موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 3 انوار الهدایة فی التعلیقة علی الکفایة المجلد 1

هوية الکتاب

عنوان واسم المؤلف: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة الشریف المجلد 3 انوار الهدایة فی التعلیقة علی الکفایة المجلد 1/ [روح الله الامام الخمیني قدس سرة].

مواصفات النشر : طهران : موسسة تنظیم و نشر آثارالامام الخمیني قدس سرة، 1401.

مواصفات المظهر: 717ص.

الصقيع: موسوعة الامام الخمیني قدس سرة

ISBN: 9789642123568

حالة القائمة: الفيفا

ملاحظة: الببليوغرافيا مترجمة.

عنوان : الخميني، روح الله، قائد الثورة ومؤسس جمهورية إيران الإسلامية، 1279 - 1368.

عنوان : الفقه والأحكام

المعرف المضاف: معهد الإمام الخميني للتحرير والنشر (س)

ترتيب الكونجرس: BP183/9/خ8الف47 1396

تصنيف ديوي : 297/3422

رقم الببليوغرافيا الوطنية : 3421059

عنوان الإنترنت للمؤسسة: https://www.icpikw.ir

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

مقدّمة التحقيق

اشارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطاهرين

بعد مرور سنوات مديدة على تدريس الإمام الخميني قدّس سرّه وتحقيقه وتأليفه في الفلسفة والعرفان والسطوح العالية من الفقه والاُصول، شرع بتدريس المرحلة الخارج في الاُصول، وكان ذلك بعد ما حاول فيه كبار العلماء والفطاحل - وبدور بارز من الإمام الخميني قدّس سرّه - أن يهاجر الفقيه الكبير سماحة آية الله البروجردي قدّس سرّه إلى قم المقدّسة ليتولّى مرجعية الشيعة وزعامة الحوزة العلمية.

وفي تلك الأيّام طلب بعض تلامذة الإمام الخميني قدّس سرّه في الفلسفة أن يدرّسهم دروس الخارج في الفقه والاُصول، ولمّا كان السيّد البروجردي قدّس سرّه قد شرع في مباحث الألفاظ من اُصول الفقه، وقد حضر الإمام قدّس سرّه مجلس درسه، فطلب من الإمام قدّس سرّه أن يتولّى تدريس الأمارات والاُصول العملية، فهذا أوّل ما درّس الإمام من بحث الخارج في اُصول الفقه. وهو قدّس سرّه بإزاء تدريسه - والذي يدور حول محور «كفاية الاُصول» للآخوند الخراساني قدّس سرّه - كان يدوّن تحقيقاته العميقة وآرائه ونظرياته باُسلوب واضح ولطيف على شكل تعليقة على

ص: 5

كتاب «الكفاية»، فكان حاصلها المجلّدان الحاضران.

فقد جاءت أبحاث القطع والظنّ حتّى نهاية بحث البراءة والاشتغال في هذين المجلّدين، وقد تمّ الفراغ من الجزء الثاني للتعليقة في الحادي عشر من شهر رمضان المبارك من عام 1368 ه. ق. وقد اُضيف إلى الكتاب حواش كثيرة من المؤلّف العلاّمة في الدورتين الأخيرتين تتميماً للمباحث، متعرّضاً لنقد آراء الأعلام وتصحيحاً لما جدّد فيه رأيه؛ لأنّ الإمام قدّس سرّه قد درّس هذه المباحث ثلاث مرّات والمرّة الأخيرة بلغت إلى «حديث الرفع».

جاء في هذا الكتاب مسائل تفصيلية كثيرة تتعلّق بالجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري، ومراتب الحكم الشرعي، وآية النبأ، والبراءة عند الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين وبعض المسائل العقلية نحو مجعولية آثار الوجود وكيفية العقاب الاُخروي والسعادة والشقاوة وغيرها.

مضافاً إلى ذلك فقد نقد الإمام الخميني قدّس سرّه في هذا الكتاب وخلال بحث «حجّية الظهور» رأي الأخباريين فيما يتعلّق بتحريف القرآن الكريم، وهاجم استدلالهم في هذا المجال بشدّة، بقوله: «فساد هذا القول الفظيع والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة، إلاّ أنّ هذا الفساد قد شاع على رغم علماء الإسلام وحفّاظ شريعة سيّد الأنام».

بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر

هذا، وقد كتب الإمام الخميني قدّس سرّه ما تعلّق بقاعدة «لا ضرر» حتّى نهاية الأبحاث الاُصولية بصورة مستقلّة لا على شكل تعليقة.

ص: 6

وعلى الرغم من أ نّه قدّس سرّه كتب بقاعدة «لا ضرر» مستقلّة - نظير بحث «الطلب والإرادة» - إلاّ أ نّه ولمنزلتها الخاصّة في نظم مجموع آثاره، فقد انضمّت إلى هذا القسم تبعاً للكفاية حيث أورد قاعدة «لا ضرر» آخر أبحاث البراءة والاشتغال. وقد استعرض قدّس سرّه في بحث قاعدة «لا ضرر» تبحّره في الرواية وتعمّقه في الدراية، فقد أبدى تحقيقات واسعة ودقّة وافرة ومن خلال نقد آراء الأعلام والإشارة إلى شؤون النبيّ صلی الله علیه و آله وسلم ، رأى أنّ معنى نفي الضرر هو «الحكم الصادر منه صلی الله علیه و آله وسلم بنحو الأمرية والحاكمية بما أ نّه سلطان ودافع للظلم عن الرعية وأمر بأ نّه لا ضرر ولا ضرار - أي الرعية ممنوعون عن الضرر والضرار - دفاعاً عن المظلوم وسياسة لحوزة سلطانه وحمى حكومته». وعلى أساس هذا الفهم فإنّ هذا حكم أبديّ من قبل الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله وسلم ، وجميع الحكومات المنتسبة إليه ملزمة برعايته.

هذا وقد طبعت المؤسّسة الرسالة المذكورة تحت عنوان «بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر» وهو أيضاً عنوان اختاره هذه المؤسّسة، وكانت قد طبعت قبل ذلك باهتمام أحد تلاميذ الإمام قدّس سرّه وهو سماحة آية الله مجتبى الطهراني في عام 1385 ه. ق ضمن مجموعة «الرسائل» وقد تولّى طبعها ونشرها مؤسّسة إسماعيليان للطباعة والنشر.

منهجنا في التحقيق:

1. تصحيح الكتاب طبقاً للنسخة التي بخطّ المؤلّف قدّس سرّه .

2. تقويم النصّ وترقيمه بعلائم الترقيم.

3. إضافة عدد من العناوين بهدف تسهيل الرجوع للكتاب، ونظراً لكثرتها

ص: 7

فقد جرّدناها من المعقوفين [ ].

4. تخريج الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، وقد أسندناها إلى مصادرها الأصلية.

5. تخريج الأقوال والآراء المنقولة قدر المستطاع؛ سواء الفقهية منها أو الاُصولية أو الرجالية أو التفسيرية أو الفلسفية أو اللغوية أو غيرها. وقد عبّرنا بلفظ «اُنظر» فيما لو لم نتمكّن من تحديد صاحب القول الأصلي، أو لم نعثر على القول في كتابه، أو لم يكن المنقول مطابقاً للموجود في الكتاب.

6. وضع الفهارس الفنّية لكلّ مجلّد تسهيلاً لأمر المحقّقين والاستفادة الكاملة من الكتاب.

7. إضافة متن «كفاية الاُصول» المرتبط بالتعليقة حتّى يسهل للقارئ الرجوع إلى المتن والاستفادة من التعليقة في آخر كلّ مجلّد.

8. كانت في الطبعة الاُولى علامة [ ] للإشارة إلى التصرّف في المتن بإصلاح الضمائر وغيرها وحيث إنّ التصرّفات كانت غير هامّة أو مرجوحة حذفناها وفي بعض الموارد أرجعنا المتن إلى ما كان.

وجدير بالذكر أنّ هذه المراحل قد وقعت في الطبعة الاُولى لهذه المؤسّسة وفي هذه الطبعة قد صحّحناها وهذّبناها ثانياً.

وليعلم أنّ التعليقة قد طبعت أوّل مرّة بعد رحلته عام 1413ه ق. (1372 ه. ش) تحت عنوان «أنوار الهداية في التعليقة على الكفاية» وهو عنوان اختاره مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه بإجازة نجله حجّة الإسلام والمسلمين الحاج السيّد أحمد الخميني رحمه الله علیه . وقد كان انتشر نظرياته الاُصولية

ص: 8

حول مباحث هذا الكتاب قبل هذا التأريخ في ضمن التقريرات التي نشرت تحت عنوان «تهذيب الاُصول» بقلم آية الله الشيخ جعفر السبحاني.

وختاماً نتقدّم بالشكر الجزيل والثناء الجميل لجميع الأفاضل الذين ساهموا في هذا المشروع المبارك والذي استمرّ ستّة أعوام لنشر هذه الموسوعة، ونسأل الباري أن يوفّقهم جميعاً ويثيبهم من فضله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل

مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه

فرع قم المقدّسة

ص: 9

ص: 10

صورة الصفحة الاُولى من الأصل

ص: 11

صورة الصفحة الأخيرة من الأصل

ص: 12

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على

محمّد وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

وبعد، فهذه تعليقة علّقتها على المباحث العقلية من الكفاية ممّا سنح ببالي عند بحثي عنها، وعلى الله التكلان في البداية والنهاية.

ص: 1

ص: 2

المقصد السادس

في

الأمارات المعتبرة عقلاً أو شرعاً

ص: 3

ص: 4

المقدّمة

وجه أشبهية مسائل القطع بالكلام

قوله: «وكان أشبه بمسائل الكلام...»(1).

قد عرّف علم الكلام تارة: بأ نّه علم يبحث فيه عن الأعراض الذاتية للوجود من حيث هو هو على قاعدة الإسلام(1).

واُخرى: بأ نّه علم يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحوال الممكنات من حيث المبدأ والمعاد على قانون الإسلام(2).

وأشبهية مسائل القطع بمسائل الكلام إنّما تكون على التعريف الثاني؛ [لأ نّه] يدخل فيه مباحث الحسن والقبح وأمثالهما.

وأمّا على الأوّل من التعريفين فلا شباهة بينهما أصلاً؛ فإنّ مسائل القطع ليست من الأعراض الذاتية للوجود من حيث هو وجود، كما لا يخفى على أهله.

ص: 5


1- راجع شوارق الإلهام 1: 58 - 59؛ شرح المواقف 1: 47؛ شرح المقاصد 1: 176.
2- راجع شوارق الإلهام 1: 65؛ شرح المواقف 1: 42؛ شرح المقاصد 1: 179؛ التعريفات، الجرجاني: 80.

وجه تعميم متعلّق القطع وما يرد عليه

قوله: «وإنّما عمّمنا متعلّق القطع...»(2).

وجه التعميم وعدم تثليث الأقسام: ما ذكره قدّس سرّه من عدم اختصاص أحكام القطع بما تعلّق بالأحكام الواقعية(1).

لكن يرد عليه: أنّ لازم ذلك دخول تمام مسائل الظنّ والشكّ إلاّ الاُصول الثلاثة العقلية في مسائل القطع؛ فإنّ المسائل المفصّلة الآتية في الكتاب تفصيل هذا التقسيم الإجمالي المذكور في أوّله، وإلاّ يصير التقسيم لغواً باطلاً، فبناءً على توسعة دائرة القطع وإطالة ذيله حتّى يشمل كلّ المباحث، تصير كلّية المباحث مبحثاً وحيداً هو مبحث القطع، مع أنّ مباحث الظنّ والشكّ من أعظم المباحث الاُصولية، وهي العمدة في المباحث العقلية، والقول بدخولها في مبحث القطع كلام لا يرضى به اُصولي.

وإنّما خصّصنا الاستثناء بالاُصول الثلاثة مع جعله قدّس سرّه الظنّ على الحكومة مقابل القطع، فلأنّ الظنّ على الحكومة لا يكون مقابله، بل هو في الحقيقة من مسائل العلم الإجمالي، إلاّ أنّ دائرته أوسع من العلم الإجمالي المذكور في مباحث القطع والاشتغال، وكون دائرة المتعلّق أوسع منه غير دخيل في الجهة المبحوث عنها، كما لا يخفى على المتأمّل.

ثمّ إنّ لنا بناءً على ما ذكره قدّس سرّه أن ندرج كلّية المباحث حتّى مبحث الاُصول

ص: 6


1- كفاية الاُصول: 296.

العقلية في القطع؛ بأن نجعل متعلّق القطع هو وظيفة المكلّف، فتصير المباحث العقلية كلّها مبحثاً فريداً هو مبحث القطع. لكن هذا ممّا لا يرضى به الوجدان الصحيح، فتثليث الأقسام ممّا لا بدّ منه، لكن لا بما ذكره الشيخ قدّس سرّه (1) لتداخل الأقسام، بل بما ذكره شيخنا العلاّمة الحائري(2) وبعض محقّقي العصر(3).

جواب اعتذار بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه عن تثليث الأقسام

تنبيه: قد اعتذر بعض محقّقي العصر - على ما في تقريرات بحثه - عن تثليث الأقسام بما ذكره شيخنا العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه : «بأنّ عقد البحث في الظنّ إنّما هو لأجل تميّز الظنّ المعتبر الملحق بالعلم عن الظنّ الغير المعتبر الملحق بالشكّ، فلا بدّ أوّلاً من تثليث الأقسام، ثمّ البحث عن حكم الظنّ من حيث الاعتبار وعدمه»(4)، انتهى كلامه.

ومراده: أنّ تثليث الأقسام توطئة لبيان الحقّ فيها.

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ الضرورة قاضية بأنّ التقسيمات التي وقعت في مجاري الاُصول مع هذا التقسيم التثليثي على نهج واحد، فإن كان هذا التقسيم توطئة تكون هي كذلك، فعليه فما الباعث في تقييد مجرى الاستصحاب بكون الحالة السابقة ملحوظة إذا كان التقسيم توطئة، لا من باب بيان المختار ؟

ص: 7


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 25.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 323.
3- نهاية الدراية 3: 17.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 4.

مع أنّ هذا المحقّق قال بعد أسطر من هذا الكلام: وإنّما قيّدنا مجرى الاستصحاب بلحاظ الحالة السابقة، ولم نكتف بمجرّد وجودها؛ فإنّ مجرّد وجودها بلا لحاظها لا يكفي في كونها مجرى الاستصحاب؛ إذ هناك من ينكر اعتبار الاستصحاب كلّية... إلى آخر ما ذكره.

والشيخ رحمه الله علیه أيضاً قال: «وما ذكرناه هو المختار في مجاري الاُصول»(1) فعاد الإشكال على تثليثها جذعاً، فلتكن على ذكر.

ص: 8


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 26.

الأمر الأوّل في وجه عدم جعل الحجّية للقطع

اشارة

قوله: «لعدم جعل تأليفي...»(3).

إنّما لا يمكن الجعل التأليفي بين الشيء ولوازمه؛ لأنّ مناط الافتقار إلى الجعل هو الإمكان، والوجوب والامتناع مناط الاستغناء، والقطع واجب الحجّية، ممتنع اللا حجّية، فليس فيه مناط الفقر والحاجة إلى الجاعل إثباتاً ونفياً.

هذا، ولكن في كون الحجّية والكشف من اللوازم التي لا يتعلّق بها الجعل التأليفي كلام سيأتي - إن شاء الله - في مباحث التجرّي التعرّض له وبيان الميزان فيها (1).

ومجمل ذاك المفصّل: أنّ الكشف والطريقية من آثار وجود القطع، لا لوازم مهيته، وآثار الوجود مطلقاً مجعولة.

نعم، أصل المدّعى - وهو عدم تعلّق الجعل التشريعي به - صحيح بلا مرية؛

ص: 9


1- يأتي في الصفحة 41.

فإنّ الجعل التشريعي لا معنى لتعلّقه بما هو لازم وجود الشيء، فلا معنى لجعل النار حارّةً والشمس مشرقةً تشريعاً، لا لأ نّهما من لوازم ذاتهما، بل لأ نّهما من لوازم وجودهما المحقّقين تكويناً، والقطع أيضاً طريق تكويني وكاشف بحسب وجوده، ولا يتعلّق الجعل التشريعي به؛ للزوم اللغوية وكونه من قبيل تحصيل الحاصل.

هذا، وأمّا حديث اجتماع الضدّين اعتقاداً أو حقيقة، فيمكن [دفعه]؛ فإنّ العلم كالشكّ من عوارض المعلوم بوجه، كالشكّ الذي من طوارئ المشكوك، فكما أنّ المشكوك بما أ نّه مشكوك موضوع يمكن تعلّق حكم مضادّ للذات به؛ بناءً على صحّة الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بنحو الترتّب، كذلك المعلوم بما أ نّه معلوم موضوع يصحّ تعلّق حكم منافٍ للذات به.

نعم، جعل الحكم المنافي للذات لعنوان المعلوم يوجب اللغوية، لكن هذا أمر آخر غير الامتناع الذاتي.

إشكال على مراتب الحكم

قوله: «مرتبة البعث...»(4).

يظهر منه قدّس سرّه على ما في تضاعيف كتبه: أنّ للحكم أربع مراتب: الاقتضاء، والإنشاء، والفعلية، والتنجّز(1).

ولا يخفى: أنّ المرتبة الاُولى والأخيرة لم تكونا من مراتب الحكم؛ فإنّ

ص: 10


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 70؛ فوائد الاُصول، المحقّق الخراساني: 81.

الاقتضاء من مقدّمات الحكم لا مراتبه، والتنجّز من لوازمه لا مراتبه.

نعم، مرتبة الإنشاء - بمعنى جعل الحكم القانوني بنعت العموم والإطلاق بلا ملاحظة تخصيصاته وتقييداته وموانع إجرائه - من مراتب الحكم، كما أنّ مرتبة الفعلية أيضاً من مراتبه.

وهاتان المرتبتان محقّقتان في جميع القوانين الموضوعة في السياسات المدنية؛ فإنّ المقنّنين ينشؤون الأحكام بنعت الكلّية والقانونية، ثمّ تراهم باحثين في مستثنياتها ويراعون مقتضيات إجرائها، فإذا تمّ نصاب المقدّمات وارتفعت موانع الإجراء يصير الحكم فعلياً واقعاً بمقام الإجراء.

فتحصّل: أنّ للحكم مرتبتين لا أربع مراتب.

ص: 11

الأمر الثاني في التجرّي

اشارة

قوله: «الأمر الثاني...»(5).

اعلم أنّ الكلام في مسألة التجرّي طويل الذيل، بعيد الغور، دقيق المسلك، ونحن نقتصر على جانب من الكلام، ونترك في بعض مباحثه المقدّمات العقلية الدقيقة؛ فإنّ الكافل لها علم أعلى.

فهاهنا مباحث لا بدّ من البحث عنها:

المبحث الأوّل في أنّ مسألة التجرّي ليست اُصولية

الميزان في المسائل الاُصولية

قد قرّر أنّ المسائل الاُصولية هي الكبريات التي وقعت في طريق استنباط الأحكام الكلّية الفرعية، أو ينتهى إليها في مقام العمل؛ بحيث تكون نسبتها إليها

ص: 12

كنسبة الكبريات إلى النتائج، لا كنسبة الكلّيات إلى المصاديق(1).

وليعلم: أنّ موضوع النتيجة وإن كان من مصاديق موضوع الكبرى، والنتيجة من جزئيات الكبرى، إلاّ أنّ اختلاف الموضوعين عنواناً يكفي لكون أحدهما مقدّمة والآخر نتيجة.

وبهذا يجاب عن الدور الوارد على الشكل الأوّل البديهي الإنتاج، فما علم في الكبرى هو حدوث كلّ متغيّر بعنوانه، وما علم في النتيجة هو حدوث العالم بعنوانه، فالعالم - مثلاً- من المصاديق العرضية للمتغيّر، فهو غير معلوم الحدوث بعنوانه الذاتي، أو بعنوان عرضي آخر، ومعلوم الحدوث بهذا العنوان العرضي، وبعد ترتيب الصغرى والكبرى يصير معلوم الحدوث بعنوانه الذاتي أو العرضي الآخر، فإذن الفرق بينهما باختلاف العنوان.

وأمّا الفرق بين المصاديق والكلّيات فبالتشخّص واللا تشخّص مع حفظ العنوان، فأفراد الإنسان هو الإنسان المتشخّص.

فإذن الفرق بين المسائل الاُصولية والفقهية - مثل: «كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» - هو أنّ المسائل الاُصولية تكون في طريق الاستنباط، ولا تكون بعنوان ذاتها متعلّقاً للعمل، ويستنتج منها المسائل الفرعية الكلّية التي

تكون متعلّقاً للعمل. مثلاً: حجّية خبر الواحد، أو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ، وأمثالهما من المسائل الاُصولية، هي كبريات لا تكون بنفسها متعلّقاً لعمل المكلّف، بل يستنتج منها الوجوب والحرمة وسائر الأحكام المتعلّقة بعمل

ص: 13


1- كفاية الاُصول: 23.

المكلّف. ونسبة حرمة الخمر في الشبهة الحكمية - مثلاً- إلى الاستصحاب نسبة النتيجة إلى الكبرى؛ فإنّ حرمة الخمر من المصاديق العرضية للاستصحاب، ومصاديقه الذاتية التي هي جزئيات عدم نقض اليقين بالشكّ لم تكن مطلوبة للمكلّف، ولم تكن متعلّقة لعمله، بل ما يستنتج من الاستصحاب هو مطلوبه. وإذا أخبر الثقة بوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب الخمر، فعمل المكلّف على طبقه لا يقال: إنّه مشغول بالعمل بخبر الواحد، بل يقال: إنّه مشغول بوظيفته التي هي صلاة الجمعة الواجبة عليه.

نعم، إنّه مشغول بالعمل بخبر الثقة أيضاً، إلاّ أ نّه بعنوان عرضي غير منظور إليه.

وبعبارة اُخرى: المجتهد الذي [هو] من آحاد المكلّفين، إذا تفحّص عن خبر الثقة أو الاستصحاب - سواء تفحّص عن حجّيتهما أو تحقّقهما في الموارد الخاصّة - لا يكون مطلوبه الذاتي خبر الثقة والاستصحاب بعنوانهما، ولا مؤدّاهما بعنوان مؤدّاهما، بل مطلوبه مؤدّاهما بعنوان غير عنوان المؤدّى، فوجوب صلاة الجمعة وحرمة شرب الخمر - اللذان هما المصداقان العرضيان للمؤدّى - مطلوبه. وأمّا إذا تفحّص عن مصاديق «ما يضمن بصحيحه» لا يكون مطلوبه البيع أو الإجارة بعنوانهما، بل يكون مطلوبه وجدان المصداق الذاتي لهذه القاعدة؛ أي قاعدة ما يضمن، تأمّل.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ مطلوب المكلّف في المسائل الاُصولية هو نتائجها، وفي القواعد الكلّية الفقهية هو مصاديقها.

ص: 14

في الإيراد على القائلين بكون التجرّي من المسائل الاُصولية

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ مسألة التجرّي لم تكن من المسائل الاُصولية، ولا وجه لإدراجها فيها إلاّ وجوه ذكرها المحقّقون، والكلّ منظور فيها.

منها: ما تسالموا عليه من أنّ البحث إذا وقع في أنّ ارتكاب الشيء المقطوع حرمته هل هو قبيح أم لا ؟ يندرج في المسائل الاُصولية التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي(1).

وفيه: أنّ قبح التجرّي كقبح المعصية وحسن الإطاعة وقع في سلسلة المعلولات للأحكام الشرعية، فلم يكن مورداً لقاعدة الملازمة على فرض تسليمها، فلو سلّمنا قبح التجرّي فلا يستنتج حكم شرعي البتّة.

وأيضاً يلزم بناءً عليه: أن يكون في المعصية معصيتان وفي الإطاعة طاعتان:

إحداهما: المعصية والإطاعة الآتيتان من قبل نهي المولى وأمره.

والثانية: ما يستكشف بالملازمة لقاعدتها.

ولا وجه لتخصيص القاعدة العقلية بالتجرّي والانقياد، وسيأتي فيما بعد(2) عدم الفرق بين العاصي والمتجرّي من حيث التجرّي على المولى.

وبالجملة: المسألة الاُصولية ما تقع في طريق الاستنباط، وقبح التجرّي - لو سلّم - لا يقع في طريقه فلا يكون منها.

ومنها: ما في تقريرات بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه : من أنّ البحث إذا وقع في أنّ

ص: 15


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 335.
2- يأتي في الصفحة 22 و27.

الخطابات الشرعية تعمّ صورتي مصادفة القطع للواقع ومخالفته، تكون المسألة من المباحث الاُصولية(1).

وفيه ما لا يخفى؛ فإنّ دعوى إطلاق الخطاب وعمومه لا يدرج المسألة في سلك المسائل الاُصولية؛ فإنّها بحث صغروي مندرج في الفقهيات، وقد عرفت أنّ المسائل الاُصولية هي الكبريات المستنتجة لكلّيات الفروع، كالبحث عن حجّية أصالة العموم والإطلاق، لا البحث عن شمولهما لموضوع، ولو كان البحث الكذائي من المسائل الاُصولية للزم إدراج جلّ المسائل الفقهية في الاُصول؛ فإنّه قلّما يتّفق في مسألة من المسائل الفقهية أن لا يقع البحث عن الإطلاق والعموم بالنسبة إلى بعض الموضوعات المشكوكة، ولعمري إنّ ما وقع منه لا يخلو من غرابة.

ومنها: ما في التقريرات أيضاً بما يرجع إلى الوجهين(2)، وقد عرفت ما فيهما.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ مسألة التجرّي لا تندرج تحت المسائل الاُصولية، بل إمّا فقهية، أو كلامية بتقريبين.

المبحث الثاني في عدم حرمة الفعل المتجرّى به

لا إشكال في عدم صيرورة الفعل المتجرّى به حراماً شرعاً، ولا في عدم صيرورته قبيحاً عقلاً؛ لعدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من العنوان الواقعي بواسطة

ص: 16


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 37 و50.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 44.

تعلّق القطع به، والقطع طريق لما يكون الشيء متّصفاً به بحسب نفس الأمر، وهذا واضح جدّاً لا يحتاج إلى تجشّم استدلال وإقامة برهان.

وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني قدّس سرّه : من أنّ الفعل المتجرّى به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا يكون اختيارياً؛ فإنّ القاطع لا يقصده إلاّ بعنوانه الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا

يلتفت إليه(1). وزاد في «تعليقته على الفرائد» وفي ذيل الأمر الثاني في «الكفاية»: بأنّ المتجرّي قد لا يصدر عنه فعل اختياري أصلاً؛ لأنّ ما قصده لم يقع، وما وقع لم يقصده(2).

ففيه إشكال واضح، لكن لا لما في تقريرات بعض أعاظم العصر قدّس سرّه : من أنّ الالتفات إلى العلم من أتمّ الالتفاتات، بل هو عين الالتفات، ولا يحتاج إلى التفات آخر(3)؛ فإنّه كلام خطابي لا ينبغي أن يصغى إليه؛ لأنّ الضرورة والوجدان شاهدان على أنّ القاطع حين قطعه يكون تمام توجّهه إلى المقطوع به، ويكون قطعه غير ملتفت إليه بالنظر الاستقلالي، ويكون النظر إلى القطع آلياً، وإلى الواقع المقطوع به استقلالياً.

بل الإشكال فيه: أنّ العناوين المغفول عنها على قسمين:

أحدهما: ما لا يمكن الالتفات إليها ولو بالنظرة الثانية، كعنوان النسيان والتجرّي وأمثالهما.

ص: 17


1- كفاية الاُصول: 299.
2- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 37؛ كفاية الاُصول: 302.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 45.

وثانيهما: ما يمكن الالتفات إليها كذلك، كعنوان القصد والعلم وأشباههما.

فما كان من قبيل الأوّل: لا يمكن اختصاص الخطاب به، فلا يمكن أن يقال: أيّها الناسي لكذا، أو أيّها المتجرّي في كذا افعل كذا؛ فإنّه بنفس هذا الخطاب يخرج عن العنوان، ويندرج في العنوان المضادّ له.

نعم، يمكن الخطاب بالعناوين الملازمة لوجودها.

وأمّا ما كان من قبيل الثاني: فاختصاص الخطاب به ممّا لا محذور فيه أصلاً؛ فإنّ العالم بالخمر بعد ما التفت إلى أنّ معلومه بما أ نّه معلوم حكمه كذا بحسب الخطاب الشرعي، يتوجّه بالنظرة الثانية إلى علمه توجّهاً استقلالياً.

وناهيك في ذلك وقوع العلم والقصد في الشرعيات متعلّقاً للأحكام في مثل قوله: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر»(1)، ومثل الحكم بأنّ القاصد عشرة أيّام تكليفه التمام، مع أنّ نسبة القصد إلى المقصود كنسبة العلم إلى المعلوم.

وبالجملة: فرق واضح بين عدم إمكان الالتفات رأساً، وبين الالتفات الآلي الذي يمكن التوجّه إليه.

نقل مقال لتوضيح حال

قال في تقريراته بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - بعد الحكم بعدم إمكان اختصاص المتجرّي بخطاب، وبعد الحكم بأن لا موجب لاختصاص الخطاب به؛ لاشتراك القبح بين المتجرّي والعاصي، بل القبح في صورة المصادفة أتمّ، فلا بدّ أن يعمّ

ص: 18


1- المقنع: 15؛ مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات والأواني، الباب 30، الحديث 4.

الخطاب صورة المصادفة والمخالفة؛ بأن يقال: لا تشرب معلوم الخمرية - ما هذا لفظه: «ولكنّ الخطاب على هذا الوجه أيضاً لا يمكن، لا لمكان أنّ العلم لا يكون ملتفتاً إليه... إلى أن قال: بل المانع من ذلك هو لزوم اجتماع المثلين في نظر العالم دائماً، وإن لم يلزم ذلك في الواقع؛ لأنّ النسبة بين حرمة الخمر الواقعي ومعلوم الخمرية هي العموم من وجه، وفي مادّة الاجتماع يتأكّد الحكمان كما في مثل: «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» إلاّ أ نّه في نظر العالم دائماً يلزم اجتماع المثلين؛ لأنّ العالم لا يحتمل المخالفة، ودائماً يرى مصادفة علمه للواقع، فدائماً يجتمع في نظره حكمان، ولا يصلح كلّ من هذين الحكمين لأن يكون داعياً ومحرّكاً لإرادة العبد بحيال ذاته، ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث عنه ولو في مورد، وفي مثل «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» يصلح كلّ من الحكمين للباعثية بحيال ذاته، ولو في مورد افتراق كلّ منهما عن الآخر، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكّد، فلا مانع من تشريع مثل هذين الحكمين، بخلاف المقام؛ فإنّه لو فرض أنّ للخمر حكماً ولمعلوم الخمرية حكماً، فبمجرّد العلم بخمرية شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنه الذي فرض أ نّه رتّب على ذات الخمر، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب، والحكم الآخر - المترتّب على معلوم الخمرية - لا يصلح لأن يكون باعثاً، ويلزم لغويته»(1) انتهى.

أقول: يظهر من مجموع كلامه قدّس سرّه : أنّ المحذور في تعلّق الأمر المولوي

ص: 19


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 45 - 46.

بعنوان معلوم الخمرية أمران، وإن كان المقرّر قد خلط بينهما:

أحدهما: اجتماع المثلين دائماً في نظر القاطع، وإن لم يلزم في الواقع.

والثاني: لغوية الأمر؛ لعدم صلاحيته للباعثية بحيال ذاته؛ لعدم افتراق العنوانين.

وفي كليهما نظر: أمّا في الأوّل فمن وجوه:

الأوّل: أنّ تعلّق الأمرين بالخمر وبمعلوم الخمرية لا يكون من قبيل اجتماع المثلين؛ لاختلاف موضوعهما، فإنّ عنوان المعلومية كعنوان المشكوكية من العناوين الطارئة المتأخّرة عن الذات، والمعلوم بما أ نّه معلوم لمّا كان تمام الموضوع على الفرض، لا يكون له اجتماع رتبة مع الذات حتّى في مورد مصادفة العلم للواقع، وهذا بوجه نظير اجتماع المقولات العرضية مع مقولة الجوهر في الوجود مع كونهما متقابلتين.

الثاني: أ نّه لو فرضنا هذا المقدار من اختلاف العنوان لا يكفي لرفع اجتماع المثلين، فلا محالة يكون في مورد التصادق من قبيل اجتماع المثلين واقعاً، ولا وجه لصيرورة النتيجة في مورد التصادق تأكّد الحكمين كما في «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» فهل يكون افتراق المثلين في موضع رافعاً لامتناع اجتماعهما في موضع التصادق ؟ !

وبالجملة: حرمة الخمر وحرمة معلوم الخمرية إمّا ممكنا الاجتماع، فلا يمتنع اجتماعهما أصلاً، وإمّا غير ممكني الاجتماع، فلا يمكن اجتماعهما ولو في موضوع واحد، وهو مورد التصادق، فما معنى كونهما من اجتماع المثلين في نظر القاطع دائماً، وعدم كونهما منه بحسب الواقع مطلقاً حتّى في

ص: 20

مورد التصادق ؟ ! وهل هذا إلاّ التناقض في المقال ؟ !

الثالث: لو كان مورد التصادق من قبيل «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» وتصير النتيجة تأكّد الحكمين، فلا يكون في نظر القاطع من اجتماع المثلين أصلاً، بل من قبيل تأكّد الحكمين دائماً، وتلازم عنوانين محرّمين لا يقتضي جمع المثلين.

فلو فرضنا كون عنواني «العالم» و«الهاشمي» متلازمين لم يكن حكم الإكرام عليهما من قبيل اجتماع المثلين، بل يكون من تأكّد الحكمين، وذلك واضح بأدنى تأمّل.

هذا، مضافاً إلى عدم [كون] المورد من قبيل تأكّد الحكمين؛ لأنّ الحكمين الواردين على عنوانين لا معنى للتأكّد فيهما حتّى في مورد الاجتماع، وباب التأكيد فيما إذا جاء الأمر الثاني على الموضوع الأوّل لمحض التأكيد والتأييد للأوّل.

الرابع: هب أ نّك دفعت امتناع اجتماع الحكمين في مورد التصادق بكونهما من قبيل تأكّد الحكمين، فما تفعل لو كان معلوم الخمرية موضوعاً واجب الإتيان بحسب الواقع ؟ ! وهل هو إلاّ من قبيل اجتماع الضدّين واقعاً ؟ ! فلا محيص عنه إلاّ بما ذكرنا في الوجه الأوّل من اختلاف الموضوعين، فيندرج المورد في صغريات باب التزاحم.

أمّا وجه النظر في الثاني من المحذورين: فلأنّ العبد قد لا ينبعث بأمر واحد، وينبعث بأمرين أو أكثر، فحينئذٍ لو كان للموضوع عنوان وحداني تتأكّد الأوامر، ولو كان له عناوين مختلفة متصادقة عليه يكون كلّ أمر بعثاً إلى متعلّقه وحجّة

ص: 21

من الله على العبد، وموجباً لمثوبة في صورة الإطاعة، وعقوبة في صورة المخالفة بلا تداخل وتزاحم.

فلو فرضنا كون إكرام العالم ذا مصلحة مستقلّة ملزمة، وإكرام الهاشمي كذلك، ويكون العنوانان متلازمين في الوجود، لا يكون الأمر بكلّ من العنوانين لغواً؛ لصلاحية كلّ واحد منهما للبعث، ولا دليل على لزوم كون الأمر باعثاً مستقلاًّ غير مجتمع مع بعث آخر، ويكون بعثاً بحيال ذاته، وإنّما هو دعوى بلا برهان وبنيان بلا أساس.

المبحث الثالث في قبح التجرّي وتحقيق الحال فيه

الحقّ الحقيق بالتصديق هو كون المتجرّي والعاصي كليهما توأمين في جميع المراحل والمنازل: من تصوّر الحرام، والتصديق بفائدته المتخيّلة، والشوق إليه، والعزم عليه، وإجماع النفس، وتحريك الأعصاب، وهتك حرمة المولى والجرأة عليه، وتخريب أساس المودّة، ونقض غزل العبودية، وإنّما افتراقهما في آخر المراحل ومنتهى المنازل، وهو إتيان العاصي الحرام الواقعي دون المتجرّي.

فحينئذٍ: لو قلنا بأنّ العقاب الاُخروي كالحدود الشرعية وكالقوانين الجزائية العرفية مجعول لارتكاب العناوين المحرّمة، فلا يكون للمتجرّي هذا العقاب المجعول، كما لا تثبت عليه الحدود الشرعية والجزائيات في القوانين السياسية العرفية، كما لو قلنا بأنّ باب عقاب الله في الآخرة من قبيل تجسّم صور الأعمال، فلا يكون لهذا العمل الغير المصادف صورة في البرازخ وما فوقها.

ص: 22

وأمّا في صحّة العقوبة لهتك حرمة المولى والجرأة عليه، فكلاهما سواء لا افتراق بينهما أصلاً.

كما أ نّه لو قلنا بأنّ الجرأة على المولى لها صورة غيبية برزخية، وأثر ملكوتي في النفس يظهر في عالم الغيب، ويكون الإنسان مبتلىً بها ومحشوراً معها، كما هو الحقّ الذي لا محيص عنه، ويدلّ عليه ضرب من البرهان في محلّه(1) فهما مشتركان فيها أيضاً بلا تداخل للعقابين بالنسبة إلى العاصي؛ فإنّ موجبهما مختلف.

وتوضيحه على نحو الإجمال: أنّ المقرّر في مقارّه عقلاً ونقلاً أنّ للجنّة والنار عوالم ومنازل ومراتب ومراحل، وتكون تلك المراتب والمنازل على طبق مراتب النفس ومنازلها، وبوجه كلّي يكون لكلّ منهما ثلاث مراتب:

الاُولى: مرتبة جنّة الأعمال وجحيمها، وهي عالم صور الأعمال الصالحة والفاسدة والحسنة والقبيحة، والأعمال كلّها بصورها الملكوتية تتجسّم في عالم الملكوت السافل، وترى كلّ نفس عين ما عملت، كما قال عزّ اسمه: )يَوْمَ تَجِدُ

كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ((2)، وقال تعالى: )وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً((3)، وقال: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ((4).

ص: 23


1- راجع الحكمة المتعالية 8: 366، الهامش 1، و9: 139 و332.
2- آل عمران (3): 30.
3- الكهف (18): 49.
4- الزلزلة (99): 7 - 8.

والثانية: جنّة الصفات وجحيمها، وهما الصور الحاصلة من الملكات والأخلاق الحسنة والذميمة، وكما أنّ نفسيهما من مراتب الجنّة والنار تكون آثارهما وصورهما أيضاً منهما.

والثالثة: جنّة الذات ونارها، وهما مرتبة تبعات العقائد الحقّة والباطلة إلى آخر مراتب جنّة اللقاء ونار الفراق.

ولكلّ من المراتب آثار خاصّة وثواب وعقاب بلا تداخل وتزاحم أصلاً.

إذا عرفت ذلك تقدر على الحكومة في مسألة التجرّي، وتعرف أنّ المتجرّي والعاصي في أيّ مرتبة من المراتب يشتركان، وفي أيّها يفترقان، وتعرف النظر في غالب النقوض والإبرامات التي وقعت للقوم فيها.

في نقل كلام بعض مشايخ العصر ووجوه النظر فيه

نقل كلام وتوضيح مرام: ولعلّك بالتأمّل فيما سلف تعرف وجوه الخلط فيما وقع لبعض مشايخ العصر على ما في تقريرات بحثه:

قال في الجهة الثالثة من مبحث التجرّي ما ملخّصه: إنّ دعوى استحقاق المتجرّي للعقاب منوطة بدعوى أنّ العقل بمناط واحد يحكم في المتجرّي والعاصي باستحقاق العقاب، وأنّ مناط عقاب العاصي في المتجرّي موجود، وهذا لا يتمّ إلاّ بأمرين:

أحدهما: دعوى أنّ العلم في المستقلاّت العقلية - خصوصاً في باب الطاعة والمعصية - تمام الموضوع، ولا دخل لمصادفة الواقع وعدمها أصلاً؛ لأ نّه أمر

ص: 24

غير اختياري، ولأنّ الإرادة الواقعية لا أثر لها عند العقل، ولا يمكن أن تكون محرّكة لعضلات العبد إلاّ بالوجود العلمي والوصول.

ثانيهما: كون المناط في استحقاق العقاب عند العقل هو القبح الفاعلي، ولا أثر للقبح الفعلي المجرّد عن ذلك.

ويمكن منع كلّ من الأمرين:

أمّا الأوّل: فلأنّ العلم وإن كان دخيلاً في المستقلاّت العقلية، إلاّ أ نّه لا العلم الأعمّ من المصادف وغيره؛ فإنّ غير المصادف يكون جهلاً.

وبالجملة: العقل يستقلّ بلزوم انبعاث العبد عن بعث المولى، وذلك يتوقّف على بعث المولى وإحرازه، فالبعث بلا إحراز لا أثر له، والإحراز بلا بعث واقعي لا أثر له.

وأمّا الثاني: فلأنّ المناط في استحقاق العقاب هو القبح الفاعلي الذي يتولّد

من القبح الفعلي، لا الذي يتولّد من سوء السريرة وخبث الباطن، وكم فرق بينهما (1)، انتهى.

وفيه: أنّ إناطة دعوى استحقاق المتجرّي بدعوى أنّ العقل بمناط واحد يحكم في العاصي والمتجرّي بالاستحقاق ممّا لا وجه له؛ لما قد عرفت: أنّ العقل يحكم باستحقاق المتجرّي للعقوبة؛ لهتك حرمة المولى والجرأة عليه، صادف الواقع أم لم يصادف، ويحكم باستحقاق العاصي للعقاب المجعول في الآخرة، والحدود المجعولة في الدنيا إن قلنا بجعلية العقاب.

ص: 25


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 48 - 49.

فللعاصي عنوانان:

أحدهما: مخالفة أمر المولى في شرب الخمر.

وثانيهما: هتك حرمته وإهانته، وليس له بواسطته عقاب مجعول قانوني، لكنّه مستحقّ عقلاً للعقاب، وله العقاب الذي هو من لوازم التجرّي والهتك. كما أنّ صاحب الأخلاق الذميمة لو فعل حراماً يكون له عقاب لفعله وعقاب آخر من سنخ ملكته الباطنة ملازم لأخلاقه الذميمة.

فالخلق الذميم له صورة غيبية ملكوتية ملازمة لشدّة وعذاب وخوف وظلمة، وللتجرّي أيضاً صورة باطنة ملكوتية ملازمة لعذاب وشدّة وظلمة مسانخة له. هذا للعاصي.

وأمّا المتجرّي: فلا يكون له العقاب المجعول، أو الصورة الملكوتية العملية، لكنّه في التجرّي واستحقاقه بواسطته وفي الصورة الملكوتية اللازمة له ولوازمها، شريك مع العاصي، ومناطه موجود فيه بلا إشكال.

وبما ذكرنا: علم ما في الأمرين اللذين جعل الدعوى منوطة بهما:

أمّا في الأوّل: فلأنّ دعوى كون العلم في المستقلاّت العقلية تمام الموضوع وأ نّه لا دخل للمصادفة وعدمها، ممّا لا دخالة له فيما نحن فيه، وأنّ القائل بقبح التجرّي لا ملزم له لتلك الدعوى؛ فإنّ قبح التجرّي من المستقلاّت العقلية، وحرمة المعصية والعقاب عليها من المجعولات الشرعية، ولا ربط لها بالتجرّي.

وبما ذكرنا علم حال الجواب عن الأمر الأوّل بأنّ قبح التجرّي إنّما يكون في

ص: 26

صورة المصادفة، وأمّا غيرها فيكون جهلاً، ولا أثر للإحراز بلا بعث واقعي؛ فإنّ الضرورة قاضية بأنّ القاطع المتجرّي هتّاك لحرمة المولى، ومقدم على مخالفته، ومستحقّ للعقوبة، ولا فرق بينه وبين العاصي من هذه الجهة أصلاً، لا لأنّ العلم تمام الموضوع، بل لأنّ التجرّي تمام الموضوع.

نعم، لا يصدق عنوان التجرّي والعصيان إلاّ مع العلم، لا أ نّه تمام الموضوع أو جزؤه في حكم العقل بالقبح، فالعلم إنّما هو محقّق عنوان التجرّي والعصيان، وهما تمام الموضوع لحكم العقل باستحقاق العقوبة.

وبالجملة: المتجرّي والعاصي في نظر العقل سواء إلاّ في العقاب المجعول أو اللازم لارتكاب المحرّم، والوجدان أصدق شاهد على ذلك، فإنّك لو نهيت ولديك عن شرب الترياك، وجعلت للشارب مائة سوط، فشربا ما اعتقدا كونه ترياكاً، فصادف أحدهما الواقع دون الآخر، صار المصادف عندك مستحقّاً للعقاب المجعول. وأمّا غيره وإن كان غير مستحقّ للعقاب المجعول، لكنّه مستحقّ للتأديب والتعزير؛ لهتكه ولجرأته وكونه بصدد المخالفة، وكلاهما في السقوط عن نظرك والبعد عنك سواء. وهذا واضح، والمنكر مكابر لعقله.

مع أنّ أمر الجرأة على مولى الموالي والهتك لسيّد السادات لا يقاس على ما ذكر؛ فإنّ الانقياد له والتجرّي عليه يصيران مبدأ الصور الملكوتية المستتبعة للدرجات والدركات، كما هو المقرّر عند أهله(1).

ص: 27


1- راجع الحكمة المتعالية 8: 366، الهامش 1، و9: 139 و332.

وأمّا في الثاني: فلأنّ دعوى كون القبح الفعلي ممّا لا أثر له والمؤثّر المنحصر هو القبح الفاعلي، ممّا لا دخالة لها في المقام؛ فإنّ مدّعي قبح التجرّي يدّعيه سواء كان للفعل الواقعي أثر أم لا.

وبالجملة: أنّ التجرّي عنوان مستقلّ في نظر العقل، وهو موضوع حكمه بالقبح، والقبح الفعلي أمر آخر غير مربوط به.

ومن ذلك علم حال الجواب عن الأمر الثاني، من إحداث الفرق بين القبح الفاعلي الناشئ عن القبح الفعلي، وبين الناشئ عن سوء السريرة؛ فإنّ ذلك من ضيق الخناق، وإلاّ فأيّة دخالة للمنشأ في عنوان التجرّي الذي هو تمام الموضوع لحكم العقل بالقبح، كما هو حكم الوجدان وقضاء الضرورة ؟ !

وبالجملة: هذا التكلّف والخلط ناشٍ من عدمِ تحقيق مراتب الثواب والعقاب، وقياسِ عالم الآخرة والعقوبات الاُخروية بالدنيا وعقوباتها، مع أ نّها أيضاً لا تكون كما زعموا، فافهم واستقم.

ص: 28

في اختيارية الإرادة وعدمها

قوله: «إنّ القصد والعزم إنّما يكون من مبادئ الاختيار»(6).

أقول: إنّ مسألة اختيارية الإرادة وعدمها من المسائل التي وقع التشاجر بين الأفاضل والأعلام فيها، ولا بدّ من تحقيق الحال حسبما وقعت في الكتب العقلية؛ ليكون الدخول في البيت من بابه، فنقول:

في الإشكال على اختيارية الإرادة

إنّ من جملة الإشكالات الواردة في باب الإرادة الحادثة: أنّ الإرادة الإنسانية إذا كانت واردة عليه من خارج بأسباب وعلل منتهية إلى الإرادة القديمة فكانت واجبة التحقّق، سواء أرادها العبد أم لم يردها، فكان العبد ملجأً مضطرّاً في إرادته، ألجأته إليها المشيّة الواجبة الإلهية )وَمَاتَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله((1) فالإنسان كيف يكون فعله بإرادته؛ حيث لا تكون إرادته بإرادته ؟ وإلاّ لترتّبت الإرادات متسلسلة إلى غير نهاية.

كلام المحقّق الداماد في دفع الإشكال

وأجاب عنه المحقّق البارع الداماد قدّس سرّه : بأنّ الإرادة حالة شوقية إجمالية للنفس؛ بحيث إذا ما قيست إلى الفعل نفسه وكان هو الملتفت إليه بالذات، كانت

ص: 29


1- الإنسان (76): 30.

هي شوقاً إليه وإرادة له، وإذا قيست إلى إرادة الفعل وكان الملتفت إليه هي نفسها لا نفس الفعل، كانت هي شوقاً وإرادة بالنسبة إلى الإرادة من غير شوق آخر وإرادة اُخرى جديدة. وكذلك الأمر في إرادة الإرادة، وإرادة إرادة الإرادة، إلى سائر المراتب التي في استطاعة العقل أن يلتفت إليها بالذات ويلاحظها على التفصيل، فكلّ من تلك الإرادات المفصّلة تكون بالإرادة، وهي بأسرها مضمّنة في تلك الحالة الشوقية الإرادية، والترتيب بينها بالتقدّم والتأخّر عند التفصيل ليس يصادم اتّحادها في تلك الحالة الإجمالية(1) انتهى.

إشكالات صدر المتأ لّهين على المحقّق الداماد وردّها

وأورد عليه تلميذه الأكبر إشكالات(2):

منها: أنّ لنا أن نأخذ جميع الإرادات بحيث لا يشذّ عنها شيء منها، ونطلب أنّ علّتها أيّ شيء هي ؟ فإن كانت إرادة اُخرى لزم كون شيء واحد خارجاً وداخلاً بالنسبة إلى شيء واحد بعينه هو مجموع الإرادات، وذلك محال، وإن كان شيئاً آخر لزم الجبر في الإرادة.

ومنها: أنّ التحليل بالمتقدّم والمتأخّر إنّما يجري فيما له جهة تعدّد في الواقع وجهة وحدة في نفس الأمر، كأجزاء الحدّ من الجنس والفصل، وأمّا ما لا يكون كذلك فليس للعقل أن يخترع له الأجزاء الكذائية من غير حالة باعثة إيّاه.

ومنها: غير ذلك.

ص: 30


1- القبسات: 473 - 474؛ اُنظر الحكمة المتعالية 6: 388 - 389.
2- الحكمة المتعالية 6: 389 - 390.

ويرد عليه - مضافاً إلى أنّ تفسير الإرادة بالحالة الشوقية ليس على ما ينبغي؛ فإنّ الشوق حالة انفعالية أو شبيهة بها، قد تكون من مبادئ الإرادة وقد لا تكون، والإرادة حالة إجماعية فعلية متأخّرة عن الشوق فيما يكون من مبادئها - أنّ تلك الهيئة الوحدانية البسيطة لا يمكن أن تنحلّ إلى علّة ومعلول حقيقة، حتّى يكون الشيء بحسب نفس الأمر علّة لذاته، أو تكون العلّة والمعلول الحقيقيتان متّحدتين في الوجود.

وأمّا حديث علّية الفصل للجنس والصورة للمادّة فليست في البين العلّية الحقيقية؛ بحيث يكون الفصل موجداً للجنس أو المادّة للصورة، على ما هو المقرّر في محلّه(1).

الجواب عن أصل الإشكال

والحقّ(2) في الجواب عن أصل الإشكال ما أفاد بعض أعاظم الفلاسفة:

من أنّ المختار ما يكون فعله بإرادته، لا ما يكون إرادته بإرادته وإلاّ لزم أن لا تكون إرادته تعالى عين ذاته، والقادر ما يكون بحيث إن أراد الفعل صدر عنه الفعل وإلاّ فلا، لا ما يكون إن أراد الإرادة للفعل فعل وإلاّ لم يفعل(3) انتهى.

أقول: إنّ من الواضح الضروري عند جميع [أفراد النوع] الإنساني أنّ الفعل

ص: 31


1- راجع الحكمة المتعالية 2: 29 - 31.
2- والتحقيق فيه ماحقّقناه في رسالة مفردة كافلة لجميع الإشكالات وردّها فليراجع إليها أ. [منه قدّس سرّه ] أ - راجع رسالة «الطلب والإرادة»: 29.
3- الحكمة المتعالية 6: 388.

الصادر عن اختيار وعلم وإرادة موضوع لحسن العقوبة إذا كان على خلاف المقرّرات الدينية أو السياسية المدنية عند الموالي العرفية، والعقلاء كافّة يحكمون باستحقاق عبيدهم [العقوبة] بمجرّد فعل مخالف للمولى اختياراً منهم، وهذا حكم ضروري عندهم في جميع اُمورهم، وليس هذا إلاّ لأجل أنّ الفعل الذي [هو] موضوع حسن العقوبة عندهم هو الفعل الصادر عن علم وإرادة واختيار وإن لم تكن تلك المبادئ بالاختيار، والعقلاء لا ينظرون ولا يلتفتون إلى اختيارية المبادئ وإراديتها وكيفية وجودها، بل الملتفت إليه هو الفعل الصادر، فإن كان صادراً عن اختيار يحكمون على فاعله باستحقاق المثوبة أو العقوبة؛ بحيث تكون تلك الشبهات في نظرهم شبهات سوفسطائية في مقابل البديهة.

فلو قيل: إنّ الفعل الاختياري ما يكون مبادئه اختيارية، فلا وجه لاختصاص الاختيارية بالإرادة، بل لا بدّ من الإسراء بها إلى كلّ ما هو دخيل في وجود الفعل من وجود الفاعل وعلمه وشوقه وإرادته، فيلزم أن لا يكون فعل من الأفعال اختيارياً حتّى فعل الواجب تعالى شأنه، فلا بدّ من محو كلمة الاختيار من قاموس الوجود، وهو ضروري البطلان.

ولو سلّم فلنا أن نقول: إنّه لا يعتبر في صحّة العقوبة عند كافّة العقلاء الاختيارية بالمعنى المدّعى من كون الفعل اختيارياً بجميع مبادئه؛ فإنّ صحّة العقوبة من الأحكام العقلائية والمستصحّات العقلية، وهذا حكم جارٍ رائج بين جميع العقلاء في الأعصار والأدوار لا يشكّون فيه، و[قد] يشكّون في الشمس في رابعة النهار.

مع أنّ الإرادة ليست بالإرادة، والاختيار ليس بالاختيار.

ص: 32

وليعلم: أنّ مجرّد صدور الفعل عن علم وإرادة ليس موضوع حكم العقل لصحّة العقوبة واستحقاق العقاب؛ ضرورة أنّ الحيوانات أيضاً إنّما [تفعل ما تفعل] بعلم وإرادة، ولو كانت إرادية الفعل موضوعاً للاستحقاق للزم الحكم باستحقاق الحيوانات، فما هو الموضوع هو صدور الفعل عن الاختيار الناشئ عن تميّز الحسن من القبيح.

والاختيار عبارة عن ترجيح أحد جانبي الفعل والترك بعد تميّز المصالح والمفاسد الدنيوية والاُخروية، فإنّ الإنسان بعد اشتراكه مع الحيوان بأنّ أفعاله بإرادته وعلمه، يمتاز عنه بقوّة التميّز وإدراك المصالح الدنيوية والاُخروية، وقوّة

الترجيح بينهما، وإدراك الحسن والقبح بقوّته العقلية المميّزة.

وهذه القوّة مناط التكليف واستحقاق الثواب والعقاب، لا مجرّد كون الفعل إرادياً، كما ورد في الروايات: «أنّ الله لمّا خلق العقل استنطقه...» إلى أن قال: «بك اُثيب، وبك اُعاقب»(1) فالثواب والعقاب بواسطة العقل وقوّة ترجيحه المصالح والمفاسد والحسن والقبح.

هذا، وأمّا مسألة إرادية الفعل، فالحقّ في الجواب: أنّ الفعل الإرادي ما صدر عن الإرادة، فوزان تعلّق الإرادة بالمراد وزان تعلّق العلم بالمعلوم من هذه الحيثية، فكما أنّ مناط المعلومية هو كون الشيء متعلّقاً للعلم، لا كون علمه متعلّقاً للعلم الآخر، كذلك مناط المرادية هو كونه متعلّقاً للإرادة وصادراً عنها، لا كون إرادته متعلّقاً لإرادة اُخرى، فليتدبّر.

ص: 33


1- راجع الكافي 1: 10 / 1.

تتمّة

في نقل أجوبة اُخر للأعلام عن الإشكال والجواب عنها

وهاهنا بعض التفصّيات التي لا تخلو عن النظر:

منها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : من أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلاّ أنّ بعض مبادئه غالباً يكون وجوده بالاختيار؛ للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة(1).

وفيه: أ نّه بعد فرض كون الفعل الاختياري ما تكون مبادئه بإرادة واختيار لا يمكن فرض اختيارية المبادئ؛ فإنّها أيضاً أفعال اختيارية لا بدّ من تعلّق إرادة بإرادتها.

وبعبارة اُخرى: إنّا ننقل الكلام إلى المبادئ الاختيارية، فهل اختياريتها بالاختيار ؟ فيلزم التسلسل، أو لا ؟ فعاد المحذور.

ومنها: ما أفاده شيخنا العلاّمة الحائري رحمه الله علیه : بأنّ التسلسل إنّما يلزم لو قلنا بانحصار سبب الإرادة في الإرادة، ولا نقول به، بل ندّعي أ نّها قد توجد بالجهة الموجودة في المتعلّق - أعني المراد - وقد توجد بالجهة الموجودة في نفسها، فيكفي في تحقّقها أحد الأمرين... - إلى أن قال - والدليل على أنّ الإرادة قد تتحقّق لمصلحة في نفسها هو الوجدان؛ لأ نّا نرى إمكان أن يقصد الإنسان البقاء في المكان الخاصّ عشرة أيّام بملاحظة أنّ صحّة الصوم والصلاة التامّة تتوقّف

ص: 34


1- كفاية الاُصول: 300.

على القصد المذكور، مع العلم بأنّ هذا الأثر لا يترتّب على نفس البقاء واقعاً، ونظير ذلك غير عزيز(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أ نّه بذلك لا تنحسم مادّة الإشكال، فإنّا لو سلّمنا أنّ الإرادة في الجملة تحصل بالإرادة، لكن إرادة هذه الإرادة هل هي إرادية، وهكذا إرادة إرادة الإرادة، أم لا ؟ فعلى الأوّل تتسلسل الإرادات إلى غير نهاية، وعلى الثاني عاد المحذور من كون العبد ملجأً مضطرّاً.

وثانياً: أنّ ما اعتمد عليه من المثال الوجداني ممّا لا يثبت مدّعاه؛ فإنّ الشوق بالتبع لا بدّ وأن يتعلّق ببقاء عشرة أيّام، وإلاّ فلا يعقل تحقّق قصد البقاء، ففي المثال أيضاً أ نّه يريد البقاء، لا أ نّه يريد إرادة البقاء، وذلك واضح جدّاً.

ومنها: ما قيل: إنّ المراد إرادي بالإرادة، والإرادة مرادة بنفس ذاتها، كالوجود إنّه موجود بنفس ذاته، والعلم معلوم بنفس ذاته(2).

وفيه: أنّ هذا خلط غير مفيد؛ فإنّ معنى كون الإرادة مرادة بنفس ذاتها أ نّها مصداق المراد بنفس ذاتها؛ أي بلا جهة تقييدية، بناءً على عدم أخذ الذات في مفهوم المشتقّ، لا أ نّها محقّقة نفس ذاتها ولا يكون لها جهة تعليلية، وما يكون منشأ الإشكال في المقام هو مسبوقية الإرادة بعلّة غير إرادية للفاعل، فلا يحسم بما ذكر مادّة الإشكال، بل هو كلام إقناعي.

ص: 35


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 338.
2- لمحات الاُصول: 66؛ نهاية الاُصول: 122.

معنى البعد والقرب والإيراد على المصنّف

قوله: «إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بعده...»(7).

لا يخفى: أنّ القرب والبعد بالنسبة إلى الله تعالى قد ينتزعان من كمال الوجود ونقصه، فكلّما كان في وجوده ونعوت وجوده كاملاً تامّاً يكون قريباً من مبدأ الكمال ومعدن التمام، كالعقول المجرّدة والنفوس الكلّية، وكلّما كان ناقصاً متشابكاً بالأعدام ومتعانقاً بالكثرات يكون بعيداً عن المقام المقدّس عن كلّ عدم ونقص وقوّة واستعداد، كالموجودات المادّية الهيولانية.

فالهيولى الاُولى الواقعة في حاشية الوجود - حيث كان كمالها عين النقص، وفعليتها عين القوّة - أبعد الموجودات عن الله تعالى، والصادر الأوّل أقرب الموجودات إليه تعالى، والمتوسّطات متوسّطات.

وهذا القرب والبعد الوجودي لا يكونان مناط الثواب والعقاب بالضرورة، ولعلّه قدّس سرّه يعترف بذلك.

وقد ينتزعان من مقام استكمال العبد بالطاعات والقربات، أو نفس الطاعات والقربات، والتحقّق بمقابلاتها من العصيان والتجرّي، فيقال للعبد المطيع المنقاد: إنّه مقرَّب [من] حضرته قريب من مولاه، وللعاصي المتجرّي: إنّه رجيم بعيد عن ساحة قدسه.

وهذا مراده من القرب والبعد ظاهراً. فحاصل مرامه: أنّ سبب اختلاف الناس في استحقاق الجنّة والنار ونيل الشفاعة وعدمه، هو القرب منه تعالى بالانقياد والطاعة، والبعد عنه بالتجرّي والمعصية.

ص: 36

وفيه: أنّ القرب والبعد أمران اعتباريان منتزعان من طاعة العبد وعصيانه، مع أنّ استحقاق العقوبة والمثوبة من تبعات نفس الطاعة والانقياد والتجرّي والعصيان، والعقل إنّما يحكم باستحقاق العبد المطيع والعاصي للثواب والعقاب بلا توجّه إلى القرب والبعد.

وبعبارة اُخرى: الطاعة والمعصية وكذا الانقياد والتجرّي تمام الموضوع لحكم العقل في باب الثواب والعقاب، بلا دخالة للقرب والبعد في هذا الحكم أصلاً.

وبعبارة ثالثة: إنّ عناوين القرب والبعد واستحقاق العقوبة والمثوبة منتزعات في رتبة واحدة عن الطاعة والعصيان وشقيقيهما، ولا يمكن أن يكون بعضها موضوعاً لبعض.

ثمّ اعلم: أ نّه قدّس سرّه قد اضطرب كلامه في هذا المقام؛ حيث حكم في أوّل المبحث بأنّ المتجرّي مستحقّ للعقوبة على تجرّيه وهتك حرمة مولاه(1)، وبعد «إن قلتَ... قلتُ» ظهر منه أنّ التجرّي سبب للبعد وهو موجب للعقوبة؛ حيث قال: «إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بعده عن سيّده بتجرّيه عليه»(2)، وظهر منه بلا فصل أنّ التجرّي موجب للبعد وحسن العقوبة كليهما في عرض واحد؛ حيث قال: «فكما أ نّه يوجب البعد عنه، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة»(3)، وبعد أسطر صرّح: «بأنّ تفاوت أفراد الإنسان في

ص: 37


1- كفاية الاُصول: 298.
2- كفاية الاُصول: 300.
3- نفس المصدر.

القرب والبعد سبب لاختلافها في الاستحقاق»(1)، وفي آخر المبحث ظهر منه أنّ منشأ استحقاق العقوبة هو الهتك [لحرمة] المولى(2).

وممّا ذكرنا من مناط الاختيارية ومناط حسن العقوبة ظهر ما في كلامه أيضاً من أنّ التجرّي وإن لم يكن باختياره إلاّ أ نّه يوجب العقوبة بسوء سريرته وخبث باطنه؛ فإنّه قد ظهر أنّ الفعل الذي هو مناط حسن العقوبة عند العقلاء والعقل هو الفعل الاختياري؛ أي الفعل الذي هو أثر الاختيار ومنشؤه الاختيار، لا الفعل الذي يكون اختياره بالاختيار.

وأمّا سوء السريرة وخبث الباطن ونقصان الوجود والاستعداد، فليست ممّا توجب العقوبة عقلاً كما عرفت.

نعم، لا يبعد أن تكون بعض المراتب من الظلمة والوحشة من تبعات سوء السريرة وخبث الباطن، وسيأتي في مستأنف القول: أنّ سوء السريرة وخبث الباطن وكذا سائر الملكات الخبيثة وغيرها، ليست ذاتية غير ممكنة التخلّف عن الذات، بل كلّها قابل للزوال، وللعبد المجاهد إمكان إزالتها، فانتظر(3).

وأمّا ما ذكره في الهامش في هذا المقام بقوله: كيف لا - أي كيف لا يكون العقاب بأمر غير اختياري - وكانت المعصية الموجبة لاستحقاق العقوبة غير اختيارية ؟ فإنّها هي المخالفة العمدية، وهي لا تكون بالاختيار؛ ضرورة أنّ

ص: 38


1- كفاية الاُصول: 301.
2- كفاية الاُصول: 302.
3- يأتي في الصفحة 44 - 45 و51.

العمد إليها ليس باختياري، وإنّما تكون نفس المخالفة اختيارية، وهي غير موجبة للاستحقاق، وإنّما الموجبة له هي العمدية منها، كما لا يخفى على اُولي النُهى(1).

ففيه: أنّ الموجب لاستحقاق العقوبة هي المخالفة العمدية؛ بمعنى أن تكون المخالفة صادرة عن عمد، لا بمعنى أن تكون مقيّدة بالعمد حتّى يلزم أن يكون صدور المخالفة العمدية عن عمد واختيار، وهو واضح.

ص: 39


1- كفاية الاُصول: 300، الهامش 2.

بيان حقيقة السعادة والشقاوة

اشارة

قوله: «فإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال وينقطع السؤال ب- (لِمَ)...»(8).

في تحقيق الذاتي الذي لا يعلّل

قد تكرّر على ألسنة القوم أنّ الذاتي لا يعلّل، والعرضي يعلّل، وقد أخذ المصنّف قدّس سرّه هذا الكلام منهم واستعمله في غير مورده كراراً في «الكفاية»(1) و«الفوائد»(2)، ولا بدّ لنا من تحقيق الحال حتّى يتّضح الخلط ويرتفع الإشكال.

وقبل الخوض في المقصود لا بدّ من تمهيد مقدّمات:

الاُولى: أنّ الذاتي الذي يقال إنّه لا يعلّل هو الذاتي المتداول في باب البرهان في مقابل العرضي في بابه، وهو ما لا يمكن انفكاكه عن الذات، أعمّ من أن يكون داخلاً فيها - وهو الذاتي في باب الإيساغوجي - أو خارجاً ملازماً لها.

ووجه عدم المعلّلية: أنّ سبب الافتقار إلى العلّة هو الإمكان على ما هو المقرّر في محلّه(3)، والوجوب والامتناع كلاهما مناط الاستغناء عن العلّة،

فواجب الوجود لا يعلّل في وجوده، وممتنع الوجود لا يعلّل في عدمه، وواجب الإنسانية والحيوانية والناطقية لا يعلّل فيها، وواجب الزوجية والفردية لا يعلّل فيهما؛ لأنّ مناط الافتقار إلى الجعل - وهو العقد الإمكاني -

ص: 40


1- كفاية الاُصول: 89 - 90 و301.
2- فوائد الاُصول، المحقّق الخراساني: 28.
3- الحكمة المتعالية 1: 206؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 265.

مفقود فيها، وقس على ذلك الامتناع.

الثانية: أنّ الوجود وكلّية عوارضه ونعوته - وبالجملة كلّ ما كان من سنخ الوجود - لا تكون ذاتية لشيء من المهيات الإمكانية، وإنّما هو ذاتي بوجه لواجب الوجود الذي هو بذاته وجود ووجوب، وأمّا غير ذاته تعالى فالممكنات قاطبة ذاتها وذاتياتها من سنخ المهيات ولوازمها.

فما كان من سنخ الوجود معلّل غير الواجب بالذات - جلّ كبرياؤه - وينتهي في سلسلة العلل إلى أوّل الأوائل وعلّة العلل، فلو كان في سلسلة الوجودات شيء مستغنٍ عن العلّة لخرج عن حدود بقعة الإمكان إلى ساحة القدس الوجوبي تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

فالمراد بالذاتي الذي لا يعلّل في الممكنات هو المهيات وأجزاؤها ولوازمها، وأمّا الوجود فلم يكن في بقعة الإمكان شيء منه غير معلّل.

نعم، إنّ الوجود مجعول بالجعل البسيط، وأمّا بعد جعله بسيطاً فلا يحتاج في كونه وجوداً وموجوداً إلى جعل، ففي الحقيقة كونه موجوداً ووجوداً ليس شيئاً محقّقاً بهذا المعنى المصدري، بل هو من المخترعات العقلية، وإذا اُريد بكونه موجوداً أو وجوداً نفس الحقيقة النورية الخارجية، فهو يرجع إلى نفس هويته المجعولة بسيطاً.

فاللازم في باب الوجود لو اُطلق لا يكون بمثابة اللازم في باب المهيات من كونه غير مجعول، بل لازم الوجود - أي الذي هو من سنخ الوجود مطلقاً - مجعول ومعلّل. ألا ترى أنّ أساطين الفلسفة قد جمعوا بين المعلولية واللزوم،

ص: 41

وقالوا: إنّ المعلول لازم ذات العلّة(1).

الثالثة: أنّ من المقرّر في مقارّه(2): أنّ المهيات بلوازمها ليست منشأً لأثر من الآثار، ولا علّية ومعلولية بينها حقيقة أصلاً، فإن قيل: إنّ المهية الكذائية علّة لكذا، فهو من باب المسامحة، كما قيل: إنّ عدم العلّة علّة لعدم المعلول، فإذا رجعوا إلى تحقيق الحال أقاموا البرهان المتقن على أنّ المهيات اعتباريات ليست بشيء، والعدم حاله معلوم.

فالتأثير والتأثّر أناخا راحلتيهما لدى الوجود، وإليه المصير، ومنه المبدأ والمعاد، وهذا يؤكّد عدم معلولية الذات والذاتيات في الممكنات، فإنّها من سنخ المهيات المحرومة عن المجعولية والفيض الوجودي، فالمفيض والمفاض هو الوجود لا غير.

الرابعة: أنّ كلّ كمال وجمال وخير يرجع إلى الوجود، وإنّما المهيات اُمور اعتبارية لا حقيقة لها بل )كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً((3).

فالعلم بوجوده كمال، والقدرة وجودها شريف لا مهيتها، و[كذا] سائر الكمالات والخيرات فإنّها بوجوداتها كمالات وخيرات، لا بمهياتها؛ فإنّها اعتبارية، ولا شرف ولا خير في أمر اختراعي اعتباري.

فالوجود مع كونه بسيطاً غاية البساطة مركز كلّ الكمال والخير، وليس في مقابله إلاّ المهيات الاعتبارية والعدم، وهما معلوما الحال ليس فيهما

ص: 42


1- الحكمة المتعالية 2: 226.
2- الحكمة المتعالية 1: 38 - 44، و2: 380.
3- النور (24): 39.

خير وكمال، ولا جلال وجمال.

وهذا أصل مسلّم مبرهن عليه في محلّه(1)، وإنّما نذكر هاهنا نتائج البراهين حذراً عن التطويل.

الخامسة: أنّ المقرّر في محلّه والمبرهن عليه في العلوم العالية - كما عرفت - أنّ كلّ الكمالات ترجع إلى الوجود.

فاعلم الآن أنّ السعادة - سواء كانت سعادة عقلية حقيقية، أو حسّية ظنّية

- من سنخ الوجود والكمال الوجودي، بل الوجود - أينما كان - هو خير وسعادة، والشعور بالوجود وبكمال الوجود خير وسعادة، وكلّما تتفاضل الوجودات تتفاضل الخيرات والسعادات.

بل التحقيق: أنّ الخير والسعادة مساوقان للوجود، ولا خيرية للمهيات الاعتبارية والذاتيات الاختراعية، فأتمّ الوجودات وأكملها يكون خيراً مطلقاً مبدأ كلّ الخيرات، وسعيداً مطلقاً مصدر كلّ السعادات، وكلّما بعُد الموجود عن مبدأ الوجود وصار متعانقاً بالأعدام والتعيّنات بعُد عن الخير والسعادة.

هذا حال السعادة.

وأمّا الشقاوة مطلقاً فعلى قسمين:

أحدهما: ما هو مقابل الوجود وكماله، فهو يرجع إلى العدم والنقصان.

وثانيهما: الشقاوة الكسبية التي تحصل من الجهالات المركّبة والعقائد الفاسدة والأوهام الخرافية في الاعتقاديات، والملكات الرذيلة والأخلاق

ص: 43


1- الحكمة المتعالية 1: 340 - 341، و9: 121؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 68.

الذميمة كالكبر والحسد والنفاق والحقد والعداوة والبخل والجبن في الأخلاقيات، وارتكاب القبائح والمحرّمات الشرعية كالظلم والقتل والسرقة وشرب الخمر وأكل الباطل في التشريعيات.

وهذا القسم من الشقاوة له صورة في النفس وملكوت الباطن، وبحسبها حظّ من الوجود مخالف لجوهر ذات النفس والفطرة الأصلية لها، وستظهر لأهلها في الدار الآخرة عند ظهور ملكوت النفس والخروج عن خدر الطبيعة، موحشة مظلمة مؤلمة معذّبة إيّاها، ويبقى أهلها في غصّة دائمة وعذاب خالد، مقيّدين بسلاسل على حسب صور أعمالهم وأخلاقهم وملكاتهم وظلمات عقائدهم وجهالاتهم، حسبما هو المقرّر عند علماء الآخرة(1) وكشفت عن ساقها الكتب السماوية، ولا سيّما الكتاب الجامع الإلهي والقرآن التامّ لصاحب النبوّة الختمية(2)، والمتكفّل لتفصيلها الأخبار الصادرة عن أهل بيت الوحي والطهارة عليهم أفضل الصلاة والتحية(3).

إذا عرفت ما تقدّم من المقدّمات فاعلم:

أنّ السعادة مطلقاً والشقاوة بمعناها الثاني لا يكونان من الذاتيات الغير المعلّلة؛ فإنّها - كما عرفت - هي المهيات ولوازمها، والوجود - أيّ وجود كان -

ص: 44


1- الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 477 - 493؛ الحكمة المتعالية 9: 131 و290؛ علم اليقين 2: 869.
2- تقدّم بعض الآيات في الصفحة 23.
3- راجع الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 402، الحديث 33 و: 475، الحديث 39؛ شرح چهل حديث، الإمام الخميني قدّس سرّه : الحديث 27.

فهو ليس بذاتي لشيء من الأشياء الممكنة، وقد عرفت أنّ السعادة مطلقاً والشقاوة بهذا المعنى من سنخ الوجود، وهو مجعول معلّل ليس ذاتياً لشيء من الموجودات الممكنة.

نعم، لمّا كانت الوجودات مختلفة المراتب ذات المدارج بذاتها، تكون كلّ مرتبة تالية معلول مرتبة عالية متلوّة لا يمكن التخلّف عنها، فالوجود الداني معلول الوجود العالي السابق له بذاته وهويته، ولا يمكن تخلّفه عن المعلولية؛ فإنّها ذاتية له، وهذا الذاتي غير الذاتي الذي لا يعلّل، بل الذاتي الذي هو عين المعلولية كما عرفت.

في الإشكال على المحقّق الخراساني

وبما ذكرنا سقط ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في «الكفاية»(1) و«الفوائد»(2): من أنّ التجرّي كالعصيان وإن لم يكن باختياره، إلاّ أ نّه بسوء سريرته وخبث باطنه بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكاناً، وإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال وينقطع السؤال ب- «لمَ»؛ فإنّ الذاتيات ضرورية الثبوت للذات، وبذلك أيضاً ينقطع السؤال عن أ نّه لمَ اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان ؟ فإنّه يساوق السؤال عن أنّ الحمار لمَ يكون ناهقاً، والإنسان لمَ يكون ناطقاً ؟

وما أفاد أيضاً: من أنّ العقاب إنّما يتبع الكفر والعصيان التابعين للاختيار

ص: 45


1- كفاية الاُصول: 300 - 301.
2- فوائد الاُصول، المحقّق الخراساني: 28.

الناشئ عن مقدّماته الناشئة عن شقاوتهما الذاتية اللازمة لخصوص ذاتهما؛ فإنّ

«السعيد سعيد في بطن اُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه»(1) و«الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة»(2) - كما في الخبر - والذاتي لا يعلّل، فانقطع سؤال أ نّه لمَ جعل السعيد سعيداً والشقيّ شقيّاً ؟ فإنّ السعيد سعيد بنفسه والشقيّ شقيّ كذلك، وقد أوجدهما الله تعالى(3)، انتهى.

فإنّه يرد عليه: - مضافاً إلى ما عرفت من وقوع الخلط والاشتباه منه قدّس سرّه في جعل الشقاوة والسعادة من الذاتيات الغير المعلّلة - أنّ الذاتي الغير المعلّل - أي المهيات ولوازمها - لم تكن منشأً للآثار مطلقاً، فاختيار الكفر والعصيان الذي هو أمر وجودي، وكذا الإرادة التي هي من الموجودات، لم يكونا ناشئين من الذات والذاتيات التي هي المهيات؛ لما عرفت من أنّ المهيات مطلقاً منعزلة عن التأثير والتأثّر، والتأثير بالوجود وفي الوجود، وهو ليس بذاتي لشيء من الممكنات.

وبذلك علم ما في قوله: من أنّ تفاوت أفراد الناس في القرب منه - تعالى - والبعد عنه - تعالى - سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة والنار ونيل الشفاعة وعدمه، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتياً والذاتي لا يعلّل(4)؛ فإنّ تفاوت أفراد الناس والامتيازات الفردية إنّما تكون بحسب الهوية الوجودية والعوارض الشخصية التي هي الأمارات للهوية البسيطة الوجودية، لا بحسب المهية

ص: 46


1- التوحيد، الصدوق: 356 / 3؛ كنز العمّال 1: 107 / 491.
2- الكافي 8: 177 / 197؛ المسند، أحمد بن حنبل 9: 616 / 10898.
3- كفاية الاُصول: 89 - 90.
4- كفاية الاُصول: 301.

ولوازمها، والتفاوت الوجودي ليس بذاتي للأشياء، فالاختلاف الفردي إنّما هو بجعل الجاعل، لا بالذات.

لا أقول: إنّ الجاعل جعل بسيطاً وجود زيد وعمرو، ثمّ جعلهما مختلفين بالجعل التأليفي، بل أقول: إنّ هوية زيد المختلفة مع هوية عمرو مجعولة بالجعل البسيط، وهذا هو المراد بالذاتي في باب الوجود الذي لا ينافي الجعل.

وإن شئت قلت: إنّ اختلاف الهويات الوجودية بنفس ذاتها المعلولة، فافهم، فإنّه دقيق جدّاً.

في سبب اختلاف أفراد الإنسان

فإن قلت: إذا كانت الذات والذاتيات ولوازمها في أفراد الإنسان غير مختلفة، فمن أين تلك الاختلافات الكثيرة المشاهدة ؟ فهل هي بإرادة الجاعل جزافاً ؟ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، مع ورود إشكال الجبر أيضاً.

قلت: هاهنا كلام طويل في وقوع أصل الكثرة في الوجود، وله مقدّمات كثيرة ربّما لا ينبغي الغور فيها إلاّ في المقام المعدّ لها، ولكنّ الذي يناسب مقامنا

في وقوع الاختلاف في الأفراد الإنسانية أن يقال:

إنّ الموادّ التي يتغذّى بها بنو آدم وبها يعيشون وتستمرّ حياتهم في هذا العالم العنصري الطبيعي، مختلفة بحسب النوع لطافة وكثافة وصفاء وكدورة، فربّما يكون التفّاح والرمّان والرطب ألطف وأصفى وأقرب إلى الاعتدال والكمال الوجودي من الجزر والباقلاّء وأشباههما، وهذا الاختلاف الكثير بين أنواع الموادّ الغذائية ربّما يكون ضرورياً.

ص: 47

ولا إشكال في أنّ النطفة الإنسانية التي يتكوّن منها الولد، وتكون لها المبدئية المادّية له، من تلك الموادّ الغذائية؛ فإنّ النطفة من فضول بعض الهضوم، فالقوّة المولّدة المودعة في الإنسان تفرز من عصارة الغذاء هذه المادّة المنويّة لحفظ بقاء النوع، فربّما تفرز المادّة من مادّة غذائية لطيفة نورانية صافية أكلها الوالد،

وربّما يكون الإفراز من المادّة الكثيفة الظلمانية الكدرة، وقد يكون من متوسّطة بينهما، وقد يمتزج بعضها بالبعض.

ومعلوم أنّ هنا اختلافات وامتزاجات كثيرة لا يحصيها إلاّ الله تعالى، ولعلّ

المراد من النطفة الأمشاج في قوله تعالى: )إِنَّا خَلَقنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ((1) هو هذه الامتزاجات والاختلاطات التي تكون في نوع الأفراد، وقلّما تكون النطفة غير ممتزجة ولا مختلطة من موادّ مختلفة.

ومن الواضح المقرّر في موضعه(2): أ نّه كلّما اختلفت المادّة اللائقة المستعدّة

لقبول الفيض من مبدئه اختلفت العطية والإفاضة حسب اختلافاتها؛ فإنّه تعالى واجب الوجود بالذات ومن جميع الجهات، فهو واجب الإفاضة والإيجاد، لكن المادّة الصلبة الكثيفة لا تقبل الفيض والعطية إلاّ بمقدار سعة وجودها واستعدادها.

ألا ترى أنّ الجليدية(3) تقبل من نور غيب النفس ما لا يقبله الجلد الضخم

ص: 48


1- الإنسان (76): 2.
2- الحكمة المتعالية 1: 231 و 5: 345.
3- الجليدية: وهي إحدى الرطوبات الثلاثة الموجودة في العين الباصرة، وعرّفوها بأ نّها رطوبة صافية كالبرد، والجليد مستديرة ينقص من تفرطحها من قدّامها استدارتها. راجع الشفاء، الطبيعيات 3: 256؛ الحكمة المتعالية 8: 184، الهامش 2.

والعظم، فالنفس المفاضة على المادّة اللطيفة النورانية ألطف وأصفى وأليق لقبول

الكمال من النفس المفاضة على المادّة المقابلة لها.

وهذا - أي اختلاف النطف - أحد موجبات اختلاف النفوس والأرواح، وهاهنا موجبات كثيرة اُخرى لاختلاف الموادّ في قبول الفيض، ولاختلاف الأرواح إلى حدّ الكمال، بل إلى الوصول إلى الغاية والخروج من الأبدان:

منها: اختلاف الأصلاب في الشموخ والنورانية والكمال ومقابلاتها والتوسّط بينهما، وهذا أيضاً باب واسع، وموجب لاختلافات كثيرة ربّما لا تحصى.

ومنها: اختلاف الأرحام كذلك، وهذا أيضاً من الموجبات الواضحة.

وبالجملة: الوراثة الروحية شيء مشاهد معلوم بالضرورة.

ومنها: غير ذلك؛ من كون غذاء الأب والاُمّ حلالاً أو حراماً أو مشتبهاً، وكذا كون ارتزاقهما من الحلال أو الحرام أو المشتبه في حال كون الأمانة في باطنهما، وكون معدتهما في حال الوقاع خالية أو ممتلئة أو متوسّطة، وكون الوقاع حلالاً أو حراماً أو مشتبهاً، وكون آداب الجماع مرعيّة مطلقاً، أو غير مرعيّة مطلقاً، أو مرعيّاً بعضها دون بعض؛ فإنّ لكلّ ما ذكر دخالة تامّة في قبول المادّة الفيض الوجودي من المبدأ الجواد.

فلو فرضنا أنّ المادّة في كمال النورانية، والصلب شامخ طاهر كامل، والرحم طاهر مطهّر، والآداب الإلهية محفوظة مرعيّة، يكون الولد طاهراً مطهّراً لطيفاً نورانياً.

ولو اتّفق كون سلسلة الآباء والاُ مّهات والموادّ كلّها كذلك لصار نوراً على نور، وطهارة على طهارة، كما تقرأ في زيارة مولانا وسيّدنا الحسين عليه

ص: 49

الصلاة والسلام: «أشهد أ نّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة، لم تنجّسك الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمّات ثيابها»(1).

فإنّ هذه الفقرات الشريفة تدلّ على ما ذكرنا: من دخالة المادّة النورية التي في الأصلاب، وشموخ الأصلاب، وطهارة الأرحام، وتنزيه الآباء والاُ مّهات من قذارات الجاهلية؛ من الكفر وذمائم الأخلاق وقبائح الأعمال، في طهارة الولد ونورانيته.

هذه كلّها اُمور دخيلة في أرواح الأطفال قبل ولادتها، وبعد الولادة تكون اُمور كثيرة دخيلة في اختلافها:

منها: الارتضاع والمرضعة وزوجها؛ فإنّ في طهارة المرضعة وديانتها ونجابتها وأخلاقها وأعمالها، وكذا في زوجها، وكيفية الارتضاع والرضاع، دخالةً عظيمة في الولد.

ومنها: التربية في أيّام الصغر وفي حجر المربّي.

ومنها: التربية والتعلّم في زمان البلوغ.

ومنها: المصاحب والمعاشر.

ومنها: المحيط والبلد الواقع فيه.

ومنها: مطالعة العلوم المختلفة والممارسة للكتب والآراء؛ فإنّ لها دخالة تامّة عظيمة في اختلاف الأرواح.

ومنها: غير ذلك.

ص: 50


1- مصباح المتهجّد: 501؛ تهذيب الأحكام 6: 114 / 201.

وبالجملة: كلّ ما ذكر في الآيات والأخبار: من الآداب الشرعية صراحة أو إشارة، وجوباً أو حرمة أو استحباباً أو كراهة، لها دخالة في سعادة الإنسان وشقائه من قبل الولادة إلى الموت.

هذا شمّة من كيفية وقوع الاختلاف في الأفراد الإنسانية، ولا يكون شيء منها ذاتياً غير معلّل.

وأمّا سبب اختلاف الموادّ الغذائية بل مطلق الأنواع وكيفية وقوع الكثرة في العالم، فهو أمر خارج عمّا نحن بصدده، ولا دخالة له بالجبر والاختيار، بل هو من المسائل الإلهية المطروحة في العلم الأعلى مع اختلاف مشارب الفلاسفة والعرفاء فيه، فمن كان من أهله فليراجع مظانّه، ونحن لسنا بصدد بيان الجبر والاختيار وتحقيق الحال في تلك المسألة؛ فإنّ لها مقاماً آخر، ولها مبادٍ ومقدّمات مذكورة في الكتب العقلية.

في أنّ السعادة قابلة للتغيير وكذا الشقاوة

ثمّ اعلم: أنّ تلك الاختلافات التي قد أوضحنا سبيلها ونبّهنا على أساسها، لم تكن من الاُمور التي لا تختلف ولا تتخلّف مثل الذاتيات الغير القابلة للتخلّف، بل الإنسان - أيّ إنسان كان - ما دام كونه في عالم الطبيعة وتعانقه مع الهيولى القابلة للأطوار والاختلافات، قابل لأن يتطوّر وأن يتبدّل ويتغيّر؛ إمّا إلى السعادة

والكمالات اللائقة به، أو إلى الشقاوة والاُمور المنافية لجوهر فطرته، كلّ ذلك بواسطة الكسب والعمل.

فالشقيّ الفاسد عقيدةً والسيّء أخلاقاً والقبيح أعمالاً، قابل لأن يصير سعيداً

ص: 51

مؤمناً كاملاً بواسطة كسبه وعمله وارتياضه ومشاقّه، وتتبدّل جميع عقائده وأخلاقه وأعماله إلى مقابلاتها، وكذلك السعيد قابل لأن يصير شقيّاً بالكسب.

وذلك لأنّ الهيولى الاُولى قابلة، والمفاض عليها - بعد تطوّراتها في مراتب الطبيعة من النطفة إلى أن تصير قابلة لإفاضة النفس عليها - هو النفس الهيولانية اللائقة للكمالات وأضدادها، وإذا اكتسبت الكمالات النفسانية لم تبطل الهيولى، ولم تصر تلك الكمالات ذاتها وذاتياتها، فهي - بعدُ لمّا كانت في أسر الهيولى ومتعانقة معها - ممكنة التغيّر، كما هو المشاهد في مرّ الدهور وكرّ الليالي؛ من صيرورة الكافر السيّء الخُلق القبيح العمل، مؤمناً صالحاً حسن الخلق، وبالعكس.

فالإنسان في تغيير الأخلاق والعقائد فاعل مختار، يمكنه بالاختيار تحصيل العقائد الحقّة والأخلاق الفاضلة والملكات الحسنة. نعم قد يحتاج إلى رياضة نفسانية وتحمّل مشاقّ علمية أو عملية.

والدليل على إمكانه: دعوة الأنبياء والشارعين - عليهم الصلاة والسلام - وإراءتهم طرق العلاج، فإنّهم أطبّاء النفوس والأرواح. فما هو المعروف من أنّ الخلق الكذائي من الذاتيات والفطريات غير ممكن التغيّر والتخلّف ليس بشيء؛ فإنّ شيئاً من العقائد والأخلاق والملكات ليس بذاتي، بل هي من عوارض الوجود داخلة تحت الجعل. ألا ترى أ نّها تحصل في الإنسان بالتدريج، وتستكمل فيه بالتكرار متدرّجة، وتكمل وتنقص، وليس شيء من الذات والذاتيات كذلك.

فما وقع في «الكفاية»: من أنّ بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار

ص: 52

إنّما تفيد من حسنت سريرته وطابت طينته، وتكون حجّة على من ساءت سريرته وخبثت طينته ولا تفيد في حقّهم(1)، ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه، بل هو مناقض للقول بأنّ اختيار الكافر والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان من الذاتيات التي لا تختلف ولا تتخلّف؛ فإنّ الانتفاع بالشرائع والمواعظ لا يجتمع مع ذاتية الاختيار والسعادة والشقاوة، فهل يمكن أن يصير الإنسان حماراً أو إنساناً، أو الحمار إنساناً أو حماراً بالوعظ والإنذار ؟ !

وإنّي لأظنّك لو كنت على بصيرة ممّا أوضحنا سبيله وأحكمنا بنيانه، لهديت إلى الصراط المستقيم، فاستقم وكن من الشاكرين.

في معنى قوله: «السعيد سعيد...» و«الناس معادن»

فإن قلت: فعلى ما ذكرت من البيان، فما معنى قوله: «السعيد سعيد في بطن اُمّه والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه»(2)، وقوله: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة»(3) ؟

قلت: أمّا قوله: «الناس معادن» بناءً على كونه رواية صادرة عن المعصوم علیه السلام فهو من مؤيّدات ما ذكرنا، من أنّ اختلاف أفراد الناس، من جهة اختلاف الموادّ الغذائية الموجبة لاختلاف الموادّ المنويّة القابلة لإفاضة الصور والأرواح عليها، فكما أنّ اختلاف الذهب والفضّة وجوداً يكون باختلاف الموادّ

ص: 53


1- كفاية الاُصول: 301.
2- التوحيد، الصدوق: 356 / 3؛ كنز العمّال 1: 107 / 491.
3- الكافي 8: 177 / 197؛ المسند، أحمد بن حنبل 9: 616 / 10898.

السابقة والأجزاء المؤلّفة والتركيبات والامتزاجات المختلفة وكيفية النضج والطبخ - كما هو المقرّر في العلوم الطبيعية - كذلك أفراد الإنسان تختلف باختلاف الموادّ السابقة كما عرفت.

وبالجملة: الإنسان من جملة المعادن في هذا العالم الطبيعي، واختلافه كاختلافها.

وأمّا قوله: «السعيد سعيد...» فقريب من مضمونه موجود في بعض الأخبار، فهو أيضاً على فرض صدوره لا ينافي ما ذكرناه، بل يمكن أن يكون من المؤيّدات؛ فإنّ اختلاف إفاضة الصور، باختلاف الموادّ وسائر الاختلافات التي قد عرفتها، فالصورة الإنسانية التي تفاض على المادّة الجنينية في بطن اُمّه تختلف باختلافها، بل جعل مبدأ السعادة والشقاوة هو بطن الاُمّ شاهد على ما ذكرنا، ولو كانتا ذاتيتين فلا معنى لذلك، تأمّل.

ويمكن أن لا يكون هذا القول ناظراً إلى تلك المعاني، بل يكون جارياً على التعبيرات العرفية، بأنّ الإنسان السعيد يوجد أسباب سروره وسعادته من أوّل الأمر، والشقيّ يوجد أسباب شقائه ونكبته من أوّل أمره.

ويحتمل بعيداً أن يكون المراد من بطن الاُمّ هو عالم الطبيعة، فإنّه دار تحصيل السعادة والشقاوة.

هذا ما يناسب إيراده في المقام، ولكن يجب أن يعلم أنّ لتلك المسائل وأداء حقّها مقاماً آخر، ولها مقدّمات دقيقة مبرهنة في محلّها، ربّما لا يجوز الدخول فيها لغير أهل فنّ المعقول؛ فإنّ فيها مزالّ الأقدام ومظانّ الهلكة، ولذا ترى ذلك المحقّق الاُصولي قدّس سرّه كيف ذهل عن حقيقة الأمر، وخرج عن سبيل التحقيق.

ص: 54

في أنّ للمعصية منشأين للعقوبة

قوله: «ثمّ لا يذهب عليك...»(9).

لا يخفى أنّ الالتزام بكون منشأ استحقاق العقاب في المعصية والتجرّي أمراً واحداً هو الهتك الواحد - كما أفاده رحمه الله علیه - خلاف الضرورة؛ للزوم أن لا يكون للمنهيّ عنه مفسدة اُخروية أصلاً، بل لازمه أن يكون في الطاعة والانقياد منشأ واحد للاستحقاق، وأن لا يكون للمأمور به مصلحة أصلاً، وهو خلاف ارتكاز المتشرّعة، وخلاف الآيات الكريمة والأخبار الشريفة في باب الثواب والعقاب.

كما أنّ الالتزام بأنّ التجرّي والهتك لحرمة المولى لا يوجب شيئاً أصلاً أيضاً خلاف الضرورة والوجدان الحاكم في باب الطاعة والعصيان.

بل الحقّ ما أوضحنا سبيله: من كون التجرّي سبباً مستقلاًّ، وله عقوبات لازمة لذاته، وتبعات في عالم الملكوت وباطن النفس، وصور مؤلمة موحشة مظلمة، كما أنّ للانقياد صورة ملكوتية بهيّة حسنة ملذّة.

وفي المعصية والطاعة منشآن:

أحدهما: ما ذكر؛ فإنّهما شريكان للتجرّي والانقياد.

وثانيهما: استحقاق الثواب والعقاب على نفس العمل؛ إمّا بنحو الجعل، أو بنحو اللزوم وتجسّم صور الأعمال.

ولا يذهب عليك: أنّ القول بالعقوبة الجعلية لا ينافي الاستحقاق؛ فإنّ الجعل لم يكن جزافاً وبلا منشأ عند العدلية، والعقل إنّما يحكم بالاستحقاق بلا تعيين مرتبة خاصّة، فلا بدّ من تعيين المرتبة من الجعل على القول به.

ص: 55

الأمر الثالث في بيان أقسام القطع وأحكامها

اشارة

قوله: «الأمر الثالث...»(10).

هاهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في أقسام القطع

فإنّه قد يتعلّق بموضوع خارجي، أو موضوع ذي حكم، أو حكم شرعي متعلّق بموضوع مع قطع النظر عن القطع، وهو في جميع الصور كاشف محض، وذلك واضح.

وقد يكون له دخالة في الموضوع: إمّا بنحو تمام الموضوعية، أو جزئها.

فهاهنا أقسام، فإنّ القطع لمّا كان من الأوصاف الحقيقية ذات الإضافة، فله قيام بالنفس قيام صدور(1) أو حلول(2) - على المسلكين في العلوم العقلية -

ص: 56


1- الحكمة المتعالية 1: 264؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 124.
2- الإشارات والتنبيهات، شرح المحقّق الطوسي 3: 298؛ كشف المراد: 227؛ شرح المواقف 1: 77.

وإضافة إلى المعلوم بالذات الذي هو في صقع النفس إضافة إشراق وإيجاد، فإنّ العلم هو الإضافة الإشراقية بين النفس والمعلوم بالذات، بها يوجد المعلوم كوجود المهيات الإمكانية بالفيض المقدّس الإطلاقي، وله أيضاً إضافة بالعرض إلى المعلوم بالعرض الذي هو المتعلّق المتحقّق في الخارج.

وقيام العلم بالنفس وكون الصورة المعلومة بالذات فيها يبتني على عدم كون العلم من مقولة الإضافة كما ذهب إليه الفخر الرازي(1)؛ فراراً عن الإشكالات الواردة على الوجود الذهني.

فما وقع في تقريرات بعض المحقّقين رحمه الله علیه - من قيام الصورة في النفس من غير فرق بين أن نقول: إنّ العلم من مقولة الكيف أو مقولة الفعل أو الانفعال أو الإضافة(2) - ناشٍ عن الغفلة عن حقيقة الحال.

وبالجملة: أنّ العلم له قيام بالنفس وإضافة إلى المعلوم بالذات وإضافة إلى المعلوم بالعرض، بل هذه الإضافة على التحقيق هي علم النفس، وهو أمر بسيط، لكن للعقل أن يحلّله إلى أصل الكشف وتمامية الكشف، فعليه يكون للقطع جهات ثلاث:

جهة القيام بالنفس مع قطع النظر عن الكشف، كسائر أوصافها مثل القدرة والإرادة والحياة.

وجهة أصل الكشف المشترك بينه وبين سائر الأمارات.

وجهة كمال الكشف وتمامية الإراءة المختصّ به المميّز له عن الأمارات.

ص: 57


1- المباحث المشرقية 1: 331.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 16.

ولا يخفى: أنّ تلك الجهات ليست جهات حقيقية حتّى يكون العلم مركّباً منها، بل هو أمر بسيط في الخارج، وإنّما هي جهات يعتبرها العقل ويحلّله إليها بالمقايسات، كالأجناس والفصول للبسائط الخارجية، وكاعتبار كون الوجود الكامل الشديد ممتازاً عن الناقص الضعيف بجهة التمامية، مع أنّ الوجود بسيط، لا شديده مركّب من أصل الوجود والشدّة، ولا ضعيفه منه ومن الضعف، كما هو المقرّر في محلّه(1).

وبالجملة: هذه الجهات كلّها حتّى جهة القيام بالنفس اعتبارية، يمكن للمعتبر أن يعتبرها ويجعلها موضوعاً لحكم من الأحكام.

فالأقسام ستّة:

الأوّل: أخذه بنحو الصفتية - أي بجهة قيامه بالنفس، مع قطع النظر عن الكشف عن الواقع - تمام الموضوع.

والثاني: أخذه كذلك بعض الموضوع.

والثالث: أخذه بنحو الطريقية التامّة والكشف الكامل تمام الموضوع.

والرابع: أخذه كذلك بعض الموضوع.

والخامس: أخذه بنحو أصل الكشف والطريقية المشتركة بينه وبين سائر الأمارات تمام الموضوع.

والسادس: أخذه كذلك بعض الموضوع.

وسيأتي الفرق بينها في الجهة المبحوث عنها.

ص: 58


1- الحكمة المتعالية 1: 427؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 105.

في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية

فإن قلت: في إمكان أخذه تمام الموضوع على وجه الطريقية إشكال، بل الظاهر أ نّه لا يمكن؛ من جهة أنّ أخذه تمام الموضوع يستدعي عدم لحاظ الواقع وذي الصورة بوجه من الوجوه، وأخذه على وجه الطريقية يستدعي لحاظ ذي الصورة وذي الطريق، ويكون النظر في الحقيقة إلى الواقع المنكشف بالعلم، كما هو الشأن في كلّ طريق؛ حيث إنّ لحاظه طريقاً يكون في الحقيقة لحاظاً لذي الطريق، ولحاظ العلم كذلك ينافي أخذه تمام الموضوع.

فالإنصاف: أنّ أخذه تمام الموضوع لا يمكن إلاّ بأخذه على وجه الصفتية.

قلت: نعم، هذا إشكال أورده بعض محقّقي العصر - على ما في تقريرات بحثه(1) - غفلة عن حقيقة الحال؛ فإنّ الجمع بين الطريقية والموضوعية إنّما لا يمكن فيما إذا أراد القاطع نفسه الجمع بينهما، فإنّ القاطع يكون نظره الاستقلالي إلى الواقع المقطوع به، ويكون نظره إلى القطع آلياً طريقياً، ولا يمكن في هذا اللحاظ الآلي أن ينظر إليه باللحاظ الاستقلالي، مع أنّ النظر إلى الموضوع لا بدّ وأن يكون استقلالياً غير آلي.

هذا بالنسبة إلى القاطع.

وأمّا غير القاطع إذا أراد أن يجعل قطع غيره موضوعاً لحكم، يكون نظره إلى قطع القاطع - الذي هو طريق - لحاظاً استقلالياً، ولا يكون لحاظه لذي الطريق،

ص: 59


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 11.

بل يكون للطريق، فلحاظ القاطع طريقي آلي، ولحاظ الحاكم لقطعه الطريقي موضوعي استقلالي.

فأيّ محال يلزم إذا لحظ لاحظ باللحاظ الاستقلالي القطع الطريقي الذي لغيره، وجعله موضوعاً لحكمه على نحو الكاشفية على وجه تمام الموضوع ؟ ! وهل هذا إلاّ الخلط بين اللاحظين ؟ !

ثمّ إنّه لا اختصاص لعدم الإمكان - لو فرض - بأخذه تمام الموضوع أو بعض الموضوع، فتخصيصه به في غير محلّه.

امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم

ثمّ إنّ القطع قد يتعلّق بموضوع خارجي، فتأتي فيه الأقسام الستّة السابقة، وقد يتعلّق بحكم شرعي، فيمكن أخذه موضوعاً لحكم آخر غير ما تعلّق العلم به، وتأتي أيضاً فيه الأقسام.

وأمّا إذا تعلّق بحكم شرعي، فهل يمكن أخذه موضوعاً لنفس الحكم الذي تعلّق العلم به ؟

قال بعض مشايخ العصر - على ما في تقريرات بحثه - : لا يمكن ذلك إلاّ بنتيجة التقييد، وقال في توضيحه ما حاصله:

إنّ العلم بالحكم لمّا كان من الانقسامات اللاحقة للحكم، فلا يمكن فيه الإطلاق والتقييد اللحاظي، كما هو الشأن في الانقسامات اللاحقة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحكم به، كقصد التعبّد والتقرّب في العبادات، فإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق؛ لأنّ التقابل بينهما تقابل العدم والملكة؛ لكنّ الإهمال الثبوتي

ص: 60

أيضاً لا يعقل؛ فإنّ ملاك تشريع الحكم: إمّا محفوظ في حالتي الجهل والعلم فلا بدّ من نتيجة الإطلاق، وإمّا في حالة العلم فلا بدّ من نتيجة التقييد، فحيث لا يمكن بالجعل الأوّلي فلا بدّ من دليل آخر يستفاد منه النتيجتان، وهو متمّم الجعل.

وقد ادّعي تواتر الأدلّة على اشتراك العالم والجاهل في الأحكام، وإن لم نعثر

إلاّ على بعض أخبار الآحاد، لكنّ الظاهر قيام الإجماع بل الضرورة على ذلك، فيستفاد من ذلك نتيجة الإطلاق، وأنّ الحكم مشترك بين العالم والجاهل. لكن تلك الأدلّة قابلة للتخصيص، كما خصّصت في الجهر والإخفات، والقصر والإتمام(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أنّ الانقسامات اللاحقة على ضربين:

[الضرب الأوّل]: ما لا يمكن تقييد الأدلّة به، بل ولا يمكن فيه نتيجة التقييد، مثل أخذ القطع موضوعاً بالنسبة إلى نفس الحكم، فإنّه غير معقول لا بالتقييد اللحاظي ولا بنتيجة التقييد؛ فإنّ حاصل التقييد ونتيجته أنّ الحكم مختصّ بالعالم بالحكم، وهذا دور مستحيل؛ فإنّ العلم بالحكم يتوقّف على الحكم بالضرورة، ولو فرض الاختصاص - ولو بنتيجة التقييد - يصير الحكم متوقّفاً على العلم به(2).

ص: 61


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 11 - 13.
2- نعم، لا دور فيما إذا كان القطع تمام الموضوع؛ لعدم دخالة الواقع فيه حتّى يلزم الدور. [منه قدّس سرّه ]

نعم، في كون أحكام الله الواقعية تابعةً لآراء المجتهدين، كما عليه فرقة من غير أهل الحقّ(1)

وقد اُشكل عليهم بورود الدور، يمكن الذبّ عنهم: بأنّ الشارع أظهر أحكاماً صورية - بلا جعل أصلاً - لمصلحة في نفس الإظهار؛ حتّى يجتهد المجتهدون ويؤدّي اجتهادهم إلى حكم بحسب تلك الأدلّة التي لا حقيقة لها، ثمّ بعد أداء اجتهادهم إلى حكم أنشأ الشارع حكماً مطابقاً لرأيهم تابعاً له.

لكن هذا مجرّد تصوير ومحض تخييل، ربّما لا يرضى به المصوّبة.

وبالجملة: اختصاص الحكم بالعالم بالحكم غير معقول بوجه من الوجوه.

وأمّا في مثل باب الجهر والإخفات والقصر والإتمام، فلا يتوقّف الذبّ عن الإشكال فيه على الالتزام بالاختصاص، بل يمكن أن يكون عدم الحكم بالقضاء أو الإعادة من باب التخفيف والتقبّل، كما يمكن ذلك في حديث «لا تعاد الصلاة...»(2) بناءً على عدم اختصاصه بالسهو، كما لا يبعد.

ويمكن أن تكون الإعادة أو القضاء ممّا بطل محلّهما في تلك الموارد، نظير مريض كان دستوره شرب الفلوس مع البنفسج وأصل السوس، فشرب الفلوس الخالص، فإنّ إعادته مع الشرائط ممّا يفسد المزاج، فشربه خالصاً أفسد المحلّ وأخرجه عن قابلية الشرب المخلوط، فلعلّ إعادة الصلاة تامّة مع إتيانها ناقصة من هذا القبيل، إلى غير ذلك من الاحتمالات.

والضرب الثاني من الانقسامات اللاحقة: ما يمكن تقييد الأدلّة به بدليل

ص: 62


1- اُنظر المحصول في علم اُصول الفقه 4: 1380؛ المعتمد في اُصول الفقه 2: 370؛ شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 466.
2- وسائل الشيعة 1: 371، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 3، الحديث 8.

آخر، كقصد التعبّد والأمر والتقرّب في العبادات.

ففي هذا القسم لا يبعد إمكان التقييد اللحاظي أيضاً، فإنّ تصوّر الأمر المتأخّر عن الحكم ممكن قبل الجعل، وتقييد الموضوع به أيضاً ممكن، فللآمر أن يلاحظ قبل إنشاء الحكم الموضوع الذي أراد أن يجعله متعلّقاً للأمر، ويلاحظ حالة تعلّق الأمر به في الآتية، ويلاحظ قصد المأمور لأمره، ويجعل قصد المأمور للتقرّب والتعبّد من قيود المتعلّق ويأمر به مقيّداً، مثل سائر القيود المتأخّرة.

نعم، نفس تعلّق الأمر ممّا يمكّن المكلّف من إتيان المتعلّق؛ فإنّ قبل تعلّقه لا يمكن له الإتيان بالصلاة مع تلك القيود، وبنفس التعلّق يصير ممكناً.

فإن قلت: بناءً على ذلك إنّ الموضوع المجرّد عن قيد قصد التقرّب والأمر لم يكن مأموراً به، فكيف يمكن الأمر به مع قصد أمره ؟

قلت: نعم، هذا إشكال آخر غير مسألة الدور، ويمكن دفعه: بأنّ الموضوع متعلّق للأمر الضمني، والزائد على قصد الأمر الضمني لا يلزم ولا موجب له.

وثانياً: أنّ الإطلاق والتقييد اللحاظي اللذين جعلهما من قبيل العدم والملكة، وحكم بأنّ كلّما امتنع التقييد امتنع الإطلاق، ممّا لا أساس له؛ فإنّه إن كان اللحاظ صفة لكلّ من التقييد والإطلاق، وأراد أنّ الإطلاق أيضاً لحاظي كالتقييد، فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ الإطلاق لم يكن باللحاظ، بل هو متقوّم بعدم التقييد، فإذا قال المولى: «أعتق رقبة» بلا تقييده بشيء مع تمامية مقدّمات الحكمة - لو بنينا على لزوم المقدّمات - تمّ الإطلاق، ولا يحتاج إلى اللحاظ أصلاً.

ص: 63

وثانياً: أنّ لحاظ الإطلاق ولحاظ التقييد من قبيل الضدّين لا العدم والملكة؛ فإنّ اللحاظين أمران وجوديان.

وإن كان اللحاظ صفة للتقييد فقط؛ حتّى لا يحتاج الإطلاق إلى اللحاظ، فيرد عليه: أنّ امتناع الإطلاق ممنوع، وما ادّعى أنّ كلّما امتنع التقييد امتنع الإطلاق، ممّا لا أساس له، ومجرّد دعوى بلا بيّنة ولا برهان.

والتحقيق: أنّ الإطلاق والتقييد من قبيل العدم والملكة أو شبيه بهما، وهذا كلام صحيح استعمله هذا المحقّق في غير موضعه، واستنتج منه هذه النتيجة العجيبة؛ أي إنكار مطلق الإطلاق في الأدلّة الشرعية؛ حتّى احتاج إلى دعوى الإجماع والضرورة لاشتراك التكليف بين العالم والجاهل، وهذا أمر غريب منه جدّاً.

وتوضيح ذلك: أنّ المتعلّق قد لا يمكن تقييده لقصور فيه، ولم يكن له شأنية التقييد، ففي مثله لا يمكن الإطلاق، فإنّ هذا شأن العدم والملكة في جميع الموارد، فلا يقال للجدار: أعمى؛ فإنّه غير البصير الذي من شأنه البصيرية، ولا يقال: زيد مطلق إطلاقاً أفرادياً.

وقد لا يمكن التقييد لا لقصور في الموضوع، بل لأمر آخر ومنع خارجي، كلزوم الدور في التقييد اللحاظي، فإنّ ذلك الامتناع لا يلازم امتناع الإطلاق؛ لعدم لزوم الدور في الإطلاق، ولذا يجوز تصريح الآمر بأنّ صلاة الجمعة واجبة على العالم والجاهل بالحكم، والخمر حرام عليهما بلا لزوم محال.

وليت شعري أيّ امتناع يلزم لو كانت أدلّة الكتاب والسنّة مطلقة تشمل العالم والجاهل كما أنّ الأمر كذلك نوعاً ؟ ! وهل يكفي مجرّد امتناع التقييد

ص: 64

في امتناع الإطلاق بلا تحقّق ملاكه(1) ؟ !

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ اشتراك التكليف بين العالم والجاهل لا يحتاج إلى التماس دليل من الأخبار والإجماع والضرورة، والفقهاء - رضوان الله عليهم - لا يزالون يتمسّكون بإطلاق الكتاب والسنّة من غير نكير.

وممّا ذكرنا يظهر حال ما استنتج من هذه المقدّمة، ويسقط كلّيةً ما ذكره رحمه الله علیه

في هذا المقام. وفي كلامه في المقام مواقع للنظر تركناها مخافة التطويل.

ص: 65


1- بل يمكن إقامة البرهان على الإطلاق في المقام من دون احتياج إلى تمامية مقدّماته؛ فإنّ اختصاص الحكم بالعالمين لمّا كان ممتنعاً ولم يختصّ بالجاهل بالضرورة، يكون لا محالة مشتركاً بينهما. ولعلّ ذلك سند الإجماع والضرورة. [منه قدّس سرّه ]

المبحث الثاني في قيام الطرق والأمارات والاُصول بنفس أدلّتها مقام القطع بأقسامه

اشارة

وفيه مقامان: الأوّل: في إمكان قيامها مقامه ثبوتاً، والثاني: في وقوعه إثباتاً وبحسب مقام الدلالة.

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع ثبوتاً

أمّا المقام الأوّل: فالظاهر إمكانه وعدم لزوم محذور منه، إلاّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من الإشكالين:

أحدهما: ما محصّله: أنّ الجعل الواحد لا يمكن أن يتكفّل تنزيل الظنّ منزلة القطع وتنزيل المظنون منزلة المقطوع فيما اُخذ في الموضوع على نحو الكشف؛ للزوم الجمع بين اللحاظين المتنافيين - أي اللحاظ الآلي والاستقلالي - حيث لا بدّ في كلّ تنزيل من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، مع أنّ النظر في حجّيته وتنزيله منزلة القطع آلي طريقي، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع استقلالي موضوعي، والجمع بينهما محال ذاتاً (1).

أقول: هذا الإشكال ممّا استصوبه جلّ المشايخ المحقّقين رحمهما اللّه فأخذ كلّ منهم مهرباً:

ص: 66


1- كفاية الاُصول: 304.

منهم: من ذهب إلى أنّ المجعول في الأمارات هو المؤدّى، وأنّ مفاد أدلّة الأمارات جعل المؤدّى منزلة الواقع، وبالملازمة العرفية بين تنزيل المؤدّى منزلة الواقع وبين تنزيل الظنّ منزلة العلم، يتمّ الموضوع(1).

ومنهم: من ذهب إلى أنّ المجعول هو الكاشفية والوسطية في الإثبات، وبنفس هذا الجعل يتمّ الأمران(2).

ومنهم: من سلك غير ذلك(3). ولعلّنا نرجع إلى حال ما سلكوا سبيله.

والتحقيق: أنّ لزوم الجمع بين اللحاظين ممّا لا أساس له بوجه، وذلك لأنّ القاطع أو الظانّ بشيء يكون نظرهما إلى المقطوع به أو المظنون نظراً استقلالياً اسمياً، وإلى قطعه وظنّه آلياً حرفياً، ولا يمكن له الجمع بين لحاظي الآلية والاستقلالية؛ لكنّ الناظر إلى قطع هذا القاطع وظنّه إذا كان شخصاً آخر يكون نظره إلى هذا القطع والظنّ الآليين لحاظاً استقلالياً، ويكون نظره إلى الواقع المقطوع والمظنون بهذا القطع والظنّ وإلى نفس القطع والظنّ، في عرض واحد بنحو الاستقلال.

فما أفاد - من أنّ النظر إلى حجّية الأمارة وتنزيلها منزلة القطع آلي طريقي - مغالطة من باب اشتباه اللاحظين؛ فإنّ الحاكم المنزّل للظنّ منزلة القطع لم يكن نظره إلى القطع والظنّ آلياً، بل نظره استقلالي؛ قضاءً لحقّ التنزيل. نعم، نظر القاطع والظانّ آلي، ولا دخل له في التنزيل.

ص: 67


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 31.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 21.
3- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 332.

فمن هو الجاعل والمنزّل يكون نظره إلى القطع الطريقي للغير استقلالياً، كما أ نّه يكون نظره إلى الواقع المقطوع به أيضاً استقلالياً، وكذلك في الأمارة والمؤدّى.

ومن هو العالم أو الظانّ يكون نظره إلى القطع أو الظنّ آلياً، لكنّه خارج عن محطّ البحث.

وأمّا قصور أدلّة التنزيل عن تكفّل الجعلين فهو أمر آخر مربوط بمقام الإثبات

والدلالة، لا من باب لزوم الجمع بين اللحاظين، وسنرجع إلى البحث عنه(1).

والثاني من الإشكالين: ما أفاده أيضاً في «الكفاية»(2) ردّاً على مقالته في «تعليقة الفرائد»(3)؛ حيث تشبّث في التعليقة - فراراً عن لزوم الجمع بين

اللحاظين - بجعل المؤدّى منزلة الواقع والملازمة العرفية بين التنزيلين بلا جمع بين اللحاظين.

وحاصل ردّه في «الكفاية»: أنّ ذلك يستلزم الدور؛ فإنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع فيما كان للعلم دخل، لا يمكن إلاّ بعد تحقّق العلم في عرض ذلك التنزيل؛ فإنّه ليس للواقع أثر يصحّ بلحاظه التنزيل، بل الأثر مترتّب على الواقع والعلم به، والمفروض أنّ العلم بالمؤدّى يتحقّق بعد تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، فيكون التنزيل موقوفاً على العلم، والعلم موقوفاً على التنزيل، وهذا دور محال(4).

ص: 68


1- يأتي في الصفحة 69.
2- كفاية الاُصول: 306.
3- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 31.
4- هكذا قرّر الدور بعض الأعاظمأ وهو غير تامّ. والأولى أن يقال: إنّ تنزيل المؤدّى منزلة الواقع يتوقّف على تنزيل الظنّ منزلة العلم في عرضه؛ لأنّ الأثر مترتّب على الجزءين وتنزيل الظنّ متوقّف على تنزيل المؤدّى بالفرض؛ أي دعوى الملازمة العرفية. [منه قدّس سرّه ] أ - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 28.

وفيه: أ نّه يكفي في التنزيل الأثر التعليقي، فهاهنا يكون للمؤدّى أثر تعليقي؛ أي لو انضمّ إليه جزؤه الآخر يكون ذا أثر فعلي، بل لو قلنا بعدم كفاية الأثر التعليقي لنا أن نقول: إنّ هاهنا أثراً فعلياً، لكن بنفس الجعل، ولا يلزم أن يكون الأثر سابقاً على الجعل، ففيما نحن فيه لمّا كان نفس الجعل متمّماً للموضوع يكون الجعل بلحاظ الأثر الفعلي المتحقّق في ظرفه، فلا يكون الجعل متوقّفاً على الأثر السابق.

وإن شئت قلت: لا دليل على كون الجعل بلحاظ الآثار إلاّ صون جعل الحكيم من اللغوية، وهاهنا لا يلزم اللغوية: إمّا بواسطة الأثر التعليقي، أو بلحاظ الأثر الفعلي المتحقّق بنفس الجعل، فتدبّر.

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع إثباتاً

قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه

وأمّا المقام الثاني: أي مقام الإثبات والدلالة، فلا بدّ لاتّضاح حاله من تقديم مقدّمة: وهي أ نّه لا بدّ في كون شيء أمارة جعلية - أي جعل الشارع شيئاً أمارة وطريقاً إلى الواقع - من اُمور:

ص: 69

الأوّل: أن يكون له في ذاته جهة كشف وطريقية؛ فإنّ ما لا يكون له جهة الكشف أصلاً لا يليق للأمارية والكاشفية.

الثاني: أن لا يكون بنفسه أمارة عقلية أو عقلائية؛ فإنّ الواجد للأمارية لا معنى لجعله أمارة؛ فإنّه من قبيل تحصيل الحاصل وإيجاد الموجود.

الثالث: أن تكون العناية في جعله إلى الكاشفية والطريقية وتتميم الكشف.

إذا عرفت ذلك: فاعلم أنّ الأمارات المتداولة على ألسنة أصحابنا المحقّقين كلّها من الأمارات العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم وجميع اُمورهم؛ بحيث لو ردع الشارع عن العمل بها لاختلّ نظام المجتمع ووقفت رحى الحياة الاجتماعية، وما هذا حاله لا معنى لجعل الحجّية له وجعله كاشفاً محرزاً للواقع بعد كونه كذلك عند كافّة العقلاء، وها هي الطرق العقلائية - مثل الظواهر، وقول اللغوي، وخبر الثقة، واليد، وأصالة الصحّة في فعل الغير - ترى أنّ العقلاء كافّة يعملون بها من غير انتظار جعل وتنفيذ من الشارع، بل لا دليل على حجّيتها بحيث يمكن الركون إليه إلاّ بناء العقلاء، وإنّما الشارع عمل بها كأ نّه أحد العقلاء. وفي حجّية خبر الثقة(1)

واليد(2)

بعض الروايات التي يظهر منها بأتمّ ظهور أنّ العمل بهما باعتبار الأمارية العقلائية، وليس في أدلّة الأمارات ما يظهر منه بأدنى ظهور جعل الحجّية وتتميم الكشف، بل لا معنى له أصلاً.

ص: 70


1- راجع ما يأتي من الأخبار في الصفحة 251.
2- راجع الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 300.

ومن ذلك علم: أنّ قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه ممّا لا معنى له؛ أمّا في

القطع الموضوعي فواضح، فإنّ الجعل الشرعي قد عرفت حاله وأ نّه لا واقع له، بل لا معنى له.

وأمّا بناء العقلاء بالعمل بالأمارات فليس وجهه تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، ولا تنزيل الظنّ منزلة القطع، ولا إعطاء جهة الكاشفية والطريقية أو تتميم الكشف لها، بل لهم طرق معتبرة يعملون بها في معاملاتهم وسياساتهم، من غير تنزيل واحد منها مقام الآخر، ولا التفات إلى تلك المعاني الاختراعية والتخيّلية، كما يظهر لمن يرى طريقة العقلاء ويتأمّل فيها أدنى تأمّل.

ومن ذلك يعلم حال القطع الطريقي، فإنّ عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم ليس من باب قيامها مقام العلم، بل من باب العمل بها مستقلاًّ ومن غير التفات إلى تلك المعاني.

نعم، القطع طريق عقلي مقدّم على الطرق العقلائية، والعقلاء إنّما يعملون بها عند فقد القطع، وذلك لا يلزم أن يكون عملهم بها من باب قيامها مقامه؛ حتّى يكون الطريق منحصراً بالقطع عندهم، ويكون العمل بغيره بعناية التنزيل والقيام مقامه.

وما اشتهر بينهم: من أنّ العمل بها من باب كونها قطعاً عادياً، أو من باب إلقاء احتمال الخلاف - على فرض صحّته - لا يلزم منه التنزيل أو تتميم الكشف وأمثال ذلك.

وبالجملة: من الواضح البيّن أنّ عمل العقلاء بالطرق لا يكون من باب كونها علماً وتنزيلها منزلة العلم، بل لو فرضنا عدم وجود العلم في العالم كانوا

ص: 71

يعملون بها من غير التفات إلى جعل وتنزيل أصلاً.

وممّا ذكرنا: تعرف وجه النظر في كلام هؤلاء الأعلام المحقّقين رحمهما اللّه من التزام

جعل المؤدّى منزلة الواقع تارةً(1) والتزام تتميم الكشف وجعل الشارع الظنّ علماً في مقام الشارعية وإعطاء مقام الإحراز والطريقية له اُخرى(2)، إنّها كلمات خطابية لا أساس لها.

والعجب أنّ بعض المشايخ المعاصرين - على ما في تقريرات بحثه - قد اعترف كراراً بأ نّه ليس للشارع في تلك الطرق العقلائية تأسيس أصلاً(3)، وفي المقام(4) قد أسّس بنياناً رفيعاً في عالم التصوّر يحتاج إلى أدلّة محكمة، مع خلوّ الأخبار والآثار عن شائبتها فضلاً عن الدلالة.

هذا حال الأمارات.

قيام الاُصول مقام القطع بأقسامه

وأمّا الاُصول فهي على قسمين:

أحدهما: ما يظهر من أدلّتها أ نّها وظائف مقرّرة للجاهل عند تحيّره وجهله بالواقع كأصالة الطهارة والحلّية، فهذه الاُصول ليست مورد البحث؛ فإنّ قيامها مقامه ممّا لا معنى له.

ص: 72


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 31.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 108.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 30 و91 و195.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 16 - 19.

وثانيهما: ما يسمّونها بالاُصول التنزيلية، مثل الاستصحاب وقاعدة التجاوز والفراغ، ولا بدّ لنا من تحقيق حالها وإن كان خارجاً عن محلّ البحث وله مقام آخر، لكن تحقيق المقام يتوقّف على تحقيق حالها، فنقول:

قد عرفت: أ نّه لا بدّ في كون شيء أمارة شرعية جعلية أن يكون له جهة كشف، وأن لا يكون أمارةً عقلائية معتبرة عند العقلاء، وأن تكون العناية في الجعل إلى جهة كاشفيته وطريقيته.

في حال الاستصحاب وإثبات طريقيته

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الاستصحاب(1) فيه جهة كشف عن الواقع؛ فإنّ

ص: 73


1- قولنا: «فاعلم أنّ الاستصحاب...». أقول: هذا ما أدّى إليه نظري في سالف الزمان قبل الوصول إلى مباحث الاستصحاب، ولقد جدّدت النظر حين انتهاء بحثنا إليه فوجدت أ نّه ليس أمارة شرعية، بل هو أصل تعبّدي كما عليه المشايخأ؛ لأنّ عمدة ما أوقعنا في هذا التوهّم أمران: أحدهما: توهّم أنّ اليقين السابق كاشف عن الواقع كشفاً ناقصاً في زمان الشكّ، فهو قابل للأمارية كسائر الكواشف عن الواقع. وثانيهما: توهّم أنّ العناية في اعتباره وجعله إنّما هي إلى هذه الجهة بحسب الروايات، فتكون روايات الاستصحاب بصدد إطالة عمر اليقين وإعطاء تمامية الكشف له. وبعد إمعان النظر في بناء العقلاء وأخبار الباب ظهر بطلان المقدّمتين: أمّا الاُولى: فلأنّ اليقين لا يعقل أن يكون كاشفاً عن شيء في زمان زواله، والمفروض أنّ زمان الشكّ زمان زوال اليقين، فكيف يمكن أن يكون كاشفاً عن الواقع في زمان الشكّ ؟ ! نعم، الكون السابق - فيما له اقتضاء البقاء - وإن يكشف كشفاً ناقصاً عن بقائه، لكن لا يكون كشفه عنه أو الظنّ الحاصل منه بحيث يكون بناء العقلاء على العمل به من حيث هو، من غير حصول اطمئنان ووثوق. وأمّا الثانية: فلأنّ العناية في الروايات ليست إلى جهة الكشف والطريقية - أي إلى أنّ الكون السابق كاشف عن البقاء - بل العناية إنّما هي إلى أنّ اليقين لكونه أمراً مبرماً لا ينبغي أن ينقض بالشكّ الذي ليس له إبرام، فلا محيص [عن القول بأنّ] الاستصحاب أصل تعبّدي شرعي كما عليه المشايخ المتأخّرون. وأمّا الاستصحاب العقلائي الذي في كلام المتقدّمين(ب) فهو غير مفاد الروايات، بل هو عبارة عن الكون السابق الكاشف عن البقاء في زمن لاحق، وقد عرفت أنّ بناء العقلاء ليس على ترتيب الآثار بمجرّد الكون السابق ما لم يحصل الوثوق والاطمئنان. [منه عفي عنه] أ - فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 13؛ كفاية الاُصول: 473؛ نهاية الدراية 5: 243؛ أجود التقريرات 4: 6. ب - العُدّة في اُصول الفقه 2: 758؛ غنية النزوع 2: 420؛ معارج الاُصول: 206 - 207؛ معالم الدين: 233 - 234؛ اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 13.

القطع بالحالة السابقة فيه جهة كاشفية عن البقاء، حتّى قيل: ما ثبت يدوم، وهذا

في الشكّ في الرافع ممّا لا مجال للتأمّل فيه.

نعم، في الشكّ في المقتضي يمكن الترديد والتأمّل فيه وإن كان قابلاً للدفع.

وبالجملة: أنّ الاستصحاب مطلقاً قابل لأن يجعل أمارة وكاشفاً عن الواقع بملاحظة اليقين السابق، وليس من قبيل الشكّ المحض الغير القابل.

وأمّا بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب - أي بمجرّد كون شيء له حالة

ص: 74

سابقة مقطوعة مع الشكّ في بقائه - فهو وإن ادّعي فيه السيرة العقلائية في سياساتهم ومراسلاتهم ومعاملاتهم، لكن عملهم على مجرّد ذلك غير معلوم، بل يمكن أن يكون ذلك بواسطة احتفافه باُمور اُخرى من القرائن والشواهد والاطمئنان والوثوق، لا لمجرّد القطع بالحالة السابقة.

وبعض المحقّقين من علماء العصر قدّس سرّه وإن أصرّ - على ما في تقريراته(1) - على استقرار الطريقة العقلائية على العمل بالحالة السابقة، حتّى قال: «لا ينبغي التأمّل في أنّ الطريقة العقلائية قد استقرّت على ترتيب آثار البقاء عند الشكّ في الارتفاع، وليس عملهم لأجل حصول الاطمئنان لهم بالبقاء أو لمحض الرجاء»، لكن للتأمّل فيه مجال واسع.

ثمّ لو فرضنا أنّ سيرة العقلاء قد استقرّت على ذلك، فلا بدّ لنا من الالتزام

بكون الاستصحاب من الأمارات والطرق العقلائية؛ فإنّه ليس للعقلاء أصل تعبّدي أو تنزيلي، وليس ما عندهم إلاّ الطرق والأمارات، لا الاُصول التعبّدية، كما لا يخفى على من مارس طريقتهم، مع أنّ هذا المحقّق قائل بأصلية الاستصحاب(2).

وبالجملة: أنّ الاستصحاب وإن كان له جهة كشف ضعيف، لكن لا بنحو يكون العقلاء مفطورين على العمل به، كما في العمل باليد وخبر الثقة.

ص: 75


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 331 - 332.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 307 - 308؛ أجود التقريرات 4: 6.

في أنّ المستفاد من الكبرى المجعولة في الاستصحاب هو الطريقية

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الجهتين من الجهات الثلاثة التي تتقوّم الأمارة بها

متحقّقتان في الاستصحاب، وبقيت الجهة الثالثة - وهي العمدة - حتّى ينخرط في سلك الأمارات لكن بجعل الشارع، وهي كون اعتباره بجهة الكاشفية، وأنّ عناية الجاعل في جعله هي كونه علماً في عالم الشارعية وإعطاء جهة الكشف والطريقية له، ولو تمّت هذه الجهة لتمّت أمارية الاستصحاب، ويكون له ما للأمارات من الآثار واللوازم، والفرق أ نّه أمارة جعلية شرعية غير عقلائية، وهي أمارات عقلائية غير مجعولة بجعل شرعي، ولو ساعدنا الدليل لم نتحاش عمّا ذهب إليه المحقّقون وأساطين الفنّ من المتأخّرين من الخلاف؛ فإنّه ليس في البين إلاّ تلك الروايات الشريفة، والمتّبع هو مفادها لا فهم الأصحاب، مع أنّ في قدماء أصحابنا من قال بأمارية الاستصحاب(1)، وكثير من الفروع الفقهية التي أفتى بها أصحابنا لا تتمّ إلاّ على القول بأمارية الاستصحاب وحجّية المثبتات منه(2)، تأمّل.

فالمهمّ عطف النظر إلى أخبار الباب(3)، والمستفاد منها - بعد إلغاء الخصوصيات وإرجاع بعضها إلى بعض - هو مجعولية كبرى كلّية هي قوله علیه السلام : «لا ينقض اليقين بالشكّ»؛ فإنّ الأخبار على كثرتها متوافقة المضمون على هذه

ص: 76


1- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 13؛ أجود التقريرات 4: 6.
2- راجع فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 238.
3- راجع الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 23.

الكلّية، وأنت إذا تأمّلت في هذه الكبرى حقّ التأمّل بشرط الخروج عن ربقة التقليد ترى أنّ العناية فيها بإبقاء نفس اليقين، وأنّ اليقين في عالم التشريع والتعبّد باقٍ موجود لا ينبغي أن ينقض بالشكّ ويدخل فيه الشكّ، وأ نّه علیه السلام

بصدد جعل المحرز وإطالة عمر اليقين السابق وإعطاء صفة اليقين على من كان على يقين، كما ينادي بذلك قوله علیه السلام في مضمرة زرارة: «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ»(1) لا على الشاكّ بعنوان أ نّه شاكّ، ولا جعل الشكّ يقيناً؛ حتّى يقال: لا معنى لإعطاء صفة الكاشفية والطريقية للشكّ، ولا إعطاء اليقين على الشاكّ؛ لأنّ الشكّ ليس له جهة الكشف، فإنّا لا نقول بأنّ الشكّ له جهة كشف أو جعل الشارع الشكّ يقيناً أو الشاكّ متيقّناً، بل

نقول: إنّ اليقين السابق ولو زال إلاّ أنّ له جهة كشف ضعيف بالنسبة إلى حال زواله؛ لشهادة الوجدان بالفرق بين الشاكّ البدوي والذي كان على يقين، حتّى يدّعى أنّ بناء العقلاء على العمل بالاستصحاب، مع أنّ العقلاء ليس لهم أصل تعبّدي يعملون به بلا جهة كشف.

وإنّا وإن تردّدنا في سيرة العقلاء على عملهم بالاستصحاب صرفاً بلا احتفافه باُمور اُخر، ولكن أصل الكاشفية - في الجملة - ممّا لا ينبغي التأمّل فيه.

وإن أبيت عن ذلك: فلا إشكال في جواز إطالة عمر اليقين تعبّداً في عالم التشريع، ولا محذور فيه أبداً.

ص: 77


1- تهذيب الأحكام 1: 8 / 11؛ وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الصلاة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.

فالأخذ بظاهر أخبار الباب مع كثرتها لا مانع منه، والظاهر منها - مع اختلاف التعبيرات والاتّفاق في المضمون الذي يمكن دعوى القطع به - أنّ العناية في الجعل هي بجعل اليقين وفرض وجوده في زمن الشكّ، فإنّ النهي عن نقض اليقين بالشكّ لا معنى محصّل له، إلاّ على فرض وجود اليقين في عالم التشريع وإطالة عمره، وإلاّ فإنّه قد زال بحسب التكوين ووجد الشكّ، ولا معنى لنقضه، فإذن فلا معنى معقول له إلاّ التعبّد ببقاء نفس اليقين وإعطاء صفة اليقين وإطالة عمره.

إشكالات في تفصّيات

فإن قلت: يمكن أن يكون مفاد الأخبار هو النقض العملي، والنهي قد تعلّق بنقضه عملاً، ومعناه هو البناء على وجود المتيقّن عملاً في زمن الشكّ، فيصير المفاد هو الأصل المحرز لا الأمارة الكاشفة.

قلت: نعم، هذا غاية ما في الباب من تقريب أخبار الاستصحاب للدلالة على كونه أصلاً، وقد تشبّث به مشايخنا رضوان الله عليهم(1).

لكنّ الإنصاف: أنّ العناية فيها هي بإبقاء نفس اليقين لا البناء العملي، وليس لهذا البناء فيها عين ولا أثر.

وقد عرفت: أنّ الفرق بين الأصل والأمارة في عالم التشريع هو العناية في الجعل، فإن كانت العناية ببقاء اليقين نفسه وإطالة عمره وعدم نقضه وإبقائه

ص: 78


1- كفاية الاُصول: 444؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 307؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 552.

سالماً فهو من الأمارات، وإلاّ فهو من الاُصول. ولا ينبغي التأمّل والإشكال في أنّ مفاد أخباره من قبيل الأوّل.

نعم، في كلٍّ من الأمارة والأصل يكون الجعل والتعبّد بلحاظ العمل، وإلاّ فيكون لغواً باطلاً.

لكنّ الفرق بينهما بعد اشتراكهما في ذلك: أنّ العناية في الأمارة هي بإعطاء وسطية الإثبات أو الكاشفية أو إعطاء صفة اليقين أو إطالة عمره وأمثال ذلك، وفي الاُصول هي بالبناء العملي أو تعيين وظيفة الشاكّ والمتحيّر وأشباههما .

فإن قلت: إنّ اليقين في الأخبار هو اليقين الطريقي، فيكون النظر إلى إبقاء المتيقّن لا اليقين، فلا يتمّ ما ذكرت.

قلت: إنّ اليقين الطريقي للمكلّف في لسان الدليل اُخذ موضوعاً منظوراً إليه، وتكون العناية ببقائه وكون صاحبه ذا يقين كاشف عن الواقع.

إن قلت: إنّ الشكّ مأخوذ في موضوع الاستصحاب، ويكون الاستصحاب متقوّماً بالشكّ، وكلّ ما كان كذلك فهو من الاُصول؛ فإنّ الأمارات وإن كانت للشاكّ، لكنّه غير مأخوذ في موضوعها، بل هو في موردها، والأمارة اعتبرت لإزالة الشكّ ورفعه، لا أ نّه مأخوذ في موضوعها.

قلت: معنى أخذ الشكّ موضوعاً لحكم [هو] أنّ الحكم جعل للشاكّ، وتكون العناية ببقاء الشكّ وحفظه، مع جعل الوظيفة للشاكّ، كما في أصلي الطهارة والحلّية؛ فإنّ مفاد أدلّتهما جعل الطهارة والحلّية للشاكّ بما أ نّه شاكّ، أو تكون

العناية - مع حفظ الشكّ - بالبناء العملي على وجود المشكوك فيه، كما في

ص: 79

قاعدة الفراغ والتجاوز على أقوى الاحتمالين كما سيأتي(1).

والاستصحاب وإن كان متقوّماً بالشكّ، لكنّه لا يكون موضوعاً له، بل يكون مورده؛ فإنّ الظاهر من الكبرى الكلّية المجعولة فيه - وهي قوله: «لا ينقض اليقين بالشكّ» - ليس حفظ الشكّ والحكم على الشكّ أو الشاكّ، بل العناية ببقاء اليقين السابق وعدم نقضه وإطالة عمره في عالم التشريع وإن كان زائلاً تكويناً.

بل يمكن أن يقال: إنّ أخذ الشكّ موضوعاً في الاستصحاب غير معقول؛ للزوم التناقض في عالم التشريع؛ فإنّ الحكم بعدم نقض اليقين بالشكّ أو عدم دخول الشكّ في اليقين هو اعتبار بقاء اليقين وحفظه وإطالة عمره في عالم التشريع، ولازمه إزالة الشكّ وإقامة اليقين مقامه، وإبطاله وإبقاء اليقين، فلو اُخذ الشكّ في

موضوع الاستصحاب للزم اعتبار بقائه وحفظه، والجمع بين الاعتبارين تناقض.

إن قلت: ظاهر ذيل الصحيحة الثالثة لزرارة هو البناء العملي الذي هو شأن الأصل، فإنّ قوله: «لكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين، فيبني عليه»(2) ظاهر في البناء العملي.

قلت: كلاّ؛ فإنّ قوله: «يبني عليه» أي يبني على وجود اليقين، بل هذه الصحيحة من أقوى الشواهد وأتمّ الدلائل على ما ادّعيناه، فإنّ قوله: «لكنّه

ينقض الشكّ باليقين» هو اعتبار بقاء اليقين وإزالة الشكّ تشريعاً، وقوله: «ويتمّ على اليقين...» إلى آخرها تأكيد له.

ص: 80


1- يأتي في الصفحة 81 - 82.
2- الكافي 3: 351 / 3؛ وسائل الشيعة 8: 216، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10، الحديث 3.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ العناية في الجعل في أخبار الاستصحاب هي جعل اليقين في زمان الشكّ، لا بمعنى جعل يقين في مقابل اليقين السابق، بل بمعنى إطالة عمر اليقين السابق وإبقائه وحفظه.

فحقيقة الاستصحاب عبارة عن إبقاء اليقين وإطالة عمره إلى زمان الشكّ بلحاظ كشفه عن الواقع، لا البناء العملي على وجود المتيقّن، كما هو المستفاد من أدلّته، وبمجرّد كون الجعل بلحاظ العمل لا ينسلك الشيء في سلك الاُصول، وإلاّ فالأمارات مطلقاً على مبنى القائلين باحتياجها إلى الجعل الشرعي يكون جعلها بلحاظ العمل، وإلاّ لزم اللغوية.

وبالجملة: ليس في أخبار الاستصحاب عين ولا أثر للبناء العملي ولا لأخذ الشكّ موضوعاً، وعليك بأخباره مع رفض ما عندك من المسموعات التي صارت كالمسلّمات بل الفطريات للناظر فيها، فصارت حجاباً غليظاً عن الحقيقة.

وممّا يؤيّد ما ذكرنا: الروايات الواردة في باب جواز الشهادة بالاستصحاب كروايات معاوية بن وهب(1)، فراجع. هذا حال الاستصحاب.

في حال قاعدة الفراغ والتجاوز

وأمّا قاعدة الفراغ والتجاوز: فالكبرى الكلّية المجعولة فيها بعد إرجاع بعض الأخبار إلى بعض(2)، هو وجوب الإمضاء والمضيّ العملي وعدم الاعتناء بالشكّ

ص: 81


1- راجع وسائل الشيعة 27: 336، كتاب الشهادات، الباب 17، الحديث 1 - 3.
2- راجع الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 341.

والبناء على الإتيان، والأخبار التي مضمونها أنّ الشكّ ليس بشيء وإن كانت توهم أ نّها بصدد إسقاط الشكّ ولازمه إعطاء الكاشفية، لكنّه إشعار ضعيف لا ينبغي الاعتداد به، بل الظاهر منها ولو بقرينة الأخبار الاُخر التي مضمونها المضيّ عملاً هو عدم الاعتناء بالشكّ عملاً والبناء على الإتيان، كما يكشف عن ذلك رواية حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبدالله علیه السلام : أشكّ وأنا ساجد، فلا أدري ركعت أم لا، فقال: «قد ركعت»(1).

وبالجملة: العناية في الجعل في القاعدة هي عدم الاعتناء عملاً والمضيّ العملي والبناء على الإتيان، ولا نعني بالأصل إلاّ ذلك.

في وجه تقدّم القاعدة على الاستصحاب

فإن قلت: إن كانت قاعدة التجاوز أصلاً والاستصحاب أمارة، فلا معنى لتقدّمها عليه، فهل يمكن تقدّم الأصل على الأمارة ؟

قلت: ما لا يجوز هو تقدّم الأصل عليها في حدّ ذاته وبنحو الحكومة أو الورود، وأمّا تقدّمه عليها لأجل أمر خارجي - كلزوم اللغوية لولا التقدّم - فلا مانع منه.

وإن شئت قلت: إنّ أخبار القاعدة مخصّصة لأخبار الاستصحاب لأخصّيتها. هذا بناءً على مسلكنا.

وأمّا بناءً على المسلك المعروف - من كون الاستصحاب أصلاً وأخذ الشكّ

ص: 82


1- تهذيب الأحكام 2: 151 / 594؛ وسائل الشيعة 6: 317، كتاب الطهارة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 2.

في موضوعه - فتقدّم القاعدة عليه يكون بالحكومة، فإنّ مفاد أخبار القاعدة هو

نفي الشكّ مثل قوله: «فشككت فليس بشيء»(1)، وقوله: «فشكّك ليس بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تَجُزه»(2)، والفرض أنّ الشكّ موضوع الاستصحاب، فتقدّم القاعدة عليه كتقدّم قوله: «لا شكّ لكثير الشكّ» على أدلّة الشكوك، وهذا واضح جدّاً.

في الإيراد على القوم

ولا أدري أ نّه مع كون لسان أدلّة القاعدة من أوضح موارد الحكومة بالنسبة إلى الاستصحاب بناءً على مسلكهم، فما وجه تزلزل المحقّقين في وجه تقدّمها عليه؛ حتّى احتمل بعضهم(3)

- بل التزم - أماريتها؛ لأجل ما في بعض أدلّة الوضوء: «هو حين يتوضّأ أذكر»(4) ؟ مع أ نّه كناية عن إتيان العمل والتعبّد بوجود المشكوك فيه، وأخبار القاعدة كلّها عارية عن الدلالة على الأمارية، كما يظهر بالرجوع إليها.

ص: 83


1- تهذيب الأحكام: 268 / السطر 27 (ط - الحجرية)؛ وسائل الشيعة 1: 526، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، باب أنّ من شكّ في شيء من أفعال الصلاة، السطر 26 (ط - الحجرية).
2- تهذيب الأحكام 1: 101 / 262؛ وسائل الشيعة 1: 469، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 42، الحديث 2، مع اختلاف يسير.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 618؛ أجود التقريرات 4: 208.
4- تهذيب الأحكام 1: 101 / 265؛ وسائل الشيعة 1: 471، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 42، الحديث 7.

وعن الشيخ الجليل الأنصاري قدّس سرّه : «أ نّه يختفي حكومته على الاستصحاب»(1) وبيّن وجه الحكومة - توضيحاً لكلام الشيخ - بعض المحقّقين من المعاصرين في تقريراته(2)

بما لا ينبغي التعرّض له، فراجع.

وأوضح شيء وجدوه للهرب عن الإشكال هو لزوم اللغوية لولا تقدّمها عليه(3).

وقد عرفت: أ نّه على مبناهم من كون الاستصحاب أصلاً والشكّ مأخوذ فيه يكون تقدّمها عليه من أوضح مصاديق الحكومة.

إذا أحطت خبراً بما تلونا عليك فاعلم: أ نّه قد ذكرنا سابقاً أنّ القطع المأخوذ في الموضوع تارةً يؤخذ على نحو الصفتية، وتارةً على نحو الطريقية التامّة، وتارةً على نحو الطريقية المشتركة، وعلى التقادير قد يكون تمام الموضوع، وقد يكون بعضه.

فإن اُخذ على نحو الصفتية أو الكاشفية التامّة فلا معنى لقيام الطرق العقلائية مقامه.

وإن اُخذ على نحو الطريقية المشتركة فالقطع وغيره متساوي النسبة إليه، ويكون المأخوذ هو الكاشف المطلق، فكلّ من القطع وسائر الأمارات مصداق للموضوع بلا فرق بينهما، فلا يكون ترتيب الآثار على الأمارة من باب قيامها

ص: 84


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 319.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 619.
3- كفاية الاُصول: 492 - 493؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 610؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 619.

مقامه، بل من باب وجود المصداق الحقيقي والموضوع الواقعي بلا حديث حكومة أو ورود.

هذا حال الأمارات العقلائية التي لا تصرّف للشارع فيها.

قيام الاستصحاب مقام القطع

وأمّا الاستصحاب بناءً على ما حقّقنا من كونه أمارة جعلية شرعية(1)، فقيامه مقام القطع الصفتي مشكل بل ممنوع؛ لأنّ مفاد أدلّة حجّية الاستصحاب أجنبيّة عن ذلك، فإنّ مفادها جعل الوسطية في الإثبات وإعطاء صفة الإحراز.

وبالجملة: المجعول هو القطع الطريقي تعبّداً وإطالة عمر اليقين الطريقي، وأين هذا من تنزيله منزلة القطع الصفتي ؟ !

بل يمكن دعوى استحالة قيامه مقام القطع الصفتي والطريقي؛ للزوم الجمع بين اللحاظين المتنافيين، فإنّ لحاظ الصفتية - كما عرفت - هو لحاظه مقطوع النظر عن الكشف، وهذا ينافي لحاظ الكاشفية، تأمّل.

وأمّا القطع الطريقي بقسميه - أي بنحو كمال الطريقية والطريقية المشتركة - فإن كان بنحو تمام الموضوع، فقيامه مقامه بنفس الأدلّة ممّا لا إشكال فيه إذا كان للمقطوع أثر آخر يكون التعبّد بلحاظه؛ فإنّ مفادها إعطاء صفة اليقين وإطالة عمره، كما أنّ الأمر كذلك ظاهراً في المأخوذ بنحو الجزئية؛ فإنّ نفس

ص: 85


1- تقدّم في الصفحة 73.

الأدلّة التي يكون مفادها إطالة عمر اليقين تكفي لإثبات الجزءين من غير احتياج إلى التماس دليل آخر؛ فإنّ معنى إطالة عمر اليقين الطريقي هو الكشف عن الواقع وإحرازه، فالواقع يصير محرزاً بنفس الجعل.

وإن أبيت عن ذلك فيمكن أن يقال: إنّ المجعول بالذات هو إطالة عمر اليقين الطريقي، ولازمه العرفي إحراز الواقع، لكن في إطلاق القيام مقامه في ذلك تسامح واضح.

هذا حال الاستصحاب(1).

ص: 86


1- بناءً على الأمارية، وأمّا بناءً على أ نّه أصل كما هو الأقوى، فقيامه مقام القطع الطريقي مطلقاً غير بعيد؛ لأنّ الظاهر من الكبرى المجعولة فيه: إمّا التعبّد ببقاء اليقين الطريقي من حيث الأثر، وإمّا التعبّد بلزوم ترتيب أثره في زمان الشكّ. فعلى الأوّل: يكون دليله حاكماً على الدليل الذي اُخذ فيه القطع الطريقي موضوعاً، لا بالوجه الذي أفاده بعض أعاظم العصرأ، بل لكونه كسائر الحكومات المقرّرة في محلّه. فقوله: «إذا قطعت بكذا فكذا» محكوم لقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»(ب) إن كان المراد منه ابنِ على وجود اليقين. وعلى الثاني: يكون الأثر مترتّباً بنتيجة الحكومة فيكون كالقيام مقامه؛ فإنّ لزوم ترتيب الآثار نتيجة التحكيم، فيقوم الاستصحاب مقامه على الأوّل بالحكومة، وعلى الثاني بنتيجتها. وأمّا القطع الصفتي: فالظاهر قصور الأدلّة عن قيام الاستصحاب مقامه؛ لأ نّها متعرّضة للقطع الطريقي وظاهرة فيه بلا إطلاق لأدلّته، لا لامتناعه، بل لقصورها. [منه قدّس سرّه ] أ - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 24 - 25. ب - الكافي 3: 351 / 3؛ وسائل الشيعة 8: 216، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 10، الحديث 3.

عدم قيام قاعدة الفراغ مقام القطع

وأمّا قاعدة الفراغ: فقيامها مقام القطع الموضوعي بأقسامه ممّا لا وجه له؛ فإنّ مفاد أدلّتها - كما عرفت - ليس إلاّ المضيّ عملاً وترتيب آثار الإتيان تعبّداً، وهذا أجنبيّ عن القيام مقامه.

نعم، فيما إذا كان القطع طريقاً محضاً لمّا كان المقصود حصول الواقع ويكون الواقع بواسطة القاعدة محرزاً تعبّداً، يفيد القاعدة فائدة القيام، لا أ نّها تقوم مقامه.

فإن قلت: إنّ للقطع جهات: الاُولى: كونه صفة قائمة بالنفس، والثانية: كونه طريقاً كاشفاً عن الواقع، والثالثة: جهة البناء والجري العملي على وفق العلم؛ حيث إنّ العلم بوجود الأسد - مثلاً - في الطريق يقتضي الفرار عنه. ثمّ إنّ المجعول في باب الاُصول المحرزة هو الجهة الثالثة، فهي قائمة مقام القطع الطريقي بالجهة الثالثة.

قلت: نعم، هذا حاصل ما أفاد بعض مشايخ العصر - على ما في تقريرات بحثه(1) - لكنّه ممّا لا أساس له؛ فإنّ قيام شيء مقام شيء بواسطة الجعل إنّما هو بنحو من التنزيل، ولا بدّ فيه من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه ومن كون الجعل بعناية التنزيل، وإلاّ فمجرّد كون لسان الجعل هو البناء على الإتيان أو المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ عملاً- كما هو مفاد أدلّة القاعدة - لا يقتضي قيامها مقام القطع.

ص: 87


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 16 - 17.

وبالجملة: كما أنّ في الأمارة المجعولة لا بدّ من إعطاء صفة اليقين وإطالة عمره تعبّداً، وهذا لا يمكن إلاّ بعد لحاظ الطرفين ولحاظ الآثار المترتّبة على اليقين شرعاً أو عقلاً، كذلك في الأصل المحرز لا بدّ من إعطاء أثر اليقين بما أ نّه

أثر اليقين حتّى يقوم مقامه، وإعطاء أثره بما أ نّه أثره لا يمكن إلاّ بعد لحاظ الطرفين وكون الجعل بعناية إعطاء الأثر، مع أ نّه في أدلّة الفراغ والتجاوز لا عين ولا أثر عمّا يفيد هذا المعنى، بل لسان أدلّتها هو المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ عملاً، بلا نظر إلى اليقين وآثاره، ولا شائبة تنزيل فيها أصلاً. وما في رواية حمّاد بن عثمان من قوله علیه السلام : «قد ركعت»(1)

وإن يدلّ على البناء العملي على الإتيان، لكن لا يفيد ما يدّعي، كما لا يخفى.

وبالجملة: إن كانت دعوى قيام القاعدة مقام القطع هي مجرّد كونها محرزة للواقع تعبّداً، كما أنّ القطع محرز عقلاً، فلا مضايقة فيها، وإن كانت هي القيام بمعناه المصطلح، كقيام الأمارات مقام القطع، ففيها منع، منشؤه عدم استفادتها من الأدلّة، فراجع.

وممّا ذكرنا من أوّل المبحث إلى هاهنا يعرف وجوه النظر في كلام هؤلاء الأعلام، خصوصاً ما في تقريرات بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه ؛ فإنّ فيها مواقع للنظر تركناها مخافة التطويل.

ص: 88


1- تهذيب الأحكام 2: 151 / 594؛ وسائل الشيعة 6: 317، كتاب الطهارة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 2.

الأمر الرابع في أخذ القطع والظنّ بحكم في موضوع مثله أو ضدّه

اشارة

قوله: «الأمر الرابع...»(11).

لا بدّ لتوضيح الحال من تقديم اُمور حتّى يرتفع الخلط والاشتباه عن كثير من المقامات:

في بيان عدم التضادّ بين الأحكام الخمسة

الأوّل: أ نّه قد عرّف الضدّان بأ نّهما الأمران الوجوديان غير المتضايفين، المتعاقبان على موضوع واحد، لا يتصوّر اجتماعهما فيه، بينهما غاية الخلاف(1)، فما لا وجود له لا ضدّية بينه وبين غيره، كما لا ضدّية بين أشياء لا وجود لها. فالأعدام والاعتباريات التي ليس لها وجود إلاّ في وعاء الاعتبار لا ضدّية بينها، كما أ نّه لا ضدّية بين أشياء لا حلول لها في موضوع،

ص: 89


1- التحصيل: 37؛ الحكمة المتعالية 2: 113؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 174.

ولا قيام لها به قيام حلول وعروض.

الثاني: أنّ الإنشائيات مطلقاً من الاُمور الاعتبارية التي لا تحقّق لها إلاّ في وعاء الاعتبار، ولا وجود أصيل حقيقي لها، فقولهم: «إنّ الإنشاء قول قصد به ثبوت المعنى في نفس الأمر»(1) يراد به أنّ نفس الإنشاء يكون منشأً لانتزاع المنشأ وثبوته في وعاء الاعتبار، بحيث تكون الألفاظ التي بها يقع الإنشاء - كالأمر والنهي وغيرهما - مصاديق ذاتية للّفظ، وعرضية للمعنى المنشأ، لا أ نّها علل للمعاني المنشأة، فإنّ العلّية والمعلولية الحقيقيتين لا تعقل بينها؛ ضرورة أنّ

منشئية الإنشاء للمنشأ إنّما هي بالجعل والمواضعة، ولا تعقل العلّية والمعلولية بين الاُمور الاختراعية الوضعية، فليس للمعنى المنشأ وجود أصيل، وإنّما هو أمر اعتباري من نفس الإنشاء.

فهيئة الأمر وضعت لتستعمل في البعث والتحريك الاعتباريين، لا بمعنى استعمالها في شيء يكون ثابتاً في وعائه، بل بمعنى استعمالها استعمالاً إيجادياً تحقّقياً، لا كتحقّق المعلول بالعلّة؛ حتّى يكون المعلول موجوداً أصيلاً، بل كتحقّق الأمر الاعتباري بمنشأ اعتباره.

فتحصّل من ذلك: أنّ الإنشائيات مطلقاً - ومنها الأحكام الخمسة التكليفية - لا وجود حقيقي لها، بل هي اُمور اعتبارية وعاء تحقّقها عالم الاعتبار.

الثالث: أ نّه للمعاني المنشأة بالألفاظ إضافات كلّها من الاُمور الاعتبارية التي لا وعاء لها إلاّ في ظرف الاعتبار. مثلاً: للوجوب إضافة إلى الآمر إضافة

ص: 90


1- كفاية الاُصول: 87 - 88؛ فوائد الاُصول، المحقّق الخراساني: 17.

صدورية، وإضافة إلى المأمور إضافة انبعاثية، وإضافة إلى الأمر إضافة منشئية،

وإضافة إلى المتعلّق إضافة تعلّقية أوّلية، وإضافة إلى الموضوع إضافة تعلّقية ثانوية تبعية، وكلّ هذه الإضافات تعتبر من نفس الإنشاء الخاصّ المتخصّص بالخصوصيات، ولا وجود لشيء منها في الخارج.

ومن ذلك يعلم: أنّ نحو تعلّق الوجوب وغيره بالمتعلّق والموضوع ليس نحو تعلّق الأعراض بالموضوعات، ولا قيام للمعاني المنشأة بالموضوعات والمتعلّقات قيام حلول وعروض، بل قيامها كنفسها من الاعتباريات التي لا تحقّق لها في الخارج.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أنّ المعروف المرسل على أ لسنة الأصحاب إرسال المسلّمات: أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة يمتنع اجتماعها في موضوع واحد(1)، والظاهر المصرّح به في كلام كثير من المحقّقين أنّ المراد بالأحكام هي الأحكام البعثية والزجرية وغيرهما المنشأة بالألفاظ الإنشائية وغيرها من أداة الإنشاء، كما يظهر من تتبّع أقوالهم فيما نحن فيه وأبواب اجتماع الأمر والنهي والترتّب والجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية وغيرها.

وهذا ممّا لا أساس له؛ لعدم صدق تعريف الضدّ عليها؛ فإنّ الضدّين هما الأمران الوجوديان، وهذه الأحكام ليست من الاُمور الوجودية، بل من الاعتباريات كما عرفت.

وأيضاً: نحو تعلّق هذه الأحكام بالموضوع والمتعلّق والآمر والمأمور ليس

ص: 91


1- قوانين الاُصول 1: 142 / السطر 14؛ مطارح الأنظار 1: 625؛ كفاية الاُصول: 193؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 396.

حلولياً عروضياً نحو قيام الأعراض بالموضوعات، بل قيامها بها قياماً اعتبارياً لا تحقّق له أصلاً، فلا يمتنع اجتماعها في محلّ واحد، فلهذا يجوز اجتماع الأمر والنهي في الواحد الشخصي بجهة واحدة من شخصين أو من شخص واحد مع الغفلة، ولو كان بينها تضادّ لكان هذا ممتنعاً بالضرورة، كما أنّ البياض والسواد لا يجتمعان ولو كان موجدهما شخصين.

وبعبارة اُخرى: إذا كانت الضدّية بين نفس الأحكام لوجب أن يمتنع اجتماعها مطلقاً بلا دخالة للجاعل والموجد فيه؛ لعدم دخالة الجاعل في حقيقة مجعولاته وأحكامها المترتّبة عليها، والضدّية من الأحكام المتأخّرة عن المجعولات المتأخّرة عن الجعل المتأخّر عن الجاعل، فكيف يمكن دخالته فيها ؟ !

نعم، يمتنع اجتماع الحكمين أو الأحكام في موضوع واحد شخصي بجهة واحدة من شخص واحد، لا من أجل تقابل التضادّ بينها، بل من أجل أمرين آخرين:

أحدهما: أنّ مبادئها من المصالح والمفاسد والحبّ والبغض وترجيح الوجود والعدم والإرادة والكراهة ممّا يمتنع اجتماعها فيه.

وثانيهما: أنّ الأمر إنّما يكون لغرض انبعاث المأمور نحو إيجاد المأمور به، والنهي لغرض امتناعه عنه وتركه إيّاه، ولمّا كان الجمع بينهما ممتنعاً يكون الجمع بين الأمر والنهي من آمر واحد مع العلم لغواً باطلاً، كما أنّ الأمر بشيء محال ممتنع، فملاك الامتناع فيما نحن بصدده هو ملاك امتناع الأمر بالمحال من آمر عالم عاقل، لا أنّ الملاك هو لزوم اجتماع الضدّين حتّى تكون الأوامر والنواهي

ص: 92

ممّا يمتنع اجتماعها بنفسها، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا في الضدّية يعرف حال المثلية بين الأحكام، وأنّ اجتماع الأمرين في موضوع واحد ممّا لا يمتنع.

نعم، قد يمتنع الاجتماع لأجل اللغوية؛ فإنّ الآمر إذا عرف من حال المأمور أ نّه يمتثل أمره بمجرّد صدوره لا معنى لأمره ثانياً، ويكون أمره الثاني لغواً لا يصدر من عاقل ملتفت.

نعم، اجتماع الإرادتين أو الكراهتين في موضوع واحد ممتنع، لكن قد تكون الإرادة الواحدة المتعلّقة بموضوع مبدأً لصدور أوامر متعدّدة إذا عرف من حال المأمور عدم انبعاثه بالأمر الأوّل بل يحتاج إلى التكرار والتأكيد، ومثل الأوامر والنواهي الشرعية المتعلّقة بالموضوعات المهمّة لأجل إفادة أهمّيتها، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

رجع إلى بيان حال أخذ القطع في الموضوع

إذا عرفت ما فصّلنا لك: فلا بدّ من صرف عنان الكلام إلى حال أخذ القطع أو الظنّ بحكم في موضوع مثله أو ضدّه على اصطلاحهم، وقد فرغنا عن امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم(1)

وقلنا: إنّه لا يمكن حتّى بنتيجة التقييد(2).

ص: 93


1- لكن فصّلنا أخيراً بين الذي [هو] تمام الموضوع، فيجوز، و[الذي هو] بعضه فلا، وكذا الظنّ. [منه قدّس سرّه ]
2- تقدّم في الصفحة 61.

ومنه يعرف حال الظنّ لاشتراكهما في الملاك، فلا نطيل بإعادته.

وأمّا أخذهما في موضوع مثله أو ضدّه فما يمكن أن يكون وجه الامتناع اُمور(1):

الأوّل: اجتماع الضدّين أو المثلين، فقد عرفت حاله، وأ نّه ممّا لا أساس لذلك.

الثاني: لزوم اجتماع المصلحة والمفسدة في موضوع وحداني شخصي.

وفيه: أ نّه لا مانع من كون موضوع ذا مصلحة بعنوانه الذاتي، وكونه بعنوان المقطوعية أو المظنونية ذا مفسدة أو مصلحة اُخرى، كما أ نّه يمكن أن تكون عطيّة زيد راجحة ذات مصلحة لك بذاتها، لكنّها مع علم عدوّك بها مرجوحة ذات مفسدة.

وبالجملة: كثيراً ما يكون اختلاف العناوين موجباً لاختلاف المصالح والمفاسد.

الثالث: لزوم اجتماع الإرادة والكراهة في موضوع واحد.

ص: 94


1- والتحقيق: التفصيل بين المأخوذ تمام الموضوع فلا يأتي من المحذورات فيه أبداً؛ لأ نّه مع تعدّد العنوانين - اللذين هما مركب الحكم - تدفع المحذورات طرّاً، حتّى لزوم اللغوية والأمر بالمحال: أمّا اللغوية: فلأنّ الطرق إلى إثبات الحكم أو موضوعه كثيرة، فجعل الحرمة على الخمر والترخيص على معلوم الخمرية لا يوجب اللغوية بعد إمكان العمل به لأجل قيام طرق اُخر، وكذا الحال في معلوم الحرمة. وأمّا لزوم الأمر بالمحال: فلأنّ أمر الآمر ونهيه لا يتعلّقان إلاّ بالممكن، وعروض الامتناع في مرتبة الامتثال - كباب التزاحم - لا يوجب الأمر بالمحال، كما حقّق في محلّه. [منه قدّس سرّه ]

وفيه: أ نّه مع اختلاف العناوين واختلاف المصالح والمفاسد لا مانع من تعلّق الإرادة والكراهة.

وبعبارة اُخرى: ما يمتنع تعلّقهما به هو الموضوع الواحد الذي له صورة وحدانية في النفس، وأمّا مع اختلاف العناوين فتكون صورها مختلفة فيها، وتعلّق الإرادة بواحد منها والكراهة بالاُخرى ممّا لا مانع منه.

وبالجملة: الخمر ومعلوم الخمرية ومظنون الخمرية لها صور مختلفة وشخصيات متكثّرة في النفس، ويجوز تعلّق الإرادة والكراهة بها، وليست الصور الذهنية مثل الموضوعات الخارجية؛ حيث إنّ ذات الموضوع الخارجي محفوظة مع اختلاف العناوين، بخلاف الصور الذهنية؛ فإنّ الموضوع مع كلّ عنوان له صورة على حدة.

الرابع: لزوم اللغوية في بعض الموارد.

الخامس: لزوم الأمر بالمحال في بعض الموارد.

والعمدة في الباب هي هذان الوجهان، فكلّما لزم - من تعلّق حكم بموضوع وتعلّق حكم آخر بمعلوم الحكم أو مظنونه - أحد هذين الوجهين أو كلاهما فيمتنع، ومعلوم أنّ الموارد مختلفة في هذا الوادي، فربّما يلزم في موردٍ اللغوية دون مورد آخر، وكذا الوجه الخامس.

مثلاً: لو تعلّق حكم بموضوع، فتعلّق حكم مماثل به بعنوان المقطوعية قد يكون لغواً وهو ما إذا اُحرز إتيان المأمور بمجرّد القطع والإحراز، وقد يكون لازماً وهو كلّ مورد اُحرز عدم الإتيان إلاّ بعد تعلّق أمر آخر بالمحرز المقطوع، وقد يكون راجحاً إذا احتمل انبعاثه بالأمر الثاني، بل لا يبعد أن يكون في هذه

ص: 95

الصورة أيضاً لازماً. هذا في الأحكام الجزئية والشخصية.

وأمّا الأحكام الكلّية فتعلّقها مطلقاً لا يكون لغواً؛ لعدم تحقّق إحراز الإتيان.

وأمّا الحكم المضادّ - على اصطلاحهم - فالظاهر أ نّه في مورد القطع غير ممكن، فلا يمكن أن يكون الخمر حراماً ومقطوع الخمرية أو الحرمة واجباً، لا لأجل اجتماع الضدّين، بل لأجل لزوم طلب المحال - فإنّ امتثال التكليفين محال - ولزوم لغوية جعل الحرمة للموضوع، كما لا يخفى.

ولو فرضنا كون الخمر حراماً ومقطوع الخمرية أو الحرمة مرخّصاً فيه، يكون أيضاً ممتنعاً للزوم اللغوية؛ فإنّ جعل الحرمة للخمر إنّما هو لغرض صيرورة المأمور بعد علمه بالحكم والموضوع ممتنعاً تاركاً، فجعل الترخيص في هذا المورد نقض للغرض، أو جعل الحرمة للخمر يصير لغواً باطلاً.

وكذا لوتعلّق الوجوب بموضوع لا يمكن تعلّق الحرمة به بعنوان مقطوع الحكم أو الموضوع؛ للزوم الأمر بالمحال أو اللغوية، ولا يمكن تعلّق الترخيص به؛ للزوم اللغوية.

إلاّ أن يقال: إنّ إمكان الإتيان بالمأمور به أو ترك المنهيّ عنه بإحرازهما بسائر الطرق غير العلم يدفع اللغوية والمحالية. نعم، هذا لازم بناءً على أخذ العلم بالجهة الجامعة بينه وبين الطرق موضوعاً، لا الجهة الجامعة المتخصّصة بالعلم.

هذا حال العلم.

وأمّا الظنّ - سواء كان حجّة أم لا - فالظاهر عدم المانع من تعلّق حكم مماثل أو مضادّ بعنوانه:

ص: 96

أمّا الظنّ غير المعتبر فواضح؛ لعدم لزوم اللغوية أو الأمر بالمحال:

أمّا عدم لزوم اللغوية؛ فلأنّ جعل الحكم لموضوع، له موارد للعمل لا يكون لغواً، ولو جعل حكم آخر لمورد لا يكون منجّزاً للتكليف، فالظنّ غير المعتبر لمّا لم يكن منجّزاً للتكليف لا مانع في جعل حكم مضادّ له، ولا يلزم منه لغوية جعل الحكم لنفس الموضوع؛ فإنّ له موارد للعمل.

ومنه يعلم عدم لزوم طلب المحال؛ لأنّ الظنّ غير المعتبر لم ينجّز التكليف المتعلّق بالموضوع، فلم يبق إلاّ التكليف المتعلّق بالمظنون.

وكذا لا مانع من تعلّق الحكم المماثل؛ لعدم لزوم المحذورين أصلاً.

وأمّا الظنّ المعتبر: فإن كان دليل اعتباره مختصّاً بكشف هذا الموضوع أو الحكم الذي تعلّق به، فلا يمكن جعل حكم مضادّ له؛ للزوم اللغوية في دليل الإحراز أو لزوم الأمر بالمحال.

وإن كان دليل الاعتبار مطلقاً شاملاً له ولغيره يكون جعل الحكم المضادّ بمنزلة المخصّص لدليل الاعتبار، ويصير حكمه حكم الظنّ غير المعتبر، وأمّا في جعل الحكم المماثل فحال الظنّ المعتبر حال القطع.

تنبيه

في تفصيل المحقّق النائيني بين الظنّ المعتبر والغير المعتبر

وممّا ذكرنا يعرف حال ما ذكره الأصحاب من الخلط والاشتباه، خصوصاً ما فصّله بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - فإنّه بعد بيان الأقسام المتصوّرة وبيان إمكان أخذ الظنّ موضوعاً لحكم آخر مطلقاً إلاّ فيما

ص: 97

اُخذ تمام الموضوع على وجه الطريقية، كما تقدّم في العلم وتقدّم ما فيه، وحال

ما نحن فيه حال العلم إشكالاً وجواباً، فراجع(1)، قال قدّس سرّه ما ملخّصه:

وأمّا أخذه موضوعاً لمضادّ حكم متعلّقه فلا يمكن مطلقاً، من غير فرق بين الظنّ المعتبر وغيره؛ للزوم اجتماع الضدّين ولو في بعض الموارد، ولا يندرج في مسألة اجتماع الأمر والنهي، بل يلزم منه الاجتماع في محلّ واحد.

وأمّا أخذه موضوعاً لحكم المماثل: فإن لم يكن الظنّ حجّة فلا مانع منه؛ فإنّ في صورة المصادفة يتأكّد الحكمان، فإنّ اجتماع المثلين إنّما يلزم لو تعلّق الحكمان بموضوع واحد وعنوان واحد، وأمّا مع تعلّقهما بالعنوانين فلا يلزم إلاّ التأكّد.

وأمّا الظنّ الحجّة فلا يمكن أخذه موضوعاً للمماثل؛ فإنّ الواقع في طريق إحراز الشيء لا يكون من طوارئه؛ بحيث يكون من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث ملاك غير ما هو عليه من الملاك؛ لأنّ الحكم الثاني لا يصلح لأن يكون محرّكاً وباعثاً لإرادة العبد؛ فإنّ الانبعاث إنّما يتحقّق بنفس إحراز الحكم الواقعي

المجعول على الخمر، فلا معنى لجعل حكم آخر على ذلك المحرز، كما لا يعقل ذلك في العلم أيضاً.

وزاد قدّس سرّه في فذلكته: أنّ الظنّ الغير المعتبر لا يصحّ أخذه موضوعاً على وجه الطريقية لا للمماثل ولا للمخالف؛ فإنّ أخذه على وجه الطريقية هو معنى اعتباره؛ إذ لا معنى له إلاّ لحاظه طريقاً.

ص: 98


1- تقدّم في الصفحة 59.

وأمّا أخذه موضوعاً لنفس متعلّقه إذا كان حكماً، فلا مانع منه بنتيجة التقييد مطلقاً، بل في الظنّ المعتبر لا يمكن ولو بنتيجة التقييد؛ فإنّ أخذ الظنّ حجّة محرزاً لمتعلّقه معناه أ نّه لا دخل له في المتعلّق؛ إذ لو كان له دخل لما اُخذ طريقاً، فأخذه محرزاً مع أخذه موضوعاً يوجب التهافت ولو بنتيجة التقييد، وذلك واضح(1)،

انتهى.

وفيه مواقع للنظر نذكر بعضها إجمالاً، فنقول:

أمّا قضيّة اجتماع الضدّين فقد عرفت حالها، وأ نّها ممّا لا أساس لها أصلاً.

وأمّا تفرقته بين الظنّ المعتبر وغير المعتبر في الحكم المماثل ففيها:

أوّلاً: أنّ اختلاف العنوانين إن كان رافعاً لاجتماع المثلين فهو رافع لاجتماع الضدّين أيضاً؛ فإنّ محطّ الأمر والنهي إذا كان عنوانين مختلفين ولو اتّفق اجتماعهما في موضوع واحد، فهو كما يرفع اجتماع المثلين يرفع اجتماع الضدّين.

وأمّا إذا كان أحد العنوانين محفوظاً مع الآخر - كما فيما نحن فيه؛ فإنّ الخمر محفوظة بعنوانها مع مظنون الخمرية - فكما لا يرفع معه التضادّ لا يرفع معه اجتماع المثلين.

وثانياً: أنّ ما ذكره من ميزان اجتماع المثلين وميزان التأكّد ممّا لا أساس له أصلاً؛ فإنّ التأكّد إنّما هو مورده فيما إذا كان العنوان واحداً وتعلّق الأوامر المتعدّدة به تأكيداً، وحديث اجتماع المثلين كالضدّين ممّا لا أصل له، كما

ص: 99


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 32 - 35.

عرفت؛ فإنّ الإرادة المتعلّقة بموضوع مهتمّ به كما قد تصير مبدأً للتأكيد بأداته،

كذلك قد تصير مبدأً لتكرار الأمر والنهي تأكيداً، كالأوامر والنواهي الكثيرة المتعلّقة بعنوان الصلاة والزكاة والحجّ، وعنوان الخمر والميسر والربا في الشريعة المقدّسة ، فهل هذه من قبيل اجتماع المثلين ؟ !

نعم، تعلّق الإرادتين بعنوان واحد ممّا لا يمكن؛ لأنّ تشخّص الإرادة بالمراد. هذا حال العنوان الواحد.

وأمّا مع اختلاف العنوانين فلا يكون من التأكيد أصلاً وإن اتّفق اجتماعهما في موضوع واحد؛ فإنّ لكلّ واحد من العنوانين حكمه، ويكون الموضوع مجمعاً لعنوانين ولحكمين، ويكون لهما إطاعتان وعصيانان، ولا بأس به.

وما اشتهر بينهم: أنّ قوله: «أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» يفيد التأكيد إذا اجتمعا في مصداق واحد ممّا لا أصل له.

وثالثاً: أنّ ما أفاد: من أنّ الظنّ المعتبر لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم المماثل، معلّلاً تارةً: بأنّ المحرز للشيء ليس من العناوين الثانوية الموجبة لحدوث الملاك، وتارةً: بأنّ الحكم الثاني لا يصلح للانبعاث، وإن خلط الفاضل المقرّر - دام علاه - في تحريره.

فيرد على الأوّل: أنّ عدم كون الظنّ المحرز من العناوين الثانوية التي توجب الملاك هل هو من جهة كون الظنّ مختلفاً مع الواقع المظنون في الرتبة، فيلزم أن يكون الظنّ الغير المعتبر أيضاً كذلك، أو من جهة الاعتبار الشرعي، ففيه: أ نّه أيّ دليل قام على أنّ الاعتبار الشرعي ممّا ينافي الملاكات الواقعية ويرفعها ؟ !

ص: 100

وبالجملة: لا فرق بين الظنّ المعتبر وغير المعتبر إلاّ في الجعل الشرعي، وهو ممّا لا يضادّ الملاكات النفس الأمرية.

مع أنّ الظنّ والقطع كسائر العناوين يمكن أن يكونا موجبين لملاك آخر.

ويرد على الثاني: أ نّه يمكن أن لا ينبعث العبد بأمر واحد وينبعث بأمرين أو أوامر، وإمكان الانبعاث يكفي في الأمر، ولولا ذلك لصارت التأكيدات كلّها لغواً باطلاً، مع أنّ المظنون بما أ نّه مظنون يمكن أن يكون له ملاك مستقلّ في مقابل الواقع، كما هو المفروض فيما نحن فيه، فيتعلّق به أمر مستقلّ.

وأمّا ما أفاد في فذلكته: من أنّ أخذ الظنّ على وجه الطريقية هو معنى اعتباره، ففيه: أ نّه ممنوع؛ فإنّ الظنّ لمّا كان له طريقية ناقصة وكاشفية ضعيفة ذاتاً، يمكن أن يؤخذ على هذا الوجه موضوعاً في مقابل الصفتية التي معناها أن يؤخذ مقطوع النظر عن كاشفيته.

وأمّا معنى اعتباره: فهو أن يجعله الشارع طريقاً وكاشفاً بالجعل التشريعي، فمجرّد لحاظ الشارع طريقيته لا يلازم اعتباره شرعاً، فضلاً عن أن يكون معناه.

وإن شئت قلت: إنّ لحاظ الطريقية من مقولة التصوّر، وجعل الاعتبار من الإنشاء والحكم، ولا ربط بينهما ولا ملازمة، فضلاً عن أن يكون أحدهما معنى الآخر.

مضافاً إلى أنّ لحاظ الطريقية لو كان بمعنى جعل الاعتبار وجعل الطريقية، لا بدّ وأن يلتزم بامتناعه في القطع؛ لأنّ جعل الطريقية والاعتبار فيه ممتنع، فلحاظ القطع الطريقي موضوعاً مطلقاً يصير ممتنعاً.

اللهمّ إلاّ [أن] يدّعى أنّ ذاك اللحاظ عين معنى الاعتبار أعمّ من الاعتبار

ص: 101

الذاتي أو الجعلي، وهو كما ترى.

وأمّا ما أفاد: من أنّ أخذ الظنّ بالحكم موضوعاً لنفسه لا مانع منه بنتيجة التقييد، فقد عرفت ما فيه في أخذ العلم كذلك من لزوم الدور(1).

وأمّا ما أفاده أخيراً: من عدم جواز أخذ الظنّ المعتبر موضوعاً لحكم متعلّقه، معلّلاً بأنّ أخذ الظنّ محرزاً لمتعلّقه معناه أ نّه لا دخل له فيه، وهو ينافي الموضوعية.

ففيه: أنّ ذلك ممنوع جدّاً؛ فإنّ الملاك يمكن أن يكون في الواقع المحرَز بهذا الظنّ بعنوان المحرزية، فلا بدّ من جعل المحرزية للتوصّل إلى الغرض، لكن أخذ الظنّ كذلك محال من رأس؛ للزوم الدور.

والذي يسهّل الخطب: أنّ ما ذكر من أقسام الظنّ الموضوعي مطلقاً - بل والقطع غالباً - مجرّد تصوّرات لا واقع لها، والتعرّض لها إنّما هو تبعاً للمشايخ رحمهم الله تعالى.

ص: 102


1- تقدّم في الصفحة 61.

الأمر الخامس في الموافقة الالتزامية

اشارة

قوله: «الأمر الخامس...»(12).

وفيه مطالب:

المطلب الأوّل في حال الموافقة الالتزامية في الاُصول والفروع

وتوضيحها يتوقّف على تمهيد مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: أنّ الاُصول الاعتقادية تكون على أقسام:

منها: ما هي ثابتة بالبرهان العقلي - من غير دخالة النقل والنصّ فيها، بل لو ورد في الكتاب والسنّة ما بظاهره المنافاة لها لا بدّ من تأويله أو إرجاع علمه إلى أهله - كوجود المبدأ المتعال وتوحيده وسائر صفاته الكمالية وتنزيهه عن النقص، وكأصل المعاد بل والجسماني منه أيضاً على ما هو المبرهن عند أهله(1)،

ص: 103


1- راجع كشف المراد: 405؛ الحكمة المتعالية 9: 185؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 5: 306.

وكالنبوّة العامّة وأمثالها من العقليات الصرفة، فما وقع في كلام بعض أعاظم

المحدّثين من أنّ المعوّل عليه في التوحيد هو الدليل النقلي(1) ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه، ولا يستأهل جواباً وردّاً.

ومنها: ما هي ثابتة بضرورة الأديان أو دين الإسلام، كبعض أحوال المعاد والجنّة والنار والخلود في النار وأمثالها، أو ضرورة المذهب.

ومنها: ما هي ثابتة بالنصّ الكتابي أو النقل المتواتر.

وأمّا غيرها ممّا ورد فيه رواية أو روايات، فقد يحصل منها العلم أو الاطمئنان وقد لا يحصل.

والفروع الشرعية أيضاً: تارةً تكون ثابتة بضرورة الدين كوجوب الصلاة والحجّ، وتارةً بضرورة المذهب كوجوب حبّ أهل البيت وحرمة بغضهم، وتارةً بالنقل المتواتر أو النصّ الكتابي أو الإجماع، وتارةً بغيرها من الأدلّة الاجتهادية

والفقاهتية، وربّما تثبت بالعقل أيضاً.

المقدّمة الثانية: أنّ الأحوال القلبية من الخضوع والخشوع والخوف والرجاء والرضا والسخط وأمثالها إنّما تحصل في النفس قهراً تبعاً لمبادئها الحاصلة فيها بعللها؛ بحيث لو حصلت المبادئ فيها تتبعها تلك الحالات بلا دخالة إرادة واختيار أصلاً.

مثلاً: العلم بوجود المبدأ وعظمته وقهّاريته يوجب الخضوع والخشوع لدى حضرته - جلّت كبرياؤه - والخوف منه، والعلم برحمته الواسعة وجوده الشامل

ص: 104


1- بحار الأنوار 3: 234؛ مرآة العقول 1: 264.

وقدرته النافذة يوجب الرجاء والوثوق.

وكلّما تمّت المبادئ وكملت، تمّت وكملت الحالات القلبية؛ أي درجات الثمرات تابعة لدرجات المبادئ، ولا يمكن تحصيل النتائج إلاّ بتحصيل مبادئها، ولا يمكن حصول تلك الحالات بالإرادة وجعل النفس من دون تحقّق المبادئ، ومع تحقّقها تحصل قهراً وتبعاً من غير دخالة الإرادة والاختيار فيها.

المقدّمة الثالثة: أنّ عقد القلب والالتزام بشيء والانقياد والتسليم القلبي لأمر، من الأحوال القلبية التي لا تحصل بالإرادة والاختيار من دون حصول مبادئها، فضلاً عن حصولها مع تحقّق أضداد مبادئها أو مبادئ أضدادها، فإذا حصلت مبادئها في النفس لا يمكن تخلّف الالتزام والتسليم والانقياد القلبي عنها، ولا يمكن الالتزام بمقابلاتها وأضدادها، فتخلّفها عن المبادئ ممتنع، كما أنّ حصولها بدونها أيضاً ممتنع.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الاُصول الاعتقادية البرهانية أو الضرورية أو غيرها إذا حصلت بمبادئها في النفس لا يمكن تخلّف الالتزام والتسليم والانقياد القلبي عنها، ولا يمكن الالتزام بأضدادها؛ مثلاً: من قام البرهان الأوّلي عنده على وجود المبدأ المتعال ووحدته لا يمكن له اختياراً وإرادةً الالتزام وعقد القلب بعدم وجوده ووحدته تعالى، كما لا يمكن عقد القلب حقيقة على ضدّ أمر محقّق محسوس، كعقد القلب على أنّ النار باردة، وأنّ الشمس مظلمة، وأنّ الكوكب الذي يفعل النهار هو المشتري، وقس على ذلك كلّية الاعتقاديات والفرعيات الضرورية والمسلّمة، فكما لا يمكن عقد القلب والالتزام على ضدّ أمر تكويني لا يمكن على ضدّ أمر تشريعي بالضرورة والوجدان.

ص: 105

وما يتوهّم(1): أنّ الكفر الجحودي يكون من قبيل الالتزام القلبي على خلاف اليقين الحاصل لصاحبه - كما قال تعالى: )وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَ نْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً((2) - فاسد؛ فإنّ الجحود عبارة عن الإنكار اللساني، لا الالتزام القلبي، كما هو واضح.

وكذلك الحال في الفرعيات الثابتة بالطرق والأمارات وسائر الحجج الشرعية، فإنّ الالتزام بها والتسليم لها مع حصول مقدّماتها والعلم بها قهري تبعي، لا إرادي اختياري، والالتزام على خلافها غير ممكن، فلا يمكن للّذي ثبت عنده بالحجّة الشرعية أنّ حكم الغسالة هو النجاسة أن يلتزم بطهارتها شرعاً، أو لا يلتزم بنجاستها، إلاّ أن يرجع إلى تخطئة الشارع، وهو خلاف الفرض.

فما اشتهر بينهم من حرمة التشريع(3) ووجوب الموافقة الالتزامية:

إن كان المراد من التشريع هو البناء والالتزام القلبي على كون حكم لم يكن من الشرع أو لم يعلم كونه منه، أ نّه منه، ومن وجوب الالتزام هو الالتزام القلبي - بالاختيار والجعل - للأحكام الشرعية والاُصول الاعتقادية، كما هو ظاهر كلماتهم بل صريحها (4)، فهو ممّا لا يرجع إلى محصّل؛ فإنّ التشريع بهذا

المعنى غير ممكن، فضلاً عن أن يكون متعلّقاً للنهي الشرعي، وكذلك الالتزام

ص: 106


1- نهاية الدراية 1: 271 - 272.
2- النمل (27): 14.
3- راجع ما يأتي في الصفحة 179.
4- اُنظر كفاية الاُصول: 308.

بالأحكام الشرعية لمن يعتقد الرسالة، وثبتت عنده الأحكام بطرقها وأدلّتها، واجب التحقّق، ممتنع التخلّف، ولا يكون تحت اختيار العبد وإرادته حتّى يكون مورداً للأمر.

وإن كان المراد من التشريع هو إدخال ما ليس في الدين فيه؛ افتراءً على الله تعالى وعلى رسوله صلی الله علیه و آله وسلم فهو أمر ممكن واقع محرّم بالضرورة، وكذلك الموافقة الالتزامية إن كان المراد منها هو البناء القلبي على الالتزام العملي والإطاعة لأمر المولى، والمخالفة هي البناء على المخالفة العملية، فهما أمران معقولان يكونان من شُعَب الانقياد والتجرّي.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ وجوب الموافقة الالتزامية وحرمة مخالفتها - على ما يستفاد من كلام القوم - ممّا لا أساس لهما أصلاً.

وما ذهب إليه بعض سادة مشايخنا رحمهما اللّه (1) في القضايا الكاذبة من التجزّم على طبقها، وجعله مناطاً لصيرورة القضايا ممّا يصحّ السكوت عليها، وأنّ العقد القلبي عليها يكون جعلياً اختيارياً. وقال شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه -: إنّ

حاصل كلامه: أ نّه كما أنّ العلم قد يتحقّق في النفس بوجود أسبابه، كذلك قد تخلق النفس حالة وصفة على نحو العلم حاكية عن الخارج، فإذا تحقّق هذا المعنى في الكلام يصير جملةً يصحّ السكوت عليها؛ لأنّ تلك الصفة الموجودة تحكي جزماً عن تحقّق النسبة في الخارج(2)، انتهى.

فيرد عليه: أنّ العلم والجزم ليسا من الاُمور الجعلية الاختيارية، فإنّهما من

ص: 107


1- اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 70.
2- نفس المصدر.

الاُمور التكوينية التي لا توجد في النفس إلاّ بعللها وبأسبابها التكوينية، فهل

يمكن جعل الجزم في النفس بأنّ الواحد ليس نصف الاثنين بل هو نصف الثلاثة، وأنّ النقيضين يجتمعان ويرتفعان ؟ !

وأمّا الإخبارات الكاذبة إنّما تكون بصورة الجزم، وليس في واحد منها حقيقة الجزم الجعلي بل إظهار الجزم، والمناط في صحّة السكوت هو الإخبار الجزمي؛ أي الإخبار الذي بصورة الجزم، ولا ربط للجزم القلبي في صحّة السكوت وعدمه، ولهذا لو أظهر المتكلّم ما هو مقطوع به بصورة الترديد لا تصير القضيّة ممّا يصحّ السكوت عليها.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ في تلك القضايا المظهرة بصورة الترديد ينشئ المتكلّم حقيقة الترديد في النفس، ويصير مردّداً جعلاً واختراعاً، وهو كما ترى.

فتحصّل: أنّ جعلية هذه الأوصاف النفسانية ممّا لا وجه صحّة لها.

المطلب الثاني في كون الموافقة الالتزامية على طبق العلم بالأحكام كيفية وكمّية

بناءً على ما ذكرنا من كون الموافقة الالتزامية من الملتزم بالشريعة والمؤمن بها من الاُمور القهرية الغير الاختيارية، لا الجعلية الاختيارية، تكون الموافقة الالتزامية على طبق العلم بالأحكام وتابعة له كيفيةً وكمّيةً؛ فإن كان العلم متعلّقاً

بحكم تفصيلاً يتعلّق الالتزام به تفصيلاً، وإن كان متعلّقاً إجمالاً يكون الالتزام

ص: 108

إجمالياً، ففي دوران الأمر بين المحذورين - الذي يكون العلم بنحو الترديد والإجمال في المتعلّق - يكون الالتزام به أيضاً كذلك، فلو بنينا على جواز جعل حكم ظاهري في مورد الدوران بين المحذورين يكون الالتزام على طبق الحكم الظاهري؛ أي كما أ نّه يجوز جعل الحكم الواقعي والظاهري في موضوع بعنوان الذات والمشكوك مثلاً ويكون تعلّق العلم بهما ممّا لا مانع منه، كذلك الالتزام يكون على طبقه؛ أي التزام بحكم واقعي والتزام بحكم ظاهري بلا تنافٍ بينهما، فجريان الاُصول فيه ممّا لا مانع منه من قبل لزوم الالتزام، كما أنّ جريانها لا يدفع الالتزام بالحكم الواقعي؛ لأنّ جريانها في طول الواقع، ولا يدفع به العلم بالحكم الواقعي.

بل لو بنينا على اختيارية الالتزام وجعليته فلا وجه لاختصاص محذور عدم الموافقة بما إذا لم تجر الاُصول في الأطراف، كما مال إليه المحقّق الخراساني قدّس سرّه (1)؛ لأنّ موضوع الالتزام بالحكم الواقعي في طول مجاري الاُصول، والالتزام بالواقع مع الاُصول في الرتبتين، ولا وجه لدفع أحدهما بالآخر، فتدبّر.

ص: 109


1- كفاية الاُصول: 309 - 310.

المطلب الثالث في حال جريان الاُصول العقلية أو الشرعية في أطراف العلم الإجمالي فيما إذا دار الأمر بين المحذورين

وأمّا جريانها في غيره من موارد العلم الإجمالي فسيأتي حاله(1).

والظاهر عدم جريان الاُصول العقلية مطلقاً في أطرافه؛ لعدم المجال للحكم العقلي فيما هو ضروري تكويناً وحاصل بنفس ذاته، حتّى التخيير العقلي بمعنى الحكم بالتخيير؛ فإنّه لا معنى له بعد ضرورية حصوله.

وأمّا الاُصول الشرعية، مثل أصالة الحلّية والإباحة فلا تجري؛ لمناقضة مضمونها للعلم الإجمالي؛ فإنّ جنس التكليف معلوم، وأصل الإلزام متيقّن، فلا موضوع لأصل الحلّية والإباحة؛ فإنّ معنى الحلّية والإباحة عدم الإلزام في طرفي الوجود والعدم، وهذا ليس بمشكوك، بل معلوم.

وأمّا أصالة البراءة - التي مستندها دليل الرفع والتوسعة - فالظاهر جريانها في طرفي الوجود والعدم، وتساقطهما بالتعارض أو بواسطة العلم بالخلاف.

ولو قلنا بعدم الجريان فإنّما هو بواسطة العلم بالخلاف، وهذا مناقضة بالعرض ومن باب الاتّفاق، لا مناقضة في مفاد الدليل والجعل؛ لأنّ الرفع والتوسعة في كلّ طرف لا يكون مفادها التوسعة والرفع في الطرف الآخر حتّى يناقض جنس التكليف المعلوم، فموضوع الأصل الذي هو الشكّ في نوع

ص: 110


1- يأتي في الجزء الثاني: 175.

التكليف محقّق في كلّ واحد من الطرفين في حدّ نفسه.

وما أفاد بعض مشايخ العصر قدّس سرّه - على ما في تقريراته(1) - من أنّ المحذور في جريان البراءة الشرعية هو أنّ مدركها قوله: «رفع ما لا يعلمون»(2)، والرفع فرع إمكان الوضع، وفي مورد الدوران بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما، لا على سبيل التعيين ولا على سبيل التخيير، ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلّق الرفع، فأدلّة البراءة الشرعية لا تعمّ المقام.

فيرد عليه:

أوّلاً: أنّ ما لا يمكن الوضع [فيه] هو الوجوب والحرمة كلاهما - أي المجموع من حيث هو مجموع - والأفراد بهذه الحيثية ليست مشمولة للأدلّة مطلقاً؛ فإنّ مفادها هو كلّ فرد فرد بعنوانه، لا بعنوان المجموع، ولو كانت مشمولة بهذه الحيثية أيضاً، يلزم أن يكون كلّ فرد مشمول الدليل مرّتين بل مرّات غير متناهية؛ مرّة بعنوان ذاته، ومرّات غير متناهية بعنوان الاجتماعات الغير المتناهية، وهو ضروري البطلان.

وثانياً: أ نّه يلزم بناءً على ذلك عدم جريان أصالة البراءة وغيرها في غير مورد دوران الأمر بين المحذورين؛ لمناقضة مفادها مع المعلوم بما أ نّه معلوم؛ فإنّ الرفع عن كلا الطرفين يناقض الوضع الذي في البين، مع اعترافه بجريانها إذا لم يلزم منه مخالفة عملية.

ص: 111


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 448.
2- التوحيد، الصدوق: 353 / 24؛ الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

وثالثاً: أ نّه لو فرضنا أنّ حديث الرفع يشمل المجموع أيضاً، لنا أن نقول بجريانه في الدوران بين المحذورين وغيره؛ لشموله بالنسبة إلى كلّ فرد فرد بنفسه، فالفرد بعنوان ذاته مشمول للدليل، وإن كان بعنوان اجتماعه مع غيره غير مشمول له، ولا يتنافى عدم المشمولية بعنوان مع المشمولية بعنوان ذاته.

هذا كلّه إذا كان مراده قدّس سرّه من قوله: «لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما» هو المجموع. وإن كان مراده الجميع بنحو الاستغراق، فمناقضته مع التكليف في البين لا تنافي الجريان في كلّ واحد من حيث هو، بل لازمها السقوط بعد الجريان، كما هو الشأن في كلّ مورد يكون كذلك.

وأمّا الاستصحاب: فما كان مفاده مناقضاً لأصل الإلزام وجنس التكليف كاستصحاب الاستحباب والكراهة والإباحة، فعدم جريانه معلوم؛ لعدم الموضوع له.

وأمّا استصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة فالظاهر جريانهما وسقوطهما بالمعارضة، كما عرفت في جريان أصل البراءة، ولا مانع من جريانهما سوى ما أفاد العلاّمة الأنصاري من عدم جريان الاُصول في أطراف العلم مطلقاً؛ للزوم مناقضة صدر الأدلّة مع ذيلها (1)،

وسيأتي ما فيه(2)،

وسوى ما في تقريرات بعض المشايخ قدّس سرّه (3)، وسيأتي ما فيه(4)،

فانتظر.

ص: 112


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 409 - 410.
2- يأتي في الصفحة 123.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 22 - 23.
4- يأتي في الصفحة 124 - 125.

إن قلت: جريان الاستصحابين - بل مطلق الاُصول - في مورد الدوران يلزم منه اللغوية؛ فإنّ الإنسان تكويناً لا يخلو عن الفعل أو الترك، وهما مفاد استصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة، فوجودهما وعدمهما على السواء، وكذا الحال في أصالة البراءة عن الوجوب والحرمة.

وإن شئت قلت: لا معنى لجريان الأصل العملي في مورد ليس فيه عمل يمكن التعبّد به، كما فيما نحن فيه؛ فإنّ أحد الطرفين ضروري التحقّق.

قلت: نعم، لو كان مفاد الأصل هو مجموع كلا الطرفين فمع لزوم اللغوية يلزم منه المناقضة مع المعلوم في البين، لكن قد عرفت ما فيه.

وأمّا مع ملاحظة كلّ واحد من الأصلين بحيال ذاته فلا يلزم من جريانه اللغوية؛ فإنّه مع استصحاب عدم الوجوب يجوز الترك، ومع استصحاب عدم الحرمة يجوز الإتيان، فأين يلزم اللغوية ؟ !

وأيضاً: نفس الوجوب والحرمة من الأحكام الشرعية التي يجري فيها الاستصحاب بلا توقّع أثر آخر.

نعم، التعبّد بكليهما ممّا لا يمكن؛ للعلم بمخالفة أحدهما للواقع، فلهذا يتساقطان بالتعارض. وهاهنا اُمور اُخر موكولة إلى محلّها.

ص: 113

الأمر السادس في عدم تفاوت الآثار العقلية للقطع الطريقي

اشارة

قوله: «الأمر السادس...»(13).

أقول: لا ينبغي الإشكال في عدم تفاوت القطع الطريقي عقلاً فيما له من الآثار العقلية من حيث الموارد والقاطع وأسباب حصوله، والتعرّض له ممّا لا طائل تحته، وما ظاهره المخالفة مؤوّل أو مطروح. إنّما الكلام في بعض الجهات التي تعرّض [لها] بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه على ما في تقريرات بحثه.

مقالة المحقّق النائيني في تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد

قال في الجهة الاُولى ما حاصله: نسب إلى جملة من الأشاعرة(1) إنكار الحسن والقبح العقليين، وعدم دوران أحكام الشارع مدار المصالح والمفاسد، وأ نّه تعالى مقترح في أحكامه من دون مرجّح، ولا مانع من الترجيح بلا مرجّح، ولمّا كان هذا القول في غاية السقوط أعرض عنه المحقّقون منهم(2)، والتزموا

ص: 114


1- راجع شرح المواقف 8: 202 - 207؛ شرح المقاصد 4: 301 - 306؛ المحصول في علم اُصول الفقه 1: 48.
2- راجع المباحث المشرقية 1: 125 - 126، و2: 487.

بثبوت المصالح والمفاسد، لكن اكتفوا بالمصلحة والمفسدة النوعية القائمة بالطبيعة في صحّة تعلّق الأمر ببعض الأفراد وإن لم يكن لتلك الأفراد خصوصية، ويصحّ ترجيح بعض الأفراد بلا مرجّح على بعضها بعد ما كان مرجّح في أصل الطبيعة، ومثّلوا برغيفي الجائع وطريقي الهارب مع تساوي الطرفين، فإنّه لا إشكال في اختيار أحدهما من غير مرجّح أصلاً؛ لأنّ المفروض تساويهما من جميع الجهات.

قال الفاضل المقرّر - دام علاه - : إنّ شيخنا الاُستاذ يميل إلى هذا القول

بعض الميل، وهذا ليس بتلك المثابة من الفساد، ويمكن الالتزام به، ولا ينافيه تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد؛ لكفاية المصلحة النوعية في ذلك، وما لا يمكن الالتزام به هو إنكار المصالح والمفاسد مطلقاً؛ لعدم معقولية الترجيح بلا مرجّح(1)، انتهى.

أقول: كما أنّ القول باقتراح الشارع الأحكام من غير مرجّح في غاية السقوط، كذلك القول باقتراح الخصوصية من غير مرجّح أيضاً في غاية السقوط، بل لا فرق بينهما فيما هو ملاك الاستحالة عند العقل أصلاً؛ فإنّ ملاكها هو تعلّق الإرادة - التي هي متساوية النسبة إلى الطرفين - بأحدهما من دون ملاك، الذي يرجع إلى وجود الممكن بلا علّة توجبه، وهو مساوق لخروج الممكن عن كونه ممكناً، وهو يساوق اجتماع النقيضين، وهذا الملاك متحقّق عيناً في ترجيح بعض الأفراد على بعض من غير مرجّح.

ص: 115


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 57 - 58.

وإن شئت قلت: إنّ استحالة الترجيح بلا مرجّح من الأحكام العقلية الغير القابلة للتخصيص، فلو فرضنا أنّ ملاك الحكم يكون في الطبيعة نفسها بلا دخالة لخصوصية الأفراد فيه، يكون نفس الطبيعة - بما هي - مأموراً بها، فاختصاص بعضها بالحكم والإيجاد أو الاختيار والبعث يكون من الترجيح بلا مرجّح والاختيار بلا ملاك. ومجرّد كون الطبيعة ذات ملاك لا يدفع استحالة التخصيص ببعض الأفراد بلا مرجّح وملاك؛ فإنّ كلّ ملاك لا يدعو إلاّ إلى نفسه، ولا معنى لدعوته إلى غيره.

وبالجملة: استحالة الترجيح بلا مرجّح المنتهي بالآخرة إلى الترجّح بلا مرجّح من ضروريات الأحكام العقلية أو المنتهية إليها، من غير افتراق بين مواردها أصلاً.

وأمّا الأمثلة الجزئية - التي لا تكون تحت ملاك برهاني وضابطة ميزانية - فلا تفيد شيئاً، ولا يدفع بمثلها البرهان الضروري، مع أنّ اختيار بعض التي [هي] مورد النقض في الأمثلة لا يكون بلا مرجّح، بل له مرجّحات خفيّة قد يغفل عن تفصيلها الفاعل أو الآمر؛ مثل كون أحدهما أسهل تناولاً؛ لكونه على يمينه أو توجّه النفس وتعلّق إدراكها بأحدهما أوّلاً، أو أكثر من الآخر بالعلل الخفيّة.

فلو قيل: نحن نفرض التساوي من جميع الجهات واقعاً وفي نظر الفاعل.

قلنا: فإذن يمتنع تعلّق الإرادة بأحدهما، وهذا الفرض مثل أن يقال: نحن نفرض تحقّق المعلول بلا علّة موجبة، أو تحقّق الإرادة من غير علّة وغاية، أو نفرض اجتماع النقيضين، وهذه مجرّد فروض لا واقع لها، وأوهام لا حقيقة لها.

وبالجملة: يرجع الترجيح بلا مرجّح في جميع الموارد إلى وجود الممكن

ص: 116

بلا علّة، وبطلانه من البديهيات الأوّلية، ولا فرق بين قول الأشاعرة الغير

المحقّقين والمحقّقين منهم لو وجد بينهم محقّق، ولو كان هذا الرأي والتفرقة أثر تحقيقهم، فهو - كما ترى - ليس فيه أثر تحقيق أصلاً.

ثمّ إنّه قد أورد في الجهة الاُولى من التقريرات كلاماً آخر ملخّصه: أنّ دعوى تبعية الأوامر والنواهي لمصالح ومفاسد في نفسها دون متعلّقاتها ضعيفة ولو إيجاباً جزئياً؛ فإنّ المصلحة في الأمر ممّا لا معنى لها، وإلاّ يلزم أن تتحقّق المصلحة بمجرّد الأمر بلا انتظار شيء آخر، والأوامر الامتحانية التي مثّلوا بها لذلك ليست كذلك؛ فإنّ المصلحة فيها قائمة بإظهار العبد الإطاعة، وهو لا يتحقّق إلاّ بالجري على وفق المأمور به، وأين هذا من كون المصلحة في نفس الأمر ؟ ! فتحصّل: أ نّه لا سبيل إلى إنكار تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في المتعلّقات(1)، انتهى.

وكلامه هذا يرجع إلى دعاوٍ ثلاث:

الاُولى: عدم تصوّر كون المصالح والمفاسد في نفس الأوامر والنواهي مطلقاً.

الثانية: كونهما مطلقاً في المتعلّقات دون غيرها.

الثالثة: المناقشة في الأمثلة التي مثّلوا بها وإرجاع المصلحة في الأوامر الامتحانية إلى المتعلّقات.

وفي كلّ من الدعاوي إشكال ونظر:

أمّا في الاُولى: فلأ نّه من الممكن أن تكون المصلحة في نفس الأمر، وتتحقّق

ص: 117


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 59.

بمجرّده بلا انتظار شيء آخر، وذلك مثل أن يكون غرض الآمر مجرّد إظهار الآمرية بلا غرض في المتعلّق ولا في إظهار العبد الإطاعة.

مثلاً: لو مرّ المولى على عدّة غلمان له، فتعلّق غرضه بمجرّد الآمرية والناهوية - فإنّهما بنفسهما لذيذان - فأمرهم ونهاهم بلا انتظار عمل منهم، فلا إشكال في كون المصلحة في نفس الأمر، لا في المتعلّق ولا في إظهار العبد الطاعة، ولهذا يسقط الغرض بمجرّد الأمر والنهي في مثله، ولعلّ بعض أوامر التقيّة من هذا القبيل؛ أي من قبيل كون المصلحة في نفس الأمر، كما لو كان في نفس إظهار الموافقة معهم مصلحة، فتأمّل.

وأمّا في الثانية: فلأ نّه لو فرضنا عدم معقولية كون المصالح والمفاسد في نفس الأوامر والنواهي، فلا يلزم منه لزوم كونها في المتعلّقات؛ لإمكان كونها في أمر ثالث، لا في الأوامر ولا في متعلّقاتها؛ لعدم كون الانفصال على سبيل منع الخلوّ حتّى ينتج من نفي أحدهما إثبات الآخر، فإنّ الغرض الباعث للأمر قد يكون في المتعلّقات، وذلك ظاهر، وقد يكون في الأوامر كما عرفت، وقد يكون في أمر آخر غيرهما، كبعض أوامر التقيّة التي تكون المصلحة في إظهار الشيعة موافقتهم، لا في نفس المتعلّقات؛ فإنّ كون المصلحة في المتعلّق عبارة عن قيام المصلحة بنفسه أتى به المكلّف أو لم يأت به، وأمّا المصلحة إذا قامت بإظهار الموافقة مع العامّة فلا يكون في نفس المتعلّق مصلحة أصلاً، بل قد يكون فيه مفسدة، لكن لمّا كان في إظهار الموافقة لهم مصلحة غالبة، وهو قد يتوقّف على إتيان المتعلّق، فلا بدّ من الأمر به وإتيانه.

وبالجملة: لا يكون المتعلّق مصداقاً ذاتياً للمصلحة، بل قد يكون مصداقاً

ص: 118

عرضياً، والشاهد على ذلك: أ نّه لو أتى المكلّف بما يتوهّم العامّة موافقته لهم يسقط الغرض والأمر بلا إشكال، كما لو شرب ما يتوهّم أ نّه نبيذ، أو فعل ما يتوهّم منه التكتّف.

وبالجملة: ما اشتهر بينهم - أنّ المصلحة: إمّا في المتعلّق أو في الأمر - ممّا لا أصل له.

إلاّ أن يقال: إنّ المأمور به في الحقيقة في تلك الموارد هو ما قامت به المصلحة بالذات، فإذا تعلّق الأمر بشرب النبيذ يكون تعلّقاً عرضياً، والمتعلّق بالذات هو إظهار الموافقة معهم.

وهذا ليس بشيء؛ فإنّ الأغراض التي هي الغايات غير المتعلّقات، وإلاّ لزم أن تكون كلّ الأوامر والنواهي الإلهية متعلّقة بغير متعلّقاتها الحقيقية، وهو كما ترى.

وأمّا في الثالثة: فلأنّ الأوامر الامتحانية كما لا تكون المصلحة في نفسها، كذلك لا تكون في متعلّقاتها، بل قد تكون المصلحة في إتيان مقدّمات المأمور به بتوهّم كونها موصلة إليه، كما في قضيّة الخليل - سلام الله عليه - (1) وقد تكون في نفس إظهار العبودية بلا دخالة للمتعلّق أصلاً.

والعجب أ نّه قدّس سرّه مع اعترافه بأنّ المصلحة في الأوامر الامتحانية إنّما تكون في إظهار العبد الإطاعة والموافقة، استنتج منه أنّ المصالح فيها في نفس المتعلّقات، وهذا من قبيل اشتباه ما بالعرض بما بالذات، ويشبه أن يكون تناقضاً في المقال.

ص: 119


1- الصافّات (37): 102؛ التبيان في تفسير القرآن 8: 516 - 520.

الأمر السابع في العلم الإجمالي

اشارة

قوله: «الأمر السابع...»(14).

أقول: هاهنا مباحث كثيرة طويلة الذيل، بعضها راجع إلى ما نحن فيه، وبعضها إلى مباحث الاشتغال، ونحن نذكر بعضها على سبيل الإجمال:

أمّا ما هو راجع إلى ما نحن بصدده فالعمدة فيه هو مقامان:

أحدهما: ما هو راجع إلى مقام ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي.

وثانيهما: ما هو راجع إلى مرحلة سقوطه به.

المقام الأوّل: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي

وفيه مطالب:

المطلب الأوّل: في أنّ العلم طريق إلى متعلّقه

المطلب الأوّل: لا إشكال في أنّ العلم طريق إلى متعلّقه كاشف عنه - سواء كان متعلّقه مجملاً مردّداً بين أمرين أو اُمور، أو مفصّلاً - وبعد كشف المتعلّق وإحرازه يصير موضوعاً لإطاعة المولى عقلاً إذا تعلّق بأمره أو نهيه، ولا شبهة

ص: 120

في أنّ الآتي بجميع أطراف الشبهة التحريمية والتارك لجميع أطراف الشبهة الوجوبية، حاله عند العقل كالآتي بالمحرّم المعلوم تفصيلاً، والتارك للواجب المعلوم كذلك، وإنكار ذلك مكابرة لضرورة حكم العقل.

وما قيل: من أنّ موضوع حكم العقل في باب المعصية ما إذا علم المكلّف حين إتيانه أ نّه معصية فارتكبه، والمرتكب لأطراف العلم الإجمالي لم يكن كذلك(1). يردّه العقل السليم، فإنّ العقل يحكم قطعاً بقبح مخالفة المولى، ويرى أنّ ارتكاب الجميع مخالفة قطعية له، ولا فرق في نظر العقل بين قتل ولد المولى بالسمّ المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً، أو قتل ابن المولى المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً، وهذا واضح لا سُترة عليه.

المطلب الثاني: لا شبهة في أ نّه كما يقبح عند العقل المخالفة القطعية، كذلك تجب الموافقة القطعية، لكنّ العقل يرى فرقاً بينهما؛ فإنّ المخالفة القطعية معصية لا يمكن الإذن فيها من المولى، لكنّ المخالفة الاحتمالية لم تكن معصية ويكون حكم العقل بالنسبة إليها بنحو الاقتضاء، لا العلّية التامّة؛ لوجود الشكّ والسترة في البين، فلو فرض الإذن من الشارع بارتكاب بعض الأطراف والاكتفاء بالموافقة الاحتمالية لم يتحاش العقل منه كما يتحاشى من الإذن في المعصية، كما وقع في الشرعيات.

وما أفاد المحقّق الخراساني: من النقض بالشبهة الغير المحصورة تارةً - فإنّ الإذن في ارتكاب الجميع إذن في المخالفة القطعية - وبالشبهة البدوية اُخرى؛

ص: 121


1- اُنظر فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 75.

فإنّ احتمال المناقضة كالقطع بها مستحيل(1).

منظور فيه:

أمّا في الشبهة [الغير] المحصورة: فلعدم الإذن في جميع الأطراف؛ بحيث لو بنى المكلّف [على] إتيان جميعها وتكلّف بالإتيان كان مأذوناً فيه.

نعم، إتيان بعض الأطراف من حيث هو ممّا لا مانع منه؛ لضعف الاحتمال، فإنّ الميزان في الشبهة الغير المحصورة أن تكون كثرة الأطراف بحدّ لا يعتني العقلاء بوجود المحتمل في مورد الارتكاب، فكأنّ الأمارة العقلائية قامت عندهم على عدم كون الواقع فيه؛ لشدّة ضعف الاحتمال. ألا ترى أ نّه إذا كان ولدك العزيز في بلد مشتمل على مائة ألف نفس، وسمعت بهلاك نفس واحدة من أهل البلد فإنّك لا تفزع لاحتمال كون الهالك ولدك، ولو فزعت لكنت على خلاف المتعارف، وصرت مورداً للاعتراض، وهذا ليس من باب قصور في المعلوم كما أفاد المحقّق الخراساني رحمه الله علیه فإنّ في المثال المذكور لم يكن الوالد الشفيق راضياً بهلاك ولده، بل لضعف الاحتمال لا يعتني به العقلاء والعقل.

وأمّا ما أفاد بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - في ميزان الشبهة الغير المحصورة وتضعيف هذا الوجه(2)،

فضعيف يأتي إن شاء الله وجهه في محلّه(3).

ص: 122


1- كفاية الاُصول: 313.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 116.
3- يأتي في الجزء الثاني: 222.

وأمّا النقض بالشبهة البدوية: فسيأتي(1) في بيان الجمع بين الحكم الواقعي

والظاهري من رفع إشكال التناقض والتضادّ، وما هو وجه الامتناع في المقام من الترخيص في المعصية ليس في الشبهة البدوية، كما لا يخفى.

المطلب الثالث: عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي

المطلب الثالث: قد علم ممّا مرّ وجه عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي. وقد قيل في وجه عدم جريانها وجوه اُخر ربّما تأتي في محلّها، ونكتفي هاهنا إجمالاً بذكر بعضها والخلل فيه:

منها: ما عن الشيخ رحمه الله علیه من أنّ شمول أدلّة الاُصول لجميع الأطراف مستلزم

للتناقض بين صدرها وذيلها، أمّا في الاستصحاب فلاشتمال دليله على قوله: «ولكن تنقضه بيقين مثله»(2)، فقوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» إذا شمل الأطراف يناقض قوله: «ولكن تنقضه بيقين آخر» فإنّ عدم النقض في الطرفين مع النقض في أحدهما الذي علم ارتفاع الحالة السابقة فيه متناقضان(3).

وفيه: أنّ قوله: «ولكن تنقضه بيقين آخر» ليس حكماً شرعياً تعبّدياً ولا جعلاً، بل لا يمكن أن يكون جعلاً؛ فإنّه يرجع إلى جعل الاعتبار والحجّية للعلم، فإنّ اليقين السابق إذا انتقض بيقين مخالف له - أي تعلّق يقين بضدّ الحالة السابقة المعلومة - فلا يمكن عدم نقضه؛ لكون النقض من لوازم حجّية العلم، فلا يتعلّق به جعل إثباتاً ونفياً، فقوله: «ولكن تنقضه» ليس حكماً وجعلاً حتّى

ص: 123


1- يأتي في الصفحة 152 و 156.
2- تهذيب الأحكام 1: 8 / 11؛ وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1، مع تفاوت يسير.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 409 - 410.

يناقض الصدر، بل هو لمجرّد بيان حدود الحكم الأوّل؛ أي عدم نقض اليقين بالشكّ إنّما يكون إلى أن يتبدّل اليقين بيقين مثله، وينتقض قهراً.

وثانياً: أنّ الظاهر من أدلّة الاستصحاب أنّ المشكوك ما لم يصر معلوماً يكون موضوعاً لحكمه، ولازمه أن يتعلّق العلم بعين ما تعلّق به الشكّ، وفي العلم الإجمالي لم يكن كذلك.

وبما ذكرنا يظهر الجواب عن دعوى المناقضة في دليل أصالة الحلّ من قوله: «كلّ شيء حلال حتّى تعرف الحرام بعينه»(1)؛ فإنّ فيه أيضاً لم يكن جعلان، بل جعل واحد هو بيان وظيفة الشاكّ، وذكر الغاية لبيان حدود موضوع الحكم، وليس لجعل حكم آخر حتّى تأتي المناقضة.

نعم، لو كانت مناقضة في البين إنّما تكون مع الحكم الواقعي؛ فإنّ شمول الدليل لكلا المشتبهين ممّا يناقض الحكم الواقعي، وهذا - بما أ نّه إذن في المعصية ومستلزم للمخالفة القطعية - موجب لرفع اليد عن جريان الاُصول في الأطراف، ومع قطع النظر عن ذلك لا محذور فيه من قِبل المناقضة، كما سيأتي في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري، والمحذورات الاُخر مرتفعة بما سيأتي في ذلك المقام(2).

هذا، وأمّا ما أفاد بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بعض الأفاضل رحمه الله علیه - في جواب الشيخ قدّس سرّه : من أنّ مناقضة الصدر للذيل على تقدير

ص: 124


1- الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4، مع تفاوت يسير.
2- يأتي في الصفحة 152 و 156.

تسليمه إنّما يختصّ ببعض أخبار الاستصحاب الذي اشتمل على الذيل(1).

ففيه ما لا يخفى؛ فإنّه بعد حمل الأخبار بعضها على بعض تتحقّق المناقضة في الحكم المجعول. مع أنّ تحقّق المناقضة في بعض الأخبار يكفي في المحذور والامتناع.

ومنها: ما أفاد المحقّق المتقدّم - على ما في تقريرات بحثه - من التفصيل بين الاُصول التنزيلية وغيرها، بعدم الجريان فيها، لزم منه المخالفة القطعية أم لا، وفي غيرها إذا لزمت، وأدرج الاستصحاب في سلكها.

قال في بيان ذلك: إنّ المجعول في الاُصول التنزيلية إنّما هو البناء العملي،

والأخذ بأحد طرفي الشكّ على أ نّه هو الواقع، وإلقاء الطرف الآخر، وجعل الشكّ كالعدم في عالم التشريع؛ فإنّ الظاهر من قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو البناء العملي على بقاء المتيقّن، وتنزيل حال الشكّ منزلة حال اليقين والإحراز، فلا يمكن مثل هذا الجعل في جميع الأطراف؛ للعلم بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، وانقلاب الإحراز السابق الذي كان في جميع الأطراف إلى إحراز آخر يضادّه، ومعه كيف يمكن الحكم ببقاء الإحراز السابق في جميع الأطراف ولو تعبّداً ؟ ! فإنّ الإحراز التعبّدي لا يجتمع مع الإحراز الوجداني بالخلاف(2)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أنّ مفاد قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو عدم النقض العملي؛ أي ترتيب آثار الواقع في زمان الشكّ عملاً والجري العملي على طبق اليقين

ص: 125


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 22 - 23.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 14.

السابق، بلا تعرّض للبناء على أ نّه هو الواقع، فليس للكبرى المجعولة في الاستصحاب إلاّ مفاد واحد، وهو إمّا إبقاء اليقين وإطالة عمره تعبّداً، وإمّا البناء

العملي على بقاء اليقين السابق، وليس معناه إلاّ العمل على طبق الحالة السابقة أو اليقين السابق والجري العملي على طبقه، وأمّا التعرّض للبناء على أ نّه هو الواقع فليس في أدلّته ما يستشمّ منه ذلك أصلاً. نعم، إنّه دائر على ألسنة أهل العلم من غير دليل يدلّ عليه.

فتحصّل من ذلك: أنّ الاستصحاب أصل عملي مفاده الجري العملي على طبق الحالة السابقة.

وأمّا تقدّمه على بعض الاُصول العملية - كأصالة الحلّ والبراءة والطهارة

- فلا يتوقّف على كونه من الاُصول المحرزة التنزيلية، كما سيأتي في محلّه إن شاء الله (1).

فإذا كان مفاده هو الجري العملي على طبق الحالة السابقة ترتفع المنافاة

بينه وبين الإحراز الوجداني بالخلاف، وليس عدم الجريان لقصور في المجعول، كما أفاد رحمه الله علیه (2).

وثانياً: أ نّه لو سلّم أنّ مفاد الاستصحاب هو البناء العملي على أ نّه هو الواقع، فمنافاة الإحراز التعبّدي مع الوجداني في محلّ المنع؛ فإنّ للشارع أن يأمر بالتعبّد بوجود ما ليس بموجود واقعاً، وبعدم ما ليس بمعدوم واقعاً، كما أنّ له الأمر بالتعبّد بوجود العرض بلا موضوع، وبوجود المعلول بلا علّة،

ص: 126


1- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 276.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 16.

وبوجود أحد المتلازمين بلا متلازم آخر.

نعم، لا يمكن تعلّق الإحراز التعبّدي بشيء ونقيضه، كما أ نّه لا يمكن تعلّق الإحراز الوجداني بشيء ونقيضه، لكن لا مناقضة بين الإحراز الوجداني والتعبّدي.

المقام الثاني: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي

المقام الثاني في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي والموافقة على سبيل الإجمال والاحتياط

فاعلم: أ نّه لا إشكال في التكاليف التوصّلية وحصول الغرض وسقوط الأمر بالاحتياط، لزم منه تكرار جملة العمل أو لا، حتّى مع اللعب بأمر المولى؛ فإنّه وإن كان الاحتياط على هذا الوجه قبيحاً، لكن يحصل الغرض ويسقط الأمر به.

وأمّا في التعبّديات: ففي حسن الاحتياط وسقوط التكليف به مطلقاً، أو مع عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي، أو عدم حسنه مطلقاً، أو التفصيل بين لزوم التكرار وعدمه، وجوه.

وقبل الخوض في المقام لا بدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: مقتضى الأصل في المقام

الأمر الأوّل: مقتضى الأصل في المقام

قد حقّق في مبحث التعبّدي والتوصّلي جواز أخذ ما يأتي من قبل الأمر في المأمور به، کقصد التقرب و الأمر وأمثالهما، وعدم المحذور فیه لا من ناحیة

ص: 127

تعلّق الأمر، ولا من ناحية إتيان المأمور به، خلافاً للشيخ العلاّمة الأنصاري(1) وبعض الأعاظم المتأخّرين عنه(2)، وقد أشبعنا الكلام في ذلك المبحث(3) فلا نطيل بتكراره.

ثمّ إنّ اعتبار قصد الوجوب ووجهه وتميّزه عقلاً في العبادات ممّا لا وجه له

بلا إشكال؛ فإنّ الإطاعة عند العقل ليست إلاّ الانبعاث ببعث المولى والإتيان للتقرّب به لو كان المأمور به تعبّدياً، والعلم بأصل بعث المولى بل احتماله يكفي في تحقّق الطاعة، وأمّا العلم بمرتبة الطلب؛ من الوجوب والاستحباب ووجه الإيجاب أو الاستحباب والتميّز ممّا لا دخل له فيها أصلاً بحسب حكم العقل، فلو اعتبر أمثال ذلك فيها يكون بدليل شرعي من القيود الشرعية، واعتبارها شرعاً أيضاً ممّا لا دليل عليه، بل الدليل على خلافه، ولو وصلت النوبة إلى الشكّ فأصالة الإطلاق - لو كان إطلاق في الدليل - ترفعه، وإلاّ فالأصل العملي يقتضي البراءة، كما لا يخفى.

ولو بنينا على لزوم تعلّق الطلب - على تقدير التعبّدية - بذات الفعل مع أخصّية الغرض كما قيل(4)،

لأمكن أيضاً التمسّك بالإطلاق المقامي لرفع الشكّ؛ فإنّ الغرض إذا تعلّق بالأخصّ من المأمور به فللشارع بيانه ولو بدليل منفصل لئلاّ يلزم نقض غرضه، كما أنّ التمسّك بالبراءة ممّا لا مانع منه.

ص: 128


1- مطارح الأنظار 1: 302.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 149.
3- راجع مناهج الوصول 1: 201.
4- مطارح الأنظار 1: 305.

وأمّا ما نقل شيخنا العلاّمة الحائري قدّس سرّه عن سيّده الاُستاذ - طاب ثراه - بقوله: ويمكن أن يستظهر من الأمر التوصّلية من دون الاحتياج إلى مقدّمات الحكمة بوجه آخر وهو: أنّ الهيئة عرفاً تدلّ على أنّ متعلّقها تمام المقصود؛ إذ لولا ذلك لكان الأمر توطئة وتمهيداً لغرض آخر، وهو خلاف ظاهر الأمر(1).

ففيه: أنّ هذا - على فرض التسليم - يتمّ في القيود التي يمكن أخذها في المتعلّق، وأمّا القيود التي لا يمكن أخذها فيه فلا معنى للتمسّك بالظهور العرفي، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ شيخنا العلاّمة رحمه الله علیه نقل عن العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه عدم جواز التمسّك بإطلاق اللفظ لرفع القيود المشكوكة(2)، وكذا عدم إمكان إجراء أصالة البراءة(3) بناءً على تعلّق الطلب في التعبّديات بذات الفعل مع أخصّية الغرض:

أمّا الأوّل: فلأنّ القيد غير دخيل في المتعلّق، وحدوده معلومة، فلا شكّ حتّى يتمسّك بالأصل، إنّما الكلام في أخصّية الغرض من المأمور به.

وأمّا الثاني: فلأنّ الغرض المحدث للأمر إذا لم يعلم حصوله شكّ في سقوط الأمر المعلول له، ومعه فالأصل الاشتغال(4).

ويرد على الأوّل منهما: ما ذكرنا من جواز التمسّك بالإطلاق المقامي.

ص: 129


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 102.
2- مطارح الأنظار 1: 302.
3- مطارح الأنظار 1: 305.
4- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 101.

وعلى الثاني منهما: أنّ العقل يستقلّ بلزوم إطاعة أوامر المولى ونواهيه، وأمّا لزوم العلم بأغراضه وسقوطها فلا يحكم به العقل، ولا موجب له أصلاً، بل يكون من قبيل «اسكتوا عمّا سكت الله»(1)

فلو أتى المكلّف بجميع ما هو دخيل في المأمور به فلا إشكال في الإجزاء وسقوط الأمر، فلو فرضنا أنّ للمولى غرضاً لم يحصل إلاّ بالإتيان بكيفية اُخرى كان عليه البيان، ولا حجّة له على العبد، مع أنّ العلم بحصول الغرض وسقوطه ممّا لا يمكن لنا؛ فإنّه ليس لنا طريق إلى العلم به، كما هو واضح.

نقل كلام العلاّمة الحائري ووجوه النظر فيه

تنبيه: قد رجع شيخنا العلاّمة في أواخر عمره عن أصالة التوصّلية في الأوامر إلى أصالة التعبّدية، وتوضيحه - على ما أفاد في مجلس بحثه - يتوقّف على مقدّمات:

الاُولى: أنّ متعلّق الأوامر هو الطبيعة القابلة للوحدة والكثرة الجامعة للصرف وغيره، لا صِرف الوجود الذي يحتاج إلى اعتبار زائد عن أصل الطبيعة، والدليل عليه أنّ صيغ الأوامر مركّبة من هيئة هي تدلّ على نفس البعث والإغراء، ومادّة هي نفس الطبيعة اللا بشرط التي هي المقسم للواحد والكثير.

الثانية: أنّ العلل التشريعية - ومنها الأوامر الشرعية - كالعلل التكوينية حذو النعل بالنعل، فكما أنّ وحدة العلّة في التكوينيات تقتضي وحدة المعلول، وكثرتها كثرته - فالنار الواحدة تؤثّر في إحراق واحد، والنيران الكثيرة في

ص: 130


1- الخلاف 1: 117.

الإحراقات الكثيرة - فكذلك وحدة العلّة في التشريعيات تقتضي وحدة المعلول، وكثرتها كثرته.

وبهذا يظهر السرّ في عدم دلالة الأوامر على التكرار؛ لأنّ الأمر الواحد لا يقتضي إلاّ المعلول الواحد، لا لأنّ الطبيعة لا تتكثّر، بل لعدم اقتضاء الكثرة فيها، ويبتني على هذين الأصلين فروع كثيرة: منها عدم تداخل الأسباب، ومنها اقتضاء الأمر الفورية.

الثالثة: - وهي العمدة في الباب - أنّ القيود اللبّية قد يمكن أن تؤخذ في المأمور به على نحو القيدية اللحاظية، كالإيمان والكفر للرقبة، والطهور والستر في الصلاة، وقد لا يمكن أن تؤخذ بنحو اللحاظ، كقيد الإيصال في المقدّمة على تقدير وجوبها؛ فإنّ المطلقة منها غير واجبة، والتقيّد بالإيصال غير ممكن، فليس فيها الإطلاق ولا التقييد، ولكن لا تنطبق إلاّ على المقيّدة، كالعلل التكوينية، فإنّ تأثيرها ليس في المهية المطلقة، ولا المقيّدة بقيد المتأثّرة من قبلها، بل في المهية التي لا تنطبق إلاّ على المقيّدة بهذا القيد، فالنار إنّما تؤثّر في الطبيعة المحترقة من قبلها واقعاً، لا المطلقة ولا المقيّدة، ومن هذا القبيل العلل التشريعية؛ فإنّها أيضاً تحرّك العبد نحو الطبيعة المتقيّدة لبّاً بتحريكها إيّاه نحوها،

لا المطلقة ولا المقيّدة بالتقيّد اللحاظي.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الطبيعة لمّا كانت قابلة للتكرار والكثرة، فإذا أثّرت فيها العلل المتكثّرة تتكثّر لا محالة باقتضائها، فإذا أوجد المكلّف فرداً من الطبيعة بغير داعوية الأمر لم يأت بالمأمور به وإن أتى بالطبيعة؛ فإنّ المأمور به هو الطبيعة المتقيّدة لبّاً بتحرّك المكلّف نحوها بداعوية الأمر وباعثيته، فما لم

ص: 131

ينبعث بباعثيته لم يأت بالطبيعة المأمور بها، فعليه يكون مقتضى الأصل اللفظي

في الأوامر هو التعبّدية والتحرّك بداعوية الأمر، انتهى ملخّص ما أفاده قدّس سرّه .

وفيه أوّلاً: أنّ قياس العلل التشريعية بالعلل التكوينية مع الفارق؛ فإنّ العلل التكوينية يكون تشخّص معلولاتها بها؛ فإنّ المعلول صرف التعلّق ومحض الربط بعلّته، وليس له تحقّق قبل تحقّق علّته.

وأمّا الأوامر المتعلّقة بالطبائع الباعثة نحو العمل لا تتعلّق بها إلاّ بعد تصوّرها والعلم بها والاشتياق إليها والإرادة لتحقّقها، فلا بدّ لها من التحقّق في الرتبة السابقة على الأمر، فلو كان لقيد - أيّ قيد كان - دخالة في تحصّل الغرض لا بدّ من تقييد الموضوع به ولو ببيان آخر.

وأمّا التقييدات الآتية من قِبل الأمر خارجاً فلا يمكن أن يكون الأمر

باعثاً نحوها؛ للزوم كون الأمر باعثاً إلى باعثية نفسه أو ما هو متأخّر عنه وجوداً، تأمّل(1).

وثانياً: أنّ ما أفاده في التقييدات اللبّية في المعلولات التكوينية والتشريعية ممّا لا يستنتج منه ما هو بصدده؛ فإنّ النار مثلاً إذا أحرقت طبيعة، فهاهنا اُمور ثلاثة: النار والإحراق المتعلّق بها ومتعلّق الإحراق؛ أي الطبيعة، والإحراق المتعلّق بالنار يكون هوية تعلّقية ومتشخّصة بتشخّصها، ولا إطلاق للإحراق الحاصل من النار الشخصية، والنار توجد الإحراق الذي من قبلها لبّاً وواقعاً،

ص: 132


1- فإنّه على ما أشرنا إليه يمكن أن تؤخذ هذه القيود أيضاً في المتعلّق من دون محذور أصلاً، كما حقّق في محلّهأ. [منه قدّس سرّه ] أ - مناهج الوصول 1: 209.

وأمّا القطن المتعلّق للإحراق فلا يكون قطناً مقيّداً بها أو بالإحراق حتّى تكون النار مؤثّرة في القطن المحترق من قبلها، بل ينتزع منه بعد التأثير هذا العنوان، فيكون التقيّد بنفس التأثير، فالنار تحرق القطن، لا القطن المحترق من قبلها.

فهكذا الأمر، والبعث الحاصل منه، ومتعلّق البعث؛ أي المبعوث إليه، فالبعث وإن كان من قبل الأمر - ويكون تحصّله وتشخّصه به - لكنّ المتعلّق لا يكون مقيّداً به حتّى يكون البعث إلى الطبيعة المقيّدة، فما تعلّق به البعث ويكون الأمر داعياً إليه هو الطبيعة، وبعد تحقّق البعث وتعلّقه بها ينتزع منها أ نّها معنونة بعنوان

المبعوث إليها.

وبعبارة اُخرى: الأمر لا يدعو إلاّ إلى متعلّقه، وهو لا يكون إلاّ الطبيعة لا بشرط شيء، لا المطلقة ولا المقيّدة لبّاً أو لحاظاً، كما اعترف قدّس سرّه به في

المقدّمة الاُولى، وبعد تعلّق الأمر وتوجّه الدعوة إليها تصير مقيّدة بتعلّق الأمر والبعث إليها، فمفاد الهيئة البعث إلى المادّة التي هي لا بشرط شيء.

وثالثاً: أنّ ما أفاده رحمه الله علیه - من أنّ الأمر الواحد إذا تعلّق بالطبيعة يقتضي المعلول الواحد، والأوامر الكثيرة تقتضي المعلولات الكثيرة كالعلل التكوينية - منظور فيه؛ فإنّ المعاليل التكوينية لمّا كان تشخّصها بتشخّص العلل، لا محالة يكون تكثّرها بتكثّر عللها أيضاً، وهذا بخلاف الأوامر؛ فإنّها لا تتعلّق بالطبائع ولا تصير باعثة إليها إلاّ بعد تصوّر المولى إيّاها وتعلّق اشتياقه بها وانبعاث إرادته نحوها، فيأمر بإيجادها ويحرّك العبد نحوها، فتقدير الطبيعة المأمور بها وتشخّصها الذهني يكون سابقاً على تعلّق الأمر وعلى الإرادة التي هي مبدؤه، ولا يمكن أن تكون الطبيعة - بما هي أمر وحداني ومتصوّر فرداني - متعلّقة

ص: 133

لإرادتين، ولا لبعثين مستقلّين تأسيسيين، ولو تعلّق بها ألف أمر لا يفيد

إلاّ تأكيداً.

وإن شئت قلت: إنّ تكثّر المعلول التكويني بعلّته، ولكن تكثّر الإرادة والأمر التأسيسي بتكثّر المراد.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ أصالة التعبّدية لا تستنتج من تلك المقدّمات الممهّدة.

الأمر الثاني: تصرّف الشارع في كيفية الإطاعة

لا إشكال في أنّ الحاكم بالاستقلال في باب الطاعة وحسنها هو العقل، وهل للشارع التصرّف في كيفية الإطاعة بعد استقلال العقل بها، أم لا ؟

قال بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - : له ذلك، والقول بأ نّه ليس للشارع التصرّف في كيفية الإطاعة بمعزل عن الصواب؛ لوضوح أنّ حكم العقل في باب الطاعة إنّما هو لأجل رعاية امتثال أوامره، فله التصرّف في كيفية إطاعتها زائداً عمّا يعتبره العقل كبعض مراتب الرياء؛ حيث قامت الأدلّة على اعتبار خُلوّ العبادة عن أدنى شائبة الرياء، مع أنّ العقل لا يستقلّ به، وله أيضاً الاكتفاء في امتثال أوامره بما لا يكتفي به العقل، كما في قاعدة الفراغ(1)، انتهى ملخّصه.

وفيه: أ نّه من الواضح الضروري أنّ الإتيان بالمأمور به على وجهه يفيد الإجزاء ويسقط الأمر، ولا يعقل بقاء الأمر مع الإتيان بكلّ ما هو دخيل في المأمور به، فإن رجع التصرّف في كيفية الإطاعة إلى تقييد المأمور به - كما أنّ

ص: 134


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 68.

الأمر كذلك في باب الرياء؛ ضرورة تقيّد العبادة بالإخلاص عن جميع مراتب الرياء - فهو خارج عن التصرّف في كيفية الإطاعة وراجع إلى التصرّف في المأمور به، وإن رجع إلى التصرّف في كيفية الإطاعة بلا تقييد في ناحية المأمور به، فليس له ذلك؛ فإنّه مخالف صريح حكم العقل، وتصرّف فيما يستقلّ به، والظاهر وقوع الخلط بين التصرّفين كما يظهر من مثاله.

وأمّا قضيّة قاعدة الفراغ والتجاوز وأمثالهما، فلا بدّ من الالتزام بتقبّل الناقص بدل الكامل، ورفع اليد عن التكليف هو لمصلحة التسهيل وغيرها، وإلاّ فمع بقاء الأمر والمأمور به على حالهما لا يعقل جعل مثل تلك القواعد، ففيها أيضاً يرجع التصرّف إلى المأمور به، لا إلى كيفية الإطاعة.

ثمّ إنّه لو استقلّ العقل بشيء في كيفية الإطاعة فهو، وإلاّ - أي إذا شكّ في حصولها - فالمرجع أصالة الاشتغال؛ لأنّ الشكّ راجع إلى مرحلة سقوط التكليف بعد العلم بثبوته وحدوده.

وأمّا ما في تقريرات المحقّق المتقدّم رحمه الله علیه من أنّ نكتة الاشتغال فيه هو رجوع الشكّ إلى التعيين والتخيير(1)، فهو تبعيد المسافة، مع أنّ الشكّ في التعيين والتخيير ليس بنحو الإطلاق مجرى الاشتغال، بل فيه تفصيل موكول إلى محلّه(2).

وبالجملة: ميزان البراءة والاشتغال هو رجوع الشكّ إلى مرحلة الثبوت والسقوط، والشكّ في التعيين والتخيير أيضاً لا بدّ وأن يرجع إلى ذلك الميزان.

والعجب أنّ الفاضل المقرّر رحمه الله علیه ذيّل كلامه في المقام بقوله: سيأتي في مبحث

ص: 135


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 68 - 69.
2- يأتي في الجزء الثاني: 148.

الاشتغال أنّ اعتبار الامتثال التفصيلي لا بدّ وأن يرجع إلى تقييد العبادة به شرعاً ولو بنتيجة التقييد، ولكن مع ذلك: الأصل الجاري فيه عند الشكّ هو الاشتغال؛ لدوران الأمر بين التعيين والتخيير(1)، انتهى.

فكأ نّه ورد نصّ - في باب التعيين والتخيير - بأنّ الأصل فيه هو الاشتغال، وإلاّ فمع كون اعتبار الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية لا وجه لأصل الاشتغال؛ فإنّ الشكّ يرجع إلى مرحلة ثبوت التكليف لا سقوطه؛ فإنّه لو كان القيد شرعياً لا بدّ وأن يكون العقل - مع قطع النظر عنه - يحكم بكفاية الامتثال الإجمالي، ولكن مع التقييد الشرعي في المأمور به يحكم بلزوم الإطاعة التفصيلية، فإذا شكّ في التقييد يكون شكّه في ثبوت تكليف زائد، والأصل فيه البراءة.

بل لنا أن نقول: إنّ الشكّ فيه راجع إلى الأقلّ والأكثر، لا التعيين والتخيير؛ لأنّ أصل الامتثال الأعمّ من الإجمالي والتفصيلي ثابت، والشكّ إنّما هو في القيد الزائد؛ أي تفصيلية الإطاعة.

هذا كلّه مع الغضّ عمّا يرد على أصل كلامه - كما أسلفناه(2)

- من أنّ تقييد المأمور به بالعلم بالوجوب لحاظياً أو لبّياً ممّا لا يعقل، ويلزم منه الدور المستحيل، ونتيجة التقييد إن رجعت إلى القيد اللبّي - حتّى يكون الواجب ما علم وجوبه - يرد عليه الدور، وإن لم ترجع إليه - لا لحاظياً ولا لبّياً - فلا يعقل بقاء الأمر مع الإتيان بمتعلّقه مع جميع ما يعتبر فيه.

ص: 136


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 69، الهامش 1.
2- تقدّم في الصفحة 61.

الأمر الثالث: في مراتب الامتثال

لا إشكال في أنّ مراتب الامتثال أربع: الاُولى: الامتثال التفصيلي الوجداني، الثانية: الامتثال الإجمالي، الثالثة: الامتثال الظنّي، الرابعة: الامتثال الاحتمالي.

لكن الإشكال في اُمور:

الأمر الأوّل: بناءً على لزوم الامتثال التفصيلي هل الامتثال بالطرق والأمارات والاُصول المحرزة يكون في عرض الامتثال التفصيلي الوجداني، أم لا، أو التفصيل بينها ؟

والمسألة مبتنية على حدّ دلالة أدلّتها، فإن دلّت على اعتبارها مطلقاً - مع التمكّن من العلم وعدمه - فيتّبع، وإلاّ فبمقدار دلالتها.

فنقول: إنّ دليل اعتبار الأمارات - كما ذكرنا سابقاً (1) - هو البناء العقلائي وسيرة العقلاء، وليس للشارع حكم تأسيسي نوعاً في مواردها، وحينئذٍ لا بدّ من النظر في السيرة العقلائية والأخذ بالمتيقّن مع الشكّ فيها، كما أنّ الأمر كذلك في كلّية الأدلّة اللبّية.

والظاهر أ نّه لا إشكال في تعميم سيرة العقلاء في أصالة الصحّة، واليد، والأخذ بالظهور؛ فإنّ بناء العقلاء على العمل بها حتّى مع التمكّن من العلم، فتراهم يتعاملون مع صاحب اليد معاملة المالكية، ومع معاملاتهم معاملة الصحّة، ويعملون مع الظاهر معاملة المنكشف العلمي، تمكّنوا من العلم أو لا.

وخبر الثقة أيضاً لا يبعد أن يكون كذلك، وإن كان في النفس منه شيء .

ص: 137


1- تقدّم في الصفحة 70.

وأمّا الاستصحاب - سواء قلنا: إنّه أصل أو أمارة - فلا إشكال في إطلاق أدلّته، كما أ نّه لا إشكال في قاعدة الفراغ والتجاوز والشكّ بعد الوقت؛ فإنّها جعلت في موارد إمكان العلم التفصيلي ولو بالإعادة، تأمّل.

وأمّا الظنّ على الكشف فليس في عرض العلم، لا لأنّ اعتباره موقوف على انسداد باب العلم حتّى يقال: إنّ المراد بالانسداد انسداد معظم الأحكام، فلا ينافي إمكان العلم بالنسبة إلى بعضها، بل لقصور مقدّمات الانسداد عن كشف اعتباره مطلقاً حتّى مع التمكّن من العلم أو طريق شرعي معتبر.

فما في تقريرات بعض الأعاظم رحمه الله علیه من عرضيته له(1)، ممّا لا يصغى إليه.

الأمر الثاني: لا مجال للاحتياط مع العلم الوجداني، وأمّا مع قيام الظنّ الخاصّ فله مجال؛ لبقاء الاحتمال الوجداني، وهذا لا كلام فيه، إنّما الكلام في أنّ اللازم هو الإتيان أوّلاً بمقتضى الظنّ الخاصّ ثمّ العمل بمقتضى الاحتياط فيما يلزم منه التكرار، أو يتخيّر في التقديم والتأخير بينهما ؟

اختار أوّلهما بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - ونَسب(2) ذلك إلى العَلَمين الشيخ الأنصاري والسيّد الشيرازي(3) واستدلّ له بأمرين:

أحدهما: أنّ معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملاً وعدم الاعتناء به، والعمل أوّلاً برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاء

ص: 138


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 70 - 71.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 71 - 72.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 75 - 76؛ تقريرات السيّد المجدّد الشيرازي 3: 346.

احتمال الخلاف؛ فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف.

وهذا بخلاف ما إذا قدّم العمل بمؤدّى الطريق؛ فإنّه حيث قد أدّى المكلّف ما هو الوظيفة، وعمل بما يقتضيه الطريق، فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط؛ لرعاية إصابة الواقع.

الثاني: أ نّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتمالية عدم التمكّن من الطاعة التفصيلية، وبعد قيام الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة يكون المكلّف متمكّناً من الامتثال التفصيلي بمؤدّى الطريق، فلا يحسن منه الامتثال الاحتمالي لصلاة الظهر(1)، انتهى.

ويرد على الأوّل منهما: أنّ مقتضى أدلّة حجّية الأمارات هو لزوم العمل على طبقها وجواز الاكتفاء بها، لا عدم جواز الاحتياط والإتيان بشيء آخر باحتمال إصابة الواقع، ولو كان مفادها عدم جواز الاعتناء باحتمال المخالف مطلقاً، فلا فرق بين الاعتناء قبل العمل وبعده؛ فإنّ الإتيان على طبق الاحتمال عين الاعتناء به مطلقاً.

والحقّ: أنّ العمل بالاحتياط لا ينافي أدلّة اعتبار الأمارات، والمكلّف مخيّر في تقديم الإتيان بأ يّهما شاء.

وعلى الثاني: - مضافاً إلى ما أورد عليه الفاضل المقرّر رحمه الله علیه (2): من عدم إمكان الإطاعة التفصيلية في المقام؛ فإنّ الإتيان بالظهر على أيّ حال إنّما يكون بداعي الاحتمال، والتمكّن من الإطاعة التفصيلية في صلاة الجمعة لا يوجب التمكّن

ص: 139


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4:265 - 266.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 265، الهامش 2.

منها في صلاة الظهر، فالمقام أجنبيّ عن مسألة اعتبار الامتثال التفصيلي - ما

سيأتي من منع تقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتمالي، ووقوع الخلط في المسألة(1)، فانتظر.

فاتّضح من ذلك جواز تقديم العمل على مقتضى الاحتياط، ثمّ العمل على مقتضى الأمارة.

الأمر الثالث: هل الامتثال الإجمالي في عرض الامتثال التفصيلي، فمع التمكّن من التفصيلي يجوز الاكتفاء بالإجمالي، أم رتبته متأخّرة عنه ؟

ذهب بعضهم إلى الثاني فيما يلزم من الامتثال الإجمالي تكرار جملة العمل - وتبعه فيه بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه على ما في تقريراته(2) - واستدلّ عليه:

بأنّ تكرار العمل لعب بأمر المولى(3)، وفيه ما لا يخفى.

واُخرى بما فصّله المحقّق المعاصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - بما حاصله: أنّ حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى، بحيث يكون المحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به، وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقّق؛ فإنّ الداعي في كلّ واحد من الطرفين هو احتمال الأمر، فالانبعاث إنّما يكون عن احتمال البعث، وهذا أيضاً نحو من الإطاعة، إلاّ أنّ رتبته متأخّرة عن الامتثال التفصيلي.

فالإنصاف: أنّ مدّعي القطع بتقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الإجمالي مع

ص: 140


1- يأتي في الصفحة 143.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 72 - 73.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 409.

التمكّن في الشبهات الموضوعية والحكمية لا يكون مجازفاً، ومع الشكّ يكون مقتضى القاعدة هو الاشتغال(1).

وربّما يظهر منه في المقام - ونقل عنه الفاضل المقرّر رحمه الله علیه - أنّ اعتبار الامتثال التفصيلي، من القيود الشرعية ولو بنتيجة التقييد(2)، هذا.

وفيه: أ نّه أمّا دعوى كون الامتثال التفصيلي من القيود الشرعية - على فرض إمكان اعتباره شرعاً بنتيجة التقييد - فهو ممّا لا دليل عليه تعبّداً، والإجماع المدّعى(3) في المقام ممّا لا اعتبار لمحصّله فضلاً عن منقوله؛ لأنّ المسألة عقلية ربّما يكون المستند فيها هو الحكم العقلي لا غير، فالعمدة هو الرجوع إلى العقل الحاكم في باب الطاعات.

فنقول: إنّ الآتي بالمأمور به مع جميع قيوده وشرائطه بقصد إطاعة أمره ولو احتمالاً يكون عمله صحيحاً عقلاً، ولو لم يعلم حين الإتيان أنّ ما أتى به هو المأمور به؛ فإنّ العلم طريق إلى حصول المطلوب، لا أ نّه دخيل فيه.

ودعوى كون العلم التفصيلي دخيلاً في حصول المطلوب وتحقّق الطاعة، ممنوعة جدّاً؛ فإنّ العقل كما يحكم بصحّة عمل من صلّى الجمعة مع علمه بوجوبها تفصيلاً، يحكم بها لمن صلّى الجمعة والظهر بقصد طاعة المولى مع علمه بوجوب أحدهما إجمالاً، بلا افتراق بينهما ولا تقدّم رتبة أحدهما على الآخر.

فدعوى لزوم كون الانبعاث عن البعث المعلوم تفصيلاً خالية عن الشاهد، بل

ص: 141


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 73.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 69، الهامش 1.
3- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 71 - 72، و25: 409 - 410.

العقل شاهد على خلافها، ولا شبهة في هذا الحكم العقلي أصلاً، فلا تصل النوبة إلى الشكّ.

بل لنا أن نقول: لو بنينا على لزوم كون الانبعاث عن البعث المعلوم يكون الانبعاث في أطراف العلم الإجمالي عن البعث المعلوم؛ فإنّ البعث فيها معلوم تفصيلاً، والإجمال إنّما يكون في المتعلّق، ودعوى لزوم تميّز المتعلّق وتعيّنه في حصول الإطاعة ممنوعة جدّاً.

هذا كلّه فيما إذا لزم من الامتثال الإجمالي تكرار جملة العمل.

وأمّا إذا لم يلزم منه ذلك فقد اعترف العلاّمة المعاصر - على ما في تقريرات

بحثه - بعدم وجوب إزالة الشبهة وإن تمكّن منها؛ لإمكان قصد الامتثال التفصيلي بالنسبة إلى جملة العمل؛ للعلم بتعلّق الأمر به وإن لم يعلم بوجوب الجزء المشكوك، إلاّ إذا قلنا باعتبار قصد الوجه في الأجزاء، وهو ضعيف(1).

وفيه: أ نّه - بعد البناء على أنّ الإطاعة عبارة عن الانبعاث عن البعث المعلوم تفصيلاً مع التمكّن، ولا تتحقّق مع احتمال البعث - لا بدّ من الالتزام بعدم كفاية الامتثال الإجمالي في الأجزاء أيضاً؛ فإنّ الأجزاء وإن لم تكن متعلّقة للأمر مستقلاًّ، لكنّ الانبعاث نحوها لا بدّ وأن يكون بواسطة بعث المولى المتعلّق بها ضمناً، فما لم يعلم أنّ السورة مثلاً جزء للواجب لا يمكن أن يصير الأمر المتعلّق بالطبيعة باعثاً إليها، فلا يكون الانبعاث عن البعث، بل عن احتماله.

وبالجملة: لا شبهة في أنّ الإتيان بأجزاء الواجب التعبّدي لا بدّ وأن يكون بنحو الإطاعة، والبعث نحو الأجزاء وإن كان بعين البعث نحو الطبيعة،

ص: 142


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 74.

لكن لا يمكن ذلك إلاّ مع العلم بالجزئية.

هذا على مسلكه قدّس سرّه . وأمّا على مسلكنا فالأمر سهل.

الأمر الرابع: أ نّه بعد ما عرفت مراتب الامتثال، فهل يجوز الامتثال الظنّي بالظنّ الغير المعتبر والاحتمالي مع إمكان الامتثال التفصيلي، أم لا ؟

قال المحقّق المتقدّم رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - : لا إشكال في أ نّه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلاّ بعد تعذّر الامتثال الظنّي، ولا تصل النوبة إلى

الامتثال الظنّي إلاّ بعد تعذّر الامتثال الإجمالي(1)، انتهى.

والظاهر وقوع الخلط في كلامه قدّس سرّه بين جواز الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي أو الظنّي في أطراف العلم الإجمالي مع التمكّن من الموافقة القطعية، وبين المبحوث عنه فيما نحن فيه؛ فإنّ البحث هاهنا غير البحث عن لزوم الموافقة القطعية في أطراف العلم الإجمالي. فما أفاده - من عدم الإشكال في تقدّم الامتثال الظنّي على الاحتمالي، وفي تقدّم العلمي الإجمالي على الظنّي مع التمكّن - أجنبيّ عن المقام؛ فإنّ المبحوث عنه في المقام هو أ نّه هل يعتبر العلم التفصيلي بالأمر في العبادات مع الإمكان، أم تصحّ العبادة مع الاحتمال أو الظنّ ؟

فلو فرضنا إتيان أحد أطراف العلم الإجمالي باحتمال كونه مأموراً به، أو إتيان المحتمل البدوي، ثمّ تبيّن مصادفته للواقع، فهل يصحّ ويجزي عن التعبّد به ثانياً، أم لا ؟ فمن اعتبر الامتثال التفصيلي يحكم بالإعادة وعدم الإجزاء.

والتحقيق: هو الصحّة مع الامتثال الاحتمالي حتّى مع التمكّن من الامتثال العلمي الوجداني التفصيلي فضلاً عن غيره؛ وذلك لما عرفت من أنّ الإتيان

ص: 143


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 72.

بالمأمور به على وجهه للتوصّل به إلى مطلوب المولى يفيد الإجزاء، والانبعاث

باحتمال البعث إطاعة حقيقة لو صادف المأتي به الواقع، خصوصاً في أطراف العلم الإجمالي. ودعوى لزوم العلم بالبعث في صدق الإطاعة ممنوعة.

نعم، مع الانبعاث باحتمال البعث يكون تحقّق الطاعة محتملاً؛ فإنّ المأتيّ به لو كان هو المأمور به يكون طاعة، وإلاّ انقياداً، ولا يعتبر في الطاعة أكثر من ذلك عند العقل، واعتبار شيء آخر زائد عمّا يعتبره العقل إنّما يكون بتقييد شرعي مدفوع بالإطلاق أو الأصل.

وهاهنا تفصيل منقول عن سيّد مشايخنا الميرزا الشيرازي قدّس سرّه وهو الحكم

بفساد العبادة لو لم يكن قاصداً للامتثال على نحو الإطلاق في الواجبات؛ للتأمّل في صدق الإطاعة عرفاً على فعل من يقتصر على بعض المحتملات؛ لكون القصد فيها مشوباً بالتجرّي، وهذا موجب للتردّد في صدق الإطاعة. هذا في الواجبات. وأمّا في المستحبّات فصدق الإطاعة على الإتيان ببعض محتملاتها ممّا لا شبهة فيه، ولا مانع منه؛ لعدم الشوب بالتجرّي فيها.

ويرد عليه: أنّ الإتيان ببعض المحتملات بقصد امتثال أمر المولى لا يكون مشوباً بالتجرّي أصلاً، بل التجرّي إنّما يتحقّق بترك الآخر، لا بفعل المأتيّ به، وهذا واضح.

وبما ذكرنا اتّضح حال الشبهات البدوية الحكمية، وأنّ الإتيان بالمشتبه بقصد الامتثال مجزٍ، ولا يحتاج إلى الفحص، فما أفاده بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه - من الاحتياج إليه(1)

- ممّا لا أساس له.

ص: 144


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 271.

القول في إمكان التعبّد بالظنّ

في إمكان التعبّد بالظنّ

قوله: «في بيان إمكان التعبّد...»(15).

أقول: لا سبيل إلى إثبات الإمكان؛ فإنّه يحتاج إلى إقامة البرهان عليه، ولا برهان عليه، كما لا يخفى.

ولكنّ الذي يسهّل الخطب أ نّه لا احتياج إلى إثباته، بل المحتاج إليه هو ردّ أدلّة الامتناع، فإذا لم يدلّ دليل على امتناع التعبّد بالأمارات والاُصول نعمل على طبق أدلّة حجّيتها واعتبارها.

وبعبارة اُخرى: لا يجوز رفع اليد عن ظواهر أدلّة اعتبارها إلاّ بدليل عقلي على الامتناع، فإن دلّ دليل عليه فإنّا نرفع اليد عنها، وإلاّ نعمل على طبقها.

المراد من «الإمكان» في عنوان البحث

و من ذلك يظهر: أنّ الإمكان الذي نحتاج إليه هو الذي وقع في كلام الشيخ رئيس الصناعة من قوله: كلّ ما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان

ص: 145

ما لم يذُدك عنه قائم البرهان(1)؛ فإنّ مقصوده من ذلك الكلام هو الردع عن الحكم بالامتناع والاستنكار من الإمكان بمجرّد غرابة أمر كما هو ديدن غير أصحاب البرهان.

والإمكان بهذا المعنى - أي الاحتمال العقلي وعدم الحكم بأحد طرفي القضيّة بلا قيام البرهان عليه - من الأحكام العقلية، لا البناء العقلائي كما قيل(2)، والمحتاج إليه فيما نحن بصدده هو هذا المعنى؛ فإنّ رفع اليد عن الدليل الشرعي لا يجوز إلاّ بدليل عقلي أو شرعي أقوى منه.

فاتّضح بما ذكرنا: أنّ عنوان البحث بما حرّروا من إمكان التعبّد بالأمارات الغير العلمية، ليس على ما ينبغي - كما أنّ تفسير الإمكان بالوقوعي(3) في غير محلّه؛ فإنّ إثبات الإمكان كما عرفت، يحتاج إلى برهان مفقود في المقام، مع عدم الاحتياج إلى إثباته، نعم الاستحالة التي ادّعيت(4) هي الوقوعية أو الذاتية على بعض التقادير - فالأولى أن يقال في عنوان البحث: «في عدم وجدان دليل على امتناع التعبّد بالأمارات».

وأمّا ما في تقريرات بحث بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه : من أنّ المراد من الإمكان المبحوث عنه في المقام هو الإمكان التشريعي لا التكويني، فإنّ التوالي الفاسدة

ص: 146


1- الإشارات والتنبيهات: 391.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 106.
3- نهاية الأفكار 3: 56؛ لمحات الاُصول: 393.
4- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 105.

المتوهّمة هي المفاسد التشريعية لا التكوينية(1).

ففيه أوّلاً: أنّ الإمكان التشريعي ليس قسماً مقابلاً للإمكانات، بل هو من أقسام الإمكان الوقوعي، غاية الأمر أنّ المحذور الذي يلزم من وقوع شيء قد يكون تكوينياً، وقد يكون تشريعياً، وهذا لا يوجب تكثير الأقسام، وإلاّ فلنا أن نقول: الإمكان قد يكون ملكياً، وقد يكون ملكوتياً، وقد يكون عنصرياً، وقد يكون فلكياً... إلى غير ذلك، بواسطة اختلاف المحذورات المتوهّمة.

وثانياً: أنّ بعض المحذورات المتوهّمة من المحذورات التكوينية، مثل اجتماع الحبّ والبغض، والإرادة والكراهة، والمصلحة والمفسدة في شيء واحد؛ فإنّها محذورات تكوينية.

المحذورات المتوهّمة في التعبّد بالظنّ

ثمّ إنّ المحذورات المتوهّمة بعضها راجع إلى ملاكات الأحكام كاجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين بلا كسر وانكسار، وبعضها راجع إلى مبادئ الخطابات كاجتماع الكراهة والإرادة، والحبّ والبغض، وبعضها راجع إلى نفس الخطابات كاجتماع الضدّين والنقيضين والمثلين، وبعضها راجع إلى لازم الخطابات كالإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة، فحصر المحذور في الملاكي والخطابي ممّا لا وجه له، كما وقع من العظيم المتقدّم(2).

ص: 147


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 88.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 89.

كما أنّ تسمية الإلقاء في المفسدة وتفويت المصلحة بالمحذور الملاكي(1)،

ممّا لا ينبغي؛ فإنّها من المحذورات الخطابية ومن لوازم الخطابات، والأمر سهل.

وكيف كان، فلا بدّ من دفع المحذورات مطلقاً، فنقول:

المحذور الأوّل: تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة

أمّا تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة فلا محذور فيهما إذا كانت مصلحة التعبّد بالأمارات والاُصول غالبة، أو محذور عدم التعبّد بها غالباً.

وإن شئت قلت: إنّ ما فات من المكلّف بواسطة التعبّد بها تصير متداركة.

بل لنا أن نقول: إنّ المفاسد الاُخروية - أي العقاب والعذاب - لا تلزم بلا إشكال، وتفويت المصالح الاُخروية إمّا ينجبر بواسطة الانقياد بالتعبّد بالأمارات، وإمّا يتدارك من جهة اُخرى، وإمّا غير لازم التدارك؛ فإنّ ما يقبح على الحكيم هو الإلقاء في المفسدة، وأمّا إيصال المصالح فهو من باب التفضّل، وليس في تركه قبح.

وأمّا الدنيوية منهما فلزومها غير معلوم؛ لعدم الدليل على اشتمال المتعلّقات أو الأحكام على المصالح والمفاسد الدنيوية، وبعض المصالح الاستجرارية تترتّب على التعبّد بالأمارات أيضاً.

ثمّ إنّ الإشكال لا ينحصر بصورة الانفتاح - كما أفاد المحقّق المعاصر رحمه الله علیه (2) -

ص: 148


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 89.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 90.

بل يجري في صورة الانسداد أيضاً؛ فإنّه وارد في صورة الانسداد على رفع الاحتياط وترخيص العمل على طبق بعض الأمارات.

وما أفاد: من أنّ العمل على طبق الأمارة لو صادف خير جاء من قبلها (1).

يرد عليه: بأنّ الأمر لو كان دائراً بين العمل على طبق الأمارة وترك العمل والإهمال رأساً، كان الأمر كما أفاده، لكنّه ليس دائراً بينهما، بل هو دائر بين العمل بالاحتياط أو التجزّي فيه، أو العمل بالأمارة.

فحينئذٍ: يرد الإشكال عيناً على الترخيص في ترك الاحتياط أوّلاً، وعلى العمل بالأمارة دون التجزّي في الاحتياط ثانياً، وطريق [دفع] الإشكال هو سبيل [دفعه] في زمان الانفتاح من كون العمل بالأمارة ذا مصلحة جابرة، أو في العمل بالاحتياط مفسدة غالبة.

تنبيه: في الجواب عن الإشكال بالمصلحة السلوكية

قد أجاب الشيخ العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه عن الإشكال بالتزام المصلحة السلوكية(2)، وفصّلها المحقّق المعاصر قدّس سرّه - على ما في تقريرات بحثه بعد ردّ الوجهين من وجوه السببية - بما حاصله:

الثالث: أن يكون قيام الأمارة سبباً لحدوث مصلحة في السلوك مع بقاء الواقع والمؤدّى على ما هما عليه من المصلحة والمفسدة من دون أن يحدث في المؤدّى مصلحة بسبب قيام الأمارة غير ما كان عليه، بل المصلحة تكون في

ص: 149


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 90.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 114 - 115.

تطرّق الطريق وسلوك الأمارة وتطبيق العمل على مؤدّاها والبناء على أ نّه هو

الواقع بترتيب الآثار المترتّبة على الواقع على المؤدّى، وبهذه المصلحة السلوكية يتدارك ما فات من المكلّف(1)، انتهى كلامه.

وفيه أوّلاً: أنّ الأمارات المعتبرة شرعاً غالبها - إن لم يكن جميعها - طرق عقلائية يعمل بها العقلاء في سياساتهم ومعاملاتهم، ولا تكون تأسيسية جعلية، كما اعترف به المحقّق المتقدّم رحمه الله علیه (2)، ومن الواضح أنّ الأمارات العقلائية ليست في سلوكها مصلحة أصلاً، بل هي طرق محضة، وليس لها شأن إلاّ الإيصال إلى الواقع، وليس إمضاء الشارع لها إلاّ بما لها من الاعتبار العقلائي، فالمصلحة السلوكية ممّا لا أساس لها أصلاً، وهذا بمكان من الوضوح، ولا ينبغي التأمّل فيه.

وثانياً: لا معنى لسلوك الأمارة وتطرّق الطريق إلاّ العمل على طبق مؤدّاها، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة فسلوك هذه الأمارة وتطرّق هذا الطريق ليس إلاّ الإتيان بصلاة الجمعة، فلا معنى لكون مصلحة تطرّق الطريق مصلحة مغايرة للإتيان بنفس المؤدّى، والإتيان بالمؤدّى مع المؤدّى غير متغايرين إلاّ في عالم الاعتبار، ولا يرفع الإشكال بهذه الاعتبارات والتعبيرات.

ولك أن تقول: إنّ هذه المفاهيم المصدرية النسبية لا حقيقة لها إلاّ في عالم الاعتبار، ولا تتّصف بالمصالح والمفاسد، فموضوع المصلحة والمفسدة نفس العناوين؛ أي الصلاة والخمر.

ص: 150


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 95 - 96.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 91.

ولو قلت: إنّ شرب الخمر وإتيان الصلاة متعلّق الحرمة والوجوب وموضوع المفسدة والمصلحة.

قلت: لو سلّم فتطبيق العمل على طبق الأمارة وتطرّق الطريق عبارة اُخرى عن شرب الخمر وإتيان الصلاة.

وثالثاً: لو قامت المصلحة على نفس العمل على طبق الأمارة وتطرّق الطريق - بلا دخالة للمؤدّى والواقع فيها - فلا بدّ من التزام حصول المصلحة في الإخبار عن الاُمور العادية، وقيام الأمارات على اُمور غير شرعية، فإذا أخبر الثقة بأمر له عمل غير شرعي لا بدّ أن يلتزم بأنّ تطبيق العمل على طبقه وتطرّق هذا الطريق له مصلحة، وهو كما ترى، والقول بأنّ المصلحة قائمة على تطرّق الطريق القائم على الحكم الشرعي، مجازفة.

ثمّ إنّ لازم قيام المصلحة - التي يتدارك بها ما فات من المكلّف - على تطرّق الطريق وسلوك الأمارة، هو الإجزاء وإن انكشف الخلاف في الوقت، فضلاً عن خارجه؛ لاستيفاء المصلحة بواسطة سلوك الأمارة والعمل على طبقها.

فإذا قامت الأمارة على وجوب صلاة الجمعة، وقلنا: إنّ في سلوك الأمارة مصلحة يتدارك بها مفسدة فوت صلاة الظهر مثلاً، فعمل المكلّف على طبق الأمارة، ثمّ انكشف الخلاف في الوقت - ولو وقت الفضيلة - يكون الإتيان بها مجزياً عن الظهر؛ لأنّ المصلحة القائمة في تطرّق الطريق غير مقيّدة بعدم انكشاف الخلاف.

فما أفاد الشيخ العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه وتبعه المحقّق المعاصر رحمه الله علیه من التفصيل في الإجزاء، ممّا لا وجه له، وما أفاده الثاني من الوجه ضعيف غايته، فراجع.

ص: 151

ثمّ إنّ ما ذكرنا من الإجزاء إنّما هو على مسلك القوم، وأمّا التحقيق في مسألة الإجزاء وتحرير محلّ البحث فيها فهو أمر آخر وراء ما ذكروه، وهو موكول إلى محلّه(1).

هذا ما يتعلّق بالجواب عن تفويت المصالح والإلقاء في المفاسد.

المحذور الثاني: محذور اجتماع المثلين والضدّين والنقيضين

وأمّا محذور اجتماع المثلين والضدّين والنقيضين وأمثاله، فيتوقّف التحقيق في دفعه على بيان مقدّمات:

المقدّمة الاُولى: أنّ مفاد أدلّة اعتبار الأمارات والاُصول مطلقاً هو ترتيب الآثار والتعبّد بالبناء عملاً على طبق مفادها، فكما أنّ مفاد أدلّة أصالتي الطهارة

والحلّية - من قوله: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر»(2) و«كلّ شيء لك حلال»(3) - هو التعبّد عملاً بالطهارة والحلّية؛ أي ترتيب آثار الطهارة والحلّية على المشكوك فيه عملاً، كذلك مفاد أدلّة الفراغ والتجاوز أيضاً هو التعبّد بترتيب آثار الإتيان على المشكوك فيه في الجزء والشرط، وعدم إتيان مشكوك المانعية.

ص: 152


1- راجع مناهج الوصول 1: 237.
2- تهذيب الأحكام 1: 284 / 832؛ وسائل الشيعة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
3- الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

ومفاد أدلّة البراءة الشرعية هو ترتيب آثار عدم الجزئية والشرطية والمانعية عند الشكّ فيها.

وكذا مفاد أدلّة اعتبار الأمارات هو التعبّد بترتيب آثار الواقع عملاً، فإذا قام خبر الثقة على عدم الجزئية والشرطية والمانعية، فمعنى تصديقه هو ترتيب آثار تلك الأعدام، وإذا قامت البيّنة على طهارة شيء أو حلّيته، أو قامت على إتيان الجزء عند الشكّ فيه، فوجوب تصديقهما عبارة عن ترتيب آثار الطهارة والإتيان عملاً.

وقس على ذلك كلّية أدلّة اعتبار الأمارات والاُصول بلا افتراق من هذه الحيثية بينها أصلاً. نعم، الأمارات بنفسها لها جهة الكاشفية والطريقية دون غيرها، وكلامنا في دليل اعتبارها لا في مفاد أنفسها، وقد خلط كثير منهم بين المقامين والحيثيتين، فلا تغفل.

وأمّا حديث حكومة دليل على دليل فهو باعتبار لسان أدلّة الاعتبار، لا باعتبار كاشفية الأمارات وعدم كاشفية غيرها، فإنّها اُمور تكوينية لا دخل لها بالحكومة ومثلها.

فمفاد أدلّة الأمارات وإن كان بحسب النتيجة مطابقاً لأدلّة الاُصول، لكن حكومتها باعتبار لسانها، فإنّ لسانها هو ترتيب آثار صدق العادل وكون خبره مطابقاً للواقع، وهذا لسان إزالة الشكّ تعبّداً، وهو بهذا المفاد مقدّم على الاُصول

التي اُخذ الشكّ في موضوعها، وللكلام محلّ آخر يأتي - إن شاء الله تعالى - في مستأنف المقال(1).

ص: 153


1- يأتي في الجزء الثاني: 8.

المقدّمة الثانية: لا يمكن اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم بها؛ للزوم الدور؛ فإنّ العلم بالشيء يتوقّف على وجود الشيء بحسب الواقع، ولو توقّف وجوده على العلم به لزم توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه، وهذا واضح.

ومناقشة بعض المحقّقين من أهل العصر رحمه الله علیه في ذلك - لجواز القطع بالحكم بنحو الجهل المركّب، فلا يتوقّف العلم بالحكم عليه بحسب الواقع(1) - خلط، وفي غير محلّها.

هذا، مضافاً إلى ظهور أدلّة الاُصول والأمارات في أنّ الأحكام الواقعية محفوظة في حال الشكّ، فإنّ قوله: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه»(2) يدلّ على أنّ ما هو حرام واقعاً إذا شكّ في حرمته يكون حلالاً بحسب الظاهر وفي حال الشكّ، وكذا قوله: «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر»(3) يدلّ على محفوظية القذارة الواقعية في حال الشكّ، وكذا أدلّة الأمارات - مثل أدلّة حجّية قول الثقة - تدلّ على تصديقه وترتيب آثار الواقع على مؤدّاه.

وبالجملة: لا إشكال في عدم اختصاص الأحكام الواقعية بالعالم بها، كما أنّ الخطابات الشرعية متعلّقة بعناوين محفوظة في حال العلم والجهل؛ فإنّ الحرمة

ص: 154


1- اُنظر نهاية الدراية 3: 68.
2- الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.
3- المقنع: 15؛ مستدرك الوسائل 2: 583، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 30، الحديث 4.

قد تعلّقت بذات الخمر، والوجوب تعلّق بذات الصلاة من غير تقيّد بالعلم والجهل، فهي بحسب المفاد شاملة للعالم والجاهل، كما لا يخفى.

المقدّمة الثالثة: أنّ الخطابات - كما عرفت - وإن لم تكن مقيّدة بحال العلم ولا مختصّة بالعالم بها، ولكن هنا أمر آخر، وهو أنّ الخطابات إنّما تتعلّق بالعناوين وتتوجّه إلى المكلّفين؛ لغرض انبعاثهم نحو المأمور به ولتحريكها إيّاهم نحوه، ولا إشكال في أنّ التكليف والخطاب بحسب وجوده الواقعي لا يمكن أن يكون باعثاً وزاجراً؛ لامتناع محرّكية المجهول، وهذا واضح جدّاً.

فالتكاليف إنّما تتعلّق بالعناوين وتتوجّه إلى المكلّفين لكي يعلموا فيعملوا، فالعلم شرط عقلي للباعثية والتحريك، فلمّا كان انبعاث الجاهل غير ممكن فلا محالة تكون الإرادة قاصرة عن شمول الجاهلين، فتصير الخطابات بالنسبة إليهم أحكاماً إنشائية.

وإن شئت قلت: إنّ لفعلية التكليف مرتبتين:

إحداهما: الفعلية التي هي قبل العلم، وهي بمعنى تمامية الجهات التي من قبل المولى، وإنّما النقصان في الجهات التي من قبل المكلّف، فإذا ارتفعت الموانع التي من قبل العبد يصير التكليف تامّ الفعلية، وتنجّز عليه.

وثانيتهما: الفعلية التي هي بعد العلم وبعد رفع سائر الموانع التي تكون من قبل العبد، وهو التكليف الفعلي التامّ المنجّز.

ص: 155

وجه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية

إذا عرفت ما ذكرنا من المقدّمات سهل لك سبيل الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية؛ فإنّه لا بدّ من الالتزام بأنّ التكاليف الواقعية مطلقاً - سواء كانت في موارد قيام الطرق والأمارات، أو في موارد الاُصول مطلقاً - فعلية بمعناها الذي قبل تعلّق العلم، ولا إشكال في أنّ البعث والزجر الفعليين غير محقّقين في موارد الجهل بها؛ لامتناع البعث والتحريك الفعليين بالنسبة إلى القاصرين، فالتكاليف بحقائقها الإنشائية والفعلية التي من قبل المولى - بالمعنى الذي أشرنا إليه - تعمّ جميع المكلّفين، ولا تكون مختصّة بطائفة دون طائفة، لكن الإرادة قاصرة عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إلى القاصرين.

فإذا كان التكليف قاصراً عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إليهم فلا بأس بالترخيص الفعلي على خلافها، ولا امتناع فيه أصلاً، ولا يلزم منه اجتماع الضدّين أو النقيضين أو المثلين وأمثالها.

نعم، يمكن للمولى - بعد قصور التكليف الواقعي عن البعث والزجر - إيجاب الاحتياط على المكلّف بدليل مستقلّ؛ فإنّ إيجاب الاحتياط لا يمكن بواسطة نفس الدليل الدالّ على الحكم الواقعي؛ لقصوره عن التعرّض لحال الشكّ، فلا بدّ من الدليل المستقلّ؛ حفظاً للحكم الواقعي، ولكن إذا كان في الاحتياط محذور أشدّ من الترخيص - مثل الحرج واختلال النظام - فلا بدّ له من الترخيص، ولا محذور فيه أصلاً.

فالجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية بما ذكرنا ممّا لا محذور فيه ملاكاً

ص: 156

وخطاباً، بل لا محيص عنه؛ فإنّ البعث والزجر الفعليين بالنسبة إلى الجاهل غير معقولين، كما أنّ الترخيص مع البعث والزجر الفعليين غير معقول.

وأمّا مع قصور التكليف والإرادة عنهما وحرجية إيجاب الاحتياط أو محذور آخر فيه، فلا محيص عن جعل الترخيص، ولا محذور فيه.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ الأحكام الواقعية والخطابات الأوّلية - بحسب الإنشاء والجعل، وبحسب الفعلية التي قبل العلم - عامّة لكلّية المكلّفين جاهلين كانوا أو عالمين، لكنّها قاصرة عن البعث والزجر الفعليين بالنسبة إلى الجهّال منهم، ففي هذه المرتبة التي هي مرتبة جريان الأصل العقلي لا بأس في جعل الترخيص، فإذا جاز الترخيص فما ظنّك بجعل الأمارات التي هي غالبة المطابقة للواقع ؟

مضافاً إلى ما عرفت فيما سبق(1) أنّ الأمارات والطرق الشرعية - جلّها أو كلّها - هي الأمارات العرفية العقلائية التي يعمل بها العقلاء في معاملاتهم وسياساتهم، وليست هي تأسيسية جعلية، فصرف عدم الردع كافٍ لحجّيتها، ولا تحتاج إلى جعل وإنشاء حجّية أو إمضاء كما قيل(2).

نعم للشارع جعل الاحتياط والردع عن العمل بها، وهو - كما عرفت - خلاف المصالح العامّة وسهولة الدين الحنيف، فإذا كان الأمر كذلك فلا ينقدح شوب إشكال الجمع بين الضدّين والنقيضين والمثلين حتّى نحتاج إلى رفعه، فتدبّر.

ص: 157


1- تقدّم في الصفحة 70.
2- مقالات الاُصول 2: 110.

تنبيه

فيما ذكر الأعلام من الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي

وهاهنا وجوه من الجمع لا تخلو كلّها أو جلّها من الخلل والقصور، لا بأس بالتعرّض لمهمّاتها:

تقريب المحقّق النائيني لوجه الجمع في الأمارات والاُصول

منها: ما أفاد بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - بعد تفكيكه في التفصّي عن الإشكال بين موارد قيام الطرق والأمارات وبين الاُصول المحرزة وبين الاُصول الغير المحرزة، فقال في موارد تخلّف الأمارات ما حاصله:

ما أفاده المحقّق النائيني في الأمارات

إنّ المجعول فيها ليس حكماً تكليفياً حتّى يتوهّم التضادّ بينها وبين الواقعيات، بل الحقّ أنّ المجعول فيها هو الحجّية والطريقية، وهما من الأحكام الوضعية المتأصّلة في الجعل، خلافاً للشيخ قدّس سرّه (1) حيث ذهب إلى أنّ الأحكام الوضعية كلّها منتزعة من الأحكام التكليفية.

والإنصاف عدم تصوّر انتزاع بعض الأحكام الوضعية من الأحكام التكليفية، مثل الزوجية، فإنّها وضعية ويستتبعها جملة من الأحكام، كوجوب الإنفاق على

ص: 158


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 126.

الزوجة، وحرمة تزويج الغير لها، وحرمة ترك وطئها أكثر من أربعة أشهر... إلى غير ذلك، وقد يتخلّف بعضها مع بقاء الزوجية، فأيّ حكم تكليفي يمكن انتزاع الزوجية منه ؟ ! وأيّ جامع بين هذه الأحكام التكليفية ليكون منشأً لانتزاع الزوجية ؟ ! فلا محيص في أمثالها عن القول بتأصّل الجعل، ومنها الطريقية والوسطية في الإثبات؛ فإنّها متأصّلة بالجعل ولو إمضاءً؛ لما تقدّمت الإشارة إليه من كون الطرق التي بأيدينا عقلائية يعتمد عليها العقلاء في مقاصدهم، بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفتها للواقع، فنفس الحجّية والوسطية في الإثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار من دون أن يكون هناك حكم تكليفي منشأً لانتزاعه.

إذا عرفت حقيقة المجعول فيها ظهر لك أ نّه ليس فيها حكم حتّى ينافي الواقع، فلا تضادّ ولا تصويب، وليس حال الأمارات المخالفة إلاّ كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقط مطلقاً، فعند الإصابة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعي كالعلم الموافق ويوجب تنجيزه، وعند الخطأ يوجب المعذورية وعدم صحّة المؤاخذة عليه كالعلم المخالف، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أ نّه ليس في باب الأمارات والطرق العقلائية الإمضائية غالباً حكم مجعول أصلاً، لا الحجّية، ولا الوسطية في الإثبات، ولا الحكم التكليفي التعبّدي، كما قد عرفت سابقاً (2)، وليس معنى الإمضاء هو إنشاء حكم إمضائي،

ص: 159


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 105 - 108.
2- تقدّم في الصفحة 70.

بل الشارع لم يتصرّف في الطرق العقلائية، وكان الصادع بالشرع يعمل بها كما يعمل العقلاء في سياساتهم ومعاملاتهم. وما ورد في بعض الروايات إنّما هي أحكام إرشادية.

والعجب أ نّه قدّس سرّه مع اعترافه كراراً بذلك(1) ذهب إلى جعل الحجّية والوسطية في الإثبات وتتميم الكشف وأمثالها ممّا لا عين لها في الأدلّة الشرعية ولا أثر(2).

وثانياً: لو سلّم أنّ هناك جعلاً شرعياً، فما هو المجعول ليس إلاّ إيجاب العمل بالأمارات تعبّداً، ووجوب ترتيب آثار الواقع على مؤدّاها، كما هو مفاد الروايات مثل قوله علیه السلام : «إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس» وأشار إلى زرارة(3)، وقوله: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا»(4) وقوله: «عليك بالأسدي» يعني أبا بصير(5)، وقوله: «العمري ثقتي» إلى أن قال: «فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقة المأمون»(6)... إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة

ص: 160


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 30 و 91 و 195.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 17 و 105.
3- اختيار معرفة الرجال: 135 / 216؛ وسائل الشيعة 27: 143، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.
4- الاحتجاج 2: 543/344؛ وسائل الشيعة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
5- اختيار معرفة الرجال: 171 / 291؛ وسائل الشيعة 27: 142، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.
6- الكافي 1: 329 / 1؛ وسائل الشيعة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.

ممّا يستفاد منها - مع الغضّ عن الإرجاع إلى الارتكاز العقلائي - وجوب العمل

على طبقها تعبّداً على أ نّها هو الواقع وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها.

نعم، لو كان للآية الشريفة: )إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا((1) دلالة، يمكن أن يتوهّم منها أ نّها بصدد جعل المبيّنية والمكشوفية في مؤدّى خبر العادل، بتقرير: أنّ المفهوم منها أنّ خبر العادل لا يجب التبيّن فيه؛ لكونه متبيّناً.

لكن فيه - مع الغضّ عن الإشكال بل الإشكالات في دلالتها - أ نّها ليست بصدد جعل ما ذكر، بل بصدد جعل وجوب العمل على طبقه، وإنّما المتبيّنية الذاتية التي له، جهة تعليلية لوجوب العمل على طبقه، تدبّر تعرف.

وثالثاً: أنّ الحجّية والوسطية في الإثبات والكاشفية وأمثالها لا تنالها يد الجعل تأصّلاً.

أمّا الحجّية بمعنى صحّة الاحتجاج وقاطعية العذر فواضح؛ فإنّها أمر تبعي محض متأخّر عن جعل تكليف أو وضع، وليس نفس صحّة الاحتجاج وقاطعية العذر من الاعتبارات الاستقلالية للعقلاء، وذلك واضح.

وأمّا الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية والحجّية التي بمعنى الوسطية في الإثبات: فلأنّ كلّ واحد من تلك المعاني ممّا لا يمكن جعله؛ فإنّ إعطاء جهة الكاشفية والطريقية كما لا يمكن لما لا يكون له جهة كشف وطريقية، كذلك تتميم الكاشفية وإكمال الطريقية لا يمكن جعلهما لما هو ناقص الكاشفية والطريقية، فكما أنّ الشكّ غير قابل لإعطاء صفة الكاشفية والطريقية عليه - كما

ص: 161


1- الحجرات (49): 6.

اعترف به قدّس سرّه (1) - كذلك ما ليس له تمام الكاشفية ويكون هذا النقصان ذاتياً له لا يمكن جعل التمامية له، وكما أنّ اللا كاشفية ذاتية للشكّ لا يمكن سلبها عنه، كذلك النقص ذاتي للأمارات لا يمكن سلبه عنها، فما هو تحت يد الجعل ليس إلاّ إيجاب العمل بمفادها تعبّداً والعمل على طبقها وترتيب آثار الواقع عليها، ولمّا كان ذاك التعبّد بلسان تحقّق الواقع وإلقاء احتمال الخلاف عملاً، ينتزع منه الحجّية والوسطية في الإثبات تعبّداً.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ ما هو ممكن المجعولية وما تناله يد الجعل ليس إلاّ الحكم التكليفي التعبّدي؛ أي وجوب العمل على طبق الأمارات ووجوب ترتيب آثار الواقع على مؤدّاها، والوضع إنّما ينتزع من هذا الحكم التكليفي.

وأمّا قضيّة حكومتها على الاُصول فهي أساس آخر قد أشرنا إليه فيما سلف(2) وسيأتي(3) - إن شاء الله - بيانها في مستأنف القول.

ورابعاً: أنّ ما أفاد من كون الزوجية مجعولة تأصّلاً؛ لعدم تصوّر وجود تكليف ينتزع منه الزوجية، ففيه: أنّ تلك الأحكام التكليفية التي عدّها من وجوب الإنفاق على الزوجة... إلى آخر ما ذكره، إنّما هي متأخّرة عن الزوجية، وتكون من أحكامها المترتّبة عليها، ومعلوم أنّ أمثالها لا يمكن أن تكون منشأً لانتزاع الزوجية، لا لمكان عدم الجامع بينها، بل لمكان تأخّرها عن الزوجية وكونها من آثارها وأحكامها، فتلك الأحكام أجنبيّة عن انتزاع الوضع منها.

ص: 162


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 19.
2- تقدّم في الصفحة 153.
3- يأتي في الجزء الثاني: 8.

نعم، هنا أحكام تكليفية اُخرى يمكن أن تكون(1) مناشئ للوضع، كقوله: )فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ((2) وقوله: )وَأَنْكِحُواْ الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ((3)، وقوله تعالى: )وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ((4) وأمثالها، وإن كان التحقيق عدم مجعولية الزوجية شرعاً، لا بنحو الأصالة ولا بنحو آخر؛ فإنّ الزوجية من الاُمور العقلائية ومن الاعتبارات التي يكون أساس الحياة الاجتماعية ونظامها متوقّفاً عليها، ولاتكون من المخترعات الشرعية. نعم، إنّ الشرائع قد تصرّفت فيها نوع تصرّفات في حدودها، لا أ نّها اخترعتها، بل اتّخاذ الزوج وتشكيل العائلة من مرتكزات بعض الحيوانات أيضاً.

وخامساً: بعد اللتيا والتي لا يحسم ما أطنب مادّة الإشكال؛ فإنّ الأحكام الواقعية إذا كانت باقية على فعليتها وباعثيتها وزاجريتها لا يمكن جعل الأمارة المؤدّية إلى خلافها بالضرورة؛ فإنّ جعل الحجّية والوسطية في الإثبات في الأمارات المؤدّية إلى مناقضات الأحكام الشرعية ومضادّاتها، يلازم الترخيص الفعلي للعمل على طبقها، وهو محال مع فعليتها.

وبالجملة: لا يعقل جعل الأمارة المؤدّية إلى خلاف الأحكام الواقعية بأيّ عنوان كان، فمع بقائها على تلك المرتبة من الفعلية، كما لا يمكن جعل أحكام مضادّة لها، لا يمكن جعل حجّة أو أمارة أو عذر أو أمثال ذلك.

ص: 163


1- أي يتوهّم أ نّها. [منه قدّس سرّه ]
2- النساء (4): 3.
3- النور (24): 32.
4- النساء (4): 24.

وقياس الأمارات على العلم مع الفارق؛ ضرورة أنّ العلم لم يكن بجعل جاعل حتّى يقال: إنّ جعله لأجل تضمّنه الترخيص الفعلي يضادّ الأحكام الواقعية.

هذا إذا قلنا ببقاء الأحكام على فعليتها بعثاً وزجراً.

وأمّا مع التنزّل عنها وصيرورتها إنشائية أو فعلية بمرتبة دون تلك المرتبة - كما عرفت(1) - فلا مضادّة بينها وبين الأحكام التكليفية الظاهرية، فلا وجه لإتعاب النفس والالتزام باُمور لم يكن لها عين ولا أثر في أدلّة اعتبار الأمارات، وإنّما هي اختراعات نشأت من العجز عن إصابة الواقع.

وممّا ذكرنا يعرف النظر في كلام المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2) حيث ظنّ أنّ المجعول في باب الأمارات إذا كان الحجّية غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية، يحسم مادّة الإشكال، مع أ نّه بحاله.

كما أنّ الجمع على فرض الحكم التكليفي بما أفاد من كون أحدهما طريقياً والآخر واقعياً(3) ممّا لا يحسم مادّته؛ فإنّه مع فعلية الأحكام الواقعية

لا يمكن جعل الحكم الطريقي المؤدّي إلى ضدّها ونقيضها، كما هو واضح بأدنى تأمّل.

وبالجملة: لا محيص - على جميع المباني - عن الالتزام بعدم فعلية الأحكام بمعناها الذي بعد العلم، كما عرفت.

ص: 164


1- تقدّم في الصفحة 155.
2- كفاية الاُصول: 319.
3- كفاية الاُصول: 319 - 320.

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول المحرزة

ثمّ إنّ المحقّق المعاصر المتقدّم قدّس سرّه قال في باب الاُصول المحرزة ما حاصله: إنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أ نّه هو الواقع، وإلقاء الطرف الآخر وجعله كالعدم، ولأجل ذلك قامت مقام القطع الطريقي، فالمجعول فيها ليس أمراً مغايراً للواقع، بل الجعل الشرعي تعلّق بالجري العملي على المؤدّى على أ نّه هو الواقع، كما يرشد إليه قوله - في بعض أخبار قاعدة التجاوز- بأ نّه: «قد ركع»(1) فإن كان المؤدّى هو الواقع فهو، وإلاّ كان الجري

العملي واقعاً في غير محلّه، من دون أن يتعلّق بالمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليه، فلا يكون ماوراء الحكم الواقعي حكم آخر حتّى يناقضه ويضادّه(2)، انتهى.

وأنت خبير بورود الإشكال المتقدّم عليه من عدم حسم مادّة الإشكال به أصلاً مع بقاء الحكم الواقعي على فعليته وباعثيته؛ فإنّه مع بقائهما كيف يمكن جعل الاُصول التنزيلية بأيّ معنىً كان ؟ !

فالبناء العملي على إتيان الجزء أو الشرط - كما هو مفاد قاعدة التجاوز على ما أفاد - مع فعلية حكم الجزئية والشرطية ممّا لا يجتمعان بالضرورة، ولا يعقل جعل الهوهوية المؤدّية إلى مخالفة الحكم الواقعي مع فعليته وباعثيته(3).

ص: 165


1- تهذيب الأحكام 2: 151 / 596؛ وسائل الشيعة 6: 318، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 6.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 110 - 112.
3- هذا، مع أنّ ظاهر كلامه لايرجع إلى محصّل؛ فإنّ البناء العملي والجري العملي من فعل المكلّف، وهو ليس تحت الجعل، وإيجاب الجري العملي حكم مضادّ للواقع. [منه قدّس سرّه ]

وهكذا الكلام في الاستصحاب وغيره من الاُصول المحرزة على طريقته قدّس سرّه (1).

هذا، مضافاً إلى ما مرّ ذكره من منع كون الاستصحاب من الاُصول المحرزة: أمّا على استفادة الطريقية من أدلّته - كما قوّيناها(2) - فواضح، وأمّا على التنزّل من ذلك فلا يستفاد منها إلاّ وجوب ترتيب آثار الواقع على المشكوك وعدم جواز رفع اليد عن الواقع بمجرّد الشكّ، فالكبرى المجعولة في الاستصحاب ليست إلاّ الحكم التكليفي(3) وهو حرمة رفع اليد عن آثار الواقع، أو وجوب ترتيب آثاره، وأمّا جعل الهوهوية فهو أجنبيّ عن مفادها.

وأمّا قاعدة التجاوز والفراغ فمفاد أدلّتها أيضاً ليس إلاّ الحكم التكليفي، وهو وجوب المضيّ وعدم الاعتناء بالشكّ، وترتيب آثار إتيان الواقع المشكوك فيه، وهذا حكم تكليفي أجنبيّ عمّا ذكره من جعل الهوهوية.

وليت شعري أ نّه ما الداعي إلى رفع اليد عن ظواهر الأدلّة الكثيرة في باب الطرق والأمارات وأبواب الاُصول والالتزام بما لا عين له في الأدلّة ولا أثر ؟

ولعلّ الإشكال المتقدّم ألجأه إلى الالتزام بهذه الاُمور الغريبة البعيدة عن مفاد الأدلّة بل عن مذاق الفقاهة، مع أ نّها - كما عرفت - لا تسمن ولا تغني من جوع.

ص: 166


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 692.
2- سابقاً لكن رجعنا عنهأ. [منه قدّس سرّه ] أ - تقدّم في الصفحة 73، الهامش 1.
3- قد رجعنا عنه أيضاً في مبحث الاستصحابب. [منه قدّس سرّه ] ب - الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 173 - 174.

وبما ذكرنا - مع ما يأتي في محلّه(1) - يظهر أنّ الاُصول التنزيلية - بما ذكره - ممّا لا أساس لها أصلاً، ولا داعي للالتزام بها، كما أ نّه لا داعي للالتزام بما التزم

به في الأمارات والطرق، كما يظهر بالتأمّل فيما ذكرناه.

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول الغير المحرزة

ثمّ(2) إنّه قدّس سرّه قال في باب الاُصول الغير التنزيلية - مع ما أطال وأتعب نفسه الزكيّة في تفصيل متمّمات الجعل - ما ملخّصه:

إنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين:

أحدهما: كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو موضوعه كحالة العلم والظنّ، وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعاً لحكم يضادّ الحكم الواقعي؛ لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.

ثانيهما: اعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلاً إليه ومنجّزاً

ص: 167


1- راجع الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 173، و291 و380 - 381.
2- وذكر قبيل هذا: أنّ متمّم الجعل فيما نحن فيه يتكفّل لبيان وجود الحكم في زمان الشكّ فيهأ. ومراده من المتمّم هو أصالة الاحتياط. وهذا مع بطلانه في نفسه - لأنّ أصل الاحتياط أو إيجاب الاحتياط لا يكون متكفّلاً لبيان وجود الحكم في زمان الشكّ بالضرورة، وإلاّ لكان أمارة، ووجوب الاحتياط مع الشكّ لغرض الوصول إلى الواقع غير كون أصل الاحتياط أو إيجابه مبيّناً للواقع، وهو أوضح من أن يخفى - مخالف لما قال سابقاً من أ نّه أصل غير محرز، ولبعض كلماته اللاحقة(ب)، فراجع. [منه قدّس سرّه ] أ - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 114. ب - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 112، و4: 692.

له، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعل ومنجّزاً للواقع وموصلاً إليه، كما أ نّه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤ مّناً عن الواقع؛ حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمرية، فلو كانت مصلحة الواقع مهمّة في نظر الشارع، كان عليه جعل المتمّم، كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه؛ فإنّه أهمّ من مفسدة حفظ نفس الكافر، فيقتضي جعل حكم طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ، وهذا الحكم الاحتياطي إنّما هو في طول الواقع لحفظ مصلحته، ولذا كان خطابه نفسياً لا مقدّمياً؛ لأنّ الخطاب المقدّمي ما لا مصلحة فيه أصلاً، والاحتياط ليس كذلك؛ لأنّ أهمّية الواقع دعت إلى وجوبه، فهو واجب نفسي للغير، لا واجب بالغير؛ ولذا كان العقاب على مخالفته، لا مخالفة الواقع؛ لقبح العقاب عليه مع الجهل.

إن قلت: فعليه تصحّ العقوبة على مخالفة الاحتياط - صادف الواقع أو لا - لكونه واجباً نفسياً.

قلت: فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام، والذي لا يدور الحكم مداره هو الأوّل دون الثاني. ولا إشكال في أنّ الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علّة للحكم بالاحتياط، ولا يمكن أن يبقى في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك ممّا يجب حفظ نفسه، ولكن لمكان جهل المكلّف كان اللازم عليه الاحتياط تحرّزاً عن مخالفة الواقع.

من ذلك يظهر: أ نّه لا مضادّة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي؛ فإنّ المشتبه إن كان ممّا يجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعي، ويكون هو هو، وإلاّ فلا؛ لانتفاء علّته، والمكلّف يتخيّل وجوبه لجهله

ص: 168

بالحال، فوجوب الاحتياط من هذه الجهة يشبه الوجوب المقدّمي وإن كان من جهة اُخرى يغايره.

والحاصل: أ نّه لمّا كان إيجاب الاحتياط من متمّمات الجعل الأوّلي فوجوبه يدور مداره، ولا يعقل بقاء المتمّم - بالكسر - مع عدم المتمّم - بالفتح - فإذا كان وجوب الاحتياط يدور مدار الوجوب الواقعي فلا يعقل التضادّ بينهما؛ لاتّحادهما في مورد المصادقة وعدم وجوب الاحتياط في مورد المخالفة، فأين التضادّ ؟ !

هذا إذا كانت المصلحة مقتضية لجعل المتمّم، وأمّا مع عدم الأهمّية، فللشارع

جعل المؤمّن بلسان الرفع، كقوله: «رفع... ما لا يعلمون»(1)، وبلسان الوضع مثل: «كلّ شيء... حلال»(2)؛ فإنّ رفع التكليف ليس عن موطنه ليلزم التناقض، بل رفع التكليف عمّا يستتبعه من التبعات وإيجاب الاحتياط. فالرخصة المستفادة من دليل الرفع نظير الرخصة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان في عدم المنافاة للواقع.

والسرّ فيه: أ نّها تكون في طول الواقع؛ لتأخّر رتبتها عنه؛ لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليه ولا منجّز له، فقد لوحظ في الرخصة وجود الحكم الواقعي، ومعه كيف يعقل أن تضادّه ؟ !

ص: 169


1- الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
2- الكافي 5: 313 / 40؛ وسائل الشيعة 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، الباب 4، الحديث 4.

وبالجملة: الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من إيجاب الاحتياط، وقد عرفت أنّ إيجاب الاحتياط يكون في طول الواقع، فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً، وإلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه أوّلاً: أنّ تفريقه بين أخذ الشكّ باعتبار كونه من الحالات والطوارئ، وبين أخذه باعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع، وجعله مناط رفع التضادّ هو الأخذ على الوجه الثاني، ممّا لا محصّل له؛ فإنّ الطولية لو ترفع التضادّ فالحالات الطارئة أيضاً في طول الواقع، وإلاّ فالأخذ باعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع لا يرفعه.

وبالجملة: أنّ الاعتبارين مجرّد تغيير في العبارة وتفنّن في التعبير، وبهذا وأشباهه لا يرفع التضادّ؛ لكون الحكم الواقعي محفوظاً مع الشكّ والحيرة.

وثانياً: أنّ الحكم الواقعي؛ إن بقي على فعليته وباعثيته فلا يعقل جعل الاحتياط المؤدّي إلى خلافه، فضلاً عن جعل المؤ مّن كما في أصالة الإباحة، فهل يمكن مع فعلية الحكم الواقعي جعل المؤمّن الذي يلازم الترخيص في المخالفة أو عينه ؟ وهل مجرّد تغيير اُسلوب الكلام وكثرة الاصطلاح والاعتبار ترفع التضادّ والتناقض ؟ !

وإن لم يبق - كما اعترف في المقام بأنّ الأحكام الواقعية بوجوداتها النفس الأمرية لا تصلح للداعوية - فالجمع بين الحكم الواقعي بهذا المعنى والظاهري

ص: 170


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 114 - 119.

لا يحتاج إلى تلك التكلّفات؛ فإنّ الحكم الإنشائي أو الفعلي بالمعنى المتقدّم ممّا لا ينافي الأحكام الظاهرية.

وثالثاً: أنّ ما تفصّى به عن إشكال صحّة العقوبة على مخالفة الاحتياط - بالتزامه عدم وجوب الاحتياط واقعاً في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك فيه ممّا يجب حفظه؛ لكون وجوب حفظ المؤمّن علّة للحكم بالاحتياط لا علّة للتشريع - ممّا لا وجه له؛ فإنّ وجوب الاحتياط حكم ظاهري لغرض حفظ الواقع، ولا بدّ لهذا الحكم الظاهري المتمّم للجعل الأوّلي أن يتعلّق حقيقة بكلّ مشكوك؛ سواء كان المشكوك ممّا يجب حفظه، أم لا. ولو تعلّق وجوب الاحتياط بمورد الشكّ الذي ينطبق على الواجب الواقعي دون غيره لاحتاج إلى متمّم آخر؛ فإنّ وجوب الاحتياط المتعلّق بالمشكوك فيه الواجب بحسب الواقع لا يصلح للداعوية نحو المشكوك فيه، وقاصر عن أن يكون محرّكاً لإرادة العبد كنفس التكليف الواقعي، فيصير إيجاب الاحتياط لغواً؛ فإنّ في جميع موارد الشكّ يكون تعلّق وجوب الاحتياط بها مشكوكاً.

وما أفاد قدّس سرّه - من أنّ المكلّف لمّا لم يعلم كون المشكوك ممّا يجب حفظ نفسه أو لا يجب، كان اللازم عليه هو الاحتياط تحرّزاً عن مخالفة الواقع - واضح الفساد؛ فإنّ وجوب الاحتياط على النحو الذي التزم به لا يزيد سعة دائرته عن الحكم الواقعي، فكما أنّ الحكم الواقعي لا يمكن أن يتكفّل بزمان شكّه، كذلك حكم الاحتياط لا يمكن أن يتكفّل بزمان شكّه، والحال أنّ تمام موارده كذلك، فإيجاب الاحتياط لا يكون إلاّ لغواً باطلاً.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ حكم الاحتياط لا بدّ وأن يتعلّق بكلّ مشكوك، لكن

ص: 171

لمّا كان هذا الحكم لغرض حفظ الواقع وليس نفسه متعلّقاً لغرض المولى، لا يوجب مخالفته بنفسها استحقاق العقوبة(1)، وهذا واضح جدّاً.

ورابعاً: أنّ ما أفاد - من أنّ الرخصة والحلّية المستفادة من حديث الرفع وأصالة الحلّ تكون في عرض المنع المستفاد من إيجاب الاحتياط، ولمّا كان إيجاب الاحتياط في طول الواقع فما يكون في عرضه يكون في طول الواقع أيضاً، وإلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضه - منظور فيه؛ فإنّه قد ثبت أنّ ما في عرض المتقدّم على شيء لا يلزم أن يكون في طول هذا المتأخّر، مع أنّ هذه الطولية ممّا لا ترفع التضادّ، كما عرفت.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ ما أفاد هذا المحقّق - مع ما أطنب وأتعب نفسه في أبواب الأمارات والاُصول من وجوه الجمع - ممّا لا طائل تحته ولا أساس له. وفي كلامه مواقع أنظار اُخر تركناها مخافة التطويل.

تقريب السيّد الفشاركي لوجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري

ومن وجوه الجمع: ما نقل شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - عن سيّده الاُستاذ قدّس سرّه ومحصّله: عدم المنافاة بين الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع الآخر الشكّ في الأوّل.

توضيحه: أنّ الأحكام تتعلّق بالمفاهيم الذهنية من حيث إنّها حاكية عن الخارج، فالشيء ما لم يتصوّر في الذهن لا يتّصف بالمحبوبية والمبغوضية.

ص: 172


1- بل العقاب على الواقع - لو فرض التخلّف - ولا يقبح العقاب عليه بعد إيجاب الاحتياط، كما هو واضح. [منه قدّس سرّه ]

ثمّ المفهوم المتصوّر: تارةً يكون مطلوباً على نحو الإطلاق، واُخرى على نحو التقييد، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضي في غير ذلك المقيّد، وقد يكون لوجود المانع.

وهذا الأخير مثل أن يكون الغرض في عتق الرقبة مطلقاً إلاّ أنّ عتق الرقبة الكافرة منافٍ لغرضه الآخر الأهمّ، فلا محالة بعد الكسر والانكسار يقيّد الرقبة بالمؤمنة، لا لعدم المقتضي، بل لمزاحمة المانع. وذلك موقوف على تصوّر العنوان المطلوب مع العنوان الآخر المتّحد معه المخرج له عن المطلوبية الفعلية. فلو فرضنا عدم اجتماع العنوانين في الذهن - بحيث يكون تعقّل أحدهما لا مع الآخر دائماً - لم يتحقّق الكسر والانكسار بين الجهتين، فاللازم منه أ نّه متى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المطلوبية يكون مطلوباً مطلقاً؛ لعدم تعقّل منافيه، ومتى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المبغوضية يكون مبغوضاً كذلك؛ لعدم تعقّل منافيه.

والعنوان المتعلّق للأحكام الواقعية مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهرية ممّا لا يجتمعان في الوجود الذهني أبداً؛ لأنّ الحالات اللاحقة للموضوع بعد تحقّق الحكم وفي الرتبة المتأخّرة عنه لا يمكن إدراجها في موضوعه.

فلو فرضنا - بعد ملاحظة اتّصاف الموضوع بكونه مشكوك الحكم - تحقّق جهة المبغوضية فيه، لصار مبغوضاً بهذه الملاحظة، ولا يزاحمها جهة المطلوبية الملحوظة في ذاته؛ لأنّ الموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقّلاً فعلاً؛ لأنّ تلك الملاحظة ملاحظة ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وهذه ملاحظته مع الحكم.

ص: 173

إن قلت: العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبة تعقّل الذات، ولكنّ الذات ملحوظة في مرتبة تعلّق العنوان المتأخّر، فيجتمع العنوانان وعاد الإشكال.

قلت: كلاّ؛ فإنّ تصوّر موضوع الحكم الواقعي مبنيّ على تجرّده عن الحكم، وتصوّره بعنوان كونه مشكوك الحكم لا بدّ وأن يكون بلحاظ الحكم، ولا يمكن الجمع بين لحاظي التجرّد واللاتجرّد.

وبعبارة اُخرى: صلاة الجمعة التي كانت متصوّرة في مرتبة كونها موضوعة للوجوب الواقعي لم تكن مقسماً لمعلوم الحكم ومشكوكه، والتي تتصوّر في ضمن مشكوك الحكم تكون مقسماً لهما، فتصوّرهما معاً موقوف على تصوّر العنوان على نحو لا ينقسم إلى القسمين وعلى نحو ينقسم، وهذا مستحيل في لحاظ واحد.

فحينئذٍ نقول: متى تصوّر الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها تكون مطلوبة، ومتى تصوّرها بملاحظة كونها مشكوك الحكم تكون متعلّقة لحكم آخر(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه أوّلاً: أنّ ما أفاد - من عدم إمكان تصوّر ما يأتي من قبل الحكم في الموضوع - ممنوع؛ فإنّ تصوّر الأمر المتأخّر ممّا لا إشكال فيه أصلاً، فعدم اجتماع العنوانين في الذهن من هذه الجهة ممنوع، وقد اعترف قدّس سرّه - في

ردّ الشبهة المشهورة في باب التعبّدي والتوصّلي - بجواز أخذ ما من قبَل

ص: 174


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 351 - 354.

الأمر في الموضوع(1)، فراجع(2).

وثانياً: لازم ما أفاد - من مزاحمة جهة المبغوضية مع جهة المحبوبية - هو التقييد اللبّي ونتيجة التقييد؛ فإنّ الإهمال الثبوتي غير معقول، فالصلاة التي شكّ في حكمها لم تكن بحسب اللبّ مع ابتلائها بالمزاحم الأقوى واجبة، فيختصّ الوجوب بالصلاة المعلومة الوجوب، فعاد إشكال التصويب، ومجرّد إطلاق الحكم بواسطة الغفلة عن المزاحم لا يدفع الإشكال، كما لا يخفى.

وثالثاً: أنّ ما أفاد في جواب «إن قلت» - من أنّ موضوع الحكم الواقعي هو المجرّد عن الحكم - يرد عليه: أ نّه إن أراد بالتجرّد هو لحاظ تقييد الموضوع به حتّى يصير الموضوع بشرط لا - كما هو الظاهر من كلامه صدراً وذيلاً - فهو ممنوع؛ فإنّ الموضوع للأحكام نفس الذوات بلا لحاظ التجرّد والتلبّس.

مع أنّ لحاظ تجرّده عن الحكم يلازم لحاظ الحكم، والحال أنّ الحكم متأخّر عن الموضوع ومن الحالات اللاحقة له، فكما لا يمكن لحاظ مشكوكية الحكم في الموضوع على مبناه لا يمكن لحاظ نفس الحكم؛ لتحقّق المناط فيه، فيكون

ص: 175


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 94 - 95.
2- مع أنّ تأخّر المشكوكية عن الحكم وحصولها بعد تعلّق الحكم ممنوع جدّاً؛ لأنّ الشكّ قد يتعلّق بعنوان مع عدم المصداق له خارجاً، كالشكّ في تحقّق شريك الباري. وأمّا جعل الحكم على المشكوك إنّما يكون لغواً إذا لم يكن للحاكم حكم مطلقاً، ولا يلزم أن يكون جعله متأخّراً عن جعل الأحكام الواقعية في مقام تدوين القوانين، بل لازم ما ذكره - من أنّ الشكّ متأخّر عن الجعل - انقلاب الشكّ علماً؛ لأ نّه مع العلم بهذه الملازمة لا يمكن تعلّق الشكّ، ومع الغفلة ينقلب إذا توجّه، مع أنّ تعلّقه مع الغفلة دليل على بطلان ما أفاد. [منه قدّس سرّه ]

ما أفاد قدّس سرّه من قبيل الكرّ على ما فرّ منه(1).

وإن أراد بالتجرّد عدم اللحاظ، فعدم مقسميته لمعلوم الحكم ومشكوكه وعدم ملحوظيته مع العنوان المتأخّر ممنوع؛ لأ نّه محفوظ معه؛ لكونه طبيعة بلا شرط، كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا في الوجهين المتقدّمين يعرف حال سائر الوجوه التي أفادها الأصحاب في الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية، فلا نطيل بالتعرّض لها والنظر فيها.

ص: 176


1- مضافاً إلى أنّ تعلّق الحكم بالموضوع بشرط لا مستلزم لعدم تعلّق الحكم واقعاً على الموضوع المشكوك الحكم، فلا يعقل معه الشكّ في الحكم. ولو جعل بشرط لا من المعلوم أيضاً، فالفساد أفحش. [منه قدّس سرّه ]

القول: في وقوع التعبّد بالظنّ

في وقوع التعبّد بالظنّ

تأسيس الأصل فيما لا يعلم اعتباره

قوله: «ثالثها: أنّ الأصل...»(16).

اعلم أنّ الحجّية: إمّا بمعنى الوسطية في الإثبات والطريقية إلى الواقع، وبهذا المعنى يقال للمعلومات التصديقية الموصلة إلى مجهولاتها: الحجّة والدليل، وإطلاقها على الأمارات باعتبار كونها برهاناً شرعياً أو عقلائياً على الواقع، لا باعتبار صيرورتها بعناوينها وسطاً في الإثبات.

وإمّا بمعنى الغلبة(1) على الخصم وقاطعية العذر وصحّة المؤاخذة والاحتجاج.

وهي بكلا المعنيين ممّا لا تقبل الجعل الابتدائي، ولا ينالها يد استقلال الجعل كما أشرنا إليه سابقاً(2)، وإنّما الممكن ثبوتاً جعل منشأ انتزاعها، والواقع إثباتاً

ص: 177


1- الظاهر أنّ إطلاق الحجّة على الدليل أيضاً بهذه الملاحظة. [منه قدّس سرّه ]
2- تقدّم في الصفحة 161.

- لو بنينا على أنّ الروايات الواردة في بعضها إنّما وردت للجعل والتأسيس - هو جعل وجوب اتّباعها وترتيب آثار الواقع على مؤدّاها على أ نّها هو الواقع. وبالجملة: مفاد الأدلّة هو الأحكام التكليفية لا الوضعية.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص عدم الحجّية، وعدم جواز ترتيب الآثار عليه، وعدم صحّة الاحتجاج به، وهذا واضح.

إنّما الكلام في تحقّق الملازمة بين الحجّية وبين جواز التعبّد وصحّة الانتساب إلى الشارع طرداً وعكساً وعدمه.

والتحقيق: أنّ الحجّية بمعنى الطريقية والوسطية في الإثبات ملازمة لهما طرداً وعكساً؛ ضرورة أ نّه مع قيام الطريق الشرعي تأسيساً أو إمضاءً لا معنى لعدم جواز التعبّد وصحّة الانتساب، ومع عدم الحجّية بهذا المعنى لا معنى لهما.

وأمّا الحجّية بالمعنى الثاني - أي كون الشيء بحيث يصحّ الاحتجاج به، ويكون قاطعاً للعذر - لا تلازمهما؛ فإنّ الظنّ على الحكومة ليس بحجّة بالمعنى الأوّل، ولكنّه حجّة بالمعنى الثاني، ويصحّ الاحتجاج به، ويكون قاطعاً للعذر كما هو واضح، ومع ذلك لا يصحّ معه الانتساب ولا يجوز التعبّد به.

وبما ذكرنا يمكن إيقاع التصالح بين الأعلام؛ لأنّ المنكر للملازمة كالمحقّق الخراساني(1) وشيخنا العلاّمة(2) - أعلى الله مقامهما - فسّراها

ص: 178


1- كفاية الاُصول: 322 - 323.
2- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 356.

بالمعنى الثاني والمثبت لها كالمحقّق المعاصر - على ما في تقريراته(1) - فسّرها بالمعنى الأوّل، تأمّل.

البحث عن قبح التشريع وحرمته

ثمّ إنّ المبحوث عنه في المقام هو تأسيس الأصل فيما لا دليل على اعتباره بالخصوص حتّى يتّبع في موارد الشكّ، كما أفاد المحقّق الخراساني(2)، وأمّا البحث عن قبح التشريع وحرمته والمباحث المتعلّقة به كما فصّل المحقّق المعاصر رحمه الله علیه (3) فهو خارج عمّا نحن فيه، لكنّه لا بأس بالتعرّض لبعض مباحثه تبعاً له؛ ليتّضح بعض جهات الخلط، فنقول:

هاهنا جهات من البحث:

الجهة الاُولى: أنّ التشريع عبارة عن إدخال ما ليس في الشريعة فيها، وهو مساوق للبدعة، وقبحه واضح عقلاً، وحرمته شرعاً كادت أن تكون من الضروريات، ودلّت عليها الآيات(4) والأخبار(5).

وبالجملة: إثبات حرمته لا يحتاج إلى تجشّم استدلال.

ص: 179


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 122 -123.
2- كفاية الاُصول: 322.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 120 - 121.
4- آل عمران (3): 94؛ يونس (10): 59 - 60؛ الأنعام (6): 144؛ الأعراف (7): 37.
5- راجع وسائل الشيعة 16: 267، كتاب الأمر والنهي، أبواب الأمر والنهي، الباب 39 و40.

وأمّا التعبّد بما لا يعلم جواز التعبّد به من قبل الشارع: إن كان المراد منه هو إتيان ما لم يعلم أ نّه من العبادات بعنوان كونه منها، والتعبّد حقيقةً بما لا يعلم أ نّه عبادي، فهو أمر غير ممكن؛ فإنّ التعبّد الحقيقي مع الشكّ في العبادية غير ممكن من المكلّف؛ إذ ليس الالتزامات النفسانية ممّا هي تحت اختيار المكلّف، كما سبق منّا استقصاء الكلام فيه في مباحث القطع(1).

نعم، اختراع بعض العبادات بواسطة الاستحسانات الظنّية - كبعض الأذكار والأوراد من بعض أهل البدع - ممكن، لكنّه بعد حصول مبادئه من الاستحسان والترجيح الظنّي.

وأمّا إسناد ما لم يعلم كونه من الشريعة إليها فأمر ممكن، وهو محرّم شرعاً وقبيح عقلاً، ويدلّ على حرمته - بعد كونه من المسلّمات - الأدلّة الدالّة على حرمة القول بغير علم(2)، بل وأدلّة(3) حرمة الإفتاء والقضاء بغير علم(4). وهذا عنوان آخر غير عنوان التشريع والبدعة، وقد خلط بينهما المحقّق المتقدّم قدّس سرّه

حيث طبّق عنوان التشريع عليه(5).

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ هاهنا عنوانين كلّ واحد منهما محرّم شرعاً وقبيح عقلاً: أحدهما التشريع، والآخر القول بغير علم والإسناد إلى الشارع ما لا يعلم كونه منه.

ص: 180


1- تقدّم في الصفحة 104 - 106.
2- الأعراف (7): 33.
3- راجع وسائل الشيعة 27: 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4.
4- فيه إشكال؛ لأنّ الحكم إنشاء، لا إسناد إلى الشرع. [منه قدّس سرّه ]
5- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 124.

الجهة الثانية: أنّ حكم العقل بقبح التشريع وكذا حكمه بقبح القول بغير علم، ليسا من الاُمور التي لا تنالهما يد الجعل الشرعي، فإذا ورد دليل شرعي على حرمتهما لا يحمل على الإرشاد، كما ذهب إليه المحقّق الخراساني قدّس سرّه (1).

لكن لا يستكشف من نفس الحكم العقلي الخطاب الشرعي بقاعدة الملازمة، كما ذهب إليه بعض مشايخ العصر - على ما في تقريراته(2) - فإنّ مجرّد كون الأحكام العقلية في سلسلة علل الأحكام الراجعة إلى باب التحسين والتقبيح، لا يوجب استتباع الخطاب الشرعي؛ لجواز اتّكاء الشارع فيها إلى الحكم العقلي من دون إنشاء خطاب على طبقها، فغاية ما يمكن دعواه هو الملازمة بين الأحكام العقلية وبين المبغوضية الشرعية أو محبوبيتها في مورد الملازمة، وأمّا كشف الخطاب الشرعي فلا؛ لمكان الاحتمال المتقدّم.

نعم، لو ورد دليل شرعي على الحرمة لا يجوز صرفه عن ظاهره وحمله على الإرشاد؛ لجواز أن يكون ملاكه أقوى ممّا أدركه العقل، فاحتاج إلى تعلّق الخطاب الشرعي، خصوصاً إذا كان على وجه التأكيد.

الجهة الثالثة: الظاهر عدم سراية قبح التشريع إلى الفعل المتشرّع به - بحيث يصير الفعل قبيحاً عقلاً ومحرّماً شرعاً على القول بالملازمة، كما عن الشيخ العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه (3) ومال إليه بعض محقّقي العصر - على ما في تقريرات

ص: 181


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 78.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 121.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 126 - 127.

بحثه(1) - ضرورة أنّ ما هو مناط القبح عند العقل هو نفس عنوان التشريع، سواء كان التشريع عبارةً عن التعبّد والالتزام بما لا يكون في الشريعة أو لا يعلم كونه فيها، أو عبارةً عن الإسناد إلى الشارع والافتراء عليه كذباً أو الإسناد إليه من غير

علم، وعلى أيّ حال لا وجه لتسرية القبح من عنوان إلى عنوان آخر مغاير معه، فالالتزام بحرمة الصلاة الواجبة لا يغيّرها عمّا هي عليه، ولا يصيّرها قبيحة عقلاً؛ لعدم مناط القبح فيها، وهذا واضح جدّاً؛ فإذا كان القبيح عقلاً هو عنوان التشريع لا غير، لا يستكشف من قاعدة الملازمة إلاّ حرمة نفس هذا العنوان، لا عنوان آخر مغاير له؛ لعدم معقولية أوسعية دائرة المنكشف من الكاشف.

وما أفاده المحقّق المتقدّم رحمه الله علیه في وجه السراية - من إمكان كون القصد والداعي من الجهات والعناوين المغيّرة لجهة حسن العمل وقبحه، فيكون الالتزام والتعبّد والتديّن بعمل لا يعلم التعبّد به من الشارع موجباً لانقلاب العمل عمّا هو

عليه، وتطرأ عليه بذلك جهة مفسدة تقتضي قبحه عقلاً وحرمته شرعاً(2) - من عجيب الاستدلال؛ فإنّه استنتج من مجرّد إمكان المقدّمة فعلية الحكم. هب أنّ طريان العناوين على شيء ممّا يمكن أن يغيّر جهاته، فبأيّ دليل تكون هذه العناوين كذلك ؟ !

مضافاً إلى ممنوعية تغيّر جهات الأفعال فيما نحن فيه بواسطة عنوان آخر مغاير له، فما هو القبيح المحرّم هو عنوان الالتزام والتعبّد بما لا يعلم، ونفس

ص: 182


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 121 - 122.
2- نفس المصدر.

الالتزام بشيء لا يوجب قبح ذلك الشيء، كما أنّ نفس الافتراء على الله كذباً لا يوجب قبح متعلّقه، كما لا يخفى. ومجرّد كون القصد في بعض المقامات مغيّراً للجهات لا ينتج كونه مغيّراً فيما نحن فيه، فالكبرى أيضاً ليست كلّية.

وأعجب منه الاستدلال على الحرمة بقوله: «رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم»(1)؛ لدلالته على حرمة القضاء واستحقاق العقوبة عليه، فيدلّ على حرمة نفس العمل(2)؛ فإنّ حرمة القضاء والإفتاء بغير علم وكذا حرمة القول بغير علم ثابتة بلا إشكال وكلام، وليس النزاع فيها، إنّما الكلام في متعلّقاتها لا في نفس عناوينها، كما لا يخفى.

الجهة الرابعة: قد عرفت في أوّل المبحث: أنّ التشريع - أي إدخال ما ليس في الشريعة فيها - قبيح عقلاً ومحرّم شرعاً، وهو عنوان برأسه، كما أنّ القول بغير علم وإسناد ما لا يعلم كونه من الشارع إلى الشارع قبيح ومحرّم. فاعلم الآن أنّ التشريع من العناوين الواقعية التي قد يصيبها المكلّف وقد لا يصيبها، فانسلاك ما هو واجب بحسب الحكم الشرعي في جملة المحرّمات أو غيرها مبغوض عند الشارع، وكذلك العكس، فنفس تغيير القوانين الشرعية والأحكام الإلهية، وإدخال ما ليس في الدين فيه وإخراج ما هو منه عنه، من المبغوضات الشرعية التي قد يتعلّق بها العلم وقد لا يتعلّق.

فالتشريع بهذا المعنى من العناوين الواقعية المبغوضة بمناط خاصّ به، كما أنّ

ص: 183


1- الكافي 7: 407 / 1؛ وسائل الشيعة 27: 22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 6.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 122.

القول بغير علم وإسناد شيء إلى الشارع بلا حجّة أيضاً من العناوين المبغوضة برأسها بمناط خاصّ غير مناط التشريع بالمعنى المتقدّم.

فما أفاد بعض مشايخ عصرنا قدّس سرّه - على ما في تقريرات بحثه -: من أ نّه ليس للتشريع واقع يمكن أن يصيبه المكلّف أو لا يصيبه، بل واقع التشريع هو إسناد الشيء إلى الشارع مع عدم العلم بتشريعه إيّاه، سواء علم المكلّف بالعدم أو ظنّ أو شكّ، وسواء كان في الواقع ممّا شرّعه الشارع أو لم يكن. والحاصل: أنّ للعقل في باب التشريع حكماً واحداً بمناط واحد يعمّ صورة العلم والظنّ والشكّ(1).

ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه؛ فإنّ مفسدة إدخال ما ليس في الدين فيه والتصرّف في حدود الأحكام الشرعية والتلاعب بها، من المستقلاّت العقلية كالظلم، بل هو ظلم على المولى، وله مناط خاصّ به.

نعم، مع عدم علم العبد لا يتّصف هذا التصرّف بالقبح مثل سائر القبائح العقلية، فالتصرّف في أموال الناس وأعراضهم وقتل النفس وغيرها - ممّا هي قبيحة عقلاً ومحرّمة شرعاً - يكون قبحها الفاعلي عند علم الفاعل، لكن الحرمة الشرعية متعلّقة بنفس العناوين الواقعية، ويكون العلم طريقاً إليها، فالعقل يدرك مفسدة هذه العناوين الواقعية، كما أ نّه يدرك مفسدة إدخال ما ليس في الدين فيه وإخراج ما هو منه عنه، والحرمة الشرعية أيضاً متعلّقة بهذا العنوان، وإنّما العلم طريق إليه كما في سائر الموارد، ولا ريب في أنّ لهذا المعنى واقعاً قد يصيبه المكلّف وقد لا يصيبه.

ص: 184


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 124 - 125.

وأمّا القول بغير علم فهو عنوان برأسه في مقابل هذا العنوان، وفي مقابل عنوان الكذب الذي هو الإخبار المخالف للواقع.

والحاصل: أنّ هاهنا ثلاثة عناوين كلّها محرّمة شرعاً بعناوينها: التشريع، والكذب، والقول بغير علم، فإذا صادف القول بغير علم التشريع أو الكذب، ينطبق عليه العنوانان واقعاً، لكنّ خطابي التشريع والكذب قاصران عن شمول مورد الشكّ؛ لأنّ الشبهة مصداقية للعامّ، كما هو واضح.

تتمّة: في جريان استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها

في جريان استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها

قد عرفت: أنّ الأصل عدم حجّية الأمارات عند الشكّ في اعتبارها، وقد يقرّر الأصل بوجه آخر وهو استصحاب عدم الحجّية.

ومنع الشيخ قدّس سرّه من جريانه؛ لعدم ترتّب الأثر العملي على مقتضى

الاستصحاب؛ لأنّ نفس الشكّ في الحجّية موضوع لحرمة التعبّد، ولا يحتاج إلى إحراز عدم ورود التعبّد بالأمارة.

وحاصله: أنّ الاستصحاب إنّما يجري فيما إذا كان الأثر مترتّباً على الواقع المشكوك فيه، لا على نفس الشكّ(1)، انتهى.

وردّه المحقّق الخراساني(2) بوجهين:

ص: 185


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 127 - 128.
2- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 80 - 81.

أحدهما: أنّ الحجّية من الأحكام الوضعية، وجريان الاستصحاب - وجوداً وعدماً - فيها لا يحتاج إلى أثر آخر وراءها، كاستصحاب عدم الوجوب والحرمة.

وثانيهما: لو سلّم الاحتياج إلى الأثر، فحرمة التعبّد كما تكون أثراً للشكّ في الحجّية تكون أثراً لعدم الحجّية واقعاً، فيكون الشكّ في الحجّية مورداً لكلّ من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشكّ، ويقدّم الاستصحاب على القاعدة؛ لحكومته عليها، كحكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها.

هذا حاصل ما لخّصه بعض المحقّقين المعاصرين من كلامهما على ما في تقريراته(1).

وردّ المحقّق المعاصر رحمه الله علیه الوجهين بما ملخّصه:

أمّا الوجه الأوّل: أنّ الاستصحاب من الاُصول العملية، ولا يجري إلاّ إذا كان في البين عمل، وما اشتهر: أنّ الاُصول الحكمية لا تتوقّف على الأثر، إنّما هو فيما إذا كان المؤدّى بنفسه من الآثار العملية، لا مطلقاً.

والحجّية وإن كانت من الأحكام الوضعية المجعولة، إلاّ أ نّها بوجودها الواقعي لا يترتّب عليها أثر عملي، والآثار المترتّبة عليها: منها ما يترتّب عليها بوجودها العلمي؛ ككونها منجّزةً للواقع عند الإصابة وعذراً عند المخالفة، ومنها ما يترتّب على نفس الشكّ في حجّيتها، كحرمة التعبّد بها وعدم جواز إسنادها إلى الشارع، فليس لإثبات عدم الحجّية أثر إلاّ حرمة التعبّد بها، وهو حاصل

ص: 186


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 126 - 127.

بنفس الشكّ في الحجّية وجداناً، فجريان الأصل لإثبات هذا الأثر أسوأ حالاً من تحصيل الحاصل؛ للزوم إحراز ما هو محرز وجداناً بالتعبّد(1).

وأمّا الوجه الثاني بقوله: وأمّا ما أفاده ثانياً من أنّ حرمة التعبّد بالأمارة تكون أثراً للشكّ في الحجّية ولعدم الحجّية واقعاً، وفي ظرف الشكّ يكون الاستصحاب حاكماً على القاعدة المضروبة له. ففيه: أ نّه لا يعقل أن يكون الشكّ في الواقع موضوعاً للأثر الشرعي في عرض الواقع، مع عدم جريان الاستصحاب على هذا الفرض أيضاً؛ لأنّ الأثر يترتّب بمجرّد الشكّ؛ لتحقّق موضوعه، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب؛ ولا تصل النوبة إلى إثبات الواقع ليجري الاستصحاب؛ فإنّه في الرتبة السابقة على هذا الإثبات تحقّق موضوع الأثر، وترتّب عليه الأثر، فأيّ فائدة في جريان الاستصحاب ؟ !

وحكومة الاستصحاب على القاعدة إنّما تكون فيما إذا كان ما يثبته الاستصحاب غير ما تثبته القاعدة، كقاعدة الطهارة والحلّ واستصحابهما؛ فإنّ القاعدة لا تثبت الطهارة والحلّية الواقعية، بل مفادهما حكم ظاهري، بخلاف الاستصحاب، وقد يترتّب على بقاء الطهارة والحلّية الواقعية غير جواز الاستعمال وحلّية الأكل، وعلى ذلك يبتني جوازُ الصلاة في أجزاء الحيوان الذي شكّ في حلّيته إذا جرى استصحاب الحلّية، كما [إذا] كان الحيوان غنماً فشكّ في مسخه إلى الأرنب، وعدمُ جواز الصلاة في أجزائه إذا لم يجر الاستصحاب وإن جرت فيه أصالة الحلّ، فإنّها لا تثبت الحلّية الواقعية.

ص: 187


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 127 - 129.

وكذا الكلام في قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب؛ فإنّه في مورد جريان القاعدة لا يجري الاستصحاب وبالعكس، فالقاعدة تجري في مورد العلم الإجمالي عند خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء بالامتثال ونحوه، والاستصحاب يجري عند الشكّ في فعل المأمور به، وأين هذا ممّا نحن فيه؛ ممّا كان الأثر المترتّب على الاستصحاب عين الأثر المترتّب على الشكّ ؟! فالإنصاف: أ نّه لا مجال لتوهّم جريان استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها(1)،

انتهى.

أقول: قد عرفت سابقاً أنّ التشريع وإدخال شيء في الشريعة وتبديل الأحكام بعضها ببعض والتلاعب بها، ممّا هو مبغوض عند الشرع ومحرّم واقعي، علم المكلّف أو لا، وهذا عنوان برأسه، كما أنّ القول بغير علم ونسبة شيء إلى الشارع بلا حجّة قبيح عقلاً ومحرّم آخر شرعي بمناط خاصّ به، فالشكّ في الحجّية - كما أ نّه موضوع لحرمة التعبّد وحرمة الانتساب إلى الشارع - موضوع لاستصحاب عدم الحجّية وحرمة التشريع وإدخال ما ليس في الدين فيه، ويكون الاستصحاب حاكماً على القاعدة المضروبة للشكّ؛ لإزالته تعبّداً(2).

ص: 188


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 130 - 132.
2- بمعنى أ نّه مع استصحاب عدم جعل الحجّية وعدم كون الشيء الفلاني من الدين، يخرج الموضوع عن القول بغير العلم؛ لأنّ المراد من القول بغير العلم هو القول بغير حجّة؛ ضرورة أنّ الإفتاء بمقتضى الأمارة والاُصول والنسبة إلى الشارع، مقتضاهما غير محرّم وغير داخل في القول بغير علم، فحينئذٍ: لا تكون النسبة مع استصحاب العدم نسبة بغير حجّة، بل نسبة مع الحجّة على العدم، وهو كذب وافتراء وبدعة، وتكون حرمته لأجل انطباق هذه العناوين عليه، لا عنوان القول بغير علم. و توهّم مثبتية الأصل في غير محلّه، كما لا يخفى على المتأمّل. ولو نوقش فيه فلا يلزم إثبات تلك العناوين، بل مع استصحاب عدم كون شيء من الشارع يكون حكمه حرمة الانتساب إليه، كاستصحاب عدالة زيد حيث يكون حكمه صحّة الاقتداء به. [منه قدّس سرّه ]

ومن ذلك يعلم ما في كلام هؤلاء الأعلام قدّس سرّه من الخلط، إلاّ أن يرجع كلام المحقّق الخراساني قدّس سرّه في الوجه الثاني إلى ما ذكرنا، وهو بعيد.

وأمّا ما يرد على المحقّق النائيني - مضافاً إلى ما ذكره الفاضل المقرّر رحمه الله علیه في وجه التأمّل في المقام(1) - اُمور:

الأوّل: أنّ ما ذكر أنّ جريان الاستصحاب تحصيل الحاصل بل أسوأ منه، فيه: أنّ حرمة التشريع لا تحصل بنفس الشكّ، بل ما يحصل بنفسه هو حرمة القول بغير علم والتعبّد بما لا يعلم، وهو أمر آخر غير التشريع، كما عرفت.

والثاني: أ نّه لا دليل على عدم معقولية كون الشكّ في الواقع موضوعاً للأثر في عرض الواقع، وإنّما هو دعوى خالية من البرهان مع جعلين مستقلّين.

والثالث: أنّ ما أفاد من أنّ الشكّ في الرتبة السابقة على الاستصحاب يترتّب عليه الأثر، فلا يبقى مجال لجريانه، يرد عليه: أ نّه ليس رتبة الشكّ - الذي هو موضوع للقاعدة - متقدّمة على ما هو موضوع الاستصحاب، بعد ما كان الأثر مترتّباً على الواقع كما هو المفروض، لا على العلم بعدم الواقع حتّى يكون تحقّق هذا العنوان تعبّداً في الرتبة المتأخّرة عن جريان الاستصحاب، فالشكّ في الرتبة

ص: 189


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 129، الهامش 1.

الواحدة موضوع لهما بلا تقدّم وتأخّر أصلاً(1).

وتقدّمه على إثبات الحكم الاستصحابي لا يمنع عن جريانه؛ ضرورة تقدّم كلّ موضوع على حكمه، فكما أ نّه مقدّم على هذا الإثبات كذلك مقدّم على حكم الشكّ في القاعدة، فالشكّ في الرتبة السابقة على الحكمين موضوع لهما. نعم، لمّا كان جريان الاستصحاب رافعاً لموضوع القاعدة حكماً يتقدّم عليها، وهو واضح.

والرابع: أنّ ما أفاد في وجه الفرق بين قاعدة الطهارة والحلّية واستصحابهما في جواز الصلاة في مشكوكهما، يرد عليه: أنّ اعتبار الطهارة والحلّية بحسب الأدلّة الأوّلية وإن كان بوجودهما الواقعي، لكن أدلّة أصالتي الطهارة والحلّية - التي مفادها هو ترتيب آثار الواقع على المشكوك - يستفاد منها التعميم بالحكومة بلا إشكال وريب.

نعم، فيما إذا شكّ في مسخ الغنم بالأرنب يقدّم الاستصحاب الموضوعي على القاعدة وعلى الاستصحاب الحكمي، وهذا أمر آخر غير مربوط بما نحن بصدده.

والخامس: أنّ ما أفاد من عدم جريان الاستصحاب في مورد قاعدة الاشتغال وبالعكس؛ إن ادّعى الكلّية ففيه منع واضح، وإن ادّعى في بعض الموارد - التي تختلّ [فيها] أركان الاستصحاب مثلاً - فهو خارج عن الموضوع، كما أنّ عدم جريان الاستصحاب في المثال الذي ذكره لعلّه لاختلال بعض أركانه.

وأمّا عدم جريان القاعدة في حدّ نفسها عند الشكّ في فعل المأمور به فممنوع.

ص: 190


1- بناءً على أنّ المجعول في الاستصحاب هو الجري العملي، كما هو مبناه. [منه قدّس سرّه ]

فصل: في حجّية الظواهر

في حجّية الظواهر

قوله: «لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع»(17).

أقول: لا بدّ لإثبات الحكم الشرعي من طيّ مراحل، كإثبات أصل الصدور، والمتكفّل به كبروياً هو بحث حجّية الخبر الواحد، وصغروياً هو علم الرجال وأسانيد الروايات، وكإثبات الظهور، والمتكفّل به هو الطرق التي تثبت بها الظهورات، كالتبادر وصحّة السلب وأمثالهما، وكقول اللغويين ومهرة الفنّ وإثبات حجّية قولهم، وكإثبات كون الظهورات - كتاباً وسنّة - مرادة استعمالاً، وكإثبات جهة الصدور، ويقال له: أصل التطابق.

ولا إشكال ولا كلام في أنّ بناء العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات الاستعمالية، فاللفظ الصادر من المتكلّم - بما أ نّه فعل له كسائر أفعاله - يدلّ بالدلالة العقلية - لا الوضعية - على أنّ فاعله مريد له، وأنّ مبدأ صدوره هو اختياره وإرادته، كما أ نّه يدلّ بالدلالة العقلية أيضاً على أنّ صدوره يكون لغرض الإفادة، ولا يكون لغواً، كما أ نّه يدلّ بهذه الدلالة على أنّ قائله أراد إفادة

ص: 191

مضمون الجملة خبرياً أو إنشائياً، لا الفائدة الاُخرى، وتدلّ مفردات كلامه من حيث إنّها موضوعة، على أنّ المتكلّم به أراد منها المعاني الموضوعة لها، ومن حيث إنّه كلام مركّب من ألفاظ وله هيئة تركيبية، على أ نّه أراد ما هو الظاهر منه وما هو المتفاهم العرفي لا غيره، ويدلّ أيضاً على أنّ المتكلّم المريد بالإرادة الاستعمالية ما هو الظاهر من المفردات والهيئة التركيبية، أراد ذلك بالإرادة الجدّية؛ أي تكون إرادته الاستعمالية مطابقة لإرادته الجدّية.

وكلّ هذه دلالات عقلية يدلّ عليها بناء العقلاء في محاوراتهم، والخروج عنها خروج عن طريقتهم، ويحتجّون [بها] على غيرهم في كلّ من تلك المراحل، ولا يصغون إلى دعوى المخالفة، وهذا واضح.

إنّما الكلام في أنّ حجّية الظهورات إنّما هي من أجل أصالة الحقيقة، أو أصالة عدم القرينة، أو أصالة الظهور، أو أنّ لهم في كلّ مورد أصلاً برأسه، فمع الشكّ في وجود القرينة تجري أصالة عدم القرينة، وبعدها تجري أصالة الحقيقة، وفي بعض الموارد تجري أصالة الظهور، مثل الظهورات المنعقدة للمجازات عند احتمال إرادة خلاف ظاهرها؛ فإنّه لا يجري فيها أصالة الحقيقة، وهو ظاهر، ولا أصالة عدم القرينة إذا لم يكن الشكّ من جهة وجودها، وفي بعض الموارد تجري أصالة العموم، وفي بعضها أصالة الإطلاق.

وبالجملة: هل للعقلاء اُصول كثيرة، كأصالة الحقيقة، وعدم القرينة، والظهور، والعموم، والإطلاق، وكلّ منها مورد بناء العقلاء برأسه، أو لا يكون عندهم إلاّ أصل واحد هو مبناهم في جميع المراحل ؟ وما هو هذا الأصل ؟

الظاهر - بعد التدبّر والتأمّل في طريقة العقلاء في محاوراتهم ومراسلاتهم -

ص: 192

أنّ ما هو مأخذ احتجاج بعضهم على بعض هو الظهورات المنعقدة للكلام، سواء كانت في باب الحقائق والمجازات، أو العمومات والإطلاقات، ولا يكون مستندهم إلاّ الظهور في كلّية الموارد، والمراد منها هو أنّ بناء العقلاء تحميل ظاهر كلام المتكلّم عليه والاحتجاج عليه، وتحميل المتكلّم ظاهر كلامه على المخاطب واحتجاجه به(1) وهذا أمر متّبع في جميع الموارد، ومستنده أصالة

العموم والإطلاق وأصالة الحقيقة. والظاهر أنّ أصالة عدم القرينة أيضاً ترجع إلى أصالة الظهور؛ أي العقلاء يحملون الكلام على ظاهره حتّى تثبت القرينة، ولهذا تتّبع الظهورات مع الشكّ في قرينية الموجود ما دام كون الظهور باقياً.

وبالجملة: المتّبع هو الظهور المنعقد للكلام وإن شكّ في قرينية الموجود ما لم ينثلم الظهور.

وبالجملة: لا إشكال في حجّية الظواهر، من غير فرق بين ظواهر الكتاب وغيره، ولا بين كلام الشارع وغيره، ولا بالنسبة إلى من قصد إفهامه وغيره.

لكن في المقام خلافان:

أحدهما من المحقّق القمّي رحمه الله علیه : حيث فصّل بين من قصد إفهامه وغيره(2).

ولا ريب في ضعفه؛ فإنّ دعواه ممنوعة صغرى وكبرى؛ ضرورة أنّ بناء العقلاء على العمل بالظواهر مطلقاً. نعم، لو اُحرز من متكلّم أ نّه كان بينه وبين مخاطب خاصّ مخاطبة خاصّة على خلاف متعارف الناس، وكان من بنائه

ص: 193


1- قد حقّقنا المقام في الدورة اللاحقة، فراجع أ. [منه قدّس سرّه ] أ - راجع تهذيب الاُصول 2: 414.
2- قوانين الاُصول 1: 229 / السطر 16، و: 398 / السطر 23.

التكلّم معه بالرمز، لم يجز الأخذ بظاهر كلامه، والمدّعي إن أراد ذلك فلا كلام، وإلاّ فطريقة العقلاء على خلاف دعواه.

مع أ نّه لو سلّم ذلك، فلنا أن نمنع الصغرى بالنسبة إلى الأخبار الصادرة عن

المعصومين علیهم السلام ، فإنّهم بما هم مبيّنو الأحكام وشأنهم بثّ الأحكام الإلهية في الأنام، لا يكون كلامهم إلاّ مثل الكتب المؤلّفة التي لا يكون المقصود منها إلاّ نفس مفاد الكلام من غير دخالة إفهام متكلّم خاصّ، كما لو فرضنا أنّ متكلّماً يخاطب شخصاً خاصّاً - في مجلس فيه جمع كثير - بخطاب مربوط بجميعهم، ولا يكون للمخاطب خصوصية في خطابه، لا يمكن أن يقال: إنّ ظاهر كلامه لا يكون حجّة بالنسبة إليهم، وإن فرّقنا بين من قصد إفهامه وغيره؛ لأنّ في مثل المورد لا يكون المخاطب ممّن قصد إفهامه دون غيره.

و معلوم أنّ أئمّتنا المعصومين علیهم السلام وإن كان مخاطبتهم مع أشخاص خاصّة، لكن لغرض بثّ الأحكام الإلهية في الأنام، وإفادة نفس مضمون الكلام بما أ نّه تكليف عامّ للناس من غير خصوصية للمخاطب أصلاً، ولهذا كثير من رواياتهم المنقولة إلينا يكون من غير المخاطب بالكلام، كقول بعضهم مثلاً: كنت عند أبي عبدالله علیه السلام فسأله رجل عن كذا، فقال له: كذا، والرواة كانوا يأخذون هذا الحكم منه من غير نكير، ولم يكن هذا إلاّ لبنائهم - بما أ نّهم عقلاء - على العمل بالظواهر من غير فرق بينها، وهذا واضح.

وثانيهما: مقالة الأخباريين بالنسبة إلى ظواهر الكتاب المجيد(1)،

ص: 194


1- راجع هداية الأبرار: 155؛ الفوائد الطوسية: 163؛ الدرر النجفية: 169.

واستدلّوا على ذلك بوجوه:

منها: وقوع التحريف في الكتاب حسب أخبار كثيرة، فلا يمكن التمسّك به؛ لعروض الإجمال بواسطته عليه(1).

وهذا ممنوع بحسب الصغرى والكبرى:

أمّا الاُولى: فلمنع وقوع التحريف فيه جدّاً، كما هو مذهب المحقّقين من علماء العامّة والخاصّة، والمعتبرين من الفريقين، وإن شئت شطراً من الكلام في هذا المقام فارجع إلى مقدّمة تفسير آلاء الرحمن للعلاّمة البلاغي المعاصر قدّس سرّه (2).

وأزيدك توضيحاً: أ نّه لو كان الأمر كما توهّم صاحب «فصل الخطاب» الذي كان كتبه لا يفيد علماً ولا عملاً، وإنّما هو إيراد روايات أعرض عنها الأصحاب، واختلاط ضعاف بين الروايات بعد تنزيهها عنها اُولو الألباب من قدماء أصحابنا كالمحمّدين الثلاثة المتقدّمين رحمهما اللّه .

هذا حال كتب روايته غالباً ك- «المستدرك»، ولا تسأل عن سائر كتبه المشحونة بالقصص والحكايات الغريبة التي غالبها بالهزل أشبه منه بالجدّ، وهو رحمه الله علیه شخص صالح متتبّع، إلاّ أنّ اشتياقه لجمع الضعاف والغرائب والعجائب وما لا يقبلها العقل السليم والرأي المستقيم، أكثر من الكلام النافع، والعجب من معاصريه من أهل اليقظة ! كيف ذهلوا وغفلوا حتّى وقع ما وقع ممّا بكت عليه السماوات، وكادت تتدكدك على الأرض ؟ !

ص: 195


1- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 158؛ كفاية الاُصول: 328؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 364؛ نهاية الأفكار 3: 91.
2- آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 61.

وبالجملة: لو كان الأمر كما ذكره هذا وأشباهه، من كون الكتاب الإلهي مشحوناً بذكر أهل البيت وفضلهم، وذكر أميرالمؤمنين وإثبات وصايته وإمامته، فلِمَ لم يحتجّ بواحد من تلك الآيات النازلة والبراهين القاطعة من الكتاب الإلهي أميرُالمؤمنين، وفاطمة، والحسن، والحسين علیهم السلام وسلمان، وأبوذرّ، ومقداد، وعمّار، وسائر الأصحاب الذين لا يزالون يحتجّون على خلافته علیه السلام (1) ؟ !

ولمَ تشبّث علیه السلام بالأحاديث النبوية(2)، والقرآن بين أظهرهم ؟ !

ولو كان القرآن مشحوناً باسم أميرالمؤمنين وأولاده المعصومين وفضائلهم وإثبات خلافتهم، فبأيّ وجه خاف النبي صلی الله علیه و آله وسلم في حجّة الوداع آخر سنين عمره الشريف وأخيرة نزول الوحي الإلهي من تبليغ آية واحدة مربوطة بالتبليغ، حتّى ورد أنّ )الله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ((3) ؟ !

ولِمَ احتاج النبي صلی الله علیه و آله وسلم إلى دواة وقلم حين موته(4) للتصريح باسم علي علیه السلام ؟ ! فهل رأى أنّ لكلامه أثراً فوق أثر الوحي الإلهي ؟ !

وبالجملة: ففساد هذا القول الفظيع والرأي الشنيع أوضح من أن يخفى على ذي مسكة، إلاّ أنّ هذا الفساد قد شاع على رغم علماء الإسلام وحفّاظ شريعة سيّد الأنام.

وأمّا الكبرى: فلأنّ التحريف - على فرض وقوعه - إنّما وقع في غير آيات

ص: 196


1- راجع الاحتجاج 1: 186.
2- راجع الاحتجاج 1: 183 و320.
3- المائدة (5): 67.
4- راجع صحيح البخاري 9: 774 / 2169؛ المسند، أحمد بن حنبل 3: 309 / 2992.

الأحكام ممّا هو مخالف لأغراضهم الفاسدة، ولو احتمل كونها طرفاً للاحتمال أيضاً فلا إشكال في عدم تأثير العلم الإجمالي. ودعوى العلم بالوقوع فيها بالخصوص مجازفة واضحة.

ومنها: العلم الإجمالي بوقوع التخصيص والتقييد في العمومات والمطلقات الكتابية، والعلم الإجمالي يمنع عن التمسّك بأصالة الظهور(1).

ومنها: الأخبار الناهية عن العمل بالكتاب(2).

ومنها: غير ذلك(3).

ولقد أجاب عنها الأصحاب، فلا داعي للتعرّض لها.

هذا كلّه ممّا يتعلّق بحجّية الظواهر.

ص: 197


1- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم، 24: 149؛ كفاية الاُصول: 325.
2- اُنظر فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 139؛ كفاية الاُصول: 325.
3- راجع كفاية الاُصول: 324 - 325.

فصل: في البحث عمّا يتعيّن به الظاهر

اشارة

في البحث عمّا يتعيّن به الظاهر

وأمّا ما يتعلّق بتشخيص الظاهر فبعض المباحث منها مربوط بمباحث الألفاظ، وما يتعلّق بما نحن فيه فالعمدة هو دعوى حجّية قول اللغوي ومهرة الفنّ.

حجّية قول اللغوي

وقد استدلّ على حجّيته: بأنّ اللغوي من أهل الخبرة، وبناء العقلاء الرجوع إلى أهل الصناعات وأصحاب الخبرة في صناعاتهم ومورد خبرويتهم ؛ فإنّ رجوع الجاهل إلى العالم ارتكازي، وبناء العقلاء عليه ممّا لا ريب فيه ولا إشكال يعتريه، والشارع الصادع لم يردع عنه، فيتمّ القول بالحجّية.

كما أنّ الأمر كذلك في باب التقليد؛ فإنّه أيضاً من باب رجوع الجاهل بالصنعة إلى العالم بها، الذي تدور عليه رحى سياسة المدن وحياة المجتمع، كما لا يخفى.

ص: 198

وأمّا الإجماع والانسداد فليسا بشيء.

وأمّا الجواب عن هذا الدليل:

أمّا أوّلاً: فبمنع كون اللغويين من أهل خبروية تشخيص الحقائق من المجازات، وهذه كتبهم بين أيدينا ليس فيها أثر لذلك، ولا يدّعي لغوي - فيما نعلم - أ نّه من أهل الخبرة بذلك، وإنّما هم يتفحّصون عن موارد الاستعمالات.

لا يقال: الاستعمال يثبت بقول اللغوي؛ فإنّه [من] أهل الخبرة بموارد الاستعمال، وهو مع أصالة الحقيقة يتمّ المطلوب.

فإنّه يقال: الاستعمال أعمّ من الحقيقة، خلافاً للسيّد المرتضى رحمه الله علیه (1).

وأمّا ثانياً: فعلى فرض كونه [من] أهل الخبرة، فمجرّد بناء العقلاء على العمل بقولهم لا ينتج، إلاّ أن ينضمّ إليه عدم ردع الشارع الكاشف عن رضاه، وليس هاهنا كلام صادر من الشارع يدلّ على جواز رجوع الجاهل إلى العالم، حتّى نتمسّك بإطلاقه أو عمومه في موارد الشكّ، وإنّما يجوز التشبّث ببناء العقلاء وعدم الردع فيما إذا اُحرز كون بناء العقلاء في المورد المشكوك متّصلاً بزمن الشارع ولم يردع عنه، مثل بنائهم على العمل بخبر الواحد واليد وأصالة الصحّة؛ فإنّه لا إشكال في اتّصال عملهم في تلك الموارد إلى زمان الشارع، ولكن فيما إذا لم يكن كذلك أو لم يحرز كونه كذلك لا يفيد مجرّد بنائهم.

ص: 199


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 13.

وبناء العقلاء على العمل بقول أهل الصناعة ومهرة كلّ فنّ إنّما هو أمر لبّي لا لفظ فيه، كما هو واضح.

إذا عرفت ذلك: يتّضح لك الإشكال في حجّية قول اللغوي(1)، وفي مثله لا يجوز التشبّث بما ذكر، كما لا يخفى على المتأمّل.

ومن ذلك يمكن الخدشة - في باب التقليد أيضاً - في التمسّك بهذا الدليل؛ لاحتمال أن يكون الاجتهاد - بهذا المعنى المتعارف في هذه الأزمنة - حادثاً بعد غروب شمس الولاية فداه مهجتي.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّه يظهر من أخبار أهل البيت أنّ الاجتهاد والفتوى كان في زمنهم وبين أجلّة أصحابهم أمراً معمولاً به، كما لا يبعد(2).

ص: 200


1- لعدم إحراز رجوع الناس إلى أهل صناعة اللغة في زمن المعصوم عليه السلام بحيث اُحرز كون اتّكائهم في العمل على قوله محضاً، كالراجع إلى الطبيب والفقيه. وأمّا الرجوع إليه لتشخيص المعنى اللغوي بمناسبة سائر الجمل - كما في رجوعنا إلى اللغة - فلا يكون محطّ البحث ولا مفيداً للمدّعى، فصرف إثبات تدوين اللغة في تلك الأزمنة - بل صرف الرجوع إليها - لا يفيد. وبالجملة فرق بين الرجوع إليها وإلى الطبيب والفقيه ونحوهما ممّا لا نظر للمراجع في صنعتهما، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ]
2- وقد أثبتنا ذلك في بحث الاجتهاد والتقليد أ، فراجع. [منه قدّس سرّه ] أ - الاجتهاد والتقليد، الإمام الخميني قدّس سرّه : 49.

فصل: في حجّية الإجماع المنقول

في حجّية الإجماع المنقول

قوله: «الإجماع المنقول»(18).

أقول: تحقيق المقام يتمّ برسم اُمور:

الأمر الأوّل: الظاهر أنّ انسلاك الإجماع في سلك الأدلّة وعدّه في مقابلها إنّما نشأ من العامّة، وقد عرّفوه بتعاريف:

فعن الغزالي: أ نّه اتّفاق اُمّة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم على أمر من الاُمور الدينية(1).

وعن الرازي: أ نّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من اُمّة محمّد صلی الله علیه و آله وسلم على أمر من الاُمور(2).

وعن الحاجبي: أ نّه اجتماع المجتهدين من هذه الاُمّة في عصر على أمر(3).

والظاهر أنّ مستندهم في حجّيته ما نقلوا عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم : «لا تجتمع اُمّتي

ص: 201


1- المستصفى من علم الاُصول 1: 173.
2- المحصول في علم اُصول الفقه 3: 770.
3- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 122.

على الضلالة»(1) ولعلّ الغزالي نظر إلى ظاهر الرواية فعرّفه بما عرّفه، والرازي وغيره لمّا رأوا أنّ ذلك ينافي مقصدهم الأصيل - من إثبات خلافة مشايخهم - أعرضوا عن تعريف الغزالي، مع أنّ الإجماع - بأيّ معنى كان - لم يتحقّق على خلافة أبي بكر؛ لمخالفة كثير من أهل الحلّ والعقد وأصحاب محمّد صلی الله علیه و آله وسلم (2).

وبالجملة: الإجماع عندهم دليل برأسه في مقابل الكتاب والسنّة والعقل.

وأمّا عندنا فهو ليس دليلاً برأسه في مقابل السنّة، بل هو عبارة عن قول جماعة يستكشف منه قول المعصوم علیه السلام أو رضاه.

وبالجملة: ما هو الحجّة هو رأيه علیه السلام وتدور الحجّية مداره، سواء استكشف من اتّفاق الكلّ، أو اتّفاق جماعة يستكشف منه ذلك، وليس نفس اجتماع الآراء حجّة كما يكون عند العامّة.

فتحصّل من ذلك: أنّ الإجماع - اصطلاحاً ومناطاً - عند العامّة غيره عندنا.

والظاهر أنّ عدّ أصحابنا الإجماع في الأدلّة لمحض تبعية العامّة، وإراءة أنّ لنا أيضاً نصيباً من هذا الدليل؛ فإنّ اتّفاق الاُمّة لمّا كان المعصوم أحدهم حجّة عندنا، واتّفاق أهل الحلّ والعقد لمّا يستكشف منه قول الإمام - لطفاً أو حدساً أو كشفاً عن دليل معتبر - حجّة، وإلاّ لم يكن لنفس الإجماع واجتماع الآراء عندنا استقلال بالدليلية.

وكثرة دعوى الإجماع من قدماء أصحابنا، كابن زُهرة في «الغنية» والشيخ وأمثالهما، إنّما هي لأجل تمامية مناط الإجماع عندهم؛ وهو العثور على الدليل

ص: 202


1- سنن ابن ماجة 2: 1303 / 3950.
2- اُنظر العقد الفريد 5: 17.

المعتبر الكاشف عن رأي الإمام، ولا ينافي هذا الإجماع خلافية المسألة، كما يظهر من اُصول «الغُنية»(1)، فراجع.

الأمر الثاني: أدلّة حجّية خبر الثقة - من بناء العقلاء والكتاب والسنّة - لو تمّت دلالتها إنّما تدلّ على حجّيته بالنسبة إلى الأمر المحسوس، أو الغير المحسوس الذي يعدّ عند العرف كالمحسوس؛ لقربه إلى الحسّ، وفي المحسوس أيضاً إذا كان المخبر به أمراً غريباً غير عادي تكون أدلّتها قاصرة عن إفادة حجّيته؛ لعدم إحراز بناء العقلاء وقصور دلالة غيره عليها.

ومن ذلك يعرف: أنّ نقل قول شخص الإمام بالسماع منه علیه السلام في زمان الغيبة الكبرى - إمّا بنحو الدخول في المجمعين مع عدم معرفة شخصه، أو معها - لا يعبأ به، ولا دليل على حجّيته.

وإن شئت قلت: احتمال تعمّد الكذب لا يدفع بأدلّة حجّية الخبر، كما أنّ أصالة عدم الخطأ - التي هي من الاُصول العقلائية - لا تجري في الاُمور الغريبة الغير العادية. فمن ادّعى أ نّه تشرّف بحضوره لا يمكن إثبات دعواه بمجرّد أدلّة حجّية خبر الواحد، إلاّ أن تكون في البين شواهد ودلائل اُخرى(2).

الأمر الثالث: أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد بالنسبة إلى الكاشف حجّة إذا كان له أثر عملي، وأمّا بالنسبة إلى المنكشف فليس بحجّة؛ فإنّه أمر غير محسوس اجتهادي ولا تنهض أدلّة حجّيته على ذلك.

ص: 203


1- غنية النزوع 2: 384.
2- ولهذا ورد الأمر بتكذيب مدّعي الملاقاةأ. [منه قدّس سرّه ] أ - الغيبة، الطوسي: 395 / 365؛ الاحتجاج 2: 556 / 349.

وما قيل: إنّه وإن كان غير محسوس إلاّ أنّ مبادئه محسوسة، كالإخبار بالعدالة والشجاعة(1).

فيرد عليه: أنّ العدالة والشجاعة وأمثالهما من المعقولات القريبة من الحسّ، مع أنّ العدالة تثبت بحسن الظاهر تعبّداً بحسب الدليل الشرعي، فتصير من الاُمور التي تقبل الشهادة بالنسبة إليها، وأمّا الكشف عن رأي الإمام من قول المجمعين فليس سبيله كسبيلها؛ لأنّ للنظر والاجتهاد فيه مجالاً واسعاً.

الأمر الرابع: بما ذكرنا في بعض المقدّمات يعرف موهونية الإجماع على طريقة الدخول.

وأمّا على طريقة اللطف فهو أيضاً كذلك؛ لممنوعية قاعدته.

وأمّا الحدس برأي الإمام ورضاه - بدعوى الملازمة العادية بين اتّفاق المرؤوسين على شيء وبين رضا الرئيس به(2) - فهو قريب جدّاً؛ ضرورة أنّ من ورد في مملكة، فرأى في كلّ بلد وقرية وكورة وناحية منها أمراً رائجاً بين أجزاء الدولة - كقانون النظام مثلاً - يحدس حدساً قطعياً بأنّ هذا قانون المملكة، وممّا يرضى به رئيس الدولة.

فلا يصغى إلى ما أفاد بعض محقّقي العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - من أنّ اتّفاقهم على أمر: إن كان نشأ عن تواطئهم على ذلك كان لتوهّم الملازمة العادية بين إجماع المرؤوسين ورضا الرئيس مجال، وأمّا إذا اتّفق الاتّفاق

ص: 204


1- نهاية الأفكار 3: 97.
2- نفس المصدر.

بلا تواطؤ منهم فهو ممّا لا يلازم عادةً رضا الرئيس، ولا يمكن دعوى الملازمة(1)، انتهى.

فإنّه من الغرائب؛ ضرورة أولوية إنكار الملازمة في صورة تواطئهم على شيء؛ لإمكان أن يكون تواطؤهم عليه معلّلاً بأمر غير ما هو الواقع، وأمّا مع عدمه فلا احتمال في البين، ويكشف قطعاً عن الرضا.

هذا، كما أنّ دعوى كشف اتّفاقهم - بل الاشتهار بين متقدّمي الأصحاب - عن دليل معتبر قريبة جدّاً.

فمناط حجّية الإجماع - على التحقيق - هو الحدس القطعي برضا الإمام، أو الكشف عن دليل معتبر لم نعثر عليه.

إن قلت: دعوى الكشف عن الدليل المعتبر عند المجمعين وإن كانت قريبة(2) لكن يمكن أن يكون الدليل المنكشف دالاًّ عندهم على الحكم المفتى به، لا عندنا؛ لاختلاف الأنظار في فهم الظهورات.

قلت: كلاّ، بل الدعوى: أ نّه كشف عن دليل لو عثرنا عليه لفهمنا منه ذلك

ص: 205


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 150 - 151.
2- بل الكشف عن الدليل المعتبر اللفظي بعيد، لبعد عثور أرباب الجوامع - كالكليني والصدوق والشيخ - على رواية قابلة للاعتماد عليها وعدم نقلها، بل امتناع ذلك عادة، واحتمال وجدانهم في كتاب وفقدانه أبعد. بل الإجماع أو الشهرة القديمة، لوتحقّقا يحدس الفقيه بكون الفتوى معروفة في زمن الأئمّة والحكم ثابتاً، بحيث لا يرون أصحاب الاُصول والكتب حاجة إلى السؤال من الإمام عليه السلام فلم يسألوا؛ لاشتهاره ووضوحه من زمن الرسول صلى الله عليه و آله فلم يحدّثوا برواية دالّة عليه، وهذا ليس ببعيد. [منه قدّس سرّه ]

أيضاً، ألا ترى لو اتّفقت فتوى الفقهاء على حكم مقيّد، ويكون ما بأيدينا من

الأدلّة هو المطلق، نكشف قطعاً عن وجود قرينة أو مخصّص له، كما أ نّه لو اتّفقت فتواهم على إطلاق [و]دلّ الدليل على التخصيص والتقييد لم نعمل بهما، أو على خلاف ظاهر نرفع اليد عنه بمجرّد فتواهم، ولا يمكن أن يقال: إنّ الناس مختلفون في فهم الظواهر.

وبالجملة: فاتّفاقهم على حكم يكشف عن الدليل المعتبر الدالّ عليه.

إذا عرفت ما ذكرنا: فاعلم أنّ الحاكي للإجماع إنّما تكون حكايته عن الكاشف معتبرةً ومشمولةً لأدلّة حجّية خبر الواحد، وحينئذٍ لو حصل تمام السبب بنظر المنقول إليه - لأجل الملازمة الواقعية عنده بين قولهم ورأي الإمام - فيأخذ به، وإلاّ احتيج إلى ضمّ ما يكون به تمام السبب من القرائن وضمّ فتوى غيرهم.

هذا، وممّا ذكرنا يعرف حال التواتر المنقول أيضاً.

ص: 206

فصل: في حجّية الشهرة الفتوائية

في حجّية الشهرة الفتوائية

قوله: «ممّا قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى...»(19).

اعلم أنّ الشهرة في الفتوى قد تكون من قدماء الأصحاب إلى زمن الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه الله علیه ، وقد تكون من المتأخّرين عن زمانه:

أمّا الشهرة المتأخّرة فإنّما هي في التفريعات الفقهية، وليست بحجّة، ولا دليل على حجّيتها.

وما استدلّ لها - من فحوى أدلّة حجّية خبر الواحد، أو تنقيح المناط، أو تعليل آية النبأ(1)، أو دلالة المقبولة أو تعليلها عليها - مخدوش كلّه.

وأمّا الشهرة المتقدّمة - وهي التي بين أصحابنا الذين كان ديدنهم ضبط الاُصول المتلقّاة من الأئمّة في كتبهم بلا تبديل وتغيير، وكان بناؤهم على ضبط الفتاوى المأثورة خلفاً عن سلف إلى زمن الأئمّة الهادين، وكانت طريقتهم في الفقه غير طريقة المتأخّرين، كما يظهر من أوّل كتاب

ص: 207


1- الحجرات (49): 6.

«المبسوط»(1) - فهي حجّة، فإذا اشتهر حكم بين هؤلاء الأقدمين وتلقّي بالقبول يكشف ذلك عن دليل معتبر.

وبالجملة: في مثل تلك الشهرة مناط الإجماع، بل الإجماع ليس إلاّ ذاك. فالشهرة المتأخّرة كإجماعهم ليست بحجّة، والشهرة المتقدّمة فيها مناط الإجماع.

ويمكن أن يستدلّ على حجّيتها بالتعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة؛ حيث قال: «ينظر إلى ما كان من روايتهم(2) عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك، فيؤخذ به من حكمهما، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك؛ فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»(3)؛ ضرورة أنّ الشهرة بين الأصحاب في تلك الأزمنة - بحيث يكون الطرف الآخر قولاً شاذّاً

ص: 208


1- قد راجعنا الكتب التي كانت مؤلّفة قبل ولادة الشيخ أو قبل زمان تأليف «المبسوط» ك «المراسم» وكتب المفيد والسيّد علم الهدى، فلم نجد ما أفاد الشيخ الطوسي؛ لوضوح عدم كونها متون الأخبار، واختلاف ألفاظها معها، وبعضها مع بعض. نعم، بعض كتب الصدوق كذلك. والظاهر صحّة كلامه بالنسبة إلى الطبقة السابقة عن طبقة أصحاب الكتب الفتوائية، فلا يبعد أن يكون بناء تلك الطبقة على نقل الروايات المطابقة لفتواهم، أو نقل ألفاظها بعد الجمع والترجيح والتقييد والتخصيص، كما لا يبعد أن يكون «فقه الرضا عليه السلام» كذلك، وقريب منه كتاب «من لا يحضر». [منه قدّس سرّه ]
2- كما في الكافي.
3- الكافي 1: 67 / 10؛ الاحتجاج 2: 260/232؛ وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.

معرضاً عنه بينهم، وغير مضرّ بإجماعهم عرفاً؛ بحيث يقال: إنّ المجمع عليه

بين الأصحاب ذلك الحكم، والقول الشاذّ قول مخالف للمجمع عليه بينهم - لا شبهة في حجّيتها واعتبارها وكشفها عن رأي المعصوم، وهذا هو الإجماع المعتبر الذي يقال في حقّه: إنّه لا ريب فيه(1).

إن قلت: إنّ الاستدلال بهذا التعليل ضعيف؛ لأ نّه ليس من العلّة المنصوصة ليكون من الكبرى الكلّية التي يتعدّى عن موردها؛ فإنّ المراد من قوله: «فإنّ

المجمع عليه لا ريب فيه» إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرة الفتوائية، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله: «ممّا لا ريب فيه» عليه بقول مطلق، بل لا بدّ أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافة إلى ما

يقابله، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّية؛ لأ نّه يعتبر في الكبرى الكلّية صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها، كما في قوله: «الخمر حرام؛ لأ نّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يقال: لا تشرب المسكر، بلا ضمّ الخمر إليه، والتعليل

الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك؛ لأ نّه لا يصحّ أن يقال: يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله، وإلاّ لزم الأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره، وبأقوى الشهرتين، وبالظنّ المطلق، وغير ذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها، فالتعليل أجنبيّ عن أن يكون من الكبرى الكلّية التي يصحّ التعدّي عن موردها .

ص: 209


1- فحينئذٍ: لا دليل على حجّية مجرّد الشهرة الفتوائية لو لم يحدس منها قول الإمام عليه السلام؛ أي لا دليل على حجّية الشهرة التي [هي] من الأدلّة الظنّية. [منه قدّس سرّه ]

قلت: نعم، هذا ما أفاده بعض مشايخ العصر على ما في تقريراته(1)، لكن يرد عليه: أنّ التعليل ينطبق على الكبرى الكلّية، ويجوز التعدّي عن موردها، لكنّها ليست بهذه التوسعة التي أفادها حتّى تترتّب عليها التوالي الفاسدة، بل الكبرى هي: ما يكون بلا ريب بقول مطلق عرفاً، ويعدّ طرفه الآخر الشاذّ النادر الذي لا يعبأ به، ولهذا عدّ مثل تلك الشهرة بالمجمع عليه بين الأصحاب؛ لعدم الاعتداد بالقول المخالف الشاذّ.

بل يمكن أن يقال: إنّ عدم الريب ليس من المعاني النسبية الإضافية حتّى يقال: لا ريب فيه بالنسبة إلى ما يقابله، بل هو من المعاني النفسية التي لا تقبل الإضافة.

وبالجملة: كلّ ما لا ريب فيه عند العرف، وكان العقلاء لا يعتنون باحتمال خلافه، يجب الأخذ به، ولا شبهة في عدم ورود النقوض والتوالي الفاسدة التي ذكرها عليه.

فتحصّل ممّا ذكرنا: أنّ مثل تلك الشهرة - التي بين قدماء أصحابنا الذين كان بناؤهم على ذكر الاُصول المتلقّاة خلفاً عن سلف، دون التفريعات الاجتهادية - حجّة، وفيها مناط الإجماع.

وأمّا الشهرة في التفريعات بل الإجماع فيها - كالشهرات والإجماعات من زمن الشيخ إلى زماننا - فليست بحجّة، ولا دليل على اعتبارها؛ فإنّ في التفريعات سعة ميدان الاجتهاد والآراء، فتدبّر جيّداً.

ص: 210


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 154 - 155.

فصل: في حجّية خبر الواحد

اشارة

في حجّية خبر الواحد

قوله: «من أهمّ المسائل الاُصولية...»(20).

قد عرفت في مباحث التجرّي ميزان الافتراق بين المسائل الاُصولية والفقهية، فراجع(1).

موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه

والذي ينبغي التعرّض له هاهنا هو: أ نّه قد استقرّ رأي محقّقي علماء الاُصول قديماً وحديثاً إلى قريب من عصرنا على أنّ موضوع علم الاُصول هو الأدلّة بعنوانها(2) - أي الحجّة في الفقه - والمسائل الاُصولية هي التي

ص: 211


1- تقدّم في الصفحة 13 - 14.
2- شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب: 5؛ الذريعة إلى اُصول الشريعة 1: 7؛ قوانين الاُصول 1: 8؛ حاشية المحقّق القمّي رحمه الله في أسفل الصفحة: «والمفروض أ نّا نتكلّم بعد فرض كونها أدلّة...» و: 9 / السطر 22؛ هداية المسترشدين 1: 95؛ فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 238.

تبحث عن عوارض الحجّة الذاتية.

ولقد أوردوا على هذا، الإشكالَ المشهور: من خروج معظم المسائل عن علم الاُصول، كمباحث حجّية الخبر الواحد والشهرة والظواهر، ومسائل التعادل والترجيح... إلى غير ذلك(1)؛ وذلك لأنّ البحث فيها عن الحجّية، وهو من المبادئ لا المسائل.

وتصدّى العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه للجواب في مبحث حجّية الخبر الواحد: بأنّ البحث فيه عن ثبوت السنّة به، وهو من العوارض(2).

وردّه المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : بأنّ الثبوت الواقعي مفاد كان التامّة، وهو من المبادئ، والثبوت التعبّدي من عوارض الخبر الحاكي(3).

وقد تصدّى بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - للذبّ عن الشيخ: بأنّ البحث في حجّية الخبر إنّما هو عن انطباق السنّة على مؤدّى الخبر وعدم انطباقها، وهذا لا يرجع إلى البحث عن وجود السنّة ولا وجودها، بل يكون البحث عن عوارضها؛ بداهة أنّ انطباق الموضوع وعدم انطباقه يكون من العوارض اللاحقة له، كالبحث عن وجود الموضوع في زمان أو مكان(4).

وفيه: أنّ الخبر الحاكي على فرض مطابقته للواقع، إنّما هو عين السنّة،

ص: 212


1- الفصول الغروية: 11 / السطر 32.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 238 - 239.
3- كفاية الاُصول: 22 - 23.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 157.

ونسبتها إليه نسبة الكلّي إلى الفرد، لا العارض إلى المعروض، وعلى فرض عدم المطابقة تكون نسبتهما التباين. وقياسه بكون الشيء في الزمان والمكان مع الفارق؛ ضرورة عارضية مقولتي الأين والمتى.

وبالجملة: بعد اللتيا والتي استقرّ رأي أكثر المتأخّرين - فراراً عن هذا الإشكال - على أنّ موضوع علم الاُصول ليس الأدلّة لا بعنوانها ولا بذاتها، بل ربّما لا يكون لموضوع العلم - وهو الكلّي المتّحد مع موضوعات المسائل - عنوان خاصّ واسم مخصوص، فموضوع علم الاُصول عبارة عن أمر كلّي مبهم منطبق على موضوعات مسائله المتشتّتة(1).

ولمّا كان المرضيّ(2) هو قول المشهور: من كون موضوعه هو الحجّة في الفقه، لا بدّ من تحقيق الحال حتّى يتّضح الأمر ويرتفع الإشكال، وذلك يتوقّف على بسط من الكلام، فنقول:

الأعراض الذاتية - التي يبحث في العلم عنها - أعمّ من الأعراض الخارجية والأعراض التحليلية؛ بداهة أنّ في كثير من العلوم لم تكن الأعراض اللاحقة لموضوعاتها إلاّ من قبيل التحليلية، ألا ترى أنّ موضوع علم الفلسفة هو الوجود، أو الموجود بما أ نّه موجود، ومباحثه هي تعيّناته التي هي المهيات،

ص: 213


1- كفاية الاُصول: 22؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 33؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 29.
2- قد حقّقنا في المجلّد الأوّلأ ما هو المرضيّ عندنا، فعليه يسقط ما في هذه الأوراق. [منه عفي عنه] أ - مناهج الوصول 1: 3.

ولم تكن نسبة المهيات إلى الوجود نسبة العرض الخارجي إلى الموضوع، بل العرضية والمعروضية إنّما هي بتحليل من العقل؛ فإنّ المهيات بحسب الواقع تعيّنات الوجود، ومتّحدات معه، ومن عوارضه التحليلية، فإن قيل: الوجود عارض المهية ذهناً(1)، صحيح، وإن قيل: المهية عارض الوجود فإنّها تعيّنه(2)، صحيح، حتّى قيل: «من وتو عارض ذات وجوديم»(3).

وإن شئت زيادة تحقيق لذلك، فاعلم: أنّ العرض له اصطلاحان:

أحدهما: ما هو المتداول في علم الطبيعي، والمقولات العشر، وهو مقابل الجوهر، وهو الحالّ في المحلّ المستغني.

وثانيهما: ما هو مصطلح المنطقي في باب الكلّيات، وهو الخارج المحمول على الشيء؛ أي ما هو متّحد مع المعروض في الخارج، ومختلف معه في التحليل العقلي، ومأخوذ على نحو اللا بشرطية.

والذاتية والعرضية في هذا الاصطلاح تختلف بحسب الاعتبار، بخلافهما في الاصطلاح الأوّل؛ فإنّهما أمران حقيقيان غير تابعين للاعتبار، مثلاً: إذا لوحظ الحيوان والناطق من حيث كونهما جزءين للماهية الإنسانية، فهما جنس وفصل وذاتيان للمهية، وإذا لوحظا من حيث اختلافهما في العقل واتّحادهما في الخارج، يقال: كلّ منهما عارض للآخر، فالجنس عرض عامّ، والفصل عرض خاصّ، وبهذا الاعتبار كلّ من الوجود والمهية عارض للآخر.

ص: 214


1- المشاعر: 27 - 33؛ شرح المنظومة، قسم الحكمة 2: 89 - 90.
2- المشاعر: 27 - 33؛ الحكمة المتعالية 1: 55 و 245.
3- گلشن راز: 78.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه؛ فإنّ الفقيه لمّا رأى احتياجه في علمه إلى الحجّة توجّه إليها، وجعلها وجهة نفسه، وتفحّص عن تعيّناتها التي هي الأعراض الذاتية التحليلية لها المصطلحة في باب الكلّيات الخمس، فالحجّة بما هي حجّة موضوع بحثه وعلمه، وتعيّناتها - التي هي الخبر الواحد والظواهر والاستصحاب وسائر المسائل الاُصولية - من العوارض الذاتية لها بالمعنى الذي ذكرنا، فعلى هذا يكون البحث عن حجّية الخبر الواحد وغيره بحثاً عن العرض الذاتي التحليلي للحجّة، وتكون روح المسألة أنّ الحجّة هل هي متعيّنة بتعيّن الخبر الواحد، أم لا ؟

وبالجملة: بعد ما يعلم الاُصولي أنّ لله تعالى حجّة على عباده في الفقه، يتفحّص عن تعيّناتها التي هي العوارض التحليلية لها، فالموضوع هو الحجّة بنعت اللا بشرطية، والمحمولات هي تعيّناتها.

وأمّا انعقاد البحث في الكتب الاُصولية بأنّ الخبر الواحد حجّة، أو الظاهر حجّة، وأمثال ذلك، فهو بحث صوري ظاهري لسهولته، كالبحث في الفلسفة عن أنّ النفس أو العقل موجودان، مع أنّ موضوعها هو الوجود، وروح البحث فيها: أنّ الوجود متعيّن بتعيّن العقل أو النفس أو الجوهر أو العرض.

هذا، مع أ نّه لو كان البحث في حجّية الخبر الواحد هو بهذه الصورة، فأوّل ما يرد على الاُصوليين: أنّ الحجّة لها سمة المحمولية لا الموضوعية، كما أنّ هذا الإشكال يرد على الفلاسفة أيضاً، ونسبة الغفلة والذهول إلى أئمّة الفنّ والفحول غفلة وذهول.

بل لنا أن نقول: إنّ الموضوع - في قولهم: موضوع كلّ علم ما يبحث فيه عن

ص: 215

عوارضه الذاتية(1) - ليس هو الموضوع المصطلح في مقابل المحمول، بل

الموضوع ما وضع لينظر في عوارضه وحالاته، وما هو محطّ نظر صاحب العلم.

ولا إشكال في أنّ محطّ نظر الاُصولي هو الفحص عن الحجّة في الفقه، ووجدان مصاديقها العرضية وعوارضها التحليلية، فالمنظور إليه هو الحجّة لا الخبر الواحد، فافهم واغتنم.

وبما ذكرنا يرتفع الإشكال، وتنسلك مسائل حجّية الخبر الواحد وغيرها في المسائل الاُصولية، مع التحفّظ على موضوع العلم بما يراه المحقّقون.

وأمّا على ما التزم به المتأخّرون - مضافاً إلى عدم الداعي إليه إلاّ الفرار من الإشكال، وإلى ورود عارٍ عظيم عليهم من الجهل بموضوع علمهم، فكأ نّهم يبحثون في أطراف المجهول والمبهم - يرد عليهم: أ نّه لا جامع بين موضوعات المسائل الاُصولية، فأيّ جامع يتصوّر بين الاستصحاب - مثلاً - والظواهر، إلاّ بالالتزام بتكلّفات باردة ؟ !

ويرد عليهم أيضاً: أ نّه بناءً على ما التزموا يصير موضوع علمهم مختلفاً حسب اختلاف المسالك في حجّية شيء وعدمها، فمن يرى حجّية الخبر الواحد لا بدّ له من تصوّر جامع بينه وبين غيره من المسائل، ومن يرى عدم حجّيته لا بدّ له من تصوّر جامع بين ما عداه، بحيث يخرج الخبر الواحد عنه.

وأمّا إذا كانت الحجّة - بعنوانها - موضوعاً، فهي محفوظة، ولا تختلف بالزيادة والنقص في الحجج، كما لا يخفى.

ص: 216


1- الإشارات والتنبيهات: 168؛ شرح المطالع: 18؛ الحكمة المتعالية 1: 30؛ كفاية الاُصول: 21.

إن قلت: هب أنّ البحث عن الحجّية - في مسائل حجّية الظواهر والخبر الواحد والاستصحاب وأمثالها ممّا يبحث عن حجّيتها - يرجع إلى ما ذكرت، ولكن أكثر المسائل الاُصولية لم يكن البحث فيها عن الحجّية أصلاً، مثل مسألة اجتماع الأمر والنهي، ومقدّمة الواجب، ومسائل البراءة والاشتغال، وغيرها ممّا لا اسم للحجّية فيها ولا رسم، فلا محيص فيها عن الالتزام بما التزم به المتأخّرون.

قلت: كلاّ؛ فإنّ المراد من كون موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه: أنّ الاُصولي يتفحّص عمّا يمكن أن يحتجّ به في الفقه، سواء كان الاحتجاج لإثبات حكم أو نفيه، كحجّية خبر الثقة والاستصحاب وأمثالهما، أو لإثبات العذر أو قطعه، كمسائل البراءة والاشتغال.

وتفصيل ذلك: أنّ المسائل الاُصولية؛ إمّا [أن] تكون من القواعد الشرعية التي تقع في طريق الاستنباط، كمسألة حجّية الاستصحاب، وحجّية الخبر الواحد بناءً على ثبوت حجّيته بالتعبّد.

وإمّا أن تكون من القواعد العقلائية، كحجّية الظواهر، والخبر الواحد بناءً على ثبوت حجّيته ببناء العقلاء.

وإمّا من القواعد العقلية التي تثبت بها الأحكام الشرعية، كمسائل اجتماع الأمر والنهي، ومقدّمة الواجب، والضدّ من العقليات.

وإمّا من القواعد العقلية لإثبات العذر وقطعه، كمسائل البراءة والاشتغال.

وكلّ ذلك ممّا يحتجّ به الفقيه: إمّا لإثبات الحكم ونفيه عقلاً أو تعبّداً، أو لفهم التكليف الظاهري، وليس مسألة من المسائل الاُصولية إلاّ ويحتجّ بها في الفقه بنحو من الاحتجاج، فيصدق عليها أ نّها الحجّة في الفقه، تدبّر.

ص: 217

أدلّة عدم حجّية خبر الواحد

الاستدلال بالكتاب

قوله: «واستدلّ لهم بالآيات الناهية...»(21).

أقول: الآيات الناهية بعضها مربوط بالاُصول الاعتقادية، مثل قوله تعالى: )إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً((1) وبعضها أعمّ، مثل قوله تعالى: )وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ((2) فإنّه في سياق الآيات الناهية عن الاُمور الفرعية،

فلا يختصّ بالاُصول لولا اختصاصه بالفروع.

الاستدلال بالكتاب

والتحقيق في الجواب عنه - مضافاً إلى عدم إبائه عن التخصيص، وإن كانت الآيات الأوّلية آبية عنه - أنّ الاستدلال به مستلزم لعدم جواز الاستدلال به، وما يلزم من وجوده العدم غير قابل للاستدلال به.

بيان ذلك: أنّ قوله: )لاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( قضيّة حقيقية، تشمل كلّ ما وجد في الخارج ويكون مصداقاً لغير العلم، مع أنّ دلالة نفسها على الردع عن غير العلم ظنّية لا قطعية، فيجب عدم جواز اتّباعها بحكم نفسها.

وبالجملة: إذا لم يجز اتّباع غير العلم لم يجز اتّباع ظاهر الآية؛ لكونه غير علمي، والفرض شمولها لنفسها؛ لكونها قضيّة حقيقية.

فإن قلت: الآية الشريفة لا تشمل نفسها؛ لعين هذا المحذور الذي ذكرت.

ص: 218


1- يونس (10): 36.
2- الإسراء (17): 36.

وبعبارة اُخرى: إنّ الآية مخصّصة عقلاً؛ للزوم المحال لولا التخصيص.

قلت: كما يمكن رفع الاستحالة بما ذكر، يمكن رفعها بالالتزام بعدم شمولها لمثل الظواهر؛ أي ما قام الدليل على حجّيته، فتخصّص الآية بالظنون التي هي غير حجّة. ولا ترجيح، بل الترجيح لذلك؛ فإنّ الغرض من إلقاء الآية الشريفة هو الردع عن اتّباع غير العلم، ولا يمكن رادعية الآية إلاّ أن تكون مفروضة الحجّية عند المتخاطبين، ولا وجه لحجّيتها إلاّ كونها ظاهرةً في مفادها، ومورداً لبناء العقلاء على العمل بها لأجل الظهور، فالآية لا تشمل ما كان من قبيلها من الظنون الخاصّة.

فتحصّل ممّا ذكر: أنّ الآية لا تصلح للرادعية عن مثل الخبر الواحد.

هذا، وقد تصدّى بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - للجواب عنها بما حاصله:

أنّ نسبة الأدلّة الدالّة على حجّية الخبر الواحد إلى الآيات نسبة الحكومة، لا التخصيص لكي يقال: إنّها آبية عنه؛ فإنّ تلك الأدلّة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف، وجعل الخبر محرزاً للواقع؛ لكون حاله حال العلم في عالم التشريع. هذا في غير السيرة العقلائية القائمة على العمل بالخبر الواحد.

وأمّا السيرة فيمكن أن يقال: إنّ نسبتها إليها هي الورود، بل التخصّص؛ لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من العمل بالظنّ؛ لعدم التفاتهم إلى احتمال المخالفة للواقع، فالعمل به خارج بالتخصّص عن العمل بالظنّ، فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل به لأن تكون رادعة عنها؛ فإنّه - مضافاً إلى خروج العمل به عن موضوع الآيات - يلزم منه الدور المحال؛ لأنّ الردع عن السيرة بها يتوقّف على

ص: 219

أن لا تكون السيرة مخصّصة لعمومها، وعدم التخصّص يتوقّف على الرادعية.

وإن منعت عن ذلك فلا أقلّ من كون السيرة حاكمة على الآيات، والمحكوم لا يصلح أن يكون رادعاً للحاكم(1)، انتهى.

أقول: أمّا قضيّة إباء الآيات عن التخصيص فقد عرفت أنّ قوله تعالى: )وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( الذي هو عامّ قابل للتخصيص، وما ليس بقابل له هو الآيات المربوطة بالاُصول الاعتقادية، فراجع.

وأمّا حديث الحكومة فلا أصل له؛ فإنّ الأخبار على كثرتها لم يكن لسانها لسان الحكومة، مع أنّ الحكومة متقوّمة بلسان الدليل.

إن قلت: قوله: «العمري ثقة، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطعه؛ فإنّه الثقة المأمون»(2) له نحو حكومة على الآيات؛ فإنّ لازمه إلقاء احتمال الخلاف.

قلت: كلاّ؛ فإنّ لسان الحكومة غير ذلك؛ لأنّ غاية مفاد الرواية هو وجوب اتّباع العمري لوثاقته، وأمّا أنّ ما أخبر به هو المعلوم حتّى خرج عن اتّباع غير العلم، فلا.

وبالجملة: الحكومة والتخصيص مشتركان في النتيجة، ومفترقان في اللسان، ولسان الأدلّة ليس على نحو الحكومة.

وأمّا قضيّة ورود السيرة العقلائية عليها، أو التخصّص، فهي ممنوعة؛ فإنّ كون

ص: 220


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 160 - 162.
2- الكافي 1: 329 / 1؛ وسائل الشيعة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.

العمل بالخبر عندهم من العمل بالعلم ممنوع؛ ضرورة وضوح عدم حصول العلم من الخبر الواحد.

ولو سلّم غفلتهم عن احتمال الخلاف، لم يوجب ذلك تحقّق الورود(1) أو التخصّص؛ فإنّ موردهما هو الخروج عن الموضوع واقعاً، لا عند المخاطب.

والفرق بينهما: أنّ الورود يكون مع إعمال التعبّد، والتخصّص لا يكون كذلك وما نحن فيه لا يكون الخروج واقعياً، بل عند المخاطب.

نعم، يمكن دعوى عدم صلاحية الأدلّة للردع عمّا هو مورد السيرة: إمّا لعدم التفاتهم إلى مخالفة الخبر للواقع، فلا يرتدع العقلاء بتلك العمومات، بل لا بدّ من التصريح بالردع، وإمّا لدعوى انصراف الأدلّة عن الظنّ الذي هو حجّة.

وأمّا حديث حكومة السيرة - على ما أفاد أخيراً - فهو أسوأ حالاً من حكومة

ص: 221


1- وإن اشتهيت بيان الورود، فيمكن تقريره بوجهين: أحدهما: أن يقال: إنّ المراد من قوله تعالى: )لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( ليس هو العلم الوجداني؛ للزوم تعطيل أكثر الأحكام، أو ورود التخصيص الأكثري المستهجن عليه، كما أنّ المراد بحرمة القول بلا علم، أو حرمة الفتوى والقضاء كذلك ليس العلم الوجداني، فحينئذٍ يكون معناه: لا تقف ما ليس لك به حجّة، فتكون أدلّة حجّية الخبر الواحد واردة عليه؛ لإحداث الحجّة بالتعبّد. وثانيهما: أن يقال: إنّه بعد تمامية حجّية الخبر الواحد يكون الاتّكال في العمل به على القطع بحجّيته، فالخبر وإن كان ظنّياً من حيث الكشف عن الواقع، لكن حجّيته قطعية، والمكلّف يتّبع قطعه، لا ظنّه؛ لأنّ اتّكاله ليس إلاّ على الحجّة المقطوعة، فلا يشمله قوله: )لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ(؛ لأجل أنّ ظاهر الكتاب - على فرض دلالته على لزوم اتّباع الخبر - حجّة قطعية؛ لأنّ العقلاء يحتجّون به قطعاً، وعدم ورود الردع عنه قطعاً، فينسلك اتّباع الخبر في اتّباع العلم بالتعبّد، فيتمّ ميزان الورود. [منه عفي عنه]

سائر الأدلّة؛ فإنّ السيرة لا لسان لها، وإنّما هي عمل خارجي، والحكومة إنّما هي بين ظواهر الأدلّة ومفادها اللفظي.

وأمّا قضيّة الدور - فمضافاً إلى عدم كونه دوراً مصطلحاً؛ لعدم التوقّف بمعنى تقدّم الموقوف عليه على الموقوف؛ ضرورة عدم تقدّم الرادعية على عدم المخصّصية، ولا العكس - أنّ الرادعية تتوقّف على عدم المخصّص، وهو حاصل؛ إذ لا مخصّص في البين جزماً؛ لأنّ النواهي الرادعة حجّة في العموم، ولا بدّ من رفع اليد عنها بحجّة أقوى، ولا حجّية للسيرة بلا إمضاء الشارع، فالرادع رادع فعلاً، والسيرة حجّة لو أمضاها الشارع، ولا إمضاء في البين مع هذه النواهي، بل الردع موجود متحقّق.

فإن قلت: إنّ الشارع أمضاها قبل ورود الآيات، فالأمر دائر بين تخصيصها بها أو ردعها إيّاها، كالخاصّ المقدّم والعامّ المؤخّر؛ حيث يدور الأمر فيهما بين التخصيص والنسخ، ومع عدم الترجيح يستصحب حجّيتها.

قلت -

مضافاً إلى أنّ التمسّك بالاستصحاب الذي دليله أخبار الآحاد لا معنى له في المقام - إنّا لا نسلّم أنّ عدم الردع في أوائل البعثة يدلّ على الإمضاء؛ فإنّه

إنّما يدلّ عليه لو انعقدت السيرة على العمل بالخبر الواحد في الأحكام الشرعية، كما انعقدت عليه في الأحكام العادية والعرفية، أو كان مظنّة لذلك، دون ما إذا انعقدت فيهما ولا تسري إلى الأحكام الشرعية.

ومن المعلوم أ نّه في أوائل البعثة - التي لم تنتشر أحكام الإسلام في البلاد، وإنّما كانت محدودة بين أشخاص معدودة، خصوصاً في مكّة المعظّمة قبل هجرته صلی الله علیه و آله وسلم إلى المدينة - لا يحتاج تلك العدّة المعدودة من المسلمين إلى

ص: 222

العمل بقول الثقة في الأحكام، بل كلّ حكم صادر عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم كان بمسمع

من الأصحاب في الجامع أو غيره، بل في أوائل هجرته في المدينة كان الأمر بتلك المثابة، كما لا يخفى.

فعدم الردع لعلّه لأجل عدم الاحتياج، وعدم لزوم نقض الغرض، ومع احتمال ذلك لا يدلّ على الإمضاء، كما لا يخفى.

ولعلّ الآيات الناهية صدرت في تلك الآونة؛ لغرض الردع عن السيرة التي بينهم في العاديات؛ لئلاّ يسري إلى الشرعيات. هذا حال الآيات.

الاستدلال بالسنّة على عدم حجّية خبر الواحد

وأمّا السنّة(1) فهي مع كثرتها بين طوائف:

منها: ما تدلّ على عدم جواز الأخذ بالخبر، إلاّ ما عليه شاهد أو شاهدان من كتاب الله أو من قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم (2)، ومن هذه الطائفة ما تدلّ على عدم

ص: 223


1- ولا يخفى: أنّ المثبت والمنكر لا بدّ [لهما] من دعوى تواتر الروايات، مع أنّ دعواه بعيدة بعد الرجوع إلى الروايات؛ لأنّ تواتر جميع الطبقات غير ثابت بل عدمه ثابت؛ لأنّ جميع الروايات ترجع إلى عدّة كتب لا يقطع الإنسان بعدم وقوع الخلط والاشتباه أو غيرهما فيها، فإثبات عدم الحجّية بتلك الروايات ممّا لا يمكن. ثمّ على فرض التواتر لا يكون ذلك إلاّ إجمالياً، فلا بدّ من أخذ أخصّ المضمون وهو المخالفة؛ إمّا بالتباين، أو مع العموم من وجه؛ ضرورة أنّ المخالفة بغيرهما ليست مخالفة في محيط التقنين عرفاً، مع أنّ ورود المخصّص والمقيّد للكتاب عنهم قطعي ضروري، فلا يمكن حمل الروايات عليها. [منه قدّس سرّه ]
2- راجع وسائل الشيعة 27: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 11 و 18.

جواز الأخذ إلاّ بما يوافق القرآن(1).

ولا يخفى: أنّ هذه الطائفة لا معنى محصّل لها، إلاّ إذا حملت على مورد التعارض، وتكون من سنخ الأخبار العلاجية؛ فإنّ الأخذ بالخبر الموافق للقرآن، أو بما له شاهد أو شاهدان منه، ليس أخذاً وعملاً بالخبر، بل هو أخذ وعمل بالكتاب. نعم، لو حملت على مورد التعارض يكون لها معنى محصّل، وعليه تكون من شواهد حجّية الخبر الواحد.

ومنها: ما يدلّ على طرح غير الموافق(2)، وهو يرجع إلى المخالف عرفاً.

ومنها: ما يدلّ على طرح الخبر المخالف للكتاب(3). ولا يخفى أ نّها آبية عن التخصيص، مع ضرورة صدور أخبار مقيّدة أو مخصّصة للكتاب من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة علیهم السلام ، فلا بدّ من حمل تلك الطائفة على المخالفة التباينية، أو الأعمّ منها ومن مخالفة العموم من وجه.

وصدور الأخبار المتباينة مع الكتاب من المخالفين لا يبعد إذا كان على وجه الدسّ في كتب أصحابنا؛ فإنّ في دسّها إحدى النتيجتين لهم: إمّا تضعيف كتب أصحابنا وإسقاطها عن النظر، وإمّا التزلزل في اعتقاد المسلمين بالنسبة إلى أئمّة الحقّ علیهم السلام .

ص: 224


1- راجع وسائل الشيعة 27: 109، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 10 و12 و14 و15 و19 و35 و37.
2- راجع وسائل الشيعة 27: 110، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 12 و14 و37.
3- راجع وسائل الشيعة 27: 109، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 10 و19 و35.

أدلّة حجّية خبر الواحد

الاستدلال بآية النبأ

قوله: «فمنها آية النبأ(1)...»(22).

ويمكن(2) تقريب الاستدلال بوجه آخر: وهو أ نّه لا فرق في شمول العامّ

ص: 225


1- لا يخفى: أ نّه مع فرض المفهوم للآية الشريفة لا تدلّ على حجّية خبر العادل مطلقاً؛ لأنّ التبيّن لا يناسب الجزائية؛ فإنّ مجيء الفاسق بالنبأ مع وجوب تحصيل العلم للعمل غير مترتّبين عقلاً ولا عرفاً، فلا بدّ من أن يكون ذلك كناية عن الإعراض عن خبر الفاسق وعدم ترتيب الأثر عليه، ومفهومه - على فرضه - ترك الإعراض، وهو أعمّ من كونه تمام الموضوع للعمل، فلا يستفاد منه كونه حجّة بنفسه، كما لا يخفى. [منه قدّس سرّه ]
2- وهاهنا تقريبات اُخر: منها: ما أفاده الماتنأ، ولا يخفى مخالفته لظاهر الآية. ومنها: ما أفاده بعض المحقّقين(ب): من أنّ الظاهر أنّ الشرط هو المجيء مع متعلّقه - أي مجيء الفاسق - فيكون الموضوع نفس النبأ، ولمفهومه مصداقان: عدم مجيء الفاسق، ومجيء العادل، فلا يكون الشرط محقّق الموضوع. وأمّا إذا جعل الشرط نفس المجيء، ويكون الموضوع نبأ الفاسق، يكون الشرط محقّق الموضوع. وفيه: أنّ مفهوم «إن جاءك الفاسق بنبأ» ليس إلاّ «إن لم يجئكَ الفاسق بنبأ»، وأمّا مجيء العادل فليس مفروضاً في المنطوق ولا المفهوم، فلا تدلّ الآية عليه مطلقاً. مع أنّ كون المفهوم ذا مصداقين - كما ذكره - لا يتوقّف على جعل الشرط مجيء الفاسق، بل لو كان الشرط هو المجيء، والموضوع هو خبر الفاسق، فلعدم مجيء خبره مصداقان، كما لا يخفى. لكن العمدة هو تفاهم العرف، وهو لا يساعد على ما ذكر. [منه قدّس سرّه ] أ - كفاية الاُصول: 340. ب - نهاية الأفكار 3: 111 - 112.

لأفراده بين كونها أفراداً ذاتية له وبين كونها أفراداً عرضية إذا كانت بنظر العرف شموله لها بنحو الحقيقة، فكما أنّ الأبيض صادق على نفس البياض لو فرضنا قيامه بنفس ذاته، كذلك إنّه صادق على الجسم المتلبّس به، مع أنّ صدقه عليه عرضي تبعي لدى العقل الدقيق، لكنّه حقيقة لدى العقل العادي والعرف.

إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّ لعدم مجيء الفاسق بالخبر فرداً ذاتياً هو عدم تحقّق الخبر لا من الفاسق ولا من غيره، وأفراداً عرضية هي مجيء غيره به، فيكون صدق عدم مجيء الفاسق به على مجيء العادل به صدقاً عرضياً في نظر العقل، وصدقاً حقيقياً في نظر العرف، فيشمل العامّ له كما يشمل الفرد الذاتي.

فمفهوم قوله تعالى: )إِنْ جَاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا((1) هو: إن لم يجئكم به فلا يجب التبيّن، سواء جاء به العادل أو لا. وإن ضمّ إلى ذلك أنّ ظهور القضايا السالبة إنّما هو في سلب المحمول، لا سلب الموضوع، يصير المفهوم: إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب التبيّن.

وبالجملة: مفهومها يدلّ على عدم وجوب التبيّن في خبر العادل: إمّا بإطلاقه، وإمّا بالتعرّض لخصوص خبره، هذا.

وفيه: أنّ الأمر في المثال والممثّل متعاكسان بحسب نظر العرف؛ فإنّ المثال الذي مثّلت - من صدق الأبيض على البياض والجسم المتلبّس به - يكون صدقه على الفرد الذاتي العقلي أخفى عند العرف من صدقه على الفرد العرضي، بل يمكن أن يقال: إنّه لا يصدق إلاّ على الثاني دون الأوّل عرفاً، وإن كان الأمر عند العقل الدقيق على عكس ذلك.

ص: 226


1- الحجرات (49): 6.

وأمّا فيما نحن فيه والممثّل، لا يكون مجيء العادل بالخبر من مصاديق لا مجيء الفاسق به عرفاً، وإن فرض أنّ أحد الضدّين ممّا ينطبق عليه عدم الضدّ الآخر، ويكون مصدوقاً عليه بحسب اصطلاح بعض أكابر فنّ المعقول(1)، لكنّه

أمر عقلي خارج عن المتفاهم العرفي، وأخذ المفاهيم إنّما هو بمساعدة نظر العرف، ولا إشكال في أ نّه لا يفهم [من] الآية الشريفة مجيء العادل به.

وأمّا قضيّة ظهور القضايا السالبة في سلب المحمول، إنّما هو في القضايا اللفظية، وأمّا فيما نحن فيه فليس قضيّة لفظية في البين، تأمّل.

ولو فرضنا كون المفهوم قضيّة لفظية أو في حكمها، لكانت ظاهرة في سلب الموضوع؛ ضرورة ظهور قوله: «إن لم يجئ فاسق بنبأ» فيه، لا سلب المحمول.

فتحصّل ممّا ذكر: أ نّه لا إشكال في عدم دلالة الآية على المفهوم، وإنّما مفادها التبيّن في خبر الفاسق من غير التعرّض لخبر غيره.

هذا، ولقد تصدّى بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - على ما في تقريرات بحثه - لبيان أخذ المفهوم من الآية بما لا يخلو عن خلط وتعسّف.

ومحصّل ما أفاد: أ نّه يمكن استظهار كون الموضوع في الآية مطلق النبأ والشرط هو مجيء الفاسق به، من مورد النزول؛ فإنّ مورده إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق، فقد اجتمع في إخباره عنوانان: كونه من الخبر الواحد، وكون المخبر فاسقاً، والآية وردت لإفادة كبرى كلّية لتميّز الأخبار التي يجب التبيّن عنها عن غيرها، وقد علّق وجوب التبيّن فيها على كون المخبر فاسقاً، فيكون هو الشرط، لا كون الخبر واحداً، ولو كان الشرط ذلك لعلّق عليه؛ لأ نّه بإطلاقه

ص: 227


1- الحكمة المتعالية 1: 157.

شامل لخبر الفاسق، فعدم التعرّض لخبر الواحد وجعل الشرط خبر الفاسق، كاشف عن انتفاء التبيّن في خبر غير الفاسق.

ولا يتوهّم: أنّ ذلك يرجع إلى تنقيح المناط، أو إلى دلالة الإيماء؛ فإنّ ما بيّنّاه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط.

وبالجملة: لا إشكال في أنّ الآية تكون بمنزلة الكبرى الكلّية، ولا بدّ من أن يكون مورد النزول من صغرياتها، وإلاّ يلزم خروج المورد عن العامّ، وهو قبيح، فلا بدّ من أخذ المورد مفروض التحقّق في موضوع القضيّة، فيكون مفاد الآية - بعد ضمّ المورد إليها - أنّ الخبر الواحد إن كان الجائي به فاسقاً فتبيّنوا، فتصير

ذات مفهوم(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أنّ كون مورد النزول إخبار الوليد لا ربط له بكون الموضوع في الآية مطلق النبأ، والشرط خارج غير مسوق لتحقّق الموضوع، ومجرّد إخباره بكذا لا يصير منشأً لظهورها في إفادة الكبرى الكلّية لتميّز الأخبار التي يجب التبيّن عنها عن غيرها.

نعم، الآية الشريفة مسوقة لإفادة الكبرى الكلّية، وهي وجوب التبيّن عن خبر كلّ فاسق، من غير تعرّض لغيره، وليست بصدد بيان التميّز بين خبر الفاسق والعادل.

وبالجملة: إنّها متعرّضة لخبر الفاسق فقط، دون العادل، لا منطوقاً ولا مفهوماً.

وثانياً: أنّ اجتماع العنوانين في خبر الوليد - أي كونه خبراً واحداً، وكون المخبر به فاسقاً - بيان لمفهوم الوصف، لا الشرط؛ حيث لم يعلّق في الآية

ص: 228


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 169.

وجوب التبيّن على كون المخبر به فاسقاً، بل علّق على مجيء الفاسق بالخبر، ومعلوم أ نّه لا مفهوم له، كما أ نّه بذاك التقريب لا يكون للوصف أيضاً مفهوم؛ لعدم إفادة العلّية المنحصرة.

مع أنّ في ذكر الفاسق هاهنا نكتة هي التنبيه على فسق الوليد، فكون مورد النزول هو إخبار الوليد مضرّ بدلالة الآية على المفهوم، لا أ نّه موجب لها كما أفاد رحمه الله علیه ، ومن ذلك يعرف ما في قوله: فإنّ ما بيّنّاه من التقريب ينطبق على مفهوم الشرط.

وأمّا ما أفاد في تأييد كون الآية بمنزلة الكبرى الكلّية: من أنّ مورد النزول من صغرياتها وإلاّ يلزم خروج المورد، فهو صحيح، لكنّ الكبرى الكلّية ليست هي ما أفاد، بل هي وجوب التبيّن عن خبر كلّ فاسق، وإخبار الوليد من صغرياتها، من غير أن يكون للآية مفهوم.

وبالجملة: إنّ الآية الشريفة لا مفهوم لها، وهذه التشبّثات لا تجعل الآية ظاهرة فيما لم تكن ظاهرة فيه.

تكملة: قد اُورد على التمسّك بالآية الشريفة لحجّية الخبر الواحد باُمور: منها ما يختصّ بالآية، ومنها ما يشترك بينها وبين غيرها:

الإشكالات المختصّة بآية النبأ وأجوبتها

فمن الإشكالات المختصّة بها: هو كون المفهوم - على تقدير ثبوته - معارضاً لعموم التعليل في ذيلها(1)؛ فإنّ الجهالة هي عدم العلم بالواقع، وهو مشترك بين

ص: 229


1- الذريعة إلى اُصول الشريعة 2: 535 - 536؛ العدّة في اُصول الفقه 1: 113؛ معارج الاُصول: 146.

إخبار الفاسق والعادل، فمفهوم التعليل يقتضي التبيّن عن خبر العادل، فيقع التعارض بينهما، والتعليل أقوى في مفاده، خصوصاً في مثل هذا التعليل الآبي عن التخصيص، فعموم التعليل لأقوائيته يمنع عن ظهور القضيّة في المفهوم، فلا يلاحظ النسبة بينهما؛ فإنّها فرع المفهوم.

ولقد تصدّى المشايخ لجوابه، وملخّص ما أفاد بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - على

ما في تقريرات بحثه - أنّ الإنصاف أ نّه لا وقع له:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الجهالة بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه، ولا شبهة في جواز الركون إلى خبر العادل دون الفاسق، فخبر العادل خارج عن العلّة موضوعاً.

وأمّا ثانياً: فعلى فرض كونها بمعنى عدم العلم بمطابقة الخبر للواقع، يكون المفهوم حاكماً على عموم التعليل؛ لأنّ أقصى ما يدلّ عليه التعليل هو عدم جواز العمل بما وراء العلم، والمفهوم يقتضي إلقاء احتمال الخلاف، وجعل خبر العادل محرزاً للواقع وعلماً في عالم التشريع، فلا يعقل أن يقع التعارض بينهما؛ لأنّ المحكوم لا يعارض الحاكم ولو كان ظهوره أقوى؛ لأنّ الحاكم متعرّض لعقد وضع المحكوم إمّا بالتوسعة أو التضييق.

فإن قلت: إنّ ذلك كلّه فرع ثبوت المفهوم، والمدّعى أنّ عموم التعليل مانع عن ظهور القضيّة فيه.

قلت: المانع منه ليس إلاّ توهّم المعارضة بينهما، وإلاّ فظهورها الأوّلي فيه ممّا لا سبيل لإنكاره، وقد عرفت عدم المعارضة بينهما؛ لأنّ المفهوم لا يقتضي تخصيص العموم، بل هو على حاله من العموم، بل إنّما يقتضي خروج خبر

ص: 230

العادل عن موضوع القضيّة، لا عن حكمها، فلا معارضة بينهما أصلاً؛ لعدم تكفّل

العامّ لبيان موضوعه وضعاً ورفعاً، بل هو متكفّل لحكم الموضوع على فرض وجوده، والمفهوم يمنع عن وجوده(1)، انتهى.

ويرد عليه أوّلاً: أنّ التعليل يمنع عن المفهوم بلا إشكال. والسرّ فيه ليس ما أفاد المستشكل، بل هو أنّ القضيّة الشرطية إنّما تكون ذات مفهوم؛ لظهور التعليق في العلّية المنحصرة - كما هو المقرّر في محلّه(2) - وهذا الظهور إنّما ينعقد إذا لم يصرّح المتكلّم بعلّة الحكم؛ لأ نّه مع تصريحه بها لا معنى لإفادته العلّية، فضلاً عن انحصارها.

فقوله: «إن جاءك زيد فأكرمه» إنّما يدلّ على علّية المجيء للإكرام وانحصارها فيه إذا أطلق المتكلّم كلامه، وأمّا إذا صرّح بأنّ علّة الإكرام هو العلم،

لا يبقى ظهور له في العلّية، فضلاً عن انحصارها. ولعمري إنّ هذا واضح للمتأمّل، ومن العجب غفلة الأعلام عنه.

وهذا الإشكال ممّا لا يمكن دفعه أيضاً، وعليه لا وقع لما أفاده المحقّق المعاصر وغيره(3) في دفعه.

وثانياً: أنّ الظاهر أنّ الجهالة في الآية في مقابل التبيّن، ومعلوم أنّ التبيّن هو تحصيل العلم بالواقع وجعل الواقع بيّناً واضحاً، والجهالة التي في مقابلته بمعنى

ص: 231


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 171 - 173.
2- راجع مناهج الوصول 2: 157.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 262؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 385؛ نهاية الأفكار 3: 115.

عدم العلم بالواقع، لا بمعنى السفاهة والركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه، كما

أفاده رحمه الله علیه تبعاً للشيخ قدّس سرّه (1).(2)

وثالثاً: أنّ ما أفاد من حكومة المفهوم على عموم التعليل - مع كونه دوراً واضحاً؛ لأنّ الحكومة تتوقّف على المفهوم، وهو عليها - فممنوع؛ فإنّ غاية ما

ص: 232


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 261.
2- بل الحقّ أنّ الآية ليست بصدد بيان أنّ خبر الفاسق مطلقاً لا يعتنى به؛ لأنّ مناسبة صدرها وذيلها وتعليلها تجعلها ظاهرة في أنّ النبأ الذي كان له خطر عظيم - وأنّ الإقدام على طبقه موجب للمفاسد العظيمة والندامة، كإصابة القوم ومقاتلتهم - لا بدّ من تبيّنه والعلم بمفاده، ولا يجوز الإقدام عليه بلا تحصيل العلم، خصوصاً إذا جاء به الفاسق، فحينئذٍ فلا بدّ من إبقاء الظاهر على حاله؛ فإنّ الظاهر من التبيّن طلب الوضوح وتحقيق كذب الخبر وصدقه، ومن الجهالة في مقابل التبيّن هو عدم العلم بالواقع وليس معناها السفاهة. ولو فرض أ نّها إحدى معانيها - مع إمكان منعه؛ لعدم ذكرها في جملة معانيها في «الصحاح»أ و«القاموس»(ب) و«المجمع»(ج) وذكرها في بعض اللغات(د)، مع مخالفته للمتفاهم العرفي - لأمكن أن يقال: إنّ إطلاقها على السفاهة لأجل أ نّها جهالة، والسفيه جاهل بعواقب الاُمور وتدبيرها، لا أ نّها بعنوانها معناها. ثمّ إنّه على ما ذكرنا لا يلزم التخصيصات الكثيرة في الآية، على فرض حملها على العلم الوجداني، كما قيل(ه )، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ] أ - الصحاح 4: 1663. ب - القاموس المحيط 3: 363 - 364. ج - مجمع البحرين 5: 345. د - المصباح المنير: 113. ه - نهاية الأفكار 3: 115.

تدلّ عليه الآية هي جواز العمل على طبق قول العادل أو وجوبه، وليس لسانها لسان الحكومة، وليس فيها دلالة على كون خبر العادل محرزاً للواقع وعلماً في عالم التشريع.

نعم، لو ادّعى أحد أنّ قوله: )إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا((1) مفهومه عدم وجوب التبيّن في خبر العادل؛ لكونه متبيّناً في عالم التشريع، لكان للحكومة وجه، لكنّه غير متفاهمه العرفي، كما لا يخفى.

ومن الإشكالات المختصّة: لزوم خروج المورد عن المفهوم؛ فإنّه من الموضوعات الخارجية، وهي لا تثبت إلاّ بالبيّنة، فلا بدّ من رفع اليد عن المفهوم لئلاّ يلزم التخصيص البشيع.

ولقد تصدّى لردّه المحقّق المعاصر رحمه الله علیه بما ملخّصه: من أنّ المورد داخل في عموم المنطوق، وهو غير مخصّص؛ فإنّ خبر الفاسق لا اعتبار به مطلقاً، لا في الموضوعات ولا في الأحكام. وأمّا المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود؛ لأ نّه لم يرد في مورد إخبار العادل بالارتداد، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكم سائر العمومات الابتدائية، فلا مانع من تخصيصه.

ولا فرق بين المفهوم والعامّ الابتدائي سوى أنّ المفهوم كان ممّا تقتضيه خصوصية في المنطوق، ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق من حيث المورد، بل القدر اللازم هو أن يكون الموضوع في المنطوق والمفهوم واحداً(2)، انتهى.

ص: 233


1- الحجرات (49): 6.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 174.

وفيه ما لا يخفى: فإنّ الآية الشريفة - على فرض دلالتها على المفهوم - إنّما تدلّ على أنّ التبيّن إنّما يختصّ بخبر الفاسق، وإنّما الاعتراض والتشنيع على ترتيب الأثر في المورد بإخبار الوليد الفاسق، ولولا فسقه أو كون المخبر غيره من العدول لما توجّه اعتراض ولوم.

وبالجملة: أنّ العلّة المنحصرة لتوجّه الاعتراض والتشنيع في المورد حتّى أتى الله بضابط عامّ وقانون كلّي هو فسق المخبر، لا كونه واحداً.

مع أ نّه لو كان عادلاً واحداً لتوجّه على العامل بقوله الاعتراض بترتيب الأثر على قول شاهد واحد في الموضوعات، مع لزوم التعدّد فيها.

فتحصّل منه: أنّ التخصيص هاهنا في المفهوم بشيع، فلا بدّ من رفع اليد عن المفهوم والالتزام بأنّ الآية سيقت لبيان المنطوق فقط، كما هو الحقّ.

وبما ذكرنا يظهر النظر فيما أفاد الشيخ العلاّمة الأنصاري في الجواب عن الاعتراض(1)، فراجع.

الإشكالات الغير المختصّة بآية النبأ وأجوبتها

ومن الإشكالات التي تعمّ جميع الأدلّة: هو وقوع التعارض بينها وبين عموم الآيات الناهية عن العمل بالظنّ وما وراء العلم(2)، والمرجع بعد التعارض إلى أصالة عدم الحجّية.

وفيه ما عرفت: من أنّ الآيات - التي هي غير قابلة للتخصيص، وتقع

ص: 234


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 270.
2- راجع ما تقدّم من الآيات في الصفحة 218.

المعارضة بينها وبين غيرها حتّى الأخصّ المطلق منها - مربوطة بالاُصول الاعتقادية.

وأمّا ما هو عامّ أو مختصّ بالفروع - مثل قوله تعالى: )وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ((1) - فهو قابل للتخصيص، وتكون نسبته مع أدلّة الحجّية عامّاً وخاصّاً مطلقاً، أو إطلاقاً وتقييداً.

وأمّا ما أفاد بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - من أنّ أدلّة الحجّية حاكمة على الآيات الناهية؛ لأنّ أدلّة الحجّية تقتضي خروج العمل بخبر العادل عن كونه عملاً بالظنّ(2) - فقد عرفت أ نّه ممّا لا أساس له؛ لعدم كون لسانها لسان الحكومة(3).

كما أنّ ما أفاد - من أنّ نسبة الآيات الناهية مع أدلّة الحجّية نسبة العموم

والخصوص، والصناعة تقتضي تخصيص عمومها بما عدا خبر العدل(4) - لا يكفي لدفع الإشكال؛ فإنّ العامّ إذا كان غير قابل للتخصيص تقع المعارضة بينه وبين الخاصّ منه، والصناعة لا تقتضي التخصيص، ولمدّعي المعارضة أن يدّعي ذلك، والجواب ما عرفت.

ومن الإشكالات الغير المختصّة: أ نّه لا يمكن حجّية الخبر الواحد؛ لأ نّه يلزم من حجّيته عدم حجّيته؛ فإنّه لو كان حجّة لكان خبر السيّد بطريق الإجماع

ص: 235


1- الإسراء (17): 36.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 160 - 161.
3- تقدّم في الصفحة 220.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 175 - 176.

على عدم حجّيته(1) حجّةً، فيلزم من حجّية الخبر عدمها، وهو باطل بالضرورة،

فالحجّية باطلة بالضرورة.

والجواب - مضافاً إلى أ نّه من الإجماع المنقول، وأدلّة الحجّية لا تشمله - أنّ الاستحالة لا تستلزم من حجّية الخبر، بل من إطلاق دليل الحجّية وشموله لخبر السيّد، فإطلاقه وشموله له مستحيل، لا أصل الحجّية(2).

ص: 236


1- رسائل الشريف المرتضى 1: 24 و 3: 309.
2- وقد يقال باستحالة شمول إطلاق المفهوم لمثل خبر السيّد الحاكي عن عدم الحجّية؛ لاستلزامه لشمول إطلاقه لمرتبة الشكّ بمضمون نفسه؛ لأنّ التعبّد بإخبار السيّد بعدم الحجّية إنّما كان في ظرف الشكّ في الحجّية واللا حجّية، وهو عين الشكّ بمضمون الآية، وإطلاق المفهوم لمثل هذه المراتب المتأخّرة غير ممكنأ. وفيه: منع امتناع الشمول له؛ لعدم الدليل عليه إلاّ توهّم تأخّر الشكّ عن الجعل، وعدم إمكان الإطلاق للمتأخّر عنه، وهو ممنوع؛ لأنّ الشكّ في جعل الحجّية لخبر الواحد ممكن، سواء جعل الحجّية له واقعاً أو لا، والآية الشريفة رافعة لهذا الشكّ، فإذا شكّ في شمول الآية لخبر السيّد - مع كونه نبأً - نتمسّك بإطلاقها لدخوله. ولولا إشكالات اُخر لم يكن هذا إشكالاً. وبهذا لو فرض عدم الإجماع على عدم الفرق بين النبأ قبل نبأ السيّد وبعده، وعدم كون إجماع السيّد على عدم الحجّية مطلقاً، لجاز الأخذ بمفاد المفهوم، والحكم بحجّية الأخبار إلى زمن السيّد، وعدم الحجّية فيما بعده - كما أفاد المحقّق الخراساني - من غير ورود إشكال أصلاً. فالقول بامتناع شمول الإطلاق لمثل خبر السيّد تقوّل بلا برهان. وقد يقال: إنّ الأمر في المقام دائر بين التخصيص والتخصّص؛ لأنّ شمول الآية لسائر الأخبار يجعلها مقطوعة الحجّية، فيعلم بكذب خبر السيّد؛ لأنّ مضمونه عدم الحجّية، وأمّا شمولها لخبر السيّد وإخراج غيره يكون من قبيل التخصيص؛ لعدم العلم بكذب مؤدّياتها ولو مع العلم بحجّية خبر السيّد؛ لأنّ مؤدّياتها غير الحجّية واللاحجّية(ب). و فيه أوّلاً: أنّ مفاد الآية - وكذا سائر أدلّة الحجّية - ليس حجّية الخبر، بل مفادها وجوب العمل، وتنتزع الحجّية من الوجوب الطريقي، كما أنّ مفاد إجماع السيّد حرمة العمل، وعدم الحجّية تنتزع منه، فحينئذٍ يسقط الدوران المذكور، بل يدور بين التخصيصين. وثانياً: أنّ مضمون الآية لو كان جعل الحجّية للأخبار فلا إشكال؛ لعدم شموله لما قطع بعدم جعل الحجّية له، أو قطع بجعل الحجّية له. فحينئذٍ: لو شملت الآية خبر السيّد لصار خبره مقطوع الحجّية، وخبر غيره مقطوع عدم الحجّية وإن لم يكن مقطوع المخالفة للواقع، فيصير حال غير خبره كحاله في خروجه تخصّصاً، فتدبّر. [منه عفي عنه] أ - نهاية الأفكار 3: 118 - 119. ب - نهاية الأفكار 3: 119.

وأيضاً: الأمر دائر بين تخصيص أدلّة الحجّية إلى بقاء فرد واحد تحتها، وبين تخصيص فرد واحد منها وبقائها بحالها في البقيّة، ومقتضى أصالة العموم تعيّن الثاني.

وأيضاً: في مقام إفادة عدم الحجّية، إلقاءُ الكلام الدالّ على الحجّية بشيع لا ينبغي صدوره من الحكيم.

وأمّا ما عن المحقّق الخراساني: أ نّه من الجائز أن يكون خبر العادل حجّة من زمن صدور الآية إلى زمن صدور هذا الخبر من السيّد، وبعده يكون هذا الخبر حجّة فقط، فيكون شمول العامّ لخبر السيّد مفيداً لانتهاء الحكم في هذا الزمان، وليس هذا بمستهجن(1).

ففيه: أنّ الإجماع كاشف عن كون حكم الله من أوّل الأمر كذلك، لا من زمان دعوى الإجماع، فإذا كان الإجماع حجّة يكشف عن عدم حجّية خبر العادل من

ص: 237


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 110.

زمن النبي صلی الله علیه و آله وسلم ، وعمل الناس على طبقه قبل دعوى السيّد الإجماع إنّما هو لجهلهم بالحكم الشرعي، وتوهّمهم الحجّية لظاهر أدلّة مخالفة للإجماع بحسب الواقع، فلا معنى لما أفاده من انتهاء زمن الحجّية.

وبذلك يعرف النظر فيما أفاده شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في «درره»

من قوله: إنّ بشاعة الكلام - على تقدير شموله لخبر السيّد - ليست من جهة خروج تمام الأفراد سوى فرد واحد؛ حتّى يدفع بما أفاده، بل من جهة التعبير بالحجّية في مقام إرادة عدمها، وهذا لا يدفع بما أفاد(1)، انتهى.

فإنّ البشاعة لا تدفع حتّى إذا كانت من الجهة الاُولى؛ لما عرفت من أنّ الإجماع كاشف عن [عدم] الحجّية من زمن النبي صلی الله علیه و آله وسلم فيكون - بحسب الواقع - تمام الأفراد خارجاً عن العمومات سوى فرد واحد، وإن كان الكاشف عنه إجماع السيّد.

وأمّا لو سلّمنا أنّ خبر السيّد يفيد انتهاء الحجّية في زمنه، فيدفع البشاعة حتّى من الجهة الثانية؛ فإنّ شمول إطلاق أدلّة الحجّية لفرد متأخّر عن زمان الصدور - يفيد انتهاء أمد الحكم بعد العمل به في الأزمنة المتتالية - لابشاعة فيه أصلاً.

ومن الإشكالات الغير المختصّة: إشكال شمول أدلّة الحجّية للأخبار مع الواسطة، والمهمّ منه إشكالان:

أحدهما: دعوى لزوم إثبات الحكم لموضوعه؛ فإنّ إحراز الوسائط

إنّما يكون بدليل الحجّية، مع أنّ مفاده وجوب التصديق الذي هو حكم

ص: 238


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 387.

لتلك الموضوعات، فوجوب التصديق ممّا يحرز الموضوع ويترتّب عليه، وهو محال.

وثانيهما: دعوى لزوم كون الحكم ناظراً إلى نفسه؛ فإنّ وجوب التصديق الذي يتعلّق بالخبر مع الواسطة، إنّما يكون بلحاظ الأثر الذي هو وجوب التصديق(1).

ص: 239


1- وهاهنا إشكالان آخران؛ أحدهما: دعوى انصراف الأدلّة عن الأخبار مع الواسطة، لا كما قرّره الشيخ وأجابه وجعله ضعيفاً أ، بل أن يقال: إنّها منصرفة عن المصداق التعبّدي للخبر المحرَز بدليل الحجّية، بل الظاهر منها هو الأخبار الوجدانية لا التعبّدية، خصوصاً ما هو مصداق بنفس تلك الأدلّة. أو يقال: إنّ الوسائط إذا صارت كثيرة جدّاً - كالوسائط بيننا وبين المعصومين - تكون الأدلّة منصرفة عنها، بل لا يمكن إحراز حجّيتها ببناء العقلاء أيضاً؛ لعدم إحراز بنائهم على الخبر الذي كثرت وسائطه كذلك، ولم يكن في زمن الشارع بناء منهم على العمل بمثل ذلك؛ حتّى يكشف عدم الردع من السكوت. والجواب عن الأوّل: بمنع الانصراف، بل الحقّ أنّ العرف لا يفهم الفرق بين الأخبار بلا واسطة ومعها؛ بحيث لو قصر الإطلاق عن شمولها يحكم بمحكوميتها بالحكم بإلقاء الخصوصية، أو بتنقيح المناط، كما ادّعى الشيخ الأعظم(ب). وعن الثاني: بأ نّه لو سلّم فإنّما هو في الوسائط الكثيرة جدّاً، وليست أخبارنا كذلك؛ لأنّ الكتب الأربعة - التي دارت عليها رحى الاجتهاد - متواترة عن مصنّفيها بحيث نقطع بكونها منهم، ولا نحتاج في إثباتها إلى أدلّة الحجّية، والوسائط بينها وبين المعصومين ليست كثيرة يمكن دعوى الانصراف بالنسبة إليها، أو التردّد في بناء العقلاء في مثلها؛ ضرورة أنّ العقلاء يتّكلون على الأخبار مع مثل تلك الوسائط. [منه قدّس سرّه ] أ - فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 265 - 266. ب - فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 268 - 270.

ولقد تصدّى المحقّقون لجوابهما: بكون أدلّة الحجّية من قبيل القضايا الحقيقية

المنحلّة إلى الموضوعات المتكثّرة المحقّقة والمقدّرة، فلا مانع من تحقّق الموضوع بها وشمولها لنفسها، كما في قوله: «كلّ خبري صادق»؛ فإنّه يشمل هذا الخبر؛ لكون القضيّة حقيقية. كما لا مانع [من] كون الحكم ناظراً إلى نفسه مع الانحلال إلى القضايا(1).

ولقد أطال بعض أعاظم العصر - على ما في تقريرات بحثه - في المقام بما لا يخلو عن خلط وإشكال، فقال ما ملخّصه:

إنّ هذا الإشكال - أي الإشكال الثاني - غير وارد على طريقتنا: من أنّ المجعول في باب الأمارات نفس الكاشفية والوسطية في الإثبات؛ لأنّ المجعول في جميع السلسلة هو الطريقية إلى ما تؤدّي إليه - أيّ شيء كان المؤدّى - فقول الشيخ طريق إلى قول المفيد، وهو إلى قول الصدوق، وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول الإمام علیه السلام ، ولا نحتاج في جعل الطريق إلى أن يكون في نفس المؤدّى أثر شرعي، بل يكفي الانتهاء إلى الأثر، كما في المقام.

هذا، ويمكن تقرير الإشكال بوجه آخر - لعلّه يأتي حتّى بناءً على المختار - وهو أ نّه لو عمّ دليل الاعتبار للخبر مع الواسطة، للزم أن يكون الدليل حاكماً على نفسه، ويتّحد الحاكم والمحكوم؛ لأنّ أدلّة الاُصول والأمارات حاكمة على الأدلّة الأوّلية الواردة [لبيان] الأحكام الواقعية، ومعنى حكومتها هوأ نّها مثبتة لتلك الأحكام، وفيما نحن فيه يكون الحكم الواقعي هو وجوب التصديق، واُريد

ص: 240


1- كفاية الاُصول: 341؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 179؛ نهاية الأفكار 3: 124.

إثباته بدليل وجوب التصديق، فيكون دليل وجوب التصديق حاكماً على نفسه؛ أي مثبتاً لنفسه.

ونظير هذا الإشكال يأتي في الأصل السببي والمسبّبي؛ فإنّ لازمه حكومة دليل «لا تنقض»(1) على نفسه.

والتحقيق في الجواب: أنّ دليل الاعتبار قضيّة حقيقية تنحلّ إلى قضايا، فدليل التعبّد ينحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد السلسلة، ويكون لكلّ منها أثر يخصّه غير الأثر المترتّب على الآخر، فلا يلزم اتّحاد الحاكم والمحكوم، بل تكون كلّ قضيّة حاكمة على غيرها.

فإنّ المخبر به لخبر الصفّار الحاكي لقول العسكري علیه السلام في مبدأ السلسلة لمّا كان حكماً شرعياً - من وجوب الشيء، أو حرمته - وجب تصديق الصفّار في إخباره عن العسكري بمقتضى أدلّة خبر الواحد، والصدوق الحاكي لقول الصفّار حكى موضوعاً ذا أثر شرعي، فيعمّه دليل الاعتبار، وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول الشيخ المحرز بالوجدان، فبواسطة الانحلال لا يلزم أن يكون الأثر المترتّب على التعبّد بالخبر بلحاظ نفسه، ولا حكومة الدليل على نفسه، فيرتفع الإشكال(2).

ص: 241


1- وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
2- لا يخفى أنّ الأجوبة التي ذكروها في دفع الإشكال عن الأخبار مع الواسطة غير مقنعة: أمّا أوّلاً: فلأنّ أدلّة حجّية خبر الواحد - أي الآيات الكريمة التي أهمّها آية النبأ أ - ليس لسانها لسان تتميم الكشف، وجعل خبر الواحد مصداق العلم تشريعاً كما يدّعى(ب)، بل لسانها إيجاب العمل على فرض الدلالة، ويمكن أن يكون حصول الظنّ النوعي منه أو الكشف الظنّي عن الواقع، نكتة التشريع، أو ذلك مع عدم وقوع الناس في الكلفة نكتته، ولا دليل على أنّ إيجاب العمل لإلقاء احتمال الخلاف وجعل مصداق من العلم، فحينئذٍ يسقط ما تشبّثوا (ج) به من إحراز الموضوع بدليل «صدّق العادل» وتعلّق الحكم الانحلالي به، وهكذا. كما أ نّه لا دلالة لها على التعبّد بوجود المخبَر به؛ حتّى يأتي فيه ذلك. وأمّا ثانياً: فعلى فرض تتميم الكشف لا بدّ من أثر عملي للمنكشف بالخبر، ولا إشكال في أنّ خبر الشيخ لا يكون وجوب صلاة الجمعة، بل لا يخبر إلاّ عن قول المفيد بكذا من غير إخبار عن مقول قوله، فلا أثر لقوله بما هو قوله. والانتهاء إلى الأثر إن كان بالملازمة العقلية أو العادية فلا بأس به، لكنّها ممنوعة، والملازمة الشرعية تحتاج إلى جعل، وليس في البين إلاّ هذه الأدلّة، فما أفاده شيخنا العلاّمة(د) غير ظاهر. ودعوى دخالة كلّ خبر في موضوع الحكم(ه) كما ترى؛ فإنّ موضوع الوجوب مثلاً هو صلاة الجمعة، لا هي مع كونها محكيّة. مع أنّ الانتهاء إلى الأثر إنّما هو بالتعبّد، ولا بدّ للتعبّد من الأثر. وبالجملة: أنّ خبر الشيخ لا عمل له، ولا أثر عملي له، ولا يكون جزء موضوع للعمل. نعم له أثر عملي بما هو موضوع من الموضوعات، وهو جواز نسبة الخبر إلى المفيد، وهكذا، لكنّه لا بدّ فيه من البيّنة كسائر الموضوعات. وثالثاً: بناءً على أنّ المجعول وجوب تصديق العادل، لا محيص إلاّ أن يكون المراد هو التصديق العملي؛ أي ترتيب الآثار عملاً، ولا عمل لإخبار الشيخ؛ لأنّ وجوب صلاة الجمعة ليس مفاد خبره، ولهذا لو لم تكن واجبة لم يكن قول الشيخ مخالفاً للواقع، بل لو لم يخبر به المفيد لكان خبره مخالفاً له ولو كانت الصلاة واجبة، فحينئذٍ فلا معنى للتعبّد بخبر الشيخ. والعجب منهم حيث تشبّثوا بتصحيح الحجّية بأوّل السلسلة وأنّ قول الصفّار له أثر غير وجوب التصديق، فيجب تصديقه، فصار ذا أثر، فإذا أخبر الصدوق يكون إخباره موضوعاً ذا أثر حتّى ينتهي إلى آخر السلسلة(و)، مع أنّ هذا إنّما يتمّ لو كان إخبار الصفّار للكلينيثابتاً، وهو لا يثبت إلاّ بدليل التعبّد، فلا بدّ من التشبّث بأوّل السلسلة، وهو أيضاً مخدوش كما عرفت. نعم، لا يبعد أن يقال: إنّ العرف والعقلاء لا يفرّقون بين الأخبار مع الواسطة وبلا واسطة، ويفهمون من دليل الحجّية أ نّها لا تختصّ بالأخبار بلا واسطة، ولا يجب أن تكون كلّ واسطة ذا أثر شرعي، بل لا بدّ وأن لا تكون لغواً، وجعل الحجّية ليس بلغو في المقام. والسرّ في عدم تفرقتهم بينهما يمكن أن يكون لأجل أنّ نظرهم إلى الوسائط يكون طريقياً، ولهذا لا يعدّون الخبر مع الوسائط أخباراً عديدة، بل خبراً واحداً ذا وسائط، فإذا قيل لهم: «اعملوا بقول العادل» وكان الوسائط عدولاً، لا يخطر ببالهم أنّ هاهنا أخباراً متعدّدة، ولا عمل لغير واحد منها، بل لا يرون إلاّ خبراً واحداً ذا عمل اُمروا بالعمل على طبقه، ولهذا يكون الدليل الدالّ على احتياج الموضوعات إلى البيّنة منصرفاً عن أقوال الوسائط، مع كونها موضوعات، بل قول الإمام أيضاً كذلك، ولهذا لو كان لقول بعض الوسائط أثر خاصّ لم يمكن إثباته إلاّ بالبيّنة، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ] أ - الحجرات (49): 6. ب - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 195. ج - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 179؛ نهاية الأفكار 3: 124 - 125. د - درر الفوائد، المحقّق الحائري: 388 - 389. ه - نهاية الأفكار 3: 124 - 125. و - درر الفوائد، المحقّق الحائري: 389؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 182؛ نهاية الأفكار 3: 124.

ص: 242

ومن ذلك يظهر دفع الإشكال في حكومة الأصل السببي على المسبّبي؛ فإنّ انحلال قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ» يقتضي حكومة أحد المصداقين على

ص: 243

الآخر، كما فيما نحن فيه، وإنّما الفرق بينهما أنّ الحكومة في باب الأصل السببي والمسبّبي تقتضي إخراج الأصل المسبّبي عن تحت قوله: «لا تنقض اليقين

بالشكّ»، وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في دليل الاعتبار.

هذا، وقد أوضح الفاضل المقرّر رحمه الله علیه مراده في ذيل الصحيفة بما حاصله: أنّ طريق حلّ الإشكال الأوّل - وهو إثبات الموضوع بالحكم - مع طريق حلّ الإشكال الثاني، وإن كان أمراً واحداً - وهو انحلال القضيّة - إلاّ أنّ حلّ الإشكال الأوّل يكون بلحاظ آخر السلسلة، وهو خبر الشيخ المحرز بالوجدان؛ فإنّ وجوب تصديقه يثبت موضوعاً آخر، وحلّ الإشكال الثاني بلحاظ مبدأ السلسلة، وهو الراوي عن الإمام علیه السلام ؛ فإنّ وجوب تصديقه بلحاظ الأثر الذي هو غير وجوب التصديق، ثمّ يكون وجوب تصديقه أثراً لإخبار الآخر، وهكذا إلى آخر السلسلة(1)، انتهى كلامهما رفع مقامهما.

وفيه مواقع للنظر:

الأوّل: أنّ ما أفاد - من أنّ الإشكال الثاني غير وارد على مسلك جعل الطريقية - منظور فيه؛ فإنّ ملخّص هذا الإشكال لزوم كون الدليل ناظراً إلى نفسه، وكون دليل الجعل باعتبار الأثر الذي هو نفسه، وهذا بعينه وارد على هذا المسلك ببيان آخر؛ فإنّ خبر الشيخ المحرَز بالوجدان طريق إلى خبر المفيد وكاشف عنه بدليل الاعتبار، وهو كاشف عن خبر الصدوق بدليل الاعتبار أيضاً،

ص: 244


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 180 - 184 و 183، الهامش 1.

وهكذا، فدليل جعل الكاشفية ناظر إلى جعل كاشفية نفسه، ويكون جعل الكاشفية باعتبار جعل الكاشفية، وهو محال.

الثاني: أنّ ما أفاد - من أنّ أدلّة الاُصول والأمارات حاكمة على أدلّة الأحكام الواقعية، ومعنى حكومتها هو أ نّها مثبتة لتلك الأحكام - ففيه: أوّلاً: أنّ أدلّة الاُصول ليست مثبتة للأحكام الواقعية، بل هي مثبتة لوظائف في زمان الشكّ حتّى في الاُصول المحرزة؛ فإنّ مفادها البناء على الإحراز، لا الإحراز الذي في الطرق. وثانياً: أنّ مجرّد إثبات الأمارات الأحكام الواقعية لا يوجب حكومتها عليها؛ لعدم انطباق ضابطة الحكومة على ذلك، كما لا يخفى، وسيأتي في محلّه(1). نعم بعض أدلّة الاُصول حاكمة على أدلّة الشرائط، كأصالة الطهارة؛ فإنّ مفادها توسعة دائرة الشرطية.

الثالث: أنّ بيان كون الدليل حاكماً على نفسه يمكن أن يكون بوجه آخر، وهو: أنّ أدلّة اعتبار الخبر لمّا كانت مثبتة لموضوع نفسها، تكون حاكمة على نفسها؛ ضرورة حكومة قوله: «أخبر العادل» على قوله: «صدّق خبر العادل»، مثل حكومة قوله: «زيد عالم» على قوله: «أكرم العالم»، فما يكون مفاده تحقّق خبر العادل، يكون حاكماً على ما يكون مفاده تصديقه، والفرض أنّ دليل الاعتبار متكفّل لكلا الأمرين، فيكون حاكماً على نفسه. ولا يخفى أ نّه على هذا التقرير يكون هذا الوجه تقريراً آخر للإشكال الأوّل، لا الثاني.

والمظنون أنّ الفاضل المقرّر قد خلط في تقريره، والشاهد عليه أ نّه في ذيل

ص: 245


1- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 269.

كلامه - الذي تصدّى لبيان الفرق بين حكومة الأصل السببي والمسبّبي، وبين ما نحن فيه - قال: «إنّ الحكومة في باب الأصل السببي والمسبّبي تقتضي إخراج الأصل المسبّبي عن تحت قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»، وحكومة دليل الاعتبار فيما نحن فيه تقتضي إدخال فرد في دليل الاعتبار؛ فإنّ وجوب تصديق الشيخ في إخباره عن المفيد يقتضي وجوب تصديق المفيد في إخباره عن الصدوق، فوجوب تصديق الشيخ يدخل فرداً تحت عموم وجوب التصديق، بحيث لولاه لما كان داخلاً فيه»(1)، انتهى. فإنّه صريح فيما ذكرنا.

فتحصّل من ذلك: أنّ حكومة دليل الاعتبار على نفسه إنّما هي باعتبار تحقّق موضوعه بنفسه، لا باعتبار إثبات الحكم كما أفاد أوّلاً.

الرابع: أنّ ما أفاد - من أنّ طريق حلّ الإشكالين وإن كان واحداً، وهو انحلال القضيّة إلى القضايا، إلاّ أنّ حلّ الثاني باعتبار أوّل السلسلة - فيه من الخلط ما لا يخفى؛ فإنّ قول الراوي عن الإمام علیه السلام - على فرض ثبوته - وإن كان ذا أثر غير وجوب التصديق، لكن وجوب تصديقه يتوقّف على ثبوته، وهو يتوقّف على وجوب التصديق، فلا يمكن حلّ الإشكال باعتبار أوّل السلسلة؛ لعدم الموضوع لدليل وجوب التصديق، فلا بدّ من حلّ كلا الإشكالين باعتبار آخر السلسلة - وهو خبر الشيخ المحرز بالوجدان - دفعاً للدور المستحيل.

ص: 246


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 184.

الاستدلال بآية النفر

قوله: «ومنها: آية النفر(1) »(23).

قد تصدّى بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه لتقريب الاستدلال بها بما زعم أ نّه يندفع به ما اُورد على الاستدلال بها، فقال ما محصّله: إنّ الاستدلال يتركّب من اُمور:

الأوّل: أنّ كلمة «لعلّ» - مهما تستعمل - تدلّ على أنّ ما يتلوها يكون من العلل الغائية لما قبلها، سواء في ذلك التكوينيات والتشريعيات، والأفعال الاختيارية وغيرها، فإذا كان ما يتلوها من الأفعال الاختيارية التي تصلح لأن يتعلّق بها الإرادة الآمرية، كان - لا محالة - بحكم ما قبلها في الوجوب والاستحباب.

وبالجملة: لا إشكال في استفادة الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب علّته الغائية. وفي الآية جعل التحذّر علّة غائية للإنذار، ولمّا كان الإنذار واجباً كان التحذّر واجباً.

الثاني: أنّ المراد من الجموع التي في الآية هي الجموع الاستغراقية، لا المجموعية؛ لوضوح أنّ المكلّف بالتفقّه هو كلّ فرد فرد من النافرين أو المتخلّفين على التفسيرين، فالمراد أن يتفقّه كلّ فرد منهم، ويُنذر كلّ واحد منهم، ويتحذّر كلّ واحد منهم.

الثالث: المراد من التحذّر هو التحذّر العملي، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر وتصديق قوله، والجري على ما يقتضيه من الحركة والسكون، وليس المراد

ص: 247


1- التوبة (9): 122.

الحذر عند حصول العلم من قول المنذر، بل مقتضى الإطلاق والعموم الاستغراقي في قوله: )لِيُنْذِرُوا( هو وجوب الحذر مطلقاً، حصل العلم من قول المنذر أو لم يحصل، غايته أ نّه يجب تقييد إطلاقه بما إذا كان المنذر عدلاً.

وبعد العلم بهذه الاُمور لا أظنّ أن يشكّ أحد في دلالتها على حجّية الخبر الواحد. وبما ذكرنا من التقريب يمكن دفع جميع ما ذكر من الإشكالات على التمسّك بها(1)، انتهى. ثمّ تصدّى لبيان الإشكالات ودفعها.

أقول: يرد عليه أوّلاً: أنّ ما ادّعى - من أنّ ما بعد كلمة «لعلّ» يكون علّة غائية لما قبلها في جميع موارد استعمالاتها - ممنوع، كما يظهر من تتبّع موارد استعمالاتها، كما أنّ في قوله تعالى: )فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً((2) لم يكن بُخوع نفسه الشريفة علّة غائية لعدم إيمانهم، ومعلوم أنّ الجملة الشرطية في حكم التقدّم على جزائها. ولكنّ الخطب سهل بعد كون ما نحن فيه من قبيل ما أفاده رحمه الله علیه .

وثانياً: أنّ دعوى كون التحذّر واجباً لكونه غاية للإنذار الواجب ممنوعة؛ فإنّ غاية ما يقال في وجه وجوبه هو كونه غاية للنفر المستفاد وجوبه من «لولا» التحضيضية الظاهرة في الوجوب.

وفيه: أنّ قوله تعالى - قبل ذلك - : )وَمَاكَانَ المُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً((3) منع عن النفر العمومي؛ أي لا يسوغ لهم النفر جميعاً، وإبقاء رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وحده،

ص: 248


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 185 - 187.
2- الكهف (18): 6.
3- التوبة (9): 122.

كما هو منقول في تفسيرها(1) وبعد هذا المنع قال: )فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ(، فتكون الآية بصدد المنع عن النفر العمومي، لا إيجاب نفر طائفة من المؤمنين.

فيصير محصّل مفادها - والعلم عند الله - : أ نّه لا يسوغ للمؤمنين أن ينفروا

جميعاً، فينفرد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فَلِمَ لا يكون نفرهم بطريق التفرقة، وبقاء طائفة، ونفر طائفة اُخرى ؟ فيتوجّه الحثّ المستفاد من كلمة «لولا» التحضيضية إلى لزوم التجزئة وعدم النفر العمومي، لا إلى نفر طائفة للتفقّه(2).

وثالثاً: أنّ ما ادّعى - من أنّ المراد من الحذر هو الحذر العملي، وهو يحصل بالعمل بقول المنذر - في محلّ المنع، بل الظاهر من الآية الشريفة: أنّ المنذرين

ص: 249


1- مجمع البيان 5: 126.
2- ودعوى أنّ ذلك مخالف لظاهر الآية، فلو كان المراد ما ذكر لاكتفى بالآية الاُولى، فذكر قوله: )فَلَوْلاَ نَفَرَ( لإيجاب النفر للتفقّه. هذا مع أنّ ظاهر قوله: )وَمَا كَانَ المُؤمِنُونَ(ليس نهياً، بل إخبار عن عدم إمكان النفر العمومي؛ لاختلال النظام به. ممنوعة: بأنّ عدم الاكتفاء بالجملة الاُولى لعلّه لدفع ما ينقدح في الأذهان: من أنّ عدم نفر الجميع يوجب بقاء سائر الطوائف في الجهالة، فقال تعالى ما قال، فليست الآية في مقام بيان وجوب النفر. وقوله: )وَ مَا كَانَ المُؤمِنُونَ( إخبار في مقام الإنشاء، ولو بقرينة شأن نزول الآية، كما قال المفسّرونأ، وليس المراد الإخبار بأمر واضح لم يختلج ببال أحد خلافه، إلاّ أن يحمل على كونه مقدّمة لقوله: )فَلَوْلاَ نَفَرَ(، وهو خلاف الظاهر، بل ليس المراد بالنهي عن النفر إلاّ في مورد شأن نزول الآية، وإلاّ فعدم إمكان نفر جميع الناس في جميع الأدوار واضح لا يحتاج إلى النهي. [منه قدّس سرّه ] أ - مجمع البيان 5: 126.

لينذروا قومهم بالموعظة، والإيعاد بعذاب الله وشدّة بأسه، حتّى يخافوا من عقابه

وعذابه، فإذا خافوا يعملون بوظائفهم الشرعية، وليست الآية في مقام بيان وجوب التحذّر حتّى يقال: إنّه تحذّر عملي، بل الظاهر أنّ المقصود حصول التحذّر القلبي والخوف والخشية للناس حتّى يقوموا بوظائفهم.

ولا يلزم أن يكون المنذر عادلاً، بل قد يكون تأثير كلام غيره أكثر منه بمراتب؛ لحسن بيانه، وقوّة إفهامه، ونفوذ كلامه. وبالجملة: بين مضمون الآية الشريفة والدلالة على حجّية الخبر الواحد، بونٌ بعيد.

ورابعاً: لو سلّمنا جميع ذلك، فليس للآية إطلاق من هذه الجهة؛ فإنّها ليست في مقام بيان وجوب التحذّر، بل فيها إهمال من هذه الحيثية. ومجرّد كون الجموع استغراقية لا يوجب رفع الإهمال؛ فإنّ الإطلاق من أحوال الفرد، وأيّ ربط بين استغراقية الجمع والإطلاق الفردي ؟ !

والعجب منه قدّس سرّه حيث قال في جواب هذا الإشكال بهذه العبارة: وأنت خبير بأ نّه [بعد] ما عرفت من أنّ المراد من الجمع هو العامّ الاستغراقي، لا يبقى موقع لهذا الإشكال؛ فإنّه أيّ إطلاق يكون أقوى من إطلاق الآية بالنسبة إلى حالتي حصول العلم من قول المنذر وعدمه ؟ !(1)، انتهى.

وهو كما ترى في كمال السقوط، وليته بيّن الربط بين الجمع الاستغراقي والإطلاق الفردي.

وخامساً: أنّ المستفاد من بعض الروايات الواردة في تفسير الآية تطبيقها

ص: 250


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 187.

على النفر لأجل تحصيل العلم بإمامة بعض الأئمّة علیهم السلام بعد وفاة بعض منهم، وإخبارهم قومهم بها(1)، ومعلوم أنّ خبر الثقة لا يعتمد عليه في الاُصول

الاعتقادية، بل لا بدّ من العلم فيها، وهذا أيضاً يشهد بعدم إطلاق لها كما مرّ.

الاستدلال بالأخبار على حجّية خبر الواحد

قوله: «في الأخبار...»(24).

أقول: ما استدلّوا بها من الأخبار(2) على حجّية الخبر الواحد - مع كثرتها وتواترها إجمالاً - لا تدلّ على جعل الحجّية والطريقية والوسطية في الإثبات للخبر الواحد. نعم، يظهر من مجموعها أنّ حجّيته كانت مفروغاً عنها بين الراوي والمرويّ عنه.

ومدّعي القطع بأنّ الشارع لم يكن في مقام تأسيس الحجّية للخبر في مقابل بناء العقلاء، بل كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم والأئمّة علیهم السلام يتعاملون معه معاملة سائر العقلاء ويعملون به عملهم، ليس بمجازف.

ولمّا كان بناء العقلاء على العمل به مسلّماً مرتكزاً في أذهانهم، كانت الأدلّة [المستدلّ بها] على حجّيته من الكتاب والسنّة - على فرض دلالتها - محمولة على الأمر العقلائي والإمضاء لطريقتهم، لا على تأسيس الحجّية وجعل الطريقية والمحرزية والكاشفية، كما تمور به الألسن موراً.

ص: 251


1- راجع الكافي 1: 378 / 1 - 3.
2- راجع وسائل الشيعة 27: 77، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 8 و: 136، الباب 11؛ جامع أحاديث الشيعة 1: 268، باب حجّية أخبار الثقات.

وأمّا ما أفاد المحقّق الخراساني رحمه الله علیه - وتبعه شيخنا الاُستاذ(1) طاب ثراه - من أنّ الأخبار الدالّة على حجّية الخبر متواترة إجمالاً، فيؤخذ بأخصّها مضموناً، ويتعدّى ببركته إلى الأعمّ منه(2).

فالظاهر أ نّه - بعد تسليم التواتر - مجرّد فرض، وإلاّ فلا أظنّ أن يكون في الأخبار ما يكون جامعاً لشرائط الحجّية، ودالاًّ على حجّية الخبر مطلقاً(3).

ص: 252


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 392.
2- كفاية الاُصول: 347.
3- بل القدر المتيقّن هو الإخبار بلا واسطة، مع كون الراوي من الفقهاء؛ أضراب زرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير. ومعلوم أ نّه لم يصل إلينا خبر كذائي؛ حتّى يتمسّك به لإثبات الحجّية المطلقة. لكن هاهنا وجه آخر لإثبات حجّية مطلق خبر الثقة: وهو أ نّه لا إشكال في بناء العقلاء في الجملة، فحينئذٍ إن ثبت بناؤهم في مقام الاحتجاج على العمل بمطلق خبر الثقة - كما هو الظاهر - فهو، وإلاّ فالقدر المتيقّن من بنائهم هو العمل على الخبر العالي السند إذا كان جميع رواته مزكّى بتزكية جمع من العدول، وفي الروايات ما يكون بهذا الوصف، مع دلالته على حجّية مطلق خبر الثقة، كصحيحة أحمد بن إسحاق؛ حيث روى محمّد بن يعقوب عن محمّد بن عبدالله الحميري ومحمّد بن يحيى جميعاً عن عبدالله بن جعفر الحميري عن أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته وقلت: مَن اُعامل، وعمّن آخذ، وقول من أقبل ؟ فقال: «العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقة المأمون»أ، ونحوه صحيحته الاُخرى(ب)، وسندها مع علوّه يكون رواتها من المشايخ العظام، ممّن لا غمز في واحد منهم من أحد، فلا إشكال في بناء العقلاء على العمل بمثلها. وبمقتضى تعليلها نتعدّى إلى كلّ خبر ثقة مأمون. والإشكال بأنّ من المحتمل أنّ لوثاقة مثل العمري وابنه دخالة في القبول، ولا يمكن التعدّي إلى مطلق الثقة، مردود؛ فإنّ الظاهر من التعليل أنّ لزوم القبول إنّما هو لأجل الوثاقة والمأمونية، لا وثاقة خاصّة ومرتبة كاملة لها، كما أنّ المستفاد من قوله: «لا تشرب الخمر؛ لأ نّه مسكر» أنّ مجرّد الإسكار كافٍ، لا إسكار خاصّ نحو إسكار الخمر. وأمثال هذه الروايات وإن لم تدلّ على جعل الحجّية(ج) أو تتميم الكشف(د) كما يدّعى، لكن تدلّ على كون العمل بقول مطلق الثقة المأمون كان معروفاً في تلك الأزمنة وجائزاً من قِبل الشرع. لكن لو لم يستلزم منها وجوب العمل أو جعل الحجّية وأمثالها، يشكل التمسّك بها لكشف حال السيرة؛ لعدم الكشف القطعي، وهو واضح، وعدم كون ذلك حكماً عملياً، فلا معنى للتعبّد به. وكيف كان، فالخطب سهل بعد إحراز بناء العقلاء في محيط الاحتجاج بالعمل بكلّ خبر من الثقة. ومع إنكار بنائهم فالرواية تدلّ على التشريع ولزوم العمل على قوله، وما ذكرنا - من عدم الدلالة على التأسيس - لأجل إحراز بناء العقلاء، فتدبّر. [منه قدّس سرّه ] أ - الكافي 1: 329 / 1؛ وسائل الشيعة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4. ب - نفس المصدر. ج - كفاية الاُصول: 319. د - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 17 و 108.

بل لنا منع التواتر؛ لأنّ الأخبار - مع كثرتها - تكون منقولة عن عدّة كتب لا تبلغ مرتبة التواتر، فلا يكون في تمام الطبقات تواتر.

وأمّا الاكتفاء بنفس التواتر الإجمالي لإثبات مطلق خبر الثقة كما يظهر من بعض المحقّقين على ما في تقريرات بحثه(1)،

فهو كما ترى.

ص: 253


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 191.

الاستدلال بسيرة العقلاء على حجّية الخبر الواحد

قوله: «دعوى استقرار سيرة العقلاء»(25).

وهذه هي عمدة ما في الباب، وقد تقدّم منّا(1) أنّ الآيات الناهية عن العمل بغير العلم أو العمل بالظنّ، لا تصلح للرادعية، لا لما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه

من لزوم الدور(2)؛ فإنّه مخدوش كما ذكرنا عند استدلال النافين للحجّية بالآيات فراجع(3)، بل لأ نّها لمّا كانت من قبيل القضايا الحقيقية تكون شاملة لنفسها، وهي تكون بحسب الدلالة غير علمية، بل ظنّية، فيلزم من التمسّك بها عدم جواز التمسّك بها؛ لرادعيتها لنفسها، وهو باطل بالضرورة.

إن قلت: ما يلزم منه المحال هو شمولها لنفسها، فلا تشملها، فيتمّ رادعيتها لغيرها بلا محذور.

قلت: لا شكّ في أنّ هذه الآيات الظاهرة في المنع عن العمل بغير العلم إنّما أفادها المتكلّم بها لأجل الإفادة والإفهام، فلا بدّ وأن تكون ظواهرها - مع كونها غير مفيدة للعلم - قابلة للإفادة والإفهام، فتكون هذه الظواهر بين المتكلّم والمخاطب مفروغة الحجّية، ولا تكون حجّيتها إلاّ للسيرة العقلائية على الأخذ بالظواهر، والمتكلّم - جلّ وعلا - اتّكل على هذه السيرة العقلائية، لا على أنّ هذا الكلام لا يشمل نفسه لأجل لزوم المحال؛ فإنّه خارج عن المتفاهم العرفي

ص: 254


1- تقدّم في الصفحة 218.
2- كفاية الاُصول: 348.
3- تقدّم في الصفحة 222.

والطريقة العقلائية في الإفادة والإفهام، فإذا كان الاتّكال في الإفهام على السيرة مع عدم إفادة العلم، يعلم بإلقاء الخصوصية أنّ الآية غير رادعة لما قامت به السيرة العقلائية، سواء كانت من قبيل الظواهر، أو من قبيل خبر الثقة. وبالجملة: لا تصلح تلك الآيات للرادعية.

ثمّ إنّ هاهنا كلاماً من بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريرات بحثه - وهو أ نّه لا يحتاج في اعتبار الطريقة العقلائية إلى إمضاء صاحب الشرع لها والتصريح باعتبارها، بل يكفي عدم الردع عنها؛ فإنّ عدم الردع عنها مع التمكّن منه، يلازم الرضا بها وإن لم يصرّح بالإمضاء.

نعم، لا يبعد الحاجة إلى الإمضاء في باب المعاملات؛ لأ نّها من الاُمور الاعتبارية التي يتوقّف صحّتها على اعتبارها، ولو كان المعتبر غير الشارع فلا بدّ من إمضاء ذلك ولو بالعموم والإطلاق.

وتظهر الثمرة في المعاملات المستحدثة التي لم تكن في زمان الشارع، كالمعاملات المعروفة في هذا الزمان بالبيمة؛ فإنّها إذا لم تندرج في عموم )أَحَلَّ الله((1) و)أَوْفُوا بِالْعُقُودِ((2) ونحو ذلك، فلا يجوز ترتيب آثار الصحّة عليها(3)، انتهى.

وفيه: أنّ احتياج المعاملات إلى التصريح بالإمضاء - لكونها من الاُمور الاعتبارية - ممنوع؛ فإنّ اعتباريتها لا تلازم احتياجها إليه، فنفس عدم ردع

ص: 255


1- البقرة (2): 275.
2- المائدة (5): 1.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 193.

الشارع يكفي في صحّتها ونفوذها، فالمعاملة النافذة عند العقلاء لو لم تكن نافذة

لدى الشرع، لا بدّ من الردع عنها ويكفي في النفوذ عدم ردعه.

نعم، لا يكفي الرضا من المتعاملين لصحّة المعاملة، بل لا بدّ فيها من الإنشاء، وهو أجنبيّ عمّا نحن فيه، ولعلّه قدّس سرّه قايس بينهما.

وأمّا ما أفاده رحمه الله علیه في المقام - بعد اعترافه بأ نّه من المحتمل قريباً رجوع سيرة المسلمين في الاُمور الغير التوقيفية التي كانت تنالها يد العرف والعقلاء قبل الشارع، إلى طريقة العقلاء - بأنّ ذلك لا يضرّ بالاستدلال بها؛ لكشفها عن رضا الشارع كما تكشف عنه طريقة العقلاء، غاية الأمر أ نّه في مورد اجتماعهما يكونان من قبيل تعدّد الدليل على أمر واحد، فتكون سيرة المسلمين من جملة الأدلّة، كما تكون طريقة العقلاء كذلك(1).

ففيه ما لا يخفى؛ فإنّ سيرة المسلمين إذا رجعت إلى طريقة العقلاء لا تكون دليلاً مستقلاًّ، بل الدليل هو طريقة العقلاء فقط، وإنّما تصير سيرة المسلمين دليلاً

لو قامت بما أ نّهم مسلمون، لا بما أ نّهم عقلاء كما في المقام.

وبالجملة: لا تنعقد سيرة المسلمين بما هم مسلمون مع رجوعها إلى طريقة العقلاء، فلا معنى لكونها دليلاً كاشفاً في مقابلها، وهذا واضح.

ص: 256


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 194.

الاستدلال بالعقل على حجّية خبر الواحد

قوله: «أحدها(1): أ نّه يعلم إجمالاً...»(26).

أقول: هذا الدليل العقلي هو دليل الانسداد الصغير.

الفرق بين الانسداد الكبير والصغير

وضابط الفرق بين الانسدادين: أنّ المقدّمات المرتّبة في الانسداد إذا انتهت إلى حجّية مطلق الظنّ - بناءً على الكشف أو الحكومة - من أيّ طريق كان، من غير كونه مقيّداً بحصوله من طريق خاصّ، فهو الانسداد الكبير، وإذا انتهت إلى حجّيته إذا حصل من طريق خاصّ أو أمارة مخصوصة، أو تنتهي إلى حجّية الظنّ المطلق بصدور الرواية، أو جهة اُخرى من الجهات، ولا يكون نطاقه وسيعاً إلى غيرها، فهو الانسداد الصغير.

ص: 257


1- إنّي قد تركت البحث في هذه الدورة [أي الدورة الثانية] عن الأدلّة العقلية مطلقاً؛ لقلّة فائدتها، مع طول مباحثها. والمرجوّ من طلاّب العلم وعلماء الاُصول - أيّدهم الله - أن يضنّوا على أوقاتهم وأعمارهم الشريفة، ويتركوا ما لا فائدة فقهية فيه من المباحث، ويصرفوا همّهم العالي في المباحث المفيدة الناتجة. ولا يتوهّم متوهّم: أنّ في تلك المباحث فوائد علمية؛ فإنّ ذلك فاسد؛ ضرورة أنّ علم الاُصول علم آلي لاستنتاج الفقه، فإذا لم يترتّب عليه هذه النتيجة فأيّة فائدة علمية فيه ؟ ! والعلم ما يكشف لك حقيقة من الحقائق - دينية أو دنياوية - وإلاّ فالاشتغال به اشتغال بما لا يعني، والله وليّ التوفيق، جمادى الاُولى 1374. [منه قدّس سرّه ]

ومعلوم أنّ المنشأ في هذا الافتراق هو المقدّمة الاُولى من دليل الانسداد، فإنّ العلم الإجمالي إذا كانت دائرته وسيعة، بحيث يشمل نطاقه جميع المشتبهات، من الأخبار، والأمارات الظنّية، وغيرهما، فلا بدّ وأن ينتهي - مع ضمّ سائر المقدّمات - إلى حجّية مطلق الظنّ بناءً على الكشف أو الحكومة.

وأمّا إذا كانت دائرته ضيّقة - محصورة في الأخبار خاصّة، أو في الشهرات، أو الإجماعات المنقولة - فلا بدّ وأن ينتهي إلى حجّية الظنّ من طريق خاصّ من المذكورات، أو الظنّ بالصدور فقط.

إذا عرفت ذلك: فقد ادّعى المستدلّ بأنّ العلم الإجمالي حاصل بصدور الأخبار الكثيرة المتضمّنة للأحكام الإلهية الوافية بالفقه؛ بحيث ينحلّ العلم الإجمالي بسائر المشتبهات في دائرة الأخبار، وبعد انضمام سائر المقدّمات يصير الدليل منتهياً إلى حجّية الظنّ بصدور الأخبار، وهذا هو الانسداد الصغير.

نقل كلام المحقّق النائيني في المقام ووجوه النظر فيه

وبما ذكرناه من الضابط يعلم ما في كلام بعض أعاظم العصر على ما في تقريرات بحثه؛ فإنّه - بعد الاعتراف بأنّ هذا الدليل هو ترتيب الانسداد الصغير في خصوص الأخبار - تصدّى لبيان المراد من الانسداد الصغير والفرق بينه وبين الكبير، فقال ما ملخّصه:

إنّ استفادة الحكم الشرعي من الخبر تتوقّف على العلم بالصدور وجهته والظهور وحجّيته، فإن قام الدليل بالخصوص على كلّ واحد منها فهو، وإن لم يقم على شيء منها وانسدّ طريق إثباتها، فلا بدّ من جريان الانسداد لإثبات

ص: 258

حجّية مطلق الظنّ بالحكم الشرعي. وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الكبير.

وإن قام الدليل على بعض جهات الرواية دون بعض، كما لو فرض قيام الدليل على الصدور وجهته وإرادة الظهور، ولكن لم يمكن تشخيص الظهور، وتوقّف على الرجوع إلى اللغوي في تشخيصه، ولم يقم دليل بالخصوص على اعتبار قوله، فلا بدّ من جريان مقدّمات الانسداد في خصوص معاني الألفاظ لاستنتاج حجّية الظنّ من قوله في معنى اللفظ، وإن لم يحصل بالحكم الشرعي. وقد جرى الاصطلاح على التعبير عن ذلك بالانسداد الصغير.

وحاصل الفرق بينهما: هو أنّ مقدّمات الانسداد الكبير إنّما تجري في نفس الأحكام ليستنتج منها حجّية مطلق الظنّ فيها، وأمّا مقدّمات الانسداد الصغير إنّما تجري في بعض ما يتوقّف عليه استنباط الحكم من الرواية في إحدى الجهات الأربع المتقدّمة ليستنتج منها حجّية مطلق الظنّ في خصوص الجهة التي انسدّ باب العلم فيها.

ثمّ أطال الكلام في صحّة جريان مقدّمات الصغير مطلقاً، أو عدمه مطلقاً، أو التفصيل، واختار التفصيل بأنّ بعض هذه الجهات ممّا يتوقّف عليها العلم بأصل الحكم كالصدور؛ فإنّه لولا إثباته لا يكاد يحصل العلم بالحكم، ففيه تجري مقدّمات الانسداد الكبير، وبعضها ممّا يتوقّف عليها العلم بتشخيص الحكم وتعيّنه إذا كان الإجمال في ناحية الموضوع أو المتعلّق، كالصعيد المردّد بين كونه التراب أو مطلق وجه الأرض، والجهل بمعناه لا يغيّر العلم بأصل الحكم؛ لأنّ المكلّف يعلم بأ نّه مكلّف بما تضمّنته الآية من الحكم، ففيه تجري مقدّمات

ص: 259

الانسداد الصغير لحجّية مطلق الظنّ بالجهة التي انسدّ باب العلم فيها(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: أ نّه يظهر من صدر كلامه أنّ هذا الدليل العقلي هو ترتيب مقدّمات الانسداد الصغير في خصوص الأخبار، ويظهر ممّا بعده أ نّه مع عدم قيام الدليل الخاصّ بإثبات أصل الصدور تجري مقدّمات الانسداد الكبير، كما أ نّه يظهر من تفصيله وتوضيحه أنّ هذا الدليل العقلي يرجع إلى الانسداد الكبير.

وبالجملة: كلامه في المقام لا يخلو من تهافت صدراً وذيلاً.

وثانياً: أنّ الضابط الذي أفاده في الافتراق بين الانسدادين - من أنّ مقدّمات الانسداد الكبير إنّما تجري في نفس الأحكام ليستنتج منها حجّية مطلق الظنّ فيها، وأمّا مقدّمات الصغير تجري في بعض ما يتوقّف عليه استنباط الحكم من الرواية من إحدى الجهات الأربع ليستنتج منها حجّية مطلق الظنّ في خصوص الجهة التي انسدّ باب العلم فيها - ينافي تفصيله الآتي من الافتراق بين هذه الجهات، وأنّ مع عدم الدليل على أصل الصدور لا بدّ من ترتيب مقدّمات الكبير؛ فإنّ ترتيب المقدّمات في أصل الصدور ينتهي إلى حجّية الظنّ بالصدور، لاحجّيته بالنسبة إلى الأحكام مطلقاً، فلا ينطبق الضابط عليه.

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ الضابط هو الذي ذكرنا، وأنّ في كلامه قدّس سرّه اختلاطاً

وتهافتاً، فراجع كلامه.

ثمّ إنّه قدّس سرّه أطال الكلام في تقرير الدليل العقلي وجوابه، وفي كلامه مواقع للنظر تظهر للمتأمّل فيه:

ص: 260


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 196 - 198.

منها: ما أفاده في جواب «إن قلت» الثاني: أنّ دعوى العلم الإجمالي في خصوص الأمارات الظنّية ليست ببعيدة؛ لأنّ من تراكم الظنون يحصل العلم الإجمالي، بخلاف تراكم الشكوك(1).

فإنّ فيه ما لا يخفى؛ لأنّ مبادئ حصول العلم غير مبادئ حصول الظنّ والشكّ، فلا يمكن حصول العلم من تراكم الظنون؛ أي كثرتها، وكثرة المظنونات، فلو فرض آلاف من الظنون بآلاف من الأحكام من المبادئ الظنّية، لا يعقل حصول علم واحد منها، وهذا واضح، ولعلّه خلط بين التراكم بحسب المراتب وبينه بحسب الموارد.

ومنها: ما أفاده بقوله: وثانياً: سلّمنا أنّ الأمارات الظنّية ليست من أطراف العلم الإجمالي، ولكن وجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار إنّما هو لأجل ما تضمّنتها من الأحكام الواقعية، لا بما هي هي، فالمتعيّن هو الأخذ بكلّ ما يظنّ أنّ مضمونه حكم الله الواقعي، لا خصوص ما يظنّ بصدوره من الأخبار؛ لأنّ الأخذ بمظنون الصدور إنّما هو لاستلزامه الظنّ بالمضمون غالباً، ومقتضى ذلك هو اعتبار الظنّ بالحكم، سواء حصل من الظنّ بالصدور، أو من الشهرة والإجماع المنقول(2)، انتهى.

فإنّ فيه ما لا يخفى أيضاً؛ لأنّ الأخذ بمظنون الصدور في دائرة الأخبار إنّما هو لأجل العلم الإجمالي مع ضمّ بقيّة المقدّمات، لا لأجل كونه مستلزماً للظنّ

ص: 261


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 201.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 203 - 204.

بالمضمون؛ حتّى نتعدّى إلى الشهرة والإجماع المنقول، فمجرّد الظنّ بالمضمون

لم يصر موجباً لوجوب الأخذ بما في أيدينا من الأخبار، بل العلم الإجمالي في دائرة الأخبار أدّى إلى ذلك، كما هو واضح.

ثمّ إنّه قدّس سرّه تصدّى لتقريب مقدّمات الانسداد الصغير بوجه آخر، وقال: إنّه سالم عمّا اُورد على الوجه الأوّل(1)، ولكنّه اعترف بعد أسطر: بأنّ الإشكال الثالث مشترك الورود بين التقريرين.

ثمّ بعد كلام آخر قال: لا يخفى عليك أنّ ما ذكرناه من التقريب وإن كان يسلم عن كثير من الإشكالات المتقدّمة إلاّ أ نّه يرد عليه... إلى آخره، وهذا الإيراد هو الإيراد الثاني على التقريب الأوّل مع تغيير العبارة.

ثمّ أفاد في جواب «إن قلت» عدم انحلال العلم الإجمالي الكبير بتقريبين، وهو عين الإشكال الأوّل على التقرير الأوّل مع تقريب آخر.

وبالجملة: مع تصريحه بعدم ورود شيء من الإشكالات على التقريب الثاني، أورد تدريجاً جميع الإشكالات المتوجّهة على الوجه الأوّل على الوجه الثاني أيضاً، وهذا لا يخلو من غرابة.

ثمّ إنّه في كلامه موارد للأنظار لا بدّ من التعرّض لها وإن يطل الكلام فنقول :

حاصل تقريبه في الوجه الثاني من التقريبين هو أ نّا نعلم بصدور غالب الأخبار التي في أيدينا، ولا إشكال في وجوب الأخذ بما صدر عنهم بما أ نّها أحكام ظاهرية في مقابل الأحكام الواقعية، فلا يرجع إلى الوجه الأوّل. وحيث

ص: 262


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 205.

لا يمكن لنا تحصيل العلم بالأخبار الصادرة عنهم نتنزّل إلى الظنّ والأخذ بمظنون الصدور.

ولا يرد عليه شيء من الإشكالات؛ فإنّ مبناها كان على أنّ وجوب العمل بالأخبار من باب تضمّنها الأحكام الواقعية، فيرد عليه: أنّ العلم الإجمالي بالأحكام لا يختصّ بدائرة الأخبار، بل الأمارات الظنّية أيضاً من أطرافه، إلى آخر الإشكالات.

وأمّا هذا التقريب فمبنيّ على وجوب العمل بالأخبار لكونها أحكاماً ظاهرية، فلا تكون سائر الأمارات التي لم يقم دليل على اعتبارها من أطراف هذا العلم؛ فإنّها ليست أحكاماً ظاهرية، فدائرة العلم الإجمالي تختصّ بالأخبار، ونتيجته الأخذُ بمظنون الصدور عند تعذّر تحصيل العلم التفصيلي، وعدمُ وجوب الاحتياط في الجميع، بل مقتضى العلم بصدور غالب الأخبار هو انحلال العلم الإجمالي الكبير؛ لأنّ ما صدر عنهم يكون بقدر المعلوم بالإجمال في دائرة الكبير(1)، انتهى.

فتلخّص ممّا ذكره: أنّ العلم الإجمالي بالأحكام الظاهرية ممّا ينجّز العمل بالأخبار، ولمّا كانت الأحكام الظاهرية الصادرة بمقدار الأحكام الواقعية فيحتمل انطباق الأحكام الواقعية عليها، وبهذا ينحلّ العلم الإجمالي الكبير في دائرة العلم الإجمالي الصغير.

أقول: ميزان انحلال العلم الإجمالي الكبير في العلم الإجمالي الصغير هو

ص: 263


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 205 - 206.

أن يكون المعلوم بالعلم الإجمالي الصغير أسبق من المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير، ويكون المعلوم بالكبير قابلاً للانطباق على المعلوم بالصغير، فإذا تحقّق الشرطان ينحلّ الكبير في الصغير، ومع اختلال أحدهما لا يتحقّق الانحلال.

مثلاً: لو فرضنا العلم الإجمالي بوقوع قطرة من الدم في أحد الإناءين في صدر النهار، ثمّ حصل العلم بوقوع قطرة اُخرى؛ إمّا في أحدهما أو في ثالث في آخر النهار، لا يكون هذا العلم الثاني منجّزاً لجميع الأطراف، وينحلّ في الأوّل؛ لأنّ العلم الأوّل قد تنجّز به الإناءان، ولا يعقل التنجيز فوق التنجيز، فيصير الثالث من الشبهة البدوية، فينحلّ الثاني.

لكن لو فرضنا تقارن المعلومين أو تقدّم المعلوم في دائرة الكبير على المعلوم في دائرة الصغير لا ينحلّ العلم الكبير.

أمّا في المقارن: فلأنّ التنجيز في جميع الأطراف يكون في عرض واحد، فيكون التنجيز بالنسبة إلى أطراف الصغير مستنداً إلى كلا العلمين، وبالنسبة إلى الزائد مستنداً إلى الكبير، فلا مانع من تأثير العلم في دائرة الكبير، كما لا يخفى.

وأمّا في صورة تقدّم الكبير فهو أوضح؛ لأنّ العلم الإجمالي فيه بلا مزاحم؛ لتنجيزه في الزمان السابق ويستند التنجيز في جميع الأطراف إليه فقط.

فتحصّل ممّا ذكر أنّ العلم الإجمالي باعتبار المعلومين يكون له ثلاث صور: تقدّم الصغير على الكبير وبالعكس وتقارنهما.

ففي الاُولى ينحلّ العلم في دائرة الكبير دون الباقيتين.

هذا كلّه مع مقارنة العلمين، وأمّا مع تقدّم أحدهما على الآخر ففيه تفصيل، ولمّا كان ما نحن فيه من قبيل الصورتين الأخيرتين فلا معنى للانحلال

ص: 264

الكبير؛ فإنّ العلم الإجمالي بكون الأحكام الواقعية بين الأخبار وسائر الطرق

الظنّية مقارن بحسب المعلوم والعلم مع العلم الإجمالي بصدور الأخبار من الأئمّة الأطهار علیهم السلام .

ومن مواقع النظر فيه: أ نّه قال: إنّ تقريب مقدّمات الانسداد على هذا الوجه الثاني يقرب ممّا أفاد صاحب «الحاشية»(1) وأخوه(2) في الانسداد وإن كان فرق بينهما(3)، وتصدّى لبيان الفرق بما لا يرجع إلى محصّل، وظنّي أ نّه من قصور العبارة؛ فإنّ الفرق بينهما أظهر من أن يخفى على مثله؛ لأنّ ترتيب المقدّمات في المقام مبنيّ على الانسداد الصغير وانحلال العلم الكبير، ونتيجتها حجّية الأخبار المظنونة الصدور، ومبنى كلامهما على الانسداد الكبير وانحلال دائرة العلم الإجمالي بالواقع في مطلق الطرق، ونتيجتها حجّية مطلق الظنّ، سواء كان من الأخبار أو من طرق اُخرى غيرها، ولعلّ مراده أيضاً ذلك، فراجع.

ومنها: أ نّه قدّس سرّه بعد أن تصدّى لإيراد إشكال على التقريب الثاني - ممّا يقرب ثاني الإشكالات الواردة على التقريب الأوّل - من أنّ الأحكام الظاهرية ليست في مقابل الأحكام الواقعية، بل هي طرق إليها، فيجب العمل على الأحكام الواقعية من أيّ طريق حصل العلم بها، ومع فقدانه نتنزّل إلى الظنّ بها، لا إلى الظنّ بالصدور، وأورد إشكالاً بقوله: «إن قلت» على ذلك بأنّ الواجب أوّلاً وبالذات وإن كان امتثال الأحكام الواقعية، لكنّ العلم بها ينحلّ في دائرة العلم

ص: 265


1- هداية المسترشدين 3: 393.
2- الفصول الغروية: 277 / السطر 33.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 206.

بالأخبار الصادرة التي بمقدار المعلوم بالإجمال في دائرة الكبير، تصدّى لجوابه بقوله: «قلت» بوجهين:

أحدهما: ما محصّله: إنّ مجرّد العلم بصدور جملة من الأخبار لا يقتضي ترتّب الأحكام عليها؛ فإنّ الحكم الظاهري يتوقّف على العلم به موضوعاً وحكماً، لا بمعنى أن لا وجود واقعي له؛ فإنّه ضروري البطلان، بل بمعنى أنّ الآثار المرغوبة من الحكم الظاهري من تنجيز الواقع والعذر منه لا تترتّب عليه مع الجهل، بل الاُصول العقلائية أيضاً لا تجري مع الجهل بالصدور، فما لم يعلم صدور الرواية تفصيلاً لا تجري فيها أصالة الظهور، ولا أصالة الجهة؛ لعدم العلم بظهور ما هو الصادر منها حتّى تجري فيها الاُصول العقلائية، فلايمكن أن يترتّب على الصادر من الأخبار ما للحكم الظاهري من الآثار، فيبقى العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية بين الأخبار والأمارات الظنّية على حاله، ولا بدّ من ترتيب مقدّمات الانسداد الكبير، ولا أثر للظنّ بالصدور(1) انتهى.

ولا يخفى ما فيه؛ فإنّ توقّف جريان الاُصول العقلائية على العلم التفصيلي

بما هو الصادر، ممنوع أشدّ المنع، فلو فرضنا العلم الإجمالي بصدور إحدى الروايتين، مثلاً: يتضمّن إحداهما وجوب إكرام العلماء، والاُخرى وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، وتركنا العمل بهما باحتمال إرادة خلاف الظاهر منهما، أو احتمال عدم الجدّ في مضمونهما، واعتذرنا بأنّ الاُصول العقلائية - من أصالة الظهور وأصالة الجدّ - لا تجري في غير المعلوم بالتفصيل؛ لعدم العلم بظهور ما

ص: 266


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 206 - 209.

هو الصادر حتّى تجري فيه الاُصول العقلائية، لخرجنا عن طريقة العقلاء، ويكون هذا الاعتذار غير موجّه عندهم، كما أنّ الاُصول جارية في الخبرين المتعارضين اللذين نعلم إجمالاً بكذب أحدهما، وإنّما يكون تقديم أحدهما على الآخر من باب تقديم الحجّة على الحجّة، وفي صورة عدم الترجيح والحكم بالتخيير تجري في كلّ منهما الاُصول العقلائية من أصالة الظهور والجهة، فعدم جريان الاُصول في أطراف المعلوم بالإجمال ممّا لا وجه له.

وبالجملة: لا فرق في انحلال العلم الإجمالي الكبير بين العلم التفصيلي بالصادر بمقدار المعلوم بالإجمال من الأحكام وبين العلم الإجمالي به. نعم، لو كان العلم الإجمالي في دائرة الصغير غير مقدّم على الكبير لم ينحلّ الكبير به، كما تقدّم.

ثمّ قال في الوجه الثاني ما محصّله: إنّه على فرض تسليم كون الإجمال غير مانع عن ترتّب الأحكام الظاهرية على ما صدر من الأخبار، لكن مجرّد ذلك لا يكفي في انحلال الكبير؛ فإنّ تلك الأحكام الظاهرية التي فرض كونها بقدر المعلوم بالإجمال من الأحكام الواقعية لم تحرز بالوجدان، ولم يجب الاحتياط في جميع الأخبار؛ لثبوت الترخيص في غير المظنون، ومع هذا لا يمكن الانحلال؛ لعدم كون الأحكام الظاهرية في مظنون الصدور بمقدار الأحكام الواقعية في مجموع الأخبار والأمارات؛ فإنّ أقصى ما يدّعى هو أنّ مجموع ما صدر عنهم علیهم السلام من الأحكام الظاهرية بقدر التكاليف الواقعية، لا أنّ مظنون الصدور بمقدارها، فالترخيص فيما عدا مظنون الصدور يوجب نقصاً في الأحكام الظاهرية، ويلزمه زيادة الأحكام الواقعية عن الظاهرية التي يلزم الأخذ بها.

ص: 267

وبالجملة: أنّ الترخيص في ترك العمل ببعض الأخبار يوجب نقصاً في الأحكام الظاهرية؛ للعلم بأنّ بعض الأحكام الظاهرية يكون في الأخبار التي رخّص في ترك العمل بها؛ لأنّ مظنون الصدور من الأخبار ليس بقدر التكاليف الواقعية، فلا يبقى مجال للانحلال.

إن قلت: الأخذ بمظنون الصدور إن كان من باب التبعيض في الاحتياط كان لعدم الانحلال وجه، وأمّا إن كان من باب أنّ الشارع جعل الظنّ بالصدور طريقاً إلى الأحكام الظاهرية وما صدر من الأخبار، فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي؛ لأنّ الأحكام الظاهرية التي فرضنا أ نّها بقدر الأحكام الواقعية تكون محرزة ببركة حجّية الظنّ؛ فإنّ نتيجة جعل الشارع الظنّ بالصدور طريقاً إلى ما صدر هي أنّ ما عدا المظنون ليس ممّا صدر، واختصّ ما صدر بمظنون الصدور، والمفروض أنّ ما صدر بقدر الأحكام الواقعية، فينحلّ العلم الإجمالي.

قلت: هذا إذا تمّت المقدّمات ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة، فتكون النتيجة حجّية الظنّ وكونه طريقاً إلى ما صدر، ولكنّ المدّعى أ نّه لا تصل النوبة إليه؛ لأنّ

عمدة المقدّمات التي يتوقّف عليها أخذ النتيجة هو عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة من الأحكام الظاهرية، وبعد بطلان هذه المقدّمة بجواز إهمال بعض الوقائع - وهو ما عدا المظنون - لا تصل النوبة إلى أخذ النتيجة، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

وفيه أوّلاً: أنّ نتيجة الانسداد الصغير أو الكبير هو التبعيض في الاحتياط كما

ص: 268


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 209 - 211.

سيأتي(1) لا حجّية الظنّ كشفاً أو حكومةً، ولم نعلم زيادة الأحكام الواقعية عمّا يجب الاحتياط فيه من الأطراف، فدعوى زيادتها عن المظنون لا ينهدم بها أساس الانحلال. نعم، لو ادّعى زيادتها عمّا يجب الاحتياط فيه كان له وجه، لكنّها بمكان من المنع.

وثانياً: أ نّه - مع تسليم كون النتيجة حجّية الظنّ بالصدور، وتسليم كون الأحكام الواقعية زائدة عمّا ظنّ صدوره - يكون العلم الإجمالي الكبير قاصراً عن تنجيز أطرافه، وهو عين الانحلال أو في حكمه؛ لأنّ المفروض أنّ الأحكام الواقعية ليست زائدة عمّا صدر، وما صدر إنّما هو بين المظنونات والمشكوكات والموهومات، والمظنونات واجبة العمل، والباقي مرخّص فيه، ففي رتبة المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير يكون بعض أطرافها واجب العمل، وبعضها مرخّص فيه، ولا يكون المعلوم بالكبير زائداً عنهما، فلا يمكن تنجيزه للأطراف الاُخر.

مثلاً: لو فرضنا العلم بنجاسة إناءين في خمسة، واحتملنا الزيادة، وعلمنا بنجاسة إناءين في ثلاثة منها واحتملنا التطبيق، وكان المعلوم بالعلم الثاني مقدّماً

على المعلوم بالعلم الأوّل، مع مقارنة العلمين، أو تقدّم الثاني على الأوّل، يصير العلم الإجمالي الكبير منحلاًّ بواسطة الصغير؛ لأنّ تنجيز الصغير للأطراف لمّا كان مقدّماً على الكبير لم تصل النوبة إلى تنجيز الكبير لهذه الأطراف، ولا يعقل التنجيز فوق التنجيز، ولمّا احتملنا انطباق المعلوم بالكبير على المعلوم بالصغير يصير الكبير - لا محالة - منحلاًّ، كما ذكرنا سابقاً.

ص: 269


1- يأتي في الصفحة 294.

ولو فرضنا أنّ بعض أطراف الصغير صار منجّزاً بمنجّز خاصّ، وبعضها صار مرخّصاً فيه بمرخّص، وتكون الأطراف المنجّزة أقلّ عدداً من المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير، لا يصير العلم الإجمالي الكبير - الذي كان ساقطاً عن التأثير - مؤثّراً بواسطة كون المنجّز في الصغير أقلّ عدداً من المعلوم بالعلم الكبير؛ لأنّ المنجّز وإن كان أقلّ، لكنّه مع الأطراف المرخّص فيها بمقداره، فإذا صار بعض الأطراف قبل تنجيز العلم جميع الأطراف منجّزاً أو مرخّصاً فيه - سواء كان التنجيز والترخيص مقدّمين على العلم الإجمالي الكبير أو مقارنين معه، ويكون كلاهما بمقدار المعلوم، ويحتمل انطباق المعلوم عليه - يصير العلم لا محالة منحلاًّ؛ لأنّ العلم بالتكليف الفعلي على جميع التقادير من أركان تنجيز العلم الإجمالي، وهو في المقام مفقود؛ لأنّ المعلوم إذا انطبق على المرخّص فيه والمنجّز التفصيلي، لا يكون التكليف فعلياً.

نعم، لو فرض الترخيص في الزمان المتأخّر عن العلم الإجمالي يكون تنجيزه للأطراف الاُخر بحاله؛ لأنّ تنجيز جميع الأطراف بالعلم الإجمالي بعد تحقّقه لا يسقط بواسطة الترخيص في بعضها للاضطرار أو الحرج، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله (1).

وثالثاً: أنّ تسليمه في جواب «إن قلت» - بأ نّه إذا تمّت المقدّمات، ووصلت النوبة إلى أخذ النتيجة، وصار الظنّ حجّة، ينحلّ العلم الإجمالي - في غير محلّه؛ فإنّه مع فرض العلم بكون الأحكام الواقعية زائدة عن مظنون الصدور

ص: 270


1- يأتي في الصفحة 290 - 291 والجزء الثاني: 196.

- وإن كان الصادر بمقدارها - لا معنى لانطباقها عليه؛ لأنّ انطباق الأكثر على

الأقلّ غير معقول، فدليل اعتبار الظنّ لا يمكن أن يخصّص الأخبار الصادرة - التي بمقدار الأحكام الواقعية - بالمظنون الصدور الذي هو أقلّ منها.

ورابعاً: أنّ ما أفاده - من عدم وصول النوبة إلى أخذ النتيجة من جهة جواز إهمال بعض الوقائع، وهو ما عدا المظنون، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة - ليس على ما ينبغي؛ لأنّ جواز الإهمال - الذي هو من مقدّمات الانسداد الصغير - مع ضمّ باقي المقدّمات يكشف عن حجّية الظنّ من أوّل الأمر، لا أنّ المقدّمات موجبة لحجّيته، فالمقدّمات هي الدليل الإنّي الكاشف عن جعل الشارع حجّية الظنّ في موضوع الانسداد، لا أ نّها موجبة لها؛ حتّى تكون الحجّية متأخّرة عنها واقعاً، فينهدم أساس الانحلال قبل أخذ النتيجة، تأمّل.

ص: 271

فصل: فيما استدلّ به على حجّية مطلق الظنّ

فيما استدلّ به على حجّية مطلق الظنّ

قوله: «الأوّل: أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه...»(27).

أقول: الفرق بين هذا الدليل وبين الدليل المعروف بالانسداد هو أنّ هذا الوجه مركّب من صغرى هي أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه مظنّةً للضرر، وكبرى هي أنّ الضرر المظنون واجب التحرّز عقلاً، ينتج: أنّ مخالفة المجتهد لما ظنّه واجب التحرّز عقلاً.

وأمّا دليل الانسداد فهو مركّب [من] مقدّمات لا تشترك مع هذا الوجه في شيء منها، فكلّ من الوجهين يسلك مسلكاً غير مربوط بالآخر، وهما لا يشتركان في شيء - إلاّ النتيجة - حتّى نحتاج إلى إبداء الفرق بينهما.

فما أفاده بعض أعاظم العصر قدّس سرّه - من أنّ الفرق بينهما في توقّف أحدهما على انسداد باب العلم والعلمي، بخلاف الآخر(1) الظاهر منه أنّ هذا ما به

ص: 272


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 214.

الافتراق بينهما بعد اشتراكهما في غيره - ليس في محلّه؛ لما عرفت من عدم الاشتراك بينهما أصلاً في شيء من المقدّمات.

لا يقال: لو جاز إهمال الوقائع المشتبهة، وترك التعرّض لها بالرجوع إلى البراءة في جميع موارد الشكّ في التكليف، لم ينتج هذا الوجه، فإنتاجه يتوقّف على إبطال جواز الإهمال، وهو عين إحدى مقدّمات الانسداد.

فإنّه يقال: لو صحّت الكبرى والصغرى المأخوذتان في هذا الوجه، فهما تنتجان بلا احتياج إلى ضمّ هذه المقدّمة؛ فإنّ جواز الإهمال منافٍ للصغرى، كما لا يخفى.

نقد كلام المحقّق النائيني في المقام

ثمّ إنّ المحقّق المعاصر رحمه الله علیه قد أطال الكلام في هذا الوجه، ونحن لا نذكر كلامه بطوله، ولكن ننبّه على محالّ أنظار فيه، والطالب يرجع إلى تقريرات بحثه:

قوله قدّس سرّه في المقام: «فهي ممّا لا ينبغي التأمّل والإشكال فيها...»(1) إلى آخره.

بل للتأمّل والإشكال فيها مجال واسع؛ فإنّ الإنسان بل كلّ حيوان وإن يدفع الضرر عن نفسه بمقتضى جبلّته وقوّته الدافعة عن مضارّه، ولكن حكمه العقلي بقبح الإقدام على ما فيه مظنّة الضرر - بحيث يستكشف منه حكماً شرعياً لو التزمنا بالملازمة - فلا، فهذه جبلّة حيوانية مشتركة بين الحيوانات.

ص: 273


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 214.

قوله: «لا يكاد يتحقّق الشكّ...»(1)

إلى آخره.

بل قد يتحقّق الشكّ ولو قلنا بأنّ البيان هو البيان الواصل؛ فإنّه قد يشكّ في كفاية مقدار الفحص، ومنه يتولّد الشكّ بأنّ المورد من موارد قبح العقاب بلا بيان، أو من موارد دفع الضرر المحتمل، إلاّ أن يكون مورد جريان قاعدة قبح العقاب هو إحراز كفاية الفحص.

قوله: «وإلاّ يلزم التسلسل...»(2) إلى آخره.

ليس هذا هو التسلسل الاصطلاحي، بل بمعنى عدم الوقوف إلى حدّ.

قوله: «إنّ الظاهر من تسالم الأصحاب...»(3) إلى آخره.

قد ذكرنا سابقاً(4): أنّ حكم العقل بقبح التشريع ليس حكماً واحداً بمناط

واحد، بل حكمان بمناطين؛ والآن نقول: إنّ حكمه بقبح الإقدام على ما لا يؤمن معه الوقوع في الضرر - على فرضه - حكم طريقي لمناط عدم الوقوع فيه، والإقدام على الوقوع في الضرر الواقعي حكم موضوعي، فللعقل بالضرورة حكمان: أحدهما متعلّق بموضوع واقعي، والآخر حكم طريقي لحفظ الواقع، كما في الظلم، فالإقدام على مقطوع الظلم والضرر أو مظنونهما قبيح، لا لأجل الموضوعية والاستقلال، بل لأجل الطريقية.

وبالجملة: قبحه قبح التجرّي لو لم يصادف الواقع.

ص: 274


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 216.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 217.
3- نفس المصدر.
4- تقدّم في الصفحة 184.

والعجب منه قدّس سرّه حيث استظهر حكم العقل من تسالم الأصحاب على حكم

شرعي، مع أ نّه لا معنى للاستظهار في باب الأحكام العقلية، ولا معنى للتقليد فيها.

وأمّا تسالم الأصحاب على وجوب الإتمام في سلوك الطريق الذي لا يؤمن [معه] من الوقوع في الضرر، معلّلاً بكونه معصية على فرض صحّته، فهو لا يدلّ على أنّ حكمهم إنّما يكون بملازمة حكم العقل؛ لإمكان أن يكون حكماً تعبّدياً شرعياً ابتدائياً يكشف عنه إجماعهم وتسالمهم عليه.

مع أنّ للخدشة في أصل الحكم مجالاً واسعاً؛ فإنّ الفتوى بإتمام الصلاة لا يلزم أن تكون لأجل المعصية، بل يمكن أن يستفاد حكمه من بعض روايات التصيّد اللهوي، ولا يلازم إتمام الصلاة كون السفر معصية، كما في باب السفر للصيد اللهوي؛ فإنّ حرمته محلّ إشكال وخلاف، مع أنّ لزوم الإتمام متسالم عليه بين الأصحاب.

هذا، مع أنّ التجرّي عند كثير منهم معصية، فلعلّ الإقدام على مظنون الضرر يكون معصية لأجل كونه طريقاً إلى الوقوع في الضرر الحرام عندهم، فتدبّر.

قوله: «في سلسلة علل الأحكام...»(1) إلى آخره.

لو قلنا بأنّ احتمال الضرر طريقي لحفظ الواقع، لم يكن في سلسلة علل الأحكام، بل يكون في سلسلة المعلولات.

والمراد من العلل والمعلولات هو ما يتقدّم على الحكم وما يتأخّر عنه،

ص: 275


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 218.

لا العلل والمعلولات الحقيقية، كما لا يخفى.

وبالجملة: قبح الإقدام على ما لا يؤمن معه من الضرر لو كان طريقياً لا يستكشف منه الحكم الشرعي المولوي؛ لكونه في سلسلة المعلولات، فما ذكره من عدم الفرق ليس في محلّه.

قوله: «ولو موجبة جزئية ممّا لا سبيل إليها»(1).

قد ذكرنا فيما سبق تصوير كون المصلحة في الأمر بنحو الموجبة الجزئية، فراجع(2).

قوله: «فإن كان من العبادات...»(3) إلى آخره.

هذا غريب منه قدّس سرّه ؛ فإنّ قصد الامتثال لا يدور مدار العلم بالتكليف.

نعم، لو كان المراد بالقصد الجزم بالنية فهو وإن يتوقّف على ذلك، لكن صحّة العبادة لا تتوقّف عليه، ولا تكون العبادة بدونه تشريعاً محرّماً، فما تتوقّف عليه العبادة هو كونه لله ولو على نحو الرجاء والاحتمال، وهذا ممّا يمكن قصده، وتصحّ العبادة معه، فما أفاده - من أنّ المصلحة تدور مدار قصد الامتثال، وهو يدور مدار العلم بالتكليف أو ما يقوم مقامه، ومع الظنّ الغير المعتبر لا يتمكّن المكلّف منه إلاّ على نحو التشريع المحرّم(4) - ليس في محلّه، وغريب منه جدّاً.

ثمّ إنّه لو فرضنا عدم تمكّن المكلّف من إتيانها كذلك، فلا يلزم منه رفع

ص: 276


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 219.
2- تقدّم في الصفحة 117 - 118.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 220.
4- نفس المصدر.

الملازمة بين الظنّ بالتكليف العبادي والظنّ بالضرر؛ لأنّ تمكّن المكلّف من الإتيان أو عدم تمكّنه غير مربوط بالمصالح الكامنة في العبادات، فالظنّ بالتكليف - عبادياً كان أو غيره - يلازم الظنّ بالمصالح والمفاسد، ومع تسليم كون ترك المصالح وإتيان المفاسد من الضرر، لا معنى لرفع الملازمة بمجرّد عدم التمكّن من إتيان العبادة المتقوّمة بقصد الامتثال، فما أفاده - من أنّ حال المصلحة في العبادات حال العقاب في عدم الملازمة بين الظنّ بالحكم وبين الظنّ بها - ممّا لا سبيل إلى تصديقه، وأغرب من شقيقه.

ثمّ إنّه قدّس سرّه فرّق بين الأحكام النظامية والشخصية، والتزم بعدم حكم العقل بقبح الإقدام على ما فيه الضرر النوعي والمفسدة النظامية النوعية، وإنّما يحكم بقبح الإقدام على ما لا يؤمن منه الضرر الشخصي(1).

هذا، وأنت خبير بما فيه؛ فإنّ العقل يحكم بقبح الإقدام على ما فيه المفاسد النوعية، خصوصاً لو كانت من قبيل اختلال النظام وتفرّق شمل المجتمع، فلو أقدم أحد على ما فيه انقراض الحكومة من بين البشر حتّى يرجع المجتمع إلى اللا نظامي التوحّشي المنتهي إلى اختلال اُمورهم وسلب الأمن والأمان من بينهم، لكان فعله هذا من أقبح القبائح بضرورة العقل، وكذلك الإقدام على ما يكون مظنّة لذلك ممنوع عقلاً، بل احتماله أيضاً منجّز في نظر العقل ؛ لكمال أهمّيته.

وأمّا المضارّ الشخصية: فاحتراز الإنسان - كسائر الحيوانات - منها بحسب

ص: 277


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 221.

الجبلّة الحيوانية مسلّم، لكن كون الإقدام عليها أو على ما لا يؤمن [معه] من

الوقوع فيها قبيحاً عند العقل - ويكون هذا من الأحكام العقلائية أو العقلية حتّى يرى العقل صحّة عقوبة المولى لذلك - فلا.

والحقّ: أنّ التفصيل ثابت، لكن بعكس ما أفاده رحمه الله علیه .

قوله: «سلك مسلكاً آخر في منع الصغرى...»(1) إلى آخره.

ما سلكه الشيخ قدّس سرّه هو منع الكبرى لا الصغرى، كما يظهر بالتأمّل فيما نقله عنه؛ فإنّ حاصل ما أفاده: أنّ الضرر المظنون بواسطة ترخيص الشارع بأدلّة البراءة والاستصحاب متدارك، والعقل لا يستقلّ بقبح الإقدام على الضرر المتدارك والمفسدة المتداركة(2).

وهذا منع الكبرى؛ فإنّ الضرر المتدارك ضرر عقلاً، لا أ نّه ليس بضرر، نعم العرف يتسامح في سلب الضررية عنه، لكنّ الميزان في المقام هو الحكم العقلي، والعقل يحكم بأنّ القبيح هو الإقدام على الضرر الغير المتدارك لا المتدارك.

وإن شئت قلت: هذا نفي كلّية الكبرى؛ لمنع كلّية قبح الإقدام على كلّ ما لا يؤمن معه الضرر.

قوله: «وذلك ينحصر بالتعبّد بالأمارات»(3).

هذا حقّ لو كانت الأمارات مجعولات شرعية، وأمّا لو كانت الأمارات اُموراً عقلائية - يعمل بها العقلاء في جميع اُمور معاشهم وسياساتهم - فلا يكون

ص: 278


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 222.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 376.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 222.

وقوعهم في الضرر والمفسدة بإيقاع الشرع، والأمارات كلّها عقلائية، وإنّما لم يردع عنها الشارع، ومجرّد عدم ردعه إيّاهم لا يوجب الإيقاع في المفسدة من قِبله.

وأمّا الاُصول العملية فيمكن أن يقال: إنّ ترخيص الشارع بنحو العموم لكلّ مشتبه إغراء للمكلّف في الوقوع في المفسدة، وذلك أيضاً قبيح ولو في مورد حكم العقل بجواز الارتكاب.

لا يقال: إنّ أدلّة حجّية الأمارات أيضاً إغراء له فيها.

فإنّه يقال: ليس في الآيات والأخبار التي استدلّوا بها لحجّيتها دليل يصحّ الاعتماد عليه في الترخيص في العمل بالأمارات بنحو الإطلاق، وإنّما هي أدلّة في موارد خاصّة وأشخاص معلومة، ولعلّهم كانوا مأمونين عن تخلّف قولهم للواقع؛ لشدّة تحفّظهم وتقواهم.

وبالجملة: أنّ القضايا الشخصية لا يمكن أن تكون ميزاناً لشيء، وأمّا أدلّة الاُصول فهي أدلّة مطلقة أو قضايا كلّية تدلّ على الترخيص والإغراء.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ المستفاد من الأخبار هو إمضاء العمل على طبق قول الثقة مطلقاً، كما لا يبعد، بل يظهر من بعضها، فتصير حالها حال أدلّة الاُصول .

قوله: «وأمّا ثانياً: فلأنّ العموم»(1).

أقول: فيه أوّلاً: أنّ دعوى عدم شمول العموم لما له مؤنة زائدة - مثل ما نحن فيه - ممّا لا وجه لها؛ ضرورة عدم كون مثل تلك المؤنة الزائدة مانعاً عن شمول

ص: 279


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 223.

العامّ؛ فإنّ الكشف عن تدارك الضرر والمفسدة إنّما يكون بعد شمول العامّ للمظنونات، ولا يعقل أن يكون المنكشف مانعاً عن شمول العامّ الكاشف له، مع أنّ في أصل الدعوى مطلقاً ما لا يخفى.

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكن يكون ما نحن فيه ممّا استثناه من القاعدة المتوهّمة؛ للزوم عدم شمول العامّ للمظنونات عدم شموله للمشكوكات والموهومات أيضاً؛ لتوقّف شموله على إثبات تدارك المفسدة والضرر مطلقاً، ولا وجه للاختصاص بالمظنونات؛ لأنّ التدارك لازم ترخيص المولى مع تخلّف المرخّص فيه عن الواقع، فلو رخّص المولى في ارتكاب المشكوكات، وارتكب العبد لأجل الترخيص، وصادف الحرام الواقعي، أو ترك لأجله، وصادف الواجب الواقعي، لكان الوقوع في المفسدة لأجل ترخيصه، فلا بدّ من جبرانه وتداركه من غير فرق بين المظنون وغيره، والظنّ الغير المعتبر عند العقلاء حاله حال الشكّ، فما أفاده - من أ نّه لا يلزم من عدم شموله للمظنونات بقاء العموم بلا مورد؛ لأنّ المشكوكات والموهومات تبقى تحت العامّ(1) - في غير محلّه.

قوله: «لا يبقى موقع للبراءة والاستصحاب»(2).

أقول: عدم بقاء الموقع للبراءة والاستصحاب يتوقّف على حكومة الحكم المستكشف من الحكومة العقلية بقبح الإقدام على ما لا يؤمن معه الضرر، وهو غير معقول؛ لأنّ العقل كما يستقلّ بقبح الإقدام على ما لا يؤمن معه الضرر،

ص: 280


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 223.
2- نفس المصدر.

كذلك يستقلّ بعدم قبح الإقدام على الضرر المتدارك، فهما حكمان يستقلّ بكلّ منهما العقل، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في كون ما نحن فيه - أي مورد الظنّ بالحكم - يكون صغرى لأيّ منهما حتّى لا يبقى للآخر مجال ؟

والحقّ: أ نّه صغرى للضرر المتدارك؛ فإنّ الظنّ الغير المعتبر يكون موضوعاً لأدلّة البراءة والاستصحاب؛ فإنّ موضوعهما هو عدم العلم والشكّ، والفرض شمولهما للظنّ الغير المعتبر أيضاً، وأمّا الظنّ بالضرر فهو متأخّر رتبة عن الظنّ بالحكم؛ فإنّ الظنّ بالحكم كاشف عن المضارّ والمنافع والمصالح والمفاسد، فالظنّ بالضرر متأخّر عن الظنّ بالحكم، وتطبيق حكم العقل بقبح الإقدام على الضرر المظنون على الصغرى متأخّر عن الظنّ بالضرر، وكشف الحكم الشرعي بحكم الملازمة متأخّر عن الحكم العقلي؛ لكونه منكشفاً منه، فالظنّ بالحكم متقدّم على الظنّ بالضرر، وهو متقدّم على تطبيق حكم العقل بقبح الإقدام على الصغرى، وهو متقدّم على الحكم الشرعي المنكشف منه، فإذا تحقّق الظنّ بالحكم جرت قاعدة البراءة والاستصحاب بلا مانع في البين؛ فإنّ موضوعهما الظنّ بالحكم، وقد تحقّق، والفرض أنّ المانع ليس في هذه المرتبة، وفي الرتبة الثانية يتحقّق الظنّ بالضرر، لكن في هذه الرتبة يكون التدارك بواسطة حكم الشرع بالترخيص ثابتاً، فرتبة الظنّ بالضرر هي رتبة التدارك، فيصير موضوعاً لحكم العقل بعدم القبح، لا حكمه بالقبح، فلا تصل النوبة إلى قاعدة قبح الإقدام على الضرر حتّى ينكشف الحكم الشرعي، وتتحقّق الحكومة، أو تتحقّق حكومة الحكم العقلي.

ص: 281

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ تصحيح الحكومة والورود يتوقّف على تقدّم الشيء على نفسه، فالحقّ ما أفاده الشيخ في هذا المقام(1)

لا في مبحث البراءة من أ نّه لا تجري البراءة العقلية والشرعية في موارد الظنّ بالضرر الدنيوي(2)، كما نقل عنه(3).

قوله رحمه الله علیه : «ولو سلّم...»(4) إلى آخره.

أقول: هذا منه غريب؛ فإنّه مع تسليم ملازمة الظنّ بالحكم للظنّ بالضرر الدنيوي والاُخروي معاً، فكيف يمكن جريان البراءة بالنسبة إلى الضرر الاُخروي ؟ ! فهل ترى من نفسك: أ نّه مع احتمال العقاب تجري البراءة العقلية، فضلاً عن الظنّ به ؟ ! فالظنّ بالحكم إذا حصل منه الظنّ بالعقاب يصير من موارد استقلال العقل بقبح الإقدام عليه، لا من مورد جريان قبح العقاب بلا بيان، فالظنّ بالحكم لا يلازم الظنّ بالعقاب ولا احتماله، إلاّ مع كونه بياناً ومعتبراً، فراجع كلامه.

ولعلّ الخلط وقع من الفاضل المقرّر رحمه الله تعالى.

ص: 282


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 376.
2- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 25: 122 - 126.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 224.
4- نفس المصدر.

دليل الانسداد

قوله: «الرابع: دليل الانسداد...»(28).

ترتيب مقدّمات الانسداد

اعلم: أ نّه قد وقع الخلط وسوء الترتيب من الأعلام في تنظيم مقدّمات الانسداد:

أمّا أوّلاً: فلأنّ دليل الانسداد لا يتأ لّف من أربع(1) أو خمس(2) مقدّمات، وإنّما هو قياس استثنائي متألّف من شرطية وحملية، ينتج رفع التالي رفع المقدّم كما سيأتي بيانه، فدليل الانسداد يتأ لّف من مقدّمتين، لا مقدّمات، كما هو الشأن في سائر الأقيسة.

وأمّا ثانياً: فلأنّ كلّ ما هو دخيل في إنتاج حجّية الظنّ لو عُدّ مقدّمة برأسه على رغم علماء المنطق وعلمهم لصارت المقدّمات أكثر ممّا ذكروا؛ فإنّ بطلان الاحتياط مقدّمة برأسه، وله دليل مستقلّ، وبطلان التقليد كذلك، وكذلك بطلان الرجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة، بل وانسداد باب العلم غير انسداد باب العلمي موضوعاً ودليلاً، فلا وجه لحصر المقدّمات في أربع أو خمس.

وأمّا ثالثاً: فلأ نّه قد وقع الخلط في أخذ المقدّمات، فاُخذت المقدّمة التي

ص: 283


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 384؛ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 400.
2- كفاية الاُصول: 356.

بلا واسطة تارةً، والتي مع الواسطة اُخرى، وأيضاً في مقدّمة اُخذت العلّة، وفي

الاُخرى اُخذ المعلول، وهو خلاف نظم البرهان، فمن أراد تنظيم البرهان على الوجه المقرّر في علم الميزان لا بدّ له من ترتيب المقدّمات القريبة المنتجة بلا واسطة، وأمّا أخذ مقدّمات المقدّمات وعللها فهو خلاف الترتيب، فضلاً عن اختلاط القياس من المقدّمات التي بلا واسطة والتي مع الواسطة، كما وقع منهم في المقام، فإنّ العلم الإجمالي بالأحكام، وانسداد باب العلم والعلمي، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح، من المقدّمات البعيدة وعلل المقدّمات المنتجة في القياس. وبطلان إهمال الوقائع المشتبهة والرجوع إلى البراءة، وبطلان الاحتياط والتقليد والرجوع في كلّ مسألة إلى الأصل الجاري فيها، من المقدّمات القريبة المنتجة.

فالأولى تنظيم البرهان على النظم القياسي المنطقي، فيقال:

لولا حجّية الظنّ المطلق، أو لولا وجوب العمل بالظنّ المطلق، للزم على سبيل منع الخلوّ: إمّا إهمال الوقائع المشتبهة والرجوع إلى البراءة في جميع موارد الشكّ، وإمّا العمل على العلم التفصيلي في جميع الوقائع، وإمّا العمل على طبق الطرق الخاصّة العلمية، وإمّا الاحتياط في جميع الوقائع، وإمّا الرجوع إلى فتوى الغير، وإمّا الرجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة؛ من الاستصحاب والبراءة وغيرهما، وإمّا العمل على طبق المشكوكات والموهومات، والتالي بجميع شقوقه فاسد:

أمّا فساد إهمال الوقائع؛ فللعلم الإجمالي بالأحكام والإجماع وغيرهما.

ص: 284

وأمّا فساد العمل على طبق العلم التفصيلي أو الطرق؛ فلانسداد باب العلم والعلمي.

وأمّا فساد الاحتياط التامّ؛ فللزوم اختلال النظام أو العسر والحرج.

وأمّا فساد الرجوع إلى فتوى الغير؛ فلأ نّه من رجوع العالم إلى الجاهل بنظره.

وأمّا فساد الرجوع في كلّ مسألة إلى الأصل الجاري فيه؛ فلعدم كفايتها وغير ذلك.

وأمّا فساد الأخذ بالمشكوكات والموهومات؛ فلقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

فإذا بطل التالي بجميع شقوقه بطل المقدّم، وهو عدم حجّية الظنّ، أو عدم وجوب العمل به، فيلزم منه حجّيته أو وجوب العمل به في الجملة.

وسيأتي توضيح المقدّمات تفصيلاً، والمقصود هاهنا التنبيه على أنّ دليل الانسداد قياس استثنائي مؤلّف من شرطية هي: لولا كذا للزم كذا وكذا، وحملية هي: والتالي بجميع تقاديره باطل. ولا بدّ للمستدلّ من إثبات كلا(1) الأمرين حتّى ينتج القياس:

أحدهما: إثبات التلازم بين المقدّم والتالي، وهو إنّما يحصل بإثبات الحصر العقلي بين التوالي بنحو منع الخلوّ، وإثبات عدم خلوّ الواقع عن الترديدات الواقعة في التالي حتّى ينتج بطلانها بطلان المقدّم، فيصير نقيضه حقّاً.

وثانيهما: إثبات بطلان التوالي بأسرها وجميع تقاديرها، فمع حقّية المقدّمتين ينتج القياس.

ص: 285


1- في الأصل: «أحد» بدل: «كلا».

ولا إشكال ولا كلام في الأمر الأوّل والمقدّمة الاُولى، وإنّما الإشكال والكلام في المقدّمة الثانية؛ أي بطلان التالي، وبما ذكرنا وأوضحنا - من كيفية تشكيل القياس المنتج - اتّضح الخلط الواقع من الأعلام في المقام من أخذ مقدّمة المقدّمة مقام المقدّمة، والعلّة مقام المعلول، والخلط بين المقدّمات التي مع الواسطة والتي بلا واسطة، فتدبّر تعرف.

توضيح مقدّمات الانسداد

فلا بدّ للتعرّض لكلّ تقدير من التالي والتفتيش والفحص عن حقّيته وبطلانه، فنقول:

بطلان العمل على طبق العلم التفصيلي أو الطرق

أمّا بطلان العمل بالعلم التفصيلي في جميع الوقائع فهو ضروري.

وأمّا بطلان العمل بالعلمي فهو مردود؛ لأ نّا قد فرغنا - بحمد الله تعالى - عن حجّية الخبر الواحد، وهو وافٍ بجميع الفقه من الطهارة إلى الديات، فدليل الانسداد - مع عرضه العريض وطول مباحثه - فاسد من أصله، والتعرّض له ممّا لا طائل تحته، وإنّما هو محض تبعية المحقّقين وأساطين الفنّ رحمهما اللّه .

ولا ينقضي تعجّبي من الفاضل المقرّر لبحث بعض أعاظم العصر رحمهما اللّه حيث بالغ في شكر مساعي شيخه الاُستاذ في إفادة الدقائق العلمية التي تقصر عنها

ص: 286

الأفهام في دليل الانسداد(1)، مع أنّ هذه الدقائق العلمية التي زعمها حقائق رائجة - مع الغضّ عن المناقشات الكثيرة فيها، والإشكالات الواضحة عليها، كما سيأتي(2)

عند التعرّض لبعضها - لا تفيد شيئاً؛ لبطلان أساس الانسداد، فلا بدّ من شكر مساعي هذا المحقّق وسائر مشايخ العلم وأساطين الدين، لكن في غير هذا المبحث الذي لا يفيد علماً ولا عملاً، والتعرّض لهذه المباحث مع طولها وعدم فائدتها العملية المتوقّعة من القواعد الاُصولية لولا غرض تشييد الأذهان وتحصيل قوّة الاجتهاد للمشتغلين وطلاّب العلوم، لكان الاستغفار منه للمتعرّض لها أولى من التشكّر، ككثير من المباحث المبحوث عنها في علم الاُصول.

بطلان إهمال الوقائع المشتبهه

وأمّا بطلان إهمال الوقائع المشتبهة فهو ضروري لا يحتاج إلى إقامة البرهان، وقد استدلّ عليه بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع القطعي التقديري من كلّ من يحفظ منه العلم؛ فإنّ المسألة وإن لم تكن معنونة في قديم الزمان، لكنّ القطع حاصل بأنّ إجماع العلماء في جميع الأعصار والأمصار حاصل بأنّ ترك المشتبهات وإهمالها رأساً غير جائز(3)،

هذا.

ص: 287


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 225 - 226.
2- يأتي في الصفحة 291.
3- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 388.

وفيه: أنّ هذا الاتّفاق لا يستكشف منه رأي المعصوم، ولا الدليل التعبّدي الذي هو مبنى حجّية الإجماع؛ فإنّ المسألة عقلية صرفة يمكن أن يكون مبناها هو العلم الإجمالي بالأحكام؛ فإنّ تنجيز العلم الإجمالي وكونه كالتفصيلي في حرمة المخالفة القطعية ممّا لا ينبغي الشبهة فيه.

وبالجملة: هذه المسألة ليست من المسائل التي يكون اتّفاقهم فيها كاشفاً عن الدليل التعبّدي المعتبر.

الوجه الثاني: لزوم الخروج من الدين؛ لقلّة الأحكام المعلومة بالتفصيل؛ بحيث يعدّ الاقتصار عليها وترك التعرّض للوقائع المشتبهة خروجاً من الدين، وتاركه غير ملتزم بأحكام سيّد المرسلين صلوات الله عليه وآله أجمعين، وذلك مرغوب عنه شرعاً وإن لم نلتزم بتنجيز العلم الإجمالي(1).

وفيه أوّلاً: أنّ عدم التعرّض للمشتبهات وإن يلزم منه المخالفات الكثيرة، لكن كون ذلك بمثابة الخروج من الدين، وكون الملتزم بصرف ضروريات الفقه وإجماعياته ومتواترات الأحكام وما يستفاد من الكتاب خارجاً من الدين وغير ملتزم بأحكام الإسلام، ممنوع؛ ضرورة أنّ الآتي بالصلاة والصيام والحجّ وسائر الأحكام الضرورية مع ما يستفاد من أحكامها من الإجماع والضرورة والمتواتر من النقل، لا يعدّ خارجاً من الدين؛ فإنّ صورة هذه الفروع الضرورية مع كثير من أحكامها من قبيل ما ذكر، والفروع الخلافية اُمور خارجة عن حقائقها، أو داخلة لكن لا يكون التارك لها غير آتٍ بتلك الحقائق، فمن صلّى مع الطهور

ص: 288


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 388 - 389.

والقبلة والستر وسائر الشرائط والأجزاء - التي تكون متسالماً عليها عند الفقهاء

بواسطة الإجماع أو الضرورة أو النقل المتواتر أو دلالة الكتاب العزيز - وأتى بصيام شهر رمضان مقتصراً على ما يكون مفطراً كذلك، وأتى بالحجّ والزكاة والخمس وسائر الواجبات التي تكون كذلك، وترك المحرّمات المسلّمة، لا يعدّ خارجاً من الدين؛ بحيث يعدّ هذا محذوراً مستقلاًّ في مقابل منجّزية العلم الإجمالي. نعم، الآتي بالتكليفات كذلك غير آتٍ بها؛ لمكان العلم الإجمالي بترك أجزاء أو شرائط دخيلة فيها، أو إتيان منافيات لها.

وبالجملة: ليس ما وراء العلم الإجمالي بالمخالفات الكثيرة أمر آخر مرغوب عنه يكون مستقلاًّ في مقابله.

وثانياً: لو سلّم كون هذا محذوراً مستقلاًّ لدى الفقهاء؛ بحيث يعدّ فاعله كأ نّه خارج من الدين، لكن كشف هذا عن كونه محذوراً مستقلاًّ لدى الشرع غير مخالفة الأحكام الكثيرة - بحيث يعاقب التارك للأحكام الكثيرة: تارةً لأجل المخالفة الكثيرة، وتارةً لأجل صيرورته كأ نّه خارج من الدين، وغير ملتزم بأحكام سيّد المرسلين صلی الله علیه و آله وسلم - ممنوع.

نعم، لا شبهة في كون المخالفات الكثيرة الكذائية مرغوباً عنها عقلاً وشرعاً، لكن كون هذا أمراً تعبّدياً - لا إرشادياً - ممنوع.

وبالجملة: ليس في البين من الشارع إلاّ الأمر بإطاعة جميع أحكامه، وهو أمر إرشادي عقلي، لا تعبّدي شرعي.

الوجه الثالث: العلم الإجمالي بثبوت التكاليف، وهو كالتفصيلي في وجوب

ص: 289

الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية، فلاتجري الاُصول النافية في أطرافه(1).

وهذا هو العمدة في هذا الباب، وأمّا الوجهان الأوّلان فقد عرفت النظر فيهما.

فما أفاده بعض أعاظم العصر - من أنّ هذه الوجوه الثلاثة في غاية الصحّة والمتانة غير قابلة للخدشة فيها(2) - فيه ما لا يخفى.

إن قلت: هذا الوجه أيضاً مخدوش فيه؛ لأنّ بعض أطراف العلم الإجمالي إذا كان مرخّصاً فيه، أو لزم الاقتحام فيه، فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذٍ - على تقدير المصادفة - إلاّ عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليها إلاّ

مؤاخذة بلا برهان ؟

قلت: نعم هذا ما أفاد المحقّق الخراساني قدّس سرّه في وجه عدم منجّزية العلم الإجمالي، وأجاب عنه: بأنّ هذا إنّما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، وقد علم بنحو اللمّ؛ حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، مع صحّة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال، وهو مرغوب عنه شرعاً(3).

ومحصّل جوابه يرجع إلى الوجهين الأوّلين في عدم جواز الإهمال، وقد عرفت النظر فيهما.

والتحقيق في الجواب عن الإشكال: أنّ ترخيص بعض الأطراف أو لزوم الاقتحام فيه إذا كان متأخّراً عن المعلوم بالعلم الإجمالي، لا يخلّ بتنجيز العلم ولو كان الترخيص أو لزوم الاقتحام في البعض المعيّن، فلو علم إجمالاً بكون

ص: 290


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 396.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 232.
3- كفاية الاُصول: 358.

أحد الإناءين خمراً، ثمّ رخّص في ارتكاب أحدهما المعيّن، لم يكن العلم ساقطاً

بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وإن سقط بالنسبة إلى القطعية.

وفيما نحن فيه يكون الأمر من هذا القبيل؛ فإنّ العلم بالأحكام مقدّم من حيث المعلوم على عروض الاشتباه وكثرته، وهما مقدّمان على ترخيص الشارع أو العقل لارتكاب بعضها.

مع إمكان أن يقال: إنّ الترخيص هاهنا لم يكن من قبيل ترخيص بعض الأطراف معيّناً، بل يكون من قبيل الترخيص في البعض الغير المعيّن؛ فإنّ ما يدلّ على الترخيص هو أدلّة العسر والحرج، وهي دالّة على رفع العسر والحرج، والعقل إنّما يحكم بأنّ رفع العسر إنّما يجب أن يكون في دائرة الموهومات، وإن لم يرفع ففي دائرة المشكوكات، ويكون هذا الحكم العقلي لأجل التحفّظ على التكاليف الواقعية، والجمع بينها وبين رفع العسر حتّى الإمكان، ولا يعقل أن يصير ذلك موجباً لرفع تنجيز العلم عقلاً مطلقاً، كما لا يخفى.

نقل كلام المحقّق النائيني ونقده

إيقاظ: قد تصدّى بعض الأعاظم رحمه الله علیه على ما في تقريراته لبيان مبنى اختلاف نتيجة الانسداد من حيث الكشف والحكومة، فقال ما حاصله:

إنّ اختلاف هذه الوجوه الثلاثة في مدرك المقدّمة الثانية يوجب اختلاف النتيجة؛ فإنّ المستند لعدم جواز إهمال الوقائع لو كان الوجه الأوّل والثاني كانت النتيجة الكشف لا محالة؛ فإنّ مرجعهما إلى أنّ الشارع أراد من العباد التعرّض للوقائع المشتبهة، فالعقل يحكم حكماً ضرورياً بأ نّه لا بدّ للشارع من نصب

ص: 291

طريق للعباد واصل بنفسه أو بطريقه، والذي يصحّ جعله في حال الانسداد مع كونه واصلاً بنفسه ينحصر بالاحتياط؛ لكونه محرزاً للواقع، فالاحتياط هو الطريق المجعول الشرعي - نظير الاحتياط في الدماء - لا العقلي؛ فإنّ الاحتياط العقلي لا يكون إلاّ في أطراف العلم الإجمالي، فمع قطع النظر عن العلم الإجمالي لا حكم للعقل، فلا إشكال في أنّ الاحتياط شرعي لا غير، ثمّ بعد إثبات بطلان طريقية الاحتياط - كما يأتي في المقدّمة الثالثة - تكون النتيجة حجّية الظنّ شرعاً، وهي معنى الكشف.

هذا، وأمّا إذا كان المدرك هو العلم الإجمالي، فيمكن أن تكون النتيجة الكشف، ويمكن أن تكون التبعيض في الاحتياط، كما سيتّضح وجهه، والغرض في المقام الإشارة إلى أساس الكشف والحكومة(1)، انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: وبما ذكرنا - من بطلان الوجهين الأوّلين - انهدم أساس هذا البنيان.

مضافاً إلى أنّ الإجماع الذي ادّعاه في المقام: إمّا أن يكون إجماعاً على قضيّة كلّية، وهو الإجماع على عدم جواز إهمال شيء من الوقائع المشتبهة، وإمّا إجماعاً على عدم جواز إهمال مجموع الوقائع المشتبهة من حيث المجموع، وإمّا إجماعاً على قضيّة مهملة، وهو الإجماع على عدم جواز الإهمال في الجملة، وإمّا إجماعاً على أنّ صيرورة التكاليف الواقعية مجهولة بين المشتبهات لا توجب رفع اليد عنها، فالشارع لا يرضى بإهمال التكاليف الواقعية بمجرّد عروض الاشتباه عليها، فلا بدّ من إتيانها ولو لم يحكم العقل

ص: 292


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 232 - 234.

بإتيانها من ناحية العلم الإجمالي:

فإن اُريد الإجماع على النحو الأوّل، فيرد عليه - مضافاً إلى أنّ الضرورة قاضية بأنّ عروض الاشتباه لا يوجب أن يكون المشتبه بما أ نّه مشتبه مطلوباً نفسياً، بل لو كان مطلوباً يكون لأجل التحفّظ على الواقع، فيكون الواقع مطلوباً ذاتياً نفسياً ولو في زمان الاشتباه، فيرجع إلى الوجه الثالث - أوّلاً: أنّ هذا الإجماع هو عين الإجماع على جمع المشتبهات والاحتياط فيها؛ فإنّ الإجماع على عدم جواز إهمال شيء من المشتبهات عبارة اُخرى عن الإجماع على إيجاب الاحتياط، فلا وجه لما أفاده رحمه الله علیه من أنّ العقل يحكم حكماً قطعياً بأنّ الشارع لا بدّ له من نصب طريق واصل بنفسه أو بطريقه، والطريق الواصل بنفسه هو الاحتياط التامّ، وهل هذا إلاّ وحدة الكاشف والمنكشف ؟ !

وثانياً: أنّ هذا الإجماع مخالف للعقل أو النقل، فإنّه إجماع على الاحتياط التامّ المخلّ بالنظام، أو إجماع على أمر يوجب العسر والحرج، وهو كما ترى.

والعجب أ نّه اعترف - فيما يأتي - بأنّ هذا الإجماع لا يستكشف منه الاحتياط التامّ(1)، وفي هذا المقام ادّعى القطع بأنّ حكم العقل هو كشف

الاحتياط التامّ.

وثالثاً: أنّ هذا الإجماع معارض للإجماعين اللذين ادّعاهما في الأمر الثالث(2)،

وسيأتي التعرّض لهما(3).

ص: 293


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 248.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 245 - 246.
3- يأتي في الصفحة 301 - 302.

وإن اُريد الإجماع على النحو الثاني، كما صرّح بذلك فيما سيأتي(1) عند التعرّض لإبداء الفرق بين الاحتياط العقلي والشرعي، من حكومة أدلّة العسر والحرج على العقلي منه دون الشرعي، فقال:

«والسرّ في ذلك: هو أنّ الوقائع المشتبهة لوحظت قضيّة واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط؛ لأنّ الإجماع أو الخروج عن الدين إنّما كان دليلاً على عدم جواز إهمال مجموع الوقائع المشتبهة من حيث المجموع، لا على كلّ شبهة شبهة؛ فإنّ إهمال كلّ شبهة مع قطع النظر عن انضمام سائر الشبهات إليها لا يوجب الخروج عن الدين، ولا قام الإجماع على عدم جوازه، بل معقد الإجماع ولزوم الخروج عن الدين إنّما هو إهمال مجموع المحتملات من المظنونات والمشكوكات والموهومات، وذلك يقتضي نصب الشارع طريقة الاحتياط في المجموع، فيكون حكماً خاصّاً ورد على موضوع خاصّ»(2)، انتهى.

فيرد عليه: أنّ قيام الإجماع على عدم جواز إهمال مجموع المشتبهات من حيث المجموع، وكذلك لزوم الخروج عن الدين في ترك المجموع من حيث المجموع، لا يوجبان الاحتياط التامّ في جميع المشتبهات، ولا يمكن استكشاف ذلك منهما؛ فإنّ غاية ما يستكشف منهما لزوم إتيان بعض المشتبهات بنحو الإهمال؛ فإنّ هدم المجموع إنّما يكون بالبعض بنحو القضيّة المهملة، لا بالجميع بنحو الاستغراق، ولا بالمجموع بنحو لحاظ الوحدة.

وبالجملة: مخالفة الإجماع والخروج عن الدين إنّما يكونان بترك المجموع

ص: 294


1- يأتي في الصفحة: 312.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 259 - 260.

من حيث المجموع، وذلك لا يقتضي الاحتياط في المجموع من حيث المجموع، بل يقتضي عدم جواز إهمال المجموع من حيث المجموع الملازم للتعرّض لبعض المشتبهات، ولعمري إنّ هذا بمكان من الغرابة منه قدّس سرّه .

مع أنّ دعوى هذا الإجماع أيضاً بمكان من الغرابة؛ فإنّ لازمه جواز ترك جميع المشتبهات إلاّ واحداً منها، فلا بدّ من الالتزام بأنّ إتيان واحد من المشتبهات يوجب عدم الخروج عن الدين وعدم مخالفة الإجماع، فلو أتى المكلّف من بين جميع المشتبهات بالخرطات الاستبرائية، يكون داخلاً في الدين وغير مخالف لإجماع المسلمين، وهذا - كما ترى - لا يلتزم به أحد، مع أ نّه لازم تلك الدعوى.

وإن اُريد الإجماع على النحو الثالث، فيرد عليه:

أوّلاً: أ نّه لا يمكن استكشاف الاحتياط التامّ من هذا الإجماع على قضيّة مهملة؛ فإنّ المهملة في حكم الجزئية، فلا ينتج إلاّ قضيّة مهملة في حكم الجزئية.

وثانياً: أنّ هذا هو الإجماع على التبعيض في الاحتياط؛ فإنّ الإجماع على عدم جواز إهمال المشتبهات في الجملة عبارة اُخرى عن التبعيض في الاحتياط.

نعم، لو كان هذا الإجماع لأجل التحفّظ على الواقع، لحكم العقل بإتيان المظنونات؛ لأجل أقربيتها إلى التكاليف الواقعية.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ لهذا الإجماع إهمالاً حتّى من جهة التبعيض في الاحتياط، فلا يستفاد منه شيء إلاّ عدم جواز الإهمال رأساً، فلا بدّ

ص: 295

من التماس دليل آخر على تعيين كيفية التعرّض للمشتبهات، وهو الإجماع الآتي.

وإن اُريد الإجماع على النحو الرابع - كما أنّ المقطوع به أ نّه لو كان إجماع في البين لكان على هذا النحو، لا على المشتبهات بما أ نّها مشتبهات - فيكون الإجماع على لزوم التعرّض للتكاليف الواقعية حتّى مع عروض الاشتباه، فيرجع إلى أنّ التكاليف الواقعية بقيت فعلية في زمان الانسداد.

فيرد عليه: أنّ هذا الإجماع لا يقتضي جعل الاحتياط أصلاً، بل مع العلم بأنّ التكاليف بقيت على فعليتها في حال عروض الاشتباه عليها، يحكم العقل بالاحتياط التامّ والجمع بين المشتبهات؛ لأجل التحفّظ على الواقع.

إن قلت: هذا يرجع إلى الوجه الثالث، وهو العلم الإجمالي بالتكاليف.

قلت: كلاّ، فإنّ الوجه الثالث هو أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف الواقعية من حيث هو موجب لوجوب الخروج عن العهدة، ويحكم العقل بالاحتياط لأجله، بخلاف هذا الوجه؛ فإنّه لا يحكم بوجوب إتيان المشتبهات لأجل العلم الإجمالي بالتكاليف الأوّلية من حيث هي، بل لأجل حكم الشرع بأنّ التكاليف بعد عروض الاشتباه عليها أيضاً بقيت على فعليتها، فالجمع بين المشتبهات ليس لأجل تنجيز العلم الإجمالي كما في الوجه الثالث، بل لأجل التعرّض لحال اشتباه التكاليف.

وليس للعقل المعارضة مع الحكم الشرعي في ذلك؛ فإنّ الإجماع إذا قام على فعلية الأحكام مع عروض الاشتباه، يحكم العقل قطعاً بلزوم الجمع بين المشتبهات ولو لم ينجّز العلم الإجمالي.

ص: 296

فتحصّل من ذلك: أنّ الإجماع الذي يمكن دعواه - على إشكال فيه قد تقدّم - هو الإجماع على النحو الرابع، ولا يستكشف منه نصب الشارع الطريق الواصل بنفسه - أي الاحتياط التامّ - بل يشترك هذا الوجه مع الوجه الثالث في حكم العقل بالاحتياط.

هذا كلّه حال الإجماع.

وأمّا قضيّة الخروج من الدين، فمحصّل الكلام فيه: أنّ الإجماع لو كان على ذلك العنوان فهو ملازم عقلاً لترك التكاليف وإهمالها، مع قطع النظر عن الإشكال المتقدّم، فإهمال التكاليف لازمه الخروج من الدين، فإذا كان الخروج من الدين مرغوباً عنه شرعاً، ومحرّماً إجماعاً، فيكون إهمال التكاليف ملزومه، فيحكم العقل بإتيانها تحفّظاً عن الخروج من الدين، وليس هذا حكماً شرعياً بالاحتياط، بل حكم عقلي صرف من باب المقدّمية.

هذا، مضافاً إلى أ نّه لو سلّم وجوب التعرّض للتكاليف شرعاً لأجل عدم الخروج من الدين، لا يمكن استكشاف الاحتياط التامّ؛ لأنّ الخروج من [الدين] لو سلّم إنّما يرتفع بالتعرّض لجملة من الأحكام، لا جميعها، فلا وجه للاحتياط التامّ لأجله.

فتحصّل من جميع ذلك: أنّ ما ادّعي - من أنّ اختلاف نتيجة دليل الانسداد باختلاف المدرك في المقدّمة الثانية - ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه، فانهدم أساس ما أرعد وأبرق الفاضل المقرّر رحمه الله علیه من إيداع شيخه العلاّمة الدقائق العلمية في المقام ممّا كانت الأفهام عن إدراكها قاصرة.

هذا تمام الكلام في إبطال جواز إهمال الوقائع.

ص: 297

بطلان الرجوع إلى فتوى الغير

وأمّا الكلام في المقدّمة الثالثة باصطلاحهم(1) والتقادير الاُخر على التحقيق: فبطلان الرجوع إلى فتوى القائل بالانفتاح واضح. والقول بأنّ القائل بالانسداد معترف بجهله بالأحكام، فلا بدّ من رجوعه إلى الانفتاحي القائل بانفتاح باب العلم عليه، كما ترى.

بطلان الرجوع إلى الاُصول الجارية في كلّ مسألة

وأمّا بطلان الرجوع إلى الاُصول الجارية في كلّ مسألة: فبالنسبة إلى الاُصول العدمية فواضح؛ للزوم المخالفة القطعية في موارد الاُصول النافية بالخصوص؛ لعدم انحلال العلم الإجمالي في موارد الاُصول المثبتة، ومعنى عدم انحلاله فيها كون موارد الاُصول النافية متعلّقة للعلم بالتكليف.

وأمّا عدم الانحلال في موارد الاُصول المثبتة فواضح أيضاً؛ لقلّة مواردها جدّاً، والعلم بالتكاليف أضعاف مضاعفة بالنسبة إليها، فدعوى الانحلال(2) فاسدة.

نقل كلام المحقّق الخراساني في المقام ووجوه النظر فيه

ولقد تصدّى المحقّق الخراساني رحمه الله علیه لبيان جريان الاستصحاب في المقام

ص: 298


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 384 و 403؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 234، وهي المقدّمة الرابعة عند الآخوند قدّس سرّه ،راجع كفاية الاُصول: 356.
2- كفاية الاُصول: 360.

حتّى مع القول بعدم جريانه في أطراف العلم الإجمالي، فقال ما محصّله بتوضيح منّا:

إنّ الاستصحاب وإن كان غير جارٍ في أطراف العلم الإجمالي؛ لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله؛ بداهة تناقض حرمة النقض في كلّ منها بمقتضى «لا تنقض...» لوجوبه في البعض بمقتضى «ولكن تنقضه بيقين آخر»(1) ولكن جريانه في المقام ممّا لا مانع منه؛ لأنّ التناقض إنّما يلزم إذا كان الشكّ واليقين في جميع أطراف العلم فعليين ملتفتاً إليهما، وأمّا إذا لم يكن الشكّ واليقين فعليين ملتفتاً إليهما إلاّ في بعض أطرافه، وكان البعض الآخر غير ملتفت إليه فعلاً، فلا يلزم التناقض أصلاً؛ لأنّ قضيّة «لا تنقض» ليست حينئذٍ إلاّ حرمة النقض في [خصوص] الطرف المشكوك، وليس [فيه] علم بالانتقاض كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، وما نحن فيه كذلك؛ فإنّ المجتهد إنّما يستنبط الأحكام تدريجاً، وليس جميع موارد الاستصحابات ملتفتاً إليها(2)، انتهى.

وفيه أوّلاً: ما مرّت الإشارة إليه سالفاً(3) من أنّ التناقض في مدلول دليل الاستصحاب في موارد الشكّ الفعلي أيضاً ممّا لا أساس له؛ فإنّ التناقض إنّما يلزم لو كان قوله في ذيل أدلّة الاستصحاب: «ولكن تنقضه بيقين آخر»، جعل

ص: 299


1- تهذيب الأحكام 1: 8 / 11؛ وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
2- كفاية الاُصول: 359.
3- تقدّم في الصفحة 123 - 124.

حكم هو لزوم نقض اليقين باليقين، أو الشكّ باليقين، مع أ نّه غير معقول جدّاً؛

لأنّ جعل لزوم نقض اليقين باليقين في قوّة جعل الحجّية لليقين، مع أنّ ناقضية اليقين الفعلي لكلّ شيء قبله - من اليقين والشكّ - أمر تكويني قهري لا ينالها يد جعلٍ إثباتاً أو نفياً.

والتحقيق: أنّ قوله: «ولكن ينقضه...» أتى لبيان حدّ الحكم السابق، لا لتأسيس حكم آخر، فكأ نّه قال: لا تنقض اليقين بالشكّ إلى زمان حصول يقين آخر ناقض له تكويناً.

وثانياً: أنّ الظاهر من قوله: «ولكن تنقضه بيقين آخر» أنّ ما هو متعلّق الشكّ عين ما هو متعلّق اليقين؛ أي المتيقّن السابق الذي صار مشكوكاً فيه إذا صار متيقّناً ثانياً يجب نقضه، ولا شكّ في أ نّه لا يكون المشكوك في أطراف العلم عين المتيقّن؛ فإنّ اليقين إنّما تعلّق بأحدهما مردّداً، والشكّ تعلّق بكلّ واحد معيّناً.

وثالثاً: لو سلّمنا تناقض الصدر والذيل وشمول الدليل لأطراف العلم، فلا يمكن الافتراق بين الاستصحابات الفعلية وغيرها أصلاً؛ لأنّ قضيّة «لا تنقض اليقين بالشكّ»، وكذلك «تنقضه بيقين آخر» من قبيل القضايا الحقيقية الشاملة للأفراد الفعلية والمقدّرة؛ أي كلّما وجد في الخارج يقين سابق وشكّ لاحق لا يجوز نقضه به، ولا شكّ في لزوم التناقض بين هذا وبين قوله: «ولكن

تنقضه بيقين آخر»؛ ضرورة لزوم التناقض بين قوله: لا تنقض اليقين بالشكّ إذا

وجدا في هذا الطرف، ولا تنقضه به إذا وجدا في ذاك الطرف، ولكن يجب النقض في أحدهما، والقضايا الحقيقية تنحلّ إلى القضايا الكثيرة بحسب الأفراد المحقّقة والمقدّرة.

ص: 300

وبالجملة: وقع الخلط في المقام بين لزوم التناقض في مدلول الدليل وبين أمر آخر هو عدم منجّزية العلم في الأطراف المتدرّجة الوجود عقلاً، مع أ نّه لا ملازمة بينهما، فالتناقض في مدلول الدليل لا يتوقّف على العلم بالانتقاض، فقوله: «وليس فيه علم بالانتقاض كي يلزم التناقض» في غير محلّه؛ لأنّ لزوم التناقض بحسب الأفراد المقدّرة كلزومه بحسب الأفراد المحقّقة، ولا دخالة لعلم المكلّف وعدمه في لزوم التناقض.

ورابعاً: أنّ العلم الإجمالي بمخالفة بعض الاستصحابات للواقع يوجب هدم أساس الفتوى على طبقها، وهذا العلم حاصل للمجتهد قبل شروعه في الاستنباط وبعد فتواه طبقاً لمفاد الاستصحابات، ولا فرق في نظر العقل بين ذلك وبين العلم بالمخالفة في الدفعيات أبداً، هذا.

بطلان الاحتياط في جميع الوقائع

وأمّا بطلان الاحتياط في جميع الوقائع: فقد استدلّ عليه بوجهين: الأوّل: الإجماع على عدم وجوبه، والثاني: استلزامه العسر والحرج المنفيين، بل اختلال النظام(1).

ولقد تصدّى بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - لتقريب الإجماع، فقال ما محصّله:

إنّه يمكن تقريبه بوجهين:

الأوّل: الإجماع على عدم وجوب إحراز جميع المحتملات.

ص: 301


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 403 - 404.

الثاني: الإجماع على أنّ بناء الشريعة ليس على امتثال التكاليف بالاحتمال، بل بناؤها على امتثال كلّ تكليف بعنوانه، ويكون الإتيان بعنوان الاحتمال ورجاء انطباقه على المكلّف به أمراً مرغوباً عنه شرعاً.

وهذان الإجماعان وإن لم يقع التصريح بهما في كلام القوم، إلاّ أ نّه ممّا يقطع باتّفاق الأصحاب عليهما، كما مرّ نظيره في دعوى الإجماع على عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة.

ثمّ أطال الكلام في لزوم اختلاف النتيجة باختلاف الإجماعين(1).

وحيث لا أساس لتلك الإجماعات عندنا فالنتائج المترتّبة عليها - على فرض تماميتها - منهدمة الأساس، فلا وجه لإطالة الكلام والنقض والإبرام فيها.

أمّا الإجماع على عدم وجوب إحراز المشتبهات: فلا يمكن دعواه ولو مع عنوان المسألة واتّفاق كلمة الأصحاب، فضلاً عن هذا الإجماع التوهّمي؛ لأنّ مبنى فتواهم يمكن أن يكون أدلّة العسر والحرج أو لزوم اختلال النظام، ومثل هذا الاتّفاق لا يكشف عن دليل معتبر آخر.

مع أنّ هذا الإجماع مناقض للذي ادّعى أيضاً القطع بتحقّقه، وهو الإجماع على عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة بالتقريب الذي سيأتي تعرّضه له وهو ملاحظة جميع المحتملات قضيّةً واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط، على نحو أن يكون حكماً خاصّاً ورد على موضوع خاصّ، فكيف يمكن تحقّق الإجماع على وجوب الجمع بين مجموع

ص: 302


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 245 - 246.

المحتملات من حيث المجموع، وعلى عدم وجوب الجمع بينها ؟ ! وهل هذا إلاّ التناقض ؟ !

وأمّا الإجماع الثاني: وهو الإجماع على عدم بناء الشريعة على امتثال التكاليف بالاحتمال، ففيه: - مضافاً إلى مناقضته للإجماع المتقدّم كما هو واضح - أ نّه إن أراد من ذلك ما في بعض الكتب الكلامية - من لزوم العلم بالمكلّف به حتّى يؤتى به بعنوانه، أو لزوم قصد التميّز وأمثال ذلك(1) - فهو أمر عقلي، ادّعى بعضهم حكم العقل بذلك في باب الإطاعة، لا أمر شرعي تعبّدي يكشف عن دليل تعبّدي.

وإن أراد غير ذلك فلا شاهد عليه؛ لأنّ الفقهاء بناؤهم على الاحتياط عملاً وفتوى، فكيف يدّعي أ نّه أمر مرغوب عنه عندهم ؟ !

بل التحقيق: أنّ العمل بالاحتياط مع التمكّن من العلم لا مانع منه عقلاً ولا شرعاً، فضلاً عن زمان الانسداد الذي لا يتمكّن منه.

هذا كلّه حال الإجماعات، وقد عرفت أ نّها ممّا لا أساس لها أصلاً.

وأمّا لزوم العسر والحرج، بل اختلال النظام، فمحصّل الكلام فيه:

أ نّه إن لزم منه الثاني فلا كلام؛ فإنّه ممّا حكم العقل بقبحه، وأمّا إن لزم العسر، ففي بطلان الاحتياط بدليله إشكالان:

أحدهما: ما أفاد بعض أعاظم العصر - على ما في تقريراته - وإشكاله مبنيّ على تحقّق الإجماع على وجوب الجمع بين مجموع المحتملات من حيث المجموع؛

ص: 303


1- كشف المراد: 322؛ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين: 275؛ شرح المقاصد 5: 129.

بحيث يكون الاحتياط حكماً خاصّاً ورد على موضوع خاصّ هو المجموع من حيث المجموع، فبعد هذا الإجماع يصير الاحتياط حكماً حرجياً، ولا يكون دليل الحرج والضرر حاكماً على ما يكون بتمام هويته حرجياً أو ضررياً، كالجهاد والخمس والزكاة، بل أدلّة هذه الأحكام مقدّمة عليهما بالتخصيص، وإنّما أدلّتهما حاكمة على ما بإطلاقه أو عمومه يوجب الحرج والضرر(1).

هذا، وقد عرفت ما فيه(2):

أمّا أوّلاً: فلعدم أساس للإجماع الذي ادّعاه.

وأمّا ثانياً: فلعدم الإجماع - لو فرض - على المجموع من حيث المجموع، بل على عدم جواز ترك الواقعيات لأجل عروض الاشتباه عليها، وحينئذٍ تصير النتيجة مثل العلم الإجمالي حكماً عقلياً على وجوب الاحتياط، وسيأتي الكلام فيه(3).

وأمّا ثالثاً: فلأ نّه لو فرض الإجماع على المجموع لا يستكشف منه إلاّ الاحتياط في الجملة.

فلا وقع لهذا الإشكال أصلاً.

وثانيهما: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله علیه في «الكفاية»، وملخّصه:

أنّ قاعدتي نفي الضرر والحرج - اللتين مفادهما نفي الحكم بلسان نفي الموضوع - غير حاكمتين على قاعدة الاحتياط؛ لأنّ العسر فيه إنّما هو بحكم

ص: 304


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 250 و259.
2- تقدّم في الصفحة 294.
3- يأتي بعد أسطر.

العقل من الجمع بين المحتملات، لا في متعلّق التكليف. نعم، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قِبله العسر، لكانت القاعدة محكّمة على الاحتياط العسر(1)، انتهى.

وهذه العبارة - كما ترى - ممّا يستشمّ منه بل يظهر حكومة القاعدتين على أدلّة الأحكام، إلاّ أنّ عدم الحكومة في المقام لأجل أنّ العسر إنّما لزم من حكم العقل، لا من الأحكام.

لكنّه قدّس سرّه صرّح في غير المورد بأنّ وجه تقديمهما عليها ليس هو الحكومة؛ لعدم ناظريتهما لأدلّة الأحكام، بل الوجه هو الأظهرية(2).

والإنصاف: أنّ فيما أفاده قدّس سرّه محالّ أنظار:

أحدها: أنّ الظاهر من دليلي الضرر والحرج والمتفاهم العرفي منهما هو عدم تحقّق الضرر والحرج من ناحية الأحكام الشرعية مطلقاً، لا أوّلاً وبالذات، ولا ثانياً وبالتبع والعرض، خصوصاً مع كونهما في مقام الامتنان على العباد.

وبالجملة: بمناسبة الحكم والموضوع ومساعدة الفهم العرفي وإلقاء الخصوصية بنظر العرف، يفهم منهما رفع الحكم الضرري والحرجي ورفع ما ينشأ منه أحدهما، وإن كان الجمود على الظاهر ربّما لا يساعد على التعميم.

وثانياً: أنّ ما صرّح به في غير المقام - من عدم الحكومة، معلّلاً بعدم ناظريتهما إلى بيان كمّية مفاد الأدلّة، وعدم تعرّضهما لبيان حال أدلّة الأحكام - ليس في محلّه؛ فإنّ أدلّتهما ناظرة إلى الأحكام المجعولة بلا ريب:

ص: 305


1- كفاية الاُصول: 358.
2- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 135 - 136.

أمّا دليل الحرج: فلأنّ قوله تعالى: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ((1) صريح في ناظريته إلى الأحكام المجعولة التي هي الدين.

وأمّا دليل الضرر: فمع اشتماله لكلمة «في الإسلام»(2) كما في بعض الروايات فهو أيضاً مثل دليل الحرج، ومع عدمه(3) يكون ظاهراً أيضاً في نظره إلى الأحكام؛ فإنّ نفي الضرر في لسان صاحب الشرع هو نفي الأحكام الضررية؛ أي نفي الضرر في دائرة الشريعة ومملكته.

والعجب منه قدّس سرّه حيث صرّح بأنّ مفاد دليل العسر والحرج والضرر هو نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ومع ذلك أنكر كونه ناظراً إلى الأحكام، حتّى قال: دون إثباته خرط القتاد(4)، مع أنّ ذلك من أجلى موارد النظر والتعرّض.

وثالثاً: أنّ الحكومة لا تتقوّم بالنظر والتعرّض إلى الدليل المحكوم بمدلوله اللفظي، بل الضابط فيها هو نحو تصرّف في المحكوم ولو بنحو من اللزوم.

بيان ذلك: أنّ تقديم أحد الدليلين على الآخر عرفاً: إمّا أن يكون بواسطة الأظهرية، وذلك فيما إذا كان التعارض والتصادم في مرتبة ظهور الدليلين، كتقديم قرينة المجاز على ذي القرينة، وتقديم الخاصّ على العامّ، والمقيّد على

ص: 306


1- الحجّ (22): 78.
2- الفقيه 4: 243 / 778؛ وسائل الشيعة 26: 14، كتاب الفرائض والمواريث، أبواب موانع الإرث، الباب 1، الحديث 10.
3- الكافي 5: 292 / 2؛ وسائل الشيعة 25: 428، كتاب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 3.
4- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 136.

المطلق؛ فإنّ التصادم بينهما إنّما يكون في مرحلة الظهور، والميزان في التقديم في تلك المرحلة هو الأظهرية لا غير.

وإمّا أن يكون بواسطة الحكومة، والضابط فيها أن يكون أحد الدليلين متعرّضاً لحيثية من حيثيات الدليل الآخر التي لا يكون هذا الدليل متعرّضاً لها، وإن حكم العقلاء مع قطع النظر عن الدليل الحاكم بثبوت تلك الحيثية، سواء كان التعرّض بنحو الدلالة اللفظية أو الملازمة العقلية أو العرفية، وسواء كان التصرّف في موضوعه أو محموله أو متعلّقه إثباتاً أو نفياً، أو كان التعرّض للمراحل السابقة أو اللاحقة للحكم، كما لو تعرّض لكيفية صدوره، أو أصل صدوره، أو تصوّره، أو التصديق بفائدته، أو كونه ذا مصلحة، أو كونه مراداً، أو مجعولاً، أو غير ذلك.

مثلاً: لو قال: أكرم العلماء، فهو مع قطع النظرعن شيء آخر يدلّ على وجوب إكرام جميع العلماء، ويحكم العقلاء على كون هذا الحكم - موضوعاً ومحمولاً - متصوّراً للحاكم، ويكون مجعولاً ومتعلّقاً لإرادته استعمالاً وجدّاً، لا هزل فيه ولا تقيّة ولا غيرهما، ويكشف عن كونه ذا مصلحة ملزمة، كلّ ذلك بالاُصول اللفظية والعقلائية.

فلو تعرّض دليل آخر لأحد هذه الاُمور يكون مقدّماً على هذا الدليل بالحكومة، فلو قال: إنّ الفسّاق ليسوا بعلماء، أو المتّقين من العلماء، أو الشيء الفلاني إكرام، أو الإكرام الكذائي ليس بإكرام، أو قال: ما جعلت وجوب الإكرام للفسّاق، أو ما أردتُ إكرامهم، أو لا يكون إكرامهم منظوري، أو لا مصلحة في إكرامهم، أو صدر هذا الحكم عن هزل أو تقيّة، يكون مقدّماً على الدليل الأوّل بالحكومة.

ص: 307

وأمّا لو تعرّض لما أثبت الدليل الآخر، مثل أن قال: لا تكرم الفسّاق من العلماء، أو لا تكرم الفسّاق، يكون التعارض بينهما في مرحلة الظهورين، فيقدّم الأظهر منهما، ولا يكون تقديم أحد الظاهرين على الآخر بالحكومة، كما لا يكون تقديم قرينة المجاز على ذيها بالحكومة، بل إنّما يكون بالأظهرية، فميزان الحكومة هو نحو من التعرّض لدليل المحكوم بما لا يرجع إلى التصادم الظهوري ولو كان التعرّض بالملازمة، فأدلّة الأمارات التي لسانها الكشف عن الواقع أو ثبوت الواقع مقدّمة على أدلّة الاُصول بالحكومة - بناءً على أخذ الشكّ في موضوعها - فإنّ التعبّد بالثبوت الواقعي ملازم عرفاً لرفع الشكّ تشريعاً فيكون تعرّضها لها بالملازمة العرفية، كما أنّ أدلّة الاستصحاب مقدّمة على أدلّة الاُصول؛ لأنّ مفادها إطالة عمر اليقين، فيلازم رفع الشكّ، بل مفادها حصول غاية الاُصول، وهو من أظهر موارد الحكومة، بل حكومة الاستصحاب على الاُصول أظهر من حكومة الأمارات عليها ولو لم نلتزم بأمارية الاستصحاب، كما هو المعروف بين المتأخّرين(1).

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الحكومة ولو كانت متقوّمة بنحو من التعرّض لدليل المحكوم ممّا لا يتعرّض المحكوم له، لكن هذا التعرّض لا يلزم أن يكون بنحو الدلالة اللفظية، وسيأتي - إن شاء الله - التعرّض لمعنى الحكومة وأقسامها وافتراقها عن الورود والتخصيص في محلّه مستقصىً(2).

ص: 308


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 26: 13؛ نهاية الدراية 5: 243؛ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 680.
2- الاستصحاب، الإمام الخميني قدّس سرّه : 269.

ورابعاً: أنّ ما ذكره من أنّ لسان أدلّة الضرر والحرج هو رفع الحكم بلسان رفع الموضوع ليس في محلّه إن كان المراد من الموضوع هو المصطلح - أي في مقابل الحكم - فإنّ الأحكام الشرعية المرفوعة في مورد الضرر ببركة قوله: «لا ضرر» لا يكون موضوعها الضرر، بل موضوعها الوضوء الضرري، أو الغسل الضرري، أو الصوم والبيع الضرريان، بل الظاهر المفهوم من قوله: «لا

ضرر» - الصادر من الشارع الناظر في مملكة التشريع ودائرة الشريعة - نفي حقيقة

الضرر؛ فإنّ الضرر وإن كان أمراً تكوينياً غير قابل للرفع والوضع ذاتاً، لكن لمّا كان قابلاً للرفع بحسب المنشأ والموجب، وتكون الأحكام الشرعية التي بإطلاقها موجبة للضرر على العباد، مرفوعة ومحدودة بحدود عدم إيراثها له، يجوز للمتكلّم الذي لا يرى إلاّ مملكة التشريع أن يخبر بعدم الضرر فيها، أو ينشئ عدم الضرر فيها بلسان الإخبار، كما أنّ سلطان المملكة إذا قلع بقدرته مناشئ الفساد عنها يجوز له الإخبار بأن لا فساد في المملكة، أو رفع الفساد منها، مع أنّ الفساد لا يرفع إلاّ بالمنشأ، فيكون هذا إخباراً عن نفي الفساد ولو بلحاظ المنشأ، ولا يضرّ بذلك وجود فسادات جزئية؛ فإنّ السلطان - بنظره إلى الجهات العمومية والكلّية - يجوز له الإخبار بقلع الفساد لقلع مادّته، وكذلك الناظر إلى دائرة التشريع لمّا رأى عدم منشأ للضرر في دائرة تشريعه يجوز له الإخبار، كما يجوز له إنشاء نفي الضرر بلحاظ نفي منشئه.

فتحصّل من ذلك: أنّ قوله: «لا ضرر» - سواء يتقيّد بقوله: «في الإسلام»، أم لا - نفي حقيقة الضرر في دائرة التشريع بلحاظ نفي منشئه.

ص: 309

وهكذا الكلام في قوله تعالى: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ((1)؛ فإنّ الحرج غير قابل لتعلّق الجعل به، وكذلك غير قابل للرفع، فعدم جعل الحرج في الدين إنّما هو بملاحظة عدم جعل أحكام تكون منشأً للحرج.

وخامساً: أنّ رفع الحكم بلسان رفع الموضوع من أقسام الحكومة، فبعد الاعتراف بأنّ لسان أدلّة الضرر والحرج إنّما هو رفع الحكم بلسان رفعهما، لا وجه لإنكار الحكومة أصلاً.

إشكالات المحقّق النائيني على المحقّق الخراساني

هذا، وبالتأمّل فيما حقّقناه يظهر النظر في كثير ممّا أفاد بعض أعاظم العصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - في هذا المقام إشكالاً على المحقّق الخراساني رحمه الله علیه :

منها: ما أفاد بقوله: ففيه أوّلاً.

وملخّصه: أنّ عدم وجوب الاحتياط التامّ لا يبتني على حكومة أدلّة العسر على الحكم العقلي بوجوب الاحتياط، بل ليس حال لزوم العسر من الجمع بين المحتملات إلاّ كحال الاضطرار إلى ترك بعض الأطراف، بل العسر والحرج من أفراد الاضطرار؛ فإنّه لا يعتبر فيه عدم القدرة التكوينية على الاحتياط، والاضطرار إلى بعض الأطراف المعيّن يوجب التوسّط في التكليف؛ أي ثبوته على تقدير وعدمه على تقدير، وإلى غير المعيّن يوجب التوسّط في التنجيز أو

ص: 310


1- الحجّ (22): 78.

التكليف على احتمالين، ففي المقام حيث يتعيّن الأخذ بالمظنونات وترك المشكوكات والموهومات - إن كان يلزم من الأخذ بهما كلاًّ أو بعضاً العسر والحرج - كان حكمه حكم الاضطرار إلى المعيّن، وتكون النتيجة التوسّط في التكليف؛ أي سقوطه إن كان في المشكوكات والموهومات، وثبوته إن كان في المظنونات، فتأمّل(1)، انتهى.

وفيه أوّلاً: - بعد التسليم بأنّ حال العسر حال الاضطرار، بل هو من أفراده - أنّ حال أدلّة نفي الاضطرار كأدلّة نفي الحرج، فكما أنّ [مفاد] أدلّة نفي الحرج - على مسلك المحقّق الخراساني رحمه الله علیه (2) - هو نفي الحكم الحرجي، لا نفي ما ينشأ منه الحرج ولو بواسطة حكم العقل بالاحتياط، كذلك الحال بالنسبة إلى أدلّة الاضطرار؛ فإنّ قوله: «رفع... ما اضطرّوا إليه»(3) أي الحكم الذي بإطلاقه شامل لمورد الاضطرار، كحرمة الخمر فيما إذا اضطرّ المكلّف إلى شربه، لا ما يجيء الاضطرار من قِبل حكم العقل بالاحتياط، كما في المقام.

وبالجملة: الاضطرار الغير العقلي لا بدّ وأن يرفع حكمه بالدليل التعبّدي، وحال أدلّته كحال أدلّة العسر والحرج بلا تفاوت وافتراق بينهما.

وثانياً: أنّ هذا المقام من الاضطرار إلى غير المعيّن، سواء رفع العسر بترك بعض المشكوكات أو الموهومات، أو بجميعها:

ص: 311


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 257 - 258.
2- كفاية الاُصول: 358.
3- الخصال: 417 / 9؛ وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

أمّا في الصورة الاُولى فواضح؛ فإنّ رفع العسر إنّما يتحقّق ببعض غير معيّن.

وأمّا في الصورة الثانية فلأنّ ما اضطرّ إليه المكلّف إنّما هو ارتكاب بعض المشتبهات بلا تعيين من بين المظنونات والمشكوكات والموهومات، لكنّ العقل يرجّح ترجيحاً خارجياً غير مربوط بنفس الاضطرار، وهذا غير الاضطرار إلى المعيّن، تأمّل.

ومنها: ما أفاده في جواب «إن قلت»: «من إبداء الفرق بين الاحتياط العقلي والشرعي من أنّ الوقائع المشتبهة لوحظت قضيّة واحدة مجتمعة الأطراف قد حكم عليها بالاحتياط...»(1) إلى آخره.

وقد مرّ الإشكال - بل الإشكالات - فيه(2)، وأضف إليها وجود المناقضة بين ما ذكره هاهنا مع ما ذكره في خلال الأمر الثاني من تنبيهات دليل الانسداد في الردّ على الشيخ الأنصاري قدّس سرّه ، فراجع قوله: «وأنت خبير بما فيه...»(3) إلى آخر كلامه، تجد صدق ما ادّعيناه.

ومنها: ما أفاد بقوله: ولا يعتبر في الحكومة أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي شارحاً ومفسّراً لما اُريد من الدليل الآخر بمثل «أي» و«أعني»(4).

وقد نسب ذلك في ضابطة الحكومة إلى المحقّق الخراساني رحمه الله علیه مع عدم

وجود هذا التفسير لها في شيء من كلماته، لا في المقام ولا عند تعرّضه

ص: 312


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 259.
2- تقدّم في الصفحة 294 و304.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 298.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 261.

لقاعدة «لاضرر» في «كفايته» و«تعليقته»، بل صرّح بخلاف ذلك في التعليقة عند تعرّض الشيخ العلاّمة - أعلى الله مقامه - للحكومة في مبحث التعادل والترجيح؛ حيث قال ما حاصله:

إنّه لا يعتبر في الحكومة إلاّ سوق الدليل بحيث يصلح للتعرّض لبيان كمّية موضوع الدليل الآخر تعميماً وتخصيصاً، من دون اعتبار أن يكون المحكوم قبله، فضلاً من تفرّع الحاكم عليه؛ فإنّ الأمارات - مع حكومتها على الاُصول - لا تكون متفرّعة عليها، بل تكون مستقلّة مفيدة فائدة تامّة، كانت الاُصول أو لم تكن. ولعلّ منشأ توهّم التفرّع كون الحاكم بمنزلة الشرح، وقد عرفت أنّ الحاكم مستقلّ وإن كان مسوقاً بحيث يبيّن كمّية موضوع المحكوم، لا أ نّه ليس مسوقاً إلاّ لذلك(1)، انتهى.

وما ذكره من ميزان الحكومة تفصيل لما أفاده في غير المقام(2)، فما نسب إليه في التقريرات أجنبيّ عن مرامه، وتفسير بما لا يرضى به صاحبه.

نعم، يرد على المحقّق الخراساني رحمه الله علیه : أنّ اختصاص الحكومة ببيان كمّية الموضوع تعميماً وتخصيصاً ممّا لا وجه له، كما عرفت.

وأمّا أصل التعرّض لدليل المحكوم - ولو بنحو من الملازمة - فممّا لا بدّ منه، حتّى أنّ دليل الأمارات التي لها استقلال بما أ نّها رافعة للشكّ، لها نحو تعرّض لموضوع أدلّة الاُصول، كما لا يخفى.

وبهذا يظهر التسامح في الضابط الذي أفاد المحقّق المعاصر رحمه الله علیه على [ما] في

ص: 313


1- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 428.
2- كفاية الاُصول: 496.

تقريراته بقوله: «والضابط الكلّي في ذلك أن يكون أحد الدليلين متكفّلاً لبيان ما لا يتكفّله دليل المحكوم»(1)؛ فإنّ هذا الضابط يحتاج إلى قيد، وهو كون الحاكم

متعرّضاً لدليل المحكوم نحو تعرّض ولو بالملازمة، وأمّا مجرّد تكفّل دليل لما لا يتكفّله الدليل الآخر غير مانع؛ فإنّه شامل للأدلّة التي لا يرتبط بعضها بالبعض؛ فإنّ أدلّة وجوب الصلاة تتكفّل لما لا تتكفّل أدلّة الخمس والزكاة، فالتعرّض للمحكوم ممّا لا بدّ منه، كما هو واضح.

وعليه يمكن أن يقال: إنّ أحد الدليلين مفسّر وشارح للدليل الآخر، بل بمنزلة «أي» التفسيرية، لكن بالمعنى الذي أشرنا إليه، لا بما يوهم لفظا التفسير والشرح.

وقد ظهر ممّا ذكرنا في ضابطة الحكومة، أوسعية نطاقها ممّا يظهر من المحقّق المعاصر رحمه الله علیه من التصرّف في عقد الوضع والحمل(2)، ولا يبعد أن يكون مراده أيضاً أعمّ من ذلك، ولهذا تعرّض لحكومة نفي الحرج على الأدلّة الأوّلية(3) بما هو موافق للتحقيق.

وأمّا الحكومة الظاهرية التي أصرّ عليها في بعض من الموارد(4)، فممّا لا محصّل لها؛ أمّا حكومة الأمارات على الأحكام الواقعية فلأنّ كون الشيء طريقاً إلى شيء آخر ومحرزاً له لا ينطبق على الحكومة أصلاً؛ فإنّ الحكومة من

ص: 314


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 261.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 262.
3- نفس المصدر.
4- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 262 و4: 595 و713.

أقسام التعارض، ولا معارضة بين الطريق وذي الطريق.

نعم، أدلّة الأمارات موسّعة لنطاق دائرة الإحراز، فتكون حاكمة على الحكم العقلائي إذا لم تكن الأمارة من الأمارات العقلائية.

مثلاً: لو فرضنا أنّ الخبر الواحد أمارة شرعية تعبّدية تأسيسية، كانت أدلّة اعتباره حاكمة على حكم العقلاء والعقل بانحصار الإحراز بالقطع بتوسعة دائرة الإحراز، وهذه حكومة واقعية، كما أنّ حكومة بعض الأمارات على بعض وعلى الاُصول من الحكومة الواقعية؛ فإنّ قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب واقعاً، وحكومة الاستصحاب على الاُصول واقعية، فتقسيم الحكومة إلى الواقعية والظاهرية يكون بلا ملاك صحيح، إلاّ أن يكون مجرّد اصطلاح، ولا مشاحّة فيه.

وقد تعرّض في خاتمة الاستصحاب لبيان الحكومة الظاهرية(1) ولم يأت بشيء.

ومنها: ما أفاده من أنّ مفاد أدلّة نفي الضرر والحرج هو نفي الحكم الحرجي والضرري، فهي بمدلولها المطابقي تنفي الأحكام الواقعية عن بعض حالاتها، وهي حالة كونها ضررية أو حرجية، فمفاد أدلّة نفي الضرر والحرج نفي تشريع الأحكام الضررية والحرجية(2)،

وقد فصّل ذلك في رسالته المعمولة لقاعدة الضرر(3)

وأصرّ وأبرم.

ص: 315


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 595.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 262.
3- منية الطالب، قاعدة لا ضرر 3: 377.

لكن التحقيق - كما عرفت - خلافه؛ فإنّ ظاهر قوله: «لا ضرر» هو نفي نفس الضرر، لا نفي الحكم الضرري، واستعمال الضرر في الحكم الضرري بشيع بارد لا يصار إليه.

بل التحقيق: هو نفي حقيقة الضرر ادّعاءً بلحاظ نفي موجباته من الأحكام، وهذا من أبلغ اُسلوب الكلام وأحسنه، كما لا يخفى على العالم بأساليب الكلام ومحسّناته.

وهكذا الكلام في عدم جعل الحرج؛ فإنّ الحرج غير قابل للوضع والرفع، وظاهر الكلام يقتضي عدم جعل نفس الحرج، فهو أيضاً نفيه بلحاظ نفي موجباته من الأحكام وفي عالم التشريع.

ويمكن أن يكون مراد المحقّق الخراساني رحمه الله علیه من نفي الحكم بلسان نفي الموضوع(1) ما ذكرنا، ويكون مراده من الموضوع هو الموضوع الخارجي

- أي الضرر والحرج - لا الموضوع المقابل للحكم، ومن الحكم الأحكام التي تصير منشأً للضرر والحرج، لا الأحكام المتعلّقة بموضوع الضرر والحرج؛ حتّى يرد عليه ما أفاد المحقّق المعاصر رحمه الله علیه من أنّ نفي الضرر بلحاظ نفي حكمه يلزم منه جواز الضرر ونفي حرمته؛ فإنّ الضرر إنّما هو حكمه الحرمة(2)، تأمّل.

وبما ذكرنا - من وحدة اُسلوب نفي الضرر والحرج - يظهر النظر فيما أفاده

ص: 316


1- كفاية الاُصول: 358.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 263 - 264.

من أنّ توهّم كون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنّما يتمشّى مع دليل الضرر، لا الحرج؛ فإنّ في دليله ورد النفي على الدين، وهو عبارة عن الأحكام، فالنفي ورد على الحكم، لا على الموضوع حتّى يتوهّم ذلك(1)؛ فإنّ فيه ما لا يخفى؛ ضرورة أنّ النفي لم يرد في قوله: )مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ((2) إلاّ على الحرج، فعدم الجعل متوجّه إلى الحرج بلحاظ عدم جعل موجبه، كما في دليل الضرر، وإنّما يكون الدين مأخوذاً على نحو الظرفية، لا أنّ النفي متوجّه إليه.

وأمّا ما أفاد بقوله: وثالثاً: أنّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع أيضاً من أقسام الحكومة، فمجرّد كون مفاد الدليل ذلك لا ينافي الحكومة(3).

إنّما ورد عليه لو كان منظوره أنّ المنافي للحكومة هو ذلك، لكنّه صرّح بخلافه، وقال: إنّما المانع هو عدم كون أدلّة الضرر والحرج ناظرة إلى الأحكام الواقعية(4).

فما ذكره إيراداً عليه أجنبيّ عن مقصوده، وإن ورد عليه: أنّ أدلّتهما ناظرة إليها بنحو من النظر الذي تحتاج إليه الحكومة، كما أشرنا إليه(5).

ص: 317


1- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 264.
2- الحجّ (22): 78.
3- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 264.
4- درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 135 - 136.
5- تقدّم في الصفحة 313.

مقتضى المقدّمات هي حجّية الظنّ بالواقع

قوله: «هل قضيّة المقدّمات...»(29).

التحقيق: أنّ قضيّة المقدّمات في نفسها هي الظنّ بالواقع، لا الظنّ بالطريق، ولا الأعمّ منهما؛ ضرورة أنّ العلم الإجمالي بالأحكام الواقعية - مع ضمّ سائر المقدّمات - لا ينتج في نفسه إلاّ ذلك، وما ذكر من دليل التعميم والتخصيص بالطريق - مع عدم تماميته في نفسه - خارج عن حكم المقدّمات، خصوصاً ما ذكره صاحب «الفصول» تبعاً لأخيه المحقّق؛ فإنّ مبناه على العلم الإجمالي الآخر الذي به ينحلّ العلم الإجمالي الذي [هو] من مقدّمات الانسداد، ومعلوم أ نّه تخريب لمقدّمات الانسداد، وتأسيس لمقدّمات انسداد آخر لإنتاج الظنّ بالطريق، وهو أجنبيّ عن اقتضاء مقدّمات الانسداد المعروف. ولهذا يمكن أن يقال: إنّه لا نزاع بين القوم وبين العلَمين في اقتضاء مقدّمات الانسداد على فرض تماميتها، وإنّما النزاع في أمر آخر، وهو وجود مقدّمات اُخرى لإنتاج الظنّ بالطريق.

وأمّا ما أفاده العلاّمة الأنصاري قدّس سرّه لتعميم النتيجة(1)، فيمكن دعوى اقتضاء مقدّمات الانسداد ذلك، بتقريب: أنّ العلم الإجمالي بالأحكام الواقعية - الذي يكون مبنى عدم جواز إهمالها - يقتضي عقلاً تحصيل براءة الذمّة عنها، فإن تمكّن المكلّف من تحصيلها علماً تعيّن عليه، وإلاّ يتنزّل إلى الظنّ، والعلم

ص: 318


1- فرائد الاُصول، ضمن تراث الشيخ الأعظم 24: 437.

بالبراءة كما يحصل بإتيان الواقع، كذلك يحصل بإتيان طريقه، وهكذا الظنّ في زمان الانسداد.

هذا، ولكن مع ذلك إنّ هذا التعميم لا يكون من مقتضيات نفس دليل الانسداد، بل من هذه المقدّمة الخارجية.

مضافاً إلى عدم تمامية الدعوى أيضاً؛ فإنّ الظنّ بالطريق في حال الانسداد لا يكون ظنّاً بالمبرئ؛ لأنّ مبرئية الطريق عن الواقع تتقوّم بوصوله، لا بوجوده النفس الأمري.

وهذا إشكال على التعميم أورده شيخنا العلاّمة قدّس سرّه في «دُرره»(1)، فمن شاء فليرجع إليه.

وأمّا ما أفاده صاحب «الفصول» رحمه الله علیه (2) - تبعاً لأخيه المحقّق رحمه الله علیه (3) - من الاختصاص بالطريق، فهو مبتنٍ على مقدّمات جلّها - لولا كلّها - مخدوشة، والعمدة منها انحلال العلم الإجمالي بالواقع في العلم الإجمالي في دائرة الطرق - كما لا يبعد أن يكون هذا هو المقصود من قوله: «ومرجع هذين القطعين عند التحقيق إلى أمر واحد...»(4) إلى آخره - وعدم وجوب الاحتياط في دائرة الطرق.

وفي كليهما نظر:

ص: 319


1- درر الفوائد، المحقّق الحائري: 408.
2- الفصول الغروية: 277 / السطر 33.
3- هداية المسترشدين 3: 352.
4- الفصول الغروية: 277 / السطر 36.

أمّا قضيّة الانحلال فممنوع؛ لما أشرنا إليه سابقاً(1):

من أنّ العلم الإجمالي الكبير إنّما ينحلّ في دائرة الصغير إذا كان المعلوم بالإجمال في دائرة الصغير مقدّماً على المعلوم بالإجمال في دائرة الكبير؛ حتّى يكون تنجيز العلم الإجمالي الصغير لأطرافه مانعاً عن ورود تنجيز آخر فوقه بالنسبة إليها، فيصير العلم الكبير بالنسبة إليها بلا أثر، وبالنسبة إلى غيرها كالشكّ البدوي، وأمّا مع مقارنتهما أو تقدّم الكبير على الصغير فلا ينحلّ؛ لمنجّزية الكبير بالنسبة إلى جميع الأطراف، فلا يرتفع حكمه مع العلم الإجمالي الصغير.

إن قلت: لازم ما ذكرت عدم الانحلال حتّى مع قيام الطرق المعتبرة - التي [هي] بمقدار العلم الإجمالي - على بعض الأطراف، مع عدم إمكان الالتزام به.

قلت: فرق بين قيام الطرق المعتبرة في بعض الأطراف معيّناً، وبين العلم الإجمالي؛ فإنّ قيام الطرق فيها يجعلها معلوماً تفصيلاً ولو تعبّداً، ومع العلم التفصيلي لا يبقى إجمال أو أثر للعلم الإجمالي، وأمّا الانحلال بالعلم الإجمالي فموقوف على منجّزيته لجميع أطرافه، ومنجّزيته لها موقوفة على عدم مسبوقيتها بمنجّز آخر، والفرض أنّ العلم الكبير منجّز لها سابقاً، أو في مرتبة العلم الإجمالي الصغير.

إذا عرفت ذلك يظهر وجه النظر في كلامه؛ فإنّ المعلوم بالعلم الإجمالي الكبير فيما نحن فيه: إمّا مقدّم على الصغير، أو مقارن له، ولا يكون متأخّراً عنه جزماً، فالانحلال باطل من أصله.

ص: 320


1- تقدّم في الصفحة 263 - 264.

وأمّا ما أفاده المحقّق صاحب «الكفاية» في وجه عدم الانحلال في خلال كلامه(1)،

فمبنيّ على أنّ الاضطرار إلى بعض الأطراف وعدم لزوم رعاية العلم بالنسبة إلى بعض الأطراف، يرفع حكم العلم الإجمالي، وهو كما ترى.

كما أنّ ما أفاده المحقّق المعاصر رحمه الله علیه - على ما في تقريراته - من وجه عدم الانحلال(2)

مبنيّ على مبناه؛ من عدم جريان الاُصول اللفظية والجهتية إلاّ فيما اُحرز تفصيلاً، وقد عرفت سالفاً(3)

فساد المبنى، فلا نطيل بالإعادة.

«والحمد لله أوّلاً وآخراً، وظاهراً وباطناً»

إلى هنا تمّ الجزء الأوّل من هذا الكتاب،

ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثاني

وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين

ص: 321


1- كفاية الاُصول: 364 - 365.
2- فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 285.
3- تقدّم في الصفحة 266.

ص: 322

كفاية الاُصول(*)

* - بما أنّ هذا الكتاب تعليقة على المباحث العقلية من «كفاية الاُصول» ضممنا هذه المباحث منها هنا مع ترقيم التعليقات تتميماً للفائدة وتسهيلاً للمراجعين الأعزّاء.

ص: 323

ص: 324

كفاية الاُصول:

المقصد السادس في بيان الأمارات المعتبرة شرعاً أو عقلاً

المقدمة

وجه أشبهیة مسائل القطع بالکلام

الکلام في القطع

وقبل الخوض في ذلك لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من الأحكام وإن كان خارجاً من مسائل الفنّ وكان أشبه بمسائل الكلام(1)؛ لشدّة مناسبته مع المقام.

فاعلم: أنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري متعلّق به أو بمقلّديه؛ فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا، وعلى الثاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتّباع الظنّ - لو حصل له وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقرير الحكومة - وإلاّ فالرجوع إلى الاُصول العقلية من البراءة والاشتغال والتخيير، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

وجه تعمیم متعلّق القطع وما یرد علیه

وإنّما عمّمنا متعلّق القطع(2)؛ لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كان متعلّقاً بالأحكام الواقعية، وخصّصنا بالفعلي؛ لاختصاصها بما إذا كان متعلّقاً به

ص: 325

على ما ستطّلع عليه؛ ولذلك عدلنا عمّا في رسالة شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من تثليث الأقسام.

جوابب اعتذار بعض مشايخ العصر رحمه الله عن تثليث الأقسام

وإن أبيت إلاّ عن ذلك، فالأولى أن يقال: إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أو لا، وعلى الثاني إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أو لا، لئلاّ يتداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام. ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقرّرة عقلاً أو نقلاً لغير القاطع ومن يقوم عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى حسبما يقتضي دليلها.

[في القطع]

وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم اُمور:

الأمر الأول : في وجه عدم جعل الحجّیة للقطع

الأمر الأوّل: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلاً ولزوم الحركة على طبقه جزماً، وكونه موجباً لتنجّز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق الذمّ والعقاب على مخالفته، وعذراً فيما أخطأ قصوراً، وتأثيره في ذلك لازم، وصريح الوجدان به شاهد وحاكم؛ فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.

ولا يخفى: أنّ ذلك لا يكون بجعل جاعل؛ لعدم جعل تأليفي(3) حقيقة بين الشيء ولوازمه، بل عرضاً بتبع جعله بسيطاً.

وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضاً، مع أ نّه يلزم منه اجتماع

ص: 326

الضدّين اعتقاداً مطلقاً، وحقيقة في صورة الإصابة، كما لا يخفى.

إشکال علیی مراتب الحکم

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث(4) والزجر لم يصر فعلياً، وما لم يصر فعلياً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاق العقوبة على المخالفة وإن كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة؛ وذلك لأنّ الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي، ولا مخالفته عن عمد بعصيان، بل كان ممّا سكت الله عنه، كما في الخبر، فلاحظ وتدبّر.

نعم، في كونه بهذه المرتبة مورداً للوظائف المقرّرة شرعاً للجاهل إشكال لزوم اجتماع الضدّين أو المثلين، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى مع ما هو التحقيق في دفعه في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر.

الأمر الثاني : في التجرّي

الأمر الثاني(5): قد عرفت أ نّه لا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاق العقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة، فهل يوجب استحقاقها في صورة عدم الإصابة على التجرّي بمخالفته، واستحقاق المثوبة على الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئاً؟

الحقّ أ نّه يوجبه؛ لشهادة الوجدان بصحّة مؤاخذته وذمّه على تجرّيه وهتك حرمته لمولاه، وخروجه عن رسوم عبوديته، وكونه بصدد الطغيان، وعزمه على العصيان، وصحّة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو قضيّة عبوديته من العزم على موافقته، والبناء على إطاعته وإن قلنا بأ نّه

ص: 327

لا يستحقّ مؤاخذة أو مثوبة ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة بمجرّد سوء سريرته أو حسنها وإن كان مستحقّاً للّوم أو المدح بما يستتبعانه كسائر الصفات والأخلاق الذميمة أو الحسنة.

وبالجملة: ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحقّ بها إلاّ مدحاً أو لوماً، وإنّما يستحقّ الجزاء بالمثوبة أو العقوبة - مضافاً إلى أحدهما - إذا صار بصدد الجري على طبقها، والعمل على وفقها، وجزم وعزم؛ وذلك لعدم صحّة مؤاخذته بمجرّد سوء سريرته من دون ذلك وحسنها معه، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو الجنان.

ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجرى به أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعاً بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلّق القطع بغير ما هو عليه من الحكم والصفة، ولا تغيّر جهة حسنه أو قبحه بجهته أصلاً؛ ضرورة أنّ القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون الحسن والقبح عقلاً، ولا ملاكاً للمحبوبية والمبغوضية شرعاً؛ ضرورة عدم تغيّر الفعل عمّا هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى بسبب قطع العبد بكونه محبوباً أو مبغوضاً له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضاً له ولو اعتقد العبد بأ نّه عدوّه، وكذا قتل عدوّه مع القطع بأ نّه ابنه لا يخرج عن كونه محبوباً أبداً.

ص: 328

هذا، مع أنّ الفعل المتجرى به أو المنقاد به - بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب - لا يكون اختيارياً، فإنّ القاطع لا يقصده إلاّ بما قطع أ نّه عليه من عنوانه الواقعي الاستقلالي، لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً، ومن مناطات الوجوب أو الحرمة شرعاً؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلاّ إذا كانت اختيارية.

إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة القطع، وهل كان العقاب عليها إلاّ عقاباً على ما ليس بالاختيار؟ !

قلت: العقاب إنّما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان، لا على الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.

إن قلت: إنّ القصد والعزم إنّما يكون من مبادئ الاختيار(6)، وهي ليست باختيارية، وإلاّ لتسلسل.

قلت: مضافاً إلى أنّ الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلاّ أنّ بعض مباديه غالباً يكون وجوده بالاختيار، للتمكّن من عدمه بالتأمّل فيما يترتّب على ما عزم عليه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة، يمكن أن يقال: إنّ حسن المؤاخذة والعقوبة إنّما يكون من تبعة بُعده (7) عن سيّده بتجرّيه عليه، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة المصادفة، فكما أ نّه يوجب البُعد عنه، كذلك لا غروَ في أن يوجب حسن العقوبة، فإنّه وإن لم يكن باختياره إلاّ أ نّه

ص: 329

بسوء سريرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه واقتضاء استعداده ذاتاً وإمكانه. وإذا انتهى الأمر إليه يرتفع الإشكال وينقطع السؤال ب- «لِمَ»(8)، فإنّ الذاتيات ضروري الثبوت للذات.

وبذلك أيضاً ينقطع السؤال عن أ نّه لِمَ اختار الكافر والعاصي الكفر والعصيان، والمطيع والمؤمن الإطاعة والإيمان؟ فإنّه يساوق السؤال عن أنّ الحمار لِمَ يكون ناهقاً، والإنسان لِمَ يكون ناطقاً.

وبالجملة: تفاوت أفراد الإنسان في القرب منه تعالى والبعد عنه سبب لاختلافها في استحقاق الجنّة ودرجاتها، والنار ودركاتها، وموجب لتفاوتها في نيل الشفاعة وعدمه، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتياً، والذاتي لا يعلّل.

إن قلت: على هذا فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والإنذار.

قلت: ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته، لتكمل به نفسه، ويخلص مع ربّه اُنسه، )مَا كُنَّا لَنَهتَدِىَ لَوْلاَ أنْ هَدَانَا الله( قال الله تبارك وتعالى: )وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤمِنِينَ( وليكون حجّةً على من ساءت سريرته وخبثت طينته، )لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ( كيلا يكون للناس على الله حجّة، بل كان له حجّة بالغة.

ص: 330

ولا يخفى: أنّ في الآيات والروايات شهادة على صحّة ما حكم به الوجدان الحاكم على الإطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة.

ومعه لا حاجة إلى ما استدلّ على استحقاق المتجرّئ للعقاب بما حاصله: «أ نّه لولاه مع استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار، من مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره، مع بطلانه وفساده».

إذ للخصم أن يقول: بأنّ استحقاق العاصي دونه إنّما هو لتحقّق سبب الاستحقاق فيه - وهو مخالفته عن عمد واختيار - وعدم تحقّقه فيه؛ لعدم مخالفته أصلاً ولو بلا اختيار، بل عدم صدور فعل منه في بعض أفراده بالاختيار، كما في التجرّي بارتكاب ما قطع أ نّه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع مثلاً بأنّ مائعاً خمر مع أ نّه لم يكن بالخمر، فيحتاج إلى إثبات أنّ المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية، كما عرفت بما لا مزيد عليه.

ثمّ لا يذهب عليك(9) أ نّه ليس في المعصية الحقيقية إلاّ منشأ واحد لاستحقاق العقوبة، وهو هتك واحد، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين - كما توهّم - مع ضرورة أنّ المعصية الواحدة لا توجب إلاّ عقوبة واحدة. كما لا وجه لتداخلهما على تقدير استحقاقهما كما لا يخفى.

ولا منشأ لتوهّمه إلاّ بداهة أ نّه ليس في معصية واحدة إلاّ عقوبة

ص: 331

واحدة، مع الغفلة عن أنّ وحدة المسبّب تكشف بنحو الإنّ عن وحدة السبب.

الأمر الثالث : في بیان أقسام القطع و أحکامها

الأمر الثالث(10): أ نّه قد عرفت: أنّ القطع بالتكليف - أخطأ أو أصاب - يوجب عقلاً استحقاق المدح والثواب، أو الذمّ والعقاب من دون أن يؤخذ شرعاً في خطاب.

وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلّقه لا يماثله ولا يضادّه، كما إذا ورد مثلاً في الخطاب: أ نّه إذا قطعت بوجوب شيء يجب عليك التصدّق بكذا، تارةً بنحو يكون تمام الموضوع؛ بأن يكون القطع بالوجوب مطلقاً - ولو أخطأ - موجباً لذلك، واُخرى بنحو يكون جزءه وقيده؛ بأن يكون القطع به في خصوص ما أصاب موجباً له، وفي كلّ منهما يؤخذ طوراً بما هو كاشف وحاكٍ عن متعلّقه، وآخر بما هو صفة خاصّة للقاطع، أو المقطوع به.

وذلك لأنّ القطع لمّا كان من الصفات الحقيقية ذات الإضافة - ولذا كان العلم نوراً لنفسه ونوراً لغيره - صحّ أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصّة وحالة مخصوصة بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار خصوصية اُخرى فيه معها، كما صحّ أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلّقه وحاكٍ عنه، فيكون أقسامه أربعة، مضافةً إلى ما هو طريق محض عقلاً، غير مأخوذ في الموضوع شرعاً.

ص: 332

ثمّ لا ريب في قيام الطرق والأمارات المعتبرة، بدليل حجّيتها واعتبارها، مقام هذا القسم، كما لا ريب في عدم قيامها بمجرّد ذلك الدليل مقام ما اُخذ في الموضوع على نحو الصفتية من تلك الأقسام، بل لا بدّ من دليل آخر على التنزيل، فإنّ قضيّة الحجّية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجّة من الآثار، لا له بما هو صفة وموضوع؛ ضرورة أ نّه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات.

ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل، مقام ما اُخذ في الموضوع على نحو الكشف، فإنّ القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعاً، كسائر ما لها دخل في الموضوعات أيضاً، فلا يقوم مقامه شيء بمجرّد حجّيته وقيام دليل على اعتباره، ما لم يقم دليل على تنزيله ودخله في الموضوع كدخله.

وتوهّم «كفاية دليل الاعتبار الدالّ على إلغاء احتمال خلافه، وجعله بمنزلة القطع من جهة كونه موضوعاً، ومن جهة كونه طريقاً، فيقوم مقامه طريقاً كان أو موضوعاً» فاسد جدّاً، فإنّ الدليل الدالّ على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلاّ بأحد التنزيلين، حيث لا بدّ في كلّ تنزيل منهما من لحاظ المنزّل والمنزّل عليه، ولحاظهما في أحدهما آليٌّ وفي الآخر استقلاليٌّ - بداهة أنّ النظر في حجّيته وتنزيله منزلة القطع في طريقيته، في الحقيقة إلى الواقع، ومؤدّى الطريق؛ وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع،

ص: 333

إلى أنفسهما - ولا يكاد يمكن الجمع بينهما.

نعم، لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما، يمكن أن يكون دليلاً على التنزيلين، والمفروض أ نّه ليس، فلا يكون دليلاً على التنزيل إلاّ بذاك اللحاظ الآلي، فيكون حجّةً موجبةً لتنجّز متعلّقه وصحّة العقوبة على مخالفته في صورتي إصابته وخطأه، بناءً على استحقاق المتجرّي، أو بذاك اللحاظ الآخر الاستقلالي، فيكون مثله في دخله في الموضوع، وترتيب ما له عليه من الحكم الشرعي.

لا يقال: على هذا لا يكون دليلاً على أحد التنزيلين ما لم يكن هناك قرينة في البين.

فإنّه يقال: لا إشكال في كونه دليلاً على حجّيته، فإنّ ظهوره في أ نّه بحسب اللحاظ الآلي ممّا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنّما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه، فتأمّل في المقام، فإنّه دقيق، ومزالّ الأقدام للأعلام.

ولا يخفى: أ نّه لولا ذلك لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد دالّ على إلغاء احتمال خلافه، مقام القطع بتمام أقسامه ولو فيما اُخذ في الموضوع على نحو الصفتية، كان تمامه أو قيده وبه قوامه.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ الأمارة لا تقوم بدليل اعتبارها، إلاّ مقام ما ليس بمأخوذ في الموضوع أصلاً.

ص: 334

وأمّا الاُصول، فلا معنى لقيامها مقامه بأدلّتها أيضاً غير الاستصحاب؛ لوضوح أنّ المراد من قيام المقام ترتيب ما له من الآثار والأحكام من تنجّز التكليف وغيره، كما مرّت إليه الإشارة. وهي ليست إلاّ وظائف مقرّرة للجاهل في مقام العمل، شرعاً أو عقلاً.

لا يقال: إنّ الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجّز التكليف لو كان.

فإنّه يقال: أمّا الاحتياط العقلي فليس إلاّ لأجل حكم العقل بتنجّز التكليف وصحّة العقوبة على مخالفته، لا شيء يقوم مقامه في هذا الحكم. وأمّا النقلي، فإلزام الشارع به وإن كان ممّا يوجب التنجّز وصحّة العقوبة على المخالفة كالقطع، إلاّ أ نّه لا نقول به في الشبهة البدوية، ولا يكون بنقليّ في المقرونة بالعلم الإجمالي، فافهم.

ثمّ لا يخفى: أنّ دليل الاستصحاب أيضاً لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ في الموضوع مطلقاً، وأنّ مثل «لا تنقض اليقين . . .» لا بدّ من أن يكون مسوقاً إمّا بلحاظ المتيقّن أو بلحاظ نفس اليقين.

وما ذكرنا في الحاشية - في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع والقطع، وأنّ دليل الاعتبار إنّما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدّى منزلة الواقع، وإنّما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما وتنزيل القطع بالواقع تنزيلاً وتعبّداً، منزلة القطع

ص: 335

بالواقع حقيقةً - لا يخلو من تكلّف بل تعسّف، فإنّه لا يكاد يصحّ تنزيل جزء الموضوع أو قيده بما هو كذلك، بلحاظ أثره، إلاّ فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزاً بالوجدان، أو تنزيله في عرضه.

فلا يكاد يكون دليل الأمارة أو الاستصحاب دليلاً على تنزيل جزء الموضوع ما لم يكن هناك دليل على تنزيل جزئه الآخر فيما لم يكن محرزاً حقيقةً. وفيما لم يكن دليل على تنزيلهما بالمطابقة - كما فيما نحن فيه على ما عرفت - لم يكن دليل الأمارة دليلاً عليه أصلاً، فإنّ دلالته على تنزيل المؤدّى يتوقّف على دلالته على تنزيل القطع بالملازمة، ولا دلالة له كذلك إلاّ بعد دلالته على تنزيل المؤدّى؛ فإنّ الملازمة إنّما تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي، وتنزيل المؤدّى منزلة الواقع، كما لا يخفى، فتأمّل جيّداً، فإنّه لا يخلو عن دقّة.

ثمّ لا يذهب عليك أ نّه هذا لو تمّ لعمّ؛ ولا اختصاص له بما إذا كان القطع مأخوذاً على نحو الكشف.

الأمر الرابع : في أخذ القطع و الظنّ بحکم في موضوع مثله أو ضدّه

الأمر الرابع(11): لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم؛ للزوم الدور، ولا مثله؛ للزوم اجتماع المثلين، ولا ضدّه؛ للزوم اجتماع الضدّين. نعم يصحّ أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة اُخرى منه، أو من مثله، أو من ضدّه.

وأمّا الظنّ بالحكم فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في

ص: 336

موضوع نفس ذاك الحكم المظنون، إلاّ أ نّه لمّا كان معه مرتبة الحكم

الظاهري محفوظة، كان جعل حكم آخر في مورده، مثل الحكم المظنون أو ضدّه بمكان من الإمكان.

إن قلت: إن كان الحكم المتعلّق به الظنّ فعلياً أيضاً؛ بأن يكون الظنّ متعلّقاً بالحكم الفعلي، لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلي آخر مثله أو ضدّه؛ لاستلزامه الظنّ باجتماع الضدّين أو المثلين، وإنّما يصحّ أخذه في موضوع حكم آخر، كما في القطع، طابق النعل بالنعل.

قلت: يمكن أن يكون الحكم فعلياً؛ بمعنى أ نّه لو تعلّق به القطع على ما هو عليه من الحال، لتنجّز واستحقّ على مخالفته العقوبة، ومع ذلك لا يجب على الحاكم رفع عذر المكلّف برفع جهله لو أمكن، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن، بل يجوز جعل أصل أو أمّارة مؤدّية إليه تارة، وإلى ضدّه اُخرى، ولا يكاد يمكن مع القطع به، جعل حكم آخر مثله، أو ضدّه، كما لا يخفى.

إن قلت: كيف يمكن ذلك؟ وهل هو إلاّ أ نّه يكون مستلزماً لاجتماع المثلين أو الضدّين؟

قلت: لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى - أي لو قطع به من باب الاتّفاق لتنجّز - مع حكم آخر فعلي في مورده، بمقتضى الأصل أو الأمارة، أو دليل اُخذ في موضوعه الظنّ بالحكم بالخصوص، على ما

ص: 337

سيأتي من التحقيق في التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.

الأمر الخامس : في الموافقة الالتزامية

الأمر الخامس(12): هل تنجّز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملاً يقتضي موافقته التزاماً، والتسليم له اعتقاداً وانقياداً، كما هو اللازم في الاُصول الدينية والاُمور الاعتقادية؛ بحيث كان له امتثالان وطاعتان: إحداهما بحسب القلب والجنان، والاُخرى بحسب العمل بالأركان، فيستحقّ العقوبة على عدم الموافقة التزاماً ولو مع الموافقة عملاً، أو لا يقتضي، فلا يستحقّ العقوبة عليه، بل إنّما يستحقّها على المخالفة العملية؟

الحقّ هو الثاني؛ لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك، واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لأمر سيّده إلاّ المثوبة دون العقوبة ولو لم يكن متسلّماً وملتزماً به ومعتقداً ومنقاداً له وإن كان ذلك يوجب تنقيصه وانحطاط درجته لدى سيّده؛ لعدم اتّصافه بما يليق أن يتّصف العبد به من الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها؛ وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لأمره أو نهيه التزاماً مع موافقته عملاً، كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك: أ نّه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية لو كان المكلّف متمكّناً منها لوجب ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملاً، ولا يحرم المخالفة القطعية عليه كذلك أيضاً، لامتناعهما، كما إذا علم

ص: 338

إجمالاً بوجوب شيء أو حرمته، للتمكّن من الالتزام بما هو الثابت واقعاً

والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع والثابت وإن لم يعلم أ نّه الوجوب أو الحرمة.

وإن أبيت إلاّ عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه لما كانت موافقته القطعية الالتزامية حينئذٍ ممكنة، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعاً، فإنّ محذور الالتزام بضدّ التكليف عقلاً ليس بأقلّ من محذور عدم الالتزام به بداهةً، مع ضرورة أنّ التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام لم يكد يقتضي إلاّ الالتزام بنفسه عيناً، لا الالتزام به أو بضدّه تخييراً.

ومن هنا قد انقدح أ نّه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الاُصول الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم لو كانت جاريةً مع قطع النظر عنه، كما لا يدفع بها محذور عدم الالتزام به.

إلاّ أن يقال: إنّ استقلال العقل بالمحذور فيه إنّما يكون فيما إذا لم يكن هناك ترخيص في الإقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه، بل و لا في الالتزام بحكم آخر.

إلاّ أنّ الشأن حينئذٍ في جواز جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي مع عدم ترتّب أثر عملي عليها، مع أ نّها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية، مضافاً إلى عدم شمول أدلّتها لأطرافه؛ للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها، كما ادّعاه شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه -

ص: 339

وإن كان محلّ تأمّل ونظر، فتدبّر جيّداً.

الأمر السادس : في عدم تفاوت الآثار العقلية للقطع الطریقی

الأمر السادس(13): لا تفاوت في نظر العقل أصلاً فيما رتّب على القطع من الآثار عقلاً بين أن يكون حاصلاً بنحو متعارف ومن سبب ينبغي حصوله منه، أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه، كما هو الحال غالباً في القطّاع؛ ضرورة أنّ العقل يرى تنجّز التكليف بالقطع الحاصل ممّا لا ينبغي حصوله، وصحّة مؤاخذة قاطعه على مخالفته، وعدم صحّة الاعتذار عنها بأ نّه حصل كذلك، وعدم صحّة المؤاخذة مع القطع بخلافه، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك ولو مع التفاته إلى كيفية حصوله.

نعم، ربّما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعاً، والمتّبع في عمومه وخصوصه دلالة دليله في كلّ مورد؛ فربّما يدلّ على اختصاصه بقسم في مورد وعدم اختصاصه به في آخر على اختلاف الأدلّة واختلاف المقامات بحسب مناسبات الأحكام والموضوعات وغيرها من الأمارات.

وبالجملة: القطع فيما كان موضوعاً عقلاً لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع، ولا من حيث المورد، ولا من حيث السبب، لا عقلاً وهو واضح، ولا شرعاً؛ لما عرفت من أ نّه لا تناله يد الجعل نفياً ولا إثباتاً وإن نسب إلى بعض الأخباريين: أ نّه لا اعتبار بما إذا كان بمقدّمات عقلية، إلاّ أنّ مراجعة كلماتهم لا تساعد على هذه النسبة، بل تشهد بكذبها، وأ نّها إنّما تكون إمّا

ص: 340

في مقام منع الملازمة بين حكم العقل بوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما حكي عن السيّد الصدر في باب الملازمة، فراجع. وإمّا في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدّمات العقلية؛ لأ نّها لا تفيد إلاّ الظنّ، كما هو صريح الأمين؛ حيث قال في جملة ما استدلّ به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين في السماع عن الصادقين عليهم السلام:

«الرابع: أنّ كلّ مسلك غير ذلك المسلك -

يعني التمسّك بكلامهم عليهم السلام - إنّما يعتبر من حيث إفادته الظنّ بحكم الله تعالى، وقد أثبتنا سابقاً أ نّه لا اعتماد على الظنّ المتعلّق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها».

وقال في جملتها أيضاً - بعد ذكر ما تفطّن بزعمه من الدقيقة - ما هذا لفظه: «وإذا عرفت ما مهّدناه من الدقيقة الشريفة فنقول: إن تمسّكنا بكلامهم - عليهم السلام - فقد عصمنا من الخطأ، وإن تمسّكنا بغيره لم نعصم منه؛ ومن المعلوم أنّ العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعاً وعقلاً، أ لا ترى أنّ الإماميّة استدلّوا على وجوب عصمة الإمام بأ نّه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتّباع الخطأ، وذلك الأمر محال؛ لأ نّه قبيح. وأنت إذا تأمّلت في هذا الدليل علمت أنّ مقتضاه أ نّه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظنّي في أحكامه تعالى» انتهى موضع الحاجة من كلامه.

ص: 341

وما مهّده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - في الرسالة.

وقال في فهرست فصولها أيضاً: «الأوّل في إبطال جواز التمسّك بالاستنباطات الظنّية في نفس أحكامه تعالى، ووجوب التوقّف عند فقد القطع بحكم الله، أو بحكم ورد عنهم عليهم السلام»، انتهى.

وأنت ترى أنّ محلّ كلامه ومورد نقضه وإبرامه هو العقلي الغير المفيد للقطع، وإنّما همّه إثبات عدم جواز اتّباع غير النقل فيما لا قطع.

وكيف كان، فلزوم اتّباع القطع مطلقاً، وصحّة المؤاخذة على مخالفته عند إصابته، وكذا ترتّب سائر آثاره عليه عقلاً، ممّا لا يكاد يخفى على عاقل فضلاً عن فاضل؛ فلا بّد فيما يوهم خلاف ذلك في الشريعة من المنع عن حصول العلم التفصيلي بالحكم الفعلي لأجل منع بعض مقدّماته الموجبة له ولو إجمالاً، فتدبّر جيّداً.

الأمر السابع : في العلم الإجمالي

الأمر السابع(14): أ نّه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامّة لتنجّزه، لا يكاد تناله يدّ الجعل إثباتاً أو نفياً، فهل القطع الإجمالي

كذلك؟ فيه إشكال.

ربما يقال: إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف، وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، جاز الإذن من الشارع بمخالفته احتمالاً بل قطعاً.

ص: 342

وليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً إلاّ محذور مناقضة الحكم الظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة بل الشبهة البدوية؛ ضرورة عدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والإذن بالاقتحام في مخالفته بين الشبهات أصلاً، فما به التفصّي عن المحذور فيهما كان به التفصّي عنه في القطع به في الأطراف المحصورة أيضاً، كما لا يخفى. وقد أشرنا إليه سابقاً ويأتي إن شاء الله مفصلاً.

نعم، كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء، لا في العلّية التامّة، فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً كما كان في أطراف كثيرة غير محصورة، أو شرعاً كما فيما أذن الشارع في الاقتحام فيها كما هو ظاهر «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه».

وبالجملة: قضيّة صحّة المؤاخذة على مخالفته مع القطع به بين أطراف محصورة، وعدم صحّتها مع عدم حصرها أو مع الإذن في الاقتحام فيها، هو كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجّز، لا علّة تامّة.

وأمّا احتمال أ نّه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية، وبنحو العلّية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية، فضعيف جدّاً؛ ضرورة أنّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا يكون عدم القطع بذلك معها موجباً لجواز الإذن في

ص: 343

الاقتحام، بل لو صحّ الإذن في المخالفة الاحتمالية، صحّ في القطعية أيضاً، فافهم.

ولا يخفى: أنّ المناسب للمقام هو البحث عن ذلك، كما أنّ المناسب في باب البراءة والاشتغال - بعد الفراغ هاهنا عن أنّ تأثيره في التنجّز بنحو الاقتضاء لا العلّية - هو البحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً، وعدم ثبوته، كما لا مجال بعد البناء على أ نّه بنحو العلّية للبحث عنه هناك أصلاً، كما لا يخفى. هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجّزه به.

وأمّا سقوطه به بأن يوافقه إجمالاً فلا إشكال فيه في التوصّليات.

وأمّا العباديات فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردّد أمر عبادة بين الأقلّ والأكثر؛ لعدم الإخلال بشيء ممّا يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها - ممّا لا يمكن أن يؤخذ فيها، فإنّه نشأ من قبل الأمر بها، كقصد الإطاعة والوجه والتمييز - فيما إذا أتى بالأكثر؛ ولا يكون إخلال حينئذٍ إلاّ بعدم إتيان ما احتمل جزئيته على تقديرها بقصدها؛ واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف في الغاية وسخيف إلى النهاية.

وأمّا فيما احتاج إلى التكرار، فربما يشكل من جهة الإخلال بالوجه تارة وبالتميز اُخرى، وكونه لعباً وعبثاً ثالثةً.

وأنت خبير بعدم الإخلال بالوجه بوجهٍ في الإتيان مثلاً بالصلاتين

ص: 344

المشتملتين على الواجب لوجوبه، غاية الأمر أ نّه لا تعيين له ولا تميز،

فالإخلال إنّما يكون به، واحتمال اعتباره أيضاً في غاية الضعف؛ لعدم عين منه ولا أثر في الأخبار، مع أ نّه ممّا يغفل عنه غالباً، وفي مثله لا بدّ من التنبيه على اعتباره ودخله في الغرض، وإلاّ لأخلّ بالغرض، كما نبّهنا عليه سابقاً.

وأمّا كون التكرار لعباً وعبثاً، فمع أ نّه ربّما يكون لداعٍ عقلائي، إنّما يضرّ إذا كان لعباً بأمر المولى، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها، كما لا يخفى.

هذا كلّه في قبال ما إذا تمكّن من القطع تفصيلاً بالامتثال.

وأمّا إذا لم يتمكّن إلاّ من الظنّ به كذلك، فلا إشكال في تقديمه على الامتثال الظنّي لو لم يقم دليل على اعتباره إلاّ فيما إذا لم يتمكّن منه. وأمّا لو قام على اعتباره مطلقاً، فلا إشكال في الاجتزاء بالظنّي، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الإجمالي، في قبال الظنّي بالظنّ المطلق المعتبر بدليل الانسداد، بناء على أن يكون من مقدّماته عدم وجوب الاحتياط. وأمّا لو كان من مقدّماته بطلانه، لاستلزامه العسر المخلّ بالنظام، أو لأ نّه ليس من وجوه الطاعة والعبادة، بل هو نحو لعب وعبث بأمر المولى فيما إذا كان بالتكرار - كما توهّم - فالمتعيّن هو التنزّل عن القطع تفصيلاً إلى الظنّ كذلك؛ وعليه فلا مناص عن

ص: 345

الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد والاجتهاد وإن احتاط فيها،

كما لا يخفى.

الکلام في الظنّ

[في الظنّ]

هذا بعض الكلام في القطع ممّا يناسب المقام، ويأتي بعضه الآخر في مبحث البراءة والاشتغال، فيقع المقال فيما هو المهمّ من عقد هذا المقصد، وهو بيان ما قيل باعتباره من الأمارات أو صحّ أن يقال.

وقبل الخوض في ذلك ينبغي تقديم اُمور:

أحدها: أ نّه لا ريب في أنّ الأمارة الغير العلمية، ليست كالقطع في كون الحجّية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلّية بل مطلقاً، وأنّ ثبوتها لها محتاج إلى جعل، أو ثبوت مقدّمات وطروّ حالات موجبة لاقتضائها الحجّية عقلاً - بناء على تقرير مقدّمات الانسداد بنحو الحكومة - وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع للحجّية بدون ذلك ثبوتاً بلا خلاف، ولا سقوطاً وإن كان ربما يظهر فيه من بعض المحقّقين الخلاف والاكتفاء بالظنّ بالفراغ؛ ولعلّه لأجل عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، فتأمّل.

ثانيها: في بيان إمكان التعبّد(15) بالأمارة الغير العلمية شرعاً، وعدم لزوم محال منه عقلاً في قبال دعوى استحالته للزومه.

وليس الإمكان - بهذا المعنى بل مطلقاً - بأصل متّبع عند العقلاء في

ص: 346

مقام احتمال ما يقابله من الامتناع؛ لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار

الإمكان عند الشكّ فيه، ومنع حجّيتها لو سلّم ثبوتها؛ لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها، والظنّ به - لو كان - فالكلام الآن في إمكان التعبّد بها وامتناعه، فما ظنّك به، لكن دليل وقوع التعبّد بها من طرق إثبات إمكانه؛ حيث يستكشف به عدم ترتّب محال من تالٍ باطل ممتنع مطلقاً أو على الحكيم تعالى، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الإمكان، وبدونه لا فائدة في إثباته، كما هو واضح.

وقد انقدح بذلك ما في دعوى شيخنا العلاّمة - أعلى الله مقامه - من كون الإمكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع ،أصلاً.

والإمكان في كلام الشيخ الرئيس: «كلُّما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان» بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والإيقان. ومن الواضح أن لا موطن له إلاّ الوجدان، فهو المرجع فيه بلا بيّنة وبرهان.

وكيف كان: فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبّد بغير العلم

من المحال، أو الباطل ولو لم يكن بمحال، اُمور:

أحدها: اجتماع مثلين من إيجابين أو تحريمين - مثلاً - فيما أصاب، أو ضدّين من إيجاب وتحريم، ومن إرادة وكراهة، ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ، أو التصويب وأن لا يكون

ص: 347

هناك غير مؤدّيات الأمارات أحكامٌ.

ثانيها: طلب الضدّين فيما إذا أخطأ، وأدّى إلى وجوب ضدّ الواجب.

ثالثها: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما أدّى إلى عدم وجوب ما هو واجب أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه محكوماً بسائر الأحكام.

والجواب: أنّ ما ادّعي لزومه إمّا غير لازم أو غير باطل؛ وذلك لأنّ التعبّد بطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيته والحجّية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدّى إليه الطريق، بل إنّما تكون موجبة لتنجّز التكليف به إذا أصاب، وصحّة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته تجرّياً وانقياداً مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة، فلا يلزم اجتماع حكمين مثلين أو ضدّين، ولا طلب الضدّين، ولا اجتماع المفسدة والمصلحة، ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى.

وأمّا تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته، فلا محذور فيه أصلاً إذا كانت في التعبّد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

نعم، لو قيل باستتباع جعل الحجّية للأحكام التكليفية، أو بأ نّه لا معنى لجعلها إلاّ جعل تلك الأحكام، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم، إلاّ أ نّهما ليسا بمثلين أو ضدّين؛ لأنّ أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لإنشائه الموجب للتنجّز أو لصحّة الاعتذار بمجرّده، من دون إرادة نفسانية

ص: 348

أو كراهة كذلك متعلّقة بمتعلّقه فيما يمكن هناك انقداحهما؛ حيث إنّه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في فعل وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى، إلاّ أ نّه إذا اُوحي بالحكم الناشئ من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي أو اُلهم به الوليّ، فلا محالة ينقدح في نفسه الشريفة بسببها الإرادة أو الكراهة الموجبة للإنشاء بعثاً أو زجراً، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلّق، بل إنّما كانت في نفس إنشاء الأمر به طريقياً، والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلّقه، موجبة لإرادته أو كراهته الموجبة لإنشائه بعثاً أو زجراً في بعض المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ الأعلى إلاّ العلم بالمصلحة أو المفسدة - كما أشرنا - فلا يلزم أيضاً اجتماع إرادة وكراهة، وإنّما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثاً وزجراً، وإنشاء حكم آخر طريقي، ولا مضادّة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما اتّفقا، ولا إرادة ولا كراهة أصلاً إلاّ بالنسبة إلى متعلّق الحكم الواقعي، فافهم.

نعم، يشكل الأمر في بعض الاُصول العملية، كأصالة الإباحة الشرعية، فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي المنع فعلاً، كما فيما صادف الحرام، وإن كان الإذن فيه لأجل مصلحة فيه لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه، فلا محيص في مثله إلاّ عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ العالية أيضاً، كما في المبدأ الأعلى، لكنّه

ص: 349

لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف الواقعي بفعلي، بمعنى كونه على

صفة ونحو لو علم به المكلّف لتنجّز عليه، كسائر التكاليف الفعلية التي تتنجّز بسبب القطع بها. وكونه فعلياً إنّما يوجب البعث أو الزجر في النفس النبوية أو الولوية فيما إذا لم ينقدح فيها الإذن لأجل مصلحة فيه.

فانقدح بما ذكرنا أ نّه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد الاُصول والأمارات فعلياً، كي يشكل:

تارةً، بعدم لزوم الإتيان حينئذٍ بما قامت الأمارة على وجوبه؛ ضرورة عدم لزوم امتثال الأحكام الإنشائية ما لم تصر فعلية، ولم تبلغ مرتبة البعث والزجر، ولزوم الإتيان به ممّا لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

لا يقال: لا مجال لهذا الإشكال لو قيل بأ نّها كانت قبل أداء الأمارة إليها إنشائية؛ لأ نّها بذلك تصير فعلية تبلغ تلك المرتبة.

فإنّه يقال: لا يكاد يحرز - بسبب قيام الأمارة المعتبرة على حكم إنشائي - لا حقيقة ولا تعبّداً إلاّ حكم إنشائي تعبّداً، لا حكم إنشائي أدّت إليه الأمارة؛ أمّا حقيقة فواضح، وأمّا تعبّداً فلأنّ قصارى ما هو قضيّة حجّية الأمارة، كون مؤدّاها هو الواقع تعبّداً، لا الواقع الذي أدّت إليه الأمارة، فافهم.

اللهمّ إلاّ أن يقال: إنّ الدليل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع الذي صار مؤدّى لها، هو دليل الحجّية بدلالة الاقتضاء، لكنّه لا يكاد يتمّ إلاّ إذا

ص: 350

لم يكن للأحكام بمرتبتها الإنشائية أثر أصلاً، وإلاّ لم يكن لتلك الدلالة

مجال، كما لا يخفى.

واُخرى: بأ نّه كيف يكون التوفيق بذلك مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو زجرية في موارد الطرق والاُصول العملية المتكفّلة لأحكام فعلية؟ ضرورة أ نّه كما لا يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله.

فلا يصحّ التوفيق بين الحكمين بالتزام كون الحكم الواقعي الذي يكون مورد الطرق إنشائياً غير فعلي .

كما لا يصحّ بأنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في مرتبتين؛ ضرورة تأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين، وذلك لا يكاد يجدي، فإنّ الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ أ نّه يكون في مرتبته أيضاً، وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة .

فتأمّل فيما ذكرنا من التحقيق في التوفيق، فإنّه دقيق وبالتأمّل حقيق.

ثالثها: أنّ الأصل(16) فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا يحرز التعبّد به واقعاً، عدم حجّيته جزماً؛ بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة عليه قطعاً، فإنّها لا تكاد تترتّب إلاّ على ما اتّصف بالحجّية فعلاً، ولا يكاد يكون الاتّصاف بها إلاّ إذا اُحرز التعبّد به وجعله طريقاً متّبعاً؛ ضرورة أ نّه بدونه لا يصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته،

ص: 351

ولا يكون عذراً لدى مخالفته مع عدمها، ولا يكون مخالفته تجرّياً، ولا يكون موافقته بما هي موافقته انقياداً وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته. فمع الشكّ في التعبّد به يقطع بعدم حجّيته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه؛ للقطع بانتفاء الموضوع معه. ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.

وأمّا صحّة الالتزام بما أدّى إليه من الأحكام وصحّة نسبته إليه تعالى فليستا من آثارها؛ ضرورة أنّ حجّية الظنّ عقلاً - على تقدير الحكومة في حال الانسداد - لا توجب صحّتهما، فلو فرض صحّتهما شرعاً مع الشكّ في التعبّد به، لما كان يجدي في الحجّية شيئاً ما لم يترتّب عليه ما ذكر من آثارها، ومعه لما كان يضرّ عدم صحّتهما أصلاً، كما أشرنا إليه آنفاً.

فبيان عدم صحّة الالتزام مع الشكّ في التعبّد، وعدم جواز إسناده إليه تعالى غير مرتبط بالمقام فلا يكون الاستدلال عليه بمهمّ، كما أتعب به شيخنا العلاّمة أعلى الله مقامه بما أطنب من النقض والإبرام، فراجعه بما علّقناه عليه، وتأمّل.

وقد انقدح بما ذكرنا أنّ الصواب فيما هو المهمّ في الباب ما ذكرنا في تقرير الأصل، فتدبّر جيّداً.

إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعاً عن تحت هذا الأصل أو قيل بخروجه، يذكر في ذيل فصول:

ص: 352

فصل : في حجّية الظواهر

لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع(17) في تعيين مراده في الجملة؛ لاستقرار طريقة العقلاء على اتّباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم الردع عنها؛ لوضوح عدم اختراع طريقة اُخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه، كما هو واضح.

والظاهر أنّ سيرتهم على اتّباعها من غير تقييد بإفادتها للظنّ فعلاً، ولا بعدم الظنّ كذلك على خلافها قطعاً؛ ضرورة أ نّه لا مجال عندهم للاعتذار عن مخالفتها بعدم إفادتها للظنّ بالوفاق ولا بوجود الظنّ بالخلاف.

كما أنّ الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه، ولذا لا يسمع اعتذار من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمّنه ظاهر كلام المولى من تكليف يعمّه أو يخصّه، ويصحّ به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به صحّة الشهادة بالإقرار من كلّ من سمعه ولو قصد عدم إفهامه فضلاً عمّا إذا لم يكن بصدد إفهامه.

ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين، وأحاديث سيّد المرسلين، والأئمّة الطاهرين، وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجّية ظاهر الكتاب:

إمّا بدعوى اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما

ص: 353

يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به.

أو بدعوى أ نّه لأجل احتوائه على مضامين شامخة، ومطالب غامضة عالية، لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أولي الأنظار الغير الراسخين العالمين بتأويله، كيف! ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلاّ الأوحدي من الأفاضل فما ظنّك بكلامه «تعالى» مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء.

أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتّباعه للظاهر، لا أقلّ من احتمال شموله؛ لتشابه المتشابه وإجماله.

أو بدعوى أ نّه وإن لم يكن منه ذاتاً إلاّ أ نّه صار منه عرضاً؛ للعلم الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر.

أو بدعوى شمول الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي؛ لحمل الكلام الظاهر في معنى، على إرادة هذا المعنى.

ولا يخفى: أنّ النزاع يختلف صغروياً وكبروياً بحسب الوجوه، فبحسب غير الوجه الأخير والثالث يكون صغروياً. وأمّا بحسبهما فالظاهر أ نّه كبروي، ويكون المنع عن الظاهر؛ إمّا لأ نّه من المتشابه قطعاً أو احتمالاً، أو لكون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير بالرأي.

وكلّ هذه الدعاوي فاسدة.

ص: 354

أمّا الاُولى: فإنّما المراد ممّا دلّ على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله، اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته؛ بداهة أنّ فيه ما لا يختصّ به، كما لا يخفى؛ وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به، إنّما هو لأجل الاستقلال في الفتوى بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقاً ولو مع الرجوع إلى رواياتهم والفحص عمّا ينافيه والفتوى به مع اليأس عن الظفر به؛ كيف! وقد وقع في غير واحد من الروايات الإرجاع إلى الكتاب الاستدلال بغير واحد من آياته.

وأمّا الثانية: فلأنّ احتواءه على المضامين العالية الغامضة، لا يمنع عن فهم ظواهره المتضمّنة للأحكام وحجّيتها، كما هو محلّ الكلام.

وأمّا الثالثة: فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه، فإنّ الظاهر كون المتشابه هو خصوص المجمل، وليس بمتشابه ومجمل.

وأمّا الرابعة: فلأنّ العلم إجمالاً بطروّ إرادة خلاف الظاهر إنّما يوجب الإجمال فيما إذا لم ينحلّ بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم بالإجمال مع أنّ دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحّص عمّا يخالفه لظفر به، غير بعيدة، فتأمّل جيّداً.

وأمّا الخامسة: فبمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير، فإنّه كشف القناع، ولا قناع للظاهر، ولو سلّم فليس من التفسير بالرأي؛ إذ الظاهر أنّ المراد بالرأي هو الاعتبار الظنّي الذي لا اعتبار به، وإنّما كان

ص: 355

منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره لرجحانه بنظره، أو حمل المجمل على محتمله بمجرّد مساعدته ذاك الاعتبار من دون السؤال عن الأوصياء. و في بعض الأخبار: «إنّما هلك الناس في المتشابه؛ لأ نّهم لم يقفوا على معناه ولم يعرفوا حقيقته فوضعوا له تأويلاً من عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرّفونهم» هذا.

مع أ نّه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك ولو سلّم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره؛ ضرورة أ نّه قضيّة التوفيق بينها وبين ما دلّ على جواز التمسّك بالقرآن، مثل خبر الثقلين، وما دلّ على التمسّك به والعمل بما فيه، وعرض الأخبار المتعارضة عليه، وردّ الشروط المخالفة له، وغير ذلك ممّا لا محيص عن إرادة الإرجاع إلى ظواهره، لا خصوص نصوصه؛ ضرورة أنّ الآيات التي يمكن أن تكون مرجعاً في باب تعارض الروايات أو الشروط أو يمكن أن يتمسّك بها ويعمل بما فيها، ليست إلاّ ظاهرة في معانيها، ليس فيها ما كان نصّاً، كما لا يخفى.

ودعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو إمّا بإسقاط أو تصحيف وإن كانت غير بعيدة، كما يشهد به بعض الأخبار ويساعده الاعتبار، إلاّ أ نّه لا يمنع عن حجّية ظواهره؛ لعدم العلم بوقوع خلل فيها بذلك أصلاً ولو سلّم فلا علم بوقوعه في آيات الأحكام؛ والعلم بوقوعه

ص: 356

فيها أو في غيرها من الآيات، غير ضائر بحجّية آياتها؛ لعدم حجّية ظاهر

سائر الآيات، والعلم الإجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنّما يمنع عن حجّيتها إذا كانت كلّها حجّة، وإلاّ لا يكاد ينفكّ ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم.

نعم، لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتّصل به لأخلّ بحجّيته لعدم انعقاد ظهور له حينئذٍ وإن انعقد له الظهور لولا اتّصاله.

ثمّ إنّ التحقيق أنّ الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور - مثل «يطهرن» بالتشديد والتخفيف - يوجب الإخلال بجواز التمسّك والاستدلال؛ لعدم إحراز ما هو القرآن، ولم يثبت تواتر القراءات ولا جواز الاستدلال بها وإن نسب إلى المشهور تواترها، لكنّه ممّا لا أصل له، وإنّما الثابت جواز القراءة بها ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى.

ولو فرض جواز الاستدلال بها فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون الأصل في تعارض الأمارات هو سقوطها عن الحجّية في خصوص المؤدّى بناءً على اعتبارها من باب الطريقية، والتخيير بينها بناءً على السببية، مع عدم دليل على الترجيح في غير الروايات من سائر الأمارات، فلا بدّ من الرجوع حينئذٍ إلى الأصل أو العموم حسب اختلاف المقامات.

ص: 357

فصل : في البحث عمّا یتعیّن به الظولهر

قد عرفت حجّية ظهور الكلام في تعيين المرام، فإن اُحرز بالقطع وأنّ المفهوم منه جزماً بحسب متفاهم أهل العرف هو ذا، فلا كلام، وإلاّ:

فإن كان لأجل احتمال وجود قرينة، فلا خلاف في أنّ الأصل عدمها. لكنّ الظاهر أ نّه معه يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهراً فيه ابتداءً، لا أ نّه يبنى عليه بعد البناء على عدمها، كما لا يخفى، فافهم.

وإن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو وإن لم يكن بخال عن الإشكال - بناءً على حجّية أصالة الحقيقة من باب التعبّد - إلاّ أنّ الظاهر أن يعامل معه معاملة المجمل.

وإن كان لأجل الشكّ فيما هو الموضوع له لغةً، أو المفهوم منه عرفاً، فالأصل يقتضي عدم حجّية الظنّ فيه، فإنّه ظنّ في أ نّه ظاهر، ولا دليل إلاّ على حجّية الظواهر.

نعم، نسب إلى المشهور حجّية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع. واستدلّ لهم باتّفاق العلماء بل العقلاء على ذلك، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد ولو مع المخاصمة واللجاج. وعن بعض دعوى الإجماع على ذلك.

وفيه: أنّ الاتّفاق لو سلّم اتّفاقه فغير مفيد، مع أنّ المتيقّن منه هو

ص: 358

الرجوع إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة. والإجماع المحصّل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصاً في مثل المسألة ممّا احتمل قريباً أن يكون وجه ذهاب الجلّ لولا الكلّ، هو اعتقاد أ نّه ممّا اتّفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كلّ صنعة فيما اختصّ بها. والمتيقّن من ذلك، إنّما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق الاطمئنان، ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل خبرة ذلك، بل إنّما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أنّ همّه ضبط موارده، لا تعيين أنّ أيّاً منها كان اللفظ فيه حقيقة، أو مجازاً، وإلاّ لوضعوا لذلك علامة. وليس ذكره أوّلاً علامة كون اللفظ حقيقة فيه، للانتقاض بالمشترك.

وكون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى - لانسداد باب العلم بتفاصيل المعاني غالباً بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه وإن كان المعنى معلوماً في الجملة - لا يوجب اعتبار قوله ما دام انفتاح باب العلم بالأحكام، كما لا يخفى، ومع الانسداد كان قوله معتبراً - إذا أفاد الظنّ - من باب حجّية مطلق الظنّ وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا المورد.

نعم، لو كان هناك دليل على اعتباره لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم بتفاصيل اللغات موجباً له على نحو الحكمة، لا العلّة.

ص: 359

لا يقال: على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.

فإنّه يقال: مع هذا لا يكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها، فإنّه ربما يوجب القطع بالمعنى، وربما يوجب القطع بأنّ اللفظ في المورد ظاهر في معنىً بعد الظفر به وبغيره في اللغة وإن لم يقطع بأ نّه حقيقة فيه أو مجاز، كما اتّفق كثيراً، وهو يكفي في الفتوى.

فصل : في حجيّة الإجماع المنقول

الإجماع المنقول(18) بخبر الواحد حجّة عند كثير ممّن قال باعتبار الخبر بالخصوص، من جهة أ نّه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص، فلا بدّ في اعتباره من شمول أدلّة اعتباره له بعمومها أو إطلاقها.

وتحقيق القول فيه يستدعي رسم اُمور:

الأوّل: أنّ وجه اعتبار الإجماع هو القطع برأي الإمام عليه السلام ، ومستند القطع به لحاكيه - على ما يظهر من كلماتهم - هو علمه بدخوله عليه السلام في المجمعين شخصاً ولم يعرف عيناً، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه عليه السلام عقلاً من باب اللطف، أو عادةً، أو اتّفاقاً من جهة حدس رأيه وإن لم تكن ملازمة بينهما عقلاً ولا عادةً، كما هو طريقة المتأخّرين في دعوى الإجماع؛ حيث إنّهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة

ص: 360

العقلية، ولا الملازمة العادية غالباً وعدم العلم بدخول جنابه عليه السلام في المجمعين عادةً، يحكون الإجماع كثيراً. كما أ نّه يظهر ممّن اعتذر عن وجود المخالف بأ نّه معلوم النسب، أ نّه استند في دعوى الإجماع إلى العلم بدخوله عليه السلام، وممّن اعتذر عنه بانقراض عصره، أ نّه استند إلى قاعدة اللطف.

هذا، مضافاً إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم.

وربما يتّفق لبعض الأوحدي وجه آخر، من تشرّفه برؤيته عليه السلام وأخذه الفتوى من جنابه، وإنّما لم ينقل عنه بل يحكي الإجماع لبعض دواعي الإخفاء.

الأمر الثاني: أ نّه لا يخفى اختلاف نقل الإجماع، فتارةً ينقل رأيه عليه السلام في ضمن نقله حدساً كما هو الغالب أو حسّاً وهو نادر جدّاً، واُخرى لا ينقل إلاّ ما هو السبب عند ناقله عقلاً أو عادةً أو اتّفاقاً، واختلاف ألفاظ النقل أيضاً صراحةً وظهوراً وإجمالاً في ذلك، أي في أ نّه نقل السبب أو نقل السبب والمسبّب.

الأمر الثالث: أ نّه لا إشكال في حجّية الإجماع المنقول بأدلّة حجّية الخبر إذا كان نقله متضمّناً لنقل السبب والمسبّب عن حسّ لو لم نقل بأنّ نقله كذلك في زمان الغيبة موهون جدّاً.

وكذا إذا لم يكن متضمّناً له، بل كان ممحّضاً لنقل السبب عن حسّ إلاّ

ص: 361

أ نّه كان سبباً بنظر المنقول إليه أيضاً عقلاً أو عادةً أو اتّفاقاً، فيعامل حينئذٍ مع المنقول معاملة المحصّل في الالتزام بمسبّبه بأحكامه وآثاره.

وأمّا إذا كان نقله للمسبّب لا عن حسّ، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه، دون المنقول إليه، ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلّة على حجّيته؛ إذ المتيقّن من بناء العقلاء غير ذلك، كما أنّ المنصرف من الآيات والروايات ذلك على تقدير دلالتهما، خصوصاً فيما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد الملازمة. هذا فيما انكشف الحال.

وأمّا فيما اشتبه، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار، فإنّ عمدة أدلّة حجّية الأخبار هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أ نّه عن حسّ، يعملون به فيما يحتمل كونه عن حدس؛ حيث إنّه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشيء على التوقّف والتفتيش عن أ نّه عن حدس أو حسّ، بل على العمل على طبقه والجري على وفقه بدون ذلك.

نعم، لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك فيما لا يكون هناك أمارة على الحدس أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة، هذا.

لكنّ الإجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالباً مبنيّة على حدس الناقل أو اعتقاد الملازمة عقلاً، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أنّ نقل المسبّب كان مستنداً إلى الحسّ.

فلا بدّ في الإجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار

ص: 362

دلالة ألفاظها ولو بملاحظة حال الناقل، وخصوص موضع النقل، فيؤخذ بذاك المقدار ويعامل معه كأ نّه المحصّل؛ فإن كان بمقدار تمام السبب، وإلاّ فلا يجدي ما لم يضمّ إليه ممّا حصّله، أو نقل له من سائر الأقوال، أو سائر الأمارات ما به تمّ، فافهم.

فتلخّص بما ذكرنا أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد من جهة حكايته رأي الإمام عليه السلام بالتضمّن أو الالتزام كخبر الواحد في الاعتبار - إذا كان من نقل إليه ممّن يرى الملازمة بين رأيه عليه السلام وما نقله من الأقوال بنحو الجملة والإجمال - وتعمّه أدلّة اعتباره، وينقسم بأقسامه، ويشاركه في أحكامه، وإلاّ لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية.

وأمّا من جهة نقل السبب، فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال التي نقلت إليه على الإجمال بألفاظ نقل الإجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل؛ فلو ضمّ إليه ممّا حصّله أو نقل له من أقوال السائرين أو سائر الأمارات، مقدار كان المجموع منه وما نقل بلفظ الإجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصّل، ويكون حاله كما إذا كان كلّه منقولاً؛ ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به تمامه، أو ما له دخل فيه وبه قوامه، كما يشهد به حجّيته بلا ريب في تعيين حال السائل وخصوصية القضيّة الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك ممّا له دخل في تعيين مرامه عليه السلام من كلامه.

ص: 363

وينبغي التنبيه على اُمور:

الأوّل: أ نّه قد مرّ أنّ مبنى دعوى الإجماع غالباً هو اعتقاد الملازمة

عقلاً لقاعدة اللطف، وهي باطلة، أو اتّفاقاً بحدس رأيه عليه السلام من فتوى جماعة، وهي غالباً غير مسلّمة.

وأمّا كون المبنى العلم بدخول الإمام بشخصه في الجماعة، أو العلم برأيه للاطّلاع بما يلازمه عادةً من الفتاوى فقليل جدّاً في الإجماعات المتداولة في ألسنة الأصحاب، كما لا يخفى، بل لا يكاد يتّفق العلم بدخوله عليه السلام على نحو الإجمال في الجماعة في زمان الغيبة وإن احتمل تشرّف بعض الأوحدي بخدمته ومعرفته أحياناً.

فلا يكاد يجدي نقل الإجماع إلاّ من باب نقل السبب بالمقدار الذي اُحرز من لفظه بما اكتنف به من حال أو مقال، ويعامل معه معاملة المحصّل.

الثاني: أ نّه لا يخفى: أنّ الإجماعات المنقولة إذا تعارض اثنان منها أو أكثر، فلا يكون التعارض إلاّ بحسب المسبّب. وأمّا بحسب السبب فلا تعارض في البين؛ لاحتمال صدق الكلّ. لكن نقل الفتاوى على الإجمال بلفظ الإجماع حينئذٍ لا يصلح لأن يكون سبباً ولا جزء سبب؛ لثبوت الخلاف فيها، إلاّ إذا كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه عليه السلام لو اطّلع عليها ولو مع

ص: 364

اطّلاعه على الخلاف؛ وهو وإن لم يكن مع الاطّلاع على الفتاوى على اختلافها مفصّلاً ببعيد إلاّ أ نّه مع عدم الاطّلاع عليها كذلك إلاّ مجملاً بعيد، فافهم.

الثالث: أ نّه ينقدح ممّا ذكرنا في نقل الإجماع حال نقل التواتر، وأ نّه من حيث المسبّب لا بدّ في اعتباره من كون الإخبار به إخباراً على الإجمال بمقدار يوجب قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به، ومن حيث السبب يثبت به كلّ مقدار كان إخباره بالتواتر دالاًّ عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل. فربما لا يكون إلاّ دون حدّ التواتر، فلا بدّ في معاملته معه معاملته، من لحوق مقدار آخر من الأخبار يبلغ المجموع ذاك الحد، نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - ولو عند المخبر - لوجب ترتيبه عليه ولو لم يدلّ على ما بحدّ التواتر من المقدار.

فصل : في حجيّة الشهرة الفتوائية

ممّا قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى(19) ولا يساعده دليل.

وتوهّم دلالة أدلّة حجّية خبر الواحد عليه بالفحوى؛ لكون الظنّ الذي تفيده أقوى ممّا يفيده الخبر، فيه ما لا يخفى؛ ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته للظنّ، غايته تنقيح ذلك بالظنّ، وهو لا يوجب إلاّ

ص: 365

الظنّ بأ نّها أولى بالاعتبار، ولا اعتبار به؛ مع أنّ دعوى القطع بأ نّه ليس بمناط غير مجازفة.

وأضعف منه توهّم دلالة المشهورة والمقبولة عليه؛ لوضوح أنّ المراد بالموصول في قوله في الاُولى: «خذ بما اشتهر بين أصحابك»، وفي الثانية: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المُجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به» هو الرواية، لا ما يعمّ الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى.

نعم، بناءً على حجّية الخبر ببناء العقلاء لا يبعد دعوى عدم اختصاص بنائهم على حجّيته، بل على حجّية كلّ أمارة مفيدة للظنّ، أو الاطمئنان، لكن دون إثبات ذلك خرط القتاد.

فصل : في حجّية خبر الواحد

المشهور بين الأصحاب حجّية خبر الواحد في الجملة بالخصوص.

ولا يخفى أنّ هذه المسألة من أهمّ المسائل الاُصولية(20). وقد عرفت في أوّل الكتاب أنّ الملاك في الاُصولية صحّة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط ولو لم يكن البحث فيها عن الأدلّة الأربعة وإن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الاُصول هي الأدلّة.

وعليه لا يكاد يفيد في ذلك - أي كون هذه المسألة اُصولية - تجشّم

ص: 366

دعوى: أنّ البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل؛ ضرورة أنّ البحث في المسألة ليس عن دليلية الأدلّة، بل عن حجّية الخبر الحاكي عنها.

كما لا يكاد يفيد عليه تجشّم دعوى: أنّ مرجع هذه المسألة إلى أنّ السنّة - وهي قول الحجّة أو فعله أو تقريره - هل يثبت بخبر الواحد أو لا يثبت إلاّ بما يفيد القطع من التواتر أو القرينة؟ فإنّ التعبّد بثبوتها مع الشكّ فيها لدى الإخبار بها ليس من عوارضها، بل من عوارض مشكوكها، كما لا يخفى. مع أ نّه لازم لما يبحث عنه في المسألة من حجّية الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنّما هو الملاك في أ نّها من المباحث أو من غيره، لا ما هو لازمه، كما هو واضح.

وكيف كان: فالمحكيّ عن السيّد والقاضي وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس عدم حجّية الخبر.

واستدلّ لهم: بالآيات الناهية(21) عن اتّباع غير العلم.

والروايات الدالّة على ردّ ما لم يعلم أ نّه قولهم عليهم السلام أو لم يكن عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان، أو لم يكن موافقاً للقرآن، إليهم؛ أو على بطلان ما لا يصدّقه كتاب الله أو على أنّ ما لا يوافق كتاب الله زخرف، أو على النهي عن قبول حديث إلاّ ما وافق الكتاب أو السنّة . . . إلى غير ذلك.

ص: 367

والإجماع المحكيّ عن السيّد في مواضع من كلامه، بل حكي عنه أ نّه جعله بمنزلة القياس في كون تركه معروفاً من مذهب الشيعة.

والجواب: أمّا عن الآيات، فبأنّ الظاهر منها أو المتيقّن من إطلاقاتها، هو اتّباع غير العلم في الاُصول الاعتقادية لا ما يعمّ الفروع الشرعية، ولو سلّم عمومها لها فهي مخصّصة بالأدلّة الآتية على اعتبار الأخبار.

وأمّا عن الروايات، فبأنّ الاستدلال بها خالٍ عن السداد، فإنّها أخبار آحاد.

لا يقال: إنّها وإن لم تكن متواترة لفظاً ولا معنىً، إلاّ أ نّها متواترة إجمالاً، للعلم الإجمالي بصدور بعضها لا محالة.

فإنّه يقال: إنّها وإن كانت كذلك إلاّ أ نّها لا تفيد إلاّ فيما توافقت عليه، وهو غير مفيد في إثبات السلب كلّياً، كما هو محلّ الكلام، ومورد النقض والإبرام، وإنّما تفيد عدم حجّية الخبر المخالف للكتاب والسنّة؛ والالتزام به ليس بضائر، بل لا محيص عنه في مقام المعارضة.

وأمّا عن الإجماع فبأنّ المحصّل منه غير حاصل، والمنقول منه للاستدلال به غير قابل خصوصاً في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمّل، مع أ نّه معارض بمثله، وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.

وقد استدلّ للمشهور بالأدلّة الأربعة:

ص: 368

فصل : في الآيات التي استدلّ بها

في الآيات التي استدلّ بها

فمنها: آية النبأ(22)، قال الله تبارك وتعالى: )إِنْ جاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا . . .( .

ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه، أظهرها أ نّه من جهة مفهوم الشرط، وأنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن عن النبأ الذي جيء به على كون الجائي به الفاسق، يقتضي انتفاءه عند انتفائه.

ولا يخفى: أ نّه على هذا التقرير لا يرد أنّ الشرط في القضيّة لبيان تحقّق الموضوع، فلا مفهوم له أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع، فافهم.

نعم، لو كان الشرط هو نفس تحقّق النبأ ومجيء الفاسق به، كانت القضيّة الشرطية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع.

مع أ نّه يمكن أن يقال: إنّ القضيّة ولو كانت مسوقة لذلك؛ إلاّ أ نّها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبيّن في النبأ الذي جاء به الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبيّن عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبّر.

ولكنّه يشكل بأ نّه ليس لها هاهنا مفهوم ولو سلّم أنّ أمثالها ظاهرة في المفهوم؛ لأنّ التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم

ص: 369

والمنطوق يكون قرينةً على أ نّه ليس لها مفهوم.

ولا يخفى: أنّ الإشكال إنّما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، مع أنّ دعوى أ نّها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة.

ثمّ إنّه لو سلّم تمامية دلالة الآية على حجّية خبر العدل، ربما اُشكل شمول مثلها للروايات الحاكية لقول الإمام عليه السلام بواسطة أو وسائط، فإنّه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس إلاّ بمعنى وجوب ترتيب ما للمخبر به من الأثر الشرعي بلحاظ نفس هذا الوجوب فيما كان المخبر به خبر العدل، أو عدالة المخبر؛ لأ نّه وإن كان أثراً شرعياً لهما إلاّ أ نّه بنفس الحكم في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.

نعم، لو اُنشئ هذا الحكم ثانياً فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضاً؛ حيث إنّه صار أثراً بجعل آخر، فلا يلزم اتّحاد الحكم والموضوع، بخلاف ما إذا لم يكن هناك إلاّ جعل واحد، فتدبّر.

ويمكن الذبّ عن الإشكال بأ نّه إنّما يلزم إذا لم يكن القضيّة طبيعية والحكم فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل بلحاظ أفراده، وإلاّ فالحكم بوجوب التصديق يسري إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده بلا محذور لزوم اتّحاد الحكم والموضوع. هذا، مضافاً إلى القطع بتحقّق ما هو المناط في سائر

ص: 370

الآثار في هذا الأثر، أي وجوب التصديق بعد تحقّقه بهذا الخطاب وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظاً لأجل المحذور.

وإلى عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار في وجوب الترتيب لدى الإخبار بموضوع صار أثره الشرعي وجوب التصديق، وهو خبر العدل، ولو بنفس الحكم في الآية به، فافهم.

ولا يخفى أ نّه لا مجال بعد اندفاع الإشكال بذلك، للإشكال في خصوص الوسائط من الأخبار - كخبر الصفّار المحكيّ بخبر المفيد مثلاً - بأ نّه لا يكاد يكون خبراً تعبّداً إلاّ بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد؛ فكيف يكون هذا الحكم المحقِّق لخبر الصفّار تعبّداً مثلاً حكماً له أيضاً؟!

وذلك لأ نّه إذا كان خبر العدل ذا أثر شرعي حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل به، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر الحاكي للخبر نحو القضيّة الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له مناطاً وإن لم يشمله لفظاً، أو لعدم القول بالفصل، فتأمّل جيّداً.

ومنها: آية النفر(23)، قال الله تعالى: )فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ . . .(الآية.

وربما يستدلّ بها من وجوه.

ص: 371

أحدها: أنّ كلمة «لعلّ» وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناها الحقيقي، وهو الترجّي الإيقاعي الإنشائي، إلاّ أنّ الداعي إليه حيث يستحيل في حقّه تعالى أن يكون هو الترجّي الحقيقي كان هو محبوبية التحذّر عند الإنذار، إذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعاً لعدم الفصل، وعقلاً لوجوبه مع وجود ما يقتضيه وعدم حسنه بل عدم إمكانه بدونه.

ثانيها: أ نّه لمّا وجب الإنذار - لكونه غاية للنفر الواجب، كما هو قضيّة كلمة لولا التحضيضية - وجب التحذّر، وإلاّ لغا وجوبه.

ثالثها: أ نّه جعل غاية للإنذار الواجب، وغاية الواجب واجب.

ويشكل الوجه الأوّل بأنّ التحذّر لرجاء إدراك الواقع، وعدم الوقوع في محذور مخالفته من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة، حسن، وليس بواجب فيما لم يكن هناك حجّة على التكليف، ولم يثبت هاهنا عدم الفصل، غايته عدم القول بالفصل.

والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار فائدة الإنذار بإيجاب التحذّر تعبّداً؛ لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الإطلاق؛ ضرورة أنّ الآية مسوقة لبيان وجوب النفر، لا لبيان غايتية التحذّر؛ ولعلّ وجوبه كان مشروطاً بما إذا أفاد العلم ولو لم نقل بكونه مشروطاً به، فإنّ النفر إنّما يكون لأجل التفقّه وتعلّم معالم الدين ومعرفة ما جاء به سيّد المرسلين كي ينذروا بها المتخلّفين أو النافرين، على الوجهين في تفسير الآية، لكي يحذروا إذا

ص: 372

اُنذروا بها، وقضيّته إنّما هو وجوب الحذر عند إحراز أنّ الإنذار بها كما لا يخفى.

ثمّ إنّه أشكل أيضاً بأنّ الآية لو سلّم دلالتها على وجوب الحذر مطلقاً فلا دلالة لها على حجّية الخبر بما هو خبر، حيث إنّه ليس شأن الراوي إلاّ الإخبار بما تحمّله، لا التخويف والإنذار؛ وإنّما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد أو المقلّد.

قلت: لا يذهب عليك أ نّه ليس حال الرواة في الصدر الأوّل في نقل ما تحمّلوا من النبي والإمام، من الأحكام إلى الأنام إلاّ كحال نقلة الفتاوى إلى العوام؛ ولا شبهة في أ نّه يصحّ منهم التخويف في مقام الإبلاغ والإنذار والتحذير بالبلاغ، فكذا من الرواة، فالآية لو فرض دلالتها على حجّية نقل الراوي إذا كان مع التخويف، كان نقله حجّةً بدونه أيضاً، لعدم الفصل بينهما جزماً، فافهم.

ومنها: آية الكتمان:)إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا . . .( الآية.

وتقريب الاستدلال بها أنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلاً، للزوم لغويته بدونه.

ولا يخفى أ نّه لو سلّم هذه الملازمة لا مجال للإيراد على هذه الآية بما اُورد على آية النفر من دعوى الإهمال أو استظهار الاختصاص بما إذا أفاد العلم، فإنّها تنافيهما كما لا يخفى.

ص: 373

لكنّها ممنوعة، فإنّ اللغوية غير لازمة، لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبّداً، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لأجل وضوح الحقّ بسبب كثرة من أفشاه وبيّنه، لئلاّ يكون للنّاس على الله حجّة، بل كان له عليهم الحجّة البالغة.

ومنها: آية السؤال عن أهل الذكر: )فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(.

وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.

وفيه: أنّ الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم، لا للتعبّد بالجواب.

وقد اُورد عليها بأ نّه لو سلّم دلالتها على التعبّد بما أجاب أهل الذكر فلا دلالة لها على التعبّد بما يروي الراوي، فإنّه بما هو راوٍ لا يكون من أهل الذكر والعلم، فالمناسب إنّما هو الاستدلال بها على حجّية الفتوى لا الرواية.

وفيه: أنّ كثيراً من الرواة يصدق عليهم أ نّهم أهل الذكر والاطّلاع على رأي الإمام، كزرارة ومحمّد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال عنهم أ نّه السؤال عن أهل الذكر والعلم ولو كان السائل من أضرابهم؛ فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية وجب قبول روايتهم، ورواية غيرهم من العدول مطلقاً، لعدم الفصل جزماً في وجوب القبول بين

ص: 374

المبتدأ والمسبوق بالسؤال، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممّن لا يكون من أهل الذكر، وإنّما يروي ما سمعه أو رآه، فافهم.

ومنها: آية الاُذن: )وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤذُونَ النَّبِىَّ وَيقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤمِنُ بِالله وَيُؤمِنُ لِلْمُؤمِنِينَ(.

فإنّه تبارك وتعالى مدح نبيّه بأنّه يصدّق المؤمنين قرنه بتصديقه تعالى.

وفيه أوّلاً: أ نّه إنّما مدحه بأ نّه اُذن، وهو سريع القطع، لا الآخذ بقول الغير تعبّداً.

وثانياً: أ نّه إنّما المراد بتصديقه للمؤمنين هو ترتيب خصوص الآثار التي تنفعهم ولا تضرّ غيرهم، لا التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في باب حجّية الخبر، ويظهر ذلك من تصديقه للنّمام بأ نّه ما نمّه وتصديقه له تعالى بأ نّه نمّه، كما هو المراد من التصديق في قوله عليه السلام: «فصدّقه وكذّبهم» حيث قال - على ما في الخبر - : «يا أبا محمّد كذّب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة أ نّه قال قولاً وقال: لم أقله، فصدّقه وكذّبهم» فيكون مراده تصديقه بما ينفعه ولا يضرّهم، وتكذيبهم فيما يضرّه ولا ينفعهم، وإلاّ فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين! وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في قصّة إسماعيل، فتأمّل جيّداً.

ص: 375

فصل : في الأخبار التي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد

في الأخبار(24) التي دلّت على اعتبار أخبار الآحاد

وهي وإن كانت طوائف كثيرة، كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها، إلاّ أ نّه يشكل الاستدلال بها على حجّية أخبار الآحاد بأ نّها أخبار آحاد، فإنّها غير متّفقة على لفظ ولا على معنى فتكون متواترة لفظاً أو معنىً.

ولكنّه مندفع بأ نّها وإن كانت كذلك إلاّ أ نّها متواترة إجمالاً، ضرورة أ نّه يعلم إجمالاً بصدور بعضها منهم عليهم السلام، وقضيّته وإن كان حجّية خبر دلّ على حجّيته أخصّها مضموناً، إلاّ أ نّه يتعدّى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه الخصوصية وقد دلّ على حجّية ما كان أعمّ، فافهم.

فصل : في الإجماع على حجّية الخبر

في الإجماع على حجّية الخبر

وتقريره من وجوه:

أحدها: دعوى الإجماع من تتبّع فتاوى الأصحاب على الحجّية من زماننا إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه عليه السلام بذلك ويقطع به، أو من تتبّع الإجماعات المنقولة على الحجّية.

ص: 376

ولا يخفى مجازفة هذه الدعوى؛ لاختلاف الفتاوى فيما اُخذ في اعتباره من الخصوصيات، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه عليه السلام من تتبّعها؛ وهكذا حال تتبّع الإجماعات المنقولة؛ اللهمّ إلاّ أن يدّعى تواطؤها على الحجّية في الجملة، وإنّما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها، ولكن دون إثباته خرط القتاد.

ثانيها: دعوى اتّفاق العلماء عملاً بل كافّة المسلمين على العمل بخبر الواحد في اُمورهم الشرعية، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت ممّا يرد على الوجه الأوّل - أ نّه لو سلّم اتّفاقهم على ذلك لم يحرز أ نّهم اتّفقوا بما هم مسلمون ومتديّنون بهذا الدين أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الاُمور الدينية من الاُمور العادية، فيرجع إلى ثالث الوجوه، وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء(25) من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة، واستمرّت إلى زماننا ولم يردع عنه نبيّ ولا وصيّ نبيّ؛ ضرورة أ نّه لو كان لاشتهر وبان، ومن الواضح أ نّه يكشف عن رضأ الشارع به في الشرعيات أيضاً.

إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهية والروايات المانعة عن اتّباع غير العلم. وناهيك قوله تعالى: )وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( . وقوله

ص: 377

تعالى: )إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً(.

قلت: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك، فإنّه - مضافاً إلى أ نّها إنّما وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظنّ في اُصول الدين، ولو سلّم فإنّما المتيقّن، لولا أ نّه المنصرف إليه إطلاقها، هو خصوص الظنّ الذي لم يقم على اعتباره حجّة - لا يكاد يكون الردع بها إلاّ على وجه دائر، وذلك لأنّ الردع بها يتوقّف على عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو يتوقّف على الردع عنها بها، وإلاّ لكانت مخصّصة أو مقيّدة لها كما لا يخفى.

لا يقال: على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضاً إلاّ على وجه دائر، فإنّ اعتباره بها فعلاً يتوقّف على عدم الردع بها عنها، وهو يتوقّف على تخصيصها بها، وهو يتوقّف على عدم الردع بها عنها.

فإنّه يقال: إنّما يكفي في حجّيته بها عدم ثبوت الردع عنها؛ لعدم نهوض ما يصلح لردعها كما يكفي في تخصيصها لها ذلك كما لا يخفى؛ ضرورة أنّ ما جرت عليه السيرة المستمرّة في مقام الإطاعة والمعصية، وفي استحقاق العقوبة بالمخالفة، وعدم استحقاقها مع الموافقة ولو في صورة المخالفة عن الواقع، يكون عقلاً في الشرع متّبعاً ما لم ينهض دليل على المنع عن اتّباعه في الشرعيات، فافهم وتأمّل.

ص: 378

فصل : في الوجوه العقلية التي اُقيمت على حجّية الخبر الواحد

في الوجوه العقلية التي اُقيمت على حجّية الخبر الواحد

أحدها: أ نّه يعلم إجمالاً(26) بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمّة الأطهار بمقدار وافٍ بمعظم الفقه؛ بحيث لو علم تفصيلاً ذاك المقدار لانحلّ علمنا الإجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الأمارات إلى العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الأخبار الصادرة المعلومة تفصيلاً، والشكّ البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الأمارات الغير المعتبرة. ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الأخبار المثبتة، وجواز العمل على طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له من قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب، بناءً على جريانه في أطراف ما علم إجمالاً بانتقاض الحالة السابقة في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه، وإلاّ لاختصّ عدم جواز العمل على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.

وفيه: أ نّه لا يكاد ينهض على حجّية الخبر بحيث يقدّم تخصيصاً أو تقييداً أو ترجيحاً على غيره من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم وإن كان يسلّم عمّا اُورد عليه من أنّ لازمه الاحتياط في سائر الأمارات لا في خصوص الروايات؛ لما عرفت من انحلال العلم الإجمالي بينهما بما علم

ص: 379

بين الأخبار بالخصوص ولو بالإجمال، فتأمّل جيّداً.

ثانيها: ما ذكره في «الوافية» مستدلاًّ على حجّية الأخبار الموجودة في الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الأربعة، مع عمل جمع به من غير ردٍّ ظاهر. وهو: «أ نّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيّما بالاُصول الضرورية، كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعي بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الاُمور عن كونها هذه الاُمور عند ترك العمل بخبر الواحد. ومن أنكر فإنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان»، انتهى.

وأورد عليه أوّلاً: بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره، فاللازم حينئذٍ إمّا الاحتياط أو العمل بكلّ ما ظنّ صدوره ممّا دلّ على جزئية شيء أو شرطيته.

قلت: يمكن أن يقال: إنّ العلم الإجمالي وإن كان حاصلاً بين جميع الأخبار إلاّ أنّ العلم بوجود الأخبار الصادرة عنهم عليهم السلام بقدر الكفاية بين تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها يوجب انحلال ذاك العلم الإجمالي وصيرورة غيرها خارجةً عن طرف العلم، كما مرّت إليه الإشارة في تقريب الوجه الأوّل. اللهمّ إلاّ أن يمنع عن ذلك وادّعي عدم

ص: 380

الكفاية فيما علم بصدوره أو اعتباره، أو ادّعي العلم بصدور أخبار اُخر بين غيرها، فتأمّل.

وثانياً: بأنّ قضيّته إنّما هو العمل بالأخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية دون الأخبار النافية لهما.

والأولى أن يورد عليه بأنّ قضيّته إنّما هو الاحتياط بالأخبار المثبتة فيما لم تقم حجّة معتبرة على نفيهما من عموم دليل أو إطلاقه، لا الحجّية بحيث يخصّص أو يقيّد بالمثبت منها، أو يعمل بالنافي في قبال حجّة على الثبوت ولو كان أصلاً، كما لا يخفى.

ثالثها: ما أفاده بعض المحقّقين بما ملخّصه «أ نّا نعلم بكوننا مكلّفين بالرجوع إلى الكتاب والسنّة إلى يوم القيامة، فإن تمكّنّا من الرجوع إليهما على نحو يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلا بدّ من الرجوع إليهما كذلك، وإلاّ فلا محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظنّ به في الخروج عن عهدة هذا التكليف، فلو لم يتمكّن من القطع بالصدور أو الاعتبار فلا بدّ من التنزّل إلى الظنّ بأحدهما».

وفيه: أنّ قضيّة بقاء التكليف فعلاً بالرجوع إلى الأخبار الحاكية للسنّة - كما صرّح بأ نّها المراد منها في ذيل كلامه زيد في علوّ مقامه - إنّما هو الاقتصار في الرجوع إلى الأخبار المتيقّن الاعتبار، فإن وفى، وإلاّ اُضيف إليه الرجوع إلى ما هو المتيقّن اعتباره بالإضافة لو كان، وإلاّ

ص: 381

فالاحتياط بنحو عرفت، لا الرجوع إلى ما ظنّ اعتباره؛ وذلك للتمكّن من الرجوع علماً تفصيلاً أو إجمالاً، فلا وجه معه من الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظنّ اعتباره.

هذا، مع أنّ مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنّة بذاك المعنى فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.

وأمّا الإيراد عليه برجوعه: إمّا إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى العلم الإجمالي بتكاليف واقعية، وإمّا إلى الدليل الأوّل لو كان ملاكه دعوى العلم بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الأخبار.

ففيه: أنّ ملاكه إنّما هو دعوى العلم بالتكليف بالرجوع إلى الروايات في الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.

فصل : في الوجوه التي أقاموها على حجّية الظنّ

وهي أربعة.

الأوّل: أنّ في مخالفة المجتهد لما ظنّه(27) من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنّة للضرر ودفع الضرر المظنون لازم.

أمّا الصغرى فلأنّ الظنّ بوجوب شيء أو حرمته يلازم الظنّ بالعقوبة

ص: 382

على مخالفته، أو الظنّ بالمفسدة فيها، بناء على تبعية الأحكام للمصالح

المفاسد.

وأمّا الكبرى فلاستقلال العقل بدفع الضرر المظنون ولو لم نقل بالتحسين والتقبيح؛ لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما، بل يكون التزامه بدفع الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقلّ بالتحسين والتقبيح، مثل الالتزام بفعل ما استقلّ بحسنه إذا قيل باستقلاله، ولذا أطبق العقلاء عليه مع خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبّر جيّداً.

والصواب في الجواب هو منع الصغرى؛ أمّا العقوبة فلضرورة عدم الملازمة بين الظنّ بالتكليف والظنّ بالعقوبة على مخالفته؛ لعدم الملازمة بينه والعقوبة على مخالفته؛ وإنّما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها، لا بين مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها؛ ومجرّد الظنّ به بدون دليل على اعتباره لا يتنجّز به، كي يكون مخالفته عصيانه.

إلاّ أنّ يقال: إنّ العقل وإن لم يستقلّ بتنجّزه بمجرّده بحيث يحكم باستحقاق العقوبة على مخالفته إلاّ أ نّه لا يستقلّ أيضاً بعدم استحقاقها معه فيحتمل العقوبة حينئذٍ على المخالفة. ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك كالمظنون قريبة جدّاً، لا سيّما إذا كان هو العقوبة الاُخروية، كما لا يخفى.

ص: 383

وأمّا المفسدة فلأ نّها وإن كان الظنّ بالتكليف يوجب الظنّ بالوقوع فيها لو خالفه إلاّ أ نّها ليست بضرر على كلّ حال؛ ضرورة أنّ كلّ ما يوجب قبح الفعل من المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله، بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في الفعل بحيث يذمّ عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلاً كما لا يخفى.

وأمّا تفويت المصلحة فلا شبهة في أ نّه ليس فيه مضرّة، بل ربما يكون في استيفائها المضرّة كما في الإحسان بالمال.

هذا، مع منع كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهيّ عنها، بل إنّما هي تابعة لمصالح فيها، كما حقّقناه في بعض فوائدنا.

وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الأفعال واُنّيط بهما الأحكام بمضرّة، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه المصلحة من الأفعال - على القول باستقلاله بذلك - هو كونه ذا ضرر وارد على فاعله، أو نفع عائد إليه، ولعمري هذا أوضح من أن يخفى؛ فلا مجال لقاعدة دفع الضرر المظنون هاهنا أصلاً؛ ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال المفسدة، أو ترك ما فيه احتمال المصلحة، فافهم.

الثاني: أ نّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح، وهو قبيح.

ص: 384

وفيه: أ نّه لا يكاد يلزم منه ذلك إلاّ فيما إذا كان الأخذ بالظنّ أو بطرفه لازماً، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلاً، أو عدم وجوبه شرعاً، ليدور الأمر بين ترجيحه وترجيح طرفه، ولا يكاد يدور الأمر بينهما إلاّ بمقدّمات دليل الانسداد وإلاّ كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو غير هما على حسب اختلاف الأشخاص أو الأحوال في اختلال المقدّمات على ما ستطّلع على حقيقة الحال.

الثالث: ما عن السيّد الطباطبائي قدّس سرّه من أ نّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوماً وترك ما يحتمل الحرمة كذلك؛ ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كلّه؛ لأ نّه عسر أكيد وحرج شديد؛ فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج، العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات، لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعاً.

ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنّه بعض مقدّمات دليل الانسداد، ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدّماته، ومعه لا يكون دليل آخر بل ذاك الدليل.

الرابع: دليل الانسداد(28). وهو مؤلّف من مقدّمات يستقلّ العقل مع

ص: 385

تحقّقها بكفاية الإطاعة الظنّية حكومة، أو كشفاً على ما تعرف، ولا يكاد

يستقلّ بها بدونها، وهي خمس:

أوّلها: أ نّه يعلم إجمالاً بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.

ثانيها: أ نّه قد انسدّ علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها.

ثالثها: أ نّه لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرّض لامتثالها أصلاً.

رابعها: أ نّه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا، بل لا يجوز في الجملة، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة من استصحاب وتخيير وبراءة واحتياط، ولا إلى فتوى العالم بحكمها.

خامسها: أ نّه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحاً. فيستقلّ العقل حينئذٍ بلزوم الإطاعة الظنّية لتلك التكاليف المعلومة، وإلاّ لزم بعد انسداد باب العلم والعلمي بها إمّا إهمالها، وإمّا لزوم الاحتياط في أطرافها، وإمّا الرجوع إلى الأصل الجاري في كلّ مسألة مع قطع النظر عن العلم بها، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء بالإطاعة الشكّية أو الوهمية مع التمكّن من الظنّية.

والفرض بطلان كلّ واحد منها.

أمّا المقدّمة الاُولى: فهي وإن كانت بديهية إلاّ أ نّه قد عرفت انحلال العلم الإجمالي بما في الأخبار الصادرة عن الأئمّة الطاهرة التي تكون فيما بأيدينا من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلاّ في خصوص ما في الروايات، وهو غير مستلزم للعسر فضلاً عمّا يوجب

ص: 386

الاختلال، ولا إجماع على عدم وجوبه ولو سلّم الإجماع على عدم وجوبه

لو لم يكن هناك انحلال.

وأمّا المقدّمة الثانية: أمّا بالنسبة إلى العلم فهي بالنسبة إلى أمثال

زماننا بيّنة وجدانية، يعرف الانسداد كلّ من تعرّض للاستنباط والاجتهاد، وأمّا بالنسبة إلى العلمي فالظاهر أ نّها غير ثابتة، لما عرفت من نهوض الأدلّة على حجّية خبر يوثق بصدقه، وهو - بحمد الله - وافٍ بمعظم الفقه، لا سيّما بضميمة ما علم تفصيلاً منها كما لا يخفى.

وأمّا الثالثة: فهي قطعية ولو لم نقل بكون العلم الإجمالي منجّزاً مطلقاً، أو فيما جاز أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه كما في المقام حسب ما يأتي؛ وذلك لأنّ إهمال معظم الأحكام وعدم الاجتناب كثيراً عن الحرام ممّا يقطع بأ نّه مرغوب عنه شرعاً، وممّا يلزم تركه إجماعاً.

إن قلت: إذا لم يكن العلم بها منجّزاً لها للزوم الاقتحام في بعض الأطراف كما اُشير إليه، فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف حينئذٍ على تقدير المصادفة إلاّ عقاباً بلا بيان، والمؤاخذة عليها إلاّ مؤاخذة بلا برهان؟!

قلت: هذا إنّما يلزم لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط - وقد علم به بنحو اللمّ، حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط الموجب للزوم المراعاة ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات؛

ص: 387

مع صحّة دعوى الإجماع على عدم جواز الإهمال في هذا الحال وأ نّه مرغوب عنه شرعاً قطعاً - وأمّا مع استكشافه فلا تكون المؤاخذة والعقاب حينئذٍ بلا بيان وبلا برهان كما حقّقناه في البحث وغيره.

وأمّا المقدّمة الرابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التامّ بلا كلام فيما يوجب عسره اختلال النظام؛ وأمّا فيما لا يوجب فمحلّ نظر بل منع؛ لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط؛ وذلك لما حقّقناه في معنى ما دلّ على نفي الضرر والعسر من أنّ التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو الوضع المتعلّقين بما يعمّهما، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما، فلا يكون له حكومة على الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل لعدم العسر في متعلّق التكليف، إنّما هو في الجمع بين محتملاته احتياطاً.

نعم، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر - كما قيل - لكانت قاعدة نفيه محكّمة على قاعدة الاحتياط؛ لأنّ العسر حينئذٍ يكون من قبل التكاليف المجهولة، فتكون منفية بنفيه.

ولا يخفى: أ نّه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لا بدّ من دعوى وجوبه شرعاً، كما أشرنا إليه في بيان المقدّمة الثالثة، فافهم وتأمّل جيّداً.

ص: 388

وأمّا الرجوع إلى الاُصول، فبالنسبة إلى الاُصول المثبتة من احتياط أو استصحاب مثبت للتكليف، فلا مانع عن إجرائها عقلاً مع حكم العقل وعموم النقل؛ هذا ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي، لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض في كلّ منها بمقتضى «لا تنقض» لوجوبه في البعض، كما هو قضيّة «ولكن تنقضه بيقين آخر»؛ وذلك لأ نّه إنّما يلزم فيما إذا كان الشكّ في أطرافه فعلياً.

وأمّا إذا لم يكن كذلك، بل لم يكن الشكّ فعلاً إلاّ في بعض أطرافه، وكان بعض أطرافه الآخر غير ملتفت إليه فعلاً أصلاً، كما هو حال المجتهد في مقام استنباط الأحكام كما لا يخفى. فلا يكاد يلزم ذلك، فإنّ قضيّة «لا تنقض» ليس حينئذٍ إلاّ حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، وليس فيه علم بالانتقاض، كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، فافهم.

ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الاُصول النافية أيضاً، وأ نّه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها، لو لم يكن هناك مانع عقلاً أو شرعاً من إجرائها، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الاُصول المثبتة بضميمة ما علم تفصيلاً أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم إجمالاً، بل بمقدار لم يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب

ص: 389

الاحتياط وإن لم يكن بذاك المقدار، ومن الواضح أ نّه يختلف باختلاف

الأشخاص والأحوال.

وقد ظهر بذلك: أنّ العلم الإجمالي بالتكاليف ربما ينحلّ ببركة جريان الاُصول المثبتة وتلك الضميمة، فلا موجب حينئذٍ للاحتياط عقلاً ولا شرعاً أصلاً كما لا يخفى.

كما ظهر أ نّه لو لم ينحلّ بذلك كان خصوص موارد الاُصول النافية مطلقاً ولو من مظنونات عدم التكليف محلاًّ للاحتياط فعلاً - ويرفع اليد عنه فيها كلاًّ أو بعضاً بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر على ما عرفت - لا محتملات التكليف مطلقاً.

وأمّا الرجوع إلى فتوى العالم فلا يكاد يجوز، ضرورة أ نّه لا يجوز إلاّ للجاهل، لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدّعي انفتاح باب العلم أو العلمي، فهل يكون رجوعه إليه بنظره إلاّ من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل.

وأمّا المقدّمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها وأ نّه لا يجوز التنزّل بعد عدم التمكّن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها إلاّ إلى الإطاعة الظنّية دون الشكّية أو الوهمية، لبداهة مرجوحيتهما بالإضافة إليها، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

لكنّك عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية مع دوران الأمر بين الظنّية والشكّية أو الوهمية، من جهة ما أوردنا على المقدّمة

ص: 390

الاُولى من انحلال العلم الإجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة، وقضيّته

الاحتياط بالالتزام عملاً بما فيها من التكاليف، ولا بأس به، حيث لا يلزم منه عسر فضلاً عمّا يوجب اختلال النظام.

وما أوردنا على المقدّمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الاُصول مطلقاً ولو كانت نافية، لوجود المقتضي وفقد المانع عنه لو كان التكليف في موارد الاُصول المثبتة وما علم منه تفصيلاً أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالإجمال، وإلاّ فإلى الاُصول المثبتة وحدها. وحينئذٍ كان خصوص موارد الاُصول النافية محلاًّ لحكومة العقل وترجيح مظنونات التكليف منها على غيرها ولو بعد استكشاف وجوب الاحتياط في الجملة شرعاً بعد عدم وجوب الاحتياط التامّ شرعاً أو عقلاً على ما عرفت تفصيله. هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق، فافهم وتدبّر جيّداً.

فصل

هل قضيّة المقدّمات(29) على تقدير سلامتها هي حجّية الظنّ بالواقع أو بالطريق أو بهما؟ أقوال.

والتحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أنّ همّ العقل في كلّ حال إنّما هو تحصيل الأمن من تبعة التكاليف المعلومة من العقوبة على مخالفتها، كما لا شبهة في استقلاله في تعيين ما هو المؤمّن منها، وفي أنّ كلّ ما كان

ص: 391

القطع به مؤمّناً في حال الانفتاح كان الظنّ به مؤمّناً حال الانسداد جزماً، وأنّ المؤمّن في حال الانفتاح هو القطع بإتيان المكلّف به الواقعي بما هو كذلك - لا بما هو معلوم ومؤدّى الطريق ومتعلّق العلم وهو طريق شرعاً وعقلاً - أو بإتيانه الجعلي، وذلك لأنّ العقل قد استقلّ بأنّ الإتيان بالمكلّف به الحقيقي بما هو هو، لا بما هو مؤدّى الطريق، مبرئ للذمّة قطعاً.

كيف وقد عرفت أنّ القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يدّ الجعل إحداثاً وإمضاءً، إثباتاً ونفياً. ولا يخفى أنّ قضيّة ذلك هو التنزّل إلى الظنّ بكلّ واحد من الواقع والطريق.

ولا منشأ لتوهّم الاختصاص بالظنّ بالواقع إلاّ توهّم أ نّه قضيّة اختصاص المقدّمات بالفروع، لعدم انسداد باب العلم في الاُصول وعدم إلجاءٍ في التنزّل إلى الظنّ فيها، والغفلة عن أنّ جريانها في الفروع موجب لكفاية الظنّ بالطريق في مقام يحصل الأمن من عقوبة التكاليف وإن كان باب العلم في غالب الاُصول مفتوحاً، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك بين الظنّين.

كما أنّ منشأ توهّم الاختصاص بالظنّ بالطريق وجهان:

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول، وتبعه في الفصول. قال فيها: «إنّا كما نقطع بأ نّا مكلّفون في زماننا هذا تكليفاً فعلياً بأحكام فرعية كثيرة لا سبيل

ص: 392

لنا، بحكم العيان وشهادة الوجدان، إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق معيّن يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند تعذّره، كذلك نقطع بأنّ الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقاً مخصوصاً، وكلّفنا تكليفاً فعلياً بالعمل بمؤدّى طرق مخصوصة، وحيث إنّه لا سبيل غالباً إلى تعيينها بالقطع ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طريقه كذلك مقام القطع ولو بعد تعذّره، فلا ريب أنّ الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل إنّما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظنّ الفعلي الذي لا دليل على حجّيته، لأ نّه أقرب إلى العلم وإلى إصابة الواقع ممّا عداه».

وفيه: أوّلاً: - بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصّة باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية، وعدم وجود المتيقّن بينها أصلاً - أنّ قضيّة ذلك هو الاحتياط في أطراف هذه الطرق المعلومة بالإجمال، لا تعيينها بالظنّ.

لا يقال: الفرض هو عدم وجوب الاحتياط بل عدم جوازه.

لأنّ الفرض إنّما هو عدم وجوب الاحتياط التامّ في أطراف الأحكام ممّا يوجب العسر المخلّ بالنظام، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق، فإنّ قضيّة هذا الاحتياط هو جواز رفع اليدّ عنه في غير مواردها والرجوع إلى الأصل فيها ولو كان نافياً للتكليف. وكذا فيما إذا نهض الكلّ على نفيه. وكذا فيما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه نفياً وإثباتاً

ص: 393

مع ثبوت المرجّح للنافي، بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها، ومطلقاً في غيره بناءً على عدم ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الأخبار. وكذا لو تعارض اثنان منها في الوجوب والتحريم، فإنّ المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل الجاري فيها ولو كان نافياً، لعدم نهوض طريق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به على خلافه، فافهم. وكذا كلّ مورد لم يجر فيه الأصل المثبت، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه إجمالاً بسبب العلم به أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه بناءً على عدم جريانه بذلك.

وثانياً: لو سلّم أنّ قضيّته لزوم التنزّل إلى الظنّ، فتوهّم أنّ الوظيفة حينئذٍ هو خصوص الظنّ بالطريق فاسد قطعاً، وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة الواقع، من الظنّ بكونه مؤدّى طريق معتبر من دون الظنّ بحجّية طريق أصلاً، ومن الظنّ بالواقع كما لا يخفى.

لا يقال: إنّما لا يكون أقرب من الظنّ بالواقع إذا لم يصرف التكليف الفعلي عنه إلى مؤدّيات الطرق ولو بنحو التقييد.

فإنّ الالتزام به بعيد، إذ الصرف لو لم يكن تصويباً محالاً، فلا أقلّ من كونه مجمعاً على بطلانه، ضرورة أنّ القطع بالواقع يجدي في الإجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدّى طريق القطع كما عرفت.

ومن هنا انقدح أنّ التقييد أيضاً غير سديد، مع أنّ الالتزام بذلك

ص: 394

غير مفيد، فإنّ الظنّ بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفكّ

عن الظنّ بأ نّه مؤدّى طريق معتبر؛ والظنّ بالطريق ما لم يظنّ بإصابته الواقع غير مجد بناءً على التقييد، لعدم استلزامه الظنّ بالواقع المقيّد به بدونه.

هذا، مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد، غايته أنّ العلم الإجمالي بنصب طرق وافية، يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية، والانحلال وإن كان يوجب عدم تنجّز ما لم يؤدّ إليه الطريق من التكاليف الواقعية إلاّ أ نّه إذا كان رعاية العلم بالنصب لازماً، والفرض عدم اللزوم بل عدم الجواز، وعليه يكون التكاليف الواقعية كما إذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية الظنّ بها حال انسداد باب العلم كما لا يخفى.

ولا بدّ حينئذٍ من عناية اُخرى في لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الإطاعة وعدم إهمالها رأساً، كما أشرنا إليها. ولا شبهة في أنّ الظنّ بالواقع لو لم يكن أولى حينئذٍ - لكونه أقرب في التوسّل به إلى ما به الاهتمام من فعل الواجب وترك الحرام - من الظنّ بالطريق، فلا أقلّ من كونه مساوياً فيما يهمّ العقل من تحصيل الأمن من العقوبة في كلّ حال؛ هذا، مع ما عرفت من أ نّه عادةً يلازم الظنّ بأ نّه مؤدّى طريق، وهو بلا شبهة يكفي ولو

ص: 395

لم يكن هناك ظنّ بالطريق، فافهم فإنّه دقيق.

ثانيهما: ما اختصّ به بعض المحقّقين. قال: «لا ريب في كوننا مكلّفين بالأحكام الشرعية ولم يسقط عنّا التكليف بالأحكام الشرعية، وأنّ الواجب علينا أوّلاً هو تحصيل العلم بتفريغ الذمّة في حكم المكلّف، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمّتنا عمّا كلّفنا به وسقوط تكليفنا عنّا، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أو لا، حسبما مرّ تفصيل القول فيه، فحينئذٍ نقول: إن صحّ لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمّتنا في حكم الشارع فلا إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسدّ علينا سبيل العلم كان الواجب علينا تحصيل الظنّ بالبراءة في حكمه، إذ هو الأقرب إلى العلم به، فيتعيّن الأخذ به عند التنزّل من العلم في حكم العقل - بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء التكليف - دون ما يحصل معه الظنّ بأداء الواقع كما يدّعيه القائل بأصالة حجّية الظنّ»، انتهى موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

وفيه أوّلاً: أنّ الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمّة بالإطاعة والامتثال إنّما هو العقل، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي يتبعه حكم العقل، ولو حكم في هذا الباب كان بتبع حكمه إرشاداً إليه، وقد عرفت استقلاله بكون الواقع بما هو هو مفرّغاً، وأنّ القطع به حقيقةً أو تعبّداً مؤمّن جزماً، وأنّ المؤمّن في حال الانسداد هو الظنّ بما كان القطع به

ص: 396

مؤمّناً حال الانفتاح، فيكون الظنّ بالواقع أيضاً مؤمّناً حال الانسداد.

وثانياً: سلّمنا ذلك، لكن حكمه بتفريغ الذمّة فيما إذا أتى المكلّف بمؤدّى الطريق المنصوب ليس إلاّ بدعوى أنّ النصب يستلزمه، مع أنّ دعوى أنّ التكليف بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى به، أولى كما لا يخفى، فيكون الظنّ به ظنّاً بالحكم بالتفريغ أيضاً.

إن قلت: كيف يستلزمه الظنّ بالواقع مع أ نّه ربما يقطع بعدم حكمه به معه، كما إذا كان من القياس، وهذا بخلاف الظنّ بالطريق، فإنّه يستلزمه ولو كان من القياس.

قلت: الظنّ بالواقع أيضاً يستلزم الظنّ بحكمه بالتفريغ ولا ينافي القطع بعدم حجّيته لدى الشارع وعدم كون المكلّف معذوراً إذا عمل به فيهما فيما أخطأ، بل كان مستحقّاً للعقاب - ولو فيما أصاب - لو بني على حجّيته والاقتصار عليه لتجرّيه، فافهم.

وثالثاً: سلّمنا أنّ الظنّ بالواقع لا يستلزم الظنّ به، لكن قضيّته ليس إلاّ التنزّل إلى الظنّ بأ نّه مؤدّى طريق معتبر، لا خصوص الظنّ بالطريق، وقد عرفت أنّ الظنّ بالواقع لا يكاد ينفكّ عن الظنّ بأ نّه مؤدّى الطريق غالباً.

ص: 397

ص: 398

الفهارس العامّة

اشارة

1 - الآيات الكريمة

2 - الأحاديث الشريفة

3 - أسماء المعصومين علیهم السلام

4 - الأعلام

5 - الكتب الواردة في المتن

6 - مصادر التحقيق

7 - الموضوعات

ص: 399

ص: 400

1 - فهرس الآيات الكريمة

الآية

رقمها الصفحة

البقرة (2)

)أَحَلَّ الله( 275

255

آل عمران (3)

)يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ

خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ( 30

23

النساء (4)

)فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ( 3

163

)وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذلِكُمْ( 24

163

المائدة (5)

)أَوْفُوا بِالْعُقُودِ( 1

255

)الله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ( 67

196

ص: 401

الآية

رقمها الصفحة

التوبة (9)

)وَمَاكَانَ المُؤمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً( 122

248

)فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ( 122

249

)لِيُنْذِرُوا( 122

248

يونس (10)

)إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً( 36

218

الإسراء (17)

)وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ( 36

218، 220، 235

الكهف (18)

)فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثَارِهِمْ

إِنْ لَمْ يُؤمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً( 6

248

)وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً( 49

23

الحجّ (22)

)مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( 78

306، 310، 317

النور (24)

)وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ

مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ( 32

163

ص: 402

الآية

رقمها الصفحة

)كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً( 39

42

النمل (27)

)وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَ نْفُسُهُمْ

ظُلْماً وَعُلُوّاً( 14

106

الحجرات (49)

)إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا( 6

161، 226، 233

الإنسان (76)

)إِنَّا خَلَقنَا الاْءِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ( 2

48

)وَمَاتَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ الله( 30

29

الزلزلة (99)

)فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ *

وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ( 7 - 8

23

ص: 403

ص: 404

2 - فهرس الأحاديث الشريفة

إذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس 160

اسكتوا عمّا سكت الله 130

أشهد أ نّك كنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة 50

أنّ الله لمّا خلق العقل استنطقه... 33

بك اُثيب، وبك اُعاقب 33

تنقضه بيقين آخر 300

الخمر حرام؛ لأ نّه مسكر 209

رجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم 183

رفع... ما اضطرّوا إليه 311

رفع... ما لا يعلمون 111، 169

السعيد سعيد... 54

السعيد سعيد في بطن اُمّه، والشقيّ شقيّ في بطن اُمّه 46، 53

عليك بالأسدي 160

العمري ثقتي 160

العمري ثقة، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول 220

فاسمع له وأطع؛ فإنّه الثقة المأمون 160

فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه 209

ص: 405

فشككت فليس بشيء 83

فشكّك ليس بشيء، إنّما الشكّ إذا كنت في شيء لم تَجُزه 83

في الإسلام 306، 309

قد ركع 165

قد ركعت 82، 88

كلّ شيء... حلال 169

كلّ شيء حلال حتّى تعرف الحرام بعينه 124

كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أ نّه قذر 18، 154

كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف الحرام بعينه 154

كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أ نّه قذر 152

لا تجتمع اُمّتي على الضلالة 201

لا تعاد الصلاة... 62

لا تنقض اليقين بالشكّ 123، 125، 243، 244،246، 300

لا شكّ لكثير الشكّ 83

لا ينقض اليقين بالشكّ 76، 80

لكنّه ينقض الشكّ باليقين 80

لكنّه ينقض الشكّ باليقين ويتمّ على اليقين، فيبني عليه 80

ممّا لا ريب فيه 209

الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة 46، 53

وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبداً بالشكّ 77

وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا 160

وكلّ شيء لك حلال 152

ص: 406

ولكن تنقضه بيقين آخر 123، 299، 300

ولكن تنقضه بيقين مثله 123

ويتمّ على اليقين... 80

هو حين يتوضّأ أذكر 83

ينظر إلى ما كان من روايتهم

عنّا في ذلك الذي حكما به 208

ص: 407

ص: 408

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام

سيّد المرسلين، سيّدالأنام، النبي=محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

رسول الله، محمّد صلی الله علیه و آله وسلم =محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام

محمّد بن عبدالله صلی الله علیه و آله وسلم ، نبي الإسلام 1، 107، 196، 201،

202، 205، 223، 224،

238، 248، 249، 251،

288، 289، 321، 351،

370،

أميرالمؤمنين علیه السلام =علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل

علي بن أبي طالب علیه السلام ، الإمام الأوّل 196

فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) 196

الحسن علیه السلام =الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الثاني

الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الثاني 196

الحسين علیه السلام =الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث

الحسين بن علي علیه السلام ، الإمام الثالث 49، 196

أبو عبدالله علیه السلام =جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس

جعفر بن محمّد علیه السلام ، الإمام السادس 82، 194

ص: 409

أبو الحسن علیه السلام =علي بن محمّد علیه السلام ، الإمام العاشر

علي بن محمّد علیه السلام ، الإمام العاشر 252

العسكري علیه السلام =الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الحادي عشر

الحسن بن علي علیه السلام ، الإمام الحادي عشر 241

الخليل=إبراهيم، النبي

إبراهيم، النبي 119

ص: 410

4 - فهرس الأعلام

الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

17، 34، 45، 66، 109،

121، 122، 164، 178،

179، 181، 185، 189،

212، 236، 237، 252،

254، 290، 298، 304،

310، 311، 312، 313،

316، 321

ابن الحاجب، عثمان بن عمر 201

ابن بابويه، محمّد بن علي 205، 208، 240، 241،

243، 244، 246

ابن زهرة، حمزة بن علي 202

ابن سينا، الحسين بن عبدالله 145

أبو بصير 160، 252

أبو بكر=عبدالله بن أبي قحافة

أبو ذرّ 196

أحمد بن إسحاق 252

الأصفهاني، محمّد تقي 265

الأصفهاني، محمّد حسين 7

ص: 411

الأصفهاني، محمّد حسين بن عبد الرحيم 318، 319

الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين 7، 8، 84، 112، 123،

124، 128، 129، 138،

149، 151، 158، 181،

185، 212، 232، 234،

239، 278، 282، 312،

318

بعض أعاظم الفلسفة=صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم

بعض أعاظم المحدّثين=المجلسي، محمّد باقر بن محمّد تقي

بعض أكابر فنّ المعقول=صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم

بعض الأعاظم=النائيني، محمّد حسين

بعض أعاظم العصر=النائيني، محمّد حسين

بعض مشايخ العصر=النائيني، محمّد حسين

بعض محقّقي العصر=النائيني، محمّد حسين

بعض محقّقي العصر=الأصفهاني، محمّد حسين

بعض المحقّقين=العراقي، ضياء الدين

الحائري، عبدالكريم 7، 34، 107، 129، 130،

172، 178، 238، 242

252، 319

الحاجبي=ابن الحاجب، عثمان بن عمر

حمّاد بن عثمان 82، 88

الحميري، عبدالله بن جعفر 252

الحميري، محمّد بن عبدالله 252

الخراساني=الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

ص: 412

الداماد، ميرمحمّد=الميرداماد، محمّد باقر بن محمّد

زرارة 77، 80، 160، 252

الساباطي، عمّار بن موسى 196

سلمان 196

السيّد الشيرازي=الميرزا الشيرازي، محمّد حسن بن المحمود

السيّد المرتضى، علم الهدى=علم الهدى، علي بن الحسين

الشيخ، أبو جعفر الطوسي=الطوسي، محمّد بن الحسن

الشيخ الأعظم=الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ الأنصاري=الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

الشيخ رئيس الصناعة=ابن سينا، الحسين بن عبدالله

شيخنا العلاّمة=الحائري، عبدالكريم

الشيخ=الأنصاري، مرتضى بن محمّد أمين

صاحب الحاشية (هداية المسترشدين)=الأصفهاني، محمّد تقي

صاحب الكفاية (كفاية الاُصول)=الآخوند الخراساني، محمّد كاظم بن الحسين

صاحب الفصول الغروية=الأصفهاني، محمّد حسين بن عبدالرحيم

صاحب فصل الخطاب=النوري، الحسين بن محمّدتقي

صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم 30، 31، 227

صدر المتألّهين=صدر الدين الشيرازي، محمّد بن إبراهيم

الصدوق=ابن بابويه، محمّد بن علي

الصفّار 241، 242، 243

الطوسي، محمّد بن الحسن 202، 205، 207، 208،

210، 239، 240، 241،

242، 244، 246

عبدالله بن أبي قحافة 202

ص: 413

العراقي، ضياء الدين 225

العلاّمة الحائري=الحائري، عبدالكريم

علم الهدى، علي بن الحسين 199، 208، 235، 236،

237، 238

عمّار=الساباطي، عمّار بن موسى

عمر بن حنظلة 208

العمري، عثمان بن سعيد 160، 220، 252، 253

الغزالي، محمّد بن محمّد 201، 202

الفاضل المقداد، المقداد بن عبدالله 196

الفاضل المقرّر=الكاظمي، محمّد علي

الفخر الرازي، محمّد بن عمر 57، 201، 202

الفشاركي، محمّد باقر بن محمّد جعفر 129، 172

القمّي=الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن

الكاظمي، محمّد علي 100، 115، 135، 139،

141، 189، 244، 245،

282، 286، 297

الكليني، محمّد بن يعقوب 205، 243، 252

المجلسي، محمّد باقر بن محمّد تقي 104

محمّد بن مسلم 252

محمّد بن يحيى العطّار 252

محمّد بن يحيى=محمّد بن يحيى العطّار

المحمّدين الثلاثة (الكليني، محمّد بن يعقوب / ابن بابويه، محمّد بن علي /

الطوسي، محمّد بن الحسن) 195

معاوية بن وهب 81

ص: 414

المفيد، محمّد بن محمّد 208، 240، 242، 244،

246

المقداد=الفاضل المقداد، المقداد بن عبدالله

الميرداماد، محمّد باقر بن محمّد 29، 30

الميرزا الشيرازي، محمّد حسن بن المحمود 138، 144

الميرزا القمّي، أبو القاسم بن محمّد حسن 191، 193

النائيني، محمّد حسين 7، 15، 17، 18، 24، 57،

59، 60، 68، 72، 75،

84، 86، 87، 88، 97،

111، 112، 114، 115،

122، 124، 128، 134،

138، 140، 144، 146،

148، 149، 151، 158،

165، 167، 179، 181،

186، 189، 204، 210،

212، 219، 227، 230،

231، 233، 235، 240،

247، 253، 255، 258،

272، 273، 286، 290،

291، 297، 301، 303،

310، 313، 314، 316،

321

النورى، الحسين بن محمّدتقي 195

الوليد بن عقبة 227، 228، 229، 234

ص: 415

ص: 416

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن

القرآن الكريم 44، 194، 196، 224

تعليقة المحقّق الخراساني على الفرائد=درر الفوائد في الحاشية على الفرائد

تقريرات بحث المحقّق النائيني=فوائد الاُصول

تفسير آلاء الرحمن 195

فوائد الاُصول 7،15، 17، 18، 24، 57،

59، 60، 72، 75، 84،

87، 88، 97، 111، 112،

114، 117، 122، 124،

125، 134، 135، 138،

140، 142، 143، 146،

149، 158، 179، 181،

184، 186، 204، 210،

212، 219، 227، 230،

240، 253، 255، 258،

273، 291، 301، 303،

310، 313، 314، 321

الحاشية=هداية المسترشدين

ص: 417

درر الفوائد في الحاشية على الفرائد 17، 68، 313

درر الفوائد للمحقّق الحائري 238، 319

رسالة لا ضرر للمحقّق النائيني 315

الصحاح 232

الغنية=غنية النزوع

غنية النزوع 202، 203

فصل الخطاب 195

الفصول الغروية 318، 319

فقه الرضا علیه السلام =الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام

الفقه المنسوب للإمام الرضا علیه السلام 208

الفوائد=فوائد الاُصول للمحقّق الخراساني

فوائد الاُصول للمحقّق الخراساني 40، 45

القاموس المحيط 232

الكفاية=كفاية الاُصول

كفاية الاُصول 1، 17، 40، 45، 52، 68، 304، 313، 321

المبسوط 208

المجمع=مجمع البحرين

مجمع البحرين 232

المراسم 208

المستدرك=مستدرك الوسائل

مستدرك الوسائل 195

من لا يحضره الفقيه 208

هداية المسترشدين 265

ص: 418

6 - فهرس مصادر التحقيق

«القرآن الكريم».

«أ»

1 - آلاء الرحمن في تفسير القرآن. الشيخ محمّد جواد البلاغي (1282 - 1352)، تحقيق مؤسّسة البعثة، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مؤسّسة البعثة مركز الطباعة والنشر، 1420 ق.

2 - الاجتهاد والتقليد، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

3 - أجود التقريرات (تقريرات المحقّق النائيني). السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1317 - 1413)، تحقيق مؤسّسة صاحب الأمر(عج)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مطبعة ستارة، 1419 ق.

4 - الاحتجاج. أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ( القرن السادس)، تحقيق إبراهيم البهادري ومحمّد هادي به، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، منشورات اُسوة، 1413 ق.

5 - اختيار معرفة الرجال (رجال الكشّي). أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تصحيح حسن المصطفوي، جامعة مشهد، 1348 ش.

6 - الأربعون حديثاً. أبو الفضل محمّد بن الشيخ حسين الجبعي العاملي المعروف ب«الشيخ

ص: 419

البهائي» (953 - 1031)، تحقيق مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسسة

النشر الإسلامي، 1415 ق.

7 - إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين. جمال الدين مقداد بن عبدالله السيوري الحلّي (م 826)، تحقيق السيّد مهديّ الرجائي، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

8 - الاستصحاب، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

9 - الإشارات والتنبيهات، مع الشرح للمحقّق نصير الدين الطوسي وشرح الشرح للعلاّمة قطب الدين الرازي. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370 - 427)، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، طهران، دفتر نشر كتاب، 1403 ق.

«ب»

10 - بحار الأنوار الجامعة لدُرر أخبار الأئمّة الأطهار. العلاّمة محمّد باقر بن محمّدتقي المجلسي (1037 - 1110)، الطبعة الثانية، إعداد عدّة من العلماء، 110 مجلدٍ (إلاّ 6 مجلّدات، من المجلّد 29 - 34) + المدخل، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1403 ق / 1983 م.

«ت»

11 - التبيان في تفسير القرآن. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العاملي، بيروت، 10 مجلّدات، دار إحياء التراث العربي.

12 - التحصيل. بهمنيار بن المرزبان (م 458)، تعليق وتصحيح استاد شهيد مرتضى مطهرى، چاپ دوم، تهران، مؤسّسه انتشارات دانشگاه تهران، 1375 ش.

13 - التعريفات. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني، الطبعة الرابعة، طهران، انتشارات ناصر خسرو، 1370 ش.

14 - تقريرات آية الله المجدّد الشيرازي. المولى علي الروزدري (م 1290)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، قم، مطبعة مهر، 1409 ق.

15 - التوحيد. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، الشيخ الصدوق (م

ص: 420

381)، تحقيق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1398 ق.

16 - تهذيب الأحكام. أبو جعفر محمّد بن الحسن، الشيخ الطوسي (385 - 460)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 10 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ش.

والطبع الحجري منه مجلّدان، الطبعة الاُولى، طهران، مكتبة الفراهاني، 1363 ش.

17 - تهذيب الاُصول (تقريرات الإمام الخميني قدّس سرّه ). الشيخ جعفر السبحاني التبريزي، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1424 ق.

«ج»

18 - جامع أحاديث الشيعة، الذي اُ لّف تحت إشراف آية الله العظمى الحاج آقا حسين الطباطبائي البروجردي. (1291 - 1380)، الشيخ إسماعيل المعزّي الملايري، الطبعة الثانيه، 26 مجلّداً، مطبعة مهر، 1413 ق / 1371 ش.

«ح»

19 - الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، الطبعة الثانية، 9 مجلّدات، قم، مكتبة المصطفوي.

«خ»

20 - الخصال. أبوجعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، تصحيح علي أكبر الغفّاري، الطبعة الثانية، جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1403 ق.

21 - الخلاف. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق جماعة من المحقّقين، الطبعة الاُولى، 6 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1407 ق.

«د»

22 - درر الفوائد. العلاّمة الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي، تعليق آية الله الشيخ

ص: 421

محمّد علي الأراكي والمؤلّف، تحقيق الشيخ محمّد المؤمن القمّي، الطبعة الخامسة،

جزءان في مجلّد واحد، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1408 ق.

23 - درر الفوائد في الحاشية على الفرائد. الآخوند محمّد كاظم الهروي الخراساني (1255 - 1329)، تحقيق السيّد مهديّ شمس الدين، الطبعة الاُولى، طهران، مؤسّسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، 1410 ق / 1990 م.

24 - الدُرر النجفيّة. يوسف بن أحمد البحراني (1107 - 1186)، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث.

«ذ»

25 - الذريعة إلى اُصول الشريعة. أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 - 436)، تحقيق أبو القاسم گرجي، مجلّدان، الطبعة الاُولى، طهران، مؤسّسه انتشارات و چاپ دانشگاه طهران، 1363 ش.

«ر»

26 - رسائل الشريف المرتضى. أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي المعروف بالشريف المرتضى وعلم الهدى (355 - 436)، إعداد السيّد مهديّ الرجائي، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، دار القرآن الكريم، 1405 - 1410 ق.

«س»

27 - سنن ابن ماجة. أبو عبدالله محمّد بن يزيد بن ماجة القزويني (207 - 275)، تحقيق محمّد فؤاد عبدالباقي، مجلّدان، بيروت، دار الكتب العلمية.

«ش»

28 - شرح العضدي على مختصر ابن الحاجب. القاضي عبد الرحمان بن أحمد بن عبد الغفّار، تصحيح أحمد رامز الشهير بشهري المدرّس بدار الخلافة، إسلامبول، مطبعة العالم، 1307 ق.

29 - شرح المطالع. قطب الدين محمّد بن محمّد الرازي (م 766)، قم، انتشارات الكتبي.

ص: 422

30 - شرح المقاصد. مسعود بن عمر بن عبدالله المعروف ب- «سعد الدين التفتازاني» (712 - 793)، تحقيق عبدالرحمان عميرة، الطبعة الاُولى، 5 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1370 - 1371 ش.

31 - شرح المنظومة. المولى هادي بن مهديّ السبزواري (1212 - 1289)، تصحيح وتعليق وتحقيق حسن حسن زاده الآملي ومسعود الطالبي، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، طهران، نشر ناب، 1369 - 1379 ش.

32 - شرح المواقف. السيّد الشريف علي بن محمّد الجرجاني(م 812)، تصحيح السيّد محمّد بدرالدين النسعاني، الطبعة الاُولى، 8 أجزاء في 4 مجلّدات، قم، منشورات الشريف الرضيّ، 1412 ق / 1370 ش، «بالاُفست عن طبعة مصر، 1325».

33 - شرح چهل حديث (أربعين حديث)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

34 - الشفاء. الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبدالله بن سينا (370-427)، تحقيق عدّة من الأساتذه، 10 مجلّداً (الإلهيات + المنطق 4 مجلّدات + الطبيعيات 3 مجلّدات + الرياضيات مجلّدان)، قم، مكتبة آية الله المرعشي، 1405 ق.

35 - شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام. المولى عبدالرزّاق بن علي بن الحسين اللاهيجي الفيّاض (م 1051)، تصحيح أكبر أسد عليزاده، الطبعة الاُولى، 5 مجلّدات، قم، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1425 - 1430 ق.

«ص»

36 - الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية). إسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393)، تحقيق أحمد عبدالغفور عطّار، الطبعة الرابعة، 6 مجلّدات، بيروت، دار العلم للملايين، 1407 ق / 1987 م.

37 - صحيح البخاري. أبو عبدالله محمّد بن إسماعيل البخاري الجعفي (م 256)، تحقيق وشرح الشيخ قاسم الشمّاعي الرفاعي، الطبعة الاُولى، 9 أجزاء في 4 مجلّدات، بيروت، دار القلم، 1407 ق / 1987 م.

ص: 423

«ط»

38 - الطلب والإرادة، ضمن «موسوعة الإمام الخميني».=موسوعة الإمام الخميني.

«ع»

39 - العدّة في اُصول الفقه. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القمّي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مطبعة ستارة، 1417 ق.

40 - العقد الفريد. أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي (م 328)، تحقيق محمّد عبدالقادر شاهين، الطبعة الثانية، 8 مجلّدات، بيروت، المكتبة العصرية، 1420 ق / 1999 م.

41 - علم اليقين في اُصول الدين. محمّد محسن الملقّب بالفيض الكاشاني (م 1091)، مجلّدان، قم، انتشارات بيدار، 1358 ش / 1400 ق.

«غ»

42 - غنية النزوع إلى علمي الاُصول والفروع. أبو المكارم السيّد حمزة بن علي بن زهرة الحلبي المعروف بابن زهرة (511 - 585)، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مؤسّسة الإمام الصادق علیه السلام ، 1417 ق.

43 - الغيبة. الشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (385 - 460)، تحقيق الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ على أحمد ناصح، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، 1411 ق.

«ف»

44 - فرائد الاُصول، ضمن «تراث الشيخ الأعظم» ج 24 - 27. الشيخ الأعظم مرتضى بن محمّد أمين الأنصاري (1214 - 1281)، إعداد لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1419 ق / 1377 ش.

45 - الفصول الغروية في الاُصول الفقهية. محمّد حسين بن عبدالرحيم الطهراني الأصفهاني الحائري (م 1250)، قم، دار إحياء العلوم الإسلامية، 1404 ق. «بالاُفست عن الطبعة الحجرية».

ص: 424

46 - الفقيه (من لا يحضره الفقيه). أبو جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، إعداد السيّد حسن الموسوي الخرسان، الطبعة الرابعة، 4 مجلّدات، النجف الأشرف، دار الكتب الإسلامية، 1377 ق / 1957 م.

47 - فوائد الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تصحيح السيّد مهديّ شمس الدين، الطبعة الاُولى، طهران، مؤسّسة الطبع والنشر، وزارة الإرشاد الإسلامي، 1407 ق.

48 - فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني (1309 - 1365)، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1404 ق.

49 - الفوائد الطوسية. المحدّث الأكبر محمّد حسن الحرّ العاملي (1033 - 1104)، تعليق السيّد مهديّ اللاجوردي والشيخ محمّد درودي، قم، المطبعة العلمية، 1403 ق.

«ق»

50 - القاموس المحيط والقابوس الوسيط. أبو طاهر مجد الدين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (729 - 817)، 4 مجلّدات، بيروت، دار الجيل.

51 - القبسات. السيّد محمّد باقر بن شمس الدين محمّد الحسيني الأسترآبادي المعروف ب «الميرداماد» (م 1041)، تحقيق الدكتور مهديّ المحقّق، الطبعة الثانية، طهران، انتشارات و چاپ دانشگاه طهران، 1374 ش.

52 - قوانين الاُصول. المحقّق ميرزا أبو القاسم القمّي بن المولى محمّد حسين الجيلاني المعروف بالميرزا القمّي (1151 - 1231)، مجلّدان، الطبعة الحجرية، المجلّد الأوّل، طهران، المكتبة العلمية الإسلامية، 1378، والمجلّد الثاني، طهران، المستنسخة سنة 1310 ق.

«ك»

53 - الكافي. ثقة الإسلام أبو جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي (م 329)،

ص: 425

تحقيق علي أكبر الغفّاري، الطبعة الخامسة، 8 مجلّدات، طهران، دار الكتب الإسلامية،

1363 ش.

54 - كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد. العلاّمة الحلّي جمال الدين الحسن بن يوسف ابن المطهّر، تحقيق الشيخ حسن حسن زاده الآملي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1414 ق.

55 - كفاية الاُصول. الآخوند الخراساني المولى محمّد كاظم بن حسين الهروي (1255 - 1329)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي.

56 - كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال. علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (888 - 975)، إعداد بكري حيّاني وصفوة السقا، الطبعة الثالثة، 16 مجلّداً + الفهرس، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1409 ق / 1989 م.

«گ»

57 - گلشن راز. شيخ محمود شبسترى (687 - 740) تحقيق دكتر صمد موحد، چاپ اول، طهران، انتشارات طهورى، 1368 ش.

«ل»

58 - لمحات الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي)، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه .

«م»

59 - المباحث المشرقية. الإمام فخر الدين محمّد بن عمر الرازي (م606)، الطبعة الثانية، قم، مكتبة بيدار، 1411 ق.

60 - مجمع البحرين ومطلع النيّرين. فخر الدين الطريحي (972 - 1085)، الطبعة الاُولى، 6 مجلّدات، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1985 م.

61 - مجمع البيان في تفسير القرآن. أبو علي أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (حوالي 470 - 548)، تحقيق وتصحيح السيّد هاشم الرسولي المحلاّتي والسيّد

ص: 426

فضل الله اليزدي الطباطبائي، الطبعة الاُولى، 10 أجزاء في 5 مجلّدات، بيروت،

دار المعرفة للطباعة والنشر.

62 - المحصول في علم اُصول الفقه. فخرالدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازي (م 606)، تحقيق عادل أحمد عبدالموجود و علي محمّد معوض، الطبعة الثانية، 4 مجلّدات، بيروت، المكتبة العصرية، 1420 ق / 1999 م.

63 - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول. العلاّمة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي (1037 - 1110)، تصحيح السيّد هاشم الرسولي والسيّد جعفر الحسيني والشيخ علي الآخوندي، الطبعة الثانية، 26 مجلّداً، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1363 ش.

64 - مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل. الحاج الميرزا حسين المحدّث النوري الطبرسي (1254 - 1320)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 25 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1407 ق.

65 - المستصفى من علم الاُصول. أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي (م 505)، الطبعة الثانية، مجلّدان، قم، انتشارات دار الذخائر، 1368 ش.

66 - المسند. أحمد بن محمّد بن حنبل (164 - 241)، إعداد أحمد محمّد شاكر وحمزة أحمد الزين، الطبعة الاُولى، 20 مجلّداً، القاهرة، دار الحديث، 1416 ق.

67 - المشاعر. صدر المتأ لّهين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (م 1050)، با ترجمه فارسى بديع الملك ميرزا عماد الدولة و ترجمه و مقدمه و تعليقات فرانسوى از هنرى كربين، چاپ دوم، طهران، كتابخانه طهورى، 1363 ش.

68 - مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد. أبو جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسي (385 - 460)، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، الطبعة الاُولى، بيروت، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، 1418 ق / 1998 م.

69 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير. أحمد بن محمّد بن علي المقري الفيّومي (م770)، الطبعة الاُولى، جزءان في مجلّد واحد، قم، دار الهجرة، 1405 ق.

ص: 427

70 - مطارح الأنظار (تقريرات الشيخ الأعظم الأنصاري). الميرزا أبو القاسم الكلانتري (1236 - 1292)، تحقيق مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1425 ق.

71 - معارج الاُصول. المحقّق الحلّي جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهُذلي (602 - 676)، إعداد محمّد حسين الرضوي، الطبعة الاُولى، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام ، 1403 ق.

72 - معالم الدين وملاذ المجتهدين «قسم الاُصول». أبو منصور جمال الدين الحسن بن زين الدين العاملي (959 - 1011)، تحقيق لجنة التحقيق، الطبعة الحادي عشر، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1416 ق.

73 - المعتمد في اُصول الفقه. أبو الحسين محمّد بن علي بن الطيّب البصري المعتزلي (م 436 ق / 1044 م)، الطبعة الاُولى، مجلّدان، بيروت، دار الكتب العلمية، 1403 ق.

74 - مقالات الاُصول. الشيخ ضياء الدين العراقي (1278 - 1361)، تحقيق الشيخ محسن العراقي والسيّد منذر الحكيم والشيخ مجتبى المحمودي، الطبعة الاُولى، مجلّدان، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1414 - 1420 ق.

75 - المقنع. أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (311 - 381)، تحقيق لجنة التحقيق التابعة لمؤسّسة الإمام الهادي علیه السلام ، قم، مؤسّسة

الإمام الهادي علیه السلام ، 1415 ق.

76 - مناهج الوصول إلى علم الاُصول، ضمن «موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ».=موسوعة

الإمام الخميني قدّس سرّه .

77 - منية الطالب في شرح المكاسب (تقريرات المحقّق النائيني). الشيخ موسى بن محمّد النجفي الخوانساري (1254 - 1363)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1424 ق.

ص: 428

78 - موسوعة الإمام الخميني قدّس سرّه ، تحقيق مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، الطبعة الاُولى،، قم، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني قدّس سرّه ، 1434 ق / 1392 ش.

«ن»

79 - نهاية الاُصول (تقريرات المحقّق البروجردي). الشيخ حسينعلي المنتظري، الطبعة الاُولى، قم، نشر تفكّر، 1415 ق.

80 - نهاية الأفكار (تقريرات المحقّق آغا ضياء الدين العراقي). الشيخ محمّد تقي البروجردي النجفي (م 1391)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 4 أجزاء في 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1405 ق.

81 - نهاية الدراية في شرح الكفاية. الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1296 - 1361)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 4 مجلّدات، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1414 ق.

«و»

82 - وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة. الشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي (1033 - 1104)، تحقيق مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الاُولى، 30 مجلّداً، قم، مؤسّسة آل البيت علیهم السلام لإحياء التراث، 1409 ق.

والطبعة الحجرية منه، 3 مجلّدات، طهران، دار الطباعة، 1293 ق.

«ه-»

83 - هداية الأبرار إلى طريق أئمّة الأطهار. الشيخ حسين بن شهاب الدين الكركي (م 1076)، تصحيح رؤوف جمال الدين، الطبعة الاُولى، بغداد، 1396 ق.

84 - هداية المسترشدين في شرح اُصول معالم الدين. الشيخ محمّد تقي الرازي النجفي الأصفهاني (م 1248)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الاُولى، 3 مجلّدات، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، 1420 - 1421 ق.

ص: 429

ص: 430

7 - فهرس الموضوعات

مقدّمة التحقيق ··· ه-

المقصد السادس

في الأمارات المعتبرة عقلاً أو شرعاً

الكلام في القطع

المقدّمة ··· 5

وجه أشبهية مسائل القطع بالكلام ··· 5

وجه تعميم متعلّق القطع وما يرد عليه ··· 6

جواب اعتذار بعض مشايخ العصر رحمه الله علیه عن تثليث الأقسام ··· 7

بيان أحكام القطع وأقسامه يستدعى رسم اُمور:

الأمر الأوّل: في وجه عدم جعل الحجّية للقطع ··· 9

إشكال على مراتب الحكم ··· 10

الأمر الثاني: في التجرّي ··· 12

فهاهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في أنّ مسألة التجرّي ليست اُصولية ··· 12

في الإيراد على القائلين بكون التجرّي من المسائل الاُصولية ··· 15

ص: 431

المبحث الثاني: في عدم حرمة الفعل المتجرّى به ··· 16

نقل مقال لتوضيح حال ··· 18

المبحث الثالث: في قبح التجرّي وتحقيق الحال فيه ··· 22

في نقل كلام بعض مشايخ العصر ووجوه النظر فيه ··· 24

في اختيارية الإرادة وعدمها ··· 29

في الإشكال على اختيارية الإرادة ··· 29

كلام المحقّق الداماد في دفع الإشكال ··· 29

إشكالات صدر المتأ لّهين على المحقّق الداماد وردّها ··· 30

الجواب عن أصل الإشكال ··· 31

تتمّة: في نقل أجوبة اُخر للأعلام عن الإشكال والجواب عنها ··· 34

معنى البعد والقرب والإيراد على المصنّف ··· 36

بيان حقيقة السعادة والشقاوة ··· 40

في تحقيق الذاتي الذي لا يعلّل ··· 40

في الإشكال على المحقّق الخراساني ··· 45

في سبب اختلاف أفراد الإنسان ··· 47

في أنّ السعادة قابلة للتغيير وكذا الشقاوة ··· 51

في معنى قوله: «السعيد سعيد...» و«الناس معادن» ··· 53

في أنّ للمعصية منشأين للعقوبة ··· 55

الأمر الثالث: في بيان أقسام القطع وأحكامها ··· 56

هاهنا مباحث:

المبحث الأوّل: في أقسام القطع ··· 56

في إمكان أخذ القطع تمام الموضوع على وجه الطريقية ··· 59

امتناع أخذ القطع بحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ··· 60

ص: 432

المبحث الثاني: في قيام الطرق والأمارات والاُصول بنفس أدلّتها مقام القطع ··· 66

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع ثبوتاً ··· 66

قيام الأمارات والاُصول مقام القطع إثباتاً ··· 69

قيام الأمارات مقام القطع بأقسامه ··· 69

قيام الاُصول مقام القطع بأقسامه ··· 72

في حال الاستصحاب وإثبات طريقيته ··· 73

في أنّ المستفاد من الكبرى المجعولة في الاستصحاب هو الطريقية ··· 76

إشكالات في تفصّيات ··· 78

في حال قاعدة الفراغ والتجاوز ··· 81

في وجه تقدّم القاعدة على الاستصحاب ··· 82

في الإيراد على القوم ··· 83

قيام الاستصحاب مقام القطع ··· 85

عدم قيام قاعدة الفراغ مقام القطع ··· 87

الأمر الرابع: في أخذ القطع والظنّ بحكم في موضوع مثله أو ضدّه ··· 89

في بيان عدم التضادّ بين الأحكام الخمسة ··· 89

رجع إلى بيان حال أخذ القطع في الموضوع ··· 93

تنبيه: في تفصيل المحقّق النائيني بين الظنّ المعتبر والغير المعتبر ··· 97

الأمر الخامس: في الموافقة الالتزامية ··· 103

وفيه مطالب:

الأوّل: في حال الموافقة الالتزامية في الاُصول والفروع ··· 103

الثاني: في كون الموافقة الالتزامية على طبق العلم بالأحكام كيفية وكمّية ··· 108

الثالث: جريان الاُصول العقلية أو الشرعية فيما إذا دار الأمر بين المحذورين ··· 110

الأمر السادس: في عدم تفاوت الآثار العقلية للقطع الطريقي ··· 114

ص: 433

مقالة المحقّق النائيني في تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ··· 114

الأمر السابع: في العلم الإجمالي ··· 120

العمدة فيه مقامان:

المقام الأوّل: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي ··· 120

وفيه مطالب:

المطلب الأوّل: في أنّ العلم طريق إلى متعلّقه ··· 120

المطلب الثاني: وجوب الموافقة القطعية عند العقل ··· 121

المطلب الثالث: عدم جريان الاُصول في أطراف العلم الإجمالي ··· 123

المقام الثاني: في سقوط التكليف بالعلم الإجمالي ··· 127

لابدّ من تقديم اُمور:

الأمر الأوّل: مقتضى الأصل في المقام ··· 127

نقل كلام العلاّمة الحائري ووجوه النظر فيه ··· 130

الأمر الثاني: تصرّف الشارع في كيفية الإطاعة ··· 134

الأمر الثالث: في مراتب الامتثال ··· 137

الكلام في الظنّ

القول في إمكان التعبّد بالظنّ ··· 145

المراد من «الإمكان» في عنوان البحث ··· 145

المحذورات المتوهّمة في التعبّد بالظنّ ··· 147

المحذور الأوّل: تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ··· 148

تنبيه: في الجواب عن الإشكال بالمصلحة السلوكية ··· 149

المحذور الثاني: محذور اجتماع المثلين والضدّين والنقيضين ··· 152

وجه الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية ··· 156

ص: 434

تنبيه: فيما ذكر الأعلام من الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ··· 158

تقريب المحقّق النائيني لوجه الجمع في الأمارات والاُصول ··· 158

ما أفاده المحقّق النائيني في الأمارات ··· 158

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول المحرزة ··· 165

ما أفاده المحقّق النائيني في الاُصول الغير المحرزة ··· 167

تقريب السيّد الفشاركي لوجه الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري ··· 172

القول: في وقوع التعبّد بالظنّ ··· 177

تأسيس الأصل فيما لا يعلم اعتباره ··· 177

البحث عن قبح التشريع وحرمته ··· 179

تتمّة: في جريان استصحاب عدم الحجّية عند الشكّ فيها ··· 185

فصل: في حجّية الظواهر ··· 191

فصل: في البحث عمّا يتعيّن به الظاهر ··· 198

حجّية قول اللغوي ··· 198

فصل: في حجّية الإجماع المنقول ··· 201

فصل: في حجّية الشهرة الفتوائية ··· 207

فصل: في حجّية خبر الواحد ··· 211

موضوع علم الاُصول هو الحجّة في الفقه ··· 211

أدلّة عدم حجّية خبر الواحد ··· 218

الاستدلال بالكتاب ··· 218

الاستدلال بالسنّة على عدم حجّية خبر الواحد ··· 223

أدلّة حجّية خبر الواحد ··· 225

الاستدلال بآية النبأ ··· 225

ص: 435

الإشكالات المختصّة بآية النبأ وأجوبتها ··· 229

الإشكالات الغير المختصّة بآية النبأ وأجوبتها ··· 234

الاستدلال بآية النفر ··· 247

الاستدلال بالأخبار على حجّية خبر الواحد ··· 251

الاستدلال بسيرة العقلاء على حجّية الخبر الواحد ··· 254

الاستدلال بالعقل على حجّية خبر الواحد ··· 257

الفرق بين الانسداد الكبير والصغير ··· 257

نقل كلام المحقّق النائيني في المقام ووجوه النظر فيه ··· 258

فصل: فيما استدلّ به على حجّية مطلق الظنّ ··· 272

نقد كلام المحقّق النائيني في المقام ··· 273

دليل الانسداد ··· 283

ترتيب مقدّمات الانسداد ··· 283

توضيح مقدّمات الانسداد ··· 286

بطلان العمل على طبق العلم التفصيلي أو الطرق ··· 286

بطلان إهمال الوقائع المشتبهة ··· 287

نقل كلام المحقّق النائيني ونقده ··· 291

بطلان الرجوع إلى فتوى الغير ··· 298

بطلان الرجوع إلى الاُصول الجارية في كلّ مسألة ··· 298

نقل كلام المحقّق الخراساني في المقام ووجوه النظر فيه ··· 298

بطلان الاحتياط في جميع الوقائع ··· 301

إشكالات المحقّق النائيني على المحقّق الخراساني ··· 310

مقتضى المقدّمات هي حجّية الظنّ بالواقع ··· 318

ص: 436

الفهارس العامّة

1 - فهرس الآيات الكريمة ··· 401

2 - فهرس الأحاديث الشريفة ··· 405

3 - فهرس أسماء المعصومين علیهم السلام ··· 409

4 - فهرس الأعلام ··· 411

5 - فهرس الكتب الواردة في المتن ··· 417

6 - فهرس مصادر التحقيق ··· 419

7 - فهرس الموضوعات ··· 431

ص: 437

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.