الامام الصادق و المذاهب الاربعه المجلد 3

اشارة

عنوان و نام پدیدآور:الامام الصادق و المذاهب الاربعه / اسد حیدر

مشخصات نشر:دارالکتاب الاسلامی - بیروت - لبنان- 1422

زبان: عربی

مشخصات ظاهری:4ج

موضوع:امام صادق علیه السلام

موضوع:مذاهب اربعه - اهل سنت

ص :1

ص :2

الامام الصادق و المذاهب الاربعه / اسد حیدر

ص :3

عنوان و نام پدیدآور:الامام الصادق و المذاهب الاربعه / اسد حیدر

مشخصات نشر:دارالتعارف للمطبوعات - بیروت - لبنان- 1422

زبان: عربی

مشخصات ظاهری:4ج

موضوع:امام صادق علیه السلام

موضوع:مذاهب اربعه - اهل سنت

ص :4

الجزء الخامس

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِیداً. یُصْلِحْ لَکُمْ أَعْمالَکُمْ وَ یَغْفِرْ لَکُمْ ذُنُوبَکُمْ وَ مَنْ یُطِعِ اللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِیماً [الأحزاب:70 و 71] وَ مَنْ یُطِعِ اللّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِکَ مَعَ الَّذِینَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَیْهِمْ مِنَ النَّبِیِّینَ وَ الصِّدِّیقِینَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصّالِحِینَ وَ حَسُنَ أُولئِکَ رَفِیقاً ذلِکَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَ کَفی بِاللّهِ عَلِیماً [النساء:69 و 70]

ص:5

ص:6

تقدیم و بیان

>تقدیم< رأینا أن نخصص هذا الجزء-و هو الخامس-:لأهم المسائل الفقهیة و نضع أمام القارئ صورة حیة واضحة؛تکشف لنا عن الخلافات الحاصلة بین الشیعة و السنة، و بین المذاهب السنیة أنفسها بل بین المنتسبین للمذهب الواحد،فی موافقة رئیس المذهب و مخالفته مما یدل علی حریة الرأی و عدم الالتزام باتباع رئیس المذهب، و ذلک قبل أن یفرض الحجر السیاسی فی وجوب اتباع أقوال أئمة المذاهب.و إن موضوع الکتاب یتطلب ذلک من حیث الوقوف علی أهم ناحیة یجب أن نأخذ عنها صورة واقعیة فی دراسة موضوعیة،لإیضاح ما أحاط بها من غموض،و ما اکتنفها من عقبات و هی مسألة الخلاف بین السنة و الشیعة فی الفقه،فقد أصبح من نتائج سوء الفهم بأن یقال:إن السنة و الشیعة یفترقون افتراقا کلیا فی الفقه،و إن الفقه الإسلامی هو للمذاهب الأربعة فحسب،و کل ذلک نتیجة لعوامل التعصب و الجهل بحقیقة الأمر و لیس أضر علی الدین من العصبیة و لا أشد فتکا بالعقول من سوء الفهم.

و لهذا کان أکبر همی الوصول إلی دراسة فقه المذاهب لتوضیح مدی الخلاف بین المذاهب السنیة و بین مذهب الشیعة،و کلما حاولت الاختصار فی الدراسة التأریخیة حول التعرف علی شخصیات أئمة المذاهب و الوقوف علی عوامل انتشار مذاهبهم دون غیرها أجد الموضوع یتسع أمامی،و الحاجة تدعو إلی مزید من البیان، و قد ترکت ورائی أشیاء کثیرة لم أتعرض لها،و رمیت کثیرا منها فی سلة المهملات، لعدم الاهتمام بها و طلبا للاختصار،و لأصل إلی الغایة المطلوبة.

و عند ما أخذت فی إعداد مسودات هذا الجزء،و تقدیمها للطبع وصلتنی أنباء

ص:7

کتاب:حیاة الإمام الصادق لمؤلفه الأستاذ محمد أبو زهرة،العالم المصری الشهیر، و صاحب المؤلفات القیمة،و الدراسات الواسعة،و بالأخص فیما یتعلق بموضوع المذاهب الأربعة،فقد ألف و نشر حول هذا الموضوع،و إنی أکبره و أقدر له أتعابه و جهوده.

و قد قرأت کتابه عن الإمام الصادق-بعد مدة من صدوره-قراءة إمعان و تدبر، لا قراءة سطحیة تبعد بالقارئ عن هدف المؤلف و أغراضه،و قد وقفت فیه علی أمور لا یمکن أن أتخطاها بدون أن أبدی علیها ملاحظاتی.

و حیث کان موضوع الأستاذ أبو زهرة یتصل اتصالا مباشرا فی موضوع هذا الکتاب،فلذلک أدخلت تلک الملاحظات فی هذا الجزء.

و الذی تجدر الإشارة إلیه هو أنی لم أذکر هنا کل ما یلزم مناقشته،و إبداء الملاحظة علیه،فهو أکثر من أن یحویه جزء،بل نعتبر ذلک مختصرا بالنسبة لما یستلزمه البحث فیما نختلف فیه أو نتفق علیه کما سیقف القراء علی ذلک قریبا إن شاء اللّه بعد أن نستمر فی تمهیدنا للبحث بما یستلزم الموضوع کما هو نهجنا فی جمیع الأجزاء و من اللّه أسأل العون و علیه أتوکل و هو حسبی و نعم الوکیل.

ص:8

تمهید

اشارة

إن البحث عن المذاهب و دراسة الظروف و الملابسات التی أحاطت بها یجب أن تدرس دراسة تأریخیة بعیدة عن التعصب و التحیز،لأن التحیز لجهة و التعصب علی أخری یغیر صور الحوادث،و یشوه الحقیقة،و هذا هو الظلم الأدبی کما یقولون.و إذا کان دافع البحث هو حب الحقیقة فلا بد أن یکون بصدق و موضوعیة بعیدا عن التأثر بعوامل أخری،و بذلک یکون الباحث قد نال شرف خدمة الحق و اتباعه.

و لا بد لنا أن نلمس خطورة البحث و أهمیته،و لهذا یلزمنا أن نتجرد عما یخالف الحقیقة،بل یجب أن نخوضه بروح صادقة،و نیة خالصة لمعالجة هذا الموضوع الذی له دخل فی واقع المسلمین فی الحاضر و الماضی،و إن الحوادث المؤلمة التی توالت علی مسرح حیاتنا فی جمیع الأدوار،و ما أدت إلیه من نتائج سیئة فی المجتمع الإسلامی،و إن کانت نتیجة عوامل کثیرة متداخلة،إنما یعود إلی التعصب المذهبی، فهو المؤثر الأکبر و العامل القوی فی تفرق المسلمین شیعا و أحزابا،و قد انقسموا علی أنفسهم انقساما شائنا،فکل یتهم الآخر بالانحراف عن الدین،و کل طائفة اعتزلت الأخری،ترمیها بما لا یتفق و روح الإسلام و نظمه.

و مما یؤسف له أنهم قد أسرفوا فی الجدل إسرافا أخرجهم عن میزان العدل، فقد راحوا یلتمسون علی ذلک ألوانا من الحجج یبدو فیها التکلف و یتجلی فیها البطلان.و قد غلب علیهم الجمود الفکری و التزموا بالتقلید فی أخذ الأحکام عن أئمة المذاهب،إذ لا یمکن فی نظرهم أن یصل أحد إلی ما وصلوا إلیه من العلم،فهو مقصور علیهم،و الاجتهاد فی الأحکام من اختصاصهم دون غیرهم.

ص:9

لقد مرت أجیال و هم یعتقدون أن لیس لأحد بعد الأئمة الأربعة أن یجتهد فی الشریعة الإسلامیة،و الخارج عن المذاهب الأربعة-و هو رأی الجمهور-صاحب بدعة،و کل بدعة ضلالة،و کل ضلالة فی النار.

و من المضحکات(بل المبکیات)أن تتغلغل هذه العقیدة فی الجماهیر الإسلامیة،حتی نجد من یسأل عن مذهب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أ شافعی أم مالکی؟و غفلة العوام من غفلة الخواص.هکذا یقول الدکتور زکی مبارک و علیه عهدة ما یقول.

و نحن لا تعوزنا النصوص التاریخیة علی تأیید قوله،فقد وقفنا علی رأی من یزعمون بأن رئیس مذهبهم کان أعلم من النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی القضاء (1).

و آخرون یقال لهم:قال رسول اللّه فیقولون:قال فلان.کما أن الکثیر منهم (تمسکوا بأقوال أئمتهم تمسکا جعلهم یقدمونها علی کتاب اللّه و سنة رسوله) (2)و مهما یکن من أمر فإن تلک الاتجاهات التی سار علیها المتعصبون بعیدة عن روح الإسلام و مفاهیمه،فهی أمور ارتجالیة،غذتها الأنانیة و تولت بثها دعایة التضلیل تقویضا لصرح تماسک الأمة،الذی یقف حائلا دون کل خطر یهدد المجتمع الإسلامی فی الداخل و الخارج.

نعم لیس من روح الإسلام و مفاهیمه،تحامل طائفة علی أخری و اتهامها بالزندقة،و الخروج عن الإسلام،لمجرد الخلاف فی الرأی.فالشافعی یکفر الحنبلی،و الحنبلی یکفر الشافعی،و هکذا بدون التفات إلی واقع الأمر،و ما ینجم عن ذلک من خطر علی الأمة الإسلامیة.

و إن تلک المساجلات الجدلیة حول المذاهب،قد خرجت عن النطاق العلمی إلی الأمور التافهة من الهزل و المجون،و من أظرف ما جری بین الحنفیة و الشافعیة قول الحنفیة لهم:ما جسر إمامکم أن یخرج إلی الوجود حتی مات إمامنا.و یجیبهم الشافعیة:بل إمامکم ما ثبت لظهور إمامنا (3)و ذلک أن الشافعی ولد فی السنة التی مات فیها أبو حنیفة سنة 150 ه و قیل فی

ص:10


1- (1) تاریخ بغداد ج 13 ص 412.
2- (2) همم ذوی الأبصار ص 51.
3- (3) الغیث المنسجم فی شرح لامیة العجم ج 1 ص 165.

الیوم الذی مات فیه.و قد بقی الشافعی فی بطن أمه أربع سنین أو أقل (1).

و کذلک جرت مساجلات شعریة هی أقرب إلی المساجلات الأدبیة فلا حاجة لذکرها.و قد بلغ الأمر حدا مؤسفا من تکفیر طائفة لأخری،و إباحة دماء أبنائها،کما أثبت ذلک وقوع تلک الحوادث الدامیة،فی الشام،و خراسان و الری و غیرها.

و نحن عند ما نقف علی بعض الأقوال کقول المظفر الطوسی الشافعی:(لو کان لی من الأمر شیء لأخذت علی الحنابلة الجزیة) (2)و قول محمد بن موسی الحنفی:

(لو کان لی من الأمر شیء لأخذت علی الشافعیة الجزیة) (3).فإننا نجد اتساع الخرق، و وقوع ما لا تحمد عقباه من الخروج عن الموازین العلمیة إلی الأمور الانفعالیة التی لا صلة لها بالإسلام و نظمه.

و کذلک نستوحی معلومات أکثر فأکثر عند ما نصغی إلی النداء بدمشق و غیرها:

من کان علی دین ابن تیمیة،حل ماله و دمه (4)و قد أفتی بعضهم بتکفیر من یسمی ابن تیمیة بشیخ الإسلام (5)و ابن تیمیة هذا هو شیخ الحنابلة و قد لقبوه بشیخ الإسلام، و معنی هذا النداء بأن کل حنبلی کافر.و بجانب هذا نجد الشیخ أبا حاتم،یری و یفتی:(بأنه من لم یکن حنبلیا فلیس بمسلم).

و هکذا أدی النشاط المذهبی إلی هذه الأمور التی فجرت المآسی المؤلمة فی المجتمع الإسلامی،من تفکک و تباعد،و وجود مشاکل یصعب حلها إلا عن طریق التروی و التنبه لأثر البعد عن روح الأخوة و السقوط فی و هدة التعصب.

و استمرت عجلة الزمن تدور و الأمر یشتد،و ظهر ذلک الانقسام فی صفوف الأمة بوضوح،و تعاقبت علی المسلمین أدوار سوداء ذهبت بکثیر من الأرواح و الأموال،و ملأت النفوس حقدا،و القلوب غیظا.

و أسرفت الطوائف فی الخصومة کما بالغوا فی اتخاذ وسائل الانتصار

ص:11


1- (1) المنتظم ج 10 ص 239.
2- (2) مرآة الزمان ج 8 ص 44.
3- (3) تاریخ دول الإسلام للذهبی ج 2 ص 24.
4- (4) مرآة الجنان للیافعی ج 2 ص 242.
5- (5) ذیل تذکرة الحفاظ ص 316.

لمذاهبهم،من افتراء فی القول و کذب فی النقل،و وضع أحادیث عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بما یؤید المذهب،و یشد عضد أنصاره،من أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بشر برئیس المذهب الذی یتبعونه قبل ولادته،و وضع آخرون منامات مبشرة،و هی فی الاعتبار عندهم کالیقظة من وجوب الأخذ بها،و کلا الأمرین لا یصح منه شیء،لأنها ادعاءات وهمیة یقصدون بها تقویم شخصیة إمامهم من وفور علم،و علو منزلة،و شرف بیت،حتی قال بعض الحنیفة:إن أهل الکوفة کلهم موال لأبی حنیفة (1).أی أنهم کانوا عبیدا فأعتقهم،مع العلم بأن أبا حنیفة کان فارسی الأصل.

و بهذه الزوائد ملأوا صفحات کتب المناقب،کما وصفوهم ببطولات لا یعترف التاریخ بها،و أحاطوا شخصیاتهم بهالة من آیات المدیح و الإطراء،بما یضفی علیهم لباس قدسیة رفعتهم عن مقام البشریة،و صوّرتهم بمنتهی درجة من الکمال تبلغ بهم العصمة،و إن لم یصرحوا بها.

و مهما یکن من أمر:فإن تلک الأقوال الناتجة عن مؤثرات سیاسیة أو اجتماعیة عقیمة النتائج إذ هی مبالغات و غلو أوجدهما النشاط المذهبی،عند ما عظم الخلاف بین أتباع أئمة المذاهب(و دب التقلید فی صدورهم دبیب النمل و هم لا یشعرون، و کان سبب ذلک تزاحم الفقهاء و تجادلهم فیما بینهم) (2).

و قد مرت الإشارة إلی الظروف القاسیة التی مرت بالمسلمین من جراء الاختلاف بین معتنقی المذاهب فأصبحوا أعداء متباعدین،بعد أن کانوا إخوة متحابین،و أدی الأمر إلی القتل و النهب و حرق الأسواق،و تخریب المساجد و هدم الدور،و لا ندخل هنا فی تفاصیل تلک الحوادث المؤلمة،و نکتفی بما أشرنا إلیه فی الأجزاء السابقة.

و الآن و قد لخصنا باختصار أثر ذلک الانقسام الذی حل بالمسلمین یجدر بنا أن نولی وجوهنا شطر المسلمین من أتباع مذهب أهل البیت-و هم الشیعة-لنری ما نالهم من أثر ذلک الانقسام و ما أدی إلیه ذلک التدخل من أعداء الدین،الذین یبثون العداء و یثیرون الأحقاد لإیقاع الفتنة و یخوضون تلک المعارک بوجه مقنع.فلا بد أن ننظر

ص:12


1- (1) مناقب أبی حنیفة للمکی ج 1 ص 174.
2- (2) حجة اللّه البالغة للدهلوی ج 1 ص 123.

إلیهم من زاویة الواقع لا زاویة الخیال التی فتحها المغرضون من أعداء الأمة،و رسموا للشیعة صورا غریبة،و حاکوا لهم تهما وهمیة،و نسبوا لهم عقائد مفتعلة،و آراء بعیدة عن واقع الأمر،و رشقوهم بسهام نقد من هنا و هناک حتی آل الأمر إلی إبعادهم عن حظیرة الإسلام زورا و بهتانا.

و لا ذنب لهم إلا عدم مسایرتهم لحکام الجور،و تمسکهم بالانتصار لآل محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أهل الحق المضیع،و هذا أمر واقع قد یکون إنکاره من المکابرة و التعنت، و تکشف النظرة السریعة و العجلی إلی معالم تاریخ الشیعة عن أسرار موجات العداء و تیارات النقمة علیهم،و قد التقت فی قیام هذه الموجات و التیارات قوی عدیدة تمثلت فیها السلطة الزمنیة و القضائیة و الحزبیة و الاجتماعیة و لا أصف من لبس لبوس الفقه و تزیا بزی العلم بالسلطة الدینیة فحاشی الإسلام و سلطته الروحیة أن تطلق یوما علی من یناصر ظلما أو یغض عن جور أو یسهم فی انتهاک حرمة أحد،و إنما هم قوم عملوا فی الفقه فباعوا دینهم بدنیاهم،و قد تقدم معنا بعض مواقفهم فی تعضید دور الحکام-تکشف هذه النظرة عن ثبات نهج الشیعة و دوام مواقفهم،و هذا النهج و الموقف هما سبیل اتباع محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و التمسک برسالة السماء.و یبدو أن الکثیرین یهملون حقائق التاریخ و یسیئون إلی صفات التعقل و الوعی سواء کانوا حکاما أو متعاطین للعلم و الثقافة.فمن مرتکب لذات الجرائم التی ارتکبها الأمویون و العباسیون بحق الشیعة،و من معرض عن الحق مستسلم لبواعث التفرقة و العداء و لا یشینه أن یکون مع الظلمة،فأین روح العصر الحدیث و الوعی الموضوعی و مسئولیة القلم و التزام الکلمة؟و لا أرید أن أدخل فی تفصیل ما نال أتباع آل محمد من بلاء نتیجة للتعصب الأعمی و الطائفیة الرعناء،فلنقتصر علی بعض ما یهمنا عرضه الآن:

بین الواقع و الخیال:

و لیس من الغریب أن یتنکر الإنسان لما یعرف من الحقائق فیبرزها بصورة غیر صورتها،إذ من السهل جدا أن یغمض الإنسان عینیه عن واقع الأمور و محاسن الأشیاء،فیذم حیث لا موجب للذم،و یمدح حیث لا موقع للمدح،و ما ذلک إلا لتعصب شائن و تحامل بغیض یبتلی به کثیر من الناس.

و بهذا فقد أساءوا لأنفسهم بصورة خاصة،و لمجتمعهم بصورة عامة،و راحوا

ص:13

یلتمسون الحجج الواهیة للضعة بمن یتعصبون علیه و لرفعة من یتعصبون له،و هم یجعلون أنفسهم حکام عدل،و رواد حقیقة،و لکنهم عکس ذلک.

و منهم من غلب علیه الجمود الفکری فقلدوا غیرهم فی النقل بما یروق لهم و یوافق رغباتهم،و إن اتضح لهم خلاف ذلک،و بهذا فلم یعطوا الأشیاء ما یلزم أن تعطی حسب الواقع.و بصورة خاصة أولئک الکتاب الذین یکتبون عن تاریخ الشیعة، فنری أکثرهم یتخبط فی بیداء التهجم،و یسیر فی طرق ملتویة لا تؤدی به إلی الغرض المطلوب منه فی أداء حق التاریخ،الذی هو مرآة الأمم السالفة للأجیال القادمة،لأنه بهذا العمل یصدأ مرآته و یذهب بمحاسنه.

و لو أنهم درسوا تلک الفترة و ما نجم عنها من آراء و أحکام تنافی روح الإخاء و روابط الإیمان و ما شاع من اتهامات دراسة مستفیضة من جمیع نواحیها،و ما یحیط بها من ملابسات،و فکروا فیما یرتئون فی استخلاص النتائج لإبداء الرأی الحر الذی یبعد بهم عن المؤثرات،لکان ذلک أنفع لهم و للأمة جمعاء،و لکنهم قد تعمدوا التشویه و الخلط،لغرض فی أنفسهم و میلا مع الأهواء.

و من نتائج توالی الملوک الجائرین و الحکام العتاة الذین ناصبوا أهل البیت العداء و نصبوا الحرب لشیعتهم،کما أن من نتائج دوام الشیعة علی وقوفهم بوجه الطغاة هو انتشار آراء الملوک السابقین و شیوع أغراضهم و مواقفهم ضد الشیعة و تداولها عبر الأجیال دون انتباه إلی ما یعنیه ذلک من تأیید لسیاسات الظلم و الانحراف.

و لقد أثیرت حول الشیعة عواصف اتهامات باطلة،مهدت السبیل لمن یرید أن ینفث سمومه فی جسم الأمة الإسلامیة،و یطعن فی عقائدها،عند ما التبست الحقائق التاریخیة بالأکاذیب،و الحوادث الواقعیة بالأساطیر،فاتسع المجال أمام المتداخلین و المندسین فی صفوف المسلمین؛لیعملوا عملهم،و یضربوا ضربتهم،انتصارا لمبادئهم،و انتقاما لعروشهم التی دک الإسلام صروحها،و هدم کیانها،فانهزموا أمامه مخذولین.و قد عجزوا عن مقابلته وجها لوجه،فراحوا یتلصصون فی الظلام، و یعملون من وراء الستار.

لقد اتهم اتباع مذهب أهل البیت و أنصارهم بتهم کثیرة،و وصفوا بصفات متناقضة بعیدة عن الواقع،بل هی مجرد إشاعة مغرضة،و أقوال کاذبة،و افتراءات صریحة.

ص:14

و کان من أعظم تلک التهم التی وجهت إلیهم هی:أن الشیعة یعبدون علیا و یؤلهونه،أو أنهم یعبدون الأئمة أجمع،و أن الأئمة عندهم أنبیاء یوحی إلیهم،و أن لهم أحکاما هی غیر أحکام الإسلام.و إنهم یشتمون أصحاب محمد و یکفرونهم جمیعا،و إنهم و إنهم...إلی آخر تلک الأقوال و التقولات التی أوحی بها الشیطان لیوقع الفتنة و ینشر الفساد.

و قد رأینا فیما تقدم أن السیاسة کانت تشد أزر المتهجمین،و تحمی من تاه فی غوایته،لتنتقم من أنصار أهل البیت الذین أعلنوا انفصالهم عن الدولة التی یتحکم فیها حکام انتحلوا إمرة المؤمنین،و ادعوا الولایة علی المسلمین خلافا لما یقتضیه نظام الإسلام،و تمردا علی مفاهیمه،و خروجا عن حدوده و قواعده.

و قد وقف الشیعة مواقف حاسمة و بذلوا کل ما فی وسعهم أن یبذلوه فی مقاومة کل سلطان یحکم بغیر ما أنزل اللّه،فکان مصیرهم السجون و التشرید و القتل.

و الخلاصة:أن عدم تعاون الشیعة مع حکام الجور و أئمة الضلال،أدی إلی اتخاذ شتی الأسالیب و إیجاد مختلف العوامل للقضاء علیهم حفظا للمملکة،و صیانة لها عن المؤاخذات التی تقوم علی مبادئ العدل الإسلامی.

لقد تضاعفت القوی لمحاربة الشیعة،و توالت علیهم الحملات،لأن الدولة لا تسمح لمن یخالفها فی الرأی أن یتمتع بحریة إبداء رأیه،و تری من الحزم القضاء علیه،و قد ذهب کثیر من العلماء ضحیة أفکارهم و آرائهم،و لحق الاضطهاد بکثیر من الفقهاء(و کان أکثرهم عرضة للقتل إذ لم یکن له أحد یحمیه فی قصر الملک أو الأمیر لأن القوم أصبحوا و نفوسهم لا تشتفی ممن یخالفهم فی معتقد أو فکر إلا أن تضرب عنقه) (1).

و علی هذا النهج سار ولاة الأمر،و بهذه السیاسة الخرقاء کانوا یعاملون حملة العلم و أبطال الفکر،و أعظم من هذا أنهم نسبوا تلک الأمور إلی الدین بدعوی أن فی قتل هؤلاء ضم شمل الجماعة،و إغلاق باب الفرقة،و القضاء علی البدع و الضلالات،و قد اتخذوا من علماء السوء مطایا لأغراضهم فکانوا یستفتونهم فی إراقة الدماء،حفظا للدولة من مؤاخذه العامة.

ص:15


1- (1) الحضارة العربیة ج 2 ص 88.

فالمخالف للسلطة فی نظر علماء السوء و أتباعهم زندیق ملحد کافر إلی آخر ما تتسع له صحیفة الاتهامات،و کما یشاء ولاة الأمر و تقتضیه سیاستهم،و تدعو إلیه رغباتهم فی قمع أی حرکة معارضة لهم،أو أی إنکار علی سوء عملهم.

و قد استخدموا لنشر تلک الاتهامات شیوخا یقصون علی الناس بأسالیب خدّاعة،و أحادیث جذّابة،مزجوها بمناقب و فضائل تعود لمصلحة الدولة،کمناقب العباسیین و غیرهم و البشارة بدولتهم،و فضائل بعض الشخصیات التی ناقش المفکرون أعمالهم،و حاسبوهم علی سوء تصرفهم،و هذا أمر لا ترغب فیه السلطة لأنه یشد أزر المخالفین لهم.

و بهذه العوامل الخداعة صوروا مذهب الشیعة،و رسموا صورته بإطار الشذوذ، و أن أسسه قد قامت علی غیر التعالیم الإسلامیة.و تقدم الکذابون یوضع أساطیر قصدوا بها التقرب لولاة الأمر،کوضع أسطورة عبد اللّه بن سبأ الیهودی،کما صورها سیف بن عمر المشهور بالکذب و الزندقة و المعروف بالوضع،و تناولها الحاقدون علی الشیعة،و المبغضون لأهل البیت فأحاطوها بهالة من التهویل و أبرزوها بإطار ما کر خداع،و هم یقصدون توسیع شقة الخلاف،و إیقاد نار الفتنة.

و أصبح بمقتضی هذه الأسطورة و غیرها من الأساطیر أن مذهب الشیعة قامت أسسه علی التعالیم الیهودیة،و أن مؤسسه عبد اللّه بن سبأ الیهودی،و هو شخصیة موهومة رسمتها ریشة رسام البلاط العباسی.و ما أکثر البسطاء الذین یتأثرون بالقصص الوهمیة.

و قامت حول هذه الافتراءات دعایات التضلیل،و نفخت أبواق الباطل و ما أسهل الانخداع بهذه الأکاذیب ممن لا یقوی علی تمحیصها بفکر ثاقب و عقل راسخ.

و کانت السلطة من وراء ذلک تشد أزر أولئک المخدوعین،و تتولی نشر تلک التهم و تأییدها بکل حول و قوة،لترکیز فکرة خروج الشیعة عن الإسلام،و طبع عقائدهم بطابع الکفر،لیجعلوا من ذلک حصانة للدولة عن مؤاخذة المسلمین لهم و إنکارهم علیهم،و لأجل أن تصبح تلک الثورات التی قام بها الشیعة ثورات علی الجماعة الإسلامیة.حتی عرفوا فی قاموس لغة السیاسة:(أنهم أمة هدامة أو حزب ثوری لا یعترف بنظام الحکم القائم)و لهذا أصبح الانتماء إلی التشیع ذنبا لا یغفر،

ص:16

لأنه ینتمی إلی جماعة مخربة تحاول القضاء علی الدولة الشرعیة التی یترأسها سلطان یعمل بأمر اللّه و هدایته.

و کل ذلک ادعاء باطل و تدخل شائن،کما بذلوا جهدهم فی خلق تهم و إشاعات یحاولون من ورائها إبعاد الشیعة عن المجتمع الإسلامی.

إن ذلک التدخل السیاسی قد أوقع کثیرا من الکتّاب فی حدود ضیقة،و حرمهم من حریة الفکر و صواب الرأی.

و لا بد لنا فی هذا الموضوع أن نلفت أنظار القراء الکرام إلی الدور الذی لعبه المستشرقون فی کتاباتهم حول الشیعة،و التی أصبحت مصدرا یستمد منه کتّاب عصرنا الحاضر معلوماتهم بدون مناقشة،کأنها هی عین الحقیقة و الصواب،فلا یتطرق إلیها وهن و لا ینال منها أی نقاش.

و صار أولئک الکتّاب یطلقون تلک الآراء الشاذة،و الأقوال التی تحمل طابع التزییف و الخداع،کدلیل جاءوا به من عند أنفسهم أو نتیجة بحث موضوعی قائم علی حریة الرأی و المنطق الصحیح.و لو أنهم أعطوا لعقولهم مدیّ یسیرا لتکون نظرتهم مشتملة علی شیء من الواقعیة و التمحیص لما تلبسوا تلک الأقوال احتراما لعقیدتهم و لأنفسهم.

و نحن إذ نقدم هنا أمثلة لما نقول-و الألم یحز فی نفوسنا-لما بلغت إلیه الحالة من الانحطاط و التدهور،فی أخذ آراء قوم احترقت قلوبهم بنار الحقد علی المسلمین حتی باتت رمادا،و قد وجهوا حملاتهم العنیفة ضد الإسلام و نبیه الأعظم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم، باتهامات باطلة و أقوال فارغة(و قد حفلت کتبهم بالاتهامات و الشتائم،و کلها تتصف بالافتراءات الغریبة التی تدل علی تفکیر سقیم) (1).

فاندفعوا بأقلامهم المسمومة،و خیالهم الواسع مستغلین فرصة الخلاف بین الطوائف،و اتهام بعضهم بعضا،فراحوا یختلقون أشیاء کثیرة و یضعون خططا للطعن فی العقیدة الإسلامیة من طرق مختلفة حسب الخطط المرسومة،و الهدف المقصود.

ص:17


1- (1) انظر حضارة الإسلام للمؤرخ الهندی خدابخش من ص 45 إلی ص 60 تجد هناک بعض تلک الاتهامات ذکرها هذا المؤرخ من مصادرها و ناقشها.

آراء المستشرقین فی التشیع:

و إن لکثیر من المستشرقین خططا یقومون بتنفیذها عن طریق الکتابة،أو خططا استعماریة یقوم بتنفیذها کثیر من المستشرقین فی البلدان الإسلامیة،و المتتبع یجد ذلک فیما یکتبونه فهم یثیرون أحقادا،و یوقظون الفتنة،و کل ینتصر إلی جهة،و قد اشتدت حملتهم علی الشیعة من بین الفرق الإسلامیة لأسباب نوضحها فیما بعد.

و لسنا الآن بصدد عرض ما قاموا به من النشاط فی صفوف المسلمین لفتح باب الخلافات،و لکننا نرید أن نعطی صورة عما قاموا به من تزییف الحقائق و المغالطة، لیطعنوا فی العقائد الإسلامیة من باب أین ما أصابت فتح.

و قلدهم فی ذلک بعض الکتّاب عن درایة أو غیر درایة،فمن تلک الآراء التی تقوم علی تزییف الحقائق التاریخیة،أو الجهل المزری هو ما ذهب إلیه جوبینو بقوله حول تشیع الفرس:(کانت هذه النظریة عقیدة سیاسیة(و هی التشیع)غیر متنازع فیها عند الفرس،و هی أن العلویین وحدهم یملکون حق حمل التاج،و ذلک بصفتهم المزدوجة لکونهم وارثی آل ساسان من جهة أمهم بی بی شهربانوه ابنة یزدجرد آخر ملوک الفرس،و الأئمة رؤساء هذا الدین حقا).

ثم یأتی من بعده بارون فیؤید هذه النظریة بإیضاح السبب الذی استمال الفرس إلی التشیع معتمدا علی ما قاله جوبینو فی هذا الصدد فیقول بارون:(إنی أعتقد أن جوبینو قد أصاب فیما قاله:أن نظریة الحق الإلهی و حصرها فی البیت الساسانی کان لهما تأثیر عظیم فی تاریخ الفرس فی العصور التی تلتها).

إلی أن یقول:و من جهة أخری فإن الحسین و هو أصغر ولد فاطمة بنت النبی و علی ابن عمه قد قالوا:إنه تزوج من شهربانوه ابنة یزدجرد الثالث آخر ملوک آل ساسان.

هذا هو منطق المستشرق جوبینو و هذه عقلیته،إذ یجعل التشیع فارسیا بحتا و أن تشیع الفرس کان منهم تعصبا لا تدینا؛لأنهم أصهار آل علی علیه السّلام فالذی دفعهم لمناصرة آل علی(فی نظره)هو علقة المصاهرة؛لأن الحسین علیه السّلام قد تزوج إحدی بنات یزدجرد،اللاتی جیء بهن سبایا فی أیام خلافة عمر بن الخطاب،و کن ثلاث بنات،فاشتراهن الإمام علی علیه السّلام و دفع واحدة لعبد اللّه بن عمر فأولدها سالما،

ص:18

و دفع الثانیة إلی محمد بن أبی بکر فأولدها القاسم،و دفع الثالثة لابنه الحسین علیه السّلام (1)فأولدها زین العابدین علیه السّلام.

فعلی بن الحسین زین العابدین علیه السّلام و القاسم و سالم هم أبناء خالة،لأنهم أولاد بنات یزدجرد.

فدلیل هذا المستشرق علی ارتباط التشیع بالفرس و مناصرة أبناء فارس لأهل البیت إنما کان للمصاهرة،کما یذهب جوبینو و غیره،و هذا من خطل الرأی و سقم التفکیر.

و یقول(و لهو سن):إن العقیدة الشیعیة نبعت من الیهودیة أکثر مما نبعت من الفارسیة مستدلا بأسطورة ابن سبأ الخرافیة.و ما أکثر من یصدق بالأساطیر و یخضع للخرافات.

و یقول(دوزی)و غیره من المستشرقین:إن أصل التشیع فارسی.مستدلین بالمصاهرة المذکورة،و إن الفرس تدین بالملک و بالوراثة فی البیت المالک،و الشیعة تقول بوجوب طاعة الإمام.

و یقول(نیبرج)فی مقدمة طبعة کتاب الانتصار للخیاط:و کانت الشیعة محل امتزاج الثنویة بالإسلام خاصة...الخ.

إلی کثیر من تلک الأقوال المفتعلة،و الآراء الشاذة المنافیة للحقائق،من جعل التشیع فارسیا بحتا،و غرضهم فی ذلک هو أن تصبح عقیدة الشیعة ذات صلة بعقائد الفرس القدیمة،و بهذا فهم یطعنون فی العقیدة الإسلامیة فی الصمیم کما أنهم قد جعلوا إسلام أبناء فارس إسلاما عنصریا لا إسلاما حقیقیا منبعثا عن عقیدة راسخة.

هذا هو منطقهم الخاطئ،و هذه هی آراؤهم الشاذة،و أقوالهم الکاذبة،و هم لا یلامون علی ما ارتکبوه لأنهم خصوم الإسلام،و هل یرتجی الخیر من خصم یحترق

ص:19


1- (1) هذه القصة یرویها ابن خلکان فی الوفیات ج 3 ص 4 و ج 1 ص 455 طبعة بولاق [1]عن ربیع الأبرار و انها کانت فی خلافة عمر،و هذا بعید جدا،لأن وفاة عمر کانت سنة 23 ه و کان یزدجرد فی ذلک الوقت حیا قوی الجانب کثیر العدة و لم یذکر أحد من المؤرخین سبی بناته فی حیاته و لم یقتل إلا سنة 31 ه.هذا من جهة و من جهة أخری أن محمد بن أبی بکر کان صغیر السن آن ذاک لأن ولادته کانت فی حجة الوداع.

قلبه بنار الغیظ و قد آن لهم أن یشفوا غیظهم،و ینفثوا سمومهم بین المجتمع الإسلامی.فلا لوم علیهم و لکن اللوم کل اللوم علی کتاب یدعون الحمیة علی الإسلام و أهله،فیقررون فی بحوثهم تلک الآراء،و یثبتون تلک الطعون و کأنها مکرمة جاءوا بها للأمة؛حتی بلغ الانحراف و الشذوذ ببعضهم أنه نسب إلی أصحاب محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و خریجی مدرسته بأنهم قد أخذوا بآراء ابن سبأ الیهودی و تأثروا بتعالیمه. (1)

و هذا من أعظم الجنایات و أقبح الأمور،و لکن هذا القائل قد بلغ حدا فی مناصرة الباطل جعلنا نتهاون فی أمره،فألقیناه فی سلة المهملات غیر مأسوف علیه، لأن الانشغال بکل ما بدر من أعداء الإسلام یفوق الطاقة و لذا فهو من مهمات المسلمین جمیعا.

و نجد أحمد أمین فی بحوثه-و بالأخص فی فجر الإسلام-قد أخذ بهذه الآراء و أقرها کأنها مصدر وثیق لا یتطرق إلیه وهن،و لا یداخله أی نقاش.

و کذلک الدکتور حسن إبراهیم حسن فی تاریخ الإسلام السیاسی،و الشیخ محمد أبو زهو فی کتابه الحدیث و المحدثون،و مصطفی الشکعة و غیرهم،فالجمیع قد ساروا علی هذا الخط الذی رسمه أمثال هؤلاء المستشرقین بدوافع واحدة و أغراض معینة لا تبعد عن محاولة الإساءة للإسلام و تشویه عقائده بدون رجوع إلی الوثائق التاریخیة التی تفند هذه المزاعم،و لا یتسع المجال إلی عرض أقوال هؤلاء الکتاب المقلدین و للمثال نضع فی هذا المورد قول أحد الکتاب المعاصرین و هو الأستاذ مصطفی الشکعة إذ یقول:و المنطق فی ذلک أن الفرس یعتقدون أنهم أنسباء الحسین، لأنه تزوج جهان شاه(سلافة)ابنة یزدجرد بعد أن وقعت أسیرة فی أیدی المسلمین، و لقد انجبت سلافة علیا زین العابدین،و إذن فهم أخوال علی،و یمکن الربط بین تحمسهم لابن ابنتهم و بین تشیعهم.فتشیعهم و الحال کذلک لا یمکن أن یقال أنه تشیع عقیدة خالصة،بل هو أقرب إلی تشیع العصبیة منه إلی تشیع العقیدة،و تشیع العصبیة یساوی تشیع السیاسة،ففکرة التشیع من ناحیة الفرس علی الأقل فکرة سیاسة خالصة،

ص:20


1- (1) رسالة حملة الإسلام ص 23 تألیف محب الدین الخطیب،و هو رجل معروف بشذوذه الفکری و أسلوبه التهجمی.

بل أن بعض الفرس قد أعلن انتصاره لعلی زین العابدین لما یربط بین الفرس و بین بیت الحسین من نسب (1).

التشیع و الفرس:

هذا هو منطق الأستاذ الشکعة،یتعاطاه بدون انتباه إلی الأخطاء التی أحاطت به فأخرجته عن جادة الصواب.

لقد أبدی الأستاذ رأیه و کأنه هو السابق إلیه إذ لم یذکر الذین سبقوه بهذه الأخطاء،و کأنه یقصد بذلک أن ینفی عنه التقلید لغیره فبرز بهذه المکرمة المبتکرة، لینال الثناء علی عظیم فکرته،و رجاحة عقلیته.

و کان اللازم علیه و علی غیره ممن اعتمدوا علی آراء المستشرقین ألا یقفوا عند الحدود الضیقة،التی وقف بها أولئک المتعصبون،لأن العلم یأبی الانقیاد و الأخذ دون دلیل.

و کان الأجدر بهم و هم رسل الثقافة،و حملة أمانة التاریخ،بأن یفکروا فی صحة تلک الأقوال و صواب تلک الآراء.و نحن نطالب الأساتذة و منهم الدکتور حسن إبراهیم و الأستاذ الشکعة و غیرهم بأن یسائلوا أنفسهم عن صحة رأی جوبینو و بارون و غیرهم فی الأمور التالیة:

1-لم ناصر الفرس ابن أختهم زین العابدین؟و لم یناصروا ابن أختهم سالما، الذی کان هو و أبوه من أنصار الدولة الأمویة،و کانت لعبد اللّه بن عمر الید الطولی فی انتصار جیش أهل الشام علی جیش أهل المدینة یوم الحرة فقد کان یخذّل الناس، و یدعو إلی الوفاء ببیعة یزید،و لما ذا لم یدخلوا فی الحزب الأموی تعصبا لصهرهم ابن عمر،و ابن أختهم سالما و لما ذا لم ینتصروا لأبی بکر و هم أصهاره؟ 2-إن انتشار المذهب الحنفی فی بلاد فارس أکثر من غیره من المذاهب الإسلامیة و إن العلماء الذین نشروه و خدموه بمؤلفاتهم أکثرهم کان من أبناء فارس.

فهل کان ذلک أمرا واقعیا؟أم أنهم تعصبوا له لأن أبا حنیفة النعمان بن ثابت بن زوطی کان من بلاد فارس فاعتناقهم لمذهبه تعصبا له لأنه ابنهم.

ص:21


1- (1) إسلام بلا مذاهب ص 112.

3-هل أن إسلام رجال الحدیث من العلماء الذین هم من أبناء فارس کالبخاری و الحاکم و البیهقی و غیرهم،کان واقعیا أم تعصبا لجهة،أم تقلیدا لآبائهم و اتباعا لقومهم؟ و لعلهم یقولون إن إسلام العصبیة کان خاصا بمن یتشیع،فهذا شیء لا نعرفه و لا نجیب عما لا نعرف مما یخرج عن قواعد التحقیق و نوامیس الواقع.

4-هل کان تشیع بلاد فارس بالصورة التی هو علیها الآن فی القرون الأولی أم القرون المتأخرة؟و من هم الذین نشروا التشیع هناک؟ و لو أن هؤلاء الکتّاب کانوا یهدفون إلی الحقیقة لاستقاموا فی أبحاثهم،و نهجوا نهج المؤرخ الذی یحاول إظهار الواقع و جلاء الغامض،و لظهر لهم هناک أن انتشار التشیع فی إیران کان فی القرن السابع الهجری و ان الذین تولوا نشره فی الزمن الأول هم الفاتحون من کبار المسلمین و دعاة أهل البیت و کانت البلاد تختلف باتجاهاتها و نزعاتها.

و باختصار إن تلک الآراء الشاذة و الأقوال التی لا تستند إلی وثائق تاریخیة کان الباعث لها حقد أولئک القوم الذین تغلی قلوبهم بنار الغیظ علی الإسلام.

و إن کانت هناک فئة تتصف بالاتزان و مراعاة الحقیقة فهم قلیلون بالنسبة للکثرة التی یتصف بها أولئک الحاقدون،من المستشرقین و الزنادقة المتداخلین فی صفوف المسلمین.

و خلاصة القول:إن الانحراف الذی وقع فیه بعض کتّاب العصر الحاضر یرجع إلی أسباب کثیرة أهمها:عدم رعایة الأبحاث العلمیة و إعطاء الموضوع حقه من النظر و التفکیر،و الوقوف علی مدی تأثیر الوقائع فی الآراء،و أنهم قد أهملوا جانب العدل و الاستقامة،و رکنوا إلی أمور وهمیة.و بعبارة أوضح إنهم یکتبون بوحی العاطفة و التعصب الأعمی،فجمدوا علی ما یکتبه سلف عاش فی عصور التطاحن و التناحر.

هذا من جهة،و من جهة أخری فإن تذوقهم لقراءة ما یکتبه أولئک الحاقدون من المستشرقین جعلهم فی غفلة عمّا اشتملت علیه کتبهم من التناقض و مخالفة الحق و لو تنبهوا لذلک لما جعلوا شیئا منها محورا لأبحاثهم،و لم یستندوا إلی تلک الأقوال و کأنها صادرة من منبع صدق لا یتطرق إلیه أی شک و لا یداخله أی احتمال.

ص:22

و لهذا فقد أهملوا دراسة العوامل التی انتشر بها المذهب الشیعی فی بلاد فارس فی فترات متعاقبة و أدوار مختلفة.

و لو درسوا ذلک لما ظلموا أمة تدین بالإسلام عن عقیدة خالصة و نیة صادقة، و لهم مواقف مشهودة،فجعلوا إسلامها تعصبا لا تدینا:کل ذلک مما یهدف إلیه المرجفون و الذین یحاربون الإسلام من طریق الطعن فی العقیدة.

الشیعة و المستشرقون:

اشارة

و إذا ألقینا نظرة سریعة علی أسباب تحامل المستشرقین علی الشیعة بالأخص وجدنا أنها حاصلة من مؤثرات متداخلة أهمها امتناع الشیعة عن ملامستهم و مواکلتهم مما بعث فی نفوسهم حقدا مضاعفا،و قد اشتملت مؤلفات الأوروبیین الذین عاشوا بین ظهرانی الشیعة علی بیان ذلک،و نکتفی بما ذکره البعض منهم.

قال الدکتور بولاک الذی قضی أعواما طویلة فی فارس متقلدا منصب الطبیب الخاص للشاه ناصر الدین:

إذا قدم أوربی مصادفة و علی غیر انتظار فی بدایة تناول الطعام یقع الفارسی فی الحیرة و الارتباک،و یسقط فی یده،لأن الآداب تمنعه من أن یأمر زائره بالانصراف، و إذا سمح له بالدخول تحرج؛لأن ما یلمسه الکافر من طعام تلحقه النجاسة، و الفضلات التی تبقی من طعام الأوروبیین یأبی أن یتناوله الخدم و یترکونها للکلاب.

ثم یقول:یلزم الأوربی أن لا یغفل أن یعد لنفسه إناء یشرب منه،فلیس من أحد یعیره شیئا،فعقیدة الفرس أن کل إناء یتنجس إذا ما استخدمه الکافر.

و کذلک قال«فولنی»فی کتابه(رحلة فی سوریا و مصر)و قرر فی مشاهداته هذه الأمور التی تحز فی نفوسهم.

و جاء فی مشاهدة آخرین من السائحین شبیهة بهذه المشاهدات فی الحجاز من النخاولة و غیر الحجاز من البلدان الإسلامیة.

و بهذا وجه المستشرقون حملتهم الشعواء علی الشیعة و زادوا علی ما شاهدوه:

بأن هذه النزعة تشمل غیر الکفار.

یقول أجناس جولد زیهر:إن هذه النزعة المتعصبة عند الشیعیین الصادقین فی

ص:23

تشیعهم لم تقتصر علی الکفار بل شملت المسلمین من مختلف النحل و المذاهب، و کتب الشیعة تفیض بالدلالة علی هذا البغض و التحامل (1).

و هنا نلمس أثر ذلک الانفعال الحاصل من رد الفعل فی نفوس هؤلاء المستشرقین لعدم ملامسة الشیعة لهم،و تجنبهم مؤاکلتهم،مما حملهم علی افتعال هذه الأمور تشفیا منهم.

و هم عند ما یعودون من رحلاتهم یصورون الشیعة بصور مشوهة،و یحکمون علیهم بأحکام جائرة،و لعجزهم عن الإلمام بتاریخ الشیعة لیکتبوا وفقا لما یتطلبه منهاج البحث التاریخی،دونوا فی کتبهم ما هو بعید عن جوهر التشیع،و جردوا المبدأ من جمیع مفاهیمه الدینیة و أسسه الأخلاقیة،فوصفوا معتنقیه بکلمات نابیة،إذ فسحوا المجال لخیالهم،و انقادوا وراء شعور الحقد.

و عوضا عن أن یتأملوا بنظرات مستنیرة لیدخلوا باب الأبحاث التاریخیة،راحوا یصورون بدون تثبت،و یتخبطون فی مجالات البحث بصورة تدلنا علی الغرض الذی کتبوا من أجله و نستشف الدافع الذی دفعهم لذلک،و قد جمعوا عدة طعون غذاها الحقد و أملاها الخیال و سجلوها فی قائمة المؤاخذات علی الدین الإسلامی،لیرموا المسلمین بها عن کثب.

یضاف إلی ذلک أنهم استمدوا أکثر معلوماتهم من کتب أناس عاشوا فی عصر اشتد فیه الصراع بین الطوائف و تلاطمت فیه أمواج الفتنة،فکان أتباع مذهب أهل البیت أشدهم عناء،و أعظمهم محنة،لتدخل السلطة حین بذلت جهدها فی القضاء علی مذهب أهل البیت و من یناصره.

فکانت التهم تکال جزافا،و الحرب بین الشیعة و بین السلطة و نفوذها-من أعوان و مؤیدین-سجالا،حتی حکموا علیهم بالکفر و الخروج عن الدین و اتهموهم بالشرک و إنهم یعبدون الأئمة و إن التشیع حزب سیاسی...الخ فأخذ المستشرقون و غیرهم ممن یکیدون للشیعة تلک التهم فازادوها و أبرزوها للعالم بأسلوب ماکر خداع،طلبا لاتساع رقعة الخلاف و إیقاد نار الفتنة.

ص:24


1- (1) العقیدة و الشریعة فی الإسلام ص 209.

و المتتبع لما یکتبونه یجد لهم کثیرا من الآراء الشاذة،فمثلا انهم یقولون:إن أصل التصوف فی الإسلام مأخوذ من أصل مجوسی.

و إذا طالبتهم بالدلیل قالوا:إن عددا کبیرا من المجوس ظلوا علی مجوسیتهم فی شمال إیران بعد الفتح الإسلامی،و أن کثیرا من کبار مشایخ الصوفیة ظهروا من إیران.

و بهذا القیاس العقیم و الاستنتاج الغریب حکموا علی أن المتصوفة مجوس، و هم یحاولون أن یطعنوا الإسلام،بتجریده من الروحیات و جعله دینا جامدا لا صلة له بالروحیات و الحب الإلهی.

و علی أی حال:فإن عواصف الاتهامات التی أثیرت حول الشیعة کانت من وحی الخیال،سداها الهوی و لحمتها الحقد،و إن قلیلا من التأمل فی حوادث التاریخ و وقائع الزمن و اختلاف الظروف یکفی-بطبیعة الحال-للکشف عن الواقع و جلاء الغامض.

و لا أبعد عن الواقع إن قلت:إن مهمة المؤرخ عن الشیعة هی أعسر من مهمة من یؤرخ لغیرها من طوائف المسلمین،لوجود عواصف الاتهام و زوابع الافتراء.

و السبب الأساسی لذلک هو انفصال الشیعة عن الدولة،و معارضتهم للحکم القائم علی الظلم،طبقا لنهج أهل البیت علیهم السّلام الذی ساروا علیه.

و الواجب یقضی علی کل مؤرخ و باحث أن لا یغفل هذه النقطة الأساسیة التی لها أثرها فی توجیه المجتمع،لتحقیق ما وراءها من هدف،فالاستسلام لکل قول، و الأخذ بکل رأی دون تمحیص جنایة علی التاریخ و تمرد علی الواقع.

و مما لا جدال فیه و ما یلزمنا الاعتراف به:أن کلا من الدولتین الأمویة و العباسیة،قد تنکرتا لأهل البیت،و أصبح من عرف بالولاء لهم هدفا للنقمة،إذ الولاء لآل محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کما هو مفهوم تلک السیاسة خطر یهدد کیان الدولة،و ذلک ذنب لا یغفر.

و کم أریقت بذلک من الشیعة دماء،و هدمت دور،و نهبت أموال،و أزهقت نفوس،و اهتزت مشانق،و ملئت سجون.

و کان أسهل شیء علی من یخشی سطوة الدولة أو یتهم بالانحراف عنها،أن

ص:25

یتظاهر بالعداء لأهل البیت و ذم شیعتهم،و یظهر ذلک فی نظم أو نثر أو تألیف کتاب، أو وضع حدیث أو خلق حکایة تحط من کرامة الشیعة.

و قد أصبح ذلک طریقا لکسب المغنم،و حصول الجوائز أیضا.

و من أظرف الأشیاء ما قاله المرزبانی:إن رجلا دخل علی الرشید فقال:

لقد هجوت الرافضة-و یقصد بهم الشیعة-طبعا.

قال الرشید:هات.فأنشد:

رغما و شما و زیتونا و مظلمة من أن تنالوا من الشیخین طغیانا

فقال الرشید:فسّره لی.قال:لا،و لکن أنت و جیشک أجهد من أن تدری ما أقول.

قال الرشید:و اللّه ما أدری ما هو.و أجازه بعد ذلک.

و منها:أن رجلا بالکوفة اسمه علی،اشتکی إلی الحجاج بن یوسف ظلامته من أهله،فسأله عن ذلک،فأجاب:إنهم ظلمونی فسمونی علیا.

لأن التسمیة باسم علی تستوجب الاتهام و قطع الصلة،و هکذا مما یطول به الحدیث،و التاریخ حافل بالأعمال الإرهابیة التی اتخذها الحکام فی توجیه الطاقات الاجتماعیة،لبناء مجتمع یخضع لإرادتهم و تکییف الجماعات لبغض أهل البیت، و کان الدور الأموی یلقن أبناءه بغض علی و یوجبون شتمه علنا،فکان فی المملکة الأمویة سبعون ألف منبر یشتم علیها علی بن أبی طالب علیه السّلام (1)و کان المحدثون و القصاص یختمون مجالسهم بشتم علی علیه السّلام.

قال جنادة بن عمرو بن الجنید:أتیت من حوران إلی دمشق،لأخذ عطائی فصلیت الجمعة،ثم خرجت من باب الدرج،فإذا علیه شیخ یقال له أبو شیبة یقص علی الناس،فرغّب فرغبنا،و خوّف فبکینا،فلما انقضی حدیثه،قال:اختموا مجلسنا بلعن أبی تراب.فالتفت إلی من علی یمینی فقلت له:فمن أبو تراب؟! فقال:علی بن أبی طالب ابن عم رسول اللّه،و زوج ابنته،و أول الناس إسلاما،و أبو الحسن و الحسین.

ص:26


1- (1) تاریخ الخلفاء للسیوطی.

فقلت:ما أصاب هذا القاص؟؟فقمت إلیه و کان ذا وفرة فأخذت و فرته بیدی، و جعلت ألطم وجهه،فصاح و اجتمع أعوان المسجد،فجعلوا ردائی فی رقبتی، و ساقونی إلی هشام بن عبد الملک،و أبو شیبة یقدمنی و یصیح:یا أمیر المؤمنین قاصک وقاص آبائک و أجدادک،أتی إلیه الیوم أمر عظیم.

قال هشام:من فعل بک هذا؟ فقال:هذا.(و أشار إلی جنادة).

و لما سألنی هشام أخبرته بالخبر.

فقال هشام:بئس ما صنع،ثم عقد لی علی السند،و قال لجلسائه:مثل هذا لا یجاورنی هاهنا فیفسد علی البلد فباعدته إلی السند (1)و لم یکن بوسع هشام إلاّ أن یفعل ذلک مضطرا.

و صفوة القول إن الأمویین کانوا یبذلون جهودهم فی توجیه المجتمع لإخفاء مآثر علی علیه السّلام فلا یسمح لأحد أن یروی عنه أو یتحدث بحدیثه،حتی صار المحدثون یکنون عنه علیه السّلام بأبی زینب (2).

أما من یروی حدیثا فی فضله أو فضل أهل بیته،فمصیره إلی التعذیب،و نهایته إلی الموت و علی العکس فإن من یضع روایة فی ذمه(و هو المبرأ)فذاک هو المقرب و له ما یحب من صلتهم و رفدهم.

و قد أعلن ولاتهم علی المنابر-بشکل رسمی-إلزام الناس شتم علی علیه السّلام و البراءة منه،و أثاروا الشکوک و الریب حول أتباعه و أنصاره،و کانوا یتخذون من تکنیة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم له«بأبی تراب»ذریعة لتنقیصه،و قد لقی المسلمون فی ذلک أذی و تنکیلا.

و باختصار:فإن ما نال الشیعة من وطأة الظلم بأنواعه،إنما کان لأجل انتصارهم لأهل البیت و انفصالهم عن دولة الظلمة،و إعلانهم الغضب علی تلک الأعمال التی ارتکبها أولئک الحکام،و قد رفع الشیعة لواء المعارضة علی ممر العصور و الأدوار،

ص:27


1- (1) تهذیب تاریخ ابن عساکر ج 3 ص 407.
2- (2) مناقب أبی حنیفة للموفق ج 1 ص 171.

و قدموا التضحیات المجیدة،و هذه حقیقة یجب أن یسیر الباحثون علی ضوئها فی البحث عن تاریخ الشیعة.

و یلزم أن یقدروا أثر تدخل السلطات فی تغییر الحقائق و تصویر الحوادث،لأنّه النول الذی حیکت علیه التهم الکاذبة،و التی کان سداها الهوی و لحمتها الحقد،بل هو القانون الذی یستمد منه علماء السوء أحکامهم الجائرة فی حق الشیعة.

نعم إن ذلک التدخل هو مصدر الصعوبات و المشاکل التی تقف أمام رواد الحقیقة الذین یحاولون الوصول إلی الأمر الواقع،عند ما تنطلق أقلامهم من قیود الطائفیة الرعناء،و تتحرر أفکارهم من أساطیر الأوهام و خرافات الماضی.

و نحن نشتد باللائمة علی رجال الفکر و أعلام الأدب،و حاملی شهادات الدراسات العالیة،إذ لم یتحملوا صعوبة البحث و مشقة التنقیب عند ما حاولوا معالجة مواضیع لها علاقة فی الشیعة،إما حول تاریخهم أو آرائهم أو فقههم أو غیر ذلک.

فإنا وجدنا الکثیر منهم قد خلطوا فی کثیر من الأمور فزادوها تعقیدا و أصدروا أحکامهم بدون تحقیق علمی أو ضبط تاریخی،و هذا نقص یؤاخذون علیه.و علی سبیل المثال نضع بین یدی القراء ما یلی:

الدکتور شلبی و الشیعة:

قال الدکتور أحمد شلبی أستاذ الدراسات الإسلامیة بجامعات أندنوسیا:

المصادر الرئیسیة للشریعة الإسلامیة هی القرآن الکریم و الأحادیث الصحیحة،إلی أن یقول:و لکن الشیعة یعتقدون فی أئمتهم أن اللّه یؤتیهم من مخزون علمه و حکمه ما لا یؤتیه غیرهم،و تنزل علیهم الملائکة،و تأتیهم بالأخبار،و إذا أراد الإمام أن یعلم شیئا أعلمه اللّه إیاه،و هم من أجل هذا لا یحتاجون إلی الرأی و القیاس،فکلما جد أمر لیس فی القرآن و لا فی أحادیث الرسول إجابة صریحة عنه،تلقی الإمام من اللّه الرد علی هذا السؤال،کما کانت الحالة مع الرسول تماما،و من أجل هذا یبطل استعمال القیاس و الرأی.

و بناء علی اختلاف الأسس التی تؤخذ منها الشریعة و سبب المصدر الجدید الذی اعتمده الشیعة أصبح لهم فقه خاص بهم یختلف و یتفق مع فقه السنة؛و فیما یلی

ص:28

أمثلة لفقه الشیعة مقتبسة من الترجمة العبقریة للعلامة غلام حلیم بن قطب الدین الهندی:

الطهارة:طهارة الخمر.

لا یحتمون طهارة مکان الصلاة ما دامت النجاسة لا تعلق بالثوب.

الصلاة:یجیزون الجمع بین الظهر و العصر و بین المغرب و العشاء من غیر عذر.

لا یجیزون القصر لصلاة المسافر إلا إذا کان مسافرا إلی مکة و المدینة أو الکوفة أو کربلاء.

تختلف عدد التکبیرات علی المیت تبعا لمکانته.

الصوم:صوم الیوم الثامن عشر من ذی القعدة سنة مؤکدة.

لا یبحثون عن هلال رمضان،و لا عن هلال شوال و دائما یبدءون رمضان قبل أهل السنة بیوم أو یومین،و رمضان عندهم کامل دائما.

لا تجب الزکاة فی أموال التجارة.

النکاح:یجوزون نکاح المتعة.

لا یقع الطلاق إلا بشاهدین کالزواج.

المیراث:یقدمون القرابة علی العصبة.

یقدمون البنت علی الولد فی المیراث لا یورثون الجد عند وجود ابن الابن.

الأذان:یزیدون فیه عبارة:حی علی خیر العمل (1).

هذا ما یقوله الدکتور الشلبی،و لنمر أولا مر الکرام علی ما قاله حول اعتقاد الشیعة بالأئمة علیهم السّلام:من أنهم تنزل علیهم الملائکة و تأتیهم بالأخبار و أن حالهم حال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فالحدیث حول هذا یطول و هذه التهمة من محدثات عصور التطاحن و التناحر.و لیست هذه الفریة علی الشیعة مما یصح السکوت عنها و قد مر بنا فی

ص:29


1- (1) تاریخ التربیة الإسلامیة ص 345.

الجزء الرابع عند بحث مشکلة الغلاة،و فی الأجزاء السابقة أیضا.و لکن ضیق المجال یدعونا إلی الإعراض عن المناقشة هنا کما یدعونا ذلک إلی ترک التعرض لما ذکره فی مسألة القیاس و رأی الشیعة فیه.و قد مر فی الجزء الثانی من هذا الکتاب بحث حول رأی الشیعة فی القیاس.

و أما ما نسبه إلی الشیعة من الفروع الفقهیة التی جعلها أنموذجا و مثالا فهی خلط و خبط و تزویر و جهل و تعصب،و سیقف القراء علی حقیقة ذلک فی بحث الفقه المقارن.

و من أعجب الأشیاء قوله:إن الشیعة لا یجیزون قصر الصلاة للمسافر إلا إذا کان مسافرا إلی مکة،و المدینة،أو الکوفة و کربلاء،و هذا قول بعید عن الصواب تماما،فإنهم یوجبون القصر فی الصلاة إجماعا،و یقولون بالتخییر بین القصر و الإتمام فی هذه الأماکن الأربعة و القصر عندهم أفضل.

و أما قوله باستحباب صوم الیوم الثامن عشر من ذی القعدة فهذا بهتان یعجز عن إثباته،إذ لا یوجد قائل بهذا أبدا إلا الأستاذ الشلبی.

و أما طهارة الخمر فهو کذب و لا أثر لذلک،بل إن الشیعة تشددوا فی نجاسة الخمر،و قالوا بنجاسة کل مسکر مائع بالأصالة و إن صار جامدا بالعرض.و أما ما ذکر من نکاح المتعة و الجمع بین الظهرین و حضور شاهدین فی الطلاق فهذه أبحاث علمیة و للمسلمین فی ذلک خلاف یأتی فیما بعد إن شاء اللّه.

و الذی نود أن نشیر إلیه هو أن الدکتور لم یکلف نفسه عناء البحث و لم یعط من وقته للتنقیب و إن قال إن الوقت ثمین،فیجب أن تکون الکرامة أثمن من الوقت،و إن ظهور النقص لعدم اطلاعه أو کذبه هو حط فی کرامته،إذ لا یوثق بنقله و هو موجه جیل و معلم فئة و رئیس جامعة،و ربما له عذر النقل من مصدر و هو غیر معذور بصفته عالما موجها فیلزمه البحث و التدقیق.

هذه صورة من صور التجنی علی الحقائق و الخروج عن القواعد العلمیة، و سیجد القراء زیادة بیان فی الدراسات الفقهیة الآتیة،و فیها ما یفند هذه المزاعم و المفتریات،و الخلط و الخبط فی الأمور الواضحة.مما یدلنا بوضوح علی عظیم

ص:30

التأثر بدعایات التضلیل،المسیطرة علی أذهان الکثیرین من المتنورین فی البلاد الإسلامیة.

مناقشة أخطاء المؤلفین:

و من المفید فی هذا المجال توضیح ما ذهب إلیه بعض المؤلفین فی حقیقة هی أجلی من رائعة النهار،و ذلک أنه مزج بین المذهب الشیعی و المذهب الشافعی اشتباها،أو جهلا بالموضوع و هو الحاج خلیفة (1):

قال:و الکتب المؤلفة علی مذهب الإمامیة الذین ینسبون إلی مذهب ابن إدریس،أعنی الشافعی رحمه اللّه،کثیرة منها:شرائع الإسلام،و الذکری،و القواعد، و النهایة...الخ.

و یقول تحت عنوان الکتب المؤلفة علی مذهب الإمامیة:البیان،و الذکری و شرائع الأحکام،و حاشیته،و القواعد،و النهایة،و من أقوالهم الباطلة:عدم وجوب الوضوء للصلاة المندوبة،و وجوب الغسل بعد غسل المیت،و وجوبه لصوم المستحاضة،و کراهیة الطهارة بماء أسخن فی غسل المیت،و وجوب المسح علی القدمین،و عدم لزوم الاستیعاب فی التیمم و کفایة مسح الجبهة.و قال معلقا:

و یطلقون ابن إدریس علی الشافعی.

و قال عند ذکر تفسیر الشیخ الطوسی فقیه الشیعة:هو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسی فقیه الشیعة الشافعی،کان ینتمی إلی مذهب الشافعی المتوفی سنة 460 ه سماه مجمع البیان لعلوم القرآن (2).

و نحن هنا أمام حقیقة یلزم أن نجلو عنها غشاوة الأوهام،و لا أرانی بحاجة إلی التعلیق علی وقوع مثل هذا الخلط بأکثر من أن أقول:إن الذی أوقع هذا المؤلف

ص:31


1- (1) هو الشیخ مصطفی بن عبد اللّه الحنفی المتوفی سنة 1067 ه ولد باسطنبول سنة 1017 ه و هو معروف بین العلماء بلقب(کاتب جلبی)و بین زملائه الکتاب بلقب حاج خلیفة،لقبوه بذلک بعد أن حج و ترقی بین الکتاب-فی القسم الذی کان موظفا فیه-إلی رتبة النیابة عن رئیس القسم علی مصطلح العثمانیین،و ذلک ان صغار الکتاب یسمون الملازمین و فوقهم الخلفاء،فلذا سموه حاج خلیفة و یسمیه المستشرقون(حاجی قالفة)علی طبق ما یلهج به العوام هناک و قد ألف کتبا کان أشهرها کشف الظنون [1]علی أسامی الکتب و الفنون.
2- (2) کشف الظنون ج 2 ص 1281-1286 و ج 1 ص 452. [2]

بشبکة المؤاخذة:هو إغماض عینیه عن الطریق الموصل إلی الحقیقة لیسلم من ذلک.

و الذی یؤاخذ علیه الأمور التالیة:

1-قوله:کتب الإمامیة المنتسبین إلی محمد بن إدریس الشافعی.

2-قوله:یطلقون ابن إدریس علی الشافعی.

3-قوله:عند ذکر تفسیر الشیخ الطوسی،هو أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسی،فقیه الشیعة الشافعی،کان ینتمی إلی مذهب الشافعی المتوفی سنة 460 ه.

سماه مجمع البیان لعلوم القرآن.

و لنتعرض لإیضاح هذه الأمور التی وقع فیها المؤلف بشبکة المؤاخذة هنا عن درایة أو غیر درایة.

1-إن الفرق بین المذهب الشیعی و المذهب الشافعی لا یحتاج إلی زیادة بیان، فلکل مذهب مقوماته و منابعه،و هذه النسبة غیر صحیحة فالإمامیة لا یأخذون بمذهب الشافعی،و لئن التقت أقوالهما فی بعض الموارد فلا یدل ذلک علی وجود هذه الملازمة،فمذهب الشیعة هو أقدم نشأة من مذهب الشافعی،بل أقدم المذاهب کلها، و هو یستقی تعالیمه من ینبوع أهل البیت الذین هم عدل القرآن،و ورثة صاحب الرسالة،و باب الاجتهاد عندهم مفتوح علی مصراعیه،و عند غیرهم موصد لا ینفذ منه قول،و لا یسمح لأحد أن یلجه.

و إن مذهب الشیعة هو کسائر المذاهب الإسلامیة بعضها مع بعض فی نقطة الاتفاق و الافتراق،فربما تتفق جمیعها علی قول و ربما تختلف،فالقول بانتساب الشیعة إلی الشافعی خطأ بیّن و جهل صریح.

و لنقف علی مبعث هذا الخلط و أسبابه و هو ما صرح به فی القول الثانی:من أن الشیعة یطلقون اسم ابن إدریس علی الشافعی.

هذا هو مبعث الخلط و مثار التشکیک،و ذلک أن الحاج خلیفة صاحب کشف الظنون وقف علی نقل الشیعة لأقوال محمد بن أحمد بن إدریس العجلی الحلی، عالم الشیعة و فقیههم،و المبرز فی علمه و فضله؛و هو مؤلف کتاب السرائر فی فقه

ص:32

الإمامیة،و مختصر تبیان الشیخ الطوسی،فظن صاحب کشف الظنون أن المقصود بمحمد بن إدریس هو الشافعی.

و الإمامیة إذ یستشهدون بأقوال محمد بن أحمد بن إدریس الحلی المتوفی سنة 598 ه فإنهم یطلقون علیه ابن إدریس و یقصدون به شیخ فقهاء الحلة فی عصره محمد بن أحمد بن إدریس صاحب کتاب السرائر.

و بهذا الإطلاق اشتبه الأمر علی صاحب کشف الظنون و لیس ذلک بغریب،إذ الأمور لم تکن مبنیة علی دراسة و استنطاق للحوادث و تتبع یوصل إلی النتیجة،فحکم الحاج خلیفة بهذا الحکم بدون تحقیق علمی و ضبط تاریخی ظلما للعدالة و تمردا علی الموازین.

مع أنا لم نجد أحدا استشهد بقول الشافعی فأطلق علیه ابن إدریس و إنما یقولون:قال الشافعی.

و لکن المؤلف اعتمد علی أوهن الظنون،و خیل له أن إطلاق لفظ ابن إدریس إنما المقصود به الشافعی،و هذا اصطلاح لا یعرفه أحد بل هو من وحی الخیال.

2-قوله إن الشیخ الطوسی کان ینتمی إلی مذهب الشافعی و إن له تفسیرا سماه مجمع البیان لعلوم القرآن.

و هذا خطأ من جهتین:

1-إن الشیخ أبا جعفر محمد بن الحسن الطوسی شیخ الطائفة و صاحب کتابی التهذیب و الاستبصار،اللذین هما من أهم المصادر عند الإمامیة للحدیث،و کونه شافعیا خطأ یتفرع إما عن اشتباهه الأول أو لأنه وجد ترجمته فی طبقات الشافعیة للسبکی (1).

و هذا لا حجة فیه لأن الشافعیة قد ترجموا لکثیر من العلماء و لیسوا من اتباع مذهب الشافعی،بل منهم من هو رئیس مذهب برأسه کأحمد بن حنبل إمام الحنابلة و إسحاق بن راهویه المروزی و علی بن إسماعیل أبی الحسن الأشعری و غیرهم (2).

إذا فلیس من الصحیح أن یعد منهم کل من ترجم له فی طبقات المذهب.فإنا

ص:33


1- (1) طبقات الشافعیة للسبکی ج 3 ص 51-52.
2- (2) طبقات الشافعیة ج 1 ص 199 و ج 1 ص 232.و [1]ج 2 ص 245.

نجد جمیع کتاب الطبقات یعدون رجالا لیسوا من اتباع ذلک کما أن الحنابلة ترجموا للشافعی و غیره و هکذا.

و من جهة ثانیة إن الشیخ الطوسی کان غزیر العلم واسع الاطلاع و له إحاطة بفقه جمیع المذاهب.و یدل علی ذلک کتابه القیم فی الفقه الإسلامی أسماه«الخلاف»ذکر فیه فقه الشیعة مقارنة مع فقه جمیع المذاهب و کان الشیخ الطوسی له کرسی أیام المقتدر یلقی علیه الدروس و یحضره جمع من علماء الشافعیة و غیرهم و له ببغداد مکتبة عامرة و لکنها أحرقت عند ما اشتد المتعصبون علیه و هاجر إلی النجف الأشرف.

2-قوله إن له تفسیرا سماه مجمع البیان لعلوم القرآن،و هذا خطأ فإن مؤلف مجمع البیان:هو الشیخ أبو علی الفضل بن الحسن بن الفضل المعروف بالطبرسی المتوفی سنة 548 ه أحد علماء الإسلام و فقهاء الإمامیة له عدة مؤلفات.

و قبل أن نتحول من هذا الموضوع الذی أوجزنا فیه القول لا بد لنا من أن ننبه القراء الکرام بأن نسبة کثیر من الأمور إلی الشیعة تقع علی هذا النمط و بهذه الصورة، لأن الدراسة حول ما یتعلق بهم هی دراسة سطحیة تفتقر إلی الدقة و التحقیق،فینبغی لکل باحث أن یعطی الموضوع حقه،لأن التساهل فی الأمور یوقع فی الخطأ.

و لهذا فإن خطأ صاحب کشف الظنون کان منشأه عدم إحاطته بالموضوع، و تساهله فی النقل،و قد أخطأ هو و أوقع غیره فی الخطأ من کتّاب عصرنا الحاضر، و منهم:المحامی صبحی محمصانی فاستقی معلوماته من هذا الینبوع.

إذ یقول:أما فی فروع الفقه فمذهب الشیعة لا یختلف کثیرا عن مذهب الشافعی،حتی أن بعضهم یعتبرونه مذهبا خامسا إلی جانب المذاهب السنیة الأربعة.

و من مسائل الخلاف فی الفروع:جواز المتعة،أو الزواج الموقت،و بعض مسائل الإرث و غیرها (1).

و یقول تحت عنوان الشیعة الإمامیة:و أدلة التشریع فی هذا المذهب هی القرآن الکریم ثم السنة التی تعود بإسنادها إلی أهل البیت(بیت النبی)و تسمی بالأخبار،ثم الإجماع المشتمل علی قول الإمام المعصوم.أما القیاس فهو مقبول عند البعض فقط.

ص:34


1- (1) فلسفة التشریع فی الإسلام ص 55.

و هذا المذهب لا یختلف کثیرا عن المذهب الشافعی فی فروع الفقه.و هو یسمی أحیانا بالمذهب الجعفری نسبة إلی الإمام جعفر الصادق،و قد تقرر تدریسه مؤخرا فی جامعة الأزهر إلی جانب المذاهب (1).

و لا یفوتنا هنا أن نشیر إلی ما جناه کتّاب الفرق و المؤلفون فی موضوعها من آثار،و اجترحوه من سیئات،فجنوا علی الأمة فیما اقترفوه و ما افتعلوه،من إحداث عقائد لا یوجد من یعتنقها،و أقوال لا یعرف قائلها،فألحقوها بطوائف من الأمة، و سجلوها ضمن سجل الواقع ظلما للحق،و تمردا علی الحقیقة،فنمت مع الأجیال و تطورت مع الزمن،و أصبحت کأنها حقیقة ملموسة و هی خیال لا واقع لها.

فلنلق نظرة سریعة علی ما کتبوه و نسر معهم قلیلا لنقف علی حقیقة الأمر.

مع کتّاب الفرق:

لا أرید أن أتحدث هنا عن الفرق و تعدادها،و لا أرید أن أتعرض للحدیث الوارد فی ذلک من حیث الثبوت أو النفی کلا أو بعضا،و لا نرید أن نتساءل عن المراد بالفرقة المشار إلیها فی حدیث الافتراق،هل یکون ذلک فی العقائد أو فی الآراء،مع التسلیم لصحة الحدیث و عدم مناقشته.

و هل استطاع کتّاب الفرق أن یحصروا العدد المطلوب و هو ثلاث و سبعین فرقة؟ کما هو منطوق الحدیث،أم أن هناک زیادة أو نقصانا؟ و لکنا نرید هنا أن نتساءل عن کتّاب الفرق الذین دونوا فی هذا الموضوع و قد أصبحت کتبهم مصدرا لمن یرید أن یتحدث عن الفرق و عقائدها!! فهل فسروا مراد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی الحدیث الوارد عنه فی افتراق أمته إلی ثلاث و سبعین فرقة،و الناجیة واحدة فقط؟و هل حکموا علی ما ذهبوا إلیه بحجة ظاهرة لیسلموا من المؤاخذة و عظیم الحساب.

و نسأل أیضا هل تجرد أولئک الکتّاب عن العصبیة الرعناء،فکتبوا للواقع من حیث هو،بدون تحیز و تحامل لتبدو الحقیقة واضحة کما هی؟

ص:35


1- (1) المبادئ الشرعیة و القانونیة ص 31.

أهم المصادر:

و لعل أهل المصادر التی یرجع إلیها فی تعیین الفرق و تعدادها هی:

1-الفرق بین الفرق:لأبی منصور عبد القاهر بن طاهر البغدادی الشافعی المتوفی سنة 429 ه له مؤلفات کثیرة،أهمها کتاب الفرق بین الفرق طبع فی مصر سنة 1367 ه 1948 م و ترجم«المستشرق هالکن»جزءا منه إلی اللغة الإنکلیزیة.

2-کتاب الملل و النحل:لمحمد بن عبد الکریم الشهرستانی الشافعی المتوفی سنة 548 ه طبع عدة مرات آخرها سنة 1368 ه 1948 م فی القاهرة.

3-کتاب التبصیر:لأبی المظفر شاهفور بن طاهر بن محمد الأسفرایینی الشافعی المتوفی سنة 471 ه.

4-الفصل:لأبی محمد علی بن أحمد بن حزم الظاهری المتوفی سنة 456 ه مطبوع بهامش الملل و النحل فی الطبعة الأولی.

هذه هی أقدم الکتب التی دونت فی الفرق،و أصبحت مصادر یرجع إلیها فی البحث عن الفرق و عقائدها،و الطوائف و آرائها.

و هنا نتساءل أیضا هل کان أصحابها ممن یوثق بنقلهم تلک الأقوال وعدهم لتلک الفرق؟ و هل جرّدوا أنفسهم عن رداء العصبیة العمیاء؟و رفعوا عن عیونهم غشاوتها السوداء؟ و هل نقلوا تلک الآراء عن مصدر یوثق به؟و لعلنا نکتفی بالإجابة عن هذه الأسئلة بما نقدمه هنا من آراء بعض العلماء فی ذلک:

1-قال(الرازی)فی مناظرته مع أهل ما وراء النهر فی المسألة العاشرة عند ذکره لکتاب(الملل و النحل)للشهرستانی:إنه کتاب حکی فیه مذاهب أهل العالم بزعمه،إلا أنه غیر معتمد علیه،لأنه نقل المذاهب الإسلامیة من الکتاب المسمی (بالفرق بین الفرق)من تصانیف الأستاذ أبی منصور البغدادی،و هذا الأستاذ کان شدید التعصب علی المخالفین،و لا یکاد ینقل مذهبهم علی الوجه الصحیح.ثم أن

ص:36

الشهرستانی نقل مذاهب الفرق الإسلامیة من ذلک الکتاب فلهذا السبب وقع فیه الخلل فی نقل هذه المذاهب (1).

هذا ما یتعلق بذکر هذین الکتابین و لا حاجة إلی نقل النصوص علی ما فیهما من التعصب،فإن نظرة واحدة من منصف یجد صحة ما نقول،فإنهما نسبا للشیعة بالأخص أقوالا و ابتکرا آراء لیست لها من الواقع نصیب،و لا تمت إلی اعتقاداتهم بصلة،إذ لم ینقلوا تلک الآراء من مصدر موثوق.

2-و لا أبعد بالقارئ الکریم فی إعطاء صورة عن هؤلاء جمیعا و التعرف علیهم و لنقدم له ما یقوله العلامة الشیخ محمد شلتوت شیخ الجامع الأزهر فی العصر الحاضر فهو یصفهم بقوله:

لقد کان أکثر الکاتبین عن الفرق الإسلامیة متأثرین بروح التصعب الممقوت، فکانت کتاباتهم ممّا تورث نیران العداوة و البغضاء بین أبناء الملة الواحدة،و کان کل کاتب لا ینظر إلی من خالفه إلا من زاویة واحدة،هی تسخیف رأیه،و تسفیه عقیدته بأسلوب شرّه أکثر من نفعه،و لهذا کان من أراد الإنصاف لا یکون رأیه عن فرقة من الفرق،إلا من مصادرها الخاصة،لیکون هذا أقرب إلی الصواب،و أبعد عن الخطأ (2).

و یقول:و لکن عصور التعصب المذهبی حملت للمسلمین تراثا بغیضا من التراشق بالتهم و الترامی بالفسوق و الضلال،فتبادل الفقهاء-أصحاب الفروع-نوعا من التهم،و تبادل المتکلمون-أصحاب العقائد-مثل ذلک،و تلقف المخدوعون من الخلف هذه التهم،و ملأوا بها کتبهم فی الاعتداد بها حتی جعلوها ما یقبل من الآراء أو یرفض... (3).

3-و یقول الکوثری فی مقدمة الفرق بین الفرق بعد مدحه لأبی طاهر البغدادی:و المؤلف شدید الصولة علی المخالفین کما هو شأن حراس العقیدة، و الحراسة غیر التاریخ المجرد لکن تعویله فی عزو الآراء إلی الفرق علی کتب الخصوم

ص:37


1- (1) المناظرات ص 25 طبع حیدرآباد.
2- (2) مقدمة إسلام بلا مذاهب ص 7.
3- (3) الإسلام عقیدة و شریعة 68.

یوقع فی أخطاء،و لو اقتصر فی العزو إلی ما وجده فی کتب أهل الفرق أنفسهم لکان أحوط و أقوم حجة،لأن الخصم قد یعزو إلی خصمه ما لم یفه به من الآراء مما یعد لازم قولهم،فی حین أنه لیس یلازم قولهم لزوما بینا فلا یصح إلزامهم به و لا سیما عند تصریحهم بالتبری من ذلک اللازم (1).

هذا ما یقوله الکوثری مع تساهله مع المؤلف و مدحه و إطرائه له،و لست أدری ما معنی قوله:و الحراسة غیر التاریخ المجرد؟ و قد ظهر لنا أن أکثر کتّاب الفرق کانوا یستمدون معلوماتهم من کتاب أبی منصور البغدادی،و قد عرفنا مقدار تعصبه و تحامله،و نقله الأقوال علی غیر الوجه الصحیح کما یقول الفخر الرازی.

و أما الشهرستانی مؤلف کتاب الملل و النحل،و الذی استمد معلوماته من کتاب أبی منصور،فقد طعنوا فی اعتقاده و نسبوه إلی الإلحاد،و أنه متخبط فی اعتقاده، یمیل إلی أهل الزیغ و الإلحاد،و یناصر مذاهب الفلاسفة و یذب عنهم و من کان هذا حاله یجب أن یتریث فی قبول قوله و صحة نقله (2).

و أما کتاب التبصیر:فهو و کتاب الفرق بین الفرق توأمان،بل هما شیء واحد، إلا الاختلاف فی التسمیة و بعض الزوائد و التقولات،لأن صاحب کتاب التبصیر هو تلمیذ أبی منصور و صهره.

و إما ابن حزم فهو فارس الحلبة،و بطل المعرکة،فقد تقوّل و افتعل و تهجم علی جمیع المسلمین،و نسب لکثیر منهم أقوالا مکذوبة،و آراء مفتعلة،و کان یتحامل علی الشیعة بصورة خاصة،و ینسب إلیهم أقوالا لا قائل لها،و یلحق بهم فرقا لا وجود لها،کل ذلک تعصبا منه،لأنه کان أموی النزعة و معروفا بموالاته لبنی أمیة.

قال ابن حیان:و کان ابن حزم مما یزید فی سبابه تشیعه لأمراء بنی أمیة، ماضیهم و باقیهم،و اعتقاده بصحة إمامتهم،حتی نسب إلی النصب.و قال القاضی أبو بکر بن العربی:و زعم ابن حزم أنه إمام الأئمة یضع و یرفع،و یحکم و یشرع،ینسب

ص:38


1- (1) مقدمة الفرق بین الفرق ص 3.
2- (2) الشافعیة للسبکی ج 3 ص 79.

إلی دین اللّه ما لیس فیه،و یقول عن العلماء ما لم یقولوا تنفیرا للقلوب عنهم (1).

و قال أبو العباس بن العریف:کان لسان ابن حزم و سیف الحجاج شقیقین (2).

و قال ابن العماد:و کان ابن حزم کثیر الوقوع فی العلماء المتقدمین،لا یکاد یسلم أحد من لسانه،فنفرت منه القلوب (3).

و قال السبکی فی الطبقات عند ذکره لکتاب الملل و النحل للشهرستانی:

(و مصنف ابن حزم أبسط منه إلا أنه مبدد لیس له نظام،ثم فیه من الحط علی أئمة السنة،و نسبة الأشاعرة إلی ما هم بریئون منه،ثم ابن حزم نفسه لا یدری علم الکلام حق الدرایة علی طریق أهله) (4).

من هذا یظهر أن الخطة التی سار علیها کتّاب الفرق لم تکن خطة تحقیق و استناد إلی مصادر موثوق بها بل هی تخمین و ظنون و أسالیب خداعة.

و قد انخدع الکثیرون بتلک الأسالیب فجعلوها میزانا للنقد،و مقیاسا للشخصیات،و دلیلا یوصل إلی معرفة أجیال مضت،و قرون خلت،و ربطوا بین الحاضر و الماضی،و قاسوا الأمة بالفرد تقلیدا و محاکاة لأولئک المتعصبین،من دون إعطاء العقل حریة النظر فی تمییز الأمور،و هذا هو من أهم أسباب الخلاف،یقول الشیخ محمد أبو زهرة:

و من أسباب الخلاف تقلید السابقین و محاکاتهم،من غیر أن ینظر المقلد نظرة عقلیة مجردة،و إن نزعة التقلید متغلغلة فی نفوس الناس.توجههم و هم لا یشعرون، و إن سلطان الأفکار التی اکتسبت قداسة بمرور الأجیال تسیطر علی القلوب،فتدفع العقول إلی وضع براهین لبیان حسنها و قبح غیرها،و من الطبیعی أن یدفع ذلک إلی الاختلاف و المجادلة غیر المنتجة،لأن کل شخص یناقش و هو مصفد بقیود الأسلاف من حیث لا یشعرون؟...

و إنه ینشأ عن التقلید التعصب،فإن قداسة الآراء التی یقلدها الشخص تدفعه إلی

ص:39


1- (1) تذکرة الحفاظ ج 3 ص 324-327.
2- (2) شذرات الذهب ج 3 ص 200 و [1]لسان المیزان ج 4 ص 200.
3- (3) الشذرات ج 3 ص 200. [2]
4- (4) طبقات الشافعیة ج 4 ص 78.

التعصب لها و حیث کان التعصب الشدید کان الاختلاف الشدید (1).

و إن قلیلا من التأمل فیما کتبه هؤلاء المؤلفون و غیرهم حول الفرق و فرق الشیعة بالأخص یلقی أضواء علی خلطهم و افتعالهم حتی بلغ بأحدهم الجهل فقال:إن فرق الشیعة تبلغ ثلاثمائة فرقة.و هو قول بلا دلیل و خبط یدل علی الجهل المخیم علی تلک العقول التی سیطر علیها الهوی فحجبها عن النظر إلی الواقع.

و کیف کان فإن موضوع الفرق و تعددها،و مصدر ذلک و صحته هو موضوع مضطرب شائک،و لا یستطیع الکاتب أن یجزم بصحة ما نقله کتّاب الفرق عن أهل المقالات و الآراء،لأن أولئک الکتاب قد تطرفوا إلی أبعد حد،و تقبلوا کل نسبة بدون تثبت و تأمل.

و قد رأینا کیف کان تعصبهم علی من یخالف آراءهم،فینقلون عنه علی غیر الوجه الصحیح.

و من المقرر:أنه لا یصح قول مخالف ما لم یؤید ثبوته من غیر طریقه.

و لیس باستطاعة أولئک الکتاب أن یثبتوا شیئا من الآراء التی نسبوها إلی الشیعة؛ فکوّنوا منها فرقا تجاوزت الحد المعقول من الحصر.

و قد بلغ الأمر إلی استعمال الخیال بما یغذی العاطفة فاخترعوا فرقا و ابتکروا آراء تزیّدوا فیها من الأوهام،و صقلوها بأسلوب لطیف حتی أخرجوا ذلک و کأنه حقیقة لا نقاش فیها!! و یتضح لنا بعد التأمل بأن الدوافع التی أدت بهؤلاء الکتاب و غیرهم إلی أن یعملوا ضمن المخطط الذی ارتئوه لأنفسهم فی تعداد الفرق و التزید فیها مع الخلط و الخبط إنما هی العصبیة العمیاء أو الجهل بالواقع.

و من الوهن أن نقف أمام نقلهم موقف التسلیم و التصدیق؛لأن ذلک یؤدی إلی العجز عن الوصول إلی الحقیقة التی یتطلبها کل منصف،و لیس من الإنصاف أن یتضح لنا شیء خلاف واقعه فنقرّه.

خذ مثلا بأن بعضهم قد نسب إلی الشیعة بأنهم یجیزون الشهادة زورا علی من

ص:40


1- (1) المذاهب الإسلامیة ج 1 ص 8.

خالفهم فی المذهب أو العقیدة مع أنا لم نجد أثرا لهذا الزعم،و لا قائل به من الشیعة.و نحن فی أمور الفقه نفترض فی المخالف الصدق فنعمل علی التحرّی حتی نجد أدلة ردّه.

و بعد التتبع و البحث وجدنا أن هذا ناشئ من الجهل أو التعصب.بیان ذلک:

إنهم وجدوا بأن الخطابیة یجیزون الشهادة علی من خالفهم،فاستنتج هؤلاء بأن الخطابیة فرقة أدخلوها فی قائمة فرق الشیعة و هذا القول لهم،فهو إذن لجمیع الشیعة.

هذا بالإعراض عن مناقشتهم حول الأسباب التی دعت إلی إلحاق هذه الفرقة بفرق الشیعة مع أنهم یعلمون،و یعلم کل أحد و بإجماع المؤرخین أن هذه الفرقة نشأت فی مدة قصیرة فی أیام الإمام الصادق علیه السّلام فأعلن براءته منها،و أمر شیعته فی محاربتها،و قد قضی علیها بذلک،فمحیت من صفحة الوجود.

إذا فمن هم الخطابیة الذین ینسب إلیهم هذا القول؟ و الجواب:بأن الخطابیة الذین یذهبون لهذا الرأی هم فرقة من المجسمة، و الذین ینتمون إلی الحنابلة،و لنترک تعریفهم و بیان ذلک إلی أحد علماء السنة المبرزین؛و هو أبو نصر عبد الوهاب بن تقی الدین السبکی (1)قال:

و قد بلغ الحال بالخطابیة و هم المجسمة فی زماننا هذا،فصاروا یرون الکذب علی مخالفیهم فی العقیدة،لا سیما القائم علیهم بکل ما یسوؤه فی نفسه و ماله، و بلغنی أن کبیرهم استفتی فی شافعی أ یشهد علیه بالکذب؟ فقال:أ لست تعتقد أن دمه حلال!!! قال:نعم.

قال:فما دون ذلک دون دمه،فاشهد و ادفع فساده عن المسلمین.

قال السبکی:فهذه عقیدتهم،یرون أنهم المسلمون،و أنهم أهل السنة،و لو عدوا عددا لما بلغ عماؤهم و لا عالم فیهم علی الحقیقة مبلغا یعتبر،و یکفّرون غالب علماء الأمة،ثم یعزون إلی الإمام أحمد بن حنبل و هو منهم بریء.

و بهذا یتضح أن الفرقة الخطابیة الأولی التی نشأت لأغراض سیاسیة و عقائدیة

ص:41


1- (1) طبقات الشافعیة ج 1 ص 193. [1]

ضد الإسلام عامة،و ضد أهل البیت بصورة خاصة،قد اتفقت بالتسمیة مع المجسمة من الحنابلة،فإطلاق هذا الاسم یشمل الطرفین و لکن من أین لنا الحصول علی من یقف موقف المنصف المتثبت،فیعطی الموضوع حقه و لا تأخذه فی الحق لومة لائم، فیمیز بین الصحیح و الفاسد و الحق و الباطل.

و قد قلت سابقا:إن اتهام الشیعة بکثیر من الأشیاء لما لم تکن مبنیة علی أساس وثیق أو قاعدة بینة-کثر الخلط و الخبط،و الکذب،و الافتعال فأخذ السلیم بالسقیم، و البریء بالمتهم،و علی سبیل المثال ذکرت هناک الاشتباه الحاصل من التسمیة فمثلا:

أن اسم الجعفریة أصبح علما لأتباع الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه السّلام.و لکن توجد هناک فرقتان للمعتزلة بهذا الاسم (1)و لهما أقوال و آراء فخلطوا أقوال الجمیع و نسبوا ذلک إلی الشیعة لأنهم یعرفون بالجعفریة.

و کذلک قولهم فی المقنعیة اتباع المقنع الخراسانی المقتول سنة 163 ه بأنها فرقة من الشیعة،مع عدم الصلة بین الشیعة و بین المقنع،و لکن الاشتباه نشأ من التسمیة،و ذلک أن اسم المقنع هو هشام بن الحکم،و من المعروف أن هشام بن الحکم هو اسم رجل من کبار تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام و من العلماء و المتکلمین، فاتفق اسم المقنع مع اسم هشام،فنسبت آراء المقنع إلی هشام بن الحکم بدون تمییز و تمحیص.

و کذلک نسبوا إلی هشام فرقة تعرف بالهشامیة،و هم أصحاب هشام بن عمر الفوطی،و هو من المعتزلة و کان معاصرا إلی هشام،و کانت له آراء و أقوال،فخلطوا بین الاسمین عن عمد أو غیر عمد.

و لا یسعنا بهذه العجالة أن نلم بأطراف هذا الموضوع من حیث أهمیته،فإنه موضوع مهم،و قد تلاعبت به رجال استمالهم الهوی فحادوا عن طریق الواقع، و خلطوا بین الآراء و خبطوا خبط عشواء،إذ لم یقفوا موقف المؤرخ الواقعی الذی یستنطق الحوادث،و یقابل و یقارن،و یقارب و یوازن،و یدرس الدوافع التی أدت إلی إیجاد کثیر من تلک الأمور التی سجلت علی ما فیها من نقض و مخالفات للحقیقة.

ص:42


1- (1) إحداهما أتباع ابن مبشر الهمدانی المتوفی سنة 226 ه و الثانیة أتباع جعفر بن حرب الثقفی المتوفی سنة 224 ه.

و الناظر فیما سجله کتّاب الفرق حول الآراء و المعتقدات،و بالأخص ما نسب إلی الشیعة یقطع بأن سیرة هؤلاء الکتّاب هی واحدة فی النقل،بل هی أقرب إلی التقلید و التلقین،إذ لم نجد منهم من یعالج الموضوع معالجة علمیة،لیخرج بنتیجة مرضیة.

و هکذا بقی موضوع الفرق بدون أن یحظی بإنصاف المؤرخین و عنایة المحققین،الذین یهمهم إظهار الحقیقة،حتی جاء دور المستشرقین فزادوا الطین بلة، و أضافوا إلی الموضوع تعقیدا بأخطائهم،و إن أخطاء المستشرقین قد أوقعت کثیرا من الکتاب بأفظع الأخطاء،لما کانت تندی به أقلامهم من تعابیر أو تصویر کلها لا تلتئم مع الحقیقة.

إذ من الواضح أن الاستشراق یرجع کله فی نشأته الأولی إلی التبشیر بالدین النصرانی،و إن معظم المستشرقین کانوا من الرهبان،لأن المؤسسات التی أسست للتبشیر فی النصرانیة هی المصدر لهؤلاء المستشرقین،و هم آلة للحصول علی السیطرة،و القضاء علی الإسلام.فهم یحرفون النصوص و یغیرون الصور.

و من المؤسف له أن أکثر کتّابنا الیوم یطلّون علی التاریخ الإسلامی أو تاریخ الفرق بالأخص،من الزاویة التی فتحها الغرب بواسطة المستشرقین،و ناهیک بما وراء ذلک من صور و ألوان مخالفة للحقیقة.

و بهذا أصبح الإطار العام للأحداث هو غیر الإطار الذی یجب أن توضع فیه.

و حیث کان موضوع البحث عن الفرق یحتاج إلی دقة و تأمل فی سیر الحوادث و التطور،و هو إلی الآن لم ینل-بمزید الأسف-دراسة عادلة،و خوضا دقیقا و تمحیصا.فنحن نأمل أن ینال هذا الموضوع دراسة دقیقة،لإخراج الزوائد،و إیضاح ما أبهم،و بیان ما اشتبه بعضه ببعض،فی توجیه أشعة التاریخ الصحیح،علی تلک النسب،و تدقیق تلک الأقوال،من حیث صحة أصلها و دقة روایتها،و کونها فی ذاتها قابلة للتصدیق،و کذلک من حیث المستوی العقلی و الخلقی و العقائدی لکتّابها،مع البحث عن الدوافع التی تحوط بها.

و بعد هذا یمکن الحکم علی کثیر من تلک الأمور بأنها حقیقة،أو أنها أکاذیب لا واقع لها،بل هی أحادیث سمر و أقوال مجون.

ص:43

و هناک یظهر زیف تلک الأخطاء الشائعة،و الأساطیر المشهورة،التی احتلت مکانا من التاریخ،و هی ظالمة له فترغم حینذاک علی التخلی عن ذلک الإطار الذی برزت فیه مدة من الزمن.

فیکون ذلک انتصارا للعلم و خدمة للحق و کبتا للنفوس المریضة التی تضرب علی وتر العصبیة العمیاء و تترنح لنغمات الطائفیة الرعناء.

قاتل اللّه الطائفیة التی طالت لیالیها السود،و امتد ظلها الحالک،فجنت علی الإسلام جنایة لا تغفر،و نحن نتطلع إلی الیوم الذی یتقلص فیه نفوذ سلطان الطائفیة، و یزول ظلها المخیف،فتتحرّر العقول من أوهام موروثة،و خرافات ممقوتة،و ما أحوجنا إلی التفاهم فی الوقت الذی یقف الإسلام فیه موقف الصراع مع أولئک،الذین یحاولون أن یتغلبوا علی عقول أبنائه،لیجردوهم من عقائدهم،و یسخروهم لأغراض سیاسیة أو غیر سیاسیة.

إن الواجب یقضی علینا أن نتنبه لهذا الخطر،و أن نسدل الیوم دون حوادث الماضی حجابا کثیفا،و نسعی قلبا و قالبا،لیتناسی المسلمون ما شعّب وحدتهم فی الدهر الغابر،فالخلاف مهما کان و کانت الدواعی إلیه،قد انقضی عصره،و إن أهل بیت واحد یرون الخطر یتهددهم من کل مکان،لأحریاء بأن یتناسوا ما بینهم من اختلافات طفیفة،و یهبوا یدا واحدة للقضاء علی من یرید بهم السوء،و یستغل ما شجر بینهم،لیذلهم و یجعلهم مطیة لمطامعه و أغراضه.

و إن تلک العوامل المتداخلة فی تفرق المسلمین شیعا و أحزابا،و ما کان من وراء ذلک من حوادث مؤلمة،ملأت صفحات من الکتب فغیرت مجری التاریخ،و أوقعت کثیرا من النکبات و الکوارث کان أهمها و أشدها أثرا هو التعصب للمذاهب،و الخلاف فی الرأی،و یصحب ذلک وجود الفرصة المناسبة لخصوم الإسلام الذین نظروا إلیه نظرة معادیة،فنظموا حملات الانتقام فی ظل ذلک الصراع الفکری و العقائدی،لتفرقة الصف و قطع عری الأخوة.

و نحن المسلمون بحاجة ماسة إلی أن نبنی علاقاتنا علی أسس الإیمان باللّه و ما جاء به النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أن نزیح عن طریقنا تلک العقبات التی أوجدتها الطائفیة الرعناء، فإن الإسلام یمر الیوم بمرحلة هی من أعظم المراحل التی یجتازها فی تاریخه.

ص:44

الإمام الصادق

اشارة

تاریخ محنه و مشاکله

المنصور و الإمام الصادق:

للدولة العباسیة حلم تسعی لتحقیقه،دعما لنفوذها،و صیانة لسلطانها،و هو إسباغ أبراد القدسیة علیها،و إبرازها بشکل یقضی علی المعارضین لسیاستهم المعوجة،و المخالفة لنوامیس الشرع و تعالیمه.

و قد لجئوا إلی ادعاء لون من الإمامة یتغذی علی صفة شاحبة و لون باهت، و اقتربوا من الکیسانیة التی واجهها الأئمة بالتفنید،و تصدوا لجعل حججهم داحضة، و التی کان من نتائجها عدول الکثیرین و عودتهم إلی الحق کما حدث للشاعر إسماعیل بن محمد الحمیری،و قال العباسیون إن أبا هاشم بن محمد بن الحنفیة الذی قالت الکیسانیة بإمامته بعد أبیه،أوصی إلی علی بن عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب،و علی بن عبد اللّه أوصی إلی ابنه محمد بن علی،و إن محمدا أوصی إلی ابنه إبراهیم الملقب بالإمام،و إن إبراهیم أوصی إلی أخیه أبی العباس السفّاح.

و قد مات أبو هاشم عند علی بن عبد اللّه،و کانت هذه الدعوی التی جعلتهم من بین الکیسانیة بحسب هذه العلقة التی یسعون من ورائها إلی ادعاء الإمامة بأی سند کان، مع أن الکیسانیة کلها لا إمام لها و إنما ینتظرون الموتی (1).

و انتهی سعیهم إلی الراوندیة الخرمدینیة الذین قالوا بالغلوّ و التناسخ،و أخذوا بالشطط و الشذوذ.علی أن العباسیین تکتموا علی هذه الدعوی و لم یدعوا الناس إلیها إلا بطریقة سریة تتماشی سویة مع الإفصاح عن وجود إبراهیم رأسا لهم و إماما.

ص:45


1- (1) النوبختی ص 36. [1]

أما عند المجامع العامة و المواطن التی تحرک فیها الناس انتقاما لأهل بیت النبوة فکانوا یدارون المشاعر و لا یجرءون علی القول بإمامتهم هذه التی لا یعرفها الناس إلا من خلال جهد الأئمة فی علاج الکیسانیة و أوهامهم التی تبعثها العاطفة المکبوتة فتؤثر فی السلوک و المواقف ثم ما تلبث أن تثوب إلی الواقع بتصدی أئمة أهل البیت لتطویعها و تخفیف غمرة الانفعال عنها،و تسکین موجة التأثر تأسیا و تألما لما أصاب آل بیت النبوة من أهوال و فجائع،فاعتاض الناس بالخیال و الأوهام و راحوا ینسجون علی منوال العاطفة أحوالا من النعیم و أوضاعا من الجنة فی الجبال العالیة.

و علی أی حال کان العباسیون یریدون بذلک أن ینظر الناس إلیهم کخلفاء للرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أمناء علی شریعته،و أنهم ظل اللّه فی أرضه،و رعاة عباده،مع عدم الصفات المؤهلة لهم إذ لم یبرزوا بالشکل الذی یحقق ذلک.

و کان المنصور هو أول من جاهر بالخطة و باشر بالتنفیذ،و قد أعلن ذلک علی المنبر یوم عرفة بقوله:

أیها الناس إنما أنا سلطان اللّه فی أرضه،أسوسکم بتوفیقه و تسدیده،و أنا خازنه علی فیئه،أعمل بمشیئته،و أقسمه بإرادته،و أعطیه بإذنه،فقد جعلنی اللّه علیه قفلا إذا شاء أن یفتحنی لأعطیاتکم و قسم فیئکم فتحنی الخ (1).

و خاطب أهل خراسان بقوله:ابتعثکم اللّه لنا شیعة و أنصارا،فأحیا اللّه شرفنا و عزنا بکم و أظهر حقنا،و أصار إلینا میراثنا من نبینا صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،فقر الحق فی قراره،و أظهر اللّه مناره،و أعز أنصاره،و قطع دابر القوم الذین ظلموا و الحمد للّه رب العالمین (2).

و هذه اللهجة کانت لهجة خادعة و مغالطة یحاول أن یسیطر بها علی عقول أولئک البسطاء،لیخنق فکرة المعارضة التی تؤدی بسلطانه إلی الانهیار،و لیستغل تلک الاستعدادات التی فی نفوسهم لمناصرة الخلافة الحقة و یربط بین شعورهم و بینه،فإن هدف الثوار فی تلک النهضة التی أطاحت بالحکم الأموی،هو إقامة دولة تحکم بکتاب اللّه و سنة رسوله و کانت الهتافات للدعوة إلی الرضا من آل محمد.و ظل العباسیون فی غمار الثورة یحتفظون بادعائهم للإمامة کما أخفوا نوایاهم التی بدأ

ص:46


1- (1) الطبری ج 9 ص 31. [1]
2- (2) مروج الذهب ج 3 ص 314. [2]

المنصور بإظهارها بالتدریج و یعلن عنها کما فی کلامه لأهل خراسان:

یا أهل خراسان أنتم شیعتنا و أنصارنا،و لو بایعتم غیرنا لم تبایعوا خیرا منا و إن ولد أبی طالب ترکناهم،و الذی لا إله إلا هو فلم نعرض لهم بقلیل و لا بکثیر؛إلی أن یقول:فلما استقرت الأمور علی قرارها من فضل اللّه و حکمه العدل،وثبوا علینا حسدا منهم،و بغیا لهم بما فضلنا اللّه علیهم و أکرمنا من خلافته میراثنا من رسول اللّه (1).

و بهذا و غیره فقد تمکن من وضع طابع الدولة الشرعی صوریا،لیکسب لنفسه و لأحفاده من بعده حق وراثة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،فإن استدراج البسطاء بأسالیب التمویه و الخداع من السهولة بمکان،و لکن من العسیر علیه أن یخدع ذوی الأفکار الواسعة، و العقائد الراسخة.لذلک کان یحسب لهم ألف حساب.

إنه یرید أن یتربع علی دست الحکم،و یصبح خلیفة للمسلمین و أمیرا للمؤمنین،و بهذا یلزمه العمل بکتاب اللّه و سنة رسوله،و أن ینصح للمسلمین ما استطاع إلی ذلک سبیلا،فإمرة المسلمین لیست شیئا هینا یستطیع کل من ولی أمر المسلمین أن یتلقب بها،و إنما هی تصور الأعباء الثقال،و العناء المتصل،و الجهد الذی لیس فوقه جهد فی إقرار العدل و رفع الظلم،و إنصاف الضعفاء من الأقویاء، و تحقیق المساواة بین الناس و القیام فیهم بأمر الحزم کل الحزم حتی لا یطمع إلی ما لا ینبغی أن یبلغه،و فوق هذا کله إنصاف الناس من نفسه کإنصاف بعضهم من بعض.

و المنصور لا یتصف بشیء من ذلک فهو ظالم فی حکمه،جائر علی رعیته،قد استأثر بأموال الأمة و جعل بیت المال ملکا له دون المسلمین،و کانت سیرته لا ترتبط مع تعالیم الإسلام و مفاهیمه،و قد تعرضنا فیما سبق عن سوء سیرته و قبیح أعماله، کما و قد مرت الإشارة إلی قبضه علی زعماء الطالبیین،و قتل جماعة منهم،و سجن آخرین ماتوا کلهم فی السجن نتیجة للتعذیب الوحشی،و المعاملة القاسیة التی سار علیها لتثبیت دعائم ملکه.

و لم یبق أمام عینه إلا الإمام الصادق علیه السّلام و هو زعیم العلویین و سید أهل البیت فی عصره،و قد اشتهر ذکره و أقبلت الأمة علی الأخذ منه،و کانت مدرسته

ص:47


1- (1) المصدر السابق. [1]

یقصدها طلاب العلم و رجال الحدیث علی اختلاف نزعاتهم و کان ذکره حدیث الأندیة،و کل ذلک یشق علی المنصور و ترتعد فرائصه کلما ذکر عنده جعفر بن محمد بخیر.

و کم فکر المنصور فی القضاء علیه و إلحاقه بقائمة الشهداء من أهل البیت،فلم یجد طریقا لذلک لأنه یخشی عاقبة الأمر فالإمام الصادق علیه السّلام کان یزداد علی مرور الأیام تمکنا فی القلوب،و شهرة فی الشعوب،تجبی إلیه الأموال،و تشد لمدرسته الرحال،و تهوی إلیه الأفئدة،و لم یعرف عنه أنه دعا إلی ثورة دمویة،أو نازع فی سلطان علنا لیکون ذلک من المبررات للوقیعة فیه،و قد اتخذ المنصور شتی الحیل فی اتهامه فلم یستطع لذلک سبیلا (1)لأنه یری أن دعوة الإمام الصادق و هی الدعوة الإصلاحیة من أهم المشاکل التی تقف أمام تحقیق أهدافه،من انتحال السلطان الشرعی،و أن کل ما یفعله بإرادة اللّه و إذنه کما تقدم،فهو بتلک الإیحاءات یحاول أن یوجه الناس إلی الاعتقاد بصحة خلافته و أن الخروج علیه خروج علی إمام المسلمین، و قد اتخذ شتی الأسالیب فی تنمیة هذه الروح،لیسلم من المؤاخذة علی ما یرتکبه من الفتک برجال الأمة،فهو یوجه الناس بأقواله لیجعلهم یؤمنون بصحة أعماله لأنها تصدر بمشیئة اللّه کما یزعم هو.

و کان الإمام الصادق علیه السّلام یهدم ما یبنیه المنصور و یکذب ما یدعیه،فقد کان یعبر عنه بالطاغیة و لم یخاطبه بأمیر المؤمنین قط،و ما ورد فی مساجلاته معه عند مقابلته بأنه خاطبه بهذا اللفظ،فإنما هو من تعبیر الرواة و لهجتهم و تأتی فی النصوص المنقولة مما یجب الانتباه إلیه.

کیف تتحقق أهداف المنصور و لم یکسب رضا أعظم شخصیة إسلامیة،و أکبر زعیم دینی،و هو الإمام الصادق الذی کان نسیجا وحده فی الاستقامة و الحرص علی هدایة الأمة،و لم یعرف الناس عنه إلا أنه داعیة إلی اللّه مجاهد فی نصرة الدین، محافظ علی وحدة المسلمین فی التمسک بتعالیم الإسلام و نبذ الحزازات و ترک الخرافات.

ص:48


1- (1) راجع الجزء الرابع فی:خلاصة الصراع بین دعوة الإمام الإصلاحیة و دولة المنصور العباسیة.

و کان هو بنفسه علیه السّلام یصل من قطعه و یعفو عمن ظلمه،و لا یری فی النهار إلا صائما و فی اللیل إلا قائما،و کان من العلماء العباد الذین یخشون اللّه.کما حدث عنه تلمیذه مالک (1).

فکانت شخصیته علیه السّلام تزداد تمکنا فی القلوب و شهرة فی جمیع الأقطار الإسلامیة و سارت الرکبان بذکره،و قصده کبار الفقهاء و رجال الحدیث من مختلف الأقطار،علی اختلاف نزعاتهم یسألونه عن مختلف المسائل و شتی العلوم.

و الشیء الذی نرید أن نقوله هنا هو أن المنصور کان یعد الإمام الصادق منافسا خطیرا أعیاه أمره،إذ لم یتمکن من القضاء علیه کما لم یتمکن من تحصیل تأییده، فیحقق هدفه،بل الأمر بالعکس.

فلقد کان رأی الإمام الصادق فی الدولة العباسیة کرأیه فی الدولة الأمویة،من حیث الظلم للرعیة،و الاستبداد فی الحکم،و الابتعاد عن الإسلام.و قد نهی عن المؤازرة للدولة الجدید،کما نهی عن المؤازرة للدولة المنقرضة و صرح بذلک فی عدة مواطن.

فمثلا:سئل علیه السّلام عن البناء لهم و کرایة النهر فأجاب:ما أحب أن أعقد لهم عقدة،أو وکیت لهم وکاء،و لا مدة بقلم،إن أعوان الظلمة یوم القیامة فی سرادق من نار،حتی یحکم اللّه بین العباد.

کما نهی عن معاونتهم حتی فی بناء المساجد،لأنه علیه السّلام یری أن أموالهم مغصوبة،لا یحق لهم التصرف فیها بأی نوع کان،و المعاونة لهم فی ذلک تشجیع لهم،و مضاعفة لبلاء الأمة فی ترکیز عروش الظالمین.

و أعلن غضبه علی الفقهاء الذین یسیرون فی رکب الدولة و حذر الناس منهم، لأن شرهم أعظم بکثیر من غیرهم،عند ما یخونون أمانة العلم و رسالة الإسلام.فکان یقول علیه السّلام:الفقهاء أمناء الرسل فإذا رأیتم الفقهاء قد رکبوا إلی السلاطین فاتهموهم.

ص:49


1- (1) التوسل و الوسیلة لابن تیمیة ص 52،و مالک لمحمد أبو زهرة ص 28 نقلا عن المدارک للقاضی عیاض ص 212.

و کان علیه السّلام ینهی عن الترافع إلی القضاة و لا یری نفوذ حکمهم و یعتبر الترافع إلیهم محرما،لأنهم یحکمون بغیر ما أنزل اللّه،بل کان یؤنب من یجتمع به من القضاة،و یبین له سوء هذا العمل،و یحذره من العذاب و علی سبیل المثال نذکر القصة التالیة:

قال سعید بن أبی الخضیب البجلی:کنت مع ابن أبی لیلی(القاضی)مزاملة حتی جئنا إلی المدینة،فبینما نحن فی مسجد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذ دخل جعفر بن محمد،فقلت لابن أبی لیلی:تقوم بنا إلیه.

فقال:و ما نصنع عنده؟ فقلت:نسأله و نحدثه.

فقال:قم.فقمنا إلیه فسألنی(جعفر)عن أهلی،ثم قال:من هذا معک؟ فقلت:ابن أبی لیلی قاضی المسلمین.

فقال:أنت ابن أبی لیلی قاضی المسلمین!؟قال:نعم.

قال:تأخذ مال هذا و تعطیه هذا،و تفرّق بین المرء و زوجه،لا تخاف فی ذلک أحدا؟!..

ثم قال:فما تقول إذا جیء بأرض من فضة و سماء من فضة ثم أخذ رسول اللّه بیدک فأوقفک بین یدی ربک فقال:یا ربی هذا قضی بغیر ما قضیت.

قال سعید:فاصفر وجه ابن أبی لیلی مثل الزعفران (1).

و هذه الأمور-و کثیر من أمثالها-تبعث فی نفس المنصور أثرا یجعله یشتد فی امتحان الإمام و الفتک به،إذ لیس من الهین علیه رد ما یدعیه من الاستقلال بالإمامة، و أنه خلیفة اللّه فی الأرض و وارث نبیه،و خازن مال اللّه،ثم یبدو ما یکذب هذه الدعوی،من شخصیة لها مکانتها فی المجتمع.

و لا یبعد عن تفکیرنا ما أحدثه التأثر فی نفس المنصور من شهرة الإمام الصادق علیه السّلام و اتساع مدرسته من أشیاء مختلفة فی المجتمع الإسلامی أهمها

ص:50


1- (1) رجال المامقانی ج 2 ص 24. [1]

محاولة ربط العلم بعجلة الدولة،و تحدید الفتوی،و حمل الناس علی الأخذ بما تقره الدولة و ترتضیه،و لا نرید هنا أن نتجاوز الموضوع بتفصیل ذلک و بیانه بعد أن مرت الإشارة إلیه.

و لکننا یجب أن نتصور مدی المشکلة التی واجهها الإمام الصادق فی عصره، و ما تحمله من خصمه الألد،الذی قبض علی زمام الحکم،و قضی علی کل معارض،و فتک بکل من یتهمه بالمعارضة له،من دون توقف و تریث،فلا رحمة و لا عدل.

و لقد بذل کل جهده و استعمل حیله فی القضاء علی الإمام الصادق و لکن جهوده باءت بالفشل.

و قد أشرنا فی الأجزاء السابقة إلی محاولات المنصور اختلاق الأعذار للقضاء علی الإمام الصادق و کیف کان الإمام الصادق یحرص علی أن لا یبدر منه ما یتذرع به المنصور و هی روایات فی مصادرها تحتاج إلی تحقیق فی بعض العبارات التی تروی علی لسان الصادق.لأنها علی غیر المعهود عنه علیه السّلام فهو یتحاشی اتهام المنصور و یخاطبه بعبارة بلیغة لا تثیر غضبه کما لا تطمعه فیه أو یلجأ إلی الاعتصام باللّه کما حدث عند ما استدعاه المنصور فی المرة الثالثة بالربذة بروایة إبراهیم بن جبلة عن مخرمة الکندی قال أبو جعفر المنصور:من یعذرنی من جعفر هذا...یا ابن جبلة،قم إلیه فضع فی عنقه ثباته ثم ائتنی به سحبا.قال إبراهیم:فخرجت حتی أتیت منزله فلم أصبه فطلبته فی مسجد أبی ذر فوجدته فی باب المسجد،قال:فاستحییت أن أفعل ما أمرت فأخذت بکمه فقلت له:أجب أمیر المؤمنین،فقال علیه السّلام:إنا للّه و إنا إلیه راجعون،دعنی حتی أصلّی رکعتین.

بقی الإمام الصادق علیه السّلام أیام المنصور تحت رقابة شدیدة،و أخباره تصل إلی المنصور فی کل وقت،و لکن لم یجد وسیلة تبرر له أن یفتک بالإمام،لأنه یخشی العاقبة لما یعلمه من تعلق الناس بشخصیة الإمام فکان المنصور علی أحر من الجمر، إذ یری أن سلطانه مهدد،و ملکه زائل إن طال الوقت و استمر الزمن.و أراد أن یقرب ما یرومه،و ذلک فی فرض الإقامة علی الإمام فی الکوفة لیکون قریبا منه،و عسی أن تصدر منه بادرة لینقضّ علیه.

ص:51

و لما قدم الإمام الکوفة التف الناس حوله و ازدحم رجال العلم علیه،و کان محل تقدیر جمیع الطبقات،مما جعل المنصور یحذر منه أشد الحذر،لأن الناس التفوا حول الإمام علیه السّلام(و فتنوا به)علی حد تعبیر المنصور الدوانیقی،کما حدث بذلک أبو حنیفة قال:بعث إلیّ المنصور و قال لی:إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهیّئ له مسائل شدادا،فلخصت أربعین مسألة و بعثت بها إلی المنصور،ثم أبرد إلیّ(أی أرسل إلیّ بالبرید)فوافیته علی سریره و جعفر بن محمد عن یمینه،فتداخلنی من جعفر هیبة لم أجدها من المنصور فأجلسنی.

ثم التفت إلیه قائلا:یا أبا عبد اللّه هذا أبو حنیفة.

فقال علیه السّلام:نعم أعرفه.

ثم قال المنصور:سله عما بدا لک یا أبا حنیفة،فجعلت أسأله و یجیب الإجابة الحسنة حتی أجاب عن أربعین مسألة.فرأیته أعلم الناس باختلاف الفقهاء فبذلک أحکم أنه أفقه من رأیت (1).

و خاب أمل المنصور و أصبح أبو حنیفة یعلن للملإ،و یحکم بأن أفقه الأمة جعفر بن محمد الصادق علیه السّلام کما کان یری أنه إمام الحق و یتکتم بذلک.

سأله رجل یوما فقال:یا أبا حنیفة،ما تقول فی رجل وقف ماله للإمام فمن یکون المستحق؟ فأجابه أبو حنیفة:المستحق هو جعفر الصادق لأنه هو إمام الحق (2).

قال هذا بعد أن تأکد من الرجل فی کتمان ما قاله،و هذا أحد الأسباب التی أدت إلی القضاء علی أبی حنیفة بحجة امتناعه عن القضاء.

و لا أستبعد أن قصة القائد الذی دعا الإمام الصادق إلی المائدة و أحضر علیها الشراب کان بوحی من المنصور لینال من کرامة الإمام علیه السّلام،فتلک واحدة من محاولات العباسیین بدرت من غیر واحد منهم.

قال هارون بن الجهم:کنا مع أبی عبد اللّه علیه السّلام بالحیرة حین أقدمه

ص:52


1- (1) جامع مسانید أبی حنیفة ج 1 ص 222 و مناقب أبی حنیفة للموفق ج 1 ص 177.
2- (2) تاریخ العلویین لمحمد أمین غالب ص 140. [1]

المنصور،فختن بعض القواد ابنا له و صنع طعاما و دعا الناس،و کان أبو عبد اللّه فیمن دعی،فاستسقی رجل ماء فأتی بقدح فیه شراب لهم،فلما أن صار القدح بید الرجل قام أبو عبد اللّه عن المائدة.و قال:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«ملعون ملعون من جلس علی مائدة یشرب علیها الخمر».

و فی روایة أخری:«ملعون ملعون من جلس طائعا علی مائدة یشرب علیها الخمر».

و ناهیک بما أحدثته هذه القضیة من أثر فی الاجتماع،عند ما یطلق أبو عبد اللّه هذه العبارة معبرا بها عن غضبه،و استهانة بکرامة ذلک القائد حفظا لکرامة الإسلام، فمن یا تری یسمع هذه الکلمة من الصادق،و ینظر إلی تأثره،و یبقی علی تلک المائدة.

فذلک نهج الإمام فی الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر الذی یرسخ أحکام القرآن و یرعی بذور الإیمان.أما الذین باعوا دینهم بدنیاهم و ارتضوا أن یکونوا أتباعا لحکام الجور و الفجور فلهم أن یروا فی موقف الإمام ما یناسب مصالحهم و یحمیها لتبقی بطونهم ملأی بکل عفن و عقولهم سکری بالضلال و الانحراف.

و بالاختصار فإن وجود الإمام الصادق فی الکوفة کان أعظم علی المنصور من کل شیء،فعدل عن حکمه بالإقامة الجبریة علی الإمام و أرجعه إلی المدینة و هکذا عدة مرات.

و کان علیه السّلام یلجأ إلی اللّه فی مهماته و یسأله دفع شر خصمه و مکره.

قال رزام بن قیس الکاتب مولی خالد العشری:أرسلنی المنصور إلی جعفر بن محمد بن علی بن الحسین علیه السّلام،فلما أقبلت علیه و المنصور بالحیرة و علونا النجف نزل جعفر عن راحلته،فأسبغ الوضوء فصلی رکعتین،ثم رفع یدیه فدنوت منه فإذا هو یقول:اللهم بک أستفتح و بک أستنجح و بمحمد عبدک و رسولک أتوسل، اللهم سهل حزونته و ذلل لی صعوبته،و أعطنی من الخیر أکثر ما أرجو،و اصرف عنی من الشر أکثر مما أخاف.ثم رکب راحلته،فلما وقف بباب المنصور و أعلم بمکانه فتحت الأبواب،و رفعت الستور،فلما قرب من المنصور قام إلیه فتلقاه و أخذ بیده،

ص:53

و ما شاه حتی انتهی به إلی مجلسه،ثم أقبل علیه یسأله عن حاله...الخ (1)و أنجاه اللّه من شره،و تغیّر المنصور عما عزم علیه کل مرة یلقی فیها الإمام،من أسرار سیرة الإمام الروحیة.

و حدث الربیع بأن المنصور أمر بإحضار جعفر بن محمد مرارا و قال و اللّه لأقتلنه،فلما لم یر بدا من إحضاره،و لما دنا الإمام الصادق من الباب قام یحرک شفتیه.و کان یدعو (2)...

و قد مر تفصیل هذه الحوادث و بیانها فی الجزء الثانی و الإشارة إلیها فی الجزء الرابع من هذا الکتاب،و أن المنصور أحضره بین یدیه للفتک به و القضاء علیه مرارا.

و علی کل حال:فإن الإمام الصادق علیه السّلام قد واجه محنا و تحمل مصاعب، فی سبیل الدعوة إلی الخیر و تهذیب النفوس،بنشر التعالیم الإسلامیة الکفیلة بتنویر العقل الإنسانی،و إرشاده إلی أقوم سبل الخیر و السعادة،فکان المنار الذی اهتدت به القافلة الضالة،فیمر تاریخه عبر مراحل التاریخ،و یتخطی ذکره الزمن فتخلده الأجیال،و تعتز به العلماء،و ترجح أقواله و أحکامه فی مثار الجدل و مجالات النزاع العلمی،فیکون قوله الفصل و حکمه العدل.

و تمر قرون و قرون و هو ذلک الصادق فی القول،الموجه فی دعوته و المعلم الأول لجمیع المذاهب،و یبقی ذکره رغم الحواجز و العقبات،و ینتشر مذهبه بقوة الحق و وضوح الحجة،لا بقوة الحکومات و نفوذ السلطة.

و من العجیب أن یسمح البعض من کتّاب الیوم لنفسه بالتقوّل بما لیس له نصیب من الصحة،فیذهب إلی ادعاء صفاء العلاقة بین الإمام الصادق و المنصور،و أن المنصور هو الذی أطلق لقب الصادق علی الإمام و ذلک مما ینافی الحقیقة،فقد رأینا کیف کان الإمام الصادق یواجه محنة دائمة بسبب المنصور،و کیف کان المنصور یواجه مشکلة مستعصیة تتمثل فی نهج الإمام و مدرسته و سلوکه و میل القلوب إلیه حتی أعجزه أمره لأن المکانة الروحیة للإمام،و المنزلة العلمیة التی طبعت ذلک الجیل بطابعها و ترکت الناس یلهجون بذکر الإمام الصادق،لیس بسهل علی المنصور

ص:54


1- (1) تاریخ ابن عساکر ج 5 ص 320. [1]
2- (2) المصدر السابق ج 4 ص 208. [2]

إنکارها أو تجاهل نتائج القضاء علی الإمام الصادق بین أوساط العلماء و هو الذی یتودد إلیهم و یحاول أن یرکز سلطانه بصفة تتجاوز حدود الإمامة،کما یسعی إلی ترکیز شخصیات عساها تؤثر علی انصراف الناس إلی الإمام الصادق.

و لا یعنی فی واقع الأمر شیئا ما یطلقه المنصور علی الإمام الصادق قدحا أو مدحا و أنه وصف الإمام بالصادق لأنه رفض أن یستجیب لدعوة بنی عمه الحسنیین، إذ کان یری أن بنی العباس قد تهیئوا للأمر و أکل قلوبهم حب الحکم،فصرّح علیه السّلام بأن الأمر سیکون لهم،و إنما کان ذلک من خلال حرکة الدین و العلم إذ ضجت المراکز و مساجد الصلاة بالعلماء و هم یحدثون عن الإمام جعفر بن محمد فی زمن کثر فیه ادعاء العلم و نشطت فیه حرکة الوضع،فکان کل منهم یقول:حدثنی الصادق،أو(أخبرنا العالم)إشارة إلی الإمام جعفر وارث علم النبیین و الراوی بسلسلة ذهبیة تنمی إلی جده المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،حیث صار من یدعی العلم ممن هو إمّعة بید السلطان الجائر یسیر فی رکابه و ینفذ أغراضه الدنیئة ممن تسمّی بجعفر أیضا یرمی بالکاذب تمییزا عن جعفر الهدی و الصدق و سید أهل عصره.

و یمکننا القول أن لقب الصادق کان أصل إطلاقه لأجل المکانة العلمیة و المنزلة الروحیة،ثم کان سببا فی إطلاق لقب الکاذب علی من حمل اسمه و قصد الإساءة لنهج أهل البیت،فهو فی الأساس لصفة الصدق الغالبة فی العلم و الحدیث،و هی من خصائص أهل البیت،ثم کانت فی مواجهة الانحراف عن السلوک المحمدی.فالواقع أن هناک من یری أن اللقب وجد فی هذه الظروف الأخیرة و هو اشتباه أیضا.

ص:55

ص:56

الإمام الصادق

اشارة

لمحات من أخلاقه و آدابه

تمهید:

و جریا علی ما نهجناه فی الأجزاء السابقة من ذکر طرف من تعالیم الإمام الصادق علیه السّلام و سیرته و حکمه،التی تتمثل فیها مفاهیم الإسلام،فی نهج التربیة، و حسن السلوک فی الحیاة،و قد رأینا هناک کیف کان حرصه علی تربیة من یتصل به تربیة صحیحة،یوجهه و یرشده إلی طریق الحق و نهج الصواب.

فقد کان لا یدع فرصة مناسبة إلا اغتنمها للإرشاد ببلیغ قوله،و حسن بیانه و نورد هنا بعضا مما لم نذکره هناک من أخباره و حکمه،و آدابه و مواعظه و توجیهاته،تیمنا بذلک،و لئلا یخلو هذا الجزء من ذلک التراث القیم الذی أفردنا له جزءا خاصا.

تعالیمه:

قال عنبسة بن نجاد:لما مات إسماعیل بن الإمام جعفر بن محمد علیه السّلام و فرغنا من جنازته،جلس الإمام و جلسنا حوله و هو مطرق،ثم رفع رأسه إلینا و قال:

أیها الناس هذه الدنیا دار فراق و دار التواء،لا دار استواء،علی أن لفراق المألوف حرقة لا تدفع،و لوعة لا تقلع،و إنما یتفاضل بحسن العزاء،و صحة الفکر،فمن لم یثکل أخاه ثکله أخوه،و من لم یقدم ولدا کان هو المقدم دون الولد،ثم تمثل بقول الهذلی:

فلا تحسبی أنی تناسیت عهده و لکن صبری یا أمیم جمیل

و کان یقول لأصحابه:إن اللّه أوجب علیکم حبنا و موالاتنا،و فرض علیکم طاعتنا،ألا فمن کان منا فلیقتد بنا،و إن من شأننا الورع،و الاجتهاد و أداء الأمانة إلی

ص:57

البر و الفاجر،و صلة الرحم و إقراء الضیف،و العفو عن المسیء؛و من لم یقتد بنا فلیس منا،لا تسفهوا،فإن أئمتکم لیسوا بسفهاء.

قال صفوان بن یحیی (1):جاءنی عبد اللّه بن سنان (2)فقال:هل عندک شیء؟ قلت:نعم.فبعثت ابنی و أعطیته درهما یشتری به لحما،فقال لی عبد اللّه:أین أرسلت ابنک؟فأخبرته،فقال:ردّه ردّه؛عندک زیت؟قلت:نعم.قال:هات فإنی سمعت أبا عبد اللّه علیه السّلام یقول:هلک امرؤ احتقر لأخیه ما یحضره و هلک امرؤ احتقر لأخیه ما قدم إلیه.

و قال علیه السّلام:المؤمن لا یحتشم من أخیه و لا یدری أیهما أعجب:الذی یکلف أخاه إذا دخل أن یتکلف له،أو المتکلف لأخیه.

و قال هشام بن سالم:دخلنا مع ابن أبی یعفور علی أبی عبد اللّه و نحن جماعة،فدعا بالغداء فتغدینا و تغدی معنا،و کنت أحدث القوم سنا،فجعلت أقصر و أنا آکل فقال لی علیه السّلام:کل،أ ما علمت أنه تعرف مودة الرجل لأخیه بأکله من طعامه.

قال ابن أبی یعفور:رأیت عند أبی عبد اللّه علیه السّلام ضیفا فقام یوما فی بعض الحوائج فنهاه أبو عبد اللّه عن ذلک،و قام بنفسه إلی تلک الحاجة و قال علیه السّلام:نهی رسول اللّه عن أن یستخدم الضیف.

و قال الجارود بن المنذر:قال لی أبو عبد اللّه علیه السّلام:بلغنی أنه ولد لک ابنة فتسخطها،و ما علیک منها،ریحانة تشمها و قد کفیت رزقها،و قد کان رسول اللّه أبا بنات.

و قال علیه السّلام:إن أبی إبراهیم سأل ربه أن یرزقه ابنة تبکیه و تندبه بعد موته.

ص:58


1- (1) صفوان بن یحیی أبو محمد البجلی المتوفی سنة 210 ه،کان من أصحاب الإمام موسی بن جعفر،و قد روی عن أربعین رجلا من رواة الإمام الصادق،و کان معروفا بالزهد و العبادة،و کان قد تعاقد هو و عبد اللّه بن جندب،و علی بن النعمان؛أن من مات منهم صلی من بقی منهم صلاته و صام صیامه فماتا و بقی صفوان،فکان یصلی فی کل یوم مائة و خمسین رکعة فرضا و نفلا، و یصوم فی السنة ثلاثة أشهر،و کان مؤلفا و له کتب یربو عددها علی الثلاثین ذکره النجاشی و غیره.
2- (2) عبد اللّه بن سنان بن طریف الحنظلی،کان من ثقات أصحاب الصادق علیه السّلام و قد مرت الإشارة إلیه.

کلماته الحکمیة:

و قال علیه السّلام لولده موسی الکاظم علیه السّلام:یا بنی افعل الخیر إلی کل من طلبه منک،فإن کان من أهله فقد أصبت موضعه،و إن لم یکن له بأهل کنت أنت أهله، و إن شتمک رجل عن یمینک ثم تحول إلی یسارک و اعتذر إلیک فاقبل منه.

و قال علیه السّلام:لیس شیء إلا و له حد.فقال له أبو بصیر:جعلت فداک فما حد التوکل؟قال علیه السّلام:الیقین.

فقال أبو بصیر:فما حد الیقین؟قال علیه السّلام:أ لا تخاف مع اللّه شیئا.

و قال علیه السّلام:من صحة یقین المرء المسلم ألا یرضی الناس بسخط اللّه،و لا یلزمهم علی ما لم یؤته اللّه،فإن الرزق لا یسوقه حرص حریص و لا یرده کراهة کاره.

و قال علیه السّلام:حسن الظن باللّه أن لا ترجو إلا اللّه و لا تخاف إلا ذنبک.

و قیل له علیه السّلام:أی الجهاد أفضل؟فقال:کلمة حق عند إمام ظالم.

و قال علیه السّلام لأصحابه:لا تشعروا قلوبکم الاشتغال بما فات فتشغلوا أذهانکم عن الاستعداد لما یأتی.

و قال محمد بن العلا و إسحاق بن عمار:ما ودعنا أبو عبد اللّه الصادق قط إلا أوصانا بخصلتین:بصدق الحدیث و أداء الأمانة إلی البر و الفاجر،فإنهما مفتاح الرزق.

و قال علیه السّلام:

ینبغی للعاقل أن یکون مقبلا علی شأنه حافظا للسانه عارفا بأهل زمانه.

أربع یذهبن ضیاعا،مودة تمنح من لا وفاء له،و معروف یوضع عند من لا یشکره،و علم یعلم من لا یستمع له،و سر یودع من لا حصانة له.

إصلاح المال من الإیمان.

أنفق و أیقن بالخلف،و اعلم أنه من لم ینفق فی طاعة اللّه ابتلی بأن ینفق فی معصیة اللّه،و من لم یمش فی حاجة ولیّ اللّه ابتلی بأن یمشی فی حاجة عدو اللّه.

و سئل علیه السّلام عن الزاهد فی الدنیا فقال:الذی یترک حلالها مخافة حسابه و یترک حرامها مخافة عذابه.

ص:59

و وصفوا عنده رجلا بالدین و الفضل و العبادة و غیرها.

فقال علیه السّلام:کیف عقله؟إن الثواب علی قدر العقل.

و قال لداود الکرخی حینما أراد أن یتزوج:انظر أین تضع نفسک.

و قال علیه السّلام:لا یصلح المرء المسلم إلا بثلاث:التفقه فی الدین و التقدیر فی المعیشة و الصبر علی البلایا.

اصبر علی أعداء النعم فإنک لن تکافی من عصی اللّه فیک من أن تطیع فیه.

من لم یکن واعظ من قلبه و زاجر من نفسه و لم یکن له قرین مرشد استمکن عدوه من عنقه.

اجعل قلبک قرینا تزاوله،و اجعل علمک والدا تتبعه،و اجعل نفسک عدوا تجاهده و اجعل مالک عاریة تردها.

جاهد هواک کما تجاهد عدوک.

العاقل من کان ذلولا عند إجابة الحق،جموحا عند الباطل،یترک دنیاه و لا یترک دینه،و دلیل العاقل شیئان صدق القول و صواب العمل.

الملوک حکام علی الناس و العلماء حکام علی الملوک.

و قال له رجل من أصحابه:جعلت فداک ما أحب إلی من الناس من یأکل الجشب،و یلبس الخشن،و ینخشع فیری علیه أثر الخشوع.

فقال علیه السّلام:ویحک إنما الخشوع فی القلب أو ما علمت أن نبیا ابن نبی کان یلبس أقبیة الدیباج مزرورة بالذهب،و کان یجلس و یحکم بین الناس فما یحتاج الناس إلی لباسه،و إنما احتاجوا إلی قسطه و عدله.کذلک إنما یحتاج الناس من الإمام إلی أن یقضی بالعدل،إذا قال صدق،و إذا وعد أنجز،و إذا حکم عدل،إن اللّه عز و جل لم یحرم لباسا أحله،و لا طعاما و لا شرابا من حلال،و إنما حرم الحرام قل أو کثر، و قد قال اللّه عز و جل: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِینَةَ اللّهِ الَّتِی أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّیِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32].

و سئل علیه السّلام عن رجل دخله الخوف من اللّه تعالی حتی ترک النساء و الطعام الطیب و لا یقدر أن یرفع رأسه إلی السماء تعظیما للّه تعالی؟

ص:60

فقال علیه السّلام:أما قولک فی ترک النساء فقد علمت ما کان لرسول اللّه منهن، و أما قولک فی ترک الطعام الطیب فقد کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یأکل اللحم و العسل،و أما قولک دخله الخوف من اللّه حتی لا یستطیع أن یرفع رأسه إلی السماء،فإنما الخشوع فی القلب،و من ذا یکون أخشع و أخوف من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟!فما کان هذا یفعل؟!! و قد قال اللّه عز و جل: لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ کانَ یَرْجُوا اللّهَ وَ الْیَوْمَ الْآخِرَ [الأحزاب:21].

و قال علیه السّلام:إن علیا کان یقول:ینبغی للرجل إذا أنعم اللّه علیه بنعمة أن یری أثرها علیه فی ملبسه ما لم یکن شهرة.

و سأله رجل فقال:یا ابن رسول اللّه هل یعد من السرف أن یتخذ الرجل ثیابا کثیرة یتجمل بها و یصون بعضها من بعض؟ فقال علیه السّلام:لا،لیس هذا من السرف.

و قال:أربع خصال یسود بها المرء:العفة،و الأدب،و الجود،و العقل.

لا مال أعود من العقل،و لا مصیبة أعظم من الجهل،و لا ورع کالکف،و لا عبادة کالتفکر،و لا قائد خیر من التوفیق،و لا قرین خیر من حسن الخلق،و لا میراث خیر من الأدب.

لا یتکلم الرجل بکلمة هدی فیؤخذ بها إلا کان له مثل أجر من أخذ بها،و لا یتکلم بکلمة ضلالة إلا کان علیه مثل وزر من أخذ بها.

الإمام العادل لا ترد له دعوة،و المظلوم لا ترد له دعوة و من قواصم الظهر سلطان جائر یعصی اللّه و أنت تطیعه!! هذا غایة ما یسمح لی الوقت به من ذکر بعض أخباره و حکمه و آدابه علیه السّلام، و قد مر فی کل جزء من الأجزاء السابقة بعض منها و سننشر ما بقی من ذلک و ما ذکر سابقا فی جزء مستقل لیکون أعم نفعا و أسهل تناولا فإن ذلک التراث الفکری الخالد و تلک الآداب التی کان علیه السّلام یؤدب بها من یتصل به هی أشمل لنظام الحیاة لاتصالها بواقع المسلمین من حیث الأخذ بتعالیم دینهم الذی یتکفل لهم السعادة.

ص:61

صفاته:

لقد کان الإمام الصادق علیه السّلام مثلا أعلی للصفات الکاملة،و المزایا الحمیدة، و الأخلاق الفاضلة،فهو الصادق فی القول،و الناطق بالحق،و العالم العامل بعلمه، و الموجه للأمة بدعوته،و ما أجمع علماء الإسلام علی اختلاف طوائفهم کما أجمعوا علی فضله و علمه.

و قد کان قویا فی دینه،لا یهن لشدة،و لا یتزلزل عند النوازل،و لا یضعف عند النکبات،بل یتلقی کل ذلک بعزم راسخ و جنان ثابت.

و لقد وصفه المنصور و هو خصمه الألد بقوله:إنه ممن اصطفاه اللّه،و کان من السابقین فی الخیرات.

شهد الأنام بفضله حتی العدا و الفضل ما شهدت به الأعداء

و قد وصفه تلمیذه مالک بن أنس بأنه:کان من العلماء العباد الذین یخشون اللّه.

و وصفه أبو حنیفة بأنه:أعلم أهل زمانه و ما رأی أعلم منه و أن هیبته تفوق هیبة المنصور صاحب الملک و الصولجان.

و وصفه عمرو بن المقدام بقوله:ما نظرت إلی جعفر بن محمد إلا و علمت أنه من سلالة النبیین.

و قد ثبت عن الإمام زید بن علی علیه السّلام أنه قال:إنه(أی الصادق)حجة اللّه، لا یضل من تبعه،و لا یهتدی من خالفه.

و لا بد لنا من الإیجاز هنا فیما یتعلق بصفاته و ممیزاته بعد أن ذکرنا بعضا من ذلک فی الأجزاء السابقة،و لنا عودة فی بیان صفاته و ممیزاته إن شاء اللّه.

و الآن و قد أوشکنا علی الالتقاء بالأستاذ محمد أبو زهرة الذی نوهنا عنه فی المقدمة؛لإبداء ملاحظاتنا حول ما کتبه عن الإمام الصادق علیه السّلام،و قبل أن یضمنا مجلس النقاش،و تبادل الآراء،نود هنا أن نقتطف من ذلک الکتاب بعض انطباعات الأستاذ عن شخصیة الإمام،و صفاته و ممیزاته،فلنترک الحدیث له.

من کتاب الإمام الصادق:

ما أجمع علماء الإسلام علی اختلاف طوائفهم،کما أجمعوا علی فضل الإمام

ص:62

الصادق و علمه،فأئمة السنة الذین عاصروه تلقوا عنه و أخذوا،أخذ عنه مالک رضی اللّه عنه،و أخذ عنه طبقة مالک کسفیان بن عیینة،و سفیان الثوری،و غیرهم کثیر،و أخذ عنه أبو حنیفة مع تقاربهما فی السن و اعتبره أعلم الناس،لأنه أعلم الناس باختلاف الناس،و قد تلقی علیه رواة الحدیث طائفة کبیرة من التابعین،منهم یحیی بن سعید الأنصاری و أیوب السختیانی و أبان بن تغلب و أبو عمرو بن العلاء و غیرهم من أئمة التابعین فی الفقه و الحدیث،و ذلک فوق الذین رووا عنه من تابعی التابعین و من جاء بعدهم و الأئمة المجتهدین الذین أشرنا إلی بعضهم.

و فوق هذه العلوم أوتی الإمام الصادق علیه السّلام علما بحاجات سلوک المؤمن و متطلبات الحفاظ علی الأخلاق،فسدد إلی الرأی الناجع و القول الحکیم،و ألهم قدرة التقویم و التأثیر فی النفوس.و قد اطلعنا علی جوانب من اهتمام الإمام علیه السّلام بحیاة الناس و مشاکل المجتمع فکان یبذل جهده من رأی و مال و مشارکة فعلیة،و جعل علم الأخلاق فی مقدمة ما یرمی إلی شیوع أصوله و قواعده المتمثلة بدعوته إلی التمسک بتعالیم الدین الحنیف،و قد أشرق علم الأخلاق من خلال قوة البرهان و نور الوجدان الدینی و فعل مواقف الإمام و سیرته فی النفوس و کانت وجوه التقوی و الورع فی مواجهة الانحراف و تقبّل الناس للرذیلة.

و هکذا النفس المسئولة التی تتحمل أعباء دوام الدعوة تعالج الاعوجاج بالخلق القویم و تواجه الباطل بالحق المبین.

و لننقل لک وصیته لابنه موسی فهی خلاصة تجارب نفس مؤمنة مستمسکة تمرست بالحیاة و علمت ما فیها،فقد جاء فی حلیة الأولیاء ما نصه:

حدث بعض أصحاب جعفر بن محمد الصادق،قال:دخلت علی جعفر و موسی بین یدیه و هو یوصیه فکان مما حفظت منها أن قال:

یا بنی اقبل وصیتی،و احفظ مقالتی،فإنک إن حفظتها تعیش سعیدا،و تموت حمیدا.

یا بنی،من رضی بما قسمه اللّه له استغنی،و من مد عینیه إلی ما فی ید غیره مات فقیرا،و من لم یرض بما قسمه اللّه اتهم اللّه فی قضائه،و من استصغر زلة نفسه استعظم زلة غیره.

ص:63

یا بنی،من کشف حجاب غیره انکشفت عورات بیته،و من سل سیف البغی قتل به،و من احتفر لأخیه بئرا سقط فیها،و من داخل السفهاء حقر،و من خالط العلماء وقر،و من دخل مداخل السوء اتهم.

یا بنی إیاک أن تزری بالرجال فیزری بک،و إیاک و الدخول فیما لا یعنیک فتذل لذلک.

یا بنی قل الحق لک أو علیک،یا بنی کن لکتاب اللّه تالیا،و للسلام فاشیا، و بالمعروف آمرا،و عن المنکر ناهیا،و لمن قطعک و اصلا،و لمن سکت عنک مبتدئا، و لمن سألک معطیا،و إیاک و النمیمة فإنها تزرع الشحناء فی قلوب الرجال،و إیاک و التعرض لعیوب الناس فمنزلة المتعرض لعیوب الناس بمنزلة الهدف...

2-و یقول فی ص 99:إن الصادق کان علی علم دقیق بالفلسفة و مناهج الفلاسفة و علی علم بمواضع التهافت عندهم،و إنه مرجع عصره فی رد الشبهات، و قد کان بهذا جدیرا،و ذلک لانصرافه المطلق إلی العلم،و لأنه کان ذا أفق واسع فی المعرفة لم یتسنّ لغیره من علماء عصره،فقد کانوا محدثین أو فقهاء،أو علماء فی الکلام،أو علماء فی الکون،و کان هو فی کل ذلک رضی اللّه عنه.

3-و لقد اشتهرت مناظرات الإمام الصادق حتی صارت مصدرا للعرفان بین العلماء،و کان مرجعا للعلماء فی کل ما تعضل علیهم الإجابة عنه من أسئلة الزنادقة و توجیهاتهم،و قد کانوا یثیرون الشک فی کل شیء،و یستمسکون بأوهی العبارات لیثیروا غبارا حول الحقائق الإسلامیة و الوحدانیة التی هی خاصة الإسلام.

و یقول فی ص 75:و بقی أن نقول کلمة فی صفاته و شخصیته العلمیة،نتیجة لما سقناه و النتیجة دائما مطویة فی مقدماتها و کل ما أوتی به من علم،و ما أثر عنه من فقه، هو نتیجة لتلک الشخصیة التی تمیزها صفاته.

و أول ما یستشرف له القارئ هو أن یقدم له الکاتب وصفا جسمیا یقربه إلی خیاله و تصویره،و قد قال کتّاب مناقبه:أنه ربعة لیس بالطویل و لا القصیر،أبیض الوجه أزهر،له لمعان کأنه السراج،أسود الشعر جعده أشم الأنف قد انحسر الشعر عن جبینه،و علی خده خال أسود.

ص:64

و یظهر أن هذا الوصف کان فی شبابه قبل أن یعلوه الشیب فیزیده بهاء و وقارا و جلالا و هیبة.

هذا وصفه الجسمی أما وصفه النفسی و العقلی فقد بلغ فیه الذروة،و ها هی ذی قبسة من صفاته التی علا بها فی جیله حتی نفس حکام الأرض علیه مکانه،و لکنها هبة السماء،و أنّی لأهل الأرض أن یسامتوا أهل السماء..

الإخلاص:

قد اتصف الإمام الصادق التقی بنبل المقصد و سمو الغایة،و التجرد فی طلب الحقیقة من کل هوی،أو عرض من أعراض الدنیا،فما طلب أمرا دنیویا تنتابه الشهوات أو تحف به الشبهات،بل طلب الحقائق النیرة الواضحة و طلب الحق لذات الحق لا یبغی به بدیلا،لا تلتبس علیه الأمور و إذا ورد علیه أمر فیه شبهة هداه إخلاصه إلی لبه،و نفذت بصیرته إلی حقیقته،بعد أن یزیل عنه غواشی الشبهات، و إذا عرض أمر فیه شهوة أو إثارة مطمع بدد الظلمات بعقله الکامل،و هو فی هذا متصف بما ورد فی حدیث مرسل عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذ قال:«إن اللّه یحب ذا البصر النافذ عند ورود الشبهات،و یحب ذا العقل الکامل عند حلول الشهوات»و من غیر الإمام الصادق یبدد الشهوات بعقله النیر و بصیرته الهادیة المرشدة؟! و إن الإخلاص من مثل الصادق هو من معدنه،لأنه من شجرة النبوة،فأصل الإخلاص فی ذلک البیت الطاهر ثابت،و إذا لم یکن الإخلاص غالب أحوال عترة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أحفاد إمام الهدی علی علیه السّلام،ففیمن یکون الإخلاص؟لقد توارثوا خلفا عن سلف،و فرعا عن أصل،فکانوا یحبون الشیء و لا یحبونه إلا للّه،و یعتبرون ذلک من أصول الإیمان و ظواهر الیقین.فقد قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«لا یؤمن أحدکم حتی یحب الشیء لا یحبه إلا للّه».

و قد أمد اللّه تعالی الإخلاص فی قلب الإمام الصادق بعدة عناصر غذته و نمته فآتی أکله.

أولها:ملازمته للعلم و ریاضته نفسه و انصرافه للعبادة،و ابتعاده عن کل مآرب الدنیا.

و لنترک الکلمة للإمام مالک یصف حاله فیقول:کنت آتی جعفر بن محمد،

ص:65

و کان کثیر التبسم،فإذا ذکر عنده النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم اخضرّ و اصفرّ،و لقد اختلفت إلیه زمانا فما کنت أراه إلا علی إحدی ثلاث خصال:إما مصلیا،و إما صائما،و إما یقرأ القرآن،و ما رأیته قط یحدث عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلا علی طهارة،و لا یتکلم فیما لا یعنیه،و کان من العباد الزهاد الذین یخشون اللّه (1).

و ثانیها:الورع،و لکن ورعه لم یکن حرمانا مما أحل اللّه،فلم یکن ترکا للحلال،بل کان طلب الحلال من غیر إسراف و لا خیلاء،و قد أخذ بقول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

«کلوا و اشربوا و البسوا فی غیر سرف و لا مخیلة».

و لکنه مع طلبه الحلال کان یمیل إلی الحسن من الثیاب،و کان یحب أن یظهر أمام الناس بملبس حسن لکیلا تکون مراءاة فیما یفعل،فکان یخفی تقشفه تطهیرا لنفسه من کل ریاء.

و لقد دخل سفیان الثوری علی أبی عبد اللّه الصادق فرأی علیه ثیابا حسنة لها منظر حسن،و یقول الثوری:فجعلت أنظر إلیه متعجبا،فقال لی:یا ثوری مالک لا تنظر إلینا؟لعلک تعجب مما رأیت؟! قلت:یا ابن رسول اللّه لیس هذا من لباسک و لا لباس آبائک.

فقال لی:یا ثوری کان ذلک زمانا مقفرا مقترا و کانوا یعملون علی قدر إقفاره و إقتاره،و هذا زمان قد أقبل کل شیء فیه،ثم حسر عن ردن جبته،و إذا تحته جبة صوف بیضاء یقصر الذیل عن الذیل و الردن عن الردن،ثم قال الصادق:یا ثوری لبسنا هذا للّه،و هذا لکم،فما کان للّه أخفیناه،و ما کان لکم أبدیناه.

و ثالثها:أنه لم یر لأحد غیر اللّه حسابا،فما کان یخشی أحدا فی سبیل اللّه و لا یقیم وزنا للوم اللائمین،و لم یخش أمیرا لإمرته،و لم یخش العامة لکثرتهم،و لم یغیره الثناء،و لم یثنه الهجاء،أعلن براءته ممن حرفوا الإسلام،و أفسدوا تعالیمه،و لم یمال المنصور فی أمر،و کان بهذا الإخلاص و بتلک التقوی السید حقا و صدقا.

نفاذ بصیرته و قوة إدراکه:

و إن الإخلاص إذا غمر النفس أشرقت بنور الحکمة،و استقام الفکر و القول

ص:66


1- (1) المدارک مخطوط بدار الکتب المصریة الورقة رقم 210.

و العمل،و لذلک الإخلاص نفذت بصیرته،فصار یعرف الحق من غیر عائق یعوقه، و کان مع ذلک فیه ذکاء شدید،و إحاطة واسعة و علم غزیر...الخ.

حضور بدیهته:

و کان رضی اللّه عنه حاضر البدیهة،تجیئه إرسال المعانی فی وقت الحاجة إلیها من غیر حبسة فی الفکر،و لا عقدة فی اللسان،و إن مناظراته الفقهیة الکثیرة تکشف عن بدیهة حاضرة،و انظر إلیه و أبو حنیفة یسأله فی أربعین مسألة،فیجیب عنها من غیر تردد و لا تلکؤ،مبینا اختلاف الفقهاء فیها،و ما یختار من أقوالهم،و ما یخالفهم جمیعا فیه.

و إن مناظراته التی کان یلقم بها الزنادقة و غیرهم الحجة،ما کانت لیستقیم فیها الحق لو لا بدیهة تسعفه بالحق فی الوقت المناسب و لننقل لک مناظرة له فی العدل بین الأزواج أثارها زندیق.

قال الزندیق:أخبرنی عن قول اللّه تعالی: فَانْکِحُوا ما طابَ لَکُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنی وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء:3]و قال فی آخر السورة: وَ لَنْ تَسْتَطِیعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَیْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِیلُوا کُلَّ الْمَیْلِ [النساء:129].

قال الصادق:أما قوله تعالی: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء:3]فإنما عنی النفقة و قوله تعالی: وَ لَنْ تَسْتَطِیعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَیْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ [النساء:129]فإنما عنی بها المودة،فإنه لا یقدر أحد أن یعدل بین امرأتین فی المودة.

و إن حضور البدیهة من ألزم اللوازم لقادة الأفکار و الأئمة المتبعین،فلا توجد قیادة فکریة لعبی فی البیان و لا توجد قیادة فکریة لمن عنده حبسة فی المعانی.

جلده و صبره:

لقد کان أبو عبد اللّه الصادق ذا جلد و صبر و قوة نفس،و ضبط لها،و إن الصابرین هم الذین یعلون علی الأحداث،و لا یزعجهم اضطراب الأمور علیهم و نیلهم بالأذی،و کان الإمام الصادق صبورا قادرا علی العمل المستمر الذی لا ینقطع،فقد کان فی دراسة دائمة.

و کان مع ذلک الصبر و ضبط النفس عبدا شکورا،و إنا نری أن الصبر و الشکر

ص:67

معنیان متلاقیان فی نفس المؤمن القوی الإیمان فمن شکر النعمة فهو الصابر عند نزول النقمة بل إن شکر النعمة یحتاج إلی صبر،و الصبر فی النقمة لا یتحقق إلا من قلب شاکر یذکر النعمة فی وقت النقمة،و الصبر فی أدق معناه لا یکون إلا کذلک،إذ الصبر الحقیقی یقتضی الرضا،و هو الصبر الجمیل.

و لقد کان أبو عبد اللّه صابرا شاکرا خاشعا قانتا عابدا،صبر فی الشدائد،و صبر فی فراق الأحبة،و صبر فی فقد الولد:مات بین یدیه ولد له صغیر من غصة اعترته فبکی و تذکر النعمة فی هذا الوقت،و قال:لئن أخذت لقد أبقیت،و لئن ابتلیت فقد عافیت.

ثم حمله إلی النساء،فصرخن حین رأینه،فاقسم علیهن ألا یصرخن ثم أخرجه إلی الدفن و هو یقول:سبحان من یقبض أولادنا و لا نزداد له إلا حبا.و یقول بعد أن و اراه التراب:إنا قوم نسأل اللّه ما نحب فیمن نحب فیعطینا،فإذا أنزل ما نکره فیمن نحب رضینا.

و ها أنت ذا تری أنه رضی اللّه عنه یذکر عطاء اللّه فیما أنعم،فی وقت نزول ما یکره،و ذلک هو الشکر الکامل مع الصبر الکامل.

و إن الصبر مع التململ لا یعد صبرا،إنما هو الضجر،و الضجر و الصبر متضادان،و إنا نقول بحق إن أوضح الرجال الذین یلتقی فیهم الصبر مع الشکر؛هو الإمام الصادق.

سخاؤه:

قال کثیرون من المفسرین فی قوله تعالی: وَ یُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلی حُبِّهِ مِسْکِیناً وَ یَتِیماً وَ أَسِیراً [الإنسان:8]إنها نزلت فی علی بن أبی طالب کرم اللّه وجهه،و إن کانت هی فی عمومها وصفا للمؤمنین الصادقی الإیمان،لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، و مهما یکن من القول فی ذلک فإنه من المؤکد أن علی بن أبی طالب کان من أسخی الصحابة رضی اللّه عنهم،بل من أسخی العرب،و قد کان أحفاده کذلک من بعده،فعلی زین العابدین کان یحمل الطعام لیلا لیوزعه علی بیوت ما عرفت خصاصتها إلا من بعده.

و لم یکن غریبا أن یکون الإمام الصادق النابت فی ذلک المنبت الکریم سخیا

ص:68

جوادا،فکان یعطی من یستحق العطاء،و کان یأمر بعض اتباعه أن یمنع الخصومات بین الناس بتحمل ما یکون فیها من الخسائر.

و کان رضی اللّه عنه یقول:لا یتم المعروف إلا بثلاثة:بتعجیله و تصغیره و ستره.و لهذا کان یسر العطاء فی أکثر الأحیان،و کان یفعل ما کان یفعله جده علی زین العابدین،فکان إذا جاء الغلس یحمل جرابا فیه خبز و لحم و دراهم،فیحمله علی عاتقه،ثم یذهب إلی ذوی الحاجة من أهل المدینة و یعطیهم،و هم لا یعلمون من المعطی حتی مات،و تکشف ما کان مستورا،و ظهرت الحاجة فیمن کان یعطیهم، و جاء فی حلیة الأولیاء:و کان جعفر بن محمد یعطی حتی لا یبقی لعیاله شیئا.

و إن السخاء بالمال یدل علی مقدار قوة الإحساس الاجتماعی،و إن ستره یدل علی مقدار قوة الوجدان الدینی،و ملاحظته جانب اللّه وحده و لیس ذلک بعجب ممن نشأ مثل نشأة الإمام الصادق.

حلمه و سماحه:

و فی صفحة 81 قال:

و لقد کان رضی اللّه عنه سمحا کریما لا یقابل الإساءة بمثلها،بل یقابلها بالتی هی أحسن،عملا بقوله تعالی: اِدْفَعْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِی بَیْنَکَ وَ بَیْنَهُ عَداوَةٌ کَأَنَّهُ وَلِیٌّ حَمِیمٌ [فصلت:34].

و کان یقول:إذا بلغک عن أخیک شیء یسوؤک فلا تغتم،فإن کنت کما یقول القائل کانت عقوبة قد عجلت،و إن کنت علی غیر ما یقول کانت حسنة لم تعملها.

و کان رقیقا مع کل من یعامله،من عشراء و خدم،و یروی فی ذلک أنه بعث غلاما له فی حاجة فأبطأ فخرج یبحث عنه،فوجده نائما فجلس عند رأسه،و أخذ یروح له حتی انتبه،فقال:ما ذلک لک تنام اللیل و النهار،لک اللیل و لنا النهار.

علی أن التسامح و الرفق لیبلغ به أن یدعو اللّه بأن یغفر الإساءة لمن یسیء إلیه، و یروی فی ذلک أنه کان إذا بلغه شتم له فی غیبة یقوم و یتهیأ للصلاة،و یصلی طویلا، ثم یدعو ربه ألا یؤاخذ الجانی،لأن الحق حقه و قد وهبه للجانی،غافرا له ظلمه، و کان یعتبر من ینتقم من عدوه و هو قادر علی الانتقام ذلیلا،و إذا کان فی العفو ذل فهو الذل فی المظهر لا فی الحقیقة،بل إنه لا ذل فیه،و الانتقام إذا صدر عن القوی إذ

ص:69

أهانه الضعیف هو الذل الکبیر،فلا ذل فی عفو،و لا عظمة فی انتقام،و لقد قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ما نقص مال من صدقة،و ما زاد عبد بالعفو إلا عزا،و من تواضع للّه رفعه.

و إن الحلم و التسامح خلق قادة الفکر و الدعاة إلی الحق کما قال تعالی: اُدْعُ إِلی سَبِیلِ رَبِّکَ بِالْحِکْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِی هِیَ أَحْسَنُ [النحل:125]و کما قال آمرا نبیه،و کل هاد بل کل مؤمن: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِینَ [الأعراف:

199].

شجاعته:

و فی صفحة 82 قال:

أولئک ذریة علی و نسله الکرام صقلتهم الشدائد،و لم تهن من عزائمهم المحن، فالشجاعة فیهم من معدنه،و هی فیهم کالجبلة لا یهابون الموت،و خصوصا من یکون فی مثل أبی عبد اللّه الصادق الذی عمر الإیمان قلبه،و انصرف عن الأهواء و الشهوات،و استولی علیه خوف اللّه وحده.و من عمر الإیمان قلبه و من لا یخش إلا اللّه فإنه لا یخاف أحدا من عباده،مهما تکن سطوتهم و قوتهم،و قد کان رضی اللّه عنه شجاعا فی مواجهته من یدعون أنهم اتباع له،و هم مع ادعاء هذه التبعیة الرفیعة یحرفون الکلم عن مواضعه،فهو لم یعن عن تعریفهم الحق،و تصحیح أخطائهم و عن توجیههم حتی إذا لم یجد التوجیه و الملام أعلن البراءة منهم و أرسل من یتحدثون باسمه لیعلنوا هذه البراءة.

و کذلک کان شجاعا أمام الأقویاء ذوی السلطان و الجبروت،لا یمتنع عن تذکیرهم بالطغیان تعریضا أو تصریحا علی حسب ما توجبه دعوة الحق من مراعاة مقتضی الحال،و یحکی أن المنصور سأله:لم خلق اللّه تعالی الذباب؟و ذلک عند ما وقعت ذبابة علی وجه المنصور عدة مرات،فأجاب الصادق معرضا بأهل الجبروت و الطغیان:یذل به الجبارین.

و قد کان هذا فی لقائه للمنصور،و قد تقوّل علیه الذین یطوفون بالحکام الأقاویل،و إن هذه الإجابة فی هذا اللقاء لأکبر دلیل علی ما کان یتحلی به من شجاعة،و إنه فی هذا اللقاء لا یکتفی بذلک،بل ینصح المنصور قائلا له:علیک بالحلم فإنه رکن العلم،و أملک نفسک عند أسباب القدرة،فإنک إن تفعل ما تقدر علیه

ص:70

کنت کمن یحب أن یذکر بالصولة،و اعلم أنک إن عاقبت مستحقا لم تکن غایة ما توصف به إلا العدل،و الحال التی توجب الشکر أفضل من الحال التی توجب الصبر.

و یروی أن بعض الولاة نال من علی بن أبی طالب کرم اللّه وجهه فی خطبته، فوقف أبو عبد اللّه الصادق ورد قوله فی شجاعة المحق المؤمن باللّه وحده،و ختم کلامه بقوله:أ لا أنبئکم بأخلی الناس میزانا یوم القیامة و أبینهم خسرانا،من باع آخرته بدنیا غیره و هو هذا الفاسق.

فراسته:

و فی صفحة 84 قال:

کان الصادق ذا فراسة قویة،و لعل فراسته هی التی منعته أن یقتحم فی السیاسة، و یستجیب لما کان یدعوه إلیه مریدوه،مع ما یراه من حال شیعته فی العراق من أنهم یکثر قولهم و یقل عملهم،و قد اعتبر بما کان منهم لأبی الشهداء الإمام الحسین رضی اللّه عنه،ثم لزید و أولاده،ثم لأولاد عبد اللّه بن الحسن،و لذا لم یطعهم فی إجابة رغباتهم فی الخروج،و کان ینهی کل الذین خرجوا فی عهده عن الخروج.

و إن الأحداث التی نزلت بأسرته و وقعت حوله،و أحیط به فی بعضها قد جعلته ذا إحساس قوی یدرک به مغبة الأمور،مع ذکائه الألمعی و زکاة نفسه فکان بهذا من أشد الناس فراسة و ألمعیة،و أقواهم یقظة حس و قوة إدراک الخ.

هیبته:

و فی صفحة 85 قال:

أضفی اللّه علی جعفر بن محمد الصادق جلالا و نورا من نوره،و ذلک لکثرة عبادته،و صمته عن لغو القول،و انصرافه عما یرغب فیه الناس،و جلده للحوادث، کل هذا جعل له مهابة فی القلوب،فوق ما یجری فی عروقه من دم طاهر نبیل،و ما یحمل من تاریخ مجید لأسرته،و ما آتاه اللّه من سمت حسن،و منظر مهیب،و علو عن الصغائر،و اتجاه إلی المعالی،و حسبک ما ذکرنا من أن أبا حنیفة عند ما رآه فی الحیرة و هو جالس مع المنصور الذی لا تغیب الشمس عن سلطانه،راعه منظر الصادق و اعتراه من الهیبة له،ما لم یعتره من الهیبة للمنصور صاحب الحول و الطول

ص:71

و القوة،و لقد کانت هیبته تهدی الضال،و ترشد الحائر،و تقوّم المنحرف،و کان یلقی الرجل من دعاة رءوس الفرق المنحرفة،فإذا رأی ما علیه الإمام من مهابة و جلال و روعة تلعثم بین یدیه و هو اللجوج فی دعایته،ذو البیان القوی،فإذا جادله الإمام بعد أن أخذته مهابته لا یلبث أن یقول ما یقول الإمام،و یردد ما یرشده إلیه.

قد التقی مرة بابن أبی العوجاء،و هو داعیة من دعاة الزنادقة بالعراق،فلما رأی الصادق و استرعاه ما علیه من سمت،و أخذ الصادق یتکلم لم یحر جوابا حتی تعجب الصادق و الحاضرون فقال له:ما یمنعک من الکلام؟ و یقول الزندیق:ما ینطق لسانی بین یدیک،فإنی شاهدت العلماء و ناظرت المتکلمین فما داخلتنی هیبة قط مثلما داخلنی من هیبتک.

و یختم الأستاذ هذا الفصل بقوله:تلک بعض سجایا الصادق،و إنه ببعض هذه الصفات یعلو الرجال علی أجیالهم و یرتفعون إلی أعلی مراتب القیادة الفکریة فکیف و قد تحلی بهذه الصفات و بغیرها،و قد کان عطوفا ألوفا لین الجانب حلو العشرة، و کان زاهدا عابدا قنوتا شاکرا صابرا.

هذا ما أردنا ذکره-علی انفراد-من انطباعات الأستاذ أبی زهرة عن شخصیة الإمام الصادق علیه السّلام فی کتابه الذی خصصه لدراسة حیاته علیه السّلام و الذی نحن بصدد إبداء الملاحظات علیه،و سننتقل بالقراء إلی مجلس المناقشة معه،بعد أن نعقب علی ما کتبناه هنا ببیان موجز کتمهید للدخول فی المناقشة مع الأستاذ.

استنتاج و تعقیب:

لعل ما قدمناه من البیان ینتهی بنا إلی نتیجة یحسن أن یقف عندها الباحثون عن تاریخ الشیعة،و ما اعتراه من ملابسات،و ما أحیط به من غموض.و کل ذلک یعود إلی الخصومة المتکونة بین الشیعة و بین الدولتین الأمویة و العباسیة.لأن أهل البیت علیهم السّلام هم حملة لواء المعارضة فی جمیع الأدوار،و شیعتهم ینضمون إلی جانبهم مهما کلفهم الأمر،و هم أنصار تلک المعارضة،و حملة تلک الدعوة،و قد نکل بهم الأمویون أشد تنکیل و اضطهدوهم أعظم اضطهاد،و قد بلغ الأمر إلی حد مؤلم إذ أصبحت التسمیة باسم علی توجب الاتهام بالتشیع،و أصبح اسم علی علیه السّلام خطرا علی من یذکره بخیر حتی التجأ المحدثون إلی أن یکنوا عنه.

ص:72

قال ابن عساکر (1):وفد زریق القرشی علی عمر بن عبد العزیز فقال:یا أمیر المؤمنین إنی رجل من أهل المدینة و قد حفظت القرآن و الفرائض،و لیس لی دیوان.

فقال له عمر:من أی الناس أنت؟ قال زریق:أنا رجل من موالی بنی هاشم.

فقال عمر:مولی من(أنت)؟ قال:رجل من المسلمین.

فقال عمر:أسألک من أنت و تکتمنی؟ فقال زریق:أنا مولی علی بن أبی طالب و کان بنو أمیة لا یذکر علی بین أیدیهم فبکی عمر حتی وقعت دموعه علی الأرض و قال:أنا مولی علی؛حدثنی سعید بن المسیب عن سعد أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال لعلی:أنت منی بمنزلة هارون من موسی.

و القارئ یدرک بهذه القصة مدی التکتم من ذکر اسم علی فی العهد الأموی و لعلنا فی غنی عن ذکر الشواهد لذلک،و بیان أعمال العنف التی ارتکبها الأمویون فی معاملة شیعة علی و ما سجله التاریخ مما لا یمکن إنکاره،و إن کان هناک إنکار فهو مکابرة و مغالطة.

أما الدور العباسی فقد اشتدت به الخصومة،و تضاعفت المحنة،و أصبح الأمر أشد نکایة و أعظم وقعا:و قد أظهر العباسیون فی بدایة الأمر عطفهم علی أبناء علی، و الطلب بثأرهم،و الانتقام من خصومهم،کسبا للظرف الراهن.و لکن سرعان ما تبدل الأمر فقد تنکر العباسیون للشیعة،لأنهم قد لمسوا عدم الارتیاح منهم لدولتهم،و قد فتک السفاح بمن یتهمه بالمیل لآل علی من القواد و الزعماء،مع تظاهره بالعطف علی آل علی علیه السّلام.

و انقضت أیام السفاح،و جاء دور المنصور،و هو داهیة العباسیین،و یعد فی الواقع هو مؤسس الدولة،فکان یحسب لأهل البیت و أنصارهم ألف حساب،لأنه یخشاهم أکثر من غیرهم،فکان یراقبهم عن کثب،و یغری من یحصی علیهم المؤاخذات.

ص:73


1- (1) تاریخ ابن عساکر ج 5 ص 320. [1]

و قد عامل العلویین بالشدة،و قابلهم بالنقمة،و عامل أنصارهم بأقسی أنواع الظلم و الإرهاب،و القتل و التشرید،بعد أن عجز عن جلبهم إلیه و استخدامهم فی دولته لیأمن جانبهم،و یمضی فی حکمه بدون معارضة أو مؤاخذة.

و لکن الشیعة قد آثروا الانفصال عن الدولة،مهما نالهم من تعذیب و تنکیل، اتباعا لأوامر الإمام الصادق علیه السّلام زعیم أهل البیت فی عصره،عند ما أعلن غضبه علی الدولة و أمر الناس بعدم الرکون إلی حکامها.

و هکذا تمر الأدوار،و تعظم الأحداث،و یذهب ملک و یأتی آخر،و موقف الشیعة موقف ثبات و معارضة فی جمیع المیادین،و قد رسخت أقدامهم علی ما اعتقدوه،و هان علیهم فی سبیل ذلک ما یلاقونه،من ضروب المحن،و قدموا التضحیات المجیدة،حتی عرفوا فی قاموس لغة السیاسة(إنهم أمة هدامة أو حزب ثوری لا یعترفون بنظام الحکم القائم).

و لیس من الصحیح أن یؤخذ مفهوم الشیعة بأمثال هذه التعریفات،فالشیعة یعترفون بنظام الحکم الإسلامی الذی تتخذه الدولة شعارا لها،و لکن المعارضة من الشیعة إنما هی لنفس الحکام،إذ لم یسیروا علی ما یوجبه ذلک النظام و قد لعبت بهم الأهواء و الشهوات،و حکموا بنظم مختلفة و آراء مضطربة،لا تتفق مع نظم الإسلام و تعالیمه، و ما یدعونه من المحافظة علی ذلک فهو بعید عن الواقع.و ثورة الشیعة و معارضتهم إنما هی من أجل تطبیق نظام الإسلام الذی رفضه حکام الجور،و أن أعمالهم التی سجلها التاریخ تعطی صورة عن تلک الأمور المتناقضة،و الإنکار علی ذلک من أعظم الأخطار التی تهدد الدولة،فمن واجبها أن تقضی علی المنکرین لتلک الأعمال.

و الشیعة-مما لا جدال فیه-هم حملة لواء المعارضة و باسمهم تقوم الثورات المتتالیة علی تلک الأعمال المخالفة للإسلام،و کان شعورهم بوجوب القضاء علی ذلک النظام الفاسد یبدو مرة،و یکمن أخری،و یظهر حینا و یختفی حینا آخر،و هکذا حتی أصبحوا قادة المعارضة(و أبدوا فی ذلک ضروب البسالة فلم یثنهم إرهاب،و لم تلن لهم قناة،و لقد کانوا موضع إعجاب الناس و تقدیرهم،و لذا فإن الخلیفة الذی کان یشد قبضة الإرهاب علی الشیعة کان یستفز بمسلکه جمهور المسلمین و یثیر حفیظتهم) (1).

ص:74


1- (1) ثورة الزنج ص 36.

و علی سبیل الإجمال فإن المصادر التی بین أیدینا تتضمن تلک الحوادث، و تعطی صورة عن تلک الخصومة و اتساع دائرتها،و هی أصدق تفسیر لما کان یرمی به أتباع أهل البیت،من تهم و ما یسند إلیهم من آراء و أقوال لا وجود لها.و إن استعمال تلک الأسالیب الخداعة،فی تضلیل الناس عن واقع الأمر،کان أقوی سلاح تستعمله السلطة فی محاربة الشیعة،فقد کان یسلم من نقمة المخدوعین(من یعرفونه دهریا، و سوفسطائیا،و لا یتعرضون لمن یدرس کتابا فلسفیا أو مانویا،و یقتلون من عرفوه شیعیا،و یسفکون دم اسم من سمی ابنه علیا) (1).

و نتیجة لتلک الخصومة فقد استطاعت السلطة بقوة الحکم و شدة الإرهاب، و أسالیب الدعایة،أن یقرن اسم الشیعة بالکفر عند ما یطلق،أو بالضلال عند ما یعرّف، أو البغی عند ما یصدر علماء السوء فتوی فی وجوب قتل الشیعة و إبادتهم. (2)

فیجب علی المؤرخ أو الکاتب-إن کان هدفه الوصول إلی الحقیقة-أن یأخذ أثر تلک الخصومة التی نشبت بین الشیعة و بین ولاة الأمر علی ممر الأیام،بعین الاعتبار،و یکون النظر إلی الحوادث بعین العقل من دون تقلید أو تعصب،إذ الاستسلام لکل قول،و الأخذ بکل رأی من دون تمحیص جنایة علی التاریخ.

و قد قلت سابقا:إن مهمة المؤرخ عن الشیعة،هی أعسر من مهمة من یؤرخ لغیرها من طوائف المسلمین؛لوجود عواطف الاتهام،و زوابع الافتراء،طبقا لرغبات ولاة الأمر،مما أوجد غموضا فی الموضوع،و تشویها للحقیقة،و قد اندفع أنصارهم لتأیید ما یقترحونه فی اتهام الشیعة،و نشرها فی المجتمع،حتی نالت تلک الأوهام علی ممر الأیام صبغة الواقع،إذ لم تجد من یکشف عن واقعها بید لم تلوث بأدران التعصب.

و المؤرخ أو الکاتب إذا کان مقلدا أو متعصبا لم یتسع أفق تفکیره،بل و یضیق مسلکه،فهو لا یؤدی حق التاریخ و أمانة الأجیال،لأن جموده علی عبارات سلف نشئوا فی عصور مظلمة بتیارات الخلافات المذهبیة یجعله أسیر آراء شاذة،و لیس

ص:75


1- (1) المصدر السابق ص 35.
2- (2) رسائل ابن عابدین ج 1 ص 368-369 تجد نص فتوی أبی السعود فی وجوب قتل الشیعة و جهادهم و مستنده أنهم بغاة علی السلطان.

لعقله و حریة تفکیره دخل فی دراسته،و لئن بقی الأمر علی ما هو علیه،فستبقی القافلة تتعثر فی الظلام،کما تبقی براکین العداء تغلی،و یخشی انفجارها بین آونة و أخری، و فی کل فترة یبرز کاتب مأجور،یحمل بیده مقدحة الفتنة،لیوقد نارها فنسطلی بلهیبها،و أعداؤنا یعملون عملهم الجدی،فیما یعود علیهم بالنفع و التقدم،و لا نکسب من ذلک إلا الخسران و التأخر.

و نحن الآن،و بعد أن لمسنا أضرار ذلک التفکک و الانقسام،نأمل کما یأمل کثیر من الناس؛أن تطرح المغالطات جانبا،و أن یترکز البحث علی إظهار الحقیقة،لیرفع الستار و تزول الأشباح المخیفة الجاثمة من ورائه،و هناک یکون التفاهم،و یحصل التقارب الواقعی،و یخسر هنالک المبطلون الذین یعظم علیهم تقارب المسلمین، لأنهم یعیشون فی الماء القذر،و لا یهمهم إلا الهوس و التهریج،و إثارة الفتنة،خدمة لأسیادهم و طمعا فی الحطام الزائل.

تلک عصور مضت و أیام خلت،و ذهبت بما فیها من آلام و محن،أیام کان المسلمون یتخاصمون و یتنازعون،و یکفر بعضهم بعضا.و قد واجهت الأمة الإسلامیة أعظم الأخطار،و هی تحیا حیاة التفکک و الانقسام.

و الآن و قد ولت تلک الأدوار بما فیها من محن و کوارث،یلزم أن نلقی ستارا علی آثار تلک الخصومات،و أن نحلل الأمور تحلیلا یوصلنا إلی الحق الذی یجب أن نتبعه،و أن نوجه الأضواء الکاشفة عن حقیقة ما کتب فی تلک العصور المظلمة،حول العقائد و الآراء،و لکثیر من طوائف المسلمین و بالأخص الشیعة،لتظهر لنا الحقیقة کاملة و نسیر علی ضوء العلم و الواقع.

و نحن بهذا الوقت الحاضر لا یسعنا إلا الاعتراف بوجود وعی عام یرجی من ورائه إزالة الحواجز،التی حالت بین المسلمین و بین تقاربهم،و الدعوة إلی التآلف و التقارب لتشق طریقها بنجاح بین المسلمین جمیعا.

و قد عظم ذلک علی کثیرین من ضعفاء النفوس،و ذوی الأقلام المسمومة، الذین لا یروق لهم اتحاد المسلمین و تقاربهم فراحوا یثیرون الفتن و قلوبهم توقد بنار الغیظ(قل موتوا بغیظکم)فالأمة الإسلامیة قد اصطدمت بواقعها،و الشعور بوجوب بناء العلاقات الإسلامیة علی ما أمر اللّه به و رسوله قد انتشر،و لا یمکن مقاومة هذا

ص:76

الوعی بما تبثونه من غدر و خیانة فی نشر الخلاف و بذر الحقد بین صفوف المسلمین.

و إلی اللّه نبتهل بأن یجمع کلمة الأمة الإسلامیة و یحقق آمال دعاة الإصلاح فی لمّ الشعث و جمع الشمل،بعد أن لعبت بهم الأهواء و فرقتهم الخصومة.

و علی هذا الأمل المنشود،و الأمنیة التی هی غایة کل مؤمن،نسایر الأستاذ الشیخ محمد أبو زهرة فی مناقشاتنا له،ببعض ما ورد فی مؤلفه(الإمام الصادق)فعلی بساط الواقع،یعقد مجلسنا،و علی ضوء العلم نسجل مؤاخذتنا،و خدمة الأمة هدفنا، و رضا اللّه قصدنا و هو حسبنا و نعم الوکیل.

ص:77

ص:78

لقاء مع الأستاذ(أبو زهرة)

اشارة

فی کتابه الإمام الصادق

القسم الأول

اشارة

ص:79

ص:80

تمهید:

هنا نلتقی مع الأستاذ أبی زهرة فی مناقشات علمیة،و إبداء ملاحظات حول بعض ما جاء فی کتابه الإمام الصادق.

و الأستاذ أبو زهرة من الشخصیات العلمیة فی مصر،و یتمتع بشهرة واسعة فی مجتمعه و غیره،و قد درس الفقه الإسلامی و درّسه،و له اختصاص بتاریخ التشریع الإسلامی و مذاهبه،و ألف فی حیاة أئمة المذاهب،کأبی حنیفة و مالک و أحمد و الشافعی،کتبا بسط فیها للباحثین طرق التعرف علیهم،و الوقوف علی ما یتمتعون به من شهرة،و ما لهم من منزلة،و هی أوضح بکثیر من تلک الطرق التی رسمها المؤلفون فی مناقبهم و تاریخ حیاتهم من بعض أتباعهم،و التی تجعل الوصول إلی التعرف علیهم و أخذ صورة عنهم من الصعوبة بمکان لما أودعوا فی بطون تلک الکتب من زوائد بل خرافات لا یقرها العقل.

فکانوا یتعصبون لهم،و لهذا شذوا عن الهدف،و أخطئوا فی الدلالة؛لأن التعصب أفقدهم مقیاس التعریف،و هم،کما یصفهم أبو زهرة بقوله:

و کتب المناقب کتبت بعقلیة متعصبة شدیدة التعصب،تبالغ فیمن ترفعه إلی درجة لا یستسیغها العقل،و یمجها کما یمج الفم ما لا یتفق مع الذوق السلیم،و تبالغ فی الحط من شأن غیره (1).

ص:81


1- (1) الإمام مالک،لأبی زهرة ص 15.

و هذا التعصب یجعل الدارس لحیاتهم یتحمل عناء فی البحث،و جهدا فی التنقیب،لطول المسافة و بعد الهدف،و لکن مؤلفات(أبو زهرة)تبدو أنها أقرب الطرق و أوصلها للغایة بالنسبة لتلک المؤلفات،فهو یعالج کثیرا من الأمور و یوجهها حسب ما یراه،و ما یصل إلیه تفکیره فیجعل من الشک یقینا و من الیقین شکا،مع تساهله فی النقل و تسامحه عما یرد فی کثیر من المواضیع التی تحتاج إلی بسط و بیان.

التقیت بالشیخ أبو زهرة فی کتبه عن حیاة أبی حنیفة،و الشافعی،و مالک، و أحمد،فوجدته کاتبا غیر متعصب علی أحد منهم،و هو إلی الإعجاب و التقدیر لهم جمیعا أقرب،فلا یمیل مع أحد،و لا یتحامل علی آخر،فهو کاتب للجمیع لا لمذهب دون آخر،و قد أعرض عن کثیر من الزوائد التی ذکرها اتباع أئمة المذاهب الذین خرجوا بها عن حدود الاتزان فی الاندفاع وراء أوهام التعصب،و خداع العاطفة،و تضلیل التعصب.

و الآن التقی به فی کتابه عن حیاة الإمام الصادق علیه السّلام و هو آخر ما کتبه فی الدراسات عن الشخصیات التی عنی بدراسة حیاتهم،و الکتابة عنهم،و هم:أبو حنیفة،و الشافعی،و مالک،و أحمد،و ابن تیمیة،و ابن حزم و زید بن علی بن الحسین علیه السّلام.

و کان هذا التأخیر مبعث استغراب،إذ الواجب یقضی علیه تقدیم الکتابة عن الإمام الصادق قبل غیره من رؤساء المذاهب الإسلامیة و غیرهم،فهو مقدم علیهم بالرتبة الزمنیة،و الرتبة العلمیة،إذ هو المعلم الأول لهم و أستاذهم،فأبو حنیفة و مالک و غیرهم ممن أصبحوا رؤساء مدارس و أئمة حدیث قد أخذوا عنه،فلیس هو دونهم بل له فضل السبق،و لا یمکن أن یؤخر عن نقص و لا یقدم علیه غیره من فضل.کما یقول المؤلف نفسه (1).

فالتأخیر یبعث علی الاستغراب من کاتب للتشریع الإسلامی،و تاریخ تطوره، و نشأة مذاهبه،لأنه کاتب للجمیع و یصف نفسه بالإنصاف و عدم التحیز،و لکنه اعتذر عن الکتابة فی حیاة الإمام الصادق بقلة المصادر (2).

ص:82


1- (1) الإمام الصادق لأبی زهرة ص 3.
2- (2) الإمام زید ص 4.

و هو اعتذار ربما یکون وجیها فی ظاهره،لأن قلة المصادر تجعل الکاتب فی أفق ضیق لا یستطیع أن یستمد معلوماته الکافیة للدراسة.

کما أن الشیخ أبو زهرة علی علمه و مکانته لا نظنه قادرا علی تجاوز ما جری علیه الناس من تقلید المذاهب الأربعة و العمل بها کأن لیس فی تاریخ الإسلام و میدان الفقه هذه الحرکة التی تزین التاریخ الإسلامی و توشحه و التی اتسمت بالاختصاص بأهل البیت النبوی الکریم،و کان الإمام الصادق فی معترک عصره و دوامة زمنه سید الفقهاء الآخرین.

و لا یفوتنی أن أشیر إلی أن الأستاذ قد کتب عن الإمام الصادق فی کتابه محاضرات فی المیراث عند الجعفریة المطبوع سنة 1955 بترجمة موجزة (1).

و کتاب المحاضرات لا یخلو من مؤاخذات لما وقع فیه من أخطاء لا یمکن السکوت علیها،و قد أشرت إلیها فی الهامش و ترکت ذلک للمباحث الفقهیة.

کما أنه تحدث عن حیاة الإمام الصادق فی کتاب الشعب (2)الصادر فی سنة 1959 و لم یتجاوز فی حدیثه ما ذکره فی محاضراته إلا القلیل،و لم یأت بشیء یستحق أن یسمی دراسة عن شخصیة الإمام،و کنا ننتظر منه أن یتحفنا بدراسة وافیة عن الإمام الصادق.

وصلنی کتاب(الإمام الصادق حیاته و عصره آراؤه و فقهه)للشیخ(أبو زهرة) فأقبلت علی دراسته،و تفرغت لمراجعته،و بعد أن قرأت الکتاب بأکمله قراءة إمعان و تدبر،إذ القراءة السریعة أو النظرة الخاطفة تبعد بالقارئ عن کثیر من آراء المؤلفین و أغراضهم،و ربما یخطئ القارئ بهذا الشکل فی إعطاء رأیه حول الکتاب.

وجدت أن المؤلف قد جعل من نفسه فی هذا الکتاب حاکم عدل یدرس المقدمات،و یقارن و یوازن،و یستنطق الحوادث،ثم یصدر حکمه.کما أشار إلی ذلک بقوله:

و إنا علی قدر جهودنا نحاول أن نصل إلی ما تطمئن إلیه نفوسنا،و نرجو ألا یضیق صدر أحد حرجا بما ننتهی إلیه من نتائج علی أساس نظرنا،فإنا ندرس

ص:83


1- (1) المحاضرات ص 28-38.
2- (2) کتاب الشعب ص 469-489.

المقدمات کما یدرس القاضی البینات یستنطقها و لا یوجهها،و یأخذ عنها،و لا یتزید علیها،حتی إذا انتهی إلی الحکم نطق به،و نقول إننا بشر نخطئ و نصیب (1).

فالمؤلف فی هذا الکتاب یقضی بالعدل لا یمیل مع أحد إلا أن یکون الحق معه،فهو کما یقول یدرس القضایا و المقدمات،و ینطق بالحکم،و لا بد أن یکون حکمه عادلا،و سنری من سیر هذه الملاحظات ما یؤول إلیه الأمر و یکشف الواقع، فإن کانت أحکامه عادلة شکرناه و إن کان قد أخطأ فنحن نبین ذلک،و الرجوع عن الخطأ فضیلة یحمد علیها المرء،و نحن مع الحق أین ما یکون،و لا مغضبة فی الحق و من یغضب منه فلا کرامة له و لا اعتناء به.

و قد قلت أنا لا نعیر اهتمامنا إلا لرجال العلم و ذوی الفهم،و کم قد وقفنا علی عشرات من الکتب التی حررتها أقلام مأجورة،لمن لا یعرفون من الحق موضع أقدامهم،فتهجموا علی اتباع أهل البیت،و کتبوا بدون حکمة و اتزان،و أبرزوا الأمور فی غیر قالبها،أولئک قوم قد ضرب الهوی علی عقولهم،فجاءوا بآراء غیر سدیدة، ذهابا مع أهواء النفس،و خضوعا لسلطان الطائفیة الجائر،فترفعنا عن مناقشتهم لا عجزا عن ذلک و إنما إهمالا لشأنهم.

لأننا لا نعبأ بمن یسیر علی غیر هدی،و لا یرضخ للواقع و یهرب منه عند ما یصطدم به،و إظهار الحقیقة یشق علیه،لأن القضیة قضیة هوس و تهریج و هدف معین لا قضیة مناقشات علمیة و مبادلة آراء و معالجة للمشاکل.

و علی کل حال:فإن تقدیری لشخصیة الشیخ أبو زهرة و ما عهدته فیه من عدم التعصب لمذهب دون آخر،جعلنی أستغرب منه ما خالف فیه الواقع و حکم علیه بدون بینة،فکتابه الإمام الصادق الذی نحن بصدده الآن هو أهم من غیره لعدة أمور لا تخفی علی القارئ النبیه،لذلک أعرناه مزیدا من الاهتمام فی الدراسة،و قد قرأته بدقة فظهرت لی أشیاء کثیرة تسترعی الانتباه،و تستوجب المؤاخذة علیها و إبداء الملاحظات حولها،فسجلت علیه مؤاخذات لا تتعدی حدود النقد النزیه المترکز علی الموازین الصحیحة.

ص:84


1- (1) الإمام الصادق لأبی زهرة ص 184-185.

و قد اقتصرت فی مناقشاتی له علی بعض دون بعض،متحریا الأهم فالأهم،أو ما یتناسب و موضوعنا،و ترکی للبعض دون مناقشة لا یعد إقرارا له،أو اقتناعا بصحته، و لکن ترکت الاستقصاء للأساتذة الذین هم أکثر تخصصا بالبحث،و أوسع فراغا للرد.

و الذی تجدر الإشارة إلیه هو أنی ربما أتناول بعض المواضیع بالاختصار و البعض الآخر بالزیادة فی البیان،فإن ذلک یعود لمقتضی الموضوع،و اتساع الوقت، و لم یکن قصدی من إبداء هذه الملاحظات إلا خدمة الحقیقة و إظهارها.إذ المؤلف- کما یعبر عن نفسه-قد نصب نفسه قاضیا،یستنطق الحوادث،و یدرس القضایا کما یدرسها القاضی ثم یصدر حکمه بعد ذلک.

و لا بد أن یکون حکمه عادلا،إن سلم من نقاط الضعف،و کانت دراسته دراسة المتثبت الذی یعالج القضایا معالجة المتمکن من فهم الأشیاء،و استجواب البینات بالطرق العادلة،ثم یصدر حکمه و یعطی رأیه الخاص،و علی هذا نسایر الأستاذ و نطالبه بالعدل و الإنصاف.

کتاب الإمام الصادق لأبی زهرة:

یشتمل الکتاب علی خمسمائة و ثلاث و خمسین صفحة و هو حجم لا بأس به.

و أول ما یطالعک من الکتاب شکله و حجمه،و قد طبع علی ورق أبیض و عنوانه (الإمام الصادق حیاته و عصره،آراؤه و فقهه)و نحن لا نعتبر الظواهر و الأشکال،فربما کبرت الأجسام عن ورم،و حسنت الصور عن تدلیس.و الذی یهمنا محتوی الکتاب، و مواده لأهمیة البحث فی دراسة حیاة الإمام الصادق و ما یحیط بها من مشاکل،و ما یکتنف عصره من أحداث و ملابسات،و إعطاء الرأی الذی یقتنع به نتیجة لدراسته، و تشبع روحه بالموضوع و قد قسم الکتاب إلی قسمین:

القسم الأول:فیما یتعلق بحیاة الإمام الصادق علیه السّلام و عصره ما بین سنة 83 ه و هی سنة ولادته علیه السّلام و بین سنة 148 ه و هی سنة وفاته.

و القسم الثانی:یبدأ من ص 183 و ینتهی إلی آخر الکتاب و هو یتعلق بآراء الإمام الصادق و فقهه.

و قد تعرض فی القسم الأول إلی ذکر الفرق و أقسامها،بموجز من البیان عن

ص:85

عقائدها کما هو دأبه فی کل کتاب کتبه عن رؤساء المذاهب و غیرهم،یکرر ذلک لأن لها علاقة بما یکتبه.

و نحن هنا نسایر الأستاذ فیما کتبه عن الإمام الصادق و منطقنا الصدق و هدفنا جمع الکلمة،و رضا اللّه قصدنا.

و نحن کما یقول الأستاذ و اشتراطه علی نفسه:نقوم بحق العلم فإن الدارس للتراث الإسلامی علیه أن یقصد إلیه فی کل نواحیه،و فی شتی مذاهبه،لا یحول بینه و بین طلب الحق عصبیة و لا مذهبیة،و التحیز لطائفة دون طائفة و هذا نهجنا و علی هذا نسیر.

من هنا نبدأ:

یفتتح الأستاذ بحثه-بعد البسملة-بالحمد للّه علی نعمه،و الصلاة علی محمد و علی آله و عترته و صحابته...

ثم یقدم اعتذاره عن تأخیر الکتابة عن الإمام الصادق علیه السّلام لأن الأجدر به أن یقدم،إذ الإمام الصادق علیه السّلام أعظم شخصیة إسلامیة کما یوجب العلم ذلک،و من قصر النظر و ظلم الحقیقة،أن تدرس حیاته کرئیس مذهب،و إمام طائفة فحسب،بل الواقع یلزمنا أن ندرسه إماما للجمیع،و موجها للأمة الإسلامیة،و عمیدا لأعظم مدرسة فکریة فی الإسلام،فهو مقدم علی الجمیع بکل ما یقتضی التقدیم،و لهذا فالأستاذ یتقدم بعذره عن تأخیره الکتابة عنه،فلنصغ لحدیثه و نستمع لاعتذاره إذ یقول:أما بعد فإننا قد اعتزمنا بعون اللّه و توفیقه أن نکتب فی الإمام الصادق،و قد کتبنا عن سبعة من الأئمة الکرام (1)و ما أخرنا الکتابة عنه(أی الإمام الصادق)لأنه دون أحدهم،بل إن له فضل السبق علی أکثرهم،و له علی الأکابر منهم فضل خاص،فقد کان أبو حنیفة یروی عنه و یراه أعلم الناس باختلاف الناس،و أوسع الفقهاء إحاطة، و کان الإمام مالک یختلف إلیه دارسا راویا،و من کان له فضل الأستاذیة علی أبی حنیفة و مالک فحسبه ذلک فضلا،و لا یمکن أن یؤخر عن نقص،و لا یقدم غیره علیه عن فضل،و هو فوق هذا حفید زین العابدین،الذی کان سید أهل المدینة فی عصره؛

ص:86


1- (1) و هم أبو حنیفة،و مالک،و الشافعی،و ابن حنبل و ابن تیمیة و ابن حزم و زید بن علی و کلها مطبوعة منتشرة.

فضلا و شرفا و دینا و علما،و قد تتلمذ له ابن شهاب الزهری و کثیرون من التابعین، و هو ابن محمد الباقر الذی بقر العلم و وصل إلی لبابه،فهو ممن جمع اللّه تعالی له الشرف الذاتی،و الشرف الإضافی،بکریم النسب،و القرابة الهاشمیة،و العزة المحمدیة.

و لکنا تأخرنا فی الکتابة عنه تهیبا لمقامه،و لأن طائفة من الناس قد غالوا فی تقدیره،و منهم من انحرفوا فادعوا له الألوهیة،و کثیرون ادعوا أنه فی مرتبة قریبة من مرتبة النبوة،و العلماء الذین عاصروه و الذین جاءوا من بعدهم، وصفوه بأنه فی الذروة فی العلماء،و اعترفوا له بالإمامة فی فقه الدین،و لم یتجاوزوا مرتبة العالم الإمام، و المجتهد المتبع الذی یؤخذ عنه،و أخذ عنه الأئمة الأعلام،و أضاف بذلک إلی شرف النسب و طهارة العرق فضل العلم و الإمامة فیه،فاجتمع له الفضلان (1).

المناقشة:

یباغتنا المؤلف بهذه الصدمة العنیفة،و نحن فی نقطة البدایة من البحث بقوله:

(و لأن طائفة من الناس غالوا فی تقدیره،و منهم من انحرفوا،فادعوا له الألوهیة، و کثیرون ادعوا أنه فی مرتبة قریبة من مرتبة النبوة) (2).

و لم یکن ینتظر و لا یرتجی من المؤلف هذه المباغتة المؤلمة فی أول اللقاء.هی کلمة قالها و سجلها فی کتابه،و هی فی نظرنا لها أثرها و مغزاها،فهی تحمل فی طیّاتها التشکیک بما یوصف به الإمام الصادق من علو مرتبة،و عظیم المنزلة.

و هو بهذا القول یجعل الإمام الصادق شخصیة أحیطت بأوهام و تعصب،و النظر إلیه لا یعدو هذه الأمور الثلاثة:الغلو،ادعاء الألوهیة،ادعاء مرتبة قریبة من مرتبة النبوة،أجل فأین الواقع و أین المعتدلون؟.

الغلو یدعو إلی التعصب،و التعصب یدعو إلی إطفاء شعلة العقل و تعطیل التفکیر،أما ادعاء النبوة للشخص أو ادعاء الألوهیة،فنترک تقدیره للمؤلف نفسه،فإنه اعتمد علی مصادر لا یصح لمثله أن یعتمد علیها،لأنها غیر صالحة للاستدلال.

ص:87


1- (1) الإمام الصادق ص 2-4.
2- (2) الإمام الصادق ص 2. [1]

و نعود فنسائل المؤلف،و أملنا أن یتسع صدره و لا یضیق حرجا:من هم المغالون فی تقدیر الإمام؟و ما هی هذه المغالاة و ما الدلیل علیها؟و من هم الذین ألّهوا الإمام الصادق؟أو ادعوا له مرتبة فوق مرتبة النبوة؟ و لعل المؤلف یرید أن یرجع عجلة التاریخ فیعیدنا إلی القرن الثانی الهجری و یقول:کان أبو الخطاب یؤلّه الإمام الصادق،و هذا من أغرب الأمور و أبعدها عن الواقع،إذ یتوقف عن الکتابة لوجود رأی طائفة نقل عنهم هذا،و قد قبرت آراؤهم فی مهدها،و الکل یعترف بذلک.

ثم ما هی الفائدة التی نحصل علیها فی عصرنا الحاضر من آراء بالیة،نشأت لأغراض وقتیة،و لحساب من یکون هذا.

إن تلک الآراء أوجدتها خصومة مذهبیة،و قد مضی المتخاصمون،و نحن أبناء عصرنا الحاضر.

أ لست القائل یا أستاذ فی غیر هذا الکتاب حول تاریخ فقه الشیعة:(لقد مضی الذین تخاصموا فی الدین و حسابهم عند رب العالمین و کل امرئ بما کسب رهین، و لکن علینا نحن الذین لم نشاهد تلک الخصومة و لم نعانها أن ننتفع بما خلفته من أفکار،لأنها ثروة فکریة،یجب الانتفاع بها،و لیس علینا شیء مما کان بین المتخاصمین«تلک أمة قد خلت لها ما کسبت و علیها ما اکتسبت» (1)أم أنه یرید منا أن نتحول من الحقائق العلمیة إلی الأمور الوهمیة،و الأساطیر الخیالیة،فنبرزها کأنها أمور ملموسة مثل أسطورة السبئیة،و مع ذلک فهو یعترف بأنها انقرضت و لا بقاء لها (2).

و کذلک یعترف المؤلف بأنه لا یوجد الیوم من الشیعة من یؤلّه الأئمة (3).و متی ألّه الشیعة أئمتهم؟!!و لا یمکن أن یصدر هذا القول إلا ممن یجهل معاناة الأئمة من أقوال الغلاة و فضح الإمام الصادق ادعاءاتهم و عقائدهم و تبرؤه منهم،و إجماع الشیعة علی الطعن بتلک العقائد،و إنما کان الغلو ستارا لأعداء الإسلام و أهل

ص:88


1- (1) المحاضرات ص 8.
2- (2) ابن حزم لأبی زهرة ص 119.
3- (3) المذاهب الإسلامیة لأبی زهرة ص 66.

البیت علیهم السّلام،و کیف تبقی صلة بمثل هذه الفرق الضالة بعد حملة الأئمة من أهل البیت ضدهم؟و حسب هؤلاء فضیحة و بعدا عن الإسلام قول الإمام الصادق«أدنی ما یخرج الرجل به من الإیمان أن یجلس إلی غال فیستمع حدیثه».

و علی کل حال:فما هی الثمرة من هذه الکلمة،و ما هذا الاعتذار؟إن من واجبنا أن نشتد هنا علی المؤلف،و لا معنی للتساهل مع من یتهم البریء رکونا للظنون و الأوهام،و هو مع ذلک یجعل من نفسه حاکم عدل و من واجبه أن یکون مع المتهم حتی تظهر إدانته.نعم من حقنا أن نشتد فی المناقشة و لکننا نبتعد عنها،لأن الأمر الذی توخیناه فی نقاشنا أن تکون الحجة هی الفاصل،و العقل هو الحکم، و الخلق الأدبی هو الذی یسود النقاش.

أما ادعاء الرتبة التی هی قریبة من مرتبة النبوة فلا أدری ما ذا یقصد بهذا القول؟؟ لأنه لم یوضح ما قال،و ترک هذا بدون بیان یوجب تهویل الأمر و إثارة الشکوک.

و لئن سکت عن هذه النقطة هنا فقد أوضحها فی غیر هذا الکتاب و کان ذکرها هنا أولی و أجدر به.

یقول فی محاضراته المیراث عند الشیعة:إنهم یرون(أی الشیعة)أن الأحادیث المرویة عن هؤلاء الأئمة من السنة،إذ هم الذین حملوا إلی الناس علم النبی فما عندهم من علم فهو من علم الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم متبع،فعلمهم متبع أیضا.

و هکذا نری هذه الفرقة ترفع الأئمة إلی هذه المرتبة التی لا تعلو علیها إلا مرتبة النبوة،فهم یعطون الإمام ما یعطونه للنبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یعصمونه عن الکبائر و الصغائر،و عن الخطأ و النسیان و الغفلة،و لا یعلو علیه النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلا بأنه یوحی إلیه،و أنه النبی المبعوث،و أن کل علم لهم مشتق من علمه الشریف (1).

هذا ما یقوله حول ادعاء المرتبة المقاربة من مرتبة النبوة،و لا أدری ما هو مورد الاستنکار من ذلک،و ما معنی الإمامة إن لم تکن کذلک،فالإمام هو ممثل النبی، و المبلغ عنه أحکام اللّه سبحانه و تعالی،و هو أعلم الأمة و أورعهم،و أزهدهم و أتقاهم،و هو متصف بجمیع صفات الکمال،و منزه عن شوائب الأعمال،و معصوم

ص:89


1- (1) المحاضرات ص 23-34.

من الزلل إلی آخر صفاته،و إذا لم یکن الإمام کذلک-کما نعتقد-فما الفرق بینه و بین غیره،و ما هو اختصاصه فی تحمل عبء تبلیغ الأحکام و رعایة الأمة.

و أعود فأقول إن الأسباب التی ذکرها فی اعتذاره عن تأخیر الکتابة عن الإمام الصادق هی أسباب واهیة،لا تصلح أن تکون فی نظر الاعتبار مانعة،و لئن کان الغلو و ادعاء الألوهیة و ادعاء الرتبة المقاربة لرتبة النبوة مانعة،فإن التأخیر عن الکتابة فی أبی حنیفة أولی لأن أخباره قد رفعته إلی أسمی درجة من الکمال،و هی قریبة من مرتبة النبوة،بل فوقها،و المؤلف مع ذلک یقول:إن اتباع مذهبه غالوا فی الثناء علیه حتی تجاوزوا فیه رتبة الفقیه المجتهد (1).

و هذه الکلمة لا تثیر التشکیک،و لا تبعث علی الدهشة،مع أنا وجدناهم یرفعون مقام أبی حنیفة إلی درجة لا یقاربها أحد،فهو بصورة الإنسان و سیرة الملک، کما یقول الأستاذ السید عفیفی المحامی (2).

و إنه وضع ستین ألف مسألة فی الإسلام،ثمانیة و ثلاثین ألفا فی العبادات، و الباقی فی المعاملات،و لولاها لبقی الناس فی الضلالة (3).

و إنه سراج الأمة.و معنی ذلک أنه دلیل الهدایة فاتباعه نجاة،و مفارقته وقوع فی ظلمات الضلالة،إلی کثیر من أقوال الغلو التی یقصد بها تقویم شخصیته،و إعلاء مکانته،و هذا کله هین بالنسبة إلی ادعاء مرتبة تعلو علی مرتبة الصحابة،بل مرتبة النبوة،و إنه کلقمان الحکیم فی عصره.

کما قالوا بأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أسف أن لا یکون فی أمته مثل لقمان فی حکمته، فأخبره جبرئیل إن کان فی أمة داود مثل لقمان یتکلم بعدد کل حبة من الصبرة حکما، فنحن نجعل فی أمتک نعمان یتکلم بعدد کل حبة من الصبرة مسائل و أجوبة...

الخ (4).

أی أن أبا حنیفة یصبح ملهما من اللّه فی علمه،یتکلم بما لم یتکلم به غیره،

ص:90


1- (1) مقدمة کتاب(أبو حنیفة)لأبی زهرة.
2- (2) مقدمة کتاب(أبو حنیفة)للسید عفیفی.
3- (3) مفتاح السعادة ج 1 ص 71. [1]
4- (4) المناقب للمکی ج 1 ص 12.

و هو بهذا یرتفع إلی درجة النبوة،و أعلی من درجة الصحابة،إذ لم یکن فیهم مثل لقمان فأسف النبی لذلک،فکان أبو حنیفة سلوته.

و أعظم من هذا أنهم ادعوا له منزلة من العلم فوق منزلة الأنبیاء،فإنهم قالوا:

إن أبا حنیفة کان یعلم الخضر علیه السّلام فی حیاته و لما مات أسف الخضر علیه السّلام و ناجی ربه و قال:إلهی إن کان لی عندک منزلة فأذن لأبی حنیفة حتی یعلمنی من القبر علی حسب عادته حتی أتعلم شرع محمد علی الکمال،فأحیاه اللّه و تعلم منه العلم إلی خمس و عشرین سنة إلی آخره (1).

و قالوا:إن النبی افتخر بأبی حنیفة.و تقوّلوا علیه:بأنه یقول:إن آدم افتخر بی، و أنا أفتخر برجل من أمتی اسمه النعمان بن ثابت.

و بصورة أخری:الأنبیاء یفتخرون بی و أنا أفتخر بأبی حنیفة،و من أحبه فقد أحبنی و من أبغضه فقد أبغضنی (2).

و یطول بنا المدی إن أردنا أن نقدم للقراء نماذج من الغلو فی وضع أحادیث، و خلق حکایات،و تلفیق أقوال تستوجب تأخیر الکتابة عن أبی حنیفة،و استخراج صورة صحیحة له من التاریخ و المناقب لیس الطریق لها معبدا،کما اعترف المؤلف نفسه.

و کذلک القول فی استخراج صورة صحیحة لغیره من رؤساء المذاهب،فالجمیع قد أحیطوا بهالة من الغلو و التقدیر.

فمالک قد هجر أتباعه الأخذ بکتاب اللّه و سنة رسوله،و أخذوا بقوله فکان یقال لهم:قال رسول اللّه فیقولون قال مالک.إلی غیر ذلک.

و الشافعی قد حصروا العلم به و أوجبوا اتباعه و التقید بمذهبه،و أنه عالم قریش و أنه و أنه...

و أحمد ادعی له أنه قام فی الأمة مقام النبوة و أن اللّه أعز هذا الدین به و بأبی بکر

ص:91


1- (1) الیاقوتة لابن الجوزی ص 48 و کتاب إشراط الساعة ص 120.
2- (2) الدر المختار فی شرح تنویر الأبصار ج 1 ص 52،54.

فقط و لیس فی الإسلام مثل أحمد بن حنبل (1)و أن حبه علامة السنة و بغضه علامة البدعة،و أن الصلاة علیه أفضل من الجهاد فی سبیل اللّه (2)و أن من أبغضه کافر و لو لا أحمد لذهب الإسلام (3)و أن من لم یرض بإمامته فهو مبتدع (4).إلی آخر ما هنالک من أقوال،و بهذا العرض السریع أمام القراء أترک لهم الحکم و إذا ما کان الغلو یدعو إلی تأخیر الکتابة عن الشخص،فلما ذا لا یدعو ذلک إلی تأخیر من هو محاط بهالة من الغلو أکثر من غیره؟و بهذا یظهر من الأستاذ أبو زهرة أن هؤلاء الذین کتب عنهم هم أقل غلوا،و الطریق إلی معرفتهم أسهل بکثیر من طریق معرفة شخصیة الإمام الصادق علیه السّلام.

هذا ما ینم عنه قوله،و ما یعبر عنه تعبیره،و لکننا لا نترک هذا الموضوع إلا بأن نستفهم من الأستاذ عن معالجته لموضوع الغلو و لم لم یتعرض له؟ و أما التألیه للأئمة-و العیاذ باللّه-فلم یذکر عنه شیئا-لأنه لم یکن هناک من شیء سوی أبواق دعایة التضلیل،و خرافات و أقوال واهیة لا تصلح أن تکون محل اعتبار.

أما غلو أصحاب المذاهب فقد وجهه المؤلف و عزاه إلی التعصب.و استخرج ما شاء و ترک ما شاء،و دافع أکثر من غیره،و له رأیه،و لا نتشدد فی المؤاخذة علیه فنحن نخالفه فی الرأی،و سنعطی رأینا حول أسباب تأخیره الکتابة کما نراه.

تمهید الأستاذ أبی زهرة:

مهد الأستاذ لدراسته عن الإمام بتمهید لطیف بعد ذکره لکلمة الإمام الصادق علیه السّلام:(إیاکم و الخصومة فإنها تحدث الشک و تورث النفاق)و ذلک التمهید یتضمن سوء عاقبة الخصومة فی الدین،لأنها تحدث تشکیکا فی الحقائق،و حیث کان التشکیک کان الاضطراب النفسی،و إن طلب الحق یجب أن یکون لذات الحق،فلا یستقیم الفکر إلا إذا أخلص القلب،و لا یخلص القلب إلا إذا اتجهت النفس بکلیتها

ص:92


1- (1) تهذیب تاریخ ابن عساکر ج 2 ص 32.
2- (2) نفس المصدر ص 34.
3- (3) طبقات الحنابلة ج 1 ص 13. [1]
4- (4) نفس المصدر ص 15. [2]

نحو الحقیقة،و لذلک یضیع الحق دائما وسط ما تثیره الخصومات من لجاجة،و ما یجتهد کل خصم من أن یدحض حجة صاحبه،غیر ملتفت لما یکون فی قوله،أو ادعائه من صواب.

و إن الخصومة حول الحقائق،و خصوصا الدینیة هی آفة الأمم فی قدیمها و حدیثها،و إن کلمة الإمام الهاشمی العلوی الفاطمی(جعفر الصادق)کلمة مصورة تمام التصویر لتلک الحقائق،و کأنها نور یشق حجب الغیب،و یصور ما وقع؛و یهدی إلی التی هی أقوم.

ثم یذکر الفرق بین الخصومة فی الدین،و اختلاف الفقهاء حول استنباط الأحکام التی لیس فیها نص قطعی الدلالة و الثبوت.

و یستمر فی البیان فیقول:و إننا وجدنا بعد أن ذهبت الخصومة التی صحبت فتنا کانت تموج کموج البحر،و قد ظهرت کقطع اللیل المظلم،أن الفرق التی حملت هذه الخصومات حملت مع الافتراق علما فیه بیان وجهات النظر المختلفة،ففی کل فرقة من الفرق میراث لعلم غزیر یجب أن یدرس،و یمکن أن نستخلص منه حقائق تفید الإسلام،و قد تتخذ سلاحا للدفاع عنه کتلک الفلسفة التی ترکها المعتزلة فی تنزیه اللّه تعالی.

و إن فی الآراء الفقهیة التی وصلت إلیها بعض الفرق الإسلامیة،کالزیدیة و الإمامیة ما یصح الأخذ به،و یکون علاجا لبعض أدوائنا الاجتماعیة،و هو فی ذاته لا یخالف کتابا و لا سنة،بل استنباط حسن علی ضوئهما،و قد أخذت قوانین مصر بالفعل من آراء الإمامیة،وقوع الطلاق الثلاث بلفظ الثلاث طلقة واحدة،نعم صرحت المذکرة التفسیریة أنها أخذته من ابن تیمیة،و لکن ابن تیمیة صرح بأنه أخذها من أقوال الأئمة من آل البیت،و أخذ قانون الوصیة رقم 71 سنة 1946 بإجازة الوصیة لوارث، و هو رأی عند الإمامیة،و إن کان المأثور عن الإمام جعفر خلافه.

الملاحظة:

نتفق مع الأستاذ فی کثیر من أقواله،و هو بحدیثه هذا یبعث الأمل فی النفس بتحقیق ما یجب علی کل مسلم تحقیقه،من الدعوة إلی الألفة و نبذ الخصومات، و ترک الحزازات،لیخف المصاب و یهون الخطب،و یزول سوء التفاهم،بالدعوة إلی

ص:93

التقارب فی عصر أحوج ما نکون فیه إلی التفاهم و التقارب.

فقد حلت بنا مشاکل متشابکة.و فرقتنا عوامل مختلفة،و هی لا تزال تفتک بدائها رغم الوعی الذی حصل فی الآونة الأخیرة عند أکثر المفکرین،و دعاة الإصلاح،و نحن نشکر الأستاذ لهذا الشعور.

و الذی یلزمنا أن نؤاخذه فیه علمیا هو نسبة الأثر عن الإمام الصادق بعدم الوصیة للوارث،و الذی یظهر من الأستاذ جزمه بهذا،و الواقع خلاف ما ذهب إلیه،فإن الأثر الصحیح عن الإمام الصادق هو إجازة الوصیة للوارث.

قال أبو بصیر:سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام عن الوصیة للوارث؟فقال:تجوز.

و قال محمد بن مسلم:سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام عن الوصیة للوارث؟فقال:

تجوز.

أما ما رواه القسم بن سلیمان قال:سألت أبا عبد اللّه عن رجل اعترف لوارث بدین فی مرضه،فقال:لا تجوز وصیته لوارث و لا اعتراف له بدین.

فقد حمل ذلک علی نفی الوصیة بالزائد عن الثلث،کما فی الحدیث النبوی المروی عن تحف العقول أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:إن اللّه قد قسم لکل وارث نصیبه المیراث، و لا تجوز وصیة الوارث بأکثر من الثلث.

و الذی تجدر الإشارة إلیه-هنا قبل مغادرتنا هذا الموضوع-هو أن عبارة الأستاذ حول إجازة الوصیة للوارث فی المذهب الجعفری توهم بأن ذلک مخالف لکتاب اللّه العزیز،و الحقیقة أن القول بعدمها خلاف لکتاب اللّه إذ یقول عز من قائل:

کُتِبَ عَلَیْکُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَکُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَکَ خَیْراً الْوَصِیَّةُ لِلْوالِدَیْنِ وَ الْأَقْرَبِینَ [البقرة:

180]،فهذا نص،و ادعاء نسخه بالحدیث الذی رواه أبو قلابة عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:«لا وصیة لوارث»فهو خبر آحاد،و الکتاب لا ینسخ بخبر الآحاد،و علی مذهب الشافعی أن القرآن لا ینسخ بالسنة (1)و لذلک ادعی بعضهم الإجماع علی مضمون الخبر و ذهب بعضهم إلی أن الحدیث مخصص للآیة (2).

ص:94


1- (1) نیل الأوطار للشوکانی ج 6 ص 40.
2- (2) بدائع الصنائع للکاسانی الحنفی ج 7 ص 331.

و نحن نأمل من الأستاذ أن یترک التعبیر بما یثیر الشک و یطمس الحقیقة و کان الأجدر به أن یشیر إلی الخلاف لیسلم من المؤاخذة فی مخالفة ما وعد فیه بتمهیده السابق.

و بعد ذلک ینتقل إلی البحث حول المتعة و ینسب إلی الإمام الصادق عن کتب الزیدیة بأنه قال:هی الزنا،و یذهب لتأییده و یبدی رأیه بأن المتعة من المخادنة التی نهی اللّه عنها.

و هذه المسألة قد حررها العلماء و بسطوا القول فیها،و کثر فیها النقاش و الجدل،و لا جدال فی مشروعیتها فی عهد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و ادعی بعد ذلک نسخها،و قد ثبت علی تحلیلها بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم جماعة من السلف،منهم من الصحابة:أسماء بنت أبی بکر،و جابر بن عبد اللّه،و ابن مسعود،و ابن عباس،و معاویة،و عمرو بن حریث،و أبو سعید و سلمة ابنا أمیة بن خلف،و رواه جابر بن عبد اللّه عن جمیع الصحابة مدة حیاة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و مدة أبی بکر و عمر إلی قرب آخر خلافة عمر (1).

و قال الحافظ فی التلخیص:و من المشهورین بإباحتها ابن جریح فقیه مکة و لهذا قال الأوزاعی:یترک من قول أهل الحجاز خمس منها متعة النساء (2).

و روی عن عمر بن الخطاب أنه إنما أنکرها إذا لم یشهد علیها عدلان (3).

و قال ابن بطال:روی أهل مکة و الیمن عن ابن عباس إباحة المتعة و روی عنه الرجوع بأسانید ضعیفة،و إجازة المتعة عنه أصح و هو مذهب الشیعة (4).

و قال الشوکانی:و ممن حکی القول بجواز المتعة عن ابن جریح،الإمام المهدی فی البحر،و حکاه عن الباقر و الصادق و الإمامیة (5).

و من هذا یظهر أن کتب الزیدیة تنص علی أن الإمام الباقر و الصادق علیه السّلام کانا یقولان بجواز المتعة.

ص:95


1- (1) المحلی لابن حزم ج 9 ص 519.
2- (2) نیل الأوطار ج 6 ص 135.
3- (3) المحلی ج 9 ص 520.
4- (4) العدة لمحمد بن إسماعیل الصنعانی ج 4 ص 195.
5- (5) نیل الأوطار ج 6 ص 136.

أما ما ذکره المؤلف هنا من أن الإمام الصادق قال عن المتعة إنها الزنا،فهو لا صحة له و مکذوب علیه،و لیت المؤلف ذکر المصدر لذلک.

و الذی أراه أنه اشتبه علی المؤلف الأمر فیما ذکره الشوکانی عن الخطابی إذ یقول:و البیهقی نقل عن جعفر بن محمد أنه سئل عن المتعة فقال:هی الزنا بعینه.

فظن المؤلف أن هذا النقل عن الشوکانی،و یعتبر ذلک کروایة یرویها عن الإمام الصادق علیه السّلام و قد ذکر ذلک محمد بن إسماعیل فی العدة (1)و لا أستبعد ذلک من تساهل الشیخ فی النقل و تسرعه فی الحکم،و لنترک الحدیث فی الموضوع لمحله فی المباحث الفقهیة،و نفسح المجال للأستاذ فی حدیثه،و نحن نصغی إلی ما یقول معرضین عن مناقشته فی أمور کثیرة نتحمل ما یمر علی أسماعنا من أقوال هی أبعد ما تکون عن الحق،و لا نحب أن نقطع حدیثه فیما نستنکره خشیة طول المکث،فالنقاش معه طویل،و نحن فی أول مرحلة من مراحل البحث،کما لا نحب مبادرته فی المناقشة،و الرد حول أمور نحاول أن نجد لها عذرا من جانبه،و لأننا نحب أن نخطو معه خطوات یسودها الاتزان،و التجرد عن النقد المریر.

خطوات تحقیق هدف سام،و غایة شریفة،و أمل منشود من قدیم الزمن،و هو رفع الالتباس،و إزالة الحواجز عن طریق التقارب و التفاهم و نحن نود أن ینتهی بنا السیر و لا نتفرق من مجلس النقاش إلا علی ما نحب من الوصول إلی الحقیقة،و لا سلطان للعاطفة علینا،و لا أثر لغبار الطائفیة فی أبرادنا.

نرید أن نتفاهم،و نرید أن نصل إلی الواقع،عسی أن یزول کابوس الطائفیة الرعناء،التی مزقت جسم الأمة و نهشت عظامها و فرقت شملها،و من اللّه نستمد العون و علیه الاتکال.

بیت الإمام الصادق من سنة 80 ه إلی سنة 148 ه

>بیته:< یتکلم المؤلف تحت هذا العنوان عن بیت الإمام الصادق علیه السّلام فیقول:کان البیت العلوی أکبر مصادر النور و العرفان بالمدینة المنورة،فإنه منذ نکبة الإسلام

ص:96


1- (1) العدة ج 4 ص 195. [1]

بمقتل الشهید و أبی الشهداء الحسین بن علی رضی اللّه عنهما انصرف آل البیت إلی العلم النبوی یتدارسونه...

ثم یتحول إلی الإشارة لجده زین العابدین و أبیه الباقر علیه السّلام و قال:و کان یقصده-أی الإمام الباقر علیه السّلام-من أئمة الفقه و الحدیث کثیرون:منهم سفیان الثوری،و سفیان بن عیینة محدّث مکة،و منهم أبو حنیفة فقیه العراق،و کان یرشد کل من یجیء إلیه و یبین له الحق الذی لا عوج فیه.و لنذکر لک مناقشة جرت بینه و بین أبی حنیفة فقیه العراق،و کان أبو حنیفة قد اشتهر بکثرة القیاس،حتی تناولته الألسن، و إلیک بعض ما جری بینهما.

قال محمد الباقر:أنت الذی حولت دین جدی و أحادیثه إلی القیاس!! قال أبو حنیفة:اجلس مکانک کما یحق لی،فإن لک عندی حرمة کحرمة جدک صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی حیاته علی أصحابه،فجلس ثم جثا أبو حنفیة بین یدیه،ثم قال:إنی سائلک عن ثلاث کلمات،فأجبنی:الرجل أضعف أم المرأة؟ قال الباقر:المرأة أضعف.

قال أبو حنیفة:کم سهم المرأة فی المیراث؟ قال الباقر:للرجل سهمان و للمرأة سهم.

قال أبو حنیفة:هذا علم جدک و لو حولت دین جدک لکان ینبغی فی القیاس أن یکون للرجل سهم،و للمرأة سهمان،لأن المرأة أضعف،ثم الصلاة أفضل أم الصوم؟ قال الباقر:الصلاة أفضل.

قال أبو حنیفة:هذا قول جدک،و لو حولت قول جدک لکان أن المرأة إذا طهرت أمرتها أن تقضی الصلاة و لا تقضی الصوم،ثم البول أنجس أم النطفة؟ قال الإمام الباقر:البول أنجس.

قال الإمام أبو حنیفة:لو کنت حولت دین جدک بالقیاس لکنت أمرت أن یغتسل من البول،و یتوضأ من النطفة و لکن معاذ اللّه أن أحول دین جدک بالقیاس.

فقام الإمام الباقر و عانقه و قبل وجهه،و من هذا الخبر تتبین إمامة الباقر للعلماء

ص:97

یحضرهم إلیه و یحاسبهم علی ما یبلغه عنهم أو یبدر منهم،و کأنه الرئیس یحاکم مرءوسیه لیجعلهم علی الجادة...انتهی.

هذه القصة:

ذکرها الأستاذ هنا بدون مصدر و لا سند،و هی مقلوبة و مفتعلة،و القضیة کانت بین الإمام الصادق علیه السّلام و بین أبی حنیفة،و کان الإمام الصادق هو الذی ساق هذه المسائل علی أبی حنیفة مستنکرا عمله بالقیاس،و أبو حنیفة یجیب،و قد ذکرها المؤلف علی وجهها الصحیح (1)کما یلی:

عن عیسی بن عبد القرشی قال:«دخل أبو حنیفة علی أبی عبد اللّه(أی الصادق)فقال له:«یا أبا حنیفة بلغنی أنک تقیس.قال:نعم.

قال:لا تقس فإن أول من قاس إبلیس حین قال:خلقتنی من نار و خلقته من طین،فقاس ما بین النار و الطین،و لو قاس نوریة آدم بنوریة النار لعرف فضل ما بین النورین و صفاء أحدهما.

ثم قال الأستاذ:و جاء فی الکافی أیضا عن أبی حنیفة:«استأذنت علیه(أی الصادق)فحجبنی و جاء قوم من الکوفة...إلی آخر ما ذکره،و إن الإمام الصادق أنکر علی أبی حنیفة قیاسه و أورد علیه مسألة المقایسة بین البول و المنی،و مسألة الصلاة و الصوم و الحیض،و مسألة میراث الأنثی،و میراث الذکر...الخ.

فالقصة إذن مختلفة و لا بد للأستاذ بأن یستنطق ثم یحکم حسب ما یؤدی إلیه رأیه،و ما أدی إلیه تتبعه،و هل القصة کانت بین الإمام الباقر و أنه هو المسئول و بین أبی حنیفة و هو السائل؟أم کانت بین الإمام الصادق و بین أبی حنیفة کما هو الصحیح؟ و هنا یصدر المؤلف حکمه بصفته قاضیا فیقول:

إن لهذه القصة روایتین:إحداهما فی کتب أخبار أبی حنیفة،و تروی القصة مع أبی جعفر الباقر رضی اللّه عنهما،و تذکر أن أبا حنیفة هو الذی ساق مسألة قضاء الحائض للصوم دون الصلاة،و مسألة الاغتسال من المنی دون البول،و مسألة نصیب البنت دون الذکر.

ص:98


1- (1) الإمام الصادق لأبی زهرة ص 291.

و الثانیة روایة الإمامیة بین أبی عبد اللّه و أبی حنیفة،و أن السؤال کان من الصادق (1).

و بعد أن حصر المؤلف الروایة بطریقین لا ثالث لهما أخذ یقارن و یوازن لیصدر حکمه فی ذلک فیقول:

هذه الروایة لم یسندها الکلینی إلا إلی أبی حنیفة،و من حقنا أن نوازن بینها و بین المروی عن أبی حنیفة رضی اللّه عنه فی مناقبه،أن المناقشة بینه و بین الباقر، و أن أبا حنیفة هو الذی أورد مسألة المقایسة...

و ما دامت الروایة مستندة إلی أبی حنیفة فإنا نقبل کلام الرواة عنهم،لأنهم أعلم به و لأن الکلینی لیس فی درجة أبی حنیفة فی الفقه... (2).

و بهذا تصح الروایة الأولی و هی أن أبا حنیفة هو السائل و المنتصر فی نظر المؤلف.

و نحن من حقنا أن نقارن و نوازن و من حقنا أن ندافع و نناقش،و لم یکن غرضنا هنا إلا إعطاء صورة عن تسرع الشیخ فی حکمه و تساهله فی نقله،و لیصغ لنا کما أصغینا له فنقول:قارن المؤلف هنا بین الطریقین عند ما حصر الروایة فیهما:أولهما کتب المناقب،و ثانیهما کتاب الکافی للشیخ الکلینی رحمه اللّه.

و قد اعتبر ما جاء فی کتب المناقب صحیحا،و هو أوثق مما جاء عن الکلینی، إذ المؤلف متحامل علیه و ما دام کذلک فهو لا یثق بما یرویه،کما صرح مرارا و هاجمه فی عدة مواطن ظلما و عدوانا.

و نحن ننبه الأستاذ لوقوعه فی هذا الخطأ الشائن،و إن دل علی شیء فإنما یدل علی عدم تتبعه و إحاطته،و یکشف عن تسرعه فی حکمه.

و القصة لم تکن منحصرة فی هذین الطریقین فقط،فقد رواها الکثیرون بأنها کانت بین الإمام الصادق و أبی حنیفة،و ما جاء فی کتب المناقب غیر صحیح.

و لا نبعد بالقارئ فنقدم له مصادر أخری،و لکنا نذکر هنا واحدا منها و هو

ص:99


1- (1) الإمام الصادق لأبی زهرة ص 517.
2- (2) المصدر السابق ص 293.

کتاب الحلیة؛لعلم من أعلام السنة،و محدث من محدثیهم،و هو أبو نعیم (1)فقد أوردها (2)بسند عن عبد اللّه بن شبرمة (3)قال:

دخلت أنا و أبو حنیفة علی جعفر بن محمد،فقال لابن أبی لیلی:من هذا معک؟قال ابن أبی لیلی:هذا رجل له بصر و نفاذ فی أمر الدین.

قال:لعله یقیس الدین برأیه؟قال:نعم.

فقال جعفر لأبی حنیفة:ما اسمک؟قال:نعمان...ثم قال له:حدثنی أبی عن جدی أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:أول من قاس أمر الدین برأیه إبلیس قال اللّه تعالی له:اسجد لآدم.فقال:(أنا خیر منه خلقتنی من نار و خلقته من طین)فمن قاس الدین برأیه قرنه اللّه یوم القیامة بإبلیس،لأنه اتبعه بالقیاس.

ثم قال جعفر:أیهما أعظم،قتل النفس أو الزنا؟ قال أبو حنیفة:قتل النفس.

قال الصادق:فإن اللّه عز و جل قبل فی قتل النفس شاهدین،و لم یقبل فی الزنا إلا أربعة.

قال الصادق:أیهما أعظم الصلاة أم الصوم؟ قال أبو حنیفة:الصلاة.

قال الصادق:فما بال الحائض تقضی الصوم،و لا تقضی الصلاة؟!فکیف ویحک یقوم لک قیاسک؟..اتق اللّه و لا تقس برأیک.

هکذا یروی أبو نعیم فی کتاب الحلیة هذه القصة،و هو أوثق و أشهر من کتاب المناقب لأبی حنیفة.

ص:100


1- (1) أبو نعیم هو أحمد بن عبد اللّه بن أحمد بن إسحاق بن موسی بن مهران الأصبهانی المتولد سنة 336 ه و المتوفی سنة 430 ه له کتب کثیرة منها کتاب الحلیة فی عشرة أجزاء و هو من حفاظ الدنیا و قد تعصب علیه الحنابلة فهجر.
2- (2) حلیة الأولیاء ج 3 ص 196.
3- (3) عبد اللّه بن شبرمة الضبی الکوفی المتوفی سنة 144 ه قاضی الکوفة،و أحد الأعلام،روی عن أنس،و أبی الطفیل،و الشعبی،و عنه شعبة و السفیانان،و ابن المبارک،قال العجلی کان فقیها عاقلا عفیفا،ثقة شاعرا حسن الخلق.

فحکم الشیخ بانحصار طریق هذه القصة غیر صحیح،و لأن قدّم الشیخ کتب المناقب علی کتاب الکافی و ذهب لصحتها دونه،ففی ذلک أمر لا یخفی و قصد لا یجهل،دائما یتراءی من وراء الألفاظ،و لنفرض تنزلا عدم الوثوق بما ینقله الشیخ الکلینی فکیف خفیت علیه المصادر الأخری،کدعائم الإسلام،للقاضی أبی حنیفة النعمان المغربی،و هو أقدم من کتاب المناقب و غیره من کتب التاریخ و الحدیث.

و علی أی حال:فالمؤلف مؤاخذ هنا فی عدة أمور نرجو أن یتنبه لها و لا یضیق صدره حرجا لأن تساهله فی نقله من أهم ما یؤاخذ علیه.

و لقد عرتنی دهشة عند ما وقفت علی نقل المؤلف لهذه المحاورة المحورة،إذ المشهور أنها بین الإمام الصادق و أبی حنیفة فکیف استساغ نقلها و أخفی مصدرها ثم بعد ذلک یوازن و یقارن و یحکم بصحتها...غریب ذلک.

لقد أخفی المؤلف مصدر المحاورة و نحن لا نخفیه علی القراء،إن هذه القصة أو هذه المحاورة المقلوبة ذکرها الکردری فی مناقب أبی حنیفة (1)و الخوارزمی فی مناقب أبی حنیفة أیضا (2)و کلاهما یرویانها بسند عن عبد اللّه بن المبارک فهو شاهد عیان لهذه القصة،و هی تبدأ بمکاتبة أبی المحاسن،و سند هذه المحاورة کلهم من الحنفیة،و لا نکلف أنفسنا بالبحث عنهم و لکننا نکتفی باستنطاق عبد اللّه بن المبارک،فهل شاهد هذه القصة أم رواها عن أحد؟! و لا یمکن أن یکون هو المشاهد و ذلک لأنا إذا وجهنا أشعة التاریخ فإنها تکشف أن ولادة عبد اللّه بن المبارک کانت فی سنة 118 ه و وفاته فی سنة 181 ه (3)و بهذا یثبت أن ابن المبارک لم یشاهد القصة،و أنها مکذوبة علیه،إذ کیف یعقل أن یدعی مشاهدة شیء و هو فی بطون الأرحام،لأن وفاة الإمام الباقر علیه السّلام کانت سنة 114 ه أی قبل ولادة ابن المبارک بثلاث سنین و علی ما یرویه الکردری من أنه قیل إن ولادة ابن المبارک سنة 129 ه فیکون الفرق أربع عشرة سنة بین ولادة ابن المبارک و وفاة الإمام الباقر.

ص:101


1- (1) المناقب للکردری ج 1 ص 208.
2- (2) المناقب للخوارزمی ج 1 ص 167-197.
3- (3) شذرات الذهب ج 1 ص 295 و الخلاصة للخزرجی ص 179 و مناقب أبی حنیفة للکردری ج 2 ص 167.

و علی کل حال:فإن مقارنة الأستاذ و حکمه بعد ذلک غیر صحیح،لأن کتّاب المناقب قد وضعوا أشیاء کثیرة،و خلقوا حکایات و قالوا فیها أقوالا مغرقة فی الکذب،و مسرفة فی المبالغة،و دافعهم فی ذلک تعصبهم لإمامهم،و إعجابهم به، و هذا یستوجب التثبت فی الحکم بصحة ما ینقلونه و تحقق صدق ما یقولونه.

و لقد دفعهم التعصب إلی تغییر بعض المحاورات و المناظرات عن أصلها،أمثال هذه المحاورة و غیرها،و علی سبیل المثال نشیر هنا إلی ما ذکره الکردری فی محاورة (1)مؤمن الطاق مع أبی حنیفة علی غیر صورتها الواقعیة و قد ذکر هذه المناظرة ابن الندیم فی الفهرست و هو أقدم من الکردری و أوثق،و إلیک نصها:

قال ابن الندیم المتوفی سنة 378 ه فی ترجمة مؤمن الطاق:و کان حسن الاعتقاد و الهدی،حاذقا فی صناعة الکلام،سریع الخاطر و الجواب،و له مع أبی حنیفة مناظرات منها:

لما مات جعفر الصادق علیه السّلام قال أبو حنیفة لشیطان الطاق:قد مات إمامک! قال:لکن إمامک لا یموت إلا یوم القیامة.یعنی إبلیس (2).

و لکن الکردری یقلب هذه المحاورة علی غیر واقعها؛تعصبا و من دون مراعاة للحقیقة و التفات للأمانة.

و لإظهار الحقیقة أطلنا النقاش هنا مع الأستاذ،و إلا فالقصة لا ترفع من مقام الإمام فی واقعها،و لا تضع إن غیرت عنه،لأنا دائما یجب أن نراعی الحقیقة، و نجهد فی إظهارها من بین حجب التمویه،و غبار الشکوک.

و الذی یظهر جلیا أن أبا حنیفة أخذ بأمر الإمام الصادق علیه السّلام و انتفع بوصیته عند ما أقام فی المدینة مدة سنتین و لهذا أعلن بقوله:(لو لا السنتان لهلک النعمان).

شیوخه:

یقول الأستاذ فی ص 87:هنا یختلف تفکیرنا عن تفکیر إخواننا الإمامیة،فهم یرون أن علمه إلهامی لا کسب فیه،و نحن نقول:إن علمه کسبی فیه إشراق

ص:102


1- (1) المناقب للکردری ج 1 ص 162.
2- (2) تکملة الفهرست ص 8.

الإخلاص،و نور الحکمة،و ریاضة النفس علی التقوی،و الفضیلة و السمو الروحی، و العزوف عن مناعم الدنیا و مشاغلها،و لذلک نحن نفرض أنه تلقی علی شیوخ،و أخذ عنهم و دراسهم،و أنه بهذا جمع علوم الحدیث،و الفقه،و القرآن،و اتصل بمعاصریه فی سبیل الحصول علی هذه المجموعة العلمیة،کما کان بیته بیت الحکمة و العلم.

ثم یقول الأستاذ ص 87.

و إننا لا بد أن نفرض أن أساتذته ثلاثة،تلقی علیهم،و کلهم له قدم ثابتة فی العلم،و کلهم إمام یؤخذ عنه.

أولهم جده علی زین العابدین رضی اللّه عنه،فقد مات زین العابدین و الصادق فی الرابعة عشرة من عمره أو حولها،و هذه السن هی سن التلقی و الأخذ،فلا بد أنه أخذ عنه،و خصوصا أنه بقیة السیف من أولاد الحسین رضی اللّه عنهم.

و إن زین العابدین هذا کان یأخذ علم آل البیت و یضیف إلیه علم التابعین الذین عاصروه،و کان یدخل مسجد رسول اللّه و یجلس فی حلقاتهم و قد روی أنه قال له نافع بن جبیر بن مطعم القرشی عاتبا:غفر اللّه لک،أنت سید الناس تأتی تتخطی خلق اللّه و أهل العلم من قریش حتی تجلس مع هذا العبد الأسود!!فقال له علی بن الحسین:إنما یجلس الرجل حیث ینتفع،و إن العلم یطلب حیث کان.

و روی أنه کان یسعی للالتقاء مع سعید بن جبیر التابعی و کان من الموالی،فقیل له ما تصنع به؟قال:أرید أن أسأله عن أشیاء ینفعنا اللّه بها،و لا ینقصه أنه لیس عندنا ما یرمینا به هؤلاء (1).

المناقشة:

کنا نصغی لحدیث الشیخ و هو یصور الشیعة بأنهم ینفون أخذ الإمام الصادق علیه السّلام عن جده زین العابدین و أبیه الباقر علیه السّلام،و هذا أمر لا تقول به الشیعة الإمامیة،فهم متفقون علی أخذ الأئمة بعضهم من بعض،و روایة بعضهم عن بعض،فأهل البیت حلقة متماسکة،و مدرسة مستقلة تتصل برسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بأوضح السبل،و أقرب الطرق.

ص:103


1- (1) ابن کثیر ج 9 ص 107. [1]

و الشیخ یعد هذا الاستقلال غریبا لا یهضمه التفکیر و لا یقبله ذوقه،و لهذا أصبح فی موضوع علم الإمام علیه السّلام فی لف و دوران،و یحوم حول الظنون و التخمینات و الافتراض و اللاّبدیة،فهو بهذا قد خرج عن دائرة الإثبات إلی خضمّ الفروض و التخمینات،و هو لا یتفق بتفکیره مع تفکیر إخوانه الإمامیة فی مسألة استقلال علم أهل البیت و أخذ بعضهم عن بعض،إلا أن یضم إلیهم بعضا آخر من غیرهم.

و قد فرض فرضا فأدخل القاسم بن محمد بن أبی بکر فی شیوخ الإمام الصادق لأنه جده فلا بد أنه روی عنه.

و لا محل للاّبدیة،و لا مجال للافتراض،فإن الأمر یدور حول الثوابت و الوقائع.

و لا نبخس حق القاسم فهو علم من أعلام الأمة،و من الفقهاء السبعة،و من تلامذة الإمام زین العابدین علیه السّلام،و لکن لم نجد للإمام الصادق عنه روایة أو نقل قول،فالافتراض عجز،و للاّبدیة تحکم.

و نحن لا نقیم للافتراض وزنا،فإنما المدار مدار الثبوت و الواقع،و قد سلک الأستاذ طریقا آخر فی إثبات أخذ أهل البیت عن غیرهم،فحدثنا بروایة نافع بن جبیر أن الإمام زین العابدین قد حضر عند زید بن أسلم،و هذه الروایة قد ذکرها أیضا فی صفحة 200 و عقبها بقوله:و قد رواها صاحب حلیة الأولیاء بسند متصل نعتبره نحن سندا صحیحا صادقا.

و لا نتجاوز الموضوع بدون بیان،و لا بد لی أن أسارع هنا فأجیب عمّا یدّعیه هناک،من اتصال السند و صحته و صدقه.

الراویة:

قال أبو نعیم حدثنا عمر بن أحمد بن عثمان،قال حدثنا الحسین بن محمد بن سعید،قال حدثنا الربیع بن سلیمان،قال حدثنا بشر بن بکر و الخصیب بن ناصح،قالا حدثنا عبد اللّه بن جعفر عن عبد الرحمن بن حبیب بن أزدک،قال سمعت نافع بن جبیر یقول لعلی بن الحسین:غفر اللّه لک أنت سید الناس و أفضلهم تذهب إلی هذا العبد فتجلس معه-یعنی زید بن أسلم-فقال:ینبغی للعلم أن یتبع حیث ما کان (1).

ص:104


1- (1) الحلیة ج 3 ص 137-138.

هذه هی الروایة الصحیحة السند،الصادقة المتن کما یقول،و قبل الخوض فی المناقشة نلفت نظر القارئ إلی الخلاف بین نقل الأستاذ و بین من نقل عنه فلیس فی أصل الروایة(تتخطی خلق اللّه)،و لیس فیها لفظ(عابثا)،و لیس فیها(إنما یجلس الرجل حیث ینتفع).فهذه الأمور لم تأت بلفظ الروایة المنسوبة إلی نافع کما ذکرها المؤلف هنا.

و نعود فنسائل الأستاذ عن حکمه السریع العاجل باتصال السند و صحته و صدق الروایة فهل عرفهم و قاس ذلک بمقیاس العلم؟إذ من الخطأ الحکم علی شیء قبل معرفته،و نحن بعد أن وجهنا أشعة التاریخ و إجراء الفحص الدقیق،تبین علة هذه الروایة فی موضعین.

الأول-رجال السند:فقد ظهر أن هذا السند الذی وصفه الأستاذ بالصحة فیهم من لم یعرف أو هو فی طیات الجهالة،و لیس له ذکر فی کتب الرجال و الحدیث إلا الربیع بن سلیمان و هما اثنان:

الأول الربیع بن سلیمان بن داود الجیزی المتوفی سنة 256 ه و لم یوثقه أحد إلا یونس.

و الثانی الربیع بن سلیمان بن داود المرادی مولاهم المصری مؤذن الفسطاط المتوفی سنة 270 ه.

و أما عمر بن أحمد بن عثمان فهذا الاسم ینطبق علی رجلین،أحدهما الحضرمی و الثانی النهروانی،و کلاهما مجهولان و أحدهما متهم بالوضع،فلا یمکن وصف هذا السند بالصحة و ذاک القول بالصدق.

أما الحسین بن محمد بن سعید فلا یعرف من هو حتی یوصف نقله بالصحة و قوله بالصدق،و لعل الأستاذ الذی صحح حدیثه یوافینا بترجمة فنشکر له ذلک.

و أما بشر بن بکر فلیس له منزلة یتحلی فیها بالصدق فیوصف حدیثه بالصحة، فهو مجهول لا یعرف،بل منکر الحدیث کما نص علی ذلک الأزدی و غیره إلی آخر السلسلة کابن أزدک و ابن ناصح.

أما اتصال السند فنرجو من الأخ المؤلف أن یوصل لنا السلسلة بین ابن أحمد و بین الربیع بن سلیمان،فإن التحقیق قد أظهر لنا الانفصال،و ذلک بطول المدة و تفاوت الوقت،و هذا من أعظم الموهنات.

ص:105

الثانی-إننا یجب أن نحترم الحقائق قبل أن نحترم الشخصیات،و الحقیقة التی لا غبار علیها أن القول بحضور الإمام زین العابدین علیه السّلام فی حلقة زید کان من أعظم ضروب التجنی علی الحقائق،لأنه أبعد ما یکون عن الواقع،و ذلک بغض النظر عن علو منزلة الإمام زین العابدین:إذ هو أفقه قریش فی عصره،بل أفقه الأمة علی الإطلاق.و لیس فی عصره من یدانیه فی منزلته،أو یماثله فی علمه و معارفه.

و بعد أن فحصنا سند الروایة،و ظهرت علتها یلزمنا أن نفحص الروایة نفسها، و قد انکشف لنا أن زید بن أسلم لم تکن له حلقة درس فی عصر الإمام زین العابدین، لأن زیدا کان حدث السن لم یتجاوز عمره الخامسة و العشرین عند وفاة الإمام زین العابدین علیه السّلام فإن ولادة زید سنة 66 ه و وفاته سنة 126 ه.و کانت ولادة الإمام زین العابدین علیه السّلام سنة 38 ه و وفاته سنة 92 ه فالإمام زین العابدین علیه السّلام أکبر من زید بثمان و عشرین سنة.

فهل یستطیع أحد أن یفرض حلقة درس لشاب حدث السن مع وجود شیوخ المدینة،و سادات قریش،و کبار رجال العلم،مع أن علماء الرجال قد ذکروا زید بن أسلم فی عداد تلامذة الإمام زین العابدین و رواة حدیثه (1)و هو أصغرهم سنا،و إن أبی الشیخ إلا الإصرار علی رأیه فإنی لا أتهمه هنا فی علمه،بل أتهمه فی عاطفته و جدله، فهو یقر بهذا الأمر،کما یقول فی کتاب الإمام زید (2)بعد أن ذکر التقاء زید بواصل بن عطاء:أ یصح أن نقول إن زیدا تتلمذ علی واصل؟إن الرجلین فی سن واحدة،فقد ولد کلاهما فی سنة 80 من الهجرة النبویة أو قریبا من ذلک (3)،و یظهر أنهما عند ما التقیا کان زید فی سن قد نضجت،لأن واصلا (4)لا یمکن أن یکون فی مقام من یدرس،إلا إذا کان فی سن ناضجة.

ص:106


1- (1) الخزرجی فی خلاصة تذهیب الکمال ص 131 و تذکرة الحفاظ ج 1 ص 124 و تهذیب الأسماء و اللغات للنووی ج 1 ص 200 و غیرها من کتب الرجال.
2- (2) کتاب الإمام زید لأبی زهرة ص 39.
3- (3) الصحیح أن ولادة زید کانت سنة 66-67 و ما ذکر هنا غیر صحیح،و إن ذکر ذلک بعض المؤرخین،لأن الثابت أن أم زید اشتراها المختار بن أبی عبیدة،و کان قتل المختار سنة 67 ه.
4- (4) هو أبو حذیفة واصل بن عطاء الغزال المتولد سنة 80 ه و المتوفی سنة 131 ه رئیس المعتزلة الأول،و هو واضع الأصول الخمسة التی یرتکز علیها الاعتزال،و روی الجاحظ عنه أنه کان یزعم أن جمیع المسلمین کفروا بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هو تلمیذ الحسن البصری،و اختلف معه فی مسألة مرتکب الکبیرة و اعتزل عنه،فقال الحسن:اعتزل عنا واصل،فسمی هو و أصحابه معتزلة.

هکذا یقرر الأستاذ هذه الحقیقة،و نحن نشکره للتنبیه علیها،فقد نسب کتّاب الفرق-الذین یکتبون بدون تثبت-لزید أنه أخذ الاعتزال عن واصل بن عطاء و تلمذ له،و هذا بعید عن الصحة.

و ما أجدر ذلک بالمؤلف لو التفت فی المورد الذی نبحثه من کتابه:الإمام الصادق لهذه الحقیقة فیقررها،فإن حضور الإمام زین العابدین علیه السّلام فی حلقة زید و هو شیخ قد قارب الستین،و زید شاب لم یتجاوز السادسة و العشرین من عمره، شیء لا یمکن،هذا مع الإعراض عما یحوط الروایة من الأمور النافیة لذلک.

و إن استدلال المؤلف بهذه الروایة،و تکریره لها فی عدة مواطن من کتابه أمر لا یتفق مع الواقع،و هو مکذوب و لا أصل له.

و أما الروایة الثانیة فهی مرسلة لا تصلح للاستدلال،و لا أتردد فی القول إن کلا الروایتین هما من وضع الموالی،إذ الرواة کلهم منهم،و هم یحاولون رفع مکانة أبناء قومهم بکل وسیلة،لأن زید بن أسلم کان من الموالی،فأرادوا أن یرفعوا من شأنه فجعلوه أستاذ حلقة یحضرها کبار قریش و علماؤهم،و من الأمور المستغربة حکم المؤلف بصحة الروایة و استنتاجه ما یؤید به قوله،و هو أوهی من بیت العنکبوت.

و الخلاصة:أن الشیخ حکم بصحة هذه الروایة بدون التفات إلی ما یحوط بها من أمور یجب أن یلاحظها قبل إطلاق حکمه ثم یأتی بعد ذلک بأمر لا نعرفه و لا ندری ما یقصد به و هو قوله:

و لا یضیق صدر إخواننا حرجا،إذا استشهدنا بکتب لیست من کتبهم،فإنا قد رأینا أفاضل من کتّابهم یستشهدون علی فضل الصادق نقلها عنها،و لا بد أنه اعتبره صادقا فی نقله،و من وصف بالصدق فهو صادق فی کل ما ینقل،فالصدق خلة فی الصادق لا تتجزأ (1).

و نحن نقول:

لا یضیق صدر أخینا حرجا إذا استشهدنا لرد قوله بکتب لیست من کتبه،فإنا قد رأیناه یستشهد علی تأیید أقواله نقلها عنها،و لا بد أنه اعتبرها صادقة.

ص:107


1- (1) الإمام الصادق لأبی زهرة ص 201.

و أما قوله:و من وصف بالصدق فهو صادق فی کل ما ینقل فالصدق خلة فی الصادق لا تتجزأ.

فهذا قول یثیر الدهشة،و یبعث علی الاستغراب و هو حکم یقرره الشیخ بدون دلیل،و لا أدری ما یرید بذلک،أ یرید منا أن نسلم لکل کتاب ننقل منه شیئا من باب الإلزام بأن جمیع ما فیه صادق،لأنا صدقناه فی البعض مما ینقل،و یلزم ذلک التصدیق بباقیه؟ و هل التزم فضیلته بهذه القاعدة؟أم أنه یلزم غیره و لا یلتزم،و قد رأیناه یستشهد بکتب لا یقرها و لا یعترف بصحتها،ککتاب الکافی،فهو یطعن فیه و یتهجم علی مؤلفه ظلما و عدوانا،و لا تخفی علینا بواعث ذلک التهجم.

و نسائله أیضا أنک اعتمدت علی کتاب مسند الإمام الصادق و قد جمعه مؤلف مجهول،و علیه بنیت أکثر أبحاثک فهل تصدق بکل ما ینقل؟و لا تتهم صاحبه بالکذب؟و لکنه لا یلتزم و یرید أن یلزم غیره؟! و نعود و العود أحمد:

نعود لنستمع بقیة حدیث الأستاذ بعد أن قطعنا علیه حدیثه،و سارعنا لإتمام المناقشة،و أوضحنا للقراء مدی صحة استدلاله،و قوة برهانه حول استنکاره لعلم الأئمة الاستقلالی.

و قد فاتنا أن ننبه علی ما جاء فی صفحة 63 تحت عنوان وفاة الإمام الصادق علیه السّلام إذ یقول:

و قد قال بعض الإمامیة،إن أبا جعفر المنصور دس له السم فی طعامه و لا دلیل علی هذا القول،بل إن الذی یذکره المؤرخون خلافه،لأن المنصور بکی عند ما بلغه نعیه،حتی أخضلت لحیته...و استشهد بما یرویه الیعقوبی من بکاء المنصور و قد مر بیانه.

ثم یستمر فی کلامه حول فراسة المنصور،و أن عیونه کانت یقظة متبعة،فکان علی علم باعتزال الصادق السیاسة العملیة و جنوحه إلی العلم،یغترف من مناهله و یسقی الناس من موارده و مصادره.

و لهذا نرجح أنه مات(أی الإمام الصادق)غیر مقتول بسم أو غیره انتهی.

ص:108

و لا نود أن نقول کل ما یلزم أن نقوله،عما تنطوی عبارته:باعتزال الصادق السیاسة العملیة و جنوحه إلی العلم یغترف من مناهله...

فهی عبارة ساقها بلباقة،و ظاهرها المدح،و لکنها تنطوی علی تدعیم رأیه بعدم استقلال علوم أهل البیت عن غیرهم،فلا نطیل المقالة هنا حول بقیة أقواله.

و لکنا نؤاخذه بما رجّح به رأیه من نفی وفاة الإمام بالسم.فهو ترجیح بدون مرجح و تحکم علی التاریخ،و لقد ذکر ذلک منهم جماعة و صرح بعضهم بأن المنصور هو الذی دس إلیه السم و إلیک منهم:

1-المسعودی فی مروج الذهب ج 2 ص 212.

2-ابن حجر فی صواعقه صفحة 120.

3-ابن الصباغ المالکی فی الفصول المهمة صفحة 243.

4-الشبراوی فی الاتحاف لحب الأشراف صفحة 54.

5-الشبلنجی فی نور الأبصار صفحة 144.

6-7-و القرمانی فی تاریخه،و الخفاجی فی شرح الشفاء و غیرهم مما یطول ذکره،و بهذا یظهر نسبة القول للإمامیة فقط غیر صحیح،و نفی وفاة الإمام الصادق غیر مسموم جنایة علی التاریخ و ترجیح للافتراضات و اللاّبدیة.

لو لا السنتان لهلک النعمان:

هذه کلمة مشهورة قالها أبو حنیفة تلمیذ الإمام الصادق علیه السّلام لأنه صحبه عامین،و یعد ذلک نجاة له کما هو مدلول اللفظ،و لکن الأستاذ أبو زهرة أراد أن یموه أو یشکک فی صحة نسبة هذا القول لأبی حنیفة،فنسب نقل هذه العبارة لکتب الإمامیة،کما یقول فی ص 38:و أبو حنیفة کان یروی عنه کثیرا(أی عن الصادق علیه السّلام)و اقرأ کتاب الآثار لأبی یوسف،و الآثار لمحمد بن الحسن الشیبانی،فإنک واجد فیهما روایة أبی حنیفة عن جعفر بن محمد فی مواضع لیست غیر قلیلة.

و یقول کتّاب الإمامیة إنه قد صحبه عامین،و یقولون:إن أبا حنیفة قال فی هذین العامین:(لو لا السنتان لهلک النعمان).

ص:109

المصدر:

لا أکلف الأستاذ بتتبع المصادر لهذه الکلمة المشهورة فی کتب السنة،لأن ذلک یشق علیه،إذ هو مطبوع علی التساهل فی النقل،و لهذا أضع بین یدیه أقرب کتاب إلیه هو(مختصر التحفة الاثنا عشریة)لمحمود شکری الآلوسی ففی صفحة 8 من الطبعة الأولی سنة 1301 ه فی الهند یقول:(و هذا أبو حنیفة رضی اللّه عنه و هو من بین أهل السنة کان یفتخر و یقول بافصح لسان:لو لا السنتان لهلک النعمان یرید السنتین اللتین صحب فیهما لأخذ العلم الإمام جعفر الصادق رضی اللّه تعالی عنه).

هذا نص العبارة فی الطبعة الأولی الحجریة و لعل تحصیلها یشق علیه،و لا یتکلف فإنی أضع بین یدیه الطبعة الثانیة المطبوعة فی مصر سنة 1373 ه فی المطبعة السلفیة و العبارة موجودة فی الصفحة الثامنة أیضا.

و الشیء الذی یبعث علی الاستغراب هو عدم وقوف الأستاذ علی هذا الکتاب و اطلاعه علیه،إذ الکتاب له صدی فی العالم الإسلامی بما أحدثه من ضجة،و ما أثاره من فتنة،یوم أراد الاستعمار أن یحقق أهدافه فی بلاد الهند فی إثارة الطائفیة، فانتدب لهذه المهمة رجلا یسمی شاه ولی اللّه الهندی فألف کتابا أسماه التحفة الاثنی عشریة و ملأه طعونا علی الشیعة،و مات قبل أن یتمه فاتمه ولده و ترجمه إلی العربیة رجل یسمی غلام محمد سنة 1227 ه و اختصره محمود شکری الآلوسی،و حدث من وراء نشر هذا الکتاب ما حدث من مآسی لحساب الاستعمار فی البلاد الإسلامیة، مما یؤلم ذکره،و بعد أن هدأت الفتنة و مر الزمن،و أفلس الاستعمار و أحس بشعور التقارب و التفاهم بین المسلمین،أراد أن یرجع عجلة التاریخ،فیلعب لعبته لتربح ورقته فأعید طبع هذا الکتاب علی ید السادة السلفیة عسی أن یعید التاریخ نفسه، و لکن خاب الأمل و کفی اللّه المؤمنین القتال و خسر هنالک المبطلون.

و بعد ذلک یقول:

و لعل هاتین السنتین کانتا عند ما خرج أبو حنیفة من العراق مهاجرا بدینه،و فرارا من تعذیب ابن هبیرة له،فإنه أقام حینئذ ببلاد الحجاز،و لعله قد لازم الإمام جعفرا فی هذه المدة.

و قد جاء فی حلیة الأولیاء ما یؤکد روایة هؤلاء الأعلام و غیرهم عن الإمام

ص:110

الصادق فقد جاء فیها:و روی عن عدة من التابعین،منهم یحیی بن سعید الأنصاری، و أیوب السختیانی،و أبان بن تغلب و أبو عمر بن العلاء و یزید بن عبد اللّه الهادی، و حدث عنه من الأئمة الأعلام مالک بن أنس و شعبة بن القاسم و سفیان بن عیینة، و سلیمان بن بلال و إسماعیل بن جعفر (1).

و قد رأینا کیف غالی بعض المنتسبین إلی مذهب الإمام جعفر فادعوا له علما لم یکن قد تلقاه بطرق العالم عند البشر،و من الغریب أننا نجد بجوار هؤلاء من محدثی القرن الثالث من یتشکک فی روایة الإمام الصادق عترة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و یتکلم فی الثقة بحدیثه«کبرت کلمة تخرج من أفواههم ان یقولوا إلا کذبا»و لکنه التعصب المذهبی یعمی و یصم،و لیس فی قول المغالین،و لا فی قول المتشککین ما ینقص من مقام الإمام الصادق الجلیل،فلم ینقص من مقام جده علی بن أبی طالب کرم اللّه وجهه کذب الکذابین علیه،کما لم یضر عیسی بن مریم علیه السّلام افتراء المفترین علیه ما بین منکر لرسالته و مدع لألوهیته.

المؤلف سامحه اللّه قد ترکزت فی ذهنه فکرة الغلو فهو یرددها بین آونة و أخری،لیبعث التشکیک فی کثیر من الأمور،و قد مر بیان ذلک،و نحن هنا نسائل المؤلف عن الغلو و عن المغالین فی الإمام بعد أن أشرنا لذلک؛و لکننا نرید أن نسائله عمن یتشکک فی روایة الإمام الصادق من المحدثین؛فإنا لم نجد منهم من یذهب إلی ذلک أبدا،نعم یسبق إلی الذهن ما ینسب إلی البخاری فی توقفه عن تخریج أحادیث الإمام الصادق علیه السّلام و قد قلنا إن عدم تخریج البخاری لحدیث الإمام الصادق لا یضر بمقامه علیه السّلام بعد أن رأینا البخاری قد خرج أحادیث عن أناس لا یتصفون بالصدق و العدالة،و منهم المتهم فی عقیدته و الکاذب فی لهجته.

و المؤلف لم یذکر اسم البخاری،و ربما یتبادر إلی الذهن أن هناک من المحدثین من یتشکک فی روایة الإمام الصادق علیه السّلام فأحببنا أن یذکره للاطلاع،و بعد أن نسایر الأستاذ مراحل عدیدة،نجده یصرح بقوله تحت عنوان فقه الصادق صفحة 252:

«و کان(أی الإمام الصادق)من الثقات عند أهل الحدیث...

و قد قالوا إن البخاری لم یقبل الأحادیث المنسوبة إلیه،و أن ذلک یحتاج إلی

ص:111


1- (1) حلیة الأولیاء ج 3 ص 199.

نظر،و قد أشرنا من قبل إلی أن عدم قبول البخاری للمرویات التی تنسب إلیه لا یمکن أن ینال من إمامته،و الآن نقول:إنه لا یمکن أن یکون البخاری یجعل صدق من لقبه المسلمون جمیعا بالصادق موضع کلام و نظر،و أنه روی عمن دونه من التابعین فضلا.ثم یوجه ذلک برأیه و رأیه محترم».

و نحن نقول:إن عدم تخریج البخاری لأحادیث الإمام هو لشیء فی نفس البخاری لا فی الإمام الصادق علیه السّلام،فقد روی البخاری عن أناس کذابین و آخرین منحرفین و قد مر الکلام حوله فی الجزء الأول فی هذا الکتاب.

و الخلاصة:أن صحیح البخاری قد أحیط بهالة من التعظیم و الإجلال و الإکبار، فهو عدل القرآن،و کل ما فیه صحیح،و قد تهیب أکثر الحفاظ عن نقد أحادیثه،و من أقدم علی ذلک عنف (1)و من أظرف ما نقل فی ذلک أن مجلس المبعوثان فی عهد الأتراک بالعراق قد قرر مبلغا جسیما لوزارة الحربیة جعلوه لقراءة البخاری فی الأسطول.فقال الزهاوی و کان عضوا فی المجلس:أنا أفهم أن هذا المبلغ فی میزانیة الأوقاف،أما فی الحربیة فالمفهوم أن الأسطول یمشی بالبخار لا بالبخاری فثار علیه المجلس و شغب علیه العامة (2).

و لا نطیل الحدیث حول البخاری فنجرح عاطفة کثیر من الناس کما جرح المؤلف عواطف ملایین منهم بتهجمه علی الشیخ الکلینی بدون حجة،و نسبه لما لا یلیق بشأنه،فهی کلمة لعمر اللّه قالها المؤلف بدون تأمل و تریث.

یقول المؤلف فی ص 71:

«و لو قلنا إن علمه(أی الإمام الصادق)کان إلهامیا خالصا ما کان مجتهدا و ما کان متعرفا للأحکام،بل کانت تلقی علیه إلقاء کما یتلقّی الوحی».

ذکر هذا بعد أن مهد له تمهیدا لطیفا حول الإشراق النفسی،و بیان الإلهام الذی فسره بقوله:و ما من عالم باحث إلا شعر بأن وراء جهوده إلهاما من اللّه تعالی نسمّیه توفیقا منه و هو ولی التوفیق انظر ص 69 إلی ص 71.

ص:112


1- (1) تهذیب التهذیب ج 8 ص 146.
2- (2) مجلة الرسالة ص 402 السنة الخامسة.

أقول:

و لا أدری کیف یصح للأستاذ أن یسمی،الإلهام بأنه وحی ینزل علی الأئمة کما ینزل علی الأنبیاء!؟و لا أدری من أین أخذ هذا و بأی دلیل یؤیده؟!فإن الشیعة لم تدّع للأئمة نزول الوحی علیهم،إذ لا نبی بعد خاتم الأنبیاء،و إنما استقوا علمهم من الرسول الأعظم الذی لا ینطق عن الهوی بل هو وحی یوحی.

فدعوی أن الشیعة یدّعون نبوة الأئمة و أن علمهم وحی کالأنبیاء،دعوی باطلة لا تستند إلی برهان و لا یؤیدها دلیل،و ما أکثر ما رمیت به الشیعة من التهم،و إن ربک لبالمرصاد.

و الذی أراه أن الکاتب قلد فی هذا الرأی بعض الکتّاب من الغربیین أو غیرهم، من الذین درسوا تاریخ الشیعة تحت ضغط التیارات الطائفیة،فنقلوا و تقولوا کلما دعت الظروف القاسیة لاختراعه حول الشیعة،لإبرازهم بالصورة التی یحب خصومهم أن یبرزوا للمجتمع فیها.

و لا أبعد عن الواقع إن قلت إنه أخذ هذا الرأی من کاتب مشهور و هو الأستاذ أحمد شلبی الأستاذ فی الجامعة الإسلامیة بأندنوسیا کما تقدم ذکره،أو من کتب المستشرقین الذین یثیرون الشکوک و الریب.

حول الانحراف:

یبذل المؤلف جهده هنا فی بیان ظهور الانحراف فی العقائد و الآراء فی عامة المسلمین فیقول فی صفحة 121 تحت عنوان:الانحراف بین بعض الذین یدعون التشیع:و قد ظهرت تلک الحرکات فی عهد الإمامین محمد الباقر و جعفر الصادق الذی نشأ فوجد أباه فی أمر مریر من هؤلاء الذین یدعون التبعیة له،و هو منهم بریء، إذ کانوا یحاولون الاتصال به و بالصادق من بعده،و لکن کان ینفر منهم نفورا شدیدا.

إلی أن یقول:و کان ظهور ذلک الانحراف مع آراء أخری حول القرآن،فقد ظهر القول بخلق القرآن الذی یقصد به إثارة الفتن لا بیان الحقیقة،و قد قاله الجعد بن درهم، و منها القول بالجبر إلی آخر بیانه من ذکر فرق الغلاة و غیرهم من خطابیة و بیانیة...

و یذکر آراءهم و یبین الأسباب من ذکرهم هنا إلی أن یقول:و إذا کان هؤلاء قد تفرقوا فی الفرق الإسلامیة ما بین مرجئة و حشویة و غیرهم،فلا بد أن نتصور أنهم قد نقلوا

ص:113

الأکاذیب علی جعفر الصادق الإمام المفتری علیه،و لا بد أنهم دسوا فی الأحادیث المرویة عنه ترهات من أباطیلهم،و أخبارا من أکاذیبهم،و أن الخطابیة أول من تکلم فی الجفر،و نسب فیه الکلام إلی الصادق،فهل لنا أن نتصور أنه وصل إلی الکافی منهم؟و هل لنا أن نتصور أن الکلام فی نقص القرآن قد سری إلی الکافی منهم؟ لا نقول هذا تشکیکا فی المصادر التی یستمسک بها إخواننا الإمامیة،و لکنا نقوله مخلصین لنتحری الصادق النسبة إلی الإمام الصادق،الذی هو إمام من أکبر أئمة المسلمین،و لیس إماما للاثنی عشریة فقط...الخ.

هکذا یطل بنا المؤلف علی ذلک العصر،و یطلعنا علی صور مؤلمة و أشباح هائلة،و هو یرید أن نتحری الحق و أ لا نخدع بتلک الآراء.

و هکذا یتحدث المؤلف عن ظهور الآراء المنحرفة و العقائد الشاذة،و هو یظهر الأسی و الأسف عما ابتلی به أئمة أهل البیت ممن یتشیع لهم.

إنه یصور لنا عظیم الموقف و خطره،و یطیل فی بیانه،و ینتهی إلی نتائج،منها أن هذه الانحرافات کانت محصورة فی التشیع کما یفهم من عباراته و تعبیره.و منها أن وضع هؤلاء الأحادیث المکذوبة کانت فی کتب الشیعة،ثم یتحول بلباقة و مهارة إلی الطعن فی الکافی إذ یقول:

(فهل لنا أن نتصور أنه وصل إلی الکافی منهم).

و یحذف فاعل وصل و بحذفه تعبیر عما یقصده،و کذلک فی الجملة التی بعدها فهو یکتم أمرا و یعبر عن قصد،و لیس هذا أول طعونه الخفیة،فله أشیاء کثیرة أسدلنا الستار بیننا و بینها،و کذلک نفعل هنا.

کما نسدله علی مؤاخذته فی قوله تحت عنوان الخوارج:هذه هی الطوائف التی کانت تدعی التشیع لآل علی.کما فی صفحة 130،فما کان قصده من ذلک؟هل أن الشیخ تعمد أن یدخل ما یخص الطوائف التی ذکرها سابقا و یدرجها فی الخوارج؟، و هل وضع العنوان هنا خطأ عن غیر قصد؟أم کان هناک قصد و اللّه من وراء القصد.

و منها:أنه یجعل الفحص و الدراسة للأخبار المدسوسة لازمة لکتب الشیعة، و کأن الشیعة قد أهملوا هذه الناحیة فلیس لهم شروط لقبول الروایة و صفات الراوی و مؤهلاته لتصدیق ما یروی،مع العلم بأنهم أشد الطوائف فحصا و أعظمهم تدقیقا فی قبول المرویات،فلم یقفوا أمام کتاب موقف قدسیة و تحاش عن رد روایة یرویها ما لم

ص:114

تجمع شرائط القبول،و لیس فیهم من یقول:و لو لا هیبة هذا الکتاب لقلت إن هذا الحدیث غیر صحیح،کما یقوله غیرهم أمام کتب ألبسوها أبراد القدسیة،و أضفوا علیها ثیاب الصحة،و برأوها من کل ما یشین بسمعة أصحابها من القول بأن فیها ما لا یصح.و لا یجرأ أحدهم علی التصریح بالطعن فی الحدیث،لأنه ورد فی کتاب الصحیح کما یدعی،فعلامة صحة الحدیث عند أکثرهم هو وروده فی ذلک الکتاب، و أن الشیعة یتشددون فی قبول الروایات،و باب الاجتهاد مفتوح عندهم،و لهم أصول قویة،و هم أقدم الفرق فی وضع الأصول.و لیس هذا محلا لبیان ما یتعلق بهذا الباب،و الغرض أن المؤلف یطعن فی کتب الشیعة بصورة جلیة،و لکنه یحاول أن لا یظهر علیه ذلک و قد قلت سابقا إنه یتستر بأبراد تم عما تحتها.

المختار الثقفی:
اشارة

ثم یتحدث المؤلف هنا عن أثر مقتل الحسین علیه السّلام فی النفوس المؤمنة فیقول:«و إن هذا الأثر قد استغله بعض من أولئک الذین یستغلون العاطفة القویة البریئة لینصروها،و یعلنوا انحرافهم من وراء نصرها،و قد کان الاستغلال شدیدا بعد مقتل الحسین رضی اللّه عنه و صلی اللّه علی جده و سلم.

ذلک أن المختار الثقفی الذی کان من الخوارج،ثم انتقل إلی الذین یتشیعون لعلی کرم اللّه وجهه،و أولاده الکرام من بعده،کان قدم الکوفة مع مسلم بن عقیل بن أبی طالب عند ما جاءها من قبل الحسین رضی اللّه عنه».

ثم یتحدث عن آراء المختار (1)التی کان یبثها،و أن فرقة تسمی بالکیسانیة قد تکونت تحمل آراءه،و إنها لا تقوم علی ألوهیة أحد من أهل البیت کالسبئیة،ثم یذکر بعض الآراء إلی أن یقول فی صفحة 121:

(إن تفکیر المختار لم ینته،بل کان کالبذر الخبیث الذی یلقی فلا ینتج إلا نکدا) و یستمر فضیلته فیسود صحائف من کتابه بدون أن یستخلص النتائج التی تحجب وراءها،و هنا نلمس مهارة المؤلف و لیاقته فی سلوک موارد الطعن من حیث یخفی کما

ص:115


1- (1) هو المختار بن أبی عبیدة بن مسعود بن عمر الثقفی،و کنیته أبو إسحاق ولد عام الهجرة،و أمه دومة بنت وهب،و قتل سنة 67 ه قتله مصعب بن الزبیر،و قتل من أصحابه سبعة آلاف رجل کلهم خرجوا معه للطلب بدم الحسین علیه السّلام.

یظن،فأنت لا تنتهی من جملة حتی یصدمک بجملة أخری بلهجة قاسیة و تعبیر شائن، و خلط فی الحوادث و مزج فی الآراء،و کل ذلک نستنکر منه،و إبداء الملاحظات علی کل ما جاء یطول،و نقتصر علی ما یلی:

أولا:إن حکم المؤلف علی المختار بکونه کان خارجیا هو حکم قاس لا یستند إلی مادة علمیة،و إنما أخذه عن قائل مجهول لا یعرف،کما نقل صاحب الإصابة بقوله:و یقال إنه کان فی أول أمره خارجیا ثم صار زیدیا ثم صار رافضیا (1).

و إذا أردنا أن نسلّم کل ما یقال،فما الداعی لموازین العلم و مقاییس الرجال إذن؟،مع أن هذه العبارة هی من المضحکات،إذ ورد فیها أنه صار زیدیا،و متی کانت الزیدیة فی عصر المختار؟فهو فی القرن الأول و الزیدیة عرفت فی القرن الثانی، إذ المختار قتل سنة 67 هجریة و زید بن علی بعد لم یولد،و هو الذی تنسب إلیه فرقة الزیدیة،و قتل سنة 122 ه و لنفرض أن هذا غلط مطبعی فما القول فی کونه صار رافضیا؟!لأن هذه الکلمة لم تعرف إلا فی عهد زید بن علی علیه السّلام بإجماع المؤرخین.و لکن الشیخ أخذ من هذا القول الکاذب بعضا منه و ترک البعض الآخر، فجزم بصحته و أصدر حکمه.

و یلزمنا هنا أن نقیس أحکامه الآتیة علی المختار علی هذا النمط من التساهل و عدم التثبت.

ثانیا:قوله قدم الکوفة مع مسلم بن عقیل،و هذا غیر صحیح أیضا،و لا أدری من أین أخذه،لأن المختار کان متوطنا فی الکوفة و نزل مسلم بن عقیل علیه ضیفا.

ثالثا:کان الأجدر به و اللائق بمکانته أن یدرس الحوادث و یستنطق البینات،لأن المختار قد أثیرت حوله ضجة،و اتهم بأشیاء کان اللازم علی من یتصدر للحکم فی محکمة التاریخ أن یدرس ملابسات حیاته،إذ المختار له أثره فی التاریخ،فهو الثائر علی الأمویین،و المنتقم من أعداء أهل البیت،فما أکثر الموتورین منه.و ما أعظم خطره علی الدولة الأمویة،هذا من جهة و من جهة أخری،نری أن المؤلف کثیرا ما یعطی النتیجة بدون مقدمات،و یحکم بدون بینة،و هذا شیء لا نقرّه و نؤاخذه علیه،

ص:116


1- (1) الإصابة ج 3 ص 519. [1]

لأنه قد أخذ علی نفسه بدراسته عن المذاهب:(أن یستخلص الحق مما تأشب به و اختلط،کما یستخلص الذهب مما اختلط به من مواد غریبة عنه،و إن تم بینه و بینها المزج و الاتحاد،و فی هذا السبیل نرد بعض الأقوال و نقبل بعضها کما یفعل الصیرفی، إذ یرد الزیوف من النقود و یقبل النافقة الرائجة) (1).

و لیس من الحق هنا أن یعرض عما تأشب به،و لیس من الحق هنا أن تقبل المزیف و لا ترده،و إنک یا فضیلة الشیخ نصبت نفسک هنا حاکما لا مدعیا،فکان الأجدر بک ألا تأخذ بکل ما یقال فتحکم به،و إن جزمک بوجود الفرقة السبئیة یهدم أملنا بک و بأمثالک من دعاة الوحدة الإسلامیة،ممن نرجو بهم إظهار الحقیقة، و القضاء علی الأساطیر و الخرافات،التی وضعت حجر عثرة فی طریق تقارب المسلمین،و إن أسطورة ابن سباء قد آن الأوان لانتزاعها من الأذهان،فهی حدیث خرافة لا یلیق برجال العلم أن یعتنوا بها.فهی من وضع الزنیدقة الذین کان جل قصدهم إثارة الفتنة بین المسلمین.

کما أن اتهام المختار بما لا یلیق به هو من الأمور المزیفة التی یلزم استخلاصها و عدم قبولها علی ما ألحقته به الأغراض و النوایا التی عارضتها ثورته.

هذا کله بالنظر إلی قضیة اتهام المختار من حیث ذاتها مجردة عن کل الملابسات،أما إذا نظرنا إلیها من حیث ما جره عداء الأمویین له،و تحزبهم علیه و ساعدهم علی ذلک قوم موتورون،لأنه قد حکم السیف منتقما ممن أراق دم أبناء رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فإذا تعمق الباحث فی بحثه،و مشی علی ضوء الأدلة متجردا عن الهوی و العصبیة،فلا یجد أی سبب لتلک الاتهامات،و المختار بریء مما علق بأبراده من درن،و کان من الواجب أن یعطی موقفه ضد أعداء أهل البیت،و موقف أبیه من قبل ضد أعداء الإسلام مزیدا من التریث فی إعطاء الحکم علیه بدون درس لقضیته و استنطاق للحوادث (2).

و إن حکم الشیخ أبی زهرة بهذه الصورة المؤلمة،فی إسناد الأفکار الخبیثة إلیه،و أن المختار هو مصدر اختلاف الآراء،و نشر العقائد أمر مخالف للحق،و بعید

ص:117


1- (1) کتاب مالک لأبی زهرة ص 15.
2- (2) أضفنا بابا عن ثورة المختار فی کتابنا(مع الحسین فی نهضته)بطبعته الجدیدة إنشاء اللّه.

عن الواقع.و قد اعتمد علی قول لا یعرف قائله،و ناهیک بما للاستسلام فی الأقوال و الانقیاد فی الآراء من جنایة علی التاریخ و الأحداث،و التخلص من قیودهما من أولی مستلزمات البحث الهادف و الدراسة العلمیة.

الکیسانیة:

یقول المؤلف:و قد تکونت من آراء المختار التی کان یبثها فرقة تسمی الکیسانیة حملت آراءه.

ثم یذکر عقائدهم و بعد ذلک یقول:و هذه الآراء منحرفة بلا شک،و إنها و إن کانت لفرقة قد قل الذین اعتنقوها،قد فتحت بابا للأخیلة الفاسدة التی جاءت من بعد.

و إذا کان الذی أثار هذا التفکیر قد ثار للحسین،و أرضی قلوب قوم مؤمنین، فقد کان بهذه الآراء مثیرا لأفکار وجد من بنی علیها،و وسع فیها و استرسل فی الخیال إلی درجة الکفر،و لذلک نقول فی المختار إنه خلط عملا صالحا بعمل کثیر سیئ.

و نحن نقول:

إن عمل المختار لم یخالطه ما یسوء،و هو صالح فی نفسه و فی عمله و ما نبز به من الاتهام،و ما رمی به من سوء الاعتقاد،فهو مفتعل علیه وضعه أعداؤه،و لفقه خصومه،و غذته سیاسة عصره بروایات موضوعة،و أخبار مفتراة،تشویها لسمعته وشلا لاتساع حرکته الانتقامیة،من قتلة آل محمد.

و قد دعا له الإمام السجاد و شکره الإمام الباقر علی صنیعه و أطراه و ترحم علیه، و کذلک الإمام الصادق علیه السّلام و تواتر الثناء علیه و الذب عنه من علماء الشیعة،و لم یغمزه إلا من لم یقف علی حاله (1).

و أما قول المؤلف:قد تکونت من آراء المختار التی کان یبثها فرقة تسمی الکیسانیة حملت آراءه:فهو قول بعید عن الصواب،لأنا لم نجد فی المصادر الموثوق بها شیئا من ذلک.

ص:118


1- (1) کتاب فرق الشیعة ص 23 تعلیق العلامة الجلیل السید محمد الصادق آل بحر العلوم.

فهذا شیخ الطائفة أبو جعفر الطوسی قد ذکر الفرقة الکیسانیة فی الغیبة و لم یذکر انتسابها إلی المختار.

و السید الجزائری ذکر(فی الأنوار)جملة من الفرق و لم یذکر انتماءهم إلی أحد،مع ذکره لکثیرین تعزی إلیهم المذاهب.

و السید مرتضی الرازی«فی تبصرة العوام»ذکر أن الفرقة الکیسانیة تزعم أن أبا مسلم الخراسانی منها،و قال:إنه غیر صحیح،و لم یذکر المختار أصلا.

و لو سلمنا جدلا أن الفرقة الکیسانیة تنسب إلی المختار فلا موجب لتلویث سمعته،و الحط من موالاته،و إلا لجری ذلک فی حق إسماعیل بن الصادق لانتساب الإسماعیلیة إلیه (1).

و قال النوبختی:إنما لقب المختار کیسان لأن صاحب شرطته المکنی بأبی عمرة کان اسمه کیسان (2).

و الحاصل أن انتساب الکیسانیة إلیه لا یدل علی أنه صاحب المذهب و إن کانوا قد انضموا لجیشه،و تابعوه علی أخذ الثار،فهو بعید عن تلک الآراء التی تنسب إلیه، و نسبتها إلیه نشأت عن ضیق فی النظر،و تعصب أعمی،و فساد فی الذوق،و انحراف عن الأصول التی یجب أن یتبعها الباحث،و أن التثبت فی عزو الآراء و نسبة العقائد لازم قبل الحکم بذلک،کما أن فرقة الکیسانیة لیس لها وجود معیّن و هی من وحی الخیال أسهمت فی رسم صورتها الدوافع السیاسیة.

و أعود فأقول:إن فضیلة الشیخ قد جعل من آراء المختار(التی هی کالبذر الخبیث)-علی حد تعبیره-أساسا لجمیع العقائد الفاسدة،و الآراء الشاذة،و علی ذلک نهج فی ذکر العقائد و بیان الآراء،و هو یقصد أمرا و یشیر إلی شیء من طرف خفی،و یحسب أنه قد أصاب الهدف و نال الغرض،و لکنه أخطأ الغرض،و ظلم فی الحکم،و هو کمن یبنی قصورا فی الهواء،أو یخط صحائف فی الماء.

ص:119


1- (1) انظر رسالة تنزیه المختار المطبوعة مع کتاب زید الشهید لمؤلفهما العلامة السید عبد الرزاق المقرم،و قد تکفلت هذه الرسالة-علی صغرها-ترجمة المختار ورد الشبه عنه بالطرق العلمیة بأوجز عبارة و أوضح بیان.
2- (2) الفرق للنوبختی ص 22. [1]

إننا لم نقصد بهذا العرض الموجز تنزیه المختار-و هو المنزه-و لکن الغرض خدمة الحقیقة و التاریخ،فنحن نکتب للحقیقة و التاریخ و لم ننکر علی الشیخ تهجمه علی المختار بدافع العاطفة-معاذ اللّه من ذلک-و إنما ننکر علیه لمخالفته للحقیقة، لأنا بحثنا کل ما ورد فی المختار من طعون،و ما رمی به من تهم،فوجدنا ذلک بعیدا عن الواقع،و إنما هی أمور أوجدها التحامل علیه،و البغض له من قوم موتورین،و قد استخدمت الدولة الأمویة دعاتها،و اتسعت دعایتها ضده بوضع أشیاء و خلق أحادیث، لتشویه سمعته و رمیه بما هو بریء منه،و سنوضح ذلک فی محله (1).

و الخلاصة:أن کثیرا من الکتاب یدرسون الأمور دراسة سطحیة فیقعون فی الخطأ و الظلم الفاحش،إذ یتقبلون کل قول،و یحکمون بدون تثبت.نسأل اللّه لهم الهدایة لطریق الصواب و خدمة الأمة الإسلامیة.

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِنْ جاءَکُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَیَّنُوا أَنْ تُصِیبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلی ما فَعَلْتُمْ نادِمِینَ (2).

الإمام الصادق و انصرافه إلی العلم:

یتحدث المؤلف عن الإمام الصادق علیه السّلام و انصرافه للعلم-بعد أن مهد للبحث-و إنه علیه السّلام قد انصرف إلی العلم انصرافا کلیا إلی أن یقول:

و لقد خاض فی عدة علوم،و بلغ فی أکثرها الذروة(بل فی جمیعها)فهو نجم بین علماء الحدیث،قد علم أحادیث آل البیت العلوی،و علم أحادیث غیرهم، و خصوصا أحادیث عائشة،و عبد اللّه بن عباس عن جده أبی أمه القاسم بن محمد، و استمر علی منهاجه فی إلقاء الحدیث.

إلی أن یقول فی ص 95:و ساد علماء عصره فی الفقه حتی کان یعلم اختلاف الفقهاء،و کان العلماء یتلقون عنه التخریجات الفقهیة،و تفسیر الآیات القرآنیة المتعلقة بالأحکام الفقهیة...

ص:120


1- (1) ستأتی ترجمة المختار فی کتابنا تاریخ الکوفة،الذی وضعناه حول حوادث الکوفة و نسأل اللّه إکماله و إنجازه.
2- (2) الحجرات:6. [1]

و قد عنی بدراسة علوم القرآن،فکان علی علم دقیق بتفسیره،و کان علی علم بتأویله،یعلم الناسخ و المنسوخ،و کان ذلک مما تناول العلماء الکلام فیه،و قد قلنا إن القاسم بن محمد روی عن ابن عباس،و کان ابن عباس أشد المتأخرین من الصحابة الذین عنوا بالقرآن الکریم حتی وصف بأنه ترجمان القرآن،و نحن قد فرضنا فرضا صادقا أن علم القاسم بن محمد قد آل إلی حفیده الإمام الصادق فیما آل إلیه من علم التابعین.

و نقول بصراحة:

إن أمر الأستاذ لمریب،و إن موقفه لیبعث علی الدهشة،نحن نسیر علی المنهج الواقعی،و هو یبتعد عن ذلک،إننا نحاول أن نصل إلی الأمور بالبرهان،و هو یرید الفرض و التخمین،و مع ذلک یصف ما یذهب إلیه بالصدق،فما أدری أی الأمرین أعجب:افتراضه فی تصوره؟!أم وصف ذلک بالصدق،و إسباغه صبغة القبول علیه؟! هذه أمور لا ترجع إلی تصور و لا تخمین،بل هی تعود للواقع من حیث هو.

و لما ذا هذا التمحل و لأی شیء هذا الابتعاد عن الواقع؟!و ما الضیر فی قول الحقیقة الصارخة بتلقی الإمام الصادق علم علی علیه السّلام من جده زین العابدین،و أبیه الباقر فقط و أنه استقی من ذلک المنهل کما استقی ابن عباس و غیره.

و قد قلت سابقا فی الجزء الثالث من هذا الکتاب:إن القول بحضور الإمام الصادق عند أحد من التابعین،أو روایته عنهم لا یثبته التتبع،و هو بعید عن الصواب، بل هی کلمات یلوکها من یرسل القول علی عواهنه،و یعطی الآراء جزافا،و ینقل الأقوال بدون تثبت و تمحیص،لأننا لم نجد فی حدیثه،و ما أکثر حدیثه و أصدقه،أنه أسند عن أی واحد من الناس سوی آبائه الطاهرین علیهم السّلام،فإذا أراد أن یسند فسلسلة حدیثه هکذا.

حدثنی أبی الباقر،قال:حدثنی أبی زین العابدین،قال:حدثنی أبی الحسین، قال حدثنی أبی علی بن أبی طالب،قال حدثنی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و هو أصح الأسانید عند علماء الحدیث کما تقدم،و هو التریاق المجرب کما سماه العلماء.

و ربما أرسل حدیثه علیه السّلام بدون إسناد،و لکنه أعطی قاعدة مشهورة إذ قال:

ص:121

حدیثی حدیث أبی،و حدیث أبی حدیث جدی،و حدیث جدی حدیث أبیه،و حدیث أبیه حدیث علی بن أبی طالب،و حدیث علی حدیث رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و نحن علی هذا النهج نسیر،فلا دخل للافتراض،و لا معنی للالتزام بالتصورات الخیالیة،و لیس بمستطاع أی أحد أن یأتینا بروایة للإمام الصادق و فی سندها أحد غیر آبائه الذین هم أصدق الناس قولا،و أعلمهم بما جاء به النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و من المؤسف أن الأستاذ یبرز نفسه بمظهر الاعتزاز بها،و الاعتماد علی ما توحیه إلیه مخیلته من دون التفات إلی ما وراء ذلک من نقص.

إنه یری علم أهل البیت لا یکمل حتی یدخل معهم غیرهم و لو کان واحدا، و إننا ننفی ذلک،و هو مصر علی رأیه،و لا ندری إلی أی حد یصل بنا هذا الافتراق، إذ لا نسلم له حتی من باب الجدل و التنازل.و نحن نطلب منه التوسع فی الدراسة و الرجوع إلی المصادر و ترک الافتراض و التخمین،لأن الحقیقة أولی من الافتراض و لیس للشیخ استخدام هذا الفرض أمام أمر هو فی أحادیث أهل البیت من الخصائص و الممیزات إلا أن یرد إقحام القاسم بن محمد بن أبی بکر فی أمر هو فی غنی عنه، و قد أشرنا إلی علمه و مکانته فی أکثر من موضع فی هذا الکتاب و هو الثقة.

علم المدینة ص 158:

یتحول الأستاذ بالحدیث عن علم المدینة الفاضلة،و یذکر عهد الراشدین و ما قاموا به من نشر الأحکام...

إلی أن یأتی إلی رأی ابن القیم فی حصر الدین و الفقه و انتشاره فی الأمة بأربعة و هم:ابن مسعود،و زید بن ثابت،و عبد اللّه بن عمر،و عبد اللّه بن عباس إلی آخره...

و یبدأ المؤلف ملاحظته حول هذا الرأی المخالف للحقیقة لکثرة أصحاب محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هم حملة رسالة الإسلام و فیهم الإمام علی بن أبی طالب،و لننقل للقراء کلمته فی ذلک بطولها.

فیقول فی ص 161:ثم إن هناک علی بن أبی طالب مکث نحوا من ثلاثین سنة بعد أن قبض اللّه رسوله إلیه یفتی،و یرشد،و یوجه،و قد کان غواصا طالبا للحقائق، و قد أقام فی الکوفة نحو خمس سنوات،و لا بد أنه ترک فیها فتاوی و أقضیة،و کان

ص:122

فیها المنفرد بالتوجیه و الإرشاد،و إنه قد عرف بغزارة العلم کرم اللّه وجهه.و عمق انصرافه إلی الإفتاء فی مدة الخلفاء قبله،و المشارکة فی کل الأمور العمیقة التی تحتاج إلی فحص و تقلیب للأمور من کل وجوهها،مع تمحیص و قوة استنباط.

و إنه یجب علینا أن نقرر هنا أن فقه علی و فتاویه و أقضیته لم ترو فی کتب السنة بالقدر الذی یتفق مع مدة خلافته،و لا مع المدة التی کان منصرفا فیها إلی الدرس و الإفتاء فی مدة الراشدین قبله،و قد کانت حیاته کلها للفقه و علم الدین،و کان أکثر الصحابة اتصالا برسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقد رافق الرسول و هو صبی قبل أن یبعث علیه السّلام و استمر معه إلی أن قبض اللّه تعالی رسوله إلیه،و لذا کان یجب أن یذکر فی کتب السنة أضعاف ما هو مذکور فیها.

و إذا کان لنا أن نتعرف السبب الذی من أجله اختفی عن جمهور المسلمین بعض مرویات علی و فقهه فإنا نقول:إنه لا بد أن یکون للحکم الأموی أثر فی اختفاء کثیر من آثار علی فی القضاء و الإفتاء،لأنه لیس من المعقول أن یلعنوا علیا فوق المنابر، و أن یترکوا العلماء یتحدثون بعلمه،و ینقلون فتاویه و أقواله للناس،و خصوصا ما کان یتصل منها بأساس الحکم الإسلامی.

و العراق الذی عاش فیه علی رضی اللّه عنه و کرم وجهه،و فیه انبثق علمه،کان یحکمه فی صدر الدولة الأمویة و وسطها حکام غلاظ شداد،و هم الذین یخلقون الریب و الشکوک حوله،حتی أنهم یتخذون من تکنیة النبی له«بأبی تراب»ذریعة لتنقیصه،و هو رضی اللّه عنه کان یطرب لهذه الکنیة و یستریح لسماعها لأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قالها فی محبة کمحبة الوالد لولده.

و لکن هل کان اختفاء أکثر آثار علی رضی اللّه عنه و عدم شهرتها بین جماهیر المسلمین سبیلا لاندثارها،و ذهابها فی لجة التاریخ إلی حیث لا یعلم بها أحد...!! إن علیا قد استشهد و قد ترک وراءه من ذریته أبرارا أطهارا کانوا أئمة فی علم الإسلام و کانوا ممن یقتدی بهم،ترک ولدیه من فاطمة الحسن و الحسین،و ترک رواد الفکر محمد بن الحنفیة فأودعهم رضی اللّه عنه ذلک العلم...

أقول:

ذکرنا هذه الملاحظة مع طولها باختصار و فیها تقریر لحقائق یجب مراعاتها و الالتفات إلیها بدون تحیز.

ص:123

و نحن نأمل أن تلاحظ هذه الملاحظات عند کل باحث لإعطاء البحث عن تاریخ أهل البیت و أتباعهم مزیدا من التأمل و التریث،و عدم إرسال القول بسرعة، و إعطاء الحکم بعجالة،فإن تأثیر ذلک التدخل الجائر فی شئون الأمة قد غیر کثیرا من الحقائق،و أوجد کثیرا من المشاکل فی طریق الباحث المتحرر.

و إن الحصر الذی ذکره ابن القیم الجوزیة (1)کان من جراء ذلک التأثر،شأنه شأن کثیر من المؤرخین.

و علی کل حال:فإن اتجاه الأمویین فی سیاستهم ضد أهل البیت،قد وجهوا به کثیرا من الناس فی طریق الانحراف عن الواقع؛لأنهم کانوا یحاولون القضاء علی مآثر أهل البیت،فلا یسمحون لأحد أن یذکرهم بخیر،أو یروی عنهم شیئا،و من خالف عوقب بأشد العقاب.

و یعطینا الحسن البصری صورة جلیة عن ذلک.فإنه علی عظم منزلته فی الدولة الأمویة کان لا یذکر علیا،و إذا حدث عنه یقول:قال أبو زینب و یظهر الابتعاد عن علی علیه السّلام حتی ظهر منه ما یوجب الإنکار علیه،فقال له أبان بن عیاش:ما هذا الذی یقال عنک أنک قلته فی علی؟ فقال:یا ابن أخی أحقن دمی من هؤلاء الجبابرة-یعنی بنی أمیة-لو لا ذلک لسالت بی أعشب (2).

و قال أبو حنیفة النعمان بن ثابت:إن بنی أمیة کانوا لا یفتون بقول علی،و لا یأخذون به،و کان علی لا یذکر فی ذلک باسمه،و کانت العلامة باسمه بین المشایخ أن یقولوا قال الشیخ (3).

و لعل من المستحسن أن نعود لمناقشة الأستاذ حول کثیر من آرائه،و إصدار أحکامه بدون دراسة للأمور،و معالجة للموضوع،استسلاما لما نقله بعض،أو قاله

ص:124


1- (1) هو محمد بن أبی بکر بن أیوب بن سعد بن حریز الزرعی الدمشقی الحنبلی،المتولد سنة 690 ه و المتوفی سنة 751 ه کان من تلامذة ابن تیمیة،و سجن معه،و له حملات علی سائر الطوائف بلهجة قاسیة،و له قصیدة نونیة یذکر فیها عقائد الفرق و ینتصر بها للمجسمة.
2- (2) الحسن البصری لابن الجوزی ص 7.
3- (3) مناقب أبی حنیفة للمکی ج 1 ص 171.

بعض آخر،فإن وجود مشکلة الضغط الأموی،و حجر الأفکار عن حریتها،یوجب التشکیک علی الأقل فی کل ما یوجد من نقول غیر لائقة بمن عرف بالعداء للأمویین و موالاته لآل علی.

فهذا الحسن البصری و هو فی ثغر البصرة یعدّ بقوة الدفاع عنهم أعظم من الجیوش المدربة فی ساحات الحرب،حتی قالوا:«لو لا لسان الحسن،و سیف الحجاج لوئدت الدولة المروانیة فی لحدها،و أخذت من کرها»مع ذلک یخشی وقوع النقمة علیه إن ذکر علیا بخیر،و قد ألجأه الأمر إلی أن ینال من علی.

و علی هذا سارت الأمور،و اتسع الخرق،و اختلط الحابل بالنابل،و ظهرت المشاکل،و سار أکثر الناس زرافات و وحدانا فی رکب تلک السیاسة الجائرة،یعلنون ولاءهم للدولة بإظهار البراءة من خصومهم،و یسارعون لنشر الأباطیل و خلق التهم، و وضع الحکایات.

نعم من المستحسن أن نعود و لکن المجال لا یسع لذلک،و الذی نرید أن نقوله هنا:إنه یجب علی کل کاتب أن یتحری الواقع،و أن یحسب للظروف حسابها، و یعالج الأمور معالجة المتمکن فی دراسة عمیقة،و فطرة مستقیمة فی فهم الأشیاء و إصدار الأحکام.

و الشیخ المؤلف قد أصدر أحکاما کثیرة بدون مراعاة للموازین،و أظهر شیء فی ذلک إصدار حکمه فی حق الثائر المجاهد المختار بن أبی عبیدة کما تقدم،و لا نطیل الحدیث هنا فیطول المکث،و الوقت من ذهب.

الفقهاء السبعة:
اشارة

و بعد ذلک یتحول المؤلف إلی ذکر الفقهاء السبعة فیقول ص 165:و لا بد أن نشیر إلیهم بکلمة لأنهم یصورون فقه المدینة،و هم کانوا أبرز أساتذته،و من جهة أخری فأحدهم کان جد الإمام جعفر الصادق لأمه.

إن انحصار الفقه الإسلامی فی مهد تشریعه و محل تنزیله بهؤلاء السبعة فقط یبعث علی الاستغراب،فالمدینة المنورة کانت تزخر برجال الأمة من أهل العلم، و فیها حلقات الفقه،و إلیها یفد طلابه من مختلف الأقطار الإسلامیة،و یتخرج منها حفاظ الحدیث و حملة الفقه،لأنها دار هجرة الرسول الأعظم،و موطن الشرع و مبعث

ص:125

النور،و عاصمة الحکم الإسلامی الأول،و فیها أهل بیت النبی و عترته«الذین أذهب اللّه عنهم الرجس و طهرهم تطهیرا»فهم حملة العلم«و أعلام الأنام و حکام الإسلام» قوم بنور الخلافة یشرقون و بلسان النبوة ینطقون.

و إن الحصر بهؤلاء السبعة أمر یبعث علی التساؤل عن أسباب ذلک مع وجود تلک الفئة الصالحة،و لعل الجواب لا یعسر علی من یدرس تلک الأوضاع،و یقف علی حوادث الزمن الذی من أجله کان ذلک الحصر.

و لا نعدو الواقع إن قلنا إنه حصر سیاسی یعود لمصلحة الأمویین لصرف الناس عن الاتصال بأهل البیت،و قد مرت الإشارة من المؤلف لذلک.

و أری من اللازم الإشارة لکل واحد من الفقهاء السبعة بترجمة موجزة و هم:

1-سعید بن المسیب:

هو أبو محمد سعید بن المسیب بن حزن بن أبی وهب المخزومی المتوفی سنة -93-94 ه.

تزوج بنت أبی هریرة الدوسی،و کانت جل روایته عنه،و قد ضرب فی السیاط مرتین لمخالفته الحکام فیما یرونه.

2-عروة:

أبو عبد اللّه المدنی عروة بن الزبیر بن العوام المتوفی سنة 92 ه.

کان من المبرزین فی الدولة،و کان کثیر الروایة عن خالته أم المؤمنین عائشة، و کان عبد الملک یشید بذکره حتی قال:من سره أن ینظر إلی رجل من أهل الجنة فلینظر إلی عروة بن الزبیر و قد حضر الجمل مع أبیه الزبیر فی حرب علی.

3-عبد الرحمن:

أبو بکر عبد اللّه بن الحارث المتوفی سنة 94 ه.

کان أبوه الحارث أخا لأبی جهل لأمه،و کان عبد الرحمن فی جیش البصرة مع عائشة،و کان صغیرا فرد هو و عروة بن الزبیر عن القتال و کان أعمی.

ص:126

4-عبید اللّه:

أبو عبد اللّه عبید اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود المتوفی سنة 98 ه.

کان أکثر ما یروی عن عائشة،و أبی هریرة و ابن عباس،و قد تتلمذ له عمر بن عبد العزیز،فکان بذلک موضع إجلال و تقدیر،و کان أدیبا شاعرا،و من شعره ما ذکره ابن الجوزی فی کتاب ذم الهوی قال:قدمت امرأة من هذیل المدینة،فخطبها الناس،و کادت تذهب بعقول أکثرهم لفرط جمالها فقال فیها عبید اللّه بن عبد اللّه بن عتبة:

أحبک حبا لو علمت ببعضه لجدت و لم یصعب علیک شدید

أحبک حبا لا یحبک مثله قریب و لا فی العاشقین بعید

و حبیک یا أم الصبی مدلهی شهیدی أبو بکر فذاک شهید

و یعلم وجدی قاسم بن محمد و عروة ما ألقی بکم و سعید

و یعلم ما عندی سلیمان علمه و خارجة یبدی بنا و یعید

متی تسألی عما أقول فتخبری فللّه عندی طارف و تلید (1)

و هؤلاء الذین استشهد بهم و هو معهم هم الفقهاء السبعة.

5-سلیمان:

أبو أیوب سلیمان بن یسار أخو عطاء،مولی میمونة المتوفی سنة 100 ه أو 107 ه کان أکثر ما یروی عن عائشة و أبی هریرة.

6-خارجة:

أبو زید المدنی خارجة بن زید بن ثابت الأنصاری المتوفی سنة 99-100 ه أحد الفقهاء السبعة کان قلیل الحدیث و کان فقیه رأی و لم یذکره الذهبی فی حفاظ الحدیث،لأنه قلیل الروایة،و لکن الأستاذ أبو زهرة حکم له بکثرة الروایة و کثرة الإفتاء بالرأی.

ص:127


1- (1) شذرات الذهب ج 1 ص 104. [1]
تنبیهات:

1-إننا لم نتعرض لترجمة هؤلاء الفقهاء بالتفصیل حذرا من الإطالة فی الموضوع،و إن ذلک یجرنا إلی البحث حول سعید بن المسیب و الاختلاف فی نزعته،فقد ورد فی بعض الروایات أنه کان من حواریی الإمام زین العابدین،و أخص تلامذته کروایة علی بن أسباط عن أبی الحسن.

و کان یظهر المعارضة للأمویین،و ینقم علی معاویة ما خالف فیه أحکام الإسلام،کإلحاقه زیاد بن سمیة بأبی سفیان و قد ولد من الزنا علی فراش أبی عبید، و خالف بذلک الحدیث المشهور(الولد للفراش و للعاهر الحجر).

و یستدل بعضهم بهذه المعارضة أنه کان علی صلة تامة بأهل البیت،و إن هناک روایات تدل علی ابتعاده عنهم،و الأمر یدعو إلی مزید من البیان و لا یمکن ذلک بهذه العجالة و إعطاء الرأی الصحیح فیه.

2-إننا ترکنا التعرض لترجمة القاسم بن محمد بن أبی بکر اکتفاء بما سبق.

3-إن قول المؤلف أبو زهرة فی أول ذکره للفقهاء السبعة:إنهم کانوا من أبرز أساتذة الإمام الصادق،لم یکن مبنیا علی حجة و لا مستندا إلی دلیل بل هو قول یفرضه،و رأی یرتئیه و لا یقره التتبع،و ما أکثر ما یفترضه الأستاذ و ما یتخیله و لا یثبت ذلک أمام الحقائق.

و الخلاصة أن هؤلاء الفقهاء السبعة لم یکن الإمام الصادق راویا عن واحد منهم،و لم یأخذ العلم عنهم بل کان أکثر هؤلاء رواة لحدیث أبیه و جده و من تلامذتهما،و قد ذکرنا فی الجزء الثالث من هذا الکتاب رد قول من یزعم أن الإمام الصادق کان یروی عن عروة بن الزبیر.

و علی کل حال:فإن القول بأخذ الإمام الصادق عن هؤلاء إنما هو من باب التخمین و الافتراض،و ذلک لا یثبت حقیقة و لا یدل علی واقع.

4-إن حصر الفقه فی هؤلاء السبعة أمر یدعو إلی الاستغراب و التساؤل،فهل کان ذلک أمرا واقعیا بحیث أن هؤلاء هم المبرزون فی عصرهم و المجمع علی فقاهتهم؟.

و هل أقر لهم أقرانهم بذلک،و شهد لهم أساتذتهم به؟

ص:128

نحن لا نعرف لهذا أسبابا واقعیة،و إنما یغلب علی الظن و یتبادر إلی الذهن أنها فکرة سیاسیة لاستخدام التشریع الإسلامی فی أغراض الولاة،تأییدا للدولة و کسبا لرضا الأمة الناقمة علی وضع النظام القائم،لانحرافه عن نظم الإسلام،و ابتعاد رجال السلطة عن العمل به.

فکان لجوؤهم إلی تعیین رجال یؤخذ العلم عنهم،و أحکام التشریع منهم،أمرا یأملون به رد المؤاخذات،و صرف الناس عن الالتقاء بمن هو خصم لهم،و لا یحبون أن یظهر أمره أو ینتشر ذکره.

و إذا أردنا أن نلقی نظرة فاحصة عن أسباب الاختصاص بهؤلاء دون سواهم فإنا نجد ذلک یرجع إلی صفات یتحلی بها هؤلاء أکثر من غیرهم.

فسعید بن المسیب مثلا کان جل روایته عن صهره أبی هریرة الدوسی،و کان یأخذ بقضاء عمر و فقهه حتی قیل إنه روایة عمر و حامل علمه،و کل ذلک لا یعارض أهداف السلطة الحاکمة،لأنها تهتم إذا ما ذکر علی علیه السّلام و نشر علمه،أو کان لأهل بیته ذکر فی المجتمع العلمی.

و عروة بن الزبیر هو راویة أم المؤمنین خالته عائشة،و کان یتألف الناس بالروایة عنها،و هو من أعوان الدولة الأمویة،و السائرین فی رکابها و قد روی عن أم المؤمنین عائشة أشیاء لا یقبلها العقل.

و أما القاسم بن محمد فهو حفید أبی بکر الصدیق و له منزلة علمیة،و مکانة لا تجهل،و إشادة الدولة بذکره یعود علیها بالنفع،و إن لم یرتض ذلک أو یقبله هو، فالسیاسة تهدف إلی منافعها قبل کل شیء و هکذا بقیة الجماعة من الفقهاء السبعة.

و الغرض أن هذا الحصر کان أمرا مقصودا و شیئا مدبرا،و ربما یلمح له شعر عبید اللّه بن عبد اللّه السابق الذکر فی استشهاده بهؤلاء الجماعة إذ یتجلی منه أنه أمر مقرر،و شیء مشهور.

کما أن ابتعاد الناس عن الفتوی فی ذلک الزمان و دفع السائل إلی أحد هؤلاء یستنتج منه الإلزام و التعین.

قال أبو إسحاق:کنت أری الرجل فی ذلک الزمان و إنه لیدخل یسأل عن الشیء

ص:129

فیدفعه الناس من مجلس إلی مجلس،حتی یدفع إلی مجلس سعید بن المسیب کراهیة للفتیا (1).

5-عقب الأستاذ أبو زهرة هذا الموضوع بأشیاء لا نتعرض لها و کل ذلک یدور حول أخذ الإمام الصادق عن غیر أهل بیته،و لکنه لم یهتد للطریق و لم یصل إلی الهدف.

6-إننا لم نتعرض فی إبداء الملاحظات حول موضوع الرأی و الحدیث الذی جاء بعد هذا الموضوع،لأننا قد أشرنا إلیه فی الجزء الأول فلا نحب الإعادة و الإطالة.

ص:130


1- (1) أعلام الموقعین ج 1 ص 18.

القسم الثانی من:

اشارة

لقاء مع الأستاذ(أبو زهرة)

فی کتابه الإمام الصادق

>القسم الثانی<

ص:131

ص:132

آراء الإمام الصادق:

نتحول مع المؤلف من القسم الأول من کتابه إلی القسم الثانی و هو البحث عن آراء الإمام الصادق و فقهه.

و هذا القسم هو أهم من القسم الأول بکثیر،نمضی مع المؤلف علی منهج الدقة فی النقاش،و هنا نشتد معه فی الحساب،و لا نعنی أننا نرید أن نغیر من منهجنا الذی التزمنا أن ننهجه معه فی القسم الأول،من التقید بآداب البحث،و شروط النقد، أو نتعدی حدود خدمة الحقیقة و إظهار الواقع.

إن هذا القسم-کما قلت-مهم فی حد ذاته،و المؤلف یرید أن یتحدث عن آراء الإمام الصادق و فقهه،و نحن نصغی لحدیثه،لنعرف مدی إلمامه بالموضوع،و إحاطته بأطرافه،فهل تشبعت روحه و هضم مادته لیستخلص النتائج التی تعطی عن الموضوع صورة واقعیة؟ و هل خضع لما تقتضیه النتائج فسار علی ذلک؟أم أنه یرید أن یخضع الموضوع لطبیعته من التساهل و استعمال الافتراض،و اللابدیة،و إمکان ما لا یمکن،فیتساهل فی النقل و یتسرع فی الحکم و إعطاء النتیجة من دون قیاس،و یتصرف حسب ذوقه الخاص؟! و هل فکر قبل أن ینسب الفکرة للإمام الصادق لیتحقق صدق النسبة إلیه؟ و هل یحاول أن یکشف علی أضواء الأدلة الصحیحة حقائق کانت وراء ظلمات من الأوهام و التخیلات؟ و هل عالج المواضیع أو المشاکل-کما یقول-بعلاج ناجع؟!

ص:133

و ما هی النتائج التی استخرجها من بحثه و تنقیبه؟،و نحن نسایره هنا و ملء صدورنا أمل بأن یکون مؤدیا ما یجب علیه من بذل الجهد و استفراغ الوسع لحل هذه المشاکل التی یقف أمامها لاستخلاص الآراء الثابتة کما یقول فی ص 184:و إن استخلاص الآراء الثابتة للإمام من أعسر الأمور علی الکاتب الذی یرید تحری الحقیقة بعد أن ینحی أفکار الذین غالوا فی تقدیره حتی رفعوه إلی مرتبة النبوة.

و نحن هنا ندعو اللّه للکاتب المحترم و الشیخ(المحقق)بأن یمده بالعون و یلهمه الصواب للوصول إلی الحقیقة التی یتطلبها کل منصف.

کما ندعو اللّه بأن یوفق الشیخ لنبذ أفکار منحرفة عن الواقع فی فهم حقیقة التشیع و جوهره،لیخفف من تکرار عبارات الغلو فی تقدیر الإمام و یهون من خطب دعایات السوء التی أحیطت بها مفاهیم المذهب الشیعی.

و إن الذی یحقق الأمل فی هذا الفصل هو أن الشیخ المؤلف قد جعل من نفسه قاضیا فی محکمة التاریخ کما یقول:(فإنا ندرس المقدمات کما یدرس القاضی البینات یستنطقها و لا یوجهها و یأخذ عنها و لا یتزید علیها حتی إذا انتهی إلی الحکم نطق به).

و حیث إن الشیخ قد جعل من نفسه قاضیا فی محکمة التاریخ،فلا بد أن یتسع صدره لمشقة الدراسة،لیقضی بالحق،و یحکم بالعدل،إن الواجب یقضی علیه أن یحاسب نفسه قبل أن یخط أی کلمة،و یتحری الحقیقة فی نسبة الآراء و العقائد،و أن لا یعتمد إلا علی المراجع المعتبرة،و أن یتجنب الأخذ بالشائعات،و لا یأخذ بأقوال المخالفین و المتحاملین.

و أن یجعل نصب عینه سیاسة الحکام الذین تدخلوا فی شئون الأمة فأثاروا الخلاف،و روجوا الشائعات و استعملوا دعایتهم ضد من یعارض سیاستهم،و قد استخدموا أقلاما مسمومة،سخروها لأغراضهم،فکانت أمضی جرحا من السیف، و قد ذهبوا جمیعا و بقیت تلک الآثار السیئة،یستعملها من یرید تفرق الأمة طمعا فی تحقیق أهدافه.

فاللازم علیه بأن یتثبت قبل الحکم و یتأکد من صدق البینات،و أن تکون له خلوة مع أوراقه و مع ضمیره و مع ربه،و یجعل حسابه نصب عینیه.

ص:134

و نود هنا أن نسائل فضیلة الأستاذ المؤلف أو القاضی المحترم عن بینته الصادقة فی قوله ص 195 بعد ذکره لحدیث الوصایة:«هذا خبر روی عن الصادق نفسه».

نسائله بوجدانه و بحرمة العدل هل قرأ هذا الخبر فی الکافی نفسه فأصدر حکمه فیه؟إنه یجیب بأنه لم یقرأ الخبر و لم ینقله عن الکافی کما یقول فی صدر الصحیفة:

(و قد نقلنا هذا من قبل و ننقله هنا فقد روی الکلینی...الخ).

و إذا رجعنا إلی الوراء نجده قد نقله فی ص 35 من القسم الأول و لکن عمن نقله و أی إنسان حدثه به!!؟نعم مصدره کتاب الوشیعة لموسی جار اللّه.

و هنا یحق لنا أن نطالب الشیخ بالعدل و الإنصاف لتساهله فی قبول البینات و نقله عن کتاب خصم للشیعة،و قد سود صحائفه بالطعن و الافتراء فی القول و الکذب فی النقل،فهو ناقد حاقد و کاتب متطرف لا یتقید بأصول النقد و لا یتثبت فی النقل.

کتاب حاول فیه مؤلفه أن یعید مآسی التاریخ المؤلمة،و یشهر المسلم سیفه علی أخیه بدل أن یشهره علی عدوه،و یثیر الحرب بین أبناء التوحید بدل أن تثار فی محاربة المشرکین.

کتاب رقمه صاحبه بقلم یقطر سما،و قلب یمتلئ حقدا،و یکاد یتمیز من الغیظ لتقارب المسلمین بعد التباعد.

کتاب أوحته طائفیة رعناء بل رجة عصبیة و حرکة لا شعوریة،و هو یأمل من ورائها تحقیق قصد،و اللّه من وراء القصد،و اللّه یدافع عن الذین آمنوا،و کفی اللّه الأمة الإسلامیة شر ذلک الکتاب.

و المؤلف فی اعتماده علی ما ینقله صاحب کتاب الوشیعة لا بد و أنه یصدقه بکل ما قال کما قرر ذلک فی ص 201.

و بالطبع إنه باعتماده علی کتاب الوشیعة لا بد و أن یتأثر،لما فیه من مغالطة للحقیقة،و اتهام للأبریاء،و وصف الشیعة بصفات تؤثر فی النفس،و تحدث ثورة یکون أثرها محسوسا فی حکمه.

و علی کل حال:فإن جعل کتاب الوشیعة مصدرا للبحث و بینة للحکم أمر مخالف للعدل،و شیء نستغربه و نؤاخذ الأستاذ علیه،لأنه فی ذلک یصبح مشجعا

ص:135

لهؤلاء المتمردین علی مفاهیم الإسلام،و الضاربین علی وتر الطائفیة لیثیروا أحقادا کامنة و یفتحوا أبواب فتن موصدة.

و نسائله أیضا-و أملنا أن یتسع صدره و لا یضیق حرجا-عن البینة التی حکم بها علی الدکتور الهاشمی بأنه شیعی اثنا عشری و ذلک قوله فی ص 198:هذا کلام عالم محقق فاضل و هو اثنا عشری.

أطلق فضیلته هذا القول بعد البحث فی التشکیک بما یروی فی کتب الشیعة، و بالأخص الکافی فیقول فی ص 196:(و إننا نشک فی صدق هذه الأخبار لأن روایة أکثرها عن طریق الکافی و نحن نضع روایاته دائما فی المیزان).

و إنی لأعجب من الأستاذ فی إطلاق هذا القول من فمه و تحریره له بقلمه، و کأنه یصدر ذلک و هو الحافظ الحجة،الذی خاض فی علم السنة،و عرف الصحیح و الضعیف،و الموضوع و المسند و المرسل،و نقد الأسانید بقانون علمی،و وزنها بمیزان صحیح.

إنی لأعجب و أبتسم لذلک،لأنی أعرف أن المؤلف لم یقرأ کتاب الکافی،و لم یطلع علیه،بل نقل عنه بوسائط غیر صحیحة کما سیتضح ذلک فیما بعد.

کما أنی أعرف عن المؤلف أنه لیس له خبرة بعلم الحدیث و لا درایة له بعلم الدرایة،و لست بظالم له فی ذلک.

و المؤلف کأنه یرید أن یبین لقرائه أمورا هامة فی هذا الموضوع،و لکن القارئ عند ما یقف علی ما کتبه هنا،فإنه لا یعدو التشکیک فیما تعتقده الشیعة فی الإمامة و منزلة الإمام و علمه و عصمته،فیسوق أقوالا و یورد أحادیث،فیوجه و یشکک،و هو یظن بأنها هی أدلة الشیعة علی ذلک لا غیر،حتی یأتی إلی حدیث الثقلین و هو الحدیث المشهور عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بلزوم التمسک بالکتاب و العترة للنجاة من الضلال بعده و الابتعاد عن الهلکة.

و هنا یلتوی الطریق بالمؤلف و تتحکم فیه عاطفة التأثر و تتلاطم به أمواج التفکیر فتلقیه علی ساحل التحریف لهذا الحدیث و تغییره عن أصله فیقول سلمه اللّه فی ص 199:

و نقول إن إخواننا الإمامیة یقولون إن روایة(و عترتی)هی شبه متواترة،و لکنا

ص:136

نقول إن کتب السنة التی ذکرته بلفظ سنتی أوثق من الکتب التی روته بلفظ عترتی.

حدیث الثقلین و أسانیده:
اشارة

هکذا یطلق الأستاذ حکمه بأن قول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إنی مخلف فیکم الثقلین کتاب اللّه و عترتی أهل بیتی.قد نقلته کتب غیر موثوق بها،و لکن الکتب الموثوقة نقلته بلفظ:کتاب اللّه و سنتی.

فأین هی هذه الکتب و کیف حکم بأنها أوثق من الکتب التی روتها بلفظ عترتی؟ أ لیس هذا شیء یبعث علی الدهشة،أ لیس هذا تجنیا علی الحقائق العلمیة،و ما ذا نقول حول هذا الحکم یا أخی القارئ؟! نحن فی معرض تقریر حقائق نعرضها أمامک و إلیک الحکم بکل حریة و اختیار.

نحاسب الشیخ علی استنباطه هنا،و لا نوجه إلیه أی کلمة،و إنما نحن مع القراء فی بیان هذه الحقیقة،و هم یحاسبونه.

الشیخ یقول:إن کتب السنة التی ذکرته(أی هذا الحدیث)بلفظ سنتی أوثق من الکتب التی روته بلفظ عترتی.انتهی.

و لعل هناک من یثق بقوله و لکن له أن یطالبه بالکتب التی روت بلفظ سنتی، و هو لم یشر إلی واحد منها،لأنه فی معرض لف و دوران.

و هنا نوقف القارئ علی تلک الکتب التی یفهم من لفظ المؤلف أنها غیر موثوقة،و غیرها أوثق منها.فصح له أن یطعن فیها و یصدر حکمه،و هذه الکتب هی:

1-صحیح مسلم:

لمسلم بن الحجاج المتوفی سنة 261 ه،و هو أحد الصحیحین المعمول بکل ما فیها،و الموثوق عند الجمیع،و قد قالوا فیه:ما تحت أدیم السماء أصح من کتاب مسلم (1).

أخرج مسلم فی صحیحه عن زید بن أرقم خطبة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یوم الغدیر و قوله فیها:

ص:137


1- (1) تذکرة الحفاظ ج 1 ص 104.

«و أنا تارک فیکم الثقلین کتاب اللّه فیه الهدی و النور فخذوا بکتاب اللّه و استمسکوا به،فحث علی کتاب اللّه و رغب فیه ثم قال:و أهل بیتی أذکر کم اللّه فی أهل بیتی أذکرکم اللّه فی أهل بیتی أذکرکم اللّه فی أهل بیتی (1).

2-الترمذی:

صحیح محمد بن عیسی المعروف بالترمذی المتوفی سنة 271 ه.

و قد وصفوه بأنه أنور من کتاب البخاری،و قد أخرج الحدیث فی صحیحه:أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:إنی تارک فیکم الثقلین ما إن تمسکتم بهما لن تضلوا بعدی، أحدهما أعظم من الآخر:کتاب اللّه ممدود من السماء إلی الأرض،و عترتی أهل بیتی،و لن یفترقا حتی یردا علیّ الحوض،فانظروا کیف تخلفونی فیهما (2).

3-المسند:

للإمام أحمد بن حنبل أخرج بسنده عن أبی سعید الخدری أن النبی قال:إنی تارک فیکم الثقلین کتاب اللّه و عترتی أهل بیتی،و إنهما لن یفترقا حتی یردا علیّ الحوض.

و أخرجه أیضا عن أبی سعید عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:إنی أوشک أن أدعی فأجیب و إنی تارک فیکم الثقلین کتاب اللّه و عترتی أهل بیتی،کتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلی الأرض،و عترتی أهل بیتی،و إن اللطیف الخبیر أخبرنی أنهما لن یفترقا حتی یردا علیّ الحوض،فانظروا بم تخلفونی فیهما.

و أخرجه أیضا بهذا اللفظ فی ص 26.

4-المستدرک:

لأبی عبد اللّه الحاکم أخرجه من طریق زید بن أرقم رضی اللّه عنه:قال لما رجع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من حجة الوداع و نزل غدیر خم،أمر بدوحات فقمن فقال:

«کأنی قد دعیت فأجبت،إنی قد ترکت فیکم الثقلین،أحدهما أکبر من الآخر:

ص:138


1- (1) صحیح مسلم ج 7 ص 122 مطبوعات مکتبة محمد علی صبیح و أولاده 24 ربیع الأول سنة 1334.
2- (2) صحیح الترمذی ج 2 ص 208. [1]

کتاب اللّه و عترتی،فانظروا کیف تخلفونی فیهما،فإنهما لن یفترقا حتی یردا علیّ الحوض،ثم قال:إن اللّه مولای،و أنا مولی کل مؤمن،ثم أخذ بید علی فقال:من کنت مولاه فهذا علیّ مولاه،اللهم وال من والاه و عاد من عاداه-الحدیث (1).

5-تفسیر ابن کثیر:

و أخرجه أبو الفدا إسماعیل بن کثیر الدمشقی المتوفی سنة 774 ه:

قام صلّی اللّه علیه و آله و سلّم خطیبا بماء یدعی بخم بین مکة و المدینة فحمد اللّه و أثنی علیه و وعظ و ذکر ثم قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

«أما بعد ألا أیها الناس فإنما أنا بشر یوشک أن یأتینی رسول ربی فأجیب،و أنا تارک فیکم ثقلین أولهما کتاب اللّه تعالی فیه الهدی و النور فخذوا بکتاب اللّه و استمسکوا به-و رغّب ثم قال:و أهل بیتی أذکرکم اللّه فی أهل بیتی أذکرکم اللّه فی أهل بیتی ثلاثا» (2)6-الصواعق:

و أخرجه الحافظ ابن حجر فی صواعقه بطرق مختلفة،و قال:و لهذا الحدیث طرق کثیرة عن بضع و عشرین صحابیا (3).

7-الجامع الصغیر:

و أخرجه جلال الدین عبد الرحمن بن أبی بکر السیوطی فی الجامع الصغیر، و قال الشیخ أحمد بن علی الشافعی فی شرحه:إنه حدیث صحیح و المراد أن العلماء منهم أی من عترة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یستمرون آمرین بما فی الکتاب إلی قیام الساعة (4).

8-المواهب اللّدنیة:

للحافظ ابن حجر العسقلانی و رواه عن أحمد بن حنبل من طریقین و قال

ص:139


1- (1) مستدرک الحاکم ج 3 ص 109.
2- (2) تفسیر ابن کثیر ج 3 ص 486. [1]
3- (3) الصواعق المحرقة ص 136 [2] ط 1.
4- (4) السراج المنیر فی شرح الجامع الصغیر ج 2 ص 56.

محمد بن عبد الباقی فی شرحه للمواهب:الروایة ثقلین بدون ألف و فی روایة خلیفتین.

و قال بعد ذکر لفظ عترتی:فی الحدیث تفصیل بعد إجمال أو بیان یعنی:إن ائتمرتم بأوامر کتاب اللّه و انتهیتم بنواهیه و اهتدیتم بهدی عترتی و اقتدیتم بسیرتهم اهتدیتم فلم تضلوا (1).

و قال القرطبی بعد ذکر هذا الحدیث بلفظ عترتی:

و هذه الوصیة و هذا التأکید العظیم یقتضی وجوب احترام آله و برهم و توقیرهم و محبتهم،وجوب الفرائض التی لا عذر لأحد فی التخلف عنها،هذا مع ما علم من خصوصیتهم به صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و بأنهم جزء منه کما قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:فاطمة بضعة منی.و مع ذلک قابل بنو أمیة هذه الحقوق بالمخالفة و العقوق فسفکوا من أهل البیت دماءهم،و سبوا نساءهم و أسروا صغارهم،و جحدوا شرفهم و فضلهم و استباحوا سبهم و لعنهم، فخالفوا وصیته صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قابلوا بنقیض قصده،فما أخزاهم إذا وقفوا بین یدیه و یا فضیحتهم یوم یعرضون علیه.

و قال الشریف السمهودی:هذا الخبر یفهم وجود من یکون أهلا للتمسک به من عترته فی کل زمن إلی قیام الساعة،حتی یتوجه الحث المذکور علی التمسک به،کما أن الکتاب کذلک،و لذا کانوا أمانا لأهل الأرض فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض (2).

و قال الزرقانی بعد شرحه لهذا الحدیث الشریف:

قوله أولا:إنی تارک فیکم.تلویح بل تصریح بأنهما کتوأمین خلفهما،و وصی أمته بحسن معاملتهما،و إیثار حقهما و التمسک بهما فی الدین.

أما الکتاب فلأنه معدن العلوم الدینیة و الأسرار و الحکم الشرعیة،و کنوز الحقائق،و خفایا الدقائق.

و أما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان علی فهم الدین،فطیب العنصر یؤدی إلی حسن الأخلاق و محاسنها یؤدی إلی صفاء القلب و نزاهته و طهارته،و أکد تلک

ص:140


1- (1) شرح المذاهب ج 8 ص 7.
2- (2) انظر شرح المواهب اللدنیة ج 8 ص 7. [1]

الوصیة و قواها بقوله:(فانظروا بما ذا تخلفونی فیهما)هل تتبعونی فتسرونی أو لا فتسیئونی؟ (1).

و ربما یختلج فی نفس بعض القراء بأن هناک مصادر موثوقا بها تذکر هذا الحدیث بلفظ سنتی بدل عترتی،و دفعا لذلک نشیر إلی ما یحضرنا الآن من بقیة المصادر التی روته بلفظ عترتی.

9-الخطیب البغدادی أخرجه عن حذیفة بن أسید ج 8 ص 443.

10-الدارمی فی فضائل القرآن ج 2 ص 431.

11-و أخرجه الطبرانی من طریق زید بن أرقم فی الذخائر.

12-السیوطی فی جامعه من ثلاث طرق:عن زید بن ثابت،و زید بن أرقم، و أبی سعید الخدری.

و قال المناوی فی شرحه ج 3 ص 15،قال الهیتمی:رجاله موثوقون.

13-الشیخ حمزة العدوی فی مشارق الأنوار ص 146.

14-الشیخ محمد أمین المعروف بابن عابدین فی رسائله ص 4.

15-الشیخ عبد اللّه الشبراوی فی کتاب الأتحاف بحب الأشراف ص 6 و هامشه إحیاء المیت بفضائل أهل البیت للسیوطی.

16-السید خیر الدین أبی البرکات نعمان الآلوسی فی غالیة المواعظ ج 2 ص 87.

17-الشیخ عبد الرحمن النقشبندی فی کتاب العقد الوحید ص 78.

18-الحافظ الطبری فی ذخائر العقبی ص 16 من عدة طرق.

19-و قد أفرد هذا الحدیث بالتألیف:الحافظ محمد بن طاهر بن علی المعروف بابن القیصرانی فی کتاب خاص جمع فیه طرق هذا الحدیث،و قد خرجه عن 27 صحابیا.

20-و کذلک خرجه إسحاق بن راهویه فی مسنده.

ص:141


1- (1) انظر شرح المواهب اللدنیة ج 8 ص 7. [1]

21-و الحافظ ابن عقدة فی الموالاة.

22-و أخرجه فقیه الحرمین محمد بن یوسف بن محمد الشافعی الکنجی المتوفی سنة 658 ه فی کتابه کفایة الطالب.

23-الفصول المهمة لعلی بن محمد المالکی المکی المتوفی سنة 855 ه فی ص 22 عند ذکره لخطبة یوم الغدیر.

24-ابن حجر الهیتمی فی شرح الهمزیة ص 278.

25-إسعاف الراغبین المطبوع علی هامش نور الأبصار.

26-علی بن محمد بن إبراهیم البغدادی المعروف بالخازن المتوفی سنة 725 ه أخرجه فی تفسیره المعروف:بتفسیر الخازن فی الجزء الأول الصفحة الرابعة.

27-مقدمة تفسیر الجامع المحرر الصحیح لعبد الحق بن أبی بکر بن عبد الملک الغرناطی بن عطیة المتوفی سنة 543 ه المطبوعة مع مقدمة کتاب المبانی ص 257.

28-دلیل مباحث علوم القرآن المجید لمحمد العربی الغزوزی ص 12.و غیرها من کتب التفسیر و الحدیث مما یطول بیانه.

حدیث الثقلین فی اللغة:

و قد نصت کتب اللغة المعتمد علیها بورود هذا الحدیث بلفظ العترة نذکر منها:

القاموس المحیط فی مادة ثقل قال:و الثقل محرک متاع المسافر و حشمه،و کل شیء نفیس مصون،و منه الحدیث:(إنی مخلف فیکم الثقلین کتاب اللّه و عترتی).

و قال محب الدین فی التاج:فی مادة ثقل عند ذکر الحدیث:جعلهما ثقلین إعظاما لقدرهما و تفخیما لهما.و قال ثعلب:سماهما ثقلین لأن الأخذ بهما ثقیل و العمل بهما ثقیل.

و قال ابن الأثیر فی النهایة بعد أن ذکر قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«إنی تارک فیکم الثقلین کتاب اللّه و عترتی:سماهما ثقلین لأن الأخذ بهما و العمل بهما ثقیل،و یقال لکل شیء نفیس مصون خطیر ثقل...الخ.و یقول فی الجزء الثالث بعد التعرض لاحتمالات اللفظ التی تقع فی نفوس انطوت علی المناوأة و المعارضة لصالح الظلمة:«و المشهور المعروف أن عترته أهل بیته الذین حرمت علیهم الزکاة».

ص:142

و قال الشیخ عبد اللّه البستانی فی معجمه اللغوی البستان:الثقلان کتاب اللّه و عترة نبی المسلمین و منه الحدیث.

و قال ابن منظور فی لسان العرب فی مادة ثقل:روی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال فی آخر عمره:(إنی تارک فیکم الثقلین کتاب اللّه و عترتی)قال ابن الأعرابی:إن العترة ولد الرجل و ذریته من صلبه و لا تعرف العرب من العترة غیر هذا.

مقاصد المؤلف من التشکیک بالروایات:

هذا ما یحضرنا من المصادر الآن فی بیان هذا الحدیث،و لم أکن الآن بمعرض الاستدلال حول الإمامة و عقیدة الشیعة فی ذلک،و الرد علی المؤلف،إذ یحاول هدم عقیدة الشیعة فی الإمامة بأمور افتراضیة و أشیاء غیر واقعیة.

أنا لا أرید ذلک فللشیعة حججهم من الکتاب و السنة و العقل ما لا تخدش بأمثال هذه الافتراضات و التخمینات،و قد ملأت کتب الأخبار،و الفلسفة،و الکلام،فی النقاش و الجدل،و لم یکن نصیب الشیعة إلا الثبات و الغلبة لقوة الحجة و وضوح البرهان،و إن التعرض لذلک یجرنا إلی اتساع الموضوع و إطالة البحث.

فلسنا الآن بمعرض الاستدلال علی إمامة أهل البیت علیهم السّلام و عصمتهم،و أن الهدی باتباعهم،و أنهم حملة علم الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هدیهم من هدیه و علمهم من علمه، و قد طهرهم اللّه و أذهب عنهم الرجس،و هم کسفینة نوح من رکبها فقد نجا و من تأخر عنها غرق و هوی (1)و مودتهم أجر الرسالة،و هم العاملون بالکتاب و هم عدله و حملته.

ص:143


1- (1) قال ابن حجر فی شرح الهمزیة ص 279:و صح حدیث أهل بیتی سفینة نوح من رکبها نجا و من تخلف عنها هلک. و قال الثعالبی فی ثمار القلوب ص 29:قال رسول اللّه إن عترتی کسفینة نوح.من رکب فیها نجا و من تأخر عنها هلک،و أخذ هذا المعنی أبو عثمان الخالدی فقال: أعاذل إن کساء التقی کسانیه حبی لأهل الکساء سفینة نوح فمن یعتلق بحبلهم یعتلق بالنجاء و قال الشیخ الحفنی فی تعلیقه علی هذا الحدیث:و ما ألطف قول بعضهم فی مدح آل البیت: یا بحار الندی أ أخشی و أنتم سفن للنجاة یوم المعاد لست أخشی یا آل أحمد ذنبا مع حبی لکم و حسن اعتقادی و سیأتی بیان مخارج هذا الحدیث.

و الأخبار متواترة،و الآیات متضافرة فی الدلالة علی علو قدرهم،و عظیم شأنهم،و أهلیتهم لتحمل عبء الإمامة و إن تمحل من تمحل فی القول،و تأول من تأول فی الاستدلال،فتلک أمور لا تقف أمام الواقع،و لا تحجب الحقیقة.

و إن الشیخ أراد أن یهدم عقیدة الإمامة أو یشکک فی الاستدلال علی ذلک،بما لا یصلح للاستدلال فإنه متساهل فی أموره،متسامح فی نقله،یستوحی من جدران مکتبته خواطر لا تتعداها،نسأل اللّه لنا و له التوفیق.

و یستمر فضیلة الشیخ أو القاضی المحترم فی تأیید رأیه و دعم حکمه الصادر بنفی العلم الاستقلالی-کما بیناه-لأهل البیت،و الوصایة لهم،و أنهم مبلغون للرسالة المحمدیة.بما یستأنس من مصادر یتعرف علیها الحق و یطبق بذلک قواعد العدل،فیذکر الروایة التی یستأنس من مصادر یتعرف علیها الحق و یطبق بذلک قواعد العدل،فیذکر الروایة التی ناقشناها من قبل،و أثبتنا کذبها لبعدها عن الحقیقة و الواقع، و إن سندها غیر صحیح فهی لا تصلح للاستدلال،و هی الروایة القائلة بأن الإمام زین العابدین(شیخ العلویین و سید الهاشمیین و أعلم أهل عصره)کان یحضر فی حلقة درس زید بن أسلم،الشاب الذی لم تکن له أهلیة التدریس فی ذلک العصر.

و لکن المؤلف استأنس لهذه الروایة،و جعلها فی درجة من الصحة،لا بصحة السند و لا بدلالتها و لکن لأنها مرویة فی کتاب حلیة الأولیاء.و إلیک نص قوله:

و قد رواها-أی الروایة-صاحب حلیة الأولیاء بسند متصل نعتبره نحن سندا صحیحا صادقا،إلی أن یقول:و لا یضیق صدر إخواننا حرجا إذا استشهدنا بکتب لیست من کتبهم،فإنا قد رأینا أفاضل من کتّابهم یستشهدون علی فضل الصادق، بنقول نقلها عنها،و لا بد أنه اعتبره صادقا فی نقله،و من وصف بالصدق فهو صادق فی کل ما ینقل،فالصدق خلة فی الصادق لا تتجزأ.

و قد رددنا هذا من قبل فلا حاجة إلی الإعادة و لکنا نقول:إن هذا الحکم الذی نطق به الشیخ،و هو أن کل من نقل عن أحد خبرا یستشهد به فلا بد أن یلتزم بتصدیق کل ما ینقل،و ما أدری من یقول هذا و من یقرره و یقره؟أهم البیانیون أم المحدثون أم الفقهاء أم المؤرخون؟؟ و لعل الشیخ وحده یلتزم بهذه القاعدة و علی هذا یلزمه أن یصدق بکل ما جاء فی کتب جابر الجعفی رحمه اللّه،لأنه استشهد بما یرویه عن الإمام الباقر علیه السّلام علی

ص:144

فضل أبی بکر و عمر،و استشهد بکتاب الإمام الصادق للشیخ المظفر،و استشهد بکتاب دعائم الإسلام و غیرها،فلا بد أنه اعتبرها صادقة،و لا حق له أن یقبل البعض و یرد البعض الآخر،إذ الصدق خلة لا تتجزأ کما یقول.

و هو لا یعترف بذلک و لکنها کلمة قالها،و نترک تقدیرها و إیضاحها لعلماء البیان،و أهل الأدب من الکتّاب و المؤرخین.

و لعلنا فی عودتنا لمناقشته نورد من کتاب الحلیة الذی اعتبره بالذات صادقا فیما ینقل أحادیث لا یمکنه الاعتراف بها،و لا التصدیق بموادها.

و لنطو صفحة المناقشة هنا و نتابع خطواتنا مع الأستاذ فی قراراته و أحکامه،و هنا یفتح لنا الأستاذ جهة للاستدلال علی ما یدعیه من نفی الاعتقاد بالإمامة.

اتجاه آخر فی التشکیک بالروایات:

یحاول المؤلف أن یدعم حکمه بأدلة یظن أنها تنفع فی طریق الاستدلال،و تنتج فی أسلوب المقارنات،فهو هنا یذهب إلی أن الإمام الصادق ما کان یری نفسه إماما فی عصره،و أن منصب الإمامة مملوء بوجوده،و یستدل المؤلف علی هذا الرأی بحادثة الأبواء عند ما اجتمع بنو هاشم للبیعة لمن یرتضونه،و أن الإمام الصادق علیه السّلام قد امتنع عن بیعة محمد ذی النفس الزکیة لصغر سنه،و أنه علیه السّلام استعد لبیعة عبد اللّه بن الحسن،و قال له:امدد یدک أبایعک (1)إلی آخر ما یذکره من جهة نظره.

إن أخبار یوم الأبواء مشهورة،و حوادثه متکررة،و القول بأن الإمام الصادق علیه السّلام قال لعبد اللّه بن الحسن:امدد یدک أبایعک.إنما ذلک من وحی الخیال و الکذب فی القول،و هو افتراء محض و تقوّل باطل،و النصوص التی تتکفل بیان هذا الحادث لا تذکر ذلک،و إن أصح کتاب یعتمد علیه فی هذا:هو کتاب الإرشاد للشیخ المفید،لأنه ینقل عن نسخة مقاتل الطالبیین التی هی بخط المؤلف، و قد أشار لذلک ناشر کتاب مقاتل الطالبیین فی مصر السید أحمد صقر سنة 1368 ه 1949 م بقوله:و لکتاب الإرشاد هذا أهمیة خاصة لأنه ینقل عن نسخة أبی الفرج الأصفهانی نفسه.

ص:145


1- (1) الإمام الصادق لأبی زهرة ص 203.

و لنضع بین یدی القراء النص الکامل لهذه القضیة:

نص الروایة:

قال فی الإرشاد:وجدت بخط علی بن الحسین بن محمد الأصفهانی فی أصل کتابه المعروف بمقاتل الطالبیین:

أخبرنی عمر بن عبد اللّه العتکی،قال حدثنا عمر بن شیبة،قال حدثنی فضل بن عبد الرحمن الهاشمی و ابن داجة،قال أبو زید و حدثنی عبد الرحمن بن عمر بن جبلة،قال حدثنی الحسن بن أیوب مولی بنی نمیر عن عبد الأعلی بن أعین،قال و حدثنی إبراهیم بن محمد بن أبی الکرام الجعفری عن أبیه،قال و حدثنی محمد بن یحیی عن عبد اللّه بن یحیی،و قال و حدثنی عیسی بن عبد اللّه بن محمد بن علی عن أبیه،و قد دخل حدیث بعضهم فی حدیث الآخرین أن جماعة من بنی هاشم اجتمعوا بالأبواء،و فیهم إبراهیم بن محمد بن عبد اللّه بن عباس،و أبو جعفر المنصور،و صالح بن علی،و عبد اللّه بن الحسن،و ابناه محمد و إبراهیم و محمد بن عبد اللّه بن عمر بن عثمان.

فقال صالح بن علی:قد علمتم أنکم الذین یمد الناس إلیهم أعینهم،و قد جمعکم اللّه فی هذا الموضع فاعقدوا بیعة لرجل منکم،تعطونه إیاها من أنفسکم، و تواثقوا علی ذلک حتی یفتح اللّه و هو خیر الفاتحین.

فحمد اللّه عبد اللّه بن الحسن و أثنی علیه ثم قال:قد علمتم أن ابنی هذا هو المهدی فهلم فلنبایعه.

قال أبو جعفر(أی المنصور):لأی شیء تخدعون أنفسکم؟و اللّه لقد علمتم ما الناس أمیل أعناقا و لا أسرع إجابة منهم إلی هذا الفتی.یرید به محمد بن عبد اللّه.

قالوا:قد و اللّه صدقت إن هذا الذی نعلم.فبایعوا محمدا جمیعا و مسحوا علی یده.

قال عیسی:و جاء رسول عبد اللّه إلی أبی أن ائتنا فإنا مجتمعون لأمر،و أرسل بذلک إلی جعفر بن محمد علیه السّلام.

و قال غیر عیسی:إن عبد اللّه بن الحسن قال لمن حضر:لا تریدوا جعفرا فإنا نخاف أن یفسد علیکم أمرکم.

ص:146

قال عیسی بن عبد اللّه بن محمد:فأرسلنی أبی أنظر ما اجتمعوا له فجئتهم و محمد بن عبد اللّه یصلی علی طنفسة مثنیة،فقلت لهم أرسلنی أبی إلیکم أسألکم لأی شیء اجتمعتم؟ فقال عبد اللّه:اجتمعنا لنبایع المهدی محمد بن عبد اللّه.

قال:و جاء جعفر بن محمد علیه السّلام فأوسع له عبد اللّه بن الحسن إلی جنبه، فتکلم بمثل کلامه.

فقال جعفر علیه السّلام:لا تفعلوا فإن هذا الأمر لم یأت بعد،إن کنت تری أن ابنک هذا المهدی فلیس به و لا هذا أوانه،و إن کنت ترید أن تخرجه غضبا للّه،و لیأمر بالمعروف و ینهی عن المنکر،فإنا و اللّه لا ندعک فأنت شیخنا و نبایع ابنک فی هذا الامر!!! فغضب عبد اللّه،و قال:لقد علمت خلاف ما تقول و و اللّه ما أطلعک اللّه علی غیبه،و لکنه یحملک علی هذا الحسد لابنی.

فقال(الصادق):و اللّه ما یحملنی،و لکن هذا و إخوته و أبناؤهم دونکم،و ضرب بیده علی ظهر أبی العباس(السفاح)ثم ضرب بیده علی کتف عبد اللّه بن الحسن و قال:إیها و اللّه ما هی إلیک،و لا إلی ابنیک،و لکنها لهم،و إن ابنیک لمقتولان.

ثم نهض و توکأ علی ید عبد العزیز بن عمران الزهری فقال:أ رأیت صاحب الرداء الأصفر یعنی أبا جعفر فقال له:نعم.فقال إنا و اللّه نجده یقتله.

هذا هو نص روایة الإرشاد عن مقاتل الطالبیین کما هو موجود بکامله فی الطبعة الأولی و الطبعة الثانیة و لیس فیه کلمة(و إن شئت بایعتک) (1).

و المؤلف قد أضاف العبارة بعد ذلک ببیانه:إن الإمام الصادق علیه السّلام قال لشیخ بنی علی:امدد یدک أبایعک.

و إنا قد ذکرنا هذا النص بطوله لیتضح للقراء هل کان فیه ما یدل علی الحکم الذی حکم به الشیخ فی نفی الإمامة بالوصایة،و ما تعتقده الشیعة؟ و کان الأجدر به و اللائق بمقامه،أن یعطی کلمة الإمام الصادق علیه السّلام حقها

ص:147


1- (1) إرشاد المفید ص 259 و 260.

من الواقع و هی قوله لعبد اللّه:«إیها و اللّه ما هی إلیک،و لا إلی ابنیک»،فکیف ینفیها عنه و یدعو عبد اللّه لقبول البیعة،إن هذا من التناقض بمکان،ثم إن قوله:فإنا و اللّه لا ندعک و أنت شیخنا.بعد قوله ترید أن تخرجه غضبا،لم یکن المراد منه لا ندعک عن البیعة کما ذکره،بل العبارة تدل علی أنا لا ندعک تخرجه و تنصبه للخلافة و نبایعه.

و الخلاصة:

أن المؤلف یحاول فیما أورده نفی الإمامة کما تعتقد الشیعة،و أنه لا وصایة هناک،و لا شیء یدل علی أنها بالوراثة.

و قد أورد کلمة تقوّل فیها علی الإمام الصادق و هی قوله:بل قال أولا لشیخ بنی علی عبد اللّه بن الحسن:امدد یدک أبایعک.

و هذا القول لم یصدر من الإمام الصادق علیه السّلام،بل هو استنتاج من الشیخ و افتراض،کما هو دأبه فی کثیر من أبحاثه،و علی هذا الافتراض،و تلک المقدمات العقیمة الإنتاج،یحاول أن یصدر حکما و هو یظن أنه أصاب الهدف،و وصل إلی الغایة المطلوبة،و هی نفی الإمامة،سواء بالوراثة أو الوصایة.فیقول:

و ننتهی من ذلک إلی أن الإمام الصادق رضی اللّه عنه و عن آل بیته الکرام،لم یثبت ثبوتا قاطعا أنه اعتبر الإمامة تکون بالوصایة،و إن ثمة اثنی عشر منصوصا علیهم، و إننا فی حل من أن نقول:إن نسبة هذا إلیه موضع نظر (1).

و نقول:بأن الشیخ لم یطلع علی نصوص الوصایة و الوراثة،و لم یقف علی أقوال الإمام الصادق علیه السّلام فی ذلک،و نحن فی حلّ لنقول:إن هذا الحکم و هذا الاستنتاج،یدلان علی قصر النظر و ضیق أفق التفکیر.

و من الغریب أن الشیخ یظن أنه لا أثر وارد حول هذه المسألة،و لا روایة تدل علی ذلک،و لا نص فیه إلا ما حدثه به الشیخ موسی جار اللّه فی کتاب الوشیعة،نقلا عن الکافی حول حدیث الوصایة الذی ذکره فی أول الکتاب-إن صح ذلک-فإذا أبطله أو نقضه انتهی کل شیء.

ص:148


1- (1) الإمام الصادق لأبی زهرة ص 205.

و کتاب الوشیعة لموسی جار اللّه هو من أبرز الشواهد علی الجهود السیئة و الأعمال المرفوضة التی تکشف عن الجهات التی تسعی إلی تفریق صفوف الأمة، و تمزیق وحدة المسلمین،لأن مضامینه لم تقم علی وقائع مقررة و لا حقائق ثابتة إنما احتوت و شیعة جار اللّه خیوطا من اتهامات باطلة و مسمومة لا تنسج إلا علی منوال التعصب و التحامل علی آل البیت و قد تولی السید عبد الحسین شرف الدین رحمه اللّه تعالی مهمة نقض الوشیعة ورد مسائلها،فکان الحجة شرف الدین بأسلوبه الرصین و علمه الفائق قد خدم الحقیقة و أدی ما علیه من أمانة.و لو استمع الشیخ أبو زهرة إلی نبرة التعصب و لهجة التعدی التی استولت علی موسی جار اللّه لتردد کثیرا فی الاعتماد علیه و استخلاص النصوص التی یحتاجها من بین رکامات الابتعاد عن الحق و الشذوذ عن الواقع الذی یتصف به کتاب جار اللّه.

و أود أن أنبه المؤلف أن الأحادیث الواردة فی ذلک هی من الکثرة بمکان،و هی واردة بطرق معتبرة صحیحة،و کتب موثوق بها،لا ککتاب الوشیعة،و قد ألف جماعة من العلماء فی ذلک کتبا خاصة فی الوصایة.منهم:هشام بن الحکم،و الحسین بن سعید،و الحکم بن مسکین،و علی بن المغیرة،و علی بن الحسین بن الفضل، و محمد بن علی بن الفضل،و أحمد بن محمد بن خالد البرقی،و علی بن رئاب، و یحیی بن المستفاد،و محمد بن أحمد الصابونی،و محمد بن الحسین بن فروخ، و علی بن الحسین المسعودی،و محمد بن الحسن الطوسی.

و کل هؤلاء من علماء القرن الثانی و الثالث و الرابع و غیر هؤلاء من القدماء و المتأخرین،و باستطاعة المؤلف أن یرجع إلی مصادر أخری فیما یکتب حول هذه الأمور الهامة،و إن کان الأولی و الأجدر به ترک الخوض فی أمر لم یهضم مادته،و لم تتشبع روحه موضوعه،و لذلک فقد تحکم فی شیء لا یصح له أن یتحکم فیه،و لیس من صلاحیته ذلک.

إن عقیدة الشیعة فی الإمامة،هی أمر جوهری،و فیه تختلف عن سائر الفرق، و لا یکون هذا إلا عن حجة قویة،و أدلة ظاهرة،و آراء صحیحة،و هی أهم مسألة کلامیة تضاربت فیها الأفکار،و کثر حولها الجدل و النقاش علی ممر العصور و الأیام.

و کأن المؤلف یجهل هذا!!فاعتبرها قضیة اعتیادیة،أو مسألة من مسائل التاریخ تدحض بقوله فارغ،و حجة لفظیة.و لا یسعنا أن نعتذر له بقصر الباع و ضیق الاطلاع

ص:149

فی مثل هذا الأمر و هو یکتب عن أحد أئمة أهل البیت الذین تری الشیعة أن إمامة الاثنی عشر منهم من أرکان الدین و هی من الأصول التی بنی علیها الاعتقاد.

إن المسألة ذات أهمیة کبری،و لیس تأییدها أو نقضها یعود إلی نقل أبی الفرج و أمثاله أو کتاب الوشیعة،أو تبتنی علی ظنون و تخمینات.

و باستطاعتنا أن نقدم له بعض النصوص الصریحة فی الأئمة الاثنی عشر علیهم السّلام،و ما ورد عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ذلک،و ما جاء عن الإمام الصادق علیه السّلام من الروایات الکثیرة.

و لکن الشیخ إنما یکتب بنظره کما یشیر إلی ذلک فی ص 205 بقوله:و إننا کما قررنا نکتب عن الصادق بنظرنا لا بنظر إخواننا وحدهم-و لا ندری من هم إخوانه-؟ و مع هذا فلا یصح أن نطیل المقام معه،لأن فی نظره التشکیک فیما یروی فی ذلک من أحادیث فی الوصایة للأئمة.

و هل أشهر من حدیث الغدیر و الوصایة لعلی علیه السّلام مما ملأ سمع الدنیا، و شهد به جماعة من الصحابة یربو عددهم علی المائة صحابی،و ألفت فیه کتب قیمة، من جمیع علماء الإسلام،و مع ذلک فهو عند الشیخ موضع نظر.

و کذلک حدیث الثقلین و وروده فی کتب صحیحة موثوق بها،و هو یراها غیر موثوقة،بدون حجة کما تقدم،فلنترک الحدیث هنا،و نتجاوز هذا الموضوع؛و نغض الطرف عما فیه من و خزات و طعون تخالف ما یتظاهر به من الدعوة لترک الحزازات و الخصومة.

حول الصحابة:
اشارة

لیست دراسة الآراء حول الصحابة بالیسیرة الممهدة،لوجود عقبات تعترض السبیل و لا یمکن التغلب علیها بسهولة.

و قد أشرت لما یتعلق فی هذه المسألة فی الجزء الثانی من هذا الکتاب بموجز من البیان،و کان بودی عدم التعرض لها،إذ هی مشکلة وقف التاریخ أمامها ملجما، و اختفت الحقیقة فیها وراء رکام من الآراء،فالتوت الطرق الموصلة إلیها،کما أثیرت حولها زوابع من المشاکل و الملابسات،و لم تعالج القضیة بدراسة علمیة،لیبدو جوهر المسألة واضحا،و تبرز الحقیقة کما هی.

ص:150

و حیث إن المؤلف تحول إلی بیان رأی الإمام الصادق علیه السّلام فی الصحابة و بالطبع أن رأیه علیه السّلام هو ما علیه أهل البیت أجمع،فلنر ما هو رأی الإمام الصادق علیه السّلام الذی یرید أن یبینه الأستاذ لقرائه و بعده نعود لأصل المسألة و بیان الحقیقة فیها.

یقول فی ص 207 تحت عنوان:رأیه فی الصحابة.

و کان الصادق کآبائه یعتبر الطعن فی أبی بکر و عمر و عثمان رضی اللّه عنهم مخالفا للسنة؛و قد أثر ذلک عن جده زین العابدین،کما أثر ذلک عن أبیه الباقر،و قد أثر عنه أیضا أو علی الأقل لم یوجد دلیل علی المخالفة،و الأصل الموافقة.

و إلی هنا لم یظهر لنا ما ینطبق علی العنوان من بیان رأی الإمام الصادق علیه السّلام فی الصحابة،و ما ذکره لا یصلح أن یکون عاما،إذ هو لجهة خاصة فلیس الکلام یدور حول الخلفاء الثلاثة،و مع ذلک فلم یبین رأی الإمام الصادق و ما ذکره عن الإمام زین العابدین من الأثر فهو لا یدل علی ذلک حتی یقیس علیه-إن صح الأثر-.

ثم ننتظر من الأستاذ أن یبین لنا رأی الإمام الصادق فی الصحابة،فیذکر لنا روایة عن الحلیة بأن الإمام الصادق علیه السّلام کان یستشهد بأعمال أبی بکر بعد أن ذکر روایة جابر الجعفی،و هی عن الحلیة أیضا فی النهی عن تناول أبی بکر و عمر.

و نحن لا نرید هنا أن نناقش ما رواه صاحب الحلیة،و لکنا نرید أن یبین لنا ما یدل علیه العنوان بعمومه،فلیست القضیة قضیة أفراد،و لا قضیة الطعن فی أبی بکر و عمر.

و بعد ذلک یقرر الأستاذ،و ینطق بالحکم و هو قوله فی ص 208:

إن أصحاب محمد جمیعا کانوا محل تقدیر جعفر و أبیه الباقر،رضی اللّه عنهما.

و نحن هنا نتساءل من أین استنتج هذا الحکم؟و علی أی بینة اعتمد،أ یکون التقدیر للبعض تقدیرا للجمیع؟و هل یجعل تقدیر الخلفاء الثلاثة تقدیرا لباقی الصحابة أجمع،کما أن الطعن علی البعض طعن علی الجمیع؟هذا أمر لا نعرفه و لیس من رأی شیعة أهل البیت.

و لنصغ لبقیة قوله بعد هذا فیقول:و قد سئل الإمام محمد الباقر عن قوله تعالی:

ص:151

إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ [المائدة:55].

فقال علیه السّلام:أصحاب محمد.

فقال السائل:یقولون هو علی.فقال الإمام المتبع:علی منهم.

رأی الشیعة فی الصحابة:

إنه لیست المسألة مسألة بیان رأی الإمام الصادق علیه السّلام فی الصحابة و إنما الأمر یدور حول عقیدة الشیعة فی الصحابة،فإذا ثبت أن جمیع الصحابة محل تقدیر الإمام الصادق و أبیه الباقر علیه السّلام،فإن الثابت أن الشیعة لا یذهبون إلی ذلک،و لا بد هنا أن نذکر بعض ما یتعلق بهذه المسألة و فروضها ثلاثة:

الأول:إن الصحابة کلهم عدول أجمعین،و ما صدر منهم یحتمل لهم،و هم مجتهدون و هذا هو رأی الجمهور من السنة.

الثانی:إن الصحابة کغیرهم من الرجال و فیهم العدول،و فیهم الفساق،فهم یوزنون بأعمالهم،فالمحسن یجازی لإحسانه،و المسیء یؤخذ بإساءته.و هذا رأی الشیعة.

الثالث:إن جمیع الصحابة کفار-و العیاذ باللّه-و هذا رأی الخارجین عن الإسلام و لا یقوله إلا کافر،و لیس من الإسلام فی شیء.

هذه ثلاثة فروض للمسألة و هنا لا بد أن نقف ملیا لنفحص هذه الأقوال:أما القول الثالث فباطل بالإجماع و لم یقل به إلا أعداء الإسلام أو الدخلاء فیه.و أما القول الأول و هو أشبه شیء بادعاء العصمة للصحابة،أو سقوط التکالیف عنهم،و هذا شیء لا یقره الإسلام،و لا تشمله تعالیمه.

بقی القول الوسط و هو ما تذهب إلیه الشیعة،من اعتبار منازل الصحابة حسب الأعمال،و درجة الإیمان و ذلک:

إن الصحبة شاملة لکل من صحب النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أو رآه أو سمع حدیثه،فهی تشمل المؤمن و المنافق،و العادل و الفاسق،و البر و الفاجر،کما یدل علیه قول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی غزوة تبوک عند ما أخبره جبرئیل بما قاله المنافقون:إن محمدا یخبر بأخبار السماء و لا یعلم الطریق إلی الماء،فشکا ذلک إلی سعد بن عبادة.

ص:152

فقال له سعد:إن شئت ضربت أعناقهم.قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«لا یتحدث الناس أن محمدا یقتل أصحابه و لکن نحسن صحبتهم ما أقاموا معنا».

فالصحبة إذن لم تکن بمجردها عاصمة تلبس صاحبها أبراد العدالة؛و إنما تختلف منازلهم و تتفاوت درجاتهم بالأعمال.

و لنا فی کتاب اللّه و أحادیث رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کفایة عن التمحل فی الاستدلال علی ما نقوله؛و الآثار شاهدة علی ما نذهب إلیه؛من شمول الصحبة و أن فیهم العدول من الذین صدقوا ما عاهدوا علیه اللّه،و رسخت أقدامهم فی العقیدة،و جری الإیمان فی عروقهم،و أخلصوا للّه فکانوا بأعلی درجة من الکمال،و قد وصفهم اللّه تعالی بقوله:

أَشِدّاءُ عَلَی الْکُفّارِ رُحَماءُ بَیْنَهُمْ تَراهُمْ رُکَّعاً سُجَّداً یَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللّهِ وَ رِضْواناً سِیماهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِکَ مَثَلُهُمْ فِی التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِی الْإِنْجِیلِ کَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوی عَلی سُوقِهِ یُعْجِبُ الزُّرّاعَ لِیَغِیظَ بِهِمُ الْکُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الَّذِینَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِیماً (1).

و هم المؤمنون اَلَّذِینَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ یَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِی سَبِیلِ اللّهِ أُولئِکَ هُمُ الصّادِقُونَ (2).

و قد أمر اللّه تعالی باتباعهم و الاقتداء بهم بقوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ وَ کُونُوا مَعَ الصّادِقِینَ .

و فیهم وَ السّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِینَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِینَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِیَ اللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِی تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِینَ فِیها أَبَداً ذلِکَ الْفَوْزُ الْعَظِیمُ (3).

هؤلاء من أصحاب محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و من یستطع أن یقول فیهم ما لا یرضی اللّه تعالی و یخالف قوله.

کما أن الصحبة تشمل من مردوا علی النفاق،و الذین ابتغوا الفتنة من قبل و قلبوا

ص:153


1- (1) سورة الفتح،آیة:29. [1]
2- (2) سورة الحجرات،آیة:15. [2]
3- (3) سورة التوبة،آیة:100. [3]

لرسول اللّه الأمور،و أظهروا الغدر،حتی جاء الحق و ظهر أمر اللّه و هم کارهون.

و فیهم من کان یؤذی رسول اللّه و قد وصفهم اللّه بقوله: وَ مِنْهُمُ الَّذِینَ یُؤْذُونَ النَّبِیَّ وَ یَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ (1)إِنَّ الَّذِینَ یُؤْذُونَ اللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِی الدُّنْیا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِیناً [الأحزاب:57] وَ الَّذِینَ یُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ [التوبة:61].

و فیهم المخادعون و الذین یظهرون الإیمان،و قد وصفهم اللّه تعالی بقوله:

وَ مِنَ النّاسِ مَنْ یَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْیَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِینَ. یُخادِعُونَ اللّهَ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ ما یَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما یَشْعُرُونَ [البقرة:8 و 9] وَ إِذا لَقُوا الَّذِینَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلی شَیاطِینِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَکُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة:14].

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَکُونَنَّ مِنَ الصّالِحِینَ. فَلَمّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِی قُلُوبِهِمْ إِلی یَوْمِ یَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما کانُوا یَکْذِبُونَ [التوبة:75-77].

و الحاصل أن الصحبة منزلة عظیمة،و فضیلة جلیلة،و هی بعمومها تشمل من امتحن اللّه قلبه للإیمان،و أخلص للّه،و جاهد و ناصر،و من رقی درجة الکمال النفسانی،فکان مثالا لمکارم الأخلاق،و هم یخشون اللّه و یمتثلون أوامره،کما وصفهم تعالی بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِینَ إِذا ذُکِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِیَتْ عَلَیْهِمْ آیاتُهُ زادَتْهُمْ إِیماناً وَ عَلی رَبِّهِمْ یَتَوَکَّلُونَ. اَلَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ یُنْفِقُونَ. أُولئِکَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ کَرِیمٌ (2).

کما أنها تشمل من لم یدخل الإیمان قلبه یَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَیْسَ فِی قُلُوبِهِمْ [الفتح:11]و اِتَّخَذُوا أَیْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِیلِ اللّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما کانُوا یَعْمَلُونَ. ذلِکَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ کَفَرُوا فَطُبِعَ عَلی قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا یَفْقَهُونَ [المنافقون:2 و 3].

فنحن لا نرتاب فی دیننا،و لا نخالف قول ربنا و ما جاء عن رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أهل بیته،فی تمییز منازل الصحابة،و درجاتهم فنتبع الصادقین و نوالی المؤمنین،و ندین اللّه

ص:154


1- (1) سورة التوبة،آیة:61. [1]
2- (2) سورة الأنفال،آیة:2 و 3 و 4. [2]

بحب من رضی اللّه عنهم،بما أحسنوا الصحابة،و أبلوا البلاء الحسن فی نصرة الدین،و ندعو اللّه فی کل آن عن عقیدة خالصة بدعاء سیدنا الإمام زین العابدین علیه السّلام فی صحیفته المعروفة بزبور آل محمد فی دعائه لاتباع الرسل:

اللهم و أتباع الرسل و مصدقوهم من أهل الأرض بالغیب،عند معارضة المعاندین لهم بالتکذیب،و الاشتیاق إلی المرسلین بحقائق الإیمان،فی کل دهر و زمان،أرسلت فیه رسولا،و أقمت لأهله دلیلا،من لدن آدم إلی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من أئمة الهدی،و قادة أهل التقی علی جمیعهم السلام.

اللهم و أصحاب محمد خاصة،الذین أحسنوا الصحابة،و الذین أبلوا البلاء الحسن فی نصره،و کانفوه،و أسرعوا إلی وفادته،و سابقوا إلی دعوته و استجابوا له حیث أسمعهم حجة رسالاته؛و فارقوا الأزواج و الأولاد فی إظهار کلمته،و قاتلوا الآباء و الأبناء فی تثبیت نبوته،و انتصروا به،و من کانوا منطوین علی محبته یرجون تجارة لن تبور فی مودته،و الذین هجرتهم العشائر إذ تعلقوا بعروته،و انتفت منهم القرابات إذ سکنوا فی ظل قرابته فلا تنس لهم اللهم ما ترکوا لک و فیک،و أرضهم من رضوانک،و بما حاشوا الخلق علیک،و کانوا مع رسولک دعاة لک و إلیک،و أشکرهم علی هجرتهم فیک دیار قومهم،و خروجهم من سعة المعاش إلی ضیقه...

هؤلاء هم محل تقدیر أهل البیت،و شیعتهم لا یتعدون ما رسموه لهم و أوضحوه بتعالیمهم؛و نشکو إلی اللّه ما تجناه المغرضون،و ما یقوله المهرجون من أن الشیعة یطعنون بجمیع الصحابة أو یکفرونهم-و العیاذ باللّه-و نحن ندین اللّه بموالاة أصحاب محمد الذین أحسنوا الصحابة و مدحهم اللّه تعالی فی کتابه العزیز،کما نتبرأ ممن أساء إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و آذاه و من ارتکب الجرائم و خالف أوامر الإسلام.

و نحن لا نتنازل عن بغض من ظلم أهل البیت و عاداهم،و أعلن الحرب علیهم، و آذی رسول اللّه فیهم،فأولئک لا نتبرأ من البراءة منهم،و نتقرب إلی اللّه فی معاداتهم،لأنهم ظالمون.

مناقشة أبی زهرة بمسألة الصحابة:

و نعود إلی الحدیث مع الشیخ و مناقشته بعد أن ذهبنا فی الموضوع إلی بیان ما یتعلق بمسألة الصحابة من حیث هی،إجمالا فی البیان،و اختصارا للکلام،و إلا

ص:155

فالأمر یدعو إلی مزید من البیان،وسعة فی البحث،لأنها أعظم مشکلة حلت فی الجامعة الإسلامیة،فقد أریقت دماء أتباع أهل البیت بحجة سب الصحابة،أو سب الشیخین،و قد أفتی علماء الدولة بأن ساب الشیخین یقتل و لا تقبل توبته،إلی آخر ما هنالک من أمور کانت أعظم سبب فی تفرقة الصف الإسلامی،و هی مثار لکثیر من المشاکل التی أحاطت بالمجتمع.

نعم نعود فنسائل فضیلة الشیخ عن قوله:إن أصحاب محمد جمیعا کانوا محل تقدیر جعفر و أبیه.فما هو الدلیل علی ذلک؟و أی أثر استنتج منه هذا القول؟و کیف صح هذا التعبیر؟!! أ یصح أن یقال:إن جمیع الصحابة کانوا محل تقدیر جعفر و أبیه؟!و إن کل من و سم فی الصحبة هو عادل،کما هو رأی الجمهور من السنة،و بهذا تظهر مخالفة الشیعة لأهل البیت و ذلک قول لا یسنده برهان و لا تدعمه حجة.

أ یکون أولئک الذین وصفهم القرآن بصفات الکمال و العدالة و حقیقة الإیمان، هم و أهل الجرائم و من یراءون الناس فیقولون بألسنتهم ما لیس فی قلوبهم علی حد سواء!!! أ نقول بعدالة الجمیع و نعصب عیوننا عن تلک المشاهد المؤلمة،التی مثلها بعض من وسم بالصحبة؟!أم نصم أسماعنا عن أصوات المظلومین الذین تجرعوا الغصص و المصائب من سوء أعمال من وسموا بالصحبة؟!.

و إن أجلی مثال لما نقوله،و أصدق صورة لما نبینه،هو عهد معاویة،ذلک العهد الظالم،و الدور المظلم و هو معدود من الصحابة،و قد وازره علی ذلک عدد یعدون منهم:کمروان بن الحکم،و المغیرة بن شعبة،و سمرة بن جندب،و بسر بن أرطاة،و عمرو بن العاص،و غیرهم.

و لنترک الحدیث للمؤلف نفسه عن ذلک العهد الأسود،و نرجع إلی الوراء قلیلا،و نصغ لبعض حدیثه هناک عن أعمال معاویة و أعوانه،إذ یقول فی ص 114:

لقد ارتکب معاویة بن أبی سفیان أشد ما ارتکب لطمس معالم الشوری فی الحکم الإسلامی،فقد عهد إلی ابنه یزید بن معاویة،فحول الخلافة إلی ملک عضوض،بل إلی ملک فاجر،و قد زعم و هو یعهد إلی ابنه بأنه یقتدی فی أبی بکر و عمر...

ص:156

و یقول:أما معاویة بن أبی سفیان فقد علم فیه التاریخ ما علم،و قد قال فی هذا المقام الحسن البصری:«أربع خصال فی معاویة لو لم تکن إلا واحدة لکانت موبقة:

خروجه علی هذه الأمة بالسفهاء حتی ابتزها بغیر مشورة منهم،و استخلافه یزید و هو یسکر و یلبس الحریر،و یضرب بالطنابیر،و ادعاؤه زیادا و قد قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:الولد للفراش،و للعاهر الحجر،و قتله حجر بن عدی» (1).

و یقول فی ص 116:و هنا مثل آخر لتأثیر الوقائع علی الآراء:ما سنه معاویة من سنة سیئة:و هی لعن علی سیف الإسلام علی المنابر،فإن ذلک له تأثیر شدید فی نفوس المؤمنین،لأن ما ثبت لعلی من سابقات مکرمات،لا یمکن أن یذهب إذا وقف منافق یلعنه،بل إن ذلک یزید منزلته فی النفوس تمکینا،إذ یحس الناس بغضاضة الظلم،و فحش العمل،فیلعنون فی نفوسهم و مناجاتهم-من یلعن سیف اللّه الذی سله علی الشرک،و لذلک سادت النقمة و لم تعلن الحروب علی من یأمرون بلعن الإمام العالم،التقی رضی اللّه عنه،و عن آله الأطهار،و إذا کان قد روی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال لعلی کرم اللّه وجهه:«لا یحبک إلا مؤمن،و لا یبغضک إلا منافق» (2)فقد علم الذین شاع بینهم الخبر وصف النبوة لهؤلاء الذین سنوا سنة السوء.

و قال فی ص 112:و قد لام کثیرون معاویة علی ذلک العمل(أی سب علی علیه السّلام)البالغ أقصی حدود الحقد،و لقد أرسلت أم المؤمنین السیدة أم سلمة تقول له:«إنکم تلعنون اللّه و رسوله؛إذ تلعنون علی بن أبی طالب و من یحبه،و أشهد أن اللّه و رسوله یحبانه».

و قال فی ص 116:و لکن تعلل معاویة فی خروجه بأن الاختیار لمن فی المدینة و غیرها من الأمصار،و لا حکم لعلی ما دام اختیاره لم یتم بالعرب فی جمیع الأمصار الإسلامیة کلها،و لکن ذلک التعلل لم یمنع من أن یحکم علیه بالإجماع أنه کان باغیا، و إن ترفق بعضهم فسماه متأولا،و لکن یجب علی المترفق أن یقول:إن تأویله کان

ص:157


1- (1) المنیة و الأمل و [1]حجر بن عدی خرج علی معاویة ثم آمنه ثم قتله غدرا.
2- (2) روی هذا الحدیث مسلم فی صحیحه ج 1 ص 64 و النسائی فی الخصائص ص 27 و الطبری فی ذخائر العقبی ص 91 و [2]ابن عبد البر فی الاستیعاب ج 1 ص 37 [3] بهامش الإصابة و الخفاجی فی شرح الشفاء ج 3 ص 457 و غیرهم.

باطلا لا یبرر خروجه علی مثل إمام الهدی علی بن أبی طالب،إن کان للدین سلطان علی نفسه.

هذا بعض ما حدثنا به المؤلف عن أعمال معاویة و حزبه،و فیهم من وسموا بالصحبة و کانوا فی عداد الصحابة؛و علی هذا أ یصح أن یکون أمثال هؤلاء محل تقدیر جعفر و أبیه؟و هم یعلنون سب علی علیه السّلام حتی ورد أنه کان فی أیام بنی أمیة أکثر من سبعین ألف منبر یلعن علیها علی علیه السّلام بما سنه لهم معاویة بن أبی سفیان.

و أخرج الدار قطنی:إن مروان بن الحکم قال:ما کان أحد أدفع عن عثمان من علی.

فقیل له:ما لکم تسبونه علی المنابر؟فقال:إنه لا یستقیم لنا الأمر إلا بذلک.

و قد أشار إلی ذلک العلامة أحمد الحفیظ الشافعی فی أرجوزته:

و قد حکی الشیخ السیوطی أنه قد کان فیما جعلوه سنه

سبعون ألف منبر و عشره من فوقهن یلعنون حیدره

و هذه فی جنبها العظائم تصغر بل توجه اللوائم

فهل تری من سنها یعادی أم لا و هل یستر أو یهادی

أو عالم یقول عنه نسکت أجب فإنی للجواب منصت

و لیت شعری هل یقال اجتهدا کقولهم فی بغیه أم ألحدا

أ لیس ذا یؤذیه أم لا فاسمعن إن الذی یؤذیه یؤذی من و من

بل جاء فی حدیث أم سلمه هل فیکم اللّه یسب منه له (1)

عاون أخا العرفان فی الجواب و عاد من عادی أبا تراب

فکیف یکون هؤلاء محل تقدیر جعفر و أبیه کما یقرره المؤلف؟؟!! أ یکون المغیرة بن شعبة الذی کان یلعن علیا علی منبر الکوفة؛و یدعو الناس إلی البراءة منه محلا للتقدیر؟؟.

أم سمرة بن جندب الذی أراق دماء المسلمین؛و هتک الحرمات عند ولایته علی البصرة من قبل زیاد فی عهد معاویة؟و کان ممن یحث الناس علی الخروج

ص:158


1- (1) هکذا ورد الأصل و الوزن لا یستقیم و المعنی غیر واضح.

لحرب الحسین علیه السّلام؛و قد وضع أحادیث فیما یؤید معاویة و یشد عضده.

أم بسر بن أرطاة ذلک السفاک لدماء المسلمین؛و من هتک حرماتهم و قد سبی نساء المسلمین فی الیمن؛و أقامهن فی الأسواق للبیع؛فکان یکشف عن سوقهن فأیهن أعظم ساقا اشتریت (1).

أم أبو الغادیة قاتل عمار بن یاسر رضوان اللّه علیه و قد قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:یا عمار تقتلک الفئة الباغیة.

و هکذا مما لا یسع المقام تعدادهم؛و هم الذین آزروا الحکم الأموی الغاشم، و أعلنوا الحرب علی أهل البیت؛و اشترکوا فی إراقة تلک الدماء الزکیة.

و لا نرید هنا أن نعود إلی زمان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فنعطی صورة عمن و سموا بصحبته و لکنهم انحرفوا عن الحق و خالفوا أوامره (2).

و نحن ندین اللّه بحب من أحسن الصحبة؛و نتبرأ ممن أساء و انحرف عن الحق.

و نعود مع الشیخ من جدید إلی الروایة التی أوردها حول آیة الولایة و لعله استنتج منها حکمه السابق و إن کانت لا تنتج شیئا.

آیة الولایة:

هذه الآیة الکریمة و هی قوله تعالی: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ. وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (3).

هذه الآیة الکریمة نزلت فی الإمام علی علیه السّلام؛و یکاد المفسرون یجمعون علی ذلک؛و رواه کثیر من حفاظ الحدیث عن علی علیه السّلام؛و عبد اللّه بن عباس؛ و عمار بن یاسر،و أبی رافع.

و أخرجه الخطیب فی المتفق؛و ابن مردویه فی مسنده،و کنز العمال و منتخبه، و إسحاق النیسابوری فی تفسیره.

و قد نقل إجماعهم هذا القوشجی فی مبحث الإمامة من شرح التجرید.و أخرج

ص:159


1- (1) الاستیعاب بهامش الإصابة ج 1 ص 158. [1]
2- (2) قد ذکرنا فی الجزء الثانی من هذا الکتاب بعضا منهم فراجع.
3- (3) سورة المائدة،آیة:55 و 56. [2]

الطبرانی فی الأوسط بسند عن عمار بن یاسر قال:وقف سائل علی علی بن أبی طالب و هو راکع فی تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل؛فنزلت إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ .

و قال السیوطی فی اللباب:و له شاهد:قال عبد الرزاق:حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد عن ابن عباس فی قوله تعالی: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الآیة.

و أخرج ابن جریر عن مجاهد و ابن أبی حاتم عن سلمة بن کهیل مثله فهذه شواهد یقوّی بعضها بعضا (1).

و قال الواحدی فی أسباب النزول:إن هذه الآیة نزلت فی علی بن أبی طالب لأنه أعطی خاتمه سائلا و هو راکع؛و عن ابن عباس:إن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم خرج إلی المسجد و الناس بین قائم و راکع فنظر سائلا فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:هل أعطاک أحد شیئا؟.

قال:نعم خاتم.

قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:من أعطاکه؟ قال:ذاک القائم و أشار بیده إلی علی علیه السّلام.

فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علی أی حال أعطاکه؟ قال:أعطانی و هو راکع فکبر رسول اللّه ثم قرأ: وَ مَنْ یَتَوَلَّ اللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة:56].

هذا بعض ما ورد حول هذه الآیة نذکره بإیجاز للتنبیه علی عدم صحة ما نسب للإمام أبی جعفر الباقر علیه السّلام حول آیة الولایة أنها لجمیع الصحابة.

و قد ورد عنه علیه السّلام بطرق صحیحة،أنه علیه السّلام قال:أمر اللّه عز و جل بولایة علی علیه السّلام و أنزل قوله تعالی: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ [المائدة:55].

و کذلک ورد عن ولده أبی عبد اللّه الصادق علیه السّلام کما رواه عبد الأعلی قال:

قلت لأبی عبد اللّه الصادق علیه السّلام:الأوصیاء طاعتهم مفترضة؟.

قال:نعم هم الذین قال اللّه عز و جل فیهم: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ الآیة.

ص:160


1- (1) اللباب للسیوطی ص 9.

و عن الحسین بن أبی العلاء قال:ذکرت لأبی عبد اللّه قولنا فی الأوصیاء:إن طاعتهم مفترضة.

فقال علیه السّلام:نعم هم الذین قال اللّه عز و جل فیهم: أَطِیعُوا اللّهَ وَ أَطِیعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ [النساء:59]و هم الذین قال فیهم: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا [المائدة:55].

و علی أی حال:فإن المؤلف لم یبین لقرائه رأی الإمام الصادق علیه السّلام فی الصحابة،و لم یأت بأثر عنه فی ذلک،و الواقع أن الغرض لم یتعلق ببیان رأی الإمام الصادق علیه السّلام فی ذلک،و لکن الغرض یدور حول معتقد الشیعة-و قد أشرنا إلیه- و هل أنهم یتبعون أهل البیت أم لا؟.

أما الجهة التی تعرض لها و هی الطعن فی الشیخین أو الخلفاء فإنا نقول:من هو الذی یقول إن الأئمة یجوزون ذلک؟و إن الشیعة یعتقدون هذا؟و لنترک الجواب لسماحة الأستاذ الأکبر المغفور له حجة الإسلام الشیخ محمد الحسین آل کاشف الغطاء رحمه اللّه.

قال بعد ذکر الاختلاف فی الخلافة فی بحث الفروق الجوهریة بین الطائفتین (1):«نعم و نرید أن نکون أشد صراحة من ذلک،و لا نبقی ما لعله یعتلج أو یختلج فی نفس القراء فنقول:لعل قائلا یقول:إن سبب العداء بین الطائفتین أن الشیعة تری جواز المس من کرامة الخلفاء،أو الطعن فیهم،و قد یتجاوز إلی السب و القدح،مما یسیء الفریق الآخر و یهیج عواطفهم فیشتد العداء و الخصومة بینهم.

و الجواب أن هذا لو تبصرنا قلیلا و رجعنا إلی حکم العقل،بل و الشرع أیضا لم نجده مقتضیا للعداء أیضا.

أما أولا:فلیس هذا من رأی جمیع الشیعة،و إنما هو رأی فردی من بعضهم، و ربما لا یوافق علیه الأکثر،کیف و فی أخبار أئمة الشیعة النهی عن ذلک؟!فلا یصح معاداة الشیعة أجمع لإساءة بعض المتطرفین منهم.الخ.

و ما أکثر الشواهد علی تفنید تلک المزاعم و کذب تلک الأقوال حول عقیدة الشیعة فی الصحابة.

ص:161


1- (1) مجلة الإسلام السنة الثانیة العدد 2 ص 227-228 تحت عنوان:بیان للمسلمین.

و مما تجدر الإشارة إلیه أن المؤلف یوافق القائلین بأن الشیعة یطعنون علی جمیع الصحابة بدون استثناء،کما أشرنا لذلک،و لکنه بعد برهة من المضی فی بحثه یعترف بخطئه و یستغفر من ذنبه،و ذلک بعد أن وقف علی ما نقله عن ابن أبی الحدید و أورده فی ص 209 عقبه بقوله:و لا شک أن هذا الرأی معتدل فی هذا الجزء کل الاعتدال،و یکون تعمیم الحکم علیهم بأنه فی ماضیهم یستسیغون سب الصحابة،و إذا کانت بعض عباراتنا فیما کتبنا تفید التعمیم فإنا نستغفر اللّه عنها،و نقول:یجب تخصیص هذا العام.

و هکذا یتراجع الشیخ عن رأیه و ینقض حکمه،و یعترف بخطئه و یستغفر من ذنبه.و أن هذا الحکم الجائر:و هو تعمیم سب الشیعة لجمیع الصحابة أو بعضهم هو أمر دبّر بلیل،و خطة مرسومة من قبل ولاة أمر حاولوا القضاء علی أتباع آل محمد، فقد جعلوا ذلک وسیلة للقضاء علیهم،إذ رموهم بالزندقة و الکفر و قد وجدت السیاسة بهذا الحکم الجائر أقرب طریق للقضاء علی الشیعة،و هم خصوم لا تلین قناتهم،و لا یرهبهم الموت،و لا تفزعهم أهوال الإشاعات الکاذبة،ما داموا علی بینة من أمرهم فی المحافظة علی وصیة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی آله،فهم أهل الحق و أئمة الهدی و مهما کلفهم الأمر فی ذلک من تحمل المحن،و مواجهة المصاعب فهم لا یزدادون إلا إیمانا، و رسوخ عقیدة،و لم تقعد بهم تلک الإشاعات المغرضة،و الأقوال المکذوبة التی کان یروجها دعاة السوء و أعوان الظالمین.

و إن الشیخ أبو زهرة قد أطلق حکمه بدون دراسات للبینات،أو وقوف علی حقیقة الأمر،و إنما کان ذلک لتأثره بتلک الدعایات الکاذبة،و قد اعترف بخطئه و استغفر من ذنبه.

و فیما قدمناه کفایة عن الإطالة،لأننا قررنا الاختصار فی البحث و ترک المناقشة لأمور استوجبت ذلک.إننا نترک الکثیر من الأشیاء التی تلفت النظر و تستوجب المناقشة،و نشیر للبعض بموجز من القول حتی ننتهی إلی الحد الذی تقرر الوقوف علیه و الافتراق منه.

و لهذا فإنا نسرع الخطی،و لا نقف عند أکثر نقاط المناقشة،فنمر علی ما یذکره حول رأی الإمام الصادق علیه السّلام فی شروط الإمامة ص 211 و قوله:إننا لا نتفق مع

ص:162

إخواننا الإمامیة فی الإمامة کانت بالنص إلی آخر ما یقوله و لا نتعرض له بشیء،لأنا قد بینا هناک ضعف أدلته،و عقم استنتاجه،فلنترکه و رأیه.

کما أننا نترک التعلیق علی ما یقوله فی ص 212:إننا لا نعرف للإمام رأیا مقطوعا بنسبته فی ذلک،لأن الذین کانوا یتشیعون له...الخ.

و هنا لا نقف معه،لأن المقطوع به أن الأخ المؤلف لم یصل بدراسته إلی إیضاح رأی من آراء الإمام الصادق علیه السّلام،و لم یوضح لقرائه من ذلک شیئا.

و من الحق أن نقول:إن المؤلف قلیل العدة من المصادر التی یتعرف علی آراء الإمام الصادق علیه السّلام منها،و لهذا أصبح فی دائرة ضیقة مع فسحة المجال فی ذلک.

و نستمر مع الأستاذ بعجالة فنمر علی کلمته التی تحز فی النفس و تبعث علی الأسف لما وصل إلیه من التساهل فی الحکم و هی قوله فی ص 213:و قد مد یده (أی الإمام الصادق علیه السّلام)لیبایع عبد اللّه بن الحسن.

و هذا أمر لم تشر إلیه المصادر التاریخیة مطلقا،و لا یکون أبدا،و لکن المؤلف استنتجه بدون مقدمات،و قد أشرنا له.

و بعد هذا نسرع أکثر من قبل،و نعرض عن ذکر أی شیء فنتحول من ص 213 إلی 252 و إنما قطعنا هذه المسافة بسرعة لأن الحدیث فیها یدور حول آراء الإمامیة بالذات،و یذکر آراء الإمام الصادق علیه السّلام بالعرض،و هو خلاف موضوع البحث فنترکه عن النقاش،و نصل إلی موضوع:

فقه الإمام الصادق:

و هو موضوع مهم،و عنوان شیّق،إنه یرید أن یحدثنا عن فقه الإمام الصادق علیه السّلام،و بدون شک،إننا نهتم بهذا غایة الاهتمام،و هو مدار بحثنا.

ما ذا یرید أن یقول المؤلف تحت هذا العنوان؟أ تراه یرید أن یقدم دراسة تاریخیة عن مدرسة الإمام،و نشاطها و کثرة المنتمین؟أم تراه یرید أن یتحدث عن تراث الإمام العلمی،و مکانته فی المجتمع،و أثره فی بعث الفکر الإسلامی؟و هل یحاول أن یقدم لقرائه عن فقه الإمام الصادق علیه السّلام ما یتفق مع الواقع؟ نرید أن نتریث و نترک الاستعجال و لنصغ لبعض حدیثه حول الموضوع إذ یقول:

إنه بلا ریب کان الإمام الصادق من أبرز فقهاء عصره إن لم یکن أبرزهم،و قد شهد له

ص:163

بالفقه فقیه العراق الإمام أبو حنیفة،الذی قال فیه الشافعی:الناس فی الفقه عیال علی أبی حنیفة.

ثم یستمر بالحدیث حول روایة الإمام الصادق،و الرواة عنه،و یتعرض للتشکیک فی صحة ما یروی عنه علیه السّلام،لا من حیث ذاته،و لکن من حیث سند الروایة،ثم یمزج بین الخطابیة و أصحاب المغیرة و غیرهم فیمن روی عنه الأکاذیب.

إلی أن یأتی لتأیید ما یراه و قرره فی نظره سابقا من أن الإمام الصادق کان یروی عن غیر آبائه الکرام و یورد روایة کتاب الآثار لأبی یوسف عن أبی حنیفة عن جعفر عن سعید بن جبیر عن ابن عمر.الخ.کما فی ص 253 و هکذا حتی ننتهی إلی آخر البحث ص 255.

و لنقف هنا ملیا-رغم إصرارنا علی عدم الوقوف-و نشر إلی ما تجدر الإشارة إلیه بدون إسهاب،و بعد فحص ما ذکره الأستاذ لم نلمس شیئا حول بیان فقه الصادق،و لم یتبین لنا ما یندرج تحت العنوان،سوی ألفاظ لا تؤدی إلا إلی التشکیک،و لا تخلو من و خزات.

و الذی نود التنبیه علیه هو روایة أبی حنیفة،فإنه أسند عن جعفر بن محمد عن سعید بن جبیر،و هذا أمر لا یخلو من مناقشة،فإن التاریخ لم یثبت لنا التقاء سعید بن جبیر بالإمام الصادق علیه السّلام لأن ولادة الإمام الصادق علیه السّلام کانت سنة 83 ه و کان سعید مع ابن الأشعث فی حربه علی الحجاج،و قد شهد وقعة دجیل سنة 82 ه و وقعة دیر الجماجم سنة 83-85 ه و هرب سعید إلی بلاد إیران،و بقی متخفیا هناک خائفا من الحجاج و اعتمر متخفیا و کان یأوی إلی الشعاب و الودیان،و ألقی علیه القبض، و قتله الحجاج فی شهر شعبان سنة 95 ه و کانت مدة اختفائه اثنتی عشرة سنة،و لم یلتق بالإمام الصادق علیه السّلام و کان عمره علیه السّلام،یوم قتل سعید أحد عشر عاما.

و الغرض نحن نشک فی صدق هذه الروایة،کما نشک فی صدق ما أورده من قول الشافعی فی أبی حنیفة.

و ننتهی من الحدیث عن فقه الإمام الصادق،و لکن بدون نتیجة لأنه لم یتعرف علی فقه الإمام الصادق علیه السّلام لما ساوره من تشکیک،و ما اعترض طریقه من عقبات و بدون شک أنها وهمیة.

ص:164

و هنا یحاول أن یتصل به من طریق آخر و هو طریق الشیعة فیضع العنوان المتقدم و یقول فی ص 156:

و لذلک لا بد لتعرف فقه الإمام الصادق من الشیعة،و نخص منهم بالذکر الاثنی عشریة،لأنهم متمسکون بالقول:بأن فقههم ینتهی إلی الإمام الصادق و سائر الأئمة الأحد عشر علیهم السّلام؛لأن الثانی عشر مغیب لا یعرف علمه فی غیبته.

ثم یمضی المؤلف فی کلامه حول الروایة عن الإمام الصادق علیه السّلام بما یشاء أن یتکلم به،مما یطول نقله و نبعد عن الطریق فی نقاشه،إلی أن یقول فی صفحة 258:

الأمر الثانی الذی یعترض الباحث عند ما یدرس الروایات عن الإمام الصادق علیه السّلام و غیره أنه إن طبق أصول الإسناد التی یطبقها علماء الحدیث لا یجد السند متصلا بینها و بین الإمام فی کل الأحوال،ذلک أن أقدم المؤلفین الذین جمعوا أحادیث الصادق و أفعاله و أقواله هو الکلینی فی کتابه الکافی،و إذا لو حظ أن الکلینی توفی سنة 329 ه أی بعد وفاة الإمام الصادق رضی اللّه عنه بنحو من 181 و لم یذکر السند المتصل إلی الإمام الصادق فی کل الأحوال.نعم إنه یروی الکثیر عن تلامیذه و لکن من المؤکد أنه لم یلتق بتلامیذه إلا إذا فرضنا أن تلامیذه امتدت أعمارهم إلی أکثر من مائة سنة أو فرضنا عنده سندا متصلا غیر منقطع و من تلامیذه من مات فی حیاته کالمعلی بن خنیس.

قد یقال:إن تلک الأحادیث و الأخبار کانت مدونة عند تلامیذ الصادق و إنه نقل هذه المدونات،و لکن یجب أن تکون هذه المدونات قد اشتهرت و عرفت،و تکون هی الأصل الذی یعتمد علیه،و لا یکون الأصل هو الکافی وحده،أو غیره من الکتب التی جاءت من بعده،بل یعد الأصل تلک المدونات التی دونها أصحابه کالشأن فی المجموعین اللذین أسندا إلی الإمام زید رضی اللّه عنه،فإنهما نسب جمعهما إلی تلمیذه أبی خالد،و عرف من تلقاهما عن أبی خالد،و من تلقاهما منه جیلا بعد جیل حتی اشتهرا و صارا ککل کتاب مشهور معروف تتوارثه الأجیال بعد هذا الاشتهار،و قد یقول قائل:إن هذه الکتب قد اشتهرت و توارثتها الأجیال جیلا بعد جیل.و نقول:إن الکلام فی الفترة ما بین الکلینی و من بعده من الرواة و بین الصادق رضی اللّه عنه،فإن هذه الفترة فجوة ربما تقطع السند و یمنع اتصاله،إلا إذا کان السند موصولا بطرق أخری.

ص:165

و مهما یکن فإنا نرید أولا أن ندرس روایة فقه الإمام الصادق دراسة موضوعیة، و لا مانع من أن نبدی رأینا فیما تواضع علیه إخواننا من غیر أن نجرح مبادئهم،و لا نمس اعتقادهم،و لکن نقول:بنظرنا دون نظرهم عند ما نتجه إلی إبداء رأینا، و اختلاف أوجه النظر لا ضرر فیه و إنما الافتراق هو الذی یکون فیه الضرر من غیر ریب.انتهی.

هنا یجب علی المؤلف أن یستغفر اللّه ألف مرة لهذا الحکم المرتجل بوصفه للأسانید بأنها مقطوعة فلا یصح الاعتماد علیها کما یراه،و الصحیح أنه لم یستنطق البینات و لم یتریث فی الحکم.و هو-غفر اللّه له-قد جاء هنا بأمر لا یمکن السکوت عنه،و إسدال الستار علیه،إنه یتحدث عن فقه الشیعة بالذات،و لکنه یطعن فی أسانیدهم إلی الإمام الصادق،و إذا و هن السند فلا قیمة للاستدلال.

المؤلف-هداه اللّه-یعتبر نفسه باحثا و منقبا و یرید أن یصل إلی الواقع من أوضح الطرق،و هو هنا یظهر لقرائه مشکلة تقف أمامه عند البحث عن فقه الإمام الصادق حینما یطبق أصول الإسناد.

و کأنه قد درس دراسة موضوعیة صحیحة،فلم یجد اتصالا بین الإمام الصادق علیه السّلام و بین من یروی عنه فی کل الأحوال،و بالأخص ما یرجع إلی روایة الکلینی،و أنه یروی عن أناس لم یلتق بهم،و یعطی صورة أوضح من ذلک و هی:

إن الکلینی یروی عن أناس ماتوا فی حیاة الإمام الصادق علیه السّلام کالمعلی ابن خنیس،فالشیخ الکلینی یروی عن المعلی بدون إسناد.

هذا ما یورده المؤلف و لا نتعب أنفسنا بعناء الرد علیه فیما أورده.

و لکن نحیل القراء إلی کتاب الکافی لیقفوا علی صحة هذه الفروض التی افترضها المؤلف أو صدق الأقوال التی قالها.

نعم ربما یظن أن المؤلف علی حق فیما یقول حول الکافی؛و لکن بعد الفحص و التتبع یجد القارئ أن ما قاله المؤلف أبعد ما یکون عن الحق.لأننا إذا رجعنا إلی الکافی نفسه نجد السند متصلا و لا صحة لما جزم من عدم الاتصال.

فمثلا یقول:إن الکلینی یروی عن المعلی بن خنیس،و قد مات المعلی فی حیاة الإمام الصادق علیه السّلام و قد أکد ذلک فی آخر الکتاب ص 437 بقوله:و یجب أن

ص:166

ننبه هنا إلی أن الکلینی قد یروی عن أشخاص قد ماتوا فی حیاة الصادق،کروایته عن المعلی بن خنیس،فقد روی عنه عدة أخبار من غیر أن نری من توسط بینه و بین الکلینی فیما تحت أیدینا من إسناد،و لنضرب لذلک مثلا قد نقلناه فی ما مضی من قولنا و هو:عن المعلی بن خنیس قال قلت لأبی عبد اللّه:إذا جاء حدیث عن أولکم،و حدیث عن آخرکم،بأیهما نأخذ؟فقال:خذوا به حتی یبلغکم عن الحی.

قال:ثم قال أبو عبد اللّه:إنا و اللّه لا ندخلکم إلا فیما یسعکم،و فی حدیث آخر خذوا بالأحدث.

و إنه ثبت أن المعلی قتل فی عهد الصادق،قتله داود بن علی والی المدینة من قبل المنصور.

هذا ما یقوله المؤلف حول روایة الکافی،و انقطاع السند فیما یرویه،و لنرجع إلی الکافی نفسه یتضح لنا الأمر إذ الشیخ أبو زهرة لم یراجع الکافی عند نقله.و لو راجع لوجدها کما یلی:روی الکلینی عن علی بن إبراهیم،عن أبیه،عن إسماعیل بن مرار،عن یونس،عن داود بن فرقد،عن المعلی بن خنیس،قال:

قلت لأبی عبد اللّه علیه السّلام:إذا جاء حدیث عن أولکم،و حدیث عن آخرکم بأیهما نأخذ؟ (1).

فأنت تری أن سند الروایة هم علی بن إبراهیم و أبوه،و إسماعیل بن مرار، و یونس،و داود بن فرقد،هؤلاء خمسة رواة بین الشیخ الکلینی رحمه اللّه و بین الإمام الصادق علیه السّلام و لکن المؤلف أنکر الخمسة و أبرز الروایة بدون واسطة،و علی هذا قرر حکمه السابق فی ص 458«بأن الباحث لا یجد السند متصلا بینها و بین الإمام».

و لا ندری ما معنی هذا التساهل،و ما هو هذا التسرع،فی إعطاء النتائج التی تدعو إلی التشکیک فی أخبار الکافی.

و نحن نناشد المؤلف:هل وقف علی کتاب الکافی،و اطلع علی أسانیده فبان له عدم الاتصال فیها حتی یوجه هذا النقد و یورد هذا التشکیک؟أم أنه نقل ذلک بالواسطة،و ادعی الإشراف و الاطلاع علیه؟فإن کان قد قرأ کتاب الکافی فکیف یصح

ص:167


1- (1) الکافی ج 1 ص 67 طبعة دار [1]الکتب الإسلامیة.

له أن یصف أسانیده بعدم الاتصال فی جمیع الأحوال!!إذ الأمر خلاف ما یقول،کما ذکرنا فی روایة المعلی بن خنیس،و أنها متصلة السند،و لکن المؤلف یدعی بأنها غیر متصلة فما أدری بأی منظار ینظر.و کیف أسقط عدة رواة فجزم بحکمه الجائر.

و إن کان لم یطلع بل اعتمد علی نقل الغیر،فلیس من شأن الباحث الفاحص أن یحکم علی شیء بدون اطلاع علیه.

و من المؤسف له أن المؤلف یدعی قراءة الکافی و الاطلاع علیه،إذ یقول فی ص 438:هذه نظرات فی کتاب الکافی ألقیناها،و نقلنا إلی القارئ صورة ما انطبع فی نفوسنا عند قراءته.

هذا ما یقوله المؤلف بأنه أعطی صورة عن الکافی عند قراءته و لعل قرّاءه یصدقون ذلک.

و نحن نقول:إنه لم یقرأ الکافی و لو قرأه لما حکم علی بعض الروایات بأنها مقطوعة السند،و علی الأقل أنه لا یصدق بمن نقل ذلک،إذ الروایات التی ادعی أنها مقطوعة السند عند قراءته للکافی أو قراءة من نقل ذلک هی متصلة الإسناد غیر منقطعة،و إلیک بیان ما ذکره المؤلف فی ص 435 عن الکافی:

1-الکافی عن أبی بصیر عن أبی عبد اللّه قال:من زعم أن اللّه یأمر بالفحشاء فقد کذب علی اللّه،و من زعم أن الخیر و الشر إلیه فقد کذب علی اللّه.

هکذا یورد المؤلف هذه الروایة و یقول بعد ذلک:و نری فی هذا أن الذی یصل السند واحد فقط،و لیس من المعقول أن یکون قد لقیه؛لأن ما بین وفاة الصادق و وفاة الکلینی نحو 180 سنة.

و نحن نقول:لیس من المعقول أن الشیخ المؤلف قد قرأ کتاب الکافی فیورد هذا النقد إذ لو قرأه لوجد السند متصلا و إلی القراء ذلک.

سند الروایة:

الکلینی عن الحسین بن محمد،عن معلی بن محمد عن الحسین بن علی الوشاء عن حماد بن عثمان،عن أبی بصیر عن أبی عبد اللّه قال:من زعم (1)..

ص:168


1- (1) الکافی ج 1 ص 156 طبعة دار [1]الکتب الإسلامیة.

الروایة.فهؤلاء الرواة قد أنکر المؤلف وجودهم،و حکم علی أن السند منقطع بدون حجة ظاهرة.

و لزیادة البیان نذکر ما أورده علی الروایة الأخری (1)و هی:الکافی عن حفص بن قرط عن أبی عبد اللّه علیه السّلام،قال:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:من زعم أن اللّه یأمر بالسوء و الفحشاء فقد کذب علی اللّه.الحدیث.

و هذه الروایة أوردها المؤلف علی أنها منقطعة السند و الصحیح أنها متصلة السند و هی:

الکلینی عن علی بن إبراهیم،عن محمد بن عیسی،عن عبد الرحمن عن حفص بن قرط،عن أبی عبد اللّه علیه السّلام قال:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:من زعم أن اللّه یأمر بالفحشاء..الحدیث.

و بهذا یظهر کلامه حول روایة الکافی بدون رویة و تریث،فهو یصف کل روایاته بالإرسال،و ضرب لنا مثلا فی ذلک و نسی نفسه،بأنه یتصف بصفة الباحث المنقب، أو القاضی العادل،إذ لم یسلک المسلک الذی یلزمه أن یسلکه بما وصف نفسه فیه.

و لنتحول مع القراء إلی نقده للشیخ الصدوق علیه الرحمة صاحب کتاب من لا یحضره الفقیه،لنعطی للقراء صورة عن تساهل الشیخ و تسرعه فی حکمه،و إن هذا الکتاب تتصف رواته بالإرسال.

فیقول فی ص 445:

و للصدوق کتاب آخر غیر من لا یحضره الفقیه اسمه التوحید،کل ما فیه روایة، و فیه ذکر لکلام الصادق فی العقائد،و المسلک الذی سلکه فی کتاب من لا یحضره الفقیه هو المسلک الذی سلکه فی کتابه التوحید،من حیث الإرسال،و الاعتماد علی الکتب التی قبله،و لنقبض قبضة منه.تریک منهاجه فی الروایة..انتهی.

و إن القارئ یتصور عند ما یقف علی تعبیر الشیخ فی نقده،بأنه یتحدث عن خبرة و درایة،و أنه نقل من الکتاب ما یرید أن یصور فیه منهاج الشیخ الصدوق فی کتاب التوحید،و إن مسلکه هنا هو مسلکه فی کتاب من لا یحضره الفقیه من حیث

ص:169


1- (1) الإمام الصادق لأبی زهرة ص 435.

الإرسال (1)و قد قبض قبضة من مرویات کتاب التوحید و قدمها لقرائه،دلیلا علی ما یقول،و حجة علی ما یذهب إلیه من ادعاء الإرسال فی الروایات.

فلنصغ لحدیثه عن روایات التوحید،و نعده لمعرفة واقع الحال،و حقیقة الأمر، و هل کان الأمر کما حدث به الشیخ أم لا؟ قال المؤلف:

1-جاء فی کتاب التوحید عن هشام بن الحکم قلت لأبی عبد اللّه علیه السّلام:ما الدلیل علی أن اللّه واحد؟.

قال:اتصال التدبیر،و تمام الصنع،کما قال عز و جل: لَوْ کانَ فِیهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا [الأنبیاء:22].

2-و فی کتاب التوحید قال قوم للصادق:ندعو فلا یستجاب لنا؟.فقال:

لأنکم تدعون من لا تعرفون.

و نری أنه من هذا لم یذکر حتی من روی عن الصادق،فدل هذا علی أنه أخذ من کتاب لا من سند مرسل أو متصل.

3-و جاء فی التوحید عن أبی بصیر عن أبی عبد اللّه قال:قلت:أخبرنی عن اللّه عز و جل هل یراه المؤمنون یوم القیامة؟فقال:نعم.و قد رأوه قبل یوم القیامة.

فقلت:متی؟ قال:حین قال لهم:أ لست بربکم؟قالوا:بلی،ثم سکت(الإمام الصادق) ساعة ثم قال:و إن المؤمنین لیرونه فی الدنیا قبل یوم القیامة،أ لست تراه فی وقتک هذا؟.قال أبو بصیر:فقلت له:جعلت فداک فأحدث بهذا عنک؟فقال:لا،فإنک إذا حدثت أنکره منکر جاهل بمعنی ما نقوله.

4-و فی التوحید عن الصادق علیه السّلام أنه قیل له:إن رجلا منکم ینتحل موالاتکم أهل البیت یقول:«إن اللّه تبارک و تعالی لم یزل سمیعا بسمع و بصیرا ببصر

ص:170


1- (1) من المؤسف له أن الشیخ أبا زهرة یتحدث عن مسلک الصدوق فی الروایة بدون وقوف علی الحقیقة،و ذلک أن الشیخ الصدوق حذف الأسانید اختصارا و ذکرها فی آخر الکتاب،و لو أن أبا زهرة وقف علی کتاب من لا یحضره الفقیه لعرف مسلکه و لم یقع فی هذا الخطأ.

و علیما بعلم و قادرا بقدرة فغضب علیه السّلام و قال:من قال ذلک ودان به فهو مشرک و لیس من ولایتنا علی شیء،إن اللّه تعالی ذاته علیمة سمیعة بصیر قادرة.

و نری أن هذه الروایة لم تذکر بسند قط،فهی من القسم الذی أخذه من الکتب.

هذا ما ذکره المؤلف عن دراسته لکتاب التوحید و ألقاه علی تلامذته و حدث قرّاءه.و کأنه واثق من صحة ما یقوله،لأنه اعتمد علی کتاب جاءت هذه الأخبار مرسلة نقلا عن کتاب الصدوق،و قد حذف الناقل إسنادها.

فإن هذه الأخبار التی ساقها المؤلف أو القبضة التی قبضها من کتاب التوحید لیبین للقراء منهاج الصدوق،لم تکن مرسلة کما یدعی المؤلف،بل هی مسندة،و إلی القراء بیان ذلک بعد مراجعة کتاب التوحید،و الوقوف علیها و هی کما یلی:

الخبر الأول:

قال الصدوق:حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الولید(ره)،قال:حدثنا محمد بن الحسن الصفار،عن أحمد بن محمد بن عیسی،عن محمد بن عمیر عن هشام بن الحکم قال:قلت لأبی عبد اللّه علیه السّلام:ما الدلیل علی أن اللّه واحد؟ قال:اتصال التدبیر،و تمام الصنع،کما قال عز و جل: لَوْ کانَ فِیهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا [الأنبیاء:22].

هذا هو الخبر الأول الذی یدعی المؤلف أنه مرسل،و هو کما تری موجود فی کتاب التوحید صفحة 178 طبع طهران سنة 1375.

الخبر الثانی:

قال الصدوق:حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المروزی المقری،قال:

حدثنا أبو عمرو محمد بن جعفر المقری،قال:حدثنا محمد بن الحسن الموصلی ببغداد،قال:حدثنا عیاش بن یزید بن الحسن بن علی الضحاک مولی زید بن علی، قال:حدثنی أبی،قال:حدثنی موسی بن جعفر قال:قال قوم للصادق علیه السّلام:

ندعو فلا یستجاب لنا؟قال:لأنکم تدعون من لا تعرفونه.

هذا هو الخبر الثانی أورده الصدوق علیه الرحمة بهذا الإسناد فی کتابه التوحید کما فی صفحة 206 منه.

ص:171

الخبر الثالث:

قال الصدوق:حدثنا أحمد بن محمد بن عمران الدقاق(ره)قال:حدثنا محمد بن أبی عبد اللّه الکوفی،قال:حدثنا موسی بن عمران النخعی عن الحسین بن یزید النوفلی،عن علی بن أبی حمزة،عن أبی بصیر عن أبی عبد اللّه قال:قلت له:أخبرنی عن اللّه عز و جل هل یراه المؤمنین یوم القیامة؟قال:نعم و قد (رآه) (1)قبل یوم القیامة.

فقلت:متی؟.

قال حین قال لهم:أ لست بربکم؟قالوا:بلی..ثم سکت ساعة(أی الإمام الصادق)ثم قال:و إن المؤمنین لیرونه فی الدنیا قبل یوم القیامة.أ لست تراه فی وقتک هذا؟.

قال أبو بصیر:فقلت له:جعلت فداک فأحدث بهذا عنک؟فقال:لا،فإنک إذا (أحدثت) (2)به فأنکر منکر جاهل بمعنی ما نقوله(ثم قدر أن ذلک تشبیه کفر،و لیست الرؤیة بالقلب کالرؤیة بالعین،تعالی اللّه عما یصفه المشبهون و الملحدون).

هذا هو الخبر الثالث أورده الصدوق رحمه اللّه بهذا الإسناد کما جاء فی کتاب التوحید فی صفحة 70 منه.و لیس الأمر کما یقول المؤلف و قد حذف أبو زهرة-عن قصد أو غیر قصد-من هذا الخبر ما فیه تمام فائدته و قد جعلنا ما حذفه بین قوسین و إن الحذف یغیر معنی الخبر و یکون دالا علی معنی رؤیة الباصرة کما تدعیه بعض الفرق،و هذا لم یکن من رأی أهل البیت علیهم السّلام.

الخبر الرابع:

قال الصدوق:حدثنا محمد بن علی بن ماجیلویه رضی اللّه عنه،قال:حدثنی عمی محمد بن أبی القاسم،قال:حدثنی محمد بن علی الصیرفی الکوفی،قال:

حدثنی محمد بن سنان عن أبان بن عثمان الأحمر،قال:قلت للصادق جعفر بن محمد علیهم السّلام:أخبرنی عن اللّه تبارک و تعالی لم یزل سمیعا بصیرا علیما قادرا؟قال:

نعم.

ص:172


1- (1) هکذا فی الأصل و الصحیح رأوه.
2- (2) هکذا فی الأصل و الصحیح بحذف الهمزة.

فقلت له:إن رجلا ینتحل موالاتکم أهل البیت یقول:إن اللّه لم یزل سمیعا بسمع و بصیرا ببصر و علیما بعلم و قادرا بقدرة.فغضب علیه السّلام ثم قال:من قال ذلک ودان به فهو مشرک و لیس من ولایتنا علی شیء إن اللّه تبارک و تعالی ذاته علیمة سمیعة بصیرة قادرة.

هذه هی الأخبار التی أوردها المؤلف لبیان منهاج الصدوق فی روایاته و أنها مرسلة،و ها أنت ذا قد رأیت أن الصدوق علیه الرحمة یروی الحدیث بسند متصل، و هو یذکر الرجال و آباءهم،و صفاتهم،و ألقابهم،و لکن المؤلف ینکر ذلک،و نحن ننکر علیه أشد الإنکار،لأن ما ذهب إلیه و ما حکم به أمر یثیر التشکیک و یبعث علی عدم الثقة،و إن کان المؤلف یدعی البراءة من ذلک،کما یقول بعد إیراده لهذه الأخبار ص 447:هذه نظرات ألقیناها علی روایة من لا یحضره الفقیه،و کتاب التوحید، و کلاهما لابن بابویه القمی،و قد قصدنا بهذه النظرات أن ننقل صورة للکتاب فی روایته و فی منهاجه،و ما قصدنا أن نثیر غبارا من الشک أو التشکیک حوله،و لیس لنا أن نتهجم علی مقدسات إخواننا و لکننا أردنا التوضیح و البیان.

هذا ما یقوله!!و هو یحاول إقناع قرّائه بأن یأخذوا برأیه حول طعنه فی روایات هذه الکتب،و یدعی أن قصده الإیضاح و البیان فی إعطائه هذه الصورة،و هو یزعم أنها طبق الأصل.و بمزید من الأسف إن الأستاذ لم یقل الحقیقة،فهو یدعی اطلاعه علی هذه الکتب،و نقله منها و لکنه لم یطلع علیها،بل نقل عنها بالواسطة.

و نظرا لحصول أشیاء کثیرة من أمثال هذه الأمور التی خالف المؤلف فیها ما یوجبه علیه الحق من سعة الاطلاع و التتبع،فإن متابعة ذلک یدعو إلی اتساع البحث، و استیعاب هذا الجزء کله،و ربما یتعداه إلی الجزء السادس فآثرنا الاختصار،و الاکتفاء بالإشارة لما یلزم التنبیه علیه.و قد ألف الأستاذ الکبیر الشیخ عبد اللّه السبیتی کتابا فی الرد علی أبی زهرة و کذلک الأستاذ العلامة السید حسین بن یوسف المکی العاملی.

و فی الختام نقول:

کنا نأمل من الشیخ المحترم أن یکون قلمه رائدا لحریة الفکر،لأنه یتحدث عن نفسه فی هذه الدراسة:إنها بروح خالیة من الطائفیة (1)و إنه یدرس و یوازن،و یختار

ص:173


1- (1) الإمام الصادق لأبی زهرة ص 13.

فیأخذ ما هو الأصلح لغذاء العقول و النفوس،و أقواها فی بناء المجتمع علی أسس تشتق من الماضی قوتها،و تلائم الحاضر،و لا تنافی الصالح العام (1)و هو کقاض یدرس البینات یستنطقها و یأخذ عنها حتی إذا انتهی إلی الحکم نطق به (2)إلی کثیر من أقواله التی تدل بظاهرها علی حرصه الشدید فی إظهار الحقیقة،و مناصرة الحق بدراسة عمیقة،و تتبع واسع،و بذل جهد فی الحصول علی ما یتفق مع الحقیقة.

و لقد ساءنا-کما ساء کثیرا من القراء-ما لمسناه من تساهله فی النقل و اعتماده علی مصادر لا یلیق بالباحث المنقب الاعتماد علیها،و کان الأجدر به أن یتأمل فیما یکتب،و یتوثق ممن ینقل عنه،لأنه یبحث عن أمور لها أهمیتها من الواقع و ما یترتب علیها فی بناء المجتمع بإزالة رواسب خلقتها أفکار بالیة و غذتها طائفیة رعناء.

و علی کل حال:فإن جوهر الخلاف بیننا و بین المؤلف فی إبداء هذه الملاحظات هو ما استنکرناه من الأمور المخالفة للحقیقة و البعیدة عن الصحة لأنی لمست منه الاسترسال و عدم التتبع،فی حکمه علی کثیر من الأمور بدون بینة، و إعطاء النتائج بدون مقدمات،مما أوقعه فی أخطاء کثیرة،و هو مؤاخذ علی ذلک، و لا یغفر له و لأمثاله،ممن نأمل منهم أن ینظروا إلی الأمور بمنظار الواقع،و یتأملوا فیما یسجلونه،فإن الإسفاف وراء سراب الخداع و الإشاعات المغرضة،لیس من شأن العلماء الذین یعتصمون بغزارة علمهم لأنهم یحترمون الحقائق أکثر من غیرهم، و یحاولون رفع ما یتأشب به الحق من الأباطیل.

و لهذا فقد ترفعنا عن مناقشة من یدعی العلم و هو جاهل،و ینتحل الدفاع عن الإسلام و یطعنه فی الصمیم،لأن هؤلاء یبذرون الشقاق،و یوقدون نار الفتنة،بما تقذفه أقلامهم من سموم،و لم یتعظوا بمآسی التاریخ،و ما حل بالمسلمین من ویلات الدمار،و عوامل الانهیار،و ما جلبه علیهم انشقاق کلمتهم من الذل و الهوان.

و الغرض أننا نظرنا إلی الشیخ بعین الإکبار و التقدیر و سایرناه فی بحوثه نظرا لشهرته الواسعة و کثرة إنتاجه،و لکنه بمزید الأسف لم یعط الموضوع ما یستحقه من التتبع و کثرة المصادر،بل أقول بکل صراحة إن دراسته هذه أعطتنا عنه صورة غیر ما

ص:174


1- (1) نفس المصدر ص 11.
2- (2) نفس المصدر ص 185.

کنا نتصوره،و الشیء الذی نود التنبیه علیه هو اعتماد المؤلف علی مصادر لا یصح الاعتماد علیها ککتاب الوشیعة لموسی جار اللّه و قد أشرنا له من قبل.

کما أنه جعل المرآة الکاشفة عن کتب الحدیث عند الشیعة:کتاب المسند المنسوب للإمام الصادق،و هو کتاب مجهول المؤلف،و لیس له مقدمة و لا تقدیم من أحد،و لا یعرف منهاجه و لا یدری قصده،و لیس فیه ما یدل علی جعله فی میزان الاعتبار.

و هو کمجموع لبعض الأحادیث اختارها مؤلفه المجهول من کتب الحدیث و حذف إسنادها،و مع هذا سماه(مسند الإمام الصادق).

و إن الأستاذ أبو زهرة تصور فی خیاله الواسع،أن هذا الکتاب لجماعة فی النجف إذ یقول فی ص 435:و لقد وجدنا إخوانا بالنجف یجمعون الکتب الأربعة فی کتاب سموه المسند،و قد صدر عدة أجزاء منه من دار الفکر ببیروت (1).

و هذا القول جدیر بالتأمل و التعجب،لأنا لا ندری بأی دلیل یستدل الأستاذ علی أن المسند لجماعة من إخوانه فی النجف،و هل استنتج ذلک من مقدمة الکتاب و لیس له مقدمة،أم من تقدیم لأحد و لا تقدیم له،أم تقریظ له و کل ذلک لم یکن أبدا!!! و إنما هی ظنون و تساهل،و لا نقول:إنه تعمد ذلک حتی یتسنی له النقد،و الطعن فی أمور لا یصح له نقدها،و لکنه یعتذر بأنه اعتمد علی کتاب إخوانه فی النجف الذین أخفوا أسماءهم فی هذا الکتاب کما یزعم المؤلف،و إن اعتماده علی أمثال ذلک هو من الغرابة بمکان و لیس هذا من شأن المحققین.

و لنترک الحدیث عن المسند و حدیثه شجون-و لا نطیل الوقوف مع أبی زهرة بعد أن قررنا أن نفترق فلنطو بساط البحث،و أملنا أن نعود لمناقشته فی کتاب الإمام الصادق و غیره من مؤلفاته التی تعرض بها لذکر الشیعة،أو أفردها للبحث عن فقههم

ص:175


1- (1) أصدرت دار الفکر ببیروت کتابا فی جزءین مجموع صفحاته 244 بقطع الربع کتب علیه:الإمام الصادق-المسند-دار الفکر بیروت-دار الولاء النجف،و لیس للکتاب مقدمة،و لا تقدیم،و لم یذکر اسم مؤلفه،و قد جمع أخبارا من الکتب الأربعة بدون إسناد،و ما کنا نعتقد أن أحدا یأخذ مثل هذا الکتاب بعین الاعتبار و لکن أبو زهرة استأنس له،و اعتمد علیه و جعل ینظر إلی الکتب الأربعة بواسطة هذا الکتاب.

و أصوله،فإنه عافاه اللّه قد ارتکب-فی کثیر منها-أخطاء لا یصح لمثله أن یرتکبها، لما اتصف به من کثرة التألیف و هو-بمزید الأسف-قد بنی أبحاثه علی التساهل و عدم التعمق بالبحث،فذکر أشیاء علی غیر وجهها الصحیح،و قد ترکت هنا کثیرا من الأمور التی أخطأ فیها،لأن استقصاءها یقصینا عن منهج البحث،و ما ذکرناه فی هذا العرض إنما هو صورة مصغرة عن متطلبات الموضوع قدمناها للقراء و لهم الحکم، و من اللّه نسأل أن یجمع شمل المسلمین و یوحد کلمتهم و ینصرهم و ما النصر إلا من عند اللّه.

ص:176

الفقه الإسلامی

اشارة

بین الشیعة و السنّة

من أهم المواضیع التی یجدر بنا التعرض لها بالبحث هو موضوع الخلافات فی المسائل الفقهیة بین الشیعة و السنة؛لإیضاح ما أبهم أمره علی کثیر من الناس،حتی تسرب سوء الفهم إلی بعض الأدمغة و أثمرت حملات الظالمین و أقوال المفترین، فجعل الشیعة بمعزل عن فقه المسلمین،و أنهم ینفردون بمذهب خاص لا یلتقی مع غیرهم،أو کما یذهب ابن خلدون:إلی شذوذ أهل البیت فی مذاهب ابتدعوها و فقه انفردوا به.

کلمة قالها ابن خلدون،و مرت مع الزمن تعمل عملها فی نفوس البسطاء کما تعمل غیرها من کلمات الکذب و الافتراء،التی تطلق بدون قید و شرط.

غریب و أیم الحق أن یصل الأمر إلی هذا الحد و لکن للعلم کلمته الفاصلة،و ما دام هو المتکفل بوضع الأشیاء فی مواضعها،فالحکم للعلم و حکمه العدل،و قوله الفصل.و لا حاجة بنا إلی الإطالة فی عرض الأقوال،و بیان الآراء حول فقه الشیعة و أصوله،مما یبعث علی العجب و الاستغراب،لصدورها من أناس یدعون المعرفة، وسعة الاطلاع.

و أمر آخر یحضرنی الآن و أود أن أنبه علیه:ذلک أن أکثر من کتب عن التشریع الإسلامی یقصرون الفقه الإسلامی علی المذاهب الأربعة،و لا یبحثون عن سواها، کأن لم یکن الفقه للجمیع،فلم یتعرضوا إلی فقه الشیعة بما یکشف عن واقعه،کأن الشیعة لیسوا من المسلمین،أو أنهم أمة انقرضت فلا یعتنی بالبحث عن فقههم، و ربما تعرض أولئک الکتاب إلی فقه المذاهب البائدة التی لا یوجد بها عامل واحد الیوم.

أما الشیعة الذین یزید عددهم علی المائة ملیون فلم یکن لهم نصیب من

ص:177

الاشتراک فی بیان التشریع الإسلامی و ذکر فقههم،و ما عندهم من ثروة فقهیة هی أعظم ثروة إسلامیة،و ینبوع متدفق یتصل بالمشرع الأول و الرسول الأعظم،بواسطة آله الأطهار.

و لئن تعرض لهم کاتب فإنما هو تعریض بهم إذ یأخذ بأقوال شاذة و آراء فاسدة، و ینهج نهج المقلد الذی لیس لتفکیره حظ من التصرف،کأن لم تکن الشیعة فی طلیعة الفرق الإسلامیة إلی جمیع العلوم،و هم السابقون إلی التدوین،و المحافظون علی التراث الإسلامی،و بفتح باب الاجتهاد قد صانوا الفقه عن الجمود الفکری،و وسعوا مجاله جریا مع الزمن و تطورا مع الحوادث،إذ لم یهمل الإسلام حکمها،فلکل واقعة حکم،و لکل قضیة قاعدة إذ هو عام شامل لجمیع أدوار الحیاة الإنسانیة.

إنهم أهملوا فقه الشیعة و هو فقه أهل البیت أوصیاء النبی و حملة علمه،و أهل البیت أدری بالذی فیه.

کأن الذین أهملوا فقه الشیعة أو طعنوا فیه قد خدموا الإسلام،أو جردوه عن زوائد لیست لها صلة فیه،و فی الحق-و ما أضیع الحق-أنهم قد جنوا علی الإسلام جنایة لا تغفر،إذ خضعوا لعوامل زمن اشتد فیه الصراع بین طوائف المسلمین،فکفر بعضهم البعض،و ابتعد بعضهم عن بعض،کأن الإسلام لم یأمرهم بالتمسک بحبل اللّه، و الاعتصام به،و أن یکونوا جمیعا و لا یتفرقوا،لیصبحوا قوة متماسکة،تقضی علی کل محاولة ضد الإسلام لینتشر العدل،و تجف الأرض من الدموع و الدماء،و یصبح الناس إخوانا و لیس فی قلوبهم غل،و لا أثر للأثرة،و لا مکان للاستغلال فی المجتمع.

إن تلک الرواسب التی خلفتها عصور التطاحن یجب أن یخلو الطریق منها، و نزعات یجب أن تقبر،و هیاکل و همیة یجب أن تزول.و قد نسبوا إلی الشیعة آراء فی الفقه لیست هی آراؤهم،و لا یقول بها أحد أبدا،و إن وجدوا قولا شاذا لواحد ینسب إلیهم جعلوها للمجموع و ادعوا علیه الإجماع،و إذا نسب لفرد رأی فی عقیدة کان ذلک الرأی للجماعة کأن الجماعة هی الفرد،و الفرد هو الجماعة.

کل ذلک مبعثه التعصب الذی ضرب ستارا بین الواقع و بین ما یقولون،و قد مرت الإشارة لبعض ذلک،و من المؤسف و المؤلم أن یمضی الکثیر علی ما اختلقه طغاة الأمس و بغاة الماضی و یبقوا غشاوة التحامل علی عیونهم فیحکموا مقلدین بدون

ص:178

دلیل و یهجروا ما فی أیدی الشیعة من فقه و علم و أدب،و سنشیر لبعض الآراء الفقهیة أو الفتاوی الشاذة التی نسبت إلی الشیعة و لا قائل منهم فی ذلک.و قد لعبت الدعایات الکاذبة دورها فی الأفکار و اتجاه الجماعات حتی أصبح الرجل یهون علیه أن یتهم بالزندقة و الإلحاد و لا یتهم بالتشیع.و اشتهر قول بعض من ینسب إلی العلم:آکل ذبیحة الیهودی و النصرانی و لا آکل ذبیحة الشیعی أو الرافضی.

و ما أکثر الأقوال فی ذلک و لا ذنب للشیعة من حیث الواقع،و لکنها السیاسة التی أعلن الشیعة الانفصال عنها،و استقلوا بتعالیمهم من دون مؤثرات علی نهج تعالیمهم،و نفضوا أیدیهم من غبار أطماعها،فانفصلت مدرستهم انفصالا تاما فی جمیع الأدوار،فلا مدارس تشاد لهم من قبل الحکومات،و لا وظائف تدریس،و لا رواتب لطلاب،و لا تشجیع لهم من جمیع الجهات التی لها اتصال بتلک السیاسة الجائرة.

نعم کانت هناک مراقبة و معارضات،و مقاومة شدیدة،تحاول القضاء علیهم.

و قد اجتازت مدرستهم فی أدق المراحل و أقسی الظروف خطوات واسعة،و عقبات شدیدة،و دکت صروحا،و أحرزت النصر،فکان لهم أثر عظیم فی خدمة الإسلام، و انتشار علومه،و نمو فقهه و باب الاجتهاد مفتوحا عندهم.

و إن ما خلفته أقلام أعلام الشیعة من تراث علمی فی جمیع المجالات شیء یبعث علی الفخر،و یفوق حد الحصر،و إن مؤلفاتهم التی نشرت و التی لم تنشر هی من الکثرة بمکان،و هذه المؤلفات الموجودة هی بقیة التلف إذ صارت مؤلفات الشیعة وقودا للحمامات،و طعمة للأنهار،فی أیام تحکم الطائفیة و انتشار التعصب المذهبی، الذی لعب دورا فی التاریخ.

و الشیء الذی تجدر الإشارة إلیه-لأهمیته-هو ما بلغت إلیه الحالة من جراء التعصب و اشتباک عوامل الخلافات،أن بعضهم قد التزم مخالفة الشیعة فیما یفتون به مع وضوح الدلیل،و قوة المأخذ،و هو یری أن ذلک أولی من القول بما تقوله الشیعة، و یظهر أثر ذلک فی کثیر من المستحبات و الواجبات.

یقول ابن تیمیة فی منهاجه-عند بیان التشبه بالشیعة-:و من هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلی ترک بعض المستحبات،إذ صارت شعارا لهم(أی للشیعة)فإنه و إن لم

ص:179

یکن الترک واجبا لذلک لکن فی إظهار ذلک مشابهة لهم فلا یتمیز السنی من الرافضی، و مصلحة التمییز عنهم لأجل هجرانهم،و مخالفتهم أعظم من مصلحة المستحب.

و قال مؤلف کتاب الهدایة:إن المشروع التختم بالیمین و لکن لما اتخذته الرافضة(أی الشیعة)جعلناه فی الیسار.

و قال الزرقانی فی شرح المواهب اللدنیة فی صفة عمامة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کما روی الإمام علی علیه السّلام فی إسدالها علی منکبه حین عممه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إن الحافظ العراقی قال:إن ذلک أصبح شعار کثیر من فقهاء الإمامیة فینبغی تجنبه لترک التشبه بهم.

و قال الشیخ محمد بن عبد الرحمن فی کتاب رحمة الأمة:السنة فی القبر التسطیح و هو أولی علی الراجح من مذهب الشافعی و قال أبو حنیفة و أحمد:التسنیم أولی لأن التسطیح صار شعارا للشیعة.

و قال الغزالی:إن تسطیح القبور هو المشروع و لکن لما جعلته الرافضة شعارا عدلنا عنه إلی التسنیم.

و غیر ذلک مما ستقف علیه فی هذا الموضوع فی کثیر من المسائل الفقهیة.

و إن موضوع البحث عن آراء رؤساء المذاهب و اتباعهم أمر لیس من السهل الإحاطة فیه،لأنا نجد أن أقوال صاحب المذهب مختلفة،کما أن أصحابه الذین علیهم المعول فی أخذ الأحکام و نشر المذهب تختلف أقوالهم،فمرة یوافقونه و مرة یخالفونه.و هناک آراء فردیة یذهب إلیها البعض.

فالحنفیة یوردون فی کتبهم أقوال أئمتهم الأربعة:أبو حنیفة،و أبو یوسف، و محمد بن الحسن،و زفر،فربما یکون فی مسألة واحدة أربعة أقوال لکل واحد منهم قول یخالف فیه الآخر،حسب ما یظهر لهم من الآثار و المعانی.و یأتی المتأخرون بآراء یخالفون بها سلفهم.

و قد حاول بعض الحنفیة أن یجعل أقوالهم المختلفة أقوالا لأبی حنیفة رجع عنها،و الواقع إنا نجد هؤلاء یخالفون أبا حنیفة عن أدلة و استنتاج،و هم غیر مقلدین له فی ذلک (1).

ص:180


1- (1) انظر هذا المبحث فی الجزء الأول من هذا الکتاب فی مواضیع متفرقة.

کما أن الشافعی له أقوال مختلفة و فقهه یعرف بالقدیم و الجدید،أی أن له فقها رجع عنه فسمی بالقدیم،و قد نهی عن العمل به (1).

و کذلک جمیع أئمة المذاهب لا تتفق أقوالهم،و کثیر من أصحابهم یخالفونهم فی کثیر من المسائل،و هذا أمر مجهد لا یمکن استقصاؤه،و نحن نحاول قدر الاستطاعة أن نتعرض لأشهر الأقوال عندهم.

و ناحیة أخری و هی اختلاف المذاهب فیما بینها کما أن کثیرا من العلماء ألفوا کتبا للرد علی رؤساء المذاهب بما خالفوا فیه الکتاب و السنة،و أول من کتب فی هذا اللیث بن سعد أحد رؤساء المذاهب البائدة فی رسالته للإمام مالک یرد علیه.

و قد ذکر یحیی بن سلام قال:سمعت عبد اللّه بن غانم فی مجلس إبراهیم بن الأغلب یحدّث عن اللیث بن سعد أنه قال:أحصیت علی مالک بن أنس سبعین مسألة کلها مخالفة لسنّة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مما قال مالک فیها برأیه.

و الشافعی وضع کتبا فی الرد علی مالک و معارضة أقواله،و کان یقول:قدمت مصر و لا أعرف أن مالکا یخالف من أحادیثه إلا ستة عشر حدیثا،فنظرته و إذا به یقول بالأصل و یدع الفرع،و یقول بالفرع و یدع الأصل.و تعرض الشافعی فی رده علی مالک للمسائل التی ترک فیها الأخبار الصحیحة بقول واحد من الصحابة،أو بقول واحد من التابعین،أو لرأی نفسه (2).

و لعل هذا هو الذی حمل أکثر المالکیة فی وضع الکتب للرّد علی الشافعی فیما خالف الکتاب و السنة،و قد ألف جماعة منهم فی ذلک:کأحمد بن مروان المتوفی سنة 289 ه،و أحمد بن یعلی المتوفی سنة 399 ه،و حماد بن إسحاق المتوفی سنة 269 ه،و أبو عمر یوسف بن یحیی المتوفی سنة 288 ه،و یحیی بن عمر بن یوسف الکنانی المتوفی سنة 289 ه.

و لإسماعیل بن إسحاق القاضی کتاب الرد علی الشافعی،و کتاب الرد علی أبی حنیفة (3)و غیر ذلک مما یمثّل الصعاب التی تواجه الباحث عن الفقه الإسلامی

ص:181


1- (1) فصلنا ذلک فی الجزء الثالث من هذا الکتاب فی ترجمة الشافعی.
2- (2) انظر جامع بیان العلم و فضله لابن عبد البر.ج 2 منع القول بالرأی.
3- (3) انظر الدیباج المذهب تجد الکثیر من ذکر الکتب المؤلفة فی الرد علی أئمة المذاهب.

و اختلاف الآراء فی کثیر من مسائله،و منشأه الاختلاف فی الأصول و المبانی العامة التی یعتمدون علیها فی استنباطهم.و اختلافهم فی مدی انطباق القاعدة أو النص أو الأصول التی یتخذونها طریقا للاستدلال.

اختلاف الفقهاء فی الفتوی:

اشارة

و نظرا للاختلاف الحاصل من تفهم أدلة الاستنباط،فقد انفرد رؤساء المذاهب بمسائل لا یقول بها صاحب المذهب الآخر،کما انفرد بعض أعیان المذاهب بأقوال لا یقول بها رئیس مذهبه و لا غیره،و هذا شیء کثیر یمکن حصره من تتبع الأقوال المختلفة.

و قد حاول بعضهم حصر تلک الأقوال المنفردة،و لکن التتبع یضیف إلی ذلک کثیرا منها.و قد نقل صاحب کتاب الفوائد العدیدة عن کتاب الإفصاح للوزیر عون الدین یحیی بن هبیرة،ما انفرد کل مذهب فیه عن سائر المذاهب،و نظرا لما فی ذلک من الفائدة و الإیضاح ننقل هنا تلک الأقوال التی اختص بها کل واحد عن غیره،بدون تعلیق علی ذلک أو بیان لما یحتاج إلی بیان.

أبو حنیفة:

قال فی الإفصاح:اعلم أن الإمام أبا حنیفة تفرد بخمس عشرة مسألة:

1-العفو عن مقدار الدرهم من النجاسات،و الأئمة یوافقونه فی الدم.

2-عدم النیة فی الوضوء و الطهارة.

3-جواز التوضؤ بالمائعات.

4-الخروج من الصلاة بما لیس منها.

5-عدم الطمأنینة فیها،إلا ما رواه أبو یوسف.

6-کل إهاب یطهر بالدباغ عنده.

7-جواز الربا فی دار الحرب.

8-إن للمرأة ولایة النکاح.

9-قتل النفس بالنفس مطلقا.

10-عدم جواز الوقف فی المنقول.

11-عدم القضاء علی الغائب.

ص:182

12-میراث الذین عقدت أیمانکم.

13-طهارة الخمر بالمعالجة.

14-عدم جواز الجمع إلا فی عرفة و مزدلفة.

15-ثبوت الربا فی الجص،و النورة،و الزرنیخ.

مالک بن أنس:

و أما ما اختص به الإمام مالک:

1-الإرسال فی الصلاة(أی إرسال الیدین).

2-طهارة الکلب.

3-جواز القراءة للحائض خوف النسیان.

4-عدم التوقیت للمسح علی الخفین.

5-قتل المرتد من غیر استتابة.

6-وجوب الغسل للجمعة.

7-تفضیل المدینة علی مکة.

8-تجاوز المیقات بلا إحرام،إذا مر علیه و لم یکن له.

الشافعی:

و أما ما اختص به الإمام الشافعی:

1-وجوب قراءة الفاتحة علی المأموم.

2-وجوب التشهد الأخیر.

3-زواج البنت من الزنا.

4-اتخاذ أوانی الذهب و الفضة من غیر استعمال.

5-لعب الشطرنج.

6-نجاسة الأوراق مطلقا.

أحمد:

و أما ما اختص به الإمام أحمد:

1-وجوب المضمضة و الاستنشاق.

ص:183

2-وجوب غسل الیدین عند القیام من النوم.

3-الاقتصار علی المفصل فی الید فی مسح التیمم قیاسا علی السرقة.

4-مؤاخذة المقر بإقراره،و إن استثنی أنه أعطی فلا یقبل منه و إن کانت البینة.

ما انفرد به ابن تیمیّة:

1-القول فی قصر الصلاة فی کل ما یسمی سفرا طویلا کان أو قصیرا،و هو مذهب الظاهریة.

2-إن البکر لا تستبرئ و إن کانت کبیرة،و هو قول ابن عمر و اختاره البخاری.

3-إن سجود التلاوة لا یشترط له وضوء،و هو مذهب ابن عمر و اختاره البخاری.

4-القول بأن من أکل فی شهر رمضان معتقدا أنه لیل،فبان نهارا لا قضاء علیه،کما هو الصحیح عن عمر،و ذهب إلیه بعض الفقهاء و التابعین.

5-إن المتمتع یکفیه سعی واحد بین الصفا و المروة،کالقارن و المفرد و هو قول ابن عباس و روایة عن أحمد.

6-جواز المسابقة بلا محلل.

7-القول باستبراء المختلعة بحیضة،و کذلک الموطوءة بشبهة و المطلقة آخر ثلاث تطلیقات.

8-إباحة وطی الوثنیات بملک الیمین.

9-جواز عقد الرداء فی الإحرام و لا فدیة.

10-جواز طواف الحائض و لا شیء علیها إذا لم یمکنها أن تطوف طاهرة.

11-القول بجواز بیع الأصل بعصیره کالزیت بالزیتون و السمسم بالشیرج.

12-جواز الوضوء بکل ما یسمی ماء مطلقا کان أو مقیدا.

13-جواز بیع ما یتخذ من الفضة للتحلی و غیره بالفضة متفاضلا و جعل الزیادة فی الثمن فی مقابلة الصنعة.

14-المائع لا ینجس بوقوع النجاسة فیه إلا أن یتغیر قلیلا کان أو کثیرا.

ص:184

15-جواز التیمم لمن خاف فوات العید و الجمعة باستعمال الماء.

16-جواز التیمم فی مواضع معروفة.

17-الجمع بین الصلاتین فی أماکن مشهورة.

18-و کان یمیل أخیرا إلی القول بتوریث المسلم من الکافر.

19-و من أقواله المشهورة التی جری بسببها و الإفتاء بها محن:قوله بالتکفیر بالحلف و إن الطلاق لا یقع إلا واحدة،و إن الطلاق المحرم لا یقع و إن جمیع أیمان المسلمین مکفر (1).

الخلاف بین المذاهب:

و إذا أردنا أن نتابع للوقوف علی الأقوال التی ربما یقال إن أصحابها انفردوا عن مذاهبهم بالذهاب إلیها،فإن طول المسافة یبعدنا عن الهدف المقصود.کما أن الخلاف بین المذاهب بعضهم مع بعض شیء لا یمکن إنکاره لکثرته،و قد أحصی الخلاف بین مذهب أحمد بن حنبل و مذهب الشافعی فکانت المسائل المختلف فیها أکثر من عشرة آلاف مسألة.

و صنف القاضی عز الدین الحنبلی فی المفردات المخالف للمذاهب الثلاثة کتابا ذکر فیه أکثر من ثلاثة آلاف مسألة.

و ذکر صاحب الفواکه العدیدة:أن مذهب الإمام أحمد وسط بین المذاهب فی کثیر من المسائل مما تدعو حاجة الناس إلیه من مذهب الإمام أحمد؛منها:

1-القول بطهارة بول جمیع الحیوانات المأکولة اللحم،و روثها کالغنم، و البقر،و الخیل،و الدجاج،و الإبل،و الإوز،و غیر ذلک.

2-إن منی الآدمی و منی ما یؤکل لحمه طاهر و هذا أیضا فیه رخصة.

3-جواز المسح علی العمامة و الجورب و فیه أیضا رخصة.

4-صوم رمضان بالغیم و القتر لیلة الثلاثین من شبعان.

ص:185


1- (1) الفوائد العدیدة فی المسائل المفیدة لأحمد بن محمد التیمی النجدی ص 48-50،نقلا عن کتاب الإفصاح للوزیر عون الدین یحیی بن هبیرة.

5-صحة البیع بالمعاطاة.

6-للوالد أن یتملک من مال ولده ما شاء.

7-إن الخلع فسخ لا ینقص به عدد الطلاق.

8-عدم وقوع الطلاق من السکران.

9-الرد فی باب الفرائض و توریث ذوی الأرحام.

10-إن الکافر إذا مات حکم بإسلام من لم یبلغ من ولده.

11-جواز الاستمناء (1)بالید و نحوها لمن خاف العنت و هی رخصة عظیمة و کذلک المرأة بشیء.

12-جواز الوقف فی إحدی الروایتین عن أحمد.

13-جواز بیع الوقف و المناقلة إذا تعطلت منافعه و بیع المسجد و نقله إذا تعطل نفعه أو لم ینتفع به.

14-فسخ النکاح لعدم النفقة و الوطء.

15-الحکم بالشهادة علی الخط و غیر ذلک.

و علی أی حال:فإن الاختلاف بین المذاهب فی الفقه أمر لا یمکن حصره، و نحن بهذا العرض نحاول إعطاء صورة عن البعض من ذلک،و قد ألف علماؤنا الأعلام کتبا فی الخلافات الفقهیة بین السنة و الشیعة،و بین المذاهب السنیة أنفسها.

و لما کان هذا الموضوع من أهم الأمور التی یلزمنا البحث فیها،رأینا أن نختصر البحث،و نقتصر علی ما یتعلق بالصلاة و مقدماتها،و أفعالها،و نذکر طرفا من مسائل الطهارة فی هذا الجزء،و أفعال الصلاة فی الجزء السادس،و نستدرک بقیة المباحث الفقهیة فی کتاب مستقل یرتبط بهذه السلسلة کمستدرک لها،و إنی لا أضمن لنفسی السلامة من الخطأ،فربما یکون هناک شیء لم أتعمده،و أمر لم أقصده،و من اللّه أطلب التسدید و علیه أتوکل و هو حسبی و نعم الوکیل.

ص:186


1- (1) الاستمناء بالید هو المعروف بالعادة السریة المنهی عنها شرعا،و قد أید الطب ذلک و أنها تورث (الهستیریا)و لعل المراد بقوله و نحوها هو:جواز التفکر بجمال امرأة أو النظر إلیها لإنزال الشهوة أو العبث بالذکر،و قد جوز الأحناف ذلک لمن کان أعزب لتسکین شهوته کما جاء فی شرح مراقی الفلاح ص 17 و عندنا کل ذلک حرام مخالف للأدلة.

الطهارة

اشارة

الوضوء و الغسل و التیمم

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ وَ إِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ کُنْتُمْ مَرْضی أَوْ عَلی سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْکُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِکُمْ وَ أَیْدِیکُمْ مِنْهُ ما یُرِیدُ اللّهُ لِیَجْعَلَ عَلَیْکُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لکِنْ یُرِیدُ لِیُطَهِّرَکُمْ وَ لِیُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَیْکُمْ لَعَلَّکُمْ تَشْکُرُونَ [المائدة:6].

أجمع المسلمون علی وجوب الطهارة للصلاة:

و هی فی اللغة النظافة و النزاهة من الأدناس،و فی الشرع:اسم للوضوء،أو الغسل أو التیمم،علی وجه له تأثیر باستباحة الصلاة.

و عرفها الشهید الأول:بأنها استعمال طهور مشروط بالنیة،و الطهور هو الماء و التراب.

و قال فی التذکرة:إنها وضوء،و غسل،و تیمم یستباح به عبادة شرعیة.

و قال القرطبی:الطهارة من الحدث ثلاثة أصناف:وضوء،و غسل،و بدل منهما،و هو التیمم.و قال ابن حمدان الحنبلی:الطهارة تحصل عند وجود سببها قصدا و اتفاقا.

و قال الشوکانی:إنها صفة حکمیة تثبت لموصوفها جواز الصلاة به أو فیه أو له.

ص:187

و قال فی الروض الندی:هی ارتفاع حدث و ما فی معناه،و زوال خبث أو ارتفاع حکم ذلک.

و قال فی شرح مراقی الفلاح:حکم یظهر بالمحل الذی تتعلق به الصلاة لاستعمال المطهر (1).

و الطهور اسم للماء و التراب لقوله تعالی: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً .

و قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«جعلت لی الأرض مسجدا و طهورا»و سیأتی بیان ذلک.

و مهما یکن من اختلاف فی تعبیر الفقهاء فی تعریف الطهارة،فلا خلاف بینهم فی وجوبها للصلاة،و أنها اسم للوضوء،و الغسل،و التیمم،و إن الصلاة تتوقف علی إزالة الحدث فی ذلک.

و قد وقع الخلاف فی هذه الأشیاء لا من حیث وجوبها،بل من حیث موجبها و واجباتها و سننها و شرائطها.

الوضوء
اشارة

لا خلاف بین جمیع المسلمین فی وجوب الوضوء للصلاة لقوله تعالی: إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ... و لقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:لا یقبل اللّه صلاة أحدکم إذا أحدث حتی یتوضأ.

کما لا خلاف بینهم فی أن أعضاء الوضوء مغسولة و ممسوحة،و إنما الخلاف فی الرجلین کما سیأتی:

و للوضوء فروض،و سنن،و شروط و قد وقع الخلاف فی ذلک بین جمیع المذاهب.

فروضه:
اشارة

فروض الوضوء عند الشیعة خمسة:

1-النیة و هی:الإرادة،أو القصد إلی الفعل علی أن یکون الباعث إلیه أمر اللّه

ص:188


1- (1) شرائع الإسلام للمحقق الحلی ص 2 و شرح اللمعة الدمشقیة للشهید الثانی طبع مصر ص 12 و تذکره الفقهاء ص 1 و [1]بدایة المجتهد للقرطبی ص 6 و الروض الندی شرح کافی المبتدی ص 21 و الفواکه العدیدة ص 6 و شرح مراقی الفلاح ص 2 و غیرها.

تعالی،و لا بد فیها من الإخلاص،فلو لم یکن مخلصا لا یصح علی تفصیل یذکره الفقهاء فی باب النیة بداعی امتثال أمر اللّه،و إطاعته.

2-غسل الوجه:و هو ما دارت علیه الإبهام.و الوسطی عرضا،و ما بین قصاص الشعر إلی طرف الذقن طولا،و یجب الابتداء بأعلی الوجه إلی الأسفل.

3-غسل الیدین من المرفقین إلی أطراف الأصابع،و المرفق مجمع عظمی الذراع و العضد و یجب غسله مع الید.

4-مسح مقدم الرأس و یکفی فیه المسمی،و لو قدر أصبع إلی ثلاثة أصابع.

5-مسح الرجلین من أطراف الأصابع إلی الکعبین،و هما قبتا القدم.

و شرائط الوضوء:طهارة الماء و إطلاقه،و عدم استعماله فی التطهیر من الخبث،و طهارة أعضاء الوضوء،و عدم المانع من استعمال الماء لمرض أو عطش، و الموالاة و الترتیب کما سیأتی بیانه.

هذه هی فروض الوضوء عند الشیعة کما دلت علیه الأدلة من الکتاب و السنة النبویة بما هو مذکور فی محله من کتب الفقه (1)فهم یتفقون مع المذاهب فی أمور و یفترقون عنها فی أمور،فلننظر فی ذلک لنری مدی الاتفاق و الافتراق بینهم و بین غیرهم من المذاهب،کما ننظر إلی الاتفاق و الافتراق بین المذاهب الأربعة نفسها.

اتفق جمیع العلماء علی اشتراط النیة فی الوضوء و غیره من أنواع الطهارة من الحدث،و إنها فرض کما تقول به الشیعة،إلا أبو حنیفة فإنه لم یشترط النیة فی الوضوء و الغسل و اشترطها فی التیمم.

و حجته أن المکلف إنما أمر بغسل جسمه أو غسل هذه الأعضاء،و لو غسلهما للتبرد أو التنظیف فقد فعل ما أمر به،و قاس ذلک علی إزالة النجاسة،فإنها تجزی بلا نیة عند الجمیع.

و قال مالک،و الشافعی،و أحمد بن حنبل،و اللیث بن سعد:بوجوب النیة.

ص:189


1- (1) شرائع الإسلام للمحقق الحلی،و التذکرة للعلامة الحلی،و الخلاف للشیخ الطوسی،و العروة الوثقی للسید الیزدی،و المستمسک للسید الحکیم،و المختصر النافع للمحقق،و غیرها من کتب الفقه.

و عقد الإجماع علی اشتراط النیة لقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إنما الأعمال بالنیات و لکل امرئ ما نوی.

غسل الوجه:

لا خلاف بین جمیع المسلمین فی وجوب غسل الوجه مرة واحدة و قد اختلفوا فی تحدیده.

فمذهب الشیعة:أن حده من قصاص الشعر إلی منتهی الذقن طولا،و ما دارت علیه الإبهام و الوسطی عرضا.

و مذهب مالک أن البیاض الذی بین العذار و الأذن لیس من الوجه،و بهذا یتفق مع الشیعة،و لکنه فرّق بین الأمرد و الملتحی،کما هو مذکور فی محله (1).

و ذهب أبو حنیفة،و الشافعی (2)،و أحمد إلی أن البیاض الذی بین العذار و الأذن من الوجه فیجب غسله (3).

و کذلک اختلفوا فیما تحت الذقن،فالمشهور عن الشافعی أنه یوجب غسل ما تحت الذقن،و عند الحنفیة أن حد الوجه ما بین قصاص الشعر و أسفل الذقن(طولا) و شحمتی الأذنین (4)(عرضا).

و سبب هذا الاختلاف هو خفاء تناول اسم الوجه لهذه المواضع.

غسل الیدین:

اتفق المسلمون علی أن غسل الیدین و الذراعین من فروض الوضوء،و اختلفوا فی موضعین:

الأول:فی إدخال المرافق فیها،فذهب الجمهور،و مالک،و الشافعی،و أبو حنیفة (5)و أحمد بن حنبل (6)،إلی وجوب إدخالها فی الغسل،و هو مذهب الشیعة

ص:190


1- (1) المنتقی فی شرح موطأ مالک ج 1 ص 35.
2- (2) بدایة المجتهد ج 1 ص 10.
3- (3) الروض الندی ص 35.
4- (4) غنیة المتملی فی شرح منیة المصلی ص 8.
5- (5) بدایة المجتهد ج 1 ص 10.
6- (6) الروض الندی ص 36.

و ذهب بعض أهل الظاهر،و بعض متأخری أصحاب مالک،و زفر بن الهذیل-من أصحاب أبی حنیفة-و الطبری إلی أنه لا یجب إدخالها فی الغسل.

الثانی:کیفیة الغسل؛فمذهب الشیعة أن الابتداء بالغسل من المرافق إلی أطراف الأصابع،و لا یجوز غسلها من الأصابع إلی المرافق،لأن إلی فی الآیة الکریمة بمعنی مع کقوله تعالی: تَأْکُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلی أَمْوالِکُمْ و قوله تعالی: مَنْ أَنْصارِی إِلَی اللّهِ و أراد بذلک(مع).

و إنها لبیان المغسول لا لکیفیة الغسل و یحتاج ذلک إلی بیان،و قد ثبت عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من طریق أهل البیت أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم غسل من المرافق إلی أطراف الأصابع.

مسح الرأس:

أجمع المسلمون علی وجوب مسح الرأس للآیة الشریفة و لفعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ذلک،و لکنهم اختلفوا فی مقدار المسح فهل یمسح کله أو بعضه؟.

فالإمامیة أوجبوا مسح البعض من مقدم الرأس و قالوا:یجزی ما یسمی مسحا، و یشترطون أن یکون ذلک بنداوة الوضوء،فلو استأنف ماء جدیدا بطل الوضوء.

و احتجوا بقوله: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ و الباء للتبعیض.

و لأن ذلک من المعروف من فعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کما رواه المغیرة بن شعبة أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم توضأ فحسر العمامة عن رأسه و مسح علی ناصیته.

و روی عن أبی جعفر الباقر علیه السّلام قال:یجزی من المسح علی الرأس موضع ثلاث أصابع.

و عن الإمام الصادق علیه السّلام أنه قال:امسح علی مقدم الرأس و امسح علی القدمین و ابدأ بالشق الأیمن (1).

و وافقهم الشافعیة فی ذلک،إذ الواجب عندهم ما یقع علیه اسم المسح و إن قل،قال أبو العباس بن القاص:أقله ثلاث شعرات کما نقول فی الحلق فی الإحرام.

و قال فی المهذب:إنه لا یتقدر لأن اللّه أمر بالمسح و ذلک یقع علی القلیل و الکثیر و المستحب أن یمسح جمیع الرأس (2).

ص:191


1- (1) الکافی ج 3 ص 29. [1]
2- (2) المهذب للشیرازی ج 1 ص 17.

أما الحنفیة فاختلفوا فی المقدار،فعن أبی حنیفة و أبی یوسف أن المفروض ربع الرأس،و عن محمد بن الحسن أن المفروض ثلاثة أصابع إذا اعتبر الممسوح به عشرة أصابع،و ربعها إصبعان و نصف،إلا أن الاصبع الواحد لا یتجزأ فجعل المفروض ثلاثة أصابع (1).

و قال زفر:یجوز أن یمسح باصبع واحد مقدار ربع الرأس (2).

و ذهب مالک إلی أن الواجب مسح الرأس کله،و خالفه بعض أصحابه و جعل فرض المسح بعض الرأس،و من أصحاب مالک من حد هذا البعض بالثلث و بعضهم بالثلثین (3).

و أوجب الحنابلة مسح جمیع الرأس،و یکره غسله بدلا من المسح إن أمرّ یدیه (4).و فی إحدی الروایتین عن أحمد بن حنبل أنه اکتفی بمقدم الرأس (5).

قال النووی فی شرح مسلم:و أجمعوا علی وجوب مسح الرأس و اختلفوا فی قدر الواجب فیه،فذهب الشافعی فی جماعة إلی أن الواجب ما یطلق علیه الاسم و لو شعرة واحدة،و ذهب مالک و أحمد إلی وجوب استیعابه و قال أبو حنیفة فی روایة الواجب ربعه (6).

و کذلک وقع الاختلاف فی عدد المسح،فقال الشافعی و جماعة إن المستحب ثلاث مرات،و ذهب أبو حنیفة و مالک و أحمد إلی أن السنة مرة واحدة و لا یزاد علیها.

و قال الإمامیة:لا تکرار فی المسح.

الأرجل:

اختلف علماء الإسلام فی نوع طهارة الأرجل من أعضاء الوضوء،فذهب

ص:192


1- (1) انظر المبسوط للسرخسی ج 1 ص 65.
2- (2) بدائع الصنائع ج 1 ص 5.
3- (3) بدایة المجتهد ج 1 ص 11.
4- (4) غایة المنتهی ص 31.
5- (5) نیل الأوطار:ج 1 ص 155.
6- (6) شرح صحیح مسلم للنووی ج 4 ص 107.

الکثیرون منهم إلی وجوب الغسل،و منهم الأئمة الأربعة،إلا ما ینقل عن أحمد بن حنبل فی إحدی الروایات،بأنه جوز المسح (1).

و عند الأوزاعی،و الثوری،و ابن جریر،و الجبائی،و الحسن البصری إن الإنسان مخیر بین الغسل و بین المسح.

و قال بعض علماء أهل الظاهر بوجوب المسح و الغسل (2).

و أجمعت الشیعة تبعا لأهل البیت علی وجوب المسح و دلیلهم علی ذلک کتاب اللّه و سنة نبیه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لما روی عن الأئمة علیهم السّلام فی بیان کیفیة وضوء النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أنه مسح علی رجلیه کما یأتی.

أما الکتاب فقوله تعالی: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ قریء بنصب أرجل و خفضها،أما قراءة الخفض فهی الحجة،و أما النصب فکذلک منصوبة إما علی إسقاط الخافض أو أنها بفعل محذوف.

فأوجب سبحانه و تعالی علی الوجوه بظاهر اللفظ الغسل،ثم عطف الأیدی علی الوجوه،و أوجب لها بالعطف مثل حکمها و هو الغسل فکأنه قال:اغسلوا وجوهکم و اغسلوا أیدیکم،ثم أوجب مسح الرءوس بصریح اللفظ کما أوجب غسل الوجوه کذلک،ثم عطف الأرجل علی الرءوس،فوجب أن یکون لها حکم الرءوس و هو المسح بمقتضی العطف،و لو جاز أن یخالف فی الحکم المذکور الرءوس الأرجل جاز أن یخالف حکم الأیدی فی الغسل الوجوه.

و سواء قریء بنصب الأرجل أم خفضها فکلا القراءتین یدلان علی وجوب المسح،کما ذهب إلیه کثیر من الصحابة و التابعین،و دلت علیه الآثار الصحیحة من صفة وضوء النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بأنه مسح علی رجلیه،کما روی ذلک عنه أهل بیته صلوات اللّه علیهم أجمعین.

و أما القول بأن قراءة الخفض فی أرجلکم إنما کان للمجاورة فهو غیر صحیح، لأن ذلک لا یجوز إلا مع ارتفاع اللبس،فأما مع حصوله فلا یجوز (3).

ص:193


1- (1) رحمة الأمة فی اختلاف الأئمة ج 1 ص 19 بهامش میزان الشعرانی.
2- (2) نیل الأوطار للشوکانی ج 1 ص 168.
3- (3) انظر هذا المبحث فی کتاب المسائل الناصریة،و کتاب الانتصار للسید المرتضی،و تفسیر التبیان لشیخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسی ج 3 ص 152-157،و [1]تفسیر مجمع البیان لأبی علی بن الفضل بن الحسن الطبرسی ج 6 ص 37 ط دار الفکر،و الغنیة لأبی المکارم عز الدین حمزة بن علی بن زهرة الحلبی،و غیرها من کتب الفقه و التفسیر.

و أما حمل بعضهم الأمر بالمسح هنا علی الغسل فهو بعید جدا و هو تعسف و صرف لظواهر الکتاب عما تدل علیه.

و علی کل حال:فإن کلا القراءتین یفهم منهما وجوب مسح الرجلین و قد وافقنا علی ذلک جماعة من علماء المسلمین ممن لا یقول به و لنترک الحدیث لبعضهم:

قال الفخر الرازی فی تفسیره حول الاحتجاج بهذه الآیة الکریمة:

حجة من قال بوجوب المسح مبنی علی القراءتین المشهورتین فی قوله تعالی:

وَ أَرْجُلَکُمْ فقرأ ابن کثیر،و حمزة،و أبو عمر،و عاصم-فی روایة أبی بکر-بالجر، و قرأ نافع،و ابن عامر،و عاصم-فی روایة حفص عنه-بالنصب.

ثم قال:فنقول أما القراءة بالجر فهی تقتضی کون الأرجل معطوفة علی الرءوس،فکما وجب المسح فی الرأس فکذلک فی الأرجل.

فإن قیل:لم لا یجوز أن یقال:هذا کسر علی المجاورة کما یقال:جحر ضب خرب.

قلنا:هذا باطل من وجوه:(الأول)أن الکسر علی الجوار معدود فی اللحن الذی قد یتحمل لأجله لضرورة فی الشعر،و کلام اللّه منزه عنه.

و ثانیها:أن الکسر علی الجوار إنما یصار حیث یحصل الأمن من الالتباس، کما فی قوله:جحر ضب خرب،فإن من المعلوم بالضرورة،أن الخرب لا یکون نعتا للضب بل للجحر،و فی هذه الآیة الأمن من الالتباس غیر حاصل.

و ثالثها:أن الکسر بالجوار إنما یکون بدون حرف العطف،و أما مع حرف العطف فلم تتکلم به العرب.

و أما القراءة بالنصب فقالوا أیضا توجب المسح و ذلک لأن قوله: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ فرؤوسکم فی محل النصب بامسحوا لأنه المفعول به،و لکنها مجرورة لفظا بالباء،فإذا عطفت الأرجل علی محل الرءوس جاز فی الأرجل النصب عطفا علی محل الرءوس،و جاز الجر عطفا علی الظاهر.

ص:194

فإذا ثبت هذا فنقول:ظهر أنه یجوز أن یکون عامل النصب فی قوله تعالی:

و أرجلکم هو قوله:و امسحوا.و یجوز أن یکون هو قوله فاغسلوا،لکن العاملان إذا اجتمعا علی معمول واحد کان إعمال الأقرب أولی،فوجب أن یکون عامل النصب فی قوله تعالی:و أرجلکم هو قوله تعالی:و امسحوا.

فثبت أن قراءة و أرجلکم بنصب اللام توجب المسح أیضا (1)..

هذا ما قرره عالم من کبار علماء الشافعیة،و من أشهر المفسرین،و هو موافق لما یذهب إلیه الشیعة،و ما أجمعوا علیه من وجوب المسح للأرجل،کما دلت علیه آیة الوضوء،و إن کان هذا العالم ذهب إلی الغسل نظرا لوجود أخبار تدل علیه إذ یقول:

إن الأخبار الکثیرة وردت بإیجاب الغسل و الغسل مشتمل علی المسح،و لا ینعکس،فکان الغسل أقرب إلی الاحتیاط،فوجب المصیر إلیه،و علی هذا الوجه یجب القطع بأن غسل الأرجل یقوم مقام مسحهما.

و أنت تری ما فی هذا الاستدلال من البعد عن الواقع،و هو تمحل و تکلف، و ستأتی الإشارة إلی الأخبار فی هذا الباب.

و قال الجصاص:

أحمد بن الرازی الحنفی المتوفی سنة 370 ه فی کتابه أحکام القرآن:

و لا یختلف أهل اللغة أن کل واحدة من القراءتین محتملة للمسح بعطفها علی الرأس،و یحتمل أن یراد بها الغسل بعطفها علی المغسول،لأن قوله تعالی:

و أرجلکم،بالنصب یجوز أن یکون مراده فاغسلوا أرجلکم،و یحتمل أن یکون معطوفا علی الرأس فیراد بها المسح،و إن کانت منصوبة فیکون معطوفا علی المعنی لا علی اللفظ،لأن الممسوح مفعول به کقول الشاعر:

معاوی إننا بشر فاسجح فلسنا بالجبال و لا الحدیدا

فنصب الحدید و هو معطوف علی الجبال بالمعنی.

و یحتمل قراءة الخفض معطوفة فیراد به المسح،و یحتمل عطفه علی الغسل

ص:195


1- (1) تفسیر الرازی ج 3 ص 37. [1]

و یکون مخفوضا بالمجاورة کقوله تعالی: یَطُوفُ عَلَیْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ ثم قال تعالی:

وَ حُورٌ عِینٌ فخفضهم بالمجاورة.

إلی أن یقول:فثبت بما وصفنا احتمال کل واحدة من القراءتین للمسح و الغسل.. (1).

و قال إبراهیم الحلبی:

قرأ السبعة بالنصب و الجر،و المشهور أن النصب بالعطف علی وجوهکم و الجر علی الجوار،و الصحیح أن الأرجل معطوفة علی(برءوسکم)فی القراءتین،و نصبها علی المحل،و جرها علی اللفظ،و ذلک لامتناع العطف علی المنصوب للفصل بین العاطف و المعطوف بجملة أجنبیة،و الأصل أن لا یفصل بینهما بمفرد فضلا عن الجملة،و لم یسمع فی الفصیح نحو ضربت زیدا و مررت بعمرو و بکرا،بعطف بکر علی زید،و أما الجر علی الجوار فإنما یکون علی قلة فی النعت کقول بعضهم:هذا جحر ضب خرب،بجر خرب و فی التأکید کقول الشاعر:

یا صاح بلغ ذوی الزوجات کلهم أن لیس وصل إذا انحلت عری الذنب

بجر کلهم علی ما حکاه القراء.

و أما فی عطف النسق فلا یکون،لأن العاطف یمنع المجاورة (2).

و قال ابن حزم:

و أما قولنا فی الرجلین فإن القرآن نزل بالمسح قال اللّه تعالی: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ و سواء قریء بخفض اللام أو بفتحها هی علی کل حال عطف علی الرءوس:إما علی اللفظ و إما علی الموضع لا یجوز غیر ذلک،لأنه لا یجوز أن یحال بین المعطوف و المعطوف علیه بقضیة مبتدأة،و هکذا جاء عن ابن عباس:نزل القرآن بالمسح.یعنی فی الرجلین فی الوضوء (3).

ص:196


1- (1) أحکام القرآن للجصاص ج 2 ص 422. [1]
2- (2) هامش غنیة المتملی ص 8.
3- (3) المحلی لابن حزم ج 1 ص 207.
الأخبار:

إن أخبار الغسل لا یمکن أن یخصص بها الکتاب إذ هی أخبار آحاد،و منها ما لا دلالة فیه علی المدعی،کخبر عبد اللّه بن عمرو بن العاص فی الصحیحین أنه قال:تخلف عنا النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی سفر سافرنا معه فأدرکنا و قد حضرت صلاة العصر، فجعلنا نمسح علی أرجلنا،فنادی ویل للأعقاب من النار.

و هذا الخبر کما تری یدل علی مسح الأرجل و شهرته بین المسلمین،و لم یصدر من النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إنکار علیه،و إنما أنکر علیهم قذارة أعقابهم،و لا سیما فی السفر،و قد نالها فی الطریق أوساخ و قذارات لا یجوز الدخول فی الصلاة معها،إذ فیهم أعراب جفاة،لا یتنزهون عن قذارة.

و یؤید هذا ما قاله ابن رشد القرطبی بعد إیراد هذا الحدیث:قال:و هذا الأثر و إن کانت العادة قد جرت بالاحتجاج به فی منع المسح،فهو أدل علی جوازه منه فی منعه،لأن الوعید إنما تعلق فیه بترک التعمیم،لا بنوع الطهارة،بل سکت عن نوعها، و ذلک دلیل علی جوازه و وجوب المسح هو أیضا مروی عن بعض الصحابة و التابعین (1).

و منها ما حکاه حمران مولی عثمان بن عفان من وضوء مولاه عثمان،و أنه غسل کل رجل ثلاثا،ثم قال رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یتوضأ مثل وضوئی.

و مثله ما روی عن عبد اللّه بن زید بن عاصم،و قد قیل له توضأ لنا وضوء رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فتوضأ ثم غسل رجلیه إلی الکعبین،کما روی ذلک مسلم فی صحیحه (2).

و الحاصل أن عمدة ما فی الباب هو هذه الأخبار،و الأصل المعتمد علیه هو خبر حمران مولی عثمان بن عفان؛و کل ذلک لا یصلح أن یکون مقابلا لحکم الآیة أو ناسخا لها.

و علیه فقد صرح بالمسح جماعة من السلف کابن عباس،و أنس بن مالک و الشعبی و عکرمة و غیرهم.

ص:197


1- (1) بدایة المجتهد ج 1 ص 15.
2- (2) صحیح مسلم شرح النووی ج 4 ص 121-123.

و قد اشتهر عن ابن عباس إنکاره علی من یغسل رجلیه فکان یقول:الوضوء غسلتان و مسحتان.

و کان یقول:افترض اللّه غسلتین،و مسحتین،أ لا تری أنه ذکر التیمم فجعل مکان الغسلتین،و ترک المسحتین (1).

و قال الشعبی:إنما هو المسح علی الرجلین،أ لا تری أن ما کان علیه الغسل جعل علیه التیمم و ما کان علیه المسح أهمل.

و قال عکرمة:لیس فی الرجلین غسل،إنما نزل فیهما المسح (2).

و قال موسی بن أنس لأنس:یا أبا حمزة إن الحجاج خطبنا بالأهواز و نحن معه فذکر الطهور فقال:اغسلوا حتی ذکر الرجلین و غسل العراقیب.

فقال أنس:صدق اللّه و کذب الحجاج.قال اللّه سبحانه: فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ .

فکان أنس إذا مسح قدمیه بلهما و قال نزل القرآن بالمسح.و جاءت السنة بالغسل (3).

و نحن لا نستبعد تدخل السلطات فی هذه القضیة،فالحجاج عند ما یأمر الناس بحکم فبدون شک أنه لا یوجد من یخالف،و کثیر من یؤیده،و من تکلم بغیر ما یأمر فمصیره إلی الفناء،و لیس لمحتج علیه من سبیل،و لا لقائل علی خلاف قوله إلا أن یکذب،إن کانت له بقیة من حیاة و امتداد فی عمر.

و علی أی حال:فإن لنا بکتاب اللّه العزیز،و ما ورد عن عترة رسوله العظیم،ما یکفینا عن الاستدلال فی الحکم،فإن القرآن ناطق بذلک و لا سبیل إلی صرفه إلی غیره و لا تنسخه أخبار آحاد لا تصلح للاستدلال.

و قد أخرج أبو داود من حدیث أوس بن أبیّ الثقفی أنه قال:رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أتی کضامة قوم و مسح علی نعلیه و قدمیه.

ص:198


1- (1) تفسیر الخازن ج 2 ص 16 و [1]معالم التنزیل للبغوی ص 16 ج 1 [2] بهامش الخازن.
2- (2) تفسیر الخازن ج 2 ص 16. [3]
3- (3) أحکام القرآن [4]لابن الغربی ج 2 ص 574.

و جاء من طریق همام عن إسحاق بن أبی عبد اللّه:حدثنا علی بن خلاد عن أبیه عن عمه-هو رفاعة بن رافع-أنه سمع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول:(إنها لا تجوز صلاة أحدکم حتی یسبغ الوضوء کما أمره اللّه عز و جل:یغسل وجهه و یدیه و یسمح رأسه و رجلیه إلی الکعبین.

و عن إسحاق بن راهویه:حدثنا عیسی بن یونس،عن عبد خیر عن علی علیه السّلام(کنت أری باطن القدمین أحق بالمسح،حتی رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یمسح ظاهرهما).

و روی شعبة عن عبد الملک بن میسرة،عن النزال بن میسرة أن علیا علیه السّلام صلی الظهر ثم قعد فی الرحبة،فلما حضرت العصر،دعا بکوز من ماء فغسل یدیه و وجهه،و ذراعیه،و مسح برأسه و رجلیه و قال:هکذا رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فعل.

و روی الحسن بن علی الطوسی فی مجالسه عن أبیه بسند عن أبی إسحاق الهمدانی،عن أمیر المؤمنین علیه السّلام فی عهده إلی محمد بن أبی بکر حین ولاه مصر أن قال فیه:و انظر إلی الوضوء فإنه من تمام الصلاة:تمضمض ثلاث مرات، و استنشق ثلاثا،و اغسل وجهک،ثم یدک الیمنی ثم الیسری ثم امسح رأسک و رجلیک،فإنی رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یصنع ذلک،و اعلم أن الوضوء نصف الإیمان (1).

و أما ما أخرجه ابن ماجة من طریق أبی إسحاق عن أبی حیة قال رأیت علیا علیه السّلام توضأ فغسل قدمیه إلی الکعبین ثم قال أردت أن أریکم طهور نبیکم.

فهو مما تفرد به أبو إسحاق،و قد ترک الناس حدیثه لأنه اختلط و نسی،و أن أبا حیة،راوی هذا الحدیث،نکرة لا یعرف،و لا ذکر له فی رواة الحدیث،و لعله شخصیة و همیة برزت فی إطار الخیال لغایة فی نفس المصور لها.

و روی الکلینی بسند عن بکیر بن أعین أن أبا جعفر الباقر علیه السّلام قال:أ لا أحکی لکم وضوء رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فأخذ بکفه الیمنی کفا من ماء فغسل به وجهه،ثم أخذ بیده الیسری کفا من ماء فغسل به یده الیمنی،ثم أخذ بیده الیمنی کفا من ماء

ص:199


1- (1) الوسائل ج 1 ص 377. [1]

فغسل به یده الیسری،ثم مسح بفضل یدیه رأسه و رجلیه (1).

و مثله عن زرارة بن أعین و محمد بن مسلم عن أبی جعفر الباقر علیه السّلام.

و روی الکلینی بسند عن حماد بن عثمان قال:کنت قاعدا عند أبی عبد اللّه الصادق علیه السّلام فدعا بماء فملأ به کفه فعم به وجهه،ثم ملأ کفه فعم به یده الیمنی، ثم ملأ کفه فعم به یده الیسری،ثم مسح علی رأسه و رجلیه (2).

و فی الخصال للصدوق بإسناده عن الأعمش عن جعفر بن محمد الصادق علیه السّلام أنه قال:هذه شرائع الدین لمن أراد أن یتمسک بها و أراد اللّه هداه.

إسباغ الوضوء کما أمر اللّه فی کتابه الناطق،غسل الوجه و الیدین إلی المرفقین،و مسح الرأس و القدمین إلی الکعبین مرة مرة،و مرتان جائز،و لا ینقض الوضوء إلا البول و الریح و النوم و الغائط و الجنابة.

و من مسح علی الخفین فقد خالف اللّه و رسوله و کتابه و وضوؤه لم یتم (3).

المسح علی الخفین:

هذه المسألة من المسائل التی وقع الخلاف فیها بین الشیعة و غیرهم من المذاهب،و قد تطورت الحالة حتی أصبح المسح علی الخفین من علامة السنة، و عدمه من علامات البدعة،و أصبحت هذه المسألة من أصول الاعتقاد.

و نحن نذکر ذلک بإیجاز:

قالت الشیعة،لا یجوز المسح علی الخفین،أو الجورب مطلقا،سواء فی حضر أم سفر،لأن ذلک خلاف ما نزل به القرآن فی بیان الوضوء،و هو قوله تعالی:

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ فأوجب تعالی إیقاع الفرض علی ما یسمی رجلا،و الخف لا یسمی بذلک،کما أن العمامة لا تسمی رأسا.

کما أن الأخبار الواردة فی ذلک لا تقابل دلالة الآیة علی وجوب المسح علی الرجل،و عمدة ما فی الباب هو حدیث جریر بن عبد اللّه:

ص:200


1- (1) الکافی ج 3 ص 24. [1]
2- (2) الکافی ج 3 ص 27. [2]
3- (3) الوسائل طبع مصر ج 1 ص 376-377.

روی الجماعة أن جریرا بال ثم توضأ و مسح علی خفیه،فقیل له تفعل هکذا؟ قال:نعم رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بال ثم توضأ،و مسح خفیه،و قد أنکر المسح علی الخفین جماعة من الصحابة،و کان علی علیه السّلام یقول:سبق الکتاب المسح علی الخفین.

و روی زرارة عن أبی جعفر الباقر علیه السّلام قال،سمعته یقول:جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و فیهم علی علیه السّلام،فقال:ما تقولون فی المسح علی الخفین؟فقام المغیرة بن شعبة و قال:رأیت رسول اللّه یمسح علی الخفین.

فقال علی علیه السّلام قبل المائدة أو بعدها؟فقال المغیرة:لا أدری.فقال علی علیه السّلام:إنما نزلت المائدة قبل أن یقبض النبی بشهرین أو ثلاثة.

و قال أبو الورد:قلت لأبی جعفر الباقر علیه السّلام:إن أبا ضبیان حدثنی أنه رأی علیا علیه السّلام أراق الماء ثم مسح علی الخفین،فقال علیه السّلام:کذب أبو ضبیان...

الحدیث.

و روی إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق علیه السّلام:النهی عن المسح علی الخفین.

و عن الحلبی قال:سألت أبا عبد اللّه علیه السّلام عن المسح علی الخفین فقال:لا تمسح و قال:إن جدی قال:سبق الکتاب (1).

فالشیعة الإمامیة یذهبون-تبعا للعترة الطاهرة-إلی عدم جواز المسح علی الخفین لما ذکرناه و ما سیأتی بعد.

و قد وقع الاختلاف فی هذه المسألة علی أقوال:

1-الجواز مطلقا سفرا و حضرا.

2-الجواز فی السفر دون الحضر.

3-عدم الجواز بقول مطلق لعدم ثبوته فی الدین،و أن القرآن علی خلافه، و علی کل حال فإن الاختلاف فی هذه المسألة وقع فی الصدر الأول،فمنهم من یری

ص:201


1- (1) الوسائل [1]طبع مصر ج 2 ص 27 و الخلاف للشیخ الطوسی ج 1 ص 22 و الکافی ج 3 ص 32 و [2]المعتبر للمحقق الحلی ص 41 و [3]غیرها.

عدم مشروعیة المسح علی الخفین،و ما یروی فی ذلک معارض لآیة الوضوء،و هی متأخرة عما یروی فی ذلک،و لم تکن منسوخة إذ المائدة لم تنسخ منها آیة واحدة.

و کان فی طلیعة المنکرین لذلک الإمام علی علیه السّلام و کفی بذلک ردا للمدعی، إذ هو باب مدینة علم النبی،و هو أعرف الناس بما یصدر عن الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،لملازمته إیاه فی حضره و سفره،و لما سألت عائشة عن المسح علی الخفین قالت:سلوا علیا فإنه کان أکثر سفرا مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قد ثبت عن علی علیه السّلام أنه کان ینهی عن المسح علی الخفین.

و کذلک حبر الأمة عبد اللّه بن عباس،فقد ورد عنه أنه کان یقول:لأن أمسح علی جلد حمار أحب إلیّ من أن أمسح علی الخفین.

و کانت عائشة تنکر المسح علی الخفین أشد الإنکار و تقول:لأن تقطع قدمای أحب إلیّ من أن أمسح علی الخفین،و فی لفظ:لأن أقطع رجلی أحب إلیّ من أن أمسح علیهما (1).

و کان ابن عمر یخالف الناس فی المسح علی الخفین،و إن ادعی أنه رجع عن ذلک قبل موته فهی دعوی لم تثبت.

و سئل ابن عباس:هل مسح رسول اللّه علی الخفین؟فقال:و اللّه ما مسح رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی الخفین بعد نزول المائدة،و لان أمسح علی ظهر عیر فی الفلاة أحب إلیّ من أن أمسح علی الخفین،و فی روایة:لأن أمسح علی جلد حمار أحب إلیّ من أن أمسح علی الخفین (2).

و قد روی عن مالک بن أنس فی العتیبیة ما ظاهره المنع من المسح علی الخفین.و قال الشیخ أبو بکر فی شرح المختصر الکبیر إنه روی عن مالک:لا یمسح المسافر و لا المقیم،و کذلک روی عن ابن وهب فی النوادر عن مالک أنه قال:لا مسح فی سفر و لا حضر،و یقال إن منعه کان علی وجه الکراهیة لما لم یر أهل المدینة یمسحون،ثم رأی الآثار فأباح المسح علی الإطلاق (3).

ص:202


1- (1) نیل الأوطار ج 1 ص 177 و تفسیر الرازی ج 3 ص 371 [1] بدایة المجتهد ج 1 ص 17.
2- (2) بدائع الصنائع للکاسانی ج 1 ص 7.
3- (3) المنتقی لابن الباجی ج 1 ص 77.

و علی کل حال:فإن فعل جریر و استنکار الناس علیه عند ما مسح علی الخفین، یؤید أن هذا لم یکن معهودا،و مثله یلزم أن یکون مشهورا شهرة عظیمة،لا تخفی علی الأکثرین.

و إن ما ذهبت إلیه الشیعة فی عدم الجواز مطلقا هو الموافق لکتاب اللّه،و مبرئ للذمة،لأن المسح علی الخفین لا یصدق علیه مسحا علی الرجلین لا لغة و لا شرعا، کما أن العمامة لا تسمی رأسا،و البرقع لا یسمی وجها،و ما یقال فی الاحتجاج بصحة القول: وطأت کذا برجلی.و إن کان لابسا للخف فإن ذلک مجاز و اتساع بلا خلاف.و المجاز لا یحمل علیه الکتاب،إلا بدلیل ظاهر.

و قد صح عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه لم یمسح علی خفیه،و ربما وقع اشتباه من الراوی فی مسحه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی رجله،و هو لابس للحذاء الذی لا یمنع من المسح،و إن کان هذا بعیدا لأنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مشرع و وضوؤه لا بد أن یأتی بصورة أکمل و بیان أفضل.

ثم إن الوضوء لم یکن من الأعمال التی یمکن أن تخفی لکثرة تردده و استعماله حتی یختص جریر بن عبد اللّه بهذا الحکم،و یتفرد بها البیان کما تقدم.

و علی کل حال:فالشیعة لم تنفرد بالمنع و لم یستدلوا فی هذا الحکم بغیر الکتاب و سنة الرسول،و کفی بذلک أمنا من العقاب و براءة للذمة.

و مهما یکن من أمر فقد وقع الاختلاف بین القائلین بجواز المسح من حیث توقیته و کیفیته مما لا حاجة إلی ذکره.

و الشیء الذی نود التنبیه علیه هو أن مسألة المسح علی الخفین أصبح لها أثر فی المجتمع الإسلامی،مما دعا إلی حجر الأفکار عن الخوض فی صحتها،حتی ادعی أن روایتها متواترة،و أنها ناسخة لکتاب اللّه،مع أنها متقدمة علی نزول الآیة.

و کان مالک لا یری جواز المسح علی الخفین و لکنه یجیزه لأصحابه،و قد جعل إنکار المسح طعنا علی الصحابة،و نسبتهم إلی الخطأ،و لهذا قال الکرخی:أخاف الکفر علی من لا یری المسح علی الخفین (1).

ص:203


1- (1) بدائع الصنائع ج 1 ص 7.

و إن المسح علی الخفین من شرائط السنة،و قال أبو حنیفة:من شرائط السنة و الجماعة تفضیل الشیخین،و محبة الختنین،و أن تری المسح علی الخفین،و أن لا تحرم نبیذ التمر (1).

و قال ابن العربی:إذا ثبت وجه التأویل فی المسح علی الخفین،فإنهما أصل فی الشریعة،و علامة مفرقة بین أهل السنة و البدعة (2).

و ذلک أن ابن العربی قد أول قراءة الخفض فی أرجلکم،و هی قوله تعالی:

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ بکسر لام أرجلکم،إن ذلک لبیان أن الرجلین یمسحان حال الاختیار علی حائل،و هما الخفان بخلاف سائر الأعضاء،فعطف بالنصب مغسولا علی مغسول(أی الوجه و الأیدی)و عطف بالخفض ممسوحا علی ممسوح(أی الرأس و الخفین)و صح المعنی.

و أنت تری ما فی هذا التأویل من البعد عن الحق،فاللّه سبحانه و تعالی یقول:

رءوسکم و أرجلکم و هم یقولون رءوسکم و نعالکم.

و إن هذه القضیة قد ارتکب فیها ما لا یتفق مع الحقیقة و الواقع،إذ أصبحت بشکل یدعو إلی الاستغراب و التعجب،حتی ذهب بعضهم إلی لزوم الأخذ و الالتزام بما یدل علی مسح الخفین مهما کان،هو أفضل لأن فیه تأییدا للسنة و طعنا فی البدعة.

قال ابن المنذر:اختلف العلماء أیهما أفضل المسح علی الخفین أم نزعهما، و غسل القدمین؟و الذی أختاره أن المسح أفضل،لأجل من طعن فیه من أهل البدع و الروافض،و إحیاء ما طعن فیه المخالفون من السنن أفضل من ترکه (3).

فلا نستغرب إذا عند ما یدعی إجماع الصحابة علی جواز المسح من مخالفة أکثرهم،إن لم نقل کلهم إلا فردا نادرا.

و لیس من الغریب علی من یجوز نصر السنة و محاربة البدعة-کما یقولون-مع

ص:204


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) أحکام القرآن ج 2 ص 576. [1]
3- (3) الشوکانی ج 1 ص 176.

مخالفة الواقع أن ینسب جواز المسح للإمام علی علیه السّلام مع أن المقطوع به أنه لا یجوّز ذلک،و کان ینکر علی من یقول به.

و من العجیب ارتکاب أعظم المخالفات فی التفسیر،لما ورد عن أبی إمامة فی صفة وضوء النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کما أخرجه أبو داود من أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یمسح علی المأقین،و هما مؤخر العین،ففسروا المأقین بالخفین (1)حتی تکون فیه دلالة جواز المسح علیهما و أین المأقین من الخفین!!! و التحکم ظاهر إن تسامحنا فی القول و إلا فهو اختلاق تم اللجوء إلیه لمعالجة وضوح السیاق الذی یناقض مدّعاهم.علی أن من قلدهم من الأمة لم یتخلص من دلالة الصحة فی قول من خالفهم،فیروی أن أحد علمائهم سئل عن الرجل یری المسح علی الخفین إلا أنه یحتاط و ینزع خفّیه عند الوضوء و لا یمسح علیهما؟فقال:

أحب إلی أن یمسح علی خفّیه إما لنفی التهمة عن نفسه أن یکون من الروافض،و إما لأن قوله تعالی: وَ أَرْجُلَکُمْ قریء بالخفض و النصب،فینبغی أن یغسل حال عدم اللبس و یمسح علی الخفین حال اللبس لیصیر عاملا بالقراءتین (2).

فانظر کیف تحمل الأمة علی الحرج و تدفع إلی المشقة مکابرة و عنادا.و ما أولی العلماء برفع الالتباس و بیان الغامض لا خلق الاختلاف و التلبیس و جعل الحرج فی الدین و المشقة فی أداء الفرائض«ما جعل علیکم فی الدین من حرج».

مسح الأذنین:

اختلف الفقهاء فی مسح الأذنین هل هو سنة أم فریضة؟و هل یجدد له الماء أم لا؟ ذهب الإمامیة إلی أنه لا یجوز مسح الأذنین و لا غسلهما فی الوضوء،لأن الآیة لم تتعرض لذلک،و لم یثبت من فعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه مسح أذنیه و لما ورد عن أهل البیت علیهم السّلام فی ذلک:

روی زرارة قال سألت أبا جعفر الباقر علیه السّلام:أن أناسا یقولون:إن بطن

ص:205


1- (1) تیسیر الوصول للشیبانی ج 3 ص 76.
2- (2) شرح العنایة علی الهدایة للبابرتی ج 1 ص 100.

الأذنین من الوجه و ظهرهما من الرأس.فقال علیه السّلام:لیس علیهما غسل و لا مسح (1).

و ذهب أبو حنیفة و أصحابه إلی أن مسح الأذنین سنة إلا أنهما یمسحان مع الرأس بماء واحد (2).

و قد نسب ابن رشد إلی أبی حنیفة و أصحابه أن مسح الأذنین فرض و الصحیح ما نقلناه.

و الحنابلة یوجبون مسح الأذنین مع الرأس.قال ابن قدامة فی صفة الوضوء:ثم یمسح رأسه مع الأذنین یبدأ بیده من مقدمه،ثم یمرهما من قفاه،ثم یردهما إلی مقدمه ثم یغسل رجلیه... (3).

و المعروف عن مالک أن الأذنین من الرأس،و اختلف أصحابه بین الفرض و السنة (4).

قال ابن ماجة بعد أن أورد حدیث ابن عباس:و لا یعرف مسح الأذنین من وجه یثبت إلا من هذا الطریق،و قال ابن الصلاح:إن الأخبار ضعفها لا ینجبر بکثرة الطرق،و قال ابن حزم فی المحلی:و أما مسح الأذنین فلیسا هما فرضا،و لا هما من الرأس لأن الآثار فی ذلک کلها واهیة،قد ذکرنا فسادها فی غیر هذا المکان.

و قال:فلو کان الأذنان من الرأس لوجب حلق شعرهما فی الحج،و هم لا یقولون هذا،و قد ذکرنا البرهان علی صحة الاقتصار علی بعض الرأس فی الوضوء، فلو کان الأذنان من الرأس لأجزأ أن یمسحا بدلا عن مسح الرأس و هذا لا یقوله أحد.

و یقال لهم إن کانتا من الرأس فما بالکم تأخذون لهما ماء جدیدا،و هما بعض الرأس؟!و أین رأیتم عضوا یجدد لبعضه ماء غیر الماء الذی مسح به سائره؟! (5).

و قال الشوکانی:قال من أثبت الوجوب:إن أحادیث الأذنین من الرأس یقوی

ص:206


1- (1) الخلاف للشیخ الطوسی ص 6 ج 1.
2- (2) الهدایة شرح بدایة المبتدی ج 1 ص 4.
3- (3) عمدة الفقه علی مذهب أحمد ص 9.
4- (4) بدایة المجتهد ج 1 ص 13.
5- (5) المحلی لابن حزم ج 2 ص 56.

بعضها بعضها،و قد تضمنت أنهما من الرأس،فیکون الأمر بمسح الرأس أمرا بمسحهما،فیثبت وجوبه بالنص القرآنی.

و أجیب بعدم انتهاض الأحادیث الواردة لذلک،و المتیقن الاستحباب،فلا یصار إلی الوجوب إلا بدلیل ناهض،و إلا کان من التقول علی اللّه بما لم یقل (1).

و قال الشافعی:السنة أن یأخذ لکل واحد منهما ماء جدیدا.

و قال الکاسانی:وجه قول الشافعی:إنهما عضوان منفردان و لیسا من الرأس حقیقة و حکما،أما الحقیقة فإن الرأس منبت الشعر و لا شعر علیهما،و أما الحکم فلأن المسح علیهما لا ینوب عن مسح الرأس،و لو کانا فی حکم الرأس لناب المسح علیهما عن مسح الرأس کسائر أجزاء الرأس (2).

و قال القاضی أبو الولید المالکی:فهل یمسحان فرضا أم نفلا؟ذهب محمد بن مسلمة و أبو بکر الأبهری إلی أنهما یمسحان فرضا.و ذهب سائر أصحابنا(أی المالکة) أنهما یمسحان نفلا و هو الظاهر من مذهب مالک (3).

المسح علی العمامة:

لا یجوز المسح علی العمامة و القناع و غیرهما من الحائل عند الشیعة إجماعا، لأن اللّه تعالی أمر بمسح الرءوس،و العمامة لیست من الرأس.

و لأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یمسح علی ناصیته،و علی رأسه العمامة.قال أنس بن مالک:رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و علیه عمامة قطریة،فأدخل یده تحت العمامة،فمسح بمقدم رأسه،و لم ینقض العمامة (4).

و سئل جابر بن عبد اللّه عن المسح علی العمامة فقال:لا حتی یمسح الشعر بالماء.أخرجه مالک.

ص:207


1- (1) نیل الأوطار للشوکانی ج 1 ص 161.
2- (2) بدائع الصنائع للکاسانی ج 1 ص 23.
3- (3) المنتقی ج 1 ص 75.
4- (4) تیسیر الوصول ج 3 ص 77.

و سئل الإمام الصادق علیه السّلام:عن رجل توضأ و هو معتم و ثقل علیه نزع العمامة:فقال لیدخل إصبعه (1).

و به قال أبو حنیفة،و الشافعی،و مالک.و جوزه الحنابلة بثلاثة شروط:

أحدها کون العمامة علی ذکر،الثانی کونها محنکة(أی ذات حنک)الثالث أن تستر غیر ما جرت العادة بکشفه (2).

و قال ابن قدامة فی عمدة الفقه الحنبلی:و یجوز المسح علی العمامة إذا کانت ذات ذوابة ساترة لجمیع الرأس،إلا ما جرت العادة بکشفه (3).

فظهر أن الخلاف فی هذه المسألة لم یکن إلا من الحنابلة،و أما بقیة المذاهب فمتفقة علی ما تقول به الشیعة.

قال الکاسانی الحنفی:لا یجوز المسح علی العمامة،و القلنسوة،لأنهما یمنعان إصابة الماء الشعر (4).

و قال أبو إسحاق الشیرازی الشافعی:و إن کان علی رأسه عمامة(أی المتوضإ) و لم یرد نزعها مسح بناصیته،و المستحب أن یتمم المسح بالعمامة،لما روی المغیرة:

أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم توضأ و مسح بناصیته،و علی عمامته فإن اقتصر علی مسح العمامة لم یجزه،لأنها لیست برأس،و لا تلحق المشقة بإیصال الماء إلیه (5).

و سئل مالک عن المسح علی العمامة و الخمار فقال:لا ینبغی أن یمسح الرجل و لا المرأة علی عمامة،و لا خمار،و لیمسحا علی رءوسهما (6).

و قال الترمذی:و قال غیر واحد من الصحابة لا یمسح علی العمامة،إلا أن یمسح علی رأسه مع العمامة،و هو قول سفیان الثوری،و مالک بن أنس،و ابن المبارک،و الشافعی،و إلیه أیضا ذهب أبو حنیفة،و احتجوا بأن اللّه فرض المسح علی

ص:208


1- (1) الخلاف للشیخ الطوسی ص 6.
2- (2) الروض الندی ص 38.
3- (3) عمدة الفقه ص 10.
4- (4) بدائع الصنائع ج 1 ص 5.
5- (5) المهذب ج 1 ص 18.
6- (6) المنتقی ج 1 ص 75.

الرأس،و الحدیث فی العمامة محتمل التأویل،فلا یترک المتیقن للمحتمل،و المسح علی العمامة لیس بمسح علی الرأس.

و أما ما ورد من الأخبار فی جواز ذلک فهی أخبار آحاد معلولة لا تصلح للاستدلال،کحدیث المغیرة بن شعبة الذی أخرجه مسلم فی صحیحه،فقد نص ابن عبد البر علی علته.

و ما روی عن سلمان الفارسی فی جواز المسح علی الخف و علی العمامة،فهو غیر صحیح لأن فی إسناده أبو شریح،و هو مجهول لا یعرف،کما قال البخاری و فیه أیضا أبو مسلم مولی زید،و هو مجهول کذلک.

و أما حدیث ثوبان الذی رواه أحمد و أبو داود من أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أمرهم أن یمسحوا علی العصائب،فإنه معلول،لأن الراوی عن ثوبان راشد بن سعد،و قد قال فیه أحمد:لا ینبغی أن یکون راشد سمع من ثوبان لأنه مات قدیما.

مسح العنق:

و هو المعروف بالتطویق فلم یرد فیه أثر،قال أحمد بن شهاب الرملی المعروف بالشافعی الصغیر فی شرحه لمنهاج النووی:و لا یسن مسح الرقبة،بل قال المصنف إنه بدعة قال(أی النووی):و أما خبر(مسح الرقبة أمان من الغسل)فموضوع (1).

و قال بعض الحنفیة:إنه أدب و لیس بسنة.و قال قاضی خان:إنه لیس بأدب و لا سنة (2).

و قال ابن تیمیة:لم یصح عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه مسح علی عنقه فی الوضوء،بل و لا روی عنه ذلک فی حدیث صحیح،بل الأحادیث الصحیحة التی فیها صفة وضوء النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لم یکن یمسح علی عنقه،و لهذا لم یستحب ذلک جمهور العلماء:کمالک، و الشافعی،و أحمد،فی ظاهر مذهبهما،و من استحبه فاعتمد علی أثر یروی عن أبی هریرة،أو حدیث یضعف نقله،أنه مسح رأسه حتی بلغ القذال،و مثل ذلک لا یصلح

ص:209


1- (1) نهایة المحتاج ج 1 ص 177.
2- (2) المنیة ص 11.

أن یکون عمدة،و لا یعارض ما دلت علیه الأحادیث،و من ترک مسح العنق فوضوؤه صحیح باتفاق العلماء (1).

و قال ابن القیم:و لم یصح عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی مسح العنق حدیث البتة.و قال السید علی زاده من الحنفیة:و أما مسح الحلقوم فمکروه.کذا فی النقایة،و تحفة الفقهاء، و غنیة الفتاوی (2).

الموالاة:

و هی التتابع بین الأعضاء فی الغسل و المسح بنحو لا یلزم جفاف تمام السابق فی الحال المتعارفة،فلا یقدح الجفاف لأجل حرارة الهواء أو البدن الخارجة عن المتعارف و هی واجبة عند الإمامیة.

و الحنابلة یوافقونهم فی ذلک،قال فی غایة المنتهی:و هی(أی الموالاة)أن لا یؤخر غسل عضو حتی یجف ما قبله بزمن معتدل (3)(أی معتدل الحرارة و البرودة).

و قال فی العمدة:و ترتیب الوضوء علی ما ذکرناه أن لا یؤخر غسل عضو حتی ینشف ما قبله (4).

و للشافعی قولان:ففی القدیم أن عدم الموالاة مبطل للطهارة،لأنها عبادة یبطلها الحدیث،فأبطلها التفریق کالصلاة.

و فی الجدید أن التفریق غیر مبطل،لأنها عبادة لا یبطلها التفریق القلیل،فلا یبطلها التفریق الکثیر کتفرقة الزکاة (5).

و عند الحنفیة أن الموالاة سنة و لیس بفرض (6)و عند مالک هی فرض لا سنة (7)و ذکر الشیخ خلیل أن فیها خلافا(بین أصحاب مالک).

ص:210


1- (1) فتاوی ابن تیمیة ج 1 ص 47.
2- (2) کتاب شرعة الإسلام ص 92.
3- (3) غایة المنتهی ص 25.
4- (4) عمدة الفقه ص 10.
5- (5) المهذب لأبی إسحاق الشیرازی ج 1 ص 19.
6- (6) غنیة المتملی ص 11.
7- (7) بدائع الصنائع للکاسانی ج 1 ص 22.

فظهر مما ذکرناه أن الاتفاق حاصل فی وجوب الموالاة فی الوضوء إلا من الحنفیة،فإنهم یذهبون إلی الاستحباب.

الترتیب:

و هو البدء بالوجه فالیدین،فالرأس فالرجلین،و قد أجمعت الإمامیة علی وجوب الترتیب،للآیة الکریمة: إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَ أَیْدِیَکُمْ إِلَی الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ وَ أَرْجُلَکُمْ إِلَی الْکَعْبَیْنِ .

فبدأ تعالی فی إیجاب الطهارة بغسل الوجه،ثم عطف باقی الأعضاء علی بعضها بالواو،و کذلک یدل علیه فعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و ما جاء عن آل بیته علیهم السّلام فیما روی عن أبی جعفر الباقر علیه السّلام أنه قال لزرارة:ابدأ بالوضوء کما قال اللّه تعالی.

ثم قال علیه السّلام:ابدأ بالوجه،ثم بالیدین ثم امسح الرأس و الرجلین،و لا تقدمن شیئا بین یدی شیء تخالف ما أمرت به،فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه،ثم أعد علی الذراع،و إن مسحت بالرجل قبل الرأس فامسح علی الرأس قبل الرجل،ثم أعد علی الرجل،ابدأ بما بدأ اللّه تعالی به.

و الحنفیة لم یشترطوا الترتیب فی الوضوء فهو سنة لا فرض،و استدلوا بما رواه أبو داود فی سننه أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم تیمم فبدأ بذراعیه ثم بوجهه،و الخلاف فیهما واحد...إلی آخره.و عندهم أن من بدأ بغسل رجلیه و ختم بوجهه فوضوؤه صحیح (1).

أما الشافعیة فقد ذهبوا إلی أن الترتیب واجب (2)و کذلک الحنابلة و انه فرض لا سنة (3).

و قد خالف أبو الخطاب و هو أحد أعیان المذهب الحنبلی،فذهب إلی عدم وجوب الترتیب،و انه خرّج روایة عن أحمد فی ذلک.و وافقه ابن عقیل و اتفقا علی

ص:211


1- (1) المبسوط للسرخسی ج 1 ص 55 و الهدایة ج 1 ص 5 و غیرها.
2- (2) نهایة المحتاج للرملی ج 1 ص 160 و عمدة الفقه لابن قدامة ص 4.
3- (3) عمدة الفقه ص 8 و زوائد الکافی و المحرر علی المقنع ص 7.

تخریجها من روایة سقوط الترتیب بین المضمضة و الاستنشاق،و سائر أعضاء الوضوء (1)و لکن المشهور عندهم خلافه.

و ذهب مالک:إلی أن الترتیب من الشروط.روی علی بن زیاد عن مالک أن الترتیب شرط فی صحة الطهارة.

و ذهب بعض أصحاب مالک إلی أنه لیس بشرط فی صحة الطهارة،مستدلین بأن العطف بالواو فی الآیة الکریمة لاعضاء الوضوء بعضها علی بعض،لا یدل علی الترتیب،و أنها تقتضی الجمع دون الترتیب (2).

و قد رد ابن حزم فی المحلی علی المالکیة لعدم اشتراطهم الترتیب بقوله:و من عجب أن المالکیة أجازوا تنکیس الوضوء الذی لم یأت نص من اللّه تعالی و لا من رسوله فیه،ثم أتوا ما أجاز اللّه تنکیسه فمنعوا من ذلک،و هو الرمی و الحلق و النحر و الطواف و الذبح!!!...الخ (3).

و قال الفخر الرازی فی رده علی الحنفیة لعدم اشتراطهم النیة و الترتیب فی الوضوء،للمقارنة بین مذهب الشافعی و مذهب أبی حنیفة،و ترجیح مذهب الشافعی.

المسألة الثانیة:مذهب الشافعی أنه لا یجوز الوضوء إلا مع النیة و الترتیب، و قالوا:(أی الحنفیة)یجوز.

دلیلنا أن وضوء رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان منویا مرتبا،فوجب وضوؤنا کذلک.

(بیان الأول):أنه لو کان غیر مرتب و لا منوی لوجب علینا کذلک لقوله تعالی:

فاتبعوه.و حیث لم یجب ذلک علمنا أنه کان منویا مرتبا،و إذ ثبت هذا وجب أن یجب علینا لقوله تعالی:فاتبعوه،و أقصی ما فی الباب أن قوله تعالی:فاتبعوه عام مخصوص،لکن العام المخصوص حجة فی غیر محل الخصوص،و إذا ثبت الوجوب ثبت أنه شرط،لأنه لا قائل بالفرق.ثم نقول:سواء صح هذا المذهب أو فسد،فإن العمل به متروک،فإنک لا تری أحدا فی الدنیا من العوام فضلا عن العلماء أن یأتی بوضوء خال من النیة و الترتیب،بل لو رأوا إنسانا یأتی بوضوء منکس لتعجبوا

ص:212


1- (1) ذیل طبقات الحنابلة ج 1 ص 271.
2- (2) المنتقی للباجی ج 1 ص 47.
3- (3) المحلی لابن حزم ج 2 ص 68.

منه،فکان مذهبه(أی أبو حنیفة)فی هاتین المسألتین متروکا غیر معمول به البتة (1).

و قال أیضا:إن الوضوء شطر الإیمان بفتوی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و معلوم أنه إنما یکون کذلک إذا کان مقرونا بالنیة،لأنه علی هذا التقدیر یکون الوضوء عبادة،فیکون جعل الوضوء شطر الإیمان،و علی هذا التقدیر فإن إیمان أصحابنا أکمل و عبادتهم أشرف، و إن الوضوء العاری عن النیة و الترتیب و الموالاة لیس إلا أعمال أربعة،و مع هذه الأعمال سبعة و الأکثر أشق،و الأشق أکثر ثوابا،و إن النیة عمل بالقلب،و هو أفضل من عمل الجوارح،لقوله تعالی: وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ فکان الإخلاص کالروح لجمیع الأعمال،فالوضوء مع النیة کالجسد مع الروح،و الوضوء بدون النیة کالجسد الخالی عن الروح،و العین الخالیة عن النور...الخ (2).

نواقض الوضوء:
اشارة

النواقض جمع ناقض و هو مأخوذ من الإزالة،و النقض إزالة الشیء من أصله، و المراد بها هنا الأسباب الموجبة للوضوء.

و قد وقع الاختلاف فیها بین المسلمین،فمنها ما هو مجمع علیه کالنوم و خروج الریح و البول و الغائط مع خلاف بینهم فی کیفیة النوم الناقض.

و النواقض للوضوء عند الشیعة خمسة:

1-2-البول و الغائط،من الموضع المعتاد بالأصل أو بالعارض.

3-الریح الخارج من مخرج الغائط.

4-النوم الغالب علی العقل،و یعرف بغلبته علی السمع من غیر فرق بین أن یکون قائما أو قاعدا و مثله کلما غلب علی العقل،من جنون أو إغماء،أو سکر أو غیر ذلک.

5-الاستحاضة کما یأتی بیانها.

النوم:

اتفق المسلمون علی أن النوم ناقض للوضوء فی الجملة إلا أنهم اختلفوا فی

ص:213


1- (1) مناقب الشافعی للرازی ص 148.
2- (2) المصدر السابق ص 154.

الکیفیة الموجبة لنقض الوضوء فیه،و هناک قول شاذ بعدم ناقضیته مطلقا.

و مذهب الشیعة أن النوم ناقض مطلقا،من غیر فرق بین الاضطجاع و غیره إجماعا.

قال الإمام الصادق علیه السّلام:من نام و هو راکع،أو ساجد،أو ماش أو علی أی الحالات فعلیه الوضوء.

و عن زید الشحام قال:سألت أبا عبد اللّه الصادق علیه السّلام عن الخفقة و الخفقتین.

فقال علیه السّلام:ما أدری ما الخفقة و الخفقتین،إن اللّه تعالی یقول: بَلِ الْإِنْسانُ عَلی نَفْسِهِ بَصِیرَةٌ فإن علیا کان یقول من وجد طعم النوم قائما،أو قاعدا فقد وجب علیه الوضوء (1).

و قد اختلف العلماء فی مسألة ناقضیة النوم علی مذاهب ثمانیة ذکرها النووی فی شرح صحیح مسلم:

1-إن النوم لا ینقض الوضوء علی أی حال کان،و هذا محکی عن أبی موسی الأشعری،و سعید بن المسیب،و أبی مجلز،و حمید الأعرج،و شعبة.

2-إن النوم ینقض الوضوء بکل حال،و هو مذهب الحسن البصری و المزنی و القاسم بن سلام،و إسحاق بن راهویه،و هو قول غریب للشافعی قال ابن المنذر و به أقول،و روی معناه عن ابن عباس و أبی هریرة.

3-إن کثیر النوم ینقض بکل حال و قلیله لا ینقض بحال،و هذا مذهب الزهری،و ربیعة،و الأوزاعی،و مالک،و أحمد فی إحدی الروایتین.

4-إنه إذا نام علی هیئة من هیئات المصلین،کالراکع،و الساجد،و القائم، و القاعد،لا ینتقض وضوؤه،سواء کان فی الصلاة أو لم یکن،و إن نام مضطجعا،أو مستلقیا علی قفاه انتقض و هذا مذهب أبی حنیفة،و داود،و هو قول للشافعی غریب.

5-إنه لا ینقض إلا نوم الراکع و الساجد،روی هذا عن أحمد بن حنبل.

6-إنه لا ینقض إلا نوم الساجد،و روی أیضا عن أحمد.

ص:214


1- (1) الوسائل ج 1 ص 242. [1]

7-إنه لا ینقض النوم فی الصلاة بکل حال،و ینقض خارج الصلاة،و هو قول ضعیف للشافعی.

8-إذا نام جالسا ممکنا مقعدته من الأرض لم ینتقض و إلا انتقض،سواء قل أو کثر،و سواء کان فی الصلاة أو خارجها،و هذا مذهب الشافعی،و عنده أن النوم لیس حدثا فی نفسه،و إنما هو دلیل علی خروج الریح،فإذا نام غیر ممکن المقعدة غلب علی الظن خروج الریح فجعل الشرع هذا الغالب کالمحقق،و أما إذا کان ممکنا فلا یغلب علی الظن الخروج و الأصل بقاء الطهارة.

و قال النووی:و اتفقوا علی أن زوال العقل بالجنون و الإغماء،و السکر،بالخمر أو بالبنج،أو الدواء ینقض الوضوء،سواء قل أو کثر،سواء کان ممکنا المقعدة أو غیر ممکنها (1).

هذا ما ذکره النووی عن مذاهب العلماء فی ناقضیة الوضوء أوردناه بطوله،لننبه علی أمرین:

الأول-اختلاف أقوال العلماء و موافقة أکثرهم لما تقول به الشیعة،و أن فی هذه المسألة للشافعی أربعة أقوال و لأحمد قولین.

الثانی-أن بعضهم نسب إلی الشیعة القول بعدم ناقضیة الوضوء مطلقا،و هو علی العکس،فإن الشیعة أجمعوا علی ناقضیة الوضوء کما تقدم.

و منشأ هذا هو الاشتباه الحاصل مما ذکره النووی فی بیان المذهب الأول،و هو قوله:إن النوم لا ینقض الوضوء علی أی حال کان،و هذا محکی عن أبی موسی الأشعری،و سعید الأعرج و أبی مجلز و شعبة.

فاشتبه الأمر علی الشوکانی،و جعل اسم شعبة شیعة،فذکر ذلک فی کتابه نیل الأوطار،و إلیک نص قوله فی بحث ناقضیة النوم للوضوء:(و قد اختلف الناس فی ذلک علی ثمانیة مذاهب ذکرها النووی فی شرح مسلم)الأول:أن النوم لا ینقض الوضوء علی أی حال کان،و هو محکی عن أبی موسی الأشعری،و سعید بن

ص:215


1- (1) شرح صحیح مسلم ج 4 ص 73.

المسیب،و أبی مجلز و الشیعة یعنی الإمامیة،و زاد فی البحر عمر بن دینار و استدلوا بحدیث أنس (1).

فصاحب نیل الأوطار قد اشتبه علیه الأمر بین کلمة الشیعة و کلمة شعبة بن الحجاج العتکی المتوفی سنة 160 ه و هو أحد الأعلام المشهورین،فظن أن هذا القول هو للشیعة و أضاف منه بأنهم الإمامیة.

کما اشتبه الأمر علی صاحب کتاب البحر الزخار یحیی بن أحمد الزیدی المتوفی سنة 957 ه فإنه بعد أن ذکر نسبة القول بعدم ناقضیة النوم للوضوء إلی أبی موسی،و حمید الأعرج-کما ذکره النووی-قال:و الإمامیة (2)و لم یذکر اسم شعبة بل ذکر مکانه الشیعة الإمامیة اشتباها منه.

و علی کل حال:فإن العلماء قد اختلفوا فی ناقضیة النوم علی أقوال کثیرة، فمنهم من یری ناقضیته بمجرد حصوله،إذ هو حدث برأسه،کما هو أحد قولی الشافعی،و إذا نام علی الأرض فله فیه قولان.

و الذی یظهر من الشافعیة أن النوم لم یکن حدثا برأسه،بل هو مظنة لخروج الریح من غیر شعور به،فإذا نام ممکنا مقعده من الأرض فلا ینتقض وضوؤه (3)و لهذا ذهب الحنفیة بأن من نام مضطجعا انتقض وضوؤه،لأن الاضطجاع سبب لارتخاء المفاصل (4)و منه ذهبوا إلی ناقضیة ما یزیل العقل بأنه ناقض فی جمیع الحالات،لأنه فی استرخاء المفاصل فوق النوم (5).

و ذهب أبو یوسف إلی أن الإنسان إذا نام ساجدا غیر متعمد فوضوؤه باق،و إن تعمد ذلک فوضوؤه غیر باق.

و عن أحمد بن حنبل روایات،المختار منها:أنه إذا طال نوم القائم،أو القاعد،و الراکع و الساجد فعلیه الوضوء.

ص:216


1- (1) نیل الأوطار للشوکانی ج 1 ص 190.
2- (2) البحر الزخار ج 1 ص 88.
3- (3) مغنی المحتاج للنووی ج 1 ص 34.
4- (4) شرح الهدایة ج 1 ص 6.
5- (5) بدائع الصنائع للکاسانی ج 1 ص 30.

قال الخطابی هذا أصح الروایات (1)و قال الدمشقی فی الزوائد:إذا تغیر النائم عن هیئته انتقض وضوؤه (2).و فی غایة المنتهی:أن النوم الیسیر من جالس لا ینقض، و ینقض الیسیر منه وضوء الراکع،و الساجد،أو المضطجع،أو المتکی (3).

أما الخارج من السبیلین:فقد أجمع الفقهاء علی ناقضیته،إلا المنی فإنه عند الشافعی غیر ناقض،و إن أوجب الغسل.

أما الودی و الوذی فهما غیر ناقضین عند الشیعة (4)و وافقهم مالک فی غیر المعتاد.

و اختلف العلماء فی انتقاض الوضوء مما یخرج من النجس من غیر السبیلین علی ثلاثة مذاهب:فاعتبر قوم فی ذلک وحده من أی موضع،و علی أی جهة خرج، و هو مذهب أبی حنیفة و أصحابه،فإنهم یوجبون الوضوء من کل نجاسة تسیل من الجسد،و تخرج منه،کالدم،و الرعاف الکثیر و الفصد،و الحجامة،و خالفهم زفر بن الهذیل،فإنه ذهب إلی نقض الوضوء بهذه الأشیاء سواء سالت أو لم تسل،و کذلک القیء ناقض بمجرد حصوله،و عند أصحابه الثلاثة لا یکون ناقضا إلا إذا ملأ الفم (5).

و ذهب الشافعی و أصحابه إلی عدم اعتبار ما یخرج من غیر السبیلین من النجاسة،و غیرها،و کل شیء یخرج منهما من دم،أو حصاة،أو بلغم،و علی أی وجه خرج علی سبیل الصحة أو علی سبیل المرض فهو ناقض (6).

و ذهب مالک و أصحابه إلی عدم ناقضیة الوضوء بالقیء و غیره،و لا ینقضه خروج نجاسة من غیر السبیلین،و قالوا باستحباب المضمضة من القیء (7).

ص:217


1- (1) رحمة الأمة ص 14.
2- (2) زوائد الکافی لعبد الرحمن الحنبلی ص 8.
3- (3) غایة المنتهی ص 37.
4- (4) الودی:ماء کدر یخرج عقیب البول أحیانا.الوذی(بالمعجمة)ماء یخرج بعد خروج المنی. المذی:ماء لزج یخرج بلا شهوة.
5- (5) بدائع الصنائع للکاسانی ج 1 ص 26،و الاختیار لتعلیل المختار ج 1 ص 9.
6- (6) المهذب للشیرازی ج 1 ص 24.
7- (7) الجواهر الزکیة فی حل ألفاظ العشماویة ص 26.

و اعتبر الحنابلة خروج النجاسة من غیر السبیلین کما ذهب إلیه الحنفیة و لم یعتبروا القیء ناقضا (1).

و ذهب أبو حنیفة إلی ناقضیة الوضوء بالقهقهة فی الصلاة استحبابا و الأثر الوارد فی ذلک صحیح،کما ذکر فی محله،و قد انفرد بهذا کما انفرد من بین المذاهب بجواز الوضوء بنبیذ التمر،و خالفه أبو یوسف و قال:لا یجوز التوضؤ به،و ذکر فی الجامع الصغیر:أن المسافر إذا لم یجد الماء و وجد نبیذ التمر توضأ به.

کما أجاز أبو یوسف أن یتوضأ الإنسان بماء العنب الذی یخرج من دون علاج، و کذلک یجوز عندهم الوضوء بماء خالطه شیء طاهر فغیر أحد أوصافه،کاللبن،أو الزعفران،أو الصابون،أو الأشنان.

و علی هذا فلا ینتقل حکم من لم یجد ماء إلی التیمم مع وجود ماء العنب أو نبیذ التمر،أو الماء مع اللبن و الزعفران و الصابون و الأشنان،فإنه یجوز التوضؤ بهذه الأشیاء،و یأتی حکم التیمم بعد ذلک،و هو خلاف ما أمر اللّه به لقوله تعالی:فإن فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً فإنه تعالی نقل الحکم من الماء المطلق إلی التراب، و لا یجوز أن ینقل الحکم من النبیذ أو ماء العنب أو غیرها إلی التراب.و سیأتی بیان ذلک إن شاء اللّه.

الشک:

من تیقن الطهارة و شک فی الحدث بنی علی طهارته،و لا یجب علیه الوضوء، و من تیقن الحدث و شک فی الطهارة تطهر عملا بالیقین،و إلغاء الشک بدون خلاف بین الشیعة.

قال الإمام الصادق علیه السّلام لبکیر:إذا استیقنت أنک توضأت،فإیاک أن تحدث وضوءا أبدا،حتی تستیقن،أنک قد أحدثت.

و قال عبد الرحمن بن الحجاج سألت أبا عبد اللّه الصادق علیه السّلام:أجد الریح فی بطنی حتی أظن أنها قد خرجت.

فقال علیه السّلام:لیس علیک وضوء،حتی تسمع الصوت أو تجد الریح.

ص:218


1- (1) العمدة لابن قدامة ص 11 و التنقیح ص 26.

و عن زرارة عن أبی جعفر الباقر علیه السّلام:لا ینقض الیقین أبدا بالشک،و لکن ینقضه بیقین آخر.

و یظهر أنه لا خلاف بین المسلمین أن من تیقن الطهارة و شک فی الحدث حکم ببقائه علی الطهارة،و لا فرق بین حصول هذا الشک فی نفس الصلاة،و حصوله خارج الصلاة.

و عن مالک روایتان:إحداهما أنه یلزمه الوضوء إن کان شکه خارج الصلاة،و لا یلزمه إن کان فی الصلاة،و الثانیة یلزمه بکل حال،و الذی یظهر من عبارة الشیخ عبد الباری المالکی:أن الشک فی الطهارة ناقض للوضوء عند المالکیة (1).

و قد فصل القاضی أبو الولید المالکی الأقوال فی هذه المسألة و اختلاف الروایات عن مالک،و منها ما هو موافق لمذهب الشیعة (2).

أما الشافعیة فالظاهر إجماعهم علی ذلک کما ذکر النووی بقوله:إن من تیقن الطهارة و شک فی الحدث حکم ببقائه علی الطهارة،و لا فرق بین حصول هذا الشک فی نفس الصلاة،و حصوله خارج الصلاة،هذا مذهبنا،و مذهب جماهیر العلماء من السلف (3).

و قال أبو إسحاق الشیرازی:و من تیقن الطهارة و شک فی الحدث بنی علی یقین الطهارة،لأن الطهارة یقین فلا یزول ذلک بالشک،و إن تیقن الحدث و شک فی الطهارة بنی علی یقین الحدث...الخ (4)من حیث أثرها فی النقض و عدمه.

السنن أو المستحبات:
اشارة

و نری من اللازم ذکر السنن أو المستحبات للوضوء،عند المذاهب الخمسة، إتماما للفائدة و بیانا لبعض الاختلافات فی ذلک.

ص:219


1- (1) حاشیة الصفتی علی الجواهر السنیة فی حل ألفاظ العشماویة ص 36.
2- (2) المنتقی ج 1 ص 54 تجد البحث مفصلا.
3- (3) شرح صحیح مسلم للنووی ج 4 ص 49.
4- (4) المهذب ج 1 ص 5.
الشیعة:

یستحب عندهم للوضوء أشیاء منها:

1-السواک و هو دلک الأسنان بعود،و أفضله الغصن الأخضر،و أکمله الأراک، و هو سنة مطلقا،و لکنه یتأکد فی الوضوء.

2-وضع الإناء الذی یغترف منه علی الیمین.

3-التسمیة و صورتها:بسم اللّه و باللّه.و یستحب إتباعها بقوله:

اللهم اجعلنی من التوابین،و اجعلنی من المتطهرین.

4-غسل الیدین من الزندین قبل إدخالهما الإناء الذی یغترف منه لحدث البول مرة،و للغائط مرتین.

5-المضمضة و الاستنشاق و تثلیثهما،و تقدیم المضمضة.

6-تثنیة الغسلات.

7-بدأة الرجل بظاهر ذراعیه،و المرأة تبدأ بالباطن (1).

الحنفیة:

سنن الوضوء أو مستحباته عندهم أشیاء منها:

1-غسل الیدین قبل إدخالهما الإناء ثلاثا إلی الرسغ.

2-السواک،و عند فقده یستاک بالاصبع.

3-المضمضة و الاستنشاق.

4-النیة إذ هی لیست بواجبة عندهم،و کذلک الترتیب و الموالاة کما تقدم.

5-تکرار الغسل إلی الثلاث.

6-استیعاب المسح للرأس.

7-التسمیة (2).

ص:220


1- (1) اللمعة الدمشقیة للشهید الأول و شرحها للشهید الثانی،و الشرائع،و البیان،و المختصر النافع للمحقق الحلی،و النهایة للشیخ الطوسی،و الغنیة لعز الدین زهرة الحلی،و المقنع للشیخ الصدوق و غیرها من کتب الفقه عند الشیعة.
2- (2) البحر الزاخر و کتاب الاختیار لتعلیل المختار و مراقی الفلاح و غیرها.
المالکیة:

1-التسمیة.

2-غسل الیدین ثلاثا.

3-المضمضة و الاستنشاق.

4-و تثلیث الغسلات و تکره الرابعة.

5-السواک و لو بإصبع.

6-الابتداء بالمیامن.

7-و مسح وجهی کل أذن،و تجدید مائهما (1).

الشافعیة:

1-السواک عرضا بکل خشن لا اصبعه.

2-التسمیة فی أوله فإن ترک ففی أثنائه.

3-غسل کفیه فإن لم یتیقن طهرهما کره غمسهما فی الإناء.

4-المضمضة و الاستنشاق.

5-و تثلیث الغسل،و المسح المفروض،و المندوب.

6-مسح کل رأسه،ثم أذنیه ظاهرهما و باطنهما.بماء جدید،و لا یسن مسح الرقبة فإنه بدعة.

7-تخلیل اللحیة الکثة من کل شعر یکتفی بغسل ظاهره،و تخلیل أصابعه.

8-و غسل الزائد علی الواجب من جمیع جوانبه،و کذلک الیدین و الرجلین.

9-الموالاة و هی التتابع و فی قول الشافعی القدیم إنها واجبة.

10-ترک الاستعانة بصب الماء علیه من غیر عذر.

11-الدعاء بعد الوضوء (2).

ص:221


1- (1) المختصر ص 8 و المنتقی و الجواهر الزکیة فی حل ألفاظ العشماویة.
2- (2) منهاج الطالبین للنووی ص 4 و نهایة المحتاج لابن شهاب الرملی ج 1 ص 162.
الحنابلة:

1-استقبال القبلة.

2-السواک.

3-غسل الیدین لحدث النوم،و المبالغة فی المضمضة و الاستنشاق.

فرع:

من کان علی بعض أعضاء وضوئه جبیرة،فإن تمکن من غسل ما تحتها بنزعها أو بغمسها بالماء وجب،و إن لم یتمکن لخوف الضرر،أو لعدم إمکان إزالة النجاسة، أو لعدم إمکان إیصال الماء تحت الجبیرة اجتزأ بالمسح علیها و صلی و لا إعادة لقوله تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ .

و فی الصحیح عن الإمام الصادق علیه السّلام أنه سئل عن الرجل تکون به القرحة فی ذراعه،أو نحو ذلک من مواضع الوضوء فیعصبها بالخرقة و یتوضأ و یمسح علیها إذا توضأ؟ فقال علیه السّلام:إن کان یؤذیه الماء فلیمسح علی الخرقة،و إن کان لا یؤذیه الماء فلینزع الخرقة ثم لیغسلها.

و عن الإمام الصادق علیه السّلام أیضا أنه قال له عبد الأعلی مولی آل سام:عثرت فانقطع ظفری فجعلت علی إصبعی مرارة فکیف أصنع بالوضوء؟ فقال علیه السّلام یعرف هذا و أشباهه من کتاب اللّه.قال اللّه تعالی: وَ ما جَعَلَ عَلَیْکُمْ فِی الدِّینِ مِنْ حَرَجٍ امسح علیه.

و لیس علیه إعادة الصلاة،إذ لا دلیل علیه،و الأصل براءة الذمة...

و قالت الحنفیة:و یجوز المسح علی الجبائر و إن شدها علی غیر وضوء،فإن سقطت عن غیر برء لم یبطل المسح،و إن سقطت عن برء بطل المسح.لزوال العذر (1).

ص:222


1- (1) القدوری ص 9 طبع الهند،و بدائع الصنائع للکاسانی ج 1 ص 51.

و قال السرخسی:و إن کانت الجبائر فی موضع الوضوء مسح علیها،و الأصل فیه ما روی أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شج وجهه یوم أحد فداواه بعظم بال،و عصب علیه،فکان یمسح علی العصابة،و لما کسرت إحدی زندی علی رضی اللّه تعالی عنه یوم حنین حتی سقط اللواء من یده،قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:اجعلوها فی یساره،فإنه صاحب لوائی فی الدنیا و الآخرة.

فقال(علی)ما ذا أصنع بجبائری؟قال:امسح علیها (1).

و أجاز ذلک الحنابلة،قال ابن قدامة یجوز المسح علی الجبیرة إذا لم یتعد بشدها موضع الحاجة إلی أن یحلها (2).

و الشافعیة یرون لزوم التیمم مع المسح،قال ابن القاسم فی شرحه لغایة الاختصار:و صاحب الجبائر جمع جبیرة بفتح الجیم،و هی أخشاب أو قصب تسوی و تشد علی موضع الکسر لیلتحم یمسح علیها بالماء إن لم یمکنه نزعها لخوف ضرر مما سبق و یتیمم صاحب الجبائر فی وجهه و یدیه (3).

ص:223


1- (1) المبسوط للسرخسی ج 1 ص 73-74.
2- (2) عمدة الفقه ص 11.
3- (3) مخطوط ص 11.

ص:224

الغسل و التیمم
اشارة

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُکاری حَتّی تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِی سَبِیلٍ حَتَّی تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ کُنْتُمْ مَرْضی أَوْ عَلی سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْکُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِکُمْ وَ أَیْدِیکُمْ إِنَّ اللّهَ کانَ عَفُوًّا غَفُوراً [النساء:43].

الغسل
اشارة

اتفق المسلمون علی أن الغسل منه واجب،و منه مستحب،و لا خلاف بینهم فی وجوب غسل الجنابة،و الحیض،و النفاس،و الأموات.

و اختلفوا فیما عدا هذه الأربعة،فأوجب الشیعة غسل مس الأموات و غسل الاستحاضة کما یأتی بیان ذلک.

و أوجب الحنابلة و المالکیة غسل الکافر،و ذهب الشافعیة إلی استحباب ذلک، و الحنفیة یوجبون الغسل للکافر إن أسلم جنبا أو أسلمت الکافرة حائضا،و قیل یجب غسل النفاس علیها أیضا.

و الکلام هنا یقع فی غسل الجنابة،و موجباته،و شرائطه،و مستحباته.

غسل الجنابة

لا خلاف فی وجوب الغسل لحدث الجنابة لقوله تعالی: وَ إِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا و قوله تعالی: إِلاّ عابِرِی سَبِیلٍ حَتَّی تَغْتَسِلُوا .

ص:225

و الغسل اسم لإجراء الماء علی المحل،و هو بفتح الغین مصدر غسل،و اسم مصدر لاغتسل،و بضمها مشترک بینها و بین الماء الذی یغتسل به،و بکسر الغین اسم لما یغسل به الرأس من سدر و نحوه.

و الجنابة دالة علی البعد و منه قوله تعالی: وَ الْجارِ الْجُنُبِ أی البعید فی نسبه و إن کان قریبا فی داره.

و عن الشافعی أنه قال:إنما سمی جنبا من المخالطة.و من کلام العرب:أجنب الرجل إذا خالطه امرأته.

و کیف کان فإن موجبها عند الشیعة أمران:الأول خروج المنی.و الثانی:

الجماع و لو لم ینزل،فإذا تحقق ذلک وجب الغسل للفاعل و المفعول.لقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

«إذا التقی الختانان وجب الغسل».

واجباته:

1-النیة و لا بد من استدامتها إلی آخر الغسل.

2-غسل ظاهر البشرة علی وجه یتحقق به مسمی الغسل،و لا بد من تخلیل ما یمنع وصول الماء إلیها.

3-أن یبدأ أولا بغسل الرأس و الرقبة،ثم یغسل الجانب الأیمن،ثم الجانب الأیسر،و یسقط الترتیب بالارتماس.

و یشترط فیه إطلاق الماء و طهارته و إباحته،و إباحة الآنیة و المصب،و أن یباشر الغسل بنفسه إلا فی حالة الاضطرار،و أن لا یکون هناک مانع من استعمال الماء لمرض و نحوه،و أن یکون العضو طاهرا.

و یستحب فیه غسل الیدین من الزندین،و قیل من المرفقین ثلاثا،و المضمضة ثم الاستنشاق ثلاثا ثلاثا،و الاستبراء بالبول قبل الغسل،و فائدته أن البلل المشتبه لا یحکم بأنه منی،لعدم بقاء شیء منه فی المجری بعد الاستبراء.

هذا موجز ما علیه مذهب الشیعة فی موجبات غسل الجنابة،و واجباته بدون إطالة و تفصیل،و ذلک مذکور فی کتبهم الفقهیة المتکفلة لبسط الکلام و ذکر الأقوال

ص:226

و الآراء من حیث الأدلة و التفریع،و جمیع ما یتعلق به من الکلیات و الجزئیات (1).

و کیف کان فإن أکثر المذاهب تتفق مع الشیعة فی کثیر من الأمور المذکورة، و تختلف عنها فی بعضها،کما تختلف بعضها عن بعض فی ذلک.

و قد اتفق الجمیع علی إیجاب الغسل بمجرد الإدخال،و عقد الإجماع علی ذلک،و لم یشترطوا إنزال المنی.

و اتفقوا علی أن خروج المنی بشهوة یوجب الغسل،و لکنهم اختلفوا فی انفصال المنی عن شهوة،و خروجه لا عن شهوة،فأبو حنیفة یوجب الغسل،و وافقه صاحبه محمد بن الحسن،و خالفه أبو یوسف فی ذلک إذ لم یوجب الغسل فیه.

و الحنابلة یختلفون لاختلاف الروایات عن أحمد فی إیجاب الغسل و عدمه، و کذلک المالکیة،لاختلاف الروایات عن مالک.

أما إذا انفصل المنی لا عن شهوة،فالشافعیة یوافقون الشیعة فی إیجاب الغسل، و خالفهم الحنفیة،و المالکیة فی ذلک،لأنهم یشترطون اقتران الشهوة فی إیجاب الغسل.

و ذهب الحنفیة إلی عدم إیجاب الغسل بإدخال الذکر فی الفرج ملفوفا بخرقة، کما ذکره ابن عابدین فی حاشیته و غیره.

کما لا یوجبون الغسل بمجرد الإدخال فی المیتة و البهیمة،و ربما وافقهم الحنابلة فی مسألة الخرقة،کما هو ظاهر عبارة الروض الندی (2).

و من الشافعیة من یذهب إلی ذلک،فلا یوجب الغسل و لا الحد علی من لف ذکره بحریرة و أولجه فی فرج و لم ینزل (3)و سیأتی الکلام حول هذه المسألة فی باب النکاح إن شاء اللّه.

ص:227


1- (1) کتاب مدارک الأحکام للسید محمد بن علی الحسینی العاملی،و ریاض المسائل فی بیان الأحکام بالدلائل للسید علی الطباطبائی،و جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام للشیخ محمد حسن صاحب الجواهر،و هدایة الأنام للشیخ محمد حسین الکاظمی،و مستمسک العروة الوثقی للسید محسن الحکیم،و طهارة الشیخ الطوسی و شرائع الإسلام،و نکت النهایة لأبی القاسم جعفر بن سعید الحلی، و کتاب الوسیلة لعماد الدین جعفر محمد بن علی بن حمزة،و غیرها من کتب الفقه الشیعی.
2- (2) الروض الندی ص 43.
3- (3) طبقات الشافعیة،ج 3 ص 241.

>الغسل:< اتفق الجمیع علی وجوب النیة فی الغسل إلا الحنفیة،فلم یوجبوا النیة کما تقدم فی الوضوء،و قال بعضهم:لو احتاج إلی نیة لاحتاجت النیة إلی نیة و هکذا.و هذا القول مردود بالتزامهم وجوب النیة للتیمم،و للصلاة،فما هو الفارق؟ و جمیع المذاهب یوافقون الشیعة فی وجوب النیة لغسل الجنابة،و انها شرط فی صحة الغسل کما هو مفصل فی محله.

أما الترتیب:فقد أوجبه الشیعة و هو الابتداء بغسل الرأس،ثم الجانب الأیمن، ثم الجانب الأیسر،لأنه الثابت من فعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،کما تدل علیه الأخبار الصحیحة، و قد خالف الحنفیة فذهبوا إلی عدم الوجوب،مع أن الثابت عندهم أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یفعل ذلک (1)و قد جعلوه من السنن لا من الفروض.

و اختلفت أقوالهم فی الابتداء،و انه بالجانب الأیمن مرة،و بالرأس مرة أخری، و هو الأصح عندهم (2).

و قسم الحنابلة الغسل إلی قسمین:کامل و مجزی،فالکامل:هو ما یحصل به الترتیب کما ذهب إلیه الشیعة.

و المجزی:هو أن ینوی،و یسمی،و یعم بالماء بدنه (3)و قالوا إن الغسل الکامل:هو أن یأتی بالنیة و التسمیة،و غسل یدیه ثلاثا،و غسل ما به من أذی و یحثی علی رأسه ثلاثا،و یفیض الماء علی سائر جسده،و یبدأ بشقه الأیمن...و هذا هو الغسل الأکمل و الأفضل.

أما إذا غسل مرة،و عم بالماء رأسه و جسده،و لم یتوضأ اجزأه بعد أن یتمضمض و یستنشق و ینوی به الغسل،و کان تارکا للاختیار (4).

و قال المالکیة:باستحباب الترتیب،للأخبار الواردة عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی غسله بتقدیم الرأس و بدأه بالمیامن،و مع ثبوت ذلک فالترتیب عندهم غیر واجب (5).

ص:228


1- (1) حاشیة الطحاوی علی مراقی الفلاح.
2- (2) حاشیة ابن عابدین ج 1 ص 164.
3- (3) الروض الندی ص 45.
4- (4) المغنی لابن قدامة ج 1 ص 217-218.
5- (5) المنتقی ج 1 ص 96.

و قال الشافعیة:باستحباب الترتیب،و تقدیم الشق الأیمن علی الأیسر (1)و ان ذلک هو الغسل الکامل کما قال النووی فی شرح صحیح مسلم.

أما وجوب الدلک فلم یقل به إلا مالک بن أنس و المزنی من أصحاب الشافعی، و ذهب الجمیع إلی استحبابه،و کذلک الوضوء فی غسل الجنابة،فلم یوجبه أحد من أئمة المذاهب إلا داود الظاهری،فإنه أوجبه،و من سواه یقولون هو سنة،فلو أفاض الماء علی جمیع بدنه من غیر وضوء صح غسله.و استباح به الصلاة،و غیرها،و لکن الأفضل عندهم أن یتوضأ،و تحصل الفضیلة بالوضوء قبل الغسل أو بعده (2).

و علی هذا فإن غسل الجنابة لا یحتاج معه إلی وضوء للصلاة،و هو مذهب الشیعة.

هذا فی الغسل الترتیبی،و أما الارتماس فالظاهر أنه لا خلاف بین الجمیع بالاکتفاء به إذا استوعب جمیع البدن و نوی الغسل.

الأحکام:

یحرم عند الشیعة علی الجنب أمور:

1-الصلاة مطلقا عدا صلاة الجنائز لقوله تعالی: وَ إِنْ کُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا و ذلک بعد قوله تعالی: یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَی الصَّلاةِ (3)و علی هذا إجماع المسلمین.

2-اللبث فی المساجد،بل مطلق الدخول فیها،إلا اجتیازا بحیث یدخل من باب،و یخرج من آخر،أو لأخذ شیء منها بدون مکث،إلا المسجدین الشریفین فی مکة و المدینة،فإنه لا یجوز الاجتیاز بهما و لا المکث.

و ذهب الحنفیة إلی عدم الدخول إلی المساجد،و لکنه إذا احتاج إلی ذلک یتیمم سواء کان لقصد المکث أو للاجتیاز (4).

ص:229


1- (1) ابن القاسم علی غایة الاختصار ص 8 خط.
2- (2) شرح النووی لمسلم ج 3 ص 229.
3- (3) المائدة،آیة:6. [1]
4- (4) الکاسانی ج 1 ص 38.

و قال الشافعی یجوز له الدخول بدون تیمم إذا کان مجتازا.لقوله تعالی: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِی سَبِیلٍ حَتَّی تَغْتَسِلُوا و المراد من الصلاة فی الآیة مکانها،و هو المسجد کما روی عن ابن مسعود (1).

و أجاز أحمد بن حنبل المکث للجنب فی المسجد بشرط أن یتوضأ،و لو کان الغسل یمکنه بدون مشقة (2)و إذا احتاج إلی اللبث جاز عندهم بدون تیمم (3)و ذهب مالک إلی عدم جواز المرور فی المسجد،و لکنه إذا اضطر إلیه وجب علیه التیمم (4).

3-یحرم مس کتابة القرآن،أو شیء علیه اسم اللّه تعالی،تعظیما له و إجلالا حتی الدراهم التی علیها اسمه تعالی،قال الإمام الصادق علیه السّلام:(لا یمس الجنب درهما و لا دینارا علیه اسم اللّه).

4-یحرم قراءة سور العزائم.و هی:الم السجدة،و حم السجدة،و النجم، و العلق حتی البسملة منها،و قیل إنما یحرم قراءة آیة السجدة فقط.

و یکره قراءة غیرها من القرآن.

و القول بالکراهة مروی عن جماعة من الصحابة و التابعین للأصل،و لقوله تعالی: فَاقْرَؤُا ما تَیَسَّرَ مِنْهُ .و کان ابن عباس لم یر فی القراءة للجنب بأسا.

و فی الباب أخبار تدل علی الحرمة مطلقا،و لکنها أخبار لم تسلم من خدشة و طعن فی السند،کحدیث ابن عمر عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:لا یقرأ الجنب و لا الحائض شیئا من القرآن (5).

و قد تکلم العلماء فی هذا الحدیث لأن فی رواته من لیس بثقة،و فیه إسماعیل بن عیاش،و روایاته عن الحجازیین ضعیفة.

و قال أبو حاتم:إن هذا لیس بحدیث و لکنه من کلام ابن عمر.

ص:230


1- (1) الکاسانی ج 1 ص 38.
2- (2) حاشیة نهایة المحتاج ج 1 ص 302.
3- (3) غایة المنتهی ص 46.
4- (4) المنتقی ج 1 ص 112.
5- (5) أخرجه أبو داود،و الترمذی،و ابن ماجة.

و قال أحمد بن حنبل:هذا حدیث باطل أنکره علی إسماعیل بن عیاش و أما ما یروی عن علی علیه السّلام أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان لا یحجزه عن القرآن شیء لیس الجنابة (1)فقد قال الشافعی:أهل الحدیث لا یثبتونه.

و قال الخطابی:کان أحمد یوهن هذا الحدیث.و قال الشوکانی:إن هذا الحدیث لیس فیه ما یدل علی التحریم،لأن غایته أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ترک القراءة حال الجنابة،و مثله لا یصلح مستمسکا للکراهة فکیف یستدل به علی التحریم؟ (2).

و کیف کان فإن الشیعة یذهبون إلی کراهة قراءة ما زاد علی سبع آیات و یحرمون قراءة سور العزائم،و غیرهم من المذاهب لم یفرقوا بین العزائم و غیرها.

و ذهب الحنفیة إلی منع الجنب من القراءة،و أجاز أبو یوسف کتابة القرآن للجنب،و ذهب محمد بن الحسن الشیبانی إلی الکراهة،لأن الکتابة تجری مجری القراءة.و زاد بعضهم تحریم مس التوراة،و الإنجیل،و سائر الکتب الشرعیة (3).

و منع الشافعی القراءة مطلقا،إذا کان بقصد التلاوة،أما إذا قصد الذکر لا التلاوة فیجوز له ذلک،و یظهر من الحنابلة موافقتهم له.

أما مالک فقد منع ذلک إلا المتیمم،فیجوز له أن یقرأ حزبه من القرآن،و یتنفل ما لم یجد ماء (4).

5-یحرم علی الجنب تعمد البقاء علی الجنابة لمن وجب علیه الصوم،کما یأتی تفصیل ذلک فی محله،و کذلک الطواف الواجب إن شاء اللّه.

و أما ما یکره للجنب فهی أشیاء منها الأکل و الشرب و النوم،ما لم یتوضأ، و تفصیل ذلک فی الرسائل العملیة لعلماء الشیعة و غیرها من کتبهم الاستدلالیة لیس هذا محل ذکرها.

و أما السنن عند المذاهب الأخری لغسل الجنابة فهی کثیرة لا مجال لذکرها،إذ الخلاف فی ذلک غیر مهم و اللّه الموفق للصواب.

ص:231


1- (1) أخرجه الخمسة.
2- (2) نیل الأوطار ج 1 ص 226.
3- (3) کتاب ضوء الشمس لأبی المدی ج 1 ص 148.
4- (4) المنتقی ج 1 ص 112.
غسل الحیض:

و هو واجب عند الجمیع و کیفیته کغسل الجنابة،و هو فی اللغة السیل تقول العرب:حاضت الشجرة إذا سالت رطوبتها،و حاض الوادی إذا سال،و فی الشرع هو الدم الذی له تعلق بانقضاء العدة،إما بظهوره أو انقطاعه،و قیل إنه اسم لدم مخصوص من موضع مخصوص.کما عرفه السرخسی.و له تعاریف أخری لا حاجة لبیانها.

و الکلام هنا یقع بما وقع الخلاف فیه،و هو تحدید مدته و زمانه و الأحکام المتعلقة به علی وجه الإجمال:

مدته:

اختلف العلماء فی مدة الحیض،فقال الإمامیة:بأن أقل مدة الحیض ثلاثة أیام و أکثره عشرة.و ما نقص عن الثلاثة أو زاد عن العشرة فلیس بحیض إجماعا،و وافقهم الحنفیة فی ذلک.

و کان أبو حنیفة یقول:إن أقل الحیض یوم و لیلة،و أکثره خمسة عشر ثم رجع (1)إلی ما قلناه من موافقة ما یقوله الشیعة،بأن أقله ثلاثة أیام،و أکثره عشرة.

و قال الشافعی:إن أقله یوم و لیلة و أکثره خمسة عشر یوما،و قیل یوما واحدا و قال أصحابه:هما قولان له و منهم من قال:هو قول واحد لدخول اللیلة فی الیوم (2).

و قال مالک:إنه بقدر ما یوجد و لو ساعة،لأنه حدث لا یتقدر أقله بسائر الأحداث (3)و یروی عنه أنه قال:لا وقت لقلیل الحیض و لا لکثیره.

و حکی عبد الرحمن بن المهدی عنه بأنه کان یری أن أکثر الحیض خمسة عشر یوما (4).

ص:232


1- (1) أحکام القرآن للجصاص ج 1 ص 400. [1]
2- (2) المهذب ج 1 ص 38.
3- (3) المبسوط للسرخسی ج 3 ص 147.
4- (4) الجصاص ج 1 ص 400. [2]

و قال أحمد بن حنبل:إن أقل الحیض یوم و لیلة،و أکثره خمسة عشر یوما، و قال الخلال:إن مذهب أحمد لا اختلاف فیه،إن أقل الحیض یوم و أکثره خمسة عشر یوما.

و قیل عنه:إن أکثره سبعة عشر یوما (1)و بهذا القول یخالف ما ذهب إلیه الشافعی.

أیام الطهر:

قال الشیعة:بأن أقل الطهر عشرة أیام،فإذا رأیت دم الحیض و انقطع مدة عشرة أیام،فالثانی حیض مستقل،و لیس لأکثره حد،و قال أبو حنیفة:أقل الطهر خمسة عشر یوما.و به قال الشافعی.

و قال مالک بن أنس:بعدم التوقیت.و فی روایة عبد الملک بن حبیب عنه أن الطهر لا یکون أقل من خمسة عشر یوما.

و عند الحنابلة:أن أقل الطهر بین الحیضتین ثلاثة عشر یوما،لأن کلام أحمد لا یختلف أن العدة تصح أن تنقضی فی شهر واحد إذا قامت به البینة (2)و قال إسحاق بن راهویه:و توقیت هؤلاء بالخمسة عشر باطل.

سن الحائض:

و هو الزمان الذی یحکم علی الدم الخارج من المرأة بصفات الحیض أنه حیض.فقد اتفق المسلمون علی أن ما تراه الأنثی قبل بلوغها تسع سنین لا یکون حیضا،و کذا ما تراه بعد الیأس.

و من الحنفیة من قدر سن الحائض بسبع سنین،مستدلا بقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:مروهم بالصلاة إذا بلغوا سبعا،و الأمر حقیقة للوجوب،و ذلک بعد البلوغ.

و سئل أبو نصر عن ابنة ست سنین:إذا رأت الدم هل یکون حیضا؟فقال:نعم إذا تمادی بها مدة الحیض (3).

ص:233


1- (1) المغنی لابن قدامة ج 1 ص 308.
2- (2) المغنی لابن قدامة ج 1 ص 310.
3- (3) السرخسی ج 1 ص 149.

أما سن الیأس:فقد وقع الخلاف فیه بین المسلمین:

فذهب الشیعة:إلی أن الحد الذی یتحقق فیه الیأس هو بلوغ سن المرأة خمسین سنة،إن لم تکن قرشیة،و هو المروی عن أبی عبد اللّه الصادق علیه السّلام أنه قال:حد التی تیأس من الحیض خمسون.

و عنه أیضا:المرأة التی تیأس من الحیض حدها خمسون سنة.

و قال علیه السّلام:إذا بلغت المرأة خمسین سنة لم تر حمرة إلا أن تکون امرأة من قریش.

و ذهب الحنفیة إلی أن حد الیأس خمس و خمسون سنة،و فی روایة عن أبی حنیفة:أن الیأس لا یحد بحد،بل هو أن تبلغ من السن ما لا تحیض مثلها (1).

و قال محمد بن الحسن الشیبانی:أن العجوز الکبیرة إذا رأت الدم مدة الحیض کان حیضا.و کان محمد بن مقاتل الرازی یقول:هذا إذا لم یحکم بإیاسها،أما إذا انقطع الدم زمانا حتی حکم بإیاسها،و کانت بنت تسعین سنة أو نحو ذلک فرأت الدم بعد ذلک لم یکن حیضا (2).

و ذهب الشافعیة إلی أن حد الیأس اثنان و ستون سنة،و یلغی هذا التحدید إن رأت دما فیحکم بکونه حیضا (3).

و عند المالکیة أن حد الیأس سبعون سنة قطعا،و إن بلغت الخمسین و رأت دما یسأل عنه النساء،فإن جزمن بأنه حیض أو شککن فهو حیض،و إلا فلا،أما إذا بلغت السبعین فلیس بحیض قطعا (4).

و اختلفت الروایات عن أحمد بن حنبل فمنها:أن المرأة لا تیأس من الحیض یقینا إلی ستین سنة،و ما تراه فیما بین الخمسین و الستین مشکوک فیه لا تترک له الصلاة و لا الصوم،لأن وجوبهما متیقن فلا یسقط بالشک.

و منها:أنه جعل الحد خمسین سنة لأن المرأة بعد الخمسین لا تحیض،و بهذا

ص:234


1- (1) حاشیة ابن عابدین ج 1 ص 212.
2- (2) المبسوط ج 1 ص 149-150. [1]
3- (3) نهایة المحتاج،ج 1 ص 308.
4- (4) الجواهر الزکیة ص 84.

قال إسحاق بن راهویه:بأنه لا یکون حیضا بعد الخمسین،و یکون حکمها فیما تراه من الدم حکم المستحاضة،لما روی عن عائشة رضی اللّه عنها أنها قالت:«إذا بلغت خمسین سنة خرجت من حد الحیض» (1).

و الذی یظهر أن العمل عندهم علی روایة الخمسین لإطلاق بعضهم ذلک بدون ذکر لمورد الشک،قال موفق الدین بن قدامة:کل دم تراه الأنثی قبل تسع سنین و بعد الخمسین فلیس بحیض (2)و کذلک قال صاحب الروض الندی و لم یقید بالشک (3).

و علی کل حال فهم یوافقون ما علیه المشهور عند الشیعة من تحدید الیأس بالخمسین فی غیر القرشیة.

أما فی القرشیة فقد قال فی المغنی:إن نساء الأعاجم ییأسن من المحیض فی خمسین،و نساء بنی هاشم و غیرهم من العرب إلی ستین سنة،و هو قول أهل المدینة، لما روی الزبیر بن بکار فی کتاب النسب،عن بعضهم أنه قال:لا تلد لخمسین سنة إلا العربیة،و لا تلد لستین إلا قرشیة.

و قال أحمد فی امرأة من العرب رأت الدم بعد الخمسین:إن عاودها مرتین أو ثلاث فهو حیض،و ذلک لأن المرجع فی هذا إلی الوجود،و قد وجد حیض من نساء ثقات اخبرن به عن أنفسهن بعد الخمسین،فوجب الاعتقاد بکونه حیضا،کما قبل الخمسین (4).

و المشهور عند الشیعة فی القرشیة أنها لا تیأس،إلا إذا بلغت ستین،و قد وردت بذلک عن أهل البیت علیهم السّلام أخبار کما تقدم.

الأحکام:

أجمع المسلمون علی أن الحائض یحرم علیها العبادة المشروطة بالطهارة، کالصلاة،و الصوم،و الطواف.

ص:235


1- (1) المغنی لابن قدامة ج 1 ص 263.
2- (2) کتاب الهادی أو عمدة الحازم ص 14 لابن قدامة.
3- (3) الروض الندی ص 54.
4- (4) المغنی ج 1 ص 263.

کما أجمعوا علی أنها تقضی الصوم دون الصلاة،و الخوارج یخالفون المسلمین بوجوب قضاء الصلاة علیها.

و کیف کان فإن العلماء اتفقوا علی تحریم أمور علی الحائض کمس کتابة القرآن،و اللبث فی المساجد،و غیر ذلک.

أما قراءة القرآن فقد حرم الشیعة سور العزائم أو آیات السجدات فقط،کما تقدم فی الوضوء،أما قراءة غیرها علی کراهیة،و أجاز مالک بن أنس قراءة القرآن للحائض دون الجنب،لأن الجنب قادر علی تحصیل صفة الطهارة بالاغتسال،فیلزمه تقدیمه علی القراءة،و الحائض عاجزة عن ذلک،فکان لها أن تقرأ،و قد تقدم الکلام فی بحث الجنابة،و إن عمدة ما یستدل به المانعون هو حدیث ابن عمر،و قد ذکرنا ما فیه من عدم صلاحیته للاستدلال،و کل حکم بلا دلیل إنما هو تحکم.

و لا حاجة إلی بسط القول فی الموضوع.بقی الکلام فی حرمة وطء الحائض و وجوب الکفارة فی ذلک.

حرمة الوطء:

اتفق المسلمون علی حرمة وطء الحائض،و اختلفوا فی جواز الاستمتاع فیها بما دون ذلک.کما اختلفوا فی جواز الوطء بعد انقضاء الحیض و قبل الغسل.

أما حرمة وطئها.فمجمع علیه لأن اللّه تعالی أمر باعتزال النساء بقوله عز اسمه:

قُلْ هُوَ أَذیً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِی الْمَحِیضِ قیل المراد:أن الأذی یکون فی موضع الدم، و هو منهی عنه،و مأمور بالاعتزال منه،أما سائر جسدها فغیر مشمول.و قیل بالعموم إلا ما خصصته السنة کما سیأتی.

و کیف کان فإن من وطأ زوجته فی زمان الحیض عالما بالحکم و الموضوع،فإن علیه الکفارة،و هی دینار فی أوله،و نصف دینار فی وسطه،و ربع دینار فی آخره، یتصدق به عینا أو قیمة.هذا هو المشهور عند الشیعة.

أما الحنفیة فالمروی عن أبی حنیفة أنه قال لا کفارة،و ذهب أکثر علماء الحنفیة إلی استحباب التصدق بدینار أو نصفه،و یتوب و یستغفر.

و صرح بعض الحنفیة بکفر مستحل الوطء فی الحیض،و قیل لا یکفر و علیه العمل عندهم.

ص:236

و قال الحصکفی فی شرح التنویر:و یندب الصدقة بدینار،أو نصفه،و مصرفه کالزکاة.و هل علی المرأة تصدق؟قال فی الضیاء لا (1).

و عند المالکیة:أن الوطء ممنوع،فمن فعل ذلک أثم،و لا غرم علیه،و دلیلهم من جهة القیاس أن هذا محرم لا لحرمة عبادة،فلم تجب فیه کفارة کالزنی (2).

و للشافعی قولان:أحدهما لیس علیه کفارة،و الآخر أن علیه کفارة و هی دینار، یتصدق به،إن کان فی أوله،و إن کان فی آخره یتصدق بنصف دینار،لما روی عن ابن عباس أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«فی الذی یأتی امرأته و هی حائض یتصدق بدینار أو بنصف دینار» (3).

و بهذا قال أحمد بن حنبل فی إحدی الروایات عنه،لما رواه النسائی و أبو داود فی ذلک.

قال ابن قدامة:و فی قدر الکفارة روایتان:إحداهما أنها دینار أو نصف دینار، علی سبیل التخییر أیهما أخرج أجزأ.روی ذلک عن ابن عباس.

و الثانیة:أن الدم إن کان أحمر فهی دینار،و إن کان أصفر فنصف دینار و هو قول إسحاق.

و قال النخعی إن کان فی فور الدم فدینار،و إن کان فی آخره فنصف دینار،لما روی ابن عباس عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:إن کان دما أحمر فدینار،و إن کان دما أصفر فنصف دینار،رواه الترمذی (4).

قبل الاغتسال:

و اختلف الفقهاء فی وطء الحائض فی طهرها و قبل الاغتسال،فذهب أبو حنیفة و أصحابه إلی أن ذلک جائز،إذا طهرت لأکثر أمد الحیض،و هو عنده عشرة أیام (5)و به قال الأوزاعی.

ص:237


1- (1) حاشیة ابن عابدین.
2- (2) المنتقی ج 1 ص 117.
3- (3) المهذب للشیرازی ج 1 ص 38.
4- (4) المغنی ج 1 ص 236.
5- (5) مراقی الفلاح ص 44 و ملتقی الأبحر ص 7.

و ذهب مالک و الشافعی و أحمد إلی عدم الجواز حتی تغتسل و سبب اختلافهم الاحتمال الذی فی قوله تعالی: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَیْثُ أَمَرَکُمُ اللّهُ [البقرة:222] فهل المراد به الطهر الذی هو انقطاع دم الحیض أم الطهر بالماء؟ ثم إن کان الطهر بالماء فهل المراد طهر جمیع الجسد أم طهر الفرج.کما ذهب إلیه الأوزاعی؟لأن الطهر فی کلام العرب و عرف الشرع اسم مشترک یقال علی هذه المعانی الثلاثة.

و قد رجح المانعون بأن صیغة التفعل إنما تنطلق علی ما یکون من فعل المکلفین لا علی ما یکون من فعل غیرهم،فیکون قوله تعالی: فَإِذا تَطَهَّرْنَ أظهر فی معنی الغسل بالماء منه فی الطهر الذی هو انقطاع الدم،و الأظهر یجب المصیر إلیه حتی یدل الدلیل علی خلافه (1).

و غسل الحیض کغسل الجنابة فی الکیفیة من الارتماس و الترتیب،نعم المشهور عند الشیعة أنه لا یجزی عن الوضوء.

غسل الاستحاضة:

اختلف المسلمون فی وجوب غسل الاستحاضة،فمنهم من أوجبه لکل صلاة، و منهم من لم یوجبه،و منهم من أوجب علیها طهرا واحدا فی الیوم و اللیلة،و منهم من أوجب علیها ثلاثة أطهار للصبح غسل،و لصلاة الظهر و العصر غسل،و لصلاة المغرب و العشاء غسل،و بهذا قال الشیعة و أوجبوه فی الاستحاضة الکثیرة.

أما المتوسطة فعلیها مع الوضوء غسل واحد لصلاة الصبح فقط،و القلیلة منها لیس علیها شیء إلا الوضوء لکل صلاة،فریضة کانت أو نافلة،کما هو مذکور مفصل فی محله من کتب الفقه.

و کیف کان فإن الشیعة یذهبون لوجوب غسل الاستحاضة إن کانت متوسطة أو کثیرة مع الوضوء،و إن کانت قلیلة فلا یجب إلا الوضوء کما تقدم.

و قال بوجوب الغسل جماعة من السلف کابن الزبیر و عطاء بن أبی رباح و عائشة،و هو المروی عن علی علیه السّلام.

ص:238


1- (1) ابن رشد فی البدایة ج 1 ص 56.

و قال سعید بن المسیب و الحسن البصری:بوجوب الغسل من صلاة الظهر إلی صلاة الظهر.

و فی الباب أحادیث صحیحة تدل علی وجوب الغسل،و لکنهم حملوها علی الاستحباب،منها حدیث عائشة أنها قالت:استحیضت زینب بنت جحش فقال لها النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:اغتسلی لکل صلاة (1).فکانت عائشة تذهب إلی وجوب الاغتسال کما فی بعض الروایات عنها.

و منها حدیث أسماء بنت عمیس:أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أمر فاطمة بنت أبی حبیش أن تغتسل للظهر و للعصر غسلا واحدا،و تغتسل للمغرب و العشاء غسلا واحدا، و تغتسل للفجر غسلا واحدا (2)أخرجه أبو داود.

و منها حدیث عائشة عن أم حبیبة بنت جحش أنها استحاضت فأمرها رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أن تغتسل لکل صلاة (3).

و منها حدیث عائشة أیضا قالت:استحیضت امرأة علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

فأمرت أن تعجل العصر،و تؤخر الظهر حتی تغتسل لهما غسلا،و أن تؤخر المغرب و تعجل العشاء و تغتسل لهما غسلا،و تغتسل لصلاة الصبح غسلا (4).

و مثله حدیث سهلة بنت سهیل أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أمرها أن تجمع بین الظهر و العصر بغسل،و المغرب و العشاء بغسل،و تغتسل للصبح (5).

فإن هذه الأحادیث و غیرها تدل بمجموعها علی التفصیل الذی ذهبت إلیه الشیعة،مضافا لما ورد عن أهل البیت علیهم السّلام بالطرق الصحیحة،من حیث وجوب الغسل علی المستحاضة کما ذهب إلیه کثیر من علماء السلف.

قال ابن رشد القرطبی:فلما اختلفت ظواهر هذه الأحادیث ذهب الفقهاء فی تأویلها أربعة مذاهب:مذهب النسخ،و مذهب الترجیح،و مذهب الجمع،و مذهب

ص:239


1- (1) سنن أبی داود ج 1 ص 68.
2- (2) سبل السلام للأمیر الصنعانی ج 1 ص 101.
3- (3) صحیح مسلم شرح النووی ج 4 ص 22.
4- (4) سنن أبی داود ج 1 ص 70.
5- (5) المصدر السابق.

بناء،و الفرق بین الجمع و البناء:أن البانی لیس یری أن هناک تعارضا فیجمع بین الحدیثین،و أما الجامع فهو یری أن هنالک تعارضا فی الظاهر.الخ (1).

و قال ابن دقیق العید:و ذهب قوم إلی أن المستحاضة تغتسل لکل صلاة،و قد ورد الأمر بالغسل لکل صلاة فی روایة ابن إسحاق خارج الصحیح،و الذین لم یوجبوا الغسل لکل صلاة حملوا ذلک(أی الأخبار الدالة علی الوجوب)علی مستحاضة ناسیة للوقت و العدد،یجوز فی مثلها أن ینقطع الدم عنها فی وقت کل صلاة (2).

و علی کل حال:فإن التفصیل الذی ذهب إلیه الشیعة فی الاستحاضة،و وجوب الغسل علیها لم یذهب إلیه أحد من أئمة المذاهب،و حملوا أخبار الوجوب علی الاستحباب،أو أنهم ذهبوا إلی الترجیح،و أن الأصل عدم الوجوب.

قال النووی:و اعلم أنه لا یجب علی الاستحاضة الغسل لشیء من الصلاة،و لا فی وقت من الأوقات،إلا مرة واحدة فی وقت انقطاع حیضها،و بهذا قال جمهور العلماء من السلف و الخلف،و هو مروی عن علی و ابن مسعود،و ابن عباس،و عائشة رضی اللّه عنهم،و هو قول عروة بن الزبیر،و أبی سلمة و مالک و أبی حنیفة و أحمد.

و روی عن ابن عمر،و ابن الزبیر،و عطاء بن أبی رباح أنهم قالوا:یجب علیها أن تغتسل لکل صلاة،و روی هذا أیضا عن علی و ابن عباس.

و روی عن عائشة أنها قالت:تغتسل کل یوم غسلا واحدا،و عن المسیب و الحسن قالا:تغتسل من صلاة الظهر دائما.

و قال ابن حزم بعد أن أورد الأخبار الدالة علی وجوب الغسل:هذه آثار فی غایة الصحة،رواها عن رسول اللّه أربع صواحب:عائشة أم المؤمنین،و زینب بنت أم سلمة،و أسماء بنت عمیس و أم حبیبة بنت جحش،و رواها عن کل واحدة من عائشة و أم حبیبة:عروة،و أبو سلمة،و رواه أبو سلمة عن زینب بنت سلمة،و رواه عروة عن أسماء،و هذا نقل تواتر یوجب العلم.

و بعد أن ذکر الأخبار التی تدل علی ما أفتی به بعض الصحابة فی وجوب الغسل،کعلی علیه السّلام و ابن عباس،و أم حبیبة،و ابن الزبیر،و ابن عمر.

ص:240


1- (1) بدایة المجتهد ج 1 ص 29.
2- (2) العدة ج 1 ص 484.

ثم قال:فهؤلاء من الصحابة:أم حبیبة و علی بن أبی طالب و ابن عباس،و ابن عمر،لا مخالف لهم یعرف من الصحابة رضی اللّه عنهم،إلا روایة عائشة أنها تغتسل کل یوم عند صلاة الظهر،و رویناه هکذا من طریق معمر عن هشام بن عروة عن أبیه عن عائشة مبینا:کل یوم عند صلاة الظهر.و من التابعین عطاء،و سعید بن المسیب و النخعی و غیرهم،کل ذلک بأسانید فی غایة الصحة.

ثم أخذ ابن حزم فی الرد علی من یترک الأخذ بالسنة الصحیحة تقلیدا لإمامه، و توجیها لموافقة آرائه،و بین فی رده فساد أدلتهم علی عدم الوجوب (1).

و علی کل حال:فإن مسألة وجوب غسل الاستحاضة قد وردت فیه نصوص صریحة تقول بالوجوب کما مر بیانه،و القول بأن الأصل عدم الوجوب لعدم ورود أمر من الشارع فی ذلک مردود بالسنة الصحیحة،و المسألة تحتاج إلی مزید بیان لا یسمح به الوقت و لا یتسع له المجال.

غسل النفاس:

قال الجرجانی:هو دم یعقب الولادة،و قیل:إنه مشتق من تنفس الرحم به، و قیل هو النفس الذی هو عبارة عن الدم،و قیل هو من النفس التی هی الولد، فخروجه لا ینفک عن دم یتعقبه،و قیل:إنه دم حیض مجتمع یخرج بعد فراغ جمیع الرحم.و قیل غیر ذلک.

اتفق الجمیع علی وجوب غسل النفاس،و اختلفوا فی تحدیده قلة و کثرة، فالشیعة یقولون:لا حدّ لقلیله،و حد کثیره عشرة أیام من حین الولادة لا قبلها،و إذا رأته بعد العشرة لم یکن نفاسا،و کذا إن لم تر دما أصلا.

هذا هو المشهور عند الشیعة،و وافقهم الشافعیة،و المالکیة،و الحنابلة.أما الحنفیة فقد نقل عن أبی حنیفة أنه قال:إن أقل مدة النفاس خمسة و عشرون یوما، و نقل عن أبی یوسف أنه قال:إن أقله أحد عشر یوما،ذکر ذلک أبو موسی فی مختصره،و ابن رشد فی بدایة المجتهد (2).

ص:241


1- (1) المحلی ج 2 ص 213-218.
2- (2) البدایة ج 1 ص 50.

و لکن الحنفیة اتفقوا علی عدم التحدید (1)و قالوا:إن المراد بقول أبی حنیفة إن أقله خمسة و عشرون یوما هو إذا وقعت الحاجة إلی نصب العادة لهذا فی النفاس،لا ینقص ذلک من خمس و عشرین یوما إذا کانت عادتها فی الطهر خمسة عشر،لأنه لو نصب لها دون هذا القدر أدی إلی نقص العادة...الخ (2).

و بهذا فقد حصل الاتفاق من الجمیع علی عدم التحدید،لأقل مدة النفاس.

و اختلفوا فی أکثره فقال الشیعة:بأن أکثره عشرة أیام.و ما ذکره صاحب البحر:

من أن أکثره عند الإمامیة نیف و عشرون یوما (3)و تبعه الشوکانی فی قوله:و قالت الإمامیة نیف و عشرون و النص یرد علیهم (4)فهو غیر صحیح إذ المشهور عند الإمامیة أنه أکثر النفاس عشرة أیام،نعم هناک قول متروک ینسب إلی ابن أبی عقیل أنه قال:إن أیامها أیام حیضها،و أکثره واحد و عشرون یوما.

و إن نسبة ذلک إلی جمیع الشیعة،و إنه مذهبهم فغیر صحیح،و أمثال هذه الأمور التی تنسب إلی الشیعة بدون صحة کثیرة،و سنفرد لها فصلا خاصا إن شاء اللّه تعالی.

و کذلک نسب صاحب البحر و تبعه الشوکانی إلی الإمام موسی بن جعفر علیهم السّلام أنه قال:أکثر النفاس أربعون یوما،و هو غیر صحیح،و لم یثبت عن الإمام موسی ذلک.

و ذهب الحنفیة إلی أن أکثر النفاس أربعون یوما،و ما زاد فهو استحاضة علی خلاف بین أبی حنیفة و أصحابه فی تخلل الطهر الفاصل بین هذه المدة (5).

و قالوا:إن أکثر أیام النفاس أربعة أمثال أکثر الحیض (6)و هم یقولون بأن أکثر أیام الحیض عشرة.و من یقول بأن أکثره خمسة عشر یلزمه القول بأن أکثر أیام النفاس ستین.

ص:242


1- (1) القدوری ص 10 طبع الهند و شرح الهدایة ج 1 ص 20 و ملتقی الأبحر ص 7 و غیرها.
2- (2) المبسوط ج 3 ص 211. [1]
3- (3) البحر الزخار ج 1 ص 146.
4- (4) نیل الأوطار ج 1 ص 283.
5- (5) ذکر ذلک السرخسی فی المبسوط مفصلا ج 3 ص 112-119.
6- (6) حاشیة ابن عابدین ج 1 ص 309.

و المالکیة عندهم أن أکثر مدة النفاس ستون یوما،و هو أحد أقوال مالک،و مرة یقول:إنه أربعون،و رجع عن ذلک و قال تسأل النساء عن ذلک،و أصحابه ثابتون علی القول الأول (1)و هو الستون.

و الشافعیة یوافقون المالکیة فی ذلک،و قال المزنی بقول الحنفیة إنه أربعون، و کذلک الحنابلة یقولون:إنه أربعون یوما،فإن تجاوز دمها الأربعین و صادف عادة حیضها و لم یزد،أو زاد و لم یجاوز أکثره فحیض،و إلا فاستحاضة (2).

و هذا الاختلاف حاصل لعدم ورود حدیث صحیح عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ذلک،و ما روی عن أم سلمة أنها قالت:کانت النفساء تجلس علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أربعین یوما،و کنا نطلی وجوهنا بالورس من الکلف.رواه الخمسة إلا النسائی فقد ناقش الحفاظ هذا الحدیث و ضعفوه،لأن فیه من هو ضعیف الروایة،و منه مجهول الحال.

و روی من طریق آخر کما أخرجه ابن ماجة من طریق سلام عن حمید عن أنس و سلام هذا ضعیف،کذبه ابن معین.

و فی الباب عن أبی الدرداء و أبی هریرة قالا:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:تنتظر النفساء أربعین یوما.و فیه العلاء بن کثیر و هو ضعیف جدا،و بهذا لا یصح أن یقال بورود أثر صحیح.

قال ابن رشد:و سبب الخلاف عسر الوقوف علی ذلک بالتجربة،لاختلاف أحوال النساء فی ذلک،و لأنه لیس هناک سنة یعمل علیها،کالحال فی اختلافهم فی أیام الحیض و الطهر (3).

و قال ابن حزم:فأما من حد ستین یوما فما نعلم لهم حجة.و أما من قال:

أربعین یوما فإنهم ذکروا روایات عن أم سلمة من طریق مسة الأزدیة،و هی مجهولة...الخ.

و قال:فلما لم یأت فی مدة النفاس نص قرآن،و لا سنة،و کان اللّه تعالی قد

ص:243


1- (1) البدایة للقرطبی ج 1 ص 50.
2- (2) البدایة ج 1 ص 51.
3- (3) غایة المنتهی لابن یوسف الحنبلی ج 1 ص 83.

فرض علیها الصلاة و الصیام بیقین،و أباح وطأها لزوجها لم یجز لها أن تمتنع من ذلک،إلا حیث یمتنع بدم الحیض،لأنه حیض (1).

و علی أی حال:فإن القول بالتحدید المذکور إما علی القیاس و هو باطل،أو اعتماد علی أثر و هو غیر صحیح.

أما الشیعة فقد صح عندهم ما روی عن أهل البیت صلوات اللّه علیهم.قال شیخنا المحقق فی المعتبر:لنا مقتضی الدلیل لزوم العبادة و ترک العمل به فی العشرة إجماعا فیما زاد،و لأن النفاس حیضة حبسها الاحتیاج إلی غذاء الولد،فانطلاقها باستغنائه عنها،و أقصی الحیضة عشرة.و یؤید ذلک المستفیض عن أهل البیت:منه ما رواه الفضیل عن أحدهما(الباقر أو الصادق علیهم السّلام)قال:النفساء تکف أیام أقرائها التی کانت تمکث فیها،ثم تغتسل،و تعمل ما تعمله المستحاضة.

و الخلاصة:أن المشهور عند الشیعة أن أکثره عشرة أیام لورود النصوص المستفیضة عن أهل البیت،و إن کان هناک ما یدل علی الأکثر فلم یشتهر بها العمل.

و النفساء بحکم الحائض،فیحرم علیها ما یحرم علی الحائض،و یکره لها ما یکره للحائض،و تقضی الصوم دون الصلاة،و لا یصح طلاقها إلی غیر ذلک من أحکام الحائض.

غسل الأموات:

اتفق الجمیع علی وجوب غسل المیت المسلم،ما عدا الشهید المقتول فی المعرکة فی حفظ بیضة الإسلام،و اتفقوا علی أن غیر المسلم لا یجوز تغسیله،و أجاز الشافعیة ذلک (2).

و اختلفوا فی نزع قمیص المیت هل ینزع إذا غسل،أم یغسل فی قمیصه؟فقال الشیعة:ینزع قمیصه من طرف رجلیه،و إن استلزم فتقه،بشرط إذن الوارث،و تستر عورته.

ص:244


1- (1) المحلی ج 2 ص 203 و 205.
2- (2) المهذب لأبی إسحاق ج 1 ص 128.

و قال مالک:تنزع ثیابه و تستر عورته،و به قال أبو حنیفة.أما الشافعی فقال:

یغسل المیت فی قمیصه.

و قال الحنابلة:باستحباب تجریده من ثیابه،و ستر ما بین سرته و رکبته،و ستره عن العیون تحت ستر أو سقف.

و کیف کان فالکلام هنا یقع فی أمرین وقع الاختلاف فیهما بین الشیعة و غیرهم من المذاهب و هما:کیفیة غسل المیت،و وجوب الغسل علی من مس میتا.

1-کیفیة الغسل:

أما کیفیة الغسل ففیه واجب و مستحب:أما الواجب عند الشیعة فهو إزالة النجاسة عن جمیع بدن المیت قبل الشروع،کما یجب فیه طهارة الماء و إباحته، و إباحة السدر و الکافور.بل الفضاء الذی یشغله الغسل.

و أن یغسل ثلاث مرات:الأولی بماء السدر،و الثانیة بماء الکافور و یعتبر فی کل من السدر و الکافور ألا یکون کثیرا بمقدار یوجب خروج الماء عن الإطلاق إلی الإضافة،و لا قلیلا بحیث لا یصدق أنه مخلوط بالسدر و الکافور.و الثالثة بماء القراح،و یشترط فیه الترتیب:بأن یغسل فی کل مرة رأسه ثم الجانب الأیمن،ثم الجانب الأیسر،و لا بد فیه من النیة.

و یستحب أن یغسل رأسه برغوة السدر و أن یبدأ بغسل یدیه إلی نصف الذراع، و أن یقف الغاسل علی الجانب الأیمن من المیت،و غیر ذلک مما ذکره العلماء.

و یکره إقعاده حال الغسل و ترجیل شعره،و قص أظافره،و حلق عانته،و قص شاربه،و غسله بالماء الساخن،و جعله بین رجلی الغاسل.

أما المذاهب الأخری فلم یوجبوا شیئا من ذلک و إنما هی أمور مستحبة لأن الأکثر منهم لا یرون وجوب کیفیة خاصة لغسل المیت،بل المطلوب هو تطهیره بالماء (1).

و ما ذهبوا إلیه من الغسل بالسدر و الکافور،فهو علی جهة الاستحباب و الحنفیة

ص:245


1- (1) ملتقی الأبحر ص 24 و القدوری ص 24 طبع الهند و الاختیار لتعلیل المختار ج 1 ص 92 و الهدایة ج 1 ص 23 و [1]غنیة المتملی ص 352 و غیرها من کتب الفقه الحنفی.

یوجبون النیة لإسقاط الفرض عن الجمیع لأنه واجب کفائی،و إذا وجد غریق فإنه یجزی فی غسله عندهم أن یحرک فی الماء بنیة الغسل (1).

و قال فی مراقی الفلاح:و النیة فی تغسیله لإسقاط الفرض عنا،حتی إذا وجد غریقا یحرک فی الماء بنیة غسله.

و علی قول أبی یوسف أنه یحرک ثلاثا کما فی الفتح،و عن محمد الشیبانی أنه إن نوی الغسل عند الإخراج من الماء یغسل مرة علی وجه السنة،و الفرض قد سقط بالنیة عند الإخراج (2).

و قال الکاسانی:الواجب هو الغسل مرة واحدة،و التکرار سنة،و لیس بواجب حتی لو اکتفی بغسلة واحدة،أو غسلة واحدة فی ماء حار،لأن الغسل إن وجب لإزالة الحدث-کما ذهب إلیه بعضهم-فقد حصل بالمرة الواحدة کما فی غسل الجنابة،و إن وجب لإزالة النجاسة المتشربة کرامة له علی ما ذهب إلیه العامة، فالحکم بالزوال بالغسل مرة واحدة أقرب إلی معنی الکرامة،و لو أصابه المطر لا یجزی عن الغسل،لأن الواجب فعل الغسل،و لم یوجد و لو غرق فی الماء فأخرج إن کان المخرج حرکه کما یحرک الشیء بقصد التطهیر سقط الغسل،و إلا فلا... (3).

و الشافعیة لا یوجبون النیة فی غسل المیت فی قول،لأن القصد منه التنظیف فلم تجب فیه النیة کإزالة النجاسة.و قول:بأنها تجب،لأنه تطهیر لا یتعلق بإزالة عین،فوجبت فیه النیة کغسل الجنابة (4).

و لهذا اختلفوا فی الغریق فقول:بأنه لا یغسل،و غرقه یکفی عن غسله،إذ النیة لیست بشرط.و قول آخر أنه یجب غسل الغریق (5).

و الغسل الأکمل عندهم أن یغسل بسدر و کافور بماء بارد،خلافا للحنفیة إذ

ص:246


1- (1) حلیة الناجی ص 531.
2- (2) حاشیة الطحاوی علی مراقی الفلاح ص 312.
3- (3) بدائع الصنائع ج 1 ص 300.
4- (4) المهذب للشیرازی ج 1 ص 128.
5- (5) منهاج الطالبیین للنووی ص 21 و السراج الوهاج للغمراوی.

قالوا باستحبابه و استحباب الترتیب فی الغسل،و تنظیف أسنانه و منخریه إلی آخر ما ذکروه من المستحبات.

المالکیة:

قال مالک:لیس لغسل المیت عندنا شیء موصوف،و لا لذلک صفة معلومة و لکن یغسل و یطهر.

قال القاضی أبو الولید الباجی:هذا کما قال(مالک):إنه لیس لغسل المیت صفة لا یجوز أن تتعدی فتکون شرطا فی صحة غسله،لکن الغرض من ذلک تطهیره، و یستحب أن یبدأ فی المرة الأولی من غسله فیصب علیه الماء،و یبدأ بغسل رأسه و لحیته،ثم بجسده یبدأ بشقه الأیمن ثم الأیسر.

و علی هذا فالغسل عند المالکیة هو تطهیر جسد المیت بالماء کیف اتفق،و لیس له صفة مخصوصة.

و الحنابلة یشترطون النیة فی الغسل کبقیة المذاهب فی الاکتفاء بمجرد الغسل بالماء،و لا یجب فیه فعل مخصوص،فلو ترک المیت تحت میزاب و نحوه و حضر من یصلح لغسله،و نوی و مضی زمن یمکن غسله فیه صح (1).

و علی هذا فإن کل ما یجرونه فی غسل المیت هو علی طریق الاستحباب لا الوجوب،کغسله بماء السدر و الکافور عند الجمیع،و الترتیب فیه،أما بقیة الأمور من تقلیم الأظفار و تسخین الماء عند الحنابلة و الحنفیة،فقد کرهها المالکیة و الشافعیة إلی غیر ذلک من الأمور الاستحسانیة فی زیادة تطهیره.

فتبین مما ذکرناه أن الشیعة لا تتفق مع جمیع المذاهب فی حکم غسل المیت، فی أن المطلوب هو تطهیره بدون صفة خاصة،کما تطهر الأشیاء النجسة بأی کیفیة اتفق مع اشتراط النیة من المطهر عند بعضهم،بل الواجب عند الشیعة تطهیر المیت بصفة خاصة،بینها الشارع المقدس فوجب اتباعه.

أخرج مسلم فی صحیحه بسند عن أم عطیة الأنصاریة قالت:دخل علینا النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و نحن نغسل ابنته(زینب)فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أکثر-إن

ص:247


1- (1) التنقیح المشبع ص 70.

رأیتن ذلک-بماء و سدر،و اجعلن فی الأخیرة کافورا أو شیئا من کافور...

الحدیث (1).

و مثله عن یحیی بن یحیی،عن حفصة بنت سیرین،و بهذا اللفظ أخرجه مسلم أیضا عن أیوب،عن محمد،عن أم عطیة،و به فی حدیث ابن علیة (2).

و أخرجه الجماعة بهذا اللفظ،و فی روایة لهم ابدأن بمیامنها و مواضع الوضوء منها.

و بهذا استدل جماعة علی وجوب غسل المیت بالسدر و الکافور،کما هو ظاهر الأمر علی ذلک.

قال ابن دقیق العید:و الاستدلال بصیغة هذا الأمر علی الوجوب عندی یتوقف علی مقدمة أصولیة،و هی جواز إرادة المعنیین المختلفین بلفظة واحدة من حیث أن قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثلاثا غیر مستقل بنفسه،فلا بد أن یکون داخلا تحت صیغة الأمر،فتکون محمولة فیه علی الاستحباب،و فی أصل الغسل علی الوجوب،فیراد بلفظ الأمر علی الوجوب بالنسبة إلی أصل الغسل،و الندب بالنسبة إلی الإیثار (3).

و قال الأمیر الصنعانی فی تعلیقته:إنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قید بقوله اغسلنها فهو داخل تحت الأمر،أی مأمور به (4).

و قال الزین بن المنیر فی هذا الحدیث:ظاهره أن السدر یخلط فی کل مرة من مرات الغسل،لأن قوله بماء و سدر یتعلق بقوله اغسلنها.قال و هو مشعر بأن غسل المیت للتنظیف لا للتطهیر،لأن الماء المضاف لا یتطهر به.

و تعقبه الحافظ بمنع لزوم مصیر الماء بذلک،لاحتمال أن لا یغیر السدر وصف الماء بأن یمعک بالسدر ثم یغسل بالماء فی کل مرة،فإن لفظ الخبر لا یأباه (5).

و أخرج أحمد عن ابن عباس قال:بینما رجل واقف بعرفة إذ وقع عن راحلته

ص:248


1- (1) صحیح مسلم شرح النووی ج 7 ص 2.
2- (2) صحیح مسلم ج 7 ص 3 و 4.
3- (3) انظر العدة ج 1 ص 239.
4- (4) المصدر السابق.
5- (5) نیل الأوطار للشوکانی ج 4 ص 31.

فوقصته-أی صرعته فکسرت عنقه-فقال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:اغسلوه بماء و سدر، و کفنوه فی ثوبیه و لا تحنطوه.

و فی هذا دلیل علی وجوب الغسل بالماء و السدر،و ان المحرم لا یحنط کما هو مذهب الشیعة،و وافقهم الشافعی لأن عنده المحرم إذا مات یبقی فی حقه حکم الإحرام،و خالف فی ذلک مالک،و أبو حنیفة،و هو مقتضی القیاس عندهم لانقطاع العبادة بزوال محل التکلیف،و هو الحیاة،و لکن الشافعی اتبع الحدیث،و هو مقدم علی القیاس عنده.و بذلک قالت الحنابلة (1)..

و الخلاصة:أن الأثر الوارد عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالأمر فی غسل المیت،هو بالکیفیة التی علیها مذهب الشیعة مضافا إلی ما استفاض عن أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ذلک.

قال الإمام الصادق علیه السّلام فی کیفیة غسل المیت:اغسله بماء و سدر،ثم اغسله علی أثر ذلک مرة أخری بماء و کافور،و ذریرة إن کانت،و اغسله الثالثة بماء قراح ثلاث غسلات لجسده.

و قال علیه السّلام:یغسل المیت ثلاث غسلات،مرة بالسدر و مرة بالماء یطرح فیه الکافور و مرة أخری بالماء القراح.

هذا ما یتعلق بالأمر الأول مما اختلف فیه،ذکرناه بصورة موجزة،أما الأمر الثانی فهو غسل المس.

2-غسل المس:

أوجب الشیعة الغسل علی من مس میتا من الناس بعد برده و قبل تطهیره، و ذهب بقیة المذاهب إلی الاستحباب،و قال الشافعی فی الجدید:الغسل من غسل المیت آکد من غسل الجمعة،لأن غسل الجمعة غیر واجب،و الغسل من غسل المیت متردد بین الوجوب و غیره.

و قال البویطی:إن صح الحدیث قلت بوجوبه (2)و هو ما رواه أبو هریرة عن

ص:249


1- (1) عمدة الفقه لابن قدامة ص 31.
2- (2) المهذب ج 1 ص 129.

النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:من غسل میتا فلیغتسل،و من حمله فلیتوضأ،أخرجه الجماعة، و لم یذکر ابن ماجة الوضوء.

و قد وقع الاختلاف فی صحة هذا الحدیث،فحسنه الترمذی،و الحافظ ابن حجر،و قال الذهبی:هو أقوی من عدة أحادیث احتج بها الفقهاء،و ذکر الماوردی:

أن بعض أصحاب الحدیث خرج لهذا الحدیث مائة و عشرین طریقا.

و الحدیث یدل علی وجوب الغسل.و فی الباب عن علی علیه السّلام عند أحمد أنه قال:من غسل میتا فلیغتسل.و رواه أبو داود،و النسائی،و أبو یعلی و البزار، و البیهقی.

و عن مکحول أن حذیفة سأله رجل مات أبوه.فقال حذیفة اغسله،فإذا فرغت فاغتسل.

و عن عائشة عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:یغتسل من أربع:من الجمعة،و الجنابة و الحجامة،و غسل المیت.

و قد ورد عن أهل البیت ذلک قال الإمام الصادق علیه السّلام:من غسل میتا فلیغتسل.فقال له حریز:فمن مسه قال علیه السّلام:فلیغتسل.

و قال علیه السّلام:من مسه(أی میت الإنسان)و هو سخن فلا غسل علیه:فإذا برد علیه الغسل.إلی غیر ذلک من النصوص المتواترة فی وجوب الغسل علی من مس میتا،و هو المشهور عند الشیعة،بل قیل إنه إجماع.إلا ما ذهب إلیه السید المرتضی من القول بالاستحباب.

و لا یعارض هذه الأدلة ما ورد عن أسماء بنت عمیس أنها غسلت أبا بکر فلما فرغت قالت لمن حضرها من المهاجرین:إنی صائمة،و إن هذا یوم شدید البرد.فهل علی من غسل؟قالوا:لا،و غیر ذلک مما یمکن أن یتمسک به المانعون.

فإن حدیث أسماء بعد التسلیم بأنها تولت غسل الخلیفة دون غیرها من المهاجرین و الأنصار،و أقربائه من الصحابة،فإن ذلک لا یثبت للمانعین به شیئا،لأن الراوی له هو القاضی عبد اللّه بن أبی بکر بن عمرو بن حزم و لا یصح ذلک عنه لأنه ولد سنة 65 من الهجرة،و کانت هذه القضیة سنة 13 من الهجرة أی سنة وفاة أبی بکر

ص:250

فکیف تصح روایته عن أسماء بنت عمیس و هو لم یولد بعد!!!و القضیة قبل ولادته باثنتین و خمسین سنة.

و حدیث أسماء هو عمدة ما فی الباب،و هو کما تری من عدم الصحة علی ما فیه من موهنات أخری.

و الحاصل أن بعضهم حمل أحادیث الباب علی المعنی المجازی،لما فیه من الجمع بین الأدلة بوجه مستحسن عندهم،و هو الاستحباب،و به قال مالک و أصحاب الشافعی (1)،و الحنابلة.

و قال أبو حنیفة و أصحابه:إنه لا یجب و لا یستحب،لحدیث(لا غسل علیکم من غسل المیت).کما أخرجه البیهقی عن ابن عباس،و لم یرفعه إلی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و لا حجة فی ذلک،و لا یصلح لصرف تلک الأحادیث الصحیحة عن معناها الحقیقی، و هو الوجوب،و لو حملها علی الاستحباب کغیره لکان ألیق.

و علی کل حال:فإن مس میتة الإنسان توجب الغسل علی الماس،اختیارا کان المس أم لا،و سواء کان صغیرا أم کبیرا،و کذلک یجب الغسل بمس القطعة المبانة من الحی أو المیت،إذا کانت مشتملة علی العظم دون الخالیة منه،و دون العظم المجرد من الحی هذا هو المشهور عند الشیعة (2).

و هم یعتبرون مس المیت کحکم الحدث الأصغر فیمنع من الأعمال التی یشترط فیها الوضوء فقط،فیجوز لمن علیه غسل المس دخول المساجد،و المکث فیها، و قراءة العزائم،و لا یجوز مس کتابة القرآن و نحوها،مما لا یجوز للمحدث.

الصلاة علی المیت :

أما الصلاة علی المیت فقد وقع الخلاف بین الشیعة و غیرهم من المذاهب فی عدد التکبیرات،إذ الشیعة یوجبون خمس تکبیرات.و غیرهم یراها أربعا،کما اختلفت المذاهب فیما بینها فی قراءة الفاتحة فی الأولی،کما ذهب الشافعی لذلک، و به قالت الحنابلة.

ص:251


1- (1) نیل الأوطار ج 1 ص 238.
2- (2) غایة المنتهی ج 1 ص 48.

أما المالکیة و الحنفیة فهم یتفقون مع الشیعة فی عدم وجوب قراءة الفاتحة،إذ لم یثبت ذلک بأثر صحیح.

أما التکبیرات فإن الشیعة یخالفون جمیع المذاهب فی وجوب الخمس،لأن ذلک هو الثابت من فعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و أهل بیته،و کثیر من أصحابه،کابن عباس، و أبی ذر،و زید بن أرقم،و حذیفة الیمانی و غیرهم.

و کبر زید بن أرقم علی جنازة خمس تکبیرات،فسألوه فقال:کان رسول اللّه یکبرها.رواه مسلم و الترمذی و أبو داود و النسائی.

و صلی حذیفة علی جنازة فکبر خمسا،ثم التفت فقال:ما نسیت،و لا و همت،و لکن کبرت کما کبر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،صلی علی جنازة فکبر خمسا.رواه أحمد.

و روی ابن المنذر عن ابن مسعود:أنه صلی علی جنازة رجل من بنی أسد، فکبر خمسا.

و غیر ذلک من الآثار الدالة علی تعین الخمس،مضافا لما روی عن أهل البیت علیهم السّلام فی ذلک.

و أما ما یروی من أن عمر بن الخطاب هو الذی جمع الناس علی أربع تکبیرات،لاختلاف الناس فی ذلک،کما رواه الطحاوی فی معانی الآثار (1)،فهذا شیء لا یمکن الرکون إلیه،لعدم الثقة بالراوی و جهله أولا،و بتنزیه عمر عن إحداث فریضة لم تکن علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،إذ لیس له حق التشریع،و لو فعل فلا یجب اتباعه،لأن ذلک من وظیفة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فنحن نتبع ما ورد عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،دون سواه.و لم یرد عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ذلک و سیأتی تفصیل صلاة المیت فی کتاب الصلاة و نلفت أنظار القراء الکرام إلی ما افتراه بعض الکتّاب علی الشیعة،بأن صلاة المیت عندهم تختلف عدد رکعاتها علیه،تبعا لمکانته،و هذا شیء لم یقل به أحد منهم،و إجماعهم علی وجوب خمس تکبیرات،کما ذکرنا و ما یأتی تفصیله.

ص:252


1- (1) معانی الآثار ج 1 ص 288.

و إنما اختلاف عدد الرکعات عند غیرهم،و لکن أولئک الکتاب لم یراعوا الصدق،و لم یحتفظوا بأمانة التاریخ،فویل لهم مما کسبت أیدیهم من افتراء فی القول،و کذب فی النقل،و ویل لهم مما یکتبون،بدون تثبت و عن غیر درایة،و قد أشرنا لهذا القول من قبل.

أما الصلاة علی الغائب فذهب الشیعة إلی عدم جوازها،و وافقهم الحنفیة و المالکیة،و ستأتی الإشارة لذلک إن شاء اللّه تعالی.هذا ما یتعلق به الکلام فی هذا الباب،و قد أعرضنا عن کثیر من المسائل خشیة الإطالة إذ الاستقصاء لیس من شرط هذا الکتاب.

التیمم
اشارة

و هو فی اللغة القصد،یقال یممت فلانا أی قصدته.و منه قول الشاعر:

تیممتکم لما فقدت أولی النهی و من لم یجد ماء تیمم بالترب

و فی الشرع:قصد الصعید الطاهر،و استعماله بصفة مخصوصة،لإزالة الحدث،أو أنه:مسح الوجه و الیدین بالصعید،و قیل:إیصال التراب إلی الوجه و الیدین بشرائط مخصوصة،و قیل غیر ذلک.

و قد أجمع المسلمون علی مشروعیة التیمم فی الجملة.لقوله تعالی: فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً .

و اختلفوا فی مسوغاته و کیفیته،هل هو بدل عن الطهارة الکبری و الصغری؟أم عن الصغری فقط؟و فی صفة الصعید الذی یتیمم به،و هل النیة شرط فیه أم لا؟و هل یصح قبل دخول الوقت أم لا؟و هل هو رافع أم مبیح؟إلی غیر ذلک مما یطول الکلام فیه و نقتصر هنا علی بیان مسوغاته و کیفیته.

مسوغاته:

اتفقت المذاهب الإسلامیة علی أن عدم وجدان الماء،أو عدم التمکن من الوصول إلیه،أو حصول الضرر فی تحصیله أو استعماله مسوغ للتیمم.

و اختلفوا فی وجوب الطلب لفاقد الماء،فمنهم من لم یحدد مقداره،فذهب

ص:253

مالک أنه لا یحد بحد.و قال:إنه کل ما یشق علی المسافر طلبه،و الخروج إلیه و إن خرج فاته أصحابه،و المشهور من مذهبه أن طلب الماء شرط فی صحة التیمم،و به قال أبو حنیفة (1).

و قال الشافعی:یجب الطلب للماء بعد دخول الوقت،سواء فی رحله أو مع رفقته،فیسأل رفیقه عن الماء،فإن بذله لزمه قبوله فإنه لا منة علیه،و کیفیة الطلب أن ینظر عن یمینه،و شماله،و أمامه،و وراءه،فإن کان بین یدیه حائل من جبل أو غیره صعده (2).

و قال الحنفیة:بوجوب الطلب علی فاقد الماء فی المصر مطلقا،ظن قربه أو لم یظن،أما إذا کان مسافرا فإن ظن قربه منه بمسافة أقل من میل وجب علیه.

و قال الکاسانی:و الأصح أنه قدر ما لا یضر بنفسه و رفقته بالانتظار.و نقل عن أبی یوسف أنه قال:إن کان الماء بحیث لو ذهب إلیه لا تنقطع عنه جلبة العیر، و یحس بأصواتهم و أصوات الدواب.إلی آخر ما هنالک من الاختلاف عند الحنفیة فی تحدیث الطلب (3).

و الحنابلة یذهبون:إلی وجوب مطلق الطلب،و هو شرط فی جواز التیمم،فلا یجوز التیمم حتی یطلب الماء فی رحله،و رفقته،و ما قرب منه،فإن بذل له أو بیع بزیادة یسیرة علی مثله لا یجحف بماله لزمه قبوله،و إن علم بماء لزمه قصده،ما لم یخف عن نفسه و ماله،و لم یفت الوقت (4)و خالفهم الشافعی فقال:لا یلزمه شراؤه بزیادة یسیرة و لا کثیرة لذلک (5).

و بهذا یظهر أن المذاهب تتفق مع الشیعة فی وجوب الطلب،و هو الفحص عن الماء إلی الیأس أو ضیق الوقت،و إذا کان فی مفازة فیکفی الطلب عندهم مقدار غلوة سهم فی الأرض الحزنة،و غلوة سهمین فی الأرض السهلة.فی الجوانب الأربع،

ص:254


1- (1) المنتقی ج 1 ص 110.
2- (2) المهذب للشیرازی ج 1 ص 34.
3- (3) بدائع الصنائع للکاسانی ج 1 ص 46.
4- (4) الهادی أو عمدة الحازم ص 13.
5- (5) المغنی لابن قدامة ج 1 ص 241.

بشرط وجود الماء فی الجمیع،و إلا اختص الطلب بما یحصل الرجاء به،و بشرط عدم الخوف فی الطلب،علی النفس،أو العرض،أو المال.

و ذهب الشیعة أیضا إلی أن وجدان المقدار من الماء غیر الکافی للغسل أو الوضوء کعدمه،فیجب التیمم،و وافقهم الحنفیة و المالکیة فی ذلک.

و ذهبت الشافعیة و الحنابلة إلی وجوب استعمال ما تیسر له منه،فی بعض أعضاء طهارته،ثم یتیمم عن الباقی.

و الحنابلة و الشافعیة یتفقون مع الشیعة بأن حصول المنة و الهوان فی استیهاب الماء مسوغ للتیمم (1).

و اتفقوا علی أن خوف الضرر من استعمال الماء مسوغ للتیمم کمن یخاف حدوث المرض أو بطء البرء من استعماله.

و کیف کان فإن مسوغات التیمم عند الشیعة سبعة،و هی عدم ما یکفیه من الماء لوضوئه أو غسله،و عدم التمکن من الوصول إلی الماء لعجز أو خوف علی نفسه أو ماله أو عرضه،و منه ما لو کان الماء فی إناء مغصوب،و أن یکون هناک واجب یتعین صرف الماء فیه علی نحو لا یقوم غیر الماء مقامه،مثل إزالة الخبث،و ضیق الوقت عن تحصیل الماء أو عن استعماله بحیث یلزم من الوضوء وقوع الصلاة أو بعضها خارج الوقت،و تحصیل الماء علی الاستیهاب الموجب للذلة و الهوان،أو شرائه بثمن یضر بحاله،و خوف الضرر من استعمال الماء بحدوث مرض أو زیادته أو بطئه، و خوف العطش علی نفسه أو علی نفس محترمة.

و إذا لخصنا موارد الخلاف فإنا نجد أن المذاهب تتفق کلها فی بعض المسوغات و تختلف فی البعض الآخر،و کذلک خلافهم مع الشیعة مرة و اتفاقهم أخری، لاختلاف الآثار الواردة و المبانی العامة.

کیفیته:

اتفق المسلمون علی أن الواجب فی التیمم هو مسح الوجه و الیدین،و لکنهم اختلفوا فی کیفیة المسح،هل یمسح الوجه کله أم بعضه؟و هل تمسح الیدان کلها إلی

ص:255


1- (1) انظر المهذب ج 1 ص 34 و المغنی لابن قدامة ج 1 ص 240.

المرافق کما فی الوضوء،أم یکفی مسح الکف؟کما أنهم اختلفوا فی عدد الضربات هل تکفی الواحدة أم الاثنتان أو ثلاث؟ و لا بد لنا هنا من الوقوف علی کیفیة التیمم عند المذاهب،لنعرف مدی الخلاف بینهم.

الشیعة:

قالوا بأن کیفیة التیمم:أن یضرب بیدیه علی الأرض دفعة واحدة،و أن یکون بباطنهما،ثم یمسح بهما جمیعا تمام جبهته،و جبینه من قصاص الشعر إلی الحاجبین،و إلی طرف الأنف الأعلی المتصل بالجبهة،ثم مسح تمام ظاهر الکف الیمنی من الزند إلی أطراف الأصابع،ثم مسح تمام ظاهر الکف الیسری کذلک بباطن الکف الیمنی.

الحنفیة:

و عند الحنفیة:وضع الیدین علی الأرض ثم یرفعهما و ینفضهما،و یمسح بهما وجهه،ثم یضع یدیه ثانیة علی الأرض،ثم یرفعهما فینفضهما ثم یمسح بهما کفیه و ذراعیه من المرفقین (1).

المالکیة:

و عند المالکیة:أن التیمم ضربة للوجه،و ضربة للیدین،یمسحهما إلی المرفقین،و فی روایة أن فرض الیدین مسحهما إلی الکوعین (2)و هما طرف الزندین مما یلی الإبهام،و فسره فی العشماویة:بأنه مفصل الکف من الساعد.

الشافعیة:

و عند الشافعیة:التیمم مسح الوجه و الیدین مع المرفقین بضربتین أو بأکثر.قال الشیرازی:و الدلیل علیه حدیث أبی أمامة و ابن عمر رضی اللّه تعالی عنهما:أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:التیمم ضربتان ضربة للوجه،و ضربة للیدین.

ص:256


1- (1) المبسوط ج 1 ص 106. [1]
2- (2) المنتقی ج 1 ص 114.

و حکی بعض أصحابنا عن الشافعی رحمه اللّه قال فی القدیم:التیمم ضربتان:

ضربة للوجه،و ضربة للکفین (1).

و فی المنهاج أن الضرب مستحب،بل یکفی عندهم نقل التراب مع النیة (2).

و قال النووی عن الشافعی:إنه یکفی مسح الیدین إلی الکوعین،و هما طرف الزندین،و رجحه فی شرح المهذب،و التنقیح،و قال فی الکفایة:إنه الذی یتعین ترجیحه 3.

الحنابلة:

و عند الحنابلة:التیمم مسح الوجه و اللحیة،حتی مسترسلها،لا ما تحت الشعر و مسح یدیه إلی کوعیه (3).

و قال الخرقی:و التیمم ضربة واحدة،یضرب بیدیه علی الصعید الطیب و هو التراب،فیمسح بهما وجهه و کفیه.

و قال ابن قدامة:و یجب مسح الیدین إلی الموضع الذی یقطع منه السارق.أومأ أحمد إلی هذا لما سئل عن التیمم فأومأ إلی کفه،و لم یجاوزه،و قال:قال اللّه تعالی:

وَ السّارِقُ وَ السّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَیْدِیَهُما من أین تقطع ید السارق أ لیس من هاهنا؟و أشار إلی الرسغ (4).

و الجمیع یشترطون فیه النیة،حتی الحنفیة الذین لم یقولوا بوجوبها للوضوء و الغسل،و لم یخالف منهم إلا زفر،فإنه ذهب إلی أن النیة لیست بشرط،و الشیعة یشترطون الترتیب و الموالاة و وافقهم المالکیة،فإنهم یشترطونهما (5).

و الشافعیة یقولون بالموالاة للضرورة فتجب علی صاحب الضرورة،و تندب لغیره،و فی قول للشافعی:إنها تجب،أما الترتیب فیوجبونه بین الوجه و الیدین،

ص:257


1- (1) المهذب ج 1 ص 32.
2- ((2)و(3)) مغنی المحتاج للنووی ج 1 ص 99.
3- (4) غایة المنتهی ج 1 ص 62.
4- (5) المغنی ج 1 ص 255.
5- (6) الجوهرة ص 99.

فیلزم تقدیم الوجه،و أما الیدان فیستحب أن یقدم الیمنی علی الیسری (1).

و الحنابلة یشترطون الترتیب و الموالاة (2).أما الحنفیة فإن الترتیب و الموالاة عندهم من السنن لا الواجبات (3).

الاتفاق و الافتراق بین المذاهب:

رأینا فیما سبق من عرض صور کیفیة التیمم أن الأکثر یتفق مع مذهب الشیعة فیه،فالمالکیة لهم قول فی الاکتفاء بمسح الکفین،و کذلک الشافعیة علی قول للشافعی،و أما الحنابلة فلا خلاف عندهم فی وجوب مسح الکفین کما هو مذهب الشیعة.

نعم الحنفیة یرون لزوم مسح الیدین إلی المرفقین،و لهم قول بالاکتفاء بمسح أکثر الوجه و الیدین،و صحح هذا القول عندهم،و روی الحسن عن أبی حنیفة:أن مسح الکفین إلی الرسغین،و روی الحسن أیضا عن أبی حنیفة:أن الاستیعاب لیس بواجب،حتی لو ترک شیئا أقل من الربع من الوجه أو الیدین-الواجب مسحهما فی التیمم-یجزیه (4).

و قد احتج القائلون بمسح الید إلی المرفقین بالآیة،و بالقیاس علی الوضوء بأن المرفقین ممسوحین فی التیمم فکان فی الوضوء کغسله،و لأن اللّه تعالی أمر بمسح الأیدی فلا یجوز التقید بالرسغ-و هو ما بین الساعد و الکف-إلا بدلیل،و قد قام دلیل التقید بالمرفق،و یعنون بالدلیل المقید بالمرفقین ما روی عن ابن عمر مرفوعا بلفظ:

ضربة للوجه و ضربة للیدین إلی المرفقین.

و قد تکلم الحفاظ فیه،و طعنوا فی إسناده،لأن فیه علی بن ضبیان.و قال أبو زرعة:حدیث باطل.و قال أحمد بن حنبل:لیس بصحیح عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إنما هو عن ابن عمر.و هو عندهم حدیث منکر.

و قال الخطابی:(هذا الحدیث)یرویه محمد بن ثابت،و هو ضعیف.

ص:258


1- (1) السراج الوهاج ص 28 و المهذب ج 1 ص 35.
2- (2) الروض الندی ص 63.
3- (3) مراقی الفلاح ص 37.
4- (4) مراقی الفلاح ص 36 و المنیة ص 32.

و قال ابن عبد البر:لم یروه غیر محمد بن ثابت و به یعرف،و من أجله ضعف عندهم،و هو عندهم حدیث منکر (1).

و کل ما ورد عن ابن عمرو و غیره بتعین المسح إلی المرفقین،فهو غیر صحیح کما نص علیه کثیر من الحفاظ،و قد ناقش ابن حزم جمیع الأحادیث التی احتج بها القائلون بالمسح إلی المرفقین (2)بما لا حاجة إلی التعرض لذکرها.

و قال الحافظ بن حجر فی الفتح:لم یصح فی التیمم سوی حدیث أبی جهم و حدیث عمار،فحدیث أبی جهم ورد مجملا،و حدیث عمار یذکر الکفین فی الصحیحین.

و قال الشافعی:و مما یقوی الاقتصار علی الوجه و الکفین أن عمارا ما کان یفتی بعد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلا بالوجه و الکفین ضربة واحدة،و راوی الحدیث أعرف بالمراد به من غیره،و لا سیما الصحابی المجتهد (3).

و باختصار إن عمدة ما یستدل به القائلون بوجوب المسح إلی المرافق،هو القیاس علی الأمر بالوضوء،و حدیث ابن عمر و حدیث أبی أمامة.و حدیث الأسلع بأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:فی المسح إلی المرفقین.

و کل هذا لا حجة فیه:أما حدیث ابن عمر فقد مرت مناقشته،و أما حدیث أبی أمامة الباهلی یرویه جعفر بن الزبیر عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبی أمامة.

فإن جعفر بن الزبیر ضعیف الحدیث،بل وضاع کما قال ابن حیان:إنه یروی عن القاسم و غیره أشیاء موضوعة،و روی عن القاسم عن أبی أمامة نسخة موضوعة.

و قال شعبة:إنه وضع علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أربعمائة حدیث کذب.و کذلک أن بین الراوی جعفر بن الزبیر و بین محمد بن عمر الیافعی رجل مجهول لم یسمه الراوی،بل قال:عن رجل عن جعفر بن الزبیر.

و أما حدیث الأسلع(أو الأشلع)کما فی مبسوط السرخسی فهو حدیث لا یصح الاحتجاج به،لأن سنده مظلم،و کلهم لا یعتمد علیهم،و لأن أسلع شخصیة یصعب

ص:259


1- (1) المغنی لابن قدامة ج 1 ص 245 و نیل الأوطار للشوکانی ج 1 ص 264.
2- (2) انظر المحلی ج 1 ص 146-152.
3- (3) تعلیقة کتاب تیسیر الوصول ج 3 ص 98 و نیل الأوطار ج 1 ص 265.

إثباتها.إذ لم یعرفه حفاظ الحدیث،و لم یرو عنه أحد إلا هذا الحدیث رواه البیهقی، و مثل هذا لا یصح أن یعتمد علیه،و لا تصلح هذه الأحادیث الواهیة لمعارضة حدیث عمار بن یاسر رضوان اللّه علیه،الذی نص الحفاظ علی أنه أصح حدیث فی هذا الباب،أخرجه أصحاب الصحاح،و فیه أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال له فی صفة التیمم:إنما یکفیک هکذا و ضرب النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بکفه الأرض،و نفخ فیهما،ثم مسح بهما وجهه و کفیه.

و فی لفظ:إنما یکفیک أن تضرب بکفیک فی التراب،ثم تنفخ فیهما،ثم تمسح بهما وجهک و کفیک إلی الرسغین.رواه الدار قطنی بهذا اللفظ.

و قد أجاب الحنابلة علی تلک الأحادیث التی جاء فیها ذکر المسح إلی المرفقین کما أشرنا لبعضه و قال الخلال:الأحادیث فی ذلک ضعیفة جدا لم یرو منها أصحاب السنن إلا حدیث ابن عمر.

و أجاب ابن قدامة عن الاحتجاج بالقیاس بقوله:و قیاسهم ینتقض بالتیمم عن الغسل الواجب،فإنه ینقص عن المبدل،و کذلک فی الوضوء فإن فیه أربعة أعضاء و التیمم فی عضوین،و کذا نقول فی الوجه فإنه لا یجب مسح ما تحت الشعور الخفیفة،و لا المضمضة و الاستنشاق (1).

و أما استیعاب الوجه فی المسح کما ذهب إلیه الشافعیة،و الحنابلة،و المالکیة فإنهم و إن قالوا بوجوب مسح الوجه کله،إلا أنهم لا یوجبون تتبع غضون الوجه، و الحنفیة یجوزون الإخلال ببعض الوجه،و کل ذلک لا یتفق مع مذهب الشیعة،فإنهم أوجبوا مسح الجبین و استدلوا بالآیة الکریمة: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِکُمْ و إن الباء للتبعیض،و لو لم تکن للتبعیض لبطلت فائدتها،إذ لا وجه للزیادة إذ الزیادة لها لغو، و إلغاؤها خلاف الأصل،و أنها استعملت مع الفعل المتعدی للتبعیض،فیکون حقیقة فیه، دفعا للمجاز کما فی قوله تعالی: وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِکُمْ فی آیة الوضوء،و الکل قائل بأن الواجب فی المسح هو البعض،کما روی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و دلّت الأخبار الواردة عن أهل البیت فی ذلک؛روی عن الإمام الباقر و الصادق علیهم السّلام رواه الصدوق و غیره،فی بیان کیفیة التیمم،و فیه مسح الجبهة کما هو منصوص علیه مما یطول بیانه.

ص:260


1- (1) المغنی لابن قدامة ج 1 ص 246.

مع أنّ أخبار التیمم لا تعین کیفیة مسح الوجه هل کله أو بعضه؟و الآیة دالة علی التبعیض،و إنکار ورود الباء للتبعیض غیر مسموع بشهادة أکثر اللغویین.

و قد قال الإمام الباقر علیه السّلام:إن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم وصف التیمم لعمار بقوله:أ فلا صنعت کذا ثم أهوی بیدیه إلی الأرض،فوضعهما علی الصعید،ثم مسح جبینیه بأصابعه،و کفیه إحداهما بالأخری (1).

و عن زرارة أنه سأل الإمام الصادق علیه السّلام عن التیمم؟فضرب علیه السّلام بیدیه الأرض،ثم رفعهما،و مسح بهما جبهته مرة واحدة.

کما أن العرف یقضی بأن إطلاق الوجه علی الجبهة مستعمل کما یقال:سجد وجهی،و ضرب وجهه.

و قال بعض الصحابة لرجل رآه ساجدا و قد جعل بینه و بین التراب وقایة:ترب وجهک (2).و لا یرید منه إلا وضع الجبهة علی الأرض.

و الخلاصة:أن الخلاف فی أن مطلق الوجه و الیدین هل یدل علی مجموع العضو فیلزم تعمیمه بالمسح؟و إذا کان کذلک لزم مسح الید إلی الإبط کما ذهب إلیه الزهری،و یلزم مسح الوجه حتی مواضع التحذیف،و هم لم یلتزموا بذلک لأن الید عند الإطلاق تحمل علی الکفین،کما فی آیة السرقة،و قیل إن الید حقیقة فی الکف، و فیما فوقها مجاز (3)و قیاس التیمم باطل کما تقدم،و قد ذهب الظاهریة إلی مسح الجبهة فی التیمم،و ما روی عن علی أنه کان یری مسح الذراعین فی التیمم فذلک غیر صحیح.

ما یصح التیمم به:

اتفقت المذاهب الإسلامیة علی أن التیمم لا یصح إلا بالصعید،للآیة الکریمة، و الصعید هو التراب أو وجه الأرض،لقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:جعلت لی الأرض مسجدا و طهورا.

ص:261


1- (1) من لا یحضره الفقیه ج 1 ص 57.
2- (2) القیاس فی الشرع الإسلامی لابن تیمیة ص 19.
3- (3) العدة لابن دقیق العید ج 1 ص 439.

و قد وقع الخلاف بینهم فی مصداق اسم الأرض،هل هو التراب فقط؟أم هو ما تصاعد علیها حتی الثلج و المعادن؟ أما الشیعة فقالوا:إنه التراب أو ما یصدق علیه اسم الأرض سواء أ کان ترابا،أم رملا أم جصا،مدرا أم صخرا أملس،و قیل منه أرض الجص و النورة قبل الإحراق.

و لا یجوز التیمم بما لا یصدق علیه اسم الأرض،و إن کان منها کالرماد و النبات، و المعادن کالعقیق و الفیروزج و نحوهما.مما لا یسمی أرضا و یشترط فیما یتیمم به أن یکون طاهرا،و مباحا،إذ لا یصح بالنجس و لا بالمغصوب.

أما الحنفیة فجوزوا التیمم بکل جنس الأرض:کالتراب و الرمل و الزرنیخ و النورة و المغرة-و هی الطین الأحمر-و الکحل و الکبریت،و الفیروزج و العقیق و سائر أحجار المعادن،و الملح الجبلی (1)علی خلاف من أبی یوسف،فإنه لا یجوز إلا بالتراب و الرمل.ثم رجع (2)إلی قول الشافعی بأنه لا یجوز إلا بالتراب.

و أجاز أبو حنیفة التیمم علی حجر الجدران،و إن لم یکن فیها غبار،و لصاحبه محمد قولان،الجواز و عدمه.

أما المالکیة:فیجوزونه علی التراب و الرمل و الحجارة،و کل ما تصاعد من الأرض من ثلج أو سبخة،أو خضخاض-و هو المکان المترب تبله الأمطار-و بکل معدن غیر نقد و جوهر،إلا أن لا یجد غیرهما و أدرکته الصلاة،و هو بأرض ذهب و فضة أو جوهر فیتیمم علیها (3).

و ذهب مالک إلی أن العادم للماء و التراب کالمریض و المربوط لا تجب علیه الصلاة،لأنه محدث لا یقدر علی رفع الحدث،و لا استباحة الصلاة بالتیمم،فلم تکن علیه صلاة کالحائض (4).

و الشافعیة یجوزونه بکل تراب طاهر حتی ما یداوی به(کالأرمی و السبخ الذی

ص:262


1- (1) مراقی الفلاح ص 36 و المبسوط ج 1 ص 108. [1]
2- (2) المبسوط ج 1 ص 108. [2]
3- (3) المنتقی ج 1 ص 116 و العشماویة ص 97.
4- (4) المنتقی ج 1 ص 116.

لا ینبت)و بالرمل إن کان فیه غبار و لا یصح عندهم بالمعدن،و لا بسحاقة الخزف، و لا المختلط بدقیق و نحوه،و قیل:إن قل الخلیط جاز.

و الحنابلة یوافقون الشافعیة فی اشتراط التراب،و یجوزونه فی الرمل علی روایة عن أحمد،و روایة أخری أنه جوز التیمم فی السبخة و الرمل،و إذا اضطر یجوز له فی النورة و الجص (1).

و قال ابن قدامة:فإن ضرب بیده علی لبد أو ثوب أو جوالق،أو برذعة،أو فی شعیر فعلق یده غبار فتیمم به جاز.نص علی ذلک أحمد (2).

و انفرد أحمد بن حنبل بأن المکلف إذا کانت علی بدنه نجاسة و عجز عن غسلها لعدم الماء تیمم لها و صلی،إذ هو بمنزلة الجنب عنده.

نواقضه:

ینتقض التیمم بما ینتقض به الوضوء و الغسل من الأحداث،کما أنه ینتقض بوجدان الماء،أو زوال العذر.

هذا هو المشهور عند الشیعة و ادعی علیه الإجماع،و قد اتفقت المذاهب علی ذلک،و اختلفوا فی جواز الجمع بین صلاتین بتیمم واحد،فأجازه الحنفیة و منعه المالکیة،و قال الحنابلة:فی جواز الجمع فی القضاء لا فی الأداء،و زاد بعض الحنابلة:أن التیمم ینتقض بظن وجود الماء،و قال بعضهم:إنه لو نزع عمامة،أو خفا یجوز المسح علیه فإنه یبطل تیممه.نص علی ذلک أحمد،لأنه مبطل للوضوء فأبطل التیمم کسائر المبطلات.

هذا ما یتعلق الکلام به حول التیمم،و ما وقع الاختلاف فی بعض مسائله،و ما اتفقوا علیه،و قد ترکنا کثیرا من ذلک،لضیق المجال و الاکتفاء بالبعض عن ذکر الجمیع.

ص:263


1- (1) نهایة المحتاج ج 1 ص 273.
2- (2) المغنی لابن قدامة.
النجاسات
اشارة

النجاسة:فی اللغة اسم لکل مستقذر.و فی الشرع:قذارة خاصة،اقتضت وجوب هجرها فی موارد مخصوصة،فکل جسم خلی عن تلک القذارة فهو طاهر.

و قیل هی الخبث.و هی کل عین مستقذرة شرعا،إلی غیر ذلک من التعریفات.

و الفقهاء یقسمون النجاسة إلی قسمین:نجاسة حکمیة،و نجاسة حقیقیة.

و کذلک قسموا الطهارة إلی قسمین:طهارة حکمیة،و هی الطهارة عن الحدث و قد مر الکلام حولها،و القسم الثانی هی الطهارة الحقیقیة،و هی الطهارة عن الخبث.

و الحنفیة قسموا النجاسة إلی قسمین:غلیظة باعتبار قلة المعفو عنها کالخمر، و الدم المسفوح،و لحم المیتة و إهابها قبل دبغه،و خفیفة:باعتبار کثرة المعفو عنه منها بما لیس فی المغلظة:کبول الفرس،و بول ما یؤکل لحمه من النعم الأهلیة، و الوحشیة کالغنم،و الغزال...الخ.

و علی کل حال:فإن الخلاف بین المذاهب فی تعداد النجاسة،و کیفیة تطهیرها،و ما یتعلق بذلک أمر یطول البحث باستقصائه،و لیس من غرضنا ذلک، و لکننا نستعرض المهم فی الموضوع من بیان الخلاف بین المذاهب أجمع،بعد أن نعطی صورة موجزة عما ذهب إلیه الشیعة فی تعداد الأعیان النجسة،ثم نستعرض ما اتفقوا علیه و ما اختلفوا فیه لنعرف مدی الخلاف فی ذلک،بدون إطالة و استقصاء.

الشیعة:

قالوا بأن عدد الأعیان النجسة اثنا عشر:

1-2:البول و الغائط من کل حیوان له نفس سائلة محرم الأکل،بالأصل أو بالعارض کالجلال،و الموطوء،أما ما لا نفس له سائلة،أو کان محلل الأکل فلیس کذلک.

3-المنی من کل حیوان له نفس سائلة،و إن حل أکل لحمه.

4-المیتة من الحیوان ذی النفس السائلة إنسانا کان أو غیره،حل أکله أو حرم، بریا أم بحریا،و کذا أجزاؤها المبانة منها.

5-الدم من ذی النفس،أما ما لا نفس له سائلة کدم السمک و نحوه فدمه طاهر.

ص:264

6-7:الکلب،و الخنزیر البریان،بجمیع أجزائهما،و فضلاتهما، و رطوباتهما.

8-الخمر بل کل مسکر مائع بالأصالة بجمیع أقسامه.

9-الفقاع و هو شراب مخصوص متخذ من الشعیر.

10-الکافر بجمیع أقسامه:أصلیا أو مرتدا،فطریا أو ملیا،حربیا أو ذمیا، کتابیا أو غیر کتابی،جاحدا للّه تعالی أو لوحدانیته أو لرسالة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

11-12-عرق الجنب من الحرام،و عرق الإبل الجلالة.

هذه هی الأعیان النجسة التی یجب الاجتناب عنها،و إزالة ما یتعلق منها فی بدن المصلی أو ثیابه أو مکانه،کما یأتی بیانه إن شاء اللّه تعالی،و عن الأوانی لاستعمالها،فیما یتوقف علی طهارتها،و عن المساجد و الأماکن المقدسة و المصاحف المشرفة.

کما أنه عفی عما دون الدرهم البغلی،من غیر الدماء الثلاثة،کما عفی عن دم الجرح و القرح مع السیلان،دائما أو فی وقت لا یسع زمن فواته الصلاة،کما سیأتی بیانه.

البول و الغائط:

اتفق الجمیع علی نجاستهما من الآدمی،و اختلفوا فیما عداه من الحیوانات، فقال أبو حنیفة بنجاسة بول الفرس،و بول ما یؤکل لحمه من النعم الأهلیة و الوحشیة کالغنم و الغزال نجاسة مخففة.

أما روث الخیل،و البغال،و الحمیر،و خثی البقر،و بعر الغنم،فإن نجاسته مغلظة عنده،و قد ذهب صاحبه محمد بن الحسن الشیبانی إلی خلافه فقال بطهارتها (1).

و قال زفر:ما یؤکل لحمه طاهر،و هو قول مالک،و قال:إنه وقود أهل المدینة،یستعملونه استعمال الحطب.

ص:265


1- (1) مراقی الفلاح ص 47،و بدائع الصنائع ج 1 ص 62.

و الشافعیة یذهبون إلی ترادف الروث و العذرة،أی نجاسة الروث و لو من طیر مأکول اللحم أو مما لا نفس له سائلة أو سمک أو جراد (1).

و کیف کان فقد اختلفوا فی تطهیر الثوب و البدن من البول علی مذاهب:

1-وجوب غسله عن الثوب و البدن،إلا إذا کان بول رضیع ذکرا،أما الأنثی فلا،فإن الأول یکتفی بالنضح علیه،و به قال عطاء و الزهری،و أحمد و إسحاق بن راهویه.

2-یکفی النضح فیهما،و هو مذهب الأوزاعی،و حکی ذلک عن مالک و الشافعی.

3-هما سواء فی وجوب الغسل،و لا فرق بین الصبی و الجاریة،و هو مذهب الحنفیة و المالکیة.

المنی:

اختلفت فیه أقوال أئمة المذاهب،فأبو حنیفة و مالک یذهبان لنجاسته،إلا أنهما اختلفا فی تطهیره،فأبو حنیفة یذهب إلی وجوب غسله،رطبا،و فرکه یابسا،و ذهب مالک إلی غسله مطلقا.

و قال الشافعی:بطهارة المنی مطلقا،إلا من الکلب و الخنزیر،و الأصح من مذهب أحمد بن حنبل أنه طاهر من الآدمی.

و تمسک من ذهب إلی طهارة المنی مطلقا،بل جعله بعضهم هو مثل البصاق بلا فرق،بما روی عن عائشة:أنها کانت تفرک المنی عن ثوب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و فی خبر آخر أنها قالت:لقد رأیتنی و إنی لأحکه عن ثوب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بأظفری،إلی غیر ذلک مما هو منقول من فعل عائشة،و لا یدل ذلک علی الالتزام به،فإنه لم یکن من فعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،أو تقریره.

و نحن ننزه مقامه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من ذلک،بأن تبقی قذارة المنی فی ثوبه حتی تجمد، و هو المنزه،و الکامل بکل صفاته و کیف یکون ذلک منه؟!و هو صلّی اللّه علیه و آله و سلّم تنام عیناه و لا ینام قلبه.

ص:266


1- (1) نهایة المحتاج ج 1 ص 224.

و قد ورد عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أحادیث تنص علی نجاسة المنی،و وجوب غسله.

و من الافتراء الواضح أیضا نسبة ذلک للإمام علی علیه السّلام و أنه قائل بطهارة المنی،کیف و قد استفاض عنه علیه السّلام و عن أبنائه الطاهرین ما یدل علی النجاسة للمنی!!!و هذا الباب واسع،و قد أفضی الأمر إلی تلفیق حجج واهیة،و أقوال فارغة، کتکریم ابن آدم،و بکون الآدمی طاهر کما یدعی من یقول بالطهارة فی محاورة خیالیة بین القائل بها و بین المانع کما ذکرها ابن القیم الجوزیة (1).

الکلب و الخنزیر:

الکلب نجس عند الشافعی و أحمد،و یغسل الإناء من ولوغه فیه سبعا لنجاسته.

و قال أبو حنیفة بنجاسته و لم یشترط فی غسل ما تنجس به بل جعل غسله کغسل سائر النجاسات،فإذا غلب علی ظنه زواله و لو بغسله کفی،و إلا فلا بد من غسله حتی یغلب علی ظنه إزالة نجاسته و لو عشرین مرة.

و قال مالک هو لا ینجس ما ولغ فیه لکن یغسل الإناء تعبدا.

و الخنزیر حکمه کالکلب،و ذهب الشافعی إلی وجوب غسل ما تنجس به سبعا،و قال أبو حنیفة:یغسل کسائر النجاسات.

قال ابن تیمیة:أما الکلب فللعلماء فیه ثلاثة أقوال معروفة:

أحدها:أنه نجس کله حتی شعره کقول الشافعی و أحمد فی إحدی الروایتین عنه.

و الثانی:أنه طاهر حتی ریقه کقول مالک و المشهور عنه.

و الثالث:أن ریقه نجس و أن شعره طاهر،و هذا مذهب أبی حنیفة و المشهور عنه،و هو الروایة الأخری عن أحمد،و المشهور عنه و له(أی لأحمد)فی الشعور الثابتة علی محل نجس ثلاث روایات أحدها:أن جمیعها طاهر حتی شعر الکلب و الخنزیر،و هو اختیار أبی بکر عبد العزیز،و الثانیة:أن جمیعها نجس کقول الشافعی،و الثالثة:أن شعر المیتة إن کانت طاهرة فی الحیاة کالشاة،و الفأرة،طاهر، و شعر ما هو نجس فی حال الحیاة نجس کالکلب و الخنزیر و هی المنصورة عند أکثر

ص:267


1- (1) بدائع الفوائد لابن القیم ج 3 ص 119-126.

أصحابه،و القول الراجح هو طهارة الشعور کلها،الکلب و الخنزیر و غیرهما،بخلاف الریق،و علی هذا فإذا کان شعر الکلب رطبا و أصاب ثوب الإنسان فلا شیء علیه، کما هو مذهب جمهور الفقهاء أبی حنیفة،و مالک،و أحمد فی إحدی الروایتین عنه (1).

أما الشیعة فیذهبون إلی أن الکلب نجس بالإجماع سواء،أ کان شعره أم ریقه، و یوجبون غسل ما ولغ به من الأوانی ثلاث مرات،أوّلهن بالتراب،و کذلک الخنزیر نجاسته إجماعا،و یجب غسل الإناء الذی شرب منه بالماء سبع مرات.

و الشافعی یوافقهم فی القول بالنجاسة مطلقا،و کذلک أحمد فی إحدی الروایتین،و کذلک أبو حنیفة إلا أنه یختلف فی القول بطهارة شعره کما نقل عنه.

أما مالک فخالف فی هذه المسألة جمیع فقهاء الإسلام،و ذهب إلی أن الکلب طاهر کله،و سیأتی بقیة الکلام حول رأیه فی الکلب،و حرمة أکله و حلیته.

المیتة:

نجسة من کل ماله نفس سائلة،حلالا کان أو حراما،و کذا أجزاؤها المبانة منها،و إن کانت صغارا،عدا ما لا تحله الحیاة فیها،کالصوف و الشعر و الوبر و العظم و القرن و المنقار،و المخالب و الریش و السن،و البیضة إذا اکتست القشر الأعلی.

و هذا الحکم مجمع علیه عند الشیعة،تبعا لأئمة أهل البیت علیهم السّلام،فلا یجوز استعمال جلد المیتة و لا یطهرها شیء،و الروایات بذلک عنهم علیهم السّلام کثیرة،و هذا هو رأی عمر بن الخطاب و ابنه عبد اللّه و عائشة،و من أئمة المذاهب أحمد بن حنبل فی أشهر الروایتین عنه،و مالک ابن أنس؛و نجاسة جلد المیتة وقع فیه الاختلاف و الأقوال فیه سبعة.

الأول:قول الشیعة و هو أن نجاسته عینیة لا تطهر.

الثانی:أن جمیع جلود المیتة تطهر بالدباغ ظاهرا و باطنا إلا الکلب و الخنزیر و المتولد من أحدهما،و هو مذهب الشافعی.

ص:268


1- (1) فتاوی ابن تیمیة ج 1 ص 37-38.

الثالث:یطهر بالدباغ جلد مأکول اللحم،و لا یطهر غیره،و هو مذهب الأوزاعی و ابن المبارک و أبی ثور و إسحاق بن راهویه.

الرابع:یطهر جلود جمیع المیتات بالدباغ إلا الخنزیر،و هو مذهب أبی حنیفة، و خالفه أبو یوسف فقال:إن جلد الخنزیر یطهر بالدباغة و یجوز بیعه،و الانتفاع به و الصلاة فیه (1).

الخامس:یطهر بالدباغ جمیع جلود المیتة،من غیر فرق بین مأکول اللحم و غیره إلا أنه یطهر ظاهره دون باطنه،فلا ینتفع به فی المائعات،و هذا محکی عن مالک أیضا.

السادس:یطهر الجمیع حتی الکلب و الخنزیر ظاهرا و باطنا قال النووی:و هو مذهب داود و أهل الظاهر.و حکی عن أبی یوسف کما تقدم.

السابع:أنه ینتفع بجلود المیتة و إن لم تدبغ،و یجوز استعمالها فی المائعات و الیابسات قال النووی:و هو مذهب الزهری.

أجزاء المیتة:

اختلفوا فی أجزاء المیتة مما تحله الحیاة و ما لا تحله،و من حیث الطهارة و النجاسة.

ذهب الشافعیة إلی نجاسة جمیع أجزاء المیتة من لحم و عظم و شعر و وبر و غیر ذلک،لأنها تحلها الحیاة عندهم.

و خالفهم بقیة المذاهب،و لکنهم اختلفوا فی تحدید ما لا تحله الحیاة.

قال الحنفیة:إن لحم المیتة و جلدها مما تحله الحیاة فهما نجسان،بخلاف نحو العظم و الظفر و المنقار و المخلب،و الحافر و القرن و الظلف و الشعر،إلا شعر الخنزیر،فإنها طاهرة لأنها لا تحلها الحیاة،و استدلوا بقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی شاة میمونة:

(إنما حرم أکلها)و فی روایة«لحمها».

و المالکیة قالوا:إن أجزاء المیتة التی تحلها الحیاة هی اللحم و الجلد و العظم

ص:269


1- (1) غنیة المتملی ص 74.

و العصب و نحوها،بخلاف الشعر و الصوف و الوبر و زغب الریش،فإنها لا تحلها الحیاة فلیست بنجسة.

و الحنابلة قالوا:إن جمیع أجزاء المیتة تحلها الحیاة،فهی نجسة إلا الصوف و الشعر و الوبر،فإنها طاهرة،و استدلوا علی طهارتها بعموم قوله تعالی: وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلی حِینٍ لأن ظاهرها یعم حالتی الحیاة و الموت، و قیس الریش علی هذه الثلاثة.

الخارج من المیتة:

و اختلفت المذاهب فی الخارج من المیتة من لبن و أنفحة و بیض رقیق القشر أو غلیظه،و نحو ذلک مما کان طاهرا فی حال الحیاة.

الحنفیة قالوا:بطهارة ذلک،و هو قول أبی حنیفة،و خالفه أبو یوسف و محمد فذهبا إلی نجاسة اللبن و الإنفحة و قالا:إن اللبن و إن کان طاهرا فی ذاته لکنه صار نجسا لمجاورة النجس (1).

الشافعیة قالوا:بنجاسة اللبن فی الضرع،لأنه ملاق للنجاسة فهو کاللبن فی إناء نجس،و أما البیض فی الدجاجة المیتة فإن لم یتصلب قشره فهو کاللبن نجس،و إن تصلب قشره لم ینجس،کما لو وقعت بیضة فی شیء نجس (2).

الدم:

قال الشیعة:إن الدم من کل نفس سائلة نجس.إنسانا أو غیره،کبیرا أو صغیرا،قلیلا کان الدم أو کثیرا.

و أما دم ما لا نفس له کالسمک و البق و البرغوث،فطاهر،و یستثنی من الحیوان الدم المتخلف فی الذبیحة بعد خروج المتعارف،سواء أ کان فی العروق أم اللحم أو فی القلب أو الکبد.

و وافقهم الحنفیة فی ذلک،إلا ما یروی عن أبی یوسف بأنه قال:بنجاسة دم السمک و به أخذ الشافعی،اعتبارا بسائر الدماء.و عند أبی حنیفة،و محمد أنه طاهر

ص:270


1- (1) بدائع الصنائع ج 1 ص 63.
2- (2) المهذب ج 1 ص 21.

لإجماع الأمة علی إباحة تناوله مع دمه،و کذلک الدم الذی یبقی فی العروق،و اللحم بعد الذبح طاهر عندهما،لأنه لیس بمسفوح.

و قال أبو یوسف إنه معفو عنه فی الأکل دون الثیاب،لتعذر الاحتراز منه فی الأکل،و إمکانه فی الثوب (1).

و اختلفت الروایات عن مالک بن أنس فمنها أنه قال:ما قل من الدم أو کثر یغسل.و محصلها أن الدماء علی ثلاثة أضرب:ضرب یسیر جدا لا یجب غسله،و لا یمنع الصلاة،کقدر الأنملة و الدرهم،و ضرب ثالث کثیر جدا یجب غسله،و یمنع الصلاة (2).

و عن الشافعی القول بنجاسة الدم مطلقا،و فی دم السمک وجهان:الطهارة لأنه لیس أکثر من المیتة،و میتة السمک طاهرة،و القول الثانی أنه نجس کغیره (3).

و أما الدم الباقی علی اللحم و عظامه من المذکاة فنجس.معفو عنه کما قال الحلیمی.و معلوم أن العفو لا ینافی النجاسة (4)و کذلک الکبد،و الطحال طاهران، لأنهما لیسا بدم مسفوح.

و الحنابلة یقولون:بنجاسة جمیع الدم إلا الکبد و الطحال و دم السمک،و أما دم البق و البراغیث و الذباب ففیها روایتان؛و الدم المتخلف فی اللحم معفو عنه،و إن علت حمرته القدر (5).

و علی کل حال:فإنهم اتفقوا علی نجاسة دم الحیوان و اختلفوا فی دم السمک، فمن قائل بطهارته،لأنه دم غیر مسفوح،و لا میتة داخلة تحت عموم التحریم،جعل دمه کذلک،فأخرجه عن النجاسة کما أخرج المیتة قیاسا علیها.

و منهم من قال بنجاسته علی أصل الدماء،و هو قول مالک فی المدونة.و کذلک اختلفوا فی العفو عن قلیل الدماء،فمن قائل بالعفو عن القلیل،و من قائل بأن الدماء

ص:271


1- (1) بدائع الصنائع ج 1 ص 61 و مراقی الفلاح ص 46.
2- (2) المنتقی ج 1 ص 43.
3- (3) المهذب ج 1 ص 47.
4- (4) نهایة المحتاج ج 1 ص 222.
5- (5) زوائد الکافی و المحرر علی المقنع ص 13.

حکمها واحد،لورود تحریم الدم مطلقا،و لم یفرق بین المسفوح و هو الکثیر،و غیر المسفوح و هو القلیل،و لکل حجته و دلیله،مما لا حاجة إلی التعرض لها.

الخمر:

و هو نجس بإجماع المسلمین،و إن الشیعة زادوا قیدا فقالوا:بنجاسة الخمر بل نجاسة کل مسکر مائع بالأصالة،و إن صار جامدا بالعرض فإنه یبقی علی النجاسة،أما الجامد کالبنج و إن غلی و صار مائعا بالعارض،فهو طاهر و إن کان حراما.و بهذا قالت الشافعیة؛و أن البنج و الأفیون و الحشیشة و إن أسکرت فإنها طاهرة عندهم.

قال شهاب الدین المعروف بالشافعی الصغیر:و ما وقع فی بعض شروح الحاوی من نجاسة الحشیشة غلط،و قد صرح فی المجموع:بأن البنج و الحشیش طاهران مسکران... (1).

هذا ما دعت الحاجة إلی عرضه من مسائل الأعیان النجسة باختصار دون استقصاء.أما المطهرات فهی:

المطهرات
اشارة

اتفق المسلمون علی وجوب إزالة النجاسة عن الأبدان و الثیاب و المساجد،کما اتفقوا علی أن الماء الطاهر یزیل النجاسة،و اختلفوا فیما سوی ذلک،کما اختلفوا فی کیفیة التطهیر.أما غیر الماء من المائعات فاتفقت الشیعة،و المالکیة،و الشافعیة، و الحنابلة،بأنها لا تزیل حدثا و لا خبثا.

و أما الحنفیة فقال أبو حنیفة:إن المائعات الطاهرة تحصل بها الطهارة الحقیقیة.

و هی الطهارة من الخبث.و وافقه أبو یوسف،و لکنه فرّق بین الثوب و البدن،فقال:

بأنها تطهر الثوب دون البدن.و خالف فی ذلک محمد بن الحسن و زفر.

و روی عن أبی یوسف:أنه لو غسل الدم عن الثوب بدهن أو سمن أو زیت، حتی ذهب أثره جاز.

فعلی قول أبی حنیفة و هو القول الأصح عندهم أن إزالة النجاسة تحصل بکل

ص:272


1- (1) نهایة المحتاج للرملی ج 1 ص 218.

مزیل من المائع الطاهر،کالخل،و ماء الورد،و المستخرج من البقول.کما عدوا من المطهرات بغیر الماء أن الثدی إذا تنجس بالقیء فطهارته رضاع الولد له ثلاث مرات، و فم شارب الخمر یطهر بتردید ریقه و بلعه،و لحس الأصبع ثلاثا إذا تنجس.

و الخلاصة أنه لا خلاف فی تطهیر الماء المطلق للنجاسة،أما المائع فالخلاف فیه من الحنفیة،و هم کما تری فی الخلاف حوله.أما بقیة المطهرات فقد وقع الخلاف بین المذاهب کما و کیفا،فلنستعرض ذکر بعضها بموجز من البیان.

الشمس:

تطهر الأرض و کل ما لا ینقل من الأبنیة،و ما اتصل بها من أخشاب و أعتاب و أبواب و أوتاد،و کذلک الأشجار و الثمار و النبات،و الخضروات و إن حان قطفها.

هذا هو المشهور عند الشیعة بشرط زوال عین النجاسة،و أن یکون المحل رطبا عند إشراق الشمس علیه،فإذا کانت الأرض النجسة جافة و أرید تطهیرها صب علیها الماء،فإذا یبس بالشمس عرفا و إن شارکها غیرها فی الجملة من ریح و غیره طهرت الأرض.

و الحنفیة یکتفون بتطهیر الأرض بمطلق الجفاف،و ذهاب أثر النجاسة عن الأرض بالشمس و غیرها (1).

و لکن عبارة القدوری تومی إلی اشتراط الجفاف بالشمس إذ یقول:و إذا أصابت الأرض نجاسة فجفت بالشمس،و ذهب أثرها جازت الصلاة علی مکانها،و لا یجوز التیمم علیها (2).

و قال الفرغانی فی الهدایة:و إن أصابت الأرض نجاسة فجفت بالشمس و ذهب أثرها،جازت الصلاة علی مکانها.

و استدل بقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(زکاة الأرض یبسها)و قال:و إنما لا یجوز التیمم بها،لأن طهارة الصعید ثبتت شرطا بنص الکتاب،فلا تتأدی بما ثبت بالحدیث (3).

ص:273


1- (1) حاشیة ابن عابدین ج 1 ص 319 و مراقی الفلاح ص 50.
2- (2) القدوری ص 11.
3- (3) الهدایة فی شرح بدایة المبتدی ج 1 ص 21.

و بهذا یظهر أنهم یتفقون مع الشیعة فی الجملة بتطهیر الشمس للأرض النجسة.

أما المالکیة و الشافعیة،و الحنابلة فإنهم یخالفون فی ذلک.

الأرض:

تطهر باطن القدم و ما توقی به کالنعل و الخف و نحوهما،بالمسح بها،أو المشی علیها،بشرط زوال عین النجاسة بهما،هذا هو المشهور عند الشیعة،أو المجمع علیه.

و وافقهم الحنفیة فی الجملة،قال الفرغانی:إذا أصاب الخف نجاسة لها جرم کالروث،و العذرة،و الدم،و المنی فجفت فدلکه فی الأرض جاز،و هذا استحسان، و قال محمد رحمه اللّه لا یجوز و هو القیاس إلا فی المنی...الخ (1).

و أما الشافعیة فإنهم یفصلون فیما إذا کانت النجاسة رطبة لم تطهرها الأرض و إن کانت یابسة فللشافعی قولان:ففی الإملاء و القدیم أن الأرض تطهر أسفل الخف، مستدلا بما روی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:إذا جاء أحدکم إلی المسجد فلینظر نعلیه، فإن کان بهما خبث فلیمسحه فی الأرض.ثم لیصلّ فیهما (2)و لأنه تتکرر فیه النجاسة، فأجزأ فیه المسح کموضع الاستنجاء.

أما المالکیة فقد اختلفت الروایات عن مالک فی الخف،فقال مرة إنه یغسل.

و جعله مثل الثوب المتنجس،و مرة قال:إنه لا یغسل،لأنه لا یمکن حفظ الخف من النجاسات،و یمکن حفظ الثوب،مع أن الخف یفسده الغسل (3).

أما الحنابلة فعن أحمد روایتان:إحداهما یجب غسل الخف،و الثانیة یجزی دلکه فی الأرض (4).

الاستحالة:

ذهب الشیعة إلی أن الاستحالة إلی جسم آخر هو مطهر،فیطهر الجسم النجس

ص:274


1- (1) الهدایة ج 1 ص 21.
2- (2) المهذب ج 1 ص 50.
3- (3) المنتقی للباجی ج 1 ص 45.
4- (4) عمدة الحازم ص 14.

أو المتنجس إذا أحالته النار رمادا،أو دخانا أو بخارا،إلی غیر ذلک مما ذکر فی کتب الفقه و الحنفیة یوافقونهم فی کثیر من موارد الاستحالة.

و الشافعیة قالوا:لا یطهر شیء من النجاسات بالاستحالة إلا شیئان:أحدهما جلد المیتة إذا دبغ.و الثانی الخمر إذا استحالت بنفسها خلاّ فتطهر بذلک.

و وافقهم الحنابلة فی استحالة الخمر خلا،لأن عندهم لا یطهر شیء من النجاسات بالاستحالة إلا الخمر إذا انقلبت بنفسها،فإن خللت قیل تطهر و قیل لا تطهر.

و الجمیع یتفقون مع الشیعة فی طهارة الخمر إذا انقلبت خلا.

الدبغ:

و من المطهرات الدبغ فإذا دبغت جلود المیتة بالدباغة الحقیقیة کالعفص، و قشور الرمان،أو بالدباغة الحکمیة کالتتریب و التشمیس،و الإلقاء فی الهواء،فهی طاهرة عند الحنفیة،و تجوز بها الصلاة إلا جلد الخنزیر،و جلد الآدمی (1).

و وافقهم الشافعیة فی طهارة الدبغ فی الجملة إلا أن لهم شرائط فی ذلک، و تطهر الجلود کلها بالدباغ عندهم إلا الکلب و الخنزیر.

و اتفقت الشیعة،و الحنابلة،و المالکیة،علی عدم تطهیر جلد المیتة بالدباغ، و کذلک الذکاة مطهرة للجلود و إن کانت غیر مأکولة اللحم عند الحنفیة.

أما عند مالک إن الذکاة تعمل إلا فی الخنزیر.

و عنده:إذا ذکی سبع أو کلب فجلده طاهر یجوز بیعه،و الوضوء فیه و إن لم یدبغ،أما اللحم فعند أبی حنیفة إنه محرم و عند مالک إنه مکروه.

الفرک و المسح:

ذهبت الحنفیة إلی نجاسة المنی و لکنه یطهر الثوب منه بالفرک إن کان یابسا، و یغسل إن کان رطبا.

أما إذا کان علی البدن فهل یکون حکمه حکم الثوب؛المروی عن أبی حنیفة

ص:275


1- (1) مراقی الفلاح ص 50.

أنه لا یطهر البدن من المنی إلا بالغسل،و ذکر الکرخی إنه یطهر (1).

و الحنفیة لعلهم ینفردون بهذا الحکم عن جمیع المذاهب.فالشیعة یحکمون بنجاسة المنی،و لا یطهر إلا بالماء و وافقهم المالکیة.

و أما الشافعیة فقالوا:بطهارة منی الآدمی،و وافقهم الظاهریة،و البصاق مثله فلا تجب إزالته (2).

أما الحنابلة فإنهم یوافقون الشافعیة فی طهارة المنی،و إن اختلفت الروایات فیه،قال الخرقی:و المنی طاهر.و هی الروایة الصحیحة اختارها الوالد السعید و شیخه،و بها قال الشافعی و داود،لما روی ابن عباس رضی اللّه عنه قال:سئل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عن المنی یصیب الثوب؟فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إنما هو بمنزلة البصاق و المخاط، و إنما یکفیک أن تمسحه بخرقة أو اذخرة.

و نقل الخرقی روایة أخری:إنه کالدم.و قال أبو بکر فی(التنبیه)إن کان رطبا غسل،و إن کان یابسا فرک،فمتی لم یفعل و صلی فیه أعاد الصلاة،و به قال أبو حنیفة و قال مالک یغسل المنی بکل حال (3).

فالحنابلة تختلف عندهم الروایات فی المنی،و لکن العمل عندهم علی أنه طاهر،و أما الفرک أو الغسل فهو اختیار أبی بکر عبد العزیز غلام الخلال،و قد أخذ بحدیث عائشة إذ قالت:أمرنی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بغسل المنی من الثوب،إذا کان رطبا، و بفرکه إذا کان یابسا.

و هذا الحدیث غریب لا أصل له کما نص علیه کثیر من الحفاظ.و علی کل حال:فإن الحنفیة ینفردون بالتطهیر بالفرک و هو عندهم من المطهرات.

و ذهب الحنفیة إلی أن النجاسة إذا أصابت المرآة أو السیف اکتفی بمسحهما (4)و المروی عن مالک أن السیف یطهر بالمسح (5).

ص:276


1- (1) الرحمة فی اختلاف الأئمة بهامش المیزان ج 1 ص 11.
2- (2) المحلی ج 1 ص 125.
3- (3) مسائل عبد العزیز غلام الخلال ص 16.
4- (4) مراقی الفلاح ص 47.
5- (5) المنتقی ج 1 ص 51.

و قد عد بعض الحنفیة المطهرات إلی نیف و ثلاثین و جعلوا منها طهارة القطن بالندف و الحنطة المتنجسة بالقسمة،و التصرف و الأکل و غیر ذلک (1).

و الخلاصة أن المذاهب تختلف فی تعداد المطهرات و کیفیة التطهیر،و عدد الأعیان النجسة،و قد تعرضنا لذکر البعض و لا یتسع الوقت لبسط الکلام فیها،کما أننا لم نتعرض لبقیة المطهرات عند الشیعة کالانتقال،و الإسلام إذ هو مطهر للکافر؛ و التبعیة کطهارة ولد الکافر لأبیه،و استبراء الحیوان الجلال،إذ الإطالة تدعو إلی اتساع الموضوع.

و سیأتی فی لباس المصلی ما له صلة بالموضوع،من حیث العفو عن قلیل النجاسة،دون کثیرها و التفصیل فی ذلک.

و سنوضح هناک آراء المذاهب فی إزالة النجاسة عن بدن المصلی و مکانه و ثوبه، هل هی واجبة أم مستحبة؟.أما ما یتعلق بهذا الباب،و ما یلحق به من الکلام حول المیاه،و أقسامها،و الأسآر و أحکامها،و غیر ذلک فقد ترکناه اختصارا.

و لننتقل الآن إلی البحث عن الصلاة،و واجباتها،و شروطها،و أحکامها و ما یتعلق بالموضوع من اتفاق،و افتراق بین المذاهب،و سنبذل قدر الاستطاعة جهدنا، فی بیان أهم المسائل و من اللّه نستمد التوفیق.

ص:277


1- (1) حاشیة ابن عابدین ج 1 ص 323.

ص:278

الصّلاة
اشارة

فَأَقِیمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ کانَتْ عَلَی الْمُؤْمِنِینَ کِتاباً مَوْقُوتاً [النساء:103] قُلْ لِعِبادِیَ الَّذِینَ آمَنُوا یُقِیمُوا الصَّلاةَ وَ یُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِیَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ یَأْتِیَ یَوْمٌ لا بَیْعٌ فِیهِ وَ لا خِلالٌ [إبراهیم:31] اُتْلُ ما أُوحِیَ إِلَیْکَ مِنَ الْکِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهی عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْکَرِ وَ لَذِکْرُ اللّهِ أَکْبَرُ وَ اللّهُ یَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [العنکبوت:45]

تمهید:

الصلاة لغة:هی الدعاء.و الصلاة من اللّه تعالی الرحمة.و شرعا:الأعمال المخصوصة بأداء المکتوبة أو الفرض.

الصلاة أحب الأعمال إلی اللّه تعالی،و هی أول ما ینظر فیه من عمل ابن آدم، فإن قبلت قبل ما سواها و إن ردت رد ما سواها.

و قد ورد فی الحث علیها و الاهتمام بها،و تهویل العقوبة علی ترکها من الشارع المقدس أخبار سارت مسار الأمثال،و اشتهرت فی الأمة شهرة عظیمة کقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

«الصلاة عمود الدین إن قبلت قبل ما سواها و إن ردت رد ما سواها».

ص:279

و قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«لیس منی من استخف بصلاته».

و قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«لا ینال شفاعتی من استخف بصلاته».

و قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«لا تضیعوا صلاتکم فإن من ضیع صلاته حشر مع قارون و هامان و کان حقا علی اللّه أن یدخله النار مع المنافقین».

و کان صلّی اللّه علیه و آله و سلّم جالسا فی المسجد إذ دخل رجل فقام فصلی فلم یتم رکوعه و سجوده فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:نقر کنقر الغراب!؟لئن مات هذا و هکذا صلاته لیموتن علی غیر دینی.

إلی کثیر من وصایاه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هی أکثر من أن تحصی.

و لما دنت الوفاة من الإمام الصادق علیه السّلام قال:أجمعوا کل من بینی و بینه قرابة،فلما اجتمعوا نظر إلیهم و قال:إیاکم و ظلم من لا یجد علیکم ناصرا إلا اللّه، و إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصلاة.

و لا یمکن حصر ما ورد من الحث علیها و وجوب المحافظة علی إقامتها من الشارع المقدس فی الکتاب العزیز و سنة الرسول الأعظم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و لم یکن ذلک الاهتمام منه و شدة تأکیده لإقامة هذا الفرض و أداء هذا الواجب لغرض یعود إلیه أو غایة تؤول بالمنفعة علیه،و إنما هو لما یعلم فیه من ضمان الصالح العام،و حفظ نظام الجامعة البشریة إذ وصفها تعالی:بأنها تنهی عن الفحشاء و المنکر،إذ هی صلة بین العبد و بین ربه،و مناجاة المخلوق لخالقه،اعترافا له بالعبودیة،و إقرارا له بالوحدانیة،و تقربا إلیه تعالی،و طلبا لمرضاته،و خوفا من سخطه و عقوبته،و کل ذلک یمنح الإنسان قوة الإرادة،و رسوخ ملکة ضبط النفس عن الرذائل،و ترویضها علی الفضائل،و ناهیک بما وراء ذلک من النفع العام،و ما یؤول إلیه من الصلاح بما ینفع المجتمع فی النظام،و عدم الجرأة علی ارتکاب ما حرمه تعالی؛و کم بها من فوائد و فوائد،فهی سعادة فی الدنیا بحصول الکرامة،لأنها تؤدی إلی التقوی: إِنَّ أَکْرَمَکُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاکُمْ و سعادة فی الأخری،لأنها تؤدی إلی دخول الجنة و نعم أجر المتقین.

و لا خلاف بین جمیع المسلمین فی وجوب الصلاة،و إن جحودها مخرج عن الإسلام.

و اختلفوا فی حکم تارک الصلاة لا عن إنکار و جحود،بل تهاونا و کسلا،

ص:280

فذهب مالک،و الشافعی،إلی أنه لا یکفر بل یفسق،فإن تاب و إلا قتلناه بالسیف حدا،کالزانی المحصن.

و ذهب جماعة من السلف إلی أنه یکفر،و هو إحدی الروایتین عن أحمد بن حنبل،و به قال عبد اللّه بن المبارک،و إسحاق بن راهویه.

و ذهب أبو حنیفة و جماعة من أهل الکوفة،و المزنی صاحب الشافعی:إلی أنه لا یکفر،و لا یقتل بل یعزر و یحبس حتی یصلی،و لکل منهم دلیل لما یذهب إلیه فی احتجاجه،و لا مجال لذکر ما احتج کل طرف لما ذهب إلیه و تجد ذلک مفصلا فی محله من کتب الفقه (1).

و الشیعة یحکمون بکفر کل من أنکر ضروریة من ضروریات الدین،أما المتهاون و المتکاسل فقیل یؤدب بما یراه الحاکم الشرعی،فإن ارتدع.و إلا أدبه ثانیة فإن تاب، و إلا أدبه ثالثا،و إن استمر قتل فی الرابعة (2).

و قال المحقق الحلی:من ترک الصلاة مستحلا قتل إن کان ولد مسلما، و استتیب إن کان أسلم عن کفر،فإن امتنع قتل،فإن ادعی الشبهة المحتملة دریء عنه الحد.

و إن لم یکن مستحلا عزر،فإن عاد ثانیة عزر و إن عاد ثالثة قتل،و قیل بل یقتل فی الرابعة (3).

و علی کل حال:فلا خلاف بین المسلمین فی وجوب الصلاة علی کل مکلف، جامع لشرائط التکلیف.

کما لا خلاف بینهم فی أن الصلاة تنقسم إلی واجبة و مندوبة،و الصلاة الواجبة أهمها الفرائض الخمس الیومیة،و أنها أحد الأرکان التی بنی علیها الإسلام،و لنقتصر هنا علی ذکر بعض ما یتعلق بها من شروط و مقدمات،و جملة من أحکامها،مقتصرین علی أهم المسائل المتعلقة بها،و ما وقع فیها من اتفاق و افتراق بین المذهب الشیعی

ص:281


1- (1) نیل الأوطار للشوکانی،و المحلی لابن حزم،و البدایة للقرطبی،و رحمة الأمة لعبد الرحمن الدمشقی و غیرها.
2- (2) کشف الغطاء للشیخ جعفر الکبیر تحت عنوان حکم تارک الصلاة.
3- (3) شرائع الإسلام ج 1 ص 35. [1]

و المذاهب الأخری،أو بینها أنفسها،و نحن نحاول الاختصار فی الموضوع قدر الاستطاعة إلا بما تدعو الحاجة إلیه فی الإطالة للموضوع،و من اللّه نطلب التوفیق، و هو المسدد للصواب.

الصلاة الیومیة:
اشارة

لا خلاف بین المسلمین بأن الصلاة الیومیة خمس،و عدد رکعاتها سبع عشرة رکعة:الصبح رکعتان،و الظهر أربع،و العصر مثلها،و المغرب ثلاث،و العشاء أربع، و فی السفر و الخوف تقصر الرباعیة،فتکون رکعتین.

هذا ما علیه إجماع المسلمین فی عدد الرکعات الواجبة،و الفرائض الموقتة إلا ما ینقل عن أبی حنیفة،بأنه یذهب إلی وجوب صلاة الوتر،و هی عنده ثلاث رکعات بتسلیمة واحدة،و وقتها بعد العشاء مرتبة علیها،فلا یجوز إتیانها قبل العشاء و آخر وقتها ما لم یطلع الفجر،و یجب فیها القنوت،و لا تتعین فیها قراءة،و بهذا تصبح الصلاة الیومیة الواجبة عند أبی حنیفة ست صلوات.

و قد اختلفت الروایات عنه فی ذلک،فروی یوسف بن خالد عن أبی حنیفة أنه قال:صلاة الوتر واجبة.و روی حماد بن زید عنه بأنه قال:إن الوتر فرض.و فرق بین الواجب و الفرض عندهم.

و روی نوح بن أبی مریم:أن أبا حنیفة قال:بأن الوتر سنة و بهذا أخذ أبو یوسف،و قال:إن الوتر سنة مؤکدة آکد من سائر السنن الموقتة.

و أما سقوط الرکعتین فی السفر فعلیه إجماع المسلمین،إلا أن الخلاف واقع فی کیفیة سقوطهما،هل هو علی سبیل الوجوب کما تقول به الشیعة،و وافقهم أبو حنیفة و جمیع الکوفیین،أم أنه غیر واجب،بل هو علی سبیل الرخصة لا العزیمة کما سنذکره؟.

الوقت:

لا خلاف بین المسلمین بأن الصلاة موقتة بأوقات لا یجوز للمکلف تقدیمها علیها،أو تأخیرها عنها،و إنما الخلاف بینهم فی تحدید أوقات الصلاة بعد دخولها

ص:282

و اختصاص کل فریضة بوقتها،و اشتراکها مع اللاحقة فیه،و بیان الوقت المختار و غیره.

و قد أجمعوا علی أن أول وقت الظهر إذا زالت الشمس،و أنها تجب بالزوال وجوبا موسعا إلی أن یدخل وقت العصر،فیتعین الوقت لها.

أما أبو حنیفة فإنه قال:بأن وجوب صلاة الظهر متعلق بآخر وقتها،و أن الصلاة فی أوله نفل (1).

و کذلک اتفقوا علی أن وقت المغرب من غروب الشمس،و یدخل وقت العشاء بعد مضی وقت المغرب،علی اختلاف فی تعیین وقت العصر و العشاء من حیث الاختیار و الاضطرار.

فالشیعة یقولون:وقت الظهرین من الزوال إلی المغرب،و تختص الظهر من أوله بمقدار أدائها،کما تختص العصر من آخره کذلک.

و وقت العشاءین للمختار من المغرب إلی نصف اللیل،و تختص المغرب من أوله بمقدار أدائها،کما یختص العشاء بآخره کذلک،و ما بین الزوال و الغروب،و بین الغروب و نصف اللیل،وقت مشترک.

و وقت صلاة الصبح:من طلوع الفجر الصادق،إلی طلوع الشمس.

و المراد من اختصاص الظهر و المغرب بأول الوقت،أنه لو صلی العصر أو العشاء عمدا أو سهوا،بأول الوقت فلا تصح صلاته،کما أنه إذا صلی الظهر و لم یبق من الوقت إلا مقدار أربع رکعات،فلا تصح صلاته،بل یصلی العصر،و یقضی الظهر.کما أنه یجب الترتیب بأن یقدم الظهر علی العصر،و المغرب علی العشاء.

و بقیة المذاهب یتفقون مع الشیعة فی کثیر من أحکام الوقت،و یختلفون فی بعضها.

فالحنفیة یرون أن أول وقت الظهر زوال الشمس و آخر وقتها إذا صار ظل شیء مثلیه سوی فی الزوال.

و خالف أبو یوسف و محمد فقالا:إذا صار الظل مثله،و أول وقت العصر إذا

ص:283


1- (1) رحمة الأمة فی اختلاف الأئمة ج 1 ص 47.

خرج وقت الظهر علی القولین،و أول وقت المغرب إذا غربت الشمس،و آخر وقتها ما لم یغب الشفق،و اختلف أبو حنیفة و صاحباه فی الشفق،فقال أبو حنیفة:إن الشفق هو البیاض الذی فی الأفق بعد الحمرة،و قال صاحباه هو الحمرة.

و أول وقت العشاء إذا غاب الشفق،و آخر وقتها ما لم یطلع الفجر (1).

و المالکیة و الحنابلة یجعلون لکل صلاة وقتین،وقت اختیار و وقت اضطرار، علی خلاف فی تحقیق الوقت فی زیادة الظل عند المالکیة (2).

و عند الشافعیة أول وقت العصر إذا صار ظل کل شیء مثله،و زاد أدنی زیادة، و آخره إذا صار ظل کل شیء مثلیه،ثم یذهب وقت الاختیار و یبقی وقت الجواز و الأداء إلی غروب الشمس،و قال أبو سعید الاصطخری:إذا صار ظل کل شیء مثلیه،فاتت الصلاة،و یکون ما بعده وقت القضاء.

و أول وقت المغرب من غروب الشمس بمقدار أدائها.

و أول وقت العشاء إذا غاب الشفق و هو الحمرة،و قال المزنی:الشفق البیاض (3)کما أنه یجوز تأخیر الصلاة إلی آخر الوقت.

القبلة:

استقبال القبلة شرط فی صحة الصلاة الواجبة،بإجماع المسلمین،لقوله تعالی:

فَوَلِّ وَجْهَکَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَیْثُ ما کُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَکُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

و القبلة هی الکعبة-زادها اللّه شرفا-و من کان قریبا منها،فعین الکعبة قبلته بإجماع المسلمین،أما البعید عنها فقیل إن المسجد الحرام قبلة من فی الحرم، و الحرم من بعد عن المسجد.

و المشهور عند الشیعة أن البعید عن الکعبة فقبلته جهتها لا عینها،لأن ذلک متعذر،و وافقهم الحنفیة،و المالکیة،و الحنابلة.

قال فی ملتقی الأبحر:و قبلة من بمکة عین الکعبة و من بعد جهتها،فإن جهلها

ص:284


1- (1) الهدایة ج 1 ص 24. [1]
2- (2) المختصر للشیخ خلیل بن إسحاق ص 15.
3- (3) المهذب للشیرازی ج 1 ص 52.

و لم یجد من یسأله عنها تحری و صلی،فإن علم بخطئه بعدها لا یعید (1).

و قال فی الجوهرة الزکیة:و استقبال القبلة و هی الکعبة البیت الحرام،فیجب استقبال عینها علی من بمکة،و جهتها علی من کان خارجا عنها (2).

و فی عمدة الفقه:أن المصلی إن کان قریبا من الکعبة لزمته الصلاة إلی عینها، و إن کان بعیدا فإلی جهتها،و إن خفیت القبلة فی الحضر سأل و استدل بمحاریب المسلمین،و إن أخطأ فعلیه الإعادة،و إن خفیت فی السفر اجتهد و صلی،و لا إعادة علیه (3).

أما الشافعی فاشترط التوجه إلی عین الکعبة،و إن ذلک فرض کما جاء فی کتاب الأم.

و قال المزنی:إن الفرض هو الجهة،لأنه لو کان الفرض هو العین لما صحت صلاة الصف الطویل،لأن فیهم من یخرج عن العین (4).

و قال الدمیاطی:یجب استقبال عین القبلة،فلا یکفی جهتها خلافا لأبی حنیفة، إلا فی حق العاجز (5).

و کیف کان فإن المذاهب أکثرها تتفق فی استقبال القبلة،و لا خلاف إلا من الشافعی،إذ اشترط استقبال العین دون الجهة،و خالفه صاحبه المزنی فی ذلک.

و أجمع العلماء علی أن من ترک الاستقبال أعاد فی الوقت و خارجه،و قال أبو حنیفة:بأن من ترک الاستقبال متعمدا فوافق ذلک الکعبة،فهو کافر باللّه تعالی (6).

ستر العورة:

ستر العورة عن العیون واجب بالإجماع،و هو شرط فی صحة الصلاة إلا عند مالک فإنه قال:إنه واجب و لیس بشرط فی صحة الصلاة.

ص:285


1- (1) ملتقی الأبحر للشیخ إبراهیم الحنفی ص 11.
2- (2) الجوهرة للشیخ أحمد بن ترکی المالکی ص 110.
3- (3) عمدة الفقه لابن قدامة الحنبلی ص 17.
4- (4) المهذب للشیرازی ج 1 ص 67.
5- (5) الفتح المبین ج 1 ص 123.
6- (6) غنیة المتملی فی شرح منیة المصلی ص 113.

و اختلفوا فی تحدید العورة من الرجل و المرأة فحد العورة من الرجل عند أبی حنیفة ما بین السرة و الرکبة (1).

و عند الشافعی کذلک،إلا أن الرکبة و السرة لیستا من العورة،و من أصحابه من ذهب إلی أنهما من العورة (2).

و عن مالک و أحمد روایتان:إحداهما ما بین السرة و الرکبة،و الأخری أنهما القبل و الدبر.

و أما عورة المرأة الحرة،فقال أبو حنیفة:کلها عورة إلا الوجه،و الکفین، و القدمین (3).

و قال مالک و الشافعی:إنها کلها عورة إلا وجهها و کفیها.

و عند الحنابلة:أن الحرة جمیعها عورة إلا الوجه و فی الکفین روایتان عن أحمد.و أما الأمة فعورتها کعورة الرجل،و عن أحمد روایة أنها الفرجان فقط (4).

و قال مالک و الشافعی:إن عورة الأمة کعورة الرجل.و قال بعض أصحاب الشافعی:إن الأمة کلها عورة،إلا مواضع التقلیب،و هی التی تقلب فینظر باطنها و ظاهرها عند الشراء،و الأصح عندهم أنها ما بین السرة و الرکبة کعورة الرجل (5).

أما عند الشیعة:فعورة الرجل التی یجب سترها فی الصلاة هی عورته فی حرمة النظر.

أما المرأة فکلها عورة حتی الرأس و الشعر فیجب ستره فی الصلاة،ما عدا الوجه بالمقدار الذی یغسل فی الوضوء،و عدا الکفین إلی الزندین،و القدمین إلی الساقین،و لا بد من ستر شیء مما هو خارج عن الحدود من غیر فرق بین الحرة و الأمة،نعم لا یجب علی الأمة ستر الرأس و شعره و العنق.

و ستر العورة مع الاختیار واجب فی الصلاة و توابعها من الرکعات الاحتیاطیة

ص:286


1- (1) الهدایة ج 1 ص 28. [1]
2- (2) المهذب ج 1 ص 64.
3- (3) رحمة الأمة ج 1 ص 53.
4- (4) عمدة الحازم لابن قدامة ص 18.
5- (5) منهاج الطالبیین للنووی ج 1 ص 11.

و الأجزاء المنسیة،حتی مع الأمن من الناظر.

أما لباس المصلی مطلقا فیشترط فیه أمور،علی خلاف بین المذاهب فی ذلک، و شروطه هی:

الطهارة:

اتفقت المذاهب الإسلامیة علی اشتراط الطهارة فی لباس المصلی،فلا تصح الصلاة فی النجس أو المتنجس إلا ما عفی عنه.

و قد اختلفت أقوال العلماء فی قلیل النجاسات علی ثلاثة أقوال:فمنهم من قال:إن قلیلها و کثیرها سواء،و بهذا قال الشافعی.و قد فصل الشافعیة القول فی ذلک،إذ النجاسة لا بد أن تکون من الدماء أو غیرها،فإن کانت من الدماء فلا یعفی عن قلیله و کثیره إلا أن یکون دم برغوث و غیره مما یشق الاحتراز منه.

و أما غیر الدم:فإن کانت النجاسة بقدر یدرکه الطرف لم یعف عنه،و إن کان لا یدرکه الطرف ففیه تفصیل فی العفو عنه و عدمه (1).

و القول الثانی:إن قلیل النجاسات معفو عنه،و حدوده بقدر الدرهم البغلی، و بهذا قال أبو حنیفة،و عنده إذا کانت النجاسة بقدر الدرهم،و کانت متراکمة بذلک المقدار بحیث لو بسطت لعمت جمیع الثوب،فإنه لا یجب غسلها (2).

و قال صاحبه محمد بن الحسن:إذا کانت النجاسة ربع الثوب فما دونه جازت به الصلاة.

و القول الثالث:إن قلیل النجاسة و کثیرها سواء،إلا الدم،و مذهب الشیعة أن ما کان منه أقل من الدرهم البغلی معفو عنه،بشرط أن لا یکون دم نجس العین،أو دم حیض أو استحاضة أو نفاس،کما عفی عندهم عن دم الجروح و القروح مع السیلان، و مع ضیق الوقت،و حصول المشقة بالإزالة أو التبدیل،و لا فرق بین أن یکون ذلک فی الثوب أو البدن،و وافقهم بعض الشافعیة فی ذلک (3).

ص:287


1- (1) المهذب للشیرازی ج 1 ص 10.
2- (2) المنتقی ج 1 ص 43.
3- (3) ضوء الشمس لأبی الهدی ج 1 ص 160.

کما عفی عن ثوب المربیة للصبی،إذا لم یکن عندها غیره،بشرط غسله فی الیوم و اللیلة،و لا یتعدی العفو عن نجاسة البول إلی غیره،کما أنه مختص بالثوب دون البدن،و کذلک عفی عما لا تتم به الصلاة علی تفصیل فی محله.

و أما المالکیة فمذهب مالک أن النجاسات قلیلها و کثیرها سواء،إلا الدم،فإن قلیله مخالف لکثیره،و الدماء عنده کلها سواء،دم الحوت و غیره،إلا دم الحیضة فاختلفت أقواله:فمرة أنه کسائر الدماء یعفی عن قلیله،و أخری أن قلیله و کثیره سواء تجب إزالته.

و أما مقدار الدم الیسیر المعفو عنه عند مالک فقیل:إنه إذا کان قدر الدرهم فلا تعاد منه الصلاة،و قیل إنه یعفی عنه إذا کان بقدر الخنصر (1).

و روی أبو طاهر عن ابن وهب:أنّ من صلی بدم حیضة،أو دم میتة،أو بول أو رجیع،أو احتلام،فإنه یعید أبدا.

و قد وقع الخلاف عند المالکیة فی وجوب إزالة النجاسة،هل هی واجبة وجوب الفرائض،و یکون من صلی بها عامدا ذاکرا أعاد؛أم أنها من السنن،فیکون من صلی بها عامدا أثم و لا إعادة علیه.

و عند الحنابلة أن الطهارة من النجاسة فی بدن المصلی و ثوبه و موضع صلاته شرط،إلا المعفو عنها کیسیر الدم و نحوه،و إن صلی و علیه نجاسة لم یکن یعلم بها، أو علم بها ثم نسیها فصلاته صحیحة،و إن علم بها فی الصلاة أزالها و بنی علی صلاته (2).

الإباحة:

أن یکون مباحا،فلو صلی فی الثوب المغصوب بطلت صلاته عند الشیعة من غیر فرق بین الساتر و غیره،و ما لا تتم به الصلاة و غیره بشرط العلم بالغصبیة،کما لا فرق فی الغصب بین أن یکون عین المال مغصوبا أو منفعته أو تعلق فیه حق الغیر.

أما الحنفیة فتصح عندهم الصلاة فی الثوب المغصوب علی کراهیة (3).

ص:288


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) عمدة الفقه علی مذهب الإمام أحمد ص 26.
3- (3) مراقی الفلاح ص 78.

و عند الشافعیة أن المصلی لو أخذ الثوب قهرا من مالکه،-و إن کان لا یجوز- و صلی به صحت صلاته مع الحرمة (1).

و الحنابلة یتفقون مع الشیعة فی بطلان الصلاة بالثوب المغصوب،فإذا صلی فیه عالما ذاکرا تجب علیه الإعادة (2)و بطلان الصلاة فی الثوب المغصوب هی الروایة الصحیحة عن أحمد،و اختارها الخلال و قال:إنها صحیحة (3).

و قال ابن قدامة:و من صلی فی ثوب مغصوب أو دار مغصوبة لم تصح صلاته (4)إلا أن أحمد أجاز صلاة الجمعة فی مواضع الغصب،لأنها تختص بموضع معین،فالمنع من الصلاة فیه إذا کان غصبا یفضی إلی تعطیلها،و لهذا أجاز صلاة الجمعة خلف الخوارج و أهل البدع و الفجور (5).

الحریر:

لا خلاف بین المسلمین فی حرمة لبس الحریر للرجال دون النساء،أما الصلاة فقد اختلفوا فی صحتها.

فذهب الشیعة إلی الحرمة مطلقا فی الصلاة و غیرها،فلو صلی الرجل فیه لا تصح صلاته.نعم یباح لهم لبسه فی الحرب أو للضرورة،کالبرد و المرض حتی فی الصلاة.

و وافقهم الحنابلة فی إحدی الروایتین عن أحمد بن حنبل و نقل صاحب البحر عنه أنه قال:من لم یجد غیر الحریر یصلی عاریا.

و قد نص صاحب الروض الندی علی لزوم إعادة الصلاة فی الحریر،أو الذهب،و الفضة علی الرجال (6).

و أما الحنفیة و الشافعیة:فإنهم لا یرون بطلان الصلاة فیه،و لکن یکره ذلک،

ص:289


1- (1) حاشیة إعانة الطالبیین للدمیاطی ج 1 ص 114.
2- (2) الروض الندی ص 65.
3- (3) مسائل عبد العزیز الخلال ص 78.
4- (4) عمدة الفقه ص 16.
5- (5) المغنی لابن قدامة ج 1 ص 588.
6- (6) الروض الندی ص 65.

لأن التحریم عندهم لا یختص بالصلاة،و لا النهی یعود إلیها،فلم یمنع الصحة،کما لو غسل ثوبه من النجاسة بماء مغصوب،و کما لو صلی و علیه عمامة مغصوبة.

أما مالک فإن الصلاة لا تجزی عنده بالحریر،و تلزم الإعادة فی الوقت کما نقل ذلک الحافظ ابن حجر فی الفتح.

و علی کل حال:فإن الأخبار صریحة بحرمة لبس الحریر علی الرجال.

روی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:«أحل الذهب و الحریر للإناث من أمتی،و حرم علی ذکورها».

رواه أحمد و النسائی و الترمذی،و صححه و أخرجه أبو داود و الحاکم.

و ذکر ابن حازم الهمدانی أخبار جواز لبس الحریر،ثم ذکر الأخبار الناسخة لها،و منها قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إنه لیس من لباس المتقین (1).

و جاء عن أهل البیت صلوات اللّه علیهم النهی عن الصلاة فی الحریر حتی القلنسوة.

أما لبسه للمرض فاختلفت فیه أقوال العلماء:فعن الشافعیة أنه یجوز إذا کان فی السفر،لحدیث أنس:أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم رخص لعبد الرحمن بن عوف و الزبیر فی لبس الحریر لحکة کانت فیهما،رواه الجماعة،أو للقمل کما عند الترمذی،و أن ذلک فی غزاة لهما.

و منع مالک بن أنس ذلک مطلقا،و عن أحمد روایتان الجوز للمرض.

الذهب:

لا تصح الصلاة فی الذهب عند الشیعة لباسا أو لبسا،کالخاتم حلة أو حلیة خالصا أو ممزوجا،تمت الصلاة به أو لا تتم کالزر و نحوه،فجمیع ذلک مبطل لصلاة الرجال دون النساء،و أما لبسه فی غیر الصلاة حرام یؤثمون علیه.

قال الإمام الصادق علیه السّلام:جعل اللّه الذهب فی الدنیا زینة النساء فحرم علی الرجال لبسه و الصلاة فیه.

ص:290


1- (1) کتاب الاعتبار لابن حزم ص 230.

أما بقیة المذاهب فلا خلاف عندهم فی حرمة لبسه،و إنما الخلاف فی الصلاة فیه،قال ابن قدامة:و لا نعلم فی تحریم ذلک علی الرجال اختلافا إلا لعارض أو عذر.قال ابن عبد البر:هذا إجماع،فإن صلی فیه فالحکم فیه کالصلاة فی الثوب الغصب (1).

المیتة:

و یشترط فی لباس المصلی أن لا یکون من أجزاء المیتة التی تحلها الحیاة،کما مر بیان ذلک و الخلاف فیه،و الشیعة یحکمون ببطلان الصلاة فی شیء منها و کذلک الکلام فیما لا یؤکل لحمه،و لا فرق بین ذی النفس و غیره و بین ما تحله الحیاة من أجزائه و غیره.

المکان:

یشترط فی مکان المصلی أن یکون مباحا،فلا تجوز الصلاة فی المکان المغصوب،عینا أو منفعة،للغاصب و لا لغیره،ممن علم بالغصب،و إن صلی عامدا عالما و الحال هذه کانت صلاته باطلة.

هذا ما علیه إجماع الشیعة.و وقع الخلاف بین المذاهب فی هذه المسألة:

فمنهم من قال بالبطلان،و منهم من قال بالصحة.مع الکراهة و عدمها.

و قال فی البحر الزخار:الشرط السادس إباحة المکان فیحرم المنزل الغصب إجماعا،و لا تجزی الغاصب و غیره،إذ المعصیة نفس الطاعة،و لاقتضاء النهی الفساد، و عند الفریقین(الحنفیة و الشافعیة)تجزی من حیث کونها صلاة،و یعاقب للغصب.

ثم أجاب عن أدلتهم علی الجواز بما لا حاجة إلی ذکره (2).

و قد صرح الحنفیة بالکراهة فی الصلاة فی أرض الغیر بلا رضا،و لو ابتلی بین الصلاة فی أرض الغیر أو فی الطریق،فإن کانت مزروعة أو لکافر فالطریق أولی و إلا فهی (3).

ص:291


1- (1) المغنی ج 1 ص 588.
2- (2) البحر الزخار ج 1 ص 218.
3- (3) غنیة المتملی ص 177 و مراقی الفلاح ص 63.

و فی خزانة الفتاوی:الصلاة فی أرض مغصوبة جائزة،و لکن یعاقب لظلمه، فإن کان بینه و بین اللّه تعالی یثاب،و ما کان بینه و بین العبد یعاقب (1).

و قد خالف بشر بن غیاث المریسی أحد أئمة الحنفیة،و ذهب إلی عدم جواز الصلاة فی الأرض المغصوبة،أو فی ثوب مغصوب،لأن الصلاة عبادة،لا تتأدی بما هو منهی عنه (2).

و الشافعیة یوافقون الحنفیة فی صحة الصلاة فی الأرض المغصوبة،و إن کان اللبث فیها یحرم فی غیر الصلاة (3).

و قال الرملی المعروف بالشافعی الصغیر:الصلاة فی الدار المغصوبة مظنة أن یثاب فاعلها و أن لا یثاب،إذ یحتمل أن یعاقب علی الغصب بحرمان ثواب العبادة، و أن یعاقب بغیر الحرمان،فمن أطلق أنه لا یثاب قصد بالإطلاق الورع عن إیقاع الصلاة فی المغصوبة،مریدا أنه قد لا یثاب،و من قال:یثاب أراد أنه لا مقتضی لحرمان الثواب کله بکونه عقوبة الغصب (4).

و أنت خبیر بما فی هذا القول من مخالفات للواقع،إذ الصلاة تقرب للّه تعالی، و طلب لمرضاته،فکیف یتقرب إلیه ما لا یحب،و تطلب مرضاته فیما یغضب علی فعله،و هو الغصب،و التصرف فی أموال الناس.من دون طیب نفس،و لا یطاع اللّه من حیث یعصی،و النهی فی العبادة یقتضی الفساد؟!.

و عند الحنابلة أن الصلاة فی الدار المغصوبة لا تصح،لأن الصلاة قربة و طاعة، و هی منهی عنها علی هذا الوجه،فکیف یتقرب بما هو عاص به،أو یؤمر بما هو منهی عنه؟.

و عن أحمد روایتان فی ذلک:الصحة و عدمها (5)کما أنه حکم ببطلان الصلاة فی مواضع ورد النهی عن الصلاة فیها،کالمجزرة،و الحمام و المزبلة،و قارعة الطریق

ص:292


1- (1) فتاوی شیخ الإسلام علی أفندی ج 1 ص 4.
2- (2) الکاسانی ج 1 ص 116.
3- (3) المهذب ج 1 ص 64.
4- (4) فتاوی الرملی بهامش فتاوی ابن حجر ج 1 ص 116.
5- (5) عمدة الحازم ص 20 و المغنی لابن قدامة ج 1 ص 587.

و معاطن الإبل،فی روایة عنه،و فی روایة أخری أنه حکم بالکراهة کما تقول به سائر المذاهب الذین حملوا أخبار النهی علی الکراهة.

مسجد الجبهة:

أجمع المسلمون علی اشتراط الطهارة لموضع الجبهة فی السجود،إلا ما یروی عن أبی حنیفة فی إحدی الروایتین عنه:أنه ذهب إلی عدم اشتراط ذلک،و خالفه صاحباه أبو یوسف و محمد،و قولهما الأصح فی ذلک عند الحنفیة (1).

و قد وقع الخلاف فیما یصح السجود علیه و فی أعضاء السجود هل هی سبعة أم ثمانیة،یجعل الأنف واحدا منها؟و هل السجود علی الأنف واجب أم مستحب؟ و علی القول بالوجوب فهل یجزی السجود علیه دون الجبهة،کما ذهب إلیه أبو حنیفة و بعض أصحاب مالک أم لا یجزی (2)؟.

إلی کثیر من مسائل الخلاف فی هذا الموضوع،کالسجود علی کور العمامة کما ذهب إلیه أبو حنیفة و مالک،و أحمد فی إحدی الروایتین عنه.

و ذهب الشیعة إلی عدم الجواز،و وافقهم الشافعی و أحمد فی إحدی الروایتین عنه،لأنه لم یثبت عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه سجد علی کور عمامته و کان ینهی عن ذلک.

نعم روی عبد اللّه بن محرر عن أبی هریرة:أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم سجد علی کور عمامته.و هذا غیر صحیح،لأن عبد اللّه متروک الحدیث کما قال ابن حجر و أبو حاتم،و الدار قطنی،و قال البخاری:إنه منکر الحدیث،و هو أحد قضاة الدولة،و لم یذکر علماء الرجال سماعه من أبی هریرة.

و قال الحافظ ابن حجر:لم یذکر عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه سجد علی کور عمامته، و لم یثبت ذلک عنه فی حدیث صحیح و لا حسن (3).

و علی کل حال:فالخلاف فی مسألة السجود فی عدة مواضع أهمها فیما یصح السجود علیه.

ص:293


1- (1) حاشیة الطحاوی علی مراقی الفلاح ص 114 و نور الإیضاح بهامش مراقی الفلاح ص 37.
2- (2) النووی فی شرح مسلم ج 4 ص 208.
3- (3) شرح المواهب اللدنیة للزرقانی ج 7 ص 321. [1]

و الشیعة یشترطون فی مسجد الجبهة-مضافا إلی طهارته و إباحته-أن یکون علی الأرض أو ما أنبتته،من غیر المأکول و الملبوس،و لا یجوز السجود علی ما خرج عن اسم الأرض من المعادن،کالذهب،و الفضة،و لا علی الملبوس من القطن و الکتان و غیرهما،مما یکون منه اللبس،و السجود علی الأرض أفضل،لأنه أبلغ فی التواضع و الخضوع للّه عز و جل.

الأذان و الإقامة:

اختلف العلماء فی الأذان و الإقامة،هل هما من الواجبات أم من السنن و المشهور عند الشیعة أنهما من السنن لا الواجبات،بل مستحبان استحبابا مؤکدا، و منهم من ذهب إلی الوجوب.

و وافقهم بالقول بالاستحباب مالک و أبو حنیفة،و الشافعی،فقالوا:بأنهما مستحبان لکل صلاة،فی الحضر و السفر،للجماعة و المنفرد،لا یجبان بحال (1).

و عن أحمد بن حنبل:انهما فرض کفایة و اختار أکثر أصحابه أنهما من السنن.

و قال بعض أصحاب الشافعی،و أصحاب مالک:بأنهما فرض کفایة.و عن مالک:إنما یجبان فی مسجد الجماعة.

و عن محمد بن الحسن الشیبانی القول بالوجوب،و قیل:إن المراد من قول أبی حنیفة انهما من السنن المؤکدة،أراد بذلک الوجوب،و لکن المشهور عند الحنفیة أنهما من السنن لا الواجبات.

و لا فرق عندهم بین الأذان و الإقامة من حیث تکرار الألفاظ،و عند المالکیة، و الحنابلة،و الشافعی:أن الإقامة بالإفراد إلا لفظ قد قامت الصلاة،فقال أحمد، و الشافعی:إنها مرتان (2).

ألفاظ الأذان:

لا خلاف بین المسلمین بأن للأذان و هو الإعلام بدخول وقت الصلاة،ألفاظا

ص:294


1- (1) الترهیب و الترغیب للمنذری ج 1 ص 106 فی التعلیقة.
2- (2) غنیة المتملی ص 177.

مخصوصة،و لکن الخلاف فی لفظتین و هما:حی علی خیر العمل،بعد قول حی علی الفلاح،کما یذهب إلیه الشیعة.

و الثانیة قول:الصلاة خیر من النوم بعد قول:حی علی الفلاح.

و صورة الأذان عند الشیعة بالإجماع:اللّه أکبر أربع مرات،أشهد أن لا إله إلا اللّه مرتان،و أشهد أن محمدا رسول اللّه مرتان،حی علی الصلاة مرتان،حی علی الفلاح مرتان،ثم حی علی خیر العمل مرتان،ثم اللّه أکبر مرتان،ثم لا إله إلا اللّه مرتان.

و الإقامة کذلک إلا أن فصولها مرتان،و قول لا إله إلا اللّه فی آخرها مرة واحدة،و یزاد فیها بعد حی علی خیر العمل و قبل التکبیرات:قد قامت الصلاة مرتان.

و لا خلاف عند جمیع المذاهب فی ذلک إلا فی أمرین.

1-تکرار الألفاظ فی الأذان و الإقامة،فمنهم من یوافق الشیعة فی ذلک،و منهم من یقول بأن الأذان مرتان،و الإقامة مثله،و منهم من یقول إن الأذان مرتان و الإقامة مرة،و عند المالکیة أن التکبیر الأول فی الأذان مرتین.

2-کلمة حی علی خیر العمل کما تذهب الشیعة إلی وجوبها،و کلمة الصلاة خیر من النوم کما تذهب إلیه بقیة المذاهب،و لا بد لنا من الإشارة هنا حول ذلک.أما کلمة حی علی خیر العمل،فإن الثابت من طریق أهل البیت علیهم السّلام أنها جزء من الأذان و الإقامة،و قد قال الإمام زین العابدین علیه السّلام:أنه هو الأذان الأول(أی علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم)کما أخرجه البیهقی فی سننه الکبری.

و قال الإمام الباقر علیه السّلام:و کانت هذه الکلمة(حی علی خیر العمل)فی الأذان،فأمر عمر بن الخطاب أن یکفوا عنها مخافة أن تثبط الناس عن الجهاد، و یتکلوا علی الصلاة (1).

و حکی سعد الدین التفتازانی فی حاشیته علی شرح العضد:عن عمر أنه کان یقول:ثلاث کن علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنا أحرمهن و أنهی عنهن:متعة الحج، و متعة النکاح،و حی علی خیر العمل.

ص:295


1- (1) البحر الزخار ج 1 ص 192.

و روی البیهقی بسند صحیح عن ابن عمر أنه کان یؤذن بحی علی خیر العمل.

و قال ابن حزم:و قد صح عن ابن عمر و أبی أمامة أنه کانوا یقولون حی علی خیر العمل (1).

و روی المحب الطبری فی أحکامه عن زید بن أرقم:أنه أذن فی حی علی خیر العمل.

و قال الشوکانی:نقلا عن کتاب الأحکام:و قد صح لنا أن حی علی خیر العمل کانت علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یؤذن بها،و لم تطرح إلا فی زمان عمر.و هکذا قال الحسن بن یحیی (2).

و روی محمد بن منصور فی کتابه الجامع عن أبی محذور،أحد مؤذنی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:أمرنی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أن أقول فی الأذان:حی علی خیر العمل.

و فی الشفاء عن هذیل بن بلال المدائنی قال:سمعت ابن أبی محذور یقول:

حی علی خیر العمل (3).

و فیه أیضا عن الإمام علی علیه السّلام أنه قال:سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول:(إن خیر أعمالکم الصلاة)و أمر بلالا أن یؤذن:حی علی خیر العمل.

و قال برهان الدین الشافعی فی سیرته:و نقل عن ابن عمر و عن علی بن الحسین أنهما کانا یقولان:حی علی خیر العمل.بعد حی علی الفلاح (4).

و الخلاصة:أن الشیعة قد أجمعوا علی لزوم الإتیان بلفظ:حی علی خیر العمل،لأنها ثابتة علی عهد الرسول الأعظم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قد أمر أهل البیت علیهم السّلام أتباعهم بذلک،فکانت شعارهم فی جمیع أدوار التاریخ.

و لا نود أن نطیل الکلام فی هذا الموضوع،و قد أشرنا له فی الجزء الأول من هذا الکتاب.

ص:296


1- (1) المحلی ج 3 ص 160.
2- (2) نیل الأوطار ج 2 ص 32.
3- (3) البحر الزخار ج 1 ص 192.
4- (4) السیرة ج 2 ص 105.

و الأمر الثانی:هو کلمة الصلاة خیر من النوم،و الشیعة لا یجیزون ذلک، و ذهب الشافعی فی قوله الجدید إلی الکراهة.

إذ من المعلوم أن هذه اللفظة لم تکن علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أول من جعلها فی الأذان عمر بن الخطاب.

جاء فی موطأ مالک أن المؤذن جاء عمر بن الخطاب یؤذنه لصلاة الصبح فوجده نائما فقال المؤذن:الصلاة خیر من النوم،فأمره عمر أن یجعلها فی نداء الصبح (1).

و قال الإمام علی علیه السّلام عند ما سمع ذلک:لا تزیدوا فی الأذان ما لیس منه.

و أما ما یدعی من أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أمر بلالا أن یقول:الصلاة خیر من النوم فی الأذان فهو غیر صحیح لا یقره التحقیق،لأن الذی روی عن بلال ذلک هو عبد الرحمن بن أبی لیلی،و هذا غیر صحیح،لأن ولادة عبد الرحمن کانت سنة 17 (2)من الهجرة النبویة،و توفی سنة 84 ه و وفاة بلال سنة 20 من الهجرة،فکیف یصح أن یروی عن بلال و عمره ثلاث سنین،هذا شیء غریب؟! و ادعی أیضا أن بلالا أتی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فوجده راقدا،فقال:الصلاة خیر من النوم.

فقال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ما أحسن هذا اجعله فی أذانک.و هذا لا یصح أیضا،لأن الراوی هو عبد الرحمن بن زید بن أسلم المتوفی سنة 282 ه عن أبیه زید بن أسلم عن بلال؛و عبد الرحمن ضعیف الحدیث لا یعتمد علیه کما نص علی ذلک أحمد، و ابن المدینی،و النسائی،و غیرهم.

هذا من جهة،و من جهة أخری فإن زیدا لم یسمع من بلال،لأن ولادة زید کانت سنة 66 ه و وفاته سنة 126 ه (3).

فکیف یصح سماعه من بلال،و هو لم یولد إلا بعد وفاة بلال بست و أربعین سنة؟!!!

ص:297


1- (1) موطأ مالک [1]فی هامش مصابیح السنة للبغوی ج 1 ص 37.
2- (2) تهذیب الأسماء و اللغات لمحیی الدین النووی ج 1 ص 304. [2]
3- (3) تذکرة الحفاظ للذهبی ج 1 ص 124،و تهذیب الأسماء و اللغات للنووی ج 1 ص 200،و الخلاصة للخزرجی ص 131،و غیرها من کتب التراجم و الرجال.

و علی أی حال:فإن المقطوع به أن التثویب لم یکن علی عهد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أن هذه الکلمة کانت فی أیام عمر.و بدون شک أن الأذان کان بأمر من اللّه و وحی أنزله علی نبیه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و أما ما یقال فی إحداث الأذان بأنه کان لرؤیا رآها عبد اللّه بن زید، و عمر بن الخطاب،فأقرها النبی إلی غیر ذلک.فهی أمور بعیدة عن الواقع،و نحن فی غنی عن إعطاء صورة لرواة هذه الأمور لنعرف مقدار الاعتماد علیهم،و منهم عبد اللّه بن خالد الواسطی،و قد نص الحفاظ علی کذبه،و أقل صفاته أنه رجل سوء،کما قال یحیی بن معین.

و قد أنکر الحسین بن علی علیه السّلام عند ما سمع الناس یتحدثون عن رؤیا عبد اللّه بن زید فی تشریع الأذان فغضب و قال:الوحی ینزل علی الرسول و یزعمون أنه أخذ الأذان عن عبد اللّه بن زید؟!و الأذان وجه دینکم،و لقد سمعت أبی علی بن أبی طالب یقول:أهبط اللّه ملکا عرج برسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلی السماء...الحدیث.

و کیف کان فقد اختلفت أقوال أئمة المذاهب فی کلمة:الصلاة خیر من النوم، هل تقال فی جمیع الأوقات؟أم فی وقت دون وقت،أم تقال للأمیر دون غیره؟مما یطول شرحه.

و قد أجمع المسلمون علی عدم جواز تقدیم الأذان علی أوقات الصلاة،و لا یکون إلا بلفظ العربیة،و أجاز المالکیة و الشافعیة الأذان بغیر العربیة للأعجمی،إذ یجوز له أن یؤذن بلغته لنفسه.و لجماعته الأعاجم.

و الشیعة لا یجوزون الأذان بغیر العربیة مطلقا و وافقهم الحنابلة علی ذلک.

و للأذان عند المسلمین شروط و مستحبات،للأذان و للمؤذن،أعرضنا عن ذکرها اختصارا.

و بهذا ینتهی البحث فی هذا الجزء عن الفقه الإسلامی،إذ لم یتسع نطاقه لأکثر من هذا،و سنلتقی بعون اللّه فی الجزء السادس للبحث عن بقیة ما یتعلق بمسائل العبادات و المعاملات.و اللّه ولی التوفیق.

و لا یفوتنی أن ألفت نظر القارئ الکریم إلی الأمور التالیة:

1-أن البحث عن المذاهب کما قلت مرارا بحث شائک،و یتصف بصعوبة لا

ص:298

یستهان بها،و قد واجهت مصاعب لا یعلمها إلا اللّه،و عنده احتسب ذلک بالأخص موضوع فقه المذاهب،إذ لیس من السهل إعطاء صورة واقعیة عنه،لأن أقوال أئمة المذاهب تختلف،و ربما یکون فی المسألة الواحدة أقوال متعددة حسب الروایة عنه، و ربما یکون لأعیان المذاهب رأی یخالف فیه إمامه،کما و أن الذین ینقلون رأی صاحب المذهب أو عمل أهله کثیرا ما یخطئون فی النقل،لأنی وقفت حسب تتبعی علی کثیر منه مما دعانی إلی أن أعزو القول المنسوب للمذهب إلی کتبهم الخاصة قدر جهدی و استطاعتی،و لا أضمن لنفسی السلامة من الخطأ فی ذلک.

أما فقه الشیعة الإمامیة فإنی قد اقتصرت علی مسائل منه بدون تفصیل،لأنه غیر مستطاع،لاتساع موضوعه و شدة اهتمامهم فی تدوین الفقه،و استنباط الأحکام،إذ باب الاجتهاد مفتوح عندهم علی مصراعیه.

و إن تعبیری بالشیعة هو أوضح من غیره،و طبعا،أقصد بهم الإمامیة الاثنی عشریة، أما الفرق المنحرفة عن مبدأ التشیع إن کان لهم آراء فلا أقصد التعبیر عنهم فی شیء.

2-إن کثیرا من کتّاب عصرنا لا زالوا یعیشون بعقلیة عصور الظلمة،تلک العصور التی استغل ظروفها المندسون فی صفوف المسلمین لنشر المفتریات،و خلق الأکاذیب،لیفرقوا بین الأخ و أخیه بتوسیع شقة الخلاف،و قد جر ذلک علی المسلمین مآسی من جراء الانقسام و التفکک،أشرت له فی عدة مواضع.

نعم إن أولئک الکتاب قد جمدوا علی عبارات سلف عاشورا فی عصور التطاحن و التشاجر،فقلدوهم بدون تفکیر أو تمییز،حتی أصبحت القضیة خارجة عن نطاق الأبحاث العلمیة،و هی إلی المهاترات أقرب منها إلی المناقشات المنطقیة.

کل ذلک من أثر التعصب المردی و التقلید الأعمی،و لعلنا قد أوضحنا للقارئ الکریم جانبا کبیرا من تلک الأمور فی هذا الجزء و ما سبقه من أجزاء،لیکون علی بینة من الأمر.و نحن نأمل أن یکون هدف الکتاب أشرف هدف و أنبل غایة،و هو إظهار الحقیقة و استخلاص الحق مما خالطه به من باطل،و أن یکون الحکم للعلم لا للمغالطات،فحکمه العدل و قوله الفصل.

3-ربما یکون هناک أناس یؤمنون بصحة قول القائل حول فقه الشیعة و أنه غیر فقه المسلمین،و قد أوضحنا هذا الجانب و الحکم للقارئ المتحرر.

ص:299

کما یظهر الجواب علی ما ذهب إلیه صاحب کشف الظنون من امتزاج المذهب الشیعی و المذهب الشافعی،و أن الإمامیة یتبعون محمد بن إدریس الشافعی.و قد أوضحت أسباب هذا الاشتباه فیما سبق کما نبهت علی خطأ بعض الأساتذة فی تقلیده لصاحب کشف الظنون.

و سنوضح فیما بعد-إن شاء اللّه-أخطاء الکثیرین ممن یسیرون علی غیر هدی فیما یکتبونه حول الشیعة،سواء فی المعتقدات و الآراء أو الفقه و الأحکام،مما یبعث علی الأسف لما یتصف به أولئک الکتّاب من التغاضی عن الحقیقة،و التجاهل أمام الواقع.

فهم عند ما یتناولون موضوع البحث عن الشیعة بالذات،أو بالعرض سواء فی المعتقدات أو الآراء الفقهیة،أو الحوادث التاریخیة،فلا تجد إلا ما یخالف الحقیقة، و أکثرهم یکتب بلغة الکذب و الافتراء و التهجم،کل ذلک نتیجة للتعصب البغیض الذی أسر عقولهم،و حرمهم حریة التفهم للحوادث طبقا لواقعها الذی یجب أن یزول عنه قناع التضلیل،و یجلی عن جوهره غبار الخداع و التمویه.

و نحن نأمل أن تکون الدراسات للحوادث علی نهج التحرر من قیود التقلید الأعمی،لتبدو الأمور علی ما هی علیه،و لعل القارئ الکریم قد وقف علی کثیر من الأمور التی سجلت فی تاریخ الشیعة علی غیر واقعها تجنیا و افتئاتا فیما تعرضنا له فی أبحاثنا السابقة،و أزلنا الستار عن کثیر من الأمور اتخذها المهرجون وسیلة للدعایة ضد الشیعة،و نحن نقول لأولئک المتقولین بأن العلم سیخمد أصواتهم،و الوعی الإسلامی بوجوب التقارب و التفاهم سیظهر قبح ما انطوت علیه ضمائرهم،من البغض لوحدة المسلمین و تقاربهم،علی ضوء الکتاب الکریم و تعالیم الرسول الأعظم.

و نحن نسأل اللّه الهدایة للجمیع و التوفیق لما یحبه و یرضاه،کما نسأله تعالی أن یتقبل أعمالنا و یجعلنا ممن یدعو للحق و یتبعه.

و إلی هنا ینتهی البحث فی الجزء الخامس من کتابنا الإمام الصادق و المذاهب الأربعة،و إلی اللقاء فی الجزء السادس إن شاء اللّه،و أسأله الهدایة و السداد إنه سمیع مجیب.

ص:300

الجزء السادس

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِیعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْکُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَیْکُمْ إِذْ کُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَیْنَ قُلُوبِکُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ کُنْتُمْ عَلی شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأَنْقَذَکُمْ مِنْها کَذلِکَ یُبَیِّنُ اللّهُ لَکُمْ آیاتِهِ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].

ص:301

ص:302

تقدیم و تمهید

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ

-1- فی آخر الجزء الخامس من هذا الکتاب وعدت القراء بأن نلتقی فی هذا الجزء و هو السادس لمواصلة البحث عما یتعلق فی بقیة أبواب الفقه.

و قد تعرضت هناک-بعرض سریع و بیان موجز-لبعض المسائل من کتاب الطهارة،و مقدمات الصلاة إذ لم یتسع المجال لأکثر من ذلک.

و کنت مصمما علی المضی فی إکمال الموضوع بدراسة مستفیضة تکشف عن کثیر من الخلافات الحاصلة فی أکثر المسائل من حیث الاختلاف فی المبانی و الآراء.

و حیث کان الموضوع له أهمیة فقد توسعت فی البحث مما أدی إلی الخروج عن دائرة الاختصار التی نهجتها فی أول البحث.و بهذا فإن هذا الجزء لم یتسع نطاقه لذکر جمیع الأمور التی یلزم ذکرها فنتجاوز حدود سلسلة الکتاب بتعدد أجزائه،أو أن نهمل کثیرا من الأبحاث التی لا یمکن إهمالها.

و لهذا فإنی قد ارتأیت بأن اقتصر هنا علی إکمال ما یتعلق بمسائل الصلاة و کیفیتها،و ما یتعلق بها کمسألة القصر و الإتمام،و الجمع و التفریق،لنعرف مدی الخلاف الحاصل فی هذه المسائل بین المذاهب بعضها مع بعض،و بینها و بین مذهب الشیعة.

أما بقیة أبواب الفقه فإنی قررت-بعون اللّه-بأن أبرز فیها کتابا مستقلا لیعم نفعه و یسهل تناوله.

ص:303

-2- و نحن نأمل أن نوفق إلی إیضاح ما أحاط بهذه الأمور من غموض،و ما اکتنفها من سوء فهم بحقیقة الأمر،مما أدی بالبعض إلی حصر الفقه الإسلامی بجهة دون أخری،أو بمذهب دون غیره.

أما ما یتعلق بفقه الشیعة قد جهلوا حقیقته،و أساءوا فیما وصفوه،بما لا یلیق به،و ما تقولوه علیه بدون درایة.

و قد أعطینا فیما مضی صورة-موجزة-عن الفقه الشیعی،و مقارنة فقه بقیة المذاهب به،من حیث الاتفاق و الافتراق.

و سنعود إن شاء اللّه بعد إکمال هذه السلسلة إلی دراسة واسعة توضح لنا جانبا کبیرا عما أدی إلیه سوء الفهم من الحکم علی الشیء قبل معرفته.

و سنتعرض به إلی الحدیث و المحدثین،و بیان أثر الشیعة فی ذلک،و ذکر رجال الحدیث منهم،ممن أصبحوا أئمة فی الحدیث و مرجعا فی الفقه و أساتذة لکبار العلماء و أعیان المحدثین.

-3- کما و أنی لم أستوف الغرض فی بحثی حول المستشرقین فی الجزء الخامس و ما ارتکبوه من جنایة فی أبحاثهم التی یحورون بها الحقائق،و یبدلونها لتلبس تلک القوالب التی یفرضونها فرضا،و هی قوالب أفکار لا تمت إلی الواقع بشیء بل هی تخیلات وهمیة،ترسم لنا صورة الاندفاع وراء مضللات العاطفة و مردیات التعصب الأعمی.

و قد سلکوا فی کثیر من أبحاثهم ما یکدر الصفو من إبراز الخلافات المذهبیة بإطارات یروق لهم إبرازها فیها،من حیث التشویه و التهویل کما أنهم خلقوا خلافات أخری.

و لهذا رأیت نفسی مضطرا لأن أعود إلی الحدیث عن عظیم جنایتهم علی الأمة الإسلامیة،بکثیر من أبحاثهم التی لم یقصدوا بها إلا إثارة الفتنة و خلق عقبات فی طریق وحدة الصف،و تألیف القلوب،و جمع الکلمة.

ص:304

و لم أنفرد بهذا الرأی بل هناک جمع غیر قلیل من قادة الفکر و رجال الأدب قد استشهدت بأقوالهم،و إن کان أمر أولئک الکتاب من المستشرقین لا یحتاج إلی أکثر من مراجعة أقوالهم،و تصفح بحوثهم،فهی تعطی تلک الحقیقة التی نقولها و یقررونها بأقوالهم،فهم مدفوعون بدافع الحقد علی الإسلام لیشفوا غلیلهم بإثارة الفتن بین أبنائه لتفریق صفوفهم.

>تمهید:< تقدم البحث عن مقدمات الصلاة و ما یتعلق بها من خلاف بین المذاهب فی تلک المسائل،و قد أوضحنا مذهب الشیعة فی کثیر مما ینفردون به للأدلة التی تأولها غیرهم فذهبوا إلی خلاف ما ذهبوا إلیه.

و نحن هنا نذکر بقیة ما یتعلق بأحکام الصلاة من أفعال و غیرها،کمسألة القصر و الإتمام،و الجمع و التفریق،مع استعراض یسیر للأدلة و مناقشات علمیة لا تتعدی حدود إظهار الحقیقة،و بیان ما هو الواقع.

و قد سلکت فی بحثی هنا-و فیما سبق-طریق النقل عن أهل المذاهب من کتبهم الخاصة،دون اعتماد علی نقل الغیر عنهم،إلا فیما هو مشهور لا یحتمل الخطأ فی النقل،و ذلک لأنی وجدت کثیرا من النقل لا یستند إلی صحة،إما عن اشتباه أو غیر ذلک.

کما و إنی لم أقف موقف نقد ورد،و إنما کان عرضا لإیضاح المسألة دون ترجیح لرأی علی رأی،أو تقدیم قول علی آخر،لأنی لم أقصد الإحاطة بجمیع ما یتعلق بموضوع الخلاف،و إنما هی مسائل أردت بها تصویر الخلاف الحاصل بین المذاهب أجمع،و قرب بعضها من بعض مرة و بعدها أخری،و أن الخلاف لم یقتصر بین الشیعة و السنة فحسب-کما یتوهمه البعض-بل هو حاصل بین المذاهب السنیة نفسها.

و إننا لعلی یقین من أن القارئ الکریم یستطیع أن یتبین بهذا النزر القلیل-خطأ أولئک الذین نظروا لفقه الشیعة من زاویة الجهل،فحکموا علیه بالشذوذ و الانفراد أو أنه لا یلتقی مع بقیة المذاهب بقلیل و لا کثیر و یذهب إلی اتصاله بالمذهب الشافعی

ص:305

دون غیره و کل ذلک لا نصیب له من الواقع و حکم علی الشیء بدون معرفة،و الحکم علی الشیء قبل معرفته خطأ لا یغتفر،و جنایة علی العلم.

و قد مرت الإشارة إلی بعض تلک الأخطاء التی ارتکبها البعض فی نقل أشیاء لیس لها نصیب من الصحة.

کما أشرنا إلی خطأ من جعل الفقه الشیعی مستمدا من الفقه الشافعی،و قد أوضحنا أن ذلک ناشئ عن جهل أو اشتباه إلی غیر ذلک.

و لسنا الآن فی معرض ما توالی علی المذهب الشیعی من حملات،و ما تعرض له من طعون نتیجة للتعصب الأعمی یوم کانت الأمور تسیر علی نهج التضلیل و الخداع،و المکر و التمویه،لتسود الفرقة و یعظم التباعد بین المسلمین الذین هم کجسم واحد إن تألم البعض تألم الکل فقد أشرنا إلیها عبر الأجزاء السابقة کلها.

و نتیجة لتلک الخلافات-قد تبدلت الوحدة بالفرقة،و المحبة بالبغضاء و نمت بینهم روح التباغض و لم یشعروا بخطر ذلک إلا بعد أن أثر أثره،و ضرب العدو ضربته.و إن ما ترتب علی ذلک التفرق من الضرر الذی أفضی إلی ضعف المسلمین، و تمکن الأجانب من الاستیلاء علی بلادهم،و إغراء عوامل نفور بعضهم من بعض إنما هو نفع للعدو الذی یتربص بهم الدوائر.

و یجب أن نتساءل عن الفائدة التی حصلنا علیها من الفرقة و الخلافات، و لحساب من یکون ذلک؟کما یجب أن نتساءل عن عواملها و أسباب اتساعها؟و ننظر بعین الحقیقة إلی الأضرار الناجمة من ورائها،و هناک یتضح لنا الطریق إلی الحلول الجذریة التی یجب أن تتخذ لرفع أثرها،و لا یکون ذلک إلا أن نفهم الأمور عن طریق الواقع،و التماس الحلول علی ضوء الواقع لتزول الشوائب التی تطمس معالم الحق، و تضلل من ینشدونه.

و بدون شک إن الأمور إذا سارت فی طریقها الصحیح ارتفع الالتباس و حلت جمیع المشاکل،و إننا نود أن نؤکد هنا بأن دراسة الفقه الشیعی من قبل من یتحاملون علیه لم تکن دراسة صحیحة کاملة،بل هی دراسة ناقصة،لأنهم لم یأخذوا عنه من مصادره،أو لم یفهموا أصوله و مبانیه،فکان تحاملهم عاطفیا خالصا و العاطفة عمیاء، کما تحکمت فیهم آراء مسبقة و وجهات نظر مغرضة.

ص:306

و إننا لنأمل أن تتوسع دائرة دراسة الفقه المقارن بین المذاهب فیعم الانتفاع، و تتجلی الحقیقة التی طالما حجبتها سحب الأباطیل.

کما نأمل أن تزول أشباح المآسی الهائلة التی وقفت فی طریق وحدة المسلمین، و أدت إلی ذلک التفکک فی الرابطة الإسلامیة،فنحن الیوم نمر فی مرحلة حاسمة و معرکة خطیرة،و لا نکسب المعرکة إلا بوحدة الصف،و جمع الکلمة،و نبذ أحقاد الماضی،و الالتقاء علی صعید تعالیم الإسلام الصحیحة،فإن خطر الموقف بتدخل دعاة الفرقة و ذوی الغایات الاستعماریة و ذلک یدعو إلی طرح الخلافات،و الاعتصام بحبل اللّه و ما النصر إلا من عند اللّه.

ص:307

ص:308

أفعال الصلاة

اشارة

واجباتها-مستحباتها-مبطلاتها

واجبات الصلاة

النیة:

وقع الخلاف فی النیة و وجوبها،فهل هی شرط فی الصلاة؟أم رکن؟و هل یشترط التلفظ بها أم یکفی الاخطار فی القلب؟ أما وجوب النیة فلا خلاف فیه،لأن الأعمال بالنیات،و لکل امرئ ما نوی، و لکنهم اختلفوا فی أمور تتعلق بها من حیث إنها شرط أم رکن؟و هل یجب موافقة نیة المأموم للإمام و هل یجب تعین الفرض أم مطلق النیة بإتیان الصلاة یکفی،إلی غیر ذلک من موارد الخلاف،مما یطول شرحه و نبعد عن الاختصار فی بیانه.

و کیف کان فإن النیة هی القصد إلی الفعل بعنوان الامتثال و القربة،و لا یجب التلفظ بها بل یکفی إحضار صورة الفعل فی أول الصلاة،و استدامة حکمها،بمعنی أنه لا ینوی قطعها،و إذا تردد بین المضی و القطع بطلت الصلاة و إن لم یقطعها کما هو مذهب الشیعة و وافقهم الحنابلة و الشافعیة.

قال ابن قدامة:و إذا دخل الرجل فی الصلاة بنیة مترددة بین إتمامها و قطعها لم تصح،لأن النیة عزم جازم،و مع التردد لا یصح الجزم،و إن تلبس بها بنیة صحیحة ثم نوی قطعها و الخروج منها بطلت،و بهذا قال الشافعی،و قال أبو حنیفة:لا تبطل بذلک لأنها عبادة صح دخوله فیها فلم تفسد بنیة الخروج منها کالحج (1).

و قال أبو إسحاق الشافعی:و لو نوی الخروج من الصلاة أو نوی أنه سیخرج أو

ص:309


1- (1) انظر ج 1 ص 466 المغنی فی الفقه الحنبلی.

شک یخرج أم لا بطلت صلاته،لأن النیة شرط فی جمیع الصلاة؛و قد قطع ذلک بما أحدث کالطهارة؛إذا قطعها بالحدث (1).

و یشترط فی النیة أن تکون مقارنة لتکبیرة الإحرام فلا تصح أن یفصل بینها و بین التکبیرة بشیء کما لا یصح الإتیان بها بعد التکبیر و علی هذا اتفاق الشیعة و المالکیة و الشافعیة.

أما الحنفیة فإن الأفضل عندهم المقارنة للتکبیر و لو نوی قبله حین توضأ و لم یشتغل بعده بعمل یقطع نیته جاز (2).

قال فی الغنیة:روی عن محمد بن الحسن؛أن المصلی لو نوی عند الوضوء أن یصلی الظهر أو العصر مع الإمام و لم یشتغل بعد النیة بما لیس من جنس الصلاة یعنی سوی المشی إلا أنه لما انتهی إلی مکان الصلاة لم تحضر النیة جازت صلاته بتلک النیة و مثله عن أبی حنیفة و أبی یوسف رحمه اللّه فعلم بهذا جواز الصلاة بالنیة المتقدمة (3)و ذهب الکرخی من الحنفیة إلی جواز الاعتداد بالنیة المتأخرة.

و کذلک یجزی عند الحنابلة إن تقدمت النیة قبل التکبیر و بعد دخول الوقت لأنها عبادة فجاز تقدیم النیة علیها کالصوم و تقدیم النیة علی الفعل لا یخرجه عن کونه منویا...الخ (4).

قال الشافعی و ابن المنذر:یشترط مقارنة النیة للتکبیر لقوله تعالی: وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِیَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِینَ لَهُ الدِّینَ فقوله مخلصین حال له فی العبادة فإن الحال وصف هیئة الفاعل وقت الفعل و الإخلاص هو النیة.و قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«إنما الأعمال بالنیات»و لأن النیة شرط فلم یجز أن تخلو العبادة منها کسائر شروطها.

و قال الشیخ الطوسی فی الخلاف:وقت النیة مع تکبیرة الافتتاح لا یجوز تأخیرها و لا تقدیمها علیها..إلی أن یقول:دلیلنا أن النیة إنما یحتاج إلیها لیقع الفعل علی وجه دون وجه،و الفعل فی حال وقوعه یصح ذلک فیه،فیجب أن یصاحبه

ص:310


1- (1) انظر المهذب ج 1 ص 70.
2- (2) انظر المبسوط للسرخسی 1-10.
3- (3) غنیة المتملی 127.
4- (4) المغنی 1-469.

ما یؤثر فیه حتی یصح تأثیره فیه؛لأنها کالعلة فی إیجاد معلولها فکما أن العلة لا تتقدم علی المعلول فکذلک ما قلناه،و أیضا فإذا قارنت صحت الصلاة و إذا تقدمت لم یقم دلیل علی صحتها.

تکبیرة الإحرام:

و هی التی یحصل الدخول بها فی الصلاة و یحرم ما کان محللا قبلها من الکلام و غیره،و یجب التلفظ بها باللفظ العربی و هو:(اللّه أکبر)فلا یجزی غیره کما لا یجزی غیر لفظ(اللّه أکبر)من سائر ألفاظ التعظیم،لأنه الوارد عن صاحب الشرع فلا تجوز مخالفته.هذا هو مذهب الشیعة.و علیه إجماعهم.

و وافقهم مالک و ذهب إلی أنه لا یجزی غیر هذا اللفظ (1).و کذلک أحمد بن حنبل فإن الصلاة لا تنعقد عنده إلا بلفظ:اللّه أکبر (2).

أما الشافعی فهو موافق فی الجملة،و أن الصلاة لا تنعقد عنده إلا بلفظ:اللّه أکبر.و لکنه جوز أن یقال:اللّه الأکبر،لأن الألف و اللام عنده لم تغیره عن بنیته و معناه،و إنما أفادت التعریف (3).

أما أبو حنیفة فقد ذهب إلی انعقاد الصلاة بکل اسم علی وجه التعظیم کقول:

اللّه العظیم،أو کبیر،أو جلیل،أو سبحان اللّه و الحمد للّه،و لا إله إلا اللّه و نحوه و وافقه صاحبه محمد بن الحسن الشیبانی.

أما أبو یوسف فإنه یوافق بقیة المذاهب فی اشتراط لفظ:اللّه أکبر،إلا أنه یجیز قول:اللّه الأکبر أو الکبیر و زاد فی الخلاصة جواز اللّه الکبار (4).

و أجاز أبو حنیفة إتیان التکبیرة بالفارسیة نحو(خدای بزرگست).کما أجاز الاکتفاء عن التکبیر بقول:اللّه أجل أو أعظم،أو رحمن أکبر أو لا إله إلا اللّه أو تبارک اللّه أو غیره من أسماء اللّه و صفاته أجزأ (5)و وافقه محمد بن الحسن.

ص:311


1- (1) شرح الموطأ للباجی ج 1 ص 142.
2- (2) المغنی لابن قدامة ج 1 ص 460.
3- (3) المصدر السابق.
4- (4) انظر غرر الحکام فی شرح درر الأحکام للقاضی محمد بن فراموز الحنفی ج 1 ص 66.
5- (5) غنیة المتملی ص 128.

و الحنابلة یوافقون الشیعة فی تعیین صیغة التکبیر و هی:اللّه أکبر و لا یجزی غیرها من أسماء اللّه و صفاته.

قال فی المغنی:(لنا)أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«تحریمها التکبیر»رواه أبو داود، و قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم-للمسیء فی صلاته-:إذا قمت إلی الصلاة فکبر.متفق علیه.

و فی حدیث رفاعة أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:لا یقبل اللّه صلاة امرئ حتی یضع الوضوء مواضعه،ثم یستقبل القبلة،فیقول:اللّه أکبر،و کان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یفتتح الصلاة بقوله:اللّه أکبر،و لم ینقل عنه عدول عن ذلک،حتی فارق الدنیا و هذا یدل علی أنه لا یجوز العدول عنه،و ما قاله أبو حنیفة یخالف دلالة الأخبار فلا یصار إلیه و لا یصح القیاس علی الخطبة لأنه لم یرد عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیها لفظ بعینه فی جمیع خطبه و لا أمر به و لا یمنع من الکلام فیها و الصلاة بخلافه (1).

و التکبیرة رکن عند الشیعة فتبطل الصلاة بالإخلال بها عمدا أو سهوا و وافقهم مالک و أحمد و الشافعی و بهذا قال أکثر العلماء کالثوری و ربیعة و إسحاق و أبی ثور و ابن المنذر و غیرهم.

و ذهب الحنفیة إلی أن تکبیرة الافتتاح شرط حتی لو کان حاملا للنجاسة عند ابتداء التکبیر أو مکشوف العورة أو منحرفا عن القبلة أو قبل دخول الوقت فألقاها(أی النجاسة)و استتر بعمل یسیر و استقبل و دخل الوقت مع انتهائه جاز و صح شروعه (2).

و ذهب مالک بن أنس إلی استئناف الصلاة لمن نسی تکبیرة الافتتاح (3).

و الذی یظهر أن النسیان عمدا أو سهوا للتکبیرة مبطل للصلاة عندهم و قد أشار لذلک أبو الولید بقوله:لأن تکبیرة الإحرام رکن من أرکان الصلاة فإذا أسقطها الإمام ساهیا أو عامدا لم تصح صلاته و تعدی فساد ذلک إلی صلاة المأموم کما لو ترک الرکوع و السجود (4).

ص:312


1- (1) المغنی ج 1 ص 460. [1]
2- (2) غنیة المتملی 128.
3- (3) شرح الموطأ للباجی 1-146.
4- (4) نفس المصدر.

و کذلک عند الحنابلة أن الصلاة لا تنعقد إلا بتکبیرة الإحرام سواء ترکها عمدا أو سهوا (1).

و قال الشافعی:فیمن أغفل التکبیرة فصلی فأتی علی جمیع عمل الصلاة منفردا أو إماما أو مأموما أعاد الصلاة...الخ (2).

و بهذا یظهر الاتفاق بین الشیعة و بقیة المذاهب فی رکنیة التکبیرة للصلاة-ما عدا الحنفیة-و أن ترکها عمدا أو سهوا مبطل للصلاة و علی ذلک إجماع الشیعة.

سئل الإمام الصادق علیه السّلام عن رجل سها خلف الإمام فلم یفتتح الصلاة؟ قال علیه السّلام:یعید و لا صلاة بغیر افتتاح،و غیر ذلک من الأخبار المستفیضة،کصحیح زرارة عن أبی جعفر الباقر علیه السّلام عن الرجل ینسی تکبیرة الافتتاح؟.قال علیه السّلام:

یعید الصلاة.

أما رفع الیدین فی تکبیرة الإحرام فهو مستحب عند الشیعة و وافقهم مالک، و ادعی الإجماع علی استحبابه،حکاه النووی،و ابن حزم،و ابن المنذر و ذهب بعضهم إلی الوجوب،و لکن لا تبطل الصلاة بترکه،کما عن أحمد بن حنبل،و داود الظاهری.و نقل عن أبی حنیفة ذلک.و بعضهم یذهب إلی بطلان الصلاة بترکه،أما القول بحرمته و عدم جوازه فلا قائل به و ما یدعی عن الزیدیة بأنهم یحرمونه فغیر صحیح و ادعاء باطل.

و ذهب جمهور من العلماء من الصحابة رضی اللّه عنهم فمن بعدهم:یستحب أیضا رفعهما عند الرکوع و عند الرفع منه و هی روایة عن مالک...الخ (3).

و بهذا یحصل الاتفاق بین الشیعة و بین سائر المذاهب،لأن ذلک هو الثابت من فعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و روی معاویة بن عمار قال:«رأیت أبا عبد اللّه الصادق علیه السّلام یرفع یدیه إذا رکع و إذا رفع رأسه من الرکوع و إذا سجد و إذا رفع رأسه من السجود و إذا أراد أن یسجد الثانیة».

ص:313


1- (1) المغنی لابن قدامة 1-461.
2- (2) الأم 1-101.
3- (3) شرح صحیح مسلم للنووی 4-95.
القیام:

لا خلاف بین المسلمین فی وجوب القیام و هو عند الشیعة رکن فی حال تکبیرة الإحرام،و عند الرکوع و هو المعبر عنه بالقیام المتصل بالرکوع،فمن کبر للافتتاح و هو جالس بطلت صلاته،أو رکع لا عن قیام فکذلک.

أما فی حال القراءة،فهو واجب غیر رکن و کذلک هو بعد الرکوع.و یجب فیه الاعتدال و الانتصاب عرفا.

و لا خلاف فی رکنیة القیام عند جمیع المذاهب علی تفصیل عندهم،فلا تجوز الصلاة بدونه من غیر عذر عند الجمیع،إلا أبو حنیفة فقد أجاز الصلاة فی السفینة قاعدا بدون عذر،و خالفه صاحباه أبو یوسف،و محمد بن الحسن الشیبانی،و قالا:

لا تصح إلا من عذر،لحدیث ابن عمر:أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم سئل عن الصلاة فی السفینة؟ فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:صل فیها قائما إلا أن تخاف الغرق.

و استدل أبو حنیفة لرأیه بفعل أنس إذ صلی فی السفینة جالسا من دون عذر.و لا حجة فی فعل صحابی بعد ورود الأمر من الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و إن قوی بعض الحنفیة هذا القول علی قول أبی یوسف (1)فلا وجه لذلک،و الأکثر علی خلافه.

فإن عجز المکلف عن القیام أصلا و لو منحنیا أو مستندا إلی شیء صلی قاعدا، و یجب الانتصاب و الاستقرار،و الطمأنینة،و الاستقلال،هذا مع الإمکان و إلا اقتصر علی الممکن،فإن تعذر الجلوس حتی الاضطراری صلی مضطجعا علی الجانب الأیمن و وجهه إلی القبلة کهیئة المدفون،و مع تعذره فعلی الأیسر عکس الأول،و إن تعذر صلی مستلقیا و رجلاه إلی جهة القبلة کهیئة المحتضر.

هذا ما علیه مذهب الشیعة و وافقهم جمیع المذاهب،فالمالکیة یذهبون إلی هذه الکیفیات مع اختلاف یسیر،کمن عجز أن یصلی علی جنبه الأیمن فهل یصلی علی جنبه الأیسر أو علی ظهره؟قال ابن القاسم:یصلی علی ظهره و قال ابن المواز:

یصلی علی جنبه الأیسر (2).

ص:314


1- (1) انظر مراقی الفلاح ص 76.
2- (2) شرح الموطأ لابن الباجی 1-242.

و کذلک عند الشافعیة فی العجز عن الجانب الأیمن یصلی مستلقیا علی ظهره و أخمصاه للقبلة (1).

أما الحنفیة فالفرض عندهم أنه إذا عجز عن الصلاة قاعدا فإنه یستلقی علی ظهره،و جعل رجلیه إلی القبلة فأومأ بهما،و إن استلقی علی جنبه الأیمن و وجهه إلی القبلة جاز.و الاستلقاء أفضل عند القدرة علیه (2).

و الحنابلة یوافقون الشیعة فی الانتقال عند العجز عن الجانب الأیمن إلی الجانب الأیسر،و عن أحمد روایة فی صحة صلاة من صلی علی ظهره مع إمکان الصلاة علی جنبه لأنه نوع استقبال.

قال ابن قدامة الحنبلی:و الدلیل یقتضی أنه لا یصح لأنه خالف أمر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«فعلی جنب (3)»و لأنه نقله إلی الاستلقاء عند عجزه عن الصلاة علی جنبه،فیدل علی أنه لا یجوز ذلک مع إمکان الصلاة علی جنبه،و لأنه ترک الاستقبال مع إمکانه (4).

و علی أی حال:فالاتفاق حاصل فی هذه المسألة فی الجملة،و قد وردت أحادیث عن صاحب الرسالة صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ذلک.

أما الصلاة فی السفینة فإن العلماء أجازوا القعود فیها للضرورة،و ذلک لخوف الغرق،أو لدوران الرأس،أو غیر ذلک من الأعذار،و لم یقل أحد بجوازها مطلقا إلا أبو حنیفة و قد مر ذلک.

القراءة:
اشارة

اختلف المسلمون فی القراءة هل تتعین الفاتحة فی کل الرکعات؟أم فی

ص:315


1- (1) انظر مغنی المحتاج للشربینی 1-155.
2- (2) الغنیة-131.
3- (3) الحدیث أخرجه البخاری و أبو داود و النسائی و هو قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم-لعمران بن حصین-:(صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا؛فإن لم تستطع فعلی جنب)و زاد النسائی:(فإن لم تستطع فمستلقیا).
4- (4) المغنی لابن قدامة 2-146.

الرکعتین الأولیین فقط؟أو لا تتعین فی شیء من ذلک؟و هل البسملة جزء منها أم لا؟.

أما تعیین الفاتحة دون غیرها فی الصلاة فذهب إلی ذلک الشیعة،و المالکیة و الشافعیة،و الحنابلة؛و عن أحمد بن حنبل روایة بعدم التعیین و الاجتزاء بآیة من القرآن من أی موضع کان (1)و هذا مذهب أبی حنیفة کما سیأتی:

و قد وردت أحادیث عن صاحب الرسالة صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بتعیین قراءة الفاتحة دون غیرها:

فمنها ما رواه عبادة بن الصامت أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«لا صلاة لمن لا یقرأ بفاتحة الکتاب»رواه البخاری،و مسلم،و أصحاب السنن،و هو متفق علیه.

و عن عائشة قالت:سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول:«من صلی صلاة لم یقرأ فیها بأم القرآن فهی خداج».

رواه أحمد و ابن ماجة،و عن أبی هریرة،أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أمره أن یخرج فینادی:

«لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الکتاب»رواه أحمد و أبو داود.و إن کان حدیث أبی هریرة لا یصح الاستدلال به،و لکن شواهده کثیرة و فی حدیث أبی هریرة هذا من لا یعتمد علی روایته (2).

و کیف کان فإن الأحادیث متواترة فی تعیین فاتحة الکتاب فی الصلاة،و أنه لا یجزی غیرها؛و قد ذهب علماء المسلمین من الصحابة،و التابعین،فمن بعدهم إلی ذلک.

أما أبو حنیفة فذهب إلی عدم التعیین،و الاکتفاء بقراءة آیة واحدة و دلیله فی ذلک قوله تعالی: فَاقْرَؤُا ما تَیَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ و هو أمر بمطلق القراءة من دون تعیین للفاتحة.(و لیس فی شیء من الصلوات قراءة سورة بعینها) (3).

و لا حجة فیما احتج به و قد أبطله علماء المذاهب بأدلة کثیرة (4)یطول التعرض لها و الأحادیث النبویة شاهدة علی التعیین بالفاتحة.

ص:316


1- (1) المغنی لابن قدامة 1-476.
2- (2) نیل الأوطار 2-214.
3- (3) الهدایة ج 1 ص 36.
4- (4) نیل الأوطار 2-214.

و اختلف مشایخ الحنفیة فی الآیة القصیرة کقوله تعالی: ثُمَّ نَظَرَ فعند أبی حنیفة -فی أظهر الروایات عنه-أنها تجزی.و عند صاحبیه أبی یوسف و محمد لا یجزی إلا ثلاث آیات قصار نحو ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَکْبَرَ ،أو آیة طویلة هو مقدار ثلاث آیات قصار.

أما الآیة التی هی حرف واحد أو کلمة واحدة مثل(ق،ص،ن)فإن کل حرف منها آیة عند بعض القراء،أو کلمة(مدهامتان).فمنهم من جوز ذلک،و منهم من لم یجوز.

و کذلک اختلف الحنفیة فی الآیة الطویلة،کآیة المداینة و هی قوله تعالی:

یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إِذا تَدایَنْتُمْ بِدَیْنٍ الآیة.فلو قرأ المصلی نصفا منها فی رکعة،و البعض الآخر منها فی الرکعة الأخری.فقال بعضهم:لا یجوز لأنها دون آیة.و قال بعضهم:

بالجوز علی قول أبی حنیفة (1).

وجوب القراءة بالعربیة:

تجب القراءة باللغة العربیة،و لا یجزی غیرها من اللغات،و یجب التعلم علی ما لا یحسنها،هذا ما علیه مذهب الشیعة،و وافقهم الشافعیة و الحنابلة (2)و هو قول مالک.

أما الحنفیة فقد أجاز أبو حنیفة القراءة بالفارسیة مطلقا،کما أجاز بها الأذان، و التلبیة،و التسمیة فی الذبح (3).

و أجاز أبو حنیفة قراءة التوراة فی الصلاة،إذا کان ما یقرؤه موافقا لما فی القرآن،لأنه یجوز عنده قراءة القرآن بالفارسیة و غیرها من الألسنة،فیجعل کأنه قرأ القرآن بالسریانیة فتجوز الصلاة عنده لهذا (4).

و خالفه أبو یوسف و محمد،لأن القرآن اسم لمنظوم عربی کما نطق به النص.

إلا أنه عند العجز یکتفی بالمعنی کالإیماء (5).

ص:317


1- (1) انظر الغنیة 137 و 138. [1]
2- (2) انظر المهذب 1-73 و المغنی لابن قدامة 1-487.
3- (3) المبسوط 1-37.
4- (4) انظر المبسوط 1-234.
5- (5) الهدایة 1-30.

و لا یسع المقام استیفاء جمیع موارد الخلاف فی المسألة،لأن فیها مسائل کثیرة وقع الاختلاف بها.

و قد أجمع الشیعة علی وجوب الفاتحة فی صلاة الصبح و الرکعتین الأولیین من سائر الفرائض،و قراءة سورة کاملة غیرها بعدها،إلا فی المرض،و الاستعجال، و ضیق الوقت،فیجوز الاقتصار علی الحمد.

و لا یجوز تقدیم السورة علی الحمد،و لا یجوز قراءة السور الطوال التی یفوت الوقت بقراءتها.

و البسملة جزء من کل سورة،فیجب قراءتها إلا سورة براءة،و تجب القراءة بالعربیة و لا یجوز غیرها،کما تجب علیه القراءة الصحیحة بأداء الحروف و إخراجها من مخارجها علی النحو اللازم من لغة العرب،و أن تکون هیئة الکلمة موافقة للأسلوب العربی من حرکة البنیة و سکونها،و حرکات الإعراب و البناء و سکناتها، و الحذف و القلب،و الإدغام،و المد الواجب فإذا أخل بشیء بطلت.

و یجب علی الرجال الجهر فی الصبح و الأولیین من المغرب و العشاء، و الإخفات فی الظهر و العصر.

و یتخیر المصلی فی ثالثة المغرب و أخیرتی الرباعیات بین الفاتحة و التسبیح و صورته:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أکبر.و یجزی مرة واحدة و قیل ثلاثة و تجب المحافظة علی العربیة فیها.

و أما الخلاف فی>بسم الله الرحمن الرحیم

ص:318

و قد ذهب العلماء فیها إلی مذاهب:فأبو حنیفة و مالک و أحمد-فی روایة عنه- أن بسم اللّه الرحمن الرحیم لیست بآیة فی الفاتحة و لا أوائل السور.

و قال الشافعی:هی آیة فی أول الفاتحة قولا واحدا،و أن من ترکها فی الصلاة أو حرفا واحدا منها لم تجزه الرکعة التی ترکها فیها (1).و اختلف قوله فی غیرها من السور (2).

و کان مالک یستفتح القراءة بالحمد دون البسملة،و یقرؤها بعد ذلک بین کل سورتین إلا سورة براءة،و أصحابه یقرءونها فی النوافل (3).

و أما کیفیة قراءتها علی جهة الوجوب أو الاستحباب؟فقد اختلفوا فی ذلک أیضا فمذهب أبی حنیفة و أحمد:أن قراءتها سرا لا جهرا،و مذهب الشافعی الجهر بها فی الجهریة،و مذهب مالک عدم قراءتها سرا و جهرا.

و ذهب ابن أبی لیلی و إسحاق و الحکم،إلی التخییر فمن شاء جهر،و من شاء خافت.

و عند الشیعة هی جزء من کل سورة،فیجب قراءتها عدا سورة براءة.و وافقهم الشافعیة،فإن الصحابة أجمعوا علی إثباتها فی المصحف بخطه فی أوائل السور سوی براءة فلو لو لم تکن قرآنا لما أجازوا ذلک لکونه یحمل علی اعتقاد ما لیس بقرآن قرآنا،و لو کانت لمجرد الفصل لأثبتت أول براءة.

و لا حجة للنافین بحدیث أنس أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أبا بکر و عمر کانوا یفتتحون الصلاة بالحمد للّه رب العالمین.

و فی روایة عنه:صلیت مع أبی بکر،و عمر و عثمان،فلم أسمع أحدا منهم یقرأ بسم اللّه الرحمن الرحیم.

و فی روایة عنه أیضا:لا یذکرون بسم اللّه الرحمن الرحیم فی أول قراءتها و لا فی آخرها.

فهذه الروایات لا تدل علی شیء یصح الاستدلال به هذا بالإعراض عن مناقشتها سندا.

ص:319


1- (1) العدة 2-410.
2- (2) أحکام القرآن لابن العربی. [1]
3- (3) المنتقی 1-151.

قال ابن عبد البر فی الاستذکار بعد سرده روایات حدیث أنس ما لفظه:هذا اضطراب لا یقوم معه حجة لأحد الفقهاء الذین یقرءون«بسم اللّه الرحمن الرحیم» و الذین لا یقرءون بها و قد سئل أنس عن ذلک فقال:کبرت و نسیت (1).

و عن أبی سلمة سعید بن زید قال:سألت أنس بن مالک أ کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یستفتح بالحمد للّه رب العالمین أو بسم اللّه الرحمن الرحیم؟فقال:إنک تسألنی عن شیء لا أحفظه،و لا سألنی عنه أحد قبلک (2).

و قد روی البخاری عن قتادة قال:سئل أنس کیف کانت قراءة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟ فقال:کانت مدا،ثم قرأ(بسم اللّه الرحمن الرحیم...الخ)و فی هذا دلالة علی مشروعیة البسملة،و أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یمد قراءته بها،و قد استدل به القائلون باستحباب الجهر بقراءة البسملة فی الصلاة.

و أما ما ذکروه عن ابن مغفل و نهی أبیه له عن قراءة بسم اللّه الرحمن الرحیم فلا حجة فیه لجهالة الراوی و ضعف الحدیث و طعن الحفاظ بصحته.

و إن الأحادیث التی وردت عن قراءة الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لها و انها من القرآن کثیرة منها:

حدیث أم سلمة عند ما سئلت عن قراءة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟فقالت:کان یقطع قراءته آیة آیة بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِیمِ. اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ. اَلرَّحْمنِ الرَّحِیمِ. مالِکِ یَوْمِ الدِّینِ .

رواه أحمد و أبو داود و منها حدیث ابن عباس قال:کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یفتتح ببسم اللّه الرحمن الرحیم.أخرجه الترمذی.

و غیر ذلک من الأحادیث الواردة عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قد جاء من طریق أهل البیت ما یؤیدها و یدل دلالة صریحة علی أنها جزء من کل سورة.

قال الشوکانی و ذکر البیهقی فی الخلافیات أنه أجمع آل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحیم.و مثله فی الجامع الکافی و غیره من کتب العترة،و قد

ص:320


1- (1) انظر سبل السلام فی شرح بلوغ المرام للکحلانی 1-172.
2- (2) العدة للسید محمد بن إسماعیل الصنعانی 1-410.

ذهب جماعة من أهل البیت إلی الجهر بالبسملة (1).

و قد أنکر الصحابة علی معاویة عند ما ترک قراءة البسملة قبل السورة و قالوا:

سرقت الصلاة أم نسیت؟!و بهذا استدل الشافعی و بغیره من الأحادیث (2).

قال الشیخ محمد رشید:فالحق الصریح مع القائلین بأن البسملة آیة من الفاتحة،و أن قراءتها واجبة،فإنه لا یوجد فی دیننا و لا فی شیء مما تناقله البشر خلفا عن سلف أصح من نقل هذا القرآن بالکتابة،ثم بحفظ الألوف له،و لا سیما فاتحته فی عصر التنزیل ثم حفظ کل ما دخل فی الإسلام لها جیلا بعد جیل.

و أظهر ما قیل فی الأحادیث النافیة لقراءة بسملتها فی الصلاة أن المراد عدم الجهر بها،و عدم سماع الراوی،و أکثر الناس لا یسمعون أول قراءة الإمام لاشتغالهم بالتکبیر و دعاء الافتتاح،و لأن العادة الغالبة علی الناس أن القارئ یرفع صوته بالتدریج.ثم إن هذا النفی معارض بإثبات قراءتها و سماع المأمومین لها و منهم أنس (3)الذی اعتمد النافون علی روایته.و هذه المسألة من المسائل التی کثر فیها الخلاف حتی قالوا:هل یکفر من یقول بجزئیتها أو نفیها لأنه إثبات ما لیس من القرآن أو نفی ما هو منه؟و لکنهم نقلوا الإجماع علی عدم التکفیر لکثرة الخلاف.

الرکوع:

و هو التواضع و التذلل و فی الصلاة الانحناء بصورة مخصوصة و قد اتفق المسلمون علی وجوبه فی الصلاة و اختلفوا فی مقدار الواجب منه و الطمأنینة و هی السکون و استقرار جمیع الأعضاء حین الرکوع.

و هو رکن عند الشیعة تبطل الصلاة بزیادته و نقیصته عمدا أو سهوا عدا صلاة الجماعة فلا تبطل بزیادته للمتابعة بمعنی لو رفع رأسه قبل الإمام ظانا أنه رفع رأسه ثم عاد للرکوع.

و کذلک النافلة فلا تبطل بزیادته سهوا،و یجب فیه أمور:

ص:321


1- (1) انظر نیل الأوطار 2-200.
2- (2) انظر الأم 1-108.
3- (3) انظر المغنی لابن قدامة 1-478 تعلیقة.

1-الانحناء بقصد الخضوع قدر ما تصل أطراف الأصابع إلی الرکبتین.

2-الذکر و یجب منه سبحان ربی العظیم و بحمده،أو سبحان اللّه ثلاثا و یشترط فیه العربیة.

3-الطمأنینة کما تقدم.

4-رفع الرأس منه حتی ینتصب قائما.

5-الطمأنینة حالة القیام.

و یستحب فیه التکبیر،و رفع الیدین حال التکبیر،و وضع الکفین علی الرکبتین، الیمنی علی الیمنی،و الیسری علی الیسری،ممکنا کفیه من عینیهما،ورد الرکبتین إلی الخلف،و تسویة الظهر؛و مد العنق موازیا للظهر،و أن یکون نظره بین قدمیه،و أن یجنح بمرفقیه و تکرار التسبیح ثلاثا،أو خمسا،أو سبعا،و أن یدعو بالمأثور:اللهم لک رکعت...الخ،و أن یقول بعد الانتصاب:سمع اللّه لمن حمده.

و یکره فیه أن یطأطئ رأسه أو یرفعه إلی فوق و یضم یدیه إلی جنبیه و أن یقرأ القرآن فیه و أن یجعل یدیه تحت ثیابه فیه.

و لا خلاف بین المذاهب فی رکنیة الرکوع،و رکنیته عند أبی حنیفة و محمد متعلقة بأدنی ما یطلق علیه اسم الرکوع،و علی هذا فلا یشترط الطمأنینة (1).

و بهذا یظهر خلاف أبی حنیفة لبقیة المذاهب فی اشتراط الطمأنینة لأنها عنده سنة،و عند الشیعة و المالکیة و الشافعیة و الحنابلة الطمأنینة فرض (2)و عند أبی یوسف الطمأنینة مقدار تسبیحة واحدة فرض (3).

أما رفع الرأس من الرکوع و الاعتدال فهو واجب عند الشیعة و به قال الشافعی، و أحمد،و هو المشهور و المعول علیه من مذهب مالک.

و قال أبو حنیفة:لا یجب بل یجزی أن ینحط من الرکوع إلی السجود (4).

ص:322


1- (1) الغنیة-139.
2- (2) الرحمة فی اختلاف الأئمة لعبد الرحمن الدمشقی 1-45. [1]
3- (3) بدائع الصنائع 1-162.
4- (4) المصدر السابق 1-75.

و أما الذکر فهو واجب عند الشیعة و وافقهم الحنابلة فی وجوبه.

و صورته عندهم:سبحان ربی العظیم و بحمده ثلاثا و هی أدنی الکمال و إن قال مرة أجزأه.

و عند الشافعیة أن ذلک علی الاستحباب (1)و لیس بواجب و قال مالک:لیس عندنا فی الرکوع و السجود شیء محدود،و قد سمعت أن التسبیح فی الرکوع و السجود (2).

و قد ذهب إلی وجوب التسبیح إسحاق بن راهویه و عنده أن ترکه عمدا موجب للإعادة.

و قال الظاهری:إنه واجب مطلقا.

و احتج الحنابلة للوجوب بروایة عقبة بن عامر قال:لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّکَ الْعَظِیمِ قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:اجعلوها فی رکوعکم.

و عن ابن مسعود أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«إذا رکع أحدکم فلیقل ثلاث مرات (سبحان ربی العظیم)و ذلک أدناه»؛أخرجهما أبو داود و ابن ماجة.

و روی حذیفة أنه سمع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول إذا رکع:(سبحان ربی العظیم) ثلاث مرات رواه الأثرم و رواه أبو داود و لم یقل ثلاث مرات و یجزئ تسبیحة واحدة لأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أمر بالتسبیح فی حدیث عقبة،و لم یذکر عددا،فدل علی أنه یجزی أدناه...الخ (3).

و قال الشوکانی:و الحدیث(أی حدیث حذیفة)یدل علی أن التسبیح فی الرکوع و السجود بهذا اللفظ فیکون مفسرا لقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی حدیث عقبة:اجعلوها فی رکوعکم، اجعلوها فی سجودکم،و إلی ذلک الجمهور من أهل البیت و به قال جمیع من عداهم.

و قال الهادی و القاسم و الصادق:إنه سبحان اللّه العظیم و بحمده فی الرکوع و سبحان اللّه الأعلی و بحمده فی السجود،و استدلوا بظاهر قوله تعالی: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّکَ الْعَظِیمِ و سَبِّحِ اسْمَ رَبِّکَ الْأَعْلَی ...الخ (4).

ص:323


1- (1) المهذب 1-75.
2- (2) المغنی لابن قدامة.
3- (3) المغنی لابن قدامة 1-501.
4- (4) نیل الأوطار 2-245.

أقول:و الصحیح هو قول سبحان ربی العظیم و بحمده و سبحان ربی الأعلی و بحمده کما هو المشهور عند الشیعة و المروی عن أهل البیت و علیه العمل.

و قد وافقهم أحمد بن حنبل بذلک و أنه لا بأس به،و قد سأله أحمد بن نصر عن تسبیح الرکوع و السجود أیهما أحب أو أعجب إلیک؟سبحان ربی العظیم أو سبحان ربی العظیم و بحمده؟.

فقال أحمد بن حنبل:قد جاء هذا و جاء هذا و ما أدفع منه شیئا.و قال أیضا:إن قال(المصلی):و بحمده فی الرکوع و السجود أرجو أن لا یکون به بأس،و ذلک لأن حذیفة روی فی بعض طرق حدیثه أن النبی علیه السّلام کان یقول فی رکوعه:سبحان ربی العظیم و بحمده و فی سجوده سبحان ربی الأعلی و بحمده و هذه زیادة یتعین الأخذ بها...الخ (1).

السجود:

و هو سجدتان فی کل رکعة و هما رکن من أرکان الصلاة و لا خلاف بین المسلمین فی وجوبهما و لکن الخلاف فی الکیفیة.

و قد اتفق علماء الإسلام علی وجوب السجود علی الجبهة و وضعها علی الأرض و لم یخالف فی ذلک إلا أبو حنیفة فإنه ذهب إلی التخییر بین الجبهة و الأنف (2).

أما بقیة أعضاء السجود و هی الکفان و الرکبتان و إبهاما الرجلین،فقد اختلفوا فی وجوب السجود علیها،فعند الشیعة و الحنابلة و الشافعی فی أحد قولیه أنه واجب و عند مالک أن الفرض یتعلق بالجبهة و الأنف فإن أخل به أعاد فی الوقت.

و عند الحنفیة:أن وضع الیدین و الرکبتین فی السجود لیس بواجب بل یجب وضع القدمین أو أحدهما،فلو سجد و لم یضع قدمیه أو أحدهما علی الأرض لا یجوز سجوده،و لو وضع أحدهما جاز کما لو قام علی قدم واحدة (3).

ص:324


1- (1) المغنی 1-502.
2- (2) المجموع للنووی 3-424.
3- (3) الغنیة 140. [1]

و الأحادیث الواردة عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم تدل علی وجوب وضع الأعضاء السبعة علی الأرض منها قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(أمرت أن أسجد علی سبعة أعظم:الیدین،و الرکبتین، و القدمین،و الجبهة)و هذا الحدیث متفق علیه و أخرجه البخاری و مسلم و الجماعة.

و قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(إذا سجد العبد سجد معه سبعة أراب:وجهه،و کفاه و قدماه)رواه الجماعة إلا البخاری.

و قال الإمام الباقر علیه السّلام:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«السجود علی سبعة أعظم:

الجبهة،و الیدین،و الرکبتین،و الإبهامین من الرجلین،و ترغم أنفک إرغاما»أما الفرض فهذه السبعة و أما الإرغام بالأنف فسنة.

و أما ما روی من أحادیث فیها ذکر الأنف کحدیث عکرمة فهو لا یصح الاستدلال به لإرساله و لا یقاوم الأحادیث الصحیحة،و حمل ورود السجود علی الأنف فی بعض الأخبار علی الاستحباب.

و قد تمسک أبو حنیفة ببعضها و لعله ذهب إلی أن الجبهة و الأنف عضو واحد و لم یذهب إلی ذلک أحد.

قال ابن المنذر:لا أعلم أحدا سبقه إلی هذا القول و لعله ذهب إلی أن الجبهة و الأنف عضو واحد،لأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لما ذکر أشار إلی أنفه،و العضو الواحد یجزئه فی السجود علی بعضه،و هذا قول یخالف الحدیث الصحیح و الإجماع الذی قبله فلا یصح (1).

و قد نقل ابن المنذر إجماع الصحابة علی أنه لا یجزی السجود علی الأنف وحده.

و خالفه صاحباه أبو یوسف و محمد الشیبانی فقالا:لا یجوز إلا من عذر (2).

و أما مباشرة الجبهة للأرض فهو واجب عند الشیعة و قال النووی:إن العلماء مجمعون علی أن المختار مباشرة الجبهة للأرض و أما المروی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه سجد علی کور عمامته فلیس بصحیح،قال البیهقی:فلا یثبت فی هذا شیء،و أما القیاس

ص:325


1- (1) ابن قدامة 1-517. [1]
2- (2) الاختیار لتعلیل المختار 1-50.

علی باقی الأعضاء أنه لا یختص وضعها علی قول،و إن وجب ففی کشفها مشقة بخلاف الجبهة (1).

و علی أی حال:فإن عمل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أقواله تدل علی ذلک و کان الصحابة یسجدون علی الأرض و شکوا إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم حر الرمضاء فلم یشکهم و کانوا یسوون التراب للسجود علیه (2)و کان بعضهم إذا خرج یخرج بلبنة یسجد علیها فی السفر (3).

و قد تقدم الکلام فی هذا الکتاب (4)حول موضع الجبهة فی السجود فلا حاجة إلی الإطالة.

أما واجبات السجود عند الشیعة فهی:

1-وضع المساجد السبعة علی الأرض کما تقدم الکلام فیه.

2-الذکر الواجب و الکلام فیه کالرکوع.

3-الطمأنینة بمقدار الذکر الواجب و خلاف المذاهب کالخلاف فی الرکوع.

4-رفع الرأس ثم الجلوس بعده مطمئنا ثم الانحناء للسجدة الثانیة.

و وافقهم الشافعی و مالک و أحمد و قال أبو حنیفة:لا یجب ذلک بل هو سنة.

و وافقهم الشافعی و مالک و أحمد و قال أبو حنیفة:لا یجب ذلک بل هو سنة.

5-کون المساجد السبعة فی محالها إلی تمام الذکر الواجب فلو رفع بعضها بطل و أبطل إن کان عمدا،و یجب تدارکه إن کان سهوا.

6-مساواة موضع الجبهة للموقف بمعنی عدم علوه و انخفاضه أزید من مقدار لبنة أو أربع أصابع.و عند الحنفیة مقدار ارتفاع لبنتین منصوبتین و المراد بهما لبنة بخاری و هی ربع ذراع عرضه ست أصابع فمقدار ارتفاع اللبنتین المنصوبتین نصف ذراع اثنتا عشرة إصبعا.

7-وضع الجبهة علی ما یصح السجود علیه من الأرض و ما نبت منها غیر المأکول و الملبوس،و قد تقدم الخلاف فیه.

ص:326


1- (1) المجموع 3-426.
2- (2) شرح صحیح مسلم 5-37.
3- (3) طبقات ابن سعد 6-79 [1] ط 2.
4- (4) انظر 5-281 من هذا الکتاب.

8-طهارة موضع الجبهة (1).

9-المحافظة علی العربیة،و الموالاة فی الذکر.

التشهد:

و اختلفوا فی التشهد الأول فقال الشیعة بوجوبه و وافقهم أحمد بن حنبل و قال أبو حنیفة و مالک و الشافعی باستحبابه.

و صورة التشهد الواجب عند الشیعة:أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شریک له، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله،اللهم صل علی محمد و آل محمد.

أما غیرهم فاتفقوا علی أنه یجزی کل واحد من التشهد الوارد من طریق الصحابة:عبد اللّه بن عمر،و عبد اللّه بن مسعود،و عبد اللّه بن عباس.

فاختار الشافعی و أحمد تشهد ابن عباس،و أبو حنیفة تشهد ابن مسعود و مالک تشهد ابن عمر.

فتشهد ابن عباس صورته:التحیات المبارکات الصلاة الطیبات،السلام علیک أیها النبی و رحمة اللّه و برکاته،السلام علینا و علی عباد اللّه الصالحین،أشهد أن لا إله إلا اللّه و أشهد أن محمدا رسول اللّه،رواه مسلم فی صحیحه.

و أ ما تشهد ابن مسعود:التحیات للّه و الصلاة و الطیبات السلام علیک أیها النبی و رحمة اللّه و برکاته،إلی آخر ما رواه البخاری.

و تشهد ابن عمر:بسم اللّه التحیات للّه الصلوات للّه الزاکیات للّه السلام علی النبی و رحمة اللّه و برکاته السلام علینا و علی عباد اللّه الصالحین،شهدت أن لا إله إلا اللّه شهدت أن محمدا رسول اللّه.یقول هذا فی الرکعتین الأولیین (2).

التسلیم:

اختلفوا فی وجوب التسلیم فهو عند الشیعة واجب و جزء من الصلاة فیجب فیه جمیع ما یشترط فیها،و به یخرج المصلی من الصلاة و ترکه عمدا مبطل،و وافقهم فی الوجوب مالک،و الشافعی،و أحمد.

ص:327


1- (1) انظر الجزء الخامس من هذا الکتاب 293-394.
2- (2) شرح الموطأ للزرقانی 1-188.

و قال أبو حنیفة:هو سنة لو ترکه صحت صلاته،و لو فعل فعلا منافیا للصلاة من حدث و غیره فی آخرها صحت صلاته.

و صورة التسلیم عند الشیعة،أن یقول المصلی-بعد أن یفرغ من صلاته و یشهد الشهادتین و یصلی علی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم-کما فی التشهد الأول-:السلام علیک أیها النبی و رحمة اللّه و برکاته،السلام علینا و علی عباد اللّه الصالحین،السلام علیکم و رحمة اللّه و برکاته.

و الواجب منه إحدی الصیغتین فإن قرأ الصیغة الأولی-و هی السلام علینا و علی عباد اللّه الصالحین-کانت الثانیة مستحبة،و إن قرأ الثانیة و هی:السلام علیکم و رحمة اللّه و برکاته اقتصر علیها،و أما السلام علیک أیها النبی و رحمة اللّه و برکاته فلیس من صیغ السلام بل هو من توابع التشهد و لیس واجبا بل هو مستحب،و قیل:إنه واجب.

و یجب فیه المحافظة علی أداء الحروف و الکلمات علی النهج الصحیح مع العربیة و الموالاة.

و اختلفوا فی الواجب من السلام فقال أبو حنیفة و أحمد:هو تسلیمتان و قال مالک:واحدة.و للشافعی قولان أصحهما تسلیمتان،و قال مالک:التسلیمة الأولی فرض علی الإمام و المنفرد،و زاد الشافعی و علی المأموم،و قال أبو حنیفة:لیست بفرض و عن أحمد روایتان المشهور منهما أن التسلیمتین جمیعا واجبتان،و التسلیمة الثانیة سنة عند أبی حنیفة.

نیة الخروج من الصلاة:

اختلفوا فی نیة الخروج من الصلاة،فالشیعة لم یشترطوا ذلک لأن السلام هو المخرج قهرا،إذ الصلاة تحریمها التکبیر و تحلیلها التسلیم،و وافقهم الشافعی فی أصح الأقوال عنه.

و عند أبی حنیفة:الخروج من الصلاة بفعل المصلی فرض،و خالفه صاحباه (1)و مراده بفعل المصلی:هو کل فعل اختیاری بأی وجه کان من قول،أو فعل ینافی الصلاة بعد تمامها،أو یضحک قهقهة،أو یحدث عمدا،أو یتکلم أو یذهب (2).

ص:328


1- (1) الغنیة-144.
2- (2) انظر ضوء الشمس لأبی المهدی 1-175.

و اختلف الحنفیة فی فرضیته فذهب البردعی إلی ذلک،و تبعه کثیر منهم،و إذا قعد المصلی قدر التشهد فأحدث عمدا،أو تکلم،أو عمل عملا ینافی الصلاة، کالأکل و الشرب،تمت صلاته بالاتفاق عندهم،لتمام جمیع فرائضها،و إن سبقه الحدث من غیر تعمد منه فی هذه الحالة فکذلک تمت صلاته عند أبی یوسف و محمد:

و قال أبو حنیفة:یتوضأ،و یخرج عن الصلاة بفعله قصدا،فلو لم یتوضأ و لم یخرج بصنعه تبطل صلاته (1).

و هذه المسألة عندهم أصل یبتنی علیه مسائل تلقب بالاثنی عشریة (2).

الصلاة علی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

و أما وجوب الصلاة علی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی الصلاة فقد أوجبه الشیعة کما تقدم فی التشهد،و التسلیم،و وافقهم الشافعیة و الحنابلة.

قال الشافعی:فرض اللّه الصلاة علی رسوله فقال: إِنَّ اللّهَ وَ مَلائِکَتَهُ یُصَلُّونَ عَلَی النَّبِیِّ یا أَیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَیْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِیماً .

فلم یکن فرض الصلاة علیه أولی منه فی الصلاة...الخ (3).

و قال أبو إسحاق فی المهذب:فإذا فرغ(المصلی)من التشهد صلی علی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هو فرض فی الجلوس،لما روت عائشة رضی اللّه عنها:أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:(لا یقبل اللّه صلاة إلا بطهور و بالصلاة علی)و الأفضل عندهم أن یقول:اللهم صلی علی محمد و علی آل محمد کما صلیت علی إبراهیم و آل إبراهیم و بارک علی محمد و علی آل محمد کما بارکت علی إبراهیم و آل إبراهیم إنک حمید مجید (4).

و أما الحنابلة فیوجبون هذه الصورة و هی التی رواها کعب بن عجرد (5).

و ممن قال بوجوب الصلاة علی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بعد التشهد:عمر بن الخطاب و ابنه

ص:329


1- (1) الغنیة 144.
2- (2) نفس المصدر.
3- (3) الأم 1-117.
4- (4) المهذب 1-79.
5- (5) انظر عمدة الفقه-19.

عبد اللّه و ابن مسعود و جابر بن زید و الشعبی و محمد بن کعب القرضی و غیرهم (1).

و ذهب الشافعی و أحمد فی قوله الأخیر إلی بطلان الصلاة بترکه فی التشهد و قال:کنت أتهیب ذلک فإذا الصلاة واجبة (2).

و قد اختلفوا فی صورة الصلاة علی النبی فمنها ما رواه البخاری و مسلم و بقیة الجماعة ما صورته عن کعب بن عجرد قال:قلنا یا رسول اللّه قد علمنا أو عرفنا کیف السلام علیک فکیف الصلاة؟قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:قولوا:اللهم صل علی محمد و علی آل محمد (3)...الخ.و هی الصورة المتقدمة التی اختارها الشافعی و أحمد.

و منها ما أخرجه البخاری فی الأدب المفرد ص 63 من طریق أبی هریرة عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من قال:(اللهم صل علی محمد و علی آل محمد کما صلیت علی إبراهیم و علی آل إبراهیم و بارک علی محمد و علی آل محمد کما بارکت علی إبراهیم و علی آل إبراهیم و ترحم علی محمد و علی آل محمد کما ترحمت علی إبراهیم و علی آل إبراهیم)شهدت له یوم القیامة بالشهادة و شفعت له.

و منها:ما رواه أبو بکر قال:کیف یصلی علیک یا رسول اللّه؟قال:یقول:

اللهم صلی علی محمد و علی آل محمد فی الأولین و الآخرین و فی الملأ الأعلی إلی یوم الدین (4).

و منها:عن زید بن خارجة قال:سألت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کیف الصلاة علیک؟ قال:صلوا و اجتهدوا ثم قولوا:اللهم بارک علی محمد و علی آل محمد کما بارکت علی إبراهیم إنک حمید مجید (5).

و مثله عن بریدة الخزاعی،و طلحة بن عبید اللّه أخرج ذلک أحمد فی مسنده، و کثیر من الأخبار فی ذلک مع اختلاف فی الألفاظ.

ص:330


1- (1) نیل الأوطار 2-285.
2- (2) المغنی لابن قدامة 1-542.
3- (3) و أخرجه الخطیب فی ج 6-216.
4- (4) کشف الغمة للشعرانی 2-220. [1]
5- (5) أخرجه أحمد فی مسنده ج 2-162 [2] ط 2.

و ذکر الفیروزآبادی فی سفر السعادة قول الإمام إبراهیم المروزی أن أفضلها اللهم صلی علی محمد و آل محمد.

و هذا ما اختارته الشیعة و نحن لا نقف هنا طویلا حول بیان المقصود من الآل المشمولین لهذا الحکم،فإن ذلک یستوجب نقاشا طویلا،إذ البحث یدعو إلی استعراض الأقوال الشاذة التی نجمت عن التعصب،و ظهرت علی صفحة الأغراض السیاسیة،و المطامع الدنیویة،فی تحریف لفظ الآل عن مصداقه الصحیح،و انطباقه الحقیقی علی أهل البیت الذین أنزل اللّه فیهم: إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً و قد بین صلّی اللّه علیه و آله و سلّم المقصود منهم فی عدة بیانات و هم:علی و فاطمة و الحسن و الحسین صلوات اللّه علیهم و قد تقدم بیان ذلک (1).

مستحبات الصلاة:

اشارة

أما مستحبات الصلاة فهی کثیرة،و لا یسعنا بسط القول فیها،و نحن هنا نذکر مستحبات الصلاة عند کل مذهب من المذاهب،إتماما للفائدة فقد ذکرنا الواجبات قبلها-التی مر بعضها-علی سبیل الاختصار و بعدها المستحبات لیطلع القارئ علی المفارقات بین کل مذهب،أما الواجبات عند الحنفیة فاقتصرنا علی ذکر الأرکان منها لکثرة الخلاف فیها،و اکتفینا بما ذکرناه مفصلا فی فصل البحث عن الواجبات.

الشیعة:

واجبات الصلاة عند الشیعة أحد عشر:

النیة،و القیام،و تکبیرة الإحرام،و الرکوع،و السجود،و القراءة،و الذکر، و التشهد،و التسلیم،و الترتیب،و الموالاة.

منها أربعة هی أرکان تبطل الصلاة بترکها عمدا أو سهوا و هی:تکبیرة الإحرام، و القیام،و الرکوع،و السجود.و الباقی أجزاء غیر رکنیة تبطل الصلاة بترکها عمدا.

و فی ضمن هذه الواجبات واجبات یجب الإتیان بها،و الإخلال بها عمدا

ص:331


1- (1) تقدم البحث حول آیة التطهیر [1]فی الجزء الأول من هذا الکتاب.

مبطل،کوجوب الطمأنینة فی أداء الأفعال من رکوع و سجود و غیرها،و قد تقدم ذلک.

و کذلک واجبات القراءة،و تکبیرة الإحرام،مما لا حاجة لإعادته.

>المستحبات:< و هی کثیرة منها ما یأتی فی کل فعل من أفعال الصلاة.

و منها ما هو مستقل کالقنوت فی کل ثانیة قبل الرکوع و بعد القراءة.

و منها التوجه بست تکبیرات مضافة إلی تکبیرة الإحرام،بأن یکبر ثلاثا،ثم یدعو،ثم یکبر اثنتین،ثم یدعو،ثم یکبر اثنتین،ثم یدعو و یتوجه.

و منها شغل النظر فی حال قیامه إلی موضع سجوده،و فی حال القنوت إلی باطن کفیه،و فی حال الرکوع إلی ما بین رجلیه،و فی حال السجود إلی طرف أنفه، و فی حال التشهد إلی حجره.

و منها شغل الیدین:بأن یکونا فی حال قیامه علی فخذیه بحذاء رکبتیه،و فی حال القنوت إلی تلقاء وجهه،و فی حال الرکوع علی رکبتیه،و فی حال السجود بحذاء أذنیه و فی حال التشهد علی فخذیه.

و منها التعقیب بالأدعیة و الأذکار الواردة،و تسبیح الزهراء صلوات اللّه علیها.

و أما بقیة المستحبات التی هی فی ضمن الأفعال فکثیرة و قد ذکرنا بعضا منها.

الحنفیة:

أرکان الصلاة عندهم ثمانیة،ستة علی الوفاق بین أئمتهم،و اثنان علی الخلاف بینهم.

أما المتفق علیها فهی:تکبیرة الافتتاح.و هی شرط لا رکن،و لکنها عدت مع الأرکان لشدة اتصالها بها،و القیام،و القراءة،و الرکوع،و السجود و القعدة الأخیرة مقدار قراءة التشهد.

أما المختلف فیها فهی:الخروج من الصلاة بصنعة،و الطمأنینة فی الصلاة فذهب أبو یوسف إلی أنها فرض،و عند غیره أنها لیست بفرض،إذ المقصود إیجاد مسمی الرکوع أو السجود و غیره.

و أما السنن فهی کثیرة لأن أکثر أفعال الصلاة مستحبة غیر واجبة،بمعنی یجوز

ص:332

ترکها،و لیس علیه شیء فی عدم فعلها،و قد ذکر بعضهم أنها خمسون،و لکن الصحیح أن أکثرها لیست سننا و لکنها آداب کما یقولون و ذکر صاحب المنیة أنها عشرون و هی:الأذان،و رفع الیدین عند تکبیرة الافتتاح مع التکبیر،و نشر الأصابع عند التکبیر،و جهر الإمام بالتکبیر،و الثناء و هو قول:سبحانک اللهم...الخ، و التعوذ،و التسمیة،و التأمین،و الإخفاء بهن،و وضع الیمین علی الشمال،و کون ذلک الوضع تحت السرة للرجل و علی الصدر للمرأة،و التکبیرات التی یؤتی بها فی خلال الصلاة،و تسبیحات الرکوع و السجود،و أخذ الرکبتین بالیدین فی الرکوع، و افتراش الرجل الیسری و القعود علیها،و الصلاة علی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بعد التشهد فی القعدة الأخیرة،و الدعاء فی آخر الصلاة بما یشبه القرآن،و الإشارة بالمسبحة(و هی السبابة) عند الشهادتین.

و اختلفوا فی قراءة الفاتحة فی الرکعتین الأخیرتین.فقیل سنة،و قیل واجب، و کذلک الخروج من الصلاة بلفظ السلام،و قد تقدم و السلام عن الیسار سنة.

و من السنن رفع الرأس من الرکوع،و القیام بعده مطمئنا و غیر ذلک.

و ذکرها بعضهم و بلغ عددها إلی خمسین أو أکثر و لکن فی ضمنها آداب لا سنن.

الشافعیة:

فروض الصلاة عند الشافعیة أربعة عشر:

النیة،و تکبیرة الإحرام،و القیام،و قراءة الفاتحة،و الرکوع مطمئنا و الرفع من الرکوع معتدلا،و السجود مطمئنا و الجلوس بین السجدتین کذلک و الجلوس فی آخر الصلاة،و التشهد فیه،و الصلاة علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و التسلیمة الأولی،و نیة الخروج،و ترتیب أفعالها.

>السنن:< و سنن الصلاة عندهم خمس و ثلاثون:رفع الیدین فی تکبیرة الإحرام و عند الرکوع،و الرفع منه،و وضع الیمین علی الشمال،و النظر إلی موضع السجود،و دعاء الاستفتاح،و التعوذ،و التأمین،و قراءة السورة بعد الفاتحة و الجهر و الإسرار،

ص:333

و التکبیرات،سوی تکبیرة الإحرام،و التسمیع و التحمید فی الرفع من الرکوع، و التسبیح فی الرکوع،و التسبیح فی السجود،و مجافاة المرفق عن الجنب فی الرکوع و السجود،و إقلال البطن عن الفخذ فی السجود و الدعاء فی الجلوس بین السجدتین، و جلسة الاستراحة،و وضع الیدین علی الأرض عند القیام و التورک فی آخر الصلاة، و الافتراش فی سائر الجلسات و وضع الید الیمنی علی الفخذ الیمنی مقبوضة، و الإشارة بالمسبحة(و هی السبابة)و وضع الید الیسری علی الفخذ الیسری مبسوطة، و التشهد الأول،و الصلاة علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیه،و الصلاة علی آله فی التشهد الأخیر،و الدعاء فی آخر الصلاة،و التسلیمة الثانیة.

المالکیة:

و عند المالکیة فروض الصلاة ثلاثة عشر وعدها بعضهم خمسة عشر و هی النیة، و تکبیرة الإحرام،و القیام لها،و قراءة الفاتحة،و القیام لها،و الرکوع،و الرفع منه، و السجود،و الرفع منه،و الجلوس بقدر السلام،و السلام المعرف بالألف و اللام، و الطمأنینة،و الاعتدال فی الفصل بین الأرکان،و منها نیة الصلاة المعینة،و نیة الاقتداء،و ترتیب الأداء،یعنی أداء الأفعال بأن یأتی بالنیة قبل الإحرام،و الإحرام قبل القراءة،و هکذا.

>السنن:< و أما السنن فهی اثنتا عشرة:السورة بعد الفاتحة،و القیام لها،و السر فیما یسر فیه و الجهر فیما یجهر فیه و هو الصحیح و أولتا المغرب و أولتا العشاء،و کل تکبیرة سنة إلا تکبیرة الإحرام،و قول سمع اللّه لمن حمده للإمام و المفرد،و الجلوس الأول علی المشهور و قیل واجب و الزائد علی قدر السلام من الجلوس الثانی ورد المقتدی علی إمامه السلام،و کذا رد السلام علی من علی یساره إن کان علی یساره أحد،و السترة للإمام و الفذ،و أما المأموم فالإمام سترته.

الحنابلة:

و عند الحنابلة فروض الصلاة أربعة و عشرون،خمسة عشر منها أرکان و الباقی واجبات و عددها فی العمدة اثنا عشر و الواجب سبعة و فی غایة المنتهی الأرکان أربعة عشر،أما الأرکان فهی:

ص:334

القیام مع القدرة،و تکبیرة الإحرام،و قراءة الفاتحة،و الرکوع و الطمأنینة فیه، و الرفع منه،و السجود علی سبعة أعضاء،و الجلوس عنه،و الطمأنینة فی هذه الأرکان،و التشهد الأخیر،و الجلوس له،و التسلیمة الأولی،و ترتیبها علی ما ذکر.

فهذه الأرکان لا تتم الصلاة إلا بها و لا تسقط عمدا أو سهوا أو جهلا.

و الواجبات سبعة و قیل تسعة و هی:التکبیر غیر تکبیرة الإحرام،و التسبیح فی الرکوع و السجود مرة مرة،و التسمیع،و التحمید فی الرفع من الرکوع و قول ربی اغفر لی بین السجدتین،و التشهد الأول،و الجلوس له و الصلاة علی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی التشهد الأخیر.

فهذه الواجبات إن ترکها بطلت صلاته،و إن ترکها سهوا سجد لها و ما عدا هذا فسنن و هی:

الاستفتاح،و التعوذ،و قراءة بسم اللّه الرحمن الرحیم،و قول آمین،و قراءة السورة بعد الفاتحة،و قول ملء السماء بعد التحمید،و ما زاد علی التسبیحة الواحدة علی الرکوع،و السجود علی أنفه،و جلسة الاستراحة علی إحدی الروایتین فیها، و الدعاء فی التشهد الأخیر،و القنوت فی الوتر.

مبطلات الصلاة:

اشارة

و هی أمور کثیرة متفق علیها و منها مختلف فیها،و نحن نتعرض هنا للبعض اختصارا للموضوع ثم نفرد لکل مذهب ما یذهبون إلیه فی ذلک مقتصرین علی نقل عبارة کتب المذاهب:

1-الکلام:و أقله ما کان مرکبا من حرفین و لو مهملین غیر مفهمین للمعنی،أو بحرف واحد مفهم للمعنی إن کان عن عمد هذا ما علیه الشیعة،و وافقهم الشافعی، و أحمد،و مالک.

أما الحنفیة فلم یفرقوا فی الحکم ببطلان الصلاة بالکلام بین صدوره عمدا،أو سهوا.

2-کل فعل ماح لصورة الصلاة،و هذا مبطل بالاتفاق و منهم قیده بالکثرة، و منهم من قید العمل بالیدین کبعض الحنفیة.

ص:335

3-الأکل و الشرب بالاتفاق،و لکن الخلاف فی المقدار المبطل منهما و السهو و العمد.

4-الحدث الأکبر و الأصغر باتفاق،أینما وقع،و لو قبل الأخیر بحرف من غیر فرق بین العمد و السهو و الاضطرار عدا المسلوس و للشافعی قولان فی الاضطرار، و الأصح البطلان.

و عند الحنفیة أن الحدث إذا حدث قبل القعدة بقدر التشهد و إذا طرأ بعده فلا.

و اختلفوا هل یقتضی الإعادة من أولها إذا کان قد ذهب منها رکعة أو رکعتان قبل طروء الحدث،أم یبنی علی ما قد مضی و إلیک تفصیل ذلک عند کل مذهب:

الحنفیة:

و یفسد الصلاة عندهم أمور هی:

التکلم بحرفین أو حرف مفهم،عمده و سهوه قبل قعوده قدر التشهد،ورد السلام بلسانه لا بیده.

و التنحنح بلا عذر بحرفین،أو غرض صحیح کتحسین صوته أو للإعلام و الدعاء بما یشبه کلام الناس،و الأنین،و التأفیف،و البکاء،إلا لذکر جنة أو نار.

و یفسدها تسمیت العاطس لغیره،و جواب خبر سوء بالاسترجاع،و کذا کل ما قصد به الجواب أو الخطاب یا یَحْیی خُذِ الْکِتابَ بِقُوَّةٍ و فتحه علی غیر إمامه،بخلاف فتحه علی إمامه.

و الأکل و الشرب مطلقا،إلا إذا کان بین أسنانه مأکول فابتلعه،و القراءة فی المصحف،و کل عمل کثیر،و السجود علی نجس،و عند أبی یوسف أن الصلاة لا تفسد بل تفسد السجدة،فلو أعاد السجدة علی طاهر لم تفسد،و یفسدها أداء رکن، أو تمکنه منه مع کشف عورة،أو نجاسة عند أبی یوسف.

و أن یصلی علی مصلی مضرب نجس البطانة بخلاف غیر مضرب،و مبسوط علی نجس،إن لم یظهر لون أو ریح،و تحویل صدره عن القبلة بغیر عذر،و المشی الکثیر،و لو کان معه حجر فرمی به طائرا لم تفسد،و لو رمی إنسانا تفسد،و ارتداد بقلبه،و موت،و جنون،و إغماء؛و کل موجب لوضوء،و ترک رکن بلا قضاء،و شرط

ص:336

بلا عذر،و مسابقة المؤتم برکن لم یشارکه فیه إمامه،کأن رکع و رفع رأسه قبل إمامه و لم یعد معه (1).

الشافعیة:

مبطلات الصلاة عندهم هی:

النطق بحرفین أو حرف مفهم؛و کذا مده بعد حرف فی الأصح،و التنحنح، و الضحک؛و البکاء،و الأنین،إن ظهر به حرفان و إلا فلا،و یعذر فی یسیر الکلام،إن سبق لسانه أو نسی الصلاة،أو جهل تحریمه؛إن قرب عهده بالإسلام لا کثیره فی الأصح،و لو أکره علی الکلام بطلت فی الأظهر،و لو نطق بنظم القرآن بقصد التفهیم،ک یا یَحْیی خُذِ الْکِتابَ ،إن قصد معه قراءة لم تبطل،و إلا بطلت و لا تبطل بالذکر و الدعاء،إلا أن یخاطب کقوله للعاطس:یرحمک اللّه،و لو سکت طویلا بلا غرض لم تبطل فی الأصح.

و یسن لمن نابه شیء کتنبیه إمامه،و إذنه،و إنذاره أعمی أن یسبح و تصفق المرأة بضرب الیمین علی ظهر الیسار،و لو فعل فی صلاته غیرها،إن کان من جنسها بطلت إلا أن ینسی و إلا فتبطل بکثیره لا قلیله،و الکثرة بالعرف،فالخطوتان أو الضربتان قلیل و الثلاث کثیر إن توالت،و تبطل بالوثبة الفاحشة،لا الحرکات الخفیفة المتوالیة، کتحریک أصابعه أو حک فی الأصح.

و سهو الفعل الکثیر کعمده فی الأصح،و تبطل بقلیل الأکل إلا أن یکون ناسیا أو جاهلا تحریمه،فلو کان بفمه سکرة فبلع ذوبها بطلت فی الأصح (2)...الخ.

و قال أبو إسحاق الشیرازی:إذا قطع شرطا من شروطها کالطهارة و الستار و غیرهما،بطلت صلاته،فإن سبقه الحدث ففیه قولان قال فی الجدید:تبطل صلاته، لأنه حدث یبطل الطهارة.و قال فی القدیم:لا تبطل صلاته،بل ینصرف و یتوضأ و یبنی علی صلاته (3)...الخ.

ص:337


1- (1) انظر حاشیة ابن عابدین:شرح تنویر الأبصار 1-641.
2- (2) انظر منهاج الطالبیین للنووی-11.
3- (3) المهذب 1-88.
المالکیة:

و المبطلات عند المالکیة هی:

ترک رکن من أرکانها عمدا،و ترک رکن من أرکانها سهوا،و لم یتذکر حتی سلم معتقدا الکمال و طال الأمر عرفا.

أما إذا سلم معتقدا الکمال ثم تذکر عن قرب فإنه یلغی رکعة النقص،و یبنی علی غیرها،و تصح صلاته،و أما إذا لم یسلم معتقدا الکمال بأن لم یسلم أصلا أو سلم غلطا-فإن کان الرکن المتروک من الرکعة الأخیرة فإنه یأتی به و یتمم صلاته،و إن کان من غیر الأخیرة إن لم یعقد رکوع الرکعة التالیة لرکعة النقص فإن عقد رکوع الرکعة التالیة ألغی رکعة النقص،و لا یأتی بالرکن المتروک(و عقد الرکوع یکون برفع الرأس منه مطمئنا إلا فی ترک الرکوع فإن عقد التالیة یکون بمجرد الانحناء فی رکوعها).

و منها:رفض النیة و إلغاؤها،و زیادة رکن،و القهقهة عمدا أو سهوا،و الأکل و الشرب عمدا،و الکلام لغیر إصلاح الصلاة عمدا،فإن کان الکلام لإصلاحها:فإن الصلاة تبطل بکثیره دون یسیره،و تعمد النفخ بالفم،و التصویت و القیء عمدا و لو کان قلیلا،و السلام حال الشک فی تمام الصلاة،و طروء ناقض للوضوء،و سقوط النجاسة علی المصلی أو علمه بها أثناء الصلاة و فتح المصلی علی غیر إمامه،و العمل الکثیر الذی لیس من جنس الصلاة،و طروء شاغل عن إتمام فرض کاحتباس بول یمنع من الطمأنینة مثلا.

و ترک ثلاث سنن من سنن الصلاة سهوا (1)مع ترک السجود لها حتی سلم و طال الأمر عرفا.

الحنابلة:

تبطل الصلاة عندهم بأمور هی:

من زاد فعلا من جنس الصلاة عمدا بطلت،و سهوا یسجد له،و إن قام لزائدة

ص:338


1- (1) انظر مختصر خلیل فی الفقه المالکی ص 24 و الجواهر الزکیة فی حل ألفاظ العشماویة 151 و الفقه علی المذاهب الأربعة 1-222. [1]

جلس متی ذکر و تشهد إن لم یکن تشهد و سجد و سلم،و إن نبهه ثقتان فلم یرجع بطلت صلاته إن لم یجزم بصواب نفسه،و صلاة من تبعه عالما لا جاهلا أو ناسیا، و لا من فارقه و عمل متوال مستکثر عرفا من غیر جنسها بلا ضرورة سهوا،و لا تبطل بیسیر أکل و شرب سهوا،و لا نفل بیسیر شرب عمدا.

و إن سلم قبل إتمامها عمدا بطلت،و سهوا فإن ذکر قریبا و لو خرج من المسجد أو شرع فی أخری،و بقطعها تکلم یسیر لمصلحتها أتمها و سجد،و إن أحدث أو قهقه بطلت کفعلهما فی صلبهما،و إن نفخ أو انتحب لا من خشیة اللّه تعالی أو تنحنح بلا حاجة فبان حرفان بطلت،و من ترک رکنا غیر تکبیرة الإحرام فذکره بعد شروعه فی قراءة رکعة أخری بطلت المتروک فیها،و صارت التی شرع فی قراءتها مکانها،و إن قبله یعود فیأتی به و بما بعده و بعد سلامه فکترک رکعة ما لم یکن تشهدا آخر،و کره إن استتم قائما،و حرم رجوعه،و بطلت إن شرع فی القراءة لا إن نسی أو جهل تحریم رجوعه،و یجب السجود لذلک السهو مطلقا.

و یبنی علی الیقین من شک فی رکن أو عدد،و لا سجود لشک فی ترک واجب أو زیادة،إلا إذا شک فی وقت فعلها،و لا علی مأموم إلا تبعا لإمامه لکن لو ترک الإمام السجود المترتب علیه سجد المأموم و هو لما تبطل بعمده واجب،و کذا اللحن فی السورة یحیل المعنی سهوا أو جهلا.

و تبطل بترک ما قبل السلام إن کان واجبا،ما لم یأت به مع قرب،و یکفی لجمیع السهو سجدتان،و محله قبله(أی قبل السلام)ندبا،إلا إذا سلم عن نقص رکعة فأکثر،فالسجود بعد السلام ندبا،و متی سجد بعده،کبر و سجد ثم جلس فتشهد وجوبا و سلم،و قبله یسجد بعد التشهد الأخیر و یسلم (1).

الشیعة:

مبطلات الصلاة عندهم هی:

فقد بعض الشرائط فی أثناء الصلاة کالستر،و إباحة المکان،و اللباس و نحو ذلک و قد تقدم بیانه.

ص:339


1- (1) الروض الندی 85-88.

الحدث الأکبر و الأصغر فإنه مبطل أینما وقع فیها و لو قبل الآخر بحرف،من غیر فرق بین أن یکون عمدا أو سهوا أو اضطرارا،عدا المسلوس و المبطون و المستحاضة.

تعمد الالتفات بتمام البدن إلی الخلف أو الیمین أو الیسار بل و إلی ما بینهما علی وجه یخرج عن الاستقبال.

تعمد الکلام بحرفین و لو مهملین غیر مفهمین للمعنی أو بحرف واحد بشرط کونه مفهما للمعنی نحو«ق»فعل أمر من وقی.

و یجوز رد التحیة فی أثناء الصلاة،بل یجب و یکون الرد بمثل ما سلم،و لو سلم علی جماعة منهم المصلی فرد الجواب غیره لم یجز له الرد،و یکره السلام علی المصلی.

تعمد القهقهة،و هی الضحک المشتمل علی الصوت و المد.

تعمد البکاء المشتمل علی الصوت،إلا أن یکون من خوف اللّه و لأمور الآخرة.

کل فعل ماح لصورة الصلاة قلیلا کان أو کثیرا مما هو مناف للصلاة،و کذا السکوت الطویل الماحی لصورة الصلاة.

الأکل و الشرب عمدا کانا أو سهوا.

الشک فی رکعات الثنائیة و الثلاثیة و الأولیین من الرباعیة،علی ما سنبینه إن شاء اللّه.

زیادة جزء أو نقصانه عمدا،إن لم یکن رکنا و مطلقا إن کان رکنا.

تنبیه:

لم نتعرض هنا لکثیر من المسائل التی وقع الخلاف فیها بین المذاهب خشیة الإطالة فی الموضوع،کبیان الاختلاف فی وضع الیمین علی الشمال فی الصلاة،إذ الشیعة یرون بطلانه،أو أن حرمته حرمة تشریعیة.

کما أن الخلاف واقع بین المذاهب الأخری،فمنهم من یری استحبابه،کأبی حنیفة و الشافعی و أحمد و إسحاق و أبی ثور و غیرهم.

ص:340

و منهم من لا یری استحبابه و کان یرسل یدیه فی الصلاة،کالحسن البصری، و النخعی؛و ابن سیرین و غیرهم.

و قال الأوزاعی بالتخییر،و روی ابن القاسم عن مالک:الإرسال و هو الأشهر و علیه جمیع أهل المغرب من أصحابه،و احتجوا بحدیث المشی صلاته و بأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علمه الصلاة و لم یذکر الیمین علی الیسار (1).

و قال ابن المنذر فی بعض تصانیفه:لم یثبت عن النبی فی ذلک شیء فهو مخیر.

و المسألة تحتاج إلی نقاش للأحادیث الواردة من طریق أبی هریرة،و قد صح عند الشیعة من طریق أهل البیت حرمة ذلک و انه لم یرد فیه عن النبی شیء.

و أما ما رواه أبو داود عن علی علیه السّلام أن من السنة فی الصلاة وضع الأکف علی الأکف فی الصلاة،فإن هذا لم یوجد إلا فی نسخة ابن الأعرابی دون غیرها، و مع ذلک فإن الراوی لا یعتمد علی حدیثه،و قد ورد عن الإمام علی علیه السّلام ما یدل علی حرمته و المشهور أن حقیقته الشرعیة قائمة علی استحسان عمر بن الخطّاب للتکفیر لما رأی أساری العجم کفروا-وضع الید علی الأخری-أمامه،فسأل عن ذلک،فأجابوه بأنا نستعمله خضوعا و تواضعا لملوکنا،فرأی أن یکون فی الصلاة و لنترک هذا لمناسبة أخری.

کما إننا لم نتعرض للحدیث حول کلمة(آمین)بعد الفاتحة و انها مستحبة للإمام أو المأموم أو للجمیع و الأحادیث الواردة لا تصلح للمشروعیة فذهب الشیعة إلی البطلان؛و حکی المهدی فی البحر عن العترة جمیعا:أن التأمین بدعة و استدل بحدیث معاویة بن الحکم السلمی.

و الموضوع یدعو إلی بسط القول فی الدلالة،فلنترک ذلک،کما نترک کثیرا من المسائل،و نتحول إلی البحث عن صلاة المسافر و من اللّه التوفیق.

ص:341


1- (1) المجموع للنووی 3-312.

ص:342

صلاة المسافر

اشارة

اختلف المسلمون فی حکم قصر الصلاة فی السفر علی أقوال:

أحدها:أن المسافر فرضه المتعین علیه هو قصر الصلاة،و هو مذهب الشیعة و وافقهم أبو حنیفة و أصحابه،و الکوفیون بأسرهم علی خلاف فی تحقیق المسافة الموجبة لقصر الصلاة کما سیأتی.

الثانی:أن القصر و الإتمام کلاهما فرض مخیر له کالخیار فی واجب الکفارة، و بذا قال بعض أصحاب الشافعی.

الثالث:انه سنة،و به قال مالک فی أشهر الروایات عنه.

الرابع:أن القصر رخصة،و ان الإتمام أفضل،و إلیه ذهب الشافعی فی أشهر الروایات عنه.

الخامس:جواز القصر،و أنه أفضل من الإتمام،و إلیه ذهب الحنابلة.

و هذه المسألة من مهمات المسائل التی وقع فیها الخلاف بین السنة و الشیعة حتی ظن بعض الناس أن ذلک من المسائل التی انفرد بها الشیعة.

و لا بد لنا هنا من استعراض المسألة،لینکشف لنا کثیر من المفارقات فیها باستعراض الأدلة من الکتاب و السنة و الإجماع فی أصل هذه المسألة.

أما الکتاب فقوله تعالی: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِی الْأَرْضِ فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا ...

الآیة.

قال یعلی بن أمیة:قلت لعمر بن الخطاب:لیس علیکم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن یفتنکم الذین کفروا،و قد أمن الناس؟!.

ص:343

فقال عمر:عجبت مما عجبت منه،فسألت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:صدقة تصدق بها اللّه علیکم،فاقبلوا صدقته (1).

و روی أن زرارة بن أعین و محمد بن مسلم سألا الإمام أبا جعفر محمد الباقر علیه السّلام:

فقالا له:ما تقول فی الصلاة فی السفر؟کیف هی؟و کم هی؟ قال علیه السّلام:إن اللّه سبحانه یقول: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِی الْأَرْضِ فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ فالتقصیر واجب فی السفر کوجوب التمام فی الحضر.

قالا:إنه تعالی قال:لا جناح علیکم أن تقصروا من الصلاة و لم یقل قصروا فکیف أوجب ذلک کما أوجب التمام؟ قال علیه السّلام:أو لیس قال تعالی فی الصفا و المروة:فمن حج البیت أو اعتمر فلا جناح علیه أن یطوف بهما.أ لا تری أن الطواف واجب مفروض لأن اللّه ذکره فی کتابه و صنعه نبیه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و کذا التقصیر فی السفر شیء صنعه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و ذکره اللّه فی الکتاب.قالا:قلنا فمن صلی فی السفر أربعا أ یعید أم لا؟ قال علیه السّلام:إذا کانت قرئت علیه آیة التقصیر و فسرت له فصلی أربعا أعاد، و إن لم یکن قرئت علیه و لم یعلمها فلا إعادة علیه و قال علیه السّلام:الصلاة فی السفر کل فریضة رکعتان،إلا المغرب فإنها ثلاث لیس فیها تقصیر ترکها رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی السفر و الحضر ثلاث رکعات (2).

قال الشیخ الطبرسی-بعد إیراد هذا الخبر-:و فی هذا دلالة علی أن فرض المسافر مخالف لفرض المقیم،و قد أجمعت الطائفة(الشیعیة)علی ذلک(و أجمعت) علی أنه لیس بقصر و قد روی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:فرض المسافر رکعتان غیر قصر.

>و أما السنة:< فهی کثیرة تدل بصراحة علی وجوب التقصیر و قد رویت من طریق صحاح الجمهور و نصوص أهل البیت علیهم السّلام.

ص:344


1- (1) صحیح مسلم 5-196 شرح النووی.
2- (2) مجمع البیان ج 5 ص 211 ط بیروت.

فمن الصحاح ما أخرجه مسلم عن ابن عمر أنه قال:صحبت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی السفر فلم یزد علی رکعتین حتی قبضه اللّه،و صحبت أبا بکر فلم یزد علی رکعتین حتی قبضه اللّه،و صحبت عمر فلم یزد علی رکعتین حتی قبضه اللّه،ثم صحبت عثمان فلم یزد علی رکعتین حتی قبضه اللّه،و قد قال اللّه تعالی: لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ (1).

و أخرج عن ابن عباس أنه قال:إن اللّه فرض الصلاة علی لسان نبیکم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی المسافر رکعتین و علی المقیم أربعا و فی الخوف رکعة (2).

و أخرج البخاری عن أنس قال:خرجنا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من المدینة إلی مکة فکان یصلی رکعتین رکعتین،حتی رجعنا إلی المدینة (3).

و قال ابن مسعود:صلیت مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم رکعتین،و مع أبی بکر رکعتین،و مع عمر رکعتین،ثم تفرقت بکم الطرق و وددت أن لی من أربع رکعتین متقبلتین (4).

و قال أنس:خرجنا مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلی مکة فصلی رکعتین حتی رجع و أقمنا بمکة عشرا نقصر الصلاة.متفق علیه (5).

و قال ابن قدامة:و شدد ابن عمر علی من أتم الصلاة فروی أن رجلا سأله عن صلاة السفر؟ فقال ابن عمر:رکعتان فمن خالف السنة کفر.و قال بشر بن حرب:سألت ابن عمر:کیف صلاة السفر یا أبا عبد الرحمن؟ قال:اما أنتم تتبعون سنة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أخبرتکم و اما لا تتبعون سنة نبیکم فلا أخبرکم.

قلنا:فخیر ما نتبع سنة نبینا یا أبا عبد الرحمن.قال:کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذا خرج من المدینة لم یزد علی رکعتین حتی یرجع إلیها (6).

ص:345


1- (1) النووی شرح صحیح مسلم 5-198.
2- (2) نفس المصدر.
3- (3) صحیح البخاری 2-51.
4- (4) المغنی لابن قدامة ج 2 ص 255.
5- (5) البخاری ج 3 ص 51.
6- (6) المغنی لابن قدامة ج 2 ص 270.

و روی مسلم بسند عن یحیی الهنائی قال:سألت أنس بن مالک عن قصر الصلاة.

فقال:کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذا خرج مسیرة ثلاثة أمیال أو ثلاثة فراسخ(الشک من الراوی)صلی رکعتین.

و روی البخاری عن عبد الرحمن بن یزید یقول:صلی بنا عثمان بن عفان بمنی أربع رکعات فقیل ذلک لعبد اللّه بن مسعود فاسترجع ثم قال:صلیت مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بمنی أربع رکعات الحدیث (1).

و أخرج مالک عن عمر بن الخطاب أنه صلی بالناس بمکة رکعتین فلما انصرف قال:یا أهل مکة أتموا صلاتکم فإنا قوم سفر (2).

و عن حارثة بن وهب قال:صلی بنا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم-و نحن أکثر ما کنا قط و آمنه-بمنی رکعتین.أخرجه مسلم (3)و أصحاب السنن.

و عن ابن عباس قال:خرج رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من المدینة إلی مکة لا یخاف إلا رب العالمین فصلی رکعتین رکعتین.أخرجه الترمذی و صححه النسائی.

و أخرج مسلم عن حفص بن عاصم عن ابن عمر قال:صلی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بمنی صلاة المسافر و أبو بکر و عمر و عثمان ثمانی سنین أو قال ست سنین(و هو قید لصلاة عثمان).

قال:حفص و کان ابن عمر یصلی بمنی رکعتین ثم یأتی فراشه فقلت:أی عم لو صلیت بعدها رکعتین.

قال:لو فعلت لأتممت الصلاة (4).

و عن کعب بن عجرد قال:قال عمر بن الخطاب صلاة الأضحی رکعتان و صلاة الفطر رکعتان و صلاة المسافر رکعتان تمام غیر قصر علی لسان نبیکم و قد خاب من افتری (5).

ص:346


1- (1) المصدر السابق 20.
2- (2) تیسیر الوصول للشیبانی ج 2:286.
3- (3) انظر صحیح مسلم 5:205 شرح النووی.
4- (4) المصدر السابق 204 و صحیح البخاری 2:51.
5- (5) انظر المحلی لابن حزم 4:265.

و عن محمد بن المنکدر و إبراهیم بن میسرة سمعا أنس بن مالک یقول:صلیت مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم الظهر بالمدینة أربعا و العصر بذی الحلیفة رکعتین (1).

و أخرج الدارمی فی سننه عن أنس قال:صلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالمدینة أربعا بذی الحلیفة رکعتین (2).

و أخرج عن سالم عن أبیه أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم صلی بمنی رکعتین و أبو بکر رکعتین،و عمر رکعتین،و عثمان رکعتین صدرا من إمارته ثم أتمها بعد ذلک (3).

و أخرج مالک فی الموطأ عن ابن شهاب،عن أمیة بن عبد اللّه بن خالد ابن أسید أنه سأل عبد اللّه بن عمر فقال:یا أبا عبد الرحمن إنا نجد صلاة الخوف، و صلاة الحضر فی القرآن،و لا نجد صلاة السفر.

فقال ابن عمر:یا ابن أخی إن اللّه عز و جل بعث إلینا محمدا صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و لا نعلم شیئا فإنما نفعل کما رأیناه یفعل (4).

و علی هذا فإن صلاة السفر فی نظر ابن عمر هی ثابتة بالسنة لا بالقرآن و هو خلاف ما یذهب إلیه الصحابة،و منهم أبوه و قد تقدم جوابه لیعلی بن أمیة قریبا.

و کیف کان فالأحادیث متواترة من صحاح الجمهور،و نصوص أهل البیت علیهم السّلام بأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ما سافر إلا صلی رکعتین إلا المغرب و لم یثبت عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه أتم فی السفر،و لو کان هناک تخییر لما ترک صلّی اللّه علیه و آله و سلّم العمل به،و لاختار الإکمال فی کثیر من أسفاره،تعلیما لذلک فی حق الأمة.

و لما صلی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بمکة قاصرا قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«أتموا یا أهل مکة،فإنما نحن قوم سفر» فلو جاز الأربع لما اقتصر علی الرکعتین(أولا)لاغتنام زیادة العمل فی الحرم،لما للعبادة فیه من تضاعف.(و ثانیا)إنه کان إماما،و خلفه المقیمون من أهل مکة،فکان ینبغی أن یتم کیلا یحتاج أولئک القوم إلی الانفراد و تفوتهم فضیلة الإتمام معه (5).

ص:347


1- (1) أخرجه أبو داود فی سننه 1:274 و الدارمی ج 1:354. [1]
2- (2) سنن الدارمی 1:354. [2]
3- (3) نفس المصدر.
4- (4) شرح الموطأ للزرقانی 1:295.
5- (5) بدائع الصنائع 1:92.

و أما ما یروی أن عثمان أتم فی السفر،و کذلک روی عن عائشة أنها قالت:

أفطرت و صمت و قصرت و أتممت...الخ مع أن المشهور عنها أنها قالت:فرضت الصلاة رکعتین رکعتین فی الحضر و السفر،فأقرت صلاة السفر،و زید فی صلاة الحضر.

قال الزهری:قلت لعروة:فما بال عائشة تتم؟!قال:تأولت کما تأول عثمان رحمه اللّه.

قال القاضی أبو الولید المالکی:و قد اختلف فی تأویل ذلک.

فقیل:تأول(أی عثمان)أنه لما کان الخلیفة،و أن کل موضع یمر فیه فهو قطره،و إن من فیه ملتزم لطاعته،فهو بمنزلة استیطانه فیه،فحکمه لذلک أن یتم.

و تأولت عائشة:أنها لما کانت أم المؤمنین و أن کل منزل تنزله فهو منزل لمن یحرم علیها بالبنوة،کان حکمها لذلک أن تتم (1).

و قال أبو الولید:و یحتمل عندی أن یکون عثمان و عائشة اعتقدا فی ذلک التخییر علی ما ذهب إلیه الشافعی فآثرا الإتمام،و تأولا أفعال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی القصر أنه قصد به التخفیف عن أمته کالفطر (2).

و أنت تری ما فی هذه التأویلات من البعد عن الواقع،فلم یک عثمان أولی من النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالمؤمنین،و لم لم یکن صاحباه بهذه المنزلة؟فقد کانا یقصران الصلاة فی السفر؟!! و قد استغرب ابن مسعود فعل عثمان،و استرجع عند ما بلغه أن عثمان صلی أربعا فی السفر،و قال:صلیت مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم رکعتین،و مع أبی بکر رکعتین، و مع عمر رکعتین،ثم تفرقت بکم الطرق.

و أما أم المؤمنین عائشة فلیس لها مزید اختصاص عن سائر أزواج النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم، و هن أمهات المؤمنین،و لم یعرف عن واحدة منهن أنها أتمت فی السفر.

و أحسن وجه یتأول به فعل عثمان و عائشة فی إتمام الصلاة فی السفر هو:

ص:348


1- (1) شرح موطأ مالک 1:261.
2- (2) نفس المصدر.

احتمال أن یکون عثمان و عائشة إنما أتمّا بمنی بعد المقام بمکة مدة الإتمام کما لم یکن فی الخروج إلی عرفة مسافة قصر لمن احتسب فی القصر بالخروج خاصة دون الرجوع.کما ذکر ذلک القاضی أبو الولید المالکی (1).

و یؤید ذلک ما روی أن عثمان لما أتم الصلاة بمنی فأنکر علیه أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم حتی قال لهم:إنی تأهلت بمکة،و قد سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول:

من تأهل بقوم فهو منهم (2).

و علی أی حال لا یصلح الاستدلال بفعل عثمان،فإن إنکار الصحابة علیه، و اعتذار عثمان یدلان علی أن الفرض هو القصر دون التمام،و لو لا ذلک لما کان محلا للإنکار،و لا موجب للاعتذار عن شیء جائز فی الشرع،و مرخص علی فعله.

و قد روی عن ابن عباس أنه قال:لا تقولوا قصرا فإن الذی فرضها فی الحضر أربعا هو الذی فرضها فی السفر رکعتین (3).

و روی عن عمر بن الخطاب أنه قال:صلاة المسافر رکعتان،و صلاة الجمعة رکعتان،تمام غیر قصر،علی لسان نبیکم محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (4).

حجة الشافعی:

و ذهب الشافعی إلی عدم وجوب القصر فی السفر،و أن قوله تعالی فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إنما هو تخفیف من اللّه عز و جل عن خلقه،لا أن فرضا علیهم أن یقصروا.

و قال:فالاختیار و الذی أفعل مسافرا،و أحب أن یفعل قصر الصلاة فی الخوف و السفر،و فی السفر بلا خوف،و من أتم الصلاة فیهما لم تفسد علیه صلاته،جلس فی مثنی قدر التشهد أو لم یجلس،و أکره ترک القصر..الخ (5).

و قال:و أکره ترک القصر رغبة عن السنة،فأما أنا فلا أحب أن أقصر فی أقل من

ص:349


1- (1) شرح الموطأ ج 1 ص 261.
2- (2) بدائع الصنائع ج 1 ص 92.
3- (3) المصدر السابق.
4- (4) بدائع الصنائع ج 1 ص 92.
5- (5) کتاب الأم ج ص 179.

ثلاثة أیام احتیاطا علی نفسی،و إن کان ترک القصر مباح لی قصر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أتم (1).

و الصحیح أن النبی لم یتم فی السفر و لم یرو عنه ذلک أبدا،إلا ما أخرجه الدار قطنی عن عائشة أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یقصر فی السفر،و یتم،و یفطر و یصوم.

و قد أنکر الحفاظ هذا الحدیث و کذبوه،و لأنه مخالف لما علیه فعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی جمیع أسفاره.

و قد أجاب ابن حزم عن جمیع ما احتج به الشافعیة فیما ذهبوا إلیه بقوله:

احتج الشافعیون فی قولهم:إن المسافر مخیر بین رکعتین،أو أربع رکعات، بهذه الآیة و إنها جاءت بلفظ(لا جناح)و هذا یوجب الإباحة لا الفرض.

و بخبر رویناه من طریق عبد الرحمن بن الأسود،عن عائشة(أنها اعتمرت مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من المدینة إلی مکة،فلما قدمت مکة قالت:یا رسول اللّه بأبی أنت و أمی قصرت و أتممت،و أفطرت و صمت.قال:أحسنت یا عائشة).

و من طریق عطاء عن عائشة:کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یسافر فیتم الصلاة و یقصر.

و بأن عثمان أتم الصلاة بمنی بحضرة جمیع الصحابة رضی اللّه عنهم فأتموها معه.

و بأن عائشة-و هی روت(فرضت الصلاة رکعتین رکعتین)کانت تتم فی السفر.

قال علی بن حزم:هذا کل ما احتجوا به،و کله لا حجة فیه:أما الآیة فإنها لم تنزل فی القصر المذکور بل فی غیره علی ما نبینه بعد هذا إن شاء اللّه.

أما الحدیثان فلا خیر فیهما:

أما الذی من طریق عبد الرحمن بن الأسود فانفرد به العلاء بن زهیر الأزدی، لم یروه غیره و هو مجهول.

و أما حدیث عطاء فانفرد به المغیرة بن زیاد و لم یروه غیره،و قال فیه أحمد بن حنبل:هو ضعیف کل حدیث أسنده فهو منکر.

ص:350


1- (1) مختصر المزنی ص 24.

و أما فعل عثمان و عائشة(رضی اللّه عنهما)فإنهما تأولا تأویلا خالفهما فیه غیرهما من الصحابة (1).

ثم أورد ابن حزم أخبارا خرجها من طرقه منها:قول صفوان بن محرز:قلت لابن عمر حدثنی عن صلاة السفر قال:أ تخشی أن تکذب علی؟قلت:لا.قال ابن عمر:رکعتان من خالف السنة کفر.

و منها قول ابن عباس:من صلی فی السفر أربعا کمن صلی فی الحضر رکعتین.

و منها ما أخرجه من طریق سفیان بن عیینة عن جعفر بن محمد الصادق علیه السّلام عن أبیه علیه السّلام قال:اعتل عثمان و هو بمنی فأتی علی فقیل له:صل بالناس.

فقال علی علیه السّلام:إن شئتم صلیت لکم صلاة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.یعنی رکعتین.

قالوا لا:إلا صلاة أمیر المؤمنین یعنون عثمان-فأبی عثمان (2)(و فی نسخة فأبی بدون ذکر عثمان أی فأبی علی علیه السّلام)و هکذا عمن بعدهم روینا عن عمر بن عبد العزیز و قد ذکر له الإتمام فی السفر لمن شاء؟فقال:لا.الصلاة فی السفر رکعتان حتمان لا یصح غیرهما.

فإذا اختلف الصحابة فالواجب رد ما تنازعوا فیه إلی القرآن و السنة (3).

و الحاصل:أن القصر هو الواجب علی المسلم لأن فعل النبی کان فی جمیع أسفاره هو قصر الصلاة و لم یتمها یوما ما و لم یثبت عنه غیر قصر الصلاة فی السفر البتة و لنا فی رسول اللّه أسوة حسنة.

قال الخطابی:کان مذاهب أکثر علماء السلف و فقهاء الأمصار علی أن القصر هو الواجب فی السفر،و هو قول علی علیه السّلام و عمر و ابن عمر و ابن عباس(و أکثر الصحابة)و روی ذلک عن عمر بن عبد العزیز و قتادة و الحسن.

و قال حماد بن أبی سلیمان:یعید من یصلی فی السفر أربعا و قال مالک:یعید ما دام فی الوقت.

ص:351


1- (1) انظر المحلی ج 4 ص 269.
2- (2) انظر المحلی ج 4 ص 270.
3- (3) نفس المصدر ص 271.
حجة الحنابلة:

المشهور عن أحمد بن حنبل:أن المسافر إن شاء صلی رکعتین و إن شاء أتم، و روی عنه أنه توقف و قال:أنا أحب العافیة من هذه المسألة.

و استدلوا علی جواز الإتمام بالآیة الکریمة و هی قوله تعالی: فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا .

و کذلک استدلوا بما ورد عن عائشة أنها قالت:خرجت مع رسول اللّه فی عمرة رمضان فأفطر و صمت،و قصر و أتممت،فقلت:یا رسول اللّه،بأبی أنت و أمی أفطرت و صمت،و أتممت و قصرت فقال أحسنت.

رواه أبو داود الطیالسی فی مسنده و قالوا:هذا صریح فی الحکم و روی أیضا بإسناد عن عطاء عن عائشة أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یتم فی السفر و یقصر.

و کل هذا لا یصح الاحتجاج به:أما الآیة فقد تقدم الجواب عنها فی حجة الشافعیة.

و أما ما ورد عن عائشة فأما الحدیث الأول ففیه العلاء بن زهیر و هو لا یحتج بحدیثه لأنه کان یروی عن الثقات ما لا یشبه حدیث الإثبات،فبطل الاحتجاج به مع أن فیه مخالفة صریحة من عائشة لفعل النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و الواجب یقضی علیها اتباعه، فکیف یصح أن النبی کان یفطر و تصوم هی،و یقصر و تتم؟!هذا من جهة و من جهة أخری أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لم یعتمر إلا أربع عمر لیس منهن شیء فی شهر رمضان.

قال فی البدر المنیر:إن فی متن هذا الحدیث نکارة و هو کون عائشة خرجت معه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی عمرة رمضان،و المشهور أنه لم یعتمر إلا أربع عمر لیس منهن شیء فی رمضان،بل کلهن فی ذی القعدة إلا التی مع حجته فکان إحرامها(أی العمرة)فی ذی القعدة،و فعلها فی ذی الحجة قال:هذا هو المعروف فی الصحیحین و غیرهما...

الخ.

و أما الخبر الثانی:فهو کالأول لا یصلح للاستدلال لمعارضته لما فی الصحاح و مخالفته لعمل النبی و الصحابة،و عمل أم المؤمنین عائشة و قد طعن فیه بطعون توجب سقوطه زیادة علی ما فیه من المخالفات.یقول ابن تیمیة:

إن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی جمیع أسفاره کان یصلی الرباعیة رکعتین،و لم ینقل عنه أحد

ص:352

أنه صلی الرباعیة أربعا،بل و کذلک أصحابه معه،و الحدیث الذی یروی عن عائشة أنها أتمت،و أفطرت،حدیث ضعیف،بل قد ثبت عنها فی الصحیح:أن الصلاة أول ما فرضت کانت رکعتین رکعتین،ثم زید فی صلاة الحضر و أقرت صلاة السفر.

و ثبت فی الصحیح عن عمر بن الخطاب أنه قال:صلاة السفر رکعتان،و صلاة الجمعة رکعتان،و صلاة الأضحی و صلاة الفطر رکعتان تمام غیر قصر علی لسان نبیکم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و أما قوله تعالی: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِی الْأَرْضِ فَلَیْسَ عَلَیْکُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ یَفْتِنَکُمُ الَّذِینَ کَفَرُوا فإن نفی الجناح بیان الحکم و إزالة الشبهة،لا یمنع أن یکون القصر هو السنة کما قال تعالی: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَیْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَیْهِ أَنْ یَطَّوَّفَ بِهِما نفی الجناح لأجل الشبهة التی عرضت لهم من الطواف بینهما، لأجل ما کانوا علیه فی الجاهلیة من کراهیة بعضهم للطواف بینهما،و الطواف بینهما مأمور به باتفاق المسلمین،و هو إما رکن و إما واجب،و إما سنة مؤکدة،و هو سبحانه ذکر الخوف فی السفر لأن القصر یتناول قصر العدد،و قصر الأرکان،فالخوف یبیح قصر الأرکان،و السفر یبیح قصر العدد...الخ (1).

المسافة:

وقع الخلاف بین علماء الإسلام فی مقدار المسافة التی یقصر فیها الصلاة و ورد فیها نحو من عشرین قولا.

أما الخلاف بین المذاهب فی ذلک فقد ذهب الحنفیة إلی أن المسافة التی یصیر بها المقیم مسافرا سیر ثلاثة أیام سیر الإبل،و مشی الأقدام،قال الکاسانی:

«و أما بیان ما یصیر به المقیم مسافرا:فالذی یصیر به المقیم مسافرا نیة مدة السفر،و الخروج من عمران المصر،فلا بد من اعتبار ثلاثة أشیاء:

أحدها:مدة السفر و أقلها غیر مقدر عند أصحاب الظواهر،و عند عامة العلماء مقدر،و اختلفوا فی التقدیر قال أصحابنا(أی الحنفیة):ثلاثة أیام سیر الإبل و مشی الأقدام،و هو المذکور فی ظاهر الروایات،و روی عن أبی یوسف یومان و أکثر

ص:353


1- (1) فتاوی ابن تیمیة ج 1 ص 122.

الثالث،و کذا روی الحسن عن أبی حنیفة،و ابن سماعة عن محمد(الشیبانی)و من مشایخنا من قدره بخمسة عشر فرسخا،و جعل لکل یوم خمسة فراسخ،و منهم من قدره بثلاث مراحل... (1).

و أکثر الحنفیة لا یعتبر التقدیر بالفراسخ،و قدر أبو حنیفة المسافة بالمراحل و أبو یوسف قدرها بیومین،و أکثر الیوم الثالث.و دلیلهم فی تقدیر المسافة بثلاثة أیام بلیالیها-و منهم من حذف اللیالی-هو ما ورد عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:یمسح المقیم کمال یوم و لیلة،و المسافر ثلاثة أیام و لیالیها (2).

و قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:لا یحل لامرأة تؤمن باللّه و الیوم الآخر أن تسافر ثلاثة أیام إلا مع محرم أو زوج (3).

و لیس فیما أوردوه ما یصلح للاستدلال:فخبر المسح لا یصح مطلقا و إن صح فهو بیان الفعل و لیس فیه بیان لحد السفر.

و أما الدلیل الثانی فإنه لم یکن لبیان مسافة السفر،بل لبیان النهی للمرأة عن الخروج وحدها،هذا إن کان بلفظ ثلاثة أیام و إلا فإن ألفاظ الحدیث مختلفة فمنها یوم و لیلة کما روی عن أبی هریرة.

و فی آخر عن أبی هریرة أیضا(تسافر مسیرة یوم و فی لفظ تسافر بریدا)و فی آخر (لا تسافر إلا لیلة)الخ.

فاضطراب الحدیث و اختلاف ألفاظه لا یصلح للاستدلال،إن کان یصح ذلک.

و قد ورد هذا الحدیث عن ابن عباس عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:(لای خلون رجل بامرأة،إلا و معها ذو محرم،و لا تسافر المرأة إلا مع ذی محرم)بدون تقیید فی مدة بل هو لعموم السفر.

و کیف کان فما استدلوا به من ألفاظ حدیث أبی هریرة لا یصح.

و قال الشافعی:فللمرء عندی أن یقصر فیما کان مسیرة لیلتین قاصدتین و ذلک

ص:354


1- (1) بدائع الصنائع 1:93.
2- (2) بدائع الصنائع 1:93.
3- (3) الهدایة 1:56.

ستة و أربعون میلا بالهاشمی و لا یقصر فیما دونها (1)...

و نقل النووی عن الشافعی:أنه لا یجوز القصر إلا فی مسیرة مرحلتین قاصدتین،و هی ثمانیة و أربعون میلا هاشمیة،و المیل ستة آلاف ذراع و الذراع أربع و عشرون إصبعا معترضة،و الأصبح ست شعیرات معترضات معتدلات (2).

و جاء فی نهایة المحتاج أن المسافة ثمانیة و أربعون میلا ذهابا تحدیدا لا تقریبا (3).

و قال أبو إسحاق الشیرازی:و لا یجوز ذلک(أی القصر)إلا فی مسیرة یومین و هو أربعة برد و کل برید أربعة فراسخ فذلک ستة عشرة فرسخا لما روی عن ابن عمر و ابن عباس(رضی اللّه عنهما)کانا یصلیان رکعتین و یفطران فی أربعة برد فما فوق ذلک...الخ (4).

و المشهور عن مالک أنه یوافق الشافعی فی ثمانیة و أربعین میلا.

و روی عن مسیرة یوم و لیلة،و روی ابن القاسم أن مالکا رجع عنه.

و عن مالک أنه بلغه أن عبد اللّه بن عباس کان یقصر الصلاة فی مثل ما بین الطائف و مکة،و فی مثل ما بین مکة و عسفان،و فی مثل ما بین مکة و جدة،قال مالک:و ذلک أربعة برد،و ذلک أحب ما تقصر إلیّ فیه الصلاة (5).

قال الزرقانی-فی شرحه:أحب عائد لاختیاره یعنی أنه لا یقصر فی أقل منها و هی:ستة عشر فرسخا ثمانیة و أربعون میلا.

و روی أشهب عن مالک القصر فی خمسة و أربعین میلا،و روی أبو زید عن ابن القاسم أن من قصر فی ستة و ثلاثین میلا لا یعید.

و قال ابن المواز یعید و عن ابن الحکم یعید فی الوقت فإن قصر فی أقل من ذلک أعاد أبدا (6).

ص:355


1- (1) الأم 1:182.
2- (2) شرح مسلم للنووی 5:195.
3- (3) انظر ج 2:245.
4- (4) المهذب 1:102.
5- (5) موطأ [1]مالک شرح الزرقانی 1:299.
6- (6) المنتقی 1:292.

و وافقهم أحمد بن حنبل فی تحدید المسافة بستة عشر فرسخا أو ثمانیة و أربعین میلا بالهاشمی فإنه سئل فی کم تقصر الصلاة؟قال:فی أربعة برد.

قیل له مسیرة یوم تام؟قال:لا،أربعة برد ستة عشر فرسخا و مسیرة یومین.

قال ابن قدامة:فمذهب أبی عبد اللّه-أحمد بن حنبل-:إن القصر لا یجوز فی أقل من ستة عشر فرسخا،و الفرسخ ثلاثة أمیال فتکون ثمانیة و أربعین میلا.قال القاضی و المیل اثنا عشر ألف قدم و ذلک مسیرة یومین قاصدین (1).

و لا یخفی ما فی المسألة من خلاف و کثرة أقوال،فإنهم اختلفوا فی تحدید المسافة بالزمن و بالتقدیر بالأمیال أو الفراسخ.

أما التقدیر فی الزمن فهو یوم و لیلة أو یومان و أکثر الثالث أو ثلاثة أیام بلیالیها کما تقدم.

و أما الاختلاف فی تقدیر المسافة فإن اختلافهم فی المیل و تحدیده و مقداره.

فمنهم من قال:إن المیل هو من الأرض منتهی مد البصر لأن البصر یمیل عنه علی وجه الأرض حتی یفنی إدراکه.

و قیل أن ینظر إلی الشخص فی أرض مستویة فلا یدری أرجل هو أم امرأة أو ذاهب أو آت.

و قال النووی:المیل ستة آلاف ذراع و الذراع أربعة و عشرون إصبعا متراصة معتدلة،و الإصبع ست شعیرات معترضة معتدلة.

و منهم من عبر عن ذلک باثنی عشر ألف قدم بقدم الإنسان.

و قیل هو أربعة آلاف ذراع و قیل ثلاثة آلاف ذراع و قیل خمسمائة و قیل ألفا ذراع،و منهم من عبر عن ذلک بألف خطوة للجمل (2).

و قیدوا الأمیال بالهاشمیة و حدوده باثنی عشر ألف قدم ستة آلاف ذراع أربعة آلاف خطوة.

ص:356


1- (1) المغنی لابن قدامة 2:255.
2- (2) نیل الأوطار 4:205.

أما الأمیال الأمویة فالمیل منها ینقص عن الهاشمی بنسبة واحد من ستة،أی أن الفرسخ الأموی میلان و نصف (1).

أما المسافة التی یجب معها القصر عند الشیعة فهی:ثمانیة فراسخ امتدادیة أو ملفقة من أربعة ذهابا و أربعة إیابا،و الفرسخ ثلاثة أمیال و المیل أربعة آلاف ذراع بذراع الید و هو من المرفق إلی أطراف الأصابع.

و ذلک هو الوارد عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من طریق أهل البیت علیهم السّلام.

الإقامة:

اختلف علماء الإسلام فی تحدید المدة التی یصیر بها المسافر مقیما فیجب علیه إتمام الصلاة و أداء الصیام علی أقوال:

فعند الشیعة أن المسافر إذا عزم علی الإقامة عشرة أیام متوالیة فی مکان واحد أو أنه یعلم ببقائه المدة المذکورة فیجب علیه الإتمام و الصیام؛لانقطاع السفر فی ذلک.

و کذا لو تردد فی البقاء و عدمه ثلاثین یوما فإنه یجب علیه القصر إلی نهایة الثلاثین،و بعدها یجب علیه التمام إلی أن یسافر سفرا جدیدا.

و ذهب أبو حنیفة إلی أن مدة الإقامة خمسة عشر یوما،و هو أحد قولی ابن عمر (2)و له قول آخر و هو:إذا أجمعت إقامة اثنتی عشرة لیلة فأتم الصلاة،و به قال سعید بن المسیب فی أحد أقواله،و قوله الآخر:إذا أقمت أربعا فصل أربعا،و له قول آخر إذا أقمت ثلاثا فأتم.

و ذهب مالک بن أنس إلی أن مدة الإقامة التی یباح بها التمام هی أربع لیال.

حدث یحیی عن مالک عن عطاء الخراسانی أنه سمع سعید بن المسیب قال:

من أجمع إقامة أربع لیال و هو مسافر أتم الصلاة.قال مالک:و ذا أحب ما سمعت إلی (3).

قال ابن حزم:-بعد أن ذکر قول ابن المسیب:إذا أقمت أربعا فصل أربعا-و به

ص:357


1- (1) غایة المنتهی 1:195.
2- (2) المبسوط للسرخسی 1:236.
3- (3) شرح الموطأ للزرقانی 1:301.

یأخذ مالک،و الشافعی؛و اللیث،إلا أنهم یشترطون أن ینوی إقامة أربع فإن لم ینوها قصر حولا (1).

و قال أبو الولید:اختلف أصحابنا(أی المالکیة)فروی ابن القاسم أنه یراعی فیها أربعة أیام کاملة.قال عنه عیسی و لا یعتد بیوم دخوله إلا أن یدخل فی أوله.و قال الماجشون و سحنون:إذا نوی مقام زمان تجب فیه عشرون صلاة فإنه یتم.

قال أبو الولید:وجه روایة ابن القاسم أن الخبر المستفاد منه حکم المقام إنما ورد بلفظ الأیام،و ذلک یقتضی تعلق الحکم بها.

و وجه الروایة الثانیة:أن الحکم إنما یتعلق بالأیام من أجل الصلاة فوجب أن یعتبر بها (2).

و لا یخفی أن لفظ الخبر الوارد فی قول أبی الولید لم یکن خبرا عن النبی إذ ربما أن یتوهم ذلک،إذ لا خبر فی الموضوع و إنما یقصد الخبر الوارد عن مالک، فلیتأمل.

و الشافعی یختار تحقیق الإقامة فی أربعة أیام کما جاء فی کتاب الأم و حکی عنه ذلک،قال فی الأم:

إذا أزمع المسافر بموضع أربعة أیام و لیالیهن لیس فیهن یوم کان فیه مسافرا فدخل فی بعضه و لا یوم یخرج فی بعضه أتم الصلاة،و استدلالا بقول رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:یقیم المهاجر بمکة بعد قضاء نسکه ثلاثا.و إنما یقضی نسکه فی الیوم الذی یدخل فیه و المسافر لا یکون دهره سائرا و لا یکون مقیما مقام سفر و سائرا (3)...الخ،و هذا عین ما استدل به مالک.

و أجیب عن هذا الاستدلال:بأنه لا حجة لهم فیه لأنه لیس فی هذا الخبر نص و لا إشارة إلی المدة التی إذا أقامها المسافر أتم،و إنما هو فی حکم المهاجر،فما الذی أوجب أن یقاس المسافر یقیم علی المهاجر یقیم؟!هذا لو کان القیاس حقا، و کیف و کله باطل؟!

ص:358


1- (1) المحلی ج 5:23.
2- (2) شرح الموطأ لابن الباجی 1:265.
3- (3) الأم 1:186.

و المشهور عن أحمد بن حنبل أن المدة التی تلزم المسافر الإتمام بنیة الإقامة فیها هی:ما کان أکثر من إحدی و عشرین صلاة.

و عنه أیضا إذا نوی إقامة أربعة أیام أتم،و إن نوی دونها قصر،و هذا قول مالک و الشافعی و أبی ثور.

و استدلوا له بدلیل قول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقیم المهاجر بعد قضاء منسکه ثلاثا.

و استدلوا أیضا بأن عمر لما أخلی أهل الذمة ضرب لمن قدم منهم تاجرا ثلاثا و قال إن الثلاث بحکم السفر و ما زاد فی حکم الإقامة (1).

و کیف کان فقد اختلفت أقوال الصحابة و التابعین فی هذه المسألة فعن ابن عباس القول بأن الإقامة عشرة أیام و المتردد إلی تسعة-عشرة یقصر فإذا زاد أتم.و له قول آخر و هو:إن الإقامة خمسة عشر یوما و له قول:بأن المتردد إلی سنة یصلی قصرا.

و قال ابن عمر بمثل قوله هذا و له قول آخر و هو إن الإقامة اثنتا عشرة لیلة و له قول إن المتردد إلی ستة أشهر یصلی قصرا.

و ذهبت عائشة إلی أن وضع الزاد و المزاد موجب للتمام و إلیه ذهب الحسن البصری فقال:صل رکعتین رکعتین إلی أن تقدم مصرا فأتم الصلاة و صم.

و قال ربیعة الرأی:إن الإقامة یوم و لیلة.

و قال الأوزاعی:إن الإقامة ثلاث عشرة لیلة.

و قال سعید بن المسیب:إن الإقامة أربع.و له قول آخر:إنها ثلاثة.

و قال سعید بن جبیر:إن الإقامة أکثر من خمسة عشر،و له قول آخر إن الإقامة تحصل بمجرد وضع الرحل إلی آخر الأقوال و الآراء التی لا یعرف لهم فیها مستند شرعی و إنما ذلک اجتهاد من أنفسهم کما قیل عنهم ذلک.

و صفوة القول إن الأقوال فی هذه المسألة مختلفة و لا یکاد الإنسان أن یلمس منها قولا یمکن أن یکون عمدة فی الباب و لم یکن هناک أثر یدل علی ما تطمئن النفس

ص:359


1- (1) المغنی لابن قدامة 1:288.

إلیه و حیث کان الأمر کذلک فلا بد من الرجوع إلی أهل البیت و هم أدری به لأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قرنهم بکتاب اللّه فمن اتبعهم اهتدی،فهم أعلام الإسلام و حکام الأنام و لهذا فإن الشیعة یأخذون بما ورد عنهم علیهم السّلام و یستمدون تعالیمهم منهم.

و قد وردت فی هذه المسألة نصوص عن أهل البیت أخذ بها الشیعة و عملوا بموجبها،فقد روی عن الإمام علی علیه السّلام أنه قال:یتم الذی یقیم عشرا،و الذی یقول الیوم أخرج غدا أخرج یقصر شهرا (1).

قال الشوکانی:و ذهبت القاسمیة و الإمامیة و الحسن بن صالح و هو مروی عن ابن عباس أنه لا یتم الصلاة إلا من نوی إقامة عشر و احتجوا بما روی عن علی علیه السّلام(و ذکر الحدیث).

و قال ابن قدامة:و روی عن علی رضی اللّه عنه قال:یتم الصلاة الذی یقیم عشرا و یقصر الصلاة الذی یقول:أخرج الیوم أخرج غدا شهرا.و هذا قول محمد بن علی(الباقر)و ابنه(جعفر الصادق)و الحسن بن صالح (2).

قال الإمام الباقر علیه السّلام:و إن لم تدر ما مقامکم بها،تقول غدا أخرج أو بعد غد فقصر ما بینک و بین أن یمضی شهر فإذا تم لک شهر فأتم الصلاة و إن أردت أن تخرج من ساعتک.

و قال الإمام الصادق علیه السّلام:«إن شئت فانو المقام عشرا و أتم،و إن لم تنو المقام فقصر ما بینک و بین شهر فإذا مضی لک شهر فأتم الصلاة (3).

و فی بعض الأخبار عنهما علیه السّلام تحدید مدة التردد ثلاثین یوما.

و روی معاویة بن وهب عن الإمام الصادق علیه السّلام قال:و إن أقمت تقول غدا أخرج أو بعد غد و لم تجمع علی عشر فقصر ما بینک و بین شهر فإذا تم الشهر فأتم الصلاة».

و قال علیه السّلام:إذا عزم الرجل أن یقیم عشرا فلیتم الصلاة و إن کان فی شک لا

ص:360


1- (1) انظر نیل الأوطار للشوکانی ج 3:208 و المغنی لابن الحنبلی 2:288.
2- (2) المغنی ج 2:288. [1]
3- (3) المستمسک للإمام الحکیم 8:138. [2]

یدری ما یقیم فیقول:الیوم أو غدا فلیقصر ما بینه و بین شهر فإن أقام بذلک البلد أکثر من شهر فلیتم الصلاة.

و بهذا أخذ الشیعة و علیه العمل فهم یحکمون علی من نوی إقامة عشرة أیام یجب علیه القصر و إن کان مترددا فإنه یقصر حتی یمضی شهر فإذا مضی شهر أتم.

و وافقهم سفیان الثوری و جماعة آخرون و الذی یظهر من الخرقی الحنبلی اختیار القول فی مدة التردد إلی شهر دون تحدید الإقامة بعشر کما جاء فی مختصره قال:

و إذا نوی المسافر الإقامة فی بلد أکثر من إحدی و عشرین صلاة أتم،و إن قال:الیوم أخرج غدا أخرج قصر و إن أقام شهرا (1).

و ذهبت الحنفیة إلی أن المسافر الذی لم ینو إقامة خمسة عشر یوما و یقول غدا أخرج أو بعد غد أخرج و استمر علی ذلک لا یصیر مقیما عندهم و لو بقی سنین عدیدة (2).

و للشافعیة أقوال فی ذلک:إنه إذا أقام فی بلد علی حاجة إذا تنجزت رحل و لم ینو مدة فقیل إنه یقصر سبعة عشر یوما.و قیل یقصر أبدا و خرج أبو إسحاق قولا ثالثا أنه یقصر إلی أربعة أیام (3).

و عند الحنابلة:أن من لم یجمع الإقامة مدة تزید علی إحدی و عشرین صلاة فله القصر و لو أقام سنین،و الذی یظهر من عبارة ابن قاسم الخرقی أن مدة التردد إلی الشهر.

السفر المبیح للقصر:

اختلفوا فی السفر المبیح للقصر،فعند الشیعة أن سفر المعصیة لا تقصر فیه الصلاة لأنه سفر محرم،سواء أ کان بنفسه حراما کالفرار من الزحف و إباق العبد، و سفر الزوجة بدون إذن زوجها فی غیر الواجب،و سفر الولد مع نهی الوالدین فی غیر الواجب،و کما إذا کان مضرا لبدنه.

ص:361


1- (1) المغنی 1:292.
2- (2) الغنیة 241.
3- (3) المهذب للشیرازی 1:103.

أم کان السفر غایته أمرا محرما:کما إذا سافر لقتل نفس محرمة،أو للسرقة أو للزنی،أو لإعانة الظالم،أو لأخذ أموال الناس ظلما و نحو ذلک.و وافقهم الشافعی و أحمد.

قال الشافعی:و لیس لأحد سافر فی معصیة أن یقصر،و لا یمسح مسح المسافر،فإن فعل أعاد (1).

و قال الرملی-المعروف بالشافعی الصغیر-:لا یترخص العاصی بسفره کآبق، و ناشزة،و قاطع طریق و مسافر بلا إذن،إذ مشروعیة الترخص فی السفر للإعانة، و العاصی لا یعان،لأن الرخص لا تنال بالمعاصی...الخ (2).

و أما أحمد بن حنبل فإنه نص علی عدم جواز القصر لمن کان سفره سفر معصیة کإباق العبد،و قطع الطریق؛و التجارة فی الخمر و المحرمات (3).

و قال أیضا:إذا خرج الرجل إلی بعض البلدان تنزها و تلذذا،و لیس فی طلب حدیث و لا حج و لا عمرة و لا تجارة فإنه لا یقصر الصلاة،لأنه إنما شرع إعانة علی تحصیل المصلحة،و لا مصلحة فی هذا.

أما الحنفیة فذهبوا إلی الجواز و أن العاصی و المطیع فی سفرهما واحد و یستوی المقدار المفروض علی المسافر من الصلاة سفر الطاعة من الحج و الجهاد،و سفر المباح کسفر التجارة و نحوه،و سفر المعصیة کقطع الطریق و البغی (4).

و عن مالک روایتان:فالمشهور من مذهبه أن سفر المعصیة لا تقصر فیه الصلاة،لأن سفر المعصیة ممنوع منه مأمور بالرجوع عنه،فلا یصح تناول النیة الشرعیة لمسألة القصر فیه.

و الروایة الثانیة:جواز القصر لأن هذا معنی یترخص به سفر الطاعة فجاز أن یترخص به فی سفر المعصیة.

ص:362


1- (1) مختصر المزنی:25.
2- (2) نهایة المحتاج 2:253.
3- (3) المغنی لابن قدامة 1:262.
4- (4) انظر بدائع الصنائع 1:93 و الهدایة 1:57. [1]

هذا ما تعلق الغرض ببیانه حول صلاة المسافر و أن فرضه المتعین هو القصر کما أجمعت علیه الشیعة و وافقهم کثیر من علماء المسلمین فی ذلک و أن الذی یتم فی السفر مع حصول شرائط القصر علیه الإعادة.

و هنا لا بد أن نشیر بإیجاز إلی حکم الصائم فی السفر،و قد أجمع المسلمون علی جواز الإفطار فی شهر رمضان لکل من سافر فیه سفرا تقصر فیه الصلاة،کما جاء فی کتاب اللّه العزیز بقوله تعالی: فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ وَ مَنْ کانَ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ الآیة.

و قد اختلفوا فی الإفطار فی السفر هل هو رخصة أم عزیمة؟فذهب الشیعة إلی أنه عزیمة،و لا یصح الصوم فی السفر،کما لا یصح إتمام الصلاة فیه،لأنه هو الذی شرعه اللّه فی دین الإسلام،و أن المقتضی من السفر لأحدهما هو بعینه المقتضی للآخر.کما ورد ذلک عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذ قال:(إن اللّه وضع عنه الصیام و نصف الصلاة)أخرجه النسائی عن عمر بن أمیة الضمری.

و أخرج مسلم فی صحیحه عن جعفر بن محمد الصادق عن أبیه محمد الباقر عن جابر بن عبد اللّه الأنصاری أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم خرج عام الفتح إلی مکة فی رمضان فصام حتی بلغ کراع الغمیم فصام الناس،ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتی نظر الناس إلیه ثم شرب،فقیل له بعد ذلک إن بعض الناس قد صام.فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«أولئک العصاة أولئک العصاة» (1).

و أخرج البخاری عن جابر بن عبد اللّه الأنصاری قال:کان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی سفر فرأی زحاما و رجلا قد ظلل علیه فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ما هذا؟فقالوا صائم.فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

(لیس من البر الصوم فی السفر) (2).

و أخرج أبو داود عن قزعة قال أتیت أبا سعید الخدری و هو یفتی الناس و هم مکبون علیه،فانتظرت خلوته،فلما خلا سألته عن صیام رمضان فی السفر؟ فقال:خرجنا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی رمضان عام الفتح،فکان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یصوم و نصوم،حتی بلغ منزلا من المنازل فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إنکم قد دنوتم من عدوکم،و الفطر

ص:363


1- (1) صحیح مسلم شرح النووی 7:232.
2- (2) صحیح البخاری 3:43.

أقوی لکم،فأصبحنا منا الصائم،و منا الفاطر.قال:ثم سرنا فنزلنا منزلا فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

(إنکم تصبحون عدوکم و الفطر أقوی لکم فأفطروا)فکانت عزیمة من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1).

و أخرج الترمذی عن رجل من بنی عبد اللّه بن کعب بن مالک اسمه أنس بن مالک قال:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(إن اللّه وضع شطر الصلاة عن المسافر و رخص له فی الإفطار) (2).

و أخرج مسلم عن ابن عباس أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم خرج عام الفتح فصام حتی بلغ الکدید ثم أفطر،و کان صحابة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یتبعون الأحدث فالأحدث من أمره (3)و فی لفظ و إنما یؤخذ من أمر رسول اللّه بالآخر فالآخر (4).

و کیف کان فإن الشیعة قد أجمعوا علی أن الإفطار فی السفر عزیمة و لا یجزی الصوم عن الفرض،بل من صام فی السفر وجب علیه قضاؤه فی الحضر.

و قال الشوکانی:و هذا هو قول بعض الظاهریة،و حکاه فی البحر عن أبی هریرة و داود و الإمامیة،قال فی الفتح:و حکی عن عمرو ابن عمر،و أبی هریرة،و الزهری، و إبراهیم،و النخعی و غیرهم (5).

و قال ابن حزم-بعد أن استدل علی وجوب الإفطار فی السفر-:و لم یبق علینا إلا أن نذکر من قال بمثل قولنا لئلا یدعی علینا خلاف الإجماع،فالدعوی لذلک منهم سهلة،و هم أکثر خلافا للإجماع..

روینا من طریق سلیمان بن حرب نا حماد بن سلمة عن کلثوم بن جبر عن رجل من بنی عبد القیس أنه صام فی السفر فأمره عمر بن الخطاب أن یعید.و من طریق

ص:364


1- (1) سنن أبی داود 1:560. [1]
2- (2) تیسیر الوصول للشیبانی 2:337.
3- (3) صحیح مسلم 7:130.
4- (4) انظر نیل الأوطار 4:223.
5- (5) نیل الأوطار 4:223.

سفیان بن عیینة عن عاصم بن عبید اللّه عن عبد اللّه بن عامر بن ربیعة عن عمر بن الخطاب أنه أمر رجلا أن یعید صیامه فی السفر.

و روی عن عبد الرحمن بن عوف قال:نهتنی عائشة أم المؤمنین عن أن أصوم فی السفر.و عن ابن عمر أنه سئل عن الصوم فی السفر فقال:(من کان منکم مریضا أو علی سفر فعدة من أیام أخر).

و سئل عن الصوم أیضا فقال:إنما هو صدقة تصدق بها اللّه علیک،أ رأیت لو تصدقت بصدقة فردت علیک؟أ لم تغضب؟ و أن امرأة صحبته فی السفر فوضع الطعام فقال لها:کلی.فقالت إنی صائمة.

قال ابن عمر:لا تصحبینا.

و عن ابن عباس أنه سئل عمن صام رمضان فی السفر؟قال:لا یجزئه.یعنی لا یجزئه صیامه.

و عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال:الصائم فی السفر کالمفطر فی الحضر.

و عن سعید بن المسیب أن رجلا سأله:أتم الصلاة فی السفر و أصوم؟قال:

لا.فقال:إنی أقوی علی ذلک.فقال سعید:رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان أقوی منک،قد کان یقصر و یفطر.

و عن الزهری قال:کان الفطر آخر الأمرین من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و إنما یؤخذ من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالآخر.

و عن عبد الرحمن بن عوف عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:الصائم فی السفر فی رمضان کالمفطر فی الحضر.

و عن محمد بن علی بن أبی طالب أن أباه کان ینهی عن صیام رمضان فی السفر...الخ (1).

و علی أی حال:فإن الأخبار متواترة فی وجوب الإفطار علی المسافر فی شهر رمضان و حسبنا حجة لذلک قوله تعالی: فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ وَ مَنْ کانَ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ .

ص:365


1- (1) انظر المحلی 5:256-258 [1] ذکرنا هذه الأخبار بحذف الإسناد اختصارا.

قال سیدنا شرف الدین:فإن فی الآیة دلالة علی وجوب الإفطار من وجوه:

أحدها:أن الأمر بالصوم فی الآیة إنما هو متوجه للحاضر دون المسافر،و لفظه کما تراه:فمن شهد منکم الشهر-أی حضر فی الشهر-فلیصمه و إذا فالمسافر غیر مأمور، فصومه إدخال فی الدین ما لیس من الدین تکلفا و ابتداعا.

ثانیها:أن المفهوم من قوله تعالی: فَمَنْ شَهِدَ مِنْکُمُ الشَّهْرَ فَلْیَصُمْهُ .أی من لم یحضر فی الشهر لا یجب علیه الصوم،و مفهوم الشرط حجة کما هو مقرر فی أصول الفقه،و إذا فالآیة تدل علی عدم وجوب الصوم فی السفر بکل منطوقها و مفهومها.

ثالثها:أن قوله عز و جل: فَمَنْ کانَ مِنْکُمْ مَرِیضاً أَوْ عَلی سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَیّامٍ أُخَرَ تقدیره فعلیه عدة من أیام أخر،هذا إن قرأت الآیة برفع عدة،و إن قرأتها بالنصب کان التقدیر فلیصم عدة من أیام أخر و هذا یقتضی وجوب إفطار السفر إذ لا قائل بالجمع بین الصوم و القضاء علی أن الجمع ینافی الیسر المدلول علیه بالآیة.

رابعا:قوله تعالی: یُرِیدُ اللّهُ بِکُمُ الْیُسْرَ وَ لا یُرِیدُ بِکُمُ الْعُسْرَ و الیسر هنا إنما هو الإفطار،کما أن العسر هنا لیس إلا الصوم،و إذا فمعنی الآیة یرید اللّه منکم الإفطار و لا یرید منکم الصوم (1).

الجمع بین الصلاتین:

لا خلاف بین المسلمین فی جواز الجمع بعرفة وقت الظهر بین الفریضتین- الظهر و العصر،کما لا خلاف بینهم فی جواز الجمع فی المزدلفة وقت العشاء للحجاج بین الفریضتین-المغرب و العشاء.

و اختلفوا فیما عدا ذلک فمنهم من جوز الجمع بین الظهر و العصر و بین المغرب و العشاء تقدیما و تأخیرا بعذر السفر عند مالک و الشافعی و أحمد.

أما أبو حنیفة فمنع من ذلک و قال:لا یجوز الجمع بین الصلاتین بعذر السفر بحال.

قال فی الغنیة:و لا یجوز الجمع عندنا(الحنفیة)بین صلاتین فی وقت واحد، سوی الظهر و العصر بعرفة،و المغرب و العشاء بمزدلفة و عند الثلاثة یجوز الجمع بین

ص:366


1- (1) انظر مسائل فقهیة 51-52.

الظهر و العصر و بین المغرب و العشاء فی وقت واحد بعذر السفر أو المطر،تقدیما أو تأخیرا،بأن یصلی المتقدمة فی وقت المتأخرة (1).

أما عذر المطر فقد أجاز الشافعی الجمع بین الصلاتین تقدیما فی وقت الأولی منهما.

قال أبو إسحاق الشیرازی:و یجوز الجمع بین الصلاتین فی المطر لما روی ابن عباس رضی اللّه عنه قال:صلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم الظهر و العصر و المغرب و العشاء جمعا من غیر خوف و لا سفر،قال مالک:أری ذلک فی وقت المطر...الخ.

و حدیث ابن عباس-الذی سیأتی-لا حجة لهم فی جعل المطر مسوغا للجمع بل هو مطلق و إنما کان رأی مالک أن یکون الجمع لعلة المطر و الحدیث کما تری دلیل لمن یقول بجواز الجمع مطلقا لأن تعلیل ابن عباس لذلک هو أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أراد أن لا یحرج أمته (2).

قال ابن المنذر:لا معنی لحمل الأثر علی عذر من الأعذار،لأن ابن عباس أخبر بالعلة و هو قوله:أراد أن لا یحرج أمته.

مع أن مالک بن أنس لم یجز الجمع بین الظهر و العصر بعذر المطر و قد اختلف أصحابه فی ذلک فقال أشهب:أحب إلی أن لا یجمع بین الظهر و العصر فی سفر و لا حضر إلا بعرفة.

و قد روی عن ابن قاسم فی المجموعة ما یقرب من قول أبی حنیفة أنه قال:من جمع بین المغرب و العشاء فی الحضر لغیر عذر مرض أعاد العشاء أبدا (3).و کذلک روی عن مالک کراهیة جمع الظهر و العصر بضرورة المطر أو أنه لا یجوزه کما تقدم.

و أحمد یوافق مالک فی جواز الجمع بین العشاءین فقط لعذر المطر لا بین الظهر و العصر سواء قوی المطر أو ضعف إذا کان المطر یبل الثوب و یوجد معه مشقة و کذلک یجوز للوحل و ریح باردة شدیدة فی لیلة مظلمة (4).

ص:367


1- (1) غنیة المتملی 244.
2- (2) انظر الجوهر النقی فی الرد علی البیهقی 1:226.
3- (3) شرح الموطأ للباجی 1:257.
4- (4) الروض الندی-111.

قال النووی فی شرح صحیح مسلم:-بعد ذکر أخبار الجمع-و أما حدیث ابن عباس فلم یجمعوا علی ترک العمل به بل لهم أقوال:منهم من تأوله علی أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم جمع بعذر المطر،و هذا مشهور عن کبار المتقدمین و هو ضعیف بالروایة الأخری:

(من غیر خوف و لا مطر).

و منهم من تأوله علی أنه کان فی غیم فصلی الظهر ثم انکشف الغیم،و بأن وقت العصر دخل فصلاها.و هذا أیضا باطل،لأنه و إن کان فیه أدنی احتمال فی الظهر و العصر،لا احتمال فیه فی المغرب و العشاء.

و منهم من تأوله علی تأخیر الأولی إلی آخر وقتها،فلما فرغ منها دخلت الثانیة فصلاها فصارت صلاته صورة جمع،و هذا أیضا ضعیف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل،و فعل ابن عباس الذی ذکرناه حین خطب،و استدلاله بالحدیث لتصویب فعله،و تصدیق أبی هریرة له،و عدم إنکاره صریح فی رد هذا التأویل.

و منهم من قال:هو محمول علی الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو فی معناه عن الأعذار،و هذا قول أحمد بن حنبل و القاضی حسین من أصحابنا و اختاره الخطابی و المتولی،و الرویانی من أصحابنا و هو المختار فی تأویله لظاهر الحدیث، و لفعل ابن عباس،و موافقة أبی هریرة و لأن المشقة فیه أشد من المطر.

و ذهب جماعة من الأئمة إلی جواز الجمع فی الحضر للحاجة لمن لا یتخذه عادة،و هو قول ابن سیرین،و أشهب من أصحاب مالک،و حکاه الخطابی عن القفال،عن أبی إسحاق المروزی،عن جماعة من أصحاب الحدیث،و اختاره ابن المنذر و یؤیده ظاهر قول ابن عباس:أراد أن لا یحرج أمته.فلم یعلله بمرض و لا غیره و اللّه أعلم (1).

و قال أشهب:إن للمقیم رخصة الجمع بین الصلاتین لغیر عذر مطر و لا مرض.

قال الباجی:و هذا هو قول ابن سیرین (2).

و قال الفخر الرازی-فی تفسیر قوله تعالی: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ..... الآیة-بعد أن فسر الدلوک و الغسق-ما هذا لفظه:فإن فسرنا الغسق بظهور

ص:368


1- (1) شرح النووی لصحیح مسلم 5:218-219.
2- (2) شرح موطأ مالک،1:255.

أول الظلمة کان الغسق عبارة عن أول المغرب و علی هذا التقدیر یکون المذکور فی الآیة ثلاثة أوقات وقت الزوال و وقت المغرب و وقت الفجر و هذا یقتضی أن یکون الزوال وقتا للظهر و العصر،فیکون هذا الوقت مشترکا بین الصلاتین و أن یکون أول المغرب وقتا للمغرب و العشاء،فیکون هذا الوقت مشترکا أیضا بین هاتین الصلاتین فهذا یقتضی جواز الجمع بین الظهر و العصر و بین المغرب و العشاء مطلقا،إلا أنه دل الدلیل علی أن الجمع فی الحضر من غیر عذر لا یجوز فوجب أن یکون الجمع فی السفر و عذر المطر و غیره (1).

و قال البغوی:حمل الدلوک علی الزوال أولی القولین لکثرة القائلین به و لأنا إذا حملنا علیه کانت الآیة جامعة لمواقیت الصلاة کلها،فدلوک الشمس یتناول صلاة الظهر و العصر،و إلی غسق اللیل یتناول المغرب و العشاء و قرآن الفجر هو صلاة الصبح (2).

>الأخبار:< أخرج مسلم عن أنس قال:کان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذا أراد أن یجمع بین الصلاتین فی السفر أخّر الظهر حتی یدخل وقت العصر،ثم یجمع بینهما.

و أخرج عن ابن شهاب عن أنس:أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذا عجل به السفر یؤخر الظهر إلی أول وقت العصر،فیجمع بینهما،و یؤخر المغرب حتی یجمع بینها و بین العشاء حین یغیب الشفق (3).

و أخرج البخاری عن أنس بن مالک قال:کان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یجمع بین صلاة المغرب و العشاء فی السفر (4).

و أخرج مسلم عن سعید بن جبیر عن ابن عباس قال:صلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم الظهر و العصر جمیعا،و المغرب و العشاء جمیعا،من غیر خوف و لا سفر.

و أخرج أیضا عن سعید بن جبیر عن ابن عباس بلفظ:صلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم

ص:369


1- (1) التفسیر الکبیر 21-22. [1]
2- (2) معالم التنزیل [2]بهامش تفسیر الخازن 4:141. [3]
3- (3) صحیح مسلم ج 5 ص 114-215 شرح النووی.
4- (4) البخاری ج 2 ص 55.

الظهر و العصر جمیعا فی المدینة من غیر خوف و لا سفر و أخرجه مالک فی الموطأ.

قال أبو الزبیر فسأل سعیدا لم فعل ذلک؟فقال سعید سألت ابن عباس کما سألتنی فقال:أراد أن لا یحرج أحدا من أمته (1).

و أخرج عن معاذ قال:خرجنا مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی غزوة تبوک فکان یصلی الظهر و العصر جمیعا،و المغرب و العشاء جمیعا.و عن عامر بن واثلة-أبو الطفیل- حدثنا معاذ بن جبل قال جمع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی غزوة تبوک بین الظهر و العصر،و بین المغرب و العشاء (2).

قال أبو الطفیل فقلت له ما حمله علی ذلک؟فقال:أراد أن لا یحرج أمته.

و أخرج عن ابن عباس قال:صلیت مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثمانیا جمیعا و سبعا جمیعا.

و أخرج مالک بن أنس عن أبی هریرة:أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یجمع بین الظهر و العصر فی سفره إلی تبوک (3).

و أخرج مالک عن معاذ بن جبل أنهم خرجوا مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عام تبوک فکان رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یجمع بین الظهر و العصر،و المغرب و العشاء قال:فأخر الصلاة یوما، ثم خرج فصلی الظهر و العصر جمیعا،ثم خرج فصلی المغرب و العشاء جمیعا (4).

و أخرج أبو داود عن جابر أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم غابت له الشمس بمکة فجمع بینهما بسرف (5)(و هو موضع قریب من مکة).

و أخرج مسلم عن جابر بن زید عن ابن عباس:أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم صلی بالمدینة سبعا و ثمانیا الظهر و العصر،و المغرب و العشاء (6).

و عن عبد اللّه بن شقیق قال:خطبنا ابن عباس یوما بعد العصر حتی غربت الشمس،و بدت النجوم،و جعل الناس یقولون الصلاة الصلاة.قال فجاء رجل لا یفتر

ص:370


1- (1) مسلم ج 5 ص 215 شرح النووی.
2- (2) المصدر السابق ص 216.
3- (3) موطأ مالک ج 1:291 [1] شرح الزرقانی.
4- (4) المصدر السابق. [2]
5- (5) سنن أبی داود ج 1:277.
6- (6) صحیح مسلم 5:217.

و لا ینثنی فقال:الصلاة الصلاة.فقال ابن عباس:أ تعلمنی بالسنة لا أم لک؟!ثم قال:رأیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم جمع بین الظهر و العصر و المغرب و العشاء.

و قال عبد اللّه بن شقیق فحاک من ذلک فی صدری شیء فأتیت أبا هریرة فسألته فصدق مقالته (1).

و فی روایة أخری قال رجل لابن عباس:الصلاة فسکت ثم قال:الصلاة فسکت،ثم قال:الصلاة،فسکت،ثم قال ابن عباس:لا أم لک أ تعلمنا بالصلاة؟! کنا نجمع بین الصلاتین علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (2)أخرجه مسلم من طریق عبد اللّه بن شقیق.

و أخرج البخاری عن سهل بن حنیف قال سمعت أبا أمامة یقول:صلینا مع عمر بن عبد العزیز الظهر ثم خرجنا حتی دخلنا علی أنس بن مالک فوجدناه یصلی العصر،فقلت یا عم ما هذه الصلاة التی صلیت؟ قال العصر و هذه صلاة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم التی کنا نصلی معه (3).

و أخرج ابن جریر عن ابن عمر قال:خرج علینا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فکان یؤخر الظهر،و یعجل العصر،فیجمع بینهما،و یؤخر المغرب و یعجل العشاء،و یجمع بینهما (4).

و عن أبی الشعثاء أن ابن عباس صلی بالبصرة الظهر و العصر لیس بینهما شیء، و المغرب و العشاء لیس بینهما شیء فعل ذلک من شغل (5).

هذه الآثار تدل بصراحة علی جواز الجمع بین الصلاتین و أنه مشروع و علة تشریعه هی التوسعة علی الأمة و عدم إحراجها بسبب التفریق.

و هذه الآثار منها ما یدل علی الجواز فی السفر و منها ما هو مطلق لا یختص

ص:371


1- (1) المصدر السابق.
2- (2) المصدر السابق 218.
3- (3) البخاری 1:137.
4- (4) نیل الأوطار 3:217.
5- (5) شرح الموطأ للزرقانی 1:294.

بمورد،و هذا یدل علی ما نقوله و أن تأویلها علی خلاف ذلک أو حملها علی شیء غیره أمر لا یتفق مع الواقع و قد تقدم ذلک فیما ذکره النووی.

و الأحادیث الواردة فی جواز الجمع متفق علی صحتها،و لزوم الأخذ بها و إن کان البخاری قد أهمل الکثیر منها،فذلک لا یضر بعد أن کان تخریجها علی شرطه.

و کیف کان فإن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شرع ذلک لئلا یحرج أمته،کما نطقت به الأخبار السابقة و ورد ذلک عن أهل البیت علیهم السّلام.

قال الإمام الصادق علیه السّلام:إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم جمع بین الظهر و العصر بأذان و إقامتین،و جمع بن المغرب و العشاء فی الحضر من غیر علة بأذان واحد و إقامتین.

و عنه علیه السّلام قال:إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم صلی الظهر و العصر فی مکان واحد من غیر علة و لا سفر،فقال له عمر:أحدث فی الصلاة شیء؟قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:لا و لکن أردت أن أوسع علی أمتی.

و عنه علیه السّلام قال:صلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالناس الظهر و العصر حین زالت الشمس فی جماعة من غیر علة و صلی بهم المغرب و العشاء الآخرة قبل سقوط الشفق من غیر علة فی جماعة،و إنما فعل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لیتسع الوقت علی أمته (1)إلی غیر ذلک من الأخبار الواردة فی الباب.

و علی أی حال:فإن المتتبع المنصف لا یجد دلیلا علی منع الجمع فی الحضر من غیر عذر،و إنما کانت هناک تأویلات و ظنون،أو حمل للأخبار علی غیر مؤداها.

و قد جمع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی حال العذر کما جمع فی حال عدمه لئلا یحرج أمته، و قد وردت عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم سنة صحیحة صریحة،و نطق الکتاب به کقوله تعالی: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إِلی غَسَقِ اللَّیْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ کانَ مَشْهُوداً کما تقدم بیانه فی کلمة الرازی السابقة و علیه جمع من المفسرین.

و قد أخذ الشیعة بتلک النصوص الصریحة فجوزوا الجمع،و وافقهم جمع من علماء المسلمین،و لا خلاف بینهم بأن التفریق أفضل.

ص:372


1- (1) انظر الوسائل ج 5:277 طبع مصر. [1]

و الذی یظهر من مجموع الأقوال و موارد الخلاف أن المراد بالجمع بین الصلاتین هو إیقاعهما فی وقت واحد تقدیما أو تأخیرا من غیر وقوع شیء بینهما من نافلة و أوراد مستحبة.

و إذا نظرنا بعین الواقع فإن عمل أکثر الشیعة یقع علی جهة التفریق من حیث الالتزام بالنوافل،و أداء المستحبات،و بذلک تقع الصلاة فی وقت الفضیلة،و یحصل التفریق.و سنوضح ذلک إن شاء اللّه فی بیان أوقات الصلاة فی الأبحاث الفقهیة المستقلة عن هذا الکتاب.

و لنقف عند هذا الحد من البحث فی موضوع الفقه،لأننا قد آثرنا أن نبرز کتابا مستقلا فی الفقه الإسلامی،و نستعرض فیه آراء علماء المذاهب الإسلامیة فی جمیع أبواب الفقه،من عبادات،و معاملات و غیر ذلک.و لعل ما نقوم به فی البحث حول موضوع الفقه الإسلامی،و التعرض لآراء علماء المذاهب هو أعظم خدمة للأمة الإسلامیة،من حیث التقارب و التفاهم فی أمر لا بد و أن یکشف الخلاف حوله للوقوف علی الحقیقة التی احتجبت وراء سحب النعرات الطائفیة،و حملات المعادین للشیعة ممن هدد منهج الشیعة مصالحهم و أغراضهم.

و لا أقول بأن ما قمت به الآن أو أقوم به فیما بعد-إن شاء اللّه-قد انفردت به:

أو أننی السابق لسد تلک الثغرة،بل أنا أحد من ساهم فی هذه الخدمة،و قد سبق إلی ذلک رجالنا من علماء الدین،ممن لهم السبق فی معالجة مشاکل الخلافات الطائفیة، و ممن أوقفوا أنفسهم لخدمة المسلمین،فألفوا کتبا فی الفقه المقارن قدیما و حدیثا.

و نحن نأمل أن یتسع هذا المجال و أن لا یستغل الفقه لطائفة دون أخری و أن یدرس هذا الموضوع بعنایة خاصة،بجمیع نواحیه،لنصل إلی نتائج مثمرة،تعود علی الأمة بالنفع الکثیر من حیث التقارب و التفاهم،و أن یعطی الدارس لنفسه حریة الرأی، و الابتعاد عن نزعات الطائفیة،و مردیات التعصب.

و إن الفقه الشیعی الذی یستند إلی کتاب اللّه و سنة رسوله،و یستمد من ینبوع أهل البیت الذین هم عدل القرآن،و ورثة صاحب الرسالة،قد أهمله کثیر من الکتاب

ص:373

غیر المنصفین،و منهم من حکم علیه بأحکام خاطئة،مما یدل علی الجهل الناشیء من عدم الاطلاع علی مصادر الفقه الشیعی،أو الاکتفاء بالاطلاع علی مصادر خصومهم،من دون تحری الصدق فیما یجدونه فی کتب الخصوم،تحریا دقیقا یوصلهم إلی الحقیقة ذاتها.

و قد تعرضنا فیما سبق إلی بعض الأحکام الجائرة التی حکموا بها علی الشیعة، سواء فی عقائدهم،أو فقههم،مما لا یستند إلی أدلة أو شواهد نقلیة جدیرة بالثقة، و قد تداول بعض الناس ذلک دون أن یسائلوا أنفسهم عن صحتها أو خطئها.و ما الفائدة من التجافی عن العدل و إغفال الأمانة و إهمال روابط الإخاء فلیس عن ضعف یصدر القول منا فی إهمال أو إغفال الفقه الشیعی،فکل ما یتصل بالشیعة فقها و تاریخا واجه ما هو أعظم من الإهمال و الإغفال،فلیس وراء الحرب و استهداف القضاء علی وجود الشیعة من قبل الحکام و المتسلطین وسیلة أشد و أبلغ،و کلنا ندعو-رعایة للعلم و حرصا علی عطاء أمة الإسلام-شباب المسلمین أن یلقوا نظرة علی الفقه الشیعی و یحکموا بأنفسهم علی ما تضمه أصولهم و مصادرهم،و أن ینزعوا قیود التقلید و التأثر بمواقف آخرین وقعوا فی فخ التفرقة و التعصب دون أن یدرکوا ما ذا یعنی إهمال ثروة من العلم و کنوز من المعرفة و ذخیرة من الحکم تنبع کلها من ینبوع الرسالة.فلقد کان رجال الشیعة أسبق الناس عملا لنصرة الحق و حریة العقول و الحضّ علی العطاء.

و نأمل أن لا تکون خطوة وحیدة لا أخت لها تلک التی أقدمت علیها حکومة مصر،فأخذت من الفقه الجعفری أحکاما و أدخلتها فی قانون الأحوال الشخصیة،کما أن طبع کتاب(المختصر النافع)و هو من کتب فقه الشیعة،من قبل وزارة الأوقاف المصریة یحیی الأمل فی إدانة سیاسة الحکّام الأقدمین الذین سنّوا سنّة سیئة بمحاربتهم الفقه الشیعی.

و لا تعجب إذا قلت إن شیخ السلفیة و التعصب أخذ ببعض آراء الشیعة و أحکامهم،و یبدو أنها کانت بادرة وعی قصیرة الأمد.

و لعل فی هذا البیان من ذکر اختلاف الآراء و کثرة الأقوال التی تعرضنا لها فی الموضوع یسهل علی من یستوعبها أن یتبین انحراف من صوّر الفقه الشیعی فی غیر

ص:374

صورته الواقعیة و أبرزه علی خلاف أغراضه و مبانیه،و ما ذلک إلا من جراء التعصب الأعمی.

و لسنا نشک بأن الحقیقة ستنکشف علی نحو لا یقبل الدجل و التمویه،و ذلک لما نلمسه من الوعی الإسلامی،و الشعور المتزائد بوجوب تدارک خطر الفرقة، و أضرار التعصب الطائفی،و إن ذلک الرکام الذی حجب الحقیقة أخذ ینهار یوما بعد آخر،و یندک ساعة بعد ساعة.

إن تلک الأقوال التی أطلقها أصحابها حول الشیعة من دون قید أو شرط لم تکن صادرة عن تفکیر و تدبر،بل أطلقها متحیز غیر منصف،أو جامد لا یتمتع بحریة الرأی بل هو آلة صماء تتحرک فی حیز محدود من غیر أن یکون لها دافع أو ضابط من عقل، و ذوق سلیم.

و لا أشک بأن أکثر المنحرفین عن الواقع قد سلکوا فی أبحاثهم،طریق التقلید للمستشرقین الذین هم دعاة الفرقة،و خدمة الاستعمار و أبطال معرکة الخلاف،و هم کما یقول الدکتور أبو الوفاء التفتازانی:

و کان من بین العوامل التی أدت إلی عدم إنصاف الشیعة أیضا أن الاستعمار الغربی أراد فی عصرنا هذا أن یوسع هوة الخلاف بین السنة و الشیعة،و بذلک تصاب الأمة الإسلامیة بداء الفرقة و الانقسام،فأوحی إلی بعض المستشرقین من رجاله بتوخی هذا الغرض باسم البحث الأکادیمی الحر،و مما یؤسف له أشد الأسف أن بعض الباحثین من المسلمین فی العصر الحاضر تابع أولئک المستشرقین فی آرائهم دون أن یتفطن إلی حقیقة مرامیهم (1).

و قد تعرضت فی الجزء الخامس لبعض ما یتعلق بآراء بعض المستشرقین و نوایاهم السیئة و لهذا آثرت أن أعود-و العود أحمد-إلی البحث عن نهجهم فی دراساتهم لأنهم قد دسوا السم بالعسل و لقنوا کثیرا من کتّابنا ما یکدر صفو الإخوة الإسلامیة.

ص:375


1- (1) انظر مقدمة وسائل الشیعة ج 3 طبع مصر.

أهم المراجع:

اشارة

إن الکتب الفقهیة التی اعتمدنا علیها فی نقل الأقوال-فی هذا الجزء و فی الجزء الخامس-کثیرة لا یمکن حصرها و نحن نشیر إلی الأهم منها:

مصادر الجمهور:

1-المهذب لأبی إسحاق الشیرازی الشافعی-مطبعة الحلبی.

2-شرح موطأ مالک للزرقانی-مطبعة الاستقامة.

3-شرح موطأ مالک للقاضی أبی الولید الباجی-مطبعة السعادة.

4-غنیة المتملی شرح منیة المصلی لإبراهیم الحلبی الحنفی-طبع استانبول.

5-الهدایة للشیخ علی الفرغانی الحنفی-مطبعة الحلبی.

6-بدائع الصنائع لعلاء الدین أبی بکر الکاسانی-مطبعة شرکة المطبوعات العلمیة سنة 1327-1328 ه.

7-حاشیة ابن عابدین الطبعة الأولی.

8-بدایة المجتهد لابن رشد القرطبی المالکی-مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة 1371.

9-المغنی لابن قدامة الطبعة الثالثة-مطبعة دار المنار سنة 1367.

10-أحکام القرآن لأبی بکر ابن العربی-مطبعة الحلبی 1376.

11-المبسوط لشمس الدین السرخسی-مطبعة السعادة سنة 1324.

12-شرح صحیح مسلم للنووی-مطبعة حجازی بالقاهرة.

13-شرح العشماویة-المطبعة العلمیة سنة 1316.

14-زوائد الکافی و المحرر علی المقنع لعبد الرحمن بن عیدان الحنبلی المطبوع بدمشق.

15-مختصر خلیل فی الفقه المالکی-مطبعة محمد علی صبیح سنة 1346.

16-ضوء الشمس للسید محمد أبو الهدی الرفاعی الحنفی المطبوع سنة 1301.

17-نیل الأوطار لمحمد بن علی الشوکانی-الطبعة الأولی سنة 1357.

18-المحلی لعلی بن حزم الأندلسی-إدارة الطباعة المنیریة بمصر.

19-غایة المنتهی للشیخ مرعی بن یوسف الحنبلی-مطبعة دار السلام بدمشق.

ص:376

20-التنقیح المشبع فی تحریر أحکام المقنع لعلاء الدین علی بن سلیمان المرداوی الحنبلی-المطبعة السلفیة.

21-الروض الندی فی شرح کافی المبتدی لمفتی الحنابلة بدمشق أحمد بن عبد اللّه البعلی-المطبعة السلفیة.

22-السراج الوهاج فی شرح متن المنهاج للشیخ محمد الزهری طبع مصر سنة 1352.

23-مغنی المحتاج إلی معرفة ألفاظ المنهاج شرح الشیخ محمد الشربینی الشافعی- مطبعة مصطفی البابی 1377 ه.

24-نهایة المحتاج إلی شرح المنهاج لأحمد بن حمزة الرملی الشهیر بالشافعی الصغیر-مطبعة الحلبی 1357.

25-الجوهر النقی فی الرد علی البیهقی لعلاء الدین علی بن عثمان بن إبراهیم الماردینی الشهیر بابن الترکمان الحنفی.

26-شرح المواهب اللدنیة لمحمد بن عبد الباقی الزرقانی.

27-الهادی أو عمدة الحازم فی المسائل الزوائد عن مختصر أبی القاسم لابن قدامة.

و غیرها من کتب الحدیث و الفقه کالصحاح و کتب السنن مما لا یسعنا ذکره کمدونة مالک،و الأم للشافعی،و مختصر المزنی،و المجموع للنووی و الوجیز للغزالی و شرحه،و منهاج الطالبین و ما یتعلق به من شروح،و ملتقی الأبحر،و مراقی الفلاح و غیر ذلک و قد أشرنا للبعض منها فی هامش الصفحات.

المصادر الشیعیة:

أما مصادرنا فی البحث عن فقه الشیعة فهی من الکثرة بمکان و لا یمکن عدها هنا و لکن أهمها هی:

1-شرائع الإسلام للشیخ المحقق أبو القاسم الحلی المتوفی سنة 676.

2-المعتبر له رحمه اللّه طبع إیران.

3-المختصر النافع له طبع مصر نشرته وزارة الأوقاف بمصر.

4-الخلاف لشیخ الطائفة أبی جعفر الطوسی المتوفی سنة 460 ه.

ص:377

5-الانتصار لعلم الهدی الشریف المرتضی المتوفی سنة 436 ه.

6-کشف الغطا:للشیخ الأکبر الشیخ جعفر الکبیر المتوفی سنة 1228 ه.

7-وسائل الشیعة:للمحدث الشهیر الحر العاملی المتوفی سنة 1104 (1).

8-جواهر الکلام فی شرح شرائع الإسلام للشیخ المحقق الشیخ محمد حسن النجفی المتوفی سنة 1266 (2).

9-الحدائق الناضرة فی أحکام العترة الطاهرة للفقیه المحدث الشیخ یوسف البحرانی المتوفی سنة 1186 (3).

10-تذکرة الفقهاء للشیخ جمال الدین الشهیر بالعلامة الحلی المتوفی سنة 726 (4).

11-تبصرة المتعلمین له تغمده اللّه برحمته.

12-اللمعة الدمشقیة للشهید الأول و شرحها للشهید الثانی المتوفی سنة 786 ه.

13-الوسیلة لعماد الدین محمد بن علی بن محمد بن حمزة الطوسی من أعیان القرن الخامس.

14-ریاض المسائل فی بیان الأحکام بالدلائل للحجة السید علی الطباطبائی طبع إیران.

15-نکت النهایة لأبی القاسم جعفر بن سعید الحلی.

16-مستمسک العروة الوثقی للإمام الحکیم دام ظله.

17-منهاج الصالحین له أیضا.

18-الغنیة لعز الدین حمزة بن علی بن زهرة الحلبی-طبع إیران.

19-النهایة لشیخ الطائفة أبی جعفر الطوسی-طبع إیران.

و غیر هذه الکتب التی لا نستطیع تعدادها الآن.

ص:378


1- (1) یقع الکتاب فی أکثر من عشرین مجلدا و قد أعید طبعه فی مصر و لم ینته.
2- (2) یقع فی أکثر من أربعین مجلدا و قد أعید طبعه فی النجف الأشرف-مطبعة النجف.
3- (3) یقع فی أکثر من عشرین مجلدا و قد أعید طبعه فی النجف الأشرف-مطبعة النجف.
4- (4) طبع فی إیران فی مجلدین و أعید طبعه فی النجف فی عدة أجزاء-مطبعة النجف.

کتّاب و مؤلّفون

اشارة

لا تمر فترة من الزمن إلا و یطالعنا کتاب یحمل بین طیاته أفکارا هدامة لکیان المجتمع الإسلامی بعبارات مسمومة و وخزات مؤلمة و حملات ظالمة و أقوال فارغة لا تقف أمام الواقع إلا کما یقف الرماد إذا اشتدت به الریح.

و لقد تطرقت لهذا الموضوع أکثر من مرة و قضیت وقتا طویلا أتصفح تلک الصفحات التی سودت بمداد الحقد و رقمت بأقلام شط بأصحابها سوء التفکیر عن الخط الذی یجب أن تسیر علیه لخدمة الأمة و صالح المجموع.

کنت أفکر فی الأسباب التی دعت لهذه التهجمات و أتعرف علی الوسائل المبررة لما یرتکبه هؤلاء الکتاب من سوء الصنع مع إخوان لهم فی الدین یقرون للّه بالوحدانیة و لمحمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالرسالة و یؤدون فرائض الإسلام و هم مائة ملیون أو یزیدون.

و قد قلت:إن مهمة المؤرخ عن الشیعة هی أشد صعوبة من مهمة من یؤرخ لغیرهم من طوائف المسلمین،لوجود عوامل و عقبات یجب أن یجتازها المؤرخ بنفسه،لا أن یقطعها علی أجنحة التقلید و الاتباع بدون معرفة و تدبر.

و إن انفصال الشیعة عن الدولة القائمة آنذاک،و عدم مؤازرتها هو السبب الوحید لکل ما علق بهذه الطائفة من عیوب هم براء منها،حتی تحامی الناس المیل إلیهم، فکانت التهم تکال جزافا.

و أصبح بحکم الظروف القاسیة أن تنسب إلیهم فرق لا تمت إلیهم بصلة، و یلصق بهم أناس لا تربطهم و إیاهم روابط الاعتقاد.

و إن من یقف علی أسماء الفرق المنسوبة للشیعة یجد هناک أسماء بلا مسمیات، أو أشخاصا وهمیة،و من الغریب أن تعداد فرق الشیعة لا زال بین المد و الجزر فهی

ص:379

تبلغ بالعد إلی عشرین ثم یترقی الأمر و یرتفع العدد إلی أکثر فأکثر حتی یبلغ ثلاثمائة کما ذکرها بعضهم لأنهم یکتبون بدون تثبت و تدبر.

و ما دام الخیال واسعا،و البحث لم یکن علی أسس عملیة،و الأقوال تطلق بدون قید فلا یستغرب أن یصل العدد إلی الألف.

و قد وضحنا فیما سبق أخطاء کتّاب الفرق،و ما ارتکبوه من الخلط و الخبط، و إنهم قد تعصبوا تعصبا دفعهم إلی ارتکاب ما لا یغتفر لهم فی حق الأمة،مما خلفوه للأجیال من تلک الافتعالات،و ما أثبتوه من خرافات،و ما جنوه من أخطاء فی تشویه الحقائق بدافع من المیول و التعصب و الاتجاه فی الأبحاث علی غیر ما تقتضیه الأصول و القواعد.

و لقد کان لتحویر الحقائق،و التلاعب بالنصوص التاریخیة،دور فعال فی بث روح البغضاء بین طوائف المسلمین،مما أدی إلی تفکک أوصال ذلک المجتمع،و قد عاش المسلمون فی ظروف ساد فیها القلق،و ترکزت فیها عوامل الحقد،فتبدلت الوحدة بالفرقة،و الاخاء بالعداء،و الوصل بالقطیعة.

فیجب علینا أن نتساءل عن الفائدة التی حصلنا علیها من هذه الفرقة کما یجب أن نتساءل عن عواملها و أسباب اتساعها،و ننظر بواقعیة إلی تلک الأضرار الناجمة عن ذلک التباعد،و هناک یتضح لنا الطریق إلی الحول الجذریة التی یجب أن تتخذ لرفع تلک الآثار السیئة التی خلفها سوء الفهم،و عدم الخضوع للواقع.

و علی أی حال فإن کثیرا من الکتّاب و المؤلفین قد تعرضوا للبحث عن تاریخ الشیعة من حیث عقائدهم،أو آدابهم،أو تاریخ نشأتهم،أو غیر ذلک،و لکن بمزید الأسف-أن الغالب من هؤلاء لم یتجهوا بإخلاص للبحث،أو حریة فی الرأی، لیدرکوا الأشیاء علی حقیقتها،و یترکوا وراء ظهورهم رؤیا الخیال المریض،و وحی العاطفة الکاذب لیسلموا من ارتکاب الأخطاء و خیانة أمانة التاریخ،لأن السیر علی غیر منهج العلم السدید یوقع صاحبه فی شباک أخطاء تنحرف به عن الواقع.

ص:380

و من المؤسف له أیضا أن أکثر أولئک الکتاب یولعون بتتبع الأساطیر و القصص التی لا تثبت صحتها،لیبنوا منها أحکاما کلها أوهام و خیالات،و إسراف فی إصدار النتائج و الأحکام بما لا یسیغه العقل و لا یقره الوجدان.

و للإیضاح نضع بین یدی القراء ما أورده الدکتور محمد حسین الذهبی فی کتابه التفسیر و المفسرون دلیلا لما احتج به علی وضع الشیعة للحدیث،و اتهم جابر بن یزید الجعفی التابعی الکبیر بوضع الحدیث و هو قول انفرد به الدکتور لأن جابر قد شهد له أقرانه بفضله.و لما أعوزت الدکتور الحجة استدل بأسطورة من وضع الجاحظ و دعابته.

قال الدکتور:و یعجبنی هنا ما ذکره أبو المظفر الأسفرایینی فی کتابه التبصیر فی الدین و هو:

إن الروافض-و المقصود بهم الشیعة طبعا-(لما رأوا الجاحظ یتوسع فی التصانیف و یصنف لکل فریق،قالت الروافض:صنف لنا کتابا،فقال لهم:لست أدری لکم شبهة حتی ارتبها و أتصرف فیها،فقالوا له:إذا دلنا علی شیء نتمسک به.

فقال لا أری لکم وجها إلا أنکم إذا أردتم أن تقولوا شیئا تزعمونه تقولون إنه قول جعفر بن محمد الصادق،لا أعرف لکم سببا تستندون إلیه إلی غیر هذا الکلام...

فتمسکوا بحقهم و غباوتهم بهذه السوأة التی دلهم علیها،فکلما أرادوا أن یختلقوا بدعة،أو یخترعوا بدعة نسبوا إلی ذلک السید الصادق،و هو عنها منزه،و من مقالتهم فی الدارین بریء) (1).

هذه هی الأضحوکة التی أعجب بها الدکتور أو الکاتب أو أستاذ علوم القرآن و الحدیث أو الأستاذ بکلیة الشریعة بالأزهر الشریف.

لقد أعجب الأستاذ بما نقله نتیجة لقوة إدراکه،و اتساع تتبعه،حتی جاءنا بما لا یتناوله الشک،و لا یهبط إلی مستوی النقد!! و ما عشت أراک الدهر عجبا،لقد بلغت الحالة فی الأبحاث العلمیة إلی هذا

ص:381


1- (1) التفسیر و المفسرون ج 2 ص 39. [1]

المستوی الشائن و هل هذا إلا لغة الماجن العاجز،الذی لا یستطیع أن یدعم قوله بحجة منطقیة،و أدلة عقیلة؛و قد کشف الدکتور الشیخ عن مستوی مدارکه و أعلن عن براعته و معلوماته.

و قبل أن أناقش الدکتور-مرغما-أود أن أذکر استشهادا آخر بأساطیر الجاحظ و دعابته لمؤلف أراد أن یدعم قوله بما ذکره من الأسطورة و لعله أعجب بذلک کما أعجب الدکتور الذهبی.

هذا الأستاذ عبد الحسیب طه حمیدة المدرس فی کلیة اللغة العربیة یذکر فی کتابه(أدب الشیعة)-مستدلا علی أن التشیع أصبح بغیضا إلی النفس و سبیلا إلی السخریة و التهکم-یقول الأستاذ نقلا عن الجاحظ:کان معنا شیخ شرس الأخلاق، طویل الأطراف،و کان إذا ذکر له الشیعة غضب و أربد وجهه و زوی عن حاجبه.

قال الجاحظ:فقلت له یوما:ما الذی تکرهه من الشیعة؟!فإنی رأیتک إذا ذکروا غضبت،و قبضت،فقال:(ما أکره فیهم إلا هذه الشین فی أول اسمهم فإنی لم أجدها قط إلا فی کل شر،و شؤم،و شیطان و شغب)ووو....الخ.

قال أبو عثمان:فما ثبت بعدها لشیعی قائمة (1).هذا ما ذکر الأستاذ حمیدة.

و لست أدری هل حاسب الأستاذ نفسه عن مؤدی هذه السخافة و ما هو مورد ذکر هذه الدعابة فی موضوع بحث الأدب.

و لا أستبعد أن الأستاذ المؤلف قد أثارت بنفسه هذه الأسطورة من الاشمئزاز و البغض ما جعله یخرج عن میزان الاعتدال فی کثیر من أبحاثه حول الشیعة،و لئن أودع هذا الشیء فی نفسه ما أودعه فی قلب ذلک الشیخ الشرس فلما ذا لم تنشرح نفس الأستاذ لما فی هذا الشین من صفات:الشرف و الشهامة،و الشجاعة و الشهادة و الشفاء و الشفاعة و.و.و.

و أنت تستطیع أیها القارئ أن تدرک مدی ما بلغت إلیه الحالة من التفکک و الانهیار،و کیف أصبحت الأکاذیب و الأباطیل تحتل مکانا فی عقول من نأمل فیهم

ص:382


1- (1) انظر أدب الشیعة 20-21. [1]

التحرر و الانطلاق من عقال التعصب؟!سواء نظرنا إلیهم من زاویة دینیة علمیة مشفوعة بالشهادة-الدکتوراه-و الزی-العمّة-أو من زاویة المراکز و الألقاب کحمیدة،أم أن الدین لم یبق منه إلا الزی،و العلم لم یترک منه الزمن إلا التکسب و الارتزاق؟ و لقد ظل الجهل یغذی تلک الخرافات التی سادت فی عصور التطاحن المذهبی و امتد أجلها إلی القرن العشرین و کانت الطائفیة تصونها و تحمیها و تغذی بها عقول من تعطلت فیهم ملکات التفکیر فساروا وراء دعاتها سیر الأغنام.

و إن أمثال هذه الأقاویل لها أثر فی السیطرة علی عقول السذج من الناس یوم کان الصراع محتدما،و الفتنة ترمی بشررها کانت مدرسة الإمام الصادق علیه السّلام تشق طریقها بقوتها الروحیة،و تجتاز مرحلة بعد أخری فی الانتشار،و لم یستطع أی أحد أن ینسب للإمام الصادق علیه السّلام ما یشین بسمعته فهو الصادق فی لهجته-حتی لقب بذلک-القوی فی حجته حتی خضع له کل معاند،و کان المنتمون إلیه هم حملة الحدیث و أوعیة العلم.

و لکن خصومه جاءوا من طریق حاولوا فیه الوصول إلی الطعن فیه عبر النیل من أتباعه لیشوهوا سمعة هذه المدرسة،فقالوا إن الإمام الصادق مکذوب علیه،و روجوا ذلک بدعایات و دعابات و سخافات و أساطیر و تقولات و أکاذیب لیصرفوا الوقائع عن وجهتها و یشوهوا الحقائق لیطعنوا فی أصحاب الإمام الصادق و شیعته،إذا أعجزهم علم الصادق و تقواه کما أعجزتهم عقیدة الشیعة و متانة أصولها.

و قد مر بنا فی الجزء الرابع من الکتاب کیف کان الغلاة یدعون حب أهل البیت و هم یخفون أغراضهم و یضعون الأحادیث و یکذبون علی الإمام الصادق و هو یتبرأ منهم و یشن حملته علیهم.

کما اشتهر جماعة کعمر و النبطی باختصاصهم بوضع الأحادیث علی الإمام الصادق،و تحفظ لنا التراجم و السیر اسم أحد الضعفاء فی الحدیث و قیل:فیه اجتمعت کل عیوب الضعفاء و کان اسمه جعفر بن محمد،و هو مولی یروی عن المجاهیل،جاز علی ضعفة العقول أو اتخذه ضعفاء الإیمان وسیلة للطعن،و لعل الأستاذ الذهبی أراد أن یلعب ذلک الدور،فبادر لنقل هذه الأکذوبة لیکون لها أثر فی نفوس من لا حصانة لها عن تقبل الأکاذیب و التأثر بالدعایات الساقطة.

ص:383

و صفوة القول إن کثیرا من الکتاب الذین تطالعنا کتبهم بین آونة و أخری و هی تحمل تلک الأفکار التی تضر بصالح المسلمین،و تهدم وحدتهم لا یشعرون بالأضرار الناجمة من وراء ما یکتبون من أمور لا تستند إلی أدلة أو شواهد جدیرة بالثقة،و قد أثبتوا أشیاء دون أن یسائلوا أنفسهم عن صحتها أو خطئها،لأنهم لم یتجردوا عن التعصب الطائفی و الهوی المذهبی.

کما أنهم قد استعذبوا ما کتبه المستشرقون فأعجبوا بذلک الأسلوب الساحر، و اعتقدوا بصحة ما یکتبون فحملوا و نقلوا بدون تفکیر و تمحیص.

و مما لا جدال فیه أن المستشرقین أصحاب هوی یصدرون أحکامهم عن عصبیة و تحامل علی الإسلام،و هم یتبعون الشاذ من الروایات التی أخطأ فیها بعض الرواة، أو الذی تعمده الوضاعون،مما أوضحه علماء الإسلام،فجعلوا من هذا الشاذ المنکر أصلا یبنون علیه قواعدهم،التی افتعلوها و نسبوها للإسلام و علماء الإسلام و هم یغمضون أعینهم عن الحقائق.

یقول الأستاذ مالک بن نبی:و إنه لما یثیر العجب أن نری کثیرین من الشباب المسلم المثقف،یتلقون الیوم معتقداتهم الدینیة،و أحیانا دوافعهم الروحیة نفسها من خلال کتابات المتخصصین الأوروبیین (1).

و یقول الأستاذ السباعی:و من المؤلم أن طلاب العالم الإسلامی الذین یدرسون باللغة الإنجلیزیة فی بلادهم لا یزالون مضطرین إلی دخول الجامعات الإنجلیزیة،فلا یجد طلاب الدراسات الإسلامیة أمامهم مراجع لدراساتهم التی ینالون بها الدکتوراه غیر تلک المراجع المسمومة و هم لا یعرفون اللغة العربیة فتقرر عندهم أن تلک الدسائس مأخوذة من کتب الفقهاء و العلماء المسلمین أنفسهم (2).

و قد أوضحت فیما سبق أن الآراء التی ذهب إلیها بعض الکتاب للطعن علی الشیعة لیست من وحی أفکارهم و لا نتیجة لتتبعهم و إنما هی من مفتریات المستشرقین و افتعالاتهم و بالأخص ما کتبه أحمد أمین و هو کما یصفه الأستاذ فتحی عثمان:بأنه ضالع فی الدراسات الغربیة ترجم عن کتابات الغربیین ترجمة مباشرة،و صنف جامعا

ص:384


1- (1) انظر الظاهرة القرآنیة ص 19.
2- (2) کتاب السنة 28.

لآرائهم المتناثرة-بعد أن هضمها-بین دفتی مؤلف واحد،و بلسان عربی مبین،و قد رجع لدراسات المستشرقین فی عیون إنتاجه فجر الإسلام و ضحاه و ظهره!!!و الأستاذ أحمد یحق له أن ینعی علی الاقتصار علی النقل و القصور فی التعلیق و إبراز الرأی الشخصی،فقد جری-رحمه اللّه-فی مؤلفاته علی أن یمتص ما یقرأ ثم یعرضه بأسلوبه و منطقه لاحما بین النقل و النقد،غیر زاخم للکتاب بأرقام الحواشی،و تتابع النصوص،و الاقتباسات مکتفیا بإیراد ما رجع إلیه من کتب فی آخر الباب جملة مستغنیا بذلک عن إیضاح ما رجع إلیه صفحة صفحة و فقرة فقرة (1).

هذا ما یقوله الأستاذ فتحی عثمان و نحن نزید و لا نبعد عن الواقع إن قلنا:إن المتتبع لما کتبه أحمد أمین لا یخالطه شک بأن الرجل مترجم للرأی و ناقل لآراء المستشرقین بدون أن ینسبها إلیهم بصراحة علی أنها بحث من عنده و یلبسها ثوبا رقیقا و بدون ریب إنه کان مقلدا للغربیین فی آرائه و ناقلا لأقوالهم کأنها له دونهم و أن جمیع ما کتبه حول الشیعة إنما هو للمستشرق(ولهوسن)و(دوزی)و غیرهما من المستشرقین الحاقدین علی الإسلام و لیس له إلا النقل و المشارکة فی الخطأ.

و مما یؤید ذلک ما نقله السباعی:بأن الأستاذ أحمد أمین قال للدکتور علی حسن عبد القادر-و هو الذی أثیرت حوله الضجة-:بأن الأزهر لا یقبل الآراء العلمیة الحرة،فخیر طریقة لبث ما تراه مناسبا من أقوال المستشرقین أ لا تنسبها إلیهم بصراحة و لکن ادفعها إلیهم علی أنها بحث منک و ألبسها ثوبا رقیقا لا یزعجهم مسها کما فعلت أنا فی فجر الإسلام و ضحی الإسلام (2).

و کیف کان فإن أکثر المستشرقین لم تتحرر عقلیتهم من نظرة التعصب و یتوسلون بفروض و همیة لیصلوا إلی تشویه الحقائق العلمیة و تتجلی من خلال سطور ما یکتبونه عن الإسلام و بنی الإسلام روح العداء المستحکم للدین الإسلامی و هذه الروح العدائیة للإسلام و المسلمین بقیة من بقایا العداء الصلیبی.

و هؤلاء کما یصفهم المستشرق النمساوی بقوله:إن أبرز المستشرقین

ص:385


1- (1) انظر أضواء علی التاریخ الإسلامی-174.
2- (2) السنة للسباعی 214.

الأوروبیین جعلوا من أنفسهم فریسة التحزب غیر العلمی،فی کتاباتهم عن الإسلام و یظهر فی جمیع بحوثهم کما لو أن الإسلام لا یمکن أن یعالج علی أنه موضوع بحث فی البحث العلمی،بل أنه متهم یقف أمام قضاته!! و إن بعض المستشرقین یمثلون دور المدعی العام الذی یحاول إثبات الجریمة و بعضهم یقوم مقام المحامی فهو مع اقتناعه شخصیا بإجرام موکله،لا یستطیع أکثر من أن یطلب له مع شیء من الفتور اعتبار الأسباب المخففة (1).

و حیث کانوا هم الداء الفاتک و علة العلل فی تغذیة روح العداء فی العصر الحاضر رأیت أن أعود للبحث عنهم.

من هم المستشرقون؟؟

اشارة

المستشرقون قوم من أوروبا نسبوا أنفسهم إلی العلم و البحث،و شغلوها فی أغلب الأحیان بالبحث فی التاریخ و الدین و الاجتماع،و لکل منهم لغته الأصلیة التی رضع لبانها من أمه و أبیه،و مجتمعه،و بیئته،فصارت له«اللغة الأم»کما یعبرون فهو یغار علیها و یتأثر بها و یستجیب لموحیاتها،و لکن المستشرقین تعلموا اللغة العربیة بجوار لغاتهم الأصلیة،و مع أن کثیرین منهم قضوا شطرا کبیرا من تعلم العربیة و فی القراءة بها،و عاشوا فی أوساط عربیة ردحا من الزمن،نلاحظ أن نطقهم بالعربیة لم یخل من لکنة و رطانة،و کذلک حین یکتبون بها فما تکاد تسمع المستشرق أو تقرأ له حتی تحس من نبرات صوته أو طریقة کتابته أنه دخیل فی العربیة طارئ علیها،و أن العربیة عنده لغة ثانیة لا تسری أصولها و روحها فی عقله أو وجدانه أو شعوره کما تجری لغته الأصلیة«اللغة الأم».

و من هنا کان طبیعیا أن نجد هؤلاء المستشرقین لا یجیدون فهم النصوص العربیة فقد یفوتهم عند مطالعتها الکثیر من مجازاتها و استعاراتها و خصائصها الأسلوبیة و المعنویة،و نجد بعضهم أحیانا یفهم النص العربی فهما مضحکا،و لعل هذا من الأسباب التی جعلت هؤلاء یفسرون تلک النصوص العربیة تفسیرا مضحکا کذلک أو یصدرون علیها أحکاما مضحکة کذلک.

ص:386


1- (1) الإسلام علی مفترق الطرق.

و الاستشراق لم ینشأ اعتباطا و لا مصادفة بل أغلب الظن أنه نشأ حسب خطة موضوعة،فإن الغرب قد انتهز الفرصة حینما رأی الشرق غارقا فی خلافاته و فتنه و اضطراباته،فأقبل علیه بخیله و رجله یحمل دیاره،و یستعبد أهله و یستثمر خیراته و طاقاته،و یستبد بثمراته و برکاته،و یشوه معالم عقائده و مبادئه،و خصائص أهله، و کان المسیّر لهذا الاحتلال و الاستبداد هو الأحقاد الدینیة،و الثارات الصلیبیة، و الضغائن الغربیة العمیقة الجذور ضد الإسلام و العرب...

و تراهم یولعون بتناول مواطن خاصة،ینالون فیها من الإسلام،و یعرضون به، کما یولعون بتتبع الأساطیر و القصص التی لا تثبت صحتها،لیبنوا منها أحکاما کلها أوهام و خیالات و إسراف فی إصدار النتائج و الأحکام.

و یولعون بتصویر الإسلام فی صورة الدین الجامد الذی لا یصلح للتطور أو التجدید،و من کیدهم فی هذا الباب أنهم یحکمون دائما علی الإسلام من واقع المسلمین فهم لا یصورون الإسلام من منابعه و مصادره،بل یصورونه من واقع المسلمین السیئ،و هم بطبیعة الحال یختارون البیئات الإسلامیة التی نالها الضعف، أو الهزال لهذا السبب أو ذاک و یجعلون هذه البیئات الضعیفة نموذجا للإسلام...الخ.

هکذا عرفهم الأستاذ أحمد الشرباصی المدرس بالأزهر و الرائد العام لجمعیات الشبان المسلمین (1).

دراسة المستشرقین:

لقد قام المستشرقون بدراسات واسعة حول الإسلام،فنشروا کتبا کثیرة، و توسعوا فی الدراسات إلی حد بعید،و بذلوا جهودا،و لکن أکثرهم-إن لم یکن کلهم-لم یسلم من التحامل علی الإسلام،و العداء لأهله،و إن تحقق ذلک فی شخص تخلف عن کثیرین.

و لو أنهم کانوا قد جردوا تلک الدراسات عن التحیز و التحامل و التزموا الإنصاف

ص:387


1- (1) انظر التصوف عند المستشرقین ص 6-10 العدد 27 من سلسلة الثقافة الإسلامیة.

فی أبحاثهم و لم یندفعوا وراء عواطفهم،و لم یبتغوا غیر الحق لذات الحق،لکانت تلک الدراسات نافعة،و جهودهم مشکورة.

لکن دراساتهم لم تکن خالیة من التحامل و الطعن،بل تکون فی غالب الأحیان عند أکثرهم منصبة علی الإسلام بالدس و التقول بالباطل،لأنها لم تکن للعلم من حیث العلم،بل کانت أولا بوحی من الکنیسة الکاثولیکیة خاصة،للانتقاص من تعالیم الإسلام و إهدار قیم تعالیمه،حرصا علی مذهب«الکثلکة»من جانب و تعویضا عن الهزائم الصلیبیة فی(تحریر بیت المقدس)من جانب آخر.

ثم تبنی الاستعمار الغربی هذه الدراسة فی الجامعات العربیة نفسها حتی یقوی القائمون بأمرها علی تصدیرها إلی الشرق الإسلامی... (1).

و الاستشراق أول ما ظهر بین الرهبان عند ما قامت روما تحاول تنصیر العرب، فاعدت لهم الوعاظ علمتهم العربیة،و انشأت مدرسة للدعایة سنة 1627 سبقتها مدرسة للیسوعیین و غیرهم،و هذه المدرسة أسسها البابا الثامن،و جعلها مرکزا لدراسات اللغات السامیة،ثم أنشأ الکاردینال(یورمیو)مکتبة(امبروزیانا)تحت إشراف الدکتور جیجو.

و أنشأ الأب ماتوریبا المعهد العالی للغات الشرقیة فی نابلس سنة 1732.ثم أنشئ المعهد البابوی للغات الشرقیة،و ألحقت به مکتبة غنیة بالمخطوطات العربیة، و تبعه مؤسسة کایتانی و المعهد الشرقی المنشأ فی روما سنة 1921 و یتولی نشر مجلة الحدیث.

فلا غرو إن کان ظهور الاستشراق أول ما ظهر بین الرهبان (2).

و لقد قام بعضهم بأعمال خطیرة هی أکثر مما تقوم بها الجیوش.فهذا الکاردینال(لافیجری)کما یحدث هو عن نفسه فی الجزائر و تونس فی رسالة له:أنه قام بأکثر مما یقوم به جیش بأکمله.و لم یکن عمله ذلک لخدمة الدیانة المسیحیة بل کان لخدمة الاستعم ار،و محاولة محو الإسلام من نفوس الجزائریین لأنه هو المؤجج لروح المقاومة فیهم (3).

ص:388


1- (1) انظر الفکر الإسلامی الحدیث للدکتور محمد البهی ص 5.
2- (2) انظر أضواء علی التاریخ الإسلامی ص 153.
3- (3) انظر مجلة البینة السنة الأولی العدد 6 ص 30.

لقد شوه المستشرقون کثیرا من الحقائق و ادخلوا فی التاریخ الإسلامی ما لیس منه،و کانت لهم الید الطولی فی توسعة شقة الخلاف بین طوائف المسلمین بما ینشرونه من دفائن،و یبرزونه من أقوال شاذة،و آراء مقبورة،بأسلوب ماکر خداع، کما أنهم قاموا بنشاط واسع فی خدمة الاستعمار،و قد وصفهم الدکتور مصطفی السباعی بأنهم:عملاء الاستعمار،و هم أداة هدم الإسلام،و تشویها لسمعة المسلمین.

و لا بد لنا هنا بأن نترک الموضوع للأدباء و الکتاب لیتحدثوا عن المستشرقین و ما قاموا به من نشاط فی محاربة الإسلام،و ما نجم من وراء ذلک و کیف انخدع بهم کثیر من الکتاب،و کیف أصبحت کتبهم مصدرا یستمد منه کتّابنا معلوماتهم عما یتعلق بتاریخ الإسلام و ما یتعلق به من بحوث،فلنصغ لحدیث الأدباء و الکتّاب ممن تحضرنا کتبهم الآن.

حدیث عن المستشرقین:

یقول الأستاذ السباعی:اتضحت لی-عن المستشرقین-الحقائق التالیة:

أولا:أن المستشرقین-فی جمهورهم-لا یخلو أحدهم من أن یکون قسیسا أو یهودیا و قد یشذ عن ذلک أفراد.

ثانیا:أن الاستشراق فی الدول الغربیة غیر الاستعماریة-کالدول الاسکندینافیة أضعف منه عند الدول الاستعماریة.

ثالثا:أن المستشرقین المعاصرین فی الدول غیر الاستعماریة یتخلون عن(جولد تسهیر)و آرائه بعد أن انکشفت أهدافه.

رابعا:أن الاستشراق بصورة عامة ینبعث من الکنیسة و فی الدول الاستعماریة یسیر مع الکنیسة و وزارة الخارجیة جنبا إلی جنب یلقی منهما کل تأیید.

رابعا: أن الاستشراق بصورة عامة ینبعث من الکنیسة و فی الدول الاستعماریة یسیر مع الکنیسة و وزارة الخارجیة جنبا إلی جنب یلقی منهما کل تأیید.

خامسا:أن الدول الاستعماریة کبریطانیا و فرنسا ما تزال حریصة علی توجیه الاستشراق وجهته التقلیدیة،من کونه أداة هدم للإسلام،و تشویها لسمعة المسلمین.

ففی فرنسا لا یزال«بلا شیر»و«ماسینیون»و هما شیخا المستشرقین فی وقتنا الحاضر یعملان فی وزارة الخارجیة الفرنسیة کخبیرین فی شئون العرب و المسلمین.

ص:389

و فی إنجلترا رأینا-کما ذکرت-أن الاستشراق له مکان محترم فی جامعات لندن،و أکسفورد،و کمبردج و أدنبره و جلاسجو و غیرها،و یشرف علیها یهود و إنجلیز استعماریون و مبشرون و هم یحرصون علی أن تظل مؤلفات جولد سهیر، و مرجلیوث (1)-ثم شاخت من بعدهما-هی المراجع الأصلیة لطلاب الاستشراق من الغربیین،و للراغبین فی حمل شهادة الدکتوراه عندهم من العرب و المسلمین،و هم لا یوافقون أبدا علی رسالة لطلب الدکتوراه یکون موضوعها إنصاف الإسلام،و کشف دسائس أولئک المستشرقین.

إلی أن یقول:

و من المؤلم أن طلاب العالم الإسلامی الذین یدرسون باللغة الإنجلیزیة فی بلادهم لا یزالون مضطرین إلی دخول الجامعات الإنجلیزیة،فلا یجد طلاب الدراسات الإسلامیة أمامهم مراجع لدراساتهم التی ینالون بها الدکتوراه غیر تلک المراجع المسمومة و هم لا یعرفون اللغة العربیة،فتقرر عندهم أن تلک الدسائس مأخوذة من کتب الفقهاء و العلماء المسلمین أنفسهم (2).

هذا بعض ما ذکره الدکتور مصطفی السباعی عن حقیقة المستشرقین و قد ذکر أشیاء کثیرة ینقم فیها علیهم لسوء ما ارتکبوه فی حق المسلمین من تحامل و عداء، و تشویه للحقائق،و تحریف للنصوص،و تأویل للوقائع التاریخیة وفق مخطط مرسوم و هدف معین و هو العداء للإسلام...

و یقول الأستاذ مالک بن نبی (3):

و إنه لمما یثیر العجب أن نری کثیرین من الشباب المسلم المثقف یتلقون الیوم معتقداتهم الدینیة،و أحیانا دوافعهم الروحیة نفسها من خلال کتابات المتخصصین الأوروبیین.إن الدراسات الإسلامیة التی تظهر فی أوروبا بأقلام کبار المستشرقین

ص:390


1- (1) مرجلیوث:المتولد سنة 1858 و المتوفی سنة 1940 من أشهر أئمة مستشرقی الإنجلیز و کان فی المجمع العلمی بدمشق له مؤلفات کثیرة منها عدة رسائل عن الدین و التاریخ الإسلامی.
2- (2) انظر کتاب السنة 26-28.
3- (3) الظاهرة القرآنیة 19-21.

واقع لا جدال فیه،و لکن هل یمکن أن نتصور المکانة التی یحتلها هذا الواقع فی الحرکة الفکریة الحدیثة فی البلاد الإسلامیة؟ إن الأعمال الأدبیة لهؤلاء المستشرقین قد بلغت فی الواقع درجة خطیرة من الإشعاع لا نکاد نتصورها،و حسبنا دلیلا علی ذلک أن یضم مجمع اللغة العربیة فی مصر بین أعضائه عالما فرنسیا،و ربما أمکننا أن ندرک ذلک إذا لاحظنا عدد رسالات الدکتوراه،و طبعة هذه الرسالات التی یقدمها الطلبة السوریون و المصریون کل عام إلی جامعة باریس وحدها.و فی هذه الرسالات کلها یصر أساتذة الثقافة العربیة فی الغد أولئک الذین سیکونون باعثی النهضة الإسلامیة یصرون-کما أوجبوا علی أنفسهم علی تردید الأفکار التی زکاها أساتذتهم الغربیون.

و عن هذا الطریق أوغل الاستشراق فی الحیاة العقلیة للبلاد الإسلامیة محددا لها اتجاهها التاریخی إلی درجة کبیرة.

و أیا ما کان الأمر فإن الشباب المسلم المثقف فی بعض دیار الإسلام یری نفسه مضطرا إلی أن یلجأ إلی مصادر المؤلفین الأجانب خضوعا لمقتضیات عقلیة جدیدة، و لعله یقدم إلی حد کبیر منهجها الوضعی الدیکارتی و هناک أیضا قضاة و شیوخ و معممون مدرسون یتذوقون فیها رشاقتها الهندسیة.

هذا کله لا غبار علیه لو لم یضم الاستشراق بمناهجه سوی الموضوع العلمی و لکن الهوی السیاسی الدینی قد کشف عن نفسه بکل أسف فی تألیف هؤلاء المتخصصین الأوروبیین فی الدراسات الإسلامیة برغم أنها تدعو إلی الإعجاب حقا.

فلم یکن الأب لامانس (1)الذی ظل نموذجا للمستشرق الطاعن علی الإسلام و رجاله-الحالة الوحیدة التی یمکن أن تلحظ فیها العمل الصامت لتقویض دعائم الإسلام فقد کان لهذا الرجل(الشاطر)فصل فی الکشف عن بغضه الشدید للقرآن و لمحمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

ص:391


1- (1) هو هنری لامنس الیسوعی 1862-1937 بلجیکی المولد فرنسی الجنسیة من أوائل الجامعة الیسوعیة ببیروت تنقل شرقا و غربا ما بین سنة 1891-1897 فدرس اللاهوت فی إنجلترا و تولی إدارة التبشیر فی بیروت. له مؤلفات کثیرة:الحکام الثلاثة أبو بکر و عمر و أبو عبیدة و منها کتاب فاطمة بنت محمد علیه السّلام و السیرة،و موقف الإسلام من الفنون المصورة،و مهد الإسلام و غیر ذلک.

و یوضح لنا الأمیر شکیب ارسلان جانبا مهما من دسائسهم و یحذر المسلمین عن الانخداع بما یکتبون فیقول:

(إنه مما یجدر بأن یطلع علیه الشرقیون و المسلمون خاصة،ما یصدر فی أوروبا من الکتابات المتعلقة بهم،و التصانیف الباحثة عن مصیرهم،و المقالات المصورة لأحوالهم و شئونهم بلون مخیلات الکتّاب الذین حرروها،الناطقة عن هوی الأحزاب التی ینتمی هؤلاء الکتّاب إلیها،بحیث یعرف منها الشرقی أو المسلم أو المستضعف علی أمره کائنا من کان ما ذا یطبخ له فی الخفاء و ما ذا یدس بحقه تحت الستار،و ما ذا یدبر علیه بدون علمه،مما لا یطلع علیه إلا فی الندری و مما هو رام إلی إدامة استغلاله) (1).

و فی موضع آخر یوضح لنا الأمیر صورة عن دراستهم و أنهم:إذا عثروا علی حکایة شاذة؛أو نکتة فاردة فی زاویة کتاب قد یکون محرفا سقطوا علیها تهافت الذباب علی الحلوی،و جعلوها معیارا و مقیاسا-لا بل صیروها محکا یعرضون علیه سائر الحوادث،و یغفلون أو یتغافلون عن الأحوال الخاصة،و الأسباب المستثناة، و یرجع کل هذا التهور إلی قلة الاطلاع فی الأصل،هذا إذا لم یشب ذلک سوء قصد، لأن الغربی لم یبرح عدوا للشرقی و رقیبا له و النادر لا یعتد به (2).

و یقول الأستاذ أحمد شاکر-حول نظرة المستشرقین للقرآن-:

فهم(المستشرقون)یرون أن علماء الإسلام،و قراء القرآن کاذبون مفترون اخترعوا هذه الروایات و هذه القراءات توجیها لما یتحمله رسم المصحف تشکیکا منهم فی هذا الکتاب المحفوظ بحفظ اللّه و تکذیبا للوعد بحفظه،و بأنه لا یأتیه الباطل من بین یدیه و لا من خلفه و ثأرا من المسلمین باتهامهم بالتحریف کما اتهم الذین من قبلهم بأنهم یحرفون الکلم عن مواضعه إلی أن یقول:

ذلک بأنهم أصحاب هوی،و ذلک بأنهم لا یؤمنون بصدق رسالة الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم، و ذلک بأنهم یؤمنون بأن أصحاب رسول اللّه و تابعیهم من بعدهم لا خلاق لهم،

ص:392


1- (1) انظر حاضر العالم الإسلامی ج 1 ص 304.
2- (2) المصدر السابق ج 1 ص 100.

یصدرون عن هوی و عصبیة فیظنون فیهم ما فی غیرهم من الکذب علی الدین، و الجرأة علی اللّه و حاشا اللّه.

و ذلک بأنهم-أی المستشرقون-یتبعون الشاذ من الروایات الذی أخطأ فیها بعض رواتها أو الذی کذب فیها بعض الوضاعین،و هما اللذان بینهما علماء الإسلام و خاصة علماء الحدیث أدق بیان و أوثقه و أوضحه،فیجعلون هذا الشاذ المنکر أصلا یبنون قواعدهم التی افتعلوها و نسبوها للإسلام و علماء الإسلام،و یدعون الجادة الواضحة وضوح الشمس،و یغمضون عنها أعینهم و یجعلون أصابعهم فی آذانهم،ثم یستهوون منا من ضعفت مدارکهم،و ضؤول علمهم بقدیمهم من المعجبین بهم، و المعظمیهم الذین نشئوا فی حجورهم و رضعوا من لبانهم،فأخذوا عنهم العلوم حتی علوم الفقه،و القرآن،فکانوا قوما لا یفقهون (1).

و یقول الشیخ محمد زاهد الکوثری حول نظرة المستشرقین للقرآن أیضا:

و نری فی المدة الأخیرة اهتماما خاصا لمستشرقی الغرب بنشر مؤلفات علماء الإسلام الأقدمین مما یتعلق بالقرآن الکریم و علومه،من کتب القراءات و کتب الطبقات،بل یواصلون سعیهم فی ذلک،و فی نشر ما للأقدمین من المؤلفات فی الحدیث و الفقه و اللغة،إلی غیر ذلک من المشرقیات،و مسعی أغلبیتهم قصدهم لإحیاء عهد الصلیبیین بطریقة أخری فی الحملات الممتلئة تعصبا و جهلا نحو النور الوضاء، الذی أشرق من القرآن علی هذه الکرة المظلمة حتی استنارت بذلک النور الوهاج، فدخل الناس فی دین اللّه أفواجا،فتبدلت الأرض.

و غایة هذا الفریق مکشوفة جدا مهما تظاهر بمظهر البحث العلمی البریء کذبا و زورا و خداعا.

و بتلک الإلمامة الیسیرة فی تاریخ القرآن الکریم یظهر أن محاولتهم هذه ما هی إلا محاولة خائبة منکوسة،و أنهم لو ابتغوا نفقا فی الأرض أو سلما فی السماء لیأتوا بما له مساس بکتاب اللّه المنزل علی حبیبه المرسل-صلوات اللّه علیه و علی سائر الأنبیاء-من قرب أو بعد لما وجدوا إلی ذلک أدنی سبیل...الخ (2).

ص:393


1- (1) الشرع و اللغة للأستاذ أحمد شاکر ص 26،28.
2- (2) مقالات الکوثری ص 17.

و یقول الأستاذ عبد الباقی سرور-فی حدیثه عن المستشرقین و بالأخص المستشرق الیهودی جولد تسهیر-:و من الأفق الغربی تأتی حملة أخری علی الروحانیة الإسلامیة،حملة أشد خبثا و أدهی أسلوبا،حملة سحرت أعین الناس، و جاءت بما یستهوی الأفئدة لأنها تتقنع بالعلم و تتستر بالمعرفة،و تتواری وراء کلمات براقة خداعة هی حریة البحث أو قداسة العلم!! فرأینا یهودیا هو-جولد تسهیر (1)-یکتب عن العقیدة و الشریعة فی الإسلام، و یفسر القرآن کما یهوی،و یجرح صحابة الرسول کما یحب،و یخطئهم فی فهمهم لدینهم،ثم یبتدع هو ما یشاء تفسیرا لروح القرآن و هدی الرسول،و نهج العقیدة فی الإسلام.

إلی أن یقول:و یأتی فی أعقاب هذا الیهودی إخوان له خدع بهم الشرق،بل خدعت بهم طائفة غیر قلیلة من رجال القلم و الفکر عندنا فظنوهم سدنة العلم الإسلامی و حملة مفاتیح کنوزه (2).

و یقول الأستاذ أحمد فارس الشدیاق عن المستشرقین و کیفیة خبطهم فی الأبحاث و خلطهم للأشیاء:إن هؤلاء الأساتیذ لم یأخذوا العلم عن شیوخه...و إنما تطفلوا علیه تطفلا،و توثبوا توثبا،و من تخرج فیه بشیء فإنما تخرج علی القسس...

إذ أدخل رأسه فی أضغاث أحلام أو أدخل أضغاث أحلام فی رأسه،و توهم أنه یعرف شیئا و هو یجهله،و کل منهم إذا درس فی إحدی لغات الشرق أو ترجم شیئا منها تراه یخبط فیها خبط عشواء فما اشتبه علیه منها رقعه من عنده بما شاء و ما کان بین الشبهة و الیقین حدس فیه و خمن فرجح منه المرجوح و فضل المفضول (3).

و یصف الأستاذ قدری حافظ طوقان تحامل المستشرقین علی العرب خاصة بقوله:

ص:394


1- (1) جولد تسهیر هو من أسرة یهودیة ولد سنة 1850 فی بلاد المجر و توفی سنة 1921-13 نوفمبر و سافر إلی الشرق سنة 1873 و دخل القاهرة فأقام بها مدة و له مؤلفات منها:الجدل عند الشیعة، و العقیدة و الشرعیة فی الإسلام و مذاهب التفسیر الإسلامی و غیرها و ناهیک ما حوته هذه الکتب و غیرها من الدس و التضلیل و القول بالباطل بالأخص ما یخص الشیعة.
2- (2) انظر رابعة العدویة ص 24.
3- (3) المستشرقون للعفیفی ص 200 نقلا عن ذیل الفازیاق ص 2.

و نظرة بسیطة إلی ما ألفه الغربیون فی التراث الیونانی،ولدی الاطلاع علی آرائهم فی نتاج القریحة العربیة یظهر التحامل جلیا واضحا،و یثبت الإجحاف،و إن بعض علماء الغرب عمدوا إلی الانتفاص من قدر الحضارة العربیة،و قد قصدوا تشویه صفحات لامعات فی تاریخ العرب لمآرب غیر خافیة علی أحد (1).

و یقول الأستاذ إبراهیم هاشم:

لقد اشتهر کتّاب الغرب بعمق التفکیر،و غزارة المادة و دراسة الموضوع الذی یریدون الکتابة عنه دراسة مستفیضة حتی لا تفوتهم صغیرة و لا کبیرة من شئونه.

هذه حقیقة لا سبیل إلی نکرانها،و لکن لمست إلی جانب هذه الحقیقة حقیقة أخری و هی:أنهم لم یستطیعوا علی غزارة علمهم أن یتخلوا و لو قلیلا عن مادیتهم.

إلی أن یقول:

و یفترضون فروضا وهمیة،لیصلوا إلی بعض الحقائق العلمیة،و قد تؤدی تلک الفروض الوهمیة إلی النتائج المطلوبة،یرون کل ذلک و یؤمنون به ثم یقفون جامدین مکابرین لبعض الحقائق التی عجزت عقولهم عن إدراکها فی مجال العقائد الدینیة، و لا یکلفون أنفسهم عناء النقاش،و قرع الحجة بالحجة خشیة الاندحار...

و آفة أخری تتبین لنا خلال سطورهم فی کل ما یکتبون عن الإسلام و نبی الإسلام،تلک هی:روح العداء المستحکم للدین الإسلامی و معتنقیه،و هذه الروح العدائیة للإسلام و المسلمین بقیة من بقایا العداء الصلیبی ما استطاعوا أن ینقوا أعماقهم منها،رغم تمدحهم بالتسامح الذی یزعمونه لأنفسهم،و إلی أن یخلصوا من هاتین الآفتین،و نرجو أن تتخلص عقلیتهم مما یزری بها فی مجال التفکیر السلیم (2).

و الخلاصة:

إننا نستوضح من هذه الأقوال و نستکشف من هذه الآراء التی قدمناها هنا للقراء عن هؤلاء الأساتذة:أن کتابة المستشرقین عن الإسلام لم یکن مقصودا بها خدمة الحق و التاریخ،-إلا المنصفین منهم و قلیل ما هم-بل إنما کانت کتاباتهم بدافع

ص:395


1- (1) الخالدون العرب ص 3.
2- (2) انظر کتاب أین نحن الیوم،ص 36.

الحقد و العداء للإسلام و أهله،و إن ذلک یدعو إلی ضیاع الحق و تشویه الحقیقة التی هی رائد کل کاتب حر.

و إن الذی یعنینا الآن هو الإشارة إلی الأثر السیئ الذی ترتب علی انخداع کثیر من کتّابنا بتلک الآراء،و أخذهم بتلک الأقوال المخالفة للواقع،و کأنها عندهم هی الصواب بعینه أو الیقین الذی لا یتطرق إلیه شک،و لعل الکثیر منهم کان یتعمد الاعتماد علیها لما فیها من الحط فیمن یتحامل علیه،انصیاعا لنزعة الطائفیة أو الخلافات المذهبیة.

و نود أن نعود للأستاذ مصطفی السباعی لتکملة ما یتعلق بهذا الموضوع فی حدیثه إذ هو قد أعطی صورة واضحة عن هؤلاء المستشرقین،و من تابعهم بالقول،ثم نعود لبیان الموضوع.

یقول الدکتور السباعی-بعد بیان طویل-:لا یزال حتی الیوم أکثر الذین یشتغلون منهم بهذه الدراسات من رجال الدین،الذین یعنون بتحریف الإسلام و تشویه جماله،أو من رجال الاستعمار الذین یعنون ببلبلة بلاد الإسلام فی ثقافتها،و تشویه حضارتها فی أذهان المسلمین،و تتسم بحوث هؤلاء بالظواهر الآتیة:

1-سوء الظن و الفهم لکل ما یتصل بالإسلام و أهدافه و مقاصده.

2-سوء الظن بالمسلمین و علمائهم و عظمائهم.

3-تصویر المجتمع الإسلامی فی مختلف العصور و خاصة فی العصر الأول بمجتمع متفکک تقتل الأنانیة رجاله و عظماءه.

4-تصویر الحضارة الإسلامیة تصویرا دون الواقع بکثیر تهوینا لشأنها،و احتقارا لآثارها.

5-جهلهم بطبیعة المجتمع الإسلامی علی حقیقة،و الحکم علیه من خلال ما یعرفونه من أخلاق شعوبهم،و عادات بلادهم.

6-إخضاعهم النصوص للفکرة التی یفرضونها حسب أهوائهم،و التحکم فیما یفرضونه،و یقبلونه من النصوص.

7-تحریفهم للنصوص فی کثیر من الأحیان تحریفا مقصودا و إساءتهم فهم العبارات حین لا یجدون مجالا للتحریف.

8-تحکمهم بالمصادر التی ینقلون منها،فهم ینقلون مثلا من کتب الأدب ما

ص:396

یحکمون به فی تاریخ الحدیث،و من کتاب التاریخ ما یحکمون به فی تاریخ الفقه، و یصححون ما ینقله«الدمیری»فی کتاب الحیوان،و یکذبون ما یرویه«مالک»فی «الموطأ»کل ذلک انسیاقا مع الهوی،و انحرافا عن الحق.

و بهذه الصفات المشوبة بروح العداء للإسلام و المعبرة عن جهلهم الفاضح عبر السباعی عن هؤلاء الکتّاب من المستشرقین الذین أصبحت مؤلفاتهم مصدرا لکتّاب عصرنا الحاضر-إلا القلیل منهم-و قد أوضح الأستاذ ذلک أیضا بقوله:

و قد أتاح لهم أی للمستشرقین تشجیع حکوماتهم،و وفرة المصادر بین أیدیهم، و تفرغهم للدراسة،و اختصاص کل واحد منهم بفن أو ناحیة من نواحی ذلک الفن، یفرغ له جهده فی حیاته کلها،ساعدهم ذلک کله علی أن یصبغوا بحوثهم بصبغة علمیة،و أن یحیطوا بثروة من الکتب و النصوص ما لم یحط به علماؤنا الذین یعیشون فی مجتمع مضطرب فی سیاسته و ثروته و أوضاعه،فلا یجدون متسعا للتفرغ لما یتفرغ له أولئک المستشرقین،و کان من أثر ذلک أن أصبحت کتبهم و بحوثهم مرجعا للمثقفین منا ثقافة غربیة،و الملمین بلغات أجنبیة،و قد خدع أکثر هؤلاء المثقفین ببحوثهم، و اعتقدوا بمقدرتهم العلمیة و إخلاصهم للحق..و جروا وراء آرائهم ینقلونها کما هی و منهم من یفاخر بأخذها عنهم،و منهم من یلبسها ثوبا إسلامیا جدیدا،و لا أرید أن أضرب لک الأمثال فقد رأیت من صنیع الأستاذ«أحمد أمین»فی فجر الإسلام مثلا لتلامذة مدرسة المستشرقین من المسلمین (1).

هذا ما قرره السیاغی و قد وصفهم من قبل أنهم عملاء للاستعمار یرتبطون ارتباطا مباشرا بوزارة الخارجیة الاستعماریة کما وصفهم غیره بذلک.

و قد اتضح لنا مما سبق انخداع کثیر من الکتّاب بما یدسه المستشرقون فی کتبهم من الطعن علی الإسلام و ما أکثر الشواهد علی ذلک.

و لا نعدو الحقیقة إن قلنا إن الأستاذ أحمد أمین من أشد أولئک الکتّاب الذین تعرضوا للشیعة فی کتبهم مستندین علی أقوال المستشرقین.

ص:397


1- (1) انظر کتاب السنة للدکتور السباعی ص 366.

و القارئ لما کتبه أحمد أمین یجد هناک عظیم تعصبه علی الشیعة و انحرافه عن الحق فیما ذکره حولهم لأنه أخذ کل معلوماته عن أساتذته المستشرقین و الذی کان من أبرز تلامذتهم.

و قد تعرضنا لبعض أقواله فی الشیعة التی استمدها من أستاذه(ولهوسن) و(دوزی) (1).

و کتاب أحمد أمین فجر الإسلام قد تضمن تلک الآراء مصبوغة بعباراته و تعبیره مما یدل بوضوح علی عدم تعمقه و قلة اطلاعه و قد أصبح کتابه مصدرا لکتّاب آخرین و هکذا تتوسع دائرة الابتعاد عن الحق.

و هکذا هو فی بقیة کتبه یقدم للأمة ما یثیر الضغائن و یبعث فی نفوس بعضهم الحقد علی البعض الآخر.

و هو فی جمیع مؤلفاته یسیر علی نهج واحد من اتباع المستشرقین و التقلید لهم.

و قد جاء فی فجر الإسلام أیضا کثیر من ذلک و للمثال هنا نذکر ما یلی:

یقول الدکتور أحمد أمین-بعد أن یذکر قول المستشرق(برون)فی نظریة الحق الإلهی لملوک الفرس-:

هذه مذاهب الفرس الدینیة و قد ذابت فی المملکة الإسلامیة بعد الفتح و کثیر منهم أسلموا و لم یتجردوا من کل عقائدهم التی توارثوها أجیالا،و بمرور الزمان صبغوا آراءهم القدیمة بصبغة إسلامیة فنظرة الشیعة فی علی و أبنائه هی نظرة آبائهم الأولین من الملوک الساسانیین و ثنویة الفرس کانوا منبعا یستقی منه«الرافضة»فی الإسلام...الخ (2).

و هذه النظریة استقاها من أساتذته و لا زال یردد هذه النغمة المؤلمة و قد صرح بهذا أساتذته و من امتص آراءه منهم (3).

ص:398


1- (1) انظر ج 3:30-36 ط 1 من هذا الکتاب.
2- (2) انظر ظهر الإسلام.
3- (3) انظر الخوارج و الشیعة للمستشرق«فلهوزن»ص 235-249 تجد ذلک و ان أحمد أمین لیس له إلا الترجمة و بعض التعبیر.

و أنت تری فی تعبیر أحمد أمین فی قوله:فنظرة الشیعة فی علی و أبنائه هی نظرة آبائهم الأولین...الخ.

اعتقاده أن التشیع فارسی فی الأصل فارسی فی العقیدة إلی آخر ما یتذوقه الأستاذ فی اتباعه لأساتذته.و قد أسهم فی الجنایة علی التاریخ و أساء للعلم الذی یحمل صفته بما جری علیه من متابعة المستشرقین و تقلیدهم فی جهله لمذهب الشیعة و مقوماته.

و کأن التشیع نشأ فی عصور متأخرة و لیس له قبول فی النفوس إلا عند الفرس فقط،و قد خلت منه البلاد العربیة و لم یکن منشأه الحجاز فی عهد صاحب الرسالة صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و انتشر فی البلاد الإسلامیة علی أیدی کبار قادة المسلمین و عظماء الأمة.

و علی أی حال فما تقدم کاف للجزم بمنحی التعصب الذی نحاه و الکشف عن مصادر آرائه و أصول اعتقاداته فی التشیع التی لا تمت إلی الإسلام بصلة بل تنتسب إلی أعدائه و الحاقدین علیه.

و لئن کان أحمد أمین من أبرز تلامذة مدرسة المستشرقین فی عصره-علی حد تعبیر السباعی-فإنا نری أن الأستاذ(الذهبی)مؤلف کتاب(التفسیر و المفسرون)من أولئک التلامذة الذین انخدعوا بتلک الأسالیب،و تشبعت روحهم بتلک الأبحاث، و انعکست فیهم تلک الآراء الشاذة،و لعبت بعقولهم تلک الأهواء المردیة،فراحوا یحققون ما للمستشرقین من أهداف.

و لقد تجلت فی هذا الرجل روح شیخ المستشرقین فی الجیل الماضی و هو المستشرق الیهودی المجری« جولدتسیهر»الذی کان أشدهم خطرا و أوسعهم باعا و أکثرهم خبثا و إفسادا،و أشدهم طعنا فی العقائد الإسلامیة.

فلقد کانت بحوث هذا المستشرق مرجعا خصبا و مصدرا للدکتور الذهبی و إن من یقارن بین ما کتبه فی کتابه(التفسیر و المفسرون)حول الشیعة و بین ما کتبه المستشرق« جولدتسیهر»فی کتابه مذاهب التفسیر الإسلامی فإنه یجد روح ذلک المستشرق و نزعته تتجلی فیما کتبه الذهبی.و لا یجد الذهبی غضاضة فی کیل المدیح

ص:399

و زیادة الإطراء و هو یذکر أستاذه الیهودی هذا و کأنه یطری واحدا من علماء الإسلام لا یهودیا جمع بین حقد الیهودیة و أغراض الاستشراق الغربیة.

لقد أخذ کثیرا من الأبحاث عن أحمد أمین الذی تأثر بتلک الروح،و ظهر فی کتاباته ما یدل علی أن المشرب واحد.

و أود هنا إعطاء نظرة عن کتاب التفسیر و المفسرون للأستاذ الذهبی و لیس بوسعنا نقد جمیع أخطائه و بیان الأمور التی ارتکبها متبعا خطی المستشرقین الذین زلت أقدامهم عن طریق الصواب،و أود أن أشیر بإیجاز إلی منهجه فی البحث و بیان اتجاهه فی دراسته و المخطط الذی سار علیه فی ذلک،و لعل الفرص تواتینا فنعود لمناقشته و نسأل اللّه أن یفسح لنا فی الأجل لإدراک هذا الغرض.

التفسیر و المفسرون:

الکتاب یقع فی ثلاثة أجزاء و مؤلفه محمد حسین الذهبی أستاذ فی علوم القرآن و الحدیث؛و هذا الکتاب فیه عرض لنشأة التفسیر و تطوره،و ألوانه و مذاهبه،مع عرض شامل لأشهر المفسرین،و تحلیل کامل لأهم کتب التفسیر علی حد تعبیر المؤلف.

و الذی یهمنا حول هذا الکتاب هو ما تعرض له فی الجزء الثالث من العرض لتفسیر القرآن عند الشیعة،و ما قدم لذلک فی کلامه عنهم و عن عقائدهم،و قد اعترف فی بدء حدیثه:أن الشیعة هم الذین شایعوا علیا و أهل بیته،و قالوا:إن علیا هو الإمام بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أن الخلافة حق له استحقها بوصیة من رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم...الخ.

ثم یمضی المؤلف فی بیانه حتی یأتی حول تفرق الشیعة فی الآراء و یقصر بحثه علی الزیدیة و الإمامیة و یقول:فی ص 5 و لست بمستوعب کل هذه الفرق و لکن سأقتصر علی فرقتین هما الزیدیة و الإمامیة(الاثنا عشریة و الإسماعیلیة)لأنی لم أعثر علی مؤلفات فی التفسیر لغیر هاتین الفرقتین من الشیعة.

ثم یعرف الإمامیة الاثنی عشریة:بأنهم الذین یرون أن الإمامة بعد جعفر الصادق انتقلت إلی ابنه موسی...الخ.

و بعدها یأتی فی البیان إلی أشهر تعالیم الإمامیة فیحصرها فی أربعة:العصمة، و المهدیة،و الرجعة،و التقیة.

ص:400

ثم یأخذ فی بیان ذلک حسب ذوقه و تفکیره و یملی بما أدی إلیه نظره.و نحن نترکه یستمر فی بیانه من باب(خل سبیل من و هی سقاؤه).

إلی أن یأتی آخر هذا الفصل و یختمه بکلمة للاسفرائینی و بها یحاول أن یعطی صورة عن الشیعة الإمامیة،بالأخص تلک الصورة التی یحاول بها أن تکون صورة واقعیة عن الشیعة إذ أنهم کفرة یستحلون محارم الشریعة،و لا یعتمدون علی القرآن إلی آخر ما وراء ذلک من أغراض و أهداف.(کبرت کلمة تخرج من أفواههم).

>یقول المؤلف:< و قبل أن أخلص من هذه العجالة أسوق کلمة أنقلها بنصها عن أبی المظفر الأسفرایینی فی کتابه التبصیر فی الدین:

(و اعلم أن الزیدیة و الإمامیة منهم یکفر بعضهم بعضا و العداوة بینهم قائمة دائمة،و الکیسانیة یعدون فی الإمامیة،و اعلم أن جمیع من ذکرناهم من فرق الإمامیة متفقون علی تکفیر الصحابة و یدعون أن القرآن قد غیر عما کان و وقع فیه الزیادة و النقصان من قبل الصحابة.و یزعمون أنه قد کان فیه النص علی إمامة علی فأسقطه الصحابة منه،و یزعمون أنه لا اعتماد علی القرآن الآن،و لا علی شیء من الأخبار المرویة عن المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یزعمون أنه لا اعتماد علی الشریعة التی فی أیدی المسلمین،و ینتظرون إماما یسمونه المهدی یخرج و یعلمهم الشریعة،و لیسوا علی شیء من الدین،و لیس مقصودهم من هذا الکلام فی الإمامة و لکن مقصودهم إسقاط کلفة تکلیف الشریعة عن أنفسهم حتی یتوسعوا فی استحلال المحرمات الشرعیة، و یعتذرون عند العوام من تحریف الشریعة و تغییر القرآن من عند الصحابة،و لا مزید علی هذا النوع من الکفر،إذ لا بقاء فیه علی شیء من الدین).

هذا ما نقله المصنف عن الأسفرایینی معتقدا صحة هذا القول و صدقه و ما أبعده عن ذلک و الباحث المنصف بقلیل من التأمل-لا یسعه إلا أن یری الشطط الفکری و الخطأ التاریخی الذی وقع فیه الأستاذ مدرس علوم القرآن و الحدیث فیما کتبه حول هذا الموضوع.

و إن هذه الکلمة التی ساقها تمهیدا لبحثه نقلها عن أحد کتّاب الفرق الذین

ص:401

اتسموا بمعاداة و مهاجمة کل من خالفهم فی الرأی،فارتکبوا من الافتعالات اندفاعا وراء عواطفهم و نصرة لمذاهبهم ما جعلهم فی موضع النقد،و عدم الثقة بما یکتبون.

و قد وصفهم العلامة شیخ الجامع الأزهر فی العصر الحاضر الشیخ محمود شلتوت بقوله:

لقد کان أکثر الکاتبین عن الفرق الإسلامیة متأثرین بروح التعصب الممقوت، فکانت کتاباتهم مما تورث نیران العداوة و البغضاء بین أبناء الملة الواحدة،و کان کل کاتب لا ینظر إلی من خالفه إلا من زاویة واحدة،هی تسخیف رأیه،و تسفیه عقیدته، بأسلوب شره أکثر من نفعه،و لهذا کان من أراد الإنصاف لا یکون رأیه عن فرقة من الفرق إلا من مصادرها الخاصة لیکون هذا أقرب إلی الصواب و أبعد عن الخطأ (1).

فهل کانت هذه النزعة إلی الخیر فی مدرس الأزهر اقتداء بشیخ الأزهر؟!و هل أنصف المؤلف فی اعتماده علی نقل ما قاله رجل فی عصور مظلمة یسود فیها الصراع العقائدی مما یبعث علی التألم مما حل بالمسلمین من ذلک و ما جره علیهم النزاع من ویلات الدمار،و عوامل الانهیار؟ و لا بد أن نلقی علی هذه الکلمة نظرة خاطفة و نتبین ما هو محلها من الصدق؟! -و ما أبعدها عن ذلک-لنعرف اتجاه الأستاذ المؤلف و منحاه فی تفسیره و مقدار تعمقه فی البحث و تأکده فی النقل و إلی القراء النقاط التالیة:

1-یقول:إن الزیدیة و الإمامیة منهم یکفر بعضهم بعضا و العداوة بینهم قائمة دائمة.

و نقول:هل استطاع صاحب هذا القول أن یدعمه و لو بحادث واحد أو شاهد من قول لإحدی الطائفتین؟! و هل اشتهر عنهم ذلک الخلاف حتی أدی إلی تکفیر بعضهم بعضا؟!کما اشتهر بین غیرهم من طوائف المسلمین حتی اشتهرت کلمات التکفیر لبعضهم البعض کقول المظفر الطوسی الشافعی:

ص:402


1- (1) انظر إسلام بلا مذاهب ص 7.

(لو کان لی من الأمر شیء لأخذت علی الحنابلة الجزیة) (1)و قول محمد بن موسی الحنفی:(لو کان لی من الأمر شیء لأخذت علی الشافعیة الجزیة) (2)و قول الشیخ أبی حاتم الحنبلی:(من لم یکن حنبلیا فلیس بمسلم) (3).و اشتهر عن الشیخ أبی بکر المقری الواعظ فی جوامع بغداد بأنه کفر جمیع الحنابلة (4).

و نودی بدمشق و غیرها:من کان علی دین ابن تیمیة حل ماله و دمه.و أفتی بعضهم بتکفیر من یطلق علی ابن تیمیة أنه شیخ الإسلام (5)و ابن تیمیة هو شیخ الحنابلة و مقدمهم و معنی هذا أن کل حنبلی کافر.إلی غیر ذلک مما لا أود استقصاءه.

ثم نقول للمؤلف:أین هذه العداوة التی دامت بین الزیدیة و الإمامیة؟فهل سمع أن فتنة قامت بینهم فأغلقت الأسواق و هدمت الدور کما حدث بین الشافعیة و الحنابلة فی فتنة القشیری (6)،و ذلک فی سنة 469،و کما اضطرمت الفتنة بین الحنفیة و بین الشافعیة بسبب تحویل أبی سعد المتوفی سنة 562 من مذهب الحنفی إلی مذهب الشافعی و قامت الحرب علی ساق و اضطرمت نیران الفتنة بین الفریقین فکانت تملأ ما بین خراسان و العراق (7)،إلی غیر ذلک مما یحز فی النفس و یعظم استقصاؤه.

2-یقول:و اعلم أن جمیع من ذکرناهم من فرق الإمامیة متفقون علی تکفیر الصحابة.

هکذا نقل الأستاذ عن الأسفرایینی و لم یقصد بذلک إلا الطعن علی الشیعة و إثارة البغضاء نحوهم بما افتراه الأسفرایینی و قرره الذهبی و هما فی الوزر سواء.

و من الخیر أن نلفت نظر الأستاذ المدرس بالأزهر الشریف إلی ما یجب علیه من تحری الصدق فهو مسئول عن هذا الجیل الذی یغذیه بأفکاره،نسأل اللّه لهم العصمة و الوقایة من تلک السموم القاتلة التی یبثها بهذه الأکاذیب و الافتراءات.

ص:403


1- (1) مرآة الزمان ج 8 ص 44 القسم الأول.
2- (2) مختصر تاریخ دول الإسلام للذهبی 1:24.
3- (3) تذکرة الحفاظ ج 3:357.
4- (4) شذرات الذهب 3:252.
5- (5) ذیل تذکرة الحفاظ 320.
6- (6) ذیل طبقات الحنابلة لابن رجب 1:22.
7- (7) طبقات الشافعیة 3:22. [1]

أ لا کانت من الأستاذ الذهبی صبابة إنصاف و مسکة من عقل و قلیل من تتبع فیعرف رأی الإمامیة فی الصحابة؛و متی کفروهم جمیعا؟و مع التنازل کیف یصح أن تکفر الشیعة صحابة محمد الذین مدحهم اللّه بکتابه،و لا أقل إن أغلبهم عرف بالولاء لعلی علیه السّلام و شهد معه حروبه و منهم أبطال التشیع.

و علی سبیل المثال أود أن أذکر للقارئ الکریم بعضا من أولئک البررة تشیعوا لعلی و وازروه و الذین شهدوا معه حروبه،و ناصروه علی الباغین علیه،و فی طلیعتهم:

1-عمار بن یاسر المعذب فی اللّه،و الممتحن لإسلامه،و من قال فیه رسول اللّه:یا عمار تقتلک الفئة الباغیة،و عن أبی هریرة أن النبی قال له:(ابشر عمار تقتلک الفئة الباغیة) (1).

و أخرج الترمذی بسند عن عائشة قالت:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ما خیر عمّار بین أمرین إلا اختار أرشدهما (2).

2-و أبو ذر الغفاری المتوفی سنة 32 و هو من کبار الصحابة و فضلائهم و کان من شیعة علی علیه السّلام و وسمه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالصدق فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ما أظلت الخضراء و أقلت الغبراء من ذی لهجة أصدق من أبی ذر.و قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أبو ذر فی أمتی علی زهد عیسی بن مریم.

و قال الإمام علی علیه السّلام:وعی أبو ذر علما عجز الناس عنه ثم أوکئ علیه فلم یخرج منه شیئا (3).

3-خزیمة بن ثابت بن الفاکه ذو الشهادتین شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد کلها،و قد جعل رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شهادته بشهادة رجلین،و حضر مع علی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم حرب الجمل،و صفین و بها قتل سنة 37 (4).

4-أبو قتادة الحارث بن ربعی حارس النبی لیلة بدر و قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:اللهم

ص:404


1- (1) أسد الغابة 4:46. [1]
2- (2) انظر أسد الغابة 4:45. [2]
3- (3) المصدر السابق 5:187. [3]
4- (4) الإصابة لابن حجر 1:426. [4]

احفظ أبا قتادة کما حفظ نبیک هذه اللیلة،و شهد مع علی علیه السّلام مشاهده کلها، و مات بالکوفة سنة أربعین و هو الذی قال له معاویة حین قدم المدینة:تلقانی الناس غیرکم یا معاشر الأنصار.

قال أبو قتادة:لم یکن معنا دواب.قال معاویة:و أین النواضح؟!! قال:عقرناها فی طلبک و طلب أبیک یوم بدر.ثم قال:إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال لنا:إنا سنری بعده أثرة.قال معاویة:فما أمرکم به عند ذلک؟قال:أمرنا بالصبر.

قال معاویة:فاصبروا حتی تلقوه.فبلغ ذلک عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فأنشأ أبیاته المشهورة(ألا أبلغ معاویة ابن صخر...الخ) (1).

5-کعب بن عمرو بن عباد شهد بدرا و العقبة-و هو آسر العباس بن عبد المطلب یوم بدر،و هو الذی انتزع رایة المشرکین یوم بدر و کانت بید عزیز بن عمیر، و شهد صفین مع علی علیه السّلام و مات فی المدینة سنة 55.

6-سلمان الفارسی الذی قال فیه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم سلمان منا أهل البیت.

7-عمیر بن قرة اللیثی شهد مع علی علیه السّلام صفین،و کان شدیدا علی معاویة و أهل الشام حتی حلف معاویة إن ظفر به لیذیبن الرصاص فی أذنیه.

8-أبو عمرة الأنصاری شهد العقبة و بدرا،و شهد مع علی علیه السّلام صفین و کان یقاتل و هو صائم (2).

9-أبو الهیثم مالک بن التیهان شهد العقبة و بدرا،و شهد مع علی علیه السّلام صفین و بها قتل.

10-قیس بن سعد بن عبادة شهد مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مشاهده کلها و کان حامل الرایة یوم الفتح و شهد مع علی علیه السّلام صفین و الجمل.

11-عبد اللّه بن العباس بن عبد المطلب المتوفی سنة 68 حبر الأمة شهد مع علی علیه السّلام صفین و الجمل و النهروان.

ص:405


1- (1) الاستیعاب ج 3:402. [1]
2- (2) الإصابة 4:140. [2]

12-عبد اللّه بن بدیل قتل هو و أخوه بصفین.

13-قیس بن المکشوح و هو أحد الذین قتلوا الأسود العنسی فی حیاة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شهد صفین مع علی علیه السّلام و معه رایة بجیلة و قتل بها.

14-یزید بن حویرث الأنصاری شهد أحدا و ما بعدها و شهدا صفین مع علی علیه السّلام.

15-جبلة بن ثعلبة الأنصاری الخزرجی البیاضی شهد بدرا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و شهد صفین مع علی علیه السّلام.

16-الحارث بن عمر الخزرجی شهد أحدا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و شهد صفین مع علی علیه السّلام.

17-ربعی بن عمر الأنصاری شهد بدرا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و شهد صفین مع علی علیه السّلام.

18-زید بن أرقم بن زید بن قیس غزا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم سبع عشرة غزوة و شهد صفین مع علی علیه السّلام.

19-أسید بن ثعلبة الأنصاری شهد بدرا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و شهد صفین مع علی علیه السّلام.

20-أبو بردة الحارث بن عمر الأنصاری شهد بدرا و ما بعدها مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و شهد صفین و الجمل مع علی علیه السّلام.

21-أبو حبة البدری شهد بدرا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و شهد صفین مع علی علیه السّلام (1).

22-أبو فضالة الأنصاری شهد بدرا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و شهد صفین مع علی علیه السّلام.

23-أبو أیوب الأنصاری شهد العقبة و بدرا و أحدا و الخندق مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و شهد مع علی علیه السّلام صفین و الجمل و کان علی مقدمة الجیش یوم النهروان.

ص:406


1- (1) أنکر الواقدی أن أبا حبة شهد بدرا؛و إنکاره لا یضر،فقد صح ذلک ممن هو أوثق منه.

24-أبو محمد الأنصاری شهد بدرا مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و شهد صفین مع علی علیه السّلام.

25-أبو لیلی الأنصاری شهد مع النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أحدا و ما بعدها و شهد مع علی علیه السّلام مشاهده کلها.

26-زبید بن عبد الخولانی شهد صفین مع معاویة و کانت معه الرایة فلما قتل عمار تحول إلی معسکر علی علیه السّلام لأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال لعمار:یا عمار.تقتلک الفئة الباغیة.

27-جبلة بن عمر الأنصاری-الساعدی-کان من فضلاء الصحابة و فقهائهم شهد صفین مع علی علیه السّلام.

و غیر هؤلاء کالمقداد بن الأسود هو من الصحابة الذین أمر اللّه رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بحبهم و هم:علی علیه السّلام و أبو ذر و المقداد و سلمان.

و منهم وهب بن عبد اللّه أبو جحیفة،و أبو عطیة الوداعی،و أبو الورد المازنی،و أبو قدامة بن الحارث،و عبد اللّه بن ذئاب بن الحارث،و یعلی بن عمیر بن حارثة النهدی،و یزید بن قیس الهمدانی،و عدی بن حاتم بن عبد اللّه الطائی،و الفاکه بن سعد بن جبیر الأنصاری،و قرضة بن کعب الأنصاری الخزرجی،و المغیرة بن نوفل بن الحارث،و مخنف بن سلم الغامدی،و محمد بن بدیل،و المهاجر بن الولید المخزومی،و یزید بن طعمة بن جاریة الأنصاری، و یعلی بن أمیة،و قد شهد الجمل مع عائشة،و شهد صفین مع علی علیه السّلام و بها قتل،و نهشل بن جری بن حمزة رئیس بنی حنظلة،و أبو الطفیل عامر بن واثلة، و البراء بن عازب،و ثعلبة بن عمرو الأنصاری،و هند بن أبی هالة،و عبد اللّه بن أبی طلحة و غیرهم (1).

قال عبد الرحمن بن أبزی الخزاعی:شهدنا مع علی علیه السّلام صفین فی ثلاثمائة ممن بایع الرضوان قتل منهم ثلاثة و ستون منهم عمار بن یاسر (2).

ص:407


1- (1) انظر أسد الغابة لابن الأثیر،و [1]الجرح و التعدیل لابن أبی حاتم،و الإصابة لابن حجر و طبقات ابن سعد،و الاستیعاب [2]بهامش الإصابة لابن عبد البر القرطبی و غیرها من کتب الرجال و التاریخ.
2- (2) الاستیعاب 2:478. [3]

و عبد الرحمن هذا هو ممن حضر صفین مع علی علیه السّلام و هو الذی قال فیه عمر بن الخطاب:إنه ممن رفعه اللّه بالقرآن.

و علی کل حال فإنه لم یتأخر عن مناصرة علی علیه السّلام إلا نفر قلیل منهم:

عبد اللّه بن عمر بن الخطاب و قد ندم بعد ذلک علی ترک القتال معه،و لما حضرته الوفاة قال:ما أجد فی نفسی من أمر الدنیا شیئا إلا أنی لم أقاتل الفئة البغیة مع علی بن أبی طالب (1).

أما معاویة فلم یحضر معه صفین إلا نفر ممن لفظهم الإسلام و لم یتمکن من قلوبهم الإیمان أمثال عمرو بن العاص.و أبی الغادیة قاتل عمار،و أبی الأعور السلمی الذی کان علی علیه السّلام یدعو علیه.

و علی أی حال:فإن الطعن علی الشیعة بدعوی تکفیرهم الصحابة إنما کان لغرض فی نفوس حکام ذلک العصر الذی کانوا یصبغون فیه التاریخ بالصبغة التی یمیلون إلیها من الطعن فی أعدائهم بما لیس فیهم،و کان الطعن علی الشیعة-و هم من أشد المعارضین لحکام الجور-هو الثمن الذی یقدمه المتزلفون للحکام لینالوا قربهم، و جزیل صلاتهم و قد(استحال التاریخ تاریخا رسمیا یکتبه الوزیر،و ینقحه الندیم،و یقره الملک،و بلغ من الضعف أن یصانع القابض علی القلم لکتب الحوادث بغمزة تصدر له من صاحب الشأن،و أما إذا کان هناک مغنم فالمؤرخ ینسی نفسه و یستهویه تهافته).

و إن هذا الموضوع و هو موضوع-الشیعة و الصحابة-لا زال بحاجة إلی مزید من البیان و کثیر من الإیضاح فهو النافذة التی یدخل منها أولئک المتداخلون فی صفوف المسلمین،و قد تعرضت لهذا الموضوع أکثر من مرة فلا حاجة إلی الإطالة فیه (2).

و حسبنا کتاب اللّه حکما فهو الحکم العدل و القول الفصل-فإنا نبرأ إلی اللّه من المنافقین الذین مَرَدُوا عَلَی النِّفاقِ (3)و ممن کان یؤذی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم وَ الَّذِینَ یُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِیمٌ (4)و ممن اِتَّخَذُوا أَیْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِیلِ اللّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما کانُوا

ص:408


1- (1) أسد الغابة 3:228 و [1]الاستیعاب 2:345. [2]
2- (2) انظر الجزء الثانی من هذا الکتاب ص 587-623.
3- (3) التوبة:101. [3]
4- (4) التوبة:61. [4]

یَعْمَلُونَ وَ لا یَذْکُرُونَ اللّهَ إِلاّ قَلِیلاً مُذَبْذَبِینَ بَیْنَ ذلِکَ لا إِلی هؤُلاءِ وَ لا إِلی هؤُلاءِ (1).

و ممن خالفوا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أحدثوا من بعده ما استوجبوا فیه عذاب اللّه و قد أشار إلیهم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بقوله:(أنا فرطکم علی الحوض و لأنازعن أقواما ثم لأغلبن علیهم فأقول:یا ربی أصحابی.فیقول:لا تدری ما أحدثوا بعدک) (2).

و عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بلفظ:و إنی ممسک بحجورکم ان تهافتوا فی النار کتهافت الفراش (3)أخرجه أحمد من طریق عبد اللّه بن مسعود.

و أخرج الترمذی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم(و یؤخذ بأصحابی ذات الیمین و ذات الشمال فأقول:یا ربی أصحابی فیقال:إنک لا تدری ما أحدثوا بعدک فإنهم لن یزالوا مرتدین علی أعقابهم منذ فارقتهم فأقول کما قال العبد الصالح:إن تعذبهم فإنهم عبادک) (4).

و أخرج مسلم مثله من طریق عائشة ج 4 ص 65 و من طریق أم سلمة ص 67 مثله،فنحن فی تمییز الصحابة لا نتعدی حدود القرآن و لا نقول بعد التهم أجمع،و لنا مع القرّاء فی هذا الموضوع لقاء آخر إن شاء اللّه.

3-یقول:و ینتظرون إماما یسمونه المهدی یخرج و یعلمهم الشریعة...الخ.

>أقول:< الشیخ الذهبی ینکر علی الشیعة قولهم فی خروج المهدی علیه السّلام و قد تقدم منه فی هذا الجزء من تفسیره ص 8 أن أول من قال بخروج المهدی کیسان مولی علی بن أبی طالب بأن المهدی یخرج فی آخر الزمان فیملأ الأرض أمنا و عدلا بعد أن ملئت خوفا و جورا.

و لا أرید أن أناقش أستاذ الحدیث و حامل الشهادة العالمیة فیه حول هذا الموضوع و لکن أود أن أوضح للقارئ الکریم زیف ما یدعیه و أن ذلک لم یکن من قول کیسان،و قد وردت عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أحادیث تشیر إلی خروج المهدی علیه السّلام

ص:409


1- (1) النساء:142-143. [1]
2- (2) مسند أحمد 5:231. [2]
3- (3) مسند أحمد 6:51. [3]
4- (4) صحیح الترمذی 2:68.

و منها قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«لو لم یبق من الدنیا إلا یوم لبعث اللّه رجلا من أهل بیتی یملؤها عدلا کما ملئت جورا»أخرجه الترمذی و أبو داود و ابن ماجة.

و الشیخ الذهبی ینقم علی الشیعة القول بخروج المهدی علیه السّلام لأنه ینکر ذلک و نحن نکل الجواب لعالم من کبار علماء السنة و هو:ابن حجر فقد أجاب فی فتاواه الحدیثیة عند ما سئل:عمن یدعون أن المهدی الموعود قد مات و هم بذلک ینکرون خروج المهدی المنتظر.

قال ابن حجر:فهؤلاء منکرون للمهدی الموعود به آخر الزمان و قد ورد فی حدیث عند أبی بکر الإسکافی أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:من کذب بالدجال فقد کفر،و من کذب بالمهدی فقد کفر،و هؤلاء مکذبون به صریحا،فیخشی علیهم الکفر،فعلی الإمام أید اللّه به الدین،و قصم بسیف عدله رقاب الطغاة...إلی أن یقول..

فنملی علیک من الأحادیث المصرحة بتکذیب هؤلاء و تضلیلهم و تفسیقهم ما فیه مقنع و کفایة لمن تدبره:

أخرج أبو نعیم أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:یخرج المهدی و علی رأسه عمامة و معه مناد ینادی:هذا المهدی خلیفة اللّه فاتبعوه.

و أخرج هو و الخطیب روایة أخری:یخرج المهدی و علی رأسه ملک ینادی:إن هذا المهدی فاتبعوه.و الطبرانی فی الأوسط أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أخذ بید علی علیه السّلام فقال:

یخرج من صلب هذا فتی یملأ الأرض قسطا و عدلا فإذا رأیتم ذلک فعلیکم بالفتی التمیمی،فإنه یقبل من قبل المشرق و هو صاحب رایة المهدی.

و أخرج أحمد،و نسیم بن داود،و الحاکم و أبو نعیم أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:إذا رأیتم الرایات السود قد أقبلت من خراسان فأتوها و لو حبوا علی الثلج،فإن فیها خلیفة اللّه المهدی.و هکذا یستمر ابن حجر فی ذکر الأحادیث الواردة فی ذکر المهدی کحدیث حذیفة و ما فیه وقعة الزوراء،و کحدیث نزول عیسی،و خروج المهدی إلی مکة و مبایعة الناس له،و ان المهدی من ولد فاطمة إلی کثیر من الأحادیث التی تتضمن خروج المهدی و نسبه،و صفته و علامات خروجه.

إلی أن یقول:و بقیت علامات أخر تعرف من کتابی:(المختصر فی علامات المهدی المنتظر)....الخ.

ص:410

هذا جواب ابن حجر و به نکتفی بالإجابة عن ذلک؛فإن الشیعة لم تختص وحدها بانتظار المهدی و لکن الإنکار علیهم جاء لأنهم یقولون بأنه علیه السّلام من ولد علی و فاطمة کما نطقت به أحادیث الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من الفریقین.

و أما قول:یعلمهم الشریعة فذلک صحیح إنما یعلمهم شریعة الإسلام و یطبق أحکام اللّه و یسیر بسیرة جده صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.فلا فرق و لا مذاهب خلافا لبعض الحنفیة فإنهم یدعون بأن المذهب الحنفی هو المذهب الوحید الذی یکون حکم الشریعة الإسلامیة علیه.

و قد تقدم من أسطورة تعلم الخضر علیه السّلام العلم من أبی حنیفة فی حیاته و بعد مماته و إنه کان یجلس الخضر علی قبر أبی حنیفة و یتعلم منه العلم و یکون الحکم به فی آخر الزمان (1).

و قال القاضی زاده شریف:و قیل إن الخضر علیه السّلام تعلم الأحکام الشرعیة منه و إن الإمام المهدی بعد خروجه یعمل بطریقته،و إن عیسی یحکم بمذهبه (2).

و قال أیضا:و اعلم أن المذهب لا یقلده الصحابة و التابعون إلا أبو حنیفة،فإن عیسی حین ینزل من السماء یحکم بمذهبه (3).

>و بعد ذلک:< یستمر الأستاذ فی بحثه حول موقف الشیعة من التفسیر ص 12 إلی ص 22 و هو یحاول أن یذکر الفرق المنسوبة إلی التشیع،کفرقة السبئیة.

تلک الفرقة کونتها عوامل سیاسیة للحط من اتباع أهل البیت،کالسبائیة و البیانیة و المغیریة و غیرها،و یذکر تأویلهم للقرآن إلی أن یأتی إلی آخر الفصل فیقول:إذا فالأجدر أن نمسک عن موقف هذه الفرق البائدة من تفسیر القرآن ما دامت قد بادت، و لم یبق لها أثر،و ما دمنا لم نقف علی شیء فی التفسیر أکثر من هذه النبذ المتفرقة،

ص:411


1- (1) انظر الجزء الأول من هذا الکتاب ط 3 ص 312.
2- (2) انظر مقدمة جامع الرموز للقاضی زاده شریف مخدوم 1:3.
3- (3) جامع الرموز 1:11.

التی وجدناها للبعض منهم و جمعناها من بطون الکتب المختلفة.

و الذی یستحق عنایتنا و بحثنا بعد ذلک هو تلک الفرق الثلاث التی لا تزال موجودة إلی الیوم محتفظة بتعالیمها و آرائها،و سنبدأ أولا بالإمامیة الاثنی عشریة،ثم بالإمامیة الإسماعیلیة ثم بالزیدیة.

>و نحن نقول:< إن الأستاذ قد استمر ببحثه الطویل و غرب و شرق و جاء بأشیاء مخالفة للحقیقة، و هو یحاول أن یعطی عن الغلاة صورة و یجعلها فی إطار التشیع.

و إن قوله فی الأخیر:إن الذی یستحق عنایتنا هو تلک الفرق الثلاث التی لا تزال موجودة.و منها الإمامیة الاثنا عشریة.

فهل یا تری أن المؤلف أعطی الإمامیة الاثنی عشریة ما یستحقه البحث الحر؟ و هل تجرد الأستاذ من العاطفة و جعل بحثه للحق و التاریخ؟ و هل بحث عن کل فرقة من هذه الفرق الثلاث:الاثنی عشریة،و الإسماعیلیة و الزیدیة،کل علی حدة؟ و هل ترک آراء الغلاة جانبا و إنها قد بادت مع فرقهم؟ هذه أسئلة یستطیع القارئ النبیه أن یحصل علی الجواب عنها فیما جاء من بحثه بعد هذا الفصل بعنوان:موقف الإمامیة الاثنی عشریة من تفسیر القرآن الکریم.

و تحت هذا العنوان یتحدث من ص 23 إلی 41 و هو بهذا البحث الطویل قد خرج عما رسمه لنفسه من البحث عن الإمامیة الاثنی عشریة فقد عاد إلی آراء تلک الفرق البائدة من الغلاة،فنسب آراءهم للاثنی عشریة کما فی ص 34 إذ یقول:

و أعجب من هذا أنهم جعلوا لفظ الجلالة و الإله و الرب مرادا به الإمام،و کذا الضمائر الراجعة إلیه سبحانه...الخ.

و المؤلف-عافاه اللّه-یکتب و لا یدری ما یکتب،إنما هو کحاطب لیل إنه یرید أن یحمل الشیعة کل تبعة،و یرید أن یبرزهم بأقبح صورة،خضوعا لنزعته أو طعما فی الشهرة.

ص:412

أنا لا أرید أن أقف معه فالوقت أثمن،و لا أود أن أناقشه هنا،بل أترک تقدیر هذا الخبط للقارئ النبیه،و کذلک أترک بیان خلطه بین الإسماعیلیة و الاثنی عشریة فی هذا الموضوع بالأخص.

و لنقف ملیا عند قوله فی ص 26:(و أما السنة فهم-أی الشیعة-غیر أمناء،و لا ملتزمین ما صح منها،و سنتعرض لها فیما بعد أیضا).

هذا ما یقوله.و لا أدری و لا المؤلف یدری،لما ذا أطلق هذا القول:أ کان عن خبرة و درایة،و تتبع و تعمق فی البحث؟أم أنه قلد غیره؟ أو هی فکرة یحاول أن یصل بها إلی هدف معین؟!! إن المرء لتأخذه الحیرة فی أمر من یطلق القول بدون حجة،و هو یدعی أنه ممن له إلمام و معرفة!! لنسأل الأستاذ:لما ذا لم یکن الشیعة أمناء علی السنة؟و لما ذا لم یلتزموا بما صح منها؟!! و لعله أراد أن یکون جوابا عن ذلک ما ذکره فی ص 27 تحت عنوان:(موقفهم من الأحادیث النبویة)و هو قوله:

و لقد رأی الإمامیة الاثنا عشریة أنفسهم أمام کثرة الأحادیث المرویة عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و أمام کثرة من الروایات المأثورة عن الصحابة رضوان اللّه علیهم (أجمعین)و فی تلک الآثار ما یخالف تعالیمهم مخالفة صریحة لذا کان بدیهیا أن یتخلص القوم من کل هذه الروایات،إما بطریق ردها و إما أن یکون قولا لصحابی، و إما أن یکون قولا لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عن طریق صحابی،و هم یجرحون معظم الصحابة؛بل و یکفرونهم لمبایعتهم أبا بکر..

ثم یمضی أستاذ الحدیث فی بیانه و یتعرض لمسألة المتعة و المسح علی الخفین ورد الشیعة له،لأن روایة المغیرة بن شعبة رأس المنافقین-علی حد تعبیره-إلی أن یقول:

و لیت الأمر وقف بهم عند هذا الحد-حد الثقة بأشیاعهم و الاتهام لمن عداهم، بل وجدنا رؤساء من الشیعة کجابر بن یزید الجعفی و غیره،قد استغلوا أفکار

ص:413

الجمهور الساذجة،و قلوبهم الطیبة الطاهرة،و حبهم لآل بیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم، فراحوا یضعون الأحادیث علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و علی آل بیته و یضمنونها ما یرضی میولهم المذهبیة،و أغراضهم السیئة الدنیة.و لم یفتهم أن یحکموا أسانید هذه الأحادیث الموضوعة حتی اغتر بها العامة لسلامة نوایاهم،و سکت عنها الشیعة لأنها وجدوها مؤیدة لدعواهم...

>أقول:< لقد طغی الحقد علی قلب المؤلف حتی ملکه،فأصبح قلبه وراء لسانه لا لسانه وراء قلبه.و لهذا وجد الشذوذ مرتعا خصبا فی لسانه و قلمه و لعله ما کان یؤمن بما یقول،و لکنه یقصد أن یقال إنه جاء بشیء جدید عن خصمه.

إن ما أورده فی هذا الفصل و الذی قبله و ما بعده-بعید کل البعد عن روح الحق و أمانة التاریخ و منهج العلم.

و لعله کما قلت إنه لا یؤمن بصحة ذلک و لا یعتقده،و لکن هناک دواعی أدت إلی ذکره،أمور استوجبت أن ینهج هذا النهج فی دراسته التی کشف عن نفسه بأنه لم یکن مؤرخا یتحری الصدق،أو کاتبا یمسک قلمه عن الخطأ،بل هو متحامل حاقد، و کاتب لا یتأمل فیما یکتب،و فی ذلک تساهل معه کبیر و إلا فهو جاهل یقحم نفسه فی مجال یعجز عن الخروج منه.

إنه ملأ هذه الصحائف و سودها بمداد الافتراء،و نسب الشیعة إلی أمورهم أبعد ما یکونون عنها،کالقول بتحریف القرآن و نقصانه،مع أن إجماعهم خلاف ذلک.

و المؤلف یتبع نهج المستشرقین فی الاعتماد علی الشاذ النادر أو المحرف فیکون اعتمادهم علی ذلک من دون التفات إلی واقع الأمر.

و لا أرید أن أرجع إلی ما ذکره فی أول هذا الفصل من مخالفات و بعد عن الواقع،و أکتفی هنا فی التنبیه علی النقاط التالیة:

1-یقول:لقد رأی الإمامیة الاثنا عشریة أنفسهم أمام کثرة من الأحادیث المرویة عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أمام کثرة من الروایات المأثورة عن الصحابة،و فی تلک الأحادیث ما یخالف تعالیمهم مخالفة صریحة...

ص:414

هذا ما یقوله الأستاذ حول موقف الإمامیة من الأحادیث النبویة و آثار الصحابة.

و لعل القارئ یظن أن أستاذ علم الحدیث الذهبی قد قال هذا عن خبرة و درایة، و تتبع فی الدراسة حتی أصدر حکمه علی الشیعة بأنهم یرون تلک الأحادیث و الآثار المخالفة لتعالیمهم مخالفة صریحة.

و لا أدری ما ذا یقصد فی ذلک؟أ کان یرید بأن الشیعة یردون أحادیث جمیع الصحابة،أم یردون البعض دون البعض الآخر؟فإن کان یرید الأول فهو أمر یکذبه الوجدان.

و إن کان یرید الثانی و هو أنهم یأخذون عن بعض و یترکون آخرین فهذا شیء لا تنکره الشیعة،لأنهم لا یقولون بعدالة جمیع الصحابة کما هو مقرر عندهم،و قد تعرضنا لذلک و قلنا:إن أصالة العدالة فی حق الصحابة لا أصل لها و إثبات ذلک یحتاج إلی مشقة،و النتیجة لا تثبت أی ثمرة هناک.

أما السنة فقد أثبتوا العدالة لکل صحابی-و إن ارتکب ما یخالفها-بحجة أنه مجتهد و الاجتهاد فی مقابلة النص لا یصح-و استدلوا بأدلة ذکرت فی محلها و مع ذلک فقد اختلفوا فذهبت طائفة إلی عدالة الصحابة أجمع بدون استثناء و آخرون ذهبوا إلی عدالة من لم یلابس الفتنة(أی من حین مقتل عثمان).

و ذهبت المعتزلة إلی فسق من قاتل علیا منهم.و حکی ابن الصلاح الإجماع علی تعدیل من لم یلابس الفتنة.

و حکی الآمدی و ابن الحاجب قولا:إنهم کغیرهم فی لزوم البحث عن عدالتهم.إلی غیر ذلک من الأقوال (1).

أما الشیعة-کما تقدم-فإنهم لا یذهبون لعدالة الجمیع فلا یروون إلا عن ثقة، و لهم شروط فی قبول الروایة مقررة فی محلها،إذا الحدیث هو دستور المسلمین-بعد القرآن-و فیه منهاج حیاتهم الدینیة و الاجتماعیة لذلک اجتهد المسلمون فی دراسته من حیث السند و الدلالة.

و الشیعة یتشددون أکثر من غیرهم فی قبول الروایة،و تمحیصها بکل دقة

ص:415


1- (1) انظر شرح ألفیة العراقی 4:35 و کفایة الخطیب البغدادی 81-83.

و اعتدال،فلا یأخذون إلا عن الصادق الثقة،و لم یقفوا أمام کتب الحدیث وقفة تهیب عن مناقشتها کما یقف إخوانهم السنة أمام صحیح البخاری و من بعده صحیح مسلم وقفة تهیب،و ینظرون إلیها نظرة إکبار و تقدیس،و أن جمیع ما فیها صحیح...إلی آخر ما هنالک من اعتقاد راسخ فی کتب الصحاح و بالأخص البخاری.

و لکن الشیعة یتوقفون عن قبول الروایة ما لم تکن صحیحة من حیث السند و الدلالة،و لا یشترط أن تکون عن شیعی-کما یقال عنهم-أو إلا أن تکون فی الکتب الأربعة من کتب الحدیث،بل المدار عندهم هو الصدق و الوثاقة و العدالة؛و قد جعلوا الکذب علی اللّه و علی رسوله من مفطرات الصیام.

و إن اختصاصهم بالأخذ عن أهل بیت الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم هو الذی جعلهم عرضة لهجمات المغرضین،و مؤاخذة من لا یعرف من الحق موضع قدمه.

2-یقول المؤلف:فمثلا نجدهم یردون الأحادیث و الآثار التی تثبت فی تحریم نکاح المتعة و نسخ حله،کما نجدهم یردون أحادیث المسح علی الخفین و یقولون إنها من روایة المغیرة بن شعبة رأس المنافقین...الخ.

أورد الأستاذ هذه الأمثلة کدلیل لما یقوله فی رد الشیعة للأحادیث و أنهم غیر أمناء علیها،و لعل المؤلف لم یجد غیر ذلک،فإن کانت هذه مؤاخذته فما أقل تتبع أستاذ الحدیث؟؟لأن الشیعة لم ینفردوا برد ما ورد فی تحریم المتعة،بل قد ردها جماعة من الصحابة و التابعین و ثبتوا علی تحلیلها،منهم:

جابر بن عبد اللّه،و أسماء بنت أبی بکر،و ابن مسعود،و ابن عباس و معاویة، و عمرو بن حریث،و أبو سعید و سلمة ابنا أمیة بن خلف،و رواه جابر بن عبد اللّه عن جمیع الصحابة مدة حیاة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و مدة أبی بکر إلی قرب آخر خلافة عمر بن الخطاب (1).

و أما من التابعین فمنهم ابن جریح فقیه مکة و لهذا قال الأوزاعی:یترک من قول

ص:416


1- (1) انظر المحلی لابن حزم 9:519.

أهل الحجاز خمس:متعة النساء (1)و منهم ابن جریح (2)و طاوو و عطاء و غیرهم.

و روی عن عمر بن الخطاب أنه إنما أنکرها إذا لم یشهد علیها عدلان (3).

و قال ابن بطال:روی أهل مکة و الیمن عن ابن عباس إباحة المتعة و روی عنه الرجوع بأسانید ضعیفة،و إجازة المتعة عنه أصح و هو مذهب الشیعة (4).

و أخرج مسلم فی صحیحه عن نظرة قال:کنت عند جابر بن عبد اللّه فأتاه آت فقال إن ابن عباس و ابن الزبیر اختلفا فی المتعتین.

فقال جابر:فعلناهما مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما.

و نهی عمر بن الخطاب عن المتعتین مشهور و هو قوله:(متعتان کانتا علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنهی عنهما و أعاقب علیهما).

و أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر من طریق عطاء عن ابن عباس قال:یرحم اللّه عمر ما کانت المتعة إلا رحمة من اللّه رحم بها أمة محمد،و لو لا نهیه عنهما ما احتاج إلی الزنا إلا شقی (5).

و قال علی علیه السّلام:لو لا أن عمر نهی عن المتعة ما زنی إلا شقی (6).

و أسباب نهی عمر عن المتعة مشهورة کما رواه البیهقی فی السنن و غیره من المحدثین و المفسرین فلا حاجة لنقل ذلک (7)کما لا حاجة إلی المضی فی بسط القول حول هذا الموضوع إذ المسألة قد حررها العلماء،و بسطوا القول فیها و کثر حولها النقاش و الجدل و لا خلاف فی مشروعیتها علی عهد الرسول،و إنما الخلاف فی نسخها فالشیعة یردون أخبار النسخ تمسکا بالکتاب و سنة الرسول و وافقهم جماعة من الصحابة و التابعین و علماء الأمة.

ص:417


1- (1) نیل الأوطار 6:135.
2- (2) نیل الأوطار 6:136.
3- (3) المحلی 9:520.
4- (4) العدة لمحمد بن إسماعیل الصنعانی 4:195.
5- (5) الدر المنثور 2:41. [1]
6- (6) الدر المنثور للسیوطی 2:43. [2]
7- (7) بحثنا تشریع المتعة فی الجزء الأول من الکتاب و فی مواضع أخری کثیرة منها المزید.

و أما المسح علی الخفین فقد تعرضنا له فی الجزء الخامس ط 3،ص 200- 205 و ملخص القول فیه:

إن هذه المسألة قد وقع فیها الخلاف بین المسلمین علی أقوال:

1-الجواز مطلقا.

2-الجواز فی السفر دون الحضر.

3-عدم الجواز بقول مطلق و هو ما تذهب إلیه الشیعة لا لأن الروایة عن المغیرة بن شعبة رأس المنافقین کما یقول الأستاذ و إن کان هذا هو وحده کاف فی الرد،و لکن منع ذلک لعدم ثبوته فی الدین،و أن القرآن علی خلافه هو معارض لآیة الوضوء و لم تکن منسوخة و لا آیة واحدة منها.

و قد أنکر جماعة من الصحابة المسح علی الخفین و فی طلیعتهم الإمام علی بن أبی طالب علیه السّلام و کان یقول:سبق الکتاب المسح علی الخفین.

و لما سئلت عائشة عن المسح علی الخفین،قالت:سلوا علیا فإنه کان أکثر سفرا مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و ورد عن ابن عباس أنه کان ینهی عن المسح علی الخفین و کان یقول:لأن أمسح علی جلد حمار أحب إلی من أن أمسح علی الخفین.

و ورد النهی أیضا عن أبی هریرة و عائشة و کانت تقول:لأن تقطع قدمای أحب إلی من أن أمسح علی الخفین.

و فی لفظ لأن أقطع رجلی أحب إلی من أن أمسح علیهما (1).

و سئل ابن عباس هل مسح رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی الخفین؟فقال و اللّه ما مسح رسول اللّه علی الخفین بعد نزول المائدة و لأن أمسح علی ظهر عیر فی الفلاة أحب إلی من أن أمسح علی الخفین (2)و جاء فی العتیبیة عن مالک بن أنس ما یدل علی المنع.و قال الشیخ أبو بکر فی شرح المختصر الکبیر:إنه روی عن مالک:لا یمسح المسافر و لا المقیم.

ص:418


1- (1) نیل الأوطار 1:177 و تفسیر الرازی 3:371. [1]
2- (2) بدائع الصنائع 1:7.

و قد سبق من الأستاذ فی ص 27 ج 2 أنه نسب الشیعة إلی الشذوذ و التعصب فی المسائل الفقهیة إذ یقول:

و فی الفقه لهم مخالفات یشذون بها،فمثلا نراهم یقولون:إن فرض الرجلین هو المسح دون الغسل؛و لا یجوزون المسح علی الخفین،و جوزوا نکاح المتعة، و جوزوا أن تورث الأنبیاء....إلی أن یقول:

لهذا کان طبیعیا أن یقف الإمامیة الاثنا عشریة من الآیات التی تتعلق بالفقه و أصوله موقفا فیه تعصب و تعسف،حتی یستطیعوا أن یخضعوا هذه النصوص و یجعلوها أدلة لآرائهم و مذهبهم...إلی أخره.

و هکذا عبر الأستاذ و نسب القول بمسح الرجلین،و عدم المسح علی الخفین و جواز نکاح المتعة إلی الشذوذ،و کأن ذلک لم یکن له دلیل من الکتاب و لا قائل به من الأصحاب،و قد أوضحنا فی الجزء الخامس ط 3،ص 192-200 بعض ما یتعلق بمسألة فرض الأرجل فی الوضوء و اختلاف العلماء فیه.

و الذی یهمنا ذکره هنا هو قوله:لهذا کان طبیعیا أن یقف الإمامیة الاثنا عشریة...الخ.و لا أدری ما هذا التعسف و التعصب؟و ما معنی إخضاع النصوص لجعلها أدلة للمذهب؟ و الشیخ مصرّ علی مخالفة الواقع و تستبد به روح التحکم بالنصوص و یستسهل طرح الأدلة و تحکیم الرأی،و هی مذاهب یلجأ إلیها غالبا عند ما تأبی النصوص و الأدلة التحریف لأنها ظاهرة شأنها شأن اللجوء إلی التفسیر بغیر الواقع کما فسر غیرهم المأقین بالخفین،عند الاستدلال علی جواز المسح علیهما،فیما أخرجه أبو داود:

من أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یمسح المأقین-و هما مؤخر العینین (1)-قالوا إنهما الخفّان،و أین المأقین من الخفین؟؟ و قد حکم بعضهم بأفضلیة المسح علی الخفین لا للدلیل،و إنما کان ذلک

ص:419


1- (1) انظر تیسیر الوصول 3:76 و انظر الحدیث فی سنن أبی داود 1:34 ط 1.

الحکم لأجل طعن الشیعة فی أدلة المسح،و قال:و إحیاء ما طعن فیه المخالفون من السنن أفضل من ترکه (1).

و قد طغت موجة التعصب علی کثیر من الفقهاء فترکوا أشیاء قد ورد الدلیل من الشارع فی استحبابها أو وجوبها،و لکنهم رجحوا الترک لأن العمل بها یدعو إلی التشبه بالشیعة،و التشبه بالشیعة ینبغی تجنبه،کما أفتی بذلک الحافظ العراقی (2).

و قد أشار ابن تیمیة لذلک إذ یقول فی منهاجه:-عند بیان التشبه بالشیعة-:

و من هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلی ترک بعض المستحبات،إذ صارت شعارا لهم(أی للشیعة)فإنه و إن لم یکن الترک واجبا لذلک،لکن فی إظهار ذلک مشابهة لهم.

فلا یتمیز السنی من الرافضی،و مصلحة التمییز عنهم لأجل هجرانهم و مخالفتهم،أعظم من مصلحة المستحب.

و هنا یجب الالتفات إلی هذا الأمر،و ما حدث من ورائه من ترک للأعمال المستحبة و لعله أدی إلی ترک بعض الواجبات استنادا إلی هذه الحجة و هی مراعاة المصلحة،و بالطبع انها مهمة،لأن من مصلحة الإنسان المحافظة علی نفسه،و ما یصل بذلک من مقومات حیاته،من استقرار و مال و تقرب للولاة الذین نظروا إلی الشیعة نظرة خصم یجب القضاء علیه.

نعم إن مصلحة التمییز عن الشیعة أهم من مصلحة المستحبات الشرعیة عندهم و لعله من هذا الباب ینفتح ترک الأخبار الصحیحة الواردة عن صاحب الرسالة لأن فی نقلها و إثباتها یثبت التشیع و المصلحة تدعو إلی التمییز عنهم فیلزم ترکها،کحدیث الغدیر و حدیث أنا مدینة العلم و علیّ بابها و غیر ذلک من الأحادیث الصحاح،و من المصلحة تأویل بعض الآیات و وضع الأحادیث بما یدعو إلی إظهار التجنب عن تهمة التشیع.

ص:420


1- (1) نیل الأوطار 1:176.
2- (2) شرح المواهب اللدنیة للزرقانی.

و من المصلحة قالوا:بمنع المصلی عن اختصاص جبهته بما یسجد علیه من أرض و غیرها،لأن ذلک الاختصاص من شعار الشیعة (1).

و طبعا إن اتخاذ شعار الشیعة فیه خطر،فمن المصلحة ترکه،لأن الشیعة قد التزموا بالسجود علی الأرض أو ما أنبتته الأرض لقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(جعلت لی الأرض مسجدا و طهورا).

و کان أصحاب محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یسجدون علی الأرض فأثر ذلک فی جباههم،و قد مدحهم اللّه تعالی إذ یقول: سِیماهُمْ فِی وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ و کان یقال لهم ذوو الثفنات،و کان علی بن الحسین علیه السّلام یعرف بذی الثفنات لکثرة سجوده.

و قد أدت الحالة نظرا لرعایة مصلحة التمییز بین السنة و الشیعة-کما یقولون- بأن یترک السجود علی الأرض و أصبح ذلک-علی ممر الزمن-من المنکرات لأن الشیعة یلتزمون بذلک،و یحملون معهم حجرا طاهرا-کما کان بعض العلماء من التابعین یحمل معه فی السفر لبنة یسجد علیها-إذ ربما لا یتسنی لهم الحصول علی أرض طاهرة فی السفر و غیره فالتزموا بذلک.

و حیث کان الشیعة یفضلون السجود علی تربة أرض کربلا المقدسة و هی التربة الحسینیة حملهم بعض من یحمل أسوأ البغض للشیعة علی أنهم یسجدون للصنم- معبرین عن تلک التربة الطاهرة التی یسجدون علیها للّه جل و علا بأنها صنم،متناسین أن الشیعة فی سعة،فإذا لم توجد التربة التی یطمئن لطهارتها و التی اختارها المسلم الشیعی موضعا لجبهته،یسجد الشیعة علی الأرض أو ما أنبتت.

و قد عبر بعض من أکل الحقد قلبه عنها بلفظ:إنها وثن إذ یقول:لا تجد شیعیا یصلی فی بقعة من بقاع الأرض حتی المسجد الحرام بمکة،و مسجد الرسول إلا و یضع وثنا من شقفة طین کربلا تحت جبهته تقدیسا لها،و اعتقادا أنها أفضل بقاع الأرض لأن دم الحسین اختلط بها...الخ (2).

ص:421


1- (1) انظر غایة المنتهی فی الجمع بین الإقناع و المنتهی 1:135 فی الفقه الحنبلی.
2- (2) انظر خاتمة کتاب السنة و الشیعة تألیف السید رشید رضا بقلم أحمد حامد الفقی و هذا الرجل قد تحامل تحاملا أخرجه عن اتزانه و لم یحسب للمؤاخذة أی حساب و نحن نعرض عما کتبه فی الخاتمة تهاونا بشأنه و ترفعا عن نقده.

و غیر ذلک من الألفاظ التی لا ترتبط مع الواقع بصلة،و لم یکن مبعثها إلا الجهل و سوء الظن بهذه الطائفة،و کیف یحسنون بها الظن و یقول بعضهم:إنه لا یحل و اللّه حسن الظن بمن یترفض (1).و الرفض و التشیع عندهم شیء واحد.

و علی کل حال فإن الشیعة قالوا باستحباب السجود علی تربة أرض کربلا اقتداء بأئمتهم علیهم السّلام و لا یضرهم ما یرمیهم به الجاهلون.

3-یقول الأستاذ:و لیت الأمر وقف بهم عند هذا الحد-حد الثقة بأشیاعهم و الاتهام لمن عداهم-بل وجدنا رؤساء من الشیعة کجابر بن یزید الجعفی و غیره قد استغلوا أفکار الجمهور الساذجة،و قلوبهم الطیبة الطاهرة،و حبهم لآل بیت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،فراحوا یضعون الأحادیث علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و علی آل بیته..

الخ.

أقول:

بعد أن تکلم الأستاذ حول الحدیث و الفقه بما یخص الشیعة فی قضیة ردهم لروایات بعض الصحابة،و ضربه المثل فی مسألة المتعة و المسح علی الخفین و قد رأینا مدی اطلاعه و اتساع معلوماته.

راح یتکلم عما وجده عند الشیعة من وضع الحدیث و یقول:وجدنا رؤساء من الشیعة کجابر بن یزید الجعفی و غیره...الخ.

و لم یذکر هنا إلا جابر بن یزید الجعفی المتوفی سنة 127 و هو أحد حفاظ الحدیث،و قد روی عنه شعبة،و سفیان الثوری،و سفیان بن عیینة،و زهیر بن معاویة،و إسرائیل،و شریک،و الحسن بن حی،و معمر،و أبو عوانة و غیرهم.

و قد خرج حدیثه الترمذی،و أبو داود،و ابن ماجة.

و قال عبد الرحمن بن المهدی:سمعت سفیان الثوری یقول:کان جابر ورعا فی الحدیث ما رأیت أورع فی الحدیث من جابر.

ص:422


1- (1) طبقات الحنابلة 1:273. [1]

و قال إسماعیل بن علیة:سمعت شعبة یقول:جابر الجعفی صدوق فی الحدیث (1).

و قال وکیع:مهما شککتم فی شیء فلا تشکوا فی أن جابرا ثقة (2).

و قال ابن أبی الحکم سمعت الشافعی یقول:قال سفیان الثوری لشعبة:لئن تکلمت فی جابر لأتکلمن فیک،و کان جابر یحفظ مائة ألف حدیث (3).

و قال یحیی بن أبی کثیر:کنا عند زهیر بن معاویة فذکروا جابر الجعفی فقال زهیر:کان جابر إذا قال سمعت أو سألت فهو من أصدق الناس (4).

و بهذا وصف العلماء جابر الجعفی و هکذا قال عنه معاصروه و تلامذته و لم یقل أحد إنه کان یضع الحدیث.

و سئل أحمد بن حنبل عن جابر الجعفی،فقال:ترکه عبد الرحمن.و قصاری ما ورد فی حقه من خصومه بأنه ضعیف أولین الحدیث،و قال أبو حاتم:یکتب حدیثه علی الاعتبار.

و لیس لمن رماه بالکذب حجة یدعم بها ما یدعیه إلا أنه یقول بالرجعة أو أنه شیعی،لأنه یعلن بالروایة عن أهل البیت و یقول-عند ما یحدث عن الإمام الباقر علیه السّلام-:حدثنی وصی الأوصیاء.

و هذا أمر یعظم تحمله فی عصر هبت فیه زوبعة الخلافات،و اشتد غضب السلطة علی اتباع أهل البیت و أنصارهم،و کان جابر فی طلیعتهم،و بطبیعة الحال أن یبتعد الناس عمن یتهم فی معارضة الدولة،و یرمی بکل کریهة تقع موقع الرضا من ولاة الأمر،و لهذا کانت کلمات من اتهم جابر بالکذب مشوشة،و أدلتهم واهیة.

أما الأستاذ الذهبی-علی ما یظهر-فإنه استند فی هذا القول إلی حجة هو معجب بها و جعلها دلیلا قاطعا علی ما یقوله فی نسبة وضع الحدیث إلی الشیعة،

ص:423


1- (1) انظر الجرح و التعدیل لابن أبی حاتم القسم الأول من المجلد الأول ص 497 و تذهیب الکمال للخزرجی ص 51.
2- (2) تهذیب التهذیب 2:48. [1]
3- (3) نفس المصدر. [2]
4- (4) الجرح و التعدیل لابن أبی حاتم.

و ذلک ما عقب کلامه و ختم هذا الفصل بذکره و هو ما نقلناه آنفا و نحب أن نکرره هنا.

یقول الأستاذ:

و یعجبنی هنا ما ذکره أبو المظفر الأسفرایینی فی کتابه التبصیر فی الدین هو:أن الروافض(لما رأوا الجاحظ یتوسع فی التصانیف،و یصنف لکل فریق قالت له الروافض:صنف لنا کتابا.فقال لهم الجاحظ:لست أدری لکم شبهة حتی أرتبها و أتصرف فیها.فقالوا له:إذا دلنا علی شیء نتمسک به،فقال:لا أری لکم وجها إلا أنکم إذا أردتم أن تقولوا شیئا تزعمونه تقولون إنه قول جعفر بن محمد الصادق لا أعرف لکم سببا تستندون إلیه غیر هذا الکلام...فتمسکوا بحمقهم و غباوتهم بهذه السوءة التی دلهم علیها،فکلما أرادوا أن یختلقوا بدعة،أو یخترعوا کذبة.نسبوها إلی ذلک السید الصادق،و هو عنها منزه،و من مقالتهم فی الدارین بریء).

هذا ما ذکره الأستاذ و أعجب به و نحن لا نعجب من مؤثرات العاطفة و بواعث الحقد.

لقد أعجب الأستاذ بهذه الدعابة و هی من سخریة الجاحظ-إن صح ذلک-التی یضل بها البسطاء،و تشکیک الضعفاء،یضعها فی کتبه للمضاحیک و العبث،یرید بذلک استمالة الأحداث و شراب النبیذ (1).

و من العجیب أن تکون هذه الدعابات دلیلا فی الأبحاث العلمیة،و حجة یستدل بها علی المقصود،و أعجب من ذلک أن مثل هذا یصدر ممن یفترض فیه أن یکون أستاذا متحررا و مثقفا متنورا،و هو الأستاذ الذهبی المدرس بالأزهر،و الأزهر هو الجامعة الإسلامیة الکبری؛التی أسست علی التقوی،و خدمت العلماء و نشرت الثقافة،و قامت بالإصلاح.

إننا لنفخر بها و نعتز و هی مسئولة عن تصفیة الخلافات بین المسلمین،و إیضاح الحق دون تعصب و تحیز،لیتقارب المسلمون،و تتوحد کلمتهم لیکونوا قوة متماسکة،تتسلح بالإیمان باللّه،و تهتدی بهدی الرسول،لرد هجمات المعتدین،

ص:424


1- (1) انظر مختلف الحدیث لابن قتیبة 71 تجد وصف الجاحظ بذلک.

و صد تیارات الملحدین،فی هذا العصر الذی انتشرت فیه الدعوة لغیر اللّه تعالی و تتضاعف فیه الحملات المعادیة للإسلام.

من المؤسف حقا أن الشیخ المدرس فی الأزهر الشریف یحاول بهذه الدعابة المضحکة أن یبرز لقرائه أو یغذی عقول تلامذته بأن جمیع ما عند الشیعة من أخبار و تراث علمی إنما هو موضوع حسب ما أقره الأسفرایینی بأسطورته،و ذکره فی خرافته،و أعجب به الأستاذ فی دراسته!! غریب و أیم الحق فهل کانت الشیعة أمة یسودها الجهل أو یضفی علیها النسیان ذیله،و لیس لهم فی الحرکة الفکریة الإسلامیة أی أثر؟!! أتجاهل الأستاذ أم جهل مدرسة الشیعة التی غذّت الفکر الإسلامی بعلومها، و خدمت الأمة بآثارها؟ أ لیس من رجال الشیعة من کانوا حملة حدیث،و أئمة فقه،و إلیهم تشد الرحال من البلدان الإسلامیة لأخذ العلوم منهم،و الروایة عنهم،فی عصر الجاحظ و قبله و بعده.

و کان منهم عدد غیر قلیل من کبار شیوخ البخاری صاحب الصحیح و المعبر عنه (بأمیر المؤمنین فی الحدیث)فقد أخذ عن الشیعة،و حضر عند جماعة منهم،و روی فی صحیحه عنهم أمثال:

خالد بن مخلد القطوانی المتوفی سنة 213.

إسماعیل بن أبان الوراق المتوفی سنة 216.

جریر بن عبد الحمید بن قرط المتوفی سنة 188.

عبد اللّه بن موسی المتوفی سنة 213.

مالک بن إسماعیل النهدی المتوفی سنة 217.

سعید بن کثیر بن عفیر المتوفی سنة 226.

سعید بن محمد بن سعد الجرمی المتوفی سنة 233.

الفضل بن دکین المتوفی سنة 218.

و غیر هؤلاء کما ستقف علی تراجمهم فی هذا الجزء إن شاء اللّه.

ص:425

و کذلک الإمام أحمد بن حنبل حضر عند جماعة منهم و أخذ العلم عنهم، منهم:

سعید بن خیثم بن رشد بن هلال أبو معمر الکوفی المتوفی سنة 180.

عبد اللّه بن داود أبو عبد الرحمن الهمدانی المتوفی سنة 212.

عبد الرزاق بن همام الصنعانی المتوفی سنة 211.

محمد بن فضیل بن غزوان المتوفی سنة 195.

عائذ بن حبیب الملاح الکوفی المتوفی سنة 190.

علی بن غراب أبو الحسن الفزاری الکوفی المتوفی سنة 184.

تلید بن سلیمان المحاربی أبو سلیمان الکوفی المتوفی سنة 205.

علی بن هشام بن البرید العابدی أبو الحسن الکوفی المتوفی سنة 180.

علی بن الجعد أبو الحسن الهاشمی المتوفی سنة 230.

الفضل بن دکین المعروف بأبی نعیم المتوفی سنة 219.

هشیم بن بشیر الواسطی المتوفی سنة 183.

و غیر هؤلاء من رجال الشیعة الذین کانوا قبل أن یولد الجاحظ،و بعضهم کان معاصرا له فهل یصح یا أستاذ الحدیث أن یکون مثل هؤلاء الذین هم أئمة الفقه و علم الحدیث،أن یقال لیس لدیهم شیء فالتجئوا إلی الجاحظ لیضع لهم شیئا فلم یجد إلا أنه دلهم علی الکذب؟!! ثم نعود و نقول إن الإمام الشافعی قد أخذ العلم عن الشیعة و کان فی طلیعة شیوخه إبراهیم بن محمد بن أبی یحیی الأسلمی المدنی المتوفی سنة 184 و هو من تلامذة الإمام الباقر علیه السّلام و ولده الإمام الصادق علیه السّلام،و له کتاب مبوب فی الحلال و الحرام فی فقه الشیعة،و قد أکثر الشافعی من النقل عنه و روی عنه أیضا ابن جریح،و الحسن بن عرفة و هو من شیوخهما و ستقف قریبا إن شاء اللّه علی ترجمته و تراجم غیره من رجال الشیعة الذین روی عنهم أصحاب الصحاح و السنن.

و بعد هذا نقول:

إن الأستاذ حکم هواه فوجد رؤساء من الشیعة یضعون الحدیث نصرة

ص:426

للمذهب،و لم یذکر منهم إلا جابر الجعفی المحدث الکبیر،و لم یأت بدلیل علی ما یقول،و لم یسند ذلک لمصدر.

و لو سلمنا جدلا أن هناک من یضع الحدیث من الشیعة لنصرة المذهب فنحن نستحلفه بما یدین هل سلمت بقیة الفرق و المذاهب من ذلک؟؟عند ما هبت عواصف الآراء فی المجتمع و تحکمت الأهواء،و اشتدت الخلافات و لعبت الضغائن لعبتها، و تدخلت الفتنة المحمومة تدخلها.

لا أظن أن أحدا له أدنی معرفة أو إلمام ینکر ما بلغت إلیه الحالة من الافتراء و التزویر و الکذب علی اللّه و علی رسوله،تقویة للمبدإ و انتصارا للمذهب،یوم تحکمت الخلافات و اشتد الصراع العقائدی.

یقول الأستاذ عبد اللطیف دراز-مدیر الأزهر و المعالم الدینیة-:و قد غذیت هذه الخلافات و هذه السیاسات بکثیر من الروایات الملفقة و الأحادیث الموضوعة، و الأخبار المفتراة،و امتلأت کتب التفسیر و المغازی و المناقب بما لا یحصی من الأکاذیب،و أصبح بجوار کل آیة فی کتاب اللّه تعالی روایة من الروایات تحمل علیها، و فسر القرآن بما یوافق أصحاب الآراء و قبل من الأحادیث ما یؤیدهم،و طعن فیما یخالفهم،و اشتبه الأمر فیما یقبل و فیما یرضی،و فیما یصح لیس علی الوسط من الناس فحسب و لکن علی بعض ذوی العقول الراجحة و الذکاء الألمعی أیضا،و لم یسلم من ذلک إلا من عصم اللّه و قلیل ما هم.

و قد شهدت الأمة الإسلامیة مع هذا نوعا آخر من أنواع الخلاف و التفرق هو خلاف الاتباع و المتعصبین للأئمة الذین ظنوا التزام مذهب من المذاهب بعینه دینا لا یجوز للمسلم أن یخالفه،و أدرجوا ذلک فی حکم العقائد،و رتبوا علیه مسائل فقهیة حکم من قلد غیر الأربعة،و من قلد غیر إمامه من الأربعة و من لفق فی العبادة أو المعاملة بین مذاهب عدة،و من أفتی بغیر الراجح أو المعول علیه أو المفتی به،أو بتعبیر أدق بغیر ما وصف فی الکتب بأنه کذلک إلی غیر هذا من المسائل التی ما أثارها إلا العصبیة المذهبیة و التی قامت بنصیبها فی تفریق الأمة الإسلامیة...الخ (1).

ص:427


1- (1) رسالة الإسلام العدد الثالث السنة الأولی 1368.

فکم حدثنا التاریخ عن أناس تعمدوا الکذب علی اللّه و علی رسوله انتصارا لمذاهبهم و طعنا علی مخالفیهم.

فهذا محمد الثلجی شیخ الحنفیة المتوفی سنة 266 قالوا عنه بأنه کان یضع أخبار التشبیه و ینسبها إلی أصحاب الحدیث ذکر ذلک ابن العماد نقلا عن ابن عدی (1).

و نعیم بن حماد المتوفی سنة 218 کان یضع الحدیث فی تقویة السنة و یذکر حکایات مزورة فی ثلب أبی حنیفة (2).

و أبو العشائر البلوی المتوفی سنة 610.کان غالیا فی التسنن شدید التعصب، متحاملا علی آل البیت و شیعتهم،و کان یقول أشیاء منکرة لا نحب ذکرها (3).

و أحمد بن عبد اللّه الأنصاری:کان من الوضاعین لنصرة السنة و کان یفسر قوله تعالی:یوم تبیض وجوه(یعنی أهل السنة)و تسود وجوه یعنی أهل البدعة (4).

و أبو بشر أحمد بن محمد الکندی المتوفی سنة 324 کان إماما فی السنة و الرد علی المبتدعة،و کان وضاعا للحدیث کذابا (5).

و عبد العزیز بن الحارث التمیمی المتوفی سنة 371 من رؤساء الحنابلة وضع فی مسند أحمد بن حنبل حدیثین منکرین (6).

و أبو عبد الرحمن السلمی محمد بن الحسین النیسابوری المتوفی سنة 412.

کان مصنفا و محدثا،صنف فی التفسیر و التاریخ و غیره،و کان یضع الحدیث للصوفیة (7).

و أحمد بن محمد بن حرب کان وضاعا للحدیث و قد وضع لنصرة الحنابلة

ص:428


1- (1) شذرات الذهب 2:151. [1]
2- (2) المصدر السابق 2:67. [2]
3- (3) شذرات الذهب 5:43. [3]
4- (4) لسان المیزان 4:193.
5- (5) مرآة الجنان للیافعی 2:287. [4]
6- (6) الخطیب 10:462.
7- (7) شذرات الذهب 3:196. [5]

حدیثا عن أبی هریرة أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:من قال القرآن مخلوق فهو کافر (1).

و إسماعیل بن عبد اللّه بن أویس الأصبحی المتوفی سنة 227 ابن أخت مالک بن أنس و نسیبه،کان یضع الحدیث لأهل المدینة إذا اختلفوا فیما بینهم (2).

و أحمد بن محمد بن عمر بن مصعب بن بشر بن فضالة المروزی المتوفی سنة 323 هو أحد الوضاعین و الکذابین،مع کونه کان محدثا إماما فی السنة و الرد علی المبتدعة (3).

و قال الدار قطنی:کان حافظا عذب اللسان و الرد علی المبتدعة،لکنه یضع الحدیث (4).

و قال ابن حبان:کان ممن یضع المتون و یقلب الأسانید.لعله قد قلب علی الثقات أکثر من عشرة آلاف حدیث و فی الآخر ادعی شیوخا لم یرهم،فصرت أنکر علیه،فکتب یعتذر إلی،علی أنه من أصلب أهل زمانه فی السنة،و أبصرهم بها، و أذبهم لحریمها،و أقمعهم لمن خالفها (5).

و أحمد بن الصلت بن المغلس أبو العباس الحمانی المتوفی سنة 280.

کان یضع الأحادیث فی مناقب أبی حنیفة،و منها ما یضعه عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و منها ما یضعه عن العلماء فی فضل أبی حنیفة کما حدث عن سفیان بن عیینة أنه قال:

العلماء ابن عباس فی زمانه،و الشعبی فی زمانه،و أبو حنیفة فی زمانه،و الثوری فی زمانه.

و إنما وضع ابن المغلس هذا القول عن لسان ابن عیینة لأن ابن عیینة کان سیئ الرأی فی أبی حنیفة و یعلن بذمه و سوء القول فیه (6).

ص:429


1- (1) لسان المیزان 1:218.
2- (2) تهذیب التهذیب 1:311. [1]
3- (3) الشذرات 2:298. [2]
4- (4) تذکرة الحفاظ 3:24.
5- (5) تذکرة الحفاظ 3:14 و میزان الاعتدال 1:70.
6- (6) تأریخ بغداد 4:208. [3]

و قد توسعت دائرة الوضع فی المناقب لأصاحب المذاهب إلی حد بعید خرجوا فیه عن حدود المعقول،و قد سبقت الإشارة لذلک.

و کان من أعظم الجرأة علی اللّه و رسوله هو وضع الأحادیث فی نصرة المذهب أو تأیید القول الذی یخالف الآخرین حبا للغلبة حتی لو کان الخلف بین أهل المذهب الواحد.

فهذا أصبغ بن خلیل القرطبی المتوفی سنة 272 کان حافظا للرأی علی مذهب مالک،و دارت علیه الفتیا.

قال الذهبی:و لم یکن له علم بالحدیث و لا معرفة بطرقه و کان یعادیه و یعادی أصحابه و بلغ من عصیبته لروایة ابن القاسم فی عدم ترک رفع الیدین فی الصلاة؛أن افتعل حدیثا فی ترک رفع الیدین.

و الغریب أن بعضهم اعتذر عن هذا الافتعال و الکذب علی اللّه و علی رسوله بأنه لم یقصد الکذب،و إنما قصد تأیید مذهبه.

قال القاضی عیاض:و هذا کلام لا معنی له،و کل من کذب علی النبی فإنما کذب لتأیید غرضه (1).

و من الخیر أن نشیر إلی الروایة التی وضعها أصبغ عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی ترک رفع الیدین.

و هی عن عبد اللّه بن مسعود أنه قال:صلیت خلف النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و خلف أبی بکر و عمر اثنتی عشرة سنة و خمسة أشهر،و خلف عثمان اثنتی عشرة سنة،و خلف علی بالکوفة خمس سنین،فلم یرفع أحد منهم یدیه إلا فی تکبیرة الافتتاح.

هذه هی الروایة التی وضعها أصبغ لتأیید مذهبه،و نود أن نوضح بعض ما فیها من مخالفات للواقع بالإعراض عن مناقشة السند فإن فیه رجالا لم یسمع بعضهم من بعض،و لکننا نشیر لمخالفات المتن و هی:

ص:430


1- (1) انظر لسان المیزان 1:458.

إن عبد اللّه بن مسعود توفی سنة 32 و کانت وفاة عثمان سنة 35 أی أنه مات قبل وفاة عثمان بثلاث سنین.

و أیضا هو لم یدرک زمن علی علیه السّلام بالکوفة،لأن وفاته کانت سابقة علیه.

قال الذهبی:و ابن مسعود ما صلی خلف عمر و عثمان إلا قلیلا لأنه کان فی غالب دولتهما فی الکوفة فهذا(الحدیث)من وضع أصبغ (1).

و لعلنا فیما أوردناه علی سبیل المثال قد أوضحنا جانبا مهما نستطیع أن نعرف مدی التعصب الذی ابتلیت الأمة بسببه،و ما خلفته آثاره السیئة من خلاف و تشویه للحقائق.

إن افتعال عشرة آلاف حدیث أو تغییر متونها و تقلیب أسانیدها نصرة للمبدإ، و تعصبا علی من خالفه لهو أمر عظیم و حدث جسیم فی إثارة الضغائن و إیقاد نار الفتنة بین الطوائف کما فعله المروزی الآنف الذکر.

و أعظم من هذا أنه یری ذلک نصرة للسنة،و محاربة للبدعة،و کم مثله من أناس وضعوا الأحادیث لغرض فی نفوسهم.

نقل الحاکم عن الحافظ سهل بن السری أن أحمد الجویباری و محمد بن تمیم و محمد بن عکاشة،و ضعوا علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عشرة آلاف حدیث.

و کثیر أمثال هؤلاء الذین اجترءوا علی وضع الأحادیث،نصرة لمبادئهم و کانوا یرون هذا حسنا یتقربون به إلی اللّه،کما یقول ابن کادش-عند ما وضع حدیثا فی فضل أبی بکر،مقابلة لحدیث ورد فی فضل علی علیه السّلام-:أ لیس فعلت جیدا؟ و لا نرید أن نمضی فی البیان عما وجدنا من الوضاعین للحدیث تعصبا و عسی أن یقتنع الأستاذ بهذا النزر فیعترف بخطئه عما نسبه للشیعة وحدهم من الوضع-أو وجدهم کذلک علی حد تعبیره-.و هذه النسبة مجرد ادعاء فارغ من دون تثبیت و رویة بل هو مقلد لغیره فی الافتراء و الکذب علی الشیعة و عساه یرجع إلی ما یفرضه علیه العلم من التتبع خدمة للعلم و هناک یتضح له خطأ ما ذهب إلیه و کذب ما ادعاه.

ص:431


1- (1) میزان الاعتدال 1:125.

و إذا أردنا أن نولی وجه البحث شطر المتعصبین للمذاهب الأربعة بصورة خاصة فإنا نجد هناک ما یبعث علی الاستغراب-بل الألم الذی یحز فی النفوس-مما أدت إلیه سوء الحال خضوعا للعصبیة و انقیادا للعاطفة العمیاء حتی(تمسکوا بأقوال أئمتهم تمسکا جعلهم یقدمونها علی کتاب اللّه و سنة رسوله) (1).

و أصبحوا(إذا قیل لهم:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقولون قال(فلان) (2)أی رئیس المذهب و کانوا یأنفون أن تنسب إلی أحد من العلماء فضیلة دون إمامهم (3).

و یقول السید محمد صدیق حسن-حول التمسک بآراء المتأخرین من الفقهاء-:

و قد ابتلی بهذه البلیة من متأخری المقلدة للمذاهب الأربعة المشهورة فابرزوا من التفریعات و التخریجات ما لا تظله السماء،و لا تقله الأرض،و منذ حدثت هذه البدع رفعت من السنة غالبها،حتی أن الجاهل من هؤلاء یزعم أن کل مسألة فی کل کتاب فقهی من المذهب الحنفی مثلا و الشافعی مثلا هی فی أم الکتاب.

و یتحرج عن العمل بما ثبت من القرآن و الحدیث صراحة و نصا،و ظاهرا و لا یتحرج عن العمل بما قاله إمامه.

و منهم من یؤول الحدیث إلی مؤدی المذهب،و لا یصرف المذهب إلی مدلول الحدیث (4).

و یقول أیضا:و اتخذوا مقالات الأئمة الکرام دیانة لهم،و منهاجا ینهجون إلیه، و شرعة یسلکونها.

إذا وقفوا علی آیة محکمة أو سنة قائمة،أو فریضة عادلة تخالف مذهبهم صاروا یؤولونها علی غیر تأویلها،و یصرفونها عن ظاهرها إلی ما تقرر عندهم من المذاهب و المشارب،و طفقوا یطعنون علی من عمل بفحواها الظاهر،و مبناها الباهر.

مع أن کتاب اللّه سابق علی وجود إمامهم و مقالاته،و سنة رسوله سابقة علی هذه المجتهدات (5).

ص:432


1- (1) انظر همم ذوی الأبصار 51.
2- (2) توالی التأسیس لابن حجر 76.
3- (3) الاعتصام للشاطبی 3:259.
4- (4) انظر الدین الخالص 3:245.
5- (5) المصدر السابق 3:263.

>ملاحظة:< إن أهم ما نلاحظه فی منهج الأستاذ المؤلف تنکّره لفضائل أهل البیت علیهم السّلام، لأنه یری أن کل آیة جاءت فی حقهم هی موضوعة،و هو بذلک یتأسی برجال قبله أساءوا إلی أنفسهم و فسدت دنیاهم و ضاعت جهودهم و انعکست علیهم کأنما کانوا یسعون إلی إحیاء ذکر أهل البیت و إفشاء محبتهم بین الناس کلما ازدادوا نصبا لهم و افتراء علیهم.

و عند کلامه حول تفسیر الطبرسی یقول فی ص 137 ج 2:

هذا و لا یفوتنا أن نقول إن الطبرسی رحمه اللّه لم یکن صادقا فی وصفه لکتابه هذا بأنه محجة للمحدث،ذلک لأنا تتبعناه فوجدناه غیر موفق فیما یروی من الأحادیث فی تفسیره،فقد أکثر من ذکر الموضوعات خصوصا ما وضعه الشیعة و نسبوه إلی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أو إلی أهل البیت،مما یشهد لمعتقداتهم و یدل علی تشیعهم.

إلی أن یقول:فمثلا عند تفسیره لقوله تعالی: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ نجد أنه یذکر من الروایات ما هو موضوع علی ألسنة الشیعة ثم یمر علیها بدون تعقیب منه، مما یدل علی أنه یصدقها و یقول بها،فهو بعد أن ذکر أقوالا أربعة فی معنی هذه الآیة نقل عن ابن عباس أنه قال:لما نزلت الآیة قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أنا المنذر و علی الهادی من بعدی؛یا علی،بک یهتدی المهتدون.

و نقل بسنده إلی أبی بردة الأسلمی أنه قال:دعا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالطهور و عنده علی فأخذ رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بید علی بعد ما تطهر فألزمها بصدره ثم قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إنما أنت منذر و لکل قوم هاد..

و مثلا عند تفسیره لقوله تعالی: قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی نجده یذکر أقوالا ثلاثة...إلی أن یقول:و هنا یسوق(أی الطبرسی)الروایات عن أهل البیت و غیرهم ما یصرح بأن الذین أمر اللّه بمودتهم علی و فاطمة و ولداهما...الخ.

و فی حدیثه عن تفسیر فتح القدیر للشوکانی یؤاخذه فی نقله روایات تدل علی فضل أهل البیت علیهم السّلام و أنها موضوعة فیقول:

غیر أنی آخذ علیه-کرجل من أهل الحدیث-أنه یذکر کثیرا من الروایات الموضوعة أو الضعیفة،و یمر علیها بدون أن ینبه علیها.

ص:433

فمثلا نجده عند تفسیره لقوله تعالی فی الآیة:(55)من سورة المائدة: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ... الآیة.و قوله فی الآیة:(67)منها: یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ... الآیة یذکر من الروایات ما هو موضوع علی ألسن الشیعة،و لا ینبه علی أنها موضوعة...الخ.

>و نحن نقول:< إن ما ذکره الأستاذ فی هذا المورد من المؤاخذات هو غیر صحیح،لأن هذه الروایات لم تکن واردة فی تفسیر الشیعة فقط أو من تخریجهم فحسب،حتی توصف بأنها موضوعة کما یدعی المؤلف مغالطة منه و نصبا.

فقد وردت فی تفاسیر إخواننا أهل السنة و خرجها العلماء الذین هم أعلم بصحة الروایات من الأستاذ و أعرف بالرجال منه و توضیحا للقارئ نقتطف فیما یلی ما رواه بعض المفسرین من غیر الشیعة فی هذا الموضوع.

أخرج ابن جریر و ابن مردویه و أبو نعیم فی المعرفة،و الدیلمی و ابن عساکر و ابن النجار،قال:لما نزلت: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ وضع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یده علی صدره فقال أنا المنذر و أومأ بیده إلی منکب علی رضی اللّه عنه،فقال:أنت الهادی،یا علی بک یهتدی المهتدون من بعدی.

و أخرج ابن مردویه عن أبی برزة الأسلمی رضی اللّه عنه سمعت رسول اللّه یقول:إنما أنت منذر و وضع یده علی صدر نفسه،ثم وضعها علی صدر علی و یقول:لکل قوم هاد.

و أخرج ابن مردویه و الضیاء فی المختارة عن ابن عباس رضی اللّه عنهما فی الآیة قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم المنذر،و الهادی علی بن أبی طالب رضی اللّه عنه.

و أخرج عبد اللّه بن أحمد فی زوائد المسند و ابن أبی حاتم و الطبرانی فی الأوسط و الحاکم و صححه و ابن مردویه و ابن عساکر عن علی بن أبی طالب رضی اللّه عنه فی قوله:إنما أنت منذر و لکل قوم هاد.قال:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم المنذر، و الهادی رجل من بنی هاشم یعنی نفسه (1).

ص:434


1- (1) انظر الدر المنثور 4:45. [1]

و روی ابن کثیر فی تفسیره عن ابن أبی حاتم بسند عن علی علیه السّلام وَ لِکُلِّ قَوْمٍ هادٍ قال علیه السّلام:الهاد رجل من بنی هاشم،قال الجنید:هو علی بن أبی طالب.

قال ابن أبی حاتم:و روی عن ابن عباس فی إحدی الروایات عنه و عن أبی جعفر محمد بن علی نحو ذلک (1)أی أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم هو المنذر و علی الهادی.

و قال الفخر الرازی-فیما نقله عن المفسرین-:القول الثالث المنذر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و الهادی علی.

قال ابن عباس رضی اللّه عنهما:وضع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یده علی صدره فقال:

أنا المنذر،ثم أومأ إلی منکب علی رضی اللّه عنه و قال:(أنت الهادی یا علی بک یهتدی المهتدون) (2).

و لا نطیل بذکر الشواهد علی عدم صحة ما یقوله المؤلف فنخرج عن الغرض و نکتفی بهذا النزر القلیل حول ما ورد فی هذه الآیة و قد ذکرها أکثر المفسرین و أوردوا الروایات مما یدل علی شهرة ذلک.

أما ما یتعلق بالآیة الثانیة و هی:

>آیة المودة فی القربی:< لم یختلف المفسرون فی أن هذه الآیة نزلت فی قرابة النبی و مودتهم و إنما الخلاف بینهم فی المقصود منهم.

قال علاء الدین المعروف بالخازن:و اختلفوا فی قرابته صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقیل:علی و فاطمة و الحسن و الحسین رضی اللّه عنهم.

و قیل:من تحرم علیهم الصدقة من أقاربه و هم بنو هاشم و بنو المطلب (3).

و قال أبو محمد الحسین الفراء:و اختلفوا فی قرابته فاطمة الزهراء و علی

ص:435


1- (1) تفسیر ابن کثیر 2:502. [1]
2- (2) تفسیر الفخر الرازی 19:14. [2]
3- (3) تفسیر الخازن 6:102. [3]

و ابناهما و فیهم نزل: إِنَّما یُرِیدُ اللّهُ لِیُذْهِبَ عَنْکُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَیْتِ وَ یُطَهِّرَکُمْ تَطْهِیراً.

و قیل هم الذین تحرم علیهم الصدقة من أقاربه و یقسم فیهم الخمس (1).

و قد أخرج الحفاظ عن ابن عباس قال:لما نزلت هذه الآیة قیل یا رسول اللّه من قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودتهم؟فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علی و فاطمة و ابناهما.

أخرجه أحمد فی المناقب و ابن المنذر و ابن أبی حاتم و الطبرانی و الواحدی و الثعالبی و أبو نعیم و البغوی و غیرهم.

و رواه السیوطی عن ابن المنذر و ابن أبی حاتم و الطبرانی و ابن مردویه عن سعید بن جبیر عن ابن عباس (2).

و رواه ابن حجر عن أحمد و الحاکم و الطبرانی عن ابن عباس (3)ثم ذکر أبیات ابن العربی و هی:

رأیت ولائی آل طه فریضة علی رغم أهل البعد یورثنی القربی

فما طلب المبعوث أجرا علی الهدی بتبلیغه إلا المودة فی القربی

قال:و أخرج أحمد عن ابن عباس فی قوله تعالی: وَ مَنْ یَقْتَرِفْ حَسَنَةً قال هی المودة لآل محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

روی النیسابوری فی تفسیره عن سعید بن جبیر لما نزلت هذه الآیة قالوا یا رسول اللّه:من هؤلاء الذین وجبت علینا مودتهم لقرابتک فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علی و فاطمة و ابناهما.

قال النیسابوری:إن هذا فخر عظیم و شرف تام،و یؤیده ما روی أن علیا رضی اللّه عنه:شکا إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم حسد الناس فیه.

فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أ ما ترضی أن تکون رابع أربعة أول من یدخل الجنة أنا و أنت و الحسن و الحسین و أزواجنا عن أیماننا و شمائلنا.

ص:436


1- (1) انظر تفسیر معالم التنزیل 6:101 [1] بهامش تفسیر الخازن.
2- (2) انظر الدر المنثور 6:7. [2]
3- (3) انظر الصواعق المحرقة 101. [3]

و عنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم حرمت الجنة علی من ظلم أهل بیتی،و آذانی فی عترتی،و من اصطنع صنعة إلی أحد من ولد عبد المطلب و لم یجازه علیها فأنا أجازیه علیها.

و کان یقول:فاطمة بضعة منی یؤذینی ما یؤذیها،و ثبت بالنقل المتواتر أنه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یحب الحسن و الحسین و إذا کان کذلک وجب علینا محبتهم لقوله تعالی:

فَاتَّبِعُوهُ و کفی شرفا لآل رسول اللّه و فخرا ختم التشهد بذکرهم و الصلاة علیهم (1).

هذا ما یقوله النیسابوری نظام الدین الحسن بن محمد فی تفسیره لهذه الآیة و هو باعتراف المؤلف لیس من تفاسیر الشیعة و لا شیء یدل علی تشیعه فیه.

و أخرج ابن جریر فی تفسیره بسنده عن أبی الدیلم قال:لما جیء بعلی ابن الحسین علیه السّلام فأقیم علی درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال:الحمد للّه الذی قتلکم و استأصلکم و قطع قرنی الفتنة.

فقال له علی بن الحسین رضی اللّه عنه:أقرأت القرآن،قال نعم.قال:

أقرأت؟قال قرأت...

قال:قرأت،قل لا أسألکم علیه أجرا إلا المودة فی القربی؟ قال:و إنکم لأنتم هم؟!!.قال نعم (2).

و أخرج الحافظ الکنجی فی الکفایة:

عن جابر بن عبد اللّه:جاء أعرابی إلی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قال:یا محمد أعرض علی الإسلام.

فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:تشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شریک له و أن محمدا عبده و رسوله.

قال:تسألنی علیه أجرا؟قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:لا إلا المودة فی القربی.

قال:قرابتی أو قرابتک؟ قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:قرابتی.قال:هات أبایعک فعلی من لا یحب قرابتک لعنة اللّه.

فقال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:آمین (3)

ص:437


1- (1) انظر تفسیر غرائب القرآن ج 25 ص 31 [1] بهامش تفسیر الطبری ط 1 المیمنیة بمصر.
2- (2) تفسیر الطبری 25:14. [2]
3- (3) کفایة الطالب. [3]

و قال الزمخشری فی تفسیره:و القربی کالزلفی مصدر بمعنی القرابة،و المراد فی أهل القربی:روی أنها لما نزلت قیل:یا رسول اللّه من قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودتهم؟ قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علی و فاطمة و ابناهما.

و یدل علیه ما روی عن علی علیه السّلام.شکوت إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم حسد الناس لی.

فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أ ما ترضی أن تکون رابع أربعة أول من یدخل الجنة-أنا و أنت و الحسن و الحسین.و أزواجنا عن أیماننا و شمائلنا،و ذریتنا خلف أزواجنا.

و روی أن الأنصار قالوا:فعلنا و فعلنا،کأنهم افتخروا،فقال عباس و ابن عباس:لنا الفضل علیکم،فبلغ ذلک رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فأتاهم فی مجالسهم.

فقال:یا معشر الأنصار أ لم تکونوا أذلة فأعزکم اللّه بی؟ قالوا:بلی یا رسول اللّه.

قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أ لم تکونوا ضلالا فهداکم اللّه بی؟قالوا:بلی یا رسول اللّه.

قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:تقولون:أ لم یخرجک قومک فآویناک؟!أولم یکذبوک فصدقناک؟أو لم یخذلوک فنصرناک؟فما زال یقول حتی جثوا علی الرکب،و قالوا:أموالنا و ما فی أیدینا للّه و لرسوله.فنزلت هذه الآیة (1)و هی: قُلْ لا أَسْئَلُکُمْ عَلَیْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی .

و قال الفخر الرازی:-فی تفسیر هذه الآیة-المسألة الثالثة نقل صاحب الکشاف عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:

من مات علی حب آل محمد مات شهیدا،ألا و من مات علی حب آل محمد مات مغفورا له،ألا و من مات علی حب آل محمد مات تائبا،ألا و من مات علی حب آل محمد مات مؤمنا مستکمل الإیمان،ألا و من مات علی حب آل محمد بشره ملک

ص:438


1- (1) الکشاف 2:296 ط بولاق. [1]

الموت بالجنة ثم منکر و نکیر،ألا و من مات علی حب آل محمد یزف إلی الجنة کما تزف العروس،ألا و من مات علی حب آل محمد فتح اللّه له فی قبره بابین إلی الجنة، ألا و من مات علی حب آل محمد جعل اللّه قبره مزار ملائکة الرحمة،ألا و من مات علی حب آل محمد مات علی السنة و الجماعة.

ألا و من مات علی بغض آل محمد مات کافرا،ألا و من مات علی بغض آل محمد لا یشم رائحة الجنة.

قال الفخر الرازی:هذا هو الذی رواه صاحب الکشاف و أنا أقول:آل محمد هم الذین یؤول أمرهم إلیه،فکل من کان أمرهم إلیه أشد و أکمل کانوا هم الآل.

و لا شک أن فاطمة و علیا و الحسن و الحسین کان التعلق بینهم و بین رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أشد التعلقات،و هذا کالمعلوم بالنقل المتواتر فوجب أن یکونوا هم الآل.

و أیضا اختلف الناس فی الآل فقیل:هم الأقارب و قیل هم أمته فإن حملناه علی القرابة فهم الآل و إن حملناه علی الأمة الذین قبلوا دعوته فهم أیضا آل فثبت علی جمیع التقدیرات هم الآل أی علی و فاطمة و الحسن و الحسین علیهم السّلام.

و أما غیرهم فهل یدخلون تحت لفظ الآل؟فمختلف فیه.

و روی صاحب الکشاف أنه لما نزلت هذه الآیة قیل:یا رسول اللّه من قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودتهم؟ فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علی و فاطمة و ابناهما.

فثبت أن هؤلاء الأربعة أقارب النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و إذا ثبت هذا وجب أن یکونوا مخصوصین بمزید التعظیم،و یدل علیه وجوه:

الأول:قوله تعالی: إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبی و وجه الاستدلال به ما سبق.

الثانی:لا شک أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان یحب فاطمة علیها السّلام قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:«فاطمة بضعة منی یؤذینی ما یؤذیها»،و ثبت بالنقل المتواتر عن محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه کان یحب علیا و الحسن و الحسین و إذا ثبت ذلک وجب علی کل الأمة مثله(حب علی و فاطمة و الحسن و الحسین)لقوله تعالی: وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّکُمْ تَهْتَدُونَ و لقوله تعالی:

ص:439

فَلْیَحْذَرِ الَّذِینَ یُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ و لقوله تعالی: قُلْ إِنْ کُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِی یُحْبِبْکُمُ اللّهُ ،و لقوله سبحانه: لَقَدْ کانَ لَکُمْ فِی رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ .

الثالث:أن الدعاء للآل منصب عظیم،و لذلک جعل هذا الدعاء خاتمة التشهد فی الصلاة و هو قوله:اللهم صل علی محمد و علی آل محمد و ارحم محمدا و آل محمد.

و هذا التعظیم لم یوجد فی حق غیر الآل فکل ذلک یدل علی أن حب آل محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم واجب و قال الشافعی:

یا راکبا قف بالمحصب من منی و اهتف بساکن خیفها و الناهض

سحرا إذا فاض الحجیج إلی منی فیضا کما نظم الفرات الفائض

إن کان رفضا حب آل محمد فلیشهد الثقلان أنی رافضی (1)

هذا ما ذکره الفخر الرازی فی تفسیره و هذا ما استدل به علی أن لفظ الآل و القربی هو منحصر فی علی و فاطمة و الحسن و الحسین علیهم السّلام و قد وردت فی ذلک روایات کثیرة عن صاحب الرسالة الأعظم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

قال السید صدیق بن حسن القنوحی البخاری فی تفسیره لهذه الآیة:و عن ابن عباس قال:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی هذه الآیة:تحفظونی فی أهل بیتی و تودّوهم بی، أخرجه الدیلمی و أبو نعیم (2).

و عنه-أی عن ابن عباس-قال:لما نزلت هذه الآیة قالوا:یا رسول اللّه،من قرابتک هؤلاء الذین وجبت علینا مودتهم؟ قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علی و فاطمة و ولداهما.أخرجه ابن المنذر،و ابن أبی حاتم، و الطبرانی،و ابن مردویه (3).

و رواه ابن حیان فی تفسیره الکبیر عن ابن عباس بلفظ:من قرابتک الذین أمرنا

ص:440


1- (1) انظر التفسیر الکبیر للفخر الرازی 27:165-166. [1]
2- (2) تفسیر فتح البیان [2]لمقاصد القرآن للسید صدیق بن حسن 8:270.
3- (3) نفس المصدر. [3]

بمودتهم؟فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علی و فاطمة و ابناهما (1)و رواه أیضا الشیخ إسماعیل حقی البروشوی المتوفی سنة 1137 فی تفسیره عن ابن عباس بهذا اللفظ و قال و یدل علیه ما روی عن علی علیه السّلام أنه قال شکوت إلی رسول اللّه حسد الناس لی فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أ ما ترضی أن تکون رابع أربعة أول من یدخل الجنة أنا و أنت و الحسن و الحسین.الحدیث (2).

ثم ذکر بعض الأحادیث الواردة عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و منها یقول قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

من مات علی حب آل محمد مات شهیدا ألا و من مات علی حب آل محمد مات مغفورا له ألا و من مات علی حب آل محمد مات تائبا...الخ کما تقدم ذکره عن الفخر الرازی.

و عقبه بقوله:و آل محمد هم الذین یؤول أمرهم إلیه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فکل من کان مآل أمرهم إلیه أکمل و أشد کانوا هم،و لا شک أن فاطمة و علیا و الحسن و الحسین کان التعلق بینهم و بین رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أشد التعلقات بالنقل المتواتر فوجب أن یکونوا هم الآل (3).

و لو أردنا أن نمضی فی هذا الموضوع من تتبع أقوال المفسرین و تخریج الحفاظ لطال بنا المدی و اتسع الموضوع و لکنا نکتفی بهذا القدر القلیل من أقوال هؤلاء العلماء.

و قول المؤلف بأن ما أورده الطبرسی و غیره من مفسری الشیعة فی هذه الآیة، أنها نزلت فی علی و فاطمة و الحسن و الحسین من الأخبار الموضوعة أمر یدعو إلی الاستغراب.

لذا لا نعجب منه إذ لم یأت بدلیل یثبت ما یدّعیه،و إنما کل ما یحاوله أنه وارد من طریق الشیعة فحسب،و ما أوردناه هنا یکفی أن یکون مقنعا له،إن کان هدفه الحقیقة،و هی هدف کل باحث منصف.

ص:441


1- (1) انظر تفسیر البحر المحیط 7:516. [1]
2- (2) انظر تفسیر روح البیان 8:311. [2]
3- (3) روح البیان 8 ص 312. [3]

و لا أدری لما ذا یستنکر الأستاذ ورود أمثال هذه الآیة و غیرها فی أهل البیت؟! و قد وردت عن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی لزوم حبهم أحادیث هی أکثر من أن تحصی و قد خرجها حفاظ الحدیث من علماء السنة.منها:

أخرج الترمذی عن علی علیه السّلام أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أخذ بید حسن و حسین فقال من أحبنی و أحب هذین و أباهما و أمهما کان معی فی درجتی یوم القیامة (1).

و أخرج من طریق أسامة بن زید قال:طرقت باب النبی ذات لیلة فی بعض الحاجة،فخرج النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و هو مشتمل علی شیء لا أدری ما هو،فلما فرغت قلت:

ما هذا الذی أنت مشتمل علیه؟قال:فکشفه فإذا حسن و حسین علی ورکیه.

فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم هذان ابنای،و ابنا ابنتی،اللهم إنی أحبهما و أحب من یحبهما (2)و أخرج من طریق أبی هریرة مثله.

و روی ابن کثیر أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بینما هو یخطب إذ رأی الحسن و الحسین علیهم السّلام فنزل إلیهما،فاحتضنهما،و أخذهما معه إلی المنبر و قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم صدق اللّه أَنَّما أَمْوالُکُمْ وَ أَوْلادُکُمْ فِتْنَةٌ .إنی رأیت هذین یمشیان و یعثران فلم أملک أن نزلت إلیهما.ثم قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إنکم لمن روح اللّه و إنکم لتبجلون و تحببون (3).

و روی ابن کثیر عن أحمد بن حنبل بطریق عن أبی هریرة قال:نظر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلی علی و حسن و حسین و فاطمة فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أنا حرب لمن حاربتم و سلم لمن سالمتم (4).

و عن أبی هریرة أیضا أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«الحسن و الحسین من أحبهما فقد أحبنی و من أبغضهما فقد أبغضنی» (5).

و أخرج البخاری عن البراء بن عازب قال:رأیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و الحسن علی عاتقه یقول اللهم إنی أحبه فأحبه (6).

ص:442


1- (1) صحیح الترمذی 2:301. [1]
2- (2) صحیح الترمذی 2:309.
3- (3) تاریخ ابن کثیر ج 8:33.
4- (4) تاریخ ابن کثیر ج 8 ص 368.
5- (5) المصدر السابق.
6- (6) البخاری 5:33 و [2]أخرجه مسلم 7:127. [3]

و أخرجه مسلم عن أبی هریرة عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال للحسن علیه السّلام:اللهم إنی أحبه فأحبه و أحب من یحبه (1).

و أخرج البخاری فی ج 5 ص 26 أن النبی قال:فاطمة بضعة منی فمن أغضبها أغضبنی.و مثله رواه فی ص 36.

إلی غیر ذلک من الأحادیث الصحیحة و الآیات الشریفة الواردة فی حقهم علی العموم کحدیث الثقلین و غیره.

و آیة التطهیر و أمثالها أو علی خصوص کل واحد منهم صلوات اللّه علیهم مما نطق به رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلزاما للأمة بمحبتهم و اتباعهم لأنهم أزمة الحق و أعلام الدین و ألسنة الصدق کما یقول الإمام علی علیه السّلام.

و هم کسفینة نوح من رکبها نجا و من تخلف عنها غرق و هوی و وصایا رسول اللّه فی آله کثیرة لا تحصی،و لو اتسع المقام لذکرنا شطرا منها و لکنها نظرة خاطفة و قبسة عجلان.

>آیة الولایة:< یزعم الأستاذ أن نزول آیة الولایة-فی الإمام علی عند ما تصدق بخاتمه-و هی قوله تعالی: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الَّذِینَ یُقِیمُونَ الصَّلاةَ وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ إنما کان من وضع الشیعة و أکاذیبهم،و هو إذ یطلق هذا القول و یصدر هذا الحکم و لا یحسب للمؤاخذة علیه أی حساب و هو رجل له منزلة فی مجتمعه إذ هو یتولی تدریس الحدیث و التفسیر فلا بد أن یکون له علم بکتب التفسیر أو له إلمام بما ذکره المفسرون و الحفاظ من علماء السنة حول نزول هذه الآیة.

أقول لا یعقل ذلک حسب رتبته و شهادته التی أهلته لأن یکون مدرسا فی أکبر مؤسسة إسلامیة و یربی جیلا یتولی توجیه الأمة و إرشادها.و من الغریب أن الأستاذ المؤلف فی کثیر من أبحاثه یتواری وراء ستار شفاف ینم عما وراءه فیفضح أسراره و یکشف نوایاه،کما لا تخفی عمته و زیه شیئا من حقیقته.

ص:443


1- (1) صحیح مسلم 7:127.

إنه یؤاخذ المفسرین من الشیعة کرجل من أهل الحدیث (1)و إذا کان کذلک کیف یجهل ما ذکره المفسرون و الحفاظ حول هذا الموضوع؟!!و لا أعتقد أنه یتجاهل و إنما ذلک أقصی جهده و غایة علمه،و إلا فانه تجاهل بقصد العناد الذی ینعکس عن روح التعصب الأعمی الذی یذهب بکل رونق للمسلم و یبطل أثر التحصیل فی الفکر.

و نحن هنا نقدم للقراء-کدلیل علی ما نقوله-بعضا من أولئک الرجال الذین ذکروا أن نزول هذه الآیة فی الإمام علی علیه السّلام ملتزمین طریقة الاختصار علی البعض خشیة الإطالة و اتساع الموضوع.

قال الواحدی فی أسباب النزول:إن هذه الآیة نزلت فی علی بن أبی طالب لأنه أعطی خاتمه سائلا و هو راکع.

و عن ابن عباس أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم خرج إلی المسجد و الناس بین قائم و راکع فنظر سائلا فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:هل أعطاک أحد شیئا؟ قال:نعم خاتم.

قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:من أعطاکه؟ قال:ذاک القائم و أشار بیده إلی علی علیه السّلام.

فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:علی أی حال أعطاکه؟ قال:أعطانی و هو راکع فکبر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثم قرأ:و من یتولی اللّه و رسوله و الذین آمنوا فإن حزب اللّه هم المفلحون.ا ه (2).

و قال السیوطی فی اللباب:و له شاهد قال عبد الرزاق حدثنا عبد الوهاب عن مجاهد عن ابن عباس فی قوله تعالی: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا الآیة نزلت فی علی بن أبی طالب.

و أخرج ابن جریر عن مجاهد و ابن أبی حاتم عن سلمة بن کهیل مثله (3).

ص:444


1- (1) التفسیر و المفسرون 2:288. [1]
2- (2) أسباب النزول للواحدی-148. [2]
3- (3) لباب النقول فی أسباب النزول للسیوطی-9.

و ذکر محب الدین أبو العباس الطبری أن هذه الآیة نزلت فی علی و هی من بعض الآی الذی نزل فی حقه (1).

أخرج ابن جریر (2)بطریق عن مجاهد أنه قال:فی قوله تعالی: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ ... الآیة:إنها نزلت فی علی بن أبی طالب.

و أخرج عن عبد الملک أنه قال:سألت أبا جعفر عن قول اللّه: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ... الآیة.

قال:نزلت فی علی بن أبی طالب تصدق و هو راکع.و أخرج مثله عن هناد عن عبد الملک.

و أخرج بطریق عن عتبة بن حکیم فی هذه الآیة: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِینَ آمَنُوا قال:هو علی بن أبی طالب.

و قال نظام الدین الحسن بن محمد النیسابوری فی تفسیره:روی أن عبد اللّه بن سلام قال:لما نزلت هذه الآیة قلت:یا رسول اللّه أنا رأیت علیا تصدق بخاتمه علی محتاج و هو راکع فنحن نتولاه.

و روی عن أبی ذر أنه قال:صلیت مع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یوما صلاة الظهر فسأل سائل فی المسجد فلم یعطه أحد فرفع یده إلی السماء و قال:اللهم اشهد أنی سألت فی مسجد الرسول فما أعطانی أحد شیئا.و علی علیه السّلام کان راکعا فأومأ إلیه بخنصره الیمنی و کان فیها خاتم فأقبل السائل حتی أخذ الخاتم ثم قرأ النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فقال اللهم إن أخی موسی سألک فقال:رب اشرح لی صدری:إلی قوله و أشرکه فی أمری.فأنزلت قرآنا ناطقا:سنشد عضدک بأخیک و نجعل لکما سلطانا،اللهم و أنا محمد نبیک و صفیک فاشرح لی صدری و یسر لی أمری و اجعل لی وزیرا من أهلی علیا أشدد به أزری.

ص:445


1- (1) انظر ذخائر العقبی-88. [1]
2- (2) تفسیر الطبری ج 6 ص 165. [2]

قال أبو ذر:ما أتم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم هذه الکلمة حتی نزل جبرائیل فقال یا محمد اقرأ: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ... الآیة (1).

و قال الزمخشری:إنها نزلت فی علی کرم اللّه وجهه حین سأله سائل و هو راکع فی صلاته فطرح له خاتمه،کأنه کان مرجا فی خنصره فلم یتکلف لخلعه کثیر عمل تفسد فیه صلاته.

ثم أورد علی نفسه فقال:فإن قلت:کیف صح أن یکون لعلی رضی اللّه عنه و اللفظ لفظ جماعة؟ قلت:جیء به عن لفظ الجمع و إن کان السبب فیه رجلا واحدا لیرغب الناس فی مثل فعله،فینالوا ثوابه و لینبه علی أن سجیة المؤمنین یجب أن تکون علی هذه الغایة من الحرص علی البر و الإحسان و تفقد الفقراء حتی إن لزمهم أمر لا یقبل التأخیر و هم فی الصلاة لم یؤخروه إلی الفراغ منها (2).

و قال أبو بکر الجصاص الحنفی:روی عن أبی جعفر و عتبة بن حکیم أنها نزلت فی علی بن أبی طالب حین تصدق بخاتمه.

و قال-بعد ذکره لقوله تعالی: وَ یُؤْتُونَ الزَّکاةَ وَ هُمْ راکِعُونَ :یدل علی أن صدقة التطوع تسمی زکاة لأن علیا تصدق بخاتمه تطوعا (3).

و قال السیوطی:أخرج الخطیب فی المتفق عن ابن عباس قال تصدق علی بخاتمه و هو راکع فقال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم للسائل:من أعطاک هذا الخاتم؟ قال:ذاک الراکع فأنزل اللّه تعالی: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ .

و أخرج عبد الرزاق و عبد بن حمید و ابن جریر و أبو الشیخ و ابن مردویه عن ابن عباس فی قوله: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ... الآیة قال:نزلت فی علی بن أبی طالب.

و أخرج الطبرانی فی الأوسط و ابن مردویه عن عمار بن یاسر قال وقف بعلی سائل و هو راکع فی صلاة تطوع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتی رسول اللّه فأعلمه ذلک فنزلت علی النبی هذه الآیة: إِنَّما وَلِیُّکُمُ اللّهُ وَ رَسُولُهُ الآیة.

ص:446


1- (1) تفسیر النیسابوری 6:145 بهامش تفسیر ابن جریر.
2- (2) الکشاف 1:218. [1]
3- (3) أحکام القرآن للجصاص 2:542-543. [2]

و أخرج ابن مردویه و أبو الشیخ عن علی مثله...و ذکر السیوطی عدة طرق فی أسباب نزول هذه الآیة و أنها نزلت فی علی علیه السّلام (1).

و قد خرج حدیث نزول هذه الآیة کثیر من الحفاظ و المفسرین ما یربو عددهم علی الستین.

کالحافظ أبی عبد الرحمن النسائی المتوفی سنة 303 فی سننه.

و الحافظ أبی القاسم الطبرانی المتوفی سنة 360 فی الأوسط.

و الفقیه ابن المغازلی الشافعی المتوفی سنة 483 من خمسة طرق.

و الحافظ أبی عبد اللّه محمد بن عمر الواقدی المتوفی سنة 207.

و غیرهم ممن ذکرناهم آنفا و ممن لم نذکرهم اختصارا للموضوع و فی هذا القدر -بل بعضه-کفایة علی رد ما یزعمه الأستاذ حول وضع حدیث نزول هذه الآیة فی الإمام علی و انها من موضوعات الشیعة و لم یکن لقوله هذا حجة و لا لحکمه برهان.

و الدعاوی إن لم تقام علیها بینات أبناؤها أدعیاء

و غریب من الأستاذ هذا الجمود الفکری الذی لا یتناسب مع ألقابه العلمیة و هو مع کثرة ما دبج یراعه من مؤلفات لم یجعل لتفکیره مجالا للخروج من ربقة التعصب و قیود الاستسلام،لأن الذهبی-و لو أضفنا میما فی أول لقبه لکان أدل-له مؤلفات أخری.

>آیة التبلیغ:< و هی قوله تعالی: یا أَیُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَیْکَ مِنْ رَبِّکَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللّهُ یَعْصِمُکَ مِنَ النّاسِ (2).

و قد صدع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بتبلیغها یوم غدیر خم،و أقام فی ذلک الهجیر، و خطب هناک و بلغ،و قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیما قال:(من کنت مولاه فهذا علی مولاه)،و حدیث الغدیر حدیث شجون فقد تنکر له بعض و حرفه آخرون و لا نستطیع هنا إیراد نصوصه و ذکر أسانیده.

ص:447


1- (1) الدر المنثور 2:293. [1]
2- (2) سورة المائدة:67. [2]

و قد ذکر أکثر المفسرین نزول هذه الآیة یوم الغدیر،و أنکرها آخرون و قد تعرضنا لهذا الموضوع فی الجزء الأول،و هو أعظم من أن یدرس بمثل هذه السرعة.

و قد تکفل شیخنا العلامة الأمینی فی کتابه(الغدیر)جمیع ما یتعلق بهذا الموضوع و استخراج أحادیثه ببحث علمی یترکز علی المنطق الصحیح و نکتفی فی الإشارة بالرجوع إلیه فی هذا الموضوع (1).

و إننا-کما قلنا-لم نتعرض لرد ما أورده من المخالفات جملة جملة و فقرة فقرة.

و أود هنا أن ألفت نظر المؤلف حول التأویل للأحادیث عند الشیعة نصرة للمذهب-کما یقول و لا صحة لقوله-فهل خفی علیه أبواب التأویل التی فتحت عند غیرهم لحمل الأخبار بل الآیات القرآنیة علی غیر مؤداها.

و للمثال نذکر ما قال النووی فی صحیح مسلم عند تخریجه لروایة سعد بن أبی وقاص فی مناقب الإمام علی علیه السّلام و أن معاویة أمر سعدا أن یسب علیا فامتنع سعد فقال معاویة:ما منعک أن تسب أبا تراب؟ فقال:أما ما ذکرت ثلاثا قالهن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم له فلن أسبه،لأن تکون لی واحدة منهن أحب إلی من حمر النعم:

سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول له:أ ما ترضی أن تکون منی بمنزلة هارون من موسی إلا أنه لا نبی بعدی.

و سمعته یقول له یوم خیبر:(لأعطین الرایة رجلا یحب اللّه و رسوله و یحبه اللّه و رسوله).فتطاولنا لها فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ادعو لی علیا فأتی به أرمد فبصق فی عینه،و دفع الرایة إلیه.

و لما نزلت هذه الآیة: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ ...الآیة دعا رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علیا و فاطمة و حسنا و حسینا،فقال:اللهم هؤلاء أهلی (2)

ص:448


1- (1) الکتاب موسوعة کبیرة یقع فی عشرین مجلدا.
2- (2) شرح صحیح مسلم للنووی 15:177.

قال النووی:قال العلماء:الأحادیث الواردة فی ظاهرها دخل علی صحابی یجب تأویلها..

ثم أخذ النووی فی التأویلات المبررة من أمر معاویة سعدا بالسب و ذکر وجوها.

و ما أوسع هذا الباب الذی تدخل فیه الأحادیث بصورة و تخرج بصورة أخری و کذلک الحوادث التاریخیة تصب فی غیر قالبها و تبرز فی غیر إطارها تقویة للرأی و نصرة للمذهب و ما أکثر الأمثال علی ذلک و لنترک الخوض فی مثله،و قد ترفّع الشیعة عن هذا المسلک،و امتنعوا عن نصرة التشیع بما لم یتأید دلیله و برهانه..

>و قبل الختام نقول:< إن الذین یسترعی الانتباه:هو أن المؤلف قسم التفسیر بالرأی إلی قسمین:

الأول:التفسیر بالرأی الجائز و فیه یذکر کتب التفسیر للسنة کتفسیر الرازی و البیضاوی و غیرهما من ص 288 إلی ص 362 ج 1.

الثانی:التفسیر بالرأی المذموم،أو تفسیر الفرق المبتدعة،و تبتدئ من ص 363 إلی ص 482 من الجزء الأول.

و هنا یتکلم أولا عن المعتزلة و موقفهم من تفسیر القرآن،و أول ما یذکر من تفاسیرهم:تفسیر القاضی عبد الجبار،ثم یذکر أمالی السید المرتضی علم الهدی المتوفی سنة 436 و هو من کبار علماء الشیعة الإمامیة،و علم من أعلامهم،و لکن الأستاذ نسبه للاعتزال و جعل أمالیه من تفاسیر المعتزلة بدون استناد.

نعم ذهب لهذا المستشرق جولد تسهیر فی کتابه مذاهب التفسیر الإسلامی عند ما ذکر اتحاد طریقة السید المرتضی فی التفسیر مع طریقة أبی علی الجبائی من حیث اللغة،و حمل العبارات الدالة علی التشبیه،أو التی لا تلیق بمقام الألوهیة،علی تأویلات ألیق و أبعد عن التشبیه...الخ (1).

و الأستاذ المؤلف سار علی ذلک الفرض فجزم بأن السید المرتضی معتزلی

ص:449


1- (1) انظر کتاب مذاهب التفسیر الإسلامی 136:140.

و جعل تفسیره لهم تقلیدا للمستشرقین و اتباعا لهم فیما یذهبون إلیه فی آرائهم المخالفة للحقیقة.

ثم ذکر تفسیر الکشاف للزمخشری و ینتهی فی آخر الجزء من البحث حول المعتزلة أو الفرقة المبتدعة.

و فی أول الجزء الثانی یأتی دور الفرقة الثانیة و هم الشیعة و منهم الإمامیة الاثنا عشریة،و هناک یتکلم الأستاذ حسب ذوقه و إدراکه،و هو إذ یتناول البحث عنهم فإنما یری أن طعنهم شیء مستحسن،بل من الدین ذلک کما یراه،لأنهم مبتدعة،و کل بدعة ضلالة فهم ضالون فی نظره و الإسلام محتکر له-عافاه اللّه-و من دین الذهبی أن یبرزهم فی إطار التضلیل و الابتعاد عن الإسلام.

و علی هذا التفکیر وضوء هذه النظرة سار فی بحثه معتمدا علی أباطیل المستشرقین،و خرافات المغرضین.و کلما توغلنا فی بحثه ازددنا ثقة بخطل رأیه و قصر نظره.

و من هذا و ذاک-فإنه لم ینظر إلی الحقائق بصفته أستاذا فی علوم القرآن و الحدیث،بل سار فی طریق بحثه مکبلا بقیود التعصب،ینظر الأمور بمنظار قاتم، و قد ترک الحقیقة وراء ظهره،فلم یسند أقواله بدلیل استقاه من تعمقه بالبحث،أو استنتجه من تتبعه فی دراسة الموضوع،و لم یقف علی الأمور التی هی جدیرة بالنظر موقف متأمل لیعرف الحق لأنه حق بالبرهان و یعرف الباطل لأنه باطل بالبرهان من دون تحیز و تعصب.

إن الواجب یقضی علیه أن لا یتعصب أو یتحیز،لأنه أستاذ فی جامعة إسلامیة کبری تعدّ طلابا ستقع علیهم مسئولیة عظیمة،و یجب علیه أن یدلهم علی طریق الاستقامة،و الحیطة فی النقد و الدعوة إلی الحق لذات الحق.

و إلی هنا ینتهی حدیثنا مع الأستاذ و هنا أسدل الستار عن بقیة أخطائه لأنی لم أجد وقتا یساعد علی الاستمرار معه،و عسی أن تسمح الظروف بالعودة إلی مناقشته و العود أحمد و نسأل اللّه لنا و له الهدایة و التوفیق و إلی اللقاء-إن شاء اللّه-أیها الأستاذ المحدث.

ص:450

أدب الشیعة:

اشارة

إذا أردنا أن تحدث عن أدب الشیعة فإن أهم سماته و أبرز ملامحه هی شدة تأثره بآداب الإسلام و ثقافته أحسن تأثر،و اتصف شعراؤهم بذهنیة صقلتها التجارب فکانت أکثر ما تعنی بالأفکار العمیقة،و المعانی الدقیقة،و هم یمتازون بالعواطف الثوریة الهائجة،لاستنهاض الأمة من کبوتها،و إیقاظها من غفلتها.

و ضمّن شعراء الشیعة قصائدهم تلک الصور الفریدة التی تعبر عن مآسی الدهر و أفعال أعداء الرسول بأهل بیته الکرام.و لئن کانت فاجعة کربلاء و استشهاد السبط الإمام الحسین فی نهضة الإباء ضد ظلم أمیة،مصدر إلهام ثر و عطاء فیاض رسم صور البطولة و جسّد ألوان التضحیة،فإن سیر الأئمة من أهل البیت کانت هی الأخری توحی للشعراء بألوان من الحکمة و ضروب من التبصّر مما یجعل بناء القصیدة قائما علی الفکرة الهادفة،و العاطفة الهیاجة و المشاعر النبیلة،و تری الجزالة فی النظم و التفوق فی القول،و غایة ما یرجوه الشاعر أن ینشد شعره بین یدی إمامه و مرجعه من أئمة الهدی فی وقت یتهافت فیه الشعراء علی أعتاب الحکام بنماذج من المدیح الکاذب و التملق الدنیء و الود الزائف فتنهمر الهدایا و الجوائز من قبل الملوک و کلها من بیت مال المسلمین.

لقد کان شعراء الشیعة یأبون الانحدار إلی الکذب،و اللجوء إلی التزلف للطغاة و الظالمین طمعا فی حطام و رغبة فی دنیا.

و قد منحهم ابتعادهم عن الدولة و انتصارهم لآل البیت أسلوبا صریحا لا أثر فیه للخداع و التملق،و لا یشوهه الحرص الممقوت علی الصلات و الجوائز.

و إن نظرة خاطفة علی موافق أولئک الأبطال-فی مقابلة حکام عصرهم و ولاة الأمور الذین انحرفوا عن طریق الحق و ساروا بالأمة کما یریدون لا کما یرید العدل- تعطینا صورة صادقة عن موقف البطولات التی یتصف بها العربی المخلص لأمته، و المسلم المتفانی فی عقیدته،و قد اشتهر منهم رجال کانت لهم زعامة الأدب و قد حازوا قصب السبق فی جمیع الأدوار حتی قیل:و هل تری أدیبا غیر شیعی؟.

و إذا أرادوا أن یبالغوا فی رقة شعر الرجل و حسن إبداعه،و مهارته فی التصویر، قالوا:یترفض فی شعره.

ص:451

و لشعراء الشیعة و أدبائهم فی المجتمع العربی الأصیل مکانة هامة،فهم من أعیان تلک المدرسة،و فرسان تلک الحبلة منهم:

الفرزدق بن همام بن غالب التمیمی المتوفی سنة 110.

و أبو صخر کثیر-بالتصغیر-بن عبد الرحمن المعروف بکثیر عزة المتوفی سنة 105.

و الکمیت بن زید الأسدی صاحب الهاشمیات المتوفی سنة 126.

و إسماعیل بن محمد المعروف بالسید الحمیری توفی ببغداد سنة 179.

و دعبل بن علی الخزاعی و قیل اسمه الحسن و لقبه دعبل المتوفی سنة 246.

حبیب بن أوس أبو تمام الطائی صاحب دیوان الحماسة المتوفی سنة 231.

و أبو الفضل منصور بن سلمة المتوفی فی عصر الرشید.

و السید الشریف أبو الحسن محمد بن الحسین الرضی المتوفی سنة 406.

و أمیر الشعراء أبو فراس الحمدانی المتوفی سنة 375.و غیرهم:

کابن التعاویذی المتوفی سنة 428 و الحسین بن الحجاج المتوفی سنة 391.

و مهیار الدیلمی المتوفی سنة 428 و الحسن بن هانی المتوفی سنة 196.و الوزیر الصاحب بن عباد المتوفی سنة 326 و الحسن بن هانی الأندلسی المتوفی سنة 362.

و الناشیء الصغیر المتوفی سنة 366 و غیرهم من شعراء و کتاب و خطباء.

و لیس الحدیث هنا عن أدب الشیعة و أثره فی المجتمع کما یقتضیه العنوان.

و یتبادر إلی ذهن القارئ،و لکننا تحت هذا العنوان نرید أن نشیر إلی کتاب صدر بهذا الاسم و هو:(أدب الشیعة إلی نهایة القرن الثانی عشر الهجری)طبع فی القاهرة سنة 1376 ه 1956 م.

و مؤلف هذا الکتاب هو الأستاذ عبد الحسیب طه أحمیده المدرس فی کلیة الأدب العربی بمصر.

و الکتاب لم یکن موضوعه أدب الشیعة فحسب،و لکنه یتعرض إلی تاریخ التشیع و تطوره،و نشأته،و عقائد الشیعة و فرقهم،فهو کتاب تاریخ أکثر منه کتاب أدب.

ص:452

و الشیء الذی یسترعی الانتباه هو:أن المؤلف قد اعتمد علی آراء المستشرقین فی أبحاثه،و اقتبس عبارات کتّاب رددوها من قدیم فلم یأت بشیء جدید فی بدایة بحثه،و جزم بأشیاء کان الأجدر به إما ترکها،أو مناقشتها حسب ذوقه الأدبی أو التاریخی.

و لا أقصد هنا أن أنقد الکتاب أو أطریه،فهو لا یخلو من دواعی النقد أو الإطراء فی آن واحد،و عسی أن تتاح لنا فرصة نستوفی الکلام حوله.

إن قصدی-و اللّه من وراء القصد-تنبیه الأستاذ علی أشیاء تستوجب التنبیه عسی أن یتدارک ذلک فیما بعد،لیؤدی بذلک خدمة للحق الذی ینشده کل مسلم، و إظهارا للحقیقة التی هی هدف کل باحث منصف،فقد انحجبت أنوارها عن أعین عشاقها بسحب الدجل و التمویه و الافتراء،و القول بالباطل،فإننا فی عصر کئود یجب أن نهدف إلی تحقیق مبادئ الإسلام،لنجلو عن الحقیقة تلک الغشاوة التی حجبتها عن بعض الأنظار مدة من الزمن،و نتبع الحق و الحق أحق أن یتبع.

و کیف کان فإنی أبدی بعض ملاحظاتی علی ما ورد فی هذا الکتاب و کلی أمل أن یتسع صدر الأستاذ لما أبدیه،و لا یحمل ذلک علی تحامل أو حقد،فلست بالناقد الحاقد.

و أهم شیء أحاول تحقیقه فی هذا البحث هو:رفع سوء الفهم لقضیة ابن سبأ، و اتخاذها عند کثیر من الکتّاب کأساس تبنی علیها حقائق،و یستنتج منها نتائج یحسبونها صحیحة تقع فی أدلة الاحتجاج، مع أن کبری ذلک القیاس و صغراه غیر صحیحتین فالنتیجة باطلة.

و قد آن الأوان لتقریر هذه الحقیقة التی یزداد الانتباه إلی وجودها بإدراک بواعثها و الإصغاء إلی القرائن و الأدلة علی اختلاق سیف بن عمر الکذاب لقضیة ابن سبأ، و انها لم یکن لها ذرة من الواقع قبل وضعها من قبله.

و سنتناول هنا قضیة ابن سبأ-و إن أشرنا إلیها من قبل و لکن الأستاذ الأدیب قد اعتمد علیها أکثر من غیره،و جعلها دلیلا یسیر علیه لیصل إلی الغایة.و ما هی إلا کسراب بقیعة یحسبه الظمآن ماء.

ص:453

مقدمة الکتاب:

و لنقتطف هنا من مقدمة الکتاب بعض ما جاء فیها مما یدلنا بوضوح علی منهجه فی بحثه،و خطته التی سار علیها بعنوان أنه أدیب:

یقول:یرجع ألفی إلی هذا النوع من الأدب السیاسی إلی السنة الثانیة من سنی دراستی فی کلیة اللغة العربیة،حینما کنت مکلفا فی دراسة الأدب الأموی،و الوقوف علی قدیمه و جدیده،فإذا أنا أمام ثروة مشرقة من آدابنا الحزبیة،تظاهرت علی إنضاجها عقول صقلها الإسلام،و هذبها کتّابه،و أقامتها حیاة اجتماعیة و سیاسیة...

و یقول:ثم کانت دعوة کریمة،ناشدت أبناء الأزهر و علماءه أن یدرسوا الأحزاب الإسلامیة،و یقفوا علی طریق الجدل و الحجاج فیها،و ناشدتهم-بوجه خاص-أن تکون دراستهم لنشدان الحق،و وجه العلم بعیدة عن التعصب و الهوی...

أما لما ذا اخترت أدب الشیعة موضعا لرسالتی؛فلأنه-أولا-أدب یمجد آل الرسول-صلّی اللّه علیه و سلم-و ینتصر لحقهم،و یبکی مصارع قتلاهم و لأنه-ثانیا- أدب یصور العاطفة المتأججة،و الحب الصادق،و الأدب إذ تظاهرت علی إبرازه:

عاطفة و إحساس،و عقیدة...کان فی عرف المتأدبین جدیرا بالبحث و حقیقا بالحیاة...

و بعد ذلک یبین منهجه فی البحث ثم یقول:و خصصت فصلا ثالثا للعقائد الشیعیة و أثرها فی الأدب.

و هنا غلبتنی أزهریتی فوقفت قلیلا عند جمهرة من هذه العقائد أناقشها و استدل لها،و علیها،و هنا کذلک و ضحت الفکرة الشیعیة و استبانت أطوارها فأوجزتها فی کلمات قدمت بها رسالتی.

أما قسم الأدب،فله منهج فی البحث،و سبیل جدید عمدت إلی أدب الشیعة فنثرته بین یدی متوخیا عصوره،مستقصیا مناهجه و أصوله،فإذا أنا أمام أدب یتدرج فی حجاجه و مناحیه،تدرج الفکرة الشیعیة فی سذاجتها و عمقها،فهو عربی صریح أیام أن کانت الفکرة الشیعیة عربیة صریحة،و هو عنیف،ثائر،فی الوقت الذی

ص:454

تغلغلت فیه الفکرة الشیعیة،و أبزرتها الفواجع العلویة فی صور من العقائد،فاستقل لتبیان ذلک الفصل الرابع...الخ.

هذا بعض ما اقتطفناه من مقدمة الکتاب لنستنتج منه بعض ما لا بد من إیضاحه قبل الدخول فی صمیم الموضوع،و هنا أمور یدرکها القراء:

1-إن الأدب الأموی تظاهرت علی إنضاجه عقول صقلها الإسلام،و هذبها کتّابه.

2-و إلی جانب الأدب الأموی الأدب الشیعی،أو بعبارة أصح الأدب العلوی فهو فی نظر الأستاذ لم یکتسب تلک الدرجة،و لم تصبغه تلک الصبغة الإسلامیة من حیث الصقل و الإنضاج-کما اتصف الأدب الأموی-فالأدب الشیعی أدب عاطفة متأججة،و حب صادق یتدرج تدرج الفکرة الشیعیة فی سذاجتها...الخ.

3-إن الأستاذ فی دراسته هذه ینشد الحق لذات الحق و وجه العلم و هذا هو أمنیة کل مسلم،و هدف کل منصف،و سنری فیما بعد هل تحقق عند المؤلف ما کان ینشده؟أم أن ذلک لا یعدو إلا القول دون العمل؟أو أنه حبر علی ورق؟.

تعقیب:

و لا أدری ما هو قصد الأستاذ من قوله:إن الأدب الأموی الذی تظاهرت علی إنضاجه عقول صقلها الإسلام و هذبها کتاب اللّه؟ أ کان یقصد أدب الخطباء الذین کانوا ینالون من أهل البیت و یعلنون سبهم؟أ هذه هی العقول التی صقلها الإسلام،و هذبها کتاب اللّه؟!!!!أم یقصد أدب الشعراء الذین یتقربون للأمویین فی هجاء العلویین و أنصارهم؟أم العقول التی صقلها الإسلام و هذبها کتاب اللّه عقل حکیم بن عباس الأعور الکلبی الذی یفتخر بقتل زید فیقول:

صلبنا لکم زیدا علی جذع نخلة و لم نر مهدیا علی الجذع یصلب

و قستم بعثمان علیا سفاهة و عثمان خیر من علی و أطیب؟!

قال ابن عساکر:فلما بلغ شعره إلی أبی عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق علیه السّلام رفع یدیه إلی السماء و هما تنتفضان رعدة فقال علیه السّلام:اللهم إن کان کاذبا فسلط علیه کلبا من کلابک،فخرج حکیم من الکوفة فأدلج فافترسه الأسد

ص:455

فأکله،و أتی البشیر أبا عبد اللّه و هو فی مسجد النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فخر للّه ساجدا،و قال:

الحمد للّه الذی أصدقنا وعده (1).

أ هذا الأدب الذی أنضجته عقول صقلها الإسلام،و هذبها کتاب اللّه؟!و یکون شعر الکمیت الشاعر الشیعی فی رثاء زید بن علی علیه السّلام شعرا عاطفیا محضا فمن قوله:

یعز علی أحمد بالذی أصاب ابنه أمس من یوسف -یقصد یوسف بن عمر الثقفی عامل هشام-و لا نضرب الأمثال،إذ لیس من قصدنا التوسع فی المقارنة و ضرب الأمثلة فی هذا الموضوع فهو واسع لا یحاط به بقلیل من البیان.و ما ضمته کتب الأدب و الدواوین یعد ثروة أدبیة متمیزة.

و أصارح الأستاذ بأن ما ذهب إلیه فی هذا الموضوع خطأ و إن حصلت عنده قناعة شخصیة فهی تزول بقلیل من التأمل.

أما قوله:إن الأدب الشیعی یصور العاطفة المتأججة و الحب الصادق و إنه أدب یمجد آل الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

فهذا هو الواقع فإن الشیعة قد أحبوا أهل البیت حبا صادقا،و اعتقدوا بهم اعتقادا لم یخرجوا به عن حدود ما رسمه الإسلام.

فهم أهل بیت الرسول الذین أمر اللّه بمودتهم،و الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أوحی بإکرامهم، و حفظهم،و قد قرنهم بالکتاب العزیز،و هم حبل اللّه الذی أمر بالاعتصام به،و هم کسفینة نوح من رکبها نجا،و من تأخر عنها غرق و هوی و...و...

فحبهم کان للّه و رسوله لا حب دنیا و فی ذلک یقول الشاعر العبلی الأموی النسب،و العلوی العقیدة:

شرّدوا بی عند امتداحی علیا و رأوا ذاک فیّ داء دویا

فو ربی لا أبرح الدهر حتی تختلی مهجتی بحبی علیا

و بنیه لحب أحمد أنی کنت أحببتهم لحب النبیا

حب دین لا حب دنیا و شر ال حب حب یکون دنیاویا

ص:456


1- (1) تهذیب تاریخ ابن عساکر 4:423.

و یقول شاعرهم الکمیت:

ما أبالی إذا حفظت أبا الق اسم فیهم ملامة اللوّام

لا أبالی و لن أبالی فیهم أبدا رغم ساخطین رغام

و علی هذا یسیر الأدب الشیعی فی طریق أهل البیت،و ما أکثر الأمثال علی ذلک و لا أخطئ إن قلت إنه أکثر من أن یحصی.فحب الشیعة لأهل البیت إنما هو حب للّه و لرسوله،امتثالا لأمره صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إذ یقول:

«أحبوا اللّه لما یغذوکم به من نعمه،و أحبونی بحب اللّه و أحبوا أهل بیتی بحبی» أخرجه الترمذی عن ابن عباس (1).

و قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أیها الناس إنی أوشک أن أدعی إلی لقاء ربی فأجیب و إنی تارک فیکم الثقلین کتاب اللّه و عترتی أهل بیتی،و إن اللطیف الخبیر أخبرنی:أنهما لن یفترقا حتی یردا علی الحوض فانظروا بما ذا تخلفونی فیهما (2).

إلی کثیر من وصایاه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم التی أکد فیها وجوب المحافظة علی العترة،و الولاء لهم بما یطول المقام بذکر بعضها و قد أشرنا إلی البعض من وصایاه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیما سبق.

و الخلاصة:إن حب الشیعة حب صادق لا لغرض من حطام الدنیا و قد تحمل الشیعة فی سبیل المحافظة علی وصایا الرسول ما لا یمکن إنکاره.

و إن العاطفة التی یذکرها الأستاذ إنما هی شعور بالمسؤولیة التی تدعو إلی التضحیة و تحمل علی الوقوف إلی جانب الحق.و هذا الشعور هو الذی جعل الشیعة أمة ثوریة مما دعا إلی تجمع القوی المختلفة ضدها،فکان ما کان من دعایة و تهریج و اتهام بالباطل،و الرمی بکل کریهة...الخ.

و الأستاذ یدرک هذا و قد أشار إلیه فی بعض أبحاثه و تعرضنا له من قبل.

و قد نوّهنا برقة الشعر الشیعی أو فقل برقة المشاعر الشیعیة عامة لأن المآسی و الأهوال التی أصابت أهل البیت علیهم أفضل الصلاة و السلام تثیر مشاعر مصحوبة

ص:457


1- (1) انظر صحیح الترمذی 13:201 فی مناقب أهل البیت و شرح المواهب اللدنیة 7:9. [1]
2- (2) مصادر هذا الحدیث کثیرة و صحیحة و قد رواه مسلم و الترمذی و النسائی و غیرهم کما ذکره المفسرون و قد أشرنا له فی الجزء الأول و الخامس ط 1 من هذا الکتاب و ذکرنا بعض مصادره فلا حاجة إلی التکرار.

بعواطف مشبوبة و أحزان متدفقة تجعل من الشاعر الشیعی مصورا للأحداث بقصیده و ناطقا بالحق بعواطفه حیث تتداخل العقیدة و ما تبثه النفس فهؤلاء أئمتهم عترة المصطفی و هم أثر وجوده و بقیة نسبه تتلاقفهم السیوف و تغصّ بهم السجون و تزدحم برفاتهم ساحات الحروب ففی کل زاویة نص من عقیدة یحضّ علی ولایتهم و حبهم و فی کل ناحیة من الدنیا ألوان من الفجائع و المآسی التی تثیر عواطف ممن لیسوا علی دین الإسلام فکیف بمن ینذر نفسه لصاحب الرسالة و للذب عن مبادئ القرآن و حملتها من أهل البیت النبوی الکریم؟لا بد أن یکون الشعر الشیعی فیاضا بالعاطفة مملوء بالإیمان.

3-و أما النقطة الثالثة فإنها بادرة حسنة،و الأزهر الشریف جدیر بأن یقوم بهذا العبء و نحن نناشد المصلحین من الکتاب و المؤلفین الذین یدرسون تاریخ الشیعة أن تکون دراستهم لنشدان الحق،و وجه العلم،بعیدة عن التعصب و التحیز،و لا سیما فی هذا العصر الذی اشتد فیه وعی المسلمین-بعد طول تجارب-بالحاجة إلی الدعوة لجمع کلمة الأمة الإسلامیة،و قد سعی المصلحون إلی تقاربهم عن طریق التفاهم، و الشعور بوجوب ترک ما خلفته العصبیة السوداء و الطائفیة العمیاء،و نسیان مآسی الماضی فی عصور اشتد بها النزاع الحاد بین المسلمین،و ما جری بسببه من دمار و انهیار.

و نسأل اللّه جلت قدرته أن یهیئ للمسلمین من أمرهم رشدا،و أن یجمع بین قلوبهم،و ینزع ما فی صدورهم من غل-علی بعضهم البعض-فیصبحوا بنعمته إخوانا کما أراد اللّه لهم ذلک،و جاء به رسوله الأعظم.

ثم یتحول الأستاذ من اختصاصه بالأدب إلی محدث ناقد،و راویة مختص فهل یجوز علمیا بحکم تخصصه بالأدب أن یتجاوز ذلک فیتناول موضوع الأحادیث الموضوعة،و یسیر علی نفس الطریقة التی سار علیها غیره من الکتاب فی اتهام الشیعة بوضع الحدیث دعما لما یدعونه،و حجة یقصدون بها تقویة مذهبهم کما یقول فی ص 14:

و هذه الدعاوی(أی الشیعیة)لا بد لها من حجج تعضدها و تقویها،فالتمسوها

ص:458

فی القرآن یؤولون آیاته،و الحدیث یفسرون نصوصه،و لیس من سبیل إلی اختراع قرآن یتفق مع مذهبهم،و یسد حاجة نفوسهم،فعصم اللّه قرآنه منهم،و لکن السبیل سهل میسور إلی اختراع الأحادیث،و الکذب علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و التقول علی أبنائه علیهم السّلام فوضع الشیعة الأحادیث فی فضل علی...الخ.

>و نحن نقول:< و لذلک وضعنا کتاب حمیدة فی جملة من رأینا ضرورة ردهم من بین عشرات أو مئات الکتب التی تقطر حقدا و کذبا،و مثل هذا القول من أوضح آیات العجز و من أدل الأمور علی القصور عن سلوک طرق العلم و اتباع أسالیبه فهذه العبارات أو هذا التعبیر لم یکن بالشیء الجدید و لم یکن هو صاحب هذه الفکرة و إنها ولیدة دراسته الأدبیة.

إنها ألفاظ مجها السمع لکثرة تردادها،و ملت الصحائف منها لکثرة سوادها،و إلا فإن العلم الذی أهّل أصحاب الشهادات لحمل الألقاب و تبوّأ المناصب یقضی بالإنصاف و الاطلاع علی الآثار و الأفکار بتجرد،و من أبسط مواصفات المثقف طرح التعصب لأنه عدو العلم و لا یؤدی بمن سلک طریقه إلا البوار.

هذا عین ما نطق به المستشرقون (1)و تبعهم المقلدون،و کنا قریبا نناقش الأستاذ الذهبی حول هذه الفکرة و التی لا یخلو منها کتاب جدید و ما هو بالشیء الجدید.

و أقول لما ذا یتکلف محبو علی علیه السّلام وضع أحادیث فی فضله حتی(تتحمل وزره إلی یوم الدین)کما یقول المؤلف.

کأن الإمام علیا علیه السّلام لم تکن له فضائل واقعیة حتی یلجأ محبوه إلی الفضائل الادعائیة؟!و هل هناک مسلم ینکر ما جاء لعلی من الفضائل؟! إن قول المؤلف هذا بعید عن الواقع،و لو أنه تعمق فی الدراسة،و نظر الموضوع بعین الإنصاف لما عبر بقوله فی ص 15:فما لعلی و المهدی المنتظر،و ما لعلی و التحدث عن الدول المستقبلة،و موقعة کربلا،و ولایة الحجاج،و ما سیکون! و لکن الشیعة ترید أن تدعی لعلی من الفضائل ما لا یتحمله بشر،و تضعه فی منزلة- تساوی-إن لم تفق مقام الرسالة...

ص:459


1- (1) انظر حضارة الإسلام ص 250.

إنها لعمر اللّه جرأة علی الحق،إنه یشیر بطرف خفی إلی التشکیک فی نهج البلاغة،و الذی أحدث هذا التشکیک هو ابن خلکان فی القرن السابع الهجری، و أخذه من بعده المغرضون،فوسعوا دائرته من دون رعایة للحق.

و لهذا فقد التزم المنصفون بردّ ابن خلکان،و إثبات ما أورده الشریف الرضی من مصادر قبله بعدة سنین.

و قد کانت خطب الإمام علی فی القرون السالفة هی المعول علیها عند الخطباء و علیها تدور خطاباتهم.

(و قد حفظ الناس عنه الخطب،فإنه خطب بأربع مائة خطبة،حفظت عنه و هی التی تدور بین الناس،و یستعملونها فی خطبهم و کلامهم) (1).

هکذا یقول المؤرخ ابن واضح و هو من أعلام القرن الثالث الهجری و لیس من قصدنا فی هذا العرض أن نتعرض لهذه المسألة،و لکن المؤلف طلع علینا بصورة من ینشد الحق و وجه العلم،و من الحق تنبیهه علی خطئه و سوء تعبیره.

و ما أبعد قوله هذا عن الحق و وجه العلم و رمیه الشیعة بادعاء الفضائل لعلی علیه السّلام...الخ لم یکن إلا انصیاعا للعاطفة،و خروجا علی الحق و ابتعادا عن العلم.

إن علی بن أبی طالب لم یکن بحاجة إلی الفضائل الادعائیة،فهو أجل من ذلک.

و لنترک ما جاء من طریق الشیعة و نولی وجهنا شطر ما ورد فی کتب المسلمین من غیر الشیعة،فهل بإمکان أحد أن یدعی ذلک بأنه من الأمور الادعائیة نصرة للمذهب بقول الإمام أحمد بن حنبل:ما ورد لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانید الصحاح مثلما ورد لعلی علیه السّلام (2).

و بهذا قال إسماعیل القاضی و النسائی و أبو علی النیسابوری و غیرهم (3).

ص:460


1- (1) انظر مشاکلة الناس لزمانهم-15. [1]
2- (2) مناقب أحمد لابن الجوزی 163.
3- (3) مناقب الإمام علی للعینی-12.

و علی أی حال:فإن علی بن أبی طالب علیه السّلام قد اختص بمزید فضل و علو منزلة لا یدانیه فیها أحد فقد رباه النبی فی حجره و نشأ فی ظله و تغذی تعالیمه منه، و أودعه أسراره (1)و لازمه طول حیاته،و سبق إلی تصدیقه فی الرسالة قبل کل أحد و لبی دعوته فی مؤازرته یوم نزلت وَ أَنْذِرْ عَشِیرَتَکَ الْأَقْرَبِینَ و فداه بنفسه یوم أزمع کفار قریش علی قتله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أمره اللّه بالهجرة (2).

و اختصه النبی بمواخاته یوم آخی بین أصحابه فأخذ بید علی علیه السّلام و قال:هذا أخی (3)و هو منه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بمنزلة هارون من موسی (4)و کان أصحاب محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یعبرون عمن سب علیا بأنه قد سب النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (5)کما کانوا یعرفون المنافقین ببغضهم لعلی بن أبی طالب علیه السّلام لأن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:«یا علیّ،لا یحبک إلا مؤمن و لا یبغضک إلا منافق» (6).

قال جابر بن عبد اللّه،ما کنا نعرف المنافقین إلا ببغضهم علیا و مثله عن أبی سعید الخدری (7).

و قد شهد النبی لعلی فی إقدامه و شدة بلائه فی اللّه و قوة إیمانه و محبته للّه و رسوله و محبة اللّه و رسوله بقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یوم خیبر«لأعطین الرایة غدا رجلا یحبه اللّه و رسوله و یحب اللّه و رسوله یفتح اللّه علی یدیه».

أخرجه البخاری فی عدة مواضع من صحیحه و مسلم و أحمد بن حنبل و أبو داود و الترمذی و ابن ماجة و غیرهم.

إن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم شهد لعلی علیه السّلام بهذه الشهادة فی أحرج المواقف عند ما اعتصم الیهود فی حصونهم و لم یستطع أحد من الإقدام فیکون الفتح علی یدیه فأعلن

ص:461


1- (1) انظر مناقب الإمام علی علیه السّلام للعینی.
2- (2) انظر سیرة ابن هشام 2:95.
3- (3) الریاض النضرة و کنز العمال،الإصابة و غیرها.
4- (4) أخرجه البخاری و مسلم و خرجه الحفاظ بطرق متعددة.
5- (5) الریاض النضرة 2:219 و [1]خصائص النسائی 24. [2]
6- (6) أخرجه مسلم 2:64 من شرح النووی.
7- (7) صحیح الترمذی 2:298. [3]

رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بأن الفتح لا یکون إلا عند رجل هذه صفته و هو علی علیه السّلام الذی یحبه اللّه و رسوله،و یحب اللّه و رسوله.

قال ابن تیمیة:إن فی ذلک شهادة لعلی علیه السّلام بإیمانه باطنا و ظاهرا و إثباتا لموالاته للّه تعالی و رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و وجوب موالاة المؤمنین له (1).

و یمکننا أن نقول بإیجاز:لو لم تکن السیاسة قد کمنت وراء الواقع و نصبت حبالها لمن ینطق بالحق لما تجرأ أحد علی کثیر من الحقائق و لما استطاع أحد أن یتجاهل أمورا هی کالشمس فی رائعة النهار أو تحدثه نفسه بالتشکیک أو التطاول، و لو لا بقایا تلک الأعمال التی لجأ إلیها الطغاة و الخوارج فی النیل من الإمام علی علامة استفهام و تعجب.

و إن الأستاذ الأدیب فی إثارته لهذا الموضوع لیثیر عندنا کثیرا من الشکوک فی تفهمه للقضایا و تعمقه فی دراسة الموضوع و حیث کنا بمعزل عن قصد الخوض فی مثل هذه الأبحاث فإنا نترک بسط القول فیه و نکتفی بأن نلفت نظر الأستاذ إلی التوسع فی الدراسة لیقف علی أمور تکشف له حقیقة الواقع.

و إذا أردنا الخوض فی هذا الموضوع فباستطاعتنا أن نقدم له آلاف المناقب المفتعلة لأناس هم دون علی و لا یجارونه فی الفضل و شرف المحتد و علو المنزلة و نحن نؤثر أن نترک هذا الموضوع فما هو بالشیء الجدید أو البحث الذی لم یدرس، و لا تجنّیه و افتئاته بغریب علی واقع العلم و الأدب.

>یقول المؤلف فی ص 16:< اقرأ-إن شئت-فی أوثق کتبهم و أصحها عندهم لتری کیف أصبح التشیع بعد القرن الثانی-خاصة-عقیدة تشل الفکر و تمیت العقل کما أصبحت خطرا علی الإسلام و المسلمین و شرا مستطیرا علی الدین...ثم ینقل عن أحمد أمین فی ضحی الإسلام 3:213 حدیثا عن الکافی و إن الکافی هو کالبخاری عند أهل السنة.

ص:462


1- (1) انظر فتح المجید لعبد الرحمن حفید محمد بن عبد الوهاب-90.

>أقول:< أورد المؤلف هذا بعد کلام طویل أعرضنا عنه لأن الخوض فیه یدعو إلی الإطالة و فیه أیضا تعبیر عما یحمله الأستاذ من فکرة خاطئة حول الشیعة و تطور نظریة الإمامة،و هو بهذه الأفکار یلتحق بالجماعات الذین شهدناهم علی مر التاریخ و قد ملأوا الصفحات الطوال للإساءة للشیعة،فرأینا الإعراض عنها أولی من التعرض لها.

و هنا یحکم الأستاذ الأدیب بأن عقیدة الشیعة-أو التشیع-تشل الفکر و تمیت العقل بمعنی أنها عقیدة جامدة لا مجال فیها للعقل و حکمه و لا حق للتفکیر فیها هکذا یقول.

و الأستاذ لم یحسن التبعیر فإن هذا القول المفتعل أو هذه النظرة لم تکن من بنات أفکاره و إنما هو مقلد فیها للمستشرقین فهم قد ادّعوا ذلک (1)و لم یستطع الأستاذ أن یطلق لفکره العنان فی صحة ذلک و نکتفی بالجواب عما أورده هنا برد الأستاذ عباس محمود العقاد لهذه الشبهة التی أثارها المستشرقون إذ یقول-فی بحثه حول الاختلاف فیما یتعلق بمواضع النظر و أسباب الفهم و التفکیر-:

هکذا خطر لبعض المستشرقین و کتاب الغرب،الذین بحثوا فی علاقة اختلاف الشعوب باختلاف مذاهب النظر و الاجتهاد،فظن بعضهم أن طوائف الشیعة آمنت بالإمام،لأنها ورثت تقدیس الرؤساء و الأحبار،و قیدت من حق العقل فی البحث و الفهم،بمقدار ما اطلقت من سلطان الإمام،و وکلت إلیه من حق القیادة و الإرشاد.

و فی هذا الظن من المستشرقین و هم لا شک فیه،لأن هذه المسألة بذاتها- مسألة الدراسة العقلیة-قد کانت فی طلیعة المسائل التی اشتغل بها الشیعة الإمامیون، و من أفوه الشیعة الإمامیین تلقی أساطین الفلسفة الإسلامیة کلامهم فی العقل و النفس، و فی مذهب الافلاطونیة الحدیثة،و مذهب افلوطین منها علی التخصیص،و یقول الشیخ الرئیس ابن سینا فیما رواه عنه تلمیذه الجوزجانی«کان أبی ممن أجاب داعی المصریین و یعد من الإسماعیلیة،و قد سمعت منهم ذکر النفس و العقل،علی الوجه الذی یقولونه،و یعرفونه و کذلک أخی».

ص:463


1- (1) الإسلام للمستشرق هنری ماسیة 195.

و الفارابی أستاذ ابن سینا بالاطلاع و القدوة نشأ فیما وراء النهر،و وعی أقوال الشیعة الإمامیة فی شروط الإمامة،و مزج بینها و بین شروط افلاطون فی کتاب الجمهوریة،فجعل الإمام صفوة الخلق فی کمال الصفات،و اجتماع الفضائل العقلیة و النفسیة،بل فضائل الجسد التی نزهت عن شوائب الضعف و المرض،و کان إخوان الصفا یدینون بمذهب فی الإمامة کهذا المذهب،و یؤلفون الرسائل مع هذا فی المنطق،و فی علوم الریاضة،و الفلک و ما إلیها،من علومهم العقلیة.

فالدراسات المنطقیة،و سائر الدراسات العقلیة-کانت من شواغل الشیعة الإمامیین،و لم یکن إیمانهم بالإمامة مما یصرف العقل عن التوسع فی علم من العلوم،و ربما أخذت علیهم طوائف المسلمین افراطا فی هذا الباب،و لم تأخذ علیهم تفریطا فیه یتعمدونه أو یساقون إلیه علی غیر عمد (1).

هذا ما اقتطفناه من کلمة الأستاذ العقاد فی رده علی المستشرقین حول فکرتهم الخاطئة-و کم لهم من أخطاء-فیما یکتبونه عن الإسلام بصورة عامة،و عن الشیعة بصورة خاصة،للأسباب التی مر ذکرها (2).

و من المؤسف له-أن کثیرا من الکتّاب قد تأثروا تأثرا أخرجهم عن حدود ما یجب علیهم أن یتبعوه فی کتاباتهم و منهم المؤلف.

و إن القول بأن الشیعة قد قیدوا العقل أو أنهم جامدون إلی آخر ما فی حقیبتهم من أفکار خاطئة ینطوی علی غرض لا یخفی علی أی منصف فقد رأینا أصل مثل هذا الاتهام؟و جاء البعض و سمح لنفسه بأن یأخذ أفکاره من المستشرقین و هم من قادة حملة السیطرة الأجنبیة و أدوات النهب الاستعماری و من السهل أن یعتذر الإنسان للأجانب و یتسامح معهم لأن عوائق کثیرة تحول دون استیعابهم للأمور و تمثلهم للمسائل؟و لکن بما ذا نعتذر لمن هم من أبناء الإسلام.

و یبقی الباحث بین تردید هذه الدعاوی و جریانها علی أقلام إخواننا و أبنائنا و بین صفات التخصص و المراکز و الألقاب العلمیة فی حیرة.

ص:464


1- (1) انظر التفکیر فریضة إسلامیة للأستاذ عباس محمود العقاد ص 60-61.
2- (2) انظر الجزء الخامس من هذا الکتاب ط 3 ص 23 و الجزء السادس ص 384 و 400.

فإذا جهل الأستاذ حمیدة أن الشیعة کیما یخففوا من آثار سیاسة الحاکمین فی تقیید العقل و حریة الرأی جعلوا العقل قبل القیاس فی حرکة الرأی و لم یطمئنوا إلی القیاس خشیة أن لا یکون ضابطا قویا فی استنباط الأحکام فجعلوا العقل محل ذلک فهل جهل الأستاذ ما تناوله العلماء و الباحثون فی الحرکة العقلیة فی الإسلام کحقیقة ثابتة و مساهمات الشیعة الکبری فی کل نتاجات العقل الإسلامی.

یقول الدکتور محمد ضیاء الدین الریس،أستاذ التاریخ الإسلامی بکلیة دار العلوم بجامعة القاهرة:

إن أول من کتبوا فی«الإمامة»کتابة علمیة،و أول من تصدوا إلی إثبات مذهبهم بالأدلة المنطقیة،سواء أ کانت الأدلة مبنیة علی أساس«دینی»-ثیولوجی-أم عقلی هم:الشیعة،فالشیعة لهم الفضل فی خلق هذا النوع من العلم المسمی بالإمامة و هم الذین أوجدوه،و أفردوا له مکانا بین مباحث علم الکلام،و إذا کان من المعروف أن «علم الکلام»فیما یختص بالعقائد الدینیة إنما نشأ کنتیجة للمناقشة و الجدل بین الشیعة و المعتزلة و أهل الحدیث،فکذلک مباحث الإمامة-و هی الجانب السیاسی منه-إنما وجدت للنقاش بین الشیعة و مخالفیهم:من خوارج،و معتزلة،و أهل السنة.

و هذه الحقیقة ذات دلالة کبیرة،إذ أنه ترتب علی أن الشیعة هم الذین أوجدوا هذا العلم و أنهم طبعوه بطابعهم،و صاغوه الصیاغة التی ارتضوها.

و مراعاة هذه الفکرة تفسیر لنا أشیاء کثیرة:فالشیعة-فی الغالب-هم الذین اختاروا للإمامة مصطلحاتها الفنیة،بل هم الذین سموها بهذا الاسم،و هم الذین قسموا العلم و بوّبوا أبوابه و عینوا مجاله،و رسموا حدوده،و هذا یشرح:لما ذا ظل علم الإمامة أو علم«النظریات السیاسیة الإسلامیة»محصورا هکذا فی نطاق محدود لا یعدوه،و لما ذا لم یتسع نطاق البحث فیه حتی یشمل مسائل هامة کان ینبغی لمفکری الإسلام أن یبحثوها؟فالحقیقة أن الشیعة هم الذین وضعوا الأساس،و أنه کان علی غیرهم من أهل الفرق الأخری أن یملئوا الفراغ الذی حدد بها الأساس،و أن یقیموا البناء معتمدا علیه،أو قل بتعبیر آخر:إن أبحاث الفرق الأخری إنما کانت محصورة فی أنها أجوبة علی الأسئلة التی یضعها الشیعة،و لم تکن إلا مجموعة من الردود علی الدعاوی التی کان الشیعة یبدءون بإثارتها.بهذا شابهت صیغة الجواب صیغة السؤال،

ص:465

و جاء مطابقا للدعوی التی أرید منه أن یدفعها (1).

و لو أطلق الأستاذ مؤلف کتاب أدب الشیعة عقله من عقاله،و جعل لأدبه دورا فی هذا الموضوع لما وقف جامدا علی أقوال المستشرقین فی اتهامهم للمسلمین بکل ما یوافق نعراتهم التعصبیة و الأغراض التی بیتوها.

و إن هذا القول الذی تقبّله بدون تمحیص،و جزم بصحته لدلیل واضح علی عدم خبرته و عدم تعمقه فی الدراسة،و إلا کیف یعقل أن تکون عقیدة الشیعة فی الإمامة(تشل الفکر و تمیت العقل)-علی حد تعبیر المؤلف-و قد کان القرن الثانی عصر جدل و مناظرات حادة و کانت المجالس تعقد للمناظرة؛و تشد الرحال للمدارسة و الاحتجاج،لا سیما فی الإمامة.

و قد انبری للرد علی الشیعة کل من الخوارج،و المعتزلة،فکانت مناظرات و جدل و قد اشتهرت مناظرات هشام بن الحکم المتکلم الشیعی المتوفی سنة 197 و هو من کبار تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام فقد ناظر علماء المعتزلة کعمر بن عبید، و أبی الهذیل،و أبی بکر الأصم.

و کان هشام متفوقا فی علم الکلام،و سرعة الجواب،و ممن فتق الکلام فی الإمامة،و هذب المذهب و النظر،و کان حاذقا بصناعة الکلام (2)و وضع کتابا فی الإمامة.

و لسنا بحاجة إلی التعرض إلی رجال الشیعة المتکلمین الذین تفوقوا بوضوح البرهان و قوة الحجة،کعلی بن إسماعیل التمار مؤلف کتاب الإمامة و الاستحقاق، و هشام بن سالم و محمد بن النعمان و آل نوبخت الذین اختصوا بعلم الکلام و خاضوا تلک المنازعات الکلامیة و غیرهم کنصیر الدین الطوسی الذی(کان آیة فی التحقیق و حل المواضع المشکلة،سیما لطف التحریر الذی لم یلتفت إلیه المتقدمون) (3)،لأن الأمر بات من الحقائق التی لم یملک أعداء الشیعة من قبل إلا الاعتراف بها،سواء کان ذلک منهم علی کره و مضض أو عن صدق و أمانة،فإن الدور السیئ للمستشرقین

ص:466


1- (1) النظریات السیاسیة فی الإسلام للدکتور محمد ضیاء الدین الریس 81-82.
2- (2) فهرست ابن الندیم 249. [1]
3- (3) مفتاح السعادة 1:261. [2]

بعد فضحه یبین لنا فیما جری علیه المحدثون الذین رضوا لأنفسهم الانقیاد لأعد الإسلام و الامتثال لأوامرهم و تقلید أفکارهم.

أسطورة:

و یختم المؤلف هذا الفصل بأسطورة ینقلها ابن عبد ربه،عن الجاحظ و الجاحظ ینقلها عن رجل من التجار:انه حدثه عن شیخ کان معهم فی السفینة،شرس الأخلاق،یربد وجهه لذکر الشیعة،فلما سئل عن السبب؟قال:ما أکره فیهم إلا هذه (الشین)التی فی أول اسمهم فإنی لم أجدها قط إلا فی کل شر،و شؤم وو...الخ.

قال أبو عثمان(أی الجاحظ)فما ثبت لشیعی بعدها قائمة (1).

هذه الأسطورة أو الدعابة التی ذکرها المؤلف کدلیل علی قوله:بأن التشیع أصبح بغیضا إلی النفس،و سبیلا إلی السخر و التهکم (2).

و کان الأجدر بالمؤلف و هو یدرس هذا الموضوع بروحه الأدبیة کما یقول:

(نسیر فی التاریخ السیاسی للشیعة بروح الأدیب لا بروح المؤرخ)،أن یترک الخوض فی مثل هذه الأکاذیب التی اخترعوها للدعابة و المجون للحط من خصومهم، و السیطرة علی عقول السذج،لأنها أسالیب تنافی العلم و تکشف عن العجز و لکن الأستاذ حمیدة ما دام قد ارتضی لنفسه منهج الاتباع الذی یلغی العقل و العلم،فلا غرابة أن تکون مادته من ذلک و لا مانع من أن نحاربه.

و أقول للمؤلف الأدیب،لو أن السنة کانت موجودة فی عصر الجاحظ و کان هذا الاسم معروفا فی ذلک الوقت لوضع الجاحظ إلی جنب هذه الأسطورة أسطورة أخری،و اخترع من بنات أفکاره وجود شیخ یکره السنة و یبغضهم لأن السین فی أول اسمهم لا یجدها الا فی کل سوء،و سقم،و سهاد،و سقر،و سل و.و.

و لکن اشتهار السنة کان فی عصر متأخر عن عصر الجاحظ لأن هذا الاسم لم یظهر إلا بعد الثلاث مائة من الهجرة و إنما ظهر هذا الاسم فی القرن الرابع الهجری.

عند ما قام أبو الحسن الأشعری فی أول القرن الرابع الهجری فی الرد علی

ص:467


1- (1) انظر العقد الفرید 1:360. [1]
2- (2) انظر أدب الشیعة 20. [2]

المعتزلة-بعد أن کان منهم فأظهر دعوته إلی السنة،و مذاهب السلف (1)فانتشر مذهبه،و أظهر فیه مذهب السنة،و عرف اتباع عقیدته بهذا الاسم.

و قد انتشر مذهب الأشعری أیام وزارة نظام الملک،الذی کان أشعری العقیدة، و کان صاحب الکلمة النافذة أیام السلجوقیین و أصبحت عقیدة الأشعری شبه عقیدة رسمیة تتمتع بحمایة البلاط.

و زاد فی انتشارها و قوتها مدرسة بغداد النظامیة التی کانت أکبر جامعة فی العالم الإسلامی،کان الانتساب إلیها شرفا و فخرا للطالب و المتخرج،و کانت وظیفة التدریس فیها مجدا للعالم،و شهادة علمیة،فکان طبیعیا أن ینتشر المذهب الأشعری و یسود فی العالم الإسلامی (2).

و الغرض أن أمثال هذه الأمور لیس من العسیر اختراعها فی عصور اشتد فیها الخصام حتی اختل فیها توازن النقد و التهجم.

و من الغریب إیراد أمثال هذه الأساطیر فی معرض الاستدلال و الأبحاث الأدبیة؛ و لا أدری ما معنی قوله:(فما ثبتت لشیعی بعدها قائمة)هل أن أثر هذه الأسطورة قضی علی دعوة التشیع فاستراح خصومهم،و هدأ جو المنازعات،إذ انتهی الدور الذی کان یدعو لذلک بمجرد أن تکلم ذلک الشیخ المجهول؟!! أ کانت هذه الکلمات أقوی من سیف معاویة بن أبی سفیان و أدهی من سیاسة زیاد تجاه الشیعة،تلک السیاسة التی یصفها المؤلف نفسه فی ص 31:بأنها قامت علی العسف و التنکیل،بکل من یحس فیه روح التشیع،و قد کان زیاد من شیعة علی علیه السّلام فکان بالشیعة أعرف،فأخذ یتتبعهم فی کل سبیل،حتی أباد الألوف من شیعة الکوفة و البصرة،و مثل بهم أشنع تمثیل،فقطع الأیدی،و الأرجل،و سمل العیون،و صلبهم فی جذوع النخل.

و ناهیک بما فعلته غارات معاویة و حملاته علی بلدان الشیعة الآمنة من قتل و نهب،و تخریب،و أعظمها غارة بسر بن أرطاة فی الیمن و غیرها.

و استمرت الحالة بعد معاویة حتی جاء عهد الحجاج ذلک العهد الأسود فحکم

ص:468


1- (1) مفتاح السعادة 2:37.
2- (2) رجال الفکر و الدعوة فی الإسلام للنووی-138.

السیف فی رقاب الشیعة،فکان أحب إلی الرجل أن یقال له زندیق و کافر،من أن یقال له شیعی.و قد وصفه المؤلف بقوله:

و لکن الحجاج و إن غلت یده عن الهاشمیین فقد انطلقت فی شیعتهم یقتلهم، و یسفک دماءهم،حتی أن الرجل لیقال له زندیق أو کافر أحب إلیه من أن یقال له شیعة علی و حتی خشی الناس من أن یتسموا بأسماء علویة.

وقف رجل فی طریق الحجاج فقال:أیها الأمیر،إن أهلی عقونی فسمونی علیا،و إنی فقیر بائس،و أنا إلی صلة الأمیر محتاج،فتضاحک الحجاج و قال:بلطف ما توسلت به قد ولیتک موضع کذا.

کل ذلک لم یخمد جذوة التشیع و لم یقعد بعزائمهم عن المضی فی مناصرة أهل البیت،و المناوأة لخصومهم،و کانت دماء شهدائهم تسقی بذور شجرة العقیدة-حتی استطاعوا أن یهدموا صرح الدولة الأمویة قبل أن تهدم صرح التشیع.

و هکذا تمر الأیام و لهم فی کل دور مواقف مشهودة و واجهوا من النکبات و عسف الولاة ما لم تواجهه طائفة أخری،و لیس بالإمکان عرض تلک الحوادث بهذه العجالة،و قد احتفظ التاریخ بها.

کل هذا و هم لم یخضعوا لسلطان جائر،و لم ینقضوا العهد الذی عاهدوا اللّه علیه،فی سبیل المحافظة علی وصایا رسوله الأعظم فی آله الکرام.

و لم یترک خصوم الشیعة وسیلة فی القضاء علیهم إلا استعملوها،حتی اتهموهم بالزندقة،و الخروج عن الدین،علی خلاف المعقول و الواقع کل ذلک تشویها للدعوة التی قام بها الشیعة،بإلقاء الشبهات علیهم من الوجهة الدینیة،و صدرت الفتاوی بحقهم فی الإبادة،قتل الآلاف منهم بسبب ذلک،مما یطول بیانه-و لیس بالشیء الجدید ذکره-فلم یقعد بالشیعة عن مواصلة الجهاد شیء من ذلک.

و أخیرا نأمل من المؤلف و غیره من إخواننا الکتّاب-الذین یسوقون فی معرض حدیثهم عن الشیعة أمثال هذه الأساطیر،فالأمر أرفع من ذلک-أن یخوضوا هذه الأبحاث أحرارا غیر مقیدین فی حدود ضیقة لا توصلهم إلی الحق و العدل،و أن لا یقبلوا کل شیء وقفوا علیه إلا بعد التمحیص فما أکثر الأمور الملفقة،التی کانت من وراء الدوافع النفسیة،و العوامل السیاسیة و قد تحمل تبعتها قوم خضعوا لذلک،و نقلها

ص:469

آخرون و هکذا ضاعت الحقیقة وراء حجب الأغراض و اللّه حسبنا و نعم الوکیل.

التاریخ السیاسی للشیعة:

یقول المؤلف فی بدایة الحدیث تحت هذا العنوان:

نسیر فی التاریخ السیاسی للشیعة بروح الأدیب لا بروح المؤرخ.نسجل أثره الأدبی،و فواعله النفسیة،فذلک بموضوعنا ألیق:

منذ وفاة الرسول صلّی اللّه علیه و آله و سلّم-و شیعة علی تتطلب الخلافة له و لنسله-لأمور تجلت قبل،لذلک ظلت حیاتهم بین وثبة و استعداد للوثبة،و غدا تاریخهم صفحة دامیة، تذیب القلب و تستنزف الدمع.

ثم یستمر الأستاذ فی الحدیث فیتعرض لخلافة علی علیه السّلام و نکث طلحة و الزبیر للبیعة،و یمضی للحدیث عن صفین و بیان التحکیم...و کل هذا لا نرید أن نتحدث عنه،و لا نناقش الأستاذ فی شیء منه لا لأن کل ما ذکره هو وجه الصواب ففیه ما یستوجب النقاش و لفت النظر،و لکن ضیق المجال یدعو لأن نقتصر علی أمور نشیر إلیها بإیجاز لأن استیعاب ذلک أمر لیس من الممکن حصوله الآن،لأننا فی معرض التنبیه عن أمور خاصة فلا نتعرض لأخطائه فی سیاسة الإمام علی علیه السّلام کما فی ص 35 و لنترک حدیثه حول الصلح کما أننا نستدل الستار بیننا و بین حدیثه حول واقعة کربلا و استشهاده علی صفة قتل الحسین علیه السّلام بقول زجر بن قیس إذ یصف ذلک عند یزید کما فی ص 37 ذلک الوصف الذی یمثل الحسین علیه السّلام و أصحابه فی معرض الهزیمة و الاندحار،و لکن الأدیب المؤلف قد دله ذوقه الأدبی أن یستشهد بأحد قواد المعرکة و هو رجل بمنتهی الإجرام،و قد مثل دور الوثنیة،و عهود الجاهلیة فیها.

أ لا کان من المناسب-أو حسن الأدب-أن یستعرض واقعة کربلا بدراسة واقعیة،بعیدة کل البعد عن اتباع ذوی الآراء الشاذة،ممن انغمسوا فی أتون العصبیة، فافترضوا بتحاملهم البغیض فروضا بعیدة عن الحق لا تتفق مع مقام الحسین علیه السّلام و مکانته.

نعم لو درس دراسة واقعیة لأعطی البحث حقه،و لوقف علی حقیقة الأمر، و ظهر له أن من النقص أن یستشهد بقول رجل مجرم-کزجر بن قیس الذی اشترک فی

ص:470

قتل ابن بنت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و سبی عیاله،و حمل رأسه،إلی یزید طاغیة زمانه،و عدو الإسلام اللدود،لنترک مناقشة المؤلف هنا و نعرض عن هذا الحدیث-فهو حدیث شجون-کما أننا نفضل الاختصار فی الرد و الإیجاز فی النقد،و نمضی بسرعة و نترک المؤلف حائرا یجیل و جهات النظر فی المعاذیر لمعاویة بن أبی سفیان فی إعلانه سب علی بن أبی طالب علیه السّلام علی المنابر و یحلو له أن تعج تلک المنابر بسب علی و آله.

و یقف المؤلف هنا حائرا و هو یخاطب نفسه فیقول فی ص 30:لن نستطیع أن نجمع بین أمرین،دین معاویة و حلمه،و دهائه یحسبه الجاهل خورا،حلما یتسع به صدره إلی أن یسمع الاقذاع من الناس،و النقد لسیاسته،فیقابل إساءتهم بالصفح، و اقذاعهم بالعطاء ثم هو مع ذلک یحلو له أن تعج منابره بسب علی و آله.

بهذا کان یفکر الأستاذ و یجیل النظر حتی اهتدی إلی حل هذه المشکلة بقوله:

و لعل معاویة-کساسة الیوم-قد علم أن الدعایة من أشد أسلحة الحرب مضاء، و أبلغها نفاذا،فاستعمل هذا السلاح لیصرف الناس عن آل البیت و یحول قلوبهم عنهم،و فی هذا دوام ملکه،فاستحل سیاسیا ما حرمه الدین،و وضع لمن بعده شرعة السباب لهذا البیت الکریم،فاستعملها خلفاء بنی أمیة حتی غدت سخریة الناس و تندرهم إلی أن أبطلها إمام عادل....الخ.

و بهذا انحلت تلک المشکلة التی تقف أمام الأستاذ فی دراسته،فمعاویة استساغ سب علی لأجل الدعایة و ذلک لا ینافی الدین کما یظن الأستاذ و هکذا یبدو المؤلف بهذا الموضوع بتفکیره الجدید فی حل هذه المشکلة رغم عظیم وقعها.

و نحن کما قلنا لا نرید أن نقف هنا طویلا،و من الخیر أن نشیر إلی إنکار الصحابة؛منهم:أم المؤمنین أم سلمة رضی اللّه عنها فقد انکرت علی معاویة فیما ارتکبه،فإنها أرسلت إلی معاویة تقول له:

(إنکم تلعنون اللّه و رسوله،إذ تلعنون علی بن أبی طالب و من یحبه و أشهد أن اللّه و رسوله یحبانه).

و مر ابن عباس بقوم یسبون علیا علیه السّلام فقال لقائده:أ ما سمعت هؤلاء ما یقولون؟!

ص:471

قال:سبوا علیا.

قال:فردنی إلیهم.فرده.

فقال:أیکم الساب لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟! قالوا:سبحان اللّه من سب رسول اللّه فقد کفر!! فقال:أیکم الساب لعلی؟ قالوا:أما هذا فقد کان.قال ابن عباس:فأنا أشهد باللّه لسمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول:من سب علیا فقد سبنی،و من سبنی فقد سب اللّه و من سب اللّه عز و جل أکبه اللّه علی منخریه فی النار (1).

و لدینا أمثلة أخری من إنکار الصحابة علی معاویة فیما ارتکبه من سب علی علیه السّلام،و أصبح ذلک أمرا عاما فی جمیع أطراف المملکة،و لکن المسلمین کانوا یقابلون ذلک بالإنکار،لأن صوت رسول اللّه یقرع أسماعهم فی إعلانه بأن علیا نفسه،و هو منه کما أخرج البخاری أن النبی قال لعلی:(أنت منی و أنا منک) (2)و أخرج ابن النجار عن ابن عمر و النضیری عن عائشة أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:(علی نفسی).

و لسنا بحاجة إلی إیراد کل ما صرح به صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من بیان منزلة علی علیه السّلام و أنه نفسه و أنه(منه بمنزلة رأسه من بدنه) (3).

و قد شهد أصحابه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بشتی المناسبات بأنه کان یشرک علیا فی عمله،و ینزله منزلة نفسه.

قال غرقة بن الحرث الکندی:شهدت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أتی بالبدن فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

ادعو لی أبا حسن.فدعی له.فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:خذ بأسفل الحربة،و أخذ صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بأعلاها،ثم طعنا بها البدن.(یوم النحر)فلما فرغ صلّی اللّه علیه و آله و سلّم رکب و أردف علیا (4).

قال الحافظ:اشترک صلّی اللّه علیه و آله و سلّم هو و علی فی نحر ثلاث و ثلاثین بدنة.فهو صلّی اللّه علیه و آله و سلّم کان

ص:472


1- (1) النسائی فی الخصائص 24 و الریاض النضرة 2:219. [1]
2- (2) البخاری 5:22. [2]
3- (3) الخطیب 7:41.
4- (4) شرح المواهب 8:194. [3]

ینزل علیا منزلة نفسه کما خصه اللّه تعالی فی ذلک بقوله عز و جل:قال تعالوا ندعو أبناءنا و أبناءکم و نساءنا و نساءکم و أنفسنا و أنفسکم.

و یحدثنا البیهقی:أن رجلا قام فی مجلس ابن أبی عائشة فقال:یا أبا عبد الرحمن،من أفضل أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟فقال:أبو بکر،و عمر،و عثمان، و طلحة،و الزبیر.

فقال الرجل:فأین علی بن أبی طالب؟!!فقال ابن أبی عائشة:تستفتینی عن أصحابه أم عن نفسه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟ فقال الرجل:عن أصحابه.فقال ابن أبی عائشة:إن اللّه تبارک و تعالی یقول:

فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَکُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَکُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَکُمْ... الآیة فکیف یکون أصحابه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم مثل نفسه؟ إذا فکیف یجتمع الدین مع إعلان السب للّه و رسوله!و هل یکون الإنسان معذورا إذا وجد طریقا سیاسیا لمخالفة الدین؟هذا من جهة،و من جهة أخری فإن ذلک السب منبعث عن البغض لعلی علیه السّلام و بغض علی علامة النفاق،أخرج الترمذی عن عدی بن ثابت عن زرّ بن حبیش عن الإمام علی قال:لقد عهد إلی النبی الأمی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه لا یحبک إلا مؤمن و لا یبغضک إلا منافق قال عدی بن ثابت:أنا من القرن الذی دعا لهم النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم (1).و إن المنافقین فی الدرک الأسفل من النار.

و کذلک نترک الأستاذ المؤلف یماشی الشیخ الخضری و یذهب مذهبه فی توجیه اللائمة علی الحسین علیه السّلام فی خروجه علی یزید بن معاویة (2)،لأننا نفضل ترک الخوض فی هذا الموضوع لأنه یخرجنا عن الصدد فی استعراض أخطاء الشیخ الخضری،و تهجمه علی مقام الحسین علیه السّلام مما یدل علی نزعته،و انحرافه عن طریق الصواب.

ص:473


1- (1) صحیح الترمذی ج 13 ص 177.
2- (2) محاضرات الشیخ محمد الخضری ج 1 ص 129.

و المؤلف فیما یظهر یؤید ما ذهب إلیه عن قناعة غیر ناشئة عن تفهم الموضوع تفهما واقعیا،لکنه استعذب القول فنقله بدون تریث کما هو شأنه فی کثیر من آرائه التی لا یعترف بها العقل و لا یقرها المنطق.

و علی أی حال فلیس من قصدنا أن نستوعب جمیع ما فی الکتاب من أشیاء تستوجب النقد و الرد.

و لنتحول الآن إلی أهم ما قصدناه فی هذا العرض و أردنا إیضاحه و هو قضیة ابن سبأ فلنجعلها بعنوان مستقل و نبحثها علی ضوء الواقع لنقف علی الحقیقة التی هی أسمی هدف للمنصفین.

ص:474

ابن سبأ

اشارة

مرة أخری

تمهید:

اشارة

قلما یصدر کتاب یتناول البحث عن تاریخ الإسلام إلا و عبد اللّه بن سبأ یحتل مکانا فی البحث و یشغل صحائف من الکتاب.

إن هذا الرجل الموهوم قد صوروه بألوان من الصور و أبرزوه بمختلف الأشکال.

و قد وصفوه بأنه بطل یخوض غمار الأهوال،و یتحمل متاعب الانتقال،و مشقة الأسفار-فمن المدینة لمکة،و منها إلی البصرة،ثم الکوفة فالشام،ثم یجوب البراری و یقطع القفار.فلا یخلو منه مکان:هو موج ساحر أو برق خاطف یسیر بسرعة الصوت.

إنه داعیة إلحاد و شرک،یضلل الناس بآرائه،و یسمم العقول بقوله.یدعو إلی المبادئ الیهودیة،و العقائد الزرادشتیة له سیطرة علی العقول،و هیمنة علی الأفکار، یقول فیصدق و یأمر فیطاع،یسوق العرب بعصاه،حتی انصاع له جمع من الصحابة- و العیاذ باللّه-و اعتنقوا مبادئه-کما یقولون و ما أعظم ما یقولون-و أصبح أبو ذر خریج مدرسة محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و من شهد له الرسول بالصدق و عمار بن یاسر،المعذب-هو و أبوه و أمه-فی اللّه من أنصار دعوته،و حملة عقیدته،و المتأثرین بأفکاره.

فثورة أبی ذر علی ذوی الأثرة الذین جعلوا مال اللّه دولا و عباده خولا کانت من آثار ابن سبأ!!-کما یفترون-و الثورة علی عثمان من دسائسه،و حرب الجمل من تصلبه،و وقعة صفین عن أمره،و مبادئ التشیع من تفکیره و آرائه!!!و.و.و.

ص:475

فیا لمهزلة العقل و إسفاف الآراء،و خفة الأحلام!و یا لضیاع الحق و ظهور الباطل.

إن أعظم شیء أن یحال بین العقل و بین الحقیقة و یزج به فی متاهات من الاختلافات و التزییف و التضلیل لیکون من نتائجه التصدیق بأکذوبة ابن سبأ و ظهور نتاجات و کتابات کالتی نحن بصدد تفنیدها.

لقد حان الوقت لأن نلتفت إلی الوراء لنکشف حقیقة نشأة هذه الأسطورة، و نقف علی عوامل تلک الأباطیل التی طالما ظلت أید سوداء ممتدة فوقها فی سکون و صمت.

إن تلک الأیدی العابثة بمقدسات الدین،و التی تثیر الغبار فی طریق وحدة المسلمین،تتحرک الیوم بارتجاف و اهتزاز،لأن الوقت قد حان لرفع الستار الذی تکمن وراءه،و افتضاح أولئک المحرکین لها،لأن الوعی بوجوب تدارک خطر الفرقة أصبح ینذر أولئک الدساسین بالخطر.

و یخطئ من یقول:بأن بحث قضیة ابن سبأ من الأمور التی لا جدوی من بحثها الآن و إثارتها فی هذا العصر،فالزمن قد تغیر،و هذه من دفائن الماضی و لیس من الصحیح نبش تلک الدفائن و نشر صحائف مطویة،أکل الدهر علیها و شرب.

و إننا نقول:إن هذه القضیة لیست کما یتوهم المتوهمون بأنها من الصحائف المطویة،و الآثار المنسیة،بل هی فی کل وقت غضة جدیدة لا تغیرها الأیام مهما طال زمانها،فهی تنشر فی کل وقت و تجعل من الأسس التی یستند إلیها أکثر کتّاب عصرنا الحاضر کوسیلة لطعن علی الشیعة،و فی طلیعة أولئک الکتّاب شیوخ یرجی بهم سد ثغرة الخلاف،و السعی فی إصلاح ما أفسدته ظروف قاسیة،و عصور مظلمة.

و هناک أساتذة یؤمل بهم تنویر عقول الناشئة الإسلامیة،بما یعود علی الجمیع بالنفع.

و لکنهم بمزید الأسف استسلموا لعوامل کان ألیق بهم أن یقفوا أمامها موقفا واعیا یتمشی مع مسئولیتهم الملقاة علی عواتقهم فی تربیة النشء و خدمة الأمة الإسلامیة،فی اتباع مناهج الإسلام فی التثبت فی النقل،و الاعتدال فی النقد.

إنهم قد نقلوا أشیاء کثیرة بدون تثبت من صحتها،أو رجوع إلی مصادرها

ص:476

الموثوق بها.و أجلی مثال لذلک الاسترسال فی تقبل کل شیء هو إیراد أسطورة ابن سبأ کدلیل قاطع،و برهان واضح لا یمکن رده و لیس من المستطاع تکذیبه.

فقد توالت العصور و الناس تتداول هذه الأکذوبة و تردد هذه الأسطورة و لا بد من النظر إلی الغد عند ما تنجاب هذه الغمامة و تلک الحجب عن العقول و البصائر و یأخذ الجیل الواعی بنقد ما لا یقرّه العقل و المنطق،و نحن نری الیوم الکثیر من الکتّاب و الأساتذة الذین حکّموا العقل و نزعوا قیود الاستسلام یبادرون إلی رفض قصة عبد اللّه بن سبأ و کشف زیفها و التباسات قیامها،عند ذاک ما ذا ستکون النظرة لمن أسهم فی ترویج هذه الأکذوبة و نشر هذه الأسطورة؟.

نحن نری أن لا مندوحة من التأکید علی الحقائق التی تضمها وقائع التاریخ منذ مبعث النبی المصطفی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و لا نری بحال أن ذلک نبشا للماضی،لأن جذور التشیع نمت فی ظل الرسالة و ولدت بذرته معها،فحقائق الرسالة و السیرة النبویة و ولایة الإمام علی علیه السّلام و دور الأوصیاء فی حفظ الدین و رعایة الدعوة هی الوقائع التی تصاحب تطورات الأحداث و تختزن جوهر التاریخ.و لو نظرنا إلی حملات العداء و الکراهیة لآل البیت الأطهار و من یتولاها علی امتداد العصور و الأدوار لعلمنا أن القصد مصالح کاد یمحقها الإسلام،و أغراضا سیاسیة یحاربها الدین.و لقد کانت قصة عبد اللّه بن سبأ واحدة من محاولات أعداء الحق و أهله و محاربی دعاة العدل بقصد الإساءة إلی مبادئ أهل البیت و تلطیخ تاریخهم الناصع الوضّاء.

و من المؤسف أن نری الیوم من یستسلم لمثل هذه الأسطورة و یتخلی عن الأخذ بمقاییس العلم و أحکام العقل مستسلما للنقل رغم وضوح جوانب الوضع و تهافت هذه القصة الأکذوبة.

و للمثال نذکر ما کتبه بعض أولئک الرجال حول قضیة ابن سبأ و استنتاجهم منها أمورا ترکز بحثهم علیها فمنهم:

أبو زهو:

الشیخ محمد أبو زهو-من علماء الأزهر الشریف و أستاذ کلیة أصول الفقه فی الوقت الحاضر-قال تحت عنوان(التشیع ستار لأعداء الإسلام):

و یقینی أن التشیع کان ستارا احتجب وراءه کثیر من أعداء الإسلام،من الفرس

ص:477

و الیهود،و الروم،و غیرهم لیکیدوا لهذا الدین و یقلبوا نظام هذه الدولة الإسلامیة...

إلی أن یقول:أخذوا(أی أعداء الإسلام)یتحسسون أبواب الضعف،فلم یجدوا بابا أنجح لهم من الحیلة و الخداع،فاظهر جماعة منهم الإسلام،و انضموا إلی أهل التشیع مظهرین محبة أهل البیت،و سخطهم علی من ظلم علیا رضی اللّه عنه،ثم أخذوا یسلکون به مفاوز الفتن و المهالک،حتی أبعدوا کثیرا منهم عن التدین الصحیح،بما بثوه فیه من العقائد الزائفة،التی یدور معظمها علی هدم قواعد الدین، و التحلل من تعالیم الإسلام و أحکامه،و أصل هذه الفتنة علی ما ذکره المؤرخون:

رجل یهودی یدعی عبد اللّه بن سبأ،غلا فی حب علی حتی زعم أن اللّه تعالی حل فیه،و أخذ یؤلب الناس علی عثمان...الخ.

هذا ما یقره أخونا الشیخ المعاصر محمد أبو زهو و یرسله إرسال المسلّمات، فیلقیه علی طلابه لیؤدی رسالة الأجیال التی تحمل فی طیاتها انتصار الیهود علی المسلمین،و أن رجلا واحدا منهم استطاع بمکره و خداعه،أن یسوق أصحاب محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و یستدرجهم لأغراضه،و یفتنهم بدعوته فیستسلمون له بدون تدبر و تفکیر، و یقومون بأمر لا باعث له إلا دعایة رجل یهودی فاستجابوا لدعوته،و خضعوا لإرادته و حاشاهم من ذلک،و هم أجل و أسمی،من أن ینزلوا إلی هذا الحضیض.و لکن الشیخ(سلمه اللّه)اقتنع بدون ما یوجب ذلک فنسأل اللّه لنا و له الهدایة.

محمد أبو زهرة:

الشیخ محمد أبو زهرة أستاذ الشریعة الإسلامیة بکلیة الحقوق،جامعة القاهرة، یقول- (1)بعد ذکر الأسباب التی أدت إلی الفتن فی عهد عثمان-:و لقد کان من نتائج هذا تولیة(عثمان)ولاة من أقاربه،أن حرک عوامل الاتهام بالمحاباة،و بعض هؤلاء لم یکونوا من ذوی السبق فی الإسلام و بعضهم کان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قد أباح دمه إذ ارتد بعد إیمان«کعبد اللّه ابن سعد بن أبی سرح»و قد ولاه(عثمان)بعد عمرو بن العاص و قد أخذ هذا(أی ابن العاص)یؤلب الناس علی«عثمان»بسبب ذلک حتی کان یقول:

«و اللّه إن کنت لألقی الراعی فأحرضه علیه»(أی علی عثمان)و انتشرت بتولیة عبد اللّه

ص:478


1- (1) انظر المذاهب الإسلامیة 46:47.

قالة السوء عنه:إذ أخذ الناس یتحدثون عنه،و هو الرجل الذی آمن ثم کفر ثم کذب علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم...

إلی أن یقول:و من الأسباب و هو أعظمها وجود طوائف من الناقمین علی الإسلام الذین یکیدون لأهله،و یعیشون فی ظله،و کان أولئک یلبسون لباس الإسلام، و قد دخلوا فی الإسلام ظاهرا،و اضمروا الکفر باطنا،فأخذوا یشیعون السوء عن ذی النورین«عثمان»و یذکرون«علی بن أبی طالب»رضی اللّه عنه بالخیر و ینشرون روح النقمة فی البلاد،و یتخذون مما یفعله بعض الولاة ذریعة لدعایتهم،و کان الطاغوت الأکبر لهؤلاء:عبد اللّه بن سبأ و قد قال فیه ابن جریر الطبری:

کان عبد اللّه بن سبأ یهودیا من أهل صنعاء أمه سوداء فأسلم زمان عثمان ثم تنقل فی بلدان المسلمین یحاول ضلالهم فبدأ ببلاد الحجاز،ثم البصرة ثم الشام فلم یقدر علی ما یرید عند أحد من أهل الشام فأخرجوه حتی أتی مصر فقال لهم فیما یقول:لعجب ممن یزعم أن عیسی یرجع و یکذب بأن محمدا یرجع،و قد قال اللّه تعالی إن الذی فرض علیک القرآن لرادک إلی معاد،ثم محمد أحق بالرجعة من عیسی...

ثم قال لهم بعد ذلک:إنه کان ألف نبی،و لکل نبی وصی،و کان علی وصی محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم ثم قال:محمد خاتم النبیین و علی خاتم الأوصیاء.

ثم قال بعد ذلک:إن عثمان أخذها بغیر حق،و هذا وصی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

فانهضوا فی هذا الأمر فحرکوه،و أیدوه بالطعن علی أمرائکم،و أظهروا الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،لتستمیلوا الناس...فبث دعاته و کان ممن استفسد فی الأمصار و کاتبوه و دعوا فی السر إلی ما علیه رأیهم،و أظهروا الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر،و جعلوا یکتبون إلی الأمصار کتبا،یضعونها فی عیوب ولاتهم،و یکاتبهم إخوانهم بمثل ذلک،و وسعوا الأرض إذاعة،و هم یریدون غیر ما یظهرون و یسرون غیر ما یبدون.

و هکذا نری شیخ المؤرخین«الطبری»بین کیف کانت مؤامرة هؤلاء لإفساد المسلمین و اتخذوا من الشکوی من بعض ولاة عثمان ذریعة للدعوة إلی الانتفاض و بث الأفکار المنحرفة،المفرقة إلی أن یقول:

ص:479

و فی ظل هذه الفتن نبت المذهب الشیعی و إن کان الشیعة و معهم غیرهم یقول:

إن جذوره تمتد إلی وقت وفاة النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم...انظر المذاهب الإسلامیة ص 46-47.

أحمد أمین:

و هذا الأستاذ أحمد أمین یصفه بأنه ممن أوعز إلی أبی ذر-صاحب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم-بتعالیمه فتأثر بها إذ یقول:

و نلمح وجه الشبه بین رأی أبی ذر الغفاری و بین رأی مزدک فی الناحیة المالیة فقط،فالطبری یحدثنا:«أن أبا ذر قام بالشام و جعل یقول:یا معشر الأغنیاء و اسوا الفقراء،بشر الذین یکنزون الذهب و الفضة و لا ینفقونها فی سبیل اللّه بمکاوی من نار تکوی بها جباهم و ظهورهم.فما زال حتی ولع الفقراء بمثل ذلک،و أوجبوه علی الأغنیاء،و حتی شکا الأغنیاء ما یلقونه من الناس»ثم بعث به معاویة إلی عثمان بن عفان بالمدینة حتی لا یفسد أهل الشام.و لما سأله عثمان:ما لأهل الشام یشکون ذربک؟قال:لا ینبغی للأغنیاء أن یقتنوا مالا.

یقول أحمد أمین-فنری من هذا أن رأیه قریب جدا من رأی مزدک فی الأموال.

و لکن من أین أتاه هذا الرأی؟ و بعد أن یوجه الأستاذ أحمد أمین هذا السؤال و یفکر عن وجود هذه الفکرة عند الصحابی الجلیل أبی ذر الغفاری رحمه اللّه و هنا ینقدح له الجواب عن ذلک فیقول:

یحدثنا الطبری أیضا عن جواب السؤال فیقول:«إن ابن السوداء لقی أبا ذر فأوعز إلیه بذلک،و إن ابن السوداء هذا أتی أبا الدرداء و عبادة بن الصامت،فلم یسمعا لقوله،و أخذه عبادة إلی معاویة و قال له:هذا و اللّه الذی بعث علیک أبا ذر (1).

ثم یقول بعد ذلک:و نحن نعلم أن ابن السوداء هذا لقب لقّب به عبد اللّه بن سبأ،و کان یهودیا من صنعاء،أظهر الإسلام فی عهد عثمان،و إنه حاول أن یفسد علی المسلمین دینهم،و بث فی البلاد عقائد کثیرة ضارة قد نعرض لها فیما بعد، و کان قد طوف فی بلاد کثیرة-فی الحجاز،و البصرة،و الکوفة،و الشام،و مصر، فمن المحتمل القریب أن یکون قد تلقی هذه الفکرة من مزدکیة العراق أو الیمن،

ص:480


1- (1) الفجر 110 ط 2.

و اعتنقها أبو ذر حسن النیة فی اعتقادها و صبغها بصبغة الزهد التی کانت تجنح إلیها نفسه،فقد کان من اتقی الناس،و أورعهم و أزهدهم فی الدنیا،و کان من الشخصیات المحبوبة،التی أثرت فی الصوفیة (1).

الخطیب:

و نری أنفسنا مضطرین لأن نننقل ما کتبه الخطیب المعروف(بمحب الدین) لیستبین القارئ ما بلغته الحالة من الاعتماد علی الأکاذیب،و الأخذ بالأساطیر، و جعل ذلک فی طریق الحجاج کما یتجلی التحدی لمقام الصحابة الکرام،و الطعن علیهم بدون مبرر و إنما هو جرأة علی مخالفة الحق و الانصیاع لداعیة الهوی.

و هذا الرجل قد صب هذه الأسطورة بقالب رغباته،و أبرزها فی إطار هواه- و کم له من اختراع فی شتی المجالات-بدون أن یستند إلی دلیل،أو یعتمد علی مصدر.

یقول:-بعد ذکره لابن سبأ-إن هذا الشیطان هو عبد اللّه بن سبأ من یهود صنعاء،کان یسمی ابن السوداء،و کان یبث دعوته بخبث و تدرج و دهاء،و استجاب له ناس من مختلف الطبقات...

إلی أن یقول:و عنی بالتأثیر علی أبناء الزعماء من قادة القبائل،و أعیان المدن، الذین اشترک آباؤهم فی الجهاد و الفتح،فاستجاب له من بلهاء الصالحین،و أهل الغلو من المتنطعین جماعات-کان علی رأسهم فی الفسطاط:الغافقی ابن حرب العلکی، و عبد الرحمن بن عدیس البلوی التجیبی الشاعر،و کنانة بن بشر،و سودان بن حمران،و عبد اللّه بن زید بن ورقاء،و عمرو بن الحمق الخزاعی،و عروة بن النباع اللیثی و قتیرة السکونی...

و کان علی رأس من استغواهم ابن سبأ فی الکوفة:عمر بن الأصم،و زید بن صوحان العبدی،و الأشتر مالک النخعی،و زیاد بن النظر الحارثی و عبد اللّه بن الأصم.

ص:481


1- (1) المصدر السابق-111.

و من البصرة:حرقوص بن زهیر السعدی،و حکیم بن جبلة العبدی،و ذریح بن عباد العبدی،و بشر بن شریح،و الحطم ضبیعة القیسی،و ابن المحرش بن عبد.

أما المدینة فلم یندفع فی هذا الأمر من أهلها إلا ثلاث نفر:محمد بن أبی بکر،و محمد بن أبی حذیفة،و عمار بن یاسر.

و من دهاء ابن سبأ و مکره:أنه کان یبث فی جماعة الفسطاط الدعوة لعلی،و فی جماعة الکوفة الدعوة لطلحة،و فی جماعة البصرة الدعوة للزبیر..ثم یذکر تزویر الرسائل من قبل ابن سبأ.

ثم یوجه(الخطیب)لومه علی أهل المدینة بل نقده للصحابة فیقول:و کان ینبغی أن یکون ذلک سببا لیقظتهم و یقظة علی أیضا إلی أن بین المسلمین من یزور علیهم الفساد لخطة مرسومة تنطوی علی الشر الدائم و الشرر المستطیر،و کان ذلک کافیا لإیقاظهم إلی أن هذه الید الشریرة هی التی زورت الکتاب علی عثمان،بدلیل أن حامله کان یتراءی له معتمدا ثم یتظاهر بأنه یتکتم عنهم،لیثیر ریبتهم فیه،فراح المسلمون إلی یومنا هذا ضحیة سلامة قلوبهم فی ذلک الحین...الخ (1).

و هکذا رسخت هذه الأسطورة فی أدمغة کثیر من الکتّاب المعاصرین و غیرهم، و لا نود الاستمرار بأقوال الآخرین منهم،و بما ذکرنا کفایة لإیضاح الموقف و خطره.

فابن سبأ-کما مر علیک من الأقوال و کما تقف علیه فی غیر هذه الکتب-هو الذی حرک أبا ذر علی معارضة معاویة فی تصرفه بالأموال،و أن تلک الفکرة لم تکن من روح الإسلام و تعالیمه،و إنما هی فکرة مزدکیة و کأن الآیات التی استشهد بها أبو ذر کانت من تعالیم ابن سبأ لا من تعالیم الإسلام.

کما أن هؤلاء الذین ذکرهم الخطیب من صحابة و تابعین،أصبحو یترأسون دعوة ابن سبأ و هم(البلهاء،أو أهل الغلو)-علی حد تعبیر الخطیب-کعمار بن یاسر الذی ستقف علی ترجمته قریبا و عبد اللّه بن زید،و عمرو بن الحمق الخزاعی، و حکیم بن جبلة العبدی و زید بن صوحان و.و.

ص:482


1- (1) حملة رسالة الإسلام 23-24.

و أی جنایة أعظم من هذه الجنایة فی هذا التهجم العظیم علی رجال الأمة و عظمائها.

و لا ندری ما هو دلیل هذا الحکم،و سند هذه الأقوال.نعم لیس له مصدر إلا الطبری کما سیأتی.

و هذا الکاتب بالأخص-و هو الخطیب-لا یثق بأقوال الطبری إلا بشروط ستقف علیها.و لکن قضیة ابن سبأ قد وافقت هوی فی نفسه،فأصبح فیها-کحاطب لیل- خضوعا لهواه.

من أین و إلی أین...

إن قضیة ابن سبأ قد لاقت هوی فی قلوب کثیر من الکتاب من مستشرقین و غیرهم فأحاطوها بعنایة خاصة،و منحوها مزیدا من البیان فأسبغوا علیها ألفاظا براقة خلابة دبجتها أقلامهم و صاروا یقررونها و یرددونها تردید المؤمن بصحتها الواثق بوقوعها،و کأنها من الحقائق التی لا تقبل التشکیک،و لا ینالها النقاش من دون التفات إلی ما وراء الأکمة من الخطر.

و بمزید الأسف انهم غفلوا أو تغافلوا عن مصدر هذه القضیة من أین ابتدأت و إلی أین انتهت بأثرها العظیم و ما کان من ورائها من نتائج سیئة و عواقب و خیمة.

فابن سبأ یقولون عنه-کما تقدم-هو مثیر الخلافات بین المسلمین و هو مؤسس مذهب یربو علی مائة ملیون،و هو البطل الذی استطاع أن یحقق آماله فی مصر-بعد أن فشل فی غیرها من البلدان الإسلامیة-فجمع الجموع،و توجه إلی عاصمة المسلمین،و فیها الخلیفة عثمان لیقلب نظام الحکم،و قد تم له ما أراد کما ذکره الشیخان أبو زهو و أبو زهرة و غیرهما.

و هو الذی سیطر علی مشاعر أبی ذر الصحابی الجلیل-الذی وصفه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بالصدق-فأعلن علی معاویة إنکاره فی احتکار الأموال.

و إن ابن سبأ لقن أبا ذر فکرة مزدک المجوسی الإباحی-نعوذ باللّه من خطل الرأی-.

و إن ابن سبأ استطاع أن یجعل من کبار الصحابة أعضاء لدعوته،و دعاة لفکرته، إلی آخر ما أحیطت بهذه القضیة من مبالغات،و هی تزداد علی ممر الأیام و لا نعلم إلی

ص:483

أین ینتهی ذلک ما دام ضوء البحث و التتبع لم یتوجه إلیها و ما دامت الأقلام تکتب بدون مراعاة لحق العلم.

و یجب علی کل مفکر أن یتساءل عن مصدر هذه القصة،و ما هو المنبع الذی استقی منه المؤرخون،و من بعدهم الکتّاب من مستشرقین و غیرهم.

و هل تواتر النقل من طرق متعددة حتی یصبح الاعتماد علیها و تکون ذات قابلیة لاعتبارها من الأمور التاریخیة التی تعالج بعناء من حیث الدقة فی تعیینها.لما فیها من ملابسات،و ما تضمنته من أمور لا یقبلها العقل حتی لو وردت بطرق متعددة موثوق بها.

ربما یظن أن لهذه القضیة مصدرا موثوقا به نظرا لشهرتها و انتشارها،فی عدة کتب من کتب التاریخ و الأدب،و لکن کل ذلک لم یکن،و لیس لها أی مصدر یمکن الرکون إلیه کما سنبینه إن شاء اللّه.

و بغض النظر عن مصدر القصة،و البحث عن سندها،و معرفة رجالها فإن العقل یحکم بسقوطها عن الاعتبار،لما فیها من مخالفة للعقل و بعد عن الحق و عدم ارتباطها بالواقع.

و لهذا فإن اللائق بمقام الأدیب الباحث،أو المؤرخ المنصف،أو الأستاذ المثقف،أن یقف موقف المتثبت کما یقتضیه الحق و یفرضه الواجب العلمی،إذ المسألة ذات أهمیة کبری،لأنها تضمنت الحط من مقام المسلمین و سلبتهم میزة التفکر،و النظر فی الأمور عند ما أطاعوا رجلا لم یعرفوه،و ساروا وراء خداعه سیر الأغنام.

و فیها طعن علی کبار الصحابة،و توهین لرجال الإسلام،و وصفهم بالبلاهة- علی حد تعبیر بعضهم-و انصیاعهم لأقوال وافد غریب،و داعیة شرک و إلحاد،هذا من جهة.

و من جهة ثانیة أن فکرته لم تلق نجاحا إلا فی مصر،فإنهم انخدعوا فیه بسرعة، و مالوا إلیه بأقصر وقت،و هو داعیة مجهول،و رائد غریب کیف یقوم فیهم بکل صراحة،و من دون حذر،یدعوهم و یؤلبهم علی الانتفاضة ضد سلطان قائم،و یحثهم علی العصیان،بدون سبب و لا سابقة.!!

ص:484

فأین أهل الرأی و ذوو الحزم و ذوو التفکیر،أ کانوا کلهم(بلهاء) (1)لا یعقلون؟! إن هذا لیس من العقل و لا من المنطق أن تخضع مصر بهذه السرعة و هی الأمة المسلمة،و فیها أصحاب محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من ذوی العقول الراجحة،و الفکر الثاقب، و ذوی الخبرة و التجارب.

و لنترک الحدیث للدکتور طه حسین حول أسطورة ابن سبأ و ما فیها من مخالفات للواقع(باختصار).

یقول الدکتور فی کتابه الفتنة الکبری عثمان الفصل 14:

و هناک قصة أکبر الرواة المتأخرون من شأنها،و أسرفوا فیها حتی جعلها کثیر من القدماء مصدرا لما کان من الاختلاف علی عثمان،و لما أورث هذا الاختلاف من فرقة بین المسلمین لم تمح آثاره،و هی قصة عبد اللّه بن سبأ الذی یعرف بابن السوداء.

قال الرواة:کان عبد اللّه بن سبأ یهودیا من أهل صنعاء حبشی الأم فأسلم فی أیام عثمان،ثم جعل یتنقل فی الأمصار یکید للخلیفة و یغری به،و یحرض علیه، و یذیع فی الناس آراء محدثة أفسدت علیهم رأیهم فی الدین و السیاسة جمیعا...

و إلی ابن السوداء یضیف کثیر من الناس کل ما ظهر من الفساد و الاختلاف فی البلاد الإسلامیة،أیام عثمان،و یذهب بعضهم إلی أنه أحکم کیده إحکاما،فنظم فی الأمصار جماعات خفیة تستتر بالکید؛و تتداعی بینها إلی الفتنة،حتی إذا تهیأت لها الأمور و ثبت علی الخلیفة فکان ما کان من الخروج و الحصار و قتل الإمام.

و یخیل إلیّ أن الذین یکبرون من أمر ابن سبأ إلی هذا الحد یسرفون علی أنفسهم و علی التاریخ إسرافا شدیدا،و أول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذکرا فی المصادر المهمة التی قصت أمر الخلاف علی عثمان،فلم یذکره ابن سعد حین قص ما کان من خلافة عثمان،و انتقاض الناس علیه،و لم یذکره البلاذری فی أنساب الأشراف،و هو فیما أری أهم المصادر لهذه القصة و أکثر تفصیلا.و ذکره الطبری عن سیف بن عمر و عنه أخذ المؤرخون الذین جاءوا بعده فیما یظهر.

ص:485


1- (1) هکذا یعبر الخطیب المعروف(بمحب الدین).

و لست أدری أ کان لابن سبأ خطر أیام عثمان أم لم یکن؟و لکن اقطع بأن خطره -إن کان له خطر-لیس ذا شأن،و ما کان المسلمون فی عصر عثمان لیعبث بعقولهم و آرائهم و سلطانهم طارئ من أهل الکتاب أسلم أیام عثمان...

و من أغرب ما یروی من أمر عبد اللّه بن سبأ هذا أنه هو الذی لقن أبا ذر نقد معاویة فیما یقولون من أن المال هو مال اللّه،و علمه أن الصواب أن یقول:إنه مال المسلمین.و من هذا التلقین إلی أن یقال إنه هو الذی لقن أبا ذر مذهبه کله فی نقد الأمراء و الأغنیاء...

فالذین یزعمون أن ابن سبأ قد اتصل بأبی ذر فألقی إلیه بعض مقاله یظلمون أنفسهم،و یظلمون أبا ذر و یرقون بابن السوداء هذا إلی مکانة ما کان یطمع فی أن یرقی إلیها.

و الرواة یقولون:إن أبا ذر قال ذات یوم لعثمان بعد رجوعه من الشام إلی المدینة:لا ینبغی لمن أدی زکاة ماله أن یکتفی بذلک حتی یعطی السائل،و یطعم الجائع،و ینفق فی سبیل اللّه،و کان کعب الأحبار حاضرا هذا الحدیث.فقال:من أدی الفریضة فحسبه.فغضب أبو ذر و قال لکعب:یا بن الیهودیة!ما أنت و هذا؟ أ تعلمنا دیننا؟!ثم وجأه بمحجنه.فأبو ذر ینکر علی کعب الأحبار أن یعلمه دینه،بل أن یدخل فی أمور المسلمین حتی بإبداء الرأی،مع أن کعب الأحبار مسلما أبعد عهدا بالإسلام من ابن سبأ و کان مجاورا فی المدینة...

و أکبر الظن أن عبد اللّه بن سبأ هذا إن کان کل ما یروی عنه صحیحا إنما قال ما قال و دعا إلیه بعد أن کانت الفتنة،و عظم الخلاف،فهو قد استغل الفتنة و لم یثرها، و أکبر الظن کذلک أن خصوم الشیعة أیام الأمویین و العباسیین قد بالغوا فی أمر عبد اللّه بن سبأ هذا لیشککوا فی بعض ما نسب من الأحداث إلی عثمان و ولاته من ناحیة و لیشنعوا علی علی و شیعته من ناحیة أخری،فیردوا بعض أمور الشیعة إلی یهودی أسلم کیدا للمسلمین..إلی أن یقول:

هذه کلها أمور لا تستقیم للعقل و لا تثبت للنقد،و لا ینبغی أن تقام علیها أمور التاریخ..

ثم یأخذ الدکتور فی بیان أسباب الثورة علی عثمان.ترکنا التعرض لها.

ص:486

المدینة المنورة:

ثم نعود لعاصمة المسلمین المدینة المنورة و فیها المهاجرون و الأنصار الذین خاضوا غمار الحرب فی سبیل إعلاء کلمة الإسلام،و فی طلیعتهم الإمام علی بن أبی طالب.

کیف یصح أن یقال بأنهم استسلموا و لم یقفوا موقف الحزم أمام جیش قاده ابن سبأ،و قطع به تلک المسافة البعیدة من مصر إلی المدینة،فیحتلها،و یقلب نظام الحکم،و یقتل الخلیفة،و لم یقف المسلمون موقف الدفاع،لإنقاذ الموقف و دفع هذه الکارثة.

و لکن الواقع هو غیر هذا؛فإن الثورة لم تکن من مصر فقط،و لم یکن القائد لها ابن سبأ إذ لا وجود له و إنما کانت من المدینة للاستیاء العام الذی انتشر فی بلاد الإسلام من سوء تصرف الأمویین،و أعمال مروان خاصة،مما دعا إلی تداول الرأی بین الصحابة لإصلاح الوضع الراهن کما ذکر ذلک أکثر المؤرخین.

و لنترک الحدیث للأستاذ أحمد أمین فی آخر مؤلف ظهر له و هو(یوم الإسلام) یقول أحمد أمین:و قد سار عثمان فی السنین الست الأولی سیرة عادلة رحیمة،و لکنه فی الست الأخیرة کانت قد کبرت سنه،و خضع لأقاربه من الأمویین،فترک تصرف الأمور لرئیسهم مروان بن الحکم الأموی...فاغضب ذلک کثیرا من الصحابة، و خصوصا علیا و الزبیر و طلحة و غیرهم،فأرادوا أول الأمر أن یحرروا الخلافة من هذه السلطة،فنصحوا عثمان بالاعتزال فأبی،و لم تمض إلا فترة قصیرة حتی کان عثمان فی المدینة،و لیس معه إلا نفر قلیل من الأصدقاء،و کان من أکبر الشخصیات فی محاربته و تألیب الناس علیه-عائشة بنت أبی بکر،و استطاع خصومه جمیعا أن یثیروا الأمصار علیه،و اجتمع أهل المدینة حول بیته،و رفضوا أن یتزحزحوا عنه،و ثار المصریون أیضا لما علموا أن کتابا کتب باسم عثمان إلی عامله عبد اللّه بن أبی سرح یأمره فیه بالفتک بالزعماء عند عودتهم.. (1).

و یقول:و کان من أهم ما نقم الناس علی عثمان أن طلب منه عبد اللّه بن خالد بن أسید الأموی صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم،و أعاد الحکم بن أبی العاص

ص:487


1- (1) انظر یوم الإسلام لأحمد أمین-57.

بعد أن نفاه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و أعطاه مائة ألف درهم،و تصدق رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بموضع سوق المدینة علی المسلمین فاقطعه عثمان الحارث بن الحکم،و اقطع مروان فدک، و قد کانت فاطمة طلبتها بعد وفاة أبیها،تارة بالمیراث،و تارة بالنحلة،فدفعت عنها و حمی المرعی حول المدینة کلها،من مواشی المسلمین کلهم إلا عن بنی أمیة، و أعطی عبد اللّه بن أبی سرح جمیع ما أفاء اللّه علیه من فتح إفریقیا بالغرب،و هی من طرابلس إلی طنجة من غیر أن یشرکه أحد من المسلمین.

و أعطی أبا سفیان مائتی ألف من بیت المال فی الیوم الذی أمر فیه لمروان بن الحکم بمائة ألف و قد کان زوج ابنته أم أبان،فجاء زید بن أرقم صاحب المال بالمفاتیح فوضعها بین یدی عثمان و بکی.

فقال عثمان:أ تبکی إن وصلت رحمی؟قال:لا و لکن أبکی لأنی أظنک أخذت هذا المال عوضا عما کنت أنفقته فی سبیل اللّه فی حیاة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و اللّه لو أعطیت مروان مائة درهم لکان کثیرا.فقال(عثمان):الق المفاتیح فإنا سنجد غیرک.

و أتاه أبو موسی الأشعری بأموال کثیرة من العراق فقسمها کلها فی بنی أمیة.

و زوج الحارث بن الحکم فأعطاه مائة ألف من بیت المال،و نفی أبا ذر رحمه اللّه إلی الربذة لمناهضته لمعاویة فی الشام فی کنز الذهب و الفضة.

و ضرب عبد اللّه بن مسعود حتی کسر أضلاعه،و عدل عن طریق عمر فی إقامة الحدود،ورد المظالم،و کف الأیدی العابثة،و الانتصاب لسیاسة الرعیة..

الخ (1).

و کیف کان فإن الثورة ابتدأت من المدینة،و قام جل الصحابة فی المعارضة لإصلاح الوضع مما ارتکبه الأمویون عند ما استغلوا تلک الفرصة.و قد کاتب الصحابة أهل الأمصار:إن أردتم الجهاد فهلموا فإن دین محمد قد أفسده خلیفتکم (2)

ص:488


1- (1) یوم الإسلام لأحمد أمین ص 58:59.
2- (2) انظر البلاذری 5-60 و ابن الأثیر و الطبری و غیرهم.

المصدر:

اشارة

نری أنفسنا ملزمین بأن نستعرض مصدر هذه القصة،و نقف علی المنبع الذی استقی منه الکتّاب معلوماتهم عنها،لأنا قد وجدنا بعض الکتّاب ممن یمیل إلی التشکیک فی صحتها و لکنهم لا یستطیعون أن یقولوا ذلک بصراحة لأنهم یظنون أنها متعددة الروایات متواترة عن الثقات،من المؤرخین،الأمر الذی یدعو إلی عدم طرحها و لکنه ینفی المبالغات التی فیها.

و یذهب بعضهم إلی الجزم بصحتها لأنها وردت عن راو خرج حدیثه الترمذی و من هذا و ذاک اختلط الأمر علی کثیر منهم.

یقول الدکتور ضیاء الدین الریس:و قد أخذ بعض المؤلفین یمیل إلی الشک فی شخصیة هذا الرجل(و هو عبد اللّه بن سبأ)و لکن تعدد الروایات عنه،و تواتر أنباء الثقات من المؤرخین تؤید القول بوجوده،و إن کان محل المبالغة أنه ینسبون إلیه کل ما حدث فی عهد عثمان و یحملونه تبعته...الخ (1).

فالدکتور الریس هو واحد من أولئک الذین اشتبه علیهم الأمر فظن تعدد طرق الروایات لقضیة ابن سبأ إذ وجدها مذکورة فی عدة کتب و لکنه لا یری صحة ما أحاط بهذه الشخصیة من حکایات،فهو یذهب إلی وجود شخصیته مجردة من المبالغات، و کل اعتماده فی هذا القول هو أن الروایات متعددة،و الأنباء عن ابن سبأ متواترة،قد نقلها الثقات من المؤرخین.

و نحن هنا نستشعر إدراکه للحقیقة و میله إلی الشک بوجود شخصیة فی التأریخ اسمها عبد اللّه بن سبأ،غیر أنه لا یقوی علی الافلات من تأثیر الأسالیب القدیمة و قواعدها و التی أخذت من طبیعة العمل بالروایة و اتصالها بالحدیث الشریف،فکان ما یرویه(الثقات)قطعیا و إن کان الأمر یتعلق بحوادث أو أفکار أو أشخاص لکل الناس الحق فی النظر إلیها نظرة واقعیة،و نری أن واجبنا العلمی یقضی بتوجیه أشعة البحث العلمی لنری علی ضوئه ما کمن فی ظلمات الجهالة من حقائق یلزم إبرازها،و إزالة کل ما یعتریها من خفاء.

ص:489


1- (1) النظریات السیاسیة الإسلامیة-41.

و لا شک أن مسألة کهذه یجب علی کل باحث حر أن یعطیها مزیدا من الوقت، لأنها ذات نتائج و خیمة أدت بالمجتمع إلی أضرار و وقوع فوادح یذوب لها قلب کل مسلم،فلننظر علی ضوء البحث ما هو مصدرها؟ إنه المصدر الأول لهذه القضیة التی لم یسبقه أحد إلی ذکرها هو:

أبو جعفر محمد بن جریر الطبری المتوفی سنة 310 صاحب التفسیر الکبیر و مؤلف تاریخ الأمم و الملوک المعروف بتاریخ الطبری.و هو المصدر الوحید لهذه القصة و جمیع ما یتعلق بأخبار عبد اللّه بن سبأ.

و أخذ عن ابن جریر کل من ابن الأثیر المتوفی سنة 630 و ابن کثیر المتوفی سنة 774 و ابن خلدون المتوفی سنة 808 و غیرهم.

و کل ما أورده ابن جریر حول أخبار ابن سبأ و حوادث عهد عثمان و أخبار الردة إنما کان مصدره سیف بن عمر المتوفی فی عهد الرشید أو بعده.

و لیس لنا أن نتکلم حول ابن جریر و نقله لأمثال هذه الأسطورة،فإنه نقل أقوالا و ذکر ما بلغه و سمی قائلیها،و ترک للباحث الحکم لها أو علیها و قد خرج الطبری عن عهدة المؤاخذات بما ذکره فی مقدمة کتابه بقوله:

(فما یکن فی کتابی هذا من خبر ذکرناه عن بعض الماضین مما یستنکره قارئه، أو یستشنعه سامعه،من أجل أنه لم یعرف له وجها فی الصحة،و لا معنی فی الحقیقة فلیعلم أنه لم یؤت فی ذلک من قبلنا،و إنما من قبل بعض ناقلیه إلینا،و انا إنما أدینا ذلک علی نحو ما أدی إلینا) (1).

و بهذا فهو لم یقرر صحة کل ما نقل إلیه-و قد ترک باب النقاش مفتوحا للباحث-کما أنه یأتی فی کتابه بالأخبار المتعارضة التی یستحیل أن تصح معا و لا یتعرض لها بالموازنة و الترجیح إلا إذا دعت الحاجة لذلک.

و الطبری،لا شک مؤرخ جلیل و فقیه عالم،نذر نفسه للعلم و المعرفة و من وجوه علمه أن یجعل فی المقدمة تنبیها علی طریقة کتابته لتاریخ الأمم و الملوک و بیان أنه أخذ أخبار الماضین کما نقلت إلیه و بذلک فهو ینأی بنفسه عن مؤاخذات عدم

ص:490


1- (1) تاریخ الطبری 1:5. [1]

الصحة و الاختلاق و الوضع،و لم یجعل نفسه وراء نقوله و الأخبار التی أثبتها،و لم یطالبنا بتصدیق کل ما ورد فی کتابه و الاعتراف منا بصحة ما ضمّه تاریخه.

أخبار الطبری:
اشارة

و نری من الأنفع هنا أن ننقل للقارئ الکریم ما کتبه الخطیب(المعروف بمحب الدین)حول تاریخ الطبری.یقول الخطیب:

إنما ینتفع بأخبار الطبری من یرجع إلی تراجم رواته فی کتب الجرح و التعدیل، فتراجم شیوخه مباشرة و شیوخهم توجد فی مثل تذکرة الحفاظ للذهبی،و تراجم الرواة الذین کانوا إلی أواخر المائة الثانیة توجد فی خلاصة تهذیب الکمال للصفی الخزرجی،و تهذیب التهذیب للحافظ ابن حجر،و الذین تناولهم الجرح من الضعفاء یترجم لهم الحافظ الذهبی فی میزان الاعتدال،و فی طبقات ابن سعد،و تاریخ بغداد للخطیب،و تاریخ دمشق لابن عساکر،و تاریخ الإسلام للذهبی،و البدایة و النهایة لابن کثیر،و ان کتب مصطلح الحدیث تبین الصفات اللازمة للراوی و متی یجوز الأخذ بروایة المخالف و لا نعرف أمة عنی مؤرخوها بتمحیص الأخبار و بیان درجاتها، و شروط الانتفاع بها کما عنی بذلک علماء المسلمین،و إن العلم بذلک من لوازم الاشتغال بالتاریخ الإسلامی.

أما الذین یحتطبون الأخبار بأهوائهم،و لا یتعرفون إلی رواتها و یکتفون بأن یشیروا فی ذیل الخبر إلی الطبری رواه فی صفحة کذا من جزئه الفلانی،و یظنون أن مهمتهم قد انتهت بذلک فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به کتب التاریخ الإسلامی من ألوف الأخبار.

و لو أنهم تمکنوا من علم مصطلح الحدیث و أنسوا بکتب الجرح و التعدیل و اهتموا برواة کل خبر کاهتمامهم بذلک الخبر،لاستطاعوا أن یعیشوا فی جو التاریخ الإسلامی،و لتمکنوا من التمییز بین غث الأخبار و سمینها و لعرفوا للأخبار أقدارها، بوقوفهم علی أقدار أصحابها (1).

ص:491


1- (1) مجلة الأزهر المجلد 24 ص 210 سنة 1372.

هذا ما یقرره الکاتب الخطیب.و قبل أن ندخل فی موضوع البحث عن سند الروایات فی قضیة ابن سبأ نود أن نسائل هذا الکاتب:

هل التزم هو بما قرره هنا فبحث عن رجال السند لما ینقله عن الطبری و غیره؟! و هل تمکن من علم مصطلح الحدیث؟و أنس بکتب الجرح و التعدیل فوقف عن قبول روایة من جرحوه؟و تقبل روایة من عدلوه؟ فإن أجاب بنعم فالواقع یکذبه،لأنه أورد فی کتاباته أشیاء لا تستند إلی مصدر موثوق به،فقرر قبولها طاعة لهواه.

و أجلی مثال لذلک هو ما ذکرناه هنا عن قضیة ابن سبأ التی انفرد بها الطبری و لم یکن فی سند الروایة من یتصف بصفة القبول فکیف اعتمد علیها؟! و لا أدری أن ما ذکره هنا لما ذا لا یطبقه علی نفسه بل یرید ذلک للغیر و ما هو إلا من(الآمرین بالمعروف التارکین له الناهین عن المنکر الفاعلین له).

و إلی القراء بیان سند الروایة لیتضح لهم أن ما کتبه الخطیب لا یعدو حبرا علی ورق.

السند:

رأینا فیما سبق کیف أخذت أسطورة ابن سبأ مأخذها فی التاریخ الإسلامی و شقت طریقها إلی الهدف الذی وضعت من أجله،و هو الطعن فی عقائد المسلمین، و إبرازهم فی إطار الجهالة و الانخداع،ممن یتظاهر لهم بأمور ینسبها إلی الدین،و قد عبر کثیر من الکتّاب عن أولئک الرجال العظام الذین یدعی بعض الکتّاب أنهم استجابوا لابن سبأ:بأنهم تقبلوا ذلک عن حسن نیة.و بعضهم یصفهم بالبلاهة، و بعضهم بالغلو إلی آخر ما عندهم من سوء التعبیر.

و قد رأینا أیضا أن ابن سبأ أصبح ذا قوة و سلطان ینشر عقائده،و یبث مفاسده فی المجتمع الإسلامی،بدون خوف من سلطان،أو حذر من مؤاخذة الرأی العام،حتی استطاع أن ینحرف بأکثر المسلمین عن جادة الحق بدون أن تمسه عقوبة،أو یناله ضرر من ولاة الأمصار الذین عرفوا منه السعی بما یضر بالدولة،فی دعوة الناس إلی ثورة ضد الخلیفة عثمان.

ص:492

و قد ذکروا أن والی البصرة اکتفی بإخراجه من البلد،و أن معاویة عند ما علم بأمره لم یعمل معه أی شیء،و ابن أبی سرح فی مصر لم یؤاخذه بشیء،و هو یری تحشد جموعه،و تأهبهم لغزو المدینة،لحدوث انقلاب إلی آخر ما ذکروه من تهویل أمره و رفع شأنه.

یقول الدکتور طه حسین-بعد ذکره لقضیة ابن سبأ و استبعاده صحتها-:

فلنقف من هذا کله موقف التحفظ،و التحرج و الاحتیاط،و لنکبر المسلمین فی صدر الإسلام عن أن یعبث بدینهم،و سیاستهم،و عقولهم رجل أقبل من صنعاء، و کان أبوه یهودیا،و کانت أمه سوداء و کان هو یهودیا ثم أسلم لا رغبا و لا رهبا،و لکن مکرا و کیدا و خداعا، ثم أتیح له من النجح ما کان ینبغی،فحرض المسلمین علی خلیفتهم حتی قتلوه و فرقهم بعد ذلک أو قبل ذلک شیعا و أحزابا.

هذه کلها أمور لا تستقیم للعقل،و لا تثبت للنقد،و لا ینبغی أن تقام علیها أمور التاریخ... (1)

نعم إن هذه الأمور التی أحاطت بهذه القصة و ما تضمنته من أشیاء لا یمکن تصدیقها-و هی کافیة فی طرحها،و عدم الاعتماد علیها،و لا حاجة بعد هذا إلی البحث عن السند و معرفة حالة الرواة،لأن ذلک-کما هو الواقع-شیء زائد لا یحتاج إلیه.

و لکن نظرا لما لهذه القصة من أهمیة،و أن بعضهم یظن أن رواتها ثقات فقد دعت الحاجة إلی معرفة حالة رجال السند،و الاستماع لأقوال علماء الرجال لیتضح الأمر،و تظهر الحقیقة،و یکون الحکم للعقل لا للعاطفة،و للعلم لا للجهل،و للحق لا للباطل.

و إن مستند هذه القصة هو واحد لا غیر و هو سیف بن عمر و قد انفرد الطبری بذلک و عنه أخذ بقیة المؤرخین کما سبق.و الآن نضع رجال السند أمام القراء و لهم الحکم.

ص:493


1- (1) الفتنة الکبری-134.
رجال السند:

الطبری-فی حوادث سنة 30-یقول:و فی هذه السنة کان ما ذکر من أمر أبی ذر،و إشخاص معاویة إیاه من الشام إلی المدینة،و قد ذکر فی سبب إشخاصه إیاه منها (من الشام)إلیها(إلی المدینة)أمور کثیرة کرهت ذکر أکثرها،فأما العاذرون معاویة فی ذلک فإنهم ذکروا فی ذلک قصة کتب بها إلی السری یذکر أن شعیبا حدثه عن سیف، عن عطیة عن یزید الفقعسی قال:لما ورد ابن السوداء الشام لقی أبا ذر فقال:یا أبا ذر أ لا تعجب إلی معاویة یقول:المال مال اللّه...الخ (1)کما ذکره أحمد أمین فی استدلاله علی أن ابن السوداء لقن أبا ذر مبادئ مزدک المجوسی إذ یقول أحمد أمین:

و نلمح وجه الشبه بین رأی أبی ذر و بین رأی مزدک فی الناحیة المالیة فقط فالطبری یحدثنا:

أن أبا ذر قام بالشام و جعل یقول:(یا معشر الأغنیاء و اسوا الفقراء.بشر الذین یکنزون الذهب و الفضة)...الخ کما تقدم.

ثم یقول أحمد:و لکن من أین أتاه هذا الرأی؟(أی أبا ذر)یحدثنا الطبری أن ابن السوداء لقی أبا ذر فأوعز إلیه بذلک... (2).

و هو ما أشرنا إلیه الآن،فحدیث الطبری کان عن مکاتبة من السری أن شعیبا حدثه عن سیف عن عطیة عن یزید الفقعسی.

فهؤلاء هم رجال سند هذه القصة و مستند حکم أحمد أمین علی أبی ذر بأنه یری رأی مزدک،و أنه أخذه عن ابن السوداء!.

فمن هم هؤلاء الرجال؟و ما هی منزلتهم؟و ما محلهم من الصدق؟!ستأتی الإجابة عن ذلک قریبا إن شاء اللّه.

و لا یفوتنا هنا أن نلفت نظر القارئ إلی أن الطبری یجعل هذه القصة من قبل العاذرین لمعاویة،و هم المتعصبون له و ناهیک ما للتعصب من أثر فی الافتعال.

ص:494


1- (1) الطبری 5:66 [1] ط 1.
2- (2) انظر فجر الإسلام-110.

أما ما یتعلق بقضیة ابن السوداء و تجواله فی الأمصار الإسلامیة و فشل محاولاته، و أخیرا یحط رحله فی مصر و أنه أظهر قوله فیها فی الرجعة و الوصایة و أنه بث دعاته- کما یروی الطبری-و کاتب من کان استفسد فی الأمصار و کاتبوه و دعوا فی السر إلی ما علیه أمرهم إلی آخر ما رواه الطبری (1)و ذکره الشیخ أبو زهرة و غیره من الکتّاب.

و إذا رجعنا لمصدر القصة فحدیث الطبری هکذا یقول:فیما کتبه إلی السری:

عن شعیب،عن سیف،عن عطیة،عن یزید الفقعسی قال کان عبد اللّه بن سبأ یهودیا من أهل صنعاء،أمه سوداء فأسلم زمان عثمان،ثم تنقل فی بلدان المسلمین یحاول ضلالهم فبدأ بالحجاز،ثم البصرة ثم الکوفة.إلی آخر ما ذکر فی ج 5 ص 98- 99 ط 1.

فالحدیث یدور حول الطبری،و السری،و شعیب و سیف و عطیة و یزید الفقعسی.هؤلاء هم رجال سند الروایة و هؤلاء مستند من ذکروا ابن سبأ فی کتبهم و عظموا أمره فی کتاباتهم و خلقوا منه شخصیة قویة ذات أثر فی تاریخ المسلمین بل غیر مجری التاریخ.

و أصبحت الروایة متواترة و مشهورة و قد لعبت طریقة الاتباع دورها فی تجمید العقل و ترک التحقیق علی ما فیها من مخالفة لقواعد التطور و قوانین الحیاة التی تقضی باستخدام مقاییس العقل فیما یروی و یصدر عن الناس فأی مقنع فی أن تکون أقوی دعامة لعدم الرد علی صحة قضیة ابن سبأ تواترها أو صدورها من ثقات کالطبری و هو راویة و لم یفصح عن تقریر کل ما حواه تاریخه؟و لم یقل بصحة ما ضمه.

کما أن أی روایة فی قیمتها تتأثر بسندها.و قد انحصرت قصة ابن سبأ فی دائرة الطبری و بدأ عرضها علی لسان سیف و لم یشارک الطبری أحد من المؤرخین الثقات الآخرین کما أن الفجوة الزمنیة تبقی قائمة لا تغلقها أو تملأها ذیول من الأکاذیب.

فأین کان ذکر ابن سبأ قبل روایة سیف؟ و نتنزل لمقتضیات الأمانة و مستلزمات التحقیق و نسلط أشعة التحقیق علی رجال فصة ابن سبأ.

ص:495


1- (1) الطبری 5-98 [1] ط 1.

و الواجب یقضی علینا عدم التصدیق بأمثال هذه المفتریات و لکن لزیادة الإیضاح و التنازل للحصول علی ما هو الواقع نجعل هؤلاء الرجال تحت أشعة التحقیق العلمی.

التحقیق:
اشارة

الطبری:أبو جعفر محمد بن جریر الطبری المتوفی سنة 310 صاحب التأریخ الکبیر المعروف بتاریخ الطبری،و لا یتعلق لنا غرض بالبحث عن شخصیته فهو شخصیة معلومة و من رؤساء المذاهب البائدة،و قد تبرأ من عهدة النقل بقوله الآنف الذکر:فما یکن فی کتابی هذا من خبر ذکرناه عن بعض الماضین مما یستنکره قارئه، أو یستشنعه سامعه،من أجل أنه لم یعرف له وجها فی الصحة،و لا معنی فی الحقیقة،فلیعلم أنه لم یؤت فی ذلک من قبلنا،و إنما أتی من قبل بعض ناقلیه إلینا، و إنما أدینا ذلک علی نحو ما أدی إلینا (1).

و علی هذا أصبحت المسئولیة علی عاتق الرواة الذین روی عنهم،و هنا نجری التحقیق العلمی عن رجال سند هذه القصة الذین روی عنهم الطبری و هم:

السری،و شعیب،و سیف بن عمر،و عطیة،و یزید الفقعسی.فمن هم هؤلاء و ما مقدار تحملهم للروایة؟و ما ذا یقول عنهم علماء الرجال؟

1-السری:

هذا هو أول سلسلة الروایة،و الطبری عند ما یروی عنه یقول:کتب إلیّ السری،أو فیما کتب إلیّ به السری.من دون أن ینسبه إلی أبیه أو عشیرته.

و لکنه روی عنه مرة مشافهة فقال:حدثنی السری بن یحیی (2).

فظهر أن الذی یحدث عنه الطبری هو السری بن یحیی،و هو مع ذلک مجهول لا یعرف و یتردد هذا الاسم بین جماعة هم:

السری بن یحیی بن ایاس و هذا لم یعاصر الطبری،لأن وفاة السری بن یحیی

ص:496


1- (1) الطبری 1-5. [1]
2- (2) تاریخ الطبری 3:213.

سنة 167 أی قبل ولادة الطبری بسبع و خمسین سنة إذ ولادة الطبری سنة 224 و وفاته سنة 310 فهذا لا یمکن أن یکون هو.

السری بن یحیی بن السری ابن أخی هناد بن السری ذکره ابن أبی حاتم المتوفی سنة 327 و هذا کان فی عصر الطبری لأنه عاصر ابن أبی حاتم و لکن لم تذکر له روایة،أو یشیر أحد إلی من روی عنه و لم یصفه أحد بأنه محدث أو حدث عن أحد أو حدثوا عنه و بهذا فهو مجهول.

و علی أی حال لا یوجد بهذه النسبة من عرف بالحدیث أو اشتهر بالروایة.

و بعضهم یری أن السری الذی یروی عنه الطبری هو السری بن إسماعیل الهمدانی الکوفی ابن عم الشعبی و کاتبه،و هذا أیضا لا یصح لأن وفاة الشعبی سنة 103 و ولادة الطبری 224 و لا یمکن أن یمتد عمر السری هذا إلی زمن الطبری فیحدثه،و مع هذا فقد اتصف بصفات توجب رد ما یرویه فهو ضعیف و متروک الحدیث کما یقول ابن المبارک و أبو داود و النسائی و هو لیس بثقة و أحادیثه التی یرویها لا یتابعه علیها أحد کما یقول ابن عدی.و قال ابن حبان:کان یقلب الأسانید،و یرفع المراسیل إلی آخر ما وصفوه به (1).

و یری بعضهم أن السری الذی یروی عنه الطبری هو:السری بن عاصم ابن سهل أبو عاصم الهمدانی مؤدب المعتز باللّه،و قد ینسب إلی جده،و هذا معاصر للطبری لأن وفاته سنة 258 فی بغداد و کان عمر الطبری عند وفاة السری هذا ثلاثین سنة فیمکن أن یکون هو.

و مع هذا فقد کذبه ابن خراش و وهاه بن عدی،و قال:یسرق الحدیث و قال النقاش:إنه وضاع،و ذکر الذهبی حدیثین من وضعه (2).

و کیف کان فإن الجهالة تحیط بهذا الراوی الذی یروی عنه الطبری،و لو فرضنا أنه معروف و أنه ثقة،و لکن یلزمنا أن نحقق عن شیخه الذی یروی عنه و هو شعیب.

ص:497


1- (1) انظر تهذیب التهذیب 3:459-460،و [1]میزان الاعتدال 1:270.
2- (2) میزان الاعتدال 1:270 و لسان المیزان 3:12.
2-من هو شعیب؟

شعیب بن إبراهیم و هو مجهول،قال الذهبی:شعیب بن إبراهیم روایة کتب سیف عنه:فیه جهالة؛و ذکره ابن عدی و قال لیس بالمعروف و هذا لا یحتاج إلی إطالة بحث،لأن الجهالة قد أرخت علیه سدولها و لا یعرف إلا أنه راویة سیف بن عمر.

3-من هو سیف؟

سیف بن عمر الضبی الأسدی و یقال التمیمی البرجمی و یقال السعدی الکوفی المتوفی بعد سنة 170 و هو راویة أحادیث السقیفة و الردة،و حوادث عهد عثمان، و هو نقطة انطلاق أسطورة ابن سبأ،و علیه تدور أخبار السبئیة،و نشأتهم و أثرهم فی المجتمع الإسلامی،و ما أحدثوه من بدع،و ما أوجدوه من خلاف.

إنه هو المبدع لهذه الأساطیر،و الموجد لتلک الحوادث،و المنفرد بتصویر شخصیة ابن سبأ،و البانی لکیانه.

و قد وصفوه بأنه وضاع کذاب،زندیق یروی الموضوعات عن الاثبات،و لننظر أولا إلی من یروی عنهم سیف أو بعبارة أوضح من یضع عنهم الروایات،ثم نعود إلی الحدیث عن سیف.

4-من هو عطیة؟

لا یدری من هو عطیة الذی یروی عنه سیف فهل هو عطیة العوفی المتوفی سنة 110 أم عطیة بن قیس الکلابی المتوفی سنة 121 أم غیرهما؟فإن کان المراد به العوفی فذلک شیء بعید جدا لأن عطیة العوفی کان من التابعین و توفی سنة 110 فسیف بن عمر لم یدرکه لأنه متأخر عنه بل کان فی بطون الأرحام و لیس من الصعب علی سیف أن یدعی الروایة عنه و هو لم یدرکه.أما عطیة بن قیس الکلابی فهو شامی و لم یتصل به سیف،و نحن لا ندری من هو و لئن حصلت لنا درایة فما ذا تنفع و سیف ثبت أنه وضاع.

و من جهة ثانیة ان یزید الفقعسی و هو نهایة السلسلة و بدایة الأسطورة لم یعرف من هو،و لا یوجد فی الرجال من یسمی بهذا الاسم و یلقب بالفقعسی،و هنا تنقطع السلسلة،و لا یبعد أنه شخصیة و همیة کشخصیة عبد اللّه بن سبأ فسیف بن عمر قادر علی أن یخلق ألف شخصیة و شخصیة،و یخترع آلاف الأساطیر.فهو وضاع بارع و یوجد من لا شیء أشیاء کثیرة و إلیک بعض ما وصف به:

ص:498

سیف بن عمر فی المیزان:

و بعد أن کشف التحقیق عن رواة هذه القصة،أی قصة ابن سبأ نود أن نضع بطل هذه الأسطورة سیف بن عمر فی المیزان،لنعرف قیمة روایته مما بینه علماء الرجال من حاله.

قال ابن حجر:سیف بن عمر التمیمی البرجمی و یقال السعدی،و یقال الضبعی،و یقال الأسدی الکوفی صاحب کتاب الردة و الفتوح روی عن عبد اللّه بن عمر العمری و أبی الزبیر...

قال ابن معین:ضعیف الحدیث و قال مرة فلیس خیر منه(أی لا یأتی منه خیر) و قال أبو حاتم:متروک الحدیث یشبه حدیثه حدیث الواقدی و قال أبو داود لیس بشیء.

و قال النسائی و الدار قطنی:ضعیف،و قال ابن عدی:بعض أحادیثه مشهورة، و عامتها منکرة لم یتابع علیها،و قال ابن حبان یروی الموضوعات عن الاثبات.و قال (ابن حبان أیضا)و قالوا عنه إنه کان یضع الحدیث،و اتهم بالزندقة،و قال البرقانی عن الدار قطنی:متروک.و قال الحاکم:اتهم بالزندقة (1).

و قال الذهبی:سیف بن عرم الضبی الأسدی التمیمی البرجمی و یقال السعدی الکوفی مصنف الفتوح و الردة.

ثم یذکر أقوال علماء الرجال کما ذکر ابن حجر و نقل عن جعفر بن أبان أنه سمع ابن نمیر یقول:کان سیف یضع الحدیث،و قد اتهم بالزندقة (2).

و قال ابن أبی حاتم:سیف بن عمر الضبی:عن یحیی بن معین أنه قال:

سیف بن عمر الضبی الذی یحدث عنه المحاربی ضعیف الحدیث.و قال سئل أبی عن سیف بن عمر الضبی فقال متروک الحدیث یشبه حدیثه حدیث الواقدی (3).

و فی ترجمة القعقاع عند ابن أبی حاتم أورد له حدیثا رواه سیف بن عمر،عن عمر بن تمام،عن أبیه عن القعقاع،و قال ابن أبی حاتم:و سیف متروک الحدیث

ص:499


1- (1) تهذیب التهذیب 4:291. [1]
2- (2) میزان الاعتدال 1:438.
3- (3) الجرح و التعدیل لابن أبی حاتم 2 قسم 1 ص 278.

فبطل الحدیث.و إنما کتبنا ذلک للمعرفة (1)و الحدیث هو ما رواه سیف عن القعقاع بن عمر قال:شهدت وفاة رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فلما صلیت الظهر جاء رجل حتی قام فی المسجد فأخبر بعضهم أن الأنصار قد أجمعوا أن یولوا سعدا-یعنی ابن عبادة-و یترکوا عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فاستوحش المهاجرون (2).

قال ابن السکن:سیف بن عمر ضعیف.و ذکر ابن حجر قول ابن أبی حاتم سیف بن عمر متروک الحدیث،و کذلک ذکره ابن عبد البر فی الاستیعاب ج 3 ص 263 بهامش الإصابة.

و قال السیوطی:سیف و ضاع.و ذکر حدیثا من طریق السری بن یحیی عن شعیب بن إبراهیم عن سیف فقال السیوطی:موضوع فیه ضعفاء أشدهم سیف.

و لعلنا فیما أوردناه من أقوال علماء الرجال هو کاف لمعرفة سلسلة هذه الأسطورة،و بالأخص بطلها الأول سیف بن عمر،فقد استبان وزنه،و عرفت حالته، و لم یرد عن أحد منهم فیه کلمة ثناء کما وقفت علیه.

و ربما یقال إن سیف بن عمر خرج له الترمذی و روی له فی صحیحه فیظن أن له أحادیث فی الأحکام و غیرها،أو أن الترمذی صحح حدیثه و بهذا یتثبت من یرید أن یخلق لسیف بن عمر شخصیة یوثق بها.

و لکن الترمذی لم یرو له إلا حدیثا واحدا و قال-بعد أن ذکره-:و هذا منکر.

و الحدیث الذی رواه الترمذی هو عن أبی بکر بن نافع عن سیف بن عمر السعدی،عن عبید اللّه بن عمر،عن نافع،عن ابن عمر،عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:إذا رأیتم الذین یسبون أصحابی فالعنوه.

قال الترمذی:و هذا الحدیث منکر.و بهذا فهو ساقط عن الاعتبار.

ص:500


1- (1) الجرح و التعدیل 3:136 قسم 2.
2- (2) انظر الإصابة لابن حجر 3:239 [1] ط 1.

و لسنا بحاجة إلی أکثر من هذا البیان لمعرفة حالة سیف بن عمر و مقدار تحمله للروایة؛فهو کما رأیت:و ضاع کذاب،زندیق متروک الحدیث،أحادیثه منکرة و.و.

الخ.

و نحن إذ نتکلف البحث عن سند هذه الأسطورة و غیرها من أحادیث سیف التی هی أبعد ما تکون عن الواقع،فکل قصدنا التنبیه علی ما یظن أو یتبادر إلی ذهن البعض بأن تلک الأساطیر قد اشتهرت و ذکرها کثیر من المؤرخین فلا بد أنهم وثقوا من الناقلین فأثبتوها،فنالت هذه الشهرة.

و الواقع أن هذه الشهرة لم تکن للتواتر،و لا لصحة ما یروی عن سیف و إنما المصدر الوحید هو الطبری کما قدمنا،و قد أخذ عنه کل من ابن الأثیر،و ابن کثیر، و ابن خلدون،و أبو الفداء و غیرهم.

فأما ابن الأثیر فقد صرح فی مقدمة تاریخه بأنه أخذ ما فی کتاب الطبری و زاد علیه...الخ (1).

و أما ابن کثیر فقد ذکر فی تاریخه عن سیف بن عمر-فقط-أن سبب تألب الأحزاب علی عثمان:أن رجلا یقال له عبد اللّه بن سبأ،کان یهودیا فأظهر الإسلام، و صار إلی مصر،فأوحی إلی طائفة من الناس کلاما اخترعه من نفسه،مضمونه أنه یقول للرجل...الخ (2)ثم ینقل القصة و بعد ذلک ینقل عن سیف وحده بعض الحوادث کما فی ص 169 ثم یمضی فی ذکر الحوادث،حتی یأتی إلی صفحة 246 فیقول:هذا ملخص ما ذکره أبو جعفر محمد بن جریر رحمه اللّه.

و أما ابن خلدون فإنه ذکر السبئیة فی حادثة الدار و الجمل و قال:هذا أمر الجمل ملخصا من کتاب أبی جعفر الطبری (3).

و قال فی ص 457 منه:هذا آخر الکلام فی الخلافة الإسلامیة و ما کان فیها من الردة،و الفتوحات ثم الاتفاق و الجماعة،أوردتها ملخصة من کتاب محمد بن جریر الطبری،و هو تأریخه الکبیر...الخ.

ص:501


1- (1) انظر الکامل لابن الأثیر 1:3 الطبعة الأولی [1]سنة 1301.
2- (2) تاریخ ابن کثیر 7:167.
3- (3) تاریخ ابن خلدون 2:425. [2]

أما ابن عساکر فی تاریخه مدینة دمشق و هو مرجع لکثیر من الکتّاب:إما إلیه نفسه أو إلی تهذیبه لابن بدران،و قد یرجعون إلیهما معا.

فإن ابن عساکر فی حدیثه عن السبئیة ینقل عن الطبری بل ینقل نفس العبارة کما فی تهذیبه (1)لابن بدران و لکنه یترک السند و فی ج 7 ص 429 یقول و روی سیف بن عمر عن أبی حارثة و أبی عثمان.ثم یذکر قصة ورود ابن سبأ إلی مصر.

و یروی ابن عساکر فی تاریخه عن أبی القاسم السمرقندی،عن أبی الحسین النقور عن أبی طاهر المخلص،عن أبی بکر سیف،عن السری بن یحیی،عن شعیب بن إبراهیم،عن سیف بن عمر.

فهذا هو سند ابن عساکر لجمیع ما ینقله حول ابن سبأ و أنت تراه یلتقی مع الطبری فی السند الذی أورد فیه تلک الحوادث.

و صفوة القول ان الجمیع عیال علی الطبری فی إیراد حوادث ابن سبأ،و الطبری کما تقدم لم یضمن أصلا صحة ما أورده فی تاریخه،بل هو ناقل و ترک لقرائه البحث و التنقیب لأنه تبرأ من عهدة روایاته فی التاریخ و حملها علی أکتاف رواتها له،و قد تقدم،و ان الراوی هو سیف به عمر و لا طریق غیره.

هذا و نری أنفسنا فی غنی عن التوسع فی البحث حول هذه القضیة إن کان الأمر یدور حول الواقع،و معرفة الحقیقة،و إن الحکم للعلم من دون مغالطة و تعصب.

و قد أثبت التحقیق العلمی مقدار ما لهذه الأسطورة من الواقع،فهی بعیدة کل البعد عنه.

و ما أوردته هنا من الموهنات لهذه الأسطورة و ما ورد فی نقد سلسلة رجالها لیس کل ما ورد فیها،بل هناک أشیاء کثیرة لم نذکرها اختصارا.

و من الحق و الإنصاف أن نشیر إلی ما کتبه العلامة السید المرتضی العسکری حول أحادیث سیف بن عمر و أسطورة ابن سبأ،فی کتاب عبد اللّه بن سبأ (2)بصورة

ص:502


1- (1) انظر تهذیب تاریخ ابن عساکر 7:428.
2- (2) طبع منه الجزء الأول الطبعة الأولی فی النجف الأشرف و الطبعة الثانیة فی القاهرة.

واسعة مستقصیا أحادیثه فی الحوادث التاریخیة،و ماله من افتعالات و أحداث.

و قد تعرض إلی أسماء الصحابة الذین افتعل سیف بن عمر أسماءهم و لم توجد إلا من طریقه بل ابتکاره.

و قد سبق أن العلامة الأمینی فی الجزء الثامن من کتابه الغدیر قد تعرض لأحادیث سیف بن عمر الموضوعة و أحصاها و هی 701 و قال:تحت عنوان:نظرة فی تاریخ الطبری:

شوه الطبری تاریخه بمکاتبات السری الکذاب الوضاع عن شعیب المجهول الذی لا یعرف،عن سیف الوضاع المتروک،الساقط المتهم بالزندقة؛و قد جاءت فی صفحاته بهذا الإسناد المشوه 701 روایة وضعت للتمویه علی الحقائق الراهنة فی الحوادث الواقعة من سنة 11 إلی 37 عهد الخلفاء الثلاثة،و لا یوجد شیء من هذا الطریق الوعر فی أجزاء الکتّاب کلها غیر حدیث واحد ذکره فی السنة العاشرة.

و إنما بدأ بروایة تلکم الموضوعات من عام وفاة النبی الأقدس صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و بثها فی الجزء الثالث،و الرابع،و الخامس،و انتهت بانتهاء خامس الأجزاء:

ذکر فی الجزء الثالث من ص 210 فی حوادث سنة 11،67 حدیثا.

أخرج فی الجزء الرابع فی حوادث سنة 12،427 حدیثا.

أورد فی الجزء الخامس فی حوادث السنة ال-23-37-207 أحادیث فیکون المجموع 701 حدیث (1).

و علی أی حال فإن هذه الأسطورة التی أخذت مفعولها فی المجتمع و أثرت أثرها السیئ،هی نتیجة للتعصب الأعمی الذی ینحرف بأصحابه عن جادة الصواب و یطلق الأوهام و الخرافات من عقالها،و قد مرت قرون و هی تحتل مکانا من الکتب التاریخیة،بدون أن ینالها التحقیق أو تسأل عن کفاءتها لاحتلال ذلک المکان.

و قد تصرف فیها کثیر من الکتّاب،وفقا لأهوائهم،و طبقا لرغباتهم و لم یهتدوا بهدی عبقریاتهم،و مواهبهم العلمیة.

ص:503


1- (1) الغدیر 8:335-336. [1]

و إنا لا ننکر أن هناک من أنکر وجود هذه الأسطورة فی صفحات الکتب و استنکر وجودها،و انها لا تستحق أن تحتل ذلک المحل من التاریخ الإسلامی،فأخذ یحارب وجودها،و یطالب بإبعادها،و بعض یشک فی أمرها،و یتوقف عن نفیها أو إثباتها.

و من الغریب أن نجد من یتعصب لابن سبأ و یثبت وجوده و سعیه المنکر فی إثارة الفتنة بین الصحابة،و یتحامل علی من ینکر ذلک،و یصل به تعصبه لابن سبأ إلی حد القول بأن إنکاره کمن ینکر وجود عیسی بن مریم،أو ینکر الشمس،و هذا قول بدون دلیل،بل هو من المتناقضات کما سنبینه،فمن هو هذا المنکر؟هو محمد زاهد کوثری (1)و إلیک نص قوله:

یقول الکوثری:

عبد اللّه بن سبأ المعروف بابن السوداء الیمانی،کان یتعثر فی اذیاله فی سبیل الرکض وراء إثارة فتن بین الصحابة رضی اللّه عنهم،متنقلا بین الیمن،و الحجاز، و البصرة و الکوفة،و مصر و الشام،للدس و تعکیر الصفاء بین المسلمین فی عهد عثمان و علی رضی اللّه عنهما،أیام کان المسلمون ما خبروا أسالیب الماکرین، و طرق فتن الفاتنین،من قوم بهت،أهل غدر و کذب و فجور،علی ما فی صحیح البخاری و غیره،و نتائج تلک الفتن ماثلة أمام کل باحث،مدونة فی کتب ثقات المؤرخین من علماء هذه الأمة،من أمثال ابن أبی خیثمة،و ابن جریر،و ابن عساکر،و ابن کثیر،و ابن السمعانی و غیرهم رغم محاولة بعض المسفسطین من أبناء الیوم إنکار وجود شخص یقال له عبد اللّه بن سبأ،فضلا عن أن یکون أحدث تلک الأحداث،ضاربا أقوال هؤلاء السادة عرض الحائط،فیما یمس بنی العمومة- و العرق دساس-و شأن هذا الصنف من الکتّاب شأن من ینفی صلة إسماعیل علیه السّلام

ص:504


1- (1) الشیخ محمد زاهد بن حسن الکوثری أصله من القوقاز ولد فی الأستانة المتولّد سنة 1296 ه و المتوفی فی القاهرة سنة 1371 ه وکیل المشیخة الإسلامیة فی الخلافة العثمانیة و صاحب المؤلفات الکثیرة فی المذهب الحنفی و غیره.و له تعلیقات علی بعض الکتب ینتصر بها للحنفیة و هو شدید التحامل علی من خالف مذهبه.و له رد علی الخطیب البغدادی حول ما ذکره فی ترجمة أبی حنیفة.

بمکة،و شأن من ینکر وجود شخص یقال له عیسی بن مریم،فی محاولة إنکار الشمس فی رابعة النهار...

إلی أن یقول:فاستبعاد سعی ابن سبأ فی الفتنة فی عهد عثمان بعد اعتراف جولد زیهیر الیهودی بذلک تحزبا للیهود فوق الیهود أنفسهم و سیف بن عمر من رجال جامع الترمذی فلا یستغنی عن أنبائه...الخ (1).

هذا هو حکم الشیخ الکوثری علی قضیة ابن سبأ،و أنها کالشمس فی رائعة النهار،و أن من أنکرها من الکتّاب یکون من أبناء عمومة سیف بمعنی أنه یهودی إذ العرق دساس-علی حد تعبیره-و أن سیف بن عمر لا یستغنی عن أنبائه و هو من رجال جامع الترمذی،و الراوی و هو الطبری و هو ثقة و أن جولد تسهیر ذکرها.

و هذه أدلة یسوقها الکوثری لإثبات قضیة ابن سبأ بطل الفتنة،و قائد جیش الانقلاب علی الخلیفة عثمان.

و لعل هناک ممن یطلع علی هذا القول فیظن أن الکوثری حکم بهذا نتیجة لتتبعه و قناعته فی الموضوع،و کل ذلک لم یکن.

و إنما کان هذا الحکم نتیجة لتعصبه و تعمده لإخفاء الحقائق و التمویه و الجدل و نحن من فمه ندینه فی نقض هذا الحکم.

من فمک أدینک..

بین أیدینا مقال للشیخ الکوثری عنوانه:(کلمة عن خالد بن الولید و قتل مالک بن نویرة).

یتحدث الشیخ فی هذه الکلمة حول حادثة مالک بن نویرة،و قتل خالد له و دخوله علی زوجة مالک فی لیلة قتله کما ذکرها المؤرخون.

یقف للدفاع عن خالد و یندد فی کتب الغربیین الذین نقلوا هذه الحادثة و یقول:

و کانت طریقة کتّاب الغرب فی النیل من الإسلام طریقة الإقذاع المجرد...

ثم یطعن فی کتب السیر أمثال کتّاب محمد بن إسحاق فیکذبه،و یکذب رواته.

ص:505


1- (1) انظر تقدیم کتاب المقدمات الخمس و العشرین 3-5.

و کتّاب الواقدی و أنه غیر متثبت بل یروی عن کل من هب و دب و یروی الأخبار الکاذبة.

إلی أن یأتی إلی الطبری و هو أحد رواة تلک الحادثة فیقول:و ابن جریر الطبری عمدة أمثال ابن الأثیر،و أبی الفداء،و ابن کثیر،و ابن الوردی و أن الطبری لم یضمن صحة ما أورده فی تاریخه و أنه تبرأ من عهدة روایاته فی التاریخ و حملها علی أکتاف رواتها له.

و هکذا یقف الشیخ فی الدفاع عن خالد و یطعن فی کتب التاریخ و یکذب الرواة.

و لیس هذا محل القصد من ذلک بل نرید أن نستمع فی دفاعه حول سیف بن عمر و شیوخه،و من روی عن سیف و قد تقدم قوله مما یشعر بأنه من رجال جامع الترمذی و یؤخذ بأحادیثه.

فلنترک الشیخ یتحدث عن سیف فی مقام دفاعه عن خالد فیقول:سیف بن عمر التمیمی صاحب کتّاب الردة و الفتوح،یقول عنه أبو حاتم:متروک الحدیث یشبه حدیثه حدیث الواقدی.و قال الحاکم:اتهم بالزندقة و هو فی الروایة ساقط.و قال ابن حبان:إنه کان یضع الحدیث،یروی الموضوعات عن الاثبات،اتهم بالزندقة و ضعّفه غیر واحد.

و راویته شعیب بن إبراهیم یقول عنه الذهبی:فیه جهالة.

و یقول ابن عدی:لیس بالمعروف و له أحادیث و أخبار فیها ما فیه تحامل علی السلف.

و الراوی عنه السری بن یحیی غیر موثق،و هو شیخ ابن جریر فی روایاته عن سیف،و أما من فوق سیف من الرجال مجاهیل فی الغالب (1).

هذا ما جاء فی دفاع الکوثری عن خالد بن الولید و قد ظهر لنا أنه یطعن فی مرویات سیف و یکذبه،و هذا السند هو نفسه الذی خرج الطبری فیه أحادیث و حوادث السبئیة.

فما معنی جزمه بصحة ما جاء فی هذا السند عن حوادث السبئیة و انها کالشمس

ص:506


1- (1) انظر مقالات زاهد کوثری 455-462.

فی رائعة النهار،و فی قضیة خالد بن الولید و قتله لمالک و نزوه علی امرأته یحکم بکذبه،و یجزم بتوهینه کما مر،علی أن قضیة خالد و زنائه بزوجة مالک بن نویرة قد خرجه الطبری من طریق آخر و هو:عن عبد الحمید بسند عن عبد الرحمن بن أبی بکر:و فیه قول عمر بن الخطاب-لأبی بکر فی ذم خالد بن الولید:عدو اللّه عدا علی امرئ مسلم فقتله ثم نزی علی امرأته.و أقبل خالد بن الولید قافلا،فلما أن دخل المسجد قام إلیه عمر و قال:ارثأ قتلت امرأ مسلما ثم نزوت علی امرأته و اللّه لأرجمنک بأحجارک...الخ (1).

و لسنا بصدد إیراد هذه القصة و البحث عن ورودها و لکننا نرید أن نبین مدی ما بلغت إلیه الحالة من التنکر للحقائق،و الابتعاد عن الواقع،نتیجة للتعصب الأعمی، و انقیادا للهوی المردی.

و لعل الشیخ الکوثری یعتذر بأمر واجب و هو أن روایة قتل مالک بعد ثبوت إسلامه و قد شهد له جماعة عند خالد و نزوه علی امرأته و بذلک طعن علی خالد و هو صحابی،و لا یصح الطعن،و حینئذ یجب تأویل کل روایة تتضمن ذلک و قد تقدم قول النووی:قال العلماء:الأحادیث الواردة فی ظاهرها حمل علی صحابی یجب تأویلها (2).

و الشیخ الکوثری قام بواجبه فی الدفاع عن خالد فی ارتکابه لتلک الفعلة الشنیعة.و لأن سیفا فی بعض طرق الطبری لروایة خالد انهال علیه الکوثری ببراهین الحق،و لکن التعصب أو العناد یحول سیفا إلی راویة ثقة و لا یستغنی عن أنبائه لأنه مصدر قصة ابن سبأ،فهل هذا من العلم و الأمانة فی شیء؟! و علی أی حال:فإن قضیة ابن سبأ تتضمن الطعن علی أغلبیة الصحابة، و وصفهم فی اتباع رجل یهودی یضلهم عن دینهم،و یدعوهم إلی ما نهی الإسلام عنه،و فیها أن أبا ذر تلقن مبادئ الزرادشتیة و التعالیم الیهودیة من ابن سبأ،و عمار بن یاسر من استهواه ابن سبأ،فأصبح علی رأس الدعاة لابن سبأ و مبادئه.

ص:507


1- (1) الطبری 3:243. [1]
2- (2) شرح صحیح مسلم للنووی 15:177.

و بهذا تکذیب لأقوال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و وصفه لأبی ذر بالصدق و لعمار بأنه مع الحق و الحق معه و أنه ما خیر بین أمرین إلا اختار أشدهما و أن عمارا هو میزان لمعرفة الفئة المحقة و لا تقتله إلا الفئة الباغیة.

و نری من اللازم هنا ختاما لهذا الموضوع أن نشیر لبعض الأحادیث الواردة من صاحب الرسالة الأعظم نبینا محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فی أبی ذر و عمار بن یاسر.

أبو ذر الغفاری:

أبو ذر جندب بن جنادة بن سکن المتوفی سنة 31-32 بالربذة هو رابع الإسلام،و المعذب فی سبیل نشر الدعوة الإسلامیة،و هو الزاهد المشهور الصادق اللهجة،الذی قال فیه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ما أقلت الغبراء و لا أظلت الخضراء،أصدق لهجة من أبی ذر (1).

و أخرج الترمذی بلفظ:ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء من ذی لهجة أصدق و لا أوفی من أبی ذر شبیه عیسی بن مریم.

و هذا الحدیث مشهور رواه جماعة و خرجه الحفاظ کالترمذی،و ابن ماجة، و الحاکم،و أبو نعیم،و غیرهم (2).

و کان أبو ذر هو رابع الإسلام،و أول من جهر فی الدعوة،و أعلن الإسلام بین قومه،و فی مکة حتی ناله العذاب،و هو ممن أمر اللّه تعالی نبیه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بحبه کما عن بریدة:عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:إن اللّه عز و جل أمرنی بحب أربعة،و أخبرنی أنه یحبهم:علی،و أبو ذر،و المقداد،و سلمان.أخرجه الترمذی فی صحیحه،و ابن حجر فی الإصابة،و أبو نعیم فی الحلیة.و أبو عمر فی الاستیعاب و غیرهم.

و قال النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:أبو ذر فی أمتی علی زهد عیسی بن مریم (3).و قال علی علیه السّلام:أبو ذر وعاء ملئ علما ثم أوکئ علیه (4)

ص:508


1- (1) الإصابة لابن حجر 4:64. [1]
2- (2) انظر صحیح الترمذی 2:221 و مستدرک الحاکم 3:342.
3- (3) انظر أسد الغابة 5:187. [2]
4- (4) الإصابة 4:24 و [3]أسد الغابة 5:187. [4]

و روی ابن عبد البر عن الأعمش بسند عن عبد الرحمن بن غنم قال:کنت عند أبی الدرداء إذ دخل رجل من أهل المدینة فسأله أبو الدرداء فقال:أین ترکت أبا ذر؟ فقال:بالربذة.

فقال أبو الدرداء:إنا للّه و إنا إلیه راجعون،لو أن أبا ذر قطع منی عضوا ما هجته لما سمعت رسول اللّه یقول فیه (1).

و أخرج الطبرانی من طریق ابن مسعود مرفوعا:من سره أن ینظر إلی شبه عیسی خلقا فلینظر إلی أبی ذر (2).

و الأحادیث فی فضله و زهده و علمه کثیرة،و مواقفه فی الذب عن الإسلام و الأمر بالمعروف و النهی عن المنکر مشهورة لا تحصی بهذه العجالة.

و بمزید الأسف أن ذلک الرجل المجاهد قد وصفوه بما لا یلیق به،و أصبح ممن تستهویه الدعایات الکاذبة فیکون ممن لقنه ابن سبأ و استهواه و صار ینطق بلسانه و یعبر عن فکره کما هو منطوق أسطورة ابن سبأ.

فأین حمل الأخبار أو الأحادیث التی فیها حمل علی الصحابة،علی غیر الوجه التی تدل علیه،و کأن أبا ذر لا یشمله ذلک مع أنهم صدقوا فی حقه من لا یصدق کیف یکون أبو ذر یحمل فکرة ابن سبأ و یدعو لها و هو الصادق اللهجة؟!و فی ذلک نصر للیهود،بأن یمیل إلیهم رجل وصفه رسول اللّه بالصدق و الأمانة و الزهد.

عمار بن یاسر:

أبو الیقظان عمار بن یاسر المقتول فی صفین سنة 36.

و کان عمار بن یاسر قد عذب هو و أبوه فی أول الدعوة الإسلامیة و تمسکوا بإسلامهم،رغم ما واجهوا من المحن و البلاء.

و کانت بنو مخزوم یخرجون بعمار و بأبیه و أمه،و کانوا أهل بیت إسلام-إذا حمیت الظهیرة یعذبونهم برمضاء مکة،فیمر بهم رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فیقول:صبرا آل

ص:509


1- (1) الاستیعاب 1:217. [1]
2- (2) الاستیعاب 1:216. [2]

یاسر موعدکم الجنة،صبرا آل یاسر موعدکم الجنة (1).

و قد وردت عن صاحب الرسالة الأعظم کلمات الثناء علی عمار مما یدل علی عظیم منزلته،و جلالة قدره کقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:

ملئ عمار إیمانا إلی أخمص قدمیه.و فی حدیث عائشة تقول سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول:عمار ملئ إیمانا إلی مشاشه.

و أخرج ابن ماجة و أبو نعیم من طریق هانی بن هابی قال:کنا عند علی علیه السّلام فدخل علیه عمار فقال مرحبا بالطیب المطیب،سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول:عمار ملئ إیمانا إلی مشاشه (2).

و عن خالد بن الولید قال:کان بینی و بین عمار کلام فاغلظت فشکانی إلی النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فلما جئت رفع رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم رأسه،فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:من عادی عمارا عاداه اللّه،و من أبغض عمارا أبغضه اللّه (3).قال خالد فما زلت أحبه یومئذ.

و قد حث النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم علی اتباع عمار عند نزول الفتن،و أن عمارا لا یکون إلا مع الحق.

روی البیهقی عن الحاکم و غیره بسند عن ابن مسعود قال:سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول لعمار:إذا اختلف الناس کان ابن سمیة مع الحق (4).

و جاء رجل إلی عبد اللّه بن مسعود فقال:إن اللّه قد آمننا أن یظلمنا،و لم یؤمنا أن یفتنا،أ رأیت إذا نزلت فتنة کیف أصنع؟قال ابن مسعود:علیک بکتاب اللّه.فقال الرجل:أ رأیت إن جاء قوم کلهم یدعون إلی کتّاب اللّه؟ فقال ابن مسعود:سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یقول:إذا اختلف الناس کان ابن سمیة مع الحق (5).

و لما احتضر حذیفة بن الیمان و قد ذکر الفتنة قالوا له:إذا اختلف الناس بمن

ص:510


1- (1) انظر سیرة ابن هشام 1:342 و [1]حلیة الأولیاء 1:141.
2- (2) انظر الإصابة 2:512. [2]
3- (3) الإصابة 2:512.و [3]الاستیعاب [4]بهامش الإصابة. [5]
4- (4) تاریخ ابن کثیر 7:270.
5- (5) نفس المصدر.

تأمرنا؟قال:علیکم بابن سمیة فإنه لن یفارق الحق حتی یموت.أو قال:فإنه یدور مع الحق حیث دار (1).

و أخرج ابن سعد فی الطبقات عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:ان عمارا مع الحق و الحق معه، یدور مع الحق أینما دار و قاتل عمار فی النار (2).

و قد اشتهر قول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بأن عمارا تقتله الفئة الباغیة.و قد ورد هذا الحدیث من طرق متعددة رواه جماعة من الصحابة منهم:عثمان بن عفان،و عائشة أم المؤمنین،و أنس بن مالک،و أبو هریرة،و جابر بن سمرة،و عبد اللّه بن مسعود و غیرهم.

و منهم معاویة بن أبی سفیان،و عمرو بن العاص،و أبو الغادیة قاتل عمار.

و کان الناس یعرفون ذلک و لکن معاویة موّه علی الناس بتأویل هذا الحدیث تأویلا باطلا لیتستر بذلک عن المؤاخذة عند ما قتل عمارا و ارتبک جیش الشام،و علموا أنهم الفئة الباغیة علی لسان النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

فلجأ معاویة إلی حیلة تؤثر علی البسطاء السذج فقال:نحن لم نقتل عمارا و إنما قتله من جاء به حتی أوقعه بین رماحنا.

و هذا من حیل ابن العاص و دهائه و قد أثرت هذه المغالطة أثرها علی ضعفاء النفوس.

یقول ابن قیم الجوزیة تلمیذ ابن تیمیة:و من التأویل الباطل تأویل أهل الشام قول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لعمار:تقتلک الفئة الباغیة.فقالوا نحن لم نقتله إنما قتله من جاء به حتی أوقعه بین رماحنا.و هذا التأویل مخالف لحقیقة اللفظ و ظاهره،فإن الذی قتله هو الذی باشر قتله،لا من استنصر به،و لهذا رد علیهم من هو أولی بالحق و الحقیقة منهم،فقالوا:أ فیکون رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أصحابه هم الذین قتلوا حمزة و الشهداء معه حتی أوقعوهم تحت سیوف المشرکین؟ (3)

ص:511


1- (1) الاستیعاب 2:480. [1]
2- (2) طبقات ابن سعد 3:187 ط لیدن. [2]
3- (3) الصواعق المرسلة لابن قیم الجوزیة-10. [3]

و إن الاستمرار فی مناقب عمار و ذکر مواقفه و ما ورد فیه من أحادیث و ما نزل فیه من آیات لا یتسع المقام لاستطرادها و لیس من غرضنا أن نترجم له هنا.

إن الشیء الذی نود أن نقوله:إن من أعظم الجرأة علی اللّه و علی رسوله أن ینسب لهذا الرجل الذی بدأ حیاته فی الجهاد و ملاقاة العذاب و ختمها فی الشهادة، دفاعا عن الإسلام،و اتباعا لحق و إحقاقه،مثل هذه الإساءات،أو یوصف بأنه ممن استهواه ابن سبأ فسار فی رکابه و کان من دعاته!حتی یسلم خصومه من المؤاخذات و یتبرّءوا مما ارتکبوه من مخالفات؟ و لیت أنهم استدلوا بما یوجب الشبهة فی ذلک فضلا عن الجزم بالحکم فیما وصفوه فیه،فرحم اللّه عمارا،فلقد لزم الحق و حارب الباطل و مات شهیدا بسیوف الفئة الباغیة کما أخبر الرسول المعظم صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

إن الذین وصفوا عمارا بما وصفوه من اتباع ابن سبأ قد ارتکبوا إثما لا یغتفر، و قد ردوا علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أقواله فی عمار.

و کذلک جنایتهم بحق الصحابی الجلیل زید بن صوحان فجعلوه علی رأس الدعاة لابن سبأ؛و من الخیر أن نشیر إلی زید بن صوحان بموجز من البیان إیضاحا لما قد یتوهم صحة ما قاله أولئک المفترون فی حقه.

زید بن صوحان:

زید بن صوحان بن حجر بن الحارث أبو سلمان العبدی المقتول سنة 36 و قد سماه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بزید الخیر.

و کان زید ممن یصوم النهار و یقوم اللیل،و إذا کانت لیلة الجمعة أحیاها.

و أخرج ابن حجر و ابن سکن،و ابن أبی شیبة و غیرهم أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أخبر عن زید بن صوحان بأنه یسبق عضو من أعضائه الجنة.و قد قطعت یده فی حرب المشرکین و قیل فی نهاوند (1).

و قال ابن عبد البر:روی عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم من وجوه أنه کان فی مسیر له فهوّم فجعل یقول:زید و ما زید زید جندب و ما جندب فسئل عن ذلک؟

ص:512


1- (1) انظر تهذیب ابن عساکر 3:410 و الإصابة 1:250 فی ترجمة جندب بن کعب.

فقال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:رجلان من أمتی أما أحدهما فتسبقه یده أو قال:بعض جسده إلی الجنة،و أما الآخر فیضرب ضربة یفرق فیها بین الحق و الباطل.

قال أبو عمر:أصیبت ید زید یوم جلولاء ثم قتل یوم الجمل مع علی علیه السّلام، و جندب بن کعب قاتل الساحر...الخ (1)و قد شهد کعب حرب الجمل مع علی علیه السّلام.

و کان زید وجیها مقداما،و قد وفد علی عمر بن الخطاب فأکرمه،و جعل یرحل لزید بیده،و یطأ علی ذراع راحلته و یقول:یا أهل الکوفة هکذا فاصنعوا بزید.

و لما أراد زید أن یرکب دابته أمسک عمر برکابه،ثم قال لمن حضره:هکذا فاصنعوا بزید و إخوته و أصحابه (2).

و کان سلمان یقدمه للصلاة و الخطابة و هو أمیر،و أخرج الحافظ و ابن عدی عن علی علیه السّلام قال،قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:من سره أن ینظر إلی من یسبقه بعض أعضائه إلی الجنة فلینظر إلی زید بن صوحان.

قال ابن عساکر و رواه الخطیب البغدادی،و أبو یعلی،و قال قطعت یده فی جهاد المشرکین،و عاش بعد ذلک دهرا حتی قتل یوم الجمل (3).

و لما قتل زید أوصی بأن یدفن فی ثیابه،و قال قبل أن یقتل:إنی رأیت یدا خرجت من السماء تشیر إلیّ أن تعال،و أنا لا حق بها یا أمیر المؤمنین (4).

و مهما یکن من أمر فإنا نأسف الأسف الشدید لغفلة کثیر من الکتّاب الذین تناولوا البحث عن التاریخ الإسلامی و لم یقفوا أمام هذه الأسطورة موقف الباحث المتثبت و تساهلوا فی نقلها و التعلیق علیها بما یزید جذورها تشبثا فی المجتمع و یضاعف شرها علی الأمة و هم یحسبون أنهم یحسنون صنعا.

و لو رجعوا إلی الواقع لوجدوا أنفسهم أمام صورة جامدة منحوتة بید الأغراض

ص:513


1- (1) الاستیعاب 1:560. [1]
2- (2) ابن عساکر 6:11. [2]
3- (3) المصدر السابق...
4- (4) ذکرنا ترجمة زید مفصلة فی کتابنا تاریخ الکوفة.

السیاسیة لتحقیق أهدافهم فی تضلیل الناس بأوهام باطلة تنشر هنا و هناک و تملأ أوهام الصغار و الکبار بمشاعر لا أصل لها.

و نحن نأمل أن تدرس هذه القصة و غیرها من الخرافات التی اختفی من ورائها النزاع السیاسی و الصراع العقائدی دراسة واقعیة علی ضوء التحقیق العلمی المجرد من التعصب و التحیز لیظهر الحق و الحق أحق أن یتبع.

و إن تلک الأباطیل لا تقف أمام الواقع بل هی أشباح خیالیة لا بد لها من الزوال.

و إنا لواثقون بأنها لن تدوم فهی سحب تنجلی،و عقبات تندک،و حجب ترفع، ما دام للعلم کلمته،و للعدل حکمه.

إننا نکتب للعلم و للعدل،و لیس أجمل بالمرء من أن یتکلم علی موازین العلم و لا أبهی من العدل فی الحکم بعد أن یعرفها العلم،فالحکم علی الشیء قبل معرفته خطأ لا یغتفر.

خلاصة البحث:

هذه دراسة قدمناها باختصار عن أثر المستشرقین فی ثقافتنا الإسلامیة و تاریخنا الذی نستمد منه معلومات أسلافنا الماضین.

و قد رأینا بهذه العجالة کیف کانت دراسة أولئک الکتّاب،و أنها لم تکن دراسة تترکز علی أسس علمیة،و قواعد منطقیة،و أمور واقعیة بل کانت دراسة محدودة لا تتجاوز التعصب أو التساهل فی النقل،بل دراسة تقلید لا تعتمد علی تحقیق، و ملاحظة للأمور الواقعیة.

إنهم ینظرون إلی الحوادث بمنظار غیرهم من الذین یحورون الحقائق، و یبدلونها لتلبس تلک القوالب التی یفرضونها فرضا و هی قوالب أفکار لا تمت إلی الواقع بشیء،بل تخیلات و همیة ترسم لنا صورة الاندفاع وراء مضللات العاطفة، و مردیات التعصب الأعمی.

و قد أشرت سابقا إلی ضرورة الالتفات إلی الخطر الذی یحدق بنا من أثر ما یبثه أولئک المستشرقون من سموم الفرقة،بضروب مختلفة،فی تحطیم بناء وحدة

ص:514

المسلمین،و الحیلولة بینهم و بین تمسکهم بتعالیم دینهم،لیقیموا علی أنقاضها معاقل تضمن لهم تنفیذ ما یطلبه خصوم الإسلام،و تحقیق ما یرجونه.

و لا أحید عن الواقع إن قلت:إن الاستشراق؟؟؟ أصبح طریقا ینفذ منه المستعمرون لأغراضهم،و وسیلة من وسائل سیطرتهم علی الشعوب المسلمة و قد رأینا کیف کانوا یتوارون من وراء البحث عن الإسلام لینفثوا سمومهم،و یحققوا أهدافهم.

کما اتضح لنا إعجاب کثیر من الکتّاب بأسالیبهم الخداعة،و ألفاظهم البراقة، فنقولها کما هی بدون تمحیص،بل اجتروا آرائهم و سکبوها فی أبحاثهم،و لم یجعلوا للبحث عن الواقع محلا،و لم یحفلوا بما یتصف به أولئک من التعصب علی الإسلام.

و إنا لنرجو أن یتنبه الکتّاب لخطر تلک الآراء،و أضرار تلک الأبحاث التی یشوبها الخلط و الخبط و التشویه و التمویه.

و قد تعرضت هنا-و فی الأجزاء السابقة-لمناقشة بعض الکتّاب الذین تناولوا الشیعة بما لا یتفق مع الواقع،و تهجموا علیهم دون ما إنصاف و تدبر.

و لم أکن فی مناقشتی قد جنیت علی نفسی بإهمالها أو أفسح لها المجال فی میدان العاطفة و التأثر،مما وقفت علیه من عبارات الغمز و الطعن و القول بالباطل،و لم أتخل عن المنهج الذی نهجته و هو الاستقامة فی النقد و الاتزان فی الرد.

و قد خف وزن البعض فانحدروا إلی مستوی المهاترات و الجدل العقیم و یریدون أن یحشروا ألفاظا فارغة فی تلفیق التهم؛و قد أعرضنا عن أقوالهم و ألقیناها فی سلة المهملات.

و فی الختام نقول:لقد ذهب الزمن بما فیه و مرت الحوادث بما فیها من آلام، و مضی زمن تلاعب ذوی الأغراض بمقدرات الأمة،و تکالبهم علی السیادة بوسائل التفرقة بین صفوف الأمة.

و لقد فتک داء الفرقة بجسم الأمة و لم تنل من ذلک إلا الخسارة و الدمار؛و من اللّه نسأل أن یوحد کلمتهم و یجمع شملهم و أن تنمو بینهم روح المحبة و التسامح و یحصل بینهم کل ما یوصلهم إلی رضاء اللّه و إلی سعادة الأمة إنه سمیع مجیب.

ص:515

ص:516

رجال الصحاح من الشیعة

تمهید:

تقدم الکلام حول تدوین العلم،و فی أی عصر بدأ،و قد وقع الخلاف بین المؤرخین فی ذلک،فهل هو فی الصدر الأول،أم فی العهد الأموی،أم فی العهد العباسی؟ و قد تقدم بیان ذلک و ذکرنا سبق الشیعة إلی التدوین،فلا حاجة لإعادة القول فیه (1).

أما علم الحدیث فقد اعتنی رجال الأمة بمعرفة الأحادیث النبویة و اهتموا به، لأنه المقدار لتفصیل الأحکام،و تبیین الحلال من الحرام.و کان الشیعة أعظم الجمیع اهتماما و أشدهم محافظة،لأنهم قد تلقوا تلک الثروة العظیمة عن الإمام علی علیه السّلام فی عصره،و هو باب مدینة العلم؛و من بعده أخذوا عن أبنائه.

یقول الأستاذ مصطفی عبد الرازق-عند ذکره لأول من دون الفقه-:و علی کل حال فإن ذلک لا یخلو من دلالة علی أن النزوع إلی تدوین الفقه کان أسرع إلی الشیعة،لأن اعتقادهم العصمة فی أئمتهم،أو ما یشبه العصمة کان حریا أن یسوقهم إلی الحث علی تدوین أقضیتهم،و فتاواهم (2).

و الذی یقرره الواقع التأریخی،أن العهد الأموی قد منع الناس عن التحدث بعلم علی علیه السّلام أو نقل فتاویه و أقواله للناس.

ص:517


1- (1) انظر الجزء الثانی من هذا الکتاب 274-302 ط 3،تحت عنوان:تدوین العلم.
2- (2) تمهید لتاریخ الفلسفة الإسلامیة،252.

فقد کان لاضطهاد الأمویین لأهل البیت و أتباعهم أثر کبیر فی منع الناس عن الحدیث عنهم،و کانوا لا یتمکنون أن یتحدثوا عن علی فالتجئوا إلی التوریة بقولهم قال:أبو زینب (1)کما یحدثنا الحسن البصری بذلک لأنه یرید أن یحقن دمه.

و قد کانت العلامة بین المشایخ إذا حدثوا عن علی علیه السّلام قالوا:قال الشیخ (2).لأنهم لا یستطیعون أن یذکروا اسمه.

و کیف یستطیع أحد أن یذکره بخیر أو یسند عنه حدیثا و منابرهم تعج بسبه، و مشایخهم تلهج بذمه،و قصاصهم یختمون أحادیثهم بلعنه (3)،إلی غیر ذلک من الوسائل التی حاولوا فیها القضاء علی مآثر علی علیه السّلام فهل یستطیع أحد من المحدثین أن یروی عن علی علیه السّلام،أو یروی فی فضله شیئا و قد نکلوا بالحافظ النسائی عند ما حدث فی الشام بفضل علی علیه السّلام حتی مات من جراء ذلک.

و لهذا فقد أکب الشیعة علی تدوین قضایا علی علیه السّلام و أحادیثه،و أخذوا عن أهل بیته الذین أودعهم تلک الثروة العظیمة،و استمر الشیعة علی التدوین فی کل عصر.

و قد ابتدأ التدوین عند الشیعة فی عصر الإمام علی علیه السّلام و أول من دون الحدیث أبو رافع من خواص الإمام علی علیه السّلام و شیعته،و ابنه عبید اللّه ابن أبی رافع کاتب أمیر المؤمنین و أحد خواصه،و محمد بن قیس البجلی و غیرهم.

و علی أی حال:فإن اهتمام الشیعة بحفظ الحدیث و تدوینه کان أکثر من غیرهم،کما تعرضنا لذلک فیما سبق.

و نحن لا نرید أن نخوض فی علم الحدیث و تدوینه،و تبویبه و تقسیمه و لکننا نود أن نتعرض لأثرهم العظیم فی التشریع الإسلامی،رغم تلک المعارضات و الحواجز التی کانت تقف أمام نشر ما تحملوه من رسالة الإسلام یوم کانت السیاسة تقف وراء تلک العقبات،و تثیر تلک الشکوک فی اتهام الشیعة بأمور هی خلاف المعقول،و لا

ص:518


1- (1) انظر الحسن البصری لابن الجوزی 7.
2- (2) مناقب أبی حنیفة للمکی 1:171.
3- (3) انظر تهذیب تاریخ ابن عساکر 3:407.

یقرها المنطق،و کان القصد من ذلک هو تشویه سمعتهم بإلقاء الشبه علیهم من الوجهة الدینیة،لأنهم أنصار العلویین فی مقاومة الدولة.

و لهذا فقد غذت تلک الشکوک عقول کثیر من المؤرخین،فاستعملوا ألفاظا فارغة عند ما یترجمون لشیعی کقولهم:مبتدع،زائغ عن الحق سیئ المذهب و غیر ذلک.

و لکنا إذا أردنا أن نسأل عن مصداق ذلک ما هو الموجب لهذا فلا نجد جوابا إلا الخضوع لدعایة خصومهم الذین تجاوزوا فی اضطهاد الشیعة أبعد الحدود.

و حیث کانت تلک الأقوال لا تقوم علی أسس صحیحة،فقد اضطربت أقوال علماء الرجال فی قبول روایة الشیعی و عدمها،و من هو الذی تقبل روایته و من ترد روایته.

و ما هی البدعة التی ابتدعها الشیعة فاستوجبوا رد أحادیثهم و عدم قبولها و ستقف علی الجواب فی ترجمة أبان بن تغلب.

و قد هبت زوبعة أقوال حول روایة الشیعة للحدیث و لکنها لم تؤثر إلا علی ضعاف النفوس،و من لا یقفون أمام الافتعالات موقف تثبت و تدبر.

و مع کل تلک الحملات علی الشیعة فقد أصبح لمدرستهم مکان فی التشریع، رغم محاولة السلطة و أعوانهم،لأن الشیعة یحملون من الآثار النبویة فی الأحکام الشرعیة ما لا یمکن الاستغناء عنه و لم یجد العلماء بدیلا منه.

قال علی بن المدینی:لو ترکت أهل الکوفة لذلک الرأی یعنی التشیع خربت الکتب.

قال الخطیب البغدادی:قوله خربت الکتب یعنی لذهب الحدیث (1).

و روی الخطیب عن محمد بن أحمد بن یعقوب عن محمد بن نعیم الضبی قال سمعت أبا عبد اللّه محمد بن یعقوب و سئل عن الفضل بن محمد الشعرانی؟فقال:

صدوق فی الروایة إلا أنه کان من الغالین فی التشیع.

ص:519


1- (1) انظر کفایة الأصول للخطیب-129.

قیل له فقد حدثت عنه فی الصحیح.فقال:لأن کتّاب أستاذی-ملآن من حدیث الشیعة.یعنی مسلم بن الحجاج (1).

و رجال الحدیث الثقات من الشیعة الذین اعتمدهم رجال الصحاح منبثین فی الأسانید و الطرق.أما کتب الجرح و التعدیل فقد مر فی ثنایا البحث طریقتهم فی الخضوع للحق و أن لا مندوحة من الاعتراف بقول الروایة إذا کان شیعیا و ذکر صفاته من الورع و الصدق إلا أن ذلک لا یعفی أحدا من ذکر التهمة و الإشارة إلی تشیعه.

و لقد اضطر بعض العلماء-و حتی رؤساء المذاهب-إلی التعبیر عن الثقة الشیعی بالقول:حدثنی من لا أتهمه...إشارة إلی الروایة الشیعی و ما ذلک إلا امتداد لضرورات سیاسة النصب التی أشرنا إلی نتائجها فی منع الروایة عن أمیر المؤمنین الإمام علی،و لجوء العلماء إلی الإشارة إلیه بالکنیة أو بلقب آخر.

و بالجملة فإن تلک الخصومة التی نشبت بین الشیعة و بین الدولة قد أثرت هذا الأثر السیئ علی عقول کثیر من الناس،و قد سری ذلک إلی بعض المحدثین و علماء الرجال،ممن لم یذکروا الشیعة إلا مع التقبیح و التشنیع،فأعطوا عنهم فکرة سیئة، و صورة مشوهة کما ذکرنا ذلک مرارا.

و قد أخذ القصاصون نصیبهم فی نشر تلک الصور،و استغل الوضاعون تلک الفرص فکثرت الحکایات،و انتشرت الأحادیث الموضوعة و السیاسة من وراء ذلک تشد أزرهم،و تتولی نشر ما یفترون.

و قد وضعوا علی ألسنة أئمة المذاهب أقوالا مؤداها الامتناع عن قبول روایة الشیعة،کما نجد فی أکثر کتب الأصول کثیرا من ذلک؛فمثلا یقولون إن أبا حنیفة کان لا یجیز أخذ الآثار عن الشیعة کما أوردوا ذلک عن أبی عصمة،أنه سأل أبا حنیفة ممن تأمرنی أن أسمع الآثار؟ فقال أبو حنیفة من کل عدل فی هواه إلا الشیعة،فإن أصل عقیدتهم تضلیل أصحاب محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

و هذه الکلمة قد أخذت مکانتها من أدمغة کثیر من کتّاب الأصول و الحدیث فی

ص:520


1- (1) کفایة الأصول للخطیب 131.

السابق و الحاضر،و بنوا علیها تأیید ما یدعونه علی الشیعة من الطعن علی الصحابة.

و تلک أمور تخضع لدرجة علم المرء و إیمانه فإذا غلب العلم علی ذهن الإنسان و ساده الإیمان تحرّج من النیل من الآخرین،و هؤلاء لو أنهم قصدوا الخیر و خدمة الحقیقة لبحثوا عن أصل هذه الفریة و الأکذوبة،التی نسبوها لأبی حنیفة،و ذلک أن أبا عصمة (1)کان من أشهر الوضاعین،و کان یری ذلک حسبة،و أنه ینال أجرا علی کذبه فیما یؤید مذهبه،فیا لضیاع العلم!! و کذلک نجد أقوالا عن الشافعی و مالک و أحمد شبیهة بهذا و الکل لا أصل له لأنا لم نجد طریقا یصح فی الإسناد إلیهم،مع أنهم-أی أئمة و رؤساء المذاهب-لم ینفصلوا عن مدرسة الشیعة،فکلهم قد أخذوا الحدیث منهم و رووا عنهم.

و أبو حنیفة کان من تلامذة الإمام الباقر و ولده الإمام الصادق علیهم السّلام و مالک من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام و الشافعی تلمیذ لمالک،و أحمد تلمیذ للشافعی،و الکل قد رووا عن رجال الشیعة و خرجوا أحادیثهم.

و هؤلاء الأئمة لم یرد عنهم حول روایة الشیعة ما یدل علی الطعن،و کل ما نقل عنهم إنما هی أشیاء انتحلها أناس لا یتورعون عن الکذب کما کذبوا علی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و أهل بیته من قبل،تهزهم جوائز الحکام و تطربهم انفعالات العامة فیتحللون من کل قید و یتخلون عن کل وازع.

ثم نأتی إلی رواة الحدیث و أهل الصحاح فنجد کتبهم ملآنة بروایة الشیعة و أحادیثهم،فهذا البخاری و هو أمیر المؤمنین فی الحدیث-کما یسمونه-کان شیوخه من الشیعة (2)یربو عددهم علی العشرین رجلا،و کذلک مسلم،و الترمذی و غیرهم من رواة الحدیث.

ص:521


1- (1) أبو عصمة هو نوح بن مریم المروزی المتوفی سنة 173 کان من الحنفیة و لکنهم ترکوا حدیثه مع شهرته لأنه کان من الوضاعین و له مجالس یحدث فیها و هو واضع فضائل سور القرآن عن عکرمة و غیرها انظر ترجمته فی الفوائد البهیة فی تراجم الحنفیة 221 و شرح ألفیة العرافی 1:268 و غیرها.
2- (2) انظر 411-413 من هذا المجلد.

و إننا نجد الیوم کتّابا فی علوم الحدیث أو التاریخ یتغافلون عن الحقائق الراهنة، و یلبسونها أبرادا من التمویه،لیغذوا عقول الناشئة بأباطیل عصور التطاحن،فینالون بأقلامهم المسمومة الحدیث عن الشیعة بکل ما توحیه إلیهم عاطفتهم و یصفون الشیعة بما یروق لهم من الأوصاف التی لا یصح إطلاقها و لا یجوز ذکرها لو کان هناک أدنی أثر للروح الإسلامیة أو ذمة الإیمان وصفهم بها و لکن التعصب یوجد من لا شیء شیئا.

و کیف کان فإن الباحث المنصف لو أعطی من وقته شیئا یساعده علی دراسة موضوع الحدیث عند الشیعة و تشددهم فی قبول الروایة و تثبتهم فی النقل لحکم بالعدل و بذل قلیلا من الجهد فی التحقیق لخرج بنتیجة علی عکس ما ادعوه.

و نحن هنا نقدم طائفة من الرجال الذین حملوا الحدیث فکان منهم أئمة تشد إلیهم الرحال،و تقصدهم طلاب العلوم من الأقطار النائیة،و قد التزمنا بذکر بعض تلامذتهم،و من خرج حدیثهم من کتب الصحاح الستة و ذکرنا أقوال علماء الرجال فیهم.

و أشرنا قبل قلیل إلی تعبیر بعضهم عند ما یترجمون لرجل من الشیعة فیقولون:

صدوق و لکن مذهبه مذهب الشیعة أو أنه صدوق و لکنما نقموا علیه التشیع،أو أنه سیئ المذهب أو مبتدع إلی غیر ذلک مما ستقف علیه.

و من الحق أن نتساءل ما هو الموجب فی مثل هذه الأمور،و هل التشیع لعلی علیه السّلام و أهل بیته بدعة فی الإسلام؟!و لما ذا هذه النقمة علی من یتشیع؟!و لا نجد جوابا إلا الاتهامات التی تکمن ورائها أغراض الخصوم لأهل البیت علیهم السّلام الذین رموا أتباعهم بالزندقة.و قد مر تفصیل ذلک.

و من السفه و الجهل معا-أن یکون الاقتناع بکل ما ورد فیکون عقبة فی طریق البحث و النظر،و لئن أخطأ بعض الباحثین الطریق إلی الواقع لتقلیدهم الغیر فیما ینقلونه،فإنهم قد أساءوا لأنفسهم أولا،و لأمتهم ثانیا.

و إن تلک النظریات الخاطئة التی تصور الشیعة بغیر صورتها الواقعیة إنما کان من أسبابها تلک الغشاوة التی أرختها العصبیة الرعناء،و قد آن الأوان لأن ننظر إلی الأمور

ص:522

بمنظار الواقع،و أن نترک وراء ظهورنا ما ورثناه من عصور التطاحن،فإنا أحوج ما نکون إلی ذلک الیوم.

و سیتضح بهذه الدراسة خطأ القائلین بأن السنة لا یروون عن الشیعة،أو أن الشیعة لیس لمدرستهم الفقهیة فی التشریع أثر محسوس.

و هذه النظرة الخاطئة التی تصور الشیعة بمعزل عن المجتمع الإسلامی،و أنهم صفر الأکف من العلوم،و بالأخص الفقه و الحدیث هی ولیدة ظروف خاصة، و أغراض مقصودة،قد تعرضنا لها مرارا من قبل.

و لا بأس أن نشیر هنا إلی ما أدت إلیه مواقف الحکّام و الظلمة الذین اصطنعوا رجالا تزیّوا بزی العلم و لبسوا لبوس الورع،و لکنهم کانوا أعوان الفسقة و رجال الجور،فخانوا مبادئ دینهم،و تنکروا لقیم الرسالة فأصبحوا أدوات بید الجبارین و المتسلطین،و راحوا یضفون سمات الإسلام علی النظم التی لم تتورع عن قتل الأبریاء و سفک الدماء و هتک الأعراض و انتهاب الأموال التی هی حق للمسلمین، و کان هؤلاء الذین استسلموا لأغراض الحکام یؤثرون فی عقول العامة و یشنون حربا علی مبادئ أهل البیت و یرمون من نبغ منهم بالضلالة و البدع،و نجحوا فی تألیب الناس و إخضاعهم لأغراض الحکّام.و لکن علماء الشیعة علی مر العصور لم تفتر هممهم،و لم یصدهم عنف الطغاة،فکانت لهم هیئاتهم الخاصة التی تتصل بالأئمة من أهل البیت و نوابهم حسب المراحل الزمنیة.کما أن نتاج علماء الشیعة و مبادئ أهل البیت کانت تجد طریقها إلی النفوس فهی قرین الإیمان الحق،و کم انطوت الجوانح و ضمت الصدور میولا و مشاعر لو لا قسوة الحکام،لوجدت طریقها و أفصحت عن نفسها فی مجامع الملوک المتسلطین و قصورهم عبر کل العهود.

و نحن بهذا البیان عن حملة العلم من الشیعة و من کانت تشدّ لهم الرحال للانتفاع منهم و الأخذ عنهم نقدم جانبا واحدا من جوانب الحرکة العلمیة عند الشیعة و نعطی صورة مبسطة لرجال الشیعة الذین اقتحموا حواجز العداء و اجتازوا أسوار المقاطعة فوردت أسماؤهم عسی أن نوفق لتصحیح بعض أخطاء الکتّاب الذین أخطئوا الصواب فی تحاملهم علی الشیعة حول الحدیث بالأخص و اللّه الموفق.

و الآن نقدم جملة من أولئک العلماء الذین روی لهم أصحاب الکتب الستة

ص:523

البخاری،و مسلم،و الترمذی،و النسائی،و ابن ماجة،و أبو داود مع ذکر بعض من روی عنهم.

کما أننا لم نتعرض لأقوال الشیعة و آرائهم فیهم،بل اقتصرنا علی ما ذکره علماء السنة،من منصفین و متحاملین کالجوزجانی الذی لا یذکر الشیعة إلا بسیئ العبارة، لأنه شدید النصب لعلی علیه السّلام و کذلک لم نستوف جمیع من خرج لهم أصحاب الکتب الستة،بل اقتصرنا علی البعض منهم و هم:

أبان بن تغلب:

أبو سعید أبان بن تغلب بن رباح الحریری المتوفی سنة 141 (1).

خرج حدیثه مسلم،و الترمذی،و أبو داود،و النسائی،و ابن ماجة و روی عنه موسی بن عقبة الأزدی،و شعبة بن الحجاج و حماد بن زید بن درهم الأزدی، و سفیان بن عیینة،و محمد بن حازم التمیمی،و عبد اللّه بن المبارک،و زهیر، و علی بن عابس،و غیرهم.

کان أبان من أصحاب الإمام الصادق علیه السّلام و قد تقدمت ترجمته فی ج 3 ص 51-57 ط 3 من هذا الکتاب.

قال ابن أبی حاتم:سئل أبی عن أبان فقال ثقة.و قال ابن حجر:أبان ثقة تکلم فیه للتشیع.و قال أحمد بن حنبل و ابن معین أبان ثقة و قال محمد بن سعید المقری:

سمعت عبد الرحمن بن الحکم یذکر عن أبان صحة حدیث و أدب و عقل.

و قال ابن عدی:أبان بن تغلب له نسخ عامتها مستقیمة،إذا روی عنه ثقة،و هو من أهل الصدق فی الروایة و إن کان مذهبه مذهب الشیعة،و هو فی الروایة صالح لا بأس به.

و قال الذهبی:أبان بن تغلب الکوفی شیعی جلد لکنه صدوق فلنا صدقه و علیه بدعته،و قد وثقه أحمد بن حنبل،و ابن معین،و أبو حاتم و أورده ابن عدی،و قال:

ص:524


1- (1) انظر ترجمته فی تهذیب التهذیب 1:93 و [1]طبقات ابن سعد 6:250 و فهرست ابن الندیم 308 و معجم الأدباء 1:107 و [2]بغیة الوعاة 176 و [3]مرآة الجنان 1:210 و [4]الجرح و التعدیل 1:196 قسم 1 و میزان الاعتدال 1:4 و غیرها من کتب الرجال و الحدیث و التاریخ.

کان غالیا فی التشیع.و قال السعدی (1):زائغ مجاهر فلقائل أن یقول:کیف ساغ توثیق مبتدع و حد الثقة العدالة و الاتقان فکیف یکون عدلا من هو صاحب بدعة؟ و جوابه أن البدعة علی ضربین:فبدعة صغری کغلو التشیع،أو کالتشیع بلا غلو و لا تحرق،فهذا أکثر فی التابعین و تابعیهم مع الدین و الورع و الصدق،فلو رد حدیث هؤلاء لذهب جملة الآثار النبویة،و هذه مفسدة بینة.

ثم بدعة کبری:کالرفض الکامل و الغلو فیه،و الحط علی أبی بکر و عمر، و الدعاء إلی ذلک،فهذا النوع لا یحتج بهم و لا کرامة....

فالشیعی الغالی فی زمان السلف و عرفهم هو من تکلم فی عثمان،و الزبیر، و طلحة،و معاویة،و طائفة ممن حارب علیا و تعرض لسبهم،و الغالی فی زماننا و عرفنا هو الذی یکفر هؤلاء السادة،و یتبرأ من الشیخین أیضا،و لم یکن أبان یعرض للشیخین أصلا بل قد یعتقد علیا أفضل (2).

أقول:هذا هو جواب الأسئلة المتقدمة و قد أورد الذهبی هذا الجواب و ظهر من فحواه أن مطلق التشیع هو بدعة و لکن هذه البدعة تختلف شدة و ضعفا،فالبدعة الصغری غلو التشیع أو التشیع بلا غلو بمعنی مطلق الحب لعلی و مشایعته.

و لا أدری هل یبقی بعد هذا التقسیم أحد من المسلمین غیر متلبس بهذه البدعة إلا المنافقون الذین وصفهم الحدیث النبوی بقوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(یا علی لا یحبک إلا مؤمن و لا یبغضک إلا منافق)و نعوذ باللّه من النفاق.

و اتضح لنا أن هذه البدعة و هی التشیع مع الغلو-و معناه حب علی علیه السّلام و الإجهار فیه-کانت کثیرة فی التابعین و تابعیهم مع أنهم من أهل الورع و الدین فکیف یوسمون بالبدع؟!

ص:525


1- (1) السعدی هو إبراهیم بن یعقوب أبو إسحاق السعدی الجوزجانی.المتوفی سنة 256 کان حروری المذهب شدید العداء لعلی علیه السّلام و قد وصفوه بأنه صلب فی السنة و قال ابن عدی:کان شدیدا إلی مذهب أهل دمشق علی علی علیه السّلام و لکنهم وثقوه لأن أحمد بن حنبل کان یکاتبه و إبراهیم هذا کان شدید الحمل علی رجال الشیعة فلا یصفهم إلا بسیئ القول لسوء عقیدته و انحراف نزعته.
2- (2) میزان الاعتدال 1:4-5.

یقول أبو قیس الأودی (1)المتوفی سنة 120:أدرکت الناس و هم ثلاث طبقات:أهل دین یحبون علیا،و أهل دنیا یحبون معاویة،و الخوارج (2).

و علی أی حال:لا نرید أن نخوض فی هذا الموضوع و نسأل من أین جاء هذا التحدید؟و لما ذا اختص الشیخان بهذه المنزلة دون غیرهم من أصحاب محمد؟و لما ذا لا یطبق ذلک علی من أعلن شتم علی علیه السّلام و انتقاصه؟!و کیف تقبل روایة من عرف بالعداء له مع أنهم لم یسموه بالبدعة و لم یتوقفوا عن قبول روایته أمثال عثمان بن حریز و الحصین بن نمیر و الهیثم بن الأسود و.و.

أحمد بن المفضل:

أبو علی الکوفی أحمد بن المفضل القرشی الأموی الحفری-محله بالکوفة المتوفی سنة 215 مولی عثمان بن عفان.

خرج حدیثه مسلم و أبو داود و النسائی (3)و روی عنه أبو زرعة و أبو حاتم و ابنا أبی شیبة و أحمد بن یوسف السلمی (4).

و قال ابن حاتم:سمعت أبی و أبا زرعة یقولان:کتبنا عنه و سئل أبی عنه؟ فقال:کان صدوقا من رؤساء الشیعة (5).

و قال ابن حجر:أحمد بن المفضل الحفری صدوق شیعی و أشار إلی تخریج مسلم و أبی داود و النسائی لحدیثه (6).

و قال صفی الدین الخزرجی:أحمد بن المفضل روی عنه أبو بکر و عثمان ابنا أبی شیبة و أبو حاتم کان صدوقا من الشیعة مات سنة 215.

ص:526


1- (1) أبو قیس الأودی هو عبد الرحمن بن ثروان الکوفی المتوفی سنة 120 و هو من رجال الصحیح البخاری و مسلم و الترمذی و أبی داود و النسائی.
2- (2) أخرجه بن عبد البر بسند عن سفیان الثوری فی الاستیعاب 3:51. [1]
3- (3) الخلاصة لصفی الدین الخزرجی-11.
4- (4) تهذیب التهذیب 1:81. [2]
5- (5) الجرح و التعدیل 1:77-قسم 1.
6- (6) التقریب 1:26.

إبراهیم بن یزید:

أبو عمران ابراهیم بن یزید بن قیس النخعی الکوفی المتوفی سنة 96.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الجماعة،و روی عنه الأعمش و منصور بن عون،و زبید البامی،و حماد بن سلیمان،و مغیرة بن مقسم الضبی و غیرهم.

ذکره ابن قتیبة فی رجال الشیعة،و ترجم له سیدنا شرف الدین فی مراجعاته (1)و مات إبراهیم مختفیا من الحجاج و لم یشیعه إلا سبعة رجال...

إبراهیم بن محمد

(2)

:

أبو إسحاق المدنی إبراهیم بن أبی یحیی المتوفی سنة 184 شیخ الإمام الشافعی و ابن جریح-و أبو یحیی اسمه سمعان-خرج حدیثه ابن ماجة،و روی عنه الحدیث داود بن عبد اللّه الجعفری،و یحیی بن آدم،و ابراهیم بن موسی السدی، و الحسن بن عرفة،و إبراهیم بن طهمان،و ابن جریح الشافعی،و سعید بن أبی مریم،و أبو نعیم و طائفة غیرهم.

و قد تحامل علی إبراهیم کثیر من الحفاظ و اتهموه بالکذب،و وثقه آخرون.قال الذهبی:إبراهیم بن أبی یحیی الفقیه المحدث،أبو إسحاق الأسلمی،أحد الأعلام، حدث عنه الشافعی،و ابن جریح،و هو من شیوخه و إبراهیم السدی،و الحسن بن عرفة و طائفة،و کان الشافعی یمشیه و یدلسه فیقول:أخبرنی من لا أتهم.

و قال:ما کان ابن أبی یحیی فی وزن من یضع الحدیث و کان من أوعیة العلم، و عمل موطأ کبیرا،و لکنه ضعیف عند الجماعة و لو کان عند الشافعی ثقة لصرح بذلک،کما یقول فی غیره:أخبرنی الثقة.و لکنه عنده غیر متهم بالکذب،کما حط علیه بذلک بعضهم.

و قال الشافعی:لإن یخر إبراهیم من بعد أحب إلیه من أن یکذب و هو ثقة فی الحدیث،و قال الشافعی أیضا فی کتّاب اختلاف الحدیث:ابن أبی یحیی أحفظ من الدراوردی.

ص:527


1- (1) المراجعات 42.
2- (2) انظر ترجمته فی تهذیب التهذیب 1:158-161 و [1]الخلاصة للخزرجی 18 و تذکرة الحفاظ للذهبی 1:227.

و قال أبو أحمد بن عدی:سألت أحمد بن سعید یعنی بن عقدة فقلت له تعلم أحدا أحسن القول فی إبراهیم غیر الشافعی؟ فقال:نعم حدثنا أحمد بن یحیی الأودی سمعت حمدان بن الأصبهان قلت أ تدین بحدیث إبراهیم؟قال نعم.و قال ابن عقدة نظرت فی حدیث إبراهیم کثیرا و لیس بمنکر الحدیث.

قال ابن عدی:و هذا الذی ابن عقدة هو کما قال و قد نظرت أنا أیضا فی حدیثه الکثیر فلم أجد فیه منکرا،إلا عن شیوخ یحتملون،و إنما یروی المنکر من قبل الراوی عنه،أو من قبل شیخه،و هو فی جملة من یکتب حدیثه،و لو الموطأ أضعاف موطأ مالک (1).

أقول کان إبراهیم من تلامذة الإمام الباقر علیه السّلام و ولده الإمام الصادق علیه السّلام و کان من شیوخ الإمام الشافعی،و ابن جریح و غیرهما من المحدثین.و قد أکثر الشافعی عنه،و لشدة ما تحامل الناس علی إبراهیم فقد کان الشافعی لا یحدث عنه باسمه فی بعض المواطن،فیقول حدثنی الثقة أو یقول حدثنی من لا اتهمه و یصرح باسمه فی مواطن أخر.

و قد روی الشافعی عن إبراهیم عن الصادق علیه السّلام فی عدة أحادیث.

قال إسحاق بن راهویه:ناظرت الشافعی بمکة،فی کری بیوت مکة فاحتج بالحدیث(هل ترک لنا عقیل من ظل)؟ قال إسحاق فقلت للشافعی-فیما کنت احتج فیه علیه-:کیف جعفر بن محمد الصادق عندک؟ فقال:ثقة کتبنا عن إبراهیم بن یحیی عند العمارة حدیثا عنه فقال إسحاق:

حدثنی حفص بن غیاث القاضی عن جعفر بن محمد..و سردت الباب فی کری بیوت مکة (2).

و علی أی حال:فإن إبراهیم هذا من الشیعة و له کتّاب مبوب فی الحلال و الحرام و هو أول من وضع موطأ أضعاف موطأ مالک.

ص:528


1- (1) تهذیب التهذیب 1:159 [1]
2- (2) أخبار الشافعی و مناقبه للرازی 2:187.

و لم یکن لمن تحاملوا علیه حجة إلا ما ادعاه بعض الناس علیه من أنه کان ینال من الشیخین کما ذکر ذلک یعقوب بن سفیان فی تاریخه (1).

أجلح

(2)

:

أبو حجیة الکندی أجلح و قیل اسمه یحیی بن عبد اللّه و الأجلح لقب،المتوفی سنة 145.

خرج حدیثه البخاری فی الأدب المفرد و مسلم فی صحیحه و الأربعة.و روی عنه الثوری و ابن المبارک و یحیی القطان و شعبة و أبو أسامة و جعفر بن عوف.

قال ابن حجر:أجلح یقال اسمه یحیی صدوق شیعی مستقیم الحدیث من الطبقة السابعة مات سنة 145.

و قال ابن عدی:أجلح شیعی صدوق.و قال الجوزجانی:أجلح مفتر.و قال النسائی له رأی سوء (3).

و قال ابن معین:أجلح صالح،ثقة،و لیس به بأس.و قال ابن عدی:أجلح له أحادیث صالحة و یروی عنه الکوفیون و غیرهم و لم أر له حدیثا منکرا مجاوزا للحد لا إسنادا و لا متنا إلا أنه من شیعة الکوفة و هو عندی صدوق (4).

و ذکره الشیخ الطوسی فی عداد تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام و أسماه یحیی بن عبد اللّه بن معاویة الکندی الأجلح.

إسحاق بن منصور:

أبو عبد الرحمن إسحاق بن منصور السلولی الکوفی المتوفی سنة 205.

خرج حدیثه البخاری و مسلم و الترمذی و أبو داود و النسائی و ابن ماجة.و روی عنه أبو نعیم و هو من أقرانه،و ابنا أبی شیبة،و عباس العنبری،و أبو کریب،و ابن

ص:529


1- (1) فهرست الشیخ الطوسی 3. [1]
2- (2) انظر ترجمته فی تهذیب التهذیب 1:189 و [2]الجرح و العدیل 1:346 قسم 1 و التقریب 1:49 و غیرها.
3- (3) انظر میزان الاعتدال 1:27.
4- (4) التهذیب 1:189-190.

نمیر،و القاسم بن زکریا،و أحمد بن سعید الرباطی و عباس الدوری،و یعقوب بن شیبة السدوسی و جماعة (1).

قال ابن حجر:إسحاق بن منصور السلولی مولاهم أبو عبد الرحمن صدوق، تکلم فیه للتشیع،مات سنة 204 و قیل بعدها (2).

إسماعیل بن أبان:

أبو إسحاق إسماعیل بن أبان الأزدی الوراق الکوفی المتوفی سنة 216.

خرج حدیثه البخاری،و الترمذی فی الصحیح،و أبو داود فی مراسیله و کان من شیوخ البخاری.

روی عنه أحمد بن حنبل،و ابن معین،و الدارمی،و أبو حاتم و أبو زرعة،و أبو خیثمة،و عثمان بن أبی شیبة،و القاسم بن زکریا بن دینار،و الذهلی،و یعقوب بن شیبة،و جماعة آخرهم إسماعیل سمویه،و أبو إسماعیل الترمذی (3).

قال ابن حجر:إسماعیل بن أبان الأزدی أبو إسحاق أو أبو إبراهیم کوفی ثقة، تکلم فیه للتشیع مات سنة ست عشرة من الطبقة التاسعة (4).

و قال الذهبی:إسماعیل بن أبان الکوفی الوراق شیخ البخاری حدث عنه یحیی و أحمد.و قال البخاری:صدوق.و قال غیره،کان یتشیع (5).

و قال الجوزجانی:کان مائلا عن الحق و لم یکن یکذب.قال ابن عدی:حول هذا القول:الجوزجانی کان مقیما بدمشق یحدث علی المنبر و کان أحمد یکاتبه فیتقوی بکتّابه،و یقرأه علی المنبر،و کان شدید المیل إلی مذهب أهل دمشق فی التحامل علی علی علیه السّلام فقوله فی إسماعیل مائل عن الحق یرید به ما علیه الکوفیون من التشیع (6).

ص:530


1- (1) تهذیب التهذیب 1:250. [1]
2- (2) التقریب 1:61 و الخلاصة لصفی الدین 25.
3- (3) تهذیب التهذیب 1:229 و [2]الجرح و التعدیل 1:160.
4- (4) التقریب 1:65.
5- (5) المیزان 1:99.
6- (6) میزان الاعتدال 1:26.

و قال ابن حجر:الجوزجانی کان ناصبیا منحرفا عن علی فهو ضد الشیعی، المنحرف عن عثمان و الصواب موالاتهما جمیعا،و لا ینبغی أن یسمع قول مبتدع فی مبتدع (1).

و قال البزاز:إنما کان عیبه(أی إسماعیل)شدة تشیعه لعلی انه عیر(أو عیب) علیه فی السماع،و قال الدار قطنی:ثقة مأمون.

إلی آخر ما جاء حول أبان شیخ البخاری و أحمد و غیرهما و قد وصفوه بالصدق و الأمانة إلا أن عیبه هو حبه لعلی علیه السّلام.

و قال ابن أبی حاتم سمعت أبی یقول:إسماعیل بن أبان الوراق ثقة.صدوق و الأمانة إلا أن عیبه هو حبه لعلی علیه السّلام.

و قال ابن أبی حاتم سمعت أبی یقول:إسماعیل بن أبان الوراق ثقة.صدوق فی الحدیث صالح الحدیث،لا بأس به کثیر الحدیث.

تمییز:

ربما اشتبه بعضهم فی ترجمة إسماعیل بن أبان الوراق بإسماعیل بن أبان الخیاط الغنوی الکوفی المتوفی سنة 210.

فإسماعیل بن أبان الوراق ثقة صدوق شیعی کما تقدم و إسماعیل بن أبان الخیاط کان کذابا.

قال عثمان بن أبی شیبة:إسماعیل بن أبان الوراق ثقة صحیح الحدیث قیل له:

فإن إسماعیل بن أبان عندنا غیر محمود؟ قال هاهنا إسماعیل آخر یقال له:ابن أبان غیر الوراق و کان کذابا (2).

و قال الذهبی:إسماعیل بن أبان الخیاط الغنوی:کذبه یحیی بن معین،و قال أحمد بن حنبل کتبنا عنه عن هشام بن عروة ثم روی أحادیث موضوعة.

ثم ذکر الذهبی الأحادیث الموضوعة عنه و إن کان یضعها علی الثقات و منها حدیث السابع من ولد العباس یلبس الخضرة.

و کان أبان هذا یضع الأحادیث علی سفیان الثوری و جابر الجعفی و غیرهم من الثقات (3).

ص:531


1- (1) هدی الساری 88.
2- (2) تهذیب التهذیب 1:270. [1]
3- (3) میزان الاعتدال 1:98.

و علی أی حال:فإن زمن ابن الوراق و الغنوی واحد و ربما وقع الاشتباه بین الاسمین.

إسماعیل السدی:

أبو محمد إسماعیل بن عبد الرحمن بن أبی کریمة السدی-نسبة إلی سدة مسجد الکوفة-المتوفی سنة 127 من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

خرج حدیثه مسلم،و الترمذی،و ابن ماجة،و أبو داود،و النسائی و روی الحدیث عنه حملة الآثار منهم:سماک بن حرب،و إسماعیل بن أبی خالد، و عیسی بن عمر الهمذانی،و سلیمان التمیمی،و عثمان بن ثابت،و مالک بن مغول، و سفیان الثوری،و زائدة،و زید بن أبی أنیسة،و زیاد بن أبی خیثمة،و أبو إسرائیل الملائی،و إسرائیل بن یونس،و حسن و علی ابن صالح،و شریک بن عبد اللّه،و أبو عوانة و أبو الأحوص،و أبو بکر بن عیاش (1).

قال ابن حجر:إسماعیل السدی أبو محمد الکوفی صدوق یتّهم و رمی بالتشیع من الطبقة الرابعة (2).

و قال الخزرجی:رمی بالتشیع.و قال ابن عدی:مستقیم الحدیث صدوق.

و قال علی بن المدینی:سمعت یحیی بن سعید یقول:ما رأیت أحدا یذکر السدی إلا بخیر (3).

و سئل القطان عن السدی؟فقال:لا بأس به،ما سمعت أحدا یذکر السدی إلا بخیر و ما ترکه أحد ثم قال:روی عنه شعبة،و الثوری و زائدة (4).

و قال أحمد بن حنبل:قال یحیی بن معین یوما عند عبد الرحمن بن المهدی:

السدی ضعیف،فغضب عبد الرحمن و کره ما قال (5).

ص:532


1- (1) انظر الجرح و التعدیل 1:184 ق 1.
2- (2) التقریب 2:22.
3- (3) میزان الاعتدال 1:11.
4- (4) الجرح و التعدیل 1:184 ق 1.
5- (5) نفس المصدر.

و کان السدی من المفسرین المشهورین و من الثقات فی الحدیث و خرج حدیثه الجماعة إلا البخاری،و لکنه کان شیعیا و لهذا قال فیه الجوزجانی المتعصب:حدثت عن معمر عن لیث:کان بالکوفة کذابان فمات أحدهما السدی و الکلبی (1).

و قد لفق خصومه حوله تهما و نسبوا إلیه أشیاء حسب ما توحیه إلیهم نزعتهم المنحرفة عن الحق.

و إلا فإن الرجل من حملة الحدیث،و کان یقصده العلماء للأخذ عنه،و قد وثقه جماعة منهم:أحمد بن حنبل،و ابن مهدی،و أبو حاتم و غیرهم.

و قال شریک ما ندمت علی رجل لقیته الا أکون کتبت کل شیء لفظ به،إلا السدی.قال أبو محمد:یعنی السلف الماضی (2).

إسماعیل بن خلیفة:

أبو إسرائیل إسماعیل بن خلیفة العبسی الملائی الکوفی المتوفی سنة 169.

خرج حدیثه الترمذی،و ابن ماجة،و روی عنه الثوری،و عبد الرحمن الرازی،و وکیع و أبو نعیم،و إسماعیل بن صبیح الیشکری،و أبو أحمد الزبیری و أبو الولید الطیالسی.

قال ابن حجر:إسماعیل بن خلیفة صدوق سیئ الحفظ نسب إلی الغلو فی التشیع.

و قال أبو زرعة:إسماعیل صدوق إلا أن فی رأیه غلوا (3)و قال یحیی بن معین:

أبو إسرائیل صالح.و قال عمر بن علی:أبو إسرائیل الملائی لیس من أهل الکذب.

و قال ابن أبی حاتم:کان من الثقات روی عنه أبی و أبو زرعة رحمهم اللّه (4).

و قال ابن حبان فی الضعفاء:روی عنه أهل العراق،و کان رافضیا شتاما،و هو مع ذلک منکر الحدیث،حمل علیه أبو داود الطیالسی حملا شدیدا (5).

ص:533


1- (1) میزان الاعتدال 1:110.
2- (2) الجرح و التعدیل.
3- (3) تهذیب التهذیب 1:293. [1]
4- (4) الجرح و التعدیل 1:167 ق 1.
5- (5) تهذیب التهذیب 1:294. [2]

و قال ابن سعد:إسماعیل بن خلیفة یقولون إنه صدوق و کان بهز بن أسد یحکی أنه سمع أبا إسرائیل تناول عثمانا (1).

و قال الجوزجانی:إسماعیل بن خلیفة مفتر زائغ.أی أنه شیعی لأن هذه لهجة الجوزجانی فی تراجم الشیعة.

و کیف کان فالرجل وثقه العلماء و أخذ عنه جماعة منهم و قد اتهموه بالحمل علی الخلفاء.

إسماعیل بن زکریا:

أبو زیاد إسماعیل بن زکریا بن مرة الخلقانی المتوفی سنة 174.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و أبو داود،و النسائی و ابن ماجة و روی عنه سعید بن سلیمان سعدویه،و محمد بن الصباح الدولابی و أبو الربیع الزهرانی،و محمد بن بکار بن الریان،و محمد بن سلیمان و سعید بن منصور، ولوین وعدة (2).

قال الذهبی:إسماعیل بن زکریا الخلقانی الکوفی صدوق شیعی لقبه شقوصا، قال أحمد:ما به بأس و قال مرة حدیثه حدیث مقارب و قال مرة ضعیف الحدیث، وثقه ابن معین (3)و قال ابن خراش:إسماعیل صدوق.و قال الدوری و ابن أبی خیثمة عنه:إنه ثقة.

إسماعیل بن موسی:

أبو محمد إسماعیل بن موسی الفزاری الکوفی المتوفی سنة 245.

روی له البخاری فی أفعال العباد و خرج حدیثه أبو داود،و الترمذی و ابن ماجة.

و روی عنه ابن خزیمة،و الساجی،و أبو یعلی،و أبو عروبة،و مطین و بقی بن مخلد،و أبو حاتم،و أبو زرعة (4).

ص:534


1- (1) طبقات ابن سعد 6:380 [1] ط 2.
2- (2) تاریخ بغداد 6:115 و [2]تهذیب التهذیب 1:297. [3]
3- (3) میزان الاعتدال 1:106.
4- (4) تهذیب التهذیب 1:335. [4]

قال ابن أبی حاتم:سألت أبی عنه؟فقال صدوق.و روی عنه أبی و أبو زرعة.

و قال ابن حجر:إسماعیل بن موسی نسیب السدی صدوق یخطئ و رمی بالرفض،من الطبقة العاشرة (1).

و قال الذهبی:إسماعیل بن موسی الفزاری الکوفی روی عنه أبو داود و أبو عروبة،و ابن خزیمة و خلائق،قال أبو حاتم:صدوق،و قال النسائی لیس به بأس.

و قال ابن عدی:أنکروا منه غلوه فی التشیع (2).

و قال مطین:کان إسماعیل بن موسی صدوقا و قال أبو داود:إسماعیل صدوق فی الحدیث و کان یتشیع (3).

و قد اتهموه بشتم السلف و کان هناد ینهی عن الحضور عند إسماعیل بن موسی لأنه یشتم السلف.و شتم السلف فی عرفهم یدخل فیه نقل کل روایة فیها حط علی واحد منهم حتی لو قال أحد إن معاویة خالف الکتّاب و السنة بإلحاقه زیاد بن سمیة بأبی سفیان،أو یقال بأنه سلط بسر ابن أرطاة علی المسلمین فقتل الأطفال، و الشیوخ،و النساء،أو یقال:إنه سم الحسن بن علی علیه السّلام،أو یقال إن المغیرة بن شعبة زنی بأم جمیل و خالد بن الولید قتل مالک بن نویرة ظلما و نزی علی امرأته إلی غیر ذلک.فالتعرض لأمثال هذه الحوادث یرمی صاحبها بالفسق کما نقل الذهبی عن ابن أبی شیبة أو هناد أنه قال لمن یذهب لسماع الحدیث من إسماعیل هذا(أیش عملتم عند ذاک الفاسق الذی یشتم السلف) (4).

إسماعیل بن عبد اللّه:

إسماعیل بن عبد اللّه بن جعفر بن أبی طالب الهاشمی المتوفی سنة 145.

خرج حدیثه ابن ماجة.و روی عنه ابن أخیه صالح بن معاویة و الحسین بن زید بن علی بن الحسین و عبد اللّه بن مصعب الزبیری.

و وقع اشتباه فی خلاصة الخزرجی بقوله و روی عنه الحسین بن علی و هذا خطأ

ص:535


1- (1) التقریب 1:75.
2- (2) میزان الاعتدال 1:117.
3- (3) التهذیب 1:336.
4- (4) انظر میزان الاعتدال 1:117.

و الصحیح ما بیناه و هو الحسین بن زین بن علی و لهذا ذکرناه هنا لأنا لم نذکر حملة الحدیث من العلویین فی هذا العرض.

إسماعیل بن سلمان:

إسماعیل بن سلمان بن المغیرة الأزرق التمیمی الکوفی.

خرج حدیثه ابن ماجة،و البخاری فی الأدب المفرد،و روی عنه إسرائیل و وکیع،و محمد بن أبی ربیعة،و عبید اللّه بن موسی.قال ابن أبی حاتم:سمعت ابن نمیر یقول:إسماعیل بن الأزرق الذی یروی عن أبی عمر کان من غلاة الشیعة،و أبو عمر صاحب ابن الحنفیة (1).

و قد تحامل الحفاظ علی إسماعیل هذا لأنه أحد رواة حدیث الطائر المشوی، الذی أخرجه الترمذی،و البغوی فی المصابیح الحسان،و أخرجه الخربی،و ابن البخاری و غیرهم عن أنس بن مالک قال:قدمت لرسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم طیرا،أو کان عند النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم طیر فقال اللهم ائتنی بأحب خلقک إلیک،لیأکل معی هذا الطیر فجاء علی علیه السّلام فأکل معه.

و حدیث الطائر مشهور،و أحد رواته إسماعیل بن سلمان و من أعجب الأمور أن یکون سبب تضعیف هذا الرجل لروایته لهذا الحدیث و لم ینفرد هو به بل روی من طرق متعددة لیس هذا محل التعرض لها حتی أن الذهبی صححه،و جعل فیه جزءا منفردا.

و من أظرف الأشیاء:أن الحافظ عبد اللّه بن محمد بن عثمان الواسطی المتوفی سنة 373 کان من العلماء الأعلام،و له حلقة درس،و من الحفاظ المتقنین، فاتفق أنه أملی علی تلامذته حدیث الطیر،فلم تحمله نفوسهم،فوثبوا به و أقاموه، و غسلوا موضعه،فمضی و لزم بیته،و لم یحدث أحدا.

قال الذهبی:و لهذا قل حدیثه عند الواسطیین (2).

و من هذا و أمثاله یتجلی لنا شدة الأمر علی الحفاظ الذین یحملون الآثار

ص:536


1- (1) تقدمة المعرفة لکتاب الجرح و التعدیل-325.
2- (2) انظر تذکرة الحفاظ 3:165.

الصحیحة فی فضائل أهل البیت،مما یدعو إلی التکتم و ترک ذلک،و لهذا قال بعض الحفاظ فی الإمام علی علیه السّلام:ما ذا أقول فی رجل کتم أعداؤه فضائله حسدا له و کتم أولیاؤه فضائله خوفا من أعدائه،فظهر له ما بین ذا و ذا ما ملأ الخافقین.

أصبغ بن نباتة

(1)

أبو القاسم أصبغ بن نباتة التمیمی ثم الحنظلی الکوفی.خرج حدیثه ابن ماجة روی عنه سعید بن طریف،و الأجلح و فطر بن خلیفة و محمد بن السائب الکلبی و غیرهم.

کان من خواص الإمام علی علیه السّلام و کان علی شرطته.قال ابن حبان:أصبغ فتن بحب علی فأتی بالطامات.

و قال ابن عدی عامة ما یرویه عن علی علیه السّلام لا یتابعه علیه أحد،و هو بین الضعف ثم قال:و إذا حدث عنه ثقة فهو عندی لا بأس بروایته.

و قال العجلی:أصبغ کوفی تابعی ثقة.و قال ابن سعد:أصبغ کان شیعیا و کان یضعف فی روایته و کان علی شرطة علی علیه السّلام.و قال أبو أحمد الحاکم:لیس بالقوی عندهم.و قال الجوزجانی:زائغ.

و لا بد هنا بأن نشیر إلی ما یبدو من کلمة ابن عدی بأن:أصبغ بن نباتة ثقة و لکنه مکذوب علیه و هذا غیر بعید أن یضع المغرضون عنه أخبارا غیر صحیحة لتنسب إلی شیعة علی علیه السّلام حتی یکون طریقا للوقیعة فیهم و هذا کثیر فی تلک العصور.

و الغرض أن أصبغ من الثقات و من خواص أمیر المؤمنین و لکن تحاملهم علیه لشدة حبه لعلی علیه السّلام.و لا یضر مکانته ما سدده القوم إلیه،و لعمری فإنها علیهم و لیست لهم ما دام أصبغ علی بینة من دینه و علی ثقة من علمه.

بسام الصیرفی:

أبو الحسن بسام بن عبد اللّه الکوفی من تلامذة الإمامین الباقر و الصادق علیهما السّلام خرج حدیثه النسائی.و روی عنه حاتم بن إسماعیل،و خلاد بن

ص:537


1- (1) انظر ترجمته فی تهذیب التهذیب 1:362 و [1]میزان الاعتدال 1:165 و الخلاصة للخزرجی 33 و تقریب التقریب 1:81 و الجرح و التعدیل لابن أبی حاتم 1-قسم 1 و غیرها.

یحیی،و ابن المبارک و وکیع،و أبو نعیم،و الحسن بن عطیة،و عبید اللّه الأشجعی (1).

قال یحیی بن معین:بسام الصیرفی صالح.و قال مرة إنه ثقة.

و قال أبو حاتم:بسام الصیرفی لا بأس به،صالح الحدیث.

و قال الحاکم فی المستدرک:هو من ثقاة الکوفیین ممن یجمع حدیثه و لم یخرجاه(أی مسلم و البخاری)و ذکره ابن عقدة فی رجال الشیعة و کذلک الطوسی و ابن النجاشی (2).

تلید بن سلیمان

(3)

أبو سلیمان أو أبو إدریس تلید بن سلیمان المحاربی الکوفی المتوفی سنة 190.

خرج حدیثه الترمذی فی صحیحه،و روی عنه هشیم بن أبی ساسان و أحمد بن حاتم الطویل،و أحمد بن حنبل،و إسحاق موسی الأنصاری و محمد بن عبد اللّه بن نمیر،و أبو سعید الأشج،و یحیی بن یحیی النیسابوری.

قال أحمد بن حنبل:تلید کان مذهبه التشیع.و قال البخاری:تلید تکلم فیه یحیی بن معین و رماه.و قال العجلی:تلید کوفی روی عنه أحمد بن حنبل لا بأس به کان یتشیع و یدلس.

و قال أحمد بن حنبل:کتبت عنه حدیثا کثیرا.و قال یعقوب بن سفیان:تلید رافضی خبیث.

و أخرج الخطیب البغدادی عن تلید بن سلیمان عن أبی الجحاف عن أبی حازم عن أبی هریرة قال:نظر رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم إلی علی و فاطمة و الحسن و الحسین فقال:

«أنا حرب لمن حاربکم سلم لمن سالمکم».

و قد اتهم تلید بأنه یشتم عثمان،و لهذا حملوا علیه فکذبوه یقول عباس بن

ص:538


1- (1) انظر تهذیب التهذیب 1:434 و [1]الجرح و التعدیل 1:433 ق 1.
2- (2) تهذیب التهذیب 1:435. [2]
3- (3) انظر تاریخ بغداد 7:136 و [3]الجرح و التعدیل 1:471 ق 1 و تهذیب التهذیب 1:509 [4] میزان الاعتدال 1:166 و غیرها.

محمد:سمعت یحیی بن معین یقول:تلید کذاب کان یشتم عثمان،و کل من شتم عثمان أو طلحة،أو أحدا من أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم دجال لا یکتب عنه،و علیه لعنة اللّه و الملائکة،و الناس أجمعین (1).

هذا ما نقل عن ابن معین و هو الرجل الحافظ المتضلع بعلم الرجال،و لکن لا ندری هل أن ما ذهب إلیه ابن معین من هذا الرأی هو عام لکل من شتم أحدا من أصحاب محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،أم خاص بالبعض دون البعض؟ فإن کان ذلک علی وجه العموم فبأی وجه یصدق من یحمل علی أول الصحابة إسلاما،و أعلمهم بأحکام القرآن،و أقضاهم بالحکم،و أعدلهم فی الرعیة،و أقربهم من رسول اللّه بل هو نفسه،و هو الإمام علی!! فإنا نجد کتب الحدیث مملوءة من روایات من نصب العداء لعلی و ولدیه أمثال الخوارج کعمران بن حطان و ثور بن زید الدیلی و الجوزجانی و غیرهم فقد وثقوهم و أخذوا عنهم.

و کذلک النواصب کإسماعیل بن سمیع الحنفی و أزهر بن عبد اللّه و.و.و.

ثم ما ذا یقول ابن معین فی الروایة عمن اتخذ شتم أهل البیت سنة فهل ترکوه أم خرجوا أحادیثه و وسموه بأنه صلب فی السنة ثقة فی الحدیث؟!! و إن کان هذا شیئا یخص جماعة دون آخرین فهذا أمر لا نعرفه و لیس له دلیل.

و نحن لا نرید أن نخرج عن الصدد فی الخوض بهذا الموضوع و نترک تقدیره للقراء المنصفین.

ثابت بن أبی صفیة:

أبو حمزة ثابت بن أبی صفیة الثمالی المتوفی فی خلافة أبی جعفر المنصور.

خرج حدیثه الترمذی،و ابن ماجة،و النسائی فی مسند علی علیه السّلام،و هو من تلامذة الإمام الباقر علیه السّلام.

ص:539


1- (1) تاریخ بغداد 7:136. [1]

روی عنه الثوری،و شریک،و حفص بن غیاث،و أبو أسامة و عبد الملک بن أبی سلیمان و أبو نعیم،و وکیع،و عبید اللّه بن موسی،و زافر بن سلیمان.

قال ابن حجر:ثابت بن أبی صفیة الثمالی-بضم المثلثة-أبو حمزة و اسم أبیه دینار-و قیل سعید-کوفی رافضی من الخامسة مات فی خلافة أبی جعفر المنصور (1).

و قال الخزرجی:ثابت بن أبی صفیة الثمالی أبو حمزة رافضی (2).و علی أی حال فقد ذکروا أبا حمزة بالتضعیف و لیس لهم حجة إلا أنه رافضی کان یحمل علی عثمان.

ثویر بن أبی فاختة:

أبو الجهم ثویر بن أبی فاختة سعید بن علاقة الهاشمی أبو الجهم الکوفی مولی أم هانی و قیل مولی زوجها جعدة.

خرج حدیثه الترمذی فی صحیحه،و روی عنه الأعمش،و الثوری و إسرائیل، و شعبة و حجاج بن أرطاة و غیرهم.

قال یونس بن أبی إسحاق:کان رافضیا و قال ابن معین؛لیس بشیء و قال أبو حاتم و غیره ضعیف (3).

و قد نقموا علی ثویر هذا تشیعه لعلی علیه السّلام و روایته عن أبیه أبی فاختة و کان أبوه من کبار التابعین و وثقه جماعة.

و قد روی ثویر عن أبیه-کما حدث عنه أبو مریم الأنصاری-أنه سمع علیا علیه السّلام یقول:لا یحبنی کافر و لا ولد زنی (4).

جعفر بن زیاد:

أبو عبد اللّه-و قیل أبو عبد الرحمن-جعفر بن زیاد الأحمر الکوفی المتوفی سنة 167.

ص:540


1- (1) التقریب 1:116.
2- (2) الخلاصة-48 و طبقات ابن سعد 6:364.
3- (3) میزان الاعتدال 1:174.
4- (4) نفس المصدر.

خرج حدیثه أبو داود،و الترمذی،و النسائی،و روی عنه سفیان بن عیینة، و وکیع بن الجراح،و عبید اللّه بن موسی،و أبو غسان النهدی،و أسود بن شاذان، و ابن إسحاق،و إسحاق بن منصور السلولی و عبد الرحمن بن مهدی و قبیصة وعدة غیرهم (1)و هو من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

قال ابن حجر:جعفر بن زیاد صدوق یتشیع من الطبقة السابعة (2).

و وثقه أحمد بن حنبل و ابن معین و أبو زرعة (3)و قال أبو داود صدوق شیعی حدث عنه ابن مهدی،و قال ابن أبی شیبة:جعفر بن زیاد صدوق ثقة و قال العجلی:

کوفی ثقة (4).

و یقول الجوزجانی:جعفر بن زیاد مائل عن الطریق.قال الخطیب البغدادی -بعد نقله لکلمة الجوزجانی-:قلت:یعنی فی مذهبه و ما نسب إلیه من التشیع.

و لقد تحمل جعفر بن زیاد فی سبیل حبه لآل محمد و تشیعه لهم الکثیر من جور السلطة و عنف الولاة،لأنه کان من رؤساء الشیعة فی خراسان.فقد کتب المنصور إلی هراة بإشخاصه مع جماعة من الشیعة فحبسوا فی المطبق دهرا طویلا و کان إشخاصه من الإهانة و التحقیر و ذلک أنهم أشخصوه فی ساجور و الساجور خشبة تعلق فی عنق الکلب أو قلادة تجعل فی عنقه و المراد هنا أنهم أشخصوه و فی عنقه حبل یجربه (5)و قد کان لا یصلی مع الولاة و لا یمیل إلیهم.

و کان الحسن بن صالح یصلی الجمعة مع الأمراء و کان الحسن من الشیعة فمنعه جعفر بن زیاد عن صلاة الجمعة معهم فقال له الحسن أصلی معهم ثم أعیدها.

فقال له جعفر:یراک إنسان فیقتدی بک (6)و لهذا فقد وصفوه بالغلو مع توثیقهم له.

ص:541


1- (1) انظر تاریخ بغداد 7:159 و [1]تهذیب التهذیب 2:92. [2]
2- (2) التقریب 1:130.
3- (3) الجرح و التعدیل 1:180 ق 1.
4- (4) تهذیب التهذیب 2:93. [3]
5- (5) انظر تاریخ بغداد 7:150. [4]
6- (6) تهذیب التهذیب 2:93. [5]

جعفر بن سلیمان:

أبو سلیمان البصری جعفر بن سلیمان الضبعی المتوفی سنة 178 و هو من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

خرج حدیثه البخاری فی الأدب المفرد،و مسلم،و الترمذی،و أبو داود، و النسائی،و ابن ماجة.

روی عنه هلال بن بشر،و بشر بن آدم،و الحکم بن ظبیان،و محمد بن عبد الملک بن زنجویه،و أبو حاتم الرازی،و ابن المبارک،و أبو الولید الطیالسی، و الحسن بن الربیع،و مسدد،و عبید اللّه القواریری و عبد السلام بن مطهر و غیرهم (1).

قال أحمد بن حنبل:جعفر بن سلیمان لا بأس به.فقیل له إن سلیمان بن حرب یقول لا یکتب حدیثه.

فقال أحمد:إنما کان(جعفر)یتشیع.و أهل البصرة یغلون فی علی علیه السّلام (2).

و لما قدم جعفر بن سلیمان إلی صنعاء حدثهم حدیثا کثیرا و کان عبد الصمد بن معقل یجیء فیجلس إلیه.

و قد وثقه ابن معین،و أحمد بن حنبل،و ابن سعد و غیرهم.و حمل بعضهم علیه لتشیعه أو میله لأهل البیت علیهم السّلام.

قال ابن حبان:کان جعفر(بن سلیمان)من الثقات فی الروایات غیر أنه ینحل المیل إلی أهل البیت،و لم یکن بداعیة إلی مذهبه،و لیس بین أهل الحدیث من ائمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا کانت فیه بدعة و لم یکن یدعو إلیها الاحتجاج بخبره جائز (3).

أقول:من هذا یتضح لنا أن الشیعة إنما وسموا بالبدعة لأنهم مع أهل البیت علیهم السّلام،و هذه الکلمة التی ذکرها ابن حبان بمنتهی الغرابة،و ذلک بأن یکون

ص:542


1- (1) المصدر السابق(95 و الجرح و التعدیل 1:481 ق 1).
2- (2) تهذیب التهذیب 2:95. [1]
3- (3) المصدر السابق-97. [2]

مطلق المیل إلی أهل البیت بدعة،و مفهومه أن عدم المیل إلیهم یکون سنة؟!!و من هنا تغذت آفة التعصب و نمت سموم الفرقة.

و أی جریمة ترتکب بحق الإسلام و العلم عند ما تترک أقوال الثقات أو یغفل شأن العلماء لتشیع فیهم.و لو تساءلنا:إذا کان المرء علی ورع و تقوی یشهد بهما الناس و یجمعون و لهم فی الصدق منزلة فما الضیر فی الأخذ عنهم؟أ لیس مصدر علمهم هو القرآن و منبع صدقهم هو الاتصال بمدرسة أهل البیت و الأخذ بمبادئهم؟.

و لا ندری ما نقول حول هذه الأمور،و کیف نتصور الحالة التی بلغ إلیها المسلمون من الخلاف الذی هو خلاف تعالیم الإسلام و نظمه؟! و قال الذهبی فی ترجمة جعفر بن سلیمان:روی عنه سیار بن حاتم و عبد الرزاق،و عنه أخذ بدعة التشیع (1).

و عبد الرزاق هو ابن همام المحدث أحد الأعلام،و هو شیعی کما سیأتی فی ترجمته،فهو فی نظر الذهبی مبتدع لأنه شیعی أخذ التشیع عن جعفر لأنه من تلامذته.

و ستقف علی ترجمة عبد الرزاق بن همام،و أقوال العلماء فی مدحه.

و علی أی حال فإن جعفر بن سلیمان إنما جرحه البعض لأنه ممن یحب أهل البیت،و هو أحد رواة حدیث الطیر المشهور الذی رواه جماعة من الحفاظ.

و لأن حب أهل البیت و المیل إلیهم کان بدعة فإن الشیعة تفتخر بهذه البدعة التی جرت فی عروقهم،و انطبعت فی قلوبهم،و قد اتبعوا فیها صاحب الرسالة النبی الأعظم محمد صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فهم یحبون آله لحب اللّه و حبه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و قد تقدم بیان ذلک فی ثنایا أجزاء هذا الکتّاب.

جمیع بن عمیر:

أبو الأسود جمیع بن عمیر التیمی الکوفی من بنی تیم اللّه ابن ثعلبة من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

خرج حدیثه الترمذی،و النسائی،و أبو داود،و ابن ماجة.و روی عنه:

ص:543


1- (1) تذکرة الحفاظ 1:222.

الأعمش،و العوام بن حوشب،و العلاء بن صالح،و صدقة بن سعید الحنفی،و کثیر النواء،و حکیم بن جبیر،و ابنه محمد بن جمیع و أبو إسحاق الشیبانی (1).

قال ابن أبی حاتم:سألت أبی عن جمیع؟فقال:(هو)من عتق الشیعة و محله الصدق؛صالح الحدیث،کوفی من التابعین.

و قال العجلی:تابعی ثقة،و قال الساجی:له أحادیث مناکیر و فیه نظر و هو صدوق.

أقول:إنهم أنکروا علی جمیع روایته فی فضائل علی علیه السّلام منها ما رواه علی بن صالح.عن حکیم بن جبیر عن جمیع عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال لعلی علیه السّلام:أنت أخی فی الدنیا و الآخرة (2).

و لهذا حملوا علیه.قال فیه ابن نمیر:إنه کان من أکذب الناس و قالوا فیه:کان رافضیا یضع الحدیث إلی غیر ذلک.

جمیع العجلی:

أبو بکر جمیع بن عمیر بن عبد الرحمن العجلی الکوفی.

خرج حدیثه مسلم و الترمذی و روی عنه عمرو بن محمد العنقری،و مالک بن إسماعیل،و محمد بن یزید الرفاعی،و عبد اللّه بن إسماعیل الهباری،و أبو غسان النهدی،و سفیان بن وکیع بن الجراح،و یحیی بن عبد الحمید الحمانی،و عدة (3).

قال ابن حجر:جمیع-بالتصغیر-بن عمیر-کذلک-أبو بکر الکوفی ضعیف رافضی،و أشار إلی تخریج مسلم و الترمذی لحدیثه (4).

و قال العجلی:جمیع لا بأس به یکتب حدیثه،و لیس بالقوی و ذکره ابن عدی فی الکامل،و ابن حبان فی الثقات.

ص:544


1- (1) الجرح و التعدیل 1:532 ق 1 و تهذیب التهذیب 1:133. [1]
2- (2) میزان الاعتدال 1:195.
3- (3) انظر الجرح و التعدیل 1:532 ق 1 و تهذیب التهذیب 2:111. [2]
4- (4) التقریب 1:133.

جابر بن یزید:

أبو یزید جابر بن یزید بن الحارث بن عبد یغوث الجعفی الکوفی المتوفی سنة 128.

خرج حدیثه أبو داود،و الترمذی،و ابن ماجة.

و روی عنه:الثوری،و شعبة،و إسرائیل،و الحسن بن حی،و شریک، و مسعر،و معمر،و أبو عوانة،و زهیر،و إسرائیل و غیرهم.

و قد تقدمت الإشارة إلیه فی هذا المجلد ص 410-411 فی اتهام الذهبی له بالوضع.

جریر بن عبد الحمید:

أبو عبد اللّه جریر بن عبد الحمید بن قرط-بالضم-الضبی الکوفی المتوفی سنة 188 من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

احتج به البخاری،و مسلم،و الترمذی،و ابن ماجة،و أبو داود،و النسائی.

و روی عنه:إسحاق بن راهویه،و ابنا أبی شیبة،و قتیبة،و عبد ان المروزی، و أبو خیثمة،و محمد بن قدامة الطوسی،و محمد بن قدامة السلمی،و علی بن المدینی و یحیی بن معین،و یحیی بن یحیی و یوسف بن موسی القطان و أبو الربیع الزهرانی،و علی بن حجر و جماعة (1).

قال ابن حجر:جریر أجمعوا علی ثقته و قال ابن سعد:کان ثقة یرحل إلیه، و قال ابن معین و أحمد:هو أثبت من شریک،و وثقه العجلی و النسائی،و أبو حاتم، و قال یحتج بحدیثه،و نسبه قتیبة إلی التشیع المفرط (2).

و قال ابن حبان فی الثقات:کان جریر من العباد الخشن.و قال أبو أحمد الحاکم:هو عندهم ثقة.و قال قتیبة:حدثنا جریر الحافظ المقدم لکن سمعته یشتم معاویة علانیة (3).

ص:545


1- (1) تهذیب التهذیب 2:75. [1]
2- (2) هدی الساری-392.
3- (3) تهذیب التهذیب 2:77. [2]

الحارث الهمدانی:

أبو زهیر الحارث بن عبد اللّه الأعور الهمدانی الخارقی الکوفی المتوفی سنة 65.

خرج حدیثه الترمذی،و النسائی،و أبو داود و ابن ماجة و روی عنه الشعبی، و إسحاق السبیعی،و أبو البختری و الطائی،و عطاء بن أبی رباح،و الضحاک بن مزاحم و غیرهم (1).

کان الحارث من أصحاب الإمام علی علیه السّلام،و من رجال الشیعة،و قد وثقه ابن معین،و النسائی،و أحمد بن صالح،و ابن أبی داود و غیرهم.

و کان یحیی بن سعید القطان یحدث من حدیث الحارث،و کان أبو إسحاق یصلی خلف الحارث و کان إمام قومه و کان أبو إسحاق السبیعی یقول:لیس بالکوفة أعلم بفریضة من عبیدة و الحارث (2).

و قال محمد بن سیرین:کان من أصحاب ابن مسعود خمسة یؤخذ عنهم فأدرکت منهم أربعة،و فاتنی الحارث و کان یفضل علیهم.

و قد حمل علیه الشعبی فکذبه بدون حجة إلا أنه شیعی کما أشار لذلک الحافظ بن عبد البر إذ یقول:و أظن الشعبی عوقب لقوله فی الحارث الهمدانی:أحد الکذابین.و لم یبن من الحارث کذب و إنما نقم علیه إفراطه فی حب علی علیه السّلام و تفضیله له علی غیره،و من هنا و اللّه أعلم کذبه الشعبی،لأن الشعبی یذهب إلی تفضیل أبی بکر و إلی أنه أول من أسلم،و الشعبی کذبه إبراهیم النخعی عند ما ذکر عنده،فقال إبراهیم:الشعبی ذاک الکذاب لم یسمع من مسروق (3).

و من هذا یظهر أن الطعون علی رجال الشیعة لم تکن مفسرة للجرح فیهم،و إنما جرحوهم للتشیع فقط.

و الشعبی غیر صادق فیما یدعیه من التباعد عن الشیعة،و إظهاره عدم المیل لأهل البیت،لأنه کان یخشی الدولة،و یرجو نوالها فی آن واحد و هو القائل:ما ذا

ص:546


1- (1) انظر الجرح و التعدیل 1:78 ق 2 و تهذیب التهذیب 2:145. [1]
2- (2) طبقات ابن سعد 6:168 [2] ط 2.
3- (3) جامع بیان العلم و فضله 1:154. [3]

نقول فی آل أبی طالب إن أحببناهم قتلنا،و إن بغضناهم دخلنا النار.

لأن حب آل البیت فی تلک العصور فیه خطر علی النفس و الأهل و المال.

قال الریاشی:سمعت محمد بن عبد الحمید قال:قلت لابن أبی حفص، الشاعر:ما أغراک ببنی علی؟ قال:ما أحد أحب إلیّ منهم،و لکن لم أجد شیئا أنفع عند القوم منه:أی من بغضهم،و التحامل علیهم (1).

و کان ابن أبی حفص یهجو آل علی علیه السّلام و قد هجاهم بقصیدة فأجازه المهدی العباسی مائة ألف دینار لکل بیت ألف دینار.

الحارث بن حصیرة:

أبو النعمان الحارث بن حصیرة الکوفی.

خرج حدیثه البخاری فی الأدب المفرد،و النسائی فی سننه و خصائص الإمام علی علیه السّلام.

و روی عنه:عبد الواحد بن زیاد،و الثوری،و مالک بن مغول،و عبد السلام بن حرب،و عبد اللّه بن نمیر،و أبو إسرائیل الملائی،و محمد بن کثیر الکوفی،و جعفر بن زیاد الأحمر،و علی بن عابس (2).

قال یحیی بن معین:الحارث بن حصیرة لیس به بأس.و قال أبو غسان سألت جریر بن عبد الحمید فقلت له الحارث بن حصیرة لقیته؟ فقال:نعم شیخ طویل السکوت یصر علی أمر عظیم (3)و قال الدار قطنی:

الحارث بن حصیرة شیخ للشیعة یغلو فی التشیع.و قال أبو داود:شیعی صدوق و وثقه العجلی،و ابن نمیر و ذکره ابن حبان فی الثقات (4).

و لما کان الحارث من رجال الشیعة فقد وصفه المتعصبون بأنه:زائغ أو مذموم

ص:547


1- (1) العقد الفرید 3:287. [1]
2- (2) انظر الجرح و التعدیل لابن أبی حاتم 1:73-ق 2 و تهذیب التهذیب 2:140. [2]
3- (3) شرح صحیح مسلم للنووی 1:103.
4- (4) تهذیب التهذیب 2:140. [3]

و سیئ المذهب،و یعنون بذلک مذهب التشیع.و معنی قول الدار قطنی أنه یغلو یرید أنه یقدم علیا علی الخلفاء الثلاثة کما هو مذهب الشیعة و لهذا و صفوهم بالغلو فی الخلافة.

حبیب بن أبی ثابت:

أبو یحیی حبیب بن قیس أبو ثابت بن دینار الکوفی المتوفی سنة 119.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و أبو داود،و النسائی و ابن ماجة.

و روی عنه:عطاء بن أبی رباح،و منصور،و الأعمش،و حصین و ابن عون، و مسعر،و الثوری،و شعبة،و العوام،و حوشب،و إسماعیل بن سالم،و أبو بکر بن عیاش،و زید بن أبی أنیسة،و المسعودی و ابن جریح،و حکیم بن حزام، و مطرف بن طریف،و أبو الزبیر و غیرهم (1)و هو من تلامذة الإمام الباقر و ولده الإمام الصادق علیهما السّلام وثقه العجلی و النسائی و ابن معین.

نص الشهرستانی علی تشیعه (2)و کذلک ذکره ابن قتیبة فی معارفه من رجال الشیعة.

و مما یثبت تشیع حبیب بن أبی ثابت ما ذکره ابن أبی حاتم عن شعبة بن الحجاج لما ورد البصرة قالوا له:حدثنا عن ثقات أصحابک.

فقال:إن حدثتکم عن ثقات أصحابی فإنما أحدثکم عن نفر یسیر من هذه الشیعة(و هم):الحکم بن عتیبة،و حبیب بن أبی ثابت و سلمة بن کهیل، و منصور بن المعتمر (3).

و ذکره الشیخ الطوسی من أصحاب الإمام زین العابدین و الإمام الباقر و الإمام الصادق علیهم السّلام.

الحسن بن صالح:

أبو عبد اللّه الحسن بن صالح بن حی الکوفی الفقیه العابد المتوفی سنة 167.

ص:548


1- (1) تهذیب التهذیب 2:178 و [1]الجرح و التعدیل 1:107 ق 2.
2- (2) انظر الملل و النحل 1:325.
3- (3) تقدمة المعرفة لکتاب الجرح و التعدیل-139.

خرج حدیثه مسلم،و أبو داود،و الترمذی و النسائی و ابن ماجة.

و روی عنه:وکیع بن الجراح،و یحیی بن آدم،و یحیی بن فضیل و عبید اللّه بن موسی،و قبیصة،و أحمد بن یونس،و علی بن الجعد و ابن المبارک، و عبد اللّه بن داود الحریبی،و أبو أحمد الزبیری،و طلق بن غنام،و حمید بن عبد الرحمن الرواسی،و الأسود بن عامر و غیرهم (1).

قال العجلی:کان الحسن حسن الفقه من أسنان الثوری أو أفقه من الثوری،ثقة ثبتا متعبدا و کان یتشیع إلا أن ابن المبارک کان یحمل علیه لمحل التشیع (2).

و قال ابن حبان:کان الحسن بن صالح فقیها،ورعا من المتقشفة الخشن، و ممن تجرد للعبادة و رفض الرئاسة علی تشیع فیه (3).

و قال ابن سعد:کان الحسن ثقة صحیح الحدیث کثیره،و کان متشیعا (4).

و قال أبو نعیم:ما کان(الحسن)بدون الثوری فی الورع و القوة ما رأیت إلا من غلط فی شیء إلا الحسن بن صالح (5).

و قال أبو زرعة:اجتمع فی الحسن بن حی إتقان،وفقه،و عبادة (6).

و قال ابن قتیبة:الحسن بن صالح یکنی أبا عبد اللّه،و کان یتشیع و زوج عیسی بن زید ابنته و استخفی معه حتی مات عیسی،و کان المهدی قد طلبهما فلم یقدر علیهما،و مات الحسن بعد عیسی بستة أشهر (7).

حماد بن عیسی:

حماد بن عیسی بن عبیدة بن الطفیل الجهنی،و قیل البصری غریق الجحفة المتوفی سنة 208.

ص:549


1- (1) انظر تذکرة الحفاظ 1:201 و تهذیب التهذیب 2-284. [1]
2- (2) تهذیب التهذیب 2:288. [2]
3- (3) نفس المصدر. [3]
4- (4) طبقات ابن سعد 6:375. [4]
5- (5) تذکرة الحفاظ 1:201.
6- (6) المصدر السابق.
7- (7) المعارف 222 [5] ط 1.

خرج حدیثه الترمذی،و ابن ماجة،و روی عنه الحسن بن علی الحلوانی، و أحمد بن سعید الدارمی،و عبد بن حمید،و أبو موسی،و محمد بن إسحاق الصغانی،و الدوری،و إبراهیم الجوزجانی،و محمد بن بکار،و محمد بن المثنی و غیرهم (1).

قال ابن معین:حماد بن عیسی شیخ صالح،و ضعفه أبو حاتم و الدار قطنی.

و لعل تضعیفهم له إنما کان لتشیعه و انتمائه لمدرسة الإمام الصادق و له مؤلفات علی مذهب الشیعة منها کتّاب النوادر و کتّاب الزکاة و کتّاب الصلاة ذکر ذلک الشیخ الطوسی فی الفهرست.

الحکم بن ظهیر:

أبو محمد الحکم بن ظهیر الفزاری الکوفی المتوفی سنة 180.

خرج حدیثه الترمذی.و روی عنه الثوری،و هو أکبر منه و ابنه إبراهیم بن الحکم،و أبو معمر القطیعی،و وهب بن بقیة،و یوسف بن عدی،و أبو توبة، و إسماعیل بن موسی،و إسحاق بن شاهین الواسطی،و محمد بن حاتم الزمی و الحسن بن عرفة و جماعة آخرون (2).

قال ابن حجر:الحکم بن ظهیر-بالمعجمة مصغرا-الفزاری متروک رمی بالرفض (3).

و قال ابن معین:لیس بثقة و قال البخاری منکر الحدیث ترکوه.

و کذبه یحیی بن معین و قال ابن حبان:کان یشتم الصحابة إلی غیر ذلک من الأقوال،و کل هذه الأمور تعود لتشیعه،و أنه حدث عن عاصم عن ذر عن عبد اللّه عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:إذا رأیتم معاویة علی منبری فاقتلوه (4).فلیس من الغریب أن تقوم حوله ضجة الأکاذیب و الاتهامات فإن التشیع فی ذلک العصر یرهب السلطة و أعوانهم لهذا سلکوا طریق التشویه و التهویل.

ص:550


1- (1) تهذیب 3-19 و الجرح و التعدیل 1:145 ق 2.
2- (2) تهذیب التهذیب 2-428. [1]
3- (3) التقریب 1-291.
4- (4) انظر میزان الاعتدال 1-268.

حکیم بن جبیر:

حکیم بن جبیر الأسدی الکوفی و یقال مولی الحکم بن أبی العاص الثقفی الکوفی.

خرج حدیثة الأربعة و روی عنه:الأعمش،و السفیانان،و زائدة،و فطر بن خلیفة،و شعبة،و شریک،و علی بن صالح،و إسرائیل (1).

قال عبد الرحمن:سألت أبا زرعة عن حکیم بن جبیر؟فقال:فی رأیه شیء.

قلت ما محله؟قال:الصدق.

قال ابن أبی حاتم:قلت لأبی:حکیم بن جبیر أحب إلیک أو ثویر؟-یعنی ابن أبی فاختة- قال:ما فیهما إلا ضعیف غال فی التشیع،و هما متقاربان (2).

و قال أبو حاتم:حکیم بن جبیر ضعیف الحدیث،منکر الحدیث له رأی غیر محمود-نسأل اللّه السلامة-غال فی التشیع (3).إلی آخر ما قال فیه و أن القصد من سؤال السلامة لم یکن سلامة الدین بل سلامة النفس،و الأهل و المال و الولد،فإن من یعرف بالتشیع فی ذلک العصر یکون عرضة للخطر.

و إن حکیم لم یکن من الغلاة و إنما کان محبا لأهل البیت و نسبة الغلو إلیه لأجل ما یرویه من الأحادیث فی فضل علی علیه السّلام.

منها:ما رواه حکیم عن إبراهیم عن علقمة عن علی علیه السّلام أنه قال:أمرت بقتال الناکثین و القاسطین،و المارقین.

و منها:ما رواه محمد بن عبد الحمید،عن سلمة بن إسحاق،عن حکیم بن جبیر عن سفیان،عن عبد العزیز بن هرون،عن أبی هریرة عن سلمان الفارسی قال:

قلت یا رسول اللّه لم یبعث نبیا إلا بین له من یلی بعده فهل بین لک؟قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:نعم علی (4)

ص:551


1- (1) الجرح و التعدیل 1:201 ق 2 و تهذیب التهذیب 2:445. [1]
2- (2) نفس المصدر..
3- (3) تهذیب التهذیب. [2]
4- (4) میزان الاعتدال 1:274.

و قد طعنوا فی هذا الحدیث لا من جهة رجاله بل استبعدوا أن یکون أحد رواته عبد العزیز بن مروان،و هو منحرف عن علی علیه السّلام،فکیف یروی مثل هذا؟

الحکم بن عتیبة:

أبو محمد الحکم بن عتیبة الکندی الکوفی المتوفی سنة 115،114.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و أبو داود،و النسائی،و ابن ماجة و روی عنه مسعر،و الأوزاعی،و حمزة الزیات،و شعبة،و أبو عوانة،و منصور و خلق.

ذکره ابن قتیبة من رجال الشیعة و نص علی ذلک شعبة بن الحجاج (1).

و ذکره سیدنا شرف الدین من رواة الشیعة (2).

خالد بن طهمان:

أبو العلاء خالد بن طهمان السلوکی الخفاف الکوفی.

خرج حدیثه الترمذی و روی عنه:ابن المبارک،و أبو نعیم،و یحیی بن عباد و سفیان الثوری،و وکیع،و أحمد بن عبد اللّه بن یونس و أبو أحمد الزبیری و الفریابی،و عبید اللّه بن موسی،و یحیی بن هاشم السمسار و هو خاتمة أصحابه و غیرهم. (3)

قال الخزرجی:کوفی شیعی.و قال أبو حاتم:خالد بن طهمان من عتق الشیعة،و ذکره ابن حبان فی الثقات،و لم یذکره أبو داود إلا بخیر.

خالد بن مخلد:

أبو الهیثم خالد بن مخلد القطوانی البجلی الکوفی المتوفی سنة 213.

خرج حدیثه البخاری،و أبو داود،و الترمذی،و النسائی،و ابن ماجة.

و روی عنه البخاری و روی له مسلم،و أبو داود فی مسند مالک،و محمد بن

ص:552


1- (1) تقدمة المعرفة لکتاب الجرح و التعدیل-139.
2- (2) المراجعات 55.
3- (3) الجرح و التعدیل 1:337 ق 2 و الخلاصة 86 و تهذیب التهذیب 3:98. [1]

عثمان بن کرامة،و أبو کریب،و ابن نمیر،و القاسم بن زکریا و عبد بن حمید،و أبو بکر بن أبی شیبة،و أحمد بن عثمان بن حکیم الأودی،و صالح بن محمد بن یحیی بن سعید القطان و علی بن عثمان النفیلی،و عباس الدوری،و إبراهیم بن عبد الرحمن بن مهدی و أحمد بن فضالة النسائی و أحمد بن الخلیل،و عباس بن عبد العظیم العنبری،و معاویة بن صالح الأشعری،و أحمد بن یوسف السلمی.

و حدث عنه أیضا عبید اللّه بن موسی و هو أکبر منه،و أبو أمیة الطرسوسی و إسحاق بن راهویه،و عثمان بن أبی شیبة،و یوسف بن موسی القطان و غیرهم.

و قال أبو داود صدوق شیعی.و قال یحیی بن معین:صدوق لا بأس به.و قال ابن عدی:هو من المکثرین لا بأس به إن شاء اللّه.و قال ابن سعد:منکر الحدیث مفرط فی التشیع. (1)

و قال ابن حجر:خالد بن مخلد القطوانی الکوفی أبو الهیثم من کبار شیوخ البخاری،روی عنه.و روی عن واحد عنه.قال العجلی:ثقة فیه تشیع.و قال ابن سعد:کان متشیعا مفرطا.و قال صالح جزرة:خالد بن مخلد ثقة إلا أنه کان متهما بالغلو فی التشیع و قال أحمد:له مناکیر.

یقول ابن حجر:أما التشیع فقد قدمنا أنه إذا کان ثبت الأخذ و الأداء لا یضره.

لا سیما و لم یکن داعیة إلی رأیه.و أما المناکیر فقد تتبعها أبو أحمد بن عدی فی حدیثه.و أوردها فی کامله.و لیس فیها شیء مما أخرجه له البخاری.بل لم أر له عنده من افراد سوی حدیث واحد سوی حدیث أبی هریرة:من عادی لی ولیا.و روی له الباقون سوی أبی داود (2).

و قال الجوزجانی:و کان خالد شتاما معلنا سوء مذهبه توفی سنة 213 (3)(أی التشیع).

و هذه هی لهجة الجوزجانی فی سوء تعبیره.و أما قوله شتاما فإنهم یقصدون

ص:553


1- (1) میزان الاعتدال 297 و غیرها.
2- (2) تهذیب التهذیب 3:116-117. [1]
3- (3) میزان الاعتدال 1:300.

مطلق ذکر أحد الصحابة بشیء.أو روایة قضیة أو حدیث فیها حمل علیهم.لأنهم لا بد أن یتأولوا ذلک.و هذا أوضح شیء فی ادعاء العصمة مع ظهور ما ینافیها.

خلف بن سالم:

أبو محمد خلف بن سالم المخرمی المتوفی سنة 231.

خرج حدیثه النسائی و وثقه،و روی عنه إسماعیل بن أبی الحارث و حاتم ابن اللیث،و یعقوب بن شیبة،و أحمد بن خیثمة،و جعفر الطیالسی و عباس الدوری، و یعقوب بن یوسف المطوعی،و الحسن بن علی المعمری،و أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفی،و یحیی بن عبدک القزوینی،و أبو حاتم،و أبو زرعة،و أحمد بن علی المروزی،و أحمد بن علی الأبار،و أبو القاسم البغوی و غیرهم (1).

قال علی بن سهل البزاز:سمعت أحمد بن حنبل-و سئل عن خلف بن سالم- فقال:لا یشک فی صدقه.و قال عبد الخالق بن منصور:سألت یحیی بن معین عن خلف المخرمی،فقال صدوق.فقلت له:یا أبا زکریا إنه یحدث بمساوی أصحاب رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم؟فقال:قد کان یجمعها و أما أن یحدث بها فلا (2).

و قال ابن سعد:کان قد صنف المسند،و کان کثیر الحدیث.و قال حمزة الکنانی:خلف بن سالم ثقة مأمون.من نبلاء المحدثین.

و قال ابن حجر:ابن سالم ثقة حافظ صنف المسند.عابوا علیه التشیع (3).

داود بن أبی عوف:

أبو الجحاف داود بن أبی عوف سوید التمیمی البرجمی.

خرج حدیثه الترمذی،و النسائی،و ابن ماجة،و روی عنه الثوری و تلید بن سلیمان،و عبد السلام بن حرب،و سفیان بن عیینة،و شریک و إسرائیل (4).

ص:554


1- (1) انظر تاریخ بغداد 8:328 و [1]تهذیب التهذیب 3:152 و [2]الجرح و التعدیل 1:371 ق 2.
2- (2) تاریخ بغداد 7،8:329. [3]
3- (3) التقریب 1:226.
4- (4) تهذیب التهذیب 3:196. [4]

قال عبد اللّه بن داود:کان سفیان یوثق داود و یعظمه و قال ابن حجر:داود بن أبی عوف التمیمی هو صدوق شیعی ربما أخطأ من(الطبقة السادسة) (1).

و قال الذهبی:داود وثقه أحمد و یحیی،و قال النسائی:لیس به بأس.و قال أبو حاتم صالح الحدیث.و أما ابن عدی فقال:لیس هو عندی ممن یحتج به شیعی عامة ما یرویه فی فضائل أهل البیت (2).

و ذکره الشیخ الطوسی فی رجاله من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام (3).

الربیع بن أنس:

الربیع بن أنس البکری و یقال الحنفی المتوفی سنة 139،140.

خرج حدیثه:الترمذی،و أبو داود،و النسائی،و ابن ماجة.

و روی عنه:سلیمان التیمی،و یعقوب بن القعقاع،و أبو جعفر الرازی،و کتب عنه بمرو عبد العزیز بن مسلم،و أخوه المغیرة بن مسلم و ابن المبارک،و سلیمان بن عامر،و حسین بن واقد،و الأعمش و سلیمان بن عامر البزری،و عیسی بن عبید الکندی،و مقاتل بن حیان و غیرهم (4).

قال ابن حجر:الربیع بن أنس البکری أو الحنفی بصری نزل خراسان صدوق له أوهام رمی بالتشیع من الطبقة الخامسة.

زبید بن الحارث:

أبو عبد الرحمن زبید-بموحدة مصغرا-بن الحارث بن عبد الکریم الیامی و یقال الأیامی الکوفی المتوفی سنة 122،123.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و أبو داود،و النسائی و ابن ماجة.

و روی عنه:مالک بن مغول،و العوام بن حوشب،و الثوری و شعبة،و محمد بن طلحة بن مصرف،و ابن شبرمة،و الحریش بن سلیم،و الحسن بن صالح،

ص:555


1- (1) التقریب 1:233.
2- (2) میزان الاعتدال 1:323.
3- (3) رجال الشیخ 189.
4- (4) انظر تهذیب التهذیب 3:239. [1]

و زهیر بن معاویة،و شریک،و قیس بن الربیع (1).

وثقه أبو حاتم.و النسائی و العجلی و ابن حبان و غیرهم.

و قال یعقوب بن سفیان:زبید ثقة خیار إلا أنه کان یمیل إلی التشیع،و قال ابن سعد:کان زبید ثقة و کان فی عداد الشیوخ.

و قال العجلی:زبید ثقة ثبت فی الحدیث و کان علویا (2)(أی محبا لعلی علیه السّلام فی مقابل العثمانی).

و حکی ابن أبی خیثمة عن شعبة قال:ما رأیت بالکوفة شیخا خیرا من زبید.

و قال سعید بن جبیر:لو خیرت عبدا ألقی اللّه فی مسلاخه اخترت زبید الیامی.و قال ابن حبان:کان زبید من العباد الخشن،مع الفقه فی الدین و لزوم الورع الشدید.و قال البخاری:قال عمرو بن مرة کان زبید صدوقا (3).

و نص الذهبی علی تشیعه ثم قال-بعد أن نقل توثیقه-:و قال أبو إسحاق الجوزجانی-کعوائده فی فظاظة عبارته-:کان بالکوفة قوم لا یحمد الناس مذاهبهم، هم رءوس محدثی الکوفة مثل أبی إسحاق،و منصور،و زبید الیامی،و غیرهم من أقرانهم احتملهم الناس لصدق ألسنتهم فی الحدیث و توقفوا عند ما أرسلوا (4).

و یقصد الجوزجانی أن مذهبهم التشیع و هو أن الناس لا یحمدونها و لا ندری أی ناس هم؟نعم هم من تعاون مع أعداء أهل البیت طمعا فی الدنیا و زهدا فی الآخرة.

زیاد بن المنذر:

أبو الجارود زیاد بن المنذر الهمدانی و یقال النهدی توفی سنة 150 تقریبا.

خرج حدیثه الترمذی،و روی عنه مروان بن معاویة الفزاری و یونس بن بکیر، و علی بن هاشم بن البرید،و عمار بن محمد بن أخت سفیان،و محمد بن بکر البرسانی،و محمد بن سنان العوفی و غیرهم (5).

ص:556


1- (1) الجرح و التعدیل 1:623 ق 2.
2- (2) تهذیب التهذیب 3:311. [1]
3- (3) نفس المصدر. [2]
4- (4) میزان الاعتدال 1:345.
5- (5) تهذیب التهذیب 3:386. [3]

قال أبو حاتم:کان زیاد رافضیا یضع الحدیث فی مثالب الصحابة و یروی فی فضائل أهل البیت رضی اللّه عنهم مالها وصول،لا یحل کتب حدیثه.

و قال ابن عدی:عامة أحادیثه غیر محفوظة،و عامة ما یرویه فی فضائل أهل البیت،و هو من المعدودین من أهل الکوفة المغالین.

أقول:قد أشرنا فیما سبق بأننا لن نتعرض لأقوال الشیعة حول ما نذکره من أحوال هؤلاء الرجال من حیث الوثاقة و غیرها.

و ان أبا الجارود مهما کانت حالته فقد نقموا علیه تحامله علی الصحابة الذین لم یقوموا بحق الصحبة و روایاته فی فضل أهل البیت علیهم السّلام کثیرة.و أنکروا علیه ذلک، لأن الأمر یدعو لمخالفة السلطة الحاکمة التی حاولت أن تطفئ شعلة فضائل آل محمد،و یأبی اللّه لها الا الظهور و الانتشار.و من المتقین أن نقده و الأقوال فیه و هو علی الحال الأول من الولاء لأهل البیت و القرب من الشیعة و قبل أن یتغیر و یعرف عنه الحال الثانی الذی یبعده عن أسماء الرجال الشیعة المعتمدین،و قد ترجمنا له هنا لأن ما کان علیه من علم الروایة لحاله الأول فی التشیع و قبل أن یضعف و یتغیر،و کان سلوکه مسلک الشیعة هو سبب اشتهاره و وثائقته.

سالم العجلی:

أبو یونس سالم بن أبی حفصة العجلی المتوفی سنة 140.

خرج حدیثه البخاری فی الأدب المفرد،و الترمذی فی صحیحه،و روی عنه إسرائیل،و سفیان الثوری،و سفیان بن عیینة،و عبد الواحد بن زیاد،و محمد بن فضیل (1).

قال أحمد بن حنبل:سالم بن أبی حفصة أبو یونس کان شیعیا،ما أظن به بأسا فی الحدیث.و قال أبو حاتم:سالم بن أبی حفصة من عتق الشیعة صدوق.

و قال ابن عدی:إنما عیب علیه الغلو و أما حدیثه فأرجو أنه لا بأس به (2).

و معنی الغلو الذی یقصده ابن عدی هو کثرة روایاته عن أهل البیت علیهم السّلام کما

ص:557


1- (1) الجرح و التعدیل 2:180 ق 1 و تهذیب التهذیب 4:433. [1]
2- (2) الخلاصة لصفی الدین-111.

نقل ابن حجر عن ابن عدی أنه قال:سالم له أحادیث و عامة ما یرویه فی فضائل أهل البیت.و قال الجوزجانی زائغ و بالغ فیه کعادته فی أمثاله (1).

و قد نسبوا له أنه کان من رءوس من ینتقص أبا بکر و عمر،و أنه کان أحمق طویل اللحیة إلی غیر ذلک.و مع هذا فقد روی له الترمذی و البخاری فی الأدب المفرد.

سعید بن خثیم:

أبو معمر سعید بن خثیم بن رشد الهلالی الکوفی المتوفی سنة 180.

خرج حدیثه الترمذی و النسائی،و روی عنه أحمد بن حنبل،و عبد اللّه بن أبی شیبة،و محمد بن عمران بن أبی لیلی،و خالد بن یزید الأسدی و عمر بن محمد الناقد،و عثمان بن أبی شیبة،و أبو سعید الأشج،و إسحاق بن موسی،و إسماعیل بن موسی الفزاری،و محمد بن عبید المحاربی،و ابن أخیه أحمد بن رشد بن خثیم و غیرهم (2).

و هو من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام وثقه ابن معین،و ابن حبان و العجلی.

و قال النسائی و أبو زرعة لا بأس به.

قال ابن حجر:سعید بن خثیم بمعجمة و مثلثة-بن رشد-بفتح الراء الهلالی الکوفی صدوق رمی بالتشیع له أغالیط (3).

و قیل لیحیی بن معین:خثیم هو شیعی،فقال:و شیعی ثقة (4).لأنهم أنکروا علیه توثیقه له فأجابه بأنه ثقة مع تشیعه.

أقول:أما قول ابن حجر له أغالیط فلم یثبت ذلک و لعلهم یعدون أحادیثه عن أهل البیت و فضائلهم من الأغلاط نظرا للظروف القاسیة التی عاش فیها،فإن عصره کان یقضی علی کل مفکر أن یکون جامدا لا یتحرک إلا فی الدائرة التی تسیر علیها

ص:558


1- (1) تهذیب التهذیب 3:434. [1]
2- (2) تهذیب التهذیب 4:22 و [2]الجرح و التعدیل.
3- (3) التقریب 1:294.
4- (4) میزان الاعتدال 1:378.

سیاسة الدولة،و من البین أنهم یقاومون أهل البیت بشتی الوسائل،فکان ذکر فضائلهم خرقا لأوامر الدولة،و انحرافا عن خطتها المرسومة.

سعید بن عمرو:

سعید بن عمرو بن أشوع الهمدانی الکوفی المتوفی سنة 120.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و روی عنه:سعید بن مسروق الثوری و ولده سفیان،و خالد الحذاء،و زکریا بن أبی زائدة و لیث بن أبی سلیم،و حبیب بن أبی ثابت،و سلمة بن کهیل،و أبو إسحاق الهمدانی و أشعث بن سوار و غیرهم (1).

و حدث عنه أبو إسحاق السبعی،و عبد الملک بن عمیر،و هما أکبر منه.

قال البخاری فی التاریخ الأوسط:رأیت إسحاق بن راهویه یحتج بحدیثه.

و قال ابن حجر:سعید بن عمرو بن أشوع الهمدانی الکوفی قاضیها ثقة رمی بالتشیع (2).

و قال الحاکم:سعید بن عمرو هو شیخ من ثقات الکوفیین یجمع حدیثه.

و ذکره ابن حبان فی الثقات و قال النسائی لیس به بأس و لکن الجوزجانی یصفه بقوله:

سعید بن عمرو:غال زائغ زائد التشیع (3).

قال ابن حجر:سعید بن عمرو بن أشوع الکوفی من الفقهاء وثقه ابن معین و النسائی و العجلی،و إسحاق بن راهویه،و أما أبو إسحاق الجوزجانی فقال:کان زائغا غالیا یعنی فی التشیع.و الجوزجانی غال فی النصب.و احتج به-أی بسعید-الشیخان و الترمذی (4).

سعید بن فیروز:

أبو البختری سعید بن فیروز بن أبی عمران الکوفی المقتول بدیر الجماجم بدجیل سنة 83 ه.

ص:559


1- (1) تهذیب التهذیب 4:67 و [1]الجرح و التعدیل.
2- (2) التقریب 1:302.
3- (3) میزان الاعتدال 1:375.
4- (4) هدی الساری 404.

أخرج له البخاری،و احتج به الباقون.و روی عنه عمرو بن مرة و عبد الأعلی بن عامر،و عطاء بن السائب،و سلمة بن کهیل،و یونس بن خباب، و حبیب بن أبی ثابت.و یزید بن أبی ذئاب،و مسلم البطین (1).

وثقه أبو زرعة و أبو حاتم و ابن معین قال العجلی:تابعی ثقة فیه تشیع،و نقل ابن خلفون توثیقه عن ابن نمیر.

و قال ابن حجر:سعید بن فیروز أبو البختری-بفتح الموحدة-ثقة ثبت فیه تشیع قلیل (2).

سعید بن محمد:

أبو محمد سعید بن محمد بن سعید الجرمی الکوفی.

حدث عنه البخاری،و مسلم،و خرج له أبو داود،و ابن ماجة بواسطة الذهلی.

و روی عنه أبو زرعة،و عبد اللّه بن أحمد،و عبد الأعلی بن واصل و ابن أبی الدنیا،و عباس الدوری (3).

قال ابن حجر:سعید بن محمد بن سعید الجرمی صدوق رمی بالتشیع من کبار الحادیة عشرة (4).

و قال ابن أبی حاتم:سئل أحمد بن حنبل عنه؟فقال:ثقة.و أثنی علیه ابن نمیر،و ابن أبی شیبة،و قال أبو حاتم:سعید بن محمد الجرمی شیخ (5).

سعید بن کثیر:

أبو عثمان سعید بن کثیر بن عفیر المصری المتوفی سنة 226.

خرج حدیثه البخاری فی الأدب المفرد و مسلم،و ابن ماجة،و أبو داود، و النسائی،و هو من شیوخ البخاری (6).

ص:560


1- (1) تهذیب التهذیب 4:72. [1]
2- (2) التقریب 1:303.
3- (3) تهذیب التهذیب 4:76. [2]
4- (4) التقریب 1:304.
5- (5) الجرح و التعدیل 2:59 ق 1.
6- (6) هدی الساری 404.

و حدث عنه البخاری،و روی له فی الأدب المفرد،و مسلم،و أبو داود فی القدر،و النسائی بواسطة أحمد بن عاصم البلخی،و محمد بن إسحاق الصغانی، و محمد وزیر المصری،و عبد الرحمن بن عبد اللّه بن الحکم،و بکار بن قتیبة، و عبد اللّه بن حماد الآملی،و یونس بن عبد الأعلی و غیرهم (1).

قال ابن حجر:سعید بن کثیر بن عفر رمی بالتشیع (2).

و قد تحامل علیه الجوزجانی و قال:سعید بن کثیر فیه غیر لون من البدع و کان مخلطا غیر ثقة (3).

و بالطبع إنه یقصد ببدعه ما نسب إلیه من التشیع،و أما أنه غیر ثقة فذلک فی نظر الجوزجانی أما غیره فقد وصفوه بالصدق و الوثاقة،و کان من أعلم الناس بالأنساب، و الأخبار الماضیة،و أیام العرب،و مآثرها و وقائعها،و المناقب و المثالب،و کان فی ذلک کله شیئا عجیبا،و کان أدیبا فصیح اللسان،حسن البیان لا تمل مجالسته و لا ینزف علمه (4).

سعاد:

سعاد بن سلیمان الجعفی الکوفی.

خرج حدیثه ابن ماجة،و روی عنه علی بن ثابت الدهان،و أبو عتاب الدلال، و الحسن بن عطیة القرشی،و جبارة بن المغلس و غیرهم.

وثقه ابن حبان،و قال ابن أبی حاتم:سمعت أبی یقول:سعاد کان من عتق الشیعة،و لیس بقوی فی الحدیث (5).

و قال ابن حجر:سعاد بن سلیمان کوفی صدوق یخطئ و کان شیعیا من الطبقة الثامنة (6).

ص:561


1- (1) تهذیب التهذیب 4:74. [1]
2- (2) هدی الساری 406.
3- (3) انظر تذکرة الحفاظ 2:14 و تهذیب التهذیب 4:74. [2]
4- (4) انظر تهذیب التهذیب 4:75. [3]
5- (5) نفس المصدر. [4]
6- (6) التقریب 1:285.

و ذکره الشیخ الطوسی فی رجاله من أصحاب الإمام الصادق علیه السّلام.

سلمة بن کهیل:

أبو یحیی سلمة بن کهیل الحضرمی المتوفی سنة 113.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و أبو داود،و النسائی و ابن ماجة.

و روی عنه:سعید بن مسروق الثوری،و ابنه سفیان،و الأعمش،و شعبة،و الحسن و علی و صالح بنو حی،و زید بن أنیسة،و إسماعیل بن أبی خالد،و عقیل بن خالد، و أبو المحیاة یحیی بن یعلی التیمی و منصور و مسعر،و حماد بن سلمة و غیرهم (1).

و ذکره الشیخ الطوسی فی تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

قال الثوری:سلمة بن کهیل کان رکنا من الأرکان-و شد قبضته.

و قال عبد الرحمن بن المهدی:أربعة فی الکوفة لا یختلف فی حدیثهم فمن اختلف علیهم فهو یخطئ،منهم سلمة بن کهیل،و قال أحمد بن حنبل سلمة متقن الحدیث.

و وثقه ابن معین و أبو حاتم،و أبو زرعة (2)و قال یعقوب بن أبی شیبة:سلمة بن کهیل ثقة ثبت علی تشیعه.و قال أبو داود:سلمة یتشیع (3).

سلمة بن الفضل:

أبو عبد اللّه سلمة بن الفضل الأبرش الأنصاری المتوفی سنة 191.

خرج حدیثه أبو داود،و الترمذی،و ابن ماجة فی التفسیر،و روی عنه کاتبه عبد الرحمن بن الرازی،و یحیی بن معین،و عبد بن محمد المسندی،و عثمان بن أبی شیبة،و محمد بن حمید الرازی،و محمد بن عمرو زنیج،و وثیمة بن موسی المصری،و یوسف بن موسی القطان و علی بن بحر و علی بن هاشم بن مرزوق، و مقاتل بن محمد و غیرهم (4).

ص:562


1- (1) تهذیب التهذیب 4:156. [1]
2- (2) انظر الجرح و التعدیل 2:170 ق 1.
3- (3) تهذیب التهذیب 4:157. [2]
4- (4) تهذیب التهذیب 4:153 و [3]الجرح و التعدیل 2:139 ق 1 و میزان الاعتدال و غیرها.

قال ابن معین:کتبنا عنه و لیس به بأس و کان یتشیع و کان یحیی یقول:لیس من لدن بغداد إلی أن یبلغ خراسان أثبت فی ابن إسحاق من سلمة.

سلیمان بن قرم:

أبو داود سلیمان بن قرم بن معاذ التمیمی و منهم من ینسبه إلی جده.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و أبو داود و الترمذی،و النسائی.و کان تخریج البخاری تعلیقا.

روی عنه سفیان الثوری و هو من أقرانه،و أبو الجواب،و حسین بن محمد المروزی.و یعقوب بن إسحاق الحضرمی،و یونس بن محمد المؤدب و أبو الأحوص.و بکر بن عیاش.و أبو داود الطیالسی.و یحیی بن آدم.و سلمة بن الفضل (1)و ذکره الشیخ الطوسی فی رجاله من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

قال ابن حجر:سلیمان سیئ الحفظ یتشیع (2).

قال عبد اللّه بن أحمد:کان أبی یتتبع حدیث قطبة بن عبد العزیز و سلیمان بن قرم،و یزید بن سیاه و قال:هؤلاء قوم ثقات.و هم أتم حدیثا من سفیان و شعبة و هم أصحاب کتب.و قال أحمد أیضا:لا أری به بأسا لکنه کان یفرط فی التشیع (3).

و قال الحاکم-فی باب من عیب علی مسلم إخراج حدیثهم-:سلیمان غمزوه فی الغلو و التشیع و سوء الحفظ جمیعا (4)و قال ابن حبان کان رافضیا غالیا.

و لعل تحامل بعض الحفاظ علیه أنه کان یروی عن الأعمش عن عمر بن مرة عن عبد اللّه بن الحارث عن زهیر بن الأقمر عن عبد اللّه بن عمر قال:کان الحکم بن أبی العاص یجلس إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم و ینقل حدیثه إلی قریش،فلعنه رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم،و ما یخرج من صلبه إلی یوم القیامة (5).

أقول:لم ینفرد سلیمان بروایة هذا الحدیث فقد ورد من طرق متعددة أشهرها ما

ص:563


1- (1) تهذیب التهذیب 4:213 و [1]الجرح و التعدیل 2:136 ق 1.
2- (2) التقریب 1:226.
3- (3) تهذیب التهذیب 4:213. [2]
4- (4) نفس المصدر. [3]
5- (5) میزان الاعتدال 1:421.

رواه ابن أبی خیثمة عن عائشة بأنها قالت لمروان بن الحکم:أما أنت یا مروان فأشهد أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم لعن أباک و أنت فی صلبه (1).

و أخرج ابن عبد البر بسند عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال:قال رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(یدخل علیکم رجل لعین).

قال عبد اللّه:و کنت قد ترکت عمرا یلبس ثیابه لیقبل إلی رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فلم أزل مشفقا أن یکون أول من یدخل.فدخل الحکم بن أبی العاص (2).

سلیمان بن مهران:

أبو محمد سلیمان بن مهران الکوفی الأعمش المتوفی سنة 148.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم و الترمذی،و أبو داود،و النسائی و ابن ماجة.

و روی عنه:أبو إسحاق السبیعی،و سلیمان التیمی،و الحکم بن عتیبة،و زبید الیامی،و سهیل بن أبی صالح،و سفیان الثوری،و شعبة و زائدة،و شیبان بن عبد الرحمن،و عبد الواحد بن زیاد،و سفیان بن عیینة،و علی بن مسهر،و أبو معاویة، و حفص بن غیاث،و وکیع و جریر بن عبد الحمید،و عبد اللّه بن إدریس، و عیسی بن یونس،و عبد الرحمن المحاربی،و عبد بن سلیمان،و یحیی بن سعید القطان،و عمر و یعلی و محمد بنو عبید الطنافسی،و أبو أسامة،و عبد اللّه بن نمیر و غیرهم (3).

و هو من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام و قد ذکرناه سابقا.و کان من أقرأ الناس للقرآن،و أعرفهم بالفرائض،و أحفظهم للحدیث،و وثقه ابن معین و العجلی و النسائی.

قال العجلی:کان الأعمش ثقة ثبتا فی الحدیث،و کان محدث أهل الکوفة فی زمانه یقال إنه ظهر له أربعة آلاف حدیث،و لم یکن له کتّاب و کان رأسا فی القرآن عسرا سیئ الخلق عسرا عالما بالفرائض،و کان لا یلحن حرفا و کان فیه تشیع (4).

ص:564


1- (1) الإصابة 1:346 و [1]الاستیعاب [2]بهامش الإصابة 1:218. [3]
2- (2) الاستیعاب 1:217-219. [4]
3- (3) انظر تاریخ بغداد 9:3. [5]
4- (4) تهذیب التهذیب 4:223 و [6]تاریخ بغداد 9:5. [7]

وعده الشهرستانی من رجال الشیعة (1)و کذلک ابن قتیبة ذکره فی معارفه من الشیعة (2).

و قد تقدم فی ترجمة زبید الیامی أن الجوزجانی قال:کان من أهل الکوفة قوم لا تحمد مذاهبهم،هم رءوس محدثی الکوفة مثل زبید،و أبی إسحاق،و منصور، و الأعمش،و غیرهم...الخ (3)و زبید کان من الشیعة و الجوزجانی یقصد بسوء المذهب هو التشیع لا غیر کما ذکر الذهبی.

و أراد هشام بن عبد الملک امتحانه فی تشیعه فکتب إلیه:اکتب لی فضائل عثمان،و مساوئ علی.

فأخذ الکتّاب و لقمه شاة عنده فقال للرسول:هذا جوابک.فألح علیه الرسول فکتب:بسم اللّه الرحمن الرحیم.

أما بعد فلو کان لعثمان مناقب أهل الأرض ما نفعتک،و لو کانت لعلی مساوئ أهل الأرض ما ضرتک.فعلیک بخویصة نفسک (4).

و کان الأعمش قویا لا یعبأ بالسلاطین،قال عیسی بن یونس:ما رأیت الأغنیاء و السلاطین أحقر منهم عند الأعمش.

و قال أبو هشام سمعت عمی یقول:قال عیسی بن موسی لابن أبی لیلی اجمع الفقهاء،فجمعهم فجاء الأعمش فی جبة فرو،و قد ربط وسطه بشریط،فأبطئوا فقام الأعمش فقال:إن أردتم أن تعطونا شیئا و إلا فخلوا سبیلنا.

فقال عیسی:یا بن أبی لیلی قلت لک تأتی بالفقهاء تجیء بهذا؟!قال هذا سیدنا هذا الأعمش (5).

و کان الأعمش یقال له علامة الإسلام.و کان یسمی المصحف لصدقه (6)

ص:565


1- (1) الملل و النحل 1:375.
2- (2) المعارف 268.
3- (3) میزان الاعتدال 1:345.
4- (4) شذرات الذهب 1:221. [1]
5- (5) تاریخ بغداد 9:8. [2]
6- (6) تهذیب التهذیب 4:223. [3]

سوار:

أبو إدریس سوار المرهبی الکوفی و قیل اسمه مساور.

خرج حدیثه الترمذی،و ابن ماجة،و روی عنه سلمة بن کهیل و الأجلح، و حکیم بن جبیر،و غیرهم.

قال ابن أبی حاتم:سئل أبی عن أبی إدریس المرهبی فقال:هو من عتق الشیعة (1).

و قال ابن حجر:أبو إدریس المرهبی-بضم أوله و کسر الهاء بعدها موحدة- الکوفی اسمه سوار أو مساور صدوق یتشیع (2).

و قال الذهبی:سوار أبو إدریس المرهبی الکوفی شیعی جلد یکتب حدیثه (3).

سلیمان بن طرخان:

أبو المعتمر سلیمان بن طرخان التیمی البصری المتوفی سنة 143.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و أبو داود،و النسائی و ابن ماجة.

و روی عنه:ابنه معتمر،و شعبة،و السفیانان،و زائدة،و زهیر و حماد بن سلمة،و ابن علیة،و ابن المبارک،و عبد الوارث بن سعید،و إبراهیم بن سعد...

و غیرهم (4).

قال الربیع بن یحیی عن سعید:ما رأیت أحدا أصدق من سلیمان التیمی.

و وثقه أحمد،و العجلی،و ابن معین،و النسائی.

و قال ابن سعد:کان ثقة کثیر الحدیث و کان من العباد المجتهدین و کان یصلی اللیل کله بوضوء العشاء،و کان مائلا إلی علی بن أبی طالب (5).و نص ابن قتیبة علی تشیعه.و ذکره سیدنا شرف الدین من رواة الشیعة (6).

ص:566


1- (1) الجرح و التعدیل 2:170 ق 1.
2- (2) التقریب 2:389.
3- (3) میزان الاعتدال 1:433.
4- (4) تهذیب التهذیب 4:201. [1]
5- (5) المصدر السابق. [2]
6- (6) المراجعات-63. [3]

شریک بن عبد اللّه:

أبو عبد اللّه شریک بن عبد اللّه بن أبی شریک النخعی الکوفی المتوفی سنة 177.

خرج حدیثه مسلم،و الترمذی،و أبو داود،و النسائی،و ابن ماجة،و البخاری تعلیقا.

و روی عنه ابن أبی مهدی،و وکیع،و یحیی بن آدم،و یونس بن محمد المؤدب و الفضل بن موسی السینانی،و عبد السلام بن حرب،و هشیم و أبو النظر هاشم بن القاسم،و أبو أحمد الزبیری،و إسحاق الأزرق،و ابنا أبی شیبة،و قتیبة بن سعید، و خلق کثیر (1).

و ذکر له الخطیب عددا آخر ممن روی عنه.و کذلک ابن أبی حاتم فی الجرح و التعدیل.

و قد وثقه غیر واحد.قال یحیی بن معین:شریک ثقة.و قال العجلی:شریک کوفی ثقة،و کان حسن الحدیث،و کان أروی الناس عنه إسحاق الأزرق،و قال الطبری:کان فقیها عالما.و قال أبو داود ثقة.و قال ابن سعد:کان شریک ثقة مأمونا و کان یغلط (2).و قال ابن العماد:سمع منه إسحاق الأزرق تسعة آلاف حدیث (3).

و قال ابن المبارک:شریک أعلم بحدیث أهل الکوفة من سفیان و مثله عن إسحاق بن إسرائیل.

و قال محمد بن عیسی:رأیت شریکا و قد أثر السجود فی جبهته.و قال الساجی کان ینسب إلی التشیع المفرط (4).

و عده ابن قتیبة من رجال الشیعة و ذکر الذهبی قول عبد اللّه بن إدریس بأنه أقسم باللّه أن شریکا لشیعی (5)و وصفه الجوزجانی بأنه مائل.و هذا هو تعبیره عن الشیعة.

ص:567


1- (1) تهذیب التهذیب 4:334 و [1]تاریخ بغداد 9:279. [2]
2- (2) المصدر السابق. [3]
3- (3) الشذرات 1:287. [4]
4- (4) تهذیب التهذیب 4:337. [5]
5- (5) میزان الاعتدال 1:446.

و لا جدال بأن شریکا کان یروی فضائل علی علیه السّلام و یراه أفضل الخلق بعد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.

روی أبو داود الرهاوی أنه سمع شریکا یقول:علی خیر البشر فمن أبی فقد کفر.

و جاء إلیه عتاب و رجل آخر فقال له:الناس یقولون:إنک شاک...؟ فقال شریک:یا أحمق کیف أکون شاکا؟!لوددت أنی کنت مع علی علیه السّلام فخضبت یدی بسیفی من دمائهم (1)!! و ذکر قوم معاویة بن سفیان عند شریک فقیل کان معاویة حلیما.فقال:لیس بحلیم من سفه الحق (2).

و روی الخطیب قال:استأذن شریک علی یحیی بن خالد،و عنده رجل من ولد الزبیر بن العوام،فقال الزبیری لیحیی:أصلح اللّه الأمیر ائذن لی فی کلام شریک.

فقال:إنک لا تطیقه.قال:ائذن لی.قال:شأنک.

فلما دخل شریک و جلس،قال له الزبیری:یا أبا عبد اللّه إن الناس یزعمون أنک تسب أبا بکر و عمر.

قال:فاطرق(شریک)ملیا،ثم رفع رأسه فقال:و اللّه ما استحللت ذاک من أبیک،و کان أول من نکث فی الإسلام (3).

تولی شریک القضاء بواسط سنة 155 و عزله المهدی العباسی کما ذکر الخطیب قال:

دخل شریک علی المهدی فقال له:ما ینبغی أن تقلد الحکم علی المسلمین.

قال شریک:و لم؟ قال:لخلافک علی الجماعة،و قولک بالإمامة.

قال شریک:أما قولک بخلافک علی الجماعة فعن الجماعة أخذت دینی فکیف

ص:568


1- (1) نفس المصدر.
2- (2) نفس المصدر.
3- (3) تاریخ 9:387.

أخالفهم!و هم أصلی و دینی؟!و أما قولک:و قولک بالإمامة فما أعرف إلا کتّاب اللّه تعالی و سنة رسوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم.و أما قولک مثلک ما یقلد الحکم بین المسلمین فهذا شیء أنتم فعلتموه فإن کان خطأ فاستغفروا اللّه منه،و إن کان صوابا فامسکوا علیه.

قال المهدی:ما تقول فی علی بن أبی طالب؟ قال شریک:(أقول)ما قال فیه جدک العباس و عبد اللّه.

قال المهدی:ما قالا فیه؟ قال:فأما العباس فمات و علی عنده أفضل الصحابة،و قد کان یری کبراء المهاجرین یسألونه عما ینزل من النوازل،و ما احتاج هو إلی أحد حتی لحق باللّه.

و أما عبد اللّه فإنه کان یضرب بین یدیه بسیفین و کان فی حروبه رأسا متبعا، و قائدا مطاعا،فلو کانت إمامته علی جور کان أول من یقعد عنها أبوک،لعلمه بدین اللّه،و فقهه فی أحکام اللّه.فسکت المهدی و لم یمض بعد هذا المجلس إلا قلیل حتی عزل شریک (1).

و علی أی حال:فإن شریکا من العلماء،و وثقه جماعة و حمل علیه آخرون لتشیعه،و کان من أوعیة العلم،حمل عنه إسحاق الأزرق تسعة آلاف حدیث (2).

شعبة بن الحجاج:

أبو بسطام شعبة بن الحجاج بن الورد العتکی الواسطی ثم البصری المتوفی سنة 160.

خرج حدیثة البخاری،و مسلم،و الترمذی،و النسائی،و أبو داود،و ابن ماجة.

و روی عنه خلق کثیر منهم أیوب السختیانی،و الأعمش،و محمد بن إسحاق، و إبراهیم بن سعد،و سفیان الثوری،و سفیان بن عیینة و عبد اللّه بن المبارک،و ابن علیة،و وکیع،و خالد بن الحارث و یزید بن هارون و غیرهم.

ص:569


1- (1) تاریخ بغداد 29،39. [1]
2- (2) میزان الاعتدال 2:446.

ذکر منهم الخطیب أکثر من عشرین (1)و ذکر ابن حجر جماعة آخرین لا یمکن ذکرهم لکثرتهم (2).

قال أحمد بن حنبل:کان شعبة أمة وحده،و قال الشافعی:لو لا شعبة لما عرف الحدیث بالعراق،و قال سفیان الثوری:شعبة أمیر المؤمنین فی الحدیث.و قال حماد بن سلمة:إذا أردت الحدیث فالزم شعبة.و قال حماد بن زید:ما أبالی بمن خالفنی إذا وافقنی شعبة فإذا خالفنی شعبة فی شیء ترکته (3)إلی غیر ذلک من أقوال العلماء فیه.

و کان شعبة من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام و ذکره ابن قتیبة فی معارفه من رجال الشیعة (4)و کذلک الشهرستانی (5)و یقول یزید بن زریع قدم علینا شعبة و رأیه رأی سوء خبیث یعنی الرفض (6)و معنی ذلک أنه کان یفضل علیا علی جمیع الصحابة و هذا عندهم رفض جریا علی ما سنته السیاسة و ابتدعه علماء السوء.

عائذ بن حبیب:

أبو أحمد عائذ بن حبیب بن الملاح العبسی المتوفی سنة 190.

خرج حدیثه النسائی،و ابن ماجة،و روی عنه أحمد بن حنبل،و إسحاق، و محمد بن الصباح الجرجرائی،و أبو کریب،و محمد بن طریف،و محمد بن یحیی بن کثیر الحرانی،و أبو خیثمة،و أبو سعید الأشج و غیرهم (7).

قال الخزرجی:وثقه ابن حبان و قال الجوزجانی:غال زائغ (8).

و قال الأثرم:سمعت أحمد بن حنبل ذکره فأحسن الثناء علیه،و قال کان شیخا

ص:570


1- (1) تاریخ بغداد 9:255. [1]
2- (2) تهذیب التهذیب 4:340-343. [2]
3- (3) نفس المصدر. [3]
4- (4) المعارف 268.
5- (5) الملل و النحل 324.
6- (6) تاریخ بغداد 9:260. [4]
7- (7) انظر تهذیب التهذیب 5:88. [5]
8- (8) الخلاصة 157.

جلیلا عاقلا.و قال عبد اللّه بن أحمد عن أبیه:لیس به بأس.و ذکره ابن حبان فی الثقات،و قال أبو زرعة:عائذ بن حبیب صدوق فی الحدیث (1).

عباد بن العوام:

أبو سهل عباد بن العوام بن عمر بن عبد اللّه بن المنذر الکلابی المتوفی سنة 185.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الباقون،و احتجوا به و روی الحدیث عنه أحمد بن حنبل،و ابنا أبی شیبة،و سعید بن سلیمان الواسطی و أبو الربیع الزهرانی، و علی بن مسلم،و عمران بن میسرة،و محمد بن عیسی الطباع،و محمود بن خداش،و محمد بن الصباح الدولابی،و أحمد ابن منیع،و غیرهم.

و حدث عنه ابن علیة،و هو من أقرانه،و وثقه ابن معین و العجلی و أبو داود، و النسائی،و أبو حاتم،و قال ابن خراش عباد صدوق.

و قال ابن سعد:کان عباد یتشیع فأخذه هارون فحبسه و کان ثقة و ذکره ابن حبان فی الثقات (2).

عباد بن یعقوب:

أبو سعید الکوفی عباد بن یعقوب الرواجینی المتوفی سنة 250.

خرج حدیثه البخاری و الترمذی و ابن ماجة.و روی عنه أبو حاتم و أبو بکر بن البزاز و علی بن سعید بن بشر الرازی،و محمد بن علی بن حکیم الترمذی و صالح بن محمد جزرة،و ابن خزیمة،و القاسم بن زکریا (3).

و قال ابن حجر:عباد بن یعقوب الرواجینی الکوفی أبو سعید رافضی مشهور إلا أنه کان صدوقا،وثقه أبو حاتم (4).

ص:571


1- (1) تهذیب التهذیب 5:88. [1]
2- (2) انظر تهذیب التهذیب 5:99-100 و [2]تاریخ بغداد 11:106 و [3]تذکرة الحفاظ 1:241.
3- (3) تهذیب التهذیب 5:109. [4]
4- (4) هدی الساری 140.

و قال ابن العماد:عباد بن یعقوب الأسدی الرواجینی الکوفی الحافظ الحجة.

قال ابن حبان:کان داعیة للرفض (1).

و قال الذهبی فی المیزان:عباد بن یعقوب من غلاة الشیعة و رءوس البدع، و لکنه صادق فی الحدیث.

و قال ابن عدی:و عباد فیه غلو فی التشیع،و روی أحادیث أنکرت علیه فی الفضائل و المثالب،و قال صالح بن محمد:کان یشتم عثمان قال:و سمعته یقول:اللّه أعدل أن یدخل طلحة و الزبیر الجنة لأنهما بایعا علیا ثم قاتلاه (2).

و کان ابن خزیمة إذا حدث عنه یقول:حدثنا الثقة فی روایته المتهم فی رأیه (3).

و أیا کان فإن عبادا کان من الثقات و أهل الصدق،إلا أنه شیعی أو رافضی و التشیع محبة علی و تقدیمه علی الصحابة،فإن قدمه علی أبی بکر و عمر فهو غال فی الشیع أو رافضی.کما یقول ابن حجر (4).

و بدون شک أن عبادا کان یقدم علیا علی جمیع الصحابة،فلهذا و سم بالرفض، و نسبه ابن حبان إلی أنه یروی المناکیر عن المشاهیر،و لیس له حجة فی هذه الدعوی إلا ما رواه عباد عن شریک،عن عاصم عن ذر عن عبد اللّه عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:

إذا رأیتم معاویة علی منبری فاقتلوه (5).

و کل هؤلاء الرواة من أهل الصدق و الوثاقة،و لم ینفرد عباد بهذه الروایة،فقد رواها غیره،و بسبب هذه الروایة قالوا إنه یستحق الترک،و إن کان ثقة صدوقا.

و قد وضعوا علیه حکایات لا تتناسب و مقامه و منزلته بین المحدثین لأجل أن یضعوا من مقامه عند ما أعلن بصراحة البراءة من أعداء آل محمد و أن من لم یتبرأ یحشر مع أعداء آل محمد.

ص:572


1- (1) شذرات الذهب 2:121. [1]
2- (2) تهذیب التهذیب 5:109. [2]
3- (3) هدی الساری 411.
4- (4) هدی الساری 460.
5- (5) تهذیب التهذیب 5:110. [3]

عبد اللّه بن عمر:

أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح بن عمیر الأموی مولاهم المتوفی سنة 239 الکوفی و یقال له الجعفی نسبة إلی خاله حسین الجعفی.و یعرف-بمشکدانه-و هو وعاء المسک.

خرج حدیثه مسلم،و أبو داود،و النسائی فی خصائص علی.و روی عنه أحمد بن علی المروزی،و زکریا بن یحیی خیاط السنة (1)و أحمد بن بشیر الطیالسی، و ابن أبی الدنیا،و محمد بن أبی إسحاق السراج،و البغوی و أبو حاتم،و أبو زرعة سماعا (2).

قال ابن حجر:عبد اللّه بن عمر بن محمد صدوق فیه تشیع من الطبقة العاشرة (3)و قال فی التهذیب:و ذکره ابن حبان فی الثقات.و قال صاحب حماه:کان غالیا فی التشیع،فکان یمتحن کل من یجیئه من أهل الحدیث،و حکی العقیلی عن بعض مشایخه أنه کانت فیه سلامة یروی عنه مسلم اثنی عشرا حدیثا.

عبد اللّه بن زریر:

عبد اللّه بن زریر الغافقی المصری المتوفی سنة 83.

خرج حدیثه أبو داود،و النسائی و ابن ماجة.و روی عنه أبو الخیر البزنی،و أبو أفلح الهمدانی،و أبو علی الهمدانی،و بکر بن سوادة الجذامی و عبد اللّه بن الحارث،و عبد اللّه بن هبیرة،و غیرهم.

قال العجلی:مصری تابعی ثقة.و قال ابن یونس:کان من شیعة علی علیه السّلام و الوافدین إلیه من مصر،و قال ابن سعد:شهد مع علی صفین.و قال البرقی نسب إلی التشیع و لم یضعف.و ذکره ابن حبان فی الثقات.

قال عبد اللّه:قال لی عبد الملک بن مروان:ما حملک علی حب أبی تراب الا أنک أعرابی جاف؟قال:فقلت له و اللّه لقد قرأت القرآن قبل أن یجتمع أبواک.فی قصة ذکرها ابن سعد.

ص:573


1- (1) زکریا بن یحیی المتوفی سنة 289 المعروف بخیاط السنة لأنه کان یخیط أکفان الموتی من السنة.
2- (2) تهذیب التهذیب 5:333. [1]
3- (3) التقریب 1:425.

و عن یزید بن أبی حبیب قال:بعث عبد العزیز بن مروان إلی عبد اللّه بن زریر فسأله عن عثمان؟فاعرض عنه،فقال له عبد العزیز:و اللّه إنی لأراک جافیا لا تقرأ القرآن.

فقال:بلی و اللّه إنی لأقرأ القرآن،و أقرأ منه ما لا تقرأ.

قال:و ما هو؟قال:القنوت،أخبرنی علی بن أبی طالب أنه من القرآن (1).

عبد اللّه بن شداد:

أبو الولید عبد اللّه بن شداد بن الهاد اللیثی المدنی المتوفی سنة 81 قتل بدجیل.

خرج حدیثه أصحاب الصحاح و روی عنه:سعد بن إبراهیم و معبد بن خالد و الحکم بن عتیبة،و ذر بن عبد اللّه المرهبی،و ربعی بن خراش،و طاوس، و محمد بن کعب القرضی،و أبو جعفر الفراء،و محمد بن عبد اللّه بن أبی یعقوب الضبی و الشعبی و عبد اللّه بن شبرمة،و أبو عون الثقفی و غیرهم (2).

قال الواقدی:خرج مع القراء أیام ابن الأشعث علی الحجاج فقتل یوم دجیل، و کان ثقة فقیها کثیر الحدیث متشیعا،و قال یعقوب ابن أبی شیبة فی مسند عمر:کان عبد اللّه بن شداد یتشیع.

و قال ابن سعد:کان ثقة فقیها کثیر الحدیث متشیعا (3)و قد وقع من الغلط أنه عثمانی کما جاء فی خلاصة الخزرجی ص 170 نقلا عن ابن سعد أنه قال:و کان عبد اللّه عثمانیا.فإن عبارة ابن سعد:و کان شیعیا کما نقلناها و کذلک وقع الخطأ فی تهذیب الکمال و لهذا قال ابن حجر:و ما فی الأصل عن ابن سعد کان عثمانیا فیه نظر.و نقل ابن حجر أقوال القائلین فی تشیعه.

و قد ذکره الشیخ الطوسی فی أصحاب الإمام علی علیه السّلام (4).

ص:574


1- (1) تهذیب التهذیب 5:216-217 و [1]الخلاصة 167.
2- (2) تاریخ بغداد 9:473 و [2]تهذیب التهذیب 5:252. [3]
3- (3) طبقات ابن سعد 6:126 [4] ط 2.
4- (4) رجال الشیخ الطوسی 47.

و قال الخطیب و کان عبد اللّه ممن نزل الکوفة و ورد المدائن فی صحبة الإمام علی لما خرج إلی الخوارج.

و علی کل فإن ما ذکره صفی الدین الخزرجی بأنه کان عثمانیا خطأ و لهذا تعرضنا لذکره هنا لأنا لم نلتزم بذکر التابعین من الشیعة و لا الصحابة لأن ذلک شیء یدعو إلی التوسع فی الموضوع لکثرتهم.

عبد اللّه بن شریک:

عبد اللّه بن شریک العامری الکوفی.

خرج حدیثه النسائی،و روی عنه:إسرائیل،و فطر بن خلیفة،و شریک، و أجلح بن عبد اللّه الکندی،و جابر النخعی،و أبو الأحوص،و السفیانان.

و ثقة أحمد بن حنبل و ابن معین و أبو زرعة،و قال البرقانی عن الدار قطنی:لا بأس به.و ذکره ابن حبان فی الثقات،و قال العقیلی:أسدی کوفی کان یغلو،و قال أیضا:کان غالیا فی التشیع.و قال یعقوب بن سفیان:عبد اللّه بن شریک ثقة من کبراء أهل الکوفة یمیل إلی التشیع.

أما الجوزجانی فیقول:مختاری کذاب.و معنی قوله مختاری أنه کان مع الجیش الذی سار لمحمد بن الحنفیة لخلاصه من ابن الزبیر،و بهذا استحق أن یوصف بالکذب،و یتوقف عنه بعض المحدثین.

عبد اللّه بن الجهم:

أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن الجهم الرازی.

خرج حدیثه الترمذی فی صحیحه،و روی عنه أحمد بن أبی شریح، و یوسف بن موسی القطان،و نوح بن أنس،و أبو هارون الخزاز،و علی بن شهاب و محمد بن بکیر الحضرمی و جماعة.

قال أبو زرعة:رأیته و لم أکتب عنه،و کان صدوقا.و قال أبو حاتم:رأیته و لم أکتب عنه،و کان یتشیع.

قال ابن حجر:عبد اللّه بن الجهم الرازی صدوق فیه تشیع (1).

ص:575


1- (1) انظر الجرح و التعدیل 2:27 ق-2 و تهذیب التهذیب 5:177 و [1]التقریب 1:407.

عبد اللّه بن عبد القدوس:

أبو محمد عبد اللّه بن عبد القدوس التمیمی السعدی.

خرج حدیثه الترمذی،و البخاری تعلیقا،و روی عنه عباد بن یعقوب، و محمد بن حمید الرازی،و محمد بن عیسی بن الطباع،و عبادة بن زیاد الأسدی و الولید بن صالح النخاس،و سعید بن سلیمان و أبو موسی الهروی و غیرهم.

قال البخاری فی تأریخه:عبد اللّه بن عبد القدوس صدوق. وثقه ابن حبان.

و قال ابن معین خبیث رافضی لیس بشیء (1).

و قال ابن حجر:صدوق رمی بالرفض (2)و قال أبو داود:ضعیف الحدیث یرمی بالرفض.و قال ابن عدی:عامة ما یرویه فی فضائل أهل البیت.

عبد اللّه بن أبی عیسی:

أبو محمد عبد اللّه بن أبی عیسی بن عبد الرحمن بن أبی لیلی الکوفی المتوفی سنة 136.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و النسائی،و أبو داود،و ابن ماجة.

و روی عنه إسماعیل بن أبی خالد،و السفیانان و شعبة،و شریک و عمار بن زریق الضبی،و الحسن بن صالح،و زهیر بن معاویة،و أبو فروة مسلم بن سالم الجهنی،و أبو جناب الکلبی و غیرهم و کان من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

قال ابن حجر:عبد اللّه بن أبی عیسی ثقة فیه تشیع (3).و قال النسائی:ثقة ثبت.و قال ابن خراش و الحکم:هو أوثق آل بیته.و قال العجلی و ابن معین:ثقة.

و زاد ابن معین و کان یتشیع (4)و قال ابن أبی حاتم سألت أبی عنه فقال:صالح.

عبد اللّه بن لهیعة:

أبو عبد الرحمن عبد اللّه بن لهیعة الحضرمی قاضی مصر و عالمها المتوفی سنة 170،174.

ص:576


1- (1) تهذیب التهذیب 5:303 و [1]الجرح و التعدیل 2:104 ق 2 و الخلاصة 174.
2- (2) التقریب 1:430.
3- (3) التقریب 1:439.
4- (4) هدی الساری 414.

خرج حدیثه مسلم،و أبو داود،و الترمذی،و ابن ماجة.و روی عنه الثوری، و شعبة و الأوزاعی،و اللیث بن سعد و هو من أقرانه و آخرون ذکر منهم ابن حجر أکثر من خمسة و عشرین من الحفاظ. وثقه أحمد بن صالح.و کان ابن وهب یقول:

حدثنی الصادق البار عبد اللّه بن لهیعة.و قال سفیان:عند ابن لهیعة الأصول و عندنا الفروع (1).

قال ابن عدی:إنه مفرط فی التشیع.و ذکره ابن قتیبة فی رجال الشیعة و قال الجوزجانی:لا ینبغی أن یحتج به،و لا یغتر بروایته.و لعل الجوزجانی یشیر إلی ما رواه ابن لهیعة بسند عن ابن عمر:أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال فی مرضه:ادعوا لی أخی.

فدعی له أبو بکر فأعرض عنه،ثم قال:ادعوا لی أخی.فدعی عثمان فأعرض عنه، ثم دعی له علی علیه السّلام فستره بثوبه و أکب علیه،فلما خرج علیه السّلام قیل له:ما قال لک؟قال علی علیه السّلام:علمنی ألف باب یفتح لی من کل باب ألف باب (2).

و قد روی له مالک فی الموطأ و لم یذکر اسمه بل قال عن الثقة قال ابن عبد البر هو ابن لهیعة و کذلک البخاری روی له و لم یصرح باسم (3).

عبید اللّه:

أبو محمد عبید اللّه بن موسی بن أبی المختار العبسی المتوفی سنة 213.

خرج حدیثه البخاری و مسلم فی الصحیح و الأربعة و روی عنه البخاری و هو من کبار شیوخه و إسحاق الحنظلی،و ابن أبی شیبة و غیرهم ذکر منهم فی تهذیب التهذیب أکثر من أربعین من الحفاظ.

قال الذهبی:عبید اللّه بن موسی الحافظ الثبت المقری العابد من کبار علماء الشیعة (4)و قال الیافعی عبید اللّه بن موسی کان إماما فی الفقه و القرآن،موصوفا بالعبادة و الصلاح لکنه من رءوس الشیعة (5)و قال أبو داود:عبید اللّه کان شیعیا

ص:577


1- (1) تهذیب التهذیب 5:376 و [1]شذرات الذهب 1:284. [2]
2- (2) میزان الاعتدال 2:67.
3- (3) تهذیب التهذیب 5:376. [3]
4- (4) تذکرة الحفاظ 1:322.
5- (5) مرآة [4]الحنان.

محترفا.و قال أحمد بن یوسف کتبت عن عبید اللّه ثلاثین ألف حدیث (1)و قال ابن حجر:عبید اللّه بن موسی من کبار شیوخ البخاری وثقه ابن معین،و أبو حاتم، و العجلی و ابن أبی شیبة و آخرون (2).

عبد الجبار:

عبد الجبار بن العباس الشبامی الکوفی.

خرج حدیثه الترمذی فی صحیحه،و البخاری فی الأدب المفرد و روی عنه:

الحسن بن صالح،و أبو أحمد الزبیری،و عبید اللّه بن موسی،و أبو نعیم،و ابن المبارک و سلمة بن قتیبة و غیرهم.

و قال عبد اللّه بن أحمد:سألت أبی عن عبد الجبار بن العباس فقال هو رجل من أهل الکوفة لا یکون به بأس حدثنا عنه وکیع و أبو نعیم لکنه کان یتشیع و قال ابن معین:عبد الجبار لیس به بأس و وثقه أبو حاتم (3).

و قال الجوزجانی:کان غالیا فی سوء مذهبه یعنی التشیع (4)و قال ابن حجر صدوق یتشیع من الطبقة السابعة.

عبد الرحمن:

أبو محمد عبد الرحمن بن أبی الموالی المدنی المتوفی سنة 173.

خرج حدیثه البخاری و الأربعة،و روی عنه:سفیان الثوری،و أبو عامر العقدی، و القعنبی،و یحیی بن صالح الوضاحی،و ابن المبارک،و النسائی،و أبو زرعة.

و کان من تلامذة الإمام الباقر و الإمام الصادق علیه السّلام و ممن ناصر محمد بن عبد اللّه ذا النفس الزکیة،و ضربه المنصور أربعمائة سوط علی أن یدله علی عبد اللّه بن الحسن فلم یفعل،و تحمل العذاب و السجن (5)

ص:578


1- (1) تذکرة الحفاظ 1:322.
2- (2) هدی الساری 423.
3- (3) الجرح و التعدیل 3:31 ق 1.
4- (4) میزان الاعتدال 2:91.
5- (5) شذرات الذهب 1:283. [1]

وثقه أحمد و ابن معین،و النسائی و أبو زرعة،و قال ابن خراش:صدوق و قال ابن عدی مستقیم الحدیث،و قال فی المغنی:عبد الرحمن بن أبی الموالی مشهور ثقة خرج مع ابن الحسن(أی ذی النفس الزکیة).

و قال الذهبی:عبد الرحمن بن أبی الموالی ثقة مشهور لکنه خرج مع محمد بن عبد اللّه بن الحسن (1).

و هذا الاستدراک من الذهبی فیه ما یدل علی أن خروج عبد الرحمن کان مخالفا فی نظره لوثاقته کأنه لیس من الدین الإسلامی الخروج علی الظالمین و الانتصار لدعوة الإصلاح،و قد کان عبد الرحمن یحدث بسند عن عائشة أن رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:ستة لعنهم اللّه و کل شیء مجاب الدعوة:الزائد فی کتّاب اللّه،و المکذب بقدر اللّه، و المتسلط بالجبروت لیذل ما أعز اللّه،و المستحل لحرم اللّه و من عترتی ما حرم اللّه، و التارک لسنتی (2).

و قال الخطیب:و کان عبد الرحمن قد حمل من المدینة إلی بغداد هو و محمد بن عبد اللّه الدیباج و بعض الطالبیین فحبسوا ببغداد،و قیل بل حبسوا بالهاشمیة.

و قال أحمد بن حنبل:و کان ابن أبی الموالی عندنا محبوسا فی المطبق ثم خلی عنه و رجع إلی المدینة (3).

عبد الرحمن بن صالح:

أبو محمد عبد الرحمن بن صالح الأزدی العتکی الکوفی نزیل بغداد المتوفی سنة 235.

خرج حدیثه النسائی.و روی عنه:أبو حاتم و أبو زرعة،و عباس الدوری،و أبو قلابة الرقاشی،و عبد اللّه بن أحمد الدورقی،و أبو بکر ابن أبی الدنیا و أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفی،و عمر بن أیوب السقطی،و عبد اللّه بن محمد البغوی و غیرهم (4)

ص:579


1- (1) میزان الاعتدال 2:116.
2- (2) نفس المصدر.
3- (3) تاریخ بغداد 10:226-227. [1]
4- (4) تاریخ بغداد 10:261. [2]

قال ابن حجر:عبد الرحمن بن صالح صدوق یتشیع من الطبقة العاشرة (1).

و قال یحیی بن معین:یقدم علیکم رجل من أهل الکوفة یقال له عبد الرحمن بن صالح ثقة صدوق شیعی،لأن یخر من السماء أحب إلیه من أن یکذب فی نصف حرف (2)و قال ابن أبی حاتم:روی عنه أبی و أبو زرعة،و سئل أبی عنه فقال:صدوق.

و قال یعقوب بن یوسف المطوعی:کان عبد الرحمن بن صالح رافضیا و کان یغشی أحمد بن حنبل فیقربه و یدنیه.فقیل له:یا أبا عبد اللّه إن عبد الرحمن رافضی؟!فقال أحمد:سبحان اللّه رجل أحب قوما من أهل بیت النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم نقول له لا تحبهم!!هو ثقة (3).

و قال محمد بن موسی:رأیت یحیی بن معین غیر مرة جالسا فی دهلیز یکتب عنه.و قال ابن عدی:عبد الرحمن معروف مشهور فی الکوفیین،لم یذکر بالضعف فی الحدیث و لا اتهم فیه،إلا أنه محترق فیما کان فیه من التشیع (4).

عبد الرزاق:

أبو بکر عبد الرزاق بن همام بن نافع الحمیری الصنعانی المتوفی سنة 211.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم و الجماعة،و روی عنه ابن عیینة،و معتمر و هما من شیوخه و أحمد و إسحاق،و أحمد بن صالح،و آخرون ذکر منهم ابن حجر فی تهذیب التهذیب ج 6 ص 311 أکثر من ثلاثین رجلا و هو من کبار شیوخ أحمد بن حنبل،و إسحاق بن راهویه،و ابن المدینی،و ابن معین.

قال ابن عدی:رحل إلیه أئمة المسلمین و ثقاتهم و لم نر بحدیثه بأسا إلا أنهم نسبوه للتشیع،و هو أعظم ما ذموه به.

و قال ابن حجر:عبد الرزاق أحد الحفاظ الاثبات صاحب التصانیف وثقه الأئمة کلهم (5).

ص:580


1- (1) تقریب التهذیب 1:481.
2- (2) تاریخ بغداد 10:262. [1]
3- (3) تاریخ بغداد 10:262. [2]
4- (4) تهذیب التهذیب 6:198. [3]
5- (5) هدی الساری 418.

و قال الذهبی: وثقه غیر واحد و حدیثه مخرج فی الصحاح،و له ما ینفرد به و نقموا علیه التشیع و ما کان یغلو بل کان یحب علیا رضی اللّه عنه و یبغض من قاتله (1).و قال العجلی:عبد الرزاق ثقة یتشیع.و قال إبراهیم بن عباد:و کان عبد الرزاق یحفظ نحوا من سبعة عشر ألف حدیث (2).

و قال ابن ناصر: وثقه غیر واحد لکن نقموا علیه التشیع و ذکره ابن حبان فی الثقات.

و علی أی حال:فإن عبد الرزاق کان من أئمة الحدیث و أوعیة العلم،رحل إلیه العلماء و وثقوه.منهم یحیی بن معین و أحمد بن حنبل (3).و کان شیعیا یحب علیا و یبغض من قاتله و بهذا استحق أن یطعن به العباس العنبری و لم یوافقه أحد علی ذلک (4).

عبد السلام:

أبو الصلت عبد السلام بن سلیمان الهروی نزیل نیسابور المتوفی سنة 236.

خرج حدیثه ابن ماجة،و روی عنه ابنه محمد،و محمد بن إسماعیل الأحمسی،و سهل بن زنجلة،و محمد بن رافع النیسابوری،و الدوری،و ابن أبی داود،و أحمد بن منصور الرمادی،و أحمد بن سیار المروزی و علی بن حرب الموصلی و عمار بن رجاء،و محمد بن عبد اللّه الحضرمی و آخرون (5).

قال یحیی بن معین:و قد سئل عن أبی الصلت؟فقال:صدوق إلا أنه یتشیع.

و قال الحاکم: وثقه إمام أهل الحدیث یحیی بن معین (6).

و قال الحاکم:أبو الصلت ثقة مأمون و سئل صالح بن حبیب الحافظ عن أبی

ص:581


1- (1) تذکرة الحفاظ 1:331.
2- (2) تهذیب التهذیب 6:314. [1]
3- (3) انظر قصة رحلتهما فی طبقات الحنابلة ج 1 ص 175. [2]
4- (4) حذفنا فی ترجمة عبد الرزاق الشیء الکثیر حبا للاختصار کما حذفنا من تراجم غیره المثبتة فی أصل الکتاب.کما ترکنا أسماء کثیر من الرواة.
5- (5) تهذیب التهذیب 6:329. [3]
6- (6) نفس المصدر.

الصلت الهروی؟فقال:دخل یحیی بن معین و نحن معه علی أبی الصلت فسلم علیه فلما خرج تبعته فقلت له:ما تقول رحمک اللّه فی أبی الصلت؟ فقال:هو صدوق.فقلت إنه روی حدیث أنا مدینة العلم و علی بابها.فقال ابن معین:قد روی هذا الحدیث ذاک الفیدی عن أبی معاویة عن الأعمش کما رواه أبو الصلت.

و روی الخطیب عن العباس بن محمد الدوری قال:سمعت یحیی بن معین یوثق أبا الصلت عبد السلام بن صالح فقلت له:إنه یحدث عن أبی معاویة بحدیث أنا مدینة العلم و علی بابها.

فقال ابن معین:ما تریدون من هذا المسکین أ لیس قد حدث به محمد بن جعفر الفیدی عن أبی معاویة هذا و نحوه.

أقول:

و هذا الحدیث الشریف قد رواه أبو الصلت الهروی عن أبی معاویة عن مجاهد عن ابن عباس عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:«أنا مدینة العلم و علی بابها فمن أراد المدینة فلیأت الباب».

أخرجه الحاکم فی المستدرک و قال هذا صحیح الإسناد و لم یخرجاه(أی البخاری و مسلم)لأنه علی شرطهما.

و أخرجه الطبرانی بسند عن أبی الصلت عن أبی معاویة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس.

و رواه عمر بن إسماعیل بن مجاهد عن أبی معاویة عن مجاهد عن ابن عباس أن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم قال:(أنا مدینة العلم و علی بابها)الحدیث (1).

و رواه الذهبی عن إسحاق بن یحیی بسند عن أبی الصلت عن أبی معاویة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم أنه قال:(أنا مدینة العلم و علی بابها فمن أراد بابها فلیأت علیا).قال الذهبی هذا الحدیث صحیح (2)

ص:582


1- (1) الجرح و التعدیل 3:ق 1-99.
2- (2) تذکرة الحفاظ 4:28.

و سئل یحیی بن معین عن هذا الحدیث(أنا مدینة العلم و علی بابها)الحدیث؟ فقال یحیی بن معین هو صحیح (1).

و قد اشتهر هذا الحدیث شهرة عظیمة و رواه جماعة من الحفاظ من طرق متعددة منها ما أخرجه الحاکم عن عبد الرحمن بن بهمان التمیمی سمعت جابر بن عبد اللّه یقول:سمعت رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم یوم الحدیبیة و هو آخذ بید علی یقول:هذا أمیر البررة و قاتل الفجرة منصور من نصره مخذول من خذله-یمد بها صوته-أنا مدینة العلم و علی بابها فمن أراد العلم فلیأت الباب.

کما أن هذا الحدیث ورد متابعة عن أبی معاویة من غیر طریق أبی الصلت من طرق متعددة و قد أرسله ابن عبد البر فی الاستیعاب إرسال المسلّمات.

و قال ابن حجر:فی شرح الهمزیة فی تعداد فضائل الإمام علی علیه السّلام:منها العلوم التی أشار إلیها النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم بقوله:(أنا مدینة العلم و علی بابها)و فی روایة:فمن أراد العلم فلیأت الباب.

و فی أخری عند الترمذی:(أنا دار الحکمة و علی بابها).و قال ابن حجر أیضا:

تنبیه-مما یدل علی أن اللّه سبحانه و تعالی اختص علیا من العلوم ما تقصر عنه العبارة قول النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(أقضاکم علی)و هو حدیث لا نزاع فیه و قوله صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(أنا مدینة العلم و علی بابها) (2).

و علی أی حال:فإن هذا الحدیث الشریف قد ورد من طرق متعددة و اشتهر شهرة عظیمة و قد ألف فیه جماعة رسائل خاصة منها:(فتح الملک العلی بصحة حدیث باب مدینة العلم علی)لأحمد بن محمد بن صدیق المغربی نزیل القاهرة (3).

و لا مجال هنا إلی التوسع فی ذکر طرق هذا الحدیث و بیان شهرته حتی أن بعض الحنفیة جعل الأخذ بمذهب أبی حنیفة أولی لأن أبا حنیفة کان یعتمد علی قول علی علیه السّلام و قد قال صلّی اللّه علیه و آله و سلّم:(أنا مدینة العلم و علی بابها) (4)

ص:583


1- (1) تهذیب التهذیب 6:320. [1]
2- (2) انظر شرح همزیة البوصیری لابن حجر 302-303.
3- (3) طبع الکتاب فی القاهرة ب 102 صفحة سنة 1354.
4- (4) أحسن التقاسیم المقدسی.

و لم یکن هذا الحدیث منحصرا فی طریق أبی الصلت فطرقه متعددة.

و قد کان أبو الصلت یناظر أهل الأهواء فی مجلس المأمون قال الخطیب:و کان عبد السلام یرد علی أهل الأهواء من المرجئة و الجهمیة و الزنیدقة و القدریة و کلم بشر المریسی غیر مرة بین یدی المأمون مع غیره من أهل الکلام کل ذلک کان الظفر له و کان یعرف بکلام الشیعة (1).

و لهذا حمل علیه أهل الأهواء المنحرفة کالجوزجانی و غیره فوصفوه بما لا یلیق به،و کان أبو الصلت من تلامذة الإمام الرضا علیه السّلام و من أهل الصدق.

عبد العزیز:

عبد العزیز بن سیاه الأسدی الحمانی الکوفی.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و النسائی،و ابن ماجة،و روی عنه ابنه یزید،و عبد اللّه بن نمیر،و أبو معاویة،و یعلی بن عبید و یونس بن بکیر، و عبید اللّه بن موسی،و وکیع،و غیرهم.

وثقه ابن معین،و أبو داود،و العجلی،و ابن نمیر،و یعقوب بن سفیان،و ذکره ابن حبان فی الثقات.و قال أبو زرعة:هو من کبار الشیعة و قال أبو حاتم:

صدوق (2).

و لعبد العزیز هذا ولد اسمه قطبة هو من العلماء و المحدثین و رجال الصحاح و کذلک ولده یزید أیضا کان من الحفاظ و رجال الصحاح.

عبد الملک:

عبد الملک بن أعین الکوفی الشیبانی.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الأربعة،و روی عنه ابن إسحاق و عبد الرحمن بن المهدی،و إسماعیل بن سمیع،و عبد الملک بن سلیمان،و سفیان الثوری و ابن عیینة و غیرهم و هو من تلامذة الإمام الباقر و ولده الإمام الصادق علیه السّلام و توفی فی عهده و دعا له و ترحم علیه.

ص:584


1- (1) تاریخ بغداد 11:47. [1]
2- (2) انظر الجرح و التعدیل 2:383-ق 2 و تهذیب التهذیب 7:340. [2]

قال ابن أبی حاتم سمعت أبی یقول:عبد الملک بن أعین من عتق الشیعة محله الصدق و قال ابن حجر فی التقریب:عبد الملک بن أعین صدوق شیعی (1)و قال فی هدی الساری:عبد الملک بن أعین الکوفی وثقه العجلی.و قال أبو حاتم:شیعی محله الصدق (2)و ذکره ابن حبان فی الثقات و قال و کان یتشیع.و قال الساجی:کان یتشیع و یحمل فی الحدیث.

عبد الملک بن مسلم:

أبو سلام عبد الملک بن مسلم بن سلام الحنفی الکوفی.

خرج حدیثه الترمذی و النسائی،و روی عنه الثوری و هو من أقرانه و عبد الرحمن بن المحاربی،و وکیع،و أبو قتیبة،و علی بن نصر الجهضمی و زید بن هارون و عبد اللّه بن موسی و أبو نعیم و غیرهم (3).

قال ابن أبی حاتم سمعت أبی یقول:لا بأس به.و کذلک قال أبو داود و قال ابن معین ثقة و قال ابن خراش:لیس به بأس کان من الشیعة و ذکره ابن حبان فی الثقات و قال روی عنه ابن المبارک (4).

عثمان:

أبو الیقظان عثمان بن عمیر الکوفی البجلی الثقفی المتوفی سنة 125 تقریبا.

خرج حدیثه:أبو داود و الترمذی،و ابن ماجة و روی عنه الأعمش،و سفیان و شعبة،و شریک و حجاج بن أرطاة،و لیث بن أبی سلیم،و مهدی بن میمون و غیرهم (5).

قال الخزرجی:عثمان بن عمیر کوفی یتشیع یؤمن بالرجعة.و قال ابن حجر:

یغلو فی التشیع.و قال ابن عدی ردیء المذهب یؤمن بالرجعة علی أن الثقات رووا عنه (6)

ص:585


1- (1) انظر التقریب 2:626 و 638.
2- (2) هدی الساری-420.
3- (3) الجرح و التعدیل 2:368 ق 2 و تهذیب التهذیب 7:424. [1]
4- (4) تهذیب التهذیب 7:425. [2]
5- (5) تهذیب التهذیب 7:145. [3]
6- (6) میزان الاعتدال 2:187.

عدی بن ثابت:

عدی بن ثابت الأنصاری الکوفی المتوفی سنة 116.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم و الأربعة و روی عنه أبو إسحاق السبیعی،و أبو إسحاق الشیبانی،و یحیی بن سعید الأنصاری،و الأعمش،و زید بن أبی أنیسة، و حجاج بن أرطاة،و إسماعیل السدی،و شعبة،و مسعر،و فضیل بن مرزوق و غیرهم من الحفاظ.

وثقه أحمد،و العجلی،و النسائی،و الدار قطنی و غیرهم.قال ابن أبی حاتم:

سألت أبی عن عدی بن ثابت؟فقال:هو صدوق و کان إمام مسجد الشیعة و قاضیهم (1).

و قال فی المغنی:عدی بن ثابت هو کوفی شیعی جلد ثقة مع ذلک و کان قاضی الشیعة و إمام مسجدهم قال المسعودی:ما أدرکنا أحدا أقول بقول الشیعة من عدی بن ثابت (2)و قال ابن حجر:عدی بن ثابت وثقه أحمد و النسائی،و الدار قطنی إلا أنه کان یغلو فی التشیع و کذا قال ابن معین.و قال أبو حاتم:صدوق و کان إمام مسجد الشیعة و قاضیهم و قال الجوزجانی مائل عن القصد.و قال عفان عن شعبة کان من الرفاعین (قلت)احتج به الجماعة... (3).

علی بن بذیمة:

أبو عبد اللّه علی بن بذیمة الجزری الکوفی المتوفی سنة 131.

خرج حدیثه الترمذی،و النسائی،و أبو داود،و ابن ماجة،و روی عنه الأعمش، و شعبة،و المسعودی،و الثوری،و عبد الرحمن بن یزید بن جابر،و عبد الرحمن بن یزید بن تمیم،و یونس بن راشد الجزری،و أبو سعید المؤدب،و معمر،و إسرائیل و غیرهم (4)

ص:586


1- (1) الجرح و التعدیل 3:2 ق 2.
2- (2) شذرات الذهب 1:252. [1]
3- (3) هدی الساری 423-424.
4- (4) الجرح و التعدیل 3:175 ق 1.

وثقه ابن معین و النسائی و أبو زرعة و ابن سعد و ابن عمار و قال ابن حجر:ثقة رمی بالتشیع،و قال أحمد بن حنبل:علی بن بذیمة صالح الحدیث و لکن کان رأسا فی التشیع،و قال أیضا:ثقة و فیه شیء.و قال الجوزجانی:زائغ عن الحق.بمعنی أنه شیعی یحب علی بن أبی طالب.

علی بن الجعد:

أبو الحسن علی بن الجعد بن عبید الجوهری البغدادی المتوفی سنة 230.

خرج حدیثه البخاری و أبو داود و روی عنه أبو بکر بن أبی شیبة و إسحاق بن إسرائیل و الحسن بن محمد الزعفرانی،و محمد بن إسحاق الصاغانی و محمد بن إسماعیل البخاری،و أبو زرعة و أبو حاتم و خلق ذکر منهم الخطیب فی تاریخه ما یقارب العشرین من الحفاظ و زاد ابن حجر فی تهذیب التهذیب بأکثر من ذلک.

و هو من کبار شیوخ البخاری،و أحمد بن حنبل،و یحیی بن معین،قال عبد الخالق بن منصور سمعت یحیی بن معین یقول:کتبت عن علی بن الجعد أکثر من ثلاثین سنة (1).

قال ابن حجر:علی بن الجعد ثقة ثبت رمی بالتشیع (2)و قال أبو حاتم:لم أر من المحدثین من یحدث بالحدیث علی لفظ واحد لا یغیره سوی علی بن الجعد (3).

و قال الذهبی:قال ابن معین:هو أثبت البغدادیین فی شعبه و هو صدوق و قیل إنه مکث ستین سنة یصوم یوما و یفطر یوما،و کان عالما نبیلا متمولا فیه ابتداع نال من بعض السلف (4)و ذلک أنه ذکر عنده حدیث ابن عمر کنا نفاضل علی عهد رسول اللّه صلّی اللّه علیه و آله و سلّم فنقول خیر هذه الأمة بعد نبیها أبو بکر و عمر و عثمان فقال علی بن الجعد:انظروا إلی هذا الصبی هو لم یحسن أن یطلق امرأته (5)یقول:کنا

ص:587


1- (1) تاریخ بغداد 11:361. [1]
2- (2) التقریب 2:33.
3- (3) هدی الساری 429.
4- (4) تذکرة الحفاظ 1:361.
5- (5) یشیر إلی حدیث ابن عمر أنه طلق امرأته فی الحیض فأمر النبی صلّی اللّه علیه و آله و سلّم عمر بن الخطاب أن یأمره أن یراجعها.أخرجه البخاری.

نفاضل!! (1)و کان علی بن الجعد من حفاظ الحدیث و أعلام الأمة و ربانی العلم کما یقول ابن معین (2)و کان من شیوخ أحمد بن حنبل و لکنه ترکه بعد ذلک من أجل التشیع و من أجل وقوفه فی القرآن (3)و ذلک أنه قال:من قال إن القرآن مخلوق لم أعنفه.

علی بن زید:

أبو الحسن علی بن زید بن عبد اللّه بن أبی ملیکة زهیر بن عبد اللّه البصری المتوفی سنة 129.

خرج حدیثه مسلم فی صحیحه و الأربعة و البخاری فی الأدب المفرد و روی عنه:قتادة و الحمادان،و زائدة،و زهیر بن مرزوق،و السفیانان و سفیان ابن حسین و شعبة،و همام بن یحیی،و مبارک بن فضالة،و ابن عون،و ابن علیة و آخرون.قال العجلی:علی بن زید یتشیع لا بأس به یکتب حدیثه.و قال ابن عدی:لم أر من البصریین و غیرهم امتنع من الروایة عنه.و قال ابن العماد:کان علی بن زید أحد أوعیة العلم،قال فی العبر:کان أحد علماء الشیعة (4).

علی بن غراب:

أبو الحسن علی بن غراب الفزاری و یقال أبو الولید الکوفی المتوفی سنة 184.

خرج حدیثه النسائی،و ابن ماجة،و روی عنه مروان بن معاویة و هو من أقرانه، و عمار بن خالد الواسطی،و أبو الشعثاء علی بن الحسن،و إبراهیم بن موسی الرازی،و محمد بن عبد اللّه بن شابور،و أحمد بن حنبل و غیرهم.

قال المروزی عن أحمد:کان حدیث علی بن غراب حدیث أهل الصدق و قال ابن معین:هو المسکین صدوق لم یکن به بأس و لکنه کان یتشیع.و قال:إنه ثقة.

و قال ابن أبی حاتم عن أبیه لا بأس به.و قال أبو زرعة علی بن غراب هو صدوق

ص:588


1- (1) تاریخ بغداد 11:363. [1]
2- (2) تاریخ بغداد 11:366. [2]
3- (3) هدی الساری 429.
4- (4) تهذیب التهذیب 7:322 و [3]تذکرة الحفاظ 1:133 و شذرات الذهب 1:176 و [4]غیرها.

عندی و أحب إلی من علی بن عاصم (1).

و قال الجوزجانی:علی بن غراب ساقط.قال الخطیب البغدادی بعد نقله لقول الجوزجانی:قلت:أحسب أن إبراهیم(الجوزجانی)طعن علیه لأجل مذهبه،فإنه کان یتشیع و أما روایته فقد وصفوه بالصدق (2).

علی بن قادم:

أبو الحسن علی بن قادم الخزاعی الکوفی المتوفی سنة 213.

خرج حدیثه أبو داود،و الترمذی،و النسائی فی الخصائص،و روی عنه أبو قریب،و أحمد بن الفرات،و أبو بکر ابن أبی شیبة،و محمد بن عبد اللّه بن أبی الثلج،و وهب الفامی،و المنذر بن شاذان،و القاسم بن زکریا و غیرهم (3).

وثقه العجلی و قال أبو حاتم محله الصدوق.و قال ابن سعد:کان شدید التشیع.و ذکره ابن حبان فی الثقات و قال ابن حجر:علی بن قادم صدوق یتشیع من الطبقة التاسعة (4).

علی بن المنذر:

أبو الحسن علی بن المنذر بن زید الأودی و یقال الأسدی الکوفی الطریقی المتوفی سنة 256.

خرج حدیثه الترمذی،و النسائی،و ابن ماجة،و هو من شیوخهم.و روی عنه الهیثم بن خلف،و أحمد بن الحسین و خلق کثیر ذکر منهم ابن حجر أکثر من عشرین من الحفاظ (5).

قال ابن أبی حاتم:سمعت منه مع أبی و هو صدوق ثقة سئل عنه أبی فقال:

محله الصدق.و قال النسائی شیعی محض ثقة.و قال ابن نمیر:هو ثقة صدوق و قال

ص:589


1- (1) الجرح و التعدیل 3:200 ق 1 و تهذیب التهذیب 7:371. [1]
2- (2) تاریخ بغداد 12:46. [2]
3- (3) انظر الجرح و التعدیل 3:201 ق 1.
4- (4) التقریب 2:42
5- (5) تهذیب التهذیب 7:386. [3]

ابن ماجة سمعت علی بن المنذر یقول،حججت ثمانیا و خمسین حجة أکثرها راجلا و قال ابن قاسم کان یتشیع (1).

علی بن هاشم:

أبو الحسن علی بن هاشم بن البرید العائدی الکوفی الخزاز المتوفی سنة 181.

خرج حدیثه مسلم و الأربعة،و البخاری فی الأدب المفرد،و روی عنه أحمد بن حنبل و ابن معین،و أبو معاویة،و أبو بکر بن أبی شیبة و غیرهم.

قال ابن حجر:علی بن هاشم صدوق یتشیع.و قال علی بن المدینی کان صدوقا و کان یتشیع.و قال الجوزجانی:هاشم بن البرید و ابنه علی بن هاشم غالیان فی سوء مذهبهما.یعنی انهما شیعیان حسب تعبیر الجوزجانی.

قال أبو حاتم:و کان علی یتشیع و یکتب حدیثه،و قال أبو داود:علی من أهل بیت یتشیع (2).

عطیة بن سعد:

أبو الحسن عطیة بن سعد بن جنادة العوفی الجدلی المتوفی سنة 111.

خرج حدیثه أبو داود،و الترمذی،و ابن ماجة،و روی عنه ابناه الحسن و عمر، و الأعمش،و الحجاج بن أرطاة،و آخرون. وثقه ابن سعد و قال ابن معین:صالح الحدیث.و قال أبو داود:لیس بالذی یعتمد علیه.قال أبو بکر البزار کان یعده فی التشیع.و قال الساجی:لیس بحجة و کان یقدم علیا علی الکل و لهذا قال الجوزجانی:

مائل.

و قد امتحن عطیة فی حبه لعلی علیه السّلام فإن الحجاج کتب إلی محمد بن القاسم الثقفی:أن ادع عطیة فإن لعن علی بن أبی طالب و إلا فاضربه أربعمائة سوط،و احلق رأسه و لحیته،فلم یفعل عطیة فضربه أربعمائة سوط (3)

ص:590


1- (1) نفس المصدر و میزان الاعتدال 2:239.
2- (2) ترجمته فی تاریخ بغداد 12:116 و [1]الجرح و التعدیل 3:175 ق 1 و تهذیب التهذیب 7:392 و [2]تقریب التهذیب 1:45 و غیرها.
3- (3) انظر طبقات ابن سعد 6:304 و [3]شذرات الذهب 1:144. [4]

عمار بن زریق:

أبو الأحوص عمار بن زریق الضبی التمیمی الکوفی المتوفی سنة 159.

خرج حدیثه مسلم،و أبو داود،و النسائی،و ابن ماجة،و روی عنه:سلام بن سلیم الکوفی و أبو أحمد الزبیری،و زید بن الحباب،و یحیی بن آدم و معاویة بن هشام و غیرهم.

وثقه ابن معین و أبو زرعة،و ابن المدینی،و ذکره ابن حبان فی الثقات و قال أبو حاتم:لا بأس به (1)قال الذهبی:عمار ثقة ما رأیت فیه تلیینا إلا قول السلیمانی إنه من الرافضة فاللّه أعلم بصحة ذلک.

أقول لم یجد الذهبی طعنا فی عمار من أحد إلا من السلیمانی فإن نسبته إلی الرفض.و التشیع و الرفض شیء واحد فی أکثر الموارد عندهم،و هذه النسبة من السلیمانی غیر بعیدة عن عمار فإن عمار بن زریق کان من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام (2).

عمرو بن حماد:

أبو محمد عمرو بن حماد بن طلحة القناد الکوفی المتوفی سنة 222.

خرج حدیثه مسلم،و أبو داود،و النسائی،و ابن ماجة،و روی عنه عبد اللّه بن محمد السندی،و سلیمان بن عبد الرحمن الصلحی،و جعفر بن محمد الدهلی و أحمد بن عثمان بن حکیم،و إبراهیم الجوزجانی و إسحاق بن راهویه،و أبو حاتم و غیرهم (3).

و ثقة ابن معین،و ابن سعد،و ذکره ابن حبان فی الثقات،و قال ابن أبی حاتم:

صدوق کان من الرافضة ذکر عثمان بشیء فهرب.و قال ابن حجر:صدوق رمی بالرفض.

ص:591


1- (1) تهذیب التهذیب 7:400. [1]
2- (2) انظر منهج المقال 343 و رجال الشیخ الطوسی 250.
3- (3) انظر تهذیب التهذیب 8:22 و [2]الخلاصة 344 و الجرح و التعدیل 3:228 و التقریب 2:68.

عمرو بن ثابت:

أبو محمد عمرو بن ثابت بن هرمز البکری المعروف بعمرو بن أبی المقدام المتوفی سنة 172.

خرج حدیثه أبو داود و ابن ماجة فی التفسیر و روی عنه أبو داود الطیالسی، و عیسی بن موسی،و یحیی بن بکیر،و یحیی بن آدم،و عبد اللّه بن صالح العجلی، و موسی بن داود الضبی و آخرون.و هو من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

قال أبو داود:هو رافضی خبیث و کان رجل سوء و لکنه کان صدوقا.و قال ابن سعد:کان متشیعا مفرطا (1)،و قال ابن حجر:عمرو بن ثابت و هو ابن أبی المقدام، رمی بالرفض.

و قد کثرت حملة البعض علیه لأنهم یقولون:إنه ینال من عثمان،و یقدم علیا علی الشیخین.

عمارة بن جوین:

أبو هارون عمارة بن جوین العبدی البصری المتوفی سنة 134.

خرج حدیثه الترمذی،و ابن ماجة،و البخاری تعلیقا.و روی عنه عبد اللّه بن عون،و عبد اللّه بن شوذب،و الثوری،و الحمادان،و الحکم بن عبده،و خالد بن دینار،و جعفر بن سلیمان،و صالح المری و نوح بن قیس،و هیثم و علی بن عاصم (2).

قال ابن حجر:عمارة بن جوین أبو هارون العبدی مشهور بکنیته متروک و منهم من کذبه (3)و قد أوضح ابن عبد البر أسباب تکذیبهم لعمارة بقوله:و قد تحامل بعضهم فنسبه إلی الکذب روی ذلک عن حماد بن زید و کان فیه تشیع و أهل البصرة یفرطون فیمن یتشیع بین أظهرهم لأنهم عثمانیون.

ص:592


1- (1) تهذیب التهذیب 8:9 [1] التقریب 2:66.
2- (2) تهذیب التهذیب 7:412. [2]
3- (3) تقریب التهذیب 2:49.

عمار بن معاویة:

أبو معاویة عمار بن معاویة البجلی الکوفی المتوفی سنة 133.

خرج حدیثه مسلم و الأربعة،و روی عنه ابنه معاویة،و شعبة و السفیانان و إسرائیل،و عبیدة بن حمید،و زهیر بن معاویة،و عتبة بن سعید قاضی الری و أبو صخر حمید بن زیاد و غیرهم (1).

وثقه أحمد بن حنبل و ابن معین و أبو حاتم.و قال ابن حجر:صدوق یتشیع (2).و کان عمار من تلامذة الإمام الباقر علیه السّلام و ولده الإمام الصادق علیه السّلام و قد عذب لتشیعه.نقل ابن المدینی عن سفیان أن عمارا قطع بشر بن مروان عرقویه فی التشیع.

الفضل بن دکین:

أبو نعیم الفضل بن دکین-و هو عمر بن حماد و لقبه دکین-بن زهیر التیمی المتوفی سنة 118،119.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الأربعة و هو من کبار شیوخ البخاری و أحمد بن حنبل روی عنه جماعة من الحفاظ ذکر منهم ابن حجر أکثر من أربعین و ذکر الخطیب (3)منهم أکثر من عشرین کلهم من کبار المحدثین و الحفاظ.

و کان أبو نعیم من رجال الشیعة و علماء الأمة و أعلام المحدثین و هو غایة فی الإتقان و الحفظ و قال الذهبی:الفضل بن دکین حافظ حجة إلا أنه یتشیع (4)و قال أحمد بن حنبل:أبو نعیم صدوق ثقة موضع للحجة.و قال:إذا مات أبو نعیم صار کتّابه إماما إذا اختلف الناس فی شیء فزعوا إلیه (5)و قال ابن حجر:الفضل بن دکین أبو نعیم الکوفی أحد الاثبات قرنه أحمد فی التثبت بعبد الرحمن بن مهدی إلا أن بعض الناس تکلم فیه بسبب التشیع و مع ذلک فقد صح عنه أنه قال:ما کتبت علی

ص:593


1- (1) الجرح و التعدیل 3:390 ق 1.
2- (2) تهذیب التهذیب 7:306. [1]
3- (3) انظر تهذیب التهذیب 8:370 و [2]تاریخ بغداد 12:346. [3]
4- (4) میزان الاعتدال 2:326.
5- (5) تهذیب التهذیب 6:320. [4]

الحفظة أنی سببت معاویة احتج به الجماعة (1)و قال أیضا:الفضل بن دکین رمی بالتشیع (2).

و إن تشیع أبی نعیم لم یکن لسبه معاویة بل کان شیعیا واقعا و قد اشتهر عنه ذلک و عرف به مع شدة تکتمه.

لما قدم بغداد فنزل الرمیلة و نصب له کرسی عظیم فجلس علیه لیحدث فقام إلیه رجل فقال:یا أبا نعیم أ تتشیع؟فصرف وجهه عنه و تمثل:

و مال زال بی حبک حتی کأننی برجع جواب السائلی عنک أعجم

لأسلم من قول الوشاة و تسلمی سلمت و هل حی من الناس یسلم

فلم یفقه الرجل مراده،فعاد سائلا فقال:یا أبا نعیم أ تتشیع؟ فقال أبو نعیم:یا هذا کیف بلیت بک؟؟و أی ریح هبت إلی منک.سمعت الحسن بن صالح یقول:سمعت جعفر بن محمد یقول:حب علی عبادة و أفضل العبادة ما کتم (3).

و حدث الخطیب:أن أبا نعیم جاءه ولده یبکی فقال:مالک؟فقال الولد:الناس یقولون أنک تتشیع (4).

و هنا یتضح لنا ما بلغت إلیه الحالة من الخطر علی من یعرف بالتشیع لأن التشیع کان طریقا للمحنة و شدة الابتلاء من مجتمع غذته روح السیاسة ببغض أهل البیت حتی أصبح حبهم من أعظم الأخطار،و النفوس تبتعد عن الخطر و تسعی لحب السلامة، إلا من امتحن اللّه قلبه بالإیمان.

و قد ضویق أبو نعیم فأعلن بأنه:ما کتبت علیه الحفظة أنه سب معاویة.و هو صادق فی ذلک.

و لأبی نعیم حفید هو من کبار علماء الشیعة و مصنفیهم و هو:أحمد بن میثم بن أبی نعیم قال الشیخ الطوسی کان من ثقات أصحابنا و فقهائهم و له مصنفات منها:

ص:594


1- (1) هدی الساری:434.
2- (2) هدی الساری:461.
3- (3) تاریخ بغداد للخطیب 12:351. [1]
4- (4) نفس المصدر.

کتّاب الدلائل،و کتّاب المتعة،و کتّاب النوادر و کتّاب الملاحم،و کتّاب الشراء و البیع.

فضیل بن مرزوق:

أبو عبد الرحمن فضیل بن مرزوق الرقاشی الکوفی المتوفی سنة 160.

خرج حدیثه مسلم و الأربعة و البخاری فی رفع الیدین و روی عنه سفیان الثوری و یحیی بن آدم،و یزید بن هارون،و قبیصة و عبد اللّه بن صالح بن مسلم و الحسن بن عطیة،و علی بن الجعد و غیرهم و هو من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

وثقه الثوری و أبو حاتم و ابن معین و قال:إنه شدید التشیع (1).

و قال ابن حجر:فضیل بن مرزوق رمی بالتشیع (2)و قال الهیثم:کان من أئمة الهدی زهدا و فضلا.و قال العجلی:کان فیه تشیع (3).

فطر بن خلیفة:

أبو بکر فطر بن خلیفة الحناط المخزومی المتوفی سنة 150.

خرج حدیثه البخاری و الأربعة و روی عنه سعید القطان و وکیع،و أبو نعیم و عبید اللّه بن موسی و مصعب بن المقدام و غیرهم.قال ابن حجر: وثقه أحمد، و الدار قطنی،و ابن معین و النسائی و قال العجلی:کان فیه تشیع (4)و قال الجوزجانی:

إنه زائغ غیر ثقة.و قال ابن حجر:صدوق رمی بالتشیع (5)و کان فطر من رواة حدیث الإمام الباقر و ولده الإمام الصادق علیه السّلام.

عبد الملک بن مسلم:

أبو سلام عبد الملک بن مسلم بن سلام الحنفی الکوفی.

خرج حدیثه الترمذی و النسائی و روی عنه الثوری و هو من أقرانه و عبد

ص:595


1- (1) الجرح و التعدیل 3:75 ق 2.
2- (2) التقریب 2:113.
3- (3) تهذیب التهذیب 8:299. [1]
4- (4) هدی الساری:434.
5- (5) تقریب التهذیب.

الرحمن بن المحاربی،و وکیع،و أبو قتیبة،و علی بن نصر الجهضمی و زید بن هارون و عبد اللّه بن موسی و أبو نعیم النظر الرقاشی،و علی بن نصر و غیرهم (1).

قال ابن أبی حاتم سمعت أبی یقول:لا بأس به.و کذلک قال أبو داود و قال ابن معین ثقة و قال ابن خراش:لیس به بأس کان من الشیعة و ذکره ابن حبان فی الثقات و قال روی عنه ابن المبارک (2).

محمد بن عبد اللّه:

أبو أحمد محمد بن عبد اللّه بن الزبیر بن عمر بن درهم المعروف بالزبیری المتوفی سنة 203.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و الباقون.و روی عنه محمود بن غیلان،و أحمد بن الفرات،و محمد بن رافع،و محمد بن عبد اللّه بن نمیر و ابنا أبی شیبة،و عمر الناقد،و نصر بن علی،و القواریری،و غیرهم (3).

و هو من کبار شیوخ أحمد بن حنبل قال ابن حجر:محمد بن عبد اللّه الزبیری أحد الاثبات المشهورین من شیوخ أحمد بن حنبل (4)و وثقه ابن نمیر و ابن معین و قال العجلی ثقة یتشیع.و قال بندار ما رأیت أحفظ منه (5)و قد ذکر ابن حجر القول فی تشیعه عند ذکره لشیوخ البخاری و کذلک ابن الأثیر فی تهذیب الأنساب (6).

محمد بن جحاده:

محمد بن جحادة الأودی الأیامی الکوفی المتوفی سنة 131.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم،و الترمذی،و أبو داود،و النسائی و ابن ماجة و روی عنه ابنه إسماعیل،و شعبة،و إسرائیل،و همام،و عمران القطان و السفیانان و زهیر بن معاویة و شریک و غیرهم.

ص:596


1- (1) الجرح و التعدیل 2:368 ق 2 و تهذیب التهذیب 7:424. [1]
2- (2) تهذیب التهذیب 7:425. [2]
3- (3) انظر الجرح و التعدیل 3:297 ق 2.
4- (4) هدی الساری 439.
5- (5) تذکرة الحفاظ-325.
6- (6) اللباب فی تهذیب الأنساب 1:496. [3]

و قال أحمد بن حنبل:جحادة من الثقات.و وثقه النسائی،و العجلی و ابن أبی شیبة،و قال یعقوب بن أبی سفیان،قال أبو عوانة:کان یغلو فی التشیع (1).

و قال ابن حجر فی هدی الساری:محمد بن جحادة الکوفی رمی بالتشیع.

محمد بن فضیل:

أبو عبد الرحمن محمد بن فضیل بن غزوان بن جریر الضبی المتوفی سنة 195.

خرج حدیثه البخاری،و مسلم و الترمذی و الباقون،و هو من شیوخ أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهویه،و روی عنه الثوری-و هو أکبر منه-،و أحمد بن أشکاب الصفار،و أبو خیثمة و غیرهم من الحفاظ ذکر منهم ابن حجر فی تهذیب التهذیب أکثر من ثلاثین کلهم من رجال الصحاح.

قال أحمد بن حنبل:محمد بن فضیل کان شیعیا حسن الحدیث.و قال أبو زرعة:صدوق من أهل العلم لا بأس به (2).و قال فی المغنی:محمد بن فضیل ثقة مشهور لکنه یتشیع.

و قال ابن سعد:محمد بن فضیل کان ثقة صدوقا کثیر الحدیث و بعضهم لا یحتج به.و قد رد ابن حجر علی ابن سعد بقوله:إنه احتج به الجماعة (3).

و کان محمد بن فضیل من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام و رواة حدیثه و کان أبوه فضیل بن غزوان من الحفاظ و رجال الصحاح خرج حدیثه البخاری و مسلم و الأربعة و کذلک جده غزوان من رجال أبی داود خرج حدیثه و روی عنه جماعة.

محمد بن موسی:

أبو عبد اللّه محمد بن موسی الفطری المدنی.

خرج حدیثه مسلم و الأربعة و روی عنه ابن أبی فدیک و قتیبة،و ابن مهدی،و أبو عامر العقدی،و أبو المطرف و غیرهم.

ص:597


1- (1) انظر تهذیب التهذیب 8:92. [1]
2- (2) هدی الساری 423-441.
3- (3) انظر تهذیب التهذیب 9:406 و [2]الجرح و التعدیل 4:82 ق 1 و الخلاصة 394.

قال أبو حاتم صدوق یتشیع،و وثقه الترمذی،و أحمد بن صالح و ذکره ابن حبان و ابن شاهین فی الثقات (1)و قال ابن حجر:محمد بن موسی الفطری-بکسر الفاء و سکون الطاء-المدنی صدوق رمی بالتشیع (2).

مالک بن إسماعیل:

أبو غسان مالک بن إسماعیل الکوفی المتوفی سنة 217.

خرج حدیثه مسلم،و البخاری،و أبو داود،و الترمذی و النسائی و ابن ماجة و روی عنه البخاری و هو من کبار شیوخه (3)و أبو حاتم و أبو زرعة و خلق کثیر.قال ابن معین لیس بالکوفة أتقن من أبی غسان.و قال أبو حاتم:کان أبو غسان یملی علینا من أصله،و لا یملی حدیثا حتی یقرأه و لم أر بالکوفة أتقن من أبی غسان لا أبو نعیم و لا غیره و أبو غسان أوثق من أبی إسحاق منصور السلولی و هو متقن ثقة،و کان له فضل و صلاح و عبادة،و صحة حدیث و استقامة،و کانت علیه سجادتان،کنت إذا نظرت إلیه کأنه خرج من قبر (4)و قال ابن ناصر الدین:مالک بن إسماعیل النهدی مولاهم الکوفی ثقة متقن ذو فضل و أمانة،و عبادة و استقامة علی تشیع فیه.و قال أبو داود:

مالک بن إسماعیل کان شدید التشیع (5).و قال ابن حجر:مالک بن إسماعیل:من کبار شیوخ البخاری مجمع علی ثقته ذکره ابن عدی فی الکامل من أجل قول الجوزجانی إنه کان خبیثا یعنی شیعیا و قد احتج به الأئمة (6).

مخول بن راشد:

أبو راشد مخول-علی وزن محمد-النهدی المتوفی سنة 141.

خرج حدیثه البخاری و مسلم و الترمذی و النسائی و ابن ماجة.و روی عنه سفیان الثوری و شعبة،و شریک و غیرهم و هو من تلامذة الإمام الباقر علیه السّلام.

ص:598


1- (1) تهذیب التهذیب 9:480. [1]
2- (2) التقریب 2:211.
3- (3) هدی الساری 442.
4- (4) الجرح و التعدیل 4:407 ق 1.
5- (5) شذرات الذهب 2:46.
6- (6) هدی الساری 442.

قال ابن حجر أبو راشد النهدی ثقة نسب إلی التشیع (1). وثقه ابن معین و ابن سعد و قال أحمد ما علمت إلا خیرا و سئل عنه أبو حاتم فقال یکتب حدیثه (2).

منصور بن المعتمر:

أبو عتاب منصور بن المعتمر السلمی أحد الحفاظ الکوفی المتوفی سنة 132.

خرج حدیثه البخاری و مسلم و الأربعة و روی عنه سلیمان التیمی،و أبو أیوب و حجاج بن دینار و إسرائیل و زائدة،و حماد بن زید و غیرهم.

و قال عبد الرحمن بن المهدی:أربعة بالکوفة لا یختلف أحد فی حدیثهم،فمن اختلف علیهم فهو یخطئ منهم منصور بن المعتمر و لم یکن بالکوفة أحفظ من منصور (3).و قال ابن العماد:منصور بن المعتمر الحافظ أحد الأعلام و کان أحفظ أهل الکوفة،صام أربعین سنة و قامها و عمی من البکاء.قال فی العبر:یقال فیه یسیر تشیع (4).و قد نص ابن قتیبة علی تشیعه،و کذلک الجوزجانی،و قال العجلی:و فیه تشیع قلیل (5).

منصور اللیثی:

منصور بن أبی الأسود اللیثی-و یقال اسم أبیه حازم-الکوفی.

خرج حدیثه أبو داود و الترمذی و النسائی و روی عنه عبد الرحمن بن مهدی، و أبو نعیم،و أبو غسان،و محمد بن الصلت و أبو الربیع الزهرانی و معن بن عیسی القزاز و غیرهم و هو من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام.

قال یحیی بن معین:منصور بن أبی الأسود ثقة شیعی (6).و قال الخزرجی:

منصور وثقه ابن معین و رماه بالتشیع.و قال ابن حجر:صدوق رمی بالتشیع (7)

ص:599


1- (1) التقریب 2:336.
2- (2) الجرح و التعدیل 4:398 ق 1.
3- (3) الجرح و التعدیل 4:177.
4- (4) شذرات الذهب 1:189. [1]
5- (5) تذکرة الحفاظ 1:135.
6- (6) الجرح و التعدیل 4:170 ق 1.
7- (7) التقریب 2:572.

نوح بن قیس:

أبو روح نوح بن قیس بن رباح الأزدی البصری المتوفی سنة 184.

خرج حدیثه مسلم و أبو داود و الترمذی و ابن ماجة و النسائی و روی عنه عفان بن مسلم و مسلم بن إبراهیم،و موسی بن إسماعیل و نصر بن علی و مسدد و غیرهم.

قال الخرزجی:نوح بن قیس روی عنه سعید بن منصور و طائفة.وثقه ابن معین و قال أبو داود ثقة و کان یتشیع (1)و قال ابن حجر:نوح بن قیس أخو خالد صدوق رمی بالتشیع (2)و وثقه أحمد بن حنبل و یحیی بن معین (3).

یعقوب بن سفیان:

یعقوب بن سفیان بن حران الفارسی أو الفسوی المتوفی سنة 277.

خرج حدیثه النسائی و ابن ماجة،و روی عنه أبو بکر بن داود،و الحسن بن سفیان،و ابن خراش،و ابن خزیمة،و أبو عوانة الأسفرایینی و غیرهم.

قال الحاکم النیسابوری:یعقوب بن سفیان الفارسی هو إمام أهل الحدیث بفارس،قدم نیسابور،و سمع منه مشایخنا و قد نسبه بعضهم إلی التشیع.و قال ابن الأثیر فی تاریخه فی حوادث سنة 277 و فیها مات یعقوب بن سفیان الفسوی و کان یتشیع.و قال ابن کثیر:و بلغ یعقوب بن اللیث صاحب فارس عنه أنه یتکلم فی عثمان فأمر بإحضاره فقال له وزیره:أیها الأمیر إنه لا یتکلم فی شیخنا عثمان بن عفان السنجری و إنما یتکلم فی عثمان الصحابی فقال الأمیر دعوه ما لنا و للصحابی إنما حسبته یتکلم فی عثمان السنجری (4).

یزید بن أبی زیاد:

أبو عبد اللّه یزید بن أبی زیاد القرشی الکوفی المتوفی سنة 137.

خرج حدیثه مسلم و الأربعة و روی عنه إسماعیل بن خالد و شعبة و أبو عوانة

ص:600


1- (1) الخلاصة 347.
2- (2) التقریب 1:308.
3- (3) الجرح و التعدیل 4:483 ق 1.
4- (4) البدایة و النهایة 11:59. [1]

و غیرهم قال ابن فضیل:کان من کبار الشیعة و قال ابن عدی یکتب حدیثه و قال الذهبی صدوق ردیء الحفظ (1).

یحیی بن عثمان:

أبو زکریا یحیی بن عثمان بن صالح المصری السهمی المتوفی سنة 228.

خرج حدیثه ابن ماجة و روی عنه أبو غسان و موسی بن إسماعیل و مسلم بن إبراهیم و غیرهم.قال ابن أبی حاتم کتبت عنه و کتب عنه أبی و تکلموا فیه (2).قال ابن حجر صدوق رمی بالتشیع.

یحیی بن عیسی:

یحیی بن عیسی التمیمی الکوفی نزیل الرملة المتوفی سنة 201.

خرج حدیثه مسلم و أبو داود و الترمذی و ابن ماجة و البخاری فی الأدب المفرد و روی عنه ابنا أبی شیبة و مهدی بن جعفر الرملی و سعید بن أسد و غیرهم.وثقه العجلی و أحسن الثناء علیه أحمد بن حنبل و قال ابن حجر صدوق یتشیع (3)

یونس بن خباب:

أبو حمزة بن خباب الأسدی و یقال أبو الجهم الکوفی.

خرج حدیثه الترمذی و أبو داود و النسائی و ابن ماجة و البخاری فی الأدب المفرد و روی عنه ابنه محمد و منصور بن المعتمر و أبو الزبیر و هما من أقرانه و حماد بن زید و معتمر بن سلیمان و غیرهم.حدث عنه سفیان الثوری.قال الساجی تکلموا فیه من جهة رأیه السوء و وثقه ابن معین و ابن أبی شیبة.و قال الدار قطنی:رجل سوء فیه شیعیة مفرطة و قال العجلی:شیعی غال و قال الجوزجانی کذاب مفتر و قال أبو داود لیس فی حدیثه نکارة إلا أنه زاد فی حدیثه عذاب القبر و علی علیه السّلام ولی (4)و ذکره الشیخ الطوسی فی رجال الباقر علیه السّلام.

ص:601


1- (1) تهذیب التهذیب 11:330 و [1]الخلاصة 371.
2- (2) الجرح و التعدیل 4:175 ق 2.
3- (3) الجرح و التعدیل 4:178 ق 2 و تقریب 2:355.
4- (4) تهذیب التهذیب 11:438. [2]

یونس بن أبی یعفور:

یونس بن أبی یعفور العبدی الکوفی.خرج حدیثه مسلم فی صحیحه و ابن ماجة و روی عنه محمد بن سعید الأصبهانی و عثمان بن أبی شیبة و سعد بن منصور و جماعة قال أبو حاتم صدوق و وثقه الدار قطنی و قال العجلی لا بأس به و قال الساجی فیه ضعف و کان ممن یفرط فی التشیع (1).

و لضیق المجال نقف عند هذا الحد من ذکر حملة الحدیث و أعلام الأمة من رجال الصحاح،الذین عرفوا بتشیعهم لأهل البیت علیهم السّلام و أکثرهم کانوا من خریجی مدرسة الإمام الصادق علیه السّلام.

و نود أن نوضح هنا:أولا:بأنا قد اقتصرنا علی ذکر بعض رجال القرن الثانی، و الثالث،و لم نتعرض للتابعین إلا من یتعلق لنا غرض بذکره،لأن ذکر التابعین من الشیعة الذین حملوا تراث الإسلام،فأصبحوا أعلاما یهتدی بهم،و مرجعا یرحل إلیهم،یدعو لوضع کتّاب خاص فیهم.

کما أننا لم نتعرض لذکر أعلام الإسلام من أهل البیت علیهم السّلام و هم زعماء الشیعة،و أعیان الأمة،و لهم المکانة و الأثر العظیم فی التشریع الإسلامی و أحادیثهم مشهورة خرجها أصحاب الصحاح و غیرهم.و لضیق المجال ترکنا ذلک.

ثانیا:إننا لم نستوعب جمیع الرواة من رجال الشیعة فی الصحاح فلم نذکر الکثیر منهم:أمثال:علی بن صالح الهمدانی المتوفی سنة 151 و هشام بن سعد المدنی المتوفی سنة 160 و هارون بن سعید العجلی المتوفی سنة 151 و علی بن عاصم الواسطی المتوفی سنة 201 و عمر بن عبد اللّه أبو إسحاق السبیعی الهمدانی المتوفی سنة 127 و معاویة بن عمار الدهنی المتوفی سنة 175 و موسی بن قیس الحضرمی،و هانی بن هانی الهمدانی.

کذلک نفیع بن الحارث و محمد بن السائب بن بشر الکلبی النسابة المتوفی سنة 146 و غالب بن الهذیل الکوفی،و غیرهم ممن تعمدنا ترکهم لضیق المجال.

ص:602


1- (1) تهذیب التهذیب 11:428. [1]

کما أن هناک جماعة من الحفاظ قد نسبوهم إلی التشیع و لکننا لم نتعرض لذکرهم لأنا لا نأخذ بمطلق النسبة و من هؤلاء الحفاظ:

محمد بن إدریس الرازی المعروف بأبی حاتم المتوفی سنة 277 و کذلک ولده شیخ الإسلام عبد الرحمن صاحب الجرح و التعدیل المتوفی سنة 337 و هو أشهر من أبیه فی نسبة التشیع (1)و کذلک الحافظ علی بن عمر بن أحمد الدار قطنی المتوفی سنة 376 (2)و أبو عروبة محدث حران المتوفی سنة 317 (3).و غیر هؤلاء من حفاظ الحدیث ممن قالوا عنهم بأنهم شیعة و لکننا لا نأخذ بمجرد القول فی ذلک.نعم کان ابن أبی حاتم یتهم بالمیل للإسماعیلیة و قد ذکروه فی کتبهم و انه من فلاسفتهم و کبار علمائهم و لهذا نسبوه للتشیع لأن فرقة الإسماعیلیة تعد من فرق الشیعة و إن خرجت عن تعالیمهم و تنکرت لمبادئهم.

و لا بد لنا من القول هنا:بأن هذا العرض لرجال الصحاح من الشیعة لم یکن علی سبیل الحصر للموضوع،و إنما کان من باب إقامة الحجة علی من یدعی أو یحکم علی الشیعة بأنهم لا أثر لهم فی الحیاة العلمیة،أو أنهم صفر الأکف من تراث الإسلام،أو أن أبناء السنة لا یروون عن الشیعة إلی غیر ذلک من تلک الادعاءات الکاذبة،و الأقوال الفارغة،کما رأینا قریبا من تهجم الأستاذ الذهبی،و وصفه للشیعة بما یتنافی مع الحقیقة،و قد استدل بأسطورة الجاحظ مما لا فائدة فی إعادة القول فی ذلک،و هو بهذا قد ظلم العلم حقه،و حجب عن العقل نوره.

و قد رأینا فیما قدمناه من الحدیث عن رجال الصحاح من الشیعة بأنهم حملة علم،و حفاظ حدیث،و منهم من کان من کبار شیوخ البخاری،و مسلم،و الشافعی، و أحمد بن حنبل و غیرهم من حفاظ الحدیث،و أعلام الأمة کسفیان الثوری،و ابن عیینة،و عبد الرحمن بن المهدی،و ابن معین و القطان،و ابن المدینی،و أبو زرعة، و أبو حاتم،و آخرون کما تقدم بیانه ممن أخذوا عن رجال الشیعة،و احتجوا بهم.

و لا یفوتنی أن أشیر إلی وجود جماعات من الحفاظ و أعلام الأمة من الشیعة لم تکن لهم روایة فی الصحاح لتأخرهم فی الزمن،و منهم:

ص:603


1- (1) تهذیب التهذیب 8:34. [1]
2- (2) تذکرة الحفاظ 3:186.
3- (3) تذکرة الحفاظ 3:94.

الحافظ المسند أحمد بن محمد بن السری محدث الکوفة المتوفی سنة 351 سمع منه جماعة من الحفاظ کالحاکم،و ابن مردویه،و أبو بکر الحیری (1).

و الحافظ أحمد بن محمد بن عمران بن موسی بن عروة المتوفی سنة 396 المعروف بابن الجندی أخذ عنه جماعة من المحدثین،کالحسین بن محمد الخلال و محمد بن علی بن مخلد الوراق،و البرذعی،و العتیقی.و عدة غیرهم قال العتیقی:

کان یرمی بالتشیع و له أصول حسان (2).

و الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعید المعروف بابن عقدة المتوفی سنة 332 فقد کان إلیه المنتهی فی قوة الحفظ،و کثرة الحدیث،و صنف و جمع و ألّف فی الأبواب و التراجم (3)و کان یحفظ مائة ألف حدیث باسنادها و یذاکر بثلاثمائة ألف حدیث و یجیب بثلاثمائة ألف حدیث من حدیث أهل البیت و بنی هاشم،و لم یر بالکوفة من زمن ابن مسعود إلی زمنه أحفظ منه (4)و هو الذی جمع من تلامذة الإمام الصادق علیه السّلام أربعة آلاف من ثقاتهم.

و الحافظ المحدث محمد بن إبراهیم بن حبون المتوفی سنة 305.

محدث الأندلس و لم یکن فیها قبله أبصر بالحدیث منه،حدث عنه جماعة:

منهم قاسم بن أصبغ،و أحمد بن سعید بن حزم،و خالد بن سعد.

رحل إلی العراق و الحجاز و الیمن قال الذهبی:و کان من کبار عصره لکنه فیه تشیع.قال خالد بن سعد:لو کان الصدق إنسانا لکان بن حبون (5).

و قال ابن العماد:محمد بن إبراهیم بن حبون الأندلسی الحجازی أبو عبد اللّه ثقة صدوق (6)

ص:604


1- (1) تذکرة الحفاظ 3:94.
2- (2) تاریخ بغداد 5:77. [1]
3- (3) تذکرة الحفاظ 3:55.
4- (4) شذرات الذهب 3:94. [2]
5- (5) تذکرة الحفاظ 3:4.
6- (6) شذرات الذهب 3:246. [3]

و الحسن بن أحمد بن صالح الهمدانی السبیعی الحلبی المتوفی سنة 371.

روی عنه الدار قطنی،و عبد الغنی الأزدی،و أبو طالب بن بکیر و الشیخ المفید محمد بن النعمان و غیرهم.قال ابن أسامة الحلبی:لو لم یکن للحلبیین من الفضیلة إلا الحسن بن أحمد السبیعی لکفاهم.و کان وجیها عند الملک سیف الدولة،و کان یزور السبیعی فی داره،و صنف له(کتّاب التبصرة فی فضل العترة المطهرة)و إلیه ینسب درب السبیعی الذی بحلب،قال الذهبی:هو من أئمة هذا الشأن علی تشیع فیه.وثقه أبو الفتح ابن أبی الفوارس (1).

و أحمد بن عبد اللّه بن جلینی المروزی البغدادی المتوفی سنة 379 روی عنه القاضی أبو القاسم التنوخی و کان مشهورا بالتشیع أو الرفض کما یقولون (2).

و الحافظ المتجول أبو محمد الفضل بن المسیب المعروف بالشعرانی المتوفی سنة 320،و روی عنه خزیمة و محمد بن المؤمل،و حفیده إسماعیل و غیرهم،و کان کثیر التجوال للإفادة و الاستفادة.قال ابن المؤمل:کنا نقول:ما بقی بلد لم یدخله الفضل الشعرانی فی طلب الحدیث إلا الأندلس.

و الحافظ عبد الرحمن بن یوسف المعروف بابن خراش المتوفی سنة 283 صاحب الجرح و التعدیل،قال أبو نعیم بن عدی:ما رأیت أحفظ منه و رحل فی طلب العلم ما بین مصر و خراسان،و لقی متاعب فی ذلک و قد حملوا علیه لأنه صنف جزءین فی المثالب،و کان ینفی صحة حدیث(ما ترکناه صدقة)و یحتج علی ذلک.

و غیر هؤلاء من رجال القرون المتأخرة،ممن کانت لهم مکانة علمیة و قد أفرد الشیعة عدة معاجم و فهارس،تتضمن تراجم أولئک الأعلام،و ما لهم من نشاط فی الحیاة الفکریة،و الصفات التی یتحلون بها.

و ما دمنا نحرص علی الاختصار فی الموضوع فلنکتف بما قدمناه علی سبیل المثال لا علی سبیل الحصر کما بینت ذلک.

ص:605


1- (1) تذکرة الحفاظ 3:152.
2- (2) اللباب لابن الأثیر 1:234. [1]

و بعد هذا نقول:

إن ما قدمناه من تراجم أولئک الرجال من أعلام القرون الأولی،و أهل السبق فی تدوین الکتب،قبل أن یولد الجاحظ-یرینا أن فیما ذهب إلیه الأسفرایینی و تبعه الأستاذ محمد حسین الذهبی و غیره محاولة مکشوفة لطمس مکانة رجال الشیعة،و ما لهم من أثر فی النهضة العلمیة.

و لیست محاولة الأستاذ الذهبی هی الأولی،فقد وقفنا علی کثیر من أمثالها ممن یحاولون التمویه علی عقول البسطاء فی تلک المغالطات،التی لا تقف أمام الأبحاث العلمیة،إذ لیس لأی کاتب یلتزم بشروط البحث،و یتجرد عن التحیز و التعصب،أن ینکر ما للشیعة من آثار دوّنها التاریخ،و هی مصادر تستقی منها الأجیال رغم الحملات الظالمة التی یشنها دعاة الفرقة من ذوی الآراء المنحرفة عن الواقع،خدمة لسلطة الاستبداد التی تحاول القضاء علی أبطال المعارضة من دعاة الحق.و قد لا حظنا ما انطوت علیه عبارات أهل الجرح و التعدیل من تناقض یفضح أسباب ما استسلمت له الأذهان و تقلدته الأفکار،فقد طبقوا قواعد علم الحدیث و أصول مصطلحاته و تحروا الطرق و وجدوا کتب الصحاح الستة ملیئة برجال الشیعة و لا یملکون إنکار صلة أئمة المذاهب الأربعة و تلقیهم عن علماء الشیعة فأرغمهم ذلک علی الإتیان بخصائص هؤلاء العلماء من الشیعة لکنهم أساءوا و لم یتمکنوا من التخلص من العقلیة الضیقة فألصقوا بهم الزیغ أو البدع.

نقول هذا و الواقع التاریخی یقرر ذلک،و قد تطرقنا للبحث حول مناهضة الشیعة لسلطان الأمویین و غیرهم انتصارا لأهل البیت،الذین وقفوا أمام تلک السلطات الجائرة،موقف البطولة،فبذلوا کل إمکانیاتهم فی سبیل إعلاء کلمة الإسلام.

کما تطرقنا فی کثیر من أبحاثنا لبیان خطر ذلک الانقسام،و ما تکمن من ورائه من أهداف یحاول أعداء الدین تحقیقها لنیل مأربهم.

و إن الواجب یدعو بأن نوحد صفوفنا،و نعمل بوحی من مبادئ دیننا،و نوجه شبابنا بتعالیم الإسلام،و إننا مسئولون أمام اللّه عن ذلک و إن فتح باب الخلافات، و توسیع شقة الفرقة یفسح المجال أمام أعداء الدین لتدخلهم فی صفوف المسلمین للعمل علی تصدیع وحدة الصف.

ص:606

إن دعوتنا إلی وحدة الصف،و التحلی بمبادئ الإسلام التی تحقق التکافل الاجتماعی،هی من متطلبات ظروفنا الحاضرة فهی أخطر مرحلة یجتازها المسلمون الیوم،فعلینا أن نصغی لنداء الإسلام(و کونوا جمیعا و لا تفرقوا)و لننزع من قلوبنا کل حقد،و نزیل کل ضغن،و نرفع عن طریقنا عقبات خلفتها أحقاد سالفة،و أهواء منحرفة،و بذلک نحقق مبادئ دیننا فی الإخاء و المحبة،و التعاون علی البر و التقوی.

إننا الیوم فی مرحلة تتطلب منا أن ننظر إلی الواقع،و نلتزم بحدود البحث العلمی المتجرد من کل تحامل و تحیز،لنرتفع بأبحاثنا إلی المستوی الذی تتطلبه طلائع الجیل المسلم،فلیس أضر علی العلم،و لا أضیع للحق من الانقیاد وراء العاطفة.

و أملنا فی الوصول إلی ما نطلبه ینعقد علی حملة رسالة الفکر الإسلامی من ذوی الأقلام الحرة،و مربی جیلنا الحاضر،الذین یشعرون بمسئولیة أمانة التاریخ، و تحمل أعبائها و مصاعبها.

و لا تصیبنا الخیبة،أو یعترینا الفشل عند ما نقف علی بعض ما یکتبه أساتذة أساءوا لأمتهم،فی استذواقهم لما دبجته أقلام المستشرقین أو جمودهم علی نقل عبارات سلف خضع لظروفه الخاصة،و بیئته المتفککة،فتخلی عن شروط البحث، و أصول التحقیق العلمی،فإن أملنا-و من اللّه نطلب تحقیق الآمال-بأن تزول غشاوة التمویه عن کثیر من الحقائق،و أن یزول ذلک الرکام عن طریق الوصول إلی الواقع، لتزول عوامل الخلافات،و تقلع جذور التفرقة،لیصبح المسلمون إخوانا کما أراد اللّه و رسوله،و دعا إلیه المصلحون من هداة الأمة،و رجال الإصلاح.و من اللّه نسأل أن یوفق المسلمین لاتباع أوامر الدین و السیر علی هدی الرسول الأعظم و أن ینصرهم علی أعدائهم-و ما النصر إلا من عند اللّه-إنه سمیع مجیب و إلی اللقاء و اللّه ولی التوفیق.

المؤلف

ص:607

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.