العقائد الاسلاميه: عرض مقارن لاهم موضوعاتها من مصادر السنه و الشيعه - المجلد5

اشارة

عنوان و نام پديدآور : العقائد الاسلاميه: عرض مقارن لاهم موضوعاتها من مصادر السنه و الشيعه/ قام باعداده مركز المصطفي للدراسات الاسلاميه؛ برعايه علي السيد السيستاني.

مشخصات نشر : قم: مركز المصطفي للدراسات الاسلاميه، 1419ق. = -1377

مشخصات ظاهري : 5 ج.

شابك : دوره 964-319-117-6 : ؛ 7000 ريال : ج. 1 964-319-118-4 : ؛ 7000 ريال : ج. 2 964-319-119-2 : ؛ 7000 ريال : ج. 4 964-319-121-4 :

يادداشت : عربي.

يادداشت : ج. 2 (چاپ اول: 1419ق = 1377).

يادداشت : ج. 4 (چاپ اول: 1420ق. = 1378).

يادداشت : كتابنامه.

مندرجات : ج. 1. الفطره و المعرفه.- ج. 3. الشفاعه.- ج. 4. يشتمل علي مسائل: شفاعه اهل البيت عليهم السلام والاستشفاع والتوسل

موضوع : اسلام -- عقايد

شناسه افزوده : سيستاني، علي ، 1309 -، مصحح

شناسه افزوده : مركز المصطفي للدراسات الاسلاميه

رده بندي كنگره : BP203 /ع7 1377

رده بندي ديويي : 297/41

شماره كتابشناسي ملي : م 77-14486

فهرست مطالب كتاب: العقائد الإسلامية (المجلد 5)

العقائد الإسلامية (المجلد 5)

مقدمة

عقيدة اليهود نفي الحكمة عن الله تعالي و نفي العصمة أنبيائه

لماذا يحسد اليهود الشعوب التي عندها مقدسات

لم يكن اليهود موحدين حتي في عصور أنبيائهم

الالحاد الصريح في اليهود الماضين والمعاصرين

افتراء اليهود علي الله تعالي و نفيهم عنه العلم والعدل

وصفوا الله تعالي بأنه لا يعلم ما خلق

و وصفوه بالطيش والغضب والظلم

و افتروا علي الله تعالي بأنه ينسي عهده ثم يتذكره

و زعموا أن يعقوب صارع الله تعالي فعجز الله أن يغلبه

و وصفوا معبودهم بأنه موجود مادي يسكن في السماء

و وصفوه بأن له سبعة أرواح كالقطط

من إهانات اليهود لأنبيائهم و افتراءاتهم عليهم

افتروا علي ابراهيم بأنه كان قبل نبوته يعبد الأوثان

و اتهموا ابراهيم بأنه تزوج سارة و هي أخته

و اتهموه بأنه كذب علي الحاكم القبطي

بأن سارة أخته

و اتهموا نبي الله إسحاق بنفس التهمة

و اتهموا إبراهيم و بقية الأنبياء بأنهم كانوا يشربون الخمر

و زعموا أن لوطا سكن في سدوم اختلافه مع ابراهيم

و نسبوا إلي سارة رضي الله عنها الظلم والقسوة

و اتهموا إبراهيم بأنه أطاع سارة و طرد هاجر و ابنها إسماعيل

اما مصادرنا فتبرئ إبراهيم و عترته من الظلم والمعصية

و اتهموا نبي الله هارون و موسي بالشرك والمعاصي

و اتهموا أنبياء الله بالحيل والدجل والبلاهة

و اتهموا يوشع بأنه ختن اليهود بسكاكين من حجر الصوان

و افتروا علي سليمان أنه أشرك بالله تعالي

النتائج الخطيرة لتخريب اليهود لعقيدة العدل والعصمة

امتياز الشيعة عن اليهود والسنة بعقيدة العصمة التامة

نؤمن بالعدالة المطلقة لله تعالي والعصمة التامة للأنبياء والأئمة

من أحاديث الشيعة في عصمة الأنبياء والأئمة عصمة تامة

من شرائع ديننا عصمة الأنبياء و الأوصياء

وجوب طاعة الأنبياء والأوصياء تستوجب عصمتهم

ضرورة بعثة الأنبياء تستوجب عصمتهم

العصمة من أول صفات الإمام

احاديث نصت علي إمامة الأئمة الإثني عشر و عصمتهم

كتاب كفاية الأثر في النصوص علي الأئمة الإثني عشر

العصمة التامة هي الوسطية بين الغلو والتقصير

من كلمات علماء الشيعة في عصمة الأنبياء والأئمة

الانبياء معصومون مطهرون كاملون

العصمة عن الذنوب، والغلط، والرذائل، وما ينفر

جليلنا

اصل الأدلة عندنا علي العصمة التامة: الدليل العقلي

العصمة لاتعني الإجبار، و لا تنافي الإختيار

دفاع أهل البيت و شيعتهم عن عصمة الأنبياء

الامام الصادق يتألم لظلم الناس للأنبياء والأوصياء

ملاحظة

استغفار الأنبياء والأوصياء وابتلاؤهم لم يكن بسبب الذنوب

ملاحظة

هشام بن الحكم يدافع عن عصمة الأنبياء والأئمة تحت سيف هارون الرشيد

مرجع الشيعة الشيخ المفيد رحمه الله يدافع عن

عصمة نبينا

مرجع الشيعة السيد المرتضي قدس سره يؤلف كتابا في تنزيه الأنبياء

مقتطفات من كتاب تنزيه الأنبياء

بيان الخلاف في نزاهة الأنبياء عن الذنوب

تنزيه آدم عن الغواية

تنزيه نوح عما لا يليق به

تنزيه إبراهيم عن الكفر والعصيان

تنزيه إبراهيم عن الشك في الله تعالي

تنزيه إبراهيم عن الإستغفار للكفار

تنزيه يعقوب عن إيقاع التحاسد بين بنيه

تنزيه يعقوب عن الحزن المكروه

تنزيه يوسف عن الصبر علي الإستعباد

تنزيه يوسف عن الهم بالمعصية

في أن أيوب ابتلي امتحانا لا عقابا

تنزيه موسي عن العصيان بالقتل

تنزيه يونس عن الظلم والمعصية بمغاضبته قومه

معركة تنزيه الأنبياء بين الشيعة و مخالفيهم

موقف علماء الشيعة الثابت: تأويل الآيات التي يبدو منها...

لا عصمة للأنبياء عند السنيين لكن الصحابة عندهم معصومون

نماذج من آراء علمائهم في عصمة الأنبياء

رأي الغزالي

رأي الآمدي

رأي القاضي عياض

رأي الفخر الرازي

ملاحظات علي كتاب عصمة الأنبياء للفخر الرازي

الملاحظة 01

الملاحظة 02

رأي ابن تيمية و مشبهة الحنابلة في عصمة الأنبياء

ابن تيمية يهاجم الشيعة لقولهم بعصمة الأنبياء

السبب الغريب لهجوم ابن تيمية علي العصمة

دفاع ابن تيمية عن اليهود و عن أسطورة الغرانيق

ابن تيمية يجوز أن يكون النبي كافرا فاسقا شريرا

البخاري ينقض عصمة الأنبياء و يفتري عليهم

صحيح البخاري مشحون بالإسرائيليات التي تطعن في الأنبياء و أسوأ منها القرشيات التي تطعن في نبينا

نبي الله إبراهيم يكذب

نبي الله موسي غضوب بطاش

نبي الله موسي يركض عاريا وراء ثيابه

نبي الله سليمان مفرط في الجنس، معرض عن ذكر الله

البخاري يروي تفضيل نبينا علي الرسل والبشر

ثم يتراجع البخاري و يفضل نبي الله موسي علي نبينا لكنه

يفضل قريشا علي اليهود

و يفضل عيسي علي نبينا

و يروي النهي عن تفضيل الأنبياء علي بعضهم

الانبياء عند البخاري عصبيون كما في التوراة

قرشيات البخاري في الطعن بنبينا أسوأ من إسرائيلياته

روايات البخاري المشينة في سلوك نبينا

البخاري يفتتح صحيحه بالطعن في نبوة نبينا

غرانيق قريش و محاولات التغطية علي البخاري

البخاري يروي فرية الغرانيق في ست مواضع

تناقض الفخر الرازي في حديث الغرانيق

القاضي عياض أكثر علماء السنة اعتدالا في عصمة نبينا

غرانيق قريش يتصيدها بروكلمان و مونتغمري

ملاحظات علي قصة الغرانيق

عمر عندهم معصوم و أفضل من جميع الأنبياء

النبي معصوم نظريا، و أبوبكر و عمر معصومان عمليا

مقولة عدالة الصحابة سياج لعصمة أبي بكر وعمر

اضطرارهم لتضييق سياج الصحابة بأهل بدر و بيعة الرضوان

عصمة عمر عندهم أعلي من عصمة جميع الأنبياء

النبي عندهم أضعف من عمر أمام شيطانه

و زعموا أن الله تعالي يتكلم بلسان عمر

و زعموا أن الملائكة تحدث عمر

و الفوا مؤلفات في الأخطاء النبوية والتصحيحات العمرية

و اخترع الذهبي قاعدة خاصة لعصمة عمر و أبي بكر

و غيروا إسم العصمة لإثباتها لعمر و أبي بكر

و من لعبهم بالألفاظ و ادعائهم الأدب مع النبي

و منهم أخذ الصوفيون عصمة الأقطاب و حفظ الأولياء

رأي التفتازاني: في عصمة أبي بكر و عمر و عدالة باقي الصحابة

نقد منطق التفتازاني في العصمة في مسائل

المسألة 01

المسألة 02

المسألة 03

المسألة 04

ابوبكر و عمر معصومان عند الغزالي، لكن لا يجب تقليدهما

هل تشيع الغزالي في آخر عمره؟

النقد الذاتي قليل نادر في علمائهم

السلطة القرشية تتبع اليهود حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل

تقليد اليهود.. من مصادرة الخلافة

الي.. ترك الصلاة

اعمال تحريفية واسعة من أجل ترسيخ عصمة عمر و أبي بكر

بدأ نشاطهم بعد النبي واستمر إلي يومنا هذا

حملوا آيات مدح الصحابة أكثر مما تحتمل

غيبوا الآيات الصريحة في نقد الصحابة و ذمهم

لابد من ميزان لتقييم الصحابة

وضعوا أحاديث في مدح الصحابة و عصمتهم

ليقابلوا بها أحاديث عصمة العترة

نقد حديث: خير القرون قرني

و معناه أن التاريخ الإسلامي يسير إلي الإنحدار، والأمة إلي الزوال

الخط البياني للأمة.. نزول ثم صعود

تخبط الشراح في حديث خير القرون قرني

ردهم شهادات النبي في انحراف الصحابة بعده

الامام مالك يعض يديه ندما لروايته أحاديث الحوض

قرنوا الصحابة بالنبي في الصلاة عليه من أجل عمر

من الذي حذف الصلاة علي آل النبي؟! ومن أين جاء قولهم، أو عليه وآله صحبه و سلم؟

من الذي وضع الصلاة علي الصحابة بدل الآل أو معها؟

عصموا البخاري من أجل عصمة عمر

مات البخاري قبل أن يكمل كتابه، فأكمله جماعة المتوكل

السر في تبنيهم كتاب البخاري

هل أن تبني البخاري عمل علمي أم ضد العلم؟

نظرية إلجام العوام بيد السلطة و رجال الدين

الجام العوام عن قبول شهادة الصحابة بحق أنفسهم

الجام العوام عن قبول إقرار بعض الصحابة بالمعصية

الجام العوام عن قبول شهادة النبي لقاتل عمار بالنار

ابن حنبل يقول: صحابي في النار

الجام العوام عن قبول شهادة ثقة و أمين أسراره

الجام العوام لتغطية مؤامرة خير القرون لقتل النبي

الجام العوام لتغطية اضطهاد خير القرون لأهل بيت نبيهم

الجام العوام عن تصديق القرآن بأن أكثرية خير القرون لن يؤمنوا

من أساليبهم في إلجام العوام

تمييع الحقائق و حلف الإيمان

تعليم العوام إنكار الحقائق نهارا جهارا

الجام أطفال المسلمين بتربيتهم علي عصمة عمر

الجام العوام باستخدام وسائل الإعلام

العصمة والمعصومون في القرآن

المعصومون ثمرة الوجود البشري

آيات العصمة في القرآن

آيات الإستخلاف

لا يكون خليفة الله في الأرض إلا معصوما

تكريم بني آدم لا يعني استخلافهم لأنه تكريم تكويني واقتضائي

خلفاء الله في الأرض ليس بالضرورة أن يكونوا حكاما

تعليم آدم الأسماء دليل علي عصمة خلفاء الله تعالي

آيات الإصطفاء الإلهي

آيات الإصطفاء الإلهي

معني الإصطفاء و أنواعه

تفسير آية: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفين

الآية من متشابهات القرآن

القرطبي يرفض التفسير الرسمي

تفسير أهل البيت

اختصاص أهل البيت بعلم الكتاب لا يلغي حجيته

ابناء فاطمة و أتباع أهل البيت ورثة مجازيون للكتاب

الظالم لنفسه درجات متفاوتة

رأي علماء الشيعة

بعض مفسري الشيعة وافق علي تفسير عمر و كعب

اهم الإشكالات علي التفسير الحكومي

التوريث الإلهي للكتاب مقام عظيم

آيات الإستخلاص والإجتباء الإلهي

اخلاص الدين لله تعالي

دعاء الله بانقطاع و إخلاص

المخلصون المستخلصون

المخلصون ناجون من الضلال والهلاك

المخلصون مقربون من الله و ليسوا أبناءه

المخلصون ناجون من العذاب مكرمون في الجنة

يتمني غير المخلصين أن يكونوا منهم

معني الإخلاص والمخلص

دلالة الإستخلاص الإلهي علي العصمة

آيات الإجتباء تشبه آيات الإستخلاص

آيات نفي سلطان الشيطان علي المخلصين

وجه دلالتها علي العصمة

الحكمة من نزول آيات متشابهة في عصمة الأنبياء

معجزة الجغرافية القرآنية

العصمة و قاعدة اللطف

معني العصمة في القرآن واللغة والحديث

من تعريفات المتكلمين للعصمة

قاعدة اللطف الإلهي التي استدل بها علماؤنا علي العصمة

قاعدة اللطف عقلية و شرعية

اللطف الإلهي في القرآن

اللطف في أحاديث النبي و آله

من كلمات علمائنا في قاعدة اللطف

رد الفقهاء للإستدلال بقاعدة

اللطف في الفقه

ضرر الإغراق في التأصيل بقاعدة اللطف

كيف يلطف الله تعالي بالمعصوم

درجات العصمة واللطف بالمعصومين

عصمة نبينا و آله أرقي أنواع العصمة

النبي و عترته المعصومون منظومة خاصة لا يقاس بهم أحد

درجة شيعة النبي و آله في أحاديث الطرفين

زيادة رزين العبدري عن أبي داود

مقدمة

بس_م الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وأفضل الصلاة وأتم السلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

وبعد، فإن عصمة الأنبياءوالأوصياء عليهم السلام من العقائد المركزية في الأديان الإلهية، وقد اهتم بها علماء المسلمين، خاصةً علماء مذهب أهل البيت عليهم السلام، وبحثوا مسائلها بإجمال وتفصيل، وسلكوا المنهج الكلامي الذي يغلب عليه الطابع العقلي، أو المنهج الحديثي الذي يغلب عليه الطابع النقلي، وإن كانت عملية الإستدلال عملية عقلية دائماً، لأنها ترتيب مقدمات للإنتقال بها إلي نتيجة سواءً كانت مقدماتها عقلية أو نقلية، أو مركبة.

وقد اخترنا لسلسلة العقائد الإسلامية المنهج الحديثي المقارن، وتوسعنا في هذا المجلد في بحثين من بحوث العصمة:

الأول: العصمة في القرآن، فبحثنا طوائف من الآيات الكريمة لايمكن تفسيرها إلا بالمعصومين من الأنبياءوأوصيائهم عليهم السلام.

والثاني: مقارنة عقيدة العصمة بين الإسلام واليهودية، لبيان دور اليهود في تخريب عقيدة عصمة الأنبياء عليهم السلام وتأثر المسلمين بهم! فاليهود هم الذين فتحوا باب التنقيص من مقام الأنبياءوالأوصياء عليهم السلام، وطوَّلوا ألسنتهم عليهم، واتهموهم بارتكاب أخطاء ومعاصي وأفعال مشينة، حتي الكفر بالله تعالي!

ومن المؤسف أن النصاري تبعوهم في ذلك، ولم يستثنوا إلا نبي الله عيسي عليه السلام فقط. ثم تبعهم جمهور المسلمين فاستوردوا منهم أكثر اتهاماتهم للأنبياء عليهم السلام وافتراءاتهم عليهم، وكان السبب الأكبر في ذلك أن الخلافة القرشية قامت علي سياسة منع المسلمين

من التحديث بأحاديث نبيهم صلي الله عليه وآله، وقرَّبَتْ عدداً من حاخامات اليهود وقساوسة النصاري، وأطلقت ألسنتهم في نشر ثقافتهم بين المسلمين فنشروها بإسم الإسلام، وغرسوا في أذهان المسلمين التصور اليهودي الظالم للأنبياءوالأوصيائهم عليهم السلام، ودخل كل ذلك في كتب الصحاح والتفسير والسيرة، وورثت ذلك أجيال المسلمين علي أنه حقائق دينية!

ولولا وقوف أهل البيت عليهم السلام وعلماء مذهبهم في مقابل موجة الثقافة اليهودية، لاتسعت زاوية الإنحراف، وتضاعف الإفتراء علي الأنبياءوالأوصياء عليهم السلام، بل علي الله نفسه تبارك وتعالي، ولم يبقَ مَن يعتقد بعصمة الله وأوليائه، ويدفع عنهم افتراءات اليهود والمتهوكين!

إن النص التالي يصوِّر لنا عمق الفاجعة التي حلَّتْ بثقافة الأمة الإسلامية من تبني السلطة القرشية للإسرائيليات، ويكشف نوع عمل الأئمة عليهم السلام في معالجتها:

قال الصدوق رحمه الله في عيون أخبار الرضا عليه السلام:2/170:(باب ذكر مجلس آخر للرضا عليه السلام عند المأمون مع أهل الملل والمقالات، وما أجاب به علي بن محمد بن الجهم في عصمة الأنبياءسلام الله عليهم أجمعين:

حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني(رض)والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتب، وعلي بن عبد الله الوراق رضي الله عنهم قالوا: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم قال: حدثنا القإسم بن محمد البرمكي قال:حدثنا أبو الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسي الرضا عليه السلام أهل المقالات من أهل الإسلام والديانات من اليهود والنصاري والمجوس والصابئين وسائر المقالات، فلم يقم أحد إلا وقد ألزمه حجته كانه ألقم حجراً، قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا ابن رسول الله أتقول بعصمه الأنبياء عليهم السلام؟ قال عليه السلام: نعم. قال: فما تعمل في قول الله عز وجل: وَعَصَي

آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي. (ط_ه:121)، وفي قوله عز وجل: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أن لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ.(الأنبياء:87) وفي قوله عز وجل في يوسف عليه السلام:وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا. (يوسف:24). وفي قوله عز وجل في داود: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلي نِعَاجِهِ وإن كثيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَي بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَاهُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ إنما فَتَنَّاهُ. (صّ:24)، وقوله تعالي في نبيه محمد صلي الله عليه وآله: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللهُ أحق أن تَخْشَاهُ. (الأحزاب:37)

فقال الرضا عليه السلام: ويحك ياعلي إتق الله ولاتنسب إلي أنبياءالله عليهم السلام الفواحش ولا تتأول كتاب الله برأيك، فإن الله عز وجل قد قال: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ.(آل عمران:7). أما قوله عز وجل في آدم: وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي(ط_ه: 121)، فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لافي الأرض، وعصمته يجب أن تكون في الأرض لتتم مقادير أمر الله، فلما أهبطه إلي الأرض وجعله حجة وخليفة عصمه بقوله عز وجل: أن الله اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ.(آل عمران: 33) وأما قوله عز وجل:وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أن لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. إنما ظن بمعني استيقن أن الله لن يضيق عليه رزقه، ألاتسمع قول الله عز وجل: وأما إذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ.(الفجر:16) أي ضيق عليه رزقه، ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر.

وأما قوله عز وجل في يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا، فإنها همت بالمعصية وهمَّ يوسف بقتلها إن

أجبرته لعظم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله عز وجل: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.(يوسف: 24) يعني القتل والزنا. وأما داود عليه السلام فما يقول من قبلكم فيه؟

فقال علي بن محمد بن الجهم: يقولون إن داود عليه السلام كان في محرابه يصلي فتصور له إبليس علي صورة طير أحسن ما يكون الطيور، فقطع داود صلاته وقام ليأخذ الطير فخرج الطير إلي الدار، فخرج الطير إلي السطح، فصعد في طلبه، فسقط الطير في دار أوريا بن حنان، فاطلع داود في أثر الطير بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها، وقد أخرج أوريا في بعض غزواته، فكتب إلي صاحبه أن قدم أوريا إمام التابوت، فقدم فظفر أوريا بالمشركين، فصعب ذلك علي داود، فكتب إليه ثانية أن قدمه إمام التابوت فقدم فقتل أوريا، فتزوج داود بامرأته!

قال: فضرب الرضا عليه السلام بيده علي جبهته وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد نسبتم نبياً من أنبياءالله عليهم السلام الي التهاون بصلاته حتي خرج في أثر الطير، ثم بالفاحشة ثم بالقتل! فقال: يا بن رسول الله فما كان خطيئته؟

فقال: ويحك! إن داود إنما ظن أن ما خلق الله عز وجل خلقاً هو أعلم منه فبعث الله عز وجل إليه الملكين فتسورا المحراب، فقالا: خَصْمَانِ بَغَي بَعْضُنَا عَلَي بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاتُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلي سَوَاءِ الصِّرَاطِ.إِنَّ هَذَا أخي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ. قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلي نِعَاجِهِ، (صاد:22-24) فعجل داود علي المدعي عليه فقال: قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلي نِعَاجِهِ، ولم يسأل المدعي البينة علي ذلك ولم يقبل علي المدعي

عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه! ألا تسمع الله عز وجل يقول: يَا دَاوُدُ أنا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَي فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ. (صاد: 26).

فقال: يا بن رسول الله فما قصته مع أوريا؟

فقال الرضا عليه السلام:إن المرأة في أيام داود عليه السلام كانت إذا مات بعلها أو قتل لاتتزوج بعده أبداً، وأول من أباح الله له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها كان داود عليه السلام، فتزوج بامرأة أوريا لما قتل وانقضت عدتها منه، فذلك الذي شق علي الناس من قبل أوريا.

وأما محمد صلي الله عليه وآله وقول الله عز وجل: وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللهُ أحق أن تَخْشَاهُ.(الأحزاب:37)فإن الله عز وجل عرف نبيه صلي الله عليه وآله أسماء أزواجه في دار الدنيا وأسماء أزواجه في دار الآخرة وأنهن أمهات المؤمنين، وإحداهن من سمي له زينب بنت جحش، وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة، فأخفي إسمها في نفسه ولم يبده لكيلا يقول أحد من المنافقين أنه قال في امرأة في بيت رجل أنها إحدي أزواجه من أمهات المؤمنين، وخشئ قول المنافقين، فقال الله عز وجل: وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللهُ أحق أن تَخْشَاهُ، يعني في نفسك. وإن الله عز وجل ما تولي تزويج أحد من خلقه إلا تزويج حواء من آدم عليه السلام وزينب من رسول الله صلي الله عليه وآله بقوله: فَلَمَّا قَضَي زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُاللهِ مَفْعُولاً.(الأحزاب:37)وفاطمة من علي عليهما السلام.

قال: فبكي علي بن محمد بن الجهم وقال:

يا بن رسول الله: أنا تائب إلي الله عز وجل من أن أنطق في أنبياءالله عليهم السلام بعد يومي إلا بما ذكرته). انتهي.

لذلك ركَّزنا البحث علي كشف الجذور التاريخية للشبهات والإفتراءت علي عصمة الأنبياءوالأوصياء عليهم السلام، خاصة ما يتعلق بعصمة نبينا صلي الله عليه وآله، ثم علي بحث الأصل القرآني لعقيدة العصمة، وقاعدة اللطف. والله تعالي ولي التوفيق.

حرره بقم المشرفة في الثاني والعشرين من رجب الخير 1423

علي الكوراني العاملي

عقيدة اليهود نفي الحكمة عن الله تعالي و نفي العصمة أنبيائه

لماذا يحسد اليهود الشعوب التي عندها مقدسات

لا تتعجب إذا رأيت اليهودي عنده عقدة من كل ما هو مقدس عند الشعوب!

فقد ورث من أجداده التطاول علي قداسة الله تعالي وأنبيائه عليهم السلام، فهم أول من فتح باب الجرأة علي الله وأنبيائه عليهم السلام، مع أن كل مايزعمونه لأنفسهم من مكانة وامتياز علي الشعوب، مبنيٌّ علي أنهم شعب الله المختار وأتباع أنبيائه عليهم السلام!

وبهذا تفهم سبب نشاطهم في تخريب مقدسات الأديان الأخري، لأن الذي يخرب مقدساته، ويجعل معبوده جاهلاً، متعصباً، فظاً، غليظاً، ظالماً، ويجعل أنبياءالله عليهم السلام أنانيين، شهوانيين، خونة! لايطيق أن يكون للآخرين إلهٌ حكيمٌ، عادلٌ، لايظلم مخلوقاً مثقال ذرة. وأن يكون لهم أنبياءأطهارٌ، معصومون في كل حياتهم، وجميع أعمالهم، منزهون عن المعاصي والنقائض!

وقد نجح اليهود في تخريب مقدسات المسيحيين وعقيدتهم، ونفذوا إلي جهازهم الكنسي ونشروا فيه الفساد، وأسقطوا مقام القساوسة عند الناس!

وقد أخبرني مستشار ثقافي في مؤسسة اليونسكو أن اليهود هم الذين يقفون وراء طرح التحلل من الدين والمقدسات، الذي ينادي به مثقفون (مسيحيون) ويكتبون مقالات يطالبون فيها البابا والفاتيكان: نريد ديناً بلا محرمات!

وها نحن نري سعيهم الحثيث لتخريب مقدسات المسلمين، بكل الوسائل!

لم يكن اليهود موحدين حتي في عصور أنبيائهم

لم يكن جمهور اليهود مخلصاً لتوحيد الله تعالي حتي في عصور أنبيائهم عليهم السلام، رغم تبجحهم بأنهم هم الموحدون، وأنهم أبناء نبي الله إبراهيم صلي الله عليه وآله، الذي قاوم عبادة الأوثان وأرسي أسس التوحيد، هذا إن صحت أنسابهم اليه!

ومن أوضح الأدلة علي ذلك أنهم بعد أن رأوا المعجزة علي يد موسي عليه السلام، وشقَّ الله لهم البحر وجعله طريقاً يبساً، وعبروا فيه ونجوا من فرعون وجنوده.. قابلوا هذه المعجزة الكبري بفكرهم الوثني، وطالبوا موسي عليه السلام أن يتخذ لهم إلهاً

عجلاً ليعبدوه! وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسرائيل الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَي قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَي أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَي اجْعَلْ لَنَا إلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إن هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إلهاً وَهُوَفَضَّلَكُمْ عَلَي الْعَالَمِينَ (الأعراف:138-140(ويظهر أن سكوتهم يومها كان خوفاً من موسي عليه السلام! فأول ما سنحت لهم الفرصة في غيابه، صنعوا عجلاً ذهبياً واتخذوه إلهاً! وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَي مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أنَّهُ لايُكَلِّمُهُمْ وَلايَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ. وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَي إلي قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أمر رَبِّكُمْ وَأَلْقَي الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أخيه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أم أن الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاتُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلاتَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.قَالَ رَبِّ اغْفِرْلِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. أن الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاوَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ. وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا أن رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَي الْغَضَبُ أخذ الألواح وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًي وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ.

وَاخْتَارَ مُوسَي قَوْمَهُ سَبْعِينَ رجلاً لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أخذتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا أن هِيَ إلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أنت وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ. وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخرة أنا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَئٍ

فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الآمّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالآنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أنزل مَعَهُ أولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ. (الأعراف 148-157)

وقال تعالي: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَي أربعين لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ. ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُم مِّنْ بَعْدِ ذََلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَي الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَإِذْ قَالَ مُوسَي لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إلي بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ أنه هُوَ التَّوَابُ الرَّحِيمُ. وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَي لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّي نَرَي اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (البقرة: 51-56)

فاليهود لم يخلصوا في تاريخهم لتوحيد الله تعالي فكيف يخلصوم لأنبيائه؟! ولهذا أجاب أمير المؤمنين عليه السلام يهودياً عندما سأله: (ما دفنتم نبيكم حتي اختلفتم فيه! فقال له عليه السلام: إنما اختلفنا عنه لا فيه، ولكنكم ماجفَّتْ أرجلكم من البحر حتي قلتم لنبيكم: اجْعَلْ لَنَا إلهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ). (نهج البلاغة:4/75، وأمالي المرتضي:1/198، والعرائس للثعالبي113).

الالحاد الصريح في اليهود الماضين والمعاصرين

شهد المؤرخ الغربي ول ديورانت في قصة الحضارة (2/338) وغيره، بأن عبادة العجل الذهبي استمرت في بني إسرائيل في زمن نبي الله موسي عليه السلام الي ما بعد سليمان عليه السلام، حيث استبدلوا العجل بأصنام أخري!!

وقد أوردنا في المجلد الثاني من العقائد الإسلامية ص177، نصوصاً من توراتهم وإنجيلهم تدل علي تأصل المادية والوثنية في تفكيرهم!

قال الدكتور الشلبي في مقارنة الأديان:1/192: (علي

أن مسألة الألوهية كلها، سواء اتجهت للوحدانية أو للتعدد، لم تكن عميقة الجذور في نفوس بني إسرائيل، فقد كانت المادية والتطلع إلي أسلوب نفعي في الحياة من أكثر ما يشغلهم، وإذا تخطينا عدة قرون، فإننا نجد الفكر اليهودي الحديث يجعل لليهود رباً جديداً نفعياً كذلك، ذلك هو: تربة فلسطين وزهر برتقالها!

والذي يقرأ رواية(طوبي للخائفين)للكاتبة اليهودية يائيل ديان، ابنة القائد الصهيوني العسكري موشئ ديان، يجد أحد أبطالها(إيفري)ينصح ابنه الطفل بأن يتخلي عن الذهاب للكنيسة، وأن يحول اهتمامه لإلهه الجديد: تراب فلسطين! ونقتبس فيما يلي سطوراً من هذه الرواية:

...الصبي يحب أن يذهب إلي الكنيس مع أمه، ولكنه عندما عاد مرة من المعبد الذي لا يذهب إليه إلا القليلون، ثار أبوه في وجهه بحديث له مغزي عميق قال له: أيام زمان حين كنا يهوداً في روسيا وغيرها، كان من الضروري بالنسبة لنا أن نطيع التعليمات ونحافظ علي ديننا، فقد كان الدين اليهودي لنا وسيلتنا لنتعاون ونتعاطف ونذود عنا الردي، أما الآن فقد أصبح لدينا شئ أهم هو الأرض، أنت الآن إسرائيلي ولست مجرد يهودي، إني قد تركت في روسيا كل شئ، ملابسي ومتاعي وأقاربي وإلهي، وعثرت هنا علي رب جديد، هذا الرب الجديد هو خصب الأرض وزهر البرتقال. إلا تحس بذلك؟.... وأخذ إيفري حفنة من تراب الأرض وسكبها في كف ابنه وقال له: إمسك هذا التراب، إقبض عليه، تحسسه تذوقه، هذا هو ربك الوحيد، إذا أردت أن تصلي للسماء فلا تصل لها لكي تسكب الفضيلة في أرواحنا، ولكن قل لها أن تنزل المطر علي أرضنا، هذا هو المهم: إياك أن تذهب مرة أخري إلي المعبد)!!.

وقال أيضاً:1/267: (ويقرر التلمود أن الله هو مصدر الشر كما أنه

مصدر الخير، وأنه أعطي الإنسان طبيعة رديئة، وسنَّ له شريعة لم يستطع بطبيعته الرديئة أن يسير علي نهجها، فوقف الإنسان حائراً بين اتجاه الشر في نفسه، وبين الشريعة المرسومة إليه، وعلي هذا فإن داود الملك لم يرتكب خطيئة بقتله أوريا واتصاله بامرأته، لأن الله هو السبب في كل ذلك!!). (التلمود شريعة إسرائيل ص17).

افتراء اليهود علي الله تعالي و نفيهم عنه العلم والعدل

مضافاً إلي فريتهم الكبري علي الله تعالي بأنه جسم متجسدٌ في عِجْل، من حجر أو ذهب، أو متجسد بصورة إنسان كبير السن، كما في توراتهم طبعة مجمع الكنائس الشرقية(ص4فقرة27) قد وصفوا الله تعالي بصفات لاتناسب الإنسان العادي، فضلاً عن رب العالمين الذي ليس كمثله شئ، عز وجل:

وصفوا الله تعالي بأنه لا يعلم ما خلق

جاء في ص6 من توراتهم: (8. وسمعاً صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة. 9. فنادي الرب الإله آدم وقال له أين أنت. 10. فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت. 11. فقال من أعلمك إنك عريان، هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها. 12. فقال آدم: المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت).!!

و وصفوه بالطيش والغضب والظلم

قال الدكتور شلبي في تاريخ الأديان:1/267: (يروي التلمود أن الله ندم لِمَا أنزله باليهود وبالهيكل، ومما يرويه التلمود علي لسان الله قوله: تب لي لأني صرحت بخراب بيتي وإحراق الهيكل ونهب أولادي!! وليست العصمة من صفات الله في رأي التلمود، لأنه غضب مرة علي بني إسرائيل فاستولي عليه الطيش، فحلف بحرمانهم من الحياة الأبدية، ولكنه ندم علي ذلك بعد أن هدأ غضبه، ولم ينفذ قسمه، لأنه عرف أنه فعل فعلاً ضد العدالة).

وقال ابن حزم في الفصل:1/1/222: (ونقل في توراتهم وكتب الأنبياء بأن رجلاً اسمه إسماعيل كان أثر خراب البيت المقدس، سمع الله يئن كما تئن الحمامة ويبكي وهو يقول: الويل الويل لمن أخرب بيته....وَيْلِي علي ما أخربت من بيتي! ويْلي علي ما فرقت من بنيَّ وبناتي)!!

و افتروا علي الله تعالي بأنه ينسي عهده ثم يتذكره

في التوراة والإنجيل ص99: (23.وبعد مرور حقبة طويلة مات ملك مصر وارتفع أنين بني إسرائيل وصراخهم من وطأة العبودية، وصعد إلي الله.24. فأصغي الله إلي أنينهم، وتذكر ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب.25. ونظر الله إلي بني إسرائيل.(ورق لحالهم).

و زعموا أن يعقوب صارع الله تعالي فعجز الله أن يغلبه

قال ابن حزم في الفصل:1جزء1/141: (ذكر في هذا المكان(من التوراة)أن يعقوب صارع الله عز وجل.... حتي قالوا أن الله عز وجل عجز عن أن يصرع يعقوب! وفيه أن يعقوب قال: رأيت الله مواجهة وسلمت عليه)!

و وصفوا معبودهم بأنه موجود مادي يسكن في السماء

في/579 من توراتهم: (18.فقال ملك إسرائيل ليهوشافاط أما قلت لك أنه لا يتنبأ علي خيراً بل شراً. 19. وقال فاسمع إذا كلام الرب. قد رأيت الرب جالساً علي كرسيه وكل جند السماء وقوف لديه عن يمينه وعن يساره. 20. فقال الرب من يغوي أخآب فيصعد ويسقط في راموت جلعاد. فقال: هذا هكذا، وقال: ذاك هكذا).

و وصفوه بأن له سبعة أرواح كالقطط

جاء في توراتهم طبعة مجمع الكنائس الشرقية ص399: (1. بعد هذا نظرت وإذا باب مفتوح في السماء والصوت الأول الذي سمعته كبوق يتكلم معي قائلاً إصعد إلي هنا فأريك ما لابد أن يصير بعد هذا. 2. وللوقت صرت في الروح وإذا عرش موضوع في السماء وعلي العرش جالس. 3. وكان الجالس في المنظر شبه حجر اليشب والعقيق وقوس قزح حول العرش في المنظر شبه الزمرد. 4. وحول العرش أربعة وعشرون عرشاً، ورأيت علي العروش أربعة وعشرين شيخاً جالسين متسربلين بثياب بيض وعلي رؤوسهم أكاليل من ذهب. 5. ومن العرش يخرج بروق ورعود وأصوات، وإمام العرش سبعة مصابيح نار متقدة هي سبعة أرواح الله)!!

من إهانات اليهود لأنبيائهم و افتراءاتهم عليهم

افتروا علي ابراهيم بأنه كان قبل نبوته يعبد الأوثان

في قاموس الكتاب المقدس ص596: (وقد أدرك إبراهيم بالوحي والإلهام وجود إله واحد أبدي خالق السموات والأرض، وسيد الكون. (تك 18: 19)

وكان إيمان إبراهيم جديداً بالنسبة لأور التي كان يقيم فيها، حيث كانت مركز عبادة القمر، بل أن أبا إبراهيم نفسه كان يخدم آلهة أور الوثنية(يش24:2).

لذلك هاجر إبراهيم من أور نحو بلاد كنعان حوالي أواخر القرن العشرين قبل الميلاد).

و اتهموا ابراهيم بأنه تزوج سارة و هي أخته

في قاموس الكتاب المقدس ص9: (وقد عاش إبراهيم الجزء الأول من حياته مع أبيه وإخوته في أور الكلدانيين، وقد تزوج من ساري وكانت أخته بنت أبيه وليست بنت أمه، كما نعرف ذلك من تك 20: 12).

و اتهموه بأنه كذب علي الحاكم القبطي بأن سارة أخته

في التوراة والإنجيل ص21(موقعarabicbible): (14. ولما اقترب أبرام من مصر استرعي جمال ساراي أنظار المصريين، وشاهدها أيضاً رؤساء فرعون فأشادوا بها أمامه. 15. فأخذت المرأة إلي بيت فرعون. 16. فأحسن إلي أبرام بسببها وأجزل له العطاء من الغنم والبقر والحمير والعبيد والإماء والأتن والجمال. 17. ولكن الرب ابتلي فرعون وأهله ببلايا عظيمة بسبب ساراي زوجة أبرام. 18. فاستدعي فرعون أبرام وسأله ماذا فعلت بي؟ لماذا لم تخبرني أنها زوجتك؟ 19. ولماذا ادعيت أنها أختك حتي أخذتها لتكون زوجة لي؟ والآن ها هي زوجتك، خذها وامض في طريقك.20. وأوصي فرعون رجاله بأبرام فشيعوه وامرأته، وكل ما كان يملك).

وفي التوراة والإنجيل ص33: (1. وارتحل إبراهيم من هناك إلي أرض النقب وأقام بين قادش وشور وتغرب، في جرار. 2. وهناك قال إبراهيم عن سارة زوجته هي أختي. فأرسل أبيمالك ملك جرار وأحضر سارة إليه. 3. ولكن الله تجلي لأبيمالك في حلم في الليل وقال له: إنك ستموت بسبب المرأة التي أخذتها، فإنها متزوجة. 4. ولم يكن أبيمالك قد مسها بعد، فقال للرب: أتميت أمة بريئة؟ 5. ألم يقل لي أنها أختي وهي نفسها ادعت أنه أخوها؟ ما فعلت هذا إلا بسلامة قلبي وطهارة يدي. 6. فأجابه الرب: أنا أيضاً علمت إنك بسلامة قلبك قد فعلت هذا، وأنا أيضاً منعتك من أن تخطئ إلي ولم أدعك تمسها. 7. والآن رُدَّ للرجل زوجته فإنه نبي، فيصلي من أجلك فتحيا، وإن لم تردها

فإنك وكل من لك حتماً تموتون).

وفي قاموس الكتاب المقدس ص10: (فارتحل من هناك إلي مصر(تك 12: 10) وهناك خوفاً علي حياته، ذكر لفرعون أن ساراي أخته دون أن يذكر أنها زوجته (تك 12:11-20) ومن عند بلوطات ممرا انتقل إبراهيم إلي أرض الجنوب وهناك أرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة لأن إبراهيم قال أنها أختي ولكن الرب ظهر لأبيمالك في حلم ولم يدعه يمسها، ولما عاقبه الرب علي أخذه سارة ردها إلي إبراهيم. وصلي إبراهيم لأجله ولأجل بيته فرفع الرب العقاب عنه (تك/20). إلا أنه أظهر ضعفاً مرتين عندما لم يقل الحق كله في ذكر علاقة سارة زوجته به! (تك 12: 18 و20: 11).

وفي قاموس الكتاب المقدس ص443: (سارة: إسم عبري معناه: أميرة، وهي زوجة إبراهيم، وكانت في الأصل تدعي ساراي. تزوجت سارة من إبراهيم في أور الكلدانيين وكانت أصغر منه بعشر سنوات (تكوين11: 29-31 و17: 17). وعندما خرج إبراهيم من حاران كان عمر سارة 65سنة (تكوين12: 4) ولكنها كانت جميلة بالرغم مما بلغت من العمر، وكانت محتفظة بقوتها وبشبابها. وبعد مغادرة حاران وقبل النزول إلي مصر، تحدث إبراهيم مع سارة وطلب منها أن تخفي أنها زوجته وتقول أنها أخته، وقد كانت بالفعل أخته ابنة أبيه ليست ابنة أمه! (تك 20: 12). وكان سبب طلب إبراهيم ذلك خوفه من أن جمال سارة يلفت نظر المصريين إليها، فيقتلونه ويأخذونها، وأطاعت سارة زوجها، فأخذها ملك مصر، ولكن الله منعه من الإقتراب إليها. ووبخ فرعون زوجها عندما أعلن له الله الأمر.

وبعد عدة سنين سكن إبراهيم في جرار وقال عن سارة أنها أخته، فطلب أبيمالك أن يتزوج منها، ربما لغرض إيجاد تحالف مع الأمير البدوي القوي. وهنا

أيضاً منع الله أبيمالك من الإساءة إلي سارة)! (تكوين 20: 1- 18).

أما الرواية الصحيحة للقصة فهي في مصادر أهل البيت عليهم السلام في الكافي:8/370: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، وعدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، جميعاً عن الحسن بن محبوب، عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:إن إبراهيم عليه السلام كان مولده بكوثي ربا، وكان أبوه من أهلها، وكانت أم إبراهيم وأم لوط سارة وورقة- وفي نسخة رقية- أختين وهما ابنتان للاحج، وكان لاحج نبياً منذراً ولم يكن رسولاً، وكان إبراهيم عليه السلام في شبيبته علي الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها، حتي هداه الله تبارك وتعالي إلي دينه واجتباه، وأنه تزوج سارة ابنة لاحج وهي ابنة خالته، وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد ملَّكت إبراهيم عليه السلام جميع ماكانت تملكه، فقام فيه وأصلحه، وكثرت الماشية والزرع حتي لم يكن بأرض كوثي ربا رجل أحسن حالاً منه.

وإن إبراهيم عليه السلام لما كسر أصنام نمرود أمر به نمرود فأوثقه وعَمل له حِيراً وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار، ثم قذف إبراهيم عليه السلام في النار لتحرقه، ثم اعتزلوها حتي خمدت النار، ثم أشرفوا علي الحير فإذا هم بإبراهيم عليه السلام سليماً مطلقاً من وثاقه، فأخبر نمرود خبره، فأمرهم أن ينفوا إبراهيم عليه السلام من بلاده، وإن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله، فحاجَّهم إبراهيم عليه السلام عند ذلك فقال:إن أخذتم ماشيتي ومالي فإن حقي عليكم أن تردوا عليَّ ما ذهب من عمري في بلادكم! واختصموا إلي قاضي نمرود فقضي علي إبراهيم عليه السلام أن يسلم إليهم جميع ما أصاب

في بلادهم، وقضي علي أصحاب نمرود أن يردوا علي إبراهيم عليه السلام ما ذهب من عمره في بلادهم! فأخبر بذلك نمرود، فأمرهم أن يخلوا سبيله وسبيل ماشيته وماله، وأن يخرجوه، وقال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم، فأخرجوا إبراهيم ولوطاً معه من بلادهم إلي الشام، فخرج إبراهيم ومعه لوط لايفارقه وسارة، وقال لهم: إِنِّي ذَاهِبٌ إلي رَبِّي سَيَهْدِينِ، يعني بيت المقدس، فتحمل إبراهيم عليه السلام بماشيته وماله وعمل تابوتاً وجعل فيه سارة وشد عليها الأغلاق غيرةً منه عليها، ومضي حتي خرج من سلطان نمرود وصار إلي سلطان رجل من القبط يقال له عرارة، فمر بعاشر له فاعترضه العاشر ليعُشِّر ما معه، فلما انتهي إلي العاشر ومعه التابوت، قال العاشر لإبراهيم عليه السلام: إفتح هذا التابوت حتي نُعَشِّر ما فيه، فقال له إبراهيم عليه السلام: قل ما شئت فيه من ذهب أو فضة حتي نعطي عُشره ولا نَفتحه، قال: فأبي العاشر إلا فتحه، قال: وغضب إبراهيم عليه السلام علي فتحه، فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن والجمال قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم عليه السلام: هي حرمتي وابنة خالتي فقال له العاشر: فما دعاك إلي أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيم عليه السلام: الغيرة عليها أن يراها أحد، فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتي أعلم الملك حالها وحالك قال: فبعث رسولاً إلي الملك فأعلمه، فبعث الملك رسولاً من قبله ليأتوه بالتابوت، فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم عليه السلام: إني لست أفارق التابوت حتي تفارق روحي جسدي، فأخبروا الملك بذلك فأرسل الملك أن احملوه والتابوت معه، فحملوا إبراهيم عليه السلام والتابوت وجميع ما كان معه حتي أدخل

علي الملك فقاله له الملك: إفتح التابوت، فقال إبراهيم عليه السلام: أيها الملك إن فيه حرمتي وابنة خالتي، وأنا مفتدٍ فتْحَهُ بجميع ما معي!

قال: فغضب الملك وأجبر إبراهيم عليه السلام علي فتحه، فلما رأي سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها، فأعرض إبراهيم عليه السلام بوجهه عنها وعنه غيرةً منه، وقال: اللهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي، فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه! فقال له الملك: أن إلهك الذي فعل بي هذا؟ فقال له: نعم، أن إلهي غيور يكره الحرام وهو الذي حال بينك وبين ما أردت من الحرام! فقال له الملك: فادع إلهك يرد عليَّ يدي فإن أجابك لم أعرض لها، فقال: إبراهيم عليه السلام: إلهي رُدَّ عليه يده ليكف عن حرمتي: قال: فردَّ الله عز وجل عليه يده، فأقبل الملك نحوها ببصره ثم أعاد بيده نحوها فأعرض إبراهيم عليه السلام عنه بوجهه غيرةً منه وقال: اللهم احبس يده عنها، قال: فيبست يده ولم تصل إليها، فقال الملك لإبراهيم عليه السلام: أن إلهك لغيور وإنك لغيور، فادع إلهك يرد عليَّ يدي فإنه أن فعل لم أعد، فقال له إبراهيم عليه السلام: أسأله ذلك علي أنك إن عدت لم تسألني أن أسأله، فقال الملك: نعم، فقال إبراهيم عليه السلام: اللهم إن كان صادقاً فردَّ عليه يده، فرجعت إليه يده! فلما رأي ذلك الملك من الغيرة ما رأي ورأي الآية في يده، عظَّمَ إبراهيم عليه السلام وهابَهُ وأكرمه واتقاه وقال له: قد أمِنتَ من أن أعرض لها، أو لشئ مما معك فانطلق حيث شئت ولكن لي إليك حاجة، فقال إبراهيم عليه السلام: ما هي؟ فقال له: أحب أن تأذن لي أن

أخدمها قبطية عندي جميلة عاقلة تكون لها خادماً، قال: فأذن له إبراهيم عليه السلام فدعا بها فوهبها لسارة، وهي هاجر أم إسماعيل عليه السلام، فسار إبراهيم عليه السلام بجميع مامعه وخرج الملك معه يمشئ خلف إبراهيم عليه السلام إعظاماً لإبراهيم عليه السلام وهيبةً له، فأوحي الله تبارك وتعالي إلي إبراهيم أن قف ولا تمش قدام الجبار المتسلط ويمشئ هو خلفك، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه وعظمه وهبه فإنه مسلط، ولا بد من إمرة في الأرض بَرَّة أو فاجرة، فوقف إبراهيم عليه السلام وقال للملك: إمض فإن إلهي أوحي إليَّ الساعة أن أعظمك وأهابك وأن أقدمك أمامي وأمشئ خلفك إجلالاً لك، فقال له الملك: أوحي إليك بهذا؟ فقال له إبراهيم عليه السلام: نعم، فقال له الملك: أشهد أن إلهك لرفيق حليم كريم، وأنك ترغبني في دينك، قال: وودعه الملك فسار إبراهيم عليه السلام حتي نزل بأعلي الشامات، وخلف لوط في أدني الشامات. ثم إن إبراهيم عليه السلام لما أبطأ عليه الولد قال لسارة: لو شئت لبعتني هاجر لعل الله أن يرزقنا منها ولداً فيكون لنا خلفاً، فابتاع إبراهيم عليه السلام هاجر من سارة، فوقع عليها فولدت إسماعيل عليه السلام).

و اتهموا نبي الله إسحاق بنفس التهمة

في التوراة صفحة 46: (6. فأقام إسحق في مدينة جرار. 7. وعندما سأله أهل المدينة عن زوجته قال: هي أختي، لأنه خاف أن يقول: هي زوجتي لئلا يقتله أهل المدينة من أجل رفقة، لأنها كانت رائعة الجمال. 8. وحدث بعد أن طال مكوثه هناك، أن أبيمالك ملك الفلسطينيين أطل من النافذة، فشاهد إسحق يداعب امرأته رفقة. 9. فاستدعاه إليه وقال: إنها بالحقيقة زوجتك، فكيف قلت هي أختي؟ فأجاب إسحق: لأني قلت لعلي أقتل بسببها. 10. فقال

أبيمالك: ما هذا الذي فعلت بنا؟ لقد كان يسيراً علي أي واحد من الشعب أن يضطجع مع زوجتك فتجلب بذلك علينا إثماً. 11. وأنذر أبيمالك كل الشعب قائلاً: كل من يمس هذا الرجل أو زوجته فحتماً يموت).

و اتهموا إبراهيم و بقية الأنبياء بأنهم كانوا يشربون الخمر

في قاموس الكتاب المقدس ص776: وقد أتقن القدماء الإعتناء بالكروم ووضع ملكي صادق خبزاً وخمراً إمام أبرام. (تك 14: 18)

وشرب لوط خمراً. (تك 19: 33).

وأحضر يعقوب خمراً لإسحاق. (تك 27: 25)

وتنبأ يعقوب قبل موته بأن يهوذا يشتهر بتربية الكرم. (تك 49: 12).

وكان أولاد أيوب يشربون الخمر. (أي 1: 18)

وندد صاحب الأمثال بمن يدمن الخمر. (أم 23: 30 و 31)

وكذلك إشعياء النبي. (اش 5: 11)!!

و زعموا أن لوطا سكن في سدوم اختلافه مع ابراهيم

في التوراة والإنجيل ص22(موقع arabicbible): (5. وكان للوط المرافق لأبرام غنم وبقر وخيام أيضاً. 6. فضاقت بهما الأرض لكثرة أملاكهما، فلم يقدرا أن يسكنا معاً. 7. ونشب نزاع بين رعاة مواشئ أبرام ورعاة مواشئ لوط، في الوقت الذي كان فيه الكنعانيون والفرزيون يقيمون في الأرض. 8. فقال أبرام للوط: لايكن نزاع بيني وبينك، ولابين رعاتي ورعاتك لأننا نحن أخوان 9. أليست الأرض كلها أمامك؟ فاعتزل عني. أن اتجهت شمالاً، أتجه أنا يميناً، وإن تحولت يميناً، أتحول أنا شمالاً).

و نسبوا إلي سارة رضي الله عنها الظلم والقسوة

في التوراة والإنجيل ص26: (4. فعاشر هاجر فحبلت منه. ولما أدركت أنها حامل هانت مولاتها في عينيها، 5. فقالت ساراي لأبرام: ليقع ظلمي عليك، فأنا قد زوجتك من جاريتي، وحين أدركت أنها حامل هنتُ في عينيها. ليقض الرب بيني وبينك. 6. فأجابها أبرام: ها هي جاريتك تحت تصرفك، فافعلي بها ما يحلو لك. فأذلتها ساراي حتي هربت منها).

وفي التوراة ص36: (9. ورأت سارة أن ابن هاجر المصرية الذي أنجبته لإبراهيم يسخر من ابنها إسحق. 10. فقالت لإبراهيم: أطرد هذه الجارية وابنها، فإن ابن الجارية لن يرث مع ابني إسحق. 11. فقبح هذا القول في نفس إبراهيم من أجل ابنه. 12. فقال الله له: لا يسوء في نفسك أمر الصبي أو أمر جاريتك، واسمع لكلام سارة في كل ما تشير به عليك لأنه بإسحق يدعي لك نسل. 13. وسأقيم من ابن الجارية أمَّةً أيضاً لأنه من ذريتك. 14. فنهض إبراهيم في الصباح الباكر وأخذ خبزاً وقربة ماء ودفعهما إلي هاجر، ووضعهما علي كتفيها، ثم صرفها مع الصبي، فهامت علي وجهها في برية بئر سبع. 15. وعندما فرغ الماء من القربة طرحت الصبي تحت إحدي الأشجار. 16.

ومضت وجلست مقابله، علي بعد نحو مئة متر، لأنها قالت: لا أشهد موت الصبي. فجلست مقابله ورفعت صوتها وبكت. 17. وسمع الله بكاء الصبي، فنادي ملاك الله هاجر من السماء وقال لها: ما الذي يزعجك يا هاجر؟ لا تخافي لأن الله قد سمع بكاء الصبي من حيث هو ملقي. 18. قومي واحملي الصبي، وتشبثي به لأنني سأجعله أمة عظيمة. 19. ثم فتح عينيها فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة وسقت الصبي. 20. وكان الله مع الصبي فكبر، وسكن في صحراء فاران وبرع في رمي القوس. 21. واتخذت له أمه زوجة من مصر).

وفي قاموس الكتاب المقدس ص994: (وقد تكلم الرسول بولس عن هاجر وولادتها حسب الجسد ابناً للعبودية! ووصف المؤمنين بالمسيح بأنهم كأولاد الحرة يرثون مع الأب وميلادهم(الثاني) بالموعد مثل إسحاق ابن إبراهيم (غل 4: 21-31). وقد جاء في معظم التقاليد أن العرب هم ذرية إسماعيل).

و اتهموا إبراهيم بأنه أطاع سارة و طرد هاجر و ابنها إسماعيل

في قاموس الكتاب المقدس ص443: (وعندما بلغت سارة سن89 جاءها الموعد بميلاد إسحق، الذي ولدته بعد سنة. وغيَّر الله إسم ساراي إلي سارة في ذلك الوقت- وقت الموعد). (تك 17: 15 - 22 و 18: 9 - 15 و 21: 1 - 5).

وعندما فطم إسحاق أقام والداه وليمة عظيمة... ولاحظت سارة أن إسماعيل يمزح، وقد قيل أنه كان يصوب سهامه علي إسحاق مهدداً بقتله من باب التخويف، فطلبت سارة من إبراهيم أن يطرد الجارية مع ابنها! وقد ظن البعض أن ذلك كان قساوة وشراً من سارة، غير أن البعض الآخر يعتقد أن سارة لم تطلب طرد هاجر إلا إلي الخيام الأخري لإبراهيم والتي كان يقيم فيها عبيده الآخرون، أي أن سارة منعت الجارية وابنها من السكن في

خيمة السيد، وجعلتها تأخذ مكانها كجارية فقط، واختلفت الآراء في سارة، ولكنها كانت في الحق مؤمنةً فاضلة وزوجةً أمينة وأما مثالية. وقد ماتت سارة وهي في سن 127 سنة، بعد ولادة إسحاق بما يزيد علي36 سنة، ودفنها إبراهيم في حقل المكفيلة الذي اشتراه لهذا الغرض).

وفي قاموس الكتاب المقدس ص73: (وقد حثَّت سارة إبراهيم أن يأخذ أمتها زوجة لكي يعقب منها نسلاً، لأن سارة كانت عاقراً (تك 16: 1 - 4) وكان هذا النظام في الزواج معمولاً به في تلك الأزمنة. وقد دلت الإكتشافات علي أنه كان موجوداً في (نوزي) بالقرب من كركوك في العراق. أما هذا العمل من ناحية سارة فمصدره ضعف الإيمان بمواعيد الرب لإبراهيم وسارة بأن يكون لهما ابن! وبعد أن حملت سارة نظرت إلي سيدتها باحتقار لأنها كانت عاقراً فطردتها سيدتها، ولاقاها ملاك الرب في الطريق وأمرها أن ترجع إلي سيدتها وإلي بيت إبراهيم، ووعدها بأنها ستلد ابناً تسميه إسماعيل، وأنه يكون أبا لجمهور من الناس، وأنه سيسكن البرية كحمار وحشي). (تك 16: 5 - 14)

وبعد أن رجعت هاجر ولدت إسماعيل، لما كان إبراهيم ابن ست وثمانين سنة وبعد أن كان له في أرض كنعان عشر سنين(تك 16: 3 - 16). وقد ختن إسماعيل في الثالثة عشرة من عمره(تك 17: 25) وهي السن التي يختن فيها الأولاد العرب في الوقت الحاضر.

وفي الوليمة التي أقيمت بمناسبة فطام إسحاق، سَخِر إسماعيل من أخيه الصغير وكان إسماعيل حينئذ قد بلغ السادسة عشرة من عمره. فألحَّت سارة علي إبراهيم أن يطرد هاجر وابنها فطردهما (تك 21: 8 - 14). فتاهت الأم وابنها في برية بئر سبع في جنوب فلسطين، وكانا علي وشك الهلاك

من الظمأ. فأري الله هاجر بئر ماء ووعدها ثانية بأن ابنها إسماعيل سيصير مصدر أمة عظيمة. ومنذ ذلك الحين سكن إسماعيل في برية فاران في جنوب فلسطين علي حدود شبه جزيرة سيناء، وأصبح ماهراً في استعمال القوس. وأخذت له أمه زوجة من بلادها، من مصر (تك 21: 15 - 21) وولد له اثنا عشر ابناً الذين أصبحوا آباء القبائل العربية(أنظر إسماعيليين) وولد له أيضاً ابنة اسمها محلة (تك 28: 9) أو بسمة(تك 36: 3) وقد تزوجها عيسو. وقد اشترك إسماعيل مع إسحاق في دفن أبيهما إبراهيم في مَمْرا بالقرب من حبرون. (تك 25: 9). وقد مات إسماعيل بعد أن بلغ من العمر137 سنة).(تك 25: 17.

اما مصادرنا فتبرئ إبراهيم و عترته من الظلم والمعصية

ففي المحاسن:2/337،عن الإمام الصادق عليه السلام:(إن إبراهم عليه السلام لما خلف هاجر وإسماعيل بمكة عطش إسماعيل فبكي، فخرجت هاجر حتي عَلَتْ علي الصفا وبالوادي أشجار فنادت: هل بالوادي من أنيس؟ فلم يجبها أحد، فانحدرت حتي علت علي المروة، فنادت هل بالوادي من أنيس؟ فلم تزل تفعل ذلك حتي فعلته سبع مرات، فلما كانت السابعة هبط عليها جبرئيل عليه السلام فقال لها: أيتها المرأة من أنت؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم، قال لها: وإلي من خلَّفك؟ قالت: أما إذا قلت ذلك، لقد قلت له يا إبراهيم إلي من تخلفني ههنا؟ فقال: إلي الله عز وجل أخلفك، فقال لها جبرئيل عليه السلام: نعم ما خلفك إليه، ولقد وكلك إلي كافٍ فارجعي إلي ولدك، فرجعت إلي البيت وقد انبعث زمزم والماء ظاهر يجري، فجمعت حوله التراب فحبسته! قال أبو عبد الله عليه السلام: ولو تركته لكان سيحاً!

ثم مرَّ ركب من اليمن ولم يكونوا يدخلون مكة، فنظروا إلي الطير مقبلة علي

مكة من كل فج، فقالوا: ما أقبلت الطير علي مكة إلا وقد رأت الماء، فمالوا إلي مكة حتي أتوا موضع البيت، فنزلوا واستقوا من الماء وتزودوا منه ما يكفيهم وخلفوا عندهما من الزاد ما يكفيهما، فأجري الله لهم بذلك رزقاً.

وروي محمد بن خلف، عن بعض أصحابه، قال: فكان الناس يمرون بمكة فيطعمونهم من الطعام، ويسقونهم من الماء). (والكافي:4/ 202).

وفي الكافي:4/201:(عن الإمام الصادق عليه السلام قال:لما ولد إسماعيل حمله إبراهيم وأمه علي حمار، وأقبل معه جبرئيل حتي وضعه في موضع الحجر ومعه شئ من زاد وسقاء فيه شئ من ماء، والبيت يومئذ ربوةٌ حمراء من مَدَر فقال إبراهيم لجبرئيل عليهما السلام: هاهنا أمرت؟ قال: نعم، قال: ومكة يومئذ سَلَمٌ وسَمَر، وحول مكة يومئذ ناسٌ من العماليق).

وروي في الكافي:4/202عن الإمام الصادق عليه السلام رواية تختلف عن المشهور تذكر أن زمزم الأولي شحَّت فحفرها إبراهيم عليه السلام، قال:(عن محمد بن يحيي، وأحمد بن إدريس، عن عيسي بن محمد بن أبي أيوب، عن علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن علي بن منصور، عن كلثوم بن عبد المؤمن الحراني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أن يحج ويحج إسماعيل معه ويسكنه الحرم، فحجَّا علي جمل أحمر وما معهما إلا جبرئيل عليه السلام، فلما بلغا الحرم قال له جبرئيل: يا إبراهيم إنزلا فاغتسلا قبل أن تدخلا الحرم، فنزلا فاغتسلا، وأراهما كيف يتهيئان للإحرام ففعلا، ثم أمرهما فأهلا بالحج، وأمرهما بالتلبيات الأربع التي لبي بها المرسلون، ثم صار بهما إلي الصفا فنزلا وقام جبرئيل بينهما، واستقبل البيت فكبر الله وكبرا، وهلل الله وهللا، وحمد الله وحمدا، ومجَّد الله ومجَّدا،

وأثني عليه وفعلا مثل ذلك.

وتقدم جبرئيل وتقدما، يثنيان علي الله عز وجل ويمجدانه، حتي انتهي بهما إلي موضع الحجر فاستلم جبرئيل الحجر وأمرهما أن يستلما، وطاف بهما أسبوعاً، ثم قام بهما في موضع مقام إبراهيم عليه السلام فصلي ركعتين وصليا، ثم أراهما المناسك وما يعملان به. فلما قضيا مناسكهما أمر الله إبراهيم عليه السلام بالإنصراف وأقام إسماعيل وحده، ما معه أحد غير أمه، فلما كان من قابل أذن الله لإبراهيم عليه السلام في الحج وبناء الكعبة، وكانت العرب تحج إليه وإنما كان ردماً إلا أن قواعده معروفة، فلما صدر الناس جمع إسماعيل الحجارة وطرحها في جوف الكعبة. فلما أذن الله له في البناء قدم إبراهيم عليه السلام فقال: يا بنيَّ قد أمرنا الله ببناء الكعبة، وكشفا عنها فإذا هو حجر واحد أحمر، فأوحي الله عز وجل إليه ضع بناءها عليه، وأنزل الله عز وجل أربعة أملاك يجمعون إليه الحجارة، فكان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يضعان الحجارة والملائكة تناولهما، حتي تمت اثني عشر ذراعاً، وهيئا له بابين: باباً يدخل منه وباباً يخرج منه، ووضعا عليه عتباً وشرجاً من حديد علي أبوابه.

وكانت الكعبة عريانة فصدر إبراهيم وقد سوي البيت وأقام إسماعيل، فلما ورد عليه الناس نظر إلي امرأة من حِمْيَر أعجبه جمالها، فسأل الله عز وجل أن يزوجها إياه، وكان لها بعل فقضي الله علي بعلها بالموت وأقامت بمكة حزناً علي بعلها، فأسلي الله ذلك عنها، وزوجها إسماعيل.

وقدم إبراهيم الحج وكانت امرأة موفقة، وخرج إسماعيل إلي الطائف يمتار لأهله طعاماً، فنظرت إلي شيخ شعث، فسألها عن حالهم فأخبرته بحسن حال، فسألها عنه خاصة فأخبرته بحسن الدين، وسألها ممن أنت؟ فقالت: امرأة من حِمْيَر فسار

إبراهيم ولم يلق إسماعيل، وقد كتب إبراهيم كتاباً فقال: إدفعي هذا إلي بعلك، إذا أتي أن شاء الله، فقدم عليها إسماعيل فدفعت إليه الكتاب فقرأه فقال: أتدرين من هذا الشيخ؟ فقالت: لقد رأيته جميلاً فيه مشابهة منك، قال: ذاك إبراهيم فقالت: واسوءتاه منه فقال: ولِمَ، نظرَ إلي شئ من محاسنك؟ فقالت: لا ولكن خفت أن أكون قد قصرت! وقالت له المرأة وكانت عاقلة: فهلا تعلق علي هذين البابين سترين ستراً من ههنا وستراً من ههنا؟ فقال لها: نعم فعملا لهما سترين طولهما اثني عشر ذراعاً فعلقا هما علي البابين فأعجبهما ذلك، فقالت: فهلاَّ أحوكُ للكعبة ثياباً فتسترها كلها فإن هذه الحجارة سمجة؟ فقال لها إسماعيل: بلي، فأسرعت في ذلك وبعثت إلي قومها بصوف كثير تستغزلهم. قال أبو عبد الله عليه السلام: وإنما وقع استغزال النساء من ذلك بعضهن لبعض لذلك، قال: فأسرعت واستعانت في ذلك، فكلما فرغت من شقة علقتها فجاء الموسم وقد بقي وجه من وجوه الكعبة، فقالت لإسماعيل: كيف نصنع بهذا الوجه الذي لم تدركه الكسوة، فكسوه خصفاً فجاء الموسم وجاءته العرب علي حال ماكانت تأتيه، فنظروا إلي أمر أعجبهم، فقالوا: ينبغي لعامل هذا البيت أن يهدي إليه، فمن ثَمَّ وقع الهدي، فأتي كل فخذ من العرب بشئ يحمله من ورق ومن أشياء غير ذلك، حتي اجتمع شئ كثير، فنزعوا ذلك الخصف وأتموا كسوة البيت وعلقوا عليها بابين.

وكانت الكعبة ليست بمسقفة، فوضع إسماعيل فيها أعمدة مثل هذه الأعمدة التي ترون من خشب، وسقفها إسماعيل بالجرائد وسوَّاها بالطين، فجاءت العرب من الحول فدخلوا الكعبة ورأوا عمارتها فقالوا: ينبغي لعامل هذا البيت أن يزاد، فلما كان من قابل جاءه الهدي، فلم يدر إسماعيل كيف

يصنع، فأوحي الله عز وجل إليه أن انحره وأطعمه الحاج.

قال: وشكا إسماعيل إلي إبراهيم قلة الماء، فأوحي الله عز وجل إلي إبراهيم أن احتفر بئراً يكون منها شراب الحاج فنزل جبرئيل عليه السلام فاحتفر قليبهم يعني زمزم حتي ظهر ماؤها ثم قال جبرئيل عليه السلام:إنزل يا إبراهيم فنزل بعد جبرئيل فقال: ياإبراهيم إضرب في أربع زوايا البئر وقل بسم الله، قال فضرب إبراهيم عليه السلام في الزاوية التي تلي البيت وقال: بسم الله فانفجرت عين ثم ضرب في الزاوية الثانية وقال: بسم الله فانفجرت عين، ثم ضرب في الثالثة وقال: بسم الله فانفجرت عين، ثم ضرب في الرابعة وقال: بسم الله فانفجرت عين.

وقال له جبرئيل:إشرب يا إبراهيم وادع لولدك فيها بالبركة، وخرج إبراهيم عليه السلام وجبرئيل جميعاً من البئر فقال له: أفض عليك يا إبراهيم، وطف حول البيت فهذه سقيا سقاها الله ولد إسماعيل، فسار إبراهيم وشيَّعه إسماعيل حتي خرج من الحرم، فذهب إبراهيم ورجع إسماعيل إلي الحرم). انتهي.

و اتهموا نبي الله هارون و موسي بالشرك والمعاصي

في قاموس الكتاب المقدس ص995: (غير أن هارون أظهر ضعف إيمان في حالات كثيرة، وكان أولها لما تأخر موسي وهو علي الجبل مع الرب. فقد ضج الشعب وارتد عن طاعة الله، وطلب إلي هارون أن يصنع له تماثيل آلهة ليعبدها. فصنع هارون عجل الذهب وبني له مذبحاً (خر/32). ومع هذا غفر الله له خطأه، وأمر برسمه، هو وذريته، كهنة علي بني إسرائيل.(خر 40: 12 - 15). وبذلك تأسست الكهانة اللاوية، وأصبح هارون أول رئيس كهنة....

وكان الله كثير الإحسان لهارون بالرغم من أخطائه. وكانت آخر أخطائه أنه لم يقدس الرب إمام بني إسرائيل، لا هو ولا موسي، في أواخر رحلة بني إسرائيل إلي

فلسطين وحينما شعر الشعب بالظمأ إمام قادش. فأمر الله بعقابهما، بمنعهما من دخول فلسطين، أي بموتهما قبل الوصول إليها (عد 20: 1 - 13).

وغادر بنو إسرائيل قادش وأتوا إلي جبل هور، فأمر الرب موسي أن يأخذ هارون وابنه ألعازار، ويصعد بهما إلي الجبل وهناك يخلع ثياب هارون الكهنوتية ويلبسها لابنه. ولما نفذ هارون ذلك مات هارون، وانضم إلي آبائه وبكاه قومه ثلاثين يوماً (عد 20: 22 - 29 و33: 37 - 39 وتث 10: 6).

وكان عمره عند وفاته مئة وثلاث وعشرين سنة. ولا يزال أثر المكان الذي مات فيه محفوظاً إلي اليوم علي إحدي قمتي جبل هور بالقرب من بترا. وسمي هارون (قدس الرب). (مز 106: 16).

وكان اليهود المتأخرون يحفظون ذكراه بإكرام. وهم يصومون تذكاراً له في اليوم الأول من شهر آب. وظلت رئاسة الكهنوت عند العبرانيين في بيت هارون إلي دمار أورشليم والهيكل في سنة 70م).

و اتهموا أنبياء الله بالحيل والدجل والبلاهة

في التوراة والإنجيل ص47:(27-1. ولما شاخ إسحق وضعف بصره استدعي ابنه الأكبر عيسو وقال له: يا بني 2. ها أنا قد شخت ولست أعرف متي يحين يوم وفاتي. 3. فالأن خذ عدتك:جعبتك وقوسك، وامض إلي البرية واقتنص لي صيداً. 4. وجهز لي طعاماً شهياً كما أحب وائتني به لآكل، لتباركك نفسي قبل أن أموت. 5. وسمعت رفقة حديث إسحق لابنه عيسو. فعندما انطلق عيسو إلي البرية ليصطاد صيداً ويأتي به. 6. قالت رفقة لابنها يعقوب: سمعت أباك يقول لعيسو أخيك 7. إقتنص لي صيداً، وجهز لي أطعمة شهية لآكل وأباركك إمام الرب قبل موتي. 8. والأن يا بني أطع قولي في ما آمرك به، 9. واذهب إلي قطيع الماشية، واختر جديين لأجهز لأبيك أطعمة

شهية كما يحب! 10. تقدمها لأبيك ليأكل، فيباركك قبل وفاته. 11. فقال يعقوب لرفقة أمه: أخي عيسو رجل أشعر، وأنا رجل أملس. 12. وقد يجسني أبي فيتبين خداعي، وأستجلب علي نفسي لعنة لا بركة. 13. فقالت له أمه: لعنتك عليَّ يا بنيَّ، فأطع قولي فقط، واذهب وأحضر الجديين لي. 14. فذهب واختارهما وأحضرهما لأمه، فأعدت رفقة الأطعمة المطيبة كما يحب أبوه 15. وتناولت ثياب بكرها عيسو الفاخرة الموجودة عندها في البيت وألبست يعقوب ابنها الأصغر، 16. وكذلك غطت يديه وملاسة عنقه بجلد الجديين. 17. وأعطته ما أعدته من الأطعمة الشهية والخبز. 18. فأقبل علي أبيه وقال: يا أبي. فأجابه: نعم يا ابني من أنت؟ 19. فقال يعقوب: أنا عيسو بكرك. وقد فعلت كما طلبت، والأن قم واجلس وكل من صيدي حتي تباركني.20. فقال إسحق: كيف استطعت أن تجد صيداً بمثل هذه السرعة يا ولدي؟ فأجابه: لأن الرب إلهك قد يسر لي ذلك. 21. وقال إسحق: إقترب مني لأجسك يا ابني لأري أن كنت حقاً ابني عيسو أم لا. 22. فدنا يعقوب من أبيه إسحق فجسه وقال: الصوت صوت يعقوب، أما اليدان فهما يدا عيسو. 23. ولم يعرفه لأن يديه كانتا مشعرتين كيدي أخيه عيسو، فباركه!! 24. وسأل: هل أنت ابني عيسو؟ فأجاب: أنا هو. 25. ثم قال: قدم لي من صيدك حتي آكل وأباركك. فأحضر يعقوب إليه الطعام فأكل ثم قدم له خمراً فشرب، 26. فقال له إسحق أبوه: تعال وقبلني يا ولدي. 27 فاقترب منه وقبله، فتنسم رائحة ثيابه وباركه قائلاً: ها أن رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب، 28. فلينعم عليك الرب من ندي السماء ومن خيرات الأرض، فيكثر لك الحنطة والخمر. 29.

لتخدمك الشعوب، وتسجد لك القبائل، لتكن سيداً علي إخوتك. وبنو أمك لك ينحنون. وليكن لاعنوك ملعونين، ومباركوك مباركين.

30. ولما فرغ إسحق من مباركة يعقوب، وخرج يعقوب من عند أبيه، رجع عيسو من صيده، 31. فجهز هو أيضاً أطعمة طيبة وأحضرها إلي أبيه وقال: ليقم أبي ويأكل من صيد ابنه فتباركني نفسك. 32. فقال إسحق: من أنت؟ فأجابه: أنا ابنك بكرك عيسو. 33. فارتعد إسحق بعنف وقال: من هو إذا الذي اصطاد صيداً وأحضره إليَّ فأكلت من الكل قبل أن تجئ، وباركته؟ وحقاً يكون مباركاً. 34. فما أن سمع عيسو كلام أبيه حتي أطلق صرخة هائلة ومرة جداً وقال: باركني أنا أيضاً يا أبي. 35. فأجاب: لقد مكر بي أخوك وسلب بركتك! 36. فقال: ألم يدع اسمه يعقوب؟ لقد تعقبني مرتين: أخذ بكوريتي، وها هو يسلبني الآن بركتي. ثم قال: أما احتفظت لي ببركة؟ 37. فأجاب إسحق: لقد جعلته سيداً لك، وصيرت جميع إخوته له خداماً، وبالحنطة والخمر أمددته. فماذا أفعل لك الآن يا ولدي؟. 38. فقال عيسو: ألك بركة واحدة فقط يا أبي؟ باركني أنا أيضاً يا أبي. وأجهش عيسو بالبكاء بصوت عال. 39. فأجابه أبوه: ها مسكنك يكون في أرض جدباء لايهطل عليها ندي السماء. 40. بسيفك تعيش ولأخيك تكون عبداً، ولكن حين تجمح تحطم نيره عن عنقك.

41. وحقد عيسو علي يعقوب من أجل ما ناله من بركة أبيه. فناجي نفسه: قريباً يموت أبي، وبعدئذ أقتل أخي يعقوب. 42. فبلغ رفقة وعيد عيسو ابنها الأكبر، فأرسلت واستدعت يعقوب ابنها الأصغر وقالت له: عيسو يخطط لقتلك. 43. والأن يا ابني إصغ لقولي، وقم اهرب إلي أخي لابان إلي حاران، 44 وامكث عنده أياماً

قلائل ريثما يهدأ سخط أخيك. 45. ومتي سكن غضبه ونسي ما صنعت به، عندئذ أبعث إليك لتعود من هناك)!!

و اتهموا يوشع بأنه ختن اليهود بسكاكين من حجر الصوان

في قاموس الكتاب المقدس ص337: (7: 22. والختان من الشعائر المعروفة في اليهودية، وهو قطع لحم غرلة كل ذكر ابن ثمانية أيام... وقد ختن إبراهيم وهو في التاسعة والتسعين وإسماعيل وهو في الثالثة عشرة. (تك 17: 11 - 27).

ثم تجددت سنة الختان لموسي(لا 12: 3) فقضي أن لا يأكل الفصح رجل أغرل. وكان اليهود يحافظون كل المحافظة علي هذه السنة وقد أهملوها أثناء رحلتهم في البرية. علي أنه عند دخول الشعب أرض كنعان صنع يشوع سكاكين من الصوان وختن الشعب كله). (يشوع 5: 2 - 9).

و افتروا علي سليمان أنه أشرك بالله تعالي

في التوراة/554: (9. فغضب الرب علي سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل الذي تراءي له مرتين 10. وأوصاه في هذا الأمر أن لا يتبع آلهة أخري فلم يحفظ ما أوصي به الرب. 11. فقال الرب لسليمان من أجل أن ذلك عندك ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها فإني أمزق المملكة عنك تمزيقاً وأعطيها لعبدك). انتهي.

النتائج الخطيرة لتخريب اليهود لعقيدة العدل والعصمة

لهذا العمل اليهودي دلالات مهمة ونتائج خطيرة بل مهولة، في عقائد اليهود وحياتهم، في تعاملهم مع ربهم وأنبيائهم عليهم السلام، ومع الشعوب الإخري!

فمنها: أنه يكشف سبب التعقيد فيهم، والذي تحول من صفة في الشخص اليهودي المنحرف، إلي صفة في الجماعة اليهودية كلها، إلا من عصم الله.

فإن كنت تعتقد أن رب العالمين خالق السماوات والأرضين، يعامل عباده

بالغضب والظلم والإنتقام، ويفتقر إلي العلم المطلق، والحكمة المطلقة، والرحمة المطلقة.. فمن الطبيعي أن تتأصل في نفسك الذاتية، وتشعر أنك موجودٌ في مقابل خالقه، ليس المهم عنده عبادة ربه وطاعته وكسب فيض رحمته، بل المهم أن يستعمل الحيَل مع ربه لحماية نفسه منه، وكسب ما يمكنه منه! وهذا هو التعقيد في الشخصية في أعمق حالاته!

وإذا كان رب العالمين معاذ الله كذلك، وكان الأنبياء عليهم السلام جماعة أنانيين شهوانيين، يسيؤون استعمال السلطة والبركة التي أعطاهم إياها! فماذا عسي أن يكون اليهودي العادي؟!!

ومنها: أنه يكشف منشأ نظرتهم الدونية إلي أنفسهم فضلاً عن غيرهم، فعقيدة أنهم شعب الله المختار لاتقلل من عقيدة الدونية! فما دام أنبياءهذا الشعب سيؤون ذميمون، فصفات عامة الشعب أحط منها وأسوأ بكثير!

ومنها: أن نعرف سبب عقيدتهم بدونية الشعوب، فمن كانت هذه عقيدته إلي أنبيائه عليهم السلام ونفسه، فلا عجب أن تكون نظرته إلي بقية

شعوب العالم بأنهم حمير خلقهم الله ليركبهم أبناء الشعب اليهودي؟!

ومنها: أنه يكشف سبب حرصهم علي نشر النظرة الدونية إلي الإنسان في العالم، التي تزعم أن الإنسان حيوان يحركه الجنس لا أكثر!

ولذا كان دارون وفرويد اليهوديان أبطالاً قوميين عند اليهود! لايتكارهما نظريات تساعد في تركيز النظرة اليهودية في ثقافة شعوب العالم!

ومنها: أنا بذلك نضع يدنا علي فعالية أحبار يهود المدينة وخيبر والشام واليمن، ونابغتهم كعب الأحبار، في تخريب عقيدة المسلمين في صفات الله تعالي والطعن في عدالته، ونفيهم لعصمة الأنبياء عليهم السلام، وخاصة نبينا صلي الله عليه وآله فإن أول هدف وأهمه عند اليهودي أن يجعلك مثله تنتقد الله تعالي ورسله، وتطول لسانك عليهم، فبذلك تقف معه علي الطريق الذي يريده لك!

راجع ماكتبناه في(ألف سؤال وإشكال:1/485) عن دور كعب في تخريب عقائد المسلمين وزرع اليأس في نفوسهم من المستقبل، وزعمه حتمية انتهاء الإسلام وفناء أمته، وهدم الكعبة وخراب مكة، خراباً لاتسكن بعده أبداً!

امتياز الشيعة عن اليهود والسنة بعقيدة العصمة التامة

نؤمن بالعدالة المطلقة لله تعالي والعصمة التامة للأنبياء والأئمة

امتاز الشيعة عن غيرهم من جميع مذاهب المسلمين وأهل الأديان الأخري بأنهم يعتقدون بالعدالة الكاملة لله تعالي، والعصمة الكاملة لأنبيائه وأوصيائه عليهم السلام وينزهونهم عن جميع المعاصي والرذائل، طوال أعمارهم الشريفة، قبل البعثة والإمامة وبعدها، سواء في تبليغ الرسالة وعقائدها وأحكامها، أو في غيره من سلوكهم الشخصي والعام.

وقد عرَّف الإمام الصادق عليه السلام العصمة كما في معاني الأخبار للصدوق: ص132:

(حدثنا علي بن الفضل بن العباس البغدادي بالري المعروف بأبي الحسن الحنوطي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد بن سليمان بن الحارث، قال: حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار قال: حدثنا حسين الأشقر قال: قلت لهشام بن الحكم: ما معني قولكم: أن الإمام لا يكون

إلا معصوماً؟ فقال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ذلك فقال: المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله، وقال الله تبارك وتعالي: ومن يعتصم بالله فقد هدي إلي صراط مستقيم).

وفي معاني الأخبار ص132: (حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الرحمن المقري قال: حدثنا أبو عمرو محمد بن جعفر المقري الجرجاني قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن الموصلي ببغداد، قال: حدثنا محمد بن عاصم الطريفي، قال: حدثنا عباس بن يزيد بن الحسن الكحال مولي زيد بن علي قال: حدثني أبي قال: حدثني موسي بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين عليهم السلام قال: الإمام منا لايكون إلا معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، ولذلك لايكون إلا منصوصاً.

فقيل له: يا ابن رسول الله فما معني المعصوم؟ فقال: هو المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن لايفترقان إلي يوم القيامة، والإمام يهدي إلي القرآن والقرآن يهدي إلي الإمام، وذلك قول الله عز وجل: " إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)".

وفي معاني الأخبار ص132: (حدثنا محمد بن علي ماجيلوية- رحمه الله - قال حدثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير قال: ما سمعت ولا استفدت من هشام بن الحكم في طول صحبتي له شيئاً أحسن من هذا الكلام في صفة عصمة الإمام، فإني سألته يوماً عن الإمام أهو معصوم؟ فقال: نعم. فقلت: فما صفة العصمة فيه؟ وبأي شئ تعرف؟ فقال: إن جميع الذنوب لها أربعة أوجه ولا خامس لها: الحرص والحسد والغضب والشهوة، فهذه منفية عنه لا يجوز أن يكون حريصاً علي هذه الدنيا وهي تحت

خاتمه لأنه خازن المسلمين، فعلي ماذا يحرص؟ ولا يجوز أن يكون حسوداً لأن الإنسان إنما يحسد من فوقه وليس فوقه أحد، فكيف يحسد من هو دونه؟ ولا يجوز أن يغضب لشئ من امور الدنيا إلا أن يكون غضبه لله عز وجل، فإن الله عز وجل قد فرض عليه إقامة الحدود وأن لا تأخذه في الله لومة لائم ولا رأفة في دينه حتي يقيم حدود الله عز وجل، ولا يجوز له أن يتبع الشهوات ويؤثر الدنيا علي الآخرة لأن الله عز وجل حبب إليه الآخرة كما حبب إلينا الدنيا فهو ينظر إلي الآخرة كما ننظر إلي الدنيا فهل رأيت أحداً ترك وجهاً حسناً لوجه قبيح وطعاماً طيباً لطعام مر وثوباً لينا لثوب خشن ونعمةً دائمةً باقية لدنيا زائلة فانية). (ورواه في علل الشرائع:1/204. وأمالي الصدوق/731:والخصال/215)

وهذا الإمتياز معروف للجميع عن الشيعة، من عصر النبي والأئمة عليهم السلام.

قال الرازي في تفسيره:3/7: (واختلف الناس علي ثلاثة أقوال:

أحدها: قول من ذهب إلي أنهم معصومون من وقت مولدهم، وهو قول الرافضة.

وثانيها: قول من ذهب إلي عصمتهم وقت بلوغهم، ولم يجوزوا منهم ارتكاب الكفر والكبيرة قبل النبوة، وهو قول كثير من المعتزلة.

وثالثها: قول من ذهب إلي أن ذلك (يعني ارتكاب الكفر والكبيرة) لايجوز وقت النبوة أما قبلها فجائز، وهو قول أكثر أصحابنا، وقول أبي الهذيل العلاف، وأبي علي من المعتزلة).

وقال أيضاً في عصمة الأنبياءص8: (وقد اختلفوا فيه علي خمسة مذاهب:

(الأول): الحشوية وهو أنه يجوز عليهم الإقدام علي الكبائر والصغائر.

(الثاني): أنه لايجوز منهم تعمد الكبيرة البتة، وأما تعمد الصغيرة فهو جائز بشرط أن لا تكون منفراً، وأما أن كانت منفراً فذلك لايجوز عليهم، مثل التطفيف

بما دون الحبة، وهو قول أكثر المعتزلة.

(الثالث) أنه لا يجوز عليهم تعمد الكبيرة والصغيرة، ولكن يجوز صدور الذنب منهم علي سبيل الخطأ في التأويل، وهو قول أبي علي الجبائي

(الرابع): أنه لايجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة، لا بالعمد ولا بالتأويل والخطأ. أما السهو والنسيان فجائز، ثم إنهم يعاتبون علي ذلك السهو والنسيان لما أن علومهم أكمل، فكان الواجب عليهم المبالغة في التيقظ، وهو قول أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام.

(الخامس): أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة، لا بالعمد ولا بالتأويل، ولا بالسهو والنسيان. وهذا مذهب الشيعة).

وقال في تفسيره:18/9: (وعندنا العصمة إنما تعتبر في وقت النبوة لاقبلها).

وهذه النصوص من عالم سني مشهود له بالعمق والدقة، تكشف لنا أنه لم ينج من التأثر بالتهم اليهودية للأنبياء عليهم السلام إلا الشيعة، أتباع العترة النبوية الطاهرة صلوات الله عليهم.

كما تكشف لنا خريطة التأثير اليهودي بنسب متفاوتة علي فئات المسلمين في تنقيصهم من مقام الأنبياء عليهم السلام، مع الإلتفات إلي أن ماذكره الرازي هو القدر المتبني رسمياً في فتاوي علمائهم وعقائدهم، أما في مصادرهم الصحيحة فهي حافلة بأنواع الطعن في عصمة الأنبياء عليهم السلام وعدالتهم واتهامهم في سلوكهم الشخصي، وحتي في تبليغهم للرسالة!

وسبب ذلك ما نشره اليهود فيهم من مفاهيم وقصص انتقاص الأنبياء عليهم السلام! وإن حكومات الخلافة القرشية شجعت تلك الروايات وجعلت مجالسها مجالس رسمية في مسجد النبي صلي الله عليه وآله وغيره من مساجد المسلمين، وأعطت رواتها مناصب علياً في الدولة!

كما أنها شجعت علي روايات الإنتقاص من نبينا صلي الله عليه وآله لتبرير عمل الخلفاء، ورفعهم إلي صف النبي صلي الله عليه وآله، بل تفضيلهم عليه أحياناً، كما سيأتي!

من أحاديث الشيعة في عصمة الأنبياء والأئمة عصمة تامة

من شرائع ديننا عصمة الأنبياء و الأوصياء

في الخصال للصدوق ص603: (حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم العجلي، وأحمد بن الحسن القطان، ومحمد بن أحمد السناني، والحسين بن إبراهيم بن أحمد بن هشام المكتب، وعبد الله بن محمد الصائغ، وعلي بن عبد الله الوراق رضي الله عنهم قالوا: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيي بن زكريا القطان قال: حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب قال: حدثنا تميم بن بهلول قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن جعفر بن محمد عليهما السلام قال:

(هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسك بها وأراد الله هداه:

إسباع الوضوء كما أمر الله عز وجل في كتابه الناطق، غسل الوجه واليدين إلي المرفقين، ومسح الرأس والقدمين إلي الكعبين، مرة مرة. ومرتان جائز.... وهو حديث طويل تضمن أهم أحكام الوضوء والأغسال والفرائض والنوافل وصلاة الجماعة، وأحكام الزكاة... وجاء فيه قوله عليه السلام:

وبر الوالدين واجب، فإن كانا مشركين فلا تطعهما ولا غيرهما في المعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. والأنبياءوالأوصياء عليهم السلام لاذنوب لهم، لأنهم معصومون مطهرون...الي أن قال عليه السلام: ولا يفرض الله عزوجل علي عباده طاعة من يعلم أنه يغويهم ويضلهم، ولا يختار لرسالته ولا يصطفي من عباده من يعلم أنه يكفر به ويعبد الشيطان دونه، ولا يتخذ علي خلقه حجة إلا معصوماً. والإسلام غير الإيمان وكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمن...الخ.).

وفي أمالي الصدوق ص738: (المجلس الثالث والتسعون، مجلس يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان سنة ثمان وستين وثلاثمائة:

واجتمع في هذا اليوم إلي الشيخ الفقيه أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسي بن بابويه القمي(رض)، أهل مجلسه والمشايخ، فسألوه أن يملي عليهم وصف دين الإمامية علي الإيجاز والإختصار،

فقال رضي الله عنه:

دين الإمامية هو الإقرار بتوحيد الله تعالي ذكره ونفي التشبيه عنه، وتنزيهه عما لا يليق به، والإقرار بأنبياءالله ورسله وحججه وملائكته وكتبه، والإقرار بأن محمداً صلي الله عليه وآله هو سيد الأنبياءوالمرسلين، وأنه أفضل منهم ومن جميع الملائكة المقربين، وأنه خاتم النبيين، فلا نبي بعده إلي يوم القيامة، وإن جميع الأنبياءوالرسل والأئمة عليهم السلام أفضل من الملائكة، وأنهم معصومون مطهرون من كل دنس ورجس، لا يهمون بذنب صغير ولا كبير ولا يرتكبونه، وأنهم أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء.

وإن الدعائم التي بني الإسلام عليها خمس: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وولاية النبي والأئمة صلوات الله عليهم بعده، وهم اثنا عشر إماماً، أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم الباقر محمد بن علي، ثم الصادق جعفر بن محمد، ثم الكاظم موسي بن جعفر، ثم الرضا علي بن موسي، ثم الجواد محمد بن علي، ثم الهادي علي بن محمد، ثم العسكري الحسن بن علي، ثم الحجة بن الحسن بن علي، عليهم السلام، والإقرار بأنهم أولوا الأمر الذين أمر الله عز وجل بطاعتهم، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطيعوا اللهَ وَأطيعوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمر مِنْكُمْ) (النساء:59) وإن طاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله، ووليهم ولي الله، وعدوهم عدو الله عز وجل. ومودة ذرية النبي صلي الله عليه وآله إذا كانوا علي منهاج آبائهم الطاهرين فريضةٌ واجبةٌ في أعناق العباد إلي يوم القيامة، وهي أجر النبوة، لقول الله عز وجل: (قُلْ لاأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلاالْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي)(الشوري:23) والإقرار بأن الإسلام هو الإقرار بالشهادتين، والإيمان هو إقرار باللسان، وعقد بالقلب، وعمل بالجوارح، لا يكون

الإيمان إلا هكذا، ومن شهد الشهادتين فقد حقن ماله ودمه إلا بحقها، وحسابه علي الله عز وجل).

وفي التوحيد للصدوق ص118: (حدثنا محمد بن موسي بن المتوكل رحمه الله قال: حدثنا علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه محمد بن خالد، عن أحمد بن النضر، عن محمد بن مروان، عن محمد بن السائب، عن أبي الصالح، عن عبد الله بن عباس في قوله عزوجل: فَلَمَّا أفاق قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وأنا أول الْمُؤْمِنِينَ، قال: يقول سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من أن أسألك الرؤية وأنا أول الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا تري.

قال محمد بن علي بن الحسين مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه:

إن موسي عليه السلام علم أن الله عز وجل لايجوز عليه الرؤية، وإنما سأل الله عز وجل أن يريه ينظر إليه عن قومه حين ألحوا عليه في ذلك، فسأل موسي ربه ذلك من غير أن يستأذنه فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إلي الْجَبَلِ فإن اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ في حال تزلزله فَسَوْفَ تَرَانِي، ومعناه إنك لا تراني أبداً، لأن الجبل لايكون ساكناً متحركاً في حال أبداً، وهذا مثل قوله عزوجل: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّي يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ومعناه أنهم لا يدخلون الجنة أبداً، كما لايلج الجمل في سم الخياط أبداً.

فَلَمَّا تَجَلَّي رَبُّهُ لِلْجَبَلِ، أي ظهر للجبل بآية من آياته، وتلك الآية نور من الأنوار التي خلقها ألقي منها علي ذلك الجبل جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَي صَعِقاً، من هول تزلزل ذلك الجبل علي عظمه وكبره.

فَلَمَّا أفاق قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ، أي رجعت إلي معرفتي بك عادلاً عما حملني عليه قومي من سؤالك

الرؤية، ولم تكن هذه التوبة من ذنب لأن الأنبياءلا يذنبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً، ولم يكن الإستيذان قبل السؤال بواجب عليه، لكنه كان أدباً يستعمله ويأخذ به نفسه متي أراد أن يسأله، علي أنه قد روي قوم أنه قد استأذن في ذلك فأذن له، ليعلم قومه بذلك أن الرؤية لا تجوز علي الله عزوجل.

وقوله: وأنا أول الْمُؤْمِنِينَ، يقول: وأنا أول المؤمنين من القوم الذين كانوا معه وسألوه أن يسأل ربه أن يريه ينظر إليه، بأنك لا تري.

وجوب طاعة الأنبياء والأوصياء تستوجب عصمتهم

في علل الشرائع للصدوق:1/123: (حدثنا محمد بن موسي بن المتوكل(رض) قال: حدثنا علي بن الحسين السعد آبادي، عن أحمد بن أبي عبد الله عن أبيه، عن حماد بن عيسي، عن ابن أذينة، عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس قال سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إنما الطاعة لله عز وجل ولرسوله ولولاة الأمر، وإنما أمر بطاعة أولي الأمرلأنهم معصومون مطهرون لايأمرون بمعصيته).

وفي الخصال ص139: (حدثنا أبي(رض)قال: حدثنا سعد بن عبدالله، عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن أبيه، عن حماد بن عيسي، عن عمر بن أذينة. عن أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين علياً عليه السلام يقول: إحذروا علي دينكم ثلاثة: رجلاً قرأ القرآن حتي إذا رأيت عليه بهجته، اخترط سيفه علي جاره ورماه بالشرك!

فقلت: يا أمير المؤمنين أيهما أولي بالشرك؟ قال: الرامي.

ورجلاً استخفته الأحاديث، كلما أُحدثت أحدوثة كذب مدَّها بأطول منها!

ورجلاً آتاه الله عز وجل سلطاناً فزعم أن طاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله! وكذبَ لأنه لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق، لاينبغي للمخلوق أن يكون حبه لمعصية الله، فلا طاعة في

معصيته ولا طاعة لمن عصي الله، إنما الطاعة لله ولرسوله ولولاة الأمر، وإنما أمر الله عز وجل بطاعة الرسول لأنه معصوم مطهر، لايأمر بمعصيته، وإنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهرون لايأمرون بمعصيته).

ضرورة بعثة الأنبياء تستوجب عصمتهم

في الكافي:1/168عن الإمام الصادق عليه السلام قال:(إنا لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً، لم يجز أن يشاهده خلقه ولايلامسوه فيباشرهم ويباشروه، ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يُعَبِّرون عنه إلي خلقه وعباده، ويدلونهم علي مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الأمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبِّرون عنه جلَّ وعز، وهم الأنبياء عليهم السلام وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس- علي مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب- في شئ من أحوبالهم، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة. ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين لكي لاتخلو أرض الله من حجة، يكون معه عَلَم يدل علي صدق مقالته وجواز عدالته). انتهي.

وقال الوحيد الخراساني في شرح هذا الحديث في منهاج الصالحين:1/64:

(ومعناه أن كل فعل وترك وحركة وسكون يصدر من الإنسان، إما أن يكون نافعاً لدنياه وآخرته، أو ضاراً، أو غير نافع ولا ضار، وعلي كل الفروض يحتاج الإنسان إلي معرفة ما هو النافع وما هو الضار وما هو المصلح والمفسد لدنياه وآخرته، وهذه المعرفة لا تتيسر إلا من عند من هو خبير بالرابطة التي بين الأفعال والتروك وصلاح الإنسان وفساده، ومحيطٌ بتأثير الحركات والسكنات في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، وإنما هو خالق الإنسان وخالق الدنيا والآخرة سبحانه. ولما كانت حكمته

تعالي تستوجب أن يدل عباده علي ذلك، وكانت دلالته عليه بدون واسطة غير ممكنة لتعاليه عن مباشرتهم ومخاطبتهم، فلا بد من سفراء مختارين (يدلونهم علي مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم).

وهذا البرهان يمتاز من جهات عما برهن به الفلاسفة علي ضرورة النبوة، الذي اعتمد علي قاعدة أن الإنسان مدني بالطبع فيحتاج إلي قوانين عادلة لمعاملاته وعلاقاته الاجتماعية، فإن دليلهم مختص بالحياة الاجتماعية علي الأرض، بينما دليل الإمام عليه السلام يشمل عموم مصالح الإنسان ومضاره في كل عوالم الوجود).

العصمة من أول صفات الإمام

في الخصال ص428: (حدثنا أحمد بن محمد بن الهيثم العجلي(رض)قال: حدثنا أحمد بن يحيي بن زكريا القطان قال: حدثنا بكر بن عبد الله بن حبيب قال: حدثنا تميم بن بهلول قال: حدثنا أبو معاوية، عن سليمان بن مهران، عن أبي عبدالله جعفر بن محمد عليهما السلام قال: عشر خصال من صفات الإمام: العصمة، والنصوص، وإن يكون أعلم الناس، وأتقاهم لله، وأعلمهم بكتاب الله، وإن يكون صاحب الوصية الظاهرة، ويكون له المعجز والدليل، وتنام عينه ولا ينام قلبه، ولا يكون له فئٌ، ويري من خلفه كما يري من بين يديه).

احاديث نصت علي إمامة الأئمة الإثني عشر و عصمتهم

في أمالي الصدوق ص574: (حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رحمه الله قال:حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم قال: حدثنا جعفر بن سلمة الأهوازي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الثقفي، عن إبراهيم بن موسي بن أخت الواقدي قال: حدثنا أبو قتادة الحراني، عن عبد الرحمن بن العلاء الحضرمي، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عباس قال: أن رسول الله صلي الله عليه وآله كان جالساً ذات يوم وعنده عليٌّ وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ فقال: اللهم إنك تعلم أن هؤلاء أهل بيتي وأكرم الناس عليَّ فأحبب من أحبَّهم وأبغض من أبغضهم، ووال من والأهم وعاد من عاداهم، وأعن من أعانهم. واجعلهم مطهرين من كل رجس، معصومين من كل ذنب، وأيدهم بروح القدس.

ثم قال: يا عليُّ أنت إمام أمتي، وخليفتي عليها بعدي، وأنت قائد المؤمنين إلي الجنة، وكأني أنظر إلي ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة علي نجيب من نور، عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها سبعون ألف ملك، وبين يديها سبعون ألف ملك، وخلفها سبعون ألف ملك، تقود مؤمنات أمتي إلي الجنة، فأيما امرأة

صلت في اليوم والليلة خمس صلوات، وصامت شهر رمضان، وحجت بيت الله الحرام، وزكت مالها، وأطاعت زوجها، ووالت علياً بعدي، دخلت الجنة بشفاعة ابنتي فاطمة، وإنها لسيدة نساء العالمين.

فقيل له: يا رسول الله أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال النبي: ذاك لمريم بنت عمران، فأما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والإخرين، وإنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من الملائكة المقربين، وينادونها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون: يا فاطمة (إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَي نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. ثم التفت إلي عليٍّ فقال: يا عليُّ، أن فاطمة بضعة مني، وهي نور عيني، وثمرة فؤادي، يسوءني ما ساءها، ويسرني ما سرها، وإنها أول من يلحقني من أهل بيتي فأحسن إليها بعدي.

وأما الحسن والحسين فهما ابناي وريحانتاي، وهما سيدا شباب أهل الجنة، فليكرما عليك كسمعك وبصرك. ثم رفع, يده إلي السماء، فقال: اللهم إني أشهدك أني محب لمن أحبهم، ومبغض لمن أبغضهم، وسلم لمن سالمهم، وحرب لمن حاربهم، وعدو لمن عاداهم، وولي لمن والأهم).

وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام:2/65: (حدثنا علي بن عبد الله الوراق الرازي قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا الهيثم بن أبي مسروق النهدي، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباته، عن عبدالله بن عباس قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: أنا وعليٌّ والحسنُ والحسينُ وتسعةٌ وُلْدِ الحسين، مطهرون معصومون). (ورواه أيضاً في كمال الدين ص280، وفي كفاية الأثر ص19).

وفي دلائل الإمامة للطبري الشيعي ص506: (أخبرني أبو القإسم عبد الباقي بن يزداد بن عبد الله البزاز قال: حدثنا أبو محمد عبد الله

بن محمد الثعالبي قراءة في يوم الجمعة مستهل رجب سنة سبعين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن يحيي العطار، عن سعد بن عبد الله بن أبي خلف القمي، من حديث طويل، قال:

كنت أمرءً لَهِجاً بجمع الكتب المشتملة علي غوامض العلوم ودقائقها، كَلِفاَ باستظهار ما يصح من حقائقها، مغرماً بحفظ مشتبهها ومستغلقها، شحيحاً علي ما أظفر به من معاضلها ومشكلاتها، ومتعصباً لمذهب الإمامية، راغباً عن الأمن والسلامة في انتظار التنازع والتخاصم، والتعدي إلي التباغض والتشاتم، معيباً للفرق ذوي الخلاف، كشافاً عن مثالب أئمتهم، هتاكاً لحجب قادتهم.

إلي أن بليت بأشد النواصب منازعة، وأطولهم مخاصمة، وأكثرهم جدالاً، وأقشعهم سؤالاً، وأثبتهم علي الباطل قدماً. فقال ذات يوم وأنا أناظره:

تباً لك يا سعد ولأصحابك، إنكم معشر الرافضة تقصدون علي المهاجرين والأنصار بالطعن عليهما....

وكنت قد اتخذت طوماراً، وأثبت فيه نيفا وأربعين مسألة من صعاب المسائل التي لم أجد لها مجيباً، علي أن أسأل عنها خير أهل بلدي أحمد بن إسحاق صاحب مولانا أبي محمد عليه السلام فارتحلت خلفه، وقد كان خرج قاصداً نحو م ولأي بسر من رأي، فلحقته في بعض المناهل، فلما تصافحنا قال: لخير لحاقك بي؟ قلت: الشوق، ثم العادة في الأسئلة. قال: قد تكافأنا علي هذه الخطة الواحدة، فقد برح بي الشوق إلي لقاء مولانا أبي محمد عليه السلام، وأريد أن أسأله عن معاضل في التأويل ومشاكل من التنزيل، فدونكها الصحبة المباركة، فإنها تقف بك علي ضفة بحر لاتنقضي عجائبه، ولا تفني غرائبه، وهو إمامنا.

فوردنا سر من رأي فانتهينا منها إلي باب سيدنا عليه السلام، فاستأذنا فخرج إلينا الإذن بالدخول عليه، وكان علي عاتق أحمد بن إسحاق جراب قد غطاه

بكساء طبري، فيه ستون ومائة صرة من الدنانير والدارهم، علي كل صرة ختم صاحبها.

قال سعد: فما شبهت مولانا أبا محمد عليه السلام حين غشينا نور وجهه إلا ببدر قد استوفي من لياليه أربعاً بعد عشر، وعلي فخذه الأيمن غلام يناسب المشتري في الخلقة والمنظر، علي رأسه فرق بين وفرتين، كأنه ألف بين واوين، وبين يدي مولانا عليه السلام رمانة ذهبية تلمع بدائع نقوشها وسط غرائب الفصوص المركبة عليها، قد كان أهداها إليه بعض رؤساء أهل البصرة، وبيده قلم، إذا أراد أن يسطر به علي البياض قبض الغلام علي أصابعه، وكان مولانا عليه السلام يدحرج الرمانة بين يديه ويشغله بردها لئلا يصده عن كتبة ما أراد، فسلَّمنا عليه فألطف في الجواب، وأومأ إلينا بالجلوس، فلما فرغ من كتابة البياض الذي كان بيده، أخرج أحمد بن إسحاق جرابه من طيِّ كسائه، فوضعه بين يدي مولانا فنظر أبو محمد عليه السلام إلي الغلام وقال: يا بني، فض الخاتم عن هدايا شيعتك ومواليك.

فقال: يا م ولأي، أيجوز لي أن أمد يداً طاهرة إلي هدايا نجسة، وأموال رجسة قد شيب أحلها بأحرمها؟!

فقال مولانا عليه السلام: يا بن إسحاق، استخرج ما في الجراب ليميز بين الأحل منها والأحرم. فأول صرة بدأ أحمد بإخراجها قال الغلام: هذه لفلأن بن فلأن من محلة كذا بقم، تشتمل علي اثنين وستين ديناراً، فيها من ثمن حجرة باعها وكانت إرثاً له من أبيه خمسة وأربعون ديناراً، ومن أثمان تسعة أثواب أربعة عشر ديناراً، وفيها من أجرة الحوانيت ثلاثة دنانير.

فقال مولانا عليه السلام: صدقت يا بني، دُلَّ الرجل علي الحرام منها....

قال أحمد (رواي الحديث عن سعد): وكان ذلك الثوب في حقيبة لي

فنسيته. فلما انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إلي مولانا أبو محمد عليه السلام فقال: ما جاء بك يا سعد؟ فقلت: شوقني أحمد بن إسحاق إلي لقاء مولانا. فقال: والمسائل التي أردت أن تسأله عنها؟ قلت: علي حالتها يا مولاي. فقال: سل قرة عيني، وأومأ إلي الغلام، عما بدا لك منها.

فقلت: مولانا وابن مولانا، أنا روينا عنكم أن رسول الله صلي الله عليه وآله جعل طلاق نسائه بيد أمير المؤمنين صلوات الله عليه حتي أرسل يوم الجمل إلي عائشة: "إنك قد أرهجت علي الإسلام وأهله بفتنتك، وأوردت بنيك حياض الهلاك بجهلك، فإن كففت عني غربك وإلا طلقتك". ونساء رسول الله صلي الله عليه وآله قد كان طلاقهن بوفاته؟!

قال عليه السلام: ما الطلاق؟ قلت: تخلية السبيل. قال:فإذا كنَّ بوفاة رسول الله صلي الله عليه وآله قد خُلِّيَ سبيلهنَّ، فلِمَ لايحلُّ لهنَّ الأزواج؟ قلت: لأن الله حرم الأزواج عليهن قال: كيف وقد خلَّي الموت سبيلهن؟ قلت فأخبرني يا بن م ولأي عن معني الطلاق الذي فوض رسول الله صلي الله عليه وآله حكمه إلي أمير المؤمنين عليه السلام؟

قال: إن الله تقدس اسمه عظم شأن نساء النبي صلي الله عليه وآله فخصهن بشرف الأمهات، فقال رسول الله صلي الله عليه وآله: يا أبا الحسن، إن هذا الشرف باق لهن ما دُمْنَ لله علي الطاعة، فأيتهن عصت الله بعدي بالخروج عليك، فأطلق لها في الأزواج وأسقطها من شرف الأمهات ومن شرف أمومة المؤمنين.....

قلت: فأخبرني يا م ولأي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم؟ قال: مصلحٌ أو مفسد؟ قلت: مصلح. قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم علي الفساد بعد أن لا يعلم

أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟

قلت: بلي. قال: فهي العلة أوردها لك ببرهان ينقاد له عقلك: أخبرني عن الرسل الذين اصطفاهم الله وأنزل عليهم علمه، وأيدهم بالوحي والعصمة، إذ هم أعلام الأمم، وأهدي إلي الإختيار منهم، مثل موسي وعيسي عليهما السلام، هل يجوز مع وفور عقلهما وكمال علمهما، إذا هما بالإختيار أن تقع خيرتهما علي المنافق، وهما يظنان أنه مؤمن؟ قلت: لا.

قال عليه السلام: فهذا موسي كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه، اختار من أعيان قومه ووجوه عسكره لميقات ربه سبعين رجلاً، ممن لم يشك في إيمانهم وإخلاصهم، فوقعت خيرته علي المنافقين، قال الله عز وجل: وَاخْتَارَ مُوسَي قَوْمَهُ سَبْعِينَ رجلاً لِمِيقَاتِنَا، وقوله: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّي نَرَي اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ، فلما وجدنا اختيار من قد اصطفاه الله لنبوته، واقعاً علي الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد، علمنا أن لا اختيار إلا لمن يعلم ما تخفي الصدور وتُكنُّ الضمائر، وتنصرف عليه السرائر، وإن لاخطر لاختيار المهاجرين والأنصار بعد وقوع خيرة الأنبياء عليهم السلام...). انتهي.

كتاب كفاية الأثر في النصوص علي الأئمة الإثني عشر

وهو كتاب جليل جمع فيه مؤلفه الخزاز القمي رحمه الله وهو من علماء القرن الرابع، الأحاديث النبوية علي إمامة الأئمة الإثني عشر عليهم السلام عن ثلاثين صحابياً من طرق غير أهل البيت عليهم السلام. وقد اقترحنا علي بعض الفضلاء تحقيقه وتخريج أحاديثه، وسيصدر في مجلدات إن شاء الله، وهذه بعض أحاديثه في عصمتهم عليهم السلام:

في كفاية الأثرص 29: (حدثنا علي بن الحسين، قال حدثنا أبو جعفر محمد بن الحسن البرقوي(رض)، قال حدثنا القاضي أبو إسماعيل جعفر بن الحسين البلخي، قال حدثنا شقيق البلخي، عن سماك، عن زيد بن أسلم،

عن أبي هرون العبدي، عن سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول:

أهل بيتي أمانٌ لأهل الأرض كما أن النجوم أمانٌ لأهل السماء.

قيل: يارسول الله فالأئمة بعدك من أهل بيتك؟ قال: نعم الأئمة بعدي اثنا عشر تسعةً من صلب الحسين، أمناء معصومون. ومنا مهدي هذه الأئمة، إلا إنهم أهل بيتي وعترتي من لحمي ودمي، ما بال أقوام يؤذونني فيهم، لا أنالهم الله شفاعتي).

وفي كفاية الأثر: ص35: (حدثنا أبو المفضل محمد بن عبد الله الشيباني رحمه الله، قال حدثنا محمد بن رياح الأشجعي، قال حدثنا محمد بن غالب بن الحارث، قال حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، قال حدثنا عبد الكريم، عن أبي الحسن، عن أبي الحرث، عن أبي ذر قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: من أحبني وأهل بيتي كنا نحن وهو كهاتين- وأشار بالسبابة والوسطي- ثم قال: أخي خير الأوصياء، وسبطي خير الأسباط، وسوف يخرج الله تبارك وتعالي من صلب الحسين أئمة أبراراً، ومنا مهدي هذه الأمة.

قلت: يارسول الله وكم الأئمة بعدك؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل.

حدثنا القاضي أبو الفرج المعافا بن زكريا البغدادي، قال حدثني محمد بن همام بن سهيل الكاتب، قال حدثني محمد بن معافا السلماسي، عن محمد بن عامر، قال حدثنا عبدالله بن زاهر، عن عبد العدوس، عن الأعمش، عن حبش بن المعتمر قال: قال أبو ذر الغفاري رحمة الله عليه: دخلت علي رسول الله صلي الله عليه وآله في مرضه الذي توفي فيه، فقال: يا أبا ذر إيتني بابنتي فاطمة. قال: فقمت ودخلت عليها وقلت: يا سيدة النسوان أجيبي أباك. قال: فلبت منحلها وأبرزت وخرجت حتي دخلت علي رسول الله

صلي الله عليه وآله، فلما رأت رسول الله صلي الله عليه وآله انكبت عليه وبكت وبكي رسول الله صلي الله عليه وآله لبكائها وضمها إليه، ثم قال: يا فاطمة لا تبكين فداك أبوك، فأنت أول من تلحقين بي مظلومة مغصوبة، وسوف يظهر بعدي حسيكة النفاق وسمل حلباب الدين، وأنت أول من يرد علي الحوض.

قالت: ياأبَهْ أين ألقاك؟ قال: تلقيني عند الحوض وأنا أسقي شيعتك ومحبيك وأطرد أعداك ومبغضيك. قالت: يا رسول الله فإن لم ألقك عند الحوض؟ قال تلقيني عند الميزان. قالت: يا أبَهْ وإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: تلقيني عند الصراط وأنا أقول: سلِّمْ سلِّمْ شيعة علي.

قال أبو ذر: فسكن قلبها ثم التفت الي رسول الله صلي الله عليه وآله فقال: يا أبا ذر أنها بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني، إلا أنها سيدة نساء العالمين، وبعلها سيد الوصيين، وابنيها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وإنهما إمامان أن قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما، وسوف يخرج من صلب الحسين تسعة من الأئمه معصومون قوامون بالقسط، ومنا مهدي هذه الأمة. قال قلت: يا رسول الله فكم الأئمة بعدك؟ قال: عدد نقباء بني اسرائيل.

وفي كفاية الأثر: ص44: (حدثنا علي بن الحسين بن محمد قال:حدثنا هارون بن موسي(رض)قال: أحمد بن محمد بن سعيد قال: حدثنا محمد بن عامر بن السائب الثقفي، عن أبيه، عن سلمان الفارسي رحمة الله عليه قال: دخلت علي رسول الله صلي الله عليه وآله وعنده الحسن والحسين يتغديان والنبي صلي الله عليه وآله يضع اللقمة تارة في فم الحسن وتارة في فم الحسين، فلما فرغا من الطعام أخذ رسول الله صلي الله عليه وآله الحسن علي عاتقه والحسين

علي فخذه، ثم قال: يا سلمان أتحبهم؟ قلت: يا رسول الله كيف لا أحبهم ومكانهم منك مكانهم؟ قال: يا سلمان من أحبهم فقد أحبني، ومن أحبني فقد أحب الله. ثم وضع يده علي كتف الحسين عليه السلام فقال: أنه الإمام ابن الإمام، تسعة من صلبه أئمة أبرار، أمناء، معصومون، والتاسع قائمهم).

وفي كفاية الأثر: ص73: (حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عياش الجوهري قال: حدثنا محمد بن أحمد الصفواني قال:حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحمصي قال: حدثنا بن حماد، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: صلي بنا رسول الله صلي الله عليه وآله صلاة الفجر، ثم أقبل علينا فقال: معاشر أصحابي من أحب أهل بيتي حشر معنا، ومن استمسك بأوصيائي من بعدي فقد استمسك بالعروة الوثقي.

فقام إليه أبو ذر الغفاري فقال: يا رسول الله كم الأئمة بعدك؟ قال: عدد نقباء بني إسرائيل، فقال: كلهم من أهل بيتك؟ قال: كلهم من أهل بيتي، تسعة من صلب الحسين، والمهدي منهم.

حدثنا محمد بن عبد الله الشيباني رحمه الله قال: حدثنا رجا بن يحيي العرآني الكاتب قال: حدثنا يعقوب بن إسحق عن محمد بن بشارقال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن هشام بن زيد، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لما عرج بي إلي السماء رأيت علي ساق العرش مكتوباً: لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته. ورأيت اثني عشر إسماً مكتوباً بالنور فيهم علي بن أبي طالب وسبطي وبعدهما تسعة أسماء علياً علياً ثلاث مرات، ومحمد ومحمد مرتين، وجعفر

وموسي والحسن، والحجة يتلألأ من بينهم، فقلت: يا رب أسامي من هؤلاء؟ فناداني ربي جل جلاله: هم الأوصياء من ذريتك، بهم أثيب وأعاقب).

وفي كفاية الأثر ص75: وعنه قال: حدثنا أبو مزاحم موسي بن عبد الله بن يحيي بن خاقان المقرئ ببغداد قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن الفضل بن ربيع أبو العباس مولي بني هاشم قال: حدثني عثمان بن أبي شيبة في مسند أنس. قال: حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا عبد الله ابن عوف، عن أنس بن سيرين، عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله قال: أوصياء الأنبياءالذين بعدهم بقضاء ديونهم وإنجاز عداتهم ويقاتلون علي سنتهم. ثم التفت إلي علي عليه السلام فقال: أنت وصيي وأخي في الدنيا والآخرة تقضي ديني وتنجز عداتي، وتقاتل علي سنتي، تقاتل علي التأويل كما قاتلت علي التنزيل، فأنا خير الأنبياءوأنت خير الأوصياء وسبطاي خير الأسباط، ومن صلبهما يخرج الأئمة التسعة، مطهرون معصومون قوامون بالقسط، والأئمة بعدي علي عدد نقباء بني إسرائيل وحواري عيسي. هم عترتي من لحمي ودمي.

وفي كفاية الأثر ص98: (حدثنا الحسين بن علي الرازي قال: حدثني إسحاق بن محمد بن خالويه قال: حدثني يزيد بن سليمان البصري قال: حدثني شريك، عن الركين بن الربيع، عن القإسم بن حسان، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: معاشر الناس ألا أدلكم علي خير الناس جداً وجدة؟ قلنا: بلي يا رسول الله، قال: الحسن والحسين، أنا جدهما، وجدتهما خديجة سيدة نساء أهل الجنة.

ألا أدلكم علي خير الناس أبا وأما؟ قلنا: بلي يا رسول الله، قال: الحسن والحسين أبوهما علي بن أبي طالب، وأمهما فاطمة سيدة نساء

العالمين.

ألا أدلكم علي خير الناس عماً وعمة؟ قلنا: بلي يارسول الله، قال: الحسن والحسين عمهما جعفر بن أبي طالب، وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب.

أيها الناس إلا أدلكم علي خير الناس خالاً وخالة؟ قلنا: بلي يا رسول الله، قال: الحسن والحسين، خالهما القإسم بن رسول الله، وخالتهما زينب بنت رسول الله.

ثم قال: علي قاتلهما لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وإنه ليخرج من صلب الحسين أئمة أبرار أمناء معصومون قوامون بالقسط، ومنا مهدي هذه الأمة الذي يصلي عيسي بن مريم خلفه. قلنا: من يا رسول الله؟ قال: هو التاسع من صلب الحسين، تسعة من صلب الحسين أئمة أبرار والتاسع مهديهم يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً).

وفي كفاية الأثر: ص100: (حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن سعيد الخزاعي قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن عبد الله الكوفي الأسدي قال: حدثني محمد بن إسمعيل البرمكي قال: حدثني مندل بن علي، عن أبي نعيم عن محمد بن زياد، عن زيد بن أرقم قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول لعلي عليه السلام: أنت الإمام والخليفة بعدي، وابناك سبطاي وهما سيدا شباب أهل الجنة، وتسعة من صلب الحسين أئمة معصومون، ومنهم قائمنا أهل البيت. ثم قال:

يا علي، ليس في القيامة راكب غيرنا، ونحن أربعة. فقام إليه رجل من الأنصار، فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله ومن هم؟ قال: أنا علي دابة الله البراق، وأخي صالح علي ناقته التي عقرت، وعمي حمزة علي ناقتي العضباء، وأخي علي علي ناقة من نوق الجنة، وبيده لواء الحمد، ينادي لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيقول الآدميون: ما هذا إلا ملك

مقرب أو نبي مرسل أو حامل عرش، فيجيبهم ملك من بطنان العرش: يا معشر الآدميين، ليس هذا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا حامل عرش، هذا الصديق الأكبر علي بن أبي طالب).

وفي كفاية الأثر ص110: (حدثنا علي بن الحسن بن محمد قال:حدثنا هرون بن موسي قال: حدثنا جعفر بن علي بن سهل الدقاق الدوري قال:حدثنا علي بن الحارث المروزي قال: حدثنا أيوب بن عاصم الهمذاني قال:حدثنا حفص بن غياث، عن يزيد بن مكحول، عن واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: لما عرج بي إلي السماء وبلغت سدرة المنتهي ناداني ربي جل جلاله فقال: يا محمد. فقلت: لبيك سيدي. قال: اني ما أرسلت نبياً فانقضت أيامه إلا أقام بالأمر بعده وصيه، فاجعل علي بن أبي طالب الإمام والوصي من بعدك، فإني خلقتكما من نور واحد، وخلقت الأئمة الراشدين من أنوار كما، أتحب أن تراهم يا محمد؟ قلت: نعم يا رب. قال: إرفع رأسك. فرفعت رأسي فإذا أنا بأنوار الأئمة بعدي اثنا عشر نوراً، قلت: يا رب أنوار من هي؟ قال: أنوار الأئمة بعدك أمناء معصومون.

وفي كفاية الأثر ص113: (أخبرنا أبو المفضل الشيباني قال:حدثني حيدر بن محمد بن نعيم السمرقندي قال: حدثنا محمد بن مسعود، عن يوسف بن السخت، عن سفيان الثوري، عن موسي بن عبيدة أياس بن مسلمة بن الأكوع، عن أبي أيوب الأنصاري قال: سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: أناسيد الأنبياء، وعليٌّ سيد الأوصياء، وسبطاي خير الأسباط، ومنا الأئمة المعصومون من صلب الحسين، ومنا مهدي هذه الأمة. فقام إليه أعرابي فقال: يارسول الله كم الأئمة بعدك؟ قال:عدد الأسباط وحواري عيسي ونقباء بني إسرائيل).

وفي

كفاية الأثر ص124: (حدثني علي بن الحسن بن محمد قال: حدثنا هارون بن موسي قال: حدثني محمد بن علي بن معمر قال: حدثني عبد الله بن معبد قال: حدثنا موسي بن إبراهيم الممتع قال: حدثني عبد الكريم بن هلال، عن أسلم، عن أبي الطفيل، عن عمار قال: لما حضرت رسول الله صلي الله عليه وآله الوفاة دعا بعلي عليه السلام، فسارَّهُ طويلاً ثم قال: يا علي أنت وصيي ووارثي قد أعطاك الله علمي وفهمي، فإذا متُّ ظهرت لك ضغائن في صدور قوم وغصبٌ علي حقد. فبكت فاطمة عليها السلام وبكي الحسن والحسين، فقال لفاطمة: يا سيدة النسوان مم بكاؤك؟ قالت: يا أبة أخشي الضيعة بعدك. قال: أبشري يا فاطمة فإنك أول من يلحقني من أهل بيتي، ولاتبكي ولاتحزني فإنك سيدة نساء أهل الجنة، وأباك سيد الأنبياء، وابن عمك خير الأوصياء، وابناك سيدا شباب أهل الجنة، ومن صلب الحسين يخرج الله الأئمة التسعة مطهرون معصومون، ومنا مهدي هذه الأمة. ثم التفت إلي علي عليه السلام فقال:

يا علي لايلي غسلي وتكفيني غيرك. فقال علي عليه السلام: يا رسول الله من يناولني الماء فإنك رجل ثقيل لا أستطيع أن أقلبك. فقال: أن جبرئيل معك والفضل يناولك الماء وليغطي عينيه فإنه لا يري أحد عورتي إلا انفقأت عيناه.

قال: فلما مات رسول الله صلي الله عليه وآله كان الفضل يناوله الماء وجبرئيل يعاونه، فلما أن غسله وكفنه أتاه العباس فقال:ياعلي أن الناس قد أجمعوا أن يدفن النبي صلي الله عليه وآله بالبقيع وإن يؤمهم رجل واحد، فخرج عليٌّ إلي الناس فقال: أيها الناس أن رسول الله صلي الله عليه وآله كان إمامنا حياً وميتاً، وهل تعلمون أن رسول

الله صلي الله عليه وآله لعن من جعل القبور مصلي، ولعن من جعل مع الله إلهاً آخر، ولعن من كسر رباعيته وشق لثته.

قال فقالوا: الأمر اليك فاصنع ما رأيت. قال: فإني أدفن رسول الله صلي الله عليه وآله في البقعة التي قبض فيها. قال: ثم قام علي الباب فصلي عليه، وأمر الناس عشراً عشراً يصلون عليه ثم يخرجون).

وفي كفاية الأثر ص132: (أخبرنا محمد بن عبد الله بن المطلب، قال حدثنا أبو أسيد أحمد بن محمد بن أسيد المديني بأصبهان، قال حدثنا عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر، عن عبد الوهاب بن عيسي المروزي، قال حدثنا الحسين بن علي بن محمد البلوي، قال حدثنا عبد الله بن سحح، عن علي بن هاشم، عن علي بن خرور، عن الأصبغ بن نباتة، قال سمعت عمران بن حصين، يقول سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول لعلي: أنت وارث علمي وأنت الإمام والخليفة بعدي، تعلِّم الناس بعدي ما لا يعلمون، وأنت أبو سبطيَّ وزوج ابنتي، من ذريتكم العترة الأئمة المعصومون. فسأله سلمان عن الأئمة، فقال: عدد نقباء بني إسرائيل). (حدثنا علي بن محمد بن الحسن، قال حدثنا هارون بن موسي قال: حدثنا حيدر بن نعيم السمرقندي قال: حدثنا محمد بن زكريا الجوهري قال:حدثنا العباس بن بكار الضبي قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن أبي عبد الله الشامي، عن عمران بن حصين، وذكر نحوه).

وفي كفاية الأثر ص134: (حدثنا محمد بن وهبان بن محمد البصري قال: حدثنا الحسين بن علي البزوفري قال: حدثني عبد العزيز بن يحيي الجلودي بالبصرة قال: حدثني محمد بن زكريا، عن أحمد بن عيسي بن زيد قال: حدثني عمر بن عبد الغفار، عن

أبي بصير، عن حكيم بن جبير، عن علي بن زيد بن جذعان، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن مالك أن النبي صلي الله عليه وآله قال: يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لانبي بعدي، تقضي ديني وتنجز عداتي، وتقاتل بعدي علي التأويل كما قاتلت علي التنزيل. يا علي حبك إيمان وبغضك نفاق، ولقد نبأني اللطيف الخبير أنه يخرج من صلب الحسين تسعة من الأئمة معصومون مطهرون، ومنهم مهدي هذه الأمة الذي يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت في أوله).

وفي كفاية الأثرص151: (أخبرنا القاضي المعافا بن زكريا قال: حدثنا علي بن عتبة قال: حدثني الحسين بن علوان، عن أبي علي الخراساني، عن معروف بن خربوذ، عن أبي الطفيل، عن علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: أنت الوصي علي الأموات من أهل بيتي، والخليفة علي الأحياء من أمتي، حربك حربي وسلمك سلمي، أنت الإمام أبو الأئمة الأحد عشر، من صلبك أئمة مطهرون معصومون، ومنهم المهدي الذي يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً، فالويل لمبغضكم. يا عليُّ لو أن رجلاً أحب في الله حجراً لحشره الله معه وإن محبيك وشيعتك ومحبي أولادك الأئمة بعدك يحشرون معك. وأنت معي في الدرجات العلي، وأنت قسيم الجنة والنار، يدخل محبيك الجنة ومبغضيك النار).

وفي كفاية الأثر ص180: (حدثنا علي بن الحسن بن محمد بن مندة قال: حدثنا أبو الحسين زيد بن جعفر بن محمد بن الحسين الخزاز بالكوفة في سنة سبع وسبعين وثلثمائة قال: حدثنا العباس بن العباس الجوهري ببغداد في دار عميرة قال: حدثني عفان بن مسلم قال: حدثني حماد بن سلمة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن سداد بن

أوس، قال: لما كان يوم الجمل قلت: لا أكون مع علي ولا أكون عليه، وتوقفت عن القتال إلي انتصاف النهار فلما كان قرب الليل ألقي الله في قلبي أن أقاتل مع علي، فقاتلت معه حتي كان من أمره ما كان.

ثم إني أتيت المدينة فدخلت علي أم سلمة، قالت: من أين أقبلت؟ قلت: من البصرة. قالت: مع أي الفريقين كنت؟ قلت: يا أم المؤمنين إني توقفت عن القتال إلي انتصاف النهار وألقي الله عز وجل أن أقاتل مع علي.

قالت: نعم ما عملت، لقد سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: من حارب علياً فقد حاربني، ومن حاربني فقد حارب الله! قلت: فترين أن الحق مع علي؟ قالت: أي والله، عليٌّ مع الحق والحق معه، والله ما أنصف أمة محمد نبيهم إذ قدموا من أخره الله عز وجل ورسوله، وأخروا من قدمه الله تعالي ورسوله، وأنهم صانوا حلائلهم في بيوتهم وأبرزوا حليلة رسول الله صلي الله عليه وآله الي الفناء! والله لقد سمعت رسول الله صلي الله عليه وآله يقول: لأمتي فرقة وجعلة (وجمعة) فجامعوها إذا اجتمعت، وإذا افترقت فكونوا من النمط الأوسط، ثم ارقبوا أهل بيتي فإن حاربوا فحاربوا، وإن سالموا فسالموا، وإن زالوا فزالوا معهم، فإن الحق معهم حيث كانوا.

قلت: فمَن أهل بيته؟ قالت: أهل بيته الذين أمرنا بالتمسك بهم، قالت: هم الأئمة بعده كما قال: عدد نقباء بني إسرائيل: عليٌّ وسبطاه، وتسعةٌ من صلب الحسين، هم أهل بيته، هم المطهرون، والأئمة المعصومون.

قلت أنا: لله هلك الناس إذا! قالت: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

وفي كفاية الأثر: ص185: (أخبرنا أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن العياشئ قال: حدثني

جدي عبيدالله بن الحسن، عن أحمد بن عبد الجبار، قال حدثنا أحمد بن عبد الرحمن المخزومي قال: حدثنا عمر بن حماد قال: حدثنا علي بن هاشم البريد، عن أبيه قال: حدثني أبو سعيد التميمي، عن أبي ثابت مولي أبي ذر، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: لما أسري بي إلي السماء نظرت فإذا مكتوب علي العرش " لا إله إلا الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته بعلي "، ورأيت أنوار علي وفاطمة والحسن والحسين وأنوار علي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسي بن جعفر وعلي بن موسي ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي، ورأيت نور الحجة يتلألأ من بينهم كأنه كوكب دري، فقلت: يا رب من هذا ومن هؤلاء؟ فنوديت: يا محمد هذا نور علي وفاطمة، وهذا نور سبطيك الحسن والحسين، وهذه أنوار الأئمة بعدك من ولد الحسين مطهرون معصومون، وهذا الحجة يملأ الدنيا قسطاً وعدلا.

وهذه أم سلمة روي عنها شداد بن أوس والحكم بن قيس وأبو الأسود وأبو ثابت مولي أبي ذر رحمة الله عليه).

وفي كفاية الأثرص301: (حدثنا أبو المفضل رحمه الله قال: حدثني محمد بن علي بن شاذان بن حباب الأزدي الخلال بالكوفة قال: حدثني الحسن بن محمد بن عبد الواحد قال: حدثنا الحسن ثم الحسين العربي الصوفي قال: حدثني يحيي بن يعلي الأسلمي، عن عمرو بن موسي الوجيهي، عن زيد بن علي عليه السلام قال: كنت عند أبي علي بن الحسين عليه السلام إذ دخل عليه جابر بن عبد الله الأنصاري، فبينما هو يحدثه إذ خرج أخي محمد من بعض الحجر، فأشخص جابر ببصره نحوه ثم قام إليه

فقال: يا غلام أقبل فأقبل ثم قال: ادبر فأدبر، فقال: شمائل كشمائل رسول الله صلي الله عليه وآله ما اسمك يا غلام؟ قال: محمد. قال: ابن من؟ قال: ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: أنت إذاً الباقر. قال فأكبي عليه وقبل رأسه ويديه ثم قال: يا محمد إن رسول الله صلي الله عليه وآله يقرؤك السلام. قال: علي رسول الله أفضل السلام وعليك يا جابر بما أبلغت السلام. ثم عاد إلي مصلاه، فأقبل يحدث أبي ويقول: أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال لي يوماً: يا جابر إذا أدركت ولدي الباقر فاقرأه مني السلام، فإنه سميِّي وأشبه الناس بي، علمه علمي وحكمه حكمي، سبعة من ولده أمناء معصومون أئمة أبرار، والسابع مهديهم الذي يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. ثم تلا رسول الله صلي الله عليه وآله: وَجَعَلْنَاهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)

وفي كفاية الأثر ص303: (حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن سعيد بن علي الخزاعي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد بالكوفة قال: حدثني جعفر بن علي بن سحلح الكندي قال: حدثني إبراهيم بن محمد بن ميمون قال: حدثني المسعودي أبو عبد الرحمان، عن محمد بن علي الفراري، عن أبي خالد الواسطي، عن زيد بن علي عليه السلام، قال حدثني أبي علي بن الحسين، عن أبيه الحسين ابن علي، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: يا حسين أنت الإمام وأخ الإمام وابن الإمام. تسعة من ولدك أمناء معصومون والتاسع مهديهم، فطوبي لمن أحبهم، والويل لمن أبغضهم).

وفي كفاية الأثرص261:(عن أبي عبدالله عليه

السلام:أن قائمنا يخرج من صلب الحسين والحسين، يخرج من صلب علي، وعلي يخرج من صلب محمد، ومحمد يخرج من صلب علي، وعلي يخرج من صلب ابني هذا، وأشار إلي موسي بن جعفر، وهذا خرج من صلبي. نحن اثنا عشر، كلنا معصومون مطهرون).

وفي أمالي الصدوق ص679:(حدثنا أحمد بن علي بن إبراهيم بن هاشم(رض)قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن محمد بن علي التميمي قال: حدثني سيدي علي بن موسي الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن النبي(صلي الله عليه وآله) أنه قال: من سره أن ينظر إلي القضيب الأحمر الذي غرسه الله بيده، ويكون متمسكاً به، فليتول علياً والأئمة من ولده فإنهم خيرة الله عز وجل وصفوته، وهم المعصومون من كل ذنب وخطيئة). (ورواه في عيون أخبار الرضا عليه السلام:1/ 629).

العصمة التامة هي الوسطية بين الغلو والتقصير

في الكافي:1/269: (محمد بن يحيي، عن أحمد بن محمد، عن البرقي، عن أبي طالب، عن سدير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أن قوماً يزعمون أنكم آلهة، يتلون بذلك علينا قرآناً: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إله وَفِي الأرض إِلَهٌ! فقال: ياسدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء براء، وبرئ الله منهم، ما هؤلاء علي ديني ولاعلي دين آبائي! والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم! قال قلت: وعندنا قوم يزعمون أنكم رسل، يقرؤون علينا بذلك قرآنا: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صالحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ! فقال: ياسدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء، وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء علي ديني ولا علي دين آبائي والله لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم! قال: قلت: فما أنتم؟

قال: نحن

خُزَّانُ علم الله، نحن تَراجمة أمر الله، نحن قومٌ معصومون أمر الله تبارك وتعالي بطاعتنا ونهي عن معصيتنا، نحن الحجة البالغة علي من دون السماء و فوق الأرض).

وفي علل الشرائع للصدوق:1/173: (حدثنا أبو علي أحمد بن يحيي المكتب قال حدثنا أحمد بن محمد الوراق قال حدثنا بشر بن سعيد بن قلبويه المعدل بالرافقه قال حدثنا عبد الجبار بن كثير التميمي اليماني قال سمعت محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة يقول: سألت جعفر بن محمد عليه السلام فقلت له يا ابن رسول الله في نفسي مسألة أريد أن أسألك عنها فقال: إن شئت أخبرتك بمسألتك قبل أن تسألني وإن شئت فسل، قال: قلت له يا ابن رسول الله وبأي شئ تعرف ما في نفسي قبل سؤالي؟ فقال بالتوسم والتفرس، أما سمعت قول الله عز وجل(إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) وقول رسول الله صلي الله عليه وآله اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، قال: فقلت له يا ابن رسول الله فأخبرني بمسألتي قال: أردت أن تسألني عن رسول الله صلي الله عليه وآله لمَ لم يطق حمله علي عليه السلام عند حط الأصنام من سطح الكعبة مع قوته وشدته وما ظهر منه في قلع باب القموص بخيبر والرمي به إلي ورائه أربعين ذراعاً، وكان لايطيق حمله أربعون رجلاً وقد كان رسول الله صلي الله عليه وآله يركب الناقة والفرس والحمار، وركب البراق ليلة المعراج وكل ذلك دون علي في القوة والشدة؟ قال فقلت له: عن هذا والله أردت أن أسألك يا ابن رسول الله، فأخبرني؟ فقال:

إن علياً عليه السلام برسول الله تشرَّف وبه ارتفع، وبه وصل إلي أن أطفأ نار الشرك، وأبطل كل معبود

من دون الله عز وجل، ولو علاه النبي عليهما السلام لحطِّ الأصنام لكان عليه السلام بعلي مرتفعاً وتشريفاً وواصلاً إلي حط الأصنام، ولو كان ذلك كذلك لكان أفضل منه، ألا تري أن علياً عليه السلام قال: لما علوت ظهر رسول الله صلي الله عليه وآله شرفت وارتفعت حتي لو شئت أن أنال السماء لنلتها، أما علمت أن المصباح هو الذي يهتدي به في الظلمة، وانبعاث فرعه من أصله، وقد قال علي عليه السلام أنا من أحمد كالضوء من الضوء، أما علمت أن محمداً وعلياً صلوات الله عليهما كانا نوراً بين يدي الله عز وجل قبل خلق الخلق بألفي عام، وإن الملائكة لما رأت ذلك النور رأت له أصلاً قد تشعب منه شعاع لامع فقالت: إلهنا وسيدنا ماهذا النور؟ فأوحي الله تبارك وتعالي إليهم هذا نور من نوري أصله نبوة وفرعه إمامة، أما النبوة فلمحمد عبدي ورسولي وأما الإمامة فلعلي حجتي ووليي، ولولاهما ما خلقت خلقي! أما علمت أن رسول الله صلي الله عليه وآله رفع يد علي عليه السلام بغدير خم حتي نظر الناس إلي بياض إبطيهما فجعله مولي المسلمين وإمامهم، وقد احتمل الحسن والحسين عليهما السلام يوم حظيرة بني النجار، فلما قال له بعض أصحابه ناولني أحدهما يارسول الله قال: نعم الراكبان وأبوهما خير منهما، وأنه كان يصلي بأصحابه فأطال سجدة من سجداته فلما سلم قيل له يارسول الله لقد أطلت هذه السجدة فقال صلي الله عليه وآله لأن ابني ارتحلني فكرهت أن أعاجله حتي ينزل، وإنما أراد بذلك رفعهم وتشريفهم، فالنبي صلي الله عليه وآله إمام ونبي وعلي عليه السلام إمام ليس بنبي ولا رسول، فهو غير مطيق لحمل أثقال النبوة.

قال محمد

بن حرب الهلالي: فقلت له زدني يا ابن رسول الله فقال: إنك لأهل للزيادة إن رسول الله صلي الله عليه وآله حمل علياً عليه السلام علي ظهره يريد بذلك أنه أبو ولده وإمام الأئمة من صلبه، كما حول ردائه في صلاة الإستسقاء وأراد أن يعلم أصحابه بذلك أنه قد تحول الجدب خصباً، قال: قلت له زدني ياابن رسول الله، فقال: احتمل رسول الله صلي الله عليه وآله علياً عليه السلام يريد بذلك أن يعلم قومه أنه هو الذي يخفف عن ظهر رسول الله ما عليه من الدين والعدات والأداء عنه من بعده، قال: فقلت له يا ابن رسول الله زدني فقال: احتمله ليعلم بذلك أنه قد احتمله وما حمل إلا لأنه معصوم لايحمل وزراً فتكون أفعاله عند الناس حكمة وصواباً وقد قال النبي صلي الله عليه وآله لعلي يا علي أن الله تبارك وتعالي حملني ذنوب شيعتك ثم غفرها لي وذلك قوله تعالي: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ،ولما أنزل الله عز وجل إذا اهتديتم وعليٌّ نفسي وأخي أطيعوا علياً فإنه مطهر معصوم لايضل ولايشقي ثم تلاهذه الآية: قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فإن تَوَلَّوْا فإنما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وإن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَي الرَّسُولِ إلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ.

قال محمد بن حرب الهلالي: ثم قال جعفر بن محمد عليه السلام: أيها الأمير لو أخبرتك بما في حمل النبي صلي الله عليه وآله علياً عليه السلام عند حط الأصنام من سطح الكعبة من المعاني التي أرادها به، لقلت إن جعفر بن محمد لمجنون! فحسبك من ذلك ما قد سمعت! فقمت إليه وقبلت رأسه وقلت: اللهُ أعلم حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ). انتهي.

من كلمات علماء الشيعة في عصمة الأنبياء والأئمة

الانبياء معصومون مطهرون كاملون

قال الصدوق في الإعتقادات في دين الإمامية ص70: باب الإعتقاد في العصمة: (إعتقادنا في الأنبياءوالرسل والأئمة والملائكة عليهم السلام أنهم معصومون مطهرون من كل دنس، وأنهم لايذنبون ذنباً لاصغيراً ولاكبيراً، ولايعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. ومن نفي عنهم العصمة في شئ من أحوالهم فقد جهلهم، ومن جهلهم فهو كافر. واعتقادنا فيهم: أنهم معصومون موصوفون بالكمال والتمام والعلم، من أوائل أمورهم وأواخرها، لايوصفون في شئ من أحوالهم بنقص ولا عصيان ولا جهل). انتهي.

ملاحظة: لابد أن يكون الكفر في كلام الصدوق رحمه الله بمعناه اللغوي، فلا هو ولا بقية فقهائنا يكفرون أحداً من أهل القبلة لقوله بالعصمة الناقصة.

وقال المفيد في المقنعة ص30: (ويجب أن يعتقد التصديق لكل الأنبياء عليهم السلام وأنهم حجج الله علي من بعثهم إليه من الأمم، والسفراء بينه وبينهم، وإن محمد بن عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، خاتمهم وسيدهم وأفضلهم، وإن شريعته ناسخة لما تقدمها من الشرائع المخالفة لها، وأنه لانبي بعده صلي الله عليه وآله ولا شريعة بعد شريعته.

وكل من ادعي النبوة بعده فهو كاذب علي الله تعالي، ومن يغير شريعته فهو ضال، كافر من أهل النار، إلا أن يتوب ويرجع إلي الحق بالإسلام فيكفر بالله تعالي حينئذ عنه... بالتوبة ما كان مقرفاً من الآثام.

ويجب اعتقاد نبوة جميع من تضمن الخبر عن نبوته القرآن علي التفصيل، واعتقاد الجملة منهم علي الإجمال، ويعتقد أنهم كانوا معصومين من الخطأ، موفقين للصواب، صادقين عن الله تعالي في جميع ما أدوه إلي العباد، وفي كل شئ أخبروا به علي جميع الأحوال، وإن طاعتهم طاعة لله ومعصيتهم معصية لله، وإن آدم ونوحاً وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف،

وإدريس وموسي وهارون وعيسي وداود وسليمان وزكريا ويحيي وإلياس وذا الكفل وصالحاً وشعيباً ويونس ولوطاً وهوداً، كانوا أنبياءالله تعالي ورسلاً له صادقين عليه، كما سماهم بذلك وشهد لهم به، وإن من لم يذكر اسمه من رسله علي التفصيل كما ذكر ممن سميناه منهم، وذكرهم في الجملة حيث يقول:وَرسلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرسلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ، كلهم أنبياءعن الله صادقون، وأصفياء له منتجبون لديه، وإن محمداً صلي الله عليه وآله سيدهم وأفضلهم، كما قدمناه...

ويجب علي كل مكلف أن يعرف إمام زمانه، ويعتقد إمامته وفرض طاعته وأنه أفضل أهل عصره وسيد قومه، وأنهم في العصمة والكمال كالأنبياء عليهم السلام ويعتقد أن كل رسول الله تعالي فهو نبي إمام، وليس كل إمام نبياً ولا رسولاً، وإن الأئمة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله حجج الله تعالي وأوليائه، وخاصة أصفياء الله، أولهم وسيدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عليه أفضل السلام، وبعده الحسن والحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي بن الحسين، ثم جعفر بن محمد، ثم موسي بن جعفر، ثم علي بن موسي، ثم محمد بن علي بن موسي، ثم علي بن محمد بن علي، ثم الحسن بن علي بن محمد، ثم الحجة القائم بالحق ابن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسي عليهم السلام. لاإمامة لاحد بعد النبي صلي الله عليه وآله غيرهم، ولايستحقها سواهم، وأنهم الحجة علي كافة الأنام كالأنبياء عليهم السلام وأنهم أفضل خلق الله بعد نبيه عليه وآله السلام، والشهداء علي رعاياهم يوم القيامة، كما أن الأنبياء عليهم السلام شهداء الله علي أممهم، وأنه بمعرفتهم وولايتهم تُقبل

الأعمال، وبعداوتهم والجهل بهم تُستحق النار).

في بحار الأنوار:11/72-96: (باب عصمة الأنبياء عليهم السلام وتأويل مايوهم خطأهم وسهوهم). أورد فيه نحو مجموعة أحاديث وكلمات لعلمائنا رضي الله عنهم في عصمة الأنبياءالتامة عليهم السلام.

العصمة عن الذنوب، والغلط، والرذائل، وما ينفر

قال المفيد في تصحيح اعتقادات الإمامية/128:

(العصمة من الله تعالي لحججه هي التوفيق واللطف، والإعتصام من الحجج بها: عن الذنوب، والغلط في دين الله تعالي.

والعصمة تفضل من الله تعالي علي من علم أنه يتمسك بعصمته، والإعتصام فعل المعتصم، وليست العصمة مانعةً من القدرة علي القبيح، ولا مضطرةً للمعصوم إلي الحسن، ولا مُلجئةً له إليه، بل هي الشئ الذي يعلم الله تعالي أنه إذا فعله بعبد من عبيده لم يؤثر معه معصيته له، وليس كل الخلق يعلم هذا من حاله، بل المعلوم منهم ذلك هم الصفوة والإخيار).

جليلنا

وفي الكافي لأبي الصلاح الحلبي/78: (وإذا ثبتت نبوة نبينا صلي الله عليه وآله بالبراهين الواضحة وجب القطع علي كونه صلي الله عليه وآله علي الصفات التي يجب كون النبي عليها من العصمة فيما يؤديه، والعصمة من جميع القبائح، وتنزيهه عن كل منفر حسب ما دللنا عليه).

اصل الأدلة عندنا علي العصمة التامة: الدليل العقلي

أقول: أصل الدليل في مذهبنا علي عقيدة عصمة الأنبياءوالأئمة عليهم السلام عصمة تامة هو العقل، الذي يحكم بضرورة أن يكون المؤدي للناس عن الله تعالي والمؤدي للناس عن النبي صلي الله عليه وآله معصوماً، وإلا فلا يمكن الوثوق بقوله، وأن عصمته تثبت بنص المعصوم أو بالمعجزة.

وقد حاول غيرنا إثبات العصمة بالنقل لكنه يلزم منه الدور، لأن الوثوق بالنص الذي يثبت العصمة يتوقف عليها، فلا يصح أن تتوقف هي عليه.

وأسوأ من ذلك قول بعضهم بأن الأنبياء عليهم السلام يرتكبون الذنوب والمعاصي حتي في تبليغ الرسالة، لكن الله تعالي لايقرهم علي الخطأ، فيصحح لهم ما عصوا فيه ويتوبون من معصيتهم!

قال ابن تيمية في منهاج سنته:2/400: (والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها، والجمهور الذين يقولون بجواز الصغائر عليهم يقولون إنهم معصومون من الإقرار عليها، وحينئذ فما وصفوهم إلا بما فيه كمالهم، فإن الأعمال بالخواتيم. مع أن القرآن والحديث وإجماع السلف معهم في تقرير هذا الأصل! فالمنكرون لذلك يقولون في تحريف القرآن ما هو من جنس قول أهل البهتان، ويحرفون الكلم عن مواضعه). انتهي.

وقوله: (والجمهور...) يقصد بهم أتباع المذاهب السنية، وتعبيره بالصغائر لكي يجعل آيات الغرانيق الشيطانية التي افتروها علي النبي صلي الله عليه وآله وصحح هو روايتها ودافع عنها، أن يجعلها من المعاصي الصغيرة! مع أنها خيانةٌ للوحي، وكفرٌ بالله العظيم، وعبادةٌ للأصنام وسجودٌ لها!

والوجه في بطلأن هذا الكلام أنه يستوجب سلب الثقة بكل كلام النبي عليه السلام فما دام قد يخطئ أو يخون الرسالة ويبلِّغ الكفرَ بدلَ التوحيد! فلا ينفع بعد ذلك أن الله تعالي لايقره علي الخطأ، وأنه ينبهه بعد مدة فيقول النبي للناس إن الشئ الفلاني الذي بلغتكم إياه كان خطأ مني أو من شيطاني، وقد نبهني اليه جبرئيل وتاب الله عليَّ! فخذوا الصحيح ودعوا الخطأ!

فمن أين يثق الناس بأن هذا البديل الذي بلغه الآن ليس منه أو من الشيطان كسابقه؟! فإن من وقع في خطيئة مرة يمكن أن يقع فيها مئة مرة، ومن خان الوحي مرة، قد يخونه مئة مرة!

ونفس هذا الكلام يجري بطريق أولي في عصمة الإمام المؤدي للأمة عن نبيها صلي الله عليه وآله فإن من يؤدي عن النبي صلي الله عليه وآله لابد أن يكون عنده العلم القطعي بكتاب الله والسنة، وأن يكون معصوماً لايحتمل في حقه النسيان والخطأ وارتكاب خيانة، لأن احتمال الكذب والخطأ فيه يسلب الإطمئنان من أجيال الأمة بأن ما أدَّاهُ اليها هو مراد الله تعالي من كلامه قطعاً وهو قول النبي صلي الله عليه وآله قطعاً!

قال المحقق الحلي في المسلك في أصول الدين ص154:

(وأما العصمة(للنبي)عن المعاصي فقد اختلفوا، فمنهم من عصمه عن الخلل في التبليغ لاغير، ومنهم من عصمه مع ذلك عن الكبائر.

والحق أنه معصومٌ عن الكل في حال النبوة وقبلها. وهل هو معصوم عن السهو أم لا؟ فيه خلاف بين أصحابنا، والأصح القول بعصمته عن ذلك كله.

لنا: لو جاز شئ من ذلك لجاز تطرقه إلي التبليغ، لكن ذلك محال، ولأنه مع تجويز ذلك يرتفع الوثوق بخبره، فينتقض الغرض المراد بالبعثة.

وأما

قبل النبوة فهو معصوم عن تعمد المعصية، صغيرة كانت أو كبيرة، ويدل عليه من القرآن قوله: لايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ.

وأما ما تضمنه الكتاب العزيز وكثير من الأخبار من ماظاهره وقوع المعصية فمحمول علي ضرب من التأويل، لئلا تتناقض الأدلة).

وقاتل العلامة الحلي في شرح التجريد ص375:

المسألة الثانية: في وجوب العصمة قال: ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض، ولوجوب متابعته، وضدها الإنكار عليه.

أقول: اختلف الناس هاهنا، فجماعة المعتزلة جوزوا الصغائر علي الأنبياء عليهم السلام أما علي سبيل السهو كما ذهب إليه بعضهم، أو علي سبيل التأويل كما ذهب إليه قوم منهم، أو لأنها تقع محبطة بكثرة ثوابهم. وذهبت الأشاعرة والحشوية إلي أنه يجوز عليهم الصغائر والكبائر، إلا الكفر والكذب.وقالت الإمامية إنه يجب عصمتهم عن الذنوب كلها، صغيرة كانت أو كبيرة، والدليل عليه بوجوه:

أحدها: أن الغرض من بعثة الأنبياء عليهم السلام إنما يحصل بالعصمة فيجب العصمة تحصيلاً للغرض، وبيان ذلك أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب علي الأنبياءوالمعصية جوزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك، وحينئذ لا ينقادون إلي امتثال أوامرهم وذلك نقض للغرض من البعثة.

الثاني: أن النبي عليه السلام يجب متابعته فإذا فعل معصية فأما أن يجب متابعته أولاًوالثاني باطل لانتفاء فائدة البعثة، والأول باطل لأن المعصية لايجوز فعلها وأشار بقوله لوجوب متابعته وضدها إلي هذا الدليل، لأنه بالنظر إلي كونه نبياً يجب متابعته، وبالنظر إلي كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه.

الثالث: أنه إذا فعل معصية وجب الإنكار عليه، لعموم وجوب النهي عن المنكر، وذلك يستلزم إيذائه، وهو منهيٌّ عنه، وكل ذلك محال).

وفي النافع يوم الحشر للعلامة الحلي ص84: (والإمامية أوجبوا العصمة مطلقاً عن كل

معصية، عمداً وسهواً، وهو الحق لوجهين:

الأول: ما أشار إليه المصنف، وتقريره: أنه لو لم يكن الأنبياء عليهم السلام معصومين لانتفت فائدة البعثة، واللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة: أنه إذا جازت المعصية عليهم لم يحصل الوثوق بصحة قولهم لجواز الكذب حينئذ عليهم، وإذا لم يحصل الوثوق لم يحصل الإنقياد لأمرهم ونهيهم، فتنتفي فائدة بعثهم، وهو محال.

الثاني: لوصدر عنهم الذنب لوجب اتباعهم، لدلالة النقل علي وجوب اتباعهم، لكن الأمر حينئذ باتباعهم محال لأنه قبيح! فيكون صدور الذنب عنهم محالاً وهو المطلوب....

وأما ما ورد في الكتاب العزيز والأخبار مما يوهم صدور الذنب عنهم فمحمول علي ترك الأولي، جمعاً بين ما دل العقل عليه وبين صحة النقل، مع أن جميع ذلك قد ذكر له وجوه ومحامل في مواضعه... وعليك في ذلك بمطالعة كتاب تنزيه الأنبياء عليهم السلام الذي رتبه السيد المرتضي رحمه الله علم الهدي الموسوي وغيره من الكتب، ولولا خوف الإطالة لذكرنا نبذة من ذلك).

وقال في تذكرة الفقهاء(ط.ج):9/397: (الخامس عشر: أن يكون منزهاً عن القبائح لدلالة العصمة عليه، ولأنه يكون مستحقاً للإهانة والإنكار عليه، فيسقط محله من قلوب العامة فتبطل فائدة نصبه.

وأن يكون منزهاً عن الدناءات والرذائل، كاللعب والأكل في الأسواق وكشف الرأس بين الناس، وغير ذلك مما يسقط محله ويوهن مرتبته.

وأن يكون منزهاً عن دناءة الآباء وعهر الأمهات.

وقد خالفت العامة في ذلك كله).

وقال ابن ميثم البحراني في قواعد المرام في علم الكلام ص125:

البحث الأول: العصمة صفة للإنسان يمتنع بسببها من فعل المعاصي ولايمتنع منه بدونها. وعندنا أن النبي معصوم عن الكبائر والصغائر عمداً وسهواً من حين الطفولية إلي آخر العمر. وجوز بعض الخوارج صدور جميع الذنوب عن

الأنبياء عليهم السلام، وجوزت المعتزلة والزيدية وقوع الصغائر عنهم فيما يتعلق بالفتوي دون الكبائر. ثم منهم من جوزها سهواً فقط، وهو مذهب الأشعرية.

فأما ما يتعلق بأداء الشريعة فأجمعوا علي أنه لايجوز عليهم فيه التحريف والخيانة لا عمداً ولا سهواً، وكذلك أجمعوا علي أن وقت العصمة هو وقت النبوة دون ما قبله.

لنا وجوه: أحدها، أن غرض الحكيم من البعثة هداية الخلق إلي مصالحهم وحثهم بالبشارة والنذارة وإقامة الحجة عليهم بذلك لقوله تعالي:رسلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلايَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ. (النساء:165) فلو لم يجب في حكمته عصمة النبي لناقض غرضه من بعثه وإرساله، لكن اللازم باطل فالملزوم مثله، فعصمة النبي واجبة في الحكمة.

أما الملازمة فلأنه بتقدير وقوع المعصية منه جاز أن يأمرهم بما هو مفسدة لهم وينهاهم عما هو مصلحة لهم، وذلك مستلزم لإغوائهم وإضلالهم، فكان في بعثة غير المعصوم مناقضة للغرض من بعثه.

وأما بطلأن اللازم فلأن مناقضة الغرض يستلزم السفه والعبث، وهما محالأن علي الحكيم، كما تقدم في باب اللطف.

الثاني، لو جاز صدور المعصية عن النبي لوجب علينا فعل المفسدة أو ترك المصلحة الواجبة، لكن اللازم باطل فالملزوم مثله.

بيان الملازمة أنه يجب علينا فعل ما أمرنا به والانتهاء عما نهانا عنه لقوله تعالي: وَمَاآتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. (الحشر:7) فبتقدير أن تجوز المعصية عليه جاز أن يوجب علينا ما هو محرم ويحرم علينا ما هو واجب، ويجب علينا اتباعه في ذلك.

وأما بطلأن اللازم فلأن أمر الحكيم لنا باتباعه مطلقاً يستلزم أمره لنا بفعل القبيح إذن، لكن الأمر بالقبيح قبيح ممتنع عليه تعالي.

الثالث، لو جاز صدور المعصية عنهم لكان بتقدير وقوعها منهم لاتقبل شهاداتهم، لقوله

تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا. (الحجرات:6) لكن اللازم باطل، لأنها إذا لم تقبل في محقرات الأمور فكان أولي أن لا تقبل في الأديان الباقية إلي يوم القيامة).

قال الصدوق رحمه الله في معاني الأخبار ص133 بعد إيراد الحديث المتقدم في أماليه:

(قال أبو جعفر مصنف هذا الكتاب: الدليل علي عصمة الإمام أنه لما كان كل كلام ينقل عن قائله يحتمل وجوهاً من التأويل، وكان أكثر القرآن والسنة مما أجمعت الفرق علي أنه صحيح لم يغير ولم يبدل، ولم يزد فيه ولم ينقص منه، محتملاً لوجوه كثيرة من التأويل، وجب أن يكون مع ذلك مخبرٌ صادقٌ معصومٌ من تعمد الكذب والغلط، منبئٌ عما عني الله ورسوله في الكتاب والسنة علي حق ذلك وصدقه، لأن الخلق مختلفون في التأويل، كل فرقة تميل مع القرآن والسنة إلي مذهبها، فلو كان الله تبارك وتعالي تركهم بهذه الصفة من غير مخبر عن كتابه صادق فيه لكان قد سوغهم الإختلاف في الدين ودعاهم إليه، إذ أنزل كتاباً يحتمل التأويل، وسن نبيه سنةً تحتمل التأويل، وأمرهم بالعمل بهما، فكأنه قال: تأولوا واعملوا. وفي ذلك إباحة العمل بالمتناقضات والإعتماد للحق وخلافه.

فلما استحال ذلك علي الله عز وجل، وجب أن يكون مع القرآن والسنة في كل عصر من يبين عن المعاني التي عناها الله عز وجل في القرآن بكلامه، دون ماتحتمله ألفاظ القرآن من التأويل، ويبين عن المعاني التي عناها رسول الله في سننه وأخباره دون التأويل الذي تحتمله ألفاظ الأخبار المروية عنه عليه السلام المجمع علي صحة نقلها.

وإذا وجب أنه لا بدَّ من مخبر صادق، وجب أن لايجوز عليه الكذب تعمداً ولا الغلط فيما يخبر به

عن مراد الله عز وجل في كتابه، وعن مراد رسول الله في أخباره وسننه. وإذا وجب ذلك وجب أنه معصوم.

ومما يؤكذ هذا الدليل أنه لايجوز عند مخالفينا أن يكون الله عز وجل أنزل القرآن علي أهل عصر النبي صلي الله عليه وآله ولا نبي فيهم ويتعبدهم بالعمل بما فيه علي حقه وصدقه، فإذا لم يجز أن ينزل القرآن علي قوم ولا ناطقٌ به ولا معبِّرٌ عنه ولا مفسر لما استعجم منه، ولا مبين لوجهه، فكذلك لايجوز أن نتعبد نحن به إلا ومعه من يقوم فينا مقام النبي صلي الله عليه وآله في قومه وأهل عصره، في التبيين لناسخه ومنسوخه وخاصه وعامه، و المعاني التي عناها الله عز وجل بكلامه دون ما يحتمله التأويل، كما كان النبي صلي الله عليه وآله مبيناً لذلك كله لأهل عصره. ولابد من ذلك ما لزموا العقول والدين.

فإن قال قائل: إن المؤدي إلينا ما نحتاج إلي علمه من متشابه القرآن ومن معانيه التي عناها الله دون ما يحتمله ألفاظه، هو الأمة.

أكذبه اختلاف الأمة وشهادتها بأجمعها علي أنفسها في كثير من أي القرآن لجهلهم بمعناه الذي عناه الله عز وجل!

وفي ذلك بيان أن الأمة ليست هي المؤدية عن الله عز وجل ببيان القرآن، وأنها ليست تقوم في ذلك مقام النبي صلي الله عليه وآله.

فإن تجاسر متجاسر فقال: قد كان يجوز أن ينزل القرآن علي أهل عصر النبي صلي الله عليه وآله , ولا يكون معه نبي ويتعبدهم بما فيه مع احتماله للتأويل.

قيل له: فهبْ ذلك كان قد وقع من الخلاف في معانيه ما قد وقع في هذا الوقت، ما الذي كانوا يصنعون؟

فإن قال: ما قد

صنعوا الساعة.

قيل: الذي فعلوه الساعة أخذ كل فرقة من الأمة جانباً من التأويل وعمله عليه، وتضليل الفرقة المخالفة لها في ذلك، وشهادتها عليها بأنها ليست علي الحق.

فإن قال: أنه كان يجوز أن يكون أول الإسلام كذلك وإن ذلك حكمة من الله و عدل فيهم، ركب خطأ عظيماً وما لا أري أحداً من الخلق يقدم عليه.

فيقال له عند ذلك: فحدثنا إذا تهيأ للعرب الفصحاء أهل اللغة أن يتأولوا القرآن ويعمل كل واحد منهم بما يتأوله علي اللغة العربية، فكيف يصنع من لا يعرف اللغة من الناس؟ وكيف يصنع العجم من الترك والفرس؟ وإلي أي شئ يرجعون في علم ما فرض الله عليهم في كتابه؟ ومن أي الفرق يقبلون مع اختلاف الفرق في التأويل؟!

وإباحتك كل فرقة أن تعمل بتأويلها، فلا بد لك من أن تجري العجم ومن لا يفهم اللغة مجري أصحاب اللغة من أن لهم أن يتبعوا أي الفرق شاؤوا! و[إلا] إن ألزمت من لايفهم اللغة اتباع بعض الفرق دون بعض، لزمك أنت تجعل الحق كله في تلك الفرقة دون غيرها، فإن جعلت الحق في فرقة دون فرقة نقضت مابنيت عليه كلامك واحتجت إلي أن يكون مع تلك الفرقة علم وحجة تبين بها من غيرها، وليس هذا من قولك!

ولو جعلت الفرق كلها متساوية في الحق مع تناقض تأويلاتها، فيلزمك أيضاً أن تجعل للعجم ومن لايفهم اللغة أن يتبعوا أي الفرق شاؤوا، وإذا فعلت ذلك لزمك في هذا الوقت أن لاتلزم أحداً من مخالفيك من الشيعة والخوارج وأصحاب التأويلات وجميع من خالفك ممن له فرقة ومن مبتدع لافرقة له علي مخالفيك ذماً!! وهذا نقض الإسلام والخروج من الإجماع.

ويقال لك: وما ينكر

علي هذا الأعطاء أن يتعبد الله عز وجل الخلق بما في كتاب مطبق لا يمكن أحداً أن يقرأ ما فيه، ويأمر أن يبحثوا ويرتادوا ويعمل كل فرقة بما تري أنه في الكتاب.

فإن أجزت ذلك أجزت علي الله عز وجل العبث لأن ذلك صفة العابث! ويلزمك أن تجيز علي كل من نظر بعقله في شئ واستحسن أمراً من الدين أن يعتقده! لأنه سواء أباحهم أن يعملوا في أصول الحلال و الحرام وفروعها بآرائهم، وأباحهم أن ينظروا بعقولهم في أصول الدين كله وفروعه من توحيده وغيره، وإن يعملوا أيضاً بما استحسنوه وكان عندهم حقاً!

فإن أجزت ذلك أجزت علي الله عز وجل أن يبيح الخلق أن يشهدوا عليه أنه ثاني اثنين، وإن يعتقدوا الدهر، وجحدو البارئ جل وعز.

وهذا آخر ما في هذا الكلام، لأن من أجاز أن يتعبدنا الله عز وجل بالكتاب علي احتمال التأويل ولا مخبر صادق لنا عن معانيه، لزمه أن يجيز علي أهل عصر النبي صلي الله عليه وآله مثل ذلك! وإذا أجاز مثل ذلك لزمه أن يبيح الله عز وجل كل فرقة العمل بما رأت وتأولت، لأنه لايكون لهم غير ذلك إذا لم يكن معهم حجة في أن هذا التأويل أصح من هذا التأويل.

وإذا أباح ذلك أباح متبعهم ممن لايعرف اللغة! وإذا أباح أولئك أيضاً لزمه أن يبيحنا في هذا العصر، وإذا أباحنا ذلك في الكتاب لزمه أن يبيحنا ذلك في أصول الحلال والحرام ومقائيس العقول وذلك خروج من الدين كله.

وإذاً وجب بما قدمنا ذكره أنه لابد من مترجم عن القرآن وأخبار النبي صلي الله عليه وآله وجب أن يكون معصوماً ليجب القبول منه، فإذا وجب أن يكون معصوماً

بطل أن يكون هو الأمة لما بينا من اختلافاتها في تأويل القرآن والأخبار، وتنازعها في ذلك ومن إكفار بعضها بعضاً!!

وإذا ثبت ذلك وجب أن المعصوم هو الواحد الذي ذكرناه وهو الإمام. وقد دللنا علي أن الإمام لا يكون إلا معصوماً، وأرينا أنه إذا وجبت العصمة في الإمام لم يكن بد من أن ينص النبي عليه، لأن العصمة ليست في ظاهر الخلقة فيعرفها الخلق بالمشاهدة فواجب أن ينص عليها علام الغيوب تبارك وتعالي علي لسان نبيه , وذلك لأن الإمام لايكون إلا منصوصاً عليه، وقد صح لنا النص بما بيناه من الحجج وبما رويناه من الأخبار الصحيحة). انتهي.

وقال الطباطبائي في تفسير الميزان:2/134: (كلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام:

العصمة علي ثلاثة أقسام: العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي، والعصمة عن الخطأ في التبليغ والرسالة، والعصمة عن المعصية، وهي ما فيه هتك حرمة العبودية ومخالفة مولويته، ويرجع بالآخرة إلي قول أو فعل ينافي العبودية منافاةً ما. ونعني بالعصمة وجود أمر في الإنسان المعصوم يصونه عن الوقوع فيما لا يجوز من الخطأ، أو المعصية.

وأما الخطأ في غير باب المعصية وتلقي الوحي والتبليغ، وبعبارة أخري: في غير باب أخذ الوحي وتبليغه والعمل به، كالخطأ في الأمور الخارجية نظير الأغلاط الواقعة للإنسان في الحواس وإدراكاتها، أو الإعتباريات من العلوم، ونظير الخطأ في تشخيص الأمور التكوينية من حيث الصلاح والفساد والنفع والضرر ونحوها، فالكلام فيها خارج عن هذا المبحث.

وكيف كان، فالقرآن يدل علي عصمتهم عليهم السلام في جميع الجهات الثلاث:

أما العصمة عن الخطأ في تلقي الوحي وتبليغ الرسالة: فيدل عليه قوله تعالي في الآية: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ

بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَااخْتَلَفَ فِيهِ إِلاالَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَاجَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَي اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ. (البقرة:213) فإنه ظاهر في أن الله سبحانه إنما بعثهم بالتبشير والإنذار وإنزال الكتاب، وهذا هو الوحي، ليبينوا للناس الحق في الإعتقاد والحق في العمل. وبعبارة أخري لهداية الناس إلي حق الإعتقاد وحق العمل، وهذا هو غرضه سبحانه في بعثهم، وقد قال تعالي:لايَضِلُّ رَبِّي وَلايَنْسَي.(ط_ه:52) فبيَّن أنه لايضل في فعله ولايخطئ في شأنه، فإذا أراد شيئاً فإنما يريده من طريقه الموصل إليه من غير خطأ، وإذا سلك بفعل إلي غاية فلا يضل في سلوكه، وكيف لا وبيده الخلق والأمر وله الملك والحكم، وقد بعث الأنبياء عليهم السلام بالوحي إليهم وتفهيمهم معارف الدين، ولا بد أن يكون، وبالرسالة لتبليغها للناس ولابد أن يكون. وقال تعالي أيضاً: إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَئٍ قَدْرا.(الطلاق:3) وقال أيضاً: وَاللهُ غَالِبٌ عَلَي أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أكثر النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. (يوسف:21) ويدل علي العصمة عن الخطأ أيضاً قوله تعالي:عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ أحداً، الأمن ارْتَضَي مِنْ رَسُولٍ فإنه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً. لِيَعْلَمَ أن قَدْ أَبْلَغُوارِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَي كُلَّ شَئٍ عَدَداً.(الج_ن:26-28) فظاهره أنه سبحانه يختص رسله بالوحي فيظهرهم علي الغيب ويؤيدهم بمراقبة ما بين أيديهم وما خلفهم، والإحاطة بما لديهم، لحفظ الوحي عن الزوال والتغير بتغيير الشياطين وكل مغير غيرهم، ليتحقق إبلاغهم رسالات ربهم.

ونظيره قوله تعالي حكاية عن قول ملائكة الوحي: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلابِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً. (مريم:64)، دلت الآيات علي أن الوحي

من حين شروعه في النزول، إلي بلوغه النبي، إلي تبليغه للناس محفوظ مصون عن تغيير أي مغير يغيره).

وقال الوحيد الخراساني في مقدمة منهاج الصالحين ص61:

والأدلة علي عصمة الأنبياء عليهم السلام عديدة، نشير إلي بعضها:

الدليل الأول: أن لوصول كل مخلوق إلي كماله الذي خلق له سنناً وقوانين، وقد تبين مما تقدّم أن السنة التي توصل الإنسان إلي كماله المقصود من خلقه، إنما هي الهداية الإلهية ودين الحقّ.

ولما كان تحقق هذا الكمال يتوقف علي تبليغ السنة والنظام الإلهي وتنفيذه،

والنبي متكفل لتربية الإنسان وفق هذه السنة والنظام، فلو حصل تخلّف في تبليغه أو تنفيذه لكان نقضاً للغرض، ولا يكون تخلّف مبلغ الوحي والمربّي بالتربية الإلهية إلامن جهة الخطأ أو الهوي، وأيّ منهما كان فلا يحصل الغرض الأقصي.

فكمال الهداية الإلهية يتطلّب كمال الهادي، وعصمة النظام الإلهي الذي لاَيَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ، تستلزم عصمة المعلم والمنفذ.

الدليل الثاني: دلّ العقل والنقل علي أن الدين جاء ليُحيي الإنسان حياة طيّبة مَنْ عَمِلَ صالحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَي وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَاكَانُوا يَعْمَلُونَ، وماء الحياة الطيّبة للإنسان هو الإيمان والعمل الصالح، وهما يشكّلأن مجموعة الدين، ومجري هذا الماء الطيب وجود النبيّ عليه السلام، فلو كان مجري الماء ملوثاً لتلوث الماء ولم يصلح لسقي عقول الناس وقلوبهم، ولا يحصل منه ثمرة الحياة الطيبة.

الدليل الثالث: بما أن الغرض من بعثة النبي عليه السلام لايتحقّق إلا بإطاعته في أمره ونهيه، وبما أن إطاعة المخطئ والعاصي لاتجوز، فلو لم يكن النبي عليه السلام معصوماً لم تجب إطاعته، فيلزم نقض الغرض وبطلأن نتيجة البعثة.

الدليل الرابع: إذا لم يكن النبي عليه

السلام معصوماً، لم يحصل للأمة اليقين بصدقه وصحة قوله في تبليغ الوحي، وإذا لم يكن معصوماً من الذنوب، سقطت مكانته في أعين الناس، وكلام العالم بلا عمل، والواعظ غير المتعظ لا يؤثر في النفوس، فلا يحصل الغرض المقصود من البعثة.

الدليل الخامس: منشأ الخطأ والذنب ضعف العقل والإرادة، وعقل النبي عليه السلام كامل، لأنه باتصاله بالوحي اتصل بحق اليقين، وصار يري الأشياء علي واقعها كما هي، وإرادته لا تتأثّر إلا من إرادة الله سبحانه وتعالي، فلا يبقي في شخصيته مجالٌ للخطأ والذنب). انتهي.

العصمة لاتعني الإجبار، و لا تنافي الإختيار

قال المفيد في رسالة النكت الإعتقادية ص45:

(فإن قيل: ما حد العصمة؟ الجواب: العصمة لطف يفعله الله بالمكلف بحيث يمنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة، مع قدرته عليهما.

فإن قيل: ما الدليل علي أنه معصوم من أول عمره إلي آخره؟

والجواب: الدليل علي ذلك أنه لو عهد منه السهو والنسيان لارتفع الوثوق منه عند إخباراته. ولو عهد منه خطيئة لتنفرت العقول من متابعته فتبطل فائدة البعثة).

وقال العلامة الحلي في شرح التجريد/494:

قال: ولا تنافي العصمة القدرة.

أقول:اختلف القائلون بالعصمة في أن المعصوم هل يتمكن من فعل المعصية أم لا؟ فذهب قوم منهم إلي عدم تمكنه من ذلك، وذهب آخرون إلي تمكنه منها. أما الأولون فمنهم من قال: أن المعصوم مختص في بدنه أو نفسه بخاصية تقتضي امتناع إقدامه علي المعصية، ومنهم من قال: أن العصمة هو القدرة علي الطاعة وعدم القدرة علي المعصية، وهو قول أبي الحسين البصري. وأما الإخرون الذين لم يسلبوا القدرة فمنهم من فسرها بأنه الأمر الذي يفعله الله تعالي بالعبد من الألطاف المقربة إلي الطاعات التي يعلم معها أنه لا يقدم علي المعصية بشرط أن لا

ينتهي ذلك الأمر إلي الالجاء، ومنهم من فسرها بأنها ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي. وآخرون قالوا: العصمة لطف يفعله الله تعالي بصاحبها لا يكون له معه داع إلي ترك الطاعة وارتكاب المعصية، وأسباب هذا اللطف أمور أربعة:

أحدها: أن يكون لنفسه أو لبدنه خاصية تقتضي ملكة مانعة من الفجور وهذه الملكة مغايرة للفعل.

الثاني: أن يحصل له علم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.

الثالث: تأكيد هذه العلوم بتتابع الوحي والإلهام من الله تعالي.

الرابع: مؤاخذته علي ترك الأولي بحيث يعلم أنه لا يترك مهملا بل يضيق عليه الأمر في غير الواجب من الأمور الحسنة.

فإذا اجتمعت هذه الأمور كان الإنسان معصوماً.

والمصنف رحمه الله اختار المذهب الثاني وهو أن العصمة لا تنافي القدرة بل المعصوم قادر علي فعل المعصية، وإلا لما استحق المدح علي ترك المعصية ولا الثواب، ولبطل الثواب والعقاب في حقه، فكان خارجاً عن التكليف! وذلك باطل بالإجماع وبالنقل في قوله تعالي:(قُلْ إنما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَي إِلَيَّ).

وقال العلامة الحلي في كتاب الألفين/67:

البحث السابع: في عصمة الإمام، وهي ما يمتنع المكلف معه من المعصية متمكنا منها، ولا يمتنع منها مع عدمها. اختلف الناس في ذلك، فذهبت الإمامية والإسماعيلية إليه، ونفاه الباقون، لنا وجوه:

الأول: لو كان غير معصوم لكان محتاجاً إما إلي نفسه أو إلي إمام آخر فيدور أو يتسلسل وهما محالأن، وذلك لوجود العلة المحوجة إليه فيه.

لايقال: المعصوم لايخلو إما أن يقدر علي المعصية أو لا يقدر، فإن قدر فلايخلو أن يمكن وقوعها منه أو لايمكن، فإن أمكن فهو كسائر المكلفين في الحقيقة من غير امتياز، وإن لم يمكن فقدرته علي ما لايمكن وقوعه لا يكون قدرة،

وإن لم يقدر فهو مجبورٌ وليس ذلك بشرف له.

وأيضاً، إذا جاز أن يمتنع وقوع المعصية من شخص من المكلفين بفعل الله تعالي، ولا يضر ذلك قدرته وتمكنه من الطرفين، فالواجب أن يجعل جميع المكلفين كذلك، إذ كان الغرض من وجودهم إيصال الثواب إليهم دون وقوع المعصية وعقابهم عليها؟

وأيضاً، فلمَ يجوز أن يكون الإنتهاء في الإحتجاج إلي النبي صلي الله عليه وآله أو القرآن وينقطع التسلسل.

لأنا نجيب عن الأول: بأنه يقدر عليها ولكن لاتقع مقدورة منه، لعدم خلوص داعيه إليها، كما نقول في امتناع وقوع القبايح من الحكيم تعالي، وكما نقول في عصمة الأنبياء عليهم السلام فإن القدرة علي ما لايمكن وقوعه لاعتبار شئ غير ذاته لايستنكر، إنما يستنكر القدرة علي ما لا يمكن وقوعه لذاته.

وعن الثاني: أنا لا نقول أن الحكيم تعالي جعل شخصاً واحداً بفعله معصوماً من غير استحقاق منه لذلك، لكِنَّا نقول: كل من يستحق الألطاف الخاصة التي هي العصمة بكسبه، فهو تعالي يخصه بها.

ثم الإمام يجب أن يكون من تلك الطايفة، فالمكلفون بأسرهم لو استحقوا بكسبهم تلك الألطاف لكانوا كلهم معصومين، فظهر أن الخلل في عدم عصمتهم جميعاً راجع عليهم لا عليه تعالي.

وعن الثالث: أن نسبة غير المعصومين إلي النبي صلي الله عليه وآله القرآن نسبة واحدة، فلو جاز أن يكون النبي الموجود في زمان سابق أو القرآن مُغنياً لمكلف مع جواز خطأه عن الإمام لجاز في الجميع مثل ذلك، وحينئذ لايجب احتياجهم جميعاً إلي الإمام، وقد سبق فساد اللازم فظهر فساد الملزوم.

الثاني: لما ثبت وجوب نصب الإمام علي الله تعالي بالطريق الثاني فنقول: أنا نعلم ضرورة أن الحاكم إذا نصب في رعيته من يعرف

منه أنه لا يقوم بمصالحهم ولا يراعي فيهم ما لأجله احتاجوا إلي منصوب قبله، تستقبح العقول منه ذلك النصب وتنفر عنه، ونصب غير المعصوم من الله تعالي داخل في هذه الحِكم، فعلمنا أنه لاينصب غير المعصوم، فكل إمام ينصبه الله تعالي فهو معصوم). انتهي.

وقال الشريف المرتضي في رسائله:3/323:

(مسألة في العصمة: ماحقيقة العصمة التي يعتقد وجوبها للأنبياءوالأئمة عليه السلام، وهل هو معني يضطر إلي الطاعة ويمنع من المعصية أو معني يضامُّ الإختيار؟ فإن كان معني يضطر إلي الطاعة ويمنع من المعصية، فكيف يجوز الحمد والذم لفاعلها؟ وإن كان معني يضامُّ الإختيار، فاذكروه ودُلُّوا علي صحة مطابقته له، ووجوب اختصاص المذكورين به دون من سواهم، فقد قال بعض المعتزلة: إن الله عصم أنبياءه بالشهادة لهم بالإعتصام، وضلل قوماً بنفس الشهادة عليهم بالضلال، فإن يكن ذلك هو المعتمد، أنعمْ بذكره ودلَّ علي صحته وبطلأن ما عساه نعلمه من الطعن عليه، وإن كان باطلاً دلَّ علي بطلانه وصحة الوجه المعتمد دون ما سواه؟

الجواب ولله التوفيق: أعلم أن العصمة هي اللطف الذي يفعله تعالي، فيختار العبد عنده الإمتناع من فعل القبيح، فيقال علي هذا إن الله عصمه، بأن فعل له ما اختار عنده العدول عن القبيح، ويقال إن العبد معتصم، لأنه اختار عند هذا الداعي الذي فعل الإمتناع عن القبيح.

وأصل العصمة في وضع اللغة المنع، يقال: عصمت فلاناً من السوء إذا منعت من فعله به. غير أن المتكلمين أجروا هذه اللفظة علي من امتنع باختياره عند اللطف الذي يفعله الله تعالي به، لأنه إذا فعل به ما يعلم أن يمتنع عنده من فعل القبيح فقد منعه منه، فأجروا عليه لفظ المانع قسراً أو قهراً. وأهل اللغة

يتصارفون ذلك ويستعملونه، لأنهم يقولون فيمن أشار علي غيره برأي فقبله مختاراً، واحتمي بذلك من ضرر يلحقه هو وماله إنه حماه من ذلك الضرر ومنعه وعصمه، وإن كان ذلك علي سبيل الإختيار.

فإن قيل: أفتقولون فيمن لطف له بما اختار عنده الإمتناع من فعل واحد قبيح أنه معصوم.

قلنا: نقول ذلك مضافاً ولا نطلقه، فنقول: أنه معصوم من كذا ولا نطلق، فيوهم أنه معصوم من جميع القبائح، ونطلق في الأنبياءوالأئمة عليهم السلام العصمة بلا تقييد، لأنهم عندنا لايفعلون شيئاً من القبائح، دون ما يقوله المعتزلة من نفي الكبائر عنهم دون الصغائر.

فإن قيل: فإذا كان تفسير العصمة ما ذكرتم، أفلا عصم الله جميع المكلفين وفعل بهم ما يختارون عنده الإمتناع من القبائح.

قلنا: كل من علم الله تعالي أن له لطفاً يختار عنده الإمتناع من القبح، فإنه لا بدَّ أن يفعله وإن لم يكن نبياً ولا إماماً، لأن التكليف يقتضي فعل اللطف علي ما دل عليه في مواضع كثيرة.

غير أنا لانمنع أن يكون في المكلفين من ليس في المعلوم أن فيه سبباً متي فعل اختار عنده الإمتناع من القبح، فيكون هذا المكلف لاعصمة له في المعلوم ولا لطف، ولا يكلف من لا لطف له بحسن ولا بقبح، وإنما القبيح منع اللطف فيمن له لطف مع ثبوت التكليف.

فأما قول بعضهم إن العصمة الشهادة من الله تعالي بالإعتصام، فباطل لأن الشهادة لا يجعل الشئ علي ما هو به، وإنما يتعلق به علي ما هو عليه، لأن الشهادة هي الخبر، والخبر عن كون الشئ علي صفة لا يؤثر في كونه عليها، فيحتاج أولاًإلي أن يتقدم إلي العلم بأن زيداً معصوم أو معتصم، ويوضح عن معني ذلك،

ثم تكون الشهادة من بعده مطابقة لهذا العلم، وهذا بمنزلة من سئل عن حد المتحرك، فقال: هو شهادة بأنه متحرك أو العلم بأنه علي هذه الصفة. وفي هذا البيان كفاية لمن تأمل).

وقال الطباطبائي في تفسير الميزان:2/138: (فإن قلت: الذي يدل عليه ما مر من الآيات الكريمة هو أن الأنبياء عليهم السلام لايقع منهم خطأ ولا يصدر عنهم معصية، وليس ذلك من العصمة في شئ، فإن العصمة علي ما ذكره القوم قوة تمنع الإنسان عن الوقوع في الخطأ، وتردعه عن فعل المعصية واقتراف الخطيئة، وليست القوة مجرد صدور الفعل أو عدم صدوره، وإنما هي مبدأ نفساني تصدر عنه الفعل كما تصدر الأفعال عن الملكات النفسانية.

قلت: نعم لكن الذي يحتاج إليه في الأبحاث السابقة هو عدم تحقق الخطأ والمعصية من النبي عليه السلام ولايضر في ذلك عدم ثبوت قوة تصدر عنها الفعل صواباً أو طاعة وهو ظاهر.

ومع ذلك يمكن الإستدلال علي كون العصمة مستندة إلي قوة رادعة بما مر في البحث عن الإعجاز من دلالة قوله تعالي: إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَئ قَدْراً. (الطلاق:3) وكذا قوله تعالي: إِنَّ رَبِّي عَلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (هود:56) علي أن كلاً من الحوادث يحتاج إلي مبدأ يصدر عنه وسبب يتحقق به، فهذه الأفعال الصادرة عن النبي عليه السلام علي وتيرة واحدة صواباً وطاعة تنتهي إلي سبب مع النبي عليه السلام وفي نفسه وهي القوة الرادعة.

وتوضيحه: أن أفعال النبي عليه السلام المفروض صدورها طاعة أفعال اختيارية من نوع الأفعال الإختيارية الصادرة عنا، التي بعضها طاعة وبعضها معصية، ولا شك أن الفعل الإختياري إنما هو اختياري بصدوره عن العلم والمشية، وإنما يختلف الفعل طاعة ومعصية باختلاف

الصورة العلمية التي يصدر عنها، فإن كان المقصود هو الجري علي العبودية بامتثال الأمر مثلاً تحققت الطاعة، وإن كان المطلوب- أعني الصورة العلمية التي يضاف إليها المشية- اتباع الهوي واقتراف ما نهي الله عنه تحققت المعصية، فاختلاف أفعالنا طاعة ومعصية لاختلاف علمنا الذي يصدر عنه الفعل، ولو دام أحد العلمين أعني الحكم بوجوب الجري علي العبودية وامتثال الأمر الإلهي، لما صدر إلا الطاعة، ولو دام العلم الآخر الصادر عنه المعصية (والعياذ بالله) لم يتحقق إلا المعصية.

وعلي هذا فصدور الأفعال عن النبي عليه السلام بوصف الطاعة دائماً ليس إلا لأن العلم الذي يصدر عنه فعله بالمشية صورة علمية صالحة غير متغيرة، وهو الإذعان بوجوب العبودية دائماً، ومن المعلوم أن الصورة العلمية والهيئة النفسانية الراسخة غير الزائلة، هي الملكة النفسانية كملكة العفة والشجاعة والعدالة ونحوها، ففي النبي ملكة نفسانية تصدر عنها أفعاله علي الطاعة والإنقياد وهي القوة الرادعة عن المعصية.

ومن جهة أخري النبي عليه السلام لايخطئ في تلقي الوحي ولا في تبليغ الرسالة ففيه هيئة نفسانية لاتخطئ في تلقي المعارف وتبليغها، ولاتعصي في العمل. ولو فرضنا أن هذه الأفعال وهي علي وتيرة واحدة ليس فيها إلا الصواب والطاعة تحققت منه من غير توسط سبب من الأسباب يكون معه، ولا انضمام من شئ إلي نفس النبي عليه السلام، كان معني ذلك أن تصدر أفعاله الإختيارية علي تلك الصفة بإرادة من الله سبحانه من غير دخالة للنبي عليه السلام فيه، ولازم ذلك إبطال علم النبي عليه السلام وإرادته في تأثيرها في أفعاله، وفي ذلك خروج الأفعال الإختيارية عن كونها اختيارية، وهو ينافي افتراض كونه فرداً من أفراد الإنسان الفاعل بالعلم والإرادة. فالعصمة من الله سبحانه إنما هي

بإيجاد سبب في الإنسان النبي يصدر عنه أفعاله الإختيارية صواباً وطاعة، وهو نوع من العلم الراسخ، وهو الملكة كما مر).

وقال في الميزان:5/78، في تفسير قوله تعالي: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ.(النساء:113): (ظاهر الآية أن الأمر الذي تتحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ. وبعبارة أخري: علم مانع عن الضلال، كما أن سائر الإخلاق كالشجاعة والعفة والسخاء كل منها صورة علمية راسخة موجبة لتحقق آثارها، مانعةٌ عن التلبس بأضدادها من آثار الجبن والتهور والخمود والشره والبخل والتبذير.

والعلم النافع والحكمة البالغة وإن كانا يوجبان تنزه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، والتلوث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم والحكمة والفضلاء من أهل التقوي والدين، غير أن ذلك سببٌ غالبيٌّ كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم المادي الطبيعي، فلا تكاد تجد متلبساً بكمال يحجزه كماله من النواقص ويصونه عن الخطأ صوناً دائمياً من غير تخلف، سنةً جاريةً في جميع الأسباب التي نراها ونشاهدها.

والوجه في ذلك أن القوي الشعورية المختلفة في الإنسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم البعض الآخر، أو ضعف التفاته إليه، كما أن صاحب ملكة التقوي مادام شاعراً بفضيلة تقواه لايميل إلي اتباع الشهوة غير المرضية ويجري علي مقتضي تقواه، غير أن اشتعال نار الشهوة وانجذاب نفسه إلي هذا النحو من الشعور، ربما حجبه عن تذكر فضيلة التقوي أو ضعف شعور التقوي، فلا يلبث دون أن يرتكب ما لاترتضيه التقوي، ويختار سفساف الشره، وعلي هذا السبيل سائر الأسباب الشعورية في الإنسان.

وإلا فالإنسان لايحيد عن حكم سبب من هذه الأسباب ما دام السبب قائماً علي ساق، ولا مانع يمنع من تأثيره، فجميع هذه

التخلفات تستند إلي مغالبة التقوي والأسباب، وتغلُّبِ بعضها علي بعض.

ومن هنا يظهر أن هذه القوة المسماة بقوة العصمة سبب شعوري علمي غير مغلوب البتة، ولو كانت من قبيل ما نتعارفه من أقسام الشعور والإدراك لتسرب إليها التخلف، وخَبَطت في أثرها أحياناً، فهذا العلم من غير سنخ سائر العلوم والإدراكات المتعارفة التي تقبل الإكتساب والتعلم. وقد أشار الله تعالي إليه في خطابه الذي خص به نبيه صلي الله عليه وآله بقوله: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. (النساء:113) وهو خطاب خاص لانفقهه حقيقة الفقه، إذ لاذوق لنا في هذا النحو من العلم والشعور.

غير أن الذي يظهر لنا من سائر كلامه تعالي بعض الظهور كقوله: قُلْ مَنْ كَانَ عدواً لِجِبْرِيلَ فإنه نَزَّلَهُ عَلَي قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُديً وَبُشْرَي لِلْمُؤْمِنِينَ. (البقرة:97) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ، عَلَي قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ، (الشعراء:195-196) أن الإنزال المذكور من سنخ العلم، ويظهر من جهة أخري أن ذلك من قبيل الوحي والتكليم، كما يظهر من قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبراهيم وَمُوسَي وَعِيسَي، الآية.. (الشوري:13) وقوله: أنا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلي نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ، (النساء:163) وقوله: إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَي إِلَيَّ.(الأنعام-50)، وقوله: إنما أَتَّبِعُ مَا يُوحَي إِلَيَّ (لأعراف:203) ويستفاد من الآيات علي اختلافها أن المراد بالإنزال هو الوحي، وحي الكتاب والحكمة، وهو نوع تعليم إلهي لنبيه صلي الله عليه وآله.

غير أن الذي يشير إليه بقوله: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. (النساء:113) ليس هو الذي علمه بوحي الكتاب والحكمة فقط، فإن مورد الآية قضاء النبي صلي الله

عليه وآله في الحوادث الواقعة والدعاوي التي ترفع إليه برأيه الخاص، وليس ذلك من الكتاب والحكمة بشئ وإن كان متوقفاً عليهما بل رأيه ونظره الخاص به. ومن هنا يظهر أن المراد بالإنزال والتعليم في قوله: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ. (النساء:113) نوعان اثنان من العلم، أحدهما التعليم بالوحي ونزول الروح الأمين علي النبي صلي الله عليه وآله والإخر: التعليم بنوع من الإلقاء في القلب والإلهام الخفي الإلهي من غير إنزال الملك، وهذا هو الذي تؤيده الروايات الواردة في علم النبي صلي الله عليه وآله.

وعلي هذا فالمراد بقوله: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ،آتاك نوعاً من العلم لو لم يؤتك إياه من لدنه لم يكفك في إيتائه الأسباب العادية التي تعلم الإنسان ما يكتسبه من العلوم.

فقد بان من جميع ما قدمناه أن هذه الموهبة الإلهية التي نسميها قوة العصمة نوع من العلم والشعور، يغاير سائر أنواع العلوم في أنها غير مغلوبة لشئ من القوي الشعورية البتة، بل هي الغالبة القاهرة عليها المستخدمة إياها، ولذلك كانت تصون صاحبها من الضلال والخطيئة مطلقاً.

وقد ورد في الروايات أن للنبي والإمام عليهما السلام روحاً تسمي روح القدس تسدده وتعصمه عن المعصية والخطيئة، وهي التي يشير إليها قوله تعالي وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَامَاكُنْتَ تَدْرِي مَاالْكِتَابُ وَلا الإيمان وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا، (الشوري:52) بتنزيل الآية علي ظاهرها من الإلقاء عليه صلي الله عليه وآله ونظيره قوله تعالي: وَجَعَلْنَاهُمْ أئمة يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ، (الأنبياء:73)بناء علي ما سيجئ من بيان معني الآية إن شاء الله العزيز أن المراد به تسديد

روح القدس الإمام بفعل الخيرات وعبادة الله سبحانه. وبانَ مما مر أيضاً أن المراد بالكتاب في قوله: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ

الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ، هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس علي حد قوله تعالي:كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ). (البقرة:213).

دفاع أهل البيت و شيعتهم عن عصمة الأنبياء

الامام الصادق يتألم لظلم الناس للأنبياء والأوصياء

اشاره

في أمالي الصدوق ص163: (حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة عن حمدان بن سليمان، عن نوح بن شعيب، عن محمد بن إسماعيل، عن صالح، عن علقمة، قال: قال الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام وقد قلت له: يا بن رسول الله أخبرني من تقبل شهادته ومن لاتقبل شهادته؟ فقال: (يا علقمة، كل من كان علي فطرة الإسلام جازت شهادته. قال فقلت له: تقبل شهادة المقترف للذنوب؟ فقال: يا علقمة لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلا شهادات الأنبياءوالأوصياء صلوات الله عليهم، لأنهم هم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة، وإن كان في نفسه مذنباً...

قال علقمة: فقلت للصادق عليه السلام: يا بن رسول الله أن الناس ينسبوننا إلي عظائم الأمور، وقد ضاقت بذلك صدورنا. فقال عليه السلام:

يا علقمة أن رضا الناس لايملك، وألسنتهم لاتضبط، فكيف تَسْلمون مما لم يسلم منه أنبياءالله ورسله وحججه عليهم السلام؟!

ألم ينسبوا يوسف إلي أنه هم بالزنا؟! ألم ينسبوا أيوب إلي أنه ابتلي بذنوبه؟!

ألم ينسبوا داود إلي أنه تبع الطير حتي نظر إلي امرأة أوريا فهواها! وأنه قدم زوجها إمام التابوت حتي قتل ثم تزوج بها؟!

ألم

ينسبوا موسي إلي أنه عنين وآذوه حتي برأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها؟!

ألم ينسبوا جميع أنبياءالله إلي أنهم سحرة طلبة الدنيا؟!

ألم ينسبوا مريم بنت عمران إلي أنها حملت بعيسي من رجل نجار اسمه يوسف؟!

ألم ينسبوا نبينا محمداً صلي الله عليه وآله إلي أنه شاعر مجنون؟ ألم ينسبوه إلي أنه هوي امرأة زيد بن حارثة فلم يزل بها حتي استخلصها لنفسه؟ ألم ينسبوه يوم بدر إلي أنه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء! حتي أظهره الله عز وجل علي القطيفة وبرأ نبيه من الخيانة، وأنزل بذلك في كتابه: وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أن يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يأت بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ! ألم ينسبوه إلي أنه ينطق عن الهوي في ابن عمه علي حتي كذبهم الله عز وجل، فقال سبحانه: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي.إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَي؟!

ألم ينسبوه إلي الكذب في قوله: أنه رسول من الله إليهم؟ حتي أنزل الله عز وجل عليه: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَي مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّي أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ؟!

ولقد قال يوماً: عرج بي البارحة إلي السماء. فقيل: والله ما فارق فراشه طول ليلته.

وما قالوا في الأوصياء عليهم السلام أكثر من ذلك! ألم ينسبوا سيد الأوصياء عليه السلام إلي أنه كان يطلب الدنيا والملك وأنه كان يؤثر الفتنة علي السكون، وأنه يسفك دماء المسلمين بغير حلها، وأنه لو كان فيه خير ما أمر خالدَ بن الوليد بضرب عنقه؟

ألم ينسبوه إلي أنه أراد أن يتزوج ابنة أبي جهل علي فاطمة عليها السلام، وإن رسول الله صلي الله عليه وآله شكاه علي المنبر إلي المسلمين،

فقال: أن علياً يريد أن يتزوج ابنة عدو الله علي ابنة نبي الله، إلا أن فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني، ومن سرها فقد سرني، ومن غاظها فقد غاظني؟

ثم قال الصادق عليه السلام: يا علقمة، ما أعجب أقاويل الناس في علي عليه السلام!

كم بين من يقول: أنه رب معبود، وبين من يقول: أنه عبد عاص للمعبود! ولقد كان قول من ينسبه إلي العصيان أهون عليه من قول من ينسبه إلي الربوبية.

يا علقمة، ألم يقولوا لله عز وجل: أنه ثالث ثلاثة؟ ألم يشبهوه بخلقه؟ ألم يقولوا أنه الدهر؟ ألم يقولوا: أنه الفلك؟ ألم يقولوا: أنه جسم؟ ألم يقولوا: أنه صورة؟ تعالي الله عن ذلك علوا كبيراً.

ياعلقمة، أن الألسنة التي تتناول ذات الله تعالي ذكره بما لايليق بذاته، كيف تحبس عن تناولكم بما تكرهونه! فاستعينوا بالله واصبروا، أن الأرض لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. فإن بني إسرائيل قالوا لموسي عليه السلام: أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أن تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا، فقال الله عز وجل: قل لهم يا موسي:عَسَي رَبُّكُمْ أن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). (لأعراف:129)

الإمام الرضا عليه السلام يدافع عن عصمة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام

في عيون أخبار الرضا عليه السلام:2/174: (باب ذكر مجلس آخر للرضا عليه السلام عند المأمون في عصمة الأنبياء عليهم السلام: (حدثنا تميم بن عبد الله بن تميم القرشي(رض)قال: حدثني أبي عن حمدان بن سليمان النيسابوري عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسي عليهما السلام فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك: الأنبياءمعصومون؟ قال: بلي قال: فما معني قول

الله عز وجل: وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي؟

فقال عليه السلام: أن الله تبارك وتعالي قال لآدم:(اسْكُنْ أنت وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ، وأشار لهما إلي شجره الحنطة فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، ولم يقل لهما: لاتأكلا من هذه الشجره ولا مما كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجره ولم يأكلا منها وإنما أكلا من غيرها لمَّا أن وسوس الشيطان اليهما وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، وإنما نهاكما أن تقربا غيرها ولم ينهكما عن الأكل منها، إلا أنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ، وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ , ولم يكن آدم وحواء شاهداً قبل ذلك من يحلف بالله كاذباً، فَدَلاهُمَا بِغُرُور، فأكلا منها ثقة بيمينه بالله.>وكان ذلك من آدم قبل النبوة، ولم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز علي الأنبياءقبل نزول الوحي عليهم< فلما اجتباه الله تعالي وجعله نبياً كان معصوماً لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال الله عز وجل: وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَي. وقال عز وجل: أن الله اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ.

فقال له المأمون: فما معني قول الله عز وجل: فَلَمَّا آتَاهُمَا صالحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا؟

فقال له الرضا عليه السلام: >إن حواء ولدت لآدم خمس مأة بطن ذكراً وأنثي<، وإن آدم عليه السلام وحواء عاهدا الله عز وجل ودعواه وقالا: لَئِنْ آتَيْتَنَا صالحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صالحاً من النسل خلقاً سوياً بريئاً من الزمانة والعاهة وكان ما آتاهما صنفين صنفاً ذكراناً وصنفاً إناثاً، فجعل الصنفان لله تعالي شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، ولم

يشكراه كشكر أبويهما له عز وجل، قال الله تبارك وتعالي: فَتَعَالَي اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

فقال المأمون: أشهد إنك ابن رسول الله حقاً، فأخبرني عن قول الله عز وجل في حق إبراهيم عليه السلام: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأي كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي؟

فقال الرضا عليه السلام: أن إبراهيم عليه السلام وقع إلي ثلاثه أصناف صنف يعبد الزهرة وصنف يعبد القمر وصنف يعبد الشمس، وذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ فرأي الزهرة قال:هَذَا رَبِّي؟! علي الإنكار والإستخبار فَلَمَّا أَفَلَ الكوكب قَالَ لا أحب الآفِلِين، لأن الأفول من صفات المحدث لا من صفات القدم، فَلَمَّا رَأي الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي علي الإنكار والإستخبار: فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ، يقول: لو لم يهدني ربي لكنت من القوم الضالين، فلما أصبح رَأي الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ من الزهرة والقمر، علي الإنكار والإستخبار لا علي الأخبار والإقرار، فَلَمَّا أَفَلَتْ قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة والقمر والشمس:يَا قَوْمِ إِنِّي بَرئٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَالسَّمَاوَاتِ والأرض حنيفاً وَمَاأَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وإنما أراد إبراهيم عليه السلام بما قال أن يبين لهم بطلأن دينهم ويثبت عندهم أن العبادة لا تحق لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس، وإنما تحق العبادة لخالقها وخالق السموات والأرض.

وكان ما احتج به علي قومه مما ألهمه الله تعالي وآتاه كما قال الله عز وجل: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبراهيم عَلَي قَوْمِهِ.

فقال المأمون: لله درك يا ابن رسول الله فأخبرني عن قول إبراهيم عليه السلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَي قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَي وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي؟

قال الرضا عليه

السلام: أن الله تبارك وتعالي كان أوحي إلي ابراهيم عليه السلام: إني متخذ من عبادي خليلاً أن سألني إحياء الموتي أجبته، فوقع في نفس إبراهيم أنه ذلك الخليل، فقال:رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَي قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَي وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي علي الخلَّة، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَي كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أن الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

فأخذ إبراهيم عليه السلام نسراً وطاووساً وبطاً وديكاً، فقطَّعهنَّ وخَلَطهُنَّ، ثم جعل علي كل جبل من الجبل التي حوله وكانت عشرة منهن جزءً وجعل مناقيرهن بين أصابعه، ثم دعاهن بأسمائهن ووضع عنده حباً وماءً، فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلي بعض حتي استوت الأبدان، وجاء كل بدن حتي انضمَّ إلي رقبته ورأسه، فخلَّي إبراهيم عليه السلام عن مناقيرهن فطِرْنَ، ثم وقعنَ فشربنَ من ذلك الماء، والْتقطنَ من ذلك الحب وقلنَ: يا نبيَّ الله أحييتنا، أحياك الله. فقال إبراهيم: بل الله يحيي ويميت، وهو علي كل شئ قدير.

قال المأمون: بارك الله فيك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله عز وجل: فَوَكَزَهُ مُوسَي فَقَضَي عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ؟

قال الرضا عليه السلام: أن موسي دخل مدينه من مدائن فرعون عَلَي حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أهلها، وذلك بين المغرب والعشاء، فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلأن هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، فقضي موسي علي العدو، وبحكم الله تعالي ذِكْره فَوَكَزَهُ، فمات! قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان، يعني الإقتتال الذي كان وقع بين الرجلين، لا ما فعله موسي عليه السلام من قَتْلِهِ. أنه عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، يعني الشيطان.

فقال المأمون: فما معني قول موسي:

رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؟

قال: يقول: إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة، فَاغْفِرْ لِي، أي أسترني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني، فَغَفَرَ لَهُ أنه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قال موسي عليه السلام: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، من القوة حتي قتلت رجلاً بوكزة، فَلَنْ أكون ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ، بل أجاهد سبيلك بهذه القوة حتي ترضي.

فَأَصْبَحَ موسي عليه السلام فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ علي آخر، قَالَ لَهُ مُوسَي إنك لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، قاتلت رجلاً بالأمس وتقاتل هذا اليوم، لأوذينك، وأراد أن يبطش به فَلَمَّا أن أراد أن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا وهو من شيعته قَالَ يَا مُوسَي أَتُرِيدُ أن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نفساً بِالأَمْسِ أن تُرِيدُ إلا أن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ.

قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيراً يا أبا الحسن، فما معني قول موسي لفرعون: فَعَلْتُهَا إذا وأنا مِنَ الضَّالِّينَ؟

قال الرضا عليه السلام: أن فرعون قال: لموسي لما أتاه: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، بي! قال موسي: فَعَلْتُهَا إذا وأنا مِنَ الضَّالِّينَ، عن الطريق بوقوعي إلي مدينه من مدائنك، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وقد قال الله عز وجل لنبيه محمد صلي الله عليه وآله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَي، يقول: ألم يجدك وحيداً فآوي إليك الناس. وَوَجَدَكَ ضَالاً، يعني عند قومك، فَهَدَي، أي هداهم إلي معرفتك.

وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَي، يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجاباً.

قال المأمون: بارك الله فيك يا ابن رسول الله، فما معني قول الله عز وجل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَي لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ

إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي، كيف يجوز أن يكون كلم الله موسي بن عمران عليه السلام لايعلم أن الله تبارك وتعالي ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتي يسأله هذا السؤال؟

قال الرضا عليه السلام: أن كليم الله موسي بن عمران عليه السلام علم أن الله تعالي أعزُّ من أن يري بالأبصار، ولكنه لما كلمه الله عز وجل وقرَّبه نجياً، رجع إلي قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتي نستمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمأة الف رجل، فاختار منهم سبعين ألفاً ثم اختار منهم سبعه آلاف، ثم اختار منهم سبعمائة، ثم اختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربهم، فخرج بهم إلي طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسي إلي الطور، وسأل الله تعالي أن يكلمه ويسمعهم كلامه فكلمه الله تعالي ذكره وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وإمام، لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة، وجعله منبعثاً منها حتي سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ بأن هذا الذي سمعناه كلام الله: حَتَّي نَرَي اللهَ جَهْرَةً، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عز وجل عليهم صاعقه فأخذتهم بظلمهم فماتوا، فقال موسي: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك ذهبت بهم فقتلتهم، لأنك لم تكن صادقاً فيما ادعيت من مناجاة الله عز وجل إياك، فأحياهم الله وبعثهم معه فقالوا: إنك لو سألت الله أن يريك ننظر إليه لأجابك، وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته؟ فقال موسي: يا قوم أن الله تعالي لايري بالأبصار ولا كيفيه له وإنما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه فقالوا: لن نؤمن لك حتي تسأله، فقال موسي:

يا رب إنك قد سمعت مقاله بني إسرائيل، وأنت أعلم بصلاحهم فأوحي الله جل جلاله: يا موسي سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسي عليه السلام: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إلي الْجَبَلِ فإن اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ وهو يهوي فَلَمَّا تَجَلَّي رَبُّهُ لِلْجَبَلِ بآية من آياته جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَي صَعِقاً فَلَمَّا أفاق قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ يقول: رجعت إلي معرفتي بك عن جهل قومي وأنا أول الْمُؤْمِنِينَ منهم بأنك لا تري.

فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله عز وجل: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أن رَأي بُرْهَانَ رَبِّه؟

قال الرضا عليه السلام: لقد همت به ولولا أن رأي برهان ربه لهَمَّ بها كما همت، لكنه عليه السلام كان معصوماً والمعصوم لايهمُّ بذنب ولا يأتيه، ولقد حدثني أبي عن أبيه الصادق عليهما السلام أنه قال: همَّت بأن تفعل، وهمَّ بأن لا يفعل.

فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله عز وجل:وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أن لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ؟

فقال الرضا عليه السلام: ذاك يونس بن متي عليه السلام ذهب مغاضباً لقومه فظن بمعني استيقنأَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أي لن نضيق رزقه، ومنه قوله عز وجل: وأما إذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، أي ضيق وقتر. فَنَادَي فِي الظُّلُمَاتِ،أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت أن لاإله إِلاأنت سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت، فاستجاب الله وله وقال عز وجل: فَلَوْلا أنه كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ.لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلي يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

فقال المأمون: لله درك أبا الحسن

فأخبرني عن قول الله عز وجل: حَتَّي إذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا؟

قال الرضا عليه السلام يقول الله عز وجل:حَتَّي إذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ من قومهم، وظن قومهم أن الرسل قد كُذِبوا، جاء الرسل نصرنا.

فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن، فأخبرني قول الله عز وجل: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قال الرضا عليه السلام: لم يكن أحد عند مشركي أهل مكه أعظم ذنباً من رسول الله صلي الله عليه وآله لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاث مأة وستين صنماً فلما جاءهم صلي الله عليه وآله بالدعوه إلي كلمة الإخلاص كبُرَ ذلك عليهم وعَظُم وقالوا: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلهاً واحداً أن هَذَا لَشَئٌ عُجَابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أن امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَي آلِهَتِكُمْ أن هَذَا لَشَئٌ يُرَادُ. مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخرة أن هَذَا إلا اخْتِلاقٌ. فلما فتح الله عز وجل علي نبيه صلي الله عليه وآله مكه قال له يا محمد: أنا فَتَحْنَا لَكَ >مكة فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَاتَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، عند مشركي أهل مكه بدعائك إلي توحيد الله فيما تقدم. وَمَا تَأَخَّرَ، لأن مشركي مكه أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ومن بقي منهم لم يقدر علي إنكار التوحيد عليه إذا دعا الناس إليه، فصار ذنبه عندهم ذلك مغفوراً بظهوره عليهم.

فقال المأمون: لله درك أبا الحسن، فأخبرني عن قول الله عز وجل: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟ قال الرضا عليه السلام:هذا مما نزل بإياك أعني واسمعي يا جارة، خاطب الله عز وجل بذلك نبيه وأراد به أمته وكذلك قوله: تعالي: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وقوله عز وجل: وَلَوْلا

أن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قليلاً.

قال صدقت يا ابن رسول الله فأخبرني عن قول الله عز وجل: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللهُ أحق أن تَخْشَاهُ؟

قال الرضا عليه السلام: >إن رسول الله صلي الله عليه وآله قصد دار زيد بن حارثه بن شراحيل الكلبي في أمر أراده فرأي امرأته تغتسل فقال لها: سبحان الذي خلقك، وإنما أراد بذلك تنزيه الباري عز وجل عن قول من زعم أن الملائكة بنات الله، فقال الله عز وجل: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قولاً عَظِيماً، فقال النبي صلي الله عليه وآله: لما رآها تغتسل: سبحان الذي خلقك أن يتخذ له ولداً يحتاج إلي هذا التطهير والإغتسال، فلما عاد زيد إلي منزله أخبرته امرأته بمجئ رسول الله صلي الله عليه وآله وقوله لها: سبحان الذي خلقك! فلم يعلم زيد ما أراد بذلك وظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها < فجاء إلي النبي صلي الله عليه وآله وقال له: يارسول الله أن امرأتي في خلقها سوء وإني أريد طلاقها فقال النبي صلي الله عليه وآله: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ، وقد كان الله عز وجل عرَّفه عدد أزواجه وإن تلك المرأ صلي الله عليه وآله منهن، فأخفي ذلك في نفسه، ولم يبده لزيد، وخشئ الناس أن يقولوا أن محمداً يقول لمولاه: أن امرأتك ستكون لي زوجة، يعيبونه بذلك، فأنزل الله عز وجل: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ يعني بالإسلام، وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ يعني بالعتق أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ

وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللهُ أحق أن تَخْشَاهُ.

ثم أن زيد بن حارثه طلقها واعتدت منه فزوجها الله عز وجل من نبيه محمد صلي الله عليه وآله وأنزل بذلك قرآناً فقال عز وجل: فَلَمَّا قَضَي زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لايَكُونَ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أمر اللهِ مَفْعُولاً. ثم علم الله عز وجل أن المنافقين سيعيبونه بتزويجها فأنزل الله تعالي: مَا كَانَ عَلَي النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أمر اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً.

فقال المأمون: لقد شفيت صدري يا ابن رسول الله وأوضحت لي ما كان ملتبساً عليَّ، فجزاك الله عن أنبيائه وعن الإسلام خيراً.

قال علي بن محمد بن الجهم: فقام المأمون إلي الصلاة وأخذ بيد محمد بن جعفر بن محمد صلي الله عليه وآله وكان حاضر المجلس وتبعتهما، فقال له المأمون: كيف رأيت ابن أخيك؟ فقال له:عالم ولم نره يختلف إلي أحد من أهل العلم!

فقال المأمون: أن ابن أخيك من أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله الذين قال فيهم النبي:

إلا أن أبرار عترتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغاراً، وأعلم الناس كباراً، فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، لايخرجونكم من باب هدي، ولايدخلونكم في باب ضلالة.

وانصرف الرضا عليه السلام الي منزله، فلما كان من الغد غدوت عليه وأعلمته ما كان من قول المأمون وجواب عمه محمد بن جعفر له، فضحك عليه السلام ثم قال: يا ابن الجهم لايغرنك ما سمعته منه فإنه سيغتالني، والله تعالي ينتقم لي منه!

قال مصنف هذا الكتاب: هذا الحديث غريب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل

البيت عليهم السلام). انتهي. (ورواه الصدوق أيضاً في التوحيد/74: و/121)

ملاحظة

اعتبر السيد الخوئي قدس سره عليَّ بن الجهم وعليَّ بن محمد بن الجهم، شخصاً واحداً، قال في معجم رجال الحديث:12/323: (علي بن الجهم: عن مروج الذهب أنه بلغ من نصب علي بن الجهم أنه كان يلعن أباه فسئل عن ذلك فقال: بتسميتي علياً! قال ابن شهرآشوب: قال أبو العيناء لعلي بن الجهم: إنما تبغض علياً لأنه كان يقتل الفاعل والمفعول، وأنت أحدهما! فقال له: يا مخنث! فقال أبو العيناء: وَضَرَبَ لَنَا مثلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ)!!

وقال في:13/142: (علي بن محمد بن الجهم: روي الصدوق بإسناده عنه في حديث ذكر في آخره أن المأمون سأل محمد بن جعفر بن محمد وقال: كيف رأيت ابن أخيك (الرضا عليه السلام)؟ فقال: عالم، ولم نره يختلف إلي أحد من أهل العلم...الخ. ثم قال السيد الخوئي رحمه الله: أقول: كأن علي بن محمد بن الجهم، هو علي بن الجهم المتقدم). انتهي.

لكنَّ عليَّ بن محمد بن الجهم إسم لعديد من الرواة، وقد ميزوا بعضهم بالسمري، وبعضهم بالكاتب، وبعضهم بالسائي، وبعضهم بكنية أبي طالب... (راجع كفاية الخطيب ص90 قال: أنا أبو طالب علي بن محمد بن الجهم الكاتب، قال ثنا صالح بن أحمد بن حنبل...).

وميزه الكلباسي في سماء المقال:1/8: فقال:(علي بن الجهم بن بدر السائي: كان أكذب خلق الله، مشهوراً بالنصب كثير الحط علي علي وأهل البيت عليهم السلام وقيل إنه كان يلعن أباه لم سماه علياً).

أما الحسكاني في شواهد التنزيل:1/42، فروي عن أبي الفضل جعفر بن الفضل الوزير بمكة، قال: حدثنا علي بن محمد بن الجهم..وروي عنه فضيلة لأمير المؤمنين عليهم السلام)

كما روي الزرندي في نظم درر

السمطين: ص242، عن علي بن الجهم معجزة الإمام الهادي عليه السلام مع المتوكل.

ولعل الذي روي عنه الصدوق غير الذين ترجموا لهم بهذا الإسم، لاسيما أن رواية أبي الصلت التي نقلناها في مقدمة الكتاب عن العيون:2/170،، تدل علي أنه كان من العلماء الذين اختارهم المأمون لمناظرة الإمام الرضا عليه السلام وأنه لم يكن معانداً بل كان مؤدباً مخبتاً مطيعاً للحق، فقد جاء في آخرها:

(وفي آخرها: فبكي علي بن محمد بن الجهم وقال: يا ابن رسول الله،أنا تائب إلي الله عز وجل من أن أنطق في أنبياءالله عليهم السلام بعد يومي إلا بما ذكرته).

فمن المحتمل أنه اهتدي بعد مناظرته مع الإمام الرضا عليه السلام ولم يطلع الصدوق علي ذلك.

لكن الإشكال الأهم من إسم ابن الجهم، متن روايته، ففيها تنزيهٌ للأنبياء عليهم السلام يتفق مع مذهبنا، وفيها ما يخالف عصمتهم التامة قبل البعثة، ولذا قال صاحب الميزان:1/146: (أقول: قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث علي طوله: والحديث عجيب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه وبغضه وعداوته لأهل البيت عليهم السلام. انتهي. وما أعجبه منه إلا ما شاهده من اشتماله علي تنزيه الأنبياء عليهم السلام من غير أن يمعن النظر في الأصول المأخوذة فيه، فما نقله من جوابه عليه السلام في آدم لايوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الأنبياءمن الصغاير والكبائر قبل النبوة وبعدها.

علي أن الجواب مشتمل علي تقدير في قوله تعالي: مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلا أن تَكُونَا...، إلي مثل قولنا: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة وإنما نها كما عن غيرها، وما نهاكما عن غيرها إلا أن تكونا..الخ.). انتهي.

فالرواية مضافأً إلي الجهالة

في سندها، فيها إشكالات تتعلق بالعصمة، وقد وضعنا أهم فقراتها بين قوسين (> <).

لكنها بقرينة الشواهد الأخري الصحيحة، تدل علي أن الإمام الرضا عليه السلام قد أجاب المأمون علي تمسك العامة بالمتشابهات وشبهات اليهود علي عصمة الأنبياءالتامة عليهم السلام، وشبهات قريش علي عصمة نبينا صلي الله عليه وآله، وإن كان الرواي ابن الجهم أو غيره رواها متأثرةً بتصوره، ولم يحفظها بدقة!

استغفار الأنبياء والأوصياء وابتلاؤهم لم يكن بسبب الذنوب

اشاره

في الخصال للصدوق ص399: (حدثنا أبي(رض)قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسي، عن الحسن بن علي الخزاز، عن فضل الأشعري، عن الحسين بن المختار، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ابتلي أيوب عليه السلام سبع سنين بلا ذنب.

حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا الحسن بن علي السكري قال: حدثنا محمد بن زكريا الجوهري قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهم السلام قال: أن أيوب عليه السلام ابتلي من غير ذنب، وإن الأنبياءلايذنبون لأنهم معصومون مطهرون، لايذنبون ولايزيغون ولايرتكبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً.

وقال عليه السلام: إن أيوب عليه السلام مع جميع ما ابتلي به لم ينتن له رائحة، ولا قبحت له صورة، ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح، ولا استقذره أحد رآه، ولا استوحش منه أحد شاهده، ولا يدود شئ من جسده، وهكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه. وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره، لجهلهم بما له عند ربه تعالي ذكره من التأييد والفرج، وقد قال النبي صلي الله عليه وآله: أعظم الناس بلاء الأنبياءثم الأمثل فالأمثل، وإنما ابتلاه الله

عزوجل بالبلاء العظيم الذي يهون معه علي جميع الناس، لئلا يدَّعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه متي شاهدوه، ليستدلوا بذلك علي أن الثواب من الله تعالي ذكره علي ضربين: استحقاق واختصاص، ولئلا يحتقروا ضعيفاً لضعفه، ولا فقيراً لفقره ولأمريضاً لمرضه، وليعلموا أنه يسقم من يشاء ويشفي من يشاء، متي شاء كيف شاء بأي سبب شاء، ويجعل ذلك عبرةً لمن يشاء وشقاوة لمن يشاء وسعادة لمن يشاء، وهو في جميع ذلك عدل في قضائه وحكيم في أفعاله، لايفعل بعباده إلا الأصلح لهم، ولا قوة لهم إلا به).

وفي معاني الأخبار/383: (حدثنا أبي رحمه الله قال: حدثنا سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد بن عيسي، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: وَمَاأَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ، أرأيت ما أصاب علياً وأهل بيته هو بما كسبت أيديهم، وهم أهل بيته طهارة معصومون؟

فقال: أن رسول الله صلي الله عليه وآله كان يتوب إلي الله عزوجل ويستغفره في كل يوم وليلة مائة مره من غير ذنب. أن الله عز وجل يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب). (ورواه في الكافي:2/450)

وفي الكافي:2/450: (علي بن إبراهيم، رفعه قال: لما حمل علي بن الحسين إلي يزيد بن معاوية فأوقف بين يديه، قال يزيد: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم، فقال علي بن الحسين: ليست هذا الآية فينا أن فينا قول الله عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرض وَلافِي أَنْفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أن نَبْرَأَهَا أن ذَلِكَ عَلَي

اللهِ يَسِيرٌ).

ملاحظة

إن نفيَ الذنوب عن الأنبياءوالأوصياء عليهم السلام والإعتقاد بأنهم مطهرون منها، كما في الخصال ص603 وأمالي الصدوق ص738، لاينافيه وجود آيات تنسب اليهم الذنوب عليهم السلام، لأنها ذنوب من مستواهم وليست من نوع ذنوبنا، فيصح إطلاق الذنوب عليها بلحاظ، ونفي كونها ذنوباً بلحاظ آخر، كما لو دخل شخص مجلساً ولم يسلِّم علي أهله، فقلت له هذا ذنبٌ لايناسب أخلاقك العالية، ثم قلت له: لكن لابأس فهو ليس ذنباً شرعياً.

هشام بن الحكم يدافع عن عصمة الأنبياء والأئمة تحت سيف هارون الرشيد

في كمال الدين للصدوق ص362: (حدثنا أحمد بن زياد الهمداني، والحسين بن إبراهيم بن ناتانه رضي الله عنهما قالا: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن محمد بن أبي عمير قال: أخبرني علي الأسواري قال: كان ليحيي بن خالد مجلس في داره يحضره المتكلمون من كل فرقة وملة يوم الأحد فيتناظرون في أديانهم، يحتج بعضهم علي بعض، فبلغ ذلك الرشيد، فقال ليحيي بن خالد: ياعباسي ما هذا المجلس الذي بلغني في منزلك يحضره المتكلمون؟ قال: يا أمير المؤمنين ما شئ مما رفعني به أمير المؤمنين وبلغ بي من الكرامة والرفعة أحسن موقعاً عندي من هذا المجلس، فإنه يحضره كل قوم مع اختلاف مذاهبهم، فيحتج بعضهم علي بعض ويعرف المحق منهم، ويتبين لنا فساد كل مذهب من مذاهبهم.

فقال له الرشيد: أنا أحب أن أحضر هذا المجلس وأسمع كلامهم علي أن لا يعلموا بحضوري فيحتشموني ولا يظهروا مذاهبهم، قال: ذلك إلي أمير المؤمنين متي شاء، قال: فضع يدك علي رأسي أن لا تعلمهم بحضوري، ففعل، وبلغ الخبر المعتزلة، فتشاوروا بينهم وعزموا علي أن لا يكلموا هشاماً إلا في الإمامة لعلمهم بمذهب الرشيد وإنكاره علي من قال بالإمامة.

قال: فحضروا وحضر هشام، وحضر عبد الله

بن يزيد الإباضي وكان من أصدق الناس لهشام بن الحكم، وكان يشاركه في التجارة، فلما دخل هشام سلم علي عبد الله بن يزيد من بينهم، فقال يحيي بن خالد لعبد الله بن يزيد: يا عبد الله كلم هشاماً فيما اختلفتم فيه من الإمامة.

فقال هشام: أيها الوزير ليس لهم علينا جواب ولا مسألة إن هؤلاء قوم كانوا مجتمعين معنا علي إمامة رجل، ثم فارقونا بلا علم ولا معرفة، فلا حين كانوا معنا عرفوا الحق، ولا حين فارقونا علموا علي ما فارقونا، فليس لهم علينا مسألة ولا جواب.

فقال بيان، وكان من الحرورية: أنا أسألك يا هشام، أخبرني عن أصحاب علي يوم حكموا الحكمين أكانوا مؤمنين أم كافرين؟

قال هشام: كانوا ثلاثة أصناف: صنف مؤمنون، وصنف مشركون، و صنف ضُلال، فأما المؤمنون فمن قال مثل قولي إن علياً عليه السلام إمام من عند الله عز وجل ومعاوية لايصلح لها، فآمنوا بما قال الله عز وجل في علي عليه السلام وأقروا به. وأما المشركون فقوم قالوا: علي إمام، ومعاوية يصلح لها، فأشركوا إذ أدخلوا معاوية مع علي عليه السلام. وأما الضلال: فقوم خرجوا علي الحمية والعصبية للقبائل والعشائر لم يعرفوا شيئاً من هذا وهم جهال.

قال: فأصحاب معاوية ما كانوا؟ قال: كانوا ثلاثة أصناف: صنف كافرون، وصنف مشركون، وصنف ضلال. فأما الكافرون: فالذين قالوا إن معاوية إمام، وعلي لا يصلح لها، فكفروا من جهتين إذ جحدوا إماماً من الله عز وجل، ونصبوا إماماً ليس من الله. وأما المشركون: فقوم قالوا: معاوية إمام، وعلي يصلح لها، فأشركوا معاوية مع علي عليه السلام. وأما الضلال: فعلي سبيل أولئك خرجوا للحمية والعصبية للقبائل والعشائر. فانقطع بيان عند ذلك.

فقال ضرار:

وأنا أسألك يا هشام في هذا؟ فقال هشام: أخطأت قال: ولمَ؟ قال: لأنكم كلكم مجتمعون علي دفع إمامة صاحبي، وقد سألني هذا عن مسألة وليس لكم أن تثنوا بالمسألة عليَّ حتي أسألك يا ضرار عن مذهبك في هذا الباب؟

قال ضرار: فسل، قال: أتقول إن الله عز وجل عدل لا يجور؟

قال: نعم هو عدل لا يجور تبارك وتعالي.

قال: فلو كلف الله المقعد المشئ إلي المساجد والجهاد في سبيل الله، وكلف الأعمي قراءة المصاحف والكتب أتراه كان يكون عادلا أم جائراً؟

قال ضرار: ما كان الله ليفعل ذلك.

قال هشام: قد علمت أن الله لا يفعل ذلك ولكن ذلك علي سبيل الجدل والخصومة أن لو فعل ذلك أليس كان في فعله جائراً إذ كلفه تكليفاً لا يكون له السبيل إلي إقامته وأدائه؟

قال: لو فعل ذلك لكان جائراً.

قال: فأخبرني عن الله عز وجل كلف العباد ديناً واحداً لا اختلاف فيه لا يقبل منهم إلا أن يأتوا به كما كلفهم؟

قال: بلي. قال: فجعل لهم دليلاً علي وجود ذلك الدين، أو كلفهم مالا دليل لهم علي وجوده فيكون بمنزلة من كلف الأعمي قراءة الكتب والمعقد المشئ إلي المساجد والجهاد؟

قال: فسكت ضرار ساعة، ثم قال: لا بدَّ من دليل وليس بصاحبك!

قال: فتبسم هشام وقال: تشيع شطرك وصرت إلي الحق ضرورة ولا خلاف بيني وبينك إلا في التسمية!

قال ضرار: فإني أرجع القول عليك في هذا.

قال: هات.. قال ضرار لهشام: كيف تعقد الإمامة؟

قال هشام: كما عقد الله عز وجل النبوة.

قال: فهو إذاً نبي! قال هشام: لا لأن النبوة يعقدها أهل السماء، والإمامة يعقدها أهل الأرض فعقد النبوة بالملائكة، وعقد الإمامة بالنبي،

والعقدان جميعاً بأمر الله جل جلاله.

قال: فما الدليل علي ذلك؟ قال هشام: الإضطرار في هذا.

قال ضرار: وكيف ذلك؟

قال هشام: لا يخلو الكلام في هذا من أحد ثلاثة وجوه: أما أن يكون الله عز وجل رفع التكليف عن الخلق بعد الرسول صلي الله عليه وآله، فلم يكلفهم ولم يأمرهم ولم ينههم فصاروا بمنزلة السباع والبهائم التي لا تكليف عليها، أفتقول هذا يا ضرار إن التكليف عن الناس مرفوع بعد الرسول صلي الله عليه وآله؟

قال: لا أقول هذا.

قال هشام: فالوجه الثاني ينبغي أن يكون الناس المكلفون قد استحالوا بعد الرسول صلي الله عليه وآله علماء في مثل حد الرسول في العلم حتي لا يحتاج أحد إلي أحد، فيكونوا كلهم قد استغنوا بأنفسهم، وأصابوا الحق الذي لا اختلاف فيه! أفتقول هذا إن الناس استحالوا علماء حتي صاروا في مثل حد الرسول في العلم بالدين حتي لا يحتاج أحد إلي أحد، مستغنين بأنفسهم عن غيرهم في إصابة الحق؟

قال: لا أقول هذا، ولكنهم يحتاجون إلي غيرهم.

قال: فبقي الوجه الثالث وهو أنه لا بدَّ لهم من عالم يقيمه الرسول لهم لا يسهو ولا يغلط ولا يحيف، معصوم من الذنوب، مبرؤ من الخطايا، يحتاج الناس إليه ولا يحتاج إلي أحد.

قال: فما الدليل عليه؟ قال هشام: ثمان دلالات أربع في نعت نسبه، وأربع في نعت نفسه. فأما الأربع التي في نعت نسبه: فإنه يكون معروف الجنس، معروف القبيلة، معروف البيت، وإن يكون من صالب الملة والدعوة إليه إشارة، فلم ير جنس من هذا الخلق أشهر من جنس العرب الذين منهم صاحب الملة والدعوة الذي ينادي باسمه في كل يوم خمس مرات علي الصوامع " أشهد

أن لا إله إلا الله، وإن محمداً رسول الله " فتصل دعوته إلي كل بر وفاجر وعالم وجاهل، مقر ومنكر، في شرق الأرض وغربها، ولو جاز أن تكون الحجة من الله علي هذا الخلق في غير هذا الجنس لأتي علي الطالب المرتاد دهر من عصره لا يجده، ولجاز أن يطلبه في أجناس من هذا الخلق من العجم وغيرهم، ولكان من حيث أراد الله عز وجل أن يكون صلاح يكون فساد، ولا يجوز هذا في حكمة الله جل وجلاله وعدله أن يفرض علي الناس فريضة لا توجد. فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يكون إلا في هذا الجنس لا تصاليه بصاحب الملة والدعوة، فلم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لقرب نسبها من صاحب الملة وهي قريش، ولما لم يجز أن يكون من هذا الجنس إلا في هذه القبيلة لم يجز أن يكون من هذه القبيلة إلا في هذا البيت لقرب نسبه من صاحب الملة و الدعوة، ولما كثر أهل هذا البيت وتشاجروا في الإمامة لعلوها وشرفها، ادعاها كل واحد منهم فلم يجز إلا أن يكون من صاحب الملة والدعوة إشارة إليه بعينه واسمه ونسبه كيلا يطمع فيها غيره.

وأما الأربع التي في نعت نفسه: فإن يكون أعلم الناس كلهم بفرائض الله وسننه وأحكامه حتي لا يخفي عليه منها دقيق ولا جليل، وإن يكون معصوماً من الذنوب كلها، وإن يكون أشجع الناس، وإن يكون أسخي الناس.

فقال عبد الله بن يزيد الإباضي: من أين قلت: أنه أعلم الناس؟

قال: لأنه أن لم يكن عالماً بجميع حدود الله وأحكامه وشرائعه وسننه لم يؤمن عليه أن يقلب الحدود، فمن وجب عليه القطع حده،

ومن وجب عليه الحد قطعه، فلا يقيم لله عز وجل حدا علي ما أمر به فيكون من حيث أراد الله صلاحاً يقع فساداً.

قال: فمن أين قلت: أنه معصوم من الذنوب؟ قال: لأنه إن لم يكن معصوماً من الذنوب دخل في الخطأ، فلا يؤمن أن يكتم علي نفسه ويكتم علي حميمه وقريبه، ولا يحتج الله بمثل هذا علي خلقه.

قال: فمن أين قلت: إنه أشجع الناس؟

قال: لأنه فئة للمسلمين الذي يرجعون إليه في الحروب، وقال الله عز وجل: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلا مُتَحرفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلي فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، فإن لم يكن شجاعاً فرَّ فيبوء بغضب من الله، ولا يجوز أن يكون من يبوء بغضب من الله عز وجل حجة الله علي خلقه.

قال: فمن أين قلت أنه أسخي الناس؟

قال: لأنه خازن المسلمين فإن لم يكن سخياً تاقت نفسه إلي أموالهم فأخذها فكان خائناً، و لا يجوز أن يحتج الله علي خلقه بخائن.

فعند ذلك قال ضرار: فمن هذا بهذه الصفة في هذا الوقت؟

فقال: صاحب القصر أمير المؤمنين! وكان هارون الرشيد قد سمع الكلام كله، فقال عند ذلك: أعطانا والله من جراب النورة، ويحك يا جعفر، وكان جعفر بن يحيي جالساً معه في الستر، مَنْ يعني بهذا؟

فقال: يا أمير المؤمنين يعني به موسي بن جفعر، قال: ما عني بها غير أهلها، ثم عضَّ علي شفتيه وقال: مثل هذا حيٌّ ويبقي لي ملكي ساعة واحدة! فو الله للسان هذا أبلغ في قلوب الناس من مائة ألف سيف!!

وعلم يحيي أن هشاماً قد أُتِيَ، فدخل الستر فقال: يا عباسي ويحك من هذا الرجال؟ فقال: يا أمير المؤمنين حسبك،

تكفي تكفي!

ثم خرج إلي هشام فغمزه، فعلم هشام أنه قد أتيَ فقام يريهم أنه يبول أو يقضي حاجة، فلبس نعليه وانسل، ومر ببيته وأمرهم بالتواري، وهرب ومر من فوره نحو الكوفة، فوافي الكوفة ونزل علي بشير النبال- وكان من حملة الحديث من أصحاب أبي عبد الله عليه السلام - فأخبره الخبر، ثم اعتل علة شديدة فقال له البشير: آتيك بطبيب؟ قال: لا أنا ميت، فلما حضره الموت قال لبشير: إذا فرغت من جهازي فاحملني في جوف الليل وضعني بالكناسة واكتب رقعة وقل: هذا هشام بن الحكم الذي يطلبه أمير المؤمنين، مات حتف أنفه.

وكان هارون قد بعث إلي إخوانه وأصحابه فأخذ الخلق به، فلما أصبح أهل الكوفة رأوه، وحضر القاضي وصاحب المعونة والعامل و المعدلون بالكوفة، وكتب إلي الرشيد بذلك، فقال: الحمد لله الذي كفانا أمره فخلي عمن كان أخذ به)!!. انتهي. (وعنه في البحار بتفاوت يسير: 48/197)

وفي هذا النص دلالات هامة تاريخية وعقيدية، وهو يكشف الحكمة من نهي الإمام الكاظم عليه السلام لهشام رحمه الله نهياً مشدداً عن المشاركة في ذلك مجلس المناظرات البرمكي!

وإن كان زمن هذه القصة بعد وفاة الإمام الكاظم عليه السلام بكثير حيث توفي الإمام الكاظم عليه السلام سنة 183، وهشام قريب المئتين.

مرجع الشيعة الشيخ المفيد رحمه الله يدافع عن عصمة نبينا

في مصنفات الشيخ المفيد:1/30: (فصل: ومن كلام الشيخ أدام الله عزه أيضاً: حضر في دار الشريف أبي عبدالله محمد بن محمد بن طاهر رحمه الله، وحضر رجل من المتفقهة يعرف بالورثاني وهو من فقهائهم، فقال له الورثاني: أليس من مذهبك أن رسول الله صلي الله عليه وآله كان معصوماً من الخطأ، مبرأً من الزلل مأموناً عليه من السهو والغلط، كاملاً بنفسه غنياً عن رعيته؟

فقال له الشيخ أيده الله: بلي كذلك كان صلي الله عليه وآله.

قال له: فما تصنع في قول الله جل جلاله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ، أليس قد أمره الله بالإستعانة بهم في الرأي وأفقره إليهم، فكيف يصح لك ماادعيت مع ظاهر القرآن وما فعله النبي صلي الله عليه وآله؟

فقال له الشيخ أدام الله عزه: إن رسول الله صلي الله عليه وآله لم يشاور أصحابه لفقر منه إلي آرائهم ولحاجة دعته إلي مشورتهم من حيث ظننت وتوهمت، بل لأمر آخر أنا أذكره لك بعد الإيضاح عما أخبرتك به، وذلك أنا قد علمنا أن رسول الله صلي الله عليه وآله كان معصوماً من الكبائر والصغائر، وإن خالفت أنت في عصمته من الصغائر. وكان أكمل الخلق باتفاق أهل الملة وأحسنهم رأياً وأوفرهم عقلاً وأكملهم تدبيراً، وكانت المواد بينه وبين الله سبحانه متصلة والملائكة تتواتر عليه بالتوفيق من الله عز وجل والتهذيب، والإنباء له عن المصالح، وإذا كان بهذه الصفات لم يصح أن يدعوه داع إلي اقتباس الرأي من رعيته، لأنه ليس أحد منهم إلا وهو دونه في سائر ما عددناه، وإنما يستشير الحكيم غيره علي طريق الإستفادة والإستعانة برأيه إذا تيقن أنه أحسن رأياً منه وأجود تدبيراً وأكمل عقلاً أو ظن ذلك فأما إذا أحاط علماً بأنه دونه فيما وصفناه، لم يكن للإستعانة في تدبيره برأيه معني، لأن الكامل لايفتقر إلي الناقص فيما يحتاج فيه إلي الكمال، كما لايفتقر العالم إلي الجاهل فيما يحتاج فيه إلي العلم. والآية بينةٌ يدل متضمنها علي ذلك، ألا تري إلي قوله تعالي: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللهِ، فعلق وقوع الفعل

بعزمه دون رأيهم ومشورتهم).

مرجع الشيعة السيد المرتضي قدس سره يؤلف كتابا في تنزيه الأنبياء

ألف السيد المرتضي وهو من أكابر علمائنا رحمه الله توفي سنة436، كتاباً خاصاً سماه "تنزيه الأنبياء"، ليساعد الشيعة في وقوفهم إمام ثقافة اليهود التي نشرها الحكام في الأمة، وقد ردَّ فيه افتراءهم علي الأنبياء عليهم السلام وما تمسكوا به من متشابهات القرآن.

وقد تتبعت المؤلفات في هذا الموضوع، وأقدم ما رأيته منها كتاب تنزيه الأنبياء عليهم السلام لجعفر بن مبشر الكاتب المعتزلي، ذكره كتابه ابن النديم في الفهرست ص208، وقال الذهبي في ميزان الإعتدال:1/414: (جعفر بن مبشر الثقفي، من رؤوس المعتزلة، له تصانيف في الكلام، وهو أخو الفقيه حبيش بن مبشر.... مات سنة أربع وثلاثين ومائتين). انتهي.

وأخوه حبيش هذا من رواة الشيعة وفقهائهم المشهورين في بغداد.

كما وجدت إسم كتاب عصمة الأنبياءلأحمد بن سهل أبي زيد البلخي المعتزلي أيضاً، توفي322، ذكره ابن النديم في الفهرست ص153، وابن حجر في لسان الميزان:1/183.

وهذا يدل علي أن المدافعين عن عصمة الأنبياء عليهم السلام كانوا الشيعة وبعض المعتزلة فقط، وإن أتباع الفرق الموالية للحكم القرشئ كانوا يقبلون الإسرائيليات فيهم التي تطعن في عصمتهم قبل النبوة وبعدها!

أما في القرون المتأخرة فنجد مؤلفات كثيرة في تنزيه الأنبياء عليهم السلام أكثرها لعلماء شيعة، وأقل منها لمعتزلة وقليل منها لصوفية وعلماء سنيين، وأشهرها علي الإطلاق كتاب عصمة الأنبياءللفخر الرازي المتوفي606 هجرية، (كشف الظنون:1/333) وهو سني متأثر بالمعتزلة، وسوف نورد فقرات من كتابه.

مقتطفات من كتاب تنزيه الأنبياء

رأينا أن نورد في هذا الكتاب مقتطفات منه أو فهرساً علمياً موسعاً لأهم مسائله، ونضع لها العناوين المناسبة، ونلفت إلي أن العناوين المطبوعة بما فيها المسألة والجواب، ليست من كلام المؤلف، ولا في النسخة الأصلية.

قال رحمه الله في ص15: (سألت أحسن الله توفيقك، إملاء كتاب في

تنزيه الأنبياءوالأئمة عليهم السلام عن الذنوب والقبائح كلها، ما سمي منها كبيرة أو صغيرة والرد علي من خالف في ذلك، علي اختلافهم وضروب مذاهبهم.

وأنا أجيب إلي ما سألت علي ضيق الوقت، وتشعب الفكر، وأبتدئ بذكر الخلاف في هذا الباب، ثم بالدلالة علي مذهب الصحيح من جملة ما اذكره من المذاهب، ثم بتأويل ما تعلق به المخالف من الآيات والأخبار، التي اشتبه عليه وجهها، وظن أنها تقتضي وقوع كبيرة أو صغيرة من الأنبياءوالأئمة عليهم السلام، ومن الله تعالي استمد المعونة والتوفيق، واياه اسأل التأييد والتسديد.

بيان الخلاف في نزاهة الأنبياء عن الذنوب

اختلف الناس في الأنبياء عليهم السلام، فقالت الشيعة الإمامية، لايجوز عليهم شئ من المعاصي والذنوب كبيراً كان أو صغيراً، لاقبل النبوة ولا بعدها، ويقولون في الأئمة مثل ذلك.

وجوَّزَ أصحاب الحديث والحشوية علي الأنبياءالكبائر قبل النبوة، ومنهم من جوزها في حال النبوة سوي الكذب فيما يتعلق بأداء الشريعة، ومنهم من جوزها كذلك في حال النبوة بشرط الإستسرار دون الإعلأن، ومنهم من جوزها علي الأحوال كلها.

ومنعت المعتزلة من وقوع الكبائر والصغائر المستخفة من الأنبياء عليهم السلام قبل النبوة وفي حالها، وجوزت في الحالين وقوع ما لا يستخف من الصغاير، ثم اختلفوا فمنهم من جوز علي النبي عليه السلام الإقدام علي المعصية الصغيرة علي سبيل العمد، ومنهم من منع من ذلك وقال إنهم لايقدمون علي الذنوب التي يعلمونها ذنوباً، بل علي سبيل التأويل.

وحكي عن النظام، وجعفر بن مبشر، وجماعة ممن تبعهما، أن ذنوبهم لا تكون إلا علي سبيل السهو والغفلة، وأنهم مؤاخذون بذلك وإن كان موضوعاً عن أممهم لقوة معرفتهم وعلو مرتبتهم.

وجوزوا كلهم ومن قدمنا ذكره من الحشوية وأصحاب الحديث علي الأئمة الكبائر والصغائر، إلا أنهم يقولون أن

وقوع الكبيرة من الإمام تفسد إمامته ويجب عزله والإستبدال به.....

واعلم أن جميع ما ننزه الأنبياء عليهم السلام عنه ونمنع من وقوعه منهم، يستند إلي دلالة العلم المعجز أما بنفسه أو بواسطة. وتفسير هذه الجملة، أن العلم المعجز إذا كان واقعاً موقع التصديق لمدعي النبوة والرسالة، وجارياً مجري قوله تعالي له: صدقت في إنك رسولي ومؤدٍّ عني، فلابد من أن يكون هذا المعجز مانعاً من كذبه علي الله سبحانه فيما يؤديه عنه، لأنه تعالي لايجوز أن يصدق الكذاب، لأن تصديق الكذاب قبيح.....

فإن قيل: لم يبق إلا أن تدلوا علي أن تجويز الكبائر يقدح فيما هو الغرض بالبعثة من القبول والإمتثال.

قلنا: لاشبهة في أن من نجوز عليه كبائر المعاصي ولا نأمن منه الإقدام علي الذنوب، لاتكون أنفسنا ساكنة إلي قبول قوله أو استماع وعظه كسكونها إلي من لانجوز عليه شيئاً من ذلك، وهذا هو معني قولنا أن وقوع الكبائر منفر عن القبول....

فإن قيل: أو ليس قد جوز كثير من الناس علي الأنبياء عليهم السلام الكبائر مع أنهم لم ينفروا عن قبول أقوالهم والعمل بما شرعوه من الشرايع، وهذا ينقض قولكم أن الكبائر منفرة!

قلنا: هذا سؤال من لا يفهم ما أوردناه، لأنا لم نرد بالتنفير ارتفاع التصديق وإن لايقع امتثال الأمر جملة، وإنما أردنا ما فسرناه من أن سكون النفس إلي قبول قول من يجوز ذلك عليه لايكون علي حد سكونها إلي من لا يجوز ذلك عليه، وأنا مع تجويز الكبائر نكون أبعد من قبول القول.....

ومما يدل أيضاً علي أن الكبائر لاتجوز عليهم، أن قولهم قد ثبت أنه حجة في الشرع....

فأما ما حكيناه عن النظام وجعفر بن مبشر ومن وافقهما، من

أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام تقع منهم علي سبيل السهو والغفلة، وأنهم مع ذلك مؤاخذون بها فليس بشئ، لأن السهو يزيل التكليف ويخرج الفعل من أن يكون ذنباً مؤاخذاً به، ولهذا لايصح مؤاخذة المجنون والنائم.

وحصول السهو في أنه مؤثر في ارتفاع التكليف بمنزلة فقد القدرة والآلات والأدلة، فلو جاز أن يخالف حال الأنبياءفي صحة تكليفهم مع السهو، جاز أن يخالف حالهم لحال أممهم في جواز التكليف مع فقد سائر ما ذكرناه، وهذا واضح.

فأما الطريق الذي به يعلم أن الأئمة عليهم السلام لايجوز عليهم الكبائر في حال الإمامة، فهو أن الإمام إنما احتيج إليه لجهة معلومة، وهي أن يكون المكلفون عند وجوده أبعد من فعل القبيح وأقرب من فعل الواجب علي ما دللنا عليه في غير موضع، فلو جازت عليه الكبائر لكانت علة الحاجة إليه ثابتة فيه وموجبة وجود إمام يكون إماماً له، والكلام في إمامته كالكلام فيه، وهذا يؤدي إلي وجود ما لا نهاية له من الأئمة وهو باطل، أو الإنتهاء إلي إمام معصوم وهو المطلوب.....

تنزيه آدم عن الغواية

فمما تعلقوا به قوله تعالي في قصة آدم عليه السلام: (وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي) (ط_ه:121) قالوا وهذا تصريح بوقوع المعصية التي لا تكون إلا قبيحة، وأكده بقوله فغوي، وهذا تصريح بوقوع المعصية، والغيُّ ضد الرشد.

يقال لهم: أما المعصية فهي مخالفة الأمر، والأمر من الحكيم تعالي قد يكون بالواجب وبالمندوب معاً، فلا يمتنع علي هذا أن يكون آدم عليه السلام مندوباً إلي ترك التناول من الشجرة، ويكون بمواقعتها تاركاً نفلاً وفضلاً وغير فاعل قبيحاً، وليس يمتنع أن يسمي تارك النفل عاصياً كما يسمي بذلك تارك الواجب، فإن تسمية من خالف ما أمر به سواء كان واجباً

أو نفلاً بأنه عاص ظاهرة، ولهذا يقولون أمرت فلاناً بكذا وكذا من الخير فعصاني وخالفني، وإن لم يكن ما أمره به واجباً.

وأما قوله فغوي فمعناه أنه خاب، لأنا نعلم أنه لو فعل ما ندب إليه من ترك التناول من الشجرة لاستحق الثواب العظيم.....

فإن قال قائل: فما قولكم في قوله تعالي:(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِه فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صالحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا صالحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَي اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (لأعراف:189-190)، أوَليس ظاهر هذه الآية يقتضي وقوع المعصية من آدم عليه السلام لأنه لم يتقدم من يجوز صرف هذه الكناية في جميع الكلام إليه، إلا ذكر آدم عليه السلام وزوجته....

يقال له: قد علمنا أن الدلالة العقلية التي قدمناها في باب أن الأنبياء عليهم السلام لايجوز عليهم الكفر والشرك، والمعاصي غير محتملة، ولا يصح دخول المجاز فيها، والكلام في الجملة يصح فيه الإحتمال وضروب المجاز، فلابد من بناء المحتمل علي ما لايحتمل، فلو لم نعلم تأويل هذه الآية علي سبيل التفصيل لكنا نعلم في الجملة أن تأويلها مطابق لدلالة العقل. وقد قيل في تأويل هذه الآية ما يطابق دليل العقل، ومما يشهد له اللغة وجوه.

منها، أن الكناية في قوله سبحانه: جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، غير راجعة إلي آدم عليه السلام وحواء، بل إلي الذكور والإناث من أولادهما....

فأما مايدعي في هذا الباب من الحديث فلا يلتفت إليه، لأن الأخبار يجب أن تبني علي أدلة العقول، ولاتقبل في خلال ما تقتضيه أدلة العقول. ولهذا لاتقبل أخبار الجبر والتشبيه، ونردها أو نتأولها أن

كان لها مخرج سهل. وكل هذا لو لم يكن الخبر الوارد مطعوناً علي سنده مقدوحاً في طريقه، فإن هذا الخبر يرويه قتادة عن الحسن عن سمرة وهو منقطع، لأن الحسن لم يسمع من سمرة شيئاً في قول البغداديين.

وقد يدخل الوهن علي هذا الحديث من وجه آخر، لأن الحسن نفسه يقول بخلاف هذه الرواية فيما رواه خلف بن سالم، عن إسحاق بن يوسف عن عوف، عن الحسن في قوله تعالي: فَلَمَّا آتَاهُمَا صالحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا، قال: هم المشركون، وبإزاء هذا الحديث ما روي عن سعيد بن جبير وعكرمة والحسن وغيرهم، من أن الشرك غير منسوب إلي آدم وزوجته عليهما السلام وإن المراد به غيرهما، وهذه جملة واضحة.

تنزيه نوح عما لا يليق به

فإن سأل سائل: عن قوله تعالي:(وَنَادَي نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ أن ابْنِي مِنْ أَهْلِي وإن وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِين. قَالَ يَا نُوحُ أنه لَيْسَ مِنْ أهلك أنه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ). (هود:45-46) فقال: ظاهر قوله تعالي أنه ليس من أهلك، فيه تكذيب لقوله عليه السلام أن ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وإذا كان النبي لايجوز عليه الكذب، فما الوجه في ذلك؟

قيل له: في هذه الآية وجوه، كل واحد منها صحيح مطابق لأدلة العقل:

أولها، أن نفيه لأن يكون من أهله لم يتناول فيه نفي النسب، وإنما نفي أن يكون من أهله الذين وعده الله تعالي بنجاتهم....الخ.

تنزيه إبراهيم عن الكفر والعصيان

فإن قال قائل: فما معني قوله تعالي حاكياً عن إبراهيم عليه السلام:فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأي كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أحب الآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأي الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأي الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِئٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.(الأنعام:76-78) أوَليس ظاهر هذه الآية يقتضي أنه عليه السلام كان يعتقد في وقت من الأوقات الإلهية للكواكب، وهذا مما قلتم أنه لايجوز علي الأنبياء عليهم السلام.....

قلنا: عن هذا جوابان، أحدهما: أنه لم يقل ذلك مخبراً، وإنما قال فارضاً ومقدراً علي سبيل الفكر والتأمل، إلا تري أنه قد يحسن من أحدنا إذا كان ناظراً في شئ ومتأملاً بين كونه علي إحدي صفتيه أن يفرضه علي إحداهما لينظر فيما يؤدي ذلك الفرض إليه من صحة أو فساد، ولا يكون بذلك مخبراً في الحقيقة....

تنزيه إبراهيم عن الشك في الله تعالي

فإن قيل فما معني قوله تعالي مخبراً عن إبراهيم عليه السلام: (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (الصافات:89)

تنزيه إبراهيم عن الإستغفار للكفار

فإن قال قائل: فما معني قوله تعالي: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إبراهيم لأبِيهِ إلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ)، (التوبة:114) وكيف يجوز أن يستغفر لكافر، أو أن يعده بالإستغفار؟ قلنا:.... فكيف يجوز أن يجعل ذلك ذنباً لإبراهيم عليه السلام وقد عذره الله تعالي في أن استغفاره إنما كان لأجل موعده، وبأنه تبرأ منه لما تبين له منه المقام علي عداوة الله تعالي.....

تنزيه يعقوب عن إيقاع التحاسد بين بنيه

فإن قيل: فما معني تفضيل يعقوب ليوسف عليهما السلام علي إخوته في البر والتقريب والمحبة، حتي أوقع ذلك التحاسد بينهم وبينه، وأفضي إلي الحال المكروهة التي نطق بها القرآن....

فإن قيل: فلم أرسل يعقوب يوسف عليهما السلام مع إخوته....

تنزيه يعقوب عن الحزن المكروه

فإن قيل: فلم أسرف يعقوب عليه السلام في الحزن والتهالك وترك التماسك حتي ابيضت عيناه من البكاء والحزن....

تنزيه يوسف عن الصبر علي الإستعباد

فإن قيل: كيف صبر يوسف عليه السلام، ولم لم ينكرها ويبرأ من الرق، وكيف يجوز علي النبي الصبر علي أن يستعبد ويسترق....

تنزيه يوسف عن الهم بالمعصية

فإن قيل: فما تأويل قوله تعالي حاكياً عن يوسف عليه السلام وامرأة العزيز: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أن رَأي بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ أنه مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف:24).... قلنا: يجوز أن يكون لما هم بدفعها وضربها، أراه الله تعالي برهاناً علي أنه أن أقدم علي من همَّ به أهلكه أهلها وقتلوه، أو أنها تدعي عليه المراودة علي القبيح، وتقذفه بأنه دعاها إليه وضربها لامتناعها منه، فأخبر الله تعالي أنه صرف بالبرهان عنه السوء والفحشاء، اللذين هما القتل والمكروه...

فأما ما يدل من القرآن، علي أنه عليه السلام ما هم بالفاحشة ولا عزم عليها فمواضع كثيرة منها قوله تعالي: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ).......

تنزيه يوسف عليه السلام عن إلحاق الأذي بأبيه. تنزيه يوسف عليه السلام عن الكذب وتهمة إخوته. تنزيه يوسف عليه السلام عن الرضا بالسجود له. تنزيه يوسف عليه السلام عن طاعة الشيطان

في أن أيوب ابتلي امتحانا لا عقابا

فإن قيل: فما قولكم في الأمراض والمحن التي لحقت أيوب عليه السلام أو ليس قد نطق القرآن بأنها كانت جزاء علي ذنب في قوله: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ.(صّ:41)والعذاب لايكون إلا جزاءً كالعقاب. والآلام الواقعة علي سبيل الإمتحان لا تسمي عذاباً ولا عقاباً، أو ليس قد روي جميع المفسرين أن الله تعالي إنما عاقبه بذلك البلاء لتركه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقصته مشهورة يطول شرحها؟

قلنا: أما ظاهر القرآن فليس يدل علي أن أيوب عليه السلام عوقب بما نزل به من المضار، وليس في ظاهره شئ مما ظنه السائل.....

فأما ما روي في هذا الباب من جهلة المفسرين فمما لا يلتفت إلي مثله، لأن هؤلاء لايزالون يضيفون إلي ربهم تعالي والي رسله عليهم السلام

كل قبيح ومنكر، ويقذفونهم بكل عظيم! وفي روايتهم هذه السخيفة ما إذا تأمله المتأمل علم أنه موضوع الباطل مصنوع، لأنهم رووا أن الله تعالي سلط إبليس علي مال أيوب عليهم السلام وغنمه وأهله، فلما أهلكهم ودمر عليهم ورأي من صبره عليه السلام وتماسكه، قال إبليس لربه يا رب أن أيوب قد علم إنك ستخلف عليه ماله وولده فسلطني علي جسده، فقال تعالي قد سلطتك علي جسده كله إلا قلبه وبصره، قال فأتاه فنفخه من لدن قرنه علي قدمه فصار قرحة واحدة، فقذف علي كناسة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهراً تختلف الدواب علي جسده.. إلي شرح طويل نصون كتابنا عن ذكر تفصيله! فمن يقبل عقله هذا الجهل والكفر كيف يوثق بروايته، ومن لا يعلم أن الله تعالي لا يسلط إبليس علي خلقه، وإن إبليس لا يقدر علي أن يقرح الأجساد ولا يفعل الأمراض كيف تعتمد روايته؟!

تنزيه موسي عن العصيان بالقتل

فإن قيل: فما الوجه في قتل موسي عليه السلام للقبطي وليس يخلو من أن يكون مستحقاً للقتل أو غير مستحق، فإن كان مستحقاً فلا معني لندمه عليه السلام وقوله: (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) وقوله: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي)، وإن كان غير مستحق فهو عاص في قتله...

قلنا: مما يجاب به عن هذا السؤال أن موسي عليه السلام لم يعتمد القتل ولا أراده، وإنما اجتاز فاستغاث به رجل من شيعته علي رجل من عدوه بغي عليه وظلمه وقصد إلي قتله، فأراد موسي عليه السلام أن يخلصه من يده ويدفع عنه مكروهه، فأدي ذلك إلي القتل من غير قصد إليه، فكل ألم يقع علي سبيل المدافعة للظالم من غير أن يكون مقصوداً فهو حسن غير

قبيح ولا يستحق عليه العوض به، ولا فرق بين أن تكون المدافعة من الإنسان عن نفسه، وبين أن يكون عن غيره....

ومن العجب، أن أبا علي الجبائي ذكر هذا الوجه في تفسيره، ثم نسب مع ذلك موسي عليه السلام إلي أنه فعل معصية صغيرة، ونسب معصيته إلي الشيطان!!

تنزيه موسي عليه السلام عن الضلالة والاستعفاء من الرسالة. وتنزيهه عن الأمر بالسحر، وعن الخوف الحرام، وعن نسبة الإضلال لله تعالي، وعن سؤال الرؤية لنفسه، وبيان الوجه في أخذ موسي برأس أخيه عليهما السلام يجره، وتنزيهه عن المعصية في مرافقته للخضر عليهما السلام، وتنزيهه عما رموه به من أخذ الحجر لثيابه وركضه عارياً.....

تنزيه داود عليه السلام عن المعصية، وتفسير قوله تعالي: وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ. وتنزيه سليمان عليه السلام عن المعصية، وعن الإفتتان. وعن الشح وعدم القناعة في طلبه ملكاً لاينبغي لأحد من بعده.

تنزيه يونس عن الظلم والمعصية بمغاضبته قومه

تنزيه عيسي عليه السلام عن ادعائه الألوهية، وتفسير قوله تعالي: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أعلم مَا فِي نَفْسِكَ إنك أنت عَلامُ الْغُيُوبِ.

تنزيه نبينا صلي الله عليه وآله عن الضلال، وتفسير قوله تعالي: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلا إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

وقوله تعالي: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً.

وقوله تعالي: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ. لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ.

وقوله تعالي: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَي.

وقوله تعالي: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي

فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَي النَّاسَ وَاللهُ أحق أَنْ تَخْشَاهُ. وقوله تعالي: مَاكَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَي حَتَّي يُثْخِنَ فِي الأرض تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخرة وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

وقوله تعالي: لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أخذتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وقوله تعالي: عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّي يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ.

وقوله تعالي: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً.

وقوله تعالي: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَك.

وقوله تعالي: عَبَسَ وَتَوَلَّي، أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَي.

وقوله تعالي: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

وقوله تعالي: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ. وكيف يوجه هذا الخطاب إلي من لايجوز عليه الشرك ولا شئ من المعاصي؟

قد قيل في هذه الآية أن الخطاب للنبي صلي الله عليه وآله والمراد به أمته، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: نزل القرآن بإياك أعني واسمعي يا جارة.... وليس يمتنع أن يتوعد الله تعالي علي العموم. وعلي سبيل الخصوص من يعلم أنه لا يقع منه ما تناوله الوعيد، لكنه لابد من أن يكون مقدوراً له وجائزا بمعني الصحة لا بمعني الشك، ولهذا يجعل جميع وعيد القرآن عاماً لمن يقع منه ما تناوله الوعيد، ولمن علم الله تعالي أنه لا يقع منه....

والشيعة لها في هذه الآية جواب تنفرد به وهو أن النبي صلي الله عليه وآله لما نص علي أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام بالإمامة في ابتداء الأمر جاءه قوم من قريش فقالوا له: يا رسول الله

إن الناس قريبوا عهد بالإسلام لا يرضون أن تكون النبوة فيك والإمامة في ابن عمك علي بن أبي طالب! فلو عدلت به إلي غيره لكان أولي. فقال لهم النبي صلي الله عليه وآله: ما فعلت ذلك برأيي فأتخير فيه، لكن الله تعالي أمرني به....الي آخر ما أورده الشريف المرتضي رحمه الله.

وقد تعرض المؤلف رحمه الله الي عدة مسائل في تنزيه الله تعالي عن التجسيم والتشبيه وبحث عدداً من أحاديثهم المروية عن النبي صلي الله عليه وآله مثل: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن.. إن الله خلق آدم علي صورته.. إن أحب الأعمال إلي الله تعالي أدومها وإن قل، فعليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتي تملوا.. سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لاتضامون في رؤيته!

وقال تعليقاً علي الإخير: قلنا: أما هذا الخبر فمطعون عليه مقدوح في راويه، فإن راويه قيس بن أبي حازم، وقد كان خولط في عقله في آخر عمره، مع استمراره علي رواية الأخبار! وهذا قدح لاشبهة فيه، لأن كل خبر مروي عنه لايعلم تاريخه يجب أن يكون مردوداً، لأنه لايؤمن أن يكون مما سمع منه في حال الإختلال. وهذه طريقة في قبول الأخبار وردها ينبغي أن يكون أصلاً ومعتبراً فيمن علم منه الخروج ولم يعلم تاريخ ما نقل عنه.

علي أن قيساً لو سَلِمَ من هذا القدح، كان مطعوناً فيه من وجه آخر، وهو أن قيس بن أبي حازم كان مشهوراً بالنصب والمعاداة لأمير المؤمنين صلاة الله وسلامه عليه والإنحراف عنه، وهو الذي قال: رأيت علي بن أبي طالب علي منبر الكوفة يقول: إنفروا إلي بقية الأحزاب، فأبغضته حتي اليوم في قلبي!

إلي غير ذلك من تصريحه بالمناصبة والمعاداة. وهذا قادح لاشك في عدالته.

وختم المؤلف رحمه الله كتابه بالإجابة علي مايشكله بعضهم علي إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته، من قبيل إشكالهم وسؤالهم لماذا لم ينازع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الذين غصبوا خلافته؟ قال رحمه الله:

إن قال قائل: إذا كان من مذهبكم يا معشر القائلين بالنص أن النبي صلي الله عليه وآله نص علي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة بعده، وفوض إليه أمر أمته، فما باله لم ينازع المتآمرين بعد النبي صلي الله عليه وآله في الأمر الذي وكل إليه وعول في تدبيره عليه، أوَ ليس هذا منه إغفالاً لواجب لايسوغ إغفاله؟

فإن قلتم إنه لم يتمكن من ذلك فهلا أعذر وأبلي واجتهد، فإنه إذا لم يصل إلي مراده بعد الإعذار والإجتهاد كان معذوراً.

أو ليس هو عليه السلام الذي حارب أهل البصرة وفيهم زوجة رسول الله صلي الله عليه وآله، وطلحة والزبير، ومكانهما من الصحبة والإختصاص والتقدم مكانهما، ولم يحشمه ظواهر هذه الأحوال من كشف القناع في حربهم حتي أتي علي نفوس أكثر أهل العسكر؟

وهو المحارب لأهل صفين مرة بعد أخري مع تخاذل أصحابه وتواكل أنصاره، وإنه كان في أكثر مقاماته تلك وموقفه لايغلب في ظنه الظفر ولا يرجو لضعف من معه النصر، وكان مع ذلك كله مصمماً ماضياً قدماً...

قلنا: أما الكلام علي ما تضمنه هذا السؤال فهو مما يخص الكلام في الإمامة وقد استقصيناه في كتابنا المعروف بالشافي في الإمامة، وبسطنا القول فيه في هذه الأبواب ونظائرها بسطاً يزيل الشبهة ويوضح الحجة، لكنا لا نخلي هذا الكتاب من حيث تعلق غرضه بهذه المواضع

من إشارة إلي طريقة الكلام فيها، فنقول: قد بينا في صدر هذا الكتاب أن الأئمة عليهم السلام معصومون من كبائر الذنوب وصغائرها، واعتمدنا في ذلك علي دليل عقلي لايدخله احتمال ولا تأويل بشئ، فمتي ورد عن أحدهم عليهم السلام فعل له ظاهر الذنب، وجب أن نصرفه عن ظاهره ونحمله علي ما يطابق موجب الدليل العقلي فيهم، كما فعلنا مثل ذلك في متشابه القرآن المقتضي ظاهره ما لا يجوز علي الله تعالي، وما لا يجوز علي نبي من أنبيائه عليهم السلام.

فإذا ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام إمام فقد ثبت بالدليل العقلي أنه معصومٌ عن الخطأ والزلل، فلا بدَّ من حمل جميع أفعاله علي جهات الحسن، ونفي القبيح عن كل واحد منها. وما كان له منها ظاهر يقتضي الذنب علمنا في الجملة أنه علي غير ظاهره، فإن عرفنا وجهه علي التفصيل ذكرناه، وإلا كفانا في تكليفنا أن نعلم أن الظاهر معدولٌ عنه، وأنه لابدَّ من وجه فيه يطابق ما تقتضيه الأدلة.

وهذه الجملة كافية في جميع المشتبهة من أفعال الأئمة عليهم السلام وأقوالهم، ونحن نزيد عليها فنقول: إن الله تعالي لم يكلف إنكار المنكر سواءً اختص بالمنكر أو تعداه إلي غيره، إلا بشروط معروفة، أقواها التمكن، وإن لا يغلب في ظن المنكر أن إنكارة يؤدي إلي وقوع ضرر به لايحتمل مثله، وإن لايخاف في إنكاره من وقوع ما هو أفحش منه وأقبح من المنكر.

وهذه شروط قد دلت الأدلة عليها، ووافقنا المخالفون لنا في الإمامة فيها. وإذا كان ما ذكرناه مراعيً في وجوب إنكار المنكر، فمن أين أن أمير المؤمنين عليه السلام كان متمكناً من المنازعة في حقه والمجادلة، وما المنكر من أن يكون عليه

السلام خائفاً متي نازع وحارب، من ضرر عظيم يلحقه في نفسه وولده وشيعته؟! ثم ما المنكر من أن يكون خاف من الاإكار من ارتداد القوم عن الدين وخروجهم عن الإسلام ونبذهم شعار الشريعة، فرأي أن الإغضاء أصلح في الدين، من حيث كان يجر الإنكار ضرراً فيه لايتلافي...

ثم قد ذكرنا في كتابنا في الإمامة من أسباب الخوف وأمارات الضرر التي تناصرت بها الروايات، ووردت من الجهات المختلفة ما فيه مقنع للمتأمل، وأنه عليه السلام غولط في الأمر وسوبق إليه وانتهزت غرته، واغتنمت الحال التي كان فيها متشاغلاً بتجهيز النبي صلي الله عليه وآله، وسعي القوم إلي سقيفة بني ساعدة، وجري لهم فيها مع الأنصار ما جري...

وأما حضور مجالسهم، فما كان عليه الصلاة والسلام ممن يتعمدها ويقصدها، وإنما كان يكثر الجلوس في مسجد رسول الله صلي الله عليه وآله فيقع الإجتماع مع القوم هنا، وذلك ليس بمجلس لهم مخصوص. وبعد، فلو تعمد حضور مجالسهم لينهي عن بعض ما يجري فيها من منكر، فإن القوم قد كانوا يرجعون إليه في كثير من الأمور، لجاز، ولكان للحضور وجه صحيح له بالدين علقه قوية.

فأما الدخول في آرائهم، فلم يكن عليه السلام ممن يدخل فيها إلا مرشداً لهم، ومنبهاً علي بعض ما شذ عنهم، والدخول بهذا الشرط واجب....

فأما الدخول في الشوري، فقد بينا في كتابنا المقدم ذكره الكلام فيه مستقصي، ومن جملته أنه عليه السلام لولا الشوري لم يكن ليتمكن من الإحتجاج علي القوم بفضائله ومناقبه، والأخبار الدالة علي النص بالإمامة عليه...ومن كان يصغي لولا الشوري إلي كلامه المستوفي في هذا المعني؟...

فإن قيل: فما الوجه في تحكيمه عليه السلام أبا موسي الأشعري وعمرو بن العاص، وما

العذر في أن حكم في الدين الرجال.....؟

قلنا: كل أمر ثبت بدليل قاطع غير محتمل فليس يجوز أن نرجع عنه ونتشكك فيه لأجل أمر محتمل، وقد ثبت إمامة أمير المؤمنين عليه السلام وعصمته وطهارته من الخطأ، وبراءته من الذنوب والعيوب، بأدله عقلية وسمعية، فليس يجوز أن نرجع عن ذلك أجمع، ولا عن شئ منه، لما وقع من التحكيم للصواب بظاهره، وقبل النظر فيه كاحتماله للخطأ، ولو كان ظاهره أقرب إلي الخطأ وأدني إلي مخالفة الصواب.

بل الواجب في ذلك القطع علي مطابقة ما ظهر من المحتمل لما ثبت بالدليل، أو صرف ماله ظاهر عن ظاهره، والعدول به إلي موافقة مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل.

وهذا فعلنا فيما ورد من أي القرآن التي تخالف بظاهرها الأدلة العقلية مما يتعلق به الملحدون أو المجبرة أو المشبهة.

وهذه جملة قد كررنا ذكرها في كتابنا هذا لجلالة موقعها من الحجة، ولو اقتصرنا في حل هذه الشبهة عليها لكانت مغنية كافية...). انتهي.

معركة تنزيه الأنبياء بين الشيعة و مخالفيهم

موقف علماء الشيعة الثابت: تأويل الآيات التي يبدو منها...

موقف علماء الشيعة الثابت: تأويل الآيات التي يبدو منها معصية الأنبياء، ورد الأحاديث التي تزعم ذلك

اتضح بما تقدم أن أئمة أهل البيت عليهم السلام رسموا خطاً في تنزيه الأنبياء عليهم السلام والدفاع عنهم، وأن علماء المذهب رضوان الله عليهم اتبعوهم فأجادوا الإتباع والشرح والإستدلال، وكان موقفهم ثابتاً في أن الآيات التي يبدو منها وقوع المعصية من الأنبياء عليهم السلام وأنها ليست علي ظاهرها بل يجب اتباع الراسخين في العلم في تأويلها.

واتضح أن الأحاديث الصريحة في ارتكاب الأنبياء عليهم السلام للمعاصي مكذوبة، وأنها من موضوعات رواة السلطة القرشية لتبرير معاصي الخلفاء أو من الإسرائيليات التي ابتليت بها مصادر السنة عندهم، وكلها

روايات باطلة يجب التوقف فيها أو تكذيبها، حتي لو تسرب بعضها إلي مصادرنا!

وتشمل هذه القاعدة نفي وقوع المعصية من الأنبياء عليهم السلام وكلِّ سلوكٍ أو وضعٍ ينفِّر الناس منهم، كما تشمل نفي السهو والنسيان عنهم عليهم السلام.

قال العلامة الحلي في منتهي المطلب:1/335: (احتج المخالف بأن النبي صلي الله عليه وآله صلي بأصحابه فلما أحرم بالصلاة ذكر أنه جنب، فقال لأصحابه: كما أنتم، ومضي ورجع ورأسه يقطر ماء ولم يستخلف، فدل علي عدم الجواز.

والجواب: أن هذا عندنا باطل، والخبرُ كذبٌ إذ الأنبياء عليهم السلام معصومون عن وقوع الذنب عمداً وسهواً). انتهي.

ومن هذا القبيل رد علماء الشيعة لخبر اتهام نبي داود عليه السلام مع أنه ورد في تفسير القمي:2/229: وجاء فيه: (فلما كان اليوم الذي وعده الله عز وجل اشتدت عبادته وخلا في محرابه وحجب الناس عن نفسه وهو في محرابه يصلي، فإذا طائر قد وقع بين يديه جناحاه من زبرجد أخضر ورجلاه من ياقوت أحمر ورأسه ومنقاره من لؤلؤ وزبرجد، فأعجبه جداً ونسي ما كان فيه، فقام ليأخذه فطار الطائر فوقع علي الحائط بين داود وبين أوريا بن حنان، وكان داود قد بعث أوريا في بعث فصعد داود عليه السلام الحائط ليأخذ الطير، وإذا امرأة أوريا جالسة تغتسل، فلما رأت ظل داود نشرت شعرها وغطت به بدنها، فنظر إليها داود فافتتن بها ورجع إلي محرابه ونسي ما كان فيه، وكتب إلي صاحبه في ذلك البعث لما أن يصيروا إلي موضع كيت وكيت يوضع التابوت بينهم وبين عدوهم، وكان التابوت في بني إسرائيل كما قال الله عز وجل:فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌمِمَّاتَرَكَ آلُ مُوسَيوَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ (البقرة:248) وقد كان رفع بعد موسي

عليه السلام إلي السماء لما عملت بنو إسرائيل بالمعاصي، فلما غلبهم جالوت وسألوا النبي أن يبعث إليهم ملكاً يقاتل في سبيل الله بعث إليهم طالوت وأنزل عليهم التابوت، وكان التابوت إذا وضع بين بني إسرائيل وبين أعدائهم ورجع عن التابوت إنسان كفر وقتل، ولا يرجع أحد عنه إلا ويقتل. فكتب داود إلي صاحبه الذي بعثه أن ضع التابوت بينك وبين عدوك وقدم أوريا بن حنان بين يدي التابوت، فقدمه وقتل، فلما قتل أوريا دخل عليه الملكان وقعدوا ولم يكن تزوج امرأة أوريا، وكانت في عدتها وداود في محرابه يوم عبادته، فدخلا عليه الملكان من سقف البيت وقعدا بين يديه ففزع داود منهما فقالا: لاتَخَفْ خَصْمَانِ بَغَي بَعْضُنَا عَلَي بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إلي سَوَاءِ الصِّرَاطِ. (صّ:22) ولداود حينئذ تسع وتسعون امرأة ما بين مهيرة إلي جارية، فقال أحدهما لداود:إِنَّ هَذَا أخي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ. أي ظلمني وقهرني، فقال داود كما حكي الله عز وجل:قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلي نِعَاجِهِ وإن كثيراًمِنَ الْخُلَطَاءِلَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَيبَعْضٍ إلاالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَاهُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ إنما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ) (ص:23-24) قال: فضحك المستعدي عليه من الملائكة وقال: وقد حكم الرجل علي نفسه فقال داود: أتضحك وقد عصيت لقد هممت أن أهشم فاك، قال: فعرجا، وقال الملك المستعدي عليه: لو علم داود أنه أحق بهشم فيه مني.

ففهم داود الأمر وذكر الخطيئة فبقي أربعين يوماً ساجداً يبكي ليله ونهاره ولايقوم إلا وقت الصلاة، حتي انخرق جبينه وسال الدم من عينيه....)!! إلي آخر القصة الواردة في مصادر أهل الكتاب ومصادر السنيين! وقد ردها علماء

الشيعة، وحملها بعضهم علي التقية لموافقتها مذهب العامة ورواياتهم التي تجوِّز المعاصي علي الأنبياء عليهم السلام.

وقد تقدم استنكارها في مقدمة الكتاب في حديث الإمام الرضا عليه السلام.

لا عصمة للأنبياء عند السنيين لكن الصحابة عندهم معصومون

المعروف عن المذاهب السنية أنها تعتقد بعصمة الأنبياء عليهم السلام، لكن واقعها العملي عدم الإعتقاد بعصمتهم، لاعن الصغائر ولا الكبائر ولا ماينفِّر الناس منهم، لاقبل البعثة ولا بعدها، لا في الأمور الشخصية ولا في تبليغ الرسالة!

فأئمة المذاهب وعلماؤها يقولون نظرياً بعصمة الأنبياء عليهم السلام عصمة غير تامة علي اختلافٍ بينهم فيها، لكنهم عندما يصلون إلي الإسرائيليات، أو إلي القرشيات، يقعون في اتهام الأنبياء عليهم السلام، ويتمسكون بالآيات المتشابهة التي يبدو منها وقوع المعصية منهم عليهم السلام فينفون عنهم العصمة التي أثبتوها لهم آنفاً! بل ينسبون اليهم المنكرات والعظائم، حتي إلي خاتمهم وأفضلهم صلي الله عليه وآله!

من جهة أخري.. يقول علماء المذاهب السنية إنهم لايعتقدون بعصمة الصحابة بل بعدالتهم، وقد يفسرون عدالتهم بتصديق روايتهم عن النبي صلي الله عليه وآله.

لكن كلامهم هذا نظري، لأنهم إذا وصلوا إلي أي مسألة تتعلق بأبي بكر وعمر وعثمان، تراهم يدافعون عنهم حتي لو كانت المسألة مقابل النبي صلي الله عليه وآله!

ومعناه أنهم يقولون بعصمة هؤلاء الثلاثة، وبعضهم يقول بعصمة عائشة وحفصة ومعاوية معهم، فهم يبررون أخطاءهم، وقد يكفِّرون من ينتقدهم!

أما إذا اختلف الصحابة في رأي أو فتوي أو نقل حديث، فهم مجمعون علي أن العصمة والحق دائماً مع عمر، وفيما وافق عمر!

وقد ناقشنا بعض المتحمسين لعمر وابن تيمية، فقال إنكم تتهموننا زوراً بأنا نعتقد بعصمة عمر وابن تيمية، فنحن لم نقل ذلك؟

فقلنا له إنكم لاتقولون ذلك بل تفعلونه، فإن كنت صادقاً فأعطنا خطأ واحداً

تراه لابن تيمية أو لعمر! فغضب وولي!

وهذه مفارقة عجيبة أنهم يقولون بعصمة الأنبياء عليهم السلام نظرياً ثم ينقضونها عملياً! ويقولون بعدم عصمة الصحابة نظرياً، ثم يصرون عليها عملياً!

قال العلامة الحلي قدس سره في نهج الحق وكشف الصدق ص142:

(ذهبت الإمامية كافة إلي أن الأنبياء عليهم السلام معصومون عن الصغائر والكبائر، ومنزهون عن المعاصي، قبل النبوة وبعدها، علي سبيل العمد والنسيان، وعن كل رذيلة ومنقصة، وما يدل علي الخسة والضعة.

وخالفت الأشاعرة في ذلك وجوَّزوا عليهم المعاصي، وبعضهم جوَّزوا الكفر عليهم قبل النبوة وبعدها! وجوزوا عليهم السهو والغلط!

ونسبوا رسولَ الله صلي الله عليه وآله الي السهو في القرآن بما يوجب الكفر! فقالوا إنه صلي يوماً وقرأ في سورة (النجم) عند قوله تعالي: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الإخرَي: تلك الغرانيق العلي، منها الشفاعة ترتجي!!

وهذا اعترافٌ منه صلي الله عليه وآله بأن تلك الأصنام ترتجي الشفاعة منها! نعوذ بالله من هذه المقالة التي نسبوا النبيَّ صلي الله عليه وآله إليها، وهي توجب الشرك! فما عذرهم عند رسول الله صلي الله عليه وآله، وقد قَتَلَ جماعةً كثيرةً من أهله وأقاربه علي عبادة الأصنام، ولم تأخذه في الله لومة لائم، و(هم) ينسبون إليه هذا القول الموجب للكفر والشرك!!...

ورووا عنه صلي الله عليه وآله أنه صلي الظهر ركعتين، فقال له ذو اليد: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟! فقال: أصدق ذو اليد؟ فقال الناس: نعم، فقام رسول الله صلي الله عليه وآله فصلي اثنتين أخريين، ثم سلَّم.. الحديث!!

ورووا في الصحيحين أنه صلي الله عليه وآله صلي بالناس صلاة العصر ركعتين، ودخل حجرته، ثم خرج لبعض حوائجه، فذكَّره بعضٌ فأتمَّها!

وأي نسبة أنقص من

هذا وأبلغ في الدناءة! فإنها تدل علي إعراض النبي صلي الله عليه وآله عن عبادة ربه وإهمالها والإشتغال عنها بغيرها، والتكلم في الصلاة، وعدم تدارك السهو من نفسه لو كان! نعوذ بالله من هذه الآراء الفاسدة!

ونسبوا إلي النبي صلي الله عليه وآله كثيراً من النقص! روي الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن عائشة قالت: كنت ألعبُ بالبنات عند النبي(ص) وكانت لي صواحبُ يلعبنَ معي وكان رسول الله إذا دخل تقبَّعْنَ منه، فيشير إليهن فيلعبن معي!

مع أنهم رووا في صحاح الأحاديث: أن الملائكة لاتدخل بيتاً فيه صور مجسمة، أو تماثيل! وتواتر النقل عنه بإنكار عمل الصور والتماثيل، فكيف يجوز لهم نسبة هذا إلي النبي صلي الله عليه وآله وإلي زوجته من عمل الصور في بيته، الذي أسس للعبادة، وهو محل هبوط الملائكة والروح الأمين في كل وقت! ولما رأي النبي صلي الله عليه وآله الصور في الكعبة لم يدخلها حتي محيت، مع أن الكعبة بيت الله تعالي، فإذا امتنع من دخوله مع شرفه وعلو مرتبته، فكيف يتخذ في بيته، وهو أدون من الكعبة صوراً ويجعله محلاً لها.

وروي الحميدي في الجمع بين الصحيحين: قالت عائشة: رأيت النبي يسترني بردائه وأنا أنظر إلي الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر! وروي الحميدي عن عائشة قالت: دخل عليَّ رسول الله وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع علي الفراش وحوَّل وجهه، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند النبي؟! فأقبل عليه رسول الله وقال: دعها فلما غفل غمزتهما فخرجتا! وكيف يجوز للنبي صلي الله عليه وآله الصبر علي هذا، مع أنه نصَّ علي تحريم اللعب واللهو والقرآن مملوءٌ به، وبالخصوص مع زوجته؟! وهلا دخلته الحمية والغيرة

مع أنه صلي الله عليه وآله أغْيَرُ الناس؟!

وكيف أنكر أبو بكر وعمر ومنعهما؟ فهل كانا أفضل منه؟!

وقد رووا عنه صلي الله عليه وآله أنه لما قدم المدينة من سفر، خرجت إليه نساء المدينة يلعبن بالدف فرحاً بقدومه، وهو يرقص بأكمامه!! وهل يصدر مثل هذا عن رئيس، أو من له أدني وقار، نعوذ بالله من هذه السقطات!

مع أنه لو نُسِبَ أحدهم إلي مثل هذا، قابله بالسب والشتم وتبرأ منه، فكيف يجوز نسبة النبي صلي الله عليه وآله إلي مثل هذه الأشياء التي يُتبرأ منها؟!

وفي الصحيحين أن ملك الموت لما جاء لقبض روح موسي عليهما السلام لطمه موسي ففقأ عينه! فكيف يجوز لعاقل أن ينسب موسي عليه السلام مع عظمته وشرف منزلته وقربه من الله تعالي والفوز بمجاورة عالم القدس، إلي هذه الكراهة؟! وكيف يجوز منه أن يوقع بملك الموت ذلك وهو مأمور من قبل الله تعالي؟!

وفي الجمع بين الصحيحين: أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال في صفة الخلق يوم القيامة: وإنهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر إليهم، فيأتون نوحاً فيعتذر إليهم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله، إشفع لنا إلي ربك أما تري ما نحن فيه؟! فيقول لهم: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله! وإني قد كذبت ثلاث كذبات. نفسي، نفسي، إذهبوا إلي غيري! وفي الجمع بين الصحيحين: أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: لم يكذب إبراهيم النبي إلا ثلاث كذبات!!

كيف يحلُّ لهؤلاء نسبة الكذب إلي الأنبياء عليهم السلام؟! وكيف الوثوق بشريعتهم، مع الإعتراف بتعمد كذبهم؟!

وفي الجمع بين الصحيحين أن النبي صلي الله عليه وآله

قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَي قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَي وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي. ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلي ركن شديد! ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي!

كيف يجوز لهؤلاء الإجتراء علي النبي صلي الله عليه وآله بالشك في العقيدة؟

وفي الصحيحين قال: بينما الحبشة يلعبون عند النبي صلي الله عليه وآله بحرابهم دخل عمر فأهوي إلي الحصباء فحصبهم بها فقال له رسول الله صلي الله عليه وآله:دعهم يا عمر.

وروي الغزالي في إحياء علوم الدين أن النبي صلي الله عليه وآله كان جالساً وعنده جوارٍِ يغنين فجاء عمر فاستأذن فقال النبي صلي الله عليه وآله للجواري: أسكتنَ فسكتن، فدخل عمر وقضي حاجته ثم خرج، فقال لهن عُدْنَ، فعدن إلي الغناء!

فقلن: يارسول الله، مَن هذا الذي كلما دخل قلت أسكتنَ، وكلما خرج قلت: عدنَ إلي الغناء؟ قال هذا رجلٌ لا يؤثرُ سماع الباطل.

كيف يحلُّ لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النبي صلي الله عليه وآله؟ أتري عمر أشرف من النبي صلي الله عليه وآله؟ حيث لا يؤثر سماع الباطل، والنبي صلي الله عليه وآله يؤثره؟!

وفي الجمع بين الصحيحين: عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة، وعدلت الصفوف قياماً قبل أن يخرج إلينا رسول الله صلي الله عليه وآله، فخرج إلينا رسول الله صلي الله عليه وآله فلما قام في مصلاه ذكر أنه جنبٌ فقال لنا: مكانكم. فلبثنا علي هيئتنا قياماً، فاغتسل، ثم خرج إلينا، ورأسه يقطر، فكبَّر وصلينا.

فلينظر العاقل: هل يحسن منه وصف أدني الناس بأنه يحضر الصلاة ويقوم في الصف وهو جنب! وهل هذا الأمن التقصير في عبادة ربه

وعدم المسارعة إليها وقد قال تعالي:وَسَارِعُوا إلي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم... فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ، فأي مكلف أجدر بقبول هذا الأمر من النبي صلي الله عليه وآله؟!

وفي الجمع بين الصحيحين عن أبي هريرة قال: صلي النبي صلي الله عليه وآله إحدي صلاتي العشئ، قال وأكثر ظني العصر ركعتين ثم سلم، ثم قال إلي خشبة في مقام المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر فهاباه أن يكلماه، وخرج سرعان الناس فقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجلٌ يدعوه النبي صلي الله عليه وآله ذو اليدين فقال: لم أنسَ ولم أقَصِّر، قال: بل قد نسيت! فصلي ركعتين ثم سلم!

فلينظر العاقل هل يجوز نسبة هذا الفعل إلي رسول الله صلي الله عليه وآله؟ وكيف يجوز منه أن يقول: ما نسيت؟ فإن هذا سهوٌ في سهو، ومن يعلم أن أبا بكر وعمر حفظا ما نسي رسول الله صلي الله عليه وآله مع إنهما لم يذكرا ذلك للنبي صلي الله عليه وآله؟

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أنه كان يحدث عن رسول الله صلي الله عليه وآله: أنه دعا زيد بن عمرو بن نفيل وذلك قبل أن ينزل الوحي علي رسول الله صلي الله عليه وآله، فقدم إليه رسول الله صلي الله عليه وآله سفرةً فيها لحم فأبي أن يأكل منها ثم قال: إني لا آكل ما تذبحون علي أنصابكم، ولا آكل مما لم يذكر إسم الله عليه!!

فلينظر العاقل هل يجوز له أن ينسب نبيه إلي عبادة الأصنام، والذبح علي الأنصاب ويأكل منه! وإن زيدَ بن عمرو بن نفيل كان أعرف بالله منه، وأتمَّ حفظاً ورعايةً لجانب الله تعالي؟! نعوذ بالله من هذه الإعتقادات الفاسدة!

وفي الصحيحين عن حذيفة بن

اليمان قال:كنت مع النبي صلي الله عليه وآله فانتهي إلي سباطة قوم فبال قائماً، فتنحيت فقال: أدنه، فدنوتُ حتي قمت عند عقبيه، فتوضأ فمسح علي خفيه! فكيف يجوز: أن ينسب إلي رسول الله صلي الله عليه وآله البول قائماً، مع أن أرذل الناس لو نُسب هذا إليه تبرأ منه؟! ثم المسح علي الخفين والله تعالي يقول: وأرجلكم!

فانظروا إلي هؤلاء القوم: كيف يجوِّزون الخطأ والغلط علي الأنبياء عليهم السلام، وإن النبي يجوز أن يسرق درهماً، ويكذب في أخس الأشياء وأحقرها!

وقد لزمهم من ذلك محالات:

منها: جواز الطعن علي الشرائع وعدم الوثوق بها، فإن المبلِّغ إذا جوَّزوا عليه الكذب وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمداً أو نسياناً، أو يترك شيئاً مما أوحيَ إليه، أو يأمر من عنده، فكيف يبقي اعتمادٌ علي أقواله؟!

ومنها: أنه إذا فعل المعصية، فإما أن يجب علينا اتباعه فيها، فيكون قد وجب علينا فعل ما وجب تركه، واجتمع الضدان! وإن لم يجب، انتفت فائدة البعثة.

ومنها: أنه لو جاز أن يعصي لوجب إيذاؤه والتبري منه، لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن الله تعالي قد نص علي تحريم إيذاء النبي صلي الله عليه وآله فقال:إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخرة وَأَعَدَّ لَهُمْ عذاباً مُهِيناً , (الأحزاب:57) ومنها: سقوط محله ورتبته عند العوام، فلاينقادون إلي طاعته، فتنتفي فائدة البعثة.

ومنها: أنه يلزم أن يكونوا أدون حالاً من آحاد الأمة، لأن درجات الأنبياء عليهم السلام في غاية الشرف، وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش، كما قال تعالي: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يأت مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْن، (الأحزاب:30) والمحصن يرجم وغيره يحد،

وحد العبد نصف حد الحر. والأصل فيه: أن علمهم بالله تعالي أكثر وأتمُّ، وهم مهبط وحيه، ومنازل ملائكته، ومن المعلوم أن كمال العلم يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع، فينافي صدور الذنب، لكن الإجماع دل علي أن النبي صلي الله عليه وآله لايجوز أن يكون أقل حالاً من آحاد الأمة.

ومنها: أنه يلزم أن يكون مردود الشهادة، لقوله تعالي: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا، فكيف تقبل شهادته في الوحي ويلزم أن يكون أدني حالاً من عدول الأمة، وهو باطل بالإجماع.

ومنها: أنه لو صدر عنه الذنب لوجب الإقتداء به لقوله تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوااللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ..لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ... فَاتَّبِعُونِي... والتالي باطل بالإجماع، وإلا اجتمع الوجوب والحرمة). انتهي.

وقال رحمه الله في نهج الحق وكشف الصدق/159:

(ذهبت الإمامية إلي أن النبي صلي الله عليه وآله يجب أن يكون منزهاً عن دناءة الآباء وعهر الأمهات، بريئاً من الرذائل والأفعال الدالة علي الخسة، كالإستهزاء به والسخرية والضحك عليه، لأن ذلك يسقط محله من القلوب، وينفِّر الناس عن الإنقياد إليه، فإنه من المعلوم بالضرورة الذي لايقبل الشك والإرتياب.

وخالفت السنة فيه: أما الأشاعرة فباعتبار نفي الحسن والقبح، فلزمهم أن يذهبوا إلي جواز بعثة ولد الزنا المعلوم لكل أحد! وإن ب فاعلاً لجميع أنواع الفواحش وأبلغ أصناف الشرك! وهو ممن يُسخر به ويُضحك عليه ويُصفع في الأسواق ويُستهزأ به، ويكون قد ليط به دائماً لأبنة فيه، قواداً، وتكون أمه في غاية الزنا والقيادة والإفتضاح بذلك، لا تردُّ يدَ لامس! ويكون هو في غاية الدناءة والسفالة، ممن قد ليط به طول عمره، حال النبوة وقبلها، ويصفع في الأسواق، ويعتمد المناكير، ويكون قواداً بصاصاً. فهؤلاء يلزمهم

القول بذلك حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليين، وإن ذلك ممكنٌ فيجوز من الله وقوعه، وليس هذا بأبلغ من تعذيب الله من لايستحق العذاب، بل يستحق الثواب طول الأبد!

وأما المعتزلة، فلأنهم جوَّزوا صدور الذنب عنهم عليهم السلام، لزمهم القول بجواز ذلك أيضاً، واتفقوا علي وقوع الكبائر منهم، كما في قصة إخوة يوسف!

فلينظر العاقل بعين الإنصاف: هل يجوز المصير إلي هذه الأقاويل الفاسدة، والآراء الردية؟ وهل يبقي مكلف ينقاد إلي قبول قول من كان يفعل به الفاحشة طول عمره إلي وقت نبوته؟ وأنه يصفع ويستهزأ به حال النبوة؟! وهل يثبت بقول هذا حجة علي الخلق؟!

واعلم أن البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط، وأنهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول، لأنهم يجوزون تعذيب المكلف علي أنه لم يفعل ما أمره الله تعالي به من غير أن يعلم ما أمره به، ولا أرسل إليه رسولاً البتة! بل وعلي امتثال أمره به، وإن جميع القبائح من عنده تعالي، وإن كل ما وقع في الوجود فإنه فعله تعالي وهو حسن، لأن الحسن هو الواقع والقبيح هو الذي لم يقع. فهذه الصفات الخسيسة في النبي وأبويه تكون حسنة، لوقوعها من الله تعالي، فأي مانع حينئذ من البعثة باعتبارها؟!

فكيف يمكن للأشاعرة منع كفر النبي عليه السلام وهو من الله وكل ما يفعله تعالي فهو حسن! وكذا أنواع المعاصي! وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء عليهم السلام؟! نعوذ بالله من مذهب يؤدي إلي تحسين الكفر وتقبيح الإيمان، وجواز بعثة من اجتمعت فيه كل الرذائل والسقطات.

وقد عرفت من هذا أن الأشاعرة في هذا الباب، قد أنكروا الضروريات!

وقال في منهاج الكرامة ص31، وهو الكتاب الذي حاول ابن تيمية

أن يرد عليه في منهاج سنته، قال العلامة: (الفصل الأول: في نقل المذاهب في هذه المسألة:

ذهبت الإمامية إلي أن الله تعالي عدلٌ حكيمٌ لايفعل قبيحاً ولايخلُّ بواجب وإن أفعاله إنما تقع لغرض صحيح وحكمة، وأنه لايفعل الظلم ولا العبث، وأنه رؤوفٌ بالعباد، يفعل بهم ما هو الأصلح لهم والأنفع، وأنه تعالي كلفهم تخييراً لا إجباراً، ووعدهم بالثواب وتوعدهم بالعقاب علي لسان أنبيائه ورسله المعصومين، بحيث لايجوز عليهم الخطأ ولا النسيان ولا المعاصي، وإلا لم يبق وثوقٌ بأقوالهم، فتنتفي فائدة البعثة.

ثم أردف الرسالة بعد موت الرسول بالأمة، فنصب أولياء معصومين عليهم السلام، ليأمن الناس من غلطهم وسهوهم وخطئهم، فينقادون إلي أوامرهم، لئلا يخلي الله تعالي العالم من لطفه ورحمته. وأنه تعالي لما بعث رسوله محمداً صلي الله عليه وآله قام بنقل الرسالة ونصَّ علي أن الخليفة بعده عليُّ بن أبي طالب، ثم من بعده ولدُه الحسن الزكي، ثم علي الحسين الشهيد، ثم علي علي بن الحسين زين العابدين، ثم علي محمد بن علي الباقر، ثم علي جعفر بن محمد الصادق، ثم علي موسي بن جعفر الكاظم، ثم علي علي بن موسي الرضا، ثم علي محمد بن علي الجواد، ثم علي علي بن محمد الهادي، ثم علي الحسن بن علي العسكري، ثم علي الخلف الحجة محمد بن الحسن عليهم السلام، وإن النبي صلي الله عليه وآله لم يمت إلا عن وصية بالإمامة.

وذهب أهل السنة إلي خلاف ذلك كله، فلم يثبتوا العدل والحكمة في أفعاله تعالي، وجوَّزوا عليه فعل القبيح والإخلال بالواجب، وأنه تعالي لايفعل لغرض بل كل أفعاله لا لغرض من الأغراض ولا لحكمة البتة!

وأنه تعالي يفعل الظلم والعبث، وأنه لايفعل ما هو

الأصلح للعباد، بل ما هو الفساد في الحقيقة، لأن فعل المعاصي وأنواع الكفر والظلم وجميع أنواع الفساد الواقعة في العالم مستندة إليه! تعالي الله عن ذلك، وإن المطيع لايستحق ثواباً والعاصي لايستحق عقاباً، بل قد يعذب المطيع طول عمره، المبالغ في امتثال أوامره تعالي كالنبي عليه السلام ويثيب العاصي طول عمره بأنواع المعاصي وأبلغها كإبليس وفرعون! وإن الأنبياء عليهم السلام غير معصومين بل قد يقع منهم الخطأ والزلل والفسوق والكذب والسهو، وغير ذلك.

وإن النبي صلي الله عليه وآله لم ينص علي إمام بينهم، وأنه مات عن غير وصية، وإن الإمام بعد رسول الله صلي الله عليه وآله أبو بكر بن أبي قحافة لمبايعة عمر بن الخطاب له برضا أربعة: أبي عبيدة، وسالم مولي حذيفة، وأسيد بن حضير، وبشر بن سعيد، ثم من بعده عمر بن الخطاب بنص أبي بكر عليه، ثم عثمان بن عفان بنص عمر علي ستة هو أحدهم، فاختاره بعضهم، ثم علي بن أبي طالب عليه السلام لمبايعة الخلق له.

ثم اختلفوا، فقال بعضهم إن الإمام بعده ابنه الحسن عليه السلام، وبعضهم قال: إنه معاوية بن أبي سفيان، ثم ساقوا الإمامة في بني أمية إلي أن ظهر السفاح من بني العباس، فساقوا الإمامة إليه، ثم انتقلت الإمامة منه إلي أخيه المنصور ثم ساقوا الإمامة في بني العباس إلي المعتصم، إلي أربعين).!

وقال الكراجكي رحمه الله في كتابه: التعجب من أغلاط العامة ص64:

(الفصل السابع في أغلاطهم في العصمة: فمن عجيب أمرهم: أنهم ينكرون عصمة الأنبياءوالأئمة عليهم السلام عن سائر الأنام، ويقولون إن هذه العصمة إن كانت منهم جاز أن تقع في غيرهم فيساويهم في منزلتهم، وإن كانت من الله سبحانه فقد جبرهم

واضطرهم ولم يستحقوا ثواباً علي عصمتهم!

وهم مع ذلك معترفون بأن النبي صلي الله عليه وآله معصومٌ في التأدية والتبليغ، ومعصومٌ عما سوي ذلك من جميع كبائر الذنوب في حال نبوته وقبلها، وأنها عصمة اختيار يستحق عليها الجزاء، ولايساويه أحد من أمته فيها!

ومن عجيب أمرهم: إنكارهم لعصمة الأئمة وقولهم أنها لاتقتضي الإختيار!

ومن العجب قولهم: إن العصمة ثابتة لجميع الأمة منتفية عن كل واحد منها، مع علمهم بأن آحادَهم جماعتُها، وأنها إذا كانت مؤمنة بأجمعها كان الإيمان حاصلاً لآحادها، ولو كفر جميعها لكان الكفر حاصلاً مع كل واحد منها.

وقد قال أحد المعتزلة يوماً وقد سمع هذا الكلام: فرقٌ بين العصمة وما ذكرت من الكفر والإيمان، وذلك أن ما ثبت لكل واحد منها فهو ثابتٌ لجماعتها، وليس كلما ثبت لجماعتها ثابتاً لكل واحد منها، فلذلك إذا آمن آحادها كان جميعها مؤمنين، وإذا كفر آحادها كان جميعها كافرين، وليس إذا ثبت العصمة لجماعتها يكون آحادها معصومين.

فقلت له: ما رأيت أعجب من أمرك وانصرافك عن مقتضي قضيتك، إذا كان ما ثبت لكل واحد من الأمة ثابتاً لجميعها فقد ثبت عندي وعندك الحكم علي كل واحد منها بجواز الخطأ والنسيان وتعمد الغلط في الأفعال والأقوال، فاحكم بثبوت ذلك لجميعها، وأسقط ما ادعيت من عصمتها! فلم يدر ما يقول بعد هذا!

ومن عجيب أمرهم وطريف رأيهم قولهم: إن الأمة معصومة وقولها حجة، وهي مفتقرةٌ مع ذلك إلي إمام، وإمامها غير معصوم ولا قوله حجة، وليس هو مفتقراً إلي إمام، وهذا من أعجب الأقوال! ومن عجيب المناقضة أن يكون لها إمام ولا يكون ارتفاع العصمة عن الإمام موجباً أن يكون له إمام، ولا يكون أيضاً غناية عن الإمام

يقتضي تميزه بالعصمة عن الأنام.

إنهم جعلوا حجتهم في عصمة الأمة وفي أن إجماعها صواب وحجة خبراً نسبوه إلي رسول الله صلي الله عليه وآله وهو أنه: لاتجتمع أمتي علي ضلالة، وهذا الخبر لايمكنهم علي أصلهم أن يدعوا فيه التواتر، إذا كان غير موجب لسامعيه علي الضرورة بصحته، فهو لامحالة من أخبار الآحاد، فهم إذاً قد جعلوا دليل الدعوي بأن الأمة لاتجتمع علي ضلال قول بعضها، والحجة علي عصمتها شهادة واحد منها، ولم يعلموا أن الخلاف في قول جميعها يتضمن الخلاف في قول بعضها، والتخطئة لسائرها يدخل في التخطئة لواحدها! وهل هم في ذلك إلا كمن ادعي الحجة بإجماع عشرة من الناس علي قول أو فعل، وجعل دليله علي ذلك قول واحد من العشرة، ولم يعلم أن المخالف له في الحجة بإجماع العشرة لم يصر إلي ذلك إلا بعد المخالفة له فيمن دون العشرة! إذ لو سلَّم الخصم قول بعضها لم يصح خلافه له في قول جميعها!

ولما رأوا أن خبرهم لايصح كونه في قسم المتواتر علي أصلهم، ولا ينصرف عن إضافته إلي أخبار الآحاد التي لاتثبت بها حجة لدعواهم، اشتد غلطهم وعظم زللهم، فأدَّاهم إلي القول بأنهم علموا صحته بالإجماع! وهذا من أعجب الأقوال! وهو في المناقضة لاحقٌ في الهذيان، لأن أصل الخلاف إنما هو في الإجماع وهل هو حجة أم لا، فكيف يكون الإجماع دليلاً لنفسه، وبرهاناً علي ما يدعي من صوابه؟! ولو جاز هذا لكانت الدعوي نفسها برهاناً والفتوي بعينها دليلاً، وهذا ما لايخفي فساده علي العقلاء.

ومما يوضح غلطهم فيه أن الدليل علي الشئ يعرف قبل معرفة الشئ، فإذا كانوا لم يعلموا أن الإجماع حجة، وإن الأمة فيما تخبر به معصومة

إلا بالخبر فقد وجب أن يكونوا عالمين بصحته قبل علمهم بأن الإجماع حجة، وإن الأمة فيما تخبر به معصومة، وإذا كانوا لم يعلموا أن الخبر صحيح إلا بالإجماع، فقد وجب أن يكونوا عالمين بأن الإجماع حجة قبل علمهم بصحة الخبر، فكيف يتقدم المؤخر ويتأخر المقدم، وهل رؤي قط أعجب من هذا الأمر؟!).

أقول: ما أوردناه من كلام العلامة الحلي والكراجكي رحمهما الله، يكفي لبيان أن مخالفينا ينقضون عملياً عصمة الأنبياء عليهم السلام التي قرروها نظرياً!

نماذج من آراء علمائهم في عصمة الأنبياء

هذه آراء بعض كبار علمائهم في عصمة الأنبياء عليهم السلام، وهي صريحة في سلب قسم من العصمة عنهم عليهم السلام، ثم تراهم يسلبون ما أقروا به منها عندما يصلون إلي الإسرائيليات التي تطعن في عصمتهم وعدالتهم عليهم السلام، والقرشيات التي تطعن في عصمة نبينا وعدالته صلي الله عليه وآله، ويؤيدونها بمتشابه الآيات!

وقد بسطنا الكلام في رأي الفخر الرازي لأنه إمام معترف به عند الأشعرية. وكذا في رأي ابن تيمية لأنه هاجم الشيعة بسبب قولهم بالعصمة التامة للأنبياء عليهم السلام وادعي إجماع السنيين علي ارتكاب الأنبياء عليهم السلام للمعاصي الصغيرة والكبيرة حتي في تبليغ الرسالة، غاية الأمر أن الله تعالي ينبههم أو يؤنبهم ويتوب عليهم!!

ولأنه انفرد بالكشف عن السبب الحقيقي لرفضهم عصمة الأنبياء عليهم السلام وهو أنها تستوجب الطعن في أبي بكر وعمر، وذلك لأن الإرتكاز الذهني يوجب التجانس بين النبي صلي الله عليه وآله وخليفته، وأبو بكر وعمر قد عبدا الأصنام مدة طويلة، فلو قبلوا أن النبي صلي الله عليه وآله معصوم لما ناسب أن يكونا خليفتيه، وستري كلامه!

رأي الغزالي

قال في المستصفي ص274: (الفصل الأول في دلالة الفعل ونقدم عليه مقدمة في عصمة الأنبياء، فنقول: لما ثبت ببرهان العقل صدق الأنبياءوتصديق الله تعالي إياهم بالمعجزات، فكل مايناقض مدلول المعجزة فهو محال عليهم بدليل العقل، ويناقض مدلول المعجزة جواز الكفر والجهل بالله تعالي وكتمان رسالة الله والكذب والخطأ والغلط فيما يبلغ، والتقصير في التبليغ والجهل بتفاصيل الشرع الذي أمر بالدعوة إليه.

أما ما يرجع إلي مقارفة الذنب فيما يخصه ولايتعلق بالرسالة فلا يدل علي عصمتهم عنه، عندنا دليل العقل، بل دليل التوقيف والإجماع قد دل علي عصمتهم عن الكبائر، وعصمتهم أيضاً عما يصغر

أقدارهم من القاذورات، كالزنا والسرقة واللواط.

أما الصغائر فقد أنكرها جماعة وقالوا: الذنوب كلها كبائر فأوجبوا عصمتهم عنها، والصحيح أن من الذنوب صغائر وهي التي تكفرها الصلوات الخمس، واجتناب الكبائر كما ورد في الخبر، وكما قررنا حقيقته في كتاب التوبة من كتاب إحياء علوم الدين.

فإن قيل: لِمَ لمْ تثبت عصمتهم بدليل العقل، لأنهم لو لم يعصموا لنَفَرَت قلوب الخلق عنهم؟!

قلنا: لايجب عندنا عصمتهم من جميع ما ينفِّر، فقد كانت الحرب سجالاً بينه وبين الكفار، وكان ذلك ينفِّر قلوب قوم عن الإيمان ولم يعصم عنه وإن ارتاب المبطلون، مع أنه حفظ عن الخط والكتابة كي لايرتاب المبطلون. وقد ارتاب جماعة بسبب النسخ، كما قال تعالي: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أعلم بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إنما أنت مُفْتَر. (النحل:101) وجماعة بسبب المتشابهات فقالوا: كان يقدر علي كشف الغطاء لو كان نبياً لخلَّص الخلق من كلمات الجهل والخلاف كما قال تعالي:فَيَتَّبِعُونَ مَاتَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ (آل عمران:7) وهذا لأن نفي المنفرات ليس بشرط دلالة المعجزة.

هذا حكم الذنوب، أما النسيان والسهو فلاخلاف في عصمتهم بما يتعلق بتبليغ الشرع والرسالة، فإنهم كلفوا تصديقه جزماً، ولايمكن التصديق مع تجويز الغلط، وقد قال قوم: يجوز عليه الغلط فيما شرعه بالإجتهاد، لكن لايقرُّ عليه، وهذا علي مذهب من يقول المصيب واحد من المجتهدين، أما من قال: كل مجتهد مصيب فلايتصور الخطأ عنده في اجتهاد غيره فكيف في اجتهاده).

وقال في المنخول ص309: (وقد تقرر بمسلك النقل كونهم معصومين عن الكبائر، وأما الصغائر ففيه تردد العلماء، والغالب علي الظن وقوعه، وإليه تشير بعض الآيات والحكايات.

هذا كلام في وقوعه، أما جوازه فقد أطبقت المعتزلة علي وجوب عصمة النبي

عليه السلام عقلاً عن الكبائر تعويلاً علي أنه يورث التنفير وهو مناقض لغرض النبوة، وهذا يبطل بكون الحرب سجالاً بينه وبين الكفار وبه اعتصم بعض اليهود في تكذيبه. والمختار ما ذكره القاضي وهو أنه لايجب عقلاً عصمتهم إذ لايستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظر العقل، وليس هو مناقضاً لمدلول المعجزة فإن مدلولها صدق اللهجة فيما يخبر عن الله تعالي، فلاجَرَمَ لايجوز وقوع الكذب فيما يخبر به عن الرب تعالي لاعمداً ولاسهواً، ومعني التنفير باطل، فإنا نُجَوِّز أن ينبِّئ الله تعالي كافراً ويؤيده بالمعجزة! والمعتزلة يأبون ذلك أيضاً.

والذين أوجبوا عصمته عن الكبيرة اختلفوا، فمنهم من قال كل مخالفة كبيرة بالنسبة إلي عظمته، فلا صغيرة أصلاً وكل مخالفة كبيرة. وهذا كما أن رفع الصوت فوق صوت من يماثل الإنسان، قد يعدُّ صغيرةً وهو بعينه في مجلس الملوك كبيرة دونه تُحَزُّ الرقاب، فللنسبة بعد تأثير في تعظيم أثر المخالفة.

والذين أثبتوا الصغيرة اضطربوا، ومثار الإضطراب في أنه هل يورث التنفير.

أما النسيان فلايجب كونه عندنا معصوماً عنه في أفعاله وأقواله، إلا فيما يخبر عن الله تعالي، لأن تجويزه مناقض مدلول المعجزة). انتهي.

أقول: لك أن تلاحظ فظاعة مذهب أتباع الخلافة في قول الغزالي: (ومعني التنفير باطل، فإنا نُجَوِّز أن ينبِّئَ الله تعالي كافراً ويؤيده بالمعجزة)!! ومعناه أن المهم عندهم في العقائد والقيم والشرائع التي يدعو إلي الرسول، هو إبلاغها للناس ليطبقوها، وليس أن يطبقها هو!

والمهم في شخصية الأنبياءوالرسل عليهم السلام ليس إيمانهم بما جاؤوا به ولا تطبيقهم له، بل نقلهم البريدي له! حتيلو كانوا فسقة فجرة كفرة، وضربوا بماأوحي اليهم عرض الجدار، فنفر الناس منهم لتناقضهم وفقدانهم المصداقية!

وهذا يضع يدنا علي تأثر علماء السلطة

القرشية بتصور اليهود عن أفعال الله تعالي وفقدانها للحكمة! وتصورهم عن أنبياءالله عليهم السلام، وأن النبوة منصب دنيوي كمنصب قضاة بني إسرائيل، ومنصب الخلافة الأموية والعباسية!

رأي الآمدي

قال في الأحكام في أصول الأحكام:1/169:

(المقدمة الأولي:في عصمة الأنبياء عليهم السلام وشرح الإختلاف في ذلك، وما وقع الإتفاق من أهل الشرائع علي عصمتهم عنه من المعاصي وما فيه الإختلاف.

أما قبل النبوة فقد ذهب القاضي أبو بكر وأكثر أصحابنا وكثير من المعتزلة إلي أنه لايمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو صغيرة، بل ولا يمتنع عقلاً إرسال من أسلم وآمن بعد كفره.

وذهبت الروافض إلي امتناع ذلك كله منهم قبل النبوة، لأن ذلك مما يوجب هضمهم في النفوس واحتقارهم والنفرة عن اتباعهم، وهو خلاف مقتضي الحكمة من بعثة الرسل، ووافقهم علي ذلك أكثر المعتزلة، إلا في الصغائر.

والحق ما ذكره القاضي لأنه لاسمع قبل البعثة يدل علي عصمتهم عن ذلك والعقل دلالته مبنية علي التحسين والتقبيح العقلي، ووجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالي، وذلك كله مما أبطلناه في كتبنا الكلامية.

وأما بعد النبوة فالإتفاق من أهل الشرائع قاطبة علي عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة علي صدقهم فيه، من دعوي الرسالة والتبليغ عن الله تعالي.

واختلفوا في جواز ذلك عليهم بطريق الغلط والنسيان، فمنع منه الأستاذ أبو إسحاق وكثير من الأئمة، لما فيه من مناقضة دلالة المعجزة القاطعة. وجوَّزه القاضي أبو بكر، مصيراً منه إلي أن ما كان من النسيان وفلتات اللسان غير داخل تحت التصديق المقصود بالمعجزة، وهو الأشبه.

وأما ما كان من المعاصي القولية والفعلية التي لادلالة للمعجزة علي عصمتهم عنها، فما كان منها كفراً فلا نعرف خلافاً بين أرباب

الشرائع في عصمتهم عنه، إلا ما نقل عن الأزارقة من الخوارج أنهم قالوا بجواز بعثة نبي علم الله أنه يكفر بعد نبوته، وما نقل عن الفضلية من الخوارج أنهم قضوا بأن كل ذنب يوجد فهو كفر، مع تجويزهم صدور الذنوب عن الأنبياءفكانت كفراً.

وأما ما ليس بكفر، فإما أن يكون من الكبائر أو ليس منها. فإن كان من الكبائر فقد اتفقت الأمة سوي الحشوية ومن جوز الكفر علي الأنبياء، علي عصمتهم عن تعمده من غير نسيان ولا تأويل، وإن اختلفوا في أن مدرك العصمة السمع، كما ذهب إليه القاضي أبو بكر والمحققون من أصحابنا، أو العقل، كما ذهب إليه المعتزلة.

وأما أن كان فعل الكبيرة عن نسيان أو تأويل خطأ، فقد اتفق الكل علي جوازه سوي الرافضة.

وأما ما ليس بكبيرة، فإما أن يكون من قبيل ما يوجب الحكم علي فاعله بالخسة ودناءة الهمة وسقوط المروءة، كسرقة خبزة أو كسرة، فالحكم فيه كالحكم في الكبيرة. وأما ما لايكون من هذا القبيل كنظرة أو كلمة سفه نادرة في حالة غضب، فقد اتفق أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة علي جوازه عمداً وسهواً خلافاً للشيعة مطلقاً، وخلافاً للجبائي والنظَّام وجعفر بن مبشر في العمد). انتهي.

وتلاحظ في رأي الآمدي تصديق قول العلامة الحلي قدس سره في نهج الحق ص159:

(واعلم أن البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط، وأنهم إن بحثوا في ذلك استعملوا الفضول، لأنهم يجوزون تعذيب المكلف علي أنه لم يفعل ما أمره الله تعالي به من غير أن يعلم ما أمره به، ولا أرسل إليه رسولاً البتة!....

فكيف يمكن للأشاعرة منع كفر النبي عليه السلام وهو من الله وكل ما يفعله تعالي فهو حسن! وكذا أنواع

المعاصي! وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه للأنبياء عليهم السلام؟! نعوذ بالله من مذهب يؤدي إلي تحسين الكفر وتقبيح الإيمان، وجواز بعثة من اجتمعت فيه كل الرذائل والسقطات. وقد عرفت من هذا أن الأشاعرة في هذا الباب، قد أنكروا الضروريات). انتهي.

رأي القاضي عياض

قال في كتابه (الشفا بتعريف حقوق المصطفي):2/172:

(فصل: قد استبان لك أيها الناظر مما قررناه ماهو الحق من عصمته(ص) عن الجهل بالله وصفاته، أو كونه علي حالة تنافي العلم شئ من ذلك كله جملة، بعد النبوة عقلاً وإجماعاً، وقبلها سماعاً ونقلاً، ولا بشئ مما قررناه من أمور الشرع، وأداه عن ربه من الوحي، قطعاً وعقلاً وشرعاً.

وعصمته عن الكذب وخلف القول، منذ نبأه الله وأرسله، قصداً أو غير قصد، واستحالة ذلك عليه شرعاً وإجماعاً ونظراً وبرهاناً، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعاً، وتنزيهه عن الكبائر إجماعاً، وعن الصغائر تحقيقاً، وعن استدامة السهو والغفلة واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته في كل حالاته من رضاً وغضب، وجد ومزح). انتهي.

أقول: بذل القاضي عياض جهده في كتابه لإظهار النبي صلي الله عليه وآله بمظهر لائق وتنزيهه عما نسبوه اليه من أخطاء ومعاص، لكنه اصطدم دائماً بالقرشيات التي ملأت الصحاح، فحاول معالجتها وتأويلها بما يحفظ رواياتها، ويحفظ مكانة النبي صلي الله عليه وآله فلم يحالفه التوفيق، كما ستري في قضة الغرانيق!

رأي الفخر الرازي

قال في المحصول:3/225: (اختلفت الأمة في عصمة الأنبياء عليهم السلام علي قولين: أحدهما، قول من ذهب إلي أنه لايجوز أن يقع منهم ذنب صغيراً كان أو كبيراً، لاعمداً ولاسهواً ولا من جهة التأويل، وهو قول الشيعة.

والإخر: قول من ذهب إلي جوازه عليهم، ثم اختلفوا فيما يجوز من ذلك وما لايجوز. والإختلاف في هذا الباب يرجع إلي أقسام أربعة:

أحدها، ما يقع في باب الإعتقاد وقد اتفقوا علي أنه لايجوز أن يقع منهم الكفر، وقالت الفضيلية من الخوارج أنه قد وقعت منهم ذنوب وكل ذنب عندهم كفر وشرك. وأجازت الشيعة إظهار الكفر علي سبيل التقية.

فأما الإعتقاد الخطأ الذي لايبلغ الكفر، مثل أن يعتقد مثلاً أن الأعراض باقية ولايكون كذلك، فمنهم من أباه لكونه منفراً، ومنهم من جوزه.

وثانيها، باب التبليغ، واتفقوا علي أنه لايجوز عليهم التغيير، وإلا لزال الوثوق بقولهم. وقال قوم يجوز ذلك من جهة السهو.

وثالثها، ما يتعلق بالفتوي، واتفقوا أيضاً علي أنه لايجوز عليهم الخطأ فيه، وجوزه قوم علي سبيل السهو.

ورابعها، مايتعلق بأفعالهم، واختلفت الأمة فيه علي أربعة أقوال:

أحدها: قول من جوَّز عليهم الكبائر عمداً. وهؤلاء منهم من قال بوقوع هذا الجائز وهم الحشوية، وقال القاضي أبو بكر: هذا وإن جاز عقلاً ولكن السمع منع من وقوعه.

وثانيها: أنه لايجوز أن يرتكبوا كبيرة ولاصغيرة عمداً، لكن يجوز أن يأتوا بها علي جهة التأويل، وهو قول الجبائي.

وثالثها: أنه لايجوز ذلك لا عمداً ولامن جهة التأويل لكن علي سبيل السهو، وهم مؤاخذون بما يقع منهم علي هذه الجهة، وإن كان موضوعاً عن أمتهم، لأن معرفتهم أقوي فيقدرون علي التحفظ عما لا يتأتَّي لغيرهم.

ورابعها: أنه لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة، وأنه قد وقعت منهم صغائر علي جهة العمد والخطأ والتأويل إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف، وهو قول أكثر المعتزلة.

والذي نقول به أنه لم يقع منهم ذنب علي سبيل القصد لاصغيراً ولاكبيراً، أما السهو فقد يقع منهم لكن بشرط أن يتذكروه في الحال وينبهوا غيرهم علي أن ذلك كان سهواً، وقد سيقت هذه المسألة في علم الكلام، ومن أراد الإستقصاء فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء، والله أعلم). انتهي.

وقال في عصمة الأنبياءص8:

[الرابع] ما يتعلق بأفعالهم وأحوالهم، وقد اختلفوا فيه علي خمسة مذاهب:

الأول: الحشوية وهو أنه يجوز عليهم الإقدام علي الكبائر والصغائر.

الثاني: أنه

لايجوز منهم تعمد الكبيرة البتة، وأما تعمد الصغيرة فهو جائز بشرط أن لا تكون منفراً، وأما أن كانت منفراً فذلك لايجوز عليهم، مثل التطفيف بما دون الحبة، وهو قول أكثر المعتزلة.

الثالث: أنه لايجوز عليهم تعمد الكبيرة والصغيرة، ولكن يجوز صدور الذنب منهم علي سبيل الخطأ في التأويل، وهو قول أبي علي الجبائي.

الرابع: أنه لايجوز عليهم الكبيرة ولاالصغيرة، لا بالعمد ولا بالتأويل والخطأ. أما السهو والنسيان فجائز، ثم إنهم يعاتبون علي ذلك السهو والنسيان لِمَا أن علومهم أكمل، فكان الواجب عليهم المبالغة في التيقظ، وهو قول أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام.

الخامس: أنه لا يجوز عليهم الكبيرة ولا الصغيرة، لا بالعمد ولا بالتأويل، ولا بالسهو والنسيان. وهذا مذهب الشيعة.

واختلفوا أيضاً في وقت وجوب هذه العصمة، فقال بعضهم: أنها من أول الولادة إلي آخر العمر، وقال الأكثرون هذه العصمة إنما تجب في زمان النبوة فأما قبلها فهي غير واجبة. وهو قول أكثر أصحابنا رحمهم الله تعالي

والذي نقول: أن الأنبياء عليهم السلام معصومون في زمان النبوة عن الكبائر والصغائر بالعمد، أما علي سبيل السهو فهو جائز.

ويدل علي وجوب العصمة وجوه خمسة عشرة:

الحجة الأولي، لو صدر الذنب عنهم لكان حالهم في استحقاق الذم عاجلاً والعقاب آجلاً أشد من حال عصاة الأمة، وهذا باطل....

الحجة الثانية، لو صدر الذنب عنهم لما كانوا مقبولي الشهادة لقوله تعالي: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا....

الحجة الثالثة، لو صدر الذنب عنهم لوجب زجرهم، لأن الدلائل دالة علي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن زجر الأنبياءعليهم الصلاة والسلام غير جائز، لقوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخرة، فكان صدور

الذنب عنهم ممتنعاً...

الحجة الرابعة، لو صدر الفسق عن محمد عليه الصلاة والسلام لكنا إما أن نكون مأمورين بالإقتداء به وهذا لايجوز، أولاًنكون مأمورين بالإقتداء به وهذا أيضاً باطل لقوله تعالي: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ....

الحجة الخامسة، لو صدرت المعصية عن الأنبياء عليهم السلام لوجب أن يكونوا موعودين بعذاب الله بعذاب جهنم، لقوله تعالي: وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ، ولكانوا ملعونين لقوله تعالي: إلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَي الظَّالِمِينَ...

الحجة السادسة، إنهم كانوا يأمرون بالطاعات وترك المعاصي، ولو تركوا الطاعة وفعلوا المعصية لدخلوا تحت قوله تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ.كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاتَفْعَلُونَ. وتحت قوله تعالي: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ...

الحجة السابعة، قال الله تعالي في صفة إبراهيم وإسحاق ويعقوب: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، والألف واللام في صيغة الجمع تفيد العموم فدخل تحت لفظ الخيرات فعل كل ما ينبغي وترك كل ما لاينبغي، وذلك يدل علي أنهم كانوا فاعلين لكل الطاعات وتاركين لكل المعاصي.

الحجة الثامنة، قوله تعالي: إِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الإخيَار.... فدلت هذه الآية علي أنهم كانوا من المصطفين الإخيار في كل الأمور...

الحجة التاسعة، قوله تعالي حكاية عن إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أجمعين، إِلاعِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. استثني المخلصين من إغوائه وإضلاله. ثم إنه تعالي شهدعلي إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أنهم من المخلصين، حيث قال: أنا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَي الدَّارِ.وقال في حق يوسف عليه السلام:إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ فلما أقر إبليس أنه لايغوي المخلصين، وشهد الله بأن هؤلاء من المخلصين، ثبت أن إغواء إبليس ووسوسته ما وصلت إليهم...

الحجة العاشرة،

قال الله تعالي: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إبليس ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إلافَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فهؤلاء الذين لم يتبعوا إبليس إما أن يقال إنهم الأنبياءأو غيرهم فإن كانوا غيرهم لزم أن يكونوا أفضل منهم....

الحجة الحادية عشرة، أنه تعالي قسم المكلفين إلي قسمين: حزب الشيطان كما قال تعالي:أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ إلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ. وحزب الله كما قال تعالي: أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ إلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. ولاشك أن حزب الشيطان هو الذي يفعل مايريد الشيطان ويأمره به، فلو صدرت الذنوب عن الأنبياءلصدق عليهم أنهم من حزب الشيطان، ولصدق عليهم قوله تعالي: إلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ، ولصدق علي الزهاد من آحاد الأمة قوله تعالي: إلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وحينئذ يلزم أن يكون واحد من آحاد الأمة أفضل بكثير من الأنبياء، ولا شك في بطلانه..

الحجة الثانية عشرة، إن أصحابنا بينوا أن الأنبياءأفضل من الملائكة، وثابت بالدلالة أن الملائكة ما أقدموا علي شئ من الذنوب، فلو صدرت الذنوب عن الأنبياءلامتنع أن يكونوا زائدين في الفضل علي الملائكة...

الحجة الثالثة عشرة، قال الله تعالي في حق إبراهيم عليه السلام:إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً، والإمام هو الذي يقتدي به، فلو صدر الذنب عن إبراهيم لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجباً. وإنه باطل.

الحجة الرابعة عشرة، قوله تعالي: لايَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، فكل من أقدم علي الذنب كان ظالماً لنفسه لقوله تعالي: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ. إذا عرفت هذا فنقول: ذلك العهد الذي حكم الله تعالي بأنه لايصل إلي الظالمين إما أن يكون هو عهد النبوة أو عهد الإمامة، فإن كان الأول فهو المقصود، وإن كان الثاني فالمقصود أظهر، لأن عهد الإمامة أقل درجة من عهد

النبوة، فإذا لم يصل عهد الإمامة إلي المذنب العاصي، فبأن لايصل عهد النبوة إليه أولي.

الحجة الخامسة عشرة، روي أن خزيمة بن ثابت الأنصاري(رض)شهد علي وفق دعوي النبي(ص)مع أنه ماكان عالماً بتلك الواقعة فقال خزيمة: إني أصدقك فيما تخبر عنه من أحوال السماء، أفلا أصدقك في هذا القدر؟! فلما ذكر ذلك صدقه النبي(ص)فيه ولقبه بذي الشهادتين، ولو كان الذنب جائزاً علي الأنبياءلكانت شهادة خزيمة غير جائزة....

ثم قال الرازي:(واعلم أن شبهات المخالفين في هذه المسألة كثيرة، ونحن نذكرها علي سبيل الإختصار...). انتهي.

ملاحظات علي كتاب عصمة الأنبياء للفخر الرازي

الملاحظة 01

أنه تأثر كثيراً بمنهج السيد المرتضي في كتابه تنزيه الأنبياء عليهم السلام الذي ألفه قبله بأكثر من قرن ونصف، بل يمكن القول إن كتاب عصمة الأنبياء عليهم السلام للرازي هو نفس كتاب تنزيه الأنبياء عليهم السلام للسيد المرتضي، مصوغاً بقلم سني!

الملاحظة 02

أن الرازي كغيره من علماء الأشعرية، يجيدون الدفاع عن الأنبياء عليهم السلام عندما يعتمدون العقل والفطرة الإنسانية، فيجئ دفاعهم قوياً متماسكاً، لكنهم عندما يصطدمون بعشرات الأحاديث الصحيحة عندهم في البخاري ومسلم وغيرهما، ينخنث كلامهم ويضطرب! فتري بعضهم يغمض بصره عن تلك الأحاديث، أو يشير اليها إشارة ويردها، وأحياناً أخري يدافع عنها، فيقع في التناقض!

فالمشكلة الأساسية التي تواجه الباحث منهم ليست الآيات المتشابهة التي يفهم من ظاهرها معصية الأنبياء عليهم السلام وتحتاج إلي تفسير أو تأويل، بل الإسرائيليات التي تثقل كاهل الصحاح في ذم الأنبياء عليهم السلام، ولا يمكن تأويلها!

نعم إن العقبة الكأداء هي القرشيات التي روتها مصادرهم في ذم نبينا صلي الله عليه وآله وربطتها بالآيات المتشابهة وفسرتها بها، أو جعلتها سبباً لنزولها كذباً وزوراً!

وقلما تجد من علمائهم صاحب شجاعة، يتقرب إلي الله تعالي ويتخطي هذه الموانع دفاعاً عن نبينا صلي الله عليه وآله وأنبياءالله عليهم السلام!

لاحظ ما قاله الرازي في ص72، في قصة نبي الله داود عليه السلام:(فاعلم أن الذي أقطع به عدم دلالة هذه الآية علي صدور الكبيرة من داود عليه السلام. وبيانه من وجوه:

الأول، أن الذي حكاه المفسرون عن داود وهو أنه عشق امرأة أوريا فاحتال حتي قتل زوجها فتزوجها، لايليق بالأنبياء، بل لو وصف به أفسق الملوك لكان منكراً.

الثاني، أن الدخول في دم أوريا أعظم من التزوج بامرأته، فكيف ترك الله الذنب الأعظم

واقتصر علي ذكر الإخف؟!

الثالث، أن السورة من أولها إلي آخرها في محاجة منكري النبوة، فكيف يلائمها القدح في بعض أكابر الأنبياءبهذا الفسق القبيح؟!

الرابع، أن الله تعالي وصف داود عليه السلام في ابتداء القصة بأوصاف حميدة، وذلك ينافي ما ذكروه في الحكاية.....!

فإن قلت: إن كثيراً من المحدثين روي هذه الحكاية!

قلت: هذه الدلائل الباهرة لما أبطلت قولهم وجب القطع بفسادها، فالعجب اتفاق الناس علي أن خبر الواحد لايفيد إلا الظن، والظن إنما ينتفع به في العمليات وهذه المسألة ليست من العمليات، فصارت روايتهم ساقطة العبرة من كل الوجوه....وعن سعيد بن المسيب والحارث الأعور أن علياً(رض)قال:من حدثكم بحديث داود عليه السلام علي ما يرويه القٌصَّاص جلدته مأتين وستين وهو حد الفرية علي الأنبياء عليهم السلام. وروي أن واحداً ذكر ذلك الخبر عند عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة علي ما في كتاب الله تعالي فما ينبغي أن نلتمس خلافها، وإن كان علي ما ذكرت وكفَّ الله عنها ستراً علي نبيه فيما ينبغي إظهار ما عليه. فقال عمر: سماعي هذا الكلام أحب إلي مما طلعت الشمس عليه). انتهي.

فأنت تري أن الرازي أجاد، لأنه جري في كلامه علي مقتضي العقل والفطرة، وردَّ إسرائيليات رواة السلطة، لأنها تنافي عصمة نبي الله داود عليه السلام.

لكنه لايملك هذه الشجاعة إذا وصل إلي القرشيات التي يستوجب ردها أن يضرب برواية البخاري عرض الجدار، مع أن البخاري دخل في الرواة الذين هاجمهم! حيث تبني اتهام رواة الإسرائيليات لداود عليه السلام! قال في:4/134: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ.....إِنَّ هَذَا أخي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً..... يقال للمرأة نعجة، ويقال

لها أيضاً شاة...الخ.)! انتهي.

ومعني هذا أن البخاري تبني كل إسرائيليات السلطة، لأنها كلها مبنية علي أن المقصود بتسع وتسعين نعجة: تسعٌ وتسعون امرأة!!

ومن تأثير قداسة البخاري علي الرازي أنه قال بتنزيه الأنبياء عليهم السلام وساق حججه التي رأيت بعضها، لكنه غض بصره عن أحاديث البخاري وغيره التي تنسبهم إلي المعاصي، ولم يؤولها ولم يردها!

لقد أطال في ص28 وما بعدها في الدفاع عن نبي الله إبراهيم عليه السلام، فقال عن الآيات التي تمسكوا بها في اتهامه بالكفر والكذب: (تمسكوا بها من وجوه تسعة: الأولي: قوله تعالي حاكياً عن إبراهيم عليه السلام:قَالَ هَذَا رَبِّي، فلا يخلو إما أن يقال إنه قال هذا الكلام في النظر والإستدلال أو قبل البلوغ أو بعده....

والأصح من هذه الأقوال أن ذلك علي وجه الإعتبار والإستدلال لا علي وجه الأخبار، ولذلك فإن الله تعالي لم يذم إبراهيم عليه السلام علي ذلك، بل ذكره بالمدح والتعظيم، وأنه أراه ذلك كي يكون من الموقنين، هذا هو البحث المشهور في الآية، وفيها أبحاث أخر من حيث أن بعض الملاحدة قال إن إبراهيم استدل علي الشئ بما لايدل عليه وذكر أشياء لا تصح، فكان الطعن متوجهاً، ونحن نذكر كل واحد من تلك الأسئلة الأربعة عشرة مع جوابه....). انتهي.

وقد تقدم قول الرازي: (الحجة الثالثة عشرة: قال الله تعالي في حق إبراهيم عليه السلام: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً، والإمام هو الذي يقتدي به، فلو صدر الذنب عن إبراهيم لكان اقتداء الخلق به في ذلك الذنب واجباً. وإنه باطل). انتهي.

فهل فاته أنه بذلك يطعن فيما رواه البخاري عن الأنبياء عليهم السلام؟!

رأي ابن تيمية و مشبهة الحنابلة في عصمة الأنبياء

ابن تيمية يهاجم الشيعة لقولهم بعصمة الأنبياء

قال في منهاج سنته:1/473: (وأما الرافضة فأشبهوا النصاري، فإن الله تعالي أمر

الناس بطاعة الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا به، ونهي الخلق عن الغلو والإشراك بالله تعالي، فبدلت النصاري دين الله تعالي فغلوا في المسيح فأشركوا به وبدلوا دينه.....

وكذلك الرافضة غَلَوْا في الرسل بل في الأئمة حتي اتخذوهم أرباباً من دون الله، فتركوا عبادة الله وحده لاشريك له التي أمرهم بها الرسل، وكذبوا الرسل فيما أخبروا به من توبة الأنبياءواستغفارهم)! انتهي.

يقصد بذلك أن الشيعة كذبوا الرسل في أن الأنبياء عليهم السلام قد ارتكبوا المعاصي وتابوا، وذلك لأن الشيعة يكذبون الإسرائيليات في مصادر الخلافة القرشية التي تنسب إلي الأنبياء عليهم السلام المعاصي، فتكذيبها عنده يعتبر تكذيباً للرسل وكفراً!!

السبب الغريب لهجوم ابن تيمية علي العصمة

كشف ابن تيمية عن سبب حملته علي الشيعة لتنزيههم الأنبياء عليهم السلام!

فقد تخيل أن غرضهم من ذلك الطعن بأبي بكر وعمر، لأن عقيدة العصمة التامة تجعل المعاصي فضيلة وارتكابها منقصة، وأبو بكر وعمر كانا كافرين قبل الإسلام يرتكبان المعاصي، فيكون ذلك منقصة فيهما، فلا يستحقان مقام الخلافة عن النبي المعصوم عصمة تامة!.

لذا رأي ابن تيمية أنه يجب الدفاع عن أبي بكر وعمر، وذلك برفض عقيدة العصمة التامة للأنبياء عليهم السلام، والقول بأنهم كانوا قبل النبوة مثل أبي بكر وعمر كفاراً يرتكبون المعاصي ثم تابوا، ثم بجعل الكافر ومرتكب المعصية التائب أفضل من غير مرتكبها!!

قال في منهاج سنته: 2/429: (وأما ما تقوله الرافضة من أن النبي قبل النبوة وبعدها لايقع منه خطأ، ولاذنب صغير وكذلك الأئمة، فهذا مما انفردوا به عن فرق الأمة كلها، وهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، ومن مقصودهم بذلك القدح في إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لكونهما أسلما بعد الكفر، ويدعون أن علياً(رض)لم يزل مؤمناً، وأنه لم

يخطئ قط ولم يذنب قط، وكذلك تمام الإثني عشر. وهذا مما يظهر كذبهم وضلالهم فيه لكل ذي عقل يعرف أحوالهم! ولهذا كانوا هم أغلي الطوائف في ذلك وأبعدهم عن العقل والسمع....

ونكتة أمرهم أنهم ظنوا وقوع ذلك من الأنبياءوالأئمة نقصاً، وإن ذلك يجب تنزيههم عنه، وهم مخطئون إما في هذه المقدمة وإما في هذه المقدمة.

أما المقدمة الأولي فليس من تاب إلي الله تعالي وأناب إليه بحيث صار بعد التوبة أعلي درجة مما كان قبلها، منقوصاً ولا مغضوضاً منه، بل هذا مفضَّلٌ عظيمٌ مكرمٌ، وبهذا ينحل جميع ما يوردونه من الشبه). انتهي!!

ثم أفاض ابن تيمية بذكر فضائل من يعصي ويتوب، فقال في منهاجه2/430:

(وفي الصحيحين عن النبي(ص)من غير وجه أنه قال: لله أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته بأرض دويِّة مهلكة، عليها طعامه وشرابه، فقال (من القيلولة) تحت شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ إذا بدابته عليها طعامه وشرابه! فكيف تجدون فرحه بها؟ قالوا: عظيماً يا رسول الله. قال: لله أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا براحلته..... فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصاً بما كان من الذنب الذي تاب منه، وقد صار بعد التوبة خيراً مما كان قبل التوبة، فهو جاهل بدين الله تعالي وما بعث الله به رسوله)!!.

ثم تنازل ابن تيمية قليلاً، فقال: (ولسنا نقول إن كل من أذنب وتاب فهو أفضل ممن لم يذنب ذلك الذنب، بل هذا يختلف باختلاف أحوال الناس! فمن الناس من يكون بعد التوبة أفضل، ومنهم من يعود إلي ما كان ومنهم من لا يعود إلي مثل حاله. والأصناف الثلاثة فيهم من هو أفضل ممن لم يذنب ويتب، وفيهم من هو مثله، وفيهم من

هو دونه). انتهي.

ومعني كلامه أن الكافر مرتكب المعصية إذا تاب، قد يكون أحياناً خيراً ممن لم يكفر ولم يرتكب المعصية!

ثم قال: (بل أقوال هؤلاء الذين غلوا بجهل من الأقوال المبتدعة في الإسلام (بقولهم بالعصمة التامة) وهم قصدوا تعظيم الأنبياءبجهل، كما قصدت النصاري تعظيم المسيح وأحبارهم ورهبانهم بجهل، فأشركوا بهم واتخذوهم أرباباً من دون الله)!

ثم ارتكب ابن تيمية مصادرة واضحة فاستدل علي معاصي الأنبياء عليهم السلام بما رووه من الإسرائيليات، وبظواهر بعض الآيات المتقدمة! قال في منهاجه2/435:

(بل كتب التفسير والحديث والآثار والزهد وأخبار السلف مشحونةٌ عن الصحابة والتابعين بمثل ما دل عليه القرآن (أي ارتكاب الأنبياءللمعاصي!) وليس فيهم من حرَّف الآيات كتحريف هؤلاء، ولا من كذب بما في الأحاديث كتكذيب هؤلاء، ولا من قال هذا يمنع الوثوق أو يوجب التنفير ونحو ذلك، كما قال هؤلاء)!

وقال: (وأما المسائل المتقدمة فقد شرك غير الإمامية فيها بعض الطوائف إلا غلوهم في عصمة الأنبياءفلم يوافقهم عليه أحد أيضاً، حيث ادعوا أن النبي (ص)لايسهو، فإن هذا لايوافقهم عليه أحد فيما علمت، اللهم إلا أن يكون من غلاة جهال النساك، فإن بينهم وبين الرافضة قدراً مشتركاً في الغلو وفي الجهل والإنقياد لما لا يعلم صحته، والطائفتان تشبهان النصاري في ذلك)!

وقال في:2/393: (فصل: وأما قوله وإن الأنبياءمعصومون من الخطأ والسهو والمعصية صغيرها وكبيرها من أول العمر إلي آخره، وإلا لم يبق وثوق بما يبلغونه فانتفت فائدة البعثة ولزم التنفير عنهم.

فيقال: أولاً، إن الإمامية متنازعون في عصمة الأنبياء.... ثم يقال ثانياً قد اتفق المسلمون عليأنهم معصومون فيما يبلغونه عن الله فلايجوز أن يقرَّهم علي الخطأ في شئ مما يبلغونه عنه، وبهذا يحصل المقصود من البعثة، وأما وجوب

كونه قبل أن يبعث نبياً لايخطئ أو لايذنب، فليس في النبوة ما يستلزم هذا).

لاحظ قوله: (لايجوز أن يقرَّهم علي الخطأ في شئ مما يبلغونه عنه) فهو صريح في أن الأنبياءقد يخطئون حتي بعد البعثة في التبليغ عن الله تعالي! غاية الأمر أن الله لايقرهم علي الخطأ بل يوبخهم ويصحح لهم، وذلك لتبرير زعم قريش أن النبي صلي الله عليه وآله زاد في القرآن وكفر، ومدح الأصنام في سورةالنجم بأنهن الغرانيق العلي، وشفاعتهن ترتجي، فنزل جبرئيل ووبخه وصحح له!

ثم قال في:2/397 (والله تعالي قد أخبر أنه يبدل السيئات بالحسنات للتائب، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، ومعلوم أن الصحابة رضي الله عنهم من عهد الرسول(ص)وقبل أن يصدر منهم مايدعونه من الأحداث، كانوا من خيار الخلق، وكانوا أفضل من أولادهم الذين ولدوا بعد الإسلام). انتهي.

وبذلك كشف ابن تيمية عن هدفه وغرضه، وهو أن يثبت أن كفر أبي بكر وعمر ومعاصيهما قبل الإسلام، وكذا معاصي بعض الصحابة بعد الإسلام، لاتنقص من درجتهم، ولا تجعل درجة عليٍّ عليه السلام والنبي صلي الله عليه وآله لعصمتهما التي يدعيها الشيعة، وعدم عبادتهما للأصنام، أرفع من درجة الصحابة!

ثم تمادي ابن تيمية فاعتبر أن القول بعصمة الأنبياءالتامة هو حرمان للأنبياء عليهم السلام من الوقوع في المعاصي والفوز بالتوبة وثوابها العظيم!! قال في نفس الموضع:

(وأيضاً: فوجوب كون النبي لايتوب إلي الله فينال محبة الله وفرحه بتوبته وترتفع درجته بذلك، ويكون بعد التوبة التي يحبه الله منه خيراً مما كان قبلها، فهذا مع ما فيه من التكذيب للكتاب والسنة، غض من مناصب الأنبياءوسلبهم هذه الدرجة، ومنع إحسان الله إليهم وتفضله عليهم بالرحمة والمغفرة.

ومن اعتقد أن كل من لم يكفر

ولم يذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره وتاب بعد ذنبه، فهو مخالف ماعلم بالإضطرار من دين الإسلام! فإنه من المعلوم أن الصحابة الذين آمنوا برسول الله(ص)بعد كفرهم وهداهم الله به بعد ضلالهم، وتابوا إلي الله بعد ذنوبهم أفضل من أولادهم الذين ولدوا علي الإسلام!

وهل يُشَبِّهُ بني الأنصار بالأنصار، أو بني المهاجرين بالمهاجرين إلا من لا علم له!!....... وقد قال عمر بن الخطاب(رض)إنما تنقض عري الإسلام عروة عروة، إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية)!! انتهي.

فالنبي عند ابن تيمية إذا ذاق طعم الكفر والجرائم والمعاصي مثل أبي بكر وعمر، يكون أقرب إلي الله تعالي! والذين يقولون بعصمة النبي عليه السلام وعدم صدور المعاصي منه فقد نقصوه حقه وحرموه من النعمة العظيمة التي لاتتحقق إلا بالكفر أو بالمعاصي وهي فرحة الله بتوبته، والتي فاز بها أبو بكر وعمر!

وهكذا يظهر لك أن مكانة أبي بكر وعمر عنده هي حجر الزاوية في هندسة عقائده(الإسلامية)! وأنه لايخجل في سلب العصمة عن جميع الأنبياء عليهم السلام ورميهم بالكفر والمعاصي حتي بعد النبوة، من أجل مساواتهم بأبي بكر وعمر! والتفضل عليهم بدرجة التوبة العظيمة التي نالها أبو بكر وعمر بتوبتهما من كفرهما ومعاصيهما!

وقد واصل ابن تيمية خطبة الجمعة في مقام التائبين من جرائمهم، وكيف أن الله تعالي يمحوها بل يبدلها حسنات، ثم قال في:2/400:(وكذلك من اتفق أن شرب السم فسقي ترياقاً فاروقاً يمنع نفوذ سائر السموم فيه، كان بدنه أصح من بدن من لم يشرب ذلك الترياق. والذنوب إنما تضر أصحابها إذا لم يتوبوا منها. فهذا وأمثاله من خيار تأويلات المانعين لما دل عليه القرآن من توبة الأنبياءمن ذنوبهم واستغفارهم، وزعمهم أنه لم يكن هناك

مايوجب توبة ولااستغفار ولاتفضل الله عليه بمحبته وفرحه بتوبتهم ومغفرته ورحمته لهم. فكيف بسائر تأويلاتهم التي فيها من تحريف القرآن وقول الباطل علي الله، ما ليس هذا موضع بسطه!

وقال: (والمقصود هنا أن الذين ادعوا العصمة مما يتاب منه، عمدتهم أنه لو صدر منهم الذنب لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة، لأن درجتهم أعلي فالذنب منهم أقبح، وأنه يجب أن يكون فاسقاً فلا تقبل شهادته، وأنه حينئذ يستحق العقوبة فلا يكون إيذاؤه محرماً وأذي الرسول محرم بالنص، وأنه يجب الإقتداء بهم ولايجوز الإقتداء بأحد في ذنب. ومعلوم أن العقوبة ونقص الدرجة إنما يكون مع عدم التوبة، وهم معصومون من الإصرار).

ثم ذكر عدداً من أدعية النبي صلي الله عليه وآله مستدلاً بها علي أنها دليل علي صدور الذنوب الصغيرة والكبيرة منه صلي الله عليه وآله والعياذ بال له، وإن ذلك لم يكن ينفر المسلمين منه!

ثم ختم كلامه بقوله:2/408: (وهذا عمر بن الخطاب(رض)قد علم تعظيم رعيته له وطاعتهم، مع كونه دائماً كان يعترف بما يرجع عنه من خطأ، وكان إذا اعترف بذلك وعاد إلي الصواب زاد في أعينهم وازدادوا له محبة وتعظيماً.... فعلم أن التوبة والإستغفار (من المعاصي) لاتوجب تنفيرأولاًتزيل وثوقاً)!!

دفاع ابن تيمية عن اليهود و عن أسطورة الغرانيق

قال في منهاج سنته::2/409: (وما أعلم أن بني إسرائيل قدحوا في نبي من الأنبياءبتوبته في أمر من الأمور! وإنما كانوا يقدحون فيهم بالإفتراء عليهم كما كانوا يؤذن موسي عليه السلام، وإلا فموسي قد قتل القبطي قبل النبوة، وتاب من سؤال الرؤية، وغير ذلك بعد النبوة، وما أعلم أحداً من بني إسرائيل قدح فيه بمثل هذا. وما جري في سورة النجم من قوله:(تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتها لترتجي) علي المشهور عند السلف والخلف من

أن ذلك جري علي لسانه ثم نسخه الله وأبطله، هو من أعظم (الردود)علي قول هؤلاء...

والعصمة المتفق عليها أنه لا يُقَرُّ علي خطأ في التبليغ بالإجماع، ومن هذا فلم يعلم أحد من المشركين نفر برجوعه عن هذا، وقوله إن هذا مما ألقاه الشيطان. ولكن روي أنهم نفروا لما رجع إلي ذم آلهتهم بعد ظنهم أنه مدحها، فكان رجوعهم لدوامه علي ذمها، لا لأنه قال شيئاً ثم قال إن الشيطان ألقاه. وإذا كان هذا لم ينفر، فغيره أولي أن لا ينفر)!!

ابن تيمية يجوز أن يكون النبي كافرا فاسقا شريرا

وأخيراً صرح ابن تيمية بمذهبه وإن لفه بلفافة! فقال بعدم عصمة الأنبياءمطلقاً وأن الله تعالي يمكن أن يبعث نبياً كافراً أو فاسقاً قبل النبوة، أو يصير كافراً فاسقاً بعدها. وهو بذلك يجري مع رواسب أشعريته في إنكار الحسن والقبح العقليين، وإنكار لزوم الحكمة في أفعال الله تعالي! قال في منهاجه:2/413:

(ومما يبين الكلام في مسألة العصمة أن تعرف النبوة ولوازمها وشروطها، فإن الناس تكلموا في ذلك بحسب أصولهم في أفعال الله تعالي، إذْ كان جعل الشخص نبياً رسولاً من أفعال الله تعالي، فمن نفي الحِكَم والأسباب في أفعاله وجعلها معلقةً بمحض المشيئة، وجوَّز عليه فعل كل ممكن، ولم ينزهه عن فعل من الأفعال، كما هو قول الجهم بن صفوان وكثير من الناس كالأشعري ومن وافقه من أهل الكلام من أتباع مالك والشافعي وأحمد وغيرهم من مثبتة القدر، فهؤلاء يجوِّزون بعثة كل مكلف! والنبوة عندهم مجرد إعلامه بما أوحاه إليه! والرسالة مجرد أمره بتبليغ ما أوحاه إليه! والنبوة عندهم صفة ثبوتية ولامستلزمة لصفة يختص بها، بل هي من الصفات الإضافية كما يقولون، مثل ذلك في الأحكام الشرعية. وهذا قول طوائف من أهل الكلام كالجهم بن

صفوان والأشعري وأتباعهما، ولهذا من يقول بها كالقاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما يقول إن العقل لايوجب عصمة النبي إلا في التبليغ خاصة، فإن هذا هو مدلول المعجزة! وما سوي ذلك إن دل السمع عليه، وإلا لم تجب عصمته منه.

وقال محققوا هؤلاء كأبي المعالي وغيره إنه ليس في السمع قاطع يوجب العصمة، والظواهر تدل علي وقوع الذنوب منهم! وكذلك كالقاضي أبي بكر إنما يثبت مايثبته من العصمة في غير التبليغ إذا كان من موارد الإجماع، لأن الإجماع حجة، وما سوي ذلك فيقول لم يدل عليه عقل ولا سمع.

وإذا احتج المعتزلة وموافقوهم من الشيعة عليهم بأن هذا يوجب التنفير ونحو ذلك فيجب من حكمة الله منعهم منه، قالوا هذا مبني علي مسألة التحسين والتقبيح العقليين ونحن نقول لايجب علي الله شئ ويحسن منه كل شئ! وإنما ننفي ما ننفيه بالخبر السمعي، ونوجب وقوع ما يقع بالخبر السمعي أيضاً، كما أوجبنا ثواب المطيعين وعقوبة الكافرين لإخباره أنه يفعل ذلك، ونفينا أن يغفر لمشرك لإخباره أنه لايفعل ذلك، ونحو ذلك. وكثير من القدرية المعتزلة والشيعة وغيرهم ممن يقول بأصله في التعديل والتجوير، وأن الله لايفضل شخصاً علي شخص إلا بعمله، يقول إن النبوة أو الرسالة جزاءٌ علي عمل متقدم فالنبي فَعَل من الأعمال الصالحة ما استحق به أن يجزيه الله بالنبوة، وهؤلاء القدرية في شق، وأؤلئك الجهمية الجبرية في شق). انتهي.

إن اعتراف ابن تيمية هذا، لايقف عند تجويزه أن يكون النبي كافراً فاسقاً شريراً! بل يصل إلي نفي الحكمة عن الله تعالي في أفعاله وأقواله!

وهذا هو نفس معبود التوراة الذي قال التلمود في وصفه: (سمع الله يئن كما تئن الحمامة ويبكي وهو يقول: الويل

الويل لمن أخرب بيته....وَيْلِي علي ما أخربت من بيتي! ويْلي علي ما فرقت من بنيَّ وبناتي)! (الفصل لابن حزم:1/1/222)

البخاري ينقض عصمة الأنبياء و يفتري عليهم

صحيح البخاري مشحون بالإسرائيليات التي تطعن في الأنبياء و أسوأ منها القرشيات التي تطعن في نبينا

نبي الله إبراهيم يكذب

مضافاً إلي ما تقدم، نورد هنا عدداً من افتراءات البخاري علي الأنبياء عليهم السلام!

فقد نسب إلي نبي الله إبراهيم عليه السلام في:4/112و113، وكرر ذلك في:6/121، أنه كذب ثلاث كذبات، اثنتان لله، وواحدة لغير الله! قال: (لم يكذب ابراهيم عليه السلام إلا ثلاث كذبات ثنتين منهن في ذات الله عز وجل، قوله: إِنِّي سَقِيمٌ، وقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا! وقال بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتي علي جبار من الجبابرة فقيل له إن ههنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس فأرسل إليه فسأله عنها فقال من هذه؟ قال: أختي)!

وروي في:5/226: أن ابراهيم عليه السلام يستحي من ربه يوم القيامه أن يشفع للناس بسبب كذباته الثلاث! وكرر ذلك في:5/225و:7/203و:8/172و183،و192،و201!!

نبي الله موسي غضوب بطاش

وفي:2/92، روي ما يقوله اليهود حرفياً في نبي الله موسي عليه السلام ووضعه علي لسان نبينا صلي الله عليه وآله، مثل أن موسي كان قوي الشخصية والبدن وقد غضب علي ملك الموت ولطمه ففقأ عينه وأرسله إلي السماء أعور باكياً شاكياً! فعالجه الله تعالي وأعاده ليقبض روح موسي عليه السلام! واحتاج عزرئيل إلي استعمال الحيلة مع موسي فأعطاه تفاحة مسمومة، فشمها موسي فمات!!

قال البخاري: (باب من أحب الدفن في الأرض المقدسة... أرسل ملك الموت إلي موسي فلما جاءه صكه! فرجع إلي ربه فقال: أرسلتني إلي عبد لايريد الموت! فرد الله عز وجل عليه عينه وقال: إرجع فقل له يضع يده علي متن ثور، فله بكل ما غطت به يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب ثم ماذا؟ قال: ثم الموت. قال: فالأن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال قال رسول الله (ص) فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلي جانب

الطريق عند الكثيب الأحمر)! وكرر البخاري هذا الحديث المزعوم في:4/130، فقال: (باب وفاة موسي وذكره بعد...(كذا)! وحذف منه جملة (ففقأ عينه)، التي أثبتها مسلم:7/99!!

قال ابن حجر في فتح الباري:6/315: (صكه: أي ضربه علي عينه، وفي رواية همام عن أبي هريرة عند أحمد ومسلم: جاء ملك الموت إلي موسي فقال أجب ربك فلطم موسي عين ملك الموت ففقأها!

وفي رواية عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة عند أحمد والطبري:كان ملك الموت يأتي الناس عياناً فأتي موسي فلطمه ففقأ عينه.....وفي رواية عمار: فقال يا رب عبدك موسي فقأ عيني، ولولا كرامته عليك لشققت عليه)!!

نبي الله موسي يركض عاريا وراء ثيابه

روي البخاري قصة (ثوبي حجر) التي يزعم فيها اليهود أن نبي الله موسي عليه السلام كان يغتسل ووضع ثيابه علي حجر، فركض الحجر هارباً بثيابه، وركض موسي وراءه عارياً، ورآه بنو إسرائيل! فغضب موسي علي الحجر وأخذ ثيابه منه وضربه بعصاه!

وزعموا أن ذلك كان بتدبير الله تعالي لكي يبرئ موسي عليه السلام من اتهام بني إسرائيل له بأن له أُدْرَة! وكأن تبرئة الله تعالي لنبيه عليه السلام لاتتم إلا بإهانته!

قال البخاري:4/129: (فوضع ثيابه علي الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل إلي ثيابه ليأخذها وإن الحجر عدا بثوبه فأخذ موسي عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول ثوبي حجر! ثوبي حجر! حتي انتهي إلي ملأ من بني إسرائيل فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر فأخذ ثوبه فلبسه وطفق بالحجر ضرباً بعضاه! فوالله إن بالحجر لندباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فذلك قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاتَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَي فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً). انتهي.

وكرره البخاري هذا الحديث

علي عادته بمثله أو بنحوه في:6/28 و:1/73!

نبي الله سليمان مفرط في الجنس، معرض عن ذكر الله

وروي البخاري في:3/209 عن سليمان عليه السلام: (قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة علي مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله! فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل! والذي نفس محمد بيده لوقال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون)! وكرره البخاري بنحوه:4/136و:6/160!

البخاري يروي تفضيل نبينا علي الرسل والبشر

قال في:5/225: (قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون ممَّ ذلك؟ يجمع الناس الأولين والإخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لايطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون ما قد بلغكم، ألا تنظرون من يشفع لكم إلي ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض عليكم بآدم فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، إشفع لنا إلي ربك، ألا تري إلي ما نحن فيه، ألا تري إلي ما قد بلغنا؟

فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله! ولن يغضب بعده مثله! وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، إذهبوا إلي غيري إذهبوا إلي نوح!!

فيأتون نوحاً فيقولون يا نوح إنك أنت أول الرسل إلي أهل الأرض وقد سماك الله عبداً شكوراً، إشفع لنا إلي ربك، ألا تري إلي ما نحن فيه؟

فيقول: إن ربي عز وجل قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها علي قومي. نفسي نفسي نفسي! إذهبوا إلي غيري، إذهبوا إلي إبراهيم!!

فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي

الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلي ربك، ألا تري إلي ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله! وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات، فذكرهن أبو حيان في الحديث، نفسي نفسي نفسي! إذهبوا إلي غيري إذهبوا إلي موسي!! فيأتون موسي فيقولون ياموسي أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه علي الناس، إشفع لنا إلي ربك، ألا تري إلي ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي! إذهبوا إلي غيري، إذهبوا إلي عيسي! فيأتون عيسي فيقولون ياعيسي أنت رسول الله وكلمته، ألقاها إلي مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبياً، إشفع لنا إلي ربك، ألا تري إلي ما نحن فيه؟ فيقول عيسي: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله!! ولم يذكر ذنباً، نفسي نفسي نفسي! إذهبوا إلي غيري إذهبوا إلي محمد!!

فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياءوقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، إشفع لنا إلي ربك، ألا تري إلي ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه علي أحد قبلي، ثم يقال يا محمد إرفع رأسك سل تعطه، واشفع تشفَّع، فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب أمتي يا رب، فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لاحساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوي ذلك، من الأبواب

ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وحمير، أو كما بين مكة وبصري). انتهي.

ونحن نعتقد بتفضيل نبينا وآله صلي الله عليه وآله علي الخلق كلهم، لكنا لانقبل حديث أبي هريرة المذكور، لأنه مصوغً من جو الإسرائيليات والمسيحيات عن غضب الله تعالي، وعن اعترافات أنبيائه بمعاصيهم إلا عيسي عليهم السلام!

ونطمئنُّ بأن البخاري أورده لا لكي يمدح النبي صلي الله عليه وآله فهو لايتردد في تفضيل بقية الأنبياءعليه صلي الله عليه وآله حتي يونس عليه السلام! بل ليثبت فضيلة لأمته التي في طليعتها طلقاء قريش! وحيثما وجدنا مدحاً لأمة النبي صلي الله عليه وآله فينبغي لنا أن نفحصه حتي لايكون موضوعاً، أو يكون كلمة حق أريد بها باطل!

ثم يتراجع البخاري و يفضل نبي الله موسي علي نبينا لكنه يفضل قريشا علي اليهود

روي صحيحه:8/48: روي أن نبي الله موسي رغم عيوبه يبقي أفضل من نبينا صلي الله عليه وآله، لأنه يفيق قبله من نفخة الصور يوم القيامة، أو يستثني منها أصلاً، لأنه أصيب بالصعقة في طور سيناء فكفته عن صعقة الصور!

قال البخاري: (قال (ص): لاتخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسي أخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي، أم جزي بصعقة الطور)!! انتهي. وكرر ذلك في:3/88، و:4/ 126و131و133، و:5/196، و:6/34، و:7/193، و:8/177!

كما روي سبباً آخر لتفضيل موسي علي نبينا صلي الله عليه وآله هو أن موسي عليه السلام كان أوسع صدراً، فقد تحمل من بني إسرائيل أكثر مما تحمل نبينا صلي الله عليه وآله من قريش! قال في:4/130: (قسم النبي(ص) قسماً فقال رجل: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فأتيت النبي(ص)فأخبرته، فغضب حتي رأيت الغضب

في وجهه، ثم قال: يرحم الله موسي قد أوذي بأكثر من هذا، فصبر)! وكرره في:5/106و:7/87 و96و143و153!

وبهذا تكون قريش أفضل من اليهود لأنها لم تؤذ نبيها صلي الله عليه وآله كما آذت اليهود موسي عليه السلام! ولهذا يبكي موسي عليه السلام يوم القيامة لتفضيل أمة محمد علي أمته!

قال البخاري:4/249 عن لسان النبي صلي الله عليه وآله يصف معراجه: (فلما خلصت فإذا موسي قال هذا موسي فسلِّمْ عليه فسلمتُ عليه فردَّ ثم قال: مرحباً بالإخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكي! قيل له: ما يبكيك؟ قال أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر من يدخلها من أمتي)!

وينبغي أن تعرف أن تعبير(غلاماً) عن النبي صلي الله عليه وآله تعبير يهودي فهم يزعمون أن الله تعالي جعل إسماعيل وذريته عبيداً لأبناء إسحاق!!

وهكذا يحرص البخاري علي إرضاء ولي نعمته المتوكل العباسي في تبرئة القرشيين وتفضيلهم، حتي لو استوجب ذلك تنقيص مقام النبي صلي الله عليه وآله!

و يفضل عيسي علي نبينا

رواه البخاري مرة واحدة لأن روايته مسيحية وليست إسرائيلية! قال في:4/94: (قال النبي(ص): كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد، غير عيسي بن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب)!! انتهي.

ومعني هذا الحديث المزعوم غريب قد يعرفه البخاري والقساوسة، فما معني أن الشيطان يطعن في جنب المولود، وهل يتسلط عليه بهذه الطعنة بإصبعه؟ وما معني أنه أراد أن يطعن في جنبيَّ عيسي عليه السلام فذهبت طعنة إصبعه في الحجاب، ولم تصل إلي أحد جنبيه؟ وما هو ذلك الحجاب، ولماذا خص الله به عيسي من دون الرسل والبشر، حتي نبينا صلي الله عليه وآله؟!

و يروي النهي عن تفضيل الأنبياء علي بعضهم

قال الله تعالي:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ). (البقرة:253)

(وَإِذْ أخذ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَي ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ). (آل عمران:81) فقد نصَّت الآيات الكريمة علي تفاضل الرسل عليهم السلام، وأجمع المسلمون علي تفضيل نبينا صلي الله عليه وآله علي الجميع، ورواه البخاري كما رأيت.

لكن البخاري نقض ما رواه من تفضيل نبينا صلي الله عليه وآله من جهة!

ثم خالف القرآن فروي قاعدة تحريم تفضيل الأنبياء عليهم السلام علي بعضهم!

ثم نقض هذه القاعدة فروي تفضيل موسي علي نبينا صلي الله عليه وآله كما رأيت!!

قال البخاري:4/132: (عن

أبي هريرة قال: بينما يهودي يعرض سلعته، أعطي بها شيئاً كرهه فقال: لا والذي اصطفي موسي علي البشر، فسمعه رجل من الأنصار فقام فلطم وجهه وقال: تقول والذي اصطفي موسي علي البشر، والنبي بين أظهرنا؟! فذهب إليه فقال أبا القإسم إن لي ذمة وعهداً فما بال فلأن لطم وجهي؟! فقال: لم لطمتَ وجهه؟ فذكره، فغضب النبي(ص)حتي رؤي في وجهه! ثم قال: لاتفضلوا بين أنبياءالله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخري فأكون أول من بعث، فإذا موسي أخذ بالعرش، فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي! ولا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متي!). انتهي.

فهذا الحديث المزعوم صريح في أن النبي صلي الله عليه وآله وقف إلي جانب اليهودي الذي زعم أن الله تعالي اصطفي موسي علي البشر، وأنه صلي الله عليه وآله خَطَّأ المسلم الذي زعم أن الله اصطفي النبي صلي الله عليه وآله علي البشر!!

بل زاد في آخره النهي عن تفضيله صلي الله عليه وآله علي نبي الله يونس! وروي بعده مباشرة: (عن النبي(ص)قال: لاينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متي)!

وكرر حديث النهي عن تفضيل أحد علي يونس بصيغ مختلفة في أكثر من عشرة مواضع في:4/125و132بروايتين، و:5/193و:6/30 و:8/213، و:5/185و:6/31 وفي الإخيرتين: من قال أنا خير من يونس بن متي فقد كذب! والمقصود به أن لايفضل أحد نبينا صلي الله عليه وآله علي يونس عليه السلام!

أما السبب فهو تعريض القرشيين بنبينا صلي الله عليه وآله وأنه كيونس لم يصبر علي قومه بل ذهب مغاضباً منهم، وهاجر إلي المدينة واستعان عليهم بالأنصار!

وإلا

فلا معني لروايته أصلاً، أو روايته في سياق تفضيل موسي علي نبينا صلي الله عليه وآله!!

الانبياء عند البخاري عصبيون كما في التوراة

روي البخاري أن الأنبياء عليهم السلام غير معصومين عن الغضب المفرط انتقاماً لأنفسهم! في حديثين في نبي قرصته نملة، فغضب وأحرق قرية النمل بالنار، قال في:4/22: (قرصت نملة نبياً من الأنبياءفأمر بقرية النمل فأحرقت، فأوحي الله إليه إن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح الله)!! وكرره في:4/100!!

قرشيات البخاري في الطعن بنبينا أسوأ من إسرائيلياته

عندما يصل البخاري إلي نبينا صلي الله عليه وآله تنضم قرشياته إلي إسرائيلياته، وتتعاونان في طعن قريش المبطن في عصمة نبينا صلي الله عليه وآله وشخصيته!!

تزعم هذه الفِرَي القرشية أن النبي صلي الله عليه وآله من الأساس لم يكن علي يقين من بعثته، بل كان في شك وحيرة! ثم لما أطمأن بنبوته وتأخر عليه الوحي، قرر أن ينتحر!!

وهو ثانياً، غير معصوم حتي في تبليغ رسالة ربه، فقد غلبه الشيطان فخان الرسالة وغيَّر القرآن واستبدل ذم أصنام قريش اللات والعزي ومناة بمدحها، وسجد لها هو والمشركون، فعبد الأصنام وكفر برب العالمين!

وهو ثالثاً، ليس أفضل من أنبياءبني إسرائيل، فموسي علي عيوبه ومعاصيه أفضل منه، ويونس علي تركه لقومه ومغاضبته خير منه، وعيسي خير منه!!

وهو رابعاً، عصبي المزاج سئ الإخلاق مع المسلمين، غير مسدد في منطقه، ولذا ينطق عن الهوي ويسب ويشتم ويلعن بغير حق، وهو غير مسدد في عمله فقد يؤذي ويجلد الناس ظلماً وعدواناً!

وهو خامساً، ساذج ضعيف الشخصية والتدبير، يقع في أخطاء فظيعة، فيصححها له عمر وينزل الوحي موبخاً له مؤيداً لعمر!

وهو سادساً، ظلم قريشاً في بدر وأخذ منهم أسري بغير حق، وأخذ من الأسري فدية حتي أطلقهم، فعاقبه الله بهزيمته وكسر رباعيته في أحد!

وهو سابعاً، غير مسدد في حكمه وقضائه بين المسلمين، فقد يقضي لشخص بالباطل لأنه حاذق في

كلامه!

وهو ثامناً، ينهي عن الأمر ويرتكبه، فقد نهي المسلمين عن التمني وقول (لو) لكنه تمني وقالها مرات!

وهو تاسعاً، صاحب ذهن عادي، ينسي كثيراً، فقد نسي أنه جُنُب لم يغتسل وبدأ في صلاته! وقد نسي عدد ركعات الصلاة ونقَّص منها! وقد أخطأ في قراءة القرآن في صلاته فصححها له بدوي!

وهو عاشراً، غلب عليه المرض في آخر حياته فأخذ يهذي وطلب من المسلمين أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً يؤمِّنهم من الإختلاف والضلال إلي يوم القيامة، فرفض ذلك عمر وقال نبيكم غلب عليه الوجع، وأيده أكثر الحاضرين، ومنعوه من كتابة ذلك العهد!

كما كان يغمي عليه في مرضه ويفيق، فأحس بأنهم يريدون أن يسقوه دواء إذا أغمي عليه (يَلِدُّوه)، فنهاهم عن ذلك فلم تسمع كلامه عائشة وحفصة كلامه ولدَّتاه، فلما أفاق غضب عليهم وأمرهم أن يشربوا من ذلك الدواء كلهم، إلا بني هاشم!

وأخيراً تقول عائشة إنه سُحِرَ ففقد ذاكرته، وبقي لستة أشهر مسحوراً يخيَّلُ إليه أنه فعل الشئ وهو لم يفعله، وأنه أتي زوجته ولم يأتها!

روايات البخاري المشينة في سلوك نبينا

أما إذا وَصَلَ الحديث إلي سلوك النبي الشخصي صلي الله عليه وآله، فتري في البخاري الأعاجيب! فهو مفرط في الجنس، يأتي نساءه التسعة في ليلة واحدة، ويباشر زوجته وهي حائض، ويتبذَّل تبذلاً لايناسب وجيهاً اجتماعياً عادياً، فيبول وهو واقف، ويستقبل ضيوفه وهو مضطجع، ويستمع الغناء، ويشرب النبيذ!

أما عمر بن الخطاب فكان محافظاً أكثر منه، حيث قال له أحجب نساءك فلم يفعل، فأنزل الله آية الحجاب، وأمره بما أمره به عمر!

وتجد في البخاري أنه صلي الله عليه وآله كان مغرماً بزوجة له اسمها عائشة، يفضلها علي كل زوجاته، فكان يستمع معها الغناء من جاريتين

تغنيان لهما، ويحملها علي كتفه ويضع خده علي خدها لتشاهد من شباك الغرفة رقص الأحباش، ويأخذها معه في غزواته، وربما ترك جيشه وسابقها، وقد سبقها مرة وسبقته مرة، فتعادلا!

وقد روت عنه عائشة مئات الأحاديث، فيها قصص حياتهما الشخصية، مما لايناسب زوجين مسلمين محافظين!!

إلي غير ذلك من مطاعن البخاري في نبينا صلي الله عليه وآله التي لو أفضنا فيها لخرجنا عن قصد هذا الكتاب، فنكتفي بالتعداد، وتفصيل بعضها!

البخاري يفتتح صحيحه بالطعن في نبوة نبينا

صدَّر البخاري صحيحه بحديث بدء الوحي وكرره في أجزاء كتابه مرات، فروي عن عائشة أن النبي صلي الله عليه وآله لم يبعث نبياً في جوٍّ واضح، ولا رأي جبرئل بالأفق المبين كما قال تعالي:وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ. وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ. وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ.وَلَقَدْ رَآهُ بِالآفُقِ الْمُبِينِ. وَمَا هُوَعَلَي الْغَيْبِ بِضَنِينٍ. وَمَا هُو بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ. إِنْ هُوَإِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ. لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ.وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ). (التكوير:17-29)

يقول البخاري كلا! فقد كان الأفق غائماً وكانت النبوة مشكوكة! والذي جاء للنبي صلي الله عليه وآله أشبه بكابوس منه بملَك، وكان تعامله معه وحشياً! فقد أمره أن يقرأ، ولم يقبل عذره بأنه لايعرف القراءة، فغطه غطاً عنيفاً ثلاث مرات!! أي أمسكه، وخبزه بالأرض، وعجنه!!

والأهم من ذلك أن النبي صلي الله عليه وآله لم يعرف جبرئيل، ولا فهم كلامه ولا ما يريده منه! وعاد إلي منزله في مكة مرعوباً فشكي إلي زوجته خديجة عليها السلام فطمأنته، لكنها بقيت هي في شك! فأخذت زوجها إلي ورقة بن نوفل، وهو قسيس عجوز من قبيلتها بني زهرة، وعرضت عليه مشكلة زوجها،

فسأله ورقة وأجابه، فطمأنه بأن الذي جاءه هو حبرئيل، وأنه فعلاً قد بعث نبياً!!

لكن النبي صلي الله عليه وآله لم يطمئن، خاصة بعد أن انقطع عنه الوحي! فقرر أن يلقي بنفسه من رأس جبل شاهق وينتحر! وذهب مراراً إلي رؤوس الجبال، لكنه كلما ذهب إلي رأس جبل لينتحر، كان جبرئيل يأتيه ويمنعه من ذلك!!

قال بخاري في صحيحيه:8/67: (باب التعبير وأول ما بدئ به رسول الله(ص)من الوحي.. عن عائشة أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم فكان لايري رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، فكان يأتي حِرَاء فيتحنَّث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك، ثم يرجع إلي خديجة فتزوده لمثلها، حتي فجأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: إقرأ، فقال له النبي(ص): ما أنا بقارئ، قال فأخذني فغطني حتي بلغ مني الجَهد! ثم أرسلني فقال:إقرأ! فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتي بلغ مني الجهد! ثم أرسلني فقال: إقرأ! فقلت:ما أنا بقارئ فغطني الثالثة حتي بلغ مني الجهد! ثم أرسلني فقال: إقرأ باسم ربك! ثم أرسلني فقال: إقرأ بإسم ربك الذي خلق، حتي بلغ ما لم يعلم.

فرجع بها ترجف بوادره حتي دخل علي خديجة فقال: زمِّلوني زمِّلوني، فزمَّلوه حتي ذهب عنه الروع! فقال يا خديجة مالي؟! وأخبرها الخبر وقال: قد خشيت علي نفسي! فقالت له: كلا، أبشر فوالله لايخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين علي نوائب الحق.

ثم انطلقت به خديجة حتي أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي، وهو ابن عم خديجة أخو أبيها، وكان امرأً تنصَّر

في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبري فيكتب بالعربية من الإنجيل ماشاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم إسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: ابنَ أخي ماذا تري؟ فأخبره النبي(ص)ما رأي فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل علي موسي، يا ليتني فيها جذعاً أكون حياً حين يخرجك قومك؟ فقال رسول الله: أو مُخرجيَّ هم؟ فقال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقه أن توفي!

وفتر الوحي فترة حتي حزن النبي(ص) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردي من رؤس شواهق الجبال، فكلما أوفي بذروة جبل لكي يلقي منه نفسه تبدي له جبريل فقال يامحمد إنك رسول الله حقاً، فيسكن لذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك! فإذا أوفي بذروة جبل تبدَّي له جبريل فقال له مثل ذلك)!!

نعم لقد افتتح البخاري بهذه الخرافة:1/2 وكررها في:4/124، و6/88!!

غرانيق قريش و محاولات التغطية علي البخاري

الغرانيق جمع غرنوق، وهو طائر أبيض من طيور الماء يشبه الكركي، يعلو في طيرانه. وقد شبهت به قريش أصنامها الخاصة بها: اللات والعزي ومُناة، ووصفتها بالغرانيق العلي، لأن مقامها عند الله بزعمهم مقامٌ عال كطائر الغرنوق! (النهاية:3/364، والعين:4/458، ولسان العرب:10/287).

قال الرازي في تفسيره:24/12:(والغرانيق تصعد في الجو جداً عند الطيران، فإن حجب بعضها عن بعض ضباب أو سحاب، أحدثت عن أجنحتها حفيفاً مسموعاً يلزم به بعضها بعضاً، فإذا نامت علي جبل فإنها تضع رؤوسها تحت أجنحتها، إلا القائد فإنه ينام مكشوف الرأس، فيسرع انتباهه وإذا سمع جرساً صاح). انتهي.

وقد كان موقف النبي صلي الله عليه وآله من الأصنام

من أول بعثته موقفاً صريحاً حاسماً لامساومة فيه، رافضاً لها كلها، داعياً إلي عبادة رب العالمين وحده لاشريك له، وكانت سور القرآن تتوالي مهاجمةً الأصنام وعُبَّادها، مسفهةً أحلامهم، حتي قال القرشيون: إن محمداً قد سب آلهتنا وسفه أحلامنا!

في ذلك الجو نزلت سورة النجم بعد أكثر من عشرين سورة من القرآن، كلها صريحة في رفض الأصنام، ومنها سورة الكافرون، وقل هو الله أحد! لكن سورة النجم تميزت بأنها ذمَّت أصنام قريش الثلاثة بأسمائها، فقال الله تعالي: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الإخرَي.أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثي. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَي. إِنْ هِيَ إِلاأَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاالظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَي. (19-23) فكان ذلك إعلاناً بتسفيه أصنام قريش (اللات والعزي ومناة) وإسقاطها إلي الأبد!

ومن الطبيعي أن يكون تأثير ذلك علي قريش كبيراً، وأن يثير كبرياءها وردة فعلها العنيف، وهذا ما حدث بالفعل حتي وصلت إلي قرار قتل النبي صلي الله عليه وآله، فأنجاه الله بالهجرة.

في هذا السياق القطعي من السيرة لايمكننا أن نفسير قصة الغراني إلا بأنها ردة فعل قرشية، وأن أصلها أن أحد المشركين القرشيين أجاب علي ذم أصنام قريش في سورة النجم: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخري، أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثي، تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَي، إِنْ هِيَ إِلاأَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاالظَّنَّ وَمَاتَهْوَي الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَي. فقام بتحريفها إلي مدح للأصنام وقال:أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ تلك الغرانيق العلي، وإن شفاعتهن لترجي! فأعْجَبَ ذلك القرشيين وتمنوا لو أن القرآن قال هذا المديح في آلهتهم، بدل ذمها وذمهم!

ومن

المؤكد أن قصة الغرانيق وضعها رواة قريش بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله، ولم يكن لها عين ولا أثر في سيرته صلي الله عليه وآله في مكة، وإلا لرفعها المشركون علماً، وطبَّل بها اليهود وزمَّروا!

لكن السؤال ما هو غرض طلقاء قريش من ترويج هذه القصة بعد وفاة النبي صلي الله عليه وآله ونسبتها اليه مع أن أصنامهم انتهت وهدمت، وتبرؤوا منها ودخلوا في الإسلام تحت السيف ثم رضوا به؟!

الجواب: أن الغرض منها إثبات أن النبي صلي الله عليه وآله لم يكن معصوماً عصمة مطلقة حتي تكون كل تصرفاته وأقواله حجة، بل كان يخطئ حتي في تبليغ الوحي! وبذلك يمكن تبريرمخالفة الخلفاء والسلطة لأوامره صلي الله عليه وآله!

فالمهم عندهم تبرير مخالفةالنبي صلي الله عليه وآله وليكن ثمن ذلك قصة الغرانيق التي تزعم أنه صلي الله عليه وآله ارتكب خيانة في نص القرآن والعياذ بالله، وكفَر ومدَح أصنام قريش لكي ترضي عنه، وسجد لها وسجد معه مشايخ قريش وكل من كان في المسجد، وزاد البخاري أن كل الإنس والجن سجدوا يومها!!

وزادت الرواية المزعومة أن زعماء قريش طاروا فرحاً بخيانة النبي صلي الله عليه وآله في نص القرآن، وطبيعي أن يطير المستشرقون فرحاً بهذه القصة!!

وأخيراً المرتد سلمان رشدي والحكومات الغربية!!

البخاري يروي فرية الغرانيق في ست مواضع

روي البخاري:2/32: (عن عبدالله(رض)قال قرأ النبي(ص)النجم بمكة فسجد فيها وسجد من معه، غير شيخ أخذ كفاً من حصي أو تراب ورفعه إلي جبهته وقال يكفيني هذا، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً...

وعن عبد الله(رض)أن النبي(ص)قرأ سورة النجم فسجد بها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفاً من حصي أو تراب فرفعه إلي وجهه وقال يكفيني هذا،

فلقد رأيته بعد قتل كافراً...

وعن ابن عباس(رض)أن النبي(ص)سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس! ورواه ابن طهمان عن أيوب).

وفي:4/239: (عن عبد الله(رض)قال: قرأ النبي(ص)النجم فسجد، فما بقي أحد إلاسجد إلا رجل رأيته أخذ كفاً من حصي فرفعه فسجد عليه وقال: هذا يكفيني، فلقد رأيته بعد قتل كافراً بالله). وفي:5/7: بنحوه.

وفي:6/52: (قال فسجد رسول الله(ص)وسجد من خلفه إلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، وهو أمية بن خلف). انتهي. فهذه ست روايات رواها البخاري علي الأقل.

ورواه مسلم بنحوه في:2/88، ورواه في:6/52، وسمي الذي سجد بأنه أمية بن خلف).

وقال الحاكم في المستدرك:1/221: (عن عبد الله قال: أول سورة قرأها رسول الله صلي الله عليه وآله علي الناس الحج، حتي إذا قرأها سجد فسجد الناس، إلا رجل أخذ التراب فسجد عليه فرأيته قتل كافراً. هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين بالإسنادين جميعاً، ولم يخرجاه إنما اتفقا علي حديث شعبة عن أبي إسحاق عن الأسود عن عبد الله أن النبي صلي الله عليه وآله قرأ والنجم، فذكره بنحوه، وليس يعلل أحد الحديثين الإخيرين، فإني لاأعلم أحداً تابع شعبة علي ذكره النجم، غير قيس بن الربيع. والذي يؤدي إليه الإجتهاد صحة الحديثين، والله أعلم).

ومعني كلام الحاكم: أنه كان الأولي بالبخاري ومسلم أن يرويا السجود في سورة الحج لأنها أصح، ولكنهما تركاها ورويا السجود في سورة النجم!!

وقال البيهقي في سننه:2/314:(عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي(ص) سجد فيها يعني والنجم، وسجد فيها المسلمون والمشركون والجن والإنس. رواه البخاري في الصحيح عن أبي معمر وغيره عن عبد الوارث.

وصححه في مجمع الزوائد:7/115، قال: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي...عن ابن

عباس فيما يحسب سعيد بن جبير، أن النبي(ص)كان بمكة، فقرأ سورة والنجم حتي انتهي إلي: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخري،فجري علي لسانه: تلك الغرانيق العلي الشفاعة منهم ترتجي. قال: فسمع بذلك مشركو أهل مكة فسرُّوا بذلك فاشتدَّ علي رسول الله(ص)فأنزل الله تبارك وتعالي:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ إلا إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ. رواه البزار والطبراني... ورجالهما رجال الصحيح، إلا أن الطبراني قال: لا أعلمه إلا عن ابن عباس عن النبي(ص)وقد تقدم حديثٌ مرسل في سورة الحج أطول من هذا، ولكنه ضعيف الإسناد).

ويقصد بالحديث المرسل الحديث الذي يضعفه بابن لهيعة وقد وثقه عدد من علمائهم، وله شواهد صحيحة تجعله حسناً، وهو في مجمع الزوائد: 7/70، وفيه:

(حين أنزل الله السورة التي يذكر فيها والنجم إذا هوي، فقال المشركون: لوكان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه، فإنه لا يذكر أحداً ممن خالف دينه من اليهود والنصاري بمثل الذي يذكر به آلهتنا من الشتم والشر. فلما أنزل الله السورة التي يذكر فيها والنجم وقرأ: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخري، ألقي الشيطان فيها عند ذلك ذكر الطواغيت، فقال: وإنهم من الغرانيق العلي وإن شفاعتهم لترتجي، وذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك، وذلقت بها ألسنتهم واستبشروا بها، وقالوا: إن محمداً قد رجع إلي دينه الأول ودين قومه، فلما بلغ رسول الله (ص)آخر السورة التي فيها النجم سجد وسجد معه كل من حضره من مسلم ومشرك، غير أن الوليد بن المغيرة كان كبيراً فرفع ملء كفه تراب فسجد عليه، فعجب الفريقان كلاهما من جماعتهم في السجود لسجود رسول

الله(ص)، فأما المسلمون فعجبوا من سجود المشركين من غير إيمان ولا يقين، ولم يكن المسلمون سمعوا الذي ألقي الشيطان علي ألسنة المشركين. وأما المشركون فاطمأنت أنفسهم إلي النبي(ص)وحدثهم الشيطان أن النبي (ص)قد قرأها في السجدة فسجدوا لتعظيم آلهتهم، ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتي بلغت الحبشة! فلما سمع عثمان بن مظعون وعبدالله بن مسعود ومن كان معهم من أهل مكة أن الناس أسلموا وصاروا مع رسول الله(ص)، وبلغهم سجود الوليد بن المغيرة علي التراب علي كفه، أقبلوا سراعاً! فكبُر ذلك علي رسول الله(ص)فلما أمسي أتاه جبريل عليه السلام فشكا إليه، فأمره فقرأ له، فلما بلغها تبرأ منها جبريل! وقال: معاذ الله من هاتين ما أنزلهما ربي ولا أمرني بهما ربك! فلما رأي ذلك رسول الله(ص)شق عليه وقال: أطعتُ الشيطان وتكلمتُ بكلامه وشرَّكني في أمر الله! فنسخ الله ما يلقي الشيطان وأنزل عليه:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ إلا إذا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وإن الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ). الحج:52-53 فلما برأه الله عز وجل من سجع الشيطان وفتنته، انقلب المشركون بضلالهم وعداوتهم. فذكر الحديث وقد تقدم في الهجرة إلي الحبشة. رواه الطبراني مرسلاً وفيه ابن لهيعة، ولا يحتمل هذا من ابن لهيعة).

وقد أورد السيوطي قصة الغرانيق بعدة طرق بعضها صحيح في الدر المنثور:4/194وقال في ص366: (وأخرج البزار، والطبراني، وابن مردويه، والضياء في المختارة بسند رجاله ثقات، من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: إن رسول الله(ص)قرأ: أفرأيتم اللات والعزي ومنات الثالثة الأخري تلك الغرانيق العلي

وإن شفاعتهن لترتجي! ففرح المشركون بذلك وقالوا: قد ذكر آلهتنا. فجاء جبريل فقال: إقرأ علي ما جئتك به، فقرأ: أفرأيتم اللات والعزي ومناة الثالثة الأخري تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهن لترتجي! فقال: ما أتيتك بهذا! هذا من الشيطان فأنزل الله:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ إلا إذا تَمَنَّي..إلي آخر الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، بسند صحيح عن سعيد بن جبير...!!). انتهي.

بهذا يتبين لك أن حديث الغرانيق أو الآيات الشيطانية رواها البخاري ومسلم وغيرهما بأسانيد صحيحة، فكل هؤلاء يتحملون وزرها! ويتبين لك بطلأن دعوي من قال إن الواقدي تفرَّد بها وأن الصحاح لم تروِها!!

ويتبين لك مصيبة أن بعض الحفاظ يكذبون ليغطوا علي البخاري!!

قال ابن كثير في تفسيره: قد ذكر كثير من المفسرين هنا قصة الغرانيق وما كان من رجوع كثير من مهاجرة الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا، ولكنها من طرق كلها مرسلة، ولم أرها من وجه صحيح.

وقال القسطلاني في شرح البخاري: وقد طعن في هذه القصة وسندها غير واحد من الأئمة حتي قال ابن إسحاق وقد سئل عنها: هي من وضع الزنادقة. وقال القاضي عياض: إن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولارواه أحد بسند متصل، وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب المتلقفون عن الصحف كل صحيح وسقيم)!

ونقل عن أبي بكر بن العربي الإمام المالكي: إن جميع ما ورد في هذه القصة لا أصل له)!! (هامش عصمة الأنبياءللرازي ص94).

وذكر عبد الله النعيم في كتابه الإستشراق في السيرة النبوية- نشرالمعهد العالمي للفكر الإسلامي1417، أن المصادرَ التي روت حديث الغرانيق هي: طبقات ابن سعد:1/205، وتاريخ الطبري:2/226، وتاريخ

ابن الأثير:2/77، وسيرة ابن سيد الناس:1/157. وقال في ص97: (يعتبر الواقدي أول من روج لهذه الفرية، ثم أخذها عنه ابن سعد والطبري وغيرهم).

ونقل في ص93 نقد القرضاوي في كتابه كيف نتعامل مع السنة النبوية، وجاء فيه: (ومعني هذا أن تفهم السنة في ضوء القرآن، ولهذا كان حديث الغرانيق مردوداً بلا ريب، لأنه منافٍ للقرآن). انتهي.

وقال في ص98: (ولم يروِ ابن إسحاق وابن هشام هذه الواقعة إطلاقاً. ومهما يكن من أمر فالواقدي هو أصلها. إن ما يدعو للتساؤل هو: كيف أمكن تمرير هذه الواقعة مع علم أصحابها بعصمة الرسل؟!). انتهي.

ثم نقل نقد القاضي عياض في كتابه الشفا لحديث الغرانيق سنداً ومتناً.

وكلامهم يشبه بعضه في تبرئة البخاري من الغرانيق!! ولكن عدداً منهم يعرفون أن البخاري روي فرية الغرانيق بأكثر من رواية، وروتها صحاحهم بطرق متعددة، يكثر فيها الإسناد الصحيح!

غاية الأمر أن البخاري ومن شاكله حذفوا منها إسم الغرانيق وأبقوا سجود النبي صلي الله عليه وآله المزعزم بعد مدحه لأصنام قريش وسجود المشركين معه، وقد سموا من زعماء المشركين الذين سجدوا أمية بن خلف، وأبا أحيحة وهو سعيد بن العاص! وهم يعرفون أن سجود المشركين بعد سماع القرآن لم ينقله مصدر علي الإطلاق، في أي قصة علي الإطلاق، إلا قصة الغرانيق!

لذلك من حقنا أن نشك في أمانة النافين لرواية البخاري والصحاح لها، كالذين تقدم كلامهم، وكالفخر الرازي عندما قال في تفسيره:23/49:

(وأيضاً فقد روي البخاري في صحيحه أن النبي(ص)قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق! وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق)!!

تناقض الفخر الرازي في حديث الغرانيق

وقد بحث الفخر الرازي هذه الفرية في كتابه عصمة

الأنبياء عليهم السلام وفي تفسيره:23/49، فدافع عن النبي صلي الله عليه وآله ونفاها عنه، ودافع عن البخاري وغيره من صحاحهم! ثم عاد في أواخر تفسيره واتهم بها النبي صلي الله عليه وآله!!

قال في عصمة الأنبياء عليهم السلام ص93:

(الشبهة الثانية:تمسكوا بقوله تعالي:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ إِلاإِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَايُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. قالوا إن ظاهر الآية يدل علي أن الشيطان ملقٍ في قراءة الأنبياء عليه السلام ما يؤدي إلي الشبهة، فإذا جوَّزنا ذلك ارتفع الوثوق!

روي أنه(ص)شقَّ عليه ما رأي من مباعدتهم عما جاءهم به، فتمني في نفسه أن يأتيه من الله تعالي ما يقارب بينه وبين قومه، وذلك لحرصه علي إيمانهم، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله، وأحب يومئذ أن لا يأتيه شئ من الله فينفروا عنه، وتمني ذلك فأنزل الله تعالي: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي، فقرأ رسول الله(ص): أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخري، ألقي الشيطان علي لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه: تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهن لترتجي! فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضي رسول الله(ص)في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها، فسجد المسلمون وسجد جميع من في المسجد من المشركين، فلم يبق في المسجد مؤمن ولاكافر إلا سجد، إلا الوليد بن المغيرة، وأبو أحيحة سعيد بن العاص، فإنهما أخذا حفنةً من البطحاء ورفعاها إلي جبهتهما وسجدا عليها، لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود!

وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر! فلما أمسي رسول الله(ص)أتاه جبريل عليه السلام وقال: ما ذا صنعت؟ تلوت علي الناس ما

لم آتك به عن الله، وقلت ما لم أقل لك؟! فحزن رسول الله (ص)حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كثيراً، فأنزل الله هذه الآية)!!

الجواب الذي يدل علي أنه عليه السلام ما غير ومابدل وجوه خمسة:

الأول: قوله تعالي:وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ، لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ. الثاني: وَ إِذَا تُتْلَي عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لايَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَي إِلَيَّ. الثالث: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَريَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا. وَ لَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قليلاً. الرابع: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا. الخامس: قوله: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَي.

وإذا ثبت ما ذكرناه فلنشرع في الجواب عن الشبهة فنقول:

التمني، جاء في اللغة لأمرين: أحدهما تمني القلب، والثاني التلاوة، قال الله تعالي:وَمِنْهُمْ أمِّيُّونَ لايَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاأَمَانِيَّ، أي إلا قراءة...

إذا عرف ذلك فنقول: من المفسرين من حمل الآية علي تمني القلب، والمعني أن النبي متي تمني بقلبه بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلي ما لاينبغي، ثم إن الله تعالي ينسخ ذلك ويبطله، ويأتيه بما يرشده إلي ترك الإلتفات إلي وسوسته.

وهذا ضعيف، لأنه لوكان كذلك لم يكن مايخطر بباله فتنة للكفار، وذلك يبطله قوله تعالي: لِيَجْعَلَ مَايُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيد.. الآية: فثبت أن المراد بالتمني القراءة، ثم اختلف الذاهبون إلي هذا التأويل علي وجوه....

فإن قلت: لعله قد ذكر ذلك استفهاماً علي سبيل الإنكار؟

قلت: هب أنه كذلك لكن قراءته في

أثناء قراءة القرآن مع كونه علي ذلك الوزن توهم كونه منه، فيعود المحذور المذكور.

أما السهو فغير جائز أيضاً، لأنه لو جاز وقوع السهو هاهنا لجاز في غيره وحينئذ ترتفع الثقة بالشرع! ولأن الساهي لايجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ مطابقة لوزن هذه السورة وطريقتها ومعناها، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتي يتفق فيه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها.

الثالث، أن يكون الشيطان أجبر النبي(ص)علي التكلم، وهذا أيضاً فاسدٌ لوجوه ثلاثة......

الخامس، أن المتكلم بذلك بعض الكفرة، فإنه عليه الصلاة والسلام لما انتهي من قراءة هذه السورة إلي هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها، فقال بعض من حضر من الكفار:تلك الغرانيق العلا، فاشتبه علي القوم، لأنهم كانوا يلغطون عند قراءته ويكثرون من الكلام طلباً لتغليطه وإخفاء قراءته. وممكن أن يكون أيضاً في الصلاة لأنهم كانوا يقربون منه في حال الصلاة ويسمعون قراءته ويلغون فيها، وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا تلا القرآن علي قريش توقف في فصول الآيات، فألقي بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الواقعات فتوهم القوم أنه من قراءته عليه الصلاة والسلام، ثم أضاف الله ذلك إلي الشيطان لأنه بوسوسته حصل، أو لأنه جعل ذلك المتكلم شيطاناً.....

ولقائل أن يقول: إذا جوزتم أن يتكلم الشيطان في أثناء كلام الرسول عليه الصلاة والسلام بما يشتبه علي كل السامعين حتي يظنوه كلاماً لرسول الله (ص) بقي هذا الإحتمال في كل ما يتكلم به الرسول(ص)فتفضي إلي ارتفاع الوثوق عن كل الشرع!

الجواب: أن ذلك الإحتمال قائم، ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله تعالي أن يشرح الحال فيه كما في هذه

الواقعة إزالة للتلبيس.....

السادس، أن المراد بالغرانيق الملائكة، وقد كان ذلك قرآنا منزلاً في وصف الملائكة، فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته)!!. انتهي.

والتهافت في دفاع االرازي واضح، فقد نفي أولاًأن يكون النبي صلي الله عليه وآله غيَّر أو بدَّل في قراءته فقال:(الجواب الذي يدل علي أنه عليه السلام ماغيَّر ومابدَّل...)، لكنه عاد وفسر آية:ألْقَي الشَّيْطَان فِي أمْنِيَّتِه، بذلك! وضعَّف الإحتمالات التي تنزه النبي صلي الله عليه وآله أو سكت عنها، كالوجه الخامس الذي استفاده من الشريف المرتضي!

أما في تفسيره الكبير، فقد بدأ قوياً في استدلاله، لكنه ضعف في ختام كلامه، وعاد إلي تبني اتهام قومه القرشيين للنبي صلي الله عليه وآله، وينبغي أن تعرف أن الفخر الرازي قرشئ تيمي، من عشيرة أبي بكر وقيل من ذريته!

قال في الجزء 23/49: (المسألة الثانية: ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول(ص)لما رأي إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأي من مباعدتهم عما جاءهم به تمني....الي آخر ما ذكره في كتاب العصمة، ثم قال:

هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.

أما القرآن فوجوه...وأورد الآيات المتقدمة وغيرها، ثم قال:

وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وصنف فيه كتاباً.

وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم.

وأيضاً فقد روي البخاري في صحيحه أن النبي(ص)قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق. وروي

هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها البتة حديث الغرانيق. وأما المعقول فمن وجوه:

أحدها: أن من جوز علي الرسول(ص)تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.

وثانيها: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلي ويقرأ القرآن عند الكعبة آمناً أذي المشركين له حتي كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلاً أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم

وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا علي حقيقة الأمر فكيف أجمعوا علي أنه عظم آلهتهم حتي خروا سجداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.

ورابعها: قوله: فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ، وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوي من نسخه بهذه الآيات التي تبقي الشبهة معها، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً، أولي.

وخامسها: وهو أقوي الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالي: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه. فبهذه الوجوه عرفنا علي سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة. أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها، لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لايعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة...). انتهي.

أقول: إلي هنا يبدو الرازي منسجماً، فقد وافق محمد بن

إسحاق صاحب السيرة علي أن القصة فريةٌ من وضع الزنادقة القرشيين علي النبي صلي الله عليه وآله بأنه مدحَ أصنامهم وسجد لها، وسجد معه القرشيون، وكل من في المسجد!

لكن الرازي دخل مدخلاً صعباً في الدفاع عن البخاري وبقية مصادرهم التي روتها بطرق متعددة وصححتها! وادعي أن البخاري لم يرو حديث الغرانيق، مع أنه رواه وحذف منها إسم الغرانيق، كما رأيت!

ثم دخل الرازي مدخلاً أصعب في تفسير قوله تعالي:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلا إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)، لأنه اقتفي أثر مفسري السلطة القرشية وحبس نفسه بتفسير أُمْنِيَّتِهِ بذهن النبي صلي الله عليه وآله وقراءته للقرآن!

بينما التمني أمر ذهني، لكن الأمنيَّة قد تكون ذهنية، وقد تكون خارجية، وهي في الآية خارجية، وإلقاء الشيطان إنما هو في الأمنيَّة الخارجية، وليس في ذهن النبي صلي الله عليه وآله:

ونلاحظ أن كلام الرازي الطويل بلا طائل، فقد قال:

(ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين: أحدهما: تمني القلب والثاني: القراءة)...

ثم أخذ في تعداد الإحتمالات علي تفسير الأمنية بالقراءة، وردها جميعاً فقال: (فهذه الوجوه المذكورة في قوله تلك الغرانيق العلا قد ظهر علي القطع كذبها، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة. وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمني القلب فالمعني أن النبي(ص)متي تمني بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلي ما لا ينبغي، ثم إن الله تعالي ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلي ترك الإلتفات إلي وسوسته، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة علي وجوه.... واختار منها الرابع، وختم بقوله:

(ورابعها: معني الآية إذا تمني

إذا أراد فعلاً مقرباً إلي الله تعالي ألقي الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلي الله تعالي في ذلك وهو كقوله تعالي: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ. وكقوله: وأما يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ.

ومن الناس من قال لايجوز حمل الأمنية علي تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله(ص)فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالي: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ. والجواب: لايبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار. فهذا آخر القول في هذه المسألة). انتهي.

وبذلك ختم الرازي بتبني الفرية علي النبي صلي الله عليه وآله بأنه يتمني فيلقي الشيطان في ذهنه فينشغل به خاطره، فيحصل له السهو في أفعاله، فيكون ذلك فتنة!!

فأين صار استنكاره لفرية الغرانيق، وأنها من وضع الزندقة؟!

بل صرح في تفسيره:32/141، بنسبة الكفر إلي النبي صلي الله عليه وآله وهو يعدد الفوائد لكلمة"قل" في(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) قال:

(الحادي والثلاثون: كأنه تعالي يقول: يا محمد ألست أنت الذي قلت: من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر فلا يوقفن مواقف التهم، وحتي أن بعض المشايخ قال لمريده الذي يريد أن يفارقه: لاتخاف السلطان قال: ولم؟ قال: لأنه يوقع الناس في أحد الخطأين، وأما أن يعتقدوا أن السلطان متدين، لأنه يخالطه العالم الزاهد، أو يعتقدوا أنك فاسق مثله، وكلاهما خطأ، فإذا ثبت أنه يجب البراءة عن موقف التهم فسكوتك يا محمد عن هذا الكلام يجر إليك تهمة الرضا بذلك، لاسيما وقد سبق أن الشيطان ألقي فيما بين قراءتك:تلك الغرانيق العلي منها الشفاعة ترتجي،

فأزل عن نفسك هذه التهمة و: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاأَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)! انتهي.

فأين حملة الفخر الرازي علي الزنادقة واضعي فرية الغرانيق، ونصه علي أن النبي صلي الله عليه وآله لم يغيِّر في سورة النجم ولم يبدِّل؟!!

نعوذ بالله من هذه الفرية علي سيد الموحدين صلي الله عليه وآله، التي بلغ من تأكيد مصادرهم عليها أنها أوقعت الفخر الرازي وهو العالم المتبحر والفيلسوف المتضلع في هذا التهافت المشين، فنقض ما كتبه بيمينه في الجزء الثالث والعشرين، وعمي عن أن سورة الكافرون نزلت بالإتفاق قبل سورة النجم!

قال الزركشئ في البرهان:1/193:(أول مانزل من القرآن بمكة إقرأ بإسم ربك، ثم والقلم، ثم ياأيها المزمل، ثم المدثر، ثم تبت يدا أبي لهب، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك الأعلي، ثم والليل إذا يغشي، ثم والفجر، ثم والضحي، ثم ألم نشرح، ثم والعصر، ثم والعاديات، ثم إنا أعطيناك الكوثر، ثم ألهاكم التكاثر، ثم أرأيت الذي، ثم قل يأيها الكافرون، ثم سورة الفيل، ثم الفلق، ثم الناس، ثم قل هو الله أحد، ثم والنجم إذا هوي، ثم عبس وتولي...). انتهي.(راجع فهرست ابن النديم/28، وتفسير الميزان للطباطبائي:13/233)

هذا، وسوف نلقي مزيداً من الضوء عل تفسير آية: أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، في فصل العصمة في القرآن، إن شاء الله تعالي.

القاضي عياض أكثر علماء السنة اعتدالا في عصمة نبينا

قال في الشفا بتعريف حقوق المصطفي:2/123:

(فصل:وأما أقواله(ص)فقد قامت الدلائل الواضحة بصحة المعجزة علي صدقه وأجمعت الأمة فيما كان طريقه البلاغ أنه معصوم فيها من الأخبار عن شئ منها بخلاف ما هو به. لا قصداً ولا عمداً، ولا سهواً ولا غلطاً.

أما تعمد الخلف في ذلك فمنتف بدليل المعجزة القائمة مقام قول الله صدق فيما قال، اتفاقاً، وبإطباق

أهل الملة إجماعاً.

وأما وقوعه علي جهة الغلط في ذلك، فبهذه السبيل عند الأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني ومن قال بقوله.

ومن جهة الإجماع فقط وورود الشرع بانتفاء ذلك وعصمة النبي لامن مقتضي المعجزة نفسها عند القاضي أبي بكر الباقلاني ومن وافقه، لاختلاف بينهم في مقتضي دليل المعجزة، لا نطول بذكره فنخرج عن غرض الكتاب.

فلنعتمد علي ما وقع عليه إجماع المسلمين أنه لايجوز عليه خلف في القول إبلاغ الشريعة والإعلام بما أخبر به عن ربه وما أوحاه إليه من وحيه، لا علي وجه العمد ولا علي غير عمد، ولا في حالي الرضا والسخط والصحة والمرض، وفي حديث عبد الله بن عمرو قلت: يا رسول الله أأكتب كل ما أسمع منك؟ قال: نعم، قلت: في الرضي والغضب؟ قال: نعم فإني لا أقول في ذلك كله إلا حقاً.

ولنزد ما أشرنا إليه من دليل المعجزة عليه بياناً: فنقول إذا قامت المعجزة علي صدقه وأنه لا يقول إلا حقاً ولا يبلغ عن الله إلا صدقاً وأن المعجزة قائمة مقام قول الله له صدقت فيما تذكره عني، وهو يقول إني رسول الله إليكم لأبلغكم ما أرسلت به إليكم، وأبين لكم ما نزل عليكم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي.إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَي. وقَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ. وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا. فلا يصح أن يوجد منه في هذا الباب خبر بخلاف مخبره علي أي وجه كان، فلو جوزنا عليه الغلط والسهو لما تميز لنا من غيره ولاختلط الحق بالباطل!

فالمعجزة مشتملة علي تصديقه جملة واحدة من غير خصوص، فتبرئة النبي(ص)عن ذلك كله واجب، برهاناً وإجماعاً، كما قاله أبو اسحاق.

فصل: وقد توجهت ههنا لبعض الطاعنين

سؤالات:

منها ما روي من أن النبي(ص)لما قرأ سورة والنجم: أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخري، قال: تلك الغرانيق العلي، وإن شفاعتها لترتجي. ويروي ترتضي، وفي رواية إن شفاعتها لترتجي وإنها لمع الغرانيق العلي. وفي أخري والغرانقة العلي تلك الشفاعة ترتجي، فلما ختم السورة سجد وسجد معه المسلمون والكفار لمَّا سمعوه أثني علي آلهتهم!

وما وقع في بعض الروايات أن الشيطان ألقاها علي لسانه وأن النبي(ص) كان يتمني أن لو نزل عليه شئ يقارب بينه وبين قومه. وفي رواية أخري أن لاينزل عليه شئ ينفرهم عنه، وذكر هذه القصة، وأن جبريل عليه السلام جاءه فعرض عليه السورة فلما بلغ الكلمتين قال له: ماجئتك بهاتين! فحزن لذلك النبي(ص)فأنزل الله تعالي تسلية له: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ..الآية وقوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ..الآية.

فاعلم أكرمك الله أن لنا في الكلام علي مشكل هذا الحديث مأخذين: أحدهما في توهين أصله، والثاني علي تسليمه.

أما المأخذ الأول، فيكفيك أن هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل! وإنما أولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم، وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال: لقد بلي الناس ببعض أهل الأهواء والتفسير وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته واضطراب رواياته وانقطاع إسناده واختلاف كلماته، فقائل يقول إنه في الصلاة، وآخر يقول قالها في نادي قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول قالها وقد أصابته سِنة، وآخر يقول بل حدَّث نفسه فيها، وآخر يقول إن الشيطان قالها علي لسانه وأن النبي(ص)لما عرضها علي جبريل قال ما هكذا أقرأتك، وآخر يقول بل أعلمهم الشيطان أن النبي(ص)قرأها، فلما بلغ

النبي(ص)ذلك قال: والله ما هكذا نزلت.. إلي غير ذلك من اختلاف الرواة.

ومن حُكيت هذه الحكاية عنه من المفسرين والتابعين، لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلي صاحب! وأكثر الطرق عنهم فيها ضعيفة واهية، والمرفوع فيه حديث شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: فيما أحسب الشك في الحديث أن النبي(ص)كان بمكة وذكر القصة.

قال أبو بكر البزار: هذا الحديث لانعلمه يروي عن النبي(ص)باسناد متصل يجوز ذكره إلا هذا، ولم يسنده عن شعبة إلا أمية بن خالد، وغيره يرسله عن سعيد بن جبير، وإنما يعرف عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. فقد بين لك أبو بكر رحمه الله أنه لايعرف من طريق يجوز ذكره سوي هذا، وفيه من الضعف ما نبه عليه، مع وقوع الشك فيه كما ذكرناه، الذي لايوثق به ولاحقيقة معه.

وأما حديث الكلبي فمما لا تجوز الرواية عنه ولا ذكره، لقوة ضعفه وكذبه كما أشار إليه البزار رحمه الله.

والذي منه في الصحيح أن النبي(ص)قرأ والنجم وهو بمكة، فسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس). انتهي.

وينبغي أن نحسن الظن بالقاضي عياض بأنه لم يطلع علي الطرق والأسانيد الكثيرة لحديث الغرانيق، لكن العجب أنه أورد ما رواه البخاري في الصحيح، وهرب منه ولم يعلق عليه بشئ! فهل غاب عليه أن ما رواه البخاري هو حديث الغرانيق بعينه وذاته، وأنه لم يُرْوَ سجود المشركين مع المسلمين في غيره أبداً؟!

ثم تابع القاضي عياض توهين حديث الغرانيق من جهة دلالته فقال:

(هذا توهينه من طريق النقل، فأما من جهة المعني فقد قامت الحجة وأجمعت الأمة علي عصمته(ص)ونزاهته عن مثل هذه الرذيلة، إما من تمنيه أن ينزل عليه مثل

هذا من مدح آلهةٍ غير الله، وهو كفر! أو أن يتسور عليه الشيطان ويشبِّه عليه القرآن حتي يجعل فيه ما ليس منه ويعتقد النبي(ص)أن من القرآن ما ليس منه حتي ينبهه جبريل عليه السلام وذلك كله ممتنع في حقه(ص)! أو يقول ذلك النبي(ص)من قبل نفسه عمداً وذلك كفر! أو سهواً وهو معصوم من هذا كله! وقد قررنا بالبراهين والإجماع عصمته (ص)من جريان الكفر علي قلبه أولسانه لاعمداً ولا سهواً، أو أن يتشبه عليه ما يلقيه الملك مما يلقي الشيطان، أو يكون للشيطان عليه سبيل أو أن يتقول علي الله لاعمداً ولاسهواً ما لم ينزل عليه، وقد قال الله تعالي:وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيل، الآية. وقال تعالي: إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ. الآية.

ووجه ثان، وهو استحالة هذه القصة نظراً وعرفاً، وذلك أن هذا الكلام لو كان كما روي لكان بعيد الإلتئام متناقض الأقسام، ممتزج المُدح بالضم، متخاذل التأليف والنظم، ولما كان النبي(ص)ولا من بحضرته من المسلمين وصناديد المشركين ممن يخفي عليه ذلك! وهذا لا يخفي علي أدني متأمل، فكيف بمن رجح حلمه، واتسع في باب البيان فصيح الكلام علمه.

ووجه ثالث، أنه قد علم من عادة المنافقين ومعاندي المشركين وضَعَفَة القلوب والجَهَلة من المسلمين نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو علي النبي(ص) لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفيْنَة بعد الفينة، وارتداد من في قلبه مرض ممن أظهر الإسلام لأدني شبهة، ولم يَحْكِ أحدٌ في هذه القصة شيئاً سوي هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك لوجَدَت قريش بها علي المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة كما فعلوا مكابرةً في قصة الإسراء، حتي كانت في ذلك لبعض الضعفاء ردة، وكذلك ما روي في قصة

القضية(صلح الحديبية)،ولافتنة أعظم من هذه البلية لو وجدت، ولاتشغيب للمعادي حينئذ أشد من هذه الحادثة لو أمكنت.

فما روي عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدل علي بطلها واجتثاث أصلها، ولاشك في إدخال بعض شياطين الإنس أو الجن هذا الحديث علي بعض مغفلي المحدثين ليلبسن به علي ضعفاء المسلمين!

ووجه رابع، ذكر الرواة لهذه القضية أن فيها نزلت: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ.. الآيتين وهاتان الآيتان تردان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالي ذكر أنهم كادوا يفتنونه حتي يفتري، وأنه لولا أن ثبته لكاد يركن إليهم، فمضمون هذا ومفهومه أن الله تعالي عصمه من أن يفتري وثبته حتي لم يركن إليهم قليلاً، فكيف كثيراً! وهم يروون في أخبارهم الواهية أنه زاد علي الركون والإفتراء بمدح آلهتهم وأنه قال(ص):(افتريت علي الله وقلتُ ما لم يُقل) وهذا ضد مفهوم الآية، وهي تضعف الحديث لو صح، فكيف ولا صحة له؟!). انتهي.

ثم ذكر عياض الوجوه التي ذكرها علماؤهم لتوجيه حديث الغرانيق، وضعَّف أكثرها، وبذلك تنزَّل وفتح الباب لاحتمال صحته، وهو أضعف الإيمان!

غرانيق قريش يتصيدها بروكلمان و مونتغمري

انتقد الباحث السوداني عبدالله النعيم في كتابه: الإستشراق في السيرة النبوية- (نشرالمعهد العالمي للفكر الإسلامي1417) استغلالَ المستشرقين لرواية الغرانيق، ونقل في ص51 افتراءَ المستشرق بروكلمان وقوله عن النبي صلي الله عليه وآله: (ولكنه علي ما يظهر اعترف في السنوات الأولي من بعثته بآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونهن بنات الله، وقد أشار إليهن في إحدي الآيات الموحاة إليه بقوله: تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهن لترجي... ثم ما لبث أن أنكر ذلك وتبرأ منه في اليوم التالي)!!

ونقل في ص96 عن المستشرق مونتغمري وات قوله: (تلا محمد الآيات الشيطانية باعتبارها جزءً من القرآن،

إذ ليس من المتصور أن تكون القصة من تأليف المسلمين أو غير المسلمين، وإن انزعاج محمد حينما علم بأن الآيات الشيطانية ليست جزءً من القرآن، يدل علي أنه تلاها، وأن عبادة محمد بمكة لاتختلف عن عبادة العرب في نخلة والطائف (محلتان لأصنام قريش) ولقد كان توحيد محمد غامضاً، ولاشك أنه يعد اللات والعزي ومناة كائنات سماوية أقل من الله). انتهي.

ومع أن المستشرقين لايحتاجون إلي الروايات الموضوعة ليتمسكوا بها، فهم يكذبون علي نبينا صلي الله عليه وآله وعلي مصادرنا جهاراً نهاراً، لكن المؤسف أن تحفل مصادر السنيين وفي طليعتها البخاري بالإفتراءات علي النبي صلي الله عليه وآله كقصة الغرانيق، وقصة ورقة بن نوفل، وغيرهما من القرشيات المخالفة للعقل، فتقدِّم للمستشرقين مادةً ومستمسكاً للطعن في النبي صلي الله عليه وآله والقرآن والإسلام!

ملاحظات علي قصة الغرانيق

1- لعل فرية الغرانيق أعظم فرية تضمنتها مصادر الحديث السنية علي رسول الله صلي الله عليه وآله من بين أكثر من ثلاثين فرية عليه بأنه شك في نبوته، وأنه خالف أوامر ربه، وتحيز لأقربائه، وأنه كان يهتم بالأغنياء ويعبس في وجه الفقراء، أو اتهمته بسلوك مشين! وقد تعرضنا لأكثرها في المجلد الرابع من كتاب الإنتصار.

2- من المفارقات الواضحة في رواياتهم أن سورة النجم التي اتهموا النبي صلي الله عليه وآله بأنه تعمد في قراءتها الكفر ومدح الأصنام وسجد لها، أو أن الشيطان قالها علي لسانه، أو أنه نسي وأثَّر عليه الشيطان ففعل ذلك! هي السورة التي نص الله تعالي في مطلعها علي عصمة نبيه صلي الله عليه وآله عصمة مطلقة بمستوي لم يبلغه نبي ولا رسول آخر عليهم السلام! قال تعالي: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَي. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَي. وَمَايَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي.إِنْ

هُوَإِلا وَحْيٌ يُوحَي. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَي.

فكأنهم تعمدوا وضع فرية الغرانيق في سورة نصت علي العصمة الشاملة للنبي صلي الله عليه وآله تكذيباً صريحاً للقرآن ليقولوا: بل نطق عن الهوي وكفر، وسجد للأصنام تقرباً لقريش! فوبخه الله وتسامح معه وتاب عليه!!

3- لا بد علي زعمهم أن يكون جبرئيل قد تأخر في توبيخ النبي صلي الله عليه وآله أياماً عديدة حتي انتشر خبر كفر النبي صلي الله عليه وآله وسجوده للأصنام في مكة، ووصل الخبر إلي الحبشة ففرح المسلمون المهاجرون بالحل السلمي مع قريش! وعاد قسم منهم إلي مكة، فوجدوا نبيهم صلي الله عليه وآله عاد إلي التوحيد وكفَر بالأصنام بعد أن وبخه جبرئيل عليه السلام، وأن قريشاً عادت إلي عدائها له، فرجعوا أدراجهم إلي الحبشة!

وقد تندر الأخ الباحث السيد جعفر مرتضي علي ذلك فقال في الصحيح من السيرة:3/146: (وقولهم إن هذه القضية قد كانت بعد شهرين من الهجرة إلي الحبشة نقول فيه: إنهم يقولون إن عودة مهاجري الحبشة قد كانت بعد شهرين أيضاً، فهل وصل إليهم الخبر بالتلكس، أو بالتلفون، وهل جاؤوا بالطائرة، أم بالصواريخ؟! إلا أن يكون المراد أنهم بدأوا بالتوجه نحو مكة بعد شهرين من هجرتهم، وإن كان هذا بعيداً عن ظاهر اللفظ.

وكذا قولهم إنه لما عرض صلي الله عليه وآله السورة علي جبرئيل وقرأ الفقرتين أنكرهما جبرئيل فقال صلي الله عليه وآله: قلت علي الله ما لم يقل! فأنزل الله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ، نقول فيه إن الخطاب في الآية للنبي صلي الله عليه وآله أن الناس كادوا يفتنونه مع أن الرواية تنص علي أن الشيطان هو الذي كاد أن يفتنه.. إلي غير ذلك من موارد الضعف والوهن والتناقض التي

يمكن تلمسها في هذا المجال). انتهي.

4- ليت الفخر الرازي وعياضاً وابن كثير والقرضاوي، وغيرهم من الذين ردوا حديث الغرانيق لمخالفته للقرآن والعقل، يتمسكون بهذا الدليل لرد غيره من المكذوبات المخالفة للقرآن مما وضعه منافقوا قريش وروجته الخلافة القرشية ورواتها، ولم يعدوها من الأحاديث الصحيحة أو الموثقة!!

قال الطباطبائي في تفسير الميزان:14/396، عن رواية الغرانيق:

(الرواية مروية بطرق عديدة عن ابن عباس وجمع من التابعين، وقد صححها جماعة منهم الحافظ ابن حجر، لكن الأدلة القطعية علي عصمته صلي الله عليه وآله تكذب متنها وإن فرضت صحة سندها فمن الواجب تنزيه ساحته المقدسة عن مثل هذه الخطيئة، مضافاً إلي أن الرواية تنسب إليه صلي الله عليه وآله أشنع الجهل وأقبحه فقد تلي: تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهن لترتجي، وجهل أنه ليس من كلام الله ولا نزل به جبريل، وجهل أنه كفر صريح يوجب الإرتداد وداوم علي جهله حتي سجد وسجدوا في آخر السورة، ولم يتنبه ثم داوم علي جهله حتي نزل عليه جبريل وأمره أن يعرض عليه السورة فقرأها عليه وأعاد الجملتين، وهو مصر علي جهله حتي أنكره عليه جبريل، ثم أنزل عليه آية تثبت نظير هذا الجهل الشنيع والخطيئة الفضيحة لجميع الأنبياءوالمرسلين عليهم السلام وهي قوله: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ إلا إذا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ، وبذلك يظهر بطلان ما ربما يعتذر دفاعاً عن الحديث بأن ذلك كان سبقاً من لسان دفعةً بتصرف من الشيطان سهواً منه وغلطاً من غير تفطن! فلا متن الحديث علي ما فيه من تفصيل الواقعة ينطبق علي هذه المعذرة، ولا دليل العصمة يجوز مثل هذا السهو والغلط.

علي أنه لو جاز مثل هذا التصرف من الشيطان

في لسانه صلي الله عليه وآله بإلقاء آية أو آيتين في القرآن الكريم، لارتفع الأمن عن الكلام الإلهي فكان من الجائز حينئذ أن يكون بعض الآيات القرآنية من إلقاء الشيطان، ثم يلقي نفس هذه الآية وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ، الآية، فيضعه في لسان النبي وذكره فيحسبها من كلام الله الذي نزل به جبريل كما حسب حديث الغرانيق كذلك، فيكشف بهذا عن بعض ما ألقاه وهو حديث الغرانيق ستراً علي سائر ما ألقاه. أو يكون حديث الغرانيق من كلام الله وآية وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ، الخ، وجميع ما ينافي الوثنية من كلام الشيطان، ويستر بما ألقاه من الآية وأبطل من حديث الغرانيق علي كثير من إلقاءاته في خلال الآيات القرآنية، وبذلك يرتفع الاعتماد والوثوق بكتاب الله من كل جهة، وتلغو الرسالة والدعوة النبوية بالكلية، جلت ساحة الحق من ذلك). انتهي.

5- من الحيل اللفظية التي استعملها رواة قريش، أنهم حاولوا تغطية طعنهم بالنبي صلي الله عليه وآله، فقالوا إنه صلي الله عليه وآله سجد بعد أن أكمل قراءة سورة النجم، وكأنه سجد لله وللأصنام معاً!! وهذه بعض نصوصهم:

(فقال: وإنهن لهن الغرانيق العلي، وإن شفاعتهن لهي التي ترتجي، فكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلقت بها ألسنتهم وتباشروا بها. وقالوا: إن محمداً قد رجع إلي دينه الأول ودين قومه. فلما بلغ رسول الله(ص)آخر النجم، سجد وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك، ففشت تلك الكلمة في الناس، وأظهرها الشيطان حتي بلغت أرض الحبشة، فأنزل الله: وما أرسلنا من قبلك...).

وفي بعضها: (ألقي الشيطان علي لسانه: وهي الغرانيق العلي، شفاعتهن ترتجي، فلما فرغ

من السورة سجد، وسجد المسلمون والمشركون إلا أبا أحيحة سعيد بن العاص، فإنه أخذ كفاًّ من تراب فسجد عليه، وقال: قد آن لابن أبي كبشة أن يذكر آلهتنا بخير، فبلغ ذلك المسلمين الذين كانوا بالحبشة أن قريشاً قد أسلمت فأرادوا أن يقبلوا، واشتد علي رسول الله(ص)وعلي أصحابه ما ألقي الشيطان علي لسانه، فأنزل الله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي.. الآية). انتهي. (راجع أيضاً مجمع الزوائد: 6/32 و: 7/70).

لكن غاب عنهم أن المشركين كانوا يرفضون السجود لله تعالي كما قال عنهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَاالرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَاتَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً. فلا بد أن يكون سجودهم علي أثر مدحه لآلهتهم، وهو في الثلث الأول للسورة بعد الآية العشرين منها. وبما أن السورة اثنتان وستون آية، وسياقها متتابع، فلا يمكن أن نجمع بين سجود النبي صلي الله عليه وآله والمشركين معاً، وبين قولهم إنه صبر حتي أكمل السورة فسجد لله تعالي وحده، أو لله وللأصنام معاً!!

6- بناءً علي قصتهم المزعومة، لابد أن يكون النبي صلي الله عليه وآله ترك آيات ذم اللات والعزي ومناة في سورة النجم ولم يقرأها يومئذ، وهي قبل آيات الغرانيق المزعومة وبعدها، فكانت جريمته حذف آيات كثيرة واستبدالها بآيات الغرانيق الشيطانية! فلا يعقل أنَّ يكون زعماء قريش فرحوا وسجدوا عند مدح أصنامهم، ثم سمعوه يقرأ بقية السورة، وكلها هجوم كاسح عليهم؟!

7- ينبغي الإلفات هنا إلي أن اللات والعزي ومناة أسماء مؤنثة، زعمت قريش أنها ملائكة وأن الملائكة إناث! وقد ردهم الله تعالي في نفس الآيات:

(أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الإخرَي. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثي. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَي. إِنْ هِيَ إِلاأَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا

أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَي الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَي. أَمْ لِلإِنْسَانِ مَا تَمَنَّي. فَلِلَّهِ الآخرة وَالأولي. وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لاتُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شيئاً إلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَي. إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخرة لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأنثي. وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لايُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا. فَأَعْرِضْ عَمَّنْ تَوَلَّي عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إلا الْحَيَوةَ الدُّنْيَا.ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَأَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَأَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَي) (النجم:19-29)

أما مكان هذه الأصنام الثلاثة، فقد جاء في لسان العرب:2/112: (تقول العرب: اللات والعزي وأشباهها من الآلهة المؤنثة)، وفي:5/378: (اللات صنم كان لثقيف، والعزي صنم كان لقريش وبني كنانة).

وفي مجمع البحرين:4/151:(اللات والعزي ومناة، إسم أصنام من حجارة، كانت في جوف الكعبة يعبدونها، فاللات لثقيف وقيل لقريش، والعزي لغطفان ومناة لهذيل وخزاعة).

وفي التبيان:9/427: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّي، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخري، أسماءأصنام كانت العرب تعبدها، والعزي كانت تعبدها غطفان، وهي شجرة سمرة عظيمة، واللات صنم كانت ثقيف تعبدها، ومنات كانت صخرة عظيمة لهذيل وخزاعة كانو يعبدونها). انتهي.

ويظهر أن هذه الثلاثة كانت مفضلة عند قريش ومعها غيرها من قبائل العرب، وأن بعض هذه الأصنام كان خارج مكة، لكن لها ثلاثة تماثيل عند الكعبة أو داخلها، وروي أن الأصنام حول الكعبة وعلي سطحها كانت أكثر من ثلاث مئة، وكانت قريش اكثر تمسكاً بالعزي من بينها! ففي أمالي الطوسي:1/316، عن ابن عباس قال: وقف رسول الله صلي الله عليه وآله علي قتلي بدر فقال:جزاكم الله من عصابة شراً! لقد كذَّبتموني صادقاً، وخوَّنتموني أميناً. ثم التفت إلي أبي جهل بن

هشام فقال: إن هذا أعتي علي الله من فرعون! إن فرعون لما أيقن بالهلاك وَحَّدَ الله، وهذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات والعزي)!! (ومثله في مجمع الزوائد:6/91).

وفي مجمع الزوائد:6/21: (وعن رجل من بني مالك بن كنانة قال: رأيت رسول الله(ص)بسوق ذي المجاز يتخللها يقول: يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، قال وأبو جهل يحثي عليه التراب ويقول: لايغوينكم هذا عن دينكم فإنما يريد لتتركوا آلهتكم وتتركوا اللات والعزي، وما يلتفت إليه رسول الله! قلت: إنعت لنا رسول الله (ص)، قال: بين بردين أحمرين، مربوع، كثير اللحم، حسن الوجه شديد سواد الشعر، أبيض شديد البياض، سابغ الشعر. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح). انتهي.

8- نزلت سورة الإسرا ء في مكة، ودلت علي أن النبي صلي الله عليه وآله كان يتعرض لضغط المشركين، وأن الله تعالي ثبته وعصمه من الوقوع تحت تأثيرهم، ولم تشر إلي أنه كان يتعرض لضغط الشيطان وتأثيره، قال تعالي: (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شيئاً قَلِيلاً. إِذًا لاذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاتَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا). (الإسراء:73-75)

كما أنها تضمنت تهديداً للنبي صلي الله عليه وآله إن هو غيَّر في القرآن وتقوَّل علي ربه.

وفي المقابل، تقول قصة الغرانيق إن الله لم يثبت نبيه صلي الله عليه وآله وإنه خضع لضغوط قريش ولتأثير الشيطان، فكفر بعد إيمانه، ومدح الأصنام، وافتري علي ربه! فالسؤال: لماذا لم يعاقبه ربه، ولا أذاقه ضعف الحياة وضعف الممات؟! وهل هذا إلا نقضٌ لمصداقية القرآن واتهامٌ لله تعالي بأنه تراجع عن تهديده؟!

9- نزلت سورة الحاقة في المدينة المنورة،

وفيها قوله تعالي: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيم. وَمَا هُوَبِقَوْلِ شَاعِرٍ قليلاً مَا تُؤْمِنُونَ. وَلابِقَوْلِ كَاهِنٍ قليلاً مَا تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَلَوْ تَقَوَلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ. لأخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ.فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أحد عَنْهُ حَاجِزِينَ). (الحاقّة:40-47)

فمن حق المسلم في المدينة أن يسأل أين مصداقية هذا الكلام وقد كفر النبي صلي الله عليه وآله وتقوَّل علي ربه وافتري عليه أعظم فرية، وغيَّر في القرآن ومدح الأصنام، فلم يأخذ منه باليمين ولاقطع منه الوتين، بل اكتفي بتوبيخه وسامحه وتاب عليه! بل أعطاه الأجر العظيم الذي يستحقه الأنبياء عليهم السلام لتوبتهم من كفرهم ومعاصيهم كما يزعم ابن تيمية!!

وهكذا تستوجب قصة الغرانيق مضافاً إلي طعنها بالنبي صلي الله عليه وآله الطعن بالله تعالي وتكذيب العديد من الآيات، وليس ما ذكرناه إلا نموذجين منها.

10- في السيرة والتاريخ عدة مفردات حول اللات والعزي تضئ لنا خلفية الفرية القرشية علي النبي صلي الله عليه وآله، وتكشف أن قبائل قريش تبنَّتْ عبادة اللات والعزي في مقابل خط الأحناف من بني إسماعيل، وحتي في مقابل الكعبة! وأن عبد المطلب جد النبي صلي الله عليه وآله كان متشدداً في رفض أصنامهم والتمسك بحنيفية إبراهيم عليه السلام. ففي معجم البلدان:3/226: (وقال أبو المنذر: وكانت قريش قد حمت للعزي شعباً من وادي حراض يقال له سُقام يضاهون به حرم الكعبة)!!

وفي:4/185: (وقيل: الغَبْغَب: هو الموضع الذي كان يُنحر فيه للات والعزي بالطائف، وخزانة ما يهدي إليهما بها.... قال أبو المنذر: وكان للعزي منحر ينحرون فيه هداياهم، يقال له الغبغب).

وفي تاريخ دمشق:16/232: من حديث خالد بن سعيد بن العاص، عن أبيه الذي هو من كبار زعماء قريش، قالت رواية الغرانيق

إنه أخذ كفاً من حصي وسجد عليه، قال خالد للنبي صلي الله عليه وآله: (أيْ رسول الله، الحمد لله الذي أكرمنا بك وأنقذنا من الهلكة، ولقد كنت أري أبي يأتي إلي العزي بحَتْرةٍ مائة من الإبل والغنم فيذبحها للعزي، ويقيم عندها ثلاثاً ثم ينصرف إلينا مسروراً! فنظرت إلي ما مات عليه أبي، وذلك الرأي الذي كان يعاش في فضله كيف خدع حتي صار يذبح لحجر لايسمع ولايبصر ولايضر ولاينفع! فقال رسول الله(ص):إن هذا الأمر إلي الله، فمن يسَّرَهُ للهدي تيسر، ومن يُسِّر للضلالة كان فيها).

وذكر الدكتور شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي ص41 (دارالمعارف المصرية) أن المنذر بن ماء السماء ملك المناذرة المعاصر لعبد المطلب، وهو أعظم ملك وثني في العرب، أسَرَ ابن الحارث بن شمر ملك الغساسنة النصراني في حرب ضروس بين المناذرة والغساسنة، فذبحه قرباناً للعزي!!

وهو يعطينا ضوءاً علي نذر عبد المطلب(رض)إن رزقه الله عشرة أولاد أن يذبح أحدهم قرباناً للكعبة، أي لرب الكعبة عز وجل، تعزيزاً لدين جده إبراهيم صلي الله عليه وآله، ورداً علي قريش وعلي عمل المنذر في تعزيزهم مكانة صنم العزي!

ومما يدل علي مكانة اللات والعزي عند القرشيين غير بني هاشم، أن شعارهم في الحرب، وتعاقدهم، وقسمهم الرسمي، كان باسمها:

ففي طبقات ابن سعد:2/42: (ونادي المشركون بشعارهم يا للعزي يا لهبل! وأوجعوا في المسلمين قتلاً ذريعاً، وولي من ولي منهم يومئذ وثبت رسول الله (ص)ما يزول، يرمي عن قوسه حتي صارت شظايا). انتهي.

كما تعاقدت قريش علي قتل النبي صلي الله عليه وآله بإسم اللات والعزي، ففي مستدرك الحاكم:1: 163، وصححه: (عن ابن عباس قال دخلت فاطمة علي رسول الله صلي الله عليه وآله وهي تبكي

فقال: يابنية ما يبكيك قالت: يا أبت مالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحجر يتعاقدون باللات والعزي ومناة الثالثة الأخري، لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك، وليس منهم رجل إلا وقد عرف نصيبه من دمك...الخ.). (ورواه أحمد وصححه الهيثمي في الزوائد:8 /228)

وقد بقيت عادة القسم باللات والعزي علي ألسنة القرشيين حتي بعد إسلامهم! فقد روي ابن ماجه:1/678،أن سعد بن أبي وقاص قال للنبي صلي الله عليه وآله:حلفت باللات والعزي فقال رسول الله (ص) قل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم انفث عن يسارك ثلاثاً، وتعوَّذ ولا تَعُد). انتهي.(ورواه أبو داود في:2/90، والترمذي:3/ 46 وص51، والنسائي: 7/7، وأحمد:1/ 183 و186 و:2/ 309، والبيهقي:1/ 149 و:10/30، ومالك في الدونة: 2/108ونحوه البخاري:6/51 و: 7/97 وص144 وص222و223 ومسلم:5/81 وص82).

وبهذا نفهم كُرْهَ النبي صلي الله عليه وآله للات والعزي بأنه مضافاً إلي كونه عصمة إلهية، فهو موروثٌ من أسرته الحنيفية، وقد انفردت مصادرنا برواية بغض النبي صلي الله عليه وآله لأصنام قريش، دون مصادرهم! ففي كمال الدين وتمام النعمة:1/184، في خبر بحيري الراهب: (قال بحيري: ياغلام أسألك عن ثلاث خصال بحق اللات والعزي إلا ما أخبرتنيها. فغضب رسول الله صلي الله عليه وآله عند ذكر اللات والعزي وقال: لاتسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئاً كبغضهما، وإنما هما صنمان من حجارة لقومي!

فقال بحيري: هذه واحدة، ثم قال: فبالله إلا ما أخبرتني، فقال: سل عما بدا لك فإنك قد سألتني بإلهي وإلهك الذي ليس كمثله شئ، فقال: أسألك عن نومك ويقظتك، فأخبره عن نومه ويقظته وأموره وجميع شأنه، فوافق ذلك ما عند بحيري من صفته التي عنده، فانكب عليه بحيري فقبل رجليه وقال: يا

بني ما أطيبك وأطيب ريحك، يا أكثر النبيين أتباعاً...). انتهي.

عمر عندهم معصوم و أفضل من جميع الأنبياء

النبي معصوم نظريا، و أبوبكر و عمر معصومان عمليا

يقول أتباع المذاهب السنية إن النبي صلي الله عليه وآله معصوم في تبليغ الرسالة فقط، دون بقية سلوكه العام، وسلوكه الشخصي! لكن هذا الكلام نظري فقط! لأن مصادرهم الصحيحة تزعم أن النبي صلي الله عليه وآله ارتكب أخطاء عديدة في سلوكه الشخصي والعام، وحتي في تبليغ الرسالة! وأن بعض أخطائه كان يصححها له جبرئيل عليه السلام، وبعضها كان يصححها له عمر بن الخطاب فيؤيده الوحي!

أما أهل بيت النبي وعترته صلي الله عليه وآله، عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فهم لا يروْن عصمتهم، ويقولون إن لهم فضائل كما لهم أخطاء، ولايعترفون بأنهم معيَّنون من الله تعالي أوصياء للنبي صلي الله عليه وآله وأئمة للأمة، بل يؤوِّلون الآيات والأحاديث التي تدل علي عصمتهم وإمامتهم عليهم السلام، ويجعلون درجة علي عليه السلام رابع الصحابة، لأنه كان الخليفة الرابع! وأكثرهم يفضل عليه أبا بكر وعمر وعثمان، وقد يفضلون عائشة علي فاطمة الزهراء عليها السلام...الخ.

فالصحابة عندهم هم الأصل بعد النبي صلي الله عليه وآله والأفضل من جميع أجيال الأمة، وعنهم يتلقَّوْن دينهم، ولايهتمون بالرأي المخالف لهم، بل يعتبرونه خطاً أو انحرافاً عن الإسلام، حتي لو كان صادراً من أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله!

وقد وصل بهم الأمر إلي أنهم يقرنون الصحابة بالنبي في الصلاة عليه صلي الله عليه وآله، وقد يحذفون منها الصلاة علي آل النبي صلي الله عليه وآله، مع أنهم رووا في أصح صحاحهم أن النبي صلي الله عليه وآله علَّمَهم الصلاة عليه، وأمرهم أن يقرنوا به آله عليهم السلام فقط!

مقولة عدالة الصحابة سياج لعصمة أبي بكر وعمر

وعندما تراهم أو تسمعهم يقولون(الصحابة)، فلا تتصور أنهم يقصدون المئة ألف شخص وأكثر، الذين رأوا النبي صلي الله عليه وآله وأطلقوا

عليهم إسم (الصحابة)!

بل عليك أن تعرف باطن كلامهم وأنهم لايقصدون إلا أربعة رجال منهم فقط: أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية، ومَن وافقهم، ومعهم امرأتان: عائشة وحفصة، ومن وافقهما! ولايُدخلون معهم حتي أهل بيت النبوة علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، مع أنهم أهل بيت وصحابة!

فباقي الصحابة إنما يقبلونهم بشرط أن يوافقوا هؤلاء الستة، ولا عبرة بقولهم جميعاً إن خالفوا الستة، بل لا عبرة بقولهم جميعاً إن خالفوا عمر وحده!

ولا يقول السنيون نظرياً بعصمة هؤلاء الصحابة الستة. لكن ما قيمة الكلام النظري وهم عملياً يقولون بعصمتهم كمجموع، بل بعصمة عمر وأبي بكر خاصة، والدليل البسيط علي ذلك أنهم لايقبلون أن يوجه اليهما أي نقد! ويصححون أفعالهما وأقوالهما بكل وسيلة حتي في مقابل النبي صلي الله عليه وآله!

بل يغالون فيحكمون بضلال من ينتقدهما، أو بكفره!

يشعر أتباع الخلافة القرشية بأنهم مجبورون علي القول بعصمة الشيخين! لأن عدالة الصحابة لاتكفيهم لإثبات قداستهما، لأنها سيف ذو حدين!

كما أن حديث(أصحابي كالنجوم) الذي يحتج به علماؤهم في علومهم المختلفة، رغم تضعيفهم له، سيفٌ ذو حدين! إذ يكفي بموجبه أن يقتدي المسلم بأي صحابي ويأخذ منه دينه وخطه السياسي، لأنه نجمٌ رباني جعله الله دليلاً لعباده! فيحق للمسلم أن يرفض خلافة قريش وخلفائها، ويقتدي بالذين رفضوا سقيفتها واتهموا أبا بكر وعمر بالخيانة، ولم يبايعوهما إلا مجبرين، كسعد بن عبادة، فهو صحابي وزعيم أنصار الله ورسوله صلي الله عليه وآله، وأهل بيت النبي صلي الله عليه وآله فهم صحابة وعترة! لكن هذا نقضٌ لغرضهم في تربية الناس علي تقديس الشيخين أبي بكر وعمر!

إنهم لايريدون عدالة الصحابة من أجل ذاتها، ولا من أجل الصحابة، بل من أجل عصمة

أبي بكر وعمر بالخصوص، ولا كرامة لمن خالفهما!

فكل ما تراه من تأكيدهم علي عدالة الصحابة، إنما هو تمهيد وسياج لعقيدة عصمة عمر وأبي بكر ليس إلا!

اضطرارهم لتضييق سياج الصحابة بأهل بدر و بيعة الرضوان

بعد أن أعطوا كل الصحابة صفة العدالة، وهم أكثر من مئة ألف، وهو أمر غير معقول، قاموا بخطوة في تحديد السياج الذي أرادوه لأبي بكر وعمر، فضيقوا الدائرة وقالوا إن مقصودنا بالصحابة العدول المشهود لهم بالجنة، وهم أهل بدر وأهل بيعة الشجرة، وعددهم ألفٌ وأربع مئة كما في البخاري!

قال البخاري في:5/62: (عن البراء....كنا مع النبي(ص)أربع عشرة مائة، والحديبية بئر فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي(ص) فأتاها فجلس علي شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبه فيها، فتركناها غير بعيد ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا). انتهي.

وروي في:5/63، عن ابن أبي أوفي أنهم ألف وثلاث مئة. وروي في:4/19، أن النبي صلي الله عليه وآله قال في قصة حاطب بن بلتعة، الذي خان المسلمين وكتب إلي المشركين بأنهم ينوون غزو مكة: (إنه شهد بدراً، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع علي أهل بدر فقال إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)! وكرره في:4/38، و39، وفي: 5/89 , وفي: 6/60، و:7/134، و: 8/55.

وروي في:5/10: (فقال أليس من أهل بدر؟ فقال: لعل الله اطلع علي أهل بدر فقال إعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم)، ونحوه في: 7/97.

وصححوا حديث مسلم:7/169، في قصة حاطب أن النبي صلي الله عليه وآله قال: (لا يدخل النار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد، الذين بايعوا تحتها). وروي مسلم أن حفصة اعترضت فنهرها النبي صلي الله عليه وآله،

و(أن عبداً لحاطب جاء رسول الله (ص) يشكو حاطباً فقال: يا رسول الله ليدخلنَّ حاطبٌ النار! فقال رسول الله (ص): كذبت لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية). انتهي.

وبهذا ضيقوا دائرة الصحابة إلي نحو ألف وخمس مئة، لأن أهل بدر ضمن أهل الحديبية، ورفعوا علماً لذلك آية: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:18) وجعلوها شعاراً ودثاراً في الدفاع عنهم، لكنه دفاع بالمحال، لأن هذه الآية كغيرها من الآيات متحفظة جداً، ولا إطلاق فيها، لا في الأشخاص، ولا في الزمان! فلو كان مقصوده عز وجل الإطلاق لما قيدها بقيدين فاستعمل كلمة (المؤمنين) وكلمة (إذ) ولقال: لقد رضي الله عن الذين يبايعونك تحت الشجرة!

فلما لم يقل ذلك وقال: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ..فمعناه وجود غير مؤمنين فيهم، وأن رضاه عن المؤمنين منهم محدود بظرف (إذْ) وهو زمن البيعة!

لكنهم اتخذوا قراراً بالدفاع عن هذا السياج، لأن النيل من أهل بدر والحديبية يعني انهيار آخر خطوط الدفاع عن أبي بكر وعمر وعثمان!

كما تراهم عندما يحتاج الأمر يوسعون السياج، كما فعلوا في مواجهة حملة المسلمين علي يزيد بن معاوية: قال التفتازاني في شرح المقاصد:5/310:

(فإن قيل: فمن علماء المذهب من لايجوِّز اللعن علي يزيد، مع علمهم بأنه يستحق ما يربو علي ذلك ويزيد.

قلنا: تحامياً علي أن يرتقي إلي الأعلي فالأعلي، كما هو شعار الروافض، علي ما يروي في أدعيتهم، ويجري في أنديتهم، فرأي المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية، طريقاً إلي الإقتصاد في الإعتقاد). انتهي.

فهذا التوسيع قانون من السلطة وعلمائها له قوة الدين! (فرأي المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية)!

عصمة عمر عندهم أعلي من عصمة جميع الأنبياء

قال البخاري في صحيحه:4/96: (استأذن عمر علي رسول الله(ص)وعنده نساء من قريش يكلمنه ويستكثرنه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمر قمن يبتدرن الحجاب، فأذن له رسول الله(ص)ورسول الله يضحك، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله؟ قال: عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي فلما سمعنَ صوتك ابتدرنَ الحجاب! قال عمر: فأنت يا رسول الله كنت أحق أن يَهَبْنَ، ثم قال: أيْ عدوات أنفسهن، أتهبنني ولا تهبنَ رسول الله؟ قلن: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله(ص)! قال رسول الله(ص): والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان قط سالكاً فجَّاً إلا سلك فجاً غير فجِّك). (وكرره البخاري في:4/199و:7/93).

وما دام النبي صلي الله عليه وآله أخبر عن ربه بفرار الشيطان من عمر وعدم تأثيره عليه، فهو معصومٌ من كل أنواع الذنوب! بل هو أفضل من النبي صلي الله عليه وآله! لأنهم رووا أن شيطان النبي صلي الله عليه وآله معه لايهرب منه، وأنه خاض معه صراعاً فأعانه الله عليه!!

قال النووي في شرح مسلم:15/165: (الفج الطريق الواسع، ويطلق أيضاً علي المكان المنخرق بين الجبلين. وهذا الحديث محمولٌ علي ظاهره أن الشيطان متي رأي عمر سالكاً فجّاً هرب هيبة من عمر، وفارق ذلك الفج وذهب في فج آخر لشدة خوفه من بأس عمر أن يفعل فيه شيئاً! قال القاضي: ويحتمل أنه ضرب مثلاً لبعد الشيطان وإغوائه منه، وأن عمر في جميع أموره سالك طريق السداد، خلاف ما يأمر به الشيطان. والصحيح الأول). (والديباج:5/380).

وقال ابن حجر في فتح الباري:7/38: (قوله: إلا سلك فجاً غير فجك. فيه فضيلة عظيمة لعمر، تقتضي أن الشيطان لاسبيل له عليه، لا أن ذلك يقتضي وجود العصمة، إذ ليس فيه إلا فرار الشيطان منه

أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له بحسب ما تصل إليه قدرته.

فإن قيل: عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة، لأنه إذا منع من السلوك في طريق فأولي أن لايلابسه بحيث يتمكن من وسوسته له، فيمكن أن يكون حُفِظَ من الشيطان، ولا يلزم من ذلك ثبوت العصمة له، لأنها في حق النبي واجبة، وفي حق غيره ممكنة.

ووقع في حديث حفصة عند الطبراني في الأوسط بلفظ أن الشيطان لا يلقي عمر منذ أسلم إلا خرَّ لوجهه، وهذا دل علي صلابته في الدين، واستمرار حاله علي الجد الصرف والحق المحض). ثم نقل كلام النووي، وفي آخره: (والأول أولي، بدل: والصحيح الأول)! انتهي. وهو تحريف من أجل التخفيف!

لقد رأي ابن حجر أن حديث البخاري يجعل عمر معصوماً بدرجة فوق درجة عصمة النبي صلي الله عليه وآله! فأراد أن يخفف من وقعه فزعم أن ذلك لايستلزم العصمة، وأن فرار الشيطان منه لايمنع أنه يحاول الوسوسة له من بعيد بعيد وهو هارب منه!

ثم اعترف بأن فراره منه ينفي إمكانية وسوسته أصلاً، وقد روي هو وقبله أن الشيطان يخرُّ لوجهه إذا لقي عمر! ومع ذلك تحايل في التأويل وقال هي عصمة جائزة وعصمة النبي صلي الله عليه وآله واجبة!

وليس ذلك إلا تلاعباً بالألفاظ من أجل عمر، فالعصمة الجائزة أو المستحبة التي اخترعوها عصمةٌ أكمل وأفضل من عصمة النبي صلي الله عليه وآله لأن الشيطان يفر من صاحبها ويخر لوجهه من رؤيته، بينما لا يفر من النبي صلي الله عليه وآله ولا يخر علي وجهه!!

فهل رأيت كيف عَصَرَ علماء الخلافة القرشية أدمغتهم من أجل عمر، فجعلوا النبوة قسمين: نبوة واجبة علي

الله تعالي للنبي صلي الله عليه وآله، ونبوة ممكنة قررها الله تعالي لعمر فوصل اليه مضمونها، وكادت تصل رسمياً: (لوكان بعدي نبي لكان عمر)!

وجعلوا العصمة قسمين: عصمة واجبة علي الله للنبي صلي الله عليه وآله، وعصمة ممكنة أو مستحبة لله لعمر، وقالوا إن الله تعالي أتقن عمله المستحب أكثر من عمله الواجب فتدخل لمصلحة عمر وخصَّه بأن الشيطان يهرب منه ويخرُّ لوجهه إذا لقيه، ولم يتدخل لمصلحة خاتم انبيائه وسيد رسله صلي الله عليه وآله بل تركه يغالب شيطان وسلطه عليه حتي في صلاته!

قال ابن القيم في زاد المعاد:1/268: (والصحيح عن النبي(ص)أنه كان يشير في صلاته، رواه أنس وجابر وغيرهما. وكان(ص)يصلي وعائشة معترضة بينه وبين القبلة فإذا سجد غمزها بيده فقبضت رجليها وإذا قام بسطتهما.

وكان(ص)يصلي فجاءه الشيطان ليقطع عليه صلاته، فأخذه فخنقه حتي سال لعابه علي يده). انتهي.

وأفتي به سيد سابق في فقه السنة وهو كتاب موجه لأهل المذاهب الأربعة:1/265 وصححه محمد ناصر الألباني في تمام المنة ص304، فقال: (وقد صح أن الشيطان أراد أن يفسد علي النبي(ص)صلاته، فمكنه الله منه وخنقه، حتي وجد برد لعابه بين إصبعيه، وقال: والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به أهل المدينة. والقصة في مسلم:2/73، وعبد الرزاق:2/24/2338)، وأحمد:1/413 و3/82 و5/104 و105، والطبراني في الكبير:2/224 و227 و251، عن غير واحد من الصحابة بألفاظ متقاربة. أنظر صفة الصلاة (74). انتهي.

وفي هذه الأحاديث المزعومة فضيلة لسليمان عليه السلام وأن الله تعالي جعل الشيطان طليقاً بدعوته، فمنع نبيه صلي الله عليه وآله من القبض عليه وتحويله إلي لعبة لصبيان المدينة! ولعل هذه الكرامة لسليمان عليه السلام لأنه نبي اليهود!

ومن محاولاتهم في تهدئة خواطر المسلمين لتفضيل

عمر علي النبي صلي الله عليه وآله، ما نقله الصالحي وارتضاه، قال في سبل الهدي:11/275: (قال الكرماني: إن قلت: يلزم أن يكون أفضل من أيوب ونحوه، إذ قال: مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ؟ قلت: لا، إذ التركيب لايدل إلا علي الزمن الماضي، وذلك أيضاً مخصوص بحال الإسلام فليس علي ظاهره، وأيضاً هو مقيد بحال سلوك الطريق، فجاز أن يلقاه علي غير تلك الحالة. وقال القاضي عياض: ويحتمل أنه ضرب مثلاً لبعد الشيطان وأعوانه من عمر، وأنه لا سبيل له عليه، أي إنك إذا سلكت في أمر بمعروف أو نهي عن منكر تنفذ فيه ولا تتركه، فليس للشيطان أن يوسوس فيه فيتركه، ويسلك غيره، وليس المراد بالطريق علي الحقيقة، لأنه تعالي قال:إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاتَرَوْنَهُمْ فلا يخافه إذا لقيه في فج، لأنه لا يراه). انتهي.

يقصد الكرماني وعياض أن حديث فرار الشيطان من عمر لا يجعله أفضل من نبي الله أيوب عليه السلام الذي مسه الشيطان! لأن الحديث لا يشمل مرحلة عبادة عمر للأصنام وهي أكثر من أربعين سنة! ولايشمل عمر إذا لم يسلك طريقاً، ففرار الشيطان منه محدود في الزمان وفي الحالة! ففيه فتحة لأن يكون أيوب أفضل منه! وهو جواب هزيل كما تري، لأن عصمة عمر قبل الإسلام ليست محل بحث، وحديثهم المدعي ليس فيه حصْرُ فرار الشيطان منه في حالة سلوكه فجاً، بل فيه إطلاق لكل حالات عمر، بل هو يخرَّ علي وجهه بزعمهم بمجرد رؤيته!

وهذا كله لعب بالألفاظ، فلو قلنا لمن يريد حصر فرار الشيطان منهم بسلوك عمر فجاً: هل تقبل بأن الشيطان يمس عمر إذا لم يسلك فجاً؟ لقامت قيامته!

من ناحية أخري فإن عياضاً أو غيره عندما

يقولون إن فرار الشيطان من عمر محصور بما إذا سلك فجاً بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، فماذا يبقون من سلوكه لم تشمله العصمة؟! بل ماذا يبقون للأنبياء عليهم السلام من سلوك يتميزون به علي عمر، وجِلُّ سلوكهم أو كلُّه عبارة عن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وفي كله لايهرب منهم الشيطان كما يهرب من عمر!

إنها محاولات تهدئة وتغطية، عن عمد، وأحياناً عن سذاجة وبلادة، حتي لايصرخ المسلم: ماذا فعلتم بهذا الحديث؟! لقد طعنتم في أنبياءالله جميعاً عليهم السلام وصادرتم نبوتهم، ورفعتم درجة عمر فوق درجتهم عليهم السلام!!

المشكلة أنهم اخترعوا حديثاً يفضل عمر علي نبينا صلي الله عليه وآله وجميع الأنبياء عليهم السلام ورأوا أنهم تورطوا فيه! فأخذوا يتكلفون لغرض تحديده وتقليصه بقدر يريدونه باللعب بالألفاظ، ليجعلوا عمر بعد الأنبياء عليهم السلام مباشرة!

وكيفَ يمكنهم ذلك وقد فسروا قوله تعالي: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ). (الحج:52) فسروه بالأمنية في القلب لا في تحققها في الخارج كما نفسره نحن؟!

قالوا إن الشيطان يمس جميع الأنبياء عليهم السلام ويتسلط عليهم جزئياً حتي في تبليغهم لرسالة ربهم! ولا شك أن الذي يهرب منه الشيطان ويخرُّ علي وجهه إذا شاهده، أفضل من جميع الأنبياء عليهم السلام الذين يمسهم ويلقي في قلوبهم الكفر والمعصية!

أما نحن فنقول حاشا لله أن يسلط الشيطان علي قلوب أنبيائه وأذهانهم عليهم السلام، وليس معني(إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أنه يلقي في قلب النبي وتفكيره، بل يلقي في أذهان الناس في الأمر الذي تتحقق به أمنية النبي عليه السلام! فالأمنية هنا بمعناها الخارجي العملي

وليس الذهني!

النبي عندهم أضعف من عمر أمام شيطانه

روي القرشيون عن النبي المصطفي المظلوم صلي الله عليه وآله أن شيطانه قويٌّ لايهرب منه إذا رآه، بل يرافقه دائماً ولا يخاف منه، بل يأتيه بصورة جبرئيل ويؤثر عليه!

وقد رأيت اختراعهم فرية الغرانيق عليه صلي الله عليه وآله وأن الشيطان تسلَّطَ عليه حتي كفَرَ معاذ الله، وغيَّرَ نَصَّ القرآن المنزل عليه، ومدح أصنام قريش بأنها الغرانيق العلي أي الطيور المحلِّقة في السماء، وسجد لها!

قال العلامة مرتضي في الصحيح من السيرة:2/305:(ومن الطعن في النبوة أيضاً.... قولهم: إنه قد كان للنبي(ص) عدو من شياطين الجن يسمي الأبيض، كان يأتيه في صورة جبرئيل، ولعله هو الشيطان الذي أعانه الله عليه فأسلم كما يقولون. (السيرة الحلبية:1/253، راجع: إحياء علوم الدين:3/171 وفي هامشه عن مسلم، والغدير:11/91 عنه، والمواهب اللدنية:1/202، ومشكل الآثار:1/30، وحياة الصحابة:2/ 712 عن مسلم وعن المشكاة ص280 والمحجة البيضاء:5 /302/303).

وشيطانه هذا الذي أسلم، كان يجري منه مجري الدم. (مشكل الأثار:1/30).

وكان يدعو الله بأن يُخْسِئ شيطانه، فلما أسلم ذلك الشيطان ترك ذلك!

ورووا أنه عرض للنبي صلي الله عليه وآله في صلاته قال: فأخذتُ بحلقه فخنقته، فإني لأجد بَرْدَ لسانه علي ظهر كفي! (مسند أبي يعلي:1/506 و360 ومسند أبي عوانة:2/143 والسنن الكبري:2/264 ومسند أحمد:2/298 وأخرجه البخاري في مواضع من صحيحه، وثمة مصادر كثيرة أخري وراجع الغدير:8/95).

ويروون أيضاً أنه صلي الله عليه وآله قد صلي بهم الفجر فجعل يهوي بيديه قدامه، وهو في الصلاة، وذلك لأن الشيطان كان يلقي عليه النار ليفتنه عن الصلاة! (المصنف:2/24، وراجع: البخاري ط. سنة 1309:1/137، و:2/143).

ونقول: ونحن لانشك في أن هذا كله من وضع أعداء الدين، بهدف فسح المجال أمام التشكيك في النبوة وفي الدين الحق....

وقد أخذه بعض المسلمين لربما بسلامة نية وحسن طوية، وبلا تدبر أو تأمل، سامحهم الله وعفا عنهم. والغريب في الأمر أننا نجدهم في مقابل ذلك يروون عنه صلي الله عليه وآله قوله لعمر: والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك....!). انتهي. وقد تقدم تصحيح ابن القيم والألباني لذلك!

ومن تخبط علمائهم في ترقيع تفضيلهم عمر علي النبي صلي الله عليه وآله! ما قاله الصالحي في سبل الهدي والرشاد:1/507:

(المحفوظ: إسم مفعول من الحفظ، وسمي به لأنه محفوظٌ من الشيطان. روي البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلي صلاة فقال: إن الشيطان عرض لي فشد عليَّ ليقطع الصلاة عليَّ فأمكنني الله منه. وفيه دليل علي حفظه منه.

فإن قيل: لمَ سُلِّطَ عليه الشيطان أولاً، وهلاَّ كان إذا سلك طريقاً هربَ الشيطان منه كما وقع لعمر بن الخطاب، فقد روي الشيخان عن سعد بن أبي وقاص أن النبي قال لعمر: مالقيك الشيطان قط سالكاً فجاً إلاسلك فجاً غيره.

الجواب: أنه لما كان رسول الله(ص)معصوماً من الشيطان ومكره، ومحفوظاً من كيده وغدره، آمناً من وسواسه وشره، كان اجتماعه به وهربه منه سيان في حقه(ص). ولما لم يبلغ عمر هذه الرتبة العليه والمنزلة السنية، كان هرب الشيطان منه أولي في حقه، وأيقن لزيادة حفظه، وأمكن لدفع شره!

علي أنه يجوز أن يحمل الشيطان الذي كان يهرب من عمر غير قرينه، أما قرينه فكان لايهرب منه، بل لايفارقه لأنه وكل به). انتهي.

وقد وصفناه بالتخبط، لأن النبي صلي الله عليه وآله عندهم غير محفوظ من الشيطان، ويكفي أن تقرأ تفسيرهم لقوله تعالي: (إِذَا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) وإصرارهم علي أن الأمنية هي

قلب النبي صلي الله عليه وآله، وليست ما تحقق في الخارج كما نفسرها نحن!

ثانياً، إنهم بهذا اللعب بالألفاظ لم يفعلوا شيئاً، فما داموا يقبلون أن الشيطان يهرب من عمر دون النبي صلي الله عليه وآله فلن يستطيعوا أن يرتقوا ما فتقوه! بل هم بذلك ينفون الحكمة والعصمة عن الله تعالي، حيث عصم عمر التابع، بأفضل وأقوي مما عصم به النبي المتبوع صلي الله عليه وآله!

ثالثاً، لعل الصالحي رأي أنه لا يستطيع أن يجعل مقام النبي صلي الله عليه وآله أعلي قليلاً من مقام عمر أو مساوياً له، فطرح احتمال أن يكون الشيطان الذي يهرب من عمر غير الشيطان العام الذي هو القرين! وهو احتمال هوائي كثيراً ما يلجأ اليه علماء الحكومة القرشية في ورطاتهم، فإن لفظ الشيطان المستعمل في حديثهم المزعوم، والذي يهرب من عمر، هو نفس لفظه المستعمل في أنه تسلط علي النبي صلي الله عليه وآله، فالمتبادر منهما واحد! ولا قرينة ولا دليل علي أن الشيطان الذي يهرب منه شيطان فرعي! وأن الأصلي لايهرب منه بل يمسه!

والنتيجة: أنه لا طريق لهم إلا أن يعترفوا بكذب (حديثهم) المزعوم ويفروا ويفروا منه كفرار الشيطان المزعوم من عمر! ولكنهم لايفعلون لأنه منقبة لعمر، رواها الشيخان، ومن أوجب الواجبات علي الأمة أن تعتقد بمناقب عمر العظيمة حتي لو كانت تفضله علي أنبياءالله تعالي جميعاً عليهم السلام!

ولك الله يارسول الله! فقد بخلوا عليك حتي بأن يساووك بعمر!

و زعموا أن الله تعالي يتكلم بلسان عمر

ولم يكتفوا بمقولة إن الشيطان يهرب من عمر ويخر لوجهه خوفاً منه!

بل وضعوا حديث إن (الحق) ينطق علي لسان عمر، أي إن الله تعالي ينطق علي لسانه! وذلك في مقابل قوله تعالي عن نبيه صلي

الله عليه وآله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي!

(قال في فتح الباري:9/397: ولقد كان الحق ينطق علي لسان عمر)!

ولما رأو ذلك غلواً واضحاً خففوه فقالوا: إن الله جعل الحق علي لسانه! ولكنه بنفس المعني، لأن قصدهم منه ومن الذي قبله: الإستمرار والشمول!

ومن سوء توفيقهم أنهم عندما يتحدثون عن النبي صلي الله عليه وآله يميِّعون الآية الصريحة في عصمته صلي الله عليه وآله وهي قوله تعالي:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي. إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَي) فيكابرون أمام صراحتها في عصمتة منطقه الشاملة، واستلزامها عصمة فعله الشاملة صلي الله عليه وآله، ويردونها بادعاء عشرات الأخطاء للنبي صلي الله عليه وآله في سلوكه الشخصي والعام، وحتي في التبليغ!

فإذا وصل الحديث إلي عمر وضعوا له مقابل آية عصمة النبي صلي الله عليه وآله حديثاً فزعموا أن الحق ينطق علي لسانه! وتفاخروا به ولم يثبتوا له أخطاء ومعاصي، بل تراهم يهاجمون من يذكر له أخطاء ومعاصي، وقد يكفرونه!

واعجب إن شئت من حجتهم في ذلك بأن عمر والصحابة أمناء النبي صلي الله عليه وآله علي تبليغ الدين للأجيال، فالطعن فيهم طعن في الدين! فيجعلون حصانة الوكيل أعظم من حصانة الأصيل صلي الله عليه وآله؟ هذا لو صحت وكالة الصحابة التي زعموها!

ويجعلون القول بخطأ المبلغ الوكيل حراماً وطعناً في الدين، بينما القول بخطأ الأصيل صلي الله عليه وآله حلالاً وليس طعناً في الدين؟!

و زعموا أن الملائكة تحدث عمر

كما وضعوا في مقابل تحديث الملائكة للنبي وآله صلي الله عليه وآله الأطهار، أن الملائكة تحدث عمر! وقد تقدم ذلك في كلام الغزالي، ورواه البخاري وغيره!

قال السيوطي في الخصائص:2/219: (باب إخباره بأن عمر من المحدثين. أخرج الشيخان عن عائشة قالت قال رسول الله: كان

في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فعمر. وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: إنه لم يبعث الله نبياً إلا كان في أمته محدثون، وإن يكن في أمتي أحد فهو عمر قالوا: يارسول الله كيف محدث؟ قال: تتكلم الملائكة علي لسانه).

وقال ابن حجر في شرحه للبخاري:7/40: (قوله: محدَّثون، بفتح الدال جمع محدَّث، واختلف في تأويله فقيل: ملهم، قاله الأكثر، قالوا: المحدَّث بالفتح هو الرجل الصادق الظن وهو من ألقي في روعه شئ من قبل الملأ الأعلي، فيكون كالذي حدثه غيره به، وبهذا جزم أبو أحمد العسكري.

وقيل: من يجري الصواب علي لسانه من غير قصد. وقيل مكلم أي تكلمه الملائكة بغير نبوة. وهذا ورد من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً ولفظه: قيل يا رسول الله وكيف يحدث قال تتكلم الملائكة علي لسانه. رويناه في فوائد الجوهري، وحكاه القابسي وآخرون. ويؤيده ما ثبت في الرواية المعلقة ويحتمل رده إلي المعني الأول أي تكلمه في نفسه وإن لم ير مكلماً في الحقيقة فيرجع إلي الإلهام).

وقال ابن تيمية في الرد علي المنطقيين ص513: (فأما درجة السابقين الأولين كأبي بكر وعمر فتلك لايبلغها أحد! وقد ثبت في الصحيحين عن النبي(ص)أنه قال: قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي فعمر، وفي حديث آخر: إن الله ضرب الحق علي لسان عمر وقلبه. وقال عليٌ: كنا نتحدث أن السكينة تنطق علي لسان عمر. وفي الترمذي وغيره: لو لم أبعث فيكم لبعث فيكم عمر، ولو كان بعدي نبي ينتظر لكان عمر).

وقال في منهاجه:6/75(وكلام عمر رضي الله عنه من أجمع الكلام وأكمله، فإنه ملهم محدث! كل كلمة من كلامه تجمع علماً

كثيراً!)! انتهي.

فقد وصلوا في كلام عمر إلي درجة كلام النبي صلي الله عليه وآله، وصار عمر لاينطق عن الهوي إن هو إلا حديث الملائكة! والفرق بينهما أن النبي صلي الله عليه وآله مع ذلك قد يخطئ فيصحح له عمر، أما عمر فلايخطئ!

و الفوا مؤلفات في الأخطاء النبوية والتصحيحات العمرية

افتروا علي النبي صلي الله عليه وآله أنه كان يخطئ وكان عمر يصحح له أخطاءه ويسدده وأنه كان يختلف مع النبي صلي الله عليه وآله في الأمر فيوافقه الله تعالي وينزل الوحي طبق رأي عمر! وسموا ذلك موافقات عمر، وقد بحثناها في المجلد الثاني من كتاب (ألف سؤال وإشكال:2/مسألة 144)، وقلنا هناك ما مضمونه: إن الوضع الطبيعي للعلاقة بين النبي صلي الله عليه وآله وعمر أن تكون علاقة مسلم تابع بنبيٍّ متبوع مُطاع، لكن الثابت أن عمر كان كثير الإعتراض علي النبي صلي الله عليه وآله! والتفسير الصحيح لذلك أنه خطأ من عمر، وأن الإعتراض علي رسول الله صلي الله عليه وآله معصية أو رد عليه وكلاهما أمرٌ كبير لأنه صلي الله عليه وآله كما قال الله تعالي:وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي.إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَي... وَمَاآتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللهَ، إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ.

لكن عمر ومجبيه خرجوا عن المألوف، وفسروا اعتراضات عمر بأنه كان دائماً مصيباً، بينما كان النبي صلي الله عليه وآله يقع في الخطأ! وأن الوحي كان ينزل مؤيداً لرأي عمر منتقداً لرأي النبي صلي الله عليه وآله، بل كان أحياناً يوبِّخ النبي صلي الله عليه وآله، معاذ الله!!

فكأن النبي صلي الله عليه وآله عندهم رجلٌ ساذج، يقع في أخطاء فيصححها له عمر!

وكأن المطلوب أن يثبتوا لعمر فضائل، ولو بالطعن في شخصية النبي

صلي الله عليه وآله!

وقد ألفوا في هذا الطعن المغطي به صلي الله عليه وآله كتباً ونظموا أراجيز وسموه (موافقات عمر) ومعناها: موافقات الله تعالي لرأي عمر، ولو بتخطئة رأي النبي صلي الله عليه وآله!!

ففي الأعلام:2/63: (أبو بكر بن زيد بن أبي بكر الحسني الجراعي الدمشقي... (825-883) له.... نفائس الدرر في موافقات عمر).

وفي:3/301: (الجلال السيوطي(849–911)، وعدَّ من مؤلفاته: قطف الثمر في موافقات عمر). وكذا في كشف الظنون:2/1353.

وفي:5/302: (..._937ه_) محمد بن إبراهيم بن محمد بن مقبل البلبيسي... صنَّف: شرح نظم الدرر في موافقات عمر للبدر الغزي).

وفي:7/44: (محمد بن جمال الدين عبد الله بن أبي حفص سراج الدين عمر، من علماء حلب، ولي قضاءها مرات، واستقضيَ بدمشق والقاهرة. له كتب منها... الموافقات العمرية للقرآن الشريف).

وفي معجم المؤلفين:2/22: (أحمد بن النقيب(771-816 ه) أحمد بن علي بن محمد المقدسي... له الموافقات التي وقعت في القرآن لعمر بن الخطاب).

وفي إيضاح المكنون:1/447:(الدر المستطاب في موافقات عمر بن الخطاب، لحامد بن علي بن إبراهيم بن عبد الرحيم العمادي، المفتي الدمشقي الحنفي المتوفي سنة 1171).

وفي:2/658: (نظم الدرر في موافقات عمر، أعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبدر الدين محمد بن محمد الغزي).

وفي هدية العارفين:1/497: (ابن البدر الخطيب عبد الباقي بن عبدا لباقي بن عبد القادر بن عبدا لباقي بن إبراهيم بن عمر البعلي الدمشقي.... ولد سنة 1005 وتوفي في ذي الحجة من سنة1071. من تصانيفه شرح الجامع الصحيح للبخاري لم يكمل. اقتطاف الثمر في موافقات عمر).

وفي:2/233: (محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن بدر بن مفرج بن بدر بن عثمان الغزي...توفي سنة935.... من تصانيفه... شرح نظم الدرر في موافقات

عمر... نظم الدرر في موافقات عمر). انتهي.

قال ابن حجر في فتح الباري:1/200: (وروي البزار باسناد حسن، من حديث أبي سعيد الخدري في هذه القصة أن النبي(ص)أذن لمعاذ في التبشير، فلقيه عمر فقال: لاتعجل، ثم دخل فقال: يا نبي الله أنت أفضل رأياً، إن الناس إذا سمعوا ذلك اتكلوا عليها! قال: فَرُدَّهُ! وهذا معدودٌ من موافقات عمر، وفيه جواز الإجتهاد بحضرته (ص)!!

وقال في فتح الباري:7/42: (عن عمرو بن دينار قال: كان ابن عباس يقرأ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلانَبِيٍّ،ولا محدث. والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي(ص)من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها)!!

وفي تحفة الأحوذي:10/125:(فإن يك في أمتي أحد)أي من المحدثين (فعمر بن الخطاب) وفي بعض النسخ: يكون عمر بن الخطاب، والسبب في تخصيص عمر بالذكر لكثرة ما وقع له في زمن النبي(ص)من الموافقات التي نزل القرآن مطابقاً لها، ووقع له بعد النبي(ص)عدة إصابات). انتهي.

وقال الصالحي في سبل الهدي والرشاد:3/197:(عن عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله(ص)بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض علينا الحرب، علي ألانشرك بالله شيئاً، ولانسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف...

وقوله: علي بيعة النساء، يعني علي وفق ما نزلت عليه بيعة النساء بعد ذلك عام الحديبية، وكان هذا مما نزل علي وفق ما بايع عليه أصحابه ليلة العقبة، وليس هذا بعجيب، فإن القرآن نزل بموافقات عمر بن الخطاب). انتهي.

وفي تاريخ المدينة لابن شبة:3/859: (موافقاته رضي الله عنه... قال ابن عمر: ما أنزل الله أمراً قط فقالوا فيه وقال فيه عمر، إلا نزل القرآن علي نحو ما قال عمر)!

(ورواه أحمد:2/95، والترمذي:5/280، وروي عن ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وآله قال: إن الله جعل الحق علي لسان عمر وقلبه)!

ثم ذكر ابن شبَّه عدداً من موافقات الله تعالي لعمر، بعضها واضح الكذب، وبعضها محرَّف، وفي بعضها تخطئة صريحة للنبي صلي الله عليه وآله!

الي آخر إفراطهم وغلوهم في عمر، الذي هو طعن في النبي صلي الله عليه وآله لامحالة! في مأساة حقيقية للإسلام، صنعتها قريش من أجل عمر، وربت عليها الأجيال!

و اخترع الذهبي قاعدة خاصة لعصمة عمر و أبي بكر

شمس الدين الذهبي(محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الشركسي) من كبار أئمتهم، معروف بكثرة مؤلفاته، وبتشدده في النقد الرجالي والحديثي، لكنه لم يملك نفسه في حب عمر وأبي بكر، فأفتي صراحةً بأن العصمة لا تختص بالأنبياء عليهم السلام بل تشمل معهم نوعين من الناس هما: أبو بكر الصديق لتصديقه بالنبي صلي الله عليه وآله وعمر الفاروق، لأنه حاكم عادل!

شمس الدين الذهبي(محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز الشركسي) من كبار أئمتهم، معروف بكثرة مؤلفاته، وبتشدده في النقد الرجالي والحديثي، لكنه لم يملك نفسه في حب عمر وأبي بكر، فأفتي صراحةً بأن العصمة لا تختص بالأنبياء عليهم السلام بل تشمل معهم نوعين من الناس هما: أبو بكر الصديق لتصديقه بالنبي صلي الله عليه وآله وعمر الفاروق، لأنه حاكم عادل!

قال في كتابه (الموقظة في علم مصطلح الحديث) ص84، بعد أن قسم طبقات أئمة الجرح والتعديل إلي: الحاد، والمعتدل، والمتساهل، قال ما نصه: (والعصمة للأنبياء عليهم السلام، والصديقين، وحكام القسط)!! انتهي.

وبذلك أضاف الذهبي من جيبه إلي الأنبياء عليهم السلام نوعين: الأول، الصديقين ليثبت العصمة لأبي بكر. والثاني، حكام القسط ليثبتها لعمر لأنه حاكم عادل!

وإنما قلنا إنه وضع القاعدة

من أجلهما خاصة، لأنهم لايقولون بعصمة كل صدِّيق، ولا كل حاكم عادل، وإلا لزم أن يقولوا بعصمة كسري الذي رووا أن النبي صلي الله عليه وآله قال فيه (ولدت في زمن الملك العادل)! والذهبي نفسه أعطي وصف الملك العادل لمجموعة سلاطين تراكمة وشراكسة مع أنه لايثبت لهم العصمة، وفيهم رافضي قوي الرفض علي حد قوله، هو رزيك بن طلائع بن رزيك سلطان مصر! قال في أعلام النبلاء:15/208:(وولي مكانه(طلائع) ولده الملك العادل رزيك وكان مليح النظم، قوي الرفض، جواداً شجاعاً، يناظر علي الإمامة والقدر)!

كما وصف: تُقَاق بن سلجوق التركماني بأنه الملك العادل (أعلام النبلاء:18/243) وكذلك وصف ألب أرسلأن (:18/414)، ونور الدين حاكم الموصل(:20/190)، وعلي بن السلار الكردي(:20/281)، وأبا بكر بن أيوب الأيوبي(:23/184)، وطومباي الأول (تذكرة الحفاظ ص7)، وغيرهم ممن لايراهم معصومين! فهو إذن يقصد بحكام القسط والعدل عمر وحده!

و غيروا إسم العصمة لإثباتها لعمر و أبي بكر

اخترعوا للعصمة اسم(الحفظ من الذنوب)ليخففوا علي المسلمين تنقيصهم لمقام نبيهم صلي الله عليه وآله ويستعملوها لأبي بكر وعمر، كما رأيت أنهم اخترعوا تقسيمها إلي عصمة واجبة للأنبياء عليهم السلام وجائزة مستحبة لأبي بكر وعمر!

قال ابن نجيم المصري في البحر الرائق:1/80: (ثبت عن رسول الله(ص) مرسلاً ومسنداً: بينما رسول الله(ص)يصلي بالناس إذ دخل رجل فتردي في حفرة وكان في بصره ضرر، فضحك كثير من القوم وهو في الصلاة، فأمر رسول الله(ص)من ضحك أن يعيد الوضوء والصلاة. وتمامه في فتح القدير. وما قيل بأنه لايظن الضحك بالصحابة خلفه قهقهة، أجيب عنه بأنه كان يصلي خلفه الصحابيون والمنافقون والأعراب الجهال، فالضاحك لعله كان بعض الأحداث أو المنافقين، أو بعض الأعراب لغلبة الجهل عليهم، كما بال أعرابي في مسجد النبي(ص). وهو نظير قوله تعالي: (وتركوك قائماً) فإنه لم

يتركه كبار الصحابة باللهو. قال في العناية: وهذا من باب حسن الظن بهم رضي الله عنهم، وإلا فليس الضحك كبيرة، وهم ليسوا من الصغائر بمعصومين ولا عن الكبائر، علي تقدير كونه كبيرة. ا ه_. والمنقول في الأصول أن الصحابة عدول فهم محفوظون من المعاصي)!! انتهي.

وقال ابن حجر في فتح الباري:1/244: (قال ابن بن المنذر...وتمسكوا بحديث لايصح، وحاشا أصحاب رسول الله (ص)الذين هم خير القرون أن يضحكوا بين يدي الله تعالي خلف رسول الله (ص)). انتهي.

فاعجب لهم كيف تجاهلوا قوله تعالي: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قائماً قُلْ مَاعِنْدَاللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وتجاهلوا الأحاديث المستفيضة التي تقول إن الصحابة قطعوا صلاتهم وتركوا الصلاة وأبا الصلاة، ولم يبق مع النبي صلي الله عليه وآله في المسجد إلا بضع عشرة، أوبضعة نفر!

ومع ذلك تراهم يقولون: حاشا أصحاب رسول الله (ص)خير القرون أن يضحكوا بين يدي الله تعالي، فهم محفوظون من المعاصي!!

و من لعبهم بالألفاظ و ادعائهم الأدب مع النبي

قولهم في تحفة الأحوذي في شرح الترمذي:2/481، في شرح دعاء النبي صلي الله عليه وآله بالسلامة من كل إثم: (قال العراقي: فيه جواز سؤال العصمة من كل الذنوب، وقد أنكر بعضهم جواز ذلك، إذ العصمة إنما هي للأنبياءوالملائكة عليهم السلام.

قال والجواب: أنها في حق الأنبياءوالملائكة واجبة، وفي حق غيرهم جائزة، وسؤال الجائز جائز، إلا أن الأدب سؤال الحفظ في حقنا لا العصمة، وقد يكون هذا هو المراد هنا). انتهي.

يقصد بذلك أنه ينبغي للمسلم لزوم الأدب مع رسول الله صلي الله عليه وآله وحفظ مقام العصمة الخاص به صلي الله عليه وآله، فلا يدعو لنفسه بالعصمة من الذنوب بل بالحفظ منها.

وظاهره حسن أدب

مع النبي صلي الله عليه وآله، لكنهم يتنازلون عنه إذا جاء الحديث عن عمر ويطلقون لهواهم العنان في عصمته فيجعلونه معصوماً بدرجة أعلي من عصمة النبي صلي الله عليه وآله! فإذا ناقشتهم قالوا لا بأس بذلك فنحن نراعي الأدب مع النبي صلي الله عليه وآله ونحفظ حرمته ومقامه، ونقول إن عمر محفوظ من الذنوب والمعاصي، وإن الشيطان كلما رآه صرخ وهرب!!

و منهم أخذ الصوفيون عصمة الأقطاب و حفظ الأولياء

قال الشعراني في العهود المحمدية ص8: (ولذلك لم يقع الإحتلام إلا من المريدين والعوام دون الأكابر! فإن الأكابر إما معصومون كالأنبياء، أو محفوظون كالأولياء! ثم إن وقع أن أحداً من أكابر الأولياء احتلام، فإنما يكون ذلك في حليلته من زوجة أو جارية لا فيما لايحل له، وسببه غفلته عن تدبير جسده، لما هو عليه من الإشتغال بالله عز وجل، أو أمر المسلمين، كما بلغنا أن عمر بن الخطاب(رض)احتلم في جاريته، وقال: قد ابتلينا بهذا الأمر منذ اشتغلنا بأمر المسلمين)! انتهي.

يقصد الشعراني بذلك أن الأكابر مثل عمر وأبي بكر والأقطاب، يصح أن نستعمل فيهم لفظ العصمة، لأنهم معصومون كالأنبياء عليهم السلام، أما الأولياء فنقول عنهم إنهم محفوظون من الذنوب، ولا نقول إنهم معصومون.

ويقول الشعراني إن أكابر الأولياء لايرون أحلاماً جنسية لأنهم مستغرقون في الله تعالي، أو في التفكير أمر المسلمين وقضاياهم! وإذا حدث ذلك فإنهم يحتلمون بزوجاتهم، كما حدث لعمر فقد كان كل عمره مستغرقاً في الله تعالي لايحتلم، ثم استغرق بأمور المسلمين السياسية، فحدث أن احتلم ذات مرة، لكن بجاريته وليس بامرأة أجنبية!

وقال المقريزي في فضل آل البيت ص92: (وما تجد في القرآن عباداً مضافين إليه سبحانه إلا السعداء خاصة، وجاء اللفظ في غيرهم بالعباد، فما ظنك بالمعصومين المحفوظين منهم،

القائمين بحقوق سيدهم، الواقفين عند مراسمه وحدوده، فشرفهم أعلي، وهؤلاء هم أقطاب هذا المقام).انتهي.

وقال البيومي في كتابه السيدة فاطمة الزهراء ص82: (وقد ذهب البعض إلي أن آل البيت(يقصدكل ذرية علي وفاطمة عليهما السلام)محفوظون من الكبائر بعناية الله، فقد فطرهم علي حبه وحب طاعته، والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام.

وذهب قوم إلي أن القطب في كل عصر، لابد وأن يكون من أهل البيت النبوي الشريف، وإن رأي أبو العباس كما نقل عنه تلميذه ابن عطاء، أن القطب قد يكون من غيرهم، ولكن قطب الأقطاب لا يكون إلا منهم، لأنهم أزكي الناس أصلاً وأوفرهم فضلاً، غير أن القطب من شأنه غالباً الخفاء وعدم الظهور، فإذ لم يوجد في الظاهر من أهل البيت من يصلح للإتصاف بالقطبية، حمل علي أنه قام بذلك رجل منهم في الباطن، وأما القائم بتجديد الدين فلا بد أن يكون ظاهراً حتي يسير علمه في الأفاق، وينتشر في الأقطار). انتهي.

رأي التفتازاني: في عصمة أبي بكر و عمر و عدالة باقي الصحابة

سعد الدين التفتازاني من كبار العلماء المنظِّرين لمذهب الحكومات القرشية،

جاء في معجم المطبوعات العربية:1/635: (التفتازاني، سعد الدين(722-793هجرية) مسعود بن عمر بن عبد الله سعد الدين التفتازاني الهروي الشافعي الخراساني التفتازاني، نسبة إلي تفتازان بلدة بخراسان ولد فيها، كان من محاسن الزمان، لم تر العيون مثله في الأعلام والأعيان. وهو الأستاذ علي الإطلاق، والمشار إليه بالإتفاق. اشتهرت تصانيفه في الأرض وأتت بالطول والعرض). انتهي.

وكتابه شرح المقاصد من أهم كتبهم الكلامية المعتمدة، وقد سجل فيه رأيه في الصحابة فقال في:5/310: (ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات علي الوجه المسطور في كتب التواريخ، والمذكور علي ألسنة الثقات، يدل بظاهره علي أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق، وبلغ حد

الظلم والفسق، وكان الباعث عليه الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرياسات والميل إلي اللذات والشهوات، إذ ليس كل صحابي معصوماً، ولا كل من لقي النبي (ص) بالخير موسوماً. إلاأن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله(ص)ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلي أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق، صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة، سيما المهاجرين منهم والأنصار، المبشرين بالثواب في دار القرار.

وأما ما جري بعدهم من الظلم علي أهل بيت النبي(ص)، فمن الظهور بحيث لامجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه علي الآراء، ويكاد تشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له من في الأرض والسماء، وتنهدُّ منه الجبال، وتنشق منه الصخور، ويبقي سوء عمله علي كر الشهور ومر الدهور، فلعنة الله علي من باشر، أو رضي، أوسعي، ولعذاب الآخرة أشد وأبقي.

فإن قيل: فمن علماء المذهب من لايجوِّز اللعن علي يزيد، مع علمهم بأنه يستحق ما يربو علي ذلك ويزيد.

قلنا: تحامياً علي أن يرتقي إلي الأعلي فالأعلي، كما هو شعار الروافض، علي ما يروي في أدعيتهم، ويجري في أنديتهم، فرأي المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية، طريقاً إلي الإقتصاد في الإعتقاد، بحيث لاتزلُّ الأقدام عن السواء، ولا تضل الأفهام بالأهواء!! وإلا فمَن خفيَ عليه الجواز والإستحقاق، وكيف لايقع عليهما الإتفاق؟! وهذا هو السر فيما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال، وسد طريق لايؤمن أن يجر إلي الغواية في المآل، مع علمهم بحقيقة الحال وجلية المقال)!! انتهي.

وفي هامش الإصابة:1/25:(وقال السعد التفتازاني: يجب تعظيم الصحابة والكف عن مطاعنهم، وحمل ما يوجب بظاهره الطعن فيهم علي محامل وتأويلات، سيما المهاجرين والأنصار، وأهل بيعة الرضوان، ومن شهد بدراً

وأحداً والحديبية، فقد انعقد علي علو شأنهم الإجماع، وشهد بذلك الآيات الصراح، والأخبار الصحاح. وللروافض سيما الغلاة منهم مبالغات في بغض البعض من الصحابة رضي الله عنهم والطعن فيهم، بناء علي حكايات وافتراءات لم تكن في القرن الثاني والثالث! فإياك والإصغاء إليها فإنها تضل الأحداث، وتحير الأوساط وإن كانت لاتؤثر فيمن له استقامة علي الصراط المستقيم، وكفاك شاهداً علي ما ذكرنا أنها لم تكن في القرون السالفة ولا فيما بين العترة الطاهرة، بل ثناؤهم علي عظماء الصحابة وعلماء السنة والجماعة، والمهديين من خلفاء الدين، مشهور في خطبهم ورسائلهم وأشعارهم). انتهي.

نقد منطق التفتازاني في العصمة في مسائل

المسألة 01

اعترف التفتازاني بأن بعض الصحابة قد انحرف بعد النبي صلي الله عليه وآله عالماً عامداً وكان دافعه إلي ذلك علي حد تعبيره: (الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرياسات، والميل إلي اللذات والشهوات)! وأن صحبة النبي صلي الله عليه وآله لاتوجب العصمة ولا العدالة، فقد صدرت منهم المعاصي والظلم والفسق!

وما داموا لايعرفون من هم المنحرفون من الصحابة، ولا مقياس عندهم مثلنا حيث نقول بأن العترة هم المقياس لجميع الصحابة، فوجب عليهم أن يجروا فيهم حكم الشبهة المحصورة، ويحرِّموا علي المسلمين أن يتلقَّوْا منهم دينهم بعد النبي صلي الله عليه وآله! فقد أفتي فقهاؤهم وفقهاؤنا بأنه إذا اشتبه إناء نجس بآنية طاهرة ولم يتميز، وجب اجتناب الجميع ولا يصح الوضوء بأي منها!

قال العلامة الحلي في نهاية الأحكام:1/253: (فلو اشتبه إناء طاهر بماء الغالب في مثله النجاسة كان كما لو اشتبه بمتيقن النجاسة، فيحتاج إلي الإجتهاد).انتهي.

فإن قلت: أفتي بعضهم في هذه الحالة بجواز العمل بما غلب الظن علي أنه طاهر فيصح الوضوء به، قال النووي في المجموع:1/180:(إذا اشتبه ماءان طاهر ونجس، ففيه ثلاثة

أوجه: الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور وتظاهرت عليه نصوص الشافعي أنه لاتجوز الطهارة بواحد منهما إلا إذا اجتهد وغلب علي ظنه طهارته بعلامة تظهر، فإن ظنه بغير علامة تظهر لم تجز الطهارة به... وسواء عندنا كان عدد الطاهر أكثر أو أقل حتي لو اشتبه إناء طاهر بمائة إناء نجسة تحري فيها، وكذلك الأطعمة والثياب، هذا مذهبنا، ومثله قال بعض أصحاب مالك. كذا قال بمثله أبو حنيفة في القبلة والطعمة والثياب، وأما الماء فقال لايتحري إلا بشرط أن يكون عدد الطاهر أكثر من عدد النجس. وقال أحمد وأبو ثور والمزني: لايجوز التحري في المياه بل يتيمم، وهذا هو الصحيح عند أصحاب مالك). (راجع أيضاً إعانة الطالبين:1/45).

فالجواب: أولاً، أن الأصل في الظن عدم الحجية كما قال الله تعالي: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظناً إِنَّ الظَّنَّ لايُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شيئاً.(يونس:36) فلا حجية للظن إلا بدليل شرعي من كتاب أوسنة، ولو سلمنا أن الله تعالي أجاز الإعتماد علي غلبة الظن في الأواني والأطعمة المشتبهة كعدد الركعات تسهيلاً علي العباد، فلا يدل ذلك علي جواز الإعتماد علي الظن في تلقي الدين بعد النبي صلي الله عليه وآله من صحابته، ونحن نعلم كما اعترف التفتازاني بأن فيهم أهل دنيا كذابين!

إن مجرد وجود هؤلاء فيهم مع عدم إمكانية تمييزهم، يرفع الإطمئنان بأن ما رواه هذا الصحابي من الدين فيجب التوقف!

ثم لو سلمنا أن وثاقة الصحابي وعدالته تابعة لغلبة ظن المسلم، فمعناه فتح باب الإجتهاد فيهم، وهذا ما يقفون ضده بشدة.

وثانياً، إن دليلهم علي حجية الظن في الإناء المشتبه هو عمل الصحابة واتفاقهم عليه، فلو أردنا أن نثبت به حجية قول الصحابة، لزم الدور!

قال الغزالي في المستصفي

ص253: (لو اشتبه إناء نجس بعشر أوان طاهرة فلا ترجيح للأكثر، بل لا بد من الإجتهاد والدليل، ولا يجوز أن يأخذ واحداً ويقدر حله أو طهارته، لأن جنسه أكثر.

لكنا نقول: الظن عبارة عن أغلب الإحتمالين، ولكن لايجوز اتباعه إلا بدليل، فخبر الواحد لايورث إلا غلبة الظن من حيث أنَّ صدق العدل أكثر وأغلب من كذبه، وصيغة العموم تتبع، لأن إرادة ما يدل عليه الظاهر أغلب وأكثر من وقوع غيره. والفرق بين الفرع والأصل ممكن غير مقطوع ببطلانه في الأقيسة الظنية، لكن الجمع أغلب علي الظن، واتباع الظن في هذه الأصول لا لكونه ظناً، لكن لعمل الصحابة به واتفاقاتهم عليه). انتهي.

فقد تشدد الغزالي حتي في الظن الحاصل من خبر الواحد الثقة، وحكم بأنه ليس حجة في ذاته، بل لعمل الصحابة به واتفاقهم عليه! فهو يرجع بالحقيقة إلي حجية إجماع الصحابة، وستعرف ما فيه.

وثالثاً، إن إجماع الصحابة بدون القول بعصمة بعضهم لايفيد العلم.

ولو سلمنا حجيته نظرياً، فكيف نطبقه عملياً ونحن لا نكاد نجد مسألة عقيدية أو فقهية أو سياسية، إلا وقد روي فيها عنهم الرأي وخلافه!

فبيعة أبي بكر التي يضربونها مثلاً لإجماعهم، يعترفون بأن الإجماع فيها انتقض بمخالفة سعد بن عبادة وفاطمة الزهراء عليها السلام وأهل البيت عليهم السلام وعديدين من المهاجرين والأنصار!

المسألة 02

لايغرُّك أن التفتازاني بدأ كلامه بالإعتراف بأن ما وقع بين الصحابة كان صراعاً علي السلطة، حسداً وطمعاً في الدنيا والرئاسة والشهوات، فقد عاد وبرَّرَ كل ذلك بقوله إنه: (يدل بظاهره علي أن بعضهم قد حاد عن طريق الحق) فظاهر قولهم وفعلهم عنده الظلم والفسق، أما باطنه فهو الحق والعدالة من بعضهم، والعدل والعصمة من كبارهم! وبذلك تعرف كيف

أتقن هذا الإيراني أسلوب المحامين المعاصرين في صياغة كلامه، للدفاع عن نظرية الصحابة القرشية!

وتعرف أن أتباع الحكومات القرشية يقعون في التناقض الذي يعيبونه علي الإسماعيلية الباطنية، فقد قلنا لبعض أتباع الإسماعيلة إن إمامهم يشرب الخمر علناً، فأجاب إن عمله في الظاهر شربُ خمر، أما في الباطن فإنه بمجرد أن يلمس زجاجة الويسكي بيده الشريفة تتحول إلي شراب طهور من الجنة!

فما الفرق بين مقولتهم ومقولة التفتازاني في ظاهر عمل الصحابة وباطنه؟!

وقد بلغت براعة التفتازاني ذروتها في قراءته التعزية علي ظلم أهل البيت النبوي صلوات الله عليهم، لكنه بَرَّأ الصحابة من ذلك بمن فيهم معاوية، وهاجم يزيد بن معاوية وأدانه بجريمة قتل الإمام الحسين عليه السلام، ثم تراجع وأثبت له حق الحصانة، حتي لاتصعد الإدانة إلي من فوقه من الصحابة!

فهل رأيت محامياً محترفاً أبرع منه في الدفاع عن جرائم أئمته؟!

المسألة 03

يظهر أن التفتازاني يقول بعصمة أبي بكر وعمر من بين الصحابة! فقد قال: (إذ ليس كل صحابي معصوماً، ولا كل من لقي النبي(ص)بالخير موسوماً. إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله (ص)ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلي أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق، صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة)!

فقوله: (إذ ليس كل صحابي معصوماً) يشعر بأن بعضهم قد يكون معصوماً! وكلامه بعده يدل علي أنه ارتضي قول (العلماء) أي علماء مذاهب السلطة القرشية في تبرير جميع أقوالهما وأفعالهما وإنهما محفوظان من الضلال والمعصية! وهذه هي العصمة بعينها! فهويقول بها لمن سماهم (كبار الصحابة) ويقصد بهم أبا بكر وعمر فقط، وربما قصد معهما عثمان وعلياً عليه السلام

المسألة 04

إن دليل(العلماء) الذي ارتضاه التفتازاني علي مقام العصمة لأبي بكر وعمر، ومقام العدالة لبقية الصحابة، مع الإعتراف بجرائم بعضهم، أجمله في قوله: (إلا أن العلماء لحسن ظنهم بأصحاب رسول الله(ص)ذكروا لها محامل وتأويلات بها تليق، وذهبوا إلي أنهم محفوظون عما يوجب التضليل والتفسيق، صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حق كبار الصحابة، سيما المهاجرين منهم والأنصار المبشرين بالثواب في دار القرار).

وترجمته بالعربية:أن عقيدة المسلمين فيهم يجب أن تحفظ، لأنهم مبشرون بالجنة!

وهو مصادرة واضحة، لأن البحث فيما يجب أن تكون عقيدة المسلمين فيهم، هل هي العدالة أو العصمة، أو أن الأصل عدم أي منهما حتي تثبت قطعياً؟

وكان ينبغي للتفتازاني المنطقي أن يقول: يجب التوقف في الصحابة، لأن الله مدح بعضهم وبشرهم بالجنة، وذم بعضهم وأخبر أنهم سينقلبون بعد النبي صلي الله عليه وآله فقال:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي

أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).(آل عمران:144). ولأن النبي صلي الله عليه وآله مدح بعضهم ووعدهم الجنة، وذم أكثرهم وأخبر أنهم في النار كما في صحيح البخاري:7/209، عن أبي هريرة عن النبي(ص)قال: بينا أنا قائم فإذا زمرة حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلمَّ! فقلت أين! قال إلي النار والله! قلت: وما شأنهم؟قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري، ثم إذا زمرة حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال هلمَّ! قلت أين؟ قال إلي النار والله! قلت: ما شأنهم؟ قال إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم)!!

وهمل النعم كما في مقدمة فتح الباري: ص197: الإبل بغير راع وكذا غيرها، أي الصحابة الخارجون علي السلطة، وهم الشاكرون في الآية.

كان ينبغي للتفتازاني أن يقول مادامت النتيجة المنطقية تتبع أخس المقدمات، فليس بوسعنا إلا التوقف في أمر الصحابي حتي تثبت عدالته أو عصمته!

لكنه كرر دليله الواهي بقوله: (يجب تعظيم الصحابة والكف عن مطاعنهم، وحمل مايوجب بظاهره الطعن فيهم علي محامل وتأويلات، سيما المهاجرين والأنصار وأهل بيعة الرضوان، ومن شهد بدراً وأحداً والحديبية، فقد انعقد علي علو شأنهم الإجماع، وشهد بذلك الآيات الصراح، والأخبار الصحاح).

وكلامه هذا دعوة إلي تعطيل العقل والشرع، وإلغاء ما قرره عامة عقلاء المجتمعات البشرية، وعلماء البيان والفقه والأصول، من حجية ظواهر الكتاب والسنة، وظواهر أقوال الناس وأفعالهم! فإن فتواه بوجوب(حمل ما يوجب بظاهره الطعن فيهم علي محامل وتأويلات) دعوةٌ صريحة إلي القول بعصمة الصحابة، وإلغاء الظاهر، واتباع المذهب الباطني بأسوأ أنواع الباطنية!

أما قوله إن الآيات الصريحة تدل علي علو شأنهم فهو كلام

تعمد إبهامه، فإنْ قصد أنها تدل علي عصمتهم جميعاً، ووجوب تأويل ظاهر معاصيهم وانحرافهم فهو ممنوع. وإن قصد أنها تدل علي أن بعضهم من أهل الجنة، فهو صحيح، لكن لمَّا لم يدل دليلٌ عندهم علي تمييزهم، كان حكمهم حكم الشبهة المحصورة وهو وجوب اجتناب كل أطرافها حتي يتميز الطاهر فيها من النجس، والحلال من الحرام، والمتهم من البرئ، وأهل الجنة من أهل النار!

وأما دعواه إجماع المسلمين علي علو شأنهم، ونسبته إلي أهل البيت عليهم السلام مديحهم، فهو ممنوع، بل الثابت بشهادة علمائهم نقض هذا الإجماع، وطعن أهل البيت عليهم السلام وغيرهم في أهل السقيفة، ومن ذلك اعتراف عمر بأن علياً والعباس شهدا عليه وعلي أبي بكر بأنهم غادران خائنان آثمان! (صحيح مسلم:5/152)

ولو لم يكن إلا خطية علي عليه السلام الشقشقية لكفت، ولا يتسع المجال للإفاضة!

فظهر أن التفتازاني يقول بعصمة الصحابة بعضاً أو كلاً، ويقول بعدالتهم كلاً، لكنه لم يقدم دليلاً واحداً علي ذلك، إلا التقليد للسلطة وعلمائها!

ابوبكر و عمر معصومان عند الغزالي، لكن لا يجب تقليدهما

عندما يبحث علماؤهم حجية قول الصحابي، يصرِّحون بعدم عصمة الصحابة، لكنهم عملياً يعصمون الشيخين! قال الغزالي في المستصفي:ص170:

(إن قال قائل: إن لم يجب تقليدهم، فهل يجوز تقليدهم؟

قلنا: أما العامي فيقلدهم، وأما العالم فإنه إن جاز له تقليد العالم جاز له تقليدهم وإن حرمنا تقليد العالم للعالم فقد اختلف قول الشافعي رحمه الله في تقليد الصحابة، فقال في القديم: يجوز تقليد الصحابي إذا قال قولاً وانتشر قوله ولم يخالف. وقال في موضع آخر: يقلد وإن لم ينتشر، ورجع في الجديد إلي أنه لايقلد العالم صحابياً، كما لايقلد عالماً آخر.

ونقل المزني عنه ذلك وأن العمل علي الأدلة التي بها يجوز للصحابة الفتوي، وهو

الصحيح المختار عندنا إذ كل مادل علي تحريم تقليد العالم للعالم كما سيأتي في كتاب الإجتهاد لايفرق فيه بين الصحابي وغيره.

فإن قيل: كيف لايفرق بينهم مع ثناء الله تعالي وثناء رسول الله(ص)قال تعالي: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمرمِنْكُمْ...وقال تعالي: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ...وقال رسول الله(ص):خير الناس قرني. وقال(ص):أصحابي كالنجوم إلي غير ذلك؟

قلنا: هذا كله ثناء يوجب حسن الإعتقاد في علمهم ودينهم ومحلهم عند الله تعالي، ولايوجب تقليدهم لاجوازاً ولا وجوباً، فإنه (ص)أثني أيضاً علي آحاد الصحابة، ولايتميزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه، كقوله (ص): لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين لرجح. وقال (ص): إن الله قد ضرب بالحق علي لسان عمر وقلبه، يقول الحق وإن كان مراً. وقال لعمر: والله ما سلكت فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غير فجك. وقال (ص) في قصة أساري بدر حيث نزلت الآية علي وفق رأي عمر: لو نزل بلاء من السماء ما نجا منه إلا عمر. وقال صلوات الله عليه: إن منكم لمحدثين وإن عمر لمنهم. وكان علي(رض)وغيره من الصحابة يقولون: ما كنا نظن إلا أن ملكاً بين عينيه يسدده وأن ملكاً ينطق علي لسانه! وقال (ص) في حق علي: اللهم أدر الحق مع علي حيث دار، وقال(ص): أقضاكم علي، وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل). انتهي.

وقد ناقض الغزالي نفسه، فقد شهد بعصمة أبي بكر وعمر وعلي، ثم قال: (ولايتميزون عن بقية الصحابة بجواز التقليد أو وجوبه)! وقال: (إذ كل ما دل علي تحريم تقليد العالم للعالم...لايفرق فيه بين الصحابي وغيره). انتهي.

فإن الدرجة التي أثبتها لهم هي درجة العصمة، وهي توجب علي الأمة اتباعهم، وهي فوق درجة التقليد

ورجوع الجاهل إلي العالم، أو إلي أهل الخبرة.

بل ما دام الغزالي يعتقد بأن النبي صلي الله عليه وآله شهد بأن إيمان أبي بكر يَرْجُح علي إيمان العالمين بمن فيهم الأنبياءأو باستثناء الأنبياء عليهم السلام، فالواجب علي العالمين أن يقتدوا به في قوله وفعله، وإلا لم يؤمن عليهم الضلال!

ومادام عمر كالنبي صلي الله عليه وآله لاينطق عن الهوي، بل ينطق علي لسانه ملك معصوم، وتحدثه الملائكة، ويهرب منه الشيطان الذي لايهرب من الأنبياء عليهم السلام! فالواجب علي المسلمين أن يقتدوا به في قوله وفعله، وإلا لم يؤمن عليهم الضلال!

وما دام النبي صلي الله عليه وآله دعا لعلي عليه السلام أن يجعل الله معه الحق أينما دار، ودعاؤه صلي الله عليه وآله مستجاب، فالواجب علي المسلمين أن يقتدوا به في قوله وفعله، وإلا لم يؤمن عليهم أن يتركوا الحق ويتبعوا الباطل!

لكن لايغرك قول الغزالي وغيره بعدم وجوب إطاعة أبي بكر وعمر وعدم عصمتهما، فإنما يقولونه بألسنتهم، و وستري أنهم عندما يصلون إلي عملهم وسيرتهم، يتبنون عصمتهم بالكامل، ويدافعون عن أفعالهم ليثبتوا أنها كلها صحيحة، وأنهم لم يرتكبوا معصية أبداً، لاصغيرة ولا كبيرة، حتي فيما خالفوا فيه النبي صلي الله عليه وآله! أما إذا وصلوا إلي حكم من يرفض شرعية خلافتهما، فيحكمون بكفره ويهدرون دمه، ويوجبون قتله! فيثبتون لهما درجة فوق العصمة، ويجعلون ولايتهما ركناً قام عليه الإسلام، إلي صف التوحيد والنبوة أو قبلهما!!

بل يصل بهم الأمر أنهم يجعلون ولايتهما أعظم من ولاية الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وآله لأنهم لا يحكمون دائماً بالكفر والقتل علي من عصي الله ورسوله صلي الله عليه وآله!!

ليس من المبالغة أن نقول إن غيرتهم علي

أبي بكر وعمر، وشدَّتَهم علي من رفضهم، أعظم من غيرتهم علي الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وآله! وبعضهم يضيف اليهم عائشة وحفصة وعثمان ومعاوية.

وهذا التاريخ يشهد بأنه لم تضطهد أمة من الأمم من أجل شخصين،كما اضطهد ملايين المسلمين من أجل عمر وأبي بكر، ولم تُرق دماءٌ بذنب رفض ولاية أحد، كما أريقت بذنب رفض ولاية أبي بكر وعمر!

لقد أقاموا كل عقيدتهم وفقههم ودولهم وتاريخهم وتربية أبنائهم وبناتهم، علي تقديسهما واضطهاد من لايقبلهما، حتي كان أجيال الشيعة في زمن الأمويين والعباسيين والعثمانيين، يتمنون أن تعاملهم دولة الخلافة القرشية معاملة المنكرين لله ورسوله صلي الله عليه وآله، ليخف جرمهم، واضطهادهم، وتقتيلهم!!

هل تشيع الغزالي في آخر عمره؟

للغزالي كتاب اسمه (سر العالمَيْن وكشف مافي الداريْن)نقل الدكتور الخليلي في كتابه (السقيفة أم الفتن) ص114، عن مخطوطته في دار الكتب المصريةرقم:1/316.

وقد طبع الكتاب في الهند ومصر والعراق وبيروت وإيران، وهو مرتب علي مقالات، وقد أظهر فيه تشيَّعه بصراحة، ولذا شكك بعضهم في نسبته اليه!

قال المرحوم الطهراني في الذريعة إلي تصانيف الشيعة:12/168:

(120:سر العالمين) المنسوب إلي الغزالي. كتاب شيعي نسبه إليه في تذكرة خواص الأمة، وتاج العروس، والإتحاف في شرح الإحياء. فراجعه).

وتابعه إليان سركيس في معجم المطبوعات العربية:2/1412، فقال: (سر العالمين وكشف ما في الدارين، وهو منسوب للغزالي والصواب أنه لأحد الباطنية- هند 1314 مصر1324). كما وافقه الباحث السيد جعفر مرتضي فشكك بنسبة الكتاب إلي الغزالي. (مجلة تراثنا:2/97 و:4/173)

بينما خالفهم عديدون ونسبوا الكتاب إلي الغزالي كالبغدادي في إيضاح المكنون:2/11، قال: (سر العالميْن وكشف ما في الداريْن لأبي حامد الغزالي محمد بن محمد). ونحوه في هدية العارفين:2/80، وكذا القاضي نورالله التستري في كتابه مجالس المؤمنين، والفيض الكاشاني في الوافي،

والطريحي في مجمع البحرين، والأميني في الغدير:1/391، والمرعشئ في شرح إحقاق الحق:33/244، كما نقلوا ذلك عن المحقق الكركي.

وقال الماحوزي في الأربعين ص151: (ذكر مولانا محسن الكاشئ في المحجة البيضاء أن ابن الجوزي الحنبلي ذكر في بعض تصانيفه أن الغزالي ترفض في آخر عمره، وأظهر رفضه في كتاب سر العالمين).

ووافقهم السيد الميلاني في نفحات الأزهار:1/102و:9/ 184، مؤيداً ما استدلوا به من نسبة ابن الجوزي الكتاب إلي الغزالي في تذكرة الخواص ص62، والذهبي في ميزان الإعتدال:1/500، وفي طبعتنا:2/215، حيث اعتمد عليه فقال: (قال أبو حامد الغزالي في كتاب (سر العالميْن): شاهدت قصة الحسن بن الصباح لما تزهَّد تحت حصن ألَمُوت فكان أهل الحصن يتمنون صعوده إليهم، ويمتنع ويقول: أما ترون المنكر قد فشا وفسد الناس! فتبعه خلق، ثم خرج أمير الحصن يتصيد فنهض أصحابه وملكوا الحصن!) انتهي.

أقول: وهذا هو الصحيح، والعبارة موجودة في سر العالمين، ولا توجد في غيره. وقد نقل عنه الذهبي أيضاً في:19/403، نفس عبارته في ميزان الإعتدال وقال قبلها في ترجمة الغزالي:19/327: (ومن معجم أبي علي الصدفي، تأليف القاضي عياض له، قال: والشيخ أبو حامد، ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف العظيمة، غلا في طريقة التصوف، وتجرد لنصر مذهبهم وصار داعية في ذلك، وألف فيه تواليفه المشهورة، أخذ عليه فيها مواضع، وساءت به ظنون أمة! والله أعلم بسره، ونفذ أمر السلطان عندنا بالمغرب وفتوي الفقهاء بإحراقها والبعد عنها فامتُثل ذلك. مولده سنة خمسين وأربع مئة.

قلتُ(الذهبي): ما زال العلماء يختلفون ويتكلم العالم في العالم باجتهاده، وكل منهم معذور مأجور، ومن عاند أو خرق الإجماع فهو مأزور، وإلي الله ترجع الأمور. ولأبي المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في كتاب رياض الأفهام في مناقب أهل

البيت قال: ذكر أبو حامد في كتابه سر العالميْن وكشف ما في الداريْن فقال في حديث: من كنت مولاه فعلي مولاه، إن عمرقال لعلي: بخ بخ أصبحت مولي كل مؤمن ومؤمنة. قال أبو حامد: وهذا تسليم ورضي، ثم بعد هذا غلب عليه الهوي، حباً للرياسة وعقْد البنود، وأمر الخلافة ونهيها، فحملهم علي الخلاف فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون! وسرد كثيراً من هذا الكلام الفسل الذي تزعمه الإمامية، وما أدري ما عذره في هذا! والظاهر أنه رجع عنه وتبع الحق فإن الرجل من بحور العلم، والله أعلم.

هذا إن لم يكن هذا وضع هذا وما ذاك ببعيد، ففي هذا التأليف بلايا لاتتطبب! وقال في أوله:إنه قرأه عليه محمد بن تومرت المغربي سراً بالنظامية، قال: وتوسمت فيه الملك). انتهي.

أقول:لم يعين الذهبي من اتهمه باحتمال وضع الكتاب، بقوله (هذا إن لم يكن هذا وضع هذا وما ذاك ببعيد)! فهل يقصد الصدفي، أم القاضي عياضاً! مع أنه ترجم لهما ووصف كلاً منهما بالإمام ومدحهما كثيراً، قال في سير أعلام النبلاء:20/212: (القاضي عياض: الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الإسلام القاضي أبو الفضل عياض بن موسي بن عياض بن عمرو بن موسي بن عياض اليحصبي الأندلسي، ثم السبتي المالكي. ولد في سنة ست وسبعين وأربع مئة... الخ.).

وقال في تذكرة الحفاظ:4/1253: (الإمام الحافظ البارع أبو علي الحسين بن محمد بن فيرة بن حيون الصدفي السرقسطي الأندلسي...الخ.). انتهي.

فتشكيك الذهبي في الكتاب بدون حجة بعد ما اعتمد عليه كبار علمائهم!

أما البلية التي لاتتطبب عند الذهبي فهي قول الغزالي في سر العالمين ص21:

(المقالة الرابعة في ترتيب الخلافة والمملكة: اختلف العلماء في ترتيب الخلافة وتحصيلها لمن

آل أمرها إليه، منهم من زعم أنها بالنص ودليلهم قوله تعالي: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلي قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عذاباً أَلِيماً) (الفتح:16) وقد دعاهم أبو بكر إلي الطاعة بعد رسول الله(ص)فأجابوا.

وقال بعض المفسرين في قوله تعالي: وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إلي بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حديثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ. (التحريم:3)، قال في الحديث: إن أبا بكر هو الخليفة من بعدي يا حميراء، وقالت امرأة: إذا فقدناك فالي من نرجع؟ فأشار إلي أبي بكر، ولأنه أمَّ بالمسلمين علي بقاء رسول الله(ص)والإمامة عماد الخلافة. هذه جملة ما يتعلق به القائلون بالنصوص.

ثم تأولوا وقالوا: إذ لو كان عليٌّ أول الخلفاء لانسحب عليهم ذيل الفناء، ولم يأتوا بفتوح ولا مناقب، ولا يقدح في كونه رابعاً للخلفاء، كما لايقدح في نبوة رسول الله صلي الله عليه وآله إذ كان آخراً.

والذين عدلوا عن هذه الطريقة زعموا أن هذا تعلق فاسد جاء علي زعمكم وأهويتكم، وقد وقع الميراث في الأحكام والخلافة، مثل داود وسليمان وزكريا ويحيي، قالوا: كان لأزواجه ثمن الخلافة فبهذا تعلقوا. وهذا باطل، إذ لو كان ميراثاً لكان العباس أولي.

لكن أسفرت الحجة وجهها، وأجمع الجماهير علي متن الحديث من خطبته في يوم غدير خم باتفاق الجميع وهو يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال عمر: بخ بخ يا أبا الحسن لقد أصبحت م ولأي ومولي كل مولي، فهذا تسليمٌ ورضاً وتحكيم. ثم بعد هذا غلب الهوي بحب الرئاسة، وحَمْلُ عمود الخلافة، وعقود

البنود، وخفقان الهوي، في قعقعة الرايات، واشتباك ازدحام الخيول، وفتح الأمصار، سقاهم كأس الهوي، فعادوا إلي الخلاف الأول، فنبذوه وراء ظهورهم، واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون.

ولما مات رسول الله صلي الله عليه وآله قال وقت وفاته: إيتوني بدواة وبياض لا زيل عنكم إشكال لأمر، وأذكر لكم من المستحق لها بعدي! قال عمر: دعوا الرجل فإنه ليهجر وقيل ليهذر. فإذن بطل تعلقكم بتأويل النصوص، فعدتم إلي الإجماع، وهذا منقوض أيضاً فإن العباس وأولاده وعلياً عليه السلام وزوجته لم يحضروا حلقة البيعة وخالفكم أصحاب السقيفة في مبايعة الخزرجي....الخ.). انتهي.

والظاهر أن استبصار الغزالي كان في آخر أيامه في طوس، ولم يمهله العمر حتي ينشر ذلك، ويبرئ ذمته بإعلأن رجوعه عن كتبه ومؤلفاته العديدة، وما غصت به من عدائه لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام وتأصيله لمذاهب مخالفيهم!

وقد رأيت قبره قرب بيته أو مسجده في بلده طوس، حيث أمضي آخر حياته، وهي في ضاحية مشهد الإمام الرضا عليه السلام، وقد اهتمت به الحكومة الإيرانية.

النقد الذاتي قليل نادر في علمائهم

مضافاً إلي كتاب سر العالمين للغزالي، فقد أعجبني هذا النقد الذاتي للحافظ محمد بن عقيل في كتابه القيِّم: النصائح الكافية لمن يتولي معاوية/174، قال:

(إننا أهل السنة قد أنكرنا علي الشيعة دعواهم العصمة للأئمة الإثني عشر، وجاهرناهم بصيحات النكير، وسفهنا بذلك أحلامهم، ورددنا أدلتهم بما رددنا، أفبعد ذلك يجمل بنا أن ندعي أن مائة وعشرين ألفاً حاضرهم وباديهم وعللهم وجاهلهم وذكرهم وأنثاهم، كلهم معصومون أو كما نقول محفوظون من الكذب والفسق، ونجزم بعدالتهم أجمعين فنأخذ رواية كل فرد منهم قضيةً مسلمةً نضلل من نازع في صحتها ونفسقه، ونتصامم عن كل ما ثبت وصح عندنا، بل وما تواتر من ارتكاب بعضهم

ما يخرم العدالة وينافيها، من البغي، والكذب، والقتل بغير حق، وشرب الخمر، وغير ذلك مع الإصرار عليه؟!! لا أدري كيف تحل هذه المعضلة ولا أعرف تفسير هذه المشكلة.

إليك فإني لستُ ممن إذا اتَّقي عِضاضُ الأفاعي نامَ فوقَ العقارب

أما الأمر بحسن الظن فحسن، ولكنه ليس في مقام بيان الحق وإبطال الباطل، والكلام علي جرح أو تعديل، ولو سوغنا هذا لتعطلت الأحكام، وبطلت الحدود والشهادات، وكُبكب الشرع علي أم رأسه، إذ لا وجه لتخصيص أشخاص دون آخرين بحسن الظن بهم في كل ما يفعلونه، إذا ترتب علي فعله حكم شرعي إلا بمخصص شرعي، وأنَّي بذلك.

ولو عممنا القول بذلك لكان حسن الظن حسناً بكل فرد من أفراد المسلمين في كل ما يفعله كما يقول به بعض الصوفية، فيتأول حينئذ لكل منهم ما ارتكبه من القبائح والبدع المضلة والكبائر، ويحمل كل ذلك علي محمل حسن وقصد صالح، ويدخل في ذلك الخوارج وغلاة الرافضة فيما يرتكبونه من البدع والتفكير والسب، وهلم جراً.

اللهم غفرانك، إنه بهذا يتعطل الشرع وتلتبس الأمور ويختلط الحابل بالنابل، بل الواجب إجراء كل شئ في مجراه عند إرادة إيضاح الحقائق وبيان المشروعات. وبهذا عمل الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم، وهكذا عمل جهابذة أصحاب الحديث في الجرح والتعديل، في رواة الحديث إلا فيمن له صحبة علي حسب اصطلاحهم في تعريف الصاحب، وهي نقطة الإنتقاد عليهم ومحل الإشكال، إذ كيف يمكن طالب الحق أن يعتمد ما قالوه ويجري علي ماجروا عليه من التسوية، صحةً واحتجاجاً، بين روايات الحكم والوليد ومعاوية

وعمرو وأشباههم؟! سبحان الله أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ؟! لا والله، ثم لا والله إن الإذعان للحق شأن المنصفين، وَلَكِنَّ

أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ).

السلطة القرشية تتبع اليهود حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل

تقليد اليهود.. من مصادرة الخلافة الي.. ترك الصلاة

شهدت عامة المصادر كالبخاري ومسلم أن النبي صلي الله عليه وآله حذر المسلمين من الإنحراف بعده، وفي نفس الوقت أخبرهم بأن ذلك سيكون، فقال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً، وذراعاً بذراع، حتي لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ تبعتموهم! قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصاري؟ قال: فمن؟!

وفي مناسبة أخري قال لهم: والذي نفسي بيده لتتبعنَّ سننَ الذين من قبلكم، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وباعاً فباعاً، حتي لو دخلوا جُحْرَ ضبٍّ لدخلتموه! قالوا ومن هم يا رسول الله، أهل الكتاب؟ قال: فمه؟!

وفي مناسبة أخري قال لهم: لاتقوم الساعة حتي تأخذ أمتي مأخذ الأمم والقرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: يا رسول الله كما فعلت فارس والروم؟ قال: وهل الناس إلا أولئك؟!

(روت ذلك عامة المصادر كالبخاري:9/ 126 و:8/151، ومسلم:4/ 2054 ح2669 عن أبي سعيد الخدري، ونحوه/2055، وأحمد:2/327و325 و450، ونحوه ص336 و367 و527 و: 3/84 و89 و94 و:4/125، والروياني: ح1085 عن سهل بن سعد، والبغوي في المصابيح:3 /458، من صحاحه، عن أبي سعيد، كما في رواية البخاري الثانية، وجامع الأصول:10/ 409 ح7472، و7473، وجمع الجوامع: 1/ 902، والجامع الصغير:2/401 ح7224، ومجمع الزوائد:7/261، وفيض القدير:5/ 261، ومسند ابن الجعد ص491، والديباج علي مسلم: 6/33 و34، ومصنف عبد الرزاق:11/369، وكنز العمال: 14/ 207، والكني والأسماء:2/30، عن ابن عباس، أن رسول الله صلي الله عليه وآله قال: ولتركبن سنن من كان قبلكم شبراً حتي لو أن أحدهم دخل حجر ضب دخلتم، وحتي لو أن أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم. والحاكم:1/37 و4/ 455 وصححه وفيه:"حتي لو أن أحدهم جامع إمرأته بالطريق لفعلتموه. ومصنف ابن أبي شيبة:8/634، وفيه:

(أنتم أشبه الناس سمتاً وهدياً ببني إسرائيل

لتسلكن طريقهم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل).، قال عبد الله: إن من البيان سحراً. وقال في هامشه: القذة ريش السهم، وللسهم ثلاث قذذ متقاربة الواحدة بجانب الأخري، ويقال حذو القذة بالقذة للشيئين يستويان ولا يتفاوتان).

وفي شرح مسلم للنووي:16/219: (السَّنَن بفتح السين والنون هو الطريق، والمراد بالشبر والذراع وجحر الضب كل التمثيل بشدة الموافقة لهم).

وفي فتح الباري:13/255: (في رواية الكشميهني شبراً بشبر وذراعاً بذراع، عكس الذي قبله. قال عياض: الشبر والذراع والطريق ودخول الجحر، تمثيلٌ للإقتداء بهم في كل شئ مما نهي الشرع عنه وذمه.....

وقد أخرج الطبراني من حديث المستورد بن شداد رفعه: لاتترك هذه الأمة شيئاً من سننن الأولين حتي تأتيه..... وحيث قيل اليهود والنصاري كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات أصولها وفروعها.....

عن أنس قيل يا رسول الله متي يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: إذا ظهرفيكم ما ظهر في بني إسرائيل، إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفحش في شراركم، والملك في صغاركم، والفقه في رذالكم). انتهي.

وفي مناسبة أخري قال النبي صلي الله عليه وآله:(لتنقض عري الإسلام عروة عروة، كلما نقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة).

(رواه من مصادرنا: الطوسي وغيره، قال في الأمالي ص186: أخبرنا محمد بن محمد قال: أخبرني أبو محمد الحسن بن محمد العطشئ قال: حدثنا أبو علي محمد بن همام الإسكافي قال: حدثنا حمزة بن أبي جمة الجرجرائي الكاتب قال: حدثنا أبو الحارث شريح قال: حدثنا الوليد بن مسلم، عن عبد العزيز بن سليمان، عن سليمان بن حبيب، عن أبي أمامة الباهلي عن النبي صلي الله عليه وآله.

ورواه من مصادرهم: أحمد:5/251، والبخاري في تاريخه: 8 /333 ح 3214، وابن

حبان: 8/253 ح 6680، عن أبي أمامة. والطبراني الكبير: 8/116 ح 7486، والجامع الصغير:2/403 ح 7232، وص473، والحاكم: 4/92، وقال: والإسناد كله صحيح ولم يخرجاه. ومجمع الزوائد:7/281، وقال: رواه أحمد، والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح). انتهي.

أمام هذه الأحاديث النبوية تواجهنا عدة أسئلة:

السؤال الأول، معني هذه الأحاديث أن النبي صلي الله عليه وآله قد نعي الأمة إلي نفسها، وأنها من بعده ستنحرف، فهل هذا حقيقة قطعية؟!

والجواب: نعم إنها حقيقة قطعية وإن كانت مُرَّة، بدليل أن هذه الأحاديث صحيحة مجمع عليها عند كافة الأمة، والمجمع عليه من الأمة لاشك فيه.

والسؤال الثاني، هل المقصود بهذا الكلام النبوي انحراف غالبية الأمة، أو انحراف فئة صغيرة منها؟

والجواب: أن الخطاب في هذه الأحاديث موجه إلي جميع الأمة، فلا بد أن يشمل الإنحراف غالبيتها حتي يصح نسبة الإنحراف إلي الأمة، فقد قال صلي الله عليه وآله: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً... والذي نفسي بيده لتتبعنَّ سننَ الذين من قبلكم... ولتركبن سنن من كان قبلكم... ولو كان الإنحراف محصوراً بفئة قليلة من الأمة لقال: ليتبعن فئة من أمتي، أو مارقة من أمتي سنن من كان قبلهم.

والسؤال الثالث، هل أن الإنحراف الموعود يشمل العقائد والشرائع والسياسة، كما حدث في بني إسرائيل؟!

والجواب: نعم لا بد من القول بشمول الإنحراف لكل معالم الإسلام، بدليل الإطلاقات في ألفاظ اتباع سنن اليهود والنصاري، وبدليل السعة في انحراف اليهود بعد أنبيائهم عليهم السلام، حيث شمل انحرافهم أصول عقيدتهم بالله تعالي، وطعنهم بأنبيائهم ومخالفتهم لأوصيائهم عليهم السلام، واتباعهم غيرهم!

وقد نصَّت صيغ الأحاديث علي الشمول كقوله صلي الله عليه وآله: لتنقض عري الإسلام عروة عروة، كلما نقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها،

فأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة. وسواء أراد بالحكم الخلافة، أو القضاء، فهو يدل علي انحراف السلطة الحاكمة.

والسؤال الرابع، ما علاقة هذه الأحاديث النبوية بآية الإنقلاب علي الأعقاب؟: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران:144) والجواب: هذه الأحاديث النبوية المتفق عليها تفسر الإنقلاب المقصود في الآية، وتدل علي أن الله تعالي لم يتحدث فيها وفي أمثالها عن فرضية لن تحدث وأن الشرطية والإستفهام فيها إخبار إلهيٌّ، قبل أن يكون إنذاراً واستنكاراً!

والسؤال الخامس، أين هذا الإنحراف في الأمة، إن لم يكن ما تقوله الشيعة؟

والجواب: نعم هذه هي الحقيقة، ولذلك يدور أمر الذين ينكرون وقوع الإنحراف في جمهور الأمة، بين أن يكذِّبوا إخبارات النبي صلي الله عليه وآله عن وقوعه، ويكذِّبوا آية الإنقلاب.. وبين أن يعترفوا بعدم شرعية السلطة القرشية التي بدأت في السقيفة يوم وفاة النبي صلي الله عليه وآله من غير مشورة المسلمين، ولا استناد علي نص من النبي صلي الله عليه وآله، وأجبرت الناس علي بيعتها، ثم تواصلت سياسة الإجبار في بني أمية وبني العباس بنفس طريقة الغلبة والجبر، التي أسستها السقيفة!

فلو سألت عالماً سنياً: هل تحقق ما أخبر به النبي صلي الله عليه وآله فاتبعت الأمة سنن اليهود والنصاري أم لا؟! لحاول أن ينفي ذلك، ويثبت لك أن الأمة بعد نبيها صلي الله عليه وآله مشت علي طريق الهدي، واتبعت خير أصحابه أبا بكر وعمر، وأن الذين انحرفوا فئة قليلة هم أهل الأهواء والبدع، وهم الرافضة الذين رفضوا خلافة أبي بكر وعمر، وزعموا أن النبي صلي الله عليه وآله

أوصي الأمة باتباع علي والعترة عليهم السلام!

ولو قلت له: لو كانت أغلبية الأمة مهتدية لما صح هذه الإطلاق والتعميم في كلام النبي صلي الله عليه وآله، ولكان اللازم أن يقول مثلاً: لتتبعن فئة من أمتي أو مارقة من أمتي سنن من كان قبلها.. لما استطاع أن يجيب!

والسؤال السادس، من أين يبدأ هذا الإنحراف الخطير في الأمة؟

الجواب: صحت الأحاديث أن النبي صلي الله عليه وآله حدد مصدر الإنحراف في أمته وأساس فتنتها، بالحكام والأئمة القرشيين المضلين!

ففي مجمع الزوائد:5/239: (وعن ثوبان قال قال رسول الله(ص):إنما أخاف علي أمتي الأئمة المضلين. رواه أحمد ورجاله ثقات...

وعن سداد بن أوس قال قال رسول الله(ص): إني لا أخاف علي أمتي إلا الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لايرفع عنهم إلي يوم القيامة. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح.

وعن عمير بن سعد وكان عمر ولاه حمص قال قال عمر لكعب: إني سائلك عن أمر فلا تكتمني. قال: والله ما أكتمك شيئاً أعلمه، قال: ما أخوف ما تخاف علي أمة محمد(ص)؟ قال: أئمة مضلين، قال عمر: صدقت قد أسرَّ إليَّ وأعلمنيه رسول الله(ص). رواه أحمد ورجاله ثقات).

وروي أحمد:5/145، عن أبي ذر قال: كنت أمشئ مع رسول الله(ص)فقال: لغير الدجال أخوفني علي أمتي قالها ثلاثاً! قال قلت يارسول الله، ما هذا الذي غير الدجال أخوفك علي أمتك قال: أئمة مضلون!! (ورواه أبو يعلي:1/359 ح 466، والفردوس:3/131ح 4163 عن علي).

وفي سنن الترمذي:3/342: (2330- عن ثوبان قال قال رسول الله (ص): إنما أخاف علي أمتي الأئمة المضلين.

قال وقال رسول الله(ص): لاتزال طائفة من أمتي علي الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتي يأتي أمر الله. هذا حديث

صحيح). انتهي.

وفي تحفة الأحوذي:6/401: (باب ما جاء في الأئمة المضلين: قوله: إنما أخاف علي أمتي أئمة مضلين، أي داعين إلي البيع والفسق والفجور....

قوله (هذا حديث صحيح)، وأخرجه مسلم وابن ماجة بدون ذكر إنما أخاف علي أمتي أئمة مضلين. وأخرجه أبو داود مطولاً).

وروي ابن أبي شيبة في المصنف:15/142 ح 19332: (عن علي قال: كنا عند النبي(ص)جلوساً وهو نائم، فذكرنا الدجال، فاستيقظ محمراً وجهه فقال: غير الدجال أخوف عليكم عندي من الدجال: أئمة مضلون).

وفي الطبراني الكبير:8/176عن أبي أمامة يحدث أنه سمع رسول الله(ص) يقول: لست أخاف علي أمتي جوعاً يقتلهم ولا عدواً يجتاحهم، ولكني أخاف علي أمتي أئمة مضلين، إن أطاعوهم فتنوهم، وإن عصوهم قتلوهم).

أما من طرق أهل البيت عليهم السلام فقد روي الطوسي في أماليه:2/126: (عن عبد الله بن يحيي الحضرمي قال: سمعت علياً عليه السلام يقول: كنا جلوساً عند النبي صلي الله عليه وآله وهو نائم ورأسه في حجري، فتذاكرنا الدجال، فاستيقظ النبي محمراً وجهه فقال: غير الدجال أخوف عليكم من الدجال، الأئمة المضلون، وسفك دماء عترتي من بعدي، أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم). انتهي.

والسؤال السابع: ما دام الإنحراف وقع قطعاً بحكم أن الصادق الأمين صلي الله عليه وآله أخبر به عن ربه، فلا بد أن يكون له ثقافة تحريفية واسعة في العقائد والتفسير والأحاديث والأحكام والسيرة والمذاهب والمشارب! فأين هذه الآثار الثقافية في مصادر المسلمين، إن لم تكن ما يقوله الشيعة؟!

والسؤال الثامن: كتبنا في كتاب تدوين القرآن: الفصل العاشر موقف إخواننا السنة من الثقافة اليهودية، تحت عنوان:

مذهب أهل البيت أبعد المذاهب عن الثقافة اليهودية

إذا كان عند الباحث معرفة بالثقافة اليهودية وحساسية منها، ومشي

بهذا النور في مصادر الإسلام متتبعاً احتمالات التسرب والتأثير، فلن يجد معيناً صافياً لا شائبة فيه إلا الثروة المروية عن أهل البيت عليهم السلام.

ولا يهمنا أن يستكثر الآخرون هذه الدعوي، ولكن يهمنا أن يبحثوا في مفردات ما أنزل الله تعالي علي رسوله برواية أهل بيته صلي الله عليه وآله ثم يقارنوا بينها وبين مثيلاتها من رواية غير أهل البيت، من زاوية القرب والبعد عن الثقافة اليهودية، ومن زاوية احتمال التسرب والتأثر، وزاوية التعبير عن استقلال الشخصية الفكرية للوحي المنزل علي رسول الله صلي الله عليه وآله.. ثم يحكموا!...

حدثني الأستاذ الشيخ مصطفي الزرقا، وهو من كبار فقهاء السنة في عصرنا، ومن أبرز عقولهم العلمية المحترمة، عن جلسة من جلسات مؤتمر البحوث الإسلامية في القاهرة في أواخر الستينات فقال: تحدث أحد المحاضرين عن مشكلة الإسرائيليات في مصادر المسلمين فحمل علي الشيعة الذين جلبوا علي المسلمين هذا البلاء، وأطال في ذلك. فطلبت الكلام بعده وقلت: لا يصح أن نظلم الشيعة، لأنهم طائفة إسلامية لها عراقتها وأصالتها العلمية، وقد اطلعت علي مصادر من فقههم فرأيته فقهاً قوي المنطق والحجة مستنداً إلي القرآن والسنة.. والإسرائيليات بلاء عام ابتليت به مصادرنا كما ابتليت به مصادر الشيعة، فلا يصح أن نقول إنه جاءنا منهم..

إن هذا الموقف شبه المنصف لهذا الفقيه يدل علي اطلاعه علي مصادر السنة وشئ من مصادر الشيعة.. ولكني مطمئن بأنه لو اطلع أكثر لقال: إن بلاء الإسرائيليات في مصادر المسلمين وإن كان مشتركاً بين السنة والشيعة، إلا أن منبعه عند السنة وبعض ترشحاته عند الشيعة، والسبب في ذلك أن السلطة كانت بيد خلفاء السنة وأئمتهم، وكان علماء اليهود وحملة ثقافتهم يتقربون إليهم فقربوهم وأجازوا لهم بث

ثقافتهم في المسلمين! أما الشيعة فكانوا أقلية محكومين، وكان اليهود يبتعدون عنهم خوفاً من غضب السلطة.

ولو اطلع أكثر لقال: أما علي والأئمة من أهل بيت النبي فلم يكونوا بحاجة لأن تكون لهم علاقات ثقافية مع اليهود والنصاري، بل كانوا يأنفون من الإستماع إلي علومهم المحرفة.. ولم يعهد عنهم أنهم مدحوا شخصيات أهل الكتاب أو ثقافتهم بكلمة واحدة، بل كانوا أقوي المناظرين لهم، وكان المسلمون إذا أحرجوا في مسألة من أهل الكتاب هرعوا إلي أهل بيت نبيهم صلي الله عليه وآله ليأخذوا جوابها..

ومن المعروف عن علي عليه السلام أن حاخاماً يهودياً قال له: سرعان ما اختلفتم في نبيكم. يقصد في أمر الخلافة. فأجابه عليه السلام: نحن لم نختلف في نبينا بل اختلفنا عنه، وأما أنتم فما جفت أقدامكم من البحر حتي قلتم: يا موسي اجعل لنا إلهاً كما لهؤلاء!!

إننا علي يقين بأن الباحثين المنصفين في سلوك أهل البيت وفقههم والعلوم التي أثرت عنهم، سوف يصلون إلي نتيجة تقول: إن أصفي المذاهب وأبعدها عن التأثر بثقافة أهل الكتاب: هو مذهب أهل البيت عليهم السلام.

اعمال تحريفية واسعة من أجل ترسيخ عصمة عمر و أبي بكر

بدأ نشاطهم بعد النبي واستمر إلي يومنا هذا

رأي أتباع الخلافة القرشية أن كل أمرهم يتوقف علي تصحيح عمل السقيفة، فأشاعوا نشر تقديس شخصية عمر وأبي بكر، وبقية زعماء قريش، مقابل قداسة عترة النبي الطاهرين عليهم السلام الذين تعلم المسلمون الآيات والأحاديث فيهم، وشاهدوا فيهم مناقبية الأوصياء في القول والعمل!

ولا نتكلم هنا عن أعمال أتباع الخلافة في تبرير عزل زعماء قريش لأهل البيت واضطهادهم وتنقيص مقامهم! ولا عن أعمالهم في آيات القرآن وأحاديث النبي صلي الله عليه وآله في عترته أهل بيته عليهم السلام. وإنما عن أعمالهم لرفع مقام الصحابة من أجل عمر وأبي بكر، فقد

جعلوا لعمر مقام النبي بلا نبوة، ومقام العصمة بدرجة أعلي من عصمة النبي صلي الله عليه وآله، وقد أوردنا عدداً من مسائل هذا الموضوع في المجلد الثاني من كتاب (ألف سؤال وإشكال علي المخالفين لأهل البيت الطاهرين) في الفصل 21 و22، ونكتفي هنا ببضعة أعمال يتسع لها هذا الكتاب:

حملوا آيات مدح الصحابة أكثر مما تحتمل

في القرآن عدد من الآيات في مدح الصحابة، وأضعافها في انتقادهم! وهذا طبيعي لأن القرآن تنزل في ثلاث وعشرين سنة، ليثبِّتَ الله به قلب نبيه صلي الله عليه وآله في تبليغه الرسالة وبناء الأمة، قال تعالي: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً. وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا. (الفرقان:32-33).

وليوجه أمة النبي صلي الله عليه وآله وأصحابه، فيمدحهم عندما يحسنون، ويشجعهم عندما يضعفون، ويؤنبهم عندما يقصرون! وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمٌ. (البقرة:231).

وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَي عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. (آل عمران:1).

وقد ضخَّمت السلطة بعد النبي صلي الله عليه وآله آيات مدح الصحابة، وتناست آيات نقدهم وذمهم! وبالغت في ذلك حتي جعلت صحابتها معصومين عملياً، لتثبت أنهم الورثة الشرعيون للنبي صلي الله عليه وآله مع أن أهل البيت النبوي عليهم السلام أهل بيت وصحابة!

ومن الحقائق الملفتة أن احتجاج أتباع الخلافة بهذه الآيات، ظهرت في عهد معاوية ولم يكن لهما وجود في زمن أبي بكر وعمر وعثمان! فغاية ما تجده عن عمر أنه فضل أهل بدر بالعطاء علي غيرهم، وحكم بأن الخلافة يجب أن تكون فيهم وأنها حرام علي

الطلقاء! قال:(هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، ثم في كذا وكذا وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شئ. أخرجه الثلاثة).(أسد الغابة:4/387، وفتح الباري:13/178، والطبقات:3/342، وابن عساكر:59/145، وكنز العمال:12/681).

بل إن شهادتهم لأهل بدر بالجنة، التي رواها بخاري في:4 /19، وعدة مواضع أخري، والتي تقول إن النبي صلي الله عليه وآله قال: (وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع علي أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم). لم يروها أحد عن أبي بكر ولا عمر! مع أنها لو كانت صحيحةً لاحتجَّا بها فيما احتجَّا!

إن هذا يدل علي أن أتباع الخلافة اتخذوا فيما بعد قرارهم بتعظيم الصحابة بآيات وأحاديث، وإشاعتها في المسلمين، فملأوا بها مصادرهم، وربَّوا عليها أولادهم، وأنسوهم آيات توبيخ الصحابة، وأحاديث دخول اكثرهم النار! وحرموا علي المسلمين انتقادهم، بل أفتوا بكفر من ارتكب ذلك وقتله!

قال الخطيب البغدادي الكفاية في علم الرواية ص63: (باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة، وأنه لا يحتاج إلي سؤال عنهم، وإنما يجب فيمن دونهم.

كل حديث اتصل إسناده بين من رواه وبين النبي(ص)لم يلزم العمل به إلا بعد ثبوت عدالة رجاله، ويجب النظر في أحوالهم، سوي الصحابي الذي رفعه إلي رسول الله(ص)لأن عدالة الصحابة ثابتة معلومة بتعديل الله لهم، وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم في نص القرآن.

فمن ذلك قوله تعالي: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.

وقوله:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وهذا اللفظ وإن كان عاما فالمراد به الخاص وقيل وهو وارد في الصحابة دون غيرهم.

وقوله: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ

يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً

وقوله تعالي: وَالسَّابِقُونَ الأولونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنصار وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ.

وقوله تعالي: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.

وقوله: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ

وقوله تعالي:لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ. وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالإيمان مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَي أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ في آيات يكثر ايرادها ويطول تعدادها...). انتهي.

ولو سألتهم أولاً: أين الآيات الأخري في الصحابة، لنقارنها بآيات مدحهم ونجمع بينها وبينها، كقوله تعالي عن النبي صلي الله عليه وآله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ. وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلي فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَاْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. (الأنفال:15-16)

لمَا كان عندهم جواب، لأن الصحابة جميعاً، ما عدا بني هاشم، فروا في أحد وخيبر وحنين، وغيرها، واستحقوا بنص الآية نار جهنم، إلا من ثبتت توبته!

وثانياً، لو قلنا لهم: ما هي أقوي آية عندكم في مدح الصحابة؟ لقالوا: إنها قوله تعالي: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، فقد نصت علي رضا الله عن أهل بيعة الرضوان، وكانوا ألفاً وأربع مئة، ولذا حكمنا بأنهم من أهل الجنة.

نقول لهم: إن أهل بيعة الرضوان أو الشجرة، فيهم مؤمنون وفيهم دون ذلك، والرضا ورد في

الآية عن المؤمنين فقط، واستمراره عن هؤلاء المؤمنين مشروط بأن لايحدثوا ما يغضب الله عليهم ويحبط عملهم!

فلو كان كل المبايعين مؤمنين والرضا عنهم مطلق، لقال عز وجل: لقد رضي اللهُ عن الذين يُبايعونك، وما قيده بالمؤمنين، وب_ظرف (إِذْ يُبَايِعُونَكَ)! فاختياره لهذين القيدين، تحفظٌ إلهي كبير، يدل علي أن رضاه محدود في الأشخاص، وفي الظرف!

وثالثاً، لماذا نسيتم العقد الذي بايعوا عليه النبي صلي الله عليه وآله، فكان سبب رضا الله عنهم، والذي جعلتموه رضاً مستمراً وعصمة شاملة؟ فقد صرحتم بأنهم بايعوه علي أن يقاتلوا معه ولا يفروا! قال بخاري:4/8: (باب البيعة في الحرب أن لايفروا، وقال بعضهم علي الموت، لقوله تعالي: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ...فسألت نافعاً علي أي شئ بايعهم علي الموت؟ قال: لا بايعهم علي الصبر). انتهي.

فكيف يستمر رضا الله عليهم وقد نكثوا بيعتهم وفروا في خيبر وحنين، وكانتا بعد بيعة الشجرة؟والله تعالي يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَي نَفْسِهِ! (الفتح:10).

قال ابن طاوس في الطرائف ص58: (رواه علماء التاريخ مثل محمد بن يحيي الأزدي، وابن جرير الطبري [1] والواقدي، ومحمد بن إسحاق، وأبي بكر البيهقي في دلائل النبوة [2] وأبي نعيم في كتاب حلية الأولياء [3] والأبشهي في الإعتقاد، عن عبد الله بن عمر، وسهل بن سعد، وسلمة بن الأكوع، وأبي سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله الأنصاري، أن النبي صلي الله عليه وآله بعث أبا بكر برايته مع المهاجرين وهي راية بيضاء، فعاد يؤنب قومه ويؤنبونه، ثم بعث عمر بعده فرجع يجبِّن أصحابه ويجبنونه، حتي ساء ذلك النبي صلي الله عليه وآله فقال: لأعطين الراية

غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كراراً غير فرار لايرجع حتي يفتح الله علي يديه فأعطاها علياً ففتح علي يديه [4] .

وقال تعالي: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. (التوبة:25).

وفي صحيح بخاري:5/101: (عن أبي قتادة قال: وانهزم المسلمون يوم حنين وانهزمت معهم فإذا عمر بن الخطاب في الناس فقلت له: ما شأن الناس؟، قال: أمر الله)!! ونحوه:4/58.

فكيف يجوز التمسك بآية: لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ، وترك قوله عن الفار: فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ، وقوله عن الناكث: فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَي نَفْسِهِ؟!

ورابعاً، سواء كان المدح في الآية لكل من بايع كما تقولون، أو لبعضهم كما نقول، فإن أهل البيت عليهم السلام في طليعتهم، فهم شركاء للصحابة فيها، مضافاً إلي ما اختصوا به من آيات وأحاديث، فكيف يصح رفع الصحابة إلي مرتبتهم لأنهم شاركوهم في مديح؟!

وخامساً، ما ذا يعني عندكم نص القرآن علي رضا الله عز وجل عن أناس؟

هل يعني عصمتهم، وأنهم حجة علي المسلمين يجب عليهم الإقتداء بهم؟ فتكون سنتهم وقولهم وفعلهم وتقريرهم حجة شرعية كالنبي صلي الله عليه وآله؟

وإذا اختلفوا واقتتلوا، فهل يكون إجماعهم فقط هو الحجة؟ أم يجوز للمسلم أن يقتدي بأي واحد منهم كما رويتم: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم؟!

فيصح الإقتداء بسعد بن عبادة وأهل البيت عليهم السلام في رفضهم لخلافة السقيفة؟

وسادساً، كيف تقولون إن الرضا الإلهي شمل كل أهل بيعة الشجرة فكلهم في الجنة، وفيهم رأس المنافقين ابن سلول، وفيهم ابن عديس البلوي قاتل عثمان، وفيهم أبو الغادية قاتل عمار الذي شهد النبي صلي الله عليه وآله بأنه

من أهل النار؟!

هذه مناقشة عابرة في أهم آية عندهم في مدح الصحابة، التي حاولوا بها رفعهم إلي صف أهل البيت عليهم السلام. ولايتسع المجال لبسط القول فيها وفي غيرها.

[1] تاريخ الطبري:3/93 ط بيروت.

[2] رواه البيهقي في السنن الكبري: 9/106، وكذا في الإعتقاد: 151.

[3] حلية الأولياء:1/62 و:4/356، والحاكم النيسابوري في المستدرك: 3/38.

[4] محب الدين الطبري في ذخائر العقبي:82، وابن حجر في الصواعق المحرقة:72). انتهي.

غيبوا الآيات الصريحة في نقد الصحابة و ذمهم

فمنها قوله تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَي رَسُولِهِ (النساء:136)، وهو خطاب يشمل الصحابة ويأمرهم أن يؤمنوا، ويدل علي أنهم كغيرهم، فيهم كامل الإيمان وناقصه!

وتدل الآية التالية علي أنهم كغيرهم من الناس، فأكثرهم موحد في الظاهر، مشركٌ في الواقع: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ...وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاوَهُمْ مُشْرِكُونَ.(يوسف:103و106).

كما أن منهم من لبس إيمانه بظلم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ. الأنعام:82

ومنهم من يؤذي النبي صلي الله عليه وآله: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَأُذُنٌ! (التوبة:61).

ومنهم يفتري علي النبي صلي الله عليه وآله ويتهم عرضه: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَخَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِيءٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّي كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ. (النور:11).

ومنهم منافقون لايعلمهم حتي النبي صلي الله عليه وآله: وَمِنْ أهل الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَي النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ. التوبة:101

ومنهم من يريد الحياة الدنيا فيهرب من المعركة: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخرة. آل عمران:152

ويتهم الله ورسوله لتغطية جبنه: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا. الأحزاب:10 وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا. الأحزاب:12

ومنهم من يتسلل هرباً من أمر النبي صلي الله عليه وآله: قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. النور:63

ومنهم من يتثاقل عن الجهاد مع النبي صلي الله عليه وآله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إلي الأرض أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخرة! التوبة:38

ومنهم من يثبط المؤمنين عن الجهاد مع النبي صلي الله عليه وآله: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيدًا. النساء:72

ومنهم بخيلٌ بماله فكيف بدمه: هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ. محمّد:38

ومنهم من يخون الله ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. الأنفال:27

ومن يتبع خطوات الشيطان: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَي مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. النور:21

ومنهم من يسقط في الفتنة: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ. العنكبوت:10 وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ. العنكبوت:11

ومنهم صاحب أضغان وعقد: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ

اللهُ أَضْغَانَهُمْ. محمّد:29 وَلَوْ نَشَاءُ لارَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ. محمّد:30

ومنه في معرض الردة والكفر: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً. النساء:137

ولم ينته امتحانهم بوفاة النبي صلي الله عليه وآله: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّي نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ. محمّد:31

ومنهم من سيرتد وينقلب علي عقبيه بعد النبي صلي الله عليه وآله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَي أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَي عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).(آل عمران:144)

ومنهم الخائن العميل للكافرين: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. التوبة:16

ومنهم من هو من اليهود أو النصاري: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. المائدة:51 فَتَرَي الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَي أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَي اللهُ أَنْ يَاتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَي مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ. المائدة:52

وهم مثل أتباع الأنبياء السابقين منهم الصالح ومنهم الطالح: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَي وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. البقرة:62

ولا نريد بذلك أن ننقص من حق صحابة النبي صلي الله عليه وآله، ففيهم أبرار أخيار ومجاهدون أئمة، نزلت فيهم آيات مديح فريدة، وصدرت بحقهم شهادات نبوية خالدة، لكنها تخص الصالحين منهم، دون المنافقين، ومرضي القلوب وضعفاء العقيدة. فلا بد من ميزان لمعرفتهم.

لابد من ميزان لتقييم الصحابة

كان

الميزان رسول الله صلي الله عليه وآله، أما بعده فالميزان عترته الطاهرون عليهم السلام الذين قال فيهم في حديثه المتواتر عند الجميع: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.

وقال في أولهم علي عليه السلام:(علي باب علمي، ومبيِّنٌ لأمتي ما أرسلت به من بعدي. حبه إيمان وبغضه نفاق، والنظر إليه رأفة ومودة وعبادة.(فردوس الأخبار:3/64)

وروي الحاكم: 3/129: عن أبي ذر قال: ما كنا نعرف المنافقين إلا بتكذيبهم الله ورسوله، والتخلف عن الصلوات، والبغض لعلي بن أبي طالب. هذا حديث صحيح علي شرط مسلم، ولم يخرجاه. (ورواه أحمد في فضائل الصحابة: 2/639).

وفي صحيح مسلم: 1/60، تحت عنوان: باب حب علي من الإيمان: عن زر بن حبيش قال: قال علي عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إنه لعهد النبي(ص)إليَّ: أن لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق). (ورواه ابن ماجة:1/42، والنسائي في سننه: 8/115 و117 وفي خصائص علي: 1375، وأحمد:1/84 و95 و128 وفضائل الصحابة: 2/264، وابن أبي شيبة في مصنفه:12/56، وعبد الرزاق في مصنفه:11/55، وابن أبي عاصم في السنة:5842، وابن حبان في صحيحه:9/40، والخطيب في تاريخ بغداد:2/255 و14/426، وابن عبد البر في الإستيعاب: 3/37، وأبو نعيم في حلية الأولياء:8/185، وابن حجر في الإصابة:2/503، والحاكم في المستدرك:3 /139، والبيهقي في سننه:5/47، وابن حجر في فتح الباري:7/57).

وفي فتح الباري: 7/72: وفي كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه يقول: لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا علي أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمانها علي المنافق علي أن يحبني ما أحبني! وذلك أنه قضي فانقضي علي لسان النبي الأمي صلي الله عليه و(آله)وسلم

أنه قال: يا علي لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق). انتهي.

ويطول الكلام لو أردنا استعراض ما دل علي أن علياً والعترة الطاهرة عليهم السلام ميزان الإسلام والكفر والإيمان والنفاق، فبهم فقط نستطيع أن نعرف المرضيين وغير المرضيين من الصحابة، من أهل السقيفة وغيرهم.

وضعوا أحاديث في مدح الصحابة و عصمتهم

ليقابلوا بها أحاديث عصمة العترة

قال الخطيب البغدادي في الكفاية ص64: (ووصف رسول الله(ص) الصحابة مثل ذلك(مثل الآيات)وأطنب في تعظيمهم وأحسن الثناء عليهم. فمن الأخبار المستفيضة عنه في هذا المعني: ما أخبرنا أبو نعيم الحافظ ثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس...عن عبد الله بن مسعود أن النبي(ص)قال: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم تسبق ايمانهم شهادتهم ويشهدون قبل ان يستشهدوا... ثم رواه الخطيب عن أبي هريرة وعمران بن حصين، وروي بعده:

عن أبي سعيد قال قال رسول الله(ص): لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً، ما أدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه...

عن ابن عباس قال قال رسول الله(ص): مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحدكم في تركه، فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية، فإن لم تكن سنة مني ماضية فما قال أصحابي، إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيها أخذتم به اهتديتم، واختلاف أصحابي لكم رحمة...

عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب قال قال رسول الله(ص): سألت ربي فيما اختلف فيه أصحابي من بعدي، فأوحي الله إليَّ يا محمد إن أصحابك عندي بمنزلة النجوم في السماء، بعضها أضوأ من بعض، فمن أخذ بشئ مما هم عليه من اختلافهم فهم عندي علي هدي....

عن أنس بن مالك قال قال رسول الله(ص): إن الله اختارني

واختار أصحابي فجعلهم أصهاري وجعلهم أنصاري، وإنه سيجئ في آخر الزمان قوم ينتقصونهم ألا فلا تناكحوهم، ألا فلا تنكحوا إليهم، ألا فلا تصلوا معهم، ألا فلا تصلوا عليهم، عليهم حلت اللعنة.

وتابع الخطيب: الأخبار في هذا المعني تتسع، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن! وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع علي تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم مع تعديل الله تعالي لهم المطلع علي بواطنهم، إلي تعديل أحد من الخلق له، فهو علي هذه الصفة، إلا أن يثبت علي أحد ارتكاب ما لا يحتمل إلا قصد المعصية والخروج من باب التأويل، فيحكم بسقوط العدالة، وقد برأهم الله من ذلك ورفع أقدارهم عنه.

علي أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شئ مما ذكرناه لأوجبت الحال التي كانوا عليها من الهجرة والجهاد والنصرة وبذل المهج والأموال وقتل الآباء والأولاد والمناصحة في الدين وقوة الإيمان واليقين، القطع علي عدالتهم والإعتقاد لنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين والمزكين، الذين يجيؤن من بعدهم أبد الآبدين! هذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء.

وذهبت طائفة من أهل البدع إلي أن حال الصحابة كانت مرضية إلي وقت الحروب التي ظهرت بينهم وسفك بعضهم دماء بعض، فصار أهل تلك الحروب ساقطي العدالة، ولما اختلطوا بأهل النزاهة، وجب البحث عن أمور الرواة منهم.

وليس في أهل الدين والمتحققين بالعلم من يصرف إليهم خبر ما لا يحتمل نوعاً من التأويل، وضرباً من الإجتهاد، فهم بمثابة المخالفين من الفقهاء، المجتهدين في تأويل الأحكام لإشكال الأمر والتباسه.

ويجب ان يكونوا علي الأصل الذي قدمناه من حال العدالة والرضا، إذ لم يثبت ما يزيل ذلك عنهم.

أخبرنا أبو منصور محمد بن

عيسي الهمذاني، ثنا صالح بن أحمد الحافظ قال: سمعت أبا جعفر أحمد بن عبدل يقول: سمعت أحمد بن محمد بن سليمان التستري يقول: سمعت أبا زرعة يقول: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله(ص)فاعلم أنه زنديق! وذلك أن الرسول(ص)عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدي إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله(ص)، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولي وهم زنادقة). انتهي.

وكلام أبي زرعة الذي رواه الخطيب البغدادي في سياق الأحاديث كأنه حديث شريف! يدل علي تصعيد محاولتهم في الدفاع عن أبي بكر وعمر وأتباعهما، بحصر سند الإسلام والقرآن بهم، وجعل التشكيك فيهم تشكيكاً في سند الإسلام! وكأن كل أمة الإسلام ماتت بعد النبي صلي الله عليه وآله وضاع الإسلام، ولا يوجد سند لإثباته إلا رواية هؤلاء!!

أما الأحاديث التي ذكرها الخطيب في فضلهم، فكلها ضعيفة أو موضوعة، بدون استثناء، بشهادة النقاد من علمائهم! ولا يتسع المجال لبيان ذلك.

وقال القاضي الجرجاني في شرح المواقف:8/373، وهو من كبار متكلمي المذاهب السنية: (المقصد السابع: إنه يجب تعظيم الصحابة كلهم، والكف عن القدح فيهم لأن الله سبحانه وتعالي عظمهم وأثني عليهم، في غير موضع من كتابه، كقوله: والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. وقوله: يوم لايخزي الله النبي والذين آمنوا معه، نورهم يسعي بين أيديهم. وقوله: والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً. وقوله: لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة.

إلي غير ذلك من الآيات الدالة علي عظم قدرهم وكرامتهم عند الله.

والرسول قد أحبهم وأثني عليهم في أحاديث كثيرة، منها قوله عليه السلام:خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين

يلونهم. ومنها قوله: لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. ومنها قوله: الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذي الله فيوشك أن يأخذه. إلي غير ذلك من الأحاديث المشهورة في الكتب الصحاح.

ثم إن من تأمل سيرتهم، ووقف علي مآثرهم، وجدهم في الدين وبذلهم أموالهم وأنفسهم في نصرة الله ورسوله، لم يتخالجه شك في عظم شأنهم، وبراءتهم عما ينسب إليهم المبطلون من المطاعن، ومنعه ذلك أي تيقنه بحالهم عن الطعن فيهم، فرأي ذلك مجانباً للإيمان.

ونحن لا نلوث كتابنا بأمثال ذلك، وهي مذكورة في المطولات مع التفصي عنها، فارجع إليها إن أردت الوقوف عليها.

وأما الفتن والحروب الواقعة بين الصحابة، فالهشامية من المعتزلة أنكروا وقوعها! ولا شك أنه مكابرة للتواتر في قتل عثمان ووقعة الجمل وصفين.

والمعترفون بوقوعها، منهم من سكت عن الكلام فيها بتخطئة أو تصويب، وهم طائفة من أهل السنة. فإن أرادوا إنه اشتغال بما لا يعني فلا بأس به، إذ قال الشافعي وغيره من السلف: تلك دماء طهر الله عنها أيدينا فلنطهر عنها ألسنتنا. وإن أرادوا إنا لا نعلم أوقعت أم لا؟ فباطل، لوقوعها قطعاً، وأنت خبير بأن الشق الثاني من الترديد ينافي الإعتراف بوقوعها.

واتفق العمرية أصحاب عمرو بن عبيد، والواصلية أصحاب واصل بن عطاء علي رد شهادة الفريقين، قالوا لو شهد الجميع بباقة بقلة لم نقبلها، أما العمرية فلأنهم يرون فسق الجميع من الفريقين.

وأما الواصلية فلأنهم يفسقون أحد الفريقين لا بعينه، فلا يعلم عدالة شئ منهما.

والذي عليه الجمهور من الأمة هو: أن

المخطئ قتلة عثمان ومحاربوا علي لأنهما إمامان فيحرم القتل والمخالفة قطعاً، إلا أن بعضهم كالقاضي أبي بكر ذهب إلي أن هذه التخطئة لا تبلغ إلي حد التفسيق. ومنهم ذهب إلي التفسيق كالشيعة وكثير من أصحابنا). انتهي.

وقد كشف الجرجاني وجود آراء مختلفة تدين أكثر الصحابة ومنهم أبو بكر وعمر، لكنه مرَّ عليها مروراً وركَّز علي بضعة أحاديثهم الموضوعة المتقدمة! ونكتفي هنا بمناقشة واحد منها:

نقد حديث: خير القرون قرني

روي البخاري:7/173، عن عبدالله بن عمر أن النبي صلي الله عليه وآله قال:خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجئ من بعدهم قوم تسبق شهادتهم أيمانهم، وأيمانهم شهادتهم. ورواه أيضاً بصيغة: خيركم قرني، ثم الذين يلونهم- قال عمران فما أدري قال النبي بعد قوله مرتين أو ثلاثاً- ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولايستشهدون، ويخونون ولايؤتمنون، وينذرون ولايفون، ويظهر فيهم السِّمَن).انتهي. ومعني السِّمَن: البدنة من الترف وكثرة الأكل. (وكرر روايته في:7/224، و233)

و معناه أن التاريخ الإسلامي يسير إلي الإنحدار، والأمة إلي الزوال

وأصل الحديث هو تصور عمر لمستقبل الإسلام وأمته، وأنه كالبعير سيهرم ويموت! ففي مسند أحمد:3/463: (قال كنت في مجلس فيه عمر بن الخطاب بالمدينة فقال لرجل من القوم: يا فلان كيف سمعت رسول الله (ص)ينعت الإسلام؟ قال: سمعت رسول الله(ص)يقول: إن الإسلام بدأ جَذعاً ثم ثِنْياً ثم رُباعياً ثم سُديسياً ثم بازلاً! قال فقال عمر بن الخطاب: فما بعد البزول إلا النقصان)!! (ورواه في:5/52، وقال في لسان العرب إن الذي سأله عمر هو العلاء بن الحضرمي).

وقال الزبيدي في تاج العروس:9/245: (وأدني الأسنان الإثناء، وهو أن تنبت ثنيتاها، وأقصاها في الإبل البزول، وفي البقر والغنم السلوغ).

وأصل الفكرة من كعب الأحبار الذي أقنع عمر بأن الإسلام سوف ينتهي، وأن الكعبة سوف تهدم، ومكة ستخرب! فقد عقد البخاري باباً في:2/159، بعنوان: (باب هدم الكعبة!) روي فيه (عن أبي هريرة عن النبي(ص) قال: يُخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة)! (ورواه مسلم:8/183) ثم روي البخاري حديثين آخرين، أحدهما عن ابن عباس عن النبي(ص)قال:كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً!

ومن الثابت أن أبا هريرة كان يروي عن كعب ويسنده إلي النبي صلي الله عليه وآله مع أن كعباً لم ير النبي صلي الله

عليه وآله! ويبدو أن عمر يفعل ذلك أيضاً لشدة ثقته بكعب!

ففي مسند أحمد:1/23: عن عمر أنه سمع رسول الله (ص) يقول: سيخرج أهل مكة ثم لايعبر بها أولاًيعبر بها إلا قليل، ثم تمتلئ وتبني، ثم يخرجون منها فلا يعودون فيها أبداً)! (وقال عنه في مجمع الزوائد:3/298: رواه أحمد وأبو يعلي وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح).

وفي مسند أحمد:2/220: (عن عبدالله بن عمرو قال سمعت رسول الله (ص) يقول: يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها! ولكأني أنظر إليه أصيلع أُفَيْدِع، يضرب عليها بمسحاته ومعوله)! انتهي.

الخط البياني للأمة.. نزول ثم صعود

كل من قرأ القرآن يعرف أن الله تعالي وعد أن يظهر دينه علي الدين كله: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).

وكل من قرأ الحديث يعرف أن النبي صلي الله عليه وآله أخبر أمته عن مستقبلها ومسارها وأنها ستصاب بالإنحراف والضعف، ثم يبعث الله فيها المهدي من عترته عليه السلام فيظهر به دينه علي الدين كله، وينزل فيها عيسي عليه السلام من السماء ليساعده.

فهي أحاديث متواترة روتها مصادر السنيين ومصادر أهل البيت عليهم السلام، منها ما رواه الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: أبشروا ثم أبشروا-ثلاث مرات-إنما مثل أمتي كمثل غيث لايدري أوله خير أم آخره، إنما مثل أمتي كمثل حديقة أطعم منها فوج عاماً، ثم أطعم منها فوج عاماً، لعل آخرها فوجاً يكون أعرضها بحراً وأعمقها طولاً وفرعاً، وأحسنها جنيً! وكيف تهلك أمة أنا أولها واثنا عشر من بعدي من السعداء وأولي الألباب، والمسيح عيسي بن

مريم آخرها؟! ولكن يهلك بين ذلك نتج الهرج، ليسوا مني ولست منهم). (الخصال ص475، وكمال الدين ص269، وعيون أخبار الرضا عليه السلام:2/56).

لكنك تري علماء السلطة القرشية يتعمدون الإعراض عن هذه الأحاديث ويرجحون عليها حديث خير القرون المزعوم، لأنه بتصورهم يُفَضِّل الصحابة الذين يحبونهم، أي أبا بكر وعمر، علي كل البشر، وهذا مطلوبهم حتي لو خربت الدنيا، وهدمت الكعبة، وانتهي الإسلام!!

وقد تمحلوا في تأويل الأحاديث الصريحة الصحيحة التي تفضل جيلاً أو أشخاصاً آتين من الأمة علي جيل الصحابة، مثل حديث: (تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين، قيل: منهم أو منايارسول الله؟ قال: بل منكم).

فهاجموا كل نوع من هذه الأحاديث تأويلاً وتمييعاً وتضعيفاً، لتسلم لهم مقولة أن الصحابة أفضل من الجميع! (راجع الفصل السادس عشر من المجلد الأول، لتري تأثير اليهود في نشر عقيدة أن الأمة الإسلامية تسير في خط نزول مستمر إلي فنائها! وأن القرآن سيرفع من الأرض، والكعبة ستهدم، ومكة ستخرب فلا تسكن بعدها أبداً).

تخبط الشراح في حديث خير القرون قرني

قال النووي في مقدمة شرح مسلم:1/3: (المُكرَّم بتفضيل أمته زادها الله شرفاً علي الأمم السابقين، وبكون أصحابه خير القرون الكائنين، وبأنهم كلهم مقطوع بعدالتهم عند من يعتد به من علماء المسلمين).وقال في:16/84: (اتفق العلماء علي أن خير القرون قرنه(ص)، والمراد أصحابه، وقد قدمنا أن الصحيح الذي عليه الجمهور أن كل مسلم رأي النبي(ص)ولو ساعة فهو من أصحابه. ورواية خير الناس علي عمومها والمراد منه جملة القرن، ولا يلزم منه تفضيل الصحابي علي الأنبياء(ص)ولا أفراد النساء علي مريم وآسية وغيرهما، بل المراد جملة القرن بالنسبة إلي كل قرن بجملته...الخ.). ثم ذكر النووي اختلافهم في القرن، من عشر سنوات إلي مئة وعشرين سنة!

فانظر كيف فسر القرن بالمجموع

الكلي للأصحاب، وفضلهم علي المجموع الكلي لأناس كل قرن! وهذا معني قوله (جملة القرن بالنسبة إلي كل قرن بجملته) ولكنه يقول لايلزم منه ذلك!

ولو أنصف لقال: يلزم منه أنهم أفضل من المجموع الكلي لأناس القرون الماضية والآتية مجتمعين، لأن تفضيلهم جاء مطلقاً!

ويبدو أن البخاري لم يروِ: خير القرون قرني، فراراً من التعميم الذي فيه، ولكنه روي: خير الناس قرني، فوقع فيما فرَّ منه!

قال الشوكاني في نيل الأوطار:9/228: (وحديث أبي هريرة أن خير القرون قرنه (ص)، وفي ذلك دليل علي أنهم الخيار من هذه الأمة، وأنه لا أكثر خيراً منهم. وقد ذهب الجمهور إلي أن ذلك باعتبار كل فرد فرد. وقال ابن عبد البر: إن التفضيل إنما هو بالنسبة إلي مجموع الصحابة، فإنهم أفضل ممن بعدهم، لا كل فرد منهم. وقد أخرج الترمذي باسناد قوي، من حديث أنس مرفوعاً: مَثَلُ أمتي مثلُ المطر، لا يدري أوله خير أم آخره.....

وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير باسناد حسن قال رسول الله (ص): ليدركن المسيح أقواماً إنهم لمثلكم أو خير ثلاثاً.....

وأخرج أحمد، والدارمي، والطبراني باسناد حسن، من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يارسول الله أحد خير منا، أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: قوم يكونون من بعدكم، يؤمنون بي ولم يروني. وقد صححه الحاكم.

وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبي للغرباء.

وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة رفعه: تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: بل منكم

وجمع الجمهور، بأن الصحابة لها فضيلة ومزية لايوازيها شئ من الأعمال، فلمن صحب

النبي(ص)فضيلة الصحبة وإن قصر في الأعمال، وفضيلة من بعد الصحابة باعتبار كثرة الأعمال المستلزمة لكثرة الأجور، فحاصل هذا الجمع أن التنصيص علي فضيلة الصحابة باعتبار فضيلة الصحبة، وأما باعتبار أعمال الخير فهم كغيرهم...فتقرر بما ذكرناه عدم صحة ما جمع به الجمهور...

والذي يستفاد من مجموع الأحاديث أن للصحابة مزية لايشاركهم فيها من بعدهم، وهي صحبته(ص)ومشاهدته والجهاد بين يديه وإنفاذ أوامره ونواهيه، ولمن بعدهم مزية لايشاركهم الصحابة فيها وهي إيمانهم بالغيب في زمان لا يرون فيه الذات الشريفة، التي جمعت من المحاسن ما يقود بزمام كل مشاهد إلي الإيمان، إلامن حقت عليه الشقاوة....). انتهي.

فتكون النتيجة عند الشوكاني قريبة من التساوي!!

ثم تابع الشوكاني:(فإن قلت: ظاهر الحديث المتقدم عن أبي عبيدة قال: يارسول الله أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ فقال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولايروني، يقتضي تفضيل مجموع قرن هؤلاء علي مجموع قرن الصحابة.

قلت: ليس في هذا الحديث ما يفيد تفضيل المجموع علي المجموع، وإن سلم ذلك وجب المصير إلي الترجيح لتعذر الجمع، ولاشك أن حديث خير القرون قرني أرجح من هذا الحديث بمسافات، لو لم يكن إلا كونه في الصحيحين وكونه ثابتاً من طرق، وكونه متلقي بالقبول....فلم يبق ههنا إشكال والله أعلم)!

أما ابن حجر فقد بحث في أول المجلد السابع من فتح الباري حديث خير القرون وأفضلية الصحابة، بحثاً مطولاً كغيره، فقوَّي رأي البخاري في أن الصحابي من رأي النبي صلي الله عليه وآله! وأفتي بأن من قاتل منهم أو أنفق فهم خير البشر علي الإطلاق! ثم قال: (لكن هل هذه الأفضلية بالنسبة إلي المجموع أو الأفراد، محل بحث، والي الثاني نحا الجمهور، والأول قول ابن عبد البر. والذي

يظهر أن من قاتل مع النبي(ص)أو في زمانه بأمره، أو أنفق شيئاً من ماله بسببه، لايعدله في الفضل أحد بعده كائناً من كان! وأما من لم يقع له ذلك فهو محل البحث، والأصل في ذلك قوله تعالي: لايَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا.. الآية

واحتج بن عبد البر بحديث: مثلُ أمتي مثل المطر لايدري أوله خير أم آخره، وهو حديث حسن، له طرق قد يرتقي بها إلي الصحة.

وقد روي بن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير أحد التابعين باسناد حسن قال قال رسول الله(ص): ليدركنَّ المسيح أقواماً، إنهم لمثلكم أو خير. ثلاثاً، ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها.

وروي أبو داود والترمذي من حديث أبي ثعلبة رفعه: تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين. قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: بل منكم، وهو شاهد لحديث مثل أمتي مثل المطر.

واحتج بن عبد البر أيضاً بحديث عمر رفعه: أفضل الخلق إيماناً قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني..الحديث، أخرجه الطيالسي وغيره لكن إسناده ضعيف فلا حجة فيه.

وروي أحمد والدارمي والطبراني من حديث أبي جمعة قال قال أبو عبيدة: يارسول الله أحدٌ خير منا، أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ قال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني، وإسناده حسن وقد صححه الحاكم.

واحتج أيضاً بأن السبب في كون القرن الأول خير القرون أنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار حينئذ، وصبرهم علي أذاهم، وتمسكهم بدينهم، قال: فكذلك أواخرهم إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا علي الطاعة حين ظهور المعاصي والفتن، كانوا أيضاً عند ذلك غرباء، وزكت

أعمالهم في ذلك الزمان كما زكت أعمال أولئك. ويشهد له ما رواه مسلم عن أبي هريرة رفعه: بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبي للغرباء.

وقد تعقب كلام بن عبد البر بأن مقتضي كلامه أن يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من يكون أفضل من بعض الصحابة، وبذلك صرح القرطبي، لكن كلام بن عبد البر ليس علي الإطلاق في حق جميع الصحابة، فإنه صرح في كلامه باستثناء أهل بدر والحديبية، نعم، والذي ذهب إليه الجمهور أن فضيلة الصحبة لايعدلها عمل لمشاهدة رسول الله(ص). انتهي.

ثم واصل ابن حجر محاولته لترجيح هذا حديث خير القرون علي مايعارضه بكلام طويل، ومما قاله: (وأما حديث أبي جمعة فلم تتفق الرواة علي لفظه، فقد رواه بعضهم بلفظ الخيرية كما تقدم، ورواه بعضهم بلفظ: قلنا يا رسول الله هل من قوم أعظم منا أجراً.. الحديث...). انتهي.

وتلاحظ أنه أسقط حديث أبي جمعة عن الصلاحية لمعارضة حديث القرون لتفاوت ألفاظه، وهو يعرف أن ألفاظ حديث القرون متفاوتة ومتعارضة، وأن صيَغه تزيد علي العشرة، وقد تضمن بعضها شتماً لكل أجيال المسلمين الآتية! كالذي في فيض القدير:3/638: (خير الناس قرني الذين أنا فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، والآخرون أراذل)! انتهي. يقصد الذين من بعدهم!!

ثم ختم ابن حجر بقوله: (واستدل بهذا الحديث علي تعديل أهل القرون الثلاثة وإن تفاوتت منازلهم في الفضل، وهذا محمول علي الغالب والأكثرية)! انتهي.

وبذلك حصر أمر التفضيل علي العالمين في أبي بكر وعمر ومن تبعهما! وهو بيت قصيدهم، في هذه المسألة وغيرها!

قال المناوي في فيض القدير:2/233: (وأما خبر خير الناس قرني فخاص بقوم منهم، والمراد في قرني كالعشرة وأضرابهم، وأما سواهم فيجوز أن يساويهم أفاضل

أواخر هذه الأمة). انتهي.

فاتجاههم إلي تضييق المقصود بالحديث، ثابتٌ مستمر، حتي يصل الأمر إلي العشرة المبشرة، ثم يصل منهم إلي عمر وأبي بكر خاصة!

ردهم شهادات النبي في انحراف الصحابة بعده

يحمد الله الشوكاني علي أنه لم يبق إشكال علي حديث القرون (خير القرون قرني) وأنه ثبت به تفضيل أبي بكر وعمر، علي أهل القرون!

أما ابن حجر فتخيل أنه عثر علي علل في الأحاديث المعارضة لحديث القرون في سند بعضها، ونقاط ضعف في تفاوت ألفاظ بعضها!

ومن العجيب أن هؤلاء الباحثين يرجحون حديث القرون وهو حديث واحد لراويِيْن أو ثلاثة، علي أحاديث الحوض وهي عشرات الأحاديث الصحيحة الصريحة، المتعددة الطرق والرواة إلي حد التواتر، بل تراهم يذكرونها علي مضض كأنهم مجبرون! والسبب أنها نصَّتْ علي أن أكثر الصحابة في النار! وأنه لا ينجو منهم إلا مثل هَمَل النَّعَم، أي القلة الذين لاراعي لهم!

قال البخاري:7/208: (عن أبي هريرة عن النبي(ص)قال: (بيْنَا أنا قائمٌ فإذا زمرة حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، فقلت أين؟ قال إلي النار والله! قلتُ: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري! ثم إذا زمرة حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم! قلتُ: أين؟ قال: إلي النار والله! قلتُ: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري! فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النعم)!! انتهي.

وقد قتل شراح البخاري أنفسهم لإبعاد هذه الأحاديث عن الصحابة وإلصاقها بغيرهم، وقالوا إن النبي صلي الله عليه وآله يقصد الذين ارتدوا في اليمن ونجد!

لكن رواية البخاري التالية صرحت بأن هؤلاء المطرودين عن الحوض الصحابة لا البدو المرتدين! قال في:2/975: (عن ابن المسيب أن النبي(ص)قال: يَرِدُ عليًّ الحوضَ رجالٌ

من أصحابي فيحلؤون عنه، فأقول يارب أصحابي! فيقول: فإنه لاعلم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا علي أعقابهم القهقري)!

(وروي شبيهاً به في: 8/86، وشبيهاً بالأول في:7/195 و207_210 وص84 و87 و:8/86 و87، ونحوه مسلم:1/150 و:7/66 وابن ماجة:2/1440 وأحمد:2/25 و408 و:3/28 و:5/21 و24 و50 و:6/16، والبيهقي في سننه:4/ 14، ونقل رواياته المتعددة في كنز العمال:13/157و:14/48 و:15/647 وقال رواه(مالك والشافعي حم م ن-عن أبي هريرة. وأورد ابن حجر في فتح الباري:11/333، قرابة عشرين حديثاً في الحوض والصحابة المطرودين عنه).

وفي مسلم:1/150، (عن أبي هريرة قال قال رسول الله (ص): ترد عليَّ أمتي الحوض وأنا أذود الناس عنه، قالوا يا نبي الله أتعرفنا؟ قال: نعم تردون عليَّ غراً محجلين من آثار الوضوء. ولَيُصَدَّ عني طائفةٌ منكم فلايصلون فأقول يارب هؤلاء من أصحابي! فيجيبني ملكٌ فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟!).

وفي مسلم:7/70: (عن أبي هريره أن النبي(ص) قال: لأذودن عن حوضي رجالاً كما تذاد الغريبة من الإبل). (ورواه أحمد:2/298، المسند الجامع تحقيق د. عواد:3/343 و:5/135 و18 /471، والبيهقي في البعث والنشور ص125 ومجمع الزوائد:10/665).

فهل يعقل من الذي أخبر بوحي رب العالمين عن مستقبل الصحابة الرهيب في جهنم، أن يقول عنهم إنهم خير القرون، وأفضل من جميع العالمين؟!

وهل يعقل من الذي لم يرض أن يسميهم إخواني صلي الله عليه وآله، لأنهم سينقلبون من بعده، أن يقول عنهم إنهم خير القرون! ففي صحيح مسلم:1/150: (وددت أنا قد رأينا إخواننا. قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. فقالوا كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهريْ خيل دُهْم

بُهْم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلي يا رسول الله. قال: فإنهم يأتون غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم علي الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال! أناديهم ألا هلمَّ، فيقال إنهم قد بدلوا بعدك! فأقول سحقاً سحقاً!). ورواه أحمد في مسنده:2/300 وص408، والبيهقي في سننه:1/83 و:4/78، وابن حبان:3/321، ومجمع الزوائد:10/66، وغيرهم بدون نقيصة، لكن رواه النسائي في سننه:1/93، وحذف آخره لأن فيه ذم الصحابة!

وهل يعقل أن يكون الصحابة خير أهل القرون، ثم يكون قطيعهم وأكثريتهم من أهل النار، ولاينجو منهم ولا يدخل الجنة إلا قلة قليلة، يكونون منفردين عن قطيعهم مثل (هَمَل النعم)كالأغنام المنفردة البعيدة عن القطيع!

قال ابن حجر في مقدمته ص197: (والخليفة راعي الصحابة بلا شك).انتهي. فمن هم الهمل الناجون، البعيدون عن قطيع الصحابة الذي راعياه أبو بكر وعمر؟!

الامام مالك يعض يديه ندما لروايته أحاديث الحوض

تحالف الحسنيون والعباسيون في جبهة واحدة للثورة علي الأمويين، وكانت القيادة للحسنيين، وما أن اشتعلت الثورة في خراسان بقيادة أبي مسلم الخراساني حتي بادر العباسيون في الكوفة إلي سرقتها وأقنعوه بالبيعة للسفاح فبايعوا له في الكوفة وأزاحوا الحسنيين، فغضب الحسنيون وسيطروا علي اليمن والحجاز والبصرة، وزحفوا في سبعين ألف مقاتل نحو الكوفة ووصلوا اليها وشارفوا علي النصر، وتهيأ أبو جعفر المنصور للهرب، لكن قائدهم إبراهيم بن عبدالله بن الحسن أصابه سهم طائش فقتل وتفرق جنده، فاستتب الأمر للعباسيين.

كان مالك بن أنس أفتي بالثورة مع الحسنيين! فعاقبه العباسيون بعد ذلك بالسجن والجلد، ثم استرضاهم فرضي عنه السفاح والمنصور.

وقد ساء المنصور أن يري المرجعية الفكرية للأمة متمركزة في الأئمة من ذرية الحسين عليه السلام فاتخذ قراراته غيظاً من كل أبناء علي عليه السلام بتغيير الخط الفكري لثورة العباسيين، وإعادة

الإعتبار للخلفاء القرشيين، بعد أن قامت الثورة الهاشمية علي البراءة منهم، ورفعت في مقابل الأمويين شعار: يالثارات الحسين عليه السلام، وفي مقابل قريش: الدعوة إلي الرضا من آل محمد، فقرر المنصور تأسيس مذهب في مقابلهم، وأمر مالك بن أنس أن يكتب له كتاباً موطأً ليلزم به المسلمين، وحصر الفتوي بمالك، ومنع أئمة أهل البيت عليهم السلام وفقهاء المدينة أن يفتوا مادام مالك موجوداً فصار قراره مثلاً: (لايفتين أحد ومالك في المدينة)، وقام باضطهاد الإمام جعفر الصادق عليه السلام وقتله.

وقد استغرق هذا العمل بضع عشرة سنة، كتب مالك كتابه الموطأ في أولها،

وتبنته السلطة ونشرته، وبعد نشره أصدر المنصور أمراً للمحدثين والفقهاء والولاة أن لايرووا شيئاً في فضائل علي عليه السلام، ولا طعناً بأبي بكر وعمر، وأن يفضلوهما علي علي عليه السلام! ثم أمر بمدح أبي بكر وعمر في خطبة الجمعة وقال: (والله لأرغمن أنفي وأنوفهم، وأرفع عليهم بني تيم وعدي). (منهاج الكرامة ص69).

لكن الموطأ كان قد انتشر وفيه أحاديث الحوض وما أدراك ما أحاديث الحوض! فكان مالك يعض أصابعه ندماً علي وجودها فيه!

قال الحافظ ابن الصديق المغربي في فتح الملك العلي ص151: (وخرج مالك والبخاري ومسلم حديث الحوض، الذي حكي عن مالك أنه قال: ما ندمت علي حديث أدخلته في الموطأ إلا هذا الحديث (الموطأ: 1/40 ط مصر1369)!

وعن الشافعي أنه قال: ما علمنا في كتاب مالك حديثاً فيه إزراء علي الصحابة إلا حديث الحوض ووددنا انه لم يذكره). انتهي.

هذا واقع الصحابة في النص الصحيح عندهم! لكن السلطة القرشية تريد إخفاءه ورفع الصحابة في مقابل عترة النبي صلي الله عليه وآله وكأنهم ليسوا صحابة! وكأن النبي صلي الله عليه وآله لم

يقل فيهم: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)!

علي أنهم ليسوا حريصين علي مدح جميع الصحابة، بل يريدون مدحاً مجملاً مبهماً للصحابة، يمكنهم تفسيره بأبي بكر وعمر ومن تبعهما فقط، من بين مئة ألف صحابي رأوا النبي صلي الله عليه وآله!

وحديث: خير الناس قرني، برأيهم حديث جميل يصلح لهذه الوظيفة!

علي أنا لو سلمنا صحة هذا الحديث وقلنا إن النبي صلي الله عليه وآله قال عن مسلمي عصره إنهم خير البشر! فهل ينفع هذا المدح المجمل في إثبات عدالة أبي بكر وعمر، أوإثبات عصمتهما؟ فقد يكون سبب الخير وجود العترة النبوية فيهم عليهم السلام كما تقول خير العصور عصر رسول الله بسبب وجوده الشريف صلي الله عليه وآله ووجود أهل بيته الأطهار عليهم السلام الذين هم معدن الخير، وبهم كانت الأمة خير أمة أخرجت للناس!

لكن القوم لا يريدونهم، ولا يريدون عدالة الصحابة، وإنما اتخذوا حديث خير القرون جسراً لإثبات عصمة عمر وأبي بكر! فهي بيت قصيدهم!

بل، حتي لو قلنا إن سبب هذه الخيرية والأفضلية وجود خمس مئة من الصحابة الأبرار، فلا ينفعهم ذلك، إذا لم يوجد نصَّ يُعينهم، ومقياسَ يُميزهم، فتكون القضية بالنسبة إلي غير أهل البيت عليهم السلام المخصوصين بالمدح النبوي، من نوع الشبهة المحصورة والأواني المشتبهة بين الحلال والحرام، أو الطاهر والنجس، وفتوي مذاهبهم فيها وجوب اجتنابها جميعاً إلا ما ثبتت طهارته!

قرنوا الصحابة بالنبي في الصلاة عليه من أجل عمر

اتفقت مصادرهم علي أن المسلمين سألوا النبي صلي الله عليه وآله كيف نصلي عليك؟ فأمرهم بالصلاة عليه وآله معاً، وعلمهم صيغتها! وهذا نصها من البخاري:

(قِيلَ يَارَسُولَ اللهِ أَمَّا السَّلامُ عَلَيْكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهُ فَكَيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَعَلَي آلِ

مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَي آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَي مُحَمَّدٍ وَعَلَي آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَي آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ).(راجع أيضاً: الأحاديث: 3369، 3370، 6357، 6358، 4798، 6360).

فهو نصٌّ صريح في أن الله تعالي لايقبل الصلاة علي نبيه إلا مقرونة بآله صلي الله عليه وآله. وهوصيغة توقيفية يجب اتباعها في الصلاة وغير الصلاة، لأن السؤال مطلق: فَكَيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْكَ؟ فعلمهم، ولم يسألوه كيف نصلي عليك في صلاتنا؟ حتي يتفلسف متفلسف فيقول نحن نتقيد بهذه الصيغة في الصلاة، ونحذف منها ونزيد عليها في غير الصلاة!

من الذي حذف الصلاة علي آل النبي؟! ومن أين جاء قولهم، أو عليه وآله صحبه و سلم؟

اعترف الحافظ الحنبلي ابن حجر بأن العلماء والرواة ارتكبوا تحريف أحاديث النبي صلي الله عليه وآله وحذفوا منها الصلاة علي آل النبي(تقيةً)من حكام بني أمية وجنودهم!

قال في سبل السلام بشرح الكحلاني:1/192: (ودعوي النووي وغيره الإجماع علي أن الصلاة علي الآل مندوبة، غير مسلَّمة! بل نقول: الصلاة عليه(ص)لاتتم ولا يكون العبد ممتثلاً بها حتي يأتي بهذا اللفظ النبوي الذي فيه ذكر الآل، لأنه قال السائل: كيف نصلي عليك؟فأجابه بالكيفية أنها الصلاة عليه وعلي آله، فمن لم يأت بالآل فما صلي عليه بالكيفية التي أمر بها، فلا يكون ممتثلاً للأمر، فلا يكون مصلياً عليه(ص). وكذلك بقية الحديث من قوله: كما صليت إلي آخره، يجب، إذ هو من الكيفية المأمور بها، ومن فرق بين ألفاظ هذه الكيفية بإيجاب بعضها وندب بعضها، فلا دليل له علي ذلك.

وأما استدلال المهدي في البحر علي أن الصلاة علي الآل سنة، بالقياس علي الأذان، فإنهم لم يذكروا معه (ص) فيه، فكلامٌ باطل، فإنه كما قيل لا قياس مع النص، لأنه لا يذكر الآل في تشهد الأذان لا ندباً ولا وجوباً، ولأنه

ليس في الأذان دعاء له (ص) بل شهادة بأنه رسول الله، والآل لم يأت تعبدٌ بالشهادة بأنهم آله. ومن هنا تعلم أن حذف لفظ الآل من الصلاة كما يقع في كتب الحديث، ليس علي ما ينبغي! وكنت سئلت عنه قديماً فأجبت إنه قد صح عند أهل الحديث بلا ريب كيفية الصلاة علي النبي(ص)وهم رواتها، وكأنهم حذفوها خطأ تقيةً لمَّا كان في الدولة الأموية من يكره ذكرهم، ثم استمر عليه عمل الناس متابعةً من الآخر للأول فلا وجه له. وبسطت هذا الجواب في حواشئ شرح العمدة بسطاً شافياً). انتهي.

ولم يسبق بني أمية إلا عبدالله بن الزبير، الذي كان في خلافته يصلي الجمعة فلا يذكر النبي صلي الله عليه وآله أصلاً! وإذا ذكره لايصلي عليه صلي الله عليه وآله!فسئل عن ذلك فقال:(إن هذا الحيَّ من بني هاشم إذا سمعوا ذكره أشرأبَّت أعناقهم، وأبغض الأشياء إليه ما يسرهم! لايمنعني ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها! وفي رواية أنه قال مرةَ: إن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره)!. (راجع الصحيح من السيرة: 2/153، عن العقد الفريد:4/413 ط دار الكتاب العربي، وشرح النهج:20/127، وأنساب الأشراف:4/ 28 وقاموس الرجال: 5/452، ومقاتل الطالبيين ص474).

من الذي وضع الصلاة علي الصحابة بدل الآل أو معها؟

الذين حذفوا الآل من الصلاة علي النبي صلي الله عليه وآله هم الذين وضعوا صحابته بدلهم! فهل عندهم حديث جوَّز لهم قَرْنَ الصحابة بالنبي صلي الله عليه وآله في الصلاة عليه، سواء في صلاة الفريضة أو خارجها؟ أم هو استدراكٌ علي النبي صلي الله عليه وآله وبدعة! وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؟!

قال الحافظ الصديق المغربي في رسالته (القول المقنع في الرد علي الألباني المبتدع) طبع طنجة بالمغرب 1986، ص12:(وننبه هنا علي خطأ

وقع من جماهير المسلمين، قلد فيه بعضهم بعضاً ولم يتفطن له إلا الشيعة، ذلك أن الناس حين يصلون علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم يذكرون معه أصحابه مع أن النبي صلي الله عليه وآله وسلم حين سأله الصحابة فقالوا: كيف نصلي عليك؟ أجابهم بقوله: قولوا اللهم صل علي محمد وآل محمد. وفي رواية: اللهم صل علي محمد وأزواجه وذريته، ولم يأت في شئ من طرق الحديث ذكر أصحابه مع كثرة الطرق وبلوغها حد التواتر.

فذكرُ الصحابة في الصلاة علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم زيادةٌ علي ما علمه الشارع، واستدراكٌ عليه، وهو لا يجوز.

وأيضاً فإن الصلاة حقٌّ للنبي ولآله صلي الله عليه وآله وسلم، ولا دخلَ للصحابة فيها، لكن يترضي عنهم). انتهي. وهو كلام قويٌّ من عالم سني منصف.

وقد رد الألباني عليه في مقدمة كتابه: سلسلة الأحاديث الضعيفة:3/ 8، رداً مطولاً جداً، ومما قاله: (قلت: ليس في هذا الكلام من الحق إلا قولك الأخير: إنه لاتجوز الزيادة علي ما علمه الشارع..إلخ، فهذا حق نقول به ونلتزمه ما استطعنا إلي ذلك سبيلا. ولكن ما بالك أنت وأخوك خالفتم ذلك، واستحببتم زيادة كلمة (سيدنا) في الصلاة عليه صلي الله عليه وآله وسلم، ولم ترد في شئ من طرق الحديث؟! أليس في ذلك استدراك صريح عليه صلي الله عليه وآله وسلم، يامن يدعي تعظيمه بالتقدم بين يديه؟! أما سائر كلامك فباطل لوجوه:

الأول: أنك أثنيت علي الشيعة بالفطنة ونزهتهم عن البدعة، وهم فيها من الغارقين الهالكين. واتهمت أهل السنة بها وبالبلادة والغباوة، وهم والحمد لله مبرؤون منها، فحسبك قوله (ص)في أمثالك: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم. رواه مسلم.....

وتابع الألباني قائلاً: (هذا

العموم المزعوم، أنت أول مخالف له! لأنه يستلزم الصلاة عليه(ص)بهذه الصلوات الابراهيمية كلما ذكر عليه الصلاة والسلام، وما رأيتك فعلت ذلك ولو مرة واحدة في خطبة كتاب أو في حديث ذكر فيه النبي(ص)! ولا علمنا أحداً من السلف فعل ذلك والخير كله في الإتباع (!).

والسر في ذلك أن هذا العموم المدعي إنما هو خاص بالتشهد في الصلاة كما أفادته بعض الأحاديث الصحيحة، ونبه عليه الإمام البيهقي فيما ذكره الحافظ في فتح الباري:11/154، الطبعة السلفية فليراجعه من شاء، والإمام الشافعي في رسالته علي ما ذكره الحافظ السخاوي في القول البديع، والرافعي، والشيرازي، والنووي، وابن تيمية، وابن القيم، وابن حجر، وغيرهم كثير وكثير جداً، لا يمكن حصرهم، ما زال كل واحد منهم يصلي علي النبي(ص)في خطبة كتبه ويصلي علي أصحابه معه، كما أفعل أنا أحياناً اقتداءً بهم، وبخاصة أن الحافظ ابن كثير نقل في تفسيره الإجماع علي جوازه (!)، ومع ذلك كله رميتني بسبب ذلك بدائك وبَدَّعتني! أفهؤلاء الأئمة مبتدعةٌ عندك ويحك! أم أنت تزن بميزانين وتكيل بكيلين؟!).

ثم قال الألباني: (وهو يعلم أن النبي(ص)كان يصلي علي أصحابه بمناسبات مختلفة، ومن ذلك حديث: كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم فأتاه أبو أوفي بصدقته فقال: اللهم صل علي آل أبي أوفي. رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في الإرواء،853، وغيره.....ولا دليل علي أن ذلك من خصوصياته (ص) بل قد صح عن ابن عمر أنه كان يقول في الجنازة: اللهم بارك فيه وصل عليه واغفر له وأورده حوض رسولك. رواه ابن أبي شيبة في المصنف:10/414، وسنده صحيح علي شرط الشيخين. وبعد هذا كله فإني أرجو أن يكون ظهر للقراء جميعاً من هو المبتدع!). انتهي.

هذا لبُّ

ماذكره الألباني من كلامه الطويل الذي لم يأت فيه بدليل علي جواز قرن الصحابة بالنبي في الصلاة عليه صلي الله عليه وآله، وغاية ما ذكره ثلاثة أدلة:

الأول: قوله:(والسر في ذلك أن هذا العموم المدعي إنما هو خاص بالتشهد في الصلاة، كما أفادته بعض الأحاديث الصحيحة، ونبه عليه الإمام البيهقي، فيما ذكره الحافظ في فتح الباري..الخ). انتهي.

وقصده أنه لاعموم لصيغة الصلاة التي علمها النبي صلي الله عليه وآله للمسلمين للصلاة عليه في كل حال، بل هو تعليم نبوي خاص بتشهد الصلاة، ففي غير الصلاة يجوز لك أن تحذف الصلاة علي الآل، وتضع مكانهم الصحابة، ولا حرج!

لكن ما هو دليل الألباني علي تخصيصها بتشهد الصلاة، وحديثها في البخاري وغيره عامٌّ مطلقٌ ليس فيه حصرٌ في التشهد، قالوا: (فَكَيْفَ الصَّلاةُ عَلَيْكَ؟ قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَي مُحَمَّدٍ وَعَلَي آلِ مُحَمَّدٍ...)؟!

يقول الألباني أن دليله علي تخصيصها: (أفادته بعض الأحاديث الصحيحة، ونبه عليه الإمام البيهقي فيما ذكره الحافظ في فتح الباري). انتهي.

فقد ادعي وجود أحاديث صحيحة تحصر صيغة الصلاة النبوية التعليمية للمسلمين في تشهد الصلاة، فأين هي هذه الأحاديث الصحيحة؟!

الجواب: لاتوجد أحاديث لاصحيحة ولاضعيفة! وإلا لأتي بها الألباني في رده الطويل الذي أخذ أكثر من عشر صفحات، وهو متخصص في الحديث! لكنه

كما يبدو يستحل الكذب للدفاع عن الصحابة!

ثم قال الألباني:(ونبه عليه الإمام البيهقي فيما ذكره الحافظ في فتح الباري...)

يقصد أن هؤلاء العلماء الذين ليس فيهم واحد قبل القرن السادس! نبهوا علي تخصيص صيغة الصلاة التعليمية النبوية بالتشهد دون غيره!

ويبدو أنها كذبة أخري! ولو صدقناه لقلنا لهؤلاء: ما هو دليلكم علي التخصيص؟ وهل هو الأحاديث الصحيحة التي وعد بها الألباني!!

الدليل

الثاني: قال الألباني: (وهو يعلم أن النبي(ص)كان يصلي علي أصحابه بمناسبات مختلفة، ومن ذلك حديث: كان إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلِّ عليهم، فأتاه أبو أوفي بصدقته فقال: اللهم صل علي آل أبي أوفي. رواه الشيخان وغيرهما، وهو مخرج في الإرواء،853، وغيره....). انتهي.

والجواب: إن هذا تدليس في الإستدلال مع الأسف! لأن موضوعنا كيف يجب أن نصلي نحن علي النبي صلي الله عليه وآله؟فكيف يستدل عليه بصلاة النبي صلي الله عليه وآله علي المسلمين؟! فالنبي صلي الله عليه وآله يعرف تكليفه كيف يصلي علينا وعلي غيرنا، وقد بين لنا تكليفنا نحن كيف نصلي عليه، وحدده بصيغة تعليمية توقيفية صحيحة.

فهل يجوز لنا أن نقول له: كلا، نريد أن نصلي عليك كما نحب، ونضم في الصلاة عليك من نحب، ونحذف منها لا نحب! لأنك أنت تفعل ذلك؟!

الدليل الثالث: قال الألباني: (ولا دليل علي أن ذلك من خصوصياته(ص) بل قد صح عن ابن عمر أنه كان يقول في الجنازة: اللهم بارك فيه وصل عليه واغفر له وأورده حوض رسولك. رواه ابن أبي شيبة في المصنف:10/414، وسنده صحيح علي شرط الشيخين). انتهي.

يقول الألباني بذلك لقد ثبت بأثر صحيح عن ابن عمر أنه قال لميت (اللهم بارك فيه وصل عليه) فالصلاة علي المسلمين ليست من مختصات النبي صلي الله عليه وآله، بل يجوز لأي مسلم أن يقول لمسلم آخر (اللهم صل عليه)، ونحن نقول: اللهم صل علي الصحابة، فما المانع؟

والجواب: أن الألباني يعرف أن المسألة ليست جواز الصلاة علي مسلم بقولنا: (اللهم صل عليه)، بل هي قَرْنُ الصحابةبالنبي صلي الله عليه وآله، وهل يجوز أن نتعدي تعليمه بالصلاة عليه، ونحذف آله من صلاتنا عليه، ونضع

بدلهم الصحابة؟!

فانظر كيف غيَّر الموضوع أيضاً، وشطَّ عنه بعيداً، وكذلك يفعلون!

قرنهم الصحابة بالنبي صلي الله عليه وآله معضلة لاحل لها!

إن حذف أتباع الخلافة لآل النبي من الصلاة عليه صلي الله عليه وآله، ووضعهم الصحابة بدلهم أو معهم وقرنهم بالنبي صلي الله عليه وآله، معضلةٌ لم ولن يستطيعوا حلها! بل هي ست معضلات فقهية كاملة:

1- هل يجوز الصلاة علي غير النبي صلي الله عليه وآله، ومن أمر النبي بالصلاة عليه؟

2- هل يوجد دليل يخصص صيغة الصلاة النبوية بتشهد الصلاة؟

3- هل يجوز حدف آل النبي صلي الله عليه وآله من الصلاة عليه؟

4- هل يجوز وضع الصحابة مكانهم وقرنهم بالنبي صلي الله عليه وآله؟

5- هل يجوز أن ننوي بصلاتنا علي آل النبي صلي الله عليه وآله جميع ذريته من فاطمة وعلي عليهما السلام وكل ذرية بني هاشم إلي يوم القيامة، ونقرنهم بالنبي صلي الله عليه وآله وفيهم من ثبت أنهم أعداء لله ورسوله، وفيهم اليوم نصاري وملحدون وقتلة وأشرار؟!

فهل يمكن أن يأمرنا الله تعالي أن نصلي علي هؤلاء الكفار والفجار ونقرنهم بسيد المرسلين صلي الله عليه وآله؟! وهل يجب عليهم أن يقولوا (وآله المؤمنين)؟!

6- إذا حلينا أصل مشكلة ضم الصحابة وقرنهم بالصلاة مع النبي صلي الله عليه وآله فهل يجوز لنا أن نعمم الصلاة عليهم جميعاً بدون تخصيص أو تقييد، لأنا بقولنا (وعلي أصحابه أجمعين)نقرن أكثر من مئة ألف شخص بالنبي صلي الله عليه وآله وهؤلاء فيهم من شاركوا في محاولة اغتيال النبي صلي الله عليه وآله ليلة العقبة، وفيهم من ثبت نفاقهم بنص القرآن ونص النبي صلي الله عليه وآله، وفيهم جماعة شهد النبي صلي الله عليه

وآله بأنهم لن يروه بعد وفاته، وأنهم سوف ينقلبون من بعده، ويمنعون من ورود حوضه يوم القيامة ويؤمر بهم إلي النار! فهل يجب التخلص من هذا الإشكال بأن نقول: (عليه وعلي أصحابه المؤمنين، أو المرضيين)؟!

لقد أوقعوا أنفسهم في كل هذه المشكلات، لأنهم استدركوا علي النبي صلي الله عليه وآله ولم يتَّبعوا! أما نحن فلا مشكلة عندنا، لأنا لانستحل أن نقرن بنبينا في الصلاة عليه صلي الله عليه وآله إلا آله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام الذين أمرنا بقرنهم به، وهم عندنا مصطلح نبوي خاص حدده النبي صلي الله عليه وآله بعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وتسعة من ذرية الحسين، آخرهم المهدي، صلوات الله عليهم.

عصموا البخاري من أجل عصمة عمر

صحيح البخاري كتابٌ في الحديث، ألفه محمد بن إسماعيل بن برد زبه، المعروف بالبخاري الخرتنكي، نسبة إلي بلده بخاري في شرق إيران، وخرتنك قرية قرب بخاري فيها مولده وقبره، وقد ولد سنة196وتوفي سنة256.

وكانت كتب الحديث قبله بالمئات، وبعده بالألوف، لكن المتوكل العباسي تنبي كتابه بتوثيق أحمد بن حنبل، وأعرض عن كتاب الموطأ الذي ألفه مالك بن أنس لجد جده المنصور! فقد ولد مالك سنة93 وتوفي سنة179. (مقدمة كتاب الموطأ والأعلام:5/257).

قال ابن فرحون في الديباج المذهب ص25: (باب في ذكر الموطأ وتأليفه إياه: روي أبو مصعب أن أبا جعفر المنصور قال لمالك: ضع للناس كتابا أحملهم عليه فكلمه مالك في ذلك فقال: ضعه فما أحد اليوم أعلم منك، فوضع الموطأ فلم يفرغ منه حتي مات أبو جعفر، وفي رواية أن المنصور قال له: يا أبا عبد الله ضع هذا العلم ودون كتابا وجنب فيه شدائد عبد الله بن عمر ورخص عبد الله بن عباس وشواذ ابن مسعود، واقصد أواسط

الأمور وما أجمع عليه الصحابة والأئمة وفي رواية أنه قال له: إجعل هذا العلم علما واحد، فقال له: إن أصحاب رسول الله(ص)تفرقوا في البلاد فأفتي كل في مصره بما رأي فلأهل المدينة قول، ولأهل العراق قول تعدوا فيه طورهم. فقال: أما أهل العراق فلست أقبل منهم صرفا ولا عدلا، وانما العلم علم أهل المدينة فضع للناس العلم.

وفي رواية عن مالك فقلت له: إن أهل العراق لا يرضون علمنا، فقال أبو جعفر: نضرب عليه عامتهم بالسيف ونقطع عليه ظهورهم بالسياط!

وروي أن المهدي قال له: ضع كتابا أحمل الأمة عليه، فقال له مالك: أما هذا الصقع فقد كفيته يعني المغرب، وأما الشام ففيه الأوزاعي، وأما أهل العراق ففيهم أهل العراق، قال عتيق الزبيدي: وضع مالك الموطأ علي نحو من عشرة آلالف حديث، فلم يزل ينظر فيه كل سنة ويسقط منه حتي بقي هذا، ولو بقي قليلا لأسقطه كله). انتهي.

وبقي الموطأ المرجع الرسمي للدولة وعلمائها، وكان أئمة المذاهب يمدحونه بأنه أصح كتاب بعد كتاب الله تعالي، حتي تركه المتوكل واستعاض عنه بمسودة كتاب البخاري فصار أصح كتاب بعد كتاب الله تعالي!

قال ابن عبد البر في التمهيد:1/79: (سمعت الشافعي يقول: ما رأيت كتاباً الف في العلم أكثر صواباً من موطأ مالك).

وقال الذهبي سير أعلام النبلاء:9/205: (قال بندار: سمعت عبد الرحمن يقول: ما نعرف كتابا في الإسلام بعد كتاب الله أصح من موطأ مالك).

وقال السيد الميلاني في الأحاديث المقلوبة في مناقب الصحابة ص38:

(ولما أراد الرشيد الشخوص إلي العراق قال لمالك: ينبغي أن تخرج معي فإني عزمت أن أحمل الناس علي الموطأ كما حمل عثمان الناس علي القرآن! (مفتاح السعادة: 2 /687). ثم أراد

هارون أن يعلق الموطأ علي الكعبة! (7 كشف الظنون: 2/1908). ونادي منادي الحكومة: ألا لا يفتي الناس إلا مالك بن أنس) (وفيات الأعيان 3/284، مفتاح السعادة:2/87، مرآة الجنان:1/375.)

أما المتوكل الذي فقد كان صاحب مشروع جديد في التجسيم والنصب، يختلف عن مشروع أجداده، فقد أسس ميليشا (أصحاب الحديث) واختار لهم إماماً هو أحمد بن حنبل، ودعاه إلي سامراء وأكرمه وعقد له مجالس، وكان لايعين قاضي القضاة إلا بموافقته، ففي تاريخ بغداد 3/147: (أمر المتوكل بمسائلة أحمد بن حنبل عمن يتقلد القضاء).

وفي تاريخ بغداد:2/426: (بعث المتوكل إلي أحمد بن حنبل يسأله عن ابن الثلجي ويحيي بن أكتم في ولاية القضاء، فقال أما بن الثلجي فلا). انتهي.

وكان البخاري علي صلة دائمة بأحمد، وقد ألف كتابه بتوجيهه، وعرضه عليه فارتضاه، ففي مقدمة فتح الباري ص491: (لما صنف البخاري كتاب الصحيح عرض مسودته علي ابن المديني وأحمد بن حنبل ويحيي بن معين وغيرهم فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة إلا أربعة أحاديث. قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة). انتهي.

وطلب ابن حنبل من البخاري أن يسكن في بغداد فاعتذر له، لكنه ندم بعد ذلك! ففي تاريخ بغداد:2/22: (سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: دخلت بغداد آخر ثمان مرات، كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل فقال لي في آخر ما ودعته: يا أبا عبد الله تترك العلم والناس وتصير إلي خراسان؟! قال أبو عبد الله: فأنا الآن أذكر قوله). انتهي.

مات البخاري قبل أن يكمل كتابه، فأكمله جماعة المتوكل

وقد اعترف بذلك ابن حجر في مقدمة الفتح ص6، قال: (حدثنا الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال: انتسخت كتاب البخاري من أصله الذي كان عند صاحبه محمد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه أشياء لم تتم،

وأشياء مبيضة منها تراجم(عناوين)لم يثبت بعدها شيئاً، ومنها أحاديث(أي عناوين أحاديث) لم يترجم لها، فأضفنا بعض ذلك إلي بعض!

قال أبو الوليد الباجي: ومما يدل علي صحة هذا القول أن رواية أبي إسحاق المستملي ورواية أبي محمد السرخسي ورواية أبي الهيثم الكشمهيني ورواية أبي زيد المروزي، مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنهم انتسخوا من أصل واحد! وإنما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم فيما كان في طرة أو رقعة مضافة، أنه من موضع ما، فأضافه إليه! ويبين ذلك أنك تجد ترجمتين(عنوانين)وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها أحاديث). انتهي.

ومع ذلك فقد تبنته السلطة وألزمت به الطلبة والناس، وأنستهم موطأ مالك!

السر في تبنيهم كتاب البخاري

كتاب البخاري واحدٌ من مئات الكتب المشابهة التي ألفت قبله، وألوف الكتب التي ألفت بعده، وليس فيه سر سوي أنه مفصل علي مزاج المتوكل! فمن أراد أن يعرف البخاري فليعرف المتوكل، في نصبه لأهل البيت عليهم السلام كلهم وكرهه لعلي عليه السلام خاصة، وقتله أئمة أهل البيت عليهم السلام واضطهاده لشيعتهم، ومنعه الناس من زيارة قبر الحسين عليه السلام ثم هدمه القبر الشريف! (راجع كتابنا: جواهر التاريخ).

يوازي ذلك تقديسه لأبي بكر وعمر إلي حد العصمة! وقد رأيت أن أهم أحاديث عصمة عمر رواها البخاري، ومنها: (والذي نفسي بيده مالقيك الشيطان قط سالكاً فجَّاً إلا سلك فجاً غير فجِّك). (البخاري:4/96, و199 و:7/93)!

هل أن تبني البخاري عمل علمي أم ضد العلم؟

يسأل بعضهم: لماذا لا يقوم مجموعة من العلماء المشهورين بجمع الأحاديث الصحيحة في مدرسة أهل البيت ويصححونها، وتخرج في كتب ونقول للعامة هذا صحيحنا وبه حاجونا؟

وقد أجبنا عليه: بأن هذا سؤال يسأله أهل البساطة العلمية، فإن من مشاكل المذاهب السنية أنها أقفلت علي نفسها باب الإجتهاد في الحديث، واعتمدت علي اجتهاد البخاري قبل ألف ومئتي سنة، وفرضته علي الناس في كل العصور!

أما نحن، فمنهجنا علمي منطقي، نعتبر كل ما روي عن النبي وآله صلوات الله عليهم، مواديجب أن تخضع للبحث العلمي، والإجتهاد فيها مفتوح في كل العصور، والذي يصحح ويضعف هو المرجع بالنسبة إلي مقلديه وأهل الإختصاص الموثوق بهم. فأي النهجين أصح؟

وهل إذا قام عالم في عصرنا فألف كتاباً جمع فيه الصحيح برأيه، يجب عليك وعلي كل الناس تقليده، وعلي الأجيال الآتية؟!

كلا، فتصحيحه حجةٌ علي نفسه وعلي من يقلده فقط، ولا بد أن يكون في المسلمين في كل عصر مجتهدون وخبراء، يبحثون كل الثروة العلمية التي رويت عن

النبي صلي الله عليه وآله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، ويجتهدون في التصحيح والتضعيف، ويفتون المسلمين بنتيجة آرائهم فيقلدهم المسلمون بصفتهم أهل خبرة في الشريعة وأحاديث السنة الشريفة.

وبذلك فقط نضمن براءة ذمة المسلمين، وعدم جمودهم علي تصحيح عالم من مئات السنين، لم يطلع علي ما اطلع عليه العلماء المتأخرون.

نظرية إلجام العوام بيد السلطة و رجال الدين

قال التفتازاني في شرح المقاصد:5/310: (فإن قيل: فمن علماء المذهب من لايجوِّز اللعن علي يزيد، مع علمهم بأنه يستحق ما يربو علي ذلك ويزيد. قلنا: تحامياً علي أن يرتقي إلي الأعلي فالأعلي، كما هو شعار الروافض، علي ما يروي في أدعيتهم، ويجري في أنديتهم، فرأي المعتنون بأمر الدين إلجام العوام بالكلية، طريقاً إلي الإقتصاد في الإعتقاد). انتهي.

فقد ألجموهم علي حد تعبير التفتازاني عن الكلام علي يزيد! لكنهم لم يقفوا في شد لجامهم عند قصور بني أمية فقط، بل عن أمور كثيرة، نذكر منها هنا:

الجام العوام عن قبول شهادة الصحابة بحق أنفسهم

فقد شهد أهل بدر وبيعة الرضوان بأن رضا الله تعالي عنهم ليس مطلقاً، بل هو مشروطٌ بشروط، منها أن لا يحدثوا بعد النبي صلي الله عليه وآله وينحرفوا! فقد روي البخاري:5/66، عن المسيب أنه قال للبراء بن عازب: (طوبي لك، صحبت النبي(ص)وبايعته تحت الشجرة. فقال:يا ابن أخي إنك لا تدري ما أحدثنا بعده)!

لكنهم لم يقبلوا هذه الشهادة، وقالوا لهم: كلا، إن رضا الله عنكم مطلق وشامل، وأنتم من أهل الجنة، فاعملوا ماشئتم!!

الجام العوام عن قبول إقرار بعض الصحابة بالمعصية

ففي مسند أبي يعلي:9/176: (عن عبدالله بن مسعود أنه تعمد الكذب من أجل أن يأخذ ناقة! قال: ماكذبت مذ أسلمت إلا كذبة! كنت أرحل رسول الله(ص) فأتي رجل من الطائف فقال: أي راحلة أعجب إلي رسول الله(ص)فقلت الطائفية المنكبة، قال ورسول الله (ص)يكرهها! قال: فلما رحَّلها فأتي بها قال: من رحَّل لنا هذه؟ قالوا رحَّل لك الذي أتيت به من الطائف، قال: ردوا الراحلة إلي ابن مسعود). (ورواه ابن أبي الدنيا في آداب اللسان/253، والطبراني في المعجم الكبير:10/174، وأبو نعيم الأصفهاني في مسند أبي حنيفة/235و 258، وابن عساكر في تاريخ دمشق:24/311)

الجام العوام عن قبول شهادة النبي لقاتل عمار بالنار

فقد رووا بأسانيد صحيحة أن النبي صلي الله عليه وآله قال لعمار بن ياسر: تقتلك الفئة الباغية، وقال: قاتل عمار وسالبه في النار! وقد قتله في صفين(الصحابي)أبو الغادية يسار بن سبع، وهو ممن بايع بيعة الشجرة أوالرضوان! ففي مجمع الزوائد:9/297: عن النبي صلي الله عليه وآله (قاتل عمار وسالبه في النار. رواه الطبراني...ورجاله رجال الصحيح).

وفي مستدرك الحاكم:3/387: (أن رجلين أتيا عمرو بن العاص يختصمان في دم عمار بن ياسر وسلبه، فقال عمرو خلِّيا عنه، فإني سمعت رسول الله(ص)يقول: اللهم أولعت قريش بعمار، إن قاتل عمار وسالبه في النار). انتهي.

وفي طبقات ابن سعد:3/260، عن كلثوم بن جبر قال:(كنت بواسط القصب، عند عبد الأعلي بن عبدالله بن عامر، فقلت الإذنَ هذا أبو غادية الجهني، فقال عبد الأعلي: أدخلوه، فدخل عليه مقطعات له، فإذا رجل طوال ضرب من الرجال كأنه ليس من هذه الأمة، فلما أن قعد قال بايعت رسول الله (ص)يوم العقبة فقال:يا أيها الناس ألا إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلي أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم

هذا، ألا هل بلغت؟ فقلنا: نعم، فقال: اللهم اشهد، ثم قال ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض!

قال: ثم أتبع ذا فقال: إنا كنا نعد عمار بن ياسر فينا حناناً، فبينا أنا في مسجد قباء إذ هو يقول ألا إن نعثلاً هذا لعثمان، فألتفتُّ فلو أجد عليه أعواناً لوطأته حتي أقتله، قال: قلت اللهم إنك إن تشأ تمكني من عمار، فلما كان يوم صفين أقبل يستن أول الكتيبة رجلاً، حتي إذا كان بين الصفين فأبصر رجل عورة فطعنه في ركبته بالرمح، فعثر فانكشف المغفر عنه فضربته، فإذا رأس عمار ندر!

قال: فلم أر رجلاً أبين ضلالةً عندي منه! إنه سمع من النبي عليه السلام ما سمع ثم قتل عماراً!!

قال: واستسقي أبو غادية فأتي بماء في زجاج فأبي أن يشرب فيها، فأتي بماء في قدح فشرب، فقال رجل علي رأس الأمير قائم بالنبطية: أوي يد كفتا! يتورع عن الشراب في زجاج(إناء مفضض)، ولم يتورع عن قتل عمار)!! (قال عنه في مجمع الزوائد:7/243، رجاله رجال الصحيح).

وفي تاريخ دمشق:43/476: (وقال عليٌّ حين قتل عمار:إن امرءأً من المسلمين لم يَعْظُمْ عليه قتل ابن ياسر ويدخلْ عليه المصيبة الموجعة، لغير رشيد! رحم الله عماراً يوم أسلم، ورحم الله عماراً يوم قتل، ورحم الله عماراً يوم يبعث حياً، لقد رأيت عماراً وما يذكر من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله أربعة إلا كان رابعاً، ولا خمسة إلا كان خامساً، وما كان أحد من قدماء أصحاب رسول الله صلي الله عليه وآله يشك أن عماراً قد وجبت له الجنة في غير موطن، ولا اثنين، فهنيئاً لعمار بالجنة). انتهي.

ابن حنبل يقول: صحابي في النار

تقدم حديث(قاتل عمار وسالبه في النار)، وأن

رجاله رجال الصحيح، وفي مقابله تجد في مسند أحمد:4/76 عنواناً: (بقيه حديث أبي الغادية رضي الله تعالي عنه)!!

لكن أحمد احتاط فرجح أن يروي عنه ولا يسمي! (العلل لأحمد:2/602)

أما ابن حبان فعدَّه في الثقات! (3/381 ونحوه في:3/448). لكن الذهبي تعجب في ميزان الإعتدال:1/488، فقال: (عن أبي الغادية: سمعت رسول الله(ص)يقول: قاتل عمار في النار. وهذا شئ عجيب، فإن عماراً قتله أبو الغادية)! انتهي.

ونحوه في لسان الميزان لابن حجر:2/204.

ونقل عنه في تعجيل المنفعةص509 أنه كان يتبجح بقتله عماراً، قال: (كان إذا استأذن علي معاوية وغيره يقول قاتل عمار بالباب، يتبجح)!!

أما ابن تيمية فحاول أن يشكك في قتله لعمار، قال في منهاجه:7/56: (وذكر ابن حزم أن عمار بن ياسر قتله أبو الغادية، وأن أبا الغادية هذا من السابقين ممن بايع تحت الشجرة، وأولئك جميعهم قد ثبت في الصحيحين أنه لا يدخل النار منهم أحد! ففي صحيح مسلم وغيره عن جابر عن النبي(ص)أنه قال: لايدخل النار أحد بايع تحت الشجرة)!!

لكنه شهد في نفس منهاجه:6/204، بأنه قاتل عمار، لكن شكك في أنه من أهل بيعة الرضوان! قال: (بل نشهد أن العشرة في الجنة، وأن أهل بيعة الرضوان في الجنة، وأن أهل بدر في الجنة، كما ثبت الخبر بذلك عن الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحي. وقد دخل في الفتنة خلق من هؤلاء المشهود لهم بالجنة، والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية وقد قيل إنه من أهل بيعة الرضوان ذكر ذلك ابن حزم، فنحن نشهد لعمار بالجنة، ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة)!! راجع أيضاً:6/334!

ثم عاد في كتابه رأس الحسين عليه السلام ص204 وشكك

في قتله لعثمان، قال: ولهذا كان الكلام في السابقين الأولين ومن شُهد له بالجنة، كعثمان وعلي وطلحة والزبير ونحوهم: له حكم آخر، بل ومن هو دون هؤلاء، مثل أكابر أهل الحديبية الذين بايعوا تحت الشجرة. وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي(ص) أنه قال: (لايدخل النار أحد بايع تحت الشجرة). فهؤلاء ونحوهم فيما شجر بينهم: إما أن يكون عمل أحدهم سعياً مشكوراً، أو ذنباً مغفوراً، أو اجتهاداً قد عفي لصاحبه عن الخطأ فيه، فلهذا كان من أصول أهل العلم أنه لايمكَّن أحدٌ من الكلام في هؤلاء بكلام يقدح في عدالتهم وديانتهم، بل يُعلم أنهم عدول مرضيون، رضي الله عنهم وأرضاهم، لا سيما والمنقول عنهم من العظائم كذبٌ مفتري). انتهي.

ولا بد أن يكون من هذه العظائم المفتراة أن أبا لغادية قتل عماراً!

أما عبد الرحمن بن عديس البلوي الذي قتل عثمان، وهو من أهل بيعة الشجرة، فالأمر فيه يختلف! وهم يتمنون أن يحكموا عليه بأنه من أهل النار، لكن بشرط أن لاينكسر سياج أهل الشجرة لأبي بكر وعمر! فهل من طريق؟!

الجام العوام عن قبول شهادة ثقة و أمين أسراره

إذا اختلف شخصان فيما بينهما، أو اختلفنا في قبول شهادتهما، ترانا نبحث عن شخص متفق عليه من الطرفين أو من الأطراف، يرضي به الجميع ويشهدون بصدقه ووثاقته، فنعتبره حكماً عادلاً، ونقبل شهادته أوحكمه.

والصحابة فيهم مجمع عليه وفيهم مختلف فيه. ومن المجمع عليهم حذيفة بن اليمان ثقة رسول الله صلي الله عليه وآله وموضع سره. فلماذا لايقبلون شهاداته القاصعة التي رواها البخاري؟! ولماذا لايقارنونها بحديثهم (خير الناس قرني)؟!

قال حذيفة،كما في البخاري:8/100: (إن المنافقين اليوم شرٌّ منهم علي عهد النبي (ص)! كانوا يومئذ يسرون واليوم يجهرون! إنما كان النفاق

علي عهد النبي(ص) فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان!!). انتهي.

فمَن هم الذين كانوا يجهرون بالنفاق في عهد أبي بكر وعمر وعثمان، إلا طلقاء قريش؟ وما هو النفاق الذي كانوا يجهرون به إلا التشكيك برسول الله صلي الله عليه وآله والكذب عليه والطعن بعترته؟ ومن كان يحميهم إلا السلطة؟!

قال الذهبي في السير:2/361: (حذيفة بن اليمان. من نجباء أصحاب محمد (ص)، وهو صاحب السر... حليف الأنصار، من أعيان المهاجرين...

وليَ حذيفة إمرة المدائن لعمر، فبقي عليها إلي بعد مقتل عثمان، وتوفي بعد عثمان بأربعين ليلة....وحذيفة هو الذي ندبه رسول الله(ص)ليلة الأحزاب ليجس له خبر العدو، وعلي يده فتح الدينور عنوة. ومناقبه تطول، رضي الله عنه... خالد عن أبي قلابة عن حذيفة قال: إني لأشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله..... ما أدرك هذا الأمر أحد من الصحابة إلا قد اشتري بعض دينه ببعض. قالوا: وأنت؟ قال: وأنا والله!). انتهي.

فمن الذي كان يستعمل سياسة الإرهاب والقمع والإضطهاد مع المسلمين إلا السلطة القرشية المعادية لأهل بيت النبي صلي الله عليه وآله؟

ومن كان يحمي المنافقين المجاهرين بنفاقهم ضد الإسلام ونبيه إلا السلطة ومسلحوها، وجمهورها من طلقاء قريش، الذين ملؤوا المدينة وسيطروا علي الدولة؟ وهل يعقل أن يقول النبي صلي الله عليه وآله عن هؤلاء إنهم خير القرون؟!

روي مسلم:1/71:(كنا جلوساً مع حذيفة في المسجد فجاء رجل حتي جلس الينا، فقيل لحذيفة إن هذا يرفع إلي السلطان أشياء، فقال حذيفة: إرادة أن يسمعه: سمعت رسول الله(ص)يقول: لايدخل الجنة قتات)، وفي رواية أخري(ينقل الحديث إلي الأمير) وفي البخاري:7/86: (يرفع الحديث إلي عثمان)!

فهل يكون هؤلاء خير القرون بإرهابهم واضطهادهم أبرار الصحابة؟!

وفي الطبراني الكبير:3/280: (عن أبي

مالك الأشعري أنه قال لقومه: إجتمعوا أصلي بكم صلاة رسول الله(ص)فاجتمعوا فقال: هل فيكم أحد؟ فقالوا لا، إلا بن أخت لنا! قال فذلك من القوم، فدعا بجفنة فيها ماء فتوضأ وهم شهود، فمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وذراعيه ثلاثاً ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم صلي بنا الظهر فكبر فيها ثنتين وعشرين تكبيرة، يكبر إذا سجد وإذا رفع رأسه...الخ.) انتهي.

وفي البخاري:1/134، عن الزهري قال: (دخلت علي أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي! فقلت له ما يبكيك؟ فقال لا أعرف شيئاً مما أدركت إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت!!). انتهي.

فهل يكون هؤلاء خير القرون، وقد انقلبوا علي أعقابهم بعد الرسول صلي الله عليه وآله وغيروا كل شئ، حتي الوضوء والصلاة؟!

قال المفيد في الإفصاح ص53:(وفي قول أنس بن مالك: دخل رسول الله صلي الله عليه وآله المدينة فأضاء منها كل شئ، فلما مات عليه السلام أظلم منها كل شئ، وما نفضنا عن النبي صلي الله عليه وآله الأيدي ونحن في دفنه حتي أنكرنا قلوبنا شاهد عدل علي القوم بما بيناه). انتهي.

وفي فتح الباري:8/114:(قال أبو سعيد فيما أخرجه البزار بسند جيد: وما نفضنا أيدينا من دفنه حتي أنكرنا قلوبنا). وفي تحفة الأحوذي:10/62:(قال التوربشتي يريد أنهم لم يجدوا قلوبهم علي ما كانت عليه من الصفاء والألفة)!!

الجام العوام لتغطية مؤامرة خير القرون لقتل النبي

في صحيح مسلم:8/123: قال رجل لحذيفة (أنشدك بالله كم كان أصحاب العقبة؟ قال فقال له القوم أخبره إذ سألك! قال: كنا نخبر أنهم أربعة عشر فإن كنتَ منهم فقد كان القوم خمسة عشر! وأشهد بالله ان اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد). انتهي.

فمن هؤلاء الذين كانوا مستعجلين علي الخلافة واستطالوا

عمر النبي صلي الله عليه وآله فتآمروا لقتله في عودته من تبوك، وصعدوا إلي أعلي العقبة ليلاً وألقوا الصخور علي ناقته ليقتلوه، فنجاه الله منهم، ولم يستطع النبي صلي الله عليه وآله أن يعلن أسماءهم ويعاقبهم خوفاً من حدوث حركة ردة عن الإسلام! فهل هؤلاء خير القرون؟!

الجام العوام لتغطية اضطهاد خير القرون لأهل بيت نبيهم

وهل خير القرون أولئك الذين عرض عليهم نبيهم صلي الله عليه وآله وهو علي فراش مرضه ما لم يعرضه نبي علي أمته قط، أن يكتب لهم عهداً إن عملوا به لايضلوا إلي يوم القيامة، ويكونوا سادة العالم إلي يوم القيامة! فرفضوه بقلة أدب وقالوا إن نبيكم يهجر! وهددوه بالردة، فسكت صلي الله عليه وآله علي ألم وطردهم من بيته؟!

وهل خير القرون أولئك الذين تركوا جنازة نبيهم صلي الله عليه وآله بين يدي أهل بيته، وعدَوْا إلي السقيفة ليبايعوا أحدهم خلسةً، ثم عادوا مسلحين لا ليعزوا أهل بيت النبي صلي الله عليه وآله بل ليهددوهم بأن يبايعوا لصاحبهم، أو يحرقوا عليهم دارهم؟!

الجام العوام عن تصديق القرآن بأن أكثرية خير القرون لن يؤمنوا

وكيف يكون أهل عصر النبوة أو قريش خاصة خير القرون وقد صدر حكم الله تعالي علي أكثرهم بأنهم حق عليهم القول، وبأنهم لن يؤمنوا وإن أظهروا الإيمان، فقال عنهم: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَي أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لايُؤْمِنُونَ.وقال:لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاًوَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَي الْكَافِرِينَ. (يس:7 و70) فهل نقض الله تعالي في المدينة ما أنزله في مكة؟! فقوله تعالي: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ، يشمل أهل مكة، وأهل الجزيرة الذين بلغتهم دعوة النبي صلي الله عليه وآله وإنذاره في حياته.

وقوله تعالي: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَي أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لايُؤْمِنُونَ.إخبار منه وهو العليم بهم بأن أكثريتهم من أهل جهنم، وأنهم لن يؤمنوا واقعاً، وإن آمنوا ظاهراً، طمعاً أو خوفاً. وقد فسر المقصود بالقول الذي حق عليهم بقوله تعالي: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ. لأَمْلأن جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (صاد 84- 85)

وهل يستطيع المسلم الذي يؤمن بالقرآن ويقول صدق الله العظيم إلا أن يعتقد بأن أكثر أهل مكة

وقريش كانوا كفاراً عند وفاة النبي صلي الله عليه وآله ولم يؤمنوا!

قال ابن الجوزي في زاد المسير:6/263: (لقد حق القول، فيه قولان: أحدهما وجب العذاب، والثاني سبق القول بكفرهم.

قوله تعالي:"أكثرهم، يعني أهل مكة، وهذه إشارة إلي إرادة الله تعالي السابقة لكفرهم. لا يؤمنون، لما سبق من القدر بذلك). انتهي.

وأخيراً، كيف يكونون خير القرون وقد حكم عليهم الله تعالي بأنهم فراعنة وجنود للفراعنة فقال لنبيه صلي الله عليه وآله:وَاصْبِرْ عَلَي مَايَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً.إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً. وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعذاباً أَلِيماً.يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً. إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رسولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْ_نَا إلي فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصَي فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أخذاً وَبِيلاً. (المزمل 10-16).

وقد تحقق إخباره سبحانه، فلم يكن مع النبي صلي الله عليه وآله من قريش في مهجره إلا قلة قليلة جداً! وفي بعضهم كلام! وعندما فتح النبي صلي الله عليه وآله مكة مَلَكهم عبيداً، ولم يعتقهم بل أطلقهم إطلاقاً، وسماهم الطل_ق_اء! فكيف صاروا بمجرد وفاته صحابة عدولاً، وكيف يجعل الله فيهم خلافة نبيه صلي الله عليه وآله ويأمر المسلمين أن يطيعوا قريشاً مدي الدهر، لأنهم خير القرون؟ حاشا لله!

من أساليبهم في إلجام العوام

تمييع الحقائق و حلف الإيمان

قال ابن حزم في الأحكام:2/203: (وأما قدامة بن مظعون، وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة، وأبو بكرة، رضوان الله عليهم، فأفاضل أئمة عدول.

أما قدامة فبدري مغفور له بيقين، مرضي عنه، وكل من تيقنا أن الله عز وجل رضي عنه وأسقط عنه الملامة ففرض علينا أن نرضي عنه وأن لا نعدد عليه شيئاً، فهو عدل بضرورة البرهان القائم علي عدالته من عند الله عز وجل وعندنا، وبقوله عليه السلام إن

الله اطلع علي أهل بدر فقال لهم إعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

وأما المغيرة بن شعبة، فمن أهل بيعة الرضوان، وقد أخبر عليه السلام ألا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، فالقول فيه كالقول في قدامة.

وأما سمرة بن جندب فأُحُدي، وشهد المشاهد بعد أحد وهلم جراً، والأمر فيه كالأمر في المغيرة بن شعبة.

وأما أبو بكرة، فيحتمل أن يكون شبه عليه، وقد قال ذلك المغيرة، فلا يأثم هو ولا المغيرة، وبهذا نقول: وكل ما احتمل ولم يكن ظاهره يقيناً فغير منقول عن متيقن حاله بالامس، فهما علي ما ثبت من عدالتهما، ولا يسقط اليقين بالشك وهذا هو استصحاب الحال الذي أباه خصومنا، وهم راجعون إليه في هذا المكان بالصغر منهم! فما منهم أحد امتنع من الرواية عن المغيرة وأبي بكرة معاً، وأبو بكرة وهو متأول، وأما سمرة فمتأول أيضاً، والمتأول مأجور وإن كان مخطئاً، وكذلك قدامة تأول أن لا جناح عليه وصدق لاجناح عليه عند الله تعالي في الآخرة بلا شك، وأما في أحكام الدنيا فلا، ولنا في الدنيا أحكام غير أحكام الآخرة. وكذلك كل من قاتل علياً رضوان الله عليه يوم صفين.

وأما أهل الجمل فما قصدوا قط قتال علي رضوان الله عليه، ولا قصد علي رضوان الله عليه قتالهم، وإنما اجتمعوا بالبصرة للنظر في قتلة عثمان رضوان الله عليه، وإقامة حق الله تعالي فيهم، فأسرع الخائفون علي أنفسهم أخذ حد الله تعالي منهم-وكانوا أعداداً عظيمة يقربون من الألوف- فأثاروا القتال خفية حتي اضطر كل واحد من الفريقين إلي الدفاع عن أنفسهم، إذ رأوا السيف قد خالطهم وقد جاء ذلك نصاً مروياً.....

وليس عندنا من أمرهم إلا أنهم فيما بدا لنا مسلمون

فاضلون، يلزمنا توقيرهم والاستغفار لهم، إلا أننا لا نقطع لهم بالجنة ولا بمغيب عقودهم، ولا برضي الله عز وجل عنهم، لكن نرجو لهم ذلك ونخاف عليهم كسائر أفاضل المسلمين ولا فرق. ثم لا نجيز ذلك لعلي وأم المؤمنين وطلحة والزبير وعمار وهشام بن حكيم ومعاوية وعمرو والنعمان وسمرة وأبي الغادية وغيرهم، وهم أئمة الإسلام حقا والمقطوع علي فضلهم وعلي أكثرهم بأنهم في الجنة، وهذا لا يخيل إلا علي مخذول.

وكل من ذكرنا من مصيب أو مخطئ فمأجور علي اجتهاده، إما أجريْن، وإما أجراً، وكل ذلك غير مسقط عدالتهم. وبالله تعالي التوفيق).

وقال في المحلي:9/49: (إن من البرهان الواضح علي كذب هذا الخبر ووضعه وانه لا يمكن أن يكون حقا أصلا ما فيه مما نسب إلي أم المؤمنين من أنها قالت: أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله(ص)إن لم يتب. وزيد لم يفته مع رسول الله(ص)إلا غزوتان فقط بدر وأحد فقط، وشهد معه عليه السلام سائر غزواته، وأنفق قبل الفتح وقاتل وشهد بيعة الرضوان تحت الشجرة بالحديبية ونزل فيه القرآن وشهد الله تعالي له بالصدق وبالجنة علي لسان رسوله عليه السلام انه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، ونص القرآن بأن الله تعالي قد رضي عنه وعن أصحابه الذين بايعوا تحت الشجرة. فوالله ما يبطل هذا كله ذنب من الذنوب غير الردة عن الإسلام فقط وقد أعاذه الله تعالي منها برضاه عنه وأعاذ أم المؤمنين من أن تقول هذا الباطل)

تعليم العوام إنكار الحقائق نهارا جهارا

قال ابن كثير في النهاية:6/211: (ثبت أيضاً الأخبار عنه صلوات الله وسلامه عليه بأنه لايدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقيل وخمسمائة، ولم ينقل أن أحداً من

هؤلاء رضي الله عنه عاش إلا حميداً، ولا مات إلا علي السداد والاستقامة والتوفيق، ولله الحمد والمنة. وهذا من أعلام النبوات، ودلالات الرسالة). انتهي.

الجام أطفال المسلمين بتربيتهم علي عصمة عمر

قال ابن حبان في صحيحه:15/317: (ذكر الخبر الدال علي أن عمر بن الخطاب (رض) كان من المحدثين في هذه الأمة.....عن عائشة قالت قال رسول الله(ص)قد كان يكون في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر بن الخطاب!

ذكر إجراء الله الحق علي قلب عمر بن الخطاب(رض)ولسانه:

عن بن عمر أن النبي(ص)قال: إن الله جعل الحق علي لسان عمر وقلبه.

وقال ابن عمر ما نزل بالناس أمر قط فقالوا فيه وقال عمر بن الخطاب، إلا نزل القرآن علي نحو مما قال عمر!

ذكر بعض ما أنزل الله جل وعلا من الآي وفاقاً لما يقوله عمر بن الخطاب(رض):

عن حميد عن أنس قال قال عمر بن الخطاب: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث....

ذكر الخبر الدال علي أن ناحية بعد أبي بكر كان عمر...

ذكر البيان بأن عمر بن الخطاب أول ما تنشق عنه الأرض بعد أبي بكر الصديق...

ذكر البيان بأن عمر بن الخطاب كان أحب الناس إلي رسول الله بعد أبي بكر...

ذكر إثبات الرشد للمسلمين في طاعة أبي بكر وعمر...

ذكر أمر المصطفي المسلمين بالاقتداء بأبي بكر وعمر بعده...

ذكر شهادة المصطفي للصديق والفاروق بكل شئ كان يقوله (ص)...

ذكر البيان بأن الصديق والفاروق يكونان في الجنة سيدي كهول الأمم فيها...

ذكر رضا المصطفي عن عمر بن الخطاب في صحبته إياه... انتهي.

وليس ابن حبان إلا نموذجاً لجميع مصادرهم في الحديث! فقد عقدوا لهذه الأحاديث أبواباً متعددة متنوعة، في الصحاح، والسنن، والمسانيد! وعلَّموا الناس

حفظها ونشرها، وترديدها في زيارة قبر عمر، كما في إعانة الطالبين:2/357: (فيسلم علي سيدنا عمر(رض)ويقول: السلام عليك ياأمير المؤمنين ياسيدنا عمر بن الخطاب، يا ناطقاً بالحق والصواب، السلام عليك ياحليف المحراب.

السلام عليك يا من بدين الله أمر، يا من قال في حقك سيد البشر(ص): لو كان بعدي نبيٌّ لكان عمر.

السلام عليك يا شديد المحاماة في دين الله والغيرة، يا من قال في حقك هذا النبي الكريم(ص): ما سلك عمر فجاً إلا سلك الشيطان فجاً غيره...). إلخ.

قال السيد المرتضي قدس سره في كتابه الشافي في الإمامة:3/129، وهو يفند الأحاديث القرشية الموضوعة في فضائل أبي بكر وعمر:

(وأما ما رواه من قوله صلي الله عليه وآله: إن الحق ينطق علي لسان عمر، فهو مقتض إن كان صحيحاً عصمة عمر والقطع علي أن أقواله كلها حجة! وليس هذا مذهب أحد في عمر، لأنه لاخلاف في أنه ليس بمعصوم وأن خلافه سائغ!

وكيف يكون الحق ناطقاً علي لسان من يرجع في الأحكام من قول إلي قول، ويشهد علي نفسه بالخطأ، ويخالف في الشئ ثم يعود إلي قول من خالفه، فيوافقه عليه، ويقول (لولا علي لهلك عمر) و (لولا معاذ لهلك عمر)؟!

وكيف لم يحتجَّ بهذا الخبر هو لنفسه في بعض المقامات التي احتاج إلي الإحتجاج فيها؟! وكيف لم يقل أبو بكر لطلحة لما قال له: ما تقول لربك إذ وليت علينا فظاً غليظاً! أقول له: ولَّيْتُ من شهد الرسول بأن الحق ينطق علي لسانه!

وليس لأحد أن يدعي في الإمتناع من الإحتجاج بذلك سبباً مانعاً كما ندعيه في ترك أمير المؤمنين عليه السلام الإحتجاج بذلك بالنص، لأنا قد بينا فيما تقدم أن لتركه عليه السلام ذلك

سبباً ظاهراً، وهو تآمر القوم عليه وانبساط أيديهم، وأن الخوف والتقية واجبان ممن له السلطان، ولا تقية علي عمر وأبي بكر من أحد، لأن السلطان كان فيهما ولهما، والتقية منهما لا عليهما!

علي أن هذا الخبر لو كان صحيحاً في سنده ومعناه، لوجب علي من ادعي أنه يوجب الإمامة (يقصد القاضي عبد الجبار الهمداني صاحب المغني، وقد ألف الشافي رداً عليه)، أن يبين كيفية إيجابه لذلك، ولايقتصر علي الدعوي المحضة، وعلي أن يقول: إذا جاز أن يدعي في كذا وكذا أنه يوجب الإمامة، جاز في هذا الخبر، لأنا لما ادعينا في الأخبار التي ذكرناها ذلك، لم نقتصر علي محض الدعوي، بل بينا كيفية دلالة ما تعلقنا به علي الإمامة، وقد كان يجب عليه إذا عارضنا بأخباره أن يفعل مثل ذلك). انتهي.

وقال الأميني في الغدير:6/331: (هناك أحاديث موضوعة تذكر في فضائل عمر لاتلتئم مع شئ مما ذكرناه بأسانيده الوثيقة(في علم عمر) وكلٌّ من ذلك يفنِّدها منها ما يعزي إليه صلي الله عليه وآله من قوله: لو لم أبعث فيكم لبعث عمر.

ورواية: لو لم أبعث لبعثت يا عمر.

ورواية: لو كان نبي بعدي لكان عمر بن الخطاب.

ورواية: قد كان في الأمم محدثون فإن يكن في أمتي أحد فهو عمر.

ورواية: إن الله جعل الحق علي لسان عمر وقلبه.

وراية: أن الله ضرب بالحق علي لسان عمر وقلبه.

ومنها ما رووه عن علي أمير المؤمنين عليه السلام من قول: كنا نتحدث إن ملكاً ينطق علي لسان عمر. وقوله: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق علي لسان عمر.

ومنها ما يروي عن أعاظم الصحابة مثل ما يعزي إلي ابن مسعود من قوله: لو وضع علم عمر

في كفة وعلم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر.

وأمثال هذه من الأكاذيب، فإن من يكون بتلك المثابة حتي يكاد أن يبعث نبياً لايفقد علم واضحات المسائل عند ابتلائه، أو ابتلاء من يرجع أمره إليه من أمته بها، ولا يتعلم مثله سورة من القرآن في اثنتي عشرة سنة!

وأين كان الحق والملك والسكينة، يوم كان لايهتدي إلي أمهات المسائل سبيلاً فلا تسدده، ولا تفرغ الجواب علي لسانه، ولا تضع الحق في قلبه!

وكيف يسعُ المسدَّد بذلك كله أن يحسب كل الناس أفقه منه حتي ربات الحجال؟! وكيف كان يأخذ علم الكتاب والسنة من نساء الأمة وغوغاء الناس فضلاً عن رجالها وأعلامها؟

وكيف كان يري عرفان لفظة مفسرة بالقرآن تكلفاً ويقول: هذا لعمر الله هو التكلف، ما عليك يا بن أم عمر أن لا تدري ما الأبُّ؟!

وكيف كان يأخذ عن أولئك الجم الغفير من الصحابة ويستفتيهم في الأحكام.

وكيف كان يعتذر عن جهله أوضح ما يكون من السنة بقوله: ألهاني عنه الصفق بالأسواق.

وكيف كان لم يسعه أن يعلم الكلالة ويقيمها، ولم يتمكن من تعلم صور ميراث الجد، وكان النبي صلي الله عليه وآله يقول: ما أراه يعلمها، وما أراه يقيمها. ويقول: إني أظنك تموت قبل أن تعلم ذلك؟!

وكيف كان مثل أبيٍّ بن كعب يغلظ له في القول ويراه لاهياً عن علم الكتاب بالصفق بالأسواق وبيع الخيط والقرظة؟

وكيف كان يراه أمير المؤمنين عليه السلام جاهلاً بتأويل القرآن الكريم.

وكيف وكيف، إلي مائة كيف؟!

نعم راق القوم أن ينحتوا له فضائل ويغالوا فيها ولم يترووافي لوازمها).انتهي.

وقال المفيد رحمه الله في الإفصاح في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ص40: (فلو سلمنا لك دعواك

لمن ادعيت الفضل لهم علي ما تمنيت لم يمنع مما ذكرناه، لأنه لا يوجب لهم العصمة من الضلال، ولايرفع عنهم جواز الغلط والسهو والنسيان، ولايحيل منهم تعمد العناد. وقد رأيت ما صنع شركاؤهم في الصحبة والهجرة والسبق إلي الإسلام حين رجع الأمر إلي أمير المؤمنين عليه السلام باختيار الجمهور منهم والإجتماع، فنكث بيعته طلحة والزبير، وقد كانا بايعاه علي الطوع والإيثار وطلحة نظير أبي بكر، والزبير أجل منهما علي كل حال، وفارقه سعد بن أبي وقاص وهو أقدم إسلاماً من أبي بكر، وأشرف منه في النسب، وأكرم منه في الحسب، وأحسن آثاراً من الثلاثة في الجهاد! وتبعه علي فراقه وخذلانه محمد بن مسلمة، وهو من رؤساء الأنصار، واقتفي آثارهم في ذلك وزاد عليها بإظهار سبه والبراءة منه حسان!! فلو كانت الصحبة مانعة من الضلال لمنعت من ذكرناه ومعاوية ابن أبي سفيان وأبا موسي الأشعري، وله من الصحبة والسبق ما لايجهل وقد علمتم عداوتهم لأمير المؤمنين عليه السلام وإظهارهم البراءة منه، والقنوت عليه، وهو ابن عم رسول الله صلي الله عليه وآله وأميره علي أبي بكر وعمر وعثمان.

ولو كانت الصحبة أيضاً مانعة من الخطأ في الدين والآثام.....ولكانت صحبة السامري لموسي بن عمران عليهما السلام وعظم محله منه ومنزلته، تمنعه من الضلال باتخاذ العجل والشرك بالله عز وجل، ولاستحال أيضاً علي أصحاب موسي نبي الله عليه السلام وهم ستمائة ألف إنسان وقد شاهدوا الآيات والمعجزات وعرفوا الحجج والبينات أن يجتمعوا علي خلاف نبيهم وهو حي بين أظهرهم، ويباينوا خليفته وهو يدعوهم ويعظهم ويحذرهم من الخلاف وينذرهم، فلا يصغون إلي شئ من قوله، ويعكفون علي عبادة العجل من دون الله عز وجل.

ولكان أيضاً أصحاب عيسي عليه

السلام معصومين من الردة، ولم يكونوا كذلك، بل فارقوا أمره وغيروا شرعه، وادعوا عليه أنه كان يأمرهم بعبادته، واتخاذه إلهاً مع الله تعالي تعمداً للكفر والضلال، وإقداماً علي العناد من غير شبهة ولا سهو ولا نسيان). انتهي.

الجام العوام باستخدام وسائل الإعلام

لو نظرنا في حجم ما يقوم به في عصرنا الذين يسميهم ابن حبَّان (المعتنين بأمر الدين)، لتركيز قداسة أبي بكر وعمر في نفوس المسلمين، لرأينا العجب!!

من مناهج التربية المدرسية والجامعية، إلي برامج الراديو والتلفزيون، إلي خطب المساجد ودروسها، إلي الكتب والكتيبات والأشرطة، إلي صفحات النت ومواقعها المتنوعة.. ومنها بإسم الصحابة لكن المقصود به أبو بكر وعمر!

والمطلوب فيها كلها غرس الإعتقاد بفضائل أبي بكر وعمر إلي حد العصمة والغلو، وغرس الإعتقاد بأن من لم يعتقد بذلك فهو عدو للإسلام ونبيه وقرآنه!

وفي مقابله لاتكاد تجد شيئاً عن أهل البيت، وحتي عن بقية الصحابة!

والمطلوب أن يكبر الطفل المسلم وعنده تقديس خاص لعمر وأبي بكر لايصل اليه تقديس آخر، وحساسية خاصة تجاههما بحيث تستنفر وسائل دفاعه لأقل ما يحتمل أنه يمس بهما، أكثر مما يستنفر لرسول الله صلي الله عليه وآله!

وبهذا يتجاوز المعتنون بأمر (الدين) قضية إلجام العوام عن المساس بأبي بكر وعمر، إلي تعبئتهم للحرب من أجلهما، ومن أجل كل ما يتعلق بهما!

وليس في كلامنا هذا مبالغة، إذ يكفي أن تجرب مع هؤلاء المعبئين أن تبحث في عصمة النبي صلي الله عليه وآله وأخطائه الكثيرة، فتراهم يشاركونك في البحث! حتي إذا طرحت ما يحتمل أنه خطأ لعمر، انصب عليك جام غضبهم بلا هوادة!

العصمة والمعصومون في القرآن

المعصومون ثمرة الوجود البشري

يتصور البعض أن القرآن لايري عصمة الأنبياءوالأوصياء عليهم السلام، لأنه يتحدث عن(معصية)آدم عليه السلام ويذكر(مؤاخذات)علي بعض الأنبياء عليهم السلام كطلب نوح عليه السلام من ربه أن ينجِّي ابنه مع أنه كان كافراً، وما يبدو من تحيُّر إبراهيم عليه السلام في ربه هل هو النجوم أو القمر أو الشمس، ومن قتل موسي للقبطي، وغضبه علي أخيه هارون عليهما السلام.

ونحو ذلك من(ذنوب الأنبياء) التي أكثرَ اليهود فيها الكلام والإتهام وتمسك بها المخالفون لمذهب أهل البيت عليهم السلام، فحصروا عصمة الأنبياء عليهم السلام في التبليغ فقط، ونفوها في الأمور الشخصية والعامة، بل نسبوا اليهم أخطاء ومعاصي فظيعة حتي في التبليغ كما تقدم!

لكنَّ النظرة الفاحصة ترينا أن العصمة والمعصومين في القرآن ظاهرةٌ بارزةٌ من أول مشروع خلق آدم عليهم السلام وذريته، وقد وردت في القرآن ببضعة عشر عنواناً:

فالمعصومون هم النخبة الذين من أجلهم كان مشروع إسكان آدم في الأرض، وبهم ستصل الحياة الإجتماعية إلي هدفها الرباني الحكيم الذي لم يعرفه الملائكة: قَالَ إِنِّي أعلم مَا لا تَعْلَمُونَ. وهم الذين تحدي الله تعالي عدوه إبليسَ أن يؤثرَ عليهم فقال له: إِنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ.

وهم العباد المكرمون عنده الذين: لايَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.

وهم الذين يخصهم بالإطلاع علي غيبه، ويحيطهم برصد لحفظ الغيب ضمن خطه المقرر، كما قال تعالي: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ أحداً. إلا مَنِ ارْتَضَي مِنْ رَسُولٍ فإنه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا.

وهم الذين يورثهم الكتاب عبر الأجيال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا.

وهم الذين وعد أن يغلب بهم: كَتَبَ اللهُ لأغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي إن الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ.

ووعد أن تتجلي هذه الغلبة بعد خاتم رسله وأنبيائه صلي الله عليه وآله: هُوَ الَّذِي أرسل رَسُولَهُ بِالْهُدَي وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَي الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. وهم الذين سيورثهم الأرض بعد عهود الجبابرة: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أن الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ.

وهم عباد الرحمن الخاصون الذين خصهم بصفات وافية من سورة الفرقان.

وهم الذين أعطاهم عنده عهداً فلن يخلفه: قُلْ

أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عهداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ... إلي آخر الآيات التي تتحدث بيقين عن نجاح المشروع الإلهي في آدم وذريته. وليس نجاحه إلا بهؤلاء المعصومين عليهم السلام، الذين هم لبُّ هذا المشروع وضمانه، وهدفه الأسمي!

آيات العصمة في القرآن

في القرآن الكريم طوائف من الآيات تتحدث عن نخبة من البشرية، وتصفهم بصفات تدل علي عصمتهم، وهذه أهمها:

آيات الإستخلاف

(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً. قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قَال:َ إِنِّي أعلم مَا لا تَعْلَمُونَ. وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاءِ إن كُنْتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا: سُبْحَانَكَ لاعِلْمَ لَنَآ إلا مَا عَلَّمْتَنَآ، إنك أنت الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. قَالَ: ياآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ! فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أعلم غَيْبَ السَّمَوَاتِ والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).(البقرة:30–33)

لا يكون خليفة الله في الأرض إلا معصوما

قالت أحاديث أهل البيت عليهم السلام إن المستخلف في الآية هو بعض المعصومين وهم آدم عليه السلام وبعض الأنبياء والأوصياء عليهم السلام وليس كل نوع الإنسان.

وذهب أغلب المفسرين السنة المتأخرين وتبعهم بعض مفسري الشيعة، إلي أن المستخلف في الآية نوعُ الإنسان، وأكثروا في توجيه ذلك بلا طائل.

والصحيح أن هذا الجعل الإلهي مختص بآدم والمعصومين من ذريته عليهم السلام، لأنه جعلٌ تشريعي لولاية من الله علي الأرض وأناسها، وإعطاؤها لغير المعصوم يستوجب نفي الحكمة عن الله ونسبة الظلم اليه، سبحانه وتعالي!

ذلك أن قوله تعالي للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً، ليس إخباراً عن مجرد إسكان آدم وذريته في الأرض، بل عن جعل خلفاء لله منهم.

وعندما تساءل الملائكة كيف تصلح ذرية آدم للخلافة مع أنهم سيفسدون ويسفكون الدماء؟ خطَّأهم الله تعالي لأنهم حكموا علي جميع ذرية آدم، وجميع مدتهم علي الأرض! وأخبرهم سبحانه أن مشروع استخلافهم لايضر به ما تفعله ذرية آدم من إفساد وسفك الدماء اي حين! وأن آدم والمستخلفين من ذريته عليهم السلام أفضل من الملائكة فهم يصلحون ولا يفسدون، وأثبت الله لهم ذلك فعلم آدم عليه السلام ما لايعلمونه، وأراهم سيرة خلفائه من

ذرية آدم عليهم السلام، فاعترف الملائكة واستغفروا!

نعم، يصح القول إن الإنسان خليفة الله في الأرض، باعتبار أن خلفاء الله الشرعيين من نوعه، لكنه لايعني شمول الخلافة لغير المعصومين عليهم السلام بحال. وذلك كقوله تعالي: (وَإِذْ قَالَ مُوسَي لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنبياءوَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)(المائدة:20) فعبَّر بجعلهم ملوكاً بالعموم، لأنهم منهم.

ولا نطيل في ذكر أقوال المفسرين في المسألة ومناقشتها، فإن أحداً منهم لم يأت بدليل من الآية أوخارجها علي أن هذه الخلافة تشمل كل ذرية آدم عليه السلام، اللهم إلا الإستحسانات والظنون، وهي لا تنهض دليلاً!

ولعل القائلين بعموم الخلافة لكل بني آدم غفلوا عن أن الجاعل لها هو العالم الحكيم المطلق عز وجل، وأن أحدنا لايعطي هذا المقام الخطير للمفسدين ولا للعاديين فكيف بالله تعالي! وإذ انتفت خلافة المفسدين بالفعل أو بالقوة، لم يبق إلا المعصومون عليهم السلام، وهذا مذهب أهل البيت عليهم السلام.

ولعله اختلط عليهم هذا الإستخلاف التشريعي بالإستخلاف التكويني بمعني أن الله جعل الإنسان أجيالاً يخلف بعضها بعضاً، كما قال نبي الله هود عليه السلام لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.(الأعراف:69)، فهذا استخلافٌ لكن ليس فيه ولاية ولا مقام، بل امتنَّ الله عليهم بخلقهم بعد قوم نوح وتوريثهم حضارتهم، رغم كفرهم.

لأجل ما تقدم فإن مقام خليفة الله لم يثبت في القرآن إلا لآدم وداود عليهما السلام:يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ. (سورة صاد:26).

أما قوله تعالي:أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرض أإلَهٌ مَعَ اللهِ قليلاً مَا تَذَكَّرُونَ، (النمل:62) وقوله تعالي: وَعَدَ اللهُ

الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ (النور:55)، فهو وعدٌ إلهي باستخلاف المعصومين وختامهم الإمام المهدي عليه السلام، خليفة الله الموعود، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً!

في الكافي:1/193، عن الإمام الرضا عليه السلام قال: (الأئمة خلفاء الله عز وجل في أرضه). وعن الإمام الصادق عليه السلام، في قوله تعالي:وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، قال: هم الأئمة).

أما في السنة فثبت إسم خليفة الله لنبينا وآله صلي الله عليه وآله، وربما لكبار الأنبياء عليهم السلام. ففي من لايحضره الفقيه:2/611، في رواية الزيارة الجامعة: (ورضيكم خلفاء في أرضه، وحججاً علي بريته).

وفي خصائص الأئمة للشريف الرضي رحمه الله ص105: في حديث كميل بن زياد رحمه الله في وصف الأئمة عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (اللهم بلي، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، أو خافياً مغموراً، لئلا تبطل حجج الله وبيناته.... أولئك خلفاء الله في أرضه والدعاة إلي دينه). انتهي.

أما الزيدية فقد توسعوا في إعطاء لقب خليفة الله لكل من اجتمعت فيه شروط الإمامة عندهم فكان فقيهاً من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام وقام بالسيف.(الأحكام:2/505)

تكريم بني آدم لا يعني استخلافهم لأنه تكريم تكويني واقتضائي

استدل بعضهم علي عموم الإستخلاف في الأرض بآية تكريم بني آدم، وهي قوله تعالي: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَي كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً. يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَأُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. (الإسراء:70-71).

لكن لا علاقة لهذا التكريم بالإستخلاف، لأنه أعم منه محمولاً وموضوعاً، فهو يشمل المؤمن والكافر، كما

قال الله تعالي: فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ. وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. (الفجر:15-17). فالإكرام هنا دنيوي يشمل حتي الكفار والفجار والطغاة، ولا يصح القول إنهم مكرمون، فهم خلفاء الله في أرضه!

والمقصود بالتكريم التكويني خلق الإنسان في أحسن تقويم، ومنحه قدرات وظروفاً تمكنه من التكامل ونيل التكريم الحقيقي إن أراد، كما قال تعالي عن مؤمن آل ياسين: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ. بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ. (يس:26-27). فوصل بتكريمه التكويني إلي تكريمه الحقيقي.

وأخيراً، فإن جعل التقوي ميزاناً للكرامة والتكريم، في قوله تعالي: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. (الحجرات:13) يؤكد أن ماتحقق لكل بني آدم في قوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ، تكريمٌ عامٌّ بنعم الله التي وسعت الكافر والمؤمن، أما الإستخلاف فهو تكريمٌ خاص ومنصبٌ لعباد خاصين لايثبت إلا بدليل، قال تعالي: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لايَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.(الأنبياء:26-27).

خلفاء الله في الأرض ليس بالضرورة أن يكونوا حكاما

من الواضح أن خليفة الله في أرضه وحجته علي عباده، ليس بالضرورة أن يكون حاكماً، فأكثر أنبياءالله وأوصيائهم عليهم السلام كانوا محكومين مضطهدين، ولم ينقص ذلك من مقامهم العظيم وخلافتهم عن الله تعالي في أرضه.

وهذا معني ما رووه ورويناه من أن الخلفاء الذين بشر بهم النبي صلي الله عليه وآله لايضرهم تكذيب من كذبهم. فقد روي الكافي:1/529، وكمال الدين ص299، واللفظ له: (عن أبي الطفيل قال: شهدت جنازة أبي بكر يوم مات، و شهدت عمر حين بويع وعليٌّ جالس ناحية، إذ أقبل عليه غلام يهودي عليه ثياب حسان وهو من ولد هارون، حتي قام علي

رأس عمر فقال: يا أمير المؤمنين أنت أعلم هذه الأمة بكتابهم وأمر نبيهم؟ قال: فطأطأ عمر رأسه، فقال: إياك أعني وأعاد عليه القول! فقال له عمر: ما شأنك؟ فقال: إني جئتك مرتاداً لنفسي شاكاً في ديني، فقال: دونك هذا الشاب قال: ومَن هذا الشاب؟ قال: هذا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله، وهو أبو الحسن والحسين ابني رسول الله، وهذا زوج فاطمة ابنة رسول الله. فأقبل اليهودي علي علي فقال: أكذلك أنت؟ قال: نعم، فقال اليهودي: إني أريد أن أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة..... إلي أن قال: أخبرني عن محمد كم بعده من إمام عدل وفي أي جنة يكون، ومن الساكن معه في جنته؟ فقال: يا هاروني إن لمحمد صلي الله عليه وآله من الخلفاء اثنا عشر إماماً عدلاً، لايضرهم خذلأن من خذلهم، ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم، وإنهم أرسب في الدين من الجبال الرواسي في الأرض. ومسكن محمد صلي الله عليه وآله في جنة عدن معه أولئك الإثنا عشر الأئمة العدل. فقال:صدقت والله الذي لا إله إلا هو إني لأجدها في كتاب أبي هارون كتبه بيده). انتهي.

وفي معجم الطبراني الكبير: 2/196، و213 و214، و256، والأوسط:3 /201، ومجمع الزوائد:5/191:(عن جابر بن سمرة عن النبي(ص)قال: يكون لهذه الأمة اثنا عشر قيماً، لايضرهم من خذلهم). انتهي.

وقد روي بعضهم زيادة في حديث الأئمة الإثني عشر (كلهم تجتمع عليه الأمة) وأراد حصر تطبيقه بالحكام، وأنه لايشمل من أهل البيت إلا علياً عليه السلام، لكن الألباني رد هذه الزيادة في سلسلته برقم 376، وقال عنها إنها منكرة!

وقد بحثنا في المجلد الثاني من كتاب (ألف سؤال وإشكال- مسألة 162) لقب خليفة الله تعالي وخليفة النبي صلي

الله عليه وآله، واستغلال القرشيين له وأعطاءه لحكامهم! وأن أبا بكر استكثر علي نفسه لقب خليفة الله فنهاهم عنه (ابن أبي شيبة في المصنف:8/572، وصححه في الزوائد:5/184 عن أحمد. وكذلك عمر: شرح النهج:12/94)

بينما سمي معاوية نفسه (خليفة الله) فاعترض عليه صعصعصة بن صوحان رحمه الله!

(مروج الذهب للمسعودي:3/52) ثم تمادي حكام بني أمية في استغلا لقب خليفة الله لأنفسهم، ففضلوا الحاكم الأموي بذلك علي نبينا صلي الله عليه وآله بحجة أن خليفة المرأ خير من رسوله في حاجته! (الصحيح السيرة:1/29)

ونقل النووي في الأذكار ص360، عن البغوي أنه قال: (ولا يسمي أحد خليفة الله تعالي بعد آدم وداود عليهما الصلاة والسلام).

ونقل عنه الشربيني في مغني المحتاج:4/132، قوله: (ولا يجوز تسميته بخليفة الله تعالي، لأنه إنما يستخلف من يغيب ويموت، والله تعالي منزه عن ذلك).انتهي.

ودليل البغوي ضعيف، والدليل الصحيح: أن خليفة الله وخليفة الرسول منصب يحتاج إلي نص من الله تعالي أو رسوله صلي الله عليه وآله، وإلا كان ادعاءً وافتراءً.

والنتيجة: أن نظام الإستخلاف في الأرض ومقام الخلافة الذي نصَّت عليه الآية يدل علي أن من ثبت له هذا المنصب، فقد ثبتت له العصمة.

وقد اتضح أن توسيع إسم (خليفة الله) لكل بني آدم، إنما قال به بعض المتأخرين تأثراً بفكر بعض المتصوفة، أو بفكر الغربييين الذي يؤكد علي أصالة الإنسان إلي حد تأليهه! فجعلوا التكريم بمعني الإستخلاف وعمموه لكل إنسان! وأن معاوية أول من ابتدع تعميمه للحاكم أيُّ حاكم! بحجة أن الله أعطاه الحكم فيكون استخلفه في أرضه!

تعليم آدم الأسماء دليل علي عصمة خلفاء الله تعالي

في آية استخلاف آدم عليه السلام بحوثٌ مهمة تتعلق بموضوعنا، فقد أوضحت أن ملاك خلافة الله تعالي والأفضلية علي الملائكة هو العلم

الإلهي الذي يعطيه لخليفته، ودرجة العبودية التي يوفقه لها.

فالإنسان رغم أن فيه قابلية الإفساد وسفك الدماء، فيه إيجابيات وقابليات عظيمة لم يعرفها الملائكة، هي التي أوجبت جعله خليفة في الأرض، وهي تغلب في مصلحتها علي إفساد المفسدين منه! وأنها ستتحق في المعصومين عليهم السلام ويتحقق علي يدهم إقامة دولة العدل الإلهي في الأرض، التي لا إفساد فيها ولاسفك دماء، والتي تمتد حتي يرث الله الأرض ومن عليها!

وقد أثبت عز وجل للملائكة أن آدم عليه السلام يستطيع أن يتلقي من العلم الإلهي فيصل إلي درجة أعلي من الملائكة، وأن خلفاء الله من ذريته سيكونون أهلاً للتلقي والطاعة بأفضل من الملائكة!

لقد علَّم الله آدم أسماء خلفائه من ذريته وبين له مقامهم، ثم عرض سيرتهم علي الملائكة، وامتحنهم في معرفة(أَسْمَاءِ هؤُلاءِ) العظماء فلم يعرفوهم، وعرفهم آدم عليه السلام فأخبرهم بهم، فاقتنع الملائكة وقالوا: (سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَآ إلا مَا عَلَّمْتَنَآ، إنك أنت الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

وقد أكثر المفسرون في بحث الأسماء التي علمها الله لآدم عليه السلام، ثم في معني (عرضهم) علي الملائكة، لكنهم ذهبوا بها بعيداً مع أنها لابد أن تكون معلومات عن مستقبل أبناء آدم عليه السلام في الأرض، لتكون جواباً مقنعاً للملائكة الذين تصوروا أن كل حياة الإنسان علي الأرض إفسادٌ وسفك للدماء!

لذلك لانجد تفسيراً معقولاً لها، إلا أن الله علَّم آدم عليه السلام علماً استطاع به أن يري مستقبل ذريته في الأرض، ويري أن مرحلة السماح بالإفساد وسفك الدماء في الأرض ستنتهي، ثم تبدأ مرحلة دولة العدل الإلهي علي يد خلفاء الله من عترة خاتم أنبيائه محمد صلي الله عليه وآله، وتمتد إلي آخر حياة الإنسان!

فهذا هو الجواب الوحيد الذي

يقنع الملائكة بجدارة آدم للخلافة، وجدارة الخلفاء من أبنائه، وانهم لا يُفسدون في الأرض ولا يَسفكون الدماء، بل سيصلحونها ويعمرونها، صلوات الله عليهم!

فيكون معني قوله تعالي: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَي الْمَلائِكَةِ.. أنه عرض عليهم شريطاً لسيرة شخصيات ربانية أعظم مقاماً من الملائكة، فتعجبوا لهم ولم يعرفوهم، فأخبرهم آدم عليه السلام بأنهم من ذريته، وأنهم ديرون بخلافة الله في الأرض!

وبهذا المعني فقط تصح الشرطية في قوله تعالي: فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هؤُلاءِ أن كُنْتُمْ صَادِقِينَ. أي إن كنتم مصيبين في قولك إنهم سيفسدون!

وقد يسأل: هل إن صور مايكون محفوظة عند الله تعالي، ليعلمها لمخلوق قبل أن تكون؟

والجواب: أن هذا من بدائه عقيدتنا في الغيب والنبي وآله صلي الله عليه وآله، وأحاديثه عندنا صحيحة مستفيضة بل متواترة، وأن الله تعالي علم نبيه صلي الله عليه وآله علم ما يكون إلي يوم القيامة، فعلمه لعلي والأئمة من عترته عليهم السلام.

قد يقال: روي أن الله تعالي علم آدم أسماء الأشياء، مما تحتاجه حياته علي الأرض مثل إسم الماء والهواء والشجر والحيوان والجبال؟

والجواب: أن هذا لو صح لا يكون جواباً علي إشكال الملائكة، إذ لاتلازم بين معرفة أسماء الأشياء، وعدم الإفساد وسفك الدماء!

ثم لو صح أن يكون جواباً لاستخلاف آدم عليه السلام، فلا يصح جواباً لاستخلاف ذريته، فإن الملائكة أخبروا عن إفساد ذريته وليس عن إفساده هو! فهم بحاجة إلي جواب يثبت عدم إفساد الذرية، أو وجود مصلحة في استخلافهم تغلب ما يقع من إفساد بعضهم، وليس ذلك إلا مرحلة حكم خلفاء الله في أرضه عليهم السلام.

وبذلك يتضح قوة ما ورد في مصادرنا في تفسير الآية الكريمة، كالذي في تفسير فرات الكوفي ص56 بسنده

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: (إن الله تبارك وتعالي كان ولا شئ، فخلق خمسة من نور جلاله، وجعل لكل واحد منهم إسماً من أسمائه المنزلة، فهو الحميد وسمي النبي محمداً، وهو الأعلي وسمي أمير المؤمنين علياً، وله الأسماء الحسني فاشتق منها حسناً وحسيناً، وهو فاطر فاشتق لفاطمة من أسمائه إسماً، فلما خلقهم جعلهم في الميثاق فإنهم عن يمين العرش،وخلق الملائكة من نور، فلما أن نظروا إليهم عظموا أمرهم وشأنهم ولقنوا التسبيح فذلك قوله: وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون فلما خلق الله تعالي آدم نظر إليهم عن يمين العرش فقال: يا رب من هؤلاء؟ قال: يا آدم هؤلاء صفوتي وخاصتي، خلقتهم من نور جلالي وشققت لهم إسماً من أسمائي، قال: يا رب فبحقك عليهم علمني أسماءهم، قال: يا آدم فهم عندك أمانة سر من سري، لايطلع عليه غيرك إلا بإذني، قال: نعم يا رب، قال: يا آدم أعطني علي ذلك العهد فأخذ عليه العهد، ثم علمه أسماءهم، ثم عرضهم علي الملائكة ولم يكن علمهم بأسمائهم فقال: أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين. قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم. قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم..علمت الملائكة أنه مستودع وأنه مفضل بالعلم، وأمروا بالسجود إذ كانت سجدتهم لآدم تفضيلاً له وعبادة لله). انتهي. (والبحار:37/62)

آيات الإصطفاء الإلهي

الإصطفاء الإلهي، والإستخلاص، والإجتباء، والإختيار، أوصاف قرآنية، وصف الله تعالي بها نخبة عباده.

والمتحصل من كلمات اللغويين أن أعلاها درجة الإصطفاء، لأنه اختيار الصفو بذاته من البشرية، ويليه الإستخلاص وهو تخليص الشئ من الشوائب واختياره، ويليه الإختيار وهو انتخاب الشئ الأفضل من غيره.

قال الراغب في المفردات ص154:(الخالص كالصافي إلا أن الخالص هو

ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه، ويقال خلصته فخلص... وقوله تعالي: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً، أي انفردوا خالصين عن غيرهم....فإخلاص المسلمين أنهم قد تبرؤوا مما يدعيه اليهود من التشبيه والنصاري من التثليث، قال تعالي: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... فحقيقة الإخلاص التبري عن كل ما دون الله تعالي). انتهي.

وقال في ص283: (أصل الصفاء خلوص الشئ من الشوب، ومنه وذلك إسم لموضع مخصوص، والاصطفاء تناول صفو الشئ كما أن الإختيار تناول خيره والإجتباء تناول جبايته. واصطفاء الله بعض عباده قد يكون بإيجاده تعالي إياه صافياً عن الشوب الموجود في غيره، وقد يكون باختياره وبحكمه وإن لم يتعر ذلك من الأول، قال تعالي: الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس - إن الله اصطفي آدم ونوحا - اصطفاك وطهرك واصطفاك - اصطفيتك علي الناس- وإنهم عندنا لمن المصطفين الإخيار).

واصطفيت كذا علي كذا أي اخترت (أصطفي البنات علي البنين- وسلام علي عباده الذين اصطفي. ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا. والصفي والصفية ما يصطفيه الرئيس لنفسه....

والصفوان كالصفا الواحدة صفوانة، قال:صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ، ويقال يوم صفوان، صافي الشمس، شديد البرد). انتهي.

وقال في ص160: (الخير ما يرغب فيه الكل، كالعقل مثلاً والعدل والفضل والشئ النافع، وضده الشر....فالخير يقابل به الشر مرة والضر مرة نحو قوله تعالي: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَي كُلِّ شَئ قَدِيرٌ....

وقوله: وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَي عِلْمٍ عَلَي الْعَالَمِينَ، يصح أن يكون إشارة إلي إيجاده تعالي إياهم خياراً، وأن يكون إشارة إلي تقديمهم علي غيرهم). انتهي.

أقول: لاشك أن الإستخلاف الإلهي درجةٌ أعلي من الإصطفاء والإستخلاص

والإختيار، لكن التفاضل بين هذه الثلاثة لا دليل عليه من اللغة أو استعمالات القرآن والسنة، بل المصطفون هم المستخلصون وهم المختارون.

واستعمالات القرآن ليست لبيان درجاتها، بل لبيان أنواع فاعلياته تعالي في الإصطفاء والإستخلاص والإختيار، المتناسبة مع أبعاد شخصية الإنسان ومجتمعه.

فالإصطفاء، وهو أخذ الصفو، يتناسب مع جوهر نفوسهم الصافية، ويشير إلي كدورة أنفس البشر الإخرين.

والإستخلاص، يتناسب مع جهادهم لتصفية نياتهم وأعمالهم وتخليصها مما هو لغير الله تعالي، حتي صاروا مخلِصين، فاستخلصهم الله وجعلهم مخلَصين بالفتح. بينما بقي غيرهم في شوائب الشرك العقدي، وشوائبه العملية.

والإختيار، يتناسب مع انتخاب الله تعالي لخير البشر وصفوتهم ومخلصيهم، في مقابل من اختاره البشر، أو مقابل من لم يستحق اختيار الله تعالي.

ولهذا ورد تفسير آيات هذه الصفات بالنبي وآله الأطهار صلي الله عليه وآله، كما ورد وصفهم بها في أحاديث عديدة.

فقد ورد وصفهم بخلفاء الله تعالي، وبالمصطفين، كما في الزياة الجامعة:

(ورضيكم خلفاء في أرضه، وحججاً علي بريته....

وأشهد أنكم الأئمة الراشدون، المهديون المعصومون، المكرمون المقربون المتقون الصادقون المصطفون....اصطفاكم بعلمه، وارتضاكم لدينه، واختاركم لسره، واجتباكم بقدرته).

وفي المقنعة ص32: (وأن الأئمة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله حجج الله تعالي وأولياؤه، وخاصة أصفياء الله...). وفي فقه الرضا/128: (اللهم صل علي محمد وآل محمد المصطفين، بأفضل صلواتك..)

وفي علل الشرائع:1/18: (عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله عليه السلام عن بدء النسل من آدم كيف كان وعن بدء النسل عن ذرية آدم فإن أناساً عندنا يقولون إن الله عز وجل أوحي إلي آدم يزوج بناته ببنيه، وإن هذا الخلق كله أصله من الإخوة والإخوات! فقال أبو عبد الله عليه السلام: تعالي الله عن ذلك علوا كبيراً،

يقول من قال هذا بأن الله عز وجل خلق صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، من حرام؟! ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال، وقد أخذ ميثاقهم علي الحلال الطهر الطاهر الطيب؟!!). (ورواه في الفقيه:3/381).

كما ورد وصفهم بالمخلصين بفتح اللام وكسره، ففي الزيارة الجامعة: (السلام علي الدعاة إلي الله، والأدلاء علي مرضات الله، والمستقرين في أمر الله، والتامين في محبة الله، والمخلصين في توحيد الله). (من لا يحضره الفقيه:2/610).

وفي من لايحضره الفقيه:1/513:(وأعوذ بك من شر ما عاذ منه عبادك المخلصون).

وورد وصفهم بالمختارين: ففي الزياة الجامعة:(اصطفاكم بعلمه، وارتضاكم لدينه، واختاركم لسره، واجتباكم بقدرته....

السلام علي الأئمة الدعاة، والقادة الهداة، والسادة الولاة، والذادة الحماة، وأهل الذكر وأولي الأمر، وبقية الله وخيرته...).

وفي الكافي:1/199، في حديث الإمام الرضا عليه السلام عن الإمامة: (إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلي مكانا وأمنع جانبا وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم، أو يقيموا إماماً باختيارهم، إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره، فقال: إني جاعلك للناس إماماً فقال الخليل عليه السلام سرورا بها: " ومن ذريتي؟ قال الله تبارك وتعالي: لا ينال عهدي الظالمين ". فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلي يوم القيامة وصارت في الصفوة ثم أكرمه الله تعالي بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال: ووهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين لم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتي

ورثها الله تعالي النبي صلي الله عليه وآله فقال جل وتعالي: إن أولي الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين فكانت له خاصة فقلدها علياً).

وليس غرضنا هنا شرح هذه الصفات العظيمة وبيان الفروق بينها، وفيها بحوث مفصلة، بل الغرض أن كلاً من الإصطفاء والإستخلاص والإختيار، يستلزم العصمة كالإستخلاف، لأن أياً منها لايتم إلا لخيرة البشر المطيعين لربهم عز وجل، الورعين عن محارمه ومعاصيه.

ولأن من اصطفاه الله واستخلصه واختاره، يمده بالحماية والعناية والألطاف، التي تعني عصمته عن المعاصي، بل وما فوق العصمة العادية.

لذلك نكتفي بإيراد آيات هذه الصفات، وبعض الأحاديث الموضحة المؤكدة لدلالتها علي العصمة.

آيات الإصطفاء الإلهي

نص القرآن علي أن الله تعالي اصطفي عدداً من عباده من الأمم الماضية، ومن هذه الأمة، منهم أشخاص ومنهم أسر، وهوكالإستخلاف يدل علي عصمة المصطفيْن صلوات الله عليهم. وهذه عناوين آيات الإصطفاء:

قانون الإصطفاء الإلهي لمهمات وأدوار

اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رسلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَي اللهِ تُرْجَعُ الأمور. (الحج:75-76)

ابتدأ الإصطفاء الإلهي من آدم عليه السلام

إِنَّ اللهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. (آل عمران:33-34)

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَي نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. (آل عمران:42)

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصَّالِحِينَ. (البقرة:130)

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأبصار. إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَي الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الإخيَارِ. وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الإخيَارِ. (صاد:45-48)

اصطفاء موسي عليه السلام مشروع مستقل

قَالَ يَا مُوسَي إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ. (الأعراف:144).

اصطفاء طالوت ملكاً

وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا إني يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَاتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَي وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. (البقرة:247-248)

المصطفوْن عليهم السلام أهل السلام والأمن الإلهي

قُلِ الْحَمْدُ لله وَسَلامٌ عَلَي عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَي اللهُ خَيْرٌ أما يُشْرِكُونَ. (النمل:59 (

اصطفاء الإسلام ديناً

إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّي بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِي إِنَّ اللهَ اصْطَفَي لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. (البقرة:131-132)

معني الإصطفاء و أنواعه

غرض الإصطفاء: نَصَّ قوله تعالي:(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رسلاً وَمِنَ النَّاسِ) علي أن الإصطفاء يكون لمهمة عظيمة كحمل الرسالة الإلهية، فهو عمل إلهي يكشف عن مقام لغرض اجتماعي في الدنيا: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا).

وقد يكون هدفه أن يكون أصحابه قدوة للأجيال فيتبعوا ملتهم وسيرتهم، كما في إبراهيم عليه السلام وذريته: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصَّالِحِينَ). (البقرة:130)

أنواع الإصطفاء: فمنه اصطفاء عام علي العالمين كاصطفاء آدم ونوح، والأسر المصطفاة من آل إبراهيم عليهم السلام: (إِنَّ اللهَ اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ). (آل عمران:33)

ومنه اصطفاء لموجودين أو لآتين، علم الله ما سيعملون فاصطفاهم

قبل ولادتهم: (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (آل عمران:33-34)

ومنه اصطفاء علي أناس معينين كاصطفاء طالوت للملك علي بني إسرائيل: (قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).

ومنه اصطفاء بمنصب أو ميزة: (يَا مُوسَي إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَي النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي)، أو بالتطهير المناسب للشخص: (يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ)

ومنه اصطفاء لشخص علي أهل عصره: (وَاصْطَفَاكِ عَلَي نِسَاءِ الْعَالَمِينَ).

والإصطفاء لايكون إلا باستحقاق:

ففي علل الشرائع:1/56، عن الإمام الباقر عليه السلام قال:(أوحي الله عز وجل إلي موسي عليه السلام: أتدري لما اصطفيتك لكلامي دون خلقي؟ فقال موسي: لا، يا رب، فقال: يا موسي إني قلبت عبادي ظهراً لبطن فلم أجد فيهم أحداً أذلً لي منك نفساً. يا موسي انك إذا صليت وضعت خديك علي التراب).

وعن الصادق عليه السلام قال: (وكان موسي عليه السلام إذا صلي لم ينفتل حتي يلصق خده الأيمن بالأرض والأيسر). انتهي.

أما الذين اصطفاهم الله تعالي قبل أن يولدوا (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْض)ٍ، فقد علم الله ما هم عاملون فاصطفاهم قبل ولادتهم. علي أنه قد امتحن جميع الخلق في نشأة سابقة قبل نشأتهم في الدينا، ففي الكافي:2/10:(عن أبي عبد الله عليه السلام أن بعض قريش قال لرسول الله صلي الله عليه وآله: بأي شئ سبقت الأنبياءوأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ فقال: إني كنت أول من آمن بربي وأول من أجاب حيث أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربكم؟ فكنت أنا أول نبي قال: بلي، فسبقتهم بالإقرار بالله عز وجل). انتهي.

تفسير آية: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفين

قال الله تعالي: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ

اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ. وَقَالُوا الْحَمْدُ لله الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أن رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ.الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَي عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ. (فاطر:31-36).

الآية من متشابهات القرآن

فما معني توريث القرآن للمصطفيْن؟ ومن هم؟ وما معني التقسيم بعدها إلي ظالم ومقتصد وسابق بالخيرات، فهل يمكن أن يكون الظالم من المصطفين الذين أورثهم الله الكتاب؟ وهل يدخل الجميع الجنة بمن فيهم الظالمون؟!

والموقف الشرعي والعلمي عندما يواجه الباحث المتشابه، أن يرده إلي المحكم، وأن يرد الجميع إلي أهل البيت عليهم السلام الذين قرنهم النبي صلي الله عليه وآله بالقرآن فقال: (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي)، فأوجب بذلك أخذ القرآن وتفسيره منهم.

لكن هل يفعل ذلك مفسرو قريش؟ كلا! بل يتبعون ما تشابه منه، ويهيمون في كل واد! فقد كثرت احتملاتهم واتسع تحيرهم وتخبطهم في هذه الآيات، حتي وصل إلي بعض مفسري الشيعة!

وأصل الموضوع عندهم أن عمر وكعب الأحبار قالا: إن الله ورَّث القرآن للأمة كلها بمن فيها الظالمون، وكلهم في الجنة! فتبعهما أكثر المفسرين، وحاولوا جعل تفسيرهما مسنداً إلي رسول الله صلي الله عليه وآله! وقارب آخرون وباعدوا، وحاولوا ترقيع ما يستلزمه هذا التفسير من مشكلات عقدية!

قال السيوطي في الدر المنثور:5/251: (وأخرج سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، والبيهقي في البعث، عن عمر بن الخطاب أنه كان إذا نزع بهذه الآية:ثم أورثنا الكتاب...

قال: ألا إن سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له!!

وفي تفسير النحاس:5/458: (وقال كعب: هذه الأمة علي ثلاث فرق، كلها في الجنة، ثم تلا: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا..إلي قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا، فقال: دخلوها ورب الكعبة)! انتهي. (ونحوه تفسير ابن كثير:3/564)

وفي تفسير الطبري:22/160، عن كعب: (قال: كلهم في الجنة، وتلا هذه الآية: جنات عدن يدخلونها). انتهي.

وفي تفسير عبد الرزاق:3/136: (عن عبد الله بن الحارث عن كعب قال: قرأ هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ حتي بلغ: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا... فقال كعب: دخلوها ورب الكعبة)! (ورواه في تفسير الثوري ص246)

ورووا ذلك عن عمر وكعب بطرق عديدة، وعن عثمان وعائشة أيضاً، كما في تفسير ابن كثير:3/564، عن عثمان قال: (هي لأهل بدونا ومقتصدنا أهل حضرنا وسابقنا أهل الجهاد). وقال ابن كثير في تفسيره:2/79: (والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة).

وفي المعجم الأوسط للطبراني:6/167: (عن عقبة بن صهبان قال قلت لعائشة: أرأيت قول الله جل ذكره: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...الآية؟ قالت: أما السابق فقد مضي في حياة رسول الله(ص)وشهد له بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع آثارهم فعمل بمثل أعمالهم حتي يلحق بهم، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلك ومن اتبعنا. قالت وكلهم في الجنة). (والحاكم:2/426، وصححه)

القرطبي يرفض التفسير الرسمي

وقال القرطبي في تفسيره:14/346: (هذه الآية مشكلة، لأنه قال جل وعز: اصطفينا من عبادنا ثم قال: فمنهم ظالم لنفسه! وقد تكلم العلماء فيها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم!! قال النحاس: فمن أصح ما روي في ذلك ما روي عن ابن عباس: فمنهم ظالم لنفسه، قال: الكافر، رواه ابن عيينة عن

عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أيضاً. وعن ابن عباس أيضاً: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات قال: نجت فرقتان، ويكون التقدير في العربية: فمنهم من عبادنا ظالم لنفسه، أي كافر. وقال الحسن: أي فاسق. ويكون الضمير الذي في يدخلونها، يعود علي المقتصد والسابق، لا علي الظالم....

وقيل: الضمير في يدخلونها يعود علي الثلاثة الأصناف لي ألا يكون الظالم ها هنا كافراً ولا فاسقاً. وممن روي عنه هذا القول عمر، وعثمان، وأبو الدرداء، وابن مسعود، وعقبة بن عمرو، وعائشة، والتقدير علي هذا القول: أن يكون الظالم لنفسه الذي عمل الصغائر....

قال النحاس: وقول ثالث يكون الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد الذي لم يستحق الجنة بزيادة حسناته علي سيئاته، فيكون: جنات عدن يدخلونها للذين سبقوا بالخيرات لا غير. وهذا قول جماعة من أهل النظر، لأن الضمير في حقيقة النظر لما يليه أولي.

قلت: القول الوسط(أنه يعود علي المقتصد والسابق)أولاها وأصحها إن شاء الله، لأن الكافر والمنافق لم يصطفوا بحمد الله، ولا اصطفيَ دينهم. وهذا قول ستة من الصحابة، وحسبك. وسنزيده بياناً وإيضاحاً في باقي الآية). انتهي.

وأهم ما عمله القرطبي أنه ذكر التفسير الرسمي بصيغة: (قيل) وحاول تخفيف وقعه بتضييق دخول الظالمين الجنة! فهو من المفسرين القلائل الذين لم يدخل في قلبهم تفسير عمر وكعب، بل اختار أن آية: جنات عدن يدخلونها... تختص بالسابقين والمقتصدين ولاتشمل الظالمين!

لكنك تجد قول عمر وكعب صار عندهم حديثاً نبوياً! فقالوا إن عمر قال: (سمعت رسول الله(ص)يقول: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له، وقرأ عمر: فمنهم ظالم لنفسه...الآية) انتهي. (الدر المنثور:5/251، عن العقيلي وابن لآل وابن مردويه والبيهقي، وأضاف كنز العمال:2/485 عن الديلمي).

وقال الرازي في

تفسيره:26/24: (اتفق أكثر المفسرين علي أن المراد من الكتاب القرآن، وعلي هذا فالذين اصطفينا هم الذين أخذوا بالكتاب وهم المؤمنون، والظالم والمقتصد والسابق، كلهم منهم. ويدل عليه قوله تعالي: جنات عدن يدخلونها، أخبر بدخولهم الجنة، وكلمة: ثم أورثنا، أيضاً تدل عليه لأن الإيراث إذا كان بعد الإيحاء ولا كتاب بعد القرآن فهو الموروث. والإيراث المراد منه الأعطاء بعد ذهاب من كان بيده المعطي..... ويصحح هذا قول عمر عن النبي(ص): ظالمنا مغفور له). انتهي.

وهكذا صار التفسير الذي وضع أساسه عمر وكعب الأحبار، الرأي الرسمي لأجيال مفسري الدولة، اتبعه أكثرهم علي تحيُّر، ومال عنه بعضهم علي وجل! ولكنه كان سداً إمام تفسير أهل البيت عليه السلام!

تفسير أهل البيت

نورد فيما يلي نماذج من أحاديثنا المتواترة في أن أهل البيت عليهم السلام هم ورثة القرآن، وأنهم الذين عندهم علم الكتاب، دون غيرهم!

ففي شرح الأخبار:3/472: (قال أبو جعفر محمد بن علي صلي الله عليه وآله: ما يقول من قِبلكم في هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ.جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا...؟ قال قلت: يقولون نزلت في أهل القبلة. قال: كلهم؟ قلت: كلهم. قال: فينبغي أن يكونوا قد غفر لهم كلهم. قلت: يا ابن رسول الله في من نزلت؟ قال: فينا. قلت: فما لشيعتكم؟ قال: لمن اتقي وأصلح منهم الجنة، بنا يغفر الله ذنوبهم وبنا يقضي ديونهم، ونحن باب حطتهم كحطة بني إسرائيل).

وفي الثاقب في المناقب ص566، عن أبي هاشم الجعفري رحمه الله قال: (كنت عند أبي محمد عليه السلام فسألته عن قول الله تعالي: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ

لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ؟ فقال عليه السلام: كلهم من آل محمد عليهم السلام، الظالم لنفسه الذي لا يقر بالإمام، والمقتصد العارف بالإمام، والسابق بالخيرات بإذن الله الإمام. قال: فدمعت عيناي وجعلت أفكر في نفسي عظم ما أعطي الله آل محمد عليهم السلام، فنظر إليَّ وقال: الأمر أعظم مما حدثتك به نفسك من عظم شأن آل محمد عليهم السلام فاحمد الله فقد جعلك متمسكاً بحبلهم، تدعي يوم القيامة بهم إذا دعي كل أناس بإمامهم، فأبشر يا أبا هاشم فإنك علي خير). انتهي.

وفي بصائر الدرجات ص135: (حدثنا العباس بن معروف عن حماد بن عيسي عن حريز عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام إن العلم الذي نزل مع آدم لم يرفع، والعلم يتوارث، وكان علي عليه السلام عالم هذه الأمة، وإنه لن يهلك منا عالم إلا خلفه من أهله من يعلم مثل علمه، أو ما شاء الله).

وفي بصائر الدرجات ص134: (حدثنا محمد بن الحسن عن حماد عن إبراهيم بن عبد الحميد عن أبيه عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال قلت له: جعلت فداك النبي صلي الله عليه وآله ورث علم النبيين كلهم؟ قال لي: نعم، قلت: من لدن آدم إلي أن انتهي إلي نفسه؟ قال: نعم، قلت: ورثهم النبوة وما كان في آبائهم من النبوة والعلم؟ قال: ما بعث الله نبياً إلا وقد كان محمد صلي الله عليه وآله أعلم منه، قال قلت: إن عيسي بن مريم كان يحيي الموتي بإذن الله؟ قال: صدقت، وسليمان بن داود كان يفهم كلام الطير، قال وكان رسول الله صلي الله عليه وآله يقدر علي هذه المنازل، فقال إن سليمان بن داود قال للهدهد

حين فقده وشك في أمره: مَا لِيَ لا أَرَي الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ، وكانت المردة والريح والنمل والإنس والجن والشياطين له طائعين، وغضب عليه فقال: لأُعَذِّبَنَّهُ عذاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ، وإنما غضب عليه لأنه كان يدله علي الماء، فهذا وهو طير قد أعطيّ ما لم يعطَ سليمان! وإنما أراده ليدله علي الماء، فهذا لم يعط سليمان، وكانت المردة له طائعين ولم يكن يعرف الماء تحت الهواء وكانت الطير تعرفه!

إن الله وتعالي يقول في كتابه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَي بَلْ لله الأمر جميعاً، وقد ورثنا هذا القرآن، ففيه ما تقطَّع به الجبال وتقطَّع المداين به ويحيا به الموتي، ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وإن في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر إلي أن يأذن الله به، مع ما فيه أذن الله، فما كتبه للماضين جعله الله في أم الكتاب، إن الله يقول في كتابه: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأرض إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. ثم قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، فنحن الذين اصطفانا الله فورثنا هذا الذي فيه تبيان كل شئ). انتهي.

وروي في كتاب بصائر الدرجات ص65، أكثر من خمسة عشر حديثاً في هذا الموضوع، وفيها صحيح السند بدرجة عالية، منها: (عن أبي جعفر عليه السلام قال في هذه الآية: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا..الآية، قال: السابق بالخيرات الإمام، فهي في وُلد علي وفاطمة عليهم السلام).

وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام:2/207: (عن الريان بن الصلت قال: حضر الرضا عليه السلام مجلس المأمون بمرو، وقد اجتمع في مجلسه جماعه من علماء أهل العراق

وخراسان فقال المأمون: أخبروني عن معني هذه الآية: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا؟ فقالت العلماء: أراد الله عز وجل بذلك الأمة كلها، فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا عليه السلام: لا أقول كما قالوا ولكني أقول: أراد الله عز وجل بذلك العترة الطاهرة فقال المأمون: وكيف عني العترة من دون الأمة؟ فقال له الرضا عليه السلام: إنه لو أراد الأمة لكانت أجمعها في الجنة لقول الله عز وجل: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير، ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال عز وجل: جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب، الآية. فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟ فقال الرضا عليه السلام: الذين وصفهم الله في كتابه فقال عز وجل: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، وهم الذين قال رسول الله صلي الله عليه وآله:إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي إلا وإنهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفون فيهما أيها الناس لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.

قالت العلماء: أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة أهم الآل أم غير الآل؟

فقال الرضا عليه السلام: هم الآل، فقالت العلماء: فهذا رسول الله (ص) يؤثر عنه أنه قال: أمتي آلي وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لايمكن دفعه آل محمد أمته! فقال أبو الحسن عليه السلام: أخبروني فهل تحرم الصدقة علي الآل؟ فقالوا: نعم، قال: فتحرم علي الأمة؟ قالوا: لا، قال: هذا فرق بين الآل والأمة! ويحكم أين يذهب بكم؟ أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون! أما علمتم

أنه وقعت الوراثة والطهارة علي المصطفين المهتدين دون سائرهم؟ قالوا: ومن أين يا أبا الحسن؟ فقال من قول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، فصارت وراثه النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين). انتهي.

وفي معاني الأخبار للصدوق ص104: (عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ؟ فقال: الظالم منا من لا يعرف حق الإمام، والمقتصد العارف بحق الإمام والسابق بالخيرات بإذن الله هو الإمام. جنات عدن يدخلونها، يعني السابق والمقتصد).انتهي.

اختصاص أهل البيت بعلم الكتاب لا يلغي حجيته

قال السيد الخوئي رحمه الله في البيان ص268: (فإن معني ذلك أن الله قد خص أوصياء نبيه صلي الله عليه وآله بإرث الكتاب، وهو معني قوله تعالي: ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا(35:32)فهم المخصوصون بعلم القرآن علي واقعه وحقيقته، وليس لغيرهم في ذلك نصيب. هذا هو معني المرسلة، وإلا فكيف يعقل أن أبا حنيفة لا يعرف شيئاً من كتاب الله حتي مثل قوله تعالي: قل هو الله أحد، وأمثال هذه الآية مما يكون صريحاً في معناه. والأخبار الدالة علي الإختصاص المتقدم كثيرة جداً). انتهي.

ابناء فاطمة و أتباع أهل البيت ورثة مجازيون للكتاب

في تفسير العياشي:1/70: (عن عاصم بن حميد عن أبي عبد الله عليه السلام:إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ، يقول لا حرج عليه أن يطوَّف بهما، فنزلت هذه الآية، فقلت: هي خاصة أو عامة قال: هي بمنزلة قوله: مَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، فمن دخل فيهم من الناس كان بمنزلتهم يقول الله: وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً). انتهي.

الظالم لنفسه درجات متفاوتة

(الظالم لنفسه) مفهوم واسع في القرآن، يشمل الكافر والفاسق والظالم لغيره، لأن الجميع ظلم للنفس، وقد نص القرآن علي أن بعض أنواع الظالمين لأنفسهم يدخلون جهنم، قال تعالي: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَي إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَي الْمُتَكَبِّرِينَ. (النحل:28-29).

وبعضهم يدخل الجنة، قال تعالي: وَسَارِعُوا إلي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَي مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ. أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. (آل عمران:133-136).

وبعضهم ظالمون لأنفسهم فكرياً وعملياً بترك عقيدة التوحيد واتخاذ عقيدة الكفر، كقوله تعالي: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَئٍْ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. (هود:101).

وبعضهم ظالم لنفسه عملياً فقط بتعدي حدود الله تعالي: وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ

لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا. (الطلاق:1.

أو بعمل سوء يتبعه بالإستغفار: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا. (النساء:110).

وعلي هذا، فحتي لو جعلنا الظالم لنفسه من أبناء فاطمة عليها السلام قسماً ملحقاً بالمصطفين ورثة الكتاب عليهم السلام فالمقصود به ليس الظالم للناس بل لنفسه بسلوكه الشخصي المحض يتبعه بالإستغفار، كما تقدم.

علي أنك عرفت رواية الصدوق في معاني الأخبار ص104 عن الإمام الباقر عليه السلام قال: (جنات عدن يدخلونها، يعني السابق والمقتصد). انتهي.

رأي علماء الشيعة

قال المفيد رحمه الله في المسائل العكبرية ص111: (وقوله تعالي: فمنهم ظالم لنفسه بعد وصفه الوارثين للكتاب بالصفوة، فإنه عير ما ظنه السائل أنه لم يرد بقوله: فمنهم من أعيانهم، وإنما أراد من ذوي أنسابهم وذراريهم. فأما المصطفون فقد حرسوا بالاصطفاء من الظلم ووفقوا به للعدل. وكذلك قوله: ومنهم مقتصد، يريد به من نسلهم وأهلهم وذوي أنسابهم. وقوله: ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله كذلك. ولم يرد بالأصناف الثلاثة أعيان من خبر اصطفائه وتوريثه الكتاب).

ةقال السيد المرتضي رحمه الله في رسائله:3/102: (والذي أعتمده وأعوِّل عليه أن يكون: فمنهم ظالم لنفسه، من صفة عبادنا، أي أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، ومن عبادنا ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات، أي فليس كل عبادنا ظالماً لنفسه، ولا كلهم مقتصداً ولا كلهم سابقاً بالخيرات، فكان الذين أورثوا الكتاب السابقون بالخيرات دونهما).

وقال الشيخ الطوسي رحمه الله في التبيان:8/430: (إن الله تعالي أورث علم الكتاب الذي هو القرآن، الذين اصطفاهم واجتباهم واختارهم علي جميع الخلق من الأنبياءالمعصومين والأئمة المنتجبين، الذين لا يجوز عليهم الخطأ ولا فعل القبيح لا صغيراً ولا كبيراً. ويكون قوله: فمنهم

ظالم لنفسه، راجعاً إلي عبادنا وتقديره فمن عبادنا ظالم لنفسه ومن عبادنا مقتصد ومن عبادنا سابق بالخيرات، لأن من اصطفاه الله لايكون ظالماً لنفسه، فلا يجوز أن ترجع الكناية إلي الذين اصطفينا).

وقال الطبرسي رحمه الله في مجمع البيان:8/245: (اختُلف في أن الضمير في منهم إلي من يعود علي قولين، أحدهما: إنه يعود إلي العباد، وتقدير الكلام: فمن العباد ظالم. وروي نحو ذلك عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، واختاره المرتضي قدس الله روحه من أصحابنا، قال: والوجه فيه أنه لما علق توريث الكتاب بمن اصطفاه من عباده، بين عقيبه أنه إنما علق وراثة الكتاب ببعض العباد دون بعض لأن فيهم من هو ظالم لنفسه، ومن هو مقتصد، ومن هو سابق بالخيرات.

والقول الثاني: إن الضمير يعود إلي المصطفيْن من العباد، عن أكثر المفسرين).

بعض مفسري الشيعة وافق علي تفسير عمر و كعب

قال في تفسير الميزان:17/45:(واختلفوا في هؤلاء المصطفيْن من عباده من هم؟ فقيل هم الأنبياء، وقيل هم بنو إسرائيل الداخلون في قوله: إن الله اصطفي آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران علي العالمين. وقيل هم أمة محمد صلي الله عليه وآله فقد أورثوا القرآن من نبيهم. وقيل وهو المأثور عن الصادقيْن صلي الله عليه وآله في روايات كثيرة مستفيضة، إن المراد بهم ذرية النبي صلي الله عليه وآله من أولاد فاطمة عليها السلام).

وقال في:17/50: (واعلم أن الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في كون الآية خاصة بولد فاطمة عليها السلام، كثيرة جداً). انتهي.

أقول: بل وصلت هذه الروايات إلي حد التواتر، وفيها عدد صحيح السند قطعي الحجية بنفسه، فقد قال السيد ابن كاووس في سعد السعود ص108: (أقول: وروي تأويل هذه الآية من عشرين طريقاً). انتهي.

لكن

صاحب الميزان رحمه الله أعرض عنها مع الأسف، ولم يصل حتي إلي مستوي تفسير القرطبي، بل أخذ بالتفسير القرشئ الرسمي تبعاً لكثرة المفسرين القائلين به! فخفف معني وراثة الكتاب، وأدخل الظالمين الجنة!

قال في الميزان:17/45: (وقوله: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات " يحتمل أن يكون ضمير منهم راجعاً إلي الذين اصطفينا، فيكون الطوائف الثلاث الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات شركاء في الوراثة وإن كان الوارث الحقيقي العالم بالكتاب والحافظ له هو السابق بالخيرات.

ويحتمل أن يكون راجعا إلي عبادنا - من غير إفادة الإضافة للتشريف - فيكون قوله: فمنهم مفيدا للتعليل والمعني إنما أورثنا الكتاب بعض عبادنا وهم المصطفون لا جميع العباد، لأن من عبادنا من هو ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق ولا يصلح الكل للوراثة.

ويمكن تأييد أول الإحتمالين بأن لامانع من نسبة الوراثة إلي الكل مع قيام البعض بها حقيقة كما نجد نظيره في قوله تعالي: وأورثنا بني إسرائيل الكتاب (المؤمن:54)، وما في الآية من المقابلة بين الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات، يعطي أن المراد بالظالم لنفسه من عليه شئ من السيئات وهو مسلم من أهل القرآن لكونه مصطفي ووارثاً! والمراد بالمقتصد المتوسط الذي هو في قصد السبيل وسواء الطريق. والمراد بالسابق بالخيرات بإذن الله من سبق الظالم والمقتصد إلي درجات القرب، فهو إمام غيره بإذن الله بسبب فعل الخيرات، قال تعالي: والسابقون السابقون أولئك المقربون. (الواقعة: 11).

وقوله تعالي: ذلك هو الفضل الكبير، أي ما تقدم من الإيراث هو الفضل الكبير من الله، لادخل للكسب فيه. هذا ما يعطيه السياق وتفيده الأخبار من معني الآية! وفيها للقوم اختلاف عجيب)! انتهي.

وتبعه صاحب تفسير الأمثل فقال:14/87: (ثم تنتقل الآية

إلي تقسيم مهم بهذا الخصوص فتقول: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير. ظاهر الآية هو أن هذه المجاميع الثلاثة هي من بين الذين اصطفينا أي ورثة وحملة الكتاب السماوي. وبتعبير أوضح إن الله سبحانه وتعالي قد أوكل مهمة حفظ هذا الكتاب السماوي بعد الرسول الأكرم صلي الله عليه وآله الي هذه الأمة، الأمة التي اصطفاها الله سبحانه...

وقد ورد في روايات كثيرة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام في تفسير:سابق بالخيرات بالمعصوم، وظالم لنفسه: بمن لايعرف الإمام، والمقتصد:، العارف بالإمام. وهذه التفسيرات شاهد واضح علي ما اخترناه لتفسير الآية، وهو أنه لا مانع من كون هذه المجاميع الثلاثة ضمن ورثة الكتاب الإلهي! ولا نحتاج إلي التذكير بأن تفسير الروايات أعلاه هو من قبيل بيان المصاديق الأوضح للآية، وهم الأئمة المعصومون، إذ هم الصف الأول، بينما العلماء والمفكرون وحماة الدين الإخرون في صفوف أخري). انتهي.

اهم الإشكالات علي التفسير الحكومي

أهم الإشكالات عليه: أنه يخرِّب معني توريث القرآن للمصطفيْن، فيجعل كل الأمة مصطفاة بمن فيها الظلمة والقتلة والجبابرة والمنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار! فهو يخرب معني الإصطفاء الإلهي ويطعن في حكمة الله تعالي!

وعندما يحكم بأن الظالم يدخل الجنة يصل تخريبه إلي قانون استحقاق الثواب والعقاب، لا يبقي لطاعة الله معني لأنها تتساوي في النتيجة مع الظلم والمعصية!

1- معني توريث الكتاب الإلهي:

قال الراغب الأصفهاني، وهو من أفضل علماء العربية في تجذير الكلمات، قال في المفردات ص518: (الوراثة والإرث: انتقال قُنْيَةٍ إليك عن غيرك، من غير عقد ولا ما يجري مجري العقد. وسمي بذلك المنتقل عن الميت، فيقال للقنية الموروثة: ميراث وإرث، وتراث. أصله وُراث، فقلبت الواو ألفاً

وتاء، قال: وتأكلون التراث... ويقال: ورثت مالاً عن زيد وورثت زيداً، قال: وورث سليمان داود.. وورثه أبواه.. وعلي الوارث مثل ذلك....ويقال لكل من حصل له شئ من غير تعب: قد ورث كذا. ويقال لمن خَوَّل شيئاً مهنئاً: أوْرث، قال تعالي: وتلك الجنة التي أورثتموها.. أولئك هم الوارثون الذين يرثون.....وقال لعلي رضي الله عنه: أنت أخي ووارثي، قال: وما أرثك؟ قال: ما ورَّثت الأنبياءقبلي، كتاب الله وسنتي).

وموضوعنا: وراثة الكتاب الإلهي، وقد وردت في القرآن بثلاث صيغ:

الصيغة الأولي: الذين ورثوا الكتاب، وأورثوا الكتاب.

ومعناها مطلق الوراثة للأمة، كقوله تعالي عن اليهود: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ...فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَي وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا. وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَوةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ..(الأعراف:168-170).

وقوله تعالي عن النصاري: وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ. (الشوري:14). فلم ينسب فيها التوريث إلي الله تعالي، وجاءت في سياق ذم ورثة الكتاب لأنهم لم يعملوا به، ومدح الذين عملوا به.

وشبيه بها صيغة: (الذين أوتوا الكتاب، وأوتوا نصيباً من الكتاب) بالمبني للمجهول، بدون نسبة الإيتاء صريحاً إلي الله تعالي. وسياقها أيضاً الذم، كقوله تعالي: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ. البقرة:101

وقوله تعالي: وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ. البقرة:144

وقوله تعالي: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ. البقرة:145

وقوله تعالي: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسلام وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ. آل عمران:19

وقوله تعالي: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالآمِّيِّينَ أأسْلَمْتُمْ؟ آل عمران:20

وقوله تعالي: وَإِذْ أخذ اللهُ

مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ. آل عمران:187

وقوله تعالي: كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ.(الحديد:16)

وقوله تعالي: وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. (البيّنة:4)

وينبغي أن نسجل ثلاث ملاحظات علي هذا الآيات:

الأولي، أن تعبير(ورثوا الكتاب، وأورثوا الكتاب، وأوتوا الكتاب)، وإن كان فيه مدح بأن الله تعالي آتاهم الكتاب، لكنه مدحٌ بنعمة أنعمها الله عليهم فلم يحفظوها، فهو في جوهره ذمٌّ لهم، مضافاً إلي صفاتهم الأخري التي نصت عليها الآيات، كالكفر والفسق، ولذا قلنا إن سياق الآيات هو الذم.

والثانية، أن الذين(أوتوا نصيباً من الكتاب) هم نفس(أوتوا الكتاب) أو بعضهم وهذا التعبير يدل علي أنهم استوعبوا شيئاً من الكتاب، أو طبقوه، بينما ضيعوا الباقي! فهو أيضاً ذم لهم وليس مدحاً.

قال الله تعالي:أَلَمْ تَرَ إلي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إلي كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّي فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. آل عمران:23

وقال تعالي: أَلَمْ تَرَ إلي الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَي مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا. النساء:51-52

والثالثة، أن إيتاء الكتاب في هذه الآيات عام لكل الأمة، ومجمل لم يحدد فيه الأنبياءأو الأوصياء عليهم السلام أو العلماء الذين آتاهم الكتاب، ولا مستواهم العلمي لكن يوجد آية أخري كشفت أن وصف هؤلاء المذمومين بأنهم ورثوا أو أورثوا أو أوتوا الكتاب، كان بسبب وجود الصالحين المصطفيْن منهم الذين أورثهم الله الكتاب، وإنما وصف به المذمومون لأنهم أممهم وقومهم!

قال تعالي: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ

عَلَي قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَي وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَي وَعِيسَي وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَي الْعَالَمِينَ. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَي اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ). (الأنعام:83-89)

وتعبير: أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ، يكشف عن أن هؤلاء هم أهل الكتاب وأصحابه وورثته الحقيقيين، وأن وصف غيرهم به مجازٌ بسبب وجودهم فيهم.

الصيغة الثانية: أورثنا الكتاب. وقد وردت في آيتين فقط:

إحداهما، توريث الكتاب لبني إسرائيل، وهي قوله تعالي: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَي الْهُدَي وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ. هُدًي وَذِكْرَي لأُولِي الأَلْبَابِ. (غافر:53-54)، فذكرت أن إيتاء الكتاب وتنزيله كان لموسي عليه السلام، بينما توريثه لبني إسرائيل.

والثانية، توريث القرآن للمصطفيْن من هذه الأمة، وهي الآية موضوع البحث:

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ. (فاطر:32).

وهذه الصيغة شبيهة بصيغة: آتيناهم الكتاب في قوله تعالي: وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَي الْعَالَمِينَ. (الجاثية:16)

وقوله تعالي: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. (البقرة:146).

ومن الملاحظات في الصيغتين:

الأولي، أن المورِّث في الآيتين هو الله تعالي، لكن المورَّث مختلف، فتوريث التوراة والإنجيل كان لبني إسرائيل عامة، أما توريث القرآن فكان للمصطفيْن

فقط! فقد تحدث سبحانه في سورة فاطر من آية 27، في سياق متصل عن العلم والعلماء، ثم عن التالين لكتاب الله، ثم عن تنزيل هذا الكتاب علي رسوله صلي الله عليه وآله مصدقاً لما بين يديه، ثم قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، ولم يقل: ثم أورثناكم الكتاب، أو ثم أورثنا الأميين الكتاب، كما قال: وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ. هُدًي وَذِكْرَي لأُولِي الأَلْبَابِ؟!

فما هو السر في هذا العموم والخصوص في التوريث الإلهي؟

الثانية، أن توريث الكتاب الإلهي يختلف معناه حسب المورَّثين، فتوريثه للأمة يعني توريثه لأشخاص معينين منها مجازي للأمة وحقيقي لأفراد منها، أما توريثه لأشخاص فهو توريث حقيقي يعني تعليمهم تفسيره وعلومه ليكونوا معلمين له. كما تقول إن فلاناً ورَّث علم الطب للشعب الفلاني، أو ورثه للأطباء الفلانيين، فلا بد من في تفسيره من مراعاة التناسب بين التوريث والمورث!

والفرق الذي يبدو صغيراً هو كبير جداً، فتوريث الكتاب لبني إسرائيل يعني توريث علومه لأنبياءوأوصياء منهم وجعله في متناول كل الأمة.

أما توريث الكتاب للمصطفيْن من أمة النبي صلي الله عليه وآله فيعني توريث علومه لأئمة معينين، وجعله في متناول من تبعهم.

الثالثة، لايمكن تفسير المصطفيْن ورثة الكتاب الإلهي، إلا بملاحظة الصفات المشابهة التي وصف بها القرآن حملة العلم الإلهي في هذه الأمة، كالذين عندهم علم الكتاب، والراسخين في العلم، وأهل الذكر، في قوله تعالي عن وصي سليمان عليهما السلام: قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فإنما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40) وقوله تعالي عن

وصي النبي صلي الله عليه وآله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرسلاً قُلْ كَفَي بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ)(الرعد:43) وقوله تعالي: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الأَلْبَابِ). (آل عمران:7)

وقوله تعالي: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أهل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:43).

وقوله تعالي: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أهل الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (الأنبياء:7) وهي نفس الآية المتقدمة بدون كلمة: (مِن)!

وآية الشهود التالين للنبي صلي الله عليه وآله في قوله تعالي: أَفَمَنْ كَانَ عَلَي بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَي إماماً وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) (هود:17) فهذه الآيات وغيرها، تعرفنا من هم المصطفوْن الذي خصهم الله في هذه الأمة بوراثة القرآن. وكذلك أحاديث النبي صلي الله عليه وآله، ومثلها أحاديث أهل بيته الطاهرين عليهم السلام، لأن النبي صلي الله عليه وآله أرجع أمته إليهم وجعلهم عدل القرآن في مثل قوله المتواتر صلي الله عليه وآله: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فقولهم قوله وحديثهم حديثه، ومنهم يجب أن تأخذ الأمة كتاب الله وتفسيره.

2- الظالم مطلقاً يستحيل أن يكون من المصطفيْن!

القاعدة العامة في التفسير وكل بحث علمي، بل في كل الحياة، أن لا

نبيع اليقين بالشك، ولا المحكم بالمتشابه. ومن اليقين المحكم أن المصطفيْن من الله أشخاص اختارهم الله لأدوار في الشعوب والأمم والعالم، لأنهم أهل لذلك، وأعطاهم ما يحتاجونه في عملهم من علم وتأييد.

وهذا يقتضي طهارتهم وعصمتهم ووجوب اتباعهم.

وعندما نجد نصاً ظاهره أن المصطفيْن فيهم ظالمون عاصون لربهم، فيجب أن نتوقف فيه، لأن قبول ظاهره يعني تخريب قانون الإصطفاء الإلهي، والطعن في حكمة الله تعالي!

لهذا لا بد في آية توريث الكتاب للمصطفين من أحد أمرين:

إما أن نجعل الظالم لنفسه قسماً من عبادنا وليس من المصطفين كما اختاره الشريف المرتضي رحمه الله، وغيره. قال في مجمع البيان:8/245: (اختلف في أن الضمير في منهم إلي من يعود، علي قولين، أحدهما: إنه يعود إلي العباد، وتقدير الكلام: فمن العباد ظالم. وروي نحو ذلك عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، واختاره المرتضي قدس الله روحه، من أصحابنا).انتهي.

وإما أن نجعل دخول الظالم لنفسه في المصطفيْن مجازاً، لأنه منهم نسباً أو اتباعاً، كما فسره الإمام الرضا عليه السلام وهذا الذي أرجحه لأنه روي عن المعصوم عليه السلام، ولعل المرتضي لم يطلع عليه، وقد استدل له الإمام الرضا عليه السلام بقوله تعالي: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ. (الحديد:26) فكما أن جعل النبوة والكتاب في بعض ذرية نوح وإبراهيم، لم يمنع أن يكون بعضهم الآخر فاسقين، فكذلك توريث الكتاب لعترة محمد صلي الله عليه وآله لم يمنع أن يكون بعض آخر منهم ظالم لنفسه.

وقد تقدمت روايته من عيون أخبار الرضا عليه السلام:2/207 وفيها: (فقالت العلماء: أراد الله عز وجل بذلك الأمة كلها، فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا

عليه السلام: لا أقول كما قالوا ولكني أقول: أراد الله عز وجل بذلك العترة الطاهرة. فقال المأمون: وكيف عني العترة من دون الأمة؟ فقال له الرضا عليه السلام: إنه لو أراد الأمة لكانت أجمعها في الجنة لقول الله عز وجل: فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير، ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال عز وجل: جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب، الآية. فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟ فقال الرضا عليه السلام: الذين وصفهم الله في كتابه فقال عز وجل: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا، وهم الذين قال رسول الله صلي الله عليه وآله:إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي إلا وإنهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلفون فيهما. أيها الناس لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم. إلي أن قال: أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة علي المصطفين المهتدين دون سائرهم؟ قالوا: ومن أين يا أبا الحسن؟ فقال من قول الله عز وجل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، فصارت وراثه النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين). انتهي.

3- تعميمهم للمفردات الخاصة، وتمييعهم للقوانين الحاسمة!

ليست محاولة علماء السلطة في التعميم والتمييع في تفسير الآية، إلا واحدة من منهج ابتدعوه في التفسير، كشفنا جانباً منه في المجلد الثاني من كتاب (ألف سؤال وإشكال- المسألة163)، وقد ارتكبوا هنا تعميمين للكتاب والمصطفيْن، وتمييعين لتوريث الكتاب، وقانون الثواب والعقاب:

فقد عمموا الكتاب في قوله تعالي: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، فجعلوه كل كتاب إلهي، مع

أن السياق يتحدث عن القرآن، فالآية التي قبلها: وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا..الآية. فعدلوا عن السياق بلاحجة!

وكأن هدف كعب الأحبار من توسيع المصطفيْن وتوسيع الكتاب، أن يعطي الشرعية للتوراة والثقافة اليهودية وأنها مورَّثة لهذه الأمة، ويعطي لنفسه مقام مستشار الخلافة في علم الكتاب كله التوراة والإنجيل والقرآن! وإلا فأين التوراة والإنجيل اللذين ورثتهما الأمة، وعند مَنْ يوجدان؟!

أما لو اعترف كعب بأن القرآن هو المورَّث لفئة من هذه الأمة، فلا بد أن تكون عترة النبي صلي الله عليه وآله، فيكون أخرج نفسه وعلمه من الساحة، وأوجب علي الأمة أن ترجع إلي العترة ورثة القرآن ومعادله، كما أمرها نبيها صلي الله عليه وآله!

وقد استطاع كعب أن يقنع عمر بذلك وبأشياء كثيرة، لا يتسع لها هذا الكتاب!

ولا نطيل الكلام في وقوف كعب وراء هذه التعميمات والتمييعات ودوافعه، ونكتفي بالقول إن المقصود بالكتاب في الآية هو القرآن بحكم السياق، ولا دليل إلا التحكم لمن ادعي تعميمه لكل كتاب إلهي.

وأما جعله الظالمين من المصطفيْن وأهل الجنة، فهو جزءٌ من خطته في فتح أبواب الجنة لجميع الناس، وهو أمر عمل له كعب وأطاعه فيه عمر حتي قال بشمول الشفاعة لجميع الخلق، ثم قال إن النار تفني وينقل أهلها إلي الجنة! (راجع المسألة155 من كتابنا (ألف سؤال وإشكال)، والمجلد الثالث من العقائد الإسلامية).

وأما معني المصطفيْن الذين أورثهم الله الكتاب، فلا يصح أن يكونوا إلا جماعة خاصين بحكم الظهور المستحكم للكلمة، وهم عترة النبي صلي الله عليه وآله الذين قرنهم بالقرآن وجعلهم عدلاً له، وسماهما الثقلين! وتؤيد ذلك الأدلة

الكثيرة لاصطفاء العترة النبوية، التي رواها المؤالف والمخالف.

ولا دليل من عقل ولا نقل علي زعم كعب أنهم كل الأمة، ولا زعم غيره أنهم الصحابة، إلا الإستحسان الظني، أو التحكم، لمصادرة ما خص الله به عترة نبيه صلي الله عليه وآله وأعطاؤها لغيرهم!

فلو كان الصحابة هم المصطفوْن ورثة الكتاب، لَمَا أوجب النبي صلي الله عليه وآله علي أمته التمسك بالثقلين الكتاب والعترة في حديث الثقلين المتواتر عند الجميع، ولَمَا أمر الأمة أن يقرنوا العترة بالنبي صلي الله عليه وآله والصلاة عليهم معه في صلواتهم!

ثم لو سلمنا أن المقصود بهم الصحابة، لكان أهل البيت أولي بوراثة الكتاب أيضاً، لأنهم صحابة وعترة!

وخامساً، كيف يكون الصحابة مصطفيْن، وقد أخبر النبي صلي الله عليه وآله في أصح كتب أتباعهم بأن أكثرهم يدخلون جهنم، ولا ينجو منهم إلا مثل هَمَل النعم!

قال البخاري:7/208: (عن أبي هريرة عن النبي(ص)قال: بينا أنا قائمٌ فإذا زمرةٌ حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ، فقلت أين؟ قال إلي النار والله! قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري! ثم إذا زمرة حتي إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ! قلت: أين؟قال: إلي النار والله! قلت: ماشأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري! فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النعم)! انتهي.

ولم تصرح رواية البخاري هذه بإسمهم، لكن صرحت روايته الأخري بالصحابة وفسرها شراحه بهم! قال في صحيحه:2/975: (يرد علي الحوض رجالٌ من أصحابي فيحلؤون عنه فأقول يارب أصحابي! فيقول: فإنه لاعلم لك بما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا علي أعقابهم القهقري)! (وشبيهاً به في: 8/86.و:7/195و207_210 وص84 و87 و:8/86 و87، ونحوه مسلم:1/150 و:7/66 وابن

ماجة:2/1440وأحمد:2/25و408 و:3/28 و:5/21 و24 و50 و:6/16، والبيهقي في سننه:4/ 14، وغيرهم).

أما دعوي كعب وعمر ومن وافقهما بأن المصطفيْن كل الأمة، فيرد عليها:

أولاً، أنه لادليل عليها من عقل ولا نقل، فإن الله تعالي قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، وظاهره أنه انتخب عباداً خاصين فأورثهم الكتاب، ولا دليل لهم علي أنهم كل الأمة إلا التحكم المحض، أو الإستحسان والتخرص!

وثانياً، كيف يتجرأ مسلم أو عاقل علي القول إن كل المسلمين مصطفوْن يدخلون الجنة بمن فيهم الظالم والمنافق! ويرفع يده عن آيات القرآن التي تنص علي دخول أصناف من هذه الأمة جهنم؟!

فأين قول الله تعالي: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ.(المؤمنون:103)وعشرات الآيات التي تدفع هذا الزعم وتردهذه الأماني، ومنها قوله تعالي: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أهل الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا. (النساء:123)

وأين قول رسول الله صلي الله عليه وآله الذي تقدم في أكثر أصحابه: (قلت: ماشأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك علي أدبارهم القهقري! فلا أراه يخلص منهم إلا مثل هَمَل النعم)!

إنه لامناص لمن جعل المصطفيْن ورثة الكتاب كل الأمة، من تخريب قانون الجزاء والعقاب الإلهي! كما لامناص له من تمييع معني التوريث، وجعله توريثاً شكلياً لايتعدي توريث أوراق القرآن، لأنه لايعترف بمركز لهذا التوريث، وإن سألته عن علم القرآن الذي ورثه الله للأمة أين هو؟ لقال عند جميع الأمة! وهو يعرف أن كبير الصحابة عمر لايعرف معني مفردات القرآن مثل(وفاكهةً وأبَّا)؟!

وثالثاً، إن روايات أهل البيت عليهم السلام

التوريث الإلهي للكتاب مقام عظيم

قال أمير المؤمنين عليه السلام: (أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أن

رفعنا الله ووضعهم وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم! بنا يستعطي الهدي، ويستجلي العمي إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح علي سواهم، ولاتصلح الولاة من غيرهم). (نهج البلاغة:2/27).

وقال عليه السلام: (والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيِّزنا، فكانوا كما قال الأول:

أدمتَ لعمري شُرْبَك المحْضَ صابحاًوأكلك بالزبد المقشرةَ البُجْر

ونحن وهبناكَ العلاءَ ولم تكن علياً وحُطنا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا).

(نهج البلاغة:1/82)

وقال الإمام الباقر عليه السلام:في قوله تعالي: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً: نحن الناس المحسودون علي ما آتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين! فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عظيماً، يقول: جعلنا منهم الرسل والأنبياءوالأئمة، فكيف يقرُّون به في آل إبراهيم عليه السلام وينكرونه في آل محمد صلي الله عليه وآله؟!

قال الراوي بريد العجلي: قلت: وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً؟ قال: الملك العظيم أن جعل فيهم أئمةً مَن أطاعهم أطاع الله ومن عصاهم عصي الله، فهوالملك العظيم). (الكافي:1/205)

آيات الإستخلاص والإجتباء الإلهي

اخلاص الدين لله تعالي

إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. أَلا للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إلي اللهِ زُلْفَي إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَكَاذِبٌ كَفَّارٌ. (الزمر:2-3).

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَأُمِرْتُ لأن أَكُونَ أَوَلَ الْمُسْلِمِينَ. وَأُمِرْتُ لأن أَكُونَ أَوَلَ الْمُسْلِمِينَ. قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ. قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي. فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ

وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَالْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. (الزمر:11-15).

قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللهِ وَهُوَرَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ. (البقرة:139).

إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. (النساء:146)

وَمَاتَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَوةَ وَيُؤتُوا الزَّكَوةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَة.(البيّنة:4- 5).

دعاء الله بانقطاع و إخلاص

وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. (الأعراف:29).

فَادْعُواْ اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ. (غافر:14).

هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. (غافر:65).

وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. (يونس:22).

فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلي الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ. (العنكبوت:65).

وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلي الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ. (لقمان:32).

المخلصون المستخلصون

وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. (يوسف:24).

وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ. (يوسف:54).

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنْ أَبَاكُمْ قَدْ أخذ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض حَتَّي يَاذَنَ لِي أبي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَخَيْرُ الْحَاكِمِينَ. (يوسف:80).

ابراهيم وموسي وغيرهما من المخلصين عليهم السلام

وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الأَيْدِي وَالأبصار. إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَي الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الإخيَارِ. (صاد:45-47).

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَي إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رسولاً نبياً. (مريم:51).

المخلصون ناجون من الضلال والهلاك

وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:71-74).

أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ. اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الأولينَ. فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:125-128).

المخلصون مقربون من الله و ليسوا أبناءه

وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:158-160).

المخلصون ناجون من العذاب مكرمون في الجنة

إِنَّكُمْ لَذَائِقُوا الْعَذَابِ الأَلِيمِ. وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ. فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ. (الصافات:38-42).

يتمني غير المخلصين أن يكونوا منهم

وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأولينَ. لَكُنَّا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:167-169)

معني الإخلاص والمخلص

قال الراغب في المفردات ص154:(الخالص كالصافي، إلا أن الخالص هو ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال لما لا شوب فيه، ويقال خلصته فخلص....وقوله: ونحن له مخلصون. إنه من عبادنا المخلصين، فإخلاص المسلمين أنهم قد تبرؤوا مما يدعيه اليهود من التشبيه والنصاري من التثليث، قال تعالي: مخلصين له الدين، وقال: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وقال: وأخلصوا دينهم لله، وهو كالأول، وقال: إنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً. فحقيقة الإخلاص: التبري عن كل ما دون الله تعالي). انتهي.

والظاهر أن تسمية الشئ خالصاً ليس بسبب تخليصه من الشَّوْب، بل بسبب أنه في معرض الشَّوْب، وإن كان من أصله خالصاً لم يمَسَّه شَوْب في وقت ما.

ومعني إخلاص الدين لله تعالي:توحيده توحيداً كاملاً، قال أمير المؤمنين عليه السلام:

(وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة). (نهج البلاغة:1/14)

هذا هو الإخلاص النظري العقدي، أما الإخلاص العملي فهو الطاعة الكاملة لله تعالي بالقيام بما أوجبه وترك مانهي عنه، وإخلاص النية له في كل ذلك.

في تحف العقول لابن شعبة الحراني ص86، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: (رأس الدين صحة اليقين، وتمام الإخلاص تجنبك المعاصي).

وفي معاني الأخبار للصدوق ص260:(أن جبرئيل عليه السلام جاء إلي النبي صلي الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالي أرسلني إليك بهدية لم يعطها أحداً قبلك، قال رسول الله صلي الله عليه وآله: قلت:

وما هي؟ قال: الصبر وأحسن منه، قلت: وما هو؟ قال: الرضا وأحسن منه، قلت: وما هو؟ قال قال: الإخلاص وأحسن منه، قلت: وما هو؟ قال: اليقين....الي أن قال:

قلت: يا جبرئيل فما تفسير الإخلاص؟ قال: المخلص الذي لا يسأل الناس شيئاً حتي يجد، وإذا وجد رضي، وإذا بقي عنده شئ أعطاه في الله، فإن من لم يسأل المخلوق فقد أقر لله عز وجل بالعبودية، وإذا وجد فرضي فهو عن الله راض والله تبارك وتعالي عنه راض، وإذا أعطي لله عز وجل فهو علي حد الثقة بربه عز وجل. قلت: فما تفسير اليقين؟ قال: الموقن يعمل لله كأنه يراه فإن لم يكن يري الله فإن الله يراه، وأن يعلم يقيناً أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهذا كله أغصان التوكل ومدرجة الزهد). انتهي.

وفي الكافي:1/181:(عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنكم لاتكونون صالحين حتي تعرفوا، ولا تعرفوا حتي تصدقوا، ولا تصدقوا حتي تسلموا. أبواباً أربعة لا يصلح أولها إلا بآخرها، ضل أصحاب الثلاثة وتاهوا تيهاً بعيداً. إن الله تبارك وتعالي لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود، فمن وفي لله عز وجل بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده، واستكمل ما وعده، إن الله تبارك وتعالي أخبر العباد بطرق الهدي وشرع لهم فيها المنار وأخبرهم كيف يسلكون، فقال: وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدي، وقال: إنما يتقبل الله من المتقين، فمن اتقي الله فيما أمره لقي الله مؤمناً بما جاء به محمد صلي الله عليه وآله، هيهات هيهات فات قوم وماتوا قبل أن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا، وأشركوا من حيث

لا يعلمون.

إنه من أتي البيوت من أبوابها اهتدي، ومن أخذ في غيرها سلك طريق الردي، وصل الله طاعة ولي أمره بطاعة رسوله، وطاعة رسوله بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع الله ولا رسوله، وهو الإقرار بما انزل من عند الله عز وجل، خذوا زينتكم عند كل مسجد، والتمسوا البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فإنه أخبركم أنهم رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.

إن الله قد استخلص الرسل لأمره، ثم استخلصهم مصدقين بذلك في نذره، فقال: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير. تاهَ من جهل، واهتدي من أبصر وعقل، إن الله عز وجل يقول: فإنها لا تعمي الأبصار و لكن تعمي القلوب التي في الصدور، وكيف يهتدي من لم يبصر؟ وكيف يبصر من لم يتدبر؟

إتبعوا رسول الله وأهل بيته صلي الله عليه وآله، وأقروا بما نزل من عند الله، واتبَّعوا آثار الهدي، فإنهم علامات الأمانة والتقي). انتهي.

دلالة الإستخلاص الإلهي علي العصمة

يدل لقب المُخْلَص بالفتح، علي عصمة صاحبه، لأن الله تعالي استخلصه، أي أنه استحق بعمله وتخليصه لفكرَه ونياته من الشوائب، أن يتقبله الله تعالي لنفسه فيجعله من المخلَصين له، وذلك يقتضي أنم يحميه حماية تامة من شوائب نية المعصية فضلاً عن فعلها.

وهذا معني المعصوم فقد قال الإمام الصادق عليه السلام في تعريفه: (المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله، وقال الله تبارك وتعالي: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). انتهي.(معاني الأخبار للصدوق: ص132).

وقد بيَّن الله تعالي أن عباده المخلَصين لهم علاقة خاصة معه، لكن ليست علاقة نسب ومصاهرة كما يتصورها بعض

الناس! قال تعالي: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ. إِلا عِبَادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ. (الصافات:158-160).

وقال تعالي عن موسي عليه السلام: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَي إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رسولاً نبياً. (مريم:51).

وقال عن يوسف عليه السلام:وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَءَا بُرْهَانَ رَبِّهِ، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. (يوسف:24).

فقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، تعليلٌ لصرف السوء والفحشاء عنه، ومعناه أن يوسف عليه السلام لمَّا كان عبداً مخلَصاً مستخلصاً لنا، فقد صرفنا عنه الضرر والمعصية، فمقام الإستخلاص يستوجب هذه الدرجة العالية من العصمة والرعاية!

ومع هذا النص الإلهي، فلا قيمة لكل ما رووه من أن يوسف عليه السلام قد همَّ بالمعصية وفكر بالزنا، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة! معاذ الله!

فكل ذلك إسرائيليات اليهود وطعنهم بيوسف عليه السلام، تلقفها عنهم رواة السلطة!

بل همَّت به لنفسها، وهمَّ بها أن يضربها، فرأي برهان ربه يقول له: أهرب ولا تضربها! فلو ضربها لرآه زوجها الذي كان لدي الباب، ولادَّعت عليه بأنه أرادها فلم تقبل فضربها! وللحق به السوء أي القتل! فدفع الله عنه بإخلاصه واستخلاصه السوء والضرر من زوجها، كما دفع عنه الفحشاء من أول ما راودته عن نفسه، وبقيت نيته خالصة لله تعالي، لم يشبها عمل ولا تفكير ولا نية بالفحشاء والزنا.

وقد تقدم قول الإمام الرضا عليه السلام من العيون:2/170: (وأما قوله عز وجل في يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا، فإنها همت بالمعصية وهمَّ يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها والفاحشة، وهو قوله عز وجل: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ.(يوسف:

24) يعني القتل والزنا).

أما جواب من تخيل أن معني (همَّ بها) فكَّر بالمعصية، فهو:

أن معني فعل(همَّ به) في اللغة: أراد به الضرر، فإن وُجدت قرينة صُرف عن معناه بحسبها، وإلا بقي عليه. ومراودة زليخا ليوسف عليه السلام قرينةٌ علي أن معني (همَّتْ به) أرادته لنفسها، لكن لاقرينة توجب صرف (همَّ بها) في يوسف عليه السلام عن معناها الأصلي، فيبقي معناه: هم أن يضربها كما ورد به الحديث.

وينبغي الغلفات إلي أن نوع الضرر المقصود ب_(همَّ به)قد يُصَرَّح به كقوله تعالي: وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ،(التوبة:13)، وقد يعرف بالقرينة كقوله تعالي:يَحْلِفُونَ بِاللهِ مَاقَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا. (التوبة:74) أي بقتل النبي صلي الله عليه وآله كما دل الحديث.

وفي مسند أحمد:2/416 والبخاري3/61: (أن رجلاً أتي رسول الله يتقاضاه فأغلظ له قال فهمَّ به أصحابه، فقال: دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً). انتهي.

أي همَّ المسلمون بطرده أو ضربه أو إيذائه، حيث لم يرد أن المسلمين هموا بقتل أحد في حضور النبي صلي الله عليه وآله بدون أمره.

وفي البحار:30/85، في قصة يهودي مع أبي بكر: (فوقف عليه وقال: إني أريد أن أسألك عن أشياء لايعلمها إلا نبي أو وصي نبي. فقال أبو بكر: سل عما بدا لك؟ فقال اليهودي: أخبرني عما ليس لله وعما ليس عند الله وعما لايعلمه الله؟ فقال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة! يا يهودي أو في السماء شئ لا يعلمه الله؟ وهمَّ به المسلمون، وكان في القوم ابن عباس فقال: ما أنصفتم الرجل! قال أبو بكر: أوَما سمعت ما تكلم به؟! فقال ابن عباس: إن كان عندكم جواب، وإلا فاذهبوا به إلي من يجيبه، فإني سمعت

رسول الله صلي الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه...). انتهي.

فقوله (وهم به المسلمون) أي هموا بضربه، أو إيذائه.

علي أن قوله تعالي: لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ، كافٍ لتفسير معني همَّ بها، فمَن استخلصه الله تعالي لايمكن أن يهمَّ بالفحشاء!

وهنا يأتي دور فهم الفعل الإلهي في الإستخلاص وغيره، وأنه فعلٌ من عالم حكيم رحيم، بالعلم المطلق والحكمة المطلقة والرحمة الشاملة، فلا يصح أن نتصوره كأفعالنا القاصرة المحدودة!

وقد كشف لنا عز وجل أن استخلاصه عز وجل ليوسف عليه السلام يستوجب صرف السوء عنه، أي منع الغير من الإضرار به، وصرف الفحشاء عنه، أي جعل عقله وتقواه عليه السلام هما المسيطرين الحاكمين علي نوازعه الجسدية.

ولئن صح الإستثناء في صرف الله للسوء عن الأنبياءوالأوصياء عليهم السلام أو السماح به تجاههم لحِكَمٍ يعلمها سبحانه، فإن الإستثناء في صرف الفحشاء لايمكن، لأنه أمر يتعلق بفعل المستخلص فهومن لوازم الإستخلاص دائماً.

أما كيف تتم عصمة المستخلَص، فقد يكون من وسائلها (رصد الملائكة)، وقد يكون البرهان الذي أراه الله ليوسف عليه السلام أن الملك هتف به كما في الرواية.

وقد بيَّن الله تعالي أنه يستعمل رصد الملائكة لحفظ معلومة عن الغيب يخبر بها رسوله، فقال: قُلْ إن أدري أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أم يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ أحداً. إِلا مَنِ ارْتَضَي مِنْ رَسُولٍ فإنه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أن قَدْأَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَي كُلَّ شَئٍْ عدداً. (الجنّ:25-28)

والإستخلاص مقامٌ أعظمُ من حفظ ما يخبر به الله رسوله من الغيب، فلا بد أن تكون وسائل حفظ المستخلص

أكثر تفصيلاً من حفظ الغيب المخبر به.

هذا، وفي هذه الآيات أبحاث أخري لايتسع المجال لاستيفائها.

آيات الإجتباء تشبه آيات الإستخلاص

اجتبي الله آدم عليه السلام وعصمه

قال تعالي: وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَي. (طَهَ:121-122).

إبراهيم صلي الله عليه وآله أبو المجتبين وأبو الأنبياء

قال تعالي: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَداهُ إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. (النحل:120-121).

المجتبون الهداة عليهم السلام شخصيات وأسر هم قدوات البشرية

قال تعالي: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَي وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَي وَعِيسَي وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَي الْعَالَمِينَ. وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. ذَلِكَ هُدَي اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَي اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَإِلا ذِكْرَي لِلْعَالَمِينَ. (الأنعام:83-90).

وقال تعالي: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَي عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا. (مريم:58).

إجتباء يوسف عليه السلام وتعليمه من علم الغيب

وقال تعالي: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَي إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأحاديث وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَي آلِ

يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَي أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. (يوسف:5-6)

اجتباء بعض الأنبياء عليه السلام يعني رفع درجتهم

وقال تعالي: لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَمَذْمُومٌ. فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ. (القلم:49-50).

إجتباء المؤمنين مستمر في هذه الأمة بعد النبي صلي الله عليه وآله

قال الله تعالي: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّي بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَي وَعِيسَي أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَي الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ.(الشوري:13).

وقال تعالي: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَسَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَي النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَوةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَمَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَي وَنِعْمَ النَّصِيرُ. (الحج:77-78).

وقال تعالي: مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَي مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّي يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَي الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ. (آل عمران:179).

في مفردات الراغب ص87: (واجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم بلا سعي من العبد وذلك للأنبياءوبعض من يقاربهم من الصديقين والشهداء كما قال تعالي: وكذلك يجتبيك ربك. فاجتباه ربه فجعله من الصالحين. واجتبيناهم وهديناهم إلي صراط مستقيم. وقوله تعالي: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدي. وقال عز وجل: يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب. وذلك نحو قوله

تعالي: إنا أخلصناهم بخالصة ذكري الدار).

وفي أساس البلاغة لزمخشري ص172: (واجتباه: اختاره. مستعار منه لأن من جمع شيئاً لنفسه فقد اختصه واصطفاه، وهو من جبوة الله وصفوته). انتهي.

والإجتباء علي مقام عظيم لكنه أعم من الإستخلاص في موضوعه، لأنه يشمل غير الأنبياء والأوصياء عليهم السلام كالمؤمنين من هذه الأمة، قال تعالي: وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.

ولا بد أنه أعم من الإستخلاص في وسائله أيضاً، ولذلك لا يدل علي العصمة إلا بقرينة، كما في آدم وغيره من الأنبياء عليهم السلام.

ونكتفي بغيراد بعض الأحاديث في الإجتباء والمجتبيْن:

ففي الكافي:1/444: من خطبة للإمام الصادق عليه السلام:(فلم يمنع ربنا لحلمه وأناته وعطفه ما كان من عظيم جرمهم وقبيح أفعالهم، أن انتجب لهم أحب أنبيائه إليه وأكرمهم عليه محمد بن عبد الله صلي الله عليه وآله في حومة العز مولده، وفي دومة الكرم محتده، غير مشوب حسبه ولا ممزوج نسبه، ولا مجهول عند أهل العلم صفته، بشرت به الأنبياء في كتبها، ونطقت به العلماء بنعتها، وتأملته الحكماء بوصفها...الخ.)

وفي الكافي:8/370: (عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن إبراهيم عليه السلام كان مولده بكوثي ربا وكان أبوه من أهلها وكانت أم إبراهيم وأم لوط سارة وورقة أختين وهما ابنتان للاحج وكان لاحج نبياً م نذراً ولم يكن رسولاً،وكان إبراهيم في شبيبته علي الفطرة التي فطر الله عز وجل الخلق عليها، حتي هداه الله تبارك وتعالي إلي دينه واجتباه، وإنه تزوج سارة ابنة لاحج وهي ابنة خالته، وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة وأرض واسعة وحال حسنة، وكانت قد ملَّكت إبراهيم عليه السلام

جميع ما كانت تملكه، فقام فيه وأصلحه وكثرت الماشية والزرع حتي لم يكن بأرض كوثي ربا رجل أحسن حالاً منه).

وفي الإحتجاج:1/133، من خطبة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام قالت:

(وأشهد أن أبي محمداً عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالي بما يلي الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بموقع الأمور. ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمة علي إمضاء حكمه، وإنفاذاً لمقادير حتمه).

وفي تفسير الثعالبي:1/221: (قوله تعالي: وعصي آدم ربه فغوي، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدي. فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان، وقيل بل أكلها، وهو متأول، وهو لا يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها، لأنه تأول نهي الله تعالي عن شجرة مخصوصة لاعلي الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة، وقيل: تأول أن الله تعالي لم ينهه عنها نهي تحريم).

وفي تفسير الثعالبي:3/102: (وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس، ولم أقف بعد علي صحة ما روي في هذه القصص، ولو صح لوجب تأويله، نعم روي الترمذي عن سمرة بن جندب، عن النبي(ص)قال: لما حملت حواء، طاف بها إبليس وكان لايعيش لها ولد، فقال لها سميه عبد الحارث، فسمته عبد الحارث فعاش ذلك، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره! قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب انفرد به عمر بن إبراهيم عن قتادة، وعمر شيخ بصري. انتهي. وهذا الحديث ليس فيه أنهما أطاعاه، وعلي كل حال: الواجب التوقف والتنزيه لمن اجتباه الله وحسن التأويل ما أمكن، وقد قال ابن العربي في توهين هذا القول وتزييفه: وهذا القول ونحوه

مذكور في ضعيف الحديث في الترمذي وغيره، وفي الإسرائيليات التي ليس لها ثبات، ولا يعول عليها من له قلب، فإن آدم وحواء وإن كانا غرهما بالله الغرور فلا يلدغ المؤمن من حجر مرتين، وما كانا بعد ذلك ليقبلا له نصحاً ولا يسمعاً له قولا، والقول الأشبه بالحق: أن المراد بهذا جنس الآدميين). انتهي.

آيات نفي سلطان الشيطان علي المخلصين

قال الله تعالي: قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ. (الحجر:39-42).

وقال تعالي: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين. إِلاعِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.(ص:82-83).

وقال تعالي: قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فإن جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا. وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلا غُرُورًا. إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَي بِرَبِّكَ وَكِيلاً. (الإسراء:63-65).

وقال تعالي:فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَي الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَي رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إنما سُلْطَانُهُ عَلَي الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ. (النحل:98-100).

وقال تعالي: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا. لَعَنَهُ اللهُ وَقَالَ لاتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. (النساء:117-118).

وجه دلالتها علي العصمة

نصت الآيات الكريمة علي أن عباد الله المخلصين لاسبيل للشيطان عليهم، وهذا يعني عصمتهم. أما الإشكالات التي قد تورد علي هذا الإستدلال فهي مردودة، وهذه خلاصة لها ولأجوبتها:

الأول: أن مصادر الشر ثلاثة: الشيطان والنفس والناس، فنفي تأثير الشيطان عن إنسان لايعني نفي تأثير مصادر الشر الأخري، فيبقي في معرض المعصية.

وجوابه: أن المفهوم من آيات نفي تأثير الشيطان وأحاديثها، أن هذه الدرجة لاتعطي لإنسان إلا بعد أن يكون غالباً لهواه قوياً إمام تأثير الناس، فبها تكتمل نعمة الله علي الإنسان المخلَص بالعصمة. وسنورد طرفاً من أحاديثها.

والإشكال الثاني: أن نفي سلطان الشيطان في قوله تعالي: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ، وقوله تعالي: إِلاعِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، يعني نفي سلطنته الكاملة علي سلوك الإنسان ولاينفي بقاء تأثيره إلي حد،

وهذا ينافي العصمة.

وجوابه: أن الله تعالي نفي سلطان الشيطان عن جميع الناس في قوله تعالي: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ، (ابراهيم:22) وقوله تعالي: فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ.. (سبأ:20-21). ثم نفاه في الآية عن عباد الله الخاصين المستخلصين، فدل ذلك علي أنه معناه نفي مطلق التأثير، وإلا لكان تخصيصه بعباده الخاصين لغواً.

والإشكال الثالث:أن عبادي في قوله تعالي: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (الحجر:42والإسراء:65)، لاتعني عباد الله الخاصين بل كل العباد، فلا تبقي ميزة للمخلصين في نفيها عنهم لتدل علي امتيازهم بها، فضلاً عن عصمتهم.

قال صاحب الميزان:12/166: (فإذا أمعنت في الآية وجدتها ترد علي إبليس قوله لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين، من ثلاث جهات أصلية:

إحداها، أنه حصر عباده في المخلصين منهم ونفي عنهم سلطان نفسه وعمم سلطانه علي الباقين. والله سبحانه عمم عباده علي الجميع، وقصر سلطان إبليس علي طائفة منهم، وهم الذين اتبعوه من الغاوين، ونفي سلطانه علي الباقين.

والثانية، أنه لعنه الله ادعي لنفسه الإستقلال في إغوائهم كما يظهر من قوله لأغوينهم في سياق المخاصمة والتقريع بالإنتقام. والله سبحانه يرد عليه بأنه منه مزعمةٌ باطلة وإنما هو عن قضاء من الله وسلطان بتسليطه، وإنما ملكه إغواء من اتبعه وكان غاوياً في نفسه وبسوء اختياره، فلم يأت إبليس بشئ من نفسه، ولم يفسد أمراً علي ربه، لا في إغوائه أهل الغواية فإنه بقضاء من الله سبحانه أن يستقر لأهل الغواية غيهم بسببه.

وقد اعترف لعنه الله بذلك بعض الإعتراف بقوله رب بما أغويتني ولا في استثنائه المخلصين فإنه أيضاً بقضاء من الله نافذ

فلا حكم الا لله. وهذا الذي تفيده الآية الكريمة أعني تسليط إبليس علي إغواء الغاوين الذين هم في أنفسهم غاوون وتخليص المخلصين وهم مخلصون في أنفسهم من كيده، كل ذلك بقضاء من الله مبني علي أصل عظيم يفيده التوحيد القرآني المفاد بأمثال قوله تعالي: إن الحكم إلا لله،(يوسف:67) وقوله: وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولي والآخرة وله الحكم، (القصص:70) وقوله: الحق من ربك (آل عمران:60) وقوله: ويحق الله الحق بكلماته، (يونس:82)، وغير ذلك من الآيات الدالة علي أن كل حكم إيجابي أو سلبي فهو مملوك لله نافذٌ بقضائه.

ومن هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله: إلا من اتبعك من الغاوين، من المسامحة فإنهم قالوا إنه إذا قبل من إبليس واتبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدي إلي ما يدعوه إليه من الغي، وظاهره أنه سلطان قهري يحصل لإبليس عن سوء اختيارهم ليس من عند نفسه، ولا بجعل من الله سبحانه.

وجه الفساد: أن فيه أخذ الإستقلال والحول الذاتي من إبليس وإعطاؤه ذوات الأشياء، ولو كان إبليس لايملك شيئاً من عند نفسه وبغير إذن ربه، فالأشياء والأمور أيضاً لاتملك لنفسها شيئاً ولا حكماً حتي الضروريات ولوازم الذوات، إلا بإذن من الله وتمليك فافهمه.

والثالثة، إن سلطانه علي إغواء من يغويه وإن كان بجعل وتسليط من الله سبحانه، إلا أنه ليس بتسليط علي الإغواء والإضلال الإبتدائي غير الجائز إسناده إلي ساحته سبحانه، بل تسليط علي الإغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم وفي أنفسهم. والدليل علي ذلك قوله تعالي: إلا من اتبعك من الغاوين فإبليس إنما يغوي من اتبعه بغوايته، أي أن الإنسان يتبعه بغوايته أولاًفيغويه هو ثانياً، فهناك غواية بعدها إغواء

والغواية إجرام من الإنسان والإغواء بسبب إبليس مجازاة من الله سبحانه. ولو كان هذا الإغواء إغواء ابتدائياً من إبليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو الأليق باللوم دون الإنسان، كما يذكره يوم القيامة علي ما يحكيه سبحانه بقوله: وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم. إبراهيم: 22، فاللوم علي الإنسان المجرم وهو مسؤول عن معصيته دون إبليس. نعم إبليس ملوم علي ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره وهو الإغواء الذي سلطه الله عليه، مجازاةً لما امتنع من السجود لآدم لما أمر به. فالإغواء هو الذي استقرت ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول: إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون، الأعراف: 27، وقال تعالي وهو أوضح ما يؤيد جميع ما قدمناه: كتب عليه انه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلي عذاب السعير.(الحج:4).). انتهي.

وجوابه: أن كلمة عبادي في الآية وأمثالها كقوله تعالي:يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إرْجِعِي إلي رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي. (الفجر:27-30) تعني عباد الله الخاصين، وإضافة العباد اليه تعالي إضافة تشريف من قبيل (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) (الحجر:29) فهي روح مخلوقة نسبها الله سبحانه إلي نفسه. كما نسب البيت الحرام والمسجد اليه.

وقد أجمع المفسرون واللغويون وأحاديث النبي وآله صلي الله عليه وآله علي ذلك، لكن الأمر اشتبه علي صاحب الميزان رحمه الله فعمم كلمة عبادي! لأنه تصور أن تخصيصها يعطي لإبليس سلطاناً علي الباقين، وهذا ينافي توحيد الله تعالي بالفاعلية، وينافي قانون حرية الإنسان ومسؤوليته عن عمله.

والصحيح أنه لايلزم شئ من ذلك. أما السلطان الذي أعطي لإبليس ونصَّ عليه الله تعالي بقوله: إِنَّمَا

سُلْطَانُهُ عَلَي الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ.(النحل:100) وقوله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ. (الحجر:42). فلم يقل أحد إنه سلطان ابتدائي بلا أرضية من نياتهم وعملهم تجعلهم مستحقين لتسلطه عليهم، فيزدادون غواية إلي غوايتهم، ومعني نفي سلطانه عن عباد الله الخاصين أنهم بلطف ربهم لاتوجد فيهم أرضية استعمار للشيطان.

فقوله رحمه الله: (وجه الفساد: أن فيه أخذ الإستقلال والحول الذاتي من إبليس وإعطاؤه ذوات الأشياء، ولو كان إبليس لايملك شيئاً من عند نفسه وبغير إذن ربه، فالأشياء والأمور أيضاً لاتملك لنفسها شيئاً ولا حكماً حتي الضروريات ولوازم الذوات، إلا بإذن من الله وتمليك) انتهي.

هذا القول، يصلح رداً علي الثنوية القائلين بشراكة إبليس مع الله تعالي، أو علي الماديين القائلين بألوهية الأسباب والأشياء أو شراكتها مع الله تعالي!

أما الأحاديث وعامة المفسرين الذين فسروا الآية بوجود سلطان ما للشيطان علي قسم من الناس، وعدم وجوده علي عباد الله الخاصين، فإنما قصدوا سلطانه الذي نص عليه الله تعالي، وهو سلطان مترتب علي غواية الإنسان نفسه وليس في عرضها، وسلطان تحت سيطرة الله تعالي وليس في عرضها.

والإشكال الرابع: أن تفسير الآية بعصمة المخلَصين، ونفي سلطان الشيطان وكل أنواع تأثيره عليهم، يستوجب نفي نزغه ووسوسته ومسِّه لهم، مع أن القرآن نص علي وسوسة الشيطان لآدم وزوجه فقال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَي شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَي. (طَهَ:20).

وقال: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلي حِينٍ. (البقرة:36).

ووصف آدم وحواء بأنهما تأثرا بوسوسة الشيطان: فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ

وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي. (ط_ه:121). ونص علي مسِّ الشيطان لأيوب عليه السلام فقال: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أيوب إِذْ نَادَي رَبَّهُ إني مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابِ. اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ. (صاد:41-42).

ووصف يوسف بأنه أنساه الشيطان فقال: وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا أذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ. (يوسف:42).

ووصف إنساءه لموسي عليه السلام فقال: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إلي الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. (الكهف:63). ووصف قتل موسي عليه السلام لعدوه بأنه من عمل الشيطان، فقال: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَي حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أهلها فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلأن هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَي فَقَضَي عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ أنه عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ أنه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (القصص:15-16).

وأخبر أن النبي صلي الله عليه وآله قد يصيبه نزغٌ من الشيطان، وطائفٌ منه فقال له: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ أنه هُوَالسَّمِيعُ الْعَلِيمُ. (فُصِّلَتْ:36).

وقال له: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إنهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ. (الأعراف:201).

وقال له: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّي يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.(الأنعام:68).

وجوابه: مع ما سنذكره من تفسير الآيات، أنا لو سلمنا أن الشيطان يمكنه أن يوسوس أو ينزغ أو يمس المعصوم عليه السلام، فلا يدل ذلك علي تأثيره عليه وتسبيبه وقوعه في المعصية،

فلا يقدح في عصمته.

فالنزغ هو محاولة تخريب الأمر، قال الراغب ص488: (النزغ دخول في أمر لإفساده، قال: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي). انتهي. فالسماح له بالنزغ لايعني تأثيره علي المعصوم عليه السلام إلي حد إيقاعه في المعصية.

ومسُّ الشيطان يعني أذاه أو محاولته الأذي، ولا يدل أيضاً علي تسبيبه وقوع المعصوم في المعصية، قال الراغب ص467: (المس كاللمس لكن اللمس قد يقال لطلب الشئ، وإن لم يوجد كما قال الشاعر: وألمسه فلا أجده. والمس يقال فيما يكون معه إدراك بحاسة اللمس. وكنَّي به عن النكاح فقيل: مسها وماسها....وكني بالمس عن الجنون قال:كالذي يتخبطه الشيطان من المس. والمس يقال في كل ما ينال الإنسان من أذي نحو قوله: وقالوا لن تمسنا النار. مستهم البأساء والضراء. ذوقوا مس سقر. مسني الضر. مسني الشيطان. مستهم إذا لهم مكر في آياتنا. وإذا مسكم الضر). انتهي.

وكذلك الوسوسة، فهي تعني أن الشيطان يُحدث في ذهن الإنسان خطورات رديئة، ولو سلمنا إمكان ذلك في ذهن المعصوم فلا نسلم أن المعصوم عليه السلام يخضع لها بل يطردها. قال الراغب ص522: (الوسوسة: الخطرة الرديئة، وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي، قال: فوسوس إليه الشيطان. وقال: من شر الوسواس. ويقال لهمس الصائد: وسواس). انتهي.

علي أن التفسير الذي افترضه الإشكال للآيات غير دقيق، وقد تقدم جواب الإمام الرضا عليه السلام عن وسوسة الشيطان لآدم وحواء عليهما السلام ومعصيتهما وأنها كانت في الجنة وليست في الأرض، قال عليه السلام:(فإن الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض، وعصمته يجب أن تكون في الأرض لتتم

مقادير أمر الله، فلما أهبطه إلي الأرض وجعله حجة وخليفة عصمه بقوله عز وجل: إن الله اصْطَفَي آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إبراهيم وَآلَ عِمْرَانَ عَلَي الْعَالَمِينَ. (آل عمران: 33) انتهي.

وفي مسند الإمام الرضا عليه السلام:2/125: (وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز علي الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم، فلما اجتباه الله تعالي وجعله نبياً كان معصوماً، لا يذنب صغيرة ولا كبيرة، قال الله عز وجل:وعصي آدم ربه فغوي ثم اجتباه ربه، فتاب عليه فهدي). انتهي.

أقول: إن صح الحديث بأن الأنبياء عليهم السلام غير معصومين عن الصغائر قبل البعثة فهو يصح في بعضهم كآدم عليه السلام، ولا يصح في كبارهم كنبينا وأوصيائه صلي الله عليه وآله، لأنه ثبت أن عصمتهم اعلي درجة من عصمة جميع الأنبياء عليهم السلام.

وأما قول أيوب عليه السلام: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أيوب إِذْ نَادَي رَبَّهُ إني مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابِ، فلا يدل علي تأثيره عليه في معصية، بل هو كقوله تعالي: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَي رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.(الأنبياء:83).

قال في مجمع البيان:8/364: (أي بتعب ومكروه ومشقة. وقيل: بوسوسة فيقول له: طال مرضك ولا يرحمك ربك، عن مقاتل. وقيل: بأن يذكره ما كان فيه من نعم الله تعالي من الأهل والولد والمال، وكيف زال ذلك كله، وحصل فيما هو فيه من البلية، طمعاً أن يزله بذلك، ويجد طريقاً إلي تضجره وتبرمه فوجده صابراً مسلماً لأمر الله).انتهي.

وأما قوله تعالي: أذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ، فمعناه أن يوسف عليه السلام قال للناجي من السجن: أذكرني عند سيدك، أي عزيز مصر، فنسي الناجي أن يذكره عنده، فلا علاقة له بإنساء الشيطان ليوسف عليه السلام.

وأما قوله تعالي: وَمَا أَنْسَانِيهُ

إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، فالذي أنساه الشيطان أن يذكر قصة الحوت لموسي عليه السلام، هو فتاه المرافق له، وليس موسي عليه السلام.

وقال في الميزان:13/31: (ولاضير في نسبة الفتي نسيانه إلي تصرف من الشيطان بناء علي أنه كان يوشع بن نون النبي والأنبياءفي عصمة إلهية من الشيطان، لأنهم معصومون مما يرجع إلي المعصية، وأما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلي معصية فلا دليل يمنعه قال تعالي: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَي رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ). انتهي.

وأما قوله تعالي عن موسي عليه السلام: قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان، فقد تقدم جواب الإمام الرضا عليه السلام للمأمون:(إن موسي دخل مدينه من مدائن فرعون عَلَي حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أهلها، وذلك بين المغرب والعشاء، فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلأن هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَي الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ، فقضي موسي علي العدو، وبحكم الله تعالي ذِكْره فَوَكَزَهُ، فمات! قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان، يعني الإقتتال الذي كان وقع بين الرجلين، لا ما فعله موسي عليه السلام من قَتْلِهِ. أنه عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ، يعني الشيطان. فقال المأمون: فما معني قول موسي: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؟ قال: يقول: إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه المدينة، فَاغْفِرْ لِي، أي أسترني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني، فَغَفَرَ لَهُ أنه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قال موسي عليه السلام: قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ، من القوة حتي قتلت رجلاً بوكزة، فَلَنْ أكون ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ، بل أجاهد سبيلك بهذه القوة حتي ترضي.فَأَصْبَحَ موسي عليه السلام فِي الْمَدِينَةِ خَائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ علي آخر، قَالَ لَهُ مُوسَي إنك لَغَوِيٌّ مُبِينٌ، قاتلت رجلاً بالأمس

وتقاتل هذا اليوم، لأوذينك، وأراد أن يبطش به فَلَمَّا أن أراد أن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا وهو من شيعته قَالَ يَا مُوسَي أَتُرِيدُ أن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نفساً بِالأَمْسِ أن تُرِيدُ إلا أن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ.

قال المأمون: جزاك الله عن أنبيائه خيراً يا أبا الحسن، فما معني قول موسي لفرعون: فَعَلْتُهَا إذا وأنا مِنَ الضَّالِّينَ؟قال الرضا عليه السلام: إن فرعون قال لموسي لما أتاه: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ، بي! قال موسي: فَعَلْتُهَا إذا وأنا مِنَ الضَّالِّينَ، عن الطريق بوقوعي إلي مدينه من مدائنك، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ، وقد قال الله عز وجل لنبيه محمد صلي الله عليه وآله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَي، يقول: ألم يجدك وحيداً فآوي إليك الناس. وَوَجَدَكَ ضَالاً، يعني عند قومك، فَهَدَي، أي هداهم إلي معرفتك. وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَي، يقول: أغناك بأن جعل دعاءك مستجاباً). (العيون:2/177والإحتجاج:2/218).

وأما مجرد خطاب الله تعالي لنبيه صلي الله عليه وآله في الآيتين: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ، وقوله له: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، فهو من باب مخاطبة المسلمين من خلال النبي صلي الله عليه وآله، ولايدل علي أن النبي صلي الله عليه وآله في معرض النزغ والإنساء من الشيطان.

فتبين بذلك، أن كل ما يتصور أنه تسليط للشيطان علي المعصومين صلوات الله عليهم، لا يصحُّ، وإن صحَّ فهو محدودٌ لايؤدي إلي وقوعهم في المعصية، فتبقي آية: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ (الحجر:42والإسراء:65)، علي ظهورها في تحقق عصمتهم، ومنع تأثيره عليهم عليهم السلام.

الحكمة من نزول آيات متشابهة في عصمة الأنبياء

سؤال يرد في الذهن: لماذا

جعل الله تعالي بعض الآيات المتعلقة بعصمة أنبيائه عليهم السلام من المتشابهات التي توهم وقوعهم في المعاصي؟

والجواب: نعم، لقد تضمنت الآيات المتعلقة بسلوك الأنبياء عليهم السلام آيات محكمة كقوله تعالي عن نبينا صلي الله عليه وآله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي.إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَي، والذي يعصم الله منطقه فلا يفتح فمه عن كلمة إلا بوحي وعصمة إلهية، لايمكن أن يصدر منه فعلٌ ولا حركةٌ ولا سكونٌ إلا بعصمة إلهية!

وفي نفس الوقت توجد آيات تُوهم وقوعه في الذنب والمعصية كقوله تعالي: لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. (الفتح: 2). والحكمة المتصورة من ذلك:

أولاً، لعله سبحانه أراد أن يؤكد بشريتهم حتي لايعبدوا من دونه، وأن يبين أن عصمتهم الكاملة محاطة بغلاف وحجاب. ويؤيد ذلك ما رواه الطوسي في كتاب الغيبة ص324، قال رحمه الله (وأخبرني جماعة، عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني رحمه الله قال: كنت عند الشيخ أبي القإسم الحسين بن روح رضي الله عنه مع جماعة منهم علي بن عيسي القصري، فقام إليه رجل فقال: إني أريد أن أسألك عن شئ؟ فقال له: سل عما بدا لك، فقال الرجل: أخبرني عن الحسين عليه السلام أهو وليُّ الله؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن قاتله لعنه الله أهو عدو الله؟ قال: نعم، قال الرجل: فهل يجوز أن يسلط الله عز وجل عدوه علي وليه؟

فقال له أبو القإسم قدس سره: إفهم عني ما أقول لك، إعلم أن الله تعالي لا يخاطب الناس بمشاهدة العيان، ولا يشافههم بالكلام، ولكنه جلت عظمته يبعث إليهم رسلاً من أجناسهم

وأصنافهم بشرا مثلهم، ولو بعث إليه رسلاً من غير صفتهم وصورهم لنفروا عنهم ولم يقبلوا منهم، فلما جاؤوهم وكانوا من جنسهم يأكلون ويمشون في الأسواق قالوا لهم: أنتم مثلنا لا نقبل منكم حتي تأتوا بشئ نعجز عن أن نأتي بمثله فنعلم أنكم مخصوصون دوننا بما لا نقدر عليه، فجعل الله عز وجل لهم المعجزات التي يعجز الخلق عنها.

فمنهم من جاء بالطوفان بعد الإعذار والإنذار، ففرق جميع من طغي وتمرد.

ومنهم: من ألقي في النار فكانت عليه برداً وسلاماً.

ومنهم: من أخرج من الحجر الصلد الناقة وأجري من ضرعها لبناً.

ومنهم: من فلق له البحر، وفجر له من الحجر العيون، وجعل له العصا اليابسة ثعباناً تلقف ما يأفكون.

ومنهم: من أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتي بإذن الله، وأنبأهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم.

ومنهم: من انشق له القمر وكلمته البهائم مثل البعير والذئب وغير ذلك.

فلما أتوا بمثل ذلك وعجز الخلق من أممهم أن يأتوا بمثله، كان من تقدير الله جل جلاله ولطفه بعباده وحكمته، أن جعل أنبياءه مع هذه المعجزات في حال غالبين وأخري مغلوبين، وفي حال قاهرين وأخري مقهورين، ولو جعلهم عز وجل في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين، ولم يبتلهم ولم يمتحنهم، لاتخذهم الناس آلهة من دون الله عز وجل! ولما عُرف فضل صبرهم علي البلاء والمحن والإختبار! ولكنه جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم، ليكونوا في حال المحنة والبلوي صابرين، وفي حال العافية والظهور علي الأعداء شاكرين، ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين ولا متجبرين، وليعلم العباد أن لهم عليهم السلام إلهاً هو خالقهم ومدبرهم، فيعبدوه ويطيعوا رسله، ويكونوا حجة لله ثابتة علي من تجاوز الحد فيهم وادعي لهم الربوبية،

أو عاند وخالف وعصي وجحد بما أتت به الأنبياء والرسل، لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَي مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ! قال محمد بن إبراهيم بن إسحاق رضي الله عنه: فعدت إلي الشيخ أبي القإسم الحسين بن روح قدس سره من الغد، وأنا أقول في نفسي: أتراه ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟! فابتدأني فقال: يا محمد بن إبراهيم لئن أخرَّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح من مكان سحيق، أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي! بل ذلك من الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه). (ورواه في الاحتجاج:2/284).

ثانياً، ابتلاء المسلمين لكي يتوفق بعضهم فينفذ من حجاب المتشابه ويصل إلي نور المحكم، ويبقي المتخلف يعيش في خطأ تصوره عن مقام النبي صلي الله عليه وآله.

معجزة الجغرافية القرآنية

لماذا تكلم القرآن في هذا الموضوع، ولم يتكلم في ذاك؟

ولماذا تكلم في هذا مرتين، وفي ذاك مرة واحدة؟

وأطال في هذا، واختصر في ذاك؟

وأجمل في هذا، وبين في ذاك؟

وذكر هؤلاء بأسمائهم، ولم يذكر أولئك؟

واستعمل التصريح هنا، والكناية هنا؟

وقال هنا كذا، وهناك كذا؟

وهذا الأسلوب، وذاك الأسلوب، وهذا التعبير وذاك، وهذه الكلمة وتلك؟

ولماذا أقيم بناؤه علي المحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمجمل والمبين والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ؟

الجواب علي ذلك: أن القرآن بناءٌ ربانيُّ يحير عنده الذهن، ويخشع له العقل! وكما يتميز عن كل ما قرأت وسمعت ببلاغته، فكذلك بمقاصده وأهدافه!

لقد أتقن الله تعالي بناء القرآن بدقة متناهية وإعجاز كبناء السماء! (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ). (سورة الواقعة: 75_77)

والتناسب القرآني بين عناصر

القسم يدل علي التشابه في دقة بناء السماء ومواقع نجومها، ودقة سور القرآن وآياته وكلماته وحروفه!

وإلي اليوم لم يكتشف العلماء من بناء الكون إلا القليل، وكلما اكتشفوا جديداً خضعت أعناقهم لبانيه عز وجل! ولم يكتشفوا من بناء القرآن إلا القليل، وكلما اكتشفوا منه جديداً خضعت أعناقهم لمعماره عز وجل!!

والحديث التالي يكشف لنا عجائب في البناء القرآني، ففي دعائم الإسلام:2/ 146:

(عن علي عليه السلام قال: اعتلَّ الحسين فاشتد وجعه، فاحتملته فاطمة فأتت به النبي صلي الله عليه وآله مستغيثة مستجيرة فقالت: يارسول الله أدع الله لابنك أن يشفيه، ووضعته بين يديه، فقام صلي الله عليه وآله حتي جلس عند رأسه، ثم قال: يا فاطمة يا بنية، إن الله هو الذي وهبه لك، هو قادر علي أن يشفيه. فهبط علي جبرئيل فقال: يا محمد، إن الله لم ينزل عليك سورة من القرآن إلا فيها فاء وكل فاء من آفة، ما خلا (الحمد لله) فإنه ليس فيها فاء، فادع بقدح من ماء فاقرأ فيه الحمد أربعين مرة ثم صبه عليه فإن الله يشفيه، ففعل ذلك فكأنما أنشط من عقال)! (وجامع أحاديث الشيعة:15/83).

يعني ذلك: أن ما يبدو لنا من القرآن عادياً بسبب سذاجتنا، كله تابعٌ لحساب بل حسابات، إلهية لا بشرية، وأن هذه الحروف الثمانية والعشرين في القرآن عوالم من الرياضيات والعلوم والحقائق، وليست حروف كتاب بشري!

فوجود الحرف له دلالة بل دلالات، وعدم وجوده، وعدده، وتوزيعه في الآية، وفي السورة، وفي كل القرآن!

الله أكبر.. فحيثما كانت الفاء في سورة أو موضوع، فهي تدل علي وجود آفة! وحيثما وجدت الباء، والسين، وكل الحروف، تدل علي حقائق أخري!

ثم ما معني الآفة؟ وما معني خلو

سورة الحمد منها؟ وما معني قراءة كلام الله الذي ليس فيه آفة علي قدح ماء؟ وماذا يؤثر تكرار القراءة؟ وهل يتغير تركيب الماء بذلك؟ ثم هل تؤثر فيزياؤه المطورة في بدن المريض وتذهب منه الآفة؟!

من المؤكد أنه يوجد ارتباط بين النظام الفيزيائي والروحي للكون، وبين نظام القرآن، وأن للقرآن إمكانات تأثير متنوعة علي عالمي الروح والمادة، هي لون أو ألوان من فاعليات الله تعالي في الكون، لأن القرآن كلامه سبحانه!

ومن المؤكد أن النبي صلي الله عليه وآله أعطي من معرفة ذلك أقصي ما يمكن أن يعطاه إنسان ويحتمله، لأنه صلي الله عليه وآله أفضل بني الإنسان، بل أفضل المخلوقات والمصطفي منها جميعاً، ولقد أجاد الشاعر الأزري بقوله:

قلَّبَ العالمين ظهراً لبطنفرأي ذات أحمد فاصطفاه

ولكن النبي صلي الله عليه وآله لم يكن يستعمل ذلك إلا بأمر الله تعالي أو إجازته، وهذه قضية مهمة في شخصيته وسلوكه صلي الله عليه وآله، حيث أعطي وسائل العمل الإعجازي، ومع ذلك كان يعمل في كل أموره بالأسباب والقوانين الطبيعية العادية، ولا يستعمل الإعجاز إلا عندما يؤمر، أو عند (الضرورة).

إن الفرق بينه وبين موسي والخضر أن الخضر أعطي العلم اللدني أو علم الباطن فهو يعمل بموجبه، وموسي أعطي الشريعة أو علم الظاهر فهو يعمل بموجبها. أما نبينا صلي الله عليه وآله فقد أعطي العلمين معاً، ولكنه يعمل بالظاهر إلا عندما يؤمر أو عند الضرورة! وهذه هي سنة الله تعالي، فهو لا يطلع علي غيبه أحداً إلا من ارتضاه، ولا يرتضيه حتي يستوعب مسألة العمل بالقوانين الطبيعية والغيبية ويسلم لإرادة الله فيها! ثم يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا!

والقرآن أكبر، أو من أكبر، تلك الوسائل التي

أعطاها الله تعالي لنبيه صلي الله عليه وآله، وقد كان له ترتيب نزل به منجماً في بضع وعشرين سنة، وكان يؤدي فيه إدارة أحداث النبوة وصناعة الأمة وتوجيه النبي والأمة، وتسجيل كل ذلك للأجيال. ثم صار له ترتيب ككتاب تقرؤه الأجيال، كتاب له مقدمة وفصول وفقرات. أحدث من كل ما أنتجه وينتجه المؤلفون في منهجة التأليف والأسلوب!

فما المانع أن يكون للقرآن ترتيب ثالث، ورابع، وخامس، أملاه النبي صلي الله عليه وآله علي علي عليه السلام وادخره عنده مع وصيته المحفوظة وعهده المعهود إلي ولده المهدي الذي بشر به الأمة والعالم؟ والذي يظهر الله علي يديه صدق دين جده علي الدين كله، فتخضع لبراهينه العقول والأعناق!

أرواحنا فداه وعجل الله ظهوره.

وإذا كان نظام حروف القرآن كذلك، فما قولك في جغرافيته العلمية، وما ذكره الله فيه وما لم يذكره، ومحكمه ومتشابهه، ومجمله ومبينه...؟!

العصمة و قاعدة اللطف

معني العصمة في القرآن واللغة والحديث

وردت العصمة في القرآن بمعني المنع من عذاب الله في الدنيا: (قَالَ سَآوِي إلي جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لاعَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلا مَنْ رَحِمَ) (هود:43).

والمنع من عذابه في الآخرة: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً. (الأحزاب:17). وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ (يونس:27). والأعم منهما: يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عَاصِمٍ. (غافر:33).

وفي الإمتناع عن الحرام: وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ. (يوسف:32).

أما قوله تعالي: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ. (المائدة:67)، فقد بينا في كتاب (آيات الغدير) أن العصمة فيها ليست بمعني عصمة

الأنبياء المصطلحة، فهي عصمة من الناس وليست عصمة عن المعاصي، وقد نزلت في آخر سورة قبل وفاة النبي صلي الله عليه وآله بنحو ثمانين يوماً، و كان صلي الله عليه وآله قبلها معصوماً عن المعاصي.

فلا بد أن يكون المقصود فيها عصمته صلي الله عليه وآله من أن يطعن الناس بنبوته أو يرتدوا عن الإسلام، إن بلغ ما أنزل اليه في علي عليه السلام.

وقال الراغب في مفرداته: (العَصْمُ: الإمساك، والإعتصام: الإستمساك...والعصام ما يعصم به أي يشد. وعصمة الأنبياء عليهم السلام حفظه إياهم أولاً بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية والنفسية، ثم بالنصرة وبتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم، وبحفظ قلوبهم وبالتوفيق، قال تعالي: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.

قال الخليل في كتاب العين: العصمة أن يعصمك الله من الشر، أي يدفع عنك. واعتصمت بالله أي امتنعت به من الشر، واستعصمت أي أبيت، وأعصمت أي لجأت إلي شئ اعتصمت به... وأعصمت فلاناً: هيأت له ما يعتصم به. والغريق يعتصم بما تناله يده، أي: يلجأ إليه... والعصمة: المنع. يقال عصمه الطعام، أي منعه من الجوع. والعصمة: الحفظ. يقال: عصمته فانعصم. واعتصمت بالله، إذا امتنعت بلطفه من المعصية). انتهي

وفي الفروق اللغوية ص464: الفرق بين اللطف والتوفيق: أن اللطف هو فعل تسهل به الطاعة علي العبد، ولا يكون لطفاً إلا مع قصد فاعله وقوع ما هو لطف فيه من الخير خاصة، فأما إذا كان ما يفعل عنده قبيحاً وكان الفاعل له قد أراد ذلك، فهو انتقاد وليس بلطف.

والتوفيق فعل ما تتفق معه الطاعة، وإذا لم تتفق معه الطاعة لم يسم توفيقاً ولهذا قالوا إنه لايحسن الفعل...

واللطف قد يتقدم الفعل بأوقات

يسيرة يكون له معها تأثير في نفس الملطوف له، ولا يجوز أن يتقدمه بأوقات كثيرة حتي لايكون له معها في نفسه تأثير، فكل توفيق لطف وليس كل لطف توفيقاً....

والعصمة هي اللطيفة التي يمتنع بها عن المعصية إختياراً، والصفة بمعصوم إذا أطلقت فهي صفة مدح وكذلك الموفق، فإذا أجري علي التقييد فلا مدح فيه، ولا يجوز أن يوصف غير الله بأنه يعصم.

ويقال عصمه من كذا ووفقه لكذا ولطف له في كذا، فكل واحد من هذه الأفعال يعدَّي بحرف، وهاهنا يوجب أيضاً أن يكون بينهما فروق من غير هذا الوجه الذي ذكرناه، وشرح هذا يطول فتركته كراهة الإكثار. وأصولهما في اللغة واشتقاقاتهما أيضاً توجب فروقا من وجوه أخر فاعلم ذلك).

وفي مجمع البحرين:1/241: (روي أن إبليس لعنه الله تمثل ليحيي عليه السلام فقال له: أنصحك. قال: لا أريد ذلك ولكن أخبرني عن بني آدم. قال: هم عندنا علي ثلاثة أصناف: صنف منهم وهم أشد الأصناف عندنا نقبل علي أحد منهم نفتنه عن دينه ونتمكن منه ثم يفزع إلي الإستغفار والتوبة فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك حاجتنا فنحن معه في عناء. وأما الصنف الآخر منهم فهم في أيدينا كالكرة في أيدي صبيانكم نتلقفهم كيف شئنا، قد كفونا مؤنة أنفسهم!

وأما الصنف الثالث فهم معصومون لا نقدر منهم علي شئ).

وفي مجمع البحرين:3/393: (وفي الحديث: ما اعتصم عبدٌ من عبادي بأحد من خلقي إلا قطعت أسباب السماوات من يديه وأسخت الأرض من تحته. قال بعض الشارحين: هاتان الفقرتان كناية عن الخيبة والخسران. وفيه: أعوذ بك من الذنوب التي تهتك العصم، وهي كما روي عن الصادق عليه السلام: شرب الخمر، واللعب بالقمار، وفعل ما يضحك الناس

من المزاح واللهو، وذكر عيوب الناس، ومجالسة أهل الريب.

والمعصوم: الممتنع من جميع محارم الله، كما جاءت به الرواية.

وعن علي بن الحسين عليه السلام الإمام منا لايكون إلا معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فتعرف، قيل: فما معني المعصوم؟ قال: المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، لا يفترقان إلي يوم القيامة، والإمام يهدي إلي القرآن والقرآن يهدي إلي الإمام، وذلك قوله تعالي.(أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم). وفي الدعاء إن عصمة أمري كذا، أي وقايتي وحافظي من الشقاء المخلد. واعتصمت بالله: امتنعت به. وفي حديث رسول الله صلي الله عليه وآله:أربع من كن فيه كان في نور الله الأعظم وعد، منها: من كان عصمة أمره شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله " أي ما يعصم من المهلك يوم القيامة. والمعني: من كانت الشهادتان ويعني بهما الإيمان، عصمة ووقاية له من المعاصي تحجزه وتمنعه من اقتراف سخط الله وسخط رسوله. ومنه قول أبي طالب: ثمال اليتامي عصمة للأرامل، أي حفظ لهم ووقاية يمنعهم من الضياع والحاجة).

وفي نهج البلاغة:2/49:(وعليكم بكتاب الله، فإنه الحبل المتين والنور المبين، والشفاء النافع، والري الناقع والعصمة للمتمسك والنجاة للمتعلق، لايعوج فيقام، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تخلقه كثرة الرد، وولوج السمع).

وفي نهج البلاغة:2/23: (وإنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم، فكيف بالعائب الذي عاب أخاً وعيره ببلواه...).

وفي الصحيفة السجادية ص90: (اللهم صل علي محمد وآله، وقني من المعاصي، واستعملني بالطاعة، وارزقني حسن الانابة، وطهرني بالتوبة، وأيدني بالعصمة، واستصلحني بالعافية، وأذقني حلاوة المغفرة). انتهي.

وقد تقدم قول الإمام الصادق عليه السلام

في تعريف المعصوم: (المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله، وقال الله تبارك وتعالي: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إلي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ). (معاني الأخبار: ص132).

وفي الصراط المستقيم:1/116: قالوا: معصوم إسم مفعول، فيكون مجبوراً علي ترك العصيان في كل آن ولافخر في ذلك علي إنسان. قلنا: العصمة الملجئة من الله إنما هي من الغلط والنسيان وأما العصمة التي لايقع منها عصيان فهي لطف يفعله الله، لايوجب الإجبار، بل يجامع الإختيار، والإنسان يعلم أنه يترك ذنوباً بحسب اختياره فالمعصوم يترك الجميع كذلك).

من تعريفات المتكلمين للعصمة

قال المفيد رحمه الله في النكت الإعتقادية ص45: (فإن قيل: ما حدُّ العصمة؟

الجواب: العصمة لطف يفعله الله بالمكلف، بحيث يمنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة، مع قدرته عليهما).

وقال في تصحيح الإعتقادص128: (العصمة من الله تعالي لحججه هي التوفيق واللطف، واعتصام من الحجج بها عن الذنوب، والغلط في دين الله تعالي.

وقال في أوائل المقالات ص164: (العصمة في موضوع اللغة هي: المنع، وقد خُصت في اصطلاح المتكلمين بمن يمتنع باختياره عن فعل الذنوب والقبائح عند اللطف الذي يحصل من الله تعالي في حقه.

وعرفه صاحب كتاب (الياقوت) من قدماء الإمامية بأنه: لطف يمتنع من يختص به عن فعل المعصية، ولا يمنعه علي وجه القهر، أي إنه لا يكون له حينئذ داع إلي فعل المعصية وترك الطاعة، مع قدرته عليهما). انتهي.

وقال الشريف المرتضي رحمه الله في رسائله:3/326:(إعلم أن العصمة هي اللطف الذي يفعله تعالي، فيختار العبد عنده الإمتناع من فعل القبيح، فيقال علي هذا إن الله عصمه بأن فعل له ما اختار عنده العدول عن القبيح، ويقال إن العبد معتصم، لأنه أختار عند هذا الداعي الذي فعل الإمتناع عن القبيح). انتهي.

قاعدة اللطف الإلهي التي استدل بها علماؤنا علي العصمة

قاعدة اللطف عقلية و شرعية

معني قاعدة اللطف: أن العقل يحكم بأن الله تعالي لم ولن يترك عباده سدي، فلا بد أن يلطف بهم فيبعث فيهم أنبياء ويجعل لهم أوصياء، ويكون له علي الأرض حجة في كل عصر، وأن يكون هذا الحجة هادياً مهدياً معصوماً.

وقد ورد هذا المعني صريحاً وضمناً، في آيات وروايات عديدة، منها قوله تعالي:أَيَحْسَبُ الإنسان أَنْ يُتْرَكَ سُدًي. (القيامة:36). وقوله تعالي: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ. (المؤمنون:115).

وفي الكافي:1/169: (علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن إبراهيم، عن يونس بن يعقوب قال:كان عند أبي عبد الله عليه السلام جماعة من أصحابه منهم حمران بن أعين، ومحمد بن النعمان، وهشام ابن سالم، والطيار، وجماعة فيهم هشام بن الحكم وهو شاب فقال أبو عبد الله عليه السلام: يا هشام ألا تخبرني كيف صنعت بعمرو بن عبيد وكيف سألته؟ فقال هشام: يا ابن رسول الله إني اجلك وأستحييك ولا يعمل لساني بين يديك، فقال أبو عبد الله: إذا أمرتكم بشئ فافعلوا. قال هشام: بلغني ما كان فيه عمرو بن عبيد وجلوسه في مسجد البصرة فعظم ذلك علي فخرجت إليه ودخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة فإذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد وعليه شملة سوداء متزر بها من صوف، وشملة مرتد بها والناس يسألونه، فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم علي ركبتي ثم قلت: أيها العالم إني رجل غريب تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم، فقلت له: ألك عين؟ فقال يا بني أيُّ شئ هذا من السؤال؟ وشئ تراه كيف تسأل عنه؟ فقلت هكذا مسألتي فقال يا بني سل وإن كانت مسألتك حمقاء! قلت: أجبني فيه قال لي

سل: قلت ألك عين؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أري بها الألوان والأشخاص، قلت: فلك أنف؟ قال: نعم قلت: فما تصنع به؟ قال: أشم به الرائحة قلت: ألك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم، قلت: فلك إذن؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت، قلت: ألك قلب؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كلما ورد علي هذه الجوارح والحواس.

قلت: أوليس في هذه الجوارح غني عن القلب؟ فقال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة، قال: يا بني إن الجوارح إذا شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته أو سمعته، ردته إلي القلب فيستيقن اليقين ويبطل الشك.

قال هشام: فقلت له: فإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: لابد من القلب وإلا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم.

فقلت له: يا أبا مروان فالله تبارك وتعالي لم يترك جوارحك حتي جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح ويتيقن به ما شك فيه ويترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم، لا يقيم لهم إماماً يردون إليه شكهم وحيرتهم، ويقيم لك إماماً لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك؟! قال: فسكت ولم يقل لي شيئاً! ثم التفت إلي فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟ فقلت: لا، قال: أمن جلسائه؟ قلت: لا، قال: فمن أين أنت؟ قال: قلت: من أهل الكوفة قال: فأنت إذا هو، ثم ضمني إليه، وأقعدني في مجلسه وزال عن مجلسه وما نطق حتي قمت.

قال: فضحك أبو عبد الله عليه السلام وقال: يا هشام من علمك هذا؟ قلت: شئ أخذته منك وألفته، فقال: هذا والله مكتوب في صحف إبراهيم وموسي). انتهي.

ومعني كون اللطف قاعدة عقلية: أن العقل يدرك بقطع النظر عن نصوص الدين أنه يستحيل علي العليم الحكيم القدير عز وجل، أن يترك مخلوقاته بدون هداية بل إن من أفعال الله الثابتة، بمقتضي صفاته، أنه يلطف بعباده فيبعث الأنبياء والأوصياء لهدايتهم، وهذا معني قولهم: يجب اللطف علي الله تعالي. وتعبيرهم وإن كان ثقيلاً وكأنه يفرض شيئاً علي الله تعالي، لكنه يعني أن ذلك مما يدركه العقل من قوانين فعله تعالي.

ومعني كونها قاعدة شرعية: أن القرآن والسنة يدلأن علي أن الله لطيف بعباده، فلا يتركهم بدون أنبياء وهداية، كما نبهت إلي ذلك آيات القرآن، وأحاديث النبي وأهل بيته صلي الله عليه وآله، وبينت حدودها وتفاصيلها التي لايدركها العقل وحده.

وينبغي الإلفات إلي أن الشرع قد ينبه العقل البشري إلي بعض الأمور المركوزة فيه فيصل اليها، فتكون من المدركات العقلية ولايضر بذلك أن الشرع ألفته اليها وأثار فيه كامنها. وقد قلنا في العقائد الإسلامية:1/26: (سمي الله عز وجل القرآن الكريم: الذكر، ووصف عمل النبي صلي الله عليه وآله بأنه تذكير، واستعمل مادة التذكير في القرآن للتذكير بالله تعالي، والتذكير باليوم الآخر، والتذكير بالفطرة والميثاق.

ووصف أمير المؤمنين صلي الله عليه وآله عمل الأنبياء عليهم السلام بأنه مطالبة الناس بالإنسجام مع ميثاق الفطرة، فقال عليه السلام في خطبة طويلة في نهج البلاغة:1/23،يذكر فيها خلق آدم عليه السلام وصفته: (فأهبطه إلي دار البلية، وتناسل الذرية. اصطفي سبحانه من ولده أنبياء، أخذ علي الوحي ميثاقهم، وعلي تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي

نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع...). انتهي.

وعلي هذا يمكن أن نعتبر قاعدة اللطف عقلية، لأن العقل البشري يدرك بقطع النظر عن الدين، أن هذا الخالق العظيم سبحانة لايمكن أن يترك خلقه سدي، بل يجب بمقتضي حكمته أن يعرفهم ما يريده منهم لتحقيق هدفه السامي فيهم.

وقد ذكر أبو الفتح الكراجكي رحمه الله في كنز الفوائد ص195 أن لأفلاطون كتاباً إسمه (كتاب اللطف) ونقل عنه قوله: (نقل الطبع عسير الإنتزاع)، وقد يكون موضوع الكتاب اللطف الإنساني، ولكنه علي أي حال من جوِّ اللطف الإلهي.

اللطف الإلهي في القرآن

ورد هذا الإسم المقدس في القرآن في سبعة مواضع، تشمل لطف ذاته المقدسة، وأنواع ألطافه بمخلوقاته:

1- لطف الذات الإلهية

قال الله تعالي: لاتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَيُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. (الأنعام:103).

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أن الله تعالي لطيف لكن لايوصف باللطف، ومعناه أن ذاته تعالي من غير نوع المادة والمخلوقات، لكن لايوصف باللطف حتي لاستصور أن ذاته المقدسة مادة شفافة!

ففي التوحيد للصدوق/305، من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام: (ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالله الذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل أنزلت أو في نهار أنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها، محكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم!

فقام إليه رجل يقال له ذعلب وكان ذرب اللسان بليغاً في الخطب، شجاع القلب فقال: لقد ارتقي ابن أبي طالب مرقاةً صعبة، لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟

قال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد رباه لم أره، قال: فكيف رأيته صفه لنا؟ قال: ويلك

لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف بالبعد، ولا بالحركة، ولا بالسكون، ولا بالقيام قيام انتصاب، ولا بجيئه ولا بذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لايوصف بالكبر، جليل الجلالة لايوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لابمجسة، قائل لاباللفظ، هو في الأشياء علي غير ممازجة، خارج منها علي غير مباينة، فوق كل شئ فلا يقال شئ فوقه، وإمام كل شئ فلا يقال له إمام، داخل في الأشياء لا كشئ في شئ داخل، وخارج منها لا كشئ من شئ خارج! فخرَّ ذعلب مغشياً عليه، ثم قال: تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عدت إلي مثلها). انتهي.

2- لطفه في إدارة الطبيعة

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِير. (الحج:63)

3- لطفه في التخطيط لأنبيائه عليهم السلام وعباده المؤمنين

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَي الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ. (يوسف:100)

4- لطفه في إدراة أرزاق عباده

اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَالْقَوِيُّ الْعَزِيزُ. (الشوري:19).

5- لطفه في مراقبة عمل نساء النبي صلي الله عليه وآله والناس

وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَي فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا.(الأحزاب:34).

6- لطفه في الإطلاع علي خفايا خلقه

وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ

خَلَقَ وَهُوَاللَّطِيفُ الْخَبِيرُ. (الملك:13-14).

7- لطفه في الحساب يوم القيامة

يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. (لقمان:16).

وفي التوحيد للصدوق ص217: (اللطيف معناه أنه لطيف بعباده، فهو لطيف بهم بار بهم، منعم عليهم. واللطف البر والتكرمة يقال: فلأن لطيف بالناس بار بهم يبرهم ويلطفهم إلطافاً. ومعني ثان: أنه لطيف في تدبيره وفعله يقال: فلأن لطيف العمل، وقد روي في الخبر أن معني اللطيف هو أنه الخالق للخلق اللطيف كما أنه سمي العظيم لأنه الخالق للخلق العظيم). انتهي.

وفي كل واحدة من هذه الآيات بحث مفصل لايتسع له المجال.

اللطف في أحاديث النبي و آله

في الكافي:1/159: أن رجلاً سأل الإمام الصادق عليه السلام (أجبر الله العباد علي المعاصي؟ قال: لا، قلت: ففوض إليهم الأمر؟ قالقال: لا، قال: قلت فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك).

وفي عيون أخبار الرضا عليه السلام:2/113: (عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضي الله عنه عن إبراهيم بن أبي محمود قال: سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن قول الله تعالي: وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ. (البقرة:17) فقال: إن الله تبارك وتعالي لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، ولكنه متي علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعهم المعاونة واللطف، وخلي بينهم وبين اختيارهم). انتهي.

وفي المقنعة 339، من دعاء كل يوم من شهر رمضان: (وكذلك نسبت نفسك يا سيدي باللطف، بلي إنك لطيف فصل علي محمد وآله، والطف لما تشاء). انتهي.

وفي الكافي:1/120، عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال: (إعلم علمك الله الخير أن الله تبارك وتعالي قديم، والقدم صفته التي دلت العاقل

علي أنه لا شئ قبله ولا شئ معه في ديموميته، فقد بان لنا بإقرار العامة معجزة الصفة أنه لا شئ قبل الله، ولا شئ مع الله في بقائه، وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو كان معه شئ، وذلك أنه لو كان معه شئ في بقائه لم يجز أن يكون خالقاً له، لأنه لم يزل معه، فكيف يكون خالقاً لمن لم يزل معه! ولو كان قبله شئ كان الأول ذلك الشئ لا هذا، وكان الأول أولي بأن يكون خالقاً للأول.

ثم وصف نفسه تبارك وتعالي بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبدهم وابتلاهم إلي أن يدعوه بها فسمي نفسه سميعاً، بصيراً، قادراً، قائماً، ناطقاً، ظاهراً، باطناً، لطيفاً خبيراً، قوياً، عزيزاً، حكيماً، عليماً، وما أشبه هذه الأسماء. فلما رأي ذلك من أسمائه القالون المكذبون، وقد سمعونا نحدث عن الله أنه لا شئ مثله ولا شئ من الخلق في حاله، قالوا: أخبرونا إذا زعمتم أنه لا مثل لله ولا شبه له، كيف شاركتموه في أسمائه الحسني فتسميتم بجميعها! فإن في ذلك دليلاً علي أنكم مثله في حالاته كلها أو في بعضها دون بعض، إذ جمعتم الأسماء الطيبة!

قيل لهم: إن الله تبارك وتعالي ألزم العباد أسماء من أسمائه علي اختلاف المعاني وذلك كما يجمع الإسم الواحد معنيين مختلفين. والدليل علي ذلك قول الناس الجائز عندهم الشائع، وهو الذي خاطب الله به الخلق فكلمهم بما يعقلون، ليكون عليهم حجة في تضييع ما ضيعوا، فقد يقال للرجل: كلب وحمار وثور وسكرة وعلقمة وأسد! كل ذلك علي خلافه وحالاته. لم تقع الأسامي علي معانيها التي كانت بنيت عليها، لأن الإنسان ليس بأسد ولا كلب، فافهم ذلك رحمك الله.

وإنما سمي

الله تعالي بالعلم، بغير علم حادث علم به الأشياء استعان به علي حفظ ما يستقبل من أمره، والروية فيما يخلق من خلقه، ويفسد ما مضي مما أفني من خلقه، مما لو لم يحضره ذلك العلم ويغيبه كان جاهلاً ضعيفاً، كما أنا لو رأينا علماء الخلق إنما سموا بالعلم لعلم حادث إذ كانوا فيه جهلة، وربما فارقهم العلم بالأشياء فعادوا إلي الجهل. وإنما سمي الله عالماً لأنه لايجهل شيئاً، فقد جمع الخالق والخلوق إسم العالم واختلف المعني علي ما رأيت.

وسمي ربنا سميعاً لا بخرت فيه يسمع به الصوت ولا يبصر به، (الخِرْت: ثقب الإبرة والأذن والعين ونحوها وجمعه خروت (العين:1/236) كما أن خرتنا الذي به نسمع لا نقوي سبه علي البصر، ولكنه أخبر أنه لايخفي عليه شئ من الأصوات، ليس علي حد ما سمينا نحن، فقد جمعنا الإسم بالسمع واختلف المعني.

وهكذا البصر لا بخرت منه أبصر، كما أنا نبصر بخرت منا لا ننتفع به في غيره ولكن الله بصير لا يحتمل شخصا منظورا إليه، فقد جمعنا الإسم واختلف المعني. وهو قائم ليس علي معني انتصاب وقيام علي ساق في كبد كما قامت الأشياء ولكن قائم يخبر أنه حافظ كقول الرجل: القائم بأمرنا فلأن، والله هو القائم علي كل نفس بما كسبت، والقائم أيضاً في كلام الناس: الباقي والقائم أيضاً يخبر عن الكفاية كقولك للرجل: قم بأمر بني فلأن، أي أكفهم، والقائم منا قائم علي ساق، فقد جمعنا الإسم ولم نجمع المعني.

وأما اللطيف فليس علي قلة وضآلة وصغر، ولكن ذلك علي النفاذ في الأشياء والامتناع من أن يدرك، كقولك للرجل: لطف عني هذا الأمر ولطف فلأن في مذهبه وقوله: يخبرك أنه غمض فيه العقل

وفات الطلب وعاد متعمقا متلطفا لا يدركه الوهم فكذلك لطف الله تبارك وتعالي عن أن يدرك بحد أو يحد بوصف. واللطافة منا الصغر والقلة، فقد جمعنا الإسم واختلف المعني). انتهي.

من كلمات علمائنا في قاعدة اللطف

قال المفيد عليهم السلام في النكت الإعتقادية ص35: (فإن قيل: ما الدليل علي أن نصب الأنبياء والرسل واجب في الحكمة؟ فالجواب: الدليل علي ذلك أنه لطف واللطف واجب في الحكمة فنصب الأنبياء والرسل واجب في الحكمة.

فإن قيل: ما حد اللطف؟ فالجواب: اللطف هو ما يقرب المكلف معه من الطاعة ويبعد عن المعصية ولاحظ له في التمكين ولم يبلغ الالجاء.

فإن قيل: ما الدليل علي أن اللطف واجب في الحكمة؟ فالجواب: الدليل علي وجوبه توقف غرض المكلف عليه فيكون واجباً في الحكمة وهو المطلوب.

فإن قيل: من نبي هذه الأمة؟ فالجواب: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف صلي الله عليه وآله. فإن قيل: ما الدليل علي نبوته؟

فالجواب: الدليل علي ذلك أنه ادعي النبوة وظهر المعجز علي يده وكل من ادعي النبوة وظهر المعجز علي يده فهو نبي حقاً). انتهي.

وقال في ص39: فإن قيل: ما الدليل علي أن الإمامة واجبة في الحكمة؟

فالجواب: الدليل علي ذلك أنها لطف واللطف واجب في الحكمة علي الله تعالي فالإمامة واجبة في الحكمة.

وقال في ص161: (عرف المتكلمون اللطف بما أفاد هيئة مقربة إلي الطاعة ومبعدة عن المعصية بحيث لم يكن له حظ في التمكين ولا يبلغ حد الإلجاء.....

والقول بوجوب اللطف يختص به العدلية من المعتزلة والإمامية والزيدية ويخالفهم فيه الأشعرية، وقد نسب الخلاف فيه أيضاً إلي بشر بن المعتمر من قدماء المعتزلة وإن حكي رجوعه عن ذلك أخيراً بعد

مناظرة سائر المعتزلة إياه، لكن تعليل المعتزلة بوجوبه من جهة أنهم أوجبوه من جهة العدل وأن الله تعالي لو فعل خلافه لكان ظالماً، والإمامية إنما أوجبوه من جهة الجود والكرم وأنه تعالي لمَّا كان متصفاً بهاتين الصفتين اقتضي ذلك أن يجعل للمكلفين ما دام هم علي ذلك الحال أصلح الأشياء لهم، وأن لا يمنعهم صلاحا ولا نفعاً). انتهي.

لكن يبدو أن المحقق الحلي رحمه الله يقول به من باب العدل وليس من باب الكرم، فقد قال في المسلك في أصول الدين ص301: (ومن الواجب في الحكمة اللطف للمكلفين، وهو أن يفعل معهم كل ما يعلم أنه محرك لدواعيهم إلي الطاعة، لأنه لو لم يفعل ذلك لكان ناقضاً لغرضه، إذ لا مشقة عليه في فعله، وهو مفض إلي غرضه). انتهي.

وقال الشريف المرتضي رحمه الله في الشافي:1/39: (والنبوة طريق وجوبها أيضاً اللطف لم يجب عندهم أن تكون المعرفة نبوة، ولا النبوة معرفة لاستبداد كل واحدة منهما بصفة لا يشركها فيها الأخري، والنبي لم يكن عندنا نبيا لاختصاصه بالصفات التي يشرك فيها الإمام بل لاختصاصه بالأداء عن الله تعالي بغير واسطة، أو بواسطة هو الملك، وهذه مزية بينة).

وقال الشيخ الطوسي رحمه الله في الإقتصاد ص77: (وأما الكلام في اللطف فيحتاج أن نبين أولاً ما اللطف وما حقيقته. واللطف في عرف المتكلمين: عبارة عما يدعو إلي فعل واجب أو يصرف عن قبيح، وهو علي ضربين: أحدهما أن يقع عنده الواجب ولولاه لم يقع فيسمي توفيقاً، والآخر ما يكون عنده أقرب إلي فعل الواجب أو ترك القبيح.....

واللطف علي ثلاثة أقسام: أحدها من فعل الله تعالي، والثاني من فعل من هو لطف له، والثالث من فعل غيرهما. فما

هو من فعل الله تعالي علي ضربين: أحدهما يقع بعد التكليف للفعل الذي هو لطف له فيوصف بأنه واجب، والثاني ما يقع مع التكليف للفعل الذي هو لطف فيه فلا يوصف بأنه واجب، لأن التكليف ما أوجبه ولم يتقدم له سبب وجوب، لكن لا بد أن يفعل به لأنه كالوجه في حسن التكليف.

وأما ما كان من فعل المكلف فهو تابع لما هو لطف فيه، فإن كان واجباً فاللطف واجب وإن كان لطفاً في فعل نفل فهو نفل.

وإذا كان اللطف من فعل غيرهما فلا بد من أن يكون المعلوم من حاله أنه يفعل ذلك الفعل علي الوجه الذي هو لطف في الوقت الذي هو لطف فيه، ومتي لم يعلم ذلك لم يحسن التكليف الذي هذا الفعل لطف فيه.

هذا إذا لم يكن له بدل من فعل الله يقوم مقامه، فإن كان له بدل من فعل الله تعالي جاز التكليف لذلك الفعل إذا فعل الله تعالي ما يقوم مقامه).

وقال ابن البراج الطرابلسي رحمه الله في جواهر الفقه ص247: (اللطف علي الله واجب، لأنه خلق الخلق، وجعل فيهم الشهوة، فلو لم يفعل اللطف لزم الإغراء، وذلك قبيح، والله لا يفعل القبيح، فاللطف هو نصب الأدلة، وإكمال العقل، وإرسال الرسل في زمانهم، وبعد انقطاعهم إبقاء الإمام، لئلا ينقطع خيط غرضه).

وقال المحقق الحلي رحمه الله في المسلك: ص101: (وهل يجب علي البارئ سبحانه فعل اللطف أم لا؟ الأكثرون يقولون بوجوبه، واحتجوا علي ذلك بوجوه:

أحدها: أن اللطف مفض إلي غرض المكلف، وليس فيه وجه من وجوه القبح ولا يؤدي إلي ما لا نهاية له، وكل ما كان كذلك فهو واجب في الحكمة.

أما أنه مفض إلي

غرض المكلف، فلأنا نتكلم علي هذا التقدير، وأما أنه ليس فيه وجه من وجوه القبح، فلأن وجوه القبح مضبوطة، وليس فيه شئ منها.

وأما أن كل ما كان كذلك كان واجباً في الحكمة، فلأن داعي الحكمة متعلق به، والصوارف منتفية عنها، وكل ما تعلق به الداعي وانتفي الصارف عنه، فإنه يجب أن يفعل.

الوجه الثاني: لو لم يفعل البارئ سبحانه وتعالي اللطف علي هذا التقدير، لكان ناقضاً لغرضه، ونقض الغرض قبيح.

بيان أنه يكون ناقضاً لغرضه، أن من دعا غيره إلي طعام له وعلم أنه يحضر إن أرسل رسولاً إليه لا غضاضة عليه في إرساله، ولم يرسل رسوله، فإنه يكون غير مريد لحضوره، والعلم بذلك ظاهر.

الوجه الثالث: لو لم يجب فعل اللطف، لكان البارئ مخلاً بما يجب عليه في الحكمة، إذ لا فرق بين منع اللطف وعدم التمكين.

احتج المخالف بأنه: لو وجب اللطف لوجب أن يفعل بالكافر.

والجواب: لا نسلم أن للكافر لطفاً. وتحقيق ذلك أن اللطف هو ما يعلم المكلف أن المكلف يطيع عنده، أو يكون أقرب إلي الطاعة، مع تمكنه في الحالين، والكافر قد لا يكون له لطف يحركه إلي فعل الطاعة. ويجري هذا مجري رجل له ثلاثة أولاد، أحدهم يطيعه بالإكرام، والآخر بالإهانة، والثالث لا يؤثر فيه أحد الأمرين، فلا يكون لذلك لطف، فالكافر الذي لا يطيع يجري مجري الثالث). انتهي.

رد الفقهاء للإستدلال بقاعدة اللطف في الفقه

رأينا أن أصل قاعدة اللطف الإلهي ثابتٌ بحكم العقل والكتاب والسنة، وأن موردها بعثة الأنبياء ونصب الأوصياء عليهم السلام وعصمتهم.

وقد توسع فيها بعض علمائمنا فاستعملوها في حجية خبر الواحد (رسائل المرتضي:1/74). وفي حجية الإجماع (فرائد الأصول:1/188، ومنية الطالب:2/337 ومصباح الفقاهة للخوئي:2/170، و:5/645).

وفي نفي الحرج في الأحكام:

(هداية المسترشدين:2/737، وعوائد 196).

وفي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (جواهرالكلام:21/358 ومصباح الفقاهة للسيد الخوئي:1/298).

وفي وجوب القضاء بين الناس (جواهرالكلام:40/10، والقضاء للسيد الكلبايكاني:1/14)، وغيرها.

وفي كل هذه الموارد رد العلماء الإستدلال بها إلا نادراً، مثل أصل القضاء كما هو عند السيد الكلبايكاني، وعدم خلو الواقعة من حكم كما عند الشهيد الصدر (دروس في علم الأصول:1/148)

وقد توسع بعضهم في ردها حتي لحق الحيف بأصل قاعدة اللطف، وتحامل بعضهم عليها وكأنها من مبتدعات الشيخ الطوسي رحمه الله، مع أن أستاذه المرتضي استدل بها، وأستاذهما المفيد، وغيرهم، رحمهم الله.

نعم يصح القول إن الشيخ الطوسي أكثر فقهائنا استدلالاً بقاعدة اللطف في الفقه والتفسير، كما نلاحظ ذلك في مبسوطه وتبيانه رحمه الله.

وقد نبه السيد الخوئي رحمه الله الي ضرورة أن لايسبب الهجوم علي موارد القاعدة في الفقه مساساً بها في العقائد، فقال في أجود التقريرات:2/37:

(الجهة الثانية في بيان أن العقل هل يدرك الحسن والقبح بعد الفراغ عن إثبات أنفسهما أم لا؟ والتحقيق أن يقال إن العقل وإن لم يكن له إدراكُ جميع المصالح والمفاسد، إلا أنَّ إنكار إدراكه لهما في الجملة وبنحو الموجبة الجزئية مناف للضرورة أيضاً، ولولا ذلك لما ثبت أصل الديانة، ولزم إفحام الأنبياء عليهم السلام! إذ إثبات النبوة العامة فرع إدراك العقل لقاعدة وجوب اللطف، كما أن إثبات النبوة الخاصة بظهور المعجزة علي يد مدعيها فرع إدراك العقل قبح إظهار المعجزة علي يد الكاذب، ومع إنكار إدراك العقل للحسن والقبح بنحو السالبة الكلية، كيف يمكن إثبات أصل الشريعة فضلاً عن فروعه). انتهي.

وكلامه رحمه الله واضح في أنه لايقبل قاعدة اللطف في الفقه، ولكنه يقبلها في العقائد، غير أن موقفهم العام

منها في الفقه يبقي أكثر تأثيراً علي الفقيه، ولذا قال السيد الخوئي رحمه الله في جواب سؤال كما في صراط النجاة:2/445:

(سؤال 1403: قاعدة اللطف التي ناقشتموها في الأصول صغري وكبري، علي ما في مصباح الأصول، في مناقشتكم لشيخ الطائفة التي استدل بها جمع من أصحابنا علي وجوب الإمامة، لأنها من صغرياتها، هل يمكن الإستدلال علي هذه الكبري، بما دل من القرآن الكريم علي أنه لطيف بعباده، فتكون الإمامة من صغريات ما دلت علي الكبري المستفادة من الكتاب العزيز، أم أن اللطف المشار إليه في القرآن الكريم غير اللطف المصطلح الذي تكون مسألة وجوب الإمامة من صغرياته؟

الخوئي: نعم هو كما كتب، لايدل علي صحة الإستدلال بالقاعدة إن تمت القاعدة، ولا دلالة للآية الشريفة في أدلة الأحكام كما زعم). انتهي.

ولعل أهم إشكالاتهم علي تطبيقات قاعدة اللطف في الفقه أن اللطف الواجب علي الله تعالي، إنما هو اللطف الواقعي وليس ما نتصوره لطفاً!

ثم إن اللطف الواجب هو اللطف التي تمت مقتضياته وفقدت موانعه، ولا علم لنا بتحقق ذلك، بعكس الأمر في أصل النبوة والإمامة والعصمة. (راجع هداية المسترشدين للشيخ محمد تقي الرازي:2/737).

ضرر الإغراق في التأصيل بقاعدة اللطف

كان الطابع العام لخطاب علماء المسلمين سنة وشيعة الإستدلال ب_(النقل)، أي بنصوص الكتاب والسنة، إلي أن ظهر في مطلع القرن الثالث الأسلوب الكلامي الفلسفي، بسبب اتساع ترجمة الكتب اليونانية، خاصة في عهدي الرشيد والمأمون، فأخذ علماء السنة يستعملونه في خطابهم، ويكتبون فيه مؤلفاتهم، في الكلام والفقه والتفسير!

وقد بقي علماء الشيعة متمسكين في تآليفهم وخطابهم بالأسلوب التقليدي فحفظوا مؤلفاتهم وخطابهم لقرنين بعيدةً عن التأثر بالأسلوب الفلسفي اليوناني.

لكن بحلول القرن الخامس حدثت ثلاثة تطورات علي أسلوب علماء الشيعة:

الأول، ظهر علي

يد المفيد رحمه الله الذي كان يعيش في العاصمة بغداد، حيث رأي أن اللازم أن يكتب علماء الشيعة بأسلوب العصر، ويردُّوا الشبهات عن المذهب بنفس أسلوبها الذي كتبها فيه علماء السنة في عصره وقبلهم!

من هنا اتجه هو وتلاميذه الكبار كالسيد المرتضي والشيخ الطوسي رحمهم الله إلي التأصيل بلغة عصرهم، وكان رحمه الله ينتقد مَن قبله بأنهم اقتصروا علي النقل فقلدوا ولم يتعمقوا ولم يحتهدوا!

قال عن الشيخ الصدوق رحمه الله في مسألة الإرادة والمشيئة: (قال الشيخ أبو جعفر رحمه الله: نقول: شاء الله وأراد، ولم يحب ولم يرض، وشاء عز اسمه ألا يكون شئ إلا بعلمه، وأراد مثل ذلك.

فعلق عليه المفيد رحمه الله بقوله: الذي ذكره الشيخ أبو جعفر رحمه الله في هذا الباب لايتحصل، ومعانيه تختلف وتتناقض، والسبب في ذلك أنه عمل علي ظواهر الأحاديث المختلفة ولم يكن ممن يري النظر فيميز بين الحق منها والباطل، ويعمل علي ما يوجب الحجة، ومن عول في مذهبه علي الأقاويل المختلفة وتقليد الرواة كانت حاله في الضعف ما وصفناه. والحق في ذلك: أن الله تعالي لا يريد) (تصحيح اعتقادات الإمامية ص48).

وقد اشتبه الأمر علي المفيد رحمه الله فإن الصدوق رحمه الله لم يقل ذلك تقليداً، بل عمل بأحاديث غفل عنها المفيد، وهي تجعل الإرادة الإلهية أنواعاً منها الإرادة بمعني السماح التكويني، وهذا معني أنه لايكون شئ في الكون إلا بإرادة.

ففيالكافي:1/150: (عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شاء وأراد وقدر وقضي؟ قال: نعم، قلت: وأحب؟ قال: لا، قلت: وكيف شاء وأراد وقدر وقضي ولم يحب؟قال: هكذا خرج إلينا).(راجع: تعليق الطباطبائي علي الحديث، والكافي:1/157، والمحاسن للبرقي:1/244، والحدائق الناضرة:13/452، وتفسير الميزان:13/74 و:

19/90).

فالملاحظة الأولي علي المتجددين، أن التقليديين أكثر إحاطة منهم بأحاديث النبي وأهل البيت عليهم السلام، وهذا ما ينبغي ملاحظته عند إشكالاتهم عليهم.

والملاحظة الثانية، أن المتجددين مع جهدهم المشكور في التأصيل، واستعمالهم لغة الخطاب العصرية، إلا أنهم قد يبالغون في الإعتماد علي ما أصَّلوه، ثم يكررونه حتي يتخيل المخالف أن هذا كل دليلهم في المسألة!

وهذا ماحدث في قاعدة اللطف حيث تراها في مؤلفات المفيد وتلاميذه رحمه الله،

أبرز ما استدلوا به علي بعثة الأنبياء والأوصياء وعصمتهم عليهم السلام، حتي جاء بعدهم الفخر الرازي فتخيل أنه إن رد قاعدة اللطف فقد رد مذهب الشيعة بكامله!

قال في المحصول ص124: (فهذا ما علي هذه الطريقة من الإعتراضات ومن أحاط بها تمكن من القدح في جميع مذاهب الشيعة أصولاً وفروعاً، لأن أصولهم في الإمامة مبنية علي هذه القاعدة، ومذاهبهم في فروع الشريعة مبنية علي التمسك بهذا الإجماع. والله أعلم) انتهي.

طبعاً نحن لانصدق ما زعمه الفخر الرازي، وقد ظهر شكه هو في تعميمه بقوله(والله أعلم)، لكنه قرأ للسيد المرتضي والشيخ المفيد فوجد قاعدة اللطف محور استدلالهم علي الإمامة والعصمة، فدبَّج صفحات في مناقشتهما دون أن يسميهما، وطمع في أن يصدق القارئ كلامه هذا.

ولو وجد أن المحور في استدلالهم الآيات والأحاديث كآية التطهير وحديث الثقلين وحديث علي مع القرآن والقرآن مع علي، والعشرات من أمثالها،، وأن قاعدة اللطف ليست إلا تأصيلاً عقلياً مكملاً للدليل، لما طمع بذلك!

والنتيجة: أن قاعدة اللطف قاعدة عقلية، يدرك أصلها العقل ويقطع به، لكنه لايدرك تفاصيلها، ولذلك لا بد من الإقتصار في الإستدلال علي القدر المتيقن منها، وعدم تجاوزه إلي الإستحسانات والإحتمالات.

أما ما دل عليه القرآن والسنة من أصلها أو

تفاصيلها، فيرتقي عن كونه استحساناً واحتمالاً عقلياً، ويكون وحياً من خالق العقل سبحانه.

أما التطور الثاني، علي أسلوب علماء الشيعة، فهو تأثير احتكاكهم بثقافة الروم عن طريق علماء حلب، والذي ورثه علماء جبل عامل بشكل خاص.

والتطور الثالث، تأثير الفلسفة اليونانية بعد أن اجتهد فيها المسلمون وحاولوا إخضاعها لثقافة الإسلام، واستعملوا أسلوبها في خطابهم ومؤلفاتهم، واتجاهاتهم العقدية والعرفانية.

ولايتسع المجال لبسط الكلام في صفات وإيجابيات وسلبيات هذه الإتجاهات في أسلوب الفهم والخطاب، وتأثيرها أحياناً علي المضمون.

كيف يلطف الله تعالي بالمعصوم

اتفق علماؤنا علي أن النبي صلي الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام معصومون، عن كل معصية وكل ما يشين شخصيتهم الربانية السامية.

وبحثوا في حدود العصمة، وأدلتها، والموارد التي فيها إشكال أو سؤال.

ثم بحثوا في ماهية العصمة فاتفقوا علي أنها من فعل الله تعالي، وبما يحفظ حرية اختياره ومسؤوليته عن عمله.

وعندما تأملوا في كيفية حصولها للمعصوم عليه السلام، والوسائل التي يستعملها الله تعالي لتحقيقها، وجدوها متعددة وأكثرها مجهولاً لنا، فقالوا إنها ألطافٌ إلهية من الله تعالي لعبادة المكرمين، وعرَّفوا العصمة بأنها لطفٌ إلهي بالمعصوم يمنعه من الوقوع في المعصية وما يشين.

وهذا موقف علمي صحيح من كيفية عصمة الله تعالي لخاصة عباده عليهم السلام، لكنا لانعدم نصوصاً تعطينا أضواءً مهمة علي الوسائل الربانية في العصمة، منها:

1- ينبغي أن نتذكر السلطة الإلهية والهيمنة الكاملة علي كل الوجود، وهي سلطة أعمق، وأكثر تنوعاً، من كل ما نعرف من سلطات.

قال الله تعالي: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لايَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ. وَهُوَالَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا

جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَي أَجَلٌ مُسَمًّي ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّي إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ. ثُمَّ رُدُّوا إلي اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَأَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ. (الأنعام:59-62).

وقال تعالي: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ. (الرعد:10-11).

وقال تعالي: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلامُ الْغُيُوبِ. (التوبة:78).

وفي حديث النبي وأهل بيته صلي الله عليه وآله من تفصيل هذه الآيات وتفسيرها ما يخشع له العقل القلب. قال الشريف المرتضي في الأمالي:2/2: (إن سأل سائل عن الخبر المروي عن عبد الله بن عمر أنه قال سمعت النبي(ص)يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء ثم يقول قال رسول الله(ص)عند ذلك اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا إلي طاعتك. وعما يرويه أنس قال قال رسول الله(ص) ما من قلب آدمي إلا وهو بين إصبعين من أصابع الله تعالي فإذا شاء أن يثبته ثبته وان شاء أن يقلبه قلبه.

وعما يرويه ابن حوشب قال قلت لأم سلمة زوج النبي(ص): ما كان أكثر دعاء النبي(ص)؟ قالت: كان أكثر دعائه يا مقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك، فقالت قلت: يا رسول الله ما أكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي علي دينك؟ فقال: يا أم سلمة ما من آدمي إلا وقلبه

بين إصبعين من أصابع الله عز وجل، ما شاء أقام، وما شاء أزاغ. فقال ما تأويل هذه الأخبار علي ما يطابق التوحيد وينفي التشبيه؟ أوليس من مذهبكم أن الأخبار التي يخالف ظاهرها الأصول ولا تطابق العقول، لا يجب ردها والقطع علي كذب راويها، إلا بعد أن لا يكون لها في اللغة مخرج ولا تأويل....

ثم استعرض معني الإصبع وأنها تستعمل بمعان مجازية في لغة العرب وشعرهم، وقال:(فكأنه صلي الله عليه وآله لما أراد المبالغة في وصفه بالقدرة علي تقليب القلوب وتصريفها بغير مشقة ولا كلفة، وإن كان غيره تعالي يعجز عن ذلك ولا يتمكن منه، فقال إنها بين إصبعين من أصابعه، كناية عن هذا المعني واختصاراً للفظ الطويل، وجرياً علي مذهب العرب في إخبارهم عن مثل هذا المعني).انتهي.

وفي قصص الأنبياء للجزائري ص471:(بينما عيسي بن مريم جالس وشيخ يعمل بمسحاة ويثير الأرض، فقال عيسي عليه السلام: اللهم انزع منه الأمل فوضع الشيخ المسحاة واضطجع، فلبث ساعة فقال عيسي عليه السلام: اللهم أردد إليه الأمل، فقام يعمل بمسحاته، فسأله عيسي عن ذلك فقال: بينما أنا اعمل إذ قالت لي نفسي: إلي متي تعمل وأنت شيخ كبير! فألقيت المسحاة واضطجعت، ثم قالت لي نفسي: والله لابد لك من عيش ما بقيت، فقمت إلي مسحاتي). (وتاريخ دمشق:47/468، ومستدرك سفينة البحار:1/185، عن مجموعة ورام).

2- إن كل شخص منا يحيط به بضعة ملائكة يعملون بأمر الله تعالي، فكيف بالمعصوم؟ قال الله تعالي: إِنَّ رَبِّي عَلَي كُلِّ شَئٍْ حَفِيظٌ. (هود:57) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ. (الإنفطار:10-12). إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ.(الطارق:4). لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ (الرعد:11).

3- وسائل الفعل الإلهي كثيرة، وهي أوسع

وأعمق مما نتصور! قال الله تعالي:

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلله جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. (الفتح:4)، وقد ذكر في الآية إنزال روح السكينة علي قلوب المؤمنين، وهي كما في الأحاديث روح خاصة ترافق المؤمن وتوجب اليقين في فكره والطمأنينة في نفسه، وهي نوع من أنواع جنود السماوات والأرض، التي تشمل أنواعاً كثيرة من المخلوقات، والقوي المنظورة وغير المنظورة، المتصورة لنا وغير المتصورة!

4- من وسائل العصمة أن الله يبعث ملكاً يرافق المعصوم ويكلمه ويرشده، قال علي عليه السلام يصف رسول الله صلي الله عليه وآله:(ولقد قرن الله به صلي الله عليه وآله من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره). (نهج البلاغة:2/157).

وفي حلية الأبرار للسيد البحراني:1/34: (قرن جبرائيل بنبيه محمد صلي الله عليه وآله ثلاث سنين، يسمع حسه ولا يري شخصه، ويعلمه الشئ بعد الشئ، ولا ينزل عليه القرآن فكان في هذه المدة مبشراً بالنبوة غير مبعوث إلي الأمة).(عن المناقب:1/43).

5- ومن وسائل العصمة أن الله تعالي يلقي حالة خاصة علي شخصية المعصوم من الخشوع والإحساس بوجود الله تعالي، فيعيش كل حياته حالة استحضار لربه عز وجل وحضور بين يديه، وكفي بذلك عاصماً له عن معصيته. وتحدث هذه الحالة له في آخر دقيقة من حياة المعصوم السابق عليهم السلام.

ففي بصائر الدرجات ص497: (باب الوقت الذي يعرف الإمام الأخير ما عند الأول. حدثنا محمد بن الحسين، عن علي بن أسباط، عن الحكم بن مسكين، عن عبيد بن زرارة وجماعة معه قالوا: سمعنا أبا عبد الله عليه السلام يقول: يعرف الإمام الذي بعده علم من

كان قبله في آخر دقيقة تبقي من روحه). (وروي حديثين آخرين مثله. وروي الكليني في الكافي:1/274، ثلاثة أحاديث):

وفي بصائر الدرجات ص486: (باب في الإمام متي يعلم أنه إمام. حدثنا محمد بن الحسين عن صفوان بن يحيي قال قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: أخبرني عن الإمام متي يعلم أنه إمام حين يبلغه أن صاحبه قد مضي أو حين يمضي؟ مثل أبي الحسن عليه السلام قبض ببغداد وأنت هاهنا؟ قال: يعلم ذلك حين يمضي صاحبه. قلت: بأي شئ؟ قال: يلهمه الله ذلك.....

حدثنا محمد بن عيسي....قال: بينا أبو الحسن عليه السلام جالس مع مؤدب له يكني أبا زكريا وأبو جعفر عليه السلام عندنا أنه ببغداد وأبو الحسن يقرأ من اللوح إلي مؤدبه، إذ بكي بكاء شديداً، سأله المؤدب ما بكاؤك؟ فلم يجبه، فقال: إئذن لي بالدخول فأذن له، فارتفع الصياح والبكاء من منزله، ثم خرج إلينا، فسألناه عن البكاء فقال: إن أبي قد توفي الساعة. فقلنا: بما علمتَ؟ قال: دخلني من إجلال الله ما لم أكن أعرفه قبل ذلك، فعلمت أنه قد مضي! فتعرفنا ذلك الوقت من اليوم والشهر، فإذا هو قد مضي في ذلك الوقت....

عن هارون بن الفضل قال: رأيت أبا الحسن عليه السلام في اليوم الذي توفي فيه أبو جعفر عليه السلام فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضي أبو جعفر! فقيل له: وكيف عرفتَ ذلك؟ قال: تداخلَني ذلةٌ لله لم أكن أعرفها). انتهي.

6- أن المعصوم تحدثه الملائكة وتوجهه عند اللزوم، ففي الكافي:1/271:

(عن محمد بن إسماعيل قال: سمعت أبا الحسن عليه السلام يقول: الأئمة علماء صادقون مفهمون محدثون..... عن محمد بن مسلم قال: ذكر المحدث عند أبي عبد الله عليه

السلام فقال: إنه يسمع الصوت ولا يري الشخص. فقلت له: جعلت فداك كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال: إنه يعطي السكينة والوقار حتي يعلم أنه كلام ملك.....

ثم روي عن الإمام الباقر عليه السلام أن علياً عليه السلام كان محدَّثاً فسأله حمران:من يحدثه؟ فقال: يحدثه ملك، قلت: تقول: إنه نبي؟ قال: فحرك يده هكذا: أو كصاحب سليمان أو كصاحب موسي أو كذي القرنين، أوَما بلغكم أنه صلي الله عليه وآله قال: وفيكم مثله).

7- أن الله يؤيد المعصوم بملك خاص. والأحاديث في ذلك عديدة، منها ما رواه في الكافي:1/273: (عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله تبارك وتعالي: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمان؟ قال:خلقٌ من خلق الله عز وجل أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلي الله عليه وآله يخبره ويسدده وهو مع الأئمة من بعده...

عن أسباط بن سالم قال: سأله رجل من أهل هيت وأنا حاضر عن قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا؟ فقال: منذ أنزل الله عز وجل ذلك الروح علي محمد، صلي الله عليه وآله ما صعد إلي السماء وإنه لفينا....

عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي؟ قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع رسول الله صلي الله عليه وآله وهو مع الأئمة وهو من الملكوت.

عن أبي حمزة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن العلم، أهو علمٌ يتعلمه العالم من أفواه الرجال، أم في الكتاب عندكم تقرؤنه فتعلمون منه؟ قال:

الأمر أعظم من ذلك وأوجب، أما سمعت قول الله عز وجل: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمان؟ثم قال: أيُّ شئ يقول أصحابكم في هذه الآية، أيقرون أنه كان في حال لايدري ما الكتاب ولا الإيمان؟فقلت: لا أدري جعلت فداك ما يقولون، فقال: بلي قد كان في حال لايدري ما الكتاب ولا الإيمان حتي بعث الله تعالي الروح التي ذكر في الكتاب، فلما أوحاها إليه علم بها العلم والفهم، وهي الروح التي يعطيها الله تعالي من شاء، فإذا أعطاها عبداً علمه الفهم....

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، قال: خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل، لم يكن مع أحد ممن مضي، غير محمد صلي الله عليه وآله وهو مع الأئمة يسددهم، وليس كل ما طلب وجد). انتهي.

وفي الكافي:1/274:(عن سعد الإسكاف قال أتي رجل أمير المؤمنين عليه السلام يسأله عن الروح أليس هو جبرئيل؟فقال له أمير المؤمنين:جبرئيل من الملائكة والروح غير جبرئيل، فكرر ذلك علي الرجل فقال له: لقد قلت عظيماً من القول ما أحد يزعم أن الروح غير جبرئيل فقال له: أمير المؤمنين: إنك ضال تروي عن أهل الضلال، يقول الله تعالي لنبيه صلي الله عليه وآله: أَتَي أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَي عَمَّا يُشْرِكُونَ، يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ، والروح غير الملائكة صلوات الله عليهم).انتهي.

وفي الكافي:1/271: (عن جابر الجعفي قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: يا جابر إن الله تبارك وتعالي خلق الخلق ثلاثة أصناف وهو قول الله عز وجل: وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً. فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ

السَّابِقُونَ. أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُون.(الواقعة:7-11) فالسابقون هم رسل الله عليهم السلام وخاصة الله من خلقه، جعل فيهم خمسة أرواح: أيدهم بروح القدس فبه عرفوا الأشياء، وأيدهم بروح الإيمان فبه خافوا الله عز وجل، وأيدهم بروح القوة فبه قدروا علي طاعة الله، وأيدهم بروح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله عز وجل وكرهوا معصيته، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون. وجعل في المؤمنين وأصحاب الميمنة روح الإيمان فبه خافوا الله، وجعل فيهم روح القوة فبه قدروا علي طاعة الله، وجعل فيهم روح الشهوة فبه اشتهوا طاعة الله، وجعل فيهم روح المدرج الذي به يذهب الناس ويجيئون....

عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن علم العالم فقال لي: يا جابر إن في الأنبياء والأوصياء خمسة أرواح: روح القدس وروح الإيمان وروح الحياة وروح القوة وروح الشهوة، فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش إلي ما تحت الثري، ثم قال: يا جابر إن هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان إلا روح القدس فإنها لا تلهو ولا تلعب...

عن المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته مرخي عليه ستره؟ فقال: يا مفضل إن الله تبارك وتعالي جعل في النبي صلي الله عليه وآله خمسة أرواح:روح الحياة فبه دب ودرج، وروح القوة فبه نهض وجاهد، وروح الشهوة فبه أكل وشرب وأتي النساء من الحلال، وروح الإيمان فبه آمن وعدل، وروح القدس فبه حمل النبوة فإذا قبض النبي صلي الله عليه وآله انتقل روح القدس فصار إلي الإمام. وروح القدس لاينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو. والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتزهو وتلهو، وروح

القدس كان يري به). انتهي.

8- قلنا في دلالة الإستخلاص الإلهي علي العصمة: وقد بيَّن الله تعالي أنه يستعمل رصد الملائكة لحفظ معلومة عن الغيب يخبر بها رسوله، فقال: قُلْ إن أدري أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أم يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَدًا. عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَي غَيْبِهِ أحداً. إِلا مَنِ ارْتَضَي مِنْ رَسُولٍ فإنه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا. لِيَعْلَمَ أن قَدْأَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَي كُلَّ شَئٍْ عدداً. (الجنّ:25-28)

والإستخلاص مقامٌ أعظمُ من حفظ ما يخبر به الله رسوله من الغيب، فلا بد أن تكون وسائل حفظ المستخلص أكثر تفصيلاً من حفظ الغيب المخبر به.

9- وردت أحاديث عديدة في صفات ومقامات للنبي والأئمة صلي الله عليه وآله، تُعتبر كل واحدة منها من وسائل الله تعالي في عصمتهم، صلوات الله عليهم، ويطول الكلام لو أردنا عرضها ولو إجمالاً، لذا نكتفي بالإشارة إلي بعضها:

فمنها: عرض الأعمال علي النبي صلي الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام، فقد روي الكليني في الكافي تحت هذا العنوان:1/219، عدة أحاديث، منها: (عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تعرض الأعمال علي رسول الله صلي الله عليه وآله أعمال العباد كل صباح أبرارها وفجارها فاحذروها، وهو قول الله تعالي: إعْمَلُوا فَسَيَرَي اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ. وسكت.... عن يعقوب بن شعيب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: إعْمَلُوا فَسَيَرَي اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ؟قال: هم الأئمة....

عن عبد الله بن أبان الزيات وكان مكيناً عند الرضا عليه السلام قال: قلت للرضا عليه السلام: أدع الله لي ولأهل بيتي، فقال: أو لست أفعل؟ والله إن أعمالكم لتعرض عليَّ في كل يوم وليلة!

قال: فاستعظمت ذلك فقال لي: أما تقرأ كتاب الله عز وجل: إعْمَلُوا فَسَيَرَي اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ؟ قال: هو والله علي بن أبي طالب عليه السلام). انتهي.

وفي الكافي:1/387: (عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن الإمام ليسمع في بطن أمه، فإذا ولد خط بين كتفيه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عموداً من نور، يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة). انتهي.

ومنها: أن الله تعالي أعطاهم من إسمه الأعظم أضعاف ما أعطي غيرهم، ففي الكافي:1/ 230: (عن علي بن محمد النوفلي، عن أبي الحسن صاحب العسكر عليه السلام قال: سمعته يقول: إسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتي صيَّره إلي سليمان، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفه عين! وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً. وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب). انتهي.

ومنها: أن قوة نفس المعصوم عليه السلام وقربه من الله تعالي، يجعل رغبته وتوجهه النفسي إلي الشئ كافياً لأن يكشفه الله له: ففي الكافي:1/258: (عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا أراد الإمام أن يعلم شيئاً أعلمه الله ذلك).

ومنها: أنهم أصحاب ليلة القدر الذين تتنزل عليهم الملائكة بأمر الله فيها. ففي الكافي:1/247، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث: (إن ليلة القدر في كل سنة، وإنه ينزل في تلك الليلة أمر السنة، وإن لذلك الأمر ولاة بعد رسول الله صلي الله عليه وآله فقلت: من هم؟ فقال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون).

انتهي.

أقول: وهذا باب واسع، يفهم منه الكثير من عطاءات الله وأفعاله عز وجل في عصمة أنبيائه وأوصيائهم عليهم السلام، وإن كان الكثير منه منه مختصاً بالنبي وآله صلي الله عليه وآله لايشركهم فيه غيرهم، فالمعصومون درجات.

درجات العصمة واللطف بالمعصومين

نص القرآن الكريم علي أن الله تعالي جعل مخلوقاته درجات، وفضَّل بعضها علي بعض، لأسباب وحكم وأسرار يعلمها عز وجل. وهذه أهم آيات التفضيل:

تفضيل بني آدم علي كثير من المخلوقات

قال الله تعالي: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَي كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً. (الإسراء:70).

تفضيل بعض الناس علي بعضهم في الرزق والتكوين

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَي بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَي مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ). (النحل:71).

(وَهُوَالَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ). (الأنعام:165).

(أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ. وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ. وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ.وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخرة عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ). (الزخرف:32-35).

تفضيل الرجال علي النساء

(أَلرِّجَالُ قَوَامُونَ عَلَي النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْب). (النساء:34).

(وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَي بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَئٍْ عَلِيمًا).(النساء:32).

تفضيل المجاهدين علي القاعدين

(فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَي الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَي وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَي الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا. النساء:95 دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا. النساء:96

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَاتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَي الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَي الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. المائدة:54

تفضيل العلماء علي غيرهم

(يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). (المجادلة:11).

التفضيل في الآخرة أكبر منه في الدني

0وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَي لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً. (الإسراء:19-21).

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَي بِاللهِ عَلِيمًا. (النساء:69-70).

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا. (النساء:175).

تَرَي الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَوَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ. (الشوري:22).

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ. فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ. كَذَلِكَ وَزَوَجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ. يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ.لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولي وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ. فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَالْفَوْزُ الْعَظِيمُ. (الدخان: 51-57).

(سَابِقُوا إلي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرض أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ

ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. الحديد:21

تفضيل بعض الأنبياء عليهم السلام علي بعض

(وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرض وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَي بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا. (الإسراء:55)

تفضيل بعض الرسل عليهم السلام علي بعض

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَي بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَي ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. (البقرة:253).

تفضيل إبراهيم وآل إبراهيم ومن معهم عليهم السلام

(وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَي قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ. وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَي وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَي وَعِيسَي وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاً فَضَّلْنَا عَلَي الْعَالَمِينَ. (الأنعام:83-84)

تفضيل آل إبراهيم عامة

(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَي مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَي بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا. (النساء:54-55).

تفضيل داود وسليمان عليهما السلام خاصة

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ علماً وَقَالا الْحَمْدُ للهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَي كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَئٍْ إِنَّ هَذَا لَهُوَالْفَضْلُ الْمُبِينُ. (النمل:15-16).

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ. سبأ:10

أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. سبأ:11

وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ

عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ. (سبأ:10-12).

تفضيل نبينا صلي الله عليه وآله

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ. وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ). (الشرح:1-4) (إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا). (الإسراء:87).

(وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَئٍْ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا). (النساء:113).

تفضيل آل محمد صلي الله عليه وآله

(ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَي وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ). (الشوري:23).

(إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهل الْبَيْتِ وَيُطَهِّرُكُمْ تَطْهِيراً). (الأحزاب:33).

(سَلامٌ عَلَي إِلْيَاسِينَ). (الصافات:130).

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَالْفَضْلُ الْكَبِيرُ). (فاطر:32).

تفضيل اليهود علي الأمم المعاصرة لأنبيائهم

(يَا بَنِي إِسْرَاءِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَي الْعَالَمِينَ). (البقرة:47 و122) (قَالَ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَي الْعَالَمِينَ). (الأعراف:140).

تفضيل أمة رسول الله صلي الله عليه وآله

(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الآمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَالْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ

الظَّالِمِينَ). (الجمعة:2-5).

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.لِئَلا يَعْلَمَ أهل الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ عَلَي شَئٍْ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).(الحديد:28-29). (قُلْ إِنَّ الْهُدَي هُدَي اللهِ أَنْ يُؤْتَي أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ). (آل عمران:73 –74)

عصمة نبينا و آله أرقي أنواع العصمة

أجمع المسلمون علي أن نبينا محمداً صلي الله عليه وآله أفضل الخلق عند الله تعالي، وأنه صاحب لواء رئاسة المحشر يوم القيامة، وقد روي ذلك جميعهم.

لكن رواة السلطة وقعوا في التناقض، فرووا ذلك ورووا ضده أيضاً! وفضلوا بعض الأنبياء علي نبينا صلي الله عليه وآله كما في البخاري! وقد بحثنا ذلك في كتاب (ألف سؤال وإشكال علي المخالفين لأهل البيت الطاهرين عليهم السلام)، مسألة 137.

فقد امتاز الشيعة بالقول إنه صلي الله عليه وآله أفضل الخلق علي الإطلاق، وإن درجة عصمته أعلي من درجة عصمة جميع الأنبياء عليهم السلام، فالأفضلية استحقاق بالعمل وبعمق الوعي والعبودية، والعصمة استحقاق يتناسب مع مستوي العمل.

ويكفي دليلاً عليه قوله تعالي: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي. إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَي، فهذه رتبة عظيمة لم تثبت لأحد من الأنبياء عليهم السلام، ومَن عصم الله منطقه عن الهوي فجعله وحياً يوحي، فقد عصم فعله أيضاً، أو بطريق أولي! حيث لا يمكن تصور عصمة لسان أحد عن المعصية والخطأ بدون عصمة بقية جوارحه!

هذا مضافاً إلي الآيات الأخري، والأحاديث الصحيحة المتواترة، التي نصَّت علي مقامه الفريد صلي الله عليه

وآله ودرجة عصمته الخاصة، ودلت علي أن درجة عترته الطاهرين عليهم السلام تلي درجته صلي الله عليه وآله مباشرةً.

وقد رواها معنا رواة الخلافة أيضاً، ولكنهم عملوا علي تأويلها أو تضعيفها، ومنها الحديث الصحيح المعروف: (نحن ولدَ عبد المطلب سادةُ أهل الجنة، أنا، وعلي أخي، وحمزة عمي، وجعفر بن عمي، والحسن، والحسين، والمهدي). وقد استوفينا مصادره وتصحيحه عند الطرفين في معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام:1/198، ومن ذلك تصحيح الحاكم له علي شرط مسلم:3/211.

وينبغي الإلفات إلي أن مقام حمزة بن عبد المطلب وجعفر بن أبي طالب، يلي مقام المعصومين من العترة عليهم السلام ولا يتقدم علي أحد منهم، كما قد يُتوهم من ظاهر الحديث، فهما مرضيَّان غير معصوميْن رضي الله عنهما، والعصمة عندنا مختصة بمن دل عليهم النص النبوي فقط، وهم العترة، أو أهل البيت بالمعني الأخص: علي وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ذرية الحسين آخرهم المهدي عليهم السلام. وهم المعني النبوي المصطلح لأهل البيت، وآل محمد، والعترة، في مقابل المعني اللغوي الأوسع منهم.

ومنها، حديث النبي صلي الله عليه وآله لفاطمة الزهراء عليها السلام، الذي رواه الصدوق في كمال الدين ص662، عن سلمان قال: (كنت جالساً بين يدي رسول الله صلي الله عليه وآله في مرضته التي قبض فيها فدخلت فاطمة عليها السلام فلما رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتي جرت دموعها علي خديها، فقال لها رسول الله صلي الله عليه وآله: مايبكيك يا فاطمة؟ قالت:يارسول الله أخشي علي نفسي وولدي الضيعة بعدك! فاغرورقت عينا رسول الله بالبكاء ثم قال: يا فاطمة أما علمت أنا أهل بيت اختار الله عز وجل لنا الآخرة علي الدنيا، وأنه حتم الفناء علي جميع خلقه، وأن

الله تبارك وتعالي اطَّلع إلي الأرض إطلاعة فاختارني من خلقه فجعلني نبياً، ثم اطلع إلي الأرض إطلاعة ثانية فاختار منها زوجك، وأوحي إليَّ أن أزوجك إياه، وأتخذه ولياً ووزيراً، وأن أجعله خليفتي في أمتي. فأبوك خير أنبياء الله ورسله، وبعلك خير الأوصياء، وأنت أول من يلحق بي من أهلي.

ثم اطَّلع إلي الأرض إطلاعة ثالثة فاختارك وولديك، فأنت سيدة نساء أهل الجنة وابناك حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبناء بعلك أوصيائي إلي يوم القيامة كلهم هادون مهديون، وأول الأوصياء بعدي أخي علي، ثم حسن، ثم حسين، ثم تسعة من ولد الحسين في درجتي، وليس في الجنة درجة أقرب إلي الله من درجتي ودرجة أبي إبراهيم! أما تعلمين يا بنية أن من كرامة الله إياك أن زوجك خير أمتي، وخير أهل بيتي، أقدمهم سلماً وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً. فاستبشرت فاطمة عليها السلام وفرحت بما قال لها رسول الله صلي الله عليه وآله...الحديث). (ورواه في شرح الأخبار: 1/122، عن أبي سعيد الخدري، والطبري في المسترشد ص613، بتفصيلات أخري..الخ.).

وروت منه مصادر الخلافة فقرات مهمة بسند صحيح، كالطبراني في الكبير:3/57 والصغير:1/67، وابن عساكر:42/130، والطبري في ذخائر العقبي ص135،وابن الأثير في أسد الغابة:4/42، والهيثمي في مجمع الزوائد: 8/253، ولم يضعفه أحد منهم غير الذهبي في القرن الثامن! بحجة ضعف أحد رواته (الهيثم بن حبيب) الذي قال عنه الهيثمي في الزوائد:3/190: وأما الهيثم بن حبيب فلم أرَ من تكلم فيه غير الذهبي اتهمه بخبر رواه، وقد وثقه ابن حبان).انتهي.

بل وثق الهيثم هذا كبار أئمة الجرح والتعديل عندهم كأحمد وأبي عوانة وشعبة وأبي حاتم وأبي زرعة وغيرهم، كما بيناه في (جواهر التاريخ:1/115) ووقع الهيثمي والذهبي فيه في التناقض أو

الكذب!

ونكتفي بهذا القدر في تفضيل نبينا صلي الله عليه وآله علي بقية الأنبياء عليهم السلام، وقد تعرضنا له في مؤلفاتنا الأخري، وبينا أن مقام عترته وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام يلي مقامه مباشرة، بل هو ملحق به، وجزءٌ لايتجزأ منه.

النبي و عترته المعصومون منظومة خاصة لا يقاس بهم أحد

العصمة هي الإمتناع بالله تعالي عن جميع معاصي الله، علي حد تعبير الإمام الصادق عليه السلام، وهي مقام ربانيٌّ عظيم دون شك، غير أن مقام النبي وآله صلي الله عليه وآله أعلي منها بكثير! ويكفي لذلك قوله تعالي عن نبيه صلي الله عليه وآله: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَي. إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَي، وهي أعلي مرتبة يمكن أن يصل اليها إنسان.

وقول النبي صلي الله عليه وآله في الحديث المتواتر عن أهل بيته عليهم السلام: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض. فقد جعلهم عِدلاً للقرآن الذي لايَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ، فهم مثله لايأتيهم الباطل، وهم ورثة القرآن، وحجة الله في بيانه وهداية الأمة به.

وقد روت مصادر الخلافة قليلاً، وروت مصادرنا كثيراً، من الأحاديث التي تكشف عن مقامهم العظيم، وأنهم مشروع رباني مميز، منذ تكوين الكون، وفي مسيرة وجوده، إلي ختامها بالحياة الآخرة.

ولا يتسع المجال لبحث مفرداتها ولا لعرضها، فنكتفي بالإشارة إلي أهمها:

1- صحت الأحاديث بأن الله تعالي أول ما خلق أنوارهم عليهم السلام من نور عظمته قبل خلق الخلق.

2- وأن وجود المعصوم علي الأرض ضرورة، ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً، وإلا لساخت الأرض بأهلها.

3- وأن الله تعالي جعلهم واسطة في فيض عطائه علي الوجود.

4- وأعطاهم ما شاء من الولاية التكوينية والتشريعية.

5- وفرض

ولايتهم علي الأنبياء والأوصياء السابقين عليهم السلام.

6- وفرض ولايتهم علي هذه الأمة، فلا يقبل من أحد عملاً إلا بها.

7- وأن دولة العدل الإلهي ستقوم علي يدهم، وتستمر إلي يوم القيامة.

درجة شيعة النبي و آله في أحاديث الطرفين

بل دلت الأحادث الصحيحة علي أن شيعة أهل البيت ومحبيهم عليهم السلام ملحقون بدرجتهم يوم القيامة، ومن ذلك الحديث المشهور الذي رواه أبو داود والترمذي، وأحمد، والطبراني وغيرهم، وهو حديث صحيح لايمكن لأحد أن يطعن في أحد من رواته. وقد رويناه نحن بنفس السند كما في كامل الزيارات ص117: (عن أبي سعيد قال: حدثنا نصر بن علي قال: حدثنا علي بن جعفر، عن أخيه موسي بن جعفر قال: أخذ رسول الله صلي الله عليه وآله بيد الحسن والحسين فقال: من أحب هذين الغلامين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة). (ورواه الصدوق في الأمالي ص299، وغيره).

ورواه منهم كثيرون كالترمذي:5/305، قال: (حدثنا نصر بن علي الجهضمي أخبرنا علي بن جعفر بن محمد بن علي قال أخبرني أخي موسي بن جعفر بن محمد عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه عن جده علي بن أبي طالب أن النبي(ص)أخذ بيد حسن وحسين وقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة. هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث جعفر بن محمد إلا من هذا الوجه).

ورواه الطبري في الكبير:3/50، والصغير:2/70، وابن عساكر:13/195و196، وفي هامشه:مسند أحمد:1/77، وأسد الغابة:4/29.

ورواه الخطيب في تاريخ بغداد:13/289 وقال: قال أبو عبد الرحمن عبد الله: لما حدث بهذا الحديث نصر بن علي أمر المتوكل بضربه ألف سوط، وكلمه جعفر بن عبد الواحد وجعل يقول

له: هذا الرجل من أهل السنة، ولم يزل به حتي تركه، وكان له أرزاق فوفرها عليه موسي). انتهي.

ورواه المزي في تهذيب الكمال:20/354، وقال: (رواه عن نصر بن علي، فوافقناه فيه بعلو، وقال: غريب لا نعرفه من حديث جعفر إلا من هذا الوجه. وقد كتبناه من وجه آخر عن نصر بن علي في ترجمة الحسين بن علي). انتهي.

(ورواه المزي في:29/360، وذكر قصة المتوكل. وأسنده القاضي عياض في الشفا:2/49، بنحو القطع إلي النبي صلي الله عليه وآله، ورواه كنز العمال:12/103، و13/639، عن مصادر أخري.وأسنده البيهقي في لباب الأنساب:1/ 26 بنحو القطع إلي النبي صلي الله عليه وآله).

ورواه الهيتمي في الصواعق:2/406، وقال: (وليس المراد بالمعية هنا المعية من حيث المقام بل من جهة رفع الحجاب نظير ما في قوله تعالي: فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً).

ورواه الذهبي في سيره:12/135، وشهد بوثاقة رواته، لكنه رده بخلاً بدرجة النبي صلي الله عليه وآله علي الذين يحبون عترته! قال: (قلت: هذا حديث منكر جداً.... ثم ذكر قصة المتوكل عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وقال: قلت: والمتوكل سني، لكن فيه نصب. وما في رواة الخبر إلا ثقة! وما كان النبي(ص)من حبه وبث فضيلة الحسنين ليجعل كل من أحبهما في درجته في الجنة، فلعله قال: فهو معي في الجنة. وقد تواتر قوله عليه السلام: المرء مع من أحب. ونصر بن علي، فمن أئمة السنة الأثبات). انتهي.

والعجيب أن الذهبي قَبِلَ أن يكون محب العترة مع النبي صلي الله عليه وآله، ولم يقبل أن يكون في درجته! وكان عليه كما وسَّع معني المعية، أن يقبل توسيع الدرجة!

ولم يطعن الذهبي

في علي بن جعفر الصادق عليه السلام، لكنه شكك في حفظه بدون دليل! إلا أنه لم يعجبه حديثه فشكك في حفظه!

كما ارتكب الذهبي تضعيف هذا الحديث في سيره:3/254، فقال: (إسناده ضعيف والمتن منكر). انتهي. ولم يبين سبب حكمه بضعفه، لأنه لايستطيع أن يضعف أياً من رواته! فهل هذا إلا هوي!

وتبعه الألباني فضعفه في ضعيف الترمذي ص504، والضعيفة 3122، وتخريج المختارة392، تقليداً بإسم الإجتهاد، وتعصباً بإسم البحث العلمي!

ومن عسي أن يضعف الألباني والذهبي من رجال رواته، التي تبدأ بنصر الذي اتفقوا علي وثاقته وأنه من أئمة السنة، عن علي بن جعفر الصادق عليه السلام الذي هو من رجال الترمذي، ولم يجرحه أحد من علماء الجرح، ثم يصل إلي سلسلة الذهب الأئمة المعصومين عليهم السلام الذين قال أحمد بن حنبل عن إسنادهم: (لو قرئ هذا الإسناد علي مجنون لأفاق من جنونه)!!

قال في هامش مسند زيد بن علي ص440: (أورد صاحب كتاب تاريخ نيسابور أن علياً الرضا بن موسي الكاظم بن جعفر الصادق، لما دخل نيسابور كان في قبة مستورة علي بغلة شهباء وقد شق بها السوق، فعرض له الإمامان الحافظان أبو زرعة وأبو مسلم الطوسي ومعهما من أهل العلم والحديث ما لا يحصي فقالا: يا أيها السيد الجليل ابن السادة الأئمة، بحق آبائك الأطهرين وأسلافك الأكرمين إلا ما أريتنا وجهك الميمون ورويت لنا حديثاً عن آبائك عن جدك أن نذكرك به. فاستوقف غلمانه وأمر بكشف المظلة وأقر عيون الخلايق برؤية طلعته، وإذا له ذؤابتان معلقتان علي عاتقه، والناس قيام علي طبقاتهم ينظرون ما بين باك وصارخ، ومتمرغ في التراب، ومقبل حافر بغلته وعلا الضجيج، فصاحت الأئمة الأعلام: معاشر الناس، أنصتوا واسمعوا ما ينفعكم

ولا تؤذونا بصراخكم، وكان المستملي أبا زرعة ومحمد بن أسلم الطوسي، فقال علي الرضا رضي الله عنه: حدثني أبي موسي الكاظم، عن أبيه جعفر الصادق، عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن أبيه شهيد كربلا، عن أبيه علي المرتضي، قال حدثني حبيبي وقرة عيني رسول الله صلي الله عليه وآله قال حدثني جبريل عليه السلام قال حدثني رب العزة سبحانه وتعالي قال: لا إله إلا الله حصني، فمن قالها دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي. ثم أرخي الستر علي المظلة وسار، قال فعد أهل المحابر وأهل الدواوين الذين كانوا يكتبون فأنافوا علي عشرين ألفاً. قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لو قرئ هذا الإسناد علي مجنون لأفاق من جنونه)! انتهي.

وقال أبو نعيم في الحلية:3/191، بعد أن رواه بتفاوت يسير: (هذا حديث ثابت مشهور بهذا الإسناد من رواية الطاهرين عن آبائهم الطيبين، وكان بعض سلفنا من المحدثين إذا روي هذا الإسناد قال: لو قرئ هذا الإسناد علي مجنون لأفاق).

وقال ابن الشجري في الأمالي ص25، والقزويني في التدوين:3/481، بعد حديث بسند مشابه: (قال علي بن مهرويه: قال أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي: قال أبو الصلت عبد السلام بن صالح الهروي: لو قرئ هذا الاسناذ علي مجنون لأفاق). وقال الزمخشري في ربيع الأبرار ص673: (كان يقول يحيي بن الحسين الحسني في إسناد صحيفة الرضا: لو قرئ هذا الإسناد في أذن مجنون لأفاق).

وقال الإربلي في كشف الغمة:1/134: (هذا الحديث نقله أحمد في مواضع من مسنده، وهو حديث خطره عظيم، ومجده كريم، ووجده وسيم، وشرفه قديم فإنه جعل درجة محبيهم مع درجته، وهذا محل يقف دونه الخليل والكليم، وههنا ينقاد

المنقول والمعقول، وهو صلي الله عليه وآله أعلم بما يقول).انتهي.

وأغرب من الألباني والذهبي: ابن تيمية الذي قال في منهاجه:7/397: (فصل. قال الرافضي: الحادي عشر، ما رواه الجمهور من وجوب محبته وموالاته. روي أحمد بن حنبل في مسنده أن رسول الله(ص)أخذ بيد حسن وحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما فهو معي في درجتي يوم القيامة… وأورد عدة أحاديث أوردها العلامة الحلي رحمه الله في كتابه منهاج الكرامة الذي ألف ابن تيمية كتابه للرد عليه، ثم قال:

(والجواب من وجوه: أحدها، المطالبة بتصحيح النقل وهيهات له بذلك!

وأما قوله رواه أحمد فيقال: أولاً، أحمد له المسند المشهور وله كتاب مشهور في فضائل الصحابة روي فيه أحاديث لايرويها في المسند لما فيها من الضعف، لكونها لا تصلح أن تروي في المسند لكونها مراسيل أو ضعافاً بغير الإرسال.

ثم إن هذا الكتاب زاد فيه ابنه عبد الله زيادات، ثم إن القطيعي الذي رواه عن ابنه عبد الله زاد عن شيوخه زيادات، وفيها أحاديث موضوعة باتفاق أهل المعرفة. وهذا الرافضي وأمثاله من شيوخ الرافضة جهال، فهم ينقلون من هذا المصنف فيظنون أن كل ما رواه القطيعي أو عبد الله قد رواه احمد نفسه، ولا يميزون بين شيوخ أحمد وشيوخ القطيعي، ثم يظنون أن أحمد إذا رواه فقد رواه في المسند، فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلي مسند أحمد أحاديث ما سمعها أحمد قط، كما فعل ابن البطريق وصاحب الطرائف منهم وغيرهما، بسبب هذا الجهل منهم! وهذا غير ما يفترونه من الكذب فإن الكذب كثير منهم.

وبتقدير أن يكون أحمد روي الحديث، فمجرد رواية أحمد لا توجب أن يكون صحيحاً يجب العمل به، بل الإمام أحمد روي أحاديث

كثيرة ليُعرِّف ويبين للناس ضعفها، وهذا في كلامه وأجوبته أظهر وأكبر من أن يحتاج إلي بسط، لاسيما في مثل هذا الأصل العظيم.

مع أن هذا الحديث الأول من زيادات القطيعي، رواه عن نصر بن علي الجهضمي، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسي بن جعفر.الخ.). انتهي.

وأول سؤال يرد في الذهن: لماذا افترض ابن تيمية أن راوي الحديث ابن حنبل وحده؟ ألا يعرف أن له رواة آخرين عديدين؟!

والجواب: أن هذه عادة ابن تيمية! فهو يعرف أن للحديث مصادر عديدة غير مسند أحمد، وأنه لايمكنه تضعيف سنده! لكنه تصور أن نقل العلامة الحلي له عن مسند أحمد نقطة ضعف، لأن الحديث من زيادات عبد الله بن أحمد وتلميذه القطيعي علي مسند أحمد تحت نظره، فركز هجومه عليها! وصوَّر الأمر كأنه: هل كتب أحمد هذا الحديث بيده؟ أو أضافه ولده أو تلميذه؟

فلو قلنا لابن تيمية: حسناً، إعتبره من رواية ابن أحمد أو القطيعي، فما رأيك فيه؟ هل تطعن في واحد منهما، وهل تستطيع تضعيف رواة الحديث؟!

ثم نلاحظ أن ابن تيمية قال: (فقد رأيتهم في كتبهم يعزون إلي مسند أحمد أحاديث ما سمعها أحمد قط! كما فعل ابن البطريق وصاحب الطرائف منهم وغيرهما، بسبب هذا الجهل منهم). انتهي.

وهذا يعني أنه قرأ الطرائف لابن طاوس رحمه الله، وقرأ العمدة لابن البطريق رحمه الله ورأي أنهما نقلا الحديث عن مسند أحمد!

أما في الطرائف ص111فقال:(ومن ذلك ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده) انتهي، فقد اقتصر في روايته علي أحمد، ونسبها اليه كغيره من علماء السنة!

لكن ابن البطريق رواه في العمدة في ص274 عن عبد الله بن أحمد عن الجهضمي..الخ. ورواه بعده في ص283، فقال:

(ومن الجمع بين الصحاح الستة لرزين العبدري في الجزء الثالث في باب مناقب الحسن والحسين عليهما السلام، وبالإسناد المقدم من سنن أبي داود قال: عن علي عليه السلام قال: كنت إذا سألت رسول الله صلي الله عليه وآله أعطاني وإذا سكت ابتدأني وأخذ بيد الحسن والحسين يوماً وقال: من أحب هذين وأباهما وأمهما ومات، كان متبعاً لسنتي كان معي في الجنة). انتهي.

فقد قرأ ابن تيمية روايته عن الجمع بين الصحاح أيضاً، فلماذا أهملها؟!

إنه لايريد أن يبحث بحثاً علمياً، لافي سند الحديث ولا في متنه! بل همه أن يفتش عن شئ يتصوره نقطة ضعف ليهرج به ويترك كل ما سواه!

وهو حاضر لذلك أن يطعن في أحمد ومسنده وعبدالله بن أحمد والقطيعي، من أجل أن يردَّ فضيلة للنبي وعترته صلي الله عليه وآله، لمجرد أن عالماً شيعياً استدل بها!

زيادة رزين العبدري عن أبي داود

قال ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة:2/500: (من أحبني وأحب هذين يعني حسناً وحسيناً، وأباهما وأمهما، كان معي في الجنة في درجتي. زاد أبو داود (ومات متبعاً لسنتي). وبها يعلم أن مجرد محبتهم من غير اتباع للسنة كما يزعمه الشيعة والرافضة من محبتهم مع مجانبتهم للسنة، لا يفيد مدعيها شيئاً من الخير بل تكون عليه وبالاً وعذاباً أليما في الدنيا والآخرة). انتهي.

أقول: بقطع النظر عن تفسير ابن حجر المتوتر لهذه الزيادة، فقد أخذها هو وغيره من رزين العبدري، صاحب كتاب الجمع بين الصحاح، حيث نسبها هو إلي سنن أبي داود، ولا وجود للحديث في سنن أبي داود!

قال السيد البحراني في غاية المرام:6/48: (الخامس عشر: الجمع بين الصحاح الستة لرزين العبدري في الجزء الثالث، في باب مناقب الحسن والحسين من سنن أبي داود

عن علي، قال: كنت إذا سألت رسول الله أعطاني وإذا سكت ابتداني، وأخذ بيد حسن وحسين يوماً وقال: من أحب هذين وأباهما وأمهما ومات متبعاً لسنتي كان معي في الجنة). انتهي.

ونص صاحب البحار:37/76، علي أن الزيادة من رزين نفسه، فقد نقل الحديث عن ابن الأثير عن الترمذي، ثم قال: (وذكر رزين بعد قوله: وأمهما: ومات متبعا لسنتي غير مبتدع). انتهي.

وكذا السيد المرعشئ في شرح إحقاق الحق:9/178، قال: (رزين العبدري في الجمع بين الصحاح(مخطوط) قال: إن النبي أخذ بيد حسن وحسين يوماً وقال: من أحب هذين وأباهما وأمهما ومات متبعاً لسنتي كان معي في الجنة).انتهي.

وأدق ما وجدناه قول الأذرعي في بشارة المحبوب بتكفير الذنوب ص66، بعد نقل الحديث: (رواه الترمذي. زاد رزين: ومات متبعاً لسنتي غير مبتدع).انتهي.

فكيف يصح نسبة الزيادة إلي أبي داود والحديث لايوجد في سننه أصلاً! وحتي لو قلنا بنقص نسخة أبي داود الموجودة فلا يمكننا نسبة الزيادة اليه، فيتعين أن تكون لرزين تعليقاً منه علي رواية الترمذي، كما ذكر الأذرعي.

علي أن هذه الزيادة لو ثبتت لا تغير من الأمرشيئاً، ولا تحتمل ما حملها إياه ابن حجر فجعل اتباع سنة النبي صلي الله عليه وآله بمعني اتباع أبي بكر وعمر! لأن اتباع سنة النبي صلي الله عليه وآله لايتحقق إلا بحب أهل بيته عليهم السلام ولايتحقق حبهم إلا بطاعتهم دون من خالفهم، وأخذ سنة النبي صلي الله عليه وآله منهم دون ما خالفهم.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.