عنوان و نام پدیدآور:الامام الصادق و المذاهب الاربعه / اسد حیدر
مشخصات نشر:دارالکتاب الاسلامی - بیروت - لبنان- 1422
زبان: عربی
مشخصات ظاهری:4ج
موضوع:امام صادق علیه السلام
موضوع:مذاهب اربعه - اهل سنت
ص :1
ص :2
الامام الصادق و المذاهب الاربعه / اسد حیدر
ص :3
عنوان و نام پدیدآور:الامام الصادق و المذاهب الاربعه / اسد حیدر
مشخصات نشر:دارالتعارف للمطبوعات - بیروت - لبنان- 1422
زبان: عربی
مشخصات ظاهری:4ج
موضوع:امام صادق علیه السلام
موضوع:مذاهب اربعه - اهل سنت
ص :4
صوره
ص :5
ص :6
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِیاً یُنادِی لِلْإِیمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّکُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ کَفِّرْ عَنّا سَیِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ. رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلی رُسُلِکَ وَ لا تُخْزِنا یَوْمَ الْقِیامَةِ إِنَّکَ لا تُخْلِفُ الْمِیعادَ [آل عمران:193 و 194]
ص:7
ص:8
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
و ما توفیقی إلا باللّه علیه توکلت و إلیه أنیب
کان تأخر صدور هذا الجزء من کتابنا(الإمام الصادق و المذاهب الأربعة)-و هو السابع-فترة انقطاع بیننا و بین القراء،لم تکن مقصودة و کنا ننوی أن یکون الجزء السابع نهایة البحث و خاتمة المطاف فی سفر کلّفنا ثمنا غالیا من الجهد و العناء،و قد خفف عنا ما لقیه من استجابة و إقبال لدی القراء،کم حاولت أن أتخطی عوائق العمل،و أذلل ما أواجه من صعاب لمواصلة و إکمال البحث فیه،لیخرج هذا الجزء إلی أیدی القراء قبل هذا الوقت،إلا أن العوائق تلک و الصعاب کانت تزداد اتساعا و تعقیدا،و ها أنا ذا أزاول نشاطی لإکمال السلسلة،فأتناول أهم الأبحاث المخصصة للحدیث عن کل واحد من أئمة المذاهب الأربعة بإیجاز استکمالا لما سبق و استدراکا لأمور لم نذکرها،إذ لم نتعرض لها من قبل کمعرفة الأولاد و الأحفاد،و الوقوف علی بعض الآثار و الآراء و أمور فکریة و فقهیة أخری مما یضیق بها حیز الجزء السابع فأتبعناه بثامن.
نرجو اللّه أن یکون به کمال الفائدة و نهایة القصد.و قد آثرت تأخیر الحدیث عن الإمام الصادق علیه السّلام لما یتطلبه ذلک من إفاضة فی بعض الأمور کالإشارة إلی أولاده و أحفاده الذین ورثوا مدرسته،و ما یتعلق بذلک من استطراد یقتضیه البحث فی الحدیث عن الطائفة الإسماعیلیة التی تنسب إلی إسماعیل ابن الإمام جعفر بن محمد الصادق،و ما یحیط حیاته من ملابسات،و ما وقع فی ذلک من اختلاف.
ص:9
و ألتزم هنا نهج البحث فی عوامل التعصب الطائفی و أسباب الخلاف المذهبی کمشکلة تاریخیة سببت الفرقة بین المسلمین و فککت وحدتهم و باعدت بینهم،و قد خصصت فی الأجزاء السابقة من الکتاب حیزا کبیرا لدراسة نتائج التعصب و عوامل قیامه،و أوضحت ما علق بفعل ذلک فی أذهان الناس من أمور تسیء إلی مفهوم الانتماء إلی المذاهب و غلبة نزعة العداء علی جوهر المبادئ،حتی أدی ظاهر الالتزام بها إلی الخروج عن میزان الشرع،و حدوث انعکاسات سلبیة علی المجتمع فأحدثت خللا فیه،إذ خرجت المنازعات عن حدود التوازن الفکری أو الخلاف الواعی، فتعددت حدود الاستقامة و الاعتدال-فی السلوک و التصرف-إلی الاعتقاد،حتی أصبح النص الوارد فی الکتاب(عند بعضهم)لا یعمل به إن خالفه رئیس المذهب الذی أصبحت أقواله سنة،و مخالفته بدعة،و عدم اتباعه کفرا،حتی قالوا أن الکتاب تنسخه مخالفة أقوال علماء المذهب،یقول الکرخی (1):«الأصل أن کل آیة تخالف قول أصحابنا فإنها محمولة علی النسخ،أو علی الترجیح و الأولی علی التأویل،من جهة التوفیق.الأصل أن کل خبر یجیء بخلاف قول أصحابنا فإنه یحمل علی النسخ،أو یحمل علی أنه معارض بمثله،ثم صار إلی دلیل آخر أو ترجیح فیه،بما یحتج به أصحابنا من وجوه الترجیح،أو یحمل علی التوفیق» (2).
و یبین لنا هذا النص مدی الارتباط بالمذهبیة و الالتزام بأقوال الأئمة حتی و إن خالفت الواقع،و یخضعون الکتاب لموافقة أقوالها،و إذا امتنع النص القرآنی فإنهم ینسخون و یعملون بما جاء عن أصحاب المذاهب«فهم مدفوعون وراء المذهبیة تعصبا،و یطرحون الدلیل و یؤوّلونه تأویلا بعیدا لا یتفق مع الحقیقة.فهذه هی المذهبیة التی یبغضها اللّه و رسوله» (3).
و لقد أدت شئون الحکم و مقتضیات السلطان إلی تبنی التمذهب و جعل الرئاسة فی الفقه من أعمدة السیاسة،فتأثر-تبعا لمواقف الملوک و الحکام،وجود و نشاط
ص:10
و انتشار المذاهب إذ لم یجر الحکام علی مذهب بعینه،و إنما یتقرر ذلک بحسب الظروف و الملابسات و عوامل النفوذ و الغلبة سیما و إن العالم الإسلامی بات مسرحا للقوة یشهد نتائج الغلبة علی شکل دول و وزارات و جیوش.و لا بد أن یکون القضاء- و هو من أکثر الوظائف استقرارا لأصوله المعروفة و أهمیته فی حیاة الناس-من أولیات شئون السلطان التی تتسرب إلیها موجات التمذهب،و تتطلع إلیها الرغبات،فحصرت بعد زمن بالمذاهب الأربعة،و سارت الأمور علی الاستعانة بما کان من مقتضیات السلطان فی الأساس،و هو تحدید المراتب الفقهیة و المراجع فی أشخاص بأعیانهم.
یحکی عن أبی زرعة-تلمیذ البلقینی-أنه سأل أستاذه عن المانع للشیخ تقی الدین السبکی عن الاجتهاد و هو جامع للشروط.فسکت البلقینی و لم یجب.فقال أبو زرعة:«فما عندی ان الامتناع عن ذلک لیس إلا للوظائف التی قدرت للفقهاء علی المذاهب الأربعة،و إن من خرج عن ذلک و اجتهد لم ینل شیئا من ذلک،و حرم ولایة القضاء،و امتنع الناس عن استفتائه،و نسبت إلیه البدعة.فتبسم و وافقنی علی ذلک».
و امتد تأثیر ذلک لینعکس علی نهج التعامل مع وقائع التاریخ و روح المبادئ، فراح أغلب المؤرخین ینقادون للنزعة الطائفیة المشبعة بالعصبیة الإقلیمیة أو القبلیة معتمدین علی الخرافات و الادعاءات التی تؤجج نار الفرقة و تزید الانقسام،لتطغی حدة الخلاف علی الحقیقة،و تدفع الأمور فی مسار لا یخضع لمنطق و لا یأبه بالشواهد إرضاء لرغبة الحکام،و تزلفا لذوی السلطة،و بذلک عجّ التاریخ بما نجم عن تلک النزعات،فأصبح البحث عن الحقیقة و التوسل إلی استخلاص الواقع،أو استنباط الجوهر محاطا بعوائق و صعوبات،بعد أن أدی تقادم الزمن و استمرار القناعة بما صدر عن مصادر التعصب و جهات الانقسام،إلی أن تکتسب شکلا ثابتا یقف بوجه موجات الوعی التی تنمو بین شبابنا المسلم المتصف بروح العلم و الموضوعیة.
لقد کان التحیّز فی طرح مواضیع لها أهمیتها لتعلّقها بحیاة المسلمین و تفاصیل وجودهم هویة الباحثین المرتبطین بالسلطة،و کانت نبرة الفرقة و دعوة الانقسام،بطاقة الدخول إلی عالم القصور و الرفاه السلطوی،و بذلک ارتکب هؤلاء جنایة علی أجیالنا إذ تنصلوا من مهمات الباحث و مسئولیاته،و تخلوا عن أصول الأمانة فی نقل الأحداث و تصویر الظروف و العوامل،فساقوا الآراء دون تمحیص أو تقدیر لمرحلة أو وضع تاریخی معین.و أنّی لنا الحصول علی نهج تاریخی یراعی مصلحة الأمّة و یقدّر
ص:11
ضرورات الدین أو الدّعوة،ما دامت أهواء السلطة و التحکم کامنة وراء ما یصدر عن الباحثین.
و رغم ذلک،لم یتعدّ الخلاف بین المسلمین المسائل الثانویة و الفقهیة،إذ لم یکن الخلاف یوما فی التوحید أو الکتاب أو السنة،فهم بحمد اللّه متفقون علی توحید اللّه و علی کتابه،و مجمعون علی أن ما بین الدّفتین هو القرآن بدون زیادة أو نقصان، و لم یختلفوا فی وجوب الأخذ بسنة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و إن اختلفوا فی الفهم أو التفسیر،أو توقفوا فی تحقیق الطریق الموصل إلی أخذ الحدیث صدر عن الرسول أو لم یصدر.
و لقد هیأ اللّه لهذه الأمة علماء جنّدوا أقلامهم لمواجهة نتائج دعوات التعصب و الانقسام،فکتب الکثیر منهم فی ذلک حرصا علی سنة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و منعا لأیدی العابثین من الوصول إلیها،و دحضا للکذابین و الجهال.
و قد رکزنا فی البحث حول الخلافات المذهبیة و النزعات الطائفیة التی أدت إلی الفتنة و الشقاق،فعطلت قوی الأمة و شلّت طاقاتها.
و إذا کان التاریخ الإسلامی قد شهد منذ فجر الدعوة بذور الفرقة و الشقاق،فإننا لا نود أن نتعرض فی بحثنا إلی مجریات عهد الخلافة و آثار الخلافات علی المجتمع الإسلامی،و بروز النزعات الشخصیة و المصالح الذاتیة.و لا للخصومة فی مرتکب الکبیرة و غیرها.و إنما بحثنا فی المذاهب و اتساع عوامل الفرقة و الخلاف التی أدت إلی فتن غذّاها الاختلاف فی الآراء،و ما رافق ذلک من مهاترات و خصومات تطورت إلی حروب سالت فیها دماء،و أهینت کرامات،و انتهکت حرمات.
و قد رأینا فیما سبق من أجزاء البحث،کیف تضافرت عوامل عدیدة علی إثارة المشاکل،و کیف وقعت الأمة فی امتحان قاس،و قد کانت ظروف الفتنة و شیوع الاضطراب،فرصة للجهلة و الغوغاء من الناس للظهور و احتلال مواقع،فیما اضطهد المفکرون و کمّت أفواههم،و نورد هنا قول العلامة المصلح الشیخ محمد عبده الذی یعکس هذا الظرف فیقول:«و السبب فی بقاء قوة سلطان الخلاف و النزاع هو تفشی الجهل،و تعصب أهل الجاه من العلماء لمذاهبهم التی ینتسبون إلیها،و بجاهها یعیشون و یکرمون،و تأیید الأمراء و السلاطین لهم،استعانة بهم علی إخضاع العامة، و قطع طریق الاستقلال العقلی علی الأمة.لأن هذا أعون علی الاستبداد،و أشدّ
ص:12
تمکینا لهم مما یحبون من الفساد و الإفساد.فاتفاق کلمة علماء الأمة و اجتماعها علی أن الحق کذا بدلیل کذا ملزم للحاکم باتباعهم فیه،لأن الخواص إذا اتحدوا اتبعهم العوام،و هذه هی الوسیلة الوحیدة لمنع استبداد الحکام،فالدّین یأمر برفع الشقاق و التنازع و بالاعتصام بحبل الوحدة،و هذا معنی قوله تعالی: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا و قوله تعالی: وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا و قول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«و لا ترجعوا بعدی کفارا یضرب بعضکم أعناق بعض».
ثم یقول المرحوم الشیخ محمد عبده:و قد خالفنا کل هذه النصوص،فتفرقنا و تنازعنا،و حارب بعضنا بعضا باسم الدین،لأننا سلکنا مذاهب متفرقة،کل فریق یتعصب لمذهبه،و یعادی سائر إخوانه المسلمین لأجله،زاعما أنه بهذا ینصر الدین، و لیس فی ذلک إلا خذلانه بتفریق کلمة المسلمین،هذا سنّی یقاتل شیعیا،و هذا شافعی یغری التتار بحنفی،و هذا حنفی یقیس الشافعیة علی الذمیة» (1).
و یقول السید رشید رضا:«حتی أن من اتباعهم(أی أئمة المذاهب)من قدّمهم علی الأنبیاء عند تعارض کلامهم مع الحدیث الصحیح،فإنهم یردّون کلام النبی المعصوم-مع اعتقاد صحة سنده-بقول نقل عن إمامهم،و یتعللون باحتمالات ضعیفة» (2).
و لا أملک أن أستطرد دون أن أشیر إلی أن هذا القول هو تعبیر عن واقع یأتی مصحوبا بخروج عنه،و میل إلی ما استنکر فیه،إذ أن السید رشید رضا شهد فترة نضج جهود المصلحین المحدّثین،و تبلور أفکار الوعی،غیر أنه أسهم هنا و هناک فیما یخالف اتجاه التحرر من التعصب و نهج التحقق و البحث اللذین اتسم بهما فکر الفترة الدینیة التی یتصدرها المرحومان السید جمال الدین الأفغانی و تلمیذه الشیخ محمد عبده،و الذی تلاقح و تمازج مع تیارات الوعی و دعوات الوحدة الإسلامیة.
و هناک صور من حالات الانقسام و الشقاق ذکرها ابن قدامة:«ففی طرابلس الغرب،ذهب بعضهم إلی المفتی و قال له:اقسم المساجد بیننا و بین الحنفیة،لأن فلانا من فقهائهم یعبر عنا کأهل الذمة،بما أذاع فی هذه الأیام من اختلاف الأحناف
ص:13
فی:هل یجوز للحنفی أن یتزوج الشافعیة؟فقال بعض الأحناف:لا یصح لأنها تشک فی إیمانها،لأن الشافعیة یجیزون أن یقول المسلم:أنا مؤمن إن شاء اللّه.و هذا یدل علی عدم تیقنها فی إیمانها فی اللّه،و الإیمان لا بد له من الیقین.
و أن بعض الأتباع سمع رجلا یصلی مأموما یقرأ الفاتحة،فضربه بیده علی صدره ضربة قویة وقع منها علی ظهره و کاد یموت.و أن بعضهم کسر سبّابة رجل لأنه رفعها فی التشهد،بفتوی أحد علماء الحنفیة-و هو الکیدانی-بحرمة رفع السبابة، و اعتبروا ذلک نصا إلهیا،و حکما قطعیا فمن خالفه عوقب علی جریمته» (1).
و یذکر العلامة العز بن عبد السلام الشافعی فی أمور الأخذ بما فیه اختلاف، و أن لا بأس بفعل أو ترک ما لا ینقض الحکم الشرعی:أن الناس لم یزالوا علی ذلک یسألون من اتفق من العلماء من غیر تقیید بمذهب و لا إنکار علی أحد من السائلین، إلی أن ظهرت هذه المذاهب و متعصبوها من المقلدین،فإن أحدهم یتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلدا له فیما قال،فکأنه نبی أرسل إلیه.و هذا نأی عن الحق،و بعد عن الصواب لا یرضی به أحد من أولی الألباب...الخ (2).
و یقول التاج السبکی:و لقد رأیت فی طوائف المذاهب من یبالغ فی العصبیة بحیث یمتنع بعضهم عن الصلاة خلف بعض إلی غیر هذا مما یستقبح ذکره،و یا ویح هؤلاء أین هم من اللّه.و لو کان الشافعی و أبو حنیفة رحمهما اللّه حیین لشددا النکیر علی هذه الطائفة (3).
کما یذکر ابن قدامة أن أربعمائة قاض حنفی و شافعی هاجروا فرارا من تحکم الغوغاء.و حدثت بدمشق عدة حوادث بین الشافعیة و الحنابلة،و بین الشافعیة و الحنفیة،کل ذلک بسبب الطعن فی المعتقدات لأمور تافهة.فمثلا أن ابن القشیری- و هو أحد علماء الشافعیة-یدخل بغداد،و یرقی المنابر للوعظ،فتقوم قائمة الحنابلة، و تقع بینهم و بین الشافعیة فتنة،و بسبب ذلک یسجن بعض العلماء لإطفاء نارها.
و فی سنة 421 هجری بین بعض الأتراک و بعض الهاشمیین منازعة،فاجتمع
ص:14
الهاشمیون و من والاهم من الشیعة و غیرهم فی مسجد المدینة،و رفعوا المصاحف و استفزوا الناس،فاجتمع لهم العدد الکبیر من الکرخ.و اجتمع الأتراک و هم جند الدولة و أعیان بغداد فی ذلک الیوم و اشتد القتال بین الطرفین (1).
و لا یخفی دور السلطة فیما یحدث،و أن الفتن التی تجری-و ما یتخللها من نیل من مقامات العلم،و تعد علی أصحاب المکانات الدینیة-من صنعها،فینحاز الحکام إلی طرف دون آخر.فی حین یعلم أن ذلک من تعاطی السفهاء-کما ینص ابن کثیر فی وصفهم-و إلا کیف یضرب خطیب جامع بالآجر و یکسر أنفه و یخلع کتفه؟و لما ذا یقبل آخرون علی أناس یحیون ذکری عاشوراء بالحدید،فیقتتلون اقتتالا شدیدا، و یقتل من الفریقین طوائف کثیرة،و تجری بینهم فتن و شرور مستطیرة.
و یحدثنا ابن الجوزی فی حوادث سنة 494 ه أن السلطان قتل خلقا من الباطنیة یبلغ عددهم ثلاثمائة و نیفا،و کتب بذلک کتابا للخلیفة،فتقدم بالقبض علی قوم یظن فیهم ذلک المذهب،و زاد تتبع العوام لکل من أرادوا،و صار کل من فی نفسه شیء من إنسان یرمیه بهذا المذهب،فیقصد و ینهب (2).
کما وقع کثیر من الفتن بین الناس بسبب اختلاف الآراء بین العلماء من فقهاء و مفسرین،فبدلا من أن تعقد المجالس لرفع ذلک الالتباس و إزالة الخلافات، أصبحت مثار فتن و سببا لتدخل الغوغاء و أصحاب الأهواء الفاسدة،المندسّین فی صفوف المسلمین.
و قد حدث أن اختلف الحنابلة و غیرهم من السنة فی تفسیر قوله تعالی: عَسی أَنْ یَبْعَثَکَ رَبُّکَ مَقاماً مَحْمُوداً فقالت الحنابلة أن المقصود من هذه الآیة أن یقعد اللّه نبیه علی عرشه.و قال غیرهم:أن المقصود هو الشفاعة،و احتدم الجدل،و اتسع النزاع بسبب ذلک الخلاف،و اقتتل الحنابلة مع خصومهم (3)إذ کانت لهم القوة فی بغداد لمساندة السلطة لهم و التفاف العامة حولهم و انضمام کثیر من الجند إلیهم.و قتل منهم قتلی کثیرة، و کان جماعة أبی بکر المروزی أبطال هذه الفتنة (4)و اعتمدوا علی القوة.
ص:15
و استمر مدة من الزمن یرهبون قلوب الناس،و یتعرضون بالشرّ لغیرهم من الطوائف،و إغراء بعضهم بعضا.مما حمل الخلیفة الراضی علی إصدار منشور فی ردعهم بالقتل إن لم یرجعوا عن غیّهم (1).
و من الملاحظ أن هذا المنشور قد أوقف نشاطهم.عن إثارة الفتن و الوقیعة بغیرهم،و خفف عن الناس بعض تلک الشرور التی لحقتهم بفعل التعصب لعقائد فی التجسیم و آراء واهیة مشبهة تجعل اللّه کالمخلوقات و المحدثات،و من نیل لمقامات الأولیاء و مظاهر الاحتفال بسیرهم.و کان الراضی صریحا فی إعلانه و شدیدا فی بیانه و قد توعّدهم فی ختامه بالعقوبات الصارمة.و مما جاء فی منشوره:«ثم استدعاؤکم المسلمین إلی الدین بالبدع الظاهرة و المذاهب الفاجرة التی لا یشهد بها القرآن، و إنکارکم زیارة قبور الأئمة و تشنیعکم علی زوّارها بالابتداع،و أنتم مع ذلک تجتمعون علی زیارة قبر رجل من العوام...الخ»و مضمون البیان یعبّر عن عودة إلی أصول الحق و قواعد التفکیر السلیم.
و فی أحضان الحکام و المتنفّذین،نشأ التعصب عنیفا،و غدا من أسلحتهم الفتاکة،فاستغل الحنابلة وجود من یتعصب لمذهبهم فی فترة ردود الفعل و انعطاف الخلفاء الحکام لاستمالتهم فی مواجهة آثار التطرف و التجاوز التی ارتکبت من المعتزلة عند ما رکنوا إلی السلطان و تناءوا عن مصادر الفکر.فکان الوزیر یحیی بن محمد بن هبیرة حنبلیا متعصبا لمذهبه،فنعموا فی ظل سلطته،و تصرفوا فی أمور لا یسوغ لهم الدخول بها.و لم تعدم المذاهب الأخری من مناصرین لها باستعمال سلاح التعصب و الطائفیة،فکان من یعهد إلیه بوظیفة یوجه جهوده لنصرة مذهبه،و التحامل علی غیره.فکان مرجان الخادم شافعی المذهب،تعصب علی الحنابلة،و کان بینه و بین الوزیر بن هبیرة عداء لأنه حنبلی و یتعصب لهم،کما نصب العداء لابن الجوزی، -و هو عالم الحنابلة و المبرز فی عصره-و کان فی عصرهما الأمیر محمد بن موسی الترکی أمیر دمشق-و هو حنفی المذهب-و یتعصب للحنفیة تعصبا مفرطا،و یعادی بقیة المذاهب،و بالأخص الشافعیة،و کان یعلن بأنهم لیسوا من المسلمین،و یقول:
لو کانت لی الولایة لأخذت من الشافعیة الجزیة (2)و عند ما برز الوزیر نظام الملک فی
ص:16
محافل الملوک لم یقدر علی تحقیق السیادة للشافعیة،و الحدّ من تعصّبات الجماعات التی عکفت علی حسّ المعاداة،فکان یختار من العلماء من یستشعر فیه القدرة و المنزلة،و یبعثه إلی بغداد.و لکن الحنابلة کانوا لا یترددون عن استخدام الشتم و السب،و دفع الأمور إلی الاضطراب و الهیاج.و قد تکلمنا غیر مرة عن الأسباب التی أدت بالمسلمین إلی هذه الحالة التی أصبحوا علیها من تباعد و تباغض و تراشق بالکفر و الزندقة.
و لنمضی قلیلا مع ألوان الأحداث و صور المجتمع و هو یقاسی الفرقة،و ما أحدثه التعصب من تباعد و عداء و تباغض تسیء إلی رابطة العقیدة،و تبعد عن روح الإسلام و نظمه التی تجعل لکل حقه،و قد کان أبطال التعصب و دعاة الفرقة و جنود الشغب یتعاهدون عوامل معینة بالرعایة،و یعملون علی إذکائها و یحاربون کل ما من شأنه العودة إلی روح الدین و فضح البواعث و کشف الدوافع التی تقف وراء تلک الأحداث.
فهی إذا ما قامت من مستوی السلاطین،تلونت بحسب الرغبات و مصالح الحکم التی تمحورت حول أغراض ضیقة و غایات خاصة،و هی إذا ما بدرت من أصحاب المواقع علی اختلافها و هیئاتها،کانت ستارا للإبقاء علی واقع التمتّع و النفوذ،فیما نری الناس تکتوی بنار الفرقة،و یتمزّق کیان المجتمع الإسلامی، و تسود روح من العداء التی تنکرها أبسط روابط الإنسانیة،فکیف إذا کان الأمر بین أقوام و طوائف تجمعهم کلمة التوحید،و یفترض أن تشدّ قلوبهم و تجمعها شریعة النبی المصطفی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.
و سنعرض فیما یلی بإجمال بعض العوامل الکثیرة الأخری:
ص:17
ص:18
فقد ضمن الإسلام بمبادئه و قیمه وضعا فکریا یؤدی إلی تطور حالات الإنسان و تقدمه الحضاری،و یدفع بمن امتلک قدرة الفکر و موهبة العلم إلی اغتراف مناهل المعرفة و الأخذ بمضامینها،فکان التفاعل الفکری و العطاء العلمی سمة المجتمع فی صدر الإسلام،و صفة الدعوة المحمدیة التی بدّلت أوضاع الإنسانیة،و أحدثت الثورة فی حیاة الشعوب التی آمنت بها و انشدّت إلیها.
و کان التطور الفکری مقیاسا أساسیا فی التعامل الحیاتی و الوجود الإنسانی للمجتمع المسلم،حتی إذا حدثت الفرقة بعد استحکام النزعة الطائفیة،و استفحال التعصب المذهبی،برزت عناصر کثیرة تقف بوجه ذلک التطور و التقدم الفکری،إذ لا یمکن للآراء المنحرفة و الدعاوی الفارغة أن تجد لها موقع قدم أمام ما بلغه المسلمون من مستوی فکری.فکان الجمود العقائدی أو الفکری أقرب إلی الجهلة و ذوی الأغراض و الأفکار المنحرفة،و أنفع لهم،فلقی المفکرون ضروبا من المقاومة الشدیدة و الجفاء الظاهر،لکی یعطل وعیهم،و یبعد أثرهم،و تتاح لأولئک الذین یعملون علی نشر الفرقة الفرصة لیغطوا جهلهم،و یحققوا لأنفسهم مکانة علی حساب وحدة المسلمین و مصلحتهم.
و نحن عند ما نستعرض جوانب و صورا من هذا الواقع-بعد قرون طویلة و مراحل متعددة-نرمی إلی کشف عوامل ذلک و عواقبه فی مرحلة یتصاعد فیها وعی نشئنا المسلم و أجیالنا الواعیة،حتی یتبینوا واقع الدعوات و التیارات التی تحاول تجدید تلک الفرقة،و إعادة ذلک الخلاف بعقلیات متحجّرة و دعوات متخلّفة،لا تختلف فی دوافعها و حقیقتها عن عوامل و أسباب قیام الفرقة فی المراحل الأولی من التاریخ الإسلامی.
ص:19
و الدعوة الصادقة تبقی محتفظة بتأثیرها و نقائها،و دعوات الفرقة مفضوحة مهما تلبّست ستار العلم أو برقع الثقافة،و إسهاما فی تحمل مسئولیة نشر الألفة و المحبة، نبعد عن التحامل علی أحد،و لا نتجاهل واقعا نقف علیه،أو برهانا یفرض نفسه.
فالتزام النظرة الصائبة و الدعوة الصادقة یجعل ترسّبات الماضی موضعا للانتقاء و الاختیار،فیهمل ما کان منه مشوبا بهذه الصفحات،و یعتمد ما کان منها مدعاة للوحدة و الائتلاف.
لقد عصفت بالمجتمع الإسلامی عواصف الخلاف،و ظهر التصدّع فی الصفوف بعد أن منی الإسلام بداء عصبیة عمیاء،و مذهبیة ما أنزل اللّه بها من سلطان،و کثرت عوامل الخلاف،و قویت شوکة الجهلة عند ما حورب العلماء،و رمی الفلاسفة بوجه عام بالزندقة،و تشعّبت فروع ذلک،و أصبح المجال واسعا لزرع بذور الفرقة،و کثر الصراع فی مسائل افترق المجتمع حولها،فتفرّقت الکلمة،فمنها الجمود الفکری.
و الجمود الفکری-کما تقدم-کظاهرة قویة فی هذا الواقع المؤلم،بعد أن جعل الإسلام حریة الفکر نبراسا للعقول و الأفهام،و طریقا للاهتداء إلی عالم الحق،و أصبح المفکرون فی نظر ذوی الجمود و فی نظر من آثر التسرّع فی الحکم علی الأشیاء قبل معرفتها،لعجزه عن المجاراة و المساهمة فی حرکة الفکر أهواء أو زندقة،فذهبت الدعوة الصادقة ضحیة الحجر علی حریة العقل،أو نتیجة الجمود الفکری الذی أقرّته سلطات جائرة و أوضاع منحرفة و تدخلات مختلفة،فکان ذلک حائلا دون تمتع الناس بحقوقهم.
و کان الذین یلتزمون نهج التحرّر الفکری و الاحتکام إلی العقل کالشیعة و المعتزلة و غیرهم من رجال الفکر قد لاقوا فی سبیل حریة الفکر بلاء،و واجهوا محنا،لأنهم لم یحجبوا نور العقل بظلمة التبعیة العمیاء،فربطوا بینهم و بین من شذّ فی علم الکلام عن النهج القویم،و ذلک عند ما أقبل المسلمون علی دراسة الکتب المنقولة من کتب الأوائل من:منطق و ریاضیات و طبیعیات و العلوم الإلهیة و الطب و الحکمة العملیة و غیرها من علوم الأوائل التی نقل شطر منها فی عهد الأمویین،ثم أکمل فی عهد العباسیین.فقد ترجموا مئات الکتب الیونانیة و الرومیة و الهندیة و الفارسیة و السریانیة إلی العربیة،و أقبل الناس یتدارسون مختلف العلوم،و لم یلبثوا کثیرا حتی استقلوا بالنظر،و صنّفوا فیها کتبا و رسائل،و کان ذلک یغیض علماء
ص:20
الوقت،و لا سیما ما کانوا یشاهدونه من تظاهر الملاحدة و الدهریین،و الطبیعیة و المانویة الخ (1).
و من المظاهر المؤلمة ما تعرّض له أبو جعفر بن جریر الطبری-صاحب التاریخ و التفسیر المشهورین-سواء فی حیاته أو فی مماته،فنحن نعلم أن للأموات حرمة، و لأن کانت غریزة الکره و الحقد تجد مجالها بین الأحیاء،فإن ارتحال الطرف الآخر کاف للکفّ عن استمرار الغرائز الملتویة.یقول ابن کثیر:«و دفن فی داره لأن بعض عوام الحنابلة و رعاعهم منعوا من دفنه نهارا،و نسبوه إلی الرفض.و من الجهلة من رماه بالإلحاد،و حاشاه من ذلک کله.بل کان أحد أئمة الإسلام علما و عملا بکتاب اللّه و سنة رسوله،و إنما تقلدوا ذلک عن أبی بکر محمد بن داود الفقیه الظاهری، حیث کان یتکلم فیه و یرمیه بالعظائم و بالرفض.و لما توفی اجتمع الناس من سائر أقطار بغداد،و صلوا علیه بداره،و دفن بها،و مکث الناس یترددون إلی قبره شهورا یصلون علیه.و قد رأیت له کتابا جمع فیه أحادیث غدیر خم فی مجلدین ضخمین، و کتابا جمع فیه طریق حدیث الطیر.و نسب إلیه،أنه کان یقول بجواز مسح القدمین فی الوضوء،و إنه لا یوجب غسلهما»و بمرور الوقت عجز خصومه عن طمس شواهد علمه،فأخذوا بالقول بأن هناک طبریین أحدهما شیعی یستحق هذا العداء.و إن کل ما جاء من الحق علی لسان الطبری،و کل ما ذکره هذا المؤرخ و المفسر الکبیر من الحقائق هو من الطبری الآخر،یقصدون محمد بن جریر بن رستم المحدث الإمامی الثقة،و قد اشتهر بکتابه(المسترشد فی الإمامة)و عرف بالمناظرة و الکلام،و لیس هناک ما یساعد علی الخلط بین الاثنین،فآثار کلّ منهما مستقلة و معروفة،و القول بمثل هذا ینمّ عن القصد السیئ.
و کان للمسلمین مکانة فی علم الکلام و غیره،و امتازوا عن سواهم بأمور کثیرة.
و کانت مقاومة المفکرین بأسالیب مختلفة و عبارات لا تعبّر إلا عن سوء الفهم.فقد رمی المتکلّمون بالکفر و الزندقة و الخروج عن الدین حسب ما ترتضیه السیاسة،و ما تراه فی خدمة مصالحها،فوسعت شقّة الخلاف بین المتکلّمین و بین الفقهاء،و شجعت الحملة علی المتکلمین و رمیهم بالکفر.فکانت تلک الحرکة ضد علم الکلام سببا فی تضییق آفاق الفکر،و سد أبعاده،و تقیید روح الإبداع،حتی هدّد العلماء من المتکلمین.
ص:21
و قد ساعد علی ذلک آراء بعض أئمة المذاهب و أتباعهم،إذ کان بعضهم یری لزوم تعزیر أهل الکلام و ضربهم و إهانتهم،و أن یطاف بهم فی العشائر.و اشتهر عن الشافعی أنه قال:إیاکم و الکلام.و قال:لأن یبتلی اللّه المرء بکل ما نهی عنه ما عدا الشرک به خیر من أن ینظر فی علم الکلام.
و وجد زعماء الفتن و عناصر الشغب فیما أوثر عن الإمام الشافعی و غیره سلاحا مجردا یستخدمونه لتحقیق أغراضهم،و تغییر الواقع إلی جمود و تخلف.رغم أن هذه الآراء فی حقیقتها و ظروفها تعبّر عن حریة الرأی و قدرة الاجتهاد،و مع هذا نجد أن الإمام الشافعی ینص علی دوافع مثل هذا التوجه،و یلتفت إلی تلک الأجواء،إذ قال للربیع:إیاک و علم الکلام.و علیک بالاشتغال بالفقه و الحدیث.و لئن یقال لک أخطأت خیر من أن یقال لک کفرت (1).
و قد نضج علم الکلام فی عصر الشافعی،و اتسع نشاط المتکلمین،و أثیرت هناک مسائل کثیرة دار حولها النقاش و الجدل.و لا بد لکل عالم أن یلتمس الدلائل و البراهین من طریق المعقول لتقویة جانبه،و الردّ علی مخالفیه،و لکن من باب درء الخطر من الانهزام أمام المفکرین،أغلق الباب بحرمة تعلم علم الکلام،بل حرمة الاستماع إلیه،و حکموا بکفر من یتعلمه.
و کان للفلسفة فی أول زمن الدولة العباسیة سوقا رائجا،فقد کانت بغداد فی أواسط القرن الثانی إلی أواخر القرن الخامس میدان الأفکار الجدیدة،کما کانت البصرة کذلک منذ القرن الأول،یقصدها العلماء من البلدان القاصیة،و یتذاکرون صنوف العلم،و یتقارضون بأنواع الحکمة.و کانت بغداد مدة ثلاثة قرون مبعث الحرکات الفکریة،و العلماء فیها یوحدون صفوفهم.
و کانت الحکومة لا تعارض مجالس النظر و الحجاج ما لم یضر بمصالحها،أما إذا کان البحث فی الإمامة و ما یتعلق بها من إعطاء الفکر مجالا فی أمور یتطلب البحث فیها إیضاحا لما أبهم منها؛فإن ذلک محظور لا تسمح الدولة فی خوضه.
و اشتدت الحکومات فی القرن السادس بمطاردة علوم الحکمة.و حرّم ابن الصلاح المنطق و الفلسفة،و لم یتمکن أحد فی دمشق من قراءة کتبها،و کان المنادی
ص:22
ینادی:من ذکر غیر التفسیر و الحدیث و الفقه،و تعرّض لکلام الفلاسفة ینفی.و أفتی الذهبی بتحریق کتب علوم الفلسفة،و إعدام علمائها و القائمین علیها،إذ یقول:و ما دواء هذه العلوم،و علمائها القائمین بها علما و عملا إلا التحریق و الإعدام من الوجود (1).حتی عدّ الاضطهاد فی سبیل المذاهب و الأفکار سمة السیاسة لأنه«منذ ظهر الإسلام کان من یخالف الجمهور فی المعتقدات و الآراء یحمل إلی الولاة،فإما أن یستتیبوه أو یعاقبوه،و ما فتئ المهیمنون علی الشریعة یثیرونها حربا شعواء علی کل من جاهر بفکرة دعا إلیها أو لم یدع،و یکفی فی بلائه خروجه عن المألوف و العرف» (2).
و انتهز العوام و المتفقهة فرصة غضب الملوک علی الفلاسفة،فراحوا یروّجون التهم حول کثیر من علماء الأمة إذا وجدوا میلا من السلطان نحوهم،و کان شهاب الدین السهروردی من الحکماء الذین قربه الملک الظاهر غازی ولد السلطان صلاح الدین،فحسده علماء عصره،و ناظروه فانتصر علیهم.فالتجئوا إلی الدسّ و الکذب، و رموه بالکفر و الإلحاد،و طلبوا استئصال الشرّ بقتله حتی لا ینفذ إلحاده،فتمّ لهم ما أرادوا،و أمر السلطان ولده بقتله بلا مراجعة،فقتله سنة 586 ه عن 36 سنة،و عرف فی التاریخ بالشاب المقتول.
و قد أورد ابن أبی أصیبعة أن الظاهر غازی بن صلاح الدین،دعا الفقهاء إلی مساجلة السهروردی،فانتصر علیهم و أفحمهم،فزاد حقدهم علیه،فدبروا له تهمة المروق عن الدین،و عملوا محاضرة بکفره،و سیّروها إلی الملک الناصر صلاح الدین و قالوا:إن بقی هذا فإنه یفسد اعتقاد الملک الظاهر،و کذلک إن أطلق فإنه یفسد أی ناحیة یکون بها من البلاد.و زادوا علیه أشیاء کثیرة من ذلک،فبعث صلاح الدین إلی ولده الملک الظاهر بحلب کتابا فی حقّه بخط القاضی الفاضل و هو یقول فیه:إنّ هذا الشاب السهروردی لا بد من قتله (3).
و مکانته فی الفلسفة لا ینکرها حتی أعداؤه،فهی من أبرز صفاته عندهم،کما
ص:23
أن من أبرز معالم سیرته هو قتله دون بینة.حتی أن السلطان الذی غلب علیه الذین ساءهم انتصار السهروردی علیهم ندم و نقم علی الذین أفتوا فی دمه،و قبض علی جماعة منهم و أهانهم و أخذ منهم أموالا عظیمة (1)کذلک فإنّ الذین یرمونه بالزندقة من المؤرخین لا یملکون إنکار براعته فی علم الکلام،و کونه مناظرا محجاجا زاهدا من أذکیاء بنی آدم و رأسا فی معرفة علوم الأوائل (2).
و ذکر العماد الأصفهانی-المعاصر له-أن الفقهاء دعوا السهروردی للمناقشة فی المسائل الفقهیة،و فی مسائل الأصول،فظهر علیهم،فحقدوا علیه،و بیّتوا أمرهم إلی الثأر منه،فدعوه إلی مناقشة علنیة أخری فی مسجد حلب،و سألوه:هل یقدر اللّه علی أن یخلق نبیا آخر بعد محمد؟فأجابهم الشیخ:بأن لا حدّ لقدرته.ففهموا من إجابته أنه یجیز خلق نبی بعد محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هو خاتم النبیین،و من ثمة أعلنوا مروقه من الدین،و کتبوا محضرا بکفره،سیروه إلی السلطان،فأمر بإعدامه و إحراق کتبه (3).
و استمر أعداء حریة الفکر و دعاة الخضوع لسلطان الجهل و التقلید الأعمی بالحرب لعلماء الأمر،فثارت الأحقاد،و ظهرت العداوات و الانتقام.فهذا الفیلسوف ابن رشد-و کان مالکی المذهب و من فقهائهم-تولی القضاء بإشبیلیة مدة تزید علی عشر سنوات،و قد قربه الملک أبو یوسف الملقب بالمنصور،مما أثار حسد الفقهاء و المتزمتین،فرموه بالکفر و الزندقة،و تمکنوا من تغییر الخلیفة،فنقم علیه و استجوبه فقهاء قرطبة،و قرروا أن تعالیمه کفر،و لعنوا من یقرأها،و حکموا علیه بالکفر و النفی من بلده.و أمر الخلیفة بحرق کتبه و کتب الفلسفة فی جمیع البلاد،و لعن ابن رشد، و نفی إلی جزیرة فی قرطبة.و إنما لم یحکم علی ابن رشد بالقتل أسوة بغیره ممن اتهم بسوء الاعتقاد لأن الذی یرأس المحکمة و یصدر الأحکام کان من علماء المالکیة، فکانت المحکمة التی تعقد لمحاکمة المتهمین بالبدعة أو الضلالة أو الزندقة إنما یسند أمرها إلی القضاة المالکیة لأنهم یخالفون سائر المذاهب فی هذه التهم التی تلصق بمن تحاول الدولة قتله باسم الدین.
ص:24
فعند المالکیة یقتل المتهم بالضلال أو الزندقة أو البدعة أو ما شئت فقل من مقررات الحکم الجائر.فیصدر الحکم فی حقه و إن تاب،بخلاف بقیة المذاهب.
لأن رأی مالک أن المبتدع أو الزندیق ینفذ فیه حکم الإعدام و إن تاب.
لقد أدی شیوع ذلک إلی حالات من الجهل و الجمود و تحکم الفوضی.فنشط العامة بما یرضی أطماعهم و یجلب علیهم نعم السلطة و المتحکمین،فأصبحت الطبقات الحاکمة هی التی تقرّ العقائد التی تراها أکثر نفعا لها و أقرب إلی الاستجابة علیها،فتلتقی إرادة المتحکمین مع رغبة المتنفّذین و المستفیدین من تیارات التعصب هذه.ففی سنة 433 ه تصدر الدولة أمرا باتّباع ما تراه من العقائد،فکان منشورها یتضمن أهم المسائل العقائدیة التی هی محور الخلاف فی ذلک العصر،فهو یتضمن بعد التوحید و الأقرار لمحمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالرسالة:عقائد مذاهب أهل السنة.و جاء فیه:أن من قال أن القرآن مخلوق فهو کافر حلال الدم.و أن یلتزم الناس بحب الصحابة کلهم.و أنهم خیر الخلق بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أن خیرهم کلهم و أفضلهم بعد رسول اللّه أبو بکر الصدیق،ثم عمر،ثم عثمان،ثم علی،و أن یشهدوا للعشرة المبشّرة بالجنة،و أن یترحّموا علی أزواج النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و من سبّ عائشة فلا حظّ له فی الإسلام،و لا یقول فی معاویة إلاّ خیرا،و لا یدخل فی شیء شجر بینهم (1).
و وقع المنشور فی أغلب ما تضمنه موافقا لرغبة العامة،حیث یؤدی بمحتواه إلی شلّ الحرکة العلمیة التی تخالف آرائهم.فاتباع ذلک النظام لازم،و مخالفه یعدّ کافرا،و قد کتب الفقهاء خطوطهم،و حکموا بفسق و کفر المخالف.کما أصبحت السلطة القضائیة تخضع لهذا المرسوم،و تعاقب بموجبه،فمن اتهم بالمخالفة حکم بکفره،و حلّیة دمه،فأصبح العلماء بین خوف العامة و غضب السلطة،و لیس وراءه إلاّ سیف النقمة،فلا یستطیع أحد أن یبدی رأیا فیما توصّل إلیه من وراء تفکیره و النظر العقلی،و لا یستطیع المؤرخ أن یسجّل حادثة فیها مخالفة لرأی السلطة،و لیس لباحث أن یثبت شیئا بعد تحقیقه و صحته،کما لیس للمحدّث أن یناقش حدیثا أو یثبت ما لا یتفق و آراء العامة.فکم ضاع من وراء هذا التحجیر من الأفکار الحرّة و الحقائق التاریخیة التی أهملها العلماء مخافة أن یعرفوا بها فیهلکوا،و بذلک حقنوا دماءهم،
ص:25
و اتقوا تقاة أنجتهم من تسلط العتاة.فضاعت أخبار کثیرة،و خمدت القرائح،و شاع الجمود الفکری،و فشی الجهل.و السلطة من وراء الجهّال تشدّ أزرهم،و تفتک بمن یحاول الخروج عن الطاعة«و إنه لطبیعی کذلک فی أن یکون الملک عدوا لدودا لکل بحث و لو کان علمیا یتخیل أنه قد یمس قواعد ملکه و تقویض کرسیّه و لهذا ضغطوا علی حرّیّة العلم،و استبدّوا بمعاهد التعلیم،و ربطوها بعجلة الدولة» (1).
و برغم رکام الأهواء تجد الحقیقة لها ألسنة و أقلاما تعبّر عن جوهر الدافع فی الإبقاء علی الجمود و بواعث سیاسة الحکام الذین أحکموا إغلاق منافذ الفکر لیهیمنوا علی الأمة،و أغلقوا باب الاجتهاد الذی تشبّث الشیعة لفتحه حمایة للفکر و إغناء للفقه،فلما رأی بنو العباس أن وسائلهم فی القهر لا تجدیهم،أرادوا أن یأتوا الناس من باب التعلیم،فیتولوا أمره بأنفسهم،لیربوا العلماء علی الخضوع لهم،و یملکوهم بالمال من أول أمرهم،و کانت الأمة هی التی تتولی أمر التعلیم بعیدا عن الحکومة، کما تتولاه الآن الأمم الراقیة..فیقوم فی المساجد حرا لا یخضع لحکم ملک أو أمیر،و یتربی العلماء بین جدرانها أحرارا لا یرقبون إلا اللّه فی علمهم،و لا یتأثرون بهوی حاکم،و لا تلین قناتهم لطاغیة أو ظالم.فأراد بنو العباس أن یقضوا علی هذا التقلید الکریم،و یتولوا بأنفسهم أمر التعلیم بین المسلمین،فأخذوا ینشئون له المدارس بدل المساجد،و یحبسون علیها من الأوقاف الکثیرة ما یرغب العلماء فیها، و یجعل لهم سلطانا علیهم،و أخذت الممالک التابعة لهم تعمل فی هذا بسنّتهم،حتی صار التعلیم خاضعا للحکومات بعد أن کان أمره بید الرعیة،و کان لهذا أثره فی نفوس العلماء فنزلوا علی إرادة الملوک،و لم تقو نفوسهم علی مخالفتهم فی رأیهم أو توجیه شیء من النصح إلیهم (2)فلما انتشرت المدارس الحکومیة قام بنو العباس بالخطوة المکمّلة،فطلب من المنفّذین لسیاستهم المشتغلین بالعلم ألا یذکروا شیئا من تصانیفهم،و ألا یلزموا الفقهاء بحفظ شیء منها؛بل یذکروا کلام الشیوخ السابقین تأدّبا معهم،و تبرّکا بهم.فأجاب جمال الدین عبد الرحمن بن الجوزی الحنبلی بالسمع و الطاعة.
ص:26
فیما کان نهج الشیعة منذ صدر الإسلام حتی یومنا هذا یقوم علی إثبات مذهبهم بالأدلة المنطقیة،و الکتابة العلمیة،و کان مدار الإمامة و مصطلحاتها الفنیة من أکبر ما اهتموا به لأنها من أرکان الدین،و هی أصل إقامة المجتمع و مصدر بناء هیئاته،و هم الذین قسّموا علمها،و بوّبوا أبوابه،و عیّنوا مجاله،و رسموا حدوده (1).
و کان للشیعة بتلک العصور ألمع الشخصیات الإسلامیة کهشام بن الحکم، و کان یرأس مدرسة فکریة إسلامیة أخذ تعالیمها من أستاذه الإمام الصادق علیه السّلام و یقول فیه ابن الندیم:أنه هو الذی فتق الکلام فی الإمامة،و هذّب المذهب،و سهّل طریق الحجاج.و کان حاذقا بصناعة الکلام،حاضر الجواب (2).و من جرّاء شهرته فی الکلام مع علوّ رتبته بالفقه و سائر العلوم،فقد تحاملوا علیه،و نسبوه إلی سوء الاعتقاد،کما طاردته السلطة أیام هارون الرشید،فهرب و مات متخفیا.و هکذا غیره من فلاسفة الشیعة و علمائها الذین امتحنوا فی سبیل عقیدتهم أمثال:مؤمن الطاق محمد بن النعمان،و أبو یوسف الکندی،و بنی نوبخت،و الرازی،و الهمدانی و غیرهم من متکلمی الشیعة و فلاسفتهم.و کان اشتهارهم بعلم الکلام مهّد لأعدائهم أن یتّهموهم بسوء الاعتقاد،و البدعة و الکفر،و هذه البدعة هی بدعة سیاسیة،لإن مخالفتهم لنظام الحکم السائد جعلتهم مبتدعة فی نظر أعوان السلطة.و نتیجة لذلک التعصّب الأعمی شاعت الافتراءات،و موّهت فی إطار فقهی أو مذهبی.لأن الشیعة التزموا نهج أهل البیت کأئمة هداة و صفوة معصومة تمثّل الرسالة فی أصولها و المبادئ فی نقائها.و الذین کان نصیبهم الاضطهاد و الظلم،و الابتعاد عن السلطة التی انجرّت إلی القیم الدنیویة و المادیة.فوضعت السلطة مخططا لمواجهة التیار الذی یمثل الالتزام بخط أهل البیت،و التخلص من رجالات الشیعة و أفکارهم بکل السبل، سواء کانت بالقتل و الاعتداء،أو التحریف و قلب الحقائق،و العمل علی نبذ کل ما یمتّ لهم بصلة.فوصل الأمر بالمتفقّهین إلی الدعوة إلی ترک أحکام الشرع إذا کانت تشبه أحکام الشیعة.فعلی سبیل المثال لا الحصر:
1-قالوا:و من المصلحة أن یمنع المصلی عن اختصاص جبهته بما یسجد علیه
ص:27
من أرض و غیرها لأن ذلک الاختصاص من شعار الشیعة (1).
2-حکم بعضهم بأفضلیة المسح علی الخفّین بدون دلیل،و إنما کان ذلک الحکم،لأن الشیعة طعنوا فی المسح علی الخفّین،و إحیاء ما طعن فیه المخالفون من السنن أفضل من ترکه (2).
3-یقول ابن تیمیة فی منهاجه-عند بیان حرمة التشبه بالشیعة-:و من هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلی ترک بعض المستحبّات.إذ صارت شعارا لهم(الشیعة)فإنه و إن لم یکن الترک واجبا لذلک،لکن فی إظهار ذلک مشابهة لهم،فلا یتمیّز السنّی من الرافضی،و مصلحة التمییز عنهم لأجل هجرانهم و مخالفتهم أعظم من مصلحة المستحب.و إن هذا لمن الإفراط فی الانحراف و الغفلة عن أکبر خطأ یرتکب فی ترک أوامر اللّه سبحانه.
و لا زالت الحالة هذه تشقّ طریقها حتی فی العصور المتأخرة،کما یحدثنا الشیخ القاسمی عنهم بقوله:
«یدرّس کثیر من العلماء للطلبة فی المساجد،و هؤلاء المدرّسون ندر من یکون منهم غیر متعصب أو لا یوجد،و لذلک لا تخلو المساجد العامة التی یکثر مدرّسوها من ثورات تتناقلها الأفواه،و ما منشؤها إلا التعصب،و هاک بیان ذلک:نری مدرّس الفقه غیر الحکیم یقرأ الفروع قراءة مشوبة بهضم المخالف لمذهبه و عدم رؤیاه بشیء، و عدم الاعتداد بمذهبه کلیا إلا ظاهرا،فلا ینصرف تلامذته من دراسة إلا و هم مملوءون قوة بها،یدفعون من خالفهم فی تلک الفروع،و قد یرون بطلان ما علیه غیرهم.کما یعلّمونه کراهة الاقتداء بالمخالف،مما یتبرّأ منه هدی السلف و الأئمة المتبوعین علیهم الرحمة و الرضوان.و کما یحاولون دلیلا ضعیفا فی مقابلة قوی کمرسل فی مقابل مسند،و إیثار ما رواه غیر الشیخین علی ما رویاه مما یتبرّأ منه الإنصاف» (3).
و علی أی حال فإنّ التعصب المذهبی قد أحدث مظاهر شاذة فی المجتمع الإسلامی،و ولّد مراحل سوداء،سادتها ظروف سیئة و متباینة،و قد رأینا ما أحدث
ص:28
التعصب من فرقة و انقسام بین صفوف أمة واحدة ذات کتاب واحد و نبی واحد،و لکنه -و الحمد للّه-لم یبلغ الخلاف إلی مستوی العقائد الأساسیة التی هی دعامة الإسلام و رکیزة وحدة الأمة.و رغم أن روح التعصّب و نزعات التحکّم قد أدّت إلی اختلال القیم و تشویه المبادئ من خلال إخضاعها للأهواء و التعصب و التحزب؛فإن روح الحرص و الإیمان بقیت تواجه حملات التضلیل و تیارات الانقسام،فراح الکثیرون من علماء هذه الأمة و رجالاتها ینبذون الخصومة،و یرفضون التحزّب و إثارة روح الحقد، و یتمسّکون بروح الإخاء إطاعة لأمر اللّه و عملا بمبادئه،و یبثّون روح التفاهم،لتنمو من جدید.و عملوا جاهدین لحفظ تراث الإسلام،و إزالة کل ما یحول دون التقاء أبنائه علی صعید الأخوة الإسلامیة.
و لو حاول مثیر و الفتنة الاحتکام إلی مبادئ الإسلام و إلی روح الرسالة فیما یدّعون من أمور و مسائل،لباءت حملاتهم و تحرّکاتهم بالفشل و الخسران.لکنّهم توسّلوا بأمور اختلفوها،و نصوص أوّلوها لترضی مرامیهم و أغراضهم؛فضاعت فی غمرة الفهم و التقوّلات أسس و أصول الحیاة التی أرسی دعائمها الإسلام،فکان من البدیهی أن یکون الجمود الفکری غطاء لموجات التعصّب و التحزّب التی أحالت الألفة إلی تناحر،و الأخوّة إلی عداء.
و من تلک المشاکل مسألة خلق القرآن.و قد أشرنا لها سابقا،و زیادة فی البحث نذکر هنا بعض ما تدعو الحاجة لذکره:
ص:29
ص:30
تأثر المأمون بحرکة العلوم التی کانت سائدة فی عصره،و کانت حالة الأمة الفکریة قد اتسمت بخصائص و ظواهر مهمة،أثرت فی السیاسة من خلال شخصیة الحاکم الذی نشأ و میله إلی العلوم ینمو معه،حتی تفرّد بمواقف تکشف عن وعی و تصوّر خضوعا للمنطق،و إذعانا للحق،خاصة فی الأمور و الأحداث التی اکتنفت مسیرة الخلافة منذ قیام نظام الخلافة.
و کان من أبرز جوانب الحیاة الفکریة،ظهور تیارات و اتجاهات کلامیة و عقلیة اهتمّت بعقائد و أدیان الأمم الأخری،التی راحت بقایاها تکید للإسلام.فتعرّف المسلمون علی مضامین و مناهج النشاطات المعادیة،و تمثّلوها،و صاغوها.فماجت مواطن الفکر الإسلامی بدراسات و أصناف من العلوم،عبّرت عن قدرات العلماء و المتکلمین الإسلامیین،فأسهموا مساهمة کبری فی ردّ کید الأعداء إلی نحورهم، و مناجزتهم بنفس السلاح الذی أشهروه بوجه الإسلام.
و لمّا تسلّم المأمون سدّة الحکم-بعد الأحداث الدامیة المعروفة-مال بالنظام إلی الجهة التی تنسجم مع میوله،و تناسب ما نطلق علیه«الحرکة الفکریة»حیث غلبت صفة البحث و الطابع العلمی،فکان المعتزلة فی هذه الفترة من أبرز المناظرین و أنشط المتکلمین،فکانوا أصحاب جدل و أنصار رأی.غیر أنهم فی الفقه و الأصول لم یتفقوا علی قواعد ثابتة،لذلک لم یخرجوا من تیار الجدل و النظریات،و قد حسبوا کثیرا علی الشیعة،بل أن البعض نظر إلی الأمر معکوسا و تناسی أصول الشیعة و وجودها التأریخی الذی یسبق ظهور المعتزلة.و ظل الالتباس قائما حتی الیوم من جرّاء اشتراک المعتزلة مع الشیعة فی بعض الخصائص الفکریة:من اهتمامهم بالعقل،و رعایتهم
ص:31
الفکر.و قد أسهم المأمون نفسه فی إثارة القضایا التی تخصّ عقیدة الشیعة،منها:
مسألة الخلافة،و الأحقّیّة و الأفضلیة؟و لکن العمل السیاسی کان یتمثّل فی الموقف من العلویین،و إرساء قواعد الحکم علی أساس رضا الناس و قبولهم النظام العباسی عن قناعة،بعد أن فضحت سیاسة السابقین من آبائه خدعة الدعوة إلی الرضا من آل محمد،و کیف کشّر العباسیون عن أنیاب حقد أشدّ و أدهی علی العلویین من حقد الأمویین.فکان أن حمل المأمون العلویین من المدینة و فیهم الإمام الرضا علی بن موسی،و جاء بهم إلی خراسان.و کان غرضه شخص الإمام الرضا علیه السّلام فأنزل العلویین دارا،و أنزل الإمام الرضا دارا و أکرمه و عظم أمره.
و اختار المأمون أن یعلم الإمام الرضا بقصده من وراء ذلک عن طریق الوسطاء، و ادّعی أنه یرید أن یخلع نفسه من الخلافة و یقلّدها إلی الرضا علیه السّلام و کل الدلائل تشیر إلی کذب هذا الادعاء.فالمأمون حاکم لم یتورّع عن قتل أخیه فی سبیل کرسی الخلافة،و لا یمکن بأی حال أن یخرج عن أهم قواعد الحکم الجائر،و یتخلّص من کره آل علی،و إن ادعی ذلک و جاهر بأنه وجد أن العباسیین قد ظلموا و غصبوا آل علی حقهم.هذا من جهة،و من جهة ثانیة فإن الإمام الرضا فی سیرته و وجوده،هو امتداد حی و استمرار متوقّد لسیرة ابن الشهید الإمام موسی بن جعفر،لم یحفل بالدنیا،و لم تبعده نوائب الدهر عن أمور دینه و رعایة أهل الإسلام بالدعوة إلی التمسّک بالعقیدة و الاتجاه إلی الإخلاص فی الدین.
و إن قدّر المأمون بعض نظرة الإمام الرضا إلی السلطة السیاسة من حیث تصنیفات الواقع،فلیس من السهولة بمکان تناسی حقائق التاریخ الأسود للعباسیین و فظائعه.
و یروی الشیخ المفید-قدس سره-فی الإرشاد،أن الإمام الرضا أنکر هذا الأمر و قال:«أعیذک باللّه یا أمیر المؤمنین من هذا الکلام،و أن یسمع به أحد»فردّ علیه الرسالة:فإذا أبیت ما عرضت علیک،فلا بد من ولایة العهد من بعدی.فأبی علیه الرضا أباء شدیدا.فاستدعاه،و خلا به و معه الفضل بن سهل ذو الرئاستین،لیس فی المجلس غیرهم و قال:إنی قد رأیت أن أقلّدک أمر المسلمین،و أفسخ ما فی رقبتی و أضعه فی رقبتک.فقال له الرضا علیه السّلام:«اللّه اللّه یا أمیر المؤمنین،إنه لا طاقة لی بذلک،و لا قوة لی علیه..»قال له:فإنی مولّیک العهد من بعدی.فقال له:«اعفنی
ص:32
من ذلک یا أمیر المؤمنین».فقال له المأمون کلاما فیه تهدید له علی الامتناع علیه، و قال فی کلامه:إن عمر بن الخطاب جعل الشوری فی ستة أحدهم جدّک أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السّلام و شرط فیمن خالف منهم،أن یضرب عنقه،و لا بد من قبولک ما أریده منک،فإننی لا أجد محیصا عنه.
فکان جواب الإمام الرضا أبلغ تعبیر عن فهم البواعث التی وراء مثل هذا الأمر، و خیر ردّ یعرّی الخطة التی ترمی إلی ترمیم کیان الظلم بالإساءة إلی نهج آل البیت، و محاولة ثنیهم عن الابتعاد عن الرکون إلی الظلمة،و جهادهم للإبقاء علی سلطان الدین فی روحانیة النفوس و علاقات المجتمع.و لما لم یجد الإمام الرضا أمامه إلا سیف الحکام قال للمأمون:«فإنی أجیبک إلی ما ترید من ولایة العهد علی أننی لا آمر و لا أنهی،و لا أقضی،و لا أولی و لا أعزل،و لا أغیّر شیئا مما هو قائم».فأجابه المأمون إلی ذلک کله،لکی یحقق الغرض السیاسی الذی أراده،و زیّن له و همه ذلک، فظن أن خدعة ولایة العهد تنطلی علی الناس فیما جعلها فارغة لیست بشروطه التی عوّل علیها،بل بشروط الإمام الرضا.
و علی هذا المنوال،عالج الجانب الفکری و الحیاة العقلیة النشطة،فأقحمها فی دوائر السیاسة و الحکم،و جعل رجال الفکر و أصحاب الاتجاهات العقلیة-التی یفترض فیها ممارسة الدفاع عن الرأی-أعمدة للتحکم،فأوقع الحرکة الفکریة فی تناقض.و هکذا استطاع المأمون أن یستفید من میوله و اهتماماته،و یؤثر فی أولئک الذین ارتضوا أن یکونوا جزءا من السلطة علی ما هم علیه من صفات و سمات فکریة، تجعلهم من أهل العدل.
فی سنة 212 ه أظهر المأمون القول بخلق القرآن،و تفضیل الإمام علی بن أبی طالب علیه السّلام و قال:هو أفضل الناس بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1).
و فی سنة 218 ه أعلن وجوب الاعتقاد بخلق القرآن،و أنه حادث غیر قدیم، و ذلک لنفی التشبیه عن ذات اللّه،و نفی الصفات عن الذات العلیة،لئلا تتصف الذات بما یعددها.و نفی المعتزلة و من وافقهم من المسلمین الاعتقاد بقدم الصفات کقدم
ص:33
الذات،لأن الذات هی وحدها متّصفة بالقدم،و من أجله کانت الصفات محدثة ظاهرة فی الغیر،و الکلام محدث،و القرآن محدث لأنه من الکلام.
و لجأ المأمون إلی استخدام القوة لفرض هذا الرأی،و أعدّ لسیاسته فی هذا المجال العدة زمنا طویلا،و نصب دیوانا للمحنة،و حمل الناس علی هذا الاعتقاد، و محاربة من یقول بأن القرآن قدیم.لأنه من صفات اللّه،و الذین لم یروا بدّا من إثبات الصفات للذات و إنها قدیمة قدمها الخ...
فحصل الانقسام،و عقد مجلس للامتحان،و اختارت الدولة له أشد الناس جدلا من المعتزلة و غیرهم،کما اختار جماعة من الجلاّدین الأشداء الجفاة الذین مرنوا علی الضرب بالسیاط،و الحراس الغلاظ،و جعل فی الدیوان عقابا لکل ممتنع عن الأقرار(و تبتدئ العقوبة بالحرمان من الحق-الذی نسمیه فی حیاتنا-بالحق المدنی فی الحیاة،و تنتهی بخشبة الصلب،فإذا لم یکن للرجل رزق و وظیفة عوقب عقوبة بدنیة بقدر ما یمتنع عن الإجابة أو یحتال فی الإنکار،أو یصطنع الخلاص) (1).
و هنا لا بد من الإشارة إلی التقاء المعتزلة مع الشیعة فی القول فی کون کلامه تعالی لا یکون إلا بکلام محدث،لأن حقیقة المتکلم من وقع منه الکلام الذی هو هذا المعقول بحسب دواعیه و أحواله،و الکلام المعقول ما انتظم من حرفین فصاعدا من هذه الحروف المعقولة التی هی ثمانیة و عشرون حرفا،إذا وقع ممن یصح منه أو من قبیل الإفادة.و الدلیل علی ذلک أنه إذا وجدت هذه الحروف علی هذا الوجه سمّی کلاما،و إذا اختلّ واحد من الشروط لا یسمی بذلک.فعلمنا أنه حقیقة الکلام،و متی ما وقع ما سمیناه کلاما بحسب دواعیه و أحواله سمی متکلما،فعرفنا بذلک حقیقة المتکلم (2).
و لکن الشیعة لا یطلقون صفة«مخلوق»علی القرآن،فکانوا أکثر حرصا علی التنزیه و قالوا:ینبغی أن یوصف کلام اللّه بما سمّاه اللّه تعالی به من کونه محدثا،قال اللّه تعالی: ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ .و قال عز و جل: وَ ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ .
ص:34
و الذکر هو القرآن بدلالة قوله تعالی: وَ أَنْزَلْنا إِلَیْکَ الذِّکْرَ و قوله تعالی: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّکْرَ وَ إِنّا لَهُ لَحافِظُونَ .و قد روی عن الإمام الصادق علیه السّلام قوله:«القرآن محدث غیر مخلوق و غیر أزلی مع اللّه سبحانه».کما ورد عن غیره من أئمة الهدی النهی عن جعل اسم آخر للقرآن غیر ما ورد عن اللّه.
لقد وصف الشیعة القرآن بما وصفه اللّه تعالی،فقالوا عربی لقوله تعالی:
بِلِسانٍ عَرَبِیٍّ مُبِینٍ و العربیة محدثة.و منعوا وصفه بأنه مخلوق،لأنه یوهم بأنه مکذوب أو مضاف إلی غیر قائله،لأنه کالمعتاد من هذه اللفظة،قال اللّه تعالی: إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ و: إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ الْأَوَّلِینَ .و قال تعالی: وَ تَخْلُقُونَ إِفْکاً فنری أن وصف الکلام بالخلق یأتی إذا أرید به الکذب أو الانتحال،کما یقولون هذه قصیدة مخلوقة و مختلقة،إذا کانت منتحلة مضافة إلی غیر قائلها (1).
أما الأشعریة فیقولون إن الصفات التی أنیطت بها الأقوال و ابتنیت علیها المسألة هی صفات معنویة،و هی صفات زائدة علی ذاته،و بیان وجوب المشکلة یقتضی التفصیل،و نحن نقصد هنا الإشارة و ذکر إحدی القضایا التی نجم عنها أضرار و فرقة استمرت قرونا عدیدة بآثارها،و توارثها حتی الیوم خلق عن أسلاف أورثوهم التعصب،و راحوا یستهزءون بما منّ اللّه علیهم من عقل و إدراک،و یؤثرون الجمود و التوقف عن النمو.
و القصد فإن المأمون أظهر من ألوان الاعتماد علی المعتزلة و تقریبهم،ما جعلهم أعلی الناس مکانة و أوفرهم حظا،و خضعت مجالس المناظرات و النقاش لأهواء الحاکم،فکان مدارها المواضیع التی یرغب بها المأمون.و لا جدال فی تبنی المأمون لفکر المعتزلة،لکن نزعات الحاکم أو السلطان قد تغلبت علی شخصیة التلمیذ أو میول المتعلم،بل جعلها مادة للسیاسة.
و المؤسف المؤلم أن توضع عناصر الغنی الفکری و مناهج البحث فی خدمة أغراض السلطان،و تصبح من أسباب التدهور،و من وسائل الحاکمین و المتنفذین، فتؤدی إلی نتائج و عواقب لا تلیق بالفکر الحر و العقل النیر.و مع ما اتصف به المأمون من إلمام و درایة،فإن کتابه السلطانی الذی أصدره سنة 218 ه کان فی حقیقة أمره
ص:35
تصرفا إداریا لا یختلف بشیء عن بقیة إرادات الحکام،و لکنه تضمّن أفکار المعتزلة و آراءها،مما أساء إلی أهدافهم الأخری التی تتصل بالعقل و حریة الفکر.
أما تنزیه اللّه سبحانه و تعالی عن الصفات التی یتصف بها المخلوقون،فالقرآن عندهم مخلوق و لیس بقدیم،فاللّه وحده قدیم،و ما ورد فی القرآن هو کلام اللّه، و لکن عندهم أن الکلام لا یمکن أن یکون صفة للّه تعالی هی ذاته کالعلم و القدرة، و أنکروا أن تکون الصفات أشیاء و ذواتا قدیمة قائمة وراء الذات،لأن هذا یؤدی إلی تعدد القدماء،لذا فإن الذات و الصفات شیء واحد.و یردّ الفلاسفة أن ذلک بعید من المعارف،بل یظن أنه مضادّ لها،و ذلک أن العلم یجب أن یکون غیر العالم،و إنه لیس یجوز أن یکون العلم هو العالم إلا إذا جاز أن یکون أحد المتضایفین قرینة مثل أن یکون الأب و الابن معنی واحدا بعینه (1)بالنسبة لعقیدة الثالوث.
و أدت السیاسة إلی أن یکون ذلک مثار فتنة شملت أیام المأمون و المعتصم و الواثق،و حصلت من ورائها فرقة و تباعد،و وصل الأمر إلی أن من یذهب إلی قدم القرآن یکفّر من یقول بأنه مخلوق،و ذلک فی عهد المتوکل،حیث ارتد عن تلک السیاسة إلی منحی آخر،بعد أن کان بعض القضاة یسأل الشاهد عن هذه القضیة،فإن أقر بأنه مخلوق قبلت شهادته و إلا ردّها (2).
ثم أفتی-بعضهم و بتأثیر السلطة-بوجوب قتل من یقول بخلق القرآن،و بدیهی أن هذا المفتی لم یستند بفتواه إلی دلیل عقلی أو نقلی،بل کان مستندا إلی أمر تافه، و ذلک أنه عند ما سئل عن دلیل هذه الفتوی أجاب:أن رجلا رأی من منامه إبلیس قد اجتاز بباب المدینة و لم یدخلها،فقیل لم لم تدخلها؟قال إبلیس:أغنانی عن دخولها رجل یقول بخلق القرآن (3).
و نظیر هذا ما حدثنا به التاریخ عن المهدی العباسی عند ما دخل علیه شریک بن عبد اللّه القاضی،فلما رآه المهدی،قال:علیّ بالسیف و النطع.قال شریک:و لم یا أمیر المؤمنین؟قال:رأیت فی منامی کأنک تطأ بساطی،و أنت معرض عنی، و قصصت رؤیای علی من عبّرها فقال:إنه یظهر لک طاعة،و یضمر لک معصیة ما.
ص:36
فقال له شریک:و اللّه ما رؤیاک برؤیا إبراهیم الخلیل،و لا کأن معبّرک بیوسف الصدیق،فبالأحلام الکاذبة تضرب أعناق المؤمنین؟فاستحی المهدی و قال:أخرج عنی.ثم صرفه عن القضاء و أبعده (1).
و مرّت مشکلة خلق القرآن عبر التاریخ تتوارثها الأجیال،و استغل الحنابلة میول بعض الأمراء إلیهم فراحوا یوقعون المکروه بمن یخالفهم،و قد استمالوا الملک الأشرف فأصبح یعتقد بأن من یخالف عقیدة الحنابلة فهو کافر حلال الدم،و أصبح هذا الاعتقاد هو الاعتقاد الرسمی (2).
و کان العز بن عبد السلام المتوفی سنة 660 ه من العلماء المبرزین،و من الدعاة إلی التحرر من نیر التقلید الأعمی،و کان أشعری العقیدة،فتقدم الحنابلة إلی الملک الأشرف بأن الشیخ العز زائغ العقیدة،منحرف عمّا صحّ من العقائد الدینیة الصحیحة،و أن الدین الذی هم علیه هو اعتقاد السلف و الإمام أحمد و فضلاء أصحابه،و علی هذا الاعتقاد الذی فرضه السلطان یقول الرستمی:
الأشعریة ضلاّل زنادقة إخوان من عبد العزّی مع اللات
بربّهم کفروا جهرا و قولهم إذا تدبّرته أسوأ مقالات
ینفون ما أثبتوا عودا لبدئهم عقائد القوم من أوهی المحالات
(3)و قد امتحن العز بن عبد السلام و غیره ممن یخالف الحنابلة فی شیء من الاعتقاد،و کانت السلطة هی العامل الوحید فی بعث نشاطهم و امتداد حرکاتهم،و بها ینتصرون علی خصومهم الذین نبذوا الجمود و آثروا التدبّر و الاحتکام إلی القرآن و السنّة،فالشیخ عز الدین بن عبد السلام إنما کان غرضا لهم لما عرف عنه من أقوال و مواقف ثابتة تغایر ما یدعون إلیه-و قد ذکرنا بعض أقواله-و التی نذکر منها قوله:
(و من العجب العجیب أن الفقهاء المقلدین یقف أحدهم علی ضعف مأخذ إمامه بحیث لا یجد لضعفه مدفعا،و هو مع ذلک یقلده فیه،و یترک من شهد الکتاب و السنّة
ص:37
و الأقیسة الصحیحة لمذهبهم جمودا علی تقلید إمامه،بل یتحیل لدفع الکتاب و السنّة و یتأولها بالتأویلات البعیدة الباطلة نضالا عن مقلّده).
و فی بغداد جلس أحد الحنفیة المقربین عند السلطان بجامع القصر و جامع المنصور،و أخذ یلعن الأشعری علی المنبر و یقول:کن شافعیا و لا تکن أشعریا،و کن حنفیا و لا تک معتزلیا،و کن حنبلیا و لا تکن مشبّها،و أخذ یذم الأشعری و یمدح المذاهب الأربعة (1).
و شاعت الاتهامات بالباطل،و مضی الحنابلة فی نشاطهم،فارتکبوا أعمال الفتک بمن لم یکن علی عقیدتهم لأنه عندهم کافر حلال الدم استنادا إلی فتوی أحمد بن حنبل،فقد جاء عنه أنه یذهب إلی کفر من یقول بخلق القرآن،و سئل یوما عن رجل وجب علیه تحریر رقبة مؤمنة و کان عنده مملوک یقول بخلق القرآن؟فقال:
لا یجزی،لأن اللّه تبارک و تعالی أمر بتحریر رقبة مؤمنة و لیس هذا بمؤمن هذا کافر (2).
و قال أبو الولید:من قال:القرآن مخلوق فهو کافر،و من لم یعقد علیه قلبه علی أن القرآن لیس بمخلوق فهو خارج عن الإسلام (3).
و قال علی بن عبد اللّه:القرآن کلام اللّه،من قال أنه مخلوق فهو کافر لا یصلّی خلفه.
و قال أبو عبد اللّه الذهلی المتوفی سنة 255 ه:من زعم أن القرآن مخلوق فقد کفر،و بانت منه امرأته،فإن تاب و إلاّ ضربت عنقه،و لا یدفن فی مقابر المسلمین، و من وقف و قال:لا أقول مخلوق:و قد ضاهی الکفر،و من زعم أن لفظی بالقرآن مخلوق فهو مبتدع،و لا یدفن فی مقابر المسلمین.
و سئل أحمد بن حنبل عمن قال:لفظی بالقرآن مخلوق.فقال:هذا لا یکلّم و لا یصلّی خلفه،و إن صلّی أعاد.و ان لا یسمح لأصحابه بالسلام علی من یخالفه فی رأیه.
ص:38
و علی أی حال،فإن مشکلة القول بخلق القرآن-کما مرت الإشارة إلیها-بلغت حدّا یستغرب فیه الإنسان وقوع تلک الأحداث المؤلمة فی زمن اشتدت الصراعات فأصبحت فیه مقیاسا یقاس به إیمان المرء و کفره،و بهذا انعطفت موجة الصراع المذهبی نحو مرحلة جدیدة من الخلاف،خلّفت وراءها مادة أخری،و محورا جدیدا تدور علیه مشاکل الأمة فی خلافاتها المتواصلة.
و فی عهد المتوکل العباسی،عند ما أفل نجم المعتزلة،و أفلت منهم زمام الحکم،و انحازت السلطة لجانب أهل الحدیث و هو الجانب المعارض الذی یمثله جماعة أحمد بن حنبل،فانصبّ الغضب علی المعتزلة بعد أفول نجمهم،و استغل دعاة الفرقة فرصة انتصار جانب المعارضة،و طلوع نجم أحمد بن حنبل باعتباره من الشخصیات المعارضة للدولة فی فرض القول بخلق القرآن.
فکثر أتباع هذا الجانب،و ظهرت الضغائن،و نبشت الدفائن،و سارت جموع مختلفة الاتجاهات،متباینة القومیات فی رکاب اتباع أحمد بن حنبل إذ کان لهم دور السلطة فی الدولة،و قد تجاوزوا أقصی حدّ فی العقوبة و الانتقام ممن خالفهم و بالأخص من المعتزلة و الشیعة لعنا و قتلا و تکفیرا،و تمادوا فی مهاجمة المعتزلة حتی قالوا:أن المعتزلی لا تجوز الصلاة علیه،و أن دماءهم حلال للمسلمین،و فی أموالهم الخمس،و لیس علی قاتل الواحد منهم قود و لا دیة و لا کفارة،بل لقاتله عند اللّه القربة و الزلفی (1).
و قد ابتعدوا عن کل مبادئ العدالة،و خالفوا قواعد العلم مع المنطق،ففی سنة 323 ه أحرق الحنابلة فی الکرخ طرف البزازین،فذهبت فیه أموال کثیرة للتجار، و أطلق لهم الراضی ثلاثة آلاف دینار،و کان العقار لقوم من الهاشمیین،فأعطاهم عشرة آلاف دینار،و احترق ثمانیة و أربعون صنفا من أسواق الکرخ طرح فیه النار قوم من الحنابلة،حیث قبض بدر الخرشی علی رجل من أصحاب البربهاری یعرف بالدلاّل،و احترق خلق من الرجال و النساء (2).
و خلفت الانفعالات و حالات التعصب و الجهل جنودا و أبطالا ماهرین فی الأذی
ص:39
و شجعانا فی الأضرار.و فی هذا الخضمّ استبیحت الدماء و الأموال ففی سنة 495 ه قدم بغداد عیسی بن عبد اللّه الغزنوی،فوعظ الناس-و کان شافعیا أشعریا-فوقعت فتنة بین الأشعریة و الحنابلة (1)إذ لا یروق لهم أن یکون أشعری أو شافعی بوظیفة الوعظ فی تلک الأیام.فهاجوا لذلک،و وقعت الفتنة،و وقع فیها حریق ببغداد.
و فی سنة 513 ه دخل أبو نصر القشیری بغداد،فوعظ بها،فثارت الحنابلة و وقعت فتنة بینهم و بین الشافعیة،و أخرج القشیری من بغداد (2).و فی خوارزم أحرق الحنابلة جامعا عظیما فی مرو بناه نظام الدین مسعود بن علی المتوفی سنة 596،بناه للشافعیة،فحسدتهم الحنابلة و أحرقوا الجامع.
یقول أبو حامد الغزالی المتوفی سنة 505 ه:و قد سلمت المدارس لأقوام قل من اللّه خوفهم،و ضعفت فی الدین بصیرتهم،و قویت فی الدنیا رغبتهم،و اشتدّ علی الاستتباع حرصهم،و لم یتمکنوا من الاستتباع و إقامة الجاه إلا بالتعصب،فحبسوا ذلک فی صدورهم،و لم ینبهوهم علی مکاید الشیطان فیه،بل نابوا عن الشیطان فی تنفیذ مکیدته،فاستمرّ الناس علیه،و نسوا أمهات دینهم.فقد هلکوا و أهلکوا،فاللّه تعالی یتوب علینا و علیهم.
و قال ابن کثیر و هو فی واقعه و حقیقته من کبار علماء الحنابلة رغم صبغة الشافعیة بعد ذکره لهذا الحادث فی تاریخه:(و هذا إنما یحمل علیه قلة الدین و العقل).
و الواقع أن قضیة خلق القرآن،هیأت للحنابلة عهدا بعث لهم النشاط فی أعمالهم التی لا تدخل تحت نطاق الدین،و لا تخضع لحکم العقل،لأنهم قاموا بدور الغوغاء من الهمجیة فی کثیر من القضایا،فقد کمّوا أفواه العلماء بغوغائهم من الردّ علیهم.خذ مثلا قضیة الشریف عبد الخالق بن عیسی شیخ الحنابلة عند ما توفی و أراد العوام أن ینبشوا قبر أحمد بن حنبل و یدفنوه معه،و لم یستطع أحد من العلماء أن یردّ علیهم و یمنعهم عن نبش القبر،فقال أبو محمد التمیمی من بین الجماعة:کیف
ص:40
تدفنونه فی قبر أحمد و ابنة أحمد مدفونة معه؟فإن جاز دفنه مع الإمام،لا یجوز دفنه مع ابنته.فقال بعض العوام:أسکت فقد زوّجنا بنت أحمد من الشریف،فسکت التمیمی و دفنوه مع أحمد فی قبره (1).
و نشط العوام فی شذوذهم،فقابلوا حملة الفکر،و علماء الأمة بالعنف، و عاملوهم بالغلظة،و حجبوهم عن الاتصال بالمجتمع.
فهذا محمد بن أحمد المعتزلی الفیلسوف المتکلم،لزم داره مدة من السنین، لم یستطع الخروج لأنهم غضبوا علیه.
و الحافظ أبو نعیم صاحب الحلیة المتوفی سنة 430 ه تعصّب الحنابلة علیه، فهجره الناس خوفا منهم.
قال محمد بن عبد الجبار:حضرت مجلس أبی بکر بن علی المعدّل،و کان بین الأشعریة و الحنابلة تعصّب زائد،فقام إلی ذلک الرجل أصحاب الحدیث بسکاکین الأقلام،و کاد أن یقتل (2).
کما أنهم رجموا أبا الفرج الأسفرایئینی الواعظ فی الأسواق مرات عدیدة، و أظهروا لعنه و سبّه لأنه لم یکن منهم.کما تعصبوا علی الفقیه جعفر بن محمد الشافعی الموصلی و کان مقدما عند السلطان،فحسدوه،و کتبوا محضرا نسبوه لکل قبیح،فنفی من الموصل سنة 323 ه.
و لقی ابن عساکر شیخ الشافعیة المتوفی سنة 620 ه من الحنابلة أذی کثیرا، تعصبا علیه و تحدّیا لمقامه،و کان یتجنّب المرور بهم خشیة إیقاع المکروه به منهم.
و کان ابن قدامة عالم الحنابلة بدمشق یذهب إلی عدم إسلام ابن عساکر،لأنه یقول بالکلام النفسی،فلا یرد السلام علیه (3).
و کذلک الخطیب البغدادی المتوفی سنة 463 ه تحامل علیه الحنابلة و اتهموه بالمیل إلی المبتدعة،و یقصدون المبتدعة المتکلمین و الأشاعرة،و قد حملهم التعصب
ص:41
فقالوا:إن الکتب التی تنسب إلیه لیست له،و إنها للصولی،فسرقها و نسبها لنفسه (1).
و اتسع نشاطهم فعمّت الفوضی فی البلاد،و ذلک فی عهد الراضی،فأصدر منشورا یردّ علیهم و یعدّد مساوئهم،و یهدّدهم بالعقاب،و النکال.و جاء فی المنشور الذی وجهه إلیهم قوله:
و قد تأمل أمیر المؤمنین أمر جماعتکم،و کشفت له الخبرة عن مذهب صاحبکم.... (2)زیّن لحزبه المحظور،و یدلی لهم حبل الغرور،فمن ذلک تشاغلکم بالکلام فی ربّ العزّة تبارکت أسماؤه،و فی نبیّه و العرش و الکرسی، و طعنکم علی خیار الأمة،و نسبتکم شیعة أهل بیت رسول اللّه إلی الکفر و الضلال، و إرصادهم فی الطرقات و المحال،ثم استدعاؤکم المسلمین إلی التدین بالبدع الظاهرة و المذاهب الفاجرة التی لا یشهد بها القرآن.إلی آخر ما یتضمنه المنشور من تعداد مساوئ تلک الخصال،و التهدید لهم بالعقوبة و عظیم النکال.
إذن،تمکّن التعصب من نفوس العامة،و اشتدّ أمر الحنابلة،و کان منهجهم یتّسم بالعنف،و التعدی علی کل من خالفهم الرأی.و هکذا تلونت الأحداث بتعدد الحکام و تغیّر الأغراض،فإذا ارتأی المأمون أن تکون قضایا الفکر و العمل شعارا لدولته فقد کان ینزع إلی خدمة الحکم و توطید أرکان السلطان،حتی استطاع أن یجعل المتعلقین بالحکم و المستفیدین من الخلافة تبعا له فی رأیه.
و یقتضی البحث أن نشیر دون تفصیل إلی أوامره فی هذه المشکلة،و هی إن أدرجت فی عرض للمقارنة نراها تضمّ أفکار المعتزلة،و هذه الأوامر تذکر دوما فی المراجع و الکتب التی تؤرخ لهذه القضیة،و تجدها مبسوطة فیها،و نحن نختار ما صدر من المأمون عند ما کان فی الرّقة،و نقتصر منه علی الجزء الذی یتناول مسألة خلق القرآن،و کان ذلک سنة 218 ه-کما ذکرنا-فقد قرر المأمون أن یتولی إلزام الناس بالقول فی خلق القرآن،و اختار أن یبدأ بأنفار عیّن أسماءهم،منهم:محمد بن سعد کاتب الواقدی،و أبو مسلم مستملی یزید بن هارون،و یحیی بن معین، و زهیر بن حرب أبو خیثمة،و إسماعیل بن داود،و إسماعیل بن أبی مسعود،
ص:42
و أحمد بن الدورقی.فأشخصوا إلیه،فامتحنهم و سألهم عن خلق القرآن،فأجابوا جمیعا أن القرآن مخلوق.و تبنّت سلطته فی بغداد أمر إشاعة ذلک عنهم و تقریر قولهم بحضور الفقهاء و رجال أهل الحدیث (1).
و اتخذت أفکار المعتزلة و معتقداتهم صفة الأمر السلطانی کما جاءت علی لسان المأمون فی أمره إلی إسحاق بن إبراهیم(...و اللّه عز و جل یقول: إِنّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِیًّا و تأویل ذلک:إنا خلقناه.کما قال جل جلاله: وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِیَسْکُنَ إِلَیْها و قال: وَ جَعَلْنَا اللَّیْلَ لِباساً. وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ کُلَّ شَیْءٍ حَیٍّ فسوّی عز و جل بین القرآن و بین هذه الخلائق التی ذکرها فی مشیئة الصنعة،و أخبر أنه جاعله وحده فقال: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِیدٌ. فِی لَوْحٍ مَحْفُوظٍ فقال ذلک علی إحاطة اللوح بالقرآن،و لا یحاط إلا بمخلوق.و قال لنبیه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم: لا تُحَرِّکْ بِهِ لِسانَکَ لِتَعْجَلَ بِهِ و قال: ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ و قال: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَری عَلَی اللّهِ کَذِباً أَوْ کَذَّبَ بِآیاتِهِ و أخبر عن قوم ذمهم بکذبهم أنهم قالوا: ما أَنْزَلَ اللّهُ عَلی بَشَرٍ مِنْ شَیْءٍ ثم أکذبهم علی لسان رسوله فقال لرسوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْکِتابَ الَّذِی جاءَ بِهِ مُوسی فسمی اللّه تعالی القرآن قرآنا و ذکرا و إیمانا و نورا و هدی و مبارکا و عربیا و قصصا فقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَیْکَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَیْنا إِلَیْکَ هذَا الْقُرْآنَ و قال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی أَنْ یَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا یَأْتُونَ بِمِثْلِهِ و قال: قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَیاتٍ و قال: لا یَأْتِیهِ الْباطِلُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ فجعل له أولا و آخرا،و دلّ علیه أنه محدود مخلوق.و قد عظم هؤلاء بقولهم فی القرآن المتکلم فی دینهم و الحرج فی أمانتهم،و سهلوا السبیل لعدو الإسلام،و اعترفوا بالتبدیل و الإلحاد علی قلوبهم،حتی عرفوا و وصفوا خلق اللّه و فعله بالصفة التی هی للّه وحده،و شبّهوه و الأشباه أولی بخلقه،و لیس یری أمیر المؤمنین لمن قال بهذه المقالة حظا فی الدین،و لا نصیبا من الإیمان و الیقین،و لا یری أن یحل أحدا منهم محل الثقة فی أمانة و لا عدالة و لا شهادة و لا صدق فی قول و لا حکایة،و لا تولیه لشیء من أمر الرعیة...) إلی آخر کتابه.
و مع هذه الحالة الفکریة و الصیاغة الدینیة،و ما اتصف به حکم المأمون من
ص:43
ظاهر المیل إلی العلویین،فإن أغراض الحکام الشخصیة تکاد فی دوافعها تکون واحدة علی مرّ الأجیال فی التاریخ الإسلامی،فعندنا أن القالب جدید،غیر أن الجوهر واحد،و هو استخدام الدین للمصالح و المنافع،و تأکید السیطرة و الهیمنة.فها نحن أولاء أمام الحکام و هم یعرّضون الأمة للبلاء مرة أخری،و یعدّون لأخصامهم النقمة و المحن.و عند ما یبدأ معاویة بإسقاط من یری فضل علی أو یروی حدیثه من الدیوان،و یأمر بهدم دار من یوالی علیا،حتی کانت النقمة علی الزنادقة أهون من أفعال السلطة بمن یودّ أهل البیت.فقد کان رجال أهل البیت و الأئمة منهم قد تعاهدوا أمر أصحابهم بالسیاسة الملائمة،أو بالثورة و السیف منذ عهد الإمام الحسن حتی نهایة عهد الإمام الصادق علیه السّلام ثم جاءت الفترة العباسیة،فکانت القیادة للإمام موسی بن جعفر بتقواه و زهده،ثم للإمام الرضا بعلمه و حکمته.فلم تحدث النتائج التی سنراها فیما بعد هذه الفترة،و قد استعرضنا فی الأجزاء السابقة من کتابنا آثار مواقف الأئمة و علی الأخص موقف الإمام الصادق و کیف اتّجه إلی تربیة النفوس و شدّ القلوب بروابط الإیمان و العلم،و کان سلطانه علی أتباعه و محبیه سلطان دین و عقیدة،فکانت طرقه فی الدعوة إلی الدین و منهجه فی الأحکام و الفقه منهلا أغنی الأمة،و اغترفت منه فطاحل الرجال.
و فی مشکلة خلق القرآن،اتبع المأمون السیاسة ذاتها،لأن الظاهر قد یتغیر،أما الجوهر و حقیقة الدوافع فلیس لها علی صعید الحکم غیر القوة و التعدّی و العنف و إراقة الدماء،فکأننا إذا ما قرأنا أوامر المأمون نقرأ تعلیمات الأمویین و أوامرهم،فتراه یتّهم بالکفر من یخالفه،و یأمر بضرب الأعناق.لیتسلّی برؤیة الرءوس.و لا نرید أن نذکر أوامره لطولها و تفاصیلها،إنما نذکر شیئا یسیرا(...و من لم یرجع عن شرکه ممن سمّیت لأمیر المؤمنین فی کتابک و ذکره أمیر المؤمنین لک أو أمسک عن ذکره فی کتابه هذا و لم یقل أن القرآن مخلوق بعد بشر بن الولید و إبراهیم بن المهدی، فاحملهم أجمعین موثقین إلی عسکر أمیر المؤمنین،مع من یقوم بحفظهم و حراستهم فی طریقهم،حتی یؤدیهم إلی عسکر أمیر المؤمنین،و یسلمهم إلی من یؤمن بتسلیمهم إلیه،لینصحهم أمیر المؤمنین،فإن لم یرجعوا و یتوبوا حملهم جمیعا علی السیف).
و لقد فتح المأمون علی الأمة بابا من البلاء لم یغلق،فقد بلغت سیاسة حدّ الولع بما تواضع علیه الناس و استلموه و توارثوه ناجزا،عملت علی تکوین عوامل
ص:44
السلطة و أصحاب الأغراض المختلفة،فعمد إلی سلطة الحکم لأحداث هزّة فی طریقة بقاء الناس علی استسلامهم و استمرارهم علی موروثهم،و فکّر فی المجاهرة بأمور ینتهی إلیها النظر الجریء و الحرّ،لکن حرکة الرأی و نشاط العقل مهما شهدت من ألوان و ضروب متطورة،لم تشمل المجتمع بأسره،و لم تسع الناس جمیعا،و لا بد أن یبرز للموروث موقف،کما أنها لیست هی الدین کله.و قد أساء بذلک.
لقد تهیأت الظروف لأن یبرز أحمد بن حنبل.و کان وراءه شیوخ آخرون دفعوه إلی الثبات بوجه المأمون و عدم الإذعان،کأبی جعفر الأنباری الذی لحق بابن حنبل لمّا حمل إلی المأمون و قال له:یا هذا،أنت الیوم رأس و الناس یقتدون بک،فو اللّه لأن أجبت إلی خلق القرآن لیجیبنی بإجابتک خلق من خلق اللّه،و إن أنت لم تجب لیمتنعنّ خلق من الناس کثیر،و مع هذا فإن الرجل إن لم یقتلک فأنت تموت،و لا بد من الموت،فاتق اللّه و لا تجبهم إلی شیء.فجعل أحمد یبکی و یقول:ما شاء اللّه،ما شاء اللّه.ثم قال أحمد:یا أبا جعفر،أعد علیّ ما قلت.فأعاد علیه،فجعل یقول:ما شاء اللّه،ما شاء اللّه (1).
و قد انتهی الأمر إلی أن یبقی أحمد بن حنبل وحده فی امتحان السلطة له، حیث تخلّی کل نفر عن الثبات،و لم یبق معه إلا محمد بن نوح الذی کان معه فی الاقتیاد إلی المأمون،و قام محمد بن نوح بما یقوم به الآخرون و هم خارج الاعتقال، و الذین أخذوا یرون فی أحمد رمزا لبقاء مناهجهم و طرقهم فی القول و الحکم.و قد کان محمد بن نوح حدثا و هو یمثل حالة أو مرحلة عمریة تشد إلیها من کانوا فی عمره،فکیف إذا کانت نهایته الموت و هو فی ظل الاعتقال و التعذیب،فقد مات و هما فی الطریق إلی المأمون.و لکن محمد بن نوح کان یقول لأحمد بن حنبل:یا أبا عبد اللّه اللّه اللّه،إنک لست مثلی،أنت رجل یقتدی بک،و قد مدّ الخلق أعناقهم إلیک بما یکون منک.فاتق اللّه و اثبت لأمر اللّه (2).
و توفی المأمون فی السنة نفسها،و خلفه المعتصم،و کان المأمون قد وضع لأخیه السیاسة التی یلتزمها،و قد کان استمراره علی القول بخلق القرآن لا عن وعی
ص:45
و إلمام،و إنما سیاسة و تقلیدا،فهو لا یرقی إلی درجة أخیه فی الاطلاع،فقد عرف عنه قلة علمه،و یروی أن أباه کان عنی بتأدیبه فی أول أمره،فمرّت به جنازة لبعض الخدم فقال:لیتنی کنت هذه الجنازة،لأتخلص من همّ المکتب.فأخبر الرشید بذلک،فقال:و اللّه لأعذّبنه بشیء یختار الموت من أجله.و أقسم ألا یقرأ طول حیاته، و یبدو أنه کان قریبا من الأمیة کما وصف نفسه فی بعض الروایات،و لهذا فإن بقاء القول بخلق القرآن یفقد فی عهده الجوانب الفکریة،و یبقی الدافع السیاسی الذی شمل المتنفذین من المعتزلة أیضا ممن أغرتهم السلطة کأحمد بن أبی دؤاد الذی کان یمثل عامل بقاء سیاسة المأمون،و فی الوقت الذی نجد فیه إشارات إلی خروج المعتصم عن نهج العنف،نجد ابن أبی دؤاد یذکّر المعتصم أنه لو سلّم و لان،فسیقال حتما عن المعتصم أنه ناهض مذهب المأمون،و أن الناس سیرون أن أحمد قد أحرز نصرا علی خلیفتین،و هی نتیجة قد تحفّز أحمد بن حنبل علی أن یعدّ نفسه زعیما،مما یفضی بدولة الخلفاء إلی أوخم العواقب،و هو ما نص علیه المقریزی فی المقفی الذی نقل عنه المستشرق الأمریکی ولتر ملفیل و الذی نحن فی سیاق قوله الآن (1)ذکر المقریزی:قال أبو عبد اللّه و جعلت بین العقابین.فقلت:یا أمیر المؤمنین إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«لا یحل دم امرئ مسلم یشهد أن لا إله إلا اللّه و إنی رسول اللّه إلا بإحدی ثلاث...»الحدیث (2)و قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم«أمرت بأن أقاتل الناس..» الحدیث (3)فبم تستحل دمی،و لم آت شیئا من هذا؟یا أمیر المؤمنین أذکر وقوفک بین یدی اللّه عز و جل کوقوفی بین یدیک،یا أمیر المؤمنین راقب اللّه.فلما رأی المعتصم ثبوت أبی عبد اللّه و تصمیمه،لان لأبی عبد اللّه،فخشی ابن أبی دؤاد من رأفته علیه فقال:یا أمیر المؤمنین،إن ترکته،قیل أنک ترکت مذهب المأمون و سخطت قوله، و أنه غلب خلیفتین.فهاجه ذلک و طلب کرسیا،جلس علیه و قام ابن أبی دؤاد و أصحابه علی رأسه.انتهی.
و من الصورة التی نطلع علیها،و فی وسطها أحمد بن حنبل،نری أن ابن حنبل
ص:46
فی السلوک و التصرّف یلتزم بتعالیم السنة،و یحتج بأحادیث النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یحاول بهما أن یحمی نفسه و یصون کرامته،و یلوذ بالعلم،و یتوسّل بالفقه لیردّ عنه کید السلطة،حتی لتطالعنا من بین ملامح تلک الصورة أن أحمد بن حنبل سایر قوة السلطان،و أظهر ما یرید الحکام تحت وقع السیاط،لیکفّ الأذی و یدفع العذاب، فهذا مؤرخنا الیعقوبی یقول:و امتحن المعتصم أحمد بن حنبل فی خلق القرآن، فقال:أنا رجل علمت علما،و لم أعلم فیه بهذا.فأحضر له الفقهاء،و ناظر عبد الرحمن بن إسحاق و غیره،فامتنع أن یقول أن القرآن مخلوق،فضرب عدة سیاط.
فقال إسحاق بن إبراهیم:ولّنی یا أمیر المؤمنین مناظرته.فقال:شأنک به.فقال إسحاق:هذا العلم الذی علّمته نزل به ملک،أو علمته من الرجال؟فقال:بل علّمته من الرجال.فقال:شیئا بعد شیء أو جملة؟فقال:علمته شیئا بعد شیء.قال:فبقی علیک شیء لم تعلمه؟قال:بقی علیّ.قال:فهذا مما لم تعلمه،و قد علمک أمیر المؤمنین.قال:فإنی أقول بقول أمیر المؤمنین.قال:فی خلق القرآن؟قال:فی خلق القرآن.قال:فأشهد علیه،فخلع علیه و أطلقه.انتهی.و هنا نلاحظ أن أحمد بن حنبل بعد خروجه من السجن و امتحان القوة له،قد وجد العامة التی تضرّرت بمواقف و سیاسة المأمون و خلفه تنتظر خروجه و تتشوق للقیاه،فیبالغ فی الرد،و یسمح لنفسه بالحکم علی مخالفیه بما لم یرد به نص،و بما یخالف ما احتج به أمام قوة السلطان و هو یمتحن أمام خلفاء بنی العباس و یتقی اعتداءهم.کما نلاحظ فی عموم سیرته غموضا،و أحیانا خفاء فی رأیه فی الإمام علی علیه السّلام أو یزید بن معاویة،إذ تضطرب کما فی الروایات،و مهما یکن من أمر،فإن العامة قد وجدت نفسها مستهدفة من قبل سیاسة بنی العباس فی عهد المأمون و خلفیه حیث ظهرت السلطة بمظهر العلم و صفة المتکلّمین.و قد کان المأمون شدیدا علیهم و هو یستعیر منطق المعتزلة و أفکارهم،و یصدر أوامره السلطانیة من مرو لیلبس حکمه لبوس المرحلة،فیقول فی أول کتاب له:و قد عرف أمیر المؤمنین أن الجمهور الأعظم و السواد الأکبر من حشو الرعیة و سفلة العامة فمن لا نظر له،و لا رؤیة و لا استدلال له بدلالة اللّه و هدایته،و لا استضاء بنور العلم و برهانه فی جمیع الأقطار و الآفاق،أهل جهالة باللّه و عمی عنه، و ضلالة عن حقیقة دینه و توحیده و الإیمان به،و نکوب عن واضحات إعلامه و واجب سبیله،و قصور عن أن یقدروا اللّه حق قدره،و یعرفوه کنه معرفته،و یفرقوا بینه و بین
ص:47
خلقه بضعف آرائهم و نقص عقولهم،و خفائهم عن التفکیر و التذکر (1).هذا و السلطة تتحول إلی الخضرة و تغیّر شعارها الأسود تقربا إلی الشیعة،و قضیة إسناد ولایة العهد إلی الإمام الرضا ما زالت فی الأذهان،و لا بد أن قضیة سمّه و قتله لا تهمّ الآخرین أکثر مما تهمّهم المظاهر،و بین فترة و أخری یهمّ المأمون فی القول بمسألة علی رأی الشیعة،بینما قضیة امتحان السلطة للعلماء لها طابع معتزلی،و العامة أخذت تنظر إلی أهل الرأی و الفکر نظرة واحدة،لأن الفترة حدیثة عهد،و الحرکة ما زالت فی بواکیرها،و مناهج الکلام و أسالیب القول قامت کالموجة التی تهدد رکود الغدران بالتحول أو الفناء.
لقد أعلنت السلطة طابعها أو انحیازها إلی أهل الفکر و تیارات الکلام،و جاء بیانها شدیدا استفزّ العامة الذین کانوا قاعدة الحکام منذ عهد معاویة،و تهیأ علی مر المراحل ممن لبس لبوس الدین،و تجلبب بجلباب العلم،أن یبذل أقصی ما یستطیع لیرضی السلطان،و یجعل الجمهور ینظر إلی حال الحاکم من خلال ما یصوّرونه لهم، فاحتل الحکام فی أنظارهم موقع القداسة،و أحنوا الرءوس برغم ما یسفک من دماء، و تنتهک من حرمات،و یستباح من أعراض،فألفوا أمورا فی کل شأن من شئون الاعتقاد و الحیاة،و ورثوها علی نمط الحکام و صیاغة المنتفعین.
و للأسف،فإن تحوّل السیاسة و انعطاف المأمون إلی أوجه جدیدة فکریة متکلّفة،و ما أحدث ذلک من هزّة عنیفة،لم تعالج بما یساعد علی کبح جماع الانفعالات و لجم الجهل،فإضافة إلی توافر أسباب الهیاج و شیوع مضمون سیاسة السلطة،و ما یوفره ذلک من مادة غنیة لشدّ الجمهور و التلاعب بعواطفه،و دفع مشاعره إلی أشد حالات النقمة،أصبحت کلمة الجهل أو الأوصاف التی یطلقها رجال المناظرات و أساتیذ الکلام علی خصومهم الذین یسترون جهلهم بالعناد و التعصب، أدلة أخری ألّبت الناس علی أهل الفکر قبل أن تألبهم علی العباسیین و أغراضهم السیاسیة،فضاعت فی وسط ذلک الأسباب الحقیقیة لقیام مثل هذه المرحلة،و کان تقصیر الجهات فیها متماثلا،إذ لم یبذل المعتزلة ما یکفی من جهد بعیدا عن السلطة، بل انتقلت حصیلة اعتقاداتهم إلی الحکام و ألحقتهم السلطة بها.
ص:48
کما کان الطرف الآخر یعتمد علی الاستشارة و الاستفزاز،لیستفید من نتائجهما فی الإبقاء علی ممسک الجمهور و محافظتهم علی الأوضاع التی ألفوها و عاشوها، و لمّا اجتاز أحمد بن حنبل الأزمة صبّ جام غضبه علی أصل القضیة،فأباح لنفسه الفتوی و القول بکفر من یقول بخلق القرآن.و قد مرّ بنا ذلک و أشرنا إلی ما جاء عنه فی کفر من یقول بخلق القرآن،إذ سئل عن رجل وجب علیه تحریر رقبة مؤمنة و کان عنده مملوک یقول بخلق القرآن؟فقال:لا یجزی،لأن اللّه تبارک و تعالی أمر بتحریر رقبة مؤمنة.
و لم یکن أحمد بن حنبل أو الجمهور فی حال یجاهرون بها بالخروج علی رأی الحاکم أیام المعتصم،إذ یروی أن أحمد أمسک فی عهد المعتصم حتی عن روایة الحدیث الذی هو عماد مکانته و مقوم شخصیته،فهو الحافظ الذی ینبسط فی الروایة و یتقید بها حتی قیل:إنه أقرب إلی الحدیث منه إلی الفقه.و لا ننسی أن هذه الفترة شهدت غیاب الإمام الرضا،و کون ابنه الإمام محمد الجواد ما زال فی مقتبل العمر، و تتضافر الروایات علی ما بلغه فی العلم و الحکمة و الأدب و کمال العقل،حتی أن المأمون أراد أن یوجد للصبغة التی أرادها لحکمه دلالة جدیدة،فزوّجه ابنته أم الفضل،و اتجه إلی المدینة،و ابتعاده عن العراق أمر له مغزی کبیر،اختیارا منه و عملا بنهج أبیه،و کیف حمل ولایة العهد اسما،و لم تنجح وسائل المأمون مع الإمام الرضا فی زجّه فی شئون السلطان،و إذا کان أهل البیت قد عملوا علی تهذیب النفوس بتعالیم الإسلام و ترسیخ الأحکام فی المجتمع بتربیة النشأ و إرشاد الناس،فقد کان الرضا علیه السّلام یقول:«إنما یؤمر بالمعروف و ینهی عن المنکر مؤمن فیتعظ،فأما صاحب سیف و سوط فلا».و کان قوله المشهور للمأمون:«ما التقت فئتان قط إلا نضر اللّه أعظمهما عفوا».فعاد الإمام الجواد إلی مهبط الوحی و مهد النبوة، و سعی علیه السّلام إلی توجیه الناس و بث العلم و نشر الأحکام،و کانت الوفود تأتیه من الأقطار النائیة لأنه وارث علم أهل البیت عن أبیه الرضا علیه السّلام غیر أن المعتصم أعاده إلی بغداد و انتهی شهیدا مسموما علی ید بنی العباس.
فکأن الناظر إلی أعمال بنی العباس فی هذه الفترة یجد تقربا و رعایة إلی آل علی،فی حین أن حقیقة ما یعیشونه مکابدة رهیبة تنتهی بهم إلی الموت.کما أن العلویین استمروا فی مناهضتهم للسلطة،و لم تنطل علیهم خدع الحکام و تکریم
ص:49
المأمون للطالبیین أو العلویین،و عدم منعهم من الدخول علیه؛حتی ثار عبد الرحمن بن أحمد بن محمد بن عمر بن علی بن أبی طالب ببلاد الیمن و دعا إلی الرضا من آل محمد.فأرسل إلیه المأمون جیشا کثیفا تحت قیادة دینار بن عبد اللّه، و کتب معه أمانا لعبد الرحمن،فقبله و سار إلی المأمون،فمنع المأمون عند ذلک الطالبیین من الدخول علیه،و أمرهم بلبس السواد (1)و امتنع أکثرهم عن لبس السواد، فکان عقابهم السجن.فهذا عبد اللّه بن الحسین بن عبد اللّه بن إسماعیل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبی طالب امتنع عن لبس السواد و حرّمه لما طولب به،فحبس بسر من رأی فی أیام المعتصم حتی مات فی الحبس (2)کما استمر علی رفض سلطة العباسیین جماعة من العلویین و لجئوا إلی الثورة.و یمکننا القول أن محاولات بنی العباس بلونها هذا قد استطاعت أن تجعل الرقابة و القیود التی اعتاد علیها أئمة أهل البیت و المفروضة علیهم من قبل الحکام مناسبة لأصول اتجاهات الرأی و مدارس الکلام،لکنها فی حقیقتها واحدة.فعلم أهل البیت و تعلیمات الأئمة کانت منهلا و ینبوعا لهذه الاتجاهات،و کان المعتزلة علی الأخص من أقرب الناس رأیا إلی فقه أهل البیت،و إن ضمّت صفوفهم رجالا أبعد ما یکونون عن الولاء،حیث تأثر معتزلة البصرة بما یحیط بهم،و تأثر معتزلة بغداد بغیر ذلک،و بناء علیه فکیف یدّعی المأمون العلم و الانتصار للفکر،و یتبع سیاسة السجن و اعتقال رجال أهل البیت الذین لا ینکر المعتزلة تأثرهم و اقتدائهم بهم؟فأخذ بالتظاهر الذی یصعب معه الاطمئنان إلی زوال نوازع الکره و العداء لأهل البیت.
و کان المعتصم مقلدا و منفذا لسیاسة المأمون بجوانبها المختلفة فی الموقف من رجال الفکر و معاملة أهل البیت،ثم جاءت مرحلة الواثق التی تمثل المرحلة الوسطی التی تسبق عودة السیاسة العباسیة إلی عهدها علی ید المتوکل.و مع أن رجل المعتزلة السلطانی أحمد بن أبی دؤاد قد تمکّن من إبقاء قضیة خلق القرآن علی واجهة الحکم، إلا أن الواثق لم یتعرّض إلی أحمد بسوء،و أرسل إلیه و قال له:لا تساکنّی بأرض، فاختفی أحمد بقیة حیاة الواثق.
ص:50
و نحن نجد فی أحداث هذه المشکلة من مظاهر الظلم و العنف ما تأباه النفوس، لکنها تصبح غیر ملفتة إذا ما قورنت بأهوال السجون و مصائب التعذیب التی یلقاها آخرون،فدع عنک کیف استشهد الإمامان الرضا و الجواد علی ید حکام یتظاهرون بالودّ،و خذ مثلا من عرف من العباسیین بعدائه لأهل البیت.و مع ذلک فلا یقرّ ما یجری فی ظل الحکام من اعتداء علی حرمة الرأی أو العلماء،بل نذکره للإدانة و نسطّره لتعرف الأجیال ما ارتکب الحکام.و من أحداث هذه الفترة التی تتصل بالقول بخلق القرآن أن شیخا من الشام جیء به إلی الواثق،فلما دار النقاش اتفق الواثق مع رأی الشیخ فی جواز الإمساک عن هذه المقالة ما اتسع لهم کما اتسع لرسول اللّه و أبی بکر و عمر و عثمان و علی،و أمر الواثق بقطع قید الشیخ،فلما قطعوا القید ضرب الشیخ بیده إلی القید حتی یأخذه،فجاز به الحداد،و أخذه من الحداد قائلا:لأنی نویت أن أتقدم إلی من أوصی إلیه أن یجعله بینی و بین کفنی حتی أخاصم به هذا الظالم عند اللّه یوم القیامة و أقول:یا ربّ،سل عبدک هذا لم قیدنی و روّع أهلی و ولدی و إخوانی بلا حق أوجب ذلک علیّ؟ ثم جاءت فترة عهد المتوکل الذی استلم الحکم فی سنة 232 ه فعاد النصب بأوضح صوره (1)و تجدّد العداء لآل البیت بأقبح أشکاله،و لیس ذلک بردّ فعل لما سبق،و إنما ردود الفعل تمثلت فی موقعه فی مسلسل الحکام من بنی العباس.یقول ابن کثیر:و کان المتوکل محببا إلی رعیته؟قائما فی نصرة أهل السنة،و قد شبهه بعضهم بالصدّیق فی قتله أهل الردّة لأنه نصر الحق و ردّه علیهم حتی رجعوا إلی الدین،و بعمر بن عبد العزیز حین ردّ مظالم بنی أمیة،و قد أظهر السنّة بعد البدعة، و أخمد أهل البدع و بدعتهم بعد انتشارها و اشتهارها.
و أکرم المتوکل أحمد بن حنبل،و کتب إلی نائبه ببغداد أن یبعثه إلیه،و کان حتی وفاة أحمد یتفقده و یوفد إلیه فی أمور یشاوره فیها و یستشیره فی أشیاء تقع له (2).
و بدأ الحنابلة مع السلطة منذ هذا التاریخ یسهمون فی تعمیق روح الخلاف،و نحن -و إن قلنا برد الفعل-إلا أن الأمر تجاوز ذلک لاستسهال أمر الاتهام بالکفر و الخروج
ص:51
علی الدین.فاهتزّ کیان الأمة،و اختلّ بناء المجتمع،و قد أطلعنا فیما مضی علی جانب من الأحداث التی تقوم بتأثیر العصبیة و الجهل.و استمر الحنابلة یعنون بالهیمنة علی الحکم،حتی أن المطیع باللّه کان یتقرّب إلیهم بالتظاهر بسماعه و تردیده أقوالا لأحمد بن حنبل،و قد کان یحدّق به خلق کثیر من الحنابلة قدروا بثلاثین ألفا،فأراد أن یتقرب إلیهم،فی حین کان الناس یأکلون الأطفال و الجیف لشدة الجوع،و إذا رأثت الدواب اجتمع جماعة من الضعفاء علی الروث،فالتقطوا ما فیه من حبّ الشعیر فأکلوه،و کانت الموتی مطرحین فربما أکلت الکلاب لحومهم (1).
و امتدت مشکلة خلق القرآن لعهود طویلة،و بتأثیر الحنابلة شملت الاتهامات أغلب الطوائف،ففی سنة 408 ه استتاب القادر باللّه فقهاء المعتزلة الحنفیة،فأظهروا الرجوع و تبرّءوا من الاعتزال،ثم نهاهم عن الکلام و التدریس و المناظرة فی الاعتزال و الرفض و المقالات المخالفة للإسلام،و أخذ خطوطهم بذلک،و إنهم متی خالفوه حلّ بهم من النکال و العقوبة ما یتّعظ به أمثالهم،و امتثل یمین الدولة و أمین الملة أبو القاسم محمود أمر أمیر المؤمنین و استنّ بسنّته فی أعماله التی استخلفه علیها من خراسان و غیرها فی قتل المعتزلة و الرافضة و الإسماعیلیة و القرامطة و الجهمیة و المشبّهة،و صلبهم و حبسهم و نفاهم،و أمر بلعنهم علی منابر المسلمین،و إبعاد کل طائفة من أهل البدع،و طردهم من دیارهم،و صار ذلک سنّة فی الإسلام (2).
ثم تبادل الناس فیما بینهم الاتهامات،و غدت سنّة الحکام شاملة،و شاع التعصب مع سعی حثیث إلی إدخال الحکام فی صمیم الأمر،و الاستعانة بقوة السلطان،و نحن سنعرض إلی جوانب من ذلک بحسب مواقعها من الکتاب.
ص:52
و هکذا أدّت تدخلات الحکام إلی نتائج أساءت کثیرا إلی حرکة الفکر و الکلام، و شجعت قیام ظروف ملائمة للاتهامات و العداء.و إذا نظرنا إلی تاریخ الحکام فی الإسلام و موقفهم من أعدائهم،رأینا أن سلاح التکفیر و الخروج عن الدین کان من أهم ما یشهره الحکام لاجتناب العامة و استغلال مشاعرهم المختلفة،و البروز بمظهر دینی غیر حقیقی،و لما حدثت هذه الأحداث و تحکّمت النزعات و هیمن التعصب علی النفوس،تبادلت الطوائف الاتهامات،و أصبح الاتهام بالبدعة و الضلالة أمرا مألوفا،کما أصبح استحلال الدم و ما یتبع ذلک من فظائع الأمور التی تشلّ حرکة الفکر و تمزّق المجتمع شرّ ممزّق،إذ لم یکن استخدام لفظی البدعة و الضلالة قائما علی أساس صحیح مجرد من العواطف و النزعات الخاصة.فقد تدخلت الأغراض المختلفة:أغراض الملوک،و أغراض المتنفذین و المتزعمین فی شتی المیادین.و قوبل استسهال الحکم بالکفر أو الضلال بأعمال و فتاوی مقابلة،و مرّت الأعوام و لفظ الضلالة و البدعة یستخدمان وفق الأغراض،و کل جهة یصدر منها الاتهام یصدر من أختها فی الدین ما یقابل ذلک.
و أصبحت حرکة المذاهب تتبادلها بسهولة،و هی فی کل الأحوال تحدث فی حالة تتغلب فیها العواطف علی حکم الدین،فعقیدة الإسلام واضحة جلیة و إن استجد ما یخرج علی القواعد و الأصول و روح الإیمان،فالتصدی لهذا الخروج و إطفاء باطله واجب علی کل مسلم،فإذا کانت مبادئ الإسلام واضحة و عقائده جلیة،فما لا یجری علی منواله و یقتدی بروح القرآن بیّن معروف یکون من السهولة الإجماع علیه، أما إذا کان تحکما و خضوعا للأهواء فهو المصیبة التی نحن بصدد بیان بعض أجزائها و جوانبها.
ص:53
فالمذاهب أصبحت تدّعی أن کلاّ منها علی حق،و غیرها علی الضلالة.
و البدعة لغویا کل شیء أحدث علی غیر مثال سابق،سواء کان محمودا أو مذموما.و البدیع:محدث عجیب غیر معروف،و هی تفید معنی الأحداث و الاختراع.أما البدعة اصطلاحا فهی مدار اختلاف الفقهاء شرعا،و یمیل أغلب العلماء إلی أنها إحداث فی الشرع،و عند بعضهم قد یکون مذموما أو محمودا.و لکن روح العداء أخضعت اللفظین لأغراضها،فاتهمت کل طائفة الأخری بالبدعة و الضلالة دون تمییز و هو انحراف عن واقع الحال،و بعد عن الحقیقة،و من هذا ما ذهب إلیه ابن المقری الشافعی فی تمثیله للمبتدع بالحنفی،و صاحب البزازیة الحنفی یمثل المبتدع بالشافعی،و أمثال هؤلاء کثیرون بین المذاهب الأربعة (1).
کما و قد وضعت کتب تتضمن بیان الفرق الإسلامیة و شرح عقائدها و تصف الکثیر منها بالبدعة أو الضلالة أو الکفر أخیرا.
و تمرّ السنون،و تکثر الکتب من دون جدوی فی تحدید هذین الاصطلاحین لنعرف ما هی البدعة التی یستوجب صاحبها النار،بسبب الضلال عن الهدی؟کما ورد فی الحدیث:«کل بدعة ضلالة،و کل ضلالة فی النار».فکیف نتعرف علی البدعة و نجتنبها؟و ما هی الضلالة التی توجب دخول النار؟هل لها حدّ شرعی أو تعریف لغوی؟و قد اختلفت المصادیق و تعدّدت الأقوال.و حدیث الفرق أن النبی قال:«ستفترق أمتی علی ثلاث و سبعین فرقة،اثنتان و سبعون فی النار،و واحدة فی الجنة»و بلفظ آخر«کل علی الضلالة إلا السواد الأعظم»فلهذا الحدیث شأن و قد تعرّضنا له سابقا و شکّکنا فی صحة نسبته إلی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی إجماله بدون بیان،و هذا ما یوجب إغراء الأمة بعضها ببعض،و تحامل الناس بعضهم علی بعض،و سنعود للحدیث عنه إن شاء اللّه.
و بقی تعریف البدعة هو ما اخترع علی غیر مثال سابق،فهی لغویا کما فی لسان العرب:بدعه أنشأه کابتدعه.و بدع اللّه الخلق أحدثهم لا علی مثال سابق.و بدع سمن،و بدع بداعة و بدوعا صار بدیعا،و أبدع أبدا و الشاعر أتی بالبدیع فهو مبدع، و منه البدیع الخالق المخترع،و فی المذهب أنها إیراد أقوال لم یستند فاعلها أو قائلها
ص:54
فیها لصاحب الشریعة لأن أصل مادة بدع الاختراع علی غیر مثال سابق،کقوله تعالی:
قُلْ ما کُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ و لکن مجریات الأحداث و تطورات الأمور جعلت التعریف فی اختلاف و مذاهب،فمنهم من جعلها فی العبادات خاصة،و منهم من جعلها فی العبادات و العادات.
فتعدّدت وجهات النظر فی إطلاق البدعة أو الضلالة،و استهل الناس قذف الآخرین بها مما عمّق الخلاف بین المذاهب أو الطوائف،فطائفة تتهم الأخری بالبدعة و الضلالة و تتوهم أنها تحتکر،الهدی و تسیطر علی الحق دون غیرها،و هذا یحدث ردّ فعل عند الطائفة الأخری،فیردّ الاتهام علی الطائفة بنفس الأسلوب،و بأنها مبتدعة خارجة عن الدین،و هی علی الهدی.و بهذا فقد اشتدّ الهیاج،و کثرت الفتن، و انتشرت الفوضی،و هنا نری لزوم الحدیث عن الفوارق التی حلت بین المسلمین، و کیف أصبحت کلمة بدعة أو مبتدعة سلاحا یوجه للناس و هم فی حالات أقرب بها إلی اللّه و مبادئ الإسلام من أولئک الذین یستخدمونها لتغطیة ضعفهم و انهزامهم.
و کیف وجّهت إلی الجماعات التی تهدّد مناهج الجمود و الانغلاق ظلما،کما وجّهت توجیها سلیما إلی الجماعات التی لا غبار علی بعدها عن السنة و خروجها علی ما جاء به صاحب الشریعة صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.
؟ لقد حدثت أمور بسبب الاختلاف فی تمییز البدعة و من هو المبتدع فخلطوا بین السقیم و الصحیح و سارت الأمور علی غیر المنهج العلمی،فکانت هناک أشیاء هی مدعاة للأسف لأنها تعکس سلوک رجال لم یسلکوا مع خصومهم الطریق التجرّدی المعقول،بل التجئوا إلی استخدام القوة و کل ما یتعارض مع حریة الفکر التی ضمنها الإسلام،و جعلها إحدی مقومات المجتمع الإسلامی،و لنقف علی بعض الأقوال فی لزوم تجنب صاحب البدعة،و لنأخذ صورة عن تلک العصور المظلمة،و الوقوف علی تلک المفارقات التی حدثت بالمجتمع.
یقول بعضهم:من جالس صاحب بدعة،نزعت منه العصمة و وکل إلی نفسه.
و عن یحیی بن کثیر أنه قال:إذا لقیت صاحب بدعة فی طریق،فخذ طریقا آخر.
و عن الفضیل أنه قال:من جلس مع صاحب بدعة لم یعط الحکمة،و الماشی إلیه معین علی هدم الإسلام.
ص:55
و قال هشام بن حسان:لا یقبل اللّه من صاحب بدعة صلاة و لا صیاما،و لا زکاة و لا حجا،و لا جهادا،و لا عمرة،و لا صرفا،و لا عدلا (1).
و قد أوردوا عن صاحب الرسالة صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أحادیث تدعم هذه الآراء،فعن هشام بن عرفة مرفوعا«من وقّر صاحب بدعة فقد أعان علی هدم الإسلام».
و عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«من أتی صاحب بدعة لیوقّره فقد أعان علی هدم الإسلام،و من أعرض عن صاحب بدعة بغضا له فی اللّه ملأ اللّه قلبه أمنا و إیمانا،و من انتهر صاحب بدعة آمنه اللّه یوم الفزع الأکبر،و من أهان صاحب بدعة رفعه اللّه مائة درجة،و من سلّم علی صاحب بدعة أو استقبله بالبشر،أو استقبله بما یسرّه،فقد استخفّ بما نزل علی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم».
و جاء عن عائشة،أنها سألت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عن قوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ فَرَّقُوا دِینَهُمْ وَ کانُوا شِیَعاً ؟فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«هم أصحاب الأهواء و أصحاب البدع و أصحاب الضلالة من هذه الأمة،یا عائشة:إن لکل ذنب توبة،ما خلا أصحاب الأهواء و البدع لیس لهم توبة، و أنا بریء منهم،و هم براء منی».
و غیر ذلک من الآثار التی أسندت إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و لسنا فی معرض نقدها من حیث الصحة أو الدلالة،و بیان علتها،و لکن الأمر المهم أن ننظر إلی الواقع العملی و کیف استعملت کلمة البدعة فی معان مختلفة،و اتّهم بها رجال هم مثال التمسک بالسنّة.و نود هنا استکشاف الواقع حول انطباق هذه التسمیة لنخرج بنتیجة و هی:من هو الذی تنطبق علیه هذه السمة فی الإسلام؟و من هو صاحب السنّة المتمسک بها؟ 1-فهذا أحمد بن حنبل فی معرض کلامه عن الفرق المبتدعة یقول:ذکر محاسن أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کلهم أجمعین،و الکف عن مساوئهم،و الخلاف الذی یشجر بینهم،فمن سبّ أصحاب رسول اللّه،أو واحدا منهم،أو تنقّصهم أو طعن علیهم أو عرض بعیبهم،أو عاب أحدا منهم فهو مبتدع رافضی خبیث مخالف، لا یقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا،بل حبهم سنّة،و الدعاء لهم قربة،و الاقتداء بهم وسیلة،و الأخذ بآثارهم فضیلة.
ص:56
2-و قال:من زعم أنه لا یری التقلید،و لا یقلد دینه أحدا فهو قول فاسق عند اللّه و رسوله،إنما یرید بذلک إبطال الأثر،و التفرّد بالرأی و الکلام و البدعة.
3-و أصحاب الرأی و هم مبتدعة ضلال،أعداء للسنة و الأثر،و یبطلون الحدیث،و یردّون علی الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یتّخذون أبا حنفیة و من قال بقوله إماما و یدینون بدینه،و أی ضلالة أبین ممن قال بهذا و ترک قول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أصحابه.
4-و الولایة بدعة،و البراءة بدعة،و هم الذین یقولون:نتولی فلانا و نتبرأ من فلان،و هذا القول بدعة فاجتنبوه.
فمن قال بشیء من هذه الأقاویل أو رآها،أو صوّبها،أو رضیها،أو أحبها فقد خالف،و خرج من الجماعة و ترک الأثر،و قال بالخلاف،و دخل فی البدعة و زلّ عن الطریق،و ما توفیقی إلا باللّه.
و بهذا ختم الإمام أحمد هذا الفصل من رسالته أو اعتقاده الذی رواه عنه أحمد بن جعفر الأصطخری و التی یقول فی أولها:هذه مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر.(إلی أن یقول)فمن خالف شیئا من هذه المذاهب أو طعن فیها،أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة.ثم یعدّد العقائد أولا مما ینطبق علی ما تذهب إلیه الحنابلة فقط.و یذکر الأقوال ثم یعدد الفرق المبتدعة و منهم المرجئة و الخوارج و المعتزلة إلی آخر ما ورد فی الرسالة من أمور هامة.
و إذا وقفنا وقفة المتأمل فی عبارات هذه الرسالة،أو المرسوم الذی اتخذه الحنابلة منهجا و دستورا یسیرون علیه فی معاملة المسلمین و بیان منزلتهم الدینیة،یبدو لنا جلیا أنه لم یسلم أحد من جمیع الأمة الإسلامیة من الضلالة،و ارتکاب البدعة.أو بعبارة أوضح،لم تسلم فرقة من فرق المسلمین من ذلک،إلا الحنابلة أنفسهم فهم المسلمون،و لهم الإسلام وحدهم دون سواهم کما یدّعون و یصرّحون بذلک.فهذا الشیخ عبد الغنی المقدسی من أشهر علماء الحنابلة،ذکر شیئا من العقائد أنکرها علیه بقیة المذاهب،فعقدوا له مجلسا،و أصرّ علی رأیه،فقال له الأمیر برغش:کل هؤلاء ضلاّل و أنت وحدک علی الحق؟قال:نعم.فغضب الأمیر،و أمر بنفیه من البلد، و کسر منبر الحنابلة.
ص:57
قال ابن کثیر:و جرت خبطة شدیدة نعوذ باللّه من الفتن ما ظهر منها و ما بطن (1)و یؤید ذلک تصریح شیوخهم بأن غیر الحنابلة مبتدعة.یقول قتیبة بن سعید:أحمد بن حنبل إمام،و من لا یرضی بإمامته فهو مبتدع.و ادعوا علی الشافعی أنه قال:من أبغض أحمد بن حنبل فهو کافر.فقیل له:تطلق اسم الکفر علیه؟فقال:نعم،من أبغض أحمد بن حنبل عائد السنة،و من عائد السنّة قصد الصحابة،و من قصد الصحابة أبغض النبی،و من أبغض النبی کفر باللّه العظیم (2).
و قال أحمد الدورقی:من سمعتموه یذکر أحمد بن حنبل بسوء،فاتهموه علی الإسلام.
و قال بعض الحنابلة:إذا رأیت البغدادی یحبّ أبا الحسن بن بشار،و أبا محمد البربهاری-و هما من شیوخ الحنابلة-فاعلم أنه صاحب سنّة.
و من الصعب الإحاطة بما خلّفته تلک الظروف من ادعاءات و تقوّلات،و قد أعرضنا عن کثیر مما وصلنا من ادعاءات الحنابلة فی علمائهم عامة و ابن حنبل خاصة، و سواء صحّت تلک الأقوال أم لم تصح،فالعامة یأخذون بها و یجعلونها شعارا فی مسیرتهم نحو أهدافهم،و قد أوردوا عن أحمد بن حنبل و غیره أمورا لا یمکننا أن نصدّقها،فهی بعیدة کل البعد عمّا اتصف به أحمد من العلم،و الاتزان.و لکن الحنابلة جعلوا ذلک دستور حیاتهم،بدون تثبّت،و قد دعمت تلک الأقوال حرکاتهم فی مقابلاتهم لجمیع الفرق،و اشتدوا بصورة خاصة علی الشیعة.
أما المعتزلة-و هم خصوم الحنابلة السیاسیین-فقد نالوا من الأذی ما لا یوصف،و کذلک الأشعریة الذین اختلفوا معهم فی العقائد،و قد صرّحوا بالطعن علی الأشعری و نسبوا له أقوالا مخالفة لروح الإسلام،و ذهب بعضهم إلی کفر أصحابه، و خروجهم عن حظیرة الإسلام نظرا لما یعتقدونه مما یخالف عقائد الحنابلة،و بهذا وصفوا الأشعری نفسه بأنه مبتدع،ففی سنة 445 ه أعلن بنیسابور لعن الأشعری رسمیا،و کان قد رفع إلی السلطان طغرلبک من مقالات الأشعری،فأمر بلعنه.
ص:58
و وقعت فتنة عظیمة بین الحنابلة و الأشعریة حتی تأخر الأشاعرة عن حضور الجمعات خوفا من الحنابلة.
و خلاصة القول،أن الحنابلة یرون من خالفهم من المسلمین کفارا.و یقابلهم الأشعریة کلهم أو بعضهم بتکفیر شامل لمن لا یعرف وجود الباری بالطرق التی وضعوها،و قد خالفهم الحنابلة فی جمیع ذلک.
و ذهبوا إلی أن العدول عن مذهب الأشعری و لو قید شبر فهو کفر،و لو کان العدول فی شیء نزر فهو ضلال و خسر.و هکذا فالأشعریة و الحنابلة یکفّر بعضهم بعضا،و قد لقی الأشعری من الحنابلة فی حیاته،عنتا و تحاملا علیه و علی أتباعه و مؤیدی أفکاره و آرائه،و لشدّة تعصّبهم علیه أخفی أصحابه قبره بعد وفاته سنة 333 ه حذرا من أن تنبشه الحنابلة،لأنهم حکموا بکفره و إباحة دمه.و لقد وقعت بین الحنابلة و الأشاعرة حوادث کثیرة و حروب و قتال فی شوارع بغداد،أهمها یوم دخلها القشیری،و وعظ بها.فاضطر إلی الخروج من بغداد،و کانت اللعنات تنهال علی الأشعری،و نسبوا إلیه بعض الآراء الشاذة لیوجهوا الرأی العام ضد الأشعریة،و قد اتخذ الحنابلة یوم الجنائز إعلانا لمبدئهم،و تکفیرا لمن خالفهم،و قد کانوا یردّدون فی تشییع الجنائز هتافات معادیة للأشعریة و غیرهم من خصومهم،و بهذه الأمور المحزنة یستمر الوضع السیئ بین جماعات المسلمین،و تنتشر الفرقة بین صفوفهم،و الأمر یشتد کلّما مرّ الزمن.و قد قطع الحنابلة فی مسیرتهم أشواطا بعیدة فی الدعوة لآرائهم بعنف و قوة،کما صبّوا جام غضبهم علی من خالف بعض تلک الآراء.
و قد أفتی بعض علمائهم-و هو الشیخ عبد اللّه الأنصاری الملقب بشیخ السنّة فی خراسان-بعدم حلّیة ذبائح الأشعریة،لأنهم کفار فی نظره تبعا لرأی العامة من الحنابلة.
و قد امتحن کثیر من العلماء،و راحوا ضحیة الجهل و الفوضی،و اتّهم کثیر منهم بسوء الاعتقاد،کما رمی الکثیر منهم بالکفر و الزندقة.
و کان ابن جریر الطبری المتوفی سنة 340 ه من أولئک الرجال الذی نالهم غضب الحنابلة-کما أشرنا سابقا-مع عظیم منزلته و مکانته العلمیة،و هو صاحب التفسیر الشهیر و المؤلفات القیّمة،فرموه بالإلحاد و الزندقة لأنه خالفهم فی مسألة
ص:59
الیدین،فقال فی قوله تعالی: یَداهُ مَبْسُوطَتانِ أی نعمتاه.و هم یرون أن الید هی الید الجارحة،کما زادوا فی اتهامه أنه رافضی،لأنه کان یری جواز المسح بالوضوء علی القدمین،کما ألّف کتابا جمع فیه أحادیث غدیر خم،و آخر جمع فیه طرق حدیث الطائر المشوی (1).
و من هذا و ذاک،فقد امتحن و غضبوا علیه،و رموا داره بالحجارة حتی علت علی الباب،و منع من التحدیث،و لما مات منعوا دفنه نهارا،و دفن لیلا خوفا منهم.و کان أبو الحسن الآمدی حنبلیا،ثم انتقل لمذهب الشافعی،و حدث بمدرسة الشافعیة بالقرافة الصغری،و اشتهر فضله و انتشرت فضائله،فتعصّبوا علیه و کتبوا محضرا بخطوطهم،و اتهموه بمذاهب التعطیل و الانحلال،و خرج إلی دمشق و انعزل و لزم بیته إلی أن مات.و ألقی القبض علی ظهیر الدین الأردبیلی الشهیر بقاضی زاده،و هو حنفی المذهب،و قطعت رقبته و علقت علی باب زویلة بالقاهرة،لأنه ذهب إلی عدم وجوب ذکر الصحابة فی الخطبة،فاتهموه بالبدعة،أو أنه یتشیّع،فعوقب لذلک.و حکم علی الحسن بن أبی بکر السکاکینی بالزندقة و أنه یسبّ الصحابة،و أقیمت علیه الشهادة عند القاضی شرف الدین المالکی،فحکم علیه بالقتل،فضربت عنقه بسوق الخیل.
و اتّهم لسان الدین بن الخطیب-عالم الأندلس-بالزندقة،فحکم علیه بالقتل.
و ذلک أنهم أحصوا علیه کلمات فی مؤلفاته و رفعوها إلی القاضی،فسجّل علیه الحکم بالزندقة،و أفتی بعض الفقهاء بقتله،فطرقوا علیه السجن فخنقوه و أخرجوا شلوه و أحرقوه.
و قد أشرنا سابقا إلی أن المحکمة التی تعقد لمحاکمة المتّهمین بالبدعة أو الضلالة عن الدین هی تحت رئاسة قاض مالکی،و الزندیق أو المبتدع عن المالکیة ینفّذ فیه الحکم و إن تاب،بخلاف بقیّة المذاهب،و هو رأی مالک،و قد خالف ابن مخلد و ابن الموازی ذلک.
قال الشوکانی:أبتلی أهل تلک الدیار بقضاة من المالکیة یتجرءون علی سفک
ص:60
الدماء بما لا یحلّ به أدنی تعزیر،فأراقوا دماء جماعة من أهل العلم بجهالة و ضلالة و جرأة علی اللّه،و مخالفة لشریعة رسول اللّه،و تلاعبا بدینه بمجرد نصوص فقهیة و استنباطات فرعیة لیس علیها آثار من علم،و إنّا للّه و إنّا إلیه راجعون.
و ربما کان حکم المالکی عن غضب و تأثر،فإن الباجریقی الشافعی الذی اتهم بانحلال العقیدة،حکم الحنبلی بعصمة دمه،فغضب قاضی المالکیة و حکم بقتله.
و قدم رجل متّهم بالبدعة،و لما أحضر أنکر ذلک.فحکم بقتله،فقال:کیف تقتلوننی و أنا أقول:لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه؟ قال ابن أبی عقیل:أنا أقتلک.
قال:بأی حجّة؟ قال:یقول اللّه تعالی: فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ .
و من الفظائع المؤلمة،إنهم حکموا علی إبراهیم الضبّی بالسجن،فضمّ إلیه فی السجن رجل یعرف بابن الهذیل،ثم صدر حکم بأن یضرب ابن الهذیل خمسمائة سوطا،و أن تخبط رقبة إبراهیم لیلا،فاشتبه العامل و ضرب إبراهیم خمسمائة سوطا و أعاده إلی السجن،و أخرج ابن الهذیل فضربت عنقه،ثم انتبه الوالی للغلطة،فأخرج إبراهیم و ضربت عنقه،ثم ربطت أرجلهما بالحبال و جرّا مکشوفین غیر مستورین من دار الإمارة،ثم صلبا ثلاثة أیام.
و استمر الحال علی هذه الفوضی و التحکّم بأرواح الناس باسم حمایة الدین و مقاومة المبتدعة و المفسدین،و کانوا یرون مؤاخذة هؤلاء بالشدّة،و معاملتهم بالعنف انتصارا لمبادئهم،و إنجاحا لمخططاتهم،فلا یسمعون قول أحد فی الدفاع عن نفسه، و ربما لم یسمحوا له بالدفاع عن نفسه،و لا یلتفت إلی ما یکتبه بالردّ علی ما اتهم به خوفا من وضوح الحجة و عجزهم عن نقضها،و عمدوا إلی الاستعانة بالسلطة لیرغّبوها فی إبادة المفکرین حمایة لأنفسهم،فأخذوا بفتوی مالک و من رافقه من أصحاب الشافعی إلی قتل الداعیة إلی البدع،فلا توبة له،و أعرضوا عن نصوص الدین فی قبول توبة المؤمن.
ص:61
ص:62
أدی تحول النظام الإسلامی إلی الملک،و تحکّم الأفراد،إلی ظهور وسیلة جدیدة من وسائل أصحاب السلطان فی توطید دعائم حکمهم و تثبیت نفوذ عوائلهم، فاستحدث القصص مرادفا لدور الخطباء أو الشعراء الذین انزلقوا مع الحکام فی سیاساتهم التی استخدموا بها الدین لأغراضهم و مصالحهم.و لا نعرف أثرا متفقا علیه یشیر إلی وجود القصص أو ظهور القصاصین کظهور الشعراء قبل الإسلام أو بعده،أو أن العرب عرفوا هذا النوع بما یقرب من الألوان التی عرفتها الشعوب الأخری،فلیس فی الجزیرة من أمثال تلک الأساطیر أو الحکایات،و ما کان فیها محدود التفاصیل و الأثر،أما فی الإسلام فقد تمیّز عن الأدیان السابقة بوحدة العلاقة و الواسطة،و عدم وجود وساطات أخری تفسح المجال للاستعانة بالخیال.و ما طرأ فی العقائد کان من مخلفات بنی إسرائیل التی منع الرسول محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من سلوک طریقها حیث یذکر أنه قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«إن بنی إسرائیل هلکوا لما قصّوا».
و نودّ هنا أن نشیر بعجالة إلی مبدأ هذا الأسلوب الذی وضع لخدمة أغراض الحکام،و الذی لعب دورا کبیرا فی إثارة الفوضی و إشاعة الفرقة و تأجیج نار العداء، و تطور إلی صنعة یتکسب منها من لم یفلح فی المجالات الأخری،أو من لم ینجح فی أمور الحیاة،أو تدفعه نیات خبیثة و أحقاد علی الإسلام.إضافة إلی کونها وظیفة من وظائف الدولة یتصل من خلالها القاصّ بأصحاب السلطة و الخلفاء من خلال ما یقوم بإشاعتها،و بقدر ما یحرّک فیهم الإعجاب،و هو یعبر عن أغراضهم و ما یعملون علی إشاعته و نشره.
و کان هذا النوع من النشاط من أشد الأسالیب فتکا فی جسد الأمة و تأثیرا سلبیا
ص:63
فی واقع الناس،و قد کانت لحمته مختلطة و متنوعة تجافی المنطق و العقل،و لعبت فی عقول الناس و میولهم،ثم جرأت السلطة القصاصین علی أن یتناولوا کل ما من شأنه خدمة دولهم و حکم أسرهم.
و القصاصون استعملوا قصصا تحمل الناس علی ارتکاب المعاصی،أو تدفعهم إلی القتال و النزاع.ففی سنة 284 ه أثار القصّاصون الفتن بین أتباع المذاهب الدینیة، مما حمل الخلیفة المعتضد علی منعهم (1).
و قد وصفوهم بالکذّابین،و أنهم یروون الأعاجیب (2)و منع عضد الدولة ظهورهم فی المساجد سنة 267 ه و غیرها،و اعتبرهم آفة المجتمع لأن أحادیثهم کانت سببا فی إثارة الناس (3).
و لم یعهد فی صدر الإسلام وجود قصاصین،و لکن الأمر محدث فی العهد الأموی،أحدثه معاویة حین کانت الفتنة،فکان للقصّاصین نشاط سیاسی یقومون به لتقویم دعائم الملک،إذ هم یحرّضون الناس علی تأیید الدولة،و یوغرون قلوب الناس بما یخترعونه من القصص،و یلهبون شعورهم بما یضعونه من الأحادیث، فیزداد نشاط الناس بالغیظ و حب الانتقام.
و کان الحکم الأموی منذ لحظاته الأولی یخطط لکسب الأکثریة من الناس، و إیهام الرعیة بشرعیة سلطانهم،فلجئوا إلی أسالیب کثیرة أهمها الدعایات الملفقة، و من صور الدعایة التی ابتکروها کان تجنید القصّاص لترسیخ دعائم حکمهم علی حساب مکانة الرسول و أصحابه الأخیار،و لکی یضمن الأمویون الإفادة من جهود القصاص ألزموا الناس بلزوم الاستماع إلیهم.
و لقد قام أولئک القصّاصون بکل جهدهم بصیاغة القصص و تلفیق الأحادیث.
قال حبیب بن الحرث الثمالی:بعث إلیّ عبد الملک بن مروان فقال:یا أبا
ص:64
أسماء،إنّا قد جمعنا الناس علی أمرین.فقلت:و ما هما؟قال:رفع الأیدی علی المنابر یوم الجمعة،و القصص بعد الصبح و العصر (1).
کما اتخذت السلطات فی العهد الأموی استخدام القصاص وسیلة لتشویه مبادئ الإسلام و تعضید حکمهم و اختلاق النصوص و القصص بما ینسجم مع سیاستهم فی العنف و التحکم و إخماد حریة الرأی؛فکان القصّاصون رکیزة الدولة الأساسیة فی مواجهة القوی التی أخذت تکتشف حقیقة ترکیب النظام الأموی و سیاسته الظالمة،فبذل القصّاص غایة جهدهم فی تشویه الحقائق،و السماح لهم باختلاق الروایات و وضع الأحادیث،و الإغضاء عن الافتعالات المفضوحة التی انضم بها القصاص إلی رکب المدّاحین و أهل الخطب الذین شوّهوا دور المنابر،و أساءوا إلی مهمة رجال العلم بصمتهم المطبق،و هم یرون سفک الدماء و انتهاک الحرمات، و التعدّی علی تعالیم صاحب الرسالة و مبلّغ الشریعة و أهل بیته الأطیاب،و بجلجلة ألسنتهم و هم یرکبون الکذب،و یجمعون الموضوعات،و یسوقون الخرافات و المنامات و الأساطیر تزلفا و تکسّبا،فباعوا دینهم بأبخس الأثمان،و عند اللّه الجزاء.
ثم انتشرت خرافات القصص الإسرائیلیة المعروفة بالإسرائیلیات،و قد قام بذلک جماعة من الیهود،و فی طلیعتهم کعب الأحبار،تلک الشخصیة الیهودیة التی دخلت الإسلام و هو یحمل علی کتفیه مهمة نشر الإسرائیلیات و بثّها فی ثنایا علوم الإسلام و فنون القرآن،فکان أکبر و أخطر مصدر لهذا الفن.و قد سفنا الحدیث المروی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم الذی یشیر فیه إلی أن الیهود فی قصصهم قد هلکوا،و قصدنا إظهار ما فیه من تحذیر،و قد جاء کعب لیکون من دعائم بنیان فن القصص الذی عملوا علی توسیعه،فالتقت الأغراض.
فالیهود هم أکبر عامل لإثارة الحزازات و النعرات و النزعات العصبیة بین القومیات التی تعیش فی المجتمع الإسلامی،و طریقتهم فی تآمرهم علی الإسلام هی:
التظاهر باعتناقهم إیاه،ثم یبدءون ببثّ سمومهم بما یلقونه من قصص و أخبار و هی لیست بذات قیمة؛لکنهم یجیدون استغلال الظروف و التحرک المناسب.
و قد حذّر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من خطرهم،و أمر بإجلائهم،و کانت آخر وصیة له صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أن
ص:65
قال:«اللّه فی أهل بیتی،أوصیکم فی أهل بیتی خیرا،و أخرجوا الیهود من جزیرة العرب»و لکن المسلمین لم یأخذوا هذه الوصایا بعین الاعتبار،فکان ما کان من عواقب وخیمة.
و قد أجلی عمر بن الخطاب جماعة من الیهود،فسکنوا الکوفة،فکانوا قطب رحی الخلافات،و قد شوّهوا سمعة هذا البلد العربی المسلم.حتی عرف بالمکر و الخیانة،و الغدر،و الخدیعة.و لعب هؤلاء الیهود دورا مهما فی نشر الخلافات فی جیش الإمام الحسن علیه السّلام و تمزیق وحدة الصف،و إثارة النعرات.
و لا یتّسع المجال لشرح مواقفهم من قضیة الحسین علیه السّلام بدفع عجلة الحوادث،و تطویر الوقائع،للإسراع فی القضاء علی الحسین علیه السّلام لأنهم یعدّون ذلک نصرا لهم،و فتحا جدیدا فی موقفهم العدائی للإسلام،و استمرّت أعمالهم فی العهد الأموی یوسّعون دائرة الخلافات،و یقیمون العراقیل فی طریق التفاهم بین الفئات المتناحرة.
و علی کل حال،فقد استمر القصّاص بمساندة السلطة و تأییدهم الحاکم الذی یصبح وضعه ینذر بالخطر لسوء السیرة و قبح المعاملة،فیلجأ إلی استعمال سلاح الحمایة باسم الدین بشتی الوسائل،فیوعز إلی القصّاص بالنزول إلی غمار العامة یقصّون علیهم ما یحرّک شعورهم ضد الفئة المعارضة للدولة،أو یشغلونهم بحدوث فتنة.و قد استطاعوا أن یجلبوا أذهان السذّج،و یؤثروا علی تلک العقول فی وضع الأحادیث و اختراع القصص،فکانوا أداة فرقة،و أکبر عامل لإثارة الفتن.
قال ابن الجوزی:و کان القصّاص فی أواخر القرن الرابع أکبر مثیری الفتن بین السنة و الشیعة.
و یقول أیضا فی موضوعاته:إن معظم البلاء فی وضع الحدیث إنما یجری من القصّاص،لأنهم یروون أحادیث ترفق و الصحاح تقل فی هذا.و اختلف أهل البصرة فی القصص،فأتوا أنس بن مالک فسألوه:أ کان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقص؟قال:لا.
و أخرج الزبیر بن بکار فی أخبار المدینة عن نافع و غیره-من أهل العلم-أنهم قالوا:لم یقصّ فی زمان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و لا زمان أبی بکر و لا زمان عمر؛و إنما القصص محدثة،أحدثها معاویة حین کانت الفتنة.
ص:66
و لا شک أن معاویة استعمل تلک الفئة المرتزقة کما قدّمنا لیستعین بها فی وضع الأحادیث لدعم ملکه،و حمایته بوجه موجة الاستنکار،و قد استطاع أن ینشر بین الناس مناقب عثمان الموضوعة،و مناقب البلدان،و مناقب بعض الرجال و العشائر کما یشاء.
کما أنه استطاع أن یختلق لخصومه مثالب أبرزها فی قالب الابتکار و الخیال الواسع،و تمکّن بهذه القوة،أن یزوی ما لعلی علیه السّلام من مناقب و ما ورد فیه من أحادیث صحاح،فکان بحکم تلک الدعایات التی هی کأوامر رسمیة أن أصبح الخطباء یعلنون سبّ علی علیه السّلام و شیعته،و کان الوعّاظ یختمون مجالسهم بشتمه علیه السّلام و کان یلزم الناس بإعلان سبّه و البراءة منه،و فرض علیهم تعلیمه لأبنائهم،و أصبح معاویة بمقتضی تلک الأسالیب و بتلک الأکاذیب هو:أمین الأمة،و کاتب الوحی، و خال المؤمنین،إلی آخر ما هنالک من أساطیر.
و مهما حاول معاویة إخفاء فضل علی علیه السّلام فقد انهار ما بنی،و بقی ذکر علی و أهل بیته علیه السّلام تردّده الأجیال بفخر و اعتزاز علی مرّ العصور و الأیام.
إذا ما بناء شاده الدین و التقی تهدّمت الدنیا و لم یتهدّم
و لسنا هنا بمعرض البحث عن تلک الأزمنة،فقد أشرنا إلی بعضها فی الأجزاء السابقة،و جلّ اهتمامنا فی جمیع ما ذکرناه هنا و هناک،هو إعطاء صورة عن الأمور المحزنة التی تحزّ بالنفس،و التی حدثت فی أزمنة متأخرة من الزمن.الذی کان ظرف تلک الحوادث و هی امتداد لما حدث فیها من خلافات.
و علی أی حال،إن الأثر الذی أحدثه القصّاصون فی ذلک المجتمع من إثارة فتن،و إیقاد نار البغضاء بین طوائف المسلمین،و إشعال حروب طاحنة؛هو من أعظم الأمور التی ابتلی بها المسلمون فی تلک الفترة المظلمة.
لقد کان أولئک النفر یحرّضون الناس علی القتال و النهب،و یحرّکون القلوب، و یثیرون الشعور بما یفتعلونه من أقوال و یضعون من أحادیث،یغذّون بها أدمغة العامة،کما قاموا فی المساجد و الجوامع و الطرقات و الأندیة یبثّون سمومهم.
فاتخذتهم السیاسة سلاحا فاتکا-کما قدمنا-و هم ینتشرون فی ساحات الحرب
ص:67
یشجعون الجند علی القتال.و لقد خضعت العامة لتصدیقهم و قبول مفتریاتهم،حتی أصبح من العسیر الإنکار علی واحد منهم.و من تجرأ فأنکر،یکون عرضة لسخط العامة.و حیث عظم خطرهم و فشا کذبهم و ظهر تلاعبهم بتفسیر الکتاب العزیز،فأراد بعض العلماء أن یقوم بتوجیه الناس بحملة إنکار علی هؤلاء الذین فتکوا بجسم الأمة بأکاذیبهم،و لکن أقعد أولئک العلماء خوف العامة،فترکوا الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر تقیة و خشیة من السلطان،لأنهم تحت رعایة الدولة.و ربما خرج القاصّ محاطا بالجند و مزوّدا بالسلاح.
ففی سنة 475 ه عبر قاصّ من الأشعریة-یقال له البکری-إلی جامع المنصور و معه الشحنة و الأتراک بالسلاح،و کان البکری فی حدة و طیش،و کان النظام أنفذ ابن القشیری،فتلقاه الحنابلة بالسبّ،فأرسل إلیهم النظام هذا القاصّ،فأخذ یسبّ الحنابلة،و یستخفّ بهم،و قد أحیط بالسلاح من الأتراک،و صعد المنبر و قال: وَ ما کَفَرَ سُلَیْمانُ وَ لکِنَّ الشَّیاطِینَ کَفَرُوا ما کفر أحمد بن حنبل،و لکن أصحابه کفروا.و حکی علی الحنابلة فی صفات اللّه عز و جل ما لا یلیق،فأغری بهم الناس، و أعلن شتمهم (1).
و أراد جماعة من العلماء الإنکار علی محمد السمرقندی لأنه کان یقصّ و یحدّث بأحادیث منکرة،فلما حضروا عنده،اجتمع العامة،فخاف العلماء من شرّه.
و نزل قاصّ فی دار الحذائین و روی أحادیث منکرة،فأراد یحیی بن معین أن ینکر علیه،و لکنه ترک ذلک تقیة خشیة أن یقتله الحذائون بشفارهم.
و حکی السیوطی قصته مع القصاص الذی حدّث الناس بحدیث لا أصل له، و کذّبه السیوطی،و أفتی بأن هذا الحدیث لا أصل له و هو باطل لا تحلّ روایته و لا ذکره و خصوصا بین العوام،و السوقة،و النساء،و أنه یجب علی هذا الرجل أن یصحح الأحادیث التی یرویها فی مجلسه علی مشایخ الحدیث.
فنقل کلام السیوطی إلی ذلک القاص،فاستشاط غیظا و قام و قعد،و قال:مثلی من یصحح الحدیث عن المشایخ؟!مثلی یقال له فی حدیث رواه أنه باطل؟!أنا أصحح علی الناس،أنا أعلم أهل الأرض بالحدیث.ثم أغری الناس بالسیوطی
ص:68
فهاجت العامة،و قامت الغوغاء،و تناولوه بألسنتهم،و توعّدوه بالقتل و الرجم (1).
و أنکر علی بن نبال علی قاص بما حدّث،فعظم ذلک علی العامة و همت بإیقاع المکروه فیه،فاختفی عنهم و تواری فی بیته.و سمع الأعمش أحد القصاص یقول:
حدثنا الأعمش.فقام و توسط الحلقة،و جعل ینتف شعر إبطه.فقال القاص:
یا شیخ،أ لا تستحی نحن فی حلقة علم،و أنت تفعل مثل هذا؟!! فقال الأعمش:الذی نحن فیه خیر من الذی أنت فیه.
قال:کیف؟ قال:إنی فی سنّة،و أنت فی کذب.أنا الأعمش،ما حدّثتک مما تقول شیئا (2).
و تجنّب العلماء معارضة القصّاصین،و الردّ علیهم تقیة و خوفا علی أنفسهم، لأن العامة ارتبطوا بالقصاص،و أقبلوا علیهم و تقبلوا کل ما یلقونه من الموضوعات، و القصص الخرافیة.و قد قام أحد القصّاصین فحدّث عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم یدخل النار.فلم یبق أحد منهم إلا و قد أخرج لسانه یومیء بها إلی أرنبة أنفه.و من هذا الباب تسرّبت أکثر الأحادیث المرغّبة فی کثیر من الأعمال.
و دخلت أذهان العامة تلک الخرافات و الأباطیل،و أصبحت و کأنها حقائق لا تقبل الشک و لا تخضع للجدل،کما أدخلوا کثیرا من العقائد المفتعلة ضمن أحادیث مکذوبة أحدثوها،و ربما خلقوا لها أسانید من أنفسهم.و من أغرب ما ورد عنهم أن أحدهم قام فحدّث عن أبی خلفة أنه قال:حدثنا الولید بن سعید،عن قتادة،عن أنس،عن النبی.فقام إلیه أبو حاتم البستی و قال له:رأیت أبا خلفة؟قال:لا.فقال له کیف تروی عنه و لم تره؟ فقال القاص:إن المناقشة معنا من قلة المروة،أنا أحفظ هذا الإسناد الواحد، و کلما أسمع حدیثا ضممته إلی هذا الإسناد.
و من ذلک أن قاصّا حدّث بحدیث و أسنده عن أحمد بن حنبل و یحیی بن معین
ص:69
و کانا حاضرین بالمجلس.و بعد أن فرغ أوحی إلیه ابن معین بیده،فأقبل متوهّما لنواله،لأن القصاص کانوا ینالون الأموال من المستمعین،فلما جلس قال ابن معین:
من حدثک بهذا الحدیث؟قال:حدثنی یحیی بن معین و أحمد بن حنبل.
فقال ابن معین:هذا أحمد بن حنبل و أنا ابن معین،ما سمعنا بهذا قط فی حدیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فإن کان و لا بد من الکذب فعلی غیرنا.فقال له:أنت یحیی؟ قال:نعم.
قال القاص:لم أزل أسمع أن یحیی بن معین أحمق،ما حققت إلا الساعة.
فقال له یحیی:کیف علمت أنی أحمق؟ فقال:کأنّ لیس فی الدنیا أحمد بن حنبل و ابن معین غیرکما؟قد کتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل و یحیی بن معین،فوضع أحمد بن حنبل کمّه علی وجهه.
و قال:دعه یقول.
و لم یستطع أحدهما و الحالة هذه أن یشتد فی الإنکار علیه مع عظیم منزلتهما و اشتهارهما بین الناس خوفا من الغوغاء (1).
و حدّث بعضهم عن الأعمش بلا سند قال:خرجت فی لیلة مقمرة أرید المسجد فإذا أنا بشیء عارضنی،فاقشعرّ منه جسدی،فقلت:أ مؤمن أنت أم کافر؟فقال:بل مؤمن.فقلت:أمن الأنس أنت أم من الجن؟ قال:بل من الجن.
فقلت:فیکم من هذه الأهواء و البدع شیء؟ قال:نعم.
ثم قال:وقع بینی و بین عفریت من الجن اختلاف فی أبی بکر و عمر فاحتکمنا لإبلیس.
قال العفریت:إنهما ظلما علیا و اعتدیا علیه.فحکینا ذلک لإبلیس فضحک و قال:هؤلاء-أی الذین یقولون بهذه المقالة-من شیعتی و أنصاری و أهل مودتی.ثم قال:أ لا أحدّثکم بحدیث؟قلنا:بلی.قال إبلیس:إنی عبدت اللّه فی سماء الدنیا ألف عام،ثم رفعت إلی الرابعة،و رأیت فیها سبعین ألف صف من الملائکة یستغفرون
ص:70
لمحبی أبی بکر و عمر،ثم رفعت إلی الخامسة فرأیت سبعین ألف ملک یلعنون مبغضی أبی بکر و عمر.
بهذا یتقدم قاصّ یعهد إلیه توجیه المجتمع حسب رغبات الدولة،و أی خدمة أعظم من هذه،و هی إبراز خصوم الدولة و هم الشیعة-أو المبتدعة فی منطق السیاسة -بمظهر یشمئز منه کل واحد،و قد وسموهم بأنهم یلعنون الشیخین و یبغضونهما، و شاع ذلک فی المجتمع بدون وقوف علی واقع الحال.
کما اتخذوا من القصص وسائل تدخل فی أذهان العوام عند ما یسندون ذلک إلی عالم الغیب أو الخضر علیه السّلام و هو یتردّد علی ألسنة القصّاص فی أکثر المناسبات لتوجیه الشعور إلی ما یمکن قبوله.
لقد حدّثوا عن بلال الخوّاص أنه قال:کنت فی تیه بنی إسرائیل،فإذا رجل یماشی،فتعجبت منه،ثم إنی ألهمت أنه الخضر علیه السّلام فقلت له:بحق الحق من أنت؟ فقال:أخوک الخضر.
فقلت له:أرید أن أسألک.
فقال:سل.
فقلت:ما تقول فی مالک بن أنس؟ قال:هو إمام الأمة.
فقلت:ما تقول فی أحمد بن حنبل؟ فقال:رجل صدق.
قلت:فما تقول فی بشر الحافی؟ فقال:لم یخلق بعده مثله (1).
و هکذا تدور هذه المحاورة الخیالیة،و تبرز للوجود بهذا الشکل،لتلعب دورا فی مجال الدعایة المذهبیة،و تأخذ طریقها إلی عقول تتقبل الخرافات و الأباطیل.
ص:71
و لقد ابتلی الخضر علیه السّلام بأولئک القصاصین،فهم یزجّون بشخصه، و یدخلون اسمه فی کثیر من قصص الدعایة المذهبیة،کما جعله بعض الأحناف تلمیذا لأبی حنیفة فی حیاته و بعد مماته کما تقدم.
کما استعمل الصوفیة من شخصیته وسیلة إعلام لبعض شخصیّاتهم أو شاهدا علی صحة طریقتهم (1).
لقد دخل نشاط القصّاصین فی أغلب زوایا المجتمع،و استخدمه الناس فی أغراضهم المختلفة،و لجأ إلیه أصحاب المذاهب.و کانت القصص تتبدل شخصیاتها بحسب تغیّر المتنفّذین و الصنعة التی یحملونها:مذهبیة أو عرقیة أو إقلیمیة.و لکن الأمر الذی لا یتغیر هو العداء للشیعة و الهجوم علیهم تحت ستار سبّ الصحابة أو بغض الشیخین،لأن الحکام منذ عهد معاویة اعتمدوا هذه التهم،و راحوا یستمیلون الأمة،و یجعلون اتجاه وجودها و استمرارها عدائیا تجاه الشیعة،و تأکید سلطة الحکام و صفتهم الدینیة من خلال أصحاب الصنعة فی الخطابة و الحدیث و القصص.
کان مجلس القصّاصین یضمّ الرجل و المرأة و الطفل،و کلهم علی مستوی واحد من حیث قبول تلک القصص،و لا تتعدی أنظارهم و مدرکاتهم حدود المنابر التی یرقاها مرّة الوعاظ المرتزقة،و مرّة العلماء المأجورون،و مرّة القصّاص الکذبة و هو یسبّحون بحمد الظلمة و یأتمرون بأمر البغات منذ أن قامت الفتنة علی ید الطلقاء من الأمویین، و منذ أن اشرأبت الجاهلیة من علی دست حکمهم فی الشام،فراحت هذه الزمر و مؤسساتها تؤثر فی أذهان الناس،و تبنی عقائدهم کما تشاء.بحیث یصحّ الحاکم الظالم و الفاسق الفاجر إماما بنص مکذوب و أثر موضوع،فیتقبل الناس ما یلقونه إلیهم من سموم.
و فتح من جراء ذلک شدة البغض لهؤلاء الذین یوصفون أو یتهمون ببغض الشیخین أو لعنهما،و بالأخص تضاعف التهم علی الشیعة حتی أصبحت من الأمور الارتکازیة.لهذا ثبت فی أذهان السذّج أن بغض الشیعة من السنة،و أنه خیر عمل یقدمه الإنسان لربه.
ص:72
و جاء فی النجوم الزاهرة فی ترجمة الخفّاف أنه کان شدیدا من السنّة،و لما مات ابن المعلم فقیه الشیعة-و هو الشیخ المفید رحمه اللّه-جلس للتهنئة و قال:ما أبالی أی وقت مت بعد أن شاهدت موته.
قال مؤلف النجوم الزاهرة:و مما یدل علی دینه و حسن اعتقاده بغضه للشیعة، و لو لم یکن من حسناته إلا ذلک لکفاه عند اللّه (1).فلا غرابة أن یصبح بغض الشیعة سنّة معمولا بها،و هی عندهم خیر ما یلقی الإنسان بها ربه.و قد أصبح الکثیر من هذه البدع من المسلّمات عن العوام لا تقبل الجدل و النقاش،و أن الکثیر من الخرافات قد ارتکزت فی الأذهان کحقیقة واقعیة لا لبس فیها و لا غموض.
و قد خفیت تلک الخرافات علی أکثر الناس،و أصبح لها مکانة.و هی عنصر فعّال فی توجیه الشعور ضد الخصوم،لا سیما أنهم أشرکوا الشیاطین و الجنّ فی المعاونة معهم بالعمل ضدّ کل من یخالف المتسلطین و دعاة التحجر و الجمود.
حدّث أحمد بن نصر قال:رأیت مصابا بالصرع،فقرأت فی أذنه،فکلّمتنی الجنیة من جوفه فقالت:یا أبا عبد اللّه،دعنی أخنقه،فإنه یقول بخلق القرآن (2).
و أحمد بن نصر هو من کبار العلماء،و ممن یقول بقدم القرآن،و قد امتنع عن القول بخلقه،فأحضره الواثق فقال له:ما تقول فی القرآن؟ فقال:کلام اللّه.
قال الواثق:افتری ربک یوم القیامة؟ قال:کذا جاءت الروایة.
فقام الواثق إلیه بنفسه،فقتله صبرا 3.
و یروی الخطیب البغدادی فی التاریخ أن الواثق قال له:ویحک یری کما یری المحدود المتجسّم؟یحویه مکان و یحصره الناظر.أنا أکفر برب هذه صفته (3)و قد کان أحمد بن نصر من ضحایا السلطان،نصب رأسه ببغداد علی رأس الجسر،و استخدم القصّاص من الحنابلة طریقة موته،و ادخلوا المنامات،و کم للمنامات و الرؤی من أهمیة عند ما یعزّ الأثر و تنعدم المادة،و هی من أسهل الأسالیب.و قد عجّت بها
ص:73
المصنّفات المختلفة،فأحاط القصّاص موت أحمد بن نصر بما یخدم عقیدة التجسیم،إذ یروی الخطیب البغدادی عن الحنابلة:رأی بعض أصحابنا أحمد بن نصر فی النوم بعد ما قتل،فقال:ما فعل بک ربک؟فقال:ما کانت إلا غفوة حتی لقیت اللّه،فضحک إلی.أخبرنا أبو عبد اللّه محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن طاهر الدقاق،أخبرنا أبو بکر النجاد،حدثنا عبد اللّه بن أحمد،حدثنا أبو الحسن بن العطار محمد بن محمد قال:سمعت محمد بن عبید-و کان من خیار الناس-یقول:
رأیت أحمد بن نصر فی منامی فقلت:یا أبا عبد اللّه،ما صنع بک ربک؟فقال:
غضبت له،فأباحنی النظر إلی وجهه(انتهی).ثم ینشرها المختصّون و یذیعونها.و قد ذکرنا فیما سبق أن الواثق کان یمثّل المرحلة الوسطی التی تجمع بین المأمون فی شدّته و بین المتوکل فی إدنائه الحنابلة و العامة،أو أن هناک ما یشیر إلی میل لتبرئة آل العباس من دماء الأبریاء و إبقاء صلة القرابة بالرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم معتمدا لمکانتهم المقدسة،فوضعوا علی لسانه أن أحدهم سأله و هو علیه السندس و الاستبرق و علی رأسه تاج:ما فعل اللّه بک یا أخی؟قال:غفر لی و أدخلنی الجنة،إلا أنی کنت مغموما ثلاثة أیام.قلت:
و لم؟قال رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مرّ بی،فلما بلغ خشبتی حوّل وجهه عنّی،فقلت له بعد ذلک:یا رسول اللّه،قتلت علی الحق أو علی الباطل؟فقال:أنت علی الحق، و لکن قتلک رجلا من أهل بیتی،فإذا بلغت أستحیی منک.
و یعقد ابن الجوزی بابین مستقلّین فی المناقب یذکر فیهما المنامات التی رؤی فیها أحمد بن حنبل،و بابا آخر یذکر فیه تأثیر موت أحمد عند الجن،نذکر منها علی لسان رجل بطرسوس:أنا من الیمن و کانت لی بنت مصابة،فجئت بالعزّامین،فعزموا علیها.ففارقها الجنّی علی أن لا یعاود،فعاود بعد سنة.فقلت:أ لیس قد فارقت علی أن لا تعاود؟قال:بلی.و لکن مات الیوم رجل بالعراق یقال له أحمد بن حنبل، فذهبت الجن کلها تصلّی علیه إلا المردة و أنا منهم،و لست أعود بعد یومی.فما عاد.
و من المضحک،بل المخزی فی آن واحد ما وقع فی سنة 456 ه أن قوما من الأکراد خرجوا متصیّدین،فرأوا بالبریة خیما سودا سمعوا فیها لطما شدیدا و عویلا کثیرا و قائلا یقول:مات سیدوک ملک الجن،و أی بلد لم یلطم علیه و لم یقم له فیه مأتم قلع أصله و هلک أهله.فخرجت النساء من حریم بغداد إلی المقابر یلطمن ثلاثة
ص:74
أیام و یخرّقن ثیابهنّ و ینشرن شعورهنّ،و خرج الرجال یفعلون مثل ذلک،و فعل هذا فی واسط و غیرها من البلدان (1).
بمثل هذه العقلیة الضحلة،أصبح الناس یعیشون تحت ظلال علماء و قادة یدفعون بهم إلی مهاوی الجهل و التعصب،و یقبعون فی ظلمات الفرقة،و قد نشرت تحت ستار الوعظ خرافات و أوهام و أباطیل،و طغت موجة الغلو و التحدی لتعالیم الإسلام،و انتشرت عقائد بعیدة عن روح الإسلام و نظمه،و مصدر ذلک تلک الحلقات التی اتخذت لأغراض خاصة و أبواق المأجورین.
و لقد أخذت تلک الخرافات مکانتها فی أدمغة السذّج،و هی السمّ القاتل، و السلاح الفاتک،ثم تحولت إلی مادة یشطح فیها الخیال،و یحاط بها الأشخاص.
و تظهر علی الساحة جماعات بمسوح دینیة و شعائر مبالغ فیها،تجعل لها قادة من الرجال الأحیاء أو الأموات،فتنسب إلیها الأعمال أو تصوّر سیرهم بأوضاع لا تجد لها مستندا من عقل أو حقیقة،و ما هی إلا أوهام تنجم عن حالات خاصة یمارسها الأشخاص،فتخلق أجواء یبرز بها مختصّون فی الأداء و التوجیه،تجتذب أفعالهم السذّج و البسطاء،فتصبح عندهم عقیدة و طریقة.و قد جاءوا بمناقب لمن و سموهم بالأولیاء أو الشیوخ ذوی الکرامات.
فهذا یدّعی له بأن الشمس وقفت له إکراما حتی یصل إلی وطنه عند ما ضایقه اللیل کالشیخ محمد الحضرمی حتی قالوا فی ذلک:
و من جاهه أومأ إلی الشمس أن قفی فلم تمش حتی أنزلوه بمقعد
(2)و قالوا:أنّ الکعبة توهّدت و هی تطوف بسریره.
و أوردوا عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أن من قبّل ید الشیخ الحضرمی دخل الجنة.إلی غیر ذلک من خرافات و أوهام (3).
و کذلک أدعی للسید أحمد الرفاعی أن الشمس وقفت فی قرصها إلی أن دخل قریة أم عبید (4)و أکثروا عن المشایخ نقل کرامات تدل علی مبلغ ما وصل إلیه
ص:75
الانحطاط الفکری،و قد جعلوا الاعتراف بها و الخضوع لها من عقائد الإسلام،فمن ماری فیها شکّوا فی دینه (1).
فکانوا یلزمون الناس بالاعتقاد بأن شیبان العجمی سخرت السماء لخدمته، عند ما یرید أن یغتسل،فهناک تأتی سحابة تمطره فیغتسل،و نسبوا لآخر منهم أنه یخرج فی القافلة من البصرة یوم الترویة،فیدرک الحج أول النهار.
و قالوا:أن إبراهیم الخراسانی کان یمشی علی البحر بین الأمواج،و أحمد بن خضیر البلخی کان یفرش بساطه علی البحر (2).
و غیر ذلک من ادّعاءات کاذبة و مناقب مفتعلة،و لیت الأمر اقتصر علی تخیّل الکرامات و ادعاء المعجزات التی یسهل أمرها عند تحکیم العقل و تدقیق النظر،فإن قائمة الموضوعات امتدت إلی الأحکام الشرعیة و ابتغائها علی نتاج هذه الأمراض التی تکبّل طاقات البشر و تشلّ قدراتهم،فیعلم العید من امتناع الولید عن الرضاع و هو فی حضن أمه.أو ما أوردوا للسید البدوی من أنه بعد أن مات قام فغسّل نفسه،و بعد انتهائه من الغسل مات ثانیة.
و قد ابتنی علی هذا نزاع فقهی کما أورده الشیخ الباجوری و غیره فی تغسیل الجنائز فقالوا:إن المیت لو غسّل نفسه لا یحتاج إلی من یغسله ثانیة کما وقع للسید أحمد البدوی.
و یروون أن جماعة من الفقهاء و الفقراء اجتمعوا عنده فی المدرسة النظامیة،فتکلم فی القضاء و القدر،بینما هو یتکلم إذ سقطت علیه حیة من السقف،ففرّ منها کل من کان حاضرا عنده و لم یبق إلا هو،فدخلت الحیة تحت ثیابه،و مرت علی جسده،و خرجت من طوقه،و التوت علی عنقه،و هو لا یقطع کلامه و لا غیّر جلسته،ثم نزلت علی الأرض و قامت علی ذنبها بین یدیه،فصوتت،ثم کلّمها بکلام ما فهمه أحد من الحاضرین،ثم ذهبت.فرجع الناس و سألوه عما قالت؟فقال:قالت لی لقد اختبرت کثیرا من الأولیاء فلم أر مثل ثیابک.فقلت لها:و هل أنت إلا دویدة یحرّکک القضاء و القدر الذی أتکلم فیه (3).
ص:76
و من الغریب أنهم یربطون بین خرافاتهم و بین واقع الإسلام،کما أنهم اخترعوا أسطورة لرقصتهم فی مجالس الذکر،و أنهم یفعلون ذلک اقتداء بأبی بکر،و قالوا:
حدّث الأشنانی عن ابن عباس عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:هبط علیّ الأمین جبریل و علیه طنقسة و هو متخلل بها.فقلت:یا جبریل،ما نزلت إلی بزیّ مثل هذا الزیّ؟ قال:إن اللّه أمر الملائکة بأن تتخلل بالعباءة إکراما لأبی بکر.و رواها العلاء بسند عن ابن عمر.بینما الناس عند النبی و عنده أبو بکر و علیه عباءة،قد خللها علی صدره بخلال،إذ نزل جبرئیل و قال:مالی أری أبا بکر علیه عباءة قد خللها؟فقال النبی:یا جبرئیل قد أنفق ماله علیّ.قال جبرئیل:فأقرأه من اللّه السلام و قل له:یقول ربک:أراض أنت أم ساخط؟قال ابن حجر فی بقیة الحدیث:فبکی أبو بکر و قال:
أعلی ربی أغضب؟ و قد أورد هذه المنقبة صاحب الذهب الأبریز فی شرح الوجیز ص 392،و هی أن أبا بکر أنفق ماله فی سبیل اللّه،و أعتق عبیده حتی تخلل بالعباءة،و نزل جبرئیل و قال یا محمد:إن ملائکة السموات تخللت بالعباءة إکراما لأبی بکر من اللّه،و قل له:
إن ربک علیک راض فهل أنت عنه راض؟ فقال أبو بکر:إنی عن ربی راض.و صار یفتل(یفتر)کالدولاب.و عنه أخذت الصوفیة الدوران و الرقص.
و نسبوا إلی أبی بکر أنه ألبس أحدهم الخرقة فی المنام و هو ابن هواد البطائحی و کان شاطرا یقطع الطریق،فکان أول من ألبسه أبو بکر-کما یروی الشعرانی-ثوبا و طقیة فی النوم،فاستیقظ فوجدهما علیه؛و یرقی بهم الحال،فیدّعون للشیخ عبد القادر منزلة النبوة و درجة المناجاة مباشرة من دون واسطة،فیقول:یا رب.فیقول اللّه:لبیک.و قد جمعت هذه المناجاة و الوحی الإلهی فی رسالة أسموها:الرسالة الغوثیة.نقتطف منها ما یلی:
قال الشیخ عبد القادر الکیلانی:
الحمد للّه کاشف الغمّة،باسط النعمة،و الصلاة و السلام علی نبیه خیر البریة.
قال الغوث الأعظم المستوحش بغیر اللّه و المستأنس باللّه.
قال اللّه تعالی:یا غوث الأعظم.
ص:77
قلت:نبیک یا رب،الغوث.
قال:کل طور بین الناسوت و الملکوت فهو شریعة،و کل طور بین الجبروت و الملکوت فهو طریقة،و کل طور بین الجبروت و اللاهوت فهو حقیقة.
و قال لی:یا غوث الأعظم،ما ظهرت فی شیء کظهوری فی الإنسان.
ثم سألت فقلت:یا رب هل لک مکان؟ فقال لی:یا غوث الأعظم،إنا مکان المکان،و لیس لی مکان.و أنا سرّ الإنسان.
ثم سألت فقلت:یا رب هل لک شرب و أکل؟ قال:أکلی أکل الفقیر،و شربه شربی.
ثم سألت و قلت:یا ربّ من أی شیء خلقت الملائکة؟ إلی آخر ما جاء فی هذا الباب من المناجاة التی تضمنتها«الرسالة الغوثیة»و قد طبعت باللغة الترکیة،و ترجمت إلی العربیة،و یأتی ذکرها فی تعداد مؤلفات الشیخ عبد القادر (1)و فیها تلک المناجاة،أو المقابلة بین الشیخ و ربه.
و قالوا عنه:أنه کان فی حفرة أیام رضاعه دلیلا علی هلال شهر رمضان،لأنه
ص:78
کان یمسک عن الرضاع فی شهر رمضان نهارا،و لأنه صائم و رضاعه فی آخر الشهر دلالة علی هلال شوال!! و صادف أن غمّ الهلال علی الناس فی آخر الشهر،فسألوا أمه:هل رضع الیوم؟ قالت:نعم.فعلموا أنه العید!!! و بعض المصادر الصوفیة تروی ذلک علی لسان والدته التی یصفونها بأنها:لها قدم فی الطریق.و أنها قالت:لما وضعت ولدی عبد القادر کان لا یرضع ثدیی فی نهار رمضان،فأتونی و سألونی عنه؟فقلت لهم:إنه لم یلتقم له ثدیا،ثم اتضح ذلک الیوم کان من رمضان (1).
لقد أدی إقبال العامة علی القصّاص،و وضوح أهداف مجالس القصّ فی تمجید الحکّام و الدفاع عن أصحاب القوة و النفوذ إلی ظاهرة أخری،هی التی نحن بصددها حیث نجمعها فی التأثیر السلبی مع القصاص.
و مع تباین الأغراض و النزعات فإننا إذا أخذنا بمقاییس البدعة و معاییر الأحداث،فإن ما یجمع بین هذه الأعمال هو تجاوز الحد و المبالغة فی السلوک،سواء فی الدفاع عن الظلمة و الکذب علی الرسول محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أو فی تعظیم الأشخاص و نسبة الأمور العظیمة إلیهم و التقیّد بشعائر تخرج الإنسان المسلم من حال الاتّزان و القبول.
و لا تحول صفة الزهد و التقشف أو أغراض الوعظ دون نظرنا إلی النتیجة.
یقول الإمام الحافظ أحمد بن محمد بن الصدیق فی کتابه(فتح الملک العلی بصحة حدیث باب مدینة العلم علی):و قد نص السلف علی أن القصص بدعة،و أن التزهّد و التقشّف الخارج عن السنّة بدعة أیضا،فکان مقتضی هذا أن تردّ روایة کل زاهد و مذکر،و یعلق ذلک بزهده و تذکیره،لأنه وجد الکذب شائعا،و وصفوا بالبدعة کما هو حال الآخرین.
(فإن قیل):لم یصدر الکذب إلا من جهلة الزهاد و من لا تقوی عنده من القصّاص و الوعاظ.
ص:79
(قلنا):و کذلک المبتدعة،فإنّا لم نجد الکذب شائعا إلا فی فسقتهم،و من لا یخشی اللّه منهم.أما أهل الدین و التقوی فوجدناهم فی نهایة الصدق و غایة التحرّز من الکذب.انتهی.و بما أن المصنف من أصحاب التصوّف،فهو لم یتطرّق إلی الکرامات،و تناول الجانب الذی یهمّ بحثه فقط،و قد کان متّصفا فی محاولته تطبیق الأحکام التی تصدر بفعل العوامل التی ذکرناها و الظروف التی بیناها من تسلط الحکام و تأثیرهم علی أصحاب الفتوی و الحدیث،و استخدام البدعة فی الاتجاه الذی ترغب به السلطة.فهو یذکر ما ورد فی ترجمة أحمد بن عطاء الهجیمی الزاهد.قال ابن المدینی:أتیته یوما فجلست إلیه،فرأیت معه درجا یحدّث به،فلما تفرقوا عنه،قلت له:هذا سمعته؟قال:لا و لکن اشتریته و فیه أحادیث حسان أحدّث بها هؤلاء لیعملوا بها و أرغّبهم و أقرّبهم إلی اللّه،لیس فیه حکم و لا تبدیل سنّة.قلت له:أ ما تخاف اللّه،تقرّب العباد إلی اللّه بالکذب علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟.
کما یذکر ما ورد فی ترجمة زکریا بن یحیی الوقار:کان یتهم بوضع الأحادیث لأنه یروی عن قوم ثقات أحادیث موضوعة قال:و الصالحون قد وسموا بهذا أن یرووا أحادیث فی فضائل الأعمال موضوعة،و یتهم جماعة منهم بوضعها (1).
و لقد ظلت الصوفیة تحتفظ بعناصرها العلمیة و فلسفتها،و هی کطریقة فی الحیاة أو فی العبادة لا نتناولها،فلا یعنینا ذلک،فهی قد تکون من أصول قدیمة أبعد من الإسلام،ثم تجددت بعد فجر الإسلام،فوجدت فی المنهج الحیاتی للإمام علی علیه السّلام خیر تعبیر عن اتجاهها،فجعلته القدوة.أو قد تکون إسلامیة بحتة لها صفة العلم،و حمل ما جاء به رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و إن اللّه أعد لقبول ما جاء به الرسول أصفی القلوب و أزکی النفوس،فظهر تفاوت الصفاء،و اختلاف التزکیة فی تفاوت الفائدة و النفع.و سوقهم حدیث أبی حمزة الثمالی:حدثنی عبد اللّه بن الحسن قال:
حین نزلت هذه الآیة: وَ تَعِیَها أُذُنٌ واعِیَةٌ قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لعلی:سألت اللّه سبحانه و تعالی أن یجعلها أذنک یا علی.قال علی:فما نسیت شیئا بعد،و ما کان لی أن أنسی.قال أبو بکر الواسطی:آذان وعت عن اللّه تعالی أسراره (2).
ص:80
و حرصهم علی الاتصال بالإمام علی علیه السّلام شدید،حتی شملهم نصب ابن تیمیة فتناولهم بلسانه و دبجت یراعه فی النیل،فهم جزءا من تراثه الحنبلی السلفی.
و أیا کان،فإن الکرامات و الأحوال و تناقل خوارق الأعمال،یؤدی إلی بقاء المتعلقین بهم فی حالة من ضعف الإدراک و وهن العزیمة،و طریقة أداء الأذکار قد شجعت علی الحلول،و أدت إلی اعتقادات بعیدة عن الإسلام.و فی موضوع التصوف نتلمّس آثار القصّاص بمحاولات إبعاد طرق المتصوّفة أو حالات الزهد الکامل و التقشف المقبول عن أی صبغة شیعیة.و الشیعة لیس لهم رغبة أو ید فی ذلک،لکن الکثیر من طوائف المتصوفة مقیمون علی ولائهم للإمام علی و لآل البیت صلوات اللّه علیهم أجمعین،و عبر المراحل الزمنیة و اختلاط المحدثین و القصاص بأهل الذکر، و تطور أحوال المتصوفة نبع بینهم من أصناف إلی«الهوس»أصلا«سیئا»حرصا منه، ثم انتهت المجالس إلی غایة بذاتها تفوق أو تعلو علی أیة غایة.لتکون مسرحا لروایة الخوارق،و إقامة الحرکات،و الدقّ التی یعجز أی عاقل عن اختلاق أصل إسلامی لها.
و علی أی حال،فلقد اشتد نشاط القصّاص،و أخذوا مکانتهم من السلطتین الزمنیة و التشریعیة،فهم ینشرون بین الناس أحکاما ما أنزل اللّه بها من سلطان،کما أنهم یتمتعون باحترام العامة و تقدیرهم،لأنهم یمثّلون الجانب الروحی.و إلی جانب ذلک،لهم نفوذ إرادة،إذ الدولة تمنحهم رعایتها،و تعتنی بشئونهم،و قد استعملوا نفوذهم هذا ضد کثیر من الطوائف و جماعات من الناس.و بدأت روح الاستیاء تسری فی جسم الأمة،و نمت خلال ذلک فکرة إیجاد مجالس لذکر اللّه و للوعظ،لیشغل الناس عن مجالس القصّاص،فاتجه الأفراد إلی هذا اللون الجدید.وصفها أبو طالب المکی بقوله:إن مجالس أهل العلم باللّه و أهل التوحید و المعرفة،هی مجالس الذکر (1).
و تطوّرت هذه المجالس،و تسرّبت إلیها ید القصّاصین،فتدخلوا فیها،و قد وضعت فیها أحادیث،و أحیطت بهالة من التعظیم و التقدیس تشجیعا للناس و الالتفاف حولها،حتی أصبح لها بین العامة شأن من الشأن،و تعلقوا بها و جعلوا الحضور فیها
ص:81
من أعظم الطاعات و أفضل القربات،و تزاحم الناس علی تلک المجالس،و لا ندری هل استغل المتصوفة هذه الفرصة،و من هنا انتشر ذکرهم؟و هل کان ظهور التصوف قبل انتشار هذه المجالس،أم أنه انطلق منها فکانت نقطة بدایة؟و من المستحسن هنا الإشارة إلی نشأة التصوف و تطوره،و کیف أصبح وسیلة لنشر الخرافات و بعث الحزازات.
و الذی یظهر أن بدایة التصوف کان سنة 200 ه فی الاسکندریة عند ما ظهرت طائفة یسمّون الصوفیة،یأمرون بالمعروف و ینهون عن المنکر فیما زعموا،و یعارضون السلطان فی أمره،و ترأس علیهم رجل منهم یسمی أبو عبد الرحمن الصوفی (1).
و یقول القشیری:انفرد خواصّ أهل السّنة المراعون أنفاسهم مع اللّه تعالی، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف،و اشتهر هذا الاسم بهؤلاء الأکابر قبل المائتین من الهجرة (2).
و أول من سلک طریق الملامة:أبو صالح حمدون بن عمارة القصّار المتوفی سنة 271 ه و کان یفضل أن یکون مظهره مظهر المذنبین علی أنه یخشی أن یصرفه تعظیم الناس له عن اللّه.
و قیل:إن فکرة الملاقیة قدیمة،فقد وصفها أفلاطون فی أول الکتاب الثانی من الجمهوریة،العادل:الحق الذی یظن الناس أنه لیس عادلا.
و کان التصوّف قد شغل ناحیة هامة من نواحی الحرکة العقلیة الإسلامیة،بل العالمیة من جهة،و کان لأعلام مفکری الإسلام کالفارابی و إخوان الصفا و ابن سینا و الغزالی و الحلاّج و ابن العربی فی التصوف آراء نظریة و خطط عملیة.
و لسنا بهذا العرض نرید-کما قلنا-أن نتعمّق فی البحث عن التصوّف،و نشأته و تطویره فی مجال الفکر،و قد تناولت ذلک أقلام الکتّاب و المؤرخین.و الذی یغنینا هنا،هو أن نعرف کیف تطوّر التصوّف،و متی حصلت فیه تلک الآراء الخاطئة، و تحول إلی ادعاءات فارغة و وقوع أعمال منکرة،و قد أصبح ضرره علی المجتمع لا یقل عن أضرار القصّاصین؛بل ربما اختلط المنهجان،و انطلقا سویة فی طریق البعد عن کثیر من المدّعین الصلة به،إذ أصبح فیه من الدخلاء و دعاة السوء ما تشوّه
ص:82
حقیقته،و فتح علی المجتمع حکایات خرافیة و أساطیر ادّعوا أنها دینیة،و وضعوا أحادیث الرقائق،و یرون فی ذلک طاعة اللّه و نصرة الدین،و أصبحت فکرة الاتحاد أو الحلول خارجة عما کان یسلکه القدماء من طریق النور و البصیرة الذی لا یتیسر إلا بطریقة العبادة،فکثرت ادّعاءاتهم فی قربهم للّه،و وضع الکرامات الخارقة للعادة فی حق أصحابهم الذین لهم مراتب و أسماء و منازل و ألقاب تجعل منهم نظاما متکاملا فی الأفضلیة و التأثیر و المقامات و الدرجات،طالما تدخلت الأهواء الخاصة و الرغبات الشخصیة فی إبرازها فی زمننا لتحقیق المصالح و التظاهر بالعظمة الروحیة و الخصائص الذاتیة التی تجعل له مقدرة علی الأعمال فی أمور الدعاء أو الشفاء،و اللّه أعلم بسرّ تلک الحالات التی اشتهرت بین الناس و أصبحت عندهم بمستوی الیقین.
و إضافة إلی ما أدی إلیه التصوف و ما قام علی حالاته من اعتقادات و أفکار،فإن من دواعی الإشارة إلیه فی کتابنا و فی هذا الموضع،تلک الأفکار التی وجدت مع البدایات،و لقد لمّحنا إلی الاختلاف فی أصل أو مصدر التصوّف،و کان هذا الاختلاف موضع نقاش واسع و کبیر اختص به کتّاب کثیرون،و قد کان المتحاملون منهم یتّبعون الأسس التی وضعها المستشرقون للطعن فی الإسلام و الدخول إلی أفکار الطبقة المثقفة منهم بطابع جدید،و علی الأخص أولئک الذین تلقّوا دراساتهم فی أروقة الغرب،و تلمذوا علی أساتذة الجامعات الإنکلیزیة و الألمانیة و الفرنسیة و الأمریکیة،و کان مذهب أهل البیت غرضهم الأول الذی وجهوا إلیه سهام الاتهام، فاختلقوا الأفکار الساذجة التی لا تستقیم و لا تثبت أمام الحقائق المعروفة،فادّعوا أن موقع القیادة التی أحل بها الشیعة أئمتهم،و نظرة الاحترام و الإجلال التی أحاطوا بها زعماءهم من أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لها مصادرها الأجنبیة.و فی ذلک خروج علی المنطق،و تجاوز و تعدّ علی أبسط قوانین البحث و النظر،احتاج دحضه و الردّ علیه إلی جهود کبیرة،و ذلک لاتساع الجهات التی تولّت القول،و نصبت نفسها بالنیابة عن أعداء الأمة لترویج هذه الأقوال،و قد جئنا علی بعضها فی الأجزاء السابقة من الکتاب،لکن الملاحظة الهامة أن أتباع الغرب من أبناء الیوم أو غیرهم من حشویة السلف و عاشقی الجمود لا یصرّحون بالتجریح،و یتردّدون فی الشتم و الاتهام فی عرضهم لحالات الهوس،و الأفکار التی جعلتنا نضمّ نتائج التصوف إلی العوامل التی أدت إلی تخلف و فرقة شدیدین.و لا بد أن نذکر أن«الشیخ»ابن تیمیة یکشف فی رده
ص:83
علی ابن عربی و محتویات کتابه«فصوص الحکم»عن غرضه الحقیقی،و هو تناول الشیعة و الإساءة إلیهم،إذ ینسب کبارهم کالتلمسانی و ابن سبعین إلی الفرق الغالیة التی اقتضت الأغراض السیاسیة أن تحسب علی الشیعة و تقرن بالإمامیة،و کان یکفی «لشیخهم»ابن تیمیة ذرّة من إنصاف أو اطلاع و تحقیق لیعلم الفرق،و لو تخلی لحظة عن مرض الحقد الأعمی،و أنصت إلی ما یقوله الشیعة عن مذهبهم،لبعد عن الزلل و الخطأ الذی هو فیه و لو بقید شعرة.
و عندنا أن حالات الحلول و المعتقدات الأخری التی اتّسم بها التصوف،تعود إلی الوضع النفسی الذی یتخلل أوقات القیام بطقوس الصوفیة،و هی لا شک متفرعة عن تصرفات أشیاخهم الأوائل الذین فی نظرهم أمسکوا بأصول المعرفة و مفاهیم المحبة الإلهیة،و راحوا یبیحون لأنفسهم تصرفات و أفعالا غزت عقول مریدیهم، و حجبت الأصول الحقیقیة و المفاهیم الجلیة التی سنطّلع علیها فی مظانّها الصافیة و مصادرها النقیة عند رجالات أهل البیت النبوی،و موقع الإمام الصادق علیه السّلام فی هذه السلسلة.
و نقف قلیلا لنوضّح بموجز من البیان منشأ کلمة الصوفی فی الإسلام،و مبدأ اشتقاقها،فإنا نجد هناک زخما من الأقوال فلا حاجة للبسط فی ذلک،و لعل أهمها أنها نسبة إلی الصفّة الأولی التی کان المتنسّکون یجتمعون علیها فی عهد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أکثرهم من الفقراء،حتی نسب إلیها جماعة فیقال فلان من أهل الصفة،و الصفة مکان فی مسجد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عند یمین الداخل من باب جبرئیل،و هناک قوم یقولون أنها نسبة إلی الصفاء-کما قلنا سابقا-أو انها نسبة من صافا ربّه فصوفی،و قیل أنها الصف الأول فی الصلاة،و قیل نسبة إلی بنی صفة.و فریق یقولون إنها مشتقة من لفظة یونانیة الأصل هی صوفینا و معناها الحکمة،فیکون الصوفیة قد لقبوا به نسبة إلی الحکمة لأنهم کانوا یبحثون فیما یقولونه بحثا فلسفیا،و آخرون یقولون نسبة إلی الصوف الذی اشتهر المتنسکون به،و قد اختار هذا الاسم جماعة منهم.
و نجد التنسّک فی الإسلام حیث تنسّک جماعة من الصحابة فی عهد النبی و عرفوا به کأبی ذر و حذیفة و أویس القرنی و غیرهم.و کان المتصوّفون فی أول نشأتهم یتنسّکون و یتعبّدون من دون إطلاق لتسمیة المتصوّفة علیهم،لأن تنسّکهم و زهدهم من وجوه إیمانهم بأحکام القرآن و عقائد الإسلام،و هو ما کان سبب مأساة أبی ذر
ص:84
الذی قصد إلی تطبیق نظام الإسلام و ضمان حق الفقراء.و تمسک بمبدإ الآخرة و زوال الدنیا،فکان شعاره قول اللّه سبحانه و تعالی: وَ الَّذِینَ یَکْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا یُنْفِقُونَها فِی سَبِیلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِیمٍ فامتدت إلیه ید الأغنیاء.و رمته فی أحضان حکم معاویة،فکان لا یخفی إنکاره لما فیه معاویة من بذخ و ترف یتعارض مع الإسلام، و زاد علی تردیده قول اللّه،قوله لمعاویة جهارا:إن کان ما أنفقت من مال اللّه فهو خیانة، و إن کان من مالک فإسراف.
و لقد أدت أوضاع الدعوة فی زمن الرسالة و ضرورات نشر الدین إلی معاناة کبیرة و تضحیة بالغة شملت الأهل و المال و المسکن،فقد کان أهل الصّفة(غرباء فقراء مهاجرین أخرجوا من دیارهم و أموالهم)و وصفهم أبو هریرة و فضالة بن عبید فقالا:
یخرّون من الجوع حتی تحسبهم الأعراب مجانین،و کان لباسهم الصوف حتی أن کان بعضهم یعرق فیه فیوجد منه ریح الضأن إذا أصابه المطر.هذا وصف بعضهم لهم حتی قال عینیة بن حصن للنبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أنه لیؤذینی ریح هؤلاء،أ ما یؤذیک ریحهم؟ و المتصوفة یتمسّکون بنسبتهم إلی حال أهل الصّفة،و أن التسمیة منها،غیر أن ذلک لا یتفق مع اللغة،و تأباه قواعد الصرف.أما النسبة إلی الصوف فقد تکون من حیث اتفاقها مع قواعد اللغة و التاریخ هی الأصح.و لا نعنی بالقطع و اختیار أحدها علی وجه الیقین،فلیس لذلک أهمیة فی نظرنا،و قد یخرج عن صلب البحث.کما أن الصوفیة یریدون أن یجمعوا بین کل التسمیات،و ربطها بالصّفة و الصوف اللذین یتوحّدان فی نظرهم،و من نسبهم إلیهما فإنه عبّر عن ظاهر أحوالهم،و ذلک أنهم قد ترکوا الدنیا فخرجوا عن الأوطان،و هجروا الأخدان،و ساحوا فی البلاد،و أجاعوا الأکباد،و أعروا الأجساد،لم یأخذوا من الدنیا إلا ما لا یجوز ترکه من ستر عورة و سدّ جوعة (1).
و نختصر القول فی نصّین کلیهما لأحمد أمین،لأنی فی دار الغربة و الابتعاد عن الوطن حیث داری و مکتبتی،أعانی معاناة لا یعرفها إلا اللّه من توفیر ما احتاج إلیه من ضرورات البحث و أمهات المصادر التی کانت متیسرة فی داری فی النجف الأشرف، و أنفقت بین ریاض الأفکار الشطر الأوفی من عمری،کان حصیلته الأجزاء الستة
ص:85
الماضیة من کتاب الإمام الصادق و المذاهب الأربعة و مخطوطاتی الأخری.ناهیک عن و هن البدن و ضعف البصر حتی الکلل.لک الحمد اللهم أولا و آخرا.
یقول أحمد أمین:و من ناحیة أخری تغالی الصوفیة فی الأعمال النفسیة الروحیة،و لم یضغطوا ضغطا کافیا علی الأعمال الظاهرة،فکان هناک فقهاء و صوفیة، و عداء بین الفقه و التصوف.الصوفیة یرمون الفقهاء بأنهم لا یعبئون إلا بالقشور من مظاهر الأمور،و الفقهاء یرمون الصوفیة بأنهم غلوا فی أحوال الروح أکثر مما کان یعرفه الإسلام و سمّوهم أهل الباطن (1).
و یقول الدکتور أحمد أمین:و کان التصوّف یغلو فی الباطن،و کان مرتعا خصبا للخرافات و الأوهام و التحرّر من الشعائر،و ارتکاب الموبقات،و اخترعوا بجانب التصوف الموسیقی و الذکر و الشطح و الرقص و غیر ذلک،و کان لهم أثر کبیر فی النظام الاجتماعی المتهافت،و کان من نتائج الصراع الشدید بین الفقهاء و المتصوّفة أن آل الأمر إلی سجن بعضهم (2).
و هذا ما یکشف لنا جانبا من جوانب الصراع الحاد،مما یحدث رد فعل فی نفوس أکثر الناس،فالمتصوفة سلکوا الجانب الروحی ادّعاء،و دعوا الناس إلی الاعتقاد بما لا یقبله العقل و لا ینطبق مع نظم الإسلام،و أصبح جانب التصوّف یدعم تلک الخرافات التی انثالت علی المجتمع بسمّ قاتل،و کانت تلک الرباطات مصدرا لأمور لا رابطة لها بالإسلام.و وجهوا الناس إلی تعظیم قبور من یسمونهم بأولیاء علی طرقهم المعروفة و أسالیبهم الخاصة،یکمل هذا و ذاک ادّعاءات الأحداث و الأفعال للأموات و الأحیاء الذین یتّصلون بهم،فتسود حالة من الإیمان بقدرات المخلوقین و الاعتقاد بکرامات أولیائهم،و تتحجّر الأذهان و الأفهام علی ألوان من الإیحاء التی یستفید منها الذین یحتلّون الصدارة.
و فی وسط فوضی القیام بأعمالهم و أشکال طرقهم،کان الناس یساقون إلی مستویات عقلیة واهیة،و یرفعون إلی مهاوی الجهل کما علمنا سابقا و مرّ بنا فی ثنایا البحث.
ص:86
إن روح العداء التی سقط بها المجتمع فی مخالفة صریحة لأحکام الشریعة و تعالیم السنة النبویة،تظافر علی ظهورها عوامل عدیدة و أسباب شتی،کانت ید المصالح الخاصة و أغراض السلطان هی الأقوی و الأغلب.
و من عوامل نجاح الدعوة إلی القضاء علی محاولات استمرار العداء و الانقسام، قیامها علی التحقیق و التثبّت و الابتعاد عن حمی الفرقة و داء التعصب الذی ما زال ینخر فی نفوس بعض الناس فی عصرنا الحاضر.
و قد بحثنا الجمود الفکری،و اطلعنا علی آثار الجهل و نتائج مقاومة روح العقل و حریة الأفکار،و کیف التقت مصالح الحکام و أصحاب السلطان مع ذوی النفوذ و المکانات،و اجتمعت الجهود و الطاقات للوقوف بوجه انفتاح آفاق الفکر،و أسهم کلّ من موقعه و مسئولیاته فی محاربة أصحاب الأفکار و العقائد،و احتل التعصب المنزلة العالیة لدی الذین یخشون آراء الناس و إطلاق حریتهم،و تکوّنت لدی السلطان و الحکام فکرة تحدّد الخطر فی جهة النظر و الاعتماد علی الفکر،و تماسکت فی العهد العباسی الأجزاء التی أوجدها الحکام المتسلّطون منذ أن انحرفوا بالنظام الإسلامی و استبدّوا بالحکم بعد الإمام علی علیه السّلام و أصبحت مساهمتها فی إرساء الظلم أعظم من السابق،فإننا نلاحظ أن معاویة کان یملی إرادته دوما علی فقهائه و خطبائه و المنضمّین إلی سلطانه،أما فی حکم بنی العباس فقد بات الاتجاه إلی تأسیس المذاهب أولا،و کانت العلاقات متبادلة و متوازنة فی کثیر من الأحیان بین تدخل الخلیفة و رأی رجال الفقه،ثم برز علی السطح من استهان بروابط العقیدة و روح الأخوة فی الدین و أغرته السلطة بمنافعها و ملاذها.
ص:87
کذلک بحثنا مسألة خلق القرآن،و هی من أعظم المشاکل و أشدّها تعقیدا،و من وجوه تعقیدها أن تحسب من عوامل الانحطاط فی المجتمع،و من أسباب دفعه إلی التفرقة،فهی قد تکون مشکلة تتجه إلیها الأفکار و تعقد حولها المناظرات لتکون مادة تسلک بها مسالک الاستدلال و طرق الاستنتاج،و تقابل الحجة بالحجة،و یلاقی الرأی بالرأی علی منهج التیارات الفکریة التی ظهرت فی تلک المرحلة،و تمثلت فی أفکار و اعتقادات کان حافزها الدفاع عن الإسلام و دحض افتراءات أهل الکتاب.لکن أغراض أهل الحکم و السلطان جعلتها کبقیة الأفکار و التیارات،و سلبتها میزتها و أهم خصائصها،فباتت واحدة من أسلحة الخلفاء التی تنتهک بسببها الحرمات و الأموال و الدماء،و أحدثت نتائج بالغة الضرر ترتّبت علی أسالیب السلطة الملتویة و السیئة فی تبنّیها لأفکار المعتزلة،و قد أشرنا إلی مسئولیة رجال العقل من المعتزلة فی ذلک و کأنهم التذّوا بالسلطة کما التذّ بها من سبقهم.
و کانت مرحلة المأمون و خلفیه،قد أدت إلی زیادة و ترسیخ علاقة العامة بالسلطة،و استسلامها للنظرة التقلیدیة التی عمل علی رسمها بصفتها الدینیة و صلاحیاتها الواسعة رجال متعددون،ارتبطوا بالخلفاء،و أذعنوا لرغبات الحکام فکانوا من أسباب الفرقة و حمایة الظلم.
ثم اخترنا قضیة البدع و الضلالات،و التی أصبحت تطلق بلا رویة،و تخضع للأهواء حتی شملت الطوائف جمیعها.
کما اخترنا من عوامل تخلف المجتمع و انقسامه مسألة القصّاص و دورهم فی استماله العامة و خدمة الحکام و جبروت الملوک،ثم ألحقنا بهذا العامل-من حیث التأثیر-قضیة التصوّف و ما أدت إلیه من مستوی عقلی یتقبّل الخرافات و یقبل علی الأوهام.
و من یبحث یر أمورا أخری عملت فی جسم المجتمع تمزیقا،و دفعت به إلی مهاوی التخلف.غیر أنّا اخترنا هذه العوامل من غیر أن ننکر دور العوامل الأخری، و هی فی عمومها ما زالت آثارها باقیة حتی الآن نسعی-و اللّه من وراء القصد-إلی إظهار ظروف قیامها و تحکیم العقل و النظرة الواعیة التی تسمو عن التعصب و الجهل لنعود إلی أصول العقیدة،و البحث المنصف یسهم بتحقیق هذا الهدف،لأن الکشف
ص:88
عن ملابسات وجود هذه العوامل،و التأکید علی حقائق قیامها،من أهم أسباب النجاح فی إدانة الطائفیة و التخلی عن التعصب و العناد.
و قد بحثنا مشکلة خلق القرآن،و طرفا من أثر القصّاصین و الوضّاع فی عقول العامة فی الجزء الأول من کتابنا،و زدنا هنا ما اقتضته ضرورة البحث و متطلبات اکتمال کل جزء من الأجزاء الأخیرة السابع و الثامن بمواد البحث المطلوبة التی تتیح الفائدة.و فی هذا الجزء مهّدنا من خلال التطرّق للبدع التی طرأت علی الصوفیة إلی التفسیر الصوفی لسیرة الأئمة الأطهار.
ص:89
ص:90
من الأمور التی ثبتت و استقرت علی أسسها،و احتفظت بملامحها الأصلیة، و قاومت موجات العداء،هی سیرة الأئمة الطاهرین من أهل البیت علیهم أفضل الصلاة و السلام،فظلت شخصیاتهم الفذّة مصادر إلهام تستمدّ منها الأمة العبر و الدروس،و تتأسی بمواقفها و تجربتها.و بقی الشیعة یتلقون أمور دینهم من هؤلاء الرجال الذین تعرضوا لمختلف أنواع المحن و ضروب التجارب القاسیة،فرسم الأئمة علیهم السّلام لمحبیهم و أتباعهم فی کل مرحلة طریق العمل،و وضعوا لهم سبل النجاة من خلال نماذج سلوکیة و مواقف جهادیة و فکریة تنیر الطریق أمام شیعتهم، و هم یعانون الویلات علی أیدی الحکام و الملوک و أصحاب السلطان و الجبروت.
و لا تحتکر الشیعة طرق الاتصال بتاریخ الأئمة الطاهرین،و لا تدّعی اختصاص الأخذ عن تراث و أحکام أهل البیت بأحد،بل یرون أنهم رجال الإسلام و أعلام الهدی الذین تتجه رسالتهم إلی کل الطوائف من المسلمین،و تسع تعالیمهم جمیع المسلمین.
و قد واجه الشیعة حملات ظالمة،و موجات عنیفة تزعّمها رجال مختلفون علی مرّ العصور،و إن لم تکن علی هیئة حملات الحکام و موجات ظلمهم المتکررة ضد أهل البیت و أتباعهم،و ما یعنی ذلک من ألسن ترقی منابر یفترض أن تقوم بمهمات المنبر المحمدی،و قصاصات و مراسیم،و جنود و دماء و أسلحة تلاحق أهل البیت و شیعتهم.إلا أن الحملات التی یقوم بها نفر بین فترة زمنیة و أخری،و بین مرحلة و مرحلة،تجد لها آذانا صاغیة لما تتستّر به من مراکز احتلتها بفعل ظروف سیاسیة و اجتماعیة غلب علیها الطابع الدینی،و قد مهروا فی دفع العامة إلی الإیمان بأقوالهم
ص:91
و الاعتراف بوجهات نظرهم التی هی فی حقیقتها غیر سلیمة لقیامها علی الاجتراء و التحکم.و قد تطرّقنا إلی ما انتهی إلیه التصوّف من طقوس أسهمت فی تخلف العامة،و تشجیع ظهور حالات یؤدون بها حرکات تخرجهم عن الاتزان و السلامة،أو ادّعاء الکرامات التی یرافقها بیان و شرح تجعلها بمستوی المعجزات.
فکانت هذه النهایات فی المتصوفة،إضافة إلی الأفکار و المعتقدات التی تأولوها عن شواهد و أحداث لآل بیت الرسول محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مادة تعمیق الانقسام فی المجتمع الإسلامی،و تأکید الفرقة بین السنة و الشیعة و ذلک لضیاع التحقیق و فقدان التدقیق.
و لئن أدت حرکة العلم و النشاط الفکری إلی اختلاط و تداخل بین دوائر الشیعة الفکریة و بین المعتزلة،فقد حسمتها دلائل کثیرة مادیة و معنویة فی الفکر و التصرف، و بات واضحا لکل ذی بصر ینظر بتجرد،أن تشابه المناهج و تقارب المنحی الفکری بین الشیعة و المعتزلة،لا یعنی اتحادهما المطلق أو تشابههما التام،و مع هذا بقیت إلی یومنا هذا،کمثل قضیة تشیّع ابن أبی الحدید شارح کتاب نهج البلاغة،و عدم الالتفات إلی اعتزاله،و ما ینطوی ذلک علی أمور لا تقرّها الشیعة،و ما ذلک إلا من نتائج إغفال التحقیق و إهمال أمانة البحث.و إلا فإن أصول التشیّع تقترن بأصول الدعوة الإسلامیة وجودا و مضمونا،و کان أهل البیت من أئمة الشیعة قد امتازوا عبر کل عهود الحکام-و قبل ظهور تیارات الجدل و الکلام-برعایة الفکر و تحفیز الرأی فی حدود الشریعة و الأحکام،و ضرورة العقل.و کانت مدرسة الإمام الصادق علیه السّلام من أعظم صروح الفکر الإسلامی،لما اضطلعت به من نشاطات و مهمات تعنی بالفکر و الدین،و قد تقدمت الإشارة فی الأجزاء السابقة من الکتاب-و سنأتی علی ذکرها فی موضعها فی الجزء الثامن إن شاء اللّه-إلی اتصال رجال المعتزلة بالإمام الصادق علیه السّلام و لقد أصبحت مسألة تأثر الشیعة بالمعتزلة و أخذهم عنها من جملة المحاولات التی ترمی إلی الإساءة إلی مذهب الشیعة،و التقلیل من شأنه،فالنظرة العجلی تظهر الحقائق،فما ظنّک بالتحقیق و رعایة الأمانة؟ فما المعتزلة إلا تیار لا یختلف عن بقیة التیارات التی تهب بعوامل مختلفة لفترة معینة،و قد نمت فی ظل المماحکات و المناظرات،و قامت علی أسس المناظرة و الجدل،فهی فی إطار الکلام و فی مناحی العقیدة،تمثل مجموعة من الأفکار و النشاطات التی تتصل بالعقیدة،و القصد منها الردّ علی جهات داخل صفوف الأمة
ص:92
الإسلامیة أو خارجها،و تبنّی اعتقادات جدیدة و اجتهادات فی الجزئیات و الفروع و أقوال فی الصفات،إلی غیرها من أبواب نشاط المعتزلة،و لا ندری کیف یسمح لنفسه منصف أن یجعل الشیعة بفکرهم و بفقههم و برجال مذهبهم من أئمة الهدی و سادة أهل البیت تابعا و متأثرا بالمعتزلة،الذین کان أفضل رجالهم تبعا لأفکار الشیعة.و هو ما تمیّزت به مدرسة بغداد الاعتزالیة.و لقد کان من أخص الخصائص فی وجود الشیعة تاریخیا و دینیا،استقلالهم بالفقه و الروایة،و قیام أسسها علی مدرسة أهل البیت الطاهرین علیهم أفضل الصلاة و السلام.و ما انتظم فکر المعتزلة من قضایا رئیسیة انطوی فکر الشیعة علی أصولها و أمهاتها قبل أن تستجد عوامل انبعاث تیار المعتزلة و ظهور أصولهم التی نادوا بها.
و فی الحقیقة،فإن قضیة العلاقة بین الشیعة و المعتزلة،تبقی قضیة من قضایا الفکر،تبرز فی مستویات للبحث تستلزم الأمانة و تتطلب الموضوعیة،و أی تناول یزلّ عن غرض العلم،و یلجأ إلی أسالیب التهجّم و الاتهام،یفضح دوافعه و یعری أغراضه،و لهذا وجدنا الکثیر من الباحثین المعاصرین،یتناولون القضیة بطابعها الفکری و فی حدود ظروف قیامها،و انتهاء تیار المعتزلة و بقاء طائفة الشیعة.
أما القضیة ذات الخطر الجسیم،فهی قضیة التصوف التی قصد فی کثیر من استخداماتها إلی الطعن بالشیعة،و إبقاء الخلط بین الفرق التی تحسب علی الشیعة، و بین طائفة الشیعة الإمامیة.
یقول ابن تیمیة فی ردّه علی ابن عربی:
(ما تضمّنه کتاب«فصوص الحکم»و ما شاکله من الکلام فإنه کفر باطنا و ظاهرا،و باطنه أقبح من ظاهره.و هذا یسمی مذهب أهل الوحدة و أهل الحلول، و أهل الاتحاد،و هم یسمون بالمحققین...فأقوال هؤلاء و نحوها باطنها أعظم کفرا و إلحادا من ظاهرها،فإنه قد یظن أن ظاهرها من جنس کلام الشیوخ العارفین أهل التحقیق و التوحید.
و أما باطنها فإنه أعظم کفرا و کذبا و جهلا من کلام الیهود و النصاری و عبّاد الأصنام.
و لهذا فإن کل من کان منهم أعرف هؤلاء بهذا المذهب و حقیقته،کان أعظم کفرا و فسقا.
ص:93
کالتلمسانی،فإنه کان من أعرف هؤلاء بهذا المذهب،و أخبرهم بحقیقته.
فأخرجه ذلک إلی الفعل،فکان یعظّم الیهود و النصاری و المشرکین،و یستحل المحرمات،و یصنف للنصیریة کتبا علی مذهبهم،یقرّهم فیها علی عقیدتهم الشرکیة.
و کذلک ابن سبعین کان من أئمة هؤلاء،و کان له من الکفر و السحر الذی یسمی «السیمیا»و الموافقة للنصاری و القرامطة و الرافضة ما یناسب أصوله) (1).
و لا نحتاج إلی بیان القصد عند ما أوضح ابن تیمیة و جاء علی أسماء الفرق لیجعل من إدراجه«الرافضة»بهذا الشکل دلالة علی لون من ألوان نیله من الشیعة، و کم له من نصوص لا یتردد فیها فی ذلک دون رویة أو معتمد أو مسوّغ.
أما ابن خلدون،فهو أیضا من أبطال الدعوة و رجال الحملة الظالمة علی الشیعة،و کغیره من الذین استسلموا لأسلافهم،و لعبت بعقولهم الأهواء،یجد فی الصوفیّة مادة للطعن علی الشیعة و یساهم فی إثارة الغبار الذی یحجب الفوارق و الحدود بین الشیعة و من ینسب إلیهم،و لو طبقت المناهج المحدثة التی استمدّت من ابن خلدون أفکارها الاجتماعیة علی هذا الجانب،لأصبحت قضیة ما یحمل علی الشیعة و ما یتّهمون به من الأفکار الغالیة و الحلولیة من أسس مناهج البحث التأریخی المعاصر،و لأدی تطبیقها إلی زوال ما ألصق بالشیعة ظلما،غیر أن ابن خلدون اتّخذ حجة و علما فی فن-کما یرون-و أسهم فی أمر لا یقوم علی فن أو شیء من الصحة، فمتی کان التعصب علما،و متی کان الهوی منهجا؟فما التعصب إلا من صور الجهل، و ما المیل إلی الهوی إلا من قلة الإدراک،و لکنها إرادة الحکام و سیاساتهم فی التأثیر علی أفکار العامة،و حملهم علی الاعتقاد بأن کلما یصدر عن السلطان هو الحق،و ما یقوم به حاکم الزمان هو العدل،فکان ابن خلدون و غیره من خدمة حضرات الملوک و المتزلّفین لکراسی السلاطین من الدعاة إلی ذلک.فانظر مقدمة مقدمته و ما خلع من ألقاب علی الذین جعلهم کعبة تطلعه و مهوی أحلامه،و لقد کان أبعد الناس عن منهح التاریخ الذی أورده فی فصل علم التاریخ،لأنه راعی الملوک فی دولهم و الحکام فی سیاستهم علی مدی الأقطار،فأخلاقه تجعله یمدّ لکل حاکم یدا لأجل أن یستقرّ یوما فی أحد الدواوین أو یضمّه أحد القصور،و ما التزم بما قال من أن فن التاریخ(محتاج
ص:94
إلی مآخذ متعددة و معارف متنوعة و حسن نظر و تثبت یفضیان بصاحبهما إلی الحق و ینکبان به عن المزلات و المغالط).
یقول ابن خلدون:
(ثم إن هؤلاء المتأخرین من المتصوّفة،المتکلمین فی الکشف و فیما وراء الحسّ توغّلوا فی ذلک،فذهب الکثیر منهم إلی الحلول و الوحدة کما أشرنا إلیه، و ملأوا الصحف منه،مثل الهروی فی کتاب المقامات له،و غیره،و تبعهم ابن العربی و ابن سبعین و تلمیذهما ابن العفیف،و ابن الفارض،و النجم الإسرائیلی فی قصائدهم،و کان سلفهم مخالطین للإسماعیلیة المتأخرین من الرافضة،الدائنین أیضا بالحلول و ألوهیة الأئمة مذهبا لم یعرف لأولهم،فأشرب کل واحد من الفریقین مذهب الآخر،و اختلط کلامهم،و تشابهت عقائدهم،و ظهر فی کلام المتصوّفة القول بالقطب و معناه رأس العارفین) (1).
لقد حاولنا الاقتصار علی بعض أهم الأمور التی لا بد منها فی تناولنا للتصوف، و علی أبرز الجوانب التی جعلوها فی طرقهم،و قلنا فی السابق أنهم أوجدوا لهم نظاما متکاملا علی رأیهم حسب المراتب و الدرجات و المقامات و الأحوال،کالمرید و الغوث و القطب و الأبدال.و هی منازل وضعوا رجالهم بها،اصطلحوا علی خصائصها،و اتفقوا علی ماهیتها بحسب تکوین عقائدهم،و ظروف نشأتهم و مع وضوح اختصاص المراتب بالتدرج الذی یدخل فی أسالیب الدعوات السریة و التعالیم الباطنیة،فإن ابن خلدون یری أن ذلک هو ما تقوله الشیعة فی النقباء.
یقول ابن خلدون:
(و هذا کلام لا تقوم علیه حجة عقلیة و لا دلیل شرعی،و إنما هو من أنواع الخطابة،و هو بعینه ما تقوله الرافضة،و دانوا به،ثم قالوا بترتیب وجود الإبدال بعد هذا القطب کما قاله الشیعة فی النقباء،حتی أنهم لمّا أسندوا لباس خرقة التصوّف لیجعلوه أصلا لطریقتهم و تخلیهم،رفعوه إلی علی رضی اللّه عنه،و هو من هذا المعنی أیضا،و إلا فعلی رضی اللّه عنه لم یختص من بین الصحابة بتخلیة و لا طریقة فی لباس و لا حال؛بل کان أبو بکر و عمر رضی اللّه عنهما أزهد الناس بعد
ص:95
رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أکثرهم عبادة،و لم یختص أحد منهم فی الدین بشیء یؤثر عنه فی الخصوص،بل کان الصحابة کلهم أسوة فی الدین و الزهد و المجاهدة،یشهد لذلک من کلام هؤلاء المتصوفة فی أمر الفاطمی و ما شحنوا کتبهم فی ذلک مما لیس لسلف المتصوفة فیه کلام بنفی أو إثبات،و إنما هو مأخوذ من کلام الشیعة و الرافضة و مذاهبهم فی کتبهم و اللّه یهدی إلی الحق) (1).
و یضطرنا تحامل ابن خلدون فی الأمور الاعتقادیة و التاریخیة التی تخص الشیعة، إلی مناقشته بنصوصه،و الجدیر بالذکر،أن تحامل ابن خلدون کان من أسباب أقدامنا علی تألیف الکتاب،فهو یقول عن مذاهب الشیعة فی حکم الإمامة(إن الإمامة لیست من المصالح العامة التی تفوّض إلی نظر الأمة،و یتعین القائم بها بتعیینهم،بل هی رکن الدین و قاعدة الإسلام،و لا یجوز لنبی إغفاله و لا تفویضه إلی الأمة) (2).
و لنوضح أن لا حجة و لا دلیل لابن خلدون فی الربط بین عقائد الشیعة و أقوال المتصوفة عن رجالاتهم و النظام الذی وصفوهم فیه:
1-إن أمر الرسالة یحتاج إلی دوام فی الدعوة،و بقاء فی التوجیه یقوم علی میزات و صفات تتصل بصاحب الرسالة و القائم بالدعوة،و تنتمی إلیه فی التوجه و المضمون،لذلک فهی من أرکان الدین.و حدیثه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«من مات و لم یعرف إمام زمانه مات میتة جاهلیة»و یروی:«من مات بغیر إمام مات میتة جاهلیة»صریح فی الدلالة علی وجوب معرفة الإمام لأغراض الدین و استیضاح الأحکام.
لذلک نری الإمام أمیر المؤمنین یقول:«و إنما الأئمة قوام اللّه علی خلقه، و عرفاؤه علی عباده،و لا یدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه،و لا یدخل النار إلا من أنکرهم و أنکروه».
و قد کان الإمام علی عند ما آلت إلیه الخلافة،قد أرسی حکمه علی نظام الإمامة لأنها أقرب إلی جوهر الإسلام،و تمثل سلطانه الروحی.قال اللّه تعالی: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً یَهْدُونَ بِأَمْرِنا (3)و قال اللّه تعالی: إِنِّی جاعِلُکَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّیَّتِی قالَ لا یَنالُ
ص:96
عَهْدِی الظّالِمِینَ (1)و قد أوضح الإمام علی علیه السّلام الحالات التی تخرج صاحبها عن حدود رعایة الدین عند ما بیّن أصناف الناس فی حدیثه لکمیل بن زیاد،و بیّن أصل الإمامة الدینی حیث قال:«اللهم بلی لا تخلو الأرض من قائم للّه بحجة إما ظاهرا مشهورا و إما خائفا مغمورا،لئلا تبطل حجج اللّه و بیناته،و کم ذا و أین أولئک،أولئک و اللّه الأقلّون عددا،الأعظمون عند اللّه قدرا،بهم یحفظ اللّه حججه و بیناته حتی یودعها إلی نظرائهم، یزرعوها فی قلوب أشباههم،هجم بهم العلم علی حقیقة البصیرة،و باشروا روح الیقین، و استلانوا ما استوعره المترفون،و أنسوا بما استوحش منه الجاهلون،و صحبوا الدنیا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلی،أولئک خلفاء اللّه فی أرضه و الدعاة إلی دینه» (2).
کما أوضح الإمام أمیر المؤمنین علیه أفضل الصلاة و السلام أن الضلال فی عدم التعرّف علی الإمام،فلما سئل علیه السّلام:ما أدنی ما یکون به الرجل ضالا؟ قال علیه السّلام:«أن لا یعرف من أمر اللّه بطاعته،و فرض ولایته،و جعله حجته فی أرضه،و شاهده علی خلقه».
فإذن،اتصال الإمامة بشئون الدین و أصوله یجعلها من أرکان الدین،فهی لحفظ الشریعة و تدبیر أمر الناس و استمرار الدعوة إلی الهدی و الإیمان و النیابة عن صاحب الأمر و إبقاء مقام النبوة من حیث بیان الأحکام و إیضاح علوم الشریعة و حفظ السنن،و الفرائض و الدعوة إلی الحق و العمل بالصدق.
فالأئمة علیهم السّلام هم الأوصیاء و ورثة الأنبیاء الذین خصّهم اللّه بالکمالات و العصمة،فقال الإمام الصادق علیه السّلام:«أمر اللّه کل واحد من الأئمة أن یسلّم الأمر إلی من بعده».
یقول الفضل بن شاذان فی الجواب عن علة نصب الأئمة و الأمر بطاعتهم:أن الخلق لما وقفوا علی حدّ محدود،و أمروا أن لا یتعدّوا تلک الحدود لما فیه من فسادهم،لم یکن یثبت ذلک و لا یقوم إلا بأن یجعل علیهم فیها أمینا یأخذهم بالوقف عند ما أبیح لهم،و یمنعهم من التعدّی علی ما خطر علیهم،لأنه لو لم یکن ذلک، لکان أحد لا یترک لذته و منفعته لفساد غیره،فجعل علیهم قیما یمنعهم من الفساد
ص:97
و یقیم فیهم الحدود و الأحکام.و فیها:أنا لا نجد فرقة من الفرق و لا قلة من الملل بقوا و عاشوا إلا بقیّم و رئیس لما لا بد لهم منه فی أمر الدین و الدنیا،فلم یجزی فی حکمة الحکیم أن یترک الخلق مما یعلم أنه لا بد لهم منه،و لأقوام لهم إلا به، فیقاتلون به عدوّهم،و یقسّمون به فیئهم،و یقیمون به جمعتهم و جماعتهم،و یمنع ظالمهم من مظلومهم.و منها إنه لو لم یجعل لهم إماما أمینا حافظا مستودعا لدرست الملة،و ذهب الدین،و غیّرت السنن و الأحکام،و لزاد فیه المبتدعون،و نقص من الملحدون،و شبّهوا ذلک علی المسلمین،إذ قد وجدنا أن الخلق منقوصون محتاجون غیر کاملین مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم،و تشتت حالاتهم،فلو لم یجعل فیها قیما حافظا لما جاء به الرسول الأول،لفسدوا علی نحو ما بیناه،و غیّرت الشرائع و السنن و الأحکام و الإیمان،و کان فی ذلک فساد الخلق أجمعین..الخ (1).
2-إن أمرا بمثل هذه الأهمیة و علی مثل هذه الصفة الدینیة،لا یمکن أن یهمله النبی المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و فحوی الاختلاف هی التی تعیّن الصفة الدینیة أو الصفة الزمانیة، لأن الأخذ بالوصیة وفق منظور الأئمة،و الهدایة الدینیة یجنّب الأمة ما انتهت إلیه الأحوال فی عهد بنی أمیة أو بنی العباس.و لا یدع مجالا لغلبة الأهواء أو تحکّم المصالح،و عندنا أن الناس عند التحاق النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالرفیق الأعلی و انقطاع الوحی بموته،لم یکونوا جمیعهم علی درجة واحدة من الإیمان،بل کانت المدینة المنورة و الجزیرة العربیة تضمّ أناسا من الذین أسلموا فحسب،و آخرین من المنافقین و ذلک بنص القرآن و شهادة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال اللّه تعالی: إِذْ یَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِینُهُمْ وَ مَنْ یَتَوَکَّلْ عَلَی اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِیزٌ حَکِیمٌ (2)و قال سبحانه:
فَتَرَی الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ یُسارِعُونَ فِیهِمْ یَقُولُونَ نَخْشی أَنْ تُصِیبَنا دائِرَةٌ فَعَسَی اللّهُ أَنْ یَأْتِیَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَیُصْبِحُوا عَلی ما أَسَرُّوا فِی أَنْفُسِهِمْ نادِمِینَ (3).
و قال تعالی أیضا: وَ إِذْ یَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً و قال: یَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ یَذْهَبُوا وَ إِنْ یَأْتِ الْأَحْزابُ یَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِی
ص:98
اَلْأَعْرابِ یَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِکُمْ وَ لَوْ کانُوا فِیکُمْ ما قاتَلُوا إِلاّ قَلِیلاً (1)و قال تعالی:
وَ مِمَّنْ حَوْلَکُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِینَةِ مَرَدُوا عَلَی النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ (2)صدق اللّه العلی العظیم.
ثمّ هل تخفی علی ذی عقل دلالة ما نزل به جبرائیل أن یکون إشهار البراءة و إعلان انتهاء العهد مع المشرکین علی ید الإمام علی بن أبی طالب،لأن ذلک یقتضی أن یکون علی ید صاحب الشریعة أو واحد من أهل بیته یمثله (3)لإعلام المشرکین ما ستکون علیه علاقتهم بأهل الإسلام بعد أن تمکنت الدعوة و أصبح لها من القوة ما تستطیع به أن تهاجم المشرکین،و تتحول إلی محاربة وجودهم و عقائدهم؟ و لکن الأهواء و التعصب تجعل من کل حقیقة مثارا للجدل.
فأخذ الأمر بالصفة الدینیة التی تتظافر علیها الأدلة القاطعة و النصوص الصریحة، یجعل مهمات الدعوة قائمة،و لا بد أن یکون لهذا الدین من أئمة یقومون بالأمر، و ینشرون أحکام الدین و یبیّنون أصوله.فمن أولی من عترة النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟و ما قیل فیهم من قبل الشیعة لیس من أنواع الخطابة-کما یقول ابن خلدون-التی هی بضاعة خطباء الحکام أو نکایا المتصوفة،بل هی نصوص معتبرة تصف حال القائمین بالأحکام و الداعین إلی الإسلام و انتهاجهم منهجا یحیی سنة الرسول الأعظم.
قال الإمام علی بن موسی الرضا علیه السّلام:
«إن الإمامة منزلة الأنبیاء و إرث الأوصیاء،إن الإمامة خلافة اللّه و خلافة رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و مقام أمیر المؤمنین علیه السّلام و خلافة الحسن و الحسین علیهم السّلام.
إن الإمام زمام الدین و نظام المسلمین و صلاح الدنیا و عزّ المؤمنین.الإمام أس الإسلام النامی و فرعه السامی.بالإمام تمام الصلاة و الزکاة و الصیام و الحج و الجهاد و توفیر الفیء و الصدقات و إمضاء الحدود و منع الثغور و الأطراف.
ص:99
الإمام یحلل حلال اللّه و یحرم حرامه،و یقیم حدود اللّه،و یذبّ عن دین اللّه، و یدعو إلی سبیل اللّه بالحکمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة».
فیکون السلوک و النسب من جنس الدعوة و صاحب الدعوة.فإذا کان أصحاب الطرق و مرید و بعض الأشخاص قد أرادوا أن یتقربوا من آل البیت،أو یتظاهروا بذلک علی مختلف الأغراض و الدوافع،فلیس إلی تساویهم مع الأئمة الأطهار من سبیل یقرّه المنطق،إلا إذا غلب التعصب و الهوی.فکل غوث أو بدل أو أی مرتبة عندهم لا تسمو إلی أی فرد من أهل بیت النبوة الأئمة الأطهار علیهم السّلام حتی و إن ساقوا أحادیث صحّحوها و حسّنوها و رواها أحمد کحدیث:الإبدال فی هذه الأمة ثلاثون رجلا قلوبهم علی قلب إبراهیم خلیل الرحمن،کلما مات رجل أبدل اللّه مکانه رجلا.
و حدیث:الأبدال فی أمتی ثلاثون بهم تقوم الأرض و بهم تمطرون و بهم تنصرون.أو الذی رواه الطبرانی عن عوف بن مالک و وصفه السیوطی بالحسن:الأبدال فی أهل الشام،و بهم تنصرون،و بهم ترزقون.فإذا قیل أن المقصود بهم یشمل أئمة أهل البیت فإن خصائص الأئمة الأصلیة التی بیّناها هی الأحق.
و لو أعدنا النظر فی قول ابن خلدون لنتناول نقطة أخری من بین النقاط التی تستدعی التوقف و المناقشة،فابن خلدون هکذا شأنه فی کل أمر یتعلق بآل البیت الأطهار،فهذا النص علی قصره یضمّ عدة نقاط نترک مناقشتها للقارئ الکریم، و لضیق ما نخصصه لابن خلدون هنا،و هی فی أغلبها بادیة النصب و العداء،و لنعد إلی قوله:ثم قالوا بترتیب الإبدال بعد هذا القطب کما قاله الشیعة فی النقباء حتی أنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف لیجعلوه أصلا لطریقتهم و تخلیهم رفعوه إلی علی رضی اللّه عنه،و هو من هذا المعنی أیضا،و إلا فعلی رضی اللّه عنه لم یختص من بین الصحابة بتخلیة و لا طریقة فی لباس و لا حال،بل کان أبو بکر و عمر رضی اللّه عنهما أزهد الناس بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أکثرهم عبادة...إلی آخر کلامه.
و ابن خلدون علی الانحراف و التحوّل عن أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم اللذین دفعا من سبقه و من اتبعه إلی أن یبعدوا أصول التصوف التی اتفق علیها المتصوفة و أدعوها عن مجالات أهل البیت و مواقع القرب منهم،و مدی صحة ذلک و قربه أو بعده عن الحقیقة من شئون المتصوفة و طوائفهم لا من شأن الشیعة،لأن الشیعة هم أتباع الأصل و أنصار الجوهر.و کما حفلت صفحات المناقب التی یقصد بها المضاهاة أو التأثیر
ص:100
علی مناقب أهل البیت و عظیم منزلتهم،حفل تیار الانحراف فی اهتمامه بما یتعلق بالتصوف و أصوله التی أقیم علیها بما ینجم عن هذا القصد منها:أن أبا بکر لما أنفق ماله فی سبیل اللّه و أعتق عبیده حتی تخلل بالعباءة،نزل جبرائیل و قال:یا محمد:إن ملائکة السموات تخللت بالعباءة إکراما لأبی بکر من اللّه،و قل له:إن ربک علیک راض فهل أنت علیه راض؟فقال أبو بکر:إنی عن ربی راضی (1).
و سری ذلک إلی صفوف المتصوّفة،و سمح لکثیر من أشیاخهم باحتلال المراتب التی یسعون إلیها،مع أن القسم الأعظم-و علی الأخص فی مصر-بقی محتفظا بصورة الأصول التی أقاموا علیها طرقهم،و جعلوا من سیرة أهل البیت الأطهار مصدرا ثابتا،و أقاموا علی الولاء الذی خالطته حالات الطرق التی أشرنا إلیها،و بعض من آثار التیارات الأخری التی ظهرت علی ساحة الإسلام.
کما أن الصوفیة یأخذون بالإمامة لتکون علی معنی الدرجات التی تکوّن نظامهم غیر أنهم یختلفون فی شرط النسب.
و إذا نظرنا إلی نظریاتهم و قواعد سلوکهم،لوجدناهم یستخلصون أغلبها من أحداث تاریخ أهل البیت،إذ لدیهم فی الولایة نظریة ولایة العلم و ولایة الحکم أو خلافة الحکم،و أن الإمام علی اختص بالأولی.
و فی مجال الإمامة یقولون بإمامة الأشباح و الأرواح،و هی ما تقصده فی الحدیث عن السلطان الروحی لأهل البیت و أئمتهم الأطهار،و کیف أقاموا منزلهم فی نفوس شیعتهم و محبیهم علی أساس النصح و الإرشاد و الوعظ و التبلیغ،و عزفوا عن سلطان الحکم،و وجهوا أتباعهم إلی عوالم دینیة و روحیة تجعل من الأحکام و الفرائض دینا و مجتمعا قائما.یروی الشیخ الصدوق رحمه اللّه عن جابر عن أبی جعفر عن أبیه علیه السّلام أنه قال:«إذا کان أول یوم من شهر شوال نادی مناد أیها المؤمنون اغدوا إلی جوائزکم»ثم قال أبو جعفر علیه السّلام:«یا جابر جوائز اللّه عز و جل لیست کجوائز هؤلاء الملوک».ثم قال:«هو یوم الجوائز».
کما یروی عن الإمام الباقر علیه السّلام أیضا:«ما من عید للمسلمین أضحی و لا فطر إلا و هو یجدّد لآل محمد فیه حزن،لأنهم یرون حقهم فی ید غیرهم».
ص:101
یقول أبو المعالی محمد سراج الدین الرفاعی عن الإمامة عند الصوفیة:و جعلها إطار الدرجات و المنازل التی لدیهم،و اشتراط النسب الشریف:و هی الإمامة التی عناها حجاجة الصوفیة،و وسموها بالقطبیّة الکبری،و الغوثیة العظمی،و الإمامة الجامعة،و قالوا لصاحب مرتبتها:الغوث،و قطب،و الإمام الجامع،و الإنسان الکامل،و أطبق جماهیر الصوفیة سلفا و خلفا أن الغوث هذا المعنی بهذه الإمامة لا یکون من غیر أهل البیت النبوی أبدا،و قالوا:إن أهل البیت النبوی لمّا فاتتهم إمامة الأشباح التی هی الخلافة الظاهرة،عوّضهم اللّه سبحانه و تعالی ما هو خیر منها، و ذلک إمامة الأرواح،فإمامهم هذا أعنی القطب الغوث یتصرّف فی ذرّات الأکوان، و صاحب خلافة الظاهر ذرة منها...
ثم یورد قول السید إبراهیم أبو إسحاق الأعزب الرفاعی:کلمتان مردودتان عند أهل البساط:کلمة شریف یطلب نیل الإمامة الظاهرة بعد أن انعقدت علی الإمامة الجامعة الروحیة بیعة الأرواح لأهل البیت،و أمضی اللّه تعالی و رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لهم ذلک، و ها هی تنقلب بحمد اللّه تعالی فیهم،و لا تنزع منهم حتی تختم بسیدنا الإمام ولی اللّه المهدی علیه السّلام.و الکلمة الثانیة کلمة رجل قال أن قطبیة الأقطاب یعنی الغوثیة و الإمامة الکبری الروحیة،تکون فی غیر أهل البیت،فإن هذه الکلمة من عثرات ألسن بعض أهل الری لا یلتفت إلیها و لا یعول علیها.نعم إن المحاذاة للغوث ثابتة عند المتمکنین،فقد یحاذی الولی الذی لیس بشریف-بمحض فضل اللّه و توفیقه-مرتبة الغوث الجامع،و لکن لا ینزل تلک المنزلة بعینها أبدا (1)بسبب منزلة أهل البیت فی قلوب الناس،و میل النفوس إلیهم لم یکن من السهل إغفال هذا الشرط،و لکن من السهل ادّعاء النسب و الالتصاق بالشجرة الطاهرة المبارکة النقیة.و ظل الصوفیة یرون آل البیت بمنظار طرقهم و عقائدهم.اقرأ هذا النص الصوفی:
(و ذکر بعضهم أنها تروی-الطرق-من جهة الحسن عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و من جهة عن علی،لأن الحسن کان أول فتحه و مدده من ید النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثم صحب و اقتدی بوالده علیه السّلام کما وقع لکثیر من أهل اللّه تعالی حصل لهم الفتح من یده صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مباشرة، برؤیا منامیة أو اجتماع روحانی،ثم صحبوا بعد ذلک الشیوخ للسلوک و التهذیب،أو انتسبوا إلیهم للأدب مع الشریعة و الرکون إلی الواسطة.
ص:102
و ذکر بعضهم أن الحسن ورث القطبیة من والدته سیدة نساء أهل الجنة صلّی اللّه علیها و سلّم،و هی أول الأقطاب علی الإطلاق،و کل هذا صحیح،فإنهم بیت النبوة، و منبع المعارف و الکمالات و الأسرار،و قد ألبسهم النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم جمیعا بکسائه الشریف، و سقاهم بمدده العظیم،و شملهم بنوره الفخیم،فحازوا منه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أعلی مراتب الولایة.
و أقصی ما یصله البشر من درجات العرفان)انتهی.
ثم یطلّ المتصوّفة علی مأساة کربلاء و فاجعة الطف،حیث مسرح ثورة أبی الأحرار الحسین بن علی علیهما السّلام و موضع نهضة سید الشهداء،و صفحات البطولة، و مواقف الجهاد،فیروون بطرقهم أن الإمام الحسین لما انکشف له فی سرّه تدلی الخلافة الروحیة التی هی الغوثیة و الإمامة الجامعة فیه و فی بنیه علی الغالب،استبشر بذلک،و باع فی اللّه نفسه لنیل هذه النعمة المقدسة،فمنّ اللّه علیه بأن جعل فی بیته کبکبة الإمامة،و ختم ببنیه هذا الشأن،علی أن الحجة المنتظر الإمام المهدی علیه السّلام من ذریته الطاهرة و عصابته الزاهرة (1).
فإذا کان النظر فی جوانب عظمة الإمام علی علیه السّلام کان التأثر علی أشده، و راحوا یقتبسون من سیرته،و یؤسسون علی فضائله،و یصفونه بحسب أوصافهم التی قد یلتقون عبرها مع شیعة أهل البیت أو ینفردون بها،کما أنهم لا یطبقون علی رأی و لیسوا کالشیعة فی الوصیة و الإمامة،فمنهم من یجعل الإمام فی الطبقة الأولی من طبقات المتصوفة،و یمضی فی ذلک حسب ترتیب الخلفاء،و منهم من یقول أن الأفضیلة التی یراها السنّة فی الخلفاء لا تستلزم الأعلمیة،و یسوقون أدلة علی ذلک کقصة الخضر مع موسی علیهما السّلام فإن القرآن أثبت أعلمیة الخضر بالحقائق علی موسی،مع أن موسی أفضل منه بلا خلاف بین أحد یعرفونه.و یقولون:و یکفی أن الخضر نبی و موسی علیه السّلام رسول،بل من أفضل الرسل،و لا یوجد من یقول بأن هناک نبی أفضل من بعض أولی العزم من الرسل علیهم السّلام.
و فی الإمام علی یقولون:
بأنه مدینة العلوم و المواهب،ولی المتقین و إمام العادلین،أقدمهم إجابة و إیمانا،و أقومهم قضیة و إیقانا،المنبئ عن حقائق التوحید،المشیر إلی لوامع بوارق
ص:103
علم التفرید،ذو القلب العقول و اللسان السئول.و الآذان الواعیة و العهود الوافیة.
ختم اللّه به الخلافة کما ختم بمحمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم النبوّة،الأخیشن فی دین اللّه،الممسوس فی ذات اللّه.و قد قیل:التصوف مرافقة المودود و مصارمة المعهود.قال حذیفة:قالوا یا رسول اللّه:أ لا تستخلف علینا؟قال:«إن تولوا علیا و ما أراکم فاعلین تجدوه هادیا مهدیا».و سئل المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عنه فقال:«قسّمت الحکمة عشرة أجزاء،فأعطی تسعة و الناس واحدا»و قدم علیه یوما فقال:«مرحبا بسید المسلمین و إمام المتقین.إن اللّه أمرنی أن أدنیک و أعلمک لتعی»و قال:«من کنت مولاه فعلی مولاه،اللّهم وال من والاه و عاد من عاداه»و قال:«علی منی و أنا منه»و قال:«أنا مدینة العلم و علی بابها» و قال:«لا یحبه إلا مؤمن و لا یبغضه إلا منافق».و قال:«من آذی علیا فقد أذانی، و من سبّه فقد سبّنی،و من أبغضه فقد أبغضنی،و من أحبّه فقد أحبّنی»و قال:«علی مع القرآن و القرآن مع علی»و قال ابن عباس رضی اللّه عنه:ما نزل فی أحد من کتاب اللّه ما نزل فی علی رضی اللّه عنه،و کان إذا غضب المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لم یجسر أحد أن یکلّمه إلا علی.و قال:لعلی ثمانی عشرة منقبة ما کانت لأحد من هذه الأمة.و قال یوم خیبر:«لأعطینّ الرایة رجلا یحبّ اللّه و رسوله،و یحبه اللّه و رسوله».و جعل حبه علامة الإیمان و بغضه إمارة النفاق.و قال الإمام أحمد:ما ورد لأحد من الصحابة من الفضائل ما ورد لعلی رضی اللّه عنه.رواه الحاکم و غیره،و کان رضی اللّه عنه الانقیاد و الاستسلام شأنه،و التبرّی من الحول و القوة مکانه.و قد قیل:التصوف إسلام الغیوب إلی مقلب القلوب،و إذا أردت أن تعرف منزلته من المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فتأمل صنیعه فی المؤاخاة بین الصحابة،جعل یضم الشکل إلی الشکل،و المثل إلی المثل، فیؤلف بینهما إلی أن آخا بین أبی بکر و عمر رضی اللّه عنهما،و ادّخر علیا کرم اللّه وجهه لنفسه،و اختصه بأخوّته،و ناهیک بها من فضیلة،و أعظم بها من شرف (1).
ثم یستمدّون من سیرته ما یؤید المقالات الصوفیة،و من أقوال أئمة المسلمین فیقول المناوی:و قد شهد له بکمال الزهد الإمام الشافعی رضی اللّه عنه.قیل له:ما نفّر الناس عن علی رضی اللّه عنه إلا أنه کان لا یبالی بأحد.فقال الشافعی رضی اللّه عنه:کان عظیما فی الزهد،و الزاهد لا یبالی بأحد،و کان بذات اللّه علیما،و عرفان
ص:104
اللّه فی صدره عظیما.و قد قیل:التصوف البروز من الاحتجاب إلی رفع الحجاب.
و أعیان رجالهم و کبارهم المشهور عندهم أن طریقتهم تتصل بالإمام أمیر المؤمنین علیه السّلام یقول الوتری:نعم،إن خرقة الصوفیة رضی اللّه عنهم تتصل بالخلیفة الرابع أسد الملاحم و المعامع،شیخ أئمة الآل،فحل الرجال،صهر رسول الثقلین،والد الریحانتین،إمام المشارق و المغارب،أمیر المؤمنین أسد اللّه سیدنا علی بن أبی طالب کرم اللّه وجهه و رضی اللّه تعالی عنه،و قد ندر اتصال خرقة بغیره، و کلهم علی هدی یتصلون بسید المخلوقین حبیب رب العالمین صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و لا یلتفت لما تقوّله البعض فی شأن خرقة الصوفیة،فإن ذلک قد نشأ عن هفوات لا تعتبر،و لا یبنی علیها الشک بعد الیقین بصحة الخبر (1).
ثم یحسبون الأئمة من آل البیت صلوات اللّه علیهم أجمعین أعیانا لخرقتهم، فیقول الوتری:و إن أعیان أهل الخرقة ساداتنا أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أعیانهم أئمة الآل الأعلام علیهم الرضوان و السلام،و هم:السبط الجلیل القدر،الوفیر المنن أمیر المؤمنین الإمام أبو محمد الحسن،و السبط العظیم المقام،قرة عین سید الکونین أمیر المؤمنین الإمام أبو عبد اللّه الحسین،و سیدنا الإمام علی زین العابدین،و سیدنا الإمام محمد الباقر،و سیدنا الإمام جعفر الصادق،و سیدنا الإمام علی الهادی،و سیدنا الإمام الحسن العسکری،و سیدنا الإمام الخلف الصالح قرة عین الأئمة الهادین الإمام محمد المهدی سلام اللّه علیه و علیهم أجمعین،فهؤلاء السادات الأعیان،أحوالهم مذکورة، و أعلامهم منشورة،و تراجمهم أشهر من أن ینبّه علیها،و فضائلهم أفعمت بها الدفاتر، و جفّت لها المحابر،و هم سادات السادات،و أعیان الأولیاء،الذین خرق اللّه لهم العادات.
ما ذا یقول المادحون بوصفهم و هم السراة خلائف المختار
ضربت قباب فخارهم و سمّوهم بین البتول الطهر و الکرّار
للّه جعفر طاب من أنسابهم عقدت علیه سلاسل الأقمار
ص:105
و لا نطیل فی تفاصیل مقالات الصوفیین أو تعریفاتهم،و نقتصر علی أمرین نراهما المدخل الذی جاء منه الصوفیة إلی ریاض أهل البیت فی سیرهم،و راحوا یعقدون أکالیل معتقداتهم منها.
:
و جعل مدار الحب إلهیا،یصبغ علاقة المسلم بربه،و هی فی أشکالها تقوم علی فکرة الإمام علی علیه السّلام و تحدیده ماهیة العبادة أن تکون عبادة أحرار،لا طمعا فی ثواب أو خوفا من عقاب،و علیها أسسوا ذلک،و لا تبعد بأی حال عن ثواب أو خوفا من عقاب،و علیها أسوسا ذلک،و لا تبعد بأی حال عن أصلها الحقیقی مهما تعدّدت الأقوال.
یقول القشیری:من عرف اللّه عن طریق المحبة دون خوف هلک بالبسط و الإدلال،و من عرفه من طریق الخوف من غیر محبّة انقطع عنه بالبعد،و من عرف اللّه من طریق المحبة و الخوف أحبه اللّه فقرّبه و علّمه و مکّنه.
أما أبو طالب المکی فیقول:و کل محب للّه خائف،لیس کل خائف محبا.
و ربما کانت المحبة ثوابا للخوف و مزیدا له،و هذا فی مقام رب العالمین.و ربما کان الخوف مزیدا للمحبة و ثوابها،و هذا فی مقام العالمین.فمن کانت المحبة مزیدة بعد الخوف فهو من المقربین.و من کان الخوف مزید محبته،فهذا من الأبرار المحبین و هم أصحاب الیمین (1).
و أری من المستحسن هنا أن نذکر شیئا من نصوص التراث الشیعی القائم علی أفکار أئمتهم صلوات اللّه علیهم و مواعظهم،بعد الإشارة إلی تعلق هذا المدخل بالجانب الإشراقی الذی أغناه الرئیس ابن سینا فی الإشارات:
یقول الشیخ الجلیل محمد مهدی النراقی فی«جامع السعادات»و تحت فصل المنکرین لحب اللّه:(قد ظهر مما ذکر ثبوت حقیقة المحبة و لوازمها من:الشوق و الأنس للّه تعالی،و أنه المستحقّ للحب دون غیره.و بذلک ظهر فساد زعم من أنکر إمکان حصول محبة العبد للّه تعالی و قال:لا معنی لها إلا المواظبة علی طاعة اللّه،
ص:106
و أما حقیقة المحبة فمحال إلا مع الجنس و المثل.و لما أنکروا المحبة أنکروا الأنس و الشوق و لذة المناجاة و سائر لوازم الحب و توابعه،و یدل علی فساد هذا القول، مضافا إلی ما ذکر،إجماع الأمة علی کون الحب للّه و لرسوله فرضا،و ما ورد فی الآیات و الأخبار و الآثار من الأمر به و المدح علیه و اتصاف الأنبیاء و الأولیاء به).
انتهی.
قال الإمام الصادق علیه السّلام:«حب اللّه،إذا أضاء علی سرّ عبد أخلاه عن کل شاغل و کل ذکر سوی اللّه،و المحب أخلص الناس سرّا للّه،و أصدقهم قولا،و أوفاهم عهدا،و أزکاهم عملا،و أصفاهم ذکرا،و أعبدهم نفسا،تتباهی الملائکة عند مناجاته،و تفتخر برؤیته،و به یعمر اللّه بلاده،و بکرامته یکرم اللّه عباده،و یعطیهم إذا سألوه بحقه،و یدفع عنهم البلایا برحمته،و لو علم الخلق ما محله عند اللّه و منزلته لدیه،ما تقربوا إلی اللّه إلا بتراب قدمیه».
و قوله علیه السّلام یعطینا صورة واضحة عن منهجه فی الدعوة إلی التمسک بالدین، و الانصراف لمرضاة اللّه،فی وسط تلک المعترکات و المحن التی تشهدها الأمة علی أیدی المتسلطین،الذین یتخذون من دین اللّه ستارا لأغراضهم و أطماعهم،فاختط لنفسه و لمریدیه طریق الإخلاص للّه،و التقرّب منه،الذی یبعث فی النفوس الطمأنینة.و یحیی الأمل بعد تلک النکبات و الفواجع التی ألمّت بأهل البیت الکرام صلوات اللّه علیهم،و امتدت إلی المؤمنین من أتباعهم.
و یوضّح الإمام الصادق علیه السّلام أصول اتجاهه الروحی،و یجعل شیعته و مریدیه علی معرفة و بیّنة من خصائص السلوک الذی یدعوهم إلیه،و دقائق المنهج الذی یحملهم علیه،فیقول علیه السّلام:«نجوی العارفین تدور علی ثلاثة أصول:الخوف و الرجاء و الحب.فالخوف فرع العلم،و الرجاء فرع الیقین،و الحب فرع المعرفة.
فدلیل الخوف الهرب،و دلیل الرجاء الطلب،و دلیل الحب إیثار المحبوب علی ما سواه.فإذا تحقق العلم فی الصدر خاف،و إذا صح الخوف هرب،و إذا هرب نجا، و إذا أشرق نور الیقین فی القلب شاهد الفضل،و إذا تمکن من رؤیة الفضل رجا،و إذا وجد حلاوة الرجاء طلب،و إذا وفّق للطلب وجد،و إذا تجلی ضیاء المعرفة فی الفؤاد هاج ریح المحبة،و إذا هاج ریح المحبة استأنس فی ظلال المحبوب علی ما سواه، و باشر أوامره و اجتنب نواهیه،و اختارهما علی کل شیء غیرهما،فإذا استقام علی
ص:107
بساط الأنس بالمحبوب مع أداء أوامره و اجتناب نواهیه وصل إلی روح المناجاة و القرب.و مثال هذه الأصول الثلاثة کالحرم و المسجد و الکعبة،فمن دخل الحرم أمن من الخلق،و من دخل المسجد أمنت جوارحه أن یستعملها فی المعصیة،و من دخل الکعبة أمن قلبه من أن یشغل بغیر ذکر اللّه» (1).
کان الصادق علیه السّلام فی مرکزه الدینی و مکانته العلمیة،یتصدی لمهمات القیادة الروحیة،و یضع لأصحابه الإمارات التی یمیزون بها فی خضم ذلک المعترک.من أقبل علی نهجه بإخلاص،و یطلب من أصحاب البحث عن الصفات بطریق العمل و الالتزام بین صفوف شیعته فیقول علیه السّلام:
«امتحنوا شیعتنا عند ثلاث:عند مواقیت الصلوات کیف محافظتهم علیها، و عند أسرارهم کیف حفظهم لها من عدوّنا،و إلی أموالهم کیف مواساتهم لإخوانهم بها».
الذی راح الصوفیة ینهلون منه ما یشاؤون،و یضعونه فی أوعیة خاصة بهم من شأنها أن تحوّل طعم المحتوی،و تغیّر لونه هو:الزهد.
و للعلماء فی حقیقة الزهد اختلاف کبیر،فکیف إذا کان الأمر یتعلق بالخرقة و الطریقة،فلا بد أن یؤخذ الظاهر الذی یعضد الأقوال أو یدعّم الأسس.و نحن هنا نعرض القلیل القلیل مما یتحاشاه الذین یسوؤهم ذکر الحقیقة علی حالها.
فالإمام علی أمیر المؤمنین علیه السّلام فی حیاته الشریفة و سیرته الطاهرة،قد أخذ منذ آلت إلیه الخلافة و انتهی إلیه الحکم بجعل فترة إمامته فترة تتولی معالجة آثار التطورات الماضیة،و تتجه إلی المستقبل لأحکام الصلة بین عهد الرسالة و حیاة النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بإشراقهما و نورهما،و بین أسس سیاسته،حتی تهدأ النفوس و تستقر علی الهدی،و لو لا فترة حکمه و تطبیقات إمامته لکانت عودة الجاهلیة و أحقاد المشرکین بأعنف مما کانت علیه،و لما راعت أحدا من أهل الإسلام،و لذلک فإن الإمام علیا فی سلوکه لم یدع إلی ابتعاد عن الحیاة،و لا إلی انغلاق.و إنما هو المکلف بحفظ السنّة علی أصولها،و إبقاء الشریعة علی مقاصدها.
ص:108
عن أنس قال:جاء ثلاثة رهط إلی أزواج النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یسألون عن عبادة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فلما أخبروا بها کأنهم تقالوها،فقالوا:أین نحن من النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قد غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر؟فقال أحدهم:أمّا أنا فأصلی اللیل أبدا.و قال الآخر:
أنا أصوم النهار و لا أفطر.و قال الآخر:أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.فجاء النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقال:«أنتم الذین قلتم کذا و کذا؟أما و اللّه إنی لأخشاکم للّه،و أتقاکم له، و لکنّی أصوم و أفطر،و أصلی و أرقد،و أتزوّج النساء.فمن رغب عن سنّتی فلیس منی».
و ما یبنی علیه من مظاهر سیرة الإمام علی علیه السّلام لدی الصوفیة،و خاصة فی القرن الثانی الهجری،و بدایات اتساع طرقها و شیوع تعالیمها،یغفل المقاصد الحقیقیة التی تکمن فی کل ناحیة من حیاة الإمام علی علیه السّلام و تتعلق بما ینسجم مع نزعتها.
فإذا قیل:إن الإمام علیا کان یلبس إزارا خلقا مرقوعا،فذلک نصف الحقیقة،لأن تصرف الإمام و جوانب سیرته،تظهر فلسفتها فی أقواله.فعند ما قیل له فی ذلک الإزار،قال علیه السّلام:«یخشع له القلب،و تذلّ به النفس،و یقتدی به المؤمنون».
و قوله علیه السّلام:«...إن اللّه تعالی فرض علی أئمة الحقّ أن یقدروا أنفسهم بضعفة الناس کیلا یتبیغ بالفقیر فقره»أی یجب علی الإمام العادل أن یشبّه نفسه فی لباسه و طعامه بضعفة الناس،لکیلا یهلک الفقراء من الناس،فإنهم إذا رأوا إمامهم بتلک الهیئة و بذلک المطعم،کان ادعی لهم إلی سلوان لذّات الدنیا،و الصبر عن شهوات النفوس.
و من أحکام القرآن یتخذ الإمام علیه السّلام سیاسته الاجتماعیة و الاقتصادیة و یقول:
«إن اللّه سبحانه فرض فی أموال الأغنیاء أقوات الفقراء،فما جاع فقیر،إلا بما متّع به غنی،و اللّه تعالی سائلهم عن ذلک».
و فی ثنایا أقواله المأثورة،نجد تناوله للفقر من نواحی عدیدة،أولها:الناحیة الدینیة،ثم وجوده الاجتماعی،و یجعل علیه السّلام من الفقر إلی اللّه أصلا،ثم یعرض جوانب الفقر الأخری،و فی نهجه ما یغنی و ما لا یحاط به بمثل هذا العرض الموجز.
و لکن من المهم القول،أن حیاة الإمام علی من زاویة التصوف،ینظر إلیها بأکثر من زاویة،أهمها جمیعا ما یأخذ بالظاهر و یتشبث بإبقاء الصفات و الصلة إلی الحد الذی یضع علی لسانه تعریفا للتصوف،لیس فیه أی صفة أو علامة من صفات أو علامات
ص:109
منهج الإمام فی بلاغته و أفکاره،و إنما هی من صفات المقالات الصوفیة.فیروی علی لسانه علیه السّلام:التصوف ثلاثة أحرف:الصاد صبر و صدق و صفاء،و الواو ودّ و ودّ و ودّ،و الفاء فرد و فقر و فناء.
و الزاویة الثانیة التی ینظر منها،هی زاویة المتخصصین و أصحاب التجربة المقرونة بالنظر،کما هو الحال عند الرئیس أبی علی بن سینا فی کتاب الإشارات الذی ینقل عنه ابن أبی الحدید.قال أبو علی فی مقامات العارفین:العارفون قد یختلفون فی الهمم بحسب ما یختلف فیهم من الخواطر،علی حسب ما یختلف عندهم من دواعی العبر،فربما استوی عند العارف القشف و الترف،بل ربما آثر القشف،و کذلک ربما استوی عنده التفل و العطر،بل ربما آثر التفل،و ذلک عند ما یکون الهاجس بباله استحقار ما عدا الحق،و ربما صغا إلی الزینة،و أحب من کل شیء عقیلته،و کره الخداج و السقط،و ذلک عند ما یعتبر عادته من صحبته الأحوال الطاهرة،فهو یرتاد إلیها فی کل شیء،لأنه مزیة حظوة من العنایة الأولی،و أقرب إلی أن یکون من قبیل ما عکف علیه بهواه،و قد یختلف هذا فی عارفین،و قد یختلف فی عارف بحسب وقتین.انتهی.
و ینقل الصوفیة المتأخرون قول العارف باللّه المعروف بالباقی باللّه شیخ السادة النقشبندیة فی کتابه(المثوی)عن جعله تکنیة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم للإمام علی علیه السّلام بأبی تراب-و قصتها معروفة-أصلا یتفق مع خواطرهم و مقاصدهم و معناه:أن التراب إشارة إلی وجود أهل التوحید و الفناء،فیکون حاصل معنی أبی تراب:أنه علیه السّلام هو الأصل المقتدی به فی هذا المعنی،و المرجع لطائفة الفقراء أرباب الفناء الکمّل.
و من جهة أخری یحملون معانی الأحادیث و الأخبار النبویة فی الإمام علی علیه السّلام علی مقاصدهم و طبیعة نهجهم،و هی أحادیث رواها و صحّحها کبار المحدثین من أهل السنّة،و جاءت فی مصنفات علمائهم کمسند الإمام أحمد و منها:
«یا علی أن اللّه قد زیّنک بزینة لم یزیّن العباد بزینة أحب إلیه منها،هی زینة الأبرار عند اللّه تعالی فی الدنیا،جعلک لا ترزأ من الدنیا شیئا،و لا ترزأ الدنیا منک شیئا.و وهب لک حب المساکین،فجعلک ترضی بهم أتباعا و یرضون بک إماما،فطوبی لمن أحبّک و صدّق فیک،و ویل لمن أبغضک و کذّب فیک».
و هی نبوءة کشفت عمّا سیقع من أمر،و کیف سیکون الحال بین جنده و محبیه
ص:110
و هم یستمیتون من أجل صون الرسالة و حفظ مبادئ العدل فی مواجهة البغی و الأثرة و الجاهلیة الجدیدة التی تتخذ من الإسلام ستارا و هی ستارا و هی تشید حکمها و ملکها علی الأثرة و الاستغلال،و النهب و القتل.
و إذا عدنا إلی سیرة الإمام الصادق علیه السّلام وجدنا-أن منهجها الفکری و الدینی الذی شدّ إلیه الناس،و جذب نحوه رجالات الأقطار و علماءها،فتتلمذوا علی یدیه، و تخرّجوا من مدرسته،یتّسم ببناء دقیق،لأنه یتجه إلی بناء المسلم من الداخل، فیتکلم علیه السّلام بألفاظ و مفردات توضّح القصد،کما تسهّل التّأثیر و الفعل.و فی مجال الإیضاح و التفسیر،یتحدث أبو عبد اللّه الصادق علیه السّلام بصور و بیان یجسّد المطلوب و یجلو ما یخفی علی الآخرین.فهو علیه السّلام فی خضم المعترک السیاسی و المآسی الکبری،یتجه إلی داخل النفوس و ما نجم عن معاناة الرعیة بأشکالها المختلفة، و یهتم علیه السّلام بطهارة الأرواح و استقامة السلوک.
قال الإمام الصادق:
«المرضی ثلاثة،عن النفس،و عن القلب،و عن الروح.فمرض المنافق عن النفس،و مرض المؤمن عن القلب،و مرض العارف عن الروح.فدواء المنافق دار جهنم،و دواء المؤمن معرفته و حبّه،و دواء العارف لقاؤه و قربه» (1).
و قوله علیه السّلام:
«من خاف اللّه أخاف اللّه منه کل شیء،و من لم یخفف اللّه أخافه اللّه من کل شیء» (2)یقصد به أن یعلّم الناس أن قوة الحکام الظلمة لا تطال المؤمنین،و أن اللجوء إلی اللّه هو الحصانة و المنجی من کل متسلّط جبّار.و قد اخترنا هذین القولین، لنخلص إلی أن الإمام الصادق علیه السّلام فی حیاته قد صبّ جهوده علی أمرین،الأول:
النضج و الإرشاد و وعظ الناس و الدعوة لدین الإسلام.و الثانی:التأکید علی السلطان الروحی و العبودیة للّه تعالی التی تجعل من أشکال اضطهاد الرعیة و ألوان عنف المتجبّرین و قوتهم امتحانا زائلا و مأزقا طارئا،و أن المواجهة الدامیة بعد التجارب التی
ص:111
مرّت بها الأمة و روّع بها الناس،لا تؤدی فی مثل تلک الظروف التی یعیشها إلاّ إلی الهلاک علی ید الحکام،لذلک سلک مع العباسیین مسلکا یجنّب أهل بیته و شیعته مخاطر سلطانهم.
فلمّا اتخذ رأیه فی عدم لبس السواد ذریعة من قبل الأعداء،أتقاهم بما یزیل التهمة و یحفظ حیاته،فأخذ یلبس جبة سوداء.و روی أنه کان یلبس خفا أسودا مبطنا بسواد و فتق مرة ناحیة منه و قال:«أما إن قطنه أسود»و أخرج منه قطن أسود،ثم قال علیه السّلام:«بیّض قلبک و ألبس ما شئت» (1).
أما إذا أضفنا الأقوال الأخری للإمام الصادق،فإن الصوفیة لا یکتفون بالتأسیس علیها أحوالا لهم و مقامات،بل إن ما نراه من أحداث طبیعیة تحفل بها سیرة الأئمة الطاهرین من أهل البیت.یرون فیها کرامات لتعزیز أقوالهم بأصحابهم،و ادّعاء الأعمال الجلیلة لهم.
قال الإمام الصادق علیه السّلام:«من أدخل قلبه صافی حب اللّه شغله عمّا سواه» (2).
و هو قول من مصادر الصوفیة لا یخرج عن مضامین مدرسة الإمام الصادق أو أقواله،إلا أن ما یجعلونه أساسا للمقامات و الأحوال عندهم،و ما یصرفون إلیه کلام الإمام علیه السّلام یسیء کثیرا إلی الموقف الدینی و الفکری الذی اقتضته مصلحة الأمة، و الذی اختطّه الإمام الصادق،و أطلقنا علیه«الدعوة الصامتة»و یظهر أن الصوفیة تنسج علی نزعتها و تحیک علی هواها المقاصد و المعانی،لأن واقع الإمام الصادق و حرکته الدائبة و نشاطه المعطاء،یفنّد الغرض الذی یختفی وراء القول بالتخلی أو الخمول.إذ لا یهدأ بحال فی أذهان الشیعة قول الإمام الصادق:«کونوا لنا دعاة صامتین»و اقتران الدعوة بالصمت یشیر إلی منهج الصادق فی الابتعاد عن مواجهة الحکام بما یحمی دماء الناس و أعراضهم و وجودهم،فیما أوّلوا بعض أقواله علیه السّلام تأویلات اعتبروها أساسا لأوضاع قادتهم و هو:«عزّت السلامة حتی لقد خفی مطلبها،فإن تک فی شیء فیوشک أن تکون فی الخمول،فإن لم توجد فیه ففی التخلی،و لیس کالخمول،فإن
ص:112
لم تکن فیه ففی الصمت،فإن لم تکن فیه ففی کلام السلف الصالح،و السعید من وجد فی نفسه خلوة (1).
و هذا من النصوص التی لعب الخیال فی إیجادها،و کانت نتیجة الغرض الذی.
انطوت علیه نفوس قائلیها،فجعلوا من أصل الفکرة فی توخّی السلامة وسط مجمع مائج بالأهوال و المحن و الابتلاءات،و مقتضیات الإمام و مسئولیاته تجاه ربه و دینه منوالا لأفکارهم،و تنادی ألفاظ القول علی بعدها عن البناء اللغوی و التوجه الوعظی الذی تمتاز به أقوال الإمام الصادق علیه السّلام.و المقارنة بالأصل تظهر الفارق،فقد قال علیه السّلام فی السلامة:«أطلب السلامة أینما کنت،و فی أی حال کنت لدینک و لقلبک و عواقب أمورک فی اللّه،فلیس من طلبها وجدها...و السلامة قد عزّت فی الخلق و فی کل عصر،خاصة هذا الزمان و سبیل وجودها فی احتمال جفاة الخلق و أذیتهم،و الصبر عن الرزایا و حقیقة الموت،و الفرار من أشیاء تلزمک رعایتها، و القناعة بالأقل من المیسور،فإن لم یکن؛فالعزیمة،فإن لم تقدر فالصمت،و لیس کالعزیمة،فإن لم تستطع فالکلام ینفعک و لا یضرّک،و لیس کالصمت،فإن لم تجد السبیل إلیه فالانقلاب و السفر من بلد إلی بلد،و طرح النفس فی بواری التلف بسرّ صادق و قلب خاشع و بدن صابر،قال اللّه عز و جل: إِنَّ الَّذِینَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِکَةُ ظالِمِی أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِیمَ کُنْتُمْ قالُوا کُنّا مُسْتَضْعَفِینَ فِی الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَکُنْ أَرْضُ اللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِیها .
و انتهز مقسم عباد اللّه الصالحین،و لا تتنافس الأشکال،و لا تدّع فی شیء و إن أحاط به علمک و تحققت به معرفتک،و لا تکشف به سرّک إلاّ علی أشرف منک فی الدین،و أنی تجد المشرف،فإذا فعلت ذلک أصبت السلامة».
و من أقواله علیه السّلام:
«ثلاثة أشیاء لا ینبغی للعاقل أن ینساهنّ علی کل حال:فناء الدنیا،و تصرّف الأحوال،و الآفات التی لا أمان لها» (2).
فهل کانت مثل هذه الأقوال دافعا لأصحابه علی اعتزال الدنیا و ترک مهمات الحیاة،أم أن الرجل منهم کان یدعو أهل زمانه و یتصدّی لنشر تعالیم دینه و هو محمّل
ص:113
بمهمات الإرشاد و الهدایة،مقبل علی الدنیا لأنها تربة یزرع بها الإنسان الخیر بتمسکه بدینه،و نصرة عقیدة الإسلام،و تولی أهل بیت الرسالة الذین خصّهم اللّه بالإمامة، فجعلهم ینابیع هدی و تقوی،یغذوهم بالعلم،و یمدّهم بالسداد و التوفیق.
قال الإمام الصادق علیه السّلام:«إنّ اللّه تبارک و تعالی أعطی محمدا صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شرائع نوح و إبراهیم و موسی و عیسی:التوحید و الأخلاص و خلع الأنداد،و الفطرة الحنیفیة السمحة لا رهبانیة و لا سیاحة،أحلّ فیها الطیبات،و حرّم فیها الخبائث،و وضع عنهم إصرهم و الأغلال التی کانت علیهم،ثم افترض علیه فیها الصلاة و الزکاة و الصیام و الحج و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر و الحلال و الحرام و المواریث و الحدود و الفرائض و الجهاد فی سبیل اللّه و زاده الوضوء» (1).
و ما تراه الشیعة من خصائص أهل البیت لمنزلتهم الدینیة و مکانتهم الروحیة التی یعزّهم اللّه من أجلها،و یکلؤهم لحمایة دینه،یدرجه المتصوّفة فی باب الکرامات الصوفیة،فمثلا:موقف المنصور العباسی منه،و مسلک الإمام الصادق علیه السّلام فی اتقاء شره،و ننقله هنا حسب مصنفات رجالهم:عند ما حجّ المنصور سنة سبع و مائة، قدم المدینة،فقال للربیع:ابعث إلی جعفر بن محمد من یأتینا به متعبا،قتلنی اللّه إن لم أقتله.فتغافل الربیع عنه و تناساه،فأعاد علیه فی الیوم الثانی و أغلظ فی القول، فأرسل إلیه الربیع.فلما حضر،قال له الربیع:یا أبا عبد اللّه،أذکر اللّه تعالی فإنه قد أرسل لک من لا یدفع شرّه إلا اللّه،و إنی أتخوّف علیک.فقال الإمام:«لا حول و لا قوة إلا باللّه العظیم».و لمّا دخل علی المنصور،أغلظ له فی القول و قال:یا عدو اللّه، اتخذک أهل العراق إماما یجبون إلیک زکاة أموالهم،و تلحد فی سلطانی،و تتبع لی الغوائل،قتلنی اللّه إن لم أقتلک.و أحضر الرجل الذی سعی به إلی المنصور،فقال له المنصور:أ حقا ما حکیت لی عن جعفر؟فقال:نعم یا أمیر المؤمنین.فقال الإمام الصادق:«استحلفه»فبادر الرجل و قال:و اللّه العظیم الذی لا إله إلا هو عالم الغیب و الشهادة الواحد الأحد،و أخذ یعدّد فی صفات اللّه تعالی.فقال الإمام:«یحلف بما أستحلفه»فقال:حلّفه بما تختار،فقال الإمام:«قل:برئت من حول اللّه و قوّته، و التجأت إلی حولی و قوتی لقد فعل جعفر کذا و کذا».فامتنع الرجل،فنظر إلیه
ص:114
المنصور نظرة منکرة.فحلف بها.فما کان بأسرع من أن ضرب برجله الأرض و خرّ میتا.فلما خرج الإمام لحقه الربیع و قال له:یا أبا عبد اللّه رأیتک تحرّک شفتیک، و کلما حرکتها سکن غضب المنصور،بأی شیء کنت تحرکها؟قال:«بدعاء جدّی الحسین:یا عدّتی عند شدّتی،و یا غوثی عند کربتی،احرسنی بعینک التی لا تنام، و اکنفنی برکنک الذی لا یرام،و ارحمنی بقدرتک علیّ،فلا أهلک و أنت رجائی،اللهم إنک أکبر و أجلّ و أقدر مما أخاف و أحذر،اللهم بک أدرأ فی نحره،و أستعیذ من شرّه، إنک علی کل شیء قدیر» (1).و یضیف المناوی إلی هذه الحادثة و هو یقول:و له کرامات کثیرة و مکاشفات شهیرة،منها ما أخرجه الطبری من طریق ابن وهب قال:
سمعت اللیث بن سعد یقول:حججت سنة ثلاث عشرة و مائة،فلما صلیت العصر، رقیت أبا قبیس،فإذا رجل جالس یدعو فقال:«یا رب یا رب»حتی انقطع نفسه،ثم قال:«یا حی یا حی»حتی انقطع نفسه،ثم قال«إلهی إنی أشتهی العنب فأطعمنیه،و إن بردی قد خلق فاکسنی»قال اللیث رضی اللّه عنه:فما تم کلامه حتی نظرت إلی سلّة مملوءة عنبا و لیس علی الأرض یومئذ عنب،و إذا ببردین لم أر مثلهما،فأراد الأکل، فقلت:أنا شریکک لأنک دعوت و أنا أؤمن.قال«کل و لا تخبئ و لا تدّخر»ثم دفع إلیّ أحد البردین،فقلت:لی عنه غنی،فأتزر بأحدهما و ارتدی بالآخر،ثم أخذ الخلقین و نزل،فلقیه رجل فقال:أکسنی یا ابن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فدفعهما إلیه.فقلت:من هذا؟ فقال:جعفر الصادق (2).و هی لا شک من وحی الخیال الذی یرجون به أضفاء الواقعیة علی ما ینسبونه إلی أولیائهم و رجالهم،لأن الحال الذی تصوّر الروایة فیه الإمام الصادق بعید عن شواهد حاله المعروفة،أو رغباته التی تدور فی طاعة اللّه و مناجاته ربه فیما یهمّ المسلمین و صالح الأمة.فإذا ما قارنّا بین الأحداث و هی تروی بطرقنا، و صورتها و هی تفرّغ فی قوالب خاصة بهم،نجد أن الأمر فیما یتعلق بالإمام الصادق أو غیره من أئمتنا،یمثل لجوء الأئمة إلی اللّه فیما یهمّهم،و لواذهم بقوته و عظمته.فلما قتل داود بن علی والی المدینة المعلی بن خنیس مولی الإمام الصادق الأثیر عنده، هلک داود تلک اللیلة،و أن الإمام الصادق قال فی دعائه:«اللهم إنی أسألک بنورک
ص:115
الذی لا یطفی،و بعزائمک التی لا تخفی،و بعزّک الذی لا ینقضی،و بنعمک التی لا تحصی،و بسلطانک الذی کففت به فرعون عن موسی»و دعا علی داود حتی سمعوه یقول:«الساعة الساعة»فما استتم دعاءه حتی سمعت الصیحة فی دار داود (1).
و قد قلنا فی الجزء الثانی أن المنصور اقتضت سیاسته عند اشتداد ملکه بأن یقضی علی الإمام الصادق،و اتخذ شتی الوسائل فی ذلک،فکم مرة یحضره للفتک به،و کانت سلامته فی تلک المواقف أعجوبة،لأن المنصور لا یتورّع عن إراقة الدماء،و لکن عنایة اللّه و عینه التی کانت ترعی الإمام دفعت عنه کیده فی کل مرة کان المنصور ینوی بها الفتک بالإمام الصادق.
یحدثنا علی بن مسیرة،قال:لما قدم أبو عبد اللّه علی أبی جعفر،أقام أبو جعفر مولی له علی رأسه،و قال له:إذا دخل جعفر بن محمد فأضرب عنقه.فلما دخل أبو عبد اللّه نظر إلی أبی جعفر و أسرّ شیئا فی نفسه ثم أظهره:«یا من یکفی خلقه کلهم و لا یکفیه أحد،اکفنی شرّ عبد اللّه بن علی»فسلّمه اللّه من شرّه و استجاب دعاءه (2).
و خلاصة القول،أن الإمام الصادق لم یکن یری التصوّف أو یقصد تأیید ما ظهر من أفکاره فی عصره،بل ما رأته الصوفیة و أوّلته و صبّته فی قوالب أفکارها،هی معالم سیرة طاهرة عرف بها أهل البیت فی کل عصر کقادة للأمة و هداة و أئمة.فلذلک لما جاء قوم-ممن یظهرون التزهّد،و یدعون إلی التقشّف-إلی الإمام الصادق،کما رواها الحسن بن علی بن شعبة الحرّانی الحلبی فی تحف العقول کان مما خاطبهم به الإمام الصادق علیه السّلام«هاتوا حججکم»فقالوا:إن حجّتنا من کتاب اللّه.قال لهم علیه السّلام:«فأدلوا بها فإنها أحق ما اتبع و عمل به»قالوا:یقول اللّه تبارک و تعالی یخبر عن قوم من أصحاب النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم: وَ یُؤْثِرُونَ عَلی أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ کانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ یُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِکَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فمدح فعلهم.و قال فی موضع آخر: وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً فنحن نکتفی.فقال الإمام علیه السّلام:«أخبرونی أیها النفر أ لکم علم بناسخ القرآن من منسوخه،و محکمه من متشابهه الذی فی مثله ضلّ من ضلّ و هلک
ص:116
من هلک من هذه الأمة؟»فقالوا:بعضه،فأما کلّه فلا.فقال لهم علیه السّلام:«من هاهنا أتیتم،و کذلک أحادیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أما ما ذکرتم من إخبار اللّه إیانا فی کتابه عن القوم الذین أخبر عنهم بحسن فعالهم،فقد کان مباحا جائزا و لم یکونوا نهوا عنه،و ثوابهم منه علی اللّه،و ذلک أن اللّه جلّ و تقدّس أمر بخلاف ما عملوا به،فصار أمره ناسخا لفعلهم، و کان نهی اللّه تبارک و تعالی رحمة للمؤمنین لکی لا یضرّوا بأنفسهم و عیالاتهم،فهم الضعفة الصغار و الولدان،و الشیخ الفان،و العجوز الکبیرة الذین لا یصبرون علی الجوع، فإن تصدّقت برغیفی و لا رغیف لی غیره ضاعوا و هلکوا جوعا،فمن ثم قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانیر أو دراهم یملکها الإنسان و هو یرید أن یمضیها،فأفضلها ما أنفقه الإنسان علی والدیه،ثم الثانیة علی نفسه و عیاله،ثم الثالثة علی القرابة و إخوانه المؤمنین،ثم الرابعة علی جیرانه الفقراء،ثم الخامسة فی سبیل اللّه».ثم ساق علیه السّلام جملة من أحادیث جدّه النبی الأعظم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قال بعد أن رواها:
«فهذه أحادیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یصدّقها الکتاب،و الکتاب یصدّقه أهله من المؤمنین،ثم من قد علمتم فی فضله و زهده سلمان و أبو ذر،فأما سلمان فکان إذا أخذ عطاءه،رفع منه قوته لسنته حتی یحضره عطاؤه من قابل،فقیل له:یا أبا عبد اللّه،أنت فی زهدک تصنع هذا و إنک لا تدری لعلک تموت الیوم أو غدا؟فکان جوابه أن قال:ما لکم لا ترجون لی البقاء کما خفتم علی الفناء،أو ما علمتم یا جهلة أن النفس قد تلتاث علی صاحبها إذا لم یکن لها من العیش ما تعتمد علیه،فإذا هی أحرزت معیشتها اطمأنت.و أما أبو ذر فکانت له نویقات و شویهات یحلبها و یذبح منها إذا اشتهی أهله اللحم،أو نزل به ضیف،أو رأی بأهل الماء الذین هم معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشاء علی قدر ما یذهب عنهم قرم اللحم(الشهوة إلی اللحم)فیقسّمه بینهم،و یأخذ کنصیب أحدهم لا یفضل علیهم، و من أزهد من هؤلاء و قد قال فیهم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ما قال،و لم یبلغ من أثرهما أن صارا لا یملکان شیئا البتة،کما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم و شیئهم،و یؤثرون به علی أنفسهم و عیالاتهم...
أخبرونی لو کان الناس کلهم کما تریدون زهّادا لا حاجة لهم فی متاع غیرهم، فعلی من کان یتصدّق بکفارات الأیمان و النذور و الصدقات من فرض الزکاة،إذا کان الأمر علی ما تقولون لا ینبغی لأحد أن یحبس شیئا من عرض الدنیا إلا قدّمه و إن کان به خصاصة،فبئس ما ذهبتم إلیه،و حملتم الناس علیه من الجهل بکتاب اللّه و سنة
ص:117
نبیه،و أحادیثه التی یصدّقها الکتاب المنزل،أو ردّکم إیاها بجهالتکم،و ترککم النظر فی غرائب القرآن من التفسیر بالناسخ من المنسوخ و المحکم و المتشابه و الأمر و النهی...» إلی أن یقول لهم علیه السّلام:
«فتأدبوا أیها النفر بآداب اللّه للمؤمنین،و اقتصروا علی أمر اللّه و نهیه،ودعوا عنکم ما اشتبه علیکم مما لا علم لکم به،و ردّوا العلم إلی أهله تؤجروا و تعذروا عند اللّه،و کونوا فی طلب الناسخ من القرآن من منسوخه،و محکمه من متشابهه،و ما أحلّ اللّه فیه ما حرّم،فإنه أقرب لکم من اللّه،و أبعد لکم من الجهل،و دعوا الجهالة لأهلها فإن أهل الجهل کثیر و أهل العلم قلیل،و قد قال اللّه عز و جل: وَ فَوْقَ کُلِّ ذِی عِلْمٍ عَلِیمٌ ».
و إذا کان المتصوّفة لا یتزحزحون عن الخرقة فی انتسابهم إلی الإمام علی علیه أفضل الصلاة و السلام،فلا بد أن تکون سیرة زهده و معالم ورعه من الأمور التی یتوهم بها المتصوفة أنهم یحجّون بها غیرهم حتی و إن کان ولده إمام الأمة و علم الهدی جعفر بن محمد الصادق علیهم السّلام فتکثر الروایات التی تدل علی ذلک،و قد أشرنا إلی أن ما رواه الصوفیة فی باب الکرامات یبعد عن صفته فی اللباس و أحواله فی المعاش،و من هذه الروایات:أن رجلا قال للإمام الصادق علیه السّلام:أصلحک اللّه، ذکرت أن علی بن أبی طالب کان یلبس الخشن،یلبس القمیص بأربعة دراهم و ما أشبه ذلک،و نری علیک اللباس الجید؟فقال له الإمام علیه السّلام:«إن علی بن أبی طالب صلوات اللّه علیه کان یلبس ذلک فی زمان لا ینکر،و لو لبس مثل ذلک الیوم لشهّر به فخیر لباس کل زمان لباس أهله».
و علی أی حال،فإن الإمام الصادق قد تزعّم الحرکة الدینیة و الفکریة فی زمنه، و قاد أنصار العلویین عبر عهدین،و استطاع أن یواجه مشکلة الحکام بما یخفّف عن العلویین أعباء التضحیات و سفک الدماء.
و کانت شخصیة المصلح التی تمثّلت به علیه السّلام قد اجتمعت فیها مؤهلات کبری و صفات عالیة،جعلته یحتلّ تلک المکانة السامیة و المنزلة المرموقة فی
ص:118
المجتمع،و احتل موقع القیادة و الأعلمیة؛فاتجهت إلیه الأنظار،و قصدته الوفود من کل الأمصار.
و قد شهد فی حیاته فترة من العصر الإسلامی اشتدت فیها التحولات السیاسیة و نمت فیها بذور التطورات الفکریة،و استطاع الإمام الصادق علیه السّلام أن یقف فی زحمة الأحداث و وسط تلک المعترکات علی اختلاف صورها،و یترک آثاره فی کل جانب من حیاة المجتمع،و یؤثر فی کل ناحیة فکریة،فلا غرو أن تکون سیرته مصدر إلهام و معین علم.أما إذا تحکّم الهوی و غلبت الرغبات،فلا عجب أن تخرج شواهد سیرته و أحداث حیاته عن إطارها الحقیقی،و تصرف أقواله عن مقاصدها الأصلیة،و أن تبرز عبر فترات متفاوتة و متوالیة آراء تبغی الإساءة،و تنفضح مقاصدها و أغراضها.
و لا ننسی أن نذکر من یضاف إلی هؤلاء من المستشرقین (1)الذین بثوا سموم دعاواهم و نظریاتهم بین أبناء أمتنا،حتی أن البعض منهم عند ما یری الجوانب العظیمة فی شخصیة الإمام الصادق،یحاول أن یرجعها إلی أصول یونانیة.و هو قول نراه من السخف بحیث لا یستحق أی عناء فی الرد.
لقد کان لأبی عبد اللّه الإمام جعفر بن محمد الصادق من البیان و الحکمة ما جعله متمیزا فی الفقه،و منهج الوعظ،و خطة الإصلاح.
سئل أبو حنیفة:من أفقه من رأیت؟قال:ما رأیت أفقه من جعفر بن محمد الصادق،لما أقدمه المنصور بعث إلیّ فقال:یا أبا حنیفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد،فهیّئ له من المسائل الشداد.فهیأت له أربعین مسألة،ثم بعث إلی أبو جعفر -و هو بالحیرة-فأتیته،فدخلت علیه و جعفر بن محمد جالس عن یمینه،فلما بصرت به دخلتنی من الهیبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم یدخلنی لأبی جعفر،فسلّمت علیه و أومأ إلیّ فجلست،ثم التفت إلیّ فقال:یا أبا حنیفة.ألق علی أبی عبد اللّه من
ص:119
مسائلک.فجعلت ألقی علیه،فیجیبنی فیقول:«أنتم تقولون کذا،و أهل المدینة یقولون کذا،و نحن نقول کذا»فربما تابعنا و ربما تابعهم،و ربما خالفنا جمیعا،حتی أتیت علی الأربعین مسألة ما أخلّ منها بمسألة.ثم قال أبو حنیفة رحمه اللّه:ألسنا روینا أن أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس (1).
و للإمام الصادق علیه السّلام بناء بلاغی فی المواعظ یقوم علی عوامل من الفقه و التصویر و البیان،لیجعل منها وسیلة للنفوس و الأفهام،کقوله علیه السّلام:«التقوی علی ثلاثة أوجه:تقوی باللّه فی اللّه،و هو ترک الحلال فضلا عن الشبهة،و هو تقوی خاص الخالص.و تقوی من اللّه،و هو ترک الشبهات فضلا عن الحرام،و هو تقوی الخاص.
و تقوی من خوف النار و العقاب و هو ترک الحرام،و هو تقوی العام.و مثل التقوی کماء یجری فی نهر،و مثل هذه الطبقات الثلاث فی معنی التقوی کأشجار مغروسة علی حافة ذلک النهر من کل لون و جنس،و کل شجرة منها تستمص الماء من ذلک علی قدر جوهره و طعمه و لطافته و کثافته،ثم منافع الخلق من تلک الأشجار و الثمار علی قدرها و قیمتها».
فکان هذا البناء البلاغی مادة للادعاء بتفسیرات صوفیة للقرآن تنسب إلی الإمام الصادق علیه السّلام تولّی إشاعتها و الإقدام علی وضعها الصوفی أبو عبد الرحمن السلمی (2)فی طبقاته،و فی حقائق التفسیر.
و من رجال الصوفیة الکبار ممن صنّفهم السلمی فی الطبقة الأولی کأبی یزید البسطامی،من راح یتعلق بمناسبة و بدون مناسبة بالاتصال بالإمام الصادق،و یزید فی ذلک و یبالغ،کما راح أبو یزید یأخذ أقوال الأئمة لیصوغها بألفاظه،و علی الأخص أقوال الإمام أمیر المؤمنین علیه السّلام منها:«عرفت اللّه باللّه،و عرفت ما دون اللّه بنور اللّه».
و سئل:ما علامة العارف؟فقال:أن لا یفتر عن ذکره،و لا یملّ من حقه،و لا یستأنس بغیره.
و هم أرادوا أن یقحموا الإمام الصادق فی حالاتهم،و یدّعون علیه زورا ما
ص:120
درجوا علیه من الحلول أو التجسیم التی کان یغالی بها البسطامی،و من أخفّها قوله:
إنه ضرب الخیمة محاذاة العرش.و أنه یری اللّه فی المنام،و أنه مرة جلس فی محرابه فمدّ رجله،فهتف به هاتف:من جالس الملوک ینبغی أن یجالسهم بحسن الأدب.
و حکی عنه أنه کان یقول:سبحانی سبحانی.
فیقولون أنه نقل عن الإمام جعفر الصادق علیه السّلام أنه خرّ مغشیا علیه و هو فی الصلاة،فسئل عن ذلک،فقال:«ما زلت أردد الآیة حتی سمعتها من المتکلم بها» (1).
و إذا استعصی علیهم القول،ساقوه عن الإمام الصادق بنصه،ثم ألحقوا به إشارة أو بیانا یفید ما یقصدون،کذکرهم قول الإمام الصادق:«لقد تجلّی اللّه تعالی لعباده فی کلامه،و لکن لا یبصرون».فیبیّنون بعد النصّ قصدهم بالقول:فیکون لکل آیة مطلع من هذا الوجه،فالحدّ:حد الکلام،و المطلع:الترقی عن الکلام إلی شهود المتکلم!مما یوهم بالاعتقاد بالرؤیة،و القول فی اللّه بمشابهته عز و جل للمخلوقات من حیث النظر إلیه سبحانه کما ینظر الإنسان إلی جسم محدود،تعالی اللّه عن ذلک، و حاشا أئمة أهل البیت و أعمدة الهدی و نواب صاحب الرسالة من قول ذلک.
و السلمی من أکثرهم نقلا للأقوال التی تنسب للإمام الصادق علیه السّلام و هی تتراوح بین الإیغال فی الغوامض و الإشارات علی طریقتهم المعهودة،و بین محاکاة الرموز،کذکره لقول الإمام علیه السّلام الحمد للّه:من حمده بصفاته کما وصف نفسه فقد حمد،لأن الحمد حاء و میم و دال.فالحاء من الوحدانیة و المیم من الملک و الدال من الدیمومة.
و لقد حسم الإمام الصادق علیه السّلام هذه المسألة بقول یغلق أبواب التأویل و یفضح التقوّل و الادّعاء،إذ قال علیه السّلام:«و اللّه لقد تجلّی اللّه عز و جل لخلقه فی کلامه،و لکنهم لا یبصرون».و نجد أن التعقیب علی النص و الإشارات القائمة علیه غریبة و أجنبیة لا تؤثر فی عقیدة التنزیه و ردّ التجسیم و التشبیه.
کذلک فإنهم فی النصوص ینتزعون ما یوافق هواهم و مقاصدهم و لا یذکرون النص بکامله،و لا یوردون القول بتفاصیله،فقوله علیه السّلام الذی مرّ بنا و هو یردّد الآیة جاء مبتورا،إذ حقیقة قوله:«ما زلت أردّد الآیة علی قلبی،حتی سمعتها من المتکلم
ص:121
بها،فلم یثبت جسمی لمعاینة قدرته»أی أنه علیه السّلام کان یتدبّر فی وجوه القدرة و جوانب العظمة و دلالة الوجود.
و عن أبی بصیر عن الإمام الصادق علیه السّلام قال:قلت له:أخبرنی عن اللّه عز و جل هل یراه المؤمنون یوم القیامة؟قال«نعم،و قد رأوه قبل یوم القیامة»فقلت:
متی؟قال علیه السّلام:«حین قال عز و جل لهم:أ لست بربکم قالوا:بلی»ثم سکت ساعة،ثم قال علیه السّلام:«و إن المؤمنین لیرونه فی الدنیا قبل یوم القیامة،أ لست تراه فی وقتک هذا؟»قال أبو بصیر:فقلت له جعلت فداک،فأحدّث بهذا عنک؟ فقال علیه السّلام:«لا،فإنک إذا حدّثت به فأنکره منکر جاهل بمعنی ما تقوله،ثم قدّر أن ذلک تشبیه کفر،و لیست الرؤیة بالقلب کالرؤیة بالعین،تعالی اللّه عما یصفه المشبّهون و الملحدون».
کما أن الإمام الصادق کان یأمر أصحابه بمنع الزکاة عمن قال بالجسم.
إن التدقیق فی أقوال الإمام جعفر بن محمد الصادق،و الإمعان فی معرفة منهجه فی الوعظ و الإرشاد،یؤدی إلی معرفة ما یرمی إلیه الإمام علیه السّلام من إصلاح الأمة و توجیه الرعیة بسبل واضحة و ألفاظ جلیة،تستمد من القرآن و السنة معانیها و مضامینها،فلیس للخیال الذی یفلت من النص أثر فی جوامع کلمه علیه السّلام کما أنه علیه السّلام یتقید بالنص و مناسبته أو علته،لکی لا یدع للآخرین مجالا یتذرعون به، فیترکون العنان لشطحاتهم و نزعاتهم تنال من أسباب التشریع أو تنحرف عن أغراض التنزیل ینتحلون ما یشاؤون.
و من حق الصوفیة أن یثنوا علی نظریة الإمام فی المعرفة،و أقواله فی التوبة و محاسبة النفس،لکن لیس من حقهم أن یجعلوا تراثه الفکری مادة لبناء مصطلحاتهم و مباحثهم،فالإمام تناول کل ما یتعلق بسلوک المؤمن و علاقة المسلم بربه،و أوضح بمزید من البیان کل ما یتعلّق بوجود المؤمن فی مجتمعه،و علاقة المسلم بإخوانه، فلیس هناک من أحادیث الصادق علیه السّلام المأثورة ما یشبه فی صیاغته و بنائه بیان الصوفیة و صورهم و أخیلتهم،فمنها ما لدینا عن الشیخ الصدوق فی معانی الأخبار، أن الإمام الصادق قال فی قوله عز و جل: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ قال علیه السّلام:
«یقول:أرشدنا إلی الصراط المستقیم،أرشدنا للزوم الطریق المؤدی إلی محبتک و المبلّغ إلی دینک،و المانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب،أو نأخذ بآرائنا فنهلک».
ص:122
و لأن هذا القول مشهور لدینا و صحیح بسنده لا یکاد یذکر أو یأتی محرّفا،مما یدل علی أن أصل أقوالهم هو من نسج الخیال و التأثر بشخصیة الإمام الصادق و عظیم منزلته فی عصره.و کذلک غیره من تفاسیر الإمام الصادق،و التی إما أن تکون بیانا لدلالة المعنی و شرحا للمفردات القرآنیة التی تتعلّق بالقصد و الإرادة.أو شرحا لمناسبتها و حادثتها،کقوله علیه السّلام فی قول اللّه عز و جل: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ کانت المراضع،مما تدفع إحداهنّ الرجل إذا أراد الجماع تقول:لا أدعک،إنی أخاف أن أحبل،فأقتل ولدی هذا الذی أرضعه.و کان الرجل تدعوه المرأة فیقول:إن أجامعک فیقتل ولدی.فیدعها و لا یجامعها،فنهی اللّه عز و جل عن ذلک،أن یضارّ الرجل المرأة،و المرأة الرجل».
و روی عنه علیه السّلام تفسیره لقوله تعالی: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّیْلِ هِیَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِیلاً قال علیه السّلام:«یعنی بقوله:و أقوم قیلا،قیام الرجل عن فراشه بین یدی اللّه عز و جل لا یرید به غیره».
و قال فی قوله تعالی: وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ یَسْتَغْفِرُونَ «کانوا یستغفرون اللّه فی آخر الوتر، فی آخر اللیل سبعین مرة».
أما غیرها کما فی مورد تفسیر قوله تعالی حکایة عن سلیمان: یا أَیُّهَا النّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّیْرِ یورد المفسّرون روایة الإمام الصادق عن جدّه الإمام زین العابدین علیهما أفضل الصلاة و السّلام قال:«إذا صاح النسر قال:یا ابن آدم،عش ما عشت آخره الموت.
و إذا صاح العقاب قال:البعد من الناس أنس.و إذا صاح القنبر قال:إلهی العن مبغض محمد و آل محمد.و إذا صاح الخطّاف قال:الحمد للّه رب العالمین،و یمد العالمین کما یمد القارئ (1)و قد أوردوا عن ابن عباس أیضا أن القنبر یقول:اللهم العن مبغض محمد و آل محمد (2).
و لا نعلّق علی ذلک بشیء،لأننا فی مقام إظهار منزلة أهل البیت،و أنهم ینبوع الأحکام و مناط الإیمان.فلا غرابة أن ینهل الناس منهم فیحلو المشرب و یصفو إذا کان فی وعاء الولایة و الولاء،و فی صحف الدرایة و المعرفة فیقر منها ما کان موافقا
ص:123
للأصول و متفقا مع بداهة العقول،و یغفل أو یهمل ما خالف الأحکام و ناقض العقول، و یشمل ذلک کل ما نسب إلی أهل البیت بغضّ النظر عن الصبغة و المذهب.
و لا نلتفت إلی من ینسب إلیه حفظ التفسیر و نسخته،و إنما یهمّنا الادّعاء بوجود تفسیر صوفی للآیات لدی الإمام الصادق علیه السّلام علی طریقة أقوال الصوفیة، و منهجهم فی تأویل النصوص و المغالاة فی الباطنیة،و إلا فلیخبرنا من یدّعی علما، متی أضاف الإمام الصادق کلمة آمین فی نهایة الفاتحة حتی تصبح من جملة ألفاظ و مفردات سورة الفاتحة التی یذکرها التفسیر فیقول:قال جعفر:[«آمین»أی قاصدین نحوک،و أنت أکرم من أن تخیّب قاصدا].لأن الشیعة فی صلاتهم لا یجوّزون قول آمین فی آخر الحمد و ذلک اتباعا لإمامهم جعفر الصادق و أهل بیت النبوّة.
فمن المسائل الفقهیة فی المذهب الجعفری،أن لا یصل الإمام و لا غیره قراءته «و لا الضالین»بآمین،لأن ذلک یجری مجری الزیادة فی القرآن مما لیس منه،و أن الإمام الصادق نهی عنها لأن الیهود و النصاری یقولون فی طقوس صلاتهم«آمین».
و قد تواترت عند غیرهم من المذاهب الإسلامیة حتی أصبحت و کأنها من التنزیل، و هو ما کان یخشاه أئمة الشیعة،و نبّهوا إلی عدم جواز ذکرها بعد قراءة الفاتحة لکی لا یسمعها الجاهل فیراها من التنزیل و هی لیست من التنزیل،فإن قال:«آمین»تأمینا علی ما تلاه الإمام،صرف القراءة إلی الدعاء الذی یؤمّن علیه سامعه،قال الإمام الصادق:
«إذا کنت خلف إمام فقرأ الحمد و فرغ من قراءتها،فقل أنت:الحمد للّه ربّ العالمین و لا تقل آمین».
و کل ما وصلنا من تفسیر عن الإمام الصادق فی مصادرنا المعتبرة،لا یتطرق إلیه التکلّف الواضح لتحصیل صرف المعانی إلی ما یمیل إلیه الصوفیة،و نری أن الانتحال واضح و صریح،سواء من جهة النصوص نفسها و ما تدل علیه المقارنة،أو من جهة المصادر التی هی أدنی من الصوفیة إلی الإمام الصادق و أوثق فی النقل عنه.
و من الملاحظة البسیطة للنصوص التی جاءت بطرقها الحسنة و إسنادها المعتبر یظهر الفرق بین النوعین.
ذکر الشیخ الطبرسی فی الاحتجاج:عن حفص بن غیاث (1)قال:شهدت
ص:124
المسجد الحرام و ابن أبی العوجاء یسأل أبا عبد اللّه علیه السّلام عن قوله تعالی: کُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَیْرَها لِیَذُوقُوا الْعَذابَ ما ذنب الغیر؟قال:«ویحک هی هی، و هی غیرها».
قال:فمثّل لی ذلک من أمر الدنیا.
قال:«نعم،أ رأیت لو أن رجلا أخذ لبنة فکسرها،ثم ردّها فی ملبنها،فهی هی و هی غیرها».
و هذا فی مورد الاحتجاج علی الزنادقة.و ردّ أقوالهم و محاولاتهم فی الطعن و التشکیک،و هی تجمع الوضوح و عمق الدلالة.
أما الأقوال الأخری للإمام فی التفسیر،فهی تظهر أمورا لا یلتفت إلیها غیر من تمتّع بعلم خاص،و الغرض هنا إیضاح المنهج فی التفسیر،و بیان بنائه فی القول،لأن الأمر الأول یحتاج إلی بحث آخر.فقد سئل الإمام الصادق عن قول اللّه عز و جل فی قصة إبراهیم علیه السّلام: قالَ بَلْ فَعَلَهُ کَبِیرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ کانُوا یَنْطِقُونَ قال:
«ما فعله کبیرهم،و ما کذب إبراهیم؟»قیل:و کیف ذلک؟فقال:«إنما قال إبراهیم:
فاسألوهم إن کانوا ینطقون،فإن نطقوا فکبیرهم فعل،و إن لم ینطقوا فکبیرهم لم یفعل شیئا،فما نطقوا،و ما کذب إبراهیم علیه السّلام».
و سئل عن قوله تعالی فی سورة یوسف: أَیَّتُهَا الْعِیرُ إِنَّکُمْ لَسارِقُونَ ؟قال:
«إنهم سرقوا یوسف من أبیه».
فسئل عن قول إبراهیم: فَنَظَرَ نَظْرَةً فِی النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّی سَقِیمٌ .
قال:«ما کان إبراهیم سقیما،و ما کذب،إنما عنی سقیما فی دینه أی مرتادا».
و فی قوله تعالی: اِتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال علیه السّلام:«یطاع فلا یعصی،و یذکر فلا ینسی،و یشکر فلا یکفر».إلی غیرها من الأقوال التی تفسّر الآیات،و جمیعها لیس فیها تعیین لحالات و أوضاع علی حسب الخیال،أو تشبیه و تقریب إلی حدّ التجسیم و التحدید بالجهة،تعالی اللّه سبحانه،و حاشا أئمتنا الأطهار.
و لنلاحظ ادّعاء التفسیر الصوفی فی آیة: هَلْ یَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ یَأْتِیَهُمُ اللّهُ فِی ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ و أن الإمام الصادق علیه السّلام قال:هل ینظرون إلا إقبال اللّه علیهم بالعصمة و التوفیق،فیکشف عنهم أستار الغفلة،فیشهدون برّه و لطفه،بل یشهدون البار اللطیف.
و فی تفسیر قوله تعالی: وَ طَهِّرْ بَیْتِیَ لِلطّائِفِینَ أنه علیه السّلام قال:طهّر نفسک عن
ص:125
مخالطة المخالفین،و الاختلاط بغیر الحق،و القائمین مع فؤاد العارفین،المقیمین معه علی بساط الأنس و الخدمة. وَ الرُّکَّعِ السُّجُودِ :الأئمة السادة الذین رجعوا إلی البدایة عن تناهی النهایة.
فجمیعها من صور الأحوال لدیهم،و صیاغتها لا تختلف فی شیء عن مقالات رجالهم،بل ما أبعدها عن أقوال الأئمة و مشاهد مناجاتهم للّه،أو تضرّعهم بین یدیه بما لا یشعر إلا بالعبودیة و تنزیه الله تعالی عن کل مشابهة بالمخلوقات،و التبرؤ عن أدنی میل إلی الحلول أو الاتحاد أو التجسیم.
و لقد أوضحنا سابقا أن الإمام الصادق احتج علی الصوفیة فی أمهات أفکارهم و أسس طریقتهم،و رأینا کیف میّز موقفه،فقد یکون من بین الذین یدخلون علیه جماعة یرون فی الذی علیه الصوفیة متفقا مع عبادته و نسکه و أجواء الانقطاع للّه التی یحسّونها فی کل حرکة و إشارة.و الإمام الصادق یدعو إلی أن یکون الإیمان و العمل شعار حیاة المسلم،فلا تحول عبادة و أداء فریضة عن مسئولیات الحیاة العملیة، و ینزوی الناس عن حیاة مجتمعهم و هی الصعید الحقیقی للدعوة و البناء.
و نحن شیعة أهل البیت علیهم السّلام و أصحاب المذهب الجعفری نعلم أن هناک من بین کتبنا ما فیه بعض الأقوال التی تدرج فی التفسیر أو تنسب إلیه،و هی فی حقیقتها أقوال تنطلق من واقع ولاء یأخذ الصورة التی تطلّ من وراء نص أو حدیث،و یرفعها بوجه تیارات العداء و النصب التی لعبت فی عقول خدم الحکام و عبید الخلفاء،و علی قلة هذه الأقوال أو ندرتها،فما أعتبر منها لا یخرج عن باعث الولاء لأهل البیت و التعبّد ببعض الصور المأثورة،کما قیل فی: مَرَجَ الْبَحْرَیْنِ یَلْتَقِیانِ (1).و لیس هنا موضع بحث ذلک،فهو یحتاج إلی سعة فی القول یوفی بالغرض و یوضّح الفرق بین قول لا یقصد به إلا الصورة و لیس الحال و أسباب النزول،و بین النحل أو الادعاء للاستفادة من موقع الإمام الصادق و منزلته العظیمة فی النفوس،و إن کنّا لا ننفی وجود الحب و الولاء لدی أهل الصوفیة و میلهم إلی الإمام الصادق علیه السّلام کما لا تفوتنا
ص:126
الإشارة إلی وجود محاولات لإدخال التعابیر الصوفیة فی العقائد الشیعیة و فی مجال التفسیر،و هی قائمة علی أساس واضح من فهم عقائد أهل البیت و أحکامهم،لذلک فهی لا تتعدی استعارة الألفاظ الصوفیة و استعمالها فی الکتابة بسبب من الاتجاه و السلوک فی الحیاة،و الرغبة فی الزهد الظاهر و التقشّف الغالب،و هی محاولات تفسیریة متأخرة رأت فی اتجاهها و سلوکها ما یجمعها مع مفاهیم التصوّف و صیغه التعبیریة،و لکنها تعتمد عقائد الإمامیة رکنا و أساسا یضبط استعمالها فی الکتابة مما ینسجم مع بیئات الزهد فی خراسان و المشرق،و التی قامت علی أساس جهاد النفس و قمع هواها تزکیة،لها لتکون أهلا لمعرفة اللّه و حمل رسالة الإسلام و أحکام المصطفی الهادی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هو الأساس الذی یمکن أن یعزی إلیه،و یوافق القبول روح الزهد فی الدنیا و العزوف عن ملذّاتها و زخرفها،و الإقبال علی الآخرة بالطاعات و العمل الصالح من دون انقطاع عن وتیرة الحیاة و مسلک العیش و البقاء فی صمیم المجتمع.
و نورد بعض أقوال تفسیر الإمام الصادق المعروفة بطرقها من مختلف المذاهب الإسلامیة،کقوله علیه السّلام:«نحن حبل اللّه الذی قال اللّه فیه: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ».لأن الإمام الصادق علیه السّلام تبوء موقع الإمامة فی ذلک المنعطف الحاسم الذی یشهد غلیان الأطماع و تکالب الناس علی الدنیا،و اتجاههم إلی الحکام، فکان علیه أن یواجه ذلک بنهجه فی توحید صفوف الأمة و جمعها حول ما یمثّل روح القرآن و رسالة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یصون کیانها من سیوف الظلمة،و حرمات المؤمنین من تعدّیات الحکام و عقائد الأمة من انحرافات القصور.
لقد کان علیه السّلام یوجّه الناس فی ضوء الأحداث،و یوصی أصحابه بما علیهم أن یقوموا به،و قد یصل به الأمر إلی أن یطلب من أصحابه أن یعتزلوا لأمر یخشی منه إما من جور أو فساد کما فی وصیته لحفص بن غیاث:«إن قدرت أن لا تخرج من بیتک فافعل،فإن علیک فی خروجک أن لا تغتاب و لا تکذب و لا تحسد و لا ترائی و لا تتصنّع».
و یجعل الناس علی ثقة من زوال البلوی السیاسیة،و یتّخذ من سلاح الدین وقایة،إذ یقول لسفیان الثوری (1):«إذا أحزنک أمر من سلطان أو غیره فأکثر من:لا
ص:127
حول و لا قوة إلا باللّه.فإنها مفتاح الفرج» (1).
إن الإمام الصادق یقیم سلطته الروحیة علی نصوص من القرآن،یسوق تفسیرها و یجهر بها،و قد کانت من أعظم الأخطار التی هددت الأمویین و العباسیین.
و لکنه علیه السّلام یعلن مقاصد الشریعة،و یحرص علی إظهار تفاسیر النصوص التی تلاعب بها موالی الحکام و أذناب الولاة فی کل عهد و مرحلة.دخل علیه الحسن بن صالح بن حیّ فقال له:یا ابن رسول اللّه،ما تقول فی قوله تعالی: أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ من أولو الأمر الذین أمر اللّه بطاعتهم؟قال«العلماء»فلما خرجوا قال الحسن:ما صنعنا شیئا،أ لا سألناه من هؤلاء العلماء؟فرجعوا إلیه فسألوه،فقال:
«الأئمة منّا أهل البیت».
و نستظهر من تفسیر الإمام الصادق أن معتمده فی إمامته،و منزلته الروحیة نص صریح یفصح عنه الإمام الصادق بکل ثقة و قدرة،و هو فی سلطانه الروحی هذا غیر منازع،فقد أعجز السلطة حصر تأثیره أو حجزه عن الناس،و قد کان من متطلبات خطته فی الإصلاح و قیادته العمل ضد الجائرین.أن یکون منهجه واضحا و قویا و سهلا،حتی أصبح من الممکن التفریق بین ما صدر عنه و ما أسند إلیه من غیر صحة تحت تأثیر مختلف العوامل.و أقوال التفسیر المرویة عن الإمام الصادق کثیرة جدا، و لا نجد فی ما نقل منها-خلا ما تقول الصوفیة-بعدا عن دلالات المعنی و الأغراض القرآنیة کقوله علیه السّلام فی تفسیر قول اللّه عز و جل: فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ :«إن اللّه سبحانه یقول للعبد یوم القیامة:عبدی أ کنت عالما؟فإن قال نعم،قال له سبحانه:أ فلا عملت بما علمت؟و إن قال:کنت جاهلا،قال له سبحانه:أ فلا تعلّمت حتی تعمل».
و أیضا ما فی الکافی:قال علیه السّلام:«إذا أراد اللّه بعبد شرّا،فأذنب ذنبا اتبعه بنعمة،لینسیه الاستغفار.و یتمادی بها و هو قوله: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَیْثُ لا یَعْلَمُونَ بالنعم عند المعاصی»ثم قال علیه السّلام فی الاستدراج:«هو العبد یذنب الذنب،فیملی له،و یجدّد له النعم،فیلهیه عن الاستغفار عن الذنوب،فهو مستدرج من حیث لا یعلم».
و خلاصة القول،أن منحی التفسیر الصوفی یوافق رغبات أصحابه فی ظروفها کما یوافق الیوم أصحاب النظریات التی تبحث عن أصول العقائد الحلولیة و مصادرها
ص:128
الیهودیة و المسیحیة،فتأتی نسبة التفسیر الصوفی زورا لیتلقّفها الذین فی قلوبهم زیغ و أمراض،و یستمدّوا منها أقوالهم فی الطعن بعقائدنا و أئمتنا.و لو تحلّی البعض بیسیر من قیم الأمانة،لما نازعوا الأمر أهله،و لأخذوا ببینة دامغة و شواهد ناصعة،إن لم یناد بها الشیعة فإن کتبهم تصرخ فی نفیها و دحضها،و إذا قبلنا من المتصوفة حب آل البیت،فلا یقبل أحد-یحرص علی الإسلام و ملته-أن یمدّ الأعداء بما یشفی غلیلهم و ضغینتهم،و یجعلوا من آل بیت النبی و عترته-و هم عدل الکتاب-غرضا لأعداء الدین و المستشرقین.
و یجمع هؤلاء ما انتحله المتصوّفة إلی أفانین الغلاة و أقوالهم،لیقیموا و همهم و آراءهم علی أحاسیس و تخیّلات تبعد عن واقع الأئمة،فإن النظرة المتزنة و الاطلاع علی تاریخ الشیعة و عقائدهم،یکشفان عن الفروق و الاختلافات،و إن التعمیم بتأثیر عدم التمییز ما هو إلا افتراء محض و خیانة للأمانة التاریخیة التی یجب أن یتحلّی بها المختص إن کان من غیر أهل الإسلام،و خیانة للأخوّة الدینیة إن کان من أهل الشهادة.
فیجمعون نصوص المتصوّفة فی الحلول و الاتحاد إلی نصوص الفرق الأخری التی یتجاهلون اختلافها فی العقائد عن الشیعة،و ینمّقون التّهم،و هی علی هذا النمط الذی قدمناه کثیرة.و غیرها من الکتب الأخری لغیر المتصوفة من الفرق الأخری، کالنصوص التی تجدها موضوعة علی لسان الإمام الصادق علیه السّلام بروایة المفضل الجعفی،نذکر منها هذه النبذة القصیرة:
قال المفضل:
أخبرنی یا مولای عن قصة الحسین کیف اشتبه علی الناس قتله و ذبحه کما اشتبه علی من کان قبلهم فی قتل المسیح؟قال الصادق:یا مفضل،هذا سرّ من أسرار اللّه، أشکله اللّه علی الناس،فعرفه خاصة أولیائه و عباده المؤمنون المختصّون من خلقه...
إن الإمام یدخل فی الأبدان طوعا و کرها،و یخرج منها إذا شاء طوعا و کرها،کما ینزع أحدکم جبته و قمیصه بلا تکلف و لا ریب... (1).
إلی آخر ما فی الکتاب من أقوال باطنیة نسجتها الخیالات،و أدّت إلیها ظروف
ص:129
و أوضاع الحرکة الباطنیة التی سمحت لنفسها بالتغذی من الأوهام،و الابتعاد عن جوهر أفکار الإمام الصادق و تعالیم أهل البیت،فاستقبلها أعداء الإسلام لیحکموا علی حرکة التشیّع و ما قدّمه الشیعة عبر التاریخ من خلال نصوص الآخرین المختلفة،و لم یحکّموا العقل،بل غلبهم الحقد و الهوی.غیر أن من نوامیس الحیاة و سنن الکون بأن یعمل العقل و یطلق،فإن عطل فی فترات،و فرضت مصالح الحکام أن یقمع الشیعة و تکبّل اتجاهات النظر و التدبر،فلیس للشذوذ عن النوامیس و السنن بقاء.و لذلک فمن حق کل نص ناقض العقل أن یردّ أو یهمل،أما التی تخالف الأصول فشأنها أخطر و أعظم.
و مما قدمناه من تفاسیر مأثورة،و بطرقها المعتبرة توضح لنا نهج أهل البیت، و طریقة الإمام الصادق علیه السّلام فی بیان وجوه النص و تفسیر القرآن،و إذا ما ورد استشهاد بآی من القرآن فی موارد تعین أحوال الأئمة من أهل البیت،فإن المعروف منها بأنها نزلت فی حق أهل البیت،و لم یشک فیها إلا من أفسد قلبه المرض،و شوّه عقله الزیغ،فراح لا یأبه بأقوال الحق و بالإذعان للصدق،حتی و إن کانت من غیر الشیعة،بل غلبه التعصّب و صرعه النّصب،فأدّی به جهله إلی الإنکار،و عناده إلی الافتعال،و ما نراه إلا من سلالة الذین ارتوی سیف الإمام علی من دمائهم،و اختص بقطع أعناقهم،أو من الذین أعمی اللّه بصیرتهم؛فضلّوا و حبطت أعمالهم.
أما تلک الجوانب من أحوال أهل البیت علیهم السّلام التی تروی عن الإمام الصادق، فإنها تقوم علی التشبیه و التمثیل الذی لا یمنع منه مانع،سیما و أن وجوه الشبه ظاهرة، و أمارات التقارب واضحة،فإن من لم یقرّ بولایة علی بن أبی طالب أو ینصب له العداء،لیس أصدق من وصف حاله بأنه:بطل عمله مثل الرماد الذی تجیء الریح فتحمله.و هو أخذ من الآیة الکریمة: مَثَلُ الَّذِینَ کَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ کَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّیحُ لتصویر الإحباط.
و صفوة القول أن دعاوی الاتجاه الصوفی أو صدور التفسیر الذی یتعلق بهذا الاتجاه ما هی إلا تأولات بعیدة بنیت علی ظاهر اختص به أهل بیت النبی الأطهار و هو فی حدود واقعهم و حیاتهم الیومیة یقوم علی أساس من القرآن و الإیمان،و لکن أصحاب الاتجاه الصوفی أخذوا ظواهر التقشف و الزهد فی سیر أهل البیت و التی تعنی التهیؤ لأعباء المهمات الدینیة،و الاستعداد لتحمّل الرسالة،و مواجهة الحیاة علی
ص:130
أساس خصائص الوصایة و خصال الإمامة،لا الانقطاع و الاعتکاف الذی تمیّز به التیار الصوفی.و لا نذهب بعیدا فنورد ما جاء فی بعض الروایات التی تنص علی تبرؤ الإمام الصادق من دعاوی هذه الجماعة،إلا أنه علیه السّلام یشیر إلی أنه«سیکون منهم أقوام یدّعون حبّنا،و یمیلون إلینا،و یتشبّهون بنا»و یحذّر من ذلک.و کذلک وردت بعض الروایات عن أبنائه الطیبین الأئمة المیامین و الأوصیاء من بعده،إذ کان اتجاه التصوّف یتّسع و هو یتّخذ أوصاف العزلة،و یجعل له مظاهر مفتعلة،فیما کان الأئمة من أهل البیت فی مراحل حیاتهم یواجهون أوضاع الأمة،و یضطلعون بأعباء الإمامة و الحفاظ علی بقاء نهج الحق و الصدق بطرق من الاتجاه إلی اللّه و الاعتماد علی تسدیده و الانقطاع إلیه،تجعلهم موضع خطر یتهدد عروش الطغاة.
ص:131
ص:132
نعود مرة أخری إلی الحدیث عن أئمة المذاهب لاستکمال جوانب البحث عن حیاتهم،و قبل البدء فی الحدیث عن شخصیات أئمة المذاهب،لا بد من القول أن لکل شخصیة من شخصیاتهم مقوّماتها و میزاتها الخاصة،و لکل منهم سیرة یهتزّ فیها الواقع و تنغمر فیها الحقائق أمام الغلوّ أو التطرّف فی العداء،شأنهم شأن کل ما یرتبط بفترات الانقسام و الاختلاف.لذا أصبح البحث عن حیاتهم یتّصف بالصعوبة و التعقید،و لکنا حاولنا أن نستخرج شخصیاتهم فی إطارها العلمی و ظرفها التاریخی دون التأثر بموجات الغلو أو العداء.فهم فی مواقعهم و مراکزهم الحقیقیة و الواقعیة لم یکونوا بحاجة إلی مثل هذه التیارات لو أن عناصر الفتنة و العداء تعاملت مع سلوکهم و سیرهم و مآثرهم تعاملا نزیها ینبع من الحرص علی الإسلام،و الالتزام بمبادئ الإخاء فی الدین،و المحافظة علی وحدة الأمة.و لکنا رأینا فیما مرّ کیف عملت المصالح علی دفع الأمة إلی أوضاع سیئة،فتفرّق الشمل،و تمزّق الجمع،و اختلطت الأغراض،و الحکام وراء ذلک یتابعهم أقوام غلب علیهم التعصّب و تحکّمت فیهم الأهواء.
و حقّا إنها لأحداث مؤسفة ینزف لها القلب دما،و قد حکم الدین و التاریخ أن الجهل آفة،و من الجهل أن یتحکّم العداء فی نفوس أهل الإسلام و دین الإخاء و الوحدة،و کلنا أمل أن تکون الاستجابة إلی داعی الحق و نبذ التعصّب و مظاهر الجهل الأخری خاتمة لعهود الانقسام،و نهایة لأغراض الحکام.
و قبل البدء فی البحث عن أئمة المذاهب،لا بد من الإشارة إلی أمر مهم ما زلنا نعانی من نتائجه و آثاره،و قد رأینا فی موضوع البدع و الضلالات کیف أطلقت
ص:133
و تبودلت من غیر دلیل واضح،و دون وجود سبب معلوم خروجه علی السنة،أو ما علم من الدین بالضرورة،و من التفاصیل التی أوردناها علمنا أن المذاهب قد شملتها حرب الاتهامات،و کان الشیعة دون هذه المذاهب فی أتون الفرقة و الانقسام،یتألب الحکام ضدهم،و یوجّهون إلیهم سیوفهم،و قد مرّت السنون و تعاقبت القرون،فإذا الحکام ما زالوا یرون فی الشیعة خطرا،و یؤلّبون علیهم المذاهب الأخری،فیبذلون الأموال الطائلة،و یستأجرون الأقلام الرخصیة.و لو لا مصالح المتحکّمین لرأینا أن الروح الإسلامیة التی تجمعنا إلی إخواننا فی الدین و نعیشها فی حیاتنا الیومیة و فی المحافل و اللقاءات،و ما تقود إلیه نظرة الحق و الإنصاف من علاقات تستهین ببعد الدیار،و تنائی الأقطار هی الغالبة.و قد عشت علاقات من الودّ و الإخاء تجمعنی مع إخوان علماء و مختصین فی الأقطار الإسلامیة،کان سبب تعارفنا هو تبادل الرأی و المناظرة الحرّة،و کم واجهت حروبا من الجهلة المتعصبین الذین تحجّروا و أغلقوا علی أنفسهم منافذ الرأی و طریق التدبّر.
و لا نرید هنا أن نهمل ذکر الدوافع الأساسیة علی نهجنا فی العرض لأئمة المذاهب،فنحن نعترف بالمکانة العلمیة و المنزلة التاریخیة لکل منهم،و نجهد فی إبراز جوانب حیاتهم،و التی تکشف لنا أن أئمة المذاهب بعلمهم و دینهم لم یباشروا بأنفسهم العداء للشیعة،و لم یسهموا فی إقامة العداء بین المذاهب،فإن حدث اختلاف فی الرأی فهو فی مجالس العلماء و أصحاب الشأن،یتم بتقالید المناظرة و طرق الاحتجاج و یبقی الحکم للحق.کما أن أئمة المذاهب لم یعرف عنهم بعدّ یؤدی إلی العداء،بل کانوا ما بین متلق مباشرة عن الإمام الصادق،أو متعلم من مدرسة أهل البیت و فقههم،و ممن لا یتجاهلون مکانة الصادق و أهل بیته.و قد کان للحکام أثرهم فی اتجاهات الناس و مشاعرهم،فیما کان الإمام الصادق یتمتع بذلک السلطان الروحی،و یقوم بأعباء الرئاسة الدینیة فی إمامته.
و رأینا بعد هذه الفترة من الانقطاع بین صدور آخر جزء من الکتاب و صدور الجزء السابع و الثامن،أن نجعل کل جزء یتضمّن بحثا عن حیاة إمامین من أئمة المذاهب.
و نبدأ بالبحث عن حیاة الإمام أبی حنیفة:
ص:134
:
ذکرنا فی الجزء الأول من کتابنا بعضا من جوانب شخصیة الإمام أبی حنیفة و عوامل شهرته،و یواجه الباحث فی ذلک أکثر أنواع الإعجاب و أشدّ أشکال العداء.فقد أطلق علیه أنصاره کل ما یخطر ببال من مفردات الإطراء و الإعجاب، فرفعوه إلی مستوی الأنبیاء،و فوق درجة الأولیاء.بینما هبط خصومه بشخصیته إلی مستوی الدون،فجرّدوه من کل فضیلة،و سلبوه کل ما یؤهله لمنزلة علمیة أو مکانة دینیة.
و نحن فی خضمّ هذه التناقضات،نستخلص شخصیة النعمان کرئیس مذهب و صاحب مدرسة،لنکشف بعض العوامل التاریخیة التی بقیت مهملة عن قصد،أو لم تتضح للکثیرین ممن تصدّوا للبحث،و لم یتمثلوا عناصر التاریخ أو یستوعبوا طبیعة الظرف.
و الإمام أبو حنیفة من أقرب الناس إلی أهل البیت،و أکثر أئمة المذاهب اتصالا بالإمام الصادق علیه السّلام و لقد انعکس ذلک بآثاره الواضحة فی أفکاره و مواقفه.
و ما کان الإمام أبو حنیفة لیظهر فی نظر البعض بعیدا عن أهل البیت لو لا نظرة المنصور السیاسیة.و محاولته التأثیر فی مواقف أبی حنیفة و تصرّفاته،و الاستفادة من علمه فی التأثیر علی مکانة الإمام الصادق علیه السّلام و دفعه إلی خط العداء لآل البیت.
و لقد مرّ أبو حنیفة بظرف یقرب من المحنة،استطاع أن یجتازها،و أن یحمی نفسه من عذاب الحکام و لذعات عنفهم.
تمتع أبو حنیفة بشهرة تظافرت علی قیامها عوامل کثیرة،أهمها قدرته فی القیاس،و استطاع أن تکون له مدرسة متمیزة هی التی خدمت شخصیته،و عملت علی شهرته و رفع مکانته،فقد کان أبو حنیفة محور دائرة الخلافات بین أهل الرأی و أهل الحدیث،إذ عرف بالرأی و کثرة القیاس،مع قلة العمل بالحدیث،و قد اشتهرت مدرسته بذلک،و لقیت معارضة شدیدة من حملة العلم و أهل الحدیث لاقترانها بالرأی و القیاس.
و سار أصحاب أبی حنیفة علی رأیه،و طبقوه فیما عرض لهم من مسائل.و قام
ص:135
تلامذته بنصرة مذهبه،و فی طلیعتهم القاضی أبو یوسف،و بواسطته نالت المدرسة شهرة واسعة.إذ کانت بیده تولیة القضاة،و هو بمنزلة وزیر العدل فی العصر الحاضر فهو لا یولّی إلاّ من کان علی مذهبه.کما قام جماعة بنصرة المذهب و نشره،منهم:
زفر بن الهذیل،و محمد بن الحسن الشیبانی،و الحسن بن زیاد اللؤلؤی.و غیر هؤلاء من أهل العراق الذین عرفوا بأهل الرأی کابن سماعة،و عافیة القاضی،و مطیع البلخی و بشر المریسی...و منشأ تسمیتهم بأصحاب الرأی،هو أن عنایتهم بتحصیل وجه القیاس و المعنی المستنبط من الأحکام و بناء الحوادث علیها،و ربما یقدّمون القیاس الجلی علی أخبار الآحاد کما اشتهر عن أبی حنیفة أنه قال:
علمنا هذا رأی،و هو أحسن ما رأینا،فمن قدر علی غیر ذلک فله ما رأی و لنا ما رأینا (1).
و جاء عن أبی یوسف أنه قال قبیل وفاته:کلما أفتیت به؛فقد رجعت عنه (2).
و جاء عن أبی حنیفة أنه قال لأبی یوسف:ویحک یا یعقوب لا تکتب کلما تسمع منی،فإنی قد أری الرأی الیوم و أترکه غدا،و أری الرأی غدا و أترکه بعد غد (3).
و قد اشتهر عن أبی حنیفة قوله:لا یحلّ لمن یفتی من کتبی أن یفتی حتی یعلم من أین قلت (4).و فی روایة:حرام علی من لا یعرف دلیلی أن یفتی بکلامی.و قد زید فی روایة قوله:فإننا بشر نقول القول الیوم و نرجع عنه غدا.
و لقد تشدد أبو حنیفة فی الحدیث،و کان لذلک أسبابه،إذ إن تلک الفترة قد شهدت موجات الوضع فی الحدیث،و لکی یضمن أصحاب المسائل القبول،کانت فتاواهم تساق إلی الناس بصیغ الحدیث بالنص أو بالمعنی أو بغیرها من الطرق التی شاعت،فأصبح الکذب علی الرسول الأعظم سهلا و تکسّب به لإرضاء الحکام، و وضع الأحادیث وفق أهوائهم حتی بلغ الأمر حدا یثیر سخریة الحکام،کما یثیر
ص:136
الأذی فی نفوس المؤمنین (1).و کان أبو حنیفة لا یری أن یروی الحدیث إلا ما حفظه عن الذی سمعه منه،و هی روایة أبو یوسف.أما روایة أبو حمزة فبعضها:سمعت أبا حنیفة یقول:إذا جاء الحدیث الصحیح الإسناد عن النبی علیه السّلام أخذنا به،و إذا جاء عن الصحابة تخیرنا،و إن جاء عن التابعین زاحمناهم و لم نخرج عن قولهم.و فی أخری:و ما جاءنا عن أصحابه رحمهم اللّه اخترنا منه و لم نخرج عن قولهم،و ما جاء عن التابعین فهم رجال و نحن رجال (2).و الأخیرة أقرب إلی حقیقة موقف أبی حنیفة و أخذه بالرأی.
و قد توافر لمدرسة أبی حنیفة أنصار عملوا بالرأی و أخذوا بالقیاس،و أعلنوا اختلافهم عن أهل الحدیث.فاشتهرت مدرسة الرأی،و ارتبطت باسمه و تزعّم تیارها.
و لأن تلامذة أبی حنیفة و أنصاره کانوا من النشاط و الفعالیة بالدرجة الملحوظة؛فقد استقرت مدرسة الرأی و انتشرت فی العراق.
و هناک خلاف حول الشخص الذی أرسی دعائم مدرسة الرأی و أعلی بنیانها؟ هل هو إبراهیم،أم حمّاد؟و یذهب بعضهم إلی القول بأن مؤسسها هو الخلیفة عمر بن الخطاب.فیقول أحمد أمین:و کان حامل لواء هذه المدرسة عمر بن الخطاب،و أشهر من سار علی طریقته عبد اللّه بن مسعود فی العراق،فکان یتعشّق عمر و یتعجب بآرائه.و جاء فی أعلام الموقعین:أن ابن مسعود کان لا یکاد یخالف عمرا فی شیء من مذاهبه.
و قد انطوی عهد عمر إلی أبی موسی عبد اللّه بن قیس الأشعری علی إشارات تحضّ علی القیاس عند ما قال:الفهم الفهم فیما تلجلج فی صدرک مما لیس فی کتاب و لا سنّة،ثم أعرف الأشباه و الأمثال،و قس الأمور عند ذلک،و أعمد إلی أشبهها بالحق.
ص:137
و مع أن صحة هذا العهد موضع نظر،إلا أنه من أکبر دعائم القول بقدم الرأی عند القائلین به،رغم أن الطرف الآخر ینسب إلی عمر قولا یعارضه.
و قال الشعبی:کان عبد اللّه لا یقنت،و لو قنت عمر لقنت عبد اللّه (1)و یظهر من هذا أن عمر کان یعمل بالرأی،و هو مؤسس هذه المدرسة،و سار عبد اللّه بن مسعود علی منهجه،فکانت فتواه هی فتوی عمر بن الخطاب،فالرأی متحد.
أخذ أبو حنیفة العلم عن حمّاد بن سلیمان،و أخذ حمّاد عن إبراهیم النخعی، و أخذ إبراهیم عن علقمة بن قیس،و علقمة هو تلمیذ ابن مسعود،فکان إبراهیم لا یعدل بقول عمر و ابن مسعود،و إذا اجتمعا کان قول عبد اللّه أعجب لأنه کان ألطف.
و من هذا اشتهرت مدرسة الرأی فی العراق لأن عبد اللّه بن مسعود کان قد أقام فی الکوفة مدة من الزمن،و کان یفتی الناس و یحدّثهم.
قال أبو عمر الشیبانی:کنت أجلس إلی ابن مسعود حولا لا یقول:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فإذا قالها استقلّته الرعدة (2).
فإذا کان إبراهیم ألزم لأقوال ابن مسعود،فأبو حنیفة کان یلازم أقوال إبراهیم و أقرانه،و لا یجاوز إلا ما شاء اللّه،و کان عظیم الشأن فی التخریج علی مذهبه،دقیق النظر فی وجوه التخریجات.و إذا أردت أن تعلم حقیقة ذلک،فلخّص أقوال إبراهیم من کتاب الآثار لمحمد،و جامع عبد الرزاق،و مصنّف أبی بکر بن أبی شیبة،ثم قایسه بمذهبه؛تجده لا یفارق تلک المحجة إلا فی مواضع یسیرة،و هو فی تلک الموارد الیسیرة لا یخرج عمّا ذهب إلیه فقهاء الکوفة (3).
و لقد أعلنت المدینة غضبها علی أهل الرأی و بالأخص الکوفة و العراق بصورة عامة،و من شدّة الصراع و تفاقم الخلافات،تحامل حملة الآثار علی أهل العراق.
فقالوا بعدم علمهم بالحدیث،الأمر الذی ألجأهم إلی التمسّک بالرأی و العمل بالقیاس.
ص:138
و قد صدرت عن مالک بن أنس ألفاظ تعبّر عن عمق التأثر،فقد قیل عنه أنه قال:أنزلوهم-أی العراقیین-منزلة أهل الکتاب،لا تصدّقوهم و لا تکذّبوهم، و قولوا آمنا بالذی أنزل إلینا و أنزل إلیکم،و إلهنا و إلهکم واحد (1).
و دخل علیه محمد بن الحسن الشیبانی فسمعه یقول هذه المقالة،ثم رفع رأسه فقال للشیبانی:یا أبا عبد اللّه،أکره أن تکون غیبة،کذلک أدرکت أصحابنا یقولون.
و کان مالک إذا نظر إلی أصحاب الرأی من العراقیین یقرأ: تَعْرِفُ فِی وُجُوهِ الَّذِینَ کَفَرُوا الْمُنْکَرَ (2).
و کان یسمی الکوفة:دار الضرب.یعنی أنها تضع الأحادیث و تخرجها کما تخرج دار الضرب الدراهم و الدنانیر.
و قال عطاء لأبی حنیفة:من أین أنت؟ قال:من أهل الکوفة.
قال:أنت من أهل القریة الذین فرّقوا دینهم و کانوا شیعا؟و إن صدور أمثال هذه الأقوال من رجل کمالک بن أنس-الشخصیة الدینیة و السیاسیة فی آن واحد-لها أثرها،و إن شیوع أشیاء کهذه لها نتائجها الخطیرة التی تستلزم حشد الجهود و تعبئة القوی لردّ خطر ما ینجم من ورائها من تفاعلات.فکانت مقابلات حادة و مواجهات تتصف بالعنف و الخروج عن قواعد المساجلات العلمیة.
و قد کانت شهرة أصحاب الرأی سریعة،استطاعت أن تکون بإزاء مدرسة الحدیث بتاریخها و مواقعها،و لما کان أبو حنیفة ینتقی أصحابه و یختارهم فیتعاهدهم بالرعایة و العنایة کاختیاره لأبی یوسف و رعایته للآخرین،لذا فقد تأثروا به غایة التأثّر، و أصبحوا متفرغین لتطبیق منحی الرأی و الدفاع عنه.
کما کان أبو حنیفة یشجّع الجدل بین تلامذته،و یترکهم یتبادلون الأقوال و الحجج،و قد یستغرق ذلک وقتا طویلا فی جلسة واحدة و بإشراف أبی حنیفة.حتی نبغ تلامذته،و کانوا من أعمدة القیاس،و أصبحت صورة حلقة أبی حنیفة فی أذهان الناس تتکون من أجزاء بعضها یکمل بعضا،حتی قال وکیع لرجل قال أخطأ أبو
ص:139
حنیفة:کیف یقدر أبو حنیفة أن یخطئ و معه مثل أبی یوسف و زفر فی قیاسهما؟ (1).
و لکن الأمر فی المدینة غیره فی العراق،فقد کانت الصورة تظهر أبا حنیفة و هو یقود حرکة القیاس.فیروی عن الشافعی رحمه اللّه أنه قال:قیل لمالک بن أنس:هل رأیت أبا حنیفة؟قال:نعم،رأیت رجلا لو کلمک فی هذه الساریة أن یجعلها ذهبا لقام بحجته.
لقد بلغ أبو حنیفة من حضور الذهن و توقّد الذّکاء مستوی جعله یتغلب علی منافسیه بطرقه و قیاسه،کابن أبی لیلی،الذی کان اختلافه معه فی المسائل مادة کاملة ضمها مصنف کامل.و منها عند ما اجتمع أبو حنیفة و ابن أبی لیلی عند أبی جعفر المنصور فسأل ابن أبی لیلی أبا حنیفة عمن باع ثوبا و تبرأ من العیب؟فقال:إذا برأه فقد بریء.و قال ابن أبی لیلی:لا یبرأ حتی یضع یده علی العیب.فلم یزل یدخل علیه أبو حنیفة حتی قال:لو أن امرأة[و ذکر ما یعنی أنها من العباسیین]باعت عبدا و علی رأس ذکره برص،أ یجب علیها أن تضع یدها علی رأس ذکره؟فقال ابن أبی لیلی:یجب علیها ذلک.فغضب المنصور عند ذلک و أهانه،فظفر به أبو حنیفة.
لقد کان أبو حنیفة محور دائرة الخلافات،و الهدف الذی یوجه إلیه الطعن.و قد حمل العلماء علی أهل الرأی حملة شعواء،و أورد أهل الحدیث روایات عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ذم الرأی،منها:
«إن اللّه لا ینزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهموه انتزاعا،و لکن ینتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم،فیبقی أناس جهّال یستفتون برأیهم فیضلّون و یضلّون» (2).
و حدثوا عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«تفترق أمتی علی بضع و سبعین فرقة،أعظمها فتنة قوم یقیسون الدین برأیهم،یحرّمون به ما أحلّ اللّه،و یحلّون به ما حرّم اللّه» (3)و أوردوا عن عمر بن الخطاب قوله:إیاکم و أصحاب الرأی،فإنهم أعداء السنن،أعیتهم الأحادیث أن یحفظوها؛فقالوا بالرأی،فأخلّوا و أضلّوا.
ص:140
إلی کثیر من الأحادیث التی أوردوها،و الأقوال التی نقلوها عن الصحابة و التابعین و أتباعهم.و اشتد النزاع و تحوّل إلی تعصّب قبلی و تحزّب إقلیمی،و أصبح من المحتّم علی أصحاب الرأی و علی العراقیین و الکوفة بالأخص أن تردّ علی تلک الهجمات،و أن تنتصر لوطنها و آرائها.
و علی هذا النحو استمر الوضع من تربّص کل فریق بالآخر،فتنابزوا و تقابلوا بانتقاص البعض للبعض،و عیّروا أهل الکوفة بالنبیذ،و أهل المدینة بسماع الغناء.
و اشتدّت عصبیة کل قوم لبلدهم،و کان للأدب قسط وافر فی هذا الصراع فی عصر أبی حنیفة و بعده.
قال عمار الکلبی یذم أهل الحدیث:
إن الرواة علی جهل بما حملوا مثل الجمال علیها یحمل الودع
لا الودع ینفعه حمل الجمال له و لا الجمال بحمل الودع تنتفع
و یقول بعضهم:
یحمل أسفارا له و ما دری إن کان ما فیها صوابا أو خطأ
إن سئلوا قالوا کذا روینا ما ان کذبناه و لا اعتدینا
و قال بکر بن حماد قصیدة منها:
و کل شیاطین العباد ضعیفة و شیطان أصحاب الحدیث مرید
و أثارت هذه القصیدة حمیّة کثیر من الشعراء المنتصرین لأهل الحدیث، فعارضوها بعدة قصائد کابن غیاث عبد السلام بن یزید إذ یقول:
تعرّضت یا بکر بن حمّاد حطة بأمثالها فی الناس شاب ولید
فذمّک هذا فی المقال مذمّم و ذمّک هذا فی الفعال حمید
و هی قصیدة طویلة (1).
و منها قول أحمد بن عصفور یعارض ابن حمّاد:
ص:141
أیا قادحا فی العلم زند عمائه رویدا بما تبدی به و تعید
جعلت شیاطین الحدیث مریدة ألا إن شیطان الخلال مرید
و جرّحت بالتکذیب من کان صادقا فقولک مردود و أنت عنید
و مهما کان الشعر فی معرکة الرأی و الحدیث فإنه لا یبلغ فی تأثیره و فعله ما یصدره أصحاب الحدیث أنفسهم و الذین یتصدّون للردّ علی أهل العراق و إعلان سخطهم علی أبی حنیفة لأنه یتزعم حرکة القیاس بإزائهم.
و قد أجحف خصومه فی نقده و التحامل علیه و الطعن فی معتقده حتی قالوا عنه:إنه استتیب من الکفر مرتین (1).و إنه إذا جاء الحدیث عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیخالفه إلی غیره (2)و قد خالف مائتی حدیث عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (3).
و قد حددوا کفره بالقرآن بآیتین،کما ورد عن شریک أنه قال:کفر أبو حنیفة بآیتین من کتاب اللّه... (4).
و قد جعلوا وجوده ضررا علی الإسلام،و بقاءه هدما للدین و فتکا بالمسلمین، لأنه یهدم الإسلام عروة عروة،و أنه شر مولود ولد فی الإسلام (5).
و قد أورد الخطیب فی تاریخه،و ابن عبد البرّ فی انتقائه أقوالا کثیرة أطلقها خصومه،و شاعت فی أندیة المجتمع،حتی بلغت إلی المنامات و الأطیاف،إذ کان لها سوق رائج فی عصور التطاحن المذهبی،و لا أری داعیا لاستعراض تلک الأقوال مناقشا لها أو مؤیدا.و سنعاود بحث أمرها فی الجزء الثامن.
و علی أی حال،فقد دلنا التتبع علی أن شخصیة أبی حنیفة لمعت بعد أن رسخت قدم تلامذته فی الدولة،و أصبح لهم النفوذ التام عند ما ارتبطوا ارتباطا وثیقا بسیاستها،و کان فیهم القضاة و ذوو النفوذ،فانتشر المذهب المنسوب إلیه،و اتسعت مدرسته بقوة تلامذته،و قد أدت عوامل التضارب و شدة الخلافات إلی إیجاد جو
ص:142
مضطرب حمل بعض الاتباع علی أن یضعوا الأخبار،و یختلفوا الحکایات.بل وضعوا کتبا مطولة لإعلاء شأنه.مما أدی بالباحث عنه أن یجد الصعوبة فی بحثه عن الحقیقة الکامنة وراء أکداس من الدعایات.فإذا أردنا الوقوف علی حقیقة ما یدّعی له من سعة العلم،و أن الناس عیال علیه،و إنه وضع سبعین ألف مسألة فی الفقه،فإنّا نجد أقرانه و معاصریه لم یعرفوا عنه ذلک،کما أن تلامذته و المنتسبین لمدرسته قد خالفوه فی کثیر من الآراء،و ردّوا الکثیر من أقواله.و أقوالهم فی جمیع الأبواب الفقهیة إلی جنب أقواله.فمرة یتّفقون معه،و مرة یخالفونه.و قد بیّنا منزلته فی الحدیث،و ما قالوه عنه:بأنه لم یکن صاحب حدیث بل قیّاسا.و أنه لم یعرف إلا سبعة أحادیث.و قد وجدنا أکثر الرواة و المحدّثین لم یرووا عنه،و ضعّفه البخاری (1)و ترک حدیثه،و کذلک بقیة أصحاب الصحاح الستة.و قال یحیی بن معین:لم یکن أبو حنیفة صاحب حدیث.و قد مرّت الأقوال فی ذلک.و نحن لا نذهب لتأییدها، لأنها کانت مصوغة بقالب التحامل علیه.
لقد کان أبو حنیفة حریصا علی طلب العلم،عرف بقدرته علی المناظرة و ذکائه و نباهته،و کان محمد یختلف إلی الإمام الصادق علیه السّلام و یسأله عن کثیر من المسائل مع أدب و احترام،و لا یخاطبه إلا بقوله:جعلت فداک یا ابن رسول اللّه.و قد روی أبو حنیفة عن الإمام الصادق.و کان الإمام الصادق ینهاه عن القیاس،و یشدّد الإنکار علیه و یقول:«بلغنی أنک تقیس الدین برأیک،لا تفعل فإن أول من قاس إبلیس».
و قد علم الإمام الصادق صفات أبی حنیفة و قدراته،فکان علیه السّلام یوجّه إلیه المسائل التی تتفق مع ما عرف عن أبی حنیفة من الذکاء.قال له الإمام علیه السّلام:«یا أبا حنیفة ما تقول فی محرم کسر رباعیة ظبی؟قال:یا ابن رسول اللّه ما أعلم فیه.فقال:
أنت تتداهی و لا تعلم أن الظبی لا یکون له رباعیة،و هو ثنی أبدا» (2).
ص:143
و یظهر لنا تاریخ حیاة أبی حنیفة،أنه کان من الشخصیات المرموقة فی عصره، و کانت له حلقة درس یرتادها جماعة و فی طلیعتهم تلمیذه الأول أبو یوسف.
و أصبحوا من بعده علماء و لهم أراؤهم الخاصة و أقوالهم المنفردة عن قوله،و لأن أبا حنیفة قد عرف بالقیاس؛فقد نقم علیه علماء عصره،و شدّدوا علیه النکیر.فلم یخضع لواحد منهم إلاّ للإمام الصادق علیه السّلام کما یستدل من قوله المشهور:لو لا السنتان لهلک النعمان.و المراد بالسنتین هما اللتان قضاهما فی المدینة مع الإمام الصادق علیه السّلام فی آخر أیامه،و أخذ عنه العلم،و قد نهاه عن استعمال القیاس و قال له:«إنه أول من قاس إبلیس»فی قصة طویلة.و مما یدلّ من بعض آثاره أنه ترک القیاس،إلاّ أن مدرسته ظلّت تأخذ به،و کما اشتهرت مدرسة أبی حنیفة بالقیاس، فقد اشتهرت باستعمال الحیل الشرعیة،و قد نسبوا له کتاب الحیل الشرعیة.و من المستحسن الإشارة لذلک بموجز من البیان لتظهر لنا حقیقة لها أهمیتها فی تاریخ حیاة الإمام أبی حنیفة.فهل کان أبو حنیفة یستعمل الحیل،و أنه وضع فی ذلک کتابا تداوله الناس،أم أنها نسبة لا أصل لها؟.
:
الحیلة مأخوذة من الاحتیال،و هی الحذق و جودة النظر،و القدرة علی التصرّف.
و أکثر استعمالها فیما فی تعاطیه خبث،و قد تستعمل بما فیه حکمة،و لقد غلب فی العرف اللغوی إطلاقها علی ما یکون من الطرق الخفیة التی یتوصل بها إلی حصول الغرض،بحیث لا یتفطّن له إلا بنوع من الذکاء و الفطنة،و تنصرف أیضا إلی الطرق الخفیة التی یتوصل بها إلی الغرض الممنوع منه شرعا أو عقلا،أو عادة.و یقصد بها الحیل التی تستحلّ بها المحارم،و أطلقها الفقهاء علی المخارج من المضایق بوجه شرعی لمن ابتلی بحادثة دینیة.و الحیلة ترتبط بالرأی،و حیث کانت مدرسة أبی حنیفة معروفة بالرأی،فقد عرفت هذه المدرسة بالحیل الشرعیة.و قد اشتهر عن أحمد بن حنبل أنه قال:هذه الحیل التی وضعها أبو حنیفة و أصحابه،عمدوا إلی السنن فاحتالوا فی نقضها،أتوا إلی الذی قیل إنه حرام احتالوا فیه حتی أحلّوه.
و یظهر من کلمة الإمام أحمد هذه أنهم-أی أصحاب أبی حنیفة-استعملوا الحیل غیر الجائزة و الممنوعة شرعا،و قد اهتم المذهب الحنفی من بین المذاهب
ص:144
بالحیل،فقد ألفوا کتبا فی الحیلة،و قد نسب لأبی یوسف کتاب فی الحیل (1)و لکنه مفقود الآن،و کذلک لمحمد بن الحسن الشیبانی کتابا فی الحیل رواه عنه معاصره أحمد بن حفص البخاری.و رواه أیضا موسی بن سلیمان الجوزجانی المتوفی سنة 244 ه کتابا ألّف أحمد بن عمر الشیبانی الخصّاف-أحد قضاة الدولة المتوفی سنة 261 ه-کتابا فی الحیل،و کثیر من الکتب فی هذا الموضوع نسبت إلی الحنفیة.
أما أبو حنیفة،فلا یعلم بالضبط أن له کتابا فی الحیل کان أبو حنیفة یستعمله، و قد نسب لابن المبارک أنه قال:من استعمل کتاب الحیل لأبی حنیفة أو أفتی بما فیه؛ فقد بطل حجّه،و بانت منه امرأته.
و لا نعلم مقدار صحة هذا القول من ابن المبارک،فهو من أصحاب أبی حنیفة و مناصریه،و لا ندری هل أن أبا حنیفة استعمل الحیل الجائزة أم المحرمة.فإن کان الأول،فلیس لنا أن نحصر الأمر به،فإن حدّة الذهن و التخلّص من المشاکل لم یکن من امتیاز أبی حنیفة وحده،إذ الأمور المشروعة فی الحیل قد سبق العمل بها فی العصر الذی سبق عصر أبی حنیفة.أما إذا کان استعماله للحیل غیر الجائزة و هی الاحتیال علی حلّیة ما هو حرام،أو علی إسقاط ما هو واجب أو غیر ذلک،فهل یمکننا أن نحمّل أبا حنیفة مسئولیة فتح هذا الباب،و لم یصل إلینا کتاب یدل علی استعماله للحیل غیر الجائزة؟فهو لم یؤلف فی ذلک کتابا لا فی الحیل و لا غیرها،أما کتاب العالم و المتعلم فهو کتاب صغیر لا یدل علی مکانته العلمیة و منزلته التی وصفوه بها،و لم یتفق علی صحّة نسبته إلی أبی حنیفة.
و لیس ببعید أن یکون أصحابه قد استعملوا الحیل غیر الجائزة و نسبوها لرأیه، کما هو شأنهم فی کل مسائل المذهب،فإنهم یستخرجون المسألة الشرعیة حسب نظرهم و رأیهم،و یقولون هذا رأی أبی حنیفة،مستندین إلی قاعدة:أنه یعمل بما صحّ عنده من الحدیث.فهم یصحّحون الأحادیث لتقویم فتاواهم،و یسندون الکل لأبی حنیفة.و قد عقد ابن قیم الجوزیة فصلا طویلا فی کتابه(أعلام الموقعین)ذکر فیه
ص:145
الحیل المحلّلة و الحیل المحرّمة،و ذکر الأخبار فی ذلک،و أفاض فی البیان فأکثر و قال فیما قال:
و المقصود أن هذه الحیل لا تجوز أن تنسب إلی إمام،فإن ذلک قدح فی إمامته، و ذلک القدح یتضمّن القدح فی الأمة،حیث ائتمّت بمن لا یصلح للإمامة،و هذا غیر جائز.و لو فرض أنه حکی عن واحد من الأئمة بعض هذه الحیل المجمع علی تحریمها،فإما أن تکون الحکایة باطلة،أو یکون الحاکم لم یضبط لفظه،فاشتبه مع بعد ما بینهما.و لو فرض وقوعها منه فی وقت ما فلا بد أن یکون قد رجع عن ذلک.
و لیس الأمر هنا للافتراض و اللاّبدیة،و إنما المدار علی الواقع.فإن الأکثر ینسبون لأبی حنیفة فتاوی بالحیل الممنوعة،کما نسبوا إلیه کتابا فی ذلک،و الأمر یحتاج إلی تدقیق و تمحیص،لا للافتراض و اللاّبدیة.
و قال ابن قیّم:فهذه الحیل و أمثالها لا یحلّ لمسلم أن یأتی بها فی دین اللّه،و من استحلّ الفتوی بهذه،فهو الذی کفّره الإمام أحمد و غیره من الأئمة حتی قالوا:(إن من أفتی بهذه الحیل؛فقد قلب الإسلام ظهرا لبطن،و نقض عری الإسلام عروة عروة).
و إلی هذا الحد لم تتعین الفرقة التی اتسعت دائرة الحیل باستعمالها،هل هم الحنیفیة فقط؟أم یشارکهم غیرهم فی ذلک؟و قد نقل عن بعضهم أنهم قالوا:ما نقموا علینا من أنّا عمدنا إلی أشیاء کانت حراما علیهم،فاحتلنا فیها حتی صارت حلالا؟ و قال آخرون منهم:إنّا نحتال للناس منذ کذا و کذا سنة فی تحلیل ما حرّم اللّه علیهم.
و لا ندری من هو القائل،و إلی أی فرقة ینتسب،و إلی أی مذهب یرجع.
قال أحمد بن زهیر:کانت امرأة هاهنا بمرو،أرادت أن تختلع من زوجها، فأبی زوجها علیها.فقیل لها:لو ارتددت عن الإسلام لبنت منه.ففعلت،فذکر ذلک لعبد اللّه بن المبارک فقال:من وضع هذا الکتاب فهو کافر،و من سمع به فهو کافر، و من حمله من کورة إلی کورة فهو کافر،و من کان عنده فرضی به فهو کافر.قیل له:
یا أبا عبد الرحمن:إن هذا الکتاب وضعه إبلیس؟قال:إبلیس من الأبالسة.و قال النضر بن شمیل فی کتاب الحیل ثلاثمائة و عشرون أو ثلاثون مسألة کلها کفر.و ذکر کتاب الحیل لشریک بن عبد اللّه القاضی فقال:من یخادع یخدعه.و قال إسماعیل بن حمّاد:قال القاسم بن معن قاضی الکوفة:کتابکم هذا الذی کتبتموه فی الحیل
ص:146
کتاب الفجور.و إسماعیل بن حمّاد هو حفید النعمان بن ثابت أبی حنیفة.و من هنا یظهر أن الکتاب الذی یتضمن الحیل المحرمة هو من وضع الحنیفة،لا من وضع أبی حنیفة نفسه.
قال یزید بن هارون:لقد افتی أصحاب الحیل بما لو أفتی به النصرانی أو الیهودی کان قبیحا (1).و نقل عن أحمد بن حنبل عن محمد بن مقاتل قال:شهدت هشاما و هو یقرأ کتابا،فانتهی بیده إلی مسألة فجازها،فقیل له فی ذلک فقال:دعوه.
و کره مکانی،فتطلعت فی الکتاب فإذا فیه:لو أن رجلا لفّ علی ذکره حریرة فی شهر رمضان،ثم جامع امرأته نهارا فلا قضاء علیه و لا کفارة (2).
فالحیلة فی فسخ المرأة النکاح:أن ترتدّ،ثم تسلم.
و الحیلة فی سقوط القصاص عمن قتل أم امرأته:أن یقتل امرأته إذا کان لها ولد منه.
و الحیلة فی سقوط الکفارة عمن أراد الوطی فی رمضان:أن یتغدّی،ثم یطأ بعد الغداء.
و الحیلة لمن أراد أن یفسخ نکاح امرأته و یحرّمها علی نفسه علی التأبید:أن یطأ حماته أو یقبّلها.
و الحیلة لن أراد سقوط حدّ الزنا:أن یسکر،ثم یزنی.
و الحیلة لمن أراد سقوط الحج عنه مع قدرته:أن یملّک ماله لابنه عند خروج الرکب،فإذا أبعد استردّ ماله.
و الحیلة لمن أراد أن یملک مال غیره بغیر رضاه:أن یفسد علیه،أو یغیّر صورته فیملکه،فیذبح شاته،و یشقّ قمیصه،و یطحن حبه.
و الحیلة لمن أراد قتل غیره و لا یقتل به:أن یضربه بدبوس أو مرزبة حدید،ینثر دماغه فلا یجب علیه القصاص.
ص:147
و الحیلة لمن أراد أن یسقط عنه حدّ السرقة:أن یدّعی أن المال له،و أن له فیه شرکة،فیسقط عنه الحد بمجرد دعواه.
و الحیلة لمن أراد سقوط حدّ الزنا عنه بعد أن یشهد علیه أربعة عدول غیر متّهمین،أو أن یصدّقهم فیسقط عنه الحدّ بمجرد تصدیقهم.
و الحیلة لمن أراد الصید فی الأحرام:أن ینصب الشباک قبل أن یحرم،ثم یأخذ ما وقع فیها حال إحرامه بعد أن یحلّ.
هذا بعض ما ذکروه من استعمال الحیل.و قد نقل عن أبی حنیفة أنه یفتی ببعضها کاستئجار الجاریة لکنس البیت.و حوادث أخری مشهورة ذکرتها المصادر.
منها:ما ذکره ابن عبد البر فی الانتقاء عن شریک أنه قال:کنا فی جنازة غلام من بنی هاشم،و قد تبعها وجوه الناس و أشرافهم،فأنا إلی جنب ابن شبرمة أماشیه إذ قامت الجنازة،فقیل:ما للجنازة لا یمشی بها؟قیل:خرجت أمه والهة علیه سافرة وجهها فی قمیص.فحلف أبوه بالطلاق لترجعنّ،و حلفت هی بصدقة ما تملک لا رجعت حتی تصلی علیه،و کان یومئذ مع الجنازة ابن شبرمة و نظراؤه،فاجتمعوا لذلک، و سئلوا عن المسألة،فلم یکن عندهم جواب حاضر.قال:فذهبوا،فدعوا بأبی حنیفة -و هو فی عرض الناس-فجاء مغطّیا رأسه و المرأة و الزوج و الناس وقوف،فقال للمرأة:علام حلفت؟قالت:علیّ کذا کذا.و قال للزوج بم حلفت؟قال:بکذا.قال ضعوا السریر فوضع،و قال للرجل تقدّم فصلّ علی ابنک.فلما صلّی قال:ارجعی، فقد خرجتما عن یمینکما،احملوا میّتکم.فاستحسنها الناس.
و کان المنصور یعرف عنه هذه القدرة فی إیجاد المخارج.یروی حمزة بن عبد اللّه الخزاعی أن أبا حنیفة هرّب من بیعة المنصور جماعة من الفقهاء،ثم قال أبو حنیفة:لی فهم أسوة.فخرج مع أولئک الفقهاء،فلما دخلوا علی المنصور أقبل علی أبی حنیفة وحده من بینهم فقال له:أنت صاحب حیل،فاللّه شاهد علیک أنک بایعتنی صادقا من قلبک؟قال:اللّه یشهد علیّ حتی تقوم الساعة.فقال:حسبک.فلما خرج أبو حنیفة قال له أصحابه:حکمت علی نفسک ببیعته حتی تقوم الساعة؟قال:إنما عنیت حتی تقوم الساعة من مجلسک إلی بول أو غائط أو حاجة،حتی یقوم من
ص:148
مجلسه ذلک (1).و علی کل حال فقد اشتهر المذهب الحنفی بالعمل بالحیل الشرعیة.
یقول الدکتور علی عبد القادر:بقی أبو حنیفة فی نظر أتباعه صاحب الفضل فی الحیل المتعلقة بالحلف،و من هنا أخذ الأحناف یذکرون عن إمامهم ماله من حدة ذکاء فی مسائل الحلف،و قد کانت کتب الحنفیة فی الحیل قد انتشرت بین الناس،فکان من أثر هذا أن أخذ الشافعیة کذلک ینافسونهم فی هذا المیدان،و یؤلفون فی الحیل.
هذا فی رأینا هو الباعث علی وجود کتب الحیل فی مذهب الشافعی بعد إن کان إمامهم یحکم علیها بالحرمة أو الکراهة،بالرغم من الاعتراف بصحتها من حیث الظاهر،و قد استمر علی مخاصمة الحیل فی المذهب کل من:الغزالی و عبد الرحمن بن زیاد.و لکن ابن حجر نازعهم فی هذا فی فتاویه،و بقی رأیه هو الذی علیه العمل فی المذاهب (2).
و من مسائل الحیل التی کثر الاختلاف بها هی الحیلة علی إسقاط حق الشفعة، و قد أقرّت الشریعة الإسلامیة حق الشفعة للشریک.و قام الدکتور عبد السّلام ذهنی بتناولها فی کتابه(الحیل المحظور منها و المشروع).
و ذهب بعض العلماء الأول إلی أن القیاس یأبی ثبوت حق الشفعة،لأنه یتملک علی المشتری ملکا صحیحا له بغیر رضاه،و ذلک لا یجوز،فإنه من نوع الأکل بالباطل،و تأیید هذا بقول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«لا یحلّ مال امرئ مسلم إلا بطیب نفس منه» و لأنه بالأخذ یدفع الضرر علی نفسه علی وجه یلحق الضرر بالمشتری فی إبطال ملکه علیه،و نقل هذا الوجه عن أبی بکر الأصمّ (3)و قیل فی الشفعة بأن فیها رفعا لضرر موهوم عند الشفیع،فی مقابل ضرر محقق لدی المشتری (4).و لذا تجب العنایة بالضرر الواقع،و صرف النظر عن الضرر الموهوم.و قیل فیها بأن حکمة الشارع منها اقتضت رفع الضرر عن المکلفین ما أمکن (5).
ص:149
و قد اختلفوا بجواز التحایل فیها،و صوّروا لذلک صورا منها:إذا ترک البائع قطعة أرض علی ملکه بین العقار المبیع و الشفیع حتی لا یستطیع هذا الأخیر الادعاء بالجوار.أو أن یهبه تلک القطعة الفاصلة لتحول دون الشفعة بسبب الهبة.
و قال أبو حنیفة و الشافعی بجواز الاحتیال فی الشفعة لإسقاطها،لأنها من الحقوق غیر المستحبّة.و قال بذلک مالک،و أحمد،و حجتهم أن الحیلة أمر مستنبط من الکتاب و السنّة؟! و یقول فریق آخر:بعدم جواز الحیلة فی سبیل إسقاط الشفعة،لأن الحیلة إنما هی رخصة لضعفاء المؤمنین،و لأن التحیّل لإبطال الشفعة شرّعت لدفع الضرر.فلو شرّع التحیّل لإبطالها،لکان عودا علی مقصود الشریعة بالإبطال،و یلحق الضرر الذی قصد إبطاله (1).
و اتفق علماء المسلمین علی ثبوت الشفعة للشریک،أما الشفعة بالجوار فقد اختلفوا علی ثلاثة أقوال:فأهل الکوفة یثبتون شفعة الجوار و لو مع تمییز الطریق و الحقوق.و أهل المدینة یسقطونها و لو مع الاشتراک.و أهل البصرة یثبتونها إذا وقع الاشتراک فی حق من حقوق الأملاک.
و علی أی حال،فإن هذه المسألة هی من المسائل الهامة التی اشتهرت بها مدرسة أبی حنیفة،و قد ضاعف ذلک تفاقم النقمة علیها و توجیه الانتقاد إلیها،و قد نسبوا إلی أبی حنیفة أنه وضع کتابا فی الحیل فهم یستمدّون منه و یأخذون عنه،و لا بد من التحقق من ذلک و ثبوته،و ربما أنهم أخذوا من فتاوی أبی حنیفة و قواعده و زادوا،فسوّغوا استعمال الحیل بشتی أنواعها،کما هو الشأن فی جمیع أبواب الفقه المنسوب لأبی حنیفة،فإسناد الفتوی له إنما هو استنتاج یکشف عن رأیه،بمعنی أنه لو عاش أبو حنیفة لکان هو رأیه،أو علی قاعدة الترخص منه بقوله:إذا صحّ الحدیث فهو مذهبی.
ص:150
:
نشأ أبو حنیفة فی الکوفة،و کانت منبعا للحرکات الثوریة،فکم من ثورة عارمة قامت ضد سلطة فأخمدتها القوة،و أخری استطاعت أن تخمد قوة السلطة و تقیم دولة مستقلة زمنا طویلا،و الحرکة التی أطاحت بالدولة الأمویة کان منشؤها الکوفة،البلدة التی ولد فیها أبو حنیفة و نشأ فیها،و کان یشارک الثوار فی حرکاتهم سرا أو علانیة، و قد نکل به ابن أبی هبیرة عامل بنی أمیة،و ضربه بالسیاط.
و عاش أبو حنیفة وسط أحداث سیاسیة،کان لها الأثر فی نبوغه و معرفة اتجاهه و منحاه السیاسی الذی ینتهجه.
و قد تجلّت موهبته،و ظهر نشاطه و میله للعلویین عند ما ظهر زید بن علی بالکوفة سنة 124 ه فکان یری إمامة زید،و أنه علی الحق،فأرسل إلیه زید رسالة مع الفضل ابن الزبیر یدعوه إلی بیعته،فلما بلّغه الفضل رسالة زید،ذکره أبو حنیفة بکل جمیل،و ألزم الخروج معه،و قال:لو علمت أن الناس لا یخذلونه کما خذلوا أباه لجاهدت معه لأنه إمام الحق،و لکن أعینه بمالی.ثم بعث إلیه بالمال و هو ثلاثون ألف درهما،و قیل ثلاثون ألف دینارا،و قال للرسول:أبسط عذری عنده..
و سئل أبو حنیفة عن خروج زید فقال:ضاهی خروج رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یوم بدر.
فقیل له:لم تخلّفت عنه؟قال:حبستنی عنه ودائع الناس،عرضتها علی ابن أبی لیلی فلم یقبل،فخفت أن أموت محمّلا.و کان کلما ذکر خروج زید بکی.
کما إنه انتصر لمحمد بن عبد اللّه بن الحسن و أخیه إبراهیم،و کان یحثّ الناس علی الخروج للحرب مع إبراهیم و کان یقول:غزوة مع إبراهیم أفضل من خمسین حجة بعد حجة الإسلام (1).و کان الإمام أبو حنیفة عند ذکر مصاب محمد النفس الزکیة،یفعل کما یفعل عند ذکر استشهاد زید،فتدمع عیناه..
و جاءت إلیه امرأة فقالت:إن ابنی یرید هذا الرجل-أی إبراهیم-و أنا أمنعه؟ فقال:لا تمنعیه (2).
و قال أبو إسحاق الفزاری:جئت إلی أبی حنیفة فقلت له:أما اتقیت اللّه!أفتیت
ص:151
أخی بالخروج مع إبراهیم بن عبد اللّه بن الحسن حتی قتل؟فقال:قتل أخوک حیث قتل،یعدل قتله لو قتل یوم بدر،و شهادته مع إبراهیم خیر له من الحیاة (1).فکان إسحاق یبغض أبا حنیفة.
و من هذا نستظهر أن أبا حنیفة معروف بمیله للعلویین،و لذا وجه إلیه زید الدعوة للخروج معه،و جاء فی اعتذار أبی حنیفة فی بعض الروایات أنه کان مریضا.
أو أن لدیه ودائع للناس ملزم بحفظها أو ردّها،کما أن استفتاء الناس له بالخروج مع إبراهیم،یدلّ علی مکانته الاجتماعیة فی ذلک المجتمع.و بجانب ذلک،فقد کانت له مکانة سیاسیة و ید فی الثورة،و قد أرسل رسالة إلی إبراهیم،یشیر علیه أن یقصد الکوفة لیعینه الزیدیة،و قال:ائتها سرا،فإن من فیها من شیعتکم یبیّتون أبا جعفر فیقتلونه أو یأخذون برقبته فیأتونک به.
و لما توجه إبراهیم لمقابلة عیسی بن موسی-القائد العباسی-و قامت الحرب بینهما،کان أبو حنیفة یدعو الناس للخروج معه.قال أبو نعیم:سمعت زفر بن الهذیل یقول:کان أبو حنیفة یجهر فی أمر إبراهیم جهرا شدیدا،و یفتی الناس بالخروج معه.فقلت له:و اللّه ما أنت بمنّته عن هذا،حتی توافی فتوضع فی أعناقنا الحبال (2).
و حدّث محمد بن الحسن و غیره من أصحابه:أن أبا حنیفة کتب إلی إبراهیم بن عبد اللّه لمّا توجّه إلی عیسی بن موسی:إذا أظفرک اللّه بعیسی و أصحابه فلا تسر فیهم سیرة أبیک فی أهل الجمل،فإنه لم یقتل المنهزم و لم یأخذ الأموال،و لم یتّبع مدبرا، و لم یذفّف علی جریح،لأن القوم لم یکن لهم فئة.و لکن سر فیهم بسیرته یوم صفین،فإنه سبی الذریة،و ذفّف علی الجریح لأن أهل الشام کانت لهم فئة،و کانوا فی بلادهم (3).
فظفر أبو جعفر بکتابه،فکان الهدف الرئیسی من عرض القضاء علی أبی حنیفة -بعد مدة-هو اتخاذ وسیلة للقضاء علیه بحجة امتناعه عن معاونة الدولة،و کان أبو
ص:152
حنیفة یری حرمة التعاون معهم لأنهم أئمة جور.و قد کان لأبی حنیفة اتصال بالإمام الباقر علیه السّلام و ولده الإمام الصادق علیه السّلام و یعدّ من تلامذتهما،کما أنه اتصل بعبد اللّه بن الحسن و کان یعدّ من شیوخ أبی حنیفة.
:
لقد کان أبو حنیفة یمیل إلی أولاد علی،و یری أنهم أحقّ بالخلافة من بنی العباس،و کانت لرابطة العلم تأثیر فی ولائه و اتجاهه السیاسی،إذ کان تلمیذا لعبد اللّه بن الحسن،کما أنه علی علاقة وثیقة بزید و جعفر الصادق،و لذلک لمّا خرج إبراهیم بن عبد اللّه بن الحسن علی المنصور،کان هوی أبی حنیفة معه،و لم یکتف بذلک،بل ثبّط أحد قوّاد المنصور-و هو الحسن بن قحطبة-عن الخروج لحرب إبراهیم.
و یبدو تأثیر الإمام الصادق علی أبی حنیفة من خلال مقاطعته الدولة العباسیة، فقد صرّح الإمام الصادق-کما رأینا-بعدم معاونة الظالمین،و قطع الصلة بین الرعیة و بین السلطة الحاکمة،و هو ما یسمی ب(العصیان المدنی) (1).فعند ما أراد المنصور أن یختبر طاعته و ولائه عرض علیه القضاء،فامتنع أبو حنیفة.ثم أراد إخراجه،فطلب منه الاشتراک بالعمل فی بناء مدینة بغداد-و هی ما زالت تبنی-فأبی أبو حنیفة.
و أقسم المنصور أن یفعل،و أبو حنیفة یأبی.ثم قبل منه أن یعدّ اللبن فی بناء بغداد، و أبرّ بذلک قسم المنصور (2)و لکنه لم یثبت هذا القول،و لم یرد فیما ورد عن أبی حنیفة فی أقواله و آرائه.
و علی أی حال،فإن أبا حنیفة کان ذا صلة بآل البیت،إذ أخذ عن الإمام محمد الباقر و ولده الإمام الصادق،و عن زید بن علی،و عبد اللّه بن الحسن.و کان یحتجّ بقول الإمام علی،و ربما کان یروی عنه بقوله:عن أبی زینب.خشیة من الأمویین.
کما أنه لم یسالم الأمویین،و اشترک فی حرکة الشیعة للإطاحة بحکمهم،فقدّم لثورة زید دعما مالیا،کما أن المعروف عنه أنه لم یسالم العباسیین،و لذا فإن فتواه التی کان
ص:153
یفتی بها،و نقده الشدید للأحکام التی کان یصدرها الحکّام کانت تثیر السخط علیه.
فمن ذلک أن المنصور استفتاه فی الذین انتفضوا علیه من أهل الموصل،هل تحلّ له دماؤهم؟فأجابه أبو حنیفة:
إنهم شرطوا لک ما لا یملکونه،و شرطت علیهم ما لیس لک،لأن دم المؤمن لا یحلّ إلا بثلاث.فقال له المنصور:یا شیخ،القول ما قلت،و لکن لا تفت الناس بما هو شین علی إمامک.
و الحقیقة أن المنصور من خلال إصراره علی تولی أبی حنیفة القضاء یکشف عن نیته فی الإیقاع به،و لیس الأمر إلا العامل السیاسی الذی کان یستفزّ المنصور و یجعله یقدم علی قتل الناس و سفک الدماء.لذا فإن امتناع أبی حنیفة عن تولی القضاء لا یجعل المنصور یقتله هذه القتلة الشیعة،و إنما أرسل المنصور لیحضر أبا حنیفة من الکوفة لیقتله و یرتاح منه لأن أبا حنیفة کان یتعاون مع العلویین،و یساعد الثوار منهم، و یقوّی إبراهیم أحمر العینین.و کان مقام أبی حنیفة فی الکوفة یؤدی إلی إثارة الرأی العام،لأنه مقبول القول عند الناس،ذو حال واسعة من التجارة.فکان المنصور یخشی من اتساع دعوة أبی حنیفة لإبراهیم و أخیه محمد،و طلبه من الکوفة إلی بغداد، و لم یجسر علی قتله علنا (1).
و علی الجملة فإن میل أبی حنیفة لأهل البیت کان أمرا یبعث السلطة علی العداء له و ترصّد الدوائر به.و سنأتی علی مزید من القول فیه.
یقول الأستاذ محمد أبو زهرة:
(و ننتهی من الکلام أن أبا حنیفة شیعی فی میوله و آرائه فی حکام عصره،أی أنه یری الخلافة فی أولاد علی من فاطمة،و أن الخلفاء الذین عاصروه قد اغتصبوا الأمر و کانوا لهم ظالمین) (2).
و أن الشیء المهم الذی یلزم أن نقف إمامه وقفة تأمل هو:شهرة أبی حنیفة العلمیة التی اکتسبت طابع الانتشار بعد موته،حتی أصبح مرجعا لملایین المسلمین،
ص:154
فما هی العوامل التی ساعدته،و أدّت إلی هذا الاشتهار؟فإنّا إذا لحظنا أبا حنیفة ذاته وجدنا أنه لم یکن له امتیاز علی کثیر من العلماء المبرزین من أقرانه فی عصره،نعم کان مشهورا بالقیاس،و هذا ما أوجب نقمة کثیر من العلماء علیه.
أما تفوقه العلمی و شهرته،و بقاء مذهبه و انتشاره فی الأقطار الإسلامیة،فیرجع إلی شهرة أبی یوسف،فهو تلمیذ أبی حنیفة و قد نال أبو یوسف مودّة الرشید،فکان یحبّه حبّا شدیدا و یقول:لو جاز أن أدخلک فی نسبی لفعلت.فکان لأبی یوسف المنزلة و الکلمة النافذة فی الدولة.
و لو لا أبو یوسف لما ذکر أبو حنیفة،و لکن منزلة أبی یوسف فی الدولة،و تولیته رئاسة القضاء جعلت ذکر أبی حنیفة ینتشر،و قد التفّ حوله جمیع المنتمین لمدرسة أبی حنیفة و تلامذتهم،فکان نشاطهم محسوسا،و نالت أقوالهم الصبغة الرسمیة.ثم عمدوا لنشر مذهب أبی حنیفة،فکانوا لا یقرّبون إلاّ من کان علی طریقتهم فی الاجتهاد و الفتیا،و هم علی طریقة أبی حنیفة فی الاستنباط.
و یمکننا أن نعتبر تمکّن أبی یوسف و سلطته التشریعیة نقطة بدایة وضع أسس المذهب،فتطورت فی المستقبل،إذ وجدت الظروف و الإمکانیات اللازمة.
و علی هذا فقط نشط أصحاب أبی حنیفة بتولیتهم القضاء،و نشر أقوال أبی حنیفة و آرائه،و کانوا یسیرون علی قواعد مذهبیة فی الحدیث،و منهم المجتهدون، و أکثرهم ینفرد بقول،و یذهب إلی رأی غیر رأی أبی حنیفة.
و قد اعتبروا استنباطهم للمسائل التی لم یکن لأبی حنیفة قول فیها هو رأیه و قوله،کما هو واضح لمن تتبع موارد الاستنباط عندهم،فیرون عن أبی حنیفة أنه قال لأبی یوسف:و یحکم،کم تکذبون علیّ فی هذه الکتب ما لم أقل.و کیفما کان فقد تکوّن المذهب بجهود أصحابه الذین ینتمون لمدرسته،و یعرفون بالانتساب إلیه،و کان عددهم ستة و ثلاثین رجلا،و فی طلیعتهم أبو یوسف،فهو الذی تزعّم هذه المجموعة،و ساعدته الظروف بأن یتولی منصب رئاسة قضاة الدولة فی إبان قوتها، فقرّب أصحابه و تقرّب الناس إلیهم حبّا لما فی أیدیهم من الدنیا،فوسّعوا دائرة المذهب،و نشروا الأحکام باسم أبی حنیفة،و توارث تلامذتهم نصرة المبدء و نشر المذهب حتی جاء عصر التطاحن و التکالب علی الدنیا،فکان هناک تعصب أعمی،
ص:155
و طائفیة حمقی،و تحامل بدون مبرر،و مدح بدون لیاقة،و شتم بدون ذنب.فاتسعت دائرة الدعوة إلی المذاهب،حتی جاء دور التحجیر و الإلزام بالأخذ عن هذه المذاهب دون غیرها،و کان للمذهب الحنفی شأن واسع و ذکر منتشر.
:
و لیس من المبالغة أن یقول عمار بن أبی مالک:لو لا أبو یوسف ما ذکر أبو حنیفة.لأن ارتباطه بالحکم هیأ له نفوذا شخصیا و سیاسیا کبیرا ساعد علی أن یکون رأیه فی الفقه و مذهبه هو المذهب الرسمی.فأبو یوسف هو أول من وضع الکتب فی أصول الفقه علی مذهب أبی حنیفة،و أملی المسائل و نشرها،و بثّ علم أبی حنیفة فی أقطار الأرض (1).
لقد کان أبو یوسف أول من دعی بقاضی القضاة،ولاّه موسی الهادی و هارون الرشید.و کان یفهم من ذکر(قاضی القضاة)أن المراد به أبو یوسف.و لم یکتف أبو یوسف بنفسه،بل أستخلف ابنه یوسف علی الجانب الغربی،فأقره الرشید علی عمله،و قد غلب علیه الاهتمام بشئون الحکام،و لم یکن من الفقه بتلک المنزلة التی تشیر الناس إلیه،و تضمن له موقعا علمیا.فیروی الخطیب البغدادی بسنده قول هلال بن یحیی:کان أبو یوسف یحفظ التفسیر و المغازی و أیام العرب،و کان أقل علومه الفقه (2).
و لهذا کان ما اشتهر من کتبه هو من شئون الحکم أکثر منه أن یکون من قضایا الفقه،فالخراج کان من تنظیمات السلطة،و تخطیط اقتصاد الحکام،و کذلک(الرد علی سیر الأوزاعی)فلیس هو من فقهه،و إنما صنّفه أبو یوسف للرد علی الأوزاعی الذی صنف کتابا ردّ فیه علی سیر أبی حنیفة،و لیس فیه إلا المسائل التی کان أبو یوسف قد تلقّاها علی أبی حنیفة.و کذلک الأمالی و هی الطریقة نفسها التی اتبعها فی نشر أصول الفقه من خلال موقعه و اتصاله بالحکام.فکان نفوذ المذهب یستمدّ من نفوذ السلطة.و لأبی یوسف کتب کثیرة دوّن فیها أراؤه و آراء شیخه،ذکرها ابن الندیم
ص:156
منها:کتاب الصلاة،کتاب الزکاة،کتاب الصیام،کتاب الفرائض،کتاب البیوع، کتاب الخراج،کتاب الوکالة،کتاب الوصایا،کتاب اختلاف الأنصار،کتاب الرد علی مالک و غیرها.و له إملاء رواه بشر بن الولید القاضی یحتوی علی ستة و ثلاثین کتابا.
قال رجل لأبی یوسف:رجل صلی مع الإمام فی مسجد عرفة،ثم وقف حتی دفع بدفع الإمام؟قال:ما له؟قال:لا بأس به.فقال:سبحان اللّه،قد قال ابن عباس:
من أفاض من عرفة فلا حجّ له،مسجد عرفة فی بطن عرفة؟فقال:أنتم أعلم بالأحکام،و نحن أعلم بالفقه.قال:إذا لم تعرف الأصل فکیف تکون فقیها؟ (1).
إن أبا حنیفة قد رعی أبا یوسف رعایة خاصة.و کان یتفقّده و یتعاهده و یمدّه بالمال حتی استغنی و تموّل بعد أن کان فی ضیق و فقر،و کان أبوه ینهاه عن طلب العلم علی أبی حنیفة لئلا یؤثر ذلک علی رزقهم و تحصیل قوتهم.و یروی أبو یوسف ذلک:(توفی إبراهیم بن حبیب،و خلّفنی صغیرا فی حجر أمی،فأسلمتنی إلی قصّار أخدمه،فکنت أدع القصّار و أمرّ إلی حلقة أبی حنیفة،فأجلس أستمع.فکانت أمی تجیء خلفی إلی الحلقة،فتأخذ بیدی و تذهب بی إلی القصّار.و کان أبو حنیفة یعنی بی لما یری من حضوری و حرصی علی التعلم.فلما کثر ذلک علی أمی،و طال علیها هربی،قالت لأبی حنیفة:ما لهذا الصبی فساد غیرک،هذا صبی یتیم لا شیء له، و إنما أطعمه من مغزلی،و آمل أن یکسب دانقا یعود به علی نفسه.فقال لها أبو حنیفة:مری یا رعناء هذا هو ذا یتعلم أکل الفالوذج بدهن الفستق)ثم یقول:إنه ضحک عند ما کان یجالس الرشید و یأکل معه فالوذجة بدهن الفستق.
و قد أشرنا إلی طریقة أبی حنیفة فی الدرس،و کان یقرّب کلا من أبی یوسف و زفر أحدهما عن یمینه و الآخر عن یساره،و یدعهما یتجادلان.و تختتم الروایات عن أستاذیة أبی حنیفة بعبارة واحدة لها معناها،إنه کان یضرب بیده علی فخذ زفر قائلا:
لا یطمع فی رئاسة فیها أبو یوسف.و هی بروایة عمر بن حمّاد بن أبی حنیفة (2).
و یروی ابن إبراهیم بن عمر عن فراسة أبی حنیفة التی ینظر بها فیری ما سیصیر
ص:157
إلیه أبو یوسف:کان أبو حنیفة حسن الفراسة،فقال لداود الطائی:أنت رجل تتخلی للعبادة.و قال لأبی یوسف:تمیل إلی الدنیا.
و محمد بن صبیح بن السماک-الذی کان یعظ الرشید-ینظر إلی موقع أبی یوسف فی السلطان و مکانته فیقول:لا أقول إن أبا یوسف مجنون،و لو قلت ذاک لم یقبل منی،و لکنه رجل صارع الدنیا فصرعته.
و لکنّ شخصیة أبی یوسف أثّرت فی النظر إلی المذهب الحنفی أو إلی فقه أبی حنیفة نفسه من ناحیة،کما أن روح اتباع الحکام و سیرة الخضوع للسلطة و خلفائها المتجبّرین،عزلت أبا یوسف عن أبی حنیفة و أصحابه الآخرین،لکی یکون متمیزا عن مواقف إمامه التی ذکرناها فی الابتعاد عن الحکّام و التعامل معهم بحذر.أو أنها ظلت شیئا من سیرة أبی حنیفة لا تلزم أصحابه،فیما ظل المذهب فی أصوله من اختصاصه و هو فی السلطان،و أصبح جزءا من الحکم حتی قیل:و قد تجد الرجل یطلب الآثار و تأویل القرآن و یجالس الفقهاء خمسین عاما و هو لا یعدّ فقیها،و لا یجعل قاضیا،فما هو إلا أن ینظر فی کتب أبی حنیفة و أشباه أبی حنیفة،و یحفظ الشروط فی مقدار سنة أو سنتین،حتی تمر ببابه فتظنّ أنه من بعض العمال،و بالحری ألاّ یمر علیه من الأیام إلا الیسیر حتی یصیر حاکما علی مصر من الأمصار أو بلد من البلدان (1).
و الاتجاه الأول یمثله عبد اللّه بن المبارک الذی کان من علمه ما أثّر کثیرا علی منزلة أبی حنیفة،و راح یطعن فیه.غیر أن أصحاب المذهب عمدوا إلی وضع أقوال مخالفة تماما لما اشتهر عن ابن المبارک،حتی تجدها فی ترجمة أبی حنیفة فی تاریخ بغداد،أو الانتقاء متناقضة متباینة.
فعن عبد الرزاق بن عمر قال:کنت عند عبد اللّه بن المبارک،فجاءه رجل فسأله عن مسألة،فأفتاه فیها.فقال له:قد سألت أبا یوسف فخالفک.فقال له:إن کنت صلیت خلف أبی یوسف صلوات تحفظها فأعدها.
کما یروی عن ابن المبارک أنه سئل:أیّما أصدق أبو یوسف أو محمد؟قال:لا تقل أیهما أصدق،قل أیهما أکذب؟!
ص:158
و سئل یزید بن هارون:ما تقول فی أبی یوسف؟قال:لا تحلّ الروایة عنه،إنه کان یعطی أموال الیتامی مضاربة،و یجعل الربح لنفسه.
أما الذین أسلموا دینهم و دنیاهم إلی أهواء الحکام،فیهبّون للدفاع عن أبی یوسف،و إبعاد صلته عن أبی حنیفة،و یختارون لذلک تهمة الجهمیة،اتباع الجهم بن صفوان الذی قال من جملة ما قال:بأن لا فعل و لا عمل لأحد غیر اللّه تعالی،و إنما تنسب الأعمال إلی المخلوقین مجازا،و أنه لا یصف اللّه بوصف یجوز إطلاقه علی غیره.
قالوا:کان أبو حنیفة جهمیا،و کان محمد بن الحسن جهمیا،و کان أبو یوسف سلیما من الجهم.و هو لأبی الزرعة الرازی.
و عمر الناقد قال:ما أحب أن أروی عن أحد من أصحاب الرأی إلا عن أبی یوسف،فإنه کان صاحب سنّة.
و الدار قطنی کان یقول:هو(أبو یوسف)أقوی من محمد بن الحسن.کما یروی عنه أنه قال:أعور بین عمیان.
و لسنا هنا فی معرض ذکر أصحاب أبی حنیفة،و إنما ذکرنا أبا یوسف لغرض بیان علاقته بالسلطان،و انضمامه إلی الحکم علی نحو یخالف فیه رأی أبی حنیفة و سیرته.و لذلک نسوق بعضا من أوجه خضوعه لخلفاء بنی العباس،و العمل علی إرضائهم،فیما کان یمدّ فی رقعة اتساع مذهبه،و یوسّع من نطاق انتشاره من خلال سلطته و نفوذه،و علی طریقة استنباطه و صوغ أفکاره التی وضعت أصول المذهب الحنفی و رسّخت کیانه.و قد ذکر الخطیب البغدادی أن البخاری قال:حکی لنا عن النعمان أنه قال:(أ لا تعجبون من یعقوب؟یقول علیّ ما لم أقل).مما یظهر أن أبا یوسف کان یسمح لنفسه فی حیاة شیخه أن یستنبط ما یشاء،و یدخل فی المذهب ما یراه.ففی کتاب الخراج یذکر رأی أبی حنیفة،ثم یصرّح برأیه علی خلافه،کما أنه لم یکن لأبی حنیفة کتاب مستقل فی الفقه،نعم نسب إلیه کتاب(العالم و المتعلّم)و قد بیّنا الاختلاف حوله،و أنه لیس له.
یقول الشیخ محمد الخضری:و قد حاول بعض الحنفیة أن یجعل أقوالهم المختلفة أقوالا للإمام رجع عنها.
ص:159
و الحاصل،إن مذهب أبی حنیفة لم یکن هو مجموع أقواله و آرائه،قد رأینا أصحابه ینفردون بأقوالهم.و لکن حاول الحنفیة جعل جمیع الأقوال منسوبة إلیه لأنها علی قواعده و أصوله.
یقول ابن عابدین:(إن ما خالف فیه الأصحاب إمامهم الأعظم لا یخرج عن مذهبه،إذا رجّحه المشایخ المعتبرون.و کذا ما بناه المشایخ علی العرف الحادث لتغییر الزمان،أو للضرورة،أو نحو ذلک،لا یخرج عن مذهبه أیضا،لأن ما رجّحوه لترجیح دلیله عندهم مأذون فیه من جهة الإمام.و کذا ما بنوه علیه من تغییر الزمان و الضرورة،باعتبار أنه لو کان حیا لقال بما قالوه،لأن ما قالوه إنما هو مبنی علی قواعده أیضا،فهو مقتضی مذهبه....)الخ (1).
لقد ابتلیت الأمة بحکّام أسرفوا فی البذخ و التمتع من الدنیا،کما أسرفوا فی الظلم و التعدّی علی الرعیة.و قد قام کل من أهل البیت بما یجب علیه فی نصرة العدل و محاربة الظلم،و بذلوا أنفسهم لتحقیق ما دعا إلیه الإسلام بما یکفل للأمة السعادة، لذلک کانوا طعمة لسیوف الظالمین،لأنهم کانوا حربا علی الطغاة و الجبارین،و لم یرکنوا إلی الظلمة،و لم یتعاونوا معهم امتثالا لأمره تعالی: وَ لا تَرْکَنُوا إِلَی الَّذِینَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّکُمُ النّارُ و إذ رأینا اتصال أبی حنیفة بأهل البیت و میله السیاسی إلی حرکة زید الشهید،و اعترافه بأن الإمام الصادق أفقه الناس،و إقباله علی الأخذ عنه،فإن رفض أبی حنیفة العمل للحکام قد یکون من نتائج تمسّکه بنهج أهل البیت فی التباین مع الظالمین و عدم الدخول فیما هم فیه.
و لئن نشأ أبو حنیفة فی أجواء مغریة و ظروف مواتیة،فإن ما عاناه کان شاقا و عسیرا،إذ کان علیه أن یوفق بین وجوده وسط تلک الأجواء،و بین اعتقاداته و قناعاته.و اکتشف أن السیاسة لها نهجها الثابت فی معاداة أهل البیت بالرغم من تغیّر الرجال و ما تبعثه القربی من احتمالات بعد أن جاء بنو العباس إلی الحکم تحت ستار الرضی من آل محمد،و هم أقرب نسبا و أولی بالبر،فرأی کیف تزهق الأرواح و تداس الکرامات و ترتکب المجازر بحق آل البیت.ثم وقع علیه اختیار السلطة فی أن یکون
ص:160
أداتها فی الإساءة إلی علم الإمام جعفر بن محمد الصادق عند ما کلفه المنصور بأن یحضّر من المسائل ما یتوهّمه صعبا علی الإمام الصادق.و کان حقد المنصور علی الإمام قد سوّغ له أن یتوسل بأمر لیس للإمام الصادق منازع فیه أو صنو.و نعلم أن لقاء أبی حنیفة هذا الذی تم بإشراف المنصور،قد فتح لأبی حنیفة مرحلة جدیدة فی علمه و سیر حیاته.فکان لا یدع فرصة تقرّبه من الإمام إلا استغلها خاصة فی الموسم، و لیس بخاف أن الإمام الصادق کان لا یقرّب أحدا إلا أن یکون ذا نفع،حتی أنه أبعد عنه المتقربین إلی الحکام و حرّم الولایة لهم،لأنه علیه السّلام کان یری:«أن ولایة الجائر دروس الحق کله،و إحیاء الباطل کله،و إظهار الظلم و الجور».و مما ورد عنه أیضا:
«العامل بالظلم و المعین له و الراضی به شرکاء».و دخل علیه عذافر فقال علیه السّلام:
«بلغنی أنک تعامل أبا أیوب و الربیع،فما حالک إذا نودی بک فی أعوان الظلمة؟» و نهی یونس بن یعقوب عن معاونتهم،حتی علی بناء المساجد (1).
و إذا نظرنا إلی الفترة التی برز فیها أبو یوسف،لم نجد من أسباب للبعد عن مواقف أبی حنیفة و التحوّل عن نهجه تحت ظروف الخوف أو الإکراه،و هی فترة خطیرة الأثر فی حیاة المسلمین،إذ علی یدیه أرسیت قاعدة المذهب الرسمی للدولة، و بفعل منصبه کقاضی للقضاة اقترنت بشکل جذری حرکة المذاهب بأغراض السیاسة و مشیئة الحکام.
و لیس هناک فارق زمنی کبیر یبرّر ما حدث من تفاوت بین سیرة و سلوک رئیس المذهب الذی تعرّض للتعذیب و القتل علی ید الحکام،و بین أبرز تلامذته الذی انضمّ إلی الحکّام،فکان واحدا منهم.
و إذا تغیّر الحاکم العباسی بعد المنصور،فیأتی الهادی،ثم الرشید،فإن أسس السیاسة و أغراضها واحدة،و بإزائها نری مسیرة الأئمة من أهل البیت ثابتة و راسخة، فبعد وفاة الإمام الصادق علیه السّلام قام مقامه فی الإمامة ابنه العبد الصالح (2)الإمام موسی بن جعفر الکاظم،الذی عانی من أهوال بنی العباس و ظلمهم الأمرین حتی استشهد.
ص:161
عن صفوان الجمّال قال:دخلت علی الإمام موسی بن جعفر علیه السّلام فقال لی:«یا صفوان،کل شیء منک حسن جمیل خلا شیئا واحدا».
قلت:جعلت فداک،أی شیء؟ قال:«کراک جمالک من هذا الرجل»-یعنی هارون- قلت:و اللّه ما أکریته أشرا و لا بطرا،و لا للصید و لا للّهو،و لکن أکریته لهذا الطریق-یعنی طریق مکة-و لا أتولاّه بنفسی،و لکن أبعث معه غلمانی.
قال:«یا صفوان،أیقع کراک علیهم؟» قلت:نعم جعلت فداک.
قال:«أ تحب بقاءهم حتی خرج کراک؟» قلت:نعم.
قال:«فمن أحب بقاءهم فهو منهم،و من کان منهم فهو کمن ورد النار».
قال صفوان:فذهبت و بعت جمالی.
و قد حاول الرشید أن یسیء إلی الإمام موسی الکاظم،و علی طریقة أسلافه، فاستدعی رجلا لیجمعه بالإمام موسی الکاظم لغرض الإساءة إلی الإمام فی المجلس، و لعلّه یقطعه أو یحرجه،فکانت الغلبة الباهرة للإمام موسی الکاظم.
و لقد عانی الإمام موسی الکاظم منذ زمن خلیفة بنی العباس(المهدی)و تعرّض إلی صنوف من التعذیب و الأذی،لأنه کان یمثل لبنی العباس هاجسا و خطرا یتهدد کراسی حکمهم کل حین،لما فی منزلته التی یحتلها فی قلوب الناس من منافسة،و ما یسببه سلطان الإمامة الروحی من عوائق تؤثر علی سیاستهم و تسلطهم علی الرعیة.
و قد استدعاه المهدی إلی بغداد فحبسه،فلما کان فی بعض اللیالی رأی المهدی الإمام علی بن أبی طالب و هو یقول له:«یا محمد فَهَلْ عَسَیْتُمْ إِنْ تَوَلَّیْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِی الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَکُمْ فاستیقظ مذعورا،و أمر به،فأخرج من السجن لیلا،فأجلسه معه و عانقه و أقبل علیه،و أخذ علیه العهد أن لا یخرج علیه و لا علی أحد من أولاده.
فقال:«و اللّه ما هذا من شأنی،و لا حدّثت فیه نفسی»فقال:صدقت (1).
ص:162
و أسهم الرشید بدوره فی اضطهاد أولاد النبی و عترته الطاهرة،إذ حمله خوفه علی سلطان بنی أبیه،و حقده علی الإمام موسی بن جعفر علی أن یذیقه ألوانا من العذاب و التنکیل و أن یدسّ له السم.
و فی معاملة الرشید للإمام موسی بن جعفر،یتضافر عداء الحکام لمن یرونهم خطرا،و الحقد الشخصی المحض.
ذکر ابن عمار و غیره ممن کانوا علی اطلاع:أنه لما خرج الرشید إلی الحج و قرب من المدینة،استقبله الوجوه من أهلها،و تقدمهم موسی بن جعفر علیهما السّلام علی بغلة،فقال له الربیع:ما هذه الدابة التی تلقیت علیها أمیر المؤمنین؟و أنت إن طلبت علیها لم تدرک،و إن طلبت لم تفت؟فقال علیه السّلام:«إنها تطأطأت عن خیلاء الخیل، و ارتفعت عن ذلة العیر،و خیر الأمور أوساطها»قال:و لما دخل هارون الرشید المدینة،توجه لزیارة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و معه الناس،فتقدم إلی قبر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقال:
السلام علیک یا رسول اللّه،السلام علیک یا ابن عم-مفتخرا بذلک علیه-فتقدم الإمام فقال:«السلام علیک یا رسول اللّه،السلام علیک یا أبة.فتغیّر الرشید،و تبین الغیظ فیه.
و فی إضافة تبین لنا مبلغ ما کان یحسّه الرشید من خیبة،و ما سببه له ذکر الحقیقة التی عجز عن طمس إشعاعها و فعلها فی النفوس عشرات الحکام.یذکر ابن کثیر أن الرشید قال:هذا هو الفخر یا أبا الحسین.ثم لم یزل ذلک فی نفسه حتی استدعاه فی سنة تسع و ستین و سجنه (1).
هذا الحاکم الذی هو علی هذه الدرجة من الکراهیة لأهل البیت کان أبو یوسف یعمل جهده علی إرضائه،و یبذل ما فی وسعه للتقرّب من عائلته و أهله،لینعم بما یدرّه علیه ذلک.فلا عجب أن یکون من الرشید بذلک الموقع،و یحبه ذاک الحب الذی تمنّی معه أن یشرکه فی نسبه فقال:لو جاز أن أدخلک فی نسبی لفعلت.و لا عجب أن ینحو أبو یوسف بأول مذهب رسمی للدولة ذلک المنحی فی اتّباع الحکّام من الأمویین و العباسیین فی معاداة اتباع أهل البیت،و تعاطی اتهامات الحکام المعهودة
ص:163
للشیعة بأمور هم منها براء.فشبّ فی ظل مذهب أبی یوسف أناس تابعوه علی الارتباط بمثل هؤلاء الخلفاء و إرضائهم.
و مع کل ما هم فیه من نفوذ و جاه،فإنهم لم یأمنوا غدر الخلفاء،و یبقون کبقیة الرعیة معرّضین لنزول الأذی بهم،فحتی أبو یوسف نفسه یصبّ الماء و یتخبّط توقعا لکل مکروه عند ما دعاه الرشید فی إحدی اللیالی (1).و لننظر ما ذا کان یرید الرشید من أبی یوسف عند ما جاءه هرثمة بن أعین و علی لسان أبی یوسف:(فقلت:تأذن لی أصبّ علیّ ماء و أتحنّط،فإن کان أمر من الأمور کنت قد أحکمت شأنی،و إن رزق اللّه العافیة فلن یضرّ.فأذن لی،فدخلت فلبست ثیابا جددا،و تطیّبت بما أمکن من الطیب، ثم خرجنا فمضینا حتی أتینا دار أمیر المؤمنین الرشید،فإذا مسرور واقف،فقال له هرثمة:قد جئت به؟فقلت لمسرور:یا أبا هاشم خدمتی و حرمتی و میلی،و هذا وقت ضیق،فتدری لم یطلبنی أمیر المؤمنین؟قال:لا.قلت:فمن عنده؟قال عیسی بن جعفر.قلت:و من؟قال:ما عنده ثالث.قال:مرّ،و إذا صرت إلی الصحن فإنه فی الرواق و هو ذاک جالس،فحرّک رجلک بالأرض،فإنه سیسألک،فقل:أنا.فجئت ففعلت،فقال من هذا؟قلت:یعقوب.قال:أدخل.فدخلت،فإذا هو جالس و عن یمینه عیسی بن جعفر،فسلّمت فردّ علیّ السلام،و قال:أظننا روّعناک.قلت:إی و اللّه و کذلک من خلفی.قال:أجلس.فجلست حتی سکن روعی،ثم التفت إلیّ فقال:یا یعقوب،تدری لم دعوتک؟قلت:لا.قال:دعوتک لأشهدک علی هذا،إن عنده جاریة،سألته أن یهبها لی فامتنع،و سألته أن یبیعها فأبی،و اللّه لئن لم یفعل لأقتلنّه.قال:فالتفتّ إلی عیسی،و قلت:و ما بلغ اللّه بجاریة تمنعها أمیر المؤمنین، و تنزل نفسک هذه المنزلة؟قال فقال لی:عجلت علیّ فی القول قبل أن تعرف ما عندی؟قلت:و ما فی هذا من الجواب؟قال:إن علیّ یمینا بالطلاق و العتاق و صدقة ما أملک أن لا أبیع هذه الجاریة و لا أهلها.فالتفت إلیّ الرشید فقال:هل له من ذلک مخرج؟قلت:نعم!قال:و ما هو؟قلت یهب لک نصفها،و یبیعک نصفها،فتکون لم تبع و لم تهب.قال عیسی:و یجوز ذلک؟قلت:نعم!قال فأشهد أنی قد وهبت له نصفها و بعته النصف الباقی بمائة ألف دینار.فقال:الجاریة.فأتی بالجاریة و بالمال،
ص:164
فقال:خذها یا أمیر المؤمنین بارک اللّه لک فیها.قال:یا یعقوب بقیت واحدة.قلت:
و ما هی؟قال هی مملوکة و لا بد أن تستبرأ،و و اللّه إن لم أبق معها لیلتی إنی أظن أن نفسی ستخرج.قلت:یا أمیر المؤمنین تعتقها و تتزوجها،فإن الحرة لا تستبرأ.قال:
فإنی قد أعتقتها،فمن یزوجنیها؟قلت:أنا.فدعا بمسرور و حسین،فخطبت و حمدت اللّه،ثم زوجته علی عشرین ألف دینار.و دعا بالمال فدفعه إلیها ثم قال لی:یا یعقوب انصرف.و رفع رأسه إلی مسرور فقال:یا مسرور.قال:لبیک یا أمیر المؤمنین.قال:
أحمل إلی یعقوب مائتی ألف درهم و عشرین تختا ثیابا فحمل معی).
و کان الرشید یقول لأبی یوسف فی الأحوال التی تتطلب مخرجا:اذهب فاحتل (1).
و یقول الغزالی فی وصف هذا المنحی بأنه من فتنة الدنیا،فی مساق قوله أن الفقیه فی الزکاة ینظر إلی ما یقطع به مطالبة السلطان،حتی إذا امتنع عن أدائها، فأخذها السلطان قهرا؛حکم بأنه برئت ذمته.و حکی أن أبا یوسف القاضی کان یهب ماله لزوجته آخر الحول،و یستوهب مالها إسقاطا للزکاة.فحکی ذلک لأبی حنیفة رحمه اللّه فقال:ذلک من فقهه.و یعقّب الغزالی:صدق،فإن ذلک من فقه الدنیا، و لکن مضرّته فی الآخرة أعظم من کل جنایة.و مثل هذا هو العلم الضار (2).
و لا نظن أن حکم الغزالی متعلّق بهذه الحادثة فحسب،لأنها حادثة تهون أمام بقیة الأحداث،و إذا کان الغزالی علی غیر علم ببقیة الحوادث و قال هذا القول،فما الظن به عندئذ؟ و بین حریم القصور العباسیة کان أبو یوسف یتمتع بمکانة ما هی إلا امتداد لموقعه عند الرشید،یذکر الخطیب أن أم جعفر کتبت إلی أبی یوسف:ما تری فی کذا،و أحب الأشیاء إلیّ أن یکون فیه کذا؟فأفتاها بما أحبّت.فبعثت إلیه بحقّ فضة فیه حقاق فضة مطبقات فی کل واحدة لون من الطیب،و فی جام دراهم وسطها جام فیه دنانیر.فقال له جلیس له:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«من أهدیت له هدیة فجلساؤه شرکاؤه فیها»فقال أبو یوسف:ذاک حین کانت هدایا الناس التمر و اللبن.
ص:165
و رویت هذه الحادثة بإضافات أخری و تفاصیل تولّد فی النفس أحاسیس نکفّ عن التعلیق علیها،و ندع الأمر علی ما یوحیه،و نترکه علی ما تصوّره الأحداث.
و لکن لا بد من الإشارة إلی أن عصور الانحطاط و التردّی التی وقعت بها الأمة علی أیدی الحکام و الجبابرة،کانت نتیجة معلومة سلفا لمقدمات لا تقتصر علی مبادئ حکم العباسیین،بل تتعدّاها لتستغرق عودة الجاهلیة الأولی فی حکم معاویة بن أبی سفیان.
و لهذا قلنا إن أبا حنیفة کان یستغفر اللّه من ترکه الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،و تلک من أهم أوجه الاختلاف بین أبی حنیفة و تلامذته المقرّبین.و من أظهر الصفات التی اکتسبها من هدی آل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی أن ذلک لم یمنع من أن تشمله النظرة التی ینظر بها إلی أصحابه،فعدّ أبو حنیفة إلی جانب أصحابه ممن اتصلوا بخدمة هارون الرشید،و قوّوا مذهبهم،و حصل لهم العلم و السلطنة (1).
و لا بد هنا من التعرّض إلی موقف الأنصار و الخصوم،و استعراض الأقوال فیه و آراء الناس حوله،لنقف علی رکام من الأخبار المختلفة و الآراء المتناقضة،فهناک تعصّب و غلوّ فی شخصیته،و إعجاب مفرط فی مواهبه.و هناک نقد مرّ لأعماله، و تحامل شدید علیه،و وصف بما لا یلیق بشخصیة رئیس مذهب و إمام طائفة.
فطائفة محبّیه و مریدیه قد رفعوه إلی منازل النبیین،و زعموا أن التوراة بشّرت باسمه،فذکر اسمه إلی اسم الیهودیین:وهب بن منبّه و کعب الأحبار.و أنه وجد فی بعض الکتب المنزلة صفة ثلاثة رجال من أمة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یفوقون أهل زمانهم فقها و علما (2).
و أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أخبر به قبل ولادته،فروی مشایخهم بسندهم عن أبی هریرة أن رسول اللّه قال:یکون فی أمتی رجل یقال له أبو حنیفة هو سراج أمتی یوم القیامة (3).
و عن أبی هریرة أیضا:یکون فی أمتی رجل اسمه النعمان،و کنیته أبو حنیفة هو سراج
ص:166
أمتی،هو سراج أمتی (1).و بسندهم عن ابن عمر:یظهر من بعدی رجل یعرف بأبی حنیفة یحیی اللّه سنتی علی یدیه.
و یجعل لأمیر المؤمنین علیه أفضل الصلاة و السلام نصیب فی ذلک،فبسندهم عن عبد اللّه بن مغفل قال:سمعت أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب رضی اللّه عنه یقول:أ لا أنبئکم برجل من کوفان،من بلدتکم هذه،أو من کوفتکم هذه،یکنّی بأبی حنیفة قد ملئ قلبه علما و حکما،و سیهلک به قوم آخر الزمان،الغالب علیهم التنابز، یقال لهم البنانیة کما هلکت الرافضة بأبی بکر و عمر رضی اللّه عنهما (2).
و کذلک لابن عباس بسندهم عن الضحاک عن ابن عباس قال:یطلع بعد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بدر علی جمیع خراسان یکنّی بأبی حنیفة.
و إذا توصّل أنصاره إلی إشاعة ذلک،غلب الهوی کل میل للحق،و تحکّم التعصب فی القول،و أغلقوا کلّ منفذ.قال خلف بن أیوب:صار العلم من اللّه تعالی إلی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثم صار إلی أصحابه،ثم صار إلی التابعین،ثم صار إلی أبی حنیفة و أصحابه.فمن شاء فلیرض،و من شاء فلیسخط (3).
و یرفعونه فوق منزلة الأنبیاء،لأن عیسی إذا رجع یقلّده و یحکم بمذهبه،و أن الخضر تعلّم أحکام الشریعة منه.
یقول قاضی زاده:اعلم أن المذهب لا یقلّده من الصحابة و التابعین إلا أبو حنیفة،فإن عیسی لمّا ینزل یحکم بمذهبه (4).
و لم یأبه المغالون بشیء،فوصفوا إمامهم بصفات لا یمکن تصدیقها فی حدود إمکانات البشر،کقراءة القرآن سبعین ألف مرة فی محل واحد،و صلاته فی کل لیلة رکعتین یختم القرآن فی کل رکعة،و صلاته الفجر بوضوء العشاء أربعین سنة.و قد سوّی الغلوّ و التعصّب بین أبی حنیفة و بین آخرین اندفع أصحابهم فی ادعاء العبادات لرجالهم علی هذا النمط.
ص:167
و مهما بذل الباحث من جهد فی تحلیل الاعتماد علی ما یمجّه الذوق و ینبو عن العقل فلا یتجاوز الهیاج العاطفی و غلیان الهوی،إذ تتصارع الانفعالات و یعمد إلی الإسفاف و الابتعاد عن الحقیقة،و مهما جهد المرء فی مواجهة اضطراب المنفعل،فلا یلق إلا انفعالا و زیادة فی الاضطراب تدفعه إلی الإغراق أکثر و الإسفاف إلی أبعد مما فی ذهنه،و فی نهایة الأمر تصبح الإساءة عن طریق الهوی و الغلو هی الحصیلة الدائمة.
قالوا:إن اللّه خصّ أبا حنیفة بالشریعة و الکرامة.و من کرامته أن الخضر علیه السّلام کان یجیء إلیه کل یوم وقت الصبح و یتعلم منه أحکام الشریعة إلی خمس سنین.فلما مات أبو حنیفة ناجی الخضر ربه و قال:إلهی،إن کان لی عندک منزلة فأذن لأبی حنیفة حتی یعلّمنی من القبر علی حسب عادته حتی أتعلّم شرع محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی الکمال.
فأحیاه اللّه،و تعلّم منه العلم إلی خمس و عشرین سنة.و بعد أن أکمل الخضر دراسته، أمره اللّه أن یذهب إلی القشیری و یعلّمه ما تعلّم من أبی حنیفة.و صنّف القشیری ألف کتاب،و هی لا تزال ودیعة فی نهر جیحون،إلی رجوع المسیح،فیحکم بتلک الکتب.لأنه یأتی فی زمان لیس فیه من کتب شرع محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیتسلم المسیح أمانة نهر جیحون،و هی کتب القشیری (1).
و فی وفاة أبی حنیفة یذکرون بکاء الجنّ له،و لهم أسانیدهم أن الجن بکت أبا حنیفة لیلة مات،و کانوا یسمعون الصوت و لا یرون الشخص.
ذهب الفقه فلا فقه لکم فاتقوا اللّه و کونوا خلفا
مات نعمان فمن هذا الذی یحیی اللیل إذا ما سدفا
(2)أما الطائفة الثانیة من معاصریه و غیرهم فقد رموه بالزندقة،و الخروج عن الجادّة،و وصفوه بفساد العقیدة،و الخروج علی نظام الدین،أو مخالفة الکتاب و السنة.و طعنوا فی دینه و جرّدوه من الإیمان (3).
و قالوا:اجتمع سفیان الثوری،و شریک،و حسن بن صالح،و ابن أبی لیلی
ص:168
فبعثوا إلی أبی حنیفة فقالوا:ما تقول فی رجل قتل أباه،و نکح أمه،و شرب الخمر فی رأس أبیه؟فقال:مؤمن.فقال ابن أبی لیلی:لا قبلت لک شهادة أبدا.و قال له سفیان الثوری:لا کلمتک أبدا (1).
و حکی عن أبی یوسف،قیل له:أ کان أبو حنیفة مرجئا؟قال:نعم.قیل:أین أنت منه؟قال:إنما کان أبو حنیفة مدرّسا،فما کان من قوله حسنا قبلناه،و ما کان قبیحا ترکناه علیه (2).
و حدّث إبراهیم بن بشار،عن سفیان بن عیینة أنه قال:ما رأیت أحدا أجرأ علی اللّه من أبی حنیفة.و عنه أیضا:کان أبو حنیفة یضرب لحدیث رسول اللّه الأمثال فیبرره بعلمه (3).
و عن الولید بن مسلم قال:قال لی مالک بن أنس:أ یذکر أبو حنیفة فی بلادکم؟قلت:نعم.قال:لا ینبغی لبلادکم أن تسکن (4).
و عن الأوزاعی یقول:إننا لا ننقم علی أبی حنیفة أنه رأی،کلنا یری،و لکننا ننقم علیه أنه یجیئه الحدیث عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیخالفه إلی غیره (5).
قال ابن عبد البر فی الانتقاء:و ممن طعن علیه و جرحه:محمد بن إسماعیل البخاری،فقال فی کتابه(الضعفاء و المتروکین):أبو حنیفة النعمان بن ثابت الکوفی، قال نعیم بن حماد:حدثنا یحیی بن سعید و معاذ بن معاذ،قالا:سمعنا سفیان الثوری یقول:استتیب أبو حنیفة من الکفر مرتین.و قال نعیم الفزاری:کنت عند سفیان بن عیینة،فجاء نعی أبی حنیفة،فقال:....کان یهدم الإسلام عروة عروة، و ما ولد فی الإسلام مولود أشرّ منه.و قال ابن الجارود فی کتابه(الضعفاء و المتروکین):النعمان بن ثابت جلّ حدیثه و هم.
ص:169
و قد روی عن مالک رحمه اللّه أنه قال فی أبی حنیفة نحو ما ذکره سفیان:إنه شرّ مولود ولد فی الإسلام،و أنه لو خرج علی هذه الأمة بالسیف کان أهون.و روی عنه أنه سئل عن قول عمر بن الخطاب:بالعراق الداء العضال؟فقال مالک:أبو حنیفة.و روی ذلک کله أهل الحدیث.
و عن وکیع بن الجرّاح أنه قال:وجدت أبا حنیفة خالف مائتی حدیث عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و قیل لابن المبارک:کان الناس یقولون إنک تذهب إلی قول أبی حنیفة؟قال:لیس کل ما یقول الناس یصیبون فیه،کنّا نأتیه زمانا و نحن لا نعرفه،فلما عرفناه ترکناه (1).
و لقد جمع ابن عبد البر بعضا من أقوال المادحین و الطاعنین أخذنا منها ما تقدم و سواها کثیر بإمکان القارئ الرجوع إلیها فی الانتقاء،فی مظانّها الأخری کالخطیب البغدادی الذی طعن علماء الحنفیة فیما أورده،و نسبوه إلی التعصب الأعمی،و أجابوا عما ذکره،و ألفوا فی(تأنیب الخطیب علی ما ساقه فی ترجمة أبی حنیفة من الأکاذیب).علی أن أعظم الأقوال تأثیرا ما ضمّته مصنّفات أصحاب الصحاح و السنن و التی تتخذ مستمسکا و أصلا یعملان فی النفوس و الأذهان،فکان ما ذکره النسائی عن أبی حنیفة من أکبر ما یرفع فی الحملة ضد أبی حنیفة حیث قال:و قال لنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعیب:و أبو حنیفة لیس بالقوی فی الحدیث،و هو کثیر الغلط و الخطأ علی قلة روایته.ثم یصنّف أصحابه إلی ضعفاء و ثقات (2)فتضم هذه الأقوال إلی بعضها،و تکون مادة للطاعنین.
و صفوة القول،أن دراسة حیاة أئمة المذاهب تقتضی التوقف کثیرا عن رکامات ما أنتجته العاطفة و ما أفرزه التعصب،و کما أسلفنا فلیس من سبل الحق و طرق الأمانة الاعتماد علی ذلک،إذ لا یجنی أحد إلا أمورا لا تمتّ إلی الحقیقة،و لا صلة لها بالواقع.و هی تسیء أکثر مما تنفع،و تضعّف أکثر مما تعضد،و الطرفان فی غنی عن ذلک لو أخلصوا فی المأخذ،و اتخذوا من خصائص الرجال و مکانات أئمة المذاهب مادة لا یتعدّوها إلی نزغات التعصب أو التحامل الفظّ.فمن محب مغال یفتح أبواب
ص:170
الخیال و یتخلّی عن الواقع فیسمح لنفسه بإشراک الجن أو المخلوقات الأخری التی تتخذ وسیلة إلهیة فی سیاق رسالة نبی أو إظهار معجزة لولی بدونها قد یلحق بالشریعة أذی و قد یصیب دین اللّه الضرر،و من متحامل ناقم یتخلی عن روابط العقیدة و یتناسی و شائج الدین،فیخرج هدفه من حظیرة الإسلام.أما المنامات فأمرها عجب،حیث لا یلتفت أحد من مستخدمیها-مادح أو قادح-إلی سخف تعبیرها أو تدنی تألیفها، فظلّت مادة متیسرة لا تکلف ثمنا،یتناولها ذوو الأغراض بیسر و سهولة،و یتلقاها الواقعون تحت تأثیر مروّجیها و باعثیها بثقة و استسلام،و تصبح سلاحا بید العامة، فتهیج علی سطح المجتمع لغة المنامات و ما یلحق بها من ادعاءات و کرامات.
أما المصنّفات التی تشتمل علی المناقب،فهی جمع لکل ما أشرنا إلیه،و أخذ بکل ما راج و کثر،و هی کثیرة،و مع کثرتها فهی لا تهدی السبیل و لا تنیر الطریق،إذ أنها-کما یقول الشیخ أبو زهرة-طوائف من الأخبار یسودها المبالغة،و لا یکاد یخلو خبر منها من الإغراق،فتمییز صحیحها من سقیمها یحتاج إلی مقاییس النقد المستقیمة،فأخبارها لا ترفض جملة و لا تؤخذ جملة،إذ هی بلا شک فیها الحق و الباطل،و أخذ الحق من بینها یحتاج إلی نظر فاحص (1).
لقد وجد بعض أتباع أبی حنیفة فی حقیقة کونه فارسیا أمرا غیر مرض فحاولوا وضع نسب عربی فقالوا:إن ثابت هو ابن طاوس بن هرمز ملک بنی شیبان.
و قالوا أیضا:إنه من الأنصار،فهو النعمان بن ثابت بن زوطا بن یحیی بن رشاد الأنصاری.
أو أنه تیمی کوفی من رهط حمزة الزیات.
و المشهور من نسب أبی حنیفة أنه:النعمان بن ثابت بن زوطی بن ماه.ولد سنة 80 ه و توفی سنة 150 ه.
و الذین توقفوا عن التلاعب بحقیقة النسب قالوا:بأنه من نسل أفریدون-من ملوک العجم-و وضعوا لذلک حدیث:لو کان العلم فی الثریا لتناوله أبناء فارس،أو قوم من أبناء فارس،فخصّصوا عمومه فی أبی حنیفة.
ص:171
و فی نهجنا هنا تجرید البحث عن حیاة أبی حنیفة من زوائد فرضتها المیول و الأغراض المتعددة،فقد غلبت علی أکثر کتّاب حیاة أبی حنیفة من أتباعه عاطفة قویة،و سیطر علیهم الاندفاع،حتی أنهم لم یتردّدوا فی استخدام الأساطیر و الخرافات،فهو إمام الأئمة،و أعلم الأمة،و ما من عالم من علماء الدنیا إلا و هو تحت ختمه،و ما من فقیه إلا و هو عیال علیه،و أنه نودی من زاویة البیت الحرام:
عرفت فأحسنت المعرفة،و خدمت فأخلصت الخدمة،غفرنا لک و لمن اتبعک و لمن کان علی مذهبک إلی یوم القیامة (1).
و قد کنا هناک مضطرین إلی ذکر ما أوردوه من أحادیث عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و مناقشتها،و عند ما وضعناها فی میزان الاعتبار،لم تحرّک کفة عن مستواها فضلا عن ترجیحها،لأن الدوافع واضحة و الأغراض جلیّة،و هی ناجمة عن أوضاع سادت فیها الفرقة و تعرّضت شخصیة أبی حنیفة إلی الانتقاد،فنالوا منه،و وصفوه بکل مکروه.
و قد قطعت خطة تأسیس المذاهب شوطا کبیرا علی الساحة،و أخذت ترسی دعائمها، فتقتطع من أجزاء المجتمع و تسری فی أحشائه،و ینشأ جیل و آخر علی مثل هذه العلاقات.و عبر کل المراحل تختبئ أغراض الحکام وراء کل جانب من جوانب العداء و الفرقة،کما کانت أغراضهم وراء تصنیف الناس و تقسیم دینهم.
و لقد کانت الخصائص التی تجاهلها الکثیرون و لم یذکروها بحقائق أسمائها و دلالة وجودها فی شخصیة أبی حنیفة و مواقفه تمثّل مشکلة للمنصور الدوانیقی (2)الذی عرف بعدائه للعلویین،و میل أبی حنیفة و اتصاله بهم معروف،فتعارضت أغراض المنصور و أهدافه فی إدناء أبی حنیفة،و توجیه الأنظار إلیه،لیقف بإزاء شخصیة الإمام جعفر الصادق،إذ قال له المنصور:یا أبا حنیفة إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد،فهیّئ له من المسائل الشداد (3).تعارضت هذه الأغراض مع خصائص أبی حنیفة و سلوکه،حتی أنه عجز عن تحویله و إبعاده عن توجیه النقد اللاذع الذی کان شیئا من الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر الذی لا یطبقه المنصور
ص:172
علی أصوله،و لا یقوی علی مواجهة أهله،الذین قلّ عددهم،و انزوت جموعهم تحت ضغط أفعال الحکّام و سیاسة بنی العباس.و هکذا ضاق المنصور بأبی حنیفة، و قرر الخلاص منه،و کان لا بدّ له من سبب ظاهری یأخذه به أمام الناس،فعرض علیه قضاء بغداد ثانیة،و رفضه أبو حنیفة.و وصله بهدیة أرسلها إلیه،فردّها علیه، فحبسه و ضیّق علیه،و جعل یضربه کل یوم عشرة أسواط،حتی ضرب عشرة و مائة سوطا (1).
إن الأفکار ولیدة التجارب،و للبیئة أثرها فی توجیه سلوک الأفراد،و قد کانت لأبی حنیفة تجارب کثیرة،فقد ولد و نشأ فی الکوفة،و هی البلدة العربیة التی عرفت بنزعتها الثوریة و اتجاهها السیاسی ضد الحکم الأموی و میلها للعلویین،و قد شبّ أبو حنیفة فی عهد الحجاج بن یوسف.فرأی قسوته و استبداده و سیرته السیئة و حکمه القاسی،و معاملته للناس بما لا یطیقونه من الأذی و العسف،و مات الحجاج و عمر أبی حنیفة حینها خمسة عشر عاما،و شاهد ولاة الأمویین یسیرون بالأمة بالجور، و یخالفون نظم الإسلام اتباعا لملوکهم و طبقا لرغباتهم.
و أصبحت الکوفة قاعدة الثورة ضد الظلم الأموی،و مرکزا تتجمع فیه القوات الموالیة للعلویین و العباسیین معا.أضف إلی ما احتفظت به الکوفة من نشاط فکری و صراع عقائدی أورثها مشاکل کثیرة،و أصبح مجتمعها مسرحا للخلافات.
و فی عصر أبی حنیفة،نشطت الدعوة العلویة لوجود کتلة شیعیة قویة أثّرت تأثیرا غالبا فی الحرکات الفکریة و السیاسیة،و مع أن الدعوة للثورة کانت مشترکة بین العلویین و العباسیین،فإن الدعایة العباسیة کانت محدودة الأثر بالرغم من استغلال العباسیین لشعار الدعوة إلی آل محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و إقامة تنظیماتهم علی هامش المناداة بالرضا من آل محمد،فتعاطف الناس معهم و دخلوا فی صفوفهم و هم یظنون بهم خیرا،و أنهم لا یختلفون عن الشیعة الذین کانوا یسعون بإخلاص إلی الانتصاف لآل بیت نبیهم الأطهار الذین ینطبق علیهم لفظ آل محمد،و أن الخلافة من أمور الدین، و هم أحق الناس بالقیام بأمر رسالة جدّهم المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.
و عند ما نزلت بالأمة کارثة استشهاد سید الشهداء الإمام أبی عبد اللّه
ص:173
الحسین علیه السّلام علی أیدی یزید،کابد الشیعة من نتائجها السیاسیة و النفسیة أهوالا و آلاما دفعتهم إلی مواصلة الجهاد ضد الظلمة و تفجیر الثورات،و کانت السلطة بتجبّرها و طغیانها لا تتورع عن سفک الدماء و إزهاق الأرواح و انتهاک الحرمات، و الشیعة لا یکفّون عن التفانی و تقدیم التضحیات.و لما قامت ثورة زید بن علی،شاع بین الناس من جدید تیار ثورة الإمام الحسین،و انتشر بین صفوفهم نداء نهضة السبط الشهید مرة أخری.فکان أبو حنیفة من المتحمّسین لثورة زید الشهید،و قد مرّ بنا جانب من وجوه انحیازه إلی جانبه،و قد حثّ علی الالتحاق بجیش إبراهیم،کما أفتی بالخروج مع الثوار من أهل البیت بعد أن بایعه (1).
و جاءت إلیه امرأة فقالت له:إنک أفتیت ابنی بالخروج مع إبراهیم فخرج فقتل.
فقال لها:لیتنی کنت مکان ابنک (2).
و قال أبو إسحاق الفزاری:جئت إلی أبی حنفیة فقلت له:ما اتقیت اللّه،أفتیت أخی بالخروج مع إبراهیم بن عبد اللّه حتی قتل؟! فقال:قتل أخیک حیث قتل یعدل قتله یوم بدر،و شهادته مع إبراهیم خیر له من الحیاة (3).
و غیر ذلک من الإجابات و الأقوال-کما ألمحنا إلیه سابقا-و التی تکشف انحیازه للثورة،و تعلّقه بقادتها إلی حدّ تتضح فیه ظروف إقامة أبی حنیفة فی ظل المنصور الذی أقضت مضجعه تلک الثورة،و بقی کأنه یتقلب علی ألسنة النیران أو یبیت علی حسک السعدان،حتی اتّسخت ثیابه،و زری مظهره،و هو یتلظّی یطلب رءوس أهل البیت.و أبو حنیفة یکتب إلی إبراهیم یشیر علیه أن یقصد الکوفة و یقول:ائتها سرا،فإن من هاهنا من شیعتکم یبیتون أبا جعفر فیقتلونه أو یأخذون برقبته فیأتونک به (4).و یجهّزه بأربعة آلاف درهم لم یکن عنده غیرها (5)و یقول له:
فإذا لقیت القوم و ظفرت بهم فأفعل کما فعل أبوک فی أهل صفین،أقتل مدبرهم،
ص:174
و أجهز علی جریحهم.و لا تفعل کما فعل أبوک فی أهل الجمل،فإن القوم لهم فئة (1)فلا یفرق بین دولة معاویة و بین دولة المنصور،مما یجعل تقدیر خفاء وضعه علی المنصور بعیدا.و هو الملک الذی عدّ من دهاة عصره،و قد أخّر تنفیذ حکمه إلی حین الانتهاء من الأوضاع المعقدة و الظروف الشائکة التی یسببها له أهل البیت علیهم السّلام سواء بمکاناتهم الدینیة أو سلطانهم الروحی أو حرکاتهم الثوریة و تصدّیهم لظلمه بحد السیف.و مهما یکن الاختلاف و کثرة الأقوال عن الأسباب التی دعت المنصور إلی الحقد علیه،فمما لا شک فیه أن السبب الأساس الذی یعنی السلطة هو صلة أبی حنیفة بالعلویین و میله إلیهم.و قد مرّ بنا المزید من ذلک بما لا زیادة علیه فی رأینا (2).
و یبدو أن مدرسة أبی حنفیة-برغم وجوده حیا-کانت تتأثر بالسلطة،یتتلمذ الأصحاب علی إمامهم فی العلم و الفقه،و ینفتحون علی الحکام و الساسة فی المواقف و السلوک.و قد رأینا مدی التحوّل فی خط أبی یوسف.أما زفر بن الهذیل فیقول:
کان أبو حنیفة یجهر فی أمر إبراهیم جهرا شدیدا،و یفتی الناس بالخروج معه.فقلت له:و اللّه ما أنت بمنة عن هذا حتی نؤتی،فتوضع فی أعناقنا الحبال (3).
و فی الجملة،فإن موقف امتناعه عن تقلّد القضاء من أهم شواهد السلوک الذی تمیز بها أبو حنیفة،و هو یشتمل علی دلالات لم تغب عن بال المنصور.لأن الرفض یفسد خطة المنصور السیاسیة التی وضعها لمواجهة نفوذ أهل البیت علیهم السّلام و لذلک فإن فکرة المذاهب الرسمیة أو السلطویة لم تلصق بأبی حنیفة،إذ أعاقها رفضه و امتناعه، و إنما ترتبط بأعمدة مدرسته.کذلک فإن امتناع أبی حنیفة عن تولی القضاء یعنی منع التعاون معهم و حجب التأیید عنهم،و ما یحمل ذلک علی أنه یری عدم صحة إمامة المنصور فلا یجوز تولی القضاء لهم.و کیف لا یعتقد ذلک منه،و قد تأثر بأساتذته من سادة أهل البیت،حیث حضر عند الإمام الباقر علیه السّلام المتوفی 114 ه زید الشهید علیه السّلام المتوفی سنة 122 ه و الإمام الصادق علیه السّلام المتوفی سنة 148 ه.
ص:175
و حقیقة الأمر أن جلّ ما تشیر إلیه أخباره فی هذا المقام یبین منه أنه کان قلبه مع العلویین فی خروجهم أولا علی الأمویین،ثم فی خروجهم ثانیا علی العباسیین، و کان لا یری لبنی أمیة علی أی حال حقا و لا سلطانا من الشرع أو الدین،و لکنه لا یحمل السیف،و لا یثور،لاعتبارات لها مقامها (1).
و یبدو أن ذلک کان مشهورا منه منذ عهد الأمویین،فتوحّدت وسیلة الإیقاع به من قبل النظامین،و اتّخذ القضاء محکا لأنه منصب دینی و سلطة تشریعیة تسند إلی من یتمیّز بالعلم و المکانة الدینیة،فضلا عن أن تولیها یعنی التحاق صاحبها بالملوک و الحکام،و قد ألمحنا إلی محنته مع ابن هبیرة والی الأمویین حتی لتکاد تتساوی العقوبة کأنها تصدر عن وال واحد،و لیس ذلک بغریب لأن التهمة واحدة.یروی الحسن بن زیاد-صاحب أبی حنیفة-عن أبی حنیفة قال:کان بنو أمیة یطلبون الفقهاء للإفتاء،فدعانی واحد منهم و کان أول ما دعیت،و عن یمینه و شماله ابن أبی لیلی و ابن شبرمة،فقال لأحدهما:ما تقول فی امرأة زوّجت نفسها فی عدّتها؟قال:تفرق و تضرب ضرب النکال،و المهر فی بیت المال.و قال الآخر مثل ذلک.فقال:یا نعمان،ما تقول أنت؟فاسترجعت و قلت:هذا أول ما دعیت،کیف لا أقول ما أدین به،و قولی فیها قول علی رضی اللّه عنه،و بنو أمیة لا یذکر عندهم علی و لا یفتون برأیه،فقلت:أصلحک اللّه،اختلف فیها بدریّان من أصحابه علیه السّلام فقال عمر رضی اللّه عنه بما قالا،و قال الآخر تفرق،و تتم عدة الأول و علیها عدة مستأنفة من الثانی إذ دخل بها،و علیه المهر بما استحل من فرجها،و لا یجعل فی بیت المال.
قال:من قال هذا؟قلت:علی بن أبی طالب رضی اللّه عنه.قالوا:أبو تراب؟قلت نعم.فنکس رأسه و قال لأشبه القولین بالحدیث...ا ه.و فی أخری زیادة قال(ابن هبیرة)بأی القولین تأخذ أنت؟قال:قلت:عمر عندی أفضل من علی،لکن برأی علی آخذ.
و جلی أن أبا حنیفة إضافة إلی ما صرح به من خشیته جانب الحاکم الأموی.
و تدرّجه فی الإجابة الحذرة،فإنما بادر إلی تقدیم ذکر الأفضلیة لتهدئة نفس الحاکم، و من ثم التحوّل إلی الرأی.حکی أن الکردری یعقبه بالقول:و إنما ذکر حدیث
ص:176
الأفضلیة-و إن لم یکن له دخل فی المقصود-لئلا یتهم بالرفض أو الاعتزال،و کان بنو أمیة لا یذکر عندهم علیّ،و کل من ذکره عندهم عاقبوه.و کانت العلامة فیه أن یقولوا:قال الشیخ کذا،و کان الحسن البصری إذا ذکره قال:قال أبو زینب کذا (1).
و من المعروف عن رأی أبی حنیفة أنه:ما قاتل أحد علیا،إلا و علیّ أولی بالحق منه.عن الحسین بن زیاد قال:سمعت أبا حنیفة یقول:لا شک أن أمیر المؤمنین علیا إنما قاتل طلحة و الزبیر بعد أن بایعاه و خالفاه.و فی روایة أنه قال:و هو (الإمام علی)علّم المسلمین السنّة فی قتال أهل البغی (2).
کما أنه کان یروی عن أسانیده،و یبدو لعلّة لا تعدو الحکام و الإشفاق منهم، و کأنه یهرب من بلائهم،فیروی عن حمّاد قال:قال إبراهیم:علیّ أحبّ إلینا من عثمان (3)و معلوم علاقة حمّاد و إبراهیم و دورهما فی تکوین مکانة أبی حنیفة و الصلة التی تجمعهم.
و قد حضر أبو حنیفة عند علماء الشیعة،و أخذ عنهم العلم،و روی أحادیثهم، نذکر منهم علی سبیل الإشارة لا الاستقصاء:
جابر بن یزید بن الحارث الجعفی المتوفی سنة 128 ه.
حبیب ابن أبی ثابت أبو یحیی بن قیس الکوفی المتوفی سنة 119 ه.
فحول بن راشد،أبو راشد النهدی المتوفی 141 ه.
عطیة بن سعد العوفی المتوفی سنة 111 ه.
أجلح الکندی،و قیل اسمه یحیی بن عبد اللّه،و لقبه الأجلح المتوفی سنة 145 ه.إسماعیل بن أبی عبد الرحمن بن أبی کریمة المتوفی سنة 127 ه.
المنهال بن عمر الکوفی التابعی.
عدی بن ثابت الأنصاری الکوفی المتوفی سنة 119 ه.
زبید بن الحارث الأیامی المتوفی سنة 122 ه.
ص:177
و غیرهم من رجال الحدیث،و قد خرّج أحادیثهم کبار المحدّثین،و ضمّت کتب الرجال تراجمهم و أسماء من حضر عندهم من العلماء (1).
:
توفی أبو حنیفة سنة 150 ه ببغداد،و دفن بالجانب الشرقی بمقبرة الخیزران، و فیها قبر محمد بن إسحاق صاحب السیرة(و کانت قبلا مقبرة للمجوس تسمی أیضا الحضریة) (2).
و فی سبب وفاته ثلاث روایات:
الأولی:أن أبا حنیفة بقی فی السجن مضیّقا علیه إلی أن وافته المنیة.
و الثانیة:أن المنصور أخرجه من السجن،و فرض علیه الإقامة الجبریة فی المدینة،و منعه من الاتصال بالناس إلی أن توفی.
و الثالثة:أن المنصور دسّ له السم.
و جمیعها تدین الحکام بموته،لإن ذنبه فی نظر المنصور لا یغتفر.
:
لم یکن لأبی حنیفة عقب مشهور أو ذریة واسعة.أما الشهرة بکنیته(أبی حنیفة) فلیست قائمة علی اسم لبنت له،فلیس له بنت تسمی حنیفة،و إنما کنّی بأبی حنیفة لملازمته لدواة علی هیئة خاصة و تعرف بحنیفة،فهو دائما یستصحب تلک الدواة ذات الشکل المستطیل الذی یجلب انتباه الناظر إلیه.
و لم نعثر علی ولد له غیر حمّاد.
و کان حمّاد قد تفقه علی ید أبیه،و ولّی قضاء الکوفة بعد القاسم بن معین تلمیذ أبی حنیفة.
ص:178
قال الذهبی:حمّاد بن أبی حنیفة النعمان بن ثابت الکوفی ضعّفه ابن عدی و غیره من قبل حفظه،و توفی سنة ست و سبعین و مائة.
و کان لحمّاد بن أبی حنیفة ولد یسمی إسماعیل،روی عن أبیه عن جده أبی حنیفة.
قال ابن عدی:ثلاثتهم ضعفاء.
و قد ولّی قضاء الرصافة و قضاء البصرة،و کان عارفا بالقضاء،و مات سنة 212 و هو شاب و قد تفقه علی ید أبی یوسف.و لم نعثر علی شیء له یعتبر.
:
أما قبره فکان أول رواق بنی علیه سنة 379 ه و یروی أنه فی سنة ست و ثلاثین و أربعمائة وضع أساس مسجد بالکلس و النورة فی موضع ضریحه،و کان المنفق علیه ترکی قدم حاجا.
و یذکر ابن خلکان أن شرف الدین الملک أبو سعد محمد بن منصور الخوارزمی مستوفی مملکة السلطان ملک شاه السلجوقی بنی علی قبر أبی حنیفة مشهدا أو قبة نیابة عن الملوک السلاجقة،و بنی عنده مدرسة کبیرة للحنفیة،و لما فرغ من عمارة ذلک،رکب إلیها فی جماعة من الأعیان لیشاهدوها (1).و یقول ابن الجوزی:و ان حنفیا متعصبا.و کان ذلک سنة ثلاث و خمسین و أربعمائة،فهدم جمیع الأبنیة التی فی المسجد و ما یحیط بالقبر و بنی القبة،و قد جاء بالقطّاعین و المهندسین،و قدّر لها ألوف،و ابتاع دورا من جوار القبر،و حفر أساس القبة، و کانوا یطلبون الأرض الصلبة،فلم یبلغوا إلیها إلا بعد حفر سبعة عشر ذراعا،فی ستة عشر ذراعا فخرج من الحفر عظام الأموات الذین کانوا یطلبون جوار النعمان (2).
و قد تکوّنت حوله محلة عرفت بمحلة أبی حنیفة،و اسم الأعظمیة حادث.
و عنی الأتراک عنایة فائقة بالقبر و صاحبه،و بذلوا جهدا کبیرا فی إعلاء شأن
ص:179
المذهب.فلما احتل السلطان سلیمان القانونی بغداد سنة إحدی و أربعون و تسعمائة هجریة أقام مسجد الإمام الأعظم و مشهده،و باشر بإصلاح ما تهدّم من قبره أیام الفرس،و بنی علیه قبة و مدرسة،و عمّر فی أطرافها قلعة و اتخذها جامعا و دار ضیافة و حماما و خانا،و عیّن للقلعة محافظا و جنّد لحراستها مائة و خمسین،و وضع فیها معدات کافیة.کما بنی مسناة فی الأعظمیة لحفظها من الفیضان.
و إضافة إلی قیام الأتراک بتشیید مرقد أبی حنیفة و اهتمامهم بأمره،فقد أعلنوا اتخاذ مذهبه مذهبا رسمیا،و أصبحوا یرجعون الناس إلیه،و یلزمون الأمة باتباعه، حتی وازی وجود المذهب و مناطق انتشاره حدود و نفوذ العثمانیین و مناطق احتلالهم، و سبب ذلک أنهم وجدوا فی عدم اشتراط القرشیة فی الخلافة عند أبی حنیفة مقوّما لاستیلائهم و تحکمهم برقاب المسلمین،فاحتل أبو حنیفة المکانة السامیة فی نفوس العثمانیین،و تعلقت به أفئدة العائلة الحاکمة.فنجد أم السلطان عبد العزیز السیدة الصالحة تنذر فی مرضها إن شفاها اللّه عز و جل لتشیدنّ مسجد الإمام الأعظم مجددا (1).
کما کان الحنفیة أنصارا للأتراک و اتباعا للباب العالی،ففی مصر وجد منهم نصیرا قویا أطلق یده فی حکم وادی النیل و فی تقریر مصیره،و کان من نتیجة تفضیل السلطات الرسمیة لأتباع المذهب الحنفی أن تحوّل إلیه کثیر من أتباع المذاهب الأخری (2).
و نعاود الحدیث عن أحمد بن حنبل،و قد رأینا بحث بعض جوانب شخصیته فی هذا الجزء لتقدم الإشارة إلیه فی بدء الجزء السابع،و نرجو أن لا یعدّ ذلک خروجا علی قواعد الأفضلیة أو الرتبة الزمنیة،فأنا لا نراها کانت فی یوم مناط إجماع أو إلزام فی غیره أو فی شخصه.کما إن تقدیمه لا یعنی خلاف ذلک؟
ص:180
و نتبع منهجنا التحلیلی فی نهایة البحث لنکمل ما سلف من إشارة عنه و عن الحنابلة،و نبدأ ببعض المعلومات و الصور عنه.
و قد مرّ بنا شیء من هیاج الحنابلة الذین تجاوزوا القصد و ألحقوا بالمسلمین الآخرین البلاء،و نرغب عن الخوض فی عوامل اتخاذ العامة للحنبلیة شعارا یوحی بالعناد و التزمّت و الأذی.و نعمل علی سوق الأحداث و الاتجاه إلی دراسة شخصیة الإمام أحمد فی عناصرها الأساسیة،و لا نفیض فی البحث بأکثر مما یقتضیه الغرض.
و أحمد بن حنبل فی مکانته و شهرته،هو نتاج مشکلة(خلق القرآن)و هی المشکلة التی اتخذها المأمون وسیلة لإقامة سلطانه حسب میوله الفکریة و تکوینه المتأثر بروح العصر،لیواجه ما توارثته العقول و استقر فی الأذهان علی أنماط الحکّام و طرق الموجهین و لکن بأسالیب قمعیة کان ضحیتها الفکر و روح التحرر قبل أن یضحّی بسببها بأی شیء آخر.و لأن الإمام أحمد کان رجل المحنة،و تعرّض إلی الأذی الجسدی و النفسی،و تجرّع آلام السجن؛اتصلت به عواطف الناس و تعلقت به مشاعرهم،بعد أن وجدوا أنفسهم معرّضین إلی السخط،و قد اضطرب کیانهم، و اهتزت شبکة معتقداتهم التی وجدوا علیها أباءهم و ألفوها عبر عشرات السنین متعارف علیها بین أوساط الحکّام و الخطباء و المتنفذین.
و بدءا نقول:إن نتائج المحنة ترکت آثارا قویة لفّت کل جوانب حیاة أحمد بن حنبل،و أدت فی کثیر من الأحیان إلی الغموض أو التعارض لیتحاشی ما یشبه الهاجس فی الداخل.
و لنرافق أحمد بن حنبل فی ترجمته فهو:
أحمد بن محمد بن حنبل الشیبانی المروزی،کان جده حنبلا والیا من قبل الأمویین علی سرخس،و یقال:إنه دخل بعد ذلک فی سلک الدعوة العباسیة،فکان من دعاتها المبرّزین،و بذلک فإن الإمام أحمد ینسب إلی جده حنبل،و قد یکون ذلک لوفاة أبیه و نشوئه فی ظل جده أو عمه.
و قد وقع الاختلاف فی موت محمد والد أحمد،هل مات فی مرو،أو أنه نزح
ص:181
إلی بغداد مع زوجته والدة أحمد و هی:صفیة بنت عبد الملک بن سوادة بن هند الشیبانی،و نقل عن أحمد ما یؤید القول الأول،و أنه قال:قدم أبی من خراسان و أنا حمل،و ولدت هاهنا-ببغداد-و لم أر جدّی و لا أبی،و لا تزوجت إلا بعد الأربعین (1).
نشأ أحمد فی بغداد،و اتجه لطلب العلم،و حضر عند علمائها.و له رحلات متعددة،و اتصل بالشافعی محمد بن إدریس،و حضر عنده کما حضر عند أبی یوسف،فکتب فقه أهل الرأی (2).
و روی عنه أنه قال:أول ما طلبت الحدیث ذهبت إلی أبی یوسف القاضی،ثم طلبنا بعده فکتبنا عن الناس.ثم قال:أول من کتبت عنه الحدیث أبو یوسف،و أنا لا أحدّث عنه (3).
و ذلک أنه رأی أبا حنیفة و أتباعه یقدّمون الرأی (4)و أقبل أحمد علی الحدیث حتی عدّ من المحدّثین لا الفقهاء،و هذا ما آثار غضب الحنابلة علی الطبری و غیره من الذین قالوا بهذا الرأی.
و قد مرّ الحدیث عن حیاة الإمام أحمد منذ نشأته،و رافقناه فی محنته،تلک المحنة التی هبّت عواصفها السیاسیة و العقائدیة،فأحدثت انقساما فی صفوف المسلمین،و ذلک عند ما أعلن المأمون سنة 218 ه وجوب الاعتقاد بخلق القرآن،و أنه حادث غیر قدیم کما یراه المعتزلة و غیرهم،و قد فرض المأمون القول بخلق القرآن بالقوة،و عقد مجلسا للامتحان کما اختار جماعة من الجلاّدین الجفاة الذین مرنوا علی الضرب بالسیاط.
و قد امتحن جماعة من العلماء،فامتنع بعض و أقرّ آخرون.
و قد أوجدت هذه المحنة مشکلة کلامیة تحتاج إلی دراسة واسعة فی علم
ص:182
الکلام،و بیان المراد من الکلام النفسانی و تعلقه بالذات،و قد تناولتها الأقلام قدیما و حدیثا،و ربما وقع و هم من بعض من تعرّض لهذه المسألة تاریخیا فسار وراء ظواهر الأقوال،و عبّر عن الخلق بالمعنی اللغوی و هو الکذب،فیقال إنه مخلوق أی مکذوب.
و کان الخلیل بن أحمد یمنع أن یوصف الکلام بالمخلوق،و یقول:إن الکلام متی أطلق علیه الخلق فالقصد الکذب،و لهذا یقال:کلام خلقه فلان أی تقوّله.و کان ذلک من رأی الشیعة کما تقدم فی أول الکتاب.
و قد ورد فی کثیر من أقوال العرب:اختلق کذا أی کذب فیه.و سئل بعض الفقهاء فی المحنة فقال:أصفه بأنه محدث،و لا أقول إنه مخلوق لقوله تعالی: ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ فمعنی أنه مخلوق و هو غیر منزل.و بهذا أخذ العوام فی إثارة البغضاء و إیقاد نار الفتنة و نشر الدعایة ضد المعتزلة بأنهم یذهبون إلی خلق القرآن أی إلی عدم کونه منزلا من اللّه تعالی،و اتسعت شقة الخلاف،و حدث فی صفوف الأمة الانقسام.و کان الإمام أحمد قد امتحن و ثبت،فاجتاز المحنة عند ما اعتلی الحکم المتوکل العباسی،فکان انتصارا لأحمد و لمن اتصل به،و بخروجه باتت المحنة تشمل العامة، فاحتفلت بالانتصار بعواطف هیّاجة و نقمة عارمة طافت علی سطحها و رکبت موجها وجوه تضررت مصالحها و تضاءلت مکانتها،فاندفعت بکل ما أوتیت من قدرات إلی تمجید المتوکل و تعظیمه،و اتبعهم علی ذلک بإخلاص أخلافهم.
قال ابن الجوزی:أطفأ المتوکل نیران البدعة،و أوقد مصابیح السنّة،و قد قال من سبقوه:الخلفاء ثلاثة أبو بکر الصدیق قاتل أهل الردّة حتی استجابوا له،و عمر بن العزیز ردّ مظالم بنی أمیة،و المتوکل محا البدع و أظهر السنّة.کما خلقوا له مناقب و أطیافا،و رفعوا شعار العدالة باسمه و هو أظلم خلیفة من بنی العباس،فأسدلوا علی ظلمه ستار المدح الزائف،و جعلوا سیئاته حسنات،و أخذ القصّاصون بنشر الأطیاف بحقه حیا و میتا.
أما الإمام أحمد،فإنه أصبح إمام السنّة و بطل الإسلام،و أنه ما قام أحد بأمر الإسلام کما قام به أحمد.
و قالوا:أحمد بن حنبل إمام،و من لا یرضی بإمامته فهو مبتدع ضال.
ص:183
و قالوا:أحمد بن حنبل إمام المسلمین و سید المؤمنین،و به نحیا و نموت،و به نبعث.فمن قال غیر هذا فهو من الجاهلین (1).
و جعلوا بغضه کفر،و حبّه من السنّة.
و قالوا:إذا رأیت الرجل یحب أحمد بن حنبل،فأعلم أنه صاحب سنّة و جماعة (2).
و أسندوا إلی الشافعی أنه قال:من أبغض أحمد بن حنبل فهو کافر.فقیل له:
تطلق علیه اسم الکفر باللّه العظیم؟فقال:نعم،من أبغض أحمد بن حنبل قصد الصحابة،و من قصد الصحابة أبغض النبی،و من أبغض النبی کفر باللّه العظیم (3).
فیکون الناتج من هذه القضیة،أن من أبغض أحمد بن حنبل کفر باللّه العظیم.و هذا غریب من الشافعی،إذ یعتمد علی نتیجة مقدمة کاذبة.
و قد رأینا فیما تقدم من بیان الإغراق فی المدح من قبل أتباع أئمة المذاهب ما خرجوا به عن طریق المعقول و تجاوزوا فیه حدود المنطق.علی أن جولة الحنابلة فی عصر التطاحن المذهبی،خلقت کثیرا من الأمور المناقضة للحقیقة و المخالفة لما یقتضیه واقع الإمام أحمد و سیرته،فقد اندفعوا بصورة واسعة إلی خلق مشاکل فی المجتمع،و أرهبوا الناس،و اضطرب حبل الأمن من جرّاء نشاطاتهم حول نشر مذهبهم مما لا ربط له بإمامهم.
و فی عصر المتوکل کان نشاطهم سیاسیا أکثر من أن یکون عقائدیا،و قد شدّ المتوکل أزرهم،و أخبر المتوکل بعد موت أحمد أن الحنابلة یکون بینهم و بین أهل البدع(و هم غیرهم من الطوائف)الشر،فقال لصاحب الخبر:لا ترفع إلیّ من أخبارهم،و شدّ علی أیدیهم فإنهم و صاحبهم من سادة أمة محمد.
و استغل الحنابلة هذه الفرصة،فراحوا فی ذلک الودّ یتنفّسون حریة الکلام
ص:184
و حریة الانتقام من خصومهم أیام المحنة،فلم یسلکوا طریقة أحمد فی حیاته فی الصفح و التجاوز،لأنهم خضعوا لأناس آخرین کان نفعهم فی الأذی و مصلحتهم فی الأضرار،و منه من رأی فی التحول علی ید المتوکل و العودة إلی ما کان علیه الأمر قبل المأمون فرصة تسمح لهم بأن یفعلوا بالآخرین ما فعله المأمون،و هکذا تنتهی محنة لتبدأ أخری.
و قد أخذ المتوکل بإضفاء الطابع الحنبلی علی حکمه من خلال قوله و إذاعته المسائل التی یتمیز بها أحمد،فقسّم الجوائز علی فقهاء و محدّثین،و أجری علیهم الأرزاق،و أشخصهم،و کان فیهم مصعب الزبیری،و إسحاق بن أبی إسرائیل، و إبراهیم بن عبد اللّه الهروی،و عبد اللّه و عثمان ابنا أبی شیبة.و أمرهم المتوکل أن یجلسوا للناس،و أن یحدّثوا بالأحادیث التی فیها الرد علی المعتزلة و الجهمیة،و أن یحدّثوا فی الرؤیة (1).و هی الأمور التی اشتغل بها أحمد،و أثرت عنه رسالة اشتملت علی آرائه و معتقداته فی البدعة و السنّة و الرؤیة و إجابات ضمّنها أقواله،أشرنا إلیها فیما مضی.
و یبدو أن المتوکل أراد أن یستکمل خطته فی تبنّی المذهب الحنبلی،فعزم علی استقدام أحمد بن حنبل إلی مقرّ ملکه فی سامراء.و هی و إن لم تکن علی طریقة أسلافه،لأن عمله و میله إلی أحمد بن حنبل تتداخل فیه عوامل کثیرة،هی مزیج من مشاعر و أهواء و أغراض.إلا أن أحمد نفسه کان غیر مستعد لمثل هذا العمل،فهو یتردد أو یحذر من مخالفة الحکام لسبب لا یتفق مع الأسباب التی یدعو إلیها أصحاب مبدأ مقاطعة سلطان الظلمة،إذ هو یدعو إلی إطاعة«الإمام»البر و الفاجر مما یجعله بعیدا عن أصحاب الدعوة إلی الثورة علی الظلمة،و یحصر القضیة فی أمور هی من أکبر عوامل الظلم و الجور،و لکنه لا یقرّ بها أسبابا للثورة أو الخروج علی حکم المتسلطین.
کان إسحاق بن إبراهیم من کبار رجال الدعوة العباسیة،فأمره المتوکل بإشخاص أحمد بن حنبل من بغداد إلی سامراء بعد انتهاء المحنة،فأخبره إسحاق
ص:185
بذلک،ثم قال لأحمد:أسألک عن القرآن مسألة مسترشد لا مسألة امتحان،و لیکن ذلک عندک مستورا،ما تقول فی القرآن؟قال أحمد:القرآن کلام اللّه غیر مخلوق.
قال إسحاق:من أین قلت:غیر مخلوق؟ فأجاب أحمد:إن اللّه عز و جل یقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ففرّق بین الخلق و الأمر.
فقال:الأمر مخلوق؟ فقال أحمد:یا سبحان اللّه،أ مخلوق یخلق مخلوقا؟! قال إسحاق:و عمن تحکی أنه غیر مخلوق؟ قال أحمد:جعفر بن محمد الصادق قال:لیس بخالق و لا مخلوق.فسکت إسحاق (1).
و هذا یدلنا علی شدة التکتّم فی المسألة،و عدم الخوض فی شیء من ذلک، لأنه یؤدی إلی مخالفة رأی السلطة.و هذا الرجل أی إسحاق هو من رجال الدولة یسأل مسترشدا أو یطلب ستر ذلک،لأن إظهاره یجرّه إلی نکال المؤاخذة.
و مهما یکن من أمر،فقد سکت إسحاق مقتنعا بظاهر القول و دلالة اللفظ.
و الغرض أن المسألة هی من المسائل العلمیّة الهامة،و هی علی جانب کبیر من الخطر،فلم یکن هناک مجال لعرض الآراء و استماع الحجج و إقامة البرهان من کلا الطرفین،و بهذا أصبح الأمر فوضی،فقد استساغ المعتزلة حمل خصومهم علی الاعتقاد بالقوة،و لهذا باءت سیاستهم بالخیبة و الخذلان،و انتصرت علیهم قوی العامة التی آثرت التمسک بالسنن و الآثار،و ترک الخوض فی علم الکلام،و تحکیم العقل.
و قامت هناک عاطفة دینیة تدعوا إلی صیانة کتاب اللّه عن الطعن فیه،أو عدم نزوله.
کما حرّفوا مدلول المسألة.
و فی مواجهة المشکلة،کان أحمد یری أن الخوض فی قضیة خلق القرآن لم تکن مطروقة و لیست من السنة،حتی أنه کان یطالب مناظریه بشیء من السنة فیما
ص:186
یدعونه إلیه.و لا ننکر أن دافع الحرص علی قدسیة النص کان وراء موقف أحمد و إجاباته،غیر أن الإمام أحمد بالغ فی انتهاج النصیّة و الاعتماد علی السلف إلی حدّ ألغی فیه فرص التحاور و إمکانیة المناظرة،و أدی به إصراره إلی تحاشی الرأی کلیا، حتی لکأنه حاول أن یجعل نفسه بعیدا عن الأحداث و لا یقرّ بتحولات الظروف و تطورات الوقائع التی وضع الاجتهاد لمعالجتها و هدی الأمة بالاستنباط من الأصول،و إرشادها باستخراج الأحکام من النصوص،حتی یجد المسلمون فی کتاب اللّه و سنّة نبیّه مصدرا یسع کل ما یجدّ من أحداث،و ینطوی علی کل ما یقع من الوقائع.
لقد غلب علی الإمام أحمد التقیّد بالنص و الاتباع و التقلید،و لم یدع مجالا للرأی،و کان یتحرّی المسائل علی ما سمعه و روی له،و یحذر من إجالة الرأی أو التقدیر،و لا یجیب إلا فی مسألة وقعت.فإن کان احتمالا أو توقّعا امتنع،و لا یحفل إن کان ذلک علی أشباه الوقائع القریبة،أو بعیدا عنها.
و علی یدیه وضعت مبادئ ما عرف عن ابن تیمیة و ابن قیّم الجوزیة من تعنّت و تزمّت.و یثیر قولنا هذا-السلفیة و الوهابیة-و لا شک،لأنهم أخذوا ما رآه الإمام أحمد وقایة و تحصنا.و جعلوه أساسا لمنطقهم القائم علی الإفهام بالابتداع، و استسهال إطلاق الکفر علی غیرهم،فیما ترکوا الکثیر من أقوال الإمام أحمد التی تأتی مرادفة للنصوص التی احتوت أصول أفکارهم،منها:أن الرجل لا یخرجه من الإسلام إلا الشرک العظیم،أو ردّ فریضة جاحدا لها فیما أخذوا معتمدا لهم و أصلا قوله:(فمن قال مخلوق فهو کافر باللّه العظیم،و من لم یکفّره فهو کافر)فاستسهلوا تکفیر غیرهم.و منهجه فی غلق أبواب النقاش توقّیا و حذرا بقوله:(و لا یقال لم و لا کیف)لأن الأمور التی تبحث العقول عن حقیقتها فی ظل ظروف المحنة یراها لیست من السنن،و الکلام فیها مکروه،بل منهی عنه:(لا یکون صاحبه-و إن أصاب بکلامه السنّة-من أهل السنة حتی یدع الجدال و یسلّم و یؤمن بالآثار)فجعلوا ذلک مسوّغا لجمودهم و انغلاقهم.
و خلاصة القول:إنه تمسّک بالأثر دون تمحیص،و اعتمد علی السلف،و حکم بأن من یخالف شیئا من هذه المذاهب أو طعن فیها أو عاب قائلها؛فهو مبتدع خارج
ص:187
عن الجماعة،زائل عن منهج السنة.و اتجه هذا الاتجاه فی حیاته،و أخذ به،فتمسّک بحرفیة النص و ظاهره،و لا یسمح لنفسه تخریج أو تفسیر أو جدل ینمّ عن تصد للاجتهاد،أو تصدّر للإفتاء،و لا یتعدّی الأخذ بالأثر و الجمود علی النصوص و العمل بظاهرها.و قد نسب إلیه ذلک فی شعر و هو قوله:
یا طالب العلم صارم کل بطّال و کلّ غاد إلی الأهواء میّال
و أعمل بعلمک سرّا أو علانیة ینفعک یوما علی حال من الحال
و لا تمیلنّ یا هذا إلی بدع تضلّ أصحابها بالقیل و القال
خذ ما أتاک به ما جاء من أثر شبها بشبه و أمثالا بأمثال
إلا فکن أثریا خالصا فهما تعش حمیدا،ودع آراء ضلاّل
و قد اتجه إلی الحدیث،فروی أنه کان یحفظ ألف ألف حدیث،و یأخذ بالضعیف منها و یعلم به إذا لم یکن ما یعارضه،و أصبحت له خبرة بالحدیث،وسعة اطلاع جعلت له منزلة بین المحدثین.و إذا صحّ ما کان یحفظه،فإنّا نمیل إلی أن تکوینه النفسی قد طغت علیه ملکة الحفظ،و آنس فی نفسه قوتها دون غیرها؟ و ساعدت علی ذلک اعتبارات الفترة و نتائج المحنة،و لذلک لم یکن له فی حیاته مدرسة فقهیة،حتی أن ابن عبد البر لم یجعله مع مالک و الشافعی و أبی حنیفة فی کتابه (الانتقاء فی فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء)و أن عنوان الکتاب ینطوی علی هذا القصد، و لا بد أن المالکیة علی هذا الرأی جمیعهم،فإن القاضی عیّاض قال عنه:إنه دون الإمامة فی الفقه،و جودة النظر فی مأخذه.
و قد مرّ بنا ما ذا فعل الحنابلة بابن جریر الطبری،فهو لم یعدّ مذهبه فی الخلاف بین الفقهاء و قال:إنما هو رجل حدیث.و علی هذا الرأی غیره من الشافعیة.
و من تتبّع سیرة الإمام أحمد،یترجّح لدینا أنه لم یقصد إلی تأسیس مذهب خاص به،و لم یستجب إلی إغراءات السلطان.و لکن تلامذته قد أفرغوا تعالیمه و أقواله بعد موته فی قوالب محدودة هی قواعد و مبادئ لفقه ینسب إلی الإمام أحمد، فتألفت جماعة فقهیة کان رجالها أصحابه من ذوی الإحاطة،فکان نشوء المذهب الحنبلی.کما أن المسند کان من جمع ابنه و أصحابه.و یعتقد أحمد أن منحاه فی التقیّد بالحرفیة و الظاهر هو المنهج الأقوم و الطریقة المثلی،و یردّ بها علی اتجاهات
ص:188
الرأی و تیارات الجدل.و وضع بذلک المنحی مسوّغا للاحتماء بالتقلید،و مبررا للاتهام بالمروق.و لو قابل الاتجاهات و المدارس الفکریة التی نجمت عنها المسائل التی کره الخوض فیها و أنکر شیوعها،و أدت به إلی المحنة بطرق مماثلة تقابل الحجة بالحجّة، و تعتمد الاستدلال و المنطق؛لما استغلت أقواله ذلک الاستغلال الذی أطلق العامة من عقالها،فراحت تعرّض أمن الناس للخطر،و تنزل بهم الویلات،و تصف الناس بالکفر.
یقول الإمام أحمد:(الدین إنما هو کتاب اللّه عز و جل،و آثار و سنن و روایات صحاح عن الثقات بالأخبار الصحیحة المعروفة،یصدّق بعضها بعضا حتی ینتهی ذلک إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أصحابه و التابعین و تابعی التابعین،و من بعدهم الأئمة المعروفین المقتدی بهم،المتمسّکین بالسنة و المتعلقین بالآثار،لا یعرفون بدعة،و لا یطعن فیهم بکذب،و لا یرمون بخلاف،و لیسوا بأصحاب قیاس و لا رأی،لأن القیاس فی الدین باطل،و الرأی مثله و أبطل منه،و أصحاب الرأی و القیاس مبتدعة ضلاّل،إلا أن یکون فی ذلک أثر عمّن سلف من الأئمة) (1).
و هو یری نفسه دائما متّبعا،فلا یتحدث إلا بما أخبر و حدّث،و یدعو إلی الاتباع:(هذه مذاهب أهل العلم و أصحاب الأثر و أهل السنة و المتمسکین بعروقها المعروفین بها،المقتدی بهم فیها من لدن أصحاب النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلی یومنا هذا،و أدرکت من أدرکت من علماء أهل الحجاز و الشام و غیرهم علیها،فمن خالف شیئا من هذه المذاهب أو طعن فیها أو أعاب قائلها،فهو مبتدع خارج من الجماعة،زائل عن منهج السنة و سبیل الحق) (2).
:
ولد لأحمد بن حنبل عدة أولاد و هم صالح و عبد اللّه من أم،و حسن و محمد و سعید من جاریة تسمی حسن،و ولدت له بنتا سمّاها زینب،و قبل ولدت له ولدا رابعا سمّاه حسنا أیضا:
ص:189
:
ولد سنة 203 ه و توفی سنة 265 ه و هو أکبر أولاد أحمد،کان راویة لأبیه.
و حدّث کثیرا عن سیرته و أحواله و تاریخ حیاته،و یبدو علی صالح رفضه لمسلک التقشّف الذی أخذ أبوه به،و عدم القناعة بموقف الانصراف عن الحکام فی أمر المنح و العطایا التی توالت علی أحمد فی عهد المتوکل،حتی إنه کان یتصرّف فی الأموال التی یتحرّج فی أخذها بدون موافقة أبیه عند ما یراه یمتنع أن یقدم منها إلی أحفاده (1).
و کذلک عند ما صارحه أبوه فی أن یدع الرزق الذی یأتی من المتوکل فلا یأخذه و لا یوکل فیه أحدا،فرفض ذلک.فقد کان معیلا.و کان الإمام أحمد یدعو له.و کان الناس یکتبون إلیه من خراسان-حیث موطنهم الأول-یسأل لهم أباه عن المسائل.
ولّی القضاء بأصبهان،کما ولّی القضاء بطرسوس.نقل إلیها من أصفهان.قال صالح:کان أبی یبعث خلفی إذا جاءه رجل زاهد متقشّف لأنظر إلیه،یحبّ أن أکون مثلهم،أو یرانی مثلهم.و لکن اللّه یعلم ما دخلت فی هذا الأمر إلا لدین غلبنی، و کثرة عیال (2).
حدّث عنه ابنه زهیر،و روی عنه ابن أخیه محمد بن أحمد بن صالح، و أحمد بن سلیمان النجار.و توفی زهیر سنة 330 ه.
و أما أحمد بن صالح فقد روی عن جده أحمد حدیث عائشة:کنت أغتسل أنا و رسول اللّه من إناء واحد.
و لأحمد بن صالح ولد اسمه محمد کان یروی عن عمه زهیر،و روی عن أبیه قول عائشة کما ذکره،و رواه عنه الدار قطنی و توفی سنة 330 ه.
:
ولد سنة 213 ه و توفی سنة 290 ه و کان أعلم أولاد أحمد و أکثرهم روایة عنه، و هو الذی جمع مسند أبیه،و زاد فیه کثیرا من الأحادیث التی لم یأخذها عن أبیه، و رواه عنه أبو بکر القطیعی و زاد فیه أیضا،فالمسند یرویه عبد اللّه عن أبیه سماعا،
ص:190
و قسم رواه عن غیر أبیه و هو المسمی عند المحدثین بزوائد عبد اللّه،و قسم لم یسمعه من أبیه بل وجده بخطّه،و قسم رواه القطیعی عن غیر عبد اللّه و أبیه.
و أول من سمعه منه:حنبل بن إسحاق بن حنبل-و هو ابن عم أحمد- و عبد اللّه بن أحمد،و صالح بن أحمد.قال ابن السماک:حدثنا حنبل بن إسحاق قال:جمعنا أحمد بن حنبل أنا و صالح و عبد اللّه،و قرأ علینا المسند،و ما سمعه منه غیرنا (1).
و ذکر الشیخ محمد أبو زهو فی کتابه(الحدیث و المحدّثون)أنه سمع المسند من الإمام أحمد أولاده الثلاثة:صالح و عبد اللّه و حنبل.ثم ذکر روایة ابن السماک(أو السبّاک)و هذا خطأ فإن حنبلا لم یکن ولدا لأحمد،بل هو ولد عمه إسحاق کما ذکره ابن الجوزی و غیره،و جاء فی ترجمته فی طبقات الحنابلة،قال حنبل بن إسحاق:
جمعنا عمی لی و لصالح و لعبد اللّه،و قرأ علینا المسند و ما سمعه منه غیرنا (2).
و نقل ابن الجوزی عن ابن السمّاک قال:حدثنا حنبل بن إسحاق قال:جمعنا أحمد بن حنبل،أنا و صالح و عبد اللّه،و قرأ علینا المسند و ما سمعه منه غیرنا (3).
فقول الشیخ أبو زهو أن حنبل من أولاد أحمد خطأ،و ما هو بأول خطأ یرتکبه، و قد أشرنا لکتابه و أخطائه فیما سبق.
و مهما یکن من شیء،فإن عبد اللّه کان أشهر أولاد أحمد بن حنبل،و أکثر روایة عنه،و قد ولّی القضاء فی خلافة المکتفی،و توفی فی جمادی الآخرة سنة 290 ه.و لما مرض قیل له:أین تحب أن تدفن؟فقال:صحّ عندی أن بالقطیعة نبیا مدفونا،و لأن أکون بجوار نبیّ أحب إلیّ من جوار أبی.
:
ولد سعید قبل موت والده بنحو من خمسین یوما،و توفی سنة 303 ه و قیل:
بل توفی قبل هذا التاریخ بمدة طویلة فی حیاة أخیه عبد اللّه.و قد ولّی سعید قضاء الکوفة،و أما بقیة أولاد أحمد،فلا یعرف من أخبارهم شیء.
ص:191
:
توفی أحمد بن حنبل فی ربیع الأول سنة 142 ه و قیل 12 منه،و صلّی علیه الأمیر محمد بن طاهر.و دفن بمقبرة باب حرب (1).و قد وصفوا تشییعه بأنه ما کان فی الجاهلیة و لا فی الإسلام جمع أکثر منه،و قد اشترک فیه النساء و الرجال یتبادلون النوح و الصراخ،و أعلن الحنابلة اللعنة علی من خالفهم،و علت الهتافات بلعن بشر المریسی و الکرابیسی.فسأل المتوکل عن الکرابیسی (2)من هو؟قالوا هو رجل أحدث قولا لم یتقدمه أحد.فأصدر المتوکل أمره إلیه بلزوم بیته،فلزمه إلی أن مات.
و ینقل الحنابلة عن یوم الجنازة ما لا یقبله العقل و یقرّه المنطق کقول الورکانی:
أسلم یوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفا من الیهود و النصاری و المجوس.و وقع المأتم و النوح فی أربعة أصناف من الناس:المسلمین و الیهود و النصاری و المجوس (3).
و منذ و وری ابن حنبل،لزم بعض الناس القبر و باتوا عنده،و جعل النساء یأتین، فأرسل السلطان أصحاب المسالح،فلزموا ذلک الموضع حتی منعوهم مخافة الفتنة (4).و یبدو أن الجنازة تحولت إلی مناسبة أظهر فیها الحنابلة أنفسهم و الدعوة إلی منهجهم و الطعن علی غیرهم،حتی قال ابن الجوزی:(فسرّ اللّه المسلمین بذلک علی ما عندهم من المصیبة لما رأوا من العزّ و علوّ الإسلام،و کبت اللّه أهل البدع و الزیغ و الضلالة).
و یذکر المسعودی أن اجتماع الجنازة کان للعامة فیه کلام کثیر جری بینهم بالعکس و الضدّ فی الأمور منها:أن رجلا منهم کان ینادی:العنوا الواقف عند الشبهات.و هذا بالضدّ عمّا جاء عن صاحب الشریعة صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و کان عظیم من عظمائهم و مقدّم فیهم یقف موقفا بعد موقف إمام الجنازة،و ینادی بأعلی صوته:
ص:192
و أظلمت الدنیا لفقد محمد و أظلمت الدنیا لفقد ابن حنبل
یرید بذلک أن الدنیا أظلمت عند وفاة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أنها أظلمت عند موت ابن حنبل کظلمتها عند موت الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1).
و ازدحم الناس علی قبر أحمد یتبرّکون به،و یقصدونه للزیارة،و هنا تجدّدت نشاطات الدعایات المذهبیة،و طغت موجة المناقبیة،و قام القصّاصون و الوعّاظ -الذین هم من قبل الدولة-بنشر خرافات لو کان أحمد حیا لخجل منها و تبرّأ من قائلها.و إلیک نموذجا منها:
1-ادّعی أحدهم أنه زار قبر أحمد،فرأی القبر قد التصق بالأرض،و سمع صوتا من القبر یقول:هذا من هیبة الحق،لأنه عز و جل زارنی فسألته عن سرّ زیارته إیّای فی کل عام.فقال:لأنک نصرت کلامی...
2-أن من یدفن فی مقبرة أحمد یکسی حلّتین من حلل الجنة،و یوضع علی قبور مجاوریه قنادیل،و من یعذّب یرحم لأجله (2)و کان فیهم رجل محنث فشمله العفو (3).
3-حدّث علی بن إسماعیل السجستانی:کأن القیامة قد قامت و کان الناس یزدحمون عن قنطره،لا یترک أحد یجوز حتی یجیء بخاتم،و رجل ناحیه یختم للناس و یعطیهم،فسألت عنه فقالوا:هذا أحمد بن حنبل (4).
4-أن أبواب السماء تفتّح لزوّار قبر أحمد بن حنبل،و الملائکة تنزل علیهم بثیاب خضر تطیر بهم فی الهواء.و کان قبره یقصد للزیارة من ستمائة فرسخ (5)و لا یتسع المجال لعرض ما ادّعی من منامات و أحلام فی قبر أحمد و زیارته،و عظیم الأثر الذی خلفته الدعایة فی قلوب الناس من تعظیم قبره و التبرک به و تقبیله.و قد سأله رجل فی الرؤیا:لم یقبّل قبر إلا قبرک؟فأجاب:هذا لیس کرامة لی،و لکن کرامة
ص:193
لرسول اللّه،لأن معی شعرات من شعره،ألا و من یحبنی لم لا یزورنی فی شهر رمضان.
و قد بقی قبر أحمد بن حنبل مقصدا لمحبیه،و یتبرکون بزیارته،و ادّعی أن الماء حار حول قبره عند طغیان دجلة سنة 725 ه فغمر جمیع الأمکنة إلاّ قبر أحمد،فلم تبلّ الحصر کما یدّعون.و لکن دجلة أعاد الکرة،فاکتسح القبر و ابتلعه،و ذهب به و بآثاره إلی الیوم.
و قد دفن فی مقبرته خلق کثیر،و نقل إلیه من الأماکن النائیة جثث کثیرة لأموات أمثال:عبد المغیث بن زهیر الحربی الحنبلی محدّث بغداد.و من الغریب بل من الشذوذ الفکری أن یوصف هذا الرجل بأنه صالح متدین أمین مجتهد فی السنّة،حافظ زاهد یشبه أحمد بن حنبل،مع اعترافهم بأنه وضع جزء فی فضائل یزید بن معاویة أتی فیه بالموضوعات کما یقول الذهبی (1).
و من أعیانهم:عبد الرحمن بن الجوزی المتوفی سنة 597 ه و صاحب المؤلفات الکثیرة،دفن عند أبیه بباب حرب عند قبر أحمد،و کان یوم تشییعه یوما مشهودا و ذلک فی شهر رمضان،و قد أفطر جماعة من الناس من کثرة الزحام و شدّة الحرّ (2).
و لعل المسوّغ لإفطارهم اعتقادهم بأن تشییع ابن الجوزی أعظم ثوابا من صیام شهر رمضان،لأنه کان ناصرا للسنّة محاربا للبدعة.و قد وصف بأنه کحاطب لیل، و هو لا یفرّق بین الضارّ و النافع،و الحقّ و البطّال،و کانت مؤلفاته تناقض بعضها بعضا،و هو یورد الشّبه،و لیس له قدرة علی ردّها،و قد نقم علیه العلماء،و لکن لا ینفع ذلک مع تجمع العوام علیه.
و کثیر من العلماء الحنابلة دفنوا عند قبر أحمد تبرکا بجواره،و منهم من نقل إلی مقبرة أحمد بعد مدة من دفنه کسعد اللّه الحنبلی المتوفی سنة 564 ه دفن بمقبرة الرباط،ثم نقل بعد خمسة أیام و دفن فی مقبرة أحمد.و کمال الدین بن وضّاح الحنبلی المتوفی سنة 627 ه دفن عند رجلی أحمد.و منهم:محمد بن محمد بن
ص:194
الحسین الحنبلی المتوفی سنة 527 و نقل إلی مقبرة أحمد بن حنبل سنة 534 أی بعد مضی سبع سنوات علی موته.و غیر هؤلاء خلق کثیر أحصینا عددهم بما یقارب الخمسین شخصا.و بطبیعة الحال فإن قبورهم ذهبت فی طغیان دجلة کما سبق و ذکرنا.
و لا بد من التعرّض لما جاء فی لغة العرب المجلد الخامس من السنة الثامنة ما ذکره الدکتور مصطفی جواد:أن عبد الحمید عیادة نشر فی لغة العرب أن فی جامع حاج أفندی-و یسمی مسجد اللالات بمحلة کوک نفر ببغداد أن رخامة فی الجوار الذی یلی الباب،مکتوب علیها ما صورته:(هذا قبر المرحوم المغفور له الدارج فی رحمة اللّه الشیخ المجتهد السید أحمد من الأربعة المجتهدین و ذلک فی 13 ربیع الأول سنة 562 ه)ثم قال:توارد إلی خاطری أنه قبر الإمام المشار إلیه،أی أحمد بن حنبل إذ لا یبعد أنه نقل إلی محله الحالی لسبب غرق بغداد الخ.
و هذا بعید کل البعد،لأن التاریخ إما أن یکون تاریخ الوفاة أو تاریخ النقل، فتاریخ الوفاة سابق علیه،لأن وفاة أحمد سنة 241 ه و أما تاریخ النقل عند الغرق، فهو متأخر عن هذا التاریخ.
و قد نقل لقبر أحمد رجال من الحنابلة بعد هذا التاریخ منهم:کمال الدین علی بن وضّاح المتوفی سنة 672 ه و فی سنة 765 ه دفن القاضی جمال الدین بن خلیل الخضری الحنبلی محدّث بغداد،و فی سنة 766 ه دفن الشیخ نور الدین الحنبلی،و فی سنة 784 ه دفن أبو طالب عبد الرحمن بن عمر الحنبلی نزیل بغداد.
و الحاصل أن مقبرة أحمد بن حنبل بقیت مدة من السنین مهوی أفئدة الحنابلة، و مقصد الزوار،و تدفن حوله الأموات تدینا و تقربا لنیل ما أعدّ من الجزاء لمن یدفن حوله.فقد أشاع الحنابلة أن من یدفن حول قبر أحمد یکسی حلتین من حلل الجنة، و یوضع علی قبر مجاوریه قنادیل،و من یعذب یرحم لأجله (1).إلا أن ذلک القبر قد غمره الفیضان فانهار،و لم یبق له أثر،إذ امتلأت مقبرة أحمد کلها،و لم یسلم منها إلا موضع قبر بشر الحافی لأنه علی نشز من الأرض،و کان من یری مقبرة أحمد بعد أیام
ص:195
من مضی الفیضان لیدهش عند ما یری القبور قد قلّبت،و جمعت العظام کالتل،جمعها السیل-سیل الماء-و کذلک ألواح القبور (1).
و قال الیافعی:إن دجلة زادت زیادة مفرطة حتی أخرجت مقبرة أحمد بن حنبل، و دخل الماء فی دهلیز البیت،و ذلک فی سنة 725 ه.و قال ابن العماد نقلا عن الذهبی:إن مقبرة أحمد بن حنبل غرقت سوی البیت الذی فیه ضریحه،فإن الماء دخل الدهلیز علو ذراع،و وقف بإذن اللّه تعالی،و بقیت البواری علیها الغبار حول القبر.
و لقد علق المرحوم السماوی علی هذا القول بقوله:
ألا من عذیری یا بنی العلم و الحجی من الیاوفی الحنبلی المجلل
یکذّبنی إن قلت قبر ابن فالهم علیه استدار الماء للمتوکل
و یزعم حارّ الماء ثمّ تجل غبرة علی حصر کانت بقبر ابن حنبل
هذه لمحة موجزة عن السیرة المستمرة فی نقل الأموات و نبشهم بعد دفنهم، و هی باقیة حتی یومنا هذا عند إخواننا السنة،فإنهم ینقلون الموتی من الأماکن.فمن مات خارج العراق نقل إلیه،و من مات فی العراق فإما أن ینقل إلی بلده و مسقط رأسه،أو یدفن فی مقبرة ولیّ کأبی حنیفة و الإمام الأعظم و الشیخ معروف ببغداد، و البعض ینقل من بغداد إلی مقبرة الخاتونة فی السماوة إن کان من أهلها،و أغلب أهل الجنوب من إخواننا السنّة ینقلون موتاهم إلی بلد الزبیر،و دفنهم هناک تبرکا بالقبر المنسوب للزبیر بن العوّام.
و قد ذکرنا سابقا أن هذه النسبة غیر صحیحة،و أن هذا القبر بنی علی الظنة و التخمین،کما نص علی ذلک بعض المؤرخین (2).
و من الجدیر بالذکر،أن النقل بعد الموت عند المسلمین شائع معمول به منذ الصدر الأول عند جمیع الفرق و المذاهب.
و نذکر ما یحضرنا ذکره الآن فمنهم:
ص:196
1-جعفر بن الفضل بن موسی بن الفرات أبو الفضل المتوفی سنة 391 ه وزیر الدیار المصریة،توفی بمصر،فنقل إلی المدینة.یقول ابن عساکر:و خرجت الأشراف إلی لقائه وفاء بما أحسن إلیهم،ثم یقول:فحجوا به و طافوا و وقفوا فی عرفات،ثم ردّوه للمدینة،و دفنوه فی دار اشتراها من الأشراف بالمدینة (1).و لا ندری هل کان ورود جنازته أیام الحج فحجوا به،أم أنهم خلقوا له حجا و وقفوا بعرفات فی غیر وقت الموسم؟! 2-القاضی أبو بکر محمد بن الطیب الباقلانی المتوفی سنة 404 ه دفن فی داره بنهر طابق،ثم نقل إلی جوار قبر أحمد بن حنبل فی مقبرة باب حرب،و یؤم الناس قبره،و یتبرکون به.یروی أن أحد شیوخ الحنابلة(أبو الفضل التمیمی)حضر یوم وفاته حافیا مع أصحابه،و قعد معهم للعزاء ثلاثة أیام،و کان یزور قبره کل یوم جمعة.
3-أبو البقاء محمد بن المبارک المعروف بابن الخل الشافعی المتوفی ببغداد سنة 552 ه و نقل إلی الکوفة و دفن فیها.
4-صدر الدین أبو بکر الشافعی خرج من بغداد،فنزل بقریة بین همدان و الکرج،فأصبح میتا،فحمل إلی أصفهان و دفن بسیلان.
5-و کذلک ولده عبد المطلب مات بهمدان سنة 580 ه بعد عودته من الحجاز،و حمل إلی أصفهان،و دفن فیها.
6-أحمد الحریزی المتوفی سنة 550 ه و کان عاملا للمقتضی علی نهر الملک و کان من أظلم العالم،و مع هذا یظهر التدین،و کان یجلس علی السجادة و بیده سبحة یسبّح فیها و یقرأ القرآن،و الناس یعذّبون بین یدیه.و کان یعلّق الرجال بأرجلهم، و النساء بأثدائهن،و یضربون بین یدیه و هو یومی إلی الجلاد:الرأس،الوجه.و قد سئم الناس حیاته،فدخل علیه ثلاثة رجال،فضربوه بالسیوف فمات،و حمل إلی بغداد،و دفن فیها،فأصبح و قد خسف بقبره (2).
7-الملک المظفر علی کوجک الترکمانی المتوفی سنة 620 ه ملک أربل،
ص:197
مات فیها فی رمضان،و أوصی أن یحمل إلی مکة فیدفن فی حرم اللّه تعالی،و قال:
استجیر به.فحمل فی تابوت إلی الکوفة،و لم یتفق خروج الحاج فی تلک السنة، فدفن عند أمیر المؤمنین علی بن أبی طالب علیه السّلام.
8-کمال الدین محمد بن علی الشافعی یعرف بابن الزلمکان المتوفی سنة 727 ه بدبیس،و حمل إلی القاهرة،و دفن إلی جوار الشافعی.
9-إمام الحرمین أبو المعالی الجوینی عبد الملک بن عبد اللّه الفقیه الشافعی المتوفی سنة 478 ه و دفن بداره فی نیسابور،ثم نقل منها بعد سنتین.
و کان لموته یوما مشهودا،فلقد أغلقت أبواب البلد،و کشف الناس رءوسهم حتی ما اجترأ أحد أن یغطی رأسه،و صلّی علیه ولده أبو القاسم بعد جهد عظیم من الزحام،و کسر منبره فی الجامع،و قعد الناس للعزاء أیاما،و کان طلبته أربعمائة یطوفون فی البلد نائحین علیه (1)و قد وصف السبکی یوم موته،و أن الطلبة تجوب موکبهم البلد نائحین علیه مکسّرین المحابر و الأقلام،مبالغین فی الصیاح و الضجر (2).و قال الذهبی:استمرت الحالة سنة.
10-أبو الحسین بن سمعون الواعظ المتوفی سنة 387 ه و دفن فی داره بشارع العباس،ثم نقل یوم الخمیس 11 رجب سنة 426 ه و دفن بباب حرب،و کان الباقلانی یقبّل یده لعظیم منزلته.و حکی الخطیب أن ابن سمعون خرج من المدینة الشریفة إلی بیت اللّه،فاشتهی الرطب،فلما کان وقت الإفطار صار الثمر رطبا فلم یأکله،فعاد إلیه من الغد فإذا هو تمر.
11-ابن طولون خمارویه بن أحمد حمو المعتضد.فتک به غلمان بدمشق سنة 212 ه و حمل تابوته إلی مصر،و دفن عند أبیه بسفح المقطم.
12-محمود بن السلطان ملک شاه.مات بأصفهان سنة 487 ه و حمل إلی بغداد،و دفن بالنظامیة.
13-أحمد بن محمد غلام خلیل.المتوفی سنة 275 ه ببغداد،و حمل فی
ص:198
تابوت إلی البصرة.قال الخطیب:غلقت له أسواق مدینة بغداد،و خرج الرجال و النساء لحضور جنازته و الصلاة علیه،فأدرک ذلک بعض الناس وفات بعضهم لسرعة السیر به،و دفن بالبصرة،و بنیت علیه قبة.
یذکر الخطیب فی ترجمته عن عبد اللّه النهاوندی:قلت لغلام الخلیل:ما هذه الأحادیث الرقائق التی تحدّث بها؟قال:وضعناها لنرقق بها قلوب العامة.و عن ابن عدی:سمعت عبدان الأهوازی یقول:قلت لعبد الرحمن بن خراش:هذا الحدیث الذی یحدّث به غلام الخلیل لسلیمان بن بلال من أین له؟قال:سرقه من عبد اللّه بن شیب،و سرقه عبد اللّه بن شبیب من النضر بن سلمة،و وضعه شاذان (1).و کان أکثر ما یتحدّث به بالموضوعات فی مناقب الصحابة و غیرهم من الرجالات،و یتخذها وسیلة لمعاشه،و من وضعه حدیث:(اقتدوا باللذین من بعدی أبی بکر و عمر) (2).
و هو من المحدّثین و الوعّاظ القصّاصین.
و لا یتّسع المجال لأکثر مما ذکرنا فی هذا الاستطراد الذی لا تخفی دواعیه و أسبابه إذا ما استحضرنا ما شذّ به أقوام جعلوا من أحمد بن حنبل إماما و قدوة، و راحوا یطلقون التهم و التخرّصات فی قضایا الأموات و القبور،و قضیة النقل بعد الموت،و ما یتعلق بالدفن أمر معروف منذ صدر الإسلام إلی یومنا هذا،و قد سار علیه السلف و الخلف،فمن ینقل إلی المدینة،و من ینقل إلی دمشق،و من ینقل إلی بغداد،و من ینقل إلی القاهرة،و من ینقل من رمسه القدیم إلی مکان آخر کما رأینا من نقل إلی مقبرة أحمد..
و مقبرة أحمد بن حنبل فی محلة الحربیة التی تقع وراء مقابر قریش،و فیها الباب الذی کان بنو شیبان قد اتخذوها مقبرة لمن یموت منهم،ثم لمن یموت من أهل الحدیث.فدفن أحمد بن حنبل فی هذا الباب،لأنه إمام الحدیث-کما قالوا-و لأنه من بنی شیبان.
أما الحربیة أو باب حرب،فقد نسب إلی حرب بن عبد اللّه أو حرب بن عبد
ص:199
الملک أحد قواد المنصور،ثم غلب علیها اسم أحمد فصارت تسمی مقبرة أحمد.
و أصبحت مزارا تهفو إلیه قلوب الحنابلة و تعجّ بالدعاء،و بقعة مقدسة توضع فی زوارها المنامات،حتی جرفتها السیول-کما علمنا-و غرق قبر أحمد علی اختلاف فی تعیین سنة الغرق فی القرن السادس أو السابع؟ و لما غرق القبر،تحوّل الناس إلی زیارة قبر ولده عبد اللّه فی القطیعة،یؤدّون الزیارات،و یدعون لقضاء الحوائج.
و أحمد بن حنبل هو آخر رؤساء المذاهب وفاة.توفی أبو حنیفة سنة 150 ه و مالک سنة 179 ه و الشافعی سنة 204 ه ثم أحمد سنة 241 ه و مذهبه قلیل الانتشار، محدود الاتباع.فهو لیس کمذهب أبی حنیفة عددا فی البلاد الإسلامیة،و لا کمذهب الشافعی فی مصر.
سبق أن أشرنا إلی مشاعر المتوکل تجاه أحمد،و کونها واحدة من عوامل المیل إلی أحمد بن حنبل،إضافة إلی الأغراض السیاسیة،و قد قلنا إن أحمد لم یستجب تماما لرغبة المتوکل فی(تنصیبه)رئیسا مذهبیا،و لو لا التهمة التی غیّرت مجری السعی السلطانی إلی ضمّ أحمد فی تلک المرحلة،لاکتملت مقتضیات السیاسة فی تبنی أحمد تماما و هو فی حیاته،و قد کانت التهمة خطیرة تهتزّ لها أبدان بنی العباس غیظا،و هی التعاون مع العلویین،فداهموا منزله و منزل ابنه،و دلوا شمعة فی البئر، و وجهوا النسوة ففتشن الحرم،مما أخر فی إعلان المذهب رسمیا.
و بعد ثبوت براءته،لم یعد أمام المتوکل من مانع یمنعه من الاهتمام بأحمد اهتماما بالغا،فکان یأمر بالمال،و یتوجّع لما یصیبه،و اقتنع قناعة تامة بأحمد بن حنبل.و یبدو أن الموت عاجله،فاستأنف ما أراد منه فی غیابه.
و لو بحثنا فی اتجاه أحمد بن حنبل و آرائه فی الحکام،لوجدنا أن ابن حنبل یری أن من صفة المؤمن من أهل السنة و الجماعة:صلاة العیدین و الخسوف و الجمعة و الجماعات مع کل أمیر برّ أو فاجر،و الدعاء لأئمة المسلمین بالصلاح،و عدم الخروج
ص:200
علیهم بالسیف (1).و عند ما داهموا بیته بتهمة،إیوائه علویا کان یقول:ما أعرف من هذا شیئا،و إن لأری طاعته فی العسر و الیسر و المنشط و المکره و الأثرة.و إنی أتأسف علی تخلّفی عن الصلاة فی جماعة،و عن حضور الجمعة و دعوة المسلمین (2).
و لما جاء المتوکل،أظهر ما یتّفق مع آراء أحمد و معتقداته و منهجه،فأمر بترک النظر و المباحثة فی الجدال،و أمر الناس بالتسلیم و التقلید،و الترک لما کان علیه الناس فی أیام المعتصم و الواثق و المأمون.و أمر شیوخ المحدّثین بالتحدیث و إظهار السنة و الجماعة (3).و أشخص الفقهاء و المحدّثین،و کان فیهم:مصعب الزبیری، و إسحاق بن أبی إسرائیل،و إبراهیم بن عبد اللّه الهروی،و عبد اللّه و عثمان-ابنا أبی شیبة-فقسّمت بینهم الجوائز،و أجریت علیهم الأرزاق،و أمرهم المتوکل أن یجلسوا للناس و یحدّثوا بالأحادیث التی فیها الرد علی المعتزلة و الجهمیة،و أن یحدّثوا بالأحادیث فی الرؤیة.فجلس عثمان بن أبی شیبة فی مدینة المنصور،و وضع له منبر،و اجتمع علیه نحو من ثلاثین ألفا من الناس.و جلس أبو بکر بن أبی شیبة فی مسجد الرصافة،و اجتمع علیه نحو من ثلاثین ألفا.
و قد کان من نتائج تقیّد أحمد بالمأثور عنده و تقلیده أن یری الحاکم قد ولاه اللّه.و لذلک نجده یدعو إلی:السمع و الطاعة للأئمة،و أمیر المؤمنین البرّ و الفاجر، و من ولّی الخلافة،و من اجتمع الناس علیه و رضوه،و من غلبهم بالسیف حتی صار خلیفة و یسمی أمیر المؤمنین ا ه.
و لا بد أن تکون للمتوکل أولیة فی ذلک بالنسبة للإمام أحمد،فإذا کان یعتقد بالحکام الذین ملکوا الأمر و السلطة بعد الإسلام بعمومهم،فإن المتوکل أولی بکل ما کان یراه و یعتقده،غیر أن التردّد و السلوک الذی سلکه أحمد ینمّ عن أمر نستشعر منه الإحراج إن لم یکن به غناء عن الکنایة أو التلمیح؟و قد کتب إلیه المتوکل بعد أن استیقن من وضعه و قال:إنی أحب أن آنس بقربک و بالنظر إلیک،و یحصل لی برکة دعائک.و لکنّا نجده لا یقرب أکل المتوکل،و لا یمسّ منه شیئا.و یطوی صائما حتی
ص:201
جاع-و هو عند المتوکل-جوعا عظیما،و کاد أن یقتله الجوع.و قد قال بعض الأمراء للمتوکل:إن أحمد لا یأکل لک طعاما،و لا یشرب لک شرابا،و لا یجلس علی فراشک،و یحرّم ما تشربه.فقال:و اللّه لو نشر المعتصم،و کلّمنی فی أحمد؛ما قبلت منه (1).و یروی أنه کان یتألم من هذا اللقاء و یقول:سلمت منهم طول عمری،ثم ابتلیت بهم فی آخره (2).فلما ذا هذا الألم؟و کیف یتفق ذلک مع الدعوة إلی الطاعة و الاستسلام إذا کان الاتصال بالحکام ابتلاء؟و من یکن سببا فی البلاء لا بد أن حاله علی غیر ما یدعو إلیه الإسلام،و بخلاف ما یستریح إلیه المؤمن.بل أن أحمد بن حنبل یری أن تکریم المتوکل له یجعله فی غم،ففی روایة أن عمّ أحمد قال له:لو دخلت علی الخلیفة،فإنک تکرم علیه؟فقال:إنما غمّی من کرامتی علیه.
و نری الإمام أحمد یصرف همّه إلی ما أحاطه به المتوکل من منح و عطایا، و یصبح شغله الشاغل أن یمنع أهله و عمّه-الذی یرافقه دوما-من أخذها،و یلومهم و یعظهم فی کلام طویل.فیحتجّون علیه بالحدیث:«ما جاءک من هذا المال و أنت غیر سائل و لا مستشرف؛فخذه».و أن ابن عمر و ابن عباس قبلا جوائز السلطان.و یقول:
و ما هذا و ذاک سواء.و لو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه و لیس بظلم و لا جور؛لم أبال.
فکیف یقرّ الظلم و الجور،و تصبح الطاعة من صفات المؤمن؟و رغم أن أحمد حصر سبب رفضه و ابتعاده عن الحاکم المتوکل بالناحیة المالیة،فإنه لم یتمکن أن یعزلها عن أسس و حقیقة الحکم القائم.و خلاصة الأمر،أن الإمام أحمد یدعو إلی السمع و الطاعة علی الطریقة التی مرّت بنا متأثرا بدعاة السلاطین و سدنة الملوک الذین دسّوا فی الأثر ما لیس له علاقة بمبادئ الإسلام و عدالة السنّة،و یعارض دعوته بسلوکه هذا الذی تقتضیه بدائه العقول،فضلا عن تعالیم الإسلام.ثم لا یتجاوز دائرة السلبیة و ضیق المجال الذی یتصرّف فیه إلی رحاب المسئولیة الدینیة فی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر لدی السلطان الجائر باعترافه هو،و لیس هناک ما یمنع من خشیة علیه شخصیة أو عداء من جانب المتوکل یمکن أن یؤدی به
ص:202
إلی التلف و الهلاک.فجسور الودّ قائمة،و حبال الوصل ممدودة،و الفترة تشهد سواه ممن یقوم بهذا الواجب.و فی سیرة إسحاق بن حنبل عمّه-ما یشیر إلی مخالفة أحمد لیس فی أمر المال فحسب،بل فی نظرته إلی ما یتاح له من عمل.
فیسأله الدخول علی الخلیفة لیأمره و ینهاه قائلا له:إنه یقبل منک.و هذا إسحاق بن راهویه یدخل علی ابن طاهر فیأمره و ینهاه،فیجیبه أحمد بالسلبیة التی لا یرجی تغییرها:الدنو منهم فتنة،و الجلوس معهم فتنة،نحن متباعدون منهم و ما أرانا نسلم،فکیف لو قربنا منهم؟هذا و الإمام أحمد فی ظل دولة تکاد تعلن آراءه و نهجه مذهبا لها،و یتقرّب إلیه ملکها بودّ کبیر،و لیس للحکام معه عداء أو مع أهله،و لا یشکل وجوده خطرا علیهم.
و هنا نشیر إلی منهج أهل البیت النبوی الکرام،و أولاد الإمام أمیر المؤمنین علی علیه السّلام و نسوق مثالین:أحدهما فی عصر الأمویین،و الآخر فی عهد العباسیین، إذ لم یتخلّ الحکام عنهم فی کلا العصرین،و استمروا فی معاملتهم بقسوة دمویة و سیاسة لا إنسانیة،لأنهم یشکلون خطرا یتهدّد کیانهم الجائر و سلطانهم الظالم.
عن المسئولیة الدینیة و وجه القیام بها فی العصر الأموی نشیر إلی الإمام علی بن الحسین زین العابدین،الذی عاش مأساة الطف،و شبّ و جریمة الأمویین تصبغ بالعار کل أوجه الحیاة،فسلک طریق الانقطاع إلی اللّه،و توجیه الأمة بالنصح و الإرشاد،و هو فی ظل حکم السلالة الأمویة،فیری أن التارک للأمر بالمعروف و النهی عن المنکر کنابذ کتاب اللّه وراء ظهره،إلاّ أن یتّقی تقاة.قیل:و ما تقاته؟قال:
«یخاف جبارا عنیدا أن یفرط علیه أو أن یطغی» (1).
و عن الضرورة التی تجعل التقیة جنّة المؤمن عملا بقوله تعالی: لا یَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْکافِرِینَ أَوْلِیاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِینَ وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ فَلَیْسَ مِنَ اللّهِ فِی شَیْءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً نحیل إلی ما ضمّه هذا الکتاب من صفحات من سیرة الإمام الصادق علیه السّلام و هو یواجه الطغیان العباسی،و یری أن التعرّض للدولة قتل للنفس،و اللّه سبحانه و تعالی یقول: وَ لا تُلْقُوا بِأَیْدِیکُمْ إِلَی التَّهْلُکَةِ فتحامی الحکام،و دعا إلی وقایة الأنفس و حفظ
ص:203
الدماء،لأن العباسیین شأنهم شأن من سبقهم من الظلمة لا یتورّعون عن سفک دماء آل البیت بسبب أو بدون سبب.و مع شدّة حذره علیه السّلام تعرّض إلی القتل علی ید المنصور تسع مرات،غیر أنه علیه السّلام وضع قواعد الدعوة الصامتة،و خاطب أصحابه بأن یکونوا دعاة صامتین لآل البیت،ثم رسم للعلماء و المتکلمین من أصحابه الأدوار،و حدد المسئولیات کما مر بنا فی هذا الجزء من الکتاب و الأجزاء السابقة.
لم یؤثّر تردّد أحمد بن حنبل،فقد کان سلوکا لا یجاوز الأسرة،یجری کشأن عائلی بحت مناطه المال.أما آراء أحمد السابقة فهی شائعة عن مریدیه و معروفة لالتماع شخصه و اشتهار اسمه فی المحنة،و المتوکل یعمل علی إلباس عهده صفة الحنبلیة،و أحمد یتعاون مع هذا الاتجاه،و یستجیب برغم نفوره من المخالطة؛إلا أنه کان له الرأی فی الأمور المذهبیة،و کان المتوکل یستشیره فی التعیین للقضاء،و یأخذ برأی أحمد کما حدث عند ما بعث المتوکل إلی أحمد یستشیره فی تولیة محمد بن شجاع الثلجی من فقهاء الحنفیة.فقال:لا،و لا علی حارس.و رأی أحمد فیه:إنه مبتدع صاحب هوی (1)و أنفذ إلیه المتوکل بصاحب لم یعلمه-و نورد القصة بسیاقها و هی جدیرة بالبحث و التعلیق-:أن له جاریة بها صرع،و سأله أن یدعو اللّه لها بالعافیة.فأخرج له أحمد نعل خشب بشراک خوص للوضوء،فدفعه إلی صاحب له، و قال له:تمضی إلی دار أمیر المؤمنین،و تجلس عند رأس الجاریة،و تقول له:یقول لک أحمد أیما أحب إلیک،تخرج من هذه الجاریة أو أصفع الآخر بهذه النعل؟فمضی إلیه،و قال له مثل ما قال أحمد،فقال المارد علی لسان الجاریة:السمع و الطاعة،لو أمرنا أحمد أن لا نقیم فی العراق ما أقمنا به،إنه أطاع اللّه،و من أطاع اللّه أطاعه کل شیء.و خرج من الجاریة،و هدأت و زوّجت و رزقت أولادا (2).
و علی عهد أحمد بزغ نجم الحنابلة،و طلع فجر لیلهم الدامس بفضل انتصار المتوکل للإمام أحمد.و یحلو للحنابلة أن یصوّروا أحمدا وحیدا فی المحنة، لیتدرّجوا فی غلوّهم،متناسین أن الأمر صنعته أهواء الحکام و أغراض السیاسة.
ص:204
فتحوّل البعض عن طریقة السلطة العباسیة،و بقی أحمد وحیدا فی أجواء التحوّل و التغییر،مستمسکا بالطریقة التی تهاب البحث و تخشی النقاش،و إن کانت تحرز کنزا و تدّخر ثروة من فهم الکتاب بأی طریقة کانت،و تمثّل السنة بأیّ صورة تمّت، لأن الظاهر القائم علی وضوح النص و تحریّ السبب معین فیّاض یوفّر الحجة و یغنی فی الجدل.
بإسناده قال المیمونی:سمعت علی بن المدینی یقول:ما قام أحد بأمر الإسلام بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کما قام أحمد بن حنبل.قال:قلت له:یا أبا الحسن و لا أبو بکر الصدیق؟قال:و لا أبو بکر الصدیق.إن أبا بکر الصدیق کان له أعوان و أصحاب، و أحمد بن حنبل لم یکن له أعوان و لا أصحاب ا ه.
سبق أن قدّمنا أن الکرابیسی کان أول ضحایا السلطة بعد جنازة ابن حنبل،و قد بدر من المتوکل من مشاعر التقدیس و الإجلال لأحمد بن حنبل ما لم یحظ به أحمد من رؤساء المذاهب الذین سبقوه،فیقول لمحمد بن عبد اللّه بن طاهر:طوبی لک، صلّیت علی أحمد بن حنبل.
و بعد موت أحمد اندفع أصحابه تحت شعار-إحیاء السنّة و محاربة البدع-إلی إیذاء الناس و الاعتداء علی الآخرین.و لمّا تصل الأخبار إلی المتوکل یقول لصاحب الخبر:لا ترفع إلیّ من خبرهم شیئا،و شدّ علی أیدیهم فإنهم و صاحبهم من سادات أمّة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1).
یقول ابن کثیر:(کان المتوکل محببا إلی رعیته،قائما فی نصرة أهل السنة،و قد شبّهه بعضهم بأبی بکر فی قتله(أهل الردة)لأنه نصر الحق و ردّه علیهم حتی رجعوا إلی الدین،و بعمر بن عبد العزیز حین ردّ مظالم بنی أمیة،و قد أظهر السنّة بعد البدعة،و أخمد أهل البدع و بدعتهم بعد انتشارها و اشتهارها،فرحمه اللّه).
و تولی الحنابلة-و علی رأسهم صالح بن أحمد-نشر المنامات التی تصوّره بأنوار قدسیة و بین یدی ربه،لأنه محیی السنة ردا لرعایته و تبنّیه لأمرهم.فقد بلغ الأمر بالمتوکل أنه أرسل جماعات تحصی عدد المصلّین أو المشیعین.
ص:205
و أخذ المتوکل یروّج المنامات عن نفسه علی طریقتهم،فیدّعی أنه رأی النبی الأعظم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی المنام،و قام إلیه فقال له صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:تقوم إلیّ و أنت خلیفة.و یعبّر له الحاشیة ذلک بقولهم:أبشر یا أمیر المؤمنین،أما قیامک إلیه فقیامک بالسنة،و قد عدّک من الخلفاء.فیسر بذلک (1).
و هکذا حصرت السنّة فی رعایة الحنابلة،و ترک حبلهم علی الغارب یعیثون فی الأرض و یرتکبون ما حمل ابن تیمیة-أبا بدعة الوهابیة و شیخ مذهبهم-أن یقول:بأنهم أتوا من المنکرات و الإمام أحمد بریء منهم (2).و هو قول یرمی به إلی نفی المسئولیة عن أسلافه،و یفتقر إلی الصحة،لأن رجال أحمد کالمروذی و أصحابه کانوا علی رأس العامة یهیّجونهم إذا هدأوا،و یستفزّونهم إذا خمدوا.و قد کانت البدایة فی عهد المتوکل،ثم توالت عهود هیمنتهم و تحکمهم و إلزام الناس بأفکارهم المجسّمة و غیرها،حتی بلغ الأمر تهدید من یخالفهم،و استعداء الحکام علیه،و استخدام قوتهم لأغراض مذهبهم.فکان من وجوه ابتلاء الأمة أن یتعرّض کل من لا یری رأیهم فی التجسیم و الرؤیة (3)للأذی،فی حین یبقی یحیی بن أکثم-و هو من أرکان الحکم فی عهد المأمون-علی مکانته،و یظل فی منزلته من الخلیفة،لأن أحمد بن حنبل راض عنه.قال المأمون لیحیی بن أکثم:من الذی یقول-و هو یعرّض به-:
قاض یری الحدّ فی الزناء و لا یری علی من یلوط من بأس
قال:أو ما یعرف أمیر المؤمنین من قاله؟قال:لا.قال:یقوله الفاجر أحمد بن أبی نعیم الذی یقول:
حاکمنا یرتشی،و قاضینا یلوط،و الرأس شرّ ما راس
لا أحسب الجور ینقضی،و علی ال أمة وال من آل عباس
(4)و لمّا کان یحیی بن أکثم قاضیا للبصرة،رفع الناس إلی المأمون أنه أفسد أولادهم بکثرة لواطه،و بلغ من إذاعته و مجاهرته باللواط فی بغداد أن المأمون أمره أن
ص:206
یفرض لنفسه فرضا یرکبون برکوبه،و یتصرّفون فی أموره.ففرض أربعمائة غلام مردا اختارهم حسان الوجوه،فافتضح بهم.
قال عبد اللّه بن أحمد بن حنبل:ذکر یحیی بن أکثم عند أبی فقال:ما عرفت فیه بدعة.فبلغت یحیی فقال:صدق أبو عبد اللّه،ما عرفنی ببدعة قط.قال:و ذکر ما یرمیه الناس به فقال:سبحان اللّه!سبحان اللّه،و من یقول هذا؟و أنکر ذلک أحمد إنکارا شدیدا (1).
و علی شاکلة یحیی بن أکثم کانت دفّة حکم المتوکل،فلم یکن فی وزرائه و المتقدّمین من کتّابه و قوّاده من یوصف بجود و لا إفضال،أو یتعالی عن مجون و طرب.
یظهر لنا من ذلک أن صفة إحیاء السنة التی تعنی الالتزام بأهداب الدین و محاربة الخروج عن أصول الإسلام تخفی تحتها واقعا سیئا کأی حاکم آخر ممن تستروا بالدین و اتخذوا شعائر الإسلام غطاء لجرائمهم.و هذا الواقع بعید عن أنظار العامة،فهم فی انفعال لا یکاد یخفّ حتی یشتدّ،و انقیادهم إلی الذین أطلقوا هذه الصفة انقیاد أعمی، حتی کأن العامة تنظر و تنطق بأنظار و ألسنة النابهین فی تلک الفترة و المتزعمین الذین راحوا یکیلون المدائح للمنقذ المتوکل،و یشیعون الأخبار و المنامات عن جزائه عند اللّه،و مکانته فی الدین،فتأخذ سیاسته علی أنها السنّة،و یحسب کل ما یصدر عنه من الدین و التقوی،و کان من سمات حکمه الغالبة عداؤه الشدید لآل علی،و نقمته الشدیدة علی الشیعة،و من سوء حظ الأمة أن یتاح للحکام مثل هذه الأدوار لیؤثروا فی العامة بصفاتهم الدینیة،و هم فی غفلة عن حقیقة و دوافع من یحکمهم،لأن الوسطاء الذین یقومون بذلک یحجبون بمکاناتهم و منازلهم الدینیة الحقیقیة،و لا یرغبون فی خروج العامة عن أغراضهم.
حدّث نصر بن علی الجهضمی بحدیث:أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أخذ بید حسن و حسین فقال:«من أحبنی و أحب هذین و أباهما و أمهما؛کان معی فی درجتی یوم القیامة»فأمر المتوکل بضربه ألف سوط،فکلّموه بأن الرجل من أهل السنة،و لم یزالوا
ص:207
به حتی ترکه،و یعقّب الخطیب البغدادی:إنما أمر المتوکل بضربه لأنه ظنه رافضیا، فلما علم أنه من أهل السنة ترکه!!و أصاب أهل البیت فی ظل المتوکل محنة قاسیة و بلاء عظیم،و کان الإمام علی الهادی یقیم فی المدینة،و یقوم مقام الإمامة و حوله شیعته و أصحابه.فکتب عبد اللّه بن محمد بن داود العباسی إلی المتوکل عن حاله.
فکتب المتوکل إلی الإمام الهادی بالشخوص من المدینة،فشخصه عبد اللّه بن محمد بن داود و معه یحیی بن هرثمة،و قد اضطر إسحاق بن إبراهیم أن یدخله إلی بغداد فی اللیل لمّا رأی تشوّق الناس إلیه و اجتماعهم لرؤیته،فأقام إلی اللیل،و دخل به فی اللیل،فأقام ببغداد بعض تلک اللیلة،ثم نفذ إلی سرّ من رأی (1).ثم کان من المتوکل فی الإساءة إلی الإمام الهادی ما تجاوز به کل حدّ الأدب و اللیاقة.
و شارک المتوکل یزید بن معاویة فی جریمته النکراء التی سوّدت وجوه بنی أمیة و من والاهم إلی یوم الدین،فأمر المتوکل سنة 236 ه بهدم قبر أبی الأحرار الإمام الحسین علیه السّلام و محو أرضه و إزالة أثره،و أن یعاقب کل من وجد به.
و لا نعقّب بشیء آخر،فلا مزید لمستزید أمام ما تصرخ به شواهد سیرته و أفعاله.
یقول الأستاذ حسن خلیفة:و قد کان قاسی القلب،ظالما،حتی أطلق علیه المؤرّخون اسم(نیرون المسلمین) (2).
:
کان أحمد فی کلّ ما یعرض له من المسائل یتوجّس من القول فیها،سواء کانت فی مسائل واقعة تدخل فی الخلاف،أو مسائل عامة تمسّ المعاملات و الحیاة،حتی قلنا إنه یعانی من هاجس یعبّر عنه هو:العلم الذی علمه،أو المذاهب التی أدرک أصحابها و حدّث بها.مما جعله فی کثیر من الأمور یغمض فی الجواب،و یبعد کثیرا عن القطع و الجزم.و قد أسهمت خشیته من السلطان فی إضعاف الأحکام التی تترتب علی أفعال المتوکل،کإقدامه علی حرث قبر الإمام الحسین علیه السّلام.فلم نعلم له
ص:208
موقفا یلیق برجل فی منزلته.و بتأثیر هذا الموقف راحت توجه الأسئلة إلیه:هل یلعن یزید؟فقد تظافرت أراؤه السابقة فی إطاعة الحکام و عدم الخروج علیهم مع صمته علی التجرؤ علی مثل هذه الأسئلة.و أغلب الروایات أنه کان یجیب بلعن یزید،و یقول:
کیف لا ألعنه من لعنه اللّه فی ثلاث آیات من کتابه العزیز فی الرعد و القتال و الأحزاب.
و أحمد بن حنبل مبالغ فی تقریر شرف الصحبة،فیری أن الصحابی هو کل من صحب الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم سنة أو شهرا أو یوما أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه.و هو ما یتّفق مع نزعته فی تقدیس السلف،و میله إلی الأخذ بما عدّ من الأثر،و المشهور الذی تعاهده حکام بنی أمیة و بنی العباس بالرعایة و الحمایة و الترغیب فی الوضع و الانتحال.
فکان علی عهد معاویة الحدیث:أصحابی کالنجوم بأیهم اقتدیتم اهتدیتم.و هنا علی رأی أحمد،و عملا بهذا الحدیث فإن معاویة صحابی و إمام من أولئک الذین یعنیهم فی السمع و الطاعة.
و فی عهد بنی العباس کانوا یجعلون المحدّثین یقولون:معاویة بن أبی سفیان ستر أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فإذا کشف الرجل الستر اجترئ علی ما ورائه (1).و اللّه أعلم بدوافع قول أحمد:خیر هذه الأمة بعد نبیها أبی بکر الصدیق،ثم عمر بن الخطاب،ثم عثمان بن عفان.و یتوقف،ثم یجعل الإمام علی ضمن أصحاب الشوری:الزبیر و طلحة و عبد الرحمن بن عوف و سعد (2).
و یری الشیخ محمد أبو زهرة أن أحمد فی ذلک یقف موقفا وسطا بین أبی حنیفة و مالک(فأبو حنیفة فی روایة صحیحة عنه یفضّل علیا علی عثمان رضی اللّه عنه...
و مالک یعدّ السبق فی ثلاثة:أبی بکر و عمر و عثمان،ثم یذکر أن بعدّ ذلک یستوی الناس، أما أحمد فإنه لا یعدّ سیف الإسلام فی سائر الناس،بل یجعله فی أصحاب الشوری الخمسة بعد رفع عثمان رضی اللّه عنه،و الناس بعد ذلک دونهم علی مراتب) (3).
و نحن نری باعتماد الأقوال الأخری لأحمد أن أحمد واقع تحت تأثیر الخوف من المتوکل الذی کان من أشدّ النواصب و المعادین للإمام علی و آل بیته،و هو مشفق
ص:209
من هذا الطاغی،أو عامل بما دعا إلیه من الطاعة التی یبرّرها لنفسه.فعبد اللّه بن أحمد یسأل أباه:یا أبی،ما تقول فی التفضیل؟فیقول:فی الخلافة أبو بکر و عمر و عثمان.فیقول عبد اللّه:فعلی بن أبی طالب؟فیقول أحمد:یا بنی،علی بن أبی طالب من أهل بیت لا یقاس بهم أحد (1).و لعلنا لو ناقشناه لقال:ذلک ما علمته من السلف فی التفضیل،و أما القول الآخر فهو ما یقتضیه الحق.و عن عبد اللّه أیضا قال:کنت بین یدی أبی جالسا ذات یوم،فجاءت طائفة من الکرخیة،فذکروا خلافة أبی بکر و خلافة عمر و خلافة عثمان فأکثروا،و ذکروا خلافة علی بن أبی طالب فزادوا و أطالوا،فرفع أبی رأسه إلیهم فقال:یا هؤلاء قد أکثرتم القول فی علی و الخلافة،إن الخلافة لم تزیّن علی،بل علیّ زیّنها (2).و للعلاّمة المعتزلی ابن أبی الحدید قول فی ذلک فیقول:و هذا الکلام دال بفحواه و مفهومه:أن غیره ازدان بالخلافة و تممت نقیصته،و إن علیا لم یکن فیه نقص یحتاج إلی أن یتمم بالخلافة،و الخلافة ذات نقص فی نفسها،فتمم نقصها فی ولایته إیاها...
ثم لا نعدم أن نری أقوالا تومئ إلی ردّه علی زمرة المتوکل و النواصب کقوله:
من لم یثبت الإمامة لعلی فهو أضلّ من حمار (3).
و علی ذلک،فإن تهمة إیواء العلوی لها مغزی کبیر إن لم تکن حقیقة واقعة، و نحن بذلک لا نرید تحویل صورة أحمد،أو نرمی إلی إخراجه مما هو فیه؟بل إن الموقف من العلویین هو المعیار الثابت لمن کان مثله فی الزهد و التدیّن.
و ابن حنبل لم یکن منقطعا عن الشیعة،بل کان علی صلة مع رجالهم رغم الإجراءات التی اتخذها المتوکل فی تتبع الشیعة.و ربما وجّه بعض المخلصین للإمام أحمد لوما شدیدا علی اتصاله بمن عرف فی التشیع،فکان جوابه:سبحان اللّه،رجل أحبّ قوما من أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم نقول له لا تحبهم؟هو ثقة (4).
کما أنه أخذ العلم عن کثیر من رجال الشیعة و کانوا من شیوخه،و قد ذکرهم ابن
ص:210
الجوزی فی المناقب،و غیره ممن کتب فی رجال الحدیث،ذکرهم فی تعداد شیوخ أحمد مع ثبوت تشیّعهم.منهم:
-إسماعیل بن أبان الأزدی المتوفی سنة 216 ه و هو من شیوخ البخاری و ابن معین أیضا.
-إسحاق بن منصور السلوی المتوفی سنة 205 ه خرّج حدیثه أصحاب الصحاح الستة.
-تلید بن سلیمان المحاربی المتوفی سنة 110 ه خرّج حدیثه الترمذی و قال فیه أحمد:إن مذهبه التشیع،و لم أر فیه بأسا.
و لسنا هنا فی موضع استقصائهم،و إنما أوردنا أسماءهم کأمثلة.و تسمع عن رحلة أحمد لطلب الحدیث،فقد کانت إلی عبد الرزاق بن همام الصنعانی،و هو من رجال الشیعة و محدّثیهم ترجمه الذهبی:أحد الأعلام الثقات...و هو خزانة علم، و رحل الناس إلیه:أحمد و إسحاق و یحیی و الذهلی جعفر بن أبی عثمان الطیالسی قال:سمعت ابن معین یقول سمعت من عبد الرزاق کلاما یوما،فاستدللت به علی تشیّعه،فقلت،إن أساتذتک الذین أخذت عنهم کلهم أصحاب سنة:معمر و مالک و ابن جریج و سفیان و الأوزاعی،فعمّن أخذت هذا المذهب؟فقال:قدم علینا جعفر بن سلیمان الضبعی،فرأیته فاضلا حسن الهدی،فأخذت هذا عنه.و ذکر رجل معاویة فی مجلسه،فقال عبد الرزاق:لا تقذر مجلسنا بذکر ولد أبی سفیان.قال أحمد بن صالح:قلت لأحمد بن حنبل:هل رأیت أحسن حدیثا من عبد الرزاق؟ قال:لا (1).
و أحمد بن حنبل یقرن عزمه علی الخروج إلی مکة لیقضی حجة الإسلام بالمضی إلی عبد الرزاق إلی صنعاء بعد الحج،و کان یرافقه یحیی بن معین،و یشدّ الرحال علی ذلک،بل إنه یبقی علی نیته و هو یلتقی بعبد الرزاق فی مکّة.و إلیک نص صالح بن أحمد:عزم أبی علی الخروج إلی مکة لیقضی حجة الإسلام،و رافق یحیی بن معین،فقال:نمضی إن شاء اللّه،فنقضی حجتنا،و نمضی إلی عبد الرزاق
ص:211
إلی صنعاء نسمع منه.فوردنا مکة،و طفنا طواف الورود،فإذا عبد الرزاق فی الطواف یطوف،فطاف و خرج إلی المقام فصلی رکعتین و جلس،فتممنا طوافنا أنا و أحمد و جئنا و عبد الرزاق جالس عند المقام،فقلت لأحمد:هذا عبد الرزاق قد أراحک اللّه من مسیرة شهر ذاهبا و جائیا و من النفقة.فقال:ما کان اللّه یرانی و قد نویت له نیة أفسدها و لا أتمها (1).
توفی عبد الرزاق سنة 211 ه و لذلک تری أن فی مسنده أحادیث تشتمل علی فضائل أهل البیت.یقول الأستاذ محمد رجب البیومی فی کتابه(ابن حنبل):(و قد لحظ بعض کتّاب المغرب أن فی مسند أحمد ما یدل علی شجاعته الأدبیة،فقد ذکر أحادیث تشتمل علی فضائل علی و آل بیته مما لا نجد نظیرها فی صحیح البخاری، و ذلک فی عصر یضطهد العلویین و یناوئهم،و یقف بالمرصاد لمن ینسب إلیهم بعض الخیر فی قلیل أو کثیر...)و معلوم أن المسند روی عن أولاده و أصحابه،و جمع من قبلهم.
و صفوة القول،أن أحمد فی سعیه و طلبه للحدیث و العلم اتصل بالشیعة، و تتلمذ علی رجالهم.و إن کانت هذه العبارة لا تغنی عن نتائج البحث و التعمّق فی حیاته،و قد اکتفینا بهذا القدر.
رأینا أحمد فی حیاته،و رافقناه فی محنته (2)و ذکرنا بعضا من أخباره و سیرته، و اتضح لنا نهجه و منحاه العلمی،و أن کثیرا من أخباره و ما تتضمن صور عظمته کانت من إغراق الحنابلة فی مدحه،لأن أکثر ما أوردوه فی ذلک هو من وحی الخیال و بدافع التعصب،و قد نوّهنا بالمنامات و غیرها و التی یقصد الحنابلة فی کثیر منها لیس إلی رفع منزلة أحمد و تهویل مکانته فحسب؛بل و إلی خدمة معتقداتهم فی التجسیم.نورد لک منها زیادة،فقد اشتهر عن أحمد الجهر بالرؤیة حتی ینقطع نفسه،و الإصرار علی ذلک.و راح أحمد یعضّد الرؤیة فی الآخرة برؤیا له إذ قال أحمد:رأیت اللّه عز و جل
ص:212
فی المنام!!فقلت:یا رب ما أفضل ما تقرّب به المتقرّبون إلیک؟قال:بکلامی یا أحمد (1).
و بإسناده قال أحمد بن محمد الکعدی:رأیت أحمد بن حنبل فی المنام، فقلت:یا أبا عبد اللّه،ما صنع اللّه بک؟قال:غفر لی،ثم قال:یا أحمد ضربت فیّ؟قال:قلت:نعم یا رب.قال:یا أحمد،هذا وجهی،فانظر إلیه،قد أبحتک النظر إلیه!!!! قال عبد اللّه بن الحسین بن موسی:رأیت رجلا من أهل الحدیث-توفی- فیما یری النائم،فقلت له:باللّه علیک ما فعل اللّه بک؟قال:غفر اللّه لی.فقلت:
باللّه؟فقال:باللّه إنه غفر اللّه لی.فقلت:بما ذا غفر اللّه لک؟قال:بمحبتی لأحمد بن حنبل.فقلت:فأنت فی راحة؟فتبسم و قال:أنا فی راحة و فی فرح (2).
و یحدث أحد شیوخهم:رأیت رجلا بجامع الرصافة فی شهر ربیع الآخر من سنة ستین و أربع مائة.فسألته فقال:قد جئت من ستمائة فرسخ.فقلت فی أی حاجة؟قال:
رأیت و أنا ببلدی فی لیلة جمعة کأنی فی صحراء أو فی فضاء عظیم،و الخلق قیام، و أبواب السماء قد فتحت،و ملائکة تنزل من السماء تلبس أقواما ثیابا خضرا و تطیر بهم فی الهواء.فقلت:من هؤلاء الذین قد اختصوا بهذا؟فقالوا لی:هؤلاء الذین یزورون أحمد بن حنبل.فانتبهت و لم ألبث إن أصلحت أمری،و جئت إلی هذا البلد،و زرته دفعات،و أنا عائد إلی بلدی إن شاء اللّه ا ه.إلی ما هنالک من أمور لا تدخل فی دائرة البحث التاریخی،و هی عندهم من الأسس المعتمدة فی تکوین شخصیة أحمد.
فرؤیاهم النبی المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم-کما یدّعون-و أنه أمرهم باتباع أحمد.هو عندهم کأمره فی الیقظة،و قد أثر ذلک فی التحقیق التاریخی عن ترجمة أحمد.
و انتصار المحدّثین علی خصومهم المعتزلة خلق جوا من الاضطراب فی أخباره و سیرته،فتحامل خصومه و مغالاة أنصاره مع إقبال الدولة علیه،أوجد فجوة کبیرة.
کما أن إهمال العامل السیاسی من قبلهم أدی إلی تعدّد وجهات النظر فی الواقع
ص:213
التاریخی،علی أن مشکلة خلق القرآن و قیام المأمون بإلزام الفقهاء فی ذلک أوجد مشکلة کلامیة تحتاج إلی دراسة واسعة فی علم الکلام،و بیان الکلام النفسانی، و تعلّقه بالذات.
کما أن الأسباب التی دعت المأمون إلی هذا الإلزام،و حملته علی نشر ذلک بالقوة کذلک تحتاج إلی دراسة واسعة.
ثم القول بخلق القرآن،هل هو الإحداث،و لا شک أنه محدث،أم أرادوا الخلقة أو التکوین الحادث للکلام و هو من صفات اللّه،و إن صفاته عین ذاته،و قد عرضناها فی هذا الجزء بقدر ما تقتضیه ضرورة البحث.
و غیر بعید أن الحنابلة قد أوهموا علی الناس فی هذه المسألة،و جعلوها فی قالب آخر،و أوردوها لهم بصورة ینکرها الجمیع،و ذلک بتفسیرهم المخلوق بالمکذوب.فقد ورد فی کثیر من أقوال العرب اختلق کذا أی کذب فیه.و قد ورد عن الخلیل بن أحمد-صاحب کتاب العین-أنه کان یمنع أن یوصف الکلام بالمخلوق و یقول:إن الکلام متی وصف بالخلق فالقصد به الکذب،و لهذا یقال:
کلام خلقه فلان أی تقوّله-و قد مر بنا ذلک سابقا-.
و فی أیام المحنة أن بعض الفقهاء لما سئل فی القرآن قال:أصفه بأنه محدث، و لا أقول بأنه مخلوق لقوله تعالی: ما یَأْتِیهِمْ مِنْ ذِکْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ .
فمعنی أنه مخلوق أی مکذوب و هو غیر منزل.و غیر بعید علی قوة دعایة الحنابلة و تغلغلهم فی المجتمع أنهم أفهموا الناس بأن المعتزلة یذهبون إلی خلق القرآن أی إلی عدم کونه منزلا من اللّه سبحانه و تعالی.و بهذا هبّت عواصف الغضب علی المعتزلة،و انتصر علیهم المحدّثون.
کما لا أستبعد أن أکثر الحنابلة-الذین یقومون بنشر هذه الدعایة-لا یفهمون إلاّ المعنی اللغوی،و هو أن المخلوق هو المکذوب،و لم یذهبوا مذهب المعتزلة فی الکلام و ما هو معنی ذلک.
و کیف یستبعد انتشار أمثال هذه الدعایة فی عصر انتشر فیه الجهل و الجمود الفکری،و أصبح الناس یسیر أکثرهم وراء عاطفة عمیاء لا یمیز بین الحق و الباطل،
ص:214
و لکن هلم فاعجب من رجل یدّعی الإمام بالتاریخ،و کلّف نفسه کتابة التاریخ الإسلامی،و لکنه محی أکثر مما کتب،و أفسد أشیاء کثیرة،و عقد مسائل واضحة.
هذا الرجل هو جرجی زیدان،یعیش فی القرن العشرین،و لکنه یعیش فی عقلیة قرون الجهل و الجمود،فهو یذکر لنا فی تاریخه الذی أسماه(التمدن الإسلامی) 141/3 ط 1 أن المأمون تمسّک بمذهب الاعتزال،و قرّب إلیه أشیاخه،و صرح بأقوال لم یقو هؤلاء علی التصریح بها خوفا من غضب الفقهاء،و فی جملتها القول بخلق القرآن،أی أنه غیر منزل.
فأنت تری أن جرجی زیدان ینسب للمعتزلة إنکار نزول القرآن،و هذا کفر محض،و هو افتراء محض ناشئ من سوء الفهم،و عدم الإلمام بأطراف المسألة، و جهل بالمسائل الکلامیة.
و لا نودّ هنا أن نقف مع مؤلف التمدّن الإسلامی فنکشف أخطاءه المتعمدة و غیرها.فنحن قد سجلنا علیه الکثیر من ذلک،و یکفی هنا تغییره لهذه المسألة، و تحویلها من الصراع الفکری الحاد إلی جمود لا یتعدی الخلاف بمفهوم اللفظ اللغوی الذی یجعل المسألة من أبسط المسائل و أوضحها.و إن إطلاق المخلوق علی المکذوب أمر لا یحتاج إلی أبحاث علمیة و منازعات کلامیة بین المعتزلة و المحدثین.
و کما قلنا إن الحنابلة قد انتصروا علی خصومهم بما کان لکلمة مخلوق من دلالة،و هی أنه مکذوب.و بهذا استطاعوا أن یحرّکوا شعور المجتمع ضدّهم.و لکن قوة الحکم و عنف المؤاخذة و حمل الناس قسرا علی القول بخلق القرآن جعل للمعتزلة قوة یتحصّنون بها.حتی إذا حان الوقت،و زال ذلک الحکم،و تبدّل وضع الدولة؛ فشل المعتزلة فشلا ذریعا،و نالهم الأذی،و نسب الناس إلیهم کل قبیح.و کان لثبات أحمد،و للظروف التی ساعدته علی ذلک أثر فی طلوع نجمه،بعد أن أفل نجم المعتزلة بقیام المتوکل العباسی،و رفعه للمحنة.و لعل من هذا الفهم لکلمة مخلوق، و اتهام المعتزلة بأنهم ینفون وجوده و تنزیله،کان للمتوکل شأن بین المحدّثین،فجمع العلماء من الفقهاء و المحدثین و کان فیهم-کما مر بنا-مصعب الزبیری،و إسحاق بن أبی إسرائیل،و إبراهیم الهروی،و عبد اللّه و عثمان ابنا أبی شیبة،فقسمت بینهم الجوائز،و أجریت علیهم الأرزاق،و أمرهم المتوکل أن یجلسوا للناس،و أن یحدّثوا
ص:215
بالأحادیث التی فیها الرد علی المعتزلة و الجهمیة،و أن یحدثوا بالأحادیث فی الرؤیة.
فجلس عثمان بن أبی شیبة فی مدینة المنصور،و وضع منبرا،و اجتمع علیه نحو من ثلاثین ألفا.و جلس أبو بکر بن أبی شیبة فی مسجد الرصافة،و اجتمع علیه نحو من ثلاثین ألفا.
و یلاحظ من هذا أن مشکلة خلق القرآن کانت قضیة سیاسیة بدءا و ختاما،فقد قام المأمون بفرض ما یرتئیه،و حمل الناس قسرا علی معتقده،و امتحن الناس بعنف و شدة،فقرّب من یقول بمقالته،و عاقب من یخالفه بألوان العذاب.و علی ذلک سار خلفه،و قد حاولوا جعل الاعتقاد بخلق القرآن عقیدة رسمیة،فقد کان أحمد بن أبی دؤاد یأمر المعلمین فی الکتاتیب أن یلقنوا الصبیان أن القرآن مخلوق،و أن یصبح ذلک من الدروس التی یلزم تدریسها فی معاهد التعلیم،لینشأ الجیل الجدید علی عقیدة الاعتزال التی فرضتها الدولة،و امتحن الناس بها.
أما فی النهایة،أی فی دور المتوکل،فکان الأمر کسابقه یتّصف بالقهر و العنف و الشدة،و حمل الناس علی ما ترتضیه الدولة من القول:بأن القرآن غیر مخلوق.
و هکذا ضاع جوهر المسألة،و ابتعدت عن مقوماتها العلمیة و ما تحتاج إلیه من دراسة، و تقدیم الطرق العلمیة نفیا و إثباتا،بل زاد الأمر تعقیدا باستعمال لفظة مخلوق أی مکذوب،و أشیع فی الناس أن المعتزلة یذهبون إلی أن القرآن غیر منزل من اللّه تعالی.
و المعروف أن المعتزلة علی اختلاف فرقهم و متکلّمیهم لم یکن أحد منهم یذهب إلی ما اتهموا به من الطغی فی القرآن و التشکیک فی أنه منزل من عند اللّه،و قد صدروا فی نظریتهم عن الصفات،و منها صفة الکلام التی ترتب علیها قولهم بأن القرآن مخلوق عن إیمان صادق حرصوا فیه علی تأکید وحدانیة اللّه و تنزیهه،حتی وسموا بأهل العدل و التوحید.
و فی عهد المتوکل سار الناس علی غیر هدی و لا وضوح للمسألة،بل کان الأمر سیاسیا و خارجا عن دائرة النزاع العلمی الذی یؤدی إلی نتائج واضحة سلبا أو إیجابا،و لعل أکثرهم یودّ التعرّف علی حقیقة الأمر،و یکتم ذلک خوفا من السلطة.
و من الأحداث ما یصرّح باعتلاج النفوس و ازدحام الأذهان بالتساؤلات التی تدور بین طبقی رحی السلطة و التعنّت.فالإمام أحمد لاینی عن تکفیر من تسوّل له نفسه الاستفسار أو تحرّی الحق،و لا یتردد فی معاملتهم کالمرتدّین،فکلام اللّه غیر
ص:216
مخلوق،و من قال أنه مخلوق فهو کافر باللّه العظیم،و من لم یکفّر قائله فهو کافر،أو إنهم کفار یستتابون.
و استمرّ أصحابه علی نهجه،کما باتت فرص تحکّمهم فی الناس من خلال السلطة أکبر.و ورث أنصارهم هذا المنحی فی التعنّت و التزمّت.
و إلی هنا نتوقف عن الحدیث عن أحمد...و ننهی الجزء السابع من کتاب «الإمام الصادق»و سیلیه الجزء الثامن بعونه تعالی و توفیقه.
ص:217
ص:218
ص:219
ص:220
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِی أَنْزَلَ عَلی عَبْدِهِ الْکِتابَ وَ لَمْ یَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً
[الکهف:1]
- وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّکُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْیُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْیَکْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِینَ ناراً [الکهف:29]
- وَ مَنْ یَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولئِکَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلی [طه:75]
- وَ الَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ یُفَرِّقُوا بَیْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِکَ سَوْفَ یُؤْتِیهِمْ أُجُورَهُمْ وَ کانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِیماً [النساء:152]
- وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة:56]
ص:221
ص:222
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ
الحمد للّه علی هدایته لدینه،و التوفیق لما دعا إلیه من سبیله،و أصلی علی محمد خاتم الأنبیاء و خیر الخلق،و علی آله الطیبین الطاهرین،و من اتّبعه و والاه.
هذا هو الجزء الثامن من کتابنا(الإمام الصادق و المذاهب الأربعة)و قد أکملته و أنا فی سنّ ألمّت بی الأعراض و الأمراض،و فی حال من الغربة یزید من موانع التواصل بالکتابة و التألیف،و لکنّی تحاملت علی الأیام،و ناجزتها بقوی واهنة و ذهن مکدود،و أنا مؤمن بأن ضعف البدن و فتور البال یتحوّلان بالإیمان إلی طاقة خلاّقة، و قد قال الإمام الصادق علیه السّلام:«ما ضعف بدن عما قویت علیه النیّة».
و لم یکن الجزء الثامن وحده هو ما انعقدت علیه النیّة،و إنما بین یدی کتبی الأخری التی لم تر النور بعد،و أمامی تنقیح و إضافة بعض الزیادات إلی ما طبع منها ککتابنا:(مع الحسین فی نهضته).و أنا فی ظرف اقتضی أن أتجه فیه إلی مهمات الإرشاد و واجبات العمل الدینی،فقد واجهت صعیدا یستلزم الجهد الذی یضنی،و فیه کل ما تضمّه القربة إلی اللّه دون بهارج الدنیا و منافع المادة التی تؤثر فی قوة العمل.
و إذا ما استراح الذهن من الأفکار التی تلحّ علیه،تعلّق بماضی الأیام حیث کان الوقت مستغرقا فی البحث و الکتابة،و ما هی إلا أیام تفرغ و فترات تخصص یرکض طالب العلم فیها بنهم وراء المعرفة،و یسعی کل یوم للحصول علی المادة التی یحتاجها فی بحثه،فإن عدمت فی داره؛اتجه إلی مجامع الفکر و مؤسسات العلم.فسلام علی مدینة العلم،و تحیّة مقرونة بآهة و دمعة و حسرة،و صلوات اللّه علی أمیر المؤمنین و وصی رسول رب العالمین،صلوات دائمة حتی یتشرّف جسدی بتراب.أرضه،فإن الأیام تمرّ،و العوارض تزداد،و العمر إلی نفاد،و لم تتحقق بعد أمنیة العودة.
ص:223
و لقد عانیت کثیرا و أنا أعمل علی إکمال الجزء الثامن من کتاب الإمام الصادق فقد رأیت أن ما أکملته من کتب و بحوث-علی شدّة حرصی و کثرة متابعتی فی إنجازها-قد ضمّت بعض الأخطاء الإملائیة و غیرها التی لا تخلّ بالسیاق.فبذلت جهدی فی التصحیح کما حدث فی کتابنا المخطوط:(الجریمة بین الشرع و القانون) و کتاب(العلوی الثائر)و قد کنت أتمتع ببقایا البصر،فکیف الآن و قد أصبحت أعانی من(الزرقاء)معاناة شدیدة مما اضطرنی إلی الاعتماد علی الإملاء علی الأحبة و الأصدقاء،و إذا ما أمسکت بالقلم لأکتب،فإن القدرة لا تتجاوز بضع کلمات.و قد نظرت فیما لفت نظری من تلک الأخطاء،فوجدتها بسبب النقل و الجمع و التصنیف و نسخها بأکثر من ید.فأرجو مراعاة ما فاق الطاقة و هی فی أواخرها،و النظر فیما عجزت عنه القدرة و هی فی ضعفها،و اللّه ولی التوفیق.
و تصبح الکتابة صعبة و شاقة عند التحوّل إلی طریقة الإملاء علی الغیر،و البحث فی المصادر بواسطة و عون،أضف إلی ذلک أن ما معی من الکتب و المصادر قلیل جدا،و لم یتیسّر فی نطاق العلاقات هنا ما یسدّ الحاجة،فألجأ إلی الذهاب إلی المکتبات للاستعارة،و لم أجد فی هذا المجال ما یقتضی التنویه أو یستحق الشکر إلا ما قدّم لی من ید فی النسخ و الکتابة،أضرع إلی اللّه أن یسدّد و یوفق کل من قدّم ید العون من الأهل و الأصدقاء.
و القصد،فإن هذا الجزء الذی أقدّمه إلی القرّاء کان من أکثر الأجزاء تطلبا للجهد و المعاناة،و کنت عند ما أجد فی نفسی الضعف-بفعل عوامل السن و مقتضیات العمر-اتجه إلی الأعمال الأخری،فأبحث فیها،و أدوّن مادّتها،لأن هاجس الأجل و انقضاء العمر یحملانی علی أن أوزّع ما استشعره من إمکانیة علی کتبی،و یعلم اللّه أنی أنظر إلی فراقها کما أنظر إلی فراق الأهل،و أرجو لها کما أرجو لهم أن أترکها علی حال یمکنها من تحقق الغرض و تحقیق الأمل.
و فی الجزء الثامن من(الإمام الصادق و المذاهب الأربعة)تناولنا أهم المواضیع التی تتعلق بحیاة الإمام الصادق،و بحثنا حیاة الإمام مالک و الإمام الشافعی،بعد أن عدنا إلی الحدیث عن حیاة الإمام أبی حنیفة و الإمام أحمد فی الجزء السابع،و تناولنا بعض الأمور التی لم نبحثها عن أئمة المذاهب الأربعة فی الأجزاء السابقة من الکتاب.
و لأن امتداد حیاة الإمام الصادق علیه السّلام کان عبر عهدین و نظامین للحکم،فقد کانت حیاته غنیّة بالأحداث و التحوّلات و المواقف،کما أن حیاته علیه السّلام قد امتدت
ص:224
عبر سیرتین و مرحلتین لنظام الإمامة و تاریخ أهل البیت النبوی علیهم أفضل الصلاة و السّلام.فتعلّق جزء منها بحیاة جدّه الإمام زین العابدین علیه السّلام،کما تعلق شطر منها بحیاة أبیه الإمام الباقر علیه السّلام،فکانت حیاته علیه السّلام من هذا الجانب زاخرة بالمواقف و الأفعال و المبادئ،حتی جاءت شخصیته علیه السّلام و أفکاره و تعالیمه علی مستوی من التکامل و النضج،و من العمق و الغنی،ما جعلها مکافئة للأخطار و المهالک التی تحیط بالإمامة و تهدّد الأمة و المجتمع الإسلامی،فقد تسلّم الزعامة الروحیة و تولی الإمامة فی مرحلة شدیدة الصعوبة،و لو لا آثار الإمام الصادق علیه السّلام و ما نتج عن نهجه الفکری و نشاطه العلمی،لکانت آثار النظامین الحاکمین،و نتائج أعمال الطغاة،و ما وجّه إلی الأمة الإسلامیة من ضربات تستهدف عقیدتها و سلوکها من قبل أعداء الدین، قد أسلمت الکیان الإسلامی بکل جوانب وجوده و وجوه بقائه إلی أزمة حادة أو مشکلة مستدیمة.لکن جهد الإمامة،و حکمة استمرار الرسالة فی وصایة الولایة،أبقت جذور العقیدة راسخة،و حفظت أرکان الدین قائمة برغم انشغال حکّام الزمان بحمایة سلطانهم،و انتهاجهم البطش و القسوة،حتی کانت صورة المجتمع الإسلامی محاطة من جهة بظلم الحکام و جبروتهم،و من جهة أخری بأعداء الإسلام و أفکارهم،و من جهة ثالثة بألوان ضعف الإیمان و البعد عن الدین.و یبرز فی قلب هذه الصورة شخصیة المصلح الفذّ و القائد المخلص،فیحیل ظلمات الجهل إلی مشارق أنوار،و یخلق تلک النهضة الفکریة و الحیاة العقلیة التی نهل منها أئمة المذاهب و علماء المسلمین،و التی حصّنت الأمة ضد حرکات الأعداء،و حفظت الفکر من تیارات الإلحاد و الزندقة.
و قد رأیت أن أبدأ الکتاب بشیء من سیرته یلخّص ما بسطنا به القول فی الجزءین الأول و الثانی من الکتاب،و قدّمت عرضا للفترة السیاسیة الزمنیة،و أسماء الملوک الحکام الذین عاصرهم الإمام الصادق علیه السّلام حتی تکون أمام القارئ الذی لم یتهیأ له قراءة أجزاء الکتاب التی ضمّت تفاصیل القول فی هذه الفترة الزمنیة السیاسیة،صورة عن الأحداث و التحولات التی عاشها الإمام الصادق.ثم سقنا نظرة إلی حوادث عصره لتکون عقب الشیء الذی قدّمناه من سیرته متکاملة فی إطار الصورة التی نرید.
و لمّا کنت قد أنهیت کتاب:(حیاة الإمام الصادق) (1)فقد نهجت فی هذا الجزء
ص:225
علی عرض المواضیع التی تتصل بإبراز شخصیة الإمام الصادق فی إطار المقارنة أو فی سیاق المرحلة السیاسیة مما لم یدخل فی أغراض الکتابة عن حیاة الإمام بشکل منفرد.
و لهذا ضمّ الجزء الثامن عرضا لمنهج العمل عند الإمام الصادق فی مواجهة الطغاة، و المسلک الذی اتبعه علیه السّلام فی تجنیب الأمة المآسی،و إبعاد أنیاب الحکّام و مخالبهم عن جسد المجتمع الإسلامی،و الاتجاه إلی المستقبل ببناء النفوس و عمارة الأذهان بذکر اللّه و التمسّک بتعالیم الدین،و هو ما میّزه لیس علی صعید الأمة الإسلامیة،بل و فی داخل الدوحة المحمدیة و الشجرة العلویة،حتی استطاع أن یقیم صرحا فکریا شامخا تمثّل فی مدرسته التی انتسب إلیها علماء الأمة و رجالها،و أن یجعل من(الدعوة الصامتة)التی وضع بذرتها جدّه الإمام زین العابدین علیه السّلام منهجا و نظاما.
کما تضمّن الجزء الثامن بحثا فی(الدعوة الإسماعیلیة)و قد کان ذلک مما تفرّع عن البحث فی أبناء الإمام الصادق علیه السّلام حیث تناولنا موضوع الإمامة بعد الإمام الصادق علیه السّلام و دلائل النص علی إمامة ابنه موسی بن جعفر.إلی غیرها من الأمور التی قامت الإسماعیلیة علی إنکارها،و المواضیع التی تطورت منها،و قد حرصنا علی تجنب الخوض فیما یمکن أن یستغنی البحث عنه،و اقتصرنا علی القضایا الأساسیة فی ابتعاد الدعوة الإسماعیلیة عن مذهب الإمام جعفر الصادق و عقائد الشیعة الإمامیة، و لم ندخل فی تفاصیل و دقائق ذلک لظرف قدّرناه،فأهملنا الکثیر،و لکن لم نقف دون ذکر الحقائق أو الإتیان بالوقائع.
و أخیرا،فلا بد من کلمة سبق أن نوّهت بمعناها فی أکثر من مورد فی ثنایا البحث عن حیاة الإمام الصادق،فإن شخصیة الإمام الصادق تبقی بحاجة إلی مزید و مزید من البحوث و التصانیف،و خاصة أفکاره و تعالیمه التی تضمّ ثروة کبری.
کما لا بد من القول أن سمو منزلته العلمیة و علو مکانته الدینیة لا تؤثر فیهما دواعی التعصب أو بواعث الإساءة،فلقد عفی التاریخ ما أراد له أعداؤه من صورة،و أتت الأیام علی محاولات الحکام و أنصار الظلمة،و بقیت صورة الإمام الصادق التی یجمع العلماء علی إشراقها و نورها.فهو أعلم زمانه،و إمام علماء عصره،و سیّد أمة جده.
و أرجو من اللّه أن لا یکون هذا آخر العهد بخدمة أهل البیت علیهم أفضل الصلاة و السّلام،و أن یمنّ علیّ بالقوة و الطاقة لإکمال المسیرة و تحقیق الآمال،و اللّه من وراء القصد.
الکویت/محرم الحرام1404/
ص:226
شیء من سیرته،و نظرة إلی حوادث عصره
الإمام الصادق هو أعظم شخصیة فی عصره و بعد عصره،و سیبقی مثالا للعالم الذی استطاع أن یؤدی للأمة خدمات لم یمحها بعد الزمن و تقلّب الحوادث و اختلاف الظروف.فقد واجه علیه السّلام مسئولیات جسام و مخاطر عظیمة تهدّد مبادئ العقیدة الإسلامیة و وجود المجتمع الإسلامی،و تتجلی عظمة الإمام الصادق فی تصدّیه لتلک الأخطار علی تعدد مصادرها و اختلاف عناصرها،فلم یهدأ فی صد هجمات الأفکار و موجات التشکیک و الإلحاد.
و لم یقعده الضغط السیاسی الذی استعمله أولئک الحکام الذین حاولوا أن یخضعوا لسلطانهم الروح المعنویة التی یتصف بها علماء الإسلام،فیربطوا العلم بعجلة مسیرتهم،و یسخّروا الدّین لأغراضهم.
و قد حفظ التاریخ لنا ملامح شخصیة الإمام الصادق واضحة جلیة و هو فی خضم ذلک المعترک القاسی.و یبرز دوره علیه السّلام فی الحفاظ علی أصالة الفکر الإسلامی،و فی الذود عن کیان الأمة،و فی حمایة الرعیة من ظلم الحکّام و الطغاة، إلی غیر ذلک من جوانب الحیاة الإسلامیة،و هو فی ذاته هدف السیاسة و غایة الحکم، حیث کان الطغاة علی اختلافهم یسعون إلی القضاء علی شخصیته لما تمثّله من قوة روحیة و سلطة دینیة.
و من عظیم الآثار و المفاخر الفکریة،أن یتمکن عظیم کالإمام الصادق-و هو علی مثل تلک الأخطار و مواجهة سیاسة الحکام-من تأسیس مدرسة إسلامیة استطاعت أن تطلق الفکر الإسلامی من عقال الجمود،و توسّع دائرة المعرفة بنشر العلوم الإسلامیة،و الدعوة إلی التمسّک بتعالیم الدین و أفکار العقیدة الإسلامیة حتی
ص:227
سارت بذکره الرکبان،و ازدحمت علی مجلسه الوفود من شتی الأقطار،فکان بحق أعلم أهل عصره،و لم یکن هناک أعلم منه.و قد أعلن علیه السّلام للملإ بقوله:«سلونی قبل أن تفقدونی فإنکم لن تجدوا أحدا مثلی» (1).
و قد شهد له علماء عصره من تلامذته و روّاد مجلسه کمالک ابن أنس و أبی حنیفة و السفیانی 2.
و کان عصره یتّصف بمفارقات أوجدت مشاکل عدیدة أثقلت کاهل کل مسلم یحسّ بواجبه تجاه أمته عند ما اصطدمت بأمور محدثة یغلب علیها طابع المصالح الذاتیة،و شاعت مظاهر الفساد و ترسّخت اتجاهات الشذوذ عن العقیدة و الابتعاد عن الإسلام،رغم أبراد التدیّن التی لبسها الحکام و رسوخ دعائم سلطانهم باسم الدعوة إلی الإسلام و القیام بأمر الخلافة و شئون النظام.
و کان للتحول السیاسی الذی شهده عصر الإمام الصادق أثر فی تعقید الأوضاع و قیام موجة من الاضطراب،هددت أمن المجتمع الإسلامی،و رمت به إلی معترک هام قضی علی بقایا استقراره.
و عند ما ظهرت الدعوات المختلفة،و قامت الثورات المتلاحقة،و کلّ یدعی المحاماة عن الدین و الدفاع عن شریعة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم وقف الإمام الصادق علیه السّلام وسط تراکم الأحداث و انعطاف الأسباب و حدوث التطورات موقف مسئولیة کبری من حیث التصرف الذی تقتضیه المرحلة و المسئولیات التی تطرحها الظروف القائمة علی أهل بیت النبوة،و العمل المطلوب أمام تلک المشاکل.فهم رجال رضعوا لبن الفضیلة،و تشرّبت دماؤهم العقیدة الإسلامیة،و قدّموا فی میادین الفداء أعظم التضحیات،و بذلوا کل إمکانیاتهم فی سبیل نشر الدعوة الإسلامیة.فقد واکبوا تلک الدعوة فی یومها الأول،و عاصروها علی مرّ الزمن،حتی باتت لباسهم الحق و سمتهم الأصیلة.
و الإمام الصادق ولد فی مهبط الوحی،و ترعرع فی مهد الرسالة،و تدرّج فی
ص:228
ربوع النبوة یتفیأ ظلال الإیمان،و یتغذّی تعالیم الإسلام من مصدرها الأول و منبعها الطاهر،و لما قام بأعباء الإمامة کانت الأمة الإسلامیة تمرّ فی هذا المنعطف،و تنحدر إلی التفرّق و التمزّق.فوقف الإمام الصادق علیه السّلام موقف المصلح العظیم و الزعیم المحنک،و نظر إلی واقع الأمة و ما یحیط بها من مشاکل و أخطار نظرة متفحّصة و عمیقة،فأخذ نفسه بمنهج فکری و عملی یتعاهد المسلمین بالرعایة و یتکفّلهم بالحمایة.و لو لا العنایة الإلهیة التی تتجلی فی سرّ الإمامة و اختیار صاحب نصها و ولایتها،لما تمکن بشر من النهوض بتلک الأعباء و المسئولیات التی تترتب علی الزعامة الدینیة و المنزلة الروحیة.و یمکننا القول أن عصر الإمام الصادق کان حلقة التواصل فی حیاة الأمة الإسلامیة.
و هنا نقدم أضواء من سیرته و حیاته.
فهو أبو عبد اللّه جعفر الصادق،بن محمد الباقر،بن علی زین العابدین،بن الحسین سبط رسول اللّه،بن علی بن أبی طالب علیهم السّلام.ولد بالمدینة المنورة یوم الجمعة أو الاثنین عند طلوع الفجر یوم 17 ربیع الأول سنة 83 ه و قیل سنة 80 ه و قیل غرة رجب أو غرة شهر رمضان.و المعتمد الأول هو یوم 17 ربیع الأول یوم ولادة رسول اللّه کما علیه عمل کثیر من المسلمین.
أم فروة،و قیل أم القاسم،و اسمها قریبة أو فاطمة بنت القاسم بن محمد بن أبی بکر.
أمها:أسماء بنت عبد الرحمن بن أبی بکر.و کانت أم فروة قد ولدت للإمام الباقر ولدین هما:الإمام الصادق و عبد اللّه أو عبید اللّه.و أم فروة کانت امرأة ذات معرفة و علم بأمور الدین،أخذت عن الإمام الباقر ما أهّلها لمکانة سامیة و درایة کبیرة بالعقیدة و الرسالة،و قد تلقّت عنه أحادیث متنوعة،و روتها عنه.
روی عبد الأعلی حادثة تدل علی مکانتها و علمها،قال:رأیت أم فروة تطوف بالکعبة علیها کساء متنکرة،فاستلمت الحجر بیدها الیسری،فقال لها رجل ممن یطوفون:یا أمة اللّه أخطأت السنّة؟
ص:229
فقالت:إنّا لأغنیاء عن علمک.
أبوها:القاسم بن محمد بن أبی بکر.کان من الفقهاء السبعة،و قد روی له أصحاب الصحاح الستة،کان قریبا من الإمام علی زین العابدین و من ثقاته.أما جدّها فهو ربیب أمیر المؤمنین الإمام علی.و کان منه بمنزلة أحد أولاده،اتصف بالثورة علی الانحراف،و لعب دورا مهما فی إبعاد الأذی عن المسلمین.
یکنّی علیه السّلام بأبی عبد اللّه،و یلقب بالصابر و الفاضل و الطاهر (1).و العالم (2)و أشهر ألقابه الصادق لصدق حدیثه،و عرف بذلک،و اشتهر بین علماء عصره و بعده، لأنه ما جری علیه قط زلل،و لم یتوقف أحد عن روایة حدیثه و الأخذ بقوله،و لم یستطع أحد الطعن فی أقواله و روایته.و أما قول البخاری:فی النفس منه شیء،فلم یخرج حدیثه،فذلک یعود لنفسیة البخاری و ما فیها،و لا یؤثر ذلک علی ما أطبق علیه العلماء،و یکاد یکون العصر کله شاهدا،و قد تعرضنا للبخاری فلا حاجة إلی العودة إلیه مرة أخری.فالإمام الصادق(نقل عنه من العلوم ما لم ینقل عن غیره،و کان إماما فی الحدیث) (3).
و وصفوه علیه السّلام بأنه ربع القامة،أزهر الوجه،حالک الشعر،أشم الأنف، تکسوه الهیبة،و یعلوه الوقار،حسن المجالسة،کثیر النوال.و لم یخل عن ذکر اللّه و الثناء علیه،و کان لا یخلو من ثلاث خصال:إما قائما و إما صائما و إما ذاکرا.کان من أکابر العبّاد و عظماء الزهّاد الذین یخشون ربهم،کثیر الحدیث عن رسول اللّه، کثیر العواد.کان نقش خاتمه(ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه).
و کما أشرنا،نشأ علیه السّلام فی المدینة المنورة عاصمة الإسلام و موطن الصحابة و التابعین.و قد شهدت هذه المدینة أوج عظمة النظام الإسلامی،فهی مهبط الوحی و التنزیل،تقصدها الوفود من جمیع الأقطار،و ینتهل منها علماء الأمة.
ص:230
کان الإمام الصادق یحظی برعایة جدّه لأبیه الإمام علی بن الحسین زین العابدین،و هو معلّمه الأول حیث لازمه مدة ثمانی عشرة سنة،فترعرع فی ذلک الجو الذی یفیض بعبق النبوة،و یستلهم دروس التضحیة الکبری،حیث یهزّ الناس أثر الفجیعة و المأساة،و یرتسم علی کل وجه ألم المصاب عند ما تطوف ذکری استشهاد الحسین و خروجه من المدینة،و ذکری یوم الحرّة و إباحتها،فتلتهب النفوس و ترتبط برابطة الاتصال بآل محمد کلما أوغل الحکام فی الظلم و سفک الدماء و مطاردة الأحرار من المسلمین،و هدم دور الصلحاء و المتعبدین،و ذلک فی العهد الأموی الأسود.
توفی جده الإمام زین العابدین سنة 94 ه فعاش مع أبیه الإمام الباقر الذی کان موضع اهتمام العلماء و موئل الفقهاء،و کانت حلقة درسه تعقد بالمسجد النبوی-و هی المدرسة الکبری لطلاّب العلم و رجال الحدیث-فلا تعقد هناک حلقة إلا بعد انتهاء الباقر من حدیثه.
و حضر عنده جمع من الفقهاء أمثال:عمرو بن دینار الجمحی،و عبد الرحمن الأوزاعی،و ابن جریج،و محمد بن المنکدر،و یحیی بن کثیر،و زید بن علی.
و خلال تلک الفترة کان الإمام الصادق علی اتصال مباشر بالحرکة الثوریة و النهضة العلمیة،و إلیه تتجه الأنظار من بعد أبیه لنبوغه و تضلّعه فی الفقه و تبحّره فی الدین،و لکثرة ملازمته لأبیه فی حلّه و ترحاله؛إذ دخل معه الشام و مکة المکرمة، و ظهرت علیه علائم الفضل و شرف العلم،و عزة النفس و صدق اللهجة،و المهابة و الجود و کرم الأخلاق.
و یقول عمرو بن المقدام:(إذا نظرت إلی جعفر بن محمد،علمت أنه من سلالة النبیین) (1)حتی إذا وافی أباه الباقر الأجل،و انتقل إلی جوار ربه،قام بأعباء الإمامة و تفرّد بالزعامة،و کانت مدة إمامته أربعا و ثلاثین سنة.
و قد کابد مرارة النکبات الواحدة تلو الأخری،و عاصر آثار الفجیعة التی منیت بها الأمة بعد استشهاد الإمام الحسین علیه السّلام و إباحة المدینة ثلاثة أیام فی وقعة الحرّة،
ص:231
و رمی الکعبة و الاستهانة بحرمة الحرم،کما شاهد موقف عمّه زید و نهایته المفجعة التی انتهت إلیها ثورته.
لقد جرّب الإمام الصادق شراسة السلطة و عنفها و اضطهاد الأمة و الاستهانة بحقوقها و عدم المبالاة بالدماء،فسلک طریقا لمحاربتها و الوقوف بوجهها یحول بین الحکام و بین ما یعملون من أجله فی سیاستهم و سلوکهم.
أکد الإمام علی نشر الوعی،و حثّ الأمة علی التسلح بسلاح العقیدة،فکان رائدا صادقا،و دلیلا خبیرا فی مجال العمل و حفظ التراث الإسلامی فی عصر تطور الحرکة الفکریة،و التحولات السیاسیة الحدیثة،و أن المکانة الحیویة التی یتبوؤها بمزایاه العالیة و غزارة علمه،قد جعل الکثیر من الناس یتوقعون منه أن یسهم فی المعترک السیاسی الذی اشتد فی عصره و الذی تمخض عن ثورات متتالیة.
و ظنوا أنه سیشارک فی أحداث ذلک المعترک،و تعدی موقف الکثیرین من الصمت إلی المصارحة،فحرّضوه علی الثورة و البدء بالانتفاضة،ظنا منهم بأن الزمن قد حان لقیام حکومة عادلة و دولة تسیر وفق نظام الإسلام و قوانینه،بعد أن تجرّدت الدولة الأمویة من کل المقومات الروحیة،فعبثت بمقدرات الأمة،و هتکت مقدّسات الإسلام و حرماته،و لا یزال یوم الحسین ماثلا لا یمحی أثره،و صرخته مدوّیة علی مرّ الزمن،و وقعة یوم الحرّة لا زالت شاخصة أمام الأعین،و حوادثه تحدث عاصفة غضب و هزّة استنکار،و لا تخلو جدران المدینة و لا الحرم الشریف من قطرات الدماء الزکیة.
و لکن الإمام الصادق لم یمل إلی جانب من استماله،فهو لم یخدع بالآمال البرّاقة،و لقد عرف نزعات الناس و میولهم،و طبیعة الموقف الذی یتخذونه،و الغایات التی من أجلها کان تحریضه،و قد زودته تجربته الکبری و علمه بما وراء الحوادث بالقدرة علی تمییز بواعث تلک التحرکات،و معرفة مقتضیات الحال،و التی کان یجهلها الکثیرون ممن راحت تضطرب نفوسهم بمشاعر صادقة تتأثر بالأحداث و تنفعل.
فکانت نظرته جوهریة مبنیة علی استیعاب تام لدور الدین فی الحیاة،و مقدار تأثر تلک الجموع به و خضوعهم له.
و قد شخّص خطورة الموقف،و عرف غایات الدعوة و أهداف القادة،فکان رفضه لطلباتهم من أهم ما یحتّمه علیه واجب الدعوة لمصالح الأمة.
ص:232
فقد أدت غلبة المصالح و تنازع الأسر إلی ضیاع الناس،و ارتباطهم بما قام فی المجتمع من تیارات منحرفة و مبادئ نفعیة تستخدم الإسلام تعدیا و ظلما،فکان لا بد من أن یهیء اللّه لهذه الأمة قائدا یمثل المبادئ الحقة،و یکشف-من خلال الالتزام المطلق و النهج الروحی القویم-عقم الحرکات التی لا تری أبعد من المصالح القریبة، و تعجز عن استشفاف الآفاق،و تمثّل النتائج البعیدة.فکان الإمام الصادق فی نظرته العمیقة و تحسّسه لضرورات الدعوة و متطلبات استمرار الرسالة.یدعو إلی عدم الإسهام فی الاضطرابات،و حمایة المجتمع،و تجنیبه خطر الحروب التی یجنی ثمارها أعداء الدین.و لما عهد عنه من علم و مکانة دینیة،فهو مرهوب الجانب یحسب لرأیه ألف حساب.و قد کان تحرکه و نشاطه یلقی رعبا فی قلوب أولئک الحکّام کما عبر المنصور عنه بقوله:(بأنه الشّجی المعترض حلقه)لموقفه المؤثر الحساس،و لمیل الناس إلیه.
وقف الإمام الصادق فی تلک الظروف القاسیة موقف الصلابة فی إیمانه، و الثبات فی عقیدته،و الإخلاص فی أداء رسالته،فکان رائدا کبیرا فی مجال مواجهته الفعلیة ضد السیاسة التی تأخذ آفاقا جدیدة،و تلجأ إلی أسالیب بعیدة عن روح الإسلام و مبادئه.و قد امتدت حیاته عبر عصرین متناحرین سیاسیا و فکریا،فقد عاش فی آخر خلافة عبد الملک بن مروان إلی وسط خلافة المنصور الدوانیقی-العصر العباسی- أی من سنة 83 ه إلی سنة 148 ه إذ أدرک من خلافة الأول ثلاث سنین أو ست سنین أی من سنة 80 ه أو 83 ه إلی سنة 86 ه و هی السنة التی توفی فیها عبد الملک بن مروان،و مدة خلافته ثلاث عشرة سنة و أشهر،ثم ملک الولید بن عبد الملک سنة 86 ه و توفی سنة 96 ه و کانت مدة خلافته تسع سنین و ثمانیة أشهر.
ثم ملک أخوه سلیمان بن عبد الملک،و توفی سنة 99 ه و کانت مدة خلافته سنتین و ثمانیة أشهر.
ثم ملک بعده عمر بن عبد العزیز بن مروان المتوفی سنة 101 ه و مدة خلافته سنتین و ستة أشهر.
و ملک بعده یزید بن عبد الملک بن مروان المتوفی سنة 105 ه و کانت مدة خلافته أربع سنین و شهرا.
ص:233
و ملک بعده هشام بن عبد الملک المتوفی سنة 125 ه و کانت مدة خلافته عشرین سنة إلا شهرا.
و ملک بعده الولید بن یزید بن عبد الملک الفاسق المتوفی سنة 126 ه و مدة خلافته سنة و ثلاثة أشهر.
و ملک من بعده یزید بن الولید بن عبد الملک المتوفی سنة 126 ه.
و ملک بعده أخوه إبراهیم،و لم تطل أیامه،و تنازل لمروان الحمار بن محمد بن مروان بن الحکم سنة 127 ه و کان مروان آخر خلفاء بنی أمیة،و قتل سنة 132 ه و کانت مدته خمس سنین و عشرة أشهر،و هی فترة الانحدار و السقوط التی شهدت حروبا متوالیة و ثورات متعددة لتنتهی الدولة الأمویة بنهایة مروان.
کانت المدة التی عاصر الإمام فیها هؤلاء الحکّام-الذین سبق ذکرهم من الأمویین-لا تقل عن ثمان و أربعین سنة و هی بأشخاصها و زمانها تکفی لکشف المراحل التی عاشها الإمام الصادق علیه السّلام،و هی حافلة بالمآسی و الویلات التی منیت بها الأمة.إذ انجرف الأمویون وراء شهوات الحکم،و راحوا یسخّرون الدولة لأغراضهم و توطید نظامهم،فعمّ الظلم جمیع الطبقات و کل المسلمین،و لم یسلم من شرّهم إلا من سار فی رکابهم،و جار عن سواء السبیل.
لقد کانت لغة الدم هی السائدة و کانت وسیلة العنف هی المتبعة،و کم من إمام و عالم و فقیه قتل علی أیدیهم و استشهد فی عهدهم.و أولی الحکم الأموی أهمیة بالغة للطالبیین،فرصدوا حرکاتهم،و قمعوا کل موقف بینهم لصد العدوان و مواجهة الظلم،و خرّ الشهید منهم تلو الشهید،و کان همّهم قتل أعیان العلویین و سحقهم، و النیل من الإمام علیّ،إلا الخلیفة عمر بن عبد العزیز الذی منع سب علی علیه السّلام بعد أن کان قد أدخل فی مناهج التعلیم،و أعلنوا به علی المنابر فی الأندیة و المجتمعات،لینشئوا جیلا تربّی علی بغض علی و أولاده.
قال أبو یحیی السکری:(دخلت مسجد دمشق فقلت:هذا بلد دخله جماعة من الصحابة،فملت إلی حلقة فیها شیخ جالس،فجلست إلیه.فقال له رجل جالس أمامه:من هو علی بن أبی طالب؟فقال الشیخ:خفّاق کان بالعراق،اجتمعت علیه جماعة،فقصد أمیر المؤمنین-یعنی معاویة-أن یحاربه،فنصره اللّه علیه.
ص:234
قال یحیی:فاستعظمت ذلک،و قمت فرأیت فی جانب المسجد شیخا یصلّی إلی ساریة و هو حسن السمت و الصلاة و الهیئة،فقلت له:یا شیخ،أنا رجل من أهل العراق جلست إلی تلک الحلقة ثم قصصت علیه القصة،فقال الشیخ:فی هذا المسجد عجائب،بلغنی أن بعضهم یطعن علی أبی محمد الحجّاج بن یوسف.
فعلی بن أبی طالب من هو؟) (1).
و إذا کان لنا من تعلیق علی هذه الحادثة،فهو لا یتعدی الصمت الذی یکشف ما فعلته السلطة،و مبلغ الجهل و العداء التی جنّدت له أجهزتها للنیل من الإمام علی علیه السّلام،حیث لم یکن الأمر مقصورا علی ضرب القوی التی یدفعها إیمانها إلی الوقوف بوجه الظلم،بل راح الأمویون خلال ذلک یذهبون إلی ارتکاب الجرائم و خلق الأهوال.و لقد عانی الناس الضیم و العوز،إذ عملوا علی زیادة الخراج،و اتباع الطرق الظالمة،و أخذ الجزیة ممن لا تجب علیهم الجزیة.
لقد کان الأمویون یرون فی العلویین منافسین أقویاء لهم،یستأثرون بقلوب الناس و حبّهم،و قد حاول جهازهم الدینی و التشریعی و الجنائی أن یعمل علی إضفاء صفة التکامل و النضوج و القسوة علی الحکم الأموی دون هوادة و بمختلف الأسالیب.
و کان العلویون-عبر نشاطهم العلمی و موقعهم الدینی-یتوغّلون فی نفوس الناس،و تنشدّ إلیهم الجموع،و تدین لهم بالولاء،إذ تمتعوا بقوة دون دولة،و عاشوا فی منعة دون عنف؛بل کان سلاحهم الإیمان،و درعهم التقوی،و رغم انتهاء السلطة إلی الأمویین و تمتعهم بالقوة،لم یستطیعوا أن یغیّروا من الموقع الذی یحتله العلویون فی نفوس الناس،فکانت حرکاتهم و ثوراتهم المستمرة-رغم نهایاتها المفجعة-تزید من تقرّب الناس إلیهم،و دنو المسلمین منهم.
:
و لا بد للباحث عن حیاة الإمام الصادق من مواجهة عدة مشاکل تعترض سیر البحث و تقف فی طریق المؤرخ لحیاة هذا الإمام العظیم.
و هی مشاکل کثیرة متشابکة،تکتنف البحث و تحیط بالموضوع،کما أن هناک
ص:235
عدة أسئلة تفرض نفسها علی الباحث،و تحتاج منه إلی إجابة تکشف عما استتر وراءها من أمور.
المشاکل-کما قلنا-کثیرة،منها:مشکلة الثوار الذین یرمقونه بأبصارهم من بعید و یأملون إسناد الحکم إلیه،و مشکلة النزعات الفکریة و الصراع العقائدی، و مشکلة الغلاة،و لعلها أهم مشکلة تقف فی طریق الباحث،بل أهم مشکلة تعترض سیر الحقائق التاریخیة،حیث استطاع التلاعب السیاسی أن یوجد منها عوامل یتمکن من خلالها تحقیق أغراضه و أهدافه.و سنأتی لعرض موجز فی البیان هنا لأنا قد أوضحنا فی بحثنا الموسع ما یتعلق بهذه المشکلة (1).
و عصر الإمام الصادق یتصف-دون غیره من عصور الأئمة-بعوامل کثیرة، أهمها:التحول السیاسی الذی حصل فی أیامه،بل خلال أهم أدوار حیاته،و ذلک بانتقال السلطة من الأمویین إلی العباسیین بعد أن انتصرت ثورتهم باسم أهل البیت علیهم السّلام ذلک التحول الذی أحدث تغییرا جذریا فی المجتمع الإسلامی،و فتح أمام المسلمین آفاقا بعیدة المدی.
و لم تکن نتائج الثورة مجرد انتقال الحکم من أسرة إلی أسرة،بل هی فی الواقع ثورة لها أثرها فی تاریخ الإسلام،تعنی نقطة فاصلة فیه لفعالیتها و آثارها،حیث أحدثت فی المجتمع تغیّرا عمیقا و تحولا سیاسیا و اجتماعیا اتسعت آثاره.
و لم یکن الإمام الصادق علیه السّلام بالرجل الذی تهمل الأحداث موقفه،أو بمعزل عن ذلک المجتمع أو فی منأی عن التأثر بتلک الحوادث المحیطة به،فهو کفرد یشمله ما یشمل سائر الناس،یعیش مع الأمة و یشاطرها آلامها و یتعرف علی أحوالها.و قد کانت الأحداث تنتهی إلیه لمکانته الاجتماعیة و السیاسیة،فالثورة قامت علی أساس دعوة دینیة نظمت تنظیما دقیقا یضمن لها النجاح،و یمکّن جذورها من النمو فی أرض زرعت بجثث الأبریاء و سقیت بدماء الشهداء.و الدعوة قامت تحت شعار أخذ الثأر من مرتکبی المجازر و المظالم بحق العلویین،و کان یقوم ذلک علی تنظیم سرّی یعمل بتکتم شدید،و هو یدور حول الدعوة لأهل البیت،و إسناد الحکم إلیهم لأنهم أصحابه الشرعیون،و لا بد من الأخذ بثأرهم و الانتصار لمظلومیتهم،لأن الدولة الأمویة
ص:236
عمدت إلی تصفیة الحرکات العلویة و القضاء علی زعمائها بکل وسیلة.و قد جعل السواد لباس الدعاة،و شعارا یرفع العرب إعلانا للحداد علی الحسین علیه السّلام،فاندفع الناس لخوض تلک المعارک،لأنها معارک تهدف إلی القضاء علی معاقل الظلم و رموز الضلالة و البدع،فانتشرت الدعوة،و کان أبناؤها علی اتصال بالإمام الصادق علیه السّلام، و دعاتها أکثرهم یأملون بإسناد الحکم للعلویین.فالعباسیون أنصار دعوة و جنود حرکة و لیسوا رؤساء! فالدعوة إسلامیة المبدأ،شیعیة النزعة،لم یتمکن العباسیون من الإعلان عن نوایاهم العدائیة تجاه أهل البیت،بل عرفوا کیف یستغلون مشاعر الناس و تعاطفهم مع العلویین،و تستروا بدعوة الرضا من آل محمد.فسارت الجموع بحماس شدید سعیا وراء هدف سام هو جعل الإمامة فی أهلها الذین یستحقونها بجدارة من أهل بیت النبوة،حتی یصلح اللّه بهم ما فسد من الأمور و ما اختلف فیه الناس.
و فی البیت العلوی رجال یصلحون لتولی الإمامة بظاهرها من حیث الدین و التقوی،و لکن لیس فیهم النص،و لم تکن إلیهم الوصیة،و إنما کانت لمن شملته العصمة وفاقهم فی الخصال.و کلهم لا ینازع الإمام الصادق موقعه أو مکانته،و عند ما بلغت الأمور-من الجانب السیاسی-حدا یساعد علی التغییر و التحول فی السلطان، کان الإمام الصادق یمد ببصره إلی ما وراء الأحداث و المصالح القریبة،فما کان من أبناء عمه ممن نظروا إلی التحول و التغییر فی حدوده المحسوسة،إلاّ أن طلبوا منه الدخول فی ما عزموا علیه من إعلان الثورة و إسناد الثوار منهم،و لکنه علیه السّلام رفض رفضا باتا.
و قد ذکرنا آنفا أنه طلب من الثوار العلویین التریث فی الأمر-و لأهمیة هذا الموضوع سنخصص له بابا آخر نبحث فیه الدقائق و التفاصیل-لأن قضیة التفریق بین دواعی الموقفین و اختلاف النظرتین قضیة هی من الأهمیة بمکان لا تنتهی بانتهاء ظرفها،و لأن الإمام الصادق دفع بجوهرها إلی آفاق واسعة ما زلنا حتی الیوم نعیش حقیقة ذلک الجوهر و واقع تلک النظرة،و سیأتی بحث ذلک قریبا.
و من ملامح النظرة التی اتسم بها الإمام الصادق.أن الأمة تحتاج إلی الرجال فی مجال الإصلاح و الدعوة،و أن المسلمین یواجهون حکاما عتاة و سلاطین متجبرین، فما کان فی عهد الأمویین سیتکرر لأنه علیه السّلام لمس من العباسیین مذهبهم فی توسّل کل الطرق إلی سدّة الحکم و عملهم علی الصعود إلی السلطان بوسائل تضمن لهم
ص:237
ذلک ما دام النظام الأموی قد انحدر إلی نهایته.و فی عهد العباسیین،فقد رأی الإمام الصادق أن قوة النظام الجدید،و وحشیة الحکام الجدد ستدفع بالأمة إلی أوضاع سیئة.و ستعود علی أهل البیت بفظائع أخری و مجازر تزهق فیها أرواحهم و تهرق دماؤهم.
أما فی بدء الأمر،و قبل قیام حکم العباسیین،فإن الأوضاع التی ستؤول إلیها الأحداث واضحة،فلا بد من انتهاء حکم الأمویین و زوال ظلمهم،و التحول آت بکل الأحوال،و قد رأی الإمام الصادق مبلغ الاستجابة للدعوة،و تعاطف الناس مع الثورة،و الکل فی عینیه مرأی مظالم آل محمد،و مناظر المصائب و المآسی التی حلت بهم علی ید الأمویین،فراح الناس یؤیدون الثوار.بید أن علم الإمامة قد عین هذه الفترات،و قسّم هذه الأدوار.فلیس الأمر کما یظن ذوو الأنظار القصیرة من الناس مهما اتسعت تجاربهم و نمت مدارکهم،کما أن الثورة ضمت فی تنظیماتها عناصر بعیدة کل البعد عن الأهداف التی من أجلها نظمت الدعوة،و أعلنت الثورة،و قد تستّر وراءها کثیر من النزعات المختلفة و الآراء المنحرفة،و هتافاتهم للرضا من آل محمد لم تدفع به إلی تعریض المجتمع الدینی لخطر السیاسة الغاشمة،فقد کان أبعد نظرا مما یری فی النتائج،فهو ینظر بالفکر الثاقب و النظر الدقیق المسدّد من اللّه تعالی لعواقب الأمور،و العلم الشامل،و مراعاة المصلحة العامة،و السیر وفق الخطط المحکمة و الآراء السدیدة فی تقدیر الظروف و مناسباتها.
و هو رأس الأمة و إمام الناس و زعیم العلویین،یری آیات رعایة اللّه،و یلمس وجوه کلاءته له،لیسلّمه من بطش الطغاة و محاولات الظالمین.علیه دور القیادة، و توجیه دفة السفینة،و لیس العکس.
و هو علیه السّلام لم یندفع وراء تیار الأقوال البرّاقة،و لم یجر فی میدان السیاسة و مخاتلتها،و قد حاول الکثیر من أتباعه و غیرهم و خلّص أصحابه و المنتمین إلیه أن یثیروا عواطفه عند ما استعرت نار الثورة فی البلاد الإسلامیة،و انتشرت تلک الشعارات التی تدعو للرضا من آل محمد.
و سعی بعضهم بکل جهده إلی أن یحمل الإمام و أنصاره علی الثورة،و لکنهم کانوا ینظرون إلی الأمور نظرة سطحیة،فتغلب علیهم سلامة النیّة و سرعة التصدیق بالأمور الظاهرة کبشر یحکمهم الواقع و التأثر بمجریات الأحداث،و لیس کما یری الإمام
ص:238
و هو صاحب الولایة الشرعیة و قد خصته العنایة الإلهیة بالأمر،و جعلت فی شخصه الإمامة،و الوقائع عنده کما قضت بها الحکمة الإلهیة و قدّرتها المصلحة الدینیة.
دخل علیه سهل بن الحسن الخراسانی فسلّم علیه و قال له:یا ابن رسول اللّه، لکم الرأفة و الرحمة،و أنتم أهل بیت الإمامة،ما الذی یمنعک أن یکون لک حق تقعد عنه؟و أنت تجد من شیعتک مائة ألف یضربون بین یدیک بالسیف؟ و دخل علیه سدیر الصیرفی فقال:یا أبا عبد اللّه ما یسعک القعود؟ فقال علیه السّلام:«و لم یا سدیر؟» فقال:لکثرة موالیک و شیعتک و أنصارک.
فقال:«یا سدیر،و کم عسی أن یکونوا؟» قال:مائة ألف.
فقال الإمام الصادق:«مائة ألف؟!!» قال:نعم (1).
فکان جوابه علیه السّلام من باب الامتناع عن ذلک،و أشار إلی أن تلک الکثرة التی یتخیّل أنها تحقق الأهداف التی یتطلبها واقع الثورة و النهضة بالمسلمین لیست کذلک، لأن أولئک لم یکونوا من الرجال المخلصین الذین تمکنت العقیدة من نفوسهم،اللهم إلا نفر قلیل،فلا یمکنه أن یخوض معرکة حاسمة کما یرید أولئک الذین حاولوا إثارة حفیظته مع عدم وجود العدة الکافیة من المخلصین الذین یمکن الرکون إلیهم و التعویل علیهم.کما أن أهل البیت الکرام لهم فی کل عصر دور و رسالة،فلقد کانت ثورة الإمام الحسین من أکبر العوامل التی فضحت الردة و عرّت الأمویین،کما أنها أصبحت ینبوع وعی و معین هدی یحمل الناس علی الاقتداء بتعالیم الرسالة و الاهتداء بمبادئ العقیدة،و کان من بعد مأساة الطف و ما أثارته فی النفوس أن تجد الأمة من یعزّز فی کیانها ذلک التحوّل و یرسّخ نتائج الثورة،فکانت دعوة الإصلاح و منهج الإرشاد.
و قد بلغ منهج الإصلاح الدینی و الفکری و الاجتماعی علی ید الإمام الصادق درجة من النمو و التکامل،فامتلک قدرة التأثیر فی النفوس،و اتصف بالروحانیة و الحس الدینی الذی یجتذبها.
ص:239
و کان علیه السّلام فی الوقت الذی یحاور فیه دعاة الثورة،یمارس مسئولیاته فی وجه السلطة و انحراف الحکّام،و یقاوم نزعات الهدم و موجات القمع و تیارات التشویه و الانحراف.
و کان نهج الحوار طریقة العمل الفکری لدی الإمام الصادق،تتسم بالشمول وسعة الرأی،و قوة الإقناع التی تقوم علی علم ثابت،و رأی سدید.لذا فقد تولّی رد تلک الهجمات،فکان دفاعه عن الإسلام فی درء شبه الزنادقة و الدهریة من أهل الأدیان الأخری قد خلّف ثورة فکریة مهمة ضمّنها عشرات من الکتب.
و کان قد بدأ التنازع فی ذلک العصر بین الفلسفة و بین الإسلام و العقائد التی جاء الإسلام لمحاربتها،و ظهرت بوادر الجدل العقلی،و اتخذ علم الکلام کوسیلة للحجاج.
و کان موقف الإمام الصادق من تلک التیارات و وسط ذلک الجدال و النزاع موقف العالم المنافح عن الدین و المدافع القوی عن العقیدة الذی لا یغلب فی مناظرة و لا ینقطع فی محاورة،و کان لحجّته و وضوح برهانه و رجاحة عقله و قوة استدلاله الأثر الحاسم فی أن یخضع له العقل السلیم و یرتاح له الضمیر،و تفنید آراء الأعداء و دحض أفکارهم،و توفیر أسس یرکن إلیها المسلم و یعتمد علیها فی الدفاع عن دینه و عقیدته.و کان یدلی بآرائه أمام خصومه بمنطق یدخل إلی آذان سامعیه فینفذ إلی قلوبهم،فلا یجدون بدّا من التسلیم لقوله الحق و منطقه الصائب.و قد حفظ لنا التاریخ خصائص منهج الإمام و میزات منطقه الذی لا یجاری فی استدلالاته،و لا یغلب فی براهینه؛بل کان هو المتفوّق و السابق فی کل مضمار.
و بهذه المواقف،و بتلک الشهرة التی نالتها مدرسته،و المهمة التی قام بها أصحابه فی محاربة الإلحاد و الملحدین کان لزاما علی دعاة تلک المبادئ الذین دخلوا الإسلام أن یتستروا باعتناقه لبثّ سمومهم،و شعروا بخطر موقف الإمام الصادق و محاربته لکل فکرة من طریق العلم و المنطق،فنظروا إلیه نظرة ملؤها الحقد علی الإسلام و انتصاره علی عقائدهم الفاسدة و أدیانهم الباطلة،و لما وجدوا أنفسهم عاجزین عن المجاهرة بما فی نفوسهم من أضغان و عداوة،و أن انتصارات الإسلام دائمة لأن عقیدته هی مصدر هذه الانتصارات،لجئوا إلی التلبّس،و استخدموا أسالیب
ص:240
التستر و الادعاء،و اختطوا لأنفسهم طریقا یقوم علی وسائل و شعارات لا حظّ لها من الصحة و لا نصیب،یمنّون أنفسهم باستعادة أمجادهم و الوقوف بوجه الإسلام.
و کیف یجدیهم ذلک و ینطلی علی المؤمنین خداعهم بعد أن ظهرت آثاره فی حربهم و انتشرت أخباره فی صدودهم،فحاولوا عن طریق الدسّ أن ینتصروا لمبادئهم الإلحادیة،و توصلوا إلی ما توهموه حلا ناجحا و انتقاما سریعا و ذلک عن طریقین:
الأول:انضمام بعض دعاة الإلحاد إلی مدرسة الصادق ظاهرا،و ادعاء حب أهل البیت نفاقا،لکی یعملوا من الداخل علی الفساد و الإفساد.
الثانی:استعمال الکذب و الدسّ علی أهل البیت.و من هذا و ذاک کوّنوا طریقا، و صلوا من خلاله إلی غایة فی نفوسهم،و هی إظهار الغلوّ فی أهل البیت،و الغلوّ کما قدّمنا هو أعظم مشکلة اصطدمت بها قافلة التشیّع،و أدهی مصیبة نکبت بها هذه الطائفة،و حرکة الغلوّ هی حرکة إلحادیة منشأها معارضة الإسلام من جهة،و تشویه مذهب أهل البیت من جهة أخری،لذلک ربط کثیر من المؤرخین و الکتّاب بین التشیّع و بین الغلوّ؛بل ذهب بعضهم إلی وصف التشیّع بالغلوّ.و السبب فی ذلک قصور نظرتهم و عجزهم عن التحلّی بالموضوعیة التی تقتضی جهدا لسیر تفاصیل و أحداث تلک المرحلة.فلیس بین الشیعة و بین الغلاة ما یجمعهم،کیف ذلک و قد کان ظهور دعوات الغلاة و تسللهم قد سبّب لأئمة أهل البیت و قادة الشیعة قلقا و إزعاجا لم یهدأ، حتی أحبطت حرکاتهم و فشلت مخططاتهم،و قد تناولنا فی الجزء الرابع من الکتاب جوانب قیام هذه الحرکة و اعتبارها مشکلة.و لا غرابة فی وصفها بالمصیبة التی عولجت بجهود الأئمة أهل البیت،و بمزید الأسف أن یتغاضی البعض عن هذه الحقائق و ینکروا الوقائع و یتلذذوا بالطعن علی الشیعة،و هم بذلک ضحایا دعاوی الحکام و المناهضین لأهل البیت سواء من جهة تلقی الدین أو من جهة الأغراض السیاسیة العمیاء التی ترید تشویه الحقائق و قلب الأوضاع و اتهام الأبریاء لإضعاف أثر أهل البیت فی المجتمع و النیل من مکانتهم السامیة فی النفوس.
کان دخول الغلاة فی صفوف الشیعة خطوة سیاسیة أوجدتها عوامل متعددة کما أشرنا إلی ذلک،و فی مقدمتها:النیل من الإسلام.و قد عالج أهل البیت هذه المشکلة الخطرة،فعرفوا الدوافع التی دعت هؤلاء إلی الالتحاق بصفوف الشیعة،کما اتضحت لهم غایات خصومهم.فکانوا یعلنون للملإ البراءة من الغلوّ و الغلاة،و جاهروا
ص:241
بلعنهم،و أمروا شیعتهم بالتبرؤ منهم.و تلقی الشیعة تلک الأوامر بالقبول و الامتثال، فأعلنوا البراءة منهم،و ملأوا کتبهم بلعن الغلاة و التبرؤ منهم.و أفتوا بحرمة مخالطتهم،و أجمعوا علی نجاستهم،و عدم جواز تغسیل و دفن موتاهم،و تحریم إعطائهم الزکاة،و لم یجوّزوا لمن یقول بالغلو أن یتزوّج بالمسلمة،و لا المسلم أن یتزوج بالمغالیة،و لم یورّثهم من المسلمین،و هم لا یرثون منهم.
و لکن یأبی بعض الکتّاب المعاصرین إلاّ الإصرار علی الخطأ،و الاستسلام للروح الطائفیة،و السیر فی رکاب العصبیة،فیتّبعوا أهوائهم دون أن یکلّفوا أنفسهم عناء البحث فی حقائق التاریخ،و الاطلاع علی وقائعه من مصادرها الصافیة.
و هناک قضیة أخری أهملت براهین وضعها،و غضّوا الطرف عن أدلة اختلافها، فتمسکوا بها،و هی:قضیة عبد اللّه بن سبأ التی شهدت الوقائع التاریخیة بأنها لا تعرف حادثا من تلک الحوادث التی أسندها المؤرخون لعبد اللّه بن سبأ.و قد بسطنا القول فیه فی عدة مناسبات،فی بحثنا الموسع عن الإمام الصادق فی موارد عدیدة من الأجزاء السابقة،و مواضع کثیرة سقنا خلالها الحجج و الأدلة علی اختلاق شخصیة عبد اللّه بن سبأ.
لقد نسبوا مبدأ التشیّع إلی شخصیة و همیة رسمتها السیاسة فی عصور التطاحن بریشة مصوّر مغرض،بهدف الطعن علی أهل البیت،الذین هبّ علماؤهم لبیان زیفها مبیّنین أن من العار التماشی مع تلک الأسطورة لما فیها من احتقار للأمة و تصغیر لقدرها،عند ما تصوّر قطیعا جری خاضعا لتقبّل تعالیم ذلک الیهودی و هو عبد اللّه بن سبأ المخلوق من أهواء السیاسة و أغراض التطاحن،بهدف تمزیق صفوفها و إذهاب ریحها،و ذلک للتفریق بین الأخ و أخیه.
و علی کل حال لا بد من أن نشیر إلی بعض ما جری للإمام الصادق من محاورات مع أولئک المنحرفین عن الإسلام و دعاة الإلحاد و الزنادقة،و هی محاورات غنیة زخرت بها کتب الکلام و الفلسفة،و سنأتی علی ذکرها فی الباب الخاص بالبحث عن الجوانب الفکریة فی تراث الإمام الصادق و منهج مدرسته.و هنا نذکر ما کان مع الجعد بن درهم الذی نشأ و کلّه دعوة ضلالة و إلحاد،کان یغوی الناس و یضلّهم، و هو من الزنادقة الذین استفحل أمرهم،و قد أراد أن یوهم الناس بما یبدیه من احتیال، فأخذ قارورة و جعل فیها ترابا و ماء،فاستحال ذلک بعد مدة دودا و هواما،فقال
ص:242
لأصحابه:أنا خلقت هذا لأننی کنت سبب کونه.فأرجف بذلک المرجفون،و لمّا بلغ الإمام الصادق ذلک قال علیه السّلام:«لیقل کم هی،و کم الذکران منه و الإناث؟و لیأمر الذی یسعی إلی هذا أن یرجع إلی غیره» (1)قال ابن حجر:فبلغه ذلک-أی قول الإمام الصادق-فرجع.
:
و لعل أکثر الدعوات شرّا و أسوأها أثرا و أهمها عند الإمام الصادق هی دعوة الغلاة-کما قدّمنا-الذین طمحوا فی تلک العاصفة الهوجاء إلی بثّ روح التفرقة بین المسلمین،و شاعت أفکارهم تحت ستار حب آل محمد لیصلوا إلی ما یرمون إلیه من إساءة.فبثوا الأحادیث الکاذبة،و أسندوها إلی حملة العلم من آل محمد،و تخلّقوا بأخلاقهم لیعمّوا بها علی أتباع أهل البیت.و جاءوا بمفتریات حملوها علی مبدأ الشیعة،و أراد أکثرهم أن یلبس نفسه لباس قدسیّة،فموّه علی الناس بأن له صلة بالإمام الصادق و علاقة.
و قد أعلن علیه السّلام براءته منهم،و نشر فی العالم الإسلامی کذبهم و زیف أقوالهم و قال:
«لا تقاعدوهم،و لا تواکلوهم،و لا تصافحوهم و لا توارثوهم».
و من هذه الفقرات التی أعلنها علیه السّلام یتبین لنا شدّة اهتمامه بکشف هؤلاء.و قد جعلهم فی عداد الکفّار الذین تحرم مواکلتهم و مصافحتهم،کما أنه علیه السّلام باین بینهم و بین المسلمین بعدم التوارث،فکان فی هذا الموقف من الشدة ما یلزم بالتعرف علی جذور هذه الدعوة و الاطلاع علی أسرار معتقداتها و حقیقة أقوالها.و قد قمنا بما نعتقده وافیا بذلک فی بحثنا عن هذه الحرکة سابقا.و اهتمام الإمام الصادق و حکمه علیهم و عمله علی إشاعة هذا الحکم فی الأقطار یدلل علی عظیم خطر هذه الحرکة،و العمل علی فضح ادعائها الحب لأهل البیت.کما أن استقراء عداء الإمام الصادق لهذه الحرکة و موقفه منها یقودنا إلی نتائج و دلالات کثیرة منها:
1-إن هذه الحرکة تعمد-عن طریق الحب العنیف المصطنع-إلی تشویه العقائد الإسلامیة،و إشاعة الکفر و الزندقة تحت ستار الإسلام.
ص:243
2-إن هؤلاء الغلاة تنطوی نفوسهم عن بغض دفین للإسلام و المسلمین، و إنهم قوم یتحیّنون الفرص للانتقام منه و منهم،و قد لمسوا-حسب تجاربهم و اختلاطهم بالعالم الإسلامی-موقع حب أهل البیت من نفوس المسلمین،و عرفوا منزلتهم عند الناس و خضوعهم لهم،فسلکوا طریق حبّهم الادعائی الکاذب تمهیدا لتنفیذ أغراض خبیثة فی نفوسهم،و کان من أهم ما یقومون به:حرکة الإساءة لرجال الإسلام،و نسبة أشیاء إلیهم تحطّ بسمعتهم،کما أنهم یبذلون قصاری جهدهم فی خلق الفوضی فی المجتمع الإسلامی،و بلبلة أفکار الناس بواسطة دعاواهم التی تعارض التوحید،و تناقض الإیمان.و اختیارهم أشخاص أهل البیت مدخلا لتحقیق مآربهم و أغراضهم.و تلبّسهم بالولاء و ادعائهم التدیّن،و لکن حقیقة ما یدّعون و جوهر ما یدعون إلیه مناقض للإسلام،و مجاف لعقائد أهل البیت.
3-إن العناصر التی تبنّت هذه الدعوات الضالة،و التی نشرت الغلو،کانت ممن ضرب الإسلام مصالحهم،و ضیّع علیهم فرص النفوذ إلی أهدافهم،و هدم معالم مجدهم،و سفّه أحلامهم،و ظهر علی أدیانهم.و بالطبع فإن هؤلاء لا یدینون للإسلام مخلصین،بل یحقدون علیه و إن طال الزمن و بعد العهد،فإنهم لا ینظرون إلیه إلا بعین الحقد و الغضب،و یضحّون بکل ما یملکونه فی سبیل نجاح مؤامراتهم ضده.
فما أبعدهم عنه،و ما أشدّ بغضهم لآل محمد،و لکنهم امتزجوا بالمجتمع الإسلامی لأن انفصالهم عنه یجعلهم بمعزل عن تحقیق مآربهم،فتوزعوا کتائب،و تفرقوا جماعات یظهرون حبّ هذا و یقدّسون ذاک،و یحامون عن هذه الشخصیة،و ینظّمون إلی ما یعادی الأخری،و هکذا،و لکن أشد محاولاتهم هی ادّعاء الصلة بأهل البیت، لأن لأهل البیت أثرهم فی الحیاة العامة.فهم یمیلون إلیهم،و یحاربون أعداءهم ادعاء و تسترا لیصلوا إلی أهدافهم من خلال أوسع قاعدة.ثم تأتی الجماعات التی تتجه إلی أقرب الشخصیات إلیها فی مجال السیاسة أو صعید الإقلیم،فتتعلق بها و تخلع علیها صفات القدسیة،و تؤدی لها شعائر العبادة،و ما هی إلا فرق قدیمة أتی الإسلام علی وجودها و محا ذکرها.و لکن من حملهم سوء حظ الأمة إلی أن یؤرخوا،و یکون لهم دور فی التأثیر علی الناس لأنهم أتباع الملوک و جنود الظلمة،أهملوا الحرکات التی اتخذت من شخصیات عصرها شعارا و هم لیسوا من أهل البیت،و انصبّ جلّ اهتمامهم فیما ابتلی به أهل البیت و شیعتهم من دعاوی الغلاة.
ص:244
لقد کان فی طلیعة حرکة الإلحاد و الزندقة رجال لا ینکر أنهم اتصلوا بمدرسة أهل البیت،فانکشف حالهم فیما بعد.و هناک آخرون قد ادعوا الاتصال بتلک المدرسة لیضعوا الأحادیث الکاذبة.و قد أعلن الإمام الصادق کذب هؤلاء و براءته منهم،و کان علی رأس هذه الفرقة:المغیرة بن سعید.فقد کان یدّعی الاتصال بأبی جعفر الباقر،و یروی عنه الأحادیث المکذوبة،فأعلن الإمام الصادق کذبه و البراءة منه،قال الإمام الصادق علیه السّلام لأصحابه فی قوله تعالی: هَلْ أُنَبِّئُکُمْ عَلی مَنْ تَنَزَّلُ الشَّیاطِینُ. تَنَزَّلُ عَلی کُلِّ أَفّاکٍ أَثِیمٍ قال«هم سبعة:المغیرة بن سعید،و بنان،و صائد، و الحارث الشامی،و عبد اللّه بن الحارث،و حمزة بن عمارة الزیدی».
و کان المغیرة حاذقا فی وضع الأحادیث،و ماهرا فی الدس و الکذب علی أهل البیت،و إلیه تنسب عقیدة تألیه الإمام علی علیه السّلام و هو أمر لا غرابة فیه إن صحّ.لأن لیس هناک ما یمنع من قول المغیرة بذلک و الدعوة إلیه ما دام أحد أرکان حرکة الغلاة و الألحاد المعادین لأهل البیت،و لکن الأشهر أنه قال أنه مخلوق و لا بد أن معتقداته حملت علی ما اعتقدته الخطابیة أو تأثروا بهم فعلا،فهم من جنس واحد.یقول الأشعری:إن المغیرة زعم أنه یحیی الموتی بالاسم الأعظم،و أراهم أشیاء من النرنجات و المخاریق (1).
لقد حمل أئمة أهل البیت سلاح العقیدة کعادتهم فی مواجهة هؤلاء الأعداء الجدد،و اهتموا أشدّ الاهتمام بمقابلة دعاواهم،و إشعار أصحابهم و محبیهم بخروج هؤلاء و کفرهم و شذوذهم.فالباقر علیه السّلام کان یقول:«بریء اللّه و رسوله من المغیرة بن سعید و بنان بن سمعان،فإنهما کذبا علینا أهل البیت» (2).
و عن عبد الرحمن بن کثیر قال:قال أبو عبد اللّه الصادق علیه السّلام یوما لأصحابه:«لعن اللّه المغیرة بن سعید،و لعن اللّه یهودیة کان یختلف إلیها یتعلم منها السحر و الشعبذة و المخاریق.إن المغیرة کذب علی أبی،فسلبه اللّه الإیمان.و إن قوما کذبوا علیّ ما لهم؟أذاقهم اللّه حرّ الحدید.فو اللّه ما نحن إلا عبید خلقنا و اصطفانا،ما نقدر علی ضرّ و لا نفع،إن رحمنا فبرحمته،و إن عذّبنا فبذنوبنا،و اللّه ما بنا علی اللّه
ص:245
من حجة و لا معنا من اللّه براءة،و أنا لمیتون و مقبورون و منشورون و مبعوثون و موقفون و مسئولون،ما لهم لعنهم اللّه،فلقد آذوا اللّه،و آذوا رسول اللّه فی قبره،و أمیر المؤمنین،و فاطمة،و الحسن و الحسین،و ها أنا ذا بین أظهرکم أبیت علی فراشی خائفا،یأمنون و أفزع،و ینامون علی فراشهم،و أنا خائف ساهر وجل».
ثم أراد علیه السّلام أن یلفت نظر العالم الإسلامی إلی قاعدة لها أهمیتها فی قبول الروایة عن أهل البیت و العمل بها،لکی یحول دون حملة الکذب و الدسّ علیه و علی آبائه الکرام،و یدفع الناس إلی التمحیص و النظر فیما یروی عن الأئمة علیهم السّلام فکان قوله القاعدة أشبه ما تکون بالصرخة التی قصد أن یکون دویّها فی کل نفس،و تبلغ عن طریق أصحابه کل قطر،فقال علیه السّلام:«لا تقبلوا علینا حدیثا إلاّ ما وافق القرآن و السنة،أو تجدون معه شاهدا من أحادیثنا المتقدمة،فإن المغیرة بن سعید لعنه اللّه دسّ فی کتب أصحاب أبی أحادیث لم یحدّث بها،فاتقوا اللّه و لا تقبلوا علینا ما خالف قول ربنا و سنّة نبینا صلّی اللّه علیه و آله و سلّم».
و جملة أقوال الإمام الصادق فی المغیرة،تظهر لنا بوضوح عظیم ألمه و شدة غمّه لما قام به الغلاة،و ما اقترفوه من أکاذیب،و ما اعتقدوه من عقائد الغرض منها الإساءة إلی أهل البیت النبوی الکریم،و خلق الریب و الشکوک فی نفوس الناس.و لقد رأینا وصف الإمام الصادق للحال الذی هو علیه بسبب ما قام به الغلاة فهو علیه السّلام ساهر وجل یهمّه ما یفعله أولئک الکفرة و ما یشیعوه بین الناس من مفتریات و عقائد فاسدة.
لقد قلنا أن مشکلة الغلاة هی من أدهی ما حلّ بتاریخ العقیدة الإسلامیة،و من أفظع ما أصاب تاریخ الشیعة،و لو حسنت النوایا و تجرّدت من سخائم الحقد،لنظر إلی المشکلة بعموم نشأتها،لا بخصوص مدّعاها،و بحثت علی أساس أغراض أصحابها و بواعث رجالها،فهی إذا دققنا تاریخ نشوئها و مصادر أفکارها،و اعتبر الإنصاف فی القول و روعی الحق،لم تکن حول أهل البیت فحسب-کما أشرنا-بل إن من أصحاب العقائد الفاسدة الذین هاجت فی حنایاهم الجذور التی قطع الإسلام عنها ماء الحیاة،فرق(الخرمدینیة)أصحاب أبی مسلم الخراسانی،و منهم کان بدء الغلو فی القول،و معلوم بعد أبی مسلم عن الإمام الصادق و عدم التقائه به،و إنما کان أبو مسلم من دعاة العباسیین الخلّص الذین بنوا إیمانهم فی الدعوة علی أساس ما تعنیه
ص:246
الدعوة إلی آل البیت بحسب ما یضمره العباسیون و ما وضعوه فی نظامهم السری،و قد قالت هذه الفرقة:أن الأئمة آلهة.و الأئمة فی مفهومهم لیسوا أئمة الهدی من أهل البیت النبوی الذین انعقدت إلیهم الإمامة بالنص و الوصیة،و الذین هم قادة الشیعة و رموز هداها.و قالت هذه الفرقة أیضا:أن الأئمة أنبیاء،و إنهم رسل،و إنهم ملائکة.
و هم الذین تکلموا بالأظلة و التناسخ فی الأرواح،و هم أهل القول بالدور فی هذه الدار،و إبطال القیامة و البعث و الحساب،و زعموا أن لا دار إلا الدنیا،و أن القیامة هی خروج الروح من البدن و دخوله فی بدن آخر غیره،إن خیرا فخیرا و إن شرّا فشرّا، و أنهم مسرورون فی هذه الدنیا بالأبدان أو معذبون فیها،و الأبدان هی الجنان أو هی النار،و أنهم منقولون فی الأجسام الحسنة الأنسیة المنعمة فی حیاتهم،و یعذبون فی الأجسام الردیّة المشوّهة من کلاب و قردة و خنازیر و حیات و عقارب و خنافس و جعلان محوّلون من بدن إلی بدن معذبون فیها هکذا،فهی نعیمهم و نارهم لا قیامة و لا بعث و لا جنة و لا نار غیر هذا علی قدر أعمالهم و ذنوبهم و إنکارهم لأئمتهم و معصیتهم لهم.إلی آخر أقوالهم الباطلة و معتقداتهم الفاسدة.
و من فرق الغلاة(الروندیة)الذین قالوا:إن أبا مسلم نبی مرسل یعلم الغیب، أرسله أبو جعفر المنصور.و قالوا:إن المنصور هو اللّه،و أنه یعلم سرّهم و نجواهم.
و أعلنوا القول بذلک،و دعوا إلیه.و لمّا أمرهم المنصور بالرجوع عن قولهم،قالوا:
المنصور ربنا،و هو یقتلنا شهداء کما قتل أنبیاءه و رسله علی ید من شاء من خلقه، و أمات بعضهم فجأة و بالعلل و کیف شاء،و ذلک له یفعل ما یشاء بخلقه لا یسأل عمّا یفعل (1).و کانوا یعینون من انتقلت إلیه روح آدم،فیقولون:انتقلت إلی فلان رجل من کبارهم،و أن ربهم الذی یطعمهم و یسقیهم هو المنصور،و أن جبرائیل هو فلان- رجل آخر منهم-و لمّا ظهروا أتوا قصر المنصور،فطافوا حوله،و قالوا:هذا قصر ربنا (2).
إذا،فإن حقیقة أفکار الغلاة تقوم علی بواعث مختلفة و أغراض عدیدة،لا تمتّ إلی الإسلام و التوحید بصلة،و من الصحة بمکان القول بأن أخطر جماعاتهم و أکثرها
ص:247
ضررا هم أولئک الذین استغلوا الصلة بأهل البیت أو انتحلوها،لأن الدخول علی المجتمع الإسلامی من خلال الأئمة و سادة أهل البیت یحدث أثرا سیئا و بلیغا فی کیان المجتمع الإسلامی،و یقرّب هؤلاء الکفرة من تحقیق أغراضهم و تنفیذ مآربهم،فلا عجب أن نری من الأئمة مثل هذا الاهتمام،لأن أمر الغلاة أخافهم و أسهرهم و أفزعهم،فلا بد من مقابلة نشاطهم و ملاحقة أفکارهم دفعا للفتنة و حمایة للعقیدة، فکان تشدیده علی روایة الحدیث،و التأکد من صحة ما یروی عن أهل البیت،و ما صحب ذلک من أقوال له علیه السّلام فی فضحهم و کشف حقیقة دعاواهم فی محبة أهل البیت،إذ یقول علیه السّلام:«...و اللّه لو ابتلوا بنا،و أمرناهم بذلک،لکان الواجب أن لا یتقبّلوه،فکیف و هم یرونی خائفا وجلا استعدی اللّه علیهم،و أبرأ إلی اللّه منهم.
إنی امرؤ ولدنی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و ما معی براءة من اللّه،إن أطعته رحمنی،و إن عصیته عذبنی عذابا شدیدا».
و قال الإمام الصادق لمرازم-و هو جار بشار الشعیری أحد دعاة الألحاد و من الغلاة-«یا مرازم،إن الیهود قالوا و وحدوا اللّه،و إن النصاری قالوا و وحدوا اللّه،و إن بشارا قال قولا عظیما،فإذا قدمت الکوفة فأته و قل له:یقول لک جعفر:یا فاسق،یا کافر،یا مشرک،أنا بریء منک».
قال مرازم:فلما قدمت الکوفة،فوضعت متاعی و جئت إلیه و دعوت الجاریة، و قلت قولی لأبی إسماعیل،هذا مرازم،فخرج إلیّ.فقلت له:یقول لک جعفر بن محمد«یا کافر یا فاسق یا مشرک أنا بریء منک».
فقال بشار:و قد ذکرنی سیدی؟قال:قلت:نعم ذکرک بهذا الذی قلت لک.
فقال:جزاک اللّه خیرا،و جعل یدعو لی (1).
لقد أراد الإمام الصادق أن یحفظ تراث أهل البیت أیضا إلی جانب حمایة العقیدة،فعمل علی ترسیخ قاعدة الروایة عن أهل البیت بشروطها فقال:«فاتقوا اللّه و لا تقبلوا ما خالف قول ربنا و سنّة نبینا صلّی اللّه علیه و آله و سلّم».و هی القاعدة التی قام علیها منهاج
ص:248
مدرسته فی العلم و الحدیث،و التزمت بها التزاما شدیدا.و قد قال علیه السّلام مرارا و تکرارا:«حدیثی حدیث أبی،و حدیث أبی حدیث جدّی،و حدیث جدّی حدیث علی بن أبی طالب أمیر المؤمنین،و حدیث علی أمیر المؤمنین حدیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و حدیث رسول اللّه قول اللّه عز و جل».
:
قدّمنا فیما سبق نظرة إجمالیة لحوادث عصره أو أهمها مما یتعلق بمنهجه الفکری و مسئولیاته الدینیة و مهامه المتعددة،و نقتبس الآن بعض الأضواء من سیرته علیه السّلام و نقدم شیئا من الجوانب التی تتصل بالجانب الاجتماعی أو النشاط العام،و العلاقة بین نظرة الفرد المسلم إلی موقعه فی المجتمع،و بین تکوینه الدینی و بنائه الأخلاقی.
لقد عرف الإمام الصادق بحسن البیان و نفاذ البصیرة و کرم الأخلاق و صدق الحدیث،و اتجه إلی الفرد و المجتمع،و عنی بالأوضاع الاجتماعیة و الخلقیة، و معالجة ما یعانی منه المجتمع،و تهیئة وسائل الإعداد و التربیة السلوکیة و الفکریة، و خلق المناسبات للوعظ و النصح و الإرشاد.و کان مقصده یتخلّص فی قوله علیه السّلام:
«أن یسلم الناس من ثلاثة أشیاء کانت سلامة شاملة:لسان السوء،ید السوء،و فعل السوء».
و کان إقبال الناس علیه لانتهال العلم،و اختلافهم إلی مجلسه قد هیأ مناخا دائما للدعوة،و العمل علی إبراز الجوانب المهمة التی تتکون منها شخصیة المسلم.و من جوانب عظمة شخصیة الإمام الصادق و تمیّزه فی نهجه الإصلاحی و مسیرته الدینیة، مباشرته ما یدعو إلیه من مکارم الأخلاق بنفسه،و عمل ما یراه و یحضّ الآخرین علی عمله،و ممارسته فی الحیاة،فهو بذلک کان بحق المصلح الاجتماعی العظیم، و المرشد الدینی الکبیر.فجعل من نفسه قدوة لیحفّز الآخرین علی اتباعه و الاقتداء بفعله.فکان یحثّ علی العمل،و یعمل بنفسه،و قد تضافرت الأخبار بأنه کان یعمل بیده و یتّجر بماله.
و قد عالج بالدعوة و العمل ظواهر التکاسل و صور الابتعاد عن طلب الرزق،و ما تطور فی المجتمع بتأثیر حب الانقطاع إلی اللّه،و قیام الجدل فی استحباب الانقطاع
ص:249
التام،و ترک مجال العمل و اکتساب الرزق،لأنه یدعو إلی الانشغال،و هو من مقومات الدنیا.و رأی الإمام الصادق أن الإیمان الحق فی أن یغدو المسلم إلی عمله کل یوم،و یکدّ فی تحصیل رزقه،و أن یقوم بدوره فی هذه الحیاة،و یری أن قیمة الإنسان فی عمله،إذ لم یرض للمسلم البطالة و ترک العمل،و کل ما یدعو إلی الاستهانة بالشخص و تحقیره.و فی الحدیث:«ملعون ملعون من ألقی کلّه علی الناس،ملعون ملعون من ترک من یعول به».و قد قرن الإسلام العمل لطلب الرزق للولد و للعیال بما یصلحهم بالجهاد فی سبیل اللّه.
قال الإمام علی علیه السّلام:«ما غدوة أحدکم للجهاد فی سبیل اللّه بأعظم من غدوة من یطلب لولده و عیاله ما یصلحهم».
و کان الإمام الصادق یروی ما کان جدّه الإمام زین العابدین یفعله و یقول:«کان علی بن الحسین إذ أصبح خرج غادیا فی طلب الرزق،فقیل له:یا ابن رسول اللّه أین تذهب؟ فقال:أتصدّق لعیالی.
قیل له:أ تتصدّق؟ قال:من طلب الحلال،فهو من اللّه عز و جل صدقة علیه» (1).
و کان علیه السّلام یروی قول جده الإمام زین العابدین علیه السّلام:«ضمنت علی ربی ألا یسأل أحد من غیر حاجة إلا اضطرّته المسألة إلی أن یسأل عن حاجته».
و کان یخاطب أصحابه:«إیاکم و سؤال الناس،فإنه ذلّ فی الدنیا،و فقر تعجّلونه،و حساب طویل یوم القیامة».
و علی ضوء هذا الإیمان العمیق بالعمل،کان الإمام الصادق یعمل بنفسه لیکون مثالا لغیره.فقد حثّ علی طلب الرزق لیرفع من مستوی أخلاقهم و المحافظة علی القیم الروحیة لدیهم،فکان یسمّی التجارة و دخول السوق بالعزّ،کما یحدّثنا المعلّی بن خنیس قال:رآنی أبو عبد اللّه و قد تأخرت عن السوق،فقال لی:«أغد إلی عزّک».
ص:250
و قال لآخر-و قد ترک غدوّه إلی السوق-:«مالی أراک ترکت غدوّک إلی عزّک؟» قال:جنازة أردت أن أحضرها.قال:«فلا تدع الرواح إلی عزّک».
و عن سلیمان بن معلی عن أبیه قال:سأل أبو عبد اللّه عن رجل-و أنا عنده- فقیل:أصابته الحاجة.قال:«فما یصنع الیوم؟»قیل:فی البیت یعبد ربه.قال:«فمن أین قوته؟»قیل:من بعض إخوانه.قال أبو عبد اللّه:«للذی یقوته أشدّ عبادة منه».
و قال لمعاذ-بیّاع الأکسیة عند ما ترک التجارة-:«لا تترکها،فإنّ ترکها مذهبة للعقل،اسع علی عیالک،و إیاک أن یکونوا هم السعاة علیک».
و سأل عن رجل من أصحابه،فقیل:ترک التجارة و قل شیئه.فاستوی الإمام جالسا-و کان متکئا-ثم قال:«لا تدعوا التجارة فتهونوا،اتّجروا بارک اللّه لکم».
و قال معاذ:قلت لأبی عبد اللّه:إنی هممت أن أدع السوق؟فقال:«إذا یسقط رأیک، و لا یستعان بک علی شیء».
یحدثنا أبو عمرو الشیبانی:قال رأیت أبا عبد اللّه الصادق،و بیده مسحاة یعمل فی حائط له،و العرق یتصبّب منه.فقلت:جعلت فداک أعطنی أکفک.فقال:«إنی أحبّ أن یتأذّی الرجل بحرّ الشمس فی طلب المعیشة».
لقد هدف الإمام علیه السّلام إلی أن یزرع حبّ العمل فی نفوس الناس،و أن یدفعهم إلی الاعتماد علی أنفسهم من خلال الشعور بالمسؤولیة.فإنّ التواکل أو الکسل المتعمّد ظاهرة تحط من قیمة الإنسان،و تکشف عن نقص فی مستوی وعیه و إدراکه،و کلما کان المجتمع ینطوی علی قاعدة واسعة من الأفراد الذین یدرکون قیمة العمل و أهمیته فی الرخاء،و تأکید قدرة الفرد و عدم عجزه؛کان ذلک مؤشرا إیجابیا علی مستوی الوعی الذی یسود المجتمع،و مدی تحمل الأفراد لمسؤولیاتهم فی حفظ البلد و الدفاع عن عقائدهم،فالإسلام بنظامه رعی حقوق العامل بما لم تأت به أی نظم أخری.
و علی أی حال فقد کان الإمام الصادق یرکّز علی تجسید ضرورة العمل، و توضیح العلاقة بین الإیمان و بین الإنتاج.و لقد هدف الإمام الصادق إلی أن یحبط روح الکسل،و یقضی علی التواکل،لأنه یری فی الفرد العامل أنموذجا للعضو الصالح الذی یؤکد ذاته و موقعه من خلال ما ینتج للمجتمع بما منحه اللّه تعالی من موهبة و حباه من نعمة.و إیضاحا للمقام،و زیادة للمعلومات،نسوق بعض القضایا التی تبعث فی روح المسلم نشاطا لمواصلة عمله علی ضوء سیرة الإمام الصادق علیه السّلام:
ص:251
خرج الإمام الصادق فی یوم شدید الحر،فاستقبله عبد الأعلی-مولی آل سام- فی بعض طرق المدینة فقال:یا ابن رسول اللّه حالک عند اللّه عز و جل،و قرابتک من رسول اللّه،تجهد نفسک فی مثل هذا الیوم!!! فقال علیه السّلام:«یا عبد الأعلی خرجت فی طلب الرزق لأستغنی عن مثلک».
فهو علیه السّلام یضرب لعبد الأعلی المثل الأعلی فی إعزاز النفس الذی یحققه المسلم من وراء العمل،و فی نفس الوقت یعکس أولا أهمیة اعتماد المسلم و استغنائه عن الآخرین مهما کانت منزلته و عظمة رتبته.
و ثانیا:إن استغلال الفرد و کسبه لرزقه یؤکد عزّة نفسه،و یحفظ کرامته،و یعیش سعیدا لا یذلّ لأحد،و لا یستهین بکرامته أحد.
و قد کانت الفترة التی مرّ بها الإمام الصادق قد شهدت نوعا من التطور الفکری الذی نجم عن التفاعل و الحوار بین الحضارات القدیمة و بین الفکر الإسلامی،و أخذ الوضع الاقتصادی بالتدهور نتیجة سیاسة القمع و الضرائب و النهب التی مارسها الحکام لسدّ متطلبات بذخهم و لهوهم،و کذلک الولاة فقد أجهدوا الرعیة یأخذ الأموال من غیر حقها،کما بیّنا ذلک.
و الإمام الصادق فی ذلک العصر حاول أن یقود الأمة إلی کل خیر،و فی هذا المجال بالذات یبذل جهده بأن یجعل من الفرد المسلم فردا متمکنا متجاوزا عوائق الضیق و آلام الفاقة،فقام بتوعیة الناس لمباشرة العمل و تحبیبه للنفوس،و بتنمیة الشعور بالمسؤولیة لکی لا تلجیء الظروف أولئک الأفراد-الذین فقدوا خیرات بلادهم-إلی الاضطرار للاستجداء من السلطة و الرکوع علی أعتابها و الخنوع لها تحت وطأة قسوة ظروف الحیاة و مرارة الجوع.
عن هشام بن سالم قال:کان أبو عبد اللّه إذا أعتم اللیل و ذهب شطره،أخذ جرابا فیه خبز و لحم و دراهم،فحمله علی عنقه،ثم ذهب به إلی أهل الحاجة من أهل المدینة،فقسّم فیهم و لا یعرفونه،فلما مضی أبو عبد اللّه علیه السّلام فقدوا ذاک،فعلموا أنه کان أبا عبد اللّه علیه السّلام.
ص:252
و عن المعلی بن خنیس (1)قال:خرج أبو عبد اللّه علیه السّلام فی لیلة قد رشت -أمطرت-و هو یرید ظلة بنی ساعدة،فاتبعته،فإذا هو قد سقط منه شیء فقال:
«بسم اللّه اللهم ردّه علینا».قال:فأتیته فسلّمت علیه.
قال:فقال:«معلی»:قلت:نعم جعلت فداک.فقال لی:«التمس بیدک فما وجدت من شیء فادفعه إلی»فإذا أنا بخبز منتشر کثیر،فجعلت أدفع إلیه ما وجدت، فإذا أنا بجراب أعجز عن حمله.فقلت:جعلت فداک،أحمله علی رأسی؟فقال:
«لا،أنا أولی به منک،و لکن امض معی»قال:فأتینا ظلة بنی ساعدة،فإذا نحن بقوم نیام،فجعل یدسّ الرغیف و الرغیفین حتی أتی علی آخرهم،ثم انصرفنا.فقلت:
جعلت فداک یعرف هؤلاء الحق؟فقال:«لو عرفوه لواسیناهم بالدقة-و الدقة هی الملح-إن اللّه تبارک و تعالی لم یخلق شیئا إلا و له خازن یخزنه،إلا الصدقة،فإنّ الرب یلیها بنفسه،و کان أبی إذا تصدق بشیء وضعه فی ید السائل،ثم ارتدّه منه، فقبّله و شمّه ثم ردّه فی ید السائل» (2).
و إزاء ظاهرة ابتعاد کثیرین عن العمل،و انزوائهم فی بیوتهم منقطعین للعبادة مع تفاقم أزمة العیش،کان علیه السّلام یفضّل العامل علی ذلک الفرد المنزوی و المنقطع إلی العبادة.فعند ما قیل له:أن رجلا قال لأقعدنّ فی بیتی،و لأصلینّ و لأصومنّ و لأعبدنّ اللّه،فأما رزقی فسیأتینی.
فقال علیه السّلام:«هذا أحد الثلاثة الذین لا یستجیب اللّه دعاءهم».
فالإمام رغم معرفته بأهمیة العبادة،إلا أنها لا تجوز إلا فی موقعها فی حیاة الفرد المؤمن،بحیث تکون صلة المؤمن بربّه و هویته و سلوکه.و هویة المؤمن العزّة، و سلوکه العطاء و العمل.
یقول إسماعیل بن جابر (3)أتیت أبا عبد اللّه،و إذا هو فی حائط(بستان)له، و بیده مسحاة،و هو یفتح بها الماء.
ص:253
و عن الفضل بن أبی قرة (1)قال:دخلنا علی أبی عبد اللّه فی حائط له،و بیده مسحاة یفتح بها الماء،و علیه قمیص،و کان یقول:«إنی لأعمل فی بعض ضیاعی، و إن لی من یکفینی،لیعلم اللّه عز و جل أنی أطلب الرزق الحلال».
و کان علیه السّلام یرمی إلی حمل الناس علی الخلال الطیبة و الأخلاق الکریمة لیقوم ذلک المجتمع الذی تسوده قیم التکافل و الإخاء الدینی.فقال علیه السّلام لبعض جلسائه:
«أ لا أخبرک بشیء یقرّب من اللّه،و یقرّب من الجنة،و یباعد من النار؟»فقال:بلی.
قال علیه السّلام:«علیک بالسخاء،فإن اللّه خلق خلقا برحمته لرحمته،فجعلهم للمعروف أهلا و للخیر موضعا،و للناس وجها یسعی إلیهم لکی یحیوهم کما یحیی المطر الأرض المجدبة،أولئک هم المؤمنون بالآخرة،الآمنون یوم القیامة».
لقد کان الإمام الصادق علیه السّلام مثالا کاملا لدعاة الإصلاح،و علما شامخا من أعلام رجال الصلاح،فهو یأمر بالأخلاق الفاضلة و السجایا الحمیدة،و اکتساب الفضائل،و الابتعاد عن الرذائل،فکان من مأثور أقواله:«بنی الإنسان علی خصال، فما بنی علیه أنه لا یبنی علی الخیانة و الکذب» (2).
و لا یدخر علیه السّلام النصح عن أحد،و هو من أعظم القادة الذین تحتل سیرتهم مکانة مهمة تنعکس آثارها علی الناس و المؤمنین فی ظل دعواتهم إلی الخیر،و علی مرّ التاریخ.
کان من أهم العوامل الحیویة فی إنجاح الدعوات و استمرارها هو الإیمان المطلق بالمبادئ،و مبادرة القادة للالتزام بها فی خط من التوافق التام بین الدعوة و السلوک،و لقد کان سلوک حملة رسالة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و انتشار الإسلام و اتساع رقعته دلیلا حیا علی إیمانهم العظیم بالدعوة،و من خلال هذا الترابط بین سلوکیة القادة و موقف الناس یمکن أن نلحظ علی مدی المراحل التاریخیة تأثیر الرجال البارزین فی نفوس الآخرین،و انجذابهم إلی صفوف الدعوة.
و قد عرف عن الإمام الصادق أقواله الجامعة و توجیهاته الشاملة التی تنیر الطریق و تهدی إلی الرشاد،و التی تؤثر فی نفوس و سلوک أصحابه.
ص:254
یقول علیه السّلام:«الصلاة قربان کل تقی،و الحج جهاد کل ضعیف،و زکاة البدن الصیام،و الداعی بلا عمل کالرامی بلا وتر».
و جاء فی وصیته علیه السّلام لعبد اللّه بن جندب:«یا ابن جندب،لو أن شیعتنا استقاموا؛لصافحتهم الملائکة،و لأظلّهم الغمام،و لأکلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم،و لما سألوا اللّه شیئا إلا أعطاهم.یا ابن جندب بلّغ معاشر شیعتنا و قل لهم لا تذهبنّ بکم المذاهب،فو اللّه لا تنال ولایتنا إلا بالورع و الاجتهاد فی الدنیا،و مواساة الإخوان،و لیس من شیعتنا من یظلم منا بریا».
و قد بیّنا فی عدة مواضع ما یکشف لنا طرفا من الجوانب المهمة من جوانب شخصیة الإمام الصادق علیه السّلام و قیامه بالدعوة للإسلام،و التقیّد بتعالیمه،و العمل بأوامره و نواهیه،و الالتزام بالسیر علی نهج هداه و نور عقیدته فکان التطابق بین المبادئ و بین السلوک من أهم صفات حیاته،رغم أن أوضاع عصره تبعث الاضطراب فی الحیاة لاشتداد الصراع الفکری و السیاسی.و قد اهتزت أفکار الناس،فوقف موقف البطل المؤمن بعقیدته،الذی أعاد بموقفه التوازن فی الفکر و السلوک لأفراد الأمة و المجتمع،و خفف من الضغوط و الأخطار التی تهدد وجودهما.فقد عانی المجتمع فی هذه المرحلة،و تعرّضت الأمة الإسلامیة خلالها إلی سیاسات أنهکت الرعیة،و إلی حملات معادیة مختلفة اللبوس و الإشکال.و الخلاصة فإن مجمل العوامل التی واجهت الأمة،و تعرّض لها المجتمع الإسلامی کانت کافیة لانتشار القلق و الاضطراب و توغّل جذورهما،حتی أن الناظر إلی الأحداث-و لو ببساطة و عجالة- یلحظ أن فوق عناصر القلق و مظاهر الاضطراب تنمو و ترتفع صور لحرکة العلم و الدعوة الإسلامیة تطغی علیها و تکاد تخفیها،و بصور الدعوة الدینیة و مظاهر الحرکة العلمیة یتمثل موقف الإمام الصادق علیه السّلام و بروزه فی مجتمعه،رغم عداء الملوک له،و عملهم الدائم علی إنهاء ذکره.فکان أن أکتسب من التجارب-مضافا إلی جوهر الإمامة-ما جعله یعیّن طرق تحاشی الأمة ضربات الحکام و تجنّب سیوفهم و رماحهم،و احتل موقعا فی وسط الأحداث هو موقع تکامل و خبرة،فإن فی سیرته تتجسد أعلی مستویات الکفاءة و القیادة،إلی جانب علمه و جهاده.
کان علیه السّلام یحرص علی أن تکون صلته بأصحابه قویة و مؤثرة.فعن صفوان،
ص:255
عن خالد بن نجیح قال:قال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«أقرءوا من لقیتم من أصحابکم السّلام،و قولوا لهم:إن فلان بن فلان یقرئکم السّلام.و قولوا لهم:علیکم بتقوی اللّه عز و جل،و ما ینال به ما عند اللّه،إنی و اللّه ما آمرکم إلا بما نأمر به أنفسنا، فعلیکم بالجد و الاجتهاد،و إذا صلّیتم الصبح و انصرفتم،فبکّروا فی طلب الرزق، و اطلبوا الحلال فإن اللّه عزّ و جل سیرزقکم و یعینکم علیه».
کان فی سیرته و سلوکه یمثل جوانب سامیة من التواضع و البساطة مع عظمته و علو شأنه،و کان یعامل الناس بالعطف و التسامح.کل ذلک کان له تأثیر فی نفوس تلامذته و مریدیه،و قد وقف أمام التیارات السیاسیة یوم اجتاحت البلاد ثورة من جمیع جوانبها،و قد دعاه القادة-کما أسلفنا-إلی تولّی الأمر و إسناد الحکم إلیه،کما أن أبا مسلم الخراسانی کتب له یدعوه بأن یدعو الناس إلی بیعته،و ینتزع الأمر من بنی العباس.فأجابه بقوله:«ما أنت من رجالی،و لا الزمان زمانی».
و قبل ذلک رجعت رسل أبی سلمة الخلاّل بالخیبة عند ما وجّههم بکتاب الدعوة إلی الإمام الصادق بأن یکون الأمر له دون بنی العباس.فکان جوابه أن أحرق الکتاب أمام الرسل،لأنه کان یقدّر أبعاد المعرکة،و ینظر العواقب،و یحاول أن یؤثر فی انفعالات الناس،و یقلل من اندفاعهم علی طریق تؤدی نهایتها إلی تعریض المسلمین إلی الأخطار و دفع الأبریاء إلی الموت.و ذلک لأن الظروف غیر مواتیة،رغم ظاهر مناسبتها و ملائمتها.و سنبحث موضوع موقفه من الثورة مفصلا فی فصل لاحق.
و الغرض،فإن وجوده فی منصب الإمامة و تبوءه موقع القیادة و الإصلاح یجعله أقرب الأطراف إلی حدّ السیوف،و أدناهم إلی شبا الرماح،و هو من أهل البیت الذین ابتلوا بمصالح الرعیة،و جعل فیهم دوام الرسالة المحمدیة.فمن خصوص أعمالهم مناهضة الظلم،و من صمیم دعوتهم رعایة أمور المسلمین،و هم مکلفون بما کتب علیهم و قدّر لهم من وجوه المسئولیة و الأفعال.
فکان علیه السّلام یعمل بوحی ذلک،فلا یری فی ضوء ما یحمله من الأخبار و العلم أن طریق الخلاص فی التعرّض إلی السلطان،بل فی الابتعاد عن مواطن الأذی و موارد الهلکة،و الوقوف بوجه الظلم و الجبارین بوسائل یضمن نفعها،و یؤمن سلامة الناس فیها.
ص:256
کما کان علیه السّلام یشدّد علی وحدة الأمة،و یدعو إلی توثیق روابط الإخوة الإسلامیة و إلی الألفة و التقارب،و ینهی عن التباغض و التباعد،و یحاول تألیف القلوب بمختلف الطرق،و یدرک أثر التکاتف و التآلف.فبذل ماله للقضاء علی کل أسباب الخلاف بین المسلمین و العمل علی جمع صفهم و تآلفهم حرصا علی وحدة الکلمة.
قال أبو حنیفة-و اسمه سعید بن بیان-المعروف بسابق الحاج:(مر بنا المفضّل بن عمر و أنا و ختن لی نتشاجر علی میراث فی الطریق،فوقف علینا ساعة ثم قال لنا:تعالوا إلی المنزل،فأتیناه فأصلح بیننا بأربعمائة درهم،فدفعها إلینا من عنده، حتی إذا استوثق کل واحد منّا صاحبه،قال المفضل:أما إنها لیست من مالی،و لکن أبا عبد اللّه الصادق أمرنی إذا تنازع رجلان من أصحابنا أن أصلح بینهما و أفتدیهما من ماله،فهذا مال أبی عبد اللّه (1).
فکان علیه السّلام یتّخذ السبل العملیة الکفیلة بتحقیق مبادئ الإسلام،و یستعین برجاله لکی یقضی علی عوامل الفرقة و مظاهر الشقاق،و یحقق مبدأه الذی سار علیه فی الإصلاح.و دعا إلی عدم التعاون مع السلطة،فنهی عن المرافعة إلی حکّام اتخذوا السلطة غنیمة یستغلونها لأغراضهم،بعد أن أعلن مقاطعتهم،و صرّح علی ملأ من الناس بأن یرجعوا إلی سلطة الحق و میزان العدل فیما ینشأ بینهم من الخلافات،فإن سلطة الحق مفتوحة الأبواب،و مبادئ الدین لا تعطلها عوائق أو ظروف صعبة،إذ الإیمان یرسم الخطوط العامة لدور المؤمن و القائد علی السواء،فقال علیه السّلام:«أیّما رجل منکم کانت بینه و بین أخ له مماراة فی حق،فدعاه إلی رجل من إخوانکم لیحکم بینه و بین أخیه،فأبی إلاّ أن یرفعه إلی هؤلاء،کان بمنزلة الذین قال اللّه عز و جل فیهم: أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِینَ یَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَیْکَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِکَ یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ ».
و عن عمر بن حنظلة-من أصحاب الإمام الصادق-قال:سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام عن رجلین من أصحابنا بینهما منازعة فی دین أو میراث،فتحاکما إلی السلطان أو إلی القضاة أ یحل ذلک؟ قال الإمام الصادق:«من تحاکم إلیهم فی حق أو باطل،فإنما تحاکم إلی
ص:257
الجبت و الطاغوت المنهی عنه،و ما حکم له به،فإنما یأخذ سحتا و إن کان حقه ثابتا له،لأنه أخذه بحکم الطاغوت،و من أمر اللّه عز و جل أن یکفر به،قال اللّه عز و جل:
یُرِیدُونَ أَنْ یَتَحاکَمُوا إِلَی الطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ یَکْفُرُوا بِهِ ».
قلت:فکیف یصنعان و قد اختلفا؟ قال علیه السّلام:«ینظران من کان منکم ممن قد روی حدیثنا،و نظر فی حلالنا و حرامنا،و عرف أحکامنا،فلیرضیا به حکما،فإنی قد جعلته علیکم حاکما،فإذا حکم بحکم و لم یقبله منه،فإنما بحکم اللّه استخفّ و علینا ردّ.و الرادّ علینا کافر و رادّ علی اللّه،و هو علی حدّ من الشرک باللّه».
و النوعیة التی هدف الإمام إلیها،و التعبئة التی قام بها کانت تنزع عن السلطة قاعدتها،و تضع الحواجز بینها و بین الناس،و تکشف للمسلمین انغماس الحکّام فی ملاذّهم،و مدی ابتعادهم عن الإسلام و استعدادهم لإنزال الأذی بالمسلمین، و استخدام قوتهم الغاشمة.فقرر الإمام أن یباشر دعوة الحق،و یقوم بإعداد الأمة، و یتبنی مهمة الإصلاح إلی حین استکمال عوامل الثورة-و لأنه لا یری ما یراه الآخرون من ملائمة الظرف-أصرّ علی هذا النهج حمایة لأرواح المسلمین،لأن إعلان الثورة کان یعنی سفک الدماء علی أیدی الحکام الذین یتمتعون بالقوة و یتصفون بالقسوة و لا یتورعون عن انتهاک المحارم و إزهاق الأرواح فی سبیل الحفاظ علی سلطانهم و صیانة ملکهم،ثم إن النفوس امتلأت جراحا،و الأمر کما تبیّنه الأخبار و تعیّنه الآثار، فالإمامة معقودة لرعایة الدین و حمایة العقیدة،و الأحداث تجری علی نماذج من التضحیات،و أمثال من المواقف التی تشحذ الهمم و تؤجج المشاعر،و الخلافة العظمی بإمامتها الروحیة تتبوأ المحل الذی وضعها اللّه فیه.و لکل فترة دور و حال.
و علی ذلک یفسر الإمام الصادق قول اللّه تعالی: ذلِکَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِیَ عَلَیْهِ لَیَنْصُرَنَّهُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فیقول:«إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لما أخرجته قریش من مکة،و هرب منهم إلی الغار،و طلبوه لیقتلوه فعوقب،ثم فی بدر عاقب،لأنه قتل عتبة بن ربیعة و شیبة بن ربیعة و الولید بن عتبة و حنظلة بن أبی سفیان و أبو جهل و غیرهم،فلما قبض رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بغی علیه ابن هند بنت عتبة بن ربیعة بخروجه عن طاعة أمیر المؤمنین علیه السّلام و بقتل ابنه یزید الإمام الحسین علیه السّلام بغیا و عدوانا و قائلا شعرا:
لیت أشیاخی ببدر شهدوا (جزع)الخزرج من وقع الأسل
ص:258
لأهلّوا و استهلّوا فرحا ثم قالوا یا یزید لا تشل
لست من خندف إن لم أنتقم من بنی أحمد ما کان فعل
قد قتلنا القرم من ساداتهم و عدلناه ببدر فاعتدل
ثم قال تعالی:لینصرنه اللّه.یعنی بالقائم المهدی من ولده صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1)».
و من المعلوم أن التقیة کانت من دین الإمام الصادق،جعلها فی مکان من عمله رفیع و بارز لاتقاء شرور الحکام و دفع ظلمهم،إلی ما فیها من الإبقاء علی الصلات بالأولیاء الحقیقیین الذین یتخذهم المسلمون بإیمان و نص من دین اللّه،و إلا فإن الحدیث عن بنی العباس صریح تصرخ به أفعالهم و تصرّح به سیاستهم.
و فی سیرة الإمام الصادق تتمثل أیضا الأعمال التی علی المصلح الدینی أن یقوم بها،و الاتجاه إلی الإصلاح بالعمل الدینی یقود إلی الإصلاح الاجتماعی و الأخلاقی، و قد قلنا أن الإمام الصادق کان یقرن دعوته بصور عملیة حیث یبادر بنفسه إلی العمل لکسب الرزق،و یکفّ نفسه عمّا نهی اللّه عنه،فیجد المسلم فی سلوک الإمام تطابقا تاما و ائتلافا کاملا یجسّد العقائد و المبادئ و الأفکار التی یدعو إلیها،فیطمئن الناس إلی صدق النیة،و یقبلون علی عالم من القول و العمل فیه القربة إلی اللّه لنیل رضاه و فیه السلامة فی الدنیا لنیل السعادة.
سئل علیه السّلام عن قوله تعالی: فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ؟فقال:«إن اللّه سبحانه یقول للعبد یوم القیامة:عبدی،أ کنت عالما؟فإن قال:نعم.قال له:أ فلا عملت بما علمت؟ و إن قال:کنت جاهلا.قال:أ فلا تعلّمت حتی تعمل؟فیخصم.فتلک الحجة...»ا ه.
و یسعی الإمام الصادق علیه السّلام إلی معالجة الشذوذ فی التصرفات التی تحدث بدافع الجهل،فإن کانت لأجل الإساءة إلی الدین و الطعن فی العقائد،فإنها تدخل فی جملة القضایا و الأعمال التی یستهدفها جهده علیه السّلام فی حملة فکریة و عقلیة یقابل بها أفکار الزندقة و الألحاد و أهل الأهواء و الآراء.و إذا تحدّث جمع بین التفسیر و الوعظ و الوقائع.و إلیک ما یضمّ خلاصة ما قدمناه.
ص:259
قال علیه السّلام فی قوله عز و جل: اِهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِیمَ «یقول:أرشدنا للزوم الطریق المؤدی إلی محبتک،و المبلّغ إلی جنتک من أن نتّبع أهوائنا فنعطب،و نأخذ بآرائنا فنهلک،فإن من اتبع هواءه و أعجب برأیه کان کرجل سمعت غثاء الناس تعظّمه و تصفه،فأحببت لقاءه من حیث لا یعرفنی لأنظر مقداره و محله،فرأیته فی موضع قد أحدق به جماعة من غثاء العامة،فوقفت منتبذا عنهم،متغشیا بلثام أنظر إلیه و إلیهم،فما زال یراوغهم حتی خالف طریقهم و فارقهم،و لم یقرّ،فتفرّقت جماعة العامة عنه لحوائجهم،و تبعته أقتفی أثره،فلم یلبث أن مرّ بخباز،فتغفله فأخذ من دکانه رغیفین مسارقة،فتعجبت منه،ثم قلت فی نفسی:لعله معامله.ثم مرّ بعده بصاحب رمان،فما زال به حتی تغفله فأخذ من عنده رمانتین مسارقة،فتعجبت منه،ثم قلت فی نفسی:لعله معامله.ثم أقول:و ما حاجته إذا إلی المسارقة؟ثم لم أزل أتبعه حتی استقرّ فی بقعة من صحراء.فقلت له:یا عبد اللّه لقد سمعت بک،و أحببت لقاءک،فلقیتک لکنی رأیت منک ما شغل قلبی،و إنی سائلک عنه لیزول به شغل قلبی.
قال:ما هو؟ قلت رأیتک مررت بخباز و سرقت منه رغیفین،ثم بصاحب رمان فسرقت منه رمانتین؟ فقال لی:قبل کل شیء حدثنی من أنت؟ قلت:رجل من ولد آدم من أمة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.
قال:حدثنی ممن أنت؟ قلت:رجل من أهل بیت رسول اللّه.
قال:أین بلدک؟ قلت:المدینة.
قال:لعلک جعفر بن محمد بن علی بن الحسین بن أبی طالب علیهم السّلام.
قلت:بلی.
قال لی:فما ینفعک شرف أصلک مع جهلک بما شرّفت به،و ترکک علم جدک و أبیک،لأنه لا ینکر ما یجب أن یحمد و یمدح فاعله.
ص:260
قلت:ما هو؟ قال:القرآن کتاب اللّه.
قلت:و ما الذی جهلت؟ قال:قول اللّه عز و جل: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّیِّئَةِ فَلا یُجْزی إِلاّ مِثْلَها و إنی لمّا سرقت الرغیفین،کانت سیئتین.و لمّا سرقت الرمانتین،کانت سیئتین.فهذه أربع سیئات.فلمّا تصدّقت بکل واحد منها کانت أربعین حسنة،أنقص من أربعین حسنة أربع سیئات،بقی ست و ثلاثون.
قلت:ثکلتک أمک،أنت الجاهل بکتاب اللّه،أ ما سمعت قول اللّه عز و جل:
إِنَّما یَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِینَ إنک لمّا سرقت رغیفین،کانت سیئتین،و لما سرقت الرمانتین کانت سیئتین.و لما دفعتها إلی غیرها من غیر رضا صاحبها کنت إنما أضفت أربع سیئات إلی أربع،و لم تضف أربعین حسنة إلی أربع سیئات.فجعل یلاحینی،فانصرفت و ترکته» (1).ا ه.
الشذوذ فی الأعمال استدعی من الإمام ما رأیناه من ملاحظة و تتبع،أما الوجه الآخر فهو الجهل الحقیقی الذی یدور بین الناس علی شکل أشخاص یدّعون العلم بالکتاب و الفهم بالدین،و هو وجه یسبب أخطارا و أخطاء تجرّئ الناس علی النصوص و الأحکام،و تضع عراقیل تؤثر فی سیر دعوة الإمام الصادق.
و یروی للإمام الصادق تعقیب یبیّن ما ترتّب علی ذلک من أضرار فی تاریخ الإسلام،فیقول علیه السّلام:«بمثل هذا التأویل القبیح المستکره یضلّون و یضلّون..» فقد لجأ الظالمون و البغاة إلی مثل ذلک و أباحوا لأنفسهم التقوّل علی اللّه،و الکذب علی النبی الکریم.
لقد اهتم الإمام الصادق بالأصحاب الذین ینقلون عنه الحدیث،و بالأقارب الذین یعملون بنهجه فی طبقات المجتمع،و یجنّدون أنفسهم لدعوة الإصلاح و التمسّک بالدین،و یعنی بطریقة مخاطبتهم الناس،و أسلوب حملهم علی العمل بالفرائض و الأحکام.قال الإمام الصادق لأحد أصحابه:«وضع الإسلام علی سبعة أسهم:علی الصبر و الصدق و الیقین و الرجاء و الوفاء و العلم و الحلم.ثم قسم ذلک
ص:261
بین الناس،فمن جعل فیه هذه السبعة الأسهم فهو کامل الإیمان محتمل،و قسم لبعض الناس السهم،و لبعض السهمین،و لبعض الثلاثة أسهم،و لبعض الأربعة أسهم،و لبعض الخمسة أسهم،و لبعض الستة أسهم.فلا تحملوا علی صاحب السهم سهمین،و علی صاحب السهمین ثلاثة أسهم،و علی صاحب الثلاثة أربعة أسهم،و لا علی صاحب الأربعة خمسة أسهم،و لا علی صاحب الخمسة ستة أسهم،و لا علی صاحب الستة سبعة أسهم،فتثقلوهم و تنفّروهم،و لکن ترفّقوا بهم،و سهّلوا لهم المداخل.و سأضرب لک مثلا تعتبر به:إنه کان رجل مسلم،و کان له جار کافر(و فی روایة نصرانی)و کان الکافر یرفق بالمؤمن،فأحب المؤمن للکافر الإسلام،و لم یزل یزیّن الإسلام و یحببه إلی الکافر حتی أسلم،فغدا علیه المؤمن فاستخرجه من منزله، فذهب به إلی المسجد لیصلی معه الفجر فی جماعة،فلمّا صلّی قال له:لو قعدنا نذکر اللّه عز و جل حتی تطلع الشمس.فقعد معه،فقال له:لو تعلمت القرآن إلی أن تزول الشمس و صمت الیوم کان أفضل.فقعد معه و صام حتی صلی الظهر و العصر.
فقال له:لو صبرت حتی تصلی المغرب و العشاء الآخرة.ثم نهضا و قد بلغ مجهوده، و حمل علیه ما لا یطیق.فلما کان من الغد،غدا علیه و هو یرید به مثل ما صنع بالأمس،فدق علیه بابه،ثم قال:أخرج حتی تذهب إلی المسجد.فأجابه:أن انصرف عنی،فهذا دین لا أطیقه» (1).
و عن عقبة بن خالد (2):دخلت أنا و المعلاّ و عثمان بن عمران علی أبی عبد اللّه علیه السّلام فلما رآنا قال:«مرحبا مرحبا بکم،وجوه تحبّنا و نحبّها،جعلکم اللّه معنا فی الدنیا و الآخرة»فقال له عثمان:جعلت فداک.فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:
«نعم مه»قال:إنی رجل موسر،فقال له:«بارک اللّه لک فی یسارک»و قال:و یجیء الرجل فیسألنی الشیء،و لیس هو إبان زکاتی.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«القرض عندنا بثمانیة عشر،و الصدقة بعشرة،و ما ذا علیک إذا کنت کما تقول لا تردّه،فإن ردّه عند اللّه عظیم.یا عثمان،إنک لو علمت ما منزلة المؤمن من ربّه ما توانیت فی حاجته،و من أدخل علی مؤمن سرورا،فقد أدخل علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم» (3).
ص:262
و بهذه السیرة و التعالیم یقیم الإمام الصادق واقعا محسوسا و معاشا من الألفة و التعاون و التکافل،و فی کل جانب من حیاته الیومیة علیه السّلام علیه سیماء الدین و صفة الفقه و الدعوة الإسلامیة،فلا غرو أن نجده مهوی أفئدة محبی الحکمة،و مقصد طلاب العلم،کما نجده ملجأ المحتاجین،فهو علیه السّلام لا یکتفی بتهیئة أصحابه و محبیه لأداء ما أمر به الإسلام من حقوق للفقراء،بل یجعل من بیته أیضا المقام الأول الذی تجری فیه تطبیقات أحکام الإسلام و تعالیمه.
جاء إلیه علیه السّلام رجل فقال له:یا أبا عبد اللّه،قرض إلی میسرة.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«إلی غلّة تدرک؟»فقال الرجل:لا و اللّه.قال:«فإلی تجارة تؤوب؟»قال:لا و اللّه.قال:«فإلی عقدة تباع؟»فقال:لا و اللّه.فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«فأنت ممن جعل اللّه له فی أموالنا حقا».ثم دعا بکیس فیه دراهم، فأدخل یده فیه،فناوله منه قبضة.
و یدعو علیه السّلام إلی أن یسعی المؤمن فی حاجة أخیه،و یظهر شدید اهتمامه فی التکاتف و التکافل الذی دعا إلیه الإسلام،و یبیّن جزاء ذلک عند اللّه لیصبح عمل المسلم فی إطار مجتمعه عملا دینیا و له الصفة الشرعیة.فمن أقواله علیه السّلام:«قضاء حاجة المؤمن خیر من عتق ألف رقبة،و خیر من حملان ألف فرس فی سبیل اللّه».
و کذلک قوله علیه السّلام:«لقضاء حاجة امرئ مؤمن أفضل من ألف حجة متقبلة بمناسکها،و عتق ألف رقبة».
و من المعلوم أن الإمام الصادق فی حضّه علی إقامة العلاقات بین المسلمین علی مثل هذه الصورة من التعاون و المساعدة،یعالج فی أعماله و أقواله تلک الظاهرة التی أشرنا إلیها سابقا من الانصراف إلی الأعمال العبادیة،أو الانقطاع عن طلب الرزق تحت تأثیر فهم محدود،أو حالة خاصة،و التی تشمل أیضا أداء المناسک و الأعمال الخیریة بقصد التظاهر و تمدّح الناس و السمعة.و هنا محک هام یضعه الإمام علیه السّلام لتوجیه المجتمع إلی الرفاه و التآلف.
و نری الإمام الصادق یزید فی القول من ذکر المعروف و فضله لیحبب إلی الناس فعل الخیر و یشیعه بینهم،و هو یبدأ بالدعوة إلی المعروف بدون تقییده،فیقول علیه السّلام داعیا أصحابه:«اصنع المعروف إلی کل أحد،فإن کان أهله و إلا فأنت أهله».
ثم یتّجه فی دعوته إلی عمل المعروف بین المؤمنین فیقول:«أیما مؤمن أوصل إلی أخیه المؤمن معروفا،فقد أوصل ذلک إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم».
ص:263
و من صور حثّه علی المعروف قوله علیه السّلام:«لیس شیء أفضل من المعروف إلا ثوابه».
ثم یضع الإمام الصادق لهذا العمل-الذی یکشف عن حب الخیر فی نفس المؤمن،و عن روح المحبة فی صدر المسلم-شروطا،فیری أن المعروف لا یصلح إلا بثلاث خصال:«تصغیره فی ستره،و تعجیله،فإن المسلم إذا صغّره عظّمه عند من صنعه إلیه،و إذا ستره تمّمه،فإذا عجله هنأه،و إن کان غیر ذلک محقه و نکده» (1).
أما الزکاة فإن الإمام الصادق علیه السّلام فیما استفاض عنه من أخبار یشرح وجوبها و علل فرضها،و یبدأ بمن وجبت علیه لیؤدی ما افترض اللّه علیه.قال علیه السّلام لعمّار بن موسی الساباطی (2):«یا عمار أنت ربّ مال کثیر؟»قال:نعم،جعلت فداک.
قال:«فتؤدی ما افترض اللّه علیک من الزکاة؟»فقال:نعم.قال«فتخرج الحق المعلوم من مالک؟»قال:نعم.قال:«فتصل قرابتک؟»قال:نعم.قال«فتصل إخوانک؟» قال:نعم.فقال«یا عمار إن المال یفنی،و البدن یبلی،و العمل یبقی،و الدیّان حیّ لا یموت.یا عمّار أما أنه ما قدمت فلم یسبقک،و ما أخّرت فلن یلحقک» (3).
و یبیّن الإمام الصادق علّة فرض الزکاة و وجوبها فیقول:«إنما وضعت الزکاة اختبارا للأغنیاء،و معونة للفقراء.و لو أن الناس أدّوا زکاة أموالهم،ما بقی مسلم محتاجا و لا مستغنی بما فرض اللّه عز و جل له،و إن الناس ما افتقروا و لا احتاجوا و لا جاعوا و لا عروا إلا بذنوب الأغنیاء،و حقیق علی اللّه عز و جل أن یمنع رحمته من منع حق اللّه فی ماله.و أقسم بالذی خلق الخلق و بسط الرزق إنه ما ضاع مال فی بر و لا بحر إلاّ بترک الزکاة،و ما صید صید فی بر و لا بحر إلاّ بترک التسبیح فی ذلک الیوم.
و إن أحب الناس إلی اللّه عز و جل أسخاهم کفا،و أسخی الناس من أدّی الزکاة فی ماله،و لم یبخل علی المؤمنین بما افترض اللّه عز و جل لهم فی ماله...»ا ه.
و عن زرارة (4)و محمد بن مسلم (5)أنهما قالا لأبی عبد اللّه علیه السّلام:أ رأیت
ص:264
قول اللّه عز و جل: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساکِینِ وَ الْعامِلِینَ عَلَیْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِی الرِّقابِ وَ الْغارِمِینَ وَ فِی سَبِیلِ اللّهِ وَ ابْنِ السَّبِیلِ فَرِیضَةً مِنَ اللّهِ أ کلّ هؤلاء یعطی و إن کان لا یعرف؟فقال:«إن الإمام یعطی هؤلاء جمیعا لأنهم یقرّون له بالطاعة».قال زرارة:
قلت:فإن کانوا لا یعرفون؟فقال:«یا زرارة،لو کان یعطی من یعرف دون من لا یعرف، لم یوجد لها موضع.و إنما یعطی من لا یعرف لیرغب فی الدین،فیثبت علیه،فأما الیوم فلا تعطها أنت و أصحابک إلا من یعرف،فمن وجدت من هؤلاء المسلمین عارفا؛فأعطه دون الناس»ثم قال:«سهم المؤلفة قلوبهم و سهم الرقاب عام،و الباقی خاص»قال:
قلت:فإن لم یوجدوا؟قال:«لا تکون فریضة فرضها اللّه عز و جل،و لا یوجد لها أهل» قال:قلت:فإن لم تسعهم الصدقات؟قال فقال:«إن اللّه عز و جل فرض للفقراء فی مال الأغنیاء ما یسعهم،و لو علم أن ذلک لا یسعهم لزادهم،إنهم لم یؤتوا من قبل فریضة اللّه عز و جل،و لکن أوتوا من قبل من منعهم حقهم،لا مما فرض اللّه لهم،و لو أن الناس أدّوا حقوقهم لکانوا عائشین بخیر،فإما الفقراء فهم أهل الزمانة و الحاجة،و المساکین أهل الحاجة من غیر الزمانة،و العاملون علیها هم السعاة،و سهم المؤلفة قلوبهم ساقط بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و سهم الرقاب یعان به المکاتبون الذین لا مأوی له و لا مسکن،مثل:
المسافر الضعیف و مارّ الطریق.و لصاحب الزکاة أن یضعها فی صنف دون صنف متی لم یجد الأصناف کلها»ا ه.
و عن عمار الساباطی قال:قال لی أبو عبد اللّه علیه السّلام«یا عمار الصدقة و اللّه فی السرّ أفضل من الصدقة فی العلانیة،و کذلک و اللّه العبادة فی السرّ أفضل منها فی العلانیة».
و قال علیه السّلام:«إن الصدقة تقضی الدین،و تخلف البرکة».
و تضعنا أقوال الإمام الصادق إزاء الغرض الذی یسعی إلیه،و یعمل من أجل تحقیقه،و هو صورة المجتمع المسلم الذی تنفّذ فیه أحکام الإسلام و تطبّق تعالیمه، و هو علیه السّلام فی طریقة الدعوة و أسلوب الحثّ علی هدی آبائه الطیبین فی البناء و الصیاغة،فنراه یقول لیحبّب الصدقة و یحفّز علی التصدّق:«إن الصدقة تدفع میتة السوء عن الإنسان».
ثم یسوق هذه الحادثة:«مرّ یهودی بالنبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقال:السام علیک.فقال له رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علیک.فقال أصحابه:إنما سلم علیک بالموت؟قال:الموت علیک.قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:کذلک رددت علیه.ثم قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إن هذا الیهودی یعتضّه
ص:265
أسود (1)فی قفاه،فیقتله.قال:فذهب الیهودی،فاحتطب حطبا کثیرا،فاحتمله،ثم لم یلبث أن انصرف.فقال له رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ضعه.فوضع الحطب،فإذا أسود فی جوف الحطب عاضّ علی عود.فقال:یا یهودی ما عملت الیوم؟قال:ما عملت عملا إلا حطبی هذا احتملته و جئت به و کان معی کعکتان،فأکلت واحدة و تصدّقت بواحدة علی مسکین.فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:بها دفع اللّه عنک» (2).
و من وجوه عمله علی سدّ حاجة الفقراء،و ضمان ما یقیم صلبهم بأداء ما أمر به اللّه و دعا إلیه الإسلام،مخاطبته أصحابه بما یرید منهم أن یفعلوه.و هو عند ما یصدر منه،فإن الأصحاب و المحیطین به ینظرون إلی قوله نظرة الأمر،لأنه إمام مفترض الطاعة،و هم بظل إمامته یتفیّئون،و بنهج هداه یعملون،فیخاطبهم علیه السّلام:«بکّروا بالصدقة و رغّبوا فیها،فما من مؤمن یتصدق بصدقة یرید بها ما عند اللّه لیدفع بها عنه شرّ ما ینزل من السماء إلی الأرض فی ذلک الیوم،إلا وقاه اللّه شرّ ما ینزل من السماء إلی الأرض فی ذلک الیوم».
و قال علیه السّلام:«استنزلوا الرزق بالصدقة،و حصّنوا أموالکم بالزکاة» (3).
و بالإسناد عن أبان بن تغلب أنه (4)أمره أن یقطع الطواف،و یذهب إلی رجل أشار إلی أبان لیری حاجته.قلت:فأقطع الطواف؟قال علیه السّلام:«نعم»قلت:و إن کان طواف فریضة؟قال علیه السّلام:«نعم».
قال:فذهبت معه،ثم دخلت علیه بعد،فسألته،فقلت:أخبرنی عن حق المؤمن علی المؤمن؟قال علیه السّلام:«یا أبان،دعه لا تزده».قلت:بلی،جعلت فداک.فلم أزل أردد علیه.
فقال علیه السّلام:«یا أبان أن تقاسمه شطر مالک»ثم نظر إلیّ فرأی ما دخلنی، فقال:«یا أبان،أ ما تعلم أن اللّه عز و جل قد ذکر المؤثرین علی أنفسهم؟»قلت:بلی جعلت فداک.
ص:266
فقال:«إذا قاسمته لم تؤثره بعد،إنما أنت و هو سواء،إنما تؤثر إذا أعطیته من النصف الآخر».
و یقول لأصحابه:«إن صدقة اللیل تطفئ غضب الرب،و تمحو الذنب العظیم،و تهوّن الحساب.و صدقة النهار تثمر المال و تزید فی العمر.إن عیسی بن مریم علیه السّلام لمّا أن مرّ علی شاطئ البحر رمی بقرص من قوته فی الماء.فقال له بعض الحواریین:یا روح اللّه و کلمته لم فعلت هذا و إنما هو من قوتک؟فقال:فعلت هذا لدابة تأکله من دوابّ الماء،و ثوابه عند اللّه عظیم».
و یروی علیه السّلام من أحادیث جدّه النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ذلک الکثیر منها:قال علیه السّلام:
«قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:تصدقوا فإن الصدقة تزید فی المال کثرة».
و قال علیه السّلام:«قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إن اللّه لا إله إلاّ هو لیدفع بالصدقة الداء و الدبیلة (1)و الحرق و الغرق و الهدم،و عدّ سبعین بابا من السوء».
فکیف یتوانی المسلم عن ثواب ذلک و فوائده الدنیویة و الأخرویة و هو یسمع بأذنیه هذه الأحادیث و الأحداث.و یری أمام عینیه مبادرة الإمام إلی تطبیق تعالیم الإسلام،و مباشرته بنفسه سدّ حاجة الناس.و یراعی الإمام مشاعر الناس،و منهم طائفة تری فی أخذ الزکاة حطا من مکانتها،و تخجل أن یکون قبولها إمارة عوز و فقر، فأمر علیه السّلام أن یعطی من یستحیی،و لا تسمّ له الزکاة لکی لا یذلّ المؤمن.
و قال علیه السّلام:«لو یعلم السائل ما علیه من الوزر،ما سأل أحد أحدا.و لو یعلم المسئول إذا منع،ما منع أحد أحدا» (2).
و نضع آخر قبس من سیرته الکریمة علیه أفضل الصلاة و السّلام أمام القارئ الکریم،و فیها جوامع النظرة و مضامین الفکرة.فعن المعلی بن خنیس (3)قال:قلت للإمام الصادق علیه السّلام:ما حق المسلم علی المسلم؟قال:«سبع حقوق و واجبات،
ص:267
ما منهنّ حقّ إلاّ و هو علیه واجب،إن ضیّع منها شیئا خرج من ولایة اللّه و طاعته،و لم یکن للّه فیه من نصیب»قلت له:جعلت فداک و ما هی؟.قال:«یا معلّی إنی علیک شفیق،أخاف أن تضیّع و لا تحفظ،و تعلم و لا تعمل»قال قلت له:لا قوة إلا باللّه.
قال:«أیسر حق منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسک،و تکره له ما ترکه لنفسک.الحق الثانی:أن تجتنب سخطه،و تتبع مرضاته،و تطیع أمره.و الحق الثالث:أن تعینه بنفسک و مالک و لسانک و یدک و رجلک.و الحق الرابع:أن تکون عینه و دلیله و مرآته.
و الحق الخامس:أن لا تشبع و یجوع،و لا تروی و یظمأ،و لا تلبس و یعری.و الحق السادس:أن یکون لک خادم و لیس لأخیک خادم،فواجب أن تبعث خادمک،فیغسل ثیابه،و یصنع طعامه،و یمهد فراشه.و الحق السابع:أن تبرّ قسمه،و تجیب دعوته، و تعود مریضه،و تشهد جنازته،و إذا علمت أن له حاجة تبادر إلی قضائها،و لا تلجأه أن یسألکها،و لکن تبادره مبادرة.فإذا فعلت ذلک وصلت ولایتک بولایته و ولایتی بولایتک».
و نختم ما یحتمله وسع هذا الفصل بالإشارة إلی تصدّی الإمام الصادق إلی تحقیق هذه الجوانب الحیاتیة التی تستمد من العقیدة بشعور الزعامة الروحیة و قیادة شئون تنفیذ هذه التعالیم،فهو علیه السّلام جعل أمر الحاجة عند المؤمن و مساعدة الضعفاء منهم خاصا به و شأنا یمسّه.
کان عنده جماعة من أصحابه،فقال لهم:«مالکم تستخفّون بنا؟»فقام إلیه رجل من أهل خراسان فقال:معاذ اللّه أن نستخفّ بک أو بشیء من أمرک.
فقال:«إنک أحد من استخفّ بی».
فقال الرجل:معاذ اللّه أن أستخفّ بک.
فقال علیه السّلام:«ویحک أ لم تسمع فلانا-و نحن بقرب الجحفة-و هو یقول لک:
احملنی قدر میل،فقد و اللّه أعییت.فو اللّه ما رفعت له رأسا،لقد استخففت به،و من استخفّ بمؤمن فبنا استخفّ،و ضیّع حرمة اللّه عز و جل».
و بذلک یجعل علیه السّلام إعانة المؤمن و مساعدة الضعیف علی اختلاف وجوههما و أحوالهما متصلا بمنزلته علیه السّلام،و استخدامه لصیغة الجمع تأکید لعظیم هذا الجانب من حیاة المجتمع،و خطر هذا الوجه من العلاقات بین المؤمنین.
ص:268
و إلی هنا نکتفی بما قدمناه من قبسات من سیرة الإمام الصادق،و نظرة سریعة إلی ظروف عصره و أحداثه،فقد ضمّت الأجزاء السابقة من الکتاب مزیدا من البحث و بسطنا فیه القول.
و نتحول الآن إلی مدرسة الإمام الصادق علیه السّلام لنقف علی الجهود العلمیة التی بذلها علیه السّلام و نتعرف علی تفاصیل أخری عن منهج هذه الجامعة الإسلامیة الکبری التی أمّها علماء الأمة من مختلف الأقطار،و تتلمذ فیها کبار الأئمة،و هی المأثرة العظمی و المفخرة الکبری التی تدلل بآثارها و نتائج أعمالها علی دور الإمام الصادق فی حفظ التراث العلمی الإسلامی و إغنائه.
ص:269
ص:270
المنهج و التکوین
تتظافر الروایات علی أن عدد الذین تتلمذوا علی الإمام الصادق و انتسبوا إلی مدرسته هو أربعة آلاف طالب من مختلف الأقطار،فقد جمع أصحاب الحدیث أسماء الرواة عنهم من الثقات علی اختلافهم فی الآراء و المقالات فکانوا کذلک،فقد کان علیه السّلام أفضل أهل زمانه،و برز علی أقرانه بالفضل و السؤدد فی الخاصة و العامة، و نقل الناس عنه من العلوم ما لم ینقل عن أحد من أهل بیته (1).
کان الصادق علیه السّلام أفضل الناس و أعلمهم بدین اللّه،و کان أهل العلم الذین سمعوا منه إذا رووا عنه قالوا:أخبرنا العالم (2).قال أبو الحسن الوشّاء:(أدرکت فی جامع الکوفة تسعمائة شیخ من أهل الدین و الورع کلهم یقول:حدثنی جعفر الصادق).و قد کانت الکوفة و المدینة تضمّان أکبر عدد من هؤلاء لانتشار التشیّع فی الکوفة.و لأن المدینة کانت أرض تکوین و مهد دعوته.
و لا نجد من یجرأ علی إنکار مکانة الإمام الصادق فی زمانه و زعامته فی ذلک العصر،و قد عودتنا الأیام أن یکابر الکثیرون و یعاند العدیدون استجذاء للحکام و اتّباعا للأهواء و الأحقاد،لأن الحقائق کانت تقمع ما تطویه دخائلهم و تضمّه جوانحهم،فقد کان بیته و مجلسه علیه السّلام یزدحمان بطلبة العلم و أهل الفقه،یقبلون علی الإمام للانتهال من معین علمه و حکمته،حتی أن الروایات تصف ضیق داره لعظم الوفود و العلماء من مختلف الأقطار،حتی صعب علی أصحابه أن یجدوا لهم مجلسا.
ص:271
و لم یعرف لأحد غیره مثل هذه الشهرة.فقد کان تلامیذه من العراق و مصر و خراسان و حمص و الشام و حضرموت و غیرها.
و قد تصدّر الإمام الصادق حرکة المجتمع بجدارة،و تزعم الحرکة العلمیة بتفرّد،فقد(نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الرکبان،و انتشر صیته فی جمیع البلدان) (1).و کان ینذر نفسه لهذه الأغراض،و یتّجه إلی الناس قائلا:«سلونی قبل أن تفقدونی،فإنه لا یحدّثکم أحد بعدی بمثل حدیثی» (2).و لذلک:(روی حدیثه خلق لا یحصون) (3).و انتشر فقهه فی الآفاق،و إذا استعصی الحصر و صعب العدّ لتحدید کل من روی عنه علیه السّلام فإن الأربعة آلاف کانوا المتمیزین،و إلا فإن الصورة التی لا تقبل المماراة هی شیوع ذکره بین سائر الناس و علوّ مکانته فی نفوس المسلمین علی مختلف أصنافهم و أجناسهم.و علی ذلک فلا یستغرب أن یعجز الکثیر عن إحصاء کل من نقل عنه أو روی حدیثه علیه السّلام.
ثم حلقات فقهه من أصحابه و تلامذته المقرّبین و عددهم أربعمائة ممن نبهوا فی العلوم و عرفوا بالفقه،و هم رجال مدرسته و هیئتها العلمیة الذین اختصوا بفقه الإمام الصادق،و کانوا من العدالة و الثقة بمکان لا ترقی إلیه سهام الحقد و الحسد،و قد ألّفوا فی فقه الإمام جعفر الصادق و الروایة عنه أربعمائة کتاب،و هی الأصول الفقهیة للمذهب الجعفری (4).
و قد تحرّی الإمام الصادق کفاءة الأصحاب و قدرات المتعلّقین به،و وجّه کلا إلی حیث العمل الذی یتّفق و مواهبه و ینسجم مع استعداده،فکان البعض منهم مختصا بتنفیذ التعالیم التی تتعلق بواقع الأسر و الأفراد،أو تتصل بالظواهر الاجتماعیة و العلاقات.و قد مرّ بنا طرف من هذه المهمات التی توکل إلیهم فی الفصل السابق و الأجزاء السابقة من الکتاب.
أما الناحیة الفکریة-التی تمثل منهج مدرسته-فقد عیّن الإمام الصادق من بین
ص:272
هیئة المدرسة العلمیة الرجال الذین توکل إلیهم المهمات.و تسند شئون المنهج و تطبیقاته،و هی تتجه إلی الأهداف التالیة:
1-مناظرة أهل العقائد الفاسدة.
2-محاربة أهل الألحاد و الزندقة.
3-محاورة أهل الکتاب.
4-مواجهة الفرق الشاذة.
5-مقاتلة الظلمة بشدة الإنکار علیهم و توجیه الانتقاد إلیهم و فضح سیاساتهم.
فجعل أبان بن تغلب للفقه،و أمره أن یجلس فی المسجد فیفتی الناس.و کان أبان بن تغلب من الشخصیات الإسلامیة التی امتازت باتقاد الذهن و وفور العقل و بعد الغور،و الاختصاص بعلوم القرآن،و هو أول من ألف فی ذلک،و کان فقیها یزدحم الناس علی أخذ الفقه عنه،و إذا دخل مسجد المدینة المنورة أخلیت له ساریة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیحدّث الناس،و یسألونه فیخبرهم علی اختلاف الأقوال،ثم یذکر قول أهل البیت،و یسوق أدلته و مناقشته علی طریقة الإمام الصادق علیه السّلام فی الإجابة،إذ کان علیه السّلام أعلم الناس باختلاف الناس و أفقههم (1).
و وکل لحمران بن أعین الأجوبة عن مسائل علوم القرآن.و قد کان أحد حملة القرآن،و ممن یحتج بهم فی القراءات،فهو من القرّاء المشهورین،و ممن یعد و یذکر فی کتب القراءة،و کان عالما بالنحو و اللغة،و هو من عائلة مشهورة فی الکوفة و لهم منزلة.و أخوه زرارة-و قد مرت الإشارة إلیه فی آخر الفصل السابق-أوکل إلیه المناظرة فی الفقه تحت إشراف الإمام الصادق و توجیهه.
و مؤمن الطاق کان للمساجلة فی الکلام.و حمزة بن الطیار للمناظرة فی الاستطاعة و غیرها.و هشام بن الحکم للمناظرة فی الإمامة و العقائد.و کان منهم جماعة یتجوّلون فی الأمصار،أمدّهم الإمام بالأموال.
و تظهر لنا شهادات التاریخ بحق الرجال مکانة الإمام الصادق،و اتجاه الأنظار إلیه،و اختلاف الناس إلی مجلسه علی اختلاف أغراضهم و مقاصدهم.کذلک تبین لنا المصادر أسلوب الإمام و منهجه و توزیع المهمات علی أصحابه و الإشراف علی ما
ص:273
یدور فی حلقات درسهم و مجالس مناظراتهم.
ورد رجل من أهل الشام،فاستأذن علی الإمام الصادق،و کان معه جماعة من أصحابه،فإذن له.فلما دخل سلّم.فأمره أبو عبد اللّه علیه السّلام بالجلوس ثم قال له:
«حاجتک؟» قال:بلغنی أنک عالم بکل ما تسأل عنه،فصرت إلیک لأناظرک.
فقال علیه السّلام:«فیما ذا؟» قال:فی القرآن و قطعه و خفضه و نصبه و رفعه.
فقال علیه السّلام:«یا حمران دونک الرجل».
فقال:إنما أریدک لا حمران.
فقال علیه السّلام:«إن غلبت حمران فقد غلبتنی».
فأقبل الشامی فسأل حمران حتی ضجر و ملّ،و حمران یجیبه.
فقال علیه السّلام:«کیف رأیته یا شامی؟» قال:رأیته حاذقا،ما سألته عن شیء إلا أجابنی فیه.
فقال علیه السّلام:«یا حمران سل الشامی»فما ترکه یکثر.
فقال الشامی:أرید یا أبا عبد اللّه أن أناظرک فی العربیة.
فقال علیه السّلام:«یا أبان بن تغلب ناظره»فناظره فما ترک الشامی یکثر.
قال الشامی:أرید أن أناظرک فی الکلام.
قال علیه السّلام:«یا مؤمن الطاق ناظره»فسجل الکلام بینهما.ثم تکلم مؤمن الطاق بکلام،فغلبه.
فقال الشامی:أرید أن أناظرک فی الاستطاعة.
فقال علیه السّلام للطیار:«کلّمه فیها».
فکلّمه،فما ترکه یکثر.
فقال الشامی:أرید أن أکلمک فی التوحید.
فقال علیه السّلام لهشام بن سالم:«کلّمه».
فسجل الکلام بینهما،ثم خصمه هشام.
قال الشامی:أرید أن أناظرک فی الفقه.
فقال علیه السّلام:«یا زرارة ناظره».فما ترک الشامی یکثر.
ص:274
قال الشامی:أرید أن أناظرک فی الإمامة.
فقال علیه السّلام لهشام بن الحکم:«کلّمه یا أبا الحکم»فکلّمه فما ترکه یدیم.
فقال الشامی:کأنک أردت أن تخبرنی أن فی شیعتک مثل هؤلاء الرجال.
فقال علیه السّلام:«هو ذاک...یا أخا أهل الشام،أمّا حمران فحرفک،فحرت له، فغلبک بلسانه،فسألک عن حرف الحق،فلم تعرفه.
و أما زرارة فقاسک،فغلب قیاسه قیاسک.
و أما هشام بن الحکم فتکلم بالحق،فما سوّغک ریقک.
یا أخا أهل الشام،إن اللّه تعالی أخذ ضغثا من الحق و ضغثا من الباطل فمغثهما،ثم أخرجهما إلی الناس.ثم بعث أنبیاء یفرّقون بینهما.ففرقتهما الأنبیاء و الأوصیاء،فبعث الأنبیاء لیعرّفوا ذلک،و جعل الأنبیاء قبل الأوصیاء لیعلم الناس من یفضل اللّه و من یختص.و لو کان الحق علی حدة و الباطل علی حدة کل واحد منهما قائم بنفسه،ما احتاج الناس إلی نبی و لا وصی،و لکن اللّه خلطهما و جعل تفریقهما إلی الأنبیاء و الأئمة من عباده».
فقال الشامی:قد أفلح من جالسک.
فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یجالسه جبرئیل و میکائیل و إسرافیل،فیصعد إلی السماء فیأتیه الخبر من عند الجبار،و إن کان ذلک کذلک فهو کذلک» (1).
و عن یونس بن یعقوب قال:کنت عند أبی عبد اللّه علیه السّلام فورد علیه رجل من أهل الشام فقال له:إنی رجل صاحب کلام وفقه و فرائض،و قد جئت لمناظرة أصحابک.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام«کلامک هذا من کلام رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أو من عندک؟»فقال:من کلام رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بعضه،و من عندی بعضه.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«فأنت إذن شریک رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟»قال:لا.قال:«فسمعت الوحی من اللّه؟»قال:لا.قال:«فتجب طاعتک کما تجب طاعة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟» قال لا.قال:فالتفت أبو عبد اللّه علیه السّلام إلیّ،فقال لی«یا یونس بن یعقوب،هذا قد خصم نفسه قبل أن یتکلم».ثم قال:«یا یونس لو کنت تحسن الکلام کلّمته».قال
ص:275
یونس:فیا لها من حسرة.فقلت:جعلت فداک سمعتک تنهی عن الکلام و تقول:
«ویل لأصحاب الکلام یقولون هذا ینقاد و هذا لا ینقاد،و هذا ینساق و هذا لا ینساق، و هذا نعقله و هذا لا نعقله؟»فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«إنما قلت:ویل لقوم ترکوا قولی،و ذهبوا إلی ما یریدون به».ثم قال:«أخرج إلی الباب فانظر من تری من المتکلمین فأدخله».قال:فخرجت،فوجدت حمران بن أعین-و کان یحسن الکلام-و محمد بن النعمان الأحول(مؤمن الطاق)و کان متکلما،و هشام بن سالم، و قیس الماصر-و کانا متکلمین-فأدخلتهم علیه،فلما استقرّ بنا المجلس کنّا فی خیمة لأبی عبد اللّه علیه السّلام علی حرف جبل فی طرف الحرم،و ذلک قبل أیام الحج بأیام، أخرج أبو عبد اللّه علیه السّلام رأسه من الخیمة،فإذا هو ببعیر یخبّ فقال:«هشام و رب الکعبة».قال:فظننا أن هشاما رجل من ولد عقیل،کان شدید المحبة لأبی عبد اللّه علیه السّلام،فإذا هشام بن الحکم قد ورد و هو أول ما اختطت لحیته،و لیس فینا إلا من هو أکبر سنّا منه،قال:فوسّع له أبو عبد اللّه علیه السّلام و قال:«ناصرنا بقلبه و لسانه و یده»ثم قال لحمران:«کلّم الرجل»-یعنی الشامی-فکلّمه حمران،فظهر علیه.
ثم قال:«یا طاقی کلّمه».فکلّمه،فظهر علیه محمد بن النعمان.
ثم قال:«یا هشام بن سالم»کلّمه،فتعادیا.
ثم قال لقیس الماصر:«کلّمه»فکلّمه.
و أقبل أبو عبد اللّه علیه السّلام یبتسم من کلامهما،و قد استخذل الشامی فی یده، ثم قال للشامی:«کلّم هذا الغلام»-یعنی هشام بن الحکم-فقال:نعم.ثم قال الشامی لهشام:یا غلام سلنی فی إمامة هذا-یعنی أبا عبد اللّه علیه السّلام-فغضب هشام حتی ارتعد،ثم قال له:أخبرنی یا هذا أ ربّک أنظر لخلقه أم هم لأنفسهم؟ فقال الشامی:بل ربی انظر لخلقة.
قال:ففعل بنظره لهم فی دینهم ما ذا؟ قال:کلّفهم و أقام لهم حجة و دلیلا علی ما کلفهم،و أزاح فی ذلک عللهم.
فقال له هشام:فما هذا الدلیل الذی نصبه لهم.
قال الشامی:هو رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.
قال له هشام:فبعد رسول اللّه من؟
ص:276
قال:الکتاب و السنّة.
قال له هشام:فهل ینفعنا الیوم الکتاب و السنة فیما اختلفنا حتی یرفع عنّا الاختلاف و مکننا من الاتفاق؟ قال الشامی:نعم.
قال له هشام:فلم اختلفنا نحن و أنت،و جئتنا من الشام تخالفنا،و تزعم أن الرأی طریق الدین،و أنت تقرّ بأن الرأی لا یجمع علی القول الواحد المختلفین.
فسکت الشامی کالمفکر،فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«مالک لا تتکلم».
قال:إن قلت أنّا ما اختلفنا کابرت،و إن قلت أن الکتاب و السنة یرفعان عنا الاختلاف أبطلت،لأنهما یحتملان الوجوه،و لکن لی علیه مثل ذلک.
فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«سله تجده ملیئا».
فقال الشامی لهشام:من أنظر للخلق ربهم أو أنفسهم.
فقال هشام:بل ربهم أنظر لهم.
فقال الشامی:فهل أقام لهم من یجمع کلمتهم و یرفع اختلافهم،و یعیّن لهم حقهم من باطلهم؟ قال هشام:نعم.
قال الشامی:من هو؟ قال هشام:أمّا فی ابتداء الشریعة فرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أما بعد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فغیره.
قال الشامی:و من هو غیر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم القائم مقامه فی حجته.
قال هشام:فی وقتنا هذا أم قبله؟ قال الشامی:بل فی وقتنا هذا.
قال هشام:هذا الجالس-یعنی أبا عبد اللّه علیه السّلام-الذی تشدّ إلیه الرحال، و یخبرنا بأخبار السماء،وراثة عن أب عن جدّ.
قال الشامی:و کیف لی بعلم ذلک؟ قال هشام:سله عما بدا لک.
قال الشامی:قطعت عذری فعلیّ السؤال.
فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«أنا أکفیک المسألة یا شامی،أخبرک عن مسیرک و سفرک:خرجت یوم کذا،و کان طریقک کذا،و مررت علی کذا،و مرّ بک کذا.
ص:277
فأقبل الشامی کلما وصف له شیئا من أمره یقول:صدقت و اللّه.ثم قال له الشامی:أسلمت للّه الساعة.فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«بل آمنت باللّه الساعة،إن الإسلام قبل الإیمان،و علیه یتوارثون و یتناکحون،و الإیمان علیه یثابون».
قال الشامی:صدقت،فأنا الساعة أشهد أن لا إله إلا اللّه،و أن محمدا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أنک وصی الأوصیاء.
قال:و أقبل أبو عبد اللّه علی حمران فقال:«یا حمران تجری الکلام علی الأثر،فتصیب»فالتفت إلی هشام بن سالم فقال«ترید الأثر و لا تعرف»ثم التفت إلی الأحول(مؤمن الطاق)فقال:«قیّاس روّاغ».
ثم التفت إلی قیس الماصر فقال:«تتکلم و أقرب ما تکون من الحق و الخبر عن الرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم...»و قلیل الحق یکفی من کثیر الباطل،أنت و الأحوال قفازان حاذقان.
قال یونس بن یعقوب:فظننت و اللّه أنه یقول لهشام قریبا مما قال لهما.فقال:
«یا هشام لا تکاد تقع تلوی رجلیک،إذا هممت بالأرض طرت،مثلک فلیکلّم الناس، اتق اللّه الزلّة و الشفاعة من ورائک» (1).
و یتّضح جلیا أن وقوع هذه المناظرة و ما تشتمل علیه من ملاحظات الإمام الصادق علیه السّلام کان فی مبدأ نهوض مدرسة الإمام الصادق بخططها و تنفیذ نهجها، فإن الإشارة إلی عمر هشام تدلّ علی أول خطوات المدرسة علی طریق العمل العلمی و الفکری الشاق.إذ ینبغی أن نتخیل أحوال تلک الفترة و ما اعتری الأمة الإسلامیة علی مختلف المستویات،فإن النهضة العلمیة و النشاط الفکری خلق موجات من الجدل و تیارات من الکلام لم تخضع لحدود،لأن الحکام من العهدین کانوا یشجعون ألوان النشاط الفکری المتعددة لأغراض تتعلق بمصلحتهم،فما ینجم من تفوق الفکر الإسلامی و امتداد الحرکة العلمیة،یدخل فی إهاب دولتهم و ینطبع بطابعهم.و لمّا بدأ الإمام الصادق سیرته الشریفة بعد تولیه الإمامة جرّد کل ما یستطیع لمعالجة ما یعانی من المجتمع الإسلام و ما یتهدد أمة جده المصطفی علیه أفضل الصلاة و السّلام، و باشر المنهج الروحی و الفکری المعروف عن أهل البیت،و وضع له قواعد من العمل
ص:278
و أرکانا.و کان من أهم صفات منهج المدرسة و کلما یتعلق بها من وسائل مادیة و معنویة هو الاستقلال التام عن السلطة و الابتعاد عن مؤثراتها.فرأسها الإمام الصادق علیه السّلام،و موقف الحکام منه معروف،و موقفه من ظلمهم و بطشهم من أبرز ملامح تاریخ الشیعة فی تلک الفترة.أما رجال هذه المدرسة فهم أنصار أهل البیت، و من عرفوا بالولاء و التضحیة فی سبیل التشیّع،فتعاهدهم الإمام بإعداد شامل و توجیه مباشر،حتی یکونوا بمستوی ما یعهد لهم من مهمات و یوکل إلیهم من أعمال،و کان نصب عینیه أن یکونوا الأسوة و القادة،و أن یقال عنهم:«رحم اللّه جعفر بن محمد ما أحسن ما أدّب به أصحابه».
و بمرور الأیام،نجد أن رجال المدرسة-أو من سمّیناهم بالهیئة العلمیة- یتبوؤن مواقعهم بکفاءة عالیة،و تمکن باهر.و لأن الإمام الصادق علم استعداد کل منهم و رعی مواهبهم فوجهها إلی ما یجلو فیها القدرة و یصقل الإمکانیة،و نتج من ذلک مجموعة من کبار العلماء الذین خدموا الأمة الإسلامیة کمجاهدین تحت عین الإمام الصادق،و عکفوا علی حفظ تراثه الفقهی و ثروته العلمیة فی کتب ضمّت المسائل و الأحکام و التعالیم و الأحادیث یفتخر بها الفکر الإسلامی،و یعتز بها الشیعة.
و یتباهون،لأن دقائق المسائل و غنی الأحکام و وضوح البراهین و الحجج،و بیان العلل و حکمة التشریع؛تجعل الفقه الجعفری وعاء العلم الإسلامی،و من الطبیعی جدا أن تأخذ بعض الحکومات بأحکام الفقه الجعفری لمعالجة بعض المسائل التی تتعلق بأحوال الأفراد لما فیها من رعایة لمصالح الناس و رفع الحرج عنهم،کما فعلت الحکومة المصریة.و کم بین الناس من یلجأ إلی اعتناق المذهب الجعفری منقادا إلی روح العدل و الصواب.
و القصد،أن تعقیب الإمام الصادق علی اتجاه أصحابه فی المحاورة و المناظرة کان علی سبیل بلوغ ما یرجوه و ما یسعی إلی تحقیقه بواسطتهم من خلال تبنی المنهج بطرق للحوار و الاستدلال عمیقة و مؤثرة.و هو من ناحیة أخری یعدّهم بوصایاه فیقول:
«لا تتکلم فیما لا یعنیک،ودع کثیرا من الکلام فیما یعنیک حتی تجد له موضعا،فربّ متکلّم تکلّم بالحقّ بما یعنیه فی غیر موضعه فتعب.و لا تمارینّ سفیها و لا حلیما،فإن الحلیم یغلبک و السفیه یردیک».
و من أقواله علیه السّلام التی توضّح منهج مدرسته و أسس حرکتها العلمیة:«دعامة
ص:279
الإنسان العقل،و بالعقل یکمل،و هو دلیله و مبصره و مفتاح أمره».
و یبیّن علیه السّلام أصناف طلبة العلم قائلا:
«طلبة العلم علی ثلاثة أصناف،فاعرفهم بأعیانهم و صفاتهم:صنف یطلبه للجهل و المراء،و صنف یطلبه للاستطالة و الختل،و صنف یطلبه للفقه و العقل.
فصاحب الجهل و المراء متعرّض للمقال فی أندیة الرجال،یتذاکر العلم و صفة الحلم،قد تسربل بالخشوع،و تخلی عن الورع،فدقّ اللّه من هذه خیشومه.
و صاحب الاستطالة و الختل ذو خب (1)و ملق،یستطیل علی مثله من أشباهه، و یتواضع للأغنیاء من دونه.
و صاحب الفقه و العقل ذو کآبة و حزن،یعمل و یخشی،وجلا داعیا مشفقا علی شأنه،عارفا بأهل زمانه،مستوحشا من أوثق إخوانه».
و مما أوضحه الإمام الصادق علیه السّلام من خصائص منهجه،هو اعتماد العقل مع وجوه ما قام به من حرکة علمیة و اقتران صفاتها العامة به،و قد کان لذلک أثره فی تجنب المزالق التی یحدثها القیاس الذی علی الرأی الذی ینزع کثیرا إلی الهوی و المیل.أما العقل فهو من صفات الاکتمال فی شخصیة المؤمن،و من مصادر دوام الشرائع و الأحکام.و کبقیة القضایا المهمة فی وجود الإنسان المسلم،یعرض الإمام الصادق منزلة العقل:فعن محمد بن سلیمان عن أبیه قال:قلت لأبی عبد اللّه الصادق علیه السّلام:فلان من عبادته و دینه و فضله کذا و کذا؟قال:فقال:«کیف عقله؟» فقلت:لا أدری.فقال:«إن الثواب علی قدر العقل.إن رجلا من بنی إسرائیل کان یعبد اللّه عز و جل فی جزیرة من جزائر البحر،خضراء نضرة کثیرة الشجر طاهرة الماء،و إن ملکا من الملائکة مرّ به فقال:یا رب أرنی ثواب عبدک هذا.فأراه اللّه عز و جل ذلک.فاستقله الملک،فأوحی اللّه عز و جل إلیه أن أصحبه.فأتاه الملک فی صورة أنسی،فقال له:من أنت؟قال:أنا رجل عابد،بلغنا مکانک و عبادتک بهذا المکان،فجئت لأعبد معک.فکان معه یومه ذلک،فلما أصبح قال له الملک:إن مکانک لنزهة.قال:لیت لربنا حمار لرعیناه فی هذا الموضع،فإن هذا الحشیش
ص:280
یضیع.فقال له الملک:و ما لربک حمار؟فقال:لو کان له حمار ما کان یضیع مثل هذا الحشیش.فأوحی اللّه عز و جل إلی الملک:إنما أثیبه علی قدر عقله» (1).
بهذا المنهج سعی الإمام الصادق إلی إغناء واقع الأمة،و حملها علی الالتزام بالمنهج الإسلامی و السنّة النبویة الشریفة،فقد أثر عن النبی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قوله:«قوام المرء عقله،و لا دین لمن لا عقل له».و قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«سید الأعمال فی الدارین العقل، و لکل شیء دعامة،و دعامة المؤمن عقله،فبقدر عقله تکون عبادته لربه».
و یوضح الإمام الصادق للناس نعمة العقل قائلا:«إذا أراد اللّه أن یزیل من عبد نعمة کان أول ما یغیّر منه عقله».
و یقول علیه السّلام:«کمال العقل فی ثلاث:التواضع للّه،و حسن الیقین، و الصمت إلا من خیر»علیه السّلام و فی مقابله یضع علیه السّلام«الجهل و یقول:الجهل فی ثلاث:الکبر و شدة المراء و الجهل باللّه.فأولئک هم الخاسرون».
و ما یتعلق بالمختصّین من هیئة مدرسته،فإن صیاغة أقواله علیه السّلام تفی بالغایة و الغرض فیقول:«یغوص العقل علی الکلام،فیستخرجه من مکنون الصدر،کما یغوص الغائص علی اللؤلؤ المستکنة فی البحر»و إن«العاقل إن کلّم أجاب،و إن نطق أصاب.و إن سمع وعی».
و یقید الإمام الصادق السلوک المتعلق بالمنهج بالعقل فیقول:«التودّد نصف العقل».و یخاطب رجال مدرسته بأن لا یثقلوا علی الناس،و لا ینفّروهم،و أن یترفّقوا بهم،و یسهّلوا لهم المداخل.و یقول لهم:«فرغّبوا الناس فی دینکم،و فیما أنتم فیه».
و یراجعه الأصحاب فیما یهمّهم من شئون عملهم فی تطبیق المنهج.فعن إسحاق قال:قلت لأبی عبد اللّه علیه السّلام:الرجل آتیه أکلمه ببعض کلامی فیعرفه کله،و منهم من آتیه فأکلمه بالکلام فیستوفی کلامی کله ثم یردّه علیّ کما کلمته، و منهم من آتیه فأکلّمه فیقول:أعد علی؟فقال:«یا إسحاق،أو ما تدری لم هذا؟» قلت:لا.قال«الذی تکلمه ببعض کلامک فیعرف کله،فذاک من عجنت نطفته بعقله.و أما الذی تکلمه،فیستوفی کلامک:ثم یجیبک علی کلامک؛فذاک الذی رکّب عقله فی بطن أمه.و أما الذی تکلمه بالکلام فیقول:أعد علیّ.فذاک الذی رکّب عقله فیه بعد ما کبر.فهو یقول:اعد علیّ».
ص:281
و یتکفل الإمام الصادق ببیانه و حکمة أقواله إیضاح أهم الخصائص فی خطة العمل و الدعوة فیقول علیه السّلام:«العاقل من کان ذلولا عند إجابة الحق،منصفا بقوله، جموحا عند الباطل،خصما بقوله،یترک دنیاه و لا یترک دینه.و دلیل العاقل شیئان:
صدق القول و صواب الفعل.و العاقل لا یتحدث بما ینکره العقل،و لا یتعرّض للتهمة،و لا یدع مداراة من ابتلی به،و یکون العلم دلیله فی أعماله،و الحلم رفیقه فی أحواله،و المعرفة تعینه فی مذاهبه.و الهوی عدو العقل،و مخالف الحق،و قرین الباطل».
أما إذا أردنا أن نعلم ما هو الطریق إلی تحصیل هذه الملکة،و رعایة هذه النعمة،فإن الإمام الصادق علیه السّلام یجیبنا بوجیز قول و عظیم معنی یغنی عن کل سؤال فیقول:«کثرة النظر فی العلم تفتح العقل».
و لأن الإمام الصادق هو عالم الأمة و صاحب الولایة الشرعیة،فقد أقبل علیه الأصحاب فیما یهمّهم و یشغل بالهم،و عرضوا علیه المسائل التی یکثر فیها الجدل، و قصده الکثیر للتخلص من الحیرة و الغموض.و کان الإمام الصادق یعلم ما یدور فی زوایا المجتمع من محاورات و أحادیث تسبب ارتباکا و اضطرابا،فانفتح علی الناس قائلا:«سلونی قبل أن تفقدونی»فأقبل الناس علیه من مختلف الطبقات و المراتب، و کانوا یجدون عنده علما غزیرا،و خلقا یعجز المرء عن وصفه.لأن شخصیة فی علمها و ورعها کشخصیة الإمام الصادق لا یقارن بها معاصروه،إنما هناک صور للرعایة الإلهیة و الحکمة العلیا فی خصال الإمام الصادق علیه السّلام و علمه و تقاه.فحلمه یسع جمیع ضروب أهل الأهواء و المقالات و الجدل،و علمه یفیض علی کل سائل و طالب علم،حتی فرض علی الحذّاق من المتکلمین و الزنادقة و الملحدین و اضطرّهم إلی الإذعان لیشهدوا:(إنه الحلیم الرزین العاقل الرصین،لا یعتریه خرق و لا طیش و لا نزف،یسمع کلامنا و یصغی إلینا،و یستعرف حجّتنا،حتی إذا استفرغنا ما عندنا، و ظننا أنا قد قطعناه؛أدحض حجتنا بکلام یسیر و خطاب قصیر،یلزمنا به الحجة.
و یقطع العذر،و لا نستطیع لجوابه ردا).
سأله أبو حمزة عما یقال من أن اللّه جسم.
فقال علیه السّلام:«سبحان من لا یعلم أحد کیف هو إلاّ هو،لیس کمثله شیء
ص:282
و هو السمیع البصیر،لا یحدّ،و لا یحسّ،و لا تدرکه الحواس،و لا یحیط به شیء و لا جسم و لا تخطیط و لا تحدید».
و دخل علیه نافع بن الأزرق فقال:یا أبا عبد اللّه،أخبرنی متی کان اللّه؟ فقال علیه السّلام:«متی لم یکن حتی أخبرک متی کان،سبحان من لم یزل و لا یزال فردا صمدا لم یتخذ صحابة و لا ولدا».
و قال ابن أبی یعفور:سألت أبا عبد اللّه عن قول اللّه: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ فقلت:أما الأول فقد عرفناه،و أما الآخر فبیّن لنا تفسیره.
فقال علیه السّلام:«إنه لیس شیء یبید أو یتغیر و یدخل التغییر و الزوال و الانتقال من لون إلی لون أو من هیئة إلی هیئة،و من صفة إلی صفة،و من زیادة إلی نقصان،و من نقصان إلی زیادة،إلا ربّ العالمین.فإنه لم یزل و لا یزال بحالة واحدة،و هو الأول قبل کل شیء علی ما لم یزل،لا تختلف علیه الصفات و الأسماء» (1).
فإن أردنا التعرف علی الآثار اللاحقة فی طرق مناظرة أصحاب الإمام الصادق، و کیف استقرّ ما رعاه الإمام و عمل علی تحقیقه فی وسائل الحجاج و طرق محاورة أهل الأهواء و الفرق و الأدیان،نلمسها واضحة فی أقوالهم و منطق تعرّضهم.
اجتمع هشام بن الحکم فی إحدی رحلاته إلی البصرة بعمرو بن عبید المتوفی سنة 144 ه و هو من شیوخ المعتزلة،و تناظرا فی الإمامة.و کان عمرو یذهب إلی أن الإمامة اختیار من الأمة فی سائر الأعصار.و هشام یذهب إلی أنها نص من اللّه و رسوله علی علی بن أبی طالب و علی من یلی عصره من ولده الطاهرین.
فقال هشام لعمرو بن عبید:أ لیس قد جعل لک عینین.
قال:بلی.
قال:و لم؟ قال:لأنظر بهما فی ملکوت السماوات و الأرض فأعتبر.
قال:فلم جعل لک سمعا؟ قال:لأسمع به التحلیل و التحریم و الأمر و النهی.
ص:283
قال:فلم جعل لک فما؟ قال:لأذوق المطعوم،و أجیب الداعی.
ثم عدّد الحواس کلها.
قال:و لم جعل لک قلبا؟ قال:لتؤدی إلیه الحواس ما أدرکته،فیمیّز بین مضارّها و منافعها.
قال هشام:فکان یجوز أن یخلق اللّه سائر حواسک،و لا یخلق لک قلبا تؤدی هذه الحواس إلیه؟ قال عمرو:لا.
قال:و لم؟ قال:لأن القلب باعث لهذه الحواس علی ما یصلح لها.
فقال هشام:یا أبا مروان-یعنی عمرو-إن اللّه تبارک و تعالی لم یترک جوارحک حتی جعل لها إماما یصحّح لها الصحیح،و یترک هذا الخلق کله لا یقیم لهم إماما یرجعون إلیه؟! قال المسعودی:فتحیّر عمرو،و لم یأت بفرق یعرف (1).
و عن الإمام موسی بن جعفر علیهما السّلام قال:دخل عمرو بن عبید البصری علی أبی عبد اللّه علیه السّلام فلمّا سلّم و جلس عنده تلا هذه الآیة قوله تعالی: اَلَّذِینَ یَجْتَنِبُونَ کَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ ثم أمسک عنه،فقال أبو عبد اللّه«ما أسکتک؟»قال:أحب أن أعرف الکبائر من کتاب اللّه.فقال:«نعم یا عمرو،أکبر الکبائر الشرک باللّه،یقول اللّه تبارک و تعالی: إِنَّهُ مَنْ یُشْرِکْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَیْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النّارُ و بعده الأیاس من روح اللّه،لأن اللّه تعالی یقول: وَ لا تَیْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا یَیْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْکافِرُونَ و الأمن من مکر اللّه،لأن اللّه یقول: فَلا یَأْمَنُ مَکْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ و منها عقوق الوالدین،لأن اللّه تعالی جعل العاق جبارا شقیا.و قتل النفس التی حرّم اللّه إلا بالحقّ لأن اللّه تعالی یقول: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِیها و قذف المحصنات،لأن اللّه تعالی یقول: اَلَّذِینَ یَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ إلی قوله: لُعِنُوا فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِیمٌ و أکل مال الیتیم ظلما لقوله تعالی: إِنَّ الَّذِینَ یَأْکُلُونَ أَمْوالَ الْیَتامی ظُلْماً
ص:284
إِنَّما یَأْکُلُونَ فِی بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَیَصْلَوْنَ سَعِیراً و الفرار من الزحف،لأن اللّه تعالی یقول:
وَ مَنْ یُوَلِّهِمْ یَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَیِّزاً إِلی فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِیرُ و أکل الربا:لأن اللّه عز و جل یقول: اَلَّذِینَ یَأْکُلُونَ الرِّبا لا یَقُومُونَ إِلاّ کَما یَقُومُ الَّذِی یَتَخَبَّطُهُ الشَّیْطانُ مِنَ الْمَسِّ و السحر لأن اللّه تعالی یقول:
وَ مَنْ یَفْعَلْ ذلِکَ یَلْقَ أَثاماً یُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ یَوْمَ الْقِیامَةِ وَ یَخْلُدْ فِیهِ مُهاناً. إِلاّ مَنْ تابَ و الیمین الغموس،لأن اللّه عز و جل یقول: إِنَّ الَّذِینَ یَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَ أَیْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِیلاً أُولئِکَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِی الْآخِرَةِ و الغلول،یقول اللّه عز و جل: وَ مَنْ یَغْلُلْ یَأْتِ بِما غَلَّ یَوْمَ الْقِیامَةِ و منع الزکاة المفروضة،لأن اللّه تعالی یقول: فَتُکْوی بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ و شهادة الزور و کتمان الشهادة،لأن اللّه عز و جل یقول: وَ مَنْ یَکْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ و شرب الخمر،لأن اللّه عز و جل عدل بها عبادة الأوثان.و ترک الصلاة متعمدا،فقد بریء من ذمة اللّه و ذمة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و نقض العهد.و قطیعة الرحم،لأن اللّه عز و جل یقول:
أُولئِکَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدّارِ .
قال:فخرج عمرو،و له صراخ من بکائه،و هو یقول:هلک من قال برأیه و نازعکم فی الفضل و العلم.
و عن أبی مالک الأحمسی قال:خرج الضحّاک الشاری(الخارجی)بالکوفة فحکم و تسمّی بإمرة المؤمنین،و دعی الناس إلی نفسه.
فأتاه مؤمن الطاق.فلما رأته الشراة وثبوا فی وجهه،فقال لهم:جانح.فأتوا به صاحبهم،فقال له مؤمن الطاق:أنا رجل علی بصیرة من دینی،فأحببت الدخول معکم.
فقال الضحّاک لأصحابه:إن دخل هذا معکم نفعکم.ثم أقبل مؤمن الطاق علی الضحّاک فقال:لم تبرأتم من علی بن أبی طالب،و استحللتم قتله و قتاله؟ قال الضحّاک:لأنه حکم فی دین اللّه.
قال مؤمن الطاق:و کل من حکم فی دین اللّه استحللتم دمه و قتاله و البراءة منه؟ قال:نعم.
قال:فأخبرنی عن الدین الذی جئت أناظرک علیه،لأدخل معک إن غلبت حجتی حجتک أو حجتک حجتی،من یوقف المخطئ علی خطأه و یحکم للمصیب
ص:285
بصوابه؟فلا بد لنا من إنسان یحکم بیننا،فأشار الضحّاک إلی رجل من أصحابه و قال:
هذا الحکم بیننا،فهو عالم بالدین.
قال مؤمن الطاق:و قد حکّمت هذا فی الدین الذی جئت أناظرک فیه؟قال:
نعم.فأقبل مؤمن الطاق علی أصحاب الضحّاک فقال:إن صاحبکم قد حکّم فی دین اللّه فشأنکم به.فاختلف أصحابه و أسکتوه،و خرج مؤمن الطاق منتصرا (1).
و کنا فی الأصل قد خصصنا لحملة الإمام الصادق علی الغلاة جزءا من هذا الفصل،غیر أننا وجدنا أن البحث قد یطول و یتعدّی حدود ما نرجو له من عدم التکرار،و اکتفینا بما سبق من بحث لمشکلة الغلاة،و ما قام به الإمام الصادق من دحض لأقوالهم و فضح لمعتقداتهم،و فیه غنی و بیان واف لمنهج الإمام فی ذلک،و قد کان جهده علیه السّلام فی هذا المجال مصحوبا بآلام نفسیة.فهو یواجه أعداء تلبّسوا بروابط و ادّعاءات،و وجد نفسه علیه السّلام هو و آباءه الکرام غایة أولئک الکفرة و غرض مسعاهم.
قلنا إن عصر الإمام الصادق شهد تیارات من الألحاد و الزندقة و غیرها،و قد کانت حرکة الزندقة ذات خطر شدید،لأنها عبارة عن تنظیم اجتمع فیه حذّاق الکلام و الخائضون فی المقالات و المذاهب،و وضعوا لأنفسهم خطة لإفساد العقائد،و زرع الشکوک فی نفوس المؤمنین.و قد لفتت شخصیة الإمام الصادق انتباههم و راحوا فی مناسبات عدیدة یقصدونه و هم علی کفرهم،فیخرجون مقطوعین مدحورین.
و کان من أبرز قادتهم ابن أبی العوجاء (2)و قد أشرنا إلیه فی أکثر من مورد سابقا و فی أجزاء الکتاب السابقة.و قد اجتمع مرّة هو و نفر من الزنادقة منهم:ابن طالوت، و ابن الأعمی،و ابن المقفع فی الموسم بالمسجد الحرام،و کان الإمام الصادق فیه إذ ذاک یفتی الناس،و یفسّر لهم القرآن،و یجیب عن المسائل بالحجج و البینات.فقال القوم لابن أبی العوجاء:هل لک فی تغلیط هذا الجالس،و سؤاله عما یفضحه عند
ص:286
هؤلاء المحیطین به،فقد تری فتنة الناس به،و هو علاّمة زمانه.
فقال لهم ابن أبی العوجاء:نعم.ثم تقدم،ففرّق الناس،فقال:یا أبا عبد اللّه إن المجالس أمانات،و لا بد لکل من کان به سعال أن یسعل،أ فتأذن لی فی السؤال؟ فقال له أبو عبد اللّه علیه السّلام:«سل إن شئت».
فقال له ابن أبی العوجاء:إلی کم تدرسون هذا البیدر،و تلوذون بهذا الحجر، و تعبدون هذا البیت المرفوع بالطوب و المدر،و تهرولون حوله هرولة البعیر إذا نفر؟ من فکر فی هذا أو قدّر،علم أنه فعل غیر حکیم و لا ذی نظر،فقل فإنک رأس هذا الأمر و سنامه،و أبوک أسّه و نظامه.
فقال له الصادق علیه السّلام:«إن من أضلّه اللّه و أعمی قلبه استوخم الحق فلم یستعذبه،و صار الشیطان ولیّه و ربّه،یورده مناهل الهلکة و لا یصدره،و هذا بیت استعبد اللّه به خلقه لیختبر طاعتهم فی إتیانه،فحثّهم علی تعظیمه و زیارته،و جعله قبلة للمصلین له،فهو شعبة من رضوانه،و طریق یؤدی إلی غفرانه،منصوب علی استواء الکمال و مجمع العظمة و الجلال،خلقه اللّه تعالی قبل دحو الأرض بألفی عام،فأحق من أطیع فیما أمر،و انتهی عما زجر اللّه المنشئ للأرواح و الصور».
فقال له ابن أبی العوجاء:ذکرت یا أبا عبد اللّه،فأحلت علی غائب.
فقال الإمام الصادق علیه السّلام:«کیف یکون یا ویلک غائبا من هو مع خلقه شاهد،و إلیهم أقرب من حبل الورید،یسمع کلامهم،و یعلم أسرارهم،لا یخلو منه مکان،و لا یشتغل به مکان،و لا یکون له مکان أقرب من مکان،تشهد له بذلک آثاره،و تدل علیه أفعاله.و الذی بعثه بالآیات المحکمة و البراهین الواضحة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم جاءنا بهذه العبادة،فإن شککت فی شیء من أمره فاسأل عنه أوضحه لک.
فأبلس ابن أبی العوجاء،و لم یدر ما یقول،فانصرف من بین یدیه.فقال لأصحابه:سألتکم أن تلتمسوا لی خمرة،فألقیتمونی علی جمرة.
قالوا له:أسکت،فو اللّه لقد فضحتنا بحیرتک و انقطاعک،و ما رأینا أحقر منک الیوم فی مجلسه.
فقال لهم:ألی تقولون هذا؟إنه ابن من حلق رءوس من ترون،و أومأ إلی أهل
ص:287
الموسم (1).
و فی روایة الطبرسی زیادة:أن ابن أبی العوجاء قال:فهو فی کل مکان؟أ لیس إذا کان فی السماء کیف یکون فی الأرض؟و إذا کان فی الأرض کیف یکون فی السماء؟فقال الإمام الصادق علیه السّلام:«إنما وصفت المخلوق الذی إذا انتقل من مکان اشتغل به مکان،و خلا منه مکان،فلا یدری فی المکان الذی صار إلیه ما حدث فی المکان الذی کان فیه.فأما اللّه العظیم الشأن،الملک الدیّان،فلا یخلو منه مکان،و لا یشتغل به مکان،و لا یکون إلی مکان أقرب منه إلی مکان».
و عن هشام بن الحکم قال:کان زندیق بمصر یبلغه عن أبی عبد اللّه علیه السّلام علم،فخرج إلی المدینة لیناظره.فلم یصادفه بها.و قیل:هو بمکة.فخرج إلی مکة و نحن مع أبی عبد اللّه علیه السّلام فانتهی إلیه-و هو فی الطواف-فدنا منه و سلّم.
فقال له أبو عبد اللّه:«ما اسمک؟» قال:عبد الملک.
قال:«فما کنیتک؟» قال:أبو عبد اللّه.
قال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«فمن ذا الملک الذی أنت عبده،أمن ملوک الأرض أم من ملوک السماء؟و أخبرنی عن ابنک أعبد إله السماء،أم عبد إله الأرض؟» فسکت.
فقال أبو عبد اللّه:«قل».فسکت.
فقال:«إذا فرغت من الطواف فأتنا».فلما فرغ أبو عبد اللّه علیه السّلام من الطواف أتاه الزندیق.فقعد بین یدیه،و نحن مجتمعون عنده،فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:
«أ تعلم أن للأرض تحتا و فوقا؟».
فقال:نعم.
قال:«فدخلت تحتها؟».
قال:لا.
قال:«فهل تدری ما تحتها؟».
ص:288
قال:لا أدری،إلا أنی أظن أن لیس تحتها شیء.
فقال أبو عبد اللّه:«فالظن عجز ما لم تستیقن».ثم قال له:«فصعدت إلی السماء؟».
قال:لا.
قال:«أ فتدری ما فیها؟».
قال:لا.
قال:«فالعجب لک،لم تبلغ المشرق،و لم تبلغ المغرب،و لم تنزل تحت الأرض،و لم تصعد إلی السماء،و لم تخبر ما هناک فتعرف ما خلفهن،و أنت جاحد بما فیهن،و هل یحجد العاقل ما لا یعرف؟».
فقال الزندیق:ما کلمنی بهذا غیرک.
قال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«فأنت من ذلک فی شک،فلعل هو،و لعل لیس هو».
قال:و لعل ذلک.
فقال أبو عبد اللّه علیه السّلام:«أیها الرجل،لیس لمن لا یعلم حجة علی من یعلم،و لا حجة للجاهل علی العالم.یا أخا أهل مصر،تفهّم عنّی،أ ما تری الشمس و القمر و اللیل و النهار یلجان و لا یستبقان،یذهبان و یرجعان،قد اضطرا لیس لهما مکان إلا مکانهما،فإن کانا یقدران علی أن یذهبا فلم یرجعان؟و إن کانا غیر مضطرین فلم لا یصیر اللیل نهارا و النهار لیلا؟اضطرا و اللّه یا أخا مصر،أن الذی تذهبون إلیه و تظنون من الدهر،فإن کان هو یذهبهم فلم یردّهم؟و إن کان یردّهم فلم یذهب بهم؟ أ ما تری السماء مرفوعة،و الأرض موضوعة،لا تسقط السماء علی الأرض،و لا تنحدر الأرض فوق ما تحتها،أمسکها و اللّه خالقها و مدبّرها».