمان و النیابة عن صاحب الأمر و إبقاء مقام النبوة من حیث بیان الأحکام و إیضاح علوم الشریعة و حفظ السنن،و الفرائض و الدعوة إلی الحق و العمل بالصدق.

فالأئمة علیهم السّلام هم الأوصیاء و ورثة الأنبیاء الذین خصّهم اللّه بالکمالات و العصمة،فقال الإمام الصادق علیه السّلام:«أمر اللّه کل واحد من الأئمة أن یسلّم الأمر إلی من بعده».

یقول الفضل بن شاذان فی الجواب عن علة نصب الأئمة و الأمر بطاعتهم:أن الخلق لما وقفوا علی حدّ محدود،و أمروا أن لا یتعدّوا تلک الحدود لما فیه من فسادهم،لم یکن یثبت ذلک و لا یقوم إلا بأن یجعل علیهم فیها أمینا یأخذهم بالوقف عند ما أبیح لهم،و یمنعهم من التعدّی علی ما خطر علیهم،لأنه لو لم یکن ذلک، لکان أحد لا یترک لذته و منفعته لفساد غیره،فجعل علیهم قیما یمنعهم من الفساد

ص:97


1- (1) سورة البقرة،آیة:124. [1]
2- (2) شرح نهج البلاغة 311/4.و حلیة الأولیاء 80/1. [2]

و یقیم فیهم الحدود و الأحکام.و فیها:أنا لا نجد فرقة من الفرق و لا قلة من الملل بقوا و عاشوا إلا بقیّم و رئیس لما لا بد لهم منه فی أمر الدین و الدنیا،فلم یجزی فی حکمة الحکیم أن یترک الخلق مما یعلم أنه لا بد لهم منه،و لأقوام لهم إلا به، فیقاتلون به عدوّهم،و یقسّمون به فیئهم،و یقیمون به جمعتهم و جماعتهم،و یمنع ظالمهم من مظلومهم.و منها إنه لو لم یجعل لهم إماما أمینا حافظا مستودعا لدرست الملة،و ذهب الدین،و غیّرت السنن و الأحکام،و لزاد فیه المبتدعون،و نقص من الملحدون،و شبّهوا ذلک علی المسلمین،إذ قد وجدنا أن الخلق منقوصون محتاجون غیر کاملین مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم،و تشتت حالاتهم،فلو لم یجعل فیها قیما حافظا لما جاء به الرسول الأول،لفسدوا علی نحو ما بیناه،و غیّرت الشرائع و السنن و الأحکام و الإیمان،و کان فی ذلک فساد الخلق أجمعین..الخ (1).

2-إن أمرا بمثل هذه الأهمیة و علی مثل هذه الصفة الدینیة،لا یمکن أن یهمله النبی المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و فحوی الاختلاف هی التی تعیّن الصفة الدینیة أو الصفة الزمانیة، لأن الأخذ بالوصیة وفق منظور الأئمة،و الهدایة الدینیة یجنّب الأمة ما انتهت إلیه الأحوال فی عهد بنی أمیة أو بنی العباس.و لا یدع مجالا لغلبة الأهواء أو تحکّم المصالح،و عندنا أن الناس عند التحاق النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالرفیق الأعلی و انقطاع الوحی بموته،لم یکونوا جمیعهم علی درجة واحدة من الإیمان،بل کانت المدینة المنورة و الجزیرة العربیة تضمّ أناسا من الذین أسلموا فحسب،و آخرین من المنافقین و ذلک بنص القرآن و شهادة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال اللّه تعالی: إِذْ یَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِینُهُمْ وَ مَنْ یَتَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ (2)و قال سبحانه:

فَتَرَی الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ یُسارِعُونَ فِیهِمْ یَقُولُونَ نَخْشی أَنْ تُصِیبَنا دائِرَةٌ فَعَسَی اللّهُ أَنْ یَأْتِیَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَیُصْبِحُوا عَلی ما أَسَرُّوا فِی أَنْفُسِهِمْ نادِمِینَ (3).

و قال تعالی أیضا: وَ إِذْ یَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً و قال: یَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ یَذْهَبُوا وَ إِنْ یَأْتِ الْأَحْزابُ یَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِی

ص:98


1- (1) علل الشرائع. [1]
2- (2) سورة الأنفال،آیة:49. [2]
3- (3) سورة المائدة،آیة:52. [3]

اَلْأَعْرابِ یَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِکُمْ وَ لَوْ کانُوا فِیکُمْ ما قاتَلُوا إِلاّ قَلِیلاً (1)و قال تعالی:

وَ مِمَّنْ حَوْلَکُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِینَةِ مَرَدُوا عَلَی النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (2)صدق اللّه العلی العظیم.

ثمّ هل تخفی علی ذی عقل دلالة ما نزل به جبرائیل أن یکون إشهار البراءة و إعلان انتهاء العهد مع المشرکین علی ید الإمام علی بن أبی طالب،لأن ذلک یقتضی أن یکون علی ید صاحب الشریعة أو واحد من أهل بیته یمثله (3)لإعلام المشرکین ما ستکون علیه علاقتهم بأهل الإسلام بعد أن تمکنت الدعوة و أصبح لها من القوة ما تستطیع به أن تهاجم المشرکین،و تتحول إلی محاربة وجودهم و عقائدهم؟ و لکن الأهواء و التعصب تجعل من کل حقیقة مثارا للجدل.

فأخذ الأمر بالصفة الدینیة التی تتظافر علیها الأدلة القاطعة و النصوص الصریحة، یجعل مهمات الدعوة قائمة،و لا بد أن یکون لهذا الدین من أئمة یقومون بالأمر، و ینشرون أحکام الدین و یبیّنون أصوله.فمن أولی من عترة النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟و ما قیل فیهم من قبل الشیعة لیس من أنواع الخطابة-کما یقول ابن خلدون-التی هی بضاعة خطباء الحکام أو نکایا المتصوفة،بل هی نصوص معتبرة تصف حال القائمین بالأحکام و الداعین إلی الإسلام و انتهاجهم منهجا یحیی سنة الرسول الأعظم.

قال الإمام علی بن موسی الرضا علیه السّلام:

«إن الإمامة منزلة الأنبیاء و إرث الأوصیاء،إن الإمامة خلافة اللّه و خلافة رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و مقام أمیر المؤمنین علیه السّلام و خلافة الحسن و الحسین علیهم السّلام.

إن الإمام زمام الدین و نظام المسلمین و صلاح الدنیا و عزّ المؤمنین.الإمام أس الإسلام النامی و فرعه السامی.بالإمام تمام الصلاة و الزکاة و الصیام و الحج و الجهاد و توفیر الفیء و الصدقات و إمضاء الحدود و منع الثغور و الأطراف.

ص:99


1- (1) سورة الأحزاب،آیة:20. [1]
2- (2) سورة البراءة،آیة:101.
3- (3) فی ذخائر العقبی للمحب الطبری [2]بإسناده عن أبی هریرة،و فی روایة من حدیث أحمد عن علی أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لما راجعه أبو بکر قال له:«جبریل جاءنی فقال لن یؤدی عنک إلا أنت أو رجل منک». و فی صحیح البخاری:«إلا أنا أو رجل منی».

الإمام یحلل حلال اللّه و یحرم حرامه،و یقیم حدود اللّه،و یذبّ عن دین اللّه، و یدعو إلی سبیل اللّه بالحکمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة».

فیکون السلوک و النسب من جنس الدعوة و صاحب الدعوة.فإذا کان أصحاب الطرق و مرید و بعض الأشخاص قد أرادوا أن یتقربوا من آل البیت،أو یتظاهروا بذلک علی مختلف الأغراض و الدوافع،فلیس إلی تساویهم مع الأئمة الأطهار من سبیل یقرّه المنطق،إلا إذا غلب التعصب و الهوی.فکل غوث أو بدل أو أی مرتبة عندهم لا تسمو إلی أی فرد من أهل بیت النبوة الأئمة الأطهار علیهم السّلام حتی و إن ساقوا أحادیث صحّحوها و حسّنوها و رواها أحمد کحدیث:الإبدال فی هذه الأمة ثلاثون رجلا قلوبهم علی قلب إبراهیم خلیل الرحمن،کلما مات رجل أبدل اللّه مکانه رجلا.

و حدیث:الأبدال فی أمتی ثلاثون بهم تقوم الأرض و بهم تمطرون و بهم تنصرون.أو الذی رواه الطبرانی عن عوف بن مالک و وصفه السیوطی بالحسن:الأبدال فی أهل الشام،و بهم تنصرون،و بهم ترزقون.فإذا قیل أن المقصود بهم یشمل أئمة أهل البیت فإن خصائص الأئمة الأصلیة التی بیّناها هی الأحق.

و لو أعدنا النظر فی قول ابن خلدون لنتناول نقطة أخری من بین النقاط التی تستدعی التوقف و المناقشة،فابن خلدون هکذا شأنه فی کل أمر یتعلق بآل البیت الأطهار،فهذا النص علی قصره یضمّ عدة نقاط نترک مناقشتها للقارئ الکریم، و لضیق ما نخصصه لابن خلدون هنا،و هی فی أغلبها بادیة النصب و العداء،و لنعد إلی قوله:ثم قالوا بترتیب الإبدال بعد هذا القطب کما قاله الشیعة فی النقباء حتی أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف لیجعلوه أصلا لطریقتهم و تخلیهم رفعوه إلی علی رضی اللّه عنه،و هو من هذا المعنی أیضا،و إلا فعلی رضی اللّه عنه لم یختص من بین الصحابة بتخلیة و لا طریقة فی لباس و لا حال،بل کان أبو بکر و عمر رضی اللّه عنهما أزهد الناس بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أکثرهم عبادة...إلی آخر کلامه.

و ابن خلدون علی الانحراف و التحوّل عن أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم اللذین دفعا من سبقه و من اتبعه إلی أن یبعدوا أصول التصوف التی اتفق علیها المتصوفة و أدعوها عن مجالات أهل البیت و مواقع القرب منهم،و مدی صحة ذلک و قربه أو بعده عن الحقیقة من شئون المتصوفة و طوائفهم لا من شأن الشیعة،لأن الشیعة هم أتباع الأصل و أنصار الجوهر.و کما حفلت صفحات المناقب التی یقصد بها المضاهاة أو التأثیر

ص:100

علی مناقب أهل البیت و عظیم منزلتهم،حفل تیار الانحراف فی اهتمامه بما یتعلق بالتصوف و أصوله التی أقیم علیها بما ینجم عن هذا القصد منها:أن أبا بکر لما أنفق ماله فی سبیل اللّه و أعتق عبیده حتی تخلل بالعباءة،نزل جبرائیل و قال:یا محمد:إن ملائکة السموات تخللت بالعباءة إکراما لأبی بکر من اللّه،و قل له:إن ربک علیک راض فهل أنت علیه راض؟فقال أبو بکر:إنی عن ربی راضی (1).

و سری ذلک إلی صفوف المتصوّفة،و سمح لکثیر من أشیاخهم باحتلال المراتب التی یسعون إلیها،مع أن القسم الأعظم-و علی الأخص فی مصر-بقی محتفظا بصورة الأصول التی أقاموا علیها طرقهم،و جعلوا من سیرة أهل البیت الأطهار مصدرا ثابتا،و أقاموا علی الولاء الذی خالطته حالات الطرق التی أشرنا إلیها،و بعض من آثار التیارات الأخری التی ظهرت علی ساحة الإسلام.

کما أن الصوفیة یأخذون بالإمامة لتکون علی معنی الدرجات التی تکوّن نظامهم غیر أنهم یختلفون فی شرط النسب.

و إذا نظرنا إلی نظریاتهم و قواعد سلوکهم،لوجدناهم یستخلصون أغلبها من أحداث تاریخ أهل البیت،إذ لدیهم فی الولایة نظریة ولایة العلم و ولایة الحکم أو خلافة الحکم،و أن الإمام علی اختص بالأولی.

و فی مجال الإمامة یقولون بإمامة الأشباح و الأرواح،و هی ما تقصده فی الحدیث عن السلطان الروحی لأهل البیت و أئمتهم الأطهار،و کیف أقاموا منزلهم فی نفوس شیعتهم و محبیهم علی أساس النصح و الإرشاد و الوعظ و التبلیغ،و عزفوا عن سلطان الحکم،و وجهوا أتباعهم إلی عوالم دینیة و روحیة تجعل من الأحکام و الفرائض دینا و مجتمعا قائما.یروی الشیخ الصدوق رحمه اللّه عن جابر عن أبی جعفر عن أبیه علیه السّلام أنه قال:«إذا کان أول یوم من شهر شوال نادی مناد أیها المؤمنون اغدوا إلی جوائزکم»ثم قال أبو جعفر علیه السّلام:«یا جابر جوائز اللّه عز و جل لیست کجوائز هؤلاء الملوک».ثم قال:«هو یوم الجوائز».

کما یروی عن الإمام الباقر علیه السّلام أیضا:«ما من عید للمسلمین أضحی و لا فطر إلا و هو یجدّد لآل محمد فیه حزن،لأنهم یرون حقهم فی ید غیرهم».

ص:101


1- (1) الذهب الأبریز فی شرح الوجیز.

یقول أبو المعالی محمد سراج الدین الرفاعی عن الإمامة عند الصوفیة:و جعلها إطار الدرجات و المنازل التی لدیهم،و اشتراط النسب الشریف:و هی الإمامة التی عناها حجاجة الصوفیة،و وسموها بالقطبیّة الکبری،و الغوثیة العظمی،و الإمامة الجامعة،و قالوا لصاحب مرتبتها:الغوث،و قطب،و الإمام الجامع،و الإنسان الکامل،و أطبق جماهیر الصوفیة سلفا و خلفا أن الغوث هذا المعنی بهذه الإمامة لا یکون من غیر أهل البیت النبوی أبدا،و قالوا:إن أهل البیت النبوی لمّا فاتتهم إمامة الأشباح التی هی الخلافة الظاهرة،عوّضهم اللّه سبحانه و تعالی ما هو خیر منها، و ذلک إمامة الأرواح،فإمامهم هذا أعنی القطب الغوث یتصرّف فی ذرّات الأکوان، و صاحب خلافة الظاهر ذرة منها...

ثم یورد قول السید إبراهیم أبو إسحاق الأعزب الرفاعی:کلمتان مردودتان عند أهل البساط:کلمة شریف یطلب نیل الإمامة الظاهرة بعد أن انعقدت علی الإمامة الجامعة الروحیة بیعة الأرواح لأهل البیت،و أمضی اللّه تعالی و رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لهم ذلک، و ها هی تنقلب بحمد اللّه تعالی فیهم،و لا تنزع منهم حتی تختم بسیدنا الإمام ولی اللّه المهدی علیه السّلام.و الکلمة الثانیة کلمة رجل قال أن قطبیة الأقطاب یعنی الغوثیة و الإمامة الکبری الروحیة،تکون فی غیر أهل البیت،فإن هذه الکلمة من عثرات ألسن بعض أهل الری لا یلتفت إلیها و لا یعول علیها.نعم إن المحاذاة للغوث ثابتة عند المتمکنین،فقد یحاذی الولی الذی لیس بشریف-بمحض فضل اللّه و توفیقه-مرتبة الغوث الجامع،و لکن لا ینزل تلک المنزلة بعینها أبدا (1)بسبب منزلة أهل البیت فی قلوب الناس،و میل النفوس إلیهم لم یکن من السهل إغفال هذا الشرط،و لکن من السهل ادّعاء النسب و الالتصاق بالشجرة الطاهرة المبارکة النقیة.و ظل الصوفیة یرون آل البیت بمنظار طرقهم و عقائدهم.اقرأ هذا النص الصوفی:

(و ذکر بعضهم أنها تروی-الطرق-من جهة الحسن عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و من جهة عن علی،لأن الحسن کان أول فتحه و مدده من ید النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثم صحب و اقتدی بوالده علیه السّلام کما وقع لکثیر من أهل اللّه تعالی حصل لهم الفتح من یده صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مباشرة، برؤیا منامیة أو اجتماع روحانی،ثم صحبوا بعد ذلک الشیوخ للسلوک و التهذیب،أو انتسبوا إلیهم للأدب مع الشریعة و الرکون إلی الواسطة.

ص:102


1- (1) صحاح الأخبار فی نسب السادة الفاطمیة الأخیار ص 50 و 51.

و ذکر بعضهم أن الحسن ورث القطبیة من والدته سیدة نساء أهل الجنة صلّی اللّه علیها و سلّم،و هی أول الأقطاب علی الإطلاق،و کل هذا صحیح،فإنهم بیت النبوة، و منبع المعارف و الکمالات و الأسرار،و قد ألبسهم النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم جمیعا بکسائه الشریف، و سقاهم بمدده العظیم،و شملهم بنوره الفخیم،فحازوا منه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أعلی مراتب الولایة.

و أقصی ما یصله البشر من درجات العرفان)انتهی.

ثم یطلّ المتصوّفة علی مأساة کربلاء و فاجعة الطف،حیث مسرح ثورة أبی الأحرار الحسین بن علی علیهما السّلام و موضع نهضة سید الشهداء،و صفحات البطولة، و مواقف الجهاد،فیروون بطرقهم أن الإمام الحسین لما انکشف له فی سرّه تدلی الخلافة الروحیة التی هی الغوثیة و الإمامة الجامعة فیه و فی بنیه علی الغالب،استبشر بذلک،و باع فی اللّه نفسه لنیل هذه النعمة المقدسة،فمنّ اللّه علیه بأن جعل فی بیته کبکبة الإمامة،و ختم ببنیه هذا الشأن،علی أن الحجة المنتظر الإمام المهدی علیه السّلام من ذریته الطاهرة و عصابته الزاهرة (1).

فإذا کان النظر فی جوانب عظمة الإمام علی علیه السّلام کان التأثر علی أشده، و راحوا یقتبسون من سیرته،و یؤسسون علی فضائله،و یصفونه بحسب أوصافهم التی قد یلتقون عبرها مع شیعة أهل البیت أو ینفردون بها،کما أنهم لا یطبقون علی رأی و لیسوا کالشیعة فی الوصیة و الإمامة،فمنهم من یجعل الإمام فی الطبقة الأولی من طبقات المتصوفة،و یمضی فی ذلک حسب ترتیب الخلفاء،و منهم من یقول أن الأفضیلة التی یراها السنّة فی الخلفاء لا تستلزم الأعلمیة،و یسوقون أدلة علی ذلک کقصة الخضر مع موسی علیهما السّلام فإن القرآن أثبت أعلمیة الخضر بالحقائق علی موسی،مع أن موسی أفضل منه بلا خلاف بین أحد یعرفونه.و یقولون:و یکفی أن الخضر نبی و موسی علیه السّلام رسول،بل من أفضل الرسل،و لا یوجد من یقول بأن هناک نبی أفضل من بعض أولی العزم من الرسل علیهم السّلام.

و فی الإمام علی یقولون:

بأنه مدینة العلوم و المواهب،ولی المتقین و إمام العادلین،أقدمهم إجابة و إیمانا،و أقومهم قضیة و إیقانا،المنبئ عن حقائق التوحید،المشیر إلی لوامع بوارق

ص:103


1- (1) المصدر نفسه،ص 50.

علم التفرید،ذو القلب العقول و اللسان السئول.و الآذان الواعیة و العهود الوافیة.

ختم اللّه به الخلافة کما ختم بمحمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم النبوّة،الأخیشن فی دین اللّه،الممسوس فی ذات اللّه.و قد قیل:التصوف مرافقة المودود و مصارمة المعهود.قال حذیفة:قالوا یا رسول اللّه:أ لا تستخلف علینا؟قال:«إن تولوا علیا و ما أراکم فاعلین تجدوه هادیا مهدیا».و سئل المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عنه فقال:«قسّمت الحکمة عشرة أجزاء،فأعطی تسعة و الناس واحدا»و قدم علیه یوما فقال:«مرحبا بسید المسلمین و إمام المتقین.إن اللّه أمرنی أن أدنیک و أعلمک لتعی»و قال:«من کنت مولاه فعلی مولاه،اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه»و قال:«علی منی و أنا منه»و قال:«أنا مدینة العلم و علی بابها» و قال:«لا یحبه إلا مؤمن و لا یبغضه إلا منافق».و قال:«من آذی علیا فقد أذانی، و من سبّه فقد سبّنی،و من أبغضه فقد أبغضنی،و من أحبّه فقد أحبّنی»و قال:«علی مع القرآن و القرآن مع علی»و قال ابن عباس رضی اللّه عنه:ما نزل فی أحد من کتاب اللّه ما نزل فی علی رضی اللّه عنه،و کان إذا غضب المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لم یجسر أحد أن یکلّمه إلا علی.و قال:لعلی ثمانی عشرة منقبة ما کانت لأحد من هذه الأمة.و قال یوم خیبر:«لأعطینّ الرایة رجلا یحبّ اللّه و رسوله،و یحبه اللّه و رسوله».و جعل حبه علامة الإیمان و بغضه إمارة النفاق.و قال الإمام أحمد:ما ورد لأحد من الصحابة من الفضائل ما ورد لعلی رضی اللّه عنه.رواه الحاکم و غیره،و کان رضی اللّه عنه الانقیاد و الاستسلام شأنه،و التبرّی من الحول و القوة مکانه.و قد قیل:التصوف إسلام الغیوب إلی مقلب القلوب،و إذا أردت أن تعرف منزلته من المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فتأمل صنیعه فی المؤاخاة بین الصحابة،جعل یضم الشکل إلی الشکل،و المثل إلی المثل، فیؤلف بینهما إلی أن آخا بین أبی بکر و عمر رضی اللّه عنهما،و ادّخر علیا کرم اللّه وجهه لنفسه،و اختصه بأخوّته،و ناهیک بها من فضیلة،و أعظم بها من شرف (1).

ثم یستمدّون من سیرته ما یؤید المقالات الصوفیة،و من أقوال أئمة المسلمین فیقول المناوی:و قد شهد له بکمال الزهد الإمام الشافعی رضی اللّه عنه.قیل له:ما نفّر الناس عن علی رضی اللّه عنه إلا أنه کان لا یبالی بأحد.فقال الشافعی رضی اللّه عنه:کان عظیما فی الزهد،و الزاهد لا یبالی بأحد،و کان بذات اللّه علیما،و عرفان

ص:104


1- (1) الکواکب الدریة ص 38 و 39 الجزء الأول. [1]

اللّه فی صدره عظیما.و قد قیل:التصوف البروز من الاحتجاب إلی رفع الحجاب.

و أعیان رجالهم و کبارهم المشهور عندهم أن طریقتهم تتصل بالإمام أمیر المؤمنین علیه السّلام یقول الوتری:نعم،إن خرقة الصوفیة رضی اللّه عنهم تتصل بالخلیفة الرابع أسد الملاحم و المعامع،شیخ أئمة الآل،فحل الرجال،صهر رسول الثقلین،والد الریحانتین،إمام المشارق و المغارب،أمیر المؤمنین أسد اللّه سیدنا علی بن أبی طالب کرم اللّه وجهه و رضی اللّه تعالی عنه،و قد ندر اتصال خرقة بغیره، و کلهم علی هدی یتصلون بسید المخلوقین حبیب رب العالمین صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و لا یلتفت لما تقوّله البعض فی شأن خرقة الصوفیة،فإن ذلک قد نشأ عن هفوات لا تعتبر،و لا یبنی علیها الشک بعد الیقین بصحة الخبر (1).

ثم یحسبون الأئمة من آل البیت صلوات اللّه علیهم أجمعین أعیانا لخرقتهم، فیقول الوتری:و إن أعیان أهل الخرقة ساداتنا أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أعیانهم أئمة الآل الأعلام علیهم الرضوان و السلام،و هم:السبط الجلیل القدر،الوفیر المنن أمیر المؤمنین الإمام أبو محمد الحسن،و السبط العظیم المقام،قرة عین سید الکونین أمیر المؤمنین الإمام أبو عبد اللّه الحسین،و سیدنا الإمام علی زین العابدین،و سیدنا الإمام محمد الباقر،و سیدنا الإمام جعفر الصادق،و سیدنا الإمام علی الهادی،و سیدنا الإمام الحسن العسکری،و سیدنا الإمام الخلف الصالح قرة عین الأئمة الهادین الإمام محمد المهدی سلام اللّه علیه و علیهم أجمعین،فهؤلاء السادات الأعیان،أحوالهم مذکورة، و أعلامهم منشورة،و تراجمهم أشهر من أن ینبّه علیها،و فضائلهم أفعمت بها الدفاتر، و جفّت لها المحابر،و هم سادات السادات،و أعیان الأولیاء،الذین خرق اللّه لهم العادات.

ما ذا یقول المادحون بوصفهم و هم السراة خلائف المختار

ضربت قباب فخارهم و سمّوهم بین البتول الطهر و الکرّار

للّه جعفر طاب من أنسابهم عقدت علیه سلاسل الأقمار

(2)

ص:105


1- (1) أحمد بن محمد الوتری،روضة الناظرین و خلاصة مناقب الصالحین.
2- (2) المصدر نفسه.

و لا نطیل فی تفاصیل مقالات الصوفیین أو تعریفاتهم،و نقتصر علی أمرین نراهما المدخل الذی جاء منه الصوفیة إلی ریاض أهل البیت فی سیرهم،و راحوا یعقدون أکالیل معتقداتهم منها.

الأول:الحب

:

و جعل مدار الحب إلهیا،یصبغ علاقة المسلم بربه،و هی فی أشکالها تقوم علی فکرة الإمام علی علیه السّلام و تحدیده ماهیة العبادة أن تکون عبادة أحرار،لا طمعا فی ثواب أو خوفا من عقاب،و علیها أسسوا ذلک،و لا تبعد بأی حال عن ثواب أو خوفا من عقاب،و علیها أسوسا ذلک،و لا تبعد بأی حال عن أصلها الحقیقی مهما تعدّدت الأقوال.

یقول القشیری:من عرف اللّه عن طریق المحبة دون خوف هلک بالبسط و الإدلال،و من عرفه من طریق الخوف من غیر محبّة انقطع عنه بالبعد،و من عرف اللّه من طریق المحبة و الخوف أحبه اللّه فقرّبه و علّمه و مکّنه.

أما أبو طالب المکی فیقول:و کل محب للّه خائف،لیس کل خائف محبا.

و ربما کانت المحبة ثوابا للخوف و مزیدا له،و هذا فی مقام رب العالمین.و ربما کان الخوف مزیدا للمحبة و ثوابها،و هذا فی مقام العالمین.فمن کانت المحبة مزیدة بعد الخوف فهو من المقربین.و من کان الخوف مزید محبته،فهذا من الأبرار المحبین و هم أصحاب الیمین (1).

و أری من المستحسن هنا أن نذکر شیئا من نصوص التراث الشیعی القائم علی أفکار أئمتهم صلوات اللّه علیهم و مواعظهم،بعد الإشارة إلی تعلق هذا المدخل بالجانب الإشراقی الذی أغناه الرئیس ابن سینا فی الإشارات:

یقول الشیخ الجلیل محمد مهدی النراقی فی«جامع السعادات»و تحت فصل المنکرین لحب اللّه:(قد ظهر مما ذکر ثبوت حقیقة المحبة و لوازمها من:الشوق و الأنس للّه تعالی،و أنه المستحقّ للحب دون غیره.و بذلک ظهر فساد زعم من أنکر إمکان حصول محبة العبد للّه تعالی و قال:لا معنی لها إلا المواظبة علی طاعة اللّه،

ص:106


1- (1) قوت القلوب،الجزء الثانی [1]ص 58 و 59.

و أما حقیقة المحبة فمحال إلا مع الجنس و المثل.و لما أنکروا المحبة أنکروا الأنس و الشوق و لذة المناجاة و سائر لوازم الحب و توابعه،و یدل علی فساد هذا القول، مضافا إلی ما ذکر،إجماع الأمة علی کون الحب للّه و لرسوله فرضا،و ما ورد فی الآیات و الأخبار و الآثار من الأمر به و المدح علیه و اتصاف الأنبیاء و الأولیاء به).

انتهی.

قال الإمام الصادق علیه السّلام:«حب اللّه،إذا أضاء علی سرّ عبد أخلاه عن کل شاغل و کل ذکر سوی اللّه،و المحب أخلص الناس سرّا للّه،و أصدقهم قولا،و أوفاهم عهدا،و أزکاهم عملا،و أصفاهم ذکرا،و أعبدهم نفسا،تتباهی الملائکة عند مناجاته،و تفتخر برؤیته،و به یعمر اللّه بلاده،و بکرامته یکرم اللّه عباده،و یعطیهم إذا سألوه بحقه،و یدفع عنهم البلایا برحمته،و لو علم الخلق ما محله عند اللّه و منزلته لدیه،ما تقربوا إلی اللّه إلا بتراب قدمیه».

و قوله علیه السّلام یعطینا صورة واضحة عن منهجه فی الدعوة إلی التمسک بالدین، و الانصراف لمرضاة اللّه،فی وسط تلک المعترکات و المحن التی تشهدها الأمة علی أیدی المتسلطین،الذین یتخذون من دین اللّه ستارا لأغراضهم و أطماعهم،فاختط لنفسه و لمریدیه طریق الإخلاص للّه،و التقرّب منه،الذی یبعث فی النفوس الطمأنینة.و یحیی الأمل بعد تلک النکبات و الفواجع التی ألمّت بأهل البیت الکرام صلوات اللّه علیهم،و امتدت إلی المؤمنین من أتباعهم.

و یوضّح الإمام الصادق علیه السّلام أصول اتجاهه الروحی،و یجعل شیعته و مریدیه علی معرفة و بیّنة من خصائص السلوک الذی یدعوهم إلیه،و دقائق المنهج الذی یحملهم علیه،فیقول علیه السّلام:«نجوی العارفین تدور علی ثلاثة أصول:الخوف و الرجاء و الحب.فالخوف فرع العلم،و الرجاء فرع الیقین،و الحب فرع المعرفة.

فدلیل الخوف الهرب،و دلیل الرجاء الطلب،و دلیل الحب إیثار المحبوب علی ما سواه.فإذا تحقق العلم فی الصدر خاف،و إذا صح الخوف هرب،و إذا هرب نجا، و إذا أشرق نور الیقین فی القلب شاهد الفضل،و إذا تمکن من رؤیة الفضل رجا،و إذا وجد حلاوة الرجاء طلب،و إذا وفّق للطلب وجد،و إذا تجلی ضیاء المعرفة فی الفؤاد هاج ریح المحبة،و إذا هاج ریح المحبة استأنس فی ظلال المحبوب علی ما سواه، و باشر أوامره و اجتنب نواهیه،و اختارهما علی کل شیء غیرهما،فإذا استقام علی

ص:107

بساط الأنس بالمحبوب مع أداء أوامره و اجتناب نواهیه وصل إلی روح المناجاة و القرب.و مثال هذه الأصول الثلاثة کالحرم و المسجد و الکعبة،فمن دخل الحرم أمن من الخلق،و من دخل المسجد أمنت جوارحه أن یستعملها فی المعصیة،و من دخل الکعبة أمن قلبه من أن یشغل بغیر ذکر اللّه» (1).

کان الصادق علیه السّلام فی مرکزه الدینی و مکانته العلمیة،یتصدی لمهمات القیادة الروحیة،و یضع لأصحابه الإمارات التی یمیزون بها فی خضم ذلک المعترک.من أقبل علی نهجه بإخلاص،و یطلب من أصحاب البحث عن الصفات بطریق العمل و الالتزام بین صفوف شیعته فیقول علیه السّلام:

«امتحنوا شیعتنا عند ثلاث:عند مواقیت الصلوات کیف محافظتهم علیها، و عند أسرارهم کیف حفظهم لها من عدوّنا،و إلی أموالهم کیف مواساتهم لإخوانهم بها».

الأمر الثانی: الزهد

الذی راح الصوفیة ینهلون منه ما یشاؤون،و یضعونه فی أوعیة خاصة بهم من شأنها أن تحوّل طعم المحتوی،و تغیّر لونه هو:الزهد.

و للعلماء فی حقیقة الزهد اختلاف کبیر،فکیف إذا کان الأمر یتعلق بالخرقة و الطریقة،فلا بد أن یؤخذ الظاهر الذی یعضد الأقوال أو یدعّم الأسس.و نحن هنا نعرض القلیل القلیل مما یتحاشاه الذین یسوؤهم ذکر الحقیقة علی حالها.

فالإمام علی أمیر المؤمنین علیه السّلام فی حیاته الشریفة و سیرته الطاهرة،قد أخذ منذ آلت إلیه الخلافة و انتهی إلیه الحکم بجعل فترة إمامته فترة تتولی معالجة آثار التطورات الماضیة،و تتجه إلی المستقبل لأحکام الصلة بین عهد الرسالة و حیاة النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بإشراقهما و نورهما،و بین أسس سیاسته،حتی تهدأ النفوس و تستقر علی الهدی،و لو لا فترة حکمه و تطبیقات إمامته لکانت عودة الجاهلیة و أحقاد المشرکین بأعنف مما کانت علیه،و لما راعت أحدا من أهل الإسلام،و لذلک فإن الإمام علیا فی سلوکه لم یدع إلی ابتعاد عن الحیاة،و لا إلی انغلاق.و إنما هو المکلف بحفظ السنّة علی أصولها،و إبقاء الشریعة علی مقاصدها.

ص:108


1- (1) الاثنی عشریة [1]فی المواعظ العددیة للعیناثی ص 72.

عن أنس قال:جاء ثلاثة رهط إلی أزواج النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یسألون عن عبادة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فلما أخبروا بها کأنهم تقالوها،فقالوا:أین نحن من النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر؟فقال أحدهم:أمّا أنا فأصلی اللیل أبدا.و قال الآخر:

أنا أصوم النهار و لا أفطر.و قال الآخر:أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.فجاء النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقال:«أنتم الذین قلتم کذا و کذا؟أما و اللّه إنی لأخشاکم للّه،و أتقاکم له، و لکنّی أصوم و أفطر،و أصلی و أرقد،و أتزوّج النساء.فمن رغب عن سنّتی فلیس منی».

و ما یبنی علیه من مظاهر سیرة الإمام علی علیه السّلام لدی الصوفیة،و خاصة فی القرن الثانی الهجری،و بدایات اتساع طرقها و شیوع تعالیمها،یغفل المقاصد الحقیقیة التی تکمن فی کل ناحیة من حیاة الإمام علی علیه السّلام و تتعلق بما ینسجم مع نزعتها.

فإذا قیل:إن الإمام علیا کان یلبس إزارا خلقا مرقوعا،فذلک نصف الحقیقة،لأن تصرف الإمام و جوانب سیرته،تظهر فلسفتها فی أقواله.فعند ما قیل له فی ذلک الإزار،قال علیه السّلام:«یخشع له القلب،و تذلّ به النفس،و یقتدی به المؤمنون».

و قوله علیه السّلام:«...إن اللّه تعالی فرض علی أئمة الحقّ أن یقدروا أنفسهم بضعفة الناس کیلا یتبیغ بالفقیر فقره»أی یجب علی الإمام العادل أن یشبّه نفسه فی لباسه و طعامه بضعفة الناس،لکیلا یهلک الفقراء من الناس،فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلک الهیئة و بذلک المطعم،کان ادعی لهم إلی سلوان لذّات الدنیا،و الصبر عن شهوات النفوس.

و من أحکام القرآن یتخذ الإمام علیه السّلام سیاسته الاجتماعیة و الاقتصادیة و یقول:

«إن اللّه سبحانه فرض فی أموال الأغنیاء أقوات الفقراء،فما جاع فقیر،إلا بما متّع به غنی،و اللّه تعالی سائلهم عن ذلک».

و فی ثنایا أقواله المأثورة،نجد تناوله للفقر من نواحی عدیدة،أولها:الناحیة الدینیة،ثم وجوده الاجتماعی،و یجعل علیه السّلام من الفقر إلی اللّه أصلا،ثم یعرض جوانب الفقر الأخری،و فی نهجه ما یغنی و ما لا یحاط به بمثل هذا العرض الموجز.

و لکن من المهم القول،أن حیاة الإمام علی من زاویة التصوف،ینظر إلیها بأکثر من زاویة،أهمها جمیعا ما یأخذ بالظاهر و یتشبث بإبقاء الصفات و الصلة إلی الحد الذی یضع علی لسانه تعریفا للتصوف،لیس فیه أی صفة أو علامة من صفات أو علامات

ص:109

منهج الإمام فی بلاغته و أفکاره،و إنما هی من صفات المقالات الصوفیة.فیروی علی لسانه علیه السّلام:التصوف ثلاثة أحرف:الصاد صبر و صدق و صفاء،و الواو ودّ و ودّ و ودّ،و الفاء فرد و فقر و فناء.

و الزاویة الثانیة التی ینظر منها،هی زاویة المتخصصین و أصحاب التجربة المقرونة بالنظر،کما هو الحال عند الرئیس أبی علی بن سینا فی کتاب الإشارات الذی ینقل عنه ابن أبی الحدید.قال أبو علی فی مقامات العارفین:العارفون قد یختلفون فی الهمم بحسب ما یختلف فیهم من الخواطر،علی حسب ما یختلف عندهم من دواعی العبر،فربما استوی عند العارف القشف و الترف،بل ربما آثر القشف،و کذلک ربما استوی عنده التفل و العطر،بل ربما آثر التفل،و ذلک عند ما یکون الهاجس بباله استحقار ما عدا الحق،و ربما صغا إلی الزینة،و أحب من کل شیء عقیلته،و کره الخداج و السقط،و ذلک عند ما یعتبر عادته من صحبته الأحوال الطاهرة،فهو یرتاد إلیها فی کل شیء،لأنه مزیة حظوة من العنایة الأولی،و أقرب إلی أن یکون من قبیل ما عکف علیه بهواه،و قد یختلف هذا فی عارفین،و قد یختلف فی عارف بحسب وقتین.انتهی.

و ینقل الصوفیة المتأخرون قول العارف باللّه المعروف بالباقی باللّه شیخ السادة النقشبندیة فی کتابه(المثوی)عن جعله تکنیة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم للإمام علی علیه السّلام بأبی تراب-و قصتها معروفة-أصلا یتفق مع خواطرهم و مقاصدهم و معناه:أن التراب إشارة إلی وجود أهل التوحید و الفناء،فیکون حاصل معنی أبی تراب:أنه علیه السّلام هو الأصل المقتدی به فی هذا المعنی،و المرجع لطائفة الفقراء أرباب الفناء الکمّل.

و من جهة أخری یحملون معانی الأحادیث و الأخبار النبویة فی الإمام علی علیه السّلام علی مقاصدهم و طبیعة نهجهم،و هی أحادیث رواها و صحّحها کبار المحدثین من أهل السنّة،و جاءت فی مصنفات علمائهم کمسند الإمام أحمد و منها:

«یا علی أن اللّه قد زیّنک بزینة لم یزیّن العباد بزینة أحب إلیه منها،هی زینة الأبرار عند اللّه تعالی فی الدنیا،جعلک لا ترزأ من الدنیا شیئا،و لا ترزأ الدنیا منک شیئا.و وهب لک حب المساکین،فجعلک ترضی بهم أتباعا و یرضون بک إماما،فطوبی لمن أحبّک و صدّق فیک،و ویل لمن أبغضک و کذّب فیک».

و هی نبوءة کشفت عمّا سیقع من أمر،و کیف سیکون الحال بین جنده و محبیه

ص:110

و هم یستمیتون من أجل صون الرسالة و حفظ مبادئ العدل فی مواجهة البغی و الأثرة و الجاهلیة الجدیدة التی تتخذ من الإسلام ستارا و هی ستارا و هی تشید حکمها و ملکها علی الأثرة و الاستغلال،و النهب و القتل.

و إذا عدنا إلی سیرة الإمام الصادق علیه السّلام وجدنا-أن منهجها الفکری و الدینی الذی شدّ إلیه الناس،و جذب نحوه رجالات الأقطار و علماءها،فتتلمذوا علی یدیه، و تخرّجوا من مدرسته،یتّسم ببناء دقیق،لأنه یتجه إلی بناء المسلم من الداخل، فیتکلم علیه السّلام بألفاظ و مفردات توضّح القصد،کما تسهّل التّأثیر و الفعل.و فی مجال الإیضاح و التفسیر،یتحدث أبو عبد اللّه الصادق علیه السّلام بصور و بیان یجسّد المطلوب و یجلو ما یخفی علی الآخرین.فهو علیه السّلام فی خضم المعترک السیاسی و المآسی الکبری،یتجه إلی داخل النفوس و ما نجم عن معاناة الرعیة بأشکالها المختلفة، و یهتم علیه السّلام بطهارة الأرواح و استقامة السلوک.

قال الإمام الصادق:

«المرضی ثلاثة،عن النفس،و عن القلب،و عن الروح.فمرض المنافق عن النفس،و مرض المؤمن عن القلب،و مرض العارف عن الروح.فدواء المنافق دار جهنم،و دواء المؤمن معرفته و حبّه،و دواء العارف لقاؤه و قربه» (1).

و قوله علیه السّلام:

«من خاف اللّه أخاف اللّه منه کل شیء،و من لم یخفف اللّه أخافه اللّه من کل شیء» (2)یقصد به أن یعلّم الناس أن قوة الحکام الظلمة لا تطال المؤمنین،و أن اللجوء إلی اللّه هو الحصانة و المنجی من کل متسلّط جبّار.و قد اخترنا هذین القولین، لنخلص إلی أن الإمام الصادق علیه السّلام فی حیاته قد صبّ جهوده علی أمرین،الأول:

النضج و الإرشاد و وعظ الناس و الدعوة لدین الإسلام.و الثانی:التأکید علی السلطان الروحی و العبودیة للّه تعالی التی تجعل من أشکال اضطهاد الرعیة و ألوان عنف المتجبّرین و قوتهم امتحانا زائلا و مأزقا طارئا،و أن المواجهة الدامیة بعد التجارب التی

ص:111


1- (1) الاثنی عشریة [1]فی المواعظ العددیة.
2- (2) أصول الکافی.

مرّت بها الأمة و روّع بها الناس،لا تؤدی فی مثل تلک الظروف التی یعیشها إلاّ إلی الهلاک علی ید الحکام،لذلک سلک مع العباسیین مسلکا یجنّب أهل بیته و شیعته مخاطر سلطانهم.

فلمّا اتخذ رأیه فی عدم لبس السواد ذریعة من قبل الأعداء،أتقاهم بما یزیل التهمة و یحفظ حیاته،فأخذ یلبس جبة سوداء.و روی أنه کان یلبس خفا أسودا مبطنا بسواد و فتق مرة ناحیة منه و قال:«أما إن قطنه أسود»و أخرج منه قطن أسود،ثم قال علیه السّلام:«بیّض قلبک و ألبس ما شئت» (1).

أما إذا أضفنا الأقوال الأخری للإمام الصادق،فإن الصوفیة لا یکتفون بالتأسیس علیها أحوالا لهم و مقامات،بل إن ما نراه من أحداث طبیعیة تحفل بها سیرة الأئمة الطاهرین من أهل البیت.یرون فیها کرامات لتعزیز أقوالهم بأصحابهم،و ادّعاء الأعمال الجلیلة لهم.

قال الإمام الصادق علیه السّلام:«من أدخل قلبه صافی حب اللّه شغله عمّا سواه» (2).

و هو قول من مصادر الصوفیة لا یخرج عن مضامین مدرسة الإمام الصادق أو أقواله،إلا أن ما یجعلونه أساسا للمقامات و الأحوال عندهم،و ما یصرفون إلیه کلام الإمام علیه السّلام یسیء کثیرا إلی الموقف الدینی و الفکری الذی اقتضته مصلحة الأمة، و الذی اختطّه الإمام الصادق،و أطلقنا علیه«الدعوة الصامتة»و یظهر أن الصوفیة تنسج علی نزعتها و تحیک علی هواها المقاصد و المعانی،لأن واقع الإمام الصادق و حرکته الدائبة و نشاطه المعطاء،یفنّد الغرض الذی یختفی وراء القول بالتخلی أو الخمول.إذ لا یهدأ بحال فی أذهان الشیعة قول الإمام الصادق:«کونوا لنا دعاة صامتین»و اقتران الدعوة بالصمت یشیر إلی منهج الصادق فی الابتعاد عن مواجهة الحکام بما یحمی دماء الناس و أعراضهم و وجودهم،فیما أوّلوا بعض أقواله علیه السّلام تأویلات اعتبروها أساسا لأوضاع قادتهم و هو:«عزّت السلامة حتی لقد خفی مطلبها،فإن تک فی شیء فیوشک أن تکون فی الخمول،فإن لم توجد فیه ففی التخلی،و لیس کالخمول،فإن

ص:112


1- (1) علل الشرائع للشیخ الصدوق.
2- (2) الکواکب الدریة. [1]

لم تکن فیه ففی الصمت،فإن لم تکن فیه ففی کلام السلف الصالح،و السعید من وجد فی نفسه خلوة (1).

و هذا من النصوص التی لعب الخیال فی إیجادها،و کانت نتیجة الغرض الذی.

انطوت علیه نفوس قائلیها،فجعلوا من أصل الفکرة فی توخّی السلامة وسط مجمع مائج بالأهوال و المحن و الابتلاءات،و مقتضیات الإمام و مسئولیاته تجاه ربه و دینه منوالا لأفکارهم،و تنادی ألفاظ القول علی بعدها عن البناء اللغوی و التوجه الوعظی الذی تمتاز به أقوال الإمام الصادق علیه السّلام.و المقارنة بالأصل تظهر الفارق،فقد قال علیه السّلام فی السلامة:«أطلب السلامة أینما کنت،و فی أی حال کنت لدینک و لقلبک و عواقب أمورک فی اللّه،فلیس من طلبها وجدها...و السلامة قد عزّت فی الخلق و فی کل عصر،خاصة هذا الزمان و سبیل وجودها فی احتمال جفاة الخلق و أذیتهم،و الصبر عن الرزایا و حقیقة الموت،و الفرار من أشیاء تلزمک رعایتها، و القناعة بالأقل من المیسور،فإن لم یکن؛فالعزیمة،فإن لم تقدر فالصمت،و لیس کالعزیمة،فإن لم تستطع فالکلام ینفعک و لا یضرّک،و لیس کالصمت،فإن لم تجد السبیل إلیه فالانقلاب و السفر من بلد إلی بلد،و طرح النفس فی بواری التلف بسرّ صادق و قلب خاشع و بدن صابر،قال اللّه عز و جل: إِنَّ الَّذِینَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِیمَ کُنْتُمْ قالُوا کُنّا مُسْتَضْعَفِینَ فِی الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَکُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِیها .

و انتهز مقسم عباد اللّه الصالحین،و لا تتنافس الأشکال،و لا تدّع فی شیء و إن أحاط به علمک و تحققت به معرفتک،و لا تکشف به سرّک إلاّ علی أشرف منک فی الدین،و أنی تجد المشرف،فإذا فعلت ذلک أصبت السلامة».

و من أقواله علیه السّلام:

«ثلاثة أشیاء لا ینبغی للعاقل أن ینساهنّ علی کل حال:فناء الدنیا،و تصرّف الأحوال،و الآفات التی لا أمان لها» (2).

فهل کانت مثل هذه الأقوال دافعا لأصحابه علی اعتزال الدنیا و ترک مهمات الحیاة،أم أن الرجل منهم کان یدعو أهل زمانه و یتصدّی لنشر تعالیم دینه و هو محمّل

ص:113


1- (1) الکواکب الدریة 95/1 و [1]صفة الصفوت.
2- (2) تحف العقول. [2]

بمهمات الإرشاد و الهدایة،مقبل علی الدنیا لأنها تربة یزرع بها الإنسان الخیر بتمسکه بدینه،و نصرة عقیدة الإسلام،و تولی أهل بیت الرسالة الذین خصّهم اللّه بالإمامة، فجعلهم ینابیع هدی و تقوی،یغذوهم بالعلم،و یمدّهم بالسداد و التوفیق.

قال الإمام الصادق علیه السّلام:«إنّ اللّه تبارک و تعالی أعطی محمدا صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شرائع نوح و إبراهیم و موسی و عیسی:التوحید و الأخلاص و خلع الأنداد،و الفطرة الحنیفیة السمحة لا رهبانیة و لا سیاحة،أحلّ فیها الطیبات،و حرّم فیها الخبائث،و وضع عنهم إصرهم و الأغلال التی کانت علیهم،ثم افترض علیه فیها الصلاة و الزکاة و الصیام و الحج و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر و الحلال و الحرام و المواریث و الحدود و الفرائض و الجهاد فی سبیل اللّه و زاده الوضوء» (1).

و ما تراه الشیعة من خصائص أهل البیت لمنزلتهم الدینیة و مکانتهم الروحیة التی یعزّهم اللّه من أجلها،و یکلؤهم لحمایة دینه،یدرجه المتصوّفة فی باب الکرامات الصوفیة،فمثلا:موقف المنصور العباسی منه،و مسلک الإمام الصادق علیه السّلام فی اتقاء شره،و ننقله هنا حسب مصنفات رجالهم:عند ما حجّ المنصور سنة سبع و مائة، قدم المدینة،فقال للربیع:ابعث إلی جعفر بن محمد من یأتینا به متعبا،قتلنی اللّه إن لم أقتله.فتغافل الربیع عنه و تناساه،فأعاد علیه فی الیوم الثانی و أغلظ فی القول، فأرسل إلیه الربیع.فلما حضر،قال له الربیع:یا أبا عبد اللّه،أذکر اللّه تعالی فإنه قد أرسل لک من لا یدفع شرّه إلا اللّه،و إنی أتخوّف علیک.فقال الإمام:«لا حول و لا قوة إلا باللّه العظیم».و لمّا دخل علی المنصور،أغلظ له فی القول و قال:یا عدو اللّه، اتخذک أهل العراق إماما یجبون إلیک زکاة أموالهم،و تلحد فی سلطانی،و تتبع لی الغوائل،قتلنی اللّه إن لم أقتلک.و أحضر الرجل الذی سعی به إلی المنصور،فقال له المنصور:أ حقا ما حکیت لی عن جعفر؟فقال:نعم یا أمیر المؤمنین.فقال الإمام الصادق:«استحلفه»فبادر الرجل و قال:و اللّه العظیم الذی لا إله إلا هو عالم الغیب و الشهادة الواحد الأحد،و أخذ یعدّد فی صفات اللّه تعالی.فقال الإمام:«یحلف بما أستحلفه»فقال:حلّفه بما تختار،فقال الإمام:«قل:برئت من حول اللّه و قوّته، و التجأت إلی حولی و قوتی لقد فعل جعفر کذا و کذا».فامتنع الرجل،فنظر إلیه

ص:114


1- (1) الفصول المهمة للحر العاملی،باب إباحة الطیبات. [1]

المنصور نظرة منکرة.فحلف بها.فما کان بأسرع من أن ضرب برجله الأرض و خرّ میتا.فلما خرج الإمام لحقه الربیع و قال له:یا أبا عبد اللّه رأیتک تحرّک شفتیک، و کلما حرکتها سکن غضب المنصور،بأی شیء کنت تحرکها؟قال:«بدعاء جدّی الحسین:یا عدّتی عند شدّتی،و یا غوثی عند کربتی،احرسنی بعینک التی لا تنام، و اکنفنی برکنک الذی لا یرام،و ارحمنی بقدرتک علیّ،فلا أهلک و أنت رجائی،اللهم إنک أکبر و أجلّ و أقدر مما أخاف و أحذر،اللهم بک أدرأ فی نحره،و أستعیذ من شرّه، إنک علی کل شیء قدیر» (1).و یضیف المناوی إلی هذه الحادثة و هو یقول:و له کرامات کثیرة و مکاشفات شهیرة،منها ما أخرجه الطبری من طریق ابن وهب قال:

سمعت اللیث بن سعد یقول:حججت سنة ثلاث عشرة و مائة،فلما صلیت العصر، رقیت أبا قبیس،فإذا رجل جالس یدعو فقال:«یا رب یا رب»حتی انقطع نفسه،ثم قال:«یا حی یا حی»حتی انقطع نفسه،ثم قال«إلهی إنی أشتهی العنب فأطعمنیه،و إن بردی قد خلق فاکسنی»قال اللیث رضی اللّه عنه:فما تم کلامه حتی نظرت إلی سلّة مملوءة عنبا و لیس علی الأرض یومئذ عنب،و إذا ببردین لم أر مثلهما،فأراد الأکل، فقلت:أنا شریکک لأنک دعوت و أنا أؤمن.قال«کل و لا تخبئ و لا تدّخر»ثم دفع إلیّ أحد البردین،فقلت:لی عنه غنی،فأتزر بأحدهما و ارتدی بالآخر،ثم أخذ الخلقین و نزل،فلقیه رجل فقال:أکسنی یا ابن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فدفعهما إلیه.فقلت:من هذا؟ فقال:جعفر الصادق (2).و هی لا شک من وحی الخیال الذی یرجون به أضفاء الواقعیة علی ما ینسبونه إلی أولیائهم و رجالهم،لأن الحال الذی تصوّر الروایة فیه الإمام الصادق بعید عن شواهد حاله المعروفة،أو رغباته التی تدور فی طاعة اللّه و مناجاته ربه فیما یهمّ المسلمین و صالح الأمة.فإذا ما قارنّا بین الأحداث و هی تروی بطرقنا، و صورتها و هی تفرّغ فی قوالب خاصة بهم،نجد أن الأمر فیما یتعلق بالإمام الصادق أو غیره من أئمتنا،یمثل لجوء الأئمة إلی اللّه فیما یهمّهم،و لواذهم بقوته و عظمته.فلما قتل داود بن علی والی المدینة المعلی بن خنیس مولی الإمام الصادق الأثیر عنده، هلک داود تلک اللیلة،و أن الإمام الصادق قال فی دعائه:«اللهم إنی أسألک بنورک

ص:115


1- (1) الشیخ الشبلخی،نور الأبصار [1]فی مناقب آل بیت النبی المختار، [2]بتصرف بسیط.و انظر الکواکب الدریة. [3]
2- (2) الکواکب الدریة. [4]

الذی لا یطفی،و بعزائمک التی لا تخفی،و بعزّک الذی لا ینقضی،و بنعمک التی لا تحصی،و بسلطانک الذی کففت به فرعون عن موسی»و دعا علی داود حتی سمعوه یقول:«الساعة الساعة»فما استتم دعاءه حتی سمعت الصیحة فی دار داود (1).

و قد قلنا فی الجزء الثانی أن المنصور اقتضت سیاسته عند اشتداد ملکه بأن یقضی علی الإمام الصادق،و اتخذ شتی الوسائل فی ذلک،فکم مرة یحضره للفتک به،و کانت سلامته فی تلک المواقف أعجوبة،لأن المنصور لا یتورّع عن إراقة الدماء،و لکن عنایة اللّه و عینه التی کانت ترعی الإمام دفعت عنه کیده فی کل مرة کان المنصور ینوی بها الفتک بالإمام الصادق.

یحدثنا علی بن مسیرة،قال:لما قدم أبو عبد اللّه علی أبی جعفر،أقام أبو جعفر مولی له علی رأسه،و قال له:إذا دخل جعفر بن محمد فأضرب عنقه.فلما دخل أبو عبد اللّه نظر إلی أبی جعفر و أسرّ شیئا فی نفسه ثم أظهره:«یا من یکفی خلقه کلهم و لا یکفیه أحد،اکفنی شرّ عبد اللّه بن علی»فسلّمه اللّه من شرّه و استجاب دعاءه (2).

و خلاصة القول،أن الإمام الصادق لم یکن یری التصوّف أو یقصد تأیید ما ظهر من أفکاره فی عصره،بل ما رأته الصوفیة و أوّلته و صبّته فی قوالب أفکارها،هی معالم سیرة طاهرة عرف بها أهل البیت فی کل عصر کقادة للأمة و هداة و أئمة.فلذلک لما جاء قوم-ممن یظهرون التزهّد،و یدعون إلی التقشّف-إلی الإمام الصادق،کما رواها الحسن بن علی بن شعبة الحرّانی الحلبی فی تحف العقول کان مما خاطبهم به الإمام الصادق علیه السّلام«هاتوا حججکم»فقالوا:إن حجّتنا من کتاب اللّه.قال لهم علیه السّلام:«فأدلوا بها فإنها أحق ما اتبع و عمل به»قالوا:یقول اللّه تبارک و تعالی یخبر عن قوم من أصحاب النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم: وَ یُؤْثِرُونَ عَلی أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ کانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ یُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فمدح فعلهم.و قال فی موضع آخر: وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً فنحن نکتفی.فقال الإمام علیه السّلام:«أخبرونی أیها النفر أ لکم علم بناسخ القرآن من منسوخه،و محکمه من متشابهه الذی فی مثله ضلّ من ضلّ و هلک

ص:116


1- (1) الکافی ج 2 ص 557 [1] ط 2.
2- (2) الکافی ج 2 ص 561. [2]

من هلک من هذه الأمة؟»فقالوا:بعضه،فأما کلّه فلا.فقال لهم علیه السّلام:«من هاهنا أتیتم،و کذلک أحادیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أما ما ذکرتم من إخبار اللّه إیانا فی کتابه عن القوم الذین أخبر عنهم بحسن فعالهم،فقد کان مباحا جائزا و لم یکونوا نهوا عنه،و ثوابهم منه علی اللّه،و ذلک أن اللّه جلّ و تقدّس أمر بخلاف ما عملوا به،فصار أمره ناسخا لفعلهم، و کان نهی اللّه تبارک و تعالی رحمة للمؤمنین لکی لا یضرّوا بأنفسهم و عیالاتهم،فهم الضعفة الصغار و الولدان،و الشیخ الفان،و العجوز الکبیرة الذین لا یصبرون علی الجوع، فإن تصدّقت برغیفی و لا رغیف لی غیره ضاعوا و هلکوا جوعا،فمن ثم قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانیر أو دراهم یملکها الإنسان و هو یرید أن یمضیها،فأفضلها ما أنفقه الإنسان علی والدیه،ثم الثانیة علی نفسه و عیاله،ثم الثالثة علی القرابة و إخوانه المؤمنین،ثم الرابعة علی جیرانه الفقراء،ثم الخامسة فی سبیل اللّه».ثم ساق علیه السّلام جملة من أحادیث جدّه النبی الأعظم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قال بعد أن رواها:

«فهذه أحادیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یصدّقها الکتاب،و الکتاب یصدّقه أهله من المؤمنین،ثم من قد علمتم فی فضله و زهده سلمان و أبو ذر،فأما سلمان فکان إذا أخذ عطاءه،رفع منه قوته لسنته حتی یحضره عطاؤه من قابل،فقیل له:یا أبا عبد اللّه،أنت فی زهدک تصنع هذا و إنک لا تدری لعلک تموت الیوم أو غدا؟فکان جوابه أن قال:ما لکم لا ترجون لی البقاء کما خفتم علی الفناء،أو ما علمتم یا جهلة أن النفس قد تلتاث علی صاحبها إذا لم یکن لها من العیش ما تعتمد علیه،فإذا هی أحرزت معیشتها اطمأنت.و أما أبو ذر فکانت له نویقات و شویهات یحلبها و یذبح منها إذا اشتهی أهله اللحم،أو نزل به ضیف،أو رأی بأهل الماء الذین هم معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشاء علی قدر ما یذهب عنهم قرم اللحم(الشهوة إلی اللحم)فیقسّمه بینهم،و یأخذ کنصیب أحدهم لا یفضل علیهم، و من أزهد من هؤلاء و قد قال فیهم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ما قال،و لم یبلغ من أثرهما أن صارا لا یملکان شیئا البتة،کما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم و شیئهم،و یؤثرون به علی أنفسهم و عیالاتهم...

أخبرونی لو کان الناس کلهم کما تریدون زهّادا لا حاجة لهم فی متاع غیرهم، فعلی من کان یتصدّق بکفارات الأیمان و النذور و الصدقات من فرض الزکاة،إذا کان الأمر علی ما تقولون لا ینبغی لأحد أن یحبس شیئا من عرض الدنیا إلا قدّمه و إن کان به خصاصة،فبئس ما ذهبتم إلیه،و حملتم الناس علیه من الجهل بکتاب اللّه و سنة

ص:117

نبیه،و أحادیثه التی یصدّقها الکتاب المنزل،أو ردّکم إیاها بجهالتکم،و ترککم النظر فی غرائب القرآن من التفسیر بالناسخ من المنسوخ و المحکم و المتشابه و الأمر و النهی...» إلی أن یقول لهم علیه السّلام:

«فتأدبوا أیها النفر بآداب اللّه للمؤمنین،و اقتصروا علی أمر اللّه و نهیه،ودعوا عنکم ما اشتبه علیکم مما لا علم لکم به،و ردّوا العلم إلی أهله تؤجروا و تعذروا عند اللّه،و کونوا فی طلب الناسخ من القرآن من منسوخه،و محکمه من متشابهه،و ما أحلّ اللّه فیه ما حرّم،فإنه أقرب لکم من اللّه،و أبعد لکم من الجهل،و دعوا الجهالة لأهلها فإن أهل الجهل کثیر و أهل العلم قلیل،و قد قال اللّه عز و جل: وَ فَوْقَ کُلِّ ذِی عِلْمٍ عَلِیمٌ ».

و إذا کان المتصوّفة لا یتزحزحون عن الخرقة فی انتسابهم إلی الإمام علی علیه أفضل الصلاة و السلام،فلا بد أن تکون سیرة زهده و معالم ورعه من الأمور التی یتوهم بها المتصوفة أنهم یحجّون بها غیرهم حتی و إن کان ولده إمام الأمة و علم الهدی جعفر بن محمد الصادق علیهم السّلام فتکثر الروایات التی تدل علی ذلک،و قد أشرنا إلی أن ما رواه الصوفیة فی باب الکرامات یبعد عن صفته فی اللباس و أحواله فی المعاش،و من هذه الروایات:أن رجلا قال للإمام الصادق علیه السّلام:أصلحک اللّه، ذکرت أن علی بن أبی طالب کان یلبس الخشن،یلبس القمیص بأربعة دراهم و ما أشبه ذلک،و نری علیک اللباس الجید؟فقال له الإمام علیه السّلام:«إن علی بن أبی طالب صلوات اللّه علیه کان یلبس ذلک فی زمان لا ینکر،و لو لبس مثل ذلک الیوم لشهّر به فخیر لباس کل زمان لباس أهله».

و علی أی حال،فإن الإمام الصادق قد تزعّم الحرکة الدینیة و الفکریة فی زمنه، و قاد أنصار العلویین عبر عهدین،و استطاع أن یواجه مشکلة الحکام بما یخفّف عن العلویین أعباء التضحیات و سفک الدماء.

و کانت شخصیة المصلح التی تمثّلت به علیه السّلام قد اجتمعت فیها مؤهلات کبری و صفات عالیة،جعلته یحتلّ تلک المکانة السامیة و المنزلة المرموقة فی

ص:118

المجتمع،و احتل موقع القیادة و الأعلمیة؛فاتجهت إلیه الأنظار،و قصدته الوفود من کل الأمصار.

و قد شهد فی حیاته فترة من العصر الإسلامی اشتدت فیها التحولات السیاسیة و نمت فیها بذور التطورات الفکریة،و استطاع الإمام الصادق علیه السّلام أن یقف فی زحمة الأحداث و وسط تلک المعترکات علی اختلاف صورها،و یترک آثاره فی کل جانب من حیاة المجتمع،و یؤثر فی کل ناحیة فکریة،فلا غرو أن تکون سیرته مصدر إلهام و معین علم.أما إذا تحکّم الهوی و غلبت الرغبات،فلا عجب أن تخرج شواهد سیرته و أحداث حیاته عن إطارها الحقیقی،و تصرف أقواله عن مقاصدها الأصلیة،و أن تبرز عبر فترات متفاوتة و متوالیة آراء تبغی الإساءة،و تنفضح مقاصدها و أغراضها.

و لا ننسی أن نذکر من یضاف إلی هؤلاء من المستشرقین (1)الذین بثوا سموم دعاواهم و نظریاتهم بین أبناء أمتنا،حتی أن البعض منهم عند ما یری الجوانب العظیمة فی شخصیة الإمام الصادق،یحاول أن یرجعها إلی أصول یونانیة.و هو قول نراه من السخف بحیث لا یستحق أی عناء فی الرد.

لقد کان لأبی عبد اللّه الإمام جعفر بن محمد الصادق من البیان و الحکمة ما جعله متمیزا فی الفقه،و منهج الوعظ،و خطة الإصلاح.

سئل أبو حنیفة:من أفقه من رأیت؟قال:ما رأیت أفقه من جعفر بن محمد الصادق،لما أقدمه المنصور بعث إلیّ فقال:یا أبا حنیفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد،فهیّئ له من المسائل الشداد.فهیأت له أربعین مسألة،ثم بعث إلی أبو جعفر -و هو بالحیرة-فأتیته،فدخلت علیه و جعفر بن محمد جالس عن یمینه،فلما بصرت به دخلتنی من الهیبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم یدخلنی لأبی جعفر،فسلّمت علیه و أومأ إلیّ فجلست،ثم التفت إلیّ فقال:یا أبا حنیفة.ألق علی أبی عبد اللّه من

ص:119


1- (1) لم نخض فی افتراءات المستشرقین علی شخصیة جابر بن حیان أبی الکیمیاء و تلمیذ الإمام الصادق علیه السّلام و سلوکهم مختلف الوسائل للإساءة إلی أستاذ جابر و إمامه من تشکیک و نسبة إلی الصوفیة أو الإسماعیلیة أو إنکار وجوده و غیرها،و جمیعها لم تؤثر علی مکانة الإمام الصادق، و اتصال جار بمدرسته علیه السّلام و التخرّج علی یدیه.و من الجلیّ أنهم استعظموا أن یکون فی الإسلام رجل کجابر الذی أنکروا وجوده،فکیف لا یهولهم أن یکون فی تاریخنا من هو أعظم من جابر و صاحب فکر تخرّج علیه العلماء.راجع الجزء الثانی من هذا الکتاب.

مسائلک.فجعلت ألقی علیه،فیجیبنی فیقول:«أنتم تقولون کذا،و أهل المدینة یقولون کذا،و نحن نقول کذا»فربما تابعنا و ربما تابعهم،و ربما خالفنا جمیعا،حتی أتیت علی الأربعین مسألة ما أخلّ منها بمسألة.ثم قال أبو حنیفة رحمه اللّه:ألسنا روینا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس (1).

و للإمام الصادق علیه السّلام بناء بلاغی فی المواعظ یقوم علی عوامل من الفقه و التصویر و البیان،لیجعل منها وسیلة للنفوس و الأفهام،کقوله علیه السّلام:«التقوی علی ثلاثة أوجه:تقوی باللّه فی اللّه،و هو ترک الحلال فضلا عن الشبهة،و هو تقوی خاص الخالص.و تقوی من اللّه،و هو ترک الشبهات فضلا عن الحرام،و هو تقوی الخاص.

و تقوی من خوف النار و العقاب و هو ترک الحرام،و هو تقوی العام.و مثل التقوی کماء یجری فی نهر،و مثل هذه الطبقات الثلاث فی معنی التقوی کأشجار مغروسة علی حافة ذلک النهر من کل لون و جنس،و کل شجرة منها تستمص الماء من ذلک علی قدر جوهره و طعمه و لطافته و کثافته،ثم منافع الخلق من تلک الأشجار و الثمار علی قدرها و قیمتها».

فکان هذا البناء البلاغی مادة للادعاء بتفسیرات صوفیة للقرآن تنسب إلی الإمام الصادق علیه السّلام تولّی إشاعتها و الإقدام علی وضعها الصوفی أبو عبد الرحمن السلمی (2)فی طبقاته،و فی حقائق التفسیر.

و من رجال الصوفیة الکبار ممن صنّفهم السلمی فی الطبقة الأولی کأبی یزید البسطامی،من راح یتعلق بمناسبة و بدون مناسبة بالاتصال بالإمام الصادق،و یزید فی ذلک و یبالغ،کما راح أبو یزید یأخذ أقوال الأئمة لیصوغها بألفاظه،و علی الأخص أقوال الإمام أمیر المؤمنین علیه السّلام منها:«عرفت اللّه باللّه،و عرفت ما دون اللّه بنور اللّه».

و سئل:ما علامة العارف؟فقال:أن لا یفتر عن ذکره،و لا یملّ من حقه،و لا یستأنس بغیره.

و هم أرادوا أن یقحموا الإمام الصادق فی حالاتهم،و یدّعون علیه زورا ما

ص:120


1- (1) مناقب الإمام أبی حنیفة للموفق المکی ط 1 ص 173 ج 1.
2- (2) محمد بن الحسین بن موسی الأزدی النیسابوری المتوفی سنة 412.

درجوا علیه من الحلول أو التجسیم التی کان یغالی بها البسطامی،و من أخفّها قوله:

إنه ضرب الخیمة محاذاة العرش.و أنه یری اللّه فی المنام،و أنه مرة جلس فی محرابه فمدّ رجله،فهتف به هاتف:من جالس الملوک ینبغی أن یجالسهم بحسن الأدب.

و حکی عنه أنه کان یقول:سبحانی سبحانی.

فیقولون أنه نقل عن الإمام جعفر الصادق علیه السّلام أنه خرّ مغشیا علیه و هو فی الصلاة،فسئل عن ذلک،فقال:«ما زلت أردد الآیة حتی سمعتها من المتکلم بها» (1).

و إذا استعصی علیهم القول،ساقوه عن الإمام الصادق بنصه،ثم ألحقوا به إشارة أو بیانا یفید ما یقصدون،کذکرهم قول الإمام الصادق:«لقد تجلّی اللّه تعالی لعباده فی کلامه،و لکن لا یبصرون».فیبیّنون بعد النصّ قصدهم بالقول:فیکون لکل آیة مطلع من هذا الوجه،فالحدّ:حد الکلام،و المطلع:الترقی عن الکلام إلی شهود المتکلم!مما یوهم بالاعتقاد بالرؤیة،و القول فی اللّه بمشابهته عز و جل للمخلوقات من حیث النظر إلیه سبحانه کما ینظر الإنسان إلی جسم محدود،تعالی اللّه عن ذلک، و حاشا أئمة أهل البیت و أعمدة الهدی و نواب صاحب الرسالة من قول ذلک.

و السلمی من أکثرهم نقلا للأقوال التی تنسب للإمام الصادق علیه السّلام و هی تتراوح بین الإیغال فی الغوامض و الإشارات علی طریقتهم المعهودة،و بین محاکاة الرموز،کذکره لقول الإمام علیه السّلام الحمد للّه:من حمده بصفاته کما وصف نفسه فقد حمد،لأن الحمد حاء و میم و دال.فالحاء من الوحدانیة و المیم من الملک و الدال من الدیمومة.

و لقد حسم الإمام الصادق علیه السّلام هذه المسألة بقول یغلق أبواب التأویل و یفضح التقوّل و الادّعاء،إذ قال علیه السّلام:«و اللّه لقد تجلّی اللّه عز و جل لخلقه فی کلامه،و لکنهم لا یبصرون».و نجد أن التعقیب علی النص و الإشارات القائمة علیه غریبة و أجنبیة لا تؤثر فی عقیدة التنزیه و ردّ التجسیم و التشبیه.

کذلک فإنهم فی النصوص ینتزعون ما یوافق هواهم و مقاصدهم و لا یذکرون النص بکامله،و لا یوردون القول بتفاصیله،فقوله علیه السّلام الذی مرّ بنا و هو یردّد الآیة جاء مبتورا،إذ حقیقة قوله:«ما زلت أردّد الآیة علی قلبی،حتی سمعتها من المتکلم

ص:121


1- (1) السهروردی،عوارف المعارف.و [1]الإحیاء للغزالی ج 3 ص 520. [2]

بها،فلم یثبت جسمی لمعاینة قدرته»أی أنه علیه السّلام کان یتدبّر فی وجوه القدرة و جوانب العظمة و دلالة الوجود.

و عن أبی بصیر عن الإمام الصادق علیه السّلام قال:قلت له:أخبرنی عن اللّه عز و جل هل یراه المؤمنون یوم القیامة؟قال«نعم،و قد رأوه قبل یوم القیامة»فقلت:

متی؟قال علیه السّلام:«حین قال عز و جل لهم:أ لست بربکم قالوا:بلی»ثم سکت ساعة،ثم قال علیه السّلام:«و إن المؤمنین لیرونه فی الدنیا قبل یوم القیامة،أ لست تراه فی وقتک هذا؟»قال أبو بصیر:فقلت له جعلت فداک،فأحدّث بهذا عنک؟ فقال علیه السّلام:«لا،فإنک إذا حدّثت به فأنکره منکر جاهل بمعنی ما تقوله،ثم قدّر أن ذلک تشبیه کفر،و لیست الرؤیة بالقلب کالرؤیة بالعین،تعالی اللّه عما یصفه المشبّهون و الملحدون».

کما أن الإمام الصادق کان یأمر أصحابه بمنع الزکاة عمن قال بالجسم.

إن التدقیق فی أقوال الإمام جعفر بن محمد الصادق،و الإمعان فی معرفة منهجه فی الوعظ و الإرشاد،یؤدی إلی معرفة ما یرمی إلیه الإمام علیه السّلام من إصلاح الأمة و توجیه الرعیة بسبل واضحة و ألفاظ جلیة،تستمد من القرآن و السنة معانیها و مضامینها،فلیس للخیال الذی یفلت من النص أثر فی جوامع کلمه علیه السّلام کما أنه علیه السّلام یتقید بالنص و مناسبته أو علته،لکی لا یدع للآخرین مجالا یتذرعون به، فیترکون العنان لشطحاتهم و نزعاتهم تنال من أسباب التشریع أو تنحرف عن أغراض التنزیل ینتحلون ما یشاؤون.

و من حق الصوفیة أن یثنوا علی نظریة الإمام فی المعرفة،و أقواله فی التوبة و محاسبة النفس،لکن لیس من حقهم أن یجعلوا تراثه الفکری مادة لبناء مصطلحاتهم و مباحثهم،فالإمام تناول کل ما یتعلق بسلوک المؤمن و علاقة المسلم بربه،و أوضح بمزید من البیان کل ما یتعلّق بوجود المؤمن فی مجتمعه،و علاقة المسلم بإخوانه، فلیس هناک من أحادیث الصادق علیه السّلام المأثورة ما یشبه فی صیاغته و بنائه بیان الصوفیة و صورهم و أخیلتهم،فمنها ما لدینا عن الشیخ الصدوق فی معانی الأخبار، أن الإمام الصادق قال فی قوله عز و جل: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ قال علیه السّلام:

«یقول:أرشدنا إلی الصراط المستقیم،أرشدنا للزوم الطریق المؤدی إلی محبتک و المبلّغ إلی دینک،و المانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب،أو نأخذ بآرائنا فنهلک».

ص:122

و لأن هذا القول مشهور لدینا و صحیح بسنده لا یکاد یذکر أو یأتی محرّفا،مما یدل علی أن أصل أقوالهم هو من نسج الخیال و التأثر بشخصیة الإمام الصادق و عظیم منزلته فی عصره.و کذلک غیره من تفاسیر الإمام الصادق،و التی إما أن تکون بیانا لدلالة المعنی و شرحا للمفردات القرآنیة التی تتعلّق بالقصد و الإرادة.أو شرحا لمناسبتها و حادثتها،کقوله علیه السّلام فی قول اللّه عز و جل: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ کانت المراضع،مما تدفع إحداهنّ الرجل إذا أراد الجماع تقول:لا أدعک،إنی أخاف أن أحبل،فأقتل ولدی هذا الذی أرضعه.و کان الرجل تدعوه المرأة فیقول:إن أجامعک فیقتل ولدی.فیدعها و لا یجامعها،فنهی اللّه عز و جل عن ذلک،أن یضارّ الرجل المرأة،و المرأة الرجل».

و روی عنه علیه السّلام تفسیره لقوله تعالی: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّیْلِ هِیَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِیلاً قال علیه السّلام:«یعنی بقوله:و أقوم قیلا،قیام الرجل عن فراشه بین یدی اللّه عز و جل لا یرید به غیره».

و قال فی قوله تعالی: وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ «کانوا یستغفرون اللّه فی آخر الوتر، فی آخر اللیل سبعین مرة».

أما غیرها کما فی مورد تفسیر قوله تعالی حکایة عن سلیمان: یا أَیُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ یورد المفسّرون روایة الإمام الصادق عن جدّه الإمام زین العابدین علیهما أفضل الصلاة و السّلام قال:«إذا صاح النسر قال:یا ابن آدم،عش ما عشت آخره الموت.

و إذا صاح العقاب قال:البعد من الناس أنس.و إذا صاح القنبر قال:إلهی العن مبغض محمد و آل محمد.و إذا صاح الخطّاف قال:الحمد للّه رب العالمین،و یمد العالمین کما یمد القارئ (1)و قد أوردوا عن ابن عباس أیضا أن القنبر یقول:اللهم العن مبغض محمد و آل محمد (2).

و لا نعلّق علی ذلک بشیء،لأننا فی مقام إظهار منزلة أهل البیت،و أنهم ینبوع الأحکام و مناط الإیمان.فلا غرابة أن ینهل الناس منهم فیحلو المشرب و یصفو إذا کان فی وعاء الولایة و الولاء،و فی صحف الدرایة و المعرفة فیقر منها ما کان موافقا

ص:123


1- (1) انظر تفسیر الخازن و [1]تفسیر البغوی/ [2]سورة النمل.
2- (2) المصدر نفسه ج 5 ص 111.

للأصول و متفقا مع بداهة العقول،و یغفل أو یهمل ما خالف الأحکام و ناقض العقول، و یشمل ذلک کل ما نسب إلی أهل البیت بغضّ النظر عن الصبغة و المذهب.

و لا نلتفت إلی من ینسب إلیه حفظ التفسیر و نسخته،و إنما یهمّنا الادّعاء بوجود تفسیر صوفی للآیات لدی الإمام الصادق علیه السّلام علی طریقة أقوال الصوفیة، و منهجهم فی تأویل النصوص و المغالاة فی الباطنیة،و إلا فلیخبرنا من یدّعی علما، متی أضاف الإمام الصادق کلمة آمین فی نهایة الفاتحة حتی تصبح من جملة ألفاظ و مفردات سورة الفاتحة التی یذکرها التفسیر فیقول:قال جعفر:[«آمین»أی قاصدین نحوک،و أنت أکرم من أن تخیّب قاصدا].لأن الشیعة فی صلاتهم لا یجوّزون قول آمین فی آخر الحمد و ذلک اتباعا لإمامهم جعفر الصادق و أهل بیت النبوّة.

فمن المسائل الفقهیة فی المذهب الجعفری،أن لا یصل الإمام و لا غیره قراءته «و لا الضالین»بآمین،لأن ذلک یجری مجری الزیادة فی القرآن مما لیس منه،و أن الإمام الصادق نهی عنها لأن الیهود و النصاری یقولون فی طقوس صلاتهم«آمین».

و قد تواترت عند غیرهم من المذاهب الإسلامیة حتی أصبحت و کأنها من التنزیل، و هو ما کان یخشاه أئمة الشیعة،و نبّهوا إلی عدم جواز ذکرها بعد قراءة الفاتحة لکی لا یسمعها الجاهل فیراها من التنزیل و هی لیست من التنزیل،فإن قال:«آمین»تأمینا علی ما تلاه الإمام،صرف القراءة إلی الدعاء الذی یؤمّن علیه سامعه،قال الإمام الصادق:

«إذا کنت خلف إمام فقرأ الحمد و فرغ من قراءتها،فقل أنت:الحمد للّه ربّ العالمین و لا تقل آمین».

و کل ما وصلنا من تفسیر عن الإمام الصادق فی مصادرنا المعتبرة،لا یتطرق إلیه التکلّف الواضح لتحصیل صرف المعانی إلی ما یمیل إلیه الصوفیة،و نری أن الانتحال واضح و صریح،سواء من جهة النصوص نفسها و ما تدل علیه المقارنة،أو من جهة المصادر التی هی أدنی من الصوفیة إلی الإمام الصادق و أوثق فی النقل عنه.

و من الملاحظة البسیطة للنصوص التی جاءت بطرقها الحسنة و إسنادها المعتبر یظهر الفرق بین النوعین.

ذکر الشیخ الطبرسی فی الاحتجاج:عن حفص بن غیاث (1)قال:شهدت

ص:124


1- (1) النخعی توفی سنة 194 ه خرّج حدیثه أصحاب الصحاح.انظر ترجمته فی الجزء الأول من هذا الکتاب.

المسجد الحرام و ابن أبی العوجاء یسأل أبا عبد اللّه علیه السّلام عن قوله تعالی: کُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَیْرَها لِیَذُوقُوا الْعَذابَ ما ذنب الغیر؟قال:«ویحک هی هی، و هی غیرها».

قال:فمثّل لی ذلک من أمر الدنیا.

قال:«نعم،أ رأیت لو أن رجلا أخذ لبنة فکسرها،ثم ردّها فی ملبنها،فهی هی و هی غیرها».

و هذا فی مورد الاحتجاج علی الزنادقة.و ردّ أقوالهم و محاولاتهم فی الطعن و التشکیک،و هی تجمع الوضوح و عمق الدلالة.

أما الأقوال الأخری للإمام فی التفسیر،فهی تظهر أمورا لا یلتفت إلیها غیر من تمتّع بعلم خاص،و الغرض هنا إیضاح المنهج فی التفسیر،و بیان بنائه فی القول،لأن الأمر الأول یحتاج إلی بحث آخر.فقد سئل الإمام الصادق عن قول اللّه عز و جل فی قصة إبراهیم علیه السّلام: قالَ بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کانُوا یَنْطِقُونَ قال:

«ما فعله کبیرهم،و ما کذب إبراهیم؟»قیل:و کیف ذلک؟فقال:«إنما قال إبراهیم:

فاسألوهم إن کانوا ینطقون،فإن نطقوا فکبیرهم فعل،و إن لم ینطقوا فکبیرهم لم یفعل شیئا،فما نطقوا،و ما کذب إبراهیم علیه السّلام».

و سئل عن قوله تعالی فی سورة یوسف: أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسارِقُونَ ؟قال:

«إنهم سرقوا یوسف من أبیه».

فسئل عن قول إبراهیم: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِی النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّی سَقِیمٌ .

قال:«ما کان إبراهیم سقیما،و ما کذب،إنما عنی سقیما فی دینه أی مرتادا».

و فی قوله تعالی: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال علیه السّلام:«یطاع فلا یعصی،و یذکر فلا ینسی،و یشکر فلا یکفر».إلی غیرها من الأقوال التی تفسّر الآیات،و جمیعها لیس فیها تعیین لحالات و أوضاع علی حسب الخیال،أو تشبیه و تقریب إلی حدّ التجسیم و التحدید بالجهة،تعالی اللّه سبحانه،و حاشا أئمتنا الأطهار.

و لنلاحظ ادّعاء التفسیر الصوفی فی آیة: هَلْ یَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ یَأْتِیَهُمُ اللّهُ فِی ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ و أن الإمام الصادق علیه السّلام قال:هل ینظرون إلا إقبال اللّه علیهم بالعصمة و التوفیق،فیکشف عنهم أستار الغفلة،فیشهدون برّه و لطفه،بل یشهدون البار اللطیف.

و فی تفسیر قوله تعالی: وَ طَهِّرْ بَیْتِیَ لِلطّائِفِینَ أنه علیه السّلام قال:طهّر نفسک عن

ص:125

مخالطة المخالفین،و الاختلاط بغیر الحق،و القائمین مع فؤاد العارفین،المقیمین معه علی بساط الأنس و الخدمة. وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ :الأئمة السادة الذین رجعوا إلی البدایة عن تناهی النهایة.

فجمیعها من صور الأحوال لدیهم،و صیاغتها لا تختلف فی شیء عن مقالات رجالهم،بل ما أبعدها عن أقوال الأئمة و مشاهد مناجاتهم للّه،أو تضرّعهم بین یدیه بما لا یشعر إلا بالعبودیة و تنزیه الله تعالی عن کل مشابهة بالمخلوقات،و التبرؤ عن أدنی میل إلی الحلول أو الاتحاد أو التجسیم.

و لقد أوضحنا سابقا أن الإمام الصادق احتج علی الصوفیة فی أمهات أفکارهم و أسس طریقتهم،و رأینا کیف میّز موقفه،فقد یکون من بین الذین یدخلون علیه جماعة یرون فی الذی علیه الصوفیة متفقا مع عبادته و نسکه و أجواء الانقطاع للّه التی یحسّونها فی کل حرکة و إشارة.و الإمام الصادق یدعو إلی أن یکون الإیمان و العمل شعار حیاة المسلم،فلا تحول عبادة و أداء فریضة عن مسئولیات الحیاة العملیة، و ینزوی الناس عن حیاة مجتمعهم و هی الصعید الحقیقی للدعوة و البناء.

و نحن شیعة أهل البیت علیهم السّلام و أصحاب المذهب الجعفری نعلم أن هناک من بین کتبنا ما فیه بعض الأقوال التی تدرج فی التفسیر أو تنسب إلیه،و هی فی حقیقتها أقوال تنطلق من واقع ولاء یأخذ الصورة التی تطلّ من وراء نص أو حدیث،و یرفعها بوجه تیارات العداء و النصب التی لعبت فی عقول خدم الحکام و عبید الخلفاء،و علی قلة هذه الأقوال أو ندرتها،فما أعتبر منها لا یخرج عن باعث الولاء لأهل البیت و التعبّد ببعض الصور المأثورة،کما قیل فی: مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ یَلْتَقِیانِ (1).و لیس هنا موضع بحث ذلک،فهو یحتاج إلی سعة فی القول یوفی بالغرض و یوضّح الفرق بین قول لا یقصد به إلا الصورة و لیس الحال و أسباب النزول،و بین النحل أو الادعاء للاستفادة من موقع الإمام الصادق و منزلته العظیمة فی النفوس،و إن کنّا لا ننفی وجود الحب و الولاء لدی أهل الصوفیة و میلهم إلی الإمام الصادق علیه السّلام کما لا تفوتنا

ص:126


1- (1) و هی مشهورة بسندها عن ابن عباس،و لم یختص بإیرادها الشیعة وحدهم،بل علماء السنة أیضا کالخوارزمی.و هی تشبیهات یساعد علیها اللفظ،و قد أدّت سیاسات النّصب و حملات العداء لآل البیت إلی الاستشهاد بها و ذکرها محرّفة.

الإشارة إلی وجود محاولات لإدخال التعابیر الصوفیة فی العقائد الشیعیة و فی مجال التفسیر،و هی قائمة علی أساس واضح من فهم عقائد أهل البیت و أحکامهم،لذلک فهی لا تتعدی استعارة الألفاظ الصوفیة و استعمالها فی الکتابة بسبب من الاتجاه و السلوک فی الحیاة،و الرغبة فی الزهد الظاهر و التقشّف الغالب،و هی محاولات تفسیریة متأخرة رأت فی اتجاهها و سلوکها ما یجمعها مع مفاهیم التصوّف و صیغه التعبیریة،و لکنها تعتمد عقائد الإمامیة رکنا و أساسا یضبط استعمالها فی الکتابة مما ینسجم مع بیئات الزهد فی خراسان و المشرق،و التی قامت علی أساس جهاد النفس و قمع هواها تزکیة،لها لتکون أهلا لمعرفة اللّه و حمل رسالة الإسلام و أحکام المصطفی الهادی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هو الأساس الذی یمکن أن یعزی إلیه،و یوافق القبول روح الزهد فی الدنیا و العزوف عن ملذّاتها و زخرفها،و الإقبال علی الآخرة بالطاعات و العمل الصالح من دون انقطاع عن وتیرة الحیاة و مسلک العیش و البقاء فی صمیم المجتمع.

و نورد بعض أقوال تفسیر الإمام الصادق المعروفة بطرقها من مختلف المذاهب الإسلامیة،کقوله علیه السّلام:«نحن حبل اللّه الذی قال اللّه فیه: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ».لأن الإمام الصادق علیه السّلام تبوء موقع الإمامة فی ذلک المنعطف الحاسم الذی یشهد غلیان الأطماع و تکالب الناس علی الدنیا،و اتجاههم إلی الحکام، فکان علیه أن یواجه ذلک بنهجه فی توحید صفوف الأمة و جمعها حول ما یمثّل روح القرآن و رسالة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یصون کیانها من سیوف الظلمة،و حرمات المؤمنین من تعدّیات الحکام و عقائد الأمة من انحرافات القصور.

لقد کان علیه السّلام یوجّه الناس فی ضوء الأحداث،و یوصی أصحابه بما علیهم أن یقوموا به،و قد یصل به الأمر إلی أن یطلب من أصحابه أن یعتزلوا لأمر یخشی منه إما من جور أو فساد کما فی وصیته لحفص بن غیاث:«إن قدرت أن لا تخرج من بیتک فافعل،فإن علیک فی خروجک أن لا تغتاب و لا تکذب و لا تحسد و لا ترائی و لا تتصنّع».

و یجعل الناس علی ثقة من زوال البلوی السیاسیة،و یتّخذ من سلاح الدین وقایة،إذ یقول لسفیان الثوری (1):«إذا أحزنک أمر من سلطان أو غیره فأکثر من:لا

ص:127


1- (1) الکوفی.ثقة و حافظ و فقیه و حجة.توفی سنة 161 ه مرّت ترجمته فی الجزء الأول.

حول و لا قوة إلا باللّه.فإنها مفتاح الفرج» (1).

إن الإمام الصادق یقیم سلطته الروحیة علی نصوص من القرآن،یسوق تفسیرها و یجهر بها،و قد کانت من أعظم الأخطار التی هددت الأمویین و العباسیین.

و لکنه علیه السّلام یعلن مقاصد الشریعة،و یحرص علی إظهار تفاسیر النصوص التی تلاعب بها موالی الحکام و أذناب الولاة فی کل عهد و مرحلة.دخل علیه الحسن بن صالح بن حیّ فقال له:یا ابن رسول اللّه،ما تقول فی قوله تعالی: أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ من أولو الأمر الذین أمر اللّه بطاعتهم؟قال«العلماء»فلما خرجوا قال الحسن:ما صنعنا شیئا،أ لا سألناه من هؤلاء العلماء؟فرجعوا إلیه فسألوه،فقال:

«الأئمة منّا أهل البیت».

و نستظهر من تفسیر الإمام الصادق أن معتمده فی إمامته،و منزلته الروحیة نص صریح یفصح عنه الإمام الصادق بکل ثقة و قدرة،و هو فی سلطانه الروحی هذا غیر منازع،فقد أعجز السلطة حصر تأثیره أو حجزه عن الناس،و قد کان من متطلبات خطته فی الإصلاح و قیادته العمل ضد الجائرین.أن یکون منهجه واضحا و قویا و سهلا،حتی أصبح من الممکن التفریق بین ما صدر عنه و ما أسند إلیه من غیر صحة تحت تأثیر مختلف العوامل.و أقوال التفسیر المرویة عن الإمام الصادق کثیرة جدا، و لا نجد فی ما نقل منها-خلا ما تقول الصوفیة-بعدا عن دلالات المعنی و الأغراض القرآنیة کقوله علیه السّلام فی تفسیر قول اللّه عز و جل: فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ :«إن اللّه سبحانه یقول للعبد یوم القیامة:عبدی أ کنت عالما؟فإن قال نعم،قال له سبحانه:أ فلا عملت بما علمت؟و إن قال:کنت جاهلا،قال له سبحانه:أ فلا تعلّمت حتی تعمل».

و أیضا ما فی الکافی:قال علیه السّلام:«إذا أراد اللّه بعبد شرّا،فأذنب ذنبا اتبعه بنعمة،لینسیه الاستغفار.و یتمادی بها و هو قوله: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَیْثُ لا یَعْلَمُونَ بالنعم عند المعاصی»ثم قال علیه السّلام فی الاستدراج:«هو العبد یذنب الذنب،فیملی له،و یجدّد له النعم،فیلهیه عن الاستغفار عن الذنوب،فهو مستدرج من حیث لا یعلم».

و خلاصة القول،أن منحی التفسیر الصوفی یوافق رغبات أصحابه فی ظروفها کما یوافق الیوم أصحاب النظریات التی تبحث عن أصول العقائد الحلولیة و مصادرها

ص:128


1- (1) حلیة الأولیاء ج 3 ص 193.

الیهودیة و المسیحیة،فتأتی نسبة التفسیر الصوفی زورا لیتلقّفها الذین فی قلوبهم زیغ و أمراض،و یستمدّوا منها أقوالهم فی الطعن بعقائدنا و أئمتنا.و لو تحلّی البعض بیسیر من قیم الأمانة،لما نازعوا الأمر أهله،و لأخذوا ببینة دامغة و شواهد ناصعة،إن لم یناد بها الشیعة فإن کتبهم تصرخ فی نفیها و دحضها،و إذا قبلنا من المتصوفة حب آل البیت،فلا یقبل أحد-یحرص علی الإسلام و ملته-أن یمدّ الأعداء بما یشفی غلیلهم و ضغینتهم،و یجعلوا من آل بیت النبی و عترته-و هم عدل الکتاب-غرضا لأعداء الدین و المستشرقین.

و یجمع هؤلاء ما انتحله المتصوّفة إلی أفانین الغلاة و أقوالهم،لیقیموا و همهم و آراءهم علی أحاسیس و تخیّلات تبعد عن واقع الأئمة،فإن النظرة المتزنة و الاطلاع علی تاریخ الشیعة و عقائدهم،یکشفان عن الفروق و الاختلافات،و إن التعمیم بتأثیر عدم التمییز ما هو إلا افتراء محض و خیانة للأمانة التاریخیة التی یجب أن یتحلّی بها المختص إن کان من غیر أهل الإسلام،و خیانة للأخوّة الدینیة إن کان من أهل الشهادة.

فیجمعون نصوص المتصوّفة فی الحلول و الاتحاد إلی نصوص الفرق الأخری التی یتجاهلون اختلافها فی العقائد عن الشیعة،و ینمّقون التّهم،و هی علی هذا النمط الذی قدمناه کثیرة.و غیرها من الکتب الأخری لغیر المتصوفة من الفرق الأخری، کالنصوص التی تجدها موضوعة علی لسان الإمام الصادق علیه السّلام بروایة المفضل الجعفی،نذکر منها هذه النبذة القصیرة:

قال المفضل:

أخبرنی یا مولای عن قصة الحسین کیف اشتبه علی الناس قتله و ذبحه کما اشتبه علی من کان قبلهم فی قتل المسیح؟قال الصادق:یا مفضل،هذا سرّ من أسرار اللّه، أشکله اللّه علی الناس،فعرفه خاصة أولیائه و عباده المؤمنون المختصّون من خلقه...

إن الإمام یدخل فی الأبدان طوعا و کرها،و یخرج منها إذا شاء طوعا و کرها،کما ینزع أحدکم جبته و قمیصه بلا تکلف و لا ریب... (1).

إلی آخر ما فی الکتاب من أقوال باطنیة نسجتها الخیالات،و أدّت إلیها ظروف

ص:129


1- (1) انظر:الهفت الشریف،تقدیم و تحقیق مصطفی غالب ط بیروت 1964.

و أوضاع الحرکة الباطنیة التی سمحت لنفسها بالتغذی من الأوهام،و الابتعاد عن جوهر أفکار الإمام الصادق و تعالیم أهل البیت،فاستقبلها أعداء الإسلام لیحکموا علی حرکة التشیّع و ما قدّمه الشیعة عبر التاریخ من خلال نصوص الآخرین المختلفة،و لم یحکّموا العقل،بل غلبهم الحقد و الهوی.غیر أن من نوامیس الحیاة و سنن الکون بأن یعمل العقل و یطلق،فإن عطل فی فترات،و فرضت مصالح الحکام أن یقمع الشیعة و تکبّل اتجاهات النظر و التدبر،فلیس للشذوذ عن النوامیس و السنن بقاء.و لذلک فمن حق کل نص ناقض العقل أن یردّ أو یهمل،أما التی تخالف الأصول فشأنها أخطر و أعظم.

و مما قدمناه من تفاسیر مأثورة،و بطرقها المعتبرة توضح لنا نهج أهل البیت، و طریقة الإمام الصادق علیه السّلام فی بیان وجوه النص و تفسیر القرآن،و إذا ما ورد استشهاد بآی من القرآن فی موارد تعین أحوال الأئمة من أهل البیت،فإن المعروف منها بأنها نزلت فی حق أهل البیت،و لم یشک فیها إلا من أفسد قلبه المرض،و شوّه عقله الزیغ،فراح لا یأبه بأقوال الحق و بالإذعان للصدق،حتی و إن کانت من غیر الشیعة،بل غلبه التعصّب و صرعه النّصب،فأدّی به جهله إلی الإنکار،و عناده إلی الافتعال،و ما نراه إلا من سلالة الذین ارتوی سیف الإمام علی من دمائهم،و اختص بقطع أعناقهم،أو من الذین أعمی اللّه بصیرتهم؛فضلّوا و حبطت أعمالهم.

أما تلک الجوانب من أحوال أهل البیت علیهم السّلام التی تروی عن الإمام الصادق، فإنها تقوم علی التشبیه و التمثیل الذی لا یمنع منه مانع،سیما و أن وجوه الشبه ظاهرة، و أمارات التقارب واضحة،فإن من لم یقرّ بولایة علی بن أبی طالب أو ینصب له العداء،لیس أصدق من وصف حاله بأنه:بطل عمله مثل الرماد الذی تجیء الریح فتحمله.و هو أخذ من الآیة الکریمة: مَثَلُ الَّذِینَ کَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ کَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّیحُ لتصویر الإحباط.

و صفوة القول أن دعاوی الاتجاه الصوفی أو صدور التفسیر الذی یتعلق بهذا الاتجاه ما هی إلا تأولات بعیدة بنیت علی ظاهر اختص به أهل بیت النبی الأطهار و هو فی حدود واقعهم و حیاتهم الیومیة یقوم علی أساس من القرآن و الإیمان،و لکن أصحاب الاتجاه الصوفی أخذوا ظواهر التقشف و الزهد فی سیر أهل البیت و التی تعنی التهیؤ لأعباء المهمات الدینیة،و الاستعداد لتحمّل الرسالة،و مواجهة الحیاة علی

ص:130

أساس خصائص الوصایة و خصال الإمامة،لا الانقطاع و الاعتکاف الذی تمیّز به التیار الصوفی.و لا نذهب بعیدا فنورد ما جاء فی بعض الروایات التی تنص علی تبرؤ الإمام الصادق من دعاوی هذه الجماعة،إلا أنه علیه السّلام یشیر إلی أنه«سیکون منهم أقوام یدّعون حبّنا،و یمیلون إلینا،و یتشبّهون بنا»و یحذّر من ذلک.و کذلک وردت بعض الروایات عن أبنائه الطیبین الأئمة المیامین و الأوصیاء من بعده،إذ کان اتجاه التصوّف یتّسع و هو یتّخذ أوصاف العزلة،و یجعل له مظاهر مفتعلة،فیما کان الأئمة من أهل البیت فی مراحل حیاتهم یواجهون أوضاع الأمة،و یضطلعون بأعباء الإمامة و الحفاظ علی بقاء نهج الحق و الصدق بطرق من الاتجاه إلی اللّه و الاعتماد علی تسدیده و الانقطاع إلیه،تجعلهم موضع خطر یتهدد عروش الطغاة.

ص:131

ص:132

أئمة المذاهب

اشارة

نعود مرة أخری إلی الحدیث عن أئمة المذاهب لاستکمال جوانب البحث عن حیاتهم،و قبل البدء فی الحدیث عن شخصیات أئمة المذاهب،لا بد من القول أن لکل شخصیة من شخصیاتهم مقوّماتها و میزاتها الخاصة،و لکل منهم سیرة یهتزّ فیها الواقع و تنغمر فیها الحقائق أمام الغلوّ أو التطرّف فی العداء،شأنهم شأن کل ما یرتبط بفترات الانقسام و الاختلاف.لذا أصبح البحث عن حیاتهم یتّصف بالصعوبة و التعقید،و لکنا حاولنا أن نستخرج شخصیاتهم فی إطارها العلمی و ظرفها التاریخی دون التأثر بموجات الغلو أو العداء.فهم فی مواقعهم و مراکزهم الحقیقیة و الواقعیة لم یکونوا بحاجة إلی مثل هذه التیارات لو أن عناصر الفتنة و العداء تعاملت مع سلوکهم و سیرهم و مآثرهم تعاملا نزیها ینبع من الحرص علی الإسلام،و الالتزام بمبادئ الإخاء فی الدین،و المحافظة علی وحدة الأمة.و لکنا رأینا فیما مرّ کیف عملت المصالح علی دفع الأمة إلی أوضاع سیئة،فتفرّق الشمل،و تمزّق الجمع،و اختلطت الأغراض،و الحکام وراء ذلک یتابعهم أقوام غلب علیهم التعصّب و تحکّمت فیهم الأهواء.

و حقّا إنها لأحداث مؤسفة ینزف لها القلب دما،و قد حکم الدین و التاریخ أن الجهل آفة،و من الجهل أن یتحکّم العداء فی نفوس أهل الإسلام و دین الإخاء و الوحدة،و کلنا أمل أن تکون الاستجابة إلی داعی الحق و نبذ التعصّب و مظاهر الجهل الأخری خاتمة لعهود الانقسام،و نهایة لأغراض الحکام.

و قبل البدء فی البحث عن أئمة المذاهب،لا بد من الإشارة إلی أمر مهم ما زلنا نعانی من نتائجه و آثاره،و قد رأینا فی موضوع البدع و الضلالات کیف أطلقت

ص:133

و تبودلت من غیر دلیل واضح،و دون وجود سبب معلوم خروجه علی السنة،أو ما علم من الدین بالضرورة،و من التفاصیل التی أوردناها علمنا أن المذاهب قد شملتها حرب الاتهامات،و کان الشیعة دون هذه المذاهب فی أتون الفرقة و الانقسام،یتألب الحکام ضدهم،و یوجّهون إلیهم سیوفهم،و قد مرّت السنون و تعاقبت القرون،فإذا الحکام ما زالوا یرون فی الشیعة خطرا،و یؤلّبون علیهم المذاهب الأخری،فیبذلون الأموال الطائلة،و یستأجرون الأقلام الرخصیة.و لو لا مصالح المتحکّمین لرأینا أن الروح الإسلامیة التی تجمعنا إلی إخواننا فی الدین و نعیشها فی حیاتنا الیومیة و فی المحافل و اللقاءات،و ما تقود إلیه نظرة الحق و الإنصاف من علاقات تستهین ببعد الدیار،و تنائی الأقطار هی الغالبة.و قد عشت علاقات من الودّ و الإخاء تجمعنی مع إخوان علماء و مختصین فی الأقطار الإسلامیة،کان سبب تعارفنا هو تبادل الرأی و المناظرة الحرّة،و کم واجهت حروبا من الجهلة المتعصبین الذین تحجّروا و أغلقوا علی أنفسهم منافذ الرأی و طریق التدبّر.

و لا نرید هنا أن نهمل ذکر الدوافع الأساسیة علی نهجنا فی العرض لأئمة المذاهب،فنحن نعترف بالمکانة العلمیة و المنزلة التاریخیة لکل منهم،و نجهد فی إبراز جوانب حیاتهم،و التی تکشف لنا أن أئمة المذاهب بعلمهم و دینهم لم یباشروا بأنفسهم العداء للشیعة،و لم یسهموا فی إقامة العداء بین المذاهب،فإن حدث اختلاف فی الرأی فهو فی مجالس العلماء و أصحاب الشأن،یتم بتقالید المناظرة و طرق الاحتجاج و یبقی الحکم للحق.کما أن أئمة المذاهب لم یعرف عنهم بعدّ یؤدی إلی العداء،بل کانوا ما بین متلق مباشرة عن الإمام الصادق،أو متعلم من مدرسة أهل البیت و فقههم،و ممن لا یتجاهلون مکانة الصادق و أهل بیته.و قد کان للحکام أثرهم فی اتجاهات الناس و مشاعرهم،فیما کان الإمام الصادق یتمتع بذلک السلطان الروحی،و یقوم بأعباء الرئاسة الدینیة فی إمامته.

و رأینا بعد هذه الفترة من الانقطاع بین صدور آخر جزء من الکتاب و صدور الجزء السابع و الثامن،أن نجعل کل جزء یتضمّن بحثا عن حیاة إمامین من أئمة المذاهب.

و نبدأ بالبحث عن حیاة الإمام أبی حنیفة:

ص:134

أبو حنیفة

اشارة

:

ذکرنا فی الجزء الأول من کتابنا بعضا من جوانب شخصیة الإمام أبی حنیفة و عوامل شهرته،و یواجه الباحث فی ذلک أکثر أنواع الإعجاب و أشدّ أشکال العداء.فقد أطلق علیه أنصاره کل ما یخطر ببال من مفردات الإطراء و الإعجاب، فرفعوه إلی مستوی الأنبیاء،و فوق درجة الأولیاء.بینما هبط خصومه بشخصیته إلی مستوی الدون،فجرّدوه من کل فضیلة،و سلبوه کل ما یؤهله لمنزلة علمیة أو مکانة دینیة.

و نحن فی خضمّ هذه التناقضات،نستخلص شخصیة النعمان کرئیس مذهب و صاحب مدرسة،لنکشف بعض العوامل التاریخیة التی بقیت مهملة عن قصد،أو لم تتضح للکثیرین ممن تصدّوا للبحث،و لم یتمثلوا عناصر التاریخ أو یستوعبوا طبیعة الظرف.

و الإمام أبو حنیفة من أقرب الناس إلی أهل البیت،و أکثر أئمة المذاهب اتصالا بالإمام الصادق علیه السّلام و لقد انعکس ذلک بآثاره الواضحة فی أفکاره و مواقفه.

و ما کان الإمام أبو حنیفة لیظهر فی نظر البعض بعیدا عن أهل البیت لو لا نظرة المنصور السیاسیة.و محاولته التأثیر فی مواقف أبی حنیفة و تصرّفاته،و الاستفادة من علمه فی التأثیر علی مکانة الإمام الصادق علیه السّلام و دفعه إلی خط العداء لآل البیت.

و لقد مرّ أبو حنیفة بظرف یقرب من المحنة،استطاع أن یجتازها،و أن یحمی نفسه من عذاب الحکام و لذعات عنفهم.

تمتع أبو حنیفة بشهرة تظافرت علی قیامها عوامل کثیرة،أهمها قدرته فی القیاس،و استطاع أن تکون له مدرسة متمیزة هی التی خدمت شخصیته،و عملت علی شهرته و رفع مکانته،فقد کان أبو حنیفة محور دائرة الخلافات بین أهل الرأی و أهل الحدیث،إذ عرف بالرأی و کثرة القیاس،مع قلة العمل بالحدیث،و قد اشتهرت مدرسته بذلک،و لقیت معارضة شدیدة من حملة العلم و أهل الحدیث لاقترانها بالرأی و القیاس.

و سار أصحاب أبی حنیفة علی رأیه،و طبقوه فیما عرض لهم من مسائل.و قام

ص:135

تلامذته بنصرة مذهبه،و فی طلیعتهم القاضی أبو یوسف،و بواسطته نالت المدرسة شهرة واسعة.إذ کانت بیده تولیة القضاة،و هو بمنزلة وزیر العدل فی العصر الحاضر فهو لا یولّی إلاّ من کان علی مذهبه.کما قام جماعة بنصرة المذهب و نشره،منهم:

زفر بن الهذیل،و محمد بن الحسن الشیبانی،و الحسن بن زیاد اللؤلؤی.و غیر هؤلاء من أهل العراق الذین عرفوا بأهل الرأی کابن سماعة،و عافیة القاضی،و مطیع البلخی و بشر المریسی...و منشأ تسمیتهم بأصحاب الرأی،هو أن عنایتهم بتحصیل وجه القیاس و المعنی المستنبط من الأحکام و بناء الحوادث علیها،و ربما یقدّمون القیاس الجلی علی أخبار الآحاد کما اشتهر عن أبی حنیفة أنه قال:

علمنا هذا رأی،و هو أحسن ما رأینا،فمن قدر علی غیر ذلک فله ما رأی و لنا ما رأینا (1).

و جاء عن أبی یوسف أنه قال قبیل وفاته:کلما أفتیت به؛فقد رجعت عنه (2).

و جاء عن أبی حنیفة أنه قال لأبی یوسف:ویحک یا یعقوب لا تکتب کلما تسمع منی،فإنی قد أری الرأی الیوم و أترکه غدا،و أری الرأی غدا و أترکه بعد غد (3).

و قد اشتهر عن أبی حنیفة قوله:لا یحلّ لمن یفتی من کتبی أن یفتی حتی یعلم من أین قلت (4).و فی روایة:حرام علی من لا یعرف دلیلی أن یفتی بکلامی.و قد زید فی روایة قوله:فإننا بشر نقول القول الیوم و نرجع عنه غدا.

و لقد تشدد أبو حنیفة فی الحدیث،و کان لذلک أسبابه،إذ إن تلک الفترة قد شهدت موجات الوضع فی الحدیث،و لکی یضمن أصحاب المسائل القبول،کانت فتاواهم تساق إلی الناس بصیغ الحدیث بالنص أو بالمعنی أو بغیرها من الطرق التی شاعت،فأصبح الکذب علی الرسول الأعظم سهلا و تکسّب به لإرضاء الحکام، و وضع الأحادیث وفق أهوائهم حتی بلغ الأمر حدا یثیر سخریة الحکام،کما یثیر

ص:136


1- (1) فرید وجدی،دائرة المعارف ج 4 ص 156.
2- (2) شیخ الأمة لسید الأهل ص 138.
3- (3) الاجتهاد و المجتهدون ص 102.
4- (4) الانتقاء لابن عبد البر ص 145.

الأذی فی نفوس المؤمنین (1).و کان أبو حنیفة لا یری أن یروی الحدیث إلا ما حفظه عن الذی سمعه منه،و هی روایة أبو یوسف.أما روایة أبو حمزة فبعضها:سمعت أبا حنیفة یقول:إذا جاء الحدیث الصحیح الإسناد عن النبی علیه السّلام أخذنا به،و إذا جاء عن الصحابة تخیرنا،و إن جاء عن التابعین زاحمناهم و لم نخرج عن قولهم.و فی أخری:و ما جاءنا عن أصحابه رحمهم اللّه اخترنا منه و لم نخرج عن قولهم،و ما جاء عن التابعین فهم رجال و نحن رجال (2).و الأخیرة أقرب إلی حقیقة موقف أبی حنیفة و أخذه بالرأی.

و قد توافر لمدرسة أبی حنیفة أنصار عملوا بالرأی و أخذوا بالقیاس،و أعلنوا اختلافهم عن أهل الحدیث.فاشتهرت مدرسة الرأی،و ارتبطت باسمه و تزعّم تیارها.

و لأن تلامذة أبی حنیفة و أنصاره کانوا من النشاط و الفعالیة بالدرجة الملحوظة؛فقد استقرت مدرسة الرأی و انتشرت فی العراق.

و هناک خلاف حول الشخص الذی أرسی دعائم مدرسة الرأی و أعلی بنیانها؟ هل هو إبراهیم،أم حمّاد؟و یذهب بعضهم إلی القول بأن مؤسسها هو الخلیفة عمر بن الخطاب.فیقول أحمد أمین:و کان حامل لواء هذه المدرسة عمر بن الخطاب،و أشهر من سار علی طریقته عبد اللّه بن مسعود فی العراق،فکان یتعشّق عمر و یتعجب بآرائه.و جاء فی أعلام الموقعین:أن ابن مسعود کان لا یکاد یخالف عمرا فی شیء من مذاهبه.

و قد انطوی عهد عمر إلی أبی موسی عبد اللّه بن قیس الأشعری علی إشارات تحضّ علی القیاس عند ما قال:الفهم الفهم فیما تلجلج فی صدرک مما لیس فی کتاب و لا سنّة،ثم أعرف الأشباه و الأمثال،و قس الأمور عند ذلک،و أعمد إلی أشبهها بالحق.

ص:137


1- (1) نضرب مثلا بأبی البختری و غیره ممن جاء بعده فی مسألة إقبال خلفاء بنی العباس علی تطییر الحمام. دخل أبو البحتری علی هارون و هو یطیر الحمام،فقال له:تحفظ فی هذا شیئا؟فقال:حدثنی هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة:أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یطیر الحمام.و یأتی غیره فیضع بلا حیاء حدیثا علی لسان النبی الأعظم بإضافة«جناح»إلی حدیثه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:لا سبق إلا فی خف أو حافر.لیرضی خلیفة آخر من بنی العباس.
2- (2) الانتقاء لابن عبد البر.

و مع أن صحة هذا العهد موضع نظر،إلا أنه من أکبر دعائم القول بقدم الرأی عند القائلین به،رغم أن الطرف الآخر ینسب إلی عمر قولا یعارضه.

و قال الشعبی:کان عبد اللّه لا یقنت،و لو قنت عمر لقنت عبد اللّه (1)و یظهر من هذا أن عمر کان یعمل بالرأی،و هو مؤسس هذه المدرسة،و سار عبد اللّه بن مسعود علی منهجه،فکانت فتواه هی فتوی عمر بن الخطاب،فالرأی متحد.

أخذ أبو حنیفة العلم عن حمّاد بن سلیمان،و أخذ حمّاد عن إبراهیم النخعی، و أخذ إبراهیم عن علقمة بن قیس،و علقمة هو تلمیذ ابن مسعود،فکان إبراهیم لا یعدل بقول عمر و ابن مسعود،و إذا اجتمعا کان قول عبد اللّه أعجب لأنه کان ألطف.

و من هذا اشتهرت مدرسة الرأی فی العراق لأن عبد اللّه بن مسعود کان قد أقام فی الکوفة مدة من الزمن،و کان یفتی الناس و یحدّثهم.

قال أبو عمر الشیبانی:کنت أجلس إلی ابن مسعود حولا لا یقول:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فإذا قالها استقلّته الرعدة (2).

فإذا کان إبراهیم ألزم لأقوال ابن مسعود،فأبو حنیفة کان یلازم أقوال إبراهیم و أقرانه،و لا یجاوز إلا ما شاء اللّه،و کان عظیم الشأن فی التخریج علی مذهبه،دقیق النظر فی وجوه التخریجات.و إذا أردت أن تعلم حقیقة ذلک،فلخّص أقوال إبراهیم من کتاب الآثار لمحمد،و جامع عبد الرزاق،و مصنّف أبی بکر بن أبی شیبة،ثم قایسه بمذهبه؛تجده لا یفارق تلک المحجة إلا فی مواضع یسیرة،و هو فی تلک الموارد الیسیرة لا یخرج عمّا ذهب إلیه فقهاء الکوفة (3).

و لقد أعلنت المدینة غضبها علی أهل الرأی و بالأخص الکوفة و العراق بصورة عامة،و من شدّة الصراع و تفاقم الخلافات،تحامل حملة الآثار علی أهل العراق.

فقالوا بعدم علمهم بالحدیث،الأمر الذی ألجأهم إلی التمسّک بالرأی و العمل بالقیاس.

ص:138


1- (1) فجر الإسلام ص 240 ط 7.
2- (2) نفس المصدر السابق.
3- (3) ولی اللّه دهلوی،رسالة الإنصاف.و دائرة المعارف،فرید وجدی ج 3 ص 206.

و قد صدرت عن مالک بن أنس ألفاظ تعبّر عن عمق التأثر،فقد قیل عنه أنه قال:أنزلوهم-أی العراقیین-منزلة أهل الکتاب،لا تصدّقوهم و لا تکذّبوهم، و قولوا آمنا بالذی أنزل إلینا و أنزل إلیکم،و إلهنا و إلهکم واحد (1).

و دخل علیه محمد بن الحسن الشیبانی فسمعه یقول هذه المقالة،ثم رفع رأسه فقال للشیبانی:یا أبا عبد اللّه،أکره أن تکون غیبة،کذلک أدرکت أصحابنا یقولون.

و کان مالک إذا نظر إلی أصحاب الرأی من العراقیین یقرأ: تَعْرِفُ فِی وُجُوهِ الَّذِینَ کَفَرُوا الْمُنْکَرَ (2).

و کان یسمی الکوفة:دار الضرب.یعنی أنها تضع الأحادیث و تخرجها کما تخرج دار الضرب الدراهم و الدنانیر.

و قال عطاء لأبی حنیفة:من أین أنت؟ قال:من أهل الکوفة.

قال:أنت من أهل القریة الذین فرّقوا دینهم و کانوا شیعا؟و إن صدور أمثال هذه الأقوال من رجل کمالک بن أنس-الشخصیة الدینیة و السیاسیة فی آن واحد-لها أثرها،و إن شیوع أشیاء کهذه لها نتائجها الخطیرة التی تستلزم حشد الجهود و تعبئة القوی لردّ خطر ما ینجم من ورائها من تفاعلات.فکانت مقابلات حادة و مواجهات تتصف بالعنف و الخروج عن قواعد المساجلات العلمیة.

و قد کانت شهرة أصحاب الرأی سریعة،استطاعت أن تکون بإزاء مدرسة الحدیث بتاریخها و مواقعها،و لما کان أبو حنیفة ینتقی أصحابه و یختارهم فیتعاهدهم بالرعایة و العنایة کاختیاره لأبی یوسف و رعایته للآخرین،لذا فقد تأثروا به غایة التأثّر، و أصبحوا متفرغین لتطبیق منحی الرأی و الدفاع عنه.

کما کان أبو حنیفة یشجّع الجدل بین تلامذته،و یترکهم یتبادلون الأقوال و الحجج،و قد یستغرق ذلک وقتا طویلا فی جلسة واحدة و بإشراف أبی حنیفة.حتی نبغ تلامذته،و کانوا من أعمدة القیاس،و أصبحت صورة حلقة أبی حنیفة فی أذهان الناس تتکون من أجزاء بعضها یکمل بعضا،حتی قال وکیع لرجل قال أخطأ أبو

ص:139


1- (1) ابن عبد البر،جامع بیان العلم و فضله ج 2 ص 157. [1]
2- (2) ضحی الإسلام ج 2 ص 152.

حنیفة:کیف یقدر أبو حنیفة أن یخطئ و معه مثل أبی یوسف و زفر فی قیاسهما؟ (1).

و لکن الأمر فی المدینة غیره فی العراق،فقد کانت الصورة تظهر أبا حنیفة و هو یقود حرکة القیاس.فیروی عن الشافعی رحمه اللّه أنه قال:قیل لمالک بن أنس:هل رأیت أبا حنیفة؟قال:نعم،رأیت رجلا لو کلمک فی هذه الساریة أن یجعلها ذهبا لقام بحجته.

لقد بلغ أبو حنیفة من حضور الذهن و توقّد الذّکاء مستوی جعله یتغلب علی منافسیه بطرقه و قیاسه،کابن أبی لیلی،الذی کان اختلافه معه فی المسائل مادة کاملة ضمها مصنف کامل.و منها عند ما اجتمع أبو حنیفة و ابن أبی لیلی عند أبی جعفر المنصور فسأل ابن أبی لیلی أبا حنیفة عمن باع ثوبا و تبرأ من العیب؟فقال:إذا برأه فقد بریء.و قال ابن أبی لیلی:لا یبرأ حتی یضع یده علی العیب.فلم یزل یدخل علیه أبو حنیفة حتی قال:لو أن امرأة[و ذکر ما یعنی أنها من العباسیین]باعت عبدا و علی رأس ذکره برص،أ یجب علیها أن تضع یدها علی رأس ذکره؟فقال ابن أبی لیلی:یجب علیها ذلک.فغضب المنصور عند ذلک و أهانه،فظفر به أبو حنیفة.

لقد کان أبو حنیفة محور دائرة الخلافات،و الهدف الذی یوجه إلیه الطعن.و قد حمل العلماء علی أهل الرأی حملة شعواء،و أورد أهل الحدیث روایات عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ذم الرأی،منها:

«إن اللّه لا ینزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا،و لکن ینتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم،فیبقی أناس جهّال یستفتون برأیهم فیضلّون و یضلّون» (2).

و حدثوا عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«تفترق أمتی علی بضع و سبعین فرقة،أعظمها فتنة قوم یقیسون الدین برأیهم،یحرّمون به ما أحلّ اللّه،و یحلّون به ما حرّم اللّه» (3)و أوردوا عن عمر بن الخطاب قوله:إیاکم و أصحاب الرأی،فإنهم أعداء السنن،أعیتهم الأحادیث أن یحفظوها؛فقالوا بالرأی،فأخلّوا و أضلّوا.

ص:140


1- (1) تاریخ بغداد ج 14 ص 247. [1]
2- (2) أخرجه الحافظ ابن عبد البر بطریق عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص.
3- (3) أخرجه الحافظ ابن عبد البر بطریق عن ابن مالک الأشجعی.

إلی کثیر من الأحادیث التی أوردوها،و الأقوال التی نقلوها عن الصحابة و التابعین و أتباعهم.و اشتد النزاع و تحوّل إلی تعصّب قبلی و تحزّب إقلیمی،و أصبح من المحتّم علی أصحاب الرأی و علی العراقیین و الکوفة بالأخص أن تردّ علی تلک الهجمات،و أن تنتصر لوطنها و آرائها.

و علی هذا النحو استمر الوضع من تربّص کل فریق بالآخر،فتنابزوا و تقابلوا بانتقاص البعض للبعض،و عیّروا أهل الکوفة بالنبیذ،و أهل المدینة بسماع الغناء.

و اشتدّت عصبیة کل قوم لبلدهم،و کان للأدب قسط وافر فی هذا الصراع فی عصر أبی حنیفة و بعده.

قال عمار الکلبی یذم أهل الحدیث:

إن الرواة علی جهل بما حملوا مثل الجمال علیها یحمل الودع

لا الودع ینفعه حمل الجمال له و لا الجمال بحمل الودع تنتفع

و یقول بعضهم:

یحمل أسفارا له و ما دری إن کان ما فیها صوابا أو خطأ

إن سئلوا قالوا کذا روینا ما ان کذبناه و لا اعتدینا

و قال بکر بن حماد قصیدة منها:

و کل شیاطین العباد ضعیفة و شیطان أصحاب الحدیث مرید

و أثارت هذه القصیدة حمیّة کثیر من الشعراء المنتصرین لأهل الحدیث، فعارضوها بعدة قصائد کابن غیاث عبد السلام بن یزید إذ یقول:

تعرّضت یا بکر بن حمّاد حطة بأمثالها فی الناس شاب ولید

فذمّک هذا فی المقال مذمّم و ذمّک هذا فی الفعال حمید

و هی قصیدة طویلة (1).

و منها قول أحمد بن عصفور یعارض ابن حمّاد:

ص:141


1- (1) جامع بیان العلم و فضله ج 2 ص 126. [1]

أیا قادحا فی العلم زند عمائه رویدا بما تبدی به و تعید

جعلت شیاطین الحدیث مریدة ألا إن شیطان الخلال مرید

و جرّحت بالتکذیب من کان صادقا فقولک مردود و أنت عنید

و مهما کان الشعر فی معرکة الرأی و الحدیث فإنه لا یبلغ فی تأثیره و فعله ما یصدره أصحاب الحدیث أنفسهم و الذین یتصدّون للردّ علی أهل العراق و إعلان سخطهم علی أبی حنیفة لأنه یتزعم حرکة القیاس بإزائهم.

و قد أجحف خصومه فی نقده و التحامل علیه و الطعن فی معتقده حتی قالوا عنه:إنه استتیب من الکفر مرتین (1).و إنه إذا جاء الحدیث عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیخالفه إلی غیره (2)و قد خالف مائتی حدیث عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (3).

و قد حددوا کفره بالقرآن بآیتین،کما ورد عن شریک أنه قال:کفر أبو حنیفة بآیتین من کتاب اللّه... (4).

و قد جعلوا وجوده ضررا علی الإسلام،و بقاءه هدما للدین و فتکا بالمسلمین، لأنه یهدم الإسلام عروة عروة،و أنه شر مولود ولد فی الإسلام (5).

و قد أورد الخطیب فی تاریخه،و ابن عبد البرّ فی انتقائه أقوالا کثیرة أطلقها خصومه،و شاعت فی أندیة المجتمع،حتی بلغت إلی المنامات و الأطیاف،إذ کان لها سوق رائج فی عصور التطاحن المذهبی،و لا أری داعیا لاستعراض تلک الأقوال مناقشا لها أو مؤیدا.و سنعاود بحث أمرها فی الجزء الثامن.

و علی أی حال،فقد دلنا التتبع علی أن شخصیة أبی حنیفة لمعت بعد أن رسخت قدم تلامذته فی الدولة،و أصبح لهم النفوذ التام عند ما ارتبطوا ارتباطا وثیقا بسیاستها،و کان فیهم القضاة و ذوو النفوذ،فانتشر المذهب المنسوب إلیه،و اتسعت مدرسته بقوة تلامذته،و قد أدت عوامل التضارب و شدة الخلافات إلی إیجاد جو

ص:142


1- (1) الانتقاء لابن عبد البر ص 150.
2- (2) مختلف تأویل،الحدیث ص 63.
3- (3) ابن عبد البر،الانتقاء ص 150.
4- (4) الخطیب،تاریخ بغداد ج 13 ص 372. [1]
5- (5) الانتقاء ص 150.

مضطرب حمل بعض الاتباع علی أن یضعوا الأخبار،و یختلفوا الحکایات.بل وضعوا کتبا مطولة لإعلاء شأنه.مما أدی بالباحث عنه أن یجد الصعوبة فی بحثه عن الحقیقة الکامنة وراء أکداس من الدعایات.فإذا أردنا الوقوف علی حقیقة ما یدّعی له من سعة العلم،و أن الناس عیال علیه،و إنه وضع سبعین ألف مسألة فی الفقه،فإنّا نجد أقرانه و معاصریه لم یعرفوا عنه ذلک،کما أن تلامذته و المنتسبین لمدرسته قد خالفوه فی کثیر من الآراء،و ردّوا الکثیر من أقواله.و أقوالهم فی جمیع الأبواب الفقهیة إلی جنب أقواله.فمرة یتّفقون معه،و مرة یخالفونه.و قد بیّنا منزلته فی الحدیث،و ما قالوه عنه:بأنه لم یکن صاحب حدیث بل قیّاسا.و أنه لم یعرف إلا سبعة أحادیث.و قد وجدنا أکثر الرواة و المحدّثین لم یرووا عنه،و ضعّفه البخاری (1)و ترک حدیثه،و کذلک بقیة أصحاب الصحاح الستة.و قال یحیی بن معین:لم یکن أبو حنیفة صاحب حدیث.و قد مرّت الأقوال فی ذلک.و نحن لا نذهب لتأییدها، لأنها کانت مصوغة بقالب التحامل علیه.

لقد کان أبو حنیفة حریصا علی طلب العلم،عرف بقدرته علی المناظرة و ذکائه و نباهته،و کان محمد یختلف إلی الإمام الصادق علیه السّلام و یسأله عن کثیر من المسائل مع أدب و احترام،و لا یخاطبه إلا بقوله:جعلت فداک یا ابن رسول اللّه.و قد روی أبو حنیفة عن الإمام الصادق.و کان الإمام الصادق ینهاه عن القیاس،و یشدّد الإنکار علیه و یقول:«بلغنی أنک تقیس الدین برأیک،لا تفعل فإن أول من قاس إبلیس».

و قد علم الإمام الصادق صفات أبی حنیفة و قدراته،فکان علیه السّلام یوجّه إلیه المسائل التی تتفق مع ما عرف عن أبی حنیفة من الذکاء.قال له الإمام علیه السّلام:«یا أبا حنیفة ما تقول فی محرم کسر رباعیة ظبی؟قال:یا ابن رسول اللّه ما أعلم فیه.فقال:

أنت تتداهی و لا تعلم أن الظبی لا یکون له رباعیة،و هو ثنی أبدا» (2).

ص:143


1- (1) کان طعن البخاری فی أبی حنیفة فی کتابه الضعفاء لا یقل نقمة و سخطا عن منهج الخطیب البغدادی علی قلة العبارة و موجز القول.و قد کان النسائی فی کتابه الموسوم بالضعفاء و المتروکین أقل سخطا.
2- (2) المصاید و المطارد لکشاجم ص 202.و وفیات الأعیان ج 1 ص 212.و [1]مرآة الجنان ج 1 ص 305.

و یظهر لنا تاریخ حیاة أبی حنیفة،أنه کان من الشخصیات المرموقة فی عصره، و کانت له حلقة درس یرتادها جماعة و فی طلیعتهم تلمیذه الأول أبو یوسف.

و أصبحوا من بعده علماء و لهم أراؤهم الخاصة و أقوالهم المنفردة عن قوله،و لأن أبا حنیفة قد عرف بالقیاس؛فقد نقم علیه علماء عصره،و شدّدوا علیه النکیر.فلم یخضع لواحد منهم إلاّ للإمام الصادق علیه السّلام کما یستدل من قوله المشهور:لو لا السنتان لهلک النعمان.و المراد بالسنتین هما اللتان قضاهما فی المدینة مع الإمام الصادق علیه السّلام فی آخر أیامه،و أخذ عنه العلم،و قد نهاه عن استعمال القیاس و قال له:«إنه أول من قاس إبلیس»فی قصة طویلة.و مما یدلّ من بعض آثاره أنه ترک القیاس،إلاّ أن مدرسته ظلّت تأخذ به،و کما اشتهرت مدرسة أبی حنیفة بالقیاس، فقد اشتهرت باستعمال الحیل الشرعیة،و قد نسبوا له کتاب الحیل الشرعیة.و من المستحسن الإشارة لذلک بموجز من البیان لتظهر لنا حقیقة لها أهمیتها فی تاریخ حیاة الإمام أبی حنیفة.فهل کان أبو حنیفة یستعمل الحیل،و أنه وضع فی ذلک کتابا تداوله الناس،أم أنها نسبة لا أصل لها؟.

الحیلة الشرعیة

:

الحیلة مأخوذة من الاحتیال،و هی الحذق و جودة النظر،و القدرة علی التصرّف.

و أکثر استعمالها فیما فی تعاطیه خبث،و قد تستعمل بما فیه حکمة،و لقد غلب فی العرف اللغوی إطلاقها علی ما یکون من الطرق الخفیة التی یتوصل بها إلی حصول الغرض،بحیث لا یتفطّن له إلا بنوع من الذکاء و الفطنة،و تنصرف أیضا إلی الطرق الخفیة التی یتوصل بها إلی الغرض الممنوع منه شرعا أو عقلا،أو عادة.و یقصد بها الحیل التی تستحلّ بها المحارم،و أطلقها الفقهاء علی المخارج من المضایق بوجه شرعی لمن ابتلی بحادثة دینیة.و الحیلة ترتبط بالرأی،و حیث کانت مدرسة أبی حنیفة معروفة بالرأی،فقد عرفت هذه المدرسة بالحیل الشرعیة.و قد اشتهر عن أحمد بن حنبل أنه قال:هذه الحیل التی وضعها أبو حنیفة و أصحابه،عمدوا إلی السنن فاحتالوا فی نقضها،أتوا إلی الذی قیل إنه حرام احتالوا فیه حتی أحلّوه.

و یظهر من کلمة الإمام أحمد هذه أنهم-أی أصحاب أبی حنیفة-استعملوا الحیل غیر الجائزة و الممنوعة شرعا،و قد اهتم المذهب الحنفی من بین المذاهب

ص:144

بالحیل،فقد ألفوا کتبا فی الحیلة،و قد نسب لأبی یوسف کتاب فی الحیل (1)و لکنه مفقود الآن،و کذلک لمحمد بن الحسن الشیبانی کتابا فی الحیل رواه عنه معاصره أحمد بن حفص البخاری.و رواه أیضا موسی بن سلیمان الجوزجانی المتوفی سنة 244 ه کتابا ألّف أحمد بن عمر الشیبانی الخصّاف-أحد قضاة الدولة المتوفی سنة 261 ه-کتابا فی الحیل،و کثیر من الکتب فی هذا الموضوع نسبت إلی الحنفیة.

أما أبو حنیفة،فلا یعلم بالضبط أن له کتابا فی الحیل کان أبو حنیفة یستعمله، و قد نسب لابن المبارک أنه قال:من استعمل کتاب الحیل لأبی حنیفة أو أفتی بما فیه؛ فقد بطل حجّه،و بانت منه امرأته.

و لا نعلم مقدار صحة هذا القول من ابن المبارک،فهو من أصحاب أبی حنیفة و مناصریه،و لا ندری هل أن أبا حنیفة استعمل الحیل الجائزة أم المحرمة.فإن کان الأول،فلیس لنا أن نحصر الأمر به،فإن حدّة الذهن و التخلّص من المشاکل لم یکن من امتیاز أبی حنیفة وحده،إذ الأمور المشروعة فی الحیل قد سبق العمل بها فی العصر الذی سبق عصر أبی حنیفة.أما إذا کان استعماله للحیل غیر الجائزة و هی الاحتیال علی حلّیة ما هو حرام،أو علی إسقاط ما هو واجب أو غیر ذلک،فهل یمکننا أن نحمّل أبا حنیفة مسئولیة فتح هذا الباب،و لم یصل إلینا کتاب یدل علی استعماله للحیل غیر الجائزة؟فهو لم یؤلف فی ذلک کتابا لا فی الحیل و لا غیرها،أما کتاب العالم و المتعلم فهو کتاب صغیر لا یدل علی مکانته العلمیة و منزلته التی وصفوه بها،و لم یتفق علی صحّة نسبته إلی أبی حنیفة.

و لیس ببعید أن یکون أصحابه قد استعملوا الحیل غیر الجائزة و نسبوها لرأیه، کما هو شأنهم فی کل مسائل المذهب،فإنهم یستخرجون المسألة الشرعیة حسب نظرهم و رأیهم،و یقولون هذا رأی أبی حنیفة،مستندین إلی قاعدة:أنه یعمل بما صحّ عنده من الحدیث.فهم یصحّحون الأحادیث لتقویم فتاواهم،و یسندون الکل لأبی حنیفة.و قد عقد ابن قیم الجوزیة فصلا طویلا فی کتابه(أعلام الموقعین)ذکر فیه

ص:145


1- (1) الحیوان للجاحظ ج 3 ص 11.

الحیل المحلّلة و الحیل المحرّمة،و ذکر الأخبار فی ذلک،و أفاض فی البیان فأکثر و قال فیما قال:

و المقصود أن هذه الحیل لا تجوز أن تنسب إلی إمام،فإن ذلک قدح فی إمامته، و ذلک القدح یتضمّن القدح فی الأمة،حیث ائتمّت بمن لا یصلح للإمامة،و هذا غیر جائز.و لو فرض أنه حکی عن واحد من الأئمة بعض هذه الحیل المجمع علی تحریمها،فإما أن تکون الحکایة باطلة،أو یکون الحاکم لم یضبط لفظه،فاشتبه مع بعد ما بینهما.و لو فرض وقوعها منه فی وقت ما فلا بد أن یکون قد رجع عن ذلک.

و لیس الأمر هنا للافتراض و اللاّبدیة،و إنما المدار علی الواقع.فإن الأکثر ینسبون لأبی حنیفة فتاوی بالحیل الممنوعة،کما نسبوا إلیه کتابا فی ذلک،و الأمر یحتاج إلی تدقیق و تمحیص،لا للافتراض و اللاّبدیة.

و قال ابن قیّم:فهذه الحیل و أمثالها لا یحلّ لمسلم أن یأتی بها فی دین اللّه،و من استحلّ الفتوی بهذه،فهو الذی کفّره الإمام أحمد و غیره من الأئمة حتی قالوا:(إن من أفتی بهذه الحیل؛فقد قلب الإسلام ظهرا لبطن،و نقض عری الإسلام عروة عروة).

و إلی هذا الحد لم تتعین الفرقة التی اتسعت دائرة الحیل باستعمالها،هل هم الحنیفیة فقط؟أم یشارکهم غیرهم فی ذلک؟و قد نقل عن بعضهم أنهم قالوا:ما نقموا علینا من أنّا عمدنا إلی أشیاء کانت حراما علیهم،فاحتلنا فیها حتی صارت حلالا؟ و قال آخرون منهم:إنّا نحتال للناس منذ کذا و کذا سنة فی تحلیل ما حرّم اللّه علیهم.

و لا ندری من هو القائل،و إلی أی فرقة ینتسب،و إلی أی مذهب یرجع.

قال أحمد بن زهیر:کانت امرأة هاهنا بمرو،أرادت أن تختلع من زوجها، فأبی زوجها علیها.فقیل لها:لو ارتددت عن الإسلام لبنت منه.ففعلت،فذکر ذلک لعبد اللّه بن المبارک فقال:من وضع هذا الکتاب فهو کافر،و من سمع به فهو کافر، و من حمله من کورة إلی کورة فهو کافر،و من کان عنده فرضی به فهو کافر.قیل له:

یا أبا عبد الرحمن:إن هذا الکتاب وضعه إبلیس؟قال:إبلیس من الأبالسة.و قال النضر بن شمیل فی کتاب الحیل ثلاثمائة و عشرون أو ثلاثون مسألة کلها کفر.و ذکر کتاب الحیل لشریک بن عبد اللّه القاضی فقال:من یخادع یخدعه.و قال إسماعیل بن حمّاد:قال القاسم بن معن قاضی الکوفة:کتابکم هذا الذی کتبتموه فی الحیل

ص:146

کتاب الفجور.و إسماعیل بن حمّاد هو حفید النعمان بن ثابت أبی حنیفة.و من هنا یظهر أن الکتاب الذی یتضمن الحیل المحرمة هو من وضع الحنیفة،لا من وضع أبی حنیفة نفسه.

قال یزید بن هارون:لقد افتی أصحاب الحیل بما لو أفتی به النصرانی أو الیهودی کان قبیحا (1).و نقل عن أحمد بن حنبل عن محمد بن مقاتل قال:شهدت هشاما و هو یقرأ کتابا،فانتهی بیده إلی مسألة فجازها،فقیل له فی ذلک فقال:دعوه.

و کره مکانی،فتطلعت فی الکتاب فإذا فیه:لو أن رجلا لفّ علی ذکره حریرة فی شهر رمضان،ثم جامع امرأته نهارا فلا قضاء علیه و لا کفارة (2).

فالحیلة فی فسخ المرأة النکاح:أن ترتدّ،ثم تسلم.

و الحیلة فی سقوط القصاص عمن قتل أم امرأته:أن یقتل امرأته إذا کان لها ولد منه.

و الحیلة فی سقوط الکفارة عمن أراد الوطی فی رمضان:أن یتغدّی،ثم یطأ بعد الغداء.

و الحیلة لمن أراد أن یفسخ نکاح امرأته و یحرّمها علی نفسه علی التأبید:أن یطأ حماته أو یقبّلها.

و الحیلة لن أراد سقوط حدّ الزنا:أن یسکر،ثم یزنی.

و الحیلة لمن أراد سقوط الحج عنه مع قدرته:أن یملّک ماله لابنه عند خروج الرکب،فإذا أبعد استردّ ماله.

و الحیلة لمن أراد أن یملک مال غیره بغیر رضاه:أن یفسد علیه،أو یغیّر صورته فیملکه،فیذبح شاته،و یشقّ قمیصه،و یطحن حبه.

و الحیلة لمن أراد قتل غیره و لا یقتل به:أن یضربه بدبوس أو مرزبة حدید،ینثر دماغه فلا یجب علیه القصاص.

ص:147


1- (1) أعلام الموقعین ج 3 ص 148.
2- (2) أعلام الموقعین ج 3 ص 150.

و الحیلة لمن أراد أن یسقط عنه حدّ السرقة:أن یدّعی أن المال له،و أن له فیه شرکة،فیسقط عنه الحد بمجرد دعواه.

و الحیلة لمن أراد سقوط حدّ الزنا عنه بعد أن یشهد علیه أربعة عدول غیر متّهمین،أو أن یصدّقهم فیسقط عنه الحدّ بمجرد تصدیقهم.

و الحیلة لمن أراد الصید فی الأحرام:أن ینصب الشباک قبل أن یحرم،ثم یأخذ ما وقع فیها حال إحرامه بعد أن یحلّ.

هذا بعض ما ذکروه من استعمال الحیل.و قد نقل عن أبی حنیفة أنه یفتی ببعضها کاستئجار الجاریة لکنس البیت.و حوادث أخری مشهورة ذکرتها المصادر.

منها:ما ذکره ابن عبد البر فی الانتقاء عن شریک أنه قال:کنا فی جنازة غلام من بنی هاشم،و قد تبعها وجوه الناس و أشرافهم،فأنا إلی جنب ابن شبرمة أماشیه إذ قامت الجنازة،فقیل:ما للجنازة لا یمشی بها؟قیل:خرجت أمه والهة علیه سافرة وجهها فی قمیص.فحلف أبوه بالطلاق لترجعنّ،و حلفت هی بصدقة ما تملک لا رجعت حتی تصلی علیه،و کان یومئذ مع الجنازة ابن شبرمة و نظراؤه،فاجتمعوا لذلک، و سئلوا عن المسألة،فلم یکن عندهم جواب حاضر.قال:فذهبوا،فدعوا بأبی حنیفة -و هو فی عرض الناس-فجاء مغطّیا رأسه و المرأة و الزوج و الناس وقوف،فقال للمرأة:علام حلفت؟قالت:علیّ کذا کذا.و قال للزوج بم حلفت؟قال:بکذا.قال ضعوا السریر فوضع،و قال للرجل تقدّم فصلّ علی ابنک.فلما صلّی قال:ارجعی، فقد خرجتما عن یمینکما،احملوا میّتکم.فاستحسنها الناس.

و کان المنصور یعرف عنه هذه القدرة فی إیجاد المخارج.یروی حمزة بن عبد اللّه الخزاعی أن أبا حنیفة هرّب من بیعة المنصور جماعة من الفقهاء،ثم قال أبو حنیفة:لی فهم أسوة.فخرج مع أولئک الفقهاء،فلما دخلوا علی المنصور أقبل علی أبی حنیفة وحده من بینهم فقال له:أنت صاحب حیل،فاللّه شاهد علیک أنک بایعتنی صادقا من قلبک؟قال:اللّه یشهد علیّ حتی تقوم الساعة.فقال:حسبک.فلما خرج أبو حنیفة قال له أصحابه:حکمت علی نفسک ببیعته حتی تقوم الساعة؟قال:إنما عنیت حتی تقوم الساعة من مجلسک إلی بول أو غائط أو حاجة،حتی یقوم من

ص:148

مجلسه ذلک (1).و علی کل حال فقد اشتهر المذهب الحنفی بالعمل بالحیل الشرعیة.

یقول الدکتور علی عبد القادر:بقی أبو حنیفة فی نظر أتباعه صاحب الفضل فی الحیل المتعلقة بالحلف،و من هنا أخذ الأحناف یذکرون عن إمامهم ماله من حدة ذکاء فی مسائل الحلف،و قد کانت کتب الحنفیة فی الحیل قد انتشرت بین الناس،فکان من أثر هذا أن أخذ الشافعیة کذلک ینافسونهم فی هذا المیدان،و یؤلفون فی الحیل.

هذا فی رأینا هو الباعث علی وجود کتب الحیل فی مذهب الشافعی بعد إن کان إمامهم یحکم علیها بالحرمة أو الکراهة،بالرغم من الاعتراف بصحتها من حیث الظاهر،و قد استمر علی مخاصمة الحیل فی المذهب کل من:الغزالی و عبد الرحمن بن زیاد.و لکن ابن حجر نازعهم فی هذا فی فتاویه،و بقی رأیه هو الذی علیه العمل فی المذاهب (2).

و من مسائل الحیل التی کثر الاختلاف بها هی الحیلة علی إسقاط حق الشفعة، و قد أقرّت الشریعة الإسلامیة حق الشفعة للشریک.و قام الدکتور عبد السّلام ذهنی بتناولها فی کتابه(الحیل المحظور منها و المشروع).

و ذهب بعض العلماء الأول إلی أن القیاس یأبی ثبوت حق الشفعة،لأنه یتملک علی المشتری ملکا صحیحا له بغیر رضاه،و ذلک لا یجوز،فإنه من نوع الأکل بالباطل،و تأیید هذا بقول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«لا یحلّ مال امرئ مسلم إلا بطیب نفس منه» و لأنه بالأخذ یدفع الضرر علی نفسه علی وجه یلحق الضرر بالمشتری فی إبطال ملکه علیه،و نقل هذا الوجه عن أبی بکر الأصمّ (3)و قیل فی الشفعة بأن فیها رفعا لضرر موهوم عند الشفیع،فی مقابل ضرر محقق لدی المشتری (4).و لذا تجب العنایة بالضرر الواقع،و صرف النظر عن الضرر الموهوم.و قیل فیها بأن حکمة الشارع منها اقتضت رفع الضرر عن المکلفین ما أمکن (5).

ص:149


1- (1) الانتقاء،ص 159 و 161.
2- (2) نظرة عامة ص 241.
3- (3) انظر:نیل الأوطار.
4- (4) ابن عابدین ج 5 ص 143.
5- (5) أعلام الموقعین ج 3 ص 247.

و قد اختلفوا بجواز التحایل فیها،و صوّروا لذلک صورا منها:إذا ترک البائع قطعة أرض علی ملکه بین العقار المبیع و الشفیع حتی لا یستطیع هذا الأخیر الادعاء بالجوار.أو أن یهبه تلک القطعة الفاصلة لتحول دون الشفعة بسبب الهبة.

و قال أبو حنیفة و الشافعی بجواز الاحتیال فی الشفعة لإسقاطها،لأنها من الحقوق غیر المستحبّة.و قال بذلک مالک،و أحمد،و حجتهم أن الحیلة أمر مستنبط من الکتاب و السنّة؟! و یقول فریق آخر:بعدم جواز الحیلة فی سبیل إسقاط الشفعة،لأن الحیلة إنما هی رخصة لضعفاء المؤمنین،و لأن التحیّل لإبطال الشفعة شرّعت لدفع الضرر.فلو شرّع التحیّل لإبطالها،لکان عودا علی مقصود الشریعة بالإبطال،و یلحق الضرر الذی قصد إبطاله (1).

و اتفق علماء المسلمین علی ثبوت الشفعة للشریک،أما الشفعة بالجوار فقد اختلفوا علی ثلاثة أقوال:فأهل الکوفة یثبتون شفعة الجوار و لو مع تمییز الطریق و الحقوق.و أهل المدینة یسقطونها و لو مع الاشتراک.و أهل البصرة یثبتونها إذا وقع الاشتراک فی حق من حقوق الأملاک.

و علی أی حال،فإن هذه المسألة هی من المسائل الهامة التی اشتهرت بها مدرسة أبی حنیفة،و قد ضاعف ذلک تفاقم النقمة علیها و توجیه الانتقاد إلیها،و قد نسبوا إلی أبی حنیفة أنه وضع کتابا فی الحیل فهم یستمدّون منه و یأخذون عنه،و لا بد من التحقق من ذلک و ثبوته،و ربما أنهم أخذوا من فتاوی أبی حنیفة و قواعده و زادوا،فسوّغوا استعمال الحیل بشتی أنواعها،کما هو الشأن فی جمیع أبواب الفقه المنسوب لأبی حنیفة،فإسناد الفتوی له إنما هو استنتاج یکشف عن رأیه،بمعنی أنه لو عاش أبو حنیفة لکان هو رأیه،أو علی قاعدة الترخص منه بقوله:إذا صحّ الحدیث فهو مذهبی.

ص:150


1- (1) أعلام الموقعین ج 3 ص 229.و المیزان للشعرانی ج 2 ص 87.
صلته مع العلویین
اشارة

:

نشأ أبو حنیفة فی الکوفة،و کانت منبعا للحرکات الثوریة،فکم من ثورة عارمة قامت ضد سلطة فأخمدتها القوة،و أخری استطاعت أن تخمد قوة السلطة و تقیم دولة مستقلة زمنا طویلا،و الحرکة التی أطاحت بالدولة الأمویة کان منشؤها الکوفة،البلدة التی ولد فیها أبو حنیفة و نشأ فیها،و کان یشارک الثوار فی حرکاتهم سرا أو علانیة، و قد نکل به ابن أبی هبیرة عامل بنی أمیة،و ضربه بالسیاط.

و عاش أبو حنیفة وسط أحداث سیاسیة،کان لها الأثر فی نبوغه و معرفة اتجاهه و منحاه السیاسی الذی ینتهجه.

و قد تجلّت موهبته،و ظهر نشاطه و میله للعلویین عند ما ظهر زید بن علی بالکوفة سنة 124 ه فکان یری إمامة زید،و أنه علی الحق،فأرسل إلیه زید رسالة مع الفضل ابن الزبیر یدعوه إلی بیعته،فلما بلّغه الفضل رسالة زید،ذکره أبو حنیفة بکل جمیل،و ألزم الخروج معه،و قال:لو علمت أن الناس لا یخذلونه کما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه إمام الحق،و لکن أعینه بمالی.ثم بعث إلیه بالمال و هو ثلاثون ألف درهما،و قیل ثلاثون ألف دینارا،و قال للرسول:أبسط عذری عنده..

و سئل أبو حنیفة عن خروج زید فقال:ضاهی خروج رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یوم بدر.

فقیل له:لم تخلّفت عنه؟قال:حبستنی عنه ودائع الناس،عرضتها علی ابن أبی لیلی فلم یقبل،فخفت أن أموت محمّلا.و کان کلما ذکر خروج زید بکی.

کما إنه انتصر لمحمد بن عبد اللّه بن الحسن و أخیه إبراهیم،و کان یحثّ الناس علی الخروج للحرب مع إبراهیم و کان یقول:غزوة مع إبراهیم أفضل من خمسین حجة بعد حجة الإسلام (1).و کان الإمام أبو حنیفة عند ذکر مصاب محمد النفس الزکیة،یفعل کما یفعل عند ذکر استشهاد زید،فتدمع عیناه..

و جاءت إلیه امرأة فقالت:إن ابنی یرید هذا الرجل-أی إبراهیم-و أنا أمنعه؟ فقال:لا تمنعیه (2).

و قال أبو إسحاق الفزاری:جئت إلی أبی حنیفة فقلت له:أما اتقیت اللّه!أفتیت

ص:151


1- (1) المکی ج 2 ص 84.
2- (2) المصدر السابق.

أخی بالخروج مع إبراهیم بن عبد اللّه بن الحسن حتی قتل؟فقال:قتل أخوک حیث قتل،یعدل قتله لو قتل یوم بدر،و شهادته مع إبراهیم خیر له من الحیاة (1).فکان إسحاق یبغض أبا حنیفة.

و من هذا نستظهر أن أبا حنیفة معروف بمیله للعلویین،و لذا وجه إلیه زید الدعوة للخروج معه،و جاء فی اعتذار أبی حنیفة فی بعض الروایات أنه کان مریضا.

أو أن لدیه ودائع للناس ملزم بحفظها أو ردّها،کما أن استفتاء الناس له بالخروج مع إبراهیم،یدلّ علی مکانته الاجتماعیة فی ذلک المجتمع.و بجانب ذلک،فقد کانت له مکانة سیاسیة و ید فی الثورة،و قد أرسل رسالة إلی إبراهیم،یشیر علیه أن یقصد الکوفة لیعینه الزیدیة،و قال:ائتها سرا،فإن من فیها من شیعتکم یبیّتون أبا جعفر فیقتلونه أو یأخذون برقبته فیأتونک به.

و لما توجه إبراهیم لمقابلة عیسی بن موسی-القائد العباسی-و قامت الحرب بینهما،کان أبو حنیفة یدعو الناس للخروج معه.قال أبو نعیم:سمعت زفر بن الهذیل یقول:کان أبو حنیفة یجهر فی أمر إبراهیم جهرا شدیدا،و یفتی الناس بالخروج معه.فقلت له:و اللّه ما أنت بمنّته عن هذا،حتی توافی فتوضع فی أعناقنا الحبال (2).

و حدّث محمد بن الحسن و غیره من أصحابه:أن أبا حنیفة کتب إلی إبراهیم بن عبد اللّه لمّا توجّه إلی عیسی بن موسی:إذا أظفرک اللّه بعیسی و أصحابه فلا تسر فیهم سیرة أبیک فی أهل الجمل،فإنه لم یقتل المنهزم و لم یأخذ الأموال،و لم یتّبع مدبرا، و لم یذفّف علی جریح،لأن القوم لم یکن لهم فئة.و لکن سر فیهم بسیرته یوم صفین،فإنه سبی الذریة،و ذفّف علی الجریح لأن أهل الشام کانت لهم فئة،و کانوا فی بلادهم (3).

فظفر أبو جعفر بکتابه،فکان الهدف الرئیسی من عرض القضاء علی أبی حنیفة -بعد مدة-هو اتخاذ وسیلة للقضاء علیه بحجة امتناعه عن معاونة الدولة،و کان أبو

ص:152


1- (1) المقاتل ص 246. [1]
2- (2) المقاتل و [2]تاریخ بغداد ج 13 ص 329 و 330. [3]
3- (3) المصدر السابق ص 247. [4]

حنیفة یری حرمة التعاون معهم لأنهم أئمة جور.و قد کان لأبی حنیفة اتصال بالإمام الباقر علیه السّلام و ولده الإمام الصادق علیه السّلام و یعدّ من تلامذتهما،کما أنه اتصل بعبد اللّه بن الحسن و کان یعدّ من شیوخ أبی حنیفة.

و یقول الأستاذ محمد أبو زهرة

:

لقد کان أبو حنیفة یمیل إلی أولاد علی،و یری أنهم أحقّ بالخلافة من بنی العباس،و کانت لرابطة العلم تأثیر فی ولائه و اتجاهه السیاسی،إذ کان تلمیذا لعبد اللّه بن الحسن،کما أنه علی علاقة وثیقة بزید و جعفر الصادق،و لذلک لمّا خرج إبراهیم بن عبد اللّه بن الحسن علی المنصور،کان هوی أبی حنیفة معه،و لم یکتف بذلک،بل ثبّط أحد قوّاد المنصور-و هو الحسن بن قحطبة-عن الخروج لحرب إبراهیم.

و یبدو تأثیر الإمام الصادق علی أبی حنیفة من خلال مقاطعته الدولة العباسیة، فقد صرّح الإمام الصادق-کما رأینا-بعدم معاونة الظالمین،و قطع الصلة بین الرعیة و بین السلطة الحاکمة،و هو ما یسمی ب(العصیان المدنی) (1).فعند ما أراد المنصور أن یختبر طاعته و ولائه عرض علیه القضاء،فامتنع أبو حنیفة.ثم أراد إخراجه،فطلب منه الاشتراک بالعمل فی بناء مدینة بغداد-و هی ما زالت تبنی-فأبی أبو حنیفة.

و أقسم المنصور أن یفعل،و أبو حنیفة یأبی.ثم قبل منه أن یعدّ اللبن فی بناء بغداد، و أبرّ بذلک قسم المنصور (2)و لکنه لم یثبت هذا القول،و لم یرد فیما ورد عن أبی حنیفة فی أقواله و آرائه.

و علی أی حال،فإن أبا حنیفة کان ذا صلة بآل البیت،إذ أخذ عن الإمام محمد الباقر و ولده الإمام الصادق،و عن زید بن علی،و عبد اللّه بن الحسن.و کان یحتجّ بقول الإمام علی،و ربما کان یروی عنه بقوله:عن أبی زینب.خشیة من الأمویین.

کما أنه لم یسالم الأمویین،و اشترک فی حرکة الشیعة للإطاحة بحکمهم،فقدّم لثورة زید دعما مالیا،کما أن المعروف عنه أنه لم یسالم العباسیین،و لذا فإن فتواه التی کان

ص:153


1- (1) انظر الجزء الثانی من الإمام الصادق المذاهب الأربعة.
2- (2) تاریخ ابن خلدون ج 3 ص 418. [1]

یفتی بها،و نقده الشدید للأحکام التی کان یصدرها الحکّام کانت تثیر السخط علیه.

فمن ذلک أن المنصور استفتاه فی الذین انتفضوا علیه من أهل الموصل،هل تحلّ له دماؤهم؟فأجابه أبو حنیفة:

إنهم شرطوا لک ما لا یملکونه،و شرطت علیهم ما لیس لک،لأن دم المؤمن لا یحلّ إلا بثلاث.فقال له المنصور:یا شیخ،القول ما قلت،و لکن لا تفت الناس بما هو شین علی إمامک.

و الحقیقة أن المنصور من خلال إصراره علی تولی أبی حنیفة القضاء یکشف عن نیته فی الإیقاع به،و لیس الأمر إلا العامل السیاسی الذی کان یستفزّ المنصور و یجعله یقدم علی قتل الناس و سفک الدماء.لذا فإن امتناع أبی حنیفة عن تولی القضاء لا یجعل المنصور یقتله هذه القتلة الشیعة،و إنما أرسل المنصور لیحضر أبا حنیفة من الکوفة لیقتله و یرتاح منه لأن أبا حنیفة کان یتعاون مع العلویین،و یساعد الثوار منهم، و یقوّی إبراهیم أحمر العینین.و کان مقام أبی حنیفة فی الکوفة یؤدی إلی إثارة الرأی العام،لأنه مقبول القول عند الناس،ذو حال واسعة من التجارة.فکان المنصور یخشی من اتساع دعوة أبی حنیفة لإبراهیم و أخیه محمد،و طلبه من الکوفة إلی بغداد، و لم یجسر علی قتله علنا (1).

و علی الجملة فإن میل أبی حنیفة لأهل البیت کان أمرا یبعث السلطة علی العداء له و ترصّد الدوائر به.و سنأتی علی مزید من القول فیه.

یقول الأستاذ محمد أبو زهرة:

(و ننتهی من الکلام أن أبا حنیفة شیعی فی میوله و آرائه فی حکام عصره،أی أنه یری الخلافة فی أولاد علی من فاطمة،و أن الخلفاء الذین عاصروه قد اغتصبوا الأمر و کانوا لهم ظالمین) (2).

و أن الشیء المهم الذی یلزم أن نقف إمامه وقفة تأمل هو:شهرة أبی حنیفة العلمیة التی اکتسبت طابع الانتشار بعد موته،حتی أصبح مرجعا لملایین المسلمین،

ص:154


1- (1) انظر:السید عفیفی المحامی،حیاة الإمام أبی حنیفة.
2- (2) أبو حنیفة ص 165.

فما هی العوامل التی ساعدته،و أدّت إلی هذا الاشتهار؟فإنّا إذا لحظنا أبا حنیفة ذاته وجدنا أنه لم یکن له امتیاز علی کثیر من العلماء المبرزین من أقرانه فی عصره،نعم کان مشهورا بالقیاس،و هذا ما أوجب نقمة کثیر من العلماء علیه.

أما تفوقه العلمی و شهرته،و بقاء مذهبه و انتشاره فی الأقطار الإسلامیة،فیرجع إلی شهرة أبی یوسف،فهو تلمیذ أبی حنیفة و قد نال أبو یوسف مودّة الرشید،فکان یحبّه حبّا شدیدا و یقول:لو جاز أن أدخلک فی نسبی لفعلت.فکان لأبی یوسف المنزلة و الکلمة النافذة فی الدولة.

و لو لا أبو یوسف لما ذکر أبو حنیفة،و لکن منزلة أبی یوسف فی الدولة،و تولیته رئاسة القضاء جعلت ذکر أبی حنیفة ینتشر،و قد التفّ حوله جمیع المنتمین لمدرسة أبی حنیفة و تلامذتهم،فکان نشاطهم محسوسا،و نالت أقوالهم الصبغة الرسمیة.ثم عمدوا لنشر مذهب أبی حنیفة،فکانوا لا یقرّبون إلاّ من کان علی طریقتهم فی الاجتهاد و الفتیا،و هم علی طریقة أبی حنیفة فی الاستنباط.

و یمکننا أن نعتبر تمکّن أبی یوسف و سلطته التشریعیة نقطة بدایة وضع أسس المذهب،فتطورت فی المستقبل،إذ وجدت الظروف و الإمکانیات اللازمة.

و علی هذا فقط نشط أصحاب أبی حنیفة بتولیتهم القضاء،و نشر أقوال أبی حنیفة و آرائه،و کانوا یسیرون علی قواعد مذهبیة فی الحدیث،و منهم المجتهدون، و أکثرهم ینفرد بقول،و یذهب إلی رأی غیر رأی أبی حنیفة.

و قد اعتبروا استنباطهم للمسائل التی لم یکن لأبی حنیفة قول فیها هو رأیه و قوله،کما هو واضح لمن تتبع موارد الاستنباط عندهم،فیرون عن أبی حنیفة أنه قال لأبی یوسف:و یحکم،کم تکذبون علیّ فی هذه الکتب ما لم أقل.و کیفما کان فقد تکوّن المذهب بجهود أصحابه الذین ینتمون لمدرسته،و یعرفون بالانتساب إلیه،و کان عددهم ستة و ثلاثین رجلا،و فی طلیعتهم أبو یوسف،فهو الذی تزعّم هذه المجموعة،و ساعدته الظروف بأن یتولی منصب رئاسة قضاة الدولة فی إبان قوتها، فقرّب أصحابه و تقرّب الناس إلیهم حبّا لما فی أیدیهم من الدنیا،فوسّعوا دائرة المذهب،و نشروا الأحکام باسم أبی حنیفة،و توارث تلامذتهم نصرة المبدء و نشر المذهب حتی جاء عصر التطاحن و التکالب علی الدنیا،فکان هناک تعصب أعمی،

ص:155

و طائفیة حمقی،و تحامل بدون مبرر،و مدح بدون لیاقة،و شتم بدون ذنب.فاتسعت دائرة الدعوة إلی المذاهب،حتی جاء دور التحجیر و الإلزام بالأخذ عن هذه المذاهب دون غیرها،و کان للمذهب الحنفی شأن واسع و ذکر منتشر.

أبو یوسف

:

و لیس من المبالغة أن یقول عمار بن أبی مالک:لو لا أبو یوسف ما ذکر أبو حنیفة.لأن ارتباطه بالحکم هیأ له نفوذا شخصیا و سیاسیا کبیرا ساعد علی أن یکون رأیه فی الفقه و مذهبه هو المذهب الرسمی.فأبو یوسف هو أول من وضع الکتب فی أصول الفقه علی مذهب أبی حنیفة،و أملی المسائل و نشرها،و بثّ علم أبی حنیفة فی أقطار الأرض (1).

لقد کان أبو یوسف أول من دعی بقاضی القضاة،ولاّه موسی الهادی و هارون الرشید.و کان یفهم من ذکر(قاضی القضاة)أن المراد به أبو یوسف.و لم یکتف أبو یوسف بنفسه،بل أستخلف ابنه یوسف علی الجانب الغربی،فأقره الرشید علی عمله،و قد غلب علیه الاهتمام بشئون الحکام،و لم یکن من الفقه بتلک المنزلة التی تشیر الناس إلیه،و تضمن له موقعا علمیا.فیروی الخطیب البغدادی بسنده قول هلال بن یحیی:کان أبو یوسف یحفظ التفسیر و المغازی و أیام العرب،و کان أقل علومه الفقه (2).

و لهذا کان ما اشتهر من کتبه هو من شئون الحکم أکثر منه أن یکون من قضایا الفقه،فالخراج کان من تنظیمات السلطة،و تخطیط اقتصاد الحکام،و کذلک(الرد علی سیر الأوزاعی)فلیس هو من فقهه،و إنما صنّفه أبو یوسف للرد علی الأوزاعی الذی صنف کتابا ردّ فیه علی سیر أبی حنیفة،و لیس فیه إلا المسائل التی کان أبو یوسف قد تلقّاها علی أبی حنیفة.و کذلک الأمالی و هی الطریقة نفسها التی اتبعها فی نشر أصول الفقه من خلال موقعه و اتصاله بالحکام.فکان نفوذ المذهب یستمدّ من نفوذ السلطة.و لأبی یوسف کتب کثیرة دوّن فیها أراؤه و آراء شیخه،ذکرها ابن الندیم

ص:156


1- (1) الخطیب البغدادی 246/14. [1]
2- (2) الخطیب و شذرات الذهب ج 1 ص 299.و [2]وفیات الأعیان ج 5 ص 425. [3]

منها:کتاب الصلاة،کتاب الزکاة،کتاب الصیام،کتاب الفرائض،کتاب البیوع، کتاب الخراج،کتاب الوکالة،کتاب الوصایا،کتاب اختلاف الأنصار،کتاب الرد علی مالک و غیرها.و له إملاء رواه بشر بن الولید القاضی یحتوی علی ستة و ثلاثین کتابا.

قال رجل لأبی یوسف:رجل صلی مع الإمام فی مسجد عرفة،ثم وقف حتی دفع بدفع الإمام؟قال:ما له؟قال:لا بأس به.فقال:سبحان اللّه،قد قال ابن عباس:

من أفاض من عرفة فلا حجّ له،مسجد عرفة فی بطن عرفة؟فقال:أنتم أعلم بالأحکام،و نحن أعلم بالفقه.قال:إذا لم تعرف الأصل فکیف تکون فقیها؟ (1).

إن أبا حنیفة قد رعی أبا یوسف رعایة خاصة.و کان یتفقّده و یتعاهده و یمدّه بالمال حتی استغنی و تموّل بعد أن کان فی ضیق و فقر،و کان أبوه ینهاه عن طلب العلم علی أبی حنیفة لئلا یؤثر ذلک علی رزقهم و تحصیل قوتهم.و یروی أبو یوسف ذلک:(توفی إبراهیم بن حبیب،و خلّفنی صغیرا فی حجر أمی،فأسلمتنی إلی قصّار أخدمه،فکنت أدع القصّار و أمرّ إلی حلقة أبی حنیفة،فأجلس أستمع.فکانت أمی تجیء خلفی إلی الحلقة،فتأخذ بیدی و تذهب بی إلی القصّار.و کان أبو حنیفة یعنی بی لما یری من حضوری و حرصی علی التعلم.فلما کثر ذلک علی أمی،و طال علیها هربی،قالت لأبی حنیفة:ما لهذا الصبی فساد غیرک،هذا صبی یتیم لا شیء له، و إنما أطعمه من مغزلی،و آمل أن یکسب دانقا یعود به علی نفسه.فقال لها أبو حنیفة:مری یا رعناء هذا هو ذا یتعلم أکل الفالوذج بدهن الفستق)ثم یقول:إنه ضحک عند ما کان یجالس الرشید و یأکل معه فالوذجة بدهن الفستق.

و قد أشرنا إلی طریقة أبی حنیفة فی الدرس،و کان یقرّب کلا من أبی یوسف و زفر أحدهما عن یمینه و الآخر عن یساره،و یدعهما یتجادلان.و تختتم الروایات عن أستاذیة أبی حنیفة بعبارة واحدة لها معناها،إنه کان یضرب بیده علی فخذ زفر قائلا:

لا یطمع فی رئاسة فیها أبو یوسف.و هی بروایة عمر بن حمّاد بن أبی حنیفة (2).

و یروی ابن إبراهیم بن عمر عن فراسة أبی حنیفة التی ینظر بها فیری ما سیصیر

ص:157


1- (1) الخطیب البغدادی ج 14 ص 256. [1]
2- (2) الخطیب و ابن العماد فی الشذرات و ابن خلکان.

إلیه أبو یوسف:کان أبو حنیفة حسن الفراسة،فقال لداود الطائی:أنت رجل تتخلی للعبادة.و قال لأبی یوسف:تمیل إلی الدنیا.

و محمد بن صبیح بن السماک-الذی کان یعظ الرشید-ینظر إلی موقع أبی یوسف فی السلطان و مکانته فیقول:لا أقول إن أبا یوسف مجنون،و لو قلت ذاک لم یقبل منی،و لکنه رجل صارع الدنیا فصرعته.

و لکنّ شخصیة أبی یوسف أثّرت فی النظر إلی المذهب الحنفی أو إلی فقه أبی حنیفة نفسه من ناحیة،کما أن روح اتباع الحکام و سیرة الخضوع للسلطة و خلفائها المتجبّرین،عزلت أبا یوسف عن أبی حنیفة و أصحابه الآخرین،لکی یکون متمیزا عن مواقف إمامه التی ذکرناها فی الابتعاد عن الحکّام و التعامل معهم بحذر.أو أنها ظلت شیئا من سیرة أبی حنیفة لا تلزم أصحابه،فیما ظل المذهب فی أصوله من اختصاصه و هو فی السلطان،و أصبح جزءا من الحکم حتی قیل:و قد تجد الرجل یطلب الآثار و تأویل القرآن و یجالس الفقهاء خمسین عاما و هو لا یعدّ فقیها،و لا یجعل قاضیا،فما هو إلا أن ینظر فی کتب أبی حنیفة و أشباه أبی حنیفة،و یحفظ الشروط فی مقدار سنة أو سنتین،حتی تمر ببابه فتظنّ أنه من بعض العمال،و بالحری ألاّ یمر علیه من الأیام إلا الیسیر حتی یصیر حاکما علی مصر من الأمصار أو بلد من البلدان (1).

و الاتجاه الأول یمثله عبد اللّه بن المبارک الذی کان من علمه ما أثّر کثیرا علی منزلة أبی حنیفة،و راح یطعن فیه.غیر أن أصحاب المذهب عمدوا إلی وضع أقوال مخالفة تماما لما اشتهر عن ابن المبارک،حتی تجدها فی ترجمة أبی حنیفة فی تاریخ بغداد،أو الانتقاء متناقضة متباینة.

فعن عبد الرزاق بن عمر قال:کنت عند عبد اللّه بن المبارک،فجاءه رجل فسأله عن مسألة،فأفتاه فیها.فقال له:قد سألت أبا یوسف فخالفک.فقال له:إن کنت صلیت خلف أبی یوسف صلوات تحفظها فأعدها.

کما یروی عن ابن المبارک أنه سئل:أیّما أصدق أبو یوسف أو محمد؟قال:لا تقل أیهما أصدق،قل أیهما أکذب؟!

ص:158


1- (1) الحیوان للجاحظ ج 1 ص 87. [1]

و سئل یزید بن هارون:ما تقول فی أبی یوسف؟قال:لا تحلّ الروایة عنه،إنه کان یعطی أموال الیتامی مضاربة،و یجعل الربح لنفسه.

أما الذین أسلموا دینهم و دنیاهم إلی أهواء الحکام،فیهبّون للدفاع عن أبی یوسف،و إبعاد صلته عن أبی حنیفة،و یختارون لذلک تهمة الجهمیة،اتباع الجهم بن صفوان الذی قال من جملة ما قال:بأن لا فعل و لا عمل لأحد غیر اللّه تعالی،و إنما تنسب الأعمال إلی المخلوقین مجازا،و أنه لا یصف اللّه بوصف یجوز إطلاقه علی غیره.

قالوا:کان أبو حنیفة جهمیا،و کان محمد بن الحسن جهمیا،و کان أبو یوسف سلیما من الجهم.و هو لأبی الزرعة الرازی.

و عمر الناقد قال:ما أحب أن أروی عن أحد من أصحاب الرأی إلا عن أبی یوسف،فإنه کان صاحب سنّة.

و الدار قطنی کان یقول:هو(أبو یوسف)أقوی من محمد بن الحسن.کما یروی عنه أنه قال:أعور بین عمیان.

و لسنا هنا فی معرض ذکر أصحاب أبی حنیفة،و إنما ذکرنا أبا یوسف لغرض بیان علاقته بالسلطان،و انضمامه إلی الحکم علی نحو یخالف فیه رأی أبی حنیفة و سیرته.و لذلک نسوق بعضا من أوجه خضوعه لخلفاء بنی العباس،و العمل علی إرضائهم،فیما کان یمدّ فی رقعة اتساع مذهبه،و یوسّع من نطاق انتشاره من خلال سلطته و نفوذه،و علی طریقة استنباطه و صوغ أفکاره التی وضعت أصول المذهب الحنفی و رسّخت کیانه.و قد ذکر الخطیب البغدادی أن البخاری قال:حکی لنا عن النعمان أنه قال:(أ لا تعجبون من یعقوب؟یقول علیّ ما لم أقل).مما یظهر أن أبا یوسف کان یسمح لنفسه فی حیاة شیخه أن یستنبط ما یشاء،و یدخل فی المذهب ما یراه.ففی کتاب الخراج یذکر رأی أبی حنیفة،ثم یصرّح برأیه علی خلافه،کما أنه لم یکن لأبی حنیفة کتاب مستقل فی الفقه،نعم نسب إلیه کتاب(العالم و المتعلّم)و قد بیّنا الاختلاف حوله،و أنه لیس له.

یقول الشیخ محمد الخضری:و قد حاول بعض الحنفیة أن یجعل أقوالهم المختلفة أقوالا للإمام رجع عنها.

ص:159

و الحاصل،إن مذهب أبی حنیفة لم یکن هو مجموع أقواله و آرائه،قد رأینا أصحابه ینفردون بأقوالهم.و لکن حاول الحنفیة جعل جمیع الأقوال منسوبة إلیه لأنها علی قواعده و أصوله.

یقول ابن عابدین:(إن ما خالف فیه الأصحاب إمامهم الأعظم لا یخرج عن مذهبه،إذا رجّحه المشایخ المعتبرون.و کذا ما بناه المشایخ علی العرف الحادث لتغییر الزمان،أو للضرورة،أو نحو ذلک،لا یخرج عن مذهبه أیضا،لأن ما رجّحوه لترجیح دلیله عندهم مأذون فیه من جهة الإمام.و کذا ما بنوه علیه من تغییر الزمان و الضرورة،باعتبار أنه لو کان حیا لقال بما قالوه،لأن ما قالوه إنما هو مبنی علی قواعده أیضا،فهو مقتضی مذهبه....)الخ (1).

لقد ابتلیت الأمة بحکّام أسرفوا فی البذخ و التمتع من الدنیا،کما أسرفوا فی الظلم و التعدّی علی الرعیة.و قد قام کل من أهل البیت بما یجب علیه فی نصرة العدل و محاربة الظلم،و بذلوا أنفسهم لتحقیق ما دعا إلیه الإسلام بما یکفل للأمة السعادة، لذلک کانوا طعمة لسیوف الظالمین،لأنهم کانوا حربا علی الطغاة و الجبارین،و لم یرکنوا إلی الظلمة،و لم یتعاونوا معهم امتثالا لأمره تعالی: وَ لا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ و إذ رأینا اتصال أبی حنیفة بأهل البیت و میله السیاسی إلی حرکة زید الشهید،و اعترافه بأن الإمام الصادق أفقه الناس،و إقباله علی الأخذ عنه،فإن رفض أبی حنیفة العمل للحکام قد یکون من نتائج تمسّکه بنهج أهل البیت فی التباین مع الظالمین و عدم الدخول فیما هم فیه.

و لئن نشأ أبو حنیفة فی أجواء مغریة و ظروف مواتیة،فإن ما عاناه کان شاقا و عسیرا،إذ کان علیه أن یوفق بین وجوده وسط تلک الأجواء،و بین اعتقاداته و قناعاته.و اکتشف أن السیاسة لها نهجها الثابت فی معاداة أهل البیت بالرغم من تغیّر الرجال و ما تبعثه القربی من احتمالات بعد أن جاء بنو العباس إلی الحکم تحت ستار الرضی من آل محمد،و هم أقرب نسبا و أولی بالبر،فرأی کیف تزهق الأرواح و تداس الکرامات و ترتکب المجازر بحق آل البیت.ثم وقع علیه اختیار السلطة فی أن یکون

ص:160


1- (1) ابن عابدین،رسم المفتی ص 25.

أداتها فی الإساءة إلی علم الإمام جعفر بن محمد الصادق عند ما کلفه المنصور بأن یحضّر من المسائل ما یتوهّمه صعبا علی الإمام الصادق.و کان حقد المنصور علی الإمام قد سوّغ له أن یتوسل بأمر لیس للإمام الصادق منازع فیه أو صنو.و نعلم أن لقاء أبی حنیفة هذا الذی تم بإشراف المنصور،قد فتح لأبی حنیفة مرحلة جدیدة فی علمه و سیر حیاته.فکان لا یدع فرصة تقرّبه من الإمام إلا استغلها خاصة فی الموسم، و لیس بخاف أن الإمام الصادق کان لا یقرّب أحدا إلا أن یکون ذا نفع،حتی أنه أبعد عنه المتقربین إلی الحکام و حرّم الولایة لهم،لأنه علیه السّلام کان یری:«أن ولایة الجائر دروس الحق کله،و إحیاء الباطل کله،و إظهار الظلم و الجور».و مما ورد عنه أیضا:

«العامل بالظلم و المعین له و الراضی به شرکاء».و دخل علیه عذافر فقال علیه السّلام:

«بلغنی أنک تعامل أبا أیوب و الربیع،فما حالک إذا نودی بک فی أعوان الظلمة؟» و نهی یونس بن یعقوب عن معاونتهم،حتی علی بناء المساجد (1).

و إذا نظرنا إلی الفترة التی برز فیها أبو یوسف،لم نجد من أسباب للبعد عن مواقف أبی حنیفة و التحوّل عن نهجه تحت ظروف الخوف أو الإکراه،و هی فترة خطیرة الأثر فی حیاة المسلمین،إذ علی یدیه أرسیت قاعدة المذهب الرسمی للدولة، و بفعل منصبه کقاضی للقضاة اقترنت بشکل جذری حرکة المذاهب بأغراض السیاسة و مشیئة الحکام.

و لیس هناک فارق زمنی کبیر یبرّر ما حدث من تفاوت بین سیرة و سلوک رئیس المذهب الذی تعرّض للتعذیب و القتل علی ید الحکام،و بین أبرز تلامذته الذی انضمّ إلی الحکّام،فکان واحدا منهم.

و إذا تغیّر الحاکم العباسی بعد المنصور،فیأتی الهادی،ثم الرشید،فإن أسس السیاسة و أغراضها واحدة،و بإزائها نری مسیرة الأئمة من أهل البیت ثابتة و راسخة، فبعد وفاة الإمام الصادق علیه السّلام قام مقامه فی الإمامة ابنه العبد الصالح (2)الإمام موسی بن جعفر الکاظم،الذی عانی من أهوال بنی العباس و ظلمهم الأمرین حتی استشهد.

ص:161


1- (1) للمزید راجع الجزء الثانی من الکتاب.
2- (2) کان الإمام موسی یعرف بالعبد الصالح لکثرة عبادته.

عن صفوان الجمّال قال:دخلت علی الإمام موسی بن جعفر علیه السّلام فقال لی:«یا صفوان،کل شیء منک حسن جمیل خلا شیئا واحدا».

قلت:جعلت فداک،أی شیء؟ قال:«کراک جمالک من هذا الرجل»-یعنی هارون- قلت:و اللّه ما أکریته أشرا و لا بطرا،و لا للصید و لا للّهو،و لکن أکریته لهذا الطریق-یعنی طریق مکة-و لا أتولاّه بنفسی،و لکن أبعث معه غلمانی.

قال:«یا صفوان،أیقع کراک علیهم؟» قلت:نعم جعلت فداک.

قال:«أ تحب بقاءهم حتی خرج کراک؟» قلت:نعم.

قال:«فمن أحب بقاءهم فهو منهم،و من کان منهم فهو کمن ورد النار».

قال صفوان:فذهبت و بعت جمالی.

و قد حاول الرشید أن یسیء إلی الإمام موسی الکاظم،و علی طریقة أسلافه، فاستدعی رجلا لیجمعه بالإمام موسی الکاظم لغرض الإساءة إلی الإمام فی المجلس، و لعلّه یقطعه أو یحرجه،فکانت الغلبة الباهرة للإمام موسی الکاظم.

و لقد عانی الإمام موسی الکاظم منذ زمن خلیفة بنی العباس(المهدی)و تعرّض إلی صنوف من التعذیب و الأذی،لأنه کان یمثل لبنی العباس هاجسا و خطرا یتهدد کراسی حکمهم کل حین،لما فی منزلته التی یحتلها فی قلوب الناس من منافسة،و ما یسببه سلطان الإمامة الروحی من عوائق تؤثر علی سیاستهم و تسلطهم علی الرعیة.

و قد استدعاه المهدی إلی بغداد فحبسه،فلما کان فی بعض اللیالی رأی المهدی الإمام علی بن أبی طالب و هو یقول له:«یا محمد فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَکُمْ فاستیقظ مذعورا،و أمر به،فأخرج من السجن لیلا،فأجلسه معه و عانقه و أقبل علیه،و أخذ علیه العهد أن لا یخرج علیه و لا علی أحد من أولاده.

فقال:«و اللّه ما هذا من شأنی،و لا حدّثت فیه نفسی»فقال:صدقت (1).

ص:162


1- (1) البدایة و النهایة ج 10 ص 183. [1]

و أسهم الرشید بدوره فی اضطهاد أولاد النبی و عترته الطاهرة،إذ حمله خوفه علی سلطان بنی أبیه،و حقده علی الإمام موسی بن جعفر علی أن یذیقه ألوانا من العذاب و التنکیل و أن یدسّ له السم.

و فی معاملة الرشید للإمام موسی بن جعفر،یتضافر عداء الحکام لمن یرونهم خطرا،و الحقد الشخصی المحض.

ذکر ابن عمار و غیره ممن کانوا علی اطلاع:أنه لما خرج الرشید إلی الحج و قرب من المدینة،استقبله الوجوه من أهلها،و تقدمهم موسی بن جعفر علیهما السّلام علی بغلة،فقال له الربیع:ما هذه الدابة التی تلقیت علیها أمیر المؤمنین؟و أنت إن طلبت علیها لم تدرک،و إن طلبت لم تفت؟فقال علیه السّلام:«إنها تطأطأت عن خیلاء الخیل، و ارتفعت عن ذلة العیر،و خیر الأمور أوساطها»قال:و لما دخل هارون الرشید المدینة،توجه لزیارة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و معه الناس،فتقدم إلی قبر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقال:

السلام علیک یا رسول اللّه،السلام علیک یا ابن عم-مفتخرا بذلک علیه-فتقدم الإمام فقال:«السلام علیک یا رسول اللّه،السلام علیک یا أبة.فتغیّر الرشید،و تبین الغیظ فیه.

و فی إضافة تبین لنا مبلغ ما کان یحسّه الرشید من خیبة،و ما سببه له ذکر الحقیقة التی عجز عن طمس إشعاعها و فعلها فی النفوس عشرات الحکام.یذکر ابن کثیر أن الرشید قال:هذا هو الفخر یا أبا الحسین.ثم لم یزل ذلک فی نفسه حتی استدعاه فی سنة تسع و ستین و سجنه (1).

هذا الحاکم الذی هو علی هذه الدرجة من الکراهیة لأهل البیت کان أبو یوسف یعمل جهده علی إرضائه،و یبذل ما فی وسعه للتقرّب من عائلته و أهله،لینعم بما یدرّه علیه ذلک.فلا عجب أن یکون من الرشید بذلک الموقع،و یحبه ذاک الحب الذی تمنّی معه أن یشرکه فی نسبه فقال:لو جاز أن أدخلک فی نسبی لفعلت.و لا عجب أن ینحو أبو یوسف بأول مذهب رسمی للدولة ذلک المنحی فی اتّباع الحکّام من الأمویین و العباسیین فی معاداة اتباع أهل البیت،و تعاطی اتهامات الحکام المعهودة

ص:163


1- (1) البدایة و النهایة ج 10 ص 183.و [1]الأصح یا أبا الحسن.

للشیعة بأمور هم منها براء.فشبّ فی ظل مذهب أبی یوسف أناس تابعوه علی الارتباط بمثل هؤلاء الخلفاء و إرضائهم.

و مع کل ما هم فیه من نفوذ و جاه،فإنهم لم یأمنوا غدر الخلفاء،و یبقون کبقیة الرعیة معرّضین لنزول الأذی بهم،فحتی أبو یوسف نفسه یصبّ الماء و یتخبّط توقعا لکل مکروه عند ما دعاه الرشید فی إحدی اللیالی (1).و لننظر ما ذا کان یرید الرشید من أبی یوسف عند ما جاءه هرثمة بن أعین و علی لسان أبی یوسف:(فقلت:تأذن لی أصبّ علیّ ماء و أتحنّط،فإن کان أمر من الأمور کنت قد أحکمت شأنی،و إن رزق اللّه العافیة فلن یضرّ.فأذن لی،فدخلت فلبست ثیابا جددا،و تطیّبت بما أمکن من الطیب، ثم خرجنا فمضینا حتی أتینا دار أمیر المؤمنین الرشید،فإذا مسرور واقف،فقال له هرثمة:قد جئت به؟فقلت لمسرور:یا أبا هاشم خدمتی و حرمتی و میلی،و هذا وقت ضیق،فتدری لم یطلبنی أمیر المؤمنین؟قال:لا.قلت:فمن عنده؟قال عیسی بن جعفر.قلت:و من؟قال:ما عنده ثالث.قال:مرّ،و إذا صرت إلی الصحن فإنه فی الرواق و هو ذاک جالس،فحرّک رجلک بالأرض،فإنه سیسألک،فقل:أنا.فجئت ففعلت،فقال من هذا؟قلت:یعقوب.قال:أدخل.فدخلت،فإذا هو جالس و عن یمینه عیسی بن جعفر،فسلّمت فردّ علیّ السلام،و قال:أظننا روّعناک.قلت:إی و اللّه و کذلک من خلفی.قال:أجلس.فجلست حتی سکن روعی،ثم التفت إلیّ فقال:یا یعقوب،تدری لم دعوتک؟قلت:لا.قال:دعوتک لأشهدک علی هذا،إن عنده جاریة،سألته أن یهبها لی فامتنع،و سألته أن یبیعها فأبی،و اللّه لئن لم یفعل لأقتلنّه.قال:فالتفتّ إلی عیسی،و قلت:و ما بلغ اللّه بجاریة تمنعها أمیر المؤمنین، و تنزل نفسک هذه المنزلة؟قال فقال لی:عجلت علیّ فی القول قبل أن تعرف ما عندی؟قلت:و ما فی هذا من الجواب؟قال:إن علیّ یمینا بالطلاق و العتاق و صدقة ما أملک أن لا أبیع هذه الجاریة و لا أهلها.فالتفت إلیّ الرشید فقال:هل له من ذلک مخرج؟قلت:نعم!قال:و ما هو؟قلت یهب لک نصفها،و یبیعک نصفها،فتکون لم تبع و لم تهب.قال عیسی:و یجوز ذلک؟قلت:نعم!قال فأشهد أنی قد وهبت له نصفها و بعته النصف الباقی بمائة ألف دینار.فقال:الجاریة.فأتی بالجاریة و بالمال،

ص:164


1- (1) تاریخ الخطیب ج 14 ص 250.و [1]وفیات الأعیان ج 5 ص 247. [2]

فقال:خذها یا أمیر المؤمنین بارک اللّه لک فیها.قال:یا یعقوب بقیت واحدة.قلت:

و ما هی؟قال هی مملوکة و لا بد أن تستبرأ،و و اللّه إن لم أبق معها لیلتی إنی أظن أن نفسی ستخرج.قلت:یا أمیر المؤمنین تعتقها و تتزوجها،فإن الحرة لا تستبرأ.قال:

فإنی قد أعتقتها،فمن یزوجنیها؟قلت:أنا.فدعا بمسرور و حسین،فخطبت و حمدت اللّه،ثم زوجته علی عشرین ألف دینار.و دعا بالمال فدفعه إلیها ثم قال لی:یا یعقوب انصرف.و رفع رأسه إلی مسرور فقال:یا مسرور.قال:لبیک یا أمیر المؤمنین.قال:

أحمل إلی یعقوب مائتی ألف درهم و عشرین تختا ثیابا فحمل معی).

و کان الرشید یقول لأبی یوسف فی الأحوال التی تتطلب مخرجا:اذهب فاحتل (1).

و یقول الغزالی فی وصف هذا المنحی بأنه من فتنة الدنیا،فی مساق قوله أن الفقیه فی الزکاة ینظر إلی ما یقطع به مطالبة السلطان،حتی إذا امتنع عن أدائها، فأخذها السلطان قهرا؛حکم بأنه برئت ذمته.و حکی أن أبا یوسف القاضی کان یهب ماله لزوجته آخر الحول،و یستوهب مالها إسقاطا للزکاة.فحکی ذلک لأبی حنیفة رحمه اللّه فقال:ذلک من فقهه.و یعقّب الغزالی:صدق،فإن ذلک من فقه الدنیا، و لکن مضرّته فی الآخرة أعظم من کل جنایة.و مثل هذا هو العلم الضار (2).

و لا نظن أن حکم الغزالی متعلّق بهذه الحادثة فحسب،لأنها حادثة تهون أمام بقیة الأحداث،و إذا کان الغزالی علی غیر علم ببقیة الحوادث و قال هذا القول،فما الظن به عندئذ؟ و بین حریم القصور العباسیة کان أبو یوسف یتمتع بمکانة ما هی إلا امتداد لموقعه عند الرشید،یذکر الخطیب أن أم جعفر کتبت إلی أبی یوسف:ما تری فی کذا،و أحب الأشیاء إلیّ أن یکون فیه کذا؟فأفتاها بما أحبّت.فبعثت إلیه بحقّ فضة فیه حقاق فضة مطبقات فی کل واحدة لون من الطیب،و فی جام دراهم وسطها جام فیه دنانیر.فقال له جلیس له:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«من أهدیت له هدیة فجلساؤه شرکاؤه فیها»فقال أبو یوسف:ذاک حین کانت هدایا الناس التمر و اللبن.

ص:165


1- (1) تاریخ الخطیب ج 14 ص 254. [1]
2- (2) إحیاء علوم الدین ج 1 ص 32. [2]

و رویت هذه الحادثة بإضافات أخری و تفاصیل تولّد فی النفس أحاسیس نکفّ عن التعلیق علیها،و ندع الأمر علی ما یوحیه،و نترکه علی ما تصوّره الأحداث.

و لکن لا بد من الإشارة إلی أن عصور الانحطاط و التردّی التی وقعت بها الأمة علی أیدی الحکام و الجبابرة،کانت نتیجة معلومة سلفا لمقدمات لا تقتصر علی مبادئ حکم العباسیین،بل تتعدّاها لتستغرق عودة الجاهلیة الأولی فی حکم معاویة بن أبی سفیان.

و لهذا قلنا إن أبا حنیفة کان یستغفر اللّه من ترکه الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،و تلک من أهم أوجه الاختلاف بین أبی حنیفة و تلامذته المقرّبین.و من أظهر الصفات التی اکتسبها من هدی آل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی أن ذلک لم یمنع من أن تشمله النظرة التی ینظر بها إلی أصحابه،فعدّ أبو حنیفة إلی جانب أصحابه ممن اتصلوا بخدمة هارون الرشید،و قوّوا مذهبهم،و حصل لهم العلم و السلطنة (1).

و لا بد هنا من التعرّض إلی موقف الأنصار و الخصوم،و استعراض الأقوال فیه و آراء الناس حوله،لنقف علی رکام من الأخبار المختلفة و الآراء المتناقضة،فهناک تعصّب و غلوّ فی شخصیته،و إعجاب مفرط فی مواهبه.و هناک نقد مرّ لأعماله، و تحامل شدید علیه،و وصف بما لا یلیق بشخصیة رئیس مذهب و إمام طائفة.

فطائفة محبّیه و مریدیه قد رفعوه إلی منازل النبیین،و زعموا أن التوراة بشّرت باسمه،فذکر اسمه إلی اسم الیهودیین:وهب بن منبّه و کعب الأحبار.و أنه وجد فی بعض الکتب المنزلة صفة ثلاثة رجال من أمة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یفوقون أهل زمانهم فقها و علما (2).

و أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أخبر به قبل ولادته،فروی مشایخهم بسندهم عن أبی هریرة أن رسول اللّه قال:یکون فی أمتی رجل یقال له أبو حنیفة هو سراج أمتی یوم القیامة (3).

و عن أبی هریرة أیضا:یکون فی أمتی رجل اسمه النعمان،و کنیته أبو حنیفة هو سراج

ص:166


1- (1) مناقب الشافعی للرازی ص 139.
2- (2) مناقب الموفق.
3- (3) جامع مسانید الإمام الأعظم ج 1 ص 141.

أمتی،هو سراج أمتی (1).و بسندهم عن ابن عمر:یظهر من بعدی رجل یعرف بأبی حنیفة یحیی اللّه سنتی علی یدیه.

و یجعل لأمیر المؤمنین علیه أفضل الصلاة و السلام نصیب فی ذلک،فبسندهم عن عبد اللّه بن مغفل قال:سمعت أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب رضی اللّه عنه یقول:أ لا أنبئکم برجل من کوفان،من بلدتکم هذه،أو من کوفتکم هذه،یکنّی بأبی حنیفة قد ملئ قلبه علما و حکما،و سیهلک به قوم آخر الزمان،الغالب علیهم التنابز، یقال لهم البنانیة کما هلکت الرافضة بأبی بکر و عمر رضی اللّه عنهما (2).

و کذلک لابن عباس بسندهم عن الضحاک عن ابن عباس قال:یطلع بعد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بدر علی جمیع خراسان یکنّی بأبی حنیفة.

و إذا توصّل أنصاره إلی إشاعة ذلک،غلب الهوی کل میل للحق،و تحکّم التعصب فی القول،و أغلقوا کلّ منفذ.قال خلف بن أیوب:صار العلم من اللّه تعالی إلی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثم صار إلی أصحابه،ثم صار إلی التابعین،ثم صار إلی أبی حنیفة و أصحابه.فمن شاء فلیرض،و من شاء فلیسخط (3).

و یرفعونه فوق منزلة الأنبیاء،لأن عیسی إذا رجع یقلّده و یحکم بمذهبه،و أن الخضر تعلّم أحکام الشریعة منه.

یقول قاضی زاده:اعلم أن المذهب لا یقلّده من الصحابة و التابعین إلا أبو حنیفة،فإن عیسی لمّا ینزل یحکم بمذهبه (4).

و لم یأبه المغالون بشیء،فوصفوا إمامهم بصفات لا یمکن تصدیقها فی حدود إمکانات البشر،کقراءة القرآن سبعین ألف مرة فی محل واحد،و صلاته فی کل لیلة رکعتین یختم القرآن فی کل رکعة،و صلاته الفجر بوضوء العشاء أربعین سنة.و قد سوّی الغلوّ و التعصّب بین أبی حنیفة و بین آخرین اندفع أصحابهم فی ادعاء العبادات لرجالهم علی هذا النمط.

ص:167


1- (1) نفس المصدر.و تاریخ بغداد.و [1]مناقب الموفق.
2- (2) جامع المسانید.
3- (3) الخطیب البغدادی. [2]
4- (4) جامع الرموز ج 1 ص 2.

و مهما بذل الباحث من جهد فی تحلیل الاعتماد علی ما یمجّه الذوق و ینبو عن العقل فلا یتجاوز الهیاج العاطفی و غلیان الهوی،إذ تتصارع الانفعالات و یعمد إلی الإسفاف و الابتعاد عن الحقیقة،و مهما جهد المرء فی مواجهة اضطراب المنفعل،فلا یلق إلا انفعالا و زیادة فی الاضطراب تدفعه إلی الإغراق أکثر و الإسفاف إلی أبعد مما فی ذهنه،و فی نهایة الأمر تصبح الإساءة عن طریق الهوی و الغلو هی الحصیلة الدائمة.

قالوا:إن اللّه خصّ أبا حنیفة بالشریعة و الکرامة.و من کرامته أن الخضر علیه السّلام کان یجیء إلیه کل یوم وقت الصبح و یتعلم منه أحکام الشریعة إلی خمس سنین.فلما مات أبو حنیفة ناجی الخضر ربه و قال:إلهی،إن کان لی عندک منزلة فأذن لأبی حنیفة حتی یعلّمنی من القبر علی حسب عادته حتی أتعلّم شرع محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی الکمال.

فأحیاه اللّه،و تعلّم منه العلم إلی خمس و عشرین سنة.و بعد أن أکمل الخضر دراسته، أمره اللّه أن یذهب إلی القشیری و یعلّمه ما تعلّم من أبی حنیفة.و صنّف القشیری ألف کتاب،و هی لا تزال ودیعة فی نهر جیحون،إلی رجوع المسیح،فیحکم بتلک الکتب.لأنه یأتی فی زمان لیس فیه من کتب شرع محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیتسلم المسیح أمانة نهر جیحون،و هی کتب القشیری (1).

و فی وفاة أبی حنیفة یذکرون بکاء الجنّ له،و لهم أسانیدهم أن الجن بکت أبا حنیفة لیلة مات،و کانوا یسمعون الصوت و لا یرون الشخص.

ذهب الفقه فلا فقه لکم فاتقوا اللّه و کونوا خلفا

مات نعمان فمن هذا الذی یحیی اللیل إذا ما سدفا

(2)أما الطائفة الثانیة من معاصریه و غیرهم فقد رموه بالزندقة،و الخروج عن الجادّة،و وصفوه بفساد العقیدة،و الخروج علی نظام الدین،أو مخالفة الکتاب و السنة.و طعنوا فی دینه و جرّدوه من الإیمان (3).

و قالوا:اجتمع سفیان الثوری،و شریک،و حسن بن صالح،و ابن أبی لیلی

ص:168


1- (1) الإشاعة فی أشراط الساعة ص 120.و الیاقوتة لابن الجوزی ص 45.
2- (2) آکام المرجان للقاضی الشبلی ص 149.
3- (3) انظر أبو حنیفة،محمد أبو زهرة ص 5.

فبعثوا إلی أبی حنیفة فقالوا:ما تقول فی رجل قتل أباه،و نکح أمه،و شرب الخمر فی رأس أبیه؟فقال:مؤمن.فقال ابن أبی لیلی:لا قبلت لک شهادة أبدا.و قال له سفیان الثوری:لا کلمتک أبدا (1).

و حکی عن أبی یوسف،قیل له:أ کان أبو حنیفة مرجئا؟قال:نعم.قیل:أین أنت منه؟قال:إنما کان أبو حنیفة مدرّسا،فما کان من قوله حسنا قبلناه،و ما کان قبیحا ترکناه علیه (2).

و حدّث إبراهیم بن بشار،عن سفیان بن عیینة أنه قال:ما رأیت أحدا أجرأ علی اللّه من أبی حنیفة.و عنه أیضا:کان أبو حنیفة یضرب لحدیث رسول اللّه الأمثال فیبرره بعلمه (3).

و عن الولید بن مسلم قال:قال لی مالک بن أنس:أ یذکر أبو حنیفة فی بلادکم؟قلت:نعم.قال:لا ینبغی لبلادکم أن تسکن (4).

و عن الأوزاعی یقول:إننا لا ننقم علی أبی حنیفة أنه رأی،کلنا یری،و لکننا ننقم علیه أنه یجیئه الحدیث عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیخالفه إلی غیره (5).

قال ابن عبد البر فی الانتقاء:و ممن طعن علیه و جرحه:محمد بن إسماعیل البخاری،فقال فی کتابه(الضعفاء و المتروکین):أبو حنیفة النعمان بن ثابت الکوفی، قال نعیم بن حماد:حدثنا یحیی بن سعید و معاذ بن معاذ،قالا:سمعنا سفیان الثوری یقول:استتیب أبو حنیفة من الکفر مرتین.و قال نعیم الفزاری:کنت عند سفیان بن عیینة،فجاء نعی أبی حنیفة،فقال:....کان یهدم الإسلام عروة عروة، و ما ولد فی الإسلام مولود أشرّ منه.و قال ابن الجارود فی کتابه(الضعفاء و المتروکین):النعمان بن ثابت جلّ حدیثه و هم.

ص:169


1- (1) الخطیب ج 13 ص 374.
2- (2) نفس المصدر.
3- (3) الانتقاء لابن عبد البر ص 148.
4- (4) میزان الشعرانی ج 1 ص 59.
5- (5) تأویل مختلف الحدیث لابن قتیبة ص 63.

و قد روی عن مالک رحمه اللّه أنه قال فی أبی حنیفة نحو ما ذکره سفیان:إنه شرّ مولود ولد فی الإسلام،و أنه لو خرج علی هذه الأمة بالسیف کان أهون.و روی عنه أنه سئل عن قول عمر بن الخطاب:بالعراق الداء العضال؟فقال مالک:أبو حنیفة.و روی ذلک کله أهل الحدیث.

و عن وکیع بن الجرّاح أنه قال:وجدت أبا حنیفة خالف مائتی حدیث عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و قیل لابن المبارک:کان الناس یقولون إنک تذهب إلی قول أبی حنیفة؟قال:لیس کل ما یقول الناس یصیبون فیه،کنّا نأتیه زمانا و نحن لا نعرفه،فلما عرفناه ترکناه (1).

و لقد جمع ابن عبد البر بعضا من أقوال المادحین و الطاعنین أخذنا منها ما تقدم و سواها کثیر بإمکان القارئ الرجوع إلیها فی الانتقاء،فی مظانّها الأخری کالخطیب البغدادی الذی طعن علماء الحنفیة فیما أورده،و نسبوه إلی التعصب الأعمی،و أجابوا عما ذکره،و ألفوا فی(تأنیب الخطیب علی ما ساقه فی ترجمة أبی حنیفة من الأکاذیب).علی أن أعظم الأقوال تأثیرا ما ضمّته مصنّفات أصحاب الصحاح و السنن و التی تتخذ مستمسکا و أصلا یعملان فی النفوس و الأذهان،فکان ما ذکره النسائی عن أبی حنیفة من أکبر ما یرفع فی الحملة ضد أبی حنیفة حیث قال:و قال لنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعیب:و أبو حنیفة لیس بالقوی فی الحدیث،و هو کثیر الغلط و الخطأ علی قلة روایته.ثم یصنّف أصحابه إلی ضعفاء و ثقات (2)فتضم هذه الأقوال إلی بعضها،و تکون مادة للطاعنین.

و صفوة القول،أن دراسة حیاة أئمة المذاهب تقتضی التوقف کثیرا عن رکامات ما أنتجته العاطفة و ما أفرزه التعصب،و کما أسلفنا فلیس من سبل الحق و طرق الأمانة الاعتماد علی ذلک،إذ لا یجنی أحد إلا أمورا لا تمتّ إلی الحقیقة،و لا صلة لها بالواقع.و هی تسیء أکثر مما تنفع،و تضعّف أکثر مما تعضد،و الطرفان فی غنی عن ذلک لو أخلصوا فی المأخذ،و اتخذوا من خصائص الرجال و مکانات أئمة المذاهب مادة لا یتعدّوها إلی نزغات التعصب أو التحامل الفظّ.فمن محب مغال یفتح أبواب

ص:170


1- (1) الانتقاء لابن عبد البر ص 151.و الخیرات الحسان ص 76.
2- (2) کتاب الضعفاء و المتروکین ص 124.

الخیال و یتخلّی عن الواقع فیسمح لنفسه بإشراک الجن أو المخلوقات الأخری التی تتخذ وسیلة إلهیة فی سیاق رسالة نبی أو إظهار معجزة لولی بدونها قد یلحق بالشریعة أذی و قد یصیب دین اللّه الضرر،و من متحامل ناقم یتخلی عن روابط العقیدة و یتناسی و شائج الدین،فیخرج هدفه من حظیرة الإسلام.أما المنامات فأمرها عجب،حیث لا یلتفت أحد من مستخدمیها-مادح أو قادح-إلی سخف تعبیرها أو تدنی تألیفها، فظلّت مادة متیسرة لا تکلف ثمنا،یتناولها ذوو الأغراض بیسر و سهولة،و یتلقاها الواقعون تحت تأثیر مروّجیها و باعثیها بثقة و استسلام،و تصبح سلاحا بید العامة، فتهیج علی سطح المجتمع لغة المنامات و ما یلحق بها من ادعاءات و کرامات.

أما المصنّفات التی تشتمل علی المناقب،فهی جمع لکل ما أشرنا إلیه،و أخذ بکل ما راج و کثر،و هی کثیرة،و مع کثرتها فهی لا تهدی السبیل و لا تنیر الطریق،إذ أنها-کما یقول الشیخ أبو زهرة-طوائف من الأخبار یسودها المبالغة،و لا یکاد یخلو خبر منها من الإغراق،فتمییز صحیحها من سقیمها یحتاج إلی مقاییس النقد المستقیمة،فأخبارها لا ترفض جملة و لا تؤخذ جملة،إذ هی بلا شک فیها الحق و الباطل،و أخذ الحق من بینها یحتاج إلی نظر فاحص (1).

لقد وجد بعض أتباع أبی حنیفة فی حقیقة کونه فارسیا أمرا غیر مرض فحاولوا وضع نسب عربی فقالوا:إن ثابت هو ابن طاوس بن هرمز ملک بنی شیبان.

و قالوا أیضا:إنه من الأنصار،فهو النعمان بن ثابت بن زوطا بن یحیی بن رشاد الأنصاری.

أو أنه تیمی کوفی من رهط حمزة الزیات.

و المشهور من نسب أبی حنیفة أنه:النعمان بن ثابت بن زوطی بن ماه.ولد سنة 80 ه و توفی سنة 150 ه.

و الذین توقفوا عن التلاعب بحقیقة النسب قالوا:بأنه من نسل أفریدون-من ملوک العجم-و وضعوا لذلک حدیث:لو کان العلم فی الثریا لتناوله أبناء فارس،أو قوم من أبناء فارس،فخصّصوا عمومه فی أبی حنیفة.

ص:171


1- (1) أبو حنیفة ص 7.

و فی نهجنا هنا تجرید البحث عن حیاة أبی حنیفة من زوائد فرضتها المیول و الأغراض المتعددة،فقد غلبت علی أکثر کتّاب حیاة أبی حنیفة من أتباعه عاطفة قویة،و سیطر علیهم الاندفاع،حتی أنهم لم یتردّدوا فی استخدام الأساطیر و الخرافات،فهو إمام الأئمة،و أعلم الأمة،و ما من عالم من علماء الدنیا إلا و هو تحت ختمه،و ما من فقیه إلا و هو عیال علیه،و أنه نودی من زاویة البیت الحرام:

عرفت فأحسنت المعرفة،و خدمت فأخلصت الخدمة،غفرنا لک و لمن اتبعک و لمن کان علی مذهبک إلی یوم القیامة (1).

و قد کنا هناک مضطرین إلی ذکر ما أوردوه من أحادیث عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و مناقشتها،و عند ما وضعناها فی میزان الاعتبار،لم تحرّک کفة عن مستواها فضلا عن ترجیحها،لأن الدوافع واضحة و الأغراض جلیّة،و هی ناجمة عن أوضاع سادت فیها الفرقة و تعرّضت شخصیة أبی حنیفة إلی الانتقاد،فنالوا منه،و وصفوه بکل مکروه.

و قد قطعت خطة تأسیس المذاهب شوطا کبیرا علی الساحة،و أخذت ترسی دعائمها، فتقتطع من أجزاء المجتمع و تسری فی أحشائه،و ینشأ جیل و آخر علی مثل هذه العلاقات.و عبر کل المراحل تختبئ أغراض الحکام وراء کل جانب من جوانب العداء و الفرقة،کما کانت أغراضهم وراء تصنیف الناس و تقسیم دینهم.

و لقد کانت الخصائص التی تجاهلها الکثیرون و لم یذکروها بحقائق أسمائها و دلالة وجودها فی شخصیة أبی حنیفة و مواقفه تمثّل مشکلة للمنصور الدوانیقی (2)الذی عرف بعدائه للعلویین،و میل أبی حنیفة و اتصاله بهم معروف،فتعارضت أغراض المنصور و أهدافه فی إدناء أبی حنیفة،و توجیه الأنظار إلیه،لیقف بإزاء شخصیة الإمام جعفر الصادق،إذ قال له المنصور:یا أبا حنیفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد،فهیّئ له من المسائل الشداد (3).تعارضت هذه الأغراض مع خصائص أبی حنیفة و سلوکه،حتی أنه عجز عن تحویله و إبعاده عن توجیه النقد اللاذع الذی کان شیئا من الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر الذی لا یطبقه المنصور

ص:172


1- (1) مفتاح السعادة 82/2.و [1]مقدمة المناقب للخوارزمی.
2- (2) الدوانیقی أو أبو الدوانیق من الألقاب و الکنی التی أطلقت علی المنصور لشحّه و بخله.
3- (3) المناقب [2]للموفق.

علی أصوله،و لا یقوی علی مواجهة أهله،الذین قلّ عددهم،و انزوت جموعهم تحت ضغط أفعال الحکّام و سیاسة بنی العباس.و هکذا ضاق المنصور بأبی حنیفة، و قرر الخلاص منه،و کان لا بدّ له من سبب ظاهری یأخذه به أمام الناس،فعرض علیه قضاء بغداد ثانیة،و رفضه أبو حنیفة.و وصله بهدیة أرسلها إلیه،فردّها علیه، فحبسه و ضیّق علیه،و جعل یضربه کل یوم عشرة أسواط،حتی ضرب عشرة و مائة سوطا (1).

إن الأفکار ولیدة التجارب،و للبیئة أثرها فی توجیه سلوک الأفراد،و قد کانت لأبی حنیفة تجارب کثیرة،فقد ولد و نشأ فی الکوفة،و هی البلدة العربیة التی عرفت بنزعتها الثوریة و اتجاهها السیاسی ضد الحکم الأموی و میلها للعلویین،و قد شبّ أبو حنیفة فی عهد الحجاج بن یوسف.فرأی قسوته و استبداده و سیرته السیئة و حکمه القاسی،و معاملته للناس بما لا یطیقونه من الأذی و العسف،و مات الحجاج و عمر أبی حنیفة حینها خمسة عشر عاما،و شاهد ولاة الأمویین یسیرون بالأمة بالجور، و یخالفون نظم الإسلام اتباعا لملوکهم و طبقا لرغباتهم.

و أصبحت الکوفة قاعدة الثورة ضد الظلم الأموی،و مرکزا تتجمع فیه القوات الموالیة للعلویین و العباسیین معا.أضف إلی ما احتفظت به الکوفة من نشاط فکری و صراع عقائدی أورثها مشاکل کثیرة،و أصبح مجتمعها مسرحا للخلافات.

و فی عصر أبی حنیفة،نشطت الدعوة العلویة لوجود کتلة شیعیة قویة أثّرت تأثیرا غالبا فی الحرکات الفکریة و السیاسیة،و مع أن الدعوة للثورة کانت مشترکة بین العلویین و العباسیین،فإن الدعایة العباسیة کانت محدودة الأثر بالرغم من استغلال العباسیین لشعار الدعوة إلی آل محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و إقامة تنظیماتهم علی هامش المناداة بالرضا من آل محمد،فتعاطف الناس معهم و دخلوا فی صفوفهم و هم یظنون بهم خیرا،و أنهم لا یختلفون عن الشیعة الذین کانوا یسعون بإخلاص إلی الانتصاف لآل بیت نبیهم الأطهار الذین ینطبق علیهم لفظ آل محمد،و أن الخلافة من أمور الدین، و هم أحق الناس بالقیام بأمر رسالة جدّهم المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و عند ما نزلت بالأمة کارثة استشهاد سید الشهداء الإمام أبی عبد اللّه

ص:173


1- (1) انظر:مقدمة«العالم و المتعلم»للقلعجی و عبد الوهاب الندوی.

الحسین علیه السّلام علی أیدی یزید،کابد الشیعة من نتائجها السیاسیة و النفسیة أهوالا و آلاما دفعتهم إلی مواصلة الجهاد ضد الظلمة و تفجیر الثورات،و کانت السلطة بتجبّرها و طغیانها لا تتورع عن سفک الدماء و إزهاق الأرواح و انتهاک الحرمات، و الشیعة لا یکفّون عن التفانی و تقدیم التضحیات.و لما قامت ثورة زید بن علی،شاع بین الناس من جدید تیار ثورة الإمام الحسین،و انتشر بین صفوفهم نداء نهضة السبط الشهید مرة أخری.فکان أبو حنیفة من المتحمّسین لثورة زید الشهید،و قد مرّ بنا جانب من وجوه انحیازه إلی جانبه،و قد حثّ علی الالتحاق بجیش إبراهیم،کما أفتی بالخروج مع الثوار من أهل البیت بعد أن بایعه (1).

و جاءت إلیه امرأة فقالت له:إنک أفتیت ابنی بالخروج مع إبراهیم فخرج فقتل.

فقال لها:لیتنی کنت مکان ابنک (2).

و قال أبو إسحاق الفزاری:جئت إلی أبی حنفیة فقلت له:ما اتقیت اللّه،أفتیت أخی بالخروج مع إبراهیم بن عبد اللّه حتی قتل؟! فقال:قتل أخیک حیث قتل یعدل قتله یوم بدر،و شهادته مع إبراهیم خیر له من الحیاة (3).

و غیر ذلک من الإجابات و الأقوال-کما ألمحنا إلیه سابقا-و التی تکشف انحیازه للثورة،و تعلّقه بقادتها إلی حدّ تتضح فیه ظروف إقامة أبی حنیفة فی ظل المنصور الذی أقضت مضجعه تلک الثورة،و بقی کأنه یتقلب علی ألسنة النیران أو یبیت علی حسک السعدان،حتی اتّسخت ثیابه،و زری مظهره،و هو یتلظّی یطلب رءوس أهل البیت.و أبو حنیفة یکتب إلی إبراهیم یشیر علیه أن یقصد الکوفة و یقول:ائتها سرا،فإن من هاهنا من شیعتکم یبیتون أبا جعفر فیقتلونه أو یأخذون برقبته فیأتونک به (4).و یجهّزه بأربعة آلاف درهم لم یکن عنده غیرها (5)و یقول له:

فإذا لقیت القوم و ظفرت بهم فأفعل کما فعل أبوک فی أهل صفین،أقتل مدبرهم،

ص:174


1- (1) عمدة الطالب ص 109. [1]
2- (2) مراقد المعارف 97/1.و عمدة الطالب. [2]
3- (3) المقاتل ج 2 ص 712. [3]
4- (4) المقاتل. [4]
5- (5) عمدة الطالب. [5]

و أجهز علی جریحهم.و لا تفعل کما فعل أبوک فی أهل الجمل،فإن القوم لهم فئة (1)فلا یفرق بین دولة معاویة و بین دولة المنصور،مما یجعل تقدیر خفاء وضعه علی المنصور بعیدا.و هو الملک الذی عدّ من دهاة عصره،و قد أخّر تنفیذ حکمه إلی حین الانتهاء من الأوضاع المعقدة و الظروف الشائکة التی یسببها له أهل البیت علیهم السّلام سواء بمکاناتهم الدینیة أو سلطانهم الروحی أو حرکاتهم الثوریة و تصدّیهم لظلمه بحد السیف.و مهما یکن الاختلاف و کثرة الأقوال عن الأسباب التی دعت المنصور إلی الحقد علیه،فمما لا شک فیه أن السبب الأساس الذی یعنی السلطة هو صلة أبی حنیفة بالعلویین و میله إلیهم.و قد مرّ بنا المزید من ذلک بما لا زیادة علیه فی رأینا (2).

و یبدو أن مدرسة أبی حنفیة-برغم وجوده حیا-کانت تتأثر بالسلطة،یتتلمذ الأصحاب علی إمامهم فی العلم و الفقه،و ینفتحون علی الحکام و الساسة فی المواقف و السلوک.و قد رأینا مدی التحوّل فی خط أبی یوسف.أما زفر بن الهذیل فیقول:

کان أبو حنیفة یجهر فی أمر إبراهیم جهرا شدیدا،و یفتی الناس بالخروج معه.فقلت له:و اللّه ما أنت بمنة عن هذا حتی نؤتی،فتوضع فی أعناقنا الحبال (3).

و فی الجملة،فإن موقف امتناعه عن تقلّد القضاء من أهم شواهد السلوک الذی تمیز بها أبو حنیفة،و هو یشتمل علی دلالات لم تغب عن بال المنصور.لأن الرفض یفسد خطة المنصور السیاسیة التی وضعها لمواجهة نفوذ أهل البیت علیهم السّلام و لذلک فإن فکرة المذاهب الرسمیة أو السلطویة لم تلصق بأبی حنیفة،إذ أعاقها رفضه و امتناعه، و إنما ترتبط بأعمدة مدرسته.کذلک فإن امتناع أبی حنیفة عن تولی القضاء یعنی منع التعاون معهم و حجب التأیید عنهم،و ما یحمل ذلک علی أنه یری عدم صحة إمامة المنصور فلا یجوز تولی القضاء لهم.و کیف لا یعتقد ذلک منه،و قد تأثر بأساتذته من سادة أهل البیت،حیث حضر عند الإمام الباقر علیه السّلام المتوفی 114 ه زید الشهید علیه السّلام المتوفی سنة 122 ه و الإمام الصادق علیه السّلام المتوفی سنة 148 ه.

ص:175


1- (1) مراقد المعارف.و المقاتل.و العمدة. [1]
2- (2) انظر ج 1 من الکتاب.
3- (3) المقاتل. [2]

و حقیقة الأمر أن جلّ ما تشیر إلیه أخباره فی هذا المقام یبین منه أنه کان قلبه مع العلویین فی خروجهم أولا علی الأمویین،ثم فی خروجهم ثانیا علی العباسیین، و کان لا یری لبنی أمیة علی أی حال حقا و لا سلطانا من الشرع أو الدین،و لکنه لا یحمل السیف،و لا یثور،لاعتبارات لها مقامها (1).

و یبدو أن ذلک کان مشهورا منه منذ عهد الأمویین،فتوحّدت وسیلة الإیقاع به من قبل النظامین،و اتّخذ القضاء محکا لأنه منصب دینی و سلطة تشریعیة تسند إلی من یتمیّز بالعلم و المکانة الدینیة،فضلا عن أن تولیها یعنی التحاق صاحبها بالملوک و الحکام،و قد ألمحنا إلی محنته مع ابن هبیرة والی الأمویین حتی لتکاد تتساوی العقوبة کأنها تصدر عن وال واحد،و لیس ذلک بغریب لأن التهمة واحدة.یروی الحسن بن زیاد-صاحب أبی حنیفة-عن أبی حنیفة قال:کان بنو أمیة یطلبون الفقهاء للإفتاء،فدعانی واحد منهم و کان أول ما دعیت،و عن یمینه و شماله ابن أبی لیلی و ابن شبرمة،فقال لأحدهما:ما تقول فی امرأة زوّجت نفسها فی عدّتها؟قال:تفرق و تضرب ضرب النکال،و المهر فی بیت المال.و قال الآخر مثل ذلک.فقال:یا نعمان،ما تقول أنت؟فاسترجعت و قلت:هذا أول ما دعیت،کیف لا أقول ما أدین به،و قولی فیها قول علی رضی اللّه عنه،و بنو أمیة لا یذکر عندهم علی و لا یفتون برأیه،فقلت:أصلحک اللّه،اختلف فیها بدریّان من أصحابه علیه السّلام فقال عمر رضی اللّه عنه بما قالا،و قال الآخر تفرق،و تتم عدة الأول و علیها عدة مستأنفة من الثانی إذ دخل بها،و علیه المهر بما استحل من فرجها،و لا یجعل فی بیت المال.

قال:من قال هذا؟قلت:علی بن أبی طالب رضی اللّه عنه.قالوا:أبو تراب؟قلت نعم.فنکس رأسه و قال لأشبه القولین بالحدیث...ا ه.و فی أخری زیادة قال(ابن هبیرة)بأی القولین تأخذ أنت؟قال:قلت:عمر عندی أفضل من علی،لکن برأی علی آخذ.

و جلی أن أبا حنیفة إضافة إلی ما صرح به من خشیته جانب الحاکم الأموی.

و تدرّجه فی الإجابة الحذرة،فإنما بادر إلی تقدیم ذکر الأفضلیة لتهدئة نفس الحاکم، و من ثم التحوّل إلی الرأی.حکی أن الکردری یعقبه بالقول:و إنما ذکر حدیث

ص:176


1- (1) أبو حنیفة لأبی زهرة ص 31.

الأفضلیة-و إن لم یکن له دخل فی المقصود-لئلا یتهم بالرفض أو الاعتزال،و کان بنو أمیة لا یذکر عندهم علیّ،و کل من ذکره عندهم عاقبوه.و کانت العلامة فیه أن یقولوا:قال الشیخ کذا،و کان الحسن البصری إذا ذکره قال:قال أبو زینب کذا (1).

و من المعروف عن رأی أبی حنیفة أنه:ما قاتل أحد علیا،إلا و علیّ أولی بالحق منه.عن الحسین بن زیاد قال:سمعت أبا حنیفة یقول:لا شک أن أمیر المؤمنین علیا إنما قاتل طلحة و الزبیر بعد أن بایعاه و خالفاه.و فی روایة أنه قال:و هو (الإمام علی)علّم المسلمین السنّة فی قتال أهل البغی (2).

کما أنه کان یروی عن أسانیده،و یبدو لعلّة لا تعدو الحکام و الإشفاق منهم، و کأنه یهرب من بلائهم،فیروی عن حمّاد قال:قال إبراهیم:علیّ أحبّ إلینا من عثمان (3)و معلوم علاقة حمّاد و إبراهیم و دورهما فی تکوین مکانة أبی حنیفة و الصلة التی تجمعهم.

و قد حضر أبو حنیفة عند علماء الشیعة،و أخذ عنهم العلم،و روی أحادیثهم، نذکر منهم علی سبیل الإشارة لا الاستقصاء:

جابر بن یزید بن الحارث الجعفی المتوفی سنة 128 ه.

حبیب ابن أبی ثابت أبو یحیی بن قیس الکوفی المتوفی سنة 119 ه.

فحول بن راشد،أبو راشد النهدی المتوفی 141 ه.

عطیة بن سعد العوفی المتوفی سنة 111 ه.

أجلح الکندی،و قیل اسمه یحیی بن عبد اللّه،و لقبه الأجلح المتوفی سنة 145 ه.إسماعیل بن أبی عبد الرحمن بن أبی کریمة المتوفی سنة 127 ه.

المنهال بن عمر الکوفی التابعی.

عدی بن ثابت الأنصاری الکوفی المتوفی سنة 119 ه.

زبید بن الحارث الأیامی المتوفی سنة 122 ه.

ص:177


1- (1) المناقب 173/1. [1]
2- (2) المناقب [2]للموفق 84/2.
3- (3) المصدر السابق.

و غیرهم من رجال الحدیث،و قد خرّج أحادیثهم کبار المحدّثین،و ضمّت کتب الرجال تراجمهم و أسماء من حضر عندهم من العلماء (1).

وفاته

:

توفی أبو حنیفة سنة 150 ه ببغداد،و دفن بالجانب الشرقی بمقبرة الخیزران، و فیها قبر محمد بن إسحاق صاحب السیرة(و کانت قبلا مقبرة للمجوس تسمی أیضا الحضریة) (2).

و فی سبب وفاته ثلاث روایات:

الأولی:أن أبا حنیفة بقی فی السجن مضیّقا علیه إلی أن وافته المنیة.

و الثانیة:أن المنصور أخرجه من السجن،و فرض علیه الإقامة الجبریة فی المدینة،و منعه من الاتصال بالناس إلی أن توفی.

و الثالثة:أن المنصور دسّ له السم.

و جمیعها تدین الحکام بموته،لإن ذنبه فی نظر المنصور لا یغتفر.

أولاده و أحفاده

:

لم یکن لأبی حنیفة عقب مشهور أو ذریة واسعة.أما الشهرة بکنیته(أبی حنیفة) فلیست قائمة علی اسم لبنت له،فلیس له بنت تسمی حنیفة،و إنما کنّی بأبی حنیفة لملازمته لدواة علی هیئة خاصة و تعرف بحنیفة،فهو دائما یستصحب تلک الدواة ذات الشکل المستطیل الذی یجلب انتباه الناظر إلیه.

و لم نعثر علی ولد له غیر حمّاد.

و کان حمّاد قد تفقه علی ید أبیه،و ولّی قضاء الکوفة بعد القاسم بن معین تلمیذ أبی حنیفة.

ص:178


1- (1) انظر الخلاصة للخزرجی.و میزان الاعتدال للذهبی.و لسان المیزان لابن حجر.و هدایة الباری لشرح صحیح البخاری و غیرها.
2- (2) تاریخ جامع الإمام الأعظم للشیخ هاشم الأعظمی ص 21.

قال الذهبی:حمّاد بن أبی حنیفة النعمان بن ثابت الکوفی ضعّفه ابن عدی و غیره من قبل حفظه،و توفی سنة ست و سبعین و مائة.

و کان لحمّاد بن أبی حنیفة ولد یسمی إسماعیل،روی عن أبیه عن جده أبی حنیفة.

قال ابن عدی:ثلاثتهم ضعفاء.

و قد ولّی قضاء الرصافة و قضاء البصرة،و کان عارفا بالقضاء،و مات سنة 212 و هو شاب و قد تفقه علی ید أبی یوسف.و لم نعثر علی شیء له یعتبر.

قبره

:

أما قبره فکان أول رواق بنی علیه سنة 379 ه و یروی أنه فی سنة ست و ثلاثین و أربعمائة وضع أساس مسجد بالکلس و النورة فی موضع ضریحه،و کان المنفق علیه ترکی قدم حاجا.

و یذکر ابن خلکان أن شرف الدین الملک أبو سعد محمد بن منصور الخوارزمی مستوفی مملکة السلطان ملک شاه السلجوقی بنی علی قبر أبی حنیفة مشهدا أو قبة نیابة عن الملوک السلاجقة،و بنی عنده مدرسة کبیرة للحنفیة،و لما فرغ من عمارة ذلک،رکب إلیها فی جماعة من الأعیان لیشاهدوها (1).و یقول ابن الجوزی:و ان حنفیا متعصبا.و کان ذلک سنة ثلاث و خمسین و أربعمائة،فهدم جمیع الأبنیة التی فی المسجد و ما یحیط بالقبر و بنی القبة،و قد جاء بالقطّاعین و المهندسین،و قدّر لها ألوف،و ابتاع دورا من جوار القبر،و حفر أساس القبة، و کانوا یطلبون الأرض الصلبة،فلم یبلغوا إلیها إلا بعد حفر سبعة عشر ذراعا،فی ستة عشر ذراعا فخرج من الحفر عظام الأموات الذین کانوا یطلبون جوار النعمان (2).

و قد تکوّنت حوله محلة عرفت بمحلة أبی حنیفة،و اسم الأعظمیة حادث.

و عنی الأتراک عنایة فائقة بالقبر و صاحبه،و بذلوا جهدا کبیرا فی إعلاء شأن

ص:179


1- (1) وفیات الأعیان ج 5 ص 46. [1]
2- (2) انظر:المنتظم ج 8 ص 245 و 246. [2]

المذهب.فلما احتل السلطان سلیمان القانونی بغداد سنة إحدی و أربعون و تسعمائة هجریة أقام مسجد الإمام الأعظم و مشهده،و باشر بإصلاح ما تهدّم من قبره أیام الفرس،و بنی علیه قبة و مدرسة،و عمّر فی أطرافها قلعة و اتخذها جامعا و دار ضیافة و حماما و خانا،و عیّن للقلعة محافظا و جنّد لحراستها مائة و خمسین،و وضع فیها معدات کافیة.کما بنی مسناة فی الأعظمیة لحفظها من الفیضان.

و إضافة إلی قیام الأتراک بتشیید مرقد أبی حنیفة و اهتمامهم بأمره،فقد أعلنوا اتخاذ مذهبه مذهبا رسمیا،و أصبحوا یرجعون الناس إلیه،و یلزمون الأمة باتباعه، حتی وازی وجود المذهب و مناطق انتشاره حدود و نفوذ العثمانیین و مناطق احتلالهم، و سبب ذلک أنهم وجدوا فی عدم اشتراط القرشیة فی الخلافة عند أبی حنیفة مقوّما لاستیلائهم و تحکمهم برقاب المسلمین،فاحتل أبو حنیفة المکانة السامیة فی نفوس العثمانیین،و تعلقت به أفئدة العائلة الحاکمة.فنجد أم السلطان عبد العزیز السیدة الصالحة تنذر فی مرضها إن شفاها اللّه عز و جل لتشیدنّ مسجد الإمام الأعظم مجددا (1).

کما کان الحنفیة أنصارا للأتراک و اتباعا للباب العالی،ففی مصر وجد منهم نصیرا قویا أطلق یده فی حکم وادی النیل و فی تقریر مصیره،و کان من نتیجة تفضیل السلطات الرسمیة لأتباع المذهب الحنفی أن تحوّل إلیه کثیر من أتباع المذاهب الأخری (2).

أحمد بن حنبل 164-241 ه

اشارة

و نعاود الحدیث عن أحمد بن حنبل،و قد رأینا بحث بعض جوانب شخصیته فی هذا الجزء لتقدم الإشارة إلیه فی بدء الجزء السابع،و نرجو أن لا یعدّ ذلک خروجا علی قواعد الأفضلیة أو الرتبة الزمنیة،فأنا لا نراها کانت فی یوم مناط إجماع أو إلزام فی غیره أو فی شخصه.کما إن تقدیمه لا یعنی خلاف ذلک؟

ص:180


1- (1) المقدسی،أحسن التقاسیم.
2- (2) دائرة المعارف الإسلامیة/مادة الأزهر.

و نتبع منهجنا التحلیلی فی نهایة البحث لنکمل ما سلف من إشارة عنه و عن الحنابلة،و نبدأ ببعض المعلومات و الصور عنه.

و قد مرّ بنا شیء من هیاج الحنابلة الذین تجاوزوا القصد و ألحقوا بالمسلمین الآخرین البلاء،و نرغب عن الخوض فی عوامل اتخاذ العامة للحنبلیة شعارا یوحی بالعناد و التزمّت و الأذی.و نعمل علی سوق الأحداث و الاتجاه إلی دراسة شخصیة الإمام أحمد فی عناصرها الأساسیة،و لا نفیض فی البحث بأکثر مما یقتضیه الغرض.

و أحمد بن حنبل فی مکانته و شهرته،هو نتاج مشکلة(خلق القرآن)و هی المشکلة التی اتخذها المأمون وسیلة لإقامة سلطانه حسب میوله الفکریة و تکوینه المتأثر بروح العصر،لیواجه ما توارثته العقول و استقر فی الأذهان علی أنماط الحکّام و طرق الموجهین و لکن بأسالیب قمعیة کان ضحیتها الفکر و روح التحرر قبل أن یضحّی بسببها بأی شیء آخر.و لأن الإمام أحمد کان رجل المحنة،و تعرّض إلی الأذی الجسدی و النفسی،و تجرّع آلام السجن؛اتصلت به عواطف الناس و تعلقت به مشاعرهم،بعد أن وجدوا أنفسهم معرّضین إلی السخط،و قد اضطرب کیانهم، و اهتزت شبکة معتقداتهم التی وجدوا علیها أباءهم و ألفوها عبر عشرات السنین متعارف علیها بین أوساط الحکّام و الخطباء و المتنفذین.

و بدءا نقول:إن نتائج المحنة ترکت آثارا قویة لفّت کل جوانب حیاة أحمد بن حنبل،و أدت فی کثیر من الأحیان إلی الغموض أو التعارض لیتحاشی ما یشبه الهاجس فی الداخل.

و لنرافق أحمد بن حنبل فی ترجمته فهو:

أحمد بن محمد بن حنبل الشیبانی المروزی،کان جده حنبلا والیا من قبل الأمویین علی سرخس،و یقال:إنه دخل بعد ذلک فی سلک الدعوة العباسیة،فکان من دعاتها المبرّزین،و بذلک فإن الإمام أحمد ینسب إلی جده حنبل،و قد یکون ذلک لوفاة أبیه و نشوئه فی ظل جده أو عمه.

و قد وقع الاختلاف فی موت محمد والد أحمد،هل مات فی مرو،أو أنه نزح

ص:181

إلی بغداد مع زوجته والدة أحمد و هی:صفیة بنت عبد الملک بن سوادة بن هند الشیبانی،و نقل عن أحمد ما یؤید القول الأول،و أنه قال:قدم أبی من خراسان و أنا حمل،و ولدت هاهنا-ببغداد-و لم أر جدّی و لا أبی،و لا تزوجت إلا بعد الأربعین (1).

نشأ أحمد فی بغداد،و اتجه لطلب العلم،و حضر عند علمائها.و له رحلات متعددة،و اتصل بالشافعی محمد بن إدریس،و حضر عنده کما حضر عند أبی یوسف،فکتب فقه أهل الرأی (2).

و روی عنه أنه قال:أول ما طلبت الحدیث ذهبت إلی أبی یوسف القاضی،ثم طلبنا بعده فکتبنا عن الناس.ثم قال:أول من کتبت عنه الحدیث أبو یوسف،و أنا لا أحدّث عنه (3).

و ذلک أنه رأی أبا حنیفة و أتباعه یقدّمون الرأی (4)و أقبل أحمد علی الحدیث حتی عدّ من المحدّثین لا الفقهاء،و هذا ما آثار غضب الحنابلة علی الطبری و غیره من الذین قالوا بهذا الرأی.

و قد مرّ الحدیث عن حیاة الإمام أحمد منذ نشأته،و رافقناه فی محنته،تلک المحنة التی هبّت عواصفها السیاسیة و العقائدیة،فأحدثت انقساما فی صفوف المسلمین،و ذلک عند ما أعلن المأمون سنة 218 ه وجوب الاعتقاد بخلق القرآن،و أنه حادث غیر قدیم کما یراه المعتزلة و غیرهم،و قد فرض المأمون القول بخلق القرآن بالقوة،و عقد مجلسا للامتحان کما اختار جماعة من الجلاّدین الجفاة الذین مرنوا علی الضرب بالسیاط.

و قد امتحن جماعة من العلماء،فامتنع بعض و أقرّ آخرون.

و قد أوجدت هذه المحنة مشکلة کلامیة تحتاج إلی دراسة واسعة فی علم

ص:182


1- (1) طبقات الحنابلة 1:63. [1]
2- (2) المدخل إلی فقه الإمام أحمد ص 38.
3- (3) أحمد بن حنبل لسید الأهل ص 36.
4- (4) نفس المصدر.

الکلام،و بیان المراد من الکلام النفسانی و تعلقه بالذات،و قد تناولتها الأقلام قدیما و حدیثا،و ربما وقع و هم من بعض من تعرّض لهذه المسألة تاریخیا فسار وراء ظواهر الأقوال،و عبّر عن الخلق بالمعنی اللغوی و هو الکذب،فیقال إنه مخلوق أی مکذوب.

و کان الخلیل بن أحمد یمنع أن یوصف الکلام بالمخلوق،و یقول:إن الکلام متی أطلق علیه الخلق فالقصد الکذب،و لهذا یقال:کلام خلقه فلان أی تقوّله.و کان ذلک من رأی الشیعة کما تقدم فی أول الکتاب.

و قد ورد فی کثیر من أقوال العرب:اختلق کذا أی کذب فیه.و سئل بعض الفقهاء فی المحنة فقال:أصفه بأنه محدث،و لا أقول إنه مخلوق لقوله تعالی: ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فمعنی أنه مخلوق و هو غیر منزل.و بهذا أخذ العوام فی إثارة البغضاء و إیقاد نار الفتنة و نشر الدعایة ضد المعتزلة بأنهم یذهبون إلی خلق القرآن أی إلی عدم کونه منزلا من اللّه تعالی،و اتسعت شقة الخلاف،و حدث فی صفوف الأمة الانقسام.و کان الإمام أحمد قد امتحن و ثبت،فاجتاز المحنة عند ما اعتلی الحکم المتوکل العباسی،فکان انتصارا لأحمد و لمن اتصل به،و بخروجه باتت المحنة تشمل العامة، فاحتفلت بالانتصار بعواطف هیّاجة و نقمة عارمة طافت علی سطحها و رکبت موجها وجوه تضررت مصالحها و تضاءلت مکانتها،فاندفعت بکل ما أوتیت من قدرات إلی تمجید المتوکل و تعظیمه،و اتبعهم علی ذلک بإخلاص أخلافهم.

قال ابن الجوزی:أطفأ المتوکل نیران البدعة،و أوقد مصابیح السنّة،و قد قال من سبقوه:الخلفاء ثلاثة أبو بکر الصدیق قاتل أهل الردّة حتی استجابوا له،و عمر بن العزیز ردّ مظالم بنی أمیة،و المتوکل محا البدع و أظهر السنّة.کما خلقوا له مناقب و أطیافا،و رفعوا شعار العدالة باسمه و هو أظلم خلیفة من بنی العباس،فأسدلوا علی ظلمه ستار المدح الزائف،و جعلوا سیئاته حسنات،و أخذ القصّاصون بنشر الأطیاف بحقه حیا و میتا.

أما الإمام أحمد،فإنه أصبح إمام السنّة و بطل الإسلام،و أنه ما قام أحد بأمر الإسلام کما قام به أحمد.

و قالوا:أحمد بن حنبل إمام،و من لا یرضی بإمامته فهو مبتدع ضال.

ص:183

و قالوا:أحمد بن حنبل إمام المسلمین و سید المؤمنین،و به نحیا و نموت،و به نبعث.فمن قال غیر هذا فهو من الجاهلین (1).

و جعلوا بغضه کفر،و حبّه من السنّة.

و قالوا:إذا رأیت الرجل یحب أحمد بن حنبل،فأعلم أنه صاحب سنّة و جماعة (2).

و أسندوا إلی الشافعی أنه قال:من أبغض أحمد بن حنبل فهو کافر.فقیل له:

تطلق علیه اسم الکفر باللّه العظیم؟فقال:نعم،من أبغض أحمد بن حنبل قصد الصحابة،و من قصد الصحابة أبغض النبی،و من أبغض النبی کفر باللّه العظیم (3).

فیکون الناتج من هذه القضیة،أن من أبغض أحمد بن حنبل کفر باللّه العظیم.و هذا غریب من الشافعی،إذ یعتمد علی نتیجة مقدمة کاذبة.

و قد رأینا فیما تقدم من بیان الإغراق فی المدح من قبل أتباع أئمة المذاهب ما خرجوا به عن طریق المعقول و تجاوزوا فیه حدود المنطق.علی أن جولة الحنابلة فی عصر التطاحن المذهبی،خلقت کثیرا من الأمور المناقضة للحقیقة و المخالفة لما یقتضیه واقع الإمام أحمد و سیرته،فقد اندفعوا بصورة واسعة إلی خلق مشاکل فی المجتمع،و أرهبوا الناس،و اضطرب حبل الأمن من جرّاء نشاطاتهم حول نشر مذهبهم مما لا ربط له بإمامهم.

و فی عصر المتوکل کان نشاطهم سیاسیا أکثر من أن یکون عقائدیا،و قد شدّ المتوکل أزرهم،و أخبر المتوکل بعد موت أحمد أن الحنابلة یکون بینهم و بین أهل البدع(و هم غیرهم من الطوائف)الشر،فقال لصاحب الخبر:لا ترفع إلیّ من أخبارهم،و شدّ علی أیدیهم فإنهم و صاحبهم من سادة أمة محمد.

و استغل الحنابلة هذه الفرصة،فراحوا فی ذلک الودّ یتنفّسون حریة الکلام

ص:184


1- (1) ذیل طبقات الحنابلة ج 1 ص 136.
2- (2) الجرح و التعدیل ج 1 ص 308.
3- (3) طبقات الحنابلة ج 1 ص 13. [1]

و حریة الانتقام من خصومهم أیام المحنة،فلم یسلکوا طریقة أحمد فی حیاته فی الصفح و التجاوز،لأنهم خضعوا لأناس آخرین کان نفعهم فی الأذی و مصلحتهم فی الأضرار،و منه من رأی فی التحول علی ید المتوکل و العودة إلی ما کان علیه الأمر قبل المأمون فرصة تسمح لهم بأن یفعلوا بالآخرین ما فعله المأمون،و هکذا تنتهی محنة لتبدأ أخری.

و قد أخذ المتوکل بإضفاء الطابع الحنبلی علی حکمه من خلال قوله و إذاعته المسائل التی یتمیز بها أحمد،فقسّم الجوائز علی فقهاء و محدّثین،و أجری علیهم الأرزاق،و أشخصهم،و کان فیهم مصعب الزبیری،و إسحاق بن أبی إسرائیل، و إبراهیم بن عبد اللّه الهروی،و عبد اللّه و عثمان ابنا أبی شیبة.و أمرهم المتوکل أن یجلسوا للناس،و أن یحدّثوا بالأحادیث التی فیها الرد علی المعتزلة و الجهمیة،و أن یحدّثوا فی الرؤیة (1).و هی الأمور التی اشتغل بها أحمد،و أثرت عنه رسالة اشتملت علی آرائه و معتقداته فی البدعة و السنّة و الرؤیة و إجابات ضمّنها أقواله،أشرنا إلیها فیما مضی.

و یبدو أن المتوکل أراد أن یستکمل خطته فی تبنّی المذهب الحنبلی،فعزم علی استقدام أحمد بن حنبل إلی مقرّ ملکه فی سامراء.و هی و إن لم تکن علی طریقة أسلافه،لأن عمله و میله إلی أحمد بن حنبل تتداخل فیه عوامل کثیرة،هی مزیج من مشاعر و أهواء و أغراض.إلا أن أحمد نفسه کان غیر مستعد لمثل هذا العمل،فهو یتردد أو یحذر من مخالفة الحکام لسبب لا یتفق مع الأسباب التی یدعو إلیها أصحاب مبدأ مقاطعة سلطان الظلمة،إذ هو یدعو إلی إطاعة«الإمام»البر و الفاجر مما یجعله بعیدا عن أصحاب الدعوة إلی الثورة علی الظلمة،و یحصر القضیة فی أمور هی من أکبر عوامل الظلم و الجور،و لکنه لا یقرّ بها أسبابا للثورة أو الخروج علی حکم المتسلطین.

کان إسحاق بن إبراهیم من کبار رجال الدعوة العباسیة،فأمره المتوکل بإشخاص أحمد بن حنبل من بغداد إلی سامراء بعد انتهاء المحنة،فأخبره إسحاق

ص:185


1- (1) مناقب أحمد لابن الجوزی ص 357.

بذلک،ثم قال لأحمد:أسألک عن القرآن مسألة مسترشد لا مسألة امتحان،و لیکن ذلک عندک مستورا،ما تقول فی القرآن؟قال أحمد:القرآن کلام اللّه غیر مخلوق.

قال إسحاق:من أین قلت:غیر مخلوق؟ فأجاب أحمد:إن اللّه عز و جل یقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ففرّق بین الخلق و الأمر.

فقال:الأمر مخلوق؟ فقال أحمد:یا سبحان اللّه،أ مخلوق یخلق مخلوقا؟! قال إسحاق:و عمن تحکی أنه غیر مخلوق؟ قال أحمد:جعفر بن محمد الصادق قال:لیس بخالق و لا مخلوق.فسکت إسحاق (1).

و هذا یدلنا علی شدة التکتّم فی المسألة،و عدم الخوض فی شیء من ذلک، لأنه یؤدی إلی مخالفة رأی السلطة.و هذا الرجل أی إسحاق هو من رجال الدولة یسأل مسترشدا أو یطلب ستر ذلک،لأن إظهاره یجرّه إلی نکال المؤاخذة.

و مهما یکن من أمر،فقد سکت إسحاق مقتنعا بظاهر القول و دلالة اللفظ.

و الغرض أن المسألة هی من المسائل العلمیّة الهامة،و هی علی جانب کبیر من الخطر،فلم یکن هناک مجال لعرض الآراء و استماع الحجج و إقامة البرهان من کلا الطرفین،و بهذا أصبح الأمر فوضی،فقد استساغ المعتزلة حمل خصومهم علی الاعتقاد بالقوة،و لهذا باءت سیاستهم بالخیبة و الخذلان،و انتصرت علیهم قوی العامة التی آثرت التمسک بالسنن و الآثار،و ترک الخوض فی علم الکلام،و تحکیم العقل.

و قامت هناک عاطفة دینیة تدعوا إلی صیانة کتاب اللّه عن الطعن فیه،أو عدم نزوله.

کما حرّفوا مدلول المسألة.

و فی مواجهة المشکلة،کان أحمد یری أن الخوض فی قضیة خلق القرآن لم تکن مطروقة و لیست من السنة،حتی أنه کان یطالب مناظریه بشیء من السنة فیما

ص:186


1- (1) ابن الجوزی،مناقب أحمد ص 359.

یدعونه إلیه.و لا ننکر أن دافع الحرص علی قدسیة النص کان وراء موقف أحمد و إجاباته،غیر أن الإمام أحمد بالغ فی انتهاج النصیّة و الاعتماد علی السلف إلی حدّ ألغی فیه فرص التحاور و إمکانیة المناظرة،و أدی به إصراره إلی تحاشی الرأی کلیا، حتی لکأنه حاول أن یجعل نفسه بعیدا عن الأحداث و لا یقرّ بتحولات الظروف و تطورات الوقائع التی وضع الاجتهاد لمعالجتها و هدی الأمة بالاستنباط من الأصول،و إرشادها باستخراج الأحکام من النصوص،حتی یجد المسلمون فی کتاب اللّه و سنّة نبیّه مصدرا یسع کل ما یجدّ من أحداث،و ینطوی علی کل ما یقع من الوقائع.

لقد غلب علی الإمام أحمد التقیّد بالنص و الاتباع و التقلید،و لم یدع مجالا للرأی،و کان یتحرّی المسائل علی ما سمعه و روی له،و یحذر من إجالة الرأی أو التقدیر،و لا یجیب إلا فی مسألة وقعت.فإن کان احتمالا أو توقّعا امتنع،و لا یحفل إن کان ذلک علی أشباه الوقائع القریبة،أو بعیدا عنها.

و علی یدیه وضعت مبادئ ما عرف عن ابن تیمیة و ابن قیّم الجوزیة من تعنّت و تزمّت.و یثیر قولنا هذا-السلفیة و الوهابیة-و لا شک،لأنهم أخذوا ما رآه الإمام أحمد وقایة و تحصنا.و جعلوه أساسا لمنطقهم القائم علی الإفهام بالابتداع، و استسهال إطلاق الکفر علی غیرهم،فیما ترکوا الکثیر من أقوال الإمام أحمد التی تأتی مرادفة للنصوص التی احتوت أصول أفکارهم،منها:أن الرجل لا یخرجه من الإسلام إلا الشرک العظیم،أو ردّ فریضة جاحدا لها فیما أخذوا معتمدا لهم و أصلا قوله:(فمن قال مخلوق فهو کافر باللّه العظیم،و من لم یکفّره فهو کافر)فاستسهلوا تکفیر غیرهم.و منهجه فی غلق أبواب النقاش توقّیا و حذرا بقوله:(و لا یقال لم و لا کیف)لأن الأمور التی تبحث العقول عن حقیقتها فی ظل ظروف المحنة یراها لیست من السنن،و الکلام فیها مکروه،بل منهی عنه:(لا یکون صاحبه-و إن أصاب بکلامه السنّة-من أهل السنة حتی یدع الجدال و یسلّم و یؤمن بالآثار)فجعلوا ذلک مسوّغا لجمودهم و انغلاقهم.

و خلاصة القول:إنه تمسّک بالأثر دون تمحیص،و اعتمد علی السلف،و حکم بأن من یخالف شیئا من هذه المذاهب أو طعن فیها أو عاب قائلها؛فهو مبتدع خارج

ص:187

عن الجماعة،زائل عن منهج السنة.و اتجه هذا الاتجاه فی حیاته،و أخذ به،فتمسّک بحرفیة النص و ظاهره،و لا یسمح لنفسه تخریج أو تفسیر أو جدل ینمّ عن تصد للاجتهاد،أو تصدّر للإفتاء،و لا یتعدّی الأخذ بالأثر و الجمود علی النصوص و العمل بظاهرها.و قد نسب إلیه ذلک فی شعر و هو قوله:

یا طالب العلم صارم کل بطّال و کلّ غاد إلی الأهواء میّال

و أعمل بعلمک سرّا أو علانیة ینفعک یوما علی حال من الحال

و لا تمیلنّ یا هذا إلی بدع تضلّ أصحابها بالقیل و القال

خذ ما أتاک به ما جاء من أثر شبها بشبه و أمثالا بأمثال

إلا فکن أثریا خالصا فهما تعش حمیدا،ودع آراء ضلاّل

و قد اتجه إلی الحدیث،فروی أنه کان یحفظ ألف ألف حدیث،و یأخذ بالضعیف منها و یعلم به إذا لم یکن ما یعارضه،و أصبحت له خبرة بالحدیث،وسعة اطلاع جعلت له منزلة بین المحدثین.و إذا صحّ ما کان یحفظه،فإنّا نمیل إلی أن تکوینه النفسی قد طغت علیه ملکة الحفظ،و آنس فی نفسه قوتها دون غیرها؟ و ساعدت علی ذلک اعتبارات الفترة و نتائج المحنة،و لذلک لم یکن له فی حیاته مدرسة فقهیة،حتی أن ابن عبد البر لم یجعله مع مالک و الشافعی و أبی حنیفة فی کتابه (الانتقاء فی فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء)و أن عنوان الکتاب ینطوی علی هذا القصد، و لا بد أن المالکیة علی هذا الرأی جمیعهم،فإن القاضی عیّاض قال عنه:إنه دون الإمامة فی الفقه،و جودة النظر فی مأخذه.

و قد مرّ بنا ما ذا فعل الحنابلة بابن جریر الطبری،فهو لم یعدّ مذهبه فی الخلاف بین الفقهاء و قال:إنما هو رجل حدیث.و علی هذا الرأی غیره من الشافعیة.

و من تتبّع سیرة الإمام أحمد،یترجّح لدینا أنه لم یقصد إلی تأسیس مذهب خاص به،و لم یستجب إلی إغراءات السلطان.و لکن تلامذته قد أفرغوا تعالیمه و أقواله بعد موته فی قوالب محدودة هی قواعد و مبادئ لفقه ینسب إلی الإمام أحمد، فتألفت جماعة فقهیة کان رجالها أصحابه من ذوی الإحاطة،فکان نشوء المذهب الحنبلی.کما أن المسند کان من جمع ابنه و أصحابه.و یعتقد أحمد أن منحاه فی التقیّد بالحرفیة و الظاهر هو المنهج الأقوم و الطریقة المثلی،و یردّ بها علی اتجاهات

ص:188

الرأی و تیارات الجدل.و وضع بذلک المنحی مسوّغا للاحتماء بالتقلید،و مبررا للاتهام بالمروق.و لو قابل الاتجاهات و المدارس الفکریة التی نجمت عنها المسائل التی کره الخوض فیها و أنکر شیوعها،و أدت به إلی المحنة بطرق مماثلة تقابل الحجة بالحجّة، و تعتمد الاستدلال و المنطق؛لما استغلت أقواله ذلک الاستغلال الذی أطلق العامة من عقالها،فراحت تعرّض أمن الناس للخطر،و تنزل بهم الویلات،و تصف الناس بالکفر.

یقول الإمام أحمد:(الدین إنما هو کتاب اللّه عز و جل،و آثار و سنن و روایات صحاح عن الثقات بالأخبار الصحیحة المعروفة،یصدّق بعضها بعضا حتی ینتهی ذلک إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أصحابه و التابعین و تابعی التابعین،و من بعدهم الأئمة المعروفین المقتدی بهم،المتمسّکین بالسنة و المتعلقین بالآثار،لا یعرفون بدعة،و لا یطعن فیهم بکذب،و لا یرمون بخلاف،و لیسوا بأصحاب قیاس و لا رأی،لأن القیاس فی الدین باطل،و الرأی مثله و أبطل منه،و أصحاب الرأی و القیاس مبتدعة ضلاّل،إلا أن یکون فی ذلک أثر عمّن سلف من الأئمة) (1).

و هو یری نفسه دائما متّبعا،فلا یتحدث إلا بما أخبر و حدّث،و یدعو إلی الاتباع:(هذه مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر و أهل السنة و المتمسکین بعروقها المعروفین بها،المقتدی بهم فیها من لدن أصحاب النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلی یومنا هذا،و أدرکت من أدرکت من علماء أهل الحجاز و الشام و غیرهم علیها،فمن خالف شیئا من هذه المذاهب أو طعن فیها أو أعاب قائلها،فهو مبتدع خارج من الجماعة،زائل عن منهج السنة و سبیل الحق) (2).

أولاده
اشارة

:

ولد لأحمد بن حنبل عدة أولاد و هم صالح و عبد اللّه من أم،و حسن و محمد و سعید من جاریة تسمی حسن،و ولدت له بنتا سمّاها زینب،و قبل ولدت له ولدا رابعا سمّاه حسنا أیضا:

ص:189


1- (1) طبقات الحنابلة ج 1 ص 31. [1]
2- (2) المدخل إلی مذهب الإمام أحمد بن حنبل لابن بدران ص 26.
صالح بن أحمد بن حنبل

:

ولد سنة 203 ه و توفی سنة 265 ه و هو أکبر أولاد أحمد،کان راویة لأبیه.

و حدّث کثیرا عن سیرته و أحواله و تاریخ حیاته،و یبدو علی صالح رفضه لمسلک التقشّف الذی أخذ أبوه به،و عدم القناعة بموقف الانصراف عن الحکام فی أمر المنح و العطایا التی توالت علی أحمد فی عهد المتوکل،حتی إنه کان یتصرّف فی الأموال التی یتحرّج فی أخذها بدون موافقة أبیه عند ما یراه یمتنع أن یقدم منها إلی أحفاده (1).

و کذلک عند ما صارحه أبوه فی أن یدع الرزق الذی یأتی من المتوکل فلا یأخذه و لا یوکل فیه أحدا،فرفض ذلک.فقد کان معیلا.و کان الإمام أحمد یدعو له.و کان الناس یکتبون إلیه من خراسان-حیث موطنهم الأول-یسأل لهم أباه عن المسائل.

ولّی القضاء بأصبهان،کما ولّی القضاء بطرسوس.نقل إلیها من أصفهان.قال صالح:کان أبی یبعث خلفی إذا جاءه رجل زاهد متقشّف لأنظر إلیه،یحبّ أن أکون مثلهم،أو یرانی مثلهم.و لکن اللّه یعلم ما دخلت فی هذا الأمر إلا لدین غلبنی، و کثرة عیال (2).

حدّث عنه ابنه زهیر،و روی عنه ابن أخیه محمد بن أحمد بن صالح، و أحمد بن سلیمان النجار.و توفی زهیر سنة 330 ه.

و أما أحمد بن صالح فقد روی عن جده أحمد حدیث عائشة:کنت أغتسل أنا و رسول اللّه من إناء واحد.

و لأحمد بن صالح ولد اسمه محمد کان یروی عن عمه زهیر،و روی عن أبیه قول عائشة کما ذکره،و رواه عنه الدار قطنی و توفی سنة 330 ه.

عبد اللّه بن أحمد بن حنبل

:

ولد سنة 213 ه و توفی سنة 290 ه و کان أعلم أولاد أحمد و أکثرهم روایة عنه، و هو الذی جمع مسند أبیه،و زاد فیه کثیرا من الأحادیث التی لم یأخذها عن أبیه، و رواه عنه أبو بکر القطیعی و زاد فیه أیضا،فالمسند یرویه عبد اللّه عن أبیه سماعا،

ص:190


1- (1) انظر البدایة و النهایة 338/10.
2- (2) طبقات الحنابلة 174/1.و [1]تهذیب تاریخ ابن عساکر ج 6 ص 364.

و قسم رواه عن غیر أبیه و هو المسمی عند المحدثین بزوائد عبد اللّه،و قسم لم یسمعه من أبیه بل وجده بخطّه،و قسم رواه القطیعی عن غیر عبد اللّه و أبیه.

و أول من سمعه منه:حنبل بن إسحاق بن حنبل-و هو ابن عم أحمد- و عبد اللّه بن أحمد،و صالح بن أحمد.قال ابن السماک:حدثنا حنبل بن إسحاق قال:جمعنا أحمد بن حنبل أنا و صالح و عبد اللّه،و قرأ علینا المسند،و ما سمعه منه غیرنا (1).

و ذکر الشیخ محمد أبو زهو فی کتابه(الحدیث و المحدّثون)أنه سمع المسند من الإمام أحمد أولاده الثلاثة:صالح و عبد اللّه و حنبل.ثم ذکر روایة ابن السماک(أو السبّاک)و هذا خطأ فإن حنبلا لم یکن ولدا لأحمد،بل هو ولد عمه إسحاق کما ذکره ابن الجوزی و غیره،و جاء فی ترجمته فی طبقات الحنابلة،قال حنبل بن إسحاق:

جمعنا عمی لی و لصالح و لعبد اللّه،و قرأ علینا المسند و ما سمعه منه غیرنا (2).

و نقل ابن الجوزی عن ابن السمّاک قال:حدثنا حنبل بن إسحاق قال:جمعنا أحمد بن حنبل،أنا و صالح و عبد اللّه،و قرأ علینا المسند و ما سمعه منه غیرنا (3).

فقول الشیخ أبو زهو أن حنبل من أولاد أحمد خطأ،و ما هو بأول خطأ یرتکبه، و قد أشرنا لکتابه و أخطائه فیما سبق.

و مهما یکن من شیء،فإن عبد اللّه کان أشهر أولاد أحمد بن حنبل،و أکثر روایة عنه،و قد ولّی القضاء فی خلافة المکتفی،و توفی فی جمادی الآخرة سنة 290 ه.و لما مرض قیل له:أین تحب أن تدفن؟فقال:صحّ عندی أن بالقطیعة نبیا مدفونا،و لأن أکون بجوار نبیّ أحب إلیّ من جوار أبی.

سعید بن أحمد

:

ولد سعید قبل موت والده بنحو من خمسین یوما،و توفی سنة 303 ه و قیل:

بل توفی قبل هذا التاریخ بمدة طویلة فی حیاة أخیه عبد اللّه.و قد ولّی سعید قضاء الکوفة،و أما بقیة أولاد أحمد،فلا یعرف من أخبارهم شیء.

ص:191


1- (1) مناقب أحمد ص 191.
2- (2) الطبقات ج 1 ص 143.
3- (3) المناقب ص 191.
وفاته

:

توفی أحمد بن حنبل فی ربیع الأول سنة 142 ه و قیل 12 منه،و صلّی علیه الأمیر محمد بن طاهر.و دفن بمقبرة باب حرب (1).و قد وصفوا تشییعه بأنه ما کان فی الجاهلیة و لا فی الإسلام جمع أکثر منه،و قد اشترک فیه النساء و الرجال یتبادلون النوح و الصراخ،و أعلن الحنابلة اللعنة علی من خالفهم،و علت الهتافات بلعن بشر المریسی و الکرابیسی.فسأل المتوکل عن الکرابیسی (2)من هو؟قالوا هو رجل أحدث قولا لم یتقدمه أحد.فأصدر المتوکل أمره إلیه بلزوم بیته،فلزمه إلی أن مات.

و ینقل الحنابلة عن یوم الجنازة ما لا یقبله العقل و یقرّه المنطق کقول الورکانی:

أسلم یوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفا من الیهود و النصاری و المجوس.و وقع المأتم و النوح فی أربعة أصناف من الناس:المسلمین و الیهود و النصاری و المجوس (3).

و منذ و وری ابن حنبل،لزم بعض الناس القبر و باتوا عنده،و جعل النساء یأتین، فأرسل السلطان أصحاب المسالح،فلزموا ذلک الموضع حتی منعوهم مخافة الفتنة (4).و یبدو أن الجنازة تحولت إلی مناسبة أظهر فیها الحنابلة أنفسهم و الدعوة إلی منهجهم و الطعن علی غیرهم،حتی قال ابن الجوزی:(فسرّ اللّه المسلمین بذلک علی ما عندهم من المصیبة لما رأوا من العزّ و علوّ الإسلام،و کبت اللّه أهل البدع و الزیغ و الضلالة).

و یذکر المسعودی أن اجتماع الجنازة کان للعامة فیه کلام کثیر جری بینهم بالعکس و الضدّ فی الأمور منها:أن رجلا منهم کان ینادی:العنوا الواقف عند الشبهات.و هذا بالضدّ عمّا جاء عن صاحب الشریعة صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و کان عظیم من عظمائهم و مقدّم فیهم یقف موقفا بعد موقف إمام الجنازة،و ینادی بأعلی صوته:

ص:192


1- (1) باب حرب تنسب إلی حرب بن عبد اللّه-أحد أصحاب المنصور-أو حرب بن عبد الملک، و إلیه تنسب محلة الحربیة،و فیها أیضا قبر بشر الحافی.
2- (2) المناقب لابن الجوزی 417.
3- (3) طبقات الحنابلة 16/1. [1]
4- (4) المناقب 418.

و أظلمت الدنیا لفقد محمد و أظلمت الدنیا لفقد ابن حنبل

یرید بذلک أن الدنیا أظلمت عند وفاة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أنها أظلمت عند موت ابن حنبل کظلمتها عند موت الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1).

و ازدحم الناس علی قبر أحمد یتبرّکون به،و یقصدونه للزیارة،و هنا تجدّدت نشاطات الدعایات المذهبیة،و طغت موجة المناقبیة،و قام القصّاصون و الوعّاظ -الذین هم من قبل الدولة-بنشر خرافات لو کان أحمد حیا لخجل منها و تبرّأ من قائلها.و إلیک نموذجا منها:

1-ادّعی أحدهم أنه زار قبر أحمد،فرأی القبر قد التصق بالأرض،و سمع صوتا من القبر یقول:هذا من هیبة الحق،لأنه عز و جل زارنی فسألته عن سرّ زیارته إیّای فی کل عام.فقال:لأنک نصرت کلامی...

2-أن من یدفن فی مقبرة أحمد یکسی حلّتین من حلل الجنة،و یوضع علی قبور مجاوریه قنادیل،و من یعذّب یرحم لأجله (2)و کان فیهم رجل محنث فشمله العفو (3).

3-حدّث علی بن إسماعیل السجستانی:کأن القیامة قد قامت و کان الناس یزدحمون عن قنطره،لا یترک أحد یجوز حتی یجیء بخاتم،و رجل ناحیه یختم للناس و یعطیهم،فسألت عنه فقالوا:هذا أحمد بن حنبل (4).

4-أن أبواب السماء تفتّح لزوّار قبر أحمد بن حنبل،و الملائکة تنزل علیهم بثیاب خضر تطیر بهم فی الهواء.و کان قبره یقصد للزیارة من ستمائة فرسخ (5)و لا یتسع المجال لعرض ما ادّعی من منامات و أحلام فی قبر أحمد و زیارته،و عظیم الأثر الذی خلفته الدعایة فی قلوب الناس من تعظیم قبره و التبرک به و تقبیله.و قد سأله رجل فی الرؤیا:لم یقبّل قبر إلا قبرک؟فأجاب:هذا لیس کرامة لی،و لکن کرامة

ص:193


1- (1) مروج الذهب 102/4 و 103. [1]
2- (2) تاریخ بغداد ج 1 ص 22.
3- (3) ابن الجوزی،المناقب ص 463.
4- (4) ابن الجوزی،المناقب ص 446.
5- (5) ابن الجوزی،المناقب ص 482.

لرسول اللّه،لأن معی شعرات من شعره،ألا و من یحبنی لم لا یزورنی فی شهر رمضان.

و قد بقی قبر أحمد بن حنبل مقصدا لمحبیه،و یتبرکون بزیارته،و ادّعی أن الماء حار حول قبره عند طغیان دجلة سنة 725 ه فغمر جمیع الأمکنة إلاّ قبر أحمد،فلم تبلّ الحصر کما یدّعون.و لکن دجلة أعاد الکرة،فاکتسح القبر و ابتلعه،و ذهب به و بآثاره إلی الیوم.

و قد دفن فی مقبرته خلق کثیر،و نقل إلیه من الأماکن النائیة جثث کثیرة لأموات أمثال:عبد المغیث بن زهیر الحربی الحنبلی محدّث بغداد.و من الغریب بل من الشذوذ الفکری أن یوصف هذا الرجل بأنه صالح متدین أمین مجتهد فی السنّة،حافظ زاهد یشبه أحمد بن حنبل،مع اعترافهم بأنه وضع جزء فی فضائل یزید بن معاویة أتی فیه بالموضوعات کما یقول الذهبی (1).

و من أعیانهم:عبد الرحمن بن الجوزی المتوفی سنة 597 ه و صاحب المؤلفات الکثیرة،دفن عند أبیه بباب حرب عند قبر أحمد،و کان یوم تشییعه یوما مشهودا و ذلک فی شهر رمضان،و قد أفطر جماعة من الناس من کثرة الزحام و شدّة الحرّ (2).

و لعل المسوّغ لإفطارهم اعتقادهم بأن تشییع ابن الجوزی أعظم ثوابا من صیام شهر رمضان،لأنه کان ناصرا للسنّة محاربا للبدعة.و قد وصف بأنه کحاطب لیل، و هو لا یفرّق بین الضارّ و النافع،و الحقّ و البطّال،و کانت مؤلفاته تناقض بعضها بعضا،و هو یورد الشّبه،و لیس له قدرة علی ردّها،و قد نقم علیه العلماء،و لکن لا ینفع ذلک مع تجمع العوام علیه.

و کثیر من العلماء الحنابلة دفنوا عند قبر أحمد تبرکا بجواره،و منهم من نقل إلی مقبرة أحمد بعد مدة من دفنه کسعد اللّه الحنبلی المتوفی سنة 564 ه دفن بمقبرة الرباط،ثم نقل بعد خمسة أیام و دفن فی مقبرة أحمد.و کمال الدین بن وضّاح الحنبلی المتوفی سنة 627 ه دفن عند رجلی أحمد.و منهم:محمد بن محمد بن

ص:194


1- (1) الشذرات ج 4 ص 275. [1]
2- (2) البدایة و النهایة ج 13 ص 331. [2]

الحسین الحنبلی المتوفی سنة 527 و نقل إلی مقبرة أحمد بن حنبل سنة 534 أی بعد مضی سبع سنوات علی موته.و غیر هؤلاء خلق کثیر أحصینا عددهم بما یقارب الخمسین شخصا.و بطبیعة الحال فإن قبورهم ذهبت فی طغیان دجلة کما سبق و ذکرنا.

و لا بد من التعرّض لما جاء فی لغة العرب المجلد الخامس من السنة الثامنة ما ذکره الدکتور مصطفی جواد:أن عبد الحمید عیادة نشر فی لغة العرب أن فی جامع حاج أفندی-و یسمی مسجد اللالات بمحلة کوک نفر ببغداد أن رخامة فی الجوار الذی یلی الباب،مکتوب علیها ما صورته:(هذا قبر المرحوم المغفور له الدارج فی رحمة اللّه الشیخ المجتهد السید أحمد من الأربعة المجتهدین و ذلک فی 13 ربیع الأول سنة 562 ه)ثم قال:توارد إلی خاطری أنه قبر الإمام المشار إلیه،أی أحمد بن حنبل إذ لا یبعد أنه نقل إلی محله الحالی لسبب غرق بغداد الخ.

و هذا بعید کل البعد،لأن التاریخ إما أن یکون تاریخ الوفاة أو تاریخ النقل، فتاریخ الوفاة سابق علیه،لأن وفاة أحمد سنة 241 ه و أما تاریخ النقل عند الغرق، فهو متأخر عن هذا التاریخ.

و قد نقل لقبر أحمد رجال من الحنابلة بعد هذا التاریخ منهم:کمال الدین علی بن وضّاح المتوفی سنة 672 ه و فی سنة 765 ه دفن القاضی جمال الدین بن خلیل الخضری الحنبلی محدّث بغداد،و فی سنة 766 ه دفن الشیخ نور الدین الحنبلی،و فی سنة 784 ه دفن أبو طالب عبد الرحمن بن عمر الحنبلی نزیل بغداد.

و الحاصل أن مقبرة أحمد بن حنبل بقیت مدة من السنین مهوی أفئدة الحنابلة، و مقصد الزوار،و تدفن حوله الأموات تدینا و تقربا لنیل ما أعدّ من الجزاء لمن یدفن حوله.فقد أشاع الحنابلة أن من یدفن حول قبر أحمد یکسی حلتین من حلل الجنة، و یوضع علی قبر مجاوریه قنادیل،و من یعذب یرحم لأجله (1).إلا أن ذلک القبر قد غمره الفیضان فانهار،و لم یبق له أثر،إذ امتلأت مقبرة أحمد کلها،و لم یسلم منها إلا موضع قبر بشر الحافی لأنه علی نشز من الأرض،و کان من یری مقبرة أحمد بعد أیام

ص:195


1- (1) ابن الجوزی،المناقب ص 463.

من مضی الفیضان لیدهش عند ما یری القبور قد قلّبت،و جمعت العظام کالتل،جمعها السیل-سیل الماء-و کذلک ألواح القبور (1).

و قال الیافعی:إن دجلة زادت زیادة مفرطة حتی أخرجت مقبرة أحمد بن حنبل، و دخل الماء فی دهلیز البیت،و ذلک فی سنة 725 ه.و قال ابن العماد نقلا عن الذهبی:إن مقبرة أحمد بن حنبل غرقت سوی البیت الذی فیه ضریحه،فإن الماء دخل الدهلیز علو ذراع،و وقف بإذن اللّه تعالی،و بقیت البواری علیها الغبار حول القبر.

و لقد علق المرحوم السماوی علی هذا القول بقوله:

ألا من عذیری یا بنی العلم و الحجی من الیاوفی الحنبلی المجلل

یکذّبنی إن قلت قبر ابن فالهم علیه استدار الماء للمتوکل

و یزعم حارّ الماء ثمّ تجل غبرة علی حصر کانت بقبر ابن حنبل

هذه لمحة موجزة عن السیرة المستمرة فی نقل الأموات و نبشهم بعد دفنهم، و هی باقیة حتی یومنا هذا عند إخواننا السنة،فإنهم ینقلون الموتی من الأماکن.فمن مات خارج العراق نقل إلیه،و من مات فی العراق فإما أن ینقل إلی بلده و مسقط رأسه،أو یدفن فی مقبرة ولیّ کأبی حنیفة و الإمام الأعظم و الشیخ معروف ببغداد، و البعض ینقل من بغداد إلی مقبرة الخاتونة فی السماوة إن کان من أهلها،و أغلب أهل الجنوب من إخواننا السنّة ینقلون موتاهم إلی بلد الزبیر،و دفنهم هناک تبرکا بالقبر المنسوب للزبیر بن العوّام.

و قد ذکرنا سابقا أن هذه النسبة غیر صحیحة،و أن هذا القبر بنی علی الظنة و التخمین،کما نص علی ذلک بعض المؤرخین (2).

و من الجدیر بالذکر،أن النقل بعد الموت عند المسلمین شائع معمول به منذ الصدر الأول عند جمیع الفرق و المذاهب.

و نذکر ما یحضرنا ذکره الآن فمنهم:

ص:196


1- (1) فیضانات بغداد،الدکتور سوسه ص 220.
2- (2) انظر الجزء الأول من هذا الکتاب.

1-جعفر بن الفضل بن موسی بن الفرات أبو الفضل المتوفی سنة 391 ه وزیر الدیار المصریة،توفی بمصر،فنقل إلی المدینة.یقول ابن عساکر:و خرجت الأشراف إلی لقائه وفاء بما أحسن إلیهم،ثم یقول:فحجوا به و طافوا و وقفوا فی عرفات،ثم ردّوه للمدینة،و دفنوه فی دار اشتراها من الأشراف بالمدینة (1).و لا ندری هل کان ورود جنازته أیام الحج فحجوا به،أم أنهم خلقوا له حجا و وقفوا بعرفات فی غیر وقت الموسم؟! 2-القاضی أبو بکر محمد بن الطیب الباقلانی المتوفی سنة 404 ه دفن فی داره بنهر طابق،ثم نقل إلی جوار قبر أحمد بن حنبل فی مقبرة باب حرب،و یؤم الناس قبره،و یتبرکون به.یروی أن أحد شیوخ الحنابلة(أبو الفضل التمیمی)حضر یوم وفاته حافیا مع أصحابه،و قعد معهم للعزاء ثلاثة أیام،و کان یزور قبره کل یوم جمعة.

3-أبو البقاء محمد بن المبارک المعروف بابن الخل الشافعی المتوفی ببغداد سنة 552 ه و نقل إلی الکوفة و دفن فیها.

4-صدر الدین أبو بکر الشافعی خرج من بغداد،فنزل بقریة بین همدان و الکرج،فأصبح میتا،فحمل إلی أصفهان و دفن بسیلان.

5-و کذلک ولده عبد المطلب مات بهمدان سنة 580 ه بعد عودته من الحجاز،و حمل إلی أصفهان،و دفن فیها.

6-أحمد الحریزی المتوفی سنة 550 ه و کان عاملا للمقتضی علی نهر الملک و کان من أظلم العالم،و مع هذا یظهر التدین،و کان یجلس علی السجادة و بیده سبحة یسبّح فیها و یقرأ القرآن،و الناس یعذّبون بین یدیه.و کان یعلّق الرجال بأرجلهم، و النساء بأثدائهن،و یضربون بین یدیه و هو یومی إلی الجلاد:الرأس،الوجه.و قد سئم الناس حیاته،فدخل علیه ثلاثة رجال،فضربوه بالسیوف فمات،و حمل إلی بغداد،و دفن فیها،فأصبح و قد خسف بقبره (2).

7-الملک المظفر علی کوجک الترکمانی المتوفی سنة 620 ه ملک أربل،

ص:197


1- (1) شذرات الذهب ج 3 ص 135. [1]
2- (2) شذرات الذهب. [2]

مات فیها فی رمضان،و أوصی أن یحمل إلی مکة فیدفن فی حرم اللّه تعالی،و قال:

استجیر به.فحمل فی تابوت إلی الکوفة،و لم یتفق خروج الحاج فی تلک السنة، فدفن عند أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السّلام.

8-کمال الدین محمد بن علی الشافعی یعرف بابن الزلمکان المتوفی سنة 727 ه بدبیس،و حمل إلی القاهرة،و دفن إلی جوار الشافعی.

9-إمام الحرمین أبو المعالی الجوینی عبد الملک بن عبد اللّه الفقیه الشافعی المتوفی سنة 478 ه و دفن بداره فی نیسابور،ثم نقل منها بعد سنتین.

و کان لموته یوما مشهودا،فلقد أغلقت أبواب البلد،و کشف الناس رءوسهم حتی ما اجترأ أحد أن یغطی رأسه،و صلّی علیه ولده أبو القاسم بعد جهد عظیم من الزحام،و کسر منبره فی الجامع،و قعد الناس للعزاء أیاما،و کان طلبته أربعمائة یطوفون فی البلد نائحین علیه (1)و قد وصف السبکی یوم موته،و أن الطلبة تجوب موکبهم البلد نائحین علیه مکسّرین المحابر و الأقلام،مبالغین فی الصیاح و الضجر (2).و قال الذهبی:استمرت الحالة سنة.

10-أبو الحسین بن سمعون الواعظ المتوفی سنة 387 ه و دفن فی داره بشارع العباس،ثم نقل یوم الخمیس 11 رجب سنة 426 ه و دفن بباب حرب،و کان الباقلانی یقبّل یده لعظیم منزلته.و حکی الخطیب أن ابن سمعون خرج من المدینة الشریفة إلی بیت اللّه،فاشتهی الرطب،فلما کان وقت الإفطار صار الثمر رطبا فلم یأکله،فعاد إلیه من الغد فإذا هو تمر.

11-ابن طولون خمارویه بن أحمد حمو المعتضد.فتک به غلمان بدمشق سنة 212 ه و حمل تابوته إلی مصر،و دفن عند أبیه بسفح المقطم.

12-محمود بن السلطان ملک شاه.مات بأصفهان سنة 487 ه و حمل إلی بغداد،و دفن بالنظامیة.

13-أحمد بن محمد غلام خلیل.المتوفی سنة 275 ه ببغداد،و حمل فی

ص:198


1- (1) الشذرات ج 3 ص 360. [1]
2- (2) الطبقات ج 3 ص 257.

تابوت إلی البصرة.قال الخطیب:غلقت له أسواق مدینة بغداد،و خرج الرجال و النساء لحضور جنازته و الصلاة علیه،فأدرک ذلک بعض الناس وفات بعضهم لسرعة السیر به،و دفن بالبصرة،و بنیت علیه قبة.

یذکر الخطیب فی ترجمته عن عبد اللّه النهاوندی:قلت لغلام الخلیل:ما هذه الأحادیث الرقائق التی تحدّث بها؟قال:وضعناها لنرقق بها قلوب العامة.و عن ابن عدی:سمعت عبدان الأهوازی یقول:قلت لعبد الرحمن بن خراش:هذا الحدیث الذی یحدّث به غلام الخلیل لسلیمان بن بلال من أین له؟قال:سرقه من عبد اللّه بن شیب،و سرقه عبد اللّه بن شبیب من النضر بن سلمة،و وضعه شاذان (1).و کان أکثر ما یتحدّث به بالموضوعات فی مناقب الصحابة و غیرهم من الرجالات،و یتخذها وسیلة لمعاشه،و من وضعه حدیث:(اقتدوا باللذین من بعدی أبی بکر و عمر) (2).

و هو من المحدّثین و الوعّاظ القصّاصین.

و لا یتّسع المجال لأکثر مما ذکرنا فی هذا الاستطراد الذی لا تخفی دواعیه و أسبابه إذا ما استحضرنا ما شذّ به أقوام جعلوا من أحمد بن حنبل إماما و قدوة، و راحوا یطلقون التهم و التخرّصات فی قضایا الأموات و القبور،و قضیة النقل بعد الموت،و ما یتعلق بالدفن أمر معروف منذ صدر الإسلام إلی یومنا هذا،و قد سار علیه السلف و الخلف،فمن ینقل إلی المدینة،و من ینقل إلی دمشق،و من ینقل إلی بغداد،و من ینقل إلی القاهرة،و من ینقل من رمسه القدیم إلی مکان آخر کما رأینا من نقل إلی مقبرة أحمد..

و مقبرة أحمد بن حنبل فی محلة الحربیة التی تقع وراء مقابر قریش،و فیها الباب الذی کان بنو شیبان قد اتخذوها مقبرة لمن یموت منهم،ثم لمن یموت من أهل الحدیث.فدفن أحمد بن حنبل فی هذا الباب،لأنه إمام الحدیث-کما قالوا-و لأنه من بنی شیبان.

أما الحربیة أو باب حرب،فقد نسب إلی حرب بن عبد اللّه أو حرب بن عبد

ص:199


1- (1) تاریخ بغداد 79/5. [1]
2- (2) لسان المیزان 272/1.

الملک أحد قواد المنصور،ثم غلب علیها اسم أحمد فصارت تسمی مقبرة أحمد.

و أصبحت مزارا تهفو إلیه قلوب الحنابلة و تعجّ بالدعاء،و بقعة مقدسة توضع فی زوارها المنامات،حتی جرفتها السیول-کما علمنا-و غرق قبر أحمد علی اختلاف فی تعیین سنة الغرق فی القرن السادس أو السابع؟ و لما غرق القبر،تحوّل الناس إلی زیارة قبر ولده عبد اللّه فی القطیعة،یؤدّون الزیارات،و یدعون لقضاء الحوائج.

و أحمد بن حنبل هو آخر رؤساء المذاهب وفاة.توفی أبو حنیفة سنة 150 ه و مالک سنة 179 ه و الشافعی سنة 204 ه ثم أحمد سنة 241 ه و مذهبه قلیل الانتشار، محدود الاتباع.فهو لیس کمذهب أبی حنیفة عددا فی البلاد الإسلامیة،و لا کمذهب الشافعی فی مصر.

الحنابلة فی ظل المتوکل

سبق أن أشرنا إلی مشاعر المتوکل تجاه أحمد،و کونها واحدة من عوامل المیل إلی أحمد بن حنبل،إضافة إلی الأغراض السیاسیة،و قد قلنا إن أحمد لم یستجب تماما لرغبة المتوکل فی(تنصیبه)رئیسا مذهبیا،و لو لا التهمة التی غیّرت مجری السعی السلطانی إلی ضمّ أحمد فی تلک المرحلة،لاکتملت مقتضیات السیاسة فی تبنی أحمد تماما و هو فی حیاته،و قد کانت التهمة خطیرة تهتزّ لها أبدان بنی العباس غیظا،و هی التعاون مع العلویین،فداهموا منزله و منزل ابنه،و دلوا شمعة فی البئر، و وجهوا النسوة ففتشن الحرم،مما أخر فی إعلان المذهب رسمیا.

و بعد ثبوت براءته،لم یعد أمام المتوکل من مانع یمنعه من الاهتمام بأحمد اهتماما بالغا،فکان یأمر بالمال،و یتوجّع لما یصیبه،و اقتنع قناعة تامة بأحمد بن حنبل.و یبدو أن الموت عاجله،فاستأنف ما أراد منه فی غیابه.

و لو بحثنا فی اتجاه أحمد بن حنبل و آرائه فی الحکام،لوجدنا أن ابن حنبل یری أن من صفة المؤمن من أهل السنة و الجماعة:صلاة العیدین و الخسوف و الجمعة و الجماعات مع کل أمیر برّ أو فاجر،و الدعاء لأئمة المسلمین بالصلاح،و عدم الخروج

ص:200

علیهم بالسیف (1).و عند ما داهموا بیته بتهمة،إیوائه علویا کان یقول:ما أعرف من هذا شیئا،و إن لأری طاعته فی العسر و الیسر و المنشط و المکره و الأثرة.و إنی أتأسف علی تخلّفی عن الصلاة فی جماعة،و عن حضور الجمعة و دعوة المسلمین (2).

و لما جاء المتوکل،أظهر ما یتّفق مع آراء أحمد و معتقداته و منهجه،فأمر بترک النظر و المباحثة فی الجدال،و أمر الناس بالتسلیم و التقلید،و الترک لما کان علیه الناس فی أیام المعتصم و الواثق و المأمون.و أمر شیوخ المحدّثین بالتحدیث و إظهار السنة و الجماعة (3).و أشخص الفقهاء و المحدّثین،و کان فیهم:مصعب الزبیری، و إسحاق بن أبی إسرائیل،و إبراهیم بن عبد اللّه الهروی،و عبد اللّه و عثمان-ابنا أبی شیبة-فقسّمت بینهم الجوائز،و أجریت علیهم الأرزاق،و أمرهم المتوکل أن یجلسوا للناس و یحدّثوا بالأحادیث التی فیها الرد علی المعتزلة و الجهمیة،و أن یحدّثوا بالأحادیث فی الرؤیة.فجلس عثمان بن أبی شیبة فی مدینة المنصور،و وضع له منبر،و اجتمع علیه نحو من ثلاثین ألفا من الناس.و جلس أبو بکر بن أبی شیبة فی مسجد الرصافة،و اجتمع علیه نحو من ثلاثین ألفا.

و قد کان من نتائج تقیّد أحمد بالمأثور عنده و تقلیده أن یری الحاکم قد ولاه اللّه.و لذلک نجده یدعو إلی:السمع و الطاعة للأئمة،و أمیر المؤمنین البرّ و الفاجر، و من ولّی الخلافة،و من اجتمع الناس علیه و رضوه،و من غلبهم بالسیف حتی صار خلیفة و یسمی أمیر المؤمنین ا ه.

و لا بد أن تکون للمتوکل أولیة فی ذلک بالنسبة للإمام أحمد،فإذا کان یعتقد بالحکام الذین ملکوا الأمر و السلطة بعد الإسلام بعمومهم،فإن المتوکل أولی بکل ما کان یراه و یعتقده،غیر أن التردّد و السلوک الذی سلکه أحمد ینمّ عن أمر نستشعر منه الإحراج إن لم یکن به غناء عن الکنایة أو التلمیح؟و قد کتب إلیه المتوکل بعد أن استیقن من وضعه و قال:إنی أحب أن آنس بقربک و بالنظر إلیک،و یحصل لی برکة دعائک.و لکنّا نجده لا یقرب أکل المتوکل،و لا یمسّ منه شیئا.و یطوی صائما حتی

ص:201


1- (1) المدخل إلی فقه أحمد بن حنبل:19.
2- (2) المناقب:360.
3- (3) مروج الذهب. [1]

جاع-و هو عند المتوکل-جوعا عظیما،و کاد أن یقتله الجوع.و قد قال بعض الأمراء للمتوکل:إن أحمد لا یأکل لک طعاما،و لا یشرب لک شرابا،و لا یجلس علی فراشک،و یحرّم ما تشربه.فقال:و اللّه لو نشر المعتصم،و کلّمنی فی أحمد؛ما قبلت منه (1).و یروی أنه کان یتألم من هذا اللقاء و یقول:سلمت منهم طول عمری،ثم ابتلیت بهم فی آخره (2).فلما ذا هذا الألم؟و کیف یتفق ذلک مع الدعوة إلی الطاعة و الاستسلام إذا کان الاتصال بالحکام ابتلاء؟و من یکن سببا فی البلاء لا بد أن حاله علی غیر ما یدعو إلیه الإسلام،و بخلاف ما یستریح إلیه المؤمن.بل أن أحمد بن حنبل یری أن تکریم المتوکل له یجعله فی غم،ففی روایة أن عمّ أحمد قال له:لو دخلت علی الخلیفة،فإنک تکرم علیه؟فقال:إنما غمّی من کرامتی علیه.

و نری الإمام أحمد یصرف همّه إلی ما أحاطه به المتوکل من منح و عطایا، و یصبح شغله الشاغل أن یمنع أهله و عمّه-الذی یرافقه دوما-من أخذها،و یلومهم و یعظهم فی کلام طویل.فیحتجّون علیه بالحدیث:«ما جاءک من هذا المال و أنت غیر سائل و لا مستشرف؛فخذه».و أن ابن عمر و ابن عباس قبلا جوائز السلطان.و یقول:

و ما هذا و ذاک سواء.و لو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه و لیس بظلم و لا جور؛لم أبال.

فکیف یقرّ الظلم و الجور،و تصبح الطاعة من صفات المؤمن؟و رغم أن أحمد حصر سبب رفضه و ابتعاده عن الحاکم المتوکل بالناحیة المالیة،فإنه لم یتمکن أن یعزلها عن أسس و حقیقة الحکم القائم.و خلاصة الأمر،أن الإمام أحمد یدعو إلی السمع و الطاعة علی الطریقة التی مرّت بنا متأثرا بدعاة السلاطین و سدنة الملوک الذین دسّوا فی الأثر ما لیس له علاقة بمبادئ الإسلام و عدالة السنّة،و یعارض دعوته بسلوکه هذا الذی تقتضیه بدائه العقول،فضلا عن تعالیم الإسلام.ثم لا یتجاوز دائرة السلبیة و ضیق المجال الذی یتصرّف فیه إلی رحاب المسئولیة الدینیة فی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر لدی السلطان الجائر باعترافه هو،و لیس هناک ما یمنع من خشیة علیه شخصیة أو عداء من جانب المتوکل یمکن أن یؤدی به

ص:202


1- (1) البدایة و النهایة 339/10.و [1]المناقب لابن الجوزی 369.
2- (2) البدایة و النهایة. [2]

إلی التلف و الهلاک.فجسور الودّ قائمة،و حبال الوصل ممدودة،و الفترة تشهد سواه ممن یقوم بهذا الواجب.و فی سیرة إسحاق بن حنبل عمّه-ما یشیر إلی مخالفة أحمد لیس فی أمر المال فحسب،بل فی نظرته إلی ما یتاح له من عمل.

فیسأله الدخول علی الخلیفة لیأمره و ینهاه قائلا له:إنه یقبل منک.و هذا إسحاق بن راهویه یدخل علی ابن طاهر فیأمره و ینهاه،فیجیبه أحمد بالسلبیة التی لا یرجی تغییرها:الدنو منهم فتنة،و الجلوس معهم فتنة،نحن متباعدون منهم و ما أرانا نسلم،فکیف لو قربنا منهم؟هذا و الإمام أحمد فی ظل دولة تکاد تعلن آراءه و نهجه مذهبا لها،و یتقرّب إلیه ملکها بودّ کبیر،و لیس للحکام معه عداء أو مع أهله،و لا یشکل وجوده خطرا علیهم.

و هنا نشیر إلی منهج أهل البیت النبوی الکرام،و أولاد الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السّلام و نسوق مثالین:أحدهما فی عصر الأمویین،و الآخر فی عهد العباسیین، إذ لم یتخلّ الحکام عنهم فی کلا العصرین،و استمروا فی معاملتهم بقسوة دمویة و سیاسة لا إنسانیة،لأنهم یشکلون خطرا یتهدّد کیانهم الجائر و سلطانهم الظالم.

عن المسئولیة الدینیة و وجه القیام بها فی العصر الأموی نشیر إلی الإمام علی بن الحسین زین العابدین،الذی عاش مأساة الطف،و شبّ و جریمة الأمویین تصبغ بالعار کل أوجه الحیاة،فسلک طریق الانقطاع إلی اللّه،و توجیه الأمة بالنصح و الإرشاد،و هو فی ظل حکم السلالة الأمویة،فیری أن التارک للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر کنابذ کتاب اللّه وراء ظهره،إلاّ أن یتّقی تقاة.قیل:و ما تقاته؟قال:

«یخاف جبارا عنیدا أن یفرط علیه أو أن یطغی» (1).

و عن الضرورة التی تجعل التقیة جنّة المؤمن عملا بقوله تعالی: لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللّهِ فِی شَیْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً نحیل إلی ما ضمّه هذا الکتاب من صفحات من سیرة الإمام الصادق علیه السّلام و هو یواجه الطغیان العباسی،و یری أن التعرّض للدولة قتل للنفس،و اللّه سبحانه و تعالی یقول: وَ لا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ فتحامی الحکام،و دعا إلی وقایة الأنفس و حفظ

ص:203


1- (1) حلیة الأولیاء 140/3.

الدماء،لأن العباسیین شأنهم شأن من سبقهم من الظلمة لا یتورّعون عن سفک دماء آل البیت بسبب أو بدون سبب.و مع شدّة حذره علیه السّلام تعرّض إلی القتل علی ید المنصور تسع مرات،غیر أنه علیه السّلام وضع قواعد الدعوة الصامتة،و خاطب أصحابه بأن یکونوا دعاة صامتین لآل البیت،ثم رسم للعلماء و المتکلمین من أصحابه الأدوار،و حدد المسئولیات کما مر بنا فی هذا الجزء من الکتاب و الأجزاء السابقة.

لم یؤثّر تردّد أحمد بن حنبل،فقد کان سلوکا لا یجاوز الأسرة،یجری کشأن عائلی بحت مناطه المال.أما آراء أحمد السابقة فهی شائعة عن مریدیه و معروفة لالتماع شخصه و اشتهار اسمه فی المحنة،و المتوکل یعمل علی إلباس عهده صفة الحنبلیة،و أحمد یتعاون مع هذا الاتجاه،و یستجیب برغم نفوره من المخالطة؛إلا أنه کان له الرأی فی الأمور المذهبیة،و کان المتوکل یستشیره فی التعیین للقضاء،و یأخذ برأی أحمد کما حدث عند ما بعث المتوکل إلی أحمد یستشیره فی تولیة محمد بن شجاع الثلجی من فقهاء الحنفیة.فقال:لا،و لا علی حارس.و رأی أحمد فیه:إنه مبتدع صاحب هوی (1)و أنفذ إلیه المتوکل بصاحب لم یعلمه-و نورد القصة بسیاقها و هی جدیرة بالبحث و التعلیق-:أن له جاریة بها صرع،و سأله أن یدعو اللّه لها بالعافیة.فأخرج له أحمد نعل خشب بشراک خوص للوضوء،فدفعه إلی صاحب له، و قال له:تمضی إلی دار أمیر المؤمنین،و تجلس عند رأس الجاریة،و تقول له:یقول لک أحمد أیما أحب إلیک،تخرج من هذه الجاریة أو أصفع الآخر بهذه النعل؟فمضی إلیه،و قال له مثل ما قال أحمد،فقال المارد علی لسان الجاریة:السمع و الطاعة،لو أمرنا أحمد أن لا نقیم فی العراق ما أقمنا به،إنه أطاع اللّه،و من أطاع اللّه أطاعه کل شیء.و خرج من الجاریة،و هدأت و زوّجت و رزقت أولادا (2).

و علی عهد أحمد بزغ نجم الحنابلة،و طلع فجر لیلهم الدامس بفضل انتصار المتوکل للإمام أحمد.و یحلو للحنابلة أن یصوّروا أحمدا وحیدا فی المحنة، لیتدرّجوا فی غلوّهم،متناسین أن الأمر صنعته أهواء الحکام و أغراض السیاسة.

ص:204


1- (1) المنتظم 57/5. [1]
2- (2) طبقات الحنابلة 233/1. [2]

فتحوّل البعض عن طریقة السلطة العباسیة،و بقی أحمد وحیدا فی أجواء التحوّل و التغییر،مستمسکا بالطریقة التی تهاب البحث و تخشی النقاش،و إن کانت تحرز کنزا و تدّخر ثروة من فهم الکتاب بأی طریقة کانت،و تمثّل السنة بأیّ صورة تمّت، لأن الظاهر القائم علی وضوح النص و تحریّ السبب معین فیّاض یوفّر الحجة و یغنی فی الجدل.

بإسناده قال المیمونی:سمعت علی بن المدینی یقول:ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کما قام أحمد بن حنبل.قال:قلت له:یا أبا الحسن و لا أبو بکر الصدیق؟قال:و لا أبو بکر الصدیق.إن أبا بکر الصدیق کان له أعوان و أصحاب، و أحمد بن حنبل لم یکن له أعوان و لا أصحاب ا ه.

سبق أن قدّمنا أن الکرابیسی کان أول ضحایا السلطة بعد جنازة ابن حنبل،و قد بدر من المتوکل من مشاعر التقدیس و الإجلال لأحمد بن حنبل ما لم یحظ به أحمد من رؤساء المذاهب الذین سبقوه،فیقول لمحمد بن عبد اللّه بن طاهر:طوبی لک، صلّیت علی أحمد بن حنبل.

و بعد موت أحمد اندفع أصحابه تحت شعار-إحیاء السنّة و محاربة البدع-إلی إیذاء الناس و الاعتداء علی الآخرین.و لمّا تصل الأخبار إلی المتوکل یقول لصاحب الخبر:لا ترفع إلیّ من خبرهم شیئا،و شدّ علی أیدیهم فإنهم و صاحبهم من سادات أمّة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1).

یقول ابن کثیر:(کان المتوکل محببا إلی رعیته،قائما فی نصرة أهل السنة،و قد شبّهه بعضهم بأبی بکر فی قتله(أهل الردة)لأنه نصر الحق و ردّه علیهم حتی رجعوا إلی الدین،و بعمر بن عبد العزیز حین ردّ مظالم بنی أمیة،و قد أظهر السنّة بعد البدعة،و أخمد أهل البدع و بدعتهم بعد انتشارها و اشتهارها،فرحمه اللّه).

و تولی الحنابلة-و علی رأسهم صالح بن أحمد-نشر المنامات التی تصوّره بأنوار قدسیة و بین یدی ربه،لأنه محیی السنة ردا لرعایته و تبنّیه لأمرهم.فقد بلغ الأمر بالمتوکل أنه أرسل جماعات تحصی عدد المصلّین أو المشیعین.

ص:205


1- (1) المصدر نفسه 15/1. [1]

و أخذ المتوکل یروّج المنامات عن نفسه علی طریقتهم،فیدّعی أنه رأی النبی الأعظم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی المنام،و قام إلیه فقال له صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:تقوم إلیّ و أنت خلیفة.و یعبّر له الحاشیة ذلک بقولهم:أبشر یا أمیر المؤمنین،أما قیامک إلیه فقیامک بالسنة،و قد عدّک من الخلفاء.فیسر بذلک (1).

و هکذا حصرت السنّة فی رعایة الحنابلة،و ترک حبلهم علی الغارب یعیثون فی الأرض و یرتکبون ما حمل ابن تیمیة-أبا بدعة الوهابیة و شیخ مذهبهم-أن یقول:بأنهم أتوا من المنکرات و الإمام أحمد بریء منهم (2).و هو قول یرمی به إلی نفی المسئولیة عن أسلافه،و یفتقر إلی الصحة،لأن رجال أحمد کالمروذی و أصحابه کانوا علی رأس العامة یهیّجونهم إذا هدأوا،و یستفزّونهم إذا خمدوا.و قد کانت البدایة فی عهد المتوکل،ثم توالت عهود هیمنتهم و تحکمهم و إلزام الناس بأفکارهم المجسّمة و غیرها،حتی بلغ الأمر تهدید من یخالفهم،و استعداء الحکام علیه،و استخدام قوتهم لأغراض مذهبهم.فکان من وجوه ابتلاء الأمة أن یتعرّض کل من لا یری رأیهم فی التجسیم و الرؤیة (3)للأذی،فی حین یبقی یحیی بن أکثم-و هو من أرکان الحکم فی عهد المأمون-علی مکانته،و یظل فی منزلته من الخلیفة،لأن أحمد بن حنبل راض عنه.قال المأمون لیحیی بن أکثم:من الذی یقول-و هو یعرّض به-:

قاض یری الحدّ فی الزناء و لا یری علی من یلوط من بأس

قال:أو ما یعرف أمیر المؤمنین من قاله؟قال:لا.قال:یقوله الفاجر أحمد بن أبی نعیم الذی یقول:

حاکمنا یرتشی،و قاضینا یلوط،و الرأس شرّ ما راس

لا أحسب الجور ینقضی،و علی ال أمة وال من آل عباس

(4)و لمّا کان یحیی بن أکثم قاضیا للبصرة،رفع الناس إلی المأمون أنه أفسد أولادهم بکثرة لواطه،و بلغ من إذاعته و مجاهرته باللواط فی بغداد أن المأمون أمره أن

ص:206


1- (1) راجع:المناقب لابن الجوزی.و البدایة و النهایة.351/10.
2- (2) قواعد المنهج السلفی 113.
3- (3) انظر:المنتظم 172/6.
4- (4) تاریخ الخطیب 196/14.و [1]مروج الذهب 22/4. [2]

یفرض لنفسه فرضا یرکبون برکوبه،و یتصرّفون فی أموره.ففرض أربعمائة غلام مردا اختارهم حسان الوجوه،فافتضح بهم.

قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل:ذکر یحیی بن أکثم عند أبی فقال:ما عرفت فیه بدعة.فبلغت یحیی فقال:صدق أبو عبد اللّه،ما عرفنی ببدعة قط.قال:و ذکر ما یرمیه الناس به فقال:سبحان اللّه!سبحان اللّه،و من یقول هذا؟و أنکر ذلک أحمد إنکارا شدیدا (1).

و علی شاکلة یحیی بن أکثم کانت دفّة حکم المتوکل،فلم یکن فی وزرائه و المتقدّمین من کتّابه و قوّاده من یوصف بجود و لا إفضال،أو یتعالی عن مجون و طرب.

یظهر لنا من ذلک أن صفة إحیاء السنة التی تعنی الالتزام بأهداب الدین و محاربة الخروج عن أصول الإسلام تخفی تحتها واقعا سیئا کأی حاکم آخر ممن تستروا بالدین و اتخذوا شعائر الإسلام غطاء لجرائمهم.و هذا الواقع بعید عن أنظار العامة،فهم فی انفعال لا یکاد یخفّ حتی یشتدّ،و انقیادهم إلی الذین أطلقوا هذه الصفة انقیاد أعمی، حتی کأن العامة تنظر و تنطق بأنظار و ألسنة النابهین فی تلک الفترة و المتزعمین الذین راحوا یکیلون المدائح للمنقذ المتوکل،و یشیعون الأخبار و المنامات عن جزائه عند اللّه،و مکانته فی الدین،فتأخذ سیاسته علی أنها السنّة،و یحسب کل ما یصدر عنه من الدین و التقوی،و کان من سمات حکمه الغالبة عداؤه الشدید لآل علی،و نقمته الشدیدة علی الشیعة،و من سوء حظ الأمة أن یتاح للحکام مثل هذه الأدوار لیؤثروا فی العامة بصفاتهم الدینیة،و هم فی غفلة عن حقیقة و دوافع من یحکمهم،لأن الوسطاء الذین یقومون بذلک یحجبون بمکاناتهم و منازلهم الدینیة الحقیقیة،و لا یرغبون فی خروج العامة عن أغراضهم.

حدّث نصر بن علی الجهضمی بحدیث:أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أخذ بید حسن و حسین فقال:«من أحبنی و أحب هذین و أباهما و أمهما؛کان معی فی درجتی یوم القیامة»فأمر المتوکل بضربه ألف سوط،فکلّموه بأن الرجل من أهل السنة،و لم یزالوا

ص:207


1- (1) الطبقات:412/1. [1]

به حتی ترکه،و یعقّب الخطیب البغدادی:إنما أمر المتوکل بضربه لأنه ظنه رافضیا، فلما علم أنه من أهل السنة ترکه!!و أصاب أهل البیت فی ظل المتوکل محنة قاسیة و بلاء عظیم،و کان الإمام علی الهادی یقیم فی المدینة،و یقوم مقام الإمامة و حوله شیعته و أصحابه.فکتب عبد اللّه بن محمد بن داود العباسی إلی المتوکل عن حاله.

فکتب المتوکل إلی الإمام الهادی بالشخوص من المدینة،فشخصه عبد اللّه بن محمد بن داود و معه یحیی بن هرثمة،و قد اضطر إسحاق بن إبراهیم أن یدخله إلی بغداد فی اللیل لمّا رأی تشوّق الناس إلیه و اجتماعهم لرؤیته،فأقام إلی اللیل،و دخل به فی اللیل،فأقام ببغداد بعض تلک اللیلة،ثم نفذ إلی سرّ من رأی (1).ثم کان من المتوکل فی الإساءة إلی الإمام الهادی ما تجاوز به کل حدّ الأدب و اللیاقة.

و شارک المتوکل یزید بن معاویة فی جریمته النکراء التی سوّدت وجوه بنی أمیة و من والاهم إلی یوم الدین،فأمر المتوکل سنة 236 ه بهدم قبر أبی الأحرار الإمام الحسین علیه السّلام و محو أرضه و إزالة أثره،و أن یعاقب کل من وجد به.

و لا نعقّب بشیء آخر،فلا مزید لمستزید أمام ما تصرخ به شواهد سیرته و أفعاله.

یقول الأستاذ حسن خلیفة:و قد کان قاسی القلب،ظالما،حتی أطلق علیه المؤرّخون اسم(نیرون المسلمین) (2).

أحمد و الشیعة

:

کان أحمد فی کلّ ما یعرض له من المسائل یتوجّس من القول فیها،سواء کانت فی مسائل واقعة تدخل فی الخلاف،أو مسائل عامة تمسّ المعاملات و الحیاة،حتی قلنا إنه یعانی من هاجس یعبّر عنه هو:العلم الذی علمه،أو المذاهب التی أدرک أصحابها و حدّث بها.مما جعله فی کثیر من الأمور یغمض فی الجواب،و یبعد کثیرا عن القطع و الجزم.و قد أسهمت خشیته من السلطان فی إضعاف الأحکام التی تترتب علی أفعال المتوکل،کإقدامه علی حرث قبر الإمام الحسین علیه السّلام.فلم نعلم له

ص:208


1- (1) تاریخ الیعقوبی 209/3. [1]
2- (2) الدولة العباسیة ص 147 نقلا عن محمد البیومی:ابن حنبل.

موقفا یلیق برجل فی منزلته.و بتأثیر هذا الموقف راحت توجه الأسئلة إلیه:هل یلعن یزید؟فقد تظافرت أراؤه السابقة فی إطاعة الحکام و عدم الخروج علیهم مع صمته علی التجرؤ علی مثل هذه الأسئلة.و أغلب الروایات أنه کان یجیب بلعن یزید،و یقول:

کیف لا ألعنه من لعنه اللّه فی ثلاث آیات من کتابه العزیز فی الرعد و القتال و الأحزاب.

و أحمد بن حنبل مبالغ فی تقریر شرف الصحبة،فیری أن الصحابی هو کل من صحب الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم سنة أو شهرا أو یوما أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه.و هو ما یتّفق مع نزعته فی تقدیس السلف،و میله إلی الأخذ بما عدّ من الأثر،و المشهور الذی تعاهده حکام بنی أمیة و بنی العباس بالرعایة و الحمایة و الترغیب فی الوضع و الانتحال.

فکان علی عهد معاویة الحدیث:أصحابی کالنجوم بأیهم اقتدیتم اهتدیتم.و هنا علی رأی أحمد،و عملا بهذا الحدیث فإن معاویة صحابی و إمام من أولئک الذین یعنیهم فی السمع و الطاعة.

و فی عهد بنی العباس کانوا یجعلون المحدّثین یقولون:معاویة بن أبی سفیان ستر أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فإذا کشف الرجل الستر اجترئ علی ما ورائه (1).و اللّه أعلم بدوافع قول أحمد:خیر هذه الأمة بعد نبیها أبی بکر الصدیق،ثم عمر بن الخطاب،ثم عثمان بن عفان.و یتوقف،ثم یجعل الإمام علی ضمن أصحاب الشوری:الزبیر و طلحة و عبد الرحمن بن عوف و سعد (2).

و یری الشیخ محمد أبو زهرة أن أحمد فی ذلک یقف موقفا وسطا بین أبی حنیفة و مالک(فأبو حنیفة فی روایة صحیحة عنه یفضّل علیا علی عثمان رضی اللّه عنه...

و مالک یعدّ السبق فی ثلاثة:أبی بکر و عمر و عثمان،ثم یذکر أن بعدّ ذلک یستوی الناس، أما أحمد فإنه لا یعدّ سیف الإسلام فی سائر الناس،بل یجعله فی أصحاب الشوری الخمسة بعد رفع عثمان رضی اللّه عنه،و الناس بعد ذلک دونهم علی مراتب) (3).

و نحن نری باعتماد الأقوال الأخری لأحمد أن أحمد واقع تحت تأثیر الخوف من المتوکل الذی کان من أشدّ النواصب و المعادین للإمام علی و آل بیته،و هو مشفق

ص:209


1- (1) تاریخ بغداد ج 1 ص 209. [1]
2- (2) ابن حنبل ص 147. [2]
3- (3) ابن حنبل ص 147.

من هذا الطاغی،أو عامل بما دعا إلیه من الطاعة التی یبرّرها لنفسه.فعبد اللّه بن أحمد یسأل أباه:یا أبی،ما تقول فی التفضیل؟فیقول:فی الخلافة أبو بکر و عمر و عثمان.فیقول عبد اللّه:فعلی بن أبی طالب؟فیقول أحمد:یا بنی،علی بن أبی طالب من أهل بیت لا یقاس بهم أحد (1).و لعلنا لو ناقشناه لقال:ذلک ما علمته من السلف فی التفضیل،و أما القول الآخر فهو ما یقتضیه الحق.و عن عبد اللّه أیضا قال:کنت بین یدی أبی جالسا ذات یوم،فجاءت طائفة من الکرخیة،فذکروا خلافة أبی بکر و خلافة عمر و خلافة عثمان فأکثروا،و ذکروا خلافة علی بن أبی طالب فزادوا و أطالوا،فرفع أبی رأسه إلیهم فقال:یا هؤلاء قد أکثرتم القول فی علی و الخلافة،إن الخلافة لم تزیّن علی،بل علیّ زیّنها (2).و للعلاّمة المعتزلی ابن أبی الحدید قول فی ذلک فیقول:و هذا الکلام دال بفحواه و مفهومه:أن غیره ازدان بالخلافة و تممت نقیصته،و إن علیا لم یکن فیه نقص یحتاج إلی أن یتمم بالخلافة،و الخلافة ذات نقص فی نفسها،فتمم نقصها فی ولایته إیاها...

ثم لا نعدم أن نری أقوالا تومئ إلی ردّه علی زمرة المتوکل و النواصب کقوله:

من لم یثبت الإمامة لعلی فهو أضلّ من حمار (3).

و علی ذلک،فإن تهمة إیواء العلوی لها مغزی کبیر إن لم تکن حقیقة واقعة، و نحن بذلک لا نرید تحویل صورة أحمد،أو نرمی إلی إخراجه مما هو فیه؟بل إن الموقف من العلویین هو المعیار الثابت لمن کان مثله فی الزهد و التدیّن.

و ابن حنبل لم یکن منقطعا عن الشیعة،بل کان علی صلة مع رجالهم رغم الإجراءات التی اتخذها المتوکل فی تتبع الشیعة.و ربما وجّه بعض المخلصین للإمام أحمد لوما شدیدا علی اتصاله بمن عرف فی التشیع،فکان جوابه:سبحان اللّه،رجل أحبّ قوما من أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم نقول له لا تحبهم؟هو ثقة (4).

کما أنه أخذ العلم عن کثیر من رجال الشیعة و کانوا من شیوخه،و قد ذکرهم ابن

ص:210


1- (1) المناقب 163. [1]
2- (2) المصدر السابق.
3- (3) المناقب أیضا.
4- (4) تاریخ بغداد 261/10. [2]

الجوزی فی المناقب،و غیره ممن کتب فی رجال الحدیث،ذکرهم فی تعداد شیوخ أحمد مع ثبوت تشیّعهم.منهم:

-إسماعیل بن أبان الأزدی المتوفی سنة 216 ه و هو من شیوخ البخاری و ابن معین أیضا.

-إسحاق بن منصور السلوی المتوفی سنة 205 ه خرّج حدیثه أصحاب الصحاح الستة.

-تلید بن سلیمان المحاربی المتوفی سنة 110 ه خرّج حدیثه الترمذی و قال فیه أحمد:إن مذهبه التشیع،و لم أر فیه بأسا.

و لسنا هنا فی موضع استقصائهم،و إنما أوردنا أسماءهم کأمثلة.و تسمع عن رحلة أحمد لطلب الحدیث،فقد کانت إلی عبد الرزاق بن همام الصنعانی،و هو من رجال الشیعة و محدّثیهم ترجمه الذهبی:أحد الأعلام الثقات...و هو خزانة علم، و رحل الناس إلیه:أحمد و إسحاق و یحیی و الذهلی جعفر بن أبی عثمان الطیالسی قال:سمعت ابن معین یقول سمعت من عبد الرزاق کلاما یوما،فاستدللت به علی تشیّعه،فقلت،إن أساتذتک الذین أخذت عنهم کلهم أصحاب سنة:معمر و مالک و ابن جریج و سفیان و الأوزاعی،فعمّن أخذت هذا المذهب؟فقال:قدم علینا جعفر بن سلیمان الضبعی،فرأیته فاضلا حسن الهدی،فأخذت هذا عنه.و ذکر رجل معاویة فی مجلسه،فقال عبد الرزاق:لا تقذر مجلسنا بذکر ولد أبی سفیان.قال أحمد بن صالح:قلت لأحمد بن حنبل:هل رأیت أحسن حدیثا من عبد الرزاق؟ قال:لا (1).

و أحمد بن حنبل یقرن عزمه علی الخروج إلی مکة لیقضی حجة الإسلام بالمضی إلی عبد الرزاق إلی صنعاء بعد الحج،و کان یرافقه یحیی بن معین،و یشدّ الرحال علی ذلک،بل إنه یبقی علی نیته و هو یلتقی بعبد الرزاق فی مکّة.و إلیک نص صالح بن أحمد:عزم أبی علی الخروج إلی مکة لیقضی حجة الإسلام،و رافق یحیی بن معین،فقال:نمضی إن شاء اللّه،فنقضی حجتنا،و نمضی إلی عبد الرزاق

ص:211


1- (1) میزان الاعتدال ج 2 ص 126-129.

إلی صنعاء نسمع منه.فوردنا مکة،و طفنا طواف الورود،فإذا عبد الرزاق فی الطواف یطوف،فطاف و خرج إلی المقام فصلی رکعتین و جلس،فتممنا طوافنا أنا و أحمد و جئنا و عبد الرزاق جالس عند المقام،فقلت لأحمد:هذا عبد الرزاق قد أراحک اللّه من مسیرة شهر ذاهبا و جائیا و من النفقة.فقال:ما کان اللّه یرانی و قد نویت له نیة أفسدها و لا أتمها (1).

توفی عبد الرزاق سنة 211 ه و لذلک تری أن فی مسنده أحادیث تشتمل علی فضائل أهل البیت.یقول الأستاذ محمد رجب البیومی فی کتابه(ابن حنبل):(و قد لحظ بعض کتّاب المغرب أن فی مسند أحمد ما یدل علی شجاعته الأدبیة،فقد ذکر أحادیث تشتمل علی فضائل علی و آل بیته مما لا نجد نظیرها فی صحیح البخاری، و ذلک فی عصر یضطهد العلویین و یناوئهم،و یقف بالمرصاد لمن ینسب إلیهم بعض الخیر فی قلیل أو کثیر...)و معلوم أن المسند روی عن أولاده و أصحابه،و جمع من قبلهم.

و صفوة القول،أن أحمد فی سعیه و طلبه للحدیث و العلم اتصل بالشیعة، و تتلمذ علی رجالهم.و إن کانت هذه العبارة لا تغنی عن نتائج البحث و التعمّق فی حیاته،و قد اکتفینا بهذا القدر.

خاتمة و خلاصة

رأینا أحمد فی حیاته،و رافقناه فی محنته (2)و ذکرنا بعضا من أخباره و سیرته، و اتضح لنا نهجه و منحاه العلمی،و أن کثیرا من أخباره و ما تتضمن صور عظمته کانت من إغراق الحنابلة فی مدحه،لأن أکثر ما أوردوه فی ذلک هو من وحی الخیال و بدافع التعصب،و قد نوّهنا بالمنامات و غیرها و التی یقصد الحنابلة فی کثیر منها لیس إلی رفع منزلة أحمد و تهویل مکانته فحسب؛بل و إلی خدمة معتقداتهم فی التجسیم.نورد لک منها زیادة،فقد اشتهر عن أحمد الجهر بالرؤیة حتی ینقطع نفسه،و الإصرار علی ذلک.و راح أحمد یعضّد الرؤیة فی الآخرة برؤیا له إذ قال أحمد:رأیت اللّه عز و جل

ص:212


1- (1) الطبقات 175/1.
2- (2) راجع الجزء الرابع من«الإمام الصادق و المذاهب الأربعة».

فی المنام!!فقلت:یا رب ما أفضل ما تقرّب به المتقرّبون إلیک؟قال:بکلامی یا أحمد (1).

و بإسناده قال أحمد بن محمد الکعدی:رأیت أحمد بن حنبل فی المنام، فقلت:یا أبا عبد اللّه،ما صنع اللّه بک؟قال:غفر لی،ثم قال:یا أحمد ضربت فیّ؟قال:قلت:نعم یا رب.قال:یا أحمد،هذا وجهی،فانظر إلیه،قد أبحتک النظر إلیه!!!! قال عبد اللّه بن الحسین بن موسی:رأیت رجلا من أهل الحدیث-توفی- فیما یری النائم،فقلت له:باللّه علیک ما فعل اللّه بک؟قال:غفر اللّه لی.فقلت:

باللّه؟فقال:باللّه إنه غفر اللّه لی.فقلت:بما ذا غفر اللّه لک؟قال:بمحبتی لأحمد بن حنبل.فقلت:فأنت فی راحة؟فتبسم و قال:أنا فی راحة و فی فرح (2).

و یحدث أحد شیوخهم:رأیت رجلا بجامع الرصافة فی شهر ربیع الآخر من سنة ستین و أربع مائة.فسألته فقال:قد جئت من ستمائة فرسخ.فقلت فی أی حاجة؟قال:

رأیت و أنا ببلدی فی لیلة جمعة کأنی فی صحراء أو فی فضاء عظیم،و الخلق قیام، و أبواب السماء قد فتحت،و ملائکة تنزل من السماء تلبس أقواما ثیابا خضرا و تطیر بهم فی الهواء.فقلت:من هؤلاء الذین قد اختصوا بهذا؟فقالوا لی:هؤلاء الذین یزورون أحمد بن حنبل.فانتبهت و لم ألبث إن أصلحت أمری،و جئت إلی هذا البلد،و زرته دفعات،و أنا عائد إلی بلدی إن شاء اللّه ا ه.إلی ما هنالک من أمور لا تدخل فی دائرة البحث التاریخی،و هی عندهم من الأسس المعتمدة فی تکوین شخصیة أحمد.

فرؤیاهم النبی المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم-کما یدّعون-و أنه أمرهم باتباع أحمد.هو عندهم کأمره فی الیقظة،و قد أثر ذلک فی التحقیق التاریخی عن ترجمة أحمد.

و انتصار المحدّثین علی خصومهم المعتزلة خلق جوا من الاضطراب فی أخباره و سیرته،فتحامل خصومه و مغالاة أنصاره مع إقبال الدولة علیه،أوجد فجوة کبیرة.

کما أن إهمال العامل السیاسی من قبلهم أدی إلی تعدّد وجهات النظر فی الواقع

ص:213


1- (1) الإحیاء ج 3 ص 497. [1]
2- (2) الجرح و التعدیل ج 1 ص 308.

التاریخی،علی أن مشکلة خلق القرآن و قیام المأمون بإلزام الفقهاء فی ذلک أوجد مشکلة کلامیة تحتاج إلی دراسة واسعة فی علم الکلام،و بیان الکلام النفسانی، و تعلّقه بالذات.

کما أن الأسباب التی دعت المأمون إلی هذا الإلزام،و حملته علی نشر ذلک بالقوة کذلک تحتاج إلی دراسة واسعة.

ثم القول بخلق القرآن،هل هو الإحداث،و لا شک أنه محدث،أم أرادوا الخلقة أو التکوین الحادث للکلام و هو من صفات اللّه،و إن صفاته عین ذاته،و قد عرضناها فی هذا الجزء بقدر ما تقتضیه ضرورة البحث.

و غیر بعید أن الحنابلة قد أوهموا علی الناس فی هذه المسألة،و جعلوها فی قالب آخر،و أوردوها لهم بصورة ینکرها الجمیع،و ذلک بتفسیرهم المخلوق بالمکذوب.فقد ورد فی کثیر من أقوال العرب اختلق کذا أی کذب فیه.و قد ورد عن الخلیل بن أحمد-صاحب کتاب العین-أنه کان یمنع أن یوصف الکلام بالمخلوق و یقول:إن الکلام متی وصف بالخلق فالقصد به الکذب،و لهذا یقال:

کلام خلقه فلان أی تقوّله-و قد مر بنا ذلک سابقا-.

و فی أیام المحنة أن بعض الفقهاء لما سئل فی القرآن قال:أصفه بأنه محدث، و لا أقول بأنه مخلوق لقوله تعالی: ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ .

فمعنی أنه مخلوق أی مکذوب و هو غیر منزل.و غیر بعید علی قوة دعایة الحنابلة و تغلغلهم فی المجتمع أنهم أفهموا الناس بأن المعتزلة یذهبون إلی خلق القرآن أی إلی عدم کونه منزلا من اللّه سبحانه و تعالی.و بهذا هبّت عواصف الغضب علی المعتزلة،و انتصر علیهم المحدّثون.

کما لا أستبعد أن أکثر الحنابلة-الذین یقومون بنشر هذه الدعایة-لا یفهمون إلاّ المعنی اللغوی،و هو أن المخلوق هو المکذوب،و لم یذهبوا مذهب المعتزلة فی الکلام و ما هو معنی ذلک.

و کیف یستبعد انتشار أمثال هذه الدعایة فی عصر انتشر فیه الجهل و الجمود الفکری،و أصبح الناس یسیر أکثرهم وراء عاطفة عمیاء لا یمیز بین الحق و الباطل،

ص:214

و لکن هلم فاعجب من رجل یدّعی الإمام بالتاریخ،و کلّف نفسه کتابة التاریخ الإسلامی،و لکنه محی أکثر مما کتب،و أفسد أشیاء کثیرة،و عقد مسائل واضحة.

هذا الرجل هو جرجی زیدان،یعیش فی القرن العشرین،و لکنه یعیش فی عقلیة قرون الجهل و الجمود،فهو یذکر لنا فی تاریخه الذی أسماه(التمدن الإسلامی) 141/3 ط 1 أن المأمون تمسّک بمذهب الاعتزال،و قرّب إلیه أشیاخه،و صرح بأقوال لم یقو هؤلاء علی التصریح بها خوفا من غضب الفقهاء،و فی جملتها القول بخلق القرآن،أی أنه غیر منزل.

فأنت تری أن جرجی زیدان ینسب للمعتزلة إنکار نزول القرآن،و هذا کفر محض،و هو افتراء محض ناشئ من سوء الفهم،و عدم الإلمام بأطراف المسألة، و جهل بالمسائل الکلامیة.

و لا نودّ هنا أن نقف مع مؤلف التمدّن الإسلامی فنکشف أخطاءه المتعمدة و غیرها.فنحن قد سجلنا علیه الکثیر من ذلک،و یکفی هنا تغییره لهذه المسألة، و تحویلها من الصراع الفکری الحاد إلی جمود لا یتعدی الخلاف بمفهوم اللفظ اللغوی الذی یجعل المسألة من أبسط المسائل و أوضحها.و إن إطلاق المخلوق علی المکذوب أمر لا یحتاج إلی أبحاث علمیة و منازعات کلامیة بین المعتزلة و المحدثین.

و کما قلنا إن الحنابلة قد انتصروا علی خصومهم بما کان لکلمة مخلوق من دلالة،و هی أنه مکذوب.و بهذا استطاعوا أن یحرّکوا شعور المجتمع ضدّهم.و لکن قوة الحکم و عنف المؤاخذة و حمل الناس قسرا علی القول بخلق القرآن جعل للمعتزلة قوة یتحصّنون بها.حتی إذا حان الوقت،و زال ذلک الحکم،و تبدّل وضع الدولة؛ فشل المعتزلة فشلا ذریعا،و نالهم الأذی،و نسب الناس إلیهم کل قبیح.و کان لثبات أحمد،و للظروف التی ساعدته علی ذلک أثر فی طلوع نجمه،بعد أن أفل نجم المعتزلة بقیام المتوکل العباسی،و رفعه للمحنة.و لعل من هذا الفهم لکلمة مخلوق، و اتهام المعتزلة بأنهم ینفون وجوده و تنزیله،کان للمتوکل شأن بین المحدّثین،فجمع العلماء من الفقهاء و المحدثین و کان فیهم-کما مر بنا-مصعب الزبیری،و إسحاق بن أبی إسرائیل،و إبراهیم الهروی،و عبد اللّه و عثمان ابنا أبی شیبة،فقسمت بینهم الجوائز،و أجریت علیهم الأرزاق،و أمرهم المتوکل أن یجلسوا للناس،و أن یحدّثوا

ص:215

بالأحادیث التی فیها الرد علی المعتزلة و الجهمیة،و أن یحدثوا بالأحادیث فی الرؤیة.

فجلس عثمان بن أبی شیبة فی مدینة المنصور،و وضع منبرا،و اجتمع علیه نحو من ثلاثین ألفا.و جلس أبو بکر بن أبی شیبة فی مسجد الرصافة،و اجتمع علیه نحو من ثلاثین ألفا.

و یلاحظ من هذا أن مشکلة خلق القرآن کانت قضیة سیاسیة بدءا و ختاما،فقد قام المأمون بفرض ما یرتئیه،و حمل الناس قسرا علی معتقده،و امتحن الناس بعنف و شدة،فقرّب من یقول بمقالته،و عاقب من یخالفه بألوان العذاب.و علی ذلک سار خلفه،و قد حاولوا جعل الاعتقاد بخلق القرآن عقیدة رسمیة،فقد کان أحمد بن أبی دؤاد یأمر المعلمین فی الکتاتیب أن یلقنوا الصبیان أن القرآن مخلوق،و أن یصبح ذلک من الدروس التی یلزم تدریسها فی معاهد التعلیم،لینشأ الجیل الجدید علی عقیدة الاعتزال التی فرضتها الدولة،و امتحن الناس بها.

أما فی النهایة،أی فی دور المتوکل،فکان الأمر کسابقه یتّصف بالقهر و العنف و الشدة،و حمل الناس علی ما ترتضیه الدولة من القول:بأن القرآن غیر مخلوق.

و هکذا ضاع جوهر المسألة،و ابتعدت عن مقوماتها العلمیة و ما تحتاج إلیه من دراسة، و تقدیم الطرق العلمیة نفیا و إثباتا،بل زاد الأمر تعقیدا باستعمال لفظة مخلوق أی مکذوب،و أشیع فی الناس أن المعتزلة یذهبون إلی أن القرآن غیر منزل من اللّه تعالی.

و المعروف أن المعتزلة علی اختلاف فرقهم و متکلّمیهم لم یکن أحد منهم یذهب إلی ما اتهموا به من الطغی فی القرآن و التشکیک فی أنه منزل من عند اللّه،و قد صدروا فی نظریتهم عن الصفات،و منها صفة الکلام التی ترتب علیها قولهم بأن القرآن مخلوق عن إیمان صادق حرصوا فیه علی تأکید وحدانیة اللّه و تنزیهه،حتی وسموا بأهل العدل و التوحید.

و فی عهد المتوکل سار الناس علی غیر هدی و لا وضوح للمسألة،بل کان الأمر سیاسیا و خارجا عن دائرة النزاع العلمی الذی یؤدی إلی نتائج واضحة سلبا أو إیجابا،و لعل أکثرهم یودّ التعرّف علی حقیقة الأمر،و یکتم ذلک خوفا من السلطة.

و من الأحداث ما یصرّح باعتلاج النفوس و ازدحام الأذهان بالتساؤلات التی تدور بین طبقی رحی السلطة و التعنّت.فالإمام أحمد لاینی عن تکفیر من تسوّل له نفسه الاستفسار أو تحرّی الحق،و لا یتردد فی معاملتهم کالمرتدّین،فکلام اللّه غیر

ص:216

مخلوق،و من قال أنه مخلوق فهو کافر باللّه العظیم،و من لم یکفّر قائله فهو کافر،أو إنهم کفار یستتابون.

و استمرّ أصحابه علی نهجه،کما باتت فرص تحکّمهم فی الناس من خلال السلطة أکبر.و ورث أنصارهم هذا المنحی فی التعنّت و التزمّت.

و إلی هنا نتوقف عن الحدیث عن أحمد...و ننهی الجزء السابع من کتاب «الإمام الصادق»و سیلیه الجزء الثامن بعونه تعالی و توفیقه.

ص:217

ص:218

الجزء الثامن

اشارة

ص:219

ص:220

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی أَنْزَلَ عَلی عَبْدِهِ الْکِتابَ وَ لَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً

[الکهف:1]

- وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیَکْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِینَ ناراً [الکهف:29]

- وَ مَنْ یَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولئِکَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلی [طه:75]

- وَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ یُفَرِّقُوا بَیْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِکَ سَوْفَ یُؤْتِیهِمْ أُجُورَهُمْ وَ کانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِیماً [النساء:152]

- وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة:56]

ص:221

ص:222

مقدمة و تمهید

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

الحمد للّه علی هدایته لدینه،و التوفیق لما دعا إلیه من سبیله،و أصلی علی محمد خاتم الأنبیاء و خیر الخلق،و علی آله الطیبین الطاهرین،و من اتّبعه و والاه.

هذا هو الجزء الثامن من کتابنا(الإمام الصادق و المذاهب الأربعة)و قد أکملته و أنا فی سنّ ألمّت بی الأعراض و الأمراض،و فی حال من الغربة یزید من موانع التواصل بالکتابة و التألیف،و لکنّی تحاملت علی الأیام،و ناجزتها بقوی واهنة و ذهن مکدود،و أنا مؤمن بأن ضعف البدن و فتور البال یتحوّلان بالإیمان إلی طاقة خلاّقة، و قد قال الإمام الصادق علیه السّلام:«ما ضعف بدن عما قویت علیه النیّة».

و لم یکن الجزء الثامن وحده هو ما انعقدت علیه النیّة،و إنما بین یدی کتبی الأخری التی لم تر النور بعد،و أمامی تنقیح و إضافة بعض الزیادات إلی ما طبع منها ککتابنا:(مع الحسین فی نهضته).و أنا فی ظرف اقتضی أن أتجه فیه إلی مهمات الإرشاد و واجبات العمل الدینی،فقد واجهت صعیدا یستلزم الجهد الذی یضنی،و فیه کل ما تضمّه القربة إلی اللّه دون بهارج الدنیا و منافع المادة التی تؤثر فی قوة العمل.

و إذا ما استراح الذهن من الأفکار التی تلحّ علیه،تعلّق بماضی الأیام حیث کان الوقت مستغرقا فی البحث و الکتابة،و ما هی إلا أیام تفرغ و فترات تخصص یرکض طالب العلم فیها بنهم وراء المعرفة،و یسعی کل یوم للحصول علی المادة التی یحتاجها فی بحثه،فإن عدمت فی داره؛اتجه إلی مجامع الفکر و مؤسسات العلم.فسلام علی مدینة العلم،و تحیّة مقرونة بآهة و دمعة و حسرة،و صلوات اللّه علی أمیر المؤمنین و وصی رسول رب العالمین،صلوات دائمة حتی یتشرّف جسدی بتراب.أرضه،فإن الأیام تمرّ،و العوارض تزداد،و العمر إلی نفاد،و لم تتحقق بعد أمنیة العودة.

ص:223

و لقد عانیت کثیرا و أنا أعمل علی إکمال الجزء الثامن من کتاب الإمام الصادق فقد رأیت أن ما أکملته من کتب و بحوث-علی شدّة حرصی و کثرة متابعتی فی إنجازها-قد ضمّت بعض الأخطاء الإملائیة و غیرها التی لا تخلّ بالسیاق.فبذلت جهدی فی التصحیح کما حدث فی کتابنا المخطوط:(الجریمة بین الشرع و القانون) و کتاب(العلوی الثائر)و قد کنت أتمتع ببقایا البصر،فکیف الآن و قد أصبحت أعانی من(الزرقاء)معاناة شدیدة مما اضطرنی إلی الاعتماد علی الإملاء علی الأحبة و الأصدقاء،و إذا ما أمسکت بالقلم لأکتب،فإن القدرة لا تتجاوز بضع کلمات.و قد نظرت فیما لفت نظری من تلک الأخطاء،فوجدتها بسبب النقل و الجمع و التصنیف و نسخها بأکثر من ید.فأرجو مراعاة ما فاق الطاقة و هی فی أواخرها،و النظر فیما عجزت عنه القدرة و هی فی ضعفها،و اللّه ولی التوفیق.

و تصبح الکتابة صعبة و شاقة عند التحوّل إلی طریقة الإملاء علی الغیر،و البحث فی المصادر بواسطة و عون،أضف إلی ذلک أن ما معی من الکتب و المصادر قلیل جدا،و لم یتیسّر فی نطاق العلاقات هنا ما یسدّ الحاجة،فألجأ إلی الذهاب إلی المکتبات للاستعارة،و لم أجد فی هذا المجال ما یقتضی التنویه أو یستحق الشکر إلا ما قدّم لی من ید فی النسخ و الکتابة،أضرع إلی اللّه أن یسدّد و یوفق کل من قدّم ید العون من الأهل و الأصدقاء.

و القصد،فإن هذا الجزء الذی أقدّمه إلی القرّاء کان من أکثر الأجزاء تطلبا للجهد و المعاناة،و کنت عند ما أجد فی نفسی الضعف-بفعل عوامل السن و مقتضیات العمر-اتجه إلی الأعمال الأخری،فأبحث فیها،و أدوّن مادّتها،لأن هاجس الأجل و انقضاء العمر یحملانی علی أن أوزّع ما استشعره من إمکانیة علی کتبی،و یعلم اللّه أنی أنظر إلی فراقها کما أنظر إلی فراق الأهل،و أرجو لها کما أرجو لهم أن أترکها علی حال یمکنها من تحقق الغرض و تحقیق الأمل.

و فی الجزء الثامن من(الإمام الصادق و المذاهب الأربعة)تناولنا أهم المواضیع التی تتعلق بحیاة الإمام الصادق،و بحثنا حیاة الإمام مالک و الإمام الشافعی،بعد أن عدنا إلی الحدیث عن حیاة الإمام أبی حنیفة و الإمام أحمد فی الجزء السابع،و تناولنا بعض الأمور التی لم نبحثها عن أئمة المذاهب الأربعة فی الأجزاء السابقة من الکتاب.

و لأن امتداد حیاة الإمام الصادق علیه السّلام کان عبر عهدین و نظامین للحکم،فقد کانت حیاته غنیّة بالأحداث و التحوّلات و المواقف،کما أن حیاته علیه السّلام قد امتدت

ص:224

عبر سیرتین و مرحلتین لنظام الإمامة و تاریخ أهل البیت النبوی علیهم أفضل الصلاة و السّلام.فتعلّق جزء منها بحیاة جدّه الإمام زین العابدین علیه السّلام،کما تعلق شطر منها بحیاة أبیه الإمام الباقر علیه السّلام،فکانت حیاته علیه السّلام من هذا الجانب زاخرة بالمواقف و الأفعال و المبادئ،حتی جاءت شخصیته علیه السّلام و أفکاره و تعالیمه علی مستوی من التکامل و النضج،و من العمق و الغنی،ما جعلها مکافئة للأخطار و المهالک التی تحیط بالإمامة و تهدّد الأمة و المجتمع الإسلامی،فقد تسلّم الزعامة الروحیة و تولی الإمامة فی مرحلة شدیدة الصعوبة،و لو لا آثار الإمام الصادق علیه السّلام و ما نتج عن نهجه الفکری و نشاطه العلمی،لکانت آثار النظامین الحاکمین،و نتائج أعمال الطغاة،و ما وجّه إلی الأمة الإسلامیة من ضربات تستهدف عقیدتها و سلوکها من قبل أعداء الدین، قد أسلمت الکیان الإسلامی بکل جوانب وجوده و وجوه بقائه إلی أزمة حادة أو مشکلة مستدیمة.لکن جهد الإمامة،و حکمة استمرار الرسالة فی وصایة الولایة،أبقت جذور العقیدة راسخة،و حفظت أرکان الدین قائمة برغم انشغال حکّام الزمان بحمایة سلطانهم،و انتهاجهم البطش و القسوة،حتی کانت صورة المجتمع الإسلامی محاطة من جهة بظلم الحکام و جبروتهم،و من جهة أخری بأعداء الإسلام و أفکارهم،و من جهة ثالثة بألوان ضعف الإیمان و البعد عن الدین.و یبرز فی قلب هذه الصورة شخصیة المصلح الفذّ و القائد المخلص،فیحیل ظلمات الجهل إلی مشارق أنوار،و یخلق تلک النهضة الفکریة و الحیاة العقلیة التی نهل منها أئمة المذاهب و علماء المسلمین،و التی حصّنت الأمة ضد حرکات الأعداء،و حفظت الفکر من تیارات الإلحاد و الزندقة.

و قد رأیت أن أبدأ الکتاب بشیء من سیرته یلخّص ما بسطنا به القول فی الجزءین الأول و الثانی من الکتاب،و قدّمت عرضا للفترة السیاسیة الزمنیة،و أسماء الملوک الحکام الذین عاصرهم الإمام الصادق علیه السّلام حتی تکون أمام القارئ الذی لم یتهیأ له قراءة أجزاء الکتاب التی ضمّت تفاصیل القول فی هذه الفترة الزمنیة السیاسیة،صورة عن الأحداث و التحولات التی عاشها الإمام الصادق.ثم سقنا نظرة إلی حوادث عصره لتکون عقب الشیء الذی قدّمناه من سیرته متکاملة فی إطار الصورة التی نرید.

و لمّا کنت قد أنهیت کتاب:(حیاة الإمام الصادق) (1)فقد نهجت فی هذا الجزء

ص:225


1- (1) سنقدمه للطبع إن شاء اللّه بعد الفراغ من طبع الجزءین السابع و الثامن من الإمام الصادق و المذاهب الأربعة. [1]

علی عرض المواضیع التی تتصل بإبراز شخصیة الإمام الصادق فی إطار المقارنة أو فی سیاق المرحلة السیاسیة مما لم یدخل فی أغراض الکتابة عن حیاة الإمام بشکل منفرد.

و لهذا ضمّ الجزء الثامن عرضا لمنهج العمل عند الإمام الصادق فی مواجهة الطغاة، و المسلک الذی اتبعه علیه السّلام فی تجنیب الأمة المآسی،و إبعاد أنیاب الحکّام و مخالبهم عن جسد المجتمع الإسلامی،و الاتجاه إلی المستقبل ببناء النفوس و عمارة الأذهان بذکر اللّه و التمسّک بتعالیم الدین،و هو ما میّزه لیس علی صعید الأمة الإسلامیة،بل و فی داخل الدوحة المحمدیة و الشجرة العلویة،حتی استطاع أن یقیم صرحا فکریا شامخا تمثّل فی مدرسته التی انتسب إلیها علماء الأمة و رجالها،و أن یجعل من(الدعوة الصامتة)التی وضع بذرتها جدّه الإمام زین العابدین علیه السّلام منهجا و نظاما.

کما تضمّن الجزء الثامن بحثا فی(الدعوة الإسماعیلیة)و قد کان ذلک مما تفرّع عن البحث فی أبناء الإمام الصادق علیه السّلام حیث تناولنا موضوع الإمامة بعد الإمام الصادق علیه السّلام و دلائل النص علی إمامة ابنه موسی بن جعفر.إلی غیرها من الأمور التی قامت الإسماعیلیة علی إنکارها،و المواضیع التی تطورت منها،و قد حرصنا علی تجنب الخوض فیما یمکن أن یستغنی البحث عنه،و اقتصرنا علی القضایا الأساسیة فی ابتعاد الدعوة الإسماعیلیة عن مذهب الإمام جعفر الصادق و عقائد الشیعة الإمامیة، و لم ندخل فی تفاصیل و دقائق ذلک لظرف قدّرناه،فأهملنا الکثیر،و لکن لم نقف دون ذکر الحقائق أو الإتیان بالوقائع.

و أخیرا،فلا بد من کلمة سبق أن نوّهت بمعناها فی أکثر من مورد فی ثنایا البحث عن حیاة الإمام الصادق،فإن شخصیة الإمام الصادق تبقی بحاجة إلی مزید و مزید من البحوث و التصانیف،و خاصة أفکاره و تعالیمه التی تضمّ ثروة کبری.

کما لا بد من القول أن سمو منزلته العلمیة و علو مکانته الدینیة لا تؤثر فیهما دواعی التعصب أو بواعث الإساءة،فلقد عفی التاریخ ما أراد له أعداؤه من صورة،و أتت الأیام علی محاولات الحکام و أنصار الظلمة،و بقیت صورة الإمام الصادق التی یجمع العلماء علی إشراقها و نورها.فهو أعلم زمانه،و إمام علماء عصره،و سیّد أمة جده.

و أرجو من اللّه أن لا یکون هذا آخر العهد بخدمة أهل البیت علیهم أفضل الصلاة و السّلام،و أن یمنّ علیّ بالقوة و الطاقة لإکمال المسیرة و تحقیق الآمال،و اللّه من وراء القصد.

الکویت/محرم الحرام1404/

ص:226

الإمام الصادق

اشارة

شیء من سیرته،و نظرة إلی حوادث عصره

الإمام الصادق هو أعظم شخصیة فی عصره و بعد عصره،و سیبقی مثالا للعالم الذی استطاع أن یؤدی للأمة خدمات لم یمحها بعد الزمن و تقلّب الحوادث و اختلاف الظروف.فقد واجه علیه السّلام مسئولیات جسام و مخاطر عظیمة تهدّد مبادئ العقیدة الإسلامیة و وجود المجتمع الإسلامی،و تتجلی عظمة الإمام الصادق فی تصدّیه لتلک الأخطار علی تعدد مصادرها و اختلاف عناصرها،فلم یهدأ فی صد هجمات الأفکار و موجات التشکیک و الإلحاد.

و لم یقعده الضغط السیاسی الذی استعمله أولئک الحکام الذین حاولوا أن یخضعوا لسلطانهم الروح المعنویة التی یتصف بها علماء الإسلام،فیربطوا العلم بعجلة مسیرتهم،و یسخّروا الدّین لأغراضهم.

و قد حفظ التاریخ لنا ملامح شخصیة الإمام الصادق واضحة جلیة و هو فی خضم ذلک المعترک القاسی.و یبرز دوره علیه السّلام فی الحفاظ علی أصالة الفکر الإسلامی،و فی الذود عن کیان الأمة،و فی حمایة الرعیة من ظلم الحکّام و الطغاة، إلی غیر ذلک من جوانب الحیاة الإسلامیة،و هو فی ذاته هدف السیاسة و غایة الحکم، حیث کان الطغاة علی اختلافهم یسعون إلی القضاء علی شخصیته لما تمثّله من قوة روحیة و سلطة دینیة.

و من عظیم الآثار و المفاخر الفکریة،أن یتمکن عظیم کالإمام الصادق-و هو علی مثل تلک الأخطار و مواجهة سیاسة الحکام-من تأسیس مدرسة إسلامیة استطاعت أن تطلق الفکر الإسلامی من عقال الجمود،و توسّع دائرة المعرفة بنشر العلوم الإسلامیة،و الدعوة إلی التمسّک بتعالیم الدین و أفکار العقیدة الإسلامیة حتی

ص:227

سارت بذکره الرکبان،و ازدحمت علی مجلسه الوفود من شتی الأقطار،فکان بحق أعلم أهل عصره،و لم یکن هناک أعلم منه.و قد أعلن علیه السّلام للملإ بقوله:«سلونی قبل أن تفقدونی فإنکم لن تجدوا أحدا مثلی» (1).

و قد شهد له علماء عصره من تلامذته و روّاد مجلسه کمالک ابن أنس و أبی حنیفة و السفیانی 2.

و کان عصره یتّصف بمفارقات أوجدت مشاکل عدیدة أثقلت کاهل کل مسلم یحسّ بواجبه تجاه أمته عند ما اصطدمت بأمور محدثة یغلب علیها طابع المصالح الذاتیة،و شاعت مظاهر الفساد و ترسّخت اتجاهات الشذوذ عن العقیدة و الابتعاد عن الإسلام،رغم أبراد التدیّن التی لبسها الحکام و رسوخ دعائم سلطانهم باسم الدعوة إلی الإسلام و القیام بأمر الخلافة و شئون النظام.

و کان للتحول السیاسی الذی شهده عصر الإمام الصادق أثر فی تعقید الأوضاع و قیام موجة من الاضطراب،هددت أمن المجتمع الإسلامی،و رمت به إلی معترک هام قضی علی بقایا استقراره.

و عند ما ظهرت الدعوات المختلفة،و قامت الثورات المتلاحقة،و کلّ یدعی المحاماة عن الدین و الدفاع عن شریعة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم وقف الإمام الصادق علیه السّلام وسط تراکم الأحداث و انعطاف الأسباب و حدوث التطورات موقف مسئولیة کبری من حیث التصرف الذی تقتضیه المرحلة و المسئولیات التی تطرحها الظروف القائمة علی أهل بیت النبوة،و العمل المطلوب أمام تلک المشاکل.فهم رجال رضعوا لبن الفضیلة،و تشرّبت دماؤهم العقیدة الإسلامیة،و قدّموا فی میادین الفداء أعظم التضحیات،و بذلوا کل إمکانیاتهم فی سبیل نشر الدعوة الإسلامیة.فقد واکبوا تلک الدعوة فی یومها الأول،و عاصروها علی مرّ الزمن،حتی باتت لباسهم الحق و سمتهم الأصیلة.

و الإمام الصادق ولد فی مهبط الوحی،و ترعرع فی مهد الرسالة،و تدرّج فی

ص:228


1- ((1)و(2)) الذهبی تذکرة الحفاظ ج 1 ص 157.و مناقب أبی حنیفة للموفق المکی ج 1 ص 173.و انظر الجزء الأول و الثانی من الإمام الصادق و المذاهب الأربعة.

ربوع النبوة یتفیأ ظلال الإیمان،و یتغذّی تعالیم الإسلام من مصدرها الأول و منبعها الطاهر،و لما قام بأعباء الإمامة کانت الأمة الإسلامیة تمرّ فی هذا المنعطف،و تنحدر إلی التفرّق و التمزّق.فوقف الإمام الصادق علیه السّلام موقف المصلح العظیم و الزعیم المحنک،و نظر إلی واقع الأمة و ما یحیط بها من مشاکل و أخطار نظرة متفحّصة و عمیقة،فأخذ نفسه بمنهج فکری و عملی یتعاهد المسلمین بالرعایة و یتکفّلهم بالحمایة.و لو لا العنایة الإلهیة التی تتجلی فی سرّ الإمامة و اختیار صاحب نصها و ولایتها،لما تمکن بشر من النهوض بتلک الأعباء و المسئولیات التی تترتب علی الزعامة الدینیة و المنزلة الروحیة.و یمکننا القول أن عصر الإمام الصادق کان حلقة التواصل فی حیاة الأمة الإسلامیة.

و هنا نقدم أضواء من سیرته و حیاته.

ولادته:

فهو أبو عبد اللّه جعفر الصادق،بن محمد الباقر،بن علی زین العابدین،بن الحسین سبط رسول اللّه،بن علی بن أبی طالب علیهم السّلام.ولد بالمدینة المنورة یوم الجمعة أو الاثنین عند طلوع الفجر یوم 17 ربیع الأول سنة 83 ه و قیل سنة 80 ه و قیل غرة رجب أو غرة شهر رمضان.و المعتمد الأول هو یوم 17 ربیع الأول یوم ولادة رسول اللّه کما علیه عمل کثیر من المسلمین.

أمه:

أم فروة،و قیل أم القاسم،و اسمها قریبة أو فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبی بکر.

أمها:أسماء بنت عبد الرحمن بن أبی بکر.و کانت أم فروة قد ولدت للإمام الباقر ولدین هما:الإمام الصادق و عبد اللّه أو عبید اللّه.و أم فروة کانت امرأة ذات معرفة و علم بأمور الدین،أخذت عن الإمام الباقر ما أهّلها لمکانة سامیة و درایة کبیرة بالعقیدة و الرسالة،و قد تلقّت عنه أحادیث متنوعة،و روتها عنه.

روی عبد الأعلی حادثة تدل علی مکانتها و علمها،قال:رأیت أم فروة تطوف بالکعبة علیها کساء متنکرة،فاستلمت الحجر بیدها الیسری،فقال لها رجل ممن یطوفون:یا أمة اللّه أخطأت السنّة؟

ص:229

فقالت:إنّا لأغنیاء عن علمک.

أبوها:القاسم بن محمد بن أبی بکر.کان من الفقهاء السبعة،و قد روی له أصحاب الصحاح الستة،کان قریبا من الإمام علی زین العابدین و من ثقاته.أما جدّها فهو ربیب أمیر المؤمنین الإمام علی.و کان منه بمنزلة أحد أولاده،اتصف بالثورة علی الانحراف،و لعب دورا مهما فی إبعاد الأذی عن المسلمین.

کنیته و ألقابه:

یکنّی علیه السّلام بأبی عبد اللّه،و یلقب بالصابر و الفاضل و الطاهر (1).و العالم (2)و أشهر ألقابه الصادق لصدق حدیثه،و عرف بذلک،و اشتهر بین علماء عصره و بعده، لأنه ما جری علیه قط زلل،و لم یتوقف أحد عن روایة حدیثه و الأخذ بقوله،و لم یستطع أحد الطعن فی أقواله و روایته.و أما قول البخاری:فی النفس منه شیء،فلم یخرج حدیثه،فذلک یعود لنفسیة البخاری و ما فیها،و لا یؤثر ذلک علی ما أطبق علیه العلماء،و یکاد یکون العصر کله شاهدا،و قد تعرضنا للبخاری فلا حاجة إلی العودة إلیه مرة أخری.فالإمام الصادق(نقل عنه من العلوم ما لم ینقل عن غیره،و کان إماما فی الحدیث) (3).

صفته:

و وصفوه علیه السّلام بأنه ربع القامة،أزهر الوجه،حالک الشعر،أشم الأنف، تکسوه الهیبة،و یعلوه الوقار،حسن المجالسة،کثیر النوال.و لم یخل عن ذکر اللّه و الثناء علیه،و کان لا یخلو من ثلاث خصال:إما قائما و إما صائما و إما ذاکرا.کان من أکابر العبّاد و عظماء الزهّاد الذین یخشون ربهم،کثیر الحدیث عن رسول اللّه، کثیر العواد.کان نقش خاتمه(ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه).

و کما أشرنا،نشأ علیه السّلام فی المدینة المنورة عاصمة الإسلام و موطن الصحابة و التابعین.و قد شهدت هذه المدینة أوج عظمة النظام الإسلامی،فهی مهبط الوحی و التنزیل،تقصدها الوفود من جمیع الأقطار،و ینتهل منها علماء الأمة.

ص:230


1- (1) تذکرة سبط ابن الجوزی ص 351.
2- (2) تاریخ ابن واضح.
3- (3) سبائک الذهب فی معرفة قبائل العرب.

کان الإمام الصادق یحظی برعایة جدّه لأبیه الإمام علی بن الحسین زین العابدین،و هو معلّمه الأول حیث لازمه مدة ثمانی عشرة سنة،فترعرع فی ذلک الجو الذی یفیض بعبق النبوة،و یستلهم دروس التضحیة الکبری،حیث یهزّ الناس أثر الفجیعة و المأساة،و یرتسم علی کل وجه ألم المصاب عند ما تطوف ذکری استشهاد الحسین و خروجه من المدینة،و ذکری یوم الحرّة و إباحتها،فتلتهب النفوس و ترتبط برابطة الاتصال بآل محمد کلما أوغل الحکام فی الظلم و سفک الدماء و مطاردة الأحرار من المسلمین،و هدم دور الصلحاء و المتعبدین،و ذلک فی العهد الأموی الأسود.

توفی جده الإمام زین العابدین سنة 94 ه فعاش مع أبیه الإمام الباقر الذی کان موضع اهتمام العلماء و موئل الفقهاء،و کانت حلقة درسه تعقد بالمسجد النبوی-و هی المدرسة الکبری لطلاّب العلم و رجال الحدیث-فلا تعقد هناک حلقة إلا بعد انتهاء الباقر من حدیثه.

و حضر عنده جمع من الفقهاء أمثال:عمرو بن دینار الجمحی،و عبد الرحمن الأوزاعی،و ابن جریج،و محمد بن المنکدر،و یحیی بن کثیر،و زید بن علی.

و خلال تلک الفترة کان الإمام الصادق علی اتصال مباشر بالحرکة الثوریة و النهضة العلمیة،و إلیه تتجه الأنظار من بعد أبیه لنبوغه و تضلّعه فی الفقه و تبحّره فی الدین،و لکثرة ملازمته لأبیه فی حلّه و ترحاله؛إذ دخل معه الشام و مکة المکرمة، و ظهرت علیه علائم الفضل و شرف العلم،و عزة النفس و صدق اللهجة،و المهابة و الجود و کرم الأخلاق.

و یقول عمرو بن المقدام:(إذا نظرت إلی جعفر بن محمد،علمت أنه من سلالة النبیین) (1)حتی إذا وافی أباه الباقر الأجل،و انتقل إلی جوار ربه،قام بأعباء الإمامة و تفرّد بالزعامة،و کانت مدة إمامته أربعا و ثلاثین سنة.

و قد کابد مرارة النکبات الواحدة تلو الأخری،و عاصر آثار الفجیعة التی منیت بها الأمة بعد استشهاد الإمام الحسین علیه السّلام و إباحة المدینة ثلاثة أیام فی وقعة الحرّة،

ص:231


1- (1) صفة الصفوة لابن الجوزی ج 2 ص 94. [1]ینابیع المودة للقندوزی الحنفی ص 457.و [2]تهذیب التهذیب ج 2 ص 104. [3]

و رمی الکعبة و الاستهانة بحرمة الحرم،کما شاهد موقف عمّه زید و نهایته المفجعة التی انتهت إلیها ثورته.

لقد جرّب الإمام الصادق شراسة السلطة و عنفها و اضطهاد الأمة و الاستهانة بحقوقها و عدم المبالاة بالدماء،فسلک طریقا لمحاربتها و الوقوف بوجهها یحول بین الحکام و بین ما یعملون من أجله فی سیاستهم و سلوکهم.

أکد الإمام علی نشر الوعی،و حثّ الأمة علی التسلح بسلاح العقیدة،فکان رائدا صادقا،و دلیلا خبیرا فی مجال العمل و حفظ التراث الإسلامی فی عصر تطور الحرکة الفکریة،و التحولات السیاسیة الحدیثة،و أن المکانة الحیویة التی یتبوؤها بمزایاه العالیة و غزارة علمه،قد جعل الکثیر من الناس یتوقعون منه أن یسهم فی المعترک السیاسی الذی اشتد فی عصره و الذی تمخض عن ثورات متتالیة.

و ظنوا أنه سیشارک فی أحداث ذلک المعترک،و تعدی موقف الکثیرین من الصمت إلی المصارحة،فحرّضوه علی الثورة و البدء بالانتفاضة،ظنا منهم بأن الزمن قد حان لقیام حکومة عادلة و دولة تسیر وفق نظام الإسلام و قوانینه،بعد أن تجرّدت الدولة الأمویة من کل المقومات الروحیة،فعبثت بمقدرات الأمة،و هتکت مقدّسات الإسلام و حرماته،و لا یزال یوم الحسین ماثلا لا یمحی أثره،و صرخته مدوّیة علی مرّ الزمن،و وقعة یوم الحرّة لا زالت شاخصة أمام الأعین،و حوادثه تحدث عاصفة غضب و هزّة استنکار،و لا تخلو جدران المدینة و لا الحرم الشریف من قطرات الدماء الزکیة.

و لکن الإمام الصادق لم یمل إلی جانب من استماله،فهو لم یخدع بالآمال البرّاقة،و لقد عرف نزعات الناس و میولهم،و طبیعة الموقف الذی یتخذونه،و الغایات التی من أجلها کان تحریضه،و قد زودته تجربته الکبری و علمه بما وراء الحوادث بالقدرة علی تمییز بواعث تلک التحرکات،و معرفة مقتضیات الحال،و التی کان یجهلها الکثیرون ممن راحت تضطرب نفوسهم بمشاعر صادقة تتأثر بالأحداث و تنفعل.

فکانت نظرته جوهریة مبنیة علی استیعاب تام لدور الدین فی الحیاة،و مقدار تأثر تلک الجموع به و خضوعهم له.

و قد شخّص خطورة الموقف،و عرف غایات الدعوة و أهداف القادة،فکان رفضه لطلباتهم من أهم ما یحتّمه علیه واجب الدعوة لمصالح الأمة.

ص:232

فقد أدت غلبة المصالح و تنازع الأسر إلی ضیاع الناس،و ارتباطهم بما قام فی المجتمع من تیارات منحرفة و مبادئ نفعیة تستخدم الإسلام تعدیا و ظلما،فکان لا بد من أن یهیء اللّه لهذه الأمة قائدا یمثل المبادئ الحقة،و یکشف-من خلال الالتزام المطلق و النهج الروحی القویم-عقم الحرکات التی لا تری أبعد من المصالح القریبة، و تعجز عن استشفاف الآفاق،و تمثّل النتائج البعیدة.فکان الإمام الصادق فی نظرته العمیقة و تحسّسه لضرورات الدعوة و متطلبات استمرار الرسالة.یدعو إلی عدم الإسهام فی الاضطرابات،و حمایة المجتمع،و تجنیبه خطر الحروب التی یجنی ثمارها أعداء الدین.و لما عهد عنه من علم و مکانة دینیة،فهو مرهوب الجانب یحسب لرأیه ألف حساب.و قد کان تحرکه و نشاطه یلقی رعبا فی قلوب أولئک الحکّام کما عبر المنصور عنه بقوله:(بأنه الشّجی المعترض حلقه)لموقفه المؤثر الحساس،و لمیل الناس إلیه.

وقف الإمام الصادق فی تلک الظروف القاسیة موقف الصلابة فی إیمانه، و الثبات فی عقیدته،و الإخلاص فی أداء رسالته،فکان رائدا کبیرا فی مجال مواجهته الفعلیة ضد السیاسة التی تأخذ آفاقا جدیدة،و تلجأ إلی أسالیب بعیدة عن روح الإسلام و مبادئه.و قد امتدت حیاته عبر عصرین متناحرین سیاسیا و فکریا،فقد عاش فی آخر خلافة عبد الملک بن مروان إلی وسط خلافة المنصور الدوانیقی-العصر العباسی- أی من سنة 83 ه إلی سنة 148 ه إذ أدرک من خلافة الأول ثلاث سنین أو ست سنین أی من سنة 80 ه أو 83 ه إلی سنة 86 ه و هی السنة التی توفی فیها عبد الملک بن مروان،و مدة خلافته ثلاث عشرة سنة و أشهر،ثم ملک الولید بن عبد الملک سنة 86 ه و توفی سنة 96 ه و کانت مدة خلافته تسع سنین و ثمانیة أشهر.

ثم ملک أخوه سلیمان بن عبد الملک،و توفی سنة 99 ه و کانت مدة خلافته سنتین و ثمانیة أشهر.

ثم ملک بعده عمر بن عبد العزیز بن مروان المتوفی سنة 101 ه و مدة خلافته سنتین و ستة أشهر.

و ملک بعده یزید بن عبد الملک بن مروان المتوفی سنة 105 ه و کانت مدة خلافته أربع سنین و شهرا.

ص:233

و ملک بعده هشام بن عبد الملک المتوفی سنة 125 ه و کانت مدة خلافته عشرین سنة إلا شهرا.

و ملک بعده الولید بن یزید بن عبد الملک الفاسق المتوفی سنة 126 ه و مدة خلافته سنة و ثلاثة أشهر.

و ملک من بعده یزید بن الولید بن عبد الملک المتوفی سنة 126 ه.

و ملک بعده أخوه إبراهیم،و لم تطل أیامه،و تنازل لمروان الحمار بن محمد بن مروان بن الحکم سنة 127 ه و کان مروان آخر خلفاء بنی أمیة،و قتل سنة 132 ه و کانت مدته خمس سنین و عشرة أشهر،و هی فترة الانحدار و السقوط التی شهدت حروبا متوالیة و ثورات متعددة لتنتهی الدولة الأمویة بنهایة مروان.

کانت المدة التی عاصر الإمام فیها هؤلاء الحکّام-الذین سبق ذکرهم من الأمویین-لا تقل عن ثمان و أربعین سنة و هی بأشخاصها و زمانها تکفی لکشف المراحل التی عاشها الإمام الصادق علیه السّلام،و هی حافلة بالمآسی و الویلات التی منیت بها الأمة.إذ انجرف الأمویون وراء شهوات الحکم،و راحوا یسخّرون الدولة لأغراضهم و توطید نظامهم،فعمّ الظلم جمیع الطبقات و کل المسلمین،و لم یسلم من شرّهم إلا من سار فی رکابهم،و جار عن سواء السبیل.

لقد کانت لغة الدم هی السائدة و کانت وسیلة العنف هی المتبعة،و کم من إمام و عالم و فقیه قتل علی أیدیهم و استشهد فی عهدهم.و أولی الحکم الأموی أهمیة بالغة للطالبیین،فرصدوا حرکاتهم،و قمعوا کل موقف بینهم لصد العدوان و مواجهة الظلم،و خرّ الشهید منهم تلو الشهید،و کان همّهم قتل أعیان العلویین و سحقهم، و النیل من الإمام علیّ،إلا الخلیفة عمر بن عبد العزیز الذی منع سب علی علیه السّلام بعد أن کان قد أدخل فی مناهج التعلیم،و أعلنوا به علی المنابر فی الأندیة و المجتمعات،لینشئوا جیلا تربّی علی بغض علی و أولاده.

قال أبو یحیی السکری:(دخلت مسجد دمشق فقلت:هذا بلد دخله جماعة من الصحابة،فملت إلی حلقة فیها شیخ جالس،فجلست إلیه.فقال له رجل جالس أمامه:من هو علی بن أبی طالب؟فقال الشیخ:خفّاق کان بالعراق،اجتمعت علیه جماعة،فقصد أمیر المؤمنین-یعنی معاویة-أن یحاربه،فنصره اللّه علیه.

ص:234

قال یحیی:فاستعظمت ذلک،و قمت فرأیت فی جانب المسجد شیخا یصلّی إلی ساریة و هو حسن السمت و الصلاة و الهیئة،فقلت له:یا شیخ،أنا رجل من أهل العراق جلست إلی تلک الحلقة ثم قصصت علیه القصة،فقال الشیخ:فی هذا المسجد عجائب،بلغنی أن بعضهم یطعن علی أبی محمد الحجّاج بن یوسف.

فعلی بن أبی طالب من هو؟) (1).

و إذا کان لنا من تعلیق علی هذه الحادثة،فهو لا یتعدی الصمت الذی یکشف ما فعلته السلطة،و مبلغ الجهل و العداء التی جنّدت له أجهزتها للنیل من الإمام علی علیه السّلام،حیث لم یکن الأمر مقصورا علی ضرب القوی التی یدفعها إیمانها إلی الوقوف بوجه الظلم،بل راح الأمویون خلال ذلک یذهبون إلی ارتکاب الجرائم و خلق الأهوال.و لقد عانی الناس الضیم و العوز،إذ عملوا علی زیادة الخراج،و اتباع الطرق الظالمة،و أخذ الجزیة ممن لا تجب علیهم الجزیة.

لقد کان الأمویون یرون فی العلویین منافسین أقویاء لهم،یستأثرون بقلوب الناس و حبّهم،و قد حاول جهازهم الدینی و التشریعی و الجنائی أن یعمل علی إضفاء صفة التکامل و النضوج و القسوة علی الحکم الأموی دون هوادة و بمختلف الأسالیب.

و کان العلویون-عبر نشاطهم العلمی و موقعهم الدینی-یتوغّلون فی نفوس الناس،و تنشدّ إلیهم الجموع،و تدین لهم بالولاء،إذ تمتعوا بقوة دون دولة،و عاشوا فی منعة دون عنف؛بل کان سلاحهم الإیمان،و درعهم التقوی،و رغم انتهاء السلطة إلی الأمویین و تمتعهم بالقوة،لم یستطیعوا أن یغیّروا من الموقع الذی یحتله العلویون فی نفوس الناس،فکانت حرکاتهم و ثوراتهم المستمرة-رغم نهایاتها المفجعة-تزید من تقرّب الناس إلیهم،و دنو المسلمین منهم.

نظرة إلی حوادث عصره

اشارة

:

و لا بد للباحث عن حیاة الإمام الصادق من مواجهة عدة مشاکل تعترض سیر البحث و تقف فی طریق المؤرخ لحیاة هذا الإمام العظیم.

و هی مشاکل کثیرة متشابکة،تکتنف البحث و تحیط بالموضوع،کما أن هناک

ص:235


1- (1) المدخل إلی مذهب أحمد بن حنبل ص 5.

عدة أسئلة تفرض نفسها علی الباحث،و تحتاج منه إلی إجابة تکشف عما استتر وراءها من أمور.

المشاکل-کما قلنا-کثیرة،منها:مشکلة الثوار الذین یرمقونه بأبصارهم من بعید و یأملون إسناد الحکم إلیه،و مشکلة النزعات الفکریة و الصراع العقائدی، و مشکلة الغلاة،و لعلها أهم مشکلة تقف فی طریق الباحث،بل أهم مشکلة تعترض سیر الحقائق التاریخیة،حیث استطاع التلاعب السیاسی أن یوجد منها عوامل یتمکن من خلالها تحقیق أغراضه و أهدافه.و سنأتی لعرض موجز فی البیان هنا لأنا قد أوضحنا فی بحثنا الموسع ما یتعلق بهذه المشکلة (1).

و عصر الإمام الصادق یتصف-دون غیره من عصور الأئمة-بعوامل کثیرة، أهمها:التحول السیاسی الذی حصل فی أیامه،بل خلال أهم أدوار حیاته،و ذلک بانتقال السلطة من الأمویین إلی العباسیین بعد أن انتصرت ثورتهم باسم أهل البیت علیهم السّلام ذلک التحول الذی أحدث تغییرا جذریا فی المجتمع الإسلامی،و فتح أمام المسلمین آفاقا بعیدة المدی.

و لم تکن نتائج الثورة مجرد انتقال الحکم من أسرة إلی أسرة،بل هی فی الواقع ثورة لها أثرها فی تاریخ الإسلام،تعنی نقطة فاصلة فیه لفعالیتها و آثارها،حیث أحدثت فی المجتمع تغیّرا عمیقا و تحولا سیاسیا و اجتماعیا اتسعت آثاره.

و لم یکن الإمام الصادق علیه السّلام بالرجل الذی تهمل الأحداث موقفه،أو بمعزل عن ذلک المجتمع أو فی منأی عن التأثر بتلک الحوادث المحیطة به،فهو کفرد یشمله ما یشمل سائر الناس،یعیش مع الأمة و یشاطرها آلامها و یتعرف علی أحوالها.و قد کانت الأحداث تنتهی إلیه لمکانته الاجتماعیة و السیاسیة،فالثورة قامت علی أساس دعوة دینیة نظمت تنظیما دقیقا یضمن لها النجاح،و یمکّن جذورها من النمو فی أرض زرعت بجثث الأبریاء و سقیت بدماء الشهداء.و الدعوة قامت تحت شعار أخذ الثأر من مرتکبی المجازر و المظالم بحق العلویین،و کان یقوم ذلک علی تنظیم سرّی یعمل بتکتم شدید،و هو یدور حول الدعوة لأهل البیت،و إسناد الحکم إلیهم لأنهم أصحابه الشرعیون،و لا بد من الأخذ بثأرهم و الانتصار لمظلومیتهم،لأن الدولة الأمویة

ص:236


1- (1) انظر الجزء الرابع من الإمام الصادق و المذاهب الأربعة.

عمدت إلی تصفیة الحرکات العلویة و القضاء علی زعمائها بکل وسیلة.و قد جعل السواد لباس الدعاة،و شعارا یرفع العرب إعلانا للحداد علی الحسین علیه السّلام،فاندفع الناس لخوض تلک المعارک،لأنها معارک تهدف إلی القضاء علی معاقل الظلم و رموز الضلالة و البدع،فانتشرت الدعوة،و کان أبناؤها علی اتصال بالإمام الصادق علیه السّلام، و دعاتها أکثرهم یأملون بإسناد الحکم للعلویین.فالعباسیون أنصار دعوة و جنود حرکة و لیسوا رؤساء! فالدعوة إسلامیة المبدأ،شیعیة النزعة،لم یتمکن العباسیون من الإعلان عن نوایاهم العدائیة تجاه أهل البیت،بل عرفوا کیف یستغلون مشاعر الناس و تعاطفهم مع العلویین،و تستروا بدعوة الرضا من آل محمد.فسارت الجموع بحماس شدید سعیا وراء هدف سام هو جعل الإمامة فی أهلها الذین یستحقونها بجدارة من أهل بیت النبوة،حتی یصلح اللّه بهم ما فسد من الأمور و ما اختلف فیه الناس.

و فی البیت العلوی رجال یصلحون لتولی الإمامة بظاهرها من حیث الدین و التقوی،و لکن لیس فیهم النص،و لم تکن إلیهم الوصیة،و إنما کانت لمن شملته العصمة وفاقهم فی الخصال.و کلهم لا ینازع الإمام الصادق موقعه أو مکانته،و عند ما بلغت الأمور-من الجانب السیاسی-حدا یساعد علی التغییر و التحول فی السلطان، کان الإمام الصادق یمد ببصره إلی ما وراء الأحداث و المصالح القریبة،فما کان من أبناء عمه ممن نظروا إلی التحول و التغییر فی حدوده المحسوسة،إلاّ أن طلبوا منه الدخول فی ما عزموا علیه من إعلان الثورة و إسناد الثوار منهم،و لکنه علیه السّلام رفض رفضا باتا.

و قد ذکرنا آنفا أنه طلب من الثوار العلویین التریث فی الأمر-و لأهمیة هذا الموضوع سنخصص له بابا آخر نبحث فیه الدقائق و التفاصیل-لأن قضیة التفریق بین دواعی الموقفین و اختلاف النظرتین قضیة هی من الأهمیة بمکان لا تنتهی بانتهاء ظرفها،و لأن الإمام الصادق دفع بجوهرها إلی آفاق واسعة ما زلنا حتی الیوم نعیش حقیقة ذلک الجوهر و واقع تلک النظرة،و سیأتی بحث ذلک قریبا.

و من ملامح النظرة التی اتسم بها الإمام الصادق.أن الأمة تحتاج إلی الرجال فی مجال الإصلاح و الدعوة،و أن المسلمین یواجهون حکاما عتاة و سلاطین متجبرین، فما کان فی عهد الأمویین سیتکرر لأنه علیه السّلام لمس من العباسیین مذهبهم فی توسّل کل الطرق إلی سدّة الحکم و عملهم علی الصعود إلی السلطان بوسائل تضمن لهم

ص:237

ذلک ما دام النظام الأموی قد انحدر إلی نهایته.و فی عهد العباسیین،فقد رأی الإمام الصادق أن قوة النظام الجدید،و وحشیة الحکام الجدد ستدفع بالأمة إلی أوضاع سیئة.و ستعود علی أهل البیت بفظائع أخری و مجازر تزهق فیها أرواحهم و تهرق دماؤهم.

أما فی بدء الأمر،و قبل قیام حکم العباسیین،فإن الأوضاع التی ستؤول إلیها الأحداث واضحة،فلا بد من انتهاء حکم الأمویین و زوال ظلمهم،و التحول آت بکل الأحوال،و قد رأی الإمام الصادق مبلغ الاستجابة للدعوة،و تعاطف الناس مع الثورة،و الکل فی عینیه مرأی مظالم آل محمد،و مناظر المصائب و المآسی التی حلت بهم علی ید الأمویین،فراح الناس یؤیدون الثوار.بید أن علم الإمامة قد عین هذه الفترات،و قسّم هذه الأدوار.فلیس الأمر کما یظن ذوو الأنظار القصیرة من الناس مهما اتسعت تجاربهم و نمت مدارکهم،کما أن الثورة ضمت فی تنظیماتها عناصر بعیدة کل البعد عن الأهداف التی من أجلها نظمت الدعوة،و أعلنت الثورة،و قد تستّر وراءها کثیر من النزعات المختلفة و الآراء المنحرفة،و هتافاتهم للرضا من آل محمد لم تدفع به إلی تعریض المجتمع الدینی لخطر السیاسة الغاشمة،فقد کان أبعد نظرا مما یری فی النتائج،فهو ینظر بالفکر الثاقب و النظر الدقیق المسدّد من اللّه تعالی لعواقب الأمور،و العلم الشامل،و مراعاة المصلحة العامة،و السیر وفق الخطط المحکمة و الآراء السدیدة فی تقدیر الظروف و مناسباتها.

و هو رأس الأمة و إمام الناس و زعیم العلویین،یری آیات رعایة اللّه،و یلمس وجوه کلاءته له،لیسلّمه من بطش الطغاة و محاولات الظالمین.علیه دور القیادة، و توجیه دفة السفینة،و لیس العکس.

و هو علیه السّلام لم یندفع وراء تیار الأقوال البرّاقة،و لم یجر فی میدان السیاسة و مخاتلتها،و قد حاول الکثیر من أتباعه و غیرهم و خلّص أصحابه و المنتمین إلیه أن یثیروا عواطفه عند ما استعرت نار الثورة فی البلاد الإسلامیة،و انتشرت تلک الشعارات التی تدعو للرضا من آل محمد.

و سعی بعضهم بکل جهده إلی أن یحمل الإمام و أنصاره علی الثورة،و لکنهم کانوا ینظرون إلی الأمور نظرة سطحیة،فتغلب علیهم سلامة النیّة و سرعة التصدیق بالأمور الظاهرة کبشر یحکمهم الواقع و التأثر بمجریات الأحداث،و لیس کما یری الإمام

ص:238

و هو صاحب الولایة الشرعیة و قد خصته العنایة الإلهیة بالأمر،و جعلت فی شخصه الإمامة،و الوقائع عنده کما قضت بها الحکمة الإلهیة و قدّرتها المصلحة الدینیة.

دخل علیه سهل بن الحسن الخراسانی فسلّم علیه و قال له:یا ابن رسول اللّه، لکم الرأفة و الرحمة،و أنتم أهل بیت الإمامة،ما الذی یمنعک أن یکون لک حق تقعد عنه؟و أنت تجد من شیعتک مائة ألف یضربون بین یدیک بالسیف؟ و دخل علیه سدیر الصیرفی فقال:یا أبا عبد اللّه ما یسعک القعود؟ فقال علیه السّلام:«و لم یا سدیر؟» فقال:لکثرة موالیک و شیعتک و أنصارک.

فقال:«یا سدیر،و کم عسی أن یکونوا؟» قال:مائة ألف.

فقال الإمام الصادق:«مائة ألف؟!!» قال:نعم (1).

فکان جوابه علیه السّلام من باب الامتناع عن ذلک،و أشار إلی أن تلک الکثرة التی یتخیّل أنها تحقق الأهداف التی یتطلبها واقع الثورة و النهضة بالمسلمین لیست کذلک، لأن أولئک لم یکونوا من الرجال المخلصین الذین تمکنت العقیدة من نفوسهم،اللهم إلا نفر قلیل،فلا یمکنه أن یخوض معرکة حاسمة کما یرید أولئک الذین حاولوا إثارة حفیظته مع عدم وجود العدة الکافیة من المخلصین الذین یمکن الرکون إلیهم و التعویل علیهم.کما أن أهل البیت الکرام لهم فی کل عصر دور و رسالة،فلقد کانت ثورة الإمام الحسین من أکبر العوامل التی فضحت الردة و عرّت الأمویین،کما أنها أصبحت ینبوع وعی و معین هدی یحمل الناس علی الاقتداء بتعالیم الرسالة و الاهتداء بمبادئ العقیدة،و کان من بعد مأساة الطف و ما أثارته فی النفوس أن تجد الأمة من یعزّز فی کیانها ذلک التحوّل و یرسّخ نتائج الثورة،فکانت دعوة الإصلاح و منهج الإرشاد.

و قد بلغ منهج الإصلاح الدینی و الفکری و الاجتماعی علی ید الإمام الصادق درجة من النمو و التکامل،فامتلک قدرة التأثیر فی النفوس،و اتصف بالروحانیة و الحس الدینی الذی یجتذبها.

ص:239


1- (1) الکافی ج 2 ص 243.

و کان علیه السّلام فی الوقت الذی یحاور فیه دعاة الثورة،یمارس مسئولیاته فی وجه السلطة و انحراف الحکّام،و یقاوم نزعات الهدم و موجات القمع و تیارات التشویه و الانحراف.

و کان نهج الحوار طریقة العمل الفکری لدی الإمام الصادق،تتسم بالشمول وسعة الرأی،و قوة الإقناع التی تقوم علی علم ثابت،و رأی سدید.لذا فقد تولّی رد تلک الهجمات،فکان دفاعه عن الإسلام فی درء شبه الزنادقة و الدهریة من أهل الأدیان الأخری قد خلّف ثورة فکریة مهمة ضمّنها عشرات من الکتب.

و کان قد بدأ التنازع فی ذلک العصر بین الفلسفة و بین الإسلام و العقائد التی جاء الإسلام لمحاربتها،و ظهرت بوادر الجدل العقلی،و اتخذ علم الکلام کوسیلة للحجاج.

و کان موقف الإمام الصادق من تلک التیارات و وسط ذلک الجدال و النزاع موقف العالم المنافح عن الدین و المدافع القوی عن العقیدة الذی لا یغلب فی مناظرة و لا ینقطع فی محاورة،و کان لحجّته و وضوح برهانه و رجاحة عقله و قوة استدلاله الأثر الحاسم فی أن یخضع له العقل السلیم و یرتاح له الضمیر،و تفنید آراء الأعداء و دحض أفکارهم،و توفیر أسس یرکن إلیها المسلم و یعتمد علیها فی الدفاع عن دینه و عقیدته.و کان یدلی بآرائه أمام خصومه بمنطق یدخل إلی آذان سامعیه فینفذ إلی قلوبهم،فلا یجدون بدّا من التسلیم لقوله الحق و منطقه الصائب.و قد حفظ لنا التاریخ خصائص منهج الإمام و میزات منطقه الذی لا یجاری فی استدلالاته،و لا یغلب فی براهینه؛بل کان هو المتفوّق و السابق فی کل مضمار.

و بهذه المواقف،و بتلک الشهرة التی نالتها مدرسته،و المهمة التی قام بها أصحابه فی محاربة الإلحاد و الملحدین کان لزاما علی دعاة تلک المبادئ الذین دخلوا الإسلام أن یتستروا باعتناقه لبثّ سمومهم،و شعروا بخطر موقف الإمام الصادق و محاربته لکل فکرة من طریق العلم و المنطق،فنظروا إلیه نظرة ملؤها الحقد علی الإسلام و انتصاره علی عقائدهم الفاسدة و أدیانهم الباطلة،و لما وجدوا أنفسهم عاجزین عن المجاهرة بما فی نفوسهم من أضغان و عداوة،و أن انتصارات الإسلام دائمة لأن عقیدته هی مصدر هذه الانتصارات،لجئوا إلی التلبّس،و استخدموا أسالیب

ص:240

التستر و الادعاء،و اختطوا لأنفسهم طریقا یقوم علی وسائل و شعارات لا حظّ لها من الصحة و لا نصیب،یمنّون أنفسهم باستعادة أمجادهم و الوقوف بوجه الإسلام.

و کیف یجدیهم ذلک و ینطلی علی المؤمنین خداعهم بعد أن ظهرت آثاره فی حربهم و انتشرت أخباره فی صدودهم،فحاولوا عن طریق الدسّ أن ینتصروا لمبادئهم الإلحادیة،و توصلوا إلی ما توهموه حلا ناجحا و انتقاما سریعا و ذلک عن طریقین:

الأول:انضمام بعض دعاة الإلحاد إلی مدرسة الصادق ظاهرا،و ادعاء حب أهل البیت نفاقا،لکی یعملوا من الداخل علی الفساد و الإفساد.

الثانی:استعمال الکذب و الدسّ علی أهل البیت.و من هذا و ذاک کوّنوا طریقا، و صلوا من خلاله إلی غایة فی نفوسهم،و هی إظهار الغلوّ فی أهل البیت،و الغلوّ کما قدّمنا هو أعظم مشکلة اصطدمت بها قافلة التشیّع،و أدهی مصیبة نکبت بها هذه الطائفة،و حرکة الغلوّ هی حرکة إلحادیة منشأها معارضة الإسلام من جهة،و تشویه مذهب أهل البیت من جهة أخری،لذلک ربط کثیر من المؤرخین و الکتّاب بین التشیّع و بین الغلوّ؛بل ذهب بعضهم إلی وصف التشیّع بالغلوّ.و السبب فی ذلک قصور نظرتهم و عجزهم عن التحلّی بالموضوعیة التی تقتضی جهدا لسیر تفاصیل و أحداث تلک المرحلة.فلیس بین الشیعة و بین الغلاة ما یجمعهم،کیف ذلک و قد کان ظهور دعوات الغلاة و تسللهم قد سبّب لأئمة أهل البیت و قادة الشیعة قلقا و إزعاجا لم یهدأ، حتی أحبطت حرکاتهم و فشلت مخططاتهم،و قد تناولنا فی الجزء الرابع من الکتاب جوانب قیام هذه الحرکة و اعتبارها مشکلة.و لا غرابة فی وصفها بالمصیبة التی عولجت بجهود الأئمة أهل البیت،و بمزید الأسف أن یتغاضی البعض عن هذه الحقائق و ینکروا الوقائع و یتلذذوا بالطعن علی الشیعة،و هم بذلک ضحایا دعاوی الحکام و المناهضین لأهل البیت سواء من جهة تلقی الدین أو من جهة الأغراض السیاسیة العمیاء التی ترید تشویه الحقائق و قلب الأوضاع و اتهام الأبریاء لإضعاف أثر أهل البیت فی المجتمع و النیل من مکانتهم السامیة فی النفوس.

کان دخول الغلاة فی صفوف الشیعة خطوة سیاسیة أوجدتها عوامل متعددة کما أشرنا إلی ذلک،و فی مقدمتها:النیل من الإسلام.و قد عالج أهل البیت هذه المشکلة الخطرة،فعرفوا الدوافع التی دعت هؤلاء إلی الالتحاق بصفوف الشیعة،کما اتضحت لهم غایات خصومهم.فکانوا یعلنون للملإ البراءة من الغلوّ و الغلاة،و جاهروا

ص:241

بلعنهم،و أمروا شیعتهم بالتبرؤ منهم.و تلقی الشیعة تلک الأوامر بالقبول و الامتثال، فأعلنوا البراءة منهم،و ملأوا کتبهم بلعن الغلاة و التبرؤ منهم.و أفتوا بحرمة مخالطتهم،و أجمعوا علی نجاستهم،و عدم جواز تغسیل و دفن موتاهم،و تحریم إعطائهم الزکاة،و لم یجوّزوا لمن یقول بالغلو أن یتزوّج بالمسلمة،و لا المسلم أن یتزوج بالمغالیة،و لم یورّثهم من المسلمین،و هم لا یرثون منهم.

و لکن یأبی بعض الکتّاب المعاصرین إلاّ الإصرار علی الخطأ،و الاستسلام للروح الطائفیة،و السیر فی رکاب العصبیة،فیتّبعوا أهوائهم دون أن یکلّفوا أنفسهم عناء البحث فی حقائق التاریخ،و الاطلاع علی وقائعه من مصادرها الصافیة.

و هناک قضیة أخری أهملت براهین وضعها،و غضّوا الطرف عن أدلة اختلافها، فتمسکوا بها،و هی:قضیة عبد اللّه بن سبأ التی شهدت الوقائع التاریخیة بأنها لا تعرف حادثا من تلک الحوادث التی أسندها المؤرخون لعبد اللّه بن سبأ.و قد بسطنا القول فیه فی عدة مناسبات،فی بحثنا الموسع عن الإمام الصادق فی موارد عدیدة من الأجزاء السابقة،و مواضع کثیرة سقنا خلالها الحجج و الأدلة علی اختلاق شخصیة عبد اللّه بن سبأ.

لقد نسبوا مبدأ التشیّع إلی شخصیة و همیة رسمتها السیاسة فی عصور التطاحن بریشة مصوّر مغرض،بهدف الطعن علی أهل البیت،الذین هبّ علماؤهم لبیان زیفها مبیّنین أن من العار التماشی مع تلک الأسطورة لما فیها من احتقار للأمة و تصغیر لقدرها،عند ما تصوّر قطیعا جری خاضعا لتقبّل تعالیم ذلک الیهودی و هو عبد اللّه بن سبأ المخلوق من أهواء السیاسة و أغراض التطاحن،بهدف تمزیق صفوفها و إذهاب ریحها،و ذلک للتفریق بین الأخ و أخیه.

و علی کل حال لا بد من أن نشیر إلی بعض ما جری للإمام الصادق من محاورات مع أولئک المنحرفین عن الإسلام و دعاة الإلحاد و الزنادقة،و هی محاورات غنیة زخرت بها کتب الکلام و الفلسفة،و سنأتی علی ذکرها فی الباب الخاص بالبحث عن الجوانب الفکریة فی تراث الإمام الصادق و منهج مدرسته.و هنا نذکر ما کان مع الجعد بن درهم الذی نشأ و کلّه دعوة ضلالة و إلحاد،کان یغوی الناس و یضلّهم، و هو من الزنادقة الذین استفحل أمرهم،و قد أراد أن یوهم الناس بما یبدیه من احتیال، فأخذ قارورة و جعل فیها ترابا و ماء،فاستحال ذلک بعد مدة دودا و هواما،فقال

ص:242

لأصحابه:أنا خلقت هذا لأننی کنت سبب کونه.فأرجف بذلک المرجفون،و لمّا بلغ الإمام الصادق ذلک قال علیه السّلام:«لیقل کم هی،و کم الذکران منه و الإناث؟و لیأمر الذی یسعی إلی هذا أن یرجع إلی غیره» (1)قال ابن حجر:فبلغه ذلک-أی قول الإمام الصادق-فرجع.

دعوة الغلاة

:

و لعل أکثر الدعوات شرّا و أسوأها أثرا و أهمها عند الإمام الصادق هی دعوة الغلاة-کما قدّمنا-الذین طمحوا فی تلک العاصفة الهوجاء إلی بثّ روح التفرقة بین المسلمین،و شاعت أفکارهم تحت ستار حب آل محمد لیصلوا إلی ما یرمون إلیه من إساءة.فبثوا الأحادیث الکاذبة،و أسندوها إلی حملة العلم من آل محمد،و تخلّقوا بأخلاقهم لیعمّوا بها علی أتباع أهل البیت.و جاءوا بمفتریات حملوها علی مبدأ الشیعة،و أراد أکثرهم أن یلبس نفسه لباس قدسیّة،فموّه علی الناس بأن له صلة بالإمام الصادق و علاقة.

و قد أعلن علیه السّلام براءته منهم،و نشر فی العالم الإسلامی کذبهم و زیف أقوالهم و قال:

«لا تقاعدوهم،و لا تواکلوهم،و لا تصافحوهم و لا توارثوهم».

و من هذه الفقرات التی أعلنها علیه السّلام یتبین لنا شدّة اهتمامه بکشف هؤلاء.و قد جعلهم فی عداد الکفّار الذین تحرم مواکلتهم و مصافحتهم،کما أنه علیه السّلام باین بینهم و بین المسلمین بعدم التوارث،فکان فی هذا الموقف من الشدة ما یلزم بالتعرف علی جذور هذه الدعوة و الاطلاع علی أسرار معتقداتها و حقیقة أقوالها.و قد قمنا بما نعتقده وافیا بذلک فی بحثنا عن هذه الحرکة سابقا.و اهتمام الإمام الصادق و حکمه علیهم و عمله علی إشاعة هذا الحکم فی الأقطار یدلل علی عظیم خطر هذه الحرکة،و العمل علی فضح ادعائها الحب لأهل البیت.کما أن استقراء عداء الإمام الصادق لهذه الحرکة و موقفه منها یقودنا إلی نتائج و دلالات کثیرة منها:

1-إن هذه الحرکة تعمد-عن طریق الحب العنیف المصطنع-إلی تشویه العقائد الإسلامیة،و إشاعة الکفر و الزندقة تحت ستار الإسلام.

ص:243


1- (1) لسان المیزان لابن حجر ج 2 ص 105.

2-إن هؤلاء الغلاة تنطوی نفوسهم عن بغض دفین للإسلام و المسلمین، و إنهم قوم یتحیّنون الفرص للانتقام منه و منهم،و قد لمسوا-حسب تجاربهم و اختلاطهم بالعالم الإسلامی-موقع حب أهل البیت من نفوس المسلمین،و عرفوا منزلتهم عند الناس و خضوعهم لهم،فسلکوا طریق حبّهم الادعائی الکاذب تمهیدا لتنفیذ أغراض خبیثة فی نفوسهم،و کان من أهم ما یقومون به:حرکة الإساءة لرجال الإسلام،و نسبة أشیاء إلیهم تحطّ بسمعتهم،کما أنهم یبذلون قصاری جهدهم فی خلق الفوضی فی المجتمع الإسلامی،و بلبلة أفکار الناس بواسطة دعاواهم التی تعارض التوحید،و تناقض الإیمان.و اختیارهم أشخاص أهل البیت مدخلا لتحقیق مآربهم و أغراضهم.و تلبّسهم بالولاء و ادعائهم التدیّن،و لکن حقیقة ما یدّعون و جوهر ما یدعون إلیه مناقض للإسلام،و مجاف لعقائد أهل البیت.

3-إن العناصر التی تبنّت هذه الدعوات الضالة،و التی نشرت الغلو،کانت ممن ضرب الإسلام مصالحهم،و ضیّع علیهم فرص النفوذ إلی أهدافهم،و هدم معالم مجدهم،و سفّه أحلامهم،و ظهر علی أدیانهم.و بالطبع فإن هؤلاء لا یدینون للإسلام مخلصین،بل یحقدون علیه و إن طال الزمن و بعد العهد،فإنهم لا ینظرون إلیه إلا بعین الحقد و الغضب،و یضحّون بکل ما یملکونه فی سبیل نجاح مؤامراتهم ضده.

فما أبعدهم عنه،و ما أشدّ بغضهم لآل محمد،و لکنهم امتزجوا بالمجتمع الإسلامی لأن انفصالهم عنه یجعلهم بمعزل عن تحقیق مآربهم،فتوزعوا کتائب،و تفرقوا جماعات یظهرون حبّ هذا و یقدّسون ذاک،و یحامون عن هذه الشخصیة،و ینظّمون إلی ما یعادی الأخری،و هکذا،و لکن أشد محاولاتهم هی ادّعاء الصلة بأهل البیت، لأن لأهل البیت أثرهم فی الحیاة العامة.فهم یمیلون إلیهم،و یحاربون أعداءهم ادعاء و تسترا لیصلوا إلی أهدافهم من خلال أوسع قاعدة.ثم تأتی الجماعات التی تتجه إلی أقرب الشخصیات إلیها فی مجال السیاسة أو صعید الإقلیم،فتتعلق بها و تخلع علیها صفات القدسیة،و تؤدی لها شعائر العبادة،و ما هی إلا فرق قدیمة أتی الإسلام علی وجودها و محا ذکرها.و لکن من حملهم سوء حظ الأمة إلی أن یؤرخوا،و یکون لهم دور فی التأثیر علی الناس لأنهم أتباع الملوک و جنود الظلمة،أهملوا الحرکات التی اتخذت من شخصیات عصرها شعارا و هم لیسوا من أهل البیت،و انصبّ جلّ اهتمامهم فیما ابتلی به أهل البیت و شیعتهم من دعاوی الغلاة.

ص:244

لقد کان فی طلیعة حرکة الإلحاد و الزندقة رجال لا ینکر أنهم اتصلوا بمدرسة أهل البیت،فانکشف حالهم فیما بعد.و هناک آخرون قد ادعوا الاتصال بتلک المدرسة لیضعوا الأحادیث الکاذبة.و قد أعلن الإمام الصادق کذب هؤلاء و براءته منهم،و کان علی رأس هذه الفرقة:المغیرة بن سعید.فقد کان یدّعی الاتصال بأبی جعفر الباقر،و یروی عنه الأحادیث المکذوبة،فأعلن الإمام الصادق کذبه و البراءة منه،قال الإمام الصادق علیه السّلام لأصحابه فی قوله تعالی: هَلْ أُنَبِّئُکُمْ عَلی مَنْ تَنَزَّلُ الشَّیاطِینُ. تَنَزَّلُ عَلی کُلِّ أَفّاکٍ أَثِیمٍ قال«هم سبعة:المغیرة بن سعید،و بنان،و صائد، و الحارث الشامی،و عبد اللّه بن الحارث،و حمزة بن عمارة الزیدی».

و کان المغیرة حاذقا فی وضع الأحادیث،و ماهرا فی الدس و الکذب علی أهل البیت،و إلیه تنسب عقیدة تألیه الإمام علی علیه السّلام و هو أمر لا غرابة فیه إن صحّ.لأن لیس هناک ما یمنع من قول المغیرة بذلک و الدعوة إلیه ما دام أحد أرکان حرکة الغلاة و الألحاد المعادین لأهل البیت،و لکن الأشهر أنه قال أنه مخلوق و لا بد أن معتقداته حملت علی ما اعتقدته الخطابیة أو تأثروا بهم فعلا،فهم من جنس واحد.یقول الأشعری:إن المغیرة زعم أنه یحیی الموتی بالاسم الأعظم،و أراهم أشیاء من النرنجات و المخاریق (1).

لقد حمل أئمة أهل البیت سلاح العقیدة کعادتهم فی مواجهة هؤلاء الأعداء الجدد،و اهتموا أشدّ الاهتمام بمقابلة دعاواهم،و إشعار أصحابهم و محبیهم بخروج هؤلاء و کفرهم و شذوذهم.فالباقر علیه السّلام کان یقول:«بریء اللّه و رسوله من المغیرة بن سعید و بنان بن سمعان،فإنهما کذبا علینا أهل البیت» (2).

و عن عبد الرحمن بن کثیر قال:قال أبو عبد اللّه الصادق علیه السّلام یوما لأصحابه:«لعن اللّه المغیرة بن سعید،و لعن اللّه یهودیة کان یختلف إلیها یتعلم منها السحر و الشعبذة و المخاریق.إن المغیرة کذب علی أبی،فسلبه اللّه الإیمان.و إن قوما کذبوا علیّ ما لهم؟أذاقهم اللّه حرّ الحدید.فو اللّه ما نحن إلا عبید خلقنا و اصطفانا،ما نقدر علی ضرّ و لا نفع،إن رحمنا فبرحمته،و إن عذّبنا فبذنوبنا،و اللّه ما بنا علی اللّه

ص:245


1- (1) المقالات الإسلامیة ج 1 ص 7.
2- (2) لسان المیزان ج 1 ص 76.

من حجة و لا معنا من اللّه براءة،و أنا لمیتون و مقبورون و منشورون و مبعوثون و موقفون و مسئولون،ما لهم لعنهم اللّه،فلقد آذوا اللّه،و آذوا رسول اللّه فی قبره،و أمیر المؤمنین،و فاطمة،و الحسن و الحسین،و ها أنا ذا بین أظهرکم أبیت علی فراشی خائفا،یأمنون و أفزع،و ینامون علی فراشهم،و أنا خائف ساهر وجل».

ثم أراد علیه السّلام أن یلفت نظر العالم الإسلامی إلی قاعدة لها أهمیتها فی قبول الروایة عن أهل البیت و العمل بها،لکی یحول دون حملة الکذب و الدسّ علیه و علی آبائه الکرام،و یدفع الناس إلی التمحیص و النظر فیما یروی عن الأئمة علیهم السّلام فکان قوله القاعدة أشبه ما تکون بالصرخة التی قصد أن یکون دویّها فی کل نفس،و تبلغ عن طریق أصحابه کل قطر،فقال علیه السّلام:«لا تقبلوا علینا حدیثا إلاّ ما وافق القرآن و السنة،أو تجدون معه شاهدا من أحادیثنا المتقدمة،فإن المغیرة بن سعید لعنه اللّه دسّ فی کتب أصحاب أبی أحادیث لم یحدّث بها،فاتقوا اللّه و لا تقبلوا علینا ما خالف قول ربنا و سنّة نبینا صلّی اللّه علیه و آله و سلّم».

و جملة أقوال الإمام الصادق فی المغیرة،تظهر لنا بوضوح عظیم ألمه و شدة غمّه لما قام به الغلاة،و ما اقترفوه من أکاذیب،و ما اعتقدوه من عقائد الغرض منها الإساءة إلی أهل البیت النبوی الکریم،و خلق الریب و الشکوک فی نفوس الناس.و لقد رأینا وصف الإمام الصادق للحال الذی هو علیه بسبب ما قام به الغلاة فهو علیه السّلام ساهر وجل یهمّه ما یفعله أولئک الکفرة و ما یشیعوه بین الناس من مفتریات و عقائد فاسدة.

لقد قلنا أن مشکلة الغلاة هی من أدهی ما حلّ بتاریخ العقیدة الإسلامیة،و من أفظع ما أصاب تاریخ الشیعة،و لو حسنت النوایا و تجرّدت من سخائم الحقد،لنظر إلی المشکلة بعموم نشأتها،لا بخصوص مدّعاها،و بحثت علی أساس أغراض أصحابها و بواعث رجالها،فهی إذا دققنا تاریخ نشوئها و مصادر أفکارها،و اعتبر الإنصاف فی القول و روعی الحق،لم تکن حول أهل البیت فحسب-کما أشرنا-بل إن من أصحاب العقائد الفاسدة الذین هاجت فی حنایاهم الجذور التی قطع الإسلام عنها ماء الحیاة،فرق(الخرمدینیة)أصحاب أبی مسلم الخراسانی،و منهم کان بدء الغلو فی القول،و معلوم بعد أبی مسلم عن الإمام الصادق و عدم التقائه به،و إنما کان أبو مسلم من دعاة العباسیین الخلّص الذین بنوا إیمانهم فی الدعوة علی أساس ما تعنیه

ص:246

الدعوة إلی آل البیت بحسب ما یضمره العباسیون و ما وضعوه فی نظامهم السری،و قد قالت هذه الفرقة:أن الأئمة آلهة.و الأئمة فی مفهومهم لیسوا أئمة الهدی من أهل البیت النبوی الذین انعقدت إلیهم الإمامة بالنص و الوصیة،و الذین هم قادة الشیعة و رموز هداها.و قالت هذه الفرقة أیضا:أن الأئمة أنبیاء،و إنهم رسل،و إنهم ملائکة.

و هم الذین تکلموا بالأظلة و التناسخ فی الأرواح،و هم أهل القول بالدور فی هذه الدار،و إبطال القیامة و البعث و الحساب،و زعموا أن لا دار إلا الدنیا،و أن القیامة هی خروج الروح من البدن و دخوله فی بدن آخر غیره،إن خیرا فخیرا و إن شرّا فشرّا، و أنهم مسرورون فی هذه الدنیا بالأبدان أو معذبون فیها،و الأبدان هی الجنان أو هی النار،و أنهم منقولون فی الأجسام الحسنة الأنسیة المنعمة فی حیاتهم،و یعذبون فی الأجسام الردیّة المشوّهة من کلاب و قردة و خنازیر و حیات و عقارب و خنافس و جعلان محوّلون من بدن إلی بدن معذبون فیها هکذا،فهی نعیمهم و نارهم لا قیامة و لا بعث و لا جنة و لا نار غیر هذا علی قدر أعمالهم و ذنوبهم و إنکارهم لأئمتهم و معصیتهم لهم.إلی آخر أقوالهم الباطلة و معتقداتهم الفاسدة.

و من فرق الغلاة(الروندیة)الذین قالوا:إن أبا مسلم نبی مرسل یعلم الغیب، أرسله أبو جعفر المنصور.و قالوا:إن المنصور هو اللّه،و أنه یعلم سرّهم و نجواهم.

و أعلنوا القول بذلک،و دعوا إلیه.و لمّا أمرهم المنصور بالرجوع عن قولهم،قالوا:

المنصور ربنا،و هو یقتلنا شهداء کما قتل أنبیاءه و رسله علی ید من شاء من خلقه، و أمات بعضهم فجأة و بالعلل و کیف شاء،و ذلک له یفعل ما یشاء بخلقه لا یسأل عمّا یفعل (1).و کانوا یعینون من انتقلت إلیه روح آدم،فیقولون:انتقلت إلی فلان رجل من کبارهم،و أن ربهم الذی یطعمهم و یسقیهم هو المنصور،و أن جبرائیل هو فلان- رجل آخر منهم-و لمّا ظهروا أتوا قصر المنصور،فطافوا حوله،و قالوا:هذا قصر ربنا (2).

إذا،فإن حقیقة أفکار الغلاة تقوم علی بواعث مختلفة و أغراض عدیدة،لا تمتّ إلی الإسلام و التوحید بصلة،و من الصحة بمکان القول بأن أخطر جماعاتهم و أکثرها

ص:247


1- (1) فرق النوبختی ص 36 و 52 و [1] 53.
2- (2) الفخری ص 143. [2]

ضررا هم أولئک الذین استغلوا الصلة بأهل البیت أو انتحلوها،لأن الدخول علی المجتمع الإسلامی من خلال الأئمة و سادة أهل البیت یحدث أثرا سیئا و بلیغا فی کیان المجتمع الإسلامی،و یقرّب هؤلاء الکفرة من تحقیق أغراضهم و تنفیذ مآربهم،فلا عجب أن نری من الأئمة مثل هذا الاهتمام،لأن أمر الغلاة أخافهم و أسهرهم و أفزعهم،فلا بد من مقابلة نشاطهم و ملاحقة أفکارهم دفعا للفتنة و حمایة للعقیدة، فکان تشدیده علی روایة الحدیث،و التأکد من صحة ما یروی عن أهل البیت،و ما صحب ذلک من أقوال له علیه السّلام فی فضحهم و کشف حقیقة دعاواهم فی محبة أهل البیت،إذ یقول علیه السّلام:«...و اللّه لو ابتلوا بنا،و أمرناهم بذلک،لکان الواجب أن لا یتقبّلوه،فکیف و هم یرونی خائفا وجلا استعدی اللّه علیهم،و أبرأ إلی اللّه منهم.

إنی امرؤ ولدنی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و ما معی براءة من اللّه،إن أطعته رحمنی،و إن عصیته عذبنی عذابا شدیدا».

و قال الإمام الصادق لمرازم-و هو جار بشار الشعیری أحد دعاة الألحاد و من الغلاة-«یا مرازم،إن الیهود قالوا و وحدوا اللّه،و إن النصاری قالوا و وحدوا اللّه،و إن بشارا قال قولا عظیما،فإذا قدمت الکوفة فأته و قل له:یقول لک جعفر:یا فاسق،یا کافر،یا مشرک،أنا بریء منک».

قال مرازم:فلما قدمت الکوفة،فوضعت متاعی و جئت إلیه و دعوت الجاریة، و قلت قولی لأبی إسماعیل،هذا مرازم،فخرج إلیّ.فقلت له:یقول لک جعفر بن محمد«یا کافر یا فاسق یا مشرک أنا بریء منک».

فقال بشار:و قد ذکرنی سیدی؟قال:قلت:نعم ذکرک بهذا الذی قلت لک.

فقال:جزاک اللّه خیرا،و جعل یدعو لی (1).

لقد أراد الإمام الصادق أن یحفظ تراث أهل البیت أیضا إلی جانب حمایة العقیدة،فعمل علی ترسیخ قاعدة الروایة عن أهل البیت بشروطها فقال:«فاتقوا اللّه و لا تقبلوا ما خالف قول ربنا و سنّة نبینا صلّی اللّه علیه و آله و سلّم».و هی القاعدة التی قام علیها منهاج

ص:248


1- (1) انظر الجزء الرابع من الکتاب،فصل مشکلة الغلاة.و فیه ذکر رؤسائهم،و عوامل نشأة حرکاتهم، و بحث جوانب النقص فی دراسة حرکة الغلاة من قبل المؤرخین،و موقف الشیعة و أئمتهم من المغالین،و غیرها من النقاط.

مدرسته فی العلم و الحدیث،و التزمت بها التزاما شدیدا.و قد قال علیه السّلام مرارا و تکرارا:«حدیثی حدیث أبی،و حدیث أبی حدیث جدّی،و حدیث جدّی حدیث علی بن أبی طالب أمیر المؤمنین،و حدیث علی أمیر المؤمنین حدیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و حدیث رسول اللّه قول اللّه عز و جل».

أضواء من سیرته علیه السّلام

:

قدّمنا فیما سبق نظرة إجمالیة لحوادث عصره أو أهمها مما یتعلق بمنهجه الفکری و مسئولیاته الدینیة و مهامه المتعددة،و نقتبس الآن بعض الأضواء من سیرته علیه السّلام و نقدم شیئا من الجوانب التی تتصل بالجانب الاجتماعی أو النشاط العام،و العلاقة بین نظرة الفرد المسلم إلی موقعه فی المجتمع،و بین تکوینه الدینی و بنائه الأخلاقی.

لقد عرف الإمام الصادق بحسن البیان و نفاذ البصیرة و کرم الأخلاق و صدق الحدیث،و اتجه إلی الفرد و المجتمع،و عنی بالأوضاع الاجتماعیة و الخلقیة، و معالجة ما یعانی منه المجتمع،و تهیئة وسائل الإعداد و التربیة السلوکیة و الفکریة، و خلق المناسبات للوعظ و النصح و الإرشاد.و کان مقصده یتخلّص فی قوله علیه السّلام:

«أن یسلم الناس من ثلاثة أشیاء کانت سلامة شاملة:لسان السوء،ید السوء،و فعل السوء».

و کان إقبال الناس علیه لانتهال العلم،و اختلافهم إلی مجلسه قد هیأ مناخا دائما للدعوة،و العمل علی إبراز الجوانب المهمة التی تتکون منها شخصیة المسلم.و من جوانب عظمة شخصیة الإمام الصادق و تمیّزه فی نهجه الإصلاحی و مسیرته الدینیة، مباشرته ما یدعو إلیه من مکارم الأخلاق بنفسه،و عمل ما یراه و یحضّ الآخرین علی عمله،و ممارسته فی الحیاة،فهو بذلک کان بحق المصلح الاجتماعی العظیم، و المرشد الدینی الکبیر.فجعل من نفسه قدوة لیحفّز الآخرین علی اتباعه و الاقتداء بفعله.فکان یحثّ علی العمل،و یعمل بنفسه،و قد تضافرت الأخبار بأنه کان یعمل بیده و یتّجر بماله.

و قد عالج بالدعوة و العمل ظواهر التکاسل و صور الابتعاد عن طلب الرزق،و ما تطور فی المجتمع بتأثیر حب الانقطاع إلی اللّه،و قیام الجدل فی استحباب الانقطاع

ص:249

التام،و ترک مجال العمل و اکتساب الرزق،لأنه یدعو إلی الانشغال،و هو من مقومات الدنیا.و رأی الإمام الصادق أن الإیمان الحق فی أن یغدو المسلم إلی عمله کل یوم،و یکدّ فی تحصیل رزقه،و أن یقوم بدوره فی هذه الحیاة،و یری أن قیمة الإنسان فی عمله،إذ لم یرض للمسلم البطالة و ترک العمل،و کل ما یدعو إلی الاستهانة بالشخص و تحقیره.و فی الحدیث:«ملعون ملعون من ألقی کلّه علی الناس،ملعون ملعون من ترک من یعول به».و قد قرن الإسلام العمل لطلب الرزق للولد و للعیال بما یصلحهم بالجهاد فی سبیل اللّه.

قال الإمام علی علیه السّلام:«ما غدوة أحدکم للجهاد فی سبیل اللّه بأعظم من غدوة من یطلب لولده و عیاله ما یصلحهم».

و کان الإمام الصادق یروی ما کان جدّه الإمام زین العابدین یفعله و یقول:«کان علی بن الحسین إذ أصبح خرج غادیا فی طلب الرزق،فقیل له:یا ابن رسول اللّه أین تذهب؟ فقال:أتصدّق لعیالی.

قیل له:أ تتصدّق؟ قال:من طلب الحلال،فهو من اللّه عز و جل صدقة علیه» (1).

و کان علیه السّلام یروی قول جده الإمام زین العابدین علیه السّلام:«ضمنت علی ربی ألا یسأل أحد من غیر حاجة إلا اضطرّته المسألة إلی أن یسأل عن حاجته».

و کان یخاطب أصحابه:«إیاکم و سؤال الناس،فإنه ذلّ فی الدنیا،و فقر تعجّلونه،و حساب طویل یوم القیامة».

و علی ضوء هذا الإیمان العمیق بالعمل،کان الإمام الصادق یعمل بنفسه لیکون مثالا لغیره.فقد حثّ علی طلب الرزق لیرفع من مستوی أخلاقهم و المحافظة علی القیم الروحیة لدیهم،فکان یسمّی التجارة و دخول السوق بالعزّ،کما یحدّثنا المعلّی بن خنیس قال:رآنی أبو عبد اللّه و قد تأخرت عن السوق،فقال لی:«أغد إلی عزّک».

ص:250


1- (1) فروع الکافی ج 4 ص 12. [1]

و قال لآخر-و قد ترک غدوّه إلی السوق-:«مالی أراک ترکت غدوّک إلی عزّک؟» قال:جنازة أردت أن أحضرها.قال:«فلا تدع الرواح إلی عزّک».

و عن سلیمان بن معلی عن أبیه قال:سأل أبو عبد اللّه عن رجل-و أنا عنده- فقیل:أصابته الحاجة.قال:«فما یصنع الیوم؟»قیل:فی البیت یعبد ربه.قال:«فمن أین قوته؟»قیل:من بعض إخوانه.قال أبو عبد اللّه:«للذی یقوته أشدّ عبادة منه».

و قال لمعاذ-بیّاع الأکسیة عند ما ترک التجارة-:«لا تترکها،فإنّ ترکها مذهبة للعقل،اسع علی عیالک،و إیاک أن یکونوا هم السعاة علیک».

و سأل عن رجل من أصحابه،فقیل:ترک التجارة و قل شیئه.فاستوی الإمام جالسا-و کان متکئا-ثم قال:«لا تدعوا التجارة فتهونوا،اتّجروا بارک اللّه لکم».

و قال معاذ:قلت لأبی عبد اللّه:إنی هممت أن أدع السوق؟فقال:«إذا یسقط رأیک، و لا یستعان بک علی شیء».

یحدثنا أبو عمرو الشیبانی:قال رأیت أبا عبد اللّه الصادق،و بیده مسحاة یعمل فی حائط له،و العرق یتصبّب منه.فقلت:جعلت فداک أعطنی أکفک.فقال:«إنی أحبّ أن یتأذّی الرجل بحرّ الشمس فی طلب المعیشة».

لقد هدف الإمام علیه السّلام إلی أن یزرع حبّ العمل فی نفوس الناس،و أن یدفعهم إلی الاعتماد علی أنفسهم من خلال الشعور بالمسؤولیة.فإنّ التواکل أو الکسل المتعمّد ظاهرة تحط من قیمة الإنسان،و تکشف عن نقص فی مستوی وعیه و إدراکه،و کلما کان المجتمع ینطوی علی قاعدة واسعة من الأفراد الذین یدرکون قیمة العمل و أهمیته فی الرخاء،و تأکید قدرة الفرد و عدم عجزه؛کان ذلک مؤشرا إیجابیا علی مستوی الوعی الذی یسود المجتمع،و مدی تحمل الأفراد لمسؤولیاتهم فی حفظ البلد و الدفاع عن عقائدهم،فالإسلام بنظامه رعی حقوق العامل بما لم تأت به أی نظم أخری.

و علی أی حال فقد کان الإمام الصادق یرکّز علی تجسید ضرورة العمل، و توضیح العلاقة بین الإیمان و بین الإنتاج.و لقد هدف الإمام الصادق إلی أن یحبط روح الکسل،و یقضی علی التواکل،لأنه یری فی الفرد العامل أنموذجا للعضو الصالح الذی یؤکد ذاته و موقعه من خلال ما ینتج للمجتمع بما منحه اللّه تعالی من موهبة و حباه من نعمة.و إیضاحا للمقام،و زیادة للمعلومات،نسوق بعض القضایا التی تبعث فی روح المسلم نشاطا لمواصلة عمله علی ضوء سیرة الإمام الصادق علیه السّلام:

ص:251

خرج الإمام الصادق فی یوم شدید الحر،فاستقبله عبد الأعلی-مولی آل سام- فی بعض طرق المدینة فقال:یا ابن رسول اللّه حالک عند اللّه عز و جل،و قرابتک من رسول اللّه،تجهد نفسک فی مثل هذا الیوم!!! فقال علیه السّلام:«یا عبد الأعلی خرجت فی طلب الرزق لأستغنی عن مثلک».

فهو علیه السّلام یضرب لعبد الأعلی المثل الأعلی فی إعزاز النفس الذی یحققه المسلم من وراء العمل،و فی نفس الوقت یعکس أولا أهمیة اعتماد المسلم و استغنائه عن الآخرین مهما کانت منزلته و عظمة رتبته.

و ثانیا:إن استغلال الفرد و کسبه لرزقه یؤکد عزّة نفسه،و یحفظ کرامته،و یعیش سعیدا لا یذلّ لأحد،و لا یستهین بکرامته أحد.

و قد کانت الفترة التی مرّ بها الإمام الصادق قد شهدت نوعا من التطور الفکری الذی نجم عن التفاعل و الحوار بین الحضارات القدیمة و بین الفکر الإسلامی،و أخذ الوضع الاقتصادی بالتدهور نتیجة سیاسة القمع و الضرائب و النهب التی مارسها الحکام لسدّ متطلبات بذخهم و لهوهم،و کذلک الولاة فقد أجهدوا الرعیة یأخذ الأموال من غیر حقها،کما بیّنا ذلک.

و الإمام الصادق فی ذلک العصر حاول أن یقود الأمة إلی کل خیر،و فی هذا المجال بالذات یبذل جهده بأن یجعل من الفرد المسلم فردا متمکنا متجاوزا عوائق الضیق و آلام الفاقة،فقام بتوعیة الناس لمباشرة العمل و تحبیبه للنفوس،و بتنمیة الشعور بالمسؤولیة لکی لا تلجیء الظروف أولئک الأفراد-الذین فقدوا خیرات بلادهم-إلی الاضطرار للاستجداء من السلطة و الرکوع علی أعتابها و الخنوع لها تحت وطأة قسوة ظروف الحیاة و مرارة الجوع.

عن هشام بن سالم قال:کان أبو عبد اللّه إذا أعتم اللیل و ذهب شطره،أخذ جرابا فیه خبز و لحم و دراهم،فحمله علی عنقه،ثم ذهب به إلی أهل الحاجة من أهل المدینة،فقسّم فیهم و لا یعرفونه،فلما مضی أبو عبد اللّه علیه السّلام فقدوا ذاک،فعلموا أنه کان أبا عبد اللّه علیه السّلام.

ص:252

و عن المعلی بن خنیس (1)قال:خرج أبو عبد اللّه علیه السّلام فی لیلة قد رشت -أمطرت-و هو یرید ظلة بنی ساعدة،فاتبعته،فإذا هو قد سقط منه شیء فقال:

«بسم اللّه اللهم ردّه علینا».قال:فأتیته فسلّمت علیه.

قال:فقال:«معلی»:قلت:نعم جعلت فداک.فقال لی:«التمس بیدک فما وجدت من شیء فادفعه إلی»فإذا أنا بخبز منتشر کثیر،فجعلت أدفع إلیه ما وجدت، فإذا أنا بجراب أعجز عن حمله.فقلت:جعلت فداک،أحمله علی رأسی؟فقال:

«لا،أنا أولی به منک،و لکن امض معی»قال:فأتینا ظلة بنی ساعدة،فإذا نحن بقوم نیام،فجعل یدسّ الرغیف و الرغیفین حتی أتی علی آخرهم،ثم انصرفنا.فقلت:

جعلت فداک یعرف هؤلاء الحق؟فقال:«لو عرفوه لواسیناهم بالدقة-و الدقة هی الملح-إن اللّه تبارک و تعالی لم یخلق شیئا إلا و له خازن یخزنه،إلا الصدقة،فإنّ الرب یلیها بنفسه،و کان أبی إذا تصدق بشیء وضعه فی ید السائل،ثم ارتدّه منه، فقبّله و شمّه ثم ردّه فی ید السائل» (2).

و إزاء ظاهرة ابتعاد کثیرین عن العمل،و انزوائهم فی بیوتهم منقطعین للعبادة مع تفاقم أزمة العیش،کان علیه السّلام یفضّل العامل علی ذلک الفرد المنزوی و المنقطع إلی العبادة.فعند ما قیل له:أن رجلا قال لأقعدنّ فی بیتی،و لأصلینّ و لأصومنّ و لأعبدنّ اللّه،فأما رزقی فسیأتینی.

فقال علیه السّلام:«هذا أحد الثلاثة الذین لا یستجیب اللّه دعاءهم».

فالإمام رغم معرفته بأهمیة العبادة،إلا أنها لا تجوز إلا فی موقعها فی حیاة الفرد المؤمن،بحیث تکون صلة المؤمن بربّه و هویته و سلوکه.و هویة المؤمن العزّة، و سلوکه العطاء و العمل.

یقول إسماعیل بن جابر (3)أتیت أبا عبد اللّه،و إذا هو فی حائط(بستان)له، و بیده مسحاة،و هو یفتح بها الماء.

ص:253


1- (1) مولی الإمام الصادق [1]قتله داود بن علی العباسی-والی المدینة-فغصب الإمام الصادق،و [2]دعا علی الوالی،فسمعت الصیحة فی داره.انظر الجزء الثانی من الکتاب.
2- (2) فروع الکافی ج 4 ص 8 و 9. [3]
3- (3) ذکره الشیخ فی الفهرست،و قال:له کتاب ذکر سنده.

و عن الفضل بن أبی قرة (1)قال:دخلنا علی أبی عبد اللّه فی حائط له،و بیده مسحاة یفتح بها الماء،و علیه قمیص،و کان یقول:«إنی لأعمل فی بعض ضیاعی، و إن لی من یکفینی،لیعلم اللّه عز و جل أنی أطلب الرزق الحلال».

و کان علیه السّلام یرمی إلی حمل الناس علی الخلال الطیبة و الأخلاق الکریمة لیقوم ذلک المجتمع الذی تسوده قیم التکافل و الإخاء الدینی.فقال علیه السّلام لبعض جلسائه:

«أ لا أخبرک بشیء یقرّب من اللّه،و یقرّب من الجنة،و یباعد من النار؟»فقال:بلی.

قال علیه السّلام:«علیک بالسخاء،فإن اللّه خلق خلقا برحمته لرحمته،فجعلهم للمعروف أهلا و للخیر موضعا،و للناس وجها یسعی إلیهم لکی یحیوهم کما یحیی المطر الأرض المجدبة،أولئک هم المؤمنون بالآخرة،الآمنون یوم القیامة».

لقد کان الإمام الصادق علیه السّلام مثالا کاملا لدعاة الإصلاح،و علما شامخا من أعلام رجال الصلاح،فهو یأمر بالأخلاق الفاضلة و السجایا الحمیدة،و اکتساب الفضائل،و الابتعاد عن الرذائل،فکان من مأثور أقواله:«بنی الإنسان علی خصال، فما بنی علیه أنه لا یبنی علی الخیانة و الکذب» (2).

و لا یدخر علیه السّلام النصح عن أحد،و هو من أعظم القادة الذین تحتل سیرتهم مکانة مهمة تنعکس آثارها علی الناس و المؤمنین فی ظل دعواتهم إلی الخیر،و علی مرّ التاریخ.

کان من أهم العوامل الحیویة فی إنجاح الدعوات و استمرارها هو الإیمان المطلق بالمبادئ،و مبادرة القادة للالتزام بها فی خط من التوافق التام بین الدعوة و السلوک،و لقد کان سلوک حملة رسالة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و انتشار الإسلام و اتساع رقعته دلیلا حیا علی إیمانهم العظیم بالدعوة،و من خلال هذا الترابط بین سلوکیة القادة و موقف الناس یمکن أن نلحظ علی مدی المراحل التاریخیة تأثیر الرجال البارزین فی نفوس الآخرین،و انجذابهم إلی صفوف الدعوة.

و قد عرف عن الإمام الصادق أقواله الجامعة و توجیهاته الشاملة التی تنیر الطریق و تهدی إلی الرشاد،و التی تؤثر فی نفوس و سلوک أصحابه.

ص:254


1- (1) التفلیسی من أصحاب الإمام الصادق، [1]انتقل إلی إرمینیا.له کتاب ذکره الشیخ فی الفهرست.
2- (2) حلیة الأولیاء ج 1 ص 194.

یقول علیه السّلام:«الصلاة قربان کل تقی،و الحج جهاد کل ضعیف،و زکاة البدن الصیام،و الداعی بلا عمل کالرامی بلا وتر».

و جاء فی وصیته علیه السّلام لعبد اللّه بن جندب:«یا ابن جندب،لو أن شیعتنا استقاموا؛لصافحتهم الملائکة،و لأظلّهم الغمام،و لأکلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم،و لما سألوا اللّه شیئا إلا أعطاهم.یا ابن جندب بلّغ معاشر شیعتنا و قل لهم لا تذهبنّ بکم المذاهب،فو اللّه لا تنال ولایتنا إلا بالورع و الاجتهاد فی الدنیا،و مواساة الإخوان،و لیس من شیعتنا من یظلم منا بریا».

و قد بیّنا فی عدة مواضع ما یکشف لنا طرفا من الجوانب المهمة من جوانب شخصیة الإمام الصادق علیه السّلام و قیامه بالدعوة للإسلام،و التقیّد بتعالیمه،و العمل بأوامره و نواهیه،و الالتزام بالسیر علی نهج هداه و نور عقیدته فکان التطابق بین المبادئ و بین السلوک من أهم صفات حیاته،رغم أن أوضاع عصره تبعث الاضطراب فی الحیاة لاشتداد الصراع الفکری و السیاسی.و قد اهتزت أفکار الناس،فوقف موقف البطل المؤمن بعقیدته،الذی أعاد بموقفه التوازن فی الفکر و السلوک لأفراد الأمة و المجتمع،و خفف من الضغوط و الأخطار التی تهدد وجودهما.فقد عانی المجتمع فی هذه المرحلة،و تعرّضت الأمة الإسلامیة خلالها إلی سیاسات أنهکت الرعیة،و إلی حملات معادیة مختلفة اللبوس و الإشکال.و الخلاصة فإن مجمل العوامل التی واجهت الأمة،و تعرّض لها المجتمع الإسلامی کانت کافیة لانتشار القلق و الاضطراب و توغّل جذورهما،حتی أن الناظر إلی الأحداث-و لو ببساطة و عجالة- یلحظ أن فوق عناصر القلق و مظاهر الاضطراب تنمو و ترتفع صور لحرکة العلم و الدعوة الإسلامیة تطغی علیها و تکاد تخفیها،و بصور الدعوة الدینیة و مظاهر الحرکة العلمیة یتمثل موقف الإمام الصادق علیه السّلام و بروزه فی مجتمعه،رغم عداء الملوک له،و عملهم الدائم علی إنهاء ذکره.فکان أن أکتسب من التجارب-مضافا إلی جوهر الإمامة-ما جعله یعیّن طرق تحاشی الأمة ضربات الحکام و تجنّب سیوفهم و رماحهم،و احتل موقعا فی وسط الأحداث هو موقع تکامل و خبرة،فإن فی سیرته تتجسد أعلی مستویات الکفاءة و القیادة،إلی جانب علمه و جهاده.

کان علیه السّلام یحرص علی أن تکون صلته بأصحابه قویة و مؤثرة.فعن صفوان،

ص:255

عن خالد بن نجیح قال:قال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«أقرءوا من لقیتم من أصحابکم السّلام،و قولوا لهم:إن فلان بن فلان یقرئکم السّلام.و قولوا لهم:علیکم بتقوی اللّه عز و جل،و ما ینال به ما عند اللّه،إنی و اللّه ما آمرکم إلا بما نأمر به أنفسنا، فعلیکم بالجد و الاجتهاد،و إذا صلّیتم الصبح و انصرفتم،فبکّروا فی طلب الرزق، و اطلبوا الحلال فإن اللّه عزّ و جل سیرزقکم و یعینکم علیه».

کان فی سیرته و سلوکه یمثل جوانب سامیة من التواضع و البساطة مع عظمته و علو شأنه،و کان یعامل الناس بالعطف و التسامح.کل ذلک کان له تأثیر فی نفوس تلامذته و مریدیه،و قد وقف أمام التیارات السیاسیة یوم اجتاحت البلاد ثورة من جمیع جوانبها،و قد دعاه القادة-کما أسلفنا-إلی تولّی الأمر و إسناد الحکم إلیه،کما أن أبا مسلم الخراسانی کتب له یدعوه بأن یدعو الناس إلی بیعته،و ینتزع الأمر من بنی العباس.فأجابه بقوله:«ما أنت من رجالی،و لا الزمان زمانی».

و قبل ذلک رجعت رسل أبی سلمة الخلاّل بالخیبة عند ما وجّههم بکتاب الدعوة إلی الإمام الصادق بأن یکون الأمر له دون بنی العباس.فکان جوابه أن أحرق الکتاب أمام الرسل،لأنه کان یقدّر أبعاد المعرکة،و ینظر العواقب،و یحاول أن یؤثر فی انفعالات الناس،و یقلل من اندفاعهم علی طریق تؤدی نهایتها إلی تعریض المسلمین إلی الأخطار و دفع الأبریاء إلی الموت.و ذلک لأن الظروف غیر مواتیة،رغم ظاهر مناسبتها و ملائمتها.و سنبحث موضوع موقفه من الثورة مفصلا فی فصل لاحق.

و الغرض،فإن وجوده فی منصب الإمامة و تبوءه موقع القیادة و الإصلاح یجعله أقرب الأطراف إلی حدّ السیوف،و أدناهم إلی شبا الرماح،و هو من أهل البیت الذین ابتلوا بمصالح الرعیة،و جعل فیهم دوام الرسالة المحمدیة.فمن خصوص أعمالهم مناهضة الظلم،و من صمیم دعوتهم رعایة أمور المسلمین،و هم مکلفون بما کتب علیهم و قدّر لهم من وجوه المسئولیة و الأفعال.

فکان علیه السّلام یعمل بوحی ذلک،فلا یری فی ضوء ما یحمله من الأخبار و العلم أن طریق الخلاص فی التعرّض إلی السلطان،بل فی الابتعاد عن مواطن الأذی و موارد الهلکة،و الوقوف بوجه الظلم و الجبارین بوسائل یضمن نفعها،و یؤمن سلامة الناس فیها.

ص:256

کما کان علیه السّلام یشدّد علی وحدة الأمة،و یدعو إلی توثیق روابط الإخوة الإسلامیة و إلی الألفة و التقارب،و ینهی عن التباغض و التباعد،و یحاول تألیف القلوب بمختلف الطرق،و یدرک أثر التکاتف و التآلف.فبذل ماله للقضاء علی کل أسباب الخلاف بین المسلمین و العمل علی جمع صفهم و تآلفهم حرصا علی وحدة الکلمة.

قال أبو حنیفة-و اسمه سعید بن بیان-المعروف بسابق الحاج:(مر بنا المفضّل بن عمر و أنا و ختن لی نتشاجر علی میراث فی الطریق،فوقف علینا ساعة ثم قال لنا:تعالوا إلی المنزل،فأتیناه فأصلح بیننا بأربعمائة درهم،فدفعها إلینا من عنده، حتی إذا استوثق کل واحد منّا صاحبه،قال المفضل:أما إنها لیست من مالی،و لکن أبا عبد اللّه الصادق أمرنی إذا تنازع رجلان من أصحابنا أن أصلح بینهما و أفتدیهما من ماله،فهذا مال أبی عبد اللّه (1).

فکان علیه السّلام یتّخذ السبل العملیة الکفیلة بتحقیق مبادئ الإسلام،و یستعین برجاله لکی یقضی علی عوامل الفرقة و مظاهر الشقاق،و یحقق مبدأه الذی سار علیه فی الإصلاح.و دعا إلی عدم التعاون مع السلطة،فنهی عن المرافعة إلی حکّام اتخذوا السلطة غنیمة یستغلونها لأغراضهم،بعد أن أعلن مقاطعتهم،و صرّح علی ملأ من الناس بأن یرجعوا إلی سلطة الحق و میزان العدل فیما ینشأ بینهم من الخلافات،فإن سلطة الحق مفتوحة الأبواب،و مبادئ الدین لا تعطلها عوائق أو ظروف صعبة،إذ الإیمان یرسم الخطوط العامة لدور المؤمن و القائد علی السواء،فقال علیه السّلام:«أیّما رجل منکم کانت بینه و بین أخ له مماراة فی حق،فدعاه إلی رجل من إخوانکم لیحکم بینه و بین أخیه،فأبی إلاّ أن یرفعه إلی هؤلاء،کان بمنزلة الذین قال اللّه عز و جل فیهم: أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ یَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِکَ یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ ».

و عن عمر بن حنظلة-من أصحاب الإمام الصادق-قال:سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث،فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة أ یحل ذلک؟ قال الإمام الصادق:«من تحاکم إلیهم فی حق أو باطل،فإنما تحاکم إلی

ص:257


1- (1) الکافی ج 2 ص 209 [1] ط 2.

الجبت و الطاغوت المنهی عنه،و ما حکم له به،فإنما یأخذ سحتا و إن کان حقه ثابتا له،لأنه أخذه بحکم الطاغوت،و من أمر اللّه عز و جل أن یکفر به،قال اللّه عز و جل:

یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ ».

قلت:فکیف یصنعان و قد اختلفا؟ قال علیه السّلام:«ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا،و نظر فی حلالنا و حرامنا،و عرف أحکامنا،فلیرضیا به حکما،فإنی قد جعلته علیکم حاکما،فإذا حکم بحکم و لم یقبله منه،فإنما بحکم اللّه استخفّ و علینا ردّ.و الرادّ علینا کافر و رادّ علی اللّه،و هو علی حدّ من الشرک باللّه».

و النوعیة التی هدف الإمام إلیها،و التعبئة التی قام بها کانت تنزع عن السلطة قاعدتها،و تضع الحواجز بینها و بین الناس،و تکشف للمسلمین انغماس الحکّام فی ملاذّهم،و مدی ابتعادهم عن الإسلام و استعدادهم لإنزال الأذی بالمسلمین، و استخدام قوتهم الغاشمة.فقرر الإمام أن یباشر دعوة الحق،و یقوم بإعداد الأمة، و یتبنی مهمة الإصلاح إلی حین استکمال عوامل الثورة-و لأنه لا یری ما یراه الآخرون من ملائمة الظرف-أصرّ علی هذا النهج حمایة لأرواح المسلمین،لأن إعلان الثورة کان یعنی سفک الدماء علی أیدی الحکام الذین یتمتعون بالقوة و یتصفون بالقسوة و لا یتورعون عن انتهاک المحارم و إزهاق الأرواح فی سبیل الحفاظ علی سلطانهم و صیانة ملکهم،ثم إن النفوس امتلأت جراحا،و الأمر کما تبیّنه الأخبار و تعیّنه الآثار، فالإمامة معقودة لرعایة الدین و حمایة العقیدة،و الأحداث تجری علی نماذج من التضحیات،و أمثال من المواقف التی تشحذ الهمم و تؤجج المشاعر،و الخلافة العظمی بإمامتها الروحیة تتبوأ المحل الذی وضعها اللّه فیه.و لکل فترة دور و حال.

و علی ذلک یفسر الإمام الصادق قول اللّه تعالی: ذلِکَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِیَ عَلَیْهِ لَیَنْصُرَنَّهُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فیقول:«إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لما أخرجته قریش من مکة،و هرب منهم إلی الغار،و طلبوه لیقتلوه فعوقب،ثم فی بدر عاقب،لأنه قتل عتبة بن ربیعة و شیبة بن ربیعة و الولید بن عتبة و حنظلة بن أبی سفیان و أبو جهل و غیرهم،فلما قبض رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بغی علیه ابن هند بنت عتبة بن ربیعة بخروجه عن طاعة أمیر المؤمنین علیه السّلام و بقتل ابنه یزید الإمام الحسین علیه السّلام بغیا و عدوانا و قائلا شعرا:

لیت أشیاخی ببدر شهدوا (جزع)الخزرج من وقع الأسل

ص:258

لأهلّوا و استهلّوا فرحا ثم قالوا یا یزید لا تشل

لست من خندف إن لم أنتقم من بنی أحمد ما کان فعل

قد قتلنا القرم من ساداتهم و عدلناه ببدر فاعتدل

ثم قال تعالی:لینصرنه اللّه.یعنی بالقائم المهدی من ولده صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1)».

و من المعلوم أن التقیة کانت من دین الإمام الصادق،جعلها فی مکان من عمله رفیع و بارز لاتقاء شرور الحکام و دفع ظلمهم،إلی ما فیها من الإبقاء علی الصلات بالأولیاء الحقیقیین الذین یتخذهم المسلمون بإیمان و نص من دین اللّه،و إلا فإن الحدیث عن بنی العباس صریح تصرخ به أفعالهم و تصرّح به سیاستهم.

و فی سیرة الإمام الصادق تتمثل أیضا الأعمال التی علی المصلح الدینی أن یقوم بها،و الاتجاه إلی الإصلاح بالعمل الدینی یقود إلی الإصلاح الاجتماعی و الأخلاقی، و قد قلنا أن الإمام الصادق کان یقرن دعوته بصور عملیة حیث یبادر بنفسه إلی العمل لکسب الرزق،و یکفّ نفسه عمّا نهی اللّه عنه،فیجد المسلم فی سلوک الإمام تطابقا تاما و ائتلافا کاملا یجسّد العقائد و المبادئ و الأفکار التی یدعو إلیها،فیطمئن الناس إلی صدق النیة،و یقبلون علی عالم من القول و العمل فیه القربة إلی اللّه لنیل رضاه و فیه السلامة فی الدنیا لنیل السعادة.

سئل علیه السّلام عن قوله تعالی: فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ؟فقال:«إن اللّه سبحانه یقول للعبد یوم القیامة:عبدی،أ کنت عالما؟فإن قال:نعم.قال له:أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال:کنت جاهلا.قال:أ فلا تعلّمت حتی تعمل؟فیخصم.فتلک الحجة...»ا ه.

و یسعی الإمام الصادق علیه السّلام إلی معالجة الشذوذ فی التصرفات التی تحدث بدافع الجهل،فإن کانت لأجل الإساءة إلی الدین و الطعن فی العقائد،فإنها تدخل فی جملة القضایا و الأعمال التی یستهدفها جهده علیه السّلام فی حملة فکریة و عقلیة یقابل بها أفکار الزندقة و الألحاد و أهل الأهواء و الآراء.و إذا تحدّث جمع بین التفسیر و الوعظ و الوقائع.و إلیک ما یضمّ خلاصة ما قدمناه.

ص:259


1- (1) ینابیع المودة [1]للحافظ سلیمان بن إبراهیم القندوزی الحنفی ص 510.

قال علیه السّلام فی قوله عز و جل: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ «یقول:أرشدنا للزوم الطریق المؤدی إلی محبتک،و المبلّغ إلی جنتک من أن نتّبع أهوائنا فنعطب،و نأخذ بآرائنا فنهلک،فإن من اتبع هواءه و أعجب برأیه کان کرجل سمعت غثاء الناس تعظّمه و تصفه،فأحببت لقاءه من حیث لا یعرفنی لأنظر مقداره و محله،فرأیته فی موضع قد أحدق به جماعة من غثاء العامة،فوقفت منتبذا عنهم،متغشیا بلثام أنظر إلیه و إلیهم،فما زال یراوغهم حتی خالف طریقهم و فارقهم،و لم یقرّ،فتفرّقت جماعة العامة عنه لحوائجهم،و تبعته أقتفی أثره،فلم یلبث أن مرّ بخباز،فتغفله فأخذ من دکانه رغیفین مسارقة،فتعجبت منه،ثم قلت فی نفسی:لعله معامله.ثم مرّ بعده بصاحب رمان،فما زال به حتی تغفله فأخذ من عنده رمانتین مسارقة،فتعجبت منه،ثم قلت فی نفسی:لعله معامله.ثم أقول:و ما حاجته إذا إلی المسارقة؟ثم لم أزل أتبعه حتی استقرّ فی بقعة من صحراء.فقلت له:یا عبد اللّه لقد سمعت بک،و أحببت لقاءک،فلقیتک لکنی رأیت منک ما شغل قلبی،و إنی سائلک عنه لیزول به شغل قلبی.

قال:ما هو؟ قلت رأیتک مررت بخباز و سرقت منه رغیفین،ثم بصاحب رمان فسرقت منه رمانتین؟ فقال لی:قبل کل شیء حدثنی من أنت؟ قلت:رجل من ولد آدم من أمة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

قال:حدثنی ممن أنت؟ قلت:رجل من أهل بیت رسول اللّه.

قال:أین بلدک؟ قلت:المدینة.

قال:لعلک جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن أبی طالب علیهم السّلام.

قلت:بلی.

قال لی:فما ینفعک شرف أصلک مع جهلک بما شرّفت به،و ترکک علم جدک و أبیک،لأنه لا ینکر ما یجب أن یحمد و یمدح فاعله.

ص:260

قلت:ما هو؟ قال:القرآن کتاب اللّه.

قلت:و ما الذی جهلت؟ قال:قول اللّه عز و جل: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّیِّئَةِ فَلا یُجْزی إِلاّ مِثْلَها و إنی لمّا سرقت الرغیفین،کانت سیئتین.و لمّا سرقت الرمانتین،کانت سیئتین.فهذه أربع سیئات.فلمّا تصدّقت بکل واحد منها کانت أربعین حسنة،أنقص من أربعین حسنة أربع سیئات،بقی ست و ثلاثون.

قلت:ثکلتک أمک،أنت الجاهل بکتاب اللّه،أ ما سمعت قول اللّه عز و جل:

إِنَّما یَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِینَ إنک لمّا سرقت رغیفین،کانت سیئتین،و لما سرقت الرمانتین کانت سیئتین.و لما دفعتها إلی غیرها من غیر رضا صاحبها کنت إنما أضفت أربع سیئات إلی أربع،و لم تضف أربعین حسنة إلی أربع سیئات.فجعل یلاحینی،فانصرفت و ترکته» (1).ا ه.

الشذوذ فی الأعمال استدعی من الإمام ما رأیناه من ملاحظة و تتبع،أما الوجه الآخر فهو الجهل الحقیقی الذی یدور بین الناس علی شکل أشخاص یدّعون العلم بالکتاب و الفهم بالدین،و هو وجه یسبب أخطارا و أخطاء تجرّئ الناس علی النصوص و الأحکام،و تضع عراقیل تؤثر فی سیر دعوة الإمام الصادق.

و یروی للإمام الصادق تعقیب یبیّن ما ترتّب علی ذلک من أضرار فی تاریخ الإسلام،فیقول علیه السّلام:«بمثل هذا التأویل القبیح المستکره یضلّون و یضلّون..» فقد لجأ الظالمون و البغاة إلی مثل ذلک و أباحوا لأنفسهم التقوّل علی اللّه،و الکذب علی النبی الکریم.

لقد اهتم الإمام الصادق بالأصحاب الذین ینقلون عنه الحدیث،و بالأقارب الذین یعملون بنهجه فی طبقات المجتمع،و یجنّدون أنفسهم لدعوة الإصلاح و التمسّک بالدین،و یعنی بطریقة مخاطبتهم الناس،و أسلوب حملهم علی العمل بالفرائض و الأحکام.قال الإمام الصادق لأحد أصحابه:«وضع الإسلام علی سبعة أسهم:علی الصبر و الصدق و الیقین و الرجاء و الوفاء و العلم و الحلم.ثم قسم ذلک

ص:261


1- (1) معانی الأخبار للصدوق و الاحتجاج. [1]

بین الناس،فمن جعل فیه هذه السبعة الأسهم فهو کامل الإیمان محتمل،و قسم لبعض الناس السهم،و لبعض السهمین،و لبعض الثلاثة أسهم،و لبعض الأربعة أسهم،و لبعض الخمسة أسهم،و لبعض الستة أسهم.فلا تحملوا علی صاحب السهم سهمین،و علی صاحب السهمین ثلاثة أسهم،و علی صاحب الثلاثة أربعة أسهم،و لا علی صاحب الأربعة خمسة أسهم،و لا علی صاحب الخمسة ستة أسهم،و لا علی صاحب الستة سبعة أسهم،فتثقلوهم و تنفّروهم،و لکن ترفّقوا بهم،و سهّلوا لهم المداخل.و سأضرب لک مثلا تعتبر به:إنه کان رجل مسلم،و کان له جار کافر(و فی روایة نصرانی)و کان الکافر یرفق بالمؤمن،فأحب المؤمن للکافر الإسلام،و لم یزل یزیّن الإسلام و یحببه إلی الکافر حتی أسلم،فغدا علیه المؤمن فاستخرجه من منزله، فذهب به إلی المسجد لیصلی معه الفجر فی جماعة،فلمّا صلّی قال له:لو قعدنا نذکر اللّه عز و جل حتی تطلع الشمس.فقعد معه،فقال له:لو تعلمت القرآن إلی أن تزول الشمس و صمت الیوم کان أفضل.فقعد معه و صام حتی صلی الظهر و العصر.

فقال له:لو صبرت حتی تصلی المغرب و العشاء الآخرة.ثم نهضا و قد بلغ مجهوده، و حمل علیه ما لا یطیق.فلما کان من الغد،غدا علیه و هو یرید به مثل ما صنع بالأمس،فدق علیه بابه،ثم قال:أخرج حتی تذهب إلی المسجد.فأجابه:أن انصرف عنی،فهذا دین لا أطیقه» (1).

و عن عقبة بن خالد (2):دخلت أنا و المعلاّ و عثمان بن عمران علی أبی عبد اللّه علیه السّلام فلما رآنا قال:«مرحبا مرحبا بکم،وجوه تحبّنا و نحبّها،جعلکم اللّه معنا فی الدنیا و الآخرة»فقال له عثمان:جعلت فداک.فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:

«نعم مه»قال:إنی رجل موسر،فقال له:«بارک اللّه لک فی یسارک»و قال:و یجیء الرجل فیسألنی الشیء،و لیس هو إبان زکاتی.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«القرض عندنا بثمانیة عشر،و الصدقة بعشرة،و ما ذا علیک إذا کنت کما تقول لا تردّه،فإن ردّه عند اللّه عظیم.یا عثمان،إنک لو علمت ما منزلة المؤمن من ربّه ما توانیت فی حاجته،و من أدخل علی مؤمن سرورا،فقد أدخل علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم» (3).

ص:262


1- (1) الاثنی عشریة فی المواعظ العددیة للحافظ العیناثی الجزینی.
2- (2) عقبة بن خالد الأسدی الکوفی من أصحاب الإمام الصادق.
3- (3) الکافی للکلینی. [1]

و بهذه السیرة و التعالیم یقیم الإمام الصادق واقعا محسوسا و معاشا من الألفة و التعاون و التکافل،و فی کل جانب من حیاته الیومیة علیه السّلام علیه سیماء الدین و صفة الفقه و الدعوة الإسلامیة،فلا غرو أن نجده مهوی أفئدة محبی الحکمة،و مقصد طلاب العلم،کما نجده ملجأ المحتاجین،فهو علیه السّلام لا یکتفی بتهیئة أصحابه و محبیه لأداء ما أمر به الإسلام من حقوق للفقراء،بل یجعل من بیته أیضا المقام الأول الذی تجری فیه تطبیقات أحکام الإسلام و تعالیمه.

جاء إلیه علیه السّلام رجل فقال له:یا أبا عبد اللّه،قرض إلی میسرة.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«إلی غلّة تدرک؟»فقال الرجل:لا و اللّه.قال:«فإلی تجارة تؤوب؟»قال:لا و اللّه.قال:«فإلی عقدة تباع؟»فقال:لا و اللّه.فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«فأنت ممن جعل اللّه له فی أموالنا حقا».ثم دعا بکیس فیه دراهم، فأدخل یده فیه،فناوله منه قبضة.

و یدعو علیه السّلام إلی أن یسعی المؤمن فی حاجة أخیه،و یظهر شدید اهتمامه فی التکاتف و التکافل الذی دعا إلیه الإسلام،و یبیّن جزاء ذلک عند اللّه لیصبح عمل المسلم فی إطار مجتمعه عملا دینیا و له الصفة الشرعیة.فمن أقواله علیه السّلام:«قضاء حاجة المؤمن خیر من عتق ألف رقبة،و خیر من حملان ألف فرس فی سبیل اللّه».

و کذلک قوله علیه السّلام:«لقضاء حاجة امرئ مؤمن أفضل من ألف حجة متقبلة بمناسکها،و عتق ألف رقبة».

و من المعلوم أن الإمام الصادق فی حضّه علی إقامة العلاقات بین المسلمین علی مثل هذه الصورة من التعاون و المساعدة،یعالج فی أعماله و أقواله تلک الظاهرة التی أشرنا إلیها سابقا من الانصراف إلی الأعمال العبادیة،أو الانقطاع عن طلب الرزق تحت تأثیر فهم محدود،أو حالة خاصة،و التی تشمل أیضا أداء المناسک و الأعمال الخیریة بقصد التظاهر و تمدّح الناس و السمعة.و هنا محک هام یضعه الإمام علیه السّلام لتوجیه المجتمع إلی الرفاه و التآلف.

و نری الإمام الصادق یزید فی القول من ذکر المعروف و فضله لیحبب إلی الناس فعل الخیر و یشیعه بینهم،و هو یبدأ بالدعوة إلی المعروف بدون تقییده،فیقول علیه السّلام داعیا أصحابه:«اصنع المعروف إلی کل أحد،فإن کان أهله و إلا فأنت أهله».

ثم یتّجه فی دعوته إلی عمل المعروف بین المؤمنین فیقول:«أیما مؤمن أوصل إلی أخیه المؤمن معروفا،فقد أوصل ذلک إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم».

ص:263

و من صور حثّه علی المعروف قوله علیه السّلام:«لیس شیء أفضل من المعروف إلا ثوابه».

ثم یضع الإمام الصادق لهذا العمل-الذی یکشف عن حب الخیر فی نفس المؤمن،و عن روح المحبة فی صدر المسلم-شروطا،فیری أن المعروف لا یصلح إلا بثلاث خصال:«تصغیره فی ستره،و تعجیله،فإن المسلم إذا صغّره عظّمه عند من صنعه إلیه،و إذا ستره تمّمه،فإذا عجله هنأه،و إن کان غیر ذلک محقه و نکده» (1).

أما الزکاة فإن الإمام الصادق علیه السّلام فیما استفاض عنه من أخبار یشرح وجوبها و علل فرضها،و یبدأ بمن وجبت علیه لیؤدی ما افترض اللّه علیه.قال علیه السّلام لعمّار بن موسی الساباطی (2):«یا عمار أنت ربّ مال کثیر؟»قال:نعم،جعلت فداک.

قال:«فتؤدی ما افترض اللّه علیک من الزکاة؟»فقال:نعم.قال«فتخرج الحق المعلوم من مالک؟»قال:نعم.قال:«فتصل قرابتک؟»قال:نعم.قال«فتصل إخوانک؟» قال:نعم.فقال«یا عمار إن المال یفنی،و البدن یبلی،و العمل یبقی،و الدیّان حیّ لا یموت.یا عمّار أما أنه ما قدمت فلم یسبقک،و ما أخّرت فلن یلحقک» (3).

و یبیّن الإمام الصادق علّة فرض الزکاة و وجوبها فیقول:«إنما وضعت الزکاة اختبارا للأغنیاء،و معونة للفقراء.و لو أن الناس أدّوا زکاة أموالهم،ما بقی مسلم محتاجا و لا مستغنی بما فرض اللّه عز و جل له،و إن الناس ما افتقروا و لا احتاجوا و لا جاعوا و لا عروا إلا بذنوب الأغنیاء،و حقیق علی اللّه عز و جل أن یمنع رحمته من منع حق اللّه فی ماله.و أقسم بالذی خلق الخلق و بسط الرزق إنه ما ضاع مال فی بر و لا بحر إلاّ بترک الزکاة،و ما صید صید فی بر و لا بحر إلاّ بترک التسبیح فی ذلک الیوم.

و إن أحب الناس إلی اللّه عز و جل أسخاهم کفا،و أسخی الناس من أدّی الزکاة فی ماله،و لم یبخل علی المؤمنین بما افترض اللّه عز و جل لهم فی ماله...»ا ه.

و عن زرارة (4)و محمد بن مسلم (5)أنهما قالا لأبی عبد اللّه علیه السّلام:أ رأیت

ص:264


1- (1) فروع الکافی ج 4 ص 8. [1]
2- (2) من أصحاب الإمام الصادق و الإمام الکاظم.أخواه قیس و صباح کانوا جمیعهم من الثقات.
3- (3) فروع الکافی و [2]من لا یحضره الفقیه للصدوق.
4- (4) زرارة بن أعین الشیبانی من أصحاب الإمام الباقر و الصادق قال النجاشی:(شیخ أصحابنا فی زمانه و متقدمهم.قد اجتمعت فیه خلال الفضل و الدین)ابنه محمد ثقة روی عنه جماعة.
5- (5) محمد بن مسلم بن رباح أبو جعفر الأوقص الطحّان فقیه ثقة.من أصحاب الباقر و الصادق.

قول اللّه عز و جل: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ وَ الْعامِلِینَ عَلَیْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِی الرِّقابِ وَ الْغارِمِینَ وَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ فَرِیضَةً مِنَ اللّهِ أ کلّ هؤلاء یعطی و إن کان لا یعرف؟فقال:«إن الإمام یعطی هؤلاء جمیعا لأنهم یقرّون له بالطاعة».قال زرارة:

قلت:فإن کانوا لا یعرفون؟فقال:«یا زرارة،لو کان یعطی من یعرف دون من لا یعرف، لم یوجد لها موضع.و إنما یعطی من لا یعرف لیرغب فی الدین،فیثبت علیه،فأما الیوم فلا تعطها أنت و أصحابک إلا من یعرف،فمن وجدت من هؤلاء المسلمین عارفا؛فأعطه دون الناس»ثم قال:«سهم المؤلفة قلوبهم و سهم الرقاب عام،و الباقی خاص»قال:

قلت:فإن لم یوجدوا؟قال:«لا تکون فریضة فرضها اللّه عز و جل،و لا یوجد لها أهل» قال:قلت:فإن لم تسعهم الصدقات؟قال فقال:«إن اللّه عز و جل فرض للفقراء فی مال الأغنیاء ما یسعهم،و لو علم أن ذلک لا یسعهم لزادهم،إنهم لم یؤتوا من قبل فریضة اللّه عز و جل،و لکن أوتوا من قبل من منعهم حقهم،لا مما فرض اللّه لهم،و لو أن الناس أدّوا حقوقهم لکانوا عائشین بخیر،فإما الفقراء فهم أهل الزمانة و الحاجة،و المساکین أهل الحاجة من غیر الزمانة،و العاملون علیها هم السعاة،و سهم المؤلفة قلوبهم ساقط بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و سهم الرقاب یعان به المکاتبون الذین لا مأوی له و لا مسکن،مثل:

المسافر الضعیف و مارّ الطریق.و لصاحب الزکاة أن یضعها فی صنف دون صنف متی لم یجد الأصناف کلها»ا ه.

و عن عمار الساباطی قال:قال لی أبو عبد اللّه علیه السّلام«یا عمار الصدقة و اللّه فی السرّ أفضل من الصدقة فی العلانیة،و کذلک و اللّه العبادة فی السرّ أفضل منها فی العلانیة».

و قال علیه السّلام:«إن الصدقة تقضی الدین،و تخلف البرکة».

و تضعنا أقوال الإمام الصادق إزاء الغرض الذی یسعی إلیه،و یعمل من أجل تحقیقه،و هو صورة المجتمع المسلم الذی تنفّذ فیه أحکام الإسلام و تطبّق تعالیمه، و هو علیه السّلام فی طریقة الدعوة و أسلوب الحثّ علی هدی آبائه الطیبین فی البناء و الصیاغة،فنراه یقول لیحبّب الصدقة و یحفّز علی التصدّق:«إن الصدقة تدفع میتة السوء عن الإنسان».

ثم یسوق هذه الحادثة:«مرّ یهودی بالنبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقال:السام علیک.فقال له رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علیک.فقال أصحابه:إنما سلم علیک بالموت؟قال:الموت علیک.قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:کذلک رددت علیه.ثم قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إن هذا الیهودی یعتضّه

ص:265

أسود (1)فی قفاه،فیقتله.قال:فذهب الیهودی،فاحتطب حطبا کثیرا،فاحتمله،ثم لم یلبث أن انصرف.فقال له رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ضعه.فوضع الحطب،فإذا أسود فی جوف الحطب عاضّ علی عود.فقال:یا یهودی ما عملت الیوم؟قال:ما عملت عملا إلا حطبی هذا احتملته و جئت به و کان معی کعکتان،فأکلت واحدة و تصدّقت بواحدة علی مسکین.فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:بها دفع اللّه عنک» (2).

و من وجوه عمله علی سدّ حاجة الفقراء،و ضمان ما یقیم صلبهم بأداء ما أمر به اللّه و دعا إلیه الإسلام،مخاطبته أصحابه بما یرید منهم أن یفعلوه.و هو عند ما یصدر منه،فإن الأصحاب و المحیطین به ینظرون إلی قوله نظرة الأمر،لأنه إمام مفترض الطاعة،و هم بظل إمامته یتفیّئون،و بنهج هداه یعملون،فیخاطبهم علیه السّلام:«بکّروا بالصدقة و رغّبوا فیها،فما من مؤمن یتصدق بصدقة یرید بها ما عند اللّه لیدفع بها عنه شرّ ما ینزل من السماء إلی الأرض فی ذلک الیوم،إلا وقاه اللّه شرّ ما ینزل من السماء إلی الأرض فی ذلک الیوم».

و قال علیه السّلام:«استنزلوا الرزق بالصدقة،و حصّنوا أموالکم بالزکاة» (3).

و بالإسناد عن أبان بن تغلب أنه (4)أمره أن یقطع الطواف،و یذهب إلی رجل أشار إلی أبان لیری حاجته.قلت:فأقطع الطواف؟قال علیه السّلام:«نعم»قلت:و إن کان طواف فریضة؟قال علیه السّلام:«نعم».

قال:فذهبت معه،ثم دخلت علیه بعد،فسألته،فقلت:أخبرنی عن حق المؤمن علی المؤمن؟قال علیه السّلام:«یا أبان،دعه لا تزده».قلت:بلی،جعلت فداک.فلم أزل أردد علیه.

فقال علیه السّلام:«یا أبان أن تقاسمه شطر مالک»ثم نظر إلیّ فرأی ما دخلنی، فقال:«یا أبان،أ ما تعلم أن اللّه عز و جل قد ذکر المؤثرین علی أنفسهم؟»قلت:بلی جعلت فداک.

ص:266


1- (1) الأسود هو العظیم من الحیات.
2- (2) فروع الکافی ج 4 ص 5. [1]
3- (3) حلیة الأولیاء ج 3 ص 195.
4- (4) أبان بن تغلب الربعی من تلامذة الإمام الصادق و أصحابه المقربین.ذکر له ابن الندیم کتاب: معانی القرآن،و القراءات،و کتابا من الأصول علی مذهب الشیعة.

فقال:«إذا قاسمته لم تؤثره بعد،إنما أنت و هو سواء،إنما تؤثر إذا أعطیته من النصف الآخر».

و یقول لأصحابه:«إن صدقة اللیل تطفئ غضب الرب،و تمحو الذنب العظیم،و تهوّن الحساب.و صدقة النهار تثمر المال و تزید فی العمر.إن عیسی بن مریم علیه السّلام لمّا أن مرّ علی شاطئ البحر رمی بقرص من قوته فی الماء.فقال له بعض الحواریین:یا روح اللّه و کلمته لم فعلت هذا و إنما هو من قوتک؟فقال:فعلت هذا لدابة تأکله من دوابّ الماء،و ثوابه عند اللّه عظیم».

و یروی علیه السّلام من أحادیث جدّه النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ذلک الکثیر منها:قال علیه السّلام:

«قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:تصدقوا فإن الصدقة تزید فی المال کثرة».

و قال علیه السّلام:«قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إن اللّه لا إله إلاّ هو لیدفع بالصدقة الداء و الدبیلة (1)و الحرق و الغرق و الهدم،و عدّ سبعین بابا من السوء».

فکیف یتوانی المسلم عن ثواب ذلک و فوائده الدنیویة و الأخرویة و هو یسمع بأذنیه هذه الأحادیث و الأحداث.و یری أمام عینیه مبادرة الإمام إلی تطبیق تعالیم الإسلام،و مباشرته بنفسه سدّ حاجة الناس.و یراعی الإمام مشاعر الناس،و منهم طائفة تری فی أخذ الزکاة حطا من مکانتها،و تخجل أن یکون قبولها إمارة عوز و فقر، فأمر علیه السّلام أن یعطی من یستحیی،و لا تسمّ له الزکاة لکی لا یذلّ المؤمن.

و قال علیه السّلام:«لو یعلم السائل ما علیه من الوزر،ما سأل أحد أحدا.و لو یعلم المسئول إذا منع،ما منع أحد أحدا» (2).

و نضع آخر قبس من سیرته الکریمة علیه أفضل الصلاة و السّلام أمام القارئ الکریم،و فیها جوامع النظرة و مضامین الفکرة.فعن المعلی بن خنیس (3)قال:قلت للإمام الصادق علیه السّلام:ما حق المسلم علی المسلم؟قال:«سبع حقوق و واجبات،

ص:267


1- (1) الدبیلة:الداهیة.فی الصحاح:هی مصغرة للتکبیر یقال(دبلتهم الدبیلة)أی أصابتهم الداهیة.
2- (2) فروع الکافی. [1]
3- (3) أبو عبد اللّه مولی الإمام الصادق،کان مولی لبنی أسد فی الکوفة.قتله داود بن علی والی المدینة،فغضب الإمام الصادق و دعا علی داود بن علی،فما أستتم دعاءه علیه السّلام حتی سمعت الصیحة فی دار داود.

ما منهنّ حقّ إلاّ و هو علیه واجب،إن ضیّع منها شیئا خرج من ولایة اللّه و طاعته،و لم یکن للّه فیه من نصیب»قلت له:جعلت فداک و ما هی؟.قال:«یا معلّی إنی علیک شفیق،أخاف أن تضیّع و لا تحفظ،و تعلم و لا تعمل»قال قلت له:لا قوة إلا باللّه.

قال:«أیسر حق منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسک،و تکره له ما ترکه لنفسک.الحق الثانی:أن تجتنب سخطه،و تتبع مرضاته،و تطیع أمره.و الحق الثالث:أن تعینه بنفسک و مالک و لسانک و یدک و رجلک.و الحق الرابع:أن تکون عینه و دلیله و مرآته.

و الحق الخامس:أن لا تشبع و یجوع،و لا تروی و یظمأ،و لا تلبس و یعری.و الحق السادس:أن یکون لک خادم و لیس لأخیک خادم،فواجب أن تبعث خادمک،فیغسل ثیابه،و یصنع طعامه،و یمهد فراشه.و الحق السابع:أن تبرّ قسمه،و تجیب دعوته، و تعود مریضه،و تشهد جنازته،و إذا علمت أن له حاجة تبادر إلی قضائها،و لا تلجأه أن یسألکها،و لکن تبادره مبادرة.فإذا فعلت ذلک وصلت ولایتک بولایته و ولایتی بولایتک».

و نختم ما یحتمله وسع هذا الفصل بالإشارة إلی تصدّی الإمام الصادق إلی تحقیق هذه الجوانب الحیاتیة التی تستمد من العقیدة بشعور الزعامة الروحیة و قیادة شئون تنفیذ هذه التعالیم،فهو علیه السّلام جعل أمر الحاجة عند المؤمن و مساعدة الضعفاء منهم خاصا به و شأنا یمسّه.

کان عنده جماعة من أصحابه،فقال لهم:«مالکم تستخفّون بنا؟»فقام إلیه رجل من أهل خراسان فقال:معاذ اللّه أن نستخفّ بک أو بشیء من أمرک.

فقال:«إنک أحد من استخفّ بی».

فقال الرجل:معاذ اللّه أن أستخفّ بک.

فقال علیه السّلام:«ویحک أ لم تسمع فلانا-و نحن بقرب الجحفة-و هو یقول لک:

احملنی قدر میل،فقد و اللّه أعییت.فو اللّه ما رفعت له رأسا،لقد استخففت به،و من استخفّ بمؤمن فبنا استخفّ،و ضیّع حرمة اللّه عز و جل».

و بذلک یجعل علیه السّلام إعانة المؤمن و مساعدة الضعیف علی اختلاف وجوههما و أحوالهما متصلا بمنزلته علیه السّلام،و استخدامه لصیغة الجمع تأکید لعظیم هذا الجانب من حیاة المجتمع،و خطر هذا الوجه من العلاقات بین المؤمنین.

ص:268

و إلی هنا نکتفی بما قدمناه من قبسات من سیرة الإمام الصادق،و نظرة سریعة إلی ظروف عصره و أحداثه،فقد ضمّت الأجزاء السابقة من الکتاب مزیدا من البحث و بسطنا فیه القول.

و نتحول الآن إلی مدرسة الإمام الصادق علیه السّلام لنقف علی الجهود العلمیة التی بذلها علیه السّلام و نتعرف علی تفاصیل أخری عن منهج هذه الجامعة الإسلامیة الکبری التی أمّها علماء الأمة من مختلف الأقطار،و تتلمذ فیها کبار الأئمة،و هی المأثرة العظمی و المفخرة الکبری التی تدلل بآثارها و نتائج أعمالها علی دور الإمام الصادق فی حفظ التراث العلمی الإسلامی و إغنائه.

ص:269

ص:270

مدرسة الإمام الصادق

المنهج و التکوین

تتظافر الروایات علی أن عدد الذین تتلمذوا علی الإمام الصادق و انتسبوا إلی مدرسته هو أربعة آلاف طالب من مختلف الأقطار،فقد جمع أصحاب الحدیث أسماء الرواة عنهم من الثقات علی اختلافهم فی الآراء و المقالات فکانوا کذلک،فقد کان علیه السّلام أفضل أهل زمانه،و برز علی أقرانه بالفضل و السؤدد فی الخاصة و العامة، و نقل الناس عنه من العلوم ما لم ینقل عن أحد من أهل بیته (1).

کان الصادق علیه السّلام أفضل الناس و أعلمهم بدین اللّه،و کان أهل العلم الذین سمعوا منه إذا رووا عنه قالوا:أخبرنا العالم (2).قال أبو الحسن الوشّاء:(أدرکت فی جامع الکوفة تسعمائة شیخ من أهل الدین و الورع کلهم یقول:حدثنی جعفر الصادق).و قد کانت الکوفة و المدینة تضمّان أکبر عدد من هؤلاء لانتشار التشیّع فی الکوفة.و لأن المدینة کانت أرض تکوین و مهد دعوته.

و لا نجد من یجرأ علی إنکار مکانة الإمام الصادق فی زمانه و زعامته فی ذلک العصر،و قد عودتنا الأیام أن یکابر الکثیرون و یعاند العدیدون استجذاء للحکام و اتّباعا للأهواء و الأحقاد،لأن الحقائق کانت تقمع ما تطویه دخائلهم و تضمّه جوانحهم،فقد کان بیته و مجلسه علیه السّلام یزدحمان بطلبة العلم و أهل الفقه،یقبلون علی الإمام للانتهال من معین علمه و حکمته،حتی أن الروایات تصف ضیق داره لعظم الوفود و العلماء من مختلف الأقطار،حتی صعب علی أصحابه أن یجدوا لهم مجلسا.

ص:271


1- (1) روضة الواعظین للفتال النیسابوری ج 1 ص 207.
2- (2) تاریخ ابن واضح ج 3 ص 115.

و لم یعرف لأحد غیره مثل هذه الشهرة.فقد کان تلامیذه من العراق و مصر و خراسان و حمص و الشام و حضرموت و غیرها.

و قد تصدّر الإمام الصادق حرکة المجتمع بجدارة،و تزعم الحرکة العلمیة بتفرّد،فقد(نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الرکبان،و انتشر صیته فی جمیع البلدان) (1).و کان ینذر نفسه لهذه الأغراض،و یتّجه إلی الناس قائلا:«سلونی قبل أن تفقدونی،فإنه لا یحدّثکم أحد بعدی بمثل حدیثی» (2).و لذلک:(روی حدیثه خلق لا یحصون) (3).و انتشر فقهه فی الآفاق،و إذا استعصی الحصر و صعب العدّ لتحدید کل من روی عنه علیه السّلام فإن الأربعة آلاف کانوا المتمیزین،و إلا فإن الصورة التی لا تقبل المماراة هی شیوع ذکره بین سائر الناس و علوّ مکانته فی نفوس المسلمین علی مختلف أصنافهم و أجناسهم.و علی ذلک فلا یستغرب أن یعجز الکثیر عن إحصاء کل من نقل عنه أو روی حدیثه علیه السّلام.

ثم حلقات فقهه من أصحابه و تلامذته المقرّبین و عددهم أربعمائة ممن نبهوا فی العلوم و عرفوا بالفقه،و هم رجال مدرسته و هیئتها العلمیة الذین اختصوا بفقه الإمام الصادق،و کانوا من العدالة و الثقة بمکان لا ترقی إلیه سهام الحقد و الحسد،و قد ألّفوا فی فقه الإمام جعفر الصادق و الروایة عنه أربعمائة کتاب،و هی الأصول الفقهیة للمذهب الجعفری (4).

و قد تحرّی الإمام الصادق کفاءة الأصحاب و قدرات المتعلّقین به،و وجّه کلا إلی حیث العمل الذی یتّفق و مواهبه و ینسجم مع استعداده،فکان البعض منهم مختصا بتنفیذ التعالیم التی تتعلق بواقع الأسر و الأفراد،أو تتصل بالظواهر الاجتماعیة و العلاقات.و قد مرّ بنا طرف من هذه المهمات التی توکل إلیهم فی الفصل السابق و الأجزاء السابقة من الکتاب.

أما الناحیة الفکریة-التی تمثل منهج مدرسته-فقد عیّن الإمام الصادق من بین

ص:272


1- (1) الصواعق المحرقة لابن حجر ص 120. [1]
2- (2) تذکرة الحفاظ للذهبی ج 1 ص 157.
3- (3) خلاصة تذهیب الکمال للخزرجی ص 54.
4- (4) انظر التراجم و البحوث الخاصة بهم فی الجزء الثالث و الرابع.

هیئة المدرسة العلمیة الرجال الذین توکل إلیهم المهمات.و تسند شئون المنهج و تطبیقاته،و هی تتجه إلی الأهداف التالیة:

1-مناظرة أهل العقائد الفاسدة.

2-محاربة أهل الألحاد و الزندقة.

3-محاورة أهل الکتاب.

4-مواجهة الفرق الشاذة.

5-مقاتلة الظلمة بشدة الإنکار علیهم و توجیه الانتقاد إلیهم و فضح سیاساتهم.

فجعل أبان بن تغلب للفقه،و أمره أن یجلس فی المسجد فیفتی الناس.و کان أبان بن تغلب من الشخصیات الإسلامیة التی امتازت باتقاد الذهن و وفور العقل و بعد الغور،و الاختصاص بعلوم القرآن،و هو أول من ألف فی ذلک،و کان فقیها یزدحم الناس علی أخذ الفقه عنه،و إذا دخل مسجد المدینة المنورة أخلیت له ساریة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیحدّث الناس،و یسألونه فیخبرهم علی اختلاف الأقوال،ثم یذکر قول أهل البیت،و یسوق أدلته و مناقشته علی طریقة الإمام الصادق علیه السّلام فی الإجابة،إذ کان علیه السّلام أعلم الناس باختلاف الناس و أفقههم (1).

و وکل لحمران بن أعین الأجوبة عن مسائل علوم القرآن.و قد کان أحد حملة القرآن،و ممن یحتج بهم فی القراءات،فهو من القرّاء المشهورین،و ممن یعد و یذکر فی کتب القراءة،و کان عالما بالنحو و اللغة،و هو من عائلة مشهورة فی الکوفة و لهم منزلة.و أخوه زرارة-و قد مرت الإشارة إلیه فی آخر الفصل السابق-أوکل إلیه المناظرة فی الفقه تحت إشراف الإمام الصادق و توجیهه.

و مؤمن الطاق کان للمساجلة فی الکلام.و حمزة بن الطیار للمناظرة فی الاستطاعة و غیرها.و هشام بن الحکم للمناظرة فی الإمامة و العقائد.و کان منهم جماعة یتجوّلون فی الأمصار،أمدّهم الإمام بالأموال.

و تظهر لنا شهادات التاریخ بحق الرجال مکانة الإمام الصادق،و اتجاه الأنظار إلیه،و اختلاف الناس إلی مجلسه علی اختلاف أغراضهم و مقاصدهم.کذلک تبین لنا المصادر أسلوب الإمام و منهجه و توزیع المهمات علی أصحابه و الإشراف علی ما

ص:273


1- (1) انظر مناقب أبی حنیفة للمکی ج 1 ص 173.و جامع مسانید أبی حنیفة لقاضی القضاة الخوارزمی ج 1 ص 222-223.

یدور فی حلقات درسهم و مجالس مناظراتهم.

ورد رجل من أهل الشام،فاستأذن علی الإمام الصادق،و کان معه جماعة من أصحابه،فإذن له.فلما دخل سلّم.فأمره أبو عبد اللّه علیه السّلام بالجلوس ثم قال له:

«حاجتک؟» قال:بلغنی أنک عالم بکل ما تسأل عنه،فصرت إلیک لأناظرک.

فقال علیه السّلام:«فیما ذا؟» قال:فی القرآن و قطعه و خفضه و نصبه و رفعه.

فقال علیه السّلام:«یا حمران دونک الرجل».

فقال:إنما أریدک لا حمران.

فقال علیه السّلام:«إن غلبت حمران فقد غلبتنی».

فأقبل الشامی فسأل حمران حتی ضجر و ملّ،و حمران یجیبه.

فقال علیه السّلام:«کیف رأیته یا شامی؟» قال:رأیته حاذقا،ما سألته عن شیء إلا أجابنی فیه.

فقال علیه السّلام:«یا حمران سل الشامی»فما ترکه یکثر.

فقال الشامی:أرید یا أبا عبد اللّه أن أناظرک فی العربیة.

فقال علیه السّلام:«یا أبان بن تغلب ناظره»فناظره فما ترک الشامی یکثر.

قال الشامی:أرید أن أناظرک فی الکلام.

قال علیه السّلام:«یا مؤمن الطاق ناظره»فسجل الکلام بینهما.ثم تکلم مؤمن الطاق بکلام،فغلبه.

فقال الشامی:أرید أن أناظرک فی الاستطاعة.

فقال علیه السّلام للطیار:«کلّمه فیها».

فکلّمه،فما ترکه یکثر.

فقال الشامی:أرید أن أکلمک فی التوحید.

فقال علیه السّلام لهشام بن سالم:«کلّمه».

فسجل الکلام بینهما،ثم خصمه هشام.

قال الشامی:أرید أن أناظرک فی الفقه.

فقال علیه السّلام:«یا زرارة ناظره».فما ترک الشامی یکثر.

ص:274

قال الشامی:أرید أن أناظرک فی الإمامة.

فقال علیه السّلام لهشام بن الحکم:«کلّمه یا أبا الحکم»فکلّمه فما ترکه یدیم.

فقال الشامی:کأنک أردت أن تخبرنی أن فی شیعتک مثل هؤلاء الرجال.

فقال علیه السّلام:«هو ذاک...یا أخا أهل الشام،أمّا حمران فحرفک،فحرت له، فغلبک بلسانه،فسألک عن حرف الحق،فلم تعرفه.

و أما زرارة فقاسک،فغلب قیاسه قیاسک.

و أما هشام بن الحکم فتکلم بالحق،فما سوّغک ریقک.

یا أخا أهل الشام،إن اللّه تعالی أخذ ضغثا من الحق و ضغثا من الباطل فمغثهما،ثم أخرجهما إلی الناس.ثم بعث أنبیاء یفرّقون بینهما.ففرقتهما الأنبیاء و الأوصیاء،فبعث الأنبیاء لیعرّفوا ذلک،و جعل الأنبیاء قبل الأوصیاء لیعلم الناس من یفضل اللّه و من یختص.و لو کان الحق علی حدة و الباطل علی حدة کل واحد منهما قائم بنفسه،ما احتاج الناس إلی نبی و لا وصی،و لکن اللّه خلطهما و جعل تفریقهما إلی الأنبیاء و الأئمة من عباده».

فقال الشامی:قد أفلح من جالسک.

فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یجالسه جبرئیل و میکائیل و إسرافیل،فیصعد إلی السماء فیأتیه الخبر من عند الجبار،و إن کان ذلک کذلک فهو کذلک» (1).

و عن یونس بن یعقوب قال:کنت عند أبی عبد اللّه علیه السّلام فورد علیه رجل من أهل الشام فقال له:إنی رجل صاحب کلام وفقه و فرائض،و قد جئت لمناظرة أصحابک.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام«کلامک هذا من کلام رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أو من عندک؟»فقال:من کلام رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بعضه،و من عندی بعضه.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«فأنت إذن شریک رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟»قال:لا.قال:«فسمعت الوحی من اللّه؟»قال:لا.قال:«فتجب طاعتک کما تجب طاعة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟» قال لا.قال:فالتفت أبو عبد اللّه علیه السّلام إلیّ،فقال لی«یا یونس بن یعقوب،هذا قد خصم نفسه قبل أن یتکلم».ثم قال:«یا یونس لو کنت تحسن الکلام کلّمته».قال

ص:275


1- (1) رجال الکشی [1]لمحمد بن عمر بن عبد العزیز ص 124.

یونس:فیا لها من حسرة.فقلت:جعلت فداک سمعتک تنهی عن الکلام و تقول:

«ویل لأصحاب الکلام یقولون هذا ینقاد و هذا لا ینقاد،و هذا ینساق و هذا لا ینساق، و هذا نعقله و هذا لا نعقله؟»فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«إنما قلت:ویل لقوم ترکوا قولی،و ذهبوا إلی ما یریدون به».ثم قال:«أخرج إلی الباب فانظر من تری من المتکلمین فأدخله».قال:فخرجت،فوجدت حمران بن أعین-و کان یحسن الکلام-و محمد بن النعمان الأحول(مؤمن الطاق)و کان متکلما،و هشام بن سالم، و قیس الماصر-و کانا متکلمین-فأدخلتهم علیه،فلما استقرّ بنا المجلس کنّا فی خیمة لأبی عبد اللّه علیه السّلام علی حرف جبل فی طرف الحرم،و ذلک قبل أیام الحج بأیام، أخرج أبو عبد اللّه علیه السّلام رأسه من الخیمة،فإذا هو ببعیر یخبّ فقال:«هشام و رب الکعبة».قال:فظننا أن هشاما رجل من ولد عقیل،کان شدید المحبة لأبی عبد اللّه علیه السّلام،فإذا هشام بن الحکم قد ورد و هو أول ما اختطت لحیته،و لیس فینا إلا من هو أکبر سنّا منه،قال:فوسّع له أبو عبد اللّه علیه السّلام و قال:«ناصرنا بقلبه و لسانه و یده»ثم قال لحمران:«کلّم الرجل»-یعنی الشامی-فکلّمه حمران،فظهر علیه.

ثم قال:«یا طاقی کلّمه».فکلّمه،فظهر علیه محمد بن النعمان.

ثم قال:«یا هشام بن سالم»کلّمه،فتعادیا.

ثم قال لقیس الماصر:«کلّمه»فکلّمه.

و أقبل أبو عبد اللّه علیه السّلام یبتسم من کلامهما،و قد استخذل الشامی فی یده، ثم قال للشامی:«کلّم هذا الغلام»-یعنی هشام بن الحکم-فقال:نعم.ثم قال الشامی لهشام:یا غلام سلنی فی إمامة هذا-یعنی أبا عبد اللّه علیه السّلام-فغضب هشام حتی ارتعد،ثم قال له:أخبرنی یا هذا أ ربّک أنظر لخلقه أم هم لأنفسهم؟ فقال الشامی:بل ربی انظر لخلقة.

قال:ففعل بنظره لهم فی دینهم ما ذا؟ قال:کلّفهم و أقام لهم حجة و دلیلا علی ما کلفهم،و أزاح فی ذلک عللهم.

فقال له هشام:فما هذا الدلیل الذی نصبه لهم.

قال الشامی:هو رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

قال له هشام:فبعد رسول اللّه من؟

ص:276

قال:الکتاب و السنّة.

قال له هشام:فهل ینفعنا الیوم الکتاب و السنة فیما اختلفنا حتی یرفع عنّا الاختلاف و مکننا من الاتفاق؟ قال الشامی:نعم.

قال له هشام:فلم اختلفنا نحن و أنت،و جئتنا من الشام تخالفنا،و تزعم أن الرأی طریق الدین،و أنت تقرّ بأن الرأی لا یجمع علی القول الواحد المختلفین.

فسکت الشامی کالمفکر،فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«مالک لا تتکلم».

قال:إن قلت أنّا ما اختلفنا کابرت،و إن قلت أن الکتاب و السنة یرفعان عنا الاختلاف أبطلت،لأنهما یحتملان الوجوه،و لکن لی علیه مثل ذلک.

فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«سله تجده ملیئا».

فقال الشامی لهشام:من أنظر للخلق ربهم أو أنفسهم.

فقال هشام:بل ربهم أنظر لهم.

فقال الشامی:فهل أقام لهم من یجمع کلمتهم و یرفع اختلافهم،و یعیّن لهم حقهم من باطلهم؟ قال هشام:نعم.

قال الشامی:من هو؟ قال هشام:أمّا فی ابتداء الشریعة فرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أما بعد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فغیره.

قال الشامی:و من هو غیر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم القائم مقامه فی حجته.

قال هشام:فی وقتنا هذا أم قبله؟ قال الشامی:بل فی وقتنا هذا.

قال هشام:هذا الجالس-یعنی أبا عبد اللّه علیه السّلام-الذی تشدّ إلیه الرحال، و یخبرنا بأخبار السماء،وراثة عن أب عن جدّ.

قال الشامی:و کیف لی بعلم ذلک؟ قال هشام:سله عما بدا لک.

قال الشامی:قطعت عذری فعلیّ السؤال.

فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«أنا أکفیک المسألة یا شامی،أخبرک عن مسیرک و سفرک:خرجت یوم کذا،و کان طریقک کذا،و مررت علی کذا،و مرّ بک کذا.

ص:277

فأقبل الشامی کلما وصف له شیئا من أمره یقول:صدقت و اللّه.ثم قال له الشامی:أسلمت للّه الساعة.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«بل آمنت باللّه الساعة،إن الإسلام قبل الإیمان،و علیه یتوارثون و یتناکحون،و الإیمان علیه یثابون».

قال الشامی:صدقت،فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا اللّه،و أن محمدا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أنک وصی الأوصیاء.

قال:و أقبل أبو عبد اللّه علی حمران فقال:«یا حمران تجری الکلام علی الأثر،فتصیب»فالتفت إلی هشام بن سالم فقال«ترید الأثر و لا تعرف»ثم التفت إلی الأحول(مؤمن الطاق)فقال:«قیّاس روّاغ».

ثم التفت إلی قیس الماصر فقال:«تتکلم و أقرب ما تکون من الحق و الخبر عن الرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم...»و قلیل الحق یکفی من کثیر الباطل،أنت و الأحوال قفازان حاذقان.

قال یونس بن یعقوب:فظننت و اللّه أنه یقول لهشام قریبا مما قال لهما.فقال:

«یا هشام لا تکاد تقع تلوی رجلیک،إذا هممت بالأرض طرت،مثلک فلیکلّم الناس، اتق اللّه الزلّة و الشفاعة من ورائک» (1).

و یتّضح جلیا أن وقوع هذه المناظرة و ما تشتمل علیه من ملاحظات الإمام الصادق علیه السّلام کان فی مبدأ نهوض مدرسة الإمام الصادق بخططها و تنفیذ نهجها، فإن الإشارة إلی عمر هشام تدلّ علی أول خطوات المدرسة علی طریق العمل العلمی و الفکری الشاق.إذ ینبغی أن نتخیل أحوال تلک الفترة و ما اعتری الأمة الإسلامیة علی مختلف المستویات،فإن النهضة العلمیة و النشاط الفکری خلق موجات من الجدل و تیارات من الکلام لم تخضع لحدود،لأن الحکام من العهدین کانوا یشجعون ألوان النشاط الفکری المتعددة لأغراض تتعلق بمصلحتهم،فما ینجم من تفوق الفکر الإسلامی و امتداد الحرکة العلمیة،یدخل فی إهاب دولتهم و ینطبع بطابعهم.و لمّا بدأ الإمام الصادق سیرته الشریفة بعد تولیه الإمامة جرّد کل ما یستطیع لمعالجة ما یعانی من المجتمع الإسلام و ما یتهدد أمة جده المصطفی علیه أفضل الصلاة و السّلام، و باشر المنهج الروحی و الفکری المعروف عن أهل البیت،و وضع له قواعد من العمل

ص:278


1- (1) الإرشاد للمفید ص 240-243. [1]

و أرکانا.و کان من أهم صفات منهج المدرسة و کلما یتعلق بها من وسائل مادیة و معنویة هو الاستقلال التام عن السلطة و الابتعاد عن مؤثراتها.فرأسها الإمام الصادق علیه السّلام،و موقف الحکام منه معروف،و موقفه من ظلمهم و بطشهم من أبرز ملامح تاریخ الشیعة فی تلک الفترة.أما رجال هذه المدرسة فهم أنصار أهل البیت، و من عرفوا بالولاء و التضحیة فی سبیل التشیّع،فتعاهدهم الإمام بإعداد شامل و توجیه مباشر،حتی یکونوا بمستوی ما یعهد لهم من مهمات و یوکل إلیهم من أعمال،و کان نصب عینیه أن یکونوا الأسوة و القادة،و أن یقال عنهم:«رحم اللّه جعفر بن محمد ما أحسن ما أدّب به أصحابه».

و بمرور الأیام،نجد أن رجال المدرسة-أو من سمّیناهم بالهیئة العلمیة- یتبوؤن مواقعهم بکفاءة عالیة،و تمکن باهر.و لأن الإمام الصادق علم استعداد کل منهم و رعی مواهبهم فوجهها إلی ما یجلو فیها القدرة و یصقل الإمکانیة،و نتج من ذلک مجموعة من کبار العلماء الذین خدموا الأمة الإسلامیة کمجاهدین تحت عین الإمام الصادق،و عکفوا علی حفظ تراثه الفقهی و ثروته العلمیة فی کتب ضمّت المسائل و الأحکام و التعالیم و الأحادیث یفتخر بها الفکر الإسلامی،و یعتز بها الشیعة.

و یتباهون،لأن دقائق المسائل و غنی الأحکام و وضوح البراهین و الحجج،و بیان العلل و حکمة التشریع؛تجعل الفقه الجعفری وعاء العلم الإسلامی،و من الطبیعی جدا أن تأخذ بعض الحکومات بأحکام الفقه الجعفری لمعالجة بعض المسائل التی تتعلق بأحوال الأفراد لما فیها من رعایة لمصالح الناس و رفع الحرج عنهم،کما فعلت الحکومة المصریة.و کم بین الناس من یلجأ إلی اعتناق المذهب الجعفری منقادا إلی روح العدل و الصواب.

و القصد،أن تعقیب الإمام الصادق علی اتجاه أصحابه فی المحاورة و المناظرة کان علی سبیل بلوغ ما یرجوه و ما یسعی إلی تحقیقه بواسطتهم من خلال تبنی المنهج بطرق للحوار و الاستدلال عمیقة و مؤثرة.و هو من ناحیة أخری یعدّهم بوصایاه فیقول:

«لا تتکلم فیما لا یعنیک،ودع کثیرا من الکلام فیما یعنیک حتی تجد له موضعا،فربّ متکلّم تکلّم بالحقّ بما یعنیه فی غیر موضعه فتعب.و لا تمارینّ سفیها و لا حلیما،فإن الحلیم یغلبک و السفیه یردیک».

و من أقواله علیه السّلام التی توضّح منهج مدرسته و أسس حرکتها العلمیة:«دعامة

ص:279

الإنسان العقل،و بالعقل یکمل،و هو دلیله و مبصره و مفتاح أمره».

و یبیّن علیه السّلام أصناف طلبة العلم قائلا:

«طلبة العلم علی ثلاثة أصناف،فاعرفهم بأعیانهم و صفاتهم:صنف یطلبه للجهل و المراء،و صنف یطلبه للاستطالة و الختل،و صنف یطلبه للفقه و العقل.

فصاحب الجهل و المراء متعرّض للمقال فی أندیة الرجال،یتذاکر العلم و صفة الحلم،قد تسربل بالخشوع،و تخلی عن الورع،فدقّ اللّه من هذه خیشومه.

و صاحب الاستطالة و الختل ذو خب (1)و ملق،یستطیل علی مثله من أشباهه، و یتواضع للأغنیاء من دونه.

و صاحب الفقه و العقل ذو کآبة و حزن،یعمل و یخشی،وجلا داعیا مشفقا علی شأنه،عارفا بأهل زمانه،مستوحشا من أوثق إخوانه».

و مما أوضحه الإمام الصادق علیه السّلام من خصائص منهجه،هو اعتماد العقل مع وجوه ما قام به من حرکة علمیة و اقتران صفاتها العامة به،و قد کان لذلک أثره فی تجنب المزالق التی یحدثها القیاس الذی علی الرأی الذی ینزع کثیرا إلی الهوی و المیل.أما العقل فهو من صفات الاکتمال فی شخصیة المؤمن،و من مصادر دوام الشرائع و الأحکام.و کبقیة القضایا المهمة فی وجود الإنسان المسلم،یعرض الإمام الصادق منزلة العقل:فعن محمد بن سلیمان عن أبیه قال:قلت لأبی عبد اللّه الصادق علیه السّلام:فلان من عبادته و دینه و فضله کذا و کذا؟قال:فقال:«کیف عقله؟» فقلت:لا أدری.فقال:«إن الثواب علی قدر العقل.إن رجلا من بنی إسرائیل کان یعبد اللّه عز و جل فی جزیرة من جزائر البحر،خضراء نضرة کثیرة الشجر طاهرة الماء،و إن ملکا من الملائکة مرّ به فقال:یا رب أرنی ثواب عبدک هذا.فأراه اللّه عز و جل ذلک.فاستقله الملک،فأوحی اللّه عز و جل إلیه أن أصحبه.فأتاه الملک فی صورة أنسی،فقال له:من أنت؟قال:أنا رجل عابد،بلغنا مکانک و عبادتک بهذا المکان،فجئت لأعبد معک.فکان معه یومه ذلک،فلما أصبح قال له الملک:إن مکانک لنزهة.قال:لیت لربنا حمار لرعیناه فی هذا الموضع،فإن هذا الحشیش

ص:280


1- (1) الخبّ:الخداع.

یضیع.فقال له الملک:و ما لربک حمار؟فقال:لو کان له حمار ما کان یضیع مثل هذا الحشیش.فأوحی اللّه عز و جل إلی الملک:إنما أثیبه علی قدر عقله» (1).

بهذا المنهج سعی الإمام الصادق إلی إغناء واقع الأمة،و حملها علی الالتزام بالمنهج الإسلامی و السنّة النبویة الشریفة،فقد أثر عن النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قوله:«قوام المرء عقله،و لا دین لمن لا عقل له».و قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«سید الأعمال فی الدارین العقل، و لکل شیء دعامة،و دعامة المؤمن عقله،فبقدر عقله تکون عبادته لربه».

و یوضح الإمام الصادق للناس نعمة العقل قائلا:«إذا أراد اللّه أن یزیل من عبد نعمة کان أول ما یغیّر منه عقله».

و یقول علیه السّلام:«کمال العقل فی ثلاث:التواضع للّه،و حسن الیقین، و الصمت إلا من خیر»علیه السّلام و فی مقابله یضع علیه السّلام«الجهل و یقول:الجهل فی ثلاث:الکبر و شدة المراء و الجهل باللّه.فأولئک هم الخاسرون».

و ما یتعلق بالمختصّین من هیئة مدرسته،فإن صیاغة أقواله علیه السّلام تفی بالغایة و الغرض فیقول:«یغوص العقل علی الکلام،فیستخرجه من مکنون الصدر،کما یغوص الغائص علی اللؤلؤ المستکنة فی البحر»و إن«العاقل إن کلّم أجاب،و إن نطق أصاب.و إن سمع وعی».

و یقید الإمام الصادق السلوک المتعلق بالمنهج بالعقل فیقول:«التودّد نصف العقل».و یخاطب رجال مدرسته بأن لا یثقلوا علی الناس،و لا ینفّروهم،و أن یترفّقوا بهم،و یسهّلوا لهم المداخل.و یقول لهم:«فرغّبوا الناس فی دینکم،و فیما أنتم فیه».

و یراجعه الأصحاب فیما یهمّهم من شئون عملهم فی تطبیق المنهج.فعن إسحاق قال:قلت لأبی عبد اللّه علیه السّلام:الرجل آتیه أکلمه ببعض کلامی فیعرفه کله،و منهم من آتیه فأکلمه بالکلام فیستوفی کلامی کله ثم یردّه علیّ کما کلمته، و منهم من آتیه فأکلّمه فیقول:أعد علی؟فقال:«یا إسحاق،أو ما تدری لم هذا؟» قلت:لا.قال«الذی تکلمه ببعض کلامک فیعرف کله،فذاک من عجنت نطفته بعقله.و أما الذی تکلمه،فیستوفی کلامک:ثم یجیبک علی کلامک؛فذاک الذی رکّب عقله فی بطن أمه.و أما الذی تکلمه بالکلام فیقول:أعد علیّ.فذاک الذی رکّب عقله فیه بعد ما کبر.فهو یقول:اعد علیّ».

ص:281


1- (1) بحار الأنوار للمجلسی ج 1 ص 84. [1]

و یتکفل الإمام الصادق ببیانه و حکمة أقواله إیضاح أهم الخصائص فی خطة العمل و الدعوة فیقول علیه السّلام:«العاقل من کان ذلولا عند إجابة الحق،منصفا بقوله، جموحا عند الباطل،خصما بقوله،یترک دنیاه و لا یترک دینه.و دلیل العاقل شیئان:

صدق القول و صواب الفعل.و العاقل لا یتحدث بما ینکره العقل،و لا یتعرّض للتهمة،و لا یدع مداراة من ابتلی به،و یکون العلم دلیله فی أعماله،و الحلم رفیقه فی أحواله،و المعرفة تعینه فی مذاهبه.و الهوی عدو العقل،و مخالف الحق،و قرین الباطل».

أما إذا أردنا أن نعلم ما هو الطریق إلی تحصیل هذه الملکة،و رعایة هذه النعمة،فإن الإمام الصادق علیه السّلام یجیبنا بوجیز قول و عظیم معنی یغنی عن کل سؤال فیقول:«کثرة النظر فی العلم تفتح العقل».

و لأن الإمام الصادق هو عالم الأمة و صاحب الولایة الشرعیة،فقد أقبل علیه الأصحاب فیما یهمّهم و یشغل بالهم،و عرضوا علیه المسائل التی یکثر فیها الجدل، و قصده الکثیر للتخلص من الحیرة و الغموض.و کان الإمام الصادق یعلم ما یدور فی زوایا المجتمع من محاورات و أحادیث تسبب ارتباکا و اضطرابا،فانفتح علی الناس قائلا:«سلونی قبل أن تفقدونی»فأقبل الناس علیه من مختلف الطبقات و المراتب، و کانوا یجدون عنده علما غزیرا،و خلقا یعجز المرء عن وصفه.لأن شخصیة فی علمها و ورعها کشخصیة الإمام الصادق لا یقارن بها معاصروه،إنما هناک صور للرعایة الإلهیة و الحکمة العلیا فی خصال الإمام الصادق علیه السّلام و علمه و تقاه.فحلمه یسع جمیع ضروب أهل الأهواء و المقالات و الجدل،و علمه یفیض علی کل سائل و طالب علم،حتی فرض علی الحذّاق من المتکلمین و الزنادقة و الملحدین و اضطرّهم إلی الإذعان لیشهدوا:(إنه الحلیم الرزین العاقل الرصین،لا یعتریه خرق و لا طیش و لا نزف،یسمع کلامنا و یصغی إلینا،و یستعرف حجّتنا،حتی إذا استفرغنا ما عندنا، و ظننا أنا قد قطعناه؛أدحض حجتنا بکلام یسیر و خطاب قصیر،یلزمنا به الحجة.

و یقطع العذر،و لا نستطیع لجوابه ردا).

سأله أبو حمزة عما یقال من أن اللّه جسم.

فقال علیه السّلام:«سبحان من لا یعلم أحد کیف هو إلاّ هو،لیس کمثله شیء

ص:282

و هو السمیع البصیر،لا یحدّ،و لا یحسّ،و لا تدرکه الحواس،و لا یحیط به شیء و لا جسم و لا تخطیط و لا تحدید».

و دخل علیه نافع بن الأزرق فقال:یا أبا عبد اللّه،أخبرنی متی کان اللّه؟ فقال علیه السّلام:«متی لم یکن حتی أخبرک متی کان،سبحان من لم یزل و لا یزال فردا صمدا لم یتخذ صحابة و لا ولدا».

و قال ابن أبی یعفور:سألت أبا عبد اللّه عن قول اللّه: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ فقلت:أما الأول فقد عرفناه،و أما الآخر فبیّن لنا تفسیره.

فقال علیه السّلام:«إنه لیس شیء یبید أو یتغیر و یدخل التغییر و الزوال و الانتقال من لون إلی لون أو من هیئة إلی هیئة،و من صفة إلی صفة،و من زیادة إلی نقصان،و من نقصان إلی زیادة،إلا ربّ العالمین.فإنه لم یزل و لا یزال بحالة واحدة،و هو الأول قبل کل شیء علی ما لم یزل،لا تختلف علیه الصفات و الأسماء» (1).

فإن أردنا التعرف علی الآثار اللاحقة فی طرق مناظرة أصحاب الإمام الصادق، و کیف استقرّ ما رعاه الإمام و عمل علی تحقیقه فی وسائل الحجاج و طرق محاورة أهل الأهواء و الفرق و الأدیان،نلمسها واضحة فی أقوالهم و منطق تعرّضهم.

اجتمع هشام بن الحکم فی إحدی رحلاته إلی البصرة بعمرو بن عبید المتوفی سنة 144 ه و هو من شیوخ المعتزلة،و تناظرا فی الإمامة.و کان عمرو یذهب إلی أن الإمامة اختیار من الأمة فی سائر الأعصار.و هشام یذهب إلی أنها نص من اللّه و رسوله علی علی بن أبی طالب و علی من یلی عصره من ولده الطاهرین.

فقال هشام لعمرو بن عبید:أ لیس قد جعل لک عینین.

قال:بلی.

قال:و لم؟ قال:لأنظر بهما فی ملکوت السماوات و الأرض فأعتبر.

قال:فلم جعل لک سمعا؟ قال:لأسمع به التحلیل و التحریم و الأمر و النهی.

ص:283


1- (1) الفصول المهمة للحر العاملی. [1]

قال:فلم جعل لک فما؟ قال:لأذوق المطعوم،و أجیب الداعی.

ثم عدّد الحواس کلها.

قال:و لم جعل لک قلبا؟ قال:لتؤدی إلیه الحواس ما أدرکته،فیمیّز بین مضارّها و منافعها.

قال هشام:فکان یجوز أن یخلق اللّه سائر حواسک،و لا یخلق لک قلبا تؤدی هذه الحواس إلیه؟ قال عمرو:لا.

قال:و لم؟ قال:لأن القلب باعث لهذه الحواس علی ما یصلح لها.

فقال هشام:یا أبا مروان-یعنی عمرو-إن اللّه تبارک و تعالی لم یترک جوارحک حتی جعل لها إماما یصحّح لها الصحیح،و یترک هذا الخلق کله لا یقیم لهم إماما یرجعون إلیه؟! قال المسعودی:فتحیّر عمرو،و لم یأت بفرق یعرف (1).

و عن الإمام موسی بن جعفر علیهما السّلام قال:دخل عمرو بن عبید البصری علی أبی عبد اللّه علیه السّلام فلمّا سلّم و جلس عنده تلا هذه الآیة قوله تعالی: اَلَّذِینَ یَجْتَنِبُونَ کَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ ثم أمسک عنه،فقال أبو عبد اللّه«ما أسکتک؟»قال:أحب أن أعرف الکبائر من کتاب اللّه.فقال:«نعم یا عمرو،أکبر الکبائر الشرک باللّه،یقول اللّه تبارک و تعالی: إِنَّهُ مَنْ یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَیْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النّارُ و بعده الأیاس من روح اللّه،لأن اللّه تعالی یقول: وَ لا تَیْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْکافِرُونَ و الأمن من مکر اللّه،لأن اللّه یقول: فَلا یَأْمَنُ مَکْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ و منها عقوق الوالدین،لأن اللّه تعالی جعل العاق جبارا شقیا.و قتل النفس التی حرّم اللّه إلا بالحقّ لأن اللّه تعالی یقول: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِیها و قذف المحصنات،لأن اللّه تعالی یقول: اَلَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ إلی قوله: لُعِنُوا فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ و أکل مال الیتیم ظلما لقوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ أَمْوالَ الْیَتامی ظُلْماً

ص:284


1- (1) مروج الذهب ج 4 ص 55.و علل الشرائع للصدوق ص 194.و احتجاج الطبرسی ص 200. و أمالی المرتضی و غیرها.

إِنَّما یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَیَصْلَوْنَ سَعِیراً و الفرار من الزحف،لأن اللّه تعالی یقول:

وَ مَنْ یُوَلِّهِمْ یَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَیِّزاً إِلی فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِیرُ و أکل الربا:لأن اللّه عز و جل یقول: اَلَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبا لا یَقُومُونَ إِلاّ کَما یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطانُ مِنَ الْمَسِّ و السحر لأن اللّه تعالی یقول:

وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ یَلْقَ أَثاماً یُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ یَوْمَ الْقِیامَةِ وَ یَخْلُدْ فِیهِ مُهاناً. إِلاّ مَنْ تابَ و الیمین الغموس،لأن اللّه عز و جل یقول: إِنَّ الَّذِینَ یَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَ أَیْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِیلاً أُولئِکَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِی الْآخِرَةِ و الغلول،یقول اللّه عز و جل: وَ مَنْ یَغْلُلْ یَأْتِ بِما غَلَّ یَوْمَ الْقِیامَةِ و منع الزکاة المفروضة،لأن اللّه تعالی یقول: فَتُکْوی بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ و شهادة الزور و کتمان الشهادة،لأن اللّه عز و جل یقول: وَ مَنْ یَکْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ و شرب الخمر،لأن اللّه عز و جل عدل بها عبادة الأوثان.و ترک الصلاة متعمدا،فقد بریء من ذمة اللّه و ذمة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و نقض العهد.و قطیعة الرحم،لأن اللّه عز و جل یقول:

أُولئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ .

قال:فخرج عمرو،و له صراخ من بکائه،و هو یقول:هلک من قال برأیه و نازعکم فی الفضل و العلم.

و عن أبی مالک الأحمسی قال:خرج الضحّاک الشاری(الخارجی)بالکوفة فحکم و تسمّی بإمرة المؤمنین،و دعی الناس إلی نفسه.

فأتاه مؤمن الطاق.فلما رأته الشراة وثبوا فی وجهه،فقال لهم:جانح.فأتوا به صاحبهم،فقال له مؤمن الطاق:أنا رجل علی بصیرة من دینی،فأحببت الدخول معکم.

فقال الضحّاک لأصحابه:إن دخل هذا معکم نفعکم.ثم أقبل مؤمن الطاق علی الضحّاک فقال:لم تبرأتم من علی بن أبی طالب،و استحللتم قتله و قتاله؟ قال الضحّاک:لأنه حکم فی دین اللّه.

قال مؤمن الطاق:و کل من حکم فی دین اللّه استحللتم دمه و قتاله و البراءة منه؟ قال:نعم.

قال:فأخبرنی عن الدین الذی جئت أناظرک علیه،لأدخل معک إن غلبت حجتی حجتک أو حجتک حجتی،من یوقف المخطئ علی خطأه و یحکم للمصیب

ص:285

بصوابه؟فلا بد لنا من إنسان یحکم بیننا،فأشار الضحّاک إلی رجل من أصحابه و قال:

هذا الحکم بیننا،فهو عالم بالدین.

قال مؤمن الطاق:و قد حکّمت هذا فی الدین الذی جئت أناظرک فیه؟قال:

نعم.فأقبل مؤمن الطاق علی أصحاب الضحّاک فقال:إن صاحبکم قد حکّم فی دین اللّه فشأنکم به.فاختلف أصحابه و أسکتوه،و خرج مؤمن الطاق منتصرا (1).

و کنا فی الأصل قد خصصنا لحملة الإمام الصادق علی الغلاة جزءا من هذا الفصل،غیر أننا وجدنا أن البحث قد یطول و یتعدّی حدود ما نرجو له من عدم التکرار،و اکتفینا بما سبق من بحث لمشکلة الغلاة،و ما قام به الإمام الصادق من دحض لأقوالهم و فضح لمعتقداتهم،و فیه غنی و بیان واف لمنهج الإمام فی ذلک،و قد کان جهده علیه السّلام فی هذا المجال مصحوبا بآلام نفسیة.فهو یواجه أعداء تلبّسوا بروابط و ادّعاءات،و وجد نفسه علیه السّلام هو و آباءه الکرام غایة أولئک الکفرة و غرض مسعاهم.

قلنا إن عصر الإمام الصادق شهد تیارات من الألحاد و الزندقة و غیرها،و قد کانت حرکة الزندقة ذات خطر شدید،لأنها عبارة عن تنظیم اجتمع فیه حذّاق الکلام و الخائضون فی المقالات و المذاهب،و وضعوا لأنفسهم خطة لإفساد العقائد،و زرع الشکوک فی نفوس المؤمنین.و قد لفتت شخصیة الإمام الصادق انتباههم و راحوا فی مناسبات عدیدة یقصدونه و هم علی کفرهم،فیخرجون مقطوعین مدحورین.

و کان من أبرز قادتهم ابن أبی العوجاء (2)و قد أشرنا إلیه فی أکثر من مورد سابقا و فی أجزاء الکتاب السابقة.و قد اجتمع مرّة هو و نفر من الزنادقة منهم:ابن طالوت، و ابن الأعمی،و ابن المقفع فی الموسم بالمسجد الحرام،و کان الإمام الصادق فیه إذ ذاک یفتی الناس،و یفسّر لهم القرآن،و یجیب عن المسائل بالحجج و البینات.فقال القوم لابن أبی العوجاء:هل لک فی تغلیط هذا الجالس،و سؤاله عما یفضحه عند

ص:286


1- (1) انظر:رجال الکشی.و [1]مناقب ابن شهر أشوب المازندرانی.
2- (2) یذکر الشیخ الصدوق أن ابن أبی العوجاء دخل مکة تمرّدا و إنکارا علی من یحجّ،و کان یکره العلماء مسائلته إیاهم و مجالسته لهم لخبث لسانه و فساد سریرته.

هؤلاء المحیطین به،فقد تری فتنة الناس به،و هو علاّمة زمانه.

فقال لهم ابن أبی العوجاء:نعم.ثم تقدم،ففرّق الناس،فقال:یا أبا عبد اللّه إن المجالس أمانات،و لا بد لکل من کان به سعال أن یسعل،أ فتأذن لی فی السؤال؟ فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«سل إن شئت».

فقال له ابن أبی العوجاء:إلی کم تدرسون هذا البیدر،و تلوذون بهذا الحجر، و تعبدون هذا البیت المرفوع بالطوب و المدر،و تهرولون حوله هرولة البعیر إذا نفر؟ من فکر فی هذا أو قدّر،علم أنه فعل غیر حکیم و لا ذی نظر،فقل فإنک رأس هذا الأمر و سنامه،و أبوک أسّه و نظامه.

فقال له الصادق علیه السّلام:«إن من أضلّه اللّه و أعمی قلبه استوخم الحق فلم یستعذبه،و صار الشیطان ولیّه و ربّه،یورده مناهل الهلکة و لا یصدره،و هذا بیت استعبد اللّه به خلقه لیختبر طاعتهم فی إتیانه،فحثّهم علی تعظیمه و زیارته،و جعله قبلة للمصلین له،فهو شعبة من رضوانه،و طریق یؤدی إلی غفرانه،منصوب علی استواء الکمال و مجمع العظمة و الجلال،خلقه اللّه تعالی قبل دحو الأرض بألفی عام،فأحق من أطیع فیما أمر،و انتهی عما زجر اللّه المنشئ للأرواح و الصور».

فقال له ابن أبی العوجاء:ذکرت یا أبا عبد اللّه،فأحلت علی غائب.

فقال الإمام الصادق علیه السّلام:«کیف یکون یا ویلک غائبا من هو مع خلقه شاهد،و إلیهم أقرب من حبل الورید،یسمع کلامهم،و یعلم أسرارهم،لا یخلو منه مکان،و لا یشتغل به مکان،و لا یکون له مکان أقرب من مکان،تشهد له بذلک آثاره،و تدل علیه أفعاله.و الذی بعثه بالآیات المحکمة و البراهین الواضحة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم جاءنا بهذه العبادة،فإن شککت فی شیء من أمره فاسأل عنه أوضحه لک.

فأبلس ابن أبی العوجاء،و لم یدر ما یقول،فانصرف من بین یدیه.فقال لأصحابه:سألتکم أن تلتمسوا لی خمرة،فألقیتمونی علی جمرة.

قالوا له:أسکت،فو اللّه لقد فضحتنا بحیرتک و انقطاعک،و ما رأینا أحقر منک الیوم فی مجلسه.

فقال لهم:ألی تقولون هذا؟إنه ابن من حلق رءوس من ترون،و أومأ إلی أهل

ص:287

الموسم (1).

و فی روایة الطبرسی زیادة:أن ابن أبی العوجاء قال:فهو فی کل مکان؟أ لیس إذا کان فی السماء کیف یکون فی الأرض؟و إذا کان فی الأرض کیف یکون فی السماء؟فقال الإمام الصادق علیه السّلام:«إنما وصفت المخلوق الذی إذا انتقل من مکان اشتغل به مکان،و خلا منه مکان،فلا یدری فی المکان الذی صار إلیه ما حدث فی المکان الذی کان فیه.فأما اللّه العظیم الشأن،الملک الدیّان،فلا یخلو منه مکان،و لا یشتغل به مکان،و لا یکون إلی مکان أقرب منه إلی مکان».

و عن هشام بن الحکم قال:کان زندیق بمصر یبلغه عن أبی عبد اللّه علیه السّلام علم،فخرج إلی المدینة لیناظره.فلم یصادفه بها.و قیل:هو بمکة.فخرج إلی مکة و نحن مع أبی عبد اللّه علیه السّلام فانتهی إلیه-و هو فی الطواف-فدنا منه و سلّم.

فقال له أبو عبد اللّه:«ما اسمک؟» قال:عبد الملک.

قال:«فما کنیتک؟» قال:أبو عبد اللّه.

قال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«فمن ذا الملک الذی أنت عبده،أمن ملوک الأرض أم من ملوک السماء؟و أخبرنی عن ابنک أعبد إله السماء،أم عبد إله الأرض؟» فسکت.

فقال أبو عبد اللّه:«قل».فسکت.

فقال:«إذا فرغت من الطواف فأتنا».فلما فرغ أبو عبد اللّه علیه السّلام من الطواف أتاه الزندیق.فقعد بین یدیه،و نحن مجتمعون عنده،فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:

«أ تعلم أن للأرض تحتا و فوقا؟».

فقال:نعم.

قال:«فدخلت تحتها؟».

قال:لا.

قال:«فهل تدری ما تحتها؟».

ص:288


1- (1) علل الشرائع.و الإرشاد.و الاحتجاج. [1]

قال:لا أدری،إلا أنی أظن أن لیس تحتها شیء.

فقال أبو عبد اللّه:«فالظن عجز ما لم تستیقن».ثم قال له:«فصعدت إلی السماء؟».

قال:لا.

قال:«أ فتدری ما فیها؟».

قال:لا.

قال:«فالعجب لک،لم تبلغ المشرق،و لم تبلغ المغرب،و لم تنزل تحت الأرض،و لم تصعد إلی السماء،و لم تخبر ما هناک فتعرف ما خلفهن،و أنت جاحد بما فیهن،و هل یحجد العاقل ما لا یعرف؟».

فقال الزندیق:ما کلمنی بهذا غیرک.

قال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«فأنت من ذلک فی شک،فلعل هو،و لعل لیس هو».

قال:و لعل ذلک.

فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«أیها الرجل،لیس لمن لا یعلم حجة علی من یعلم،و لا حجة للجاهل علی العالم.یا أخا أهل مصر،تفهّم عنّی،أ ما تری الشمس و القمر و اللیل و النهار یلجان و لا یستبقان،یذهبان و یرجعان،قد اضطرا لیس لهما مکان إلا مکانهما،فإن کانا یقدران علی أن یذهبا فلم یرجعان؟و إن کانا غیر مضطرین فلم لا یصیر اللیل نهارا و النهار لیلا؟اضطرا و اللّه یا أخا مصر،أن الذی تذهبون إلیه و تظنون من الدهر،فإن کان هو یذهبهم فلم یردّهم؟و إن کان یردّهم فلم یذهب بهم؟ أ ما تری السماء مرفوعة،و الأرض موضوعة،لا تسقط السماء علی الأرض،و لا تنحدر الأرض فوق ما تحتها،أمسکها و اللّه خالقها و مدبّرها».

قال:فآمن الزندیق علی یدی أبی عبد اللّه.فقال علیه السّلام:«هشام خذه إلیک و علّمه».

و من الزنادقة الذین تظهر أسماؤهم کثیرا غیر ابن أبی العوجاء هو:أبو شاکر الدیصانی.منها ما یرویه الطبرسی و الشیخ المفید:أنه دخل مرة علی أبی عبد اللّه و قال:یا جعفر بن محمد دلّنی علی معبودی.

فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«اجلس.من أقرب الدلیل علی ذلک ما أظهره.لک ثم دعی ببیضة،فوضعها فی راحته،فقال أبو عبد اللّه:«یا دیصانی،هذا حصن

ص:289

مکنون،له جلد غلیظ،و تحت الجلد الغلیظ جلد رقیق،و تحت الجلد الرقیق ذهبة مائعة،و فضة ذائبة.فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة،و لا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة،فهی علی حالها،لا یخرج منها خارج مصلح،فیخبر عن صلاحها، و لا یدخل إلیها داخل مفسد فیخبر عن فسادها.لا یدری للذکر خلقت أم للأنثی، تنفلق عن مثل ألوان الطواویس.أ تری له مدبرا؟».

قال:فأطرق ملیا ثم قال:أشهد أن لا إله إلا اللّه،وحده لا شریک له،و أشهد أن محمدا عبده و رسوله،و أنک إمام و حجة من اللّه علی خلقه،و أنا تائب مما کنت فیه.

و ما دمنا لا نقصد الإحاطة بکل ما جری بین الإمام الصادق و بین حرکة الزنادقة، فإنها من الکثرة و السعة بحیث یضیق بها ما خصصناه لموضوع البحث فی منهج الإمام الصادق و منشأ مدرسته الفکریة؛فإننا نکتفی بهذا القدر و هی مبسوطة فی مظانها.

و یتجه منهج الإمام الصادق إلی المسألة الثانیة بعد التوحید و الاستدلال علی وجود الخالق فی مواجهة شکوک الملحدین و أقوال الزنادقة،و هی مسألة الإمامة،أو السلطة الروحیة،فیقول علیه السّلام:

«نحن نزعم أن الأرض لا تخلو من حجة،و لا تکون الحجة إلا من عقب الأنبیاء.ما بعث اللّه نبیا قط من غیر نسل الأنبیاء،و ذلک أن اللّه شرع لبنی آدم طریقا منیرا،و أخرج من آدم نسلا طاهرا طیبا،أخرج منه الأنبیاء و الرسل هم صفوة اللّه و خلّص الجوهر،طهروا فی الأصلاب،و حفظوا فی الأرحام،لم یصبهم سفاح الجاهلیة و لا شاب أنسابهم،لأن اللّه عز و جل جعلهم فی موضع لا یکون أعلی درجة و شرفا منه.فمن کان خازن علم اللّه و أمین غیبه و مستودع سره و حجته علی خلقه و ترجمانه و لسانه،لا یکون إلا بهذه الصفة.و الحجة لا یکون إلا من نسلهم،یقوم مقام النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی الخلق بالعلم الذی عنده و ورثه عن الرسول.إن جحده الناس سکت،و کان بقاء ما علیه الناس قلیلا مما فی أیدیهم من علم الرسول علی اختلاف منهم فیه،قد أقاموا بینهم الرأی و القیاس.و إنهم إن أقرّوا به و أطاعوه و أخذوا عنه، ظهر العدل و ذهب الاختلاف و التشاجر،و استوی الأمر و أبان الدین،و غلب علی الشک الیقین.و لا یکاد أن یقرّ الناس به و لا یطیعوا له أو یحفظوا له بعد فقد الرسول.

ص:290

و ما مضی رسول و لا نبی قط لم یختلف أمته من بعده.و إنما کان علة اختلافهم علی الحجة و ترکهم إیاه».

قال:فما یصنع بالحجة إذا کان بهذه الصفة؟ قال:«قد یقتدی به و یخرج عنه الشیء بعد الشیء مکانه منفعة الخلق و صلاحهم،فإن أحدثوا فی دین اللّه شیئا أعلمهم،و إن زادوا فیه أخبرهم،و إن نفدوا منه شیئا أفادهم..»ا ه.

تلک هی قاعدة المنهج و أصل الدعوة،و هی محفوفة بالصعاب و العوائق،و ما یسّره اللّه له من علم و زوّده به من رفعة و خصال،و ما اختصه به من مزایا الإمامة،کافیة لقیام الحجة بالأمر و ظهورها فی الواقع،لکن سبیلها وعر،و قد امتلأت الآفاق بالأخطار و أحاطت الصعاب سیرة الإمام من کل الجهات،و لذلک فإن الرسالة بغایة الصعوبة،و قد أشار الإمام الصادق مرارا إلی المصاعب التی تکتنفه،و إلی ما یحیط بالدعوة.روی المفضل بن عمر أن الإمام الصادق قال:

«إن أمرنا صعب مستصعب لا یحتمله إلاّ:صدور مشرقة،و قلوب منیرة، و أفئدة سلیمة،و أخلاق حسنة.لأن اللّه تعالی قد أخذ علی محبّنا المیثاق،فمن وفی لنا؛و فی اللّه له بالجنة،و من أبغضنا و لم یؤدّ إلینا حقّنا فهو فی النار،و إنّ عندنا سرّا من اللّه ما کلف اللّه أحدا غیرنا ذلک.ثم أمرنا بتبلیغه،فبلّغناه،فلم نجد له أهلا و لا موضعا و لا حملة یحملونه،حتی خلق اللّه لذلک قوما خلقوا من طینة محمد و ذریته صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و من نورهم،صنعهم اللّه بفضل صنع رحمة،فبلّغناهم عن اللّه ما أمرنا، فقبلوه و احتملوا ذلک و لم تضطرب قلوبهم،و مالت أرواحهم إلی معرفتنا و سرّنا، و البحث عن أمرنا.

و إن اللّه خلق أقواما للنار،و أمرنا أن نبلّغهم ذلک،فبلغناهم،فاشمأزّت قلوبهم منه،فنفزوا عنه،و ردّوه علینا،و لم یحتملوه،و کذّبوا به،و طبع اللّه علی قلوبهم؛ثم أطلق ألسنتهم ببعض الحق،فهم ینطقون به لفظا،و قلوبهم منکرة له...»ا ه.

و ینیط علیه السّلام أغلب مناظراته و أقواله التی تنعکس عن منهجه بهذا المقصد، فعند ما یتحدث علیه السّلام عن التفاضل بالتقوی،و أن ولد آدم کلهم سواء فی الأصل،و یردّ علی أقوال من یتحرّی مظانّ التدافع و شبه الوهن کما یوهمه الشیطان،یقول علیه السّلام:

«نعم،إنی وجدت أصل الخلق التراب،و الأب آدم،و الأم حواء،خلقهم إله

ص:291

واحد،و هم عبیده.إن اللّه عز و جل اختار من ولد آدم أناسا طهّر میلادهم،و طیّب أبدانهم،و حفظهم فی أصلاب الرجال و أرحام النساء،أخرج منهم الأنبیاء و الرسل فهم أزکی فروع آدم،فعل ذلک لأمر استحقوه من اللّه عز و جل،و لکن علم اللّه منهم حین ذرأهم أنهم یطیعونه و یعبدونه و لا یشرکون به شیئا،فهؤلاء بالطاعة نالوا من اللّه الکرامة و المنزلة الرفیعة عنده،و هؤلاء الذین لهم الشرف و الفضل و الحسب.و سایر الناس سواء،إلا من أتقی اللّه أکرمه،و من أطاعه أحبه،و من أحبه لم یعذبه بالنار».

و توحی النظرة فی حدود مدرسة الإمام الصادق و ضروب مساعی أصحابه، باستقرار الأمر و استتباب الحال،لأن مظاهر العمل تجری بنظام واسع حتی کأن الحکام لا وجود لهم.و ذلک ما یدعو إلی التأمل فی سرّ هذه القوة،و إلی التفکر- لمن یراودهم الشک-فی أصل هذه القدرة و قیامها کسلطة قواعدها فی القلوب و الصدور،و تعتمد تسدید اللّه لها و تأییده،و تضع سیاساتها فی مجال الطاعة و العبودیة للخالق الواحد.و قد تقدّم کثیر من الموارد فی ما مضی من الکتاب عن الحالات التی کان سلاح الإمام الصادق فیها هو اللجوء إلی اللّه و التوکل علیه.و قد جعل الإمام الصادق ذلک من أهم مکوّنات منهجه،فیقول لبعض أصحابه:«إذا خفت امرأ یکون، أو حاجة تریدها،فابدأ باللّه عز و جل،فمجّده،واثن علیه کما هو أهله،و صلّ علی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و اسأل حاجتک،و تباک و لو مثل رأس الذباب،إن أبی علیه السّلام کان یقول:

إن أقرب ما یکون العبد من الربّ عز و جل و هو ساجد باک» (1).

و سئل علیه السّلام:ما العلّة التی من أجلها لا یصلی الرجل و هو متوشح فوق القمیص؟فقال علیه السّلام:«لعله التکبر فی موضع الاستکانة».

أما الغرض ذاته،فإن الإمام الصادق یصف واجباته بشرح یدخل فی عوالم العبودیة للّه التی تؤدی إلی إشعار المؤمن بالقوة و التفوق فی وسط ذلک الخضمّ من الأحداث.

ففی الرکوع یقول علیه السّلام:«لا یرکع عبد اللّه رکوعا علی الحقیقة؛إلاّ زیّنه اللّه بنور بهائه،و أظلّه فی ظل کبریائه،و کساه کسوة أصفیائه.و الرکوع أول،و السجود ثان،فمن أتی بمعنی الأول صلح للثانی.و فی الرکوع أدب،و فی السجود قرب، و من لا یحسن الأدب لا یصلح للقرب،فارکع رکوع خاشع للّه عز و جل بقلبه،متذلل

ص:292


1- (1) جواهر الکلام ج 11 ص 73. [1]

و جل تحت سلطانه،خافض له بجوارحه خفض خائف حزن علی ما یفوته من فائدة الراکعین».

و فی السجود یقول علیه السّلام:

«ما خسر و اللّه تعالی قط من أتی بحقیقة السجود و لو کان فی العمر مرة واحدة، و ما أفلح من خلا بربه فی مثل ذلک الحال شبیها بمخادع نفسه،غافل لاه عمّا أعدّ اللّه تعالی للساجدین من أنس العاجل و راحة الآجل،و لا بعد عن اللّه تعالی أبدا من أحسن تقرّبه فی السجود،و لا قرب إلیه أبدا من أساء أدبه و ضیّع حرمته بتعلیق قلبه بسواه فی حال سجوده.فاسجد سجود متواضع للّه ذلیل،علم أنه خلق من تراب یطأه الخلق، و أنه رکّب من نطفة یستقذرها کل أحد،و کوّن و لم یکن.و قد جعل اللّه معنی السجود سبب التقرب إلیه بالقلب و السرّ و الروح،فمن قرب منه بعد من غیره.أ لا تری فی الظاهر أنه لا یستوی حال السجود إلا بالتواری عن جمیع الأشیاء،و الاحتجاب عن کل ما تراه العیون.کذلک أراد اللّه تعالی أمر الباطن،فمن کان قلبه متعلقا فی صلاته بشیء دون اللّه فهو قریب من ذلک الشیء،بعید عن حقیقة ما أراد اللّه منه فی صلاته.

قال اللّه تعالی: ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَیْنِ فِی جَوْفِهِ و قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«قال اللّه عز و جل ما اطّلع علی قلب عبد فأعلم فیه حبّ الإخلاص لطاعتی لوجهی و ابتغاء مرضاتی، إلاّ تولّیت تقویمه و سیاسته.و من اشتغل فی صلاته بغیری فهو من المستهزئین بنفسه، و اسمه مکتوب فی دیوان الخاسرین».

أما التشهد فی الصلاة فیصفه علیه السّلام:

«التشهد ثناء علی اللّه،فکن عبدا له فی السرّ،خاضعا له فی الفعل،کما أنک عبد له فی القول و الدعوی.و صل صدق لسانک بصفاء صدق سرّک،فإنه خلقک عبدا،و أمرک أن تعبده بقلبک و لسانک و جوارحک،و أن تحقق عبودیتک له و ربوبیته لک،و تعلم أن نواصی الخلق بیده،فلیس لهم نفس و لا لحظة إلا بقدرته و مشیّته، و هم عاجزون عن إتیان أقل شیء فی مملکته إلا بإذنه و إرادته.قال اللّه عز و جل:

وَ رَبُّکَ یَخْلُقُ ما یَشاءُ وَ یَخْتارُ ما کانَ لَهُمُ الْخِیَرَةُ سُبْحانَ اللّهِ وَ تَعالی عَمّا یُشْرِکُونَ فکن للّه عبدا شاکرا بالقول و الدعوی،و صل صدق لسانک بصفاء سرّک،فإنه خلقک،فعزّ و جلّ أن تکون إرادة و مشیة لأحد إلا بسابق إرادته و مشیته،فاستعمل العبودیة فی الرضا بحکمته،و بالعبادة فی أداء أوامره.و قد أمرک بالصلاة علی حبیبه محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فأوصل

ص:293

صلاته بصلاته،و طاعته بطاعته،و شهادته بشهادته.و انظر ألاّ تفوتک برکات معرفة، حرمته فتحرم عن فائدة صلاته.و أمره بالاستغفار لک و الشفاعة فیک إن أتیت بالواجب فی الأمر و النهی و السنن و الآداب،و تعلم جلیل مرتبته عند اللّه عز و جل».

و قبل أن نأتی إلی التسلیم أو استقبال القبلة،فإن ما یطلع علیه المؤمن فی عالم العبودیة من وجوه الحریة و مظاهر العزّة و أسباب القوة،و ما یراه فی دنیا الطاعة من أشکال النفع و عوامل السیادة،و بواسطة بیان الإمام الصادق و بنائه اللغوی و صیاغته البلاغیة،یلمس المسلم فی ظل الظرف أن عالم الإمامة و منهج الحجة هو الطریق إلی الصمیم و الغور،و أن عالم السلطان و سیاسة خلفاء الزمان هو فی الشکل و المظهر، و الأول فیه من القوة و المنعة ما یکسر السیوف،و یبطل مکاید الحکام،لأنه متصل باللّه و متعلق بهداه.

و لهذا رأینا الإمام الصادق-کما فی روایة عمّار الساباطی-ینهی أن یتوشّح الإمام.و فی روایة أخری عن الهیثم بن واقد أن الإمام قال:«إنما کره التوشّح فوق القمیص لأنه من فعل الجبابرة».

و أی مؤمن مسلم یستغنی علی مرّ الدهور عن أضواء الصادق علیه السّلام؟و هو یقود الألباب،و یوجه النفوس إلی عوالم الإسلام و روحانیة الرسالة المحمدیة التی استملی منها قواعد منهجه،و استمد من بهائها لوائح نهجه.و ما أوردناه متعلق بالأجزاء القلیلة التی اخترناها،أما غیرها من أقوال الإمام الصادق فهی من السعة و الکثرة بحیث قامت علیها أصول کتب الفقه الشیعی،و أغنت مصنّفات علمائهم عبر المئات من السنین،و ضمّت أبواب الصلاة بیان علل الأرکان و الرکعات و الأحکام المتعلقة بها،و ما إلیها من مستحبات و مبطلات،و کافة المسائل المتعلقة بها مما یحمل المسلم إلی بحر زخّار بالعلم و الهدایة.

فی التسلیم یقول الإمام الصادق علیه السّلام:

«معنی التسلیم فی دبر کل صلاة:الأمان،أی من أتی أمر اللّه و سنّة نبیه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم خاضعا له خاشعا منه؛فله الأمان من بلاء الدنیا،و البراءة من عذاب الآخرة.و السّلام اسم من أسماء اللّه تعالی،أودعه خلقه لیستعملوا معناه فی المعاملات و الأمانات، و تصدیق مصاحبتهم فیما بینهم،و صحة معاشرتهم.فإن أردت أن تضع السّلام

ص:294

موضعه،و تؤدی معناه،فاتق اللّه تعالی لیسلم منک دینک و قلبک و عقلک،ألاّ تدنسها بظلمة المعاصی.و لتسلم منک حفظتک ألا تبرمهم و تملّهم و توحشهم منک بسوء معاملتک معهم،ثم مع صدیقک،ثم مع عدوک.فإن من لم یسلم منه من هو الأقرب إلیه فالأبعد أولی،و من لا یضع السّلام مواضعه فلا سلام و لا إسلام و لا تسلیم،و کان کاذبا فی سلامه و إن أفشاه فی الخلق».

أما الاستقبال،فإن الإمام الصادق یجعله خروجا من مشاغل الدنیا و همومها، و تطلّعا إلی عالم اللّه:«إذا استقبلت القبلة فآیس من الدنیا و ما فیها،و الخلق و ما هم فیه،و استفرغ قلبک من کل شاغل یشغلک عن اللّه تعالی،و عاین بسرّک عظمة اللّه عز و جل،و اذکر وقوفک بین یدیه،قال اللّه تعالی: هُنالِکَ تَبْلُوا کُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَی اللّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وقف علی قدم الخوف و الرجاء».

إذا من المکوّنات الأساسیة للمدرسة و المنهج هو العمل علی الطاعة،و الدخول إلی عالم العبودیة المطلقة للّه،و فی ذلک سرّ هذا التکامل فی المنهج و القوة فی الموقف إذا نظرت إلی ذلک العصر بنظرة العموم،من حیث أن الدنیا موضع ابتلاء لامتلائها بالمفاسد و الأهواء التی لها سلطان علی الأنفس فی کل الأحوال،إلاّ من رحم اللّه،فقاده إلی الإیمان و هداه إلی الحجة.أما إذا نظرت إلی العصر بخصائصه و أحواله،فهو ملئ بالأحداث کما رأیت،فإن وضعنا مدرسة الإمام الصادق وسط هذه الأحداث،وجدنا أن المدرسة فی معرکة لا تهدأ،و جهاد لا یفتر.و قد جلبت شهرة الإمام الصادق و شیوع ذکره أفرادا من الناس لهم أغراض مختلفة،فمنهم الباحث عن الحق الذی یرجوه لشفاء نفسه مما ألم بها لتعرّضها إلی الأفکار و الأقوال التی یموج بها المجتمع،و منهم المتبحّر فی علوم الکلام و فنون الفکر و مذاهب الأولین،و منهم الملحد الزندیق،إلی غیرهم من الأصناف.و الکثیر منهم یتّصل بفرقة و ینتمی إلی مذهب،فالحروریة و غیرها ما زالت فی ثنایا المجتمع تعمل بفسادها، و العثمانیة و نحوها موغلة فی جسم الأمة بعنادها،و المعتزلة و أصنافها متسابقة فی المضمار ساعیة إلی الانتصار،و الجبریة و سلطانها تؤثر فی النفوس بأفکارها.

و قد مرّ بنا ذکر أغلبها فی معرض أقوال الإمام الصادق و أجوبته،أو مناظرات أصحابه،و حصرنا علاقة الإمام الصادق بالمعتزلة فی أجواء هذا العصر بالجانب الذی یتعلق بموقف الإمام الصادق من الحکام و الظلم کما سیأتی.أما أقوالهم الأخری

ص:295

و أهمها:أن الإنسان یخلق أعماله،و أن لیس للّه فی ذلک صنع أو تقدیر.و یقابلهم الجبریة الذین ینفون قدرة الإنسان،و یضیفون الفعل إلی اللّه حقیقة و إضافة.

ففی وسط احتدام الجدل فی ذلک،و تحکّم العناد و الانفعال،قال الإمام الصادق مقالة الحق التی تقوم علی حقائق التنزیل و دلائل الواقع،فقال علیه السّلام:«لا جبر و لا تفویض.لأن اللّه أعدل من أن یجبرهم علی المعاصی ثم یعذّبهم علیها».

و کان ذلک فی مبدأ ظهور الجدل فی هذه المسألة،و بقی قوله علیه السّلام قاعدة ثابتة و عقیدة راسخة.فالإمام علی بن موسی الرضا عند ما یسأل عن قول جدّه الصادق علیه السّلام و ما معناه؟یقول الرضا:«من زعم أن اللّه عزّ و جل فعل أفعالنا،ثم یعذبنا علیها؛فقد قال بالجبر.و من زعم أن اللّه عزّ و جل فوّض أمر الخلق و الرزق إلی حججه؛فقد قال بالتفویض.فالقائل بالجبر کافر،و القائل بالتفویض مشرک» (1).

و القصد أن تلک الفترة التی عاشها الإمام الصادق شهدت مقالات و اعتقادات و آراء شتی وجدت طریقها إلی عقول الناس،و تباینت آثارها،و اختلف أثرها.و من الحق فإن العنایة الإلهیة فی توجیه الإمامة و نهوض الإمام الصادق بأعباء مسئولیاتها قد حفظ تماسک الأمة و بقاء معتقداتها الأصلیة،و لا یمکن أن نتصوّر شخصا أو جهات متعددة-و إن تظاهرت و اتحدت-بقادرة علی القیام بمثل هذه المهمة،و مواجهة ما یجری علی الساحة و ما یزرع فیها من أفکار،غیر من یشرق بنور النبوة و یفرغ من معین حکمتها عالما بأسرار الملة،عارفا بدقائق الحکمة الإلهیة،محیطا بتاریخ الشرائع و الأدیان و الأمم کالإمام الصادق علیه السّلام.فتجد فی کل رأی حجة،و فی کل إجابة له مستند یناسب القول و یدعمه.

فعند ما یسأله أعداء الإسلام:کیف یجیء من لا شیء شیء؟یقول علیه السّلام:

«إن الأشیاء لا تخلو إما أن تکون خلقت من شیء أو من غیر شیء،فإن کان خلقت من شیء کان معه،فإن ذلک الشیء قدیم،و القدیم لا یکون حدیثا،و لا یفنی و لا یتغیّر.و لا یخلو ذلک الشیء من أن یکون جوهرا واحدا و لونا واحدا.فمن أین جاءت هذه الألوان المختلفة و الجواهر الکثیرة الموجودة فی هذا العالم من ضروب شتی؟ و من أین جاء الموت إن کان الشیء الذی أنشئت منه الأشیاء حیا؟و من أین جاءت

ص:296


1- (1) روضة الواعظین. [1]

الحیاة إن کان ذلک الشیء میتا؟و لا یجوز أن یکون من حی و میت قدیمین لم یزالا، لأن الحی لا یحیی منه میت و هو لم یزل حیا.و لا یجوز أیضا أن یکون المیت قدیما لم یزل لما هو به من الموت،لأن المیت لا قدرة له و لا بقاء».

و فی مورد الردّ علی القول بأن الأشیاء أزلیة.قال علیه السّلام:

«هذه مقالة قوم جحدوا مدبّر الأشیاء،فکذّبوا الرسل و مقالتهم،و الأنبیاء و ما أنبئوا عنه،و سمّوا کتبهم أساطیر،و وضعوا لأنفسهم دینا بآرائهم و استحسانهم.إن الأشیاء تدل علی حدوثها:من دوران الفلک بما فیه،و هی سبعة أفلاک.و تحرّک الأرض و من علیها،و انقلاب الأزمنة،و اختلاف الوقت،و الحوادث التی تحدث فی العالم:من زیادة و نقصان و موت و بلی،و اضطرار النفس إلی الإقرار بأن لها صانعا و مدبّرا.أ لا تری الحلو یصیر حامضا،و العذب مرّا،و الجدید بالیا،و کلّ إلی تغیر و فناء» (1).

و نورد هنا أمثلة بسیطة للإشارة فحسب و لیست للاستقصاء و الإحاطة لیحصل للقارئ ما یومیء إلی أغوار العلوم التی قامت علیها شخصیة الإمام الصادق علیه السّلام لأن الإحاطة بالجانب العلمی من شخصیته علیه السّلام و آثاره فی منهجه،أکبر من اختصاص فصل من الفصول،بل هو أکبر مما علیه وسع الطاقة.

فانظر إلی قوله علیه السّلام:«إنی رأیت الرجل الماهر فی طبّه إذا سألته لم یقف علی حدود نفسه،و تألیف بدنه،و ترکیب أعضائه،و مجری الأغذیة فی جوارحه، و مخرج نفسه،و حرکة لسانه،و مستقرّ کلامه،و نور بصره،و انتشار ذکره،و اختلاف شهواته،و انسکاب عبرته،و مجمع سمعه،و موضع عقله،و مسکن روحه،و مخرج عطسته،و هیج غمومه،و أسباب سروره،و علة ما حدث فیه من بکم و صمم و غیر ذلک.لم یکن فی ذلک أکثر من أقاویل استحسنوها،و علل فیما بینهم جوّزوها».

و لکنه علیه السّلام یحتجّ بعلمه بتألیف الأبدان و حکمة الخلق فی أمور الفقه بقصد التنبیه علی تجنّب القول فی الدین بالرأی.و یصرّح أن علمه أخبره به أبوه عن جدّه أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«إن اللّه تعالی بمنّه و فضله جعل لابن آدم الملوحة فی العینین

ص:297


1- (1) الاحتجاج للطبرسی.

لأنهما شحمتان،و لو لا ذلک لذابتا.و جعل المرارة فی الأذنین من الدواب،فإن دخلت دابة و التمست الدماغ،فإذا ذاقت المرارة التمست الخروج.و جعل الحرارة فی المنخرین یستنشق بهما الریح،و لو لا ذلک لأنتن الدماغ.و جعل العذوبة فی الشفتین یجد بهما استطعام کل شیء،و یسمع الناس بهما حلاوة منطقه».

و تکشف الأسئلة التی توجّه إلیه عن نمط من الفکر،متأثر بنتائج الاطلاع علی مدارس القدماء و فلسفة الأولین،و هم فی تردّدهم و قصدهم الإمام الصادق کانوا یستشعرون ضعف أقوالهم و بطلان حججهم،فیزدادون إلحافا.

روی أن المفضّل لما سمع من ابن أبی العوجاء بعض ما رشح منه من الکفر و الإلحاد،لم یملک غضبه فقال:یا عدو اللّه،ألحدت فی دین اللّه و أنکرت الباری...

قال له ابن أبی العوجاء:یا هذا،إن کنت من أهل الکلام کلّمناک،فإن ثبتت لک الحجة تبعناک.و إن لم تکن منهم فلا کلام لک،و إن کنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هکذا یخاطبنا و لا بمثل ذلک یجادلنا.و لقد سمع من کلامنا أکثر ما سمعت،فما أفحش فی خطابنا،و إنه الحلیم الرزین العاقل الرصین،لا یعتریه خرق و لا طیش و لا نزق،یسمع کلامنا و یصغی إلینا،و یستعرف حجّتنا،حتی إذا استفرغنا ما عندنا،و ظننا أننا قد قطعناه،أدحض حجّتنا بکلام یسیر و خطاب قصیر،یلزمنا الحجة،و یقطع العذر،و لا نستطیع لجوابه ردا.

سألوا الإمام الصادق:فیم استحق الطفل الصغیر ما یصیبه من الأوجاع و الأمراض صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بلا ذنب عمله و لا جرم سلف منه؟ قال علیه السّلام:«إن المرض علی وجوه شتی:مرض بلوی،و مرض عقوبة، و مرض جعل للفناء.و أنت تزعم أن ذلک من أغذیة ردیة و أشربة و بیّة،أو من علة کانت بأمه.و تزعم أن من أحسن السیاسة لبدنه،و أجمل النظر فی أحوال نفسه، و عرف الضارّ مما یأکل من النافع لم یمرض.و تمیل فی قولک إلی من یزعم:أنه لا یکون المرض و الموت إلا من المطعم و المشرب؟قد مات أرسطوطالیس معلم الأطباء،و أفلاطون رئیس الحکماء،و جالینوس شاخ و دقّ بصره،و ما دفع الموت حین نزل بساحته،و لم یألوا حفظ أنفسهم و النظر لما یوافقها.کم مریضا زاده المعالج

ص:298

سقما،و کم من طبیب عالم،و بصیر بالأدواء و الأدویة ماهر مات،و عاش جاهل بالطب بعده زمانا،فلا ذاک نفعه علمه بطبّه عند انقطاع مدته و حضور أجله،و لا هذا ضرّه الجهل بالطب مع بقاء المدة و تأخر الأجل».

ثم قال علیه السّلام:«إن أکثر الأطباء قالوا:إن علم الطب لم تعرفه الأنبیاء،فما نصنع علی قیاس قولهم بعلم زعموا لیس تعرفه الأنبیاء الذین کانوا حجج اللّه علی خلقه و أمناءه فی أرضه و خزّان علمه،و ورثة حکمته،و الإدلاء علیه،و الدعاة إلی طاعته.ثم إنی وجدت أن أکثرهم یتنکب فی مذهبه سبل الأنبیاء،و یکذّب الکتب المنزلة علیهم من اللّه تبارک و تعالی.فهذا الذی أزهدنی فی طلبه و حاملیه»...ا ه.

و یظهر لنا من أجوبة الإمام الصادق علیه السّلام و مناظراته،أن المسائل التی احتوتها لم تترک ضربا من التساؤل و التفکر یتعلق بعلم أو تاریخ أو دین أو فقه إلاّ و أشبعته إیضاحا و بیانا،و یجری الکلام فی منهج یعتبر القصد و یراعی الغرض،لأن طریقة الاحتجاج و الردّ فی منهج الإمام الصادق هی غیر طریقة الإرشاد و النصح و التعلیم، و علامات کل منهما واضحة.

روی محمد بن مسلم و الحلبی عن أبی عبد اللّه الصادق علیه السّلام فی قول اللّه عز و جل: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِیهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِی الْحَجِّ فقال:«إن اللّه عز و جل اشترط علی الناس شرطا،و شرط لهم شرطا،فمن وفی له وفی اللّه له».فقالا له:فما الذی اشترط علیهم،و ما الذی شرط لهم؟فقال:

«أما الذی اشترط علیهم،فإنه قال الحج أشهر معلومات،فمن فرض فیهن الحج فلا رفث و لا فسوق و لا جدال فی الحج.و أما الذی اشترط لهم،فإنه قال:فمن تعجل فی یومین فلا إثم علیه،و من تأخر فلا إثم علیه لمن أتقی.فقال:یرجع و لا ذنب له».

فقالا:أ رأیت من أبتلی بالفسوق ما علیه؟قال:«لم یجعل اللّه عز و جل له حدا، یستغفر اللّه و یلبی».فقالا:فمن أبتلی بالجدال فما علیه؟فقال:«إذا جادل فوق مرتین،فعلی المصیب دم یهریقه شاة و علی المخطئ بقرة»ا ه.

و حین یتدرج الزنادقة و الملحدون فی محاورته،و یسأله المشککون و الکفار بکل ما یعنّ لهم،تری جوابه علیه السّلام بشیء من الإیجاز المذهل الذی یجمع أطراف المعرفة و یضمّ الأدلة الشافیة.

ص:299

فمن جملة حوار طویل.یسأل علیه السّلام:فما قصة مانی؟ و یجیب علیه السّلام:«متفحّص أخذ بعض المجوسیة فشابها ببعض النصرانیة، فأخطأ الملّتین،و لم یصب مذهبا واحدا منهما،و زعم أن العالم دبّر من إلهین نور و ظلمة،و إن النور فی حصار من الظلمة علی ما حکینا منه،فکذّبته النصاری،و قبلته المجوس».

قال:فأخبرنی عن المجوس،أ فبعث اللّه إلیهم نبیا؟فإنی أجد لهم کتبا محکمة و مواعظ بلیغة،و أمثالا شافیة،یقرّون بالثواب و العقاب،و لهم شرایع یعملون بها.

قال علیه السّلام:«ما من أمة إلا خلا فیها نذیر.و قد بعث إلیهم نبی بکتاب من عند اللّه فأنکروه و جحدوا کتابه».

قال:و من هو،فإن الناس یزعمون أنه خالد بن سنان؟ قال:«إن خالدا کان عربیا بدویا،ما کان نبیا،و إنما ذلک شیء یقوله الناس».

قال:أفزردشت؟ قال:«إن زردشت أتاهم بزمزمة،و ادعی النبوة،فآمن منهم قوم و جحده قوم، فأخرجوه،فأکلته السباع فی بریة من الأرض».

قال:فأخبرنی عن المجوس،کانوا أقرب إلی الصواب فی دهرهم أم العرب؟ قال علیه السّلام:«العرب فی الجاهلیة کانت أقرب إلی الدین الحنیفی من المجوس،و ذلک أن المجوس کفرت بکل الأنبیاء و جحدت کتبهم و أنکرت براهینهم.

و لم تأخذ بشیء من سننهم و آثارهم.و إن کیخسرو-ملک المجوس فی الدهر الأول- قتل ثلاثمائة نبی،و کانت المجوس لا تغتسل من الجنابة،و العرب کانت تغتسل من الجنابة،و الاغتسال من خالص شرائع الحنیفیة.و کانت المجوس لا تختن،و هو من سنن الأنبیاء،و أول من فعل ذلک إبراهیم خلیل اللّه،و کانت المجوس لا تغسل موتاها و لا تکفنها،و کانت العرب تفعل ذلک.و کانت المجوس ترمی الموتی فی الصحاری و النواویس،و العرب تواریها فی قبورها و تلحدها و کذلک السنّة علی الرسل،إن أول من حفر له قبر آدم أبو البشر و ألحد له لحد.و کانت المجوس تأتی الأمهات و تنکح البنات و الأخوات،و حرمت ذلک العرب.و أنکرت المجوس بیت اللّه الحرام و سمّته

ص:300

بیت الشیطان،و العرب کانت تحجّه و تعظّمه و تقول:بیت ربنا.و تقرّ بالتوراة و الإنجیل و تسأل أهل الکتب،و تأخذ.و کانت العرب فی کل الأسباب أقرب إلی الدین الحنیفی من المجوس...».

قال:فإنهم احتجوا بإتیان الأخوات أنها سنّة آدم.

قال:«فما حجتهم فی إتیان البنات و الأمهات (1)،و قد حرّم ذلک آدم،و کذلک نوح و إبراهیم و موسی و عیسی و سائر الأنبیاء و کل ما جاء عن اللّه عز و جل».

قال:و لم حرّم اللّه الخمر،و لا لذة أفضل منها؟ قال:«حرّمها لأنها أم الخبائث و أسّ کل شر،یأتی علی شاربها ساعة یسلب لبّه،و لا یعرف ربه،و لا یترک معصیة إلا رکبها،و لا حرمة إلا انتهکها،و لا رحما ماسة إلا قطعها،و لا فاحشة إلا أتاها.و السکران زمامه بید الشیطان إن أمره أن یسجد للأوثان سجد،و ینقاد حیثما قاده».

قال:فلم حرّم الدم المسفوح؟ قال:«لأنه یورث القساوة.و یسلب الفؤاد رحمته،و یعضّ البدن،و یغیر اللون، و أکثر ما یصیب الإنسان الجذام یکون من أکل الدم».

ص:301


1- (1) معلوم أن الإمام الصادق علیه السّلام ساق الزواج بالمحارم من البنات و الأمهات فی الاستدلال لیکون الردّ أشمل،فقد بیّن علیه السّلام خطأ القول بأن اللّه أوحی إلی آدم أن یزوج بناته بنیه،و روایة زرارة بن أعین أن الإمام الصادق سئل عن ذلک فأجاب: «تعالی اللّه عن ذلک علوا کبیرا یقول من قال هذا:بأن اللّه عز و جل خلق صفوة خلقه و أحبائه و أنبیائه و رسله المؤمنین و المؤمنات و المسلمین و المسلمات من حرام،و لم یکن له من القدرة ما یخلقهم من حلال.و قد أخذ میثاقهم علی الحلال الطهر الطاهر الطیب.إن اللّه أمر القلم،فجری علی اللوح المحفوظ بما هو کائن إلی یوم القیامة قبل خلق آدم بألفی عام،و إن کتب اللّه کلها فیما جری فیها العلم فی کلها تحریم الإخوة مع ما حرم.لما قتل قابیل هابیل جزع آدم علی هابیل جزعا قطعه عن إتیان النساء،ثم تخلی ما به من الجزع،فغشی حواء فوهب اللّه له شیئا وحده و لیس معه ثانی.ثم ولد له من بعد شیت یافث لیس معه ثانی،فلما أدرکا و أراد اللّه عز و جل أن یبلغ بالنسل ما ترون،و أن یکون ما قد جری به القلم من تحریم ما حرّم اللّه عز و جل من الأخوات علی الإخوة أنزل بعد العصر فی یوم الخمیس حوراء من الجنة،فأمره اللّه عز و جل أن یزوجها من شیت،فزوجها منه.ثم أنزل بعد العصر من الغد حوراء من الجنة،فأمره اللّه عز و جل أن یزوجها من یافث.فزوجها منه...»الروایة.

قال:فالمیتة لم حرّمها؟ قال علیه السّلام:«فرقا بینها و بین ما یذکر اسم اللّه علیه،و المیتة قد جمد فیها الدم،و تراجع إلی بدنها،فلحمها ثقیل غیر مریء،لأنها یؤکل لحمها بدمها.

و أخیرا فإن الإنسان یجد نفسه و هو یبحث فی منهج الإمام الصادق و مدرسته العلمیة عاجزا عن تخیّل حدّ یعتقد أن الوقوف عنده یکون ختاما مناسبا لما بدأه،لأن شخصیة کالإمام الصادق،لا یفی الکلام علی نهجها العلمی و ما ترکته من مآثر مثل هذا الجهد المتواضع.

ص:302

الإمام الصادق

اشارة

و موقفه من الحکام الظالمین

وَ لا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ [هود:113].

وَ مَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِکَ هُمُ الظّالِمُونَ [المائدة:45].

من أبرز سمات تاریخ أهل البیت،و أظهر خصائص سیرهم،هو النهی عن الظلم و محاربة الظالمین.و قد قام رجال أهل البیت النبوی بما یجب علیهم من نصرة العدل و الوقوف بوجه الطغاة،و کانت مواقفهم کما تقتضیه المصلحة الدینیة و تحتمه ضرورات الرسالة و الدعوة.

کانوا علیهم السّلام یعظمون علی الإنسان ارتکاب العدوان علی الغیر و ظلم الناس، فهذا إمام أهل العدل أمیر المؤمنین علیه السّلام یقول:«و اللّه لئن أبیت علی حسک السعدان مسهدا،أو أجرّ فی الإغلال مصفدا؛أحبّ إلیّ من أن ألقی اللّه و رسوله ظالما لبعض العباد و غاصبا لشیء من الحطام».

و قد اتفقت الشرائع و تطابقت الأدیان کما تسالمت العقول علی قبح الظلم، فسعی سید الخلق و خاتم النبیین محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلی إرساء قواعد العدل فی حیاته،و تأکید مبادئ المساواة علی عهده،ثم وضع الناس فی صورة ما ستکون علیه الحال و ما ستؤول إلیه.فعن کعب بن عجرة قال:قال لی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«أعیذک باللّه یا کعب بن عجرة من أمراء یکونون بعدی،من غشی أبوابهم و صدّقهم فی کذبهم، و أعانهم علی ظلمهم فلیس منی و لست منه،و لا یرد علیّ الحوض.و من لم یغش أبوابهم و لم یصدّقهم فی کذبهم،و لم یعنهم علی ظلمهم فهو منی و أنا منه،و سیرد علیّ الحوض» (1).

ص:303


1- (1) تیسیر الوصول للشیبانی ج 2 ص 40.

و قد خرج الإمام أحمد و الترمذی و النسائی و ابن حیان فی صحیحه ذلک.

مرحلة الثورة و مرحلة الدعوة
اشارة

:

و قد کان من عظیم منزلة أهل البیت عند اللّه و خطورة شأنهم أن یکونوا مناط الرسالة و وسیلة استمرار الدعوة،فکانت الإمامة مشتملة علی صفات العصمة التی تفیض بنور من الجلالة و بسلطة من النبوة حتی تکون الدعوة فی حفظ و تبقی فی حرز، و للأئمة من أهل البیت أدوارهم و مهمّاتهم التی ینهضون بها فی کل مرحلة،فکان صلح الحسن حمایة للأمة،بعد ما أظهرت الوقائع أن سیاسة الختل و حکم الطلقاء هیمنا علی الناس و أفسدا النفوس،و أن معسکر العراق غلبت علیه أهواء أهل النفوس المریضة و الهمم الضعیفة،و بات المخلصون قلة لا یرجی بهم نصر،فهادن الحسن بشروط معروفة،و استقبلها معاویة بنیّة العذر و الخیانة.

ثم کانت ثورة الإباء و نهضة الإیمان علی ید أبی الشهداء الإمام الحسین،التی قامت منذ ساعة خروج الحسین من المدینة علی بیّنة کاملة و صورة واضحة من التفاصیل و المجریات،فلا بد من تلک الدماء و التضحیات للوقوف بوجه الانحراف و الردّة و ترسیخ مبادئ العقیدة فی النفوس،و قد کانت الجولة الثانیة بین الوثنیة التی اضطرت إلی الإسلام لتسلم،و بین رسالة محمد،و کان من نتائج هذه الجولة أن تسفک دماء أهل بیت محمد،و تسبی نساؤه و ذراریه،و ترتکب أمیة تلک المجزرة، و کان ذلک کله وفق تخطیط السماء لمسیرة البشریة و سلسلة الرسل و الأنبیاء و الأوصیاء عبر التاریخ.

روی أحمد،و أخرج البغوی فی معجم الصحابة،و الطبرانی عن أنس قال:

استأذن ملک القطر ربه أن یزور النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فأذن له.و کان فی یوم أم سلمة،فقال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لأم سلمة:«احفظی الباب لا یدخل علینا أحد،فبینما هی علی الباب،إذ دخل علیه الحسین فاقتحم یتوثب علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فجعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یلثمه و یقبّله» فقال له الملک:أ تحبه؟قال«نعم»قال:إن أمتک ستقتله،و إن شئت أریتک المکان الذی یقتل به.فأراه إیّاه،فجاء بطینة حمراء،فأخذتها أم سلمة فصرّتها فی خمارها.

قال ثابت:بلغنا أنها کربلاء (1).

ص:304


1- (1) مسند أحمد ج 2. [1]

و أخرج الطبرانی عن أبی الطفیل قال:استأذن ملک القطر بأن یسلّم علی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی بیت أم سلمة،فقال:«لا یدخل علینا أحد»فجاء الحسین فدخل، فقالت أم سلمة:هو الحسین.فقال:«دعیه»فجعل یعلو رقبة رسول اللّه و یعبث به، و الملک ینظر.فقال الملک:أ تحبه یا محمد؟قال:«أی و اللّه إنی لأحبه»قال:أما أن أمتک ستقتله،و إن شئت أریتک المکان.فقام بیده فتناول کفا من تراب،فأخذت أم سلمة التراب،فصرّته فی خمارها،فکانوا یرون أن ذلک التراب من کربلاء (1).

و عن عبد اللّه بن نجی عن أبیه أنه سافر مع الإمام علی-و کان صاحب مطهرته -فلما جاءوا نینوی و هو منطلق إلی صفین نادی علی:«صبرا أبا عبد اللّه،صبرا أبا عبد اللّه لشط الفرات»قلت:و من ذا أبو عبد اللّه؟قال الإمام:«دخلت علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و عیناه تفیضان،فقلت:یا نبی اللّه،أغضبک أحد،ما شأن عینیک؟ قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:بلی قام من عندی جبریل قبل،فحدثنی أن الحسین یقتل بشط الفرات، و قال:هل لک أن أشمّک من تربته؟فقلت:نعم.فمدّ یده،فقبض قبضة من تراب فأعطانیها،فلم أملک عینی أن فاضتا (2)».

و لذلک تری الحسین یجیب من یریده علی العدول عن مواجهة بنی أمیة بالقول:

«و مهما یقض اللّه یکن».فهو علیه السّلام یعلم رسالته کیف تکون و ما هو مقدم علیه،و لا بد من مقاومة الظلم،بعد أن أدی البغی علی أبیه و أخیه علیهم السّلام إلی قوة غاشمة و سلطان جائر.فکان یردّ علی ابن عباس:«لأن أقتل و اللّه بمکان کذا أحب إلیّ من أن استحل بمکة».و فی لفظ:«أحب إلیّ من أن یستحلّ بی حرم اللّه و رسوله» (3).

و أتاه رجل من مشایخ العرب فقال له علیه السّلام:أنشدک اللّه تعالی إلا انصرفت، فو اللّه ما تقدم إلاّ علی الأسنّة و حدّ السیوف،فإن هؤلاء الذین بعثوا إلیک لو کانوا کفوک مئونة القتال و وطئوا لک الأمور،و قدمت من غیر حرب کان ذلک رأیا،و أما علی هذه الحالة التی تری فلا أری لک أن تفعل.

فقال له الحسین علیه السّلام:«لا یخفی علیّ شیء مما ذکرته،و لکنی صابر محتسب حتی یقضی اللّه أمرا کان مفعولا» (4).

ص:305


1- (1) الحبائک فی أخبار الملائک للسیوطی ص 44 و 45.
2- (2) تهذیب الکمال فی أسماء الرجال ج 6 ص 401.و [1]المعجم الکبیر للطبرانی ج 3 ص 106.
3- (3) مروج الذهب ج 3 ص 65.و [2]الکبیر للطبرانی ج 3 ص 199.
4- (4) نور الأبصار للشبلنجیّ ص 129. [3]

و قال الحسین علیه السّلام فی وصیته لأخیه محمد بن الحنفیة:

«إنی لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما،و إنما خرجت أطلب الإصلاح فی أمة جدّی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أرید أن آمر بالمعروف و أنهی عن المنکر،و أسیر بسیرة جدّی محمد،و سیرة أبی علی بن أبی طالب.فمن قبلنی بقبول الحق فاللّه أولی بالحق،و من ردّ علیّ هذا،صبرت حتی یقضی اللّه بینی و بین القوم بالحق و یحکم بینی و بینهم و هو خیر الحاکمین» (1).

و یستشهد الحسین علیه السّلام هو و أصحابه،و تجری تلک الفظائع،و یرتکب آل أبی سفیان قبائح لم تعهد حتی فی الجاهلیة،و قد أحزنت قلوب أهل الکتاب،و توجّع لها أصحاب الشرائع و الملل الأخری.و بثورة الطف حیل بین أمیة و بین العودة بالحکم إلی الجاهلیة و الارتداد بالأمة إلی الشرک،لأن مظاهر الفداء و صور البطولة و التضحیة التی زخرت بها سیرة الإمام الحسین،و ظهرت ببهائها علی أرض کربلاء بإزاء قوات الشرک و الضلالة جدّدت مسیرة الجهاد و أحیت فی النفوس روح الرسالة،و وضعت الأمة علی طریق الهدایة و الحق (2).

الإمام زین العابدین

:

و لننظر إلی نهایة المعرکة بین الثورة و بین الظالمین،فإن أشکال الحقد التی انطوت علیها نفوس الظالمین و أعوانهم،و مشاعر الحقد و العداء التی تجسدت بتلک الفظائع و الانتهاکات.لا یمکن أن یقف أمامها مرض فتی للحسین و یمنعها من قتله.

فکل الأفعال تشهد بانعدام الذمة،و خلوّهم من الرحمة،و تجرّدهم من الأخلاق.فلم یسلم طفل الحسین الرضیع عبد اللّه،فقتلوه بسهم،و کان أبوه یطلب الماء له.

و تجرءوا بکل خسّة علی انتهاک حرمة الخدور،فأفزعوا ربّات الحجال و الطهر و العفاف،و یمسک القلم هنا استعظاما.

أقول:نحن مع صفحة من صفحات العنایة الربانیة لتحفظ الإمام علی بن الحسین و یخرج من المعرکة،و هو مملوء بالحزن و الآلام،و ینجیه اللّه من المواقف الأخری التی أعقبت المعرکة.فقد أمر ابن زیاد بقتل الإمام لو لا تدخل بطلة الطف

ص:306


1- (1) مقتل الحسین للخوارزمی.
2- (2) انظر کتابنا:مع الحسین فی نهضته،بیروت 1394 ه و فیه تبادلنا الأحداث بتبسیط و یسر.

العقیلة زینب و قالت له:«حسبک من دمائنا،أسألک باللّه إن قتلته إلا قتلتنی معه» فترکه (1).

و کان الإمام الحسین علیه السّلام قد أخبر بنجاة الإمام زین العابدین من مذبحة کربلاء،و برعایة اللّه لولده علی من سیوف الأمویین و محاولاتهم حفظا لمقام الإمامة التی أعدّ لها و تهیأ و تأهب فی ظل السبط المنتجب.و قد ذکر الطبری فی دلائل الإمامة کما فی روایة السید ابن طاوس فی اللهوف إشارة الإمام الحسین إلی مصرع أصحابه، و أنه لا ینجو منهم إلا ولده علی علیه السّلام (2).

و فی روایة المقتل:أن الإمام الحسین منع زین العابدین من أن یشترک فی قتال الفجرة أعوان الأمویین و جنودهم،فقد حاول الإمام زین العابدین-لما رأی وحدة أبیه-أن یقاتل برغم مرضه،فمنعه الإمام الحسین رعایة لأمر اللّه فی بقاء الرسالة فی نسل النبی المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،فلا اعتبار لمحاولات الاعتذار التی سلکها بعض المؤرخین لتبریر تولی من أسهم فی جریمة قتل آل محمد و الأجهاز علی أبناء بیت النبوة إرضاء للحکام و عصبیة للإماء الذین ینتسب إلیهم قادة محاربی العترة الطاهرة و رسالتهم السماویة،فیتقولون أن عمر بن سعد قال یوم کربلاء:لا تعرضوا لهذا المریض (3).

و سرعان ما تقلّد الإمام زین العابدین أعباء الإمامة،و نهض بمهمات الدعوة، فوقف بصلابة و هو فی بلاط أمیة و فی عاصمة ملکها.و به تبدأ مرحلة الدعوة فی ظل آثار ثورة أبیه الشهید،فالدماء التی أهرقت فی کربلاء سرت بأوصال التاریخ و شرایین الأیام،فإن بقی للأمویین الظالمین ذکر فهو؛لا یمت للعقیدة بصلة،و إنما فی ظل الحکم و السلطان،و ما ینمو فی ضلالهما من المظالم و المفاسد.أما ثورة الحسین فهی إطار العقیدة الإسلامیة،و مدخل انتصار العقیدة فی النفوس فی ظل الإمامة و الولایة.

لما أراد یزید من الإمام زین العابدین أن یصعد المنبر و یتکلم بما یریده،قال یزید:أصعد المنبر فأعلم الناس حال الفتنة و ما رزق اللّه أمیر المؤمنین من الظفر.فقال الإمام علی زین العابدین:«ما أعرفنی بما ترید».

ص:307


1- (1) الطبقات الکبری ج 5 ص 212. [1]
2- (2) اللهوف ص 26. [2]
3- (3) انظر سیر أعلام النبلاء للذهبی ج 4 ص 388.

فصعد المنبر،فحمد اللّه و أثنی علیه.و صلی علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثم قال:«أیها الناس من عرفنی فقد عرفنی،و من لم یعرفنی فأنا أعرّفه بنفسی.أنا ابن مکة و منی،أنا ابن المروة و الصفا،أنا ابن محمد المصطفی،أنا ابن من لا یخفی.أنا ابن من علا فاستعلا،فجاز سدرة المنتهی،فکان من ربّه قاب قوسین أو أدنی».فضج أهل الشام بالبکاء حتی خشی یزید أن یرحل من مقعده،فقال للمؤذن:أذّن.فلما قال المؤذن:

اللّه أکبر،اللّه أکبر.جلس علی بن الحسین علی المنبر.فقال المؤذن:أشهد أن لا إله إلا اللّه و أشهد أن محمدا رسول اللّه.بکی الإمام زین العابدین علیه السّلام ثم التفت إلی یزید فقال:

«یا یزید هذا أبی،أم أبوک؟» قال:بل أبوک،فأنزل.

فنزل علیه السّلام فأخذ بناحیة باب المسجد،فلقیه مکحول-صاحب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم-فقال:

کیف أمسیت یا ابن رسول اللّه؟ قال علیه السّلام:«أمسینا بینکم مثل بنی إسرائیل فی آل فرعون،یذبّحون أبنائهم و یستحیون نساءهم،و فی ذلکم بلاء من ربکم عظیم (1)».

و فی أشهر الروایات،أن المنهال بن عمرو لقی الإمام زین العابدین فی دمشق فقال له:کیف أمسیت یا ابن رسول اللّه قال:«أمسینا کمثل بنی إسرائیل فی آل فرعون یذبّحون أبناءهم و یستحیون نسائهم.یا منهال أمست العرب تفتخر علی العجم بأن محمدا منها،و أمست قریش تفتخر علی سائر العرب بأن محمدا منها،و أمسینا معشر أهل بیته و نحن مقتولون مشرّدون،فإنا للّه و إنا إلیه راجعون مما أمسینا فیه» (2).

هکذا کانت بدایة مسیرة الإمام زین العابدین،و هکذا کان بدء إمامته و منهج دعوته.و کانت فترة إمامته أربعا و ثلاثین سنة،أدرک الإمام الصادق سنوات منها.

قال الإمام الباقر علیه السّلام:«إن أبی علی بن الحسین علیه السّلام ما ذکر نعمة اللّه علیه إلاّ سجد،و لا قرأ آیة من کتاب اللّه عز و جل فیها سجود إلا سجد،و لا دفع اللّه تعالی عنه سوءا یخشاه أو کید کاید إلا سجد،و لا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد،

ص:308


1- (1) الاحتجاج للطبرسی ج 2 ص 29. [1]
2- (2) مثیر الأحزان للشیخ ابن نما الحلی ص 84 و اللهوف للسید ابن طاوس ص 81. [2]

و لا وفّق لإصلاح بین اثنین إلا سجد،و کان أثر السجود فی جمیع مواضع سجوده، فسمی السجّاد لذلک».

و عنه علیه السّلام أیضا قال:«کان لأبی علیه السّلام فی موضع سجوده آثار ناتئة،و کان یقطعها فی السنة مرتین فی کل مرة خمس ثفنات،فسمّی ذا الثفنات لذلک».

قال الزهری:ما رأیت قرشیا أفضل من علی بن الحسین.و قال:بلغنی أنه کان یصلی فی الیوم و اللیلة ألف رکعة إلی أن توفی،و سمّی زین العابدین لکثرة عبادته.

و کان الزهری إذا ذکر علی بن الحسین یبکی.

و سیأتی ذکر علاقة الزهری بالإمام زین العابدین،و قد انخرط الزهری فی حاشیة الملوک و التحق بالأمویین فی مقر ملکهم بالشام (1).

و عن سفیان بن عیینة قال:حج زین العابدین،فلما أحرم اصفرّ لونه،و عرضت علیه الرعدة،و لم یستطع أن یلبّی،فسئل عنه؟قال:«أخشی أن أقول:لبیک.فیقول:

لا لبیک»فلما لبّی غشی علیه،و سقط من راحلته،فلم یزل یعترضه ذلک حتی قضی حجّه (2).قال رجل لسعید بن المسیب:ما رأیت أحدا أورع من فلان.قال:فهل رأیت علی بن الحسین؟قال:لا.قال:ما رأیت أحدا أورع منه.

قال طاوس:سمعته و هو ساجد عنه الحجر یقول:«عبیدک بفنائک،سائلک بفنائک».قال طاوس:فو اللّه ما دعوت بها فی کرب إلا کشف عنی.

قال محمد بن إسحاق:کان ناس بالمدینة یعیشون لا یدرون من أین یعیشون و من یعطیهم،فلما مات علی بن الحسین فقدوا ذلک،فعرفوا أنه هو الذی کان یأتیهم فی اللیل بما یأتیهم به،و لما مات وجدوا فی ظهره و أکتافه أثر حمل الجراب إلی بیوت الأرامل و المساکین فی اللیل.و کان یعول مائة أهل بیت بالمدینة و لا یدرون بذلک حتی مات (3).ففقد أولئک ما کان یأتیهم من معاش،لذا کانت آثار جراب الدقیق علی جسده الطاهر (4).

و لا بد من القول أن الإمام زین العابدین یلقی ربه و علی ظهره آثار تقواه

ص:309


1- (1) انظر الجزء الثانی من الکتاب.
2- (2) ینابیع المودة.و [1]تذکرة سبط ابن الجوزی. [2]
3- (3) البدایة و النهایة 9 ص 105.و [3]تذکرة سبط ابن الجوزی.و ینابیع المودة.و الإتحاف.و نور الأبصار.
4- (4) صفة الصفوة ج 2 ص 54. [4]

و صلاحه،کما یلقی ربه و علی ظهره آثار مظلمته و جریمة بنی أمیة،و کان مرأی آثار الجامعة فی عنقه علیه السّلام،و آثار جرح القید فی ساقیه قد أبکی ولده الإمام الباقر لمّا وضعه علی المغتسل.و کیف تندمل تلک الجراح و الأمویون علی کراسی الحکم، و دستورهم ظلم أهل البیت؟فعبد الملک بن مروان علی نهج یزید یحمل الإمام زین العابدین مقیدا من المدینة و یثقله حدیدا (1).

ینقل شیخنا المفید رحمه اللّه فی الإرشاد و مصادر کثیرة أخری قول الإمام زین العابدین:«أحبونا حبّ الإسلام،فما زال حبّکم لنا حتی صار شیئا علینا» (2).و یأتی مجرّدا دون الإشارة إلی بواعث مثل هذا القول،و هی أن عصره علیه السّلام شهد بدایات ظهور أقوال الغلاة،و ما تحدّثنا عنه فی مشکلة الغلاة فی الأجزاء السابقة (3)و المتعلق بالأفراد الذین کانت لهم علاقة وصلة بالأئمة الأطهار،و سقطوا فی درک الغلو و الإساءة إلی أهل البیت،یتصل وجودهم بهذه الفترة،و قد عظم أمرهم و اشتد فی زمن الإمام الباقر و الصادق.

و تشعر الروایات الأخری بردّ الإمام زین العابدین مزاعم هؤلاء و کفرهم،فیروی أنه قال لهم:«ما أجرأکم و أکذبکم علی اللّه،نحن من صافی قومنا،فحسبنا أن نکون من صالحیهم».و من اللازم تقییدها بأسبابها،لیبطل تعمیم الروایة لأغراض سیئة و خبیثة.و الروایة التی تطلق هی:أنه مرض علیه السّلام فدخل علیه جماعة من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یعودونه،فقالوا:کیف أصبحت یا ابن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فدتک أنفسنا؟ قال«فی عافیة،و اللّه المحمود علی ذلک.فکیف أصبحتم أنتم جمیعا؟»قالوا:

أصبحنا و اللّه یا ابن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم محبّین وادّین.فقال لهم علیه السّلام:«من أحبنا للّه أسکنه اللّه فی ظل ظلیل یوم القیامة یوم لا ظل إلا ظله،و من أحبنا یرید مکافأتنا کافأه اللّه عنا الجنة،و من أحبنا لغرض دنیا آتاه اللّه رزقه من حیث لا یحتسب» (4).

و لیس من قصدنا التوسّع فی البحث عن حیاة الإمام السجاد زین العابدین،و إنما الإشارة إلی ما یقتضیه المقام فی بیان مراحل عمل الإمامة و وجوه رسالتها،فکما أن

ص:310


1- (1) تذکرة سبط ابن الجوزی.و ینابیع المودة للقندوزی.
2- (2) الإرشاد ص 238.و [1]رایة ابن کثیر عن یحیی بن سعید:«حتی صار علینا عار...»
3- (3) انظر الجزء الثانی و الثالث عن الکتاب.
4- (4) الفصول المهمة لابن الصباغ. [2]

حیاة الإمام زین العابدین تتصل بحیاة عمّه الإمام الحسن،و حیاة أبیه الإمام الحسین، کذلک فإن حیاة الإمام الصادق علیه السّلام تتصل بحیاة الإمام زین العابدین و حیاة أبیه الإمام الباقر.

و نختار من أنوار سیرته و عبق ذکره هذه الآثار القلیلة و هی غیض من فیض،لأن سیرته علیه السّلام و وقائع عصره حافلة بکل ما یعنی من الجلالة و العظمة،بحیث یکتشف الباحث أن أهل هذا البیت لهم دور بإزاء انجرار الناس إلی السلطان و التهافت علی الدنیا،و أن ذلک الدور هو الذی أبقی علی الأصول و القواعد الدینیة و الشرعیة.

لقد جسّد علیه السّلام وقع المأساة التی اجتازها فقال کلمته:«فقد الأحبة غربة» و کان صوته علیه السّلام یسمع فی جوف اللیل و هو یقول:«أین الزاهدون فی الدنیا، الراغبون فی الآخرة».

و هو من خشیة اللّه یمنع نفسه من ضرب ناقته،فقد روی أنه حج مرة فالتاءت الناقة علیه فی سیرها،فأشار إلیها بالقضیب،ثم قال«آه لو لا القصاص»و ردّ یده عنها.

قال علیه السّلام مبیّنا ولایته الدینیة و سلطته الروحیة:

«نحن أئمة المسلمین و حجج اللّه علی العالمین،و سادة المؤمنین و قادة الغرّ المحجلین،و موالی المؤمنین،و نحن أمان أهل الأرض کما أن النجوم أمان لأهل السماء،و نحن الذین بنا یمسک اللّه السماء أن تقع علی الأرض إلا بإذنه،و بنا یمسک الأرض أن تمید بأهلها،و بنا ینزل الغیث،و بنا ینشر الرحمة و یخرج برکات الأرض، و لو لا ما فی الأرض منّا لساخت بأهلها» (1).

ثم یقول علیه السّلام قولا لرجل یعیّن فیه مسلک الناس إلی نیل الولایة:«بلّغ شیعتنا أنّا لا نغنی عنهم من اللّه شیئا،و أن ولایتنا لا تنال إلا بالورع».

و یقول علیه السّلام لجابر الجعفی:«بلّغ شیعتی منّی السّلام،و أعلمهم أنه لا قرابة بیننا و بین اللّه عز و جل،و لا یتقرب إلیه إلا بالطاعة.یا جابر،من أطاع اللّه و أحبنا فهو ولینا،و من عصی اللّه لم ینفعه حبنا،و من أحبنا و أحب عدوّنا فهو فی النار.یا جابر

ص:311


1- (1) روضة الواعظین.و [1]احتجاج الطبرسی. [2]

من هذا الذی سأل اللّه تعالی فلم یعطه،و توکل علیه فلم یکفه،و وثق به فلم ینجه.یا جابر أنزل الدنیا منک کمنزل نزلته،فإن الدنیا للتحویل عنها،و هل الدنیا إلا دابة رکبتها فی منامک،فاستیقظت و أنت علی فراشک؟هی عند ذوی الألباب کفیء الظلال،لا إله إلا اللّه إعذار لأهل دعوة الإسلام،و الصلاة تثبیت للإخلاص و تنزیه عن الکبر،و الزکاة تزید فی الرزق،و الصیام و الحج لتسکین القلوب،و القصاص و الحدود لحقن الدماء،فإن أهل البیت نظام الدین.جعلنا اللّه و إیاکم من الذین یخشون ربهم بالغیب و هم من الساعة مشفقون».

و من أقواله ما یعتبر من أهم أرکان دعوته و قواعد نهجه کقوله:«التارک للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر کالنابذ کتاب اللّه وراء ظهره،إلاّ أن یتّقی منهم تقاة» قالوا:و ما تقاة؟قال:«یخاف جبارا عنیدا أن یسطو علیه و أن یطغی».

و روی الطبرانی عنه أنه قال علیه السّلام:«إذا کان یوم القیامة نادی مناد:لیقم أهل الفضل.فیقوم ناس من الناس،فیقال لهم:انطلقوا إلی الجنة.فتلقّاهم الملائکة فیقولون:إلی أین؟فیقولون:إلی الجنة.فیقولون:قبل الحساب؟قالوا:نعم.قالوا:

من أنتم؟قالوا نحن أهل الفضل.قالوا:و ما کان فضلکم؟قالوا:کنّا إذا جهل علینا حلمنا،و إذا ظلمنا صبرنا،و إذا أسیء إلینا غفرنا.قالوا لهم:ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملین.ثم ینادی مناد:لیقم أهل الصبر،فیقوم ناس من الناس فیقال لهم:انطلقوا إلی الجنة.فتتلقاهم الملائکة فیقولون لهم مثل ذلک فیقولون:نحن أهل الصبر، قالوا:فما کان صبرکم؟قالوا:صبرنا أنفسنا علی طاعة اللّه،و صبّرناها عن معصیة اللّه،و صبّرناها علی البلاء.فقالوا لهم:ادخلوا الجنة،فنعم أجر العاملین.ثم ینادی المنادی:لیقم جیران اللّه فی داره،فیقوم ناس من الناس و هم قلیل،فیقال لهم:

انطلقوا إلی الجنة فتتلقاهم الملائکة فیقولون لهم مثل ذلک،فیقولون:بم استحققتم مجاورة اللّه عز و جل فی داره؟فیقولون:کنّا نتزاور فی اللّه و نتجالس فی اللّه و نتباذل فی اللّه عز و جل.فیقال لهم:ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملین» (1).

و إذا ما دخل الحرم کان عبید بنی أمیة یؤذونه.یذکر ابن سعد:کان الإمام زین العابدین یمشی إلی الحجار،و کان له منزل بمنی،و کان أهل الشام یؤذونه،فتحوّل

ص:312


1- (1) البدایة و النهایة. [1]

إلی قرین الثعالب أو قریب من قرین الثعالب،و کان یرکب.فإذا أتی منزله مشی إلی الجمار (1).

و لم تتمکن سیاسة البغاة من الحدّ من أثر الإمام زین العابدین أو تأثیره فی النفوس،و لم یخف وجوده فی مواطن العلم و نبوغه فی حلقات الفقه و الحدیث.فهو بما حباه اللّه و بما أورثه من وصایة و سداد لا یرقی إلی عتبة علمه أو درجة کماله أحد من أصحاب الفقه و الحدیث و الفتوی و الدین.و کان الإمام زین العابدین-و هو فی دوائر التضییق التی یخلقها الحکام الأمویون-یتصدّی لدوره الإیمانی،و یدعو إلی إمامته فیقول:«فمن سلّم لنا سلم،و من اقتدی بنا هدی،و من یعمل بالقیاس و الرأی هلک،و من وجد فی نفسه شیئا مما نقوله أو نقضی به حرجا،کفر بالذی أنزل السبع المثانی و القرآن العظیم».

و یبقی فی وسط مدینة جدّه و مهبط الوحی تنوشه سهام الأمویین و تنبحه کلابهم، فکان الإمام زین العابدین یذکر حال من مسخهم اللّه قردة من بنی إسرائیل و یحکی قصتهم،فلما بلغ آخرها قال:«إن اللّه تعالی مسخ أولئک القوم لاصطیادهم السمک، فکیف تری عند اللّه عز و جل یکون حال من قتل أولاد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هتک حریمه؟ إن اللّه تعالی و إن لم یمسخهم فی الدنیا،فإن المعدّ لهم من عذاب الآخرة أضعاف أضعاف عذاب المسخ».فقیل له:یا ابن رسول اللّه،فإنّا قد سمعنا منک هذا الحدیث.

فقال لنا بعض النصّاب:فإن کان قتل الحسین باطلا فهو أعظم عند اللّه من صید السمک فی السبت،أ فما کان اللّه غضب علی قاتلیه کما غضب علی صیادی السمک؟ قال الإمام زین العابدین علیه السّلام:«قل لهؤلاء النصّاب:فإن کان إبلیس معاصیه أعظم من معاصی من کفر بإغوائه،فأهلک اللّه من شاء منهم کقوم نوح و فرعون و لم یهلک إبلیس،و هو أولی بالهلاک،فما باله أهلک هؤلاء الذین قصروا عن إبلیس فی عمل الموبقات،و أمهل إبلیس مع إیثاره لکشف المحرمات،أ ما کان ربنا عز و جل حکیما تدبیره حکمة فیمن أهلک و فیمن استبقی؟فکذلک هؤلاء الصائدون فی السبت، و هؤلاء القاتلون للحسین.یفعل فی الفریقین ما یعلم،أنه أولی بالصواب و الحکمة، لا یسأل عمّا یفعل و عباده یسألون».

ص:313


1- (1) الطبقات الکبری ج 5 ص 219. [1]

کما واجه علیه السّلام أنصار البغاة و أتباع الطلقاء،فقد جاءه رجل من أهل البصرة و قال له:یا علی بن الحسین،إن جدّک علی بن أبی طالب قتل المؤمنین.فهملت عینا علی بن الحسین دموعا حتی امتلأت کفّه منها.ثم ضرب بها علی الحصی.

ثم قال:

«یا أخا أهل البصرة،لا و اللّه ما قتل علیّ مؤمنا،و لا قتل مسلما،و ما أسلم القوم و لکن استسلموا و کتموا الکفر و أظهروا الإسلام،فلما وجدوا علی الکفر أعوانا أظهروه،و قد علمت صاحبة الجدب و المستحفظون من آل محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أن أصحاب الجمل و أصحاب صفین و أصحاب النهروان لعنوا علی لسان النبی الأمی و قد خاب من افتری».

فقال شیخ من أهل الکوفة:یا علی بن الحسین،إن جدّک کان یقول:«إخواننا بغوا علینا».

فقال الإمام زین العابدین علیه السّلام:«أ ما تقرأ کتاب اللّه وَ إِلی عادٍ أَخاهُمْ هُوداً فهم مثلهم،أنجی اللّه عز و جل هودا و الذین معه و أهلک عادا بالریح العقیم».

و قد تعرّض له البعض بالإساءة فأغلظوا له القول و أساءوا معه الأدب،فکان ردّه علیهم آیة من آیات خلقه و محمود صفاته.

و لم تنل من هیبته و لا مکانته جمیع الأفعال التی اعترضته،فقد کان الإمام علی بالمدینة محترما معظما (1)و کان الناس یقبّلون یده (2).

فهو ممن من اللّه علیهم بالهدایة التامة و العصمة الخالصة،و جعلهم فی الأرض أصحاب الولایة و حملة الرسالة و حماة الشریعة،إلیهم الأمر،و فیهم العلم و النبوة، و قد حفظ اللّه الإمام زین العابدین من مکائد البغاة و سیف یزید بن معاویة إبقاء لنور الرسالة و صیانة للشریعة فی عهد تغلّب فیه الطلقاء،و تحکّم فیه الفسّاق،فترک الإمام زین العابدین و هو یکابد النکبة و یواجه أقسی محنة أثارا کبری فی السلوک و الفکر فی العمل و الذکر.

ص:314


1- (1) ابن کثیر ج 9 ص 104. [1]
2- (2) القعد الفرید ج 1 ص 180.

کان الإمام علی بن الحسین علیه السّلام یتّصف بصفات الإمامة و یتحلّی بخلق النبوة.إذا مشی لا تجاوز یده فخذه و لا یخطر بیده (1)و یخشی أن یؤذی أی مخلوق فی زمن دیست فیه المقدسات و انتهکت الحرمات و أسفرت الأیام عن أحقاد جاهلیة و عودة إلی الشرک خمدت زمنا ثم هبّت و هاجت تکالبا علی الدنیا و لجوءا إلی القوة و إسرافا فی الجبریة و التسلط،فکان علیه السّلام إذا سار فی المدینة علی بغلته لم یقل لأحد:الطریق.و یقول:«هو مشترک،لیس لی أن أنحّی عنه أحدا».

و کان علیه السّلام مهتما بمصالح الأمة و دفع شرور الحکام عنها،فکان یفکر بأحوال الناس أیام أحداث الحرم و حرکة ابن الزبیر (2).

و لما قامت ثورة المدینة المنورة ضد الأمویین،و أخرج أهلها عامل یزید عثمان بن محمد بن أبی سفیان،و أظهر و أخلع یزید بن معاویة سنة ثلاث و ستین، طلب مروان بن الحکم من الإمام زین العابدین أن یترک نساءه عنده،و قد کان مروان قد کلّم عبد اللّه بن عمر بذلک فأبی ابن عمر أن یفعل.قال مروان للإمام زین العابدین:أن لی رحما و حرمی تکون مع حرمک،فقال:«أفعل»فبعث بحرمه (3).

و هکذا هی أخلاق أولاد النبیین و حجج اللّه علی خلقه،لا کما فعل مروان و أهله بحرم رسول اللّه و ما صنعوا بأهل بیته.و ما یدّعیه الطبری من صداقة کانت بینهما قدیمة لا نصیب له من الصحة،کما أنها لیست من أشکال العلاقات التی استحالت بحلم الإمام و عظیم خلقه من روح العداوة إلی الاحترام و الاعتراف بمنزلة الإمام.کقصة ذلک الرجل الذی سب الإمام زین العابدین و هو خارج من المسجد، فأراد العبید أن یثوروا به (4)ففی روایة الشبلخی عن درر الأصداف:بالغ فی سبّه و أفرط،فعاد إلیه العبید و الموالی،فکفّهم عنه،و أقبل علیه و قال له:«ما ستر عنک من أمرنا أکثر،أ لک حاجة نعینک علیها؟»فاستحیا الرجل،فألقی إلیه خمیصة،و ألقی إلیه خمسة آلاف درهم.فقال:أشهد أنک من أولاد المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و فی روایة ابن کثیر:فکان الرجل بعد ذلک إذا رآه یقول:إنک من أولاد الأنبیاء.

ص:315


1- (1) انظر الطبقات الکبری ج 5 ص 212-220. [1]
2- (2) الإتحاف للشبراوی ص 50 و ابن کثیر.
3- (3) تاریخ الطبری ج 7 ص 7. [2]
4- (4) صفة الصفوة ج 2 ص 56. [3]

و لا نظن أن یصدر مثل ذلک من الطرید بن الطرید،و إنما مروان و غیره من الأمویین یعلمون أن آل عبد المطلب أقرب إلی شرائع السماء و أخلاق الأنبیاء،و هو و غیره من الأمویین ألصق بطبائع السوقة و أخلاق أهل الغدر،فلاذ بمکانة أهل البیت، و دفع بحرمه إلی حمی حرمتهم،أولئک الذین أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهیرا.و ما هو إلاّ العدو الحاقد الذی یری فی علی و ولده صورة النبی الأعظم الذی فضح أباه و أبعده لیخلص المسلمین من شرّه،فلما کان والیا علی المدینة لمعاویة کان یسبّ علیا کل جمعة علی المنبر،و قال له الحسن علیه السّلام:«لقد لعن اللّه أباک الحکم، و أنت فی صلبه علی لسان نبیه» (1).

فمن أین قدم الصداقة بین زین العابدین و مروان بن الحکم،و الأخیر من أکثر الأمویین تشفّیا بقتل الإمام الحسین (2)ینقل الشیخ ابن نما عن تاریخ البلاذری:أنه لما وافی رأس الحسین علیه السّلام المدینة.سمعت الواعیة من کل جانب،فقال مروان بن الحکم:

ضربت دوسر فیهم ضربة أثبتت أوتاد حکم فاستقرّ

ثم أخذ ینکت وجهه بقضیب و یقول:

یا حبّذا بردک فی الیدین و لونک الأحمر فی الخدین

کأنه بات بمجسدین شفیت منک النفس یا حسین

(3)و تحسین صورة هؤلاء الطرداء و أبناء الطلقاء لا تغیّر واقع الأمر و حقیقة التصرّف الجاهلی الذی واجهوا به أهل بیت النبوة،فنری کبار من تولّی هذه المهمة لا یفلح

ص:316


1- (1) ابن کثیر ج 8 ص 259. [1]
2- (2) و کذلک الأمر فیما یدّعیه الذهبی فی تذکرة الحفّاظ من وجود ودّ فی قلب عبد الملک بن مروان و أن زین العابدین کان أحب بنی هاشم إلی عبد الملک(ج 1 ص 70)-و ابن کثیر فی البدایة و النهایة (ج 9 ص 104)-و [2]ابن عبد ربه فی العقد(ج 1 ص 268)فمن المشهور عداؤه و محاولته الإساءة إلی الإمام زین العابدین فی کل مرة،و الصحیح لجوء عبد الملک إلی التشبّه بسلطة الإمام للتدلیس و التلبّس بها أمام ملک الروم،فکتب إلی الحجاج أن یتوعّد و یتهدّد الإمام زین العابدین و أخذ جوابه،فکاتب عبد الملک بما قاله الإمام زین العابدین إلی الحجاج و بعث به إلی ملک الروم علی أنه صادر منه.
3- (3) مثیر الأحزان.

فیما أخذ به نفسه،و یعثر و یسقط ما یحمله من أکاذیب.فقد عرف الإمام زین العابدین بالانقطاع إلی اللّه،و الإکباب علی العبادة بعد مذبحة الطف و قتل الأحبة،فکانت میاسم التقوی و سمات الإیمان فی وجهه و جسمه،فأطلق علیه:السجاد و ذی الثفنات.و من المعلوم أن مواصلته العبادة و مداومته علی الأدعیة و الأذکار لم یترک حیزا لما کان یشغل بال الملوک من الأمویین و العباسیین بدواعی الشهوة.و نورد هنا أنموذجا سار علیه الذهبی فی الترجمة للأعلام فی(سیر أعلام النبلاء)حیث یورد ما یخالف الحقائق فی کثیر من الموارد،فیردّ المفضوح منها الذی لا یمکن السکوت عنه فی بعضها،و لا یقوم بشیء فی کثیر منها یقول:(قال الأصمعی:لم یکن له عقب- یعنی الحسین-إلا من ابنه علی،و لم یکن لعلی بن الحسین ولد إلا من أم عبد اللّه بن الحسن و هی ابنة عمه.فقال له مروان:أری نسل أبیک قد انقطع،فلو اتخذت السراری لعلّ اللّه أن یرزقک منهن.قال:قال ما عندی ما اشتری.قال:فأنا أقرضک،فأقرضه مائة ألف،فاتخذ السراری و ولد له جماعة من الولد،ثم أوصی مروان لما احتضر أن لا یؤخذ منه ذلک المال).و یعقّب الذهبی:إسنادها منقطع، و مروان ما احتضر،فإن امرأته غمته تحت و سادة هی و جواریها...الخ (1).و قیل سمیة و هی أم خالد بن یزید بن معاویة،أضمرت له السوء بعد أن وجّه لابنها کلمات بذیئة ساقطة.

و یذکر المسعودی أن أسباب ثورة أهل المدینة کانت:جور یزید و عمّاله و ما عمّهم من ظلم و ما ظهر من فسقه من قتله ابن بنت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و ما أظهر من شرب الخمور و سیره بسیرة فرعون.

و قد انتقم یزید من أهل المدینة،و أمر بإباحتها،فکانت مذبحة الحرّة التی قتل فیها أکثر من أربعة آلاف ممن أحصوا من بنی هاشم و سائر قریش و الأنصار و من سائر الناس.و قیل حتی أن الأقدام ساخت فی الدم.

و دعا مسلم بن عقبة-المسرف فی القتل و الدماء-الناس للبیعة علی أنهم خول لیزید بن معاویة یحکم فی دمائهم و أموالهم و أهلیهم ما شاء (2).

ص:317


1- (1) السیر ج 4 ص 390.
2- (2) الطبری ج 7 ص 13. [1]

أو أن کل من استبقاه من الصحابة و التابعین علی أنه عبد قن لیزید،إلا الإمام علی زین العابدین (1)و قد أورد ابن أبی الحدید ما ینافی الحقیقة،و یبدو أنها من جملة ما حواه و جمعه بدون تحقق و تدبر،فکانت بقیة روایته للحادث نقلا عنه کتبة السلطان و مؤرخی الدولة الذین لا تهمّهم الحقائق،و لا یهتمون بالنظر إلی الحادثة فی إطار الواقع.

و أقرب الروایات و أصدقها تروی أن الإمام زین العابدین قد لاذ بقبر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هو یدعو.فأتی به إلی مسرف-و هو مغتاظ علیه-فتبرأ منه و من آبائه،فلما رآه و قد أشرف علیه ارتعد،و قام له،و أقعده إلی جانبه و قال له:«سلنی حوائجک».فلم یسأله فی أحد ممن قدّم إلی السیف إلا شفعه فیه،ثم انصرف عنه.فقیل لعلی:رأیناک تحرک شفیتک،فما الذی قلت؟قال:«قلت:اللهم ربّ السموات السبع و ما أظللن، و الأرضین السبع و ما أقللن،ربّ العرش العظیم،ربّ محمد و آله الطاهرین،أعوذ بک من شرّه،و أدرأ بک فی نحره،أسألک أن تواتینی خیره،و تکفینی شره».و قیل لمسلم:رأیناک تسبّ هذا الغلام و سلفه،فلما أتی به إلیک رفعت منزلته؟فقال:ما کان ذلک لرأی منی،لقد ملئ قلبی منه رعبا (2).

و قد حرسته عین اللّه و رعته،و جعلت لهیبة الإمامة فی شخصه سلطة أقوی من سلطة الحکام.فهذا هشام بن إسماعیل المخزومی والی المدینة فی عهد عبد الملک کان یؤذی الإمام زین العابدین و یشتم علیا علی المنبر و ینال منه،فلما ولی الولید بن عبد الملک عزله و أمر به أن یوقف للناس.قال هشام:و اللّه ما أخاف إلا من علی بن الحسین إنه رجل صالح یسمع قوله،فأوصی علی بن الحسن أصحابه و موالیه و خاصته أن لا یتعرّضوا لهشام،ثم مرّ علی فی حاجته فما عرض له،فناداه هشام و هو واقف للناس: اَللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ (3).

و ردّد هذه الآیة أیضا الزهری لمّا قارف ذنبا.

قال له الإمام زین العابدین:«یا زهری قنوطک من رحمة اللّه التی وسعت کل

ص:318


1- (1) شرح نهج البلاغة ج 1 ص 306.
2- (2) مروج الذهب ج 3 ص 79 و 80. [1]
3- (3) الطبقات الکبری لابن سعد ج 5 ص 219.و [2]تذکرة سبط ابن الجوزی ص 338. [3]

شیء أعظم من ذنبک».فقال الزهری: اَللّهُ أَعْلَمُ حَیْثُ یَجْعَلُ رِسالَتَهُ و کان یقول:علی بن الحسین أعظم الناس علیّ منه (1).

و الزهری أحد تلامیذ الإمام زین العابدین،و بسبب ذلک أصبحت له مکانة فی علم الحدیث حتی قال ابن أبی شیبة:أصحّ الأسانید(کلها)الزهری عن علی بن الحسین عن أبیه عن جدّه.

و لکن الأیام حملته إلی بلاط بنی أمیة،فأصبح من بطانة عبد الملک و من عاصرهم من الملوک من بعده.و ولاّه یزید بن عبد الملک القضاء،و کتب عمر بن عبد العزیز یوصی بالأخذ عنه.و یبدو أنه غلّب مقتضیات الدنیا علی واجبات الدین و العلم،فظهر منه بسبب علقته ببنی أمیة انحراف عن أهل البیت یتمثّل فی المجاراة و السکوت عن الظلم.و یروی عنه أنه فی بعض المواقف لم یذهب إلی مجاراة بنی أمیة فی تأویلهم القرآن و تلاعبهم به کما فی حادثة دخول سلیمان بن یسار علی هشام فقال له:یا سلیمان من الذی تولی کبره منهم؟یعنی قوله تعالی: وَ الَّذِی تَوَلّی کِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِیمٌ فقال ابن سلول:قال کذبت،بل هو علی،فدخل ابن شهاب فقال:یا ابن شهاب،من الذی تولی کبره؟قال ابن أبیّ.فقال له:کذبت بل هو علی.قال:أنا أکذب...؟الخ (2).

و لم یتأثر عن طریق الروایة للمضاهاة و للتمویه علی الحقیقة التی هی من أکبر حقائق الإسلام فی کون الإمام علی أول الناس إسلاما،فکان ابن شهاب و جماعة من المحدثین و العلماء یقولون:أول من أسلم من الرجال علی (3).

و الغرض أن الإمام زین العابدین تعقّب الزهری بالنصح و الإرشاد،فقد کتب إلیه رسالة یعظه فیها و یحذّره الحکام الذین استمالوه و قرّبوه لأغراضهم.و قد عکست الرسالة عمل الإمام زین العابدین علی تجرید الحکّام من المظاهر الدینیة.و اصطناع من عرف بالعلم و الروایة للتستر علی باطلهم و تمویه أفعالهم.

و مما جاء فی رسالة الإمام زین العابدین إلی الزهری:

ص:319


1- (1) الطبقات الکبری لابن سعد ج 5 ص 214. [1]
2- (2) انظر تاریخ الإسلام للذهبی ج 5 ص 145 و 149. [2]
3- (3) انظر الاستیعاب لابن عبد البر بهامش الإصابة ج 3 ص 29. [3]

«کفانا اللّه و إیاک من الفتن،و رحمک من النار،فقد أصبحت بحال ینبغی لمن عرفک أن یرحمک،فقد أثقلتک نعم اللّه بما أصحّ من بدنک و أطال من عمرک،و قامت علیک حجج اللّه بما حمّلک من کتابه،و فقّهک فیه من دینه،و عرّفک فیه من سنّة نبیه، فانظر أی رجل تکون غدا إذا وقفت بین یدی اللّه،فسألک عن نعمه علیک کیف رعیتها...و لا تحسبنّ اللّه قابلا منک بالتعذیر،و لا راضیا منک بالتقصیر.هیهات هیهات..لیس کذلک أخذ علی العلماء فی کتابه إذ قال: لَتُبَیِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَکْتُمُونَهُ .

و اعلم أن أدنی ما کتمت و أخفّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم،و سهّلت له طریق الغیّ بدنوک منه حین دنوت،و إجابتک له حین دعیت.فما أخوفنی بإثمک غدا مع الخونة.و أن تسأل عما أخذت بإعانتک علی ظلم الظلمة أنک أخذت ما لیس لک ممن أعطاک.و دنوت ممن لم یردّ علی أحد حقا و لم تردّ باطلا حین أدناک، و أحببت من حادّ اللّه.أو لیس بدعائه إیاک حین دعاک جعلوک قطبا أداروا بک رحی مظالمهم،و جسرا یعبرون علیک إلی بلایاهم،و سلّما إلی ضلالهم،داعیا إلی غیّهم سالکا سبیلهم،یدخلون بک الشک علی العلماء،و یقتادون بک قلوب الجهّال إلیهم، فما أقل ما أعطوک قدر ما أخذوا منک،و ما أیسر ما عمروا لک فکیف ما خربوا علیک؟ فانظر لنفسک فإنه لا ینظر إلیها غیرک،و حاسبها حساب رجل مسئول،و انظر کیف شکرک لمن غذّاک فی نعمه صغیرا أو کبیرا.فما أخوفنی علیک أن تکون کما قال اللّه تعالی فی کتابه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ (1)».

و لا یفوتنا أن ننوّه برسالة الحقوق التی اشتملت علی تصنیف دقیق و تبویب جامع لما یهمّ المرء من أمور دینه و دنیاه و مجتمعه و عائلته،و هی تتولی بیان علم الإمام زین العابدین،و نظرته إلی ما عهد إلیه فی ولایة الإمامة و الخلافة الکبری.کما تتولی (الصحیفة السجادیة)بیان طرق الانقطاع إلی اللّه و الاعتماد علی الخالق،و اللجوء إلی قوته،و إذا کانت الصحیفة(زبور آل محمد)فرسالة الحقوق(منهاج آل محمد)و هی من أکثر مآثر آل محمد حاجة إلی البیان و البحث.

و قد حفظ لنا التاریخ أقواله علیه السّلام التی یجد الناس علی مختلف مشاربهم فیها صورة الإمام الهادی و الخلیفة الداعی الذی ینظر إلی الوجود بمنظار العقیدة،و یصف الدنیا کما هی حقیقتها إذا ما تمکن الهدی من النفس و أسبغ علیها الإیمان أبراده.

ص:320


1- (1) تحف العقول لابن شعبة. [1]

قال لجابر الجعفی:«یا جابر إنی لمحزون،و إنی لمشتغل القلب»قلت:و ما حزنک و ما شغل قلبک؟قال:«یا جابر،إنه من دخل قلبه صافی خالص دین اللّه، شغله عما سواه.یا جابر ما الدنیا،ما عسی أن تکون؟هل هو إلا مرکب رکبته،أو ثوب لبسته،أو امرأة أصبتها.یا جابر،إن المؤمنین لم یطمئنوا إلی الدنیا لبقاء فیها، و لم یأمنوا قدوم الآخرة علیهم،و لم یصمّهم عن ذکر اللّه ما سمعوا بآذانهم من الفتنة، و لم یعمهم عن نور اللّه ما رأوا بأعینهم من الزینة،ففازوا بثواب الأبرار.إن أهل التقوی أیسر أهل الدنیا مؤونة،و أکثرهم لک معونة،إن نسیت ذکّروک،و إن ذکرت أعانوک.قوّالین بحقّ اللّه،قوّامین بأمر اللّه.فانزل الدنیا کمنزل نزلت به و ارتحلت عنه،أو کمال أصبته فی منامک،فاستیقظت و لیس معک منه شیء،و احفظ اللّه فی ما استرعاک من دینه و حکمته» (1).

و یتتبع علیه السّلام أمراض المجتمع،و یعمل علی إصلاح العلاقات،و إقامة مودة بین النفوس.سمع رجلا یغتاب آخر فقال علیه السّلام:«إن لکل شیء إداما،و إدام کلاب النار الغیبة».و قال علیه السّلام:«نظر المؤمن فی وجه أخیه المؤمن للمودة و المحبة عبادة».و قال أیضا:«من کمال العقل کفّ الأذی،فإن فیه راحة للبدن آجلا و عاجلا».

و یحذّر علیه السّلام من العداوة:فیقول:«لا تعادینّ أحدا و إن ظننت أنه لا یضرّک».

إن الإمام زین العابدین باشر مرحلة الدعوة بعد مرحلة الثورة،و هو علی هدی من رسالته و بیّنة من أمره.و من یتوهم أن الأمر عدول عن الثورة و ترک للجهاد،فلیس له علم بأسرار الإمامة و مکاشفات الولایة،کالذی کان من عبّاد البصری عند ما لقی الإمام زین العابدین فی طریق مکة فقال له:

یا علی بن الحسین،ترکت الجهاد و صعوبته،و أقبلت علی الحج و لینه،و إن اللّه عز و جل یقول: إِنَّ اللّهَ اشْتَری مِنَ الْمُؤْمِنِینَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ یُقاتِلُونَ فِی سَبِیلِ اللّهِ فَیَقْتُلُونَ وَ یُقْتَلُونَ -إلی قوله- وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِینَ ؟ فقال الإمام زین العابدین:«إذا رأینا هؤلاء الذین هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج».

ص:321


1- (1) صفة الصفوة لابن الجوزی. [1]

و خلاصة القول،فإن الإمام زین العابدین الذی کان لا تبرح ذاکرته مأساة الطفّ،و یدیم البکاء حتی قال:«إن یعقوب علیه السّلام بکی حتی ابیضت عیناه علی یوسف،و لم یعلم أنه مات.و إنی رأیت بضعة عشر من أهل بیتی یذبحون فی غداة واحدة،فترون حزنهم یذهب من قلبی أبدا؟»یحمل أعباء الإمامة فی ظروف أدّت بالحکام إلی أن یرتکبوا جریمتهم النّکراء بحق أهل بیت النبی.و لمّا سئل:کیف أصبحت؟قال علیه السّلام:«أصبحنا فی قومنا بمنزلة بنی إسرائیل فی آل فرعون،یذبّحون أبناءنا،و یلعنون سیدنا و شیخنا علی المنابر،و یمنعونا حقّنا» (1).

و لقد کانت فترة إمامته فترة صعبة و حرجة لم یتغیر من السیاسة شیء،بل إن المجازر اتسعت و طالت الحرمین،فیشکو بثّه و یدعو ربه:«حتی عاد صفوتک و خلفائک مغلوبین مقهورین مبتزّین یرون حکمک مبدّلا و کتابک منبوذا و فرائضک محرّفة عن جهات أشراعک،و سنن نبیک متروکة.اللهم العن أعداءهم من الأولین و الآخرین،و من رضی بفعالهم و أشیاعهم و أتباعهم»و فی وسط ذلک کان علیه أن یمضی فی رسالته بالأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،و یحدّث الناس بحدیث جده.

فکانت فیما یهمّهم من أمور دینهم و أحکام شریعته،و تبصیرهم بالمصلحة و ما یعود علیهم بالنفع و البقاء.

و إذا کانت هذه الأوضاع التی یعیشها قد حالت دون أن یتّخذ حلقة،إذ کیف یتسنّی له العمل کالآخرین و هو مثقل بهذه الأعباء و الأحزان و الهموم،فإن مآثره فی الفکر و العمل کانت قدوة الصالحین،و أسوة الزهّاد المتعبّدین،و منهجه فی الحیاة مثل للأئمة الطاهرین فی أن یکون الدین غایة الدعوة و العدل عمادها،فکانت وصیته إلی ولده،و وصیّه الإمام الباقر علیه السّلام:«یا بنی أوصیک بما أوصانی به أبی،فقد قال لی:

یا بنی إیاک و ظلم من لا یجد علیک ناصرا إلا اللّه».

و من وصایاه لخلیفته الإمام الباقر ما یزن به أصناف الناس،و یرسم صور تصرّفاتهم بمیزان العاقل الحکیم و بریشة الخبیر المفن.قال الإمام الباقر«أوصانی أبی قال:

لا تصحبنّ خمسة،و لا تحادثهم و لا ترافقهم فی طریق.قال:قلت:جعلت فداءک یا أبت من هؤلاء الخمسة؟

ص:322


1- (1) تذکرة سبط ابن الجوزی. [1]

قال:لا تصبحنّ فاسقا،فإنه یبیعک بأکلة فما دونها.

قال:قلت:یا أبة،و ما دونها؟ قال:یطمع فیها ثم لا ینالها.

قال:قلت:یا أبة،و من الثانی؟ قال:لا تصحبنّ البخیل،فإنه یقطع بک فی ماله أحوج ما کنت إلیه.

قال:قلت:یا أبة:و من الثالث؟ قال:لا تصحبنّ کذابا،فإنه بمنزلة السراب یبعد منک القریب،و یقرّب منک البعید.

قال:قلت:یا أبة و من الرابع؟ قال:لا تصحبنّ الأحمق،فإنه یرید أن ینفعک فیضرّک.

قال:قلت:یا أبة و من الخامس؟ قال:لا تصحبنّ قاطع رحم،فإنی وجدته ملعونا فی کتاب اللّه فی ثلاث مواضع» (1).

و یروی أن نقش خاتمه علیه السّلام کان«علمت فأعمل»و کفی بذلک دلالة علی سبیل العصمة و منهج الإمامة و بیان حاله من التقوی و الإیمان.

استشهد علیه السّلام مسموما بأمر من الولید بن عبد الملک سنة 95 ه.

الإمام الباقر:

تولی الإمام الباقر الإمامة فی عصر قوة الدولة الأمویة و امتداد سلطانها و شدّة نفوذها،و لم یمنعه ذلک من دعوته الدینیة و عمله فی نشر تعالیم الإسلام و الاضطلاع بمهام الإمامة (2).بل اتجه إلی العلوم الدینیة و الحثّ علی التمسّک بالدین،و جعل لدعوته أسلوبا یظهر الحقائق التی حاول الأمویون إخفاءها.و لقد ازدحم العلماء علی أبواب مدرسته و انتشروا فی الآفاق یحملون عنه أصدق الحدیث.

ص:323


1- (1) صفة الصفوة ج 2 ص 56 و 57. [1]
2- (2) عقدنا فی الجزء الثانی فصلا عن حیاة الإمام الباقر(الإمام الصادق [2]فی ظل أبیه الباقر)ضمّ نبذا من سیرته،و إشارات إلی مدرسته و تلامیذه،و نتناول هنا بعض الأمور التی لم نتعرض لها،متحاشین التکرار و الإعادة إلا للضرورة.

و کان عصره یشهد بدایة نشاط الآراء و الأقوال التی تعددت مصادرها و تباینت أغراضها،و أهل البیت فی صمیم هذا النشاط موضع اهتمام القائمین به و الساعین إلیه، لأنهم یریدون أن یکون للدین فی آرائهم ممسک و لأقوالهم مرجع،أو لأنهم من أهل الفرق و البدع الذین یرمون إلی التشکیک و الطعن،فقصده العلماء للسؤال و کشف الحقائق کعمرو بن عبید،و الحسن البصری و نافع مولی ابن عمر (1)و غیرهم ممن یطول ذکرهم.و لکن نورد هنا ما کان من عمرو بن عبید-شیخ المعتزلة-عند ما و فد علی الإمام الباقر علیه السّلام لیسأله لا لغرض طلب العلم،و إنما بوهم أن یفاجئ الإمام الباقر بما یعجز عن الإجابة عنه،فقال له عمرو:

جعلت فداک ما معنی قوله تعالی: أَ وَ لَمْ یَرَ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ کانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا ما هذا الرتق؟ قال الإمام الباقر:«کانت السماء رتقا لا تنزل القطر،و کانت الأرض رتقا لا تخرج النبات،ففتق اللّه السماء بالقطر،و فتق الأرض بالنبات»فانقطع عمرو،و مضی ثم عاد إلیه فقال:

خبرنی عن قوله تعالی: وَ مَنْ یَحْلِلْ عَلَیْهِ غَضَبِی فَقَدْ هَوی ما غضب اللّه؟فقال له أبو جعفر علیه السّلام:«غضب اللّه تعالی عقابه.یا عمرو،و من ظن أن اللّه یغیره شیء فقد هلک».

و دخل علیه أعرابی،و قیل رجل من الخوارج-و لا فرق فهم من أشدّ الأعراب بعدا عن الدین-و قال له:هل رأیت اللّه حین عبدته؟فقال:«لم أکن لأعبد من لم أره».قال:فکیف رأیته؟قال:«لم تره الأبصار بمشاهدة العیان،و رأته القلوب بحقائق الإیمان،لا یدرک بالحواسّ،و لا یشبّه بالناس،معروف بالآیات،منعوت بالعلامات،لا یجوز فی القضیات.ذلک اللّه الذی لا إله إلا هو»فقال الأعرابی:اللّه أعلم حیث یجعل رسالته (2).

و مما یحسب الآن من أعمال مجیدة فی مجال الملک و تعریف مظاهر السلطان و سک العملة،فهو فی حقیقته یعود لإمامنا الباقر علیه السّلام.فعبد الملک بن مروان تعاطی العلم،و انخرط فی سلک الفقه و الروایة،حتی جاءته فرصة التحکّم و التسلّط، فتخلّی عن الحدیث و ما یقتضیه تعاطی العلم من سمات دینیة،و تحوّل إلی الدم

ص:324


1- (1) انظر احتجاج الطبرسی.و البحار ج 4.و [1]الکافی فی احتجاجات الصادق.
2- (2) زهر الآداب ج 1 ص 77. [2]

و الظلم،و هو یستشعر منزلة أهل البیت و مکانتهم،فکان یلجأ إلیهم فی أکثر الأمور التی تهمّه،و یبدو أن عداوته تدفعه إلی إخفاء ما یرجوه منهم،لأن التظاهر باللجوء إلی أهل البیت یسیء إلیه کثیرا.لمّا کتب ملک الروم لعبد الملک بن مروان یتهدّده أن یذکر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی الدنانیر بما یکرهون،فعظم ذلک علی عبد الملک،و استشار الناس فلم یجد عند أحد منهم رأیا (1)فقال له روح بن زنباع:إنک لتعلم المخرج من هذا الأمر.و لکنک تتعمد ترکه.فقال:ویحک من؟فقال:علیک بالباقر من أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.قال:صدقت،و لکنه ارتجّ الرأی فیه.

فکتب إلی عامله بالمدینة:أن أشخص إلی محمد بن علی بن الحسین مکرّما، و متّعه بمائة ألف درهم لجهازه،و بثلاثمائة ألف لنفقته،و أرح علیه فی جهازه و جهاز من یخرج معه من أصحابه.و حبس عبد الملک رسول ملک الروم إلی موافاة الإمام الباقر،فلما وافاه،أخبره الخبر.فقال له الإمام الباقر:«لا یعظم علیک،فإنه لیس بشیء من جهتین:

إحداهما:إن اللّه عز و جل لم یکن لیطلق ما تهدّد به صاحب الروم فی رسول اللّه علیه السّلام.

و الثانی:وجود الحیلة فیه».

قال:و ما هی؟ قال:«تدعو بصاغة،فیضربون بین یدیک سککا للدراهم و الدنانیر،و تجعل النقش علیها سورة التوحید» (2).

و یتلبّس عبد الملک بما یصدر عن الإمامة،و یتطفّل علی منهجها،و قد أشرنا إلی ذلک سابقا،و یستخدم عماله-عمال السوء و البغی-للاتصال بمقام أهل البیت و تلقّی ما یصدر عنهم للتظاهر به أو استعماله فی معالجة ما هم فیه.و قد مرّ بنا قبل قلیل کیف فعل عبد الملک لمّا کتب ملک الروم یتوعّده،فضاق علیه الجواب.و کتب إلی الحجاج-و هو إذ ذاک علی الحجاز-أن أبعث إلی علی بن الحسین،فتوعّده و تهدّده،و أغلظ له.ثم أنظر ما ذا یجیبک،فاکتب به إلیّ.ففعل الحجاج ذلک،فقال

ص:325


1- (1) شذور العقود للمقریزی ص 7.
2- (2) حیاة الحیوان للدمیری ج 2 ص 55.و [1]المحاسن و المساوئ للبیهقی.و [2]العقد المنیر ص 18. و هامش شذور العقود ص 7.

له علی بن الحسین علیه السّلام:«إن للّه فی کل یوم ثلاثمائة و ستین لحظة،و أرجو أن یکفینیک فی أول لحظة من لحظاته»و کتب بذلک إلی عبد الملک.فکتب به إلی صاحب الروم کتابا فلمّا قرأه قال:لیس هذا من کلامه،هذا من کلام عترة نبی (1).

و القصد،أن رجال الحکم الأموی نظروا إلیه نظرة تهیّب و تحفظ،و وقفوا أمام نشر تعالیمه و انتشار ذکره و عارضوها،لأن ذلک یهدّد ملکهم،فسلکوا کل سبیل للإساءة،و قد کان هشام بن عبد الملک من أکثرهم بغضا و أشدهم عداوة لآل البیت النبوی الکریم.

حج هشام بن عبد الملک،فدخل المسجد الحرام متکئا علی ید سالم مولاه و الإمام الباقر جالس فی المسجد الحرام،فقال له سالم:یا أمیر المؤمنین هذا محمد بن علی بن الحسین علیهم السّلام.قال هشام:المفتون به أهل العراق؟قال:نعم.

قال:اذهب إلیه فقل له:یقول لک أمیر المؤمنین ما الذی یأکل الناس و یشربون إلی أن یفصل بینهم یوم القیامة؟فقال له الإمام أبو جعفر:«یحشر الناس علی مثل قرص النقی،فیها أنهار متفجرة یأکلون و یشربون حتی یفرغ من الحساب»فرأی هشام أنه قد ظفر به،و إن فی ذلک فرصة لإشاعة حاله،لینفر عنه أهل العراق.فقال:اللّه أکبر، اذهب فقل له:یقول لک ما أشغلهم عن الأکل و الشرب یومئذ؟فقال له أبو جعفر علیه السّلام:«هم فی النار أشغل،و لم یشغلوا عن أن قالوا أَفِیضُوا عَلَیْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَکُمُ اللّهُ .فسکت هشام (2).

و لیس أقبح من بذاءته و هو یتنمّر علی الإمام الشهید زید بن علی،و ینال من أخیه الإمام الباقر و یقول له:ما یصنع أخوک البقرة؟!.

فیجیبه الإمام زید:سمّاه رسول اللّه الباقر،و تسمّیه البقرة؟لشد ما اختلفتما، لتخالفنّه فی الآخرة کما خالفته فی الدنیا،فیرد الجنّة و ترد النار (3).

و لما انصرف هشام من حجّه أنفذ إلی عامل المدینة بإشخاص الإمام الباقر و ولده الصادق،و أبقاهم ثلاثة أیام،و أذن لهم فی الیوم الرابع.و بقی علی هذه السیاسة التی تستهدف الإساءة و القضاء علی الإمام الباقر.

ص:326


1- (1) تاریخ ابن واضح ج 3 ص 47.
2- (2) الإرشاد و [1]الإتحاف.و [2]روضة الواعظین. [3]
3- (3) انظر طرق الحدیث النبوی إلی جابر بن عبد اللّه الأنصاری:«یوشک أن تبقی،حتی تلقی ولدا لی من الحسین یقال له:محمد.یبقر العلم بقرا،فإذا لقیته فأقرأه منی السّلام»فی الجزء الثانی من الکتاب.

و لما بدرت من الحکّام الأمویین بادرة علی ید عمر بن عبد العزیز،تغیّرت العلاقة بین السلطة و بین الأئمة.فنری عمر بن عبد العزیز یطلب من الإمام الباقر أن یوصیه بما ینفعه فی آخرته و دنیاه،فقال له علیه السّلام:«أوصیک أن تتخذ صغیر المسلمین ولدا،و أوسطهم أخا،و أکبرهم أبا.فارحم ولدک،و صل أخاک،و برّ والدک.و إذا صنعت معروفا فربّه»(أی أدمه).

و دخل عمر بن عبد العزیز المدینة و اجتمع بالإمام الباقر علیه السّلام فأوصاه الإمام بقوله:

«إنما الدنیا سوق من الأسواق،یبتاع فیها الناس ما ینفعهم و ما یضرّهم،و کم قوم ابتاعوا ما ضرّهم فلم یصبحوا حتی أتاهم الموت فخرجوا من الدنیا ملومین،و لما لم یأخذوا ما ینفعهم فی الآخرة.فقسّم ما جمعوا لمن لم یحمدهم،و صاروا إلی من لم یعذرهم.فنحن و اللّه حقیقون أن ننظر إلی تلک الأعمال التی نتخوف علیهم منها، و اتق فی نفسک اثنتین:إلی ما تحب أن یکون معک إذا قدمت علی ربک فقدّمه بین یدیک.و انظر إلی ما تکره أن یکون معک إذ قدمت علی ربک فارمه وراءک.و لا ترغبنّ فی سلعة بارت علی من کان قبلک فترجو أن یجوز عنک.و افتح الأبواب و سهّل الحجاب و أنصف المظلوم و ردّ المظالم.ثلاثة من کن فیه استکمل الإیمان باللّه:من إذا رضی لم یدخله رضاه فی باطل،و من إذا غضب لم یخرجه غضبه من الحق،و من إذا قدر لم یتناول ما لیس له».

و لقد کانت فترة عمر بن عبد العزیز یقظة و عی بما ألمّ بالأمة من جور الأمویین و ما لحق بالمسلمین بفعل ظلمهم،حاول فیها أن یضفی علی سلطان بنی أبیه شیئا من أبراد التقی و أثواب الدین،و لکن هیهات له ذلک،لأن أساس الملک قائم علی الظلم، و تاریخ بنی أمیة بعمومه تاریخ شذوذ و انحراف،و لکن الأیام حفظت لعمر بن عبد العزیز ما رفع من سنّتهم السیئة،و ما بدر منه من عدل.

أما الإمام الباقر علیه السّلام فقد أفاض علی ابن عبد العزیز من إشراق الإمامة و معین الخلافة الکبری،فأعطاه تلک الصورة الرائعة عن الحکم و سیاسة الرعیة،و الإمام أدری بأن عمر لا یحقق ما یوصیه به لأسباب کثیرة.

و الإمام الباقر فی إمامته و منزلته بین شیعته،یعمل بمنهج الدعوة فی التفریق بین

ص:327

السلطان الزمنی و السلطة الروحیة فی الإمامة.روی الصدوق بسنده عن جابر عن الإمام الباقر عن أبیه علیهم السّلام أنه قال:«إذا کان أول یوم من شهر شوال نادی مناد:أیها المؤمنین اغدوا إلی جوائزکم»ثم قال أبو جعفر علیه السّلام:«یا جابر،جوائز اللّه عز و جل لیست کجوائز هؤلاء الملوک».و روی أیضا بسنده عن عبد اللّه بن سنان عن الإمام الباقر أنه قال:«یا عبد اللّه ما من عید للمسلمین أضحی و لا فطر،إلا و هو یجدّد لآل محمد فیه حزن»قال:قلت:و لم؟قال:«لأنهم یرون حقهم فی ید غیرهم» (1).

و لقد انضم إلی الإمام الباقر من التابعین و غیرهم رجال من الثقات و العلماء و الفقهاء ممن احتج بهم رجال الصحاح الستة،و أجمعوا علی تقدمهم و شهرتهم (2)و أصبح لأصحاب الإمام الباقر منزلة و أثر فی الحیاة العلمیة یومئذ،و کان الإمام یوجّههم لإفتاء الناس،فکان یقول لأبان بن تغلب:«إنی أحب أن أری فی شیعتی مثلک»بعد أن أمره أن یجلس فی مسجد المدینة و یفتی الناس.

و ازدهرت مدرسة الإمام الباقر بفکره علیه السّلام و توجیهه،إذ جذب علمه الرجال من مختلف الأقطار الإسلامیة،و توجه إلی مدرسته الرواة.ینقل سبط ابن الجوزی عن ابن سعد:کان(الإمام الباقر)عالما عابدا ثقة،روی عنه الأئمة أبو حنیفة و غیره.قال أبو یوسف:قلت لأبی حنیفة:لقیت محمد بن علی الباقر؟فقال:نعم،و سألته یوما فما رأیت جوابا أفخم منه.و قال عطاء:ما رأیت العلماء عند أحد أصغر علما منهم عند أبی جعفر،لقد رأیت الحکم عنده کأنه(عصفور)مغلوب،و یعنی بالحکم:

الحکم به عیینة،و کان عالما نبیلا جلیلا فی زمانه (3).و فی روایة:رأیت الحکم عنده کأنه متعلم (4).و یقول القندوزی:قال بعضهم:ما رأیت العلماء کانوا أقل علما إلا عند الإمام الباقر.

و یبین الإمام علیه السّلام کیف تکون النسبة بین مقومات الشخصیة العلمیة فیقول:

«إنی لأکره أن یکون مقدار لسان الرجل فاضلا علی مقدار علمه،کما أکره أن یکون مقدار علمه فاضلا علی مقدار عقله» (5).

ص:328


1- (1) من لا یحضره الفقیه ج 2 ص 62.
2- (2) انظر تلامذة الإمام الباقر و رواة حدیثه فی الجزء الثانی.
3- (3) تذکرة الخواص ص 347. [1]
4- (4) البدایة و النهایة ج 9 ص 311. [2]
5- (5) شرح ابن أبی الحدید ج 2 ص 191. [3]

و خلاصة القول:إن علم الإمام الباقر و عظیم منزلته الدینیة جعلا منه قائدا روحیا اتجهت إلیه الأنظار و مالت إلیه القلوب،فاحتل منها ذلک المکان السامی و المنزلة الرفیعة.و قد احتفظ لنا التاریخ بکثیر من تراثه الفکری،فقد کان یفیض علی سامعیه من الخواطر و الحکم متوجها بالنصح و الإرشاد لمجتمعه.

و قد کان علیه السّلام یؤدب أصحابه بآداب الإسلام و یحثّهم علی الطاعة و مکارم الأخلاق.فمن وصیته لجابر الجعفی:«و اعلم أنک لا تکون لنا ولیا حتی لو اجتمع علیک أهل مصرک و قالوا:إنک رجل سوء.لم یحزنک ذلک.و لو قالوا أنک رجل صالح.لم یسرّک ذلک.و لکن أعرض نفسک علی کتاب اللّه،فإن کنت سالکا سبیله زاهدا فی تزهیده راغبا فی ترغیبه خائفا من تخویفه فاثبت و أبشر.فإنه لا یضرک ما قیل فیک»و قد مرّ ذکرها فی الجزء الثانی.

و ینبه علیه السّلام اتباعه إلی جوهر التشیع و معدن الولاء لأهل البیت کما فی روایة جابر عن أبی عبیدة الحذّاء قال علیه السّلام:«تتجافی جنوبهم عن المضاجع یدعون ربهم خوفا و طمعا.لعلک تری أن القوم لم یکونوا ینامون؟»قال:قلت:اللّه و رسوله و ابن رسوله أعلم.قال:فقال:«لا بد لهذا البدن من أن تریحه حتی یخرج نفسه،فإذا خرج النفس استراح البدن و رجع الروح فیه قوة علی العمل،فإنما ذکرهم تتجافی جنوبهم عن المضاجع یدعون ربهم خوفا و طمعا أنزلت فی أمیر المؤمنین علیه السّلام و أتباعه من شیعتنا،ینامون فی أول اللیل،فإذا ذهب ثلثا اللیل أو ما شاء اللّه،فزعوا إلی ربهم راغبین مرهبین طامعین فیما عنده،فذکرهم اللّه فی کتابه،فأخبرک اللّه بما أعطاهم أن أسکنهم فی جواره،و أدخلهم فی جنته،و آمن خوفهم،و أذهب رعبهم» قال قلت:جعلت فداک،إن أنا قمت فی آخر اللیل أی شیء أقول إذا قمت؟قال:

«قل الحمد للّه رب العالمین،و الحمد للّه الذی یحیی الموتی و یبعث من فی القبور.

فإنک إذا قلتها ذهب عنک رجز الشیطان و وسواسه إن شاء اللّه».

و یتحسّس ظروف الإرهاب الأموی و أصناف البلاء و ألوان الرعب التی خیّمت علی قلوب محبی أهل البیت بعد سیاسة معاویة و یزید و بقیة الأمویین فیقول:«إن اللّه یلقی فی قلوب شیعتنا الرعب.فإذا قام قائمنا و ظهر مهدیّنا کان الرجل منهم أجرأ من لیث و أمضی من سیف».و ذلک لیجعل أمر الحکام الظلمة غیر دائم،و أن الإمامة نظامها سماوی مبشّر به من النبی الأعظم و یقول:الإیمان ثابت فی القلب،و الیقین

ص:329

خطرات،فیمرّ الیقین بالقلب فیصیر کأنه زبر الحدید و یخرج منه،فیصیر کأنه خرقة بالیة،و ما دخل قلب عبد شیء من الکبر إلا نقص من عقله بقدره أو أکثر منه» (1).

و قال علیه السّلام:«اصبر للنوائب،و لا تتعرض للحقوق،و لا تعط أحدا من نفسک ما ضرّه علیک أکثر من نفعه» (2).

و یتصدّی لمهماته و قیامه بالدعوة لأن اللّه عز و جل قال: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فیقول علیه السّلام:«نحن أهل الذکر».

و قال علیه السّلام:«شیعتنا من أطاع اللّه عز و جل و أتقاه».لکنه علیه السّلام یبین شرط هذه الطاعة،فیقول صلوات اللّه علیه:«أما لو أن رجلا قام لیله و صام نهاره و تصدق بجمیع ماله و حج جمیع دهره و لم یعرف ولایة ولی اللّه فیوالیه و تکون جمیع أعماله بدلالته ما کان له علی اللّه حق فی ثوابه و لا کان من أهل الإیمان»و قال علیه السّلام:

«إیاکم الخصومة فإنها تفسد القلب،و تورث النفاق».

لقد کان الإمام الباقر یبنی النفوس بالإیمان و یربیها علی تعالیم الإسلام،و یوجه الأنظار إلی حق الإمامة و سلطة الخلافة الکبری الدینیة التی تقوم علی القاعدة الدینیة و الأصول الشرعیة.

روی عنه علیه السّلام أن قوما أقبلوا من مصر،فمات رجل فأوصی إلی رجل بألف درهم للکعبة،فلما قدم مکة سأل عن ذلک،فدلوه علی بنی شیبة،فأتاهم،فأخبرهم الخبر،فقالوا:قد برئت ذمتک ادفعها إلینا.فقام الرجل فسأل الناس،فدلوه علی الإمام الباقر.قال الإمام علیه السّلام:«فأتانی فسألنی،فقلت له:إن الکعبة غنیة عن هذا، انظر إلی من أمّ هذا البیت و قطع،أو ذهبت نفقته،أو ضلّت راحلته،أو عجز أن یرجع إلی أهله فادفعها إلی هؤلاء الذین سمّیت لک»قال:فأتی الرجل بنی شیبة، فأخبرهم بقول الإمام علیه السّلام فقالوا:هذا ضال مبتدع،لیس یؤخذ عنه،و لا علم له، و نحن نسألک بحق هذا البیت و بحق کذا و کذا لما أبلغته عنّا هذا الکلام.قال:فأتیت أبا جعفر محمد علیه السّلام فقلت له:لقیت بنی شیبة فأخبرتهم،فزعموا أنک کذا و کذا، و أنک لا علم لک.ثم سألونی باللّه العظیم لما أبلغک ما قالوا.قال:«و أنا أسألک بما سألوک لما أتیتهم فقلت لهم:إن من علمی لو ولیت شیئا من أمور المسلمین لقطعت

ص:330


1- (1) البدایة و النهایة. [1]
2- (2) تاریخ ابن واضح.

أیدیهم،ثم علقتها فی أستار الکعبة،ثم أقمتهم علی المصطبة،ثم أمرت منادیا ینادی:ألا إن هؤلاء سرّاق اللّه فاعرفوهم».

ثم تأتی مرحلة الدعوة فی عهد الإمام الصادق بعد أن تولی الإمامة و تبوء مکان الزعامة بعد مرافقة للإمامة فی أحداثها،و إعداد لدوره و عهده فی ظلالها.و قد مرّ بنا فی أجزاء الکتاب السابقة فصول من حیاته علیه السّلام،و علمنا اتجاهه إلی حفظ شریعة الإسلام و دعوته إلی التمسّک بأحکام الدین.و قد تلقی الإمام الصادق انتقال الإمامة إلیه و هو یمتلک تجربة غنیة و درایة تامة بطبیعة الأحداث و تصاریف الأیام،فظهرت حکمته و بدت حنکته،و قد کانت أیام حیاته من أشدّ الأیام صعوبة و هو یتحمل أعباء الدعوة و یقوم بواجبات الإمامة،کان فیها التحوّل السیاسی من جهة إلی جهة،و کان فیها النمو الفکری و اتساع الخلاف،و علو موجات الآراء المقالات،و کان فیها إیغال الحکام الجدد بدماء آل البیت و اضطراب أنحاء البلاد الإسلامیة.إلی غیرها من الظروف،و ما انطوت علیه من محن و مآزق و معترکات.

روی الشیخ المفید بسنده عن أبی الصباح الکنانی قال:نظر أبو جعفر علیه السّلام إلی ابنه أبی عبد اللّه علیه السّلام فقال:«تری هذا،هذا من الذین قال اللّه عز و جل:

وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ ».

و الإمام الصادق هو السادس من الذین یخلفون النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی أمور شریعته و حفظ رسالته،و الذین أخبر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عنهم بطرق أهل السنّة أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«فی کل خلف من أمتی عدول من أهل بیتی،ینفون عن هذا الدین تحریف الضالین،و انتحال المبطلین،و تأویل الجاهلین.ألا و إن أئمتکم وفدکم إلی اللّه عز و جل،فانظروا من توفدون» (1).و إلی جانب النص علی إمامته و الوصیة،فقد کان الإمام الصادق أعلم أهل زمانه و أجلّهم قدرا و أعلاهم منزلة،فاختص بالقیام بالنظر فی مصالح المسلمین الدینیة،و قد رأینا أنه عاش فی صمیم الأحداث و الوقائع التی مرّت بأهل البیت علیهم السّلام و وعی وجوهها و طابعها الذی کانت علیه.فأحاط بالأخبار و تزوّد بالآثار،فکان کل قول منه عن علم مسبق،و کل أمر سار علیه یعلم ما یقضی إلیه کأن العواقب ترتسم فی مرآة أمامه.

ص:331


1- (1) الصواعق المحرقة لابن حجر ص 90. [1]

فکان أن اتجه إلی محاربة الظالمین،و سار علی هدی الإمامة و نهج آبائه فی الدعوة إلی أحکام القرآن و تعالیم الإسلام فی المودة و العدل و مکارم الأخلاق.

فأمر الإمام الصادق بعدم التعاون مع حکام الظلم و الانحراف.فقال:«العامل بالظلم و المعین له و الراضی به شرکاء».

و سأله رجل من أصحابه عن البناء لهم و کرایة النهر؟فأجابه علیه السّلام:«ما أحبّ أن أعقد لهم عقدة،أو وکیت لهم وکاء و لا مدّة بقلم،إن أعوان الظلمة یوم القیامة فی سرادق من نار حتی یحکم اللّه بین العباد» (1).

و سئل علیه السّلام عن رجلین من أصحابه یکون بینهما منازعة فی دین أو میراث، فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاء،أ یحلّ ذلک؟فقال علیه السّلام:«من تحاکم إلی الطاغوت فحکم له،فإنما یأخذ سحتا و إن کان حقه ثابتا،لأنه أخذ بحکم الطاغوت و قد أمر أن یکفر به».قیل:کیف یصنعان؟قال علیه السّلام:«انظروا إلی من کان منکم قد روی حدیثنا،و نظر فی حلالنا و حرامنا،و عرف أحکامنا،فارضوا به حکما؛فإننی قد جعلته علیکم حاکما،فإذا حکم بحکمنا فلم یقبله منه،فإنما بحکم اللّه استخفّ، و علینا ردّ،و الرادّ علینا کالراد علی اللّه» (2).

و سئل علیه السّلام عن قاض بین قریتین یأخذ من السلطان علی القضاء الرزق؟ فقال:«ذلک السحت» (3).

و یتکلم علیه السّلام بسلطة الولایة و الخلافة الدینیة التی اختص بها،فیقول فی حدیثه لعمّار بن أبی الأحوص عن الإسلام و إنه وضع علی سبعة أسهم،و قد مرّ ذکره عند الحدیث عن سیرته علیه السّلام فی أول هذا الجزء فقال فی آخره:«فلا تخرقوا بهم،أ ما علمت أن إمارة بنی أمیة کانت بالسیف و العسف و الجور،و إن إمامتنا بالرفق و التآلف و الوقار و التقیة و حسن الخلطة و الورع و الاجتهاد،فرغّبوا الناس فی دینکم و فیما أنتم فیه» (4).

ص:332


1- (1) راجع الجزء الثانی،فصل:الإمام الصادق مدرسته و تعالیمه.
2- (2) الوسائل [1]صفات القاضی ج 18 و الاحتجاج للطبرسی ج 2. [2]
3- (3) الوسائل. [3]
4- (4) المواعظ العددیة.

و الإمام الصادق فی دعوة الإمامة یعطی لنهج الدعوة مجالا فی التطبیق هیأته شهرة الإمام العلمیة،و إقبال الناس علیه،و تأثر المجتمع به لینشأ مجتمع الإمامة بخصائصه.عن محمد بن علی الحلبی قال:استودعنی رجل من موالی بنی مروان ألف دینار،فغاب فلم أدر ما أصنع بالدنانیر،فأتیت أبا عبد اللّه الصادق علیه السّلام فذکرت ذلک له و قلت:أنت أحق بها.فقال:«لا،لأن أبی کان یقول:إنما نحن فیهم بمنزلة هدنة،نؤدی أمانتهم،و نردّ ضالّتهم،و نقیم الشهادة لهم و علیهم،فإذا تفرّقت الأهواء لم یسع أحد المقام» (1).

و یرد ذلک فی مورد التأکید علی أداء الأمانات،فیظهر فی سیاقها خصائص مجتمع الإمامة و سمات الدعوة.و نحوها روایة الحسین الشیبانی أنه قال للإمام الصادق:إن رجلا من موالیک یستحلّ مال بنی أمیة و دماءهم،و أنه وقع له عنده ودیعة؟فقال علیه السّلام:«أدّوا الأمانات إلی أهلها و إن کانوا مجوسا،فإن ذلک لا یکون حتی یقوم قائمنا فیحلّ و یحرّم».لأن ذلک من حقوق الأشخاص،و یندرج فی باب الأمانة التی یجب الحرص علیها لضمان الأمن فی المجتمع،أما الأعمال التی تتعلق بالعدل و لها مساس بمصلحة المجتمع،فتکون من الحقوق العامة،و أمرها إلی الإمام الصادق یحکم فیها بحکم الدین.

و یبین الإمام الصادق ولایته فیقول:«الناس کلهم یعیشون فی فضل مظلمتنا،إلا أنّا أحللنا شیعتنا من ذلک» (2).

و عن عمر بن أذینة قال:رأیت أبا سیار مسمع بن عبد الملک بالمدینة،و قد کان حمل إلی أبی عبد اللّه علیه السّلام مالا فی تلک السنة فردّه علیه،فقلت له:لم ردّ علیک أبو عبد اللّه علیه السّلام المال الذی حملته إلیه؟فقال:إنی قلت له حین حملت إلیه المال:إنی کنت ولیت الغوص،فأصبت أربعمائة ألف درهم،و قد جئت بخمسها ثمانین ألف درهم،و کرهت أن أحبسها عنک،أو أعرض لها و هی حقک الذی جعله اللّه لک فی أموالنا؟فقال:«و مالنا من الأرض و ما أخرج اللّه منها إلا الخمس؟یا أبا سیّار،الأرض کلها لنا ما أخرج اللّه منها من شیء فهو لنا»قال قلت له:أنا أحمل

ص:333


1- (1) تذکرة الفقهاء للعلامة الحلی-کتاب الأمانات. [1]
2- (2) من لا یحضره الفقیه للشیخ الصدوق.

إلیک المال کله.فقال لی:«یا أبا سیّار قد طیّبناه لک،و أحللناک منه،فضمّ إلیک مالک،و کلّ ما فی أیدی شیعتنا من الأرض فهم فیه محلّلون،و یحلّ لهم ذلک إلی أن یقوم قائمنا»ا ه.

و تمضی الإمامة علی عهد جعفر بن محمد الصادق فی إقامة سلطانها الروحی و مجتمعها الدینی،و ینتصب الإمام فی وسط عالم ینوء بالجور و أفعال الطغاة،یتصرف بما أوجبته الأحکام من حقوق للولایة الدینیة و الإمامة الشرعیة،و فیما هو حق للإمام.

عن عبد العزیز بن نافع قال:

طلبنا الإذن علی أبی عبد اللّه علیه السّلام و أرسلنا إلیه،فأرسل إلینا:«ادخلوا اثنین اثنین»فدخلت أنا و رجل معی،فقلت للرجل:أحب أن تستأذنه بالمسألة،فقال:

نعم.فقال له:جعلت فداک:إن أبی کان ممن سباه بنو أمیة،و قد علمت أن بنی أمیة لم یکن لهم أن یحرّموا و لا یحللوا،و لم یکن لهم مما فی أیدیهم قلیل و لا کثیر،و إنما ذلک لکم،فإذا ذکرت الذی کنت فیه دخلنی من ذلک ما یکاد یفسد علیّ عقلی.ما أنا فیه؟فقال له علیه السّلام:«أنت فی حلّ مما کان من ذلک،و کلّ من کان فی مثل حالک من ورائی فهو فی حلّ من ذلک»قال:فقمنا و خرجنا،فسبقنا معتّب (1)إلی النفر القعود الذین ینتظرون إذن أبی عبد اللّه علیه السّلام فقال لهم:قد ظفر عبد العزیز بن نافع بشیء ما ظفر بمثله أحد قط.فقیل له:و ما ذاک؟ففسّره لهم.فقام اثنان،فدخلا علی أبی عبد اللّه علیه السّلام فقال أحدهما:جعلت فداک،إن أبی کان من سبایا بنی أمیة، و قد علمت أن بنی أمیة لم یکن لهم من ذلک قلیل و لا کثیر،و أنا أحب أن تجعلنی من ذلک فی حلّ؟فقال:«و ذلک إلینا؟»ما ذلک إلینا،مالنا أن نحلّ و لا أن نحرّم.فخرج الرجلان،و غضب أبو عبد اللّه علیه السّلام فلم یدخل علیه أحد فی تلک اللیلة إلا بدأه أبو عبد اللّه علیه السّلام فقال:«أ لا تعجبون من فلان،یجیئنی فیستحلّنی من ما صنعت بنو أمیة،کأنه یری أن ذلک إلینا!».و لم ینتفع أحد فی تلک اللیلة بقلیل و لا کثیر إلا الأوّلین،فإنهما عنیا بحاجتهما.و ذلک لأن الأوّلین کانا قد سئلا فیما هو من حق الإمام و ما یقع فی باب ما أوجبه اللّه للقائمین بالأمر من أهل بیت النبوة.

و من عموم الأخبار،یبدو لنا بوضوح أن الإمام الصادق وضع السلطة الروحیة

ص:334


1- (1) أحد الموالی القائمین بخدمة الإمام الصادق،روی عنه الأصحاب،و هو ثقة.

التی تقوم علی الإیمان بالعقیدة فی مواجهة کیان الملک و السلطان الزمنی الذی یتلبّس بالدین،و یدّعی الولایة معتمدا علی زبانیة الجور و لعقة الصحون ممن یتزیّون بزی الفقه و لباس العلم،و لهذا کان الإمام الصادق ینبه علی أولئک الذین یرتضون لأنفسهم أن یکونوا بالمحل الذی نبّه علیه جدّه الإمام السجاد فی رسالته إلی الزهری و هو فی ظل الأمویین.

یذکر هشام بن عباد أنه سمع الإمام الصادق یقول:«الفقهاء أمناء الرسل،فإذا رأیتم الفقهاء قد رکنوا إلی السلاطین فاتهموهم» (1).و قد یحسب الذهبی نفسه قد أتی بشیء بقوله:مناقب جعفر کثیرة،و کان یصلح للخلافة لسؤدده و فضله و علمه و شرفه.

فذلک ما علیه النص،و ما تواترت به الروایات،إلا أنها الخلافة الکبری فی الدین، و لیست خلافة الملک و القوة،تلک الخلافة التی فیها دوام الرسالة و بقاء الدعوة،و لها هیئاتها و رجالها من أهل العلم و الفقه الذین یعظم أمر انحرافهم علی الأئمة،و رکونهم إلی الطغاة،لأن سلطان الدین لسعادة البشریة و رعایة مصالح الأمة و دفع الضرر عنها، فحرص الأئمة علیهم السّلام علی إبعاد شئون الدین من علم وفقه و حدیث و سائر وجوه الکیان الروحی للإسلام عن السلطان القائم علی القهر و انتهاک الحرمات.

إنه علیه السّلام أدار إمامته علی قواعد الإصلاح و الإرشاد و إقامة مجتمع دینی مستقل بروحیته عن مبادئ السیاسیة و قیم الملک الدنیوی،لا یتصل بالسلطان الزمنی إلا بقدر الضرورة أو تحت تأثیراتها.و أراد أن یکون القضاء بحکم اللّه بین شیعته و مریدیه،و ینأی عن دواوین الحکّام و عمّال الملوک الذین یندر فیهم وجود من یلتزم الحق و لا یغلّب مصلحته الشخصیة علی مصالح الناس.فراح یقول علیه السّلام-کما مر بنا قبل قلیل-:«من تحاکم إلیهم فی حق أو باطل،فإنما تحاکم إلی الجبت و الطاغوت المنهی عنه،و من أمر اللّه أن یکفر به».

و جعل علیه السّلام من المتخاصمین من کان قد روی حدیث أهل البیت و نظر فی حلالهم و حرامهم و عرف أحکامهم هو الحکم و قال:«فلیرضیا به حکما،فإنی قد جعلته علیهم حاکما»و أن الحکم ما حکم به أعدلهما و أفقههما،و أصدقهما فی الحدیث و أورعهما،فإن لم یتیسر للمتخاصمین،و هما علی صفة الولاء للإمام و التعلّق

ص:335


1- (1) الذهبی:تاریخ الإسلام ج 6 ص 48. [1]

بحبل ولایته،و لم یظهر لهما ممسک یقدم لهما الحکم،فیأمرهما الإمام بالتوقف عنده حتی یلقیا الإمام،فإن الوقوف عند الشبهات خیر من الاقتحام فی الهلکات.

و لم ترهب الإمام الصادق علیه السّلام عداوات الحکام و الإحن الحی تملأ نفوسهم،و قام بمسئولیته فی أداء الرسالة و توجیه الأمة إلی ما فیه خیرها و سعادتها.

فانقادت إلیه النفوس،و آمنت بإمامته،فکان اتجاه الناس إلی حضرته لا یقارن به تهافت العامة علی أبواب الحکام،بل تسمو العلاقة عن مثل هذا الانحدار،و الأمر واضح بین الاتجاهین بفروقهما،فمع الإمام دین و تقوی،و مع الحکام دنیا و طمع.

قال إسحاق بن إبراهیم:کنت عند أبی عبد اللّه الصادق علیه السّلام إذ دخل علیه رجل من خراسان فقال:یا ابن رسول اللّه،أنا من موالیکم،و بینی و بینکم شقّة بعیدة،و قد قلّ ذات یدی،و لا أقدر أن أتوجه إلی أهلی،أ لا أن تعینونی؟فنظر أبو عبد اللّه و قال:«أ ما تسمعون ما یقول أخوکم؟إنما المعروف ابتداء،فأما ما أعطیت بعد ما سأل؛إنما هو مکافأة لما بذل من ماء وجهه،أ فیبیت لیلته متأرّقا متململا بین الیأس و الرجاء،لا یدری أین یتوجه بحاجته فیعزم علی القصد إلیک،فأتاک و قلبه یجب، و فرائصه ترتعد،و قد نزل دمه فی وجهه،و بعد هذا فلا یدری أ ینصرف من عندک بکآبة الرد،أم بسرور النجح،فإن أعطیته رأیت أنک قد وصلته،و قد قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

و الذی فلق الحبة،و برأ النسمة،و بعثنی بالحق نبیا لما یتجشّم من مسألته إیاک أعظم مما ناله من معروفک».

و علی أی حال،فإن سلطان الإمامة أصبح له کیان روحی معروف یقصده الناس من کل الأقطار،و تؤمن من کل البلدان.یروی عبد الرحمن بن سیّابة:لما هلک أبی سیابة،جاء رجل من إخوانه إلیّ فضرب الباب علی،فخرجت إلیه،فعزّانی و قال:

هل ترک أبوک شیئا؟فقلت له:لا.فدفع إلیّ کیسا فیه ألف درهم و قال لی:أحسن حفظها و کل فضلها.فدخلت علی أمی و أنا فرح،فأخبرتها،فلما کان بالعشی أتیت صدیقا کان لأبی فاشتری لی بضائع سابری،و جلست فی حانوت،فرزق اللّه فیها خیرا کثیرا.و حضر الحج،فوقع فی قلبی،فجئت إلی أمی و قلت لها:قد وقع فی قلبی أن أخرج إلی مکة.فقالت لی:فردّ دراهم فلان علیه فهاتها،و جئت بها إلیه،فدفعتها إلیه فکأنی وهبتها له فقال:لعلک استقللتها فأزیدک؟قلت:لا،و لکن قد وقع فی قلبی الحج فأحببت أن یکون شیئک عندک.ثم خرجت و قضیت نسکی.ثم رجعت إلی المدینة فدخلت مع الناس علی أبی عبد اللّه علیه السّلام و کان یأذن إذنا عاما،فجلست فی

ص:336

مآخیر الناس و کنت حدثا،فأخذ الناس یسألونه و یجیبهم،فلما خفّ الناس أشار إلیّ، فدنوت إلیه،فقال لی:«أ لک حاجة؟»فقلت له:جعلت فداک،أنا عبد الرحمن بن سیّابة.فقال لی:«ما فعل أبوک؟»فقلت:هلک.قال:فتوجّع و ترحّم،ثم قال لی:

«أ فترک شیئا؟»قلت:لا.قال:«فمن أین حججت؟»قال:فابتدأت فحدثته بقصة الرجل،فما ترکنی أفرغ منها حتی قال لی:«فما فعلت فی الألف؟»قلت:رددتها علی صاحبها،فقال لی:«قد أحسنت».و قال لی:«إلا أوصیک؟».قلت:بلی جعلت فداک،قال«علیک بصدق الحدیث و أداء الأمانة»الروایة...

قال أبو ربیع الشامی:دخلت علی أبی عبد اللّه علیه السّلام و البیت غاصّ،فیه الخراسانی و الشامی و من أهل الآفاق،فلم أجد موضعا أقعد فیه،فجلس أبو عبد اللّه متکئا ثم قال:«یا شیعة آل محمد،إنه لیس منّا من لم یملک نفسه عند غضبه،و من لم یحسن صحبة من صحبه،و مخالفة من خالفه،و مرافقة من رافقه.یا شیعة آل محمد، اتقوا اللّه ما استطعتم،و لا حول و لا قوة إلا باللّه العظیم».

و القصد هنا من تقدیم الروایتین بیان اتجاه الأنظار إلی الإمام الصادق و مدی اتساع دعوته و إقبال الناس علیه،و هو یتمتع بکیان روحی یفوق فی تأثیره سلطان القوة و نفوذ الحکم،و هو علیه السّلام یعیّن خصائص هذا الکیان المستقل و الذی یشتمل علی الوجود العلمی لمدرسته،و علی النشاط الفکری لجماعته،و یبیّن استقلالها و تفرّدها عن الحکام بالمصدر و المضمون.قال أبو بصیر:سمعت أبا عبد اللّه الصادق یقول:

«اتقوا اللّه،و علیکم بالطاعة لأئمتکم،قولوا ما یقولون،و اصمتوا عمّا صمتوا،فإنکم فی سلطان من قال اللّه تعالی: وَ إِنْ کانَ مَکْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ فاتقوا اللّه، فإنکم فی هدنة،صلّوا فی عشائرهم،و اشهدوا جنائزهم،و أدّوا الأمانة إلیهم،و علیکم بحج البیت؛فإن فی إدمانکم الحج دفع مکاره الدنیا عنکم و أهوال یوم القیامة».

ثم یصف الإمام الصادق الطوائف التی یختلف عنها و ینفصل اتجاهه عن اتجاهها و یقول:«إنی لأرجو النجاة لهذه الأمة لمن عرف حقنا منهم إلا لأحد ثلاث:

صاحب سلطان جائر،و صاحب هوی،و الفاسق المعلن.

أما توجیهاته علیه السّلام و وصایاه لأصحابه فمنها:«اجعلوا أمرکم هذا للّه و لا تجعلوه للناس،فإنه ما کان للّه فهو للّه،و ما کان للناس فلا یصعد إلی السماء،و لا

ص:337

تخاصموا بدینکم،فإن المخاصمة ممرضة للقلب،إن اللّه عز و جل قال لنبیه علیه السّلام:

أَ فَأَنْتَ تُکْرِهُ النّاسَ حَتّی یَکُونُوا مُؤْمِنِینَ .ذروا الناس فإن الناس قد أخذوا عن الناس،و إنکم أخذتم عن رسول اللّه و عن علی و لا سواء،و إنی سمعت أبی یقول:

إذا کتب اللّه علی عبد أن یدخله فی هذا الأمر کان أسرع إلیه من الطیر إلی وکره».

إن أهل البیت علیهم السّلام جوّزوا الولایة إذا کان فیها صیانة العدل و إقامة حدود اللّه،و الإحسان إلی المؤمنین و السعی فی الإصلاح و مناصرة المظلومین و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر.فإلی جانب الأحادیث الواردة عن الأئمة علیهم السّلام التی تبیّن ما علی الولاة و الموظفین ممن لهم من الأمر شیء،فإن مشاعر الناس التی هاجت للمظالم التی لحقت بأل البیت و قیام الدعوة إلی الرضا من آل بیت النبی محمد،تخلق البواعث علی الظهور فی مواجهة الظالمین إلی السیف و اعتباره وسیلة الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،أما فعل الإمامة و توجیه صاحب الأمر الشرعی فیتمثل فی جوانب من دعوة الإمام الصادق فی قوله:«من تولی أمرا من أمور الناس فعدل،و فتح بابه و رفع ستره،و نظر فی أمور الناس کان حقا علی اللّه عز و جل أن یؤمّن روعته یوم القیامة و یدخله الجنة».

و قال علیه السّلام:

«إذا أراد اللّه برعیته خیرا جعل لها سلطانا رحیما،و قیّض له وزیرا عادلا» (1).

و کان عبد اللّه النجاشی والیا للمنصور علی الأهواز،و کان یری رأی الزیدیة، و قدم المدینة و دخل علی الإمام الصادق،و سأله بمسائل عدیدة،فخرج منه و قد عدل عن رأیه و قال:هذا عالم آل محمد،و لا زال یراسل الإمام و یسأله عن أهم الأمور و ما یقرّبه إلی اللّه و إلی رسوله و هو بعمله فی الولایة (2).فبعث إلیه برسالته المشهورة و هی المیثاق الدائم الذی علیه سیرة الأئمة الطاهرین.و من جوابه علیه السّلام:«اعلم أن خلاصک و نجاتک فی حقن الدماء و کفّ الأذی عن أولیاء اللّه و الرفق بالرعیة،و التأنی و حسن المعاشرة مع لین فی غیر ضعف و شدّة فی غیر عنف».

«یا عبد اللّه إیاک أن تخیف مؤمنا،فإن أبی محمد حدّثنی عن أبیه عن جدّه

ص:338


1- (1) روضة الواعظین. [1]
2- (2) انظر الجزء الثانی و الجزء الرابع من الإمام الصادق و المذاهب الأربعة. [2]

علی بن أبی طالب أنه کان یقول:من نظر إلی مؤمن نظرة لیخیفه بها أخافه اللّه یوم لا ظل إلا ظلّه».

و ذکر الحلوانی فی نزهة الخاطر،أن کاتب المهدی المعروف بأبی عبد اللّه سأل الإمام الصادق عمّا یستطیع به مداراة السلطان و تدبیر أمره،فأجابه الإمام علیه السّلام بما یرشده لذلک،و شرح له طرق السلوک فی مداراة السلطان، و أوصاه بأمور هامة،و نصحه فی أشیاء کثیرة.و لا یخفی أن السائل کان کاتبا للمهدی و هو فی ولایة عهده.و کان ممن یوالی أهل البیت شأنه شأن کثیر من القوّاد و الأمراء و الکتّاب الذین دخلوا فی سلطان بنی العباس لمساعدة الضعفاء،و دفع الظلم عنهم قدر استطاعتهم بعد أن کان أساس التحاقهم بهم هو الظنّ بأنّ سلطانهم قام لنصرة آل البیت و الرضا منهم.

أما ولاة الجور فی عموم حکمهم و نظام سلطانهم،فإن الإمام الصادق سنّ قاعدة التعامل معهم و التعاون و إیاهم فی حدود الضرورة،و الإلجاء لدفع ضررهم و شرّهم،و اتقاء ظلمهم،فقال علیه السّلام و هو یجیب سائله عن جهات معاش العباد التی فیها الاکتساب و التعامل بینهم و وجوه النفقات:

«جمیع المعایش کلها من وجوه المعاملات فیما بینهم مما یکون لهم فیه المکاسب أربع جهات،و یکون منها حلال من جهة،و حرام من جهة.

فأول هذه الجهات الأربعة:الولایة،ثم التجارة،ثم الصناعات،ثم الإجارة.

و الفرض من اللّه تعالی علی العباد فی هذه المعاملات:الدخول فی جهات الحلال، و العمل بذلک الحلال منها،و اجتناب جهات الحرام.

فإحدی الجهتین من الولایة،ولاة العدل الذین أمر اللّه بولایتهم علی الناس.

و الجهة الأخری ولایة ولاة الجور،فوجه الحلال من الولایة ولایة الوالی العادل، و ولایة ولاته بجهة ما أمر به الوالی العادل بلا زیادة و لا نقصان.فالولایة له و العمل معه،و معونته و تقویته حلال محلل.

و أما وجه الحرام من الولایة فولایة الوالی الجائر،و ولایة ولاته،فالعمل لهم و الکسب معهم بجهة الولایة لهم محرم حرام،معذّب فاعل ذلک،علی قلیل من فعله أو کثیر.لأن کل شیء من جهة المعونة له معصیة کبیرة من الکبائر،و ذلک أن فی

ص:339

ولایة الوالی الجائر دروس الحق کله،فلذلک حرّم العمل معهم و معونتهم و الکسب معهم إلا بجهة الضرورة،نظیر الضرورة إلی الدم و المیتة» (1).

و هنا مقتضی القاعدة إقامة المعاملات لیس علی أساس الإقرار بشرعیة سلطانهم و ولایتهم،و لا علی أساس التعاون معهم فی کل شأن و فی کل ما یأمرون به،و إنما الأمر هدنة تقدم فیها الروابط و الصلات الاجتماعیة،و ما اتصل بالولایة فیجری مجری الضرورة و أحکامها التی لا تتعدی الحدود التی أباحها الشرع فی دفع الهلاک و المضرّة،و قد جعل الإمام الصادق لذلک کفارة من جنس العمل،فقال علیه السّلام:

«کفارة عمل السلطان:قضاء حوائج الإخوان».

و هناک بعض الأقوال للإمام الصادق التی تتعلق بهذه القاعدة کقوله:«من عذر ظالما بظلمه؛سلّط اللّه علیه من یظلمه.و إن دعا لم یستجب له،و لم یؤجره اللّه علی ظلامته».

قوله علیه السّلام:من ولّی شیئا من أمور المسلمین و ضیّعه،ضیّعه اللّه»و قوله:«من ظلم مظلمة أخذ بها فی نفسه أو فی ماله أو فی ولده».

و فی وصیته إلی محمد بن علی بن النعمان-مؤمن الطاق-:

«إن من کان قبلکم کانوا یتعلّمون الصمت و أنتم تتعلمون الکلام.کان أحدهم إذا أراد التعبّد یتعلم الصمت قبل ذلک بعشر سنین،فإن کان یحسنه و یصبر علیه تعبّد، و إلا قال:ما أنا لما أروم بأهل».

«إنما ینجو من أطال الصمت عن الفحشاء،و صبر فی دولة الباطل علی الأذی، أولئک النجباء الأصفیاء الأولیاء حقا و هم المؤمنون.إن أبغضکم إلیّ المتراسون المشّاءون بالنمائم،الحسدة لإخوانهم لیسوا منی و لا أنا منهم.إنما أولیائی الذین سلّموا لأمرنا،و اتبعوا آثارنا».

«و اقتدوا بنا فی کل أمورنا...یا ابن النعمان،إذا کانت دولة الظلم فامش و استقبل من تتقیه بالتحیة،فإن المعترض للدولة قاتل نفسه و موبقها،إن اللّه یقول:

وَ لا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ (2).

ص:340


1- (1) تحف العقول. [1]
2- (2) تحف العقول.

و یبدو جلیا أن الإمام یحذر من مواجهة دولة الظلم،لأن رجالها فی کلا العهدین انطوت نفوسهم علی کره شدید لأهل البیت خصوصا،و حقد أسود لکل مناصر لهم فی دعوتهم إلی إقامة الحق و إطفاء الباطل،و ما زال الإمام تحفّه المخاطر و تبقی بکل وسیلة محاولات الظلمة للقضاء علی ذکر أهل بیته ورثة علم المصطفی، هذا و الأمر موصول کما جرت به الأقدار و أراده اللّه،فدولة الظلم بإزائها دعوة الحق و حملة الإیمان التی یقوم بها حجج اللّه المکلّفون بالخلافة الدینیة حتی یقضی اللّه بخروج حجته القائم،فکان الإمام الصادق کثیرا ما یقول:

«لکل أناس دولة یرقبونها و دولتنا فی آخر الدهر تظهر»

(1).

و یقول علیه السّلام:

«إذا قام القائم علیه السّلام،دعا الناس إلی الإسلام جدیدا،و هداهم إلی أمر قد دثر،و ضلّ عنه الجمهور،و إنما سمّی المهدی مهدیا لأنه یهدی إلی أمر مضلول عنه و سمی القائم لقیامه بالحق».

و من قوله علیه السّلام:

«إذا أذن اللّه تعالی للقائم فی الخروج،صعد المنبر و دعا الناس إلی نفسه، و ناشدهم باللّه،و دعاهم إلی حقّه،و أن یسیر فیهم بسیرة رسول اللّه،و یعمل فیهم بعمله،فیبعث اللّه جبرئیل علیه السّلام حتی یأتیه،فینزل علی الحطیم،ثم یقول له:إلی أی شیء تدعو؟فیخبره القائم.فیقول جبرئیل:أنا أول من یبایعک،فیمسح علی یده، و قد وافاه ثلاثمائة و بضعة عشر إلی المدینة».

و قال علیه السّلام فی تفسیر قوله تعالی: ذلِکَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِیَ عَلَیْهِ لَیَنْصُرَنَّهُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ «إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لما أخرجته قریش من مکة،و هرب منهم إلی الغار،و طلبوه لیقتلوه فعوقب.ثم فی بدر عاقب لأنه قتل عتبة بن ربیعة و شیبة بن ربیعة و الولید بن عتبة و حنظلة بن أبی سفیان و أبو جهل و غیرهم،فلما قبض رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بغی علیه ابن هند بنت عتبة بن ربیعة بخروجه عن طاعة أمیر المؤمنین علیه السّلام و بقتل ابنه یزید الإمام الحسین علیه السّلام بغیا و عدوانا،و القائل شعرا:

ص:341


1- (1) روضة الواعظین ص 212 و 267. [1]

لیت أشیاخی ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا و استهلّوا فرحا ثم قالوا یا یزید لا تشل

لست من خندف إن لم أنتقم من بنی أحمد ما کان فعل

قد قتلنا القوم من ساداتهم و عدلناه ببدر فاعتدل

ثم قال تعالی: لَیَنْصُرَنَّهُ اللّهُ یعنی بالقائم المهدی من ولده صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1)و یروی عن أبیه الباقر علیه السّلام فی قوله تعالی: وَ لَقَدْ کَتَبْنا فِی الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّکْرِ أَنَّ الْأَرْضَ یَرِثُها عِبادِیَ الصّالِحُونَ هم القائم و أصحابه.

ثورات العلویین

:

و بمرور الأیام تزداد الشقّة بین حملة الرسالة و بین حکام الأمة بالباطل بعدا، و تصبح سیرة العلویین مآثر خالدة من التضحیات و البطولة التی تحیی فی النفوس مبادئ العدل و عقائد الإیمان،و قد بات أساس حکم الأمویین معروفا،و سیاستهم واضحة فی قیامها علی استهداف شخصیة أمیر المؤمنین الإمام علی بن أبی طالب، و النیل من مکانته فی النفوس بعد أن أمّن معاویة التأثیر فی العوام و الجهلة من أهل الشام،ممن تحکمهم الأطماع و المنافع و بواسطة علماء السوء الذین جعلوا لباس صحبة معاویة للنبی محمد و غیره من الطلقاء ستارا للجاهلیة التی استسلمت یوم الفتح،و أعطت عن ید صاغرة لتهدأ إلی حین،و قد وضعت فی حسابها مسایرة الأحداث و مماشاة الإسلام،فکانت تلک الأحداث التی اتجهت إلی إبعاد أهل بیت النبوة عن منازلهم الحقیقیة و مراکزهم التی أرادها اللّه لهم،لتأمین دوام الدعوة و بقاء الرسالة علی أصولها و مبادئها،و کلما اتسعت مجالات الانحراف عن قواعد الإسلام و أحکامه،أصبحت الدعوة إلی مقاومة الباطل و القضاء علی الانحراف شدیدة تنطلق بها الحناجر،و تزهق من أجلها الأرواح و تهرق الدماء،و قد جعل اللّه لأمناء دعوة الإسلام فی مواجهة الباطل و الضلال أزمانا هم بالغوها بما عهد إلیهم،و جرت به مقادیرهم التی تمضی فی مسلک الإمامة و الخلافة الکبری.

غیر أن العلویین و قد باتوا فی مواجهة الجاهلیة بأصنافها و الباطل بطوائفه،کانوا سیاج الإمامة و جندها،فملئوا الأرض بآثار التقوی و شواهد الحق،و وضعوا نصب

ص:342


1- (1) ینابیع المودة للقندوزی الحنفی ص 510. [1]

أعینهم ما قدّر لأهل بیتهم و ما وضع فی أعناقهم و ما وجب علی أمتهم من الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر.و هم قدوة الناس و قادتها تتطلع إلیهم النفوس فی المهمات،و تشرئب إلیهم الأعناق فی الملمات،فلمّا وجدوا أن أمیّة لا تقف عند حد فی عدائها لأهل البیت،و لا ترعوی و تترک المجاهرة بالضلال و المعالنة بالباطل، نهضوا بنداء أبیهم الحسین مرة أخری،و أعادوا صفحات البطولة و الفداء.

و قد سلک الأمویون مسلکا حاولوا فیه تشتیت العلویین و تمزیق صفوفهم،بعد أن أحاطوهم بما یبقی نشاطهم تحت أعین عمّالهم،بتوجیه رقابة شدیدة،و الاحتیال للتقرب منهم طمعا فی إزالة صفات النقمة و الابتعاد عن حکم الأمویین.تلک الصفات التی تضعف موقع الأمویین فی النفوس التی تتقرب منها،و تلهب المشاعر فی القلوب التی تقف إلی صف أهل البیت.

و قد کان هشام بن عبد الملک یزیدا آخر فی سلسلة الطغاة الأمویین،اتسم بکل قبائحه،و اتصف بالبذاءة و الحقد و اللؤم،و قد أدت السیاسة التی یتبعها إلی أن یسمع ما یکشف الغشاوة و یزیلها عن عینیه لما دخل علیه الشهید زید بن علی فقال له:لیس أحد من عباد اللّه دون أن یوصی بتقوی اللّه سبحانه،و لا أحد فوق أن یوصی بتقوی اللّه سبحانه،و أنا أوصیک بتقوی اللّه.

فقال هشام:أنت زید المؤمّل للخلافة،الراجی لها،و ما أنت و الخلافة،لا أم لک،و أنت ابن أمة.

فقال زید:لا أعلم أحدا أعظم منزلة عند اللّه من نبی بعثه و هو ابن أمة إسماعیل بن إبراهیم علیهما السّلام ما یقصرک برجل جدّه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أبوه علی بن أبی طالب.

فوثب هشام و وثب الشامیون و دعی قهرمانه و قال:لا یبیتن هذا فی عسکری اللیلة.فخرج زید علیه السّلام و هو یقول لهشام:أخرج ثم لا ترانی إلا حیث تکره.ثم قال هشام:أ لستم تزعمون أن أهل هذا قد بادوا،و لعمری ما انقرض من حقل هذا خلفهم (1).

و کانت قضیة الخلاف فی أوقاف الإمام علی و ولایتها مدخلا عتّبته أرجل

ص:343


1- (1) للمزید انظر الجزء الأول ص 124-127 و قد ضمّ کتابنا الذی أنجزناه(العلوی الثائر)ترجمة و بحثا عن الشهید زید.

الأمویین الدنسة،و امتدت من طریقه أیدیهم القذرة لإذکاء الخصومة بین بنی الحسین و بنی الحسن.و لا ندخل فی تفاصیل هذا الخلاف الذی أسهبت المصادر فی ذکرها و الکثیر منها یحتاج إلی تدقیق و أناة فی النظر،لتبیّن دور الأمویین فی کل ما نسب إلی أیّ من الطرفین،و عندی أن هذه السبیل التی سلکها الأمویون کان الغرض منها حمل العلویین علی اللجوء إلی بنی أمیة،و فی ذلک خدمة لسیاستهم،إذ تظهر العلویین بمظهر الاعتراف بسلطان الأمویین و التحاکم إلیهم،و قد أبطل الطرفان ما استتبع ذلک من سیاسة و أغراض أرادها الأمویون،فقد فطن عبد اللّه بن الحسن و زید بن علی لشماتة الوالی بهما،فذهب عبد اللّه لیتکلم،فطلب إلیه زید فسکت،و قال زید للوالی:أم و اللّه لقد جمعتنا لأمر ما کان أبو بکر و عمر لیجمعانا علی مثله،و إنی أشهد اللّه أن لا أنازعه إلیک محقّا و لا مبطلا ما کنت حیا.ثم قال لعبد اللّه:انهض یا ابن عم.فنهضا و تفرّق الناس (1).و قد کان من فعل الوالی لشدّ الأنظار إلی هذا الخلاف إن کانت المدینة تغلی کالمرجل،یقول قائل کذا،و قائل کذا،قائل یقول قال زید کذا،و قائل یقول قال عبد اللّه کذا.

و یتخوّف هشام بن عبد الملک من دخول زید العراق،فیکتب إلی عامله(أنه رأی زیدا رجلا جدلا لسنا خلیقا لتمویه الکلام و صوغه،و اجترار الرجال بحلاوة لسانه و بکثرة مخارجه فی حججه،و ما یدلی به عند لدد الخصام من السطوة علی الخصم بالقوة الحادة لنیل الفلج)و هشام بذلک یفصح عن خذلان منطقه و عجزه عن الوقوف أمام کلام زید الذی یستمد من القرآن حججه،فیملأ قوله آیات بینات،و یستملی من الحقائق لغته،أما السطوة فهی من فیض النبوة و تسدید اللّه مما منع منه هشام و أهله لفسقهم و ظلمهم.فتراه مذعورا یکتب إلی عامله بهذا،و منه:(فعجّل بإشخاصه-أی زید-إلی الحجاز،و لا تخله و المقام قبلک،فإنه إن أعاره القوم أسماعهم فحشاها من لین لفظه و حلاوة منطقه مع ما یدلی به من القرابة برسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم وجدهم میّلا إلیه).

ثم قامت ثورة الشهید زید فی سنة 124 ه علی اختلاف فی الروایات،منها إحدی و عشرین و مائة و ما بین ذلک.فلما خفقت الرایة علی رأسه قال:(الحمد للّه الذی أکمل لی دینی،و اللّه إنی کنت أستحیی من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إن أرد علیه الحوض

ص:344


1- (1) الطبری ج 8 ص 262. [1]

غدا و لم آمر فی أمته بمعروف و لا أنهی عن منکر) (1).

و حینما أخبر الإمام الصادق علیه السّلام عن مقتله و ما جری علیه،بکی بکاء شدیدا و قال:«إنا للّه و إنا إلیه راجعون،عند اللّه احتسب عمی»ثم قال:«مضی و اللّه شهیدا، کشهداء استشهدوا مع رسول اللّه و علی و الحسین».و قال علیه السّلام:«فلعن اللّه قاتله و خاذله،و إلی اللّه أشکو ما نزل بأهل بیت نبیه بعد موته،و نستعین اللّه علی عدوّنا و هو المستعان» (2).

و هکذا حلّت بالمسلمین فاجعة أخری،و إن کان أمرها معروفا فیما کان لدی الأئمة الأطهار من علم،إذ قال له أبوه الإمام زین العابدین:«أعیذک باللّه أن تکون زیدا المصاب بالکناسة».و بلفظ:«أعیذک باللّه أن تکون صلیب الکناسة».

و ثورة الشهید زید هی من مقتضیات الحال،و من الأعمال التی تنجم عن جور الحکام و ظلمهم لآل بیت النبی محمد،و هی إحیاء للحق،و عمل بأمر اللّه فی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر.و لذلک قال الإمام الصادق:«إن زیدا کان عالما،و کان معروفا،و لم یدعکم إلی نفسه،و إنما دعاکم إلی الرضا من آل محمد.و لو ظهر لوفی بما دعاکم إلیه،إنما خرج علی سلطان مجتمع ینقضه».

و ما اعتقده البعض من إمامته کان سببه(خروجه بالسیف یدعو إلی الرضا من آل محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فظنّوه یرید بذلک نفسه و لم یکن یریدها به،لمعرفته باستحقاق ابن أخیه (الصادق)علیه السّلام للإمامة من قبله،و وصیته عند وفاته إلی أبی عبد اللّه علیه السّلام) (3).

و قول زید بن علی مشهور:(فی کل زمان رجل منّا أهل البیت،یحتج اللّه به علی خلقه،و حجة زماننا ابن أخی جعفر،لا یضلّ من تبعه،و لا یهتدی من خالفه) (4).

و قد کان وقع المأساة عظیما فی نفس الإمام الصادق،و أثرها شدیدا فی نفسه، فلما بلغه قول الحکم بن عباس الکلبی:

صلبنا لکم زیدا علی جذع نخلة و لم أر مهدیّا علی الجذع یصلب

ص:345


1- (1) عمدة الطالب ص 256.و [1]صحاح الأخبار لأبی المعالی الرفاعی ص 36.
2- (2) انظر الجزء الرابع من هذا الکتاب.
3- (3) الإرشاد ص 251. [2]
4- (4) المناقب لابن شهر أشوب ج 2 ص 147. [3]و انظر الجزء الرابع من الإمام الصادق و المذاهب الأربعة. [4]

رفع الإمام یدیه إلی السماء و قال:«اللهم سلّط علیه کلبا من کلابک»فبعثه بنو أمیة إلی الکوفة،فافترسه الأسد فی الطریق،فبلغ الإمام ذلک فخرّ ساجدا و قال:

«الحمد للّه الذی أنجزنا وعده» (1).

و یستفاد من الروایات أنه علیه السّلام جلس للعزاء،و دخل الناس علیه یعزّونه.

یقول فضیل الرسان:دخلت علی جعفر بن محمد أعزّیه عن عمّه زید،ثم قلت له:

أ لا أنشدک شعر السید-الحمیری-؟فقال:«أنشد».فأنشدته:

فالناس یوم البعث رایاتهم خمس فمنها هالک أربع

قائدها العجل و فرعونهم و سامریّ الأمة المفظع

و مارق من دینه مخرج أسود عبد لکع أو کلع

و رایة قائدها وجهه کأنه الشمس إذا تطلع

و روی الشیخ أبو نصر البخاری عن محمد بن عمیر أنه قال:قال عبد الرحمن ابن سیّابة:أعطانی جعفر بن محمد الصادق علیه السّلام ألف دینار،و أمرنی أن أفرّقها فی عیال من أصیب مع زید،فأصاب کل رجل أربعة دنانیر (2).

و تکفل الإمام الصادق بالحسین بن زید،و ربّاه و علمه.أما یحیی فخرج إلی المدائن،ثم إلی الری،و منها إلی نیسابور و سرخس،حتی قتل بالجوزجان.

یروی عمیر بن متوکل الثقفی عن أبیه قال:لقیت یحیی بن زید بن علی علیه السّلام و هو متوجه إلی خراسان بعد قتل أبیه،فسلّمت علیه،فقال لی:من أین أقبلت؟قلت من الحج.فسألنی عن أهله و بنی عمه بالمدینة،و أخفی السؤال عن جعفر بن محمد علیه السّلام فأخبرته بخبره و خبرهم و حزنهم علی أبیه زید بن علی،فقال لی:قد کان عمی محمد بن علی علیه السّلام أشار علی أبی بترک الخروج،و عرّفه إن هو خرج و فارق المدینة ما یکون إلیه مصیر أمه،فهل لقیت ابن عمی جعفر بن محمد علیه السّلام؟قلت:نعم.قال:فهل سمعته یذکر شیئا من أمری؟قلت نعم.قال:

بم ذکرنی؟خبّرنی.قلت:جعلت فداک ما أحب أن أستقبلک بما سمعته منه.فقال:

أ بالموت تخوفنی؟هات ما سمعته.فقلت:سمعته یقول:إنک تقتل و تصلب کما قتل

ص:346


1- (1) الکواکب الدریة للمناوی و نور الأبصار للشبلنجیّ ص 147. [1]
2- (2) عمدة الطالب و [2]صحاح الأخبار.و رجال الشیخ محمد طه نجف فی ترجمة عبد الرحمن.

أبوک و صلب.فتغیر وجهه و قال:یمحو اللّه ما یشاء و یثبت و عنده أم الکتاب،یا متوکل إن اللّه عز و جل أید هذا الأمر بنا،و جعل لنا العلم و السیف،فجمعنا لنا و خص بنو عمنا بالعلم وحده (1).فقلت:جعلت فداک،إن رأیت الناس إلی ابن عمک جعفر علیه السّلام أمیل منهم إلیک و إلی أبیک؟فقال:إن عمی محمد بن علی و ابنه جعفرا علیهما السّلام دعوا الناس إلی الحیاة،و نحن دعوناهم إلی الموت.فقلت:یا ابن رسول اللّه أهم أعلم أم أنتم،فأطرق إلی الأرض ملیا،ثم رفع رأسه و قال:کلنا له علم،غیر أنهم یعلمون کلما نعلم،و لا نعلم کلما یعلمون.ثم قال:أ کتبت من ابن عمی شیئا؟قلت:نعم (2).

و تنتشر ثورات العلویین و تمتد،فهم سلالة أمیر أهل العدل و یعسوب الدین و أول المسلمین إسلاما الإمام علی بن أبی طالب علیه السّلام و هم جند الدعوة و رجال الحق و الآباء الذین یأبون الضیم و یأنفون الاستکانة للظالمین.و قد ارتکب الأمویون من المجازر و المظالم ما یهزّ ضمائر أهل الذمة و أصحاب الملل و الشرائع الأخری فضلا عن استثارتها مشاعر المؤمنین و استهوالهم ما حدث،و جنّدوا کل ما تحت أیدیهم للقضاء علی ذکر الإمام علی بن أبی طالب علیه السّلام و قتل و تشرید أهل بیته و أصحابه و شیعته، فکانت النفوس تغلی بنار النقمة،و لما أخذت دولة الأمویین تنحدر إلی نهایتها و یظهر ضعفها،نمت حرکة التحوّل و التغیّر فی ظل الاتجاه الذی تنحدر إلی نهایتها و یظهر ضعفها،نمت حرکة التحوّل و التغیّر فی ظل الاتجاه الذی اتخذه العلویون،و کانت مظالمهم مادة الحرکة و مدارها.یقول أبو الفرج:فکان أول ما یظهرونه فضل علی بن أبی طالب و ولده و ما لحقهم من القتل و الخوف و التشرید،فإذا استتب لهم الأمر ادعی کل فریق منهم الوصیة لمن یدعو إلیه (3).و قد ذکرنا و بیّنا فی الأجزاء السابقة من الکتاب أن العباسیین دخلوا فی ثنایا هذه الدعوة،و أظهروا ما أظهر الآخرون و هم فی قرارات أنفسهم یخفون وراء الدعوة إلی الرضا من آل محمد أطماعا خاصة،و أغراضا سلطویة لو أبدوها للفظهم الناس من بین صفوفهم و رفضهم کافة بنی هاشم.

ص:347


1- (1) سیأتی ذکر سیف النبی محمد و وجوده عند الإمام الصادق بعد قلیل إن شاء اللّه.
2- (2) وردت الروایة فی التقدیم للصحیفة السجادیة،و إنما سقتها هنا للتدلیل علی أن العلم الذی یختص به الإمام لا ینازع حتی أن یحیی باستفساره الأخیر کان یطلب التواصل مع ما یصدر عن الإمام الصادق.
3- (3) مقاتل الطالبیین ص 233. [1]

و کان اجتماع الأبواء (1)و حضره جماعة من بنی هاشم،فقال صالح بن علی:

قد علمتم أنکم الذین تمدّ الناس أعینهم إلیهم،و قد جمعکم اللّه فی هذا الموضع، فاعقدوا بیعة لرجل منکم تعطونه إیاها من أنفسکم،و تواثقوا علی ذلک حتی یفتح اللّه و هو خیر الفاتحین.

و یروی أبو الفرج أن أبا جعفر المنصور قال:لأی شیء تخدعون أنفسکم، و و اللّه لقد علمتم ما الناس إلی أحد أمیل أعناقا و لا أسرع إجابة منهم إلی هذا الفتی- یرید محمد بن عبد اللّه بن الحسن- و إذا نظرت فإن أبا جعفر ثانی الخلفاء العباسیین و ممن أسسوا الدولة العباسیة و هو قاتل محمد بن عبد اللّه النفس الزکیة و أخیه إبراهیم،و لکنه یومئذ لا یعدّ له وزن و لا تحسب له قیمة،بل هو لیس بشیء إذا ما قورن بمحمد النفس الزکیة بفقهه و ورعه وجوده.و قد أظهر ذلک لأمر،بل أکثر منه ما یحدث به عمیر بن الفضل الخثعمی، قال:

رأیت أبا جعفر المنصور یوما،و قد خرج محمد بن عبد اللّه بن الحسن من دار ابنه،و له فرس واقف علی الباب مع عبد له أسود،و أبو جعفر ینتظره،فلما خرج وثب أبو جعفر فأخذ بردائه حتی رکب،ثم سوّی ثیابه علی السرج،و مضی محمد فقلت-و کنت حینئذ أعرفه و لا أعرف محمدا-:من هذا الذی أعظمته هذا الإعظام حتی أخذت برکابه،و سوّیت علیه ثیابه؟قال:أو ما تعرفه؟قلت:لا.قال:هذا محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن،مهدیّنا أهل البیت.

و قد علمنا سابقا کیف کان الإمام الصادق یبین مسألة المهدی،کما أن حقیقة هذه الدعوی من جهة الأغراض السیاسیة معلومة،أما حقیقتها من جهة العلویین فلیست محققة و لا مضمونة الصحة،لأن الحسینیین-من آباء عبد اللّه و ابنه محمد- لم یدّع أحد منهم الإمامة،و قد قضی الحسن المثنی و لم یظهر منه ما یخالف النص و الولایة،و حاشاهم ذلک،فظهور الفضل فی أبناء عمهم جلی(و إلا فمن یخفی علیه فضل زین العابدین علی بن الحسین السجّاد علیه السّلام علی الحسن بن الحسن و عبد اللّه بن الحسن.و فضل الباقر محمد بن علی علیه السّلام علی محمد بن

ص:348


1- (1) موضع بین مکة و المدینة.

عبد اللّه بن الحسن و إبراهیم بن عبد اللّه بن الحسن) (1)أما الإمام الصادق فلا یمکن أن ینعقد أمر یخص الأمة و مصالح المسلمین دون رأیه،فهو الذی یمثل الإمامة و له بین الناس الأثر البالغ.و لما اجتمع بنو هاشم،و خطبهم عبد اللّه بن الحسن،فحمد اللّه و أثنی علیه قال:إنکم أهل البیت قد فضّلکم اللّه بالرسالة و اختارکم لها،و أکثرکم برکة یا ذریة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.إلی آخر الخطبة التی قال فیها:فهلم نبایع محمدا،فقد علمتم أنه المهدی.فلا یعتقد منه الظاهر من القول،لأن کثیرا من الروایات عن عبد اللّه نفسه تدفع ذلک،منها روایة المقانعی بسنده عن محمد بن بشر قال:قال رجل لعبد اللّه بن الحسن:متی یخرج محمد؟قال:لا یخرج حتی أموت.و هو مقتول.

و کان عمرو بن عبید ینکر أن یکون محمد بن عبد اللّه هو المهدی و یقول:

کیف و هو یقتل؟ و إذا سلّمنا صحة القول،فلا وجه له إلا التیمن باسم المهدی،أو الإشارة إلی صفة محمد فی الهدایة و الورع،کتسمیة(النفس الزکیة)التی هی أوضح و لا تفضی إلی لبس،و کذلک وصفه بالشبه.

و بعد أن انتهی عبد اللّه بن الحسن من خطبته فی الاجتماع قالوا:لم یجتمع أصحابنا بعد،و لو اجتمعوا فعلنا،و لسنا نری أبا عبد اللّه جعفر بن محمد (2).

و فیما وراء العلویین کان العلماء و أصحاب الفکر کالمعتزلة الذین کانوا أبرز الجماعات الفکریة فی هذه الفترة،بلغ من شهرتهم أن نسبوا الإمام زید إلی حرکتهم، و کذلک محمد النفس الزکیة،و هی نسبة لا أساس لها من الواقع،و لا تتم فی إطار المنطق،لأن الأولی أن ینسب بعض وجوه فکر المعتزلة إلی هذین الرجلین لا العکس.

یروی عبد الکریم بن عتبة الهاشمی قال:کنت عند أبی عبد اللّه علیه السّلام بمکة إذ دخل علیه أناس من المعتزلة،فیهم:عمر بن عبید،و واصل بن عطاء،

ص:349


1- (1) انظر المسائل الجارودیة [1]فی تعیین الخلافة و الإمامة فی ولد الحسین بن علی علیه السّلام للشیخ المفید ص 52. [2]
2- (2) مقاتل الطالبیین. [3]

و حفص بن سالم و أناس من رؤسائهم.و ذلک أنه حین قتل الولید،و اختلف أهل الشام بینهم فتکلموا فأکثروا،و خطبوا فأطالوا.

فقال لهم أبو عبد اللّه جعفر بن محمد علیه السّلام:«إنکم قد أکثرتم علیّ فأطلتم، فاسندوا أمرکم إلی رجل منکم،فلیتکلم بحجتکم أو لیوجز».

فاسندوا أمرهم إلی عمرو بن عبید فأبلغ و أطال.فکان فیما قال أن قال:قتل أهل الشام خلیفتهم،و ضرب اللّه بعضهم ببعض،و تشتّت أمرهم،فنظرنا فوجدنا رجلا له دین و عقل و مروة و معدن للخلافة و هو محمد بن عبد اللّه بن الحسن،فأردنا أن نجتمع معه فنبایعه،ثم نظهر أمرنا معه،و ندعو الناس إلیه،فمن کنا معه کان منّا، و من اعتزلنا کففنا عنه،و من نصب لنا جاهدناه و نصبنا له علی بغیه و نردّه إلی الحق و أهله،و قد أحببنا أن نعرض ذلک علیک،فإنه لا غنی بنا عن مثلک لفضلک و لکثرة شیعتک (1).و جرت بذلک مناظرة احتج فیها الإمام بما عهد عنه من الوضوح و السطوة و الفلج،و لو لا أخذنا بالإیجاز و تجاوزنا فی هذا الفصل ما قرر له من حدود لأوردناها بطولها لغناها و شمولها،و لکن نکتفی بما ختم به الإمام الصادق قوله،إذ أقبل علی عمرو و قال:

«اتّق اللّه یا عمرو،و أنتم أیها الرهط فاتقوا اللّه،فإن أبی حدثنی-و کان خیر أهل الأرض و أعلمهم بکتاب اللّه و سنة رسوله-أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:من ضرب الناس بسیفه و دعاهم إلی نفسه،و فی المسلمین من هو أعلم منه فهو ضال متکلّف».

و الظاهر أن بنی هاشم عقدوا أکثر من اجتماع،منها ما حضره الإمام الصادق، و منها ما لم یحضره،و النوع الأخیر حال دون انعقاد أمرهم علی شیء لغیاب الإمام عنه.أما أن یکون اجتماعا واحدا،و هو ما تشعر به روایة ابن الطقطقی فهو بعید،و لا بد أن ابن الطقطقی جمع الأحداث فی مدلول واحد،و من الخیر إیراد روایته:

یقول ابن الطقطقی:کان بنو هاشم الطالبیون و العباسیون قد اجتمعوا فی ذیل دولة بنی أمیة،و تذاکروا حالهم و ما هم علیه من الاضطهاد،و ما قد آل إلیه أمر بنی أمیة من الاضطراب،و میل الناس إلیهم و محبتهم لأن تکون لهم دعوة،و اتفقوا علی أن یدعوا الناس سرا،ثم قالوا:لا بد لنا من رئیس نبایعه.فاتفقوا علی مبایعة النفس

ص:350


1- (1) الاحتجاج للطبرسی.

الزکیة محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب علیهم السّلام و کان محمد بن سادات بنی هاشم و رجالهم فضلا و شرفا و علما،و کان هذا المجلس قد حضره أعیان بنی هاشم من علویهم و عباسیهم،فحضره من أعیان الطالبیین:الصادق جعفر بن محمد علیهما السّلام،و عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب، و ابناه محمد النفس الزکیة و إبراهیم قتیل باخمری و جماعة من الطالبیین.و من أعیان العباسیین:السفاح و المنصور و غیرهما من آل العباس.فاتفق الجمیع علی مبایعة النفس الزکیة،إلا الإمام جعفر بن محمد الصادق...الخ (1).

و الغرض فإن العباسیین حاولوا دفع العلویین بالاتجاه الذی یمکنهم من تحقیق أغراضهم،و زجّهم فی المعترک السیاسی،لأنهم یعلمون بالخطة التی اختطها الإمام الصادق لنفسه و لأبناء عمومته،من الانعزال عن تلک الاتجاهات،و الاحتفاظ بمرکزهم الدینی،لأن الظروف غیر مؤاتیة للثورة،و کل شیء یقع قبل أوانه یؤدی به التعجیل إلی الفشل،و لکن العباسیین استطاعوا صدع الصف العلوی بجلب البعض إلیهم من بنی الحسن.

و یذکر أبو الفتح الشهرستانی-بعد ذکره لمقتل یحیی بن زید و محمد و إبراهیم(رض)-أن الإمام الصادق علیه السّلام أخبرهم بجمیع ما تمّ علیهم،و عرّفهم أن آباءه علیه السّلام أخبروه بذلک کله،و أن بنی أمیة یتطاولون علی الناس حتی لو طاولتهم الجبال لطالوا علیها،و هم یستشعرون بغض أهل البیت،و لا یجوز أن یخرج واحد من أهل البیت حتی یأذن اللّه تعالی بزوال ملکهم.و کان یشیر إلی أبی العباس و أبی جعفر ابن محمد بن علی بن عبد اللّه بن العباس:«أنا نخوض الأمر حتی یتلاعب بها هذا و أولاده»إشارة إلی المنصور (2).

و صفوة القول أن الإمام الصادق هو الوحید الذی لا یقع تحت تأثیر المنافع القریبة و المصالح الظاهرة،فهو الإمام الذی أهّله اللّه للقیادة و العلم بعواقب الأمور، و استشفاف ما وراء الحوادث،فلم یخدع بتلک المغریات و یعرّض نفسه و أهل بیته،بل المجتمع الإسلامی کله لخطر لا قبل لهم علی دفعه.

ص:351


1- (1) الفخری ص 146 و 147. [1]
2- (2) الملل و النحل ج 2 ص 252-253. [2]

ذکر کثیر من المؤرخین أن أبا سلمة (1)کاتب ثلاثة من أعیان العلویین و هم:

جعفر بن محمد الصادق،و عمر الأشرف بن زین العابدین.و عبد اللّه المحض، و أرسل الکتب مع رجل من موالیهم یسمی محمد بن عبد الرحمن بن أسلم مولی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قال أبو سلمة للرسول:العجل العجل،فلا تکونن کوافد عاد.و قال له:أقصد أولا جعفر بن محمد الصادق،فإن أجاب فأبطل الکتابین الآخرین،و إن لم یجب فالق عبد اللّه المحض،فإن أجاب فأبطل کتاب عمر،و إن لم یجب فالق عمرا:

فذهب الرسول إلی جعفر بن محمد أولا،و دفع إلیه کتاب أبی سلمة،فقال الإمام علیه السّلام:«مالی و لأبی سلمة؟و هو شیعة لغیری»فقال له الرجل:اقرأ الکتاب.

فقال علیه السّلام لخادمه:«أدن السراج منّی»فأدناه.فوضع الکتاب علی النار حتی احترق،فقال الرسول:أ لا تجیبه؟قال علیه السّلام:«قد رأیت الجواب،عرّف صاحبک بما رأیت».

فخرج الرسول من عنده،و أتی عبد اللّه بن الحسن،و دفع إلیه الکتاب و قرأه، و ابتهج،فلما کان غد ذلک الیوم الذی وصل إلیه فیه الکتاب،رکب عبد اللّه حتی أتی منزل أبی عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق،فلما رآه أبو عبد اللّه أکبر مجیئه و قال:

«یا أبا محمد(کنیة عبد اللّه المحض)أمر ما أتی بک؟»قال:نعم هو أجلّ من أن یوصف.فقال له:«و ما هو یا أبا محمد؟»قال:هذا کتاب أبی سلمة یدعونی إلی الخلافة،و قد قدمت علیه شیعتنا من أهل خراسان.فقال له أبو عبد اللّه:«یا أبا محمد،و متی کان أهل خراسان شیعة لک؟»أنت بعثت أبا مسلم إلی خراسان،و أنت أمرتهم بلبس السواد؟و هؤلاء الذین قدموا العراق أنت کنت سبب قدومهم أو وجّهت فیهم؟و هل تعرف منهم أحدا؟»فنازعه عبد اللّه بن الحسن الکلام إلی أن قال:إنما یرید القوم ابنی محمدا لأنه مهدی هذه الأمة.فقال أبو عبد اللّه جعفر الصادق:«ما هو مهدی هذه الأمة،و لئن شهر سیفه لیقتلنّ» (2).

ص:352


1- (1) انظر ترجمته فی الجزء الرابع من هذا الکتاب.
2- (2) إن عدم احتجاج الإمام الصادق [1]بالمعروف من الأحادیث عن القائم المهدی،و ردّ قول عبد اللّه بالنصوص التی یعرفها عبد اللّه أیضا،یحمل علی الاعتقاد بأن القول بمهدیة محمد لیس بما یعنیه الاعتقاد الحقیقی بالإمام المهدی،و إنما لأغراض جذب الناس إلیه و زیادة التعریف به.

فقال عبد اللّه:کان هذا الکلام منک لشیء؟فقال الصادق:«قد علم اللّه أنی أوجب النصح علی نفسی لکل مسلم،فکیف أدّخره عنک،فلا تمنّ نفسک بالأباطیل، فإن هذه الدولة ستتم لهؤلاء.و قد جاءنی مثل الکتاب الذی جاءک» (1).

لقد بذل الإمام لأبناء عمه النصح،و جهد أن یجنّبهم المهالک،و یبصّرهم بعاقبة ما یقدمون علیه،بعد أن مرّت الأیام،و حدث التحوّل السیاسی.فقد جاءت محاولة أبی سلمة متأخرة،لذا نری الإمام الصادق علیه السّلام یشیر إلی أبی مسلم و أهل خراسان و لبس السواد،فکان علیه أن یحذّر الحسینیین،فلقی منهم استنکارا و اتهاما.

و لکنه علیه السّلام کان یری ما لا یرونه،و یعجزون عن معرفته،حتی کأن العواقب و مجریات الأحداث القادمة یقرأها فی کتاب أمامه.

کما إنه علیه السّلام لم یکشف من قبل عن رأیه فی صور من التقرب کانت تبدر من أبناء عمومته تجاه الحکام الظلمة و التقائهم بالأمویین،فیما کان علیه السّلام مشغولا بالواجبات الدینیة و معالجة ما یعانی منه المسلمون،و حمایة نفسه و شیعته من سلطان الجور و حکم الطغاة،فلما قتل زیدا یوسف بن عمرو صلب جثته بالکناسة،و بعث برأسه مع شبّة بن عقال،و کلّف آل أبی طالب البراءة من زید،و قام خطباؤهم،فکان أول من قام عبد اللّه بن الحسن،فأوجز فی کلامه،ثم جلس.و قام عبد اللّه بن معاویة بن عبد اللّه بن جعفر،فأطنب (2).و إن صحّ ذلک،ففیه تجاوز لمقتضیات الحیطة و ضرورات التقیة.

و إن الإمام الصادق فی کیانه الروحی و الفکری کان علی نهجه فی عدم التقرب إلی الحکام و الالتقاء معهم إلا فی حدود دفع الخطر و الهلاک،و کانت مصیبة زید- کما أشرنا-قد آلمته کثیرا و أحزنته،و لکنه علیه السّلام أظهر موقع ثورة زید و الموقف منها.و لما بدأت فی ظل العباسیین بوادر ثورة جدیدة هی ثورة النفس الزکیة بعد جهده فی حملهم علی العدول عن فکرة التعرّض لبنی العباس بدولتهم،و أن فی طرق الإصلاح سعة،و الدعوة بین المسلمین بمبادئ العدل و الإیمان هی أمان الأمة.و من نتائج منهج الإمام أن یکون المسلم علی علم بانحراف الحکام،و یتعقب جورهم و فسادهم و باطلهم بالقول و الوعی،حتی کانت بیئة مدرسته علیه السّلام و أوضاع حیاته

ص:353


1- (1) الآداب السلطانیة ص 137.و [1]مروج الذهب ج 3 ص 269.
2- (2) زهر الآداب ج 1 ص 79. [2]

إطارا لسلطة الإمامة الروحیة التی لها فی الأحداث رأی یصیب کبد الحقیقة،فرأی الإمام أن البیت العلوی مقبل علی مأساة أخری سیقدّم فیها الدماء و الأرواح،و کان علیه أن یسعی إلی حفظ هذه الدماء و حمایة أهله،فأتی محمدا النفس الزکیة و قال له:

«تحب أن یصطلم أهل بیتک؟»و لو لا حرصه علی ذلک لکان أول من یعلن الثورة، و لکن کیف یدفع بأهله و الناس إلی التهلکة؟و لقد کان علیه السّلام من وفائه لأغراض العدل أن ترک ولدیه موسی و عبد اللّه،و لم یبخل بهما علی الثورة العلویة التی أدی استئثار العباسیین و تنصلهم من أقرب الناس إلیهم إلی إصرار محمد و اندفاعه فی الخروج لأنه یری نفسه صاحب الأمر و المنصور قد بایع له.

کما کان الإمام یرمی إلی أن یحفظ مکانة البیت العلوی الذی تمثلت به القیادة الروحیة.غیر أن حقد المنصور قد وجد الذریعة للاعتداء علی مکانة أهل البیت و سفک دمائهم،فعن الحسین بن زید:إنی لواقف بین القبر و المنبر،إذا رأیت بنی الحسن یخرج بهم من دار مروان مع أبی الأزهر،یراد بهم الربذة.فأرسل إلیّ جعفر بن محمد فقال:«ما وراءک؟»قلت:رأیت بنی الحسن یخرج بهم فی محامل.

فقال:«أجلس»فجلست.قال:فدعا غلاما له،ثم دعا ربّه کثیرا،ثم قال لغلامه:

«اذهب،فإذا حملوا فات فأخبرنی».قال:فأتاه الرسول فقال:قد أقبل بهم.فقام جعفر،فوقف وراء ستر شعر أبیض من ورائه،فطلع بعبد اللّه بن الحسن و إبراهیم بن الحسن و جمیع أهلهم،کل واحد منهم معادله مسوّد (1)فلما نظر إلیهم جعفر،هملت عیناه حتی جرت دموعه علی لحیته،ثم أقبل علیّ فقال:«یا أبا عبد اللّه و اللّه لا تحفظ للّه حرمة بعد هؤلاء،و اللّه ما وفت الأنصار و لا أبناء الأنصار لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بما أعطوه من البیعة علی العقبة» (2).

و نال حقد المنصور من الإمام الصادق نفسه؛بل انفلت عداؤه،و حدث ما کان یخشاه الإمام،فکلّم الإمام بکلام غلیظ و نهره و قال:یا جعفر،قد علمت بفعل محمد بن عبد اللّه الذی تسمّونه النفس الزکیة،و ما نزل به،و إنما انتظر الآن أن یتحرک منکم أحد فألحق الصغیر بالکبیر (3).

ص:354


1- (1) أی أن کل واحد منهم جلس علی الجهة الأخری من محمله شخص من العباسیین أو أنصارهم الذین یلبسون السواد شعارا لهم-للمعادلة فی حفظ استقرار المحمل-.
2- (2) الطبری ج 9 ص 194.و [1]مقاتل الطالبین 219.
3- (3) نور الأبصار. [2]

و عن علی بن عمر بن علی قال:سمعته-أی الإمام الصادق-حین أمره أبو جعفر أن یسیر إلی الربذة فقال:«یا علی...سر معی»فسرت معه إلی الربذة،فدخل علی أبی جعفر،و قمت أنتظره،فخرج علیّ جعفر و عیناه تذرفان،فقال لی:یا علی ما لقیت من ابن الخبیثة،و اللّه لا أمضی،ثم قال:رحم اللّه ابنی هند،إنهما إن کانا لصابرین کریمین.و اللّه لقد قضیا و لم یصبهما دنس...ا ه.

و نحن إذا نظرنا فی التاریخ لرأینا أن سنة معاویة و سیاسة الحجاج باقیتان متأصلتان فی الملک رغم التحول السیاسی.فالمنصور بعد مذبحة أحجار الزیت التی استشهد فیها محمد النفس الزکیة،و مذبحة باخمری التی استشهد فیها أخوه إبراهیم یقول لجلسائه:تاللّه ما رأیت رجلا أنصح من الحجاج لبنی مروان.فقام المسیّب بن زهیر الضبی فقال:یا أمیر المؤمنین ما سبقنا الحجاج بأمر تخلّفنا عنه،و اللّه ما خلق علی جدید الأرض خلقا أعزّ علینا من نبینا صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قد أمرتنا بقتل أولاده فأطعناک و فعلنا ذلک،فهل نصحناک أم لا؟فقال له المنصور:اجلس لا جلست (1).

قال الأصمعی:أحضر یوما إلی أبی جعفر هریسة الفستق،و معها مصارین الدجاج محشوة بشحم البط و السکر و دهن الفستق.فقال:إن إبراهیم و محمد أرادا أن یسبقانی إلی هذا،فسبقتهما إلیه.

و ذکر أیضا أن المنصور هیئت له عجة من مخ و سکر،فاستطابها فقال:أراد إبراهیم أن یحرمنی هذا و أشباهه (2).

لقد کان الإمام الصادق یقول:«إن اللّه أخبر نبیه بما یلقی أهل بیت محمد و أهل مودتهم و شیعتهم»و الإخبار هذا اشتملت علیه علوم الإمامة التی وصلت إلی الإمام الصادق بالوصایة و النص.

و قد کان الإمام علی وارث علم محمد و سلاحه،و هما مع الإمامة و من علاماتها أن من صار إلیه السلاح أوتی الإمامة،للدلالة علی الأهلیة بالخلافة عن الرسول فی الرئاسة الدینیة و الزعامة الروحیة.کذلک درعه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و لامته و مغفرته.

و لذلک کان الادعاء بحیازة عبد اللّه بن الحسن لهذا السیف من ضروب الدعاوی لهم

ص:355


1- (1) مروج الذهب. [1]
2- (2) مروج الذهب ج 3 ص 309. [2]

کقضیة التشبّه بالمهدی،و نفی الإمام الصادق ذلک قائلا:«...ما رآه عبد اللّه بعینیه،و لا بواحدة من عینیه،و لا رآه أبوه.اللهم إلاّ أن یکون رآه عند علی بن الحسین علیه السّلام...إن عندی لسیف رسول اللّه،و إن عندی لرایة رسول اللّه و درعه و لامته و مغفرته» (1).

و خلاصة القول،فإن موقف الإمام الصادق من الحکام الظالمین هو الموقف الذی یثیر فی نفوس الحکام المخاوف،و یخلق لهم المصاعب من خلال بناء النفوس و الأفکار علی قیم العدل و شجب الباطل و الفساد،و العمل علی تحقیق علاقات فی التعامل بین الأفراد تسودها روح المحبة و الإخاء و عزة النفس و الإباء.دخل علیه رجل فقال:یا ابن رسول اللّه أخبرنی بمکارم الأخلاق؟فقال علیه السّلام:«هی العفو عمن ظلمک،و صلة من قطعک،و إعطاء من حرمک».

و قال یوما لأصحابه:

«إنّا لنحبّ من کان عاقلا فهما حلیما مداریا صبورا صدوقا وفیا،إن اللّه عز و جل خصّ الأنبیاء بمکارم الأخلاق،فمن کان فیه،فلیحمد اللّه علی ذلک.و من لم تکن فیه فلیتضرّع إلی اللّه عز و جل و لیسأله إیاها».

و قال غیر مرة:«ما قدّست أمة لم تأخذ لضعیفها من قویّها بحقّه».

و قال علیه السّلام:«اتقوا اللّه و اعدلوا،فإنکم تعیبون علی قوم لا یعدلون» فیسعی علیه السّلام إلی تحقیق العدل فی السلوک و التعامل و التزام العباد أولا فیما بینهم بذلک،لأن الإصلاح بالأقوال و المواعظ الخلقیة و الاجتماعیة لا تحقق أثرها،إلا إذا کانت الأعمال مظاهرها.فوضع العمل الصالح و العدل و الخلق الطیب قواعد لدعوته فی مکافحة الظلم بکافة أنواعه و الوقوف إلی جانب المظلومین،لیظهر بذلک خطأ أولئک الذین اغتصبوا حقوق الأمة و ترأسوا علیها،و قد انحرفوا کل الانحراف عن مبادئ الإسلام و تعالیمه (2).

و لقد أراد بعض أصحابه-کما ذکرنا فی أول هذا الجزء-حمله علی إعلان الثورة،و ذکروا له أن مائة ألف یضربون بین یدیه.فرفض لأنه یعوّل علی دعوته فی هزّ

ص:356


1- (1) انظر إرشاد المفید و [1]احتجاج الطبرسی. [2]
2- (2) انظر الإمام الصادق، [3]الدعوة الصامتة،الجزء الرابع من هذا الکتاب.

أرکان الظالمین،و یری مواصلة الجهاد بالطرق التی تضمن سلامة المجتمع و حمایة أبناء الأمة الإسلامیة من الملوک الذین لا تخفّ شهوتهم للدماء،و لا یفتر ظلمهم للرعیة و انتهاک الحرمات و سلب الأموال و الحقوق.

لقد کان علیه السّلام یولی العدل أهمیة کبری،و یسعی إلی فضح سیرة الملوک الذین تسلّطوا علی رقاب الأمة و أعوانهم الظلمة،و یکشف حقیقة حکمهم و واقع نظامهم الذی تلبّس بالإسلام و تستر بشعاراته.فعند ما تمرّ الأیام و تحدث فی بعض النفوس الصحوة ممن ارتضت إقرار الظلم و مساعدة الجبارین،یجعل الإمام ضمان حقوق الأمة و معالجة ما لحق بها من الظلم هو الأصل فی السلامة و العودة إلی جادة الدین.

فقد جاءه رجل ممن عمل للأمویین،و کان فی معاونة الحجاج،فقال الإمام علیه السّلام:

إنی لم أزل والیا منذ زمن الحجاج إلی یومنا هذا،فهل لی من توبة؟فسکت الإمام علیه السّلام.ثم أعاد علیه الرجل،فقال علیه السّلام:«لا،حتی تؤدی إلی کل ذی حق حقه» (1).

و الذین شارکوا فی سلب أموال المسلمین،کانوا لا یجدون من الإمام الصادق علیه السّلام ذلک التسامح الذی یظهره غیر أهل البیت علیهم السّلام فی إبقاء الصبغة الدینیة علی حکم الظلمة و الفساق،و هو تسامح علی حساب العقیدة و الأحکام لیکون إزهاق الأرواح تأویلا،و سلب الأموال و انتهاک حرمات المسلمین اجتهادا.و لکنها عند الإمام الصادق حفظ الدین،و صون الحقوق و المصالح،و الحکم بما أمر اللّه و رسوله.سئل علیه السّلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بنی أمیة و هو یتصدق منه و یصل قرابته و یحج لیغفر له ما اکتسب و یقول:إن الحسنات یذهبن السیئات.فقال الإمام علیه السّلام:«إن الخطیئة لا تکفّر الخطیئة،و إن الحسنة تحطّ الخطیئة».فقیّد الإمام الصادق الفعل الذی یعین علی التوبة بالحسنة،و أن یکون خالصا لیس من جنس أموال الظلمة و أعمالهم،و أن بالطیب من الأفعال تحط الخطیئة.فکل ما یتصل بحال السلطان الظالم الغشوم و واقع ملکه قائم علی غیر هدی الإسلام و تعالیمه،فلا یمتّ إلی عمل الخیر بصلة،و لا یحصل من الاتصال به حسنة تنال من اللّه القبول و تمحی بها السیئات.

ص:357


1- (1) انظر الفصول المهمة للحر العاملی،باب جهاد النفس. [1]

ص:358

رؤساء المذاهب

اشارة

ص:359

ص:360

مالک بن أنس

اشارة

و نعود إلی الحدیث عن المذاهب الأربعة و رؤسائها.و نبدأ فی البحث عن حیاة الإمام مالک بن أنس.

و تختلف المصادر فی سنة ولادته،و لم تقطع کتب المناقب بصحة أحدها،فظل الاختلاف فی سنة مولده کالاختلاف فی مدة حمله.فقیل أنه ولد سنة 90 ه،و قیل سنة 93 ه،و قیل سنة 94،أو 95،أو 96 فی المدینة المنورة.کما قیل فی مدة بقائه فی بطن أمه:سنتین،أو ثلاث،أو أربع.و قد تناولنا ذلک فی القسم السابق من حیاة مالک الذی تضمنه الجزء الثانی من الکتاب.

من هو الإمام مالک

:

هو أبو عبد اللّه بن أنس بن مالک بن أبی عامر بن عمر بن الحارث بن عثمان بن عمر بن الحارث،و هو ذو أصبح من حمیر بن سبأ و هی قبیلة یمنیة،و أمه أزدیة و هی العالیة بنت شریک (1).

و طعن فی صحة هذا النسب،فقال محمد بن إسحاق:إن مالکا و أباه و جده و أعمامه موالی لبنی تیم بن مرة (2).

و قد ادعی أن حصول هذه الشبهة فی نسب مالک و عدم کونه عربیا أن مالک بن أبی عامر قدم المدینة متظلما من بعض ولاة الیمن،فمال إلی بعض بنی تیم بن مرّة فعاقده،و صار معهم.و یلزم من ذلک أنه حلیف لیصرف معنی المولی إلی المناصرة.

ص:361


1- (1) و قیل الغالیة بالغین المعجمة.
2- (2) الانتقاء لابن عبد البراص.

و لیس الطعن مقتصرا علی ابن إسحاق،فإن ابن شهاب أستاذ مالک حدّث عن أبی سهیل نافع بن مالک-عم مالک بن أنس-فقال:حدثنی نافع بن مالک مولی التیمیین.

کما یروی ابن عبد البر عن البخاری بسند عن نافع بن مالک بن أبی عامر قال:

قال لی عبد الرحمن بن عثمان بن عبید اللّه و هو ابن أخی طلحة:هل لک إلی ما دعانا إلیه غیرک فأبینا علیه،أن یکون هدمنا هدمک و دمنا دمک ترثنا و نرثک؟و ینسب هذا إلی الربیع بن مالک-عم مالک-أیضا.

و کما طعن فی أبی مالک و عدم صحة عروبته،فکذلک الحال فی أمه العالیة، و قیل إنها طلیحة مولاة عبید اللّه بن معمر.حکاه القاضی عیّاض (1)و ابن عائشة.

و قال ابن عمران التمیمی:ما بیننا و بینه نسب،إلا أن أمه مولاة لعمی عثمان بن عبد اللّه (2).

و قد أثّرت هذه الأقوال علی مالک،و کانت السبب فی تکذیب مالک لمحمد بن إسحاق و طعنه علیه (3).و لما بلغ مالک قول ابن شهاب قال:لیته لم یرو عنه شیئا (4).

عصر مالک و علمه

:

قلنا فیما مرّ من الأجزاء السابقة،إن النزاعات الفقهیة و المشکلات التی طرأت کانت سببا فی ظهور الأسماء،و تغلّب جماعة دون أخری.و قد کان النزاع بین أهل العراق و بین أهل الحجاز سببا فی ظهور مدرسة الرأی و مدرسة الحدیث،و تزعّم أبی حنیفة للأولی،و تزعّم مالک للثانیة.و کانت مصالح الحکام قد اقتضت أن تقف إلی جانب أبی حنیفة،و تشدّ أزر أصحابه،و تقدّم الموالی لتحط من قیمة العرب.ثم اقتضت أن توجّه الأنظار إلی مالک و تتبناه و تجعل منه إمام الدولة المطاع.

ثم لعب الغلوّ دوره فی تعزیز اتجاه کل من الطرفین،فوضعت الأحادیث و المنامات علی لسان النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کما فی حدیث:یکون فی أمتی رجل اسمه

ص:362


1- (1) تزیین الممالک فی مناقب الإمام مالک للسیوطی ص 4.
2- (2) الدیباج المذهب لابن فرحون ص 17.
3- (3) الانتقاء ص 11.
4- (4) الدیباج المذهّب.

النعمان و کنیته أبو حنیفة هو سراج أمتی،هو سراج أمتی،هو سراج أمتی (1).و غالطوا الحقائق فقالوا:إن أهل الکوفة کلهم موالی لأبی حنیفة-أی عبید-فأعتقهم (2).

یریدون نفی حقیقة أن أبا حنیفة کان مولی لبیت من بیوت الکوفة و کان لهم ولاؤه.

و قد دخل التعصب فی إطار الأشخاص و تقدیس الرؤساء،لأن الأحوال أدّت إلی اصطناع المذاهب و تعیین الرؤساء،و راح الناس فی ظل التنازع و التعصّب یلتحمون بالطائفة التی شبّوا فی أفیائها و عاشوا بأوساطها،و قد لجأ المالکیة إلی حدیث عالم المدینة،فإن کان صحیحا،فأین ذهب عن مالک فی حینها لیحتج به لنفسه؟ و ذلک أول ما یتبادر،لأن عموم حدیث مالک و غایة جهده أن یجعل موقع المدینة و منزلتها الشرعیة فی المکان الأول،و عمل أهل المدینة متبعا بحکم تشرّفها بهجرة الرسول محمد و هبوط الوحی،و مکانة المدینة تجیب علیها السرائر و تعبّر عنها المشاعر قبل أن تنص علیها الأقوال و الأفعال،إلا أنها جعلت فی صیغة یلتمس بها الظفر و الفلج فی وجوه و موارد هی من التصرف و السلوک،و لیس من مضامین العلم أو أغراض الشریعة المحضة.

لقد جعلوا من الحدیث النبوی معتمدا فی ترجیح المذهب المالکی من خلال ترجیح شخصیة مالک و انطباقه علیه وحده،و هو أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:یوشک أن تضرب الناس أکباد الإبل فی طلب العلم.و فی روایة:یلتمسون العلم،فلا یجدون عالما أعلم.و فی روایة:أفقه من عالم المدینة.و فی روایة:من عالم بالمدینة.و فی بعضها:آباط الإبل،مکان:أکباد الإبل.و قد رواه البخاری عن ابن جریج موقوفا علی أبی هریرة،و محمد بن عبد اللّه الأنصاری عن ابن جریج،و رواه أیضا المقبری عن أبی هریرة:لا تنقضی الساعة حتی یضرب أکباد الإبل من کل ناحیة إلی عالم المدینة یطلبون علمه.و خرّجه النسائی مرفوعا إلی أبی هریرة:یضربون أکباد الإبل و یطلبون العلم و لا یجدون عالما أعلم من عالم المدینة.و روی عن أبی موسی الأشعری بلفظ:یخرج ناس من المشرق و المغرب فی طلب العلم،فلا یجدون عالما أعلم من عالم المدینة.إلی آخر الروایات التی ذکرها کتّاب المناقب کابن فرحون.

ص:363


1- (1) جامع مسانید أبی حنیفة ج 1 ص 15.
2- (2) مناقب أبی حنیفة للمکی ج 1 ص 174.

و قد قلنا فی القسم الأول،إن الحدیث لا یخلو من خدشة فی السند،فإن أبا الزبیر-و هو أحد رواة هذا الحدیث-قد تکلموا فیه و طعنوا.

کما أن صرف الحدیث إلی إرادة مالک دون غیره یبقی ضعیفا و لا یتجه.لأن الحدیث یراد به المنزلة العلمیة للمدینة أولا،و لرجل العلم فیها ثانیا الذی عیّن بصفات عامة تدور مع حرکتها العلمیة و منزلتها،و لا یتمکن شیوخ المالکیة من نفی ذلک و هم یسوقون الحدیث،فابن فرحون یذکر تأویل محمد بن إسحاق المخزومی:(ما دام المسلمون یطلبون العلم فلا یجدون أعلم من عالم المدینة،کان بها أو بغیرها،فیکون علی هذا سعید بن المسیب-کما یری-لأنه النهایة فی وقته.ثم من بعده غیره ممن هو مثله من شیوخ مالک،ثم بعدهم مالک،ثم بعده من قام بعلمه و کان أعلم أصحابه بمذهبه،ثم هکذا،ما دام للعلم طالب و لمذهب أهل المدینة إمام،و یجوز علی هذا أن یقال هو ابن شهاب فی وقته،و العمری فی وقته،و مالک فی وقته).

و تعلّق المالکیة بدار الهجرة و شهادة السلف.قال القاضی عبد الوهاب:لا ینازعنا فی هذا الحدیث أحد من أرباب المذاهب،إذ لیس منهم من له إمام من أهل المدینة فیقول هو إمامی.و نحن نقول إنه صاحبنا بشهادة السلف له،و بأنه إذا أطلق بین العلماء قال عالم المدینة و إمام دار الهجرة فالمراد به مالک دون غیره من علمائها، و قال القاضی عیاض:فوجه احتجاجنا بهذا الحدیث من ثلاثة أوجه،الأول:تأویل السلف أن المراد به مالک،و ما کانوا لیقولوا ذلک إلا عن تحقیق.الثانی:شهادة السلف الصالح له و إجماعهم علی تقدیمه یظهر أنه المراد إذا لم تحصل الأوصاف التی فیه لغیره و لا أطبقوا علی هذه الشهادة لسواه.الثالث:ما نبّه علیه بعض الشیوخ أن طلبة العلم لم یضربوا أکباد الإبل من شرق الأرض و غربها إلی عالم،و لا رحلوا إلیه من الآفاق رحلتهم إلی مالک (1).

و قد ذکرنا طائفة من العلماء فی ذلک الوقت هم من شیوخ مالک و أعلم منه (2)کربیعة الرأی بن أبی عبد الرحمن،و الذی أراده العباسیون فی مطلع دولتهم أن یدلی

ص:364


1- (1) شرح الموطأ للزرقانی ج 1 ص 4.
2- (2) انظر الجزء الثانی من الکتاب.

بدلوه بین الدلاء فی تعضید دولتهم و خدمتهم.و یروی مالک عن سیرة أستاذه:لما قدم ربیعة بن أبی عبد الرحمن علی أمیر المؤمنین أبی العباس أمر له بجائزة،فأبی أن یقبلها،فأعطاه خمسة آلاف درهم یشتری بها جاریة حین أبی أن یقبلها،فأبی أن یقبلها.قال ابن وهب:و حدثنی مالک عن ربیعة قال:قال لی حین أراد الخروج إلی العراق:إن سمعت أنی حدثتهم شیئا أو أفتیتهم،فلا تعدّنی شیئا.قال:فکان کما قال،لما قدمها لزم بیته فلم یخرج إلیهم و لم یحدّثهم بشیء حتی رجع (1).و لا بد أن روایته عن سیرة أستاذه جاءت عقب وفاة ربیعة،و مالک لم یتحول بعد إلی صف العباسیین و یتخلی عن میوله و عواطفه السابقة التی تشده إلی الأمویین و تجعله یتغاضی عن جرائمهم و ما فعلوا بالحرمین و ما ارتکبوا من مجازر بحق أهل المدینة،فهو یبنی تفوقه و یرجح نفسه بانتسابه إلی المدینة،و یری أن ینقاد غیره إلیه کما یقول فی رسالته إلی اللیث بن سعد (2):

(اعلم رحمک اللّه أنه بلغنی أنک تفتی الناس بأشیاء مختلفة،مخالفة لما علیه الناس عندنا و ببلدنا الذی نحن فیه،و أنت فی أمانتک و فضلک،و منزلتک من أهل بلدک،و حاجة من قبلک إلیک،و اعتمادهم علی ما جاء منک حقیق بأن تخاف علی نفسک،و تتبع ما ترجو النجاة باتباعه،فإن اللّه تعالی یقول فی کتابه: وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِینَ وَ الْأَنْصارِ و قال تعالی: فَبَشِّرْ عِبادِ اَلَّذِینَ یَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَیَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ فإنما الناس تبع لأهل المدینة،إلیها کانت الهجرة،و بها نزل القرآن،و أحلّ الحلال و حرّم الحرام...)الخ رسالته.

قال أبو مصعب:قدم علینا ابن مهدی (3)فصلّی خلف مالک،و وضع رداءه بین یدی الصف،فلما سلّم الإمام رمقه الناس بأبصارهم،فقال مالک:من هنا من

ص:365


1- (1) تاریخ بغداد ج 2 ص 425. [1]
2- (2) أبو الحرث-الحارث-ابن عبد الرحمن الفهمی من أصبهان،ولد بمصر سنة أربع و ستین،روی عن الزهری و عطاء و نافع کانت له حظوة و خضع القضاء لأوامره،فکان إذا رابه من أحد شیء کاتب فیه فیعزل،و فی الشذرات أن المنصور أراده لولایة مصر،فأبی و تولی قضاءها.
3- (3) هو الحافظ عبد الرحمن بن مهدی بن حسان الأزدی،مولاهم أبو سعید البصری اللؤلؤی روی عن شعبة و الثوری و مالک،وثقه أبو حاتم و أحمد،قال القواریری:أملی علینا ابن مهدی عشرین ألفا من حفظه،کان یحج کل سنة،توفی سنة 198 ه.

الحرس؟فجاءه نفسان.فقال:خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه.فحبس،فقیل له:

إنه ابن مهدی.فوجه إلیه و حضر عنده فقال له:أ ما خفت اللّه و اتقیته إن وضعت ثوبک بین یدیک فی الصف و أشغلت المصلین بالنظر إلیه،و أحدثت فی مسجدنا شیئا ما کنا نعرفه،و قد قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:من أحدث فی دیننا شیئا فعلیه لعنة اللّه و الملائکة و الناس أجمعین (1).

و یروی کتّاب مناقب مالک،أن أمه قالت له:اذهب إلی ربیعة،فتعلّم من أدبه قبل علمه.قال مالک:کان لی أخ فی سن ابن شهاب (2)فألقی أبی یوما علینا مسألة، فأصاب أخی و أخطأت،فقال لی أبی:ألهتک الحمام عن طلب العلم.فغضبت، و انقطعت إلی ابن هرمز 3سبع سنین.و فی روایة ثمان سنین لم أخلطه بغیره،و کنت أجعل فی کمی تمرا و أناوله صبیانه و أقول لهم:إن سألکم أحد عن الشیخ فقولوا مشغول!یرید أن ینفرد بالشیخ و لا یشارکه أحد بمجلسه،و لا بد أن الصبیان قالوا بما أراد لهم أن یقولوا.

و یذکر مالک مدة اختلافه إلی ابن هرمز ثلاثین سنة،فیشیر إلی المدة دون ذکر ابن هرمز کما أراد،و الناس تعرف منه الإشارة.

کذلک أخذ مالک عن نافع مولی بن عمر،و قال:کنت آتی نافعا نصف النهار و ما تظلنی الشجر من الشمس،أتحیّن خروجه،فإذا خرج أدعه ساعة کأنی لم أره،ثم أتعرض له فأسلّم علیه و أدعه،حتی إذا دخل البلاط أقول له:کیف قال ابن عمر فی کذا و کذا؟فیجیبنی،ثم أحبس عنه،و کان فیه حدّة،و کنت آتی ابن هرمز من بکرة فما أخرج من بیته حتی اللیل.

و القصد أن مالکا أراد أن یتهیأ للفتیا،و أن یتأهل للحدیث.و لکن موهبة الحفظ و الذاکرة عنده کانت أظهر من غیرها،فیروی أنه قال:(حدثنی ابن شهاب أربعین حدیثا و نیفا فیها حدیث السقیفة،فحفظت،ثم قلت:أعدها علیّ فإنی نسیت النیف.

فأبی،فقلت:أ ما کنت تحب أن یعاد علیک؟قال:بلی.فأعاد،فإذا هو کما حفظت).و اشتهر عنه ذلک و کان من أخص صفاته.یقول سفیان بن عیینة:دارت

ص:366


1- (1) الاعتصام ج 2 ص 68.و المدارک ص 130.
2- ((2)و(3)) انظر ترجمتهما فی الجزء الثانی.

مسألة فی مجلس ربیعة.فتکلم فیها ربیعة.فقال مالک:ما تقول یا أبا عثمان؟فقال ربیعة:أقول فلا تقول،و أقول إذ لا تقول،و أقول فلا تفقه ما أقول.و مالک ساکت، فلم یجب بشیء و انصرف (1).

و أخرج الخطیب عن إبراهیم المزنی قال:حججت سنة،فأتیت المدینة، فحدثنی إسماعیل بن جعفر الخیاط فقال:نزلت بی مسألة،فأتیت مالکا فسألته فقال:

انصرف حتی أنظر فی مسألتک.فانصرفت و أنا متهاون بعلمه،و قلت:هذا الذی تضرب إلیه المطی لم یحسن مسألتی.فأتانی آت فی منامی فقال:أنت المتهاون بعلم مالک،أما إنه لو نزل بمالک أدق من الشعر،و أصلب من الصخر،لقوی علیه باستعانته علیه بما شاء اللّه لا حول و لا قوة إلا باللّه العلی العظیم (2).

و قد لجأ مالک إلی المنامات بنفسه،فکان یقول:ما بتّ لیلة إلا رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (3).و عن خلف بن عمر:دخلت علی مالک فقال لی:انظر ما تری تحت مصلای.فنظرت فإذا أنا بکتاب،قال:اقرأه.فإذا فیه رؤیا رآها له بعض إخوانه.فقال:رأیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی المنام فی مسجده قد اجتمع الناس علیه،فقال لهم:إنی قد خبأت لکم طیبا و علما،و أمرت مالکا أن یفرّقه علی الناس.فانصرف الناس و هم یقولون:إذن ینفذ مالک ما أمره رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،ثم بکی،فقمت عنه (4).

و قال محمد بن رمح:حججت مع أبی و أنا صبی لم أبلغ الحلم،فنمت فی مسجد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بین القبر و المنبر،فرأیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قد خرج من القبر متکئا علی أبی بکر و عمر رضی اللّه عنهما،فسلّمت علیهم،فردوا علیّ السلام،فقلت:یا رسول اللّه،أین أنت ذاهب؟فقال أقیم لمالک الصراط المستقیم.فانتبهت،فأتیت أنا و أبی مالکا،فوجدنا الناس مجتمعین علیه،و قد أخرج لهم الموطأ أول ما خرج (5).

و قال محمد بن رمح أیضا:رأیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی المنام منذ أربعین سنة فقلت:

ص:367


1- (1) الدیباج ص 21.
2- (2) مناقب مالک للسیوطی ص 12.
3- (3) حلیة الأولیاء ج 6 ص 317.
4- (4) مناقب مالک ص 8.و حلیة الأولیاء ج 6 ص 317.
5- (5) مناقب مالک لعیسی بن مسعود الزواوی ص 17.

یا رسول اللّه مالک و اللیث یختلفان فی المسألة؟فقال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:مالک مالک ورث جدّی یعنی إبراهیم (1).

و قال بشیر بن أبی بکر:رأیت فی النوم أنی دخلت الجنة،فرأیت الأوزاعی و سفیان الثوری،و لم أر مالک بن أنس.فقلت أین مالک؟قالوا:و أین مالک؟رفع مالک رفع مالک.فما زال یقول:و أین مالک،و أین مالک،رفع مالک حتی تسقط قلنسوته 2.

و روی أبو نعیم عن إبراهیم بن عبد اللّه قول إسماعیل بن مزاحم المروزی قال:رأیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی المنام فقلت:یا رسول اللّه من نسأل بعدک؟قال:مالک بن أنس (2).

و عن مصعب بن عبد اللّه الزبیری قال:سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذ أتاه رجل فقال:أیّکم مالک؟فقالوا:هذا.فسلّم علیه،و اعتنقه،و ضمه إلی صدره و قال:و اللّه لقد رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم البارحة جالسا فی هذا الموضع،فقال:ائتوا بمالک.فأتی بک ترعد فرائصک،فقال:لیس بک بأس یا أبا عبد اللّه.و کنّاک و قال:اجلس.

فجلست.قال:افتح حجرک.ففتحته،فملأه مسکا منثورا،و قال:ضمه إلیک،و بثّه فی أمتی.قال:فبکی مالک و قال:الرؤیا تسر و لا تغر و إن صدقت رؤیاک فهو العلم الذی أودعنی اللّه (3).

و یطول بنا المقام لو أحصینا الرؤی و المنامات و ما تفیض به الأحلام.و قد أوردنا بعضا مما کان علی عهد مالک نفسه،و بذلک أصبح من حقهم أن یعتمدوا المنامات رکنا،و یلجأ و إلیها فیما یریدون ترجیحه و شیوعه،و خلاصة القول؛إن مالکا عرف بالحفظ و الذاکرة،فاتجه إلی المنحی الذی یتفق مع موهبته،ثم ظهر منه کراهیة للسؤال،فمال إلی استخدام سلاح الاتهام بالبدعة.و غالبا ما یظن بالسائل أنه یرید المغالطة،و یقوم بردّه بهذه الآیة: وَ لَلَبَسْنا عَلَیْهِمْ ما یَلْبِسُونَ و الحال یقتضی التهیؤ للمناظرة،و الإقبال علی الحوار،لأن الفترة قد شهدت بوادر اتساع الأقوال فی الصفات و إثباتها أو تعطیلها،و لیس من الحکمة فی شیء الزجر دون اقناع،أو التعنیف و ترک الحجاج،مما یترک فی نفس السائل الحیرة،أو یؤکد فی عقله المیل و من ثم الانجراف.

ص:368


1- ((1)و(2)) الجرح و التعدیل ج 1 ص 28.
2- (3) حلیة الأولیاء ج 6 ص 317.
3- (4) الانتقاء ص 39.و شرح الموطأ للزرقانی ج 1 ص 4.

یروی حفص بن عبد اللّه قال:کنّا عند مالک،فجاء رجل،فقال:یا أبا عبد اللّه اَلرَّحْمنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوی کیف استوی؟فقال:الکیف غیر معقول، و الاستواء غیر مجهول،و الإیمان به واجب،و السؤال عنه بدعة.و أظنک صاحب بدعة.

و أمر به،فأخرج.

و الجواب بلا أدری أهون بکثیر حتی و إن بات قاعدة یورثها مجلسه،فلا عیب فی ذلک،لأن السائل یتحری عند غیره الإجابة،و هو المعروف عن مالک أیضا،فعن الهیثم بن جمیل قال:شهدت مالکا سئل عن ثمان و أربعین مسألة،فقال فی اثنین و ثلاثین منها:لا أدری.و غالبا ما یلجأ إلی(لا أدری)فعن ابن وهب أنه قال:لو شئت أن أملأ ألواحا من قول مالک(لا أدری)فعلت (1)و من علماء المالکیة من یتعجب من قول لا أدری (2).

إن عصر مالک کان من أکثر العصور ازدهارا،و قد أصبحت المدینة موطنا للعلم و موئلا لطلابه من مختلف الأقطار الإسلامیة،و امتازت بالتمسّک بالحدیث فی مقابلة العراقیین و امتیازهم بالرأی و القیاس،و عظم العداء بین البلدین،و أدی إلی اتهامات و خصومات ابتعدت کثیرا عن العلم.

کان أبو سعید الرأی یماری أهل الکوفة،و یفضّل أهل المدینة،فجاءه رجل من أهل الکوفة و اسمه شرشیرا و قالوا کلب فی جهنم یسمی شرشیرا فقال:

عندی مسائل لا شرشیر یعرفها إن سیل عنها و لا أصحاب شرشیر

و لیس یعلم هذا الدین یعلمه إلا حنیفیة کوفیة الزور

لا تسألن مدینیا فتکفره إلا عن البم و المثنی و الزیر

فکتب أبو سعید إلی أهل المدینة:إنکم قد هجیتم،فردّوا.فردّ علیه رجل من أهل المدینة یقول:

لقد عجبت لغا و ساقه قدر و کل أمر إذا ما جمّ مقدور

قالوا المدینة أرض لا یکون بها إلا الغناء و إلاّ البم و الزیر

لقد کذبت لعمر اللّه إن بنا قبر النبی و خیر الناس مقبور

(3)

ص:369


1- (1) المناقب للسیوطی ص 12 و ص 16.و حلیة الأولیاء ج 6 ص 323.
2- (2) انظر المجلد الأول/الجزء الثانی من هذا الکتاب.
3- (3) العقد الفرید ج 3 ص 408. [1]

أما فی المدینة،فکان مالک بمنزلته یوجه الناس ضد أهل العراق،و کان یقول لرجل من أهل الکوفة:لم یأخذ أوّلونا عن أوّلیکم،فکذلک لا یأخذ آخرونا عن آخریکم.و وصفها مالک بدار الضرب،فقال:هی دار الضرب،یضربون باللیل ما ینفقون.و کان ینسب إلی ربیعة القول:ما رأیت عراقیا تام العقل.

و نسب إلی أحد علماء المدینة قوله:کأن النبی الذی بعث إلینا غیر النبی الذی بعث إلیهم.

و کان یقال بالمدینة:اترکوا أحادیث أهل العراق منزلة أحادیث أهل الکتاب، فلا تصدّقوهم و لا تکذّبوهم (1).

و فی وسط هذه المنازعات و الخصومات التی استباحت الکثیر من عصم الإیمان و روابط العقیدة،کانت مدرسة الإمام الصادق تفیض بإشراقها من علم أهل بیت النبوة،و تغنی بإلهامها عقول العلماء،فکان الإمام الصادق محیطا بموارد النزاع و عارفا بوجوه الخلاف بصورها علی المسائل و الآراء،و صبغتها التی مضت علیها فی المجالس و الحلقات.و یجری علمه فی أوساط الأمة بأصوله من الکتاب و أدلته من السنّة،بشمول لا یتهیأ لبشر،و درایة یعجز عنها غیره،فکان أفقه الناس و أعلم أهل زمانه.

و کان أبو جعفر المنصور أول ما أراد أن یجعل أبا حنیفة وسیلته فی التأثیر علی مکانة الإمام الصادق فی النفوس و النیل من منزلته العلمیة،و ذلک قبل أن یتحول إلی الإمام مالک.

قال الحسن بن زیاد اللؤلؤی:سمعت أبا حنیفة-و سئل من أفقه من رأیت-؟ قال:ما رأیت أفقه من جعفر بن محمد الصادق،لمّا أقدمه المنصور بعث إلی فقال:

یا أبا حنیفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد،فهیّئ له من المسائل الشداد،فهیأت له أربعین مسألة.ثم بعث إلیّ أبو جعفر و هو بالحیرة،فأتیته،فدخلت علیه، و جعفر بن محمد جالس عن یمینه،فلما بصرت به دخلتنی من الهیبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم یدخلنی لأبی جعفر،فسلّمت علیه،و أومأ إلی فجلست،ثم التفت إلیه فقال:یا أبا عبد اللّه هذا أبو حنیفة.فقال:«نعم»ثم اتبعها:قد أتانا،کأنه

ص:370


1- (1) مناقب الزواوی ص 55-56-57.

کره ما یقول فیه قوم أنه إذا رأی الرجل عرفه،ثم التفت إلی فقال:یا أبا حنیفة ألق علی أبی عبد اللّه من مسائلک.فجعلت ألقی علیه،فیجیبنی فیقول:«أنتم تقولون کذا،و أهل المدینة یقولون کذا،و نحن نقول کذا»فربما تابعنا،و ربما تابعهم،و ربما خالفنا جمیعا،حتی أتیت علی الأربعین مسألة،ما أخل منها بمسألة.ثم قال أبو حنیفة:ألسنا روینا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس...ا ه (1).

و مما علم من منهج الإمام الصادق و منطق قوله،فإن تفسیر الکتاب عنده لیس بالأخذ من الغیر،و الحدیث هو بإسناد آبائه الطیبین.فمن المؤکد هنا أن المسائل التی کانت عدة السلطان أبی جعفر و سلاحه فی مواجهة الإمام الصادق کان یعرضها الإمام الصادق علی مصادره و أصوله و یناقشها،فما وافق منها حسبه أبو حنیفة متابعة،و لیس الأمر کذلک.لأن الإمام الصادق فی علمه لا یتّبع إلاّ القرآن و سنّة النبی و الأئمة من أهل بیته،أما المخالفة فأمرها معروف.

و کما رأینا فإن مالکا کان من طلاب مدرسة الإمام الصادق و من تلامیذه،قال مالک عن صلته بالإمام الصادق:(جعفر بن محمد اختلفت إلیه زمانا،فما کنت أراه إلا علی إحدی ثلاث خصال:إما مصلّ،و أما صائم،و إما یقرأ القرآن) (2).

و قوله:(ما رأت عین،و لا سمعت أذن،و لا خطر علی قلب بشر أفضل من جعفر بن محمد الصادق علما و عبادة و ورعا) (3)و قال مالک:(لقد کنت أری جعفر بن محمد و کان کثیر الدعابة (4)و التبسّم،فإذا ذکر عنده النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم اصفرّ،و ما رأیته یحدّث عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلا علی طهارة،و لقد اختلفت إلیه زمانا،فما کنت

ص:371


1- (1) المناقب للموفق المکی ج 1 ص 173.و [1]سیر أعلام النبلاء ج 6 ص 256.
2- (2) تهذیب التهذیب ج 2 ص 104. [2]
3- (3) المجالس السنیة للعاملی ج 5.و التوسل و الوسیلة لابن تیمیة ص 52.
4- (4) تروی عند بعض المالکیة«کثیر المزاح»و لا نستغرب الوصف بالمزاح أو الدعابة،لأن عمر بن الخطاب وصف بها الإمام علی،و کان قوله موضع نظر ورد،إلا أن یبتدع بها اصطلاحا و یحدث بها مسمی جدید فیکون معناها التقوی و شدة الالتزام بالدین،أو حسن الخلق و المعاشرة،فإن کان القصد ظاهر معناها،فهی من الفلتات،و لا یحمل علیهما إلا قصد الإساءة و النیل،و دون ذلک عصمة اللّه و رعایته من دین راسخ و علم وافر و منزلة سامیة و خصائص عالیة هی الغایة فی الکمال و النهایة فی الرفعة.

أراه إلا علی ثلاث خصال:إما مصلّیا أو صائما و إمّا یقرأ القرآن.و لا یتکلم فیما لا یعنیه و کان من العلماء و العبّاد الذین یخشون اللّه عز و جل) (1).

و من المحدثین کثیر یحملهم التقلید و التعصب علی إغفال الجوانب المهمة فی اختلاف مالک إلی الإمام الصادق و الأخذ عنه و الروایة له،و یخال بعضهم کمصطفی الشکعة أن إظهار الصحبة یؤدی إلی المقارنة بینهما بمیزان الاستواء و التعادل،و لیس الشکعة أول من یفعل ذلک،و لا هذه أول النزعات المعلنة،فقد علمناها منه فی کتبه السابقة،و قد وصلنی کتابه(الأئمة الأربعة)فأثار فی نفسی تساؤلات کثیرة،و کلما تصفّحته کثرت الملاحظات و تعدّدت المؤاخذات،و لو أشرت إلی بعضها لطال بنا الحدیث،نرجو اللّه أن ییسر و یعین لتحریر الردّ علیه،فقد بنی کتابه فی الطعن علی الشیعة علی أساس الوهم و الادعاء الباطل بوجود«التشیع المذهبی»و هی مقولة فتن بها الناظرون إلی التاریخ بمنظار الهوی و مصطلحات السیاسة،ممن عظم علیهم کون التشیع وعاء الإسلام و إطاره،و أن رجاله و قادته هم سادة العرب و فرسانها رفعهم اللّه بعز الإسلام إلی موکب الدعوة و جیش الولاء لصاحب الرسالة النبی الهادی المصطفی،و نبذوا حمیة الجاهلیة و نعرات القبلیة،فأصبحوا دعاة حق و حملة رسالة یتهافتون علی الموت فی سبیلها.

و مهما کان من أمر الشکعة فهو لا یقوی علی إنکار الحقائق الناصعة التی تقود إلیها و تنتهی جهوده فی البحث عن الأئمة الأربعة فیقول:(و لم یکن مالک و أبو حنیفة وحدهما الآخذین من فیض الإمام جعفر من بین أئمة أهل السنّة،و إنما أخذ عنه و اتصل به السفیانان الثوری و ابن عینیة و شعبة بن الحجاج و غیرهم) (2).

و مما یقوله الشکعة:لقد تأثر مالک بکثیر مما فی جعفر.تأثر به فی الحدیث فروی له،و لقد ضمّن مالک کتابه«الموطأ»عددا من الأحادیث التی رواها.و لقد تأثر به مالک فی أنه لم یجلس لیحدّث حدیث رسول اللّه إلا و هو علی الطهارة.و القصد أننا أردنا الإشارة إلی کتاب الشکعة،و نترکه أمل تحریر الردّ علیه و إلحاقه بالمناقشات المجموعة.

ص:372


1- (1) مناقب الزواوی ص 33 و 34.
2- (2) د.مصطفی الشکعة:الأئمة الأربعة ص 317،مصر 1979.

أما تأثر مالک بالإمام الصادق فإن مجالاته واسعة،و لقد استمر المالکیة علی تعضید مذهبهم بعد وفاة إمامهم،معتمدین علی حضور مالک عند الإمام الصادق و الاستماع إلی حدیثه،و تلقّی تعالیمه فی مدرسته،فسمحوا لأنفسهم أن یتخیلوا أمورا لتکون لهم شهادة تؤید المذهب،فادّعوا أن الإمام الصادق أوصی إلی مالک عند وفاته،و رووا عنه أنه دخل علیه قوم من أهل الکوفة فی مرضه الذی توفی فیه،فسألوه أن ینصّب لهم رجلا یرجعون إلیه فی أمر دینهم،فقال:علیکم بقول أهل المدینة، فإنها تنفی خبثها کما ینفی الکیر خبث الحدید،علیکم بآثار من مضی،فإنی أعلمکم أنی متبع غیر مبتدع،علیکم بفقه أهل الحجاز،علیکم بالمیمون المعین المبارک فی الإسلام،المتبع آثار رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقد امتحنته فوجدته فقیها فاضلا متبعا مریدا لا یمیل به الهوی،و لا تزدریه الحاجة،و لا یروی إلا عن أهل الفضل من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فإن اتبعتموه أخذتم بحظکم من الإسلام،و إن خالفتموه ضللتم و هلکتم،أ لستم تقولون إنی هیئ من العلم غیر محتاج إلی أحد من الخلق؟فإنه قد أخذ عنی کل ما یحتاج إلیه،فلا یمیل بکم الهوی فتهلکوا،إنی أحذرکم عذاب اللّه یوم القیامة،یوم لا ینفع مال و لا بنون إلا من أتی اللّه بقلب سلیم،أحذرکم،فقد أرشدتکم إلی رجل نصّبته لکم،فإنه أمین،مولود فی زمانه،قالوا:من هو بیّنه لنا؟قال:ذلک مالک بن أنس،علیکم بقول مالک.ثم رفع یدیه إلی السماء و قال:اللهم إنی بریء من ظنّهم و تخرّصهم و من رواة السوء منهم،اللهم إنک تعلم أنه قد قیل عن عیسی بن مریم ما لم یقل،و روی عن مالک ما لم یکن،و قیل عن عزیز ما لم یقل،و روی عنه ما لم یکن،و قیل عن علی بن أبی طالب ما لم یقل،و روی عنه ما لم یکن،فمن روی عنّی ما لم نقل،فعلیه لعنة اللّه و لعنة اللاعنین و الملائکة و الناس أجمعین (1).

و الروایة صریحة الوضع،نقلناها کاملة للتدلیل علی مسلک النزاع و الخصام فی استحلال الوضع،و التماس الظفر بالإقرار بالوقائع العلمیة للبناء علیها فی مورد، و إنکارها و تجاهلها فی مواضعها الأصلیة،لأنها فی سیاقها حجة لغیرهم.و صفوة القول،فإن أصحاب الحدیث أرادوا أن یثقلوا موازینهم بهذه المبتدعات،حتی اضطرهم الأمر إلی الوضع لادناء مالک من منزلة الإمام الصادق،و وضعه فی التأهل

ص:373


1- (1) المناقب للزواوی ص 10.

لاحتلال تلک المنزلة بعد وفاته،و لتکون له الرئاسة بوصیة و عهد من الإمام الصادق، و ذلک من الجهل بمکان فإذا اتسع المجلس لمالک فی مجال التلمذة و الأخذ العلمی، فلا تتسع الوصایة له أو لغیره من الناس إلا من نص علیه فی خبر الإمامة،و جاء ذکره فی آثار الولایة المحفوظة و المعهودة عند أولیاء الأمر من الأئمة الهداة المعصومین.

و کذلک فإن کتّاب المناقب جعلوا من اسم الإمام الصادق وسیلة لإضفاء القدسیة علی سیرة مالک کما فعل القاضی عیاض بدعواه أن الإمام الصادق قال:قیل لمالک اخترت مقامک بالمدینة و ترکت الریف و الخصب؟فقال:و کیف لا أختاره و ما بالمدینة طریق إلا سلک علیها رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و جبریل علیه السّلام ینزل علیه من عند رب العالمین فی أقل من ساعة (1).و لا نعلم مناسبة لذلک و لا وجها،و الدعوی لا تساعد المالکیة فی تشبّثهم بدار الهجرة لأن الإمام الصادق أعرق أصلا و علما فیها.

و بالجملة فإنا قد اعتمدنا فی بیان منازل رؤساء المذاهب علی أقوال معاصریهم و أقرانهم من العلماء،فإن فعلنا لا نجد ما یدل علی امتیازه و تفرّده بخصائص تؤهله للمرجعیة دون غیره،و قد ذکرنا الکثیر منها لتکوین الاطلاع و العلم اللازم للموازنة و المقارنة بین شخصیات رؤساء المذاهب و أئمتها.

سئل أحمد بن حنبل عن مالک؟فقال:حدیث صحیح و رأی ضعیف (2).

قال یحیی بن بکیر:اللیث أفقه من مالک،لکن الحظوة لمالک (3).

قال الشافعی:اللیث أفقه من مالک إلا أن أصحاب لم یقوموا به.

و فی روایة:اللیث أفقه من مالک إلا أنه صنیعة أصحابه 4.

و قال سعید بن أیوب:لو أن اللیث و مالکا اجتمعا،لکان مالک عند اللیث أبکم،و لباع اللیث مالکا فیمن یرید (4)و قد اطلعنا-سابقا-علی بعض رسالة مالک إلی اللیث و منها:

ثم کان التابعون من بعدهم یسلکون تلک السبیل،و یتّبعون تلک السنن،فإذا کان الأمر بالمدینة ظاهرا معمولا به،لم أر لأحد خلافه للذی فی أیدیهم من تلک

ص:374


1- (1) ترتیب المدارک ج 1 ص 59.
2- (2) مناقب الشافعی للفخر الرازی.
3- ((3)و(4)) شذرات الذهب ج 1 ص 288. [1]
4- (5) الرحمة الغیثیة لابن حجر ص 6.و تذکرة الحفاظ ج 1 ص 209.

الوراثة التی لا یجوز انتحالها و لا ادعاؤها،و لو ذهب أهل الأمصار یقولون:هذا العمل ببلدنا،و هذا الذی مضی علیه من مضی لم یکونوا فیه من ذلک علی ثقة،و لم یکن لهم من ذلک الذی جاز لهم.

و کان من ردّ اللیث علی مالک:إن کثیرا من أولئک السابقین الذین عناهم بقول اللّه تعالی: وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِینَ وَ الْأَنْصارِ خرجوا إلی الجهاد فی سبیل اللّه ابتغاء مرضاة اللّه،فجندوا الأجناد،و اجتمع إلیهم الناس،فأظهروا بین ظهرانیهم کتاب اللّه و سنّة نبیّه.و أن أصحاب رسول اللّه قد اختلفوا بعده فی الفتیا فی أشیاء کثیرة،و یقول له:

(و لو لا أنی قد عرفت أن قد علمتها لکتبت بها إلیک.ثم اختلف التابعون فی أشیاء بعد أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم سعید بن المسیب و نظراؤه أشد الاختلاف،ثم اختلف الذین کانوا من بعدهم،فحضرتهم بالمدینة،و رأسهم یومئذ ابن شهاب و ربیعة بن أبی عبد الرحمن،و کان من خلاف ربیعة لبعض من قد مضی ما قد عرفت و حضرت و سمعت قولک)مشیرا إلی تلمذته علیهما و حضوره عندهما.

و سأل علی بن المدینی یحیی بن سعید:أیما أحبّ إلیک،رأی مالک أو رأی سفیان؟قال:رأی سفیان،لا یشک فی هذا.

و قال:سفیان فوق مالک فی کل شیء.

و دخل علیه محمد بن الحسن صاحب أبی حنیفة-و هو حدث-فقال:ما تقول فی جنب لا یجد الماء إلا فی المسجد؟فقال مالک:لا یدخل الجنب المسجد.قال:

فکیف یصنع و قد حضرت الصلاة و هو یری الماء؟قال:فجعل مالک یکرر:لا یدخل الجنب المسجد.فلما أکثر علیه قال له مالک:فما تقول أنت فی هذا؟قال:یتیمم و یدخل فیأخذ الماء من المسجد و یخرج فیغتسل.قال:من أین أنت؟قال:من أهل هذه-و أشار إلی الأرض-فقال:ما من أهل المدینة أحد لا أعرفه.فقال:ما أکثر من لا تعرف؟ثم نهض.قالوا لمالک:هذا محمد بن الحسن صاحب أبی حنیفة.فقال:

محمد بن الحسن،کیف یکذب و قد ذکر أنه من أهل المدینة؟قالوا:إنما قال من أهل هذه،و أشار إلی الأرض.قال:هذا أشدّ علیّ من ذلک (1).

و إذا عدنا إلی الحدیث و اعتمدنا رأی أحمد بن حنبل بعد أن اطلعنا علی وصفه

ص:375


1- (1) تاریخ بغداد ج 2 ص 174 و 175. [1]

مالکا بالضعف فی الرأی،فإن أحمد یقول:کان مالک من أثبت الناس،و کان یخطئ (1).

و هو فی جمیع الأحوال لا یسلم سنده و لا یخلو طریقه من اختلاف،و لذلک یرجح الحفاظ فی کثیر من الأحادیث سند غیره کما فی حدیث«أنا و کافل الیتیم فی الجنة...الحدیث»فرجح أبو زرعة و أبو حاتم سند ابن عیینة علی روایة مالک (2).

و قد اختار مالک حبیب بن أبی حبیب الورّاق کاتبا له،و هو معروف بالکذب و متروک.قال ابن حبان:کان یورق بالمدینة علی الشیوخ،و یروی عن الثقات الموضوعات کان یدخل علیهم ما لیس من حدیثهم.و قال ابن معین:کان یقرأ علی مالک و یتصفّح ورقتین ثلاثة،فسألونی عنه بمصر،فقلت:لیس بشیء.و قد کذّبه أبو داود و آخرون،و هو متروک إلا أنه کان قریبا من مالک،و جعله وسیلة عرضه للحدیث (3).

مالک بین الأمویة و العباسیة

:

لقد اتصف مالک بمیول أمویة واضحة،و قد رأینا أنه أدرک من العهد الأموی أربعین سنة،و من العهد العباسی أکثر من ذلک.و لا بد أن هذه المیول کانت متوارثة فی عائلته منذ جد أبی مالک،و هو أبو عامر الذی برز من بیت مالک بسبب دعاوی الصحبة التی لیست بشیء،و لکن أبرز أعمال جد أبی مالک کونه أحد الأربعة الذین حملوا عثمان لیلا إلی قبره (4)،و هی روایة یبادر بها أبو عامر قال:(کنت أحد حملة عثمان حین قتل،حملناه علی باب،و إن رأسه لتقرع الباب لإسراعنا به،و إن بنا من الخوف لأمرا عظیما،حتی واریناه فی قبره فی حش کوکب).

أما الروایة عن عبد اللّه بن ساعدة فهی:لبث عثمان بعد ما قتل لیلتین،لا یستطیعون دفنه،ثم حمله أربعة:حکیم بن حزام و جبیر بن مطعم و نیّار بن مکرم و أبو جهم بن حذیفة (5).فأین جدّ أبی مالک؟

ص:376


1- (1) شرح علل الترمذی ج 1 ص 437.
2- (2) أیضا ج 2 ص 842.
3- (3) تهذیب التهذیب 181/2.و [1]میزان الاعتدال 210/1.و المجروحین لابن حبان 260/1.و شرح علل الترمذی 830/2.
4- (4) مناقب السیوطی ص 4.
5- (5) الطبری ج 5 ص 144. [2]

أما مالک،فإن حرصه و توخّیه فی الروایة أدّیاه إلی أن یکون رکیزة لحدیث موضوع فی معاویة أخذه عن أستاذه نافع،عن ابن عمر و هو:کنت عند رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فأهدی إلیه سفر جل،فأعطی أصحابه واحدة واحدة،و أعطی معاویة ثلاث سفرجلات و قال:ألقنی بهنّ فی الجنة.

و یتقلد مالک حدیث الوضوء من مسّ الذکر،و بإسناده مروان و بسرة بنت صفوان و أنها سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول إذا مسّ أحدکم ذکره فلیتوضأ.و بسرة مجهولة لم تکن صحبتها أو مکانتها إلا من صنع الأمویین و حاشیتهم،و لکن مالک بن أنس یری مکانتها فی علاقتها بالأمویین،لذا فهی مقبولة عنده و غیر مجهولة،و لا یفید طعن رجال الحدیث فی روایتها و قلة صحبتها-إن وجدت-فیقول مالک:أ تدرون من بسرة بنت صفوان؟هی جدة عبد الملک بن مروان أم أمّه فاعرفوها (1)فکأن(إمام المدینة)نسی الزرقاء؟!! و یتبع الأمویین بمیوله،و یتمنی أن یکون فی المدینة مثل عبد الرحمن بن معاویة الداخل إلی الأندلس،و یقول مالک:لیت أن اللّه زیّن حرمنا بمثله (2)کأن لم یکف ما فعل أسلاف الدّاخل و أبناء معاویة الأول من جرائم،و ما انتهکوا من حرمات،حتی کان الرجل من أهل المدینة بعد وقعة الحرّة إذا زوّج ابنته لا یضمن بکارتها،و یقول:

لعلها قد افتضّت فی وقعة الحرة (3).و المدینة التی یحتج بفضلها مالک و یسعی إلی أن یقتدی به الآخرون لأن فیها الصحابة و هو من أهلها أیضا،ختم الحجاج أعناق الصحابة من أهلها کجابر بن عبد اللّه الأنصاری و أنس بن مالک و سهل بن سعد الساعدی لیذلّهم.

أما رأیه فی التفضیل،فهو من آثار هذه المیول.فهو یری أن الإمام علیا کسائر الصحابة.روی مصعب-و هو أحد تلامذة مالک-أنه سأل مالکا:

من أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟فقال مالک:أبو بکر قال:.ثم من؟ قال:عمر.قال:ثم من؟قال:عثمان.قال:ثم من؟قال:هنا وقف الناس.

ص:377


1- (1) کتاب الاعتبار لابن حازم الهمذانی ص 43.
2- (2) مالک لأمین الخولی ص 200 نقلا عن شرح العیون [1]لابن نباته.
3- (3) الفخری ص 107. [2]

و لکنه أخذ یتردّد فی ضمّ عثمان إلی الشیخین لأنه التحق برکب العباسیین فیما بعد-کما سیأتی-و سار علی ما یسیر علیه المنصور فی ذلک،فإنه لما دخل علیه مالک قال له المنصور:من أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟قال مالک:أبو بکر و عمر.فقال المنصور:أصبت،و هذا رأی أمیر المؤمنین-یعنی نفسه-و کانت موافقة مالک للمنصور و اتباعه السلطة من المحفزات علی اتخاذ مالک عالما لها.

قال الشیخ أبو زهرة:إن مالکا یخالف بذلک-أی التفصیل-إمامین آخرین عاصراه:أحدهما أسنّ منه و مات قبله و هو أبو حنیفة.و ثانیهما أصغر منه و هو تلمیذه الشافعی.فإن أبا حنیفة لا یعد علیا کسائر الناس بل«یرفعه»إلی مرتبة الراشدین من الخلفاء،و یقدمه فی الترتیب علی عثمان.و الشافعی یعلن محبته لعلی،و یحکم علی خصومه بأنهم بغاة... (1).

و نحن نقول أنه خالف إماما ثالثا و هو أحمد بن حنبل،فما کان رأیه کرأی مالک،بل کان یعدّ علیا من أهل بیت لا یجارون،و لا یقاس بهم أحد،و ذلک عند ما سأله ولده عبد اللّه:من أفضل الناس؟قال:أبو بکر و عمر،و عثمان.ثم سکت، فقال له فعلی:فقال:یا بنی،علی من أهل بیت لا یقاس بهم أحد.و له کثیر من الآراء فی تفضیل الإمام علی.حتی أنه ألف کتابا فی مناقب الإمام علی،فهو یری أن ما لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانید الصحاح مثل ما لعلی (2).

و لا یصح اعتبار التفضیل سببا فی تعرّضه إلی الأذی علی ید جعفر بن سلیمان و الی المدینة سنة 146 ه و إطلاق اسم المحنة علی هذه الحادثة التی تعرض بها إلی الأذی،فقد جرّد من ثیابه،و مدّت یداه،و ضرب بالسیاط حتی انخلعت کتفاه لعدم رضا الطالبیین عن مذهب مالک بهذا الخصوص.

و علینا أن نقف عند هذه الحادثة لأنها الفاصل بین المیول الأمویة فی حیاة مالک و المیول العباسیة التی ظهرت علیه بما لا ینسجم مع ماضیه.إذ أن دخوله فی أمر ثورة محمد النفس الزکیة أمر غیر متوقع،فلذلک لا غرابة فی عدم الإجماع علی سبب واحد لهذه الحادثة.فإضافة إلی ما ذکرناه من القول فی أن عدم الرضا من قبل

ص:378


1- (1) مالک ص 70.
2- (2) مناقب أحمد لابن الجوزی ص 163.

الطالبیین کان سببا فی ذلک لرأی مالک فی التفضیل.فهناک قول أن السبب هو مجاهرة مالک بمخالفة ابن عباس فی جواز نکاح المتعة،فقیل له فی قول ابن عباس فیها، فقال:کلام غیره فیها أوفق لکتاب اللّه.و أصرّ علی القول بتحریمها،فطیف به علی ثور مشوّها،فکان یرفع القذر عن وجهه و یقول:یا أهل بغداد أنا مالک بن أنس فعل بی ما ترون لأقول بجواز المتعة (1).

و هذا بعید عن الواقع،لأن الحادثة وقعت فی المدینة،و إذا سلّمنا صحة هذا السبب،فهل أصرّ مالک علی رأیه فیما بعد؟و وافقته الدولة و تخلّت عن رأیها و قرّبته؟ أم أنه وافق رأیها و تنازل عن إصراره،و ترک ما وافق کتاب اللّه لما وافق رأیهم؟ و لا یبعد أن یکون وراء وضع هذه الصور المتعددة أنصار مالک لغرض اشتهاره و توسیع دائرة ذکره.

و مهما یکن،فإن سبب الحادثة الأقرب،هو التظاهر بتأیید ثورة محمد النفس الزکیة.و الروایة کما فی الطبری و ابن الأثیر:أن مالک بن أنس استفتی فی الخروج مع محمد و قیل له:إن فی أعناقنا بیعة لأبی جعفر.فقال:إنما بایعتم مکرهین و لیس علی کل مکره یمین.فأسرع الناس إلی محمد،و لزم مالک بیته (2).أما ابن عبد البرّ فیروی -من بین ما یروی-أن أبا جعفر نهی مالکا عن الحدیث(لیس علی مستکره طلاق)ثم دسّ إلیه من یسأله عنه،فحدّث به علی رءوس الناس،فضربه بالسیاط (3).

و الفرق بین الروایتین کبیر،فإذا اعتبرنا الثانیة،فإن روایة مالک للحدیث تأتی من اختصاصه فی حفظ الحدیث و الروایة،و تشدّده فی روایة الحدیث الذی یرتئیه و یصحّحه.فهو یجمع لموطئه،و عامل موهبته هو الحفظ.و یأتی نهی المنصور فی ظروف بحثه عن محمد النفس الزکیة و استعداد العلویین للثورة.

أما الروایة الأولی فلیس دور مالک فی الثورة بهذا الشکل،فقد علمنا ظروف الثورة و الحرکة العلویة التی یناهضها مالک،و من المبالغة بمکان أن یکون رأی مالک هو سبب إسراع الناس،و ذلک ما ینفرد به الطبری و من ورائه ابن الأثیر.

ص:379


1- (1) شذرات الذهب ج 1 ص 290. [1]
2- (2) الطبری ج 9 ص 206.و [2]ابن الأثیر ج 5 ص 251. [3]
3- (3) الانتقاء ص 43 و 44.

و خلاصة القول،أن الحدیث الصحیح الذی منع المنصور مالکا من روایته کان مصداقا للتحلل من بیعة المنصور.و إنما کان مالک یرویه لکونه حدیثا و لیس لغرض یخدم حرکة العلویین،فلما قامت الثورة،قال مالک بما کان یرویه.و تظاهره بذلک لا یخلو من کراهیته لما فعل العباسیون بالأمویین.و من ثم کان انصرافه إلی بیته بانتظار ما سیسفر عنه الأمر.و لو صحّ هذا التأیید فما هو عذره فی السکوت عن جرائم أبی جعفر المنصور فی بنی الحسن،و دفنهم و هم أحیاء،و قتل النفس الزکیة؟! و المنصور هو هو من شدّة عدائه و حقده علی من یناوئ حکمه و یمالیء أعداءه،و لو کان هناک ما یشمّ من مالک غیر نشاطه الیومی فی الروایة التی خشی أثرها المنصور،لما کان هذا الاعتذار منه لمالک،و بهذا الشکل الذی یصفه لنا مالک بلسانه:(لما دخلت علی أبی جعفر،و قد عهد إلیّ أن آتیه فی الموسم.قال لی:و اللّه الذی لا إله إلا هو ما أمرت بالذی کان،و لا علمته،إنه لا یزال أهل الحرمین بخیر ما کنت بین أظهرهم،و إنی أخالک أمانا لهم من عذاب،و لقد رفع اللّه بک عنهم سطوة عظیمة،فإنهم أسرع الناس إلی الفتن،و قد أمرت بعد و اللّه أن یؤتی به من المدینة إلی العراق علی قتب،و أمرت بضیق محبسه،و الاستبلاغ فی امتهانه،و لا بد أن أنزل به من العقوبة أضعاف ما نالک).

و لا نکتشف أی إشارة للاتهام أو الاعتذار فی سبب معین،و قول مالک أو روایته یأتی مبینا لرأی المنصور فی مالک،لا یشوبه غضب متجبر أو ظالم کالمنصور، بل هو یشعر مالک بأن لوجوده بین أهل المدینة أثرا فی التخفیف من نقمته،أولئک الذین یصفهم المنصور بأنهم أسرع إلی الفتن.و الأمر بمقتضی الروایة المالکیة لا یعدو روایة الحدیث و التظاهر،و قد یکون من مالک بفتحة ضیقة من وراء بابه،یرفع بها صوته،مردّدا ما منعه المنصور من روایته فی تلک الظروف،و بعدها إحکام رتاج الباب حتی انتهاء الأحداث.

و لو کانت هذه الحادثة لعلویة أنزلها اللّه فی قلب مالک،لکان مصیره بلا شک کمصیر الآخرین من الفقهاء و الرجال الذین سلط المنصور علیهم نقمته لانحیازهم إلی محمد النفس الزکیة،و کابن هرمز الذی اختلف إلیه مالک ثلاثین سنة للتفقه-کما مر بنا-و عبد العزیز بن محمد الدراوردی،و عبد الرحمن بن أبی الموالی الذی ضربه المنصور أربعین سوطا لکی یدله علی محمد فلم یدله،و عبد اللّه بن عمر بن حفص

ص:380

الذی أخذ أسیرا،فأتی به المنصور فقال له:أنت الخارج علیّ؟قال:لم أجد إلا ذلک أو الکفر بما أنزل اللّه علی محمد.و عثمان بن محمد بن خالد بن الزبیر الذی هرب بعد قتل محمد،فأتی البصرة فأخذ منها و أتی به المنصور فقال له:هیه یا عثمان،أنت الخارج علیّ مع محمد؟قال:بما بایعته أنا و أنت بمکة،فوفیت بیعتی،و عذرت بیعتک.قال المنصور:یا ابن اللخناء،قال:ذاک من قامت عنه الإماء.فأمر به فقتل.

و غیرهم کثیر.

و لا نرید أن نبرئ المنصور تماما من بعض الأسباب التی تتعلق بروایة الحدیث و لا تتعداه،و هو أمر عابر لم یترک أثرا فی نفس المنصور التی تتسم بالحقد،و إلا فهناک روایة تبین أن جعفر بن سلیمان هو الطرف فی منع روایة الحدیث،و قد تصرّف بعقلیة العباسی الذی ینتمی إلی أسرة لها الحکم و الطاعة،و روایة حدیث:(لیس علی مستکره طلاق)یؤدی إلی تبریر نقض إیمان بیعة بنی العباس (1).و قیل له:إنه لا یری خلافتکم.فضربه سبعین سوطا،و مدّت یده حتی انخلعت (2).

کما لا نرید أن نظلم مالکا،فقد دافع عن الفقهاء الذین یغلی صدر المنصور علیهم بحقده الأسود عند ما قال له:ما هذا الذی یبلغنا عنکم معاشر الفقهاء و أنتم أحق الناس بالطاعة،و أعرفهم بما یلزم من حق الأئمة؟فقال مالک:فقلت یا أمیر المؤمنین إن اللّه تعالی یقول فی کتابه: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ فجری بینهما کلام و مذاکرة،إلی أن ذکر له مالک أنه لما بعث إلیه لیلا و طلبه خاف منه القتل علی نفسه.فقال أبو جعفر:حاشا للّه یا أبا عبد اللّه أن أثلم رکنا للمسلمین،فإن لم أکن بالذی أبنیه لهم،فلست بهادمه لهم.ثم عرض علیه الذهاب معه إلی بغداد.

و بالجملة.فإن کل آراء المنصور فی مالک هی آراء حسنة،و من ینظر إلی موقف المنصور و ثباته إزاء مالک،یعلم أن«أمر المحنة»لیس کما صوّره الطبری و ابن الأثیر و غیرهما.و ما اختیار المنصور لمالک فی أمر الفقهاء إلاّ لما عهده من مالک من موافقة فی الاعتقادات التی علیها الحکم العباسی،و قد رأینا قول مالک فی التفضیل،

ص:381


1- (1) الانتقاء 44.
2- (2) شذرات الذهب ج 1 ص 290. [1]

و فی عثمان.کما أن من لواحق قول مالک المعروفة-و التی تنم عن الأمویة الواضحة- و جعله الإمام علی کسائر الصحابة الآخرین هو قول مالک:و لیس من طلب الأمر کمن لم یطلبه.و محمد النفس الزکیة تتناوله و لا شک هذه القاعدة،فکل الوجوه فی سیرة مالک تنفی المیل العلوی،و إنما نمو میل عباسی لیس علی بقایا المیل الأموی و لکن إلی جانبه(لأن رأی مالک فی الإمام علی متفق مع الولاة و الخلفاء) (1).و مما یلاحظ أن مالکا لم یسطع نجمه إلا بعد أن احتصنته الدولة و ذلک فی سنة 149 ه أی بعد وفاة الإمام الصادق علیه السّلام بسنة.فقد کانت الشهرة التی تلفّ مدرسة الإمام الصادق هی معارضة الدولة،و تطبیق منهج إصلاحی یبصّر الأمة،و یحملها علی الالتزام و التمسّک بأحکام الدین،و لم یؤثر موقف الحکام العباسیین علی انتشار مذهب أهل البیت،فقد کانت مدرسة الإمام الصادق من أبرز الحرکات الفکریة،و من أشهر معالم النهضة العلمیة.و کانت الدولة العباسیة فی طفولتها تعارض حرکة انتشار المذهب-من وراء الستار-إذ لیس فی إمکانها التظاهر بالمعارضة،لأنهم کانوا بحاجة ملحّة لاستمالة أعیان أهل البیت،للتأثیر فی نفوس الناس الذین یدینون لهم بالولاء،و یتفجّعون لما أصابهم من ویلات و ما لحقهم من مصائب،و لیس للعباسیین نفوذ یستطیعون به حمایة الدولة،فکان لا بد من الاستعانة بزعماء الشیعة لتثبیت أرکانها و حمایتها.

و لم یکن هناک شهرة لأحد سوی الإمام الصادق،و قد رأینا کیف کان الإمام الصادق یمثّل خطرا أتعب المنصور أمره،فحاول مرات أن یقتل الإمام،و قد کلأه اللّه بعنایته و نجّاه من شرّه.و یذکر أن المنصور وصف الإمام الصادق بالشجی المعترض حلقه.

أما مالک بن أنس،فقد کان فی حیاة الإمام الصادق کأحد رجال المدینة،قادته شهرة مدرسة الإمام الصادق إلی ما بین یدی الإمام،فکان أحد طلابها،و لم ینتشر ذکره إلا بعد سنة 148 ه و هی سنة وفاة الإمام الصادق.

و لا یخفی أن غرض المنصور من وراء إظهار مکانة مالک و إبرازه،هو منزلة الإمام جعفر بن محمد الصادق.فقد علمنا محاولته فی استعمال فقه أبی حنیفة و مکانته للتأثیر علی منزلة الإمام الصادق،و مرّ بنا أمر هذه المحاولة.و یتّجه المنصور

ص:382


1- (1) مالک لأبی زهرة ص 72.

بنفس تلک الدوافع إلی مالک لأن من قام بأمر الإمامة بعد الصادق هو وصیّه الإمام موسی بن جعفر.رجل الصلاح و الدین و العبد الصالح کما وصفه الناس و هم ملتفّون حوله و لقّبوه بالعالم.

فلاحت للمنصور فکرة إخضاع العلم الدینی للحکم،و ربطه بالدولة بتوحید الأحکام و استعمال القوة،فروی أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور قال لمالک:ضع للناس کتابا أحملهم علیه.فکلمه مالک فی ذلک.فقال:ضعه،فما أحد الیوم أعلم منک.فوضع الموطأ (1).

و لم یغب عن مالک مغزی ذلک،فأجابه:یا أمیر المؤمنین لا تفعل.أما هذا الصقع فقد کفیتکه،و أما الشام ففیه الرجل الذی علّمته-یعنی الأوزاعی-و أما أهل العراق فهم أهل العراق.

فکان المنصور یشدّ أزر الأوزاعی و یراسله.

و اخبر المنصور مالک أن من لا یرضی سیضرب علیه بالسیف و یقطع علیه ظهورهم بالسیاط (2)و فی روایة:کتب به إلی أمراء الأجناد و إلی القضاة فیعملون به، فمن خالف ضربت عنقه (3).و کان عند الرشید محل إجلال و تقدیر،و له علاقة مع الرشید قویة و حمیمة،و کان لا یتردّد فی الشکوی إلی الرشید مما یهمه،فکان یشکو إلیه ما علیه من دین،و یطلب المساعدة فی زواج ابنه محمد (4).

موطأ مالک

:

یتضح أن موطأ مالک کان الکتاب الذی طلبه العباسیون،و قد وضع المنصور بنفسه خطة الکتاب،فبعث إلی مالک حین قدم،فقال له:إن الناس قد اختلفوا بالعراق،فضع للناس کتابا تجمعهم علیه.فوضع الموطأ (5)و الظاهر أن بعض کتّاب المناقب من المالکیة حاولوا التمویه علی اشتراط المنصور أو خطته الکتاب الذی یریده

ص:383


1- (1) الدیباج ص 25.
2- (2) أیضا.
3- (3) الزواوی ص 24.
4- (4) العقد الفرید ج 1 ص 110. [1]
5- (5) الجرح و التعدیل ج 1 ص 12.

من مالک،فوضعوا روایات أخری منها:أن المنصور قال:یا أبا عبد اللّه ضع هذا العلم و دوّن کتابا و جنّب فیه شدائد عبد اللّه بن عمر،و رخص عبد اللّه بن عباس و شواذّ ابن مسعود،و أقصد أواسط الأمور و ما أجمع علیه الصحابة (1).

أما الروایة التی تتضافر علی صحتها المدلولات و الأقوال،فهو قول المنصور:

یا مالک علیک بما تعرف أنه الحق عندک،و لا تقلدنّ علیا و ابن عباس أو نحو هذا.

و نری أن ذکر ابن عباس من الزوائد أیضا التی قام بها کتّاب المناقب،و لعلهم استعظموا أن یکون أساس کتاب المذهب هو التحذیر من الإمام علی.

إن العباسیین تخلّوا عن ذاک الالتزام بسیرة الإمام علی،و انتهت أغراضهم من ذکر فضائله و معالم سیرته،فتحوّلوا-بعد قیام دولتهم-إلی العداء و النصب.أما ابن عباس فقد بقی رمزا لدیهم تجرّهم إلیه العصبیة و تشدّهم إلی ذکره مصالح حکمهم، و لیس لعلم أو منزلة،فهم علی حلیة نکاح المتعة لا لعدم النص علی نسخها و عدم جواز منعها أو تحریمها من قبل أحد غیر النبی محمد،و لکن لأن ابن عباس یقول بجواز نکاح المتعة،و قد رأینا أن مسألة نکاح المتعة کان من جملة الأسباب التی احتملت فی تعرّض مالک للأذی.

و لهذا فاشتراط المنصور أو خطته کانت موضع تنفیذ،و وفی مالک بالشرط،إذ لم یرو عن علی علیه السّلام فی موطأه،و یروی أن الرشید قال له:لم نر فی کتابک ذکرا لعلی و ابن عباس؟فقال:لم یکونا ببلدی و لم ألق رجالهما.و یعتذر الزرقانی فیقول:

فإن صحّ هذا فکأنه أراد ذکرا کثیرا.و إلا ففی الموطأ أحادیث عنهما (2).

و نال الکتاب شهرة،و أصبح موضع تقدیس حتی أطلقوا علیه اسم الصحیح و قالوا:إنه لا مثیل له،و لا کتاب فوقه بعد کتاب اللّه عز و جل (3).

و وضعوا عن رسول اللّه منامات فی مدحه،و أنه قال:لیس بعد کتاب اللّه عز و جل و لا سنّتی فی إجماع المسلمین حدیث أصحّ من الموطأ (4).و قالوا:إن النبی سمّی الکتاب بهذا الاسم...إلی غیر ذلک.

ص:384


1- (1) الدیباج و شرح الموطأ للزرقانی ج 1 ص 7.
2- (2) شرح الموطأ ج 1 ص 8.
3- (3) مقدمة النص لابن عبد البر ص 9. [1]
4- (4) کشف المغطی فی فضل الموطأ ص 2.

و قد روی عن مالک أنه قال:عرضت کتابی هذا علی سبعین فقیها من فقهاء المدینة،فکلهم واطأنی علیه،فسمّیته الموطأ.و قیل:لما ألف الموطأ،ألقاه فی الماء و قال:إن ابتلّ فلا حاجة لی به.فلم یبتل منه شیء.

و کان قد جمع فیه عشرة آلاف حدیث،ثم هذّبه و نقّحه،فلم یبق من ذلک العدد إلا ألف و سبعمائة حدیث.و قیل:خمسمائة (1).و قیل:أقل و أکثر لاختلاف النسخ زیادة و نقصا و إسنادا و إرسالا.

و جملة ما فی الموطأ 1720 حدیثا،المسند منها 600،و المرسل 288 و الموقوف 613.و من قول التابعین 285.

و قد بلغ من اهتمام العباسیین بالموطأ أنهم عرضوا علی مالک أن یکتب بماء الذهب و یعلّق فی الکعبة.و أن الرشید قام یمشی مع مالک إلی منزله لیسمع منه الموطأ،فأجلسه معه علی المنصة،فلما أراد أن یقرأه علی مالک قال له:تقرؤه علی؟ قال مالک:ما قرأته علی أحد منذ زمان،قال:فیخرج الناس عنی حتی أقرأه أنا علیک.

فقال:إن العلم إذا منع من العامة لأجل الخاصة لم ینفع اللّه تعالی به الخاصة (2).

سیرة مالک

:

و کیف کان،فإن مالک بن أنس نال الحظوة عند بنی العباس.فقد مکّنه المنصور فی الحجاز من أن یتمتع بسلطة تنفیذیة مع ما خوّله من السلطة التشریعیة، و کان من أهم مظاهر إلحاق مالک بالدولة العباسیة و اعتباره عالمهم،أن منادی المنصور کان فی أیام الحج یعلن:بأن لا یفتی إلا مالک.

و لما قام المهدی بالأمر بعد أبیه،عظمت منزلة مالک،و کان یحترمه و یصله بهدایا جزیلة،و یعطیه عطاء وافرا،و یقرّب مجلسه،و ینفّذ ما یریده،و کان المهدی یشید بشأن مالک.

و لما جاء الرشید لم تتغیر منزلة مالک،بل کانت تزداد،و کان الرشید یقصده إذا دخل المدینة و یجلس بین یدیه إظهارا لمنزلة مالک و جلبا لأنظار الناس إلیه.و أمر عامله ألا یقطع أمرا دون مالک.

ص:385


1- (1) شرح الزرقانی علی الموطأ ج 1 ص 7.
2- (2) شذرات الذهب ج 1 ص 291. [1]

و قد رأینا مالکا قبل إلحاقه بالدولة و هو یسعی إلی العلم،فلم یظهر علیه إلا الرغبة فی السماع.و من المفاخر أن یؤدی به طلب العلم إلی أن ینقض سقف بیته و یبیع خشبه-کما یروی ابن فرحون-غیر أن إقبال الحکّام علیه أحدث انقلابا فی مسلکه و سیرته و استجاب لما تضفیه علیه السلطة.

فعند ما یحاول أولیاء و أقرباء بعض المسجونین فی سجون المدینة المنورة التوسط لدی المنصور،و یلجأ المنصور إلی الصیغة التی تجنّبه اللوم و نسبة الظلم إلیه بإدخال العلماء و أهل الدین فی المعاینة،نجد مالک یجیب وفق ما یرید المنصور.

و معلوم أن أمر المدینة کان یشقّ علی المنصور،و کانت السجون التی فیها تعکس مشاعر المنصور تجاه أهلها،فلما ولی عبد الصمد علی المدینة عاقب بعض القرشیین و حبسه حبسا ضیّقا،فکتب بعض قرابته إلی المنصور و شکی ذلک إلیه و أخبره.فکتب المنصور إلی المدینة و أرسل رسولا و قال:اذهب فانظر قوما من العلماء،فأدخلهم علیه حتی یروا حاله و تکتبوا إلی بها،فأدخلوا علیه فی حبسه مالک بن أنس،و ابن أبی ذئب،و ابن أبی سیرة و غیرهم من العلماء فقال:اکتبوا بما ترون إلی أمیر المؤمنین.

قال:و کان عبد الصمد لما بلغه الخبر حلّ عنه الوثاق،و ألبسه ثیابا،و کنس البیت الذی کان فیه،و رشّه،ثم أدخلهم علیه.فقال لهم الرسول:اکتبوا بما رأیتم.فأخذوا یکتبون:یشهد فلان و فلان.فقال ابن أبی ذئب:لا تکتب شهادتی،أنا أکتب شهادتی بیدی إذا فرغت،فارم إلیّ بالقرطاس.فکتبوا:محبسا لینا،و رأینا هیئة حسنة.و ذکروا ما یشبه هذا الکلام،ثم دفع القرطاس إلی ابن أبی ذئب،فلما نظر فی الکتاب فرأی هذا الموضع قال:یا مالک داهنت و فعلت و ملت إلی الهوی.اکتب:رأیت محبسا ضیقا،و أمرا شدیدا.و جعل یذکر شدّة الحبس (1).

و أخذ مالک باستعمال العنف و المعاملة بالقسوة،فکان إذا حدّث یقوم علی رأسه الحرس،فإذا تکلم أحد أو اعترض علیه،أشار للحرس فیسحبون المتکلم و یخرجونه من المجلس،و إن اقتضی السجن سجن،و قد رأینا سابقا کیف أمر بحبس ابن مهدی و کان یصلی خلفه،و من سیاق القصة یتبین لنا أن الحرس کان معه حتی

ص:386


1- (1) تاریخ بغداد ج 2 ص 299. [1]

و هو یؤم الناس فی صلاتهم،لأن مالک سأل:من هنا من الحرس؟فجاءه نفسان، و طلب منهما أن یحبسا ابن مهدی (1).

و مما یؤلم أن تتعدی الشدّة الحدود إلی القسوة التی لا علاقة لها بحکمة تشریع الحدود،کما کان علیه الحال فی قصة الرجل الذی عدا علی أخیه،حتی إذا أدرکه دفعه فی بئر،و أخذ رداءه و أبوا الغلامین حاضران،فقال جماعة من أهل العلم:

الخیار للأبوین فی العفو أو القصاص.فقال مالک:أری أن تضرب عنقه الساعة.فقال الأبوان:أ یقتل ابن بالأمس،و نفجع فی الآخر الیوم؟نحن أولیاء الدم،و قد عفونا.

فقال الوالی:یا أبا عبد اللّه،لیس ثمّ طالب غیرهما و قد عفوا.فقال مالک:و اللّه الذی لا إله إلا هو لا تکلمت فی العلم أبدا أو تضرب عنقه.و سکت،فارتجّت المدینة-فلما رأی الوالی عزمه،قدّم الغلام،فضرب عنقه،فلما سقط رأسه،التفت مالک إلی من حضر فقال:إنما قتلته بالحرابة حین أخذه ثوب أخیه،و لم أقتله قودا، إذ عفا أبواه.

و یسری تأثیر السلطة إلی منهجه،دخل علیه رجل فقال:ما تقول فیمن قال:

القرآن مخلوق؟فقال مالک:زندیق اقتلوه.فقال:یا أبا عبد اللّه،إنما أحکی کلاما سمعته؟قال:لم أسمعه من أحد،إنما سمعته منک (2).

و قال سحنون:أخبرنی بعض أصحاب مالک أنه کان عنده جالسا،فأتی رجل فقال:یا أبا عبد اللّه مسألة.فسکت ثم قال:مسألة.فسکت،ثم أعاد علیه،فرفع رأسه کالمجیب له فقال له السائل: اَلرَّحْمنُ عَلَی الْعَرْشِ اسْتَوی کیف استواؤه؟ قال:فطأطأ مالک رأسه ساعة،ثم رفعه فقال:سألت عن غیر مجهول،و تکلمت فی غیر معقول،و لا أراک إلا أمرا سوء،أخرجوه (3).و وردت سابقا بلفظ آخر،و لکن تجمعهما النهایة.و فی الحلیة:و أظنک صاحب بدعة.و أمر به فأخرج (4).

و ما کان یتهیأ لأحد بالمدینة أن یقول قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلا حبسه مالک فی الحبس،فإذا سئل فیه،قال:یصحّح ما قال ثم یخرج.و لقد کان ابن کنانة و ابن أبی

ص:387


1- (1) مالک للخولی ص 274 نقلا عن ترتیب المدارک.
2- (2) مناقب السیوطی ص 14.
3- (3) الزواوی ص 32.
4- (4) حلیة الأولیاء ج 6 ص 325.

حازم و الدراوردی و غیرهم سمعوا مع مالک من مشایخ،و ترکوا الحدیث عنهم هیبة له حتی مات ففشا ذلک فیهم (1).

و ابن فرحون ینقل فی وصفه:کان کالسلطان له حاجب یأذن علیه،فإذا اجتمع الناس ببابه أمر آذنه فدعاهم،فحضر أولا أصحابه،فإذا فرغ من یحضر،أذن للعامة.

و إذا أتاه الناس خرجت إلیهم الجاریة فتقول لهم:یقول لکم الشیخ تریدون الحدیث أو المسائل؟فإن قالوا:المسائل.خرج إلیهم و أفتاهم.و لا بد هنا من ملاحظة قول ابن القاسم الذی یورده ابن فرحون بعد أسطر قلیلة من النصوص التی تصف مالک.قال ابن القاسم:سمعت مالکا یقول:إنی لأفکر فی مسألة منذ بضع عشرة سنة،ما اتفق لی فیها رأی إلی الآن.و کان یقول:ربما وردت علیّ المسألة فأسهر فیها عامة لیلتی.

و قال ابن عبد الحکم:کان مالک إذا سئل عن المسألة،قال للسائل:انصرف حتی انظر.فینصرف و یتردد فیها!!ا ه.

أما إذا طلب الناس الحدیث،قیل لهم:اجلسوا.فیدخل مغتسله،فیغتسل و یتطیب،و تلقی له المنصة،فیخرج إلیهم،و یوضع عود،فلا یزال یتبخّر حتی یفرغ من حدیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و کان لا یوسع لأحد فی حلقته و لا یرفعه،یدعه یجلس حیث انتهی به المجلس.و مع هذا کان إذا استزاده أحد من الناس فی الحدیث یشیر إلی السودان الذین یقفون عند رأسه،فیخرجونه من الدار (2).

و کان یلبس طیلسانا طرازیا و قلنسوة مترّکة و ثیابا مرویة جیادا،و فی بیته وسائد یقعد علیها أصحابه و قوّم الطیلسان بخمسمائة،و کان یقع جناحه علی عینیه،و قیل فی هذه الهیئة:إنه أشبه شیء بالملوک.و وصف منزله بأنه کان مبسوطا بأنواع المعارش (3).

و لقد کان متأنقا فی ملبسه و مأکله أیضا،فقد مات و ترک مائة عمامة و خمسمائة زوج نعل،و کان یهدی إلیه الهدایا الفاخرة،و اشتهی یوما کساء قرمزیا،فأهدی إلیه سبعة منها.

و أهدی إلیه یحیی بن یحیی النیسابوری هدیة باع من فضلتها ثمانین ألفا.قال

ص:388


1- (1) الدیباج ص 24.
2- (2) الانتقاء 42.
3- (3) البدایة و النهایة ج 10 ص 174. [1]

قتیبة:کنّا إذا أتینا مالکا خرج إلینا مطیبا،قد لبس من أحسن ثیابه،فتصدّر و دعا بالمراوح،فأعطی کل إنسان مروحة (1).

و قد نصح بعضهم مالکا بالتواضع،و ترک ما هو علیه.فکتب إلیه یحیی بن یزید بن عبد الملک النوفلی المدنی-و کان من أهل الحدیث-:بسم اللّه الرحمن الرحیم،و صلی اللّه علی رسوله محمد فی الأولین و الآخرین،من یحیی بن یزید بن عبد الملک إلی مالک بن أنس،أما بعد فقد بلغنی أنک تلبس الدقاق،و تأکل الرقاق، و تجلس علی الوطء،و تجعل علی بابک حاجبا،و قد جلست مجلس العلم،و قد ضربت إلیک المطی،و ارتحل إلیک الناس،و اتّخذوک إماما رضوا بقولک؛فاتق اللّه یا مالک،و علیک بالتواضع،کتبت إلیک بالنصیحة کتابا ما أطلع علیه غیر اللّه سبحانه و تعالی و السّلام.

و یکتب إلیه مالک کتابا یقرّ فی آخره بما آخذه به یحیی و یقول:فنحن نفعل ذلک،و نستغفر اللّه تعالی،فقد قال اللّه تعالی: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ و إنی لأعلم أن ترک ذلک خیر من الدخول فیه (2).

و الخلاصة،إننا لم نجد عند أحد من رؤساء المذاهب أو العلماء الذین کان لهم حظ وافر من تقریب السلطة لهم ما وجدناه عند مالک،فهذا الإمام أحمد کان یتحلی بروح إنسانیة عالیة بعیدة عن المیل و العنف-مع تشدده-فقد سئل یوما عن حبس أهل البدع،فأنکر ذلک بحجة أن لهم والدات و أخوات.أی أنه کره أن یتعدی عقابهم إلی الأبریاء من ذویهم ممن لیس لهم ذنب أو جریمة،و ما خلا القول بخلق القرآن و الرؤیة،فإنا نری الإمام أحمد یسمح بالمناظرة و القول.

و من العجب أن یستجیب رجل الدین للدولة و یؤثر فیه میلها إلیه بحکم مصالحها و احتضانها له لأغراضها،و یسمح لنفسه بأن یعامل الآخرین بهذا الشکل من النکال.فیشمل ذلک طلبة العلم أو العلماء،و أنهم-کما رأینا-ترکوا أن یحدّثوا بشیء لأنه کان یعاقب من یروی عن النبی حدیثا فیسجنه ما لم یصح عنده.فما ذا یعتذر له بذلک؟فلیسوا أصحاب جدل و لا شبهة هوی أو بدعة،و إنما علماء عاصروه و هم أعلم منه أو فی طبقته،و ما علمنا ذلک إلاّ من شئون الملوک و سلاطین الزمان.و لکن

ص:389


1- (1) تذکرة الحفّاظ ج 1 ص 196.
2- (2) إحیاء علوم الدین ج 1 ص 114. [1]

أدی رضا السلطان و احتضانه لمالک إلی أن یکون مثله فیزدحم الناس علی بابه،و یقف الحجّاب علیها یمنعونهم من الدخول علیه،فإذا أذن لهم ازدحموا.

قال أبو مصعب:کانوا یزدحمون علی باب مالک،فیقتتلون علی بابه من الزحام،و کنّا عنده فلا یکلم هذا هذا،و لا یلتفت ذا إلی ذا،و الناس قائلون برءوسهم هکذا(مبالغة فی الإنصات)و کان الأمراء تهابه،و هم مستمعون،و کان یقول فی المسألة:لا أو نعم.فلا یقال له:من أین لک هذا.

و قد أنکر علیه بعض العلماء ما رأوه من حاله و أعماله،و ترک الحدیث عنه الحکم بن نافع الحمصی و هو أحد العلماء،و من احتج الشیخان بحدیثه،فإنه رأی مالکا و لم یسمع منه لما رأی من الحجّاب و الفرش (1).

و تکلم فیه أیضا إلی جانب ابن أبی ذؤیب و ابن إسحاق عبد العزیز بن أبی سلمة و عبد الرحمن بن زید بن أسلم و ابن أبی یحیی و ابن أبی الزناد،و عابوا أشیاء من مذهبه،و تکلم فیه غیرهم.و تحامل علیه الشافعی و بعض أصحاب أبی حنیفة،و عابه قوم فی قعوده عن مشاهدة الجماعة فی مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (2)و قال الخطیب:قد ذکر بعض العلماء أن مالکا عابه جماعة من أهل العلم فی زمانه بإطلاق لسانه فی قوم معروفین بالصلاح و الدیانة و الثقة و الأمانة (3).

و ما یرویه الإمام الشافعی فی أول اتصاله بمالک یؤید ذلک،عند ما أخذ من والی مکة وصیة إلی والی المدینة یطلب منه إیصال الشافعی إلی مالک.

قال الشافعی:

فأوصلت الکتاب إلی الوالی،فلما قرأه قال:یا فتی،إن مشیی من جوف المدینة إلی جوف مکة حافیا راجلا أهون علی من المشی إلی باب مالک بن أنس، فلست أری الذلة حتی أقف علی بابه.فقلت:أصلح اللّه الأمیر إن رأی أن یوجه إلیه لیحضر؟قال:هیهات،لیت إنی إذا رکبت أنا و من معی،و أصابنا من تراب العقیق نلنا بعض حاجتنا.قال:فواعدته العصر،و رکبنا جمیعا،فو اللّه لکان کما قال،لقد أصابنا

ص:390


1- (1) میزان الاعتدال 272/1.
2- (2) جامع بیان العلم ج 2 ص 161. [1]
3- (3) تاریخ بغداد ج 1 ص 223. [2]

من تراب العقیق.قال:فتقدم رجل،فقرع الباب،فخرجت إلینا جاریة سوداء،فقال لها الأمیر:قولی لمولاک أنی بالباب.قال:فدخلت،فأبطأت،ثم خرجت فقالت:

إن مولای یقرئک السلام و یقول:إن کانت مسألة فارفعها فی رقعة یخرج إلیک الجواب،و إن کان للحدیث فقد عرفت یوم المجلس فانصرف.فقال لها:قولی له:

إن معی کتاب والی مکة إلیه فی حاجة مهمة.فدخلت و خرجت و فی یدها کرسی، فوضعته،ثم إذا أنا بمالک...إلخ الروایة (1).

و لنتأمل تهیّب الوالی من الوصول إلی مالک،فهو أمر غیر معهود،بل و غریب، و لکن مصلحة الملوک اقتضت ذلک.فقد نقل أن المنصور کان یطلب من مالک أن یبدی رأیه فی ولاته علی الحجاز.و قال له:

إن رابک ریب من عامل المدینة أو عامل مکة أو أحد من عمّال الحجاز فی ذاتک أو ذات غیرک،أو سوء أو شرّ فی الرعیة،فاکتب إلیّ بذلک،أنزل بهم ما یستحقّون.

فامتناع مالک فی أول الأمر کان لظنّه أن الطارق من طلبة العلم.أما عند ما علم بأنه من قبل والی مکة فقد تغیّر الحال،لأن ذلک من شئون الدولة.و لذلک فإن العلم یفرض علینا أن نستغرب صدور مثل هذه التصرفات فی السلوک و المظهر من رجل له مکان الصدارة فی مجلس العلم.و یبوّئ نفسه مقام المرجعیة لأحکام الشریعة،لأنها أمور لا یتوقع صدورها إلا من الحکام الذین عدمت عندهم مقاییس العدل و المساواة.

و علی أی حال،فإن الإمام مالک انتشر ذکره فی الحجاز بعوامل السلطة،فقرّبه الحکّام و الزموا الناس بالرجوع إلیه،فأقبلت علیه الدنیا و استجاب هو لأشکال هذا الإقبال.

و نری فیما قدّمناه کفایة،و قد أصبحت الصورة عن الإمام مالک متکاملة،و کان القسم الأول فی الجزء الثانی قد ضمّ الأمور الفقهیة،و لم نأت هنا علی ما بحثناه فی السابق من الجوانب التی تتعلق بالمذهب المالکی.

ص:391


1- (1) معجم الأدباء 275/17.و [1]مناقب الشافعی للفخر الرازی و توالی التأسیس.
وفاته

:

کثر الاختلاف فی وفاة مالک کاختلافهم فی ولادته،فقیل أنه مات فی 10 ربیع الأول،و قیل 14 منه،و قیل 13،و قیل 12 من شهر رجب سنة 199 ه أو سنة 198 ه و قیل من صفر 199 ه أو فی سنة 180 ه.

و شیّع جثمانه،و صلّی علیه الخلیفة العباسی،و دفن بالبقیع،و نصبوا علی قبره فسطاطا،و رثاه الشعراء منهم ابن أبی المعافی:

ألا قل لقوم سرّهم فقد مالک إلا إن فقد العلم إذ مات مالک

فمالی لا أبکی علی فقد مالک و فی فقده سدّت علینا المسالک

و مالی لا أبکی علیه و قد بکت علیه الثریا و النجوم الشوابک

و قالوا أن امرأة رثته بقولها:

بکیت بدمع و اکف فقد مالک و فی فقده ضاقت علینا المسالک

و ما لی لا أبکی علیه و قد بکت علیه الثریا و النجوم الشوائک

إلی آخر الأبیات و هی مشابهة لأبیات ابن أبی المعافی،و لا نستغرب هذا الاختلاف،فقد اشتبه الرواة أو نسبوا شیئا غیر صحیح.

أولاده و أحفاده

:

خلف مالک ولدین هما:یحیی و محمد،و ابنة اسمها فاطمة،زوّجها لابن أخته إسماعیل بن أبی أویس،و کان یحیی یروی عن أبیه نسخة من الموطأ و هی التی تروی عنه بالیمن.

قال العقیلی:إن یحیی بن مالک حدّث عن أبیه بالمناکیر (1)و قال القروی:کنا نجلس عند مالک،و ابنه یحیی یدخل و یخرج،و لا یقعد،فیقبل علینا مالک،و یقول:

إن مما یهون علیّ أن هذا الشأن لا یورّث،و أن أحدا لم یخلف أباه و مجلسه إلا عبد الرحمن بن القاسم.

ص:392


1- (1) الذهبی،میزان الاعتدال ج 3 ص 301.

و قال مصعب الزبیری:کان محمد بن مالک یجیء و هو یحدّث و علی یده باشق و نعل کیسانی و أرخی سراویله علیه (1).

و کان لمحمد هذا ولد اسمه أحمد،سمع من جده مالک،و هو معدود من رواته،و لکنهم ضعّفوه و ترکوه،بل ترکوا أباه و عمه کذلک.

و لیس لمالک غیر هؤلاء،و قیل:إن له ولدا رابعا اسمه حمّاد و لیس له ذکر.

و لا عقب لمالک یذکر فی التاریخ.

ص:393


1- (1) الدیباج المذهب 18.

ص:394

الإمام الشافعی

اشارة

لم نفرغ من حیاة الإمام الشافعی ببحثنا عنه فی الجزء الثالث،لأن کثرة ما ذکر عنه،و سعة مواطن حیاته،و تعدد مزایاه یحتاج إلی استفاضة و إسهاب،و أغلب المسائل التی تتعلق بمراحل عمره لفّها اللّبس و أحاطتها التناقضات،لأن الحقیقة غشیتها سحب العاطفة،أو لوّنتها ردود الأفعال المختلفة.و شعورنا بإجلال شخصیة أو حبّها ربما یکون لعوامل هی بعیدة عن واقعها،کما أن البعد عنها و النفرة منها ربما تکون لردّ فعل و هی لا تستحق ذلک،و ربما یکون أیضا عن واقع یحمل علی عدم الرضا و یبعث علی النفور إذا کان الشعور نابعا عن عقل و رویّة،کما تبرز ما للشخصیة من خصال.أما إذا غلبت المیول و سیطرت العاطفة أو تحکمت ردود الفعل،فهناک تقع الحیرة،و یحدث التناقض،لأن الحقیقة استکنّت بمعزل عن العاطفة و ردود الأفعال.

و ها نحن نستأنف البحث عن حیاة الإمام الشافعی بمنهجنا القائم علی اتباع الحق و التماس الحقیقة.

نسبه

:

هو أبو عبد اللّه محمد بن إدریس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبید بن عبد یزید بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.

ولد سنة 150 ه نهار الجمعة آخر یوم من رجب،و قیل فی الیوم الذی مات فیه أبو حنیفة،و قیل غیر ذلک علی اختلاف الأقوال.

و المطلب الذی ینتهی إلیه نسب الشافعی،هو أحد أولاد عبد مناف الأربعة.

و هم المطلّب و هاشم و عبد شمس جدّ الأمویین و نوفل.و المطلّب هو الذی ربّی عبد المطلب ابن أخیه هاشم جدّ النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

ص:395

فالشافعی بهذا قرشی النسب،یلتقی مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی عبد مناف،و هذا ما علیه الأکثر.

و یأبی التعصب إلا الغلوّ.فقالوا:لم تنل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم طهارة فی مولده و فضیلة فی آبائه إلا و هو قسیمه فیها،إلی أن افترقا من عبد مناف،فزوّج المطلب ابنه هاشما الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف،فولدت له عبد یزید جدّ الشافعی.و کان یقال لعبد یزید المحض لا قذی فیه،فقد ولد الشافعی الهاشمان:هاشم بن المطلب، و هاشم بن عبد مناف.و الشافعی ابن عم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و ابن عمته،لأن المطلب عمّ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و الشفاء بنت عبد مناف أخت عبد المطلب عمّة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و لم یکن نسب الشافعی مسلّما به و مجمعا علیه،فذهب بعضهم إلی أن الشافعی لم یکن قرشیا بالنسب،بل کان قرشیا بالولاء.فهو مولی لهم و لیس منهم،لأن شافعا جدّه کان مولی لأبی لهب،فطلب من عمر أن یجعله من موالی قریش فامتنع،فطلب من عثمان ذلک ففعل.و نسب ذلک إلی المالکیة و الحنفیة (1).

أما أمه فإنها من الأزد و کنیتها أم حبیبة.

و قیل إنها أسدیة،مستدلین علی ذلک بما روی عن الشافعی أنه لما قدم مصر سأله بعضهم أن ینزل عنده،فأبی و قال:أنزل علی أخوالی الأسدیین.و نزل علیهم (2).فیما یستدل بروایة أبی الیمن یاسین بن زرارة و مکانها مصر،أنها أزدیة و هی الأظهر.و قال:أرید أن أنزل علی أخوالی الأزد.فنزل فیهم.

و تحلّق العواطف بأصحابها،و تنأی بهم عن الواقع بجناحها،فیدّعون أنها قرشیة علویة.فقیل:إنها فاطمة بنت عبد اللّه أو عبید اللّه بن الحسین بن الحسن بن علی بن أبی طالب.قال الرازی:و هذا القول شاذ،رواه الحاکم و ضعّفه البیهقی، و ذهب المقری إلی نفیه،و لکن السبکی ذهب إلی تأییده،و لیس له شاهد علی ذلک.

و قیل أیضا:إنها فاطمة بنت عبد اللّه المحض بن الحسن المثنی بن الحسن السبط (3).و الحافظ الشافعی ابن کثیر یقول بأزدیة أم الشافعی کما هو المعروف،

ص:396


1- (1) مناقب الشافعی للفخر الرازی 3-5.و هامش الانتقاء.و الشافعی لمحمد أبو زهرة.
2- (2) طبقات الشافعیة ج 1 ص 100. [1]
3- (3) مناقب الرازی 6.و طبقات السبکی ج 1 ص 100-249.و توالی التأسیس ص 46.و مشارق الأنوار للعدوی ص 181 و إسعاف الراغبین للصبّان و غیرها.

و یروی أنها قد رأت حین حملت به کأن المشتری خرج من فرجها حتی انقضّ بمصر، ثم وقع فی کل بلد منه شظیة! أما أبوه إدریس،فلم یفصح التاریخ عن شیء من حیاته و سیرته و وفاته،و لم یحتفظ إلا بالاسم فقط،فلیس له ترجمة فی جمیع الکتب التی ذکرت الشافعی،و لا فی غیرها من کتب الحدیث و الرجال و الأدب.

و ما ذکر عنه أو أشیر إلیه بعید عن الصحة،کقول هدایة اللّه الحسینی أن والد الشافعی سلّمه للتفقه إلی مسلم بن خالد الزنجی-مفتی مکة-و هذا غیر صحیح بالإجماع،لأن الروایات متضافرة علی أن الشافعی نشأ یتیما فی حجر أمه،و تولت تربیته،و عند ما خشیت علیه الضیعة أرسلته إلی مکة و هو ابن عشر سنین.

فالشافعی لم یتربّ فی ظلال أبیه،و لم یتولّ ذلک إلا أمه،و لا نعلم أنه عرف أباه و حدّث عنه،کما لا نعلم هل ولد الشافعی فی حیاة أبیه أم أن أباه مات و هو حمل فی بطن أمه؟و هل أن إدریس کان فی مکة و رحل إلی الیمن،و ما هی أسباب رحلته؟ و جاء فی مقدمة کتاب الأم:أن والد الشافعی کان رجلا حجازیا فقیرا،خرج مهاجرا من مکة إلی الشام،و أقام بغزّة و عسقلان ببلاد فلسطین،ثم مات بعد ولادة الشافعی.

لکن هذا القول لم یستند إلی نص تاریخی.و أیا کان،فالروایات مختلفة و الأقوال متفرقة فی ولادته و محلها،و هجرته و وقتها،و کذلک رحلاته المتعددة و تحصیله للعلم بأی زمن،فهل کان من صغر سنه أم بعد نشأته،و کذلک دخوله إلی مکة،فقیل إنه لما بلغ من العمر سنتین،و أصبح قرة عین والدته،فرأت أن تحمله إلی مکة المکرمة صونا لنسبه من الضیاع إذا بقی فی غزة،فهاجرت به،و نزلت بجوار الحرم بحی یقال له(شعب الخیف)و لمّا ترعرع،أرسلته أمه إلی الکتّاب،و حفظ القرآن و عمره سبع سنوات،و قیل:إن الشافعی ولد بغزّة،و حمل إلی عسقلان، و دخل مکة و هو ابن عشر.

طلبه العلم

:

و قد تکون هذه النقاط غیر مهمة فی سیاق الأحداث أحیانا إذا ما جاءت مجردة لا یعتمد علیها جانب من السیرة المتعلقة بها،أما فی حیاة الإمام الشافعی فهی تکتسب

ص:397

أهمیة لأن الاختلاف کبیر فی تحدید سنّ تأهله للعلم أو تبوئه مکان الفتیا،و قد قادت العواطف و أدی التعصب إلی إظهار علمه و اجتهاده فی سن مبکرة أو نبوغه فی فترة قصیرة (1).

و الذی نستظهره أن اتجاه الشافعی لطلب العلم کان فی العقد الثالث من عمره، و علی روایة ابن کثیر أن بقاءه فی البادیة عشرین سنة،فیکون طلبه للفقه فی العقد الرابع،أی بعد تجاوزه الثلاثین من عمره،فتکون ملازمته لمسلم بن خالد الزنجی الذی أخذ الشافعی عنه الفقه (2)قصیرة جدا.حیث روی أن مسلم بن خالد قال له:

أفت.و هو ابن خمس عشرة سنة،و فی روایة الخطیب البغدادی عن الحمیدی ما یشعر أن مسلم الزنجی مرّ علی الشافعی و هو یفتی (3)و أن الشافعی یقوم بالفتیا فعلا،و لیس کما فی الروایات الأخری أن مسلما أذن للشافعی بالفتیا بعد درسه علیه و ملازمته له.

و کما قلنا فی بدء الحدیث عن الإمام الشافعی،فإن العواطف أو ردودها العکسیة هی وراء مثل هذه المبالغات،أو الاتهامات،و ما بین أیدینا من الأدلة التاریخیة،یصرّح بأن الشافعی لم یعرف بالفقه إلا بعد مدة طویلة،مع أن الحمیدی لم یدرک مثل هذا التاریخ،و أن الخطیب بعد نقل الحکایة یقول:و لیس ذلک بمستقیم لأن الحمیدی کان یصغر عن إدراک الشافعی و له تلک السن.

و مهما یکن من أمر،فإن الشافعی لم یعرف الفقه و الحدیث و هو فی مکة.

و لکن رحل إلی المدینة،و واصل دراسته،فأصاب الشهرة بعد المدة التی استغرقها طلب العلم.

قال ابن حجر:انتهت رئاسة الفقه فی المدینة إلی مالک،و رحل الشافعی إلیه و لازمه،و أخذ عنه.و انتهت رئاسة الفقه إلی أبی حنیفة،فأخذ عن صاحبه محمد حملا لیس فیها شیء إلا و قد سمعه علیه،فاجتمع له علم أهل الرأی و علم أهل الحدیث.

ص:398


1- (1) انظر التفاصیل:الإمام الصادق و المذاهب الأربعة،مجلد 2 جزء 3. [1]
2- (2) مسلم بن خالد بن سعید مولی لآل سفیان بن عبد الأسد المخزومی و هو من الشام،کان مسلم أبیض مشربا حمرة،و الزنجی لقب لقب به و هو صغیر.و فی الطبقات الکبری لابن سعد: [2]کان کثیر الحدیث،کثیر الغلط و الخطأ فی حدیثه،و کان فی بدنه نعم الرجل،و لکنه کان یغلط ا ه.ضعّفه أبو داود و غیره.
3- (3) تاریخ بغداد ج 2 ص 64. [3]

لأن الشافعی-مع أخذه العلم علی مالک-کان یتمتع بقدرة علی المناظرة و معرفة باللغة و مزایا أخری تبعده عن حدود الروایة و التقیّد بها فقط.قال هارون بن سعید الأیلی:(لو أن الشافعی ناظر علی هذه العمود التی من حجارة أنها من خشب، لغلب لاقتداره علی المناظرة).و نری أن الرحلة إلی العراق کانت بدوافع علمیة،بعد أن أتقن علم الحدیث،لیطلع علی أهل الرأی و هم فی مصرهم فقال:(سمّیت ببغداد:ناصر الحدیث)فیما کان إقباله علی الأخذ من محمد بن الحسن یفوق إقباله فی المدینة علی أصحاب الحدیث.

و مما لا شک فیه أن الشافعی کان ذکیا فی صباه،إلی جانب الحفظ،فکان معلمه کلما علّم صبیا شیئا کان الشافعی یتلقف ذلک الکلام،ثم إذا قام المعلم من مکانه،أخذ الشافعی یعلّم الصبیان تلک الأشیاء،فنظر المعلم فرأی الشافعی یکفیه أمر الصبیان أکثر من الأجرة التی کان أهل الشافعی لا یجدونها لفقر حالهم.و کان فی کل أحواله و هو فی طلب العلم فهما مدرکا.

لقد أدی الإعجاب بالشافعی و التعامل بالمذهبیة إلی تکلّف أمور لا نشکّ بأنها أصبحت من أمارات السیادة و علامات الرئاسة،رغم علمهم بأن استسهال الوسائل کالمنامات لإیجاد الصلة بالنبی محمد لا یخفی حقیقة الغرض و البواعث،بدلیل تقلیدهم غیرهم فیما یعملون،فهم لیسوا بدعا فی ذلک،و سیر رؤساء المذاهب التی أکملها الأصحاب و الأتباع،ممن سبق الشافعی قد أخذت بالظهور فی المجالس و الحلقات،و عانی من بواعثها المتعصبة الإمام الشافعی نفسه عند ما استقرّ بمصر أو خلال وجوده فی بغداد.

و قد کان أولی بأهل العلم أن یدعوا الشافعی یأخذ منزلته بما وهبه اللّه من علم، و یتبوّأ مکانته بما یستحقّه.فالمزنی یقول:رأیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی المنام،فسألته عن الشافعی.فقال لی:من أراد محبتی و سنّتی فعلیه بمحمد بن إدریس الشافعی المطّلبی فإنه منی و أنا منه.

و بعض هذه المنامات یتجاوز حدود اللیاقة اللازمة لذکر المصطفی،مما یجعل منام المزنی الآنف متمیزا بمراعاة الحضرة النبویة.أما أحمد بن حسن الترمذی-علی ما رواه الخطیب البغدادی-ففیه من الإساءات ما یحتاج إلی قول أوسع و أشمل.قال:

کنت فی الروضة فأغفیت،فإذا النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قد أقبل،فقمت إلیه فقلت:یا رسول اللّه قد

ص:399

کثر الاختلاف فی الدین،فما تقول فی رأی أبی حنیفة؟قال:أف و نفض یده.قلت:

فما تقول فی رأی مالک؟فرفع یده و طأطأ و قال:أصاب و أخطأ.قلت:فما تقول فی رأی الشافعی؟قال:بأبی ابن عمی-هکذا العبارة فانظر-أحیی سنتی (1).

و فی تفسیر الأحلام-أو تعبیرها-التی تروی عن الشافعی نفسه یذهبون بعیدا أیضا،فعن المزنی:سمعت الشافعی یقول:رأیت علی بن أبی طالب فی النوم، فسلّم علیّ و صافحنی،و خلع خاتمه و جعله فی إصبعی،و کان لی عم ففسّرها لی فقال لی:أما مصافحتک لعلی فأمان من العذاب،و أما خلع خاتمه فجعله فی أصبعک فسیبلغ اسمک ما بلغ اسم علی فی الشرق و الغرب!؟ و مما تواضع علیه منتسبو المذاهب کعلامات للرئاسة إلی جانب المنامات-و قد أطلعنا علی المنامات التی وضعت لکل رئیس مذهب-هو الحدیث النبوی بحق رئیس المذهب،فمنها ما یصرّح بالاسم و الصفة،و منها ما یتبنّی تخصیصه علی صرف الصفات الواردة فیه بدون دلیل.و قد کانت حصة الإمام الشافعی الحدیث:(اللهم اهد قریشا فإن عالمها یملأ طباق الأرض علما،اللهم کما أذقتهم عذابا فأذقهم نوالا).و لا نرید أن نناقش الأحادیث الأخری و باختلاف الألفاظ،کما نترک الخوض فی طرقها و أسانیدها.و نتنزل فالحدیث عن عالم من قریش إن لم یوقت فهو یتناول عالما من قریش.

و نتفق فی القول أنه:(علامة بیّنة للممیز،أن المراد بذلک رجل من علماء هذه الأمة من قریش قد ظهر علمه،و انتشر فی البلاد،و کتبوا تآلیفه کما تکتب المصاحف، و استظهروا أقواله).و إلی هنا فإن من أئمة قریش و علمائها من هو أحق و أولی من الشافعی.و ما القول:بأن هذه صفة لا نعلمها قد أحاطت إلا بالشافعی.إلاّ تحکّم بدون دلیل،لأن الدلیل مع منهم أعلم من الشافعی و أحق بهذه الصفة،ممن وضع اللّه فیهم رسالته و أورثهم أمین السماء علمه و ولایته.

فقد أحتجّ به الإمام علی یوم حروراء،عند ما بعث إلیهم ابن عباس و قال:«قل لهم:علام تتهمونی و أشهد،فسمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول ذلک».

و وجوه الاستدلال لدیهم تجهر بأن القصد هو الانتصار فی معرکة تنازع

ص:400


1- (1) تاریخ بغداد ج 2 ص 69. [1]

المذاهب،فمن نصوصهم:(أن هذا الخبر یتناول رجلا اجتمعت فیه خصال ثلاثة إحداها:أن یکون من قریش،و بهذا الطریق یخرج عن هذا الحدیث مالک و أبو حنیفة و أحمد بن حنبل و أبو یوسف و محمد.و ثانیهما:أن یکون ذلک الرجل کثیر العلم بحیث یکون قد وصل علمه إلی أهل الشرق و الغرب،و الشخص الموصوف بهذه الصفات لیس إلا الشافعی.و ذلک لأن جماعة من رجال قریش کانوا قد بلغوا فی العلم مبلغا،إلا أن أحدا منهم لم یبلغ علمه إلی جمیع أهل الأرض،و أما الشافعی فإنه هو الذی صنّف فی أصول الشریعة و فروعها،و انتشرت تلک التصانیف و العلوم فی الشرق و الغرب،و لم یبق بیت فی الدنیا من بیوت الموافقین و المخالفین و المنکرین إلا وصلت تلک العلوم و الکتب فیه،أما الأصحاب و الأتباع و الموافق فلتقریر الإثبات،و أما المخالفون فللطعن فیه،و الجواب عنه،و الناس کتبوا تلک الکتب کما تکتب المصاحف التی تتلی و الأخبار التی تروی،و کل یوم تزداد قبولا و إقبالا.فکان اللائق بقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و إن عالمها یملأ طبقات الأرض علما لیس إلا الشافعی)ا ه.

و لسنا بصدد الإطالة فی البحث عن ثمرات العواطف،و لکنا نحاول هنا أن نأتی علی الأشیاء التی نستکمل بها ما بحثناه من حیاة الشافعی فی القسم الأول،و قد أخذنا بتجنب التکرار إلا ما کان لضرورة اقتضتها (1).

و قد أشرنا فی القسم الأول أن التأسی بأئمة المذاهب کان وراء هذه التکلّفات و الأقوال،فأبو حنیفة قتل مسموما بدعوی أنه لم یقبل القضاء.و مالک بن أنس ضرب بالسیاط لفتوی تخالف السلطان،أو لاشتراکه فی ثورة العلویین.و من بعده أحمد بن حنبل امتحن فی مسألة خلق القرآن.فإذن لم یبق من أمارات الرئاسة إلا المحنة.فبادر کتّاب المناقب إلی ذلک،و قد اطلعت علی الطعون التی وجهناها إلی الروایة فی الجزء الثالث من الکتاب،و مهما یکن من قول فإن المناقب احتوت علی باب یحکی المحنة التی مرّ بها الإمام الشافعی،و عقدت فصول فی بیانها و کیفیة وقوعها،و أشهرها فی کتبهم:(إنه جیء بالشافعی رضی اللّه عنه إلی العراق،و أدخل لیلا،و کان فی رجله حدید،لأنه کان من أصحاب عبد اللّه بن الحسن بن علی بن أبی طالب،و کان لیلة الاثنین لعشر خلون من شعبان سنة أربع و ثمانین و مائة و فی ذلک الوقت کان أبو

ص:401


1- (1) انظر التنبیه فی الجزء الثالث.

یوسف علی قضاء القضاة،و محمد علی المظالم).و لا نزید فی الاقتباس علی هذا، لأن وفاة أبی یوسف مع الاختلاف فی سنة 182 أو 183 ه و الثابت أنه لم یلتق بالشافعی،و تختلف الروایات هل حمل من الیمن أو من مکة؟و هل کان فی الیمن والیا أو مقیما؟ و یضمّن ابن کثیر روایته إشارة إلی موت أبی یوسف،و أن الاجتماع اقتصر علی محمد بن الحسن،و تبین للرشید براءته مما نسب إلیه،و أنزله محمد بن الحسن عنده و أکرمه (1).

و لا یغیر ذلک منه أن المحنة قد وضع حکایتها عبد اللّه بن محمد البلوی،و قد تضمّنت أشیاء کثیرة لا أصل لها (2).و لم تکن إلا من تلاطمات المناقبیة،و موجات العواطف،و لا نذکر ما للشافعی فیه تضلّع و بصر کالأحکام و الشعر و صنوف الأدب الأخری التی جاءت علی لسان الشافعی و هو یجیب الرشید،لکنا نذکر طرفا من أسئلة الرشید و أقوال الشافعی و هو یجیبه.قال الرشید:فکیف علمک بالنجوم؟قال الشافعی:أعرف الفلک الدائر و النجم السائر،و الرجوع و الاستقامة و السعود و النحوس و هیئاتها و طبائعها و ما أهتدی به فی بر و بحر،و ما یستدلّ به فی أوقات الصلاة و أحوال الفصول و الأوقات.قال الرشید:فکیف علمک بالطب؟قال الشافعی:أعرف ما قالت الروم مثل أرسطاطالیس و بقراط و جالینوس و قرقوریوس و ابنه قلیس بلغاتها،و ما نقله أطباء العرب و قننته فلاسفة الهند،و نمّقته علماء الفرس مثل جاماسب و ساهمرد و بزرجمهر...الخ الروایة.إلی غیرها من رغبات التابعین الذین یحملهم الهوی علی وضع صورة لشخصیة محبوبهم و مقتداهم تفوق مواهب الآخرین و قدرات البشر علی التعلم مما لم یدّعیه الشافعی و لم ینطق به.فقالوا فی معرفته بالطب أنه کان یقول:

العلم علمان:علم الأبدان و علم الأدیان.ثم تارة یقول:علم الأبدان هو الطب، و علم الأدیان هو الفقه.و أخری یقول:علم الأبدان هو الفقه،لأنه یحثّ علی التکالیف المتوجهة علی الأعضاء و الجوارح.و علم الأدیان هو علم الباطن،و هو معرفة اللّه تعالی و کیفیة الدواعی و الصوارف و النیات فی الأعمال.

ص:402


1- (1) البدایة و النهایة ج 10 ص 252. [1]
2- (2) انظر قصتها فی الحلیة ج 9 ص 85.و المناقب للرازی ص 23-27.و معجم الأدباء ج 17.

و لم یدعوا أقواله فی الفرق بین الفقه و الطب و منازعهما علی ما وردت به مما یعلمه کل فقیه عالم بالأحکام عارف بالحدیث،غیر أنهم ادعوا معرفته بالطب و احتجوا بمزید من الأقوال کقوله:لا تسکن بلدة لا یکون فیها عالم یخبرک عن دینک،و لا طبیب یخبرک عن أمر بدنک.و إنه کان یتلهّف علی إعراض المسلمین عن علم الطب.

و إذا نظرنا إلی عصر الرشید،رأینا أن ظهور النصاری بالطب،و دخولهم فی خدمة الرشید،و حذقهم فی ذلک قد حمل المسلمین علی التلهف علی کون الطب فی غیر المسلمین،و أن ادعاءهم مبنی علی استشعار المسلمین هذه الحاجة.فالشافعی یعرف الطب فی هذه الظروف التی أدت إلی استخدام النصاری،لأن المسلمین جهلوا ما فی دینهم من وجوه الاهتمام بالبدن و وصایا الطب،فقد روی الثعلبی فی تفسیره أن بختیشوع بن جبریل المتطبب النصرانی کان یخدم الرشید،و کان حاذقا،فقال یوما بحضرة الرشید لعلی بن الواقد الواقدی:لیس فی کتابکم من علم الطب شیء، و العلم علمان علم الأبدان و علم الأدیان.فقال له علی بن واقد:قد جمع اللّه الطب فی نصف آیة من کتابه و هو قوله تعالی: کُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا فقال النصرانی:أو لا یروی عن نبیکم شیء من الطب؟فقال الواقدی جمع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم الطب فی کلمات و هی قوله:«المعدة بیت الداء،و الحمیة رأس کل دواء،و أعط کل بدن ما عوّدته».

فقال النصرانی:ما ترک کتابکم و لا نبیکم لجالینوس طبا (1).

و بروایة المحنة تکتمل شروط الرئاسة المذهبیة،و بتفاصیل تفرّده فی النبوغ و المعرفة یصبح مؤهلا إلی أن یبعث لهذه الأمة،و یکون بمقتضی روایة أبی هریرة أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم قال:«یبعث اللّه لهذه الأمة علی رأس کل مائة سنة من یجدّد لها دینها» هو المقصود،و ینسب إلی أحمد بن حنبل ترویج ذلک و أنه قال:نظرت فی سنة مائة فإذا هو رجل من آل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و نظرت فی رأس المائة الثانیة فإذا هو رجل من آل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و سلّم محمد بن إدریس رحمه اللّه.

ثم یمضون،فیضعون فی رأس کل مائة أحد شیوخهم من الشافعیة،و قد

ص:403


1- (1) المواعظ العددیة.

یختلفون إذا تکافأ الاثنان کأبی حامد الاسفرایینی و سهل بن أبی سهل الصعلوکی أو الفخر الرازی و الرافعی (1).

بین الحدیث و الرأی:

ذکرنا سابقا رأی ابن حجر فی اجتماع الحدیث و الرأی فی الشافعی،و خلصنا إلی أن الرحلة إلی العراق حقیقتها کانت لدوافع علمیة،لأن الشافعی-و هو یتلقی علی مالک-کان قادرا علی المناظرة،و مستعملا الرأی الذی یخالف به أستاذه،و یقوم بالاستنباط،فقد روی عنه أنه کان جالسا بین یدی مالک بن أنس،فجاء رجل إلی مالک فقال:یا أبا محمد،إنی رجل أبیع القمری،و إنی بعت یومی هذا قمریا،فبعد زمان أتانی صاحب القمری و قال:إن قمریک هذا لا یصیح،فتشاجرنا إلی أن حلفت بالطلاق أن قمریی ما یهدأ من الصیاح؟فقال مالک:طلقت امرأتک.فانصرف الرجل حزینا،فقام الشافعی إلیه و قال للسائل:أ صیاح قمریک أکثر من سکوته أم سکوته أکثر؟فقال السائل:بل صیاحه.فقال الشافعی:انصرف،فإن زوجتک ما طلقت.ثم رجع الشافعی إلی الحلقة فعاد السائل إلی مالک.فقال:یا أبا عبد اللّه تفکر فی واقعتی لتستحق الثواب.فقال مالک:الجواب ما تقدم.فقال:فإن عندک من قال الطلاق غیر واقع.فقال مالک:و من هو؟فقال السائل:هو هذا الغلام.و أومأ إلی الشافعی،فغضب مالک علیه و قال له:من أین لک هذا الجواب؟فقال الشافعی:إنی سألته أن صیاحه أکثر أم سکوته؟فقال:إن صیاحه أکثر.فقال مالک:و هذا الدلیل أقبح،و أی تأثیر لکثرة صیاحه أو قلة سکوته فی هذا الباب؟فقال الشافعی:إنک حدثتنی عن عبد اللّه بن یزید عن أبی سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قیس أنها أتت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقالت:یا رسول اللّه أن أبا جهم و معاویة خطبانی،فأیّهما أتزوج؟ فقال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أما معاویة فصعلوک،و أما أبو جهم فرجل لا یضع عصاه عن عاتقه.

و قد علم النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أن أبا جهم کان یأکل و ینام و یستریح،فعلمنا أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عبّر بقوله- لا یضع عصاه عن عاتقه-علی تفسیر أن الأغلب من أحواله ذلک اه.

و اشتهر منه ذلک و هو فی الحجاز،حتی لفت أنظار أهل الرأی کبشر المریسی (2)

ص:404


1- (1) انظر مفتاح السعادة لطاش کبری زادة ج 2 ص 94. [1]
2- (2) بشر بن غیاث بن عبد الرحمن المریسی المعتزلی أدرک أبا حنیفة و أخذ عنه،ثم لازم أبا یوسف و أخذ عنه،و صار من أخص أصحابه،و اشتهر بعلم الکلام و الفلسفة،و قال بخلق القرآن،و إلیه تنسب المریسیة من المرجئة،و کفّره أکثرهم.و نسبته إلی مریسة توفی سنة 219 ه.

فکانت مناظراته مع الشافعی من أشهر ما ذکر عن المریسی و قالوا:حج بشر المریسی فرجع فقال لأصحابه:رأیت شابا من قریش بمکة ما أخاف علی مذهبنا إلا منه (1).

و فی رحلته إلی بغداد ینزل الشافعی علی بشر المریسی،فقالت له أم بشر:لم جئت إلی هذا؟فقال أسمع منه العلم.فقالت:هذا زندیق.و فی روایة أن أم بشر جاءت إلی الشافعی فقالت:یا أبا عبد اللّه أری ابنی یهابک و یحبّک،و إذا ذکرت عنده أجلّک،فلو نهیته عن هذا الرأی الذی هو فیه،فقد عاداه الناس علیه،و یتکلم فی شیء یوالیه الناس علیه و یحبونه؟فقال لها الشافعی:أفعل.فقال الشافعی لبشر:

أخبرنی عمّا تدعو إلیه أ کتاب ناطق،أم فرض مفترض،أم سنّة قائمة،أم وجوب عن السلف البحت فیه و السؤال عنه (2)؟و لا نستطرد فی ذکر أقوالهما لأن ذلک لیس فی نطاق البحث.

و الغرض أن الشافعی نهج مع بشر منهج الحوار و القول بالحق،و ناظره فی مسائل کثیرة،فتبدّلت علاقتهما و ساءت،لأن الناس مالت إلی الشافعی،و خفّوا عن بشر،فلما قیل لبشر:هذا الشافعی الذی کنت تزعم قد قدم؟فقال:إنه قد تغیّر عمّا کان علیه (3).

و فی المرة الأولی من قدومه بغداد انقطع الشافعی إلی محمد بن الحسن، فحمل عنه (4)و قد قدّر ما کتبه بوقر بعیر،و کان الناس یعظمون محمد بن الحسن لقربه من الرشید،و قد اجتمعا علی باب هارون،فاندفع محمد یعرّض بالشافعی و یذم أهل المدینة بقوله:من أهل المدینة؟و أی شیء یحسن أهل المدینة؟و اللّه لقد وضعت کتابا علی أهل المدینة کلها لا یخالفنی فیه أحد،و لو علمت أن أحدا یخالفنی فی کتابی هذا تبلغنی إلیه آباط الإبل،لصرت حتی أردّ علیه.

و ینتبه الشافعی إلی أصل التحامل و مداره بین الأشخاص،فیروی الشافعی:

فتقدمت إلیه فقلت:أصلحک اللّه-طعنک علی أهل المدینة و ذمک لأهل المدینة إن

ص:405


1- (1) تاریخ بغداد ج 2 ص 65. [1]
2- (2) راجع تاریخ بغداد ج 7 ص 59. [2]
3- (3) أیضا ج 2 ص 65.
4- (4) معجم الأدباء ج 17 ص 283. [3]

کنت أردت رجلا واحدا و هو مالک بن أنس فألا ذکرت ذلک الرجل بعینه و لم تطعن علی أهل حرم اللّه و حرم رسوله و کلهم علی خلاف ما ادعیته.و أما کتابک الذی ذکرت أنک وضعته علی أهل المدینة،فکتابک من بعد«بسم اللّه الرحمن الرحیم»خطأ إلی آخره.ثم یذکر الشافعی أقوال ابن الحسن و ردّه علیها (1).

و عند ما یسمع الناس عن منحی الشافعی فی محاورة أهل الرأی یطلقون علیه (ناصر السنة)أو(ناصر الحدیث)علی اختلاف فی التسمیة بین ما ذکره ابن کثیر و هو الأول بسنده عن الشافعی،و ما ذکره الخطیب بسنده عن الشافعی أیضا و هو الآخر.

و من الواضح أن الشافعی یأخذ بالرأی و یقوم بالاستنباط فی عموم آرائه بعد تردّده علی بغداد لعدة مرات و لسنین،و لکنه یبقی للحدیث الشریف الأولیّة،فقد قالوا عنه:إذا صحّ عندکم الحدیث عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقولوا به ودعوا قولی،فإنی أقول به،و إن لم تسمعوا منی-و فی روایة-فلا تقلدونی،و فی روایة فلا تلتفتوا إلی قولی، و فی روایة فاضربوا بقولی عرض الحائط.فلا قول لی مع قول رسول اللّه (2).

و تلک من مزایا الإمام الشافعی،لأن صحة الحدیث النبوی الشریف و التحقق من طرقه من أعظم الأمور التی یتحرّاها الفقیه للاتباع أو للاستنباط.

و صفوة القول،فإن الإمام الشافعی کان طلاّبة علم و بحّاثة یرود المواطن التی یری فیها لفکره فائدة،إما اطلاعا أو أخذا،فهو کثیر السؤال،و یدلنا قوله:(ما رأیت أحدا سأل عن مسألة فیها نظر،إلا رأیت الکراهة فی وجهه إلا محمد بن الحسن) (3).

و مع تحوطه و تحرّزه،فإنه یثنی علی مقاتل بن سلیمان (4)و قول الشافعی مشهور:(الناس کلهم عیال علی ثلاثة:علی مقاتل فی التفسیر،و علی زهیر بن أبی

ص:406


1- (1) المرجع السابق. [1]
2- (2) تاریخ ابن کثیر ج 10 ص 254.
3- (3) الانتقاء ص 69.
4- (4) مقاتل بن سلیمان بن بشر أبو الحسن البلخی،قدم بغداد و حدّث بها،و اشتهر بالتفسیر.قال ابن المبارک:ما أحسن تفسیره لو کان ثقة،قال بالتشبیه و أفرط فی إثبات الصفات و تشبیه اللّه عز و جل بالمخلوقات.قال أبو حیان:کان یأخذ من الیهود و النصاری من علم القرآن الذی یوافق کتبهم توفی سنة 150 ه.

سلمی فی الشعر،و علی أبی حنیفة فی الکلام) (1).کما أن قراءته لتفسیر مقاتل بن سلیمان معروفة کما فی أشکال المعنی علیه فی قوله تعالی: وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها (2).

و لا ندری هل تضافر التفسیر و الشعر و الکلام علی تمکّنه من ضرب من الألغاز یرد فی التفسیر؟نسوق بعض نصوص دون تعلیق:

قیل له-أی الشافعی-کم قرء أم فلاح؟فأجاب:علی البدیهة من ابن ذکا إلی أم شملة.و المراد بالقرء الوقت،و أم فلاح الفجر،و هو کنیة الصلاة.و السؤال واقع عن مدة وقت صلاة الفجر،و قول الشافعی رضی اللّه عنه:من ابن ذکا.أی من وقت الصبح،و إلی أم شملة،و هی کنیة الشمس،أی إلی طلوع الشمس.و هذا التفسیر منسوب إلی الخطابی.

و ثانیها:سئل نسی أبو دارس درسه قبل غیبة الغزالة بلحظة،ما ذا یجب علی أمه؟فقال:علیها قضاء وظیفة العصرین.قال السائل:لجنایة جناها أبو دارس؟قال الشافعی:بل لکرامة استحقّتها أمه.و تفسیره أن نقول:أبو دارس:کنیة فرج النساء، و الدارس:الحیض.فقال:نسی درسه،أی ترک حیضه.و الغزالة:الشمس،و المراد بأم دارس:المرأة،إذ أم الشیء أصله...سئل:هل تسمع شهادة الخالق؟قال:

لا،و لا روایته.و الخالق:الکاذب،قال اللّه تعالی:إن هذا خلق الأولین...الخ.

و قد حرص تلامذته علی حفظ نزعة الشافعی فی غرض لا یؤاخذ علیه کأحمد بن حنبل إذ یقول:خیر خصلة فی الشافعی أنه ما کان یشتهی الکلام،إنما کان همّته الفقه.و قد بات علم الکلام یومئذ محذورا،و أصبح یعنی الأهواء و النحل المختلفة،و یصف الشافعی الظرف الذی کان فیه فیقول:رأیت أهل الکلام یکفّر بعضهم بعضا،و رأیت أهل الحدیث یخطئ بعضهم بعضا،و التخطئة أهون من الکفر.و عرف عن الشافعی طعنه فی علم الکلام و بغضه لأهله،و أحاطه الأصحاب بما یوحی بأن الشافعی اقتصر علی ما بأیدیهم من طرق و لم یجاوز الأثر و الحدیث، و لم یخض فی جدل أو حوار،و أنه انتهی من اطلاعه إلی أن أهل الکلام علی شیء ما توهمه،و لئن یبتلی المرء بجمیع ما نهی اللّه تعالی عنه سوی الشرک باللّه،خیر من أن یبتلی بالکلام.و کان ذلک بتأثیر العصر الذی عاش فیه الشافعی،إذ ارتأی الأصحاب

ص:407


1- (1) تاریخ بغداد ج 13 ص 161. [1]
2- (2) مناقب الرازی.

و التلامیذ أن یبعدوا اسم رئیسهم عن مجالات النقاش و الجدل،و لا نرید أن نخوض فی الأسباب،و إنما نقول أن طرق الکلام تقوم علی المناظرة و الحوار و إجادة الحجاج و المجادلة،و قد شهد المیدان رجالا تسلّحوا بالإیمان و تزوّدوا بالأحکام و اقتحموا تلک المعترکات للذبّ عن العقیدة و فضح أهل الأهواء و البدع.

أما الأتباع بعد عصر الشافعی فإنهم لا ینفون الحقائق،و لا ینکرون ما کان علیه الشافعی فیقولون:إن الشافعی کان قویا فی المناظرة و المجادلة.بل أنهم یرون تمکنه من ذلک سببا فی رجوع الناس عن قول أبی حنیفة و قول مالک لمخالفته لهما (1).

و لا نرید أن نتوسع فی القول،فقد ذکرنا قبل قلیل بعض ما یشیر إلی خوضه فی الرأی و المناظرة،و فیه مجال لمزید من القول،و لکنّا آثرنا الاختصار،لأن غایة البحث فی أغراض أخری،و لا مانع من القول أن الشافعی-فی طلبه و بحثه-کان لا یتوقف عند التهم،و لا یمتنع من الاتصال و الاطلاع بنفسه.لأن سلاح الاتهام بالبدع و الأهواء استعمل فی مناسبات و أغراض اختلطت فیها الصور،و مرّت الموجة لتشمل آخرین لا ذنب لهم،و قد ذکرنا طرفا من علاقته بالمریسی،و أنه جاء إلیه للعلم، و مضی الشافعی فی مجادلته لمّا تبیّن له ضلاله.

عن أبی ثور قال:سمعت الشافعی یقول:قلت لبشر المریسی:ما تقول فی رجل قتل،و له أولیاء صغار و کبار،و هل للأکابر أن یقتلوا دون الأصاغر؟فقال:لا.

فقلت له:فقد قتل الحسن بن علی بن أبی طالب ابن ملجم و لعلی أولاد صغار؟ فقال:أخطأ الحسن بن علی.فقلت:أ ما کان جواب أحسن من هذا اللفظ؟قال:

و هجرته من یومئذ.فنری أن الإمام الشافعی یهجر من کان یتوسّم فیه العلم و هو من أهل الکلام لأنه أساء اللفظ فی وصف السبط الزکی.و یذمّ الآخرین ممن استهواهم الجدل و غلب علیهم الرأی،فأباحوا لأنفسهم ما لا یرضی اللّه أو أدتهم أهواءهم إلی الخروج إلی غیرها.و من الأسباب التی یمکن أن یحتج بها لأقوال الشافعی و من جملتها أیضا ما ذکرناه من هوی الأصحاب و الأتباع فی الحفاظ علی منهج الشافعی فی سیاقهم،و لا نری وجها للتعلیل بأن نهی الشافعی عن علم الکلام و التحذیر منه کان لما بدر من المعتزلة،لأنهم کانوا القوامین علیه.

ص:408


1- (1) مناقب الرازی ص 139.

و لقد بحثنا فی الجزء الثالث آراء الإمام الشافعی فی علم الکلام و خلق القرآن و الصفات و الإمامة.و نری ما حررناه فی هذا الجزء جدیرا باستکمال الفائدة (1).

الانتقال إلی مصر:

لا شک أن الشافعی کان طموحا،فلم یتمکن من الإقامة فی بغداد إلی جانب محمد بن الحسن الشیبانی و صفته فیها طالب علم،حتی قال:حملت عن محمد بن الحسن حمل بختی.و مرة قال:وقر بعیر لیس علیه إلا سماعی منه (2).و کان فی قدومه الأول منقطعا إلی الحسن.

و تختلف الروایات فی الأسباب التی حملت الشافعی علی الانتقال إلی مصر، و نحن نرجح أن یکون اصطدامه بحواجز الشهرة و السلطان التی کانت تقف أمامه و تحیط مکانة محمد بن الحسن،و بلوغه درجة علمیة تجعله یطمح إلی مکانة أعلی لا یبلغها بوجود محمد بن الحسن.

و قد قیل:إنه کان یتشوق إلی مصر،و رووا له شعرا بذلک:

أری النفس قد أضحت تتوق إلی مصر و من دونها قطع المهامة و القفر

فو اللّه ما أدری أ للفوز و الغنی أ ساق إلیها أم أ ساق إلی القبر؟

و هذه الأبیات تنسب إلی الحسن بن هانی المعروف بأبی نؤاس،و إن الشافعی تمثّل بها.

و قیل إنه قدم مصر رغبة منه فی معارضة انتشار أقوال أبی حنیفة و مالک-کما حدّث الربیع-قال:سألنی الشافعی عن أهل مصر،فقلت:هم فرقتان فرقة مالت إلی قول مالک و ناضلت علیه،و فرقة مالت إلی قول أبی حنیفة و ناضلت علیه.فقال:

أرجو أن أقدم مصر إن شاء اللّه فآتیهم بشیء أشغلهم به عن القولین.

و الحقیقة إنه قوبل فی مصر کتلمیذ لمالک،و کان لمالک ذکر فی مصر و تلامذته ینشرون أقواله و یتبعونه،و نزل ضیفا علی محمد بن عبد اللّه بن عبد الحکم،فکرّم مثواه،و کانت لمحمد هذا مکانة فی مصر،و هو من تلامذة مالک و إلیه انتهت الرئاسة فی مصر و لا یعدلون به أحدا.

ص:409


1- (1) تاریخ بغداد ج 7 ص 60.
2- (2) الانتقاء.

و کان نزول الشافعی عنده من عوامل ظهور الشافعی،فهو معدود من تلامذة مالک،و آل الحکم کذلک فقدموا له کلما یحتاجه،و الأغلب أن للشافعی قدومین إلی مصر،الأول کان سنة 188 ه و فیه کان نزوله عند آل الحکم،و بعده عاد إلی بغداد للمرة الثانیة سنة 195 ه فاختلف إلیه جماعة من العلماء منهم:أحمد بن حنبل و أبو ثور الکرابیسی و الزعفرانی،و أملی أقواله و آراءه،و هو ما یعرف بمذهبه القدیم.ثم رجع إلی مکة و عاد إلی العراق سنة 198 ه للمرة الثالثة،فأقام بها مدة یسیرة،و فی آخر سنة 199 ه عاد إلی مصر و أملی مذهبه الجدید.و هذه التواریخ تقوّیها أحداث حیاة الشافعی المعروفة،و لقد ضمّت کتب المناقب و السیر أن القدوم إلی مصر کان مرة واحدة،و أن بقاءه فی بغداد-آخر قدوم له-کان شهرا،و لکن بعض الوقائع تخلّ بهذا الترتیب.

و الظاهر أن ابن عبد الحکم و أهله لمسوا من الشافعی طموحه،فأخذوا فی الأعداد لشهرة الشافعی و لرئاسة،فنری ابن عبد الحکم یقول:لمّا أن حملت أم الشافعی به رأت کأن المشتری خرج من فرجها حتی انقضّ بمصر،ثم وقع فی کل بلد منه شظیة (1).

و فی مصر ظهرت مواهب الشافعی العلمیة و مقدرته وسعة اطلاعه،و قصده الناس،و أصبح له تلامذة،و أملی مذهبه الجدید،و کان ابن الحکم المساعد الأول له.فقد أقبل علی مذهب الشافعی و تحمّس له،و تحوّل عن مذهب مالک،و لمّا استخلف الشافعی البویطی فی حلقته،نقم ابن الحکم،و عاد إلی المذهب المالکی، و تحوّل عن الشافعی تماما،و وضع کتاب الردّ علی الشافعی فیما خالف الکتاب و السنّة.و فی مصر تنکّر الشافعی لأستاذه مالک،فردّ أقواله.و عظم ذلک علی المالکیة و تعصبوا علیه،وسعوا به عند السلطان،و قالوا له:أخرجه و إلا أفتتن به البلد.فأتاه الشافعی فکلّمه فامتنع الوالی و قال:إن هؤلاء کرهوک،و أخشی الفتنة.فقال له الشافعی:أجّلنی ثلاثة أیام،فمات الوالی فیها (2)و کان الشافعی لما دخل مصر حضر إلی السیدة نفیسة بنت الحسن بن زید بن علی،و سمع علیها الحدیث،و کانت لها منزلة فی مصر (3)و هی زوجة إسحاق بن الإمام جعفر بن محمد الصادق.

ص:410


1- (1) تاریخ بغداد. [1]
2- (2) توالی التأسیس ص 84.
3- (3) وفیات الأعیان ج 5 ص 57. [2]

و أدی اتساع حلقة الشافعی فی مصر إلی سخط المالکیة،و إلی تعرّضه إلی مسلک من التعصب.فذکر الساجی:إن الشافعی إنما وضع الکتب علی مالک بسبب أنه بلغه أن قلنسوة لمالک یستسقی بها،و کان یقال لهم:قال رسول اللّه.فیقولون:

قال مالک.فقال الشافعی:إنما مالک بشر یخطئ.فدعاه ذلک إلی تصنیف الکتاب فی اختلافه معه و کان یقول:استخرت اللّه فی ذلک مدة سنة.

و فی مصر بلغ الشافعی درجة من الاجتهاد و النضج العلمی.و لا نشک فی ذلک،فإن القول القدیم و هو العراقی،و القول الجدید و هو المصری،أو مذهبه الجدید و مذهبه القدیم،ینمّان عن تطور فی المدارک،وسعة فی التحصیل.و لقد قیل أن السبب فی هذا التحول فی الأقوال هو من عوامل البیئة و من مظاهر التأثر بالأوضاع،و الأمر قد یتسع للأقوال بهذا الخصوص،و لکنها لا تتسع للادعاء بأنه أعلم الأمة،و أن أمر التشریع انحصر به،و انتهی إلیه الفقه.فإذا نظرنا إلی المدة فإن الشافعی رحمه اللّه توفی سنة 204 ه فهی لا تکفی لیتحقق هذا الادعاء،و قد وجدنا من المبالغات فی مواهبه ما لا یقرّه الواقع،و لا یحتمله العقل.و لکن عواطف الأصحاب،و الإیقاع،و مماحکات التعصب،و ظروف التنازع المذهبی أدت إلی تعاطی ما یخالف الحقائق.

و من الإنصاف القول أنه لم یبلغ الدرجة التی یستحق أن یکون بها عند أتباعه، لأن الإساءة بوضع الأقوال بتأثیر ردود الأفعال واضحة،و الإمام الشافعی له من العلم و الفضل الحقیقیین ما یغنی،و احتلاله المنزلة التی یراها هو لنفسه خیر من عواطف و ردود أفعال مرتجفة.

و قد قلنا و تحدثنا مرارا عن أمواج الادعاءات،و قد کان الشافعی یعترف لأحمد بن حنبل بأنه أعلم منه فی الحدیث.

لقد امتاز الشافعی عن غیره من أئمة المذاهب بتدوین مذهبه و تألیف کتبه.و قد ذکر له کثیر من الکتب،ذکرها ابن الندیم و البیهقی و یاقوت،و نسب له المسند،و لیس من تألیفه،و إنما استخرجه بعض أصحابه من أسانید الأم.و قد کان تدوین المذهب، سببا فی الادعاء أن الشافعی هو أول من قعّد القواعد و أصّل الأصول،و هو ما یجافی الحقیقة و لا یتفق مع الواقع،لأن التدوین لا یعنی السبق فی تقعید القواعد و تأصیل الأصول،و إنما هو تحریر للمذهب و تقریر للرأی،و قد ناقشنا فی فصل(تدوین العلم) فی الجزء الثانی ذلک،فلا حاجة إلی ذکر المزید هنا.

ص:411

و القصد،فإن الانتقال إلی مصر لم یکن کرحلاته السابقة لطلب العلم،إنما اختار بلدا و هو عازم علی أن یکون محلا لإقامته لیس فیه من ینازعه.فقد حلّ بین رجال یجمعهم اتّباع مالک،و لما استقرّ أخذ فی الردّ علی أستاذه،و قد انتهی إلی مذهبه الجدید و قد کلفه ذلک حیاته،إذ اعتدی علیه أتباع مالک.

و کیف کان فقد جاء الشافعی بمذهبه الجدید،و کان قد درس المذهبین:مذهب أهل الرأی و مذهب أهل الحدیث.و قد لاحظ ما فیهما من نقص،فبدا له أن یکمل ذلک،و أخذ ینقص بعض التعریفات منه ناحیة خروجها من متابعة نظام متحد فی طریقة الاستنباط،و ذلک یشعر باتجاهه فی الفقه اتجاها جدیدا لا یکاد یعنی بالجزئیات و الفروع.

و خیر ما یلخّص مسلکه هو أنه قال:الأصل قرآن و سنة،فإن لم یکن،فقیاس علیهما.و إذا اتصل الحدیث عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و صحّ الإسناد فهو سنّة،و الإجماع أکبر من الخبر المفرد،و الحدیث علی ظاهره،و ما احتمل معانی فما اشتبه منها ظاهر أولاها به،و إذا تکافأت الأحادیث فأصحها إسنادا أولاها،و لیس المنقطع بشیء ما عدا منقطع ابن المسیب،و لا یقاس أصل علی أصل،و لا یقال للأصل لم و کیف.

و إنما یقال للفرع،فإذا صحّ قیاسه صحّ و قامت به الحجة.

فهو بهذا المسلک و بهذا المنحی قد ردّ علی مالک،لترکه الأحادیث الصحیحة لقول واحد من الصحابة أو التابعین أو رأی نفسه.

و هاجم أبا حنیفة و أصحابه لأنهم یشترطون فی الحدیث أن یکون مشهورا، و یقدّمون القیاس علی خبر الآحاد و إن صح سنده،و أنکر علیهم ترکهم لبعض السنن لأنّها غیر مشهورة،و عملهم بأحادیث لم تصحّ عند علماء الحدیث،بدعوی أنها مشهورة.و وقف فی القیاس موقفا وسطا،فلم یتشدّد فیه تشدّد مالک،و لم یتوسّع فیه توسّع أبی حنیفة (1).

و یقول إمام الحرمین الجوینی:فمالک أفرط فی مراعاة المصالح المطلقة

ص:412


1- (1) انظر تمهید لتاریخ الفلسفة الإسلامیة للأستاذ مصطفی عبد الرازق ص 225.و ضحی الإسلام لأحمد أمین ج 2 ص 224.

المرسلة غیر المستندة إلی شواهد الشرع،و أبو حنیفة قصر نظره علی الجزئیات و الفروع و التفاصیل من غیر مراعاة القواعد و الأصول.

ثم یتعقب ذلک الجوینی-کشافعی-فیقول:و الشافعی(رض)جمع بین القواعد و الفروع،فکان مذهبه أقصد المذاهب،و مطلبه أسدّ المطالب.

و تدلنا الحوادث بوضوح أنه لقی أذی کثیرا فی إظهار مخالفته لمالک و ردّه علیه، کما أنه لم یلق فی مصر الإقبال الذی کان یرجوه و یأمله رجل مثله،فقد جفاه الناس و لم یجلس إلیه أحد،فقال له بعض من قدم معه:لو قلت شیئا یجتمع إلیک الناس.

فقال:إلیک عنی و أنشأ:

أ أنثر درّا بین سارحة النعم و أنظم منثورا لراعیة الغنم

(1).

و کان یظهر التذمّر و التألّم،و یدلنا علی ذلک قوله:

و أنزلنی طول النوی دار غربة إذا شئت لاقیت امرأ لا أشاکله

أجامعه حتی تقال سجیّة و لو کان ذا عقل لکنت أعاقله 2

و قال الکندی:لما دخل الشافعی مصر کان ابن المنکدر یصیح خلفه:یا کذا....دخلت هذه البلدة و أمرنا واحد و رأینا واحد؛ففرّقت بیننا و ألقیت بیننا الشرّ،فرّق اللّه بین روحک و جسمک (2).

أدبه و شعره

:

کان الشافعی علی درجة عالیة من المعرفة فی اللغة العربیة،و اطلاع کبیر علی معانیها و علومها،و کان أحمد بن حنبل یقول:الشافعی فیلسوف فی أربعة أشیاء:فی اللغة و أیّام الناس و المعانی و الفقه.و نسب إلیه أنه قال:(أقمت فی بطون العرب عشرین سنة،آخذ أشعارها و لغاتها)و ذلک لإظهار طول المدة التی استغرقها کدلیل علی تمکنه من اللغة و معرفته بها،و هی فترة تترک ثغرة فی مسار حیاة الشافعی کما رأیناها،فلیست إلا من عواطف الأتباع،و إنما الحقیقة التی تکفی لإظهار ما علیه

ص:413


1- ((1)و(2)) معجم الأدباء. [1]
2- (3) الولاة و القضاة ص 438. [2]

الشافعی أنه عاش بین القبائل فی البدایة لیأخذ المعانی و الألفاظ الفصحی،و قد ظهر ذلک مع مفرداته و أقواله و تحصیله موهبة الشعر،و قد کان غرض إقامته بین القبائل أن یستعین باللغة علی الفقه (1).

و منهم من یقول أن الأصمعی صحّح أشعار هذیل علی فتی من قریش یقال له محمد بن إدریس الشافعی،و منهم من یروی قول الأصمعی دون ذکر عبارة:یقال له و ما بعدها،و إنما قال الأصمعی:صححت أشعار هذیل علی فتی من قریش.

و مهما یکن من قول فإن الشافعی حفظ أشعار العرب و شعر هذیل.یقول یاقوت:و حکی لنا عن مصعب الزبیری قال:کان أبی و الشافعی یتناشدان،فأتی الشافعی علی شعر هذیل حفظا و قال:لا تعلم بهذا أحدا من أهل الحدیث،فإنهم لا یحتملون هذا (2).

فهو یخشی مجتمعه.و لقد التمس وسیلة تساعده فی اتجاهه للفقه و سعیه إلی العلم،فأخضع موهبته الشعریة لهذه الضوابط فقال:

و لو لا الشعر بالعلماء یزری لکنت الیوم أشعر من لبید

فهو یری أن منزلة العالم أسمی من کل منزلة،و قد ترک الشعر مع تمکنه من أدواته و قدرته علی نظمه،و قد ظهر قبل سنوات قلیلة دیوان شعر للشافعی جمعه:

محمد عفیف الزعبی فی أقل من خمسین ورقة طبع فی سنة 1391 ه.

إلا أن الشافعی یقول الشعر بعاطفة خالصة،کشعره فی حب آل البیت الذی کان سببا فی اتهامه بالتشیّع،و ینظم الشعر فی تجاربه مع الحیاة و الناس کما مرّ بعض ذلک.

قال الربیع بن سلیمان:حججت مع محمد بن إدریس الشافعی إلی مکة،فما کان یصعد شرفا و لا یهبط وادیا إلا أنشأ یقول:

یا راکبا قف بالمحصّب من منی و اهتف بساکن خیفها و الناهض

ص:414


1- (1) مناقب الرازی ص 89.
2- (2) معجم الأدباء ج 17 ص 299. [1]

سحرا إذا فاض الحجیج إلی منی فیضا کملتطم الفرات الفائض

إن کان رفضا حبّ آل محمد فلیشهد الثقلان أنی رافضی

(1)و یروی ابن عبد البرّ أنه قیل للشافعی إن فیک بعض التشیّع؟قال:و کیف؟ قالوا:ذلک لأنک تظهر حب آل محمد.فقال:یا قوم،أ لم یقل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«لا یؤمن أحدکم حتی أکون أحبّ إلیه من والده و ولده و الناس أجمعین».و قال:«إن أولیائی من عترتی المتّقون»فإذا کان واجبا علیّ أن أحبّ قرابتی و ذوی رحمی إذا کانوا من المتقین،أ لیس من الدین أن أحبّ قرابة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذا کانوا من المتقین،لأنه کان یحب قرابته؟و أنشد:یا راکبا قف بالمحصّب من منی.

و من شعره فی موالاة أهل البیت:

إذا فی مجلس نذکر علیا و سبطیه و فاطمة الزکیّة

یقال تجاوزوا یا قوم هذا حدیث من حدیث الرافضیّة

برئت إلی المهیمن من أناس یرون الرفض حبّ الفاطمیّة

(2)و کان یجیب علی تهمة التشیّع بجرأة فی ظروف کانت فیها التهمة بالتشیع تعنی الهلاک و الحرمان،و لا یکتم رأیه فیقول:

أنا الشیعی فی دینی و أصلی بمکة،ثم داری عسقلیة

بأطیب موطن و أعزّ فخر و أسمی مذهب یسمو البریّة

ص:415


1- (1) الانتقاء و معجم الأدباء. [1]
2- (2) ذکر القندوزی الحنفی فی ینابیع المودة [2]نقلا عن البیهقی عن الربیع بن سلیمان الأبیات الشعریة و فیها زیادة رأینا ذکرها فی الهامش،لأن ما ورد فی المتن هی الأشهر:قیل للإمام الشافعی رحمه اللّه إن أناسا لا یصبرون علی سماع منقبة أو فضیلة لأهل البیت الطیبین،فإذا رأوا واحدا منّا یذکرها یقولون هذا رافضی. فأنشأ الشافعی: إذا فی مجلس ذکروا علیا و سبطیه و فاطمة الزکیة فأجری بعضهم ذکرا سواه فأیقن أنه سلقلقیة إذا ذکروا علیا أو بنیه تشاغل بالروایات العلیة و قال تجاوزوا یا قوم عن ذا فهذا من حدیث الرافضیة برئت إلی المهیمن من أناس یرون الرفض حب الفاطمیة علی آل الرسول صلاة و لعنته لتلک الجاهلیة .

و له أیضا:

قالوا:ترفّضت.قلت:کلا ما الرفض دینی و لا اعتقادی

لکن تولیت غیر شک خیر إمام و خیر هادی

إن کان حب الولی رفضا فإن رفضی إلی العباد

و قوله:

یا آل بیت رسول اللّه حبکمو فرض من اللّه فی القرآن أنزله

یکفیکم من عظیم الفخر أنکمو من لم یصلّ علیکم لا صلاة له

و له أیضا:

لم یبرح الناس حتی أحدثوا بدعا فی الدین بالرأی لم یبعث بها الرسل

حتی استخفّ بدین اللّه أکثرهم و فی الذی حملوا من حقّه شغل

و له فی الدعاء:

بموقف ذلی عند عزتک العظمی بمخفیّ سرّ لا أحیط به علما

بإطراق رأسی باعترافی بزلتی بمدّ یدی استمطر الجود و الرحما

بأسمائک الحسنی التی بعض وصفها لعزّتها تستغرق النثر و النظما

بعهد قدیم من أ لست بربّکم بمن کان مجهولا فعلمته الأسما

أذقنی شراب الأنس یا من إذا سقی محبّا شرابا لا یضام و لا یظما

و منه ما رواه الربیع بن سلیمان أنه کتب إلی محمد بن الحسن،و قد طلب منه کتبا لیستنسخها فتأخرت عنه:

قل لمن تر عینا من رآه مثله

و من کان من رآه قد رأی من قبله

العلم ینهی أهله أن یمنعون أهله

لعله یبذله لأهله لعله

و عن الربیع أیضا أن الشافعی قال یعزّی ببعض إخوانه:

إنی أعزّیک لا إنی علی طمع من الحیاة و لکن سنّة الدین

فما المعزّی بباق بعد صاحبه و لا المعزّی و إن عاشا إلی حین

و لا بد للشافعی أن لا یدع من یستفزّهم ذکر آل محمد و یغضبهم موالاة من

ص:416

أوصی بموالاتهم صاحب الرسالة،فهو علی الاعتقاد الذی أجمعوا علیه،غیر أنه یری حب آل محمد فیقول:

إذا نحن فضّلنا علیّا فإننا روافض بالتفضیل عند ذوی الجهل

و فضل أبی بکر إذا ما ذکرته رمیت بنصب عند ذکری للفضل

فلا زلت ذا رفض و نصب کلاهما بحبیهما حتی أوسّد فی الرمل

و منها:

شهدت بأن اللّه لا ربّ غیره و أشهد أن البعث حق و أخلص

و أن عری الآیات قول مبیّن و فعل زکیّ قد یزید و ینقص

و أن أبا بکر خلیفة ربه و کان أبو حفص علی الخیر یحرص

و أشهد ربی أن عثمان فاضل و أن علیا فضله متخصّص

أئمة حق یهتدی بهداهم لحی اللّه من إیاهم یتنقّص

و أشعار الشافعی کثیرة فی مدح آل البیت علیهم أفضل الصلاة و السّلام،و لکن ذلک لا یجعله فی عداد الشیعة،و مع کونه قد أخذ کثیرا من الأحکام عنهم،و ضعّف بسبب ذلک،لأننا لم نجد صلة حقیقیة بینه و بین الشیعة و لا اتصالا مع الأئمة فی عصره.و قد عقدنا له بحثا فی الجزء الثالث،و أدخلناه فی قفص الاتهام،و بعد الحوار و المناقشة أخرجناه ببراءة من تهمة التشیّع.

و یقتضی ذلک أن نقول:إن البعض یقع فی خطأ،و منهم الکتّاب و المؤرخون أو عامة الناس،فیذکرون أن الشیعة یأخذون بقول الشافعی،و یذکرون فی کتبهم أقواله فیقولون:قال محمد بن إدریس،أو أن المذهب الشیعی یلتقی بالمذهب الشافعی فی کثیر من الموارد دون غیره من مذاهب السنة.و هو خطأ أوضحناه فی مکانه،و قلنا إنه ناشئ من عدم التحقیق،و لأن الشیعة یذکرون أقوال محمد بن إدریس الحلی-عالم الشیعة فی عصره و مؤلف کتاب السرائر-فیقولون:قال محمد بن إدریس،أو قال ابن إدریس.فیظنّون أن المقصود هو محمد بن إدریس الشافعی.

و لکن الشافعیة زعموا أن الشیعة قالوا إن الشافعی منهم (1)و أنهم احتجوا بهذه

ص:417


1- (1) مناقب الرازی.

الأشعار.و لا نستغرب ذلک،لأن الخشیة من تهمة التشیّع شملت أصحاب الشافعی و تلامذته بینما کان آخرون بخلاف ذلک فقد روی أن المزنی قال:قلت للشافعی:أنت توالی أهل البیت،فلو عملت فی هذا الباب أبیاتا فقال:

و ما زال کتمانیک حتی کأننی بردّ جواب السائلین لأعجم

و أکتم ودّی فی صفاء مودّتی لتسلم من قول الوشاة فأسلم

و اتهمه یحیی بن معین بالتشیّع و قال:طالعت کتابه السیر،فوجدته لم یذکر إلا علی بن أبی طالب.و قوله:نظرت فی قتال أهل البغی،فرأیته قد احتج من أوله إلی آخره بعلی بن أبی طالب.و کان یأخذ بحدیث الإمام الصادق و خاصة بأحکام الصلاة (1).

و قد أکثر الشافعی من الروایة عن إبراهیم بن محمد بن أبی یحیی أبو إسحاق المدنی أحد تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام روی أحادیث أهل البیت و له مؤلف مبوّب فی الحلال و الحرام علی مذهب أهل البیت،و هو أستاذ الواقدی و کتب الواقدی مأخوذة عنه.و کان الشافعی یقول:لأن یخرّ إبراهیم أحبّ إلیه من أن یکذب.

و لأن الشافعی أکثر فی الروایة عن إبراهیم و هو(متهم بالتشیع)کان الشافعی یذکر اسمه مرة و یورّی عنه أخری و یقول:حدثنی الثقة،حدثنی من لا اتهمه.إذا فالشافعی یأخذ من رجال الشیعة،و ینهل من مصادرهم،و یستقی من منابعهم، و لکنهم لا یدّعون أنه منهم.

لقد کانت مصر هی المکان الذی صدر عنه المذهب الشافعی،و منه انتشر فی الأقطار،و ذلک بفضل جهود تلامذته المخلصین الذین شغلوا الناس عن دراسة المذهب المالکی و المذهب الحنفی،و کانا قد انتشرا هناک.

قال السبکی فی الطبقات عن مصر و الشام بالنسبة للمذهب الشافعی:

هذان الإقلیمان مرکز ملک الشافعیة،منذ ظهر المذهب الشافعی،الید العالیة لأصحابه فی هذه البلاد.لا یکون القضاء و الخطابة فی غیرهم،أما الشام فقد کان

ص:418


1- (1) انظر مناقب الرازی ص 84.

مذهب الأوزاعی حتی ولی القضاء أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقی الشافعی و یقول:کان(محمد بن عثمان)رجلا رئیسا یقال أنه هو الذی أدخل مذهب الشافعی إلی دمشق،و أنه کان یهب لمن یحفظ مختصر المزنی منه مائة دینار.

و علی أی حال فإن المذهب الشافعی کانت بذرته الأولی فی مصر،و منها انتشر بفضل جهود أصحاب الشافعی،و لو لا هم لکان أثرا بعد عین.و لکان مصیره مصیر مذهب اللیث بن سعد الذی لم یتهیأ له أصحاب مخلصون یقومون بنشره،و لعل أهم العوامل التی هیأت للشافعی أسباب النجاح فی مصر هی:

1-إنه کان معروفا بأنه تلمیذ مالک و خرّیج مدرسته،و کان لمالک هناک ذکر و لمذهبه انتشار،فقوبل بالعنایة،و ذلک قبل إظهاره المعارضة لمذهب مالک و الردّ علیه.

2-نشاط الشافعی و علوّ همّته و تفوّقه بالأدب و معرفة اللغة،و إحاطته بأقوال مالک و أهل العراق،و ما عرف عنه من انتصار لأهل الحدیث و الردّ علی أهل الرأی.

3-اشتهار قرشیته و اعتصامه بالانتساب للنبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هذا له أثره فی قلوب المصریین.

4-صلته بحاکم مصر الجدید عبد اللّه بن العباس بن موسی،و معرفته به یوم کان بمصر،و أنه سافر معه من بغداد عند تعیینه،أو أنه حمل له وصیة من الخلیفة علی اختلاف الروایات.

5-اختیاره النزول عند أقوی بیت فی مصر و أعزّهم جانبا و هم بنو الحکم، و التفاف أعیان أصحاب مالک حوله کأشهب و ابن القاسم و ابن الموّاز و غیرهم.

تغلب المذهب الشافعی علی المذهب المالکی بمصر بعد أن کان هو السائد و له السلطان هناک.و ذکرنا مقابلة أنصار المذهب المالکی لأصحاب الشافعی،و قد تمت له الغلبة هناک أیام الدولة الأیوبیة،لأنهم کانوا جمیعا شافعیة إلا عیسی بن الملک العادل سلطان مصر فإنه کان حنفیا،و لم یکن فیهم حنفی سواه،ثم تبعه أولاده و کان شدید التعصب لذلک المذهب،و یعدّه الحنفیة من فقهائهم،و له شرح علی الجامع الکبیر فی عدة مجلدات.

و لما خلفت دولة الممالیک البحریة دولة الأیوبیین،لم تنقص حظوة المذهب

ص:419

الشافعی،فقد کان سلاطینها من الشافعیة إلاّ سیف الدین الذی حکم قبل بیبرس فقد کان حنفیا،و لکن لم یکن له أثر فی الدولة لقصر مدته.و لم یختلف بشیء عن سیاسة الأیوبیین تجاه المذهب،و عملهم علی نشر المذهب و تشجیع المنتمی إلیه،و جعل القضاء للشافعیة،و علی غرار ما عملت به الدولة العباسیة فی المشرق و حصره بالحنفیة.

و بقیت صبغة المذهب صبغة رسمیة حتی قیام الظاهر بیبرس و قیامه بتطبیق فکرة توزیع منصب القضاء علی المذاهب الأربعة،فتأثرت مکانة المذهب الشافعی و نفوذه عمّا کانا علیه من قبل،و لکنه ظل یحتفظ بمکانة أعلی من غیره من المذاهب.

و کذلک استمر المذهب فی عصر الممالیک الجرکسیة،حتی جاء دور العثمانیین و استیلائهم علی مصر،فأبطلوا القضاء بالمذاهب الأخری و حصروه بالمذهب الحنفی لأنه المذهب الرسمی للدولة.و قد بیّنا أسباب اعتناق الأتراک للمذهب الحنفی دون غیره من المذاهب،لأنه لا یشترط القرشیة فی الخلافة،و سلاطین آل عثمان ادعوا الخلافة علی المسلمین،و المذهب الحنفی یجوّز ذلک دون غیره.

و خلاصة القول،إن المذهب الشافعی شارک المذهب الحنفی و المذهب المالکی فی اهتمام السلطان و الرعایة،و أن العلاقة بالحکم کانت من أعظم مقومات الانتشار و الوجود کالمذهب الحنفی و المذهب المالکی اللذین انتشرا بقوة السلطة و مشیئتها،و کان مذهب أبی حنیفة فی بغداد یسمی مذهب السلطان (1).

وفاته

:

لعل وفاة الشافعی من أغرب أعمال التعصّب.لأن أرجح الروایات و أقربها إلی الصحة هی موته بسبب الاعتداء علیه من جماعة تعصبوا لفتیان-الرجل المالکی- الذی کان یناظر الشافعی کثیرا و یجتمع الناس علیهما،و قد کان فی فتیان حدّة و طیش و هو من أصحاب مالک بن أنس.و قد هجموا علی الشافعی و ضربوه،فحمل إلی منزله،فلم یزل علیلا حتی مات.

و لمّا توفی أدخلت جنازته علی السیدة نفیسة بنت الحسن التی تلمذ لها فی

ص:420


1- (1) معجم الأدباء ج 6 ص 11-12. [1]

الحدیث،و صلّت علیه فی دارها.هکذا حکاه ابن خلکان و ابن کثیر (1).

و قد وضعت نبوءة لإبراز أدوار و منازل أصحاب الشافعی التی کانت بعد موته علی أنها تجری کما علمها الشافعی و تنبأ بها.یقول الربیع:دخلنا علی الشافعی أنا و البویطی و محمد بن عبد اللّه بن الحکم و المزنی،فنظر الشافعی إلینا ساعة ثم قال للبویطی:أما أنت یا أبا یعقوب،فستموت فی حدیدک.و أما أنت یا مزنی فستدرک زمانا تکون أقیس أهل ذلک الزمان.و أما أنت یا محمد فسترجع إلی مذهب أبیک أی مذهب مالک.و أما أنت یا ربیع فأنفع لی فی نشر کتبی.

توفی الشافعی رحمه اللّه فی شهر رجب سنة 204 بمصر.

و بعد وفاته یقول الربیع:

رأیت الشافعی بعد وفاته فی المنام فقلت:یا أبا عبد اللّه ما صنع اللّه بک؟قال:

أجلسنی علی کرسی من ذهب،و نثر علیّ اللؤلؤ الرطب (2).

أولاده

:

و للشافعی ولدان کل منهما اسمه محمد،أما الأصغر فتوفی بمصر صغیرا، و محمد الثانی یلقب أبو عثمان ولی قضاء الجزیرة و توفی سنة 241 ه (3).

ص:421


1- (1) وفیات الأعیان ج 5 ص 57.و [1]البدایة و النهایة ج 10 ص 262. [2]
2- (2) تاریخ بغداد ج 2 ص 70. [3]
3- (3) النجوم الزاهرة ج 2 ص 306. [4]

ص:422

الإمام الصادق

اشارة

أولاده و أحفاده

إن البحث فی حیاة أولاد الإمام الصادق و أحفاده له أهمیة کبیرة،سواء من حیث متطلبات موضوع الکتاب و اکتمال أجزائه،أو من الناحیة الدینیة و التاریخیة،لأن المرحلة التی جاءت بعد الإمام الصادق کانت من أکبر المراحل خطورة و أهمیة:کما أن البحث فی الأولاد و الأحفاد یستلزم جهودا مضنیة إذا ما أردنا الإیفاء بکل ما یندرج فی سلسلة النسب و الأسماء،فهو یعنی الحدیث عن الأئمة المعصومین صلوات اللّه علیهم و هو ما بقی مجال جهد و بحث للعلماء و الرجال منذ مئات السنین و حتی الیوم، و لم تتوقف البحوث و لن تکف الجهود عن کشف صفحات الأئمة المعصومین من أبناء محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لأنهم نبراس الهدی،و منار الحق الذی یهتدی به الناس.و لذلک اقتصرت علی أولاده و أحفاده رضوان علیهم حسب مجریات الأحداث و سیاق البحث،و أعطینا سردا مختصرا یوفی بغرض إعطاء صورة عن عقبة علیه السّلام و باستخلاص واقع الملابسات فی مجری الإمامة و التی ظهرت بعد وفاته علیه السّلام و اقتبسنا شیئا من أنوار سیر الأئمة و اضمامات قلیلة من أزاهیر حیاة بعضهم علیهم السّلام.

أولاد الإمام

اشارة

:

قال الشیخ المفید:کان لأبی عبد اللّه عشرة أولاد:إسماعیل،و عبد اللّه،و أم فروة.أمهم فاطمة بنت الحسین بن علی بن الحسین السبط علیه السّلام.

و موسی علیه السّلام و إسحاق،و محمد،لأم ولد.و العباس،و علی،و ،أسماء و فاطمة.لأمهات شتی.

و قال ابن عنبة الحسنی:و أعقب جعفر الصادق علیه السّلام من خمسة رجال:

موسی الکاظم،و إسماعیل،و علی العریضی،و محمد المأمون،و إسحاق،و لیس له

ص:423

ولد اسمه ناصر،معقب و لا غیر معقب بإجماع علماء النسب،و بأسفزار من ولایة هراة خراسان قوم یدّعون الشّرف،و ینتسبون إلی ناصر بن جعفر الصادق علیه السّلام و هم أدعیاء کذّابون لا محالة،و هم هناک یخاطبون بالشرف علی غیر أصل،و یعرف هؤلاء القوم ببارسا و کذبهم أظهر من أن ینبه علیه (1).

و قال سراج الدین الرفاعی:و کان له عشرة أولاد:إسماعیل و عبد اللّه و أم فروة،أمهم فاطمة بنت الحسین الأشرف بن علی بن الحسین بن علی بن أبی طالب.و موسی الکاظم الإمام المعصوم رضی اللّه عنه،و إسحاق المؤتمن،و محمد الدیباج،لأم ولد یقال لها حمیدة البربریة.

علی بن جعفر علیه السّلام

:

یکنی أبا الحسن،و یلقب بالعریضی نسبة إلی العریض(بضم العین المهملة و فتح الراء)قریة علی أربعة أمیال من المدینة کان یسکنها و أمه،و یقال لولده العریضیون و هم کثیر هناک (2)و هو أصغر أولاد الإمام الصادق علیه السّلام مات أبوه و هو طفل،و روی عن أخیه موسی الکاظم،و له کتاب ما سأله به،و روی عن أبیه علیه السّلام علی صغر سنه،و له کتاب فی مسائل الحلال و الحرام عنه،و کذلک روی عن ابن أخیه الرضا،و ابنه الجواد.و طال عمره إلی أیام الإمام الهادی علیه السّلام فکانت وفاته سنة 210 ه.

روی العمیری أن أبا جعفر الجواد دخل علی علی بن جعفر،فقام له قائما و أجلسه فی موضعه و لم یتکلم حتی قام،فقال له أصحابه:أ تفعل هذا مع أبی جعفر و أنت عمّ أبیه؟ فضرب بیده علی لحیته و قال:إذا لم یرها اللّه أهلا للإمامة أراها أنا أهلا للنار؟ (یعنی بادعاء الإمامة و هی لیست له)و قد ناصر أخاه محمد بن جعفر الصادق الثائر فی أیام المأمون و الذی أسس دولة فی مکة المکرمة.و بعد أن أسر محمد،نزل علیّ بالکوفة،ثم استدعاه القمّیون،و نزل قم و مات و قبره مشهور یزار.

قال الشیخ المفید:علی بن جعفر رضی اللّه عنه روایة للحدیث،سدید الطریقة

ص:424


1- (1) عمدة الطالب. [1]
2- (2) صحاح الأخبار ص 48.

شدید الورع،کثیر الفضل.و لزم أخاه موسی علیه السّلام و روی عنه شیئا کثیرا من الأخبار.

و قال الشیخ الطوسی:علی بن جعفر جلیل القدر،ثقة،له کتاب المناسک و مسائله لأخیه موسی الکاظم سأله عنها.

و قال الشریف أحمد بن زین باعلوی فی شرح العینیة عند ذکر علی العریضی:

خلف أولادا أعقب منهم أربعة رجال:أحمد و الحسن و جعفر الأصغر و محمد.

و قال فی العمدة-فی عقب الإمام الصادق-:و أما علی العریضی بن جعفر الصادق علیه السّلام و یقال لولده العریضیون و هم کثیرون متفرّقون فی البلاد،و منهم بالمدینة الشریفة أولاد یحیی المحدث بن یحیی ابن أبی الحسن عیسی الردمی الأکبر بن محمد بن علی العریضی،و إلیه یرجع نسب السادة أهل حضرموت.یقول الشریف أحمد بن محمد:أعقب علی بن جعفر الصادق أبناءه...علی و جعفر و الحسن و محمد و أحمد،و فی محمد نسب السادة الحضارمة العلویین.و یجمعهم بن جعفر بن محمد بن علی الحسینی،و هم فروع متوسعة إلا أننا سنذکر من یوجد منهم فی المدینة و مکة المکرمة،و ممن یسکن المدینة قدیما:آل جمیل اللیل،و آل مشیخ بن أحمد بن حسین(و غیرهم)و منهم بمکة المکرمة:بیت السید الحبش من علماء مکة المکرمة و أجلاّئها و بیت السید عقیل (1).

قال الذهبی:علی بن جعفر روی عن أبیه و أخیه موسی و الثوری،و روی عن الجهضمی و البزی و الأوسی و جماعة،و روی له الترمذی فی کتابه.

و أسند الذهبی عنه فی المیزان عن آبائه أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أخذ بید الحسن و الحسین و قال:«من أحبنی و أحب هذین و أبویهما کان معی یوم القیامة».

و خرّج له الإمام أحمد فی مسنده،و عدّه ابن حجر فی الطبقة العاشرة.و قال أحمد بن زین الحبش:السید علی بن جعفر فهو أبو الحسن شمس أهل البیت کان رحمه اللّه جوادا سخیا عالما کبیرا،و هو أصغر أولاد أبیه سنّا و أطولهم عمرا،أخذ عن أبیه و صحبه،و أخذ عن أخیه موسی الکاظم،عن الحسن بن زید،و روی عنه ابناه أحمد و محمد و حفیده عبد اللّه بن الحسن و إسماعیل بن محمد بن إسحاق بن جعفر الصادق.

ص:425


1- (1) انظر الدرر السنیة للشریف أحمد بن محمد بن صالح.

وردت مسائله لأخیه الإمام الکاظم فی کتب علمائنا و روی له الشیخ الصدوق و الشیخ الطوسی و العلاّمة الحلی و غیرهم من علمائنا.

قال المخزومی أعقب علی بن جعفر أربعة رجال هم:محمد و أحمد و الحسن، و جعفر الأصغر.و هذه العشیرة أفخاذ و فصائل،ضمّت جماعة کثیرة فی العراق و الشام و الیمن و الحجاز،و لهم ذیل بشیراز،و الدینور،و منهم بواسط،و قد أنجبت قبیلتهم فأتت بالکثیر الطیب.قال العمد:من أشیاخ أهل البیت،إن السبب فی ذلک إذعان علی العریض بإمامة محمد بن أخیه.

أما عقب أولاده الأربعة کما یلی باختصار:

1-أحمد المعروف بالشعرانی،فإنه أعقب من عبد اللّه،و عقبه بالمراغة.

و یعرفون ببنی الحسنیة و الحسین،و عقبه بالرقة.

و محمد و علی:و لهم جماعة بالبصرة و مرو و قم و شیراز.

2-و أما محمد بن علی بن جعفر فإن فی ولده العدد المتفرق فی البلاد،أعقب من خمسة و هم:

عیسی النقیب،و یحیی،و الحسن،و الحسین،و لکل واحد من هؤلاء عقب منتشر فی مصر و الری و بغداد و الیمن و الشام و الکوفة و أصفهان و قزوین و الدیلم.

3-جعفر بن علی بن جعفر،فعقبه من ابنه عبد اللّه،و عبد اللّه أعقب من علی و موسی،و لهما عقب منتشر فی البلاد الإسلامیة.

محمد

:

محمد بن جعفر الصادق،و یلقّب الدیباج،و کان وجیها محبوبا عند الناس شجاعا کریما ورعا تقیا،و کان یصوم یوما و یفطر یوما،و کان یری الخروج بالسیف علی الظالمین،و بایعه أهل مکة سنة 200 ه.

قال ابن الأثیر:کان یروی العلم عن أبیه،و کان الناس یکتبون عنه،و قال ابن خلدون:کان محمد بن جعفر عالما زاهدا.

و قال الشیخ المفید:کان محمد بن جعفر سخیا شجاعا،و روی عن زوجته خدیجة بنت عبد اللّه بن الحسین أنها قالت:ما خرج من عندنا محمد یوما قط،

ص:426

فرجع حتی یکسوه.و کان یذبح کل یوم کبشا لأضیافه،و خرج علی المأمون فی سنة تسعة و تسعین و مائة بمکة،و اتبعته الزیدیة الجارودیة،فخرج لقتاله عیسی الجلودی، و بعد قتال طویل تفرّق جمع محمد،فأخذه المأمون،و لما وصل إلیه أدنی مجلسه منه و أکرمه و أحسن جائزته،و کان مقیما معه بخراسان،یرکب إلیه فی موکب من بنی عمه،و کان المأمون یحتمل منه ما لا یحتمله السلطان من رعیته.

و قد أنکر المأمون رکوبه إلیه فی جماعة من الطالبیین الذین خرجوا علی المأمون سنة مائتین فآمنهم،فخرج التوقیع إلیهم:لا ترکبوا مع محمد بن جعفر،و ارکبوا مع عبد اللّه بن الحسین.فأبوا أن یرکبوا و لزموا منازلهم،فخرج التوقیع:ارکبوا مع من أحببتم.فکانوا یرکبون مع محمد بن جعفر إذا رکب،و ینصرفون بانصرافه.

و أخبر محمد بن جعفر:أن غلمان ذی الرئاستین قد ضربوا غلمانک علی حطب اشتروه.فخرج مؤتزرا ببردین و معه هراوة و هو یقول:

الموت خیر لک من عیش بذلّ و تبعه الناس حتی ضرب غلمان ذی الرئاستین،و أخذ الحطب منهم.فرفع الخبر إلی المأمون،فبعث إلی ذی الرئاستین فقال له:ائت محمد بن جعفر،فاعتذر إلیه و حکّمه فی غلمانک.فخرج ذو الرئاستین إلی محمد بن جعفر.قال موسی بن سلمة:فکنت عند محمد بن جعفر جالسا حتی أتی،فقیل:هذا ذو الرئاستین.فقال:

لا یجلس إلا علی الأرض،و تناول بساطا فی البیت،فرمی به،و لم یبق فی البیت إلا وسادة،و جلس علی الأرض،فاعتذر إلیه و حکّمه فی غلمانه.

و توفی محمد بن جعفر سنة 203 ه،فرکب المأمون لیشهد جنازته،و قد خرجوا به،فلما نظر إلی السریر نزل فترجّل و مشی حتی دخل بین العمودین،فلم یزل بینهما حتی وضع،فتقدم و صلّی علیه،ثم حمله حتی بلغ به القبر،ثم دخل قبره،فلم یزل فیه حتی بنی قبره،ثم خرج فقام علی القبر حتی دفن،فقیل له:لو رکبت؟فقال:

هذه رحم قطعت منذ ثمانین سنة،فأحببت أن أصلها (1).و مات محمد بن جعفر عن عمر ینیف علی السبعین کما ذکره الذهبی فی المیزان،و قبره بجرجان (2).و ما ذکره

ص:427


1- (1) الإرشاد للمفید 169.و صحاح الأخبار لسراج الدین ص 54.
2- (2) .35/3.

بعضهم من أنه مات و له تسع و أربعون سنة فهو غلط،و الصحیح ما ذکرناه،لأن وفاة الإمام الصادق کانت سنة 148 ه.

و ذکر الشیخ المفید:أن إسماعیل بن محمد بن جعفر قال:قلت لأخی و هو لجنبی و المأمون قائم علی القبر:لو کلّمناه فی دین الشیخ،فلا نجده أقرب منه فی وقته هذا.فابتدأنا المأمون فقال:کم ترک أبو جعفر من الدّین؟فقلت له:خمسة و عشرین ألف دینار.فقال:قد قضی اللّه عنه دینه.إلی من وصّی؟قلنا:إلی ابن یقال له یحیی بالمدینة.فقال:لیس هو بالمدینة،و هو بمصر،و قد علمنا بکونه فیها،و لکن کرهنا أن نعلمه بخروجه من المدینة لئلا یسوؤه ذلک لعلمه بکراهتنا لخروجه عنها (1).

و أعقب محمد بن الإمام الصادق علیه السّلام:علی و القاسم و الحسین،و عقب القاسم من ولده:یحیی و علی و عبد اللّه.و القاسم یعرف بالطیّب،و ابنه یحیی یعرف بیحیی الشبیه.

قال السخاوی:هو یحیی بن القاسم الطیب بن محمد المأمون بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علی زین العابدین بن الحسین بن علی بن أبی طالب رضی اللّه عنهم،قیل کان شبیها برسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و کان له خاتم بین کتفیه کخاتم النبوة،و کان الناس إذا شاهدوه أکثروا من الصلاة علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و کان ابن طولون أقدمه من الحجاز،و لما سمع أهل مصر بقدومه،خرجوا إلی ظاهر مصر یتلقونه،و کان یوم قدومه یوما مشهودا.و بالقرافة بمصر قبر أبی عبد اللّه محمد بن القاسم بن محمد بن جعفر الصادق صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و دفن یحیی بمصر،و قبره مشهور یعرف بمشهد یحیی الشبیه.و دفن معه أخوه عبد اللّه بن القاسم الطیّب.

و قبره فی وسط القبة،و عند وسطه لوح رخام فیه نسبه،و کانت وفاته یوم الاثنین 13 من شهر رمضان سنة 261 ه.

و کان عبد اللّه کأخیه فی العبادة و الخیر و العفّة و الصلاح،و هم بیت عظیم معروفون بإجابة الدعاء (2).و فی نفس التربة دفنت أم عبد اللّه زوجة القاسم الطیب.

و فی مصر أیضا:الحسن بن یحیی الشبیه بن القاسم الطیّب،و علیه رخامة

ص:428


1- (1) الإرشاد ص 269. [1]
2- (2) انظر تحفة الأحباب و بغیة الطلاب [2]للسخاوی.

مکتوب فیها اسمه و اسم آبائه الطاهرین.و فی القرافة مشهد یعرف بمشهد السیدة العیناء،و هی السیدة کلثم أو أم کلثوم بنت محمد بن جعفر الصادق علیه السّلام و قبرها معروف بإجابة الدعاء.

و فی القرافة أیضا مشهد یعرف بمشهد الحسن و المحسن،و هما أولاد القاسم الطیب بن محمد بن جعفر (1).

و ذکر أبو نصر البخاری:أن جمیع بنی محمد بن جعفر لصلبه سبعة:علی و إسماعیل من أم ولد،و القاسم أمه أم الحسن بنت حمزة بن القاسم بن الحسن بن زید..

و یحیی و جعفر أمهما خدیجة بنت عبید اللّه.و موسی و عبد اللّه من أم ولد.

عبد اللّه

:

ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السّلام و کان أکبر إخوته بعد إسماعیل، و لم تکن منزلته عند أبیه کمنزلة غیره من ولده فی الإکرام،و ادّعی الإمامة بعد أبیه لأنه الأکبر،و جلس مجلس أبیه مدّعیا وصایته،فمال إلیه کثیر من الناس بادعاء أن الإمامة فی أکبر الأولاد.

و حیث لم یکن بمنزلة من العلم،فقد امتحنه جماعة ممن اتبعه بمسائل فی الحلال و الحرام و الصلاة و الزکاة و غیر ذلک،فلم یجد عنده علما،فنفروا منه،و عادوا إلی الإمام موسی بن جعفر علیه السّلام و بقی جماعة علی القول بإمامته و یعرفون (بالفطحیة)لأن عبد اللّه یکنی بالأفطح،کان أفطح الرأس،و قیل کان أفطح الرجلین، و هم فرقة قلیلة رجعوا عن القول بإمامته.مات و لم یعقب،فقالوا بإمامة موسی بن جعفر علیه السّلام.و لم یبق من هذه الفرقة أحد.و مات عبد اللّه بعد وفاة أبیه بسبعین یوما.

إسحاق

:

ابن الإمام الصادق علیه السّلام کان روایة للحدیث و من أهل العلم.

ص:429


1- (1) نفس المصدر.

قال الشیخ المفید:و کان إسحاق بن جعفر من أهل الفضل و الصلاح و الورع و الاجتهاد،و کان ابن کاسب (1)إذا حدّث عنه یقول:حدثنی الثقة الرضی إسحاق بن جعفر،و کان إسحاق یری إمامة أخیه موسی بن جعفر علیه السّلام و روی عن أبیه النص بالإمامة.

و قال المخزومی:ولد لإسحاق:عبد اللّه و الحسن،و لهما عقب بهمدان و جیرفت.و فی عمدة الطالب:و أما إسحاق بن جعفر الصادق و یکنی أبا محمد و یلقب بالمؤتمن،فقد ولد بالعریض و هو واد بالمدینة،و کان من أشبه الناس برسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و کان محدثا جلیلا،و ادعت فیه طائفة من الشیعة الإمامة.و کان سفیان بن عیینة شیخ الإمام الشافعی رضی اللّه عنهما إذا ما روی عنه یقول:حدثنی الثقة الرضا إسحاق بن جعفر بن محمد بن علی بن الحسین رضی اللّه عنهم، و هو أقل المعقبین من ولد جعفر الصادق عددا،إذ أعقب ثلاثة رجال:محمدا و الحسن و الحسین.و تعرف ذریته بالإسحاقیین.

یقول المقریزی فی خططه:و تزوّج-إسحاق-بنفیسة (2)رضی اللّه عنها،و کان یقال له إسحاق المؤتمن،و کان من أهل الصلاح و الفضل و الخیر و الدین،روی- الناس-عنه الحدیث،و کان ابن کاسب إذا حدّث عنه یقول:حدثنی الثقة الرضا إسحاق بن جعفر.و کان له عقب بمصر،فهم بنو الرقی،و بحلب بنو زهرة.

الإمام موسی بن جعفر علیهما السّلام
اشارة

کان موسی بن جعفر علی جانب عظیم من العلم و الکمال،فقد أشبه بمواهبه و أخلاقه،و کان أبوه الإمام الصادق إذا ما اجتمع أولاده یقول:هؤلاء أولادی و هذا

ص:430


1- (1) هو یعقوب بن حمید بن کاسب المدنی المتوفی 241 ه و ینسب إلی جده،و کان من المحدثین الإعلام. [1]قال القاسم بن عبد اللّه بن مهدی:قلت لأبی مصعب،بمن توصینی بمکة و عمن أکتب؟فقال علیک بشیخنا أبی یوسف یعقوب بن حمید.و قد روی الحدیث عنه جماعة،و خرّج له البخاری فی أفعال العباد.
2- (2) نفیسة بنت الحسن بن زید بن الحسن السبط علیه السّلام و هی المعروفة بالسیدة نفیسة المتوفاة سنة 206 ه و قبرها بمصر یزار و یعرف باستجابة الدعاء،و لها کرامات،و کانت عالمة جلیلة القدر عظیمة الشأن یحترمها العلماء و یعظمها الأمراء.قالوا أن الشافعی کان یزورها و یسمع منها الحدیث،و قد زار قبرها أکابر العلماء و أعیان [2]الدولة،و ظهرت لها کرامات فی حیاتها و بعد وفاتها رضی اللّه عنها.

سیدهم.و روی أن أبا حنیفة قال:دخلت المدینة فأتیت أبا عبد اللّه الصادق علیه السّلام فسلّمت علیه و خرجت من عنده،فرأیت ابنه موسی فی دهلیز داره قاعدا فی مکتب -و هو صغیر السن-فقلت له:أین یحدث الغریب عندکم إذا أراد ذلک؟فنظر إلی ثم قال:«تجنّب شطوط الأنهار،و مسقط الثمار،و فیء النزال،و أفنیة الدور،و الطرق النافذة و المساجد،و یرفع و یضع بعد ذلک حیث شاء».فلما سمعت هذا القول نبل فی عینی و عظم فی قلبی،فقلت له:فممن المعصیة؟فنظر إلیّ ثم قال:«أجلس حتی أخبرک»فجلست فقال:«إن المعصیة لا بد أن تکون من العبد أو من ربه أو منهما جمیعا،فإن کانت من اللّه عزّ و جلّ فهو أعدل و أنصف من أن یظلم عبده بما لم یفعله، و إن کانت منهما فهو شریکه و القوی أولی بإنصاف عبده الضعیف.و إن کانت من العبد وحده فعلیه وقع الأمر و إلیه توجه النهی و له حق الثواب و العقاب،و لذلک وجبت الجنة و النار»قال:فلما سمعت ذلک قلت:ذریة بعضها من بعض و اللّه سمیع علیم (1).

فقد کشف الإمام موسی الکاظم-علی صغر سنّه-عن المسألة التی استعصی فهمها علی الناس،و کانت مثار جدل و سببا فی العداوات و القتل و الطعون،حتی شملت أبا حنیفة نفسه.

لقد کان المجتمع ینظر إلی الإمام موسی نظرة إکبار و تقدیر،و لما آلت إلیه الإمامة و تسلّم زعامة البیت العلوی،صادف علی الحکم بعد المنصور حکاما کالمهدی و الرشید ترتعد فرائصهم خوفا و رعبا من البیت العلوی،إذ مضی زمن المنصور الداهیة الذی استطاع أن یواجه البیت العلوی،و یلجأ إلی کل السبل و الوسائل للوقوف بوجه الإمامة و المنزلة الروحیة،و یستخدم الوحشیة و القتل لیقضی علی ثوراتهم و حرکاتهم.

فکان البیت العلوی شغل الدولة الشاغل و هاجسهم الدائم،یقضّ مضاجعهم، و یکدّر أوقات سکرهم و ملذاتهم و تبذّلهم فی الملاهی و الشهوات.

و من المتسالم علیه،أن الملوک الذین عاصرهم الإمام الکاظم علیه السّلام کانوا قد شدّدوا الرقابة علیه و اتهموه بأنه مصدر حرکات الثوار و محل تجمع الفئات التی لا تعترف بشرعیة الدولة،و کذلک الذین ینقمون علی الحکام سوء تصرفهم فإنهم یجدون

ص:431


1- (1) روضة الواعظین ج 1 ص 39-40. [1]

فی الإمام موسی الکاظم شخصیة الخلیفة العادل و الحاکم الذی تحتاج الأمة رعایته و قیادته.

فکان محل تخوّف الحکام.فهم یحذرونه أشدّ الحذر،فهو أکبر العلویین و أعلمهم،و الشیعة تغدو و تروح إلیه،و هم یقصدونه من سائر البلاد الإسلامیة،و لا یملک بنو العباس أنفسهم تجاه هذه المکانة.فیروی المأمون عن أبیه هارون أنه قال لبنیه فی حق الإمام الکاظم:أنا إمام الجماعة فی الظاهر و الغلبة و القهر،و إنه-أی الکاظم علیه السّلام-و اللّه لأحق بمقام رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم منّی و من الخلق جمیعا،و و اللّه لو نازعنی هذا الأمر لأخذت بالذی فیه عیناه فإن الملک عقیم (1).

و سنطلع علی نبذ أخری من سیرته الزکیة.

ولادته

:

ولد الإمام موسی بن جعفر سنة 128-129 ه یوم الأحد سابع صفر بالأبواء- قریة بین مکة و المدینة-عند رجوع أبیه و أمه من الحج فی تلک السنة،فبشّر الإمام الصادق أصحابه الذین کانوا معه فی ذلک الموضع و أخبر خواصّ أصحابه بأنه الإمام من بعده،ثم أجری جمیع المراسیم الشرعیة لمولده الجدید،فأذّن فی أذنه الیمنی، و أقام فی أذنه الیسری،و أولم بعد ولادته،فأطعم الناس ثلاثا.

و عند ما دخل المدینة المنورة،أقبلت الوفود إلیه یهنئونه بمولوده و یشارکونه أفراحه،و کان علیه السّلام یظهر لهم فرحه بهذا المولود،و یشید به و أنه الخلف الصالح و الإمام من بعده.و نشأ صلوات اللّه علیه تحت رعایة أبیه نشأة صالحة،و اتصف بخصال الکمال،و لقّب بالعبد الصالح،و ینعت بالکاظم،و یکنی بأبی إبراهیم و بأبی الحسن.

و أمه أم ولد اسمها حمیدة الأندلسیة أو البربریة،و مدحها الإمام الصادق علیه السّلام بأنها مصفّاة من الدنس کسبیکة الذهب.و مات أبوه الصادق و له من العمر تسع عشر سنة.

و حصل بعد موت الإمام الصادق علیه السّلام خلاف بین أتباعه،فمنهم من قال

ص:432


1- (1) روضة الواعظین ج 1 ص 39-40.

بإمامة محمد بن إسماعیل بن الإمام الصادق و هؤلاء قلة،و لم یسمعوا النص علی الإمام موسی من أبیه،و بعد مدة رجع أکثرهم إلی القول بإمامته.و منهم من قال بإمامة موسی علیه السّلام للنص علیه من أبیه،و سیأتی بیان ذلک.

و کان عبد اللّه الأفطح قد ادّعی الإمامة و اتبعه البعض،و لم یکن عنده علم، و لم یجدوا فیه مؤهلات الإمامة،فرجعوا عنه.

و قام الإمام موسی علیه السّلام بأعباء الإمامة فی ذلک العصر المضطرب بالفتن،و قد کثرت فیه الخلافات فی الآراء،و ظهرت فیه العقائد المختلفة،و نبغ أناس حادوا عن طریقة المسلمین،فجاءوا بآراء إلحادیة،و نشروا أقوالا تثیر الشک.فکانت مدرسته التی تزعّمها بعد أبیه تواصل نشاطها فی قمع تلک الحرکات،و صدّ تلک الهجمات عن الدین الإسلامی.و خرج دعاة الإمام موسی إلی الأقطار الإسلامیة لنشر الدعوة و التصدّی لردّ تلک الأقوال،و تنفیذ تلک الآراء التی انتشرت فی المجتمع الإسلامی.

و الذی یظهر من تتبع الروایات أنه فی بدء أمره کان یحذر أشدّ الحذر من المنصور الدوانیقی،لأن المنصور ملأ المدینة بالجواسیس لیعرف علی من یجتمع الناس بعد جعفر بن محمد الصادق علیه السّلام فإذا عرفه فهناک سیحتال لقتله لعلمه بتعلق الناس بأهل البیت،و أن الإمام الصادق قد انتشر ذکره،و تفرّقت دعاته فی جمیع الأقطار و لا بد أن یقوم مقامه أحد،فرأی علیه السّلام فی بدء الأمر،أن یحذر و یحسب لنقمة المنصور حسابها،و لکن بعد وفاة المنصور سنة 152 ه خفّت الوطأة و قل الحذر عند ما ولی المهدی،لأنه أقل شدة من أبیه فی معاملة أهل البیت علیه السّلام.

و لکن التفاف الناس حول الإمام موسی بن جعفر علیه السّلام و إقبالهم علی أخذ الأحکام منه و الروایة عنه،جعل المهدی قلقا من أمره،لأنه أعرف الناس بمنزلة أهل البیت فی قلوب الأمة.فهم الساسة الذین ابتعدوا عن الاستغلال و الأثرة،و جانبوا کلما من شأنه أن یضع من قیمة تلک المنزلة السامیة،و هم یحتفظون بمکانتهم الروحیة و رتبهم العلمیة،لم یطلبوا بذلک جاها،أو یحاولوا جمع الأموال و صرفها فی غیر ما شرعه اللّه.

و قد أوضحوا فی سیرتهم أنهم ینهجون نهج جدّهم الرسول الأعظم فی إقامة العدل و نصرة المظلوم و إعلان الحرب علی الظالمین و بذل النصح لجمیع المسلمین.

ص:433

و کان الإمام موسی علیه السّلام تتمثل فیه خصال الکمال،و تتجسّم فیه شخصیة الإمام الحق،و لعظم الأهوال و شدّة المحن،غلبت علیه صفة الکاظم،و کان من خصاله:التجاوز عن المعتدین (1).

و کان یدعی بالعبد الصالح لعبادته و اجتهاده،و کان سخیا کریما،و کان یبلغه عن الرجل أنه یؤذیه؛فیبعث إلیه بصرّة فیها ألف دینار (2).

و بقی علیه السّلام مدة فی أیام المهدی فی المدینة،یقوم بإرشاد الناس و هدایة الخلق،الأمر الذی جعل المهدی یتخوّف من انتشار دعوته و قوة جانبه،فلم یأمن وثبة الشیعة بقیادة الإمام موسی،فعمد إلی إبعاده عن المدینة و إقامته فی بغداد تحت رقابة شدیدة،أو أنه سجنه کما هو المشهور.

و مکث علیه السّلام فی السجن مدة أشهر،ثم أطلقه المهدی لرؤیا رآها کما حدّث الفضل بن الربیع عن أبیه أنه لما حبس موسی بن جعفر علیه السّلام رأی فی النوم علی ابن أبی طالب و هو یقول:یا محمد(أی المهدی) فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَکُمْ .قال الربیع:فأرسل إلیّ لیلا فجئته،فإذا هو یقرأ هذه الآیة، و کان أحسن الناس صوتا و قال:علیّ بموسی بن جعفر،فجئته فعانقه و أجلسه إلی جانبه و قال:یا أبا الحسن إنی رأیت أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب فی النوم یقرأ علیّ کذا، فتؤمننی أن لا تخرج علیّ أو علی أحد من ولدی.

فقال علیه السّلام:«و اللّه لا فعلت ذاک و لا هو من شأنی».

قال:صدقت.یا ربیع أعطه ثلاثة آلاف دینار،و ردّه إلی أهله إلی المدینة (3).

و علی روایة الجنابذی فی المعالم أنه وصله بعشرة آلاف.

و من هنا نستظهر أن المهدی لم یسجن موسی لشیء فی نفسه من عداء أو اعتداء،و إنما کان یحذره علی ملکه من الزوال،و لم یخش أی شخصیة فی عصره من جمیع الطوائف و البیوت سوی الإمام موسی لمؤهلاته و مکانته فی نفوس الأمة،فهو یخشی من نهضة تطیح بعرشه،و لا تکون إلا علی ید الإمام.

ص:434


1- (1) سبائک الذهب فی معرفة قبائل العرب لأبی الفوز البغدادی.
2- (2) الخطیب البغدادی،تاریخ بغداد 257/13. [1]
3- (3) نفس المصدر 26/13. [2]

و یمکننا القول بأن المهدی فرض علیه الإقامة الجبریة فی بغداد،و هیأ له مکانا یسکن فیه،کما یدل علیه قوله للربیع:و ردّه إلی أهله فی المدینة.إذ لو اقتصر علی قوله:إلی أهله.فالمتبادر إلی محله المعدّ له فی بغداد.فأکد علیه بقوله:أن ردّه إلی المدینة.فأسرع الربیع تجهیزه بسرعة خشیة تبدّل الأمر،و یندم المهدی إلی إطلاقه.

و أقام صلوات اللّه علیه بالمدینة مدة أیام المهدی،و لما ولیّ موسی الهادی فکانت واقعة فخ المروعة و قتل الحسین بن علی صاحب فخ،و حمل رأسه و الأسری من أصحابه إلی موسی الهادی،و أمر برجل من الأسری،فوبخه ثم قتله،ثم صنع ذلک بجماعة من الطالبیین،و جعل ینال منهم،إلی أن ذکر موسی بن جعفر علیه السّلام و قال:و اللّه ما خرج حسینی إلا من أمره،و لا اتّبع إلا محبّته،لأنه صاحب الوصیة فی أهل هذا البیت،قتلنی اللّه إن أبقیت علیه.

فقال له أبو یوسف القاضی:یا أمیر المؤمنین أقول أم أسکت؟ فقال موسی:قتلنی اللّه إن عفوت عن موسی بن جعفر،و لو لا ما سمعت من المهدی فیما أخبر به المنصور ما کان به جعفر من الفضل عن أهله فی دینه و علمه و فضله،و ما بلغنی عن السفّاح فیه من تقریضه و تفضیله لنبشت قبره.

فقال أبو یوسف:نساؤه طوالق،و عتق جمیع ما یملک من الرقیق،و تصدّق بجمیع ما یملک من المال،و حبس دوابه،و علیه المشی إلی بیت اللّه الحرام إن کان مذهب موسی الخروج،و لا یذهب إلیه و لا مذهب أحد من ولده،و لا ینبغی أن یکون هذا منهم.

و لم یزل أبو یوسف یخاطب الهادی،و یخفّف حدّة غضبه بکلام رقیق،حتی سکن غضبه.

و کتب علی بن یقطین (1)إلی أبی الحسن موسی بن جعفر علیه السّلام فلما وصل

ص:435


1- (1) من أکبر أصحاب الإمام الکاظم و أعظمهم منزلة،و کان أبوه من وجوه الدعوة إلی الرضا من آل محمد،فطلبه مروان،فهرب.و لما قامت دولة بنی العباس عمل یقطین مع السفاح و المنصور، و کان شیعیا یقول بالإمامة،و یحمل الأموال إلی الإمام الصادق،و [1]کان علی من کبار رجال دولة بنی العباس فی عهد هارون الرشید.و لما توفی صلی علیه ولی العهد محمد.له کتب منها:ما سئل عنه الصادق من الملاحم،و کتاب مناظرة الشاک بحضرته،و له مسائل عن الإمام الکاظم.ولد رحمه اللّه فی الکوفة سنة 124 ه و توفی فی بغداد سنة 182 ه.

الخبر أخبر علیه السّلام أهل بیته و شیعته،و قال لهم:«ما تشیرون فی هذا؟»فأشاروا علیه بأن یتواری و یباعد بشخصه عن الطاغیة.

فتبسم علیه السّلام ثم تمثّل ببیت کعب بن مالک أخو بنی سلمة:

زعمت سخینة أن ستغلب ربّها فلیغلبنّ مغلّب الغلاّب

ثم أقبل علی من حضر من موالیه،و أهل بیته و قال:«لیفرخ روعکم،إنه لا یرد أول کتاب من العراق إلا بموت موسی الهادی و هلاکه».

فقالوا:و ما ذاک أصلحک اللّه؟ثم أخبرهم بأنه رأی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی المنام و شکی إلیه موسی بن المهدی.و ما جری منه فی أهل بیته.فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم «لتطب نفسک یا موسی،فاجعل اللّه لموسی علیک سبیلا»ثم قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«قد أهلک اللّه آنفا عدوک،فلتحسن للّه شکرک».

و فی روایة الحافظ ابن شهرآشوب أنه علیه السّلام تمثّل بقول الشاعر:

زعم الفرزدق أن سیقتل مربعا أبشر بطول سلامة یا مربع

ثم رفع رأسه إلی السماء و قال:

«إلهی کم من عدو شحذ لی ظبة مدیته،و أرهف لی شبا حدّه،و داف لی غوائل سمومه،و لم تنم عنّی عین حراسته،فلما رأیت ضعفی من احتمال الفوادح،و عجزی عن ملمّات الجوائح،صرفت ذلک عنّی بحولک و قوتک،لا بحولی و قوتی...»إلی آخر الدعاء.

ثم أقبل علی أصحابه فقال لهم:«إنه لا یأتی أول کتاب من العراق إلا بموت موسی بن المهدی».ثم تفرّق القوم،فما اجتمعوا إلا لقراءة الکتب الواردة بموت موسی بن المهدی،و فی ذلک یقول شاعر أهل البیت فی وصف سرعة استجابة الدعاء:

و ساریة لم تسر فی الأرض تبتغی محلا و لم یقطع بها البعد قاطع

سرت حیث لم تحد الرکاب و لم تنخ لورد و لم یقصد بها البعد مانع

تمرّ وراء اللیل و اللیل ضارب بجثمانه فیه سمیر و هاجع

تفتح أبواب السماوات دونها إذا قرع الأبواب منهنّ قارع

إذا وفدت لم یردد اللّه وفدها علی أهلها و اللّه راء و سامع

ص:436

و إنی لأرجو اللّه حتی کأنما أری بجمیل الظنّ ما اللّه صانع

و کان الإمام من جرّاء حب الناس له و تقدیسهم إیاه یرجو أن لا یظنّ به فوق مرتبته الدینیة و مهمات إمامته،و یبعد بالناس عن أسباب الغلوّ،سأله أحدهم:

إنی رأیت اللیلة فی منامی أنی سألتک کم بقی من عمری،فرفعت یدک الیمنی و فتحت أصابعها فی وجهی مشیرا إلیّ،فلم أعلم خمس سنین أم خمسة أشهر أم خمسة أیام؟فقال علیه السّلام:«و لا واحدة منهن،بل ذاک إشارة إلی الغیوب الخمسة التی استأثر اللّه تعالی بها فی قوله: إِنَّ اللّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ ...»

من حکمه و مواعظه

:

«إیاک أن تمنع فی طاعة اللّه،فتنفق مثلیه فی معصیة اللّه».

و قال له وکیله:ما خنتک.فقال:«خیانتک و تضییعک علیّ ما لی سواء، و الخیانة أشرّهما علیک».

و قال علیه السّلام:«لیس حسن الجوار کفّ الأذی،و لکن حسن الجوار الصبر علی الأذی».

و قال علیه السّلام:«لا تذهب الحشمة بینک و بین أخیک،و أبق منها،فإن ذهابها ذهاب الحیاء».

و قال علیه السّلام لبعض ولده:«یا بنی إیاک أن یراک اللّه فی معصیة نهاک عنها،و إیاک أن یفقدک اللّه عند طاعة أمرک بها،و علیک بالجدّ و لا تخرجنّ نفسک من التقصیر فی عبادة اللّه و طاعته،فإن اللّه لا یعبد حق عبادته.و إیاک و المزاح فإنه یذهب بنور إیمانک و یسحن مروّتک.و إیاک و الضجر و الکسل فإنهما یمنعان حظک من الدنیا و الآخرة».

و قال علیه السّلام:«إذا کان الجور أغلب من الحق،لم یحلّ لأحد أن یظن بأحد خیرا حتی یعرف ذلک منه».

و قال لعلی بن یقطین:«کفّارة عمل السلطان الإحسان إلی الإخوان».

و قال علیه السّلام:«کلما أحدث الناس من الذنوب ما لم یکونوا یعملون،أحدث اللّه لهم من البلاء ما لم یکونوا یعدّون».

و قال علیه السّلام:«إذا کان الإمام عادلا کان له الأجر و علیک الشکر،و إذا کان جائرا کان علیه الوزر و علیک الصبر».

ص:437

«إن صلاحکم من صلاح سلطانکم،فإن السلطان العادل بمنزلة الوالد الرحیم، فأحبّوا له ما تحبّون لأنفسکم،و أکرهوا له ما تکرهون لأنفسکم».

و قال علیه السّلام:«أخذ أبی بیدی و قال:إن أبی محمد بن علی أخذ بیدی و قال:

إن أبی علی بن الحسین أخذ بیدی و قال:یا بنی افعل الخیر إلی کل من طلبه منک، فإن کان من أهله فقد أصبت موضعه.و إن لم یکن له بأهل فکن أنت من أهله،و إن شتمک رجل عن یمینک،ثم تحول إلی یسارک و اعتذر إلیک؛فاقبل منه».

«إن أهل الأرض لمرحومون ما تحابّوا و أدّوا الأمانة و عملوا بالحق».

«لا تضیّع حق أخیک اتکالا علی ما بینک و بینه،فإنه لیس بأخ من ضیّعت حقّه، و لا یکونن أخوک أقوی علی قطیعتک منک علی صلته».

«من طلب هذا الرزق من حلّه لیعود به علی نفسه و عیاله،کان کالمجاهد فی سبیل اللّه،فإن غلب علیه فلیستدن علی اللّه و علی رسوله،فإن مات و لم یقضه کان علی الإمام قضاؤه،فإن لم یقضه کان علیه وزره،إن اللّه عز و جل یقول: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ وَ الْعامِلِینَ ...الخ و هذا فقیر مسکین مغرم».

«الناس أشکال،و کلّ یعمل علی شاکلته،و الناس إخوان فمن کانت أخوته فی غیر ذات اللّه فإنها تعود عداوة،و ذلک قوله تعالی: اَلْأَخِلاّءُ یَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِینَ ».

«من استحسن قبیحا کان شریکا فیه».

«کفر النعمة داعیة المقت،و من جازاک بالشکر فقد أعطاک أکثر مما أخذ منک».

«لا تضمر نفسک الظنّ علی صدیق قد أصلحک الیقین له،و من وعظ أخاه سرا فقد زانه،و من وعظه علانیة فقد شانه».

«لا یزال العقل و الحمق یتغالبان علی الرجل إلی أن یبلغ ثمانی عشرة سنة،فإذا بلغها غلب علیه أکثرها فیه».

«و ما أنعم اللّه عز و جل علی عبد نعمة،فعلم أنها من اللّه،ألاّ کتب اللّه علی اسمه شکرها له قبل أن یحمده علیها».

ص:438

«الشریف کل الشریف من شرّفه علمه،و السؤدد کل السؤدد لمن اتقی ربه».

«لا تعاجلوا الأمر قبل بلوغه فتندموا،و لا یطولنّ علیکم الأمل فتقسو قلوبکم، و ارحموا ضعفائکم،و اطلبوا الرحمة من اللّه بالرحمة منکم».

«من أمّل فاجرا،کان أدنی عقوبته الحرمان».

«موت الإنسان بالذنوب أکبر من موته بالأجل».

«لو کانت السموات و الأرض رتقا علی عبد،ثم اتقی اللّه یجعل اللّه له منهما فرجا».

«من وثق باللّه و توکّل علی اللّه نجّاه اللّه من کل سوء و حرسه من کل عدو.

و الدین عزّ،و العلم کنز،و الصمت نور،و غایة الزهد الورع،و لا هدم للدین مثل البدع،و لا أفسد للرجال من الطمع.و بالراعی تصلح الرعیة،و بالدعاء تصرف البلیة.

و من رکب مرکب الصبر اهتدی إلی مضمار النصر.و من غرس أشجار التقی اجتنی ثمار المنی».

و قال علیه السّلام لبشر بن سعد:«یا بشر،للمحن أخریات،فیجب علی العاقل أن ینام لها إلی إدبارها،فإن مکابدتها بالحیل عند إقبالها زیادة فیها» (1).

«کیف یضیع من اللّه کافله،و کیف ینجو من اللّه طالبه».

«إن للّه عبادا یخصّهم بدوام النعم،فلا تزال فیهم ما بذلوها؛فإن منعوها نزعها اللّه عنهم و حولها إلی غیرهم».

«ما عظمت نعمة اللّه علی أحد إلا عظمت إلیه حوائج الناس،فمن لم یتحمل تلک المئونة عرّض تلک النعمة للزوال.أهل المعروف إلی ما یصطنعون أحوج من أهل الحاجة إلیه،لأن لهم أجره و فخره و ذکره،فمهما اصطنع الرجل من معروف فإنما یبتدئ فیه نفسه».

«من أجلّ إنسانا هابه،و من جهل شیئا عابه،و الفرصة خلسة».

«من استغنی باللّه افتقر الناس إلیه،و من اتقی اللّه أحبه الناس».

«الجمال فی اللسان،و الکمال فی العقل».

ص:439


1- (1) الشبلخی 164.

«العفاف زینة الفقر،و الشکر زینة البلاء،و التواضع زینة الحسب،و الفصاحة زینة الکلام،و الحفظ زینة الروایة،و حفظ الجناح زینة العلم،و حسن الأدب زینة الورع،و بسط الوجه زینة القناعة».

«حسب المرء من کمال المروة أن لا یلقی أحدا بما یکره،و من حسن خلق الرجل کفّه أذاه،و من سیمائه برّه بمن یجب حقّه علیه،و من إنصافه قبول الحق إذا بان له،و من نصحه نهیه عمّا لا یرضاه لنفسه،و من حفظه لجواره،ترکه توبیخه،و من رفقه ترکه عذلک بحضرة من تکره،و من حسن صحبته لک إسقاطه عنک مؤونة التحفّظ،و من علامة صداقته کثرة موافقته و قلة مخالفته،و من شکره معرفة إحسان من أحسن إلیه،و من تواضعه معرفته بقدره،و من سلامته قلّة حفظه لعیوب غیره و عنایته بصلاح عیوبه».

«من أخطأ وجوه المطالب خذلته الحیل،و الطامع فی وثاق الذل».

«العلماء غرباء لکثرة الجهال بینهم».

«الصبر علی المصیبة مصیبة علی الشامت».

«ثلاث یبلغن بالعبد رضوان اللّه کثرة الاستغفار،و لین الجانب،و کثرة الصدقة».

«ثلاث من کنّ فیه لم یندم:ترک العجلة،و المشورة،و التوکل علی اللّه عند العزم».

«لو سکت الجاهل ما اختلف الناس».

«مقتل الرجل بین فکّیه،و الرأی مع الأناة،و بئس الظهر الرأی الفطیر».

«ثلاث خصال تجتلب بهنّ المودّة:و الإنصاف فی المعاشرة،و المواساة فی الشدّة،و الانطواء علی قلب سلیم».

و قال علیه السّلام لهشام:«من أراد الغنی بلا مال،و راحة القلب من الحسد، و السلامة فی الدین؛فلیتضرّع إلی اللّه عز و جل فی مسألته بأن یکمل عقله.فمن عقل قنع بما یکفیه،و من قنع بما یکفیه استغنی،و من لم یقنع بما یکفیه لم یدرک الغنی».

ص:440

أولاده:

أنجب الإمام موسی بن جعفر عدة أولاد ذکورا و إناثا،و کانوا مثالا للفضل و صورة صادقة للخلق الإسلامی الکامل،یقول الشیخ الطوسی:إن لکل واحد من أولاد أبی الحسن موسی فضلا و منقبة مشهورة.

و قد وقع اختلاف فی تحدید عدد تلک الذریة الطیبة،فمن قائل أنهم ثلاث و ثلاثون الذکور منهم،و الإناث ستة عشر.و قیل:الذکور 37 و الإناث 19.أو أن الذکور 38 و الإناث 18.و المشهور أن ذریته علیه السّلام سبعة و ثلاثون ولدا ذکرا و أنثی.

أما الذکور فهم:إبراهیم و العباس و القاسم،لأمهات أولاد،و إسماعیل و جعفر، و هارون و الحسن لأم ولد،و أحمد و محمد و حمزة لأم ولد،و عبد اللّه و إسحاق و عبید اللّه و زید و الحسن و الفضل و سلیمان لأمهات أولاد.

أما البنات فهن:فاطمة الکبری،و فاطمة الصغری،و کلثم،و أم جعفر،و لبابة، و زینب،و خدیجة،و علیّة،و آمنة،و حسنة،و بویهة،و عائشة،و أم سلمة،و میمونة، و أم کلثم.

هکذا ذکرهم الشیخ المفید علیه الرحمة.و قال ابن الخشّاب:ولد له عشرون ولدا ذکرا و ثمانیة عشر بنتا.

و عدّهم فی صحاح الأخبار سبعة و ثلاثین ولدا بین ذکر و أنثی،ثم ذکرهم مع اختلاف بسیط بین ما ذکرهم و بین ما قدمناه.

و قد اختلفوا فیمن أعقب من أولاده علیه السّلام و قد اتفقوا علی أن عقبه من عشرة من أولاده،و قیل أربعة عشر.

ص:441

ص:442

الإسماعیلیة و الإمامة

اشارة

مرت الإمامة فی عهد أبی جعفر المنصور بأدوار غایة فی الصعوبة-کما رأینا- و قد تمکن الإمام الصادق علیه السّلام أن یجتاز دوائر الهلاک التی وضعها الحاکم الظالم و أن یجنّب أصحابه و شیعته ابتلاءات الحدید،و أن لا یعضّهم سیف الحکام قدر الإمکان، و قد علم الإمام الصادق-بما وهبه اللّه من حکمة و معرفة بالأحوال-إن غدر المنصور لن ینتهی،و أنه یتربّص الفرص للانتقام من أهل بیت النبوة،فکان تدبیره الوصیة بالشکل الذی یفوّت علی المنصور الفرصة،فلما توفی الإمام الصادق علیه السّلام و بلغ المنصور الخبر،کتب:إن کان أوصی الإمام الصادق إلی رجل بعینه یقدّم و یضرب عنقه.فرجع إلیه الجواب أنه أوصی إلی خمسة نفر أحدهم أبو جعفر المنصور و محمد بن سلیمان و عبد اللّه و موسی و حمیدة.و فی روایة أخری:إن الإمام الصادق علیه السّلام أوصی إلی أبی جعفر المنصور و موسی و محمد بن جعفر أولاده،و مولی لأبی عبد اللّه علیه السّلام.

فقال أبو جعفر المنصور:لیس إلی قتل هؤلاء سبیل (1).

و سنری أن أمر الوصیة و تدبیرها علی هذا الشکل قد مرّ بمرحلتین:

الأولی:الإعداد للوصایة و التهیؤ للإمامة،و إظهار ابنه موسی فی منزلتهما لدی شیعة أهل البیت،حتی إذا وضح فی أذهان الناس النص و استقروا علی الأمر،أتبعه الإمام الصادق بالتدبیر التالی و المرحلة الثانیة:التی قصد بها کفّ الأذی عن وصیّه و إمام الناس من بعده،و هو تدبیر أحبط مسعی عدوّهم،و أسقط فی یده.و لو لا هذا التدبیر الذی أراده اللّه،لنفّذ الدوانیقی ما کان یتمنّاه،فکان الرشید من تولی الجریمة، و لکن بعد أن قام الإمام الکاظم بالتبلیغ،و نفذ الرسالة و الأحکام،و هکذا الحکام من

ص:443


1- (1) الغیبة للشیخ الطوسی.و منهج الدعوات للسید ابن طاوس.

الأمویین و العباسیین یتوارث الخلف عن السلف مهمة قتل أبناء النبوة و إنزال المصائب بأهل البیت الکرام.

روی ابن شهرآشوب فی المناقب عن داود بن کثیر الرقی قال:أتی أعرابی إلی أبی حمزة الثمالی فسأله خبرا فقال:توفی جعفر الصادق،فشهق شهقة و أغمی علیه.

فلما أفاق قال:هل أوصی إلی أحد؟قال:نعم،أوصی إلی ابنه عبد اللّه و موسی و أبی جعفر المنصور.فضحک أبو حمزة و قال:الحمد للّه الذی هدانا إلی الهدی، و بیّن لنا عن الکبیر،و دل علی الصغیر،و أخفی عن أمر عظیم.فسئل عن قوله؟ فقال:بیّن عیوب الکبیر،و دل علی الصغیر لإضافته إیاه،و کتم الأمر بالوصیة للمنصور،لأنه لو سأل المنصور عن الوصی.لقیل:أنت (1).

و یورد الشیخ المفید أمر الوصیة مورد الدلالة علی النص بالوصیة للإمام موسی بن جعفر،و ینفی-رحمه اللّه-ذکر الإمام الصادق لأحد من أولاده مع ولده موسی،و یقول:

و قد تظاهر الخبر فیما کان عن تدبیر أبی عبد اللّه جعفر بن محمد علیه السّلام و حراسة ابنه موسی بن جعفر علیه السّلام بعد وفاته من ضرر یلحقه بوصیته إلیه،و أشاع الخبر عن الشیعة إذ ذاک باعتقاد إمامته من بعده،و الاعتماد علی حجتهم،لذلک علی إفراده بوصیة مع نصه علیه بنقل خواصه،فعدل عن إفراده بالوصیة عند وفاته،و جعلها إلی خمسة نفر أولهم المنصور،و قدّمه علی جماعتهم،إذ هو سلطان الوقت و مدبر أهله،ثم صاحبه الربیع من بعده،ثم قاضی وقته،ثم جاریته و أم ولده حمیدة البربریة،و ختمهم بذکر ابنه موسی بن جعفر علیه السّلام یستر أمره و یحرس بذلک نفسه، و لم یذکر مع ولده أحدا من أولاده لعلمه بأن منهم من یدّعی مقامه من بعده،و یتعلق بإدخاله فی وصیته،و لو لم یکن موسی علیه السّلام ظاهرا مشهورا فی أولاده،معروف المکان منه و صحة نسبه و اشتهار فضله و علمه و حکمته و امتثاله و کماله،بل کان مثل ستر الحسن علیه السّلام ولده لما ذکره فی وصیته،و لاقتصر علی ذکر غیره ممن سمیناه، لکنه ختمهم فی الذکر به کما بیناه (2).

ص:444


1- (1) أعیان الشیعة للسید العاملی ج 4 ص 226. [1]
2- (2) الفصول العشرة فی الغیبة للشیخ المفید.

و یتجه القول إذا علمنا أن عبد اللّه کان یظهر المخالفة لأبیه الإمام الصادق، روی الفضل عن طاهر بن محمد عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قال:رأیته یلوم عبد اللّه ابنه و یعظه و یقول له:«ما یمنعک أن تکون مثل أخیک،فو اللّه إنی لأعرف النور فی وجهه؟»فقال عبد اللّه:و کیف أ لیس أبی و أبوه واحدا،و أصلی و أصله واحدا؟فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«إنه من نفسی،و أنت ابنی» (1).

و إن عبد اللّه أفطح الرجلین،ناقص التکوین.یروی الشیخ المفید أن جماعة من أصحاب الإمام الصادق کانوا فی المدینة،فسألوا عبد اللّه-و قد اجتمع علیه من ظن بإمامته بعد أبیه-فسألوه عن الزکاة فی کم تجب؟فقال فی کل مائتی درهم خمسة دراهم،فقالوا له:ففی مائة؟قال درهمان و نصف،فقالوا:و اللّه ما تقول المرجئة هذا.فقال:و اللّه ما أدری ما تقول المرجئة.

و یتبین بذلک جهل عبد اللّه بأحکام الشریعة،و عدم أهلیته لاحتلال مکان أبیه، و قد وشّحت أنوار الإمامة وجه أخیه موسی منذ کان فی المهد،فکان الإمام الصادق یقف علی رأسه و هو فی المهد و یسارّه طویلا،و روی الوشاء عن علی بن الحسین، عن صفوان الجمّال قال:سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام عن صاحب هذا الأمر؟فقال:

«إن صاحب هذا الأمر لا یلهو و لا یلعب»فأقبل أبو الحسن علیه السّلام و هو صغیر و معه بهمة(ولد البقر أو المعز أو الضأن)و هو یقول لها:«اسجدی لربک»فأخذه أبو عبد اللّه علیه السّلام و ضمّه إلیه و قال:«بأبی و أمی من لا یلهو و لا یلعب» (2).

و کان الإمام الصادق یمیّزه عن أولاده،و یفضّله علیهم و یقول:«هؤلاء أولادی، و هذا سیدهم» (3).و لشدّة حب الإمام الصادق علیه السّلام له قیل له:ما بلغ من حبک لموسی؟قال علیه السّلام:«وددت أن لیس لی ولد غیره،لئلا یشرکه فی حبی أحد» (4).

و روی محمد بن الولید قال:سمعت علی بن جعفر بن محمد الصادق علیهما السّلام یقول:سمعت أبا جعفر بن محمد علیهما السّلام یقول لجماعة من خاصته و أصحابه:

«استوصوا بابنی موسی علیه السّلام خیرا،فإنه أفضل ولدی،و من أخلف من بعدی،و هو القائم مقامی،و الحجة للّه تعالی علی کافة خلقه من بعدی».

ص:445


1- (1) الإرشاد ص 271. [1]
2- (2) الإرشاد. [2]
3- (3) ینابیع المودة للقندوزی الحنفی.
4- (4) الإتحاف [3]للشبراوی الشافعی.

و قد ذکر الشیخ المفید جماعة ممن رووا صریح النص بالإمامة من أبی عبد اللّه علیه السّلام علی ابنه أبی الحسن موسی علیه السّلام من شیوخ أصحاب الإمام الصادق و خاصته و ثقاته الفقهاء الصالحین رحمة اللّه علیهم،منهم:المفضل بن عمر الجعفی،و معاذ بن کثیر،و عبد الرحمن بن الحجّاج،و الفیض بن المختار، و یعقوب السرّاج،و سلیمان بن خالد،و صفوان الجمّال و غیرهم ممن یطول ذکرهم.

و قد روی ذلک من أخوی الإمام الکاظم:إسحاق و علی.و کانا من الفضل و الورع علی ما لا یختلف فیه اثنان.

فروی عن المفضل بن عمر الجعفی رحمه اللّه قال:کنت عند أبی عبد اللّه علیه السّلام فدخل أبو إبراهیم موسی علیه السّلام-و هو غلام-فقال لی أبو عبد اللّه علیه السّلام:«استوص به،وضع أمره عند من تثق من أصحابک».

و روی عن معاذ بن کثیر عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قلت:أسأل اللّه الذی رزق أباک منک هذه المنزلة أن یرزقک من عقبک قبل الممات مثلها،فقال:«قد فعل اللّه ذلک»قلت:من هو جعلت فداک؟فأشار إلی العبد الصالح و هو راقد فقال:«هذا الراقد»و هو یومئذ غلام.

و عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال:دخلت علی جعفر بن محمد علیهما السّلام فی منزله،فإذا هو فی بیت کذا من داره،فی مسجد له و هو یدعو،و علی یمینه موسی بن جعفر علیهما السّلام یؤمّن علی دعائه.فقلت له:جعلنی اللّه فداک،قد عرفت انقطاعی إلیک و خدمتی لک،فمن ولیّ الأمر بعدک؟قال:«یا عبد الرحمن،إن موسی قد لبس الدرع و استوت علیه»فقلت له:لا أحتاج بعد هذا إلی شیء.

و عن الفیض بن المختار قال:قلت لأبی عبد اللّه علیه السّلام:خذ بیدی من النار،من لنا بعدک؟قال:فدخل أبو إبراهیم و هو یومئذ غلام.فقال:«هذا صاحبکم فتمسّک به».

و عن منصور بن حازم قال:قلت لأبی عبد اللّه علیه السّلام:بأبی أنت و أمی،إن الأنفس یغدا علیها و یراح،فإذا کان ذلک فمن؟فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«إذا کان ذلک فهو صاحبکم»و ضرب علی منکب أبی الحسن الأیمن،و هو فیما أعلم یومئذ خماسی.

ص:446

و صفوة القول:أن الروایات تتعاضد فی إثبات النزعات إلی الإمامة من بین أولاد الإمام الصادق،و هو أمر توهّموه بالعاطفة و تمنّوه،لأن الإمامة تجری بدلائل و تتم بشروط،فیهتدی بیسر إلی صاحبها،و تصرح السجایا و الأعمال باکتمال الشروط،و هو أمر معلوم أصحابه فی عدد معین و شخوص مثبتین،و قد مرّ بنا کیف کانت علامات الإمامة و أمارات الانتساب إلی البیت النبوی فی جواب الإمام الکاظم إلی أبی حنیفة.

فذاع عن أصحاب الإمام الصادق یومئذ ما کان الإمام یقوم به فی رعایة وصیّة الإمام موسی،و انتشر ما کان یوصیه به.منها:«یا بنی اقبل وصیتی،و احفظ مقالتی، فإنک إن حفظتها تعش سعیدا و تمت حمیدا،یا بنی إنه من قنع بما قسم اللّه استغنی و من مدّ عینه إلی ما فی ید غیره مات فقیرا،و من لم یرض بما قسم اللّه عز و جل له اتهم اللّه فی قضائه،و من استصغر زلة نفسه استعظم زلة غیره،و من استصغر زلة غیره استعظم زلة نفسه.یا بنی من کشف حجاب غیره انکشفت عورات بیته،و من سلّ سیف البغی قتل به،و من احتفر لأخیه بئرا سقط فیها،و من خالط السفهاء حقّر،و من خالط العلماء وقّر،و من دخل مداخل السوءاتهم.یا بنی قل الحق لک و علیک، و إیاک و النمیمة فإنها تزرع الشحناء فی قلوب الرجال،یا بنی إذا طلبت الجود فعلیک بمعادنه (1).

و معلوم أن العصر الذی خضنا فی بحثه هو من أخطر العصور السیاسیة و أشدها علی شیعة أهل بیت النبی و أئمتهم المعصومین علیهم السّلام و قد کانت الوصیة بالشکل الذی ارتاه من التدبیر للإبقاء علی حیاة وصیّه و حمایته من ظلم المنصور و حقده.

فتولی الإمام الکاظم أعباء الإمامة و هو یعلم ما علیه المنصور من ظلم و اعتداء، فحرص علی أن لا یذاع أمره و لا تنتشر أجوبته و مسائله،فقد کان یقول لمن یجیبه:

«فإذا أذعت فهو الذبح».

و لکن من خلف المنصور کان أعتی و أعدی،و قد رأینا ما ذا کان علیه المهدی،بعد أن أخذ الإمام الکاظم فی المدینة یحتل مکانته و یقوم باستقبال الوفود و الطلاب من کافة الأقطار.ثم جاءت فترة حکم الرشید،و بدأ وجود الإمام الکاظم یقضّ مضجع الرشید

ص:447


1- (1) صفة الصفوة ج 2 ص 95 و 96. [1]

العباسی،و علی عادتهم إذ کانوا یتخذون الحج ذریعة للوصول إلی مواقع الأئمة من أهل البیت،فحج مرة و اجتمع بالإمام الکاظم عند الکعبة،و قال له الرشید:أنت الذی یبایعک الناس سرّا؟فقال الإمام علیه السّلام:«أنا إمام القلوب،و أنت إمام الجسوم» (1).

و لا یدع الإمام لهارون الرشید فرصة یفتخر بها علی المسلمین بالانتساب إلی النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و لا یترکه یتمتع و یدلّ بشرف القرابة التی یستعملها لظلمه،فلمّا حج هارون الرشید مرة،فأتی قبر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم زائرا له،و حوله قریش و أفیاء القبائل،و معه الإمام موسی الکاظم،فلما انتهی إلی القبر قال الرشید:السّلام علیک یا رسول اللّه یا ابن عمی.افتخارا علی من حوله،فدنا الإمام موسی بن جعفر فقال:«السّلام علیک یا أبة»فتغیّر وجه هارون و قال:هذا الفخر یا أبا الحسن حقا (2).و فی بعض الروایات أن الإمام الکاظم أجابه:«و علیک السّلام یا عبد اللّه»فلم یحتملها الرشید (3).

و لمّا قرب الرشید من المدینة،استقبله الوجوه من أهلها،و تقدمهم الإمام الکاظم علی بغلة،فقال له الربیع:ما هذه الدابة التی تلقیت علیها أمیر المؤمنین، و أنت إن طلبت علیها لم تدرک،و إن طلبت لم تفت؟فقال:«إنها تطأطأت عن خیلاء الخیل،و ارتفعت عن ذلّة العیر،و خیر الأمور أوساطها» (4).

و لم یکن الإمام الکاظم لیخشی الرشید فی أمر هو فیه الحکم و إلیه المفزع،فهو صاحب السلطة الروحیة،و إلیه أمر الشریعة،فسأله محمد بن الحسن یوما-بمحضر الرشید و هو بمکة-فقال:یجوز للمحرم أن یضلل محمله؟فقال الإمام:«لا یجوز له ذلک مع الاختیار»فقال محمد بن الحسن:أ فیجوز له أن یمشی تحت الضلال؟فقال له:«نعم»فتضاحک محمد بن الحسن من ذلک.فقال له الإمام علیه السّلام:«أ تعجب من سنّة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و تستهزئ به،إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کشف ظلاله فی إحرامه،و مشی تحت الظلال و هو محرم،إن أحکام اللّه لا تقاس،فمن قاس بعضها علی بعض فقد ضلّ عن سواء السبیل»فسکت محمد بن الحسن لا یرجع جوابا.

ص:448


1- (1) الإتحاف ص 55. [1]
2- (2) تاریخ بغداد ج 13 ص 31.و [2]تذکرة الخواص لسبط ابن الجوزی ص 259.و تاریخ ابن کثیر ج 10 ص 183.
3- (3) الإتحاف ص 55. [3]
4- (4) روضة الواعظین. [4]

و تبین الأحادیث و الأسئلة التی دارت بین الرشید و بین الإمام الکاظم طوایا نفس الرشید،و ما ضمّت جوانحه من غیض علی الکاظم لتمتّعه بمنزلة الإمامة و برتبة الولایة الشرعیة التی تنقاد لها القلوب،حتی کان لا یملک إخفاء ذلک،و یقول لبنیه فی حق الإمام موسی الکاظم:(هذا إمام الناس،و حجة اللّه علی خلقه،و خلیفته علی عباده.

أنا إمام الجماعة فی الظاهر و الغلبة و القهر،و اللّه إنه لأحق بمقام رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم منّی و من الخلق).

و کان المأمون فی خلافته یقول:کان الرشید سمع جمیع ما یجری بیننا(بینه و بین أخیه الأمین)من موسی بن جعفر و لذلک قال ما قال (1).و تصدیقا منه لما قاله الإمام الکاظم له من أنه إمام القلوب و الرشید إمام الجسوم.و یظل الرشید علی ما تقتضیه سلامة الملک و دوام الحکم باحثا عن ألوان من الإساءة فی الألفاظ و التصرف، و ساعیا إلی النیل من المنزلة و الرتبة التی حبا اللّه بهما الإمام الکاظم،فیسأل الرشید الإمام الکاظم:أخبرنی لم فضّلتم علینا و نحن و أنتم من شجرة واحدة،و بنو عبد المطلب و نحن و أنتم واحد،إنّا بنو عباس،و أنتم ولد أبی طالب،و هما عمّا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قرابتهما منه سواء؟ فقال الإمام:«نحن أقرب»قال:و کیف ذاک؟قال الإمام:«لأن عبد اللّه و أبا طالب لأب و أم،و أبوکم العباس لیس هو من أم عبد اللّه و لا من أم أبی طالب».

قال:فلم ادّعیتم أنکم ورثتم النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و العمّ یحجب ابن العم،و قبض رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قد توفی أبو طالب قبله و العباس عمه حی؟فقال له:«إن رأی أمیر المؤمنین أن یعفینی عن هذه المسألة،یسألنی عن کل باب سواه یریده».

فقال:لا،أ و تجیب.

فقال الإمام:«فأمّنی».

قال الرشید:أمّنتک قبل الکلام.

فقال الإمام:إن فی قولک علی بن أبی طالب علیه السّلام إنه لیس مع ولد الصلب ذکرا کان أو أنثی لأحد سهم إلا الأبوین و الزوج و الزوجة،و لم یثبت للعم مع ولد الصلب میراث،و لم ینطق به الکتاب العزیز و السنة،إلاّ أن تیما و عدیا و بنی أمیة

ص:449


1- (1) حیاة الحیوان الکبری للدمیری.

قالوا:العم والد.رأیا منهم بلا حقیقة،و لا أثر عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و من قال بقول علی من العلماء قضایاهم خلاف قضایا هؤلاء.هذا نوح بن دراج یقول فی هذه المسألة بقول علی و قد حکم به»إلی أن قال علیه السّلام:«إن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:أقضاکم علی.و کذلک عمر بن الخطاب قال:علی اقضانا.و هو اسم جامع،لأن جمیع ما مدح به النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أصحابه من القرابة و الفرائض و العلم داخل فی القضاء».

قال الرشید:زدنی یا موسی.

قال الإمام الکاظم:«المجالس بالأمانات،و خاصة مجلسک».

فقال:لا بأس به.

قال الإمام الکاظم:«إن النبی لم یورّث من لم یهاجر،و لا أثبت له ولایة حتی یهاجر».

فقال:ما حجتک فیه؟ قال الإمام:«قول اللّه تبارک و تعالی: وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ لَمْ یُهاجِرُوا ما لَکُمْ مِنْ وَلایَتِهِمْ مِنْ شَیْءٍ حَتّی یُهاجِرُوا و إن عمّی العباس لم یهاجر».

فقال له الرشید:إنی أسألک یا موسی،هل أفتیت بذلک أحدا من أعدائنا أو أخبرت أحدا من الفقهاء فی هذه المسألة بشیء؟ فقال الإمام:«اللهم لا...»ا ه.

و نحو ذلک ما أثاره الرشید التماسا للطعن و الإساءة لأن عامل القرابة من الرسول کان من أهم العوامل التی أقام علیها العباسیون صبغتهم الدینیة و صفتهم الشرعیة،إذ سأل الإمام الکاظم:جوّزتم للعامة و الخاصة أن ینسبوکم إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یقولوا لکم:یا بنی رسول اللّه،و أنتم بنو علی.و إنما ینسب المرء إلی أبیه،و فاطمة إنما هی وعاء.و النبی جدّکم من قبل أمکم؟ فقال:«یا أمیر المؤمنین.لو أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم نشر فخطب إلیک کریمتک،هل کنت تجیبه؟».

قال:سبحان اللّه!و لم لا أجیبه،بل افتخر علی العرب و العجم و قریش بذلک.

فقال الإمام:«لکنه لا یخطب إلیّ و لا أزوجه».

فقال الرشید:و لم؟ قال الإمام:«لأنه ولدنی و لم یلدک».

ص:450

فقال:أحسنت یا موسی!ثم قال:کیف قلتم إنّا ذریة النبی و النبی لم یعقب، و إنما العقب الذکر لا الأنثی،و أنتم ولد الابنة،و لا یکون ولدها عقبا له..الخ حدیثه.

فقال الإمام:«أعوذ باللّه من الشیطان الرجیم بسم اللّه الرحمن الرحیم وَ مِنْ ذُرِّیَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَیْمانَ وَ أَیُّوبَ وَ یُوسُفَ وَ مُوسی وَ هارُونَ وَ کَذلِکَ نَجْزِی الْمُحْسِنِینَ ».

فقال:لیس لعیسی أب.

فقال الإمام:«إنما ألحقناه بذراری الأنبیاء علیهم السّلام من طریق مریم علیها السّلام و کذلک ألحقنا بذراری النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من قبل أمّنا فاطمة.أزیدک یا أمیر المؤمنین؟».

قال:هات.

فقال الإمام:«أعوذ باللّه من الشیطان الرجیم فَمَنْ حَاجَّکَ فِیهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَکَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَی الْکاذِبِینَ و لم یدّع أحد أنه أدخله النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم تحت الکساء عند مباهلة النصاری إلاّ علی بن أبی طالب علیه السّلام و فاطمة و الحسن و الحسین،أبناءنا:الحسن و الحسین،و نساءنا:فاطمة،و أنفسنا:علی بن أبی طالب علیه السّلام.علی أن العلماء قد أجمعوا علی أن جبرئیل قال یوم أحد:«یا محمد إن هذه لهی المواساة من علی»قال:«لأنه منی و أنا منه»فقال جبرئیل:«و أنا منکما یا رسول اللّه».ثم قال:لا سیف إلا ذو الفقار و لا فتی إلا علی،فکان کما مدح اللّه عز و جل به خلیله علیه السّلام إذ یقول: قالُوا سَمِعْنا فَتًی یَذْکُرُهُمْ یُقالُ لَهُ إِبْراهِیمُ إنا نفتخر بقول جبرائیل أنه منّا» (1).

و من جمیع الروایات،تظهر لنا صورة الرشید الحاکم الذی یعانی أشدّ المعاناة من الوجود الشخصی للإمام الکاظم،و یحتال بمختلف السبل للنیل منه أو الغضّ من المکانة الروحیة التی یعجز هو-بحکمه و جبروته-عن تحقیق أربه و غرضه،و لم یظفر بشیء فی کل تلک المحاولات،فالنفوس تهفو إلی أهل البیت،و لا یزداد محبّوهم إلا منعة و تمسّکا.و الإمام الکاظم احتلّ منصب الإمامة،بالعهد،فکان أهلا لما قدّر له و ما جری به سابق علم الرب تعالی،فأیّ وجه للمدافعة و المقارنة بین سلطة تقوم بأمر اللّه و هدی الإسلام،و بین حکم یقوم بالقهر و الغلبة.و قد اتفق المخالف و المؤالف علی عظیم منزلة الإمام الکاظم.روی الخطیب البغدادی:کان موسی بن جعفر یدعی العبد الصالح من عبادته و اجتهاده.روی أصحابنا أنه دخل مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم

ص:451


1- (1) الاحتجاج للطبرسی ج 2 ص 163-165.و [1]عیون أخبار الرضا للصدوق.و نور الأبصار للشبلنجیّ.

فسجد سجدة فی أول اللیل،و سمع و هو یقول فی سجوده:«عظیم الذنب عندی، فلیحسن العفو عندک یا أهل التقوی یا أهل المغفرة»فجعل یرددها حتی أصبح.و کان یبلغه عن الرجل أنه یؤذیه،فیبعث إلیه بصرّة فیها ألف دینار،و کان یصرّ الصّرر ثلاثمائة دینار و أربعمائة دینار و مائتی دینار،ثم یقسّمها بالمدینة.و کان مثل صرر موسی بن جعفر إذا جاءت الإنسان الصرة فقد استغنی (1).

یقول الشبلخی:کان الإمام موسی الکاظم أعبد أهل زمانه و أعلمهم و أسخاهم کفا،و أکرمهم نفسا،و کان یتفقّد فقراء المدینة،فیحمل إلیهم الدراهم و الدنانیر إلی بیوتهم لیلا،و کذلک النفقات،و لا یعلمون من أی جهة وصلهم ذلک إلا بعد موته ا ه.

و لم یتمکن الرشید-بسلطانه الغاشم-من أن یحجب نور الإمام بحبسه الإمام الکاظم،بل کان المکلّفون به لا یملکون إلا تقدیسه و تبجیله،و من وراء القضبان کانت أخبار الإمام الکاظم أشدّ تأثیرا علی العباسیین.عن عمار بن أبان یروی الخطیب، قال:حبس أبو الحسن موسی بن جعفر عند السندی،فسألته أخته أن تتولی حبسه- و کانت تتدین-ففعل،فکانت تلی خدمته،فحکی لنا أنها قال:کان إذا صلی العتمة حمد اللّه و مجّده و دعاه،فلم یزل کذلک حتی یزول اللیل،فإذا زال،قام یصلی حتی یصلی الصبح،ثم یذکر قلیلا حتی تطلع الشمس،ثم یقعد إلی ارتفاع الضحی،ثم یتهیأ و یستاک و یأکل،ثم یرقد إلی قبل الزوال،ثم یتوضأ و یصلی حتی یصلی العصر، ثم یذکر فی القبلة حتی یصلی المغرب،ثم یصلی ما بین المغرب و العتمة،فکان هذا دأبه.فکانت أخت السندی إذا نظرت إلیه قالت:خاب قوم تعرّضوا لهذا الرجل،و کان عبدا صالحا...ا ه.و تروی له الکرامات و الفضائل فی السجون الأخری التی کان بها الإمام الکاظم،و قد رویت فی المصادر التی ذکرت سیرته علیه السّلام.

و کان الإمام الکاظم لا ینفکّ فی سجنه یصف الرشید بالطاغیة،و یحذر حاشیته مما ینتظرهم علی یدیه،و أبی أن یعطی الدنیة فی دینه فیقر للظلمة بسلطان أو یوافقهم علی ما یریدون،فکان الإمام الکاظم غمّا علی الرشید ینغّص علیه عیشه و ملذاته و لهوه،و قد حیّرت الرشید الدلائل و المعجزات التی ظهرت للإمام الکاظم،فاستعان یحیی بن خالد البرمکی و قال له:یا أبا علی أ ما تری ما نحن فیه من هذه العجائب، أ لا تدبّر فی أمر هذا الرجل تدبیرا یریحنا من غمه؟فقال له یحیی:الذی أراه لک یا

ص:452


1- (1) تاریخ بغداد. [1]

أمیر المؤمنین أن تمنن علیه و تصل رحمه،فقد و اللّه أفسد علینا قلوب شیعتنا.فقال هارون:انطلق إلیه و أطلق عنه الحدید،و أبلغه عنّی السّلام،و قل له:یقول لک ابن عمک إنه قد سبق منّی فیک یمین أنی لا أخلیک حتی تقرّ لی بالإساءة و تسألنی العفو عما سلف منک،و لیس علیک فی إقرارک عار و لا فی مسألتک إیای منقصة.و لما قام یحیی بالمهمة حذّره الإمام الکاظم مما ینتظره و قال له:«انظر إذا سار هذا الطاغیة إلی الرقة و عاد إلی العراق لا یراک و لا تراه لنفسک،فإنی رأیت فی نجمک و نجم ولدک و نجمه أنه یأتی علیکم فاحذروه»ثم قال:«أبلغه عنی:یقول لک موسی بن جعفر، رسولی یأتیک الجمعة،فیخبرک بما تری،و ستعلم غدا إذا حادثتک بین یدی اللّه من الظالم و المعتدی علی صاحبه و السّلام» (1).

و بعث إلیه الإمام علیه السّلام من الحبس رسالته التی یقول فیها:«إنه لن ینقضی عنی یوم من البلاء إلا انقضی عنک یوم من الرخاء،حتی نقضی جمیعا إلی یوم لیس له انقضاء یخسر فیه المبطلون» (2).

و لقد کان من خوف الرشید و فزعه من الإمام الکاظم أنه وضع العیون علی الإمام الکاظم و هو فی سجنه،فکانوا یرفعون إلی الولاة و البلاط العباسی أحواله فی العبادة و أوضاعه فی الدیانة،و کتب بعض العیون التی کانت علیه أنه سمعه علیه السّلام یقول فی دعائه:«اللهم إنک تعلم أنی کنت سألتک أن تفرّغنی لعبادتک،اللهم قد فعلت».

و بالجملة فإن الشیعة قد اتجهت إلی الإمام الکاظم و أخذت الوفود تفد علی المدینة من الأقطار المختلفة للانتهال من علم الإمام و الاستفسار عن الأمور التی تهمّها،و تحصیل الإجابات المطلوبة،و قد کان أخبار الأموال التی تحمل إلی الإمام من أکبر الأمور التی جعلت الرشید فی حال من الضیق و الرعب.و نظر إلی طبیعة العلاقة بین الإمام و بین شیعة أهل البیت نظرته إلی اعتبار الجبایة و جمع الأموال أساس الملک،لأنها مصدر الإسراف و البذخ فی قصور العباسیین،و بها قوة الدولة،و حسب أن إقبال الناس علی الإمام الکاظم،و أخبار جوده و سخائه بدایة ثورة تقوّض ملکه و عرش آبائه.فکان یری أن اختلاف الناس إلی إمامهم،و حملهم العبادات المالیة المفروضة إلی جهتها الشرعیة تمرّد علیه و حرکة ضده،سیما و أن الإمام علیه السّلام کان

ص:453


1- (1) انظر الغیبة للشیخ الطوسی ص 20. [1]
2- (2) صفة الصفوة لابن الجوزی.و [2]تاریخ بغداد. [3]

یشعر الرشید بأن له فی السلطان الذی هو فیه رأی،فإضافة إلی بیانه علیه السّلام للرشید بأن سلطة الرشید هی علی الجسوم،و أنه إمامها.بمعنی قائدها و سلطان زمانها، تنساق وراءه بحکم القوة و القهر،و أما سلطته علیه السّلام فهی منصوبة علی الإیمان بالعقیدة و الاقتداء بهدی الرسالة المحمدیة،فقد بیّن له الإمام علیه السّلام أن الدولة التی علیها ملکه و تخضع لحکمه هی بمنزلة ما یخص أهل البیت من الممتلکات،لمّا قال هارون للإمام الکاظم:خذ فدکا.و الإمام یمتنع،فلمّا ألح علیه قال:«ما آخذها إلا بحدودها»قال:و ما حدودها؟قال:«الحد الأول عدن»،فتغیر وجه الرشید قال:

و الحد الثانی؟قال:«سمرقند»فاربدّ وجهه،قال:و الحد الثالث؟قال:«إفریقیة».

فاسودّ وجهه،قال:و الحد الرابع؟قال:«سیف البحر مما یلی الخزر و أرمینیة».فقال هارون:فلم یبق لنا شیء فتحول فی مجلسی فقال الإمام:«قد أعلمتک أنی لو حددتها لم تردّها».فعند ذلک عزم الرشید علی قتله (1).

و یعمد الرشید إلی انتهاک حرمة بیت من بیوت اللّه کان موضع عبادة الإمام موسی الکاظم و محل حلقته،فیأخذه من المسجد،و لما دخل به إلیه،قیده فی تلک الساعة.و تدلنا طریقة ترحیله للإمام الکاظم علی مدی خوفه من الناس و توقعه أن یثوروا به و لا یترکوا ابن بنت نبیهم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یرسف بقیود الرشید.و لکی یعمّی أمره علی الناس استدعی قبتین.فجعله فی إحداهما علی بغل،و جعل القبة الأخری علی بغل آخر،و خرج البغلان من داره علیهما القبتان مستورتان،و مع کل واحدة منهما خیل.

فافترقت الخیل،فمضی بعضها مع إحدی القبتین علی طریق البصرة،و الأخری علی طریق الکوفة،و کان الإمام فی القبة التی مضی بها علی طریق البصرة،و أمر القوم الذین کانوا مع قبة الإمام بأن یسلّموه إلی عیسی بن جعفر بن المنصور-و کان علی البصرة-فحبسه عنده سنة،و تنقّل من حبس عیسی إلی حبس الفضل بن الربیع.فبقی عنده مدة طویلة،فأراده الرشید علی شیء من أمره،فأبی.فکتب إلیه بتسلیمه إلی الفضل بن یحیی،ثم إلی السندی بن شاهک (2).

و توفی الإمام فی حبس السندی بن شاهک مسموما سنة 183 ه و له خمس و خمسون سنة.

ص:454


1- (1) تذکرة الخواص [1]نقلا عن ربیع الأبرار للزمخشری. [2]
2- (2) الإرشاد ص 281.و [3]الغیبة 23.و روضة الواعظین ص 220.و [4]نور الأبصار ص 151.و [5]الإتحاف ص 56. [6]

و ذکر الشیخ الطوسی رحمه اللّه روایة محمد بن یعقوب عن شیخ من العامة ممن کان یقبل قوله قال:جمعنا السندی بن شاهک ثمانین رجلا من الوجوه المنسوبین إلی الخیر،فأدخلنا علی موسی بن جعفر علیه السّلام و قال لنا السندی:یا هؤلاء انظروا إلی هذا الرجل هل حدث به حدث،فإن أمیر المؤمنین لم یرد به سوء و إنما ننتظر به أن یقدم لیناظره و هو صحیح موسع علیه فی جمیع أموره،فسلوه و لیس لنا همّ إلا النظر إلی الرجل فی فضله و سمته.فقال موسی بن جعفر علیه السّلام«أما ما ذکره من التوسعة و ما أشبهها فهو علی ما ذکر،غیر إنی أخبرکم أیها النفر إنی قد سقیت السمّ فی سبع تمرات،و أنا غدا أحتضر،و بعد غد أموت»فنظرت إلی السندی بن شاهک یضطرب و یرتعد مثل السعفة (1).

و خلاصة القول أن الإمام موسی بن جعفر کان أکثر أولاد أبیه علما و دینا و زهدا وجودا،أحاطه الإمام الصادق بالرعایة مذ کان فی مهده باعتباره الوصی و الخلیفة من بعده،فکان أجلّ ولد أبی عبد اللّه علیه السّلام قدرا،و أعظمهم محلا،و أبعدهم فی الناس حقبا،و لم یر فی زمانه أسخی منه و لا أکرم نفسا و عشرة،و کان أعبد أهل زمانه و أورعهم و أجلّهم و أفقههم،و اجتمع جمهور الشیعة علی القول بإمامته و التعظیم لحقه و التسلیم لأمره،و رووا عن أبیه علیهما السّلام نصوصا کثیرة علیه بالإمامة،و إشارات إلیه بالخلافة،و أخذوا عنه معالم دینهم،و رووا عنه من الآیات و المعجزات ما یقطع بها علی حجیة و صواب القول بإمامته (2).

الإسماعیلیة

:

قدمنا أبرز الوجوه فی سیرة الإمام الکاظم لإظهار مسار الإمامة،و التعرّف علی الخصائص و الفضائل التی تقطع القول،و هنا نبدأ بعرض لحیاة إسماعیل بن الإمام الصادق،و مسلک الانشقاق عن مسیرة الإمامة.

إن الروایات فی إسماعیل لم تتطابق،و لا نذهب إلی أبعد من القول أن کونه أکبر أولاد الإمام الصادق کان سبب اللبس الذی وقع عند البعض،لأن الإمامة للأسنّ،و نعلم من صفته أنه کان أعرجا،فهو کأخیه عبد اللّه الأفطح،و إن کان أرجح الروایات تصف إسماعیل بحال یختلف عن عبد اللّه،و لکن الإمام الصادق الرجل

ص:455


1- (1) الغیبة.
2- (2) الإرشاد. [1]

الذی استطاع أن یقود الأمة فی أخطر فترة و أشد معترک،و أن یفتح آفاق الفکر، و یرسی قواعد الفقه،و یتحاشی مأزق السلطان و السیاسة،کان فی بیته الأب الحانی و المربی العالم الذی یظل أولاده بالعطف و یغذیهم بالهدایة و النور،و یحبهم و یبرّهم جمیعا.و نحن علی أن إسماعیل کان علی الصلاح و الهدایة،و کان یلقی من الإمام الصادق حب الأب و رعایة الإمام،فالتقت صور العطف هذه مع کون إسماعیل أکبر أولاد الإمام الصادق فی تکوین الظن بأنه الإمام من بعد أبیه.و أما ما قیل من البداء فی هذا المورد و بهذا المفهوم فلا أساس له،لأن الإمام الصادق لم یشر إلی إمامة إسماعیل بالرغم من أن الأسئلة التی کانت توجه إلیه کثیرة،و ما روی عن الادعاء بالبداء،صادر من المخالفین الذین أباحوا لأنفسهم الکذب و التقوّل علی الشیعة و أئمتهم کالجریریة (1)و البتریة (2)و أصل أقوالهم التی نسبوها إلی الشیعة فی البداء کان فی تحولات الغلاة و بحثهم عن الأفکار التی تنسجم مع جذورهم کجماعات تسعی إلی إظهار ما جاءت علیه أیام الإسلام من عقائدهم،و أطلقوا هذه المقالة فی ظروف أصابهم الفشل فیها بعد أن حاولوا-فی غلوهم و انحرافهم-الانتساب إلی ثورة محمد النفس الزکیة (3)و قد کان المغیرة بن سعید یدّعی الصلة بمحمد بن عبد اللّه بن الحسن،و یقول أن الإمام علی زین العابدین علیه السّلام أوصی إلیه،و أن النفس الزکیة أذن له فی أمور منها:خنق الناس (4).

و لما فشلت تلک الثورة و قتل محمد و أخوه إبراهیم،ادّعوا أن الشیعة وضعت البداء،لکی لا یظهر من أئمتهم القول بخلاف ما أخبروا به.

و الثابت الذی لا یرقی إلیه الشک هو أمر وفاة إسماعیل فی حیاة الإمام الصادق.

ذکر ابن خلدون أنه توفی فی حیاة أبیه فی العریض فی المدینة المنورة،و دفن بالبقیع سنة 145 ه (5)و یقول المقریزی:إن إسماعیل توفی سنة 138 ه و جعفر والده لا

ص:456


1- (1) اتباع سلیمان بن جریر من الفرق [1]الزیدیة قال بأن الإمامة شوری و أنها تنعقد بعقد رجلین من خیار الأمة،و أجاز إمامة المفضول،و یذکر البغدادی أن بعض أصحاب التواریخ ذکروا أن سلیمان بن جریر سم إدریس بن عبد اللّه بن الحسن،و یسمیها الشهرستانی السلیمانیة.
2- (2) اتباع الحسن بن صالح بن حی و کثیر النواء الأبتر،و هم کالجریریة و قد توقفوا فی عثمان.
3- (3) انظر الفرق بین الفرق ص 148.
4- (4) شرح ابن أبی الحدید ج 2 ص 309. [2]
5- (5) تاریخ ابن خلدون ج 3 ص 360.

یزال علی قید الحیاة (1)کما أن تواتر ذکر الإمام الصادق عند وفاة ابنه إسماعیل لما بدا للّه یفید أن اللّه أظهر بوفاة إسماعیل ما کان فی سابق علمه من جعل الإمامة فی الأشخاص الذین خلقوا لتحمّلها.و اختلاف التواریخ لا یخرج عن فترة بقاء الإمام الصادق علی قید الحیاة.

و لما توفی إسماعیل حزن علیه الإمام الصادق حزنا عظیما.و أمر بوضع سریره علی الأرض قبل دفنه مرارا کثیرة،و کان یکشف عن وجهه و ینظر إلیه یرید بذلک تحقق أمر وفاته عند الظالمین خلافته له من بعده،و إزالة الشبهة لهم فی حیاته (2).

و کان موت إسماعیل-رحمه اللّه-قد أزال الظن و الوهم اللذین وقع فیهما بعض أصحاب الإمام الصادق.

أما الآخرون الذین تصفهم المصادر بالأباعد و الأطراف،و لیسوا من خاصة الإمام الصادق،منهم الذین ادعوا بقاءه حیا و إنه لم یمت،و تلک مقولة الغلاة فی کل زمن،و عقیدتهم التی یقتربون بها من الحلول و التناسخ.فأنکرت موت إسماعیل، و قالوا:کان ذلک علی جهة التلبیس من أبیه علی الناس لأنه خان،فغیّبه عنهم، و زعموا أن إسماعیل لا یموت حتی یملک الأرض،یقوم بأمر الناس،و أنه هو القائم، لأن أباه أشار إلیه بالإمامة بعده و قلّده ذلک (3).و لو لا هؤلاء الذین ظلوا یتربصون،لما کانت قضیة موت إسماعیل تصل إلی هذا الحد من الأهمیة،و قد تولی کتّاب الفرق القول بإمامة إسماعیل.لأنه أدنی إلی الإساءة إلی الشیعة،و من طریقه یسهل نسبة کل فرقة إلی الشیعة،و یتحمل الشیعة الاثنا عشریة تبعة هذه الأقوال،و یجری بین الأمة الإسلامیة إطلاقات و مقولات هؤلاء،فتتلقاها بالقبول و الاطمئنان.

یقول المقریزی:

و کانت الشیعة فرقا،فمنهم من کان یذهب إلی أن الإمام من ولد جعفر الصادق هو إسماعیل ابنه،و هؤلاء یعرفون من بین فرق الشیعة بالإسماعیلیة من أجل أنهم

ص:457


1- (1) اتّعاظ الحنفا.
2- (2) التکملة للشیخ عبد النبی الکاظمی ج 1 ص 192 نقلا عن أعلام الوری. [1]
3- (3) فرق النوبختی ص 67-68. [2]

یرون أن الإمام من بعد جعفر ابنه إسماعیل،و أن الإمام بعد إسماعیل بن جعفر الصادق هو ابنه محمد المکتوم (1).

و فی الوقت الذی یذکر البغدادی فی الفرق بین الفرق لفظ الزعم لتجنب القطع أو الجزم،یقول الشهرستانی بما عرف عنه من تعصّب و تحامل أن الإمام إسماعیل هو الابن الأکبر للإمام جعفر الصادق،و هو الذی نصّ علیه فی بدء الأمر،و لقد حدث الاختلاف علی موته.

و یذهب ابن الجوزی فی المنتظم بعیدا،فیدرج معهم فی هذا المسلک الخرمیة و البابکیة و المحمّرة،و أن آرائهم و مذاهبهم أخذوا بعضها من المجوس و بعضها من الفلاسفة،و أنهم دخلوا تحت ستار ذکر ظلم السلف الأشراف من آل النبی،و دفعهم عن حقهم،و قتلهم و ما جری علیهم من الذل،فتناصروا و تکاتفوا،و انتسبوا إلی إسماعیل بن جعفر بن محمد الصادق.

و ابن الجوزی یقصد بذلک الغلاة الذین سبق ذکر حرکتهم فی أکثر من موضع و بحث فی سیاق الکتاب،و الذین تصدی الإمام الصادق لحرکتهم و تبرّأ منهم،و لما مات علیه السّلام قالوا أن الإمام الصادق حی لم یمت و لا یموت حتی یظهر و یلی أمر الناس،و إنه هو المهدی،و زعموا أنهم رووا عنه أنه قال:إن رأیتم رأسی قد أهوی علیکم من جبل فلا تصدقوه،فإنی أنا صاحبکم.و إنه قال لهم:إن جاءکم من یخبرکم علی أنه مرضنی و غسلنی و کفننی فلا تصدقوه فإنی صاحبکم صاحب السیف.

و لا یمکن الجزم بأن الغلاة هم قوم الفرقة الإسماعیلیة.لأن أولئک الذین یصفهم العلماء بالأباعد مع أنهم لیسوا من خاصة أصحاب الإمام الصادق و أنهم من الأطراف،یحتمل وجود من أقام علی الظن و بقی علی الاعتقاد الذی أراد الإمام الصادق إزالته و منعه،فظلت(إسماعیلیة)خالصة تدین بإمامة إسماعیل،و منها ما کان بالاتصال بإسماعیل کالمبارکیة التی تزعّمها مبارک مولی إسماعیل،فزعمت أن الإمام بعد الإمام الصادق هو محمد بن إسماعیل،و قالوا:إن الأمر کان لإسماعیل فی حیاة أبیه،فلما توفی قبل أبیه جعل جعفر بن محمد الأمر لمحمد بن إسماعیل،و کان الحق له،و لا یجوز غیر ذلک،لأنها لا تنتقل من أخ إلی أخ بعد الحسن

ص:458


1- (1) خطط المقریزی ج 1 ص 348. [1]

و الحسین علیهما السّلام و لا تکون فی الأعقاب،و لم یکن لأخوی إسماعیل عبد اللّه و موسی فی الإمامة حق کما لم یکن لمحمد بن الحنفیة حق علی علی بن الحسین.

و غیرها من المعتقدات و الآراء التی تتصل بنشوئها و اتصالها بعقائد الشیعة إلی أن تنتهی إلی هذه الفترة من الزمن و حدوث الاختلاف بعد وفاة الإمام الصادق،و علی ذلک فلا نرید أن نظلم إخواننا من الإسماعیلیة الذین آمنوا بعمق و عقیدة بوصایة النبی للإمام علی علیه السّلام،و تولیهم الأئمة المعصومین،إلی أن کانت الأقوال التی التزموها و ابتعدوا بها عن منهاج الشیعة.

و أن الفاطمیین علی لسان قاضیهم النعمان تبرءوا من الغلاة،و التزموا موقف الشیعة،و أنکروا أقوال أبی الخطّاب.قال القاضی النعمان:(ثم کان أبو الخطاب فی عصر جعفر بن محمد من أجلّ دعاته(!)فأصابه ما أصاب المغیرة.فکفر و ادعی أیضا النبوة.و زعم أن جعفر بن محمد إله،تعالی اللّه عن قوله،و استحل المحارم کلها، و رخّص فیها،و کان أصحابه کلما ثقل علیهم أداء فریضة.أتوه و قالوا:یا أبا الخطاب،خفف علینا فیأمرهم بترکها،حتی ترکوا جمیع الفرائض و استحلّوا جمیع المحارم و ارتکبوا المحظورات،و أباح لهم أن یشهد بعضهم لبعض بالزور.و قال:من عرف الإمام فقد حل له کل شیء کان حرم علیه،فبلغ أمره جعفر بن محمد(...) فلم یقدر علیه بأکثر من أن لعنه و تبرّأ منه،و جمع أصحابه و عرّفهم ذلک و کتب إلی البلدان بالبراءة منه و باللعنة علیه،و عظم ذلک علی أبی عبد اللّه جعفر بن محمد (...)و استفظعه و استهاله) (1).و یبدو أن القاضی المغربی یجهل تفاصیل ما قام به الإمام الصادق من جهد فی دحض و فضح أفکار الغلاة حتی کان لا ینام اللیل،و إن کان قوله فیما قدر علیه الإمام الصادق یحتمل إرادة ما یقوم به الحکام من المحاربة بالسیف کعیسی بن موسی العباسی عامل الکوفة،و إذا کان غیر ذلک فلا وجه لقوله.

و مهما یکن من أمر فرقة الإسماعیلیة و الاختلاف فی إسماعیل،فإن التاریخ یجهل جهلا یکاد یکون تاما کیفیة بدء الدعوة لإمامة إسماعیل،فلا یعرف أول من دعی لإمامته،کما لا یمکن تحدید عوامل تأخیر ظهورها إلی الوجود،فالتاریخ لم یعرف شیئا اسمه الفرقة الإسماعیلیة حتی أواخر القرن الثالث الهجری،و هو بدء ظهور

ص:459


1- (1) دعائم الإسلام ج 1 ص 63( [1]الهفت-غالب).

حرکتهم،و إذا کان ذلک دور الستر فی معتقدات الإسماعیلیة.فإن أقوال الإسماعیلیة عن هذا الدور هی الأقوال الوحیدة التی تظهر أسباب التستر و الاختفاء متعلقة بالدعوة و قیامها علی الشکل الذی یدعون إلیه،و هم دائما یتحدثون عن تاریخ أئمتهم فی هذه الفترة بشیء من عدم التطابق فی العدد و الوقائع.

و لکن الثابت أنه بعد وفاة الإمام الصادق علیه السّلام انتقل فریق منهم إلی القول بإمامة موسی بن جعفر علیه السّلام بعد أبیه علیه السّلام و افترق الباقون فریقین،فریق منهم رجعوا عن حیاة إسماعیل و قالوا بإمامة محمد بن إسماعیل لظنهم أن الإمامة کانت فی أبیه و أن الابن أحق بمقام الإمامة من الأخ.و فریق ثبتوا علی حیاة إسماعیل.و یقول الشیخ المفید-رحمه اللّه-المتوفی سنة 413:(و هم الیوم شذّاذ لا یعرف منهم أحد یومی إلیه،و هذان الفریقان یسمیان بالإسماعیلیة،و المعروف منهم الآن من یزعم أن الإمامة بعد إسماعیل فی ولده و ولد ولده إلی آخر الزمان).ا ه.

و قد أعقب إسماعیل محمدا و علیا.و نحن بإزاء الاثنین نلمس فی سیرتهما تلک الآثار النفسیة التی تحدث فی الأبناء انحیازا للأب فی مجال الأسرة الواحدة کأی بشر ینقاد إلی العواطف و ینجر إلی الأهواء،و هذه الآثار لا علاقة لها بالتهیؤ للإمامة، فلیس هناک ما یثبت أن محمدا قد تطلع علی عهد جده الإمام الصادق إلی شیء من الإمامة أو أنه أعدّ لها نفسه،إذ یفترض حسب الادعاء أن یکون من نصب بعد وفاة إسماعیل و فی حیاة الإمام الصادق عالما بما نصب له.

و السید ابن عنبة فی العمدة یذکر قول شیخ الشرف العبیدلی:هو-إسماعیل- إمام المیمونیة و قبره ببغداد.و قول ابن خداع:کان الإمام موسی الکاظم علیه السّلام یخاف ابن أخیه محمد بن إسماعیل و یبرّه،و هو لا یترک السعی به إلی السلطان من بنی العباس.کما ینقل السید ابن عنبة قول أبو نصر البخاری:کان محمد بن إسماعیل بن الصادق علیه السّلام مع عمه موسی الکاظم علیه السّلام یکتب بالسرّ إلی شیعته فی الآفاق،فلما ورد الرشید الحجاز،سعی محمد بن إسماعیل بعمه إلی الرشید فقال:أ علمت أن فی الأرض خلیفتین یجبی إلیهما الخراج؟فقال الرشید:ویلک أنا و من؟قال:موسی بن جعفر.و أظهر أسراره،فقبض الرشید علی موسی الکاظم علیه السّلام و حبسه و کان سبب هلاکه،و حظی محمد بن إسماعیل عند الرشید، و خرج معه إلی العراق و مات ببغداد،و دعا علیه موسی بن جعفر علیه السّلام بدعاء

ص:460

استجابه اللّه تعالی فیه و فی أولاده،و لمّا لیم موسی بن جعفر علیه السّلام فی صلة محمد بن إسماعیل و الاتصال مع سعیه به قال:«إنی حدثنی أبی عن جده عن أبیه عن جده عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:الرحم إذا قطعت فوصلت،ثم قطعت فوصلت،ثم قطعت فوصلت،ثم قطعت قطعها اللّه تعالی،و إنما أردت أن یقطع اللّه رحمه من رحمی» (1).

أما علی بن إسماعیل فقد وردت الروایة به بهذا الخصوص،و هی المرجحة، لأن أبطالها البرامکة،و لکن ظهور اسم محمد فی تاریخ الفرقة الإسماعیلیة علی اسم أخیه علی یعطی الأولی أهمیة،و دور علی بن إسماعیل مهم أیضا لعلاقته بالبرامکة الذین أخفوا مجوسیتهم،و کانوا مدار سیاسة العداء للعلویین فی زمنهم،حتی انتقم اللّه من ظلمهم لآل بیت النبی الأطهار علی ید ظالم آخر.و الروایة عن النوفلی عن أبیه عن مشایخهم قالوا:إن السبب فی أخذ موسی بن جعفر علیه السّلام أن الرشید جعل ابنه فی حجر جعفر بن محمد بن الأشعث،فحسده یحیی بن خالد بن برمک علی ذلک و قال:إن أفضت إلیه الخلافة زالت دولتی و دولة ولدی.فاحتال علی جعفر بن محمد -و کان یقول بالإمامة-حتی داخله و أنس به،فکان یکثر غشیانه فی منزله،فیقف علی أمره و یرفعه إلی الرشید،و یزید علیه فی ذلک بما یقدح فی قلبه.ثم قال لبعض ثقاته أ تعرفون لی رجلا من آل أبی طالب لیس بواسع الحال یعرّفنی ما احتاج إلیه؟فدلّ علی علی بن إسماعیل بن جعفر بن محمد،فحمل إلیه یحیی بن خالد مالا،و کان موسی علیه السّلام یأنس بعلی بن إسماعیل و یصله و یبرّه،ثم أنفذ إلیه یحیی بن خالد یرغّبه قصد الرشید و یعده بالإحسان إلیه،فعمل علی ذلک،فأحسّ به موسی علیه السّلام فدعا به و قال له:«إلی أین یا ابن أخی؟»قال:إلی بغداد.قال الإمام:«و ما تصنع؟» قال:علیّ دین و أنا مملق.فقال له الإمام موسی الکاظم علیه السّلام:«أنا أقضی دینک و أفعل لک و أصنع».فلم یلتفت إلی ذلک،و عمل علی الخروج.فاستدعاه أبو الحسن علیه السّلام و قال له:«أ أنت خارج؟»قال:نعم،لا بد لی من ذلک.فقال له:

«انظر یا ابن أخی و اتق اللّه و لا توتم أطفالی»و أمر له بثلاثمائة دینار و أربعة آلاف درهم، فلما قام من بین یدیه قال لمن حضره:«و اللّه لیسعینّ فی دمی و یویتمنّ أولادی»فقالوا:

جعلنا فداک،أو أنت تعلم هذا من حاله و تعطیه و تصله؟قال:«نعم،حدثنی أبی عن

ص:461


1- (1) عمدة الطالب ص 233-234. [1]

آبائه عن رسول اللّه...»الحدیث...فخرج علی بن إسماعیل حتی أتی یحیی بن خالد فعرف من خبر الإمام موسی بن جعفر،فرفعه إلی الرشید،و سأله الرشید عن عمه فسعی به إلیه و قال له:إن الأموال تحمل إلیه من المشرق و المغرب،و إنه اشتری ضیعة سمّاها البشیرة بثلاثین ألف دینار...ثم خرج یحیی بن خالد علی البرید حتی وافی بغداد،ثم دعا السندی بن شاهک فأمره فی موسی بن جعفر بأمره فامتثله،و کان الذی تولی به السندی بن شاهک وضع له سما فی طعام قدّم إلیه.و یقال أنه جعله فی رطب،فأکل منه موسی،و أحس بالسم،و لبث بعده ثلاثا موعوکا،ثم مات فی الیوم الثالث...و أخرج و وضع علی الجسر،فأمر یحیی بن خالد أن ینادی علیه عند موته:

هذا موسی بن جعفر الذی تزعم الرافضة أنه لا یموت فانظروا إلیه (1).

و الإسماعیلیون یعدّون البرامکة إسماعیلیة علی مذهبهم،و کذلک زبیدة زوجة الرشید هی الأخری إسماعیلیة،و ینفون عنها تدبیر قتل البرامکة (2).

یقول النوبختی:فأما(الإسماعیلیة)فهم«الخطّابیة»أصحاب(أبی الخطاب محمد بن أبی زینب الأسدی الأجدع)و قد دخلت منهم فی فرقة محمد بن إسماعیل، و أقرّوا بموت إسماعیل بن جعفر فی حیاة أبیه،و هم الذین خرجوا فی حیاة أبی عبد اللّه جعفر بن محمد علیه السّلام.

و کانت الخطّابیة بعد براءة الإمام الصادق علیه السّلام منهم و لعنهم و الوقوف بوجه إلحادهم و زندقتهم،قد تفرقوا فصاروا أربع فرق،و کان أبو الخطّاب یدّعی أن الإمام الصادق جعله قیّمه و وصیّه من بعده،و علّمه اسم اللّه الأعظم،ثم ترقّی إلی أن ادّعی النبوة،ثم ادّعی الرسالة.ثم ادعی أنه من الملائکة،و أنه رسول اللّه إلی أهل الأرض و الحجة علیهم.ففرقة منهم قالت:إن أبا عبد اللّه جعفر بن محمد هو اللّه جلّ و عزّ، و تعالی اللّه عن ذلک علوا کبیرا.و أن أبا الخطاب نبی مرسل أرسله جعفر،و أمر بطاعته،و أحلّوا المحارم من الزنا و السرقة و شرب الخمر،و ترکوا الزکاة و الصلاة و الصیام و الحج.و أباحوا الشهوات بعضهم لبعض و قالوا:من سأله أخوه لیشهد علی

ص:462


1- (1) الإرشاد 279-280.و [1]الغیبة 21.و روضة الواعظین ص 218.و [2]مقاتل الطالبیین ص 501- 502.و [3]کشف الغمة فی معرفة الأئمة للإربلی ص 247. [4]
2- (2) تاریخ الدعوة الإسماعیلیة ص 145. [5]

مخالفیه فلیصدّقه و یشهد له،فإن ذلک فرض علیه واجب.و جعلوا الفرائض رجالا سمّوهم،و الفواحش و المعاصی رجالا و تأوّلوا قول اللّه عز و جل: یُرِیدُ اللّهُ أَنْ یُخَفِّفَ عَنْکُمْ .و قالوا:خفف عنّا بأبی الخطّاب،و وضع عنّا الأغلال و الآصار،یعنون الصلاة و الزکاة و الصیام و الحج،فمن عرف الرسول النبی الإمام،فلیصنع ما أحب.و فرقة قالت بزیّع نبی رسول مثل أبی الخطاب،أرسله جعفر بن محمد،و شهد بزیع لأبی الخطّاب بالرسالة،و بریء أبو الخطاب و أصحابه من بزیع.و فرقة قالت:السّری رسول مثل أبی الخطاب،أرسله جعفر و قال:إنه قوی أمین،و هو موسی القوی الأمین،و فیه تلک الروح،و جعفر هو الإسلام،و الإسلام هو السّلام و هو اللّه عز و جل،و نحن بنو الإسلام کما قالت الیهود: نَحْنُ أَبْناءُ اللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ .و قد قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:سلمان ابن الإسلام.فدعوا إلی نبوّة السری و رسالته،و صلّوا و صاموا و حجّوا لجعفر بن محمد، و لبّوا له فقالوا:لبیک یا جعفر لبیک.

و فرقة قالت:جعفر بن محمد هو اللّه عز و جل،و تعالی عن ذلک علوا کبیرا، و إنما هو نور یدخل فی أبدان الأوصیاء فیحل فیها،فکان ذلک النور فی جعفر،ثم خرج منه فدخل فی أبی الخطّاب،فصار جعفر من الملائکة،ثم خرج من أبی الخطّاب فدخل فی معمر (1).

و جمیع ما نجم عن حرکة الغلاة و انتسب إلی أبی الخطّاب لا یخلو من الادعاء بالربوبیة و النبوة،و أغلبها تقول ببقاء الأموات،و الزعم أن معبودهم لا یموت، فالمعمریة عبدوا أبا الخطّاب کما عبدوا معمرا هذا،و قد کان رجلا یبیع الحنطة، و زعموا أن الدنیا لا تفنی،و أن الجنة هی ما یصیب الناس من العافیة و الخیر،و أن النار ما تصیب الناس من خلاف ذلک.و قالوا بالتناسخ،و أنهم لا یموتون و لکن ترفع أرواحهم إلی السماء و توضع فی أجساد غیر تلک الأجساد،و استحلّوا الخمر و الزنا و سائر المحرمات،و دانوا بترک الصلاة (2).

و لا شک أن حرکة الغلاة هی حرکة سیاسیة إضافة إلی کونها حرکة دینیة ضمّت بقایا العقائد و الأدیان التی محق الإسلام وجودها،و اجتثت جذورها،و لما ظهرت

ص:463


1- (1) انظر فرق النوبختی 42-44. [1]
2- (2) الحور العین [2]لابن نشوان ص 167.

بوادرها کان ظهورها فی ضلال الحکّام و حواشی عظمتهم.و استطاع الظلمة و المتجبرون أن یجعلوها سلاحا فتاکا فی حملتهم ضد أهل البیت و شیعتهم،فأسهموا فی نشاط تلک الفرق،و سهّلوا لهم التظاهر و الادعاء بحب أهل البیت،و قد عالج الأئمة الأطهار علیهم أفضل الصلاة و السّلام مشکلة تسلل الغلاة و دخولهم فی صفوف المسلمین،فکان الإمام الصادق یلعن أبا الخطّاب و أصحابه و جمیع الدعاة إلی الألحاد و الغلو،و یفضح أصولها و مصادرها،و من أقواله علیه السّلام:«إنّا أهل بیت صادقون لا نعدم من کذّاب یکذب علینا عند الناس،یرید أن یسقط صدقنا بکذبه علینا».ثم ذکر المغیرة و بزیع و السری و أبا الخطّاب و معمّر و بشّار الشعیری و حمزة الیزدی و صائد النهدی فقال:«لعنهم اللّه أجمع،و کفانا مئونة کل کذاب».

و قال علیه السّلام:«إن قوما یزعمون أنی لهم إمام،و اللّه ما أنا لهم بإمام،مالهم لعنهم اللّه،أقول کذا و یقولون کذا.إنما أنا إمام من أطاعنی.و من قال بأننا أنبیاء، فعلیه لعنة اللّه.و من شک فی ذلک فعلیه لعنة اللّه» (1).

و إذا کان الفاطمیون قد أملوا علی قاضیهم أن یثبت البراءة من أبی الخطّاب لتنزیه معتقداتهم،فإن بقیة الإسماعیلیة لم یوافقوهم علی ذلک،کما لم یوافقوهم علی أعمالهم الأخری کمحاربتهم القرامطة و التصدّی لجرائمهم،و قد ألمحنا إلی أن التاریخ الإسماعیلی یظهر علیه الاضطراب و عدم الانسجام،لأن هناک فراغا و ثغرات ظلت ظاهرة لم تنفع فی ملئها المحاولات الکثیرة،و قد أدی ذلک إلی أقوال غیر واقعیة، و آراء لا نصیب لها من الصحة،کالقول بأن بذور حرکة الإسماعیلیة قد بذرت فی عهد جعفر بن محمد.یقول عارف تامر-و هو من الإسماعیلیة-:و لا یوجد هناک من یستطیع إنکار هذه الحقیقة،و قد کانت هذه الدعوة سرّیة،و کان یعمل لها فی الخفاء إسماعیل بحیاة أبیه،یعاونه الداعیة الکبیر أبو الخطاب،و جاء بعد إسماعیل ولده محمد،و کان علی جانب کبیر من العبقریة و الثقافة راجح الفکر ثاقب النظر (2).

و هذا تحکم واضح،و قول یبعد عن الواقع،و لا أساس له من الصحة،و لکنه یعتقد کبقیة الإسماعیلیة أن محمد بن إسماعیل خرج من المدینة إلی الکوفة مصحوبا بأخیه و جماعة حرکته،و استتر،فبنوا تاریخا لمحمد بن إسماعیل علی مقتضی التنظیم

ص:464


1- (1) انظر بحث:الغلاة،المجلد الأول،الجزء الأول من الإمام الصادق و المذاهب الأربعة. [1]
2- (2) مقدمة کتاب عبقریة الفاطمیین لمحمد حسین الأعظمی ص 14.

السری و الحرکة الباطنیة،و أنکروا ما تذکره المصادر و تثبته الحقائق من التحاق محمد برکب العباسیین و تحکم المنفعة و الرغبة فی الدنیا حتی حملتاه إلی الموت فی بغداد.

و یحدد الأستاذ تامر عام 128 ه تاریخا لنشأة الإسماعیلیة کدعوة دینیة(من قبل الفقیه المتشرّع الإمام جعفر الصادق)ثم یقول إنها بدأت تتحول إلی حرکة سیاسیة عام 259 ه.

و لا نرید الخوض فی مناقشة مثل هذه الآراء لأنها تکشف عن نفسها،و لا نرغب بالإطالة فی بحث الإسماعیلیة و الإمامة،فالمصادر الإسماعیلیة التی یستقی منها الکتّاب المعاصرون-تامر و غیره-تشیر إلی مثل هذا الادعاء،و قد قلنا آنفا أن الحرکة الإسماعیلیة اختارت الوقائع و المعتقدات المهمة فی تاریخ الشیعة،و ساقت انفصالها و انشقاقها عن المذهب الجعفری فی صیاغه مشابهة،فاختارت مبدأ التقیة لدی الشیعة لیکون ذریعة للقول بالتنظیم السری الباطنی القائم علی الرموز و المعانی التی لا صلة لها باللغة أو مبادئ التفسیر.فالتقیة عند الشیعة عمل بقوله تعالی: لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللّهِ فِی شَیْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً .

و قد کان الإمام أمیر المؤمنین علیه السّلام یوصی بالتقیة و یأمر بها،و لیس ذلک منه إقرارا،فقد علم تشدّده فی الحق،و عدم خشیته أحدا غیر اللّه،لکنه أمر بها لأنها من الأمور التی یحکم بها العقل و السمع.أما من حیث العقل فالأولی أن یجنّب الإنسان نفسه شرور من یستطیع أن یناله بشرّ إما بسلطة أو قوة أو ظرف،فیتّقی شرّه و یحفظ حیاته.و أما من حیث السمع.فإن قصة أصحاب الکهف و فرارهم بدینهم: إِنَّهُمْ إِنْ یَظْهَرُوا عَلَیْکُمْ یَرْجُمُوکُمْ أَوْ یُعِیدُوکُمْ فِی مِلَّتِهِمْ و وقائع دعوة موسی: اِذْهَبا إِلی فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغی فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشی وَ دَخَلَ الْمَدِینَةَ عَلی حِینِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها و غیرها من الأحداث الکثیرة کافیة لإظهار أن التقیة-أو مبدأ تجنب المخاطر و حفظ الوجود-من أوامر الشرائع،و قد قال اللّه عز و جل لنبیه الکریم: اِدْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ ثم تأتی الآیة التی تنص علی التقیة فی العلاقة مع المشرکین أو السماع ببعض الأعمال: فَمَنِ اضْطُرَّ غَیْرَ باغٍ و ما نزل فی حق عمّار بن یاسر: إِلاّ مَنْ أُکْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِیمانِ و علی ذلک رأینا کیف کان توجیه الإمام الصادق علیه السّلام لأصحابه و التزام التقیة.و نری کیف یخاطب الأئمة علیهم السّلام

ص:465

الظلمة و العتاة بإمرة المؤمنین للإبقاء علی حیاتهم و کفّ شرور الحکّام الطغاة عن شیعتهم، و کل الأعمال المعهودة فی تطبیق التقیة لا تحتمل أکثر من مقاصدها التی أذن بها الشرع، فإن الأئمة علیهم السّلام کانت مناهج سیرهم واضحة،و أقوالهم فی معاهدهم و بیوتاتهم معروفة.و ما یصدر عنهم فی مقابلة الملوک و سلاطین الزمان بالقدر الذی یوجبه الشرع لحفظ النفس،و کذلک رجال الشیعة و قادتها عملوا بأوامر الشرع و طبقوا توجیهات أئمتهم فی حال الاضطرار.و إلی هنا ینتهی أمر التقیة،أی عند الحدود التی تکفل إبعاد الخطر و دفع الشر،فلیس من تقیة الشیعة التخفّی،و النظام القائم علی السرّیة و الرموز و الأرقام و الإشارات التی تخص أقواما خلت و مذاهب سالفة.

و قد استغل الإسماعیلیون مذهب التقیة فی سبیل أغراضهم و مصالحهم فکانوا سنیین مع أهل السنة و(شیعیین)مع الشیعة و مسیحیین مع المسیحیة (1).

کذلک أدّعی الإسماعیلیة التدبیر الذی رآه الإمام الصادق لحفظ حیاة وصیه و خلیفته الإمام موسی الکاظم و قالوا:إن قصة وفاة إسماعیل بن جعفر فی حیاة أبیه کانت قصة أراد بها الإمام جعفر الصادق التمویه و التغطیة علی الخلیفة العباسی أبی جعفر المنصور الذی کان یطارد الشیعة فی کل مکان،فخاف جعفر الصادق علی ابنه و خلیفته إسماعیل،فادّعی موته (2).و قالوا إن موسی الکاظم لم یجعله الصادق إماما إلا سترا علی ولی الأمر(محمد بن إسماعیل)لیکتم أمره علی الأضداد،و لئلا یطلع ما خصّ به أهل العداوة و العناد حتی یستطیع الإمام المستقر الحقیقی النهوض بأعباء الدعوة سرا (3).و لا تتفق الإسماعیلیة علی موت إسماعیل فی حیاة أبیه،فمنهم من یری ذلک،و منهم من ینکر موته،و أنه بقی حیّا و شوهد فی البصرة.و مهما یکن من قول فإنهم أقنعوا أنفسهم بالادعاء بالنص،و جعلوه مادة لبحوثهم و أفکارهم و قالوا:

و لما وجدناه قد نصّ علیه،کان منه العلم بأنه غیر منقطع النسل و العقب،و إذا کان غیر منقطع النسل و العقب فالإمامة له و لنسله ثابتة،و إن کان(ع.م)لم ینص علی أحد بعد نصه علی إسماعیل(ع.م)فالإمامة لإسماعیل،فإذا ثبتت إمامة إسماعیل ثبت

ص:466


1- (1) عبقریة الفاطمیین ص 18.
2- (2) تاریخ الدعوة الإسماعیلیة ص 16. [1]
3- (3) زهر المعانی [2]للداعی إدریس ص(48-49)-غالب-أعلام الإسماعیلیة.

نسله.إذا لا یستحق الإمامة من لا یکون له عقب بکونها محفوظة فی العقب،و إذا ثبت نسله فالإمامة لنسله ثابتة (1).

و یدّعون:بما أن إسماعیل هو صاحب الحق الشرعی فی الإمامة بعد أن نص أبوه علی ذلک،فلا بد إذن أن تتسلسل الإمامة فی ابنه محمد بن إسماعیل.هذا من ناحیة،و من ناحیة ثانیة کان محمد بن إسماعیل أکبر سنا من عمه موسی الکاظم ا ه.

فإذا عدنا إلی تاریخ ولادة إسماعیل نجد أن ولادته کانت سنة 132 ه فیما کان الإمام موسی الکاظم علیه السّلام قد ولد سنة 128 ه.أما وجوه المقارنة الأخری فهی واضحة و لا تحتاج إلی جهد فی الردّ و النقاش،لأنها لا تثبت أمام الحجج،فلیس هناک من نص علی إسماعیل بالمرة.کما أنه لم یجمع مؤهلات الخلافة،و لم یصلح لها بعد أبیه،و لکن الإسماعیلیة ادّعوا ذلک،و أیدوا دعواهم بما لا یصلح للتأیید ورد الاعتراض و أن وفاة إسماعیل فی حیاة أبیه و ما ذهبوا إلیه من التمویه من قبل الإمام الصادق إنما هو من صنائع الغلو،و القصة خیالیة وضعها المغالون فی هذا المبدأ من مؤرخی و کتّاب الإسماعیلیة الذین یکثرون من أمثال هذه القصص فی کتاباتهم لیضفوا علی الأئمة الإسماعیلیة مناقب و فضائل لا یقرّها عقل (2).

و إن الخوض فی غمار البحث عن الطائفة الإسماعیلیة و نشأتها و مقومات دعوتها أمر یخرجنا عن الغرض الذی من أجله تعرّضنا لذکر أولاد الإمام الصادق علیه السّلام و لکننا رأینا أنفسنا ملزمین بهذه الدراسة إلی التعرّض لبعض ما یتعلق بتاریخ هذه الفرقة فی إطار ادعائها بالإمامة و معتقداتها.و سنقتصر علی الجوانب الأساسیة فیما یلی من البحث.

إن الوقائع التاریخیة لا یضیرها الادعاء و لا تؤثر علیها فی جوهرها محاولات التغییر و التحریف،فإذا ما خیل للمتسلّطین أن کثرة اللغط بما أرادوه و زیادة التردید لما افتعلوه قد حسم ما کان یهددهم و قطع ما کان یقضّ مضاجعهم،فلیس ذلک من الحقیقة فی شیء.و أنا أذکر ذلک،و قصدی ما تجنّی الحکام الجائرون به من أقوال و دسائس و مؤامرات علی الأئمة الأطهار من آل البیت رضوان اللّه علیهم،و ما کان

ص:467


1- (1) المصابیح فی إثبات الإقامة لأحمد حمید الدین الکرمانی ص 130.
2- (2) الطائفة الإسماعیلیة،الدکتور محمد حسن کامل ص 3.

لأصحاب العروش من زبانیة و أذناب سایروهم علی الکذب و أقرّوهم علی الظلم، و لکن تاریخ و حقائق الأئمة الأطهار و شیعتهم بقی جلیا ناصعا برغم کل نتائج الملوک الفسّاق و الظالمین،و قد شمّر رجال الشیعة عن ساعد الجدّ،و بذلوا أقصی الجهود منذ مئات السنین لإظهار تلک الحقائق،فما کان الإمام علی إلا وصیّا،و أول القوم إسلاما و أقدمهم إیمانا،و هکذا کل وصی من ذریته،حتی إمامنا و مولانا الصادق علیه السّلام.

فلم یکن إلا صاحب الإمامة و الخلافة الکبری الذی تنطق بفضائله الآثار،و تصرخ بمکانته الحقائق،و الذی واجه ظروفا شائکة و أوضاعا صعبة تجلّت عنایة الرب و تسدیده فیما ألهمه اللّه من حکمة استطاع بها أن یحمی نفسه و یحفظ وجود شیعته.

و هکذا إذا تسلسلنا فی البحث حتی غیبة الإمام الثانی عشر حجة اللّه القائم بأمره صاحب الزمان المهدی عجل اللّه فرجه.

و قد حملنی علی هذا التلمیح دواعی الاستجابة لروح الإخاء و المودة التی أراها عند الکثیر من الأخوة الإسماعیلیة،فآثرت أن المح بمجمل الإمارات الهامة فی تاریخ الشیعة لأدخل منها إلی القول بأن الأخوة الإسماعیلیة لم ینتبهوا إلی أصل و سبب الاختلاف و الاضطراب الذی یحیط بالأحداث الأساسیة التی تتعلق بتاریخهم.و ذلک من حیث المواقع التی تجری علیها،و الأشخاص و التفاصیل،و من الطبیعی حدوث ذلک لأنها محاولات تبنی عبر عصور متلاحقة،و أقوال تنشأ فی أزمان متعددة، و الأصل أو الحقیقة تأباها.

و مع هذا النظام السری و القول الباطنی،ارتکب الإسماعیلیون خطأهم بأن أباحوا للمستشرقین التلاعب فی آثارهم،و اعتمدوا علیهم فی التحقیق و الإخراج،بحیث تجدهم یرون فی أحکام المستشرقین علی الآثار و النصوص الصحة و لا یتطرّق إلیهم الشک،و ما من مستشرق-إلا ما کان أندر من الکبریت الأحمر-إلا و اتصل بسبب، و التقی بغایة مع حرکة الاستشراق الاستعماریة الخبیثة،بل أقرّ الإسماعیلیة لهم بالفضل حتی قالوا:و بفضل تلک الدراسات التاریخیة الهامة التی قامت بها فئة من المستشرقین (الثقات)الضلیعین فی علوم الإسماعیلیة،و علی رأسهم أو بالأحری فی مقدمتهم العلامة و المستشرق الروسی الکبیر البروفسور(ایفانوف)و البرفسور ماسینیون...

و الدکتور شتر و طحان و سبوکوربان...و المستشرق الإنکلیزی برنارد لویس (1).

ص:468


1- (1) تاریخ الدعوة الإسماعیلیة ص 22. [1]

و الغریب أن البعض منهم یری فی تأیید المستشرقین لآرائه حجة،کما فعل عارف تامر و هو یقول:قلت فی أکثر من مکان بأنی لا أفرّق بین الحرکات الثلاث:

الإسماعیلیة و القرمطیة و الفاطمیة،فکلها باعتقادی حرکة واحدة نبعت من نبع واحد و انحدرت من أصل واحد،و قد یکون دی ساسی و دوزی و هامر و کاترمیر و غویارد و بلوشه و دی خویه متّفقین معی بالرأی (1).

و فی الوقت الذی یعانی الشیعة من افتراءات المستشرقین و نتائج حملة الاستشراق اللعینة،و أخذهم بالأقوال التی تجافی الحقیقة،و یعمل کتّابهم و باحثوهم و مؤرخوهم علی فضح حملة الاستشراق و من انتسب إلیها من الکتّاب العرب،یفسح الإسماعیلیة الباب لهؤلاء،و کأن الغرض الإسهام فی الإساءة إلی الشیعة و نشر دوائر الخلط بین مذهب الشیعة و الفرق الأخری التی یعزی إلی الشیعة معتقداتها،فیزداد تراکم الأخطاء،و یظفر الأعداء باعتراف و إقرار بما یقوله المستشرقون،و نحن-بکل جهد و منذ عشرات السنین-لا نهدأ عن مواجهة المستشرقین و تلامیذهم فی البلاد الإسلامیة،و لم نحقق من النتائج إلا الیسیر إذا ما نظرنا إلی أصقاع العالم التی تأخذ بأقوال المستشرقین و تلتفت إلی آراء المتعصّبین الذین نحروا الإخاء و ضحّوا بالروابط.

فبرنارد لویس-علی سبیل المثال لا الحصر-لا نتوقع منه أن یفهم التقیّة کما هی عند الشیعة لأمرین:الأول:بعده عن الإسلام.و الثانی::تأثره بنصوص مؤرخی الحکّام و الملوک،و اعتباره أن کل ما یطلق علیهم شیعة هم متّفقون علی هذه الآراء،فهو یقدم ملاحظات و آراء تشعر بالتمییز فی مواضع،لکنه فی قضیة التقیّة أبعد ما یکون عن الصواب و الإدراک (2).

و هکذا شأنه فی بقیة القضایا التاریخیة فاسمع لقوله:(فلما توفی الإمام جعفر الصادق سنة 765 م انقسم أتباعه إلی فریقین حول أحد ابنیه،موسی و جعفر،و أید حقه فی الخلافة،و اعترف أتباع الأول بالأئمة من نسله حتی الإمام الثانی عشر بعد علی بن أبی طالب علیه السّلام)تجد خطأه فی الشخصیات الناجم عن خطئه فی فهم التاریخ الإسلامی (3).

ص:469


1- (1) القرامطة ص 84-85.
2- (2) انظر الدعوة الإسماعیلیة الجدیدة(الحشیشیة)لبرنارد لویس ص 39.
3- (3) انظر:(برنارد لویس):العرب فی التاریخ ص 150.

فإذا أعدنا النظر إلی الظروف التی نشأت فیها حرکات الغلو و التی بحثنا عواملها و کونها من المؤامرات علی الشیعة،نجد برنارد لویس یتبنّی الرأی الذی حاوله الحکام و قاموا بترویجه بظهور الفرق و أنصاف الفرق بین جماعات کانت مذاهبهم متعددة و مزیجة،و أن النصف الأول من القرن الثامن کان فترة نشاط هائل بین الشیعة المتطرفین.و یقول:و کان التحول من طائفة أو رئیس إلی آخر سهلا و متکررا.و تسمی المصادر الإسلامیة الکثیر من المبشرین الدینیین الذین کان بعضهم أشخاصا من أصل وضیع قادوا ثورات و وصفوا للسیف،و تعزی لبعضهم عقائد أصبحت فیما بعد خاصة بالإسماعیلیة (1).

و یشیر إلی العراق لذات الغرض الذی توخّاه الطاعنون علی الشیعة،و لکنّا نجده متفهّما لظروف الدعوة الإسماعیلیة و معتقداتهم فیقول:و یمکن وصف الفترة الواقعة بین القرن الثامن المیلادی و أوائل القرن التاسع بأنها فترة استعداد،نظم خلالها إسماعیل و ابنه محمد و عدد من الأتباع المخلصین بناء هذه الفرقة و الدعوة لها، و تختلف تعالیمهم اختلافا بیّنا عن تعالیم السنّة،کما أنها تضمّ کثیرا من الأفکار الأفلاطونیة الحدیثة و الهندیة،و قد تمکنوا من إدخال هذه الأفکار بقولهم بمبدإ التفسیر الباطنی الذی یجعل لکل آیة معنیین:أحدهما ظاهر و حرفی،و الآخر باطن لا یقف علیه إلا أهل العلم.و کانت التعالیم السرّیة لهذه الفرقة تنشر علی مراتب من التنشئة (....)لا یرقی إلی أعلی مراتبها إلا من یتمّ تحوله إلی المذهب الإسماعیلی،و کان من شأن هذا التنظیم السری أن ساعد الإسماعیلیة علی البقاء و الازدهار علی الرغم من یقظة شرطة العباسیین (2).

و خلاصة القول،فإن الکتّاب الإسماعیلیین یکشفون عن عناصر قیام معتقدات الفرقة الإسماعیلیة،و ننتهی إلی حقیقة أن الإمامة و الافتراق عن خطها بعد سنین طویلة من موت إسماعیل و حقائق سیرة ابنه محمد هی المنفذ،فهم یقولون أن الفکرة الإسماعیلیة لیست ولیدة حادثة معینة أو تفکیر استبدّ بشخص أو جماعة فی أمر من الأمور،أو حال من الأحوال،بل هی امتداد أزلی لنظرة أزلیة عاشت فی دم الإنسانیة

ص:470


1- (1) الدعوة الإسماعیلیة لبرنارد لویس ص 39.
2- (2) العرب فی التاریخ ص 150-151.

منذ بدء الخلیقة.و ستستمر فی تجدّدها و تصاعدها نحو الأکمل ما دامت الخلیقة و ما دامت الحیاة،و لربما استطاع المؤرخون أن ینسبوا میلاد الحرکات و العقائد إلی أحداث تاریخیة معینة تسببت فی خلقها و عملت علی تطویرها و بلورتها،غیر أن هذا المقیاس لا ینطبق علی الفکرة الإسماعیلیة من حیث جوهرها الذی کان توأما للحیاة عینها (1)و قد صارت مع تطور الزمن بعد نشأتها حرکة عقلیة تدل علی أصحاب مذاهب دینیة مختلفة،و أحزاب سیاسیة و اجتماعیة متعددة،و آراء فلسفیة و علمیة متنوعة (2).

و یعتبر الإسماعیلیون أنفسهم من أنجب التلامیذ الذین درسوا الفلسفة الیونانیة دراسة واقعیة،و أخذوا عنها الأفکار و النظریات و طبّقوها و حوّروها فی مجتمعهم، و لیست جمهوریة أفلاطون إلا أحد الکتب المفضلة القیمة التی درسوها بعنایة و طبقوها بإمعان (3).

و یتّفق الإسماعیلیون علی أن عقیدتهم فلسفیة.یقول مصطفی غالب:(إذا ما أردنا تعریف الإسماعیلیة بإیجاز و تقدیمها باختصار،و وصفها بمختلف الأوصاف،فلا نقول عنها إلاّ إنها العقیدة الفلسفیة التی تتطور مع الزمن و تتکیف معه،أو بلغة أصحّ هی انطلاق الفکر الوثّاب فی هذا العالم اللامتناهی،أو وثوب الروح نحو مثلها الأعلی).و یبین عارف تامر فضل البحوث و الدراسات فی التعرف علی الدعوة الإسماعیلیة و یقول:(و بعد ظهور هذه المصادر و المخطوطات،أصبحت الحرکة الإسماعیلیة معروفة بأنها رسالة فلسفیة مستقلة،و دعوة سیاسیة أممیة ذات أثر ظاهر بمجری الحیاة العامة،و فکرة عقائدیة باطنیة تخفی وراءها أهدافا و مقاصد لا یزال الفکر یسعی لجلاء غوامضها و سبر أغوارها)ا ه.

و قد وجدت هذه المقاصد و الأفکار(الوثابة)فی قضیة موت إسماعیل،و تطّلع ابنه محمد متنفّسا و ثغرة،فصاغ أصحابها و الداعون إلیها معتقدات الإسماعیلیة بالمضمون و المنطق الفلسفیین،و کانت تقوم و لا شک علی الفلسفة الیونانیة حتی کانت خیر وعاء لها،و استطاع الداعون إلی هذه الفلسفة من إدخالها فی العقائد

ص:471


1- (1) أعلام الإسماعیلیة ص 13.
2- (2) تاریخ الدعوة الإسماعیلیة ص 14. [1]
3- (3) القرامطة لعارف تامر ص 64.

و التنظیم و السلوک،فکانت الکواکب و الأجرام و النفس و العقل و الحرکة و الثبات و الاختیار و الفعل و الأرض و البحار و البساتین و الأزهار و البشر و الحیوان و غیرها تربط بها الأسماء و توصل بها.

و کانت مسألة الباطن و الظاهر أعمق من الأوصاف التی عرفوا بها.لأن الباطنیة و التخفّی من ألزم الحالات لمثل هذه الدعوات التی تنتمی إلی أمم أخری و مذاهب و معتقدات قدیمة،إذ لا یمکنها الظهور و لا الإفصاح،فالباطن هو الحال الذی لا یمکنها غیره،و من هذه الباطنیة امتدت الصفات التی تستمدّ من القول بالإمام الظاهر و الإمام الباطن،و بالمعنی الظاهر و المعنی الباطن،فإنهم ادّعوا أن لظواهر القرآن و الأخبار بواطن تجری مجری اللب من القشر،و إنها توهم الأغبیاء صورا،و تفهم الفطناء رموزا و إشارات إلی حقائق خفیة.و أن من تقاعد عن العرض علی الخفایا و البواطن متعثر،و من ارتضی إلی علم الباطن انحط عنه التکلف،و استراح من أعبائه، و استشهدوا بقوله تعالی: وَ یَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِی کانَتْ عَلَیْهِمْ قالوا:

و الجهال بذلک هم المرادون بقوله: فَضُرِبَ بَیْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ (1).

یقولون فی قوله: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ أنه القیام من النوم، و مثل النوم مثل الغفلة.و المستجیب-أول رتبة یصل إلیها المنتسب إلیهم-طول ما کان فیه قبل استجابته فی غفلة من أمر اللّه و أمر أولیائه بمنزلة النائم فی الظاهر،فإذا انتبه بکسر کاسر (الکاسر من یتفقه بالدعوة و یصل إلی مدخل الفلسفة)کسر علیه،أو بمنبه له من قبل نفسه کما قد یتنبه النائم کذلک من ذات نفسه،و قد یوقظه عن نومه غیره.و أراد الصلاة قصد إلی بیت الخلاء،و قد ذکروا أن مثله مثل الدعوة التی فیها یتخلی من کل کفر و شرک و نفاق و خطیّة کما یتخلی فی بیت الخلاء من أمثال ذلک من النجاسات و الأقذار،یتخلی من ذلک فی الظاهر من أراد الطهارة فی الظاهر،و فی الباطن من أراد الطهارة الباطنة بالتبری من جمیع ذلک،ثم یقبل علی استماع العلم و الحکمة اللذین مثلهما فی الظاهر مثل الماء الذی منه أصل الحیاة الظاهرة،کما أن من العلم أصل الحیاة الباطنة الدائمة للأرواح (2).

و یدخلون الإمامة فی سیاق معتقداتهم،فبعد أن یذکروا أن القلب أول متکوّن من الجنین،ککون الشمس أول ما تکون من الفلک،و الناطق أول ما ظهر فی عالم

ص:472


1- (1) المنتظم ج 5 ص 111. [1]
2- (2) تربیة المؤمنین من کتاب تأویل دعائم الإسلام للقاضی النعمان بن محمد ص 55.

؟؟؟،و هذه النفس النامیة لا توجد إلا بوجود موضوعها الذی هو جسمها،فبوجوده وجودها و بعدمه عدمها...یقولون ثم إنه کان إلی الأئمة الأطهار الذین هم حجب الإبداع علی مرّ الأعمار،و إلی باب کل واحد منهم حجة و داعیه،و ما دونه حججه الاثنا عشر-عدد المراتب فی الدعوة الإسماعیلیة-الذین لا یفارقون إقامة الدعوة الباطنة.و إلی الأبواب الظاهرة و الحجج و الدعاة و المأذونین إقامة الدعوة الظاهرة، فحدود الظاهر یستخرجون الأنفس من عالم الطبیعة و یهذّبونها أولا بالریاضة و الشریعة،و ینقلونها إلی المعارف الحکیمة،و یصوّرونها بالصور العلمیة لکون الأئمة المستقرّین هم الذین أقاموهم و أحلّوهم فی منازلهم علی قدر الاستحقاق و رتّبوهم، فکان أول قائم بالدعوة فی دور الستر آدم،و تبعه نوح،و قام إبراهیم الخلیل علیه السّلام و اجتمع عنده أهل المستقر،فکان لها کالشمس و هی له کالقمر،لأن هیکله من جملة الهیاکل النورانیة... (1).

و عندهم آدم الجزئی و آدم الکلی،و الفرق بین آدم الکلی و آدم الجزئی هو أول دور الستر،و آدم الکلی هو صاحب الجثة الإبداعیة،لأنه أول الکل،و إلیه انتهاء الکل فی الابتداء،و آدم دور الستر جزئی بالنسبة إلیه.و آدم الجسمانی یقع علی کل ناطق من نطقاء دور الستر،و ضده إبلیس الجسمانی فی دور کل ناطق.و یقول صاحب النص:

(فاعلم ذلک و إبلیس ناطقنا صلوات اللّه علیه هو(...کتابة سریة رمزیة...)لعنه اللّه،فاعلم ذلک،و لذلک قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم«قرن بکل نبی شیطان،و قرن بی شیطانان»یعنی أبا جهل و أبا لهب(کتابة سریة)لأنهما کانا معادیین له و لمقیمه فی أول دوره) (2).

و هم یبقون عمل النبوة فی أئمتهم لا علی أساس النیابة و بقاء الدعوة إلی الشریعة و دوام الهدایة إلی الرسالة،فیقولون:(إن الإمام رسول إلی الخلق بأمر اللّه تعالی و نص رسوله من قبل الوحی و الإمام الثانی کذلک من قبل الإمام الأول،الأول بأمر الوصی، و النبی بأمر من اللّه عز و جل،و هلمّ جرّا من واحد إلی واحد إلی یوم القیامة،یصح ذلک و یثبته قوله سبحانه لنبیه(ع.م): إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ

ص:473


1- (1) الذخیرة فی الحقیقة [1]للداعی الفاطمی الیمانی علی بن الولید ص 102-104.
2- (2) مسائل مجموعة من الحقائق العالیة و الدقائق و الأسرار السامیة التی لا یجوز الاطلاع علیها إلا بإذن من العقد و الحل ص 129-134 تحقیق د.شتروطحان.

وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ عنی هاهنا بالمؤمنین:الوصی و الأئمة من ولده و قوله تعالی:

وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَی اللّهُ عَمَلَکُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ فقوله فی هذه الآیة«و المؤمنون»عنی به الأئمة الطاهرین من ذریة الرسول أولاد الوصی و البتول علیهم السّلام فلفظ«المؤمنون»هاهنا عام و معناه خاص،فلو لم یکن ذلک لم یدر من المأمور بالعمل و من الذی یراه،و کذلک جمیع الحدود الذین هم دون الإمام:الباب و الحجة إلی المکاسر،کل واحد منهم رسول إلی من دونهم بنص من هو فوقه،بأمر متسلسل إلی اللّه سبحانه) (1).

و من الواضح اختلاف المضمون عند الشیعة فی أمر الوصایة و النص عنه فی هذا السیاق،فهو تشبّه بهم،و لکنه یفترق عنه من حیث تقیید الإمامة بحدود الولایة و النیابة عن صاحب الرسالة و المبعوث بالنبوة،فالإمامة عند الشیعة امتداد لأمر الدعوة و مداومة علی الأحکام و العمل بالأصول.أما الإسماعیلیون فقد أوقعهم الغلو فی الادعاء بأن محمد بن إسماعیل مشهود له بالرسالة فی الأذان عند قوله:أشهد أن محمدا رسول اللّه،لأن شهادته لنفسه غیر جائزة،و إنما کانت شهادته لمحمد بن إسماعیل (2).

کذلک فإن الغلو نال من جوهر العقیدة بالصفة الروحیة للأئمة التی یعتقدها الشیعة فی الأئمة المعصومین لکی یکون الدین کاملا و یناط أمر الشریعة بإمام له من صفات صاحب الرسالة ما یعصمه،فقد قال الإسماعیلیة:إن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم نقل إلی الإمام علی بعض علومه الإلهیة مباشرة لیتوارثها الأئمة من نسله بعده،و هی علوم تتمثل علی الخصوص فی تفسیر القرآن أو ما عرف بالتأویل أو المعنی الباطن،إذ لکل تنزیل تأویل،و کل کتب الإسماعیلیة تشیر إلی ذلک.کما ردّوا کل الأحادیث النبویة إلی أئمتهم و هی المعروفة بالأخبار،و قد جعلهم ذلک یثبتون لأئمتهم صفة إلهیة (3).و هو ما یبرأ منه الشیعة،و قد اتخذ أعداؤهم ذلک ذریعة للطعن،و أنکروا کل حقائق التنزیه و دلالات النقاء و السمو فی عقیدة الشیعة.

ص:474


1- (1) کتاب الأزهار و مجمع الأنوار للداعی ابن آدم الهندی البهروجی ص /184منتخبات إسماعیلیة تحقیق د.عادل العوّا.
2- (2) الأنوار اللطیفة فی فلسفة المبدأ و المعاد للداعی طاهر بن إبراهیم الحارثی ص 161 الباب الخامس من السرادقة الرابع الفصل الثانی.و المسائل المجموعة من الحقائق ص 99.
3- (3) الحاکم بأمر اللّه ص 13-14.

و قد بیّن الأئمة-أنفسهم-منازلهم الدینیة و مراتبهم،و وضحوا معالم الإمامة و صفات صاحب الأمر الشرعی،و لم یدع أحد منهم صفة إلهیة.

و لا ننکر أن الحرکة الإسماعیلیة قد اتسمت بأسالیب تنظیمیة و بهیاکل سریة و مناهج دعائیة تدل علی إدراک عمیق لنفسیات شعوب الشرق الأدنی،و علی فهم دقیق لمصادر التذمّر،و لا یبعد عن الواقع من یقول أن للإسماعیلیة سحرا خاصا و جاذبیة قویة کانت تهفو بنفوس فریق من الناس و تستمیلهم،و تستأثر بأهوائهم،و تبلغ منهم مبلغا یدفعهم إلی المخاطرة و المجازفة و الإتیان بغرائب الأعمال،و قبول الطاعة العمیاء و الاستسلام المطلق،و أن فی الکتمان و السریة و الخفاء و الغموض ما یستهوی الخیال و یرغب النفوس و یطلق الأوهام و الأحلام،و کلما کان السرّ أدق و أخفی،أو کان اللغز أعوص و أغمض کان سحر الخفاء أشدّ جاذبیة و أقوی إطلاقا للخیال.و ما زال الإنسان منذ أقدم العصور مولعا بالغرائب و العجائب،محبّا لاستطلاع الأسرار و کشف المخبآت و استجلاء الغوامض المحجوبة و الأسرار المنیعة (1).و جمیع ذلک من مقتضیات الأفکار الفلسفیة و العقائد الغامضة التی عبّرت عن نفسها بالحرکة، و لیست من التقیة فی شیء.فما أوضح الاختلاف،و ما أجلی الفرق بین الاثنین؟ و یصرّح الکتّاب الإسماعیلیون بأن حرکتهم کان لها القدح المعلّی فی مضمار التنظیمات من حیث الدقة،و إنهم برعوا براعة لا توصف فی تنظیم أجهزة الدعایة علی قلة الوسائل فی ذلک العصر،و استطاعوا أن یشرفوا بسرعة فائقة علی أقاصی بقاع المسلمین،و یتنسّمون أخبار إقناعهم.فقد کان الإمام الإسماعیلی-و الذی یعتبر رئیسا للدعوة-یعتبر الدعاة عصبا مهما للدعوة،فینتخب الدعاة من ذوی المواهب.و وفقت الحرکة الإسماعیلیة بین جهاز الدعایة الذی نظمته و بین نظام الفلک و دورته،فجعلوا العالم-الذی کان معروفا فی عصرهم-مثل السنة الزمنیة.فالسنة مقسمة إلی اثنی عشر شهرا،فقسموا العالم إلی اثنی عشر قسما،و سمّوا کل قسم جزیرة،و جعلوا علی کل جزیرة داعیا،و قالوا:إن الدعوة لا تستقیم إلا باثنی عشر داعیا یتولّون إدارتها،یقابلهم فی عالم الفلک الواحد اثنا عشر برجا،یطابقها فی جسد الإنسان اثنا عشر نقیبا،یقابلها فی عالم الحجب اثنا عشر حجابا.و هکذا إلی بقیة تنظیماتهم،

ص:475


1- (1) القرامطة ص 78.

و التی تحتاج إلی بیان یفضی بنا إلی الإطالة و الخروج عن القصد،و قد أغفلنا الکثیر من جوانب الموضوع خشیة ذلک.و لم نذکر إلا ما کان إغفاله یخلّ بالغرض.

لقد شقّت الدعوة الإسماعیلیة طریقها فی المجتمع الإسلامی لعوامل متعددة و لجهازها السری و الدعائی،فتضافرت المواهب التی تنتمی إلی مختلف الجماعات و الأفکار علی دراسة الظروف الاجتماعیة و الاقتصادیة و السیاسیة،و اشترط علی الداعی أن یکون ملمّا بذلک،لیسهل علیه الدخول بین طبقات المجتمع الذی یوجّه إلیه.فهو مزوّد بمعلومات عن اختلاف الناس فی الدین و المذهب و العقلیة،و یخاطب فی دعوته کل جماعة بما یروقها لیجذبها إلی صفوف الحرکة،مع التأکید علی التکتّم و التخفّی و السرّیة،و کان أتباع کل مرتبة منهم لا یعرفون أسرار المرتبة الأخری.أما التقوی فهی أن یلزم الداعی الخیر و یعمل به و یتجنّب الشرّ و یحذره (1).

و حقیقة الحرکة أنها أممیة،لم تکن حرکة قومیة عنصریة،کما أنها لا ترتبط مع الشیعة الإمامیة إلا بالتسمیات الشکلیة،فکل مبدأ لدی الإمامیة یتحول لدیهم بما ینسجم مع معتقداتهم.و الحرکة الإسماعیلیة استغلّت تذمّر الناس مما ارتکبه حکام تلک العهود من جرائم و من سوء السیرة و الاستبداد،و لم تظهر أمام انحراف الحکام و ظلمهم دعوة تردعهم،أو حرکة تثور بهم إلا من قبل شیعة أهل البیت و بزعامتهم، فالإسماعیلیة تنخرط فی إعلان المعارضة و توجیه السخط الاجتماعی و الدینی فی البلاد الإسلامیة و المطالبة بحق العلویین الشرعی فی الحکم مع الاحتفاظ بالأهداف السرّیة، و التنظیمات الخفیة التی تخلو منها ثورات العلویین،و التی تتمیز بوضوح أهدافها و اشتهار رجالها بالعلم و الدین و الدعایة الجلیة.

و کان نهج الشیعة الإمامیة الزاهر و سبیلها الراشد ینأیان عن الطرق الباطنیة و أسالیبها السرّیة و وسائلها العنیفة،فکانت عقائد الإمامیة تحکم تصرفات من آمن بها و التزم،و لم یتردّد علماء الإمامیة فی شجب و إدانة ما یتجافی مع روح الإسلام و یخشی نور عقیدته و وضوح أهدافه،و ینزوی فی السرّیة و الباطن،و قاموا بدورهم الدینی فشملهم الباطنیة بأعمال القتل،فراح الکثیر منهم ضحایا و شهداء.

و کان التشیّع قد انتشر فی بلاد المغرب علی ید الإمام إدریس بن عبد اللّه بن

ص:476


1- (1) القاضی أبو حنیفة النعمان المغربی:الهمة فی إتباع آداب الأئمة ص 55.

الحسن بن الحسن بن علی بن أبی طالب علیه السّلام الذی فرّ من أیدی العباسیین بعد موقعة فخ فی عهد الخلیفة الهادی سنة 169 ه.و أقام الأدارسة فی المغرب الأقصی دولة شیعیة سنة 172 ه التفّ حولها البربر،و من ثم أصبحت بلاد المغرب أرضا صالحة للدعوة الإسماعیلیة،و کان ذلک مما سهّل علی کل من الداعیین:أبی سفیان و الحلوانی عملهما،فلما ذهب أبو عبد اللّه الشیعی إلی المغرب فی أوائل سنة 180 ه وجد الأمور ممهدة له،کما وجد التشیّع قد دخل فی عقول البربر،و اعتنقه کثیر من وزراء الأغالبة (1).و کان من الحنکة السیاسیة بحیث استطاع أن یفهم الزعماء المحلیین أن الخلاف بینهم هو السبب فی ضعفهم،و أن الاتحاد تحت لواء التشیّع سیکون لهم القوة،فمهّد الداعی لمجیء مولاه المهدی عبید اللّه بانتصارات و مکاسب،فدفع قبیلة کتامة إلی مهاجمة دولة الأغالبة و مهاجمة دولة الرستمینی فی تاهرت بعد ذلک،و هکذا قامت دولة إسلامیة شیعیة جدیدة،و دخل المهدی القیروان فاتحا (2).

لقد اجتذبت الدعوة الإسماعیلیة إلی صفوفها جماعة من المفکرین،کما نسبوا إلیهم جمعیة إخوان الصفا.لأن حرکة الإسماعیلیة قامت علی أسس سیاسیة ثوریة عنیفة و متطرفة مازجت الأفکار و العقائد الفلسفیة التی حددت المنحی و صاغت النظرة التی یتّصفون بها،و لذلک کان یطلق علی کل متفلسف بأنه إسماعیلی و لو فی فترة محدودة اشتهر بها وضع الإسماعیلیة و أخبار حرکتهم الخیالیة التی تجمع بین الأفکار الفلسفیة و بین الأعمال الانتحاریة التی تقرب من الأساطیر،و الأسالیب التی تعتمد علی المنحی الخیالی و الدعائی الذی لا یهتم بنوعیة الأسلوب.

و اقترب الإسماعیلیة من الطریقة الشیعیة فی تبنّی ظلامات الناس و الدفاع عن المحرومین و البائسین،و ارتبطوا بالحرکة الشیعیة بمفهومها العام،فیما کان قادتهم یختارون الأشخاص للإیغال به فی عالمهم الخفی.کذلک ارتبط الإسماعیلیة بالشیعة من خلال الشعار الذی یقضّ مضاجع الجبابرة بالنّصفة لآل محمد و الرضا منهم و الانتقام لهم،و لکن کان الأمر بمفهومهم الخاص لا بالمفهوم الشیعی الواضح و الصریح الذی تهفو له الأفئدة و تندفع فی ظله النفوس إلی الموت و الشهادة إرضاء للّه

ص:477


1- (1) مصر فی عصر الدولة الفاطمیة:محمد جمال الدین السرور.
2- (2) الفرق الإسلامیة فی الشمال الإفریقی لآلفرید بل ص 158.

و انتقاما للنبی و آله الطیبین.فکان الإسماعیلیة مع الشیعة فی مواطنهم فی الکوفة و بقیة مناطق العراق،و استغل الدعاة الإسماعیلیون اضطهاد الشیعة و جور الولاة،و اتصلوا بهم.کذلک کانت دعوتهم فی الیمن (1)و انضمّت إلیها بتحدّی الخلافة العباسیة.و قد ظهرت الحرکة الإسماعیلیة علی مسرح الأحداث السیاسیة متسلحة بسلاح العقیدة بعد أن بسطت دعوتها فی أرجاء البلاد الشاسعة،و حاولت أن تزیل الخلافة العباسیة و تقیم علی أنقاضها دولة إسماعیلیة،و لأن دعوتها لم تنجح فی بغداد،فقد سرت فی کثیر من بقاع الأمة العربیة غربی العراق لتجعل من العرب من الجزیرة و جنوب سوریا قوام دولتها و لب حضارتها و حملة لواء دعوتها،ثم تتولی الدفاع عن الأرض العربیة ضد الغزوات الصلیبیة،فی الوقت الذی انحدرت فیه خلافة بغداد،إلی فرض الصراع السیاسی و الخضوع للغزاة الأجانب تارکة عبء الدفاع عن بلاد العرب لسیوف المصریین و السوریین بقیادة الدولة الفاطمیة (2)و التی کانت فی عقائدها حریصة علی المظهر الذی یجعلها قریبة من عقائد الشیعة،و تعمل علی إخفاء المضامین الفلسفیة و المعتقدات الغریبة التی لحقت بالفرقة الإسماعیلیة.

الدولة الفاطمیة
اشارة

:

قویت الدعوة الإسماعیلیة تحت ظل ملوک مصر الفاطمیین و لا بأس بالإشارة إلی تاریخ هذه الدولة بموجز من القول،فإنی لا أحاول بهذه العجالة إعطاء صورة عن الدولة الفاطمیة،فهی دولة إسلامیة خدمت الإسلام،و ترکت آثارا تشهد للفاطمیین.

و التاریخ سجّل لهم صحائف بیضاء.و لکن الأقلام الملوثة بأوساخ الطائفیة و أدران التعصب أقامت الحواجز.

کان أول ظهورها بالمغرب سنة 297 ه909/ م و لم یرض خلفاؤها بالبقاء فی المغرب،بل حملهم الطموح و ساقهم إلی إخضاع ما جاور المغرب من البلاد، ففتحوا مصر سنة 358 ه969/ م و نقلوا قاعدة حکمهم إلیها،و قد دامت دولتهم زهاء قرنین من سنة 358 ه567/ ه(969-1171 م).

و أنشئوا مدینة ملکیة لتکون مقرّ سکناهم و بلاطهم،و هذه المدینة هی مدینة

ص:478


1- (1) رسالة افتتاح الدعوة للقاضی النعمان بن محمد ص 33.
2- (2) الإسماعیلیون و الدولة الإسماعیلیة لبمیساف میشیل لباد ص 11 ط الاتحاد.

القاهرة (1)-المدینة الخاصة التی کانت تحیط بها أسوار ضخمة-فأصبح فی مصر لأول مرة بلاط خلفاء ینافس بلاط خلفاء بنی العباس.و فی عهدهم انفصلت مصر عن الإمبراطوریة العباسیة،و أصبحوا أشدّ أعداء تلک الدولة،و اتخذت الدولة العباسیة أسالیب الدعایة ضدّهم،فقد طعنوا فی نسبهم،و أطلقوا علیهم بدل لفظ الفاطمیین -العبیدیین-باسم الخلیفة عبید اللّه المهدی،أول خلیفة فاطمی،و هو الذی أسس الدولة الفاطمیة فی المغرب،و شککوا فی صحة نسب عبید اللّه،فأطلق علیهم أعداؤهم هذه التسمیة للقضاء علی نسبتهم لفاطمة الزهراء علیها السّلام و سیأتی ذکر ذلک.

کما أن بعض مؤرخی العرب سلب عنهم هذه التسمیة،و سمّاهم الخلفاء المصریون،و منهم من سمّاهم بالرافضة،و من خصومهم من سمّاهم(المجوس)علی اسم أتباع زرادشت الذین کانوا فی فارس حتی ظهور الإسلام.و سمّوهم أیضا الباطنیین.

و أیا کانت التسمیة و الألفاظ،فقد بسطوا سلطانهم،و دام ملکهم مدة من الزمن.

فقد تأسست الدولة سنة 297 ه909/ م فی المغرب،و انتقلت إلی مصر سنة 358 ه/ 969 م و سقطت سنة 567 ه1171/ م.

و کان عدد خلفاء مصر(11)خلیفة هم:

1-المعز أبو تمیم معد 341 ه 952 م.

2-العزیز أبو المنصور نزار 365 ه 975 م.

3-الحاکم أبو علی المنصور 386 ه 996 م.

4-الظاهر أبو الحسن علی 411 ه 1020 م.

5-المستنصر أبو تمیم معد 437 ه 1045 م.

6-المستعلی أبو القاسم أحمد 487 ه 1094 م.

7-الآمر أبو علی المنصور 495 ه 1101 م.

8-الحافظ أبو میمونة عبد المجید 541 ه 1146 م.

9-الظافر أبو منصور إسماعیل 544 ه 1149 م.

10-الفائر أبو القاسم عیسی 549 ه 1154 م.

ص:479


1- (1) الدکتور عبد المنعم ماجد،نظم الفاطمیین و رسومهم ج 9/2.

11-العاضد أبو محمد عبد اللّه 555 ه 1160 م.

و أبرز شخصیة فی الدولة الفاطمیة اشتهرت فی التاریخ هی شخصیة الحاکم، حتی غلا فیه محبّوه.و سنشیر لذلک.

و کانت الإسماعیلیة وحدة لا تنفصم تحت زعامة الفاطمیین،و کانت الدولة الفاطمیة وقتئذ تسمی(الدعوة القدیمة)و بموت الخلیفة المستنصر الفاطمی حصل ذلک الانشقاق علی(الدعوة القدیمة)و انتهی المنشقّون إلی نزار بن المستنصر،و قالوا إن أباه عیّنه فی الإمامة و الخلافة من بعده،و استطاع زعیم هذه الدعوة(الحسن الصباح) أن یکوّن دولة نزاریة لها کیانها الخاص فی فارس،و أن ینشیء دعوة عرفت فی التاریخ (بالدعوة الجدیدة)و عرف أنصارها بالإسماعیلیة النزاریة أو(الإسماعیلیة الحشیشیة) و أخذت دولتهم تغالب الدهر منذ سنة 488 ه حتی سقطت فی سنة 654 ه علی ید هولاکو المغولی،و لم تمت الدعوة النزاریة بموت دولتها،و ظل أنصارها یعملون فی الخفاء حتی بعثوا الیوم باسم(الآغاخانیة)اتباع آغاخان،و هؤلاء هم النزاریة المحدّثون.

و أما أنصار الدعوة القدیمة،فأولوا دعوتهم للمستعلی الابن الأصغر للمستنصر، و سمّوا المستعلیة،و لمّا مات الخلیفة الآمر،و ولی الخلیفة الحافظ اعترف إسماعیلیة مصر له بالریاسة،فسمّیت دعوتهم الدعوة الحافظیة،و اعترف إسماعیلیة الیمن بالطیّب فسمّوا الطیبیة.

لقد کان من أکثر الأحداث تأثیرا فی إضعاف الدولة الفاطمیة توالی الانقسامات المذهبیة السیاسیة،و تعرّض الدولة إلی هزّات قویة،فقد کانت الاختلافات حول القائم بالحکم و البیعة له سببا فی تمزیق رعیتهم و تشتیت أتباعهم،فعند وفاة المستنصر -کما قلنا-فإن نزارا-الابن الأکبر-کانت له ولایة العهد،و قد أجلسه أبوه فی حیاته، فلما مرض المنصور أراد أخذ البیعة له،لکن الوزیر القائم بالحکم الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمّال کان یکره أن یکون الحکم لنزار لعداوة کانت بینهما بسبب أن نزار قال للأفضل یوما:انزل یا أرمنی یا نجس (1).و کان نزار قد وعد محمود بن وصال اللکی بالوزارة و التقدمة علی الجیوش مکان الأفضل.

ص:480


1- (1) النجوم الزاهرة ج 5 ص 142. [1]

و کان الأفضل هو الذی بادر بإخراج أبی القاسم و مبایعته و نعته بالمستعلی و قال:بأن النص و الوصیة للابن الأصغر،و بادر و خرج من وقته و أخذ معه أخاه عبد اللّه،و توجهوا إلی الاسکندریة،و لا نخوض فی تفاصیل النزاع لأن ذلک لیس مقصدنا،و قد انتهی النزاع بهزیمة نزار،و انقسام الإسماعیلیة منذ ذلک الحین إلی:

1-الإسماعیلیة النزاریة.

2-الإسماعیلیة المستعلیة.

و لاقت الدولة الفاطمیة بعد هذا الانقسام الأمرین من معارضة النزاریة و مقاومتهم (1).

و حدث انقسام آخر بعد وفاة الآمر،فقد خولفت أصول المذهب،و ولی الخلافة ابن عم الآمر،و حدث ذلک لأول مرة،و لیس لذلک من سبب،لأن الآمر قد ولد له قبیل وفاته ابن اسمه الطیب،فأخذت له البیعة بولایة العهد،و لکن الحافظ قد استقرت له الأمور بعد أن ضعفت قوته لما أبداه وزیره أحمد بن الأفضل من رغبته فی الاستقلال و الدعوة إلی نفسه.

و الغرض أن الحافظ فی ولایته الخلافة،و ظهور مخالفة أصول المذهب کان یمثل جماعة تخالف أغلبیة الفاطمیین الذین یرعون الحکم،فقد کان الحافظ محبوسا فی حیاة الآمر.و أدی ذلک إلی انقسام جدید کان من عوامل إضعاف الدولة.

و أصبحت الإسماعیلیة منقسمة إلی:

1-إسماعیلیة حافظیة.

2-إسماعیلیة طیبیة.

و تعرّضت الدولة إلی خلافات و منافسات فی عهد الحافظ بسبب الولایة علی العهد،فقد عهد الحافظ أولا لابنه الأکبر سلیمان،و لکنه مات بعد قلیل،فعهد لابنه الثانی حیدرة،مما آثار حقد ابنه الثالث و اسمه حسن،فقام بثورة عنیفة انقسم بسببها الجیش الفاطمی إلی فریقین یحارب کل منهما الآخر،مما أدی إلی إضعاف الجیش فی مجموعه (2).

ص:481


1- (1) مجموعة الوثائق الفاطمیة،جمال الدین الشیّال21/.
2- (2) نفس المصدر22/.

و حدث فی السنة التالیة لوفاة الآمر فترة من أهم فترات التاریخ الفاطمی، و دامت لمدة سنة.فقد ولی الحافظ-و هو ابن عم الآمر-غداة وفاة الآمر کولی للعهد و کفیل لطفل منتظر،ثم ثار به أبو علی أحمد بن الأفضل شاهنشاه،و خلعه فی الیوم التالی و سجنه و استقل هو بالحکم.

و هذا الذی فعله الوزیر أحمد یعدّ انقلابا سیاسیا تام الأرکان،و أوشک بفعلته هذه أن یقضی نهائیا علی الدولة الفاطمیة،فقد کان أبو علی الحامی المذهب،و لهذا فقد عمل علی إلغاء کثیر من الشعائر الإسماعیلیة.و یروی صاحب النجوم الزاهرة بأنه أظهر التمسّک بالإمام المنتظر فی آخر الزمان،فجعل الدعاء فی الخطبة له،و یغلط بشکل شنیع فی مذهبه لأن ابن تغری یروی علی المنقول و الموروث من أن الشیعة هم کل من حمل الاسم،فلذلک لا یری فی انقلاب الوزیر و مخالفته إلا مضادة تامة و مخالفة کاملة تضع الوزیر فی الصف المعادی.

و کاد أبو علی أحمد أن یقضی علی الدولة الفاطمیة،و أن یقیم فی مصر دولة جدیدة،لکن أمراء الإسماعیلیة و قوّادهم ثاروا علیه،و تمکنوا من قتله و إعادة الحافظ.

و لهذا اعتبر الإسماعیلیة الیوم الذی أطلق فیه سراح الحافظ و إعادته إلی الحکم عیدا من أعیادهم الهامة و أسموه(عید النصر) (1)و ظلوا یحتفلون به إلی آخر أیام دولتهم لأنهم اعتبروه نصرا للمذهب الإسماعیلی و للدولة الفاطمیة و إحیاء لهما بعد أن حاول الوزیر أحمد تغییرهما.

و قد أنجبت زوجة الآمر بعد وفاته ولدا آخر غیر الطیب،و لکنها أخفته فی القرافة خوفا علیه من الحافظ الطامع فی الخلافة.

و لمّا عاد الحافظ للحکم،ظل دائب البحث عن الطفل المختفی،إلی أن عثر علیه،و تخلص منه،و أعلن نفسه خلیفة (2).

و(البوهرة)الیوم هم الإسماعیلیة المستعلیة،یعتقدون أن إمامهم الحادی

ص:482


1- (1) یقول المقریزی فی الخطط:عید النصر هو السادس عشر من المحرم،عمله الخلیفة الحافظ لدین اللّه لأنه الیوم الذی ظهر فیه من محبسه،و یفعل فیه ما یفعل فی الأعیاد الأخری من الخطبة و الصلاة و الزینة و التوسعة فی النفقة ج 1 ص 490.
2- (2) مجموعة الوثائق الفاطمیة24/.

و العشرین(الطیب)ابن الآمر المستعلی قد استتر،و بدأ سلسلة الدعاة المطلقین،و قد ظهر منهم ثلاثة و عشرون فی الیمن،ثم ثلاثة و عشرون فی الهند.و یعتقدون أن الأیوبیین لم یتسلموا الحکم من الورثة الحقیقیین،بل من الخلفاء المزیّفین،لأن الحافظ و أولاده یعدّون غاصبین (1).

و علی أی حال فإن أهم شخصیة برزت فی التاریخ الإسلامی للطائفة الإسماعیلیة هی شخصیة الحاکم بأمر اللّه،و دارت حول تلک الشخصیة أقوال و أساطیر،فلنقتصر علی ذکره منهم.

الحاکم بأمر اللّه:

هو المنصور بن نزار العزیز باللّه،ولد بالقاهرة لیلة الخمیس 23 من شهر ربیع الأول 335 ه 985 م.کنیته أبو علی،و لقبه الحاکم بأمر اللّه،و هو أول خلیفة من الفاطمیین،ولد فی القاهرة.

ولی الخلافة بعد وفاة أبیه سنة 386 ه فی شهر رمضان،و کان له من العمر إحدی عشرة سنة و نصف.

و قام بالوصایة علیه برجوان الصقلیّ،و کان یطمع بالاستئثار بالسلطة،و شعر الحاکم بخطر برجوان و ما یقصده،فعمل علی التخلّص منه،فاحتال علی قتله سنة 350 ه و بذلک استعاد الحاکم سلطته،و قلّد الحسین بن جوهر أمور الدولة،و لقّبه بقائد القواد.

و اتصف الحاکم بصفات النبل و الشهامة و الأخلاق الفاضلة،و مثّلوه بعمر بن عبد العزیز بعدله.

و کانت تقوی الحاکم البالغة قد جعلت أتباعه یبالغون فی تقدیرهم لشخصیته، فظهرت أقوال کثیرة بین أتباع المذهب الإسماعیلی تبیّن أن الحاکم لیس بإمام مثل الأئمة،و إنما بشّرت به الأنبیاء،و أشیر إلیه بالرمز فی التوراة علی أنه الزاهد الراکب الحمار لیأتی بهذه الأعمال الباهرة (2).

ص:483


1- (1) الحقائق الخفیة لمحمد حسن الأعظمی 18.
2- (2) عبد المنعم ماجد،الحاکم بأمر اللّه الخلیفة المفتری علیه 106.

و لقد کانت خلقة الحاکم بأمر اللّه تساعده کذلک،توحی بأنه شخص متمیز عن الآخرین،و تؤکد لدیه هذا الإحساس.فلقد وصفته الروایات المعاصرة له فقالت:

(کان منظره مثل الأسد،و عیناه واسعة شهل-(یخالط سواد عینیه زرقة)و إذا نظر إلی الإنسان یرتعد لعظم هیبته،و کان صوته جهر مخوف،فإذا أشرف علیهم،سقطوا علی الأرض وجلا منه،و فحموا عن خطابه) (1).

و زاد الطین بلّة أن الغلو فی ذات الحاکم وصل إلی حد التألیه،و أن الغلو جاء من بعض المقرّبین إلیه،بحیث انفرط عقد مبادئ المذهب،و اختلطت عقائده.

و یعبّر أحد الدعاة عن هذه الحالة فی زمن الحاکم بقوله:(فغلا فیه صلی اللّه علیه من غلا،و سفل بذلک من حیث ظن أنه علا،و وقع فی أهل الدعوة و المملکة فی الاختباط،و کثر الزیغ و الاختلاط) (2).

و لعل المتداخلین فی صفوف المسلمین-و الذین یسعون بکل جهد لمحو العقیدة الإسلامیة-قد استغلوا هذا الشعور و غلوّ الاتباع فی شخصیة الحاکم،فنفثوا السموم فی جسم ذلک المجتمع المتماسک فی عقیدته بالوحدانیة و النبوة،فراحوا یبثّون تألیه الحاکم و نفی التوحید و النبوة.

و من أولئک:الفرغانی المعروف بالأخرم،رجل من بلاد فارس،تسمّی بالحسن بن حیدرة،و هو رجل أجدع الأنف أو مثقوبه،فعرف بالأجدع،و کان ظهور دعوته سنة 409 ه 1018 م علی خلاف فی ذلک.

قام الأخرم بنشر الإلحاد،و قال أن المعبود هو الحاکم،و دعی لإبطال النبوة، فأسقط اسم اللّه و اسم النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و اعتبر التنزیل و التأویل و التشریع خرافات و قشورا.

و دخل فی خمسین رجلا من أعوانه إلی الجامع الذی کان فیه قاضی القضاة ابن أبی العوام،فدخلوا فیه راکبین،و أخذوا أموال الناس و ثیابهم،و سلّموا لابن أبی الهوام رقعة لیقرأها الناس،و قد بدأ باسم الحاکم الرحمن الرحیم،فرفع القاضی صوته منکرا،و هجم الناس علی الأخرم و قتلوا أصحابه،أما هو فقد هرب(و قیل قتل)و إنه

ص:484


1- (1) محمد عمارة:عند ما أصبحت مصر عربیة ص 97 نقلا عن:الحاکم بأمر اللّه و أسرار الدعوة الفاطمیة لمحمد عبد اللّه عنّان.
2- (2) الحاکم بأمر اللّه الخلیفة المفتری علیه.

یقوم بعملیات أمثال هذه فی البلاد الإسلامیة لیقتل المسلمون بعضهم بعضا،و تبقی آثار هذه الهجمات المنکرة یتوارثها أجیال لم یمحصوا الأمور کما یراد،فیکیلون الذمّ و یتّهمون الأبریاء.

و کذلک ظهر داعیة آخر اسمه محمد بن إسماعیل سنة 408 ه1017/ م و قیل اسمه:أنوشتکین أو هشکتین.و یظهر أنه ترکی،و لقب بالدروز الذی لا یعرف لها أصل.و هذا الداعیة قرّبه الحاکم فی أول الأمر،حتی عرف بأنه غلام الحاکم، و ارتفعت منزلته فی الدولة،و أظهر الغلو فی الحاکم،و أنه الإله الذی صنع العوالم، و صنف کتابا أسماه الدستور،و حصل له اتباع عرفوا بالدرزیة بلغ عددهم ستة عشر ألفا کانوا یأتون بأمور مبتذلة... (1).

و اختلف فی نهایة الدرزی،و خلط بینه و بین الأخرم،فبینما تقول روایة أنه قتل و جماعة من الدرزیة علی ید الأتراک و هو فی موکب الحاکم،و إنهم لم یقتلوه بسبب اعتقاده،بل لأنه نصح الحاکم بإزالة الألقاب التی کانوا یباهون بها.

و تقول روایة ثانیة إنه هرب إلی الشام،و نشر دعوته فیها،و تقول ثالثة إنه قتل فی إحدی المعارک.

و الذی یهمّنا فی هذا الموضوع هل أن طائفة الدروز فی سوریا و غیرها ینتمون إلیه أم لا؟ و الذی یظهر أنهم لا یحبّون أن یلقّبوا بهذا اللقب،و یستنکرون أن ینسبهم أحد إلی الداعی نوشتکین الدرزی المسمی محمد بن إسماعیل الدرزی-و هم کما یظهر- یرمونه بالإلحاد و الخروج عن عقیدتهم،و یطلقون علی أنفسهم اسم الموحدین و تسمیتهم بالدروز تسمیة خاطئة،و مع ذلک فقد أصبح اسم الدروز لهذه الفرقة ملازما لهم.و الباحث یجد نفسه مضطرا لإطلاق هذا الاسم لاختصاصه بهم فی الدلالة و الاشتهار.

و کذلک اختلف الکتّاب و المؤرخون فی أصل الدروز هل أنهم فرس أم أتراک؟ و قیل:إنهم مزیج من عناصر مختلفة من عرب و فرس و هنود.

ص:485


1- (1) نفس المصدر السابق 108.

و ذهب البعض من مؤرخی الأفرنسیین فی القرن السابع إلی أن الدروز هم سلالة الجنود الفرنسیین الصلیبیین الذین کانوا تحت قیادة الکونت«دی دروکس».

أسکنهم جبال لبنان بعد سقوط عکا!!!فکلمة الدورز هی تحریف«دی دروکس».

و التاریخ یدلنا علی أن هذه القبائل التی اعتنقت عقیدة الدروز کانوا یسکنون هذه المنطقة من لبنان و حوران و وادی التیم قبل أن تبدأ الحروب الصلیبیة بأکثر من ثلاثة قرون،و أن قبائلهم و عاداتهم معروفة بأصولها و تقالیدها الرفیعة.

یقول الأستاذ محمد کامل حسین:و ربما أراد المؤرخون الفرنسیون بهذا القول أن عددا کبیرا من جنودهم کانوا أسری عند الدروز،فاتخذهم الدروز عبیدا لهم،کما اتخذوا النساء الفرنسیات إماء و سبایا (1).

و الذی یبدوا أن عقیدة الدروز فی تألیه الحاکم أخذت عن الداعی حمزة بن علی الذی قدم مصر سنة 395 ه و أخذ بنشر الدعوة سرّا إلی تألیه الحاکم،و کان الأخرم الفرغانی من أعوانه،قد شجّعه حمزة علی الجهر بتألیه الحاکم کما تقدم.

و لمّا قتل الفرغانی حلّ محله الدرزی محمد بن إسماعیل الذی تنسب إلیه الدروز،و هم یتبرّءون منه.

و قضیة علاقة الدرزی بالحاکم تضمّ الإشارة إلی إنکار الحاکم لما ادّعاه الدرزی،و لکن اتفقت النقول و تطابقت الآراء علی أن الحاکم إنما أنکر خوفا من الرعیة بعد أن قدم الدرزی مصر-و کان من الباطنیة القائلین بالتناسخ-فاجتمع بالحاکم و ساعده علی ادعاء الربوبیة،و صنف له کتابا ذکر فیه أن روح آدم علیه السّلام انتقلت إلی الإمام علی،و أن روح الإمام انتقلت إلی أبی الحاکم،ثم انتقلت إلی الحاکم،فأظهر الحاکم الانقیاد له و إطاعته.و لمّا ثار الناس،قال له الحاکم:أخرج إلی الشام،و أنشر الدعوة فی الجبال،فإن أهلها سریع الانقیاد.فقرأ الکتاب علی أهله،و استمالهم إلی الحاکم،و أعطاهم المال،و قرر فی نفوسهم الدرزی التناسخ،و أباح لهم شرب الخمور،و أخذ مال من خالفهم،و الزنا،و إباحة دماء أعدائهم.و لعل موافقة المصادر الإسماعیلیة لعلاقة الدرزی بالحاکم هی الأصل فی اعتقاد صحة الاتهام،فقد جعلت شخصیة الدرزی هی الصلة بین الإسماعیلیة و الدروز،أو تروی أن الدرزی تمکن فی

ص:486


1- (1) محمد کامل حسین،طائفة الدروز9/ ط دار المعارف بمصر.

وقت قلیل من السیطرة علی الموقف فی وادی الیتم،و إعادة الهدوء و السکینة إلی صفوف الإسماعیلیة هناک بعد فرقة و اختلاف،و عمل جاهدا لتوسیع و انتشار الدعوة الإسماعیلیة فی تلک البلاد،و بقی الدرزی رئیسا للدعوة و کبیرا لدعاتها فی بلاد الشام حتی إعلان وفاة الحاکم و ولایة الظاهر،فلم یعترف الدرزی بوفاة الحاکم مدّعیا بأن وفاته لم تکن سوی نوع من الغیبة لتخلیص أنفس مریدی الحاکم من الأدران.و بقی متمسکا بإمامة الحاکم،و منتظرا عودته من تلک الغیبة.و بذلک أعلن انفصاله عن الإسماعیلیة التی لا تعتقد بالغیبة،و تقول بفناء الجسم و بقاء سرّ الإمامة بالروح،فینتقل بموجب النص إلی إمام آخر،و هو المنصوص علیه من قبل الإمام المتوفی،و سمّیت الفرقة التی تبعث(الدرزی)بالدرزیة نسبة إلیه (1).

و عقائد الدروز تلتقی مع عقائد الإسماعیلیة فی الأمور التی انشقّوا بها عن المجتمع الإسلامی الشیعی،و تطرّفهم فی أمور لا یقرّها التشیّع،و انقسموا عن المسلمین فی عقائدهم التی لا یقرّها و لا یؤمن بها أتباع أهل البیت.لأن هناک عقائد هی مجموعة من أفکار و فلسفات قدیمة صیغت فی صورة إسلامیة،و هذا أبعد ما یکون عن نهج أهل البیت و أتباعهم،و قد بیّنا ذلک.

و أیا کان،فالحدیث عن الدروز و عقائدهم صعب،فإن لهم کتبا مقدسة و آراء یشذّون بها عن المسلمین،فهم یتّبعون حمزة فی تعالیمه و تألیهه للحاکم،و هنا نقول:

إن الأیدی العابثة أو الفئات الحاقدة استطاعت خلق هذا الاعتقاد-تألیه الحاکم- و تشویه عقائد المسلمین بعقائد بعیدة عن روح الإسلام،و استغلال ظروف الناس العامة و أوضاع الأشخاص.

و ذلک عند ما حاولت بعض الطوائف إحیاء،نحلها القدیمة،و اتخذت لها مبادئ کان من أهمها:مناوءة سلطان الإسلام السیاسی،و إعادة مجد أسلافهم.مما یحملنا علی القول بأن هؤلاء الدعاة الذین وفدوا علی مصر،و حاولوا نشر ألوهیة الحاکم،کانوا ینتمون إلی هذه الطوائف،و قد عمدوا من وراء دعوتهم التی قاموا بنشرها إلی إثارة الفتن و القلاقل فی القاهرة،لیمهّدوا بذلک للقضاء علی الدولة الفاطمیة،غیر أن محاولتهم سرعان ما باءت بالفشل (2).

ص:487


1- (1) تاریخ الدعوة الإسماعیلیة ص 238-239. [1]
2- (2) انظر کتاب طائفة الدروز للدکتور محمد کامل حسین ط دار المعارف بمصر 1962.

و لکنهم نجحوا فی نشر العقائد الفاسدة و بثّ روح الفرقة بین الطوائف، و أوجدوا تجمعا علی الباطل،و تفرقا و ابتعادا عن الحق.

فهؤلاء الذین دعوا إلی تألیه الحاکم لم تکن عقولهم بهذا المستوی من الجهل و الغرور،و أن یسندوا خلق الأکوان إلی مخلوق عاشروه،و لکنهم استغلوا شخصیة الحاکم و موقعها فی النفوس،فراحوا ینشرون ظلالهم و إلحادهم،و قد تألفت هذه الجماعة من ثلاثة:الفرغانی و محمد بن إسماعیل و حمزة،و قد وقع الاختلاف بینهم و اختص حمزة بنشر الدعوة.و من رسائل إلحاده(توکلت علی أمیر المؤمنین جل ذکره فی جمیع الأمور معلّ علة العلل صفا صفاة العلة).(من عبد أمیر المؤمنین و مملوکه حمزة بن علی بن أحمد هادی المستجیبین المنتقم،من المشرکین بسیف أمیر المؤمنین و شدّة سلطانه،و لا معبود سواه).

و أصبح حمزة یلقب بالإمام،و لمّا غاب الحاکم،صرّح حمزة بأنه هو الإمام، و أنه سیغیب أیضا علی أن یرجع مرة أخری.

و لا نخوض فی تفاصیل سیرة الحاکم،فحدیثها یطول،و فیها ما یدعو إلی الاستغراب و الدهشة من الأعمال الکثیرة و القدرة الفائقة علی تحرّی العدل فی أوضاع العامة،و المبالغة فی العقوبات و الأحکام،إلی غیرها من التحوّلات فی الأوامر و التغییرات فی الأمور التی یقرّرها،و قد کانت سببا فی الطعون و النقمة علی الحاکم.

و کان سبب اختیارنا له فی البحث،و اقتصارنا فی الحدیث علیه للعبرة فی فعل الأهواء و تأثیر الأحقاد التی استخلصت من سیرة الحاکم الأعمال التی تدل علی روح العدل و الحرص علی مصالح الرعیة.و وافت بها ما ینسجم مع الهوی و الحقد للانتهاء إلی أن الحاکم دعا لنفسه بالأهویة،و ارتکب من الأفعال ما ارتکب.و التحقیق یثبت أن الحاکم فی کل أمر یخرج عن سیرة العدل کان یقابله بالإنکار،و لا أرید هنا أن أقف مدافعا عن الحاکم بأمر اللّه،بقدر ما أقصد إلی التأکید علی مسألة الأهواء و التعصب، و ما تفعله فی التاریخ من تشویه حتی تمکنت من إخفاء آثار أعماله و أوامره التی ألزم الناس بها و هو یعالج بها أوضاعا فی المجتمع،و یقصد إلی القضاء علی الفساد فیها و تستهدف المحافظة علی الأخلاق،و معالجة موجات الانحلال التی بدأت تشیع بسبب الترف فی الأوساط الغنیة أو تنتشر بسبب المجاعات فی أوساط الفقراء،فحرّم عمل(الفقّاع)و بیعه و کان من مسکرات ذلک العصر...و لقد جاء فی سجل أصدره

ص:488

بتحریم المسکرات فی سنة 400 ه(1009 م)أن:المسکر هو مجمع السیئات، و القائد إلی قبائح الأفعال.

و مما یؤکد أن الحاکم إنما کان یواجه موجة من التحلل الخلقی فی المجتمع القاهری فی ذلک الحین،ذلک المرسوم الذی أصدره فی سنة 401 ه و الذی یمنع فیه اللهو و الغناء،و خاصة بالنسبة للنساء،و الذی یحرم الاجتماعات الماجنة التی کانت تعقد فی الخلاء بالصحراء،و عند ذلک هوجمت أماکن البغاء بشدة،و أزیلت دورهم و أوکارهم،و طهّرت منهم أحیاء المدینة،و کانوا ینبثون فی معظم جنباتها.کما سبق و حرّم علی الناس دخول الحمام إلا بمئزر یستر بعض عوراتهم،و حرم علی غیر الباعة و المشترین للأرقّاء دخول أسواقهم حتی یمنع العابثین من تمضیة الوقت فی التمتّع بالجواری بحجة الشراء،کما طلب من تجار الرقیق عدم الجمع بین الغلمان و الإماء فی مکان واحد،و أن یفرد لکل منهم مکان خاص بالبیع و الشراء (1).

و یقوم الحاکم بقتل قاضیه حسین بن علی بن النعمان،و کان من أسباب قتله أن الحاکم کان قد ملأ عینه و یده،و شرط علیه العفة عن أموال الناس.فرفع إلی الحاکم شخص متظلم رقعته یذکر فیها أن أباه مات و ترک له عشرین ألف دینار،و أنها کانت فی دیوان حسین،و کان ینفق علیه منها مدة معلومة،فحضر یطلب من ماله شیئا، فأعلمه القاضی أن الذی له نفذ.فاستدعی الحاکم القاضی،فدفع إلیه الرقعة،فأجابه بما قال للرجل،و أن الذی خلفه أبوه استوفاه فی نفقته.فأمر الحاکم بإحضار دیوان القاضی فی الحال،فأحضر ففتش فیه من مال الرجل،فظهر أنه إنما وصل إلی القلیل منه،و وجد أکثره باق،فعدّ علی القاضی ما رتبه و أجراه علیه و إکرامه إیاه و ما شرط علیه من عدم التعرّض لأموال الرعیة،فجزع و هاله و قال:العفو و أتوب.و انصرف بالرجل،فدفع إلیه ماله،و أشهد علیه.فحقد الحاکم علیه ذلک،فأمر به فحبس،ثم أخرج بعد ذلک علی حمار نهارا و الناس ینظرون (2).

و أمر الحاکم قاضیه عبد العزیز بن محمد بن النعمان بالنظر فی المساجد، و تفقد أوقافها،و جمع الریع و صرفه فی وجوهه.ففعل ذلک و بالغ فیه.

ص:489


1- (1) محمد عمارة:عند ما أصبحت مصر عربیة ص 107-108.
2- (2) ولاة مصر الکندی ص 599.

و بنی الحاکم جامع القاهرة و جامع راشدة علی النیل بمصر،و مساجد کثیرة، و نقل إلیها المصاحف المفضضة و الستور الحریر و قنادیل الذهب و الفضة،و منع من صلاة التراویح،و قطع الکروم،و منع من بیع العنب،و لم یبق فی ولایته کرما،و أراق خمسة آلاف جرّة من عسل فی البحر خوفا من أن تعمل نبیذا،و منع النساء من الخروج من بیوتهن لیلا و نهارا (1).

و لم یرض الحاکم بعادة من سبقه من الحکّام فی حمل الناس علی تقبیل الأرض بین أیدیهم،فنهی عن ذلک،و نهی عن الصلاة علیه فی الخطب و المکاتبات،و جعل مکان الصلاة علیه:السّلام علی أمیر المؤمنین.

و أمر الحاکم قاضیه عبد العزیز فی یوم عاشوراء أن یمنع النساء و الناس و هم فی مواکب العزاء من المرور فی الشوارع،لکی لا تمتدّ ید العامة إلی أمتعة الباعة،و أن یختص النوح و النشید خارج المدینة.

و لما منع الحاکم النساء الخروج من دورهنّ و منع الأساکفة من عمل الخفاف لهن،اتفق أن القاضی مرّ علی دار امرأة،فناشدته أن یقف لها و یسمع کلامها،فوقف، فبکت بکاء شدیدا إلی أن رقّ لها،و حلفت له أن لها ابنا أنه فی السیاق،و أنها ترید أن تراه قبل أن یموت.فأمر بعض رجاله بأن یمضی معها إلی دار أخیها،فأغلقت بابها، و أعطت مفتاحها لجاریتها،و ذهبت مع الرجّالة إلی دار طرقتها،ففتح لها،فدخلت، و استمرت مقیمة فیها،فکشف عن أمرها،فإذا هو منزل رجل کانت تهواه و یهواها.

فأخبر القاضی بذلک،فتعجّب من فطنتها حتی توصلت إلی مرادها،و إذا بزوجها قد جاء إلی القاضی و قال:ما أعرف زوجتی إلا منک.و حلف أنها لیس لها أخ و إنما ذهبت إلی عشیقها.فسقط فی یده،و خاف القاضی أن یبلغ الخبر الحاکم،فیکون سبب غضبه علیه،فرکب فی الحال إلی الحاکم،و قصّ علیه القصّة و بکی.فأمر الحاکم بإحضار المرأة و الرجل،فمضی الأعوان إلیهما بغتة،فوجدوهما نائمین متعانقین لا یعقلان من السکر،فحملوهما إلی الحاکم،فأمر بإحراق المرأة فی باریة،و ضرب الرجل بالسیاط ضربا مبرحا،و زاد فی الاحتیاط علی النساء و التحجیر علیهنّ (2).

ص:490


1- (1) النجوم الزاهرة ج 4 ص 177. [1]
2- (2) ولاة مصر ص 607.

لقد کان الحاکم یدور فی الأسواق علی حماره،یبحث عن الذین یغشّون الناس،و یتولی عمل الحسبة بنفسه.

فإذا انتهت هذه الأعمال تاریخیا إلی الذین أسهموا فی إشاعة بدع الضلال، و استسهلوا إطلاق کلمة الفساد و الرداءة علی الآخرین،و قیّد مدارکهم التعصّب،و شوّه علمهم الهوی،قالوا بما یضحک،و کتبوا زورا،و لکنهم مرغمون علی ذکر الحقیقة کقولهم:(فمن وجده قد غشّ فی معیشة،أمر عبدا أسود معه یقال له مسعود أن یفعل به الفاحشة العظمی،و هذا أمر منکر ملعون لم یسبق إلیه،و کان قد منع النساء من الخروج من منازلهنّ،و قطع شجر الأعناب حتی لا یتّخذ الناس منها خمرا،و منعهم من طبخ الملوخیة و أشیاء من الرعونات التی من أحسنها منع النساء من الخروج و کراهة الخمر...) (1).

ثم تسهم الإقلیمیة فی الحملة علی الحاکم بأمر اللّه الذی استطاع أن یقیم حکما قویا،أن ینشغل به ملوک الأقطار الإسلامیة الأخری الذین ضعفت قبضتهم و وهنت قواهم،و هم بأبراد الخلافة و أزیاء الإسلام التی تکفل لهم الخضوع و الاستسلام.

یقول محمد عمارة:(و نحن نری أن شخصیة الحاکم بأمر اللّه شخصیة تاریخیة قد أصابها الکثیر من الظلم و التعسّف فی التفسیر و التحلیل من قبل الکثیر من المؤرخین و الباحثین.بل و نری أن هذا الظلم قد انسحبت أذیاله علی القاهرة و مصر،فبدت فی ثوب من السخریة و الاضطراب،و جو من الإجراءات التی لا رابط لها و لا منطق وراءها خلال فترة حکم هذا الخلیفة التی امتدت ربع قرن من الزمان) (2).

و لقد بلغ من قوة الحاکم و قدرته علی السلطان و الملک،أن ینفذ إلی بنی العباس فی إقلیم سلطانهم و موضع ملکهم،فخطب أبو المنبع قرواش بن المقلد الملقب بمعتمد الدولة للحاکم سنة 401 ه فجمع معتمد الدولة أهل الموصل،و أظهر طاعة الحاکم،و أحضر الخطیب یوم الجمعة،و أعطاه نسخة ما یخطب نقتطف منها:

(اللّه أکبر اللّه أکبر لا إله إلا اللّه،و اللّه أکبر و للّه الحمد،الحمد للّه الذی انجلت بنوره غمرات الغضب،و انهدّت بقدرته أرکان النصب،و أطلع بقدرته شمس الحق من

ص:491


1- (1) ابن کثیر ج 12 ص 9. [1]
2- (2) عند ما أصبحت مصر عربیة،محمد عمارة ص 96.

الغرب،الذی محا بعدله جور الظلمة،و قصم بقوته ظهر الغشمة،فعاد الأمر إلی نصابه و الحق إلی أربابه.

و أشهد أن محمدا عبده و رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم اصطفاه و اختاره لهدایة الخلق،و إقامة الحق،فبلّغ الرسالة،و أدی الأمانة،و هدی من الضلالة،و الناس حینئذ عن الهدی غافلون،و عن سبیل الحق ضالون،فأنقذهم من عبادة الأوثان،و أمرهم بطاعة الرحمن،حتی قامت حجج اللّه و آیاته،و تمّت بالتبلیغ کلماته صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و علی أول مستجیب إلیه علی أمیر المؤمنین و سید الوصیین،أساس الفضل و الرحمة،و عماد العلم و الحکمة،و أصل الشجرة الکرام البررة،النابتة فی الأرومة المقدسة المطهرة،و علی خلفائه الأغصان البواسق من تلک الشجرة،و علی ما خلص منها و زکا من الثمرة) (1).

و یذکر ابن الجوزی أن الحاکم کان یرسل الرسل إلی قرواش،و یکاتبه حتی استماله،فأقام الدعوة له بالموصل،و انحدر إلی الأنبار،و أظهر قرواش الخلاف، و أدخل یده فی المعاملات السلطانیة،و ورد علی الخلیفة من هذا ما أزعجه،فراسل عمید الجیوش،و کاتب بهاء الدولة البویهی.

و لقد کان هذا التهدید الفاطمی خطیرا،حمل العباسیین علی اللجوء إلی کل الوسائل لدفعه عنهم و النیل من الحاکم و الفاطمیین،و لجئوا إلی الطعن فی نسب الفاطمیین،و تحریک المشاعر الدینیة ضدّهم،و الضرب علی أوتار الزندقة و الإلحاد، و رمی الآخرین بالکفر و الفسوق،مما اعتاده علماء العوام و خدمة الملوک،فکتب فی دیوان الخلافة محضرا بذلک أخذت فیه خطوط الأشراف و القضاة و الفقهاء(شهدوا جمیعا أن الناجم بمصر و هو منصور بن نزار المتلقب بالحاکم حکم اللّه علیه بالبوار و الدمار و الخزی و النکال و الاستیصال ابن معد بن إسماعیل بن عبد الرحمن بن سعید لا أسعده اللّه،فإنه لمّا صار إلی الغرب تسمی بعبید اللّه و تلقب بالمهدی،و من تقدمه من سلفه الأرجاس الأنجاس علیه و علیهم لعنة اللّه و لعنة اللاعنین أدعیاء خوارج لا نسب لهم فی ولد علی بن أبی طالب،و لا یتعلّقون منه بسبب،و أنه منزّه عن باطلهم،و أن الذی ادّعوه من الانتساب إلیه باطل و زور،و أنهم لا یعلمون أن أحدا من أهل بیوتات الطالبیین توقف عن إطلاق القول فی هؤلاء الخوارج أنهم أدعیاء،و قد

ص:492


1- (1) المنتظم ج 7 ص 149.و [1]النجوم الزاهرة ج 4 ص 225. [2]

کان هذا الإنکار لباطلهم و دعواهم شائعا بالحرمین،و فی أول أمرهم بالغرب منتشرا انتشارا یمنع من أن یتدلّس علی أحد کذبهم،أو یذهب و هم إلی تصدیقهم،و إن هذا الناجم بمصر هو و سلفه کفّار و فساق فجار ملحدون زنادقة،معطلون،و للإسلام جاحدون،و لمذهب الثنویة و المجوسیة معتقدون،قد عطلوا الحدود،و أباحوا الفروج،و أحلّوا الخمور،و سفکوا الدماء،و سبّوا الأنبیاء،و لعنوا السلف،و ادعوا الربوبیة).

و قد سقناه بکامل نصه و لفظه لإظهار ما کان علیه العباسیون من ضیق و قلق، فالتمسوا فی الطعن،وکیل التهم متنفسا و مخرجا.و لهم من الأتباع ممن تمسحوا بالعلم و تزیوا بالفقه ما یحقق لهم أغراضهم و یترجم رغباتهم.و قد لجئوا إلی التزویر، فوضعوا خط الشریف الرضی فی المقدمة (1).

و معلوم أن الشریف الرضی-بمکارمه و عظم منزلته و جلالة قدره فی مجتمعه و أهل بیته-کان لا یری فی الملوک العباسیین من هو أهلا لها،و قد عرف القادر منه ذلک،و أصبح یخشی السید الرضی لأنه یری هوانا فی مقامه فی ظل حکّام کالقادر، فیفصح عن رأیه فی حکم العباسیین،و یجهر بمیوله إلی الفاطمیین مبالغة فی إظهار الخلاف للعباسیین،و یقول السید الرضی:

ما مقامی علی الهوان و عندی مقول صارم و أنف حمیّ

أحمل الضیم فی بلاد الأعادی و بمصر الخلیفة العلوی

من أبوه أبی،و من جدّه جدّ ی إذا ضامنی البعید القصی

و منها:

لف عرقی بعرقه سیدا الناس جمیعا محمد و علیّ

إن جوعی بذلک الربع شبع و أوامی بذلک الطلّ ریّ

و لا یبعد أن یکون اعتراف الشریف الرضی بالحکام الفاطمیین و التصریح برغبته فی اللحاق بهم فی نظر العباسیین بمستوی واحد من الأهمیة مع اعتراف الولاة بالطاعة للفاطمیین،و ذلک لعظیم مکانة الشریف الرضی و هیبته و تأثیره علی الناس،لعلمه و شرفه و فضله،و أن یکون ذلک من أسباب لجوء العباسیین إلی کتابة محضر دیوانهم،

ص:493


1- (1) انظر:المنتظم ج 7 ص 255 و البدایة و النهایة ج 11 ص 346.و [1]النجوم الزاهرة ج 4 ص 229.

و من الروایات ما یفید أن أبیات الشریف الرضی الشعریة کانت وراء أمر القادر بکتابة المحضر.

و مهما یکن من قول،فإن الشریف الرضی لم یکن بالرجل الذی ینصاع لإرادة الباطل و أوامر الجور،و یتخلی عمّا یلیق بمنزلته من قول الحق.

و لم یحرّک محضر العباسیین مشاعره أو یثیر غضبه،بل أهمله تماما.

و الخلاصة:

فإن الحاکم کانت تبدو علیه منذ حداثة سنّه مظاهر التفوّق و الذکاء و قوة الشخصیة،و قسمات الإنسان المتمیز عن الأشباه و الأقران،و کان صاحب اهتمامات ثقافیة و فکریة مبکرة،لا فی مجال الفلسفة و التشیّع و الفلک و التنجیم فقط-کما اشتهر عنه-بل و فی مجال التذوّق الأدبی للشعر و النثر،و المشارکة فی مجالسهما و مخالطة أعلامهما فی ذلک الحین (1).

و برز فی عهده أسماء کان لها أثرها فی انتشار الإسماعیلیة کأحمد حمید الدین الکرمانی،و القاضی عبد العزیز بن محمد بن النعمان،و الحسن بن الحسن بن الهیثم و غیرهم من الدعاة و رجال الفکر الإسماعیلی.

أی أن الحرکة العلمیة التی بدأها المعزّ الفاطمی مع بنائه القاهرة لم تهدأ، و بقیت علی و تائرها المتعددة،منها ما یتعلق بالفکر الإسماعیلی،و منها ما یتصل بالحیاة الفکریة و الأدبیة المختلفة،و التی تدین للمعزّ الفاطمی بأعماله و عنایته،کما تدین العلوم الإسلامیة لعمله الأزهر بالفضل.و لا جدال فی أن عصر المعزّ لدین اللّه من أزهی العصور،و کیفما اتجهت إلیه النظرة،فإن عصره یمتاز بأمارات التقدم و الترقی و الحضارة.

و یحتل فی العقیدة الإسماعیلیة موقعا متمیزا بین أئمتهم،فقد عدّ بعد إمامهم محمد بن إسماعیل مجددا للشریعة،عند ما أمر القاضی النعمان بن محمد بتجدید الشریعة و رفع مبانیها و إظهار ظواهرها و معانیها،فألّفها فی مائتی کتاب تزید علی عشرین، و زاد علی ذلک عدة کتب،جاء فیها من ذکر الحلال و الحرام و القضایا و الأحکام (2).

ص:494


1- (1) عند ما أصبحت مصر عربیة نقلا عن:الحاکم بأمر اللّه لمحمد عبد اللّه عنان.
2- (2) کتاب الذخیرة فی الحقیقة،الفصل الحادی و العشرون. [1]

و هنا لا بد من معاودة الإشارة إلی أن الفاطمیین من الإسماعیلیة کانوا فی معتقداتهم العامة بالإمامة یردّدون اعتقاد اعتقاد الشیعة الإمامیة،و جری فی أحوالهم السیاسیة هذا الاعتقاد،و جهدوا فی الحفاظ علی الطابع الذی یخفی آثار الباطنیة التی أبعدتهم عن الأرکان و الأصول،و عند ما تقترب منه نقاط الاختلاف و مواضع الافتراق،تتحول معتقداتهم إلی أمور بعیدة عن عقائد الشیعة علی ما تضمنه من اعتراف بمنزلة الإمامة و عقیدة الوصایة-فهی کما قلنا سابقا-واحدة فی الأصل،لکنها فی السیاق تفترق من بعد عصر الإمام الصادق علیه السّلام و یشعر المسلم الشیعی فی مراسیم الدولة الفاطمیة و أقوال حکامها بالقرب من عقیدة الإمامة الشیعیة فی أصولها و أحکامها،إلا أنها سیقت بعد الانشقاق إلی أشخاص فیهم صفات الحکام و السلاطین غالبة،و لا یبدو علیهم مهما أضیف إلیهم من صفات أخری أی قدر من المنافسة لأصحاب الإمامة الحقة و أهل الخلافة الکبری ممن حفظ النص بهم،و جعلت فیهم الولایة و الخلافة و الإمامة: وَعَدَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا مِنْکُمْ وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ لَیَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِی الْأَرْضِ کَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِینَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَیُمَکِّنَنَّ لَهُمْ دِینَهُمُ الَّذِی ارْتَضی لَهُمْ .

و لقد کان الأخ الصدیق العلامة محمد حسن الأعظمی-عمید کلیة اللغة العربیة بکراتشی-واقعا تحت تأثیر دعوته الإیمانیة الطیبة إلی التقریب و الوحدة عند ما حکم بأن الشیعة الإمامیة یتفقون مع الفاطمیین علی المسائل العامة فی الفقه.و الصدیق الأعظمی یقدّم مشاعر التقریب و الاتفاق علی الحقائق التی لا سبیل إلی تجاوزها،و قد عرفناه واسع النشاط،غزیر المعرفة،صادق الکلمة،یحمل رسالة المودّة و الصفاء، و لأقواله أثر فی المحافل.لذلک ذهبت مقالته نصا اعتمدها الأستاذ الدکتور محمد غلاّب-أستاذ الفلسفة بالدراسة العلیا بالأزهر-و لو ترک القول دون أن یعقبه تفصیل لحملناه علی العموم و قلنا إن السید الأعظمی یرید أن المسلمین جمیعا یتفقون فی المسائل العامة فی الفقه بأصولها،و هو ما یشملنا و الفاطمیین.کذلک قوله فیما تختص به الشیعة من الأخذ عن طریق أهل البیت،لکنه یحصر الاختلاف فی أمرین أساسیین:

أولا:فیما یتعلق بمواقیت الصیام و الفطر.فالفاطمیون یکملون رمضان ثلاثین یوما فی کل عام،و لا یلتزمون برؤیة الهلال،بل یعتمدون علی التقویم الفاطمی و الحساب،و الاثنا عشریون یقیّدون صیامهم اعتمادا علی أحادیث صحّت عندهم برؤیة الهلال کأهل السنّة.

ص:495

ثانیا:الاثنا عشریون یجیزون زواج المتعة،أما الفاطمیون فلا یجیزون المتعة کأهل السنّة.

و لیس الأمر بهذه السهولة،و نخشی أن یخرج الحدیث عن موضوعه،فإن الأجزاء السابقة من الکتاب ضمّت بحوثا عن المتعة،استوفینا بها أوجه الخلاف، و یضیق وسع الکتاب الآن،کما نحذر الدخول فی المسائل الفقهیة القلیلة و القصیرة التی تسربت عن الإسماعیلیة،لأن أحکامهم خاصة بهم بعد عصر الافتراق.و قد أخذنا علی أنفسنا التعرّض للاعتقادات المهمة،لأنا لا نودّ أن نحجب الحقائق الدینیة، و لکنا لا نتزحزح عن نورها إلی ضیق و عتمة الرموز و التأویلات المتکلفة،فالفاطمیون یقولون:إن أسرار الدین متوقفة علی تعلیم الأئمة من نسل فاطمة الزهراء،و هم الکواکب و النجوم و المصابیح،ترسل نور المعرفة إلی قلوب أتباعهم،کما أن العین المبصرة بدون القمر و الشمس و المصباح لا تحقق الفائدة المرجوة،کذلک المسلم لا بدّ له من أن یستمدّ من الأئمة أنوار العلم و المعرفة.و إلا فإن العقول وحدها لا تکفی (1).و رووا عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:«إنی تارک فیکم الثقلین:کتاب اللّه و عترتی أهل بیتی ما إن تمسّکتم بهما لن تضلوا أبدا،و إنهما لن یفترقا حتی یردا علیّ الحوض» (2).و قوله للإمام علی:«سوف تقاتل علی تأویله،کما قاتلت علی تنزیله» (3).فهذا کله یدل علی أن الوصی و من تبعه من الأئمة من ذریته هم الذین اختصوا بتأویل القرآن،و لذلک رووا عن علی قوله:«ما نزلت آیة من القرآن إلا علمت کیف نزلت،و أین نزلت،و فی أی شیء نزلت،سلونی قبل أن تفقدونی».

و نکتفی إلی هنا بما أورده السید الأعظمی حیث تبدأ بعد هذه النقطة مجالات الافتراق عنّا و دخولهم فی عالمهم الخاص بهم.ففی بدء کل مسألة یساق النص بلفظ أو بآخر،ثم یعقبه عرض بحسب معتقداتهم.فمثلا یأتی لفظ(فالإمامة عندهم- الفاطمیین-هی قیادة العالم و حمل الحقیقة إلیه،و مثل هذا المرشد ضروری وجوده فی کل عصر حتی لا یبقی العالم جاهلا) (4).و هو من نصوصهم الخاصة،و لا ینافی

ص:496


1- (1) الحقائق [1]الخفیة عن الشیعة [2]الفاطمیة ص 24.
2- (2) المجالس المؤیدیة ج 1 ص 147( [3]الحقائق). [4]
3- (3) أسرار النطقاء ج 2 ص 203(الحقائق). [5]
4- (4) کلام بیر ص 21(الحقائق).

مضمون الإمامة من حیث کون الإمام هو الهادی و المرشد إلی الطریق الحق،و هو القدوة لقوله تعالی: وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِینَ إِماماً و قوله عز و جل: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا و الإمامة التی تنطوی علیها الخلافة هی لدوام النبوة و بقاء الرسالة لقوله تعالی: إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً و قوله سبحانه: وَ نُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَی الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ و الشیعة تقیّد الإمامة بالنص،و تجعلها فی إطارها الشرعی و أصلها الدینی،فهی من أرکان الدین،و لیست من الفروع حتی یمکن أن یجتهد فیها،و تفوّض تفاصیلها و أحکامها إلی البشر،فیکون للأمویین الرأی فی الإسراف فی الظلم و اتخاذ مظاهر السلطان و العظمة،و یصبح للعباسیین الحق فی قتل أولاد النبی محمد،و ارتکاب المحارم،و صرف أموال الرعیة فی غیر وجوهها و حلّها.و قد أطلق الإمام الکاظم-کما علمنا-کلمته فی شدة المواجهة مع السلطان و الملوکیة التی تتلبس بالإسلام،فقال للرشید قولته:«أنا إمام القلوب،و أنت إمام الجسوم»لأن مظاهر الخضوع و الموافقة التی تنسجم مع مظاهر الأبهة و السلطنة کانت من مقتضیات القهر و الغلب،و لقد جاء من سوّغ إظهار الحکم المتسلط بالسیف و القائم بالغلبة بمظهر الإمامة،و إقرار سلطانه مع الفجور،و ذلک من أبعد ما یکون عن الإسلام،و من أغرب ما اختاروه للإساءة إلی عقیدة الإمامة.

و إذا نظرنا إلی الملوک الفاطمیین،وجدنا انسیاقهم إلی مظاهر الملوکیة بأوسع صورها.و قد کان المعزّ-صاحب المواکب و الرکوبات التی تبعث علی الدهشة و الانبهار-إذا ما اطلع المرء علی ما کتب عن هذه المواکب و الرکوبات التی یترک وصفها فی النفس و الذهن صورا خیالیة،و هی تجری علی نظام و ترتیب و مراسیم و أعمال لم یکن مثلها فی عصر أو قطر آخر (1).و القصد أن مسلک حیاتهم أقرب إلی الدنیا و السیاسة،و أدنی إلی إمامة الجسوم و سلطة الزمان،و هم أوفق بها.أما الإمامة الکبری فهی مقیدة بشروطها،و متعلقة بأهلها الذین أحاطهم ولاة الجور بأسوار من الرعب.و لکن نور الإمامة لا تحجبه زنزانات الحکام أو عساکرهم،و لم ینل الحکّام من تفانی الأئمة الأطهار من أهل البیت فی الدعوة إلی التمسّک بالعقیدة و نشر الأحکام.

و الخلاصة،فإن الفاطمیین قاموا بدور کبیر و مشرّف فی مجال رفعة شأن

ص:497


1- (1) انظر تفاصیل وصف المواکب هذه فی النجوم الزاهرة ج 4 ص 79-101.

الإسلام و إبراز عظمة فکره،و قد جذبوا إلیهم الکثیرین من المفکرین و الأدباء و الفقهاء فانضموا إلی الدولة الفاطمیة،و اعتنقوا الإسماعیلیة،و أصبحوا قادة فیها،و هم کما قلنا فی مظهر عقیدتهم یتوخّون ما یتفق مع العقائد و الأحکام،و یقتربون من عقائد الشیعة فی مهمات الأمور و الأحداث التاریخیة،و لعل صحة النسب و بقاء الانتماء إلی الدوحة المطهرة کان من أهم عوامل تمیّزهم عن بقیة الفرق الباطنیة.

الهفت و الأظلة:

حاولت فی بحثی عن الإسماعیلیة و الإمامة أن أحصل علی أغلب المصادر و الکتب التی تختص بالإسماعیلیة،و أن تکون من مظانّها و تصدر من أصحاب العلاقة.

و قد نشر معهد الدراسات الشرقیة فی بیروت کتابا سمّی:بالهفت و الأظلة.

و قدم له الأستاذ الإسماعیلی عارف تامر بضمیمة الأب عبده خلیفة الیسوعی،و هو ینسب للمفضل بن عمر،و الکتاب جاء کمجالس متعددة تتضمن أسئلة متفرقة من المفضل بن عمر إلی الإمام الصادق یوجهها المفضل،و الإمام الصادق علیه السّلام یجیب.

و انتشر الکتاب بعنوان أنه من کتب الإسماعیلیة،ثم صدر کتاب(الهفت الشریف)تقدیم و تحقیق الأستاذ الإسماعیلی مصطفی غالب.

و الکتاب مجهول المؤلف و معدوم السند،بل یفقد کل عوامل الصحة و مقومات القبول،و مع الفرض أن المؤلف معروف و اسمه مشهور و الإسناد موجود،فإن العقل یحکم بأن الکتاب نوع من أنواع المهازل،و صورة من صور الخرافات المؤلمة التی منی بها المجتمع الإسلامی،فکم ابتلینا بدسّاسین،و أثقل کاهل المسلمین بما وضعه الذین یفترون الکذب علی اللّه و رسوله من أفکار و أقوال و ما سطّرته تلک الأیدی من کتب نسبوها إلی رجال الأمة من حملة العلم و رؤساء المذاهب مما لا ینسجم مع ما عرف عنهم و ما هم فیه من المنزلة،و لو لا واجب الحق و إظهار الحقیقة لألقیناه فی سلة المهملات أسوة بغیره من الکتب المکذوبة التی تضم الأراجیف و الخرافات، و تعلن عن نفسها بنفسها لوضوح مضامینها و ما تضم بین صفحاتها،و لا ندری ما الدافع علی نشر الکتاب إذا کان الناشر نفسه یعترف بأنه یحتاج إلی مناقشته بابا بابا، و فکرة فکرة،ففیه ما لا یقبله العقل کما یعترف بقوله:

ص:498

(إن الإمام الصادق-و هو الحکیم الموحّد المعروف بسعة علمه و إیمانه-یترفّع عن تعمیم هذه الأفکار لتلامیذه و تبلیغها لمریدیه).

و أول ما یسترعی الانتباه من الناشر قوله:(مما لا جدال فیه أنه قد نؤاخذ علی محاولتنا هذه،و قد نلام من الأصدقاء و الإخوان،لأن الکتاب الذی ننشره الآن من الکتب السرّیة التی لا یجوز نشرها علی العامة،لأن فیها تعالیم ربما یساء فهمها و تؤوّل علی غیر حقیقتها،مما یحدث آثارا سیئة فی النفوس و یمزّق وحدة الصفوف، و ما أحوجنا إلیها فی هذه الظروف،و لکن لا بد من القول و نحن أمام موضوع خطیر بأنه کم یثلج صدورنا إذا ما فتح هذا الکتاب أمام علماء و أدباء و باحثین لإبراز نصوص علمیة تدحض،و إثبات أشیاء تخالف الوقائع،فنحن لا یهمنا إلاّ جلاء الحقیقة وحدها،و إبراز الواقع بوجهه الناصع،و الحقیقة تأبی إلا الظهور مهما اعترضها من عقبات).

یخیل للقارئ عند الوقوف علی هذه العبارات أنه سیقف علی شیء فی النهایة یستحق الخوض فی قراءة أو تحقیق أمور مخالفة للحقیقة و یرفضها الواقع،أو أن فی ثنایاها بعد التشذیب عطاء فکریا أو دلالة عقائدیة أو نتاجا أدبیا یقدّمه الأستاذ تامر إلی العالم خدمة للحقیقة و قیاما بواجبه العلمی کما یشیر إلی ذلک بقوله:

(إذ نضع هذا الکتاب بین أیدی العلماء نعلم علم الیقین بأننا قد أدّینا جزءا من واجبنا نحو العلم و الحقیقة التی عاهدنا اللّه أن نجعلها هدفنا و مثلنا الأعلی فی الحیاة).

مما یشعرنا بأن الأستاذ عارف قد أطلق هذه الکلمة نتیجة لدراسة موضوع علمی بطریقة منهجیة هادفة إلی کشف حقیقة أو إظهار تفاصیل أو دقائق فی اتباع أصول التحقیق لإبراز ما یخدم العلم و یظهر الحقیقة نتیجة ما اکتسبه من خبرة فی ممارسته، و عند ما نقف علی الکتاب نصاب بخیبة الأمل و للوهلة الأولی،إذ لا نعثر فیه علی أمر یناسب قوله،فلیس فی الکتاب مواضیع معقولة،فضلا عن أن یکون علما أو فکرا أو نحوهما.

لیس فیه من المعرفة المتّسعة المنسّقة و المرتبطة بنظام یعنی من الأقوال أو الأفکار شیء،بل فیه کل ما یمجّه الذوق و یرفضه العقل و لا یقرّه العرف.

و نعود للاستغراب عند ما نقف علی قوله أن نشر هذا الکتاب لا بد أن یلقی استنکارا...الخ.

ص:499

و حق أن یکون الکتاب موضع استنکار و استخفاف لکل من یقرأه،فکیف لا یستنکر مثل هذه الأمور التی تفاجأ بها الأمة فی عصر الثقافة و العلم،و فی زمن التقدم و التطور،ینفذ إلینا من بوابة عضادتاها أحد المختصین الإسماعیلیین و أحد الآباء المسیحیین،و الغریب أن یطبع طبعة أولی عام 1960 م و طبعة ثانیة عام 1965 م.و إنی لأکبر الذوق الأدبی و البحث العلمی عن هذا الفهم السقیم و الذوق الهابط حتی یکون هناک إقبال علی تناول هذا الکتاب إلا للاستهزاء و السخریة،و علی الأغلب تکون من قبل أعداء الإسلام و الساعین بکل جهد و قدرة للنیل من أبنائه،و إعطاء صورة مشوهة عن مجتمعه.و لا أدری أی شیء فی الکتاب یدل علی صحته و یشیر إلی ثبوته حتی یحتاج إلی دحض،و أی عمل یوصف بالموضوعة و المنطق حتی یدعو إلی نقد؟؟! و لا بد أن نتساءل بموضوعیة عن مقومات أی بحث تاریخی أو أثر علمی،أ لیس المضمون أو المنهج أو المعالجة أو الوصف التاریخی هی الأسباب التی تکسب البحث أهمیة و الأثر دلالة؟فیتوخی منه الفائدة،و یرجی منه المعرفة.أما إذا کان الأثر و الکتاب یحدث آثارا سیئة لعدم هذه الأسباب و لخلوّه من الأهمیة،فلا مبرر لذکره فضلا عن التفکیر فی نشره،و إن کان من صنف(الهفت)بخرافاته و أباطیله و أکاذیبه، فعلی المرء-أی امرئ مسلم-أن یسعی إلی إتلافه و یعمل علی محوه،لما یحدثه من آثار سلبیة تمسّ وحدة المجتمع.

أضف إلی أن الکتاب منحول من قبل شخص لا یجید الوضع،و لا یحسن الألفاظ التی صاغ بها أکاذیبه.

و الکتاب مجهول المؤلف و معدوم السند،فکیف أقدم الاثنان علی تکلیف نفسیهما إشاعة عمل لا تتوافر فیه عناصر الصحة.و إن یکن عتب فعتب علی عارف تامر لکونه إسماعیلی المذهب،و فی مثل هذا العمل إساءة بالغة سیما إذا کانت تصدر من إسماعیلی.و نستغرب متسائلین:ما هو الدافع و ما هی الخدمة التی یسدیها بنشر هذا الکتاب؟فلیس من خدمة العلم و الحقیقة فی شیء أن تنشر هذه الأقوال الکاذبة و الخرافات الشائنة و تنسب إلی شخصیة(خارقة متفوقة ذات مستوی رفیع هامت بجلائل الأعمال)هی شخصیة الإمام الصادق عمید أول مدرسة فکریة فی الإسلام و رئیس أول مرکز لتعلیم الفلسفة،و مخرج العقل فی العصور الإسلامیة من نطاقه المحدود إلی فضاء رحیب تسیطر علی أرجائه حریة الفکر العلمی السلیم القائم علی

ص:500

الحقیقة و المنطق و الواقع،و أن مدرسته علیه السّلام قد أنجبت خیرة المفکرین و صفوة الفلاسفة و جهابذة العلماء-کما یقول عارف نفسه- (1).

و لم یستبق الناشر النتائج بوعیه عند ما یقول و یعترف أن الکتاب لا یلیق بالنشر، و ذلک ما یدعو إلی الحیرة،فإن النتائج هی أحداثه الفرقة فی المجتمع،و تعریض وحدة الصف إلی التمزّق لأنه لا یضمّ بین دفتیه إلا الإساءة لجمیع طوائف المسلمین و التهجّم علی العقائد،و الطعن برجالهم.

و لا یدری أحد منّا إلا الناشر نفسه ما هی الأسباب التی تکمن وراء نشر الکتاب و هو یصرح برأیه فیه.

کان اللازم-کما یقضی واجب النشر و أمانة النقل-أن یتأکد الناشر من صحة الکتاب و نسبته للمفضّل،و أن یتحرّی صفة المؤلف من الکتاب،فإذا عدم الاسم استدل بالأثر،فهل کان المؤلف ثقة فی النقل و رجال أسانیده کذلک.فإذا کان الأثر عبارة عن أکاذیب و مفتریات و خرافات،فالمنتحل أبعد ما یکون عن صفات الثقة و الأمانة.

و لا أجد تبریرا أو احتمالا مناسبا یجعلنا علی علم بارتکاب مثل هذا الخطأ، و قد کنت بحسن الظن أحاول ذلک باعتبار الأستاذ عارف من الکتّاب الذین ینادون بحریة الکلمة و الموضوعیة.إذن لا بد أن هناک أسبابا خاصة و عوامل غامضة حدت به إلی أن یقوم بطبع الکتاب،فیقدّم للمکتبة العربیة و الأمة الإسلامیة کتابا لا یحتوی- باعترافه-إلا آراء غریبة و شاذة،الأمر الذی یصبح أمامه موضوع العلم و الحقیقة مجرد ادعاء و صبغة یحاول أن یطلی نفسه بها دوما،فأی حقیقة فیما یدور بین الأشباح و الأظلّة،و ما یعرضه أمامنا من عالم المهووسین و المصابین،و تزکم أنوفنا رائحة الدسّ التی تفوح من الآراء و الحوادث التی وردت فی الکتاب کالأظلّة و الأشباح و المسوخیة و الناسوتیّة و الأدوار و الأکوار و الرسخ و المسخ و الزواخر و حجب الآدمیین و قد القدود و سطح السطوح و الحجب الشجی...الخ...و نظریات أخری تتعلق بالإمام أمیر المؤمنین علی علیه السّلام و سلمان الفارسی،و بدء الخلیقة،و تقمص المرأة...و افتراءه علی الإمام الصادق علیه السّلام فی کثیر من تأولاته،فیقول بکل جرأة

ص:501


1- (1) القرامطة ص 49.

إن الإمام الصادق هو مؤسس الباطنیة فی الإسلام،و فی عهده نمت و ترعرعت البذور التی غرست حتی بذور ابن سبأ،فتراه هنا یثیر قضیة لا صلة لها بالواقع،فحکمه بأن تأسیس الباطنیة یعود إلی الإمام الصادق هو من جملة المفتریات التی أشرنا إلیها فی بدء الحدیث و قلنا أن قدم الاعتقادات الإسماعیلیة و اتصالها بالمدارس الفلسفیة و المذاهب القدیمة التی سبقت الإسلام حملها علی الافتراء و الالتصاق بالإمام الصادق،و نسبة المعتقدات التی ظهرت بعد انحرافهم عن مسار الوصایة و الإمامة إلی الإمام الصادق و أهل البیت و کل أحکامهم بلا بینة و جمیع أقوالهم بلا دلیل،لأن عزل النصوص عن مقاصدها و سوق الأفعال التی تصدر عن الإمام الصادق أو غیره من الأئمة المعصومین فی غیر ظرفها تجن واضح و افتئات مشین.

و یبدی لنا الأستاذ علی صفحات الکتاب رأیه فی قضیة ابن سبأ،و أن آراءه قد ترعرعت بذورها فی ذلک العهد،فإذا به یتعرّی تماما من صفات التحقیق و التثبّت.

و قضیة ابن سبأ لا تقل خرافیة و کذبا عن(الهفت)الذی قدمه عارف ثامر فما هی إلا شخصیة وهمیة أوجدتها العناصر المعادیة للإسلام،و غذّتها الطائفیة الرعناء،و کان غرسها و نسج خیوطها فی القرن الثالث الهجری.و قد بحثناها فی غیر موضع فی أجزاء الکتاب السابقة.

و لا نجهد أنفسنا بأکثر من ذلک فی الردّ علی عارف،بل نحیل الردّ علی الأستاذ الإسماعیلی مصطفی غالب فیقول:

و لا بد لنا و نحن نستعرض بعض ما کتبه عارف ثامر من أن نشیر إلی الکتابین اللذین أصدرهما مؤخرا و هما:(الإمامة فی الإسلام و القرامطة)لما أورد فیهما من الأراجیف و الخرافات المضحکة،مع علمنا الأکید بأنه هو نفسه یعرف حقیقة تلک الأراجیف و الأساطیر التی لا تتفق مع المنطق و التاریخ،و تتناقض أشد التناقض، و لکنه جاء بها لینال ما یرضی شهوته و یشبع نهمه،معتمدا فی ذلک علی المبدأ الذی یقول:(خالف تعرف)و لقد شحن هذین الکتابین بکل ما هو غریب و مخالف لجمیع من سبقه من الکتّاب و المؤرخین،و إن کنا نعجب لمن یختلق مثل هذه الروایات، و یفتعل النصوص،و یحرّف الوثائق،نقول و الألم یعصر قلوبنا و یحزّ فی أعماقنا أن الغایة لدی هذا الإنسان تبرر الواسطة،حتی و لو کانت الواسطة تقویض دعائم الدین، و طعنه فی الصمیم،و الإجهاز علی آخر رمق من الضمیر الإنسانی،علما بأنه لو أردنا

ص:502

الرجوع إلی أی کتاب من الکتب التی حققها أو ألّفها عارف ثامر نجد نقیض ما قال فی الآخر،فهو یأتی بالفکرة أو المصدر أو الرأی فی هذا الکتاب،فی حین أنه یخالفه أشدّ المخالفة،و ینقضه أبشع النقض فی کتاب آخر،ذلک لأن کل کتاب سار فیه حسب الهوی الجارف (1).

و عن الهفت و الأظلة یتحدث الأستاذ مصطفی غالب حول ما ارتکبه الأستاذ ثامر من التحریف و الزیادة و إن کان(الهفت)الذی شرّفوه-و إنما یشرّفون الخرافة و الافتراء-فی متنه هو من جنس ما قدّمه ثامر،و لکن مصطفی غالب یدّعی أنه لفرقة باطنیة أخری،و لا یعنینا ذلک لأن العبرة فی المضمون و فی الاتجاه الباطنی الذی نخالفه.و علیّ أن أسوق القول علی طوله لمقتضیات البحث:

(مما لا جدال فیه أننا نعیش فی عصر تطوّر فیه العلم و الفکر،و انطلقت عصارات الأدمغة المفکرة لتفعل و تبنی صروح البشریة علی أساس علمی صحیح رائده الخلق و التقدم و الإبداع،و لتنیر الطریق الصحیح أمام الأجیال الصاعدة التوّاقة إلی الارتشاف من منهل العلم و المعرفة،و أصبح للفکر رسالة مقدسة هدفها التوضیح و النوعیة و الأمانة بعیدا عن الارتزاق و الهوایة و التحریف.فإنسان هذا القرن (التکنولوجی)أصبح ینظر إلی العلم بمنظار الواقع و الحقیقة و الصدق فی تتبع الأحداث التاریخیة و الوقائع العلمیة...دعانی لإطلاق هذه الصرخة الداویة ما لمسته مؤخرا أن بعض الأیدی قد عبثت و لا تزال تعبث فی تراثنا الفکری،و خاصة ما یتعلق منه بآثار الفرق الباطنیة السرّیة.نعم لقد امتدت الأیدی(غیر الأمینة)فتلاعبت بما عثرت من نصوص مخطوطة فغیّرت و بدلت فیها بدون رادع من ضمیر أو وازع مناقبی.

فی مطلع عام 1958 میلادیة طلب إلیّ المستشرق الآلمانی الکبیر البروفسور (شتروتمان)أن أعیره نسخة خطیة من الکتاب الهفت الشریف الذی کان فی ذلک الوقت یعمل علی نشره و تحقیقه فی(هامبورغ)...فقد لبیت طلبه و أرسلت له النسخة المطلوبة...

و راحت الأیام تدور،و إذا بی أفاجئ بکتاب معروض فی الأسواق أصدرته

ص:503


1- (1) تاریخ الدعوة الإسماعیلیة ص 19-20. [1]

المطبعة الکاثولیکیة فی بیروت سنة 1960 م علی حساب دائرة(البحوث و الدراسات بإدارة معهد الآداب الشرقیة)عنوانه(الهفت و الأظلة)المنسوب إلی المفضل بن عمر الجعفی،و قد قام بتحقیقه و التقدیم له عارف ثامر و الأب أ.عبده خلیفة الیسوعی.

اللّه.اللّه.کیف تبدل عنوان الکتاب بهذه السرعة الصاروخیة من الهفت الشریف إلی الهفت و الأظلة؟فقلت لنفسی:ربما کان هذا کتابا آخر.أم أن هنالک بعض النسخ المخطوطة تحمل هذا العنوان.فرحت أبحث و أنقب خلال ثلاث سنوات حتی تمکنت من الاطلاع علی أکثر من ثلاثین مخطوطة،و قد جاءت کلها بعنوان واحد هو (الهفت الشریف)...فأخذت أراجع النسخ المطبوعة و أطابقها علی نصوص النسخ الخطیة فوجدت مع الأسف الشدید بأن التلاعب و التزویر قد وقع بالفعل،و لما کنت أحرص علی أن یکون المؤرخ أو العالم أو المحقق متّصفا علی الأقل بالأمانة العلمیة و الدقة و الإخلاص و التجرّد و النزاهة،فقد عمدت إلی تحقیق الکتاب مشیرا إلی الزیادات و التحریفات بقدر الإمکان..

ثم یخاطب الأستاذ غالب الأستاذ ثامر:

نحن لا ننکر الخدمات التی قدمتها للمکتبة الإسماعیلیة حیث قمت بنشر و تحقیق بعض المؤلفات بالرغم من أنها جاءت مشوّهة مقلوبة رأسا علی عقب،و بصراحة أقول:إننا نفضل ألف ألف مرة أن تبقی تلک الآثار فی طی الکتمان و الإهمال علی أن تتناولها الأیدی مبتورة.تلاعب التحقیق بنصوصها و حتی بعناوینها...) (1).

و أعود و أعتذر لهذا النص الطویل،و لکنه من ضرورات اکتمال السیاق و عرض الصورة بأبعادها،و نحن أخذنا من الأستاذ غالب ما اکتشفه فی عمل الأستاذ تامر من تلاعب بالنصوص،و هی ثورة حقیق بها أمر ذو بال و أهمیة.و الذی یبدو أن المحتوی و المضمون فی الآثار الإسماعیلیة لا یحتل أهمیة بقدر ما یحتل النص و المنقول.و کان مما یناسب عصر العلم و التکنولوجیا أن یتجه نقد الأستاذ غالب إلی النص ذاته و إلی حقیقة هذه الخرافات و الافتراءات،و لیس الأمر مجرد آثار محفوظة و سرّیة مما یضنّ به علی الآخرین،و لا یطلع علیه إلا المنتسبون إلی الجماعات السرّیة الباطنیة.و من

ص:504


1- (1) مقدمة کتاب:الهفت الشریف من فضائل مولانا جعفر الصادق علیه السّلام رواه المفضل بن عمر الجعفی.

المؤسف أن یکون الفصل فی تقریر أهمیة النص أو صحته بأیدی المستشرقین،فیلجأ إلیهم فی تحدید واقعیة النصوص و ربما العقائد.

و الغریب أن یکون لهذا الهفت الساقط نسخ عدیدة و کثیرة.و مهما کانت المکانة التی یحتلها الکتاب،فإن وجود مثل هذه النصوص أمر غیر محسوم من جهة الإسماعیلیة و الفرق الباطنیة الأخری بدلالة ما وقع بین الأستاذین بهذا الخصوص و نحن استشهدنا بأقوال الأستاذ غالب فی مؤاخذته علی الأستاذ ثامر لإظهار ما علیه الأخیر من عدم التثبّت و عدم الدقة،أما الناحیة الأخری و هی المهمة فإن لهذه النصوص وجودا و أثرا فی الحیاة الدینیة للفرق الباطنیة لأنها تتفق مع نمط العقائد و طریقة العلاقات و المراسیم،و لذلک من الصعب أن یحکم الإنسان علی إغفالها من قبل الإسماعیلیة أخذا بأقوال الأساتذة من الإسماعیلیة،و إنه لممّا یحزّ فی النفس حقیقة أن تبقی عناوین الأغلفة بعباراتها،و تظل أسماء هذه الکتب بألفاظها (1).

فالشیعی عند ما یقول:مولانا الإمام الصادق.یدرک ما ذا وراء هذه العبارة،و یعبّر عن معتقده بهذا القول،لأن الإمام الصادق علیه السّلام هو سادس الأئمة الأطهار وهبه اللّه المعرفة و الحکمة،و منحه الإمامة و الولایة،و اجتاز بالعقیدة الإسلامیة ذلک المعترک القاتل و المحنة القاسیة،فحفظ اللّه علی یدیه تراث آل محمد،و أنقذ اللّه به شیعة آل محمد فی نفس الوقت الذی حفظ به الإسلام و حصّنه.

إن النزعات الباطنیة و المیول الخفیة فی المعتقدات التی التقت بالإسماعیلیة اعتمدت بعض الوجوه التی علیها فی السیر بعض الغموض،و هنا کان الاختیار،و قد وقع علی المفضل الجعفی،و قد تأثروا بالاختلاط الذی وقع فی الأقوال عنه،و بما حصل من تدافع،غیر أن الأغلب و الأرجح هو تعدیل المفضل و الرکون إلیه عندنا، و کلما قیل عنه من تحول و اختلاط فی النظرة إلیه و القول فیه من قبل المصنّفین قد هذّبه و عدّله روایة علمائنا عنه کالشیخ الصدوق و الشیخ المفید.و غلبه مدح الأئمة، مما یکشف لنا أن قادة الاتجاه الباطنی یختارون ما یمکن النفاذ منه بالبناء علی الخلط و الجرح،و ما علموا أن الحقائق و العقائد السلیمة یموت حولها ما یعلق من شوائب، هذا إذا کان الاختلاط فی النظرة إلی المفضل مقصورا علی الکتب القلیلة التی خاضت

ص:505


1- (1) الکتاب بعنوانین،أحدهما خارجی:کتاب الهفت الشریف من فضائل مولانا جعفر الصادق علیه السّلام رواه المفضل بن عمر الجعفی،و داخلی:کتاب الهفت الشریف رواه المفضل الجعفی.

فیه.أما القول الحق فهو ما أخذ من حقائق سیرته و من وقائع حیاته،و ینحسر ما علق بصورة المفضل من غموض إذا تجنّبنا ملابسات انشقاق الإسماعیلیة عن مسار الإمامة،کما لا یخفی دور الزنادقة فی الإساءة إلی المفضل لتصدّیه لهم،و ردّه علیهم.فإن بعض الروایات التی لا یرکن إلیها تصوّر المفضل بأنه وراء انحراف إسماعیل بن الإمام الصادق عن أبیه،و أنه کان منقطعا إلیه،یقول فیه مع الخطّابیة ثم رجع بعده.أما الزنادقة فإن من آثار الإمام الصادق العلمیة و أجوبته الخالدة هو کتاب (التوحید)فی أجوبة الإمام للمفضل بن عمر حینما سمع کلام ابن أبی العوجاء و إنکاره الصانع،فناظره المفضل،ثم بادر إلی الصادق علیه السّلام و طلب منه أن یملی علیه ما یقوی به علی مناظرة الزنادقة،فأجابه بدلائل التوحید و محکم البراهین علی وجود الصانع الحکیم (1).فاختار الکذّابون الذین وصفوا(هفتهم)ذات الطریقة فی الإملاء بمجالس،و حسبوا أنهم سیسلمون من الفضیحة أو ینجون من العقاب.و لا ننسی أن نذکر أن طبیعة الدعوة الباطنیة و غموضها یساعد علی هذا الافتراء،و ذلک للانقیاد الأعمی و الاستسلام التام،و إذا ما خرج بعضها إلی نور الحقیقة انهارت و تبدّدت.

خاتمة الکتاب

و بذلک نصل إلی ختام البحث الذی استغرق عشرات السنین،رافقت فیها الإمام الصادق،و تشرّفت بالکتابة عن شخصیته،إلی جانب البحث عن شخصیات أئمة المذاهب الإسلامیة.

و قد کان نهج البحث یقوم علی الحقائق و النظرة إلی واقع الأمور بتجرّد و إنصاف،و عرضنا لغرض المقارنة لشخصیات أئمة المذاهب،بحیث تجری علی بساط البحث و بنتیجة التنقیب.

و کان بودّی أن ألحق بالجزء الثامن بقیة ما یتعلق بالمسائل الفقهیة فی الصوم و الحج و الطلاق و الفرائض و غیرها،غیر أن اتساع الجزء الثامن بمواضیعه حال دون ذلک.عسی اللّه أن یجعل له مناسبة أخری.

و أری فی ختام الکتاب و انتهاء سلسلة البحث عن الإمام الصادق و نشأة المذاهب

ص:506


1- (1) انظر بعض هذه المجالس التی أملی فیها الإمام الصادق [1]أجوبته فی المجلد الثانی/الجزء الرابع من الإمام الصادق و المذاهب الأربعة. [2]

أن أعید التنویه بالحقائق التی لا تحتاج إلی کبیر عناء فی إثباتها،و فی مقدمتها دور الملوک و أصحاب السلطان فی تعدّد المذاهب و زرع الفرقة و الخصومة بین أبناء الأمة الواحدة.و قد ابتدأت الفکرة منذ الفترة الأولی للانحراف عن مبادئ العدل الإسلامی و الانغمار فی مظاهر الملوکیة و التسلّط،فکان علی ید معاویة الترویج لشرعیة العسف و الظلم،حیث أوجد له مؤسسات ضمّ إلیها الکثیر ممن تزیّا بزی العلم و الدین، و راحت هذه المؤسسات تلبّی رغبات معاویة و الحکام فی إضفاء طابع الشرعیة و الصبغة الإسلامیة علی واقع حکمهم و حقیقة سلطانهم القائم علی القبلیة و العصبیة الجاهلیة.

و بعد سقوط حکم الأمویین و قیام حکم الملوک من بنی العباس فی ظل و أفیاء الدعوة إلی الرضا من آل محمد،أرسی الملوک العباسیون تلک الفکرة علی أسس طبّقوها و نفّذوها فی فترة أصبح فیها التشیّع خطرا یتهدّد الکیان العباسی.

فقد نبغت شخصیة الإمام الصادق،و شاع ذکره فی الآفاق،و أصبح سید علماء الأمة و قائد حرکة العلم و الفقه،فبات أمره شغل النظام الشاغل و همّه الدائم،و لمّا فشلت محاولات القضاء علی حیاة الإمام الصادق،و کانت آیات نجاته و حفظه من أیدی المنصور؛التمس الدوانیقی طریقا آخر،فسنّ للعباسیین سنّة إدناء شخصیة معینة ممن یتوسّم فیها الفقه،لتکون فی الموضع الذی یکتسب من الحکم نفوذه و قوته، و تستعمل السیاسة فی أغراض التمذهب،و إخضاع العلم الدینی لأغراض الدولة بحیث ترتأی الأحکام التی تأمن جانبها.

فیما کان الشیعة یمثّلون الاتجاه المناوئ،و یقفون بوجه هذه الأغراض،لأنها تستهدف النیل من مکانة الإمام الصادق،و تحاول بیأس التأثیر علی موقعه الروحی و شهرته العلمیة،و کان الانصراف إلی الدین و العلم و الدعوة إلی التمسّک بأحکام الإسلام و التقیّد بأوامره،و اجتناب نواهیه الصفة الأساسیة للصرح العلمی الذی سرت آثاره،و انتشرت أفکاره فی المجتمع الإسلامی،و الذی تمثّل بمدرسة الإمام الصادق التی انتسب إلیها أربعة آلاف طالب،قاموا بدورهم فی روایة الحدیث و بیان الأحکام و تبصیر الناس و حفظ تراث الإسلام،فکان علیه السّلام:مشغولا بالعبادة عن حب الرئاسة (1).و آثر العزلة و الخشوع (2)و الانصراف لمهمّاته الدینیة.

ص:507


1- (1) صفة الصفوة ج 2 ص 94.
2- (2) حلیة الأولیاء ج 3 ص 192.

و من الحقائق أیضا،أن الشیعة فی عقائدهم من حیث النشوء کانوا مع مراحل الرسالة و تطورات الإسلام،فلا یخضعون لمقاییس التمذهب هذه،و ما کان من تسمیته(المذهب الجعفری)فهو بحکم اصطلاحات فترة التمذهب التی تبنّاها الحکام، و بروز شخصیة الإمام الصادق فی ذلک العصر و تصدّیه بمؤسسات مدرسته و رجال دعوته إلی تیارات الخلاف و الاختلاف،فنتج أن الإمام الصادق رأی أن یبرز معالم أحکامه و فقهه و طریقة مدرسته و منهجها التی هی امتداد لأحکام أهل البیت الکرام و آبائه المعصومین،و فی فترة اتضحت فیها المقاصد،فراح علیه السّلام یختار من أصحابه و مریدیه الرجال،فیحمّلهم المهام الدینیة و الفکریة و الاجتماعیة لیظهروا-فی خضم تلک الفترة التی تعدّدت فیها الموجات و اتسعت-أحکام آل محمد،و یطبقوا طریقة الإمام الصادق فی الدعوة الدینیة،و حمایة مبادئ العقیدة و روح الإسلام مما یحیط بها من مخاطر و ویلات،فکان مصداق ما سعی إلیه علیه السّلام أن یقال عنهم:«رحم اللّه جعفر بن محمد ما أحسن ما أدّب به أصحابه».

و قد کان تفرّد الإمام الصادق بصفات خاصة من الحقائق التی عجزت السلطة عن إخفائها أو طمسها،و ظلت منزلته الدینیة و العلمیة لا ینال منها العداء أو النصب، فتراه علیه السّلام سید الفقهاء و أستاذهم الذی یفتخر بالأخذ عنه،و یتشرف بروایة حدیثه.

و قد استظهرنا من تتبع ظروف نشأة مدرسة الإمام الصادق و أحوال نشاطها تلک المهمات الجسام التی کان علی الإمام الصادق أن یتولاها،و تلک العوائق التی واجهها الإمام الصادق،فقد کان الخطر من السلطة الحاکمة بطابعه السیاسی،و الخطر من الحرکات التی قامت و اشتدت بطابعها الدینی و الفکری.

و یدلنا البحث علی متانة الصرح الفکری الذی شیّده الإمام الصادق،بحیث تمکّن من أداء المهمات،و استطاع مواجهة تلک الأخطار،و أرسی حرکة الفقه و العلم علی قواعد ثابتة و أصول دائمة.و لذلک فإن الحاجة تزداد ظهورا فی عصرنا إلی إحیاء منهج مدرسة الإمام الصادق و نشر أفکاره،لأن التکوین العقائدی لمدرسة الإمام الصادق و الذی اشتمل علی حاصل ما قرره النبی محمد و الأئمة الأطهار من أهل بیته الکرام تکوین ثابت و مستقر،له القابلیة-بمقتضی ما انطوی علیه من أحکام و ما ضمّه من تراث-علی ضمان بقاء الأمة و تحقیق أمنها و مواجهة أعدائها.

و نری الیوم ما یعانی منه الفکر الشیعی و اشتداد الهجمة المعادیة من قبل الحکام

ص:508

و المتسلّطین،فقد احتفظت الأیام و مرّ التاریخ علی أطراف المواجهة بین دعاة العدل الإسلامی و بین الملوک و الحکام الذین یتّخذون من الدین ستارا لمصالحهم،و یذیقون شعوبهم الویلات.

و خلاصة القول فإن مدار البحث هو أن السلطان الروحی و القیادة الدینیة اللتین اختصّ بهما الأئمة الأطهار هما من صور الإمامة التی حفظت بها منزلة النبوة،و ضمن بها بقاء الدعوة،و من هنا کان سرّ تمیّز سیرة الأئمة الأطهار و سبب نفوذهم الذی عجزت قوة الباغین و الطغاة عن القضاء علیه.

لقد أثبت الشیعة وجوب عصمة الأنبیاء قبل اصطفائهم و بعد اصطفائهم لأنهم الأمناء و القادة،و قد کلف اللّه الخلق باتباعهم،فلا یجوز علی المصطفین الإثم،لأن النبوة دعوة و تبشیر بأمر إلهی،و الدعوة تتأثر بشخصیة الداعی،فإذا جرب علی نبی إثم أو عرف عنه ذنب،فإن مجری الدعوة یتأثر بهما،و درجة إقبال الخلق أیضا.

قال اللّه تعالی مخاطبا إبراهیم علیه السّلام: إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً فعلی الناس اتباعه و الاقتداء به،و هم مکلفون بذلک.فذهب الشیعة إلی تنزیه الأنبیاء عن المعاصی لأن ارتکابها ینفّر الناس.بخلاف غیرهم من المذاهب فی تجویز المعصیة قبل النبوة.

و قد کان من سیر الأئمة علیه السّلام و أحوالهم و أوضاعهم و خلقهم شواهد کبری علی تسدید اللّه و عصمتهم،مما یؤثر فی سیر الدعوة و وقع الأحکام فی النفوس، و لذلک لا تجد فی فقه الشیعة قضیة تدور علیها الآراء و الاجتهادات فی أن ولی الأمر إذا أخطأ،فمن الذی یقیم علیه الحکم.کما هو فی المذاهب الأخری.

فولی الأمر الشرعی عند الشیعة هو فی منزلة و مرتبة دینیة لها من النبوة الوصایة علی أمر الشریعة و حمایة الدین و مصالح الأمة،و لیس فی فکر الشیعة أوفقهم ما یبعد عن هذه الخصائص التی تدور فی فلک النبوة،فکیف یجرأ فاسق أو فاجر علی أن یتولی من أمرهم شیئا؟فیما جوّزت المذاهب الأخری إمامة المتسلّط و من اتصف بذلک من غلبة أو غیرها،و کذلک الحال مع الفاجر،حتی نسب إلی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم الأمر بالصلاة خلف البرّ و الفاجر،و قد تناسی من وضع الحدیث و غفل من تعاطاه أن نبی الرحمة حمل رسالة العدل و بشّر بمرحلة جدیدة من الإنسانیة تصان فیها الدماء و الأموال بأعظم صیغ التشدید علی حرمة حیاة الإنسان و بأوضح عبارات تأکید حریته،

ص:509

لکن فهم الإمامة بمنطق الحاکمین و المتسلّطین کان من بواعث الوضع و من دواعی التسلیم بصحته تحت ذریعة(الجماعة)و حفظ الأمة بعیدة عن(الفتنة)و ما الفتنة إلا مهادنة البغاة و الجائرین علی انتحالهم صفة الدین،و مجاراتهم علی انتهاک حرمة دماء المسلمین و أموالهم و أعراضهم،و کان هذا المنطق وراء إظهار النظم المنحرفة بمظاهر إسلامیة لا تمتّ إلی روح الإسلام بصلة.

و قد مرّ من خلال البحث جوانب مختلفة من سیر و مواقف الأئمة الأطهار من أهل البیت علیهم السّلام و کیف عالجوا العلاقة بالحکّام،و کانت صفحات حیاة الإمام الصادق علیه السّلام منهج هدایة و رشاد یحضّ الأمة علی التمسّک بجوهر الإسلام و تعالیم القرآن،و یعمل علی دفع الأذی عن المؤمنین،و معالجة سیاسة الحکام،و کیف کان الاتجاه نحو دولة العدل التی ینشؤها مهدی الأمة الذی جاءت به بشارة النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و ختاما،و نحن فی نهایة المطاف أقول:إن منهج البحث فی هذه السلسلة قد استهدف کشف الحقائق و بیان الوقائع،و من خلال المقارنة ندع النتائج طلیقة،و لا نحصرها فی فصل من البحث،سیّما و نحن نعترف أن الجهد یقصر عن الإحاطة التامة بشخصیة کالإمام الصادق،و نأمل أن نلتقی بالقرّاء قریبا فی بحث مخصوص عن حیاة الإمام الصادق.

و للّه الشکر علی توفیقه و عونه علی إنجاز هذا البحث،و له الحمد أولا و آخرا.

و صلی اللّه علی نبینا محمد و علی آله الکرام الطیبین،و علی من اتبعه و والاه.

ص:510

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.