تقریب القرآن الی الاذهان المجلد 2

اشارة

سرشناسه : شیرازی، محمد

عنوان و نام پديدآور :تقریب القرآن الی الاذهان/ محمد شیرازی

مشخصات نشر : قم: ایمان، [ 13؟].

مشخصات ظاهری : 168 ص.

عنوان دیگر : تقریب القرآن الی الاذهان

موضوع : تفاسیر شیعه

موضوع : تفاسیر -- قرن 14

رده بندی کنگره : BP98/ح 46ت 704215 1300ی

رده بندی دیویی : 297/179

شماره کتابشناسی ملی : م 65-2176

[تتمة سورة المائدة]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 7

[سورة المائدة (5): آية 83]

وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)

[84] هذه الآية و طرفاها

وردت في قصة النجاشي ملك الحبشة، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أرسل جعفر بن أبي طالب عليه السّلام مع جماعة من المؤمنين إلى النجاشي فأكرمهم و أعزّ وفادتهم، ثم أنه بعث إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثلاثة من القسيسين فقال لهم: انظروا إلى كلامه و مصلاه. فلما وافوا المدينة دعاهم رسول اللّه إلى الإسلام و قرأ عليهم القرآن: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إلى قوله- سِحْرٌ مُبِينٌ «1»، فلما سمعوا ذلك من رسول اللّه بكوا و آمنوا و رجعوا إلى النجاشي و أخبروه خبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قرءوا عليه ما قرأ عليهم، فبكى النجاشي و بكى القسيسون و أسلم النجاشي و لم يظهر للحبشة إسلامه و خافهم على نفسه و خرج من بلاد الحبشة يريد النبي صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم فلما عبر البحر توفي، فنزلت هذه الآيات

: وَ إِذا سَمِعُوا أي هؤلاء النصارى ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ من القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي من البكاء مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ أي لمعرفتهم أن المتلوّ عليهم حق، فإن الإنسان إذا عرف الحق، رأى الخارج على خلافه، أو رأى اضطهاد أهله، بكى رقة على الحق أو القائم به يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بدينك و رسولك فَاكْتُبْنا أي سجلنا، سواء كان كتابة حقيقية أو لا مَعَ الشَّاهِدِينَ الذين شهدوا

______________________________

(1) المائدة: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 8

[سورة المائدة (5): الآيات 84 الى 87]

وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)

بالحق، و المراد بهم المسلمون هنا.

[85] وَ ما لَنا أي يقول هؤلاء النصارى: لأي عذر لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ إيمانا حقيقيا كإيمان المسلمين وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِ من القرآن و الإسلام وَ الحال أنّا نَطْمَعُ أي نرجو و نأمل أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا في الجنة مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ

[86] و قد حقق الله لهم الرجاء الذي رجوه فَأَثابَهُمُ اللَّهُ أي جازاهم و أعطاهم الثواب بِما قالُوا أي بسبب قولهم ذاك المنبثق عن عقيدتهم الراسخة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي بساتين تجري من تحت أشجارها و قصورها الأنهار خالِدِينَ فِيها أي لهم الخلود فلا انقضاء للنعيم و لا زوال لهم

وَ ذلِكَ الثواب جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون العقيدة و القول و العمل.

[87] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا كاليهود و سائر المسيحيين و المشركين وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يقبلوها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ الذين يلازمون النار، كما خلد أصحاب الجنة فيها.

[88] و في سياق ذكر الرهبان و هم يحرمون الطيبات على أنفسهم، يأتي النهي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 9

للمسلمين عن تحريم ما أحلّ الله، كما ينهى عن الإسراف و الاعتداء، فإن كلا الطرفين منهي عنه مذموم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي لا تجعلوها بمنزلة المحرمات فتجتنبوا عنها اجتنابكم عن المحرمات و لفظة «ما» موصولة، أي طيبات الأشياء التي أحلها الله لكم، و لعلّ الإتيان بها لإفادة العموم، إذ لو قال: «طيبات أحل الله لكم» كان المتبادر منه طيبات خاصة، و ليست إضافة طيبات إلى «ما» تفيد التقييد، بل هو من باب «قطيفة خز».

و قد نزلت هذه الآية في الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و بلال و عثمان ابن مظعون،

فأما علي عليه السّلام فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلا ما شاء الله، و أما بلال فإنه حلف أن لا يفطر بالنهار أبدا، و أما عثمان بن مظعون فإنه حلف أن لا ينكح أبدا- كل ذلك بقصد الامتناع عن شهوات الدنيا رجاء ثواب الله- فدخلت امرأة عثمان على عائشة و كانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لي أراك متعطلة؟ فقالت: و لمن أتزيّن، فو الله ما قربني زوجي منذ كذا و كذا فإنه قد ترهّب و لبس المسوح و زهد في الدنيا. فلما دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبرته عائشة، فخرج فنادى الصلاة جامعة، فاجتمع

الناس فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: ما بال أقوام يحرمون على أنفسهم الطيبات؟! إني أنام بالليل و أنكح و أفطر بالنهار فمن رغب عن سنتي فليس مني، فقام هؤلاء فقالوا: يا رسول اللّه فقد حلفنا على ذلك، فأنزل الله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ «1» «2»

، و لا يخفى أن مثل ذلك لا يضر مقام عصمة الإمام لأنه:

أولا: قيّد ب «إلا ما شاء الله».

______________________________

(1) البقرة: 226.

(2) وسائل الشيعة: ج 23 ص 243.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 10

[سورة المائدة (5): الآيات 88 الى 89]

وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

و ثانيا: أنه من قبيل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ «1»، و لعل السر في المقامين أن الأمر كان جائزا قبل النهي، و لفظة «لم» ليس للتقريع، بل للإرشاد و إعطاء الحكم.

وَ لا تَعْتَدُوا حتى تسرفوا في تناول الطيبات، أو تتعدوها إلى الخبائث إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ قد تقدم أن معنى «لا يحب» في هذه المقامات: أنه يكرههم و يبغضهم.

[89] وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي في حال كون الرزق حلالا- أي مباحا- طيبا، أي لا ضرر فيه و لا خبث وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ أي بالله مُؤْمِنُونَ فلا تخالفوا أوامره و لا ترتكبوا زواجره.

[90] لا

يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اليمين التي أجازها الله سبحانه هي التي تكون منعقدة و تترتب على حنثها الكفارة، أما اليمين اللفظية- التي تتداول على ألسنة الناس حيث يحلفون على كل صغيرة و كبيرة- و اليمين التي لم يعط الله الرخصة في متعلّقها كيمين تحريم الطيبات على النفس زهدا، فهي لغو من اليمين لا تترتب عليها كفارة، و لا يكون نقضها حنثا وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ عن قصد و تعمّد مع

______________________________

(1) التحريم: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 11

صلاحية المتعلّق للانعقاد، فقول الإنسان: «لا و الله» و «بلى و الله» لغو لم يقصد به عقد اليمين، كما يعقد العقد، بل هو من قبيل التأكيد كما أن عقده بدون صلاحية المتعلق لا يفيد شيئا. و قد سبق ذلك في سورة البقرة، لكن التكرار هنا فذلكة للحكم المتقدم و تمهيد للكفارة.

فَكَفَّارَتُهُ أي كفارة ما عقّدتم من الأيمان، و سميت الكفارة كفارة لأنها تكفّر الذنب و تستره، و إنما تجب الكفارة إذا حنث الإنسان مقتضى يمينه إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ جمع مسكين، و المراد به الفقير، يعطي كل واحد مدا من الطعام، و هو ما يقرب من ثلاثة أرباع الأوقية- بحقة كربلاء- أو ثلاثة أرباع الكيلو، أو يطعمهم إطعاما مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ فلا يجب في إطعامهم الحد الأعلى و هو الأرز مثلا، و لا يجوز الأدنى كإطعامهم بالدخنة مثلا أَوْ كِسْوَتُهُمْ أي يكسي كل واحد من العشرة بثوبين «المئزر و القميص» بأي جنس كان أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي عتق عبد أو أمة لوجه الله سبحانه، و إنما عبر عن الإنسان بالرقبة، لعلاقة الكل بالجزء فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أحد الأمور الثلاثة للكفارة فكفارته صيام ثَلاثَةِ

أَيَّامٍ متتابعات- كما ذكر الفقهاء- و ذلِكَ المتقدم من الأمور الثلاثة ثم الصيام كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ جمع يمين و هو الحلف إِذا حَلَفْتُمْ ثم حنثتم وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ فلا تحنثوها بل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 12

[سورة المائدة (5): الآيات 90 الى 91]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)

أوفوا بها كَذلِكَ البيان، أي مثل هذا البيان الذي بيّن به الكفارة، و حكم اللغو في اليمين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ واضحة لا لبس فيها و لا غموض لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله سبحانه حيث أرشدكم إلى مصالحكم.

[91] و بعد ذكر تحليل الطيبات يأتي بيان تحريم الخبائث يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ و هي كل ما أسكر سواء كان من العنب أو غيره وَ الْمَيْسِرُ هو القمار بجميع أنواعه وَ الْأَنْصابُ و هي الأصنام كانوا يذبحون لها الذبائح و يلطخونها بدمائها وَ الْأَزْلامُ قداح كانوا يستقسمون بها الذبيحة و ذلك نوع من أنواع القمار خصّص بالذكر لاشتهاره في زمن الجاهلية، و قد مر تفسير هذه الكلمات سابقا رِجْسٌ أي خبيث مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فإن الشيطان هو الذي أمر بتعاطيها، مقابل عمل الرحمن، بمعنى: هو الذي أمر به و عمله، فإن الشيطان هو الذي عمل هذه الأشياء إما حقيقة كما يظهر من بعض الأحاديث، و إما مجازا باعتبار وسوسته و إلقائه في قلوب الفاسقين فَاجْتَنِبُوهُ أي اجتنبوا تعاطي هذه الأشياء فلا تشربوا الخمر و لا تضربوا الميسر و لا تعبدوا الأصنام

و تستقسموا بالأزلام لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي كي تفوزوا بخير الدنيا و سعادة الآخرة.

[92] إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ بوسوسته و أمره بشرب الخمر و لعب الميسر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 13

أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ أيها المسلمون الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ و الفرق بينهما أن أصل التعدي من فعل الجوارح، و أصل البغضاء من فعل الجوانح فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ أي بالنسبة إليهما، فإن «في» تستعمل بمعنى «النسبة» كما قالوا في قولهم: «الواجبات الشرعية في الواجبات العقلية» أن «في» بمعنى النسبة، أي بالنسبة إلى الواجبات العقلية.

في المجمع: أن سعد بن أبي وقاص و رجلا من الأنصار كان مؤاخيا لسعد دعاه إلى طعام فأكلوا و شربوا نبيذا مسكرا فوقع بين الأنصاري و سعد مراء و مفاخرة فأخذ الأنصاري لحى جمل فضرب به سعدا ففزر أنفه. فأنزل الله ذلك فيهما «1».

أقول: إن إيقاع العداوة بواسطة الخمر ظاهر، إذ السكر الموجب لذهاب العقل يوجب كل شي ء، و إيقاعه بسبب القمار، من جهة الاختلاف بينهما فيمن له الغلب أولا و بغض المغلوب للغالب ثانيا.

وَ يَصُدَّكُمْ كل واحد من الخمر و الميسر عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إذ الإسكار يوجب عدم الالتفات إلى الله سبحانه، و القمار بإشغاله الحواس، منسي له اللّه تعالى وَ عَنِ الصَّلاةِ لما هو واضح مما تقدم فَهَلْ أَنْتُمْ أيها المسلمون مُنْتَهُونَ عنهما، فتتركونهما لهذه المضار، و صيغة الاستفهام بمعنى النهي كما هو واضح.

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 3 ص 411.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 14

[سورة المائدة (5): الآيات 92 الى 93]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ

آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

[93] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في الأوامر و النواهي، و من المعلوم أن طاعتهما واحدة، و إنما يذكر الله لأنه الأصل في الإطاعة، و يذكر الرسول لأنه المبلغ الذي بيّن الأمر و النهي وَ احْذَرُوا من مخالفتهما فإن ذلك موجب لخزي الدنيا و الآخرة فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن إطاعتهما فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فانتظروا العقوبة حيث قد بلّغكم الرسول فلم ينفعكم البلاغ و تجاوزتم الحد.

[94] و لما نزل تحريم الخمر و الميسر قال بعض الصحابة: يا رسول الله ما تقول في إخواننا الذين مضوا و هم يشربون الخمر و يأكلون الميسر- يريدون هل من إثم على الذين قتلوا أو ماتوا قبل التحريم، و هم يتعاطونهما؟- فنزلت هذه الآية لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم و حرج و عصيان فِيما طَعِمُوا سابقا قبل التحريم من الخمر و تعاطوا من الميسر و غلّب أحد اللفظين تخفيفا كما قال الشاعر: «علفتها تبنا و ماء باردا» إِذا مَا اتَّقَوْا «ما» زائدة، وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي إذا كان طعامهم مصاحبا للتقوى و الإيمان و العمل الصّالح، ثمّ إنّ الإنسان قد يكون مؤمنا و عاملا للصالحات لكنّه ليس متّقيا، أي ليس في نفسه حالة رادعة و ملكة الخوف من الله سبحانه، و لذا ذكر سبحانه التقوى في عداد الإيمان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 15

و العمل الصالح. ثمّ كرر سبحانه الجملة السابقة أي «اتّقوا و آمنوا و عملوا الصّالحات» بتعبير ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا بلا ذكر العمل الصالح و ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا

بلا ذكر الإيمان، و لا يخفى أن الإحسان هو عبارة عن العمل الصالح. و لعل الوجه في التكرار إفادة الدوام في الصفات الثلاثة، أي أن عدم الجناح مشروط «بالإيمان و التقوى و العمل الصالح» سابقا، «و بالإيمان و التقوى و العمل الصالح» مستمرا فيما بعد، و قد كررّ «التقوى» في الجملة الثانية لتأكيد أن كلّا من الإيمان و العمل الصالح لا ينفع بدون التقوى، و الذي يقرّب إرادة الدوام من الجملة الثانية دخول «ثمّ» فيها، فاستمرار التقوى مع الإيمان، و استمرار التقوى مع العمل الصالح، شرط في عدم الجناح.

و هنا سؤال: إن ظاهر الآية «اشتراط عدم الجناح بالطعام، بالإيمان و التقوى و العمل الصالح» و إذا فرضنا أن الطعام كان محللا- كما عرفت في شأن النزول، إذ كانت الخمر لم تحرم بعد- فما معنى هذا الشرط؟ فقد كان شرب الخمر- قبل تحريمها- مباحا حلالا للمسلم و الكافر، فأي معنى لتقييد التحليل بالإيمان؟

و الجواب: أن الشرط لا مفهوم له، فليس المعنى «الجناح إذا لم يؤمنوا» إذ الشرط كما يساق غالبا لبيان المفهوم، نحو «إن جاءك زيد فأكرمه» المفهوم منه «إن لم يجئك فلا تكرمه» يساق أحيانا لبيان تحقق الموضوع، نحو: «إن رزقت ولدا فاختنه» فإنه لا مفهوم له ب «إن لم ترزق ولدا فلا تختنه» إذ أن «لم يرزق ولدا» يكون من السالبة بانتفاء الموضوع، و إنما الجملة «إن رزقت» معناها: «يجب الختن للولد» ..

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 16

[سورة المائدة (5): آية 94]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)

و هنا كذلك، إذ الآية مسوقة لبيان

«أن المؤمنين الذين شربوا و هم متقون عاملون بالصالحات ليس عليهم جناح» في مقابل توهم الأصحاب أن عليهم الجناح، لا أنه سيق للمفهوم حتّى يقال بعدم استقامة مفهومه ... ثم إنه من المحتمل أن يكون في تناول الكفار للمباح حضر، كما دلّ الدليل أن في تناول المباح للنصّاب حضر، فمن شرب من نهر الفرات من أعداء الصديقة الطاهرة عليها السلام كان شربه محرما، و على هذا فللمفهوم مجال واسع في الآية.

وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في أمورهم، و كأنه حث على الإحسان و إن لم يكن المحسن من أهل الإيمان. و لا يخفى أن من طعم محرما و تذرّع لرفع الحد عنه بهذه الآية، فهو مخطئ إذ الآية تشترط في عدم الجناح الإيمان و التقوى و العمل الصالح، و من المعلوم أن التقوى و العمل الصالح يتنافيان مع عمل المحرم.

[95] و في سياق التحليل و التحريم، و تتميما لما تقدم في أول السورة من قوله سبحانه: «غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ» و قوله: «إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا» يأتي ذكر الصيد في حال الإحرام و كفارته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ من «بلا» بمعنى اختبر، يعني ليختبركم الله و يمتحنكم بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي ببعض الصيد المحرّم على المحرم تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ فيكون في طريقكم إلى الحج بعض أقسام الصيد سهل التناول حتى أن أحدكم لو مدّ يده لتمكن من أخذه، و لو شرع رمحه لتمكن من صيده، و بالأخص فراخ الطير و صغار الوحش و بيض الطير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 17

[سورة المائدة (5): آية 95]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ

ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)

المحرم، فقد ابتلي المؤمنين في عمرة الحديبية بكثرة الصيد في طريقهم إلى مكة و قد كان ذلك اختبارا من الله لهم، أيّهم يطيع فيتجنب و أيّهم يعصي فيصيد؟! و إنما كان ذلك الاختبار لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي بالسر و الخلوة، و بعيدا عن أعين الناس، و قد تقدّم سابقا أن اختبار الله ليس لأنه لا يعلم، و إنما لأجل أن يظهر معلومه، و يتم الحجة كما أن «ليعلم» يراد به «ظهور معلومه» فإن العلم حيث كان من الأمور ذات الإضافة صح أن يكون السبب له انكشاف المعلوم للعالم، و أن يكون وجود المعلوم في الخارج، و المراد بالغيب ما غاب عن الحواس، و هو إما بالنسبة إلى الله، أو بالنسبة إلى سائر الناس أي في حال عدم رؤيتكم لله سبحانه، أو عدم رؤية الناس لكم فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أي بعد النهي- المستفاد من الكلام- بأن صاد و خالف أوامر الله فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[96] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ أي في حال كونكم محرمين، و المراد بالصيد كل وحش أكل أم لم يؤكل إلّا ما استثني، و «حرم» جمع «محرم»، يقال: أحرم الرجل إذا دخل في الحرم أو في الإحرام، فالآية تدل على حرمة الصيد الحرمي، و الصيد الإحرامي، كما أن ذلك، عام للحج و العمرة وَ مَنْ قَتَلَهُ أي قتل الصيد مِنْكُمْ أيها المحرمون مُتَعَمِّداً و هذا

القيد لا مفهوم له، لأنه من مفهوم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 18

اللقب الذي ثبت عند العلماء عدم المفهوم له، فإن للخطأ أيضا كفارة، كما ثبت في السنة، و لعل فائدة القيد كونه الغالب الذي يتناوله الإنسان، بالإضافة إلى أنه يترتب على ما يأتي من قوله: «لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ» فَجَزاءٌ عليه كفارة مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ «من» بيان لجزاء، أن جزاءه أن يكفر بإحدى النعم الثلاث المشابهة لذلك الصيد المقتول.

فمثلا: الظبي شبيه بالشاة، و حمار الوحش و بقرته شبيهان بالبقرة، و النعامة شبيهة بالجزور يَحْكُمُ بِهِ أي بالمثل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي رجلان عادلان، فيحكمان أن الحيوان الفلاني الذي اصطيد هو مثل الحيوان الفلاني من الأنعام الثلاثة- الشاة و البقرة و الإبل- فكلما حكما بأنه مثل الصيد أخذ كفارة له.

و قد ورد في الأحاديث: أن المراد بذوي العدل هم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمام عليه السّلام «1» فما وجد من النصوص في مورد المماثلة وجب الحكم به، و ما لم يرد فالظاهر عدم المانع في التمسك بظاهر الآية من كفاية إخبار عادلين عارفين بالمماثلة، إن لم يوجد نص بالخلاف بالقيمة أو ما أشبه.

هَدْياً أي في حال كون الكفارة تهدى هديا بالِغَ الْكَعْبَةِ أي يذهب بها إلى صوب الكعبة فإن أصاب الصيد و هو محرم بالعمرة ذبح جزاءه بمكة و إن كان محرما بالحج ذبحه بمنى أَوْ يكون جزاء الصيد كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ فإذا لم يجد الأنعام أخذ بقيمتها الطعام

______________________________

(1) الكافي: ج 4 ص 397.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 19

[سورة المائدة (5): آية 96]

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ

الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

و تصدق به على المساكين أَوْ يكون جزاء الصيد عَدْلُ ذلِكَ أي معادل الإطعام صِياماً فلكل مدّين صوم يوم، و تفصيل هذه الأمور تطلب من الفقه في كتاب الحج.

و إنما شرعت الكفارة لِيَذُوقَ الصائد وَبالَ أي عقوبة أَمْرِهِ أي عمله و هو الاصطياد المنهي عنه عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من الصيد فمن صاد متعمدا و كفّر عفا سبحانه عن ذنبه وَ مَنْ عادَ إلى الصيد متعمدا مرة ثانية فلا كفارة عليه من عظم ذنبه، فإنه لا يغسل بالكفارة بل ينتقم اللَّهُ مِنْهُ في الآخرة انتقاما لهتكه حرمة الإحرام أو حرمة الحرم.

هذا ما فسّرت به الآية الكريمة في الأحاديث، و إن كان لا يبعد انصراف الآية الكريمة إلى «ما سلف» قبل التحريم و العفو باعتبار أنه غير جائز حتى عند الجاهليين، و ما أعيد بعد التحريم، فيكون العفو عما سلف من قبيل «الإسلام يجبّ عما قبله» و المراد بالانتقام الكفارة و العقاب وَ اللَّهُ عَزِيزٌ قادر غالب ذُو انْتِقامٍ ينتقم من كل من عصاه و خالفه.

[97] أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ و المراد من البحر الأعم من النهر، فإن العرب تسمي النهر بحرا، فإن صيده مباح في حال الإحرام، و لو في الحرم- لو صار فيه بحر، أو أتى بصيده إليه- هذا بالنسبة إلى صيده

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 20

[سورة المائدة (5): آية 97]

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (97)

وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ

الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ 97 جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ وَ أما بالنسبة إلى أكله ف طَعامُهُ أي طعام البحر، قد متعتم به مَتاعاً و المتاع ما يتمتع به الإنسان لَكُمْ أيها المحرمون وَ لِلسَّيَّارَةِ أي القوافل السيارة التي تسير كثيرا، فإن السمك يجفّف للسفر، و إنما خصص بالسفر مع أنه طعام للحضر أيضا، لكثرة انتفاع المسافر، إذ لا يمكن غالبا ذبح الأنعام في السفر، فينتفع المسافر بالسمك المجفف انتفاعا كثيرا وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ الأعم من الوحش و الطير ما دُمْتُمْ حُرُماً جمع «محرم»، أي ما دمتم في الإحرام و ما دمتم في الحرم- كما تقدم- يقال: رجل حرام، إذا كان محرما أو كان في الحرم وَ اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقابه، فلا ترتكبوا نواهيه الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ الحشر هو الجمع، أي يكون مصيركم و حشركم إليه، فيجازيكم بما اقترفتم من الذنوب و الآثام.

[98] و في سياق حكم الصيد في حال الإحرام، يأتي الكلام حول ما جعله سبحانه حراما من المكان و الزمان، ليهدي الناس في فترات معينة و أماكن معينة عن الخصام و الانتقام، الذي يكدّر الحياة البشريّة جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ سمّيت الكعبة «كعبة» لتربيعها و إنّما قيل للمربّع: كعبة لنتوء زواياه الأربع، مقابل المدوّر، و الكعب هو النتوء و الارتفاع الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على الكعبة، و إنّما جي ء بهذا العطف، لأنّه كانت لدى الجاهليين، كعبات متعدّدة و كانوا يحجّون إليها و يطوفون بها، فهدمها النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و سمّى البيت الحرام، لحرمته

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 21

و لأنّه يحرم فيه القتال و الصّيد و غيرها قِياماً لِلنَّاسِ

مفعول ثان ل «جعل» أي جعل الله الكعبة لقيام النّاس، بأن تقوم أمورهم، و تستقيم أحوالهم، اقتصاديّا و اجتماعيّا، و غيرهما، كما ذكر في فلسفة الحجّ «1».

وَ جعل الله الشَّهْرَ الْحَرامَ قياما للناس، فأشهر الحرم:

و هي ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب، تقوم أمور الناس و اجتماعهم، إذ تخفّف عن كواهلهم عب ء الحروب، و المخاصمات و تسبب الأمن و الهدوء، مما يروّج الاقتصاد، و يهيئ الجوّ الملائم للتفاهم و غيرها، فالبيت الحرام أمن في المكان، و الشهر الحرام أمن في الزمان، و قد جعل سبحانه الأمن متعديا إلى خارج هذه الحدود فجعل وَ الْهَدْيَ أي محترما لا يمس بسوء، و هو ما يهدى إلى الكعبة بإشعار أو تقليد وَ الْقَلائِدَ جمع قلادة أي ما تقلّدها- بعلاقة الحال و المحل- أي جعل القلائد محترمة لا تمس بسوء. و المراد بالقلائد إما الحيوان الذي يقلّد، أو الإنسان الذي يحرم فيقلد نفسه. قالوا: كان الرجل يقلّد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف.

و لا يقال: أن غير الهدي و القلائد أيضا محترم لأنه لا يجوز لأحد أن يتصرف في مال غيره أو بدن غيره فما معنى الاختصاص هنا؟

لأن الجواب ظاهر: فإن الهدي لا يجوز أن يمس، و إن جاز مسّه لو لا كونه هديا بسبب الاقتصاص و الإفلاس و نحوهما، كما أنه لا يجوز أن يتعدّى على المحرم بما يجوز التعدي عليه في غير حال الإحرام، فلا يجوز أخذ المحرم و حبسه و لو كان بحق- إذ الواجب إتمام العمرة

______________________________

(1) راجع كتاب «عبادات الإسلام» للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 22

[سورة المائدة (5): الآيات 98 الى 99]

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ

أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (99)

و الحج لله- فكما لا يجوز لنفسه الإبطال لا يجوز لغيره الإبطال.

ذلِكَ أي إنما جعل سبحانه هذه المحرمات لِتَعْلَمُوا أيها الناس أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنه عالم بأحوال الإنسان و ما يكتنفه من العداء و الشر و أنه يحتاج إلى هدوء و سكينة في المكان و في الزمان، و أن الناس يحتاجون إلى ما يقيم معاشهم و معادهم، و لذا جعل هذه المحرمات للاستراحة و الاستجمام، و لعل ذكر السماوات استطراد، فإنّ ما ذكر مرتبط بالأرض، لكن لو ذكرت وحدها لأوهم عدم علمه سبحانه بما في السماوات وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ من أحوال الإنسان و الحيوان و الأزمان و الأماكن و غيرها.

[99] و لمّا تقدّم بعض الأحكام عقّبه سبحانه بذكر الوعد و الوعيد اعْلَمُوا أيها النّاس أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه و خالفه وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و آمن و عمل صالحا، فإنّه يغفر ذنوبكم و يرحمكم بفضله و سعته.

[100] ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ أي أداء الرسالة و بيان الشريعة، أما القبول من الناس فليس من شأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يرتبط به وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ أي تظهرون من الأقوال و الأعمال وَ ما تَكْتُمُونَ من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 23

[سورة المائدة (5): الآيات 100 الى 101]

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ

تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)

النيات و الأعمال، فإنه لا يخفى عليه شي ء و يجازيكم بكل ذلك، فأحسنوا و لا تخالفوا.

[101] و لما بين سبحانه الحلال و الحرام ذكر أنهما لا يستويان، فلا يتناول أحد خبيثا مدعيا أنه لا فرق بين هذا و غيره، كما نرى اليوم كثيرا من الناس يتناولون المحرمات مدّعين عدم الفرق بينها و بين المحللات قُلْ يا رسول الله: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ المحرم وَ الطَّيِّبُ المحلل، فإنهما ليسا متساويين وَ لَوْ أَعْجَبَكَ أيها السامع كَثْرَةُ الْخَبِيثِ و زيادته على الطيب، كما نرى من أن أنواعا من الحيوان المحرم أكثر من المحلل، فإن كثرة الخبيث لا تسبب طيبه و لعل قوله «و لو» لدفع استبعاد بعض الناس: أنه كيف يمكن أن يكون هذا الشي ء الكثير حراما؟: فَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عصيانه و لا تخالفوه يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي كي تفوزوا بالثواب العاجل و الآجل.

[102] قلنا سابقا قد جرت عادة القرآن الحكيم، بعدم إطالة أمر واحد، فيمل السامع فهو إذا أراد الإطالة، ذكر في الأثناء ما يلطّف الجو، و يرفع الملل من السامع، ببيان حكم جديد منبّه، و هكذا أتت آية السؤال هنا في وسط الحرام و الحلال، بالإضافة إلى ارتباط الآية بالحج، حيث أنها وردت في باب السؤال عن الحج.

فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطب فقال: إن الله كتب عليكم الحج. فقام سراقة بن مالك فقال: في كل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 24

عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه حتى

عاد مرتين أو ثلاثا فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ويحك و ما يؤمنك أن أقول: نعم، و لو قلت: نعم، لوجبت، و لو وجبت ما استطعتم، و لو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم و إذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه «1». فنزلت

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ متصفة بأنها إِنْ تُبْدَ لَكُمْ أي تظهر لكم تَسُؤْكُمْ أي تسبب سوءا أو حزنا و صعوبة عليكم وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها أي عن تلك الأشياء حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي في فترة الوحي و وجود النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أظهركم تُبْدَ لَكُمْ لأن الوحي يأتي إليه بالجواب فيكون موجبا للصعوبة عليكم بتشريع أحكام جديدة أنتم في غنى عنها.

و هنا سؤال: كيف يمكن عدم السؤال إن كان من الأمور المرتبطة بالدين؟ و هل أن أحكام الله اعتباطيّة حتّى يشرّعها السؤال؟ أليس كلّ حكم تابع للمصلحة و المفسدة، و يبيّن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك لإيصال الناس إلى مصالحهم و مفاسدهم؟ و ما خصوصية «حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ» فإن الأئمة عليهم السّلام أيضا بتلك المثابة حيث أنهم يعلمون جميع الأحكام؟

و الجواب: أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح و المفاسد التي منها مصلحة التسهيل على المكلفين، فكثيرا ما لا يشرع حكم- كعدم وجوب السواك- لمصلحة التسهيل، و من المعلوم أن هذه المصلحة قد

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 25

عَفَا اللَّهُ عَنْها ترتفع إذا كان هناك لجاج و عناد و ظلم، كما قال سبحانه: فَبِظُلْمٍ

مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1»، و بهذا ظهر الجواب عن السؤال الثاني.

و أما السؤال الأول: فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا كان في مقام بيان جميع الأحكام، و ليست القضية شخصية، كابتلاء بإرث لا يعلم تقسيمه، أو زوجة لا يعرف حقها، أو ولد عاص لا يدري كيف يعاشره أو أشباه ذلك، لم يكن وجه للسؤال، لأنه تعنّت و إرهاق.

و أما السؤال الثالث: فلأن المصالح التشريعية قد كملت في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى أنه لا تشريع جديد بعده، و لذا فلم يكن الأئمة عليهم السّلام بمثابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في إمكان تشريع الحكم، و إن كان من الممكن التشريع لو حدث في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شي ء، و هذه المصلحة و هي انسداد باب التشريع حتى لا يكون لأحد ذلك- بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و إن كان مفوّتا لمصالح واقعية- مثلا- لكنها أقوى في الاعتبار من مراعاة مصالح لأحكام جديدة.

و لعل الجواب على الإشكال الثاني يستفاد من حديث

ورد عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قال «إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها، و حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلفوها» «2».

عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عن تلك الأشياء فلا تتكلفوها، أنه سبحانه

______________________________

(1) النساء: 161.

(2) وسائل الشيعة: ج 15 ص 260.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 26

[سورة المائدة (5): الآيات 102 الى 103]

قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ

(102) ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)

رجّح مصلحة التسهيل عليكم على مصلحة تلك الأحكام، فإن تسألوا عنها و تعاندوا ترفع تلك المصلحة التسهيلية فتبتلون بها وَ اللَّهُ غَفُورٌ يغفر ما سلف حَلِيمٌ يمهلكم فلا يعجل في عقابكم.

[103] قَدْ سَأَلَها أي سأل عن تلك الأشياء التي إن تبد تسي ء السائل قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأمم السابقة، كما سأل اليهود عيسى عليه السّلام المائدة، ثم كفروا، و سأل بنو إسرائيل القتال، فلما أجيبوا ولّوا إلا قليلا منهم، و سأل قوم صالح الناقة ثم عقروها، أو «من المشركين» حيث سألوا من النبي أشياء ثم لما بدت لهم كفروا و لم يؤمنوا ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ فازدادوا عذابا على عذابهم، و هذه الآية كالتعليل للنهي في الآية السابقة.

[104] ثمّ يرجع السياق إلى ذكر بعض الأمور المحللة التي حرمها أهل الجاهلية ما جَعَلَ اللَّهُ أي لم يحرم الله- كما يزعم أهل الجاهلية- مِنْ بَحِيرَةٍ هي الناقة إذا شقّت أذنها، من «البحر» بمعنى الشق وَ لا سائِبَةٍ من «ساب الماء» إذا جرى، أي الناقة السائبة التي تجري على الأرض بدون أن يمسها أحد- كما سيأتي- وَ لا وَصِيلَةٍ من «الصلة» ضد القطيعة و هي قسم من الناقة و الشاة كانوا يحرمونها وَ لا حامٍ من «حمى يحمي» إذا حفظ، و هو قسم من الإبل كانوا يحرمونه لأنه حمى نفسه، فقد كان أهل الجاهلية إذا ولدت الناقة خمسة أبطن خامسها أنثى بحروا أذنها أي شقوها و حرموها على النساء فإذا ماتت حلّت، و إذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 27

[سورة المائدة

(5): آية 104]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (104)

ولدت عشرا جعلوها سائبة لا يستحلون ظهرها و لا أكلها، و ربما تسيّب بنذر، فكان ينذر أحدهم إن برئ مريضه أو جاء مسافره فناقته سائبة، و إذا ولدت ولدين في بطن واحد، أو الشاة ولدت في السابع ذكر أو أنثى في بطن واحد قالوا: وصلت فلم تذبح و لم تؤكل و حرّموا ولدي الشاة على النساء حتى يموت أحدهما فيحل. و الحام الفحل إذا ركب ولد ولده أو نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب و لا يمنع من كلأ و ماء، فأنزل الله عزّ و جلّ أنه لم يحرم من هذه الأمور شي ء.

وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ فينسبون تحريم هذه الأشياء إلى الله سبحانه كذبا و بهتانا وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي ليس لهم عقل يميزون به بين الحرام و الحلال و الحق و الباطل.

[105] وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أي لهؤلاء الذين يحرمون أشياء افتراء تَعالَوْا أي هلمّوا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام في القرآن وَ إِلَى الرَّسُولِ كي تصدقوه و تتبعوا سنته قالُوا في الجواب حَسْبُنا أي يكفينا لمصالحنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من العقائد و الأقوال و الأعمال و العادات.

و هنا يسأل سبحانه سؤال إنكار و تعجب بقوله: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الحق و الباطل وَ لا يَهْتَدُونَ إلى الحق، أي:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 28

[سورة المائدة (5): الآيات 105 الى 106]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ

لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)

فهل يتبعونهم و لو كانوا جهالا ضالين؟

[106] و لما بيّن سبحانه أحوال الكفار و أنهم ضالون أمر المسلمين باتباع الحق، و أنهم لا يضرهم ضلال من ضل، بينما هم مهتدين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ «عليك» اسم فعل بمعنى: الزم و احفظ، أي احفظوا أَنْفُسَكُمْ عن الضلال و الانحراف لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَ من الناس إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أي إذا كنتم مهتدين. و من المعلوم أن من شروط الاهتداء الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإرشاد و سائر الواجبات التي هي من هذا القبيل.

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أيها الناس جَمِيعاً فإن مصير الضال و المهتدي إليه سبحانه فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من الأعمال الحسنة و القبيحة، و ليس كالدنيا يختلط فيها الحابل بالنابل فتؤخذون أنتم بذنوب الضالين اشتباها و تعمدا، أو يشتبه أمر الضالين، فلا يجازون بالعقاب.

[107] ثم تعرّض سبحانه لبيان تشريع جديد ورد في قصة خاصة، يرجع إلى سنّ بعض الأحكام، بعد ما فرغ من بعض أقسام الحلال و الحرام.

فقد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أن ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجارا إلى الشام: تميم بن أوس الداري و أخوه عدي، و هما نصرانيان، و ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص السهمي

و كان مسلما، حتّى إذا كانوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 29

ببعض الطريق مرض ابن أبي مارية فكتب وصيته بيده و دسها في متاعه و أوصى إليهما و دفع المال إليهما و قال: أبلغا هذا إلى أهلي. فلما مات فتحا المتاع و أخذا ما أعجبهما منه ثم رجعا بالمال إلى الورثة، فلما فتش القوم المال فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم فنظروا إلى الوصية فوجدوا المال فيها تاما فكلموا تميما و صاحبه فقالا: لا علم لنا به و ما دفعه إلينا، أبلغناه كما هو، فرفعوا أمرهم إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

فنزلت الآية

، و ستأتي تتمة القصة.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ «شهادة» مرفوع بالابتداء خبره «اثنان» أي الشهادة المعتبرة شرعا فيما بينكم شهادة نفرين إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ بأن ظهرت عليه آثار الموت حِينَ الْوَصِيَّةِ أي في وقت الوصية اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي رجلان عادلان من المسلمين أَوْ آخَرانِ أي شخصان آخران لتحمل الشهادة مِنْ غَيْرِكُمْ أي من غير المسلمين، و «أو» هنا للترتيب لا للتخيير إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم و لم تجدوا مسلمين للإشهاد على الوصية فأشهدوا نفرين آخرين فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ بأن ظهرت علائمه، و الجملة الشرطية لتقييد قوله «آخران» فإن إشهادهما مشروط بالضرب في الأرض، و هذا من باب المورد، و إلا فالمعيار عدم وجود مسلمين، و إن كان في الحضر، فإذا تحملا الشهادة، و أرادا الإدلاء بها

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 30

فهو بهذه الكيفية تَحْبِسُونَهُما أي تقفونهما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي صلاة العصر و ذلك لاجتماع الناس و تكاثرهم في ذلك الوقت، و

لعله ليكون أردع للكذب إذ الاجتماع يسبب الهيبة في قلب المدلي للشهادة فَيُقْسِمانِ أي الشاهدان غير المسلمين بِاللَّهِ و هذا دليل على أن الشاهد يجب أن يكون معترفا بالله كأهل الكتاب إِنِ ارْتَبْتُمْ أي شككتم في شهادتهما و احتملتم التبديل و التغيير و التزييف في الأمر، و هذا شرط للقسم، أي أنهما يقسمان في حال شكّكم، و إلا فيدليان بالشهادة بدون القسم لا نَشْتَرِي بِهِ أي بما ندلي من الشهادة ثَمَناً و هذا هو المقسم به، فلا نغيّر الشهادة و لا نبدّل و لا نزيّف الواقع، ابتغاء تحصيل ثمن، أي مال وَ لَوْ كانَ المشهود له ذا قُرْبى أي من أقربائنا، و خصص بالذكر لأن الناس دائما يميلون إلى أقربائهم فيشهدون بالباطل لنفعهم، و هذا كالتأكيد، و إلا فليس هنا مشهودا له.

و المعنى: أن لا ندلي شهادة باطلة حتى لأقربائنا وَ لا نَكْتُمُ أي لا نخفي شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمرنا الله بأدائها. و الإضافة تعظيمية إِنَّا إِذاً لو كتمنا شهادة الله لَمِنَ الْآثِمِينَ أي العاصين.

و حاصل الحكم أن الإنسان إذا أراد أن يوصي فعليه أن يشهد على وصيته شاهدين مسلمين عادلين، فإن كان في سفر و ظهرت عليه أمارات الموت، و لم يكن هناك مسلمون لتحمل الشهادة، يشهد على وصيته شاهدين كتابيّين، و تقبل شهادتهما بدون اليمين إن لم يشك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 31

[سورة المائدة (5): آية 107]

فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)

الوارث بهما، أما إذا شك بهما و احتمل أنهما يكذبان في الشهادة، فالحاكم الشرعي يحضرهما بعد

صلاة العصر، و يحلفهما أولا بهذا الحلف: «و الله إنا لا نبتغي بالشهادة مالا و لا نبدل الشهادة حتى لأقربائنا و لا نكتم الشهادة التي ألزمها الله إيمانا و لو فعلنا ذلك لكنا آثمين» و بعد أداء هذا القسم أو شبهه في المعنى، يدليان بشهادتهما حول الوصية، و تقبل شهادتهما حينئذ.

[108] لما نزلت الآية الأولى صلّى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلاة العصر و دعا بتميم و عدي فاستحلفهما عند المنبر بالله ما قبضنا غير هذا و لا كتمنا فخلّى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سبيلهما، ثم اطلعوا على إناء من فضة منقوش بذهب و قلادة من جوهر معهما من مال الميت فقال أولياء الميت: هذا من متاع الميت. فقال النصرانيان: اشتريناه منه و نسينا أن نخبركم، فرفعوا أمرهما إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنزل قوله «فإن عثر» فقام رجلان من أولياء الميت عمرو بن العاص و المطلب بن أبي وداعة فحلفا بالله أن النصرانيين خانا و كذبا، فدفع الإناء إلى أولياء الميت، و بعد مدة أسلم تميم الدارمي فكان يقول: صدق الله و صدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله و أستغفره.

فَإِنْ عُثِرَ يقال: «عثر الرجل على الشي ء» إذا اطلع عليه، ف «عثر» مبني للمجهول بمعنى: «ظهر» عَلى أَنَّهُمَا أي الوصيين غير المسلمين اسْتَحَقَّا أي استوجبا إِثْماً أي ذنبا، بأن ادّعى الأولياء أنهما كذبا في اليمين و الشهادة بل خانا الوصية فشاهدان آخران مسلمان يَقُومانِ مَقامَهُما أي مقام غير المسلمين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 32

[سورة المائدة (5): آية 108]

ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها

أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)

عَلَيْهِمُ أي من أولياء الميت الذين استحقت عليهما الوصية، و كان المال لهم الْأَوْلَيانِ تثنية «أولى»، بدل من قوله «آخران» أي يقوم شاهدان كل واحد منهما أولى بالميت، أي من أقربائه و ذي ولايته، و هذان ينقضان شهادة الوصيين الكاذبين غير المسلمين فَيُقْسِمانِ أي وليا الميت بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا نحن أولياء الميت- في تكذيب الوصيين- أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي من شهادة الوصيين الكاذبين، و كلمة «أحق» جرّدت من معنى التفضيل- كما سبق- وَ مَا اعْتَدَيْنا أي ما تجاوزنا الحق بل نطلب مال الميت إِنَّا إِذاً لو اعتدينا كنا لَمِنَ الظَّالِمِينَ لنفوسنا حيث قسمنا كذبا، و إذا حلف وليّا الميت كذلك نقض حلف الوصيّين، و أخذ المال منهما و أعطي إلى ولي الميت.

[109] ذلِكَ الذي تقدم من كيفية إحلاف الوصيين بعد الصلاة أَدْنى أي أقرب أَنْ يَأْتُوا أي يأتي الوصيان بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها فإن اليمين رادعة لكثير من الناس عن الكذب أَوْ يَخافُوا إذا علموا بأنهم إن حلفوا كاذبين أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ إلى أولياء الميت فيحلفان على كذبهما و يكون الحق لهما دون الوصيين بَعْدَ أَيْمانِهِمْ فيجمعون بين فضيحة الكذب و السرقة، و فضيحة الحلف الكاذب وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تحلفوا به كذبا وَ اسْمَعُوا هذه الموعظة وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 33

[سورة المائدة (5): الآيات 109 الى 110]

يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ

الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)

يفسقون بالخروج عن طاعته، و ارتكاب معصيته، فإنه لا يلطف بهم اللطف الخاص بالمطيعين.

[110] قد سبق جانب من قصص اليهود و النصارى، و يأتي هنا جانب آخر من قصة النصارى في ثوب بديع يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ أي اتقوا يوم الحشر الذي يجمع الله فيه الأنبياء المرسلين جميعا فَيَقُولُ لهم:

ما ذا أُجِبْتُمْ أي بماذا أجابكم الأمم هل بالإيمان و التصديق أم بالكفر و التكذيب؟ قالُوا أي قال الرسل في جوابه: سبحانه لا عِلْمَ كامل لَنا فإنا لم نر منهم إلا الظواهر، أما البواطن و الخفايا فأنت العالم بها وحدك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي الأشياء الغائبة عن الحواس، و قصد الآية هنا الإجمال، أو ذلك في موقف من مواقف القيامة، إذ لها مواقف كل موقف منها يخالف الموقف الآخر في الخصوصيات و المزايا- هذا جواب الأنبياء بصورة عامة- أما جواب عيسى عليه السّلام ففيه تفصيل و سيأتي بعد آيات من قصة عيسى عليه السّلام.

[111] إِذْ قالَ اللَّهُ أي «يقول» فإن المضارع المتحقق الوقوع ينزّل منزلة الماضي، و محل «إذ» النصب على «اتقوا» أي: اتقوا زمان يقول الله:

«يا عيسى»، أو على تقدير «اذكر» يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ و ذكر «ابن مريم» استنكار لقول النصارى إنه «ابن الله». اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ و المراد بالنعمة جنسها،

لا نعمة واحدة، و معنى ذكر النعمة شكرها، و الإتيان بما يستحق المنعم بها. و من المعلوم أن النعمة على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 34

الوالدة بالعفاف و الطهارة و غيرهما، من أعظم النعم على الولد، فهي مما تستحق الشكر. ثم فسر سبحانه بعض نعمه بقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ أي قويتك و نصرتك بِرُوحِ الْقُدُسِ أي الروح المنزّه عن الأدران، و هو جبرئيل عليه السّلام أو ملك آخر، أو روح منفوخة فيه تحفظه عن الزلل فإن الأنبياء و الأئمة مزوّدون بروح طاهرة تحفظهم و ترشدهم بأمر الله سبحانه تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي في حال كونك صبيا فإنه عليه السّلام، قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا* وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ... «1» وَ كَهْلًا أي في حال كونك كهلا، و هو قبل سن الشيخوخة، و هذا من تتمة الكلام، يعني أنك تكلم الناس في الحالين، لا كسائر الناس الذين لا يتكلمون إلا في حالة واحدة.

وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ أي جنس الكتاب المنزل من السماء، فإنه كانت كتب نازلة على الأنبياء السابقين و قد كان عليه السّلام تعلمها بتعليم الله سبحانه وَ الْحِكْمَةَ و هي معرفة الأشياء على واقعها، فإن معرفة الكتب غير معرفة الحكمة، و أن يكون الإنسان بحيث يعلم الأمور و مواضعها وَ التَّوْراةَ و هي الكتاب المنزل على موسى عليه السّلام وَ الْإِنْجِيلَ و هو الكتاب المنزل على المسيح نفسه عليه السّلام وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي على قالب الطير و هيكله. و من المعلوم أن هذا النحو من

______________________________

(1) مريم: 31 و 32.

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 2، ص: 35

[سورة المائدة (5): آية 111]

وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)

التجسيم لم يكن حراما لأنه كان بأمر الله، و ليس التحريم عقليا حتى لا يمكن التخصيص فيه بِإِذْنِي و لعل «بإذني» إشارة إلى ذلك، أو أن الخلق إنما كانت بقدرته، إذ لو لم يأذن الله لم يتمكن أحد من خلق شي ء و صنعه فَتَنْفُخُ فِيها أي في تلك الهيئة التي خلقتها. و لا يخفى أن الروح جسم لطيف فيمكن أن ينفخ المسيح عليه السّلام بإذن الله ذلك الجسم في الهيكل المصنوع فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي أي طيرا حقيقيا كسائر الطيور، بأمري و إرادتي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي تشفي الذي ولد أعمى وَ الْأَبْرَصَ الذي به البرص بِإِذْنِي أي بأمري و إرادتي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى من القبور فتجعلهم أحياء بِإِذْنِي و إرادتي، فإنك تدعوني لهذه الحوائج و أنا أستجيب دعاءك وَ إِذْ كَفَفْتُ أي منعت بَنِي إِسْرائِيلَ اليهود عَنْكَ فلم يقدروا على قتلك إِذْ جِئْتَهُمْ أي حين أتيت إليهم بِالْبَيِّناتِ أي بالأدلة القاطعة على صحة نبوتك و صدق كلامك فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بك و جحدوك و لم يؤمنوا بما جئت به مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل إِنْ هذا أي ما هذا الذي نرى من خوارقك إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي سحر واضح.

[112] وَ اذكر نعمتي عليك يا عيسى ابن مريم إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ «الوحي» هنا بمعنى الإلقاء إليهم، و لو كان ذلك بواسطة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 36

[سورة المائدة (5): آية 112]

إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

(112)

نفس عيسى أو يحيى عليهما السّلام أو المراد الإلهام إلى قلوبهم، بواسطة العقل الذي هو حجة باطنة. و المراد بالحواريين أصحابه الخاصون به، و سبق وجه تسميتهم بالحواريين أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي المسيح عليه السّلام، فإن الإيمان بالله نعمة على المسيح، كما أن تصديقه عليه السّلام نعمة عليه، إذ الأمران موجبان لقربه عليه السّلام إلى الله سبحانه حيث تمكن من هدايتهم، بالإضافة إلى لزوم ذلك الاحترام الظاهري قالُوا أي الحواريون:

آمَنَّا أي بالله و رسوله وَ اشْهَدْ يا ربنا، أو المراد الاستشهاد بعيسى عليه السّلام بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ لله فيما يأمر و ينهي.

[113] و اذكر نعمتي عليك يا عيسى ابن مريم حينما جرى الحوار بينك و بين الحواريين حول إنزال الله المائدة فطلبت من الله فاستجاب لك و أنزل المائدة إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ و لعلهم ذكروا اللفظ بتأدّب. و إنما نقل سبحانه المعنى، أو كان مثل هذا الخطاب بأمر عيسى عليه السّلام نفسه، أو كان لديهم متعارفا هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ إما المراد: الاستطاعة بحسب القدرة، و كان ذلك حين عدم كمال إيمانهم، و إما المراد: الاستطاعة بحسب الإرادة، أي: هل يريد؟ و كان سؤال استعطاف، و «المائدة» مشتقة من «ماد يميد» إذا تحرك، فهي فاعلة، سمّي بها الخوان، لأنه يميد و يتحرك من مكان لآخر وقت البسط و الجمع، و قد أرادوا إتيان عيسى بهذه المعجزة ليروها و يلمسوها و يأكلوا منها، فلا يبقى محل ريب عندهم في صدق الدعوة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 37

[سورة المائدة (5): الآيات 113 الى 114]

قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ

عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

و لعل ذلك كان قبل سائر الآيات من إبراء الأكمة و الأبرص، و لذا قالَ لهم عيسى عليه السّلام: اتَّقُوا اللَّهَ أي خافوه فلا تسألوا سؤال جاهل ذي ريب إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله بما له من صفات الكمال التي منها الاستطاعة على مثل هذا الأمر الهّين.

[114] قالُوا أي قال الحواريون: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أي من المائدة وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا إما الاطمئنان بأصل المبدأ و أنك رسوله، أو الاطمئنان بالرؤية، كما قال الخليل عليه السّلام: قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا بما أخبرت من الشريعة. و هذا محتمل أيضا لإرادة العلم العياني، و لإرادة أصل العلم لكونهم في شك وَ نَكُونَ عَلَيْها أي على المائدة مِنَ الشَّاهِدِينَ الذين يشهدون لمن لم يحضر بأنه قد نزلت المائدة و رأيناها عيانا.

[115] قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ داعيا الله سبحانه: اللَّهُمَّ رَبَّنا- و كان الإتيان بلفظ الرب، للمبالغة في الدعاء- أنت الذي ربّيتنا، فتفضل علينا بإتمام التربية أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أي خوانا عليه طعام، يأتي من طرف العلو تَكُونُ المائدة لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا أي نتخذ ذلك اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا، فإن الأعياد في الأمم،

______________________________

(1) البقرة: 261.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 38

[سورة المائدة (5): آية 115]

قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)

إنما هي بمناسبة ذكريات انتصاراتهم. و من المعلوم أن تكريم جماعة بنزول المائدة عليهم من

قبل الله سبحانه من أعظم الذكريات التي ينبغي أن يحتفل بها،- أول القوم- الذين نزلت عليهم، و- آخر القوم- أي من يأتي من بعدهم من أبنائهم.

وَ آيَةً مِنْكَ أي دليلا و علامة من قبلك على التوحيد و النبوة و ما أشبههما وَ ارْزُقْنا من المائدة وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإنك تتفضل بالنعم كرما وجودا و لا تريد عوضا تنتفع به بخلاف الناس إذا أعطوا شيئا فإنهم يريدون بدلا عنه يصل إليهم.

[116] قالَ اللَّهُ سبحانه في جواب عيسى عليه السّلام: إِنِّي مُنَزِّلُها أي أنزّل المائدة عَلَيْكُمْ أيها السائلون لها فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أي بعد إنزالها عليكم فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً شديدا لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي لا أعذب مثل ذلك العذاب أحدا من العصاة الذين هم في ذلك الزمان، فإن إطلاق «العالمين» غالبا، يكون على عالم زمان واحد. و السبب في شدة العذاب أنهم كفروا بعد ما آمنوا و طلبوا المعجزة، و قبل منهم و لبّى طلبهم.

ورد عن أهل البيت عليهم السّلام أن المائدة كانت تنزل عليهم فيجتمعون عليها و يأكلون منها ثم ترتفع فقال كبراؤهم و مترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا. فرفع الله المائدة ببغيهم و مسخوا قردة و خنازير

«1».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 14 ص 248.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 39

[سورة المائدة (5): آية 116]

وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)

[117] تقدم أن الله سبحانه يسأل الأنبياء

عن جواب الأمم لهم، ثم ذكر جملة من معجزات عيسى المقتضية لإيمان الناس به إيمانا عادلا، لكن النصارى رفعوه فوق مقامه إذ جعلوه إلها، و لذا يتوجه السؤال إليه عليه السّلام في مشهد القيامة حول هذا الافتراء الذي نسب إليه عليه السّلام حتى تظهر براءته من ذلك، فيكون المجال فسيحا أمام عقاب من ادّعى ذلك كذبا و بهتانا، في يوم يجمع الله الرسل فيقول: «ماذا أجبتم»؟

وَ إِذْ قالَ اللَّهُ أي «يقول» فإن المستقبل المتحقق وقوعه ينزل منزلة الماضي يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ أي: هل أنت، على نحو الاستفهام التوبيخي لمن ادعى ذلك، و التقريري بالنفي بالنسبة إلى المسيح عليه السّلام قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سوى الله، لا أنهم لا يعتقدون بألوهية الله تعالى قالَ عيسى عليه السّلام في جواب ذلك: أسبحك سُبْحانَكَ أي أنزهك يا رب تنزيها عن مثل هذا الكلام ما يَكُونُ لِي أي ليس يجوز بالنسبة لي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ فآمر الناس باتخاذي إلها إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ أي قلت للناس: اتخذوني و أمي إلهين فَقَدْ عَلِمْتَهُ لكن لا تعلم ذلك- على نحو السالبة بانتفاء الموضوع- فلست قائله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي أي سريرتي، فكيف بأقوالي العلانية؟ وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ و هذا على جهة المقابلة، و إلا فليس لله سبحانه نفس، و قوله «و لا أعلم» لبيان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 40

[سورة المائدة (5): الآيات 117 الى 118]

ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ

شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

ضراعته عليه السّلام إليه سبحانه و إلا فلم يكن الكلام مسوقا إليه إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ أي تعلم كل غيب عن الحواس، و لست أنا كذلك، فأنت تعلم أني لم أقل «اتخذوني و أمي إلهين» للناس.

[118] ثم بين عليه السّلام ما قاله لقومه زيادة في التبرّي من هذا القول المختلق المنسوب إليه ما قُلْتُ لَهُمْ أي للناس إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ من الإقرار لك بالعبودية، فقد قلت لهم: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ فأنا و أنتم متساوون في عبادة الله و كونه ربنا و خالقنا وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً شاهدا أرى أقوالهم و أعمالهم ما دُمْتُ كنت فِيهِمْ أي في وسطهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي أخذتني مستوفى كاملا إلى السماء- و قد سبق وجه ذلك- كُنْتَ أَنْتَ يا إلهي الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي المراقب لهم فيما يعملون و يعتقدون و يقولون وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ أي شاهد حاضر.

[119] إن مبدأ القوم هو أنت «ربي و ربكم» و معادهم بيدك وحدك إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ لا يقدرون على رفع شي ء من أنفسهم و لا يقدر غيرك على نجاتهم وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر الْحَكِيمُ الذي لا يفعل شيئا إلا طبق الحكمة و المصلحة، و في هذا تسليم الأمر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 41

[سورة المائدة (5): الآيات 119 الى 120]

قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ

قَدِيرٌ (120)

لمالكه و تفويض الأمر إلى مدبره، و هذا التعبير لا ينافي علم عيسى عليه السّلام بأنهم معذبون، فإنه كما يقول أحدنا لمالك الأمر: «إنه بيدك إن شئت فعلت و إن شئت تركت» حتى مع علمنا أنه يفعل أحدهما لا محالة. هذا بالإضافة إلى أن بعضهم- و هم القاصرون- قابلون للغفران.

[120] قالَ اللَّهُ بعد ذلك الحوار، في مشهد القيامة هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فلا الكاذب المغالي القائل «المسيح ابن الله»، أو «هو الله»، ينفعه كذبه، و لا الكاذب المغالي القائل «بأن المسيح بشر غير نبي» ينفعه كذبه، إنه يوم الصدق، و ينفع الصادق صدقه لَهُمْ أي للصادقين جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أي تحت قصورها و أشجارها الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً مما لا نهاية له رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بما عملوا في دار الدنيا وَ رَضُوا عَنْهُ بما أعطاهم من الجزاء و الثواب ذلِكَ المقام الذي حصلوه بما عملوا الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز بعده أعظم منه.

[121] إن النصارى كذبوا في جعل الشريك لله، ف لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا شريك له فيهن، و لا ملك غيره وَ ما فِيهِنَ مما يوجد فيهما من إنسان أو حيوان أو نبات أو جماد أو غيرها وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فلا يمتنع عليه شي ء، و من هذه صفته لا يكون له شريك في الملك.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 42

6 سورة الأنعام مكيّة- مدنية/ آياتها (166)

سميت بذلك لاشتمالها على كلمة «الأنعام».

و في حديث: أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة، و شيعها سبعون ألف ملك لعظمتها

«1».

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الإله الرحمن الرحيم الذي يرحم العباد و يعطف عليهم.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 6 ص 230.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص:

43

[سورة الأنعام (6): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)

[2] و لما كان ختام السورة السابقة أن «لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» ابتدأت هذه السورة بمثل ذلك الختام الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و اللام في الحمد للجنس، أي أن جنس الحمد لله إذ جميع المحامد راجعة إليه، و «السماوات» غالبا تأتي بصيغة الجمع بخلاف الأرض التي تأتي مفردة إشعارا بأكثرية السماوات على الأرض، و إلا فالأرضون أيضا سبعة كما قال سبحانه: وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ «1» وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ أي كوّنهما، و «الظلمة» إن كانت عدم ملكة، فمكوّن الملكة مكون العدم لأن أعدام الملكات لها حظ من الوجود كما قالوا. و قد أتى بالظلمات جمعا بخلاف النور، للتناسب مع الجملة السابقة «السماوات و الأرض» و لعل سر الإتيان بصيغة الجمع انقسام الظلمات حوالي النور فإن النور يشق طريق الظلمة، كلما قرب النور كان أرق.

ثم أظهر سبحانه التعجب من الذين يتخذون من دون الله أندادا بينما كان كل شي ء لله سبحانه ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بعد كل هذه الآيات و الدلائل بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي يسوونه بغيره و يجعلونه عدلا و شريكا و مثيلا لأشياء أخرى مما لا أثر لها و لم تخلق شيئا.

[3] و حيث أن الجو العام في هذه السورة حول العقيدة مبدءا و معادا، و الأمور الكونية التي خلقها سبحانه تنتقل بالآيات من عقيدة إلى

______________________________

(1) الطلاق: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 44

[سورة الأنعام (6):

آية 3]

وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)

عقيدة، و من خلق إلى خلق هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ إما باعتبار أبينا آدم عليه السّلام و إما باعتبار خلق كل فرد من التراب و الماء، فإن الإنسان من النطفة و هي من النبات و الحيوان و هما من الأرض و الماء ثُمَّ قَضى أي قدّر و كتب أَجَلًا أي مدة للإنسان عامة، حتّى تنقضي الدنيا، أو لكل فرد حيث أن لكل فرد مدة لا يتجاوزها وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ إما تفصيل ل «أجلا» أي أن الله سبحانه هو مصدر الأجل المسمّى الذي سمي لكل شخص فليس بيد غيره الآجال، و إما المراد أن البعث الذي هو أجل و مدة لبقاء الإنسان في الدنيا حيا و ميتا عِنْدَهُ فبيده قيام الساعة ثُمَّ أَنْتُمْ أيها البشر تَمْتَرُونَ أي تشكّون في الله سبحانه. إنه بيده الخلق و الموت و البعث لا بيد غيره، فكيف تشكون فيه و تتخذون غيره شريكا له؟! [4] وَ هُوَ اللَّهُ لا إله غيره فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ أي أن الخالق و المتصرف في هذا الكون ليس إلا الله، خلافا لمن كان يجعل للسماء إلها خاصا، و للأرض إلها غيره. و معنى «في» الظرفية المجازية، و إلا فليس لله سبحانه مكان، إذ المكان يوجب التحديد، و التحديد يوجب التجزئة، و التجزئة من صفات المصنوع لا الصانع يَعْلَمُ سِرَّكُمْ الخفي المكتوم، أعم مما في الصدور، أو من الأسرار وَ جَهْرَكُمْ مقابل ذلك بالمعنيين وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ أي ما تعملون من الأعمال، فإن العمل من كسب الإنسان. و في هذه الآيات ردّ على

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 2، ص: 45

[سورة الأنعام (6): الآيات 4 الى 6]

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)

الدهرية القائلين بقدم السماوات و الأرض، و الثنوية القائلين بإلهين:

نور و ظلمة، و المشركين الذين يجعلون له سبحانه شريكا، و الجهّال من الفلاسفة الذين يقولون بعدم عموم علمه أو قدرته، و من أشبههم من أصحاب العقائد الزائفة حول إله الكون.

[5] ثم أخبر سبحانه عن الكفار الذين تقدم ذكرهم في أول السورة، قال:

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ أي معجزة و دليل و برهان و حجة مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ الدالة على وجوده و صدق رسالتك يا رسول الله إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ لا يقبلونها و لا ينظرون إليها نظر منصف معتبر.

[6] فَقَدْ كَذَّبُوا أي الكفار بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ من القرآن و الرسول و سائر الآيات فَسَوْفَ في القيامة، أو في الدنيا حين ظهور الرسول و وضوح صدقه بالسيطرة و الغلبة- كما أخبر- يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ أي أخبار ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من الحق. و في الآية تهديد، كما تقول للمجرم: «سوف تعلم إجرامك» تريد أنه يلاقي جزاءه، إن كان المراد ب «سوف» القيامة.

[7] ثم حذرهم سبحانه أن يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة حيث كذبوا و عصوا و عتوا عن أمر ربهم أَ لَمْ يَرَوْا استفهام تذكيري توبيخي، أي «ألم يعلموا»- فإن الرؤية تستعمل بمعنى العلم- كَمْ أَهْلَكْنا

مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي من الأمم، و «القرن» أهل كل عصر، و سمّوا بذلك لأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 46

بعضهم يقترن ببعض، و لذا اختلف في المدة المراد به، لاختلاف الاعتبار مَكَّنَّاهُمْ أي تلك الأمم فِي الْأَرْضِ بأن جعلناهم ملوكا و قادة و ساسة ذا عدد و عدد و إمكانيات ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ حيث كانوا هم أكثر تمكنا منكم. و الظاهر أن الخطاب خاص بالكفار في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث كان السابقون أكثر تمكنا منهم. لا يقال: إن من المحتمل كون بعض الأمم السالفة أكثر تمكنا من جميع من يأتي إلى يوم القيامة حتى يكون الخطاب عاما؟ لأن الجواب ظاهر، إذ قوله: «ألم يروا» ينافي ذلك فإن الناس لم يعلموا أخبار هكذا أمة- كما تقولون- بل ما رواه إنما هو أخبار الأمم التي كانت أقوى من الكفار في زمانه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً هو من «درّ إذا هطل»، و «مدرار» صيغة مبالغة، أي كثيرة الهطول، حتّى عمّهم الخير و البركة و الثروة. و المراد بالسماء: المطر، بعلاقة الحال و المحل، كما قال الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه و إن كانوا غضابا

وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ أي مياهها بعلاقة الحال و المحل تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي تحت قصورهم و أشجارهم، أو باعتبار أن الماء تحت سطح الأرض التي يمشون عليها. و كل ذلك لم يفدهم في بقائهم و حسن ذكرهم فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ و المراد: هلاكهم بذهاب أثرهم و انقطاع نسلهم و عقبهم، و فناء حضارتهم، بسبب عصيانهم و كفرهم مقابل الأنبياء عليهم السّلام و الصالحين الذين بقوا إلى يوم

الناس هذا، و إن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 47

[سورة الأنعام (6): الآيات 7 الى 8]

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8)

صلاحهم و حسن أعمالهم سبب بقاء آثارهم و بقاء ذكرهم و بقاء مناهجهم وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أي خلّفنا من بعدهم أمة أخرى و جماعة آخرين.

[8] ثم بيّن سبحانه أن هؤلاء الكفار معاندون في كفرهم، لا لأنهم لم يعملوا الحق وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ يا رسول الله كِتاباً فِي قِرْطاسٍ أي مكتوبا في ورق يشهد لك بصدقك فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ أي مسّوه بيدهم، حتى يتيقنوا بأن ذلك ليس من الشعوذة و ستر العيون لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي ما هذا الكتاب إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي سحر ظاهر، فلا يصدقونك.

قالوا: نزلت هذه الآية في جماعة من الكفار قالوا: يا محمد لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله و أنك رسوله.

[9] وَ قالُوا أي قال هؤلاء الكفار لَوْ لا أي هلّا، و لماذا ما أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي على الرسول، ملك نشاهده فنصدق به، ثم رد الله عليهم مقالتهم بأنه وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً كما اقترحوه لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي انتهى أمدهم و أجلهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ أي يهلكون و يموتون، و ذلك لما جرت سنة الله أن لا تنزل الملائكة بالنسبة إلى المعاندين، إلا وقت موتهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 48

[سورة الأنعام (6): آية 9]

وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا

عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)

و هنا سؤال: إن هذا لا يكون جوابا للكفار- على هذا المعنى- إذ لهم أن يقولوا: فليغيّر الله سنته، بأن ينزل الملك و يبقينا حتى نؤمن؟

و سؤال ثان: لماذا جرت سنة الله على ذلك، أليس هداية الناس غاية الخلقة، فما المانع من توفر أسباب الهداية بإنزال الملك؟

و الجواب عن الأول: إن سنة الله جرت على الهلاك عقب مجي ء الملائكة، كما جرت سنته على الإحراق عقيب الإلقاء في النار، و ليس للكفار أن يشكلوا بهذا الإشكال، إذ يقول النبي: و لماذا تريدون نزول الملائكة؟ أ للعناد؟ فلا داعي إلى إجابتكم، أم لأنه خارق و الإتيان بالخارق موجب للتصديق؟ فقد أتيت بالخوارق، أم لأنه خارق خاص؟

فالخارق الخاص لا يلزم إجابته لدى العقل و العقلاء، و هذا كما إذا حمل الطبيب شهادة الكلية فيقول له المريض: ائتني بشهادة رئيس الحكومة، إنه سؤال سخيف لدى العقلاء ..

و الجواب عن الثاني: إنه سبحانه علم عنادهم و أنه لا يفيد معهم إنزال الملك، كما بيّن ذلك في قوله وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً «1»، و ما كان يمنعهم أن يقولوا أن ما يشاهدونه من صورة الملك إنما هو سحر مبين! [10] ثم بيّن سبحانه وجها آخر لعدم إجابة اقتراحهم وَ لَوْ جَعَلْناهُ أي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَلَكاً منزلا من السماء لَجَعَلْناهُ رَجُلًا أي في صورة رجل، فإن خلقة البشر غير مستعدة لرؤية الملك في صورته، إلا إذا بدّلت صورته إلى صورة إنسان و واقع ملك، و ذلك لا يفيد اقتراحهم، فإن الملك جرم لطيف لا تراه أعين البشر، كما لا يرى

______________________________

(1) الأنعام: 8.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 49

[سورة الأنعام (6): الآيات

10 الى 11]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

الإنسان الهواء وَ لَلَبَسْنا من اللبس بمعنى الاشتباه عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المقترحين إنزال الملك ما يَلْبِسُونَ أي كما يلبسون اليوم على أنفسهم أمر النبي لأنه إنسان مثلهم، فكان إنزال الملائكة في صورة بشر موجبا لأن نلبس نحن عليهم الأمر- مثل لبسهم هذا اليوم- و حاصل جواب الاقتراح:

أولا: أن الملك لا ينزل إلا لأمور خاصة، كما نزل في قصة إبراهيم عليه السّلام و لوط عليه السّلام.

ثانيا: إن الملك إذا نزل، نزل في صورة بشر، فيبقى شكّهم على حاله.

[11] ثم قال سبحانه على سبيل التسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ استهزأت بهم أممهم و سخروا منهم، فلست أنت بأول رسول يستهزأ بك و يقترح عليك اقتراحات عن عناد و سخرية فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أي: فحلّ و أحاط بالساخرين بالرسل ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء سخريتهم، أو المراد أن الأنبياء كانوا يتوعدونهم بالعذاب فكانوا يسخرون بوعيدهم، فحاق بهم العذاب المستهزأ به.

[12] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها ثُمَّ انْظُرُوا إذا مررتم ببلدان الأنبياء، و تفكروا كَيْفَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 50

[سورة الأنعام (6): آية 12] تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 99

قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)

كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أي الأمم التي كذبت أنبياءهم، كيف

أبيدت و لم تبق منهم باقية، فإن ديار الأمم السابقة حوالي سوريا و لبنان و الأردن و فلسطين و مصر كانت باقية و آثار الخسف و الهلاك على بعضها، و أخبار الهلاك و التدمير كانت عند الناس مشهورة، فإذا سافروا و سألوا علموا ذلك، و كان ذلك سببا لردعهم عن تكذيب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاستهزاء بالقرآن.

[13] ثم احتج سبحانه على المكذبين بحجة أخرى فقال: قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المكذبين: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إذ لا يتمكنون أن يجيبوا بأنها لهم، و لا أنها لأصنامهم، و إذ يتحيرون بالجواب قُلْ أنت: إنما هي كلها لِلَّهِ فلما ذا تتخذون إلها غيره؟ و إذ سبق التهديد و الوعيد جاء هنا بالتبشير كي تلين القلوب القاسية بالتهديد مرة و التبشير أخرى كَتَبَ أي أوجب سبحانه عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ على الخلق و اللطف بهم، و إيجاب ذلك من مقتضيات الحكمة لكي تطلبوا أيها الناس رحمته الواسعة بالإطاعة و الامتثال، لأنه إله الكون و راحمهم في هذه النشأة و لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي جمعا ينتهي إلى ذلك اليوم، فإن الناس يجتمعون تدريجا لا دفعة، فكل إنسان يولد فولادته مقدمة للموت الذي- بدوره- يجمع الناس فردا فردا حتى ينتهي الجمع في يوم القيامة، فبيده سبحانه المعاد أيضا لا رَيْبَ فِيهِ أي محل ريب، و إن ارتاب المبطلون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 51

[سورة الأنعام (6): الآيات 13 الى 14]

وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ

أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)

و إذا كان المبدأ و الوسط و المعاد بيده تعالى ف الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي أن غير المؤمنين يكونون قد خسروا أنفسهم حيث باعوها و اشتروا عوضها العذاب، بينما باع المؤمنون أنفسهم و اشتروا بها الجنة و الثواب.

[14] وَ لَهُ أي الله سبحانه ما سَكَنَ و هدأ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أو المراد ب «ما سكن» مطلق الأشياء الساكنة و المتحركة، من قولهم: فلان يسكن بلد كذا، أي يستقر فيه، فلله كل ما استقر و حلّ في هذين الزمانين «الليل و النهار»، أما على الثاني فوجه الكلام واضح، و أما على الأول فلعل التخصيص بالساكن- مقابل المتحرك- لإلقاء الرهبة في النفس حيث أن الساكن يلقي ظلال الموت الرهيب، و لذا يرى الإنسان نفسه تهدأ و تسكن إذا صار في محل ساكن لا حسّ فيه و لا حركة وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد و لكل صوت الْعَلِيمُ بكل شي ء.

[15] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ غَيْرَ اللَّهِ أي هل غير الله سبحانه أَتَّخِذُ وَلِيًّا أي مالكا و مولى و ربا؟! و هو المتصف بكونه فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي خالقهما و مبدعهما و منشئهما، إنه من السخافة أن يترك الإنسان الخالق و يتمسك بذيل المخلوق وَ هُوَ أي الله سبحانه يُطْعِمُ فإن الأطعمة و الأرزاق من عنده وَ لا يُطْعَمُ أي لا يرزقه أحد، فهل من المنطق أن يترك الإنسان الخالق الرازق و يتخذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 52

[سورة الأنعام (6): الآيات 15 الى 16]

قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ

الْمُبِينُ (16)

المخلوق المرزوق وليا من دون الله، الذي ليس بيده أي شي ء؟

قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: إِنِّي أُمِرْتُ أمرني الله أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لله و صدّق بكلماته و اتبع أوامره، و كوني أول من أسلم لعلمي التّام بالخالق سبحانه، كما قال: «إني أول من يجاهد»، «و إني أول من يسافر» دلالة لامتلاء النفس بذلك الشي ء وَ أمرني الله بأن لا تَكُونَنَ التأكيد للنفي مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يجعلون مع الله شريكا. و الظاهر أن المراد بالشرك أعم ممن يجعل مع الله شريكا مع الاعتقاد به سبحانه، أو بدون الاعتقاد به، و المعنى: إني أمرت بالأمرين، الإسلام، و عدم الشرك.

[16] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بمخالفة أوامره عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ أي عذاب يوم القيامة، و إنما قال «أخاف» مع أنه متيقن إما من جهة التعبير بالخوف حتى عن المتيقن، كما يقول من حكم عليه بالإعدام: «إني أخاف الموت» أي أرهبه، و إما لاحتمال النجاة لأن رحمته وسعت كل شي ء، فمعنى الخوف على هذا الاحتمال رجاء العفو و الرحمة.

[17] مَنْ يُصْرَفْ العذاب عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي في ذلك اليوم العظيم فَقَدْ رَحِمَهُ إذ لا أحد- باستثناء المعصومين- إلا و يكون مستحقا للعذاب، و لذا كان الصرف عنه بمقتضى الرحمة وَ ذلِكَ الصرف، أو الرحمة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 53

[سورة الأنعام (6): الآيات 17 الى 19]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا

الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)

الْفَوْزُ و الفلاح الْمُبِينُ الواضح الذي لا فوز مثله.

[18] و يستطرد السياق بذكر بعض صفاته سبحانه في مقابل المعاندين المنكرين وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ من «مسّ أي أمسك» بما هو ضرر من فقر أو مرض أو ما أشبههما فَلا كاشِفَ لَهُ أي دافع له إِلَّا هُوَ فلا أحد مؤثر في الكون، و إنما العلل تؤثر في المعلولات بإذن الله سبحانه وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ غنى أو صحة أو ما أشبههما فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ إنه القادر المطلق على الخير و الشر، أما من سواه فقدرته من قدرته، مع أنه ليس له إلا قدرة ناقصة لبعض الأشياء.

[19] وَ هُوَ تعالى الْقاهِرُ أي الذي يقهر و يغلب فَوْقَ عِبادِهِ أي الجميع تحت تسخيره و سيطرته، لا الفوقية المكانية، فإنه أجل من الزمان و المكان وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أعماله، فليس كونه قاهرا موجبا للخوف من ظلمه، كسائر الجبابرة القاهرين الْخَبِيرُ بما يصدر من العباد، فلا يأخذ أحدا بجرم أحد كما هو شأن القاهرين من البشر، حيث يشتبهون كثيرا لجهلهم.

[20] في بعض التفاسير: أن أهل مكة أتوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: أما وجد الله رسولا غيرك، ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول، و لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فأرنا من يشهد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 54

أنك رسول الله كما تزعم «1»، فنزلت هذه الآية: قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً أي أعظم

من حيث الشهادة، حتى آتيكم به دليلا على صدقي و صحة نبوتي، إنهم يتحيرون في الجواب طبعا، و يفكرون في الناس العظماء بنظرهم ليقولوا: «فلان»، لكن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقطع تحيرهم و تفكرهم بما علمه الله سبحانه قُلْ يا رسول الله: اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي هو شاهد يشهد بصدق نبوتي. و قد مرّ سابقا أن شهادة الله هي إجراء الإعجاز على يده الكريمة وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ أنزله تعالى عليّ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ أي لأخوفكم بهذا العقاب، و أخوّف من كفر و عصى وَ مَنْ بَلَغَ عطف على «كم» أي أنذر به من بلغه هذا القرآن إلى يوم القيامة.

و روي عن الباقر و الصادق عليه السّلام أن «من بلغ» معناه: من بلغ أن يكون إماما من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله «2».

و عليه فهو عطف على الضمير المرفوع في «أنذر» أي أنذر أنا الرسول و الأئمة- الذين هم مصداق «من بلغ»- الناس أَ إِنَّكُمْ أي: هل إنكم أيها السامعون الكفار لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى استفهام إنكاري، أي: كيف تشهدون بذلك بعد وضوح أدلة التوحيد و قيام

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 22 و تفسير القمي: ج 1 ص 195.

(2) الكافي: ج 1 ص 416.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 55

[سورة الأنعام (6): الآيات 20 الى 21]

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)

الحجة و البرهان على بطلان كل شريك؟ و المراد الشريك مطلقا و لو كان

واحدا، و ذكر «آلهة» من باب المورد قُلْ أنت يا رسول الله، إذا لم يعترف أولئك بالتوحيد: لا أَشْهَدُ أنا بمثل شهادتكم بالشريك، و إنما أنا لا أعتقد إلا إلها واحدا قُلْ يا رسول الله: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أي من الأوثان التي تشركون بسببها، و تدخلون أنفسكم في زمرة المشركين من أجلها.

[21] ثم ذكر سبحانه أن أهل الكتاب كسائر المشركين يعلمون الحق لكنهم يتجاهلونه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ يراد به جنس الكتاب الأعم من التوراة و الإنجيل و غيرهما يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون الرسول كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ فكما يعرف الشخص ابنه بحيث لا يمكن أن يشتبه بغيره، كذلك لا يشتبه أهل الكتاب بمعرفة الرسول بوصفه و مزاياه الموجودة في كتبهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بأن باعوها بالكفر، الذي عاقبته فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إن عدم الإيمان مترتب على الخسران، فالخاسر لا يؤمن و الرابح يؤمن.

[22] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي من يكون أكثر ظلما و تعديا عن الحق مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً؟! بأن جعل له شريكا و زعم أن الله أمره بذلك، كأهل الكتاب و قسم من المشركين الذين كانوا يقولون: إن الله أمرنا باتخاذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 56

[سورة الأنعام (6): الآيات 22 الى 23]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)

الأنداد و الشركاء أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كما لو كذب بالقرآن أو بالرسول أو بالمعجزات، فإنها كلها من آيات الله سبحانه، لكن الكتاب آية صامتة، و الرسول آية ناطقة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ إنهم لا يفوزون

بخير الدنيا، و لا سعادة الآخرة.

[23] وَ اذكر يا رسول الله يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً و هو يوم القيامة الذي يجمع فيه هؤلاء المشركون و سائر المكذبين ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا و جعلوا لله شريكا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي الشركاء لله الذين زعمتم أنهم كذلك. و الإضافة إلى «كم» باعتبار أنهم اتخذوها، كما تضاف إلى «الله» باعتبار أنه سبحانه المجعول في رديفهم فيقال «شركائي» الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنهم شركاء الله سبحانه؟ و الاستفهام إنكاري للتوبيخ و التقريع.

[24] ثُمَ بعد هذا السؤال منهم لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي معذرتهم، فإن الفتنة على معان، منها: المعذرة، أو هو على سبيل المجاز، أي: لم تكن نتيجة فتنتهم بالأصنام، إلا التبرؤ منها، كما يقال: «لم يكن درسهم و قضاؤهم إلا رشوة و خيانة» يراد أن عاقبتهما كانت الرشوة و الخيانة إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فيحلفون بالله كذبا أنهم ما كانوا مشركين، كما اعتادوا في الدنيا أن يحلفوا كذبا حينما يقعون في المشاكل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 57

[سورة الأنعام (6): الآيات 24 الى 25]

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25)

[25] انْظُرْ يا رسول الله إلى حلف هؤلاء كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بأنهم ما كانوا مشركين، و هذا أمر يقصد به التعجّب و الاستغراب وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله، و يفترون الكذب على الله بقولهم:

هذه شفعاؤنا عند الله، فلم يجدوها و لم ينتفعوا بها و إنما الأمر لله وحده.

[26] قيل: إن نفرا من مشركي مكة جلسوا إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقرأ القرآن، فقال بعضهم لبعض: ما يقول محمد؟ قال: أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية. فنزلت هذه الآية وَ مِنْهُمْ أي من الكفار و المشركين مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ أي إلى كلامك يا رسول الله وَ لكن حيث أنهم أعرضوا عن الحجة بعد ما بيّنت لهم جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً هي جمع «كنان» و هي ما ستر شيئا، فإن الإنسان إذا أعرض عن الحق غشيت على قلبه غشاوة، إذ صار الإعراض له ملكة و عادة، و نسبته إلى الله سبحانه باعتبار أنه سبحانه هو الذي جعل الإنسان هكذا، فإنه علة كل شي ء، و إن كان السبب المباشر هو الشخص أَنْ يَفْقَهُوهُ أي حتى لا يفقهوه بمعنى لا يفهموه وَ جعلنا فِي آذانِهِمْ وَقْراً «الوقر» هو الثقل في الأذن، فهم كمن لا يسمع، حيث أنهم لا يستفيدون من سماعهم وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ و معجزة خارقة على نبوتك و صدقك لا يُؤْمِنُوا بِها أي بتلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 58

[سورة الأنعام (6): الآيات 26 الى 27]

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (26) وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)

الآيات، إذ قد ران على قلوبهم ما كانوا يعملون حَتَّى إِذا جاؤُكَ لا يطلبون الحق بل يُجادِلُونَكَ و يناقشونك يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي ما

هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «أساطير» جمع أسطورة، بمعنى الخرافة، من سطر إذا كتب، يعني: ما في القرآن من القصص و الأحكام و غيرها ليست إلا أخبار الأقوام السابقة و ترّهاتهم.

[27] وَ هُمْ أي هؤلاء الكفار الذين سبق ذكرهم يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي عن النبي، أو القرآن، يعني: ينهون الناس عن اتباع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو القرآن، وَ يَنْأَوْنَ من «نأى» بمعنى تباعد، أي يتباعدون عَنْهُ أي عن الرسول أو القرآن، فهم يجمعون بين رذيلتي الكفر و الأمر بالمنكر وَ إِنْ أي: و ما يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ فإنهم لا يضرون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل يضرون أنفسهم بخزي الدنيا و عذاب الآخرة وَ ما يَشْعُرُونَ أي لا يعلمون أنهم بذلك يهلكون أنفسهم.

[28] وَ لَوْ تَرى يا رسول الله أحوالهم في الآخرة و كيف أنهم يندمون على ما فرّطوا في دار الدنيا إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ أي أشرفوا و اطلعوا و وقفوا على حافتها لدخولها فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ أي يرجعوننا إلى الدنيا وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا دلائله و براهينه وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بالله و الرسول و ما جاء به. و جملتا «لا نكذب» و «نكون» من مدخول التمني،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 59

[سورة الأنعام (6): الآيات 28 الى 30]

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

و التقدير: «يا

ليت لنا انتفاء التكذيب، و الكون من المؤمنين».

[29] بَلْ بَدا لَهُمْ أي ظهر لهؤلاء الكفار الحق جليا بحيث لا مجال لإخفائهم له ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ في دار الدنيا حيث كانوا يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. و لعل وجه الإضراب ب «بل» بيان أنه ليس الأمر على ما قالوه من أنهم: لو ردّوا إلى الدنيا لآمنوا، فإن التمني الواقع منهم يوم القيامة ليس لأجل كونهم راغبين في الإيمان، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي يعاينوه وَ لَوْ رُدُّوا إلى الدنيا كما تمنوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ أي لرجعوا إلى كفرهم و عصيانهم وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في أنهم لو ردّوا لعملوا صالحا كما في آية أخرى: رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ «1»، و لا يخفى أن الإنسان إذا كان ذا طبع عنادي لا ينفك عن طبيعته حتى و لو رأى المشاهد العظيمة من عناده كما هو المشاهد المجرّب.

[30] و قد كان هؤلاء الكفار ينكرون المعاد و هم في دار الدنيا وَ قالُوا إِنْ هِيَ أي ما هي إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا أي الحياة القريبة التي نحن فيها و ليس ورائها شي ء وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت. و «البعث» هو الإرسال و الإحياء.

[31] وَ لَوْ تَرى يا رسول الله أحوال هؤلاء الكفار يوم القيامة إِذْ وُقِفُوا

______________________________

(1) سورة المؤمنون: 100 و 101.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 60

[سورة الأنعام (6): آية 31]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)

عَلى رَبِّهِمْ أي في معرض خطابه و حسابه، كالشخص الذي يقف عند الملك و هو مجرم، فإنه

في حال يأس و اضطراب ممّا ينطق الملك في حقه من العقاب. و من المعلوم أن الله لا يرى، و ليس بجسم، و لا له مكان، فالمعنى على سبيل المجاز قالَ ربهم لهم أَ لَيْسَ هذا اليوم الذي كان يخبر به الأنبياء و كنتم تنكرونه بِالْحَقِ و هو استفهام توبيخ و تقريع قالُوا مقرّين مذعنين بَلى هو حق وَ رَبِّنا و إنما حلفوا خوفا، فإن الخائف يردف كلامه بالحلف استمالة لقلب المخوف منه و إظهارا بأنه يوافق كلام المتكلم قالَ الله سبحانه فَذُوقُوا الْعَذابَ و المراد ب «الذوق» ليس الذائقة اللسانية، بل ذوق الجسد فإنه يطلق عليهما بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم، و كان السؤال للإهانة و الإذلال.

[32] ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفار بقوله: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ المراد بِلِقاءِ اللَّهِ جزاؤه و عقابه، كما يقال: فلان لقي عمله، أي جزاء عمله، و إلا فليس لله مكان يرى حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ أي يوم القيامة بَغْتَةً أي فجأة من «بغت يبغت» بمعنى فاجأ، و إنما ذكر ذلك لأنهم في دار الدنيا كانوا لا يحسبون حساب يوم القيامة حتى يستعدوا له. و هل المراد ب «الساعة» الموت- كما

ورد: من مات قامت قيامته

«1»- حتى يلائم ما بعده، أم المراد القيامة و يكون المراد

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 58 ص 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 61

[سورة الأنعام (6): آية 32]

وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)

العذاب الشديد لأن عذاب الآخرة أشد من عذاب القبر، احتمالان.

قالُوا أي قال هؤلاء الكفار عند معاينة الأهوال و العذاب: يا حَسْرَتَنا الحسرة شدة الندم يعني: أيتها

الحسرة احضري فهذا وقتك عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي على ما تركنا و ضيّعنا في الدنيا من أعمارنا و لم نقدم عملا صالحا ننتفع به في هذا اليوم وَ هُمْ أي هؤلاء الكفار يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ «الوزر» الثقل، و حيث إن للذنوب ثقلا تسمى أوزارا عَلى ظُهُورِهِمْ هذا من باب التشبيه، فكما أن من يحمل ثقلا على ظهره يكون في تعب و حرج، كذلك من يحمل ذنبا، و منه: «عليه دين» أَلا للتنبيه ساءَ أي بئس ما يَزِرُونَ أي ما يحملون من وزر، بمعنى: إثم و حمل خطأ.

[33] وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي ليست الحياة القريبة التي اغتر بها الكفار فعملوا لها و تركوا آخرتهم إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ «اللهو» هو ما يلهي الإنسان عن الجدّ إلى الهزل، فإن الدنيا ليست إلّا ألعابا و ملهيات و إنما كانت كذلك لأنه لا حقيقة لأعمالها فهي فانية زائلة، و إذا بالإنسان يرى نفسه و لم يحصّل شيئا. و غير خاف أن ذلك بالنسبة إلى الأعمال التي لا تعقب ثمرة صالحة، و إلّا فالدنيا مزرعة الآخرة. و نعم متجر العقلاء وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ «اللّام» للتأكيد، أي أن الدار الثانية التي هي الجنة و نعيمها خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ معاصي الله، و قد جرد «خير» عن معنى التفضيل، أو بملاحظة أن في الدنيا أيضا خيرا في الجملة، ثم إنها خير

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 62

[سورة الأنعام (6): آية 33]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)

للمتقين، أما غيرهم فالدنيا خير لهم. و لذا

ورد: «إن الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر»

«1» أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيها البشر، فإن من عقل و أدرك علم أن

الباقي السرمدي الذي لا يشوبه حزن و همّ خير من الفاني الممزوج بأنواع المصائب و الرزايا.

[34] ثم سلّى سبحانه نبيه على تكذيبهم إياه و عدم انصياعهم لأوامره و إرشاده بقوله: قَدْ نَعْلَمُ يا رسول الله، و «قد» تستعمل في المضارع للتحقيق إلّا أن الغالب أنها فيه للتقليل إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ مما ينسبونه إليك من أنك شاعر و كاهن و مجنون، و ما أشبه ذلك من السباب و الاستهزاء الذي كانوا يكيلونه للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَإِنَّهُمْ أي الكفار لا يُكَذِّبُونَكَ يا رسول الله في قرارة نفوسهم، لعلمهم أنك صادق، و هذا نوع من التسلية إذ الإنسان إذا علم أن عدوه يجلّه في قرارة نفسه، كان ذلك سلوة له لما علمه من الاحترام الكامن.

قالوا التقى الأخنس بن شريف و أبو جهل بن هشام فقال الأخنس:

يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد غيري و غيرك يسمع كلامنا فقال أبو جهل: ويحك! و الله إن محمدا لصادق و ما كذب قط، و لكن إذا ذهب بنو قصي باللواء و الحجابة و السقاية و الندوة و النبوة فما ذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 16 ص 17.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 63

[سورة الأنعام (6): آية 34]

وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

و روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام معنى آخر للآية حاصله

«إنهم لا يكذبونك بحجة و لا يتمكنون من إبطال ما جئت به من برهان»

«1».

وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ و هم الكفار

الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، و غيرهم بالمنع عن الإسلام بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي ينكرون آيات الله، كما قال سبحانه وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «2».

[35] ثم ذكر سبحانه تسلية للنبي أنه ليس بأول رسول يكذّب، بقوله:

وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ليس تنكير «الرسل» لأنه ليس هناك رسول يكذّب، حتّى ينافي قوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «3»، المفيد لتكذيب كل رسول، و إنما الكلام حيث جرى مجرى التسلية كان يكفي ذلك الإلماع إلى أن هذا الجنس أيضا في معرض التكذيب و الازدراء فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا أي على تكذيب الناس لهم وَ أُوذُوا إما عطف على «كذبوا» أو على «كذبت» حَتَّى أَتاهُمْ أي جاءهم نَصْرُنا إياهم على المكذبين، فاصبر أنت يا رسول الله حتّى يأتيك النّصر وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لا أحد يقدر على تغيير ما أخبر الله به من نصر الرسل، و إهلاك

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 86.

(2) النمل: 15.

(3) يس: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 64

[سورة الأنعام (6): آية 35]

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)

أعدائهم وَ لَقَدْ جاءَكَ يا رسول الله مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي بعض أخبار الرسل السّابقين كيف نصرناهم على أعدائهم.

[36] ثمّ بيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفّار لا يؤمنون فلا تتعب نفسك لأجلهم، و لا تحزن. و هنا نكتة بلاغيّة لا بأس ببيانها، و هي أنّ الألفاظ و الجمل وضعت للمعاني الخاصّة، لكنّها كثيرا ما تستعمل لإنشاء مفهومها الموضوع له، لكن يراد

غير ذلك، كما يستعمل الاستفهام و التعجّب بالنّسبة إليه سبحانه، مع العلم أنه لا يجهل شيئا، و لا يتعجب من شي ء، و إنما استعمال الاستفهام و التعجب بداعي التحريض أو الردع أو نحوهما، و هكذا الخطاب الغليظ أو الرقيق لأحد، قد يراد به المعنى الموضوع له، و قد يراد به داع آخر يفرغ في مثل هذا القالب، فإنك إذا أردت تنبيه أحد من جيرانك، تغلظ لولدك في الخطاب مع أنك لا تريده بالذات، فمثلا تقول: «لو أنك ألقيت النفاية بباب الدار لحبستك» فإنك لا تريده بل تنشئ هذا الكلام بداعي زجر الجار عن القيام بمثل هذا العمل، بل قد يكون عمل يستفاد منه شي ء- حسب المتعارف- يأتي به الإنسان لغرض آخر، كما لو أردت تأديب ولدك لما اقترفه من عمل سيئ، فإنك تعمل إلى خادمك و ترفسه برجلك- في هدوء- قائلا: لماذا فعلت هذا الفعل، و إنك لا تريده إطلاقا، و إنما تريد إفهام ولدك أن هذا العمل له هذا الجزاء.

و على هذا الوجه جرى الكلام في هذه الآية الكريمة وَ إِنْ كانَ كَبُرَ إنه سبحانه يريد بيان غلظة قلوب الكفار و عنادهم، لكنه يصوغه في أسلوب خطاب للنبي، بأنك توسلت بكل الوسائل من الصعود في السماء، و جعل النفق في الأرض- مما يتوسل الناس بهما في مآربهم-

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 65

فإن الكفار لا يؤمنون .. كما أن قصة موسى عليه السّلام وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ «1»، من هذا القبيل أيضا.

وَ إِنْ كانَ يا رسول الله كَبُرَ أي عظم و اشتد عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ أي إعراض هؤلاء الكفار عن الإسلام فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أي قدرت أَنْ تَبْتَغِيَ أي تطلب و تتخذ نَفَقاً أي

سربا فِي الْأَرْضِ تشبيه للمعقول بالمحسوس، فكما أن من يريد فتح مدينة، يتخذ الإنفاق من خارج المدينة إلى داخلها ثم يدخلها فجأة ليستولي عليها، فكذلك إن تمكنت أن تصنع مثل ذلك للسيطرة على أرواح هؤلاء و قلوبهم أَوْ تبتغي و تطلب سُلَّماً أي مصعدا و مرقاة فِي السَّماءِ لتصعد عليه فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي حجة و برهان، غير ما أنزلنا عليك. و جواب «إن» محذوف، أي «فافعل» حذف لدلالة الكلام عليه، كما تقول: «إن تمكنت أن تتصدق» و تحذف قولك: «فافعل».

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ أي الناس عَلَى الْهُدى بأن يلجئهم إلى قبول الإيمان، لكنه لا يشاء ذلك لأنه حينئذ يبطل الامتحان و الاختبار فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فإنّ الجاهل هو الّذي يظنّ أنّ بالإمكان العادي اجتماع النّاس كلّهم على أمر، أمّا العاقل المجرّب فيعلم أنّه ما من شي ء إلا و فيه خلاف و خصام حتّى البديهيّات الأوليّة

______________________________

(1) الأعراف: 151.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 66

[سورة الأنعام (6): آية 36]

إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

كنور الشّمس، فإنّ السفسطائيين ينكرونه، و لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في معرض الجهل حتّى يكون الكلام ردعا له، و إنما صيغ الكلام لداعي تأنيب الكفّار حتّى أن قصد هدايتهم يكون من أعمال الجاهلين.

و هنا سؤال: كيف تقولون في الآيات النازلة بالنسبة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمثل هذه المحامل، و لا تقولون في ما أشبهها من الآيات في غيره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمثل ذلك؟

و الجواب: القرينة الخارجية- و هي أن النبي معصوم- أوجبت ذلك، كما أن القرينة الخارجية أوجبت حمل «الاستفهام» من

الله تعالى على معنى آخر، بينما الاستفهام من غيره سبحانه يحمل على معناه الحقيقي.

[37] إن الذين يستجيبون لك يا رسول الله هم الأحياء الذين لم يمت الضمير في جوفهم، و الذين يكفرون فهم الأموات، فكما أن الميت لا يسمع و لا ينتفع كذلك هؤلاء إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أي يقبل الإيمان من كان حيا يسمع وَ الْمَوْتى لا سماع لهم حتّى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ في الآخرة فيسمعون، إنهم لا علاج لهم، يقول الشاعر:

لقد أسمعت لو ناديت حياو لكن لا حياة لمن تنادي

ثُمَ بعد البعث و الحساب إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي يرجعون إلى حكمه و قضائه، و هذا لتأكيد أن الكفار أموات،

كقول الإمام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 67

[سورة الأنعام (6): الآيات 37 الى 38]

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)

علي عليه السّلام «يا أشباه الرجال و لا رجال»

«1»، فإن «و لا رجال» لتأكيد الجملة الأولى.

[38] وَ قالُوا أي قال الكفار: لَوْ لا أي هلّا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ أي معجزة خارقة مِنْ رَبِّهِ فإنهم بعد ما عجزوا عن مقابلة القرآن قالوا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنزل علينا مثل عصا موسى و ناقة صالح و أشباههما حتى نؤمن بك، فردهم سبحانه بقوله: قُلْ يا رسول الله: إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً كما تقترحون وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ قدرة الله، بل إنه ليس في إنزالها مصلحة، فإنهم معاندون و

المعاند لا تفيده ألف آية، كما لم تفد مع فرعون عصا موسى عليه السّلام و مع قوم صالح عليه السّلام الناقة، و لو لم يكن هؤلاء معاندون لكفاهم الكتاب الحكيم. ثمّ إن إتيان آية موسى عليه السّلام أو ما أشبهها أبعد لقبولهم، إذ القرآن الذي هو على لسانهم ينسبونه إلى السحر، فكيف بالعصا التي ليست من مهنتهم؟! [39] و حيث أن جو هذه السورة حول التوحيد و شؤونه و الآيات الكونية و ردع الكفّار بمختلف أصنافهم عن عقائدهم الباطلة، بيّن سبحانه بعض مخلوقاته الدالة على وجوده و صفاته الكمالية بقوله: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ من «دبّ يدبّ» إذا تحرك، ثم عمّ كل حيوان و لو لم يتحرك،

______________________________

(1) نهج البلاغة: خطبة 27 ص 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 68

[سورة الأنعام (6): آية 39]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

كما أنه يشمل حيوانات البر، لمقابلته بالطائر، و ذكر «في الأرض» للتعميم، وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ كما أن ذكر «يطير بجناحيه» للتعميم أيضا، و السر أنه كثيرا ما يعبّر بمثل هذا التعبير و يراد به العموم مبالغة، فإذا جاء القيد أفاد العموم الاستغراقي إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أيها البشر فإن كل نوع منهما أمة مستقلة و هي مثلكم في الإبداع و لطف الصنع و دقة التركيب ما فَرَّطْنا أي ما تركنا فِي الْكِتابِ أي كتاب الكون، فإن الكون كتاب الله و الموجودات كلماته، و إنما سمّي الكون كتابا، لأن الكتاب بمعنى الجمع، من كتب بمعنى جمع، و هذا الكون قد جمع الأشياء فهو كتاب الله التكويني مِنْ شَيْ ءٍ فهذا الكتاب قد

اشتمل على جميع الأشياء و مختلف الأصناف، فهل بعد ذلك يطلب أحد دليلا على وجود الله؟ ثُمَ هذه الأمم كلها بعد الممات إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أي يجمعهم يوم القيامة جميعا، كما قال: وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ «1»، فمنه سبحانه بدؤها و إليه عودها.

[40] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا الدالة على وجودنا و سائر صفاتنا، بعد هذه الدلائل الواضحة صُمٌ جمع «أصم» و هو الذي لا يسمع وَ بُكْمٌ جمع «أبكم» و هو الذي لا يتكلم، فهم كالذي لا يسمع و لا يتكلم حتّى يكتسب العلم و يدركه فإن العلم يأتي من الأذن و يخرج

______________________________

(1) التكوير: 6.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 69

[سورة الأنعام (6): آية 40]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40)

من اللسان فِي الظُّلُماتِ فلا يبصر حتّى يرى الأشياء، فإن الكافر مثل هذا الشخص لأنه قد عطّل جوارحه فلا يدرك شيئا كما لا يدرك الأعمى الأبكم الأصم شيئا مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي يتركه و لا يجبره على الهداية حتى يضل الطريق و ذلك بعد ما بين له الحجة فلم يقبل بل أعرض عنها- و قد تقدم معنى ذلك- وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ باللطف الخفي به، كما قال سبحانه: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «1»، وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «2».

[41] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ رَأَيْتَكُمْ أي أخبروني؛ فإن «أ رأيت» بمعنى «أخبر»، و «كم» للخطاب، و هو يتغير حسب إفراد المخاطب و تثنيته و جمعه، كقوله سبحانه: أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ «3»، إِنْ أَتاكُمْ أي جاءكم عَذابُ اللَّهِ بأن نزلت صاعقة

أو خسفت بكم الأرض أو ما أشبههما- كما حدث في الأمم السابقة- أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أي القيامة بأهوالها و عذابها أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ لكشف العذاب و الأهوال عنكم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن هذه الأصنام آلهة؟! و هم بفطرتهم يجيبون بالنفي، و أنهم لا يدعون غير الله، بل يدعون الله وحده، و في ذلك دلالة على بطلان الأصنام و عبادتها.

______________________________

(1) محمد: 18.

(2) العنكبوت: 70.

(3) الإسراء: 63.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 70

[سورة الأنعام (6): الآيات 41 الى 43]

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43)

[42] و لذا قال سبحانه بَلْ إِيَّاهُ أي الله سبحانه تَدْعُونَ و تقبلون عليه في شدائدكم فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي يرفع الضر الذي دعوتموه من أجله إِنْ شاءَ الكشف عنكم وَ تَنْسَوْنَ في وقت الشدة ما تُشْرِكُونَ من دون الله.

[43] ثم بيّن سبحانه أن الأمم الماضية لما أتتهم الرسل و لم يؤمنوا بهم أصابهم أنواع البلاء، و أن حال هؤلاء كحال أولئك إن لم يؤمنوا وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رسلنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ يا رسول الله فلم يؤمنوا فَأَخَذْناهُمْ أي أخذنا تلك الأمم بِالْبَأْساءِ أي الفقر و البؤس وَ الضَّرَّاءِ أي الأوجاع و الأسقام لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي كي يتضرعوا إلى الله سبحانه، فإن الإنسان إذا ابتلي بالبلاء كان أقرب إلى الله سبحانه، و في ذلك لطف بالنسبة إليه.

[44] لكنهم لم يتضرعوا و حتى في هذه الحالة ركبوا العناد و سلكوا سبيل

اللّجاج فَلَوْ لا أي هلّا- و هي كلمة توبيخ- إِذْ جاءَهُمْ أي جاء تلك الأمم بَأْسُنا تَضَرَّعُوا و خضعوا لله وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ بسبب استمرارهم في الكفر و العصيان فلم تجد الهداية إلى قلوبهم سبيلا وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فرأوا أعمالهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 71

[سورة الأنعام (6): الآيات 44 الى 46]

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)

حسنة، و لذا لم يتركوها.

[45] فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا ما ذكّرناهم من أوامرنا و لم يعملوا بما دعاهم الرسل إليه فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ من النّعم حيث قد أقبلت الدنيا عليهم من جميع النواحي بعد تلك البأساء و الضراء.

و ذلك لأجل احتمال إفادة التذكير بالنعم حتى يشكروا بارئها و المتفضل بها عليهم حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أي بما أعطاهم الله من النعم و اشتغلوا بالتلذذ و لم يقبلوا أمر الرسل، بل صار ذلك سببا لزيادة طغيانهم و كفرهم أَخَذْناهُمْ بالهلاك و النكال بَغْتَةً أي فجأة فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ من «بلس» إذا تحسّر، أي أنهم متحيّرون آيسون من النجاة.

[46] فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «الدابر» الأصل، أي استؤصل و قطع أصل القوم بسبب العذاب وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي أهلك الكفار و أراح البلاد و العباد منهم.

[47] ثم احتج الله على الكفار بحجة أخرى تدل

على بطلان أصنامهم و أن الأمر لله وحده قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يشركون بالله سبحانه: أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني، فقد تقدم أن «أ رأيت» بمعنى أخبرني إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ أي أذهب بها فصرتم صمّ و عمي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 72

[سورة الأنعام (6): الآيات 47 الى 48]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (48)

وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي سلب عقولكم حتى صرتم لا تعقلون، أو المراد الطبع عليها حتى تبتعد عن الخير مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك الشي ء المأخوذ منكم، فإنهم يعترفون بأن الأصنام لا تتمكن من إعادة الأشياء المذكورة انْظُرْ يا رسول الله كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نبيّن لهم في القرآن الآيات الدالة على التوحيد، و «تصريف الآيات» توجيهها، من «صرف» إذا أرسل ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ من «صدف» بمعنى أعرض، أي يعرضون عن الحق و عن القائل في الآيات.

[48] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ رَأَيْتَكُمْ أي أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بعد ما أنذرتكم و لم تؤمنوا بَغْتَةً أو مفاجأة خفية، فإن الفجأة تلازم الخفية أَوْ جَهْرَةً علانية بلا فجأة هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الكافرون الذين ظلموا أنفسهم، و العاصون، و المراد بالهلاك ما يسبب خسارة الدارين، أما المؤمن لو هلك، فإنه لا يخسر إلّا الدنيا، و يعوّض عنها بأنواع الإنعام، و في هذا الاستفهام إيقاظ و تنبيه و ردع لهم من الظلم، فأي أحد يجب أن يهلك إذا أتى العذاب.

[49] وَ

ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالجنة و الثّواب لمن آمن و أصلح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 73

[سورة الأنعام (6): آية 49]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)

وَ مُنْذِرِينَ بالنار و العقاب لمن كفر أو عصى فَمَنْ آمَنَ بما أمر الله الإيمان به وَ أَصْلَحَ أعماله فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لا في الدنيا و لا في الآخرة، أما في الآخرة فواضح، و أما في الدنيا فلأن الخوف و الحزن الحقيقيين ما كانا مع الانقطاع عن العوض و الثواب و ما أشبهها، و ليس المؤمن كذلك فإنه يعلم أن ما يصيبه يعقبه الثواب و الأجر. و لذا

قال الإمام الحسين عليه السّلام يوم عاشوراء: «هوّن عليّ ما نزل بي أنه بعين الله»

«1»، و الارتباط بين هذه الآية و الآية السابقة واضح فإن العذاب لما وعد به الكفار بيّن أن الرسل شأنهم التبشير و الإنذار.

[50] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ أي يصيبهم العذاب بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم و خروجهم من طاعة الله سبحانه.

ثم لا يخفى أن الغالب تفسير الآيات الدالة على العذاب بعذاب الآخرة، مع أن الإطلاق خلاف ذلك، فإن من أعرض عن ذكره سبحانه يصيبه العذاب في الدنيا و في الآخرة، كما قال سبحانه: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «2»، و سببه واضح فإن المناهج التي يتبعها الإنسان مما وضعها غير الله سبحانه لا بد و أن تكون منحرفة، و هذا الانحراف يسبب الفوضى و الاستبداد و ما أشبه،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 45 ص 45.

(2) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 74

[سورة الأنعام (6): آية 50]

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ

وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)

مما يؤذي الإنسان و ينغّص عيشه.

[51] إن الكفار كانوا يستعظمون كيف يمكن أن يكون الإنسان رسولا بدون أن يكون له مال عريض أو علم غيب ذاتي يعينه في أموره و حوائجه، و يردّ الله سبحانه عليهم ذلك، بأن الرسالة لا ترتبط بهذه الأمور، و إنما هي هداية و نور قُلْ يا رسول الله: لا أَقُولُ لَكُمْ أيها الناس عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ التي يهب منها لمن يشاء ما يشاء. و من المعلوم أنه ليس لله سبحانه خزائن بالمعنى المتعارف لدينا، بل خزائنه الأرض و الشمس و المعادن و ما أشبه، مما تفيض ثروة و مالا.

و في الحديث القدسي «إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له كن فيكون»

«1».

و المراد ب «عدم القول» عدم الوجود، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع وَ لا أقول أَعْلَمُ الْغَيْبَ كما يعلم الله سبحانه، بل إنما أعلم بما يوحي إليّ بإذن الله سبحانه، كما قال عيسى عليه السّلام: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ «2»، و في الآية الكريمة: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «3»، وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ كما أنكم تتوقعون أن يكون الرسول ملكا إِنْ أَتَّبِعُ أي ليس لي شأن إلّا أن أتبع، و «إن» بمعنى «ما» إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ من الأوامر و النواهي لأجل الإرشاد و الإصلاح قُلْ يا رسول الله لهم: إن مثل المؤمن و الكافر كمثل البصير الذي يبصر الأشياء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 135.

(2) آل عمران: 50.

(3) الجن:

27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 75

[سورة الأنعام (6): الآيات 51 الى 52]

وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

و الأعمى الذي لا يبصر هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ؟ كلّا، إن كل أحد يعلم بأنهما ليسا متساويين. و لعل تقديم الأعمى لأن الخطاب كان مع الكفار الذين هم بمنزلة الأعمى أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ في الأمر و أن مقام الرسالة لا يرتبط بما ذكرتم من الأشياء.

[52] وَ أَنْذِرْ يا رسول الله بِهِ أي بالقرآن، فإنه قد تقدّم ذكره بلفظ «ما يوحى إليّ» الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ و الخوف هنا ليس بمعنى الاحتمال، كقولك: «أخاف أن يهدم البناء»، بل بمعنى الخوف القطعي، فهو كقولك: «أخاف من الجلاد» و هو يريد القتل. و المراد ب «الذين يخافون» المعترفون بالبعث، و إنما قد أنذر هؤلاء مع أن الإنذار عام، لأن هؤلاء هم المنتفعون بالإنذار، أما من أعرض فلا ينتفع به لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ أي من دون الله تعالى وَلِيٌ يلي أمورهم هناك وَ لا شَفِيعٌ و ليس المراد أن الله يشفع إذ لا معنى لشفاعته، بل المراد أن الشفاعة بيده، فلا يشفع أحد إلّا بإذنه، كما قال سبحانه: لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1»، لَعَلَّهُمْ أي هؤلاء الذين أنذرتهم يَتَّقُونَ معاصي الله، و يأتمرون بأوامره.

[53] إن من يخاف الحساب، أنذره يا رسول الله و لا تطرده من عندك و إن طلب الأشراف ذلك

وَ لا تَطْرُدِ من مجلسك الَّذِينَ يَدْعُونَ

______________________________

(1) الأنبياء: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 76

[سورة الأنعام (6): آية 53]

وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ أي صباحا وَ الْعَشِيِ طرف العصر يُرِيدُونَ بالدعاء و الضراعة وَجْهَهُ أي ذاته سبحانه خالصا مخلصا. و قد ورد أنه مرّ ملأ من قريش على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده صهيب و خباب و بلال و عمار و سلمان و غيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أ فنحن نكون تبعا لهم؟ أ هؤلاء الذين منّ الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم تبعناك. فنزلت الآية.

و في بعض التفاسير أنه طعن أولئك الأشراف في سيرة هؤلاء الفقراء و أعمالهم، كي يدفعوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لإبعادهم عنه، فرد عليهم سبحانه بقوله: ما عَلَيْكَ أي ليس عليك مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فأنت لا تتحمل تبعة سيرتهم وَ ما مِنْ حِسابِكَ يا رسول الله عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فإنهم لا يطالبون بحسابك، بل كلّ و عمله، فسيرتهم لو كانت كما يقولون لا تضرك فَتَطْرُدَهُمْ فإن الشخص إنما يطرد من تضره سيرته، أما من كان قلبه عامرا بالإيمان و صلاته دائمة طرفي النهار فإن فقره و سيرته لا يوجبان طرده- لو فرض أن في سيرته ميل- فَتَكُونَ بسبب طردهم مِنَ الظَّالِمِينَ لهم، أو لنفسك، فإن الإنسان إذا ظلم غيره فقد ظلم نفسه أيضا، و سيقت هذه الجملة مبالغة في ردع من طلب طرد أولئك.

[54] وَ كَذلِكَ أي هكذا فَتَنَّا أي ابتلينا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ حيث ابتلينا

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 2، ص: 77

[سورة الأنعام (6): آية 54]

وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

الأشراف و الفقراء لِيَقُولُوا أولئك الأشراف: أَ هؤُلاءِ أي هل هؤلاء الفقراء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا حتى عمّهم النبي بلطفه، و جعلهم ندماءه و موضع سره؟ نعم، ليس الإسلام ينظر للناس كما ينظر أهل الدنيا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أنهم شاكرون، و الشاكر أفضل من غيره عند الإسلام، و إن كان غيره في نظر الناس شريفا، فإن الميزان عند الإسلام التقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1».

[55] و الإسلام لا يسد الأبواب على العاصي، و إنما يفتح له باب التوبة.

و قد ورد أن جماعة جاءوا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما، فلم يرد عليهم شيئا فانصرفوا، فنزل قوله تعالى وَ إِذا جاءَكَ يا رسول الله الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا أي بدلائلنا و براهيننا فَقُلْ لهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي أنتم في سلام لا في عذاب و عقاب، يقبل عذركم و يغفر ذنبكم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي أنه فرض على نفسه- حسب حكمته- أن يرحم العباد و يشملهم بلطفه و إحسانه أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ و المراد بالجهالة هنا ليس الجهل مقابل العلم، بل عدم المبالاة، و إنما سمي بذلك لأن العالم التارك

______________________________

(1) الحجرات: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 78

[سورة الأنعام (6): الآيات 55 الى 56]

وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ

لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)

لعلمه هو و الجاهل سواء، و كأنه للجهل بالنتائج و العواقب المرتبة على العمل، و إلا فالآية تشمل العمل، بل هو موردها.

ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد العمل وَ أَصْلَحَ أي عمل صالحا فَأَنَّهُ أي الله سبحانه غَفُورٌ لذنبه رَحِيمٌ به. و كان الإتيان ب «رحيم» بعد «غفور» غالبا، لإفادة الفضل في لطفه و إحسانه.

[56] وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي كما سبق نفصل الأدلة و البراهين الدالة على التوحيد و سائر شؤون المبدأ و المعاد، و نشرحها و نبيّنها، حتى يتضح سبيل المهتدين وَ لِتَسْتَبِينَ أي تظهر سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ المعاندين، فإن في بيان الحق وضوح الأمرين؛ سبيل المحق و سبيل المبطل. و لفظة «سبيل» مما يجوز التذكير و التأنيث، و لذا قال: «تستبين» بالتأنيث.

[57] ثم أمر سبحانه رسوله بالبراءة مما يعبد المشركون بقوله: قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها، و المراد ب «من دون الله» ما خلا عبادة الله، فإن النهي أعم من عبادة الأصنام وحدها أو بالاشتراك مع عبادة الله، فإن عبادة الأصنام إنما أتت من هوى النفس لا من دليل عقلي أو منطقي قُلْ يا رسول الله لهم: لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ في عبادة الأصنام قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً إذا فعلت أنا ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 79

[سورة الأنعام (6): الآيات 57 الى 58]

قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي

وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ لو عبدت الأصنام.

[58] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ أي أمر واضح بيّن لا غموض فيه مِنْ رَبِّي أي أن تلك البينّة أتتني من جانب الله سبحانه، لا مثلكم أتبع هوى النفس وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ أي بما أنا عليه من الدليل و البيّنة، و قد كان الكفّار يطلبون من الرسول- استهزاء- أن ينزل عليهم العذاب الذي يعدهم، كما قال سبحانه: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ «1»، فرد عليهم بقوله: ما عِنْدِي أي ليس باختياري و أمري ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي الذي تطلبون سرعته إِنِ الْحُكْمُ أي ليس الحكم في باب العذاب إِلَّا لِلَّهِ فهو وحده يَقُصُّ الْحَقَ أي يبيّنه وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ الذي يفصّل الأمور، فإذا اقتضت المصلحة أتاكم بالعذاب و يفصل الأمر و تنتهي المشكلة، و من المعلوم أن إنزال العذاب له مقاييس خاصة، و أوقات محددة، فليس كل من طلب العذاب يجاب فورا و إن كان من أكثر الناس إجراما.

[59] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يطلبون سرعة العذاب لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي بأمري و إرادتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من إنزال العذاب

______________________________

(1) الحج: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 80

[سورة الأنعام (6): آية 59]

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)

بكم لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إذ أهلككم فأستريح منكم، لكن ذلك بإذن الله و مشيئته وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ و بمقتضى عمله يقدم العذاب تارة و

يؤخره أخرى.

[60] و حيث ذكر علمه سبحانه بالظالمين يأتي السياق ليذكر الكافرين بعلمه سبحانه و قدرته و أعماله، في أنفسهم و في الآفاق، إنها أقوى الأدلة على وجوده و سائر صفاته الكلامية، و هل من حاجة بعدها إلى الخوارق التي كانوا يقترحونها لإثبات كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ عِنْدَهُ أي عند الله سبحانه مَفاتِحُ جمع «مفتح» بمعنى المفتاح الْغَيْبِ أي ما غاب عن الحواس و المشاعر، فكأن الغيب قد سدّت أبوابه و أقفلت فلا يتمكن الإنسان أن يرى ما ورائها، و ليس بيد أحد مفاتيح تلك الأبواب ليفتحها و يرى الغيب، و إنما هي بيد الله سبحانه وحده، فهو الذي يعلم الغيب كله و يتمكن أن يفتح تلك الأبواب لمن أراد من خلقه، كما قال: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1»، لا يَعْلَمُها أي لا يدري ما هي تلك المفاتيح إِلَّا هُوَ أي إلّا الله سبحانه، و حيث أن كشف الغيب يحتاج إلى العلم بالكشف و القدرة على الكشف، و كان المقام مقام بيان عمله سبحانه، قال سبحانه «لا يعلمها» فلا يقال أن الأنسب أن يقول: «لا يقدر عليها» لا أن يقول «لا يعلمها». فالأرزاق و الآجال و ما أشبههما، التي تأتي في المستقبل، لا يعلمها إلّا الله سبحانه وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ

______________________________

(1) الجن: 27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 81

[سورة الأنعام (6): آية 60]

وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)

وَ الْبَحْرِ المراد بالبر: الأعم من المدن، و البحر: الأعم من الأنهار، بقرينة المقابلة وَ

ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ من أوراق الأشجار إِلَّا يَعْلَمُها، وَ لا من حَبَّةٍ كامنة فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ أي جوفها، أو لا تسقط حبة في باطن الأرض مما تزرع أو غيره. و قد كان التقابل بين «ما تسقط من ورقة» و بين «و لا حبة» لطيفا جدا، حيث أن الأول حركة الحياة إلى الموت، و السقوط الثاني حركة الموت إلى الحياة و الارتفاع وَ لا من رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ من جميع الأشياء و الأصناف. و هذا و إن كان أخص من الموجودات، لأن من الأشياء ما لا يتصف برطوبة لا يبوسة كالعقل، إلّا أن العموم يشمله الفحوى، و كثيرا ما يقال اللفظ الأخص و يراد الأعم حيث أن الأخص صار مثلا، كقوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «1»، فإن الأكثر داخل بالفحوى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي إن جميع الأشياء محفوظة عند الله سبحانه في كتاب واضح جليّ، و هو اللّوح المحفوظ، أو المراد بالكتاب علمه الشامل. و لعلّ التعبير بالكتاب لأجل بيان أنه محفوظ لا يزول، كما أن الكتاب كذلك.

[61] وَ هُوَ سبحانه كما يعلم الأشياء كذلك تجري الأشياء بقدرته و إرادته، فأنتم أيها البشر في قبضته و طوع أمره، فإنه الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أيها البشر بِاللَّيْلِ أي يقبض أرواحكم عن التصرف، و «التوفي» أخذ

______________________________

(1) التوبة: 80.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 82

[سورة الأنعام (6): آية 61]

وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)

الشي ء كاملا و منه الوفاة، فإن الإنسان إذا نام أخذ الله روحه المتصرفة التي تبصر و تسمع و تذوق و تلمس و تشم، و هذه الآية كقوله سبحانه:

اللَّهُ يَتَوَفَّى

الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «1»، و إنما الفرق أن الموت توف بمعنى أتم من التوفي، بمعنى النوم وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ أي ما كسبتم و فعلتم، أي عملتم بجوارحكم بِالنَّهارِ و هذا التفصيل خارج مجرى الغالب، و إلا فهو يتوفى بالنهار لمن نام فيه، و يعلم ما جرح الإنسان بالليل لمن عمل فيه ثُمَ بعد توفيكم بالليل يَبْعَثُكُمْ أي يوقظكم و ينبهكم من نومكم فِيهِ أي في النهار لِيُقْضى أي لينهى أَجَلٌ مُسَمًّى أي أمدكم الذي سماه سبحانه في اللوح المحفوظ، يعني أنه إنما يوقظكم في النهار حتّى لا يموت الإنسان قبل وقته ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ بعد تمام المدة و انتهاء الأمد، ترجعون إليه سبحانه في الآخرة، و المراد: إلى حسابه، و إلا فليس له سبحانه محلّ، فإنه منزّه عن الزمان و المكان ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم- بعد رجوعكم إليه- بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ليعطي كلّ ذي جزاء جزائه، إن خيرا فخير، و إن شرا فشر.

[62] وَ هُوَ سبحانه الْقاهِرُ أي القادر الذي يقهر و يجبر كما يشاء فَوْقَ عِبادِهِ أي مستعل عليهم، فإن من يتصرف في الإنسان يكون

______________________________

(1) الزمر: 43.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 83

[سورة الأنعام (6): آية 62]

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)

فوقه رتبة، و ليس المراد الفوقية الحقيقية، فإنه منزه عن المكان وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً جمع حافظ، و هم الملائكة الذين يبعثهم الله تعالى لحفظ الإنسان عن العطب، و حفظ أعماله في دفاتر سجلات ليجزي كلّا حسب ما عمل حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ و صار وقت أن يموت تركه الحافظ له و أسلمه إلى حتفه تَوَفَّتْهُ أي قبضت روحه كاملة رُسُلُنا أي

الملائكة المرسلة لأجل هذه الغاية وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ بأن يقدموا أخذ الروح أو يؤخروها، أو يشددوا في النزع أو يخفّفوا، بل يفعلون ما يؤمرون، و إنما أتي بلفظ «رسلنا» جمعا، لأن لملك الموت أعوانا، كما ثبت من السنة، و لعل في قوله: الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ «1»، دلالة عليه.

[63] ثُمَ بعد ما أخذت الملائكة أرواحهم رُدُّوا أي رجعت أرواحهم إِلَى اللَّهِ أي في المكان المهيأ لهم من قبله سبحانه مَوْلاهُمُ الْحَقِ أي سيدهم بالحقيقة، لا مثل سيادة الأصنام عليهم أَلا فلينتبه الناس أن الله لَهُ وحده الْحُكْمُ في جميع الأمور الكونية، حتى قبض أرواحهم و محاسبتهم هناك وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ و حسابه سريع لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه حساب المحاسبين من الوقت و نحوه، فليس هناك بطء في الحساب حتّى يكون للمحاسب مجال

______________________________

(1) النساء: 98.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 84

[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 65]

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

واسع لكي يتمّ حسابه.

[64] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفّار، دلالة على قدرته سبحانه الكاملة:

مَنْ يُنَجِّيكُمْ و يخلصكم مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ أي من شدائدهما و أهوالهما، فإنّهم يقولون لليوم الشّديد: «يوم مظلم» تشبيها، فكما أنّ الإنسان لا يهتدي طريقه في الليل و الظلمة، كذلك لا يهتدي طريقه في الشّدائد تَدْعُونَهُ أي تدعون الله تعالى

إذا وقعتم في الشّدّة و الظلمة تَضَرُّعاً ضراعة و استكانة بلسانكم وَ خُفْيَةً و سرا في نفوسكم، فتتوافق الظواهر و البواطن في الضراعة و المسألة لكي ينجيهم الله سبحانه، قائلين: لَئِنْ أَنْجانا ربنا مِنْ هذِهِ الشّدّة و الكارثة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ الذين يشكرون نعمائه عليهم معترفين به و بفضله و إحسانه.

[65] قُلِ يا رسول الله لهؤلاء: اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها أي من هذه الشدّة وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ أي يخلّصكم من كلّ غمّ و همّ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ به غيره، و ترجعون إلى شرككم و عصيانكم، كما قال سبحانه: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ «1».

[66] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: الله هُوَ الْقادِرُ عَلى

______________________________

(1) العنكبوت: 66.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 85

[سورة الأنعام (6): آية 66]

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)

أَنْ يَبْعَثَ أي يرسل عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كالصواعق أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كالخسف أَوْ يَلْبِسَكُمْ من «لبس عليه الأمر» إذا خلط بعضه ببعض أي يخلطكم شِيَعاً جمع «شيعة» أي فرقا، مختلفي الأهواء لا تكونون أمة واحدة، بل أحزابا و أهواء وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ فهم في عداء مستمر و حروب دائمة، و إنما ينسب ذلك إليه سبحانه، لأنه يكلهم إلى أمرهم بعد أن أعرضوا عن طريقه، و تركوا منهاجه انْظُرْ يا رسول الله. و المراد بالنظر التأمل و التفكر كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نردّد الدلائل على التوحيد و نكررها مرة بعد مرة لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ أي يفهموا الحق، و يذعنوا للخالق و يتجنبوا الكفر و الباطل.

[67] وَ كَذَّبَ بِهِ أي بما نصرّف من الآيات قَوْمُكَ يا رسول الله، و المراد بهم إما قريش، و إما العرب،

و إما الناس المبعوث إليهم بصورة عامة، و المراد بالتكذيب: تكذيب أغلبهم لا جميعهم، لوضوح إيمان بعض من كلّ من الطوائف الثلاث به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين نزول الآية وَ هُوَ الْحَقُ أي ما نصرفه من الآيات حق لا مرية فيه قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي موكل إليّ أمركم حتى يضرني تكذيبكم، بل أنا مبلّغ، و قد بلغت ما أمرت بتبليغه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 86

[سورة الأنعام (6): الآيات 67 الى 68]

لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

[68] ثم بيّن سبحانه أن ما أخبر به الرسول من وعيد المكذبين بشر الدنيا و الآخرة لا بد و أن يظهر، و هناك يعلم المكذبون أنهم خسروا، و أن تكذيبهم عاد بالوبال عليهم لِكُلِّ نَبَإٍ أي لكل خبر مُسْتَقَرٌّ أي محل استقرار يظهر هناك صدقه، فما كان في الدنيا يظهر أثره في الدنيا و ما كان في الآخرة يظهر أثره في الآخرة وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ أيها المكذبون عاقبة أمركم.

[69] إن أول حركة لا بد و أن يختلط المؤمنون بها و المناوئون لها، و لا بد و أن يكون ضعاف النفوس من المؤمنين يكتسبون من المعاندين بعض الأفكار المعادية، و لا أقل من أن يجبنوا عن الاستمرار و التظاهر، و لذا فمن اللازم أن يجنّب القادة أتباعهم عن الاختلاط خصوصا حالة التهجم من المعاندين وَ إِذا رَأَيْتَ يا رسول الله الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا خوض المناقشة و الاستهزاء، و الخطاب و إن كان

موجها إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا أنه عام لجميع المسلمين فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي فاتركهم و لا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أي غير ما خاضوا فيه أولا، بأن يتكلموا في سائر المواضيع فلا بأس حينئذ من مجالستهم و التكلم معهم وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن نسي المسلم و جلس مع الخائضين في آيات الله، و الجملة شرطية، أي: و إن أنساك، و «ما» زائدة، و من المعلوم أن الشرط لا ينافي العصمة، فإن الجملة الشرطية تأتي حتّى مع استحالة طرفيها نحو:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 87

[سورة الأنعام (6): آية 69]

وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «1»، فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى أي بعد التذكر، لكون مجالستهم محرمة منهي عنها مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين يخوضون في الآيات.

[70] وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أي هل على المؤمنين المتقين مِنْ حِسابِهِمْ أي حساب الكفار الخائضين في آيات الله مِنْ شَيْ ءٍ؟

فإنهم ليسوا بمسؤولين عن خوضهم في الآيات وَ لكِنْ قيامهم عن المجالس إذا خاضوا ذِكْرى أي تذكير للخائضين بأنهم يعملون عملا سيّئا، و إنما قال «ذكرى» لأن الخائض يعلم سوء فعله في قرارة نفسه، لكنه يغفل غالبا حين الخوض، فأمر المسلم أن يقوم من مجلسه ليتذكر لَعَلَّهُمْ أي لكي ينتهي الخائضون و يَتَّقُونَ و يتورعون عن الخوض.

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال لما نزلت «فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» قال المسلمون: كيف نصنع إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا و تركناهم فلا ندخل المسجد الحرام و لا نطوف بالبيت الحرام؟ فأنزل الله

سبحانه: «وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ» أمرهم بتذكيرهم و تبصيرهم ما استطاعوا

«2».

______________________________

(1) الزخرف: 82.

(2) مستدرك الوسائل: ج 12 ص 312.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 88

[سورة الأنعام (6): آية 70]

وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

[71] وَ ذَرِ أي اترك يا رسول الله الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً المراد من «دينهم»: الذي يتدينون به من عبادة الأصنام، و المسيحية و اليهودية و ما أشبه، و المراد باتخاذه لعبا و لهوا: أنهم كالأطفال الذين يتخذون آلة للعب و اللهو فلا علاقة لهم بها إلا علاقة التلاعب، لا أنه دين وصل إلى أعماق قلوبهم و أخذ يوجه حياتهم، و أما دينهم الذي يجب أن يتدينوا به- أي الإسلام- و نسبته إليهم لأجل وجوب اتخاذه دينا، و اتخاذه لعبا و لهوا استهزاؤهم به كأنه لعب و لهو وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا زاعمين أنه ليس ورائها شي ء، و شغلتهم الدنيا عن الدين وَ ذَكِّرْ يا رسول الله هؤلاء الكفار بِهِ أي بالدين أَنْ تُبْسَلَ من «بسل» بمعنى استسلم، أي لكي لا تسلم نَفْسٌ للهلكة بِما كَسَبَتْ أي بسبب عملها، فإنك إن ذكّرت لعلها تعود إلى الرشد و تنقذ من الهلكة حيث لَيْسَ لَها أي للنفس مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله وَلِيٌ ناصر ينصرها وَ لا شَفِيعٌ يشفع لها، فإن الشفاعة بيد الله وحده وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ

عَدْلٍ أي تفدي بكل ما يمكن جعله فدية، لتنقذ نفسها من العذاب لا يُؤْخَذْ مِنْها إذ ليس الميزان هناك إلا العمل وحده أُولئِكَ الذين اتخذوا دينهم لعبا و لهوا هم الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا أي أهلكوا «ب» سبب «ما كسبوا» من الأعمال و العقائد الباطلة لَهُمْ شَرابٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 89

[سورة الأنعام (6): آية 71]

قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71)

مِنْ حَمِيمٍ أي: الماء الذي يشربون إنما هو من حميم جهنم، و هو الماء المغلي الحار وَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مؤلم موجع بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي بسبب كفرهم.

[72] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا أي هل ندعو الأصنام التي لا تنفعنا إن عبدناها وَ لا يَضُرُّنا إن تركنا عبادتها وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي نرجع القهقرى، فإن من أتى إلى مكان ثم رجع إلى محله الأول كان خاسرا، و «الأعقاب» جمع «عقب» بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى دينه و صراطه كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ أي استغوته الشَّياطِينُ أي الغيلان فِي الْأَرْضِ أي البيداء، بأن أخرجته الشياطين من الجادة إلى المهلكة حَيْرانَ لا يدري أ يتبع أصحابه أم يتبع الشياطين لَهُ أي لهذا الذي استهوته الشياطين أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى إلى الجادة، و أن لا يتبع الشياطين، قائلين له:

ائْتِنا أي جئنا و كن معنا. فإن قسما من الغول- و هم سحرة الجن- يكونون في الصحراء، يؤذون بعض المارة، فإذا رأى

الشخص جماعة منهم يستهوونه قائلين له: من هنا الجادة- و يدلّونه إلى المفاوز المهلكة- فهو يتحير بين أن يسير مع هذه الجماعة التي تصبغ نفسها بصبغة أدلاء الطريق و أنها من أهل البادية تعرف الطريق الموصل من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 90

[سورة الأنعام (6): الآيات 72 الى 73]

وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

غيره، أم يسير مع رفاقه الذين خرج معهم، حيث أنهم رفاقه، لكنهم- بزعمه- يمشون على غير الطريق و يصيبهم العطب أخيرا. و هناك قسم من الناس ينكرون الجن و الغول و الشيطان، لكنه من ضيق الأفق، فإن العلمين القديم و الحديث أيّدا الدين و القصص المؤكدة لوجود ذلك «1».

قُلْ يا رسول الله: إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى الذي ينبغي للإنسان أن يتبعه و يترك غيره وَ أُمِرْنا أي أمرنا الله و أرشدنا العقل لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ في جميع شؤوننا.

[73] وَ أمرنا أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أي بإقامة الصلاة، فإن حذف حرف الجر، مع أن «و أن» مطرد شائع، كما قال ابن مالك:

و الخوف مع أن و إن يطردمع أمن لبس كعجبت أن يدو

وَ اتَّقُوهُ أي احذروا عقاب الله تعالى وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي تجمعون يوم القيامة ليحاسبكم على ما عملتم من خير و شر.

[74] وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و المراد بالسماوات: إما الأجرام هناك، أو المدارات للكواكب بِالْحَقِ أي ليس بالباطل فإن

______________________________

(1) أنظر كتاب «على حافة العالم الاثيري»

لفريد وجدي، مادة «اسبرتزم».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 91

من يصنع شيئا قد يصنعه عبثا و باطلا و قد يصنعه لغاية و حكمة، فمعنى بالحق: أن الخلق ليس عبثا، كما قال سبحانه: ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ «1»، وَ يَوْمَ يَقُولُ سبحانه لشي ء كُنْ و اخرج من العدم إلى الوجود فَيَكُونُ و يوجد قَوْلُهُ الْحَقُ الظاهر أنه العامل في «يوم» أي أن قوله تعالى يكون و يتحقق في أي يوم قال لشي ء «كن» فهو سبحانه خلقه بالحق، و قوله حق، أي متحقق ثابت لا خلف فيه، و ليس كأقوال من تذهب أقواله باطلة.

وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الصور هو الآلة التي ينفخ فيها لأجل هلاك الناس جميعا، و هو في آخر يوم من أيام الدنيا، أو لأجل أحيائهم جميعا، و هو في أول يوم من أيام الآخرة، يعني أنه سبحانه الملك الوحيد الذي لا يوجد ملك غيره، في ذلك اليوم. و الفقرات الثلاثة في الآية لبيان الأحوال الثلاثة، الخلق للأشياء، و التصرف في الكون بما يشاء الله، و كون المعادلة له سبحانه، و هو عالِمُ الْغَيْبِ أي يعلم ما غاب عن الحواس، لعدم إدراك الحواس له، أو لكونه من الأمور المستقلة وَ الشَّهادَةِ أي ما يشاهده الناس، و أتى بهذه الجملة هنا، ليتناسق العلم مع القدرة، وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أفعاله الْخَبِيرُ بالأشياء، فلا يعمل شيئا اعتباطا و عبثا

______________________________

(1) آل عمران: 192.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 92

[سورة الأنعام (6): الآيات 74 الى 75]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ

(75)

[75] و بعد ما بيّن سبحانه الأدلة حول التوحيد، أتى بقصة إبراهيم عليه السّلام الذي كان يدعو إلى التوحيد، ليمثل الأدلة في قصة حوارية جذابة وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ و المراد بالأب هنا العم، كما ورد، فإن العرب تسمي العم أبا، كما تسمي الخالة أما،

و قد ورد في زيارة الشهيد على الأكبر عليه السّلام «السلام عليك يا بن الحسن و الحسين»

أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً على وجه الاستنكار و التوبيخ، أي كيف تعبد الأصنام و تجعلها إلها من دون الله؟ إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي واضح، فإن الإله يجب أن يكون خالقا رازقا فكيف تكون الأصنام آلهة؟

[76] وَ كَذلِكَ أي بمثل هذه الفطرة المستقيمة التي رأى بها إبراهيم بطلان عبادة الأصنام نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي آثار الملك الموجودة في السماوات و الأرض من الشمس و القمر و النجوم و الجبال و البحار و الأشجار و الدواب و غيرها، مما تدل كلها على وجود إله حكيم عليم خالق قادر، و إنما نسب الإراءة إلى نفسه تعالى لأنه هو الذي فتق بصيرة إبراهيم عليه السّلام للتأمل في الآيات الكونية. و في الأحاديث أنه عليه السّلام كان يرى أغوار الأرض و آفاق السماء فقد كشف عن عينه الحجاب و كان يرى ما لا يدركه البصر الإنساني.

وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي المتيقنين بأن الله سبحانه هو الخالق و الإله، أريناه الملكوت، فجملة «و ليكون .. إلخ» مستأنفة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 93

[سورة الأنعام (6): الآيات 76 الى 78]

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ

بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)

[77] إن إبراهيم عليه السّلام اصطدم بأصناف ثلاثة يعبدون من دون الله الكواكب، فكان بعضهم يعبدون «الزهرة» و بعضهم يعبد «القمر» و بعضهم يعبد «الشمس» فأراد الاحتجاج عليهم فلما جن عليه الليل رأى الزهرة فقال لعبّادها مستنكرا: هل هذا ربي؟ ثم رد عليهم بأنه آفل ذاهب متحرك، و هذا من شأن المخلوق لا الخالق فإن الخالق لا يتغير و لا يتحرك، و بعد ما طلع القمر، قال لعباده على وجه الاستنكار: هل هذا ربي؟ ثم أبطل ألوهيته بما سبق و بيّن أن إلهه هو الله وحده لا شريك له.

فَلَمَّا جَنَ أي أظلم عَلَيْهِ اللَّيْلُ و ستر بظلامه كل شي ء رَأى إبراهيم عليه السّلام كَوْكَباً و جماعة يعبدونه قالَ مستنكرا عليهم: هل هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ و غرب النجم قالَ إبراهيم: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي لا أحب أن أتخذ الشي ء الذي يغرب إلها.

[78] فَلَمَّا رَأَى إبراهيم عليه السّلام الْقَمَرَ بازِغاً أي طالعا منيرا و جماعة يعبدونه قالَ مستنكرا عليهم: هل هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ و غرب القمر قالَ إبراهيم على سبيل التّعريض بأولئك لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إلى الطّريق المستقيم لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ الذين ضلّوا الطّريق، و اتّخذوا آلهة باطلة.

[79] فَلَمَّا أصبح إبراهيم عليه السّلام و رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً طالعة و جماعة يعبدونها قالَ مستنكرا عملهم طاعنا في حجّتهم: هل هذا رَبِّي هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 94

[سورة الأنعام (6): الآيات 79 الى 80]

إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ

السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)

أَكْبَرُ؟، فكأنّهم كانوا يستدلّون بكبرها على أنها الرّب دون سواها فَلَمَّا أَفَلَتْ الشّمس و غربت قالَ إبراهيم عليه السّلام: يا قَوْمِ العبّاد لغير الله تعالى إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ أي ما تجعلونه من الكواكب شريكا لله سبحانه.

[80] إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ و المراد بالوجه الذات، لكن حيث أن الإنسان حينما يخلص لشي ء و يريد استقباله، يوجّه وجهه إليه، و استعمل الوجه في الذات مجازا لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أي خلقها و أوجدها حَنِيفاً أي مائلا عن الشرك إلى الإخلاص وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يشركون بالله غيره.

[81] و لما جادل إبراهيم حول الأصنام و الكواكب التي يعبدها قومه، فشي أمره فجاء إليه الناس يحاجّونه وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ أي خاصموه و جادلوه في باب الألوهية قالَ إبراهيم أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي تجادلونني بالنسبة إلى الله تعالى وَ قَدْ هَدانِ إلى الحق بلطفه و إحسانه وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي لا أخاف من آلهتكم أن يسببوا لي ضررا، فإنه ليس الصنم و النجم يضران الإنسان إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أي ضررا بي، و الاستثناء منقطع، و قد مر سابقا أن هذه الاستثناءات إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 95

[سورة الأنعام (6): الآيات 81 الى 82]

وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَ

لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)

هي لأجل إفادة تمام الطلب بعد جعل المستثنى منه الإطلاق، فالأصل مثلا، و لا أخاف ضررا إلا من الله سبحانه.

و لست أعلم ما يشاء ربي من ضرري أو نفعي بل وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أي سبحانه المحيط بالأشياء بعلمه الواسع و اطلاعه الشامل أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ أيها المشركون و تتدبرون لتعرفوا أن الأمر كما قلت لكم.

[82] وَ كَيْفَ أَخافُ أنا المعتقد بالله سبحانه الضرر من قبل ما أَشْرَكْتُمْ من الأصنام و النجوم و هي لا تملك شيئا من الضرر و النفع وَ الحال أنكم لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ الذي بيده كل ضرر و نفع ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي جعلتم النجوم و الأصنام شركاء لله و التي لم يدل دليل من قبل الله سبحانه على صحتها، فإن «ما» موصولة مصداقها «الأصنام و النجوم» فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ نحن و أنتم أَحَقُّ بِالْأَمْنِ بأن لا يخاف الضرر إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تستعملون عقولكم و علومكم فتميزون الحق من الباطل؟

[83] ثم بيّن سبحانه من له الأمن بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا بالله تعالى وَ لَمْ يَلْبِسُوا أي لم يخلطوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ بأن لم يشركوا فإن الشرك ظلم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 96

[سورة الأنعام (6): الآيات 83 الى 84]

وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)

كما قال سبحانه: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» أُولئِكَ

لَهُمُ الْأَمْنُ فإنهم لا يخافون عقاب الآخرة، و لا ضرر الدنيا بلا عوض وَ هُمْ مُهْتَدُونَ أي مهديون إلى الحق. و هذه الآية و إن كان موردها قصة إبراهيم عليه السّلام و الإيمان و الشرك إلا أنها عامة تشمل كل إيمان لم يلبس بظلم، و لذا ورد في مصداقها الولاية لأهل البيت عليهم السّلام «2».

[84] وَ تِلْكَ الحجة التي احتج بها إبراهيم عليه السّلام في ما سبق حُجَّتُنا أي الأدلة التي آتَيْناها إِبْراهِيمَ أعطيناها لإبراهيم عليه السّلام، و لقنّاه إياها عَلى قَوْمِهِ المشركين حتى تمكن من إيرادها عليهم و أن يغلبهم نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ كما رفعنا إبراهيم عليه السّلام درجات حيث كان مؤمنا موحدا مجاهدا إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فبحسب حكمته البالغة يرفع الدرجات، و بحسب علمه الشامل يعلم الأشياء.

[85] وَ وَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم عليه السّلام إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ إسحاق هو ابن إبراهيم من سارة، و يعقوب ابن اسحق عليهم السّلام، و لم يذكر إسماعيل و هو ابنه من هاجر لإرادة ذكره مستقلا حتى يظهر له من الشأن ما لا يظهر لو أدرج في جملة «وهبنا» و قد ذكر سبحانه الشجرة النبوية من إبراهيم عليه السّلام و من نوح عليه السّلام فلا يفوت ذكره حيث يذكرون

______________________________

(1) لقمان: 14.

(2) بحار الأنوار: ج 36 ص 114.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 97

[سورة الأنعام (6): الآيات 85 الى 86]

وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86)

كُلًّا من الثلاثة هَدَيْنا إلى الحق و الى صراط مستقيم وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ هؤلاء وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ أي من ذرية

إبراهيم، أو من ذرية نوح عليه السّلام أو المراد كلّا منهما، فإنه يجوز ذلك بإرجاع الضمير إلى كل واحد، كما قال سبحانه: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ «1» داوُدَ وَ سُلَيْمانَ و هو ابن داود وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ ابن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وَ مُوسى بن عمران وَ هارُونَ أخو موسى عليه السّلام وَ كَذلِكَ أي هكذا يجعل النبوة في ذريته، تكريما له نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في أعمالهم، فإنا نكرمهم بما يستحقون.

[86] وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى ابن زكريا وَ عِيسى ابن مريم وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ أي أن كل واحد منهم من الذين أصلحوا.

[87] وَ إِسْماعِيلَ ابن إبراهيم عليه السّلام جد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من المحتمل أن يراد به إسماعيل صادق الوعد الذي أشير إليه في قوله سبحانه: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ «2»، وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ ابن متّى صاحب الحوت وَ لُوطاً و الكلام في «اللام» في «اليسع»،

______________________________

(1) البقرة: 260.

(2) مريم: 55.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 98

[سورة الأنعام (6): الآيات 87 الى 88]

وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)

و المنصرف و غير المنصرف من الأسماء مرتبط بالمفصلات وَ كلًّا أي كل واحد منهم فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ أي عالم زمانهم، فإن كل نبي كان أفضل من جميع الناس، باستثناء النبي الذي في عهده، فلوط كان في عهد إبراهيم و لم يكن أفضل منه.

[88] وَ كذلك فضلنا جماعة مِنْ آبائِهِمْ أي من

آباء هؤلاء الأنبياء وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ أي أولاد هؤلاء الأنبياء وَ إِخْوانِهِمْ أي إخوان هؤلاء الأنبياء وَ اجْتَبَيْناهُمْ أي اصطفيناهم و اخترناهم للرسالة وَ هَدَيْناهُمْ إلى الحق، و ذلك لا يلازم سبق الضلالة، كما لا يخفى إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في كل شي ء؛ العقيدة و السلوك و القول.

[89] ذلِكَ الهدى الذي هدينا به الأنبياء هُدَى اللَّهِ و إرشاده الذي يأتي بأكمل السعادة و أوفر الخير يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ و المراد إما الهدى الخالص، و من المعلوم أنه لا يلزم في الحكمة بالنسبة إلى كل أحد، و إما الهدى العام و ذلك و إن لزم بالنسبة إلى كل أحد لكن المراد هنا الإيصال إلى المطلوب لا إراءة الطريق، أو يقال: إن الذي دلّ عليه الدليل أن العقاب لا يجوز بلا بيان، أما الهداية فلا دليل عقلي على إيجابها بالنسبة إلى كل أحد، نعم في لزوم خروج الخلق عن العبث يلزم الإرشاد في الجملة وَ لَوْ أَشْرَكُوا أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء لَحَبِطَ أي لبطل عَنْهُمْ فإن الحبط لما أشرب معنى الزوال و الذهاب عدّي ب «عن»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 99

[سورة الأنعام (6): الآيات 89 الى 90]

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)

ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال السابقة على الشرك. ثم إن الآية في مقام بيان أن الشرك موجب لحبط الأعمال مهما كانت سوابق الشرك، إذ من المعلوم الضروري عدم شرك الأنبياء، فإن الشرط يأتي حتّى في مستحيل الطرفين، كقوله: قُلْ إِنْ كانَ

لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «1»، و من هذا القبيل أيضا قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2».

[90] أُولئِكَ الذين ذكرناهم من الأنبياء عليهم السّلام، هم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ المراد به الجنس وَ الْحُكْمَ أي منصب الحكم بين الناس، فإن هذا المنصب ليس إلّا لله و لمن أعطاه إياه وَ النُّبُوَّةَ حيث كانوا أنبياء، و ذكر النبوة بعد الكتاب، لدفع توهم أن إعطاء الكتاب ليس من قبيل إعطاء الكتاب للاسم، كقوله سبحانه: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ «3»، فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بالكتاب و الحكم و النبوة هؤُلاءِ الكفار الذين جحدوا نبوتك يا رسول الله فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي بالإيمان بها، و المراد إيكال أمر دعاية النبوة و الإيمان بها، و الجهاد في سبيلها، كالوكيل الذي يراعي أمور الموكل قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ فهم يقومون بواجب أمر النبوة خير قيام.

[91] أُولئِكَ الأنبياء عليهم السّلام الذين سبق ذكرهم الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ أي

______________________________

(1) الزخرف: 82.

(2) الزمر: 66.

(3) البقرة: 64.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 100

[سورة الأنعام (6): آية 91]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 149

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

هداهم الله، و التكرار هنا مقدمة لقوله سبحانه فَبِهُداهُمُ يا رسول الله اقْتَدِهْ في أسلوب الدعوة و الصبر على الأذى و الاهتمام بالأمر، و هذا كتسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إشارة إلى أن الأنبياء السابقين ابتلوا بما

ابتلي به، بالإضافة إلى أن الاقتداء بهم في هدى الله سبحانه، لا فيما هو من عند أنفسهم، حتى يقال: كيف يؤمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالاقتداء بمن هو دونه في الفضيلة.

إنه قيام بالوظيفة لأمر الله سبحانه و لحسابه الخاص، فالأجر منه وحده قُلْ يا رسول الله لمن تبلغهم: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً أي لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة و أداء الوحي ثمنا و أجرة إِنْ هُوَ أي ما تبليغ الوحي إِلَّا ذِكْرى أي تذكيرا لِلْعالَمِينَ الذين هم في زماني و بعد زماني. و كونه تذكيرا باعتبار ما أودع في الإنسان من الفطرة الدالة على توحيده سبحانه.

و هنا سؤال: كيف يمكن الجمع بين هذه الآية و بين قوله: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1».

و الجواب: إن إطلاق الأجر على المودة مجاز، و قد كان إرجاع الناس إليهم لصالح الناس، حيث إنهم الهداة المصلحون.

[92] و حيث ذكر سبحانه أنه أعطى الأنبياء الكتاب، ردّ على من زعم أنه سبحانه لم ينزل كتابا.

فقد ورد أن حبرا من أحبار اليهود جاء إلى

______________________________

(1) الشورى: 24. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 101

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن اللّه سبحانه يبغض الحبر السمين- و كان اليهودي سمينا- فغضب و قال: ما أنزل الله على بشر من شي ء. فقال له أصحابه: ويحك و لا موسى؟ فأنزل الله هذه الآية

«1» وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عظموه سبحانه حق تعظيمه الذي يليق به إِذْ نسبوا إليه الكذب ف قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ أي

لم ينزل على رسول كتابا من السماء، كما قال ذلك اليهودي. إن معنى عدم إرسال الرسل، و إنزال الكتب أن الله خلق الخلق عبثا و اعتباطا. و من المعلوم أن نسبة العبث إلى شخص عادي موجب لإهانته و عدم تقديره، فكيف بالله الحكيم العليم؟! قُلْ يا رسول الله لإبطال كلامهم ف مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى عليه السّلام أ ليست التوراة من إنزال الله تعالى، و إنما ذكرها لكون طرف الكلام يهوديا نُوراً وَ هُدىً أي في حال كون كتابه عليه السّلام نور يهدي الناس إلى مناهج الحياة الصحيحة، و هداية لِلنَّاسِ إلى الحق تَجْعَلُونَهُ أي تجعلون ذلك الكتاب قَراطِيسَ أي تكتبونه، و هذا لزيادة التأكيد، أي: فكيف تنكرون ما تلقيتموه أنتم بالقبول، و كنتم تكتبونه في قراطيس باعتبار أنه كتاب سماوي منزل من عند الله سبحانه؟

تُبْدُونَها أي تظهرون بعضها، حيث كانوا يكتبون بعض الأحكام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 89.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 102

[سورة الأنعام (6): آية 92]

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)

الموجودة في التوراة في أوراق و يعطونها بيد الناس وَ تُخْفُونَ كَثِيراً من التوراة لأجل كونها خطرا على أموالهم أو جاههم، أو فيه دلالة على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ عُلِّمْتُمْ أيها اليهود ببركة التوراة المنزلة على موسى ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ فإنكم لو لا كتاب الله المنزل لم تكونوا تعلمون شيئا، فكيف تنكرون إنزال الله الكتاب، و تقولون: «ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ»؟ قُلْ يا رسول

الله: اللَّهَ أنزل الكتاب على موسى ثُمَّ ذَرْهُمْ أي دعهم فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ فهم و ما خاضوا فيه من الباطل و الكذب، إنهم يلعبون بالدين، فذرهم و ما هم فيه [93] وَ كما أنزلنا الكتاب على موسى كذلك هذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إليك يا رسول الله مُبارَكٌ يوجب البركة و السعادة مُصَدِّقُ الكتاب الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي قبله، من التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماوية، و من المعلوم أن تصديق أصل الكتاب لا يلازم تصديق التحريفات التي طرأت عليه، وَ لِتُنْذِرَ يا رسول الله أُمَّ الْقُرى أي مكة، و إنما سميت بها لأن الأرض دحيت من تحتها وَ مَنْ حَوْلَها من سائر أهل الأرض وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ من أهل الكتاب و غيرهم يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن المنزل عليك، فإن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 103

[سورة الأنعام (6): آية 93]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

الإيمان بالآخرة يوجب خوفا في القلب، ينبعث منه اتباع الحق أينما وجد، و فيه تعريض بمن لا يؤمن من أهل الكتاب، فإنه غير مؤمن بالآخرة وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فيؤدونها لأوقاتها، فمن يترك الصلاة ليس بمؤمن بالآخرة و القرآن، و إن ادّعى الإيمان.

[94] و حيث كان الكلام حول الوحي، و من قال بعدم الوحي إطلاقا، ناسب ذلك التنديد بمن قال بالوحي كذبا، وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى

اللَّهِ كَذِباً

نزلت في ابن أبي سرح الذي استعمله عثمان على مصر و قد هدر رسول الله دمه و كان حسن الخط من كتابة الوحي فإذا قال له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اكتب: «أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» كتب: «إن الله عليم حكيم»

و هكذا، و كان يقول للمنافقين: إني أقول من نفسي مثل ما يجي ء به. ثم ارتد كافرا إلى مكة و صار من الطلقاء يوم فتح مكة. ثم لا يخفى أن قوله سبحانه «و من أظلم» على سبيل الحصر الإضافي، كقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ «1»، و غيره.

أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ كمسيلمة الكذاب الذي ادّعى النبوة كذبا، و كغيره ممن ادّعى هذا المنصب افتراء، نحو:

وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الآيات أو الأحكام.

في «المجمع»: قيل: المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح،

______________________________

(1) البقرة: 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 104

أملى عليه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذات يوم: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله- ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ «1»، فجرى على لسان ابن أبي سرح: «فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» فأملاه عليه و قال: هكذا أنزل فارتد عدو الله و قال: لئن كان محمد صادقا فقد أوحي إليّ كما أوحي إليه و لئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال «2».

وَ لَوْ تَرى يا رسول الله إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ أي في شدائد الموت عند النزع، كأن الموت بشدائده يغمرهم مرة فمرة، كما يغمر الماء الغريق وَ الْمَلائِكَةُ القابضة لأرواحهم باسِطُوا أَيْدِيهِمْ لقبض أرواحهم بأبشع الوسائل يضربون وجوههم و أدبارهم، قائلين

لهم: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ من أجسادكم، و هذا للإذلال و الإهانة، و إلا فليس خروج أنفسهم بإمكانهم، بل بقدرة الله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ أيها الظالمون عَذابَ الْهُونِ فإنه ليس عذابا جسديا فقط بل معه ذلة و هوان بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ أي جازاكم بعذاب الهون بسبب مقالتكم الكاذبة على الله حيث كنتم تقولون: «أوحي إلينا و لم يوح إليكم» و معنى «على الله» أي بالنسبة إليه سبحانه وَ بما كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ و دلائله

______________________________

(1) المؤمنون: 13- 15.

(2) مجمع البيان: ج 4 ص 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 105

[سورة الأنعام (6): الآيات 94 الى 95]

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)

تَسْتَكْبِرُونَ فلا تخضعون لأحكامه و أنبيائه، و جواب «لو» محذوف للتهويل، أي: لو رأيت ذلك لرأيت أمرا فظيعا مريعا.

[95] و هنا يوجّه الباري سبحانه كلامه إليهم وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا أيها الظالمون فُرادى أي في حال كونكم وحدانا لا مال لكم و لا مدافع، بل واحدا واحدا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ حين جئتم إلى الدنيا وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي ما أعطيناكم من المال و الأقرباء و الخدم وَراءَ ظُهُورِكُمْ في دار الدنيا، فإن الإنسان باعتبار إقباله على الآخرة تكون الدنيا وراء ظهره وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الذين اتخذتموهم لأنفسكم شفعاء يشفعون لكم يوم القيامة الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ أي الأصنام التي كان المشركون

يزعمون أنها شركاء الله سبحانه في الخلق و الرزق و قضاء الحوائج، و قد كان المشركون يقولون: إنّ هذه الأصنام تشفع لنا يوم القيامة. و ورد أن سبب نزول هذه الآية أن النضر قال: سوف يشفع لي اللّات و العزّى.

لَقَدْ تَقَطَّعَ أيها الظالمون بَيْنَكُمْ و بين الأصنام فلا مواصلة تنفع للشفاعة وَ ضَلَّ عَنْكُمْ أي ضاع و تلاشى ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ من الآلهة المزعومة فلا تجلب نفعا و لا تدفع خيرا.

[96] إن أصنامكم لا تشترك مع الله في الخلق و لا في أي شي ء من الشؤون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 106

[سورة الأنعام (6): آية 96]

فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)

بل إِنَّ اللَّهَ وحده فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى أي يشق الحب اليابس الميت و يخرج منه النبات و يشق نواة التمر فيخرج منها النخل يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فالنبات حي يخرجه من الحبة التي لا حياة فيها، و الفرخ حيّ يخرجه من البيض الميت، و الولد الحيّ يخرجه من الأم الميتة، و البعوض و أشباهه يخرجه من الماء الميت، و هكذا وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ كالحبة من النبات، و البيض من الدجاج، و الجنين الميت من الأم الحية، و الفضلات الميتة من الحيّ، و كأن التغيّر في العبارة «يخرج» و «مخرج» للتفنّن في العبارة الذي هو نوع من أنواع البلاغة ذلِكُمُ اللَّهُ أي ذلك الذي يفعل كل ذلك- أيها البشر- هو الله وحده فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي تصرفون عن الحق إلى الباطل.

[97] فالِقُ الْإِصْباحِ أي يشق عمود الصبح عن ظلمة الليل، و يخرج الضياء من الظلمة وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً تسكنون فيه و تهدؤون

عن العمل إذا أظلم وَ جعل الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً تجريان في أفلاكهما بحساب دقيق، و «حسبان» مصدر، و كونهما حسبانا أي مصدري حساب و توقيت، نحو: «زيد عدل»، مما حمل المصدر على الذات مبالغة، فمن الشمس تتولد الأيام، و من القمر تتولد الشهور و الأعوام ذلِكَ المذكور من فلق الإصباح و جعل الليل سكنا و الشمس و القمر حسبانا تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ في سلطانه الْعَلِيمِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 107

[سورة الأنعام (6): الآيات 97 الى 99]

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

بمصالح العباد، فأي شي ء يرتبط بأصنامكم أيها الضالون.

[98] وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ أيها البشر النُّجُومَ في السماء لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ فإن الإنسان يعرف طريقه من النجم في الليالي، فمن قصد مدينة نحو المشرق جعل النجم المشرقي أمامه، و من قصد مدينة نحو المغرب، جعله خلفه، و هكذا قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ الدالة على الخالق و صفاته لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لهم علم و معرفة بالأوضاع.

[99] وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم و أبدعكم مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي آدم عليه السّلام و من فضل طينته خلقت حواء عليها السّلام، إنه

سبحانه القادر لمثل هذا الأمر العظيم فلكم مستقر في بطون الأمهات وَ مُسْتَوْدَعٌ في أصلاب الآباء، و إنما سمي ذلك مستودعا لأن المني يبقى قليلا في الصلب حتى ينزل، فهو أشبه بالوديعة قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي الأدلة و الحجج لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ أي يفهمون الأدلة، كي يعلمون أن الله سبحانه هو الذي صنع كل ذلك.

[100] وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر، و المراد بالسماء جهة العلو، فإن ما علاك فأظلك هو السماء- في لغة العرب- فَأَخْرَجْنا بِهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 108

نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ أي أخرجنا بسبب الماء نبات كل شي ء قابل للإنبات من مختلف أقسام النباتات فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أي من الماء، و التكرار، لأنه أجمل أولا، ثم أريد التفصيل، أو الضمير عائد إلى النبات، فإن النبت أولا ليس أخضر، و إنما أبيض صغير ثم يصير أخضر خَضِراً هو بمعنى أخضر، أي نخرج من ذلك زرعا رطبا أخضر نُخْرِجُ مِنْهُ من ذلك الزرع الأخضر حَبًّا مُتَراكِباً قد تركّب بعضه على بعض كحب الحنطة و الشعير وَ يخرج مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها بدل «من النخل» قِنْوانٌ أي أعذاق الرطب، فإن «قنوان»: جمع «قنو» بكسر القاف و ضمها، و هو «العذق» بالكسر دانِيَةٌ أي قريبة التناول وَ أخرجنا منه جَنَّاتٍ أي بساتين مِنْ أَعْنابٍ جمع «عنب» وَ أخرجنا منه الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ أي شجريهما مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ فبعض الأشجار و الأثمار و الأوراق و الأزهار و الحبات متشابهة و بعضها غير متشابهة، في اللون و الطعم و الحجم و الخاصية و غيرها. و الاختلاف بين لفظي «مشتبه و متشابه» من أحسن أنواع البلاغة، لتطابق اللفظ و الخارج انْظُرُوا أيها الناس إِلى ثَمَرِهِ

أي ثمر كل واحد من المذكورات إِذا أَثْمَرَ فإن في ذلك دلالة عجيبة على الصانع تعالى وَ انظروا إلى يَنْعِهِ أي نضجه إذ نضج، فإن من نظر إلى ذلك نظر تأمل و اعتبار، عرف عظيم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 109

[سورة الأنعام (6): الآيات 100 الى 101]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (101)

الصنعة و جليل الخلقة، و دقيق الحكمة، و «ينع» في اللغة بمعنى «النضج» و قيل: جمع «يانع»؛ كصحب و صاحب إِنَّ فِي ذلِكُمْ أي فيما تقدم من الخلقة لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بالحقائق، و يتجنبون السخافة.

[101] إن الله هو خالق كل شي ء و هو الإله الواحد الذي لا شريك له وَ لكن الكفار جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ فقالوا بأن لله شركاء في الألوهية هم من الجن وَ الحال أنه سبحانه هو الذي خَلَقَهُمْ أي خلق الجن، فكيف يكون المخلوق شريكا مع الخالق في الألوهية وَ خَرَقُوا أي جعلوا، و لا يخفى ما في التعبير بلفظ «خرقوا» من اللطافة. لَهُ تعالى بَنِينَ وَ بَناتٍ فقد قال اليهود: عزير ابن الله، و قالوا: نحن أبناء الله، و قالت النصارى: المسيح ابن الله، و جعل المشركون الملائكة بنات الله، كما قال سبحانه: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «1»، بِغَيْرِ عِلْمٍ فإن ذلك منهم كان ظنا و توهما سُبْحانَهُ منصوب بفعل محذوف، أي: «أنزهه تنزيها له» وَ تَعالى أي تقدس و ترفع عَمَّا يَصِفُونَ أي الأوصاف التي

يلصقونها بساحة قدسه، من جعل الشريك و الأولاد.

[102] إنه وحده هو بَدِيعُ أي مبدع السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و خالقهما بلا

______________________________

(1) الزخرف: 20.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 110

[سورة الأنعام (6): الآيات 102 الى 103]

ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

شريك أو ظهير، و هذا ردّ على من جعل له شريكا أَنَّى أي كيف يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ الحال أنه تعالى لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ أي زوجة؟

و هذا رد لمن جعل له أولادا وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فهو الخالق المطلق، وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فهو العالم المطلق.

[103] ذلِكُمُ أي ذلك المذكور له الصفات المتقدمة هو اللَّهُ تعالى، و «كم» للخطاب إلى السامعين رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فلا شي ء خارج من خلقه، حتى يكون له شريكا فَاعْبُدُوهُ وحده وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي حفيظ و مدبّر و قائم، فلا حافظ غيره، و لا قائم بالأمر أحد سواه.

[104] لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فإنه سبحانه ليس بجسم حتى يكون مرئيا، و هذا لا فرق فيه بين الدنيا و الآخرة، فهو لا يبصر في الدنيا و لا يبصر في الآخرة وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ روعي في الكلام التجانس اللفظي، و إلا فهو يدرك كل شي ء الأبصار و غيرها وَ هُوَ اللَّطِيفُ لا يراد به اللطف بالمعنى في الأجسام، المراد به النافذ في الأجسام، و الرقيق، و ما أشبه، بل من باب «خذ الغايات و اترك المبادئ» فعلمه نافذ في الأشياء، و قدرته سارية في الأكوان الْخَبِيرُ العالم بكل

شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 111

[سورة الأنعام (6): الآيات 104 الى 106]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106)

[105] قَدْ جاءَكُمْ أيها البشر بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ «بصائر» جمع «بصيرة» و هي الدلالة البيّنة التي يبصر بها الشي ء، أي جاءتكم دلالات من قبل الله سبحانه، على الأصول، و الأحكام فَمَنْ أَبْصَرَ أي من تبيّن هذه الدلالات و نظر فيها نظر معتبر بصير فَلِنَفْسِهِ فإنه يعود خير ذلك إلى ذاته و شخصه وَ مَنْ عَمِيَ عنها فلم ينظر فيها و أعرض عنها فَعَلَيْها أي أن وبال الإعراض يعود على نفسه وَ ما أَنَا المراد بالضمير الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَيْكُمْ أيها الناس بِحَفِيظٍ أحفظكم عن الخطأ و الانحراف، و إنما أنا مبلغ مرشد، من آمن فلنفسه و من ضل فعليها.

[106] وَ كَذلِكَ أي مثل تصريفنا الآيات من ذي قبل نُصَرِّفُ هذه الْآياتِ نرسلها و نبيّنها وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ أي يقول الكفار:

درست هذه الآيات و تعلمتها من غيرك، كما كانوا ينسبون القرآن إلى تعلمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الراهب في طريق الشام، أو من سلمان، أو من بعض اليهود وَ لِنُبَيِّنَهُ أي نوضّح ما تقدم من الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي للعلماء الذين يعلمون الآيات، فإن هؤلاء هم المنتفعون بالآيات، و لذا خصّهم بالذكر.

[107] اتَّبِعْ يا رسول الله ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و هو لا إِلهَ إِلَّا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص:

112

[سورة الأنعام (6): الآيات 107 الى 108]

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)

هُوَ و ذر الأصنام و الأوثان، فإن صاحب الدعوة لا يبالي بما قاله المغرضون، و لا يضره انحراف المنحرفين وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فلا تتعرض لهم، و ليس المراد عدم دعائهم إلى الإسلام، أو عدم القتال معهم، بل معناه: «أعرض عن أقوالهم و طريقتهم»، و هذا كما يقال: «أعرض عن فلان» يراد عدم الاهتمام بقوله و الاعتناء بشأنه، و أنه لا بد من سلوك الطريق المستقيم أحبّ أم كره.

[108] وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أن يكرههم على عدم الشرك ما أَشْرَكُوا و لكن الدنيا دنيا اختبار و امتحان، و إنما يريهم الله سبحانه الطريق، فمن شاء آمن و من شاء أشرك وَ ما جَعَلْناكَ يا رسول الله عَلَيْهِمْ حَفِيظاً تحفظهم عن الشرك، حتى يكون إثم الشرك عليك وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ أي لست بموكل عليهم في ذلك، و إنما عليك البلاغ و الإنذار، و لعل الفرق بين الحفيظ و الوكيل، أن الحفيظ هو الذي يحفظ الشي ء عن الضرر، و الوكيل هو الذي يناط به أمره، فيجب عليه دفع الضرر عنه و جلب النفع إليه، فهو أعم من الحفيظ.

[109] وَ لا تَسُبُّوا أيها المسلمون الآلهة الَّذِينَ يَدْعُونَ ها الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سوى الله فَيَسُبُّوا اللَّهَ مقابلة بالمثل عَدْواً أي ظلما، بمعنى التعدي عن الحق بِغَيْرِ عِلْمٍ فإنهم جاهلون بالله، و إلا لماذا

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 2، ص: 113

[سورة الأنعام (6): آية 109]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)

كانوا يسبونه، و يتخذون آلهة سواه؟ كَذلِكَ الاعتقاد بالآلهة الباطلة زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ فإن كل إنسان يرى عمله حسنا، و لو تفكر و قارن رأى الصحيح من عمله و أباطيله. و نسبة التزيين إلى الله سبحانه لأنه هو الذي يخالف الخلق و سبب الأسباب، و ذلك للامتحان، و ليتبين من يخالف نفسه و من يتبع هواها ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فإن الجميع يرجعون إلى حساب الله سبحانه، و ثوابه و عقابه فَيُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الأعمال الحسنة و القبيحة، و معنى ذلك أنه يجازيهم بأعمالهم، كما تقول لابنك العاصي: «أخبرك بما عملت ...» تريد التهديد و الوعيد.

و هنا سؤال: كيف نهى الله عن سبّ الأصنام، و في القرآن كثير من القدح فيهم؟

و الجواب: إن الفرق بين سبّ الحكيم و سبّ الجاهل أن الأول يعرف موقع السب، بخلاف الثاني، كما لو نهى القاضي عن ضرب الناس، و رأينا أنه يضرب بنفسه لحدّ أو قصاص، فإن الأمرين لا يتنافيان.

[110] وَ أَقْسَمُوا أي حلف الكفار بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي أيمانهم الغليظة لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ أي معجزة خارقة حسب ما طلبوا من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها أي بتلك الآية قُلْ يا رسول الله لهم:

إِنَّمَا الْآياتُ الخارقة عِنْدَ اللَّهِ و من لدنه، و ليس لدي منها شي ء،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 114

[سورة الأنعام (6): آية 110]

وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

فإن عرف الله الصلاح في الإتيان

بها أظهرها، و إن عرف الصلاح في عدم الإتيان لم يأت بها وَ ما يُشْعِرُكُمْ أيها المؤمنون أَنَّها أي الآيات إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ كما جاءت الآيات من قبل فلم يؤمنوا.

و السر أن المعاند لا تفيده الآية، و الطالب للحق تكفيه ما تقدم من الآيات، فإنزال الآيات المقترحة لا فائدة فيها.

[111] وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ جمع «فؤاد» و هو القلب وَ أَبْصارَهُمْ جمع «بصر» و هو العين كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أَوَّلَ مَرَّةٍ فإنهم جوزوا بإنكارهم أول الأمر الذي استلزم عنادهم و تماديهم في غيهم، بأن أزعجت نفوسهم، فجعلت قلوبهم تخفق، و أبصارهم تتحرك زائغة، كما هو شأن كل مبطل أمام الحق أنه لا يدري ما يصنع، و عينه تتلفت هنا و هناك تبحث في الأرض و السماء عن طريق المهرب و الخلاص من الأزمة التي وقع فيها وَ نَذَرُهُمْ أي ندعهم فِي طُغْيانِهِمْ الذي طغوا و تعدوا فيه الحق يَعْمَهُونَ يتردّدون في الحيرة.

و

قد روي أنهم لما طلبوا الآيات، أراد النبي أن يسأل ربه بتلك الآيات، فجاء جبرئيل و قال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا، و لكن إن لم يصدقوا، عذّبوا، و إن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل أتركهم حتى يتوب تائبهم «1». فأنزل الله تعالى هذه الآية.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 91.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 115

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثّامن من آية 112 من سورة الأنعام إلى آية 88 من سورة الأعراف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 116

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و

عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 117

[سورة الأنعام (6): الآيات 111 الى 112]

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112)

[112] ثم بيّن سبحانه أنّ هؤلاء معاندين لا يريدون بالآيات إلا الاقتراح، و لو أنزلت إليهم لم يكونوا مؤمنين وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ حتّى يرونهم مشاهدة، و يشهدون لك بالرسالة وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى أي أحيينا الأموات حتّى تكلّمهم وَ حَشَرْنا أي جمعنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا أي مقابلة و معاينة، بأن جئنا لهم بما طلبوا من الآيات، أو المراد:

جمعنا حواليهم الأشياء الكونية، بأن يأتيهم الشجر و الحجر و الماء و الحيوان، و كان ذلك لبيان حشر صور مدهشة مرعبة ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لعنادهم و إصرارهم إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن يجبرهم على الإيمان، و لكن الله لا يشاء ذلك لأنه خلاف الحكمة وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنهم لو أوتوا بكل آية لم يؤمنوا، بل يزعمون أنهم يؤمنون إن رأوا، لجهلهم بعنادهم الكامن في نفوسهم، الذي لا ينفع معه كل آية.

[113] وَ كَذلِكَ أي كما جعلنا لك يا رسول الله أعداء معاندين جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا و معنى «الجعل» التخلية بينهم و بين اختيار العداوة، و ذلك اختبار لهم، و رفعا لدرجات الأنبياء. و قد سبقت الإشارة إلى أن الأمور الاختيارية للناس تنسب إلى الله سبحانه باعتبار جعله الأسباب و التخلية بين الناس و بينها، كما

تنسب إلى فاعليها لأنهم السبب المريد لها شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِ نصب «شياطين» لأنه بدل «عدوا»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 118

[سورة الأنعام (6): آية 113]

وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

و المراد به الجنس لا الواحد، و المراد بشياطين الإنس، إما الشياطين الموكلة بالإنسان التي تغويه و تأمره بالقبائح، و إما من قبيل «خاتم فضة» أي المردة من أفراد الإنسان، فإن الشيطان بمعنى المارد من «شطن»، قال الشاعر:

أيا شاطن عصاه عكاه ثم يلقى في السجن و الأغلال

و هكذا يقال بالنسبة إلى شياطين الجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي يوسوس خفية زُخْرُفَ الْقَوْلِ أي: القول المزخرف، الذي يستحسن ظاهره و لا حقيقة له و لا أصل غُرُوراً أي لأجل الغرور و الإضلال وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ أي لو أراد جبرهم على عدم هذه الأعمال العدوانية ضد الأنبياء، لتمكّن من ذلك، لكنه لم يشأ، لأنه خلاف الحكمة فَذَرْهُمْ أي دعهم وَ ما يَفْتَرُونَ أي افتراؤهم، فأعرض عنهم، و لا تتعرّض لهم، بل خذ طريقك، و بلّغ رسالات ربك.

[114] إن الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول لأجل الغرور وَ لِتَصْغى لأجل أن تميل إِلَيْهِ أي إلى هذا الوحي بزخرف القول أَفْئِدَةُ أي: قلوب الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فإنهم يوسوسون ليغروا الناس و ليستميلوا أفئدة الكفار إلى مكائدهم وَ لِيَرْضَوْهُ أي يرضى من لا يؤمن بالآخرة، بالوحي و الوسوسة، بمعنى إرضاء الكفار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 119

[سورة الأنعام (6): الآيات 114 الى 115]

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا

تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

بمنهجهم فلا يميلوا إلى الحق وَ لِيَقْتَرِفُوا أي يرتكبوا من الكفر و المعاصي ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ أي الشي ء الذي يرتكبون. و جملة المعنى أن وسوسة الشياطين لأجل أن يغروا الناس، و يستميلوا قلوبهم، و يرضون عن طريقتهم، و يرتكبون الآثام.

[115] إنّ هناك شخصين متعاديين الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الذي لا يؤمن بالآخرة، فمن الحكم بينهما؟ و هنا يأتي الجواب أن الحكم هو الله وحده، قل يا رسول الله لهؤلاء: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً أي أطلب سوى الله حاكما وَ هُوَ أعلم الحكّام الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا فيه ما يحتاج إليه الإنسان، يفصل بين الحقّ و الباطل، و معنى التفصيل: تبيين المعاني بما يوجب رفع الاشتباه. و من المعلوم أن القادر على تنزيل الكتاب، هو الذي يتخذ حكما وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ أي أعطيناهم الْكِتابَ من اليهود و النصارى يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أي الكتاب و هو القرآن مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ و ليس كلام الآدميين، و تخصيص أهل الكتاب، لأن علمهم يقتضي أن يعرفوا ذلك، فإنه «إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه» فَلا تَكُونَنَ يا رسول الله مِنَ الْمُمْتَرِينَ أي الشاكين. و من المعلوم أن النبي لا يشك و إنما المراد به السامع، و إن كان الخطاب موجها إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[116] وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بالقرآن الكريم، فما أراده الله سبحانه من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 120

[سورة الأنعام (6): آية 116]

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ

الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)

البشر، تم بإنزال هذا الكتاب، فليس وراءه كتاب آخر و كلمة أخرى صِدْقاً وَ عَدْلًا فما فيه من الأخبار صدق لا يشوبه كذب، و عدل لا يشوبه انحراف و زيغ، فكل خبر يخالف إخباره عن المبدأ و عن المعاد و عن الرسالة و عن العدل و عن الخلافة و عن غيرها، فهو كذب، و كل حكم يخالف حكمه فهو زيغ و باطل لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ فإن كلمات الله سبحانه هي الميزان لكل شي ء فلا أحد يبدّل كلماته تعالى بالزيادة و النقصان، تبديلا صحيحا، و من بدّل فهو المنحرف الضال وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال الناس الْعَلِيمُ بكل ما يفعلون فيجازيهم حسب أعمالهم و أقوالهم.

[117] إن الميزان هو كلمات الله سبحانه، فليس هناك حق فيما عدا ذلك وَ لذا إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لأن غالب الناس كفّار أو ضالين، فاتّباعهم موجب للكفر و الضلال، نعم هناك قلة لم يخل منهم زمان، هم الآخذون بأحكام الله تعالى، فإطاعتهم هي إطاعة الله، و لا يوجب اتباعهم ضلالا و زيغا إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتّبع هؤلاء الكثرة من الناس إِلَّا الظَّنَ فليس لهم حجة و برهان في كفرهم و ضلالهم، و إنما يرجّحون ظنّا ما يعتقدونه، أو يعملون به وَ إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ «الخرص» هو التخمين، أي يقولون تخمينا لا اعتقادا و جزما.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 121

[سورة الأنعام (6): الآيات 117 الى 119]

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا

ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)

[118] إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ أي أعلم من سائر الناس بمن يسلك سبيل الضلال، فقوله: «إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ» صادر عن علم و معرفة، فإذا قال قائل: إن الكفار يعتقدون اعتقادا جازما بما أشركوا، و يقولون ما يقولون عن قطع و جزم. فذلك غير عارف بأحوالهم، و ربك أعلم منه بهم وَ هُوَ سبحانه أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الذين يسلكون سبيل الهدى و الرشاد.

[119] إذا فالحكم كله لله صغيرا كان أو كبيرا، و قد كان الضّالّون يجادلون المسلمين في شؤون كثيرة، و منها أمر الذبائح، فقد كانوا يأكلون الميتة، و يتركون المذبوح، و كانوا يحتجون على المسلمين قائلين:

أ تأكلون أنتم ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل ربّكم؟ يريدون الاعتراض على المسلمين في عدم أكلهم للميتة فَكُلُوا أيها المسلمون مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ عند الذبح، و اجتمع فيه سائر الشرائط، و الأمر للإباحة لأنه في مقام توهم الحضر إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ بأن آمنتم بالله و رسوله و صدّقتم بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[120] وَ ما لَكُمْ أيها المسلمون أَلَّا تَأْكُلُوا أي شي ء لكم في أن لا تأكلوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي لم لا تأكلونه، هل أن ذلك بزعم التحريم لأنكم تقتلونه؟ وَ قَدْ فَصَّلَ الله سبحانه لَكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 122

[سورة الأنعام (6): الآيات 120 الى 121]

وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ

الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

على لسان رسوله ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ و ليست الذبيحة منها إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فإنكم إذا اضطررتم إلى ما حرّم جاز لكم أكله بقدر الضرورة وَ إِنَّ كَثِيراً من الناس لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ فإلى حيث مال هواهم ساقوا الناس إليه، فذلك يسبب إضلال الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ يهديهم إلى الحق، و إن تحريم المشركين للمذكى من هذا القبيل، فإنه من الهوى، لا من علم و صلاح إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ الذين يتجاوزون الحق، و يتعدونه إلى الباطل.

[121] و في عداد ذكر الحرام و الحلال، ينهى سبحانه عن كل محرم وَ ذَرُوا أيها المسلمون ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ أي ما ظهر من المعاصي و ما بطن مما يؤتى به سرّا.

قيل: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إذا زنا الإنسان علنا كان آثما، و إن زنا سرا لم يكن به بأس، و بهذه المناسبة نزل هذا التعميم.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ أي يعملون بالمعاصي سَيُجْزَوْنَ أي يعاقبون بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي يرتكبون، يقال: «اقترف الإثم» أي ارتكبه.

[122] وَ لا تَأْكُلُوا أيها المسلمون مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 123

[سورة الأنعام (6): آية 122]

أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)

اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ من الذبائح التي تذبح بدون التسمية وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ و خروج عن طاعة الله تعالى وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ أي يلقون خفية إِلى

أَوْلِيائِهِمْ أي: في قلوب الذين اتبعوهم من الكفّار لِيُجادِلُوكُمْ قائلين: كيف تأكلون أيها المسلمون مما تقتلونه أنتم و لا تأكلون مما قتله الله، و قتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم؟ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في أكل الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ لأنّ استحلال الميتة يوجب الكفر، أو المراد: أنكم مثلهم، لا مثل المؤمنين، و هذا تعبير خطابي، و لعل هذا أقرب لأن الاستحلال يوجب الكفر لا الشرك.

[123] ثم ذكر سبحانه مثل الفريقين، المؤمنين و الكفار أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً بالكفر فَأَحْيَيْناهُ بالإيمان، فإن الكفر شبه الموت حيث أن الكافر لا يأتي منه العمل الصالح، و الإيمان شبيه بالحياة لذلك وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً منهاجا ينير به دروب الحياة يَمْشِي بِهِ أي بذلك النور فِي النَّاسِ فيعرف كيف يمشي و كيف يعاشر، لا كالأعمى الذي يصطدم بهذا و ذاك كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ أي كالكافر الذي هو مثل الشخص الذي لا نور له بل يمشي في الظلمات، فمن في الظلمة شبّه بالكافر، لأن ظلمة الكفر أشد من ظلمة عدم النور، و إن الكافر لا يعرف سبيل الحياة السليمة و لذا فهو دائم المشاكل و المصادمات لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها إذ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 124

[سورة الأنعام (6): آية 123]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (123)

الخروج من الظلمة لا يكون إلّا بانتهاج منهاج الإيمان، و إلا فمن ظلمة إلى ظلمة، و هذا سرّ ما يشاهد من ازدياد مشاكل العالم يوما بعد يوم، و كلّما عدّلوا القوانين، و بدّلوا المناهج لم يزدهم إلا مشكلة و إعضالا.

و الاستفهام إنكاري، يراد أنهما ليسا بمتساويين، بل الحي ذو النور أفضل من

الميت في الظلمة كَذلِكَ أي كما زيّن للمؤمن الإيمان كذلك زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ و الذي زيّن لهم هو الشيطان و النفس الأمّارة بالسوء، أو هو الله سبحانه بالمعنى المتقدم في قوله: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ «1»، أي خلّينا بينهم و بين ما يزيّن لهم عملهم.

[124] وَ كَذلِكَ أي كما تركنا الكفار في ظلمتهم يعمهون، أو كما زيّنا لهم أعمالهم، كذلك جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها فتركنا المجرمين على حالهم لِيَمْكُرُوا فِيها أي في القرية، و «اللام» للعاقبة، أي أن عاقبة تركنا إياهم مكرهم في القرية، كقوله تعالى:

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «2»، أو المراد: كما جعلنا ذا النور من المؤمنين، كذلك جعلنا ذا الظلمة من المجرمين وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ فإن عاقبة مكرهم و وبال طغيانهم لا يرجع إلا إلى أنفسهم وَ ما يَشْعُرُونَ أي لا يدرون أن مكرهم يعود بالوبال

______________________________

(1) الأنعام: 109.

(2) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 125

[سورة الأنعام (6): آية 124]

وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)

السيّئ إلى أنفسهم.

[125] وَ إِذا جاءَتْهُمْ أي جاءت هؤلاء المجرمين آيَةٌ دلالة من الله على التوحيد و الرسالة قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ بهذه الآية و بما جاءت من أجله حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ أي تأتي على أيدينا المعجزة، و يوحى إلينا حتّى نكون كالرسل. قالوا: نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة حيث قال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الله لو كانت النبوة حقّا لكنت

أولى بها منك، لأني أكبر منك سنّا و أكثر منك مالا. و قيل:

نزلت في أبي جهل حيث قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرس رهان قالوا: منّا نبي يوحى إليه، و الله لا نؤمن به و لا نتبعه أبدا إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه.

اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فإنه سبحانه أعلم من جميع الخلق بموضع الرسالة، و ليست هي بالمال و الكبر و السن، بل بالفضائل النفسية و القابلية المحلية سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا أي عملوا الجرائم و الموبقات صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ أي يكونوا أذلاء في الآخرة، أو المراد: الأعم من الدنيا و الآخرة، و معنى «عند الله» أن ذلك الصغار من عنده سبحانه وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ أي بسبب مكرهم، فإن الصغار و العذاب جزاء لأعمالهم القبيحة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 126

[سورة الأنعام (6): آية 125]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)

[126] إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا جاء بالإسلام، فمن حكّم عقله و آمن كان له من الله اللطف الخفي و شرح الصدر، و من أعرض و بقي على كفره أعرض سبحانه عنه و خلّى بينه و بين ما يفعل الشيطان به من تضييق الصدر فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ إلى الإيمان يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «الشرح» هو: التوسعة، و هذا من باب التشبيه، فكما أن الشي ء الواسع له مجال أن ينفذ فيه شي ء، كذلك القلب المنشرح له محل أن ينفذ فيه الإسلام وَ مَنْ يُرِدْ الله أَنْ يُضِلَّهُ لأنه

ترك الإيمان و عاند، فاقتضت المشيئة أن يخلى بينه و بين الضلال حتى تكون عاقبة أمره خسرا، و يذوق و بال إعراضه يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً لا ينفذ فيه الإسلام حَرَجاً هو أضيق الضيق- كما قالوا- كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ فإن الإنسان إذا جرّ إلى السماء جرّا، أحس بضيق شديد في صدره، من جهة أن الهواء كلما لطف، كان التنفس فيه أصعب، و معنى «في السماء» الولوج في طبقات السماء، ليعطي معنى الشدة أكثر من «إلى» و كذاك التشديد في «يصّعّد». كَذلِكَ أي كما ذكر من تضييق الصدر يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ و هو العذاب، و الصعوبة، أو المراد به المعنى الظاهري له، فإن للكفر رجسا عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فالعقوبة لمن لا يؤمن أن يجعل صدره ضيقا حرجا، فليس ذلك ابتداء منه سبحانه، كما قد يزعم الناظر في أول الآية، و هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 127

[سورة الأنعام (6): الآيات 126 الى 128]

وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

كقولك: «إن من يريد خيره من أبنائي أعطه المال، و إنّ من يريد شره أقطع عنه المال، و هكذا أعمل بمن لا ينصاع إلى أوامري».

[127] وَ هذا أي الإسلام صِراطُ رَبِّكَ يا رسول الله مُسْتَقِيماً لا اعوجاج فيه و لا انحراف، فمن لم يقبله لم يفرّ من الانحراف، و إنما زاغ

و انحرف قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ أي بيّناها و شرحناها لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أصله «يتذكّرون» ثم أدغمت التاء في الذال، و المراد: أنه لمن يتذكّر ما أودع فيه من الفطرة الآمرة باتباع الطريق القويم.

[128] لَهُمْ أي للذين تذكروا و عرفوا الحق دارُ السَّلامِ و هي: الجنة، فإنها دار السلامة التي لا حرب فيها، و لا بغضاء، و لا مرض، و لا همّ، و لا ما ينغّص العيش عِنْدَ رَبِّهِمْ أي أن تلك الدار عند كرامة الله و لطفه، و في ضمانه و عهده وَ هُوَ أي الله سبحانه وَلِيُّهُمْ الذي يتولّى أمورهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم الصالحة و اتّباع أوامره.

[129] وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً أي يجمعهم، و الضمير عائد إلى الجن و الإنس، الذين تقدم الكلام عنهم، بأنهم يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا، و أنه جعل لكل نبي عدوّا منهم، و إذ يجمعون يقال لهم: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي اتّخذتم أتباعا كثيرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 128

[سورة الأنعام (6): آية 129]

وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)

منهم و احتشدتم حشدا عظيما من التابعين الذين اتبعوكم في وساوسكم و غروركم. و لفظة «يوم» منصوبة، ب «يقال» المقّدر، وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ أي أتباع الجن مِنَ الْإِنْسِ الذين اتبعوهم و أخذوا بوساوسهم و إيحاءاتهم: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فلقد كان الإغواء نأخذه متاعا و استمتاعا، فإن الإنسان الذي لم يملأ فراغ قلبه الحقّ يطلب متعة يستمتع بها، و ما أجدر بالإغواء و الإيحاء أن يملأ ذلك الفراغ، و هذا كالاعتذار من الأتباع الإنسيين، كما يقول أحد الناس إذا سئل عن عمله الباطل؟ أنه اتخذه وسيلة للتسلية و

سد الفراغ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا أي الموت الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي وقّتّه و جعلته مدة، فقد أدركنا الموت و نحن في الاستمتاع قالَ الله تعالى: النَّارُ مَثْواكُمْ أي مقامكم، و «الثواء»: الإقامة، و الضمير عائد إلى الجن و الإنس خالِدِينَ فِيها أي في النار أبد الآبدين إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن تنقطع النار و ذلك بالنسبة إلى عصاة المؤمنين إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله حَكِيمٌ و بمقتضى حكمته جعل النار مثوى لهم عَلِيمٌ يعلم الصالح من الفاسد.

[130]- وَ كَذلِكَ أي كما تقدم من الخلة بين الجن و الإنس، ليغوي بعضهم بعضا، نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً فنجعل الظالم وليا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 129

[سورة الأنعام (6): الآيات 130 الى 131]

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ (131)

للظالم في الدنيا و في الآخرة بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كسبهم الأعمال السيئة و إعراضهم عن الحق.

[131] ثم يخاطب الجن الذين أوحوا إلى الإنس و أضلوهم بهذا الخطاب:

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و «المعشر» هو الجماعة أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ على وجه الاستفهام الإنكاري، و «منكم» باعتبار أن الإنس و الجن من مادة سفلية، فبعضهم من بعض، أو باعتبار أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أرسل رسلا من الجن إليهم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ أي يتلون عليكم آياتِي أي حججي و دلائلي وَ يُنْذِرُونَكُمْ أي يخوفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي يوم القيامة قالُوا أي قالت الجن في جواب

هذا الاستفهام: شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا بما تستحق من العقاب حيث خالفنا و عصينا، فإنّا معترفون بالجرائم، ثم يقول سبحانه: وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي تزيّنت لهم و أغوتهم وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في الآخرة أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ في الدنيا فاستحقوا العقاب.

[132] إن هؤلاء الجماعة الذين حكم عليهم بالنار لم يكن اعتباطا، و إنما كان بعد الإنذار و التبليغ و ذلِكَ الإرسال و الإنذار لأجل أَنْ لَمْ يَكُنْ أي لأنه ليس رَبُّكَ يا رسول الله مُهْلِكَ الْقُرى أي يهلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 130

[سورة الأنعام (6): الآيات 132 الى 134]

وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)

و يعذب أهل المدن بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ عن الدين و الطريق، بل إنما يهلكهم إذا أتمّ الحجة عليهم، ثم خالفوا و عصوا.

[133] ثم إنه ليس التعذيب اعتباطا بأن يحشرون جميعا في درجة واحدة- كما قد ينساق من الآيات السابقة- بل وَ لِكُلٍ من المجرمين، أو الأعم منهم و من المطيعين دَرَجاتٌ أي مراتب خاصة بهم مِمَّا عَمِلُوا «من» للإنشاء، أي: تنشأ تلك الدرجات من أعمالهم في الدنيا وَ ما رَبُّكَ يا رسول الله بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فلا يدري من عمل و ما عمل، بل كل شي ء عنده محفوظ بقدره و خصوصياته.

[134] إن هذه الأوامر و تلك العقوبات، ليست لاحتياج الله سبحانه إلى هذه أو تلك وَ رَبُّكَ يا رسول الله الْغَنِيُ الذي لا يحتاج إلى شي ء إطلاقا ذُو الرَّحْمَةِ و من رحمته جعل

الأوامر ليرحم العباد بها إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي يهلككم أيها البشر وَ يَسْتَخْلِفْ أي يجعل خليفة لكم و في محلكم مِنْ بَعْدِكُمْ أي بعد الإذهاب بكم ما يَشاءُ من أنواع المخلوقات كَما أَنْشَأَكُمْ و أوجدكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ حيث أذهبهم و أتى بكم، فإن ذلك عليه يسير.

[135] إِنَّ ما تُوعَدُونَ أيها البشر من القيامة و الحساب و الثواب و العقاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 131

[سورة الأنعام (6): الآيات 135 الى 136]

قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)

لَآتٍ أي يأتي لا محالة وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي لستم تقدرون أن تسبّبوا عجزه سبحانه حتى لا يتمكن من إعادتكم و الإتيان بكم لساحة الحساب.

[136] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي منزلتكم و مقدار تمكّنكم من الدنيا، و هذا الأمر للتهديد، أي: اعملوا الكفر و المعاصي بما تتمكنون إِنِّي عامِلٌ بما أمرني الله سبحانه- فلكم دينكم ولي دين- فَسَوْفَ في الآخرة تَعْلَمُونَ جزاء أعمالكم مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أي العاقبة المحمودة في دار السلام، هل أنتم أم أنا؟ لكن اعلموا أن عاقبة الدار لي ف إِنَّهُ لا يُفْلِحُ و لا يفوز بالسعادة الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم بالكفر و المعاصي.

[137] ثم يعود السياق إلى معالجة العقيدة في بعض نواحيها فيحكي سبحانه ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقسيم ما ينفقوه من

الزرع و الأنعام بين الله و بين الأصنام وَ جَعَلُوا أي جعل الكفار لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ أي خلق مِنَ الْحَرْثِ أي الزرع وَ الْأَنْعامِ أي المواشي من الإبل و البقر و الغنم نَصِيباً أي حظا و قسما، و جعلوا للأصنام نصيبا فَقالُوا هذا القسم لِلَّهِ تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 132

بِزَعْمِهِمْ و إنما نسبهم إلى الزعم لأنه لم يكن لله، فإن الله لا يقبل الشي ء الذي أشرك معه فيه وَ هذا القسم لِشُرَكائِنا أي الأوثان، الشركاء الذين نحن أشركناهم مع اللّه- و في الإضافة تكفي أدنى ملابسة، ككوكب الخرقاء- فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ من الأنعام و الحرث فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي أن الله لا يقبله، و كنّى بالإيصال لتشبيه المعقول بالمحسوس تقريبا للمعنى إلى الأذهان وَ ما كانَ لِلَّهِ بزعمهم فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ و هذا مجاز، أي أن الأصنام تنتفع بهذا النصيب من خلال ما يترسخ لها في قلوب المشركين من المكانة و الاحترام، أو المراد أنهم كانوا إذا خصصوا نصيبا للشركاء لا يأخذون منه لله شيئا، أما الحصة المخصصة لله سبحانه فقد يأخذون منها ليوفروا المأخوذ مع حصة الأصنام.

روي عن أهل البيت عليهم السّلام أن المشركين كانوا يعيّنون قسما من الحرث و الأنعام لله و ينفقونه على الضيوف و المساكين و قسما منهما لآلهتهم و ينفقونه على سدنتها و يذبحون عندها ثم إن رأوا أن ما عيّنوا لله أزكى بدّلوه بما لآلهتهم، و إن رأوا أن ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبا لآلهتهم و عللوا ذلك بأن الله غنيّ.

و روي أيضا: أنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله ردّوه، و إذا اختلط ما جعل لله بما جعلوه

للأصنام تركوه، و قالوا: الله غني، و إذا انخرق الماء الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه، و إذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 133

[سورة الأنعام (6): آية 137]

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (137)

انخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه و قالوا: الله غني ..

فرد عليهم سبحانه بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي أن حكمهم بالتشريك أو عند الاختلاط، و التزكية، سيّئ، فإن الله و إن كان غنيا، لكن هذا العمل مخالف لجلال شأنه و عظيم كبريائه.

[138] وَ كَذلِكَ أي كما جعل المشركون في الحرث و الأنعام ما لا يجوز، كذلك فعلوا بالنسبة إلى أولادهم ما لا يجوز زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فاعل «زين» «شركاؤهم» أي أن الشياطين الذين اتخذهم المشركون شركاء لله زينوا لهم قَتْلَ أَوْلادِهِمْ مفعول «زين» شُرَكاؤُهُمْ فقد كان كثير من المشركين يعبدون الجن، و هي توحي لهم بالأعمال السيئة. فقد كانوا يقتلون البنات خوفا من العار، كما قال سبحانه: وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ* ..

أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ «1»، و قال: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ «2»، و كانوا يقتلون البنين خوف الفقر، كما قال سبحانه: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ «3»، لِيُرْدُوهُمْ من «أراده» بمعنى:

«أهلكه» أي أنه كانت غاية الشياطين- الشركاء- الذين زينوا للمشركين قتل أولادهم، إرادة إهلاك الأولاد بالقتل، و إهلاك الآباء بالذنب وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي يخلطوا عليهم الحق بالباطل حتى

______________________________

(1) النحل: 59 و 60.

(2) التكوير: 9 و 10.

(3) الأنعام: 152.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 134

[سورة الأنعام

(6): آية 138]

وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)

لا يعرفوا أحدهما من الآخر، و في الغالب يأتي أهل الباطل بضغث من الحق و ضغث من الباطل، حتى لا يصغر الحق، فيتبعه الناس وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ أي ما قتلوا أولادهم، و مشيئة الله إنما هي بجبرهم على الهدى، لكنه لا يشاء لأن الدنيا خلقت للاختبار فَذَرْهُمْ أي دعهم و اتركهم يا رسول الله وَ ما يَفْتَرُونَ أي افتراؤهم على الله سبحانه، فقد كان المشركون ينسبون أباطيلهم إليه سبحانه، و «ذرهم» تهديدا لهم، لا أن معناه عدم وجوب ردعهم و نهيهم.

[139] وَ قالُوا أي قال المشركون في قسم آخر من خزعبلاتهم: هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ أي مواش و زرع حِجْرٌ أي حرام لا يَطْعَمُها أي لا يأكلها إِلَّا مَنْ نَشاءُ و هي التي خصّصوها لأصنامهم فقد كانت خاصة للسدنة لا يشركهم فيها أحد بِزَعْمِهِمْ أي قد كان هذا التحريم زعما منهم، إذ لم ينزل الله به من سلطان وَ عمدوا إلى قسم ثان من الأنعام فحجروها و قالوا: هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها أي لا تركب، لأنها نذرت للآلهة، أو لأنها ولدت كذا ولدا، أو لأنها حمت ظهرها، من السائبة و أخواتها، كما تقدم في سورة المائدة وَ عمدوا إلى قسم ثالث من الأنعام فهي أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا عند الركوب، أو عند الذبح، أو لا يحجون عليها، و قد كانوا ينسبون كل ذلك إلى الله سبحانه افْتِراءً عَلَيْهِ فقد كانوا كاذبين في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص:

135

[سورة الأنعام (6): الآيات 139 الى 140]

وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

هذه النسب سَيَجْزِيهِمْ الله سبحانه بِما كانُوا يَفْتَرُونَ أي بسبب افترائهم على الله سبحانه كذبا و زورا.

[140] وَ قالُوا أي قال المشركون في قسم آخر من أباطيلهم: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ من الأجنة خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أي نسائنا، إن كانت حية وَ إِنْ يَكُنْ ما في بطون الأنعام مَيْتَةً بأن خرج الجنين ميتا فَهُمْ رجالا و نساء فِيهِ شُرَكاءُ يجوز للنساء أكله كما يجوز للرجال سَيَجْزِيهِمْ الله تعالى وَصْفَهُمْ أي هذا الوصف الذي كانوا يصفون به الجنين بالتحليل و التحريم و «وصف» منصوب بنزع الخافض، أي «بوصفهم» إِنَّهُ سبحانه حَكِيمٌ يحكم عن حكمة و مصلحة عَلِيمٌ بما يصدر من هؤلاء، فيجازيهم حسب المصلحة و الحكمة.

[141] ثم يجمع ذلك كله بقوله سبحانه: قَدْ خَسِرَ الكفار الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ خوف العار أو الفقر أو للنذر- فقد كانوا ينذرون قتل الأولاد- سَفَهاً أي جهلا و سفاهة، فإنهم اشتروا بذلك النار بِغَيْرِ عِلْمٍ بما يعملون، فإنهم كانوا يزعمون صحة عملهم هذا وَ حَرَّمُوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 136

[سورة الأنعام (6): آية 141]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ

الْمُسْرِفِينَ (141)

ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي خسروا بتحريمهم قسما من الأنعام و الحرث الذي زعموا أنه حجر لأصنامهم افْتِراءً عَلَى اللَّهِ حيث كانوا ينسبون ذلك إليه سبحانه قَدْ ضَلُّوا الطريق المستقيم وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ في تلك الأعمال.

[142] وَ هُوَ الله الَّذِي أَنْشَأَ أي خلق و أبدع جَنَّاتٍ أي بساتين مَعْرُوشاتٍ أي مجعولات لها عروش من الكروم وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ من الأشجار التي لا تحتاج إلى العروش بل هي قائمة على ساقها وَ أنشأ النَّخْلَ للتمر وَ الزَّرْعَ من مختلف المزروعات في حال كون جميع ذلك مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ أي ثمره الذي يؤكل، و الاختلاف في اللون و الطعم و الشكل و الخواص وَ أنشأ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ و ذكرهما لكثرتهما في هذه البلاد في حال كون ذلك كله، أو الأخيرين مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ من حيث اللون و الورق و الشجر و غيرها كُلُوا أيها البشر مِنْ ثَمَرِهِ أي ثمر هذا المنشأ إِذا أَثْمَرَ فإن ذلك مباح لكم وَ آتُوا حَقَّهُ أي الحق المجعول عليه، و هو إعطاء الفقراء منه شيئا، حفنة حفنة، أو كفا كفا يَوْمَ حَصادِهِ أي جنيه و قطعه وَ لا تُسْرِفُوا في باب ما رزقناكم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 137

[سورة الأنعام (6): الآيات 142 الى 143]

وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143)

بأن تعطوا الجميع، أو تصرفوه فيما لا يعني، أو ما أشبه إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي يكرههم.

[143] وَ

أنشأ مِنَ الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم حَمُولَةً هي الإبل التي يحمل عليها، أو كل ما يحمل من الخيل و البغال و الحمير و الإبل وَ فَرْشاً أي ما يفترش من جلودها كالغنم، أو المراد بالفرش صغارها قبل أن تكون صالحة للحمل، كُلُوا أيها البشر مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ و لا تحرموا شيئا منها كما كان أهل الجاهلية يحرمون بعض الطيبات وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ كأن العاصي يضع قدمه حيث وضع الشيطان قدمه إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ أي واضح العداوة، لأنه يسبب ذهاب دنياكم و آخرتكم.

[144] ثم بيّن سبحانه أن ليس في شي ء من الأنعام محرما، و إنما ذلك اختلاق من الجهال، إنه سبحانه أنشأ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ من الأنعام الثلاثة، و «الزوج» يقع على الواحد الذي يقع معه الآخر، و على الاثنين، فالرجل زوج و المرأة زوج، كما أن كليهما زوج مِنَ الضَّأْنِ و هي الشاة اثْنَيْنِ ذكر و أنثى و «اثنين» بدل من «ثمانية» وَ مِنَ الْمَعْزِ و هي السخل اثْنَيْنِ ذكر و أنثى قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يحرمون بعض هذه الأقسام: آلذَّكَرَيْنِ دخلت همزة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 138

[سورة الأنعام (6): آية 144]

وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

الاستفهام على همزة الوصل و فصل بينهما بالألف، و لم تسقط همزة الوصل لئلّا يلتبس الاستفهام بالخبر و إن جاز الحذف لقرينة «أم» أي:

هل أحد الذكرين من الضأن و المعز حَرَّمَ الله أَمِ إحدى الْأُنْثَيَيْنِ

منها أم حرّم سبحانه ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أي الجنين الذي اشتمل عليه رحم الضأن و المعز، فإنهم كانوا يقولون: إن ما في بطون هذه الأنعام محرم على الإناث و خالص للذكور نَبِّئُونِي أي: أخبروني أيها الكفار المحرمون لبعض هذه الأقسام بِعِلْمٍ أي: عن دليل عملي، لا الأوهام و الظنون إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في تحريم الله سبحانه لهذه الأقسام.

[145] وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ذكر و أنثى، و هو عطف على «مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ» وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ذكر و أنثى، و هذا تمام الثمانية قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: آلذَّكَرَيْنِ أي: هل أن واحدا من الذكرين حَرَّمَ الله سبحانه أَمِ إحدى الْأُنْثَيَيْنِ من الإبل و البقر؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من الجنسين- كما تقدم- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أي:

حضورا- مقابل «نبئوني بعلم»- أي: هل علمتم أو حضرتم التحريم؟

إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم، و إذ لا دليل لكم لا سماعا و لا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 139

[سورة الأنعام (6): آية 145]

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

حضورا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فإن من ينسب إلى الله سبحانه حكما بالكذب هو أظلم الناس لنفسه. و قد تقدم أن التفضيل هنا نسبي لا واقعي لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فيوقع الناس في الضلالة، و لا علم له بصحة عمله، بل يعلم بطلانه أو يظن ما يقوله ظنا إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بل يتركهم و شأنهم حتى

يتمادوا في غيهم و ضلالهم.

[146] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ أي ما أوحى به الله سبحانه في باب تحريم هذه الأشياء التي تتناولونها أنتم و التي تحرمونها مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ أي على آكل يأكله، فكل ما تذكرون تحريمه باطل، بل هو حلال طيب إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً غير مذكّى شرعا أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أي مصبوبا، و إنما خص المسفوح بالذكر، لأن ما اختلط باللحم مما يعسر تخليصه منه محلل مباح أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ و من المعلوم أن ذكر اللحم من باب المثال، و إلا فشحمه و سائر أجزائه أيضا حرام فَإِنَّهُ أي كل واحد من هذه المحرمات، أو خصوص لحم الخنزير رِجْسٌ أي قذر منفور منه أَوْ فِسْقاً عطف على «ميتة» أي لحما يكون أكله فسقا، لأنه خلاف إباحة الله، و ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 140

[سورة الأنعام (6): آية 146]

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (146)

فيما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: ذكر عليه اسم الأصنام حين القتل، و لم يذكر عليه اسم الله فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول أحد هذه المحرمات غَيْرَ باغٍ في أكله وَ لا عادٍ من التعدي، بأن لم يكن طالبا لأكل الحرام، و متعديا حد سدّ الرمق- و قد تقدم المعنى في سورة المائدة- فَإِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله غَفُورٌ يغفر لمن تناول مضطرا رَحِيمٌ بالعباد حيث رخّص لهم ذلك، و قد تقدم عدم المنافاة بين عدم المعصية و الغفران.

[147] كان هذا الحكم بالنسبة إلى

غير اليهود وَ أما عَلَى الَّذِينَ هادُوا فقد حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ من دابة ليست مشقوقة الرجل كالإبل و النّعام، أو الطير كالإوز و البط وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما كل شحم في بدنهما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أي الشحم الذي كان على ظهرهما أَوِ ما حملته الْحَوايا من الشحم، و هي: جمع «حاوية»، و المراد به الأمعاء، و هو الشحم الملتف بالأمعاء أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ كشحم الجنب و الإلية و نحوهما ذلِكَ التحريم عليهم لم يكن لأجل ضرر في المحرمات عليهم بل جزيناهم بسبب بغيهم أي ظلمهم حيث كانوا يكفرون بآيات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 141

[سورة الأنعام (6): الآيات 147 الى 148]

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148)

الله و يقتلون الأنبياء بغير حق وَ إِنَّا لَصادِقُونَ في إخبارنا عن بني إسرائيل و ما فعلوا و ما فعلنا بهم، و ذلك بخلاف كثير من الأعداء حيث يلفّقون أخبارا مكذوبة على أعدائهم لحطّهم في أعين الناس.

[148] فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا رسول الله فيما ذكرت للمشركين من التحريم و التحليل، حيث قالوا: إن حرام الله و حلاله كما نقول، أو فيما ذكرت عن اليهود من تحريم الله عليهم المذكورات بسبب بغيهم فَقُلْ لهم:

رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يرحم جميع ذوي الروح، و لذا لا يعاجلكم بالعقوبة لكي تتوبوا وَ لكن مع ذلك لا يُرَدُّ

بَأْسُهُ أي: لا يدفع عذابه إذا جاء وقته عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الذين ارتكبوا الجرائم.

[149] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا و اتخذوا شريكا لله سبحانه، للدفاع عن أنفسهم، و تبرير شركهم لَوْ شاءَ اللَّهُ أن لا نشرك ما أَشْرَكْنا نحن وَ لا أشرك آباؤُنا من قبل وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ فإذا أشركنا و حرمنا و سكت الله عنا فهو يرضى بذلك و يريد شركنا و تحريمنا كَذلِكَ أي كتكذيب هؤلاء لك يا رسول الله في قولك:

إن الله لا يرضى بالشرك و لم يحرّم ما حرّمتموه كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا أي: حتى نالوا عذابنا و نكالنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 142

[سورة الأنعام (6): الآيات 149 الى 150]

قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

قُلْ يا رسول الله لهم، ردّا على حجتهم هَلْ عِنْدَكُمْ أيها المشركون مِنْ عِلْمٍ بأن الله يريد شرككم و تحريمكم للمحللات فَتُخْرِجُوهُ لَنا و إذ ليس لكم دليل فكلامكم خال عن الحجة إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون في أقوالكم و أعمالكم إِلَّا الظَّنَ فإنكم تظنون ما تقولونه لما اعتدتم عليه وَ إِنْ أَنْتُمْ أي: ما أنتم إِلَّا تَخْرُصُونَ الخرص، هو: التخمين.

[150] قُلْ يا رسول الله لهم: إنكم إذا عجزتم عن إقامة الدليل على عقيدتكم و مدّعاكم فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ التي بلّغتكم، بأنه لا يريد الشرك، و لم يحرّم المذكورات فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ بالجبر و الإكراه، لكنه لا يشاء ذلك حتّى يجري الاختيار و الاختبار.

[151] قُلْ يا رسول

الله لهؤلاء الذين حرموا الأمور المذكورة: هَلُمَ أي: أحضروا شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا الذي ذكرتم حرمته من أقسام الحيوان و الزرع، إنه طالبهم بالعلم فلم يكن عندهم، ثم طالبهم بالشاهد، لكنه لا شاهد عندهم، و لكنهم قد يأتون بشهود زور فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ يا رسول الله مَعَهُمْ فإن شهادتهم باطلة.

و إن قيل: كيف دعاهم إلى الشهادة، ثم لم يقبل شهادتهم؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 143

[سورة الأنعام (6): آية 151]

قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

قلنا: إنه دعاهم إلى أن يأتوا بالشهود العدول لا من أنفسهم، و إلّا فالمدعي لا يكون شاهدا، فإن شهدوا بأنفسهم لم تقبل شهادتهم.

وَ لا تَتَّبِعْ يا رسول الله أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي هوى أنفسهم، فإن من لا يعمل بالحق لا بد و أن يكون متبعا لهواه، و حيث يرشده الهوى إليه وَ لا تتبع أهواء الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كالكفار الذين كانوا ينكرون البعث. و من المعلوم أن الكفار كانوا على قسمين: منهم من يؤمن بالآخرة كأهل الكتاب، و منهم من لا يؤمن بها كالدهرية وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي: يجعلون له عدلا و شريكا.

[152] و بعد استنكار ما حرمه المشركون على أنفسهم، و استنكار استحلالهم لبعض المحرمات، يأتي السياق لبيان المحرمات الواقعية التي حرّمها الله سبحانه قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين:

تَعالَوْا أي أقبلوا و احضروا أَتْلُ أي أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ

عَلَيْكُمْ «ما» مفعول «أتل» أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ أي بالله شَيْئاً أي لا تجعلوا له سبحانه شريكا. و الجملة في تأويل المصدر، فيكون بدلا من «ما حرم» أي أتل تحريم الشرك. فلا يقال: إن النفي في النفي يفيد الإثبات.

وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي أوصاكم بهما إحسانا، إذ في «حرّم» معنى الإيصاء، و «إحسانا» منصوب بفعل مقدّر، تقديره: «أحسنوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 144

بالوالدين إحسانا». و من المعلوم أن ترك كل واجب حرام، و لذا صحّ تعداده في جملة «ما حرم» وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ بنين و بنات مِنْ إِمْلاقٍ هو الفقر، أي من جهة الفقر، فقد كان المشركون يقتلون أولادهم، خوف أن يفتقروا فلا يجدوا مؤونتهم. نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ أنتم أيها الآباء وَ إِيَّاهُمْ أي الأبناء، فليس رزقهم عليكم، ثم إن من المعلوم أن الرزق يحتاج إلى جدّ و تعب فليس المراد برزقه إياهم أنه ينزله من السماء في الدلو وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ جمع فاحشة، صفة للمقدر أي «الصفة الفاحشة» ما ظَهَرَ مِنْها للناس وَ ما بَطَنَ أي أتي به سرا، و هذا يشمل جميع المحرمات غير المذكورة بالنص وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ من المسلم و المعاهد إِلَّا بِالْحَقِ و قد تقدم أن مثل هذه الاستثناءات من أصل الكلام، لا من قيده، أي لا تقتلوا النفس إلّا بالحق، و الحق في القتل في موارد خاصة، كالجهاد، و الزاني المحصن، و المرتد الفطري، و المهاجم و القصاص، و ما أشبه. ذلِكُمْ المذكور في الآية من المحرمات وَصَّاكُمْ الله بِهِ أي أمركم به، فإن الوصية بمعنى الأمر لَعَلَّكُمْ أيها البشر تَعْقِلُونَ أي تحكّمون عقولكم في المحرم و المحلل، فلا تقولوا شيئا اعتباطا.

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 2، ص: 145

[سورة الأنعام (6): آية 152]

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)

[153] وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ و هو من فقد الأب و الجد، أو الأعم منه و من فقد الأم، و كلمة «لا تقربوا» للمبالغة في الاجتناب، و تخصيص اليتيم بالذكر، مع عدم جواز التصرف في مال كل أحد بدون رضاه، لأجل أن اليتيم لا يقدر على الدفاع عن نفسه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي بالطريقة التي هي أحسن من سائر الطرق، بأن يحفظ له ماله إلا بمقدار ضروري لمعاش اليتيم حيث ينفق عليه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ «الأشد»: جمع «شد» نحو: أضر، جمع: ضر، و الشد: القوة، و هو استحكام قوة الشباب، أي حتى يبلغ إلى قوة شبابه، و هو إنما يحصل بالبلوغ و الرشد، و البلوغ في الولد كمال خمس عشرة سنة، أو الإنبات، أو الاحتلام، و في البنت غالبا كمال التسعة و الدخول في العاشرة وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ فلا تنقصوا الكيل و الميزان عند البيع، و لا تزيدوهما عند الشراء بِالْقِسْطِ أي بالعدل، فلا إفراط و لا تفريط.

لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي بالمقدار الذي يسعها، و لا يوجب ضيقا و حرجا عليها، فهذه التكاليف السابقة، لا حرج فيها على النفس، أو المراد أن الوفاء بالكيل و الوزن حسب المتعارف، لا الدقة العقلية حتى يوجب عسرا و حرجا.

و لا يقال: فكيف كلّف الإنسان بالجهاد؟

لأنا نقول: إن الجهاد خارج عن هذا العموم، فإنه لإرساء قواعد

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 146

[سورة الأنعام (6): آية 153]

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

الإسلام، و العموم إنما هو في مقابل التكاليف في سائر الشرائع- المنحرفة- و القوانين المرهقة، فإنه يريد بيان سهولة أحكام الإسلام و سماحتها.

وَ إِذا قُلْتُمْ شيئا فَاعْدِلُوا في القول، و العدل فيه أن لا يميل القائل نحو الباطل. فالغيبة، و السبّ، و القضاء بغير الحق، و ما أشبهها، ظلم، ليس بعدل وَ لَوْ كانَ المقول فيه ذا قُرْبى فإن الناس غالبا يقولون الباطل لصالح ذوي قرباهم، و لذا يأمرهم سبحانه بالعدل بالنسبة إليهم وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا و المراد جميع معاهداته، كما قال: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ «1»، فالمراد الإتيان بالواجبات و ترك المحرمات ذلِكُمْ الذي تقدم ذكره من الأحكام وَصَّاكُمْ بِهِ على طريق اللزوم و الحتم لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي لكي تتذكروا و تأخذوا به، و التذكّر باعتبار ما هو كامن في الفطرة من حسن هذه الأشياء، كما سبق.

[154] وَ وصّاكم سبحانه أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً أي أن الأحكام التي أنزلتها توصل إلى السعادة، فهي طريق إليها بالاستقامة، لا كسائر الطرق الملتوية، التي قد لا توصل، و قد توصل بالتواء و عناء فَاتَّبِعُوهُ أي سيروا عليه و انتهجوه وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الأخرى من سبل الكفر و البدع

______________________________

(1) البقرة: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 147

[سورة الأنعام (6): الآيات 154 الى 155]

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)

و الشبهات فَتَفَرَّقَ أي

تتفرق تلك السبل بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ فتشتّتكم، و تلهيكم عن طريقه سبحانه ذلِكُمْ الاتباع لسبيله وَصَّاكُمْ الله بِهِ إلزاما لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي تتقوا عقابه و تحذروا الخسران.

[155] إن هذا الصراط كان قديما قبل موسى و عيسى و محمد عليهم السّلام، و إن الجميع كانوا مأمورين باتباعه ثُمَ بعد سبق هذا الصراط عند الأنبياء السابقين آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي أعطيناه التوراة تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي لأجل إتمام عمل موسى عليه السّلام الحسن الذي أدّاه؛ من القيام بالتبشير و الهداية، أو لأجل إتمام النعمة على موسى الذي أحسن الخدمة لله سبحانه، فإن إنزال الكتاب على النبي من أعظم المفاخر بالنسبة إليه وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ مما يحتاج إليه الناس وَ هُدىً أي دلالة على الحق وَ رَحْمَةً يرحم الله بسببه على عباده حيث ينقذهم من الشقاء إلى السعادة لَعَلَّهُمْ أي لعل الناس بِلِقاءِ رَبِّهِمْ أي بملاقاة جزائه و ثوابه و عقابه يُؤْمِنُونَ فيسعدون.

[156] وَ هذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ له بركة يأتي منه الخير الكثير فَاتَّبِعُوهُ أيها الناس وَ اتَّقُوا معاصي الله سبحانه، و مخالفة كتابه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي تشملكم الرحمة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 148

[سورة الأنعام (6): الآيات 156 الى 157]

أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)

[157] و إنما أنزلنا هذا الكتاب أَنْ تَقُولُوا أي لئلّا تقولوا: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ من قبل الله سبحانه

عَلى طائِفَتَيْنِ اليهود و النصارى مِنْ قَبْلِنا و لم يرتبط الكتاب بنا حتى نؤمن به وَ إِنْ كُنَّا «إن» مخففة من المثقلة، أي أنه كنّا نحن العرب عَنْ دِراسَتِهِمْ أي دراسة أولئك الطوائف المنزلة عليهم الكتب، أي لغتهم لَغافِلِينَ فلم نعرف ما في كتبهم حتى نؤمن بها، فقد أنزلنا إليكم الكتاب حتى لا يكون لكم عذرا في عدم الإيمان.

[158] أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ الذي نفهمه لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ أي أكثر هداية في التمسك و العمل على طبق الكتاب لأنا ألين عريكة، و أكثر تمسكا بالمعتقدات فَقَدْ جاءَكُمْ أيتها الأمة المعاصرة للرسول بَيِّنَةٌ أي دلالة واضحة مِنْ رَبِّكُمْ و هو القرآن وَ هُدىً يهتدى به إلى الحق وَ رَحْمَةٌ يرحم بها الله من تمسّك به، إذ يسعده في الدنيا و الآخرة.

فَمَنْ أَظْلَمُ أي من يكون أكثر ظلما لنفسه مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ ! و هو القرآن وَ صَدَفَ أي أعرض عَنْها أي عن الآيات سَنَجْزِي في الآخرة، أو الأعم منها و من الدنيا الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 149

[سورة الأنعام (6): آية 158]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ أي العذاب الشديد بِما كانُوا يَصْدِفُونَ أي بسبب إعراضهم عن الحق و الآيات.

[159] ما ينتظر هؤلاء الكفار بعد نزول القرآن؟ هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظرون للإيمان إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ و ذلك لا يمكن في دار التكليف أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ و ذلك مستحيل لأن الله لا مكان

له و لا حركة أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ أي العذاب، حتى يروا العذاب فيؤمنوا يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يا رسول الله لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ فإن العذاب إذا نزل لا تقبل التوبة، لأن العذاب لا ينزل إلا بعد تمام الحجة و المخالفة، و حين ذاك قد تم الاختبار و صار موعد المجازاة أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على «لم تكن آمنت»، و المعنى: أنه لا ينفع في ذلك اليوم إيمان نفس إذا لم تكن آمنت قبل ذلك اليوم، أو ضمت إلى إيمانها أفعال الخير، فإنها إذا آمنت فقد نفعها إيمانها، و كذلك إذا ضمت إلى الإيمان طاعة لنفعها أيضا، فلا ينفع إيمان الكافر، و لا طاعة المؤمن عند حلول العذاب، و إنما النافع الإيمان السابق، و الطاعة السابقة قُلِ يا رسول الله لهؤلاء: انْتَظِرُوا إتيان بعض آيات الله ف إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 150

[سورة الأنعام (6): آية 159]

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 199

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)

حتى يرى كل واحد منّا جزاءه العادل و ما قدم لنفسه.

[160] ثم يقرّر سبحانه أن الإسلام إنما هو دين واحد لا تفرقة فيه، فالذين يتفرقون ليسوا من الإسلام، كما أن من أشرك ليس من الإسلام إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ تفريقا بالأهواء كالكفار المختلفين، أو بالأديان كاليهود و النصارى و فرقهم، أو بالضلالة و الشبهات و لو في دين الإسلام، كالفرق المبتدعة، فإن الذين يفعلون ذلك وَ كانُوا شِيَعاً جمع «شيعة» أي طوائف مختلفة لَسْتَ يا رسول الله مِنْهُمْ

فِي شَيْ ءٍ فلا ربط بينكما أبدا، و إنما هم في جهة و أنت في جهة.

و ليس معنى أن الجميع على باطل، بل المعنى أن ما ليس فيه الرسول باطل، و إلّا فالحق دائما مع إحدى الطوائف إِنَّما أَمْرُهُمْ أي أمر هؤلاء الذين فرّقوا دينهم و كانوا شيعا إِلَى اللَّهِ فهو الذي يجازيهم لسوء أفعالهم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ أي يخبرهم بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الأعمال. و هذا تهديد، كقولك: «لأعلمنك غدا» لمن خالف أمرك، تريد أنك تعاقبه بفعله.

و هنا سؤال: إذا علمنا نحن المسلمين بطلان سائر المذاهب و الطوائف، فما ذا نفعل بهذا الاختلاف بين المسلمين أنفسهم؟

و الجواب: إن الكتاب و السنّة يأمراننا باتباع علي و أهل بيته الأئمة الأحد عشر عليهم السّلام، و بعد ذلك فقد عيّن الفقهاء الراشدون لمرجعية الأمة، في

قوله عليه السّلام: «من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 151

[سورة الأنعام (6): آية 160]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)

مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه» «1».

و

قوله عليه السّلام: «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم و أنا حجة الله» «2».

أما الاختلاف بين الفقهاء في بعض الفروع فليس ذلك اختلافا يذكر، بل هو كالاختلاف بين كل مهندسين، أو طبيبين، أو حاكمين، مع إخلاص كل منهما و اتحاد منهجهما.

ثم إنه قد يستغرب: كيف يكون مصير هذه الكثرة من الناس الذين ليسوا بمسلمين، و كثير من المسلمين المنحرفين، النار، و من يبقى للجنة إذا؟

و الجواب: إن ما يستفاد من الآيات و الروايات أن الخلود في النار إنما هو للمعاند، و لا دليل

على أنه لا يمتحن القاصر من البشر في الآخرة ليدخل الجنة، بل دلّ الدليل على ذلك، كما هو مذكور في علم الكلام. و من المعلوم عدم كون أكثر الناس مقصرين معاندين، إذا فليس بالبعيد دخول كثرة هائلة من البشر الجنة، للإيمان و حسن العمل في الدنيا، أو حسن الامتحان في الآخرة.

[161] و إذ تقدم الكلام حول الجزاء يقرر السياق القاعدة العامة له و أنه مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ التاء إما للمبالغة، و إما للتأنيث أي طاعة حسنة فَلَهُ من الثواب عَشْرُ أَمْثالِها على الأقل و إلا فقد يبلغ الثواب إلى سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ «3»، وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ في التاء القولان، و إذا كانت للتأنيث فهي صفة «خصلة» فَلا

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري: ص 299.

(2) وسائل الشيعة: ج 27 ص 140.

(3) البقرة: 262.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 152

[سورة الأنعام (6): الآيات 161 الى 162]

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162)

يُجْزى إِلَّا مِثْلَها سيئة واحدة و إن كانت عظيمة جدا، فلا يقال: ما فائدة «الواحدة» فيما لو كانت أعظم من المعصية ككذبة واحدة جزاؤها سنة في النار- مثلا-؟ فمثلا جزاء من يسب الملك بلفظة مائة سوط، و هو جزاء واحد، و إن كان عظيما في نفسه وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ في مقدار ما استحقوا من السيئات بل جزاء وفاقا.

[162] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي أي أرشدني إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و المراد: الصراط الموصل للإنسان إلى الحقائق و السعادة في الدنيا

و الآخرة، بالنسبة إلى كل شي ء من الأمور دِيناً منصوب على تقدير هداني، أي هداني دينا، أو على الحال أي أن الصراط في حال كونه دينا قِيَماً أي مستقيما، و هو مصدر، ك «الصغر و الكبر» مِلَّةَ إِبْراهِيمَ بدل من «دينا» و الملة: هي الشريعة، مأخوذة من «الإملاء» لأن الشرع يمليه الرسول على أمته، و إنما نسب الدين إلى إبراهيم عليه السّلام لاتفاق جميع الأديان على جلالته عليه السّلام و صحة دينه، و قد كانت الأديان كلها دينا واحدا فلا مانع أن ينسب اللاحق إلى السابق حَنِيفاً أي في حال كون تلك الملة مائلة عن الباطل إلى الحق، من «حنف» بمعنى «مال» وَ ما كانَ إبراهيم عليه السّلام مِنَ الْمُشْرِكِينَ فلم يكن مشركا كمشركي مكة و لا يهوديا و لا نصرانيا، فكلاهما مشركان.

[163] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: إِنَّ صَلاتِي و هي الصلوات التي يأتيها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 153

[سورة الأنعام (6): الآيات 163 الى 164]

لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

الإنسان واجبة أو مندوبة وَ نُسُكِي النسك: العبادة، يقال: رجل ناسك أي متعبد، و يقال للأضحية: النسكية، للتقرب بها إلى الله، فهي عبادة وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي أي حياتي و موتي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فإن عبادتي له وحده بلا شريك، و أموالي ملكه و بقدرته لا بشركة أحد معه.

[164] لا شَرِيكَ لَهُ لا أشرك أحدا به في العبادة، و لا أزعم أن له شريكا في

حياتي و موتي وَ بِذلِكَ أي بالتوحيد أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمة، أو المراد رتبة إسلامي من أول الرتب.

[165] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي أي أطلب رَبًّا و إلها وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ الاستفهام للإنكار، أي كيف أتخذ غير الله إلها- بالاستقلال أو بالشركة- و الحال أنه تعالى رب كل شي ء لا رب سواه و لا إله إلا هو؟

وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها فإذا اكتسبت المعصية بالشرك، لحقني جزائي السيئ، وَ لا تَزِرُ أي لا تحمل من «وزر» بمعنى حمل الإثم وازِرَةٌ أي نفس حاملة وِزْرَ أي معصية نفس أُخْرى بل عصيان كل أحد على نفسه و هو يحمل تبعته.

قيل: إن الكفار قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اتبعنا و علينا وزرك إن كان خطأ، فأنزل الله هذه الآية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 154

[سورة الأنعام (6): آية 165]

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ أي إلى حسابه مصيركم أيها المشركون، أو أيها البشر فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم بِما أي بالشي ء الذي كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ليجازي كل إنسان و ما عمله من إحسان و إساءة.

[166] وَ هُوَ الله وحده الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ فإنكم تخلفون أهل العصر السابق في إرث الأرض و ما عليها، كما أن من بعدكم يخلفكم و يرثكم في أرضكم و أموالكم وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ ذكاء، و علما، و مالا، و منصبا، و من سائر الجهات، فإن الأمور التكوينية و التقديرية كلها بيده لا شريك له

لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي استخلفكم و أعطاكم عطاء متفاوتا ليختبركم، و يظهر سرائركم، و هل أنكم تطيعون أم تعصون إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ فلا يظن الكافر و العاصي، أن العقاب بعيد، فإن أمد الدنيا قصير مهما طال، أو المراد سرعة العقاب في الدنيا، و قبل الآخرة، إذ المعاصي توجب آثار وخيمة فورا في الدنيا وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ لمن تاب و آمن رَحِيمٌ يرحم العباد، و يتفضل عليهم من واسع فضله.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 155

7 سورة الأعراف مكية/ آياتها (207)

سميت السورة بهذا الاسم لوجود كلمة «الأعراف» فيها. و لما ختم سبحانه «الأنعام» بالرحمة، افتتح هذه السورة بأنه أنزل كتابا فيه معالم الدين و الحكمة.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أبتدئ بها السورة، و أجعل الإله الرحمن الرحيم، قدام قراءتي لها.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 156

[سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)

[2] المص قد تقدم تفسير فواتح السور المقطعة، و أنها رموز بين الله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو أن من جنس هذه الحروف.

[3] كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ و هو القرآن فليس حروفه أمرا خارقا، و إنما التركيب أمر خارق فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ يا رسول الله حَرَجٌ و ضيق مِنْهُ أي من هذا الكتاب، حيث ترى أن قومك يكذبوك و يؤذوك في سبيله، بل اطمئن بنصر الله سبحانه و حسن ثوابه، و إنما أنزل الكتاب

إليك لِتُنْذِرَ بِهِ أي بهذا الكتاب، الكافرين و العصاة، بعقاب الله تعالى وَ ليكون ذِكْرى و تذكرة لِلْمُؤْمِنِينَ فيتذكرون به الدين و الأصول و الفروع، ليعملوا بما فيه.

[4] اتَّبِعُوا أيها الناس ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من القرآن و الأحكام وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي غير ربكم تعالى أَوْلِياءَ كالأوثان، و الكفار قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي قليل- أيها البشر- تذكركم و اتعاظكم.

[5] وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أي كثيرا من أهل القرى أَهْلَكْناها عبّر بالقرية و أريد أهلها بعلاقة الحال و المحل، و المراد بالإهلاك إرادته، فإنه كثيرا ما يقال الفعل و يراد مقدماته- كما قرّر في علم البلاغة- فَجاءَها بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي بالليل أَوْ هُمْ قائِلُونَ أي في وقت القيلولة و هي نصف النهار، من «أقال» بمعنى «أراح»، و من المعلوم أن العذاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 157

[سورة الأعراف (7): الآيات 5 الى 8]

فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)

في هذين الوقتين أشد وقعا لغفلة الناس و راحتهم.

[6] فَما كانَ دَعْواهُمْ أي دعاء هؤلاء الذين أهلكناهم، و كلامهم إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا وقت مجي ء العذاب إِلَّا الاعتراف بذنبهم ب أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فاعترفوا بما كان منهم حين رأوا العذاب.

[7] لكن الاعتراف لم ينفعهم فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل، يسألهم عن أعمالهم، و ما أجابوا به الرسل لما بعثوا إليهم وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ أي الأنبياء، فإن كل واحد من الرسل و

الأمم لا بد و أن يحضر في محضر الحساب.

[8] و ليس السؤال لجهلنا بما صدر من الطرفين فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أي نقص ما كان من الطرفين قصة صادرة عن علمنا بأحوالهم، فليس السؤال إلا التقرير و التأكيد على أنفسهم وَ ما كُنَّا غائِبِينَ عن أعمالهم حين عملوها بل كنّا شهودا عليهم حاضرين- علما- عند أعمالهم.

[9] وَ الْوَزْنُ للأعمال يَوْمَئِذٍ يوم القيامة الْحَقُ فلا ينقص حق و لا يزاد على حق، و إنما توزن الأعمال بموازين عادلة فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ الصالحة، و إنما جمع «الميزان»، باعتبار كل عمل عمل فَأُولئِكَ الذين ثقلت موازينهم هُمُ الْمُفْلِحُونَ الذين فازوا بالسعادة الأبدية.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 158

[سورة الأعراف (7): الآيات 9 الى 10]

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)

[10] وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ الصالحة بأن ثقلت موازين سيئاته فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فإن النفس كانت لتحصيل الجنة، فقد حصل الإنسان بها النار بِما كانُوا أي بسبب كونهم بِآياتِنا يَظْلِمُونَ أي بسبب جحودهم بما جاء به الرسل من الآيات.

و هنا سؤال: ما هي طبيعة «الموازين» في الآية؟

و الجواب: من المحتمل أن يراد بها الموازين المعقولة لا المحسوسة، كما يقال: و زنت فلان، أو فلان خفيف الوزن، أو فلان له وزن، و هكذا. و الله سبحانه يعلم قيمة الأعمال، كما أنّا نعرف قيم بعض الأعمال، فنقدر المهندس و عمله أكثر مما نقدر العامل. كما أن من المحتمل أن يراد بها الموازين المحسوسة بأن تتجسّم الأعمال، فللصلاة صورة و وزن، و هكذا لسائر الأعمال الخيرية و الشرية، ثم توزن في موازين

كموازين الدنيا.

[11] وَ كيف لا تخضعون لله سبحانه، و الحال أنه بالإضافة إلى نعمة إرسال الرسل و الهداية، ابتدأ عليكم بنعمة الحياة؟ ف لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ أيها البشر فِي الْأَرْضِ بأن جعلنا الأرض تحت إرادتكم تبنون و تزرعون و تخرجون كنوزها وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي ما تعيشون به من أنواع الرزق قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي أن شكركم للنعم قليل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 159

[سورة الأعراف (7): الآيات 11 الى 12]

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)

[12] وَ قبل ذلك لَقَدْ خَلَقْناكُمْ أي أوجدنا أصلكم الذي هو التراب، أو المني، أو الدم، بعد العدم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أفضنا عليكم الصورة الإنسانية، في رحم الأمهات ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ إن أريد ب «ثم» معناها الظاهر، كان المراد من «خلقناكم» خلقنا أسلافكم، أي آدم عليه السّلام، و من البلاغة أن ينسب الإنسان ما للآباء إلى الأبناء، كما قال: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ «1»، بالنسبة إلى اليهود المعاصرين للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن أريد بها الترتيب في الكلام، نحو «إن من ساد ثم ساد أبوه» كان الخطاب في «خلقناكم» على ظاهره.

و قد كان أمرنا بالسجود لآدم- جدكم- نعمة و تشريفا لكم فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ الشيطان، و يسمى إبليسا لأنه «أبلس» و حرم من رحمة الله سبحانه لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فإنه أبى و استكبر، و هو لم يكن من الملائكة، و إنما كان معهم فشمله الخطاب.

[13] قالَ الله تعالى لإبليس

ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «لا» زائدة في الكلام، أي ما منعك أن تسجد، و إنما يؤتى بها لنكتة بديعة، هي قطع الكلام عما سبقه و الابتداء بالكلام التالي، ليتكرر التوبيخ كأنه قال «ما منعك»؟ و حذف المتعلق ثم سكت هنيئة، و ابتدأ «أن لا تسجد». و مثل هذا في المحاورات كثير إِذْ أَمَرْتُكَ بالسجود قالَ إبليس:

______________________________

(1) البقرة: 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 160

[سورة الأعراف (7): الآيات 13 الى 15]

قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)

أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي من آدم، فلا ينبغي للأرفع أن يسجد و يتواضع للأخفض، ثم علل كونه خيرا بقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ أي خلقت آدم مِنْ طِينٍ و النار مضيئة و الطين كدر. لكن قياسه كان باطلا إذ مجرد الإضاءة لا تكون سبب الأفضلية، و إنما الأشياء بالكسر و الانكسار، و إعدام النار للأشياء بعكس الأرض المحيية لها جهة نقص فيها، سبب لرفعة الأرض عليها، بالإضافة إلى أن التواضع كان للآمر لا لآدم، فمن أمر عبده بأن يحمل طبقا من طين على رأسه كان عمل العبد امتثالا للسيد لا تواضعا للطين.

[14] قالَ الله سبحانه لإبليس: فَاهْبِطْ أي اخرج خروجا انحداريا- إما منزلة أو حقيقة- مِنْها أي من الجنة فَما يَكُونُ لَكَ أي ليس لك حق أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها أي في الجنة لأنها ليست موضع المتكبرين فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ من «الصغار» و هو «الذلة»، فإنك ذليل في مقام قربنا، حقير عندنا.

[15] قالَ إبليس لله سبحانه: أَنْظِرْنِي أي أمهلني لأن أبقى حيا إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم القيامة الذي يبعث فيه

الخلق للجزاء.

[16] قالَ الله سبحانه: إِنَّكَ يا إبليس مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من الذين يمهلون و لا يعجل لهم بالموت، و لعلّ المراد بسائر المنظرين «الملائكة»- أي أنت أيضا مثلهم في الإمهال- و لكن من المعلوم أنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 161

[سورة الأعراف (7): الآيات 16 الى 17]

قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)

ليس الإنظار إلى يوم القيامة بل «إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ».

[17] قالَ إبليس بعد إمهال الله سبحانه له فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي بسبب إغوائك لي، و ليس المراد إغواءه سبحانه، بل المراد الإتيان بسبب، و أمره بأمر سبب غوايته، و قد ذكرنا سابقا أن الأفعال إنما تنسب إليه سبحانه لأنه الخالق المهيئ للأسباب و الوسائل لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ أي للبشر صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي أقعد في طريقك لأغوي البشر عنه إلى الضلال و الانحراف، فإن إغوائي للبشر مقابل إغوائك لي، و قد كان هذا القياس من الشيطان أيضا باطلا، و هو مثل أن يعطي الأب و لديه رأس مال، فيأخذ أحدهما رأس المال و يذهب به نحو الفساد، ثم لما أتم ماله، و بقي رأس مال أخيه يقول لأبيه، كما سببت فسادي أسبب فساد أخي، و هذا الكلام خارج عن المنطق، إذ الأب لم يسبب فساده و إنما أراد صلاحه، بخلاف عمله في فساد أخيه فإن الفاسد يسبب فساده.

[18] ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي من قدامهم وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، فكما يجلس اللص في طريق المسافرين، ثم يهاجمهم من جميع جوانبهم

الأربعة ليسرق ما معهم، كذلك الشيطان يطوّق الإنسان ليضله عن طريق الله سبحانه وَ لا تَجِدُ يا رب أَكْثَرَهُمْ أي أكثر البشر شاكِرِينَ لك و لنعمك، بل يتبعون طريق الكفران، فإن من عصى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 162

[سورة الأعراف (7): الآيات 18 الى 19]

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)

الله سبحانه فقد كفر بنعمه و فضله.

و هنا سؤال: لم أطلق الله سبحانه إبليس ليضل البشر؟

و الجواب: لأن الدنيا وضعت للاختبار، و لو لم يكن الآمر بالشر كانت دنيا جبر و إكراه، و لم يكن للمطيع فضل يستحق به الجنة.

و سؤال ثان: أليس من الممكن أن يتفضل الله بالجنة على البشر بدون اختبار؟

و الجواب: كلّا، إن الإنسان بالإطاعة يكون قابلا للدرجات، كالتلميذ الذي يكون قابلا للتعليم- بالقراءة و الامتحان- فلو لم تكن إطاعة لم تكن قابلية، و من المعلوم أن حرمان القابل لأجل غيره ظلم، ألا ترى لو أن الحكومة لم تفتح المدرسة لتهذيب النفوس المستقيمة الذكية، إشفاقا على البليد الذي يرسب، كان ظلما للذكي النابه.

و الكلام طويل مذكور في كتب الكلام و الفلسفة.

[19] قالَ الله تعالى لإبليس: اخْرُجْ مِنْها أي من الجنة مَذْؤُماً من «ذأم يذأم» فهو «مذءوم» بمعنى: عاب، فإن الذأم و الذيم أشد العيب مَدْحُوراً أي مطرودا، من «دحر» بمعنى: طرد لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي: أؤكد أن من تبعك من البشر لَأَمْلَأَنَ أي أملأ بالتأكيد جَهَنَّمَ مِنْكُمْ من التابع و المتبوع أَجْمَعِينَ بلا استثناء.

[20] و بعد تمام الكلام مع الشيطان توجه الخطاب إلى آدم

عليه السّلام الذي خلقه سبحانه للاستخلاف في الأرض وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ حواء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 163

[سورة الأعراف (7): آية 20]

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20)

الْجَنَّةَ هو أمر من «السكن» دون السكون، و التقدير «و لتسكن زوجك» فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما من ثمار الجنة وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ بالأكل، و النهي عن الاقتراب مبالغة في عدم الأكل، نحو قوله سبحانه: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ «1»، و قد تقدم الكلام حول ماهية الشجرة، في سورة البقرة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ لأنفسكما، و الظلم كان لأجل أن الأكل يسبب خروجهما.

[21] فَوَسْوَسَ لَهُمَا أي لآدم و حواء، و معنى الوسوسة: الإلقاء في الذهن إلقاء مردّدا، هل يفعل أو لا يفعل الشَّيْطانُ في أكل الشجرة لِيُبْدِيَ لَهُما أي ليظهر لهما، و «اللام» للعاقبة، نحو: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «2»، ما وُورِيَ أي ما ستر من «وارى» على وزن «فاعل» عَنْهُما أي عن آدم و حواء مِنْ سَوْآتِهِما أي عورتيهما، فقد كان آدم و حواء مستورين بألبسة الجنة و كان لازم إخراجهما إذا أكلا من الشجرة أن ينزع عنهما اللباس، فكان عاقبة أكلهما إظهار عورتيهما، و سميت العورة «سوءة» لأنها يسوء الإنسان ظهورها.

وَ قالَ الشيطان في وسوسته لهما ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ

______________________________

(1) الإسراء: 35.

(2) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 164

[سورة الأعراف (7): الآيات 21 الى 22]

وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ

وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

الشَّجَرَةِ أي عن أكلها إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ فليس النهي لأجل تحريم الأكل عليكما، بل لأجل أن تبقيا في صورة البشر- المحببة إليكما- أما إذا لم تشاءا فلا مانع لله سبحانه عن أكلكما من الشجرة، و الحاصل أنه أوهمهما أن النهي ليس وراءه لوم، و إنما هو نهي صلاح أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ فمن أكل من الشجرة إما أن يصبح ملكا، أو يكون إنسانا خالدا.

[22] وَ قاسَمَهُما أي حلف لهما بالله تعالى، فإن «قاسم» و «أقسم» بمعنى الحلف إِنِّي لَكُما يا آدم و حواء لَمِنَ النَّاصِحِينَ فإني أنصحكم بالأكل لتكونا كسائر الملائكة، أو تبقيا مخلدين في الجنة.

[23] فَدَلَّاهُما أي دلّى الشيطان آدم و حواء، من «تدلية الدلو» و هو أن ترسلها في البئر، بمعنى دلاهما من الجنة إلى الأرض بِغُرُورٍ أي بما غرّهما من الكلام و القسم فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بأن أكلا منها شيئا يسيرا انتزعت ملابسهما و بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي ظهرت عورتاهما وَ طَفِقا أي شرعا يَخْصِفانِ أي يجمعان من «الخصف» بمعنى الجمع عَلَيْهِما أي على أنفسهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ فقد أخذا من أوراق شجرة التين، و جعلا يلفان على عورتيهما وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 165

[سورة الأعراف (7): آية 23]

قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)

أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ أي عن تناول هذه الشجرة، فلما ذا أكلتما منها؟ وَ ألم أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ أي عدو ظاهر، فلم سمعتما كلامه؟

و هنا سؤال: كيف يمكن لمثل

آدم النبي المعصوم عليه السّلام أن يترك قول الله سبحانه: لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ «1»، و يأخذ بقول الشيطان القائل: إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ

و الجواب: إن الظلم هو وضع الشي ء في غير موضعه، و لعل آدم و حواء ظنا أن المراد بالظلم أن يكونا ملكين و بالأخص لما حلف الشيطان لهما، فإنهما لم يكونا يحتملان أن أحدا يحلف بالله كاذبا- كما في الحديث-.

و قد تكرر استعمال الظلم لوضع الشي ء غير موضعه، و إن لم يكن فيه غضاضة أصلا، كما قال سبحانه حكاية عن موسى: ظَلَمْتُ نَفْسِي «2»، و لعلهما ظنا أن الأصلح بحالهما أن يبقيا بشرا- حسب كلام الله- لكنهما شاءا الجائز، كما يترك الإنسان كثيرا ما الأصلح لما يجده أوفق بحاله، و هذا مما لا ينافي مقام العصمة إطلاقا.

[24] قالا أي قال آدم و حواء عليهما السّلام: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بارتكاب

______________________________

(1) البقرة: 36.

(2) القصص: 17.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 166

المنهي عنه و أكل الشجرة وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا أي تستر علينا، و هو كناية عن العفو عما صدر وَ تَرْحَمْنا أي تتفضل علينا برحمتك لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا بعض درجاتهم. و حيث تقرر عقلا و نقلا أن الأنبياء معصومون، كان اللازم القول بعدم كون أكل الشجرة معصية إطلاقا، و إنما كان النهي للإرشاد، كما يقول الطبيب للمريض:

«لا تشرب هذا المائع فيطول مرضك»، فإنه نهي للإرشاد، و يكون ارتكابه موجبا لطول المرض فقط، و ليس هذا مما يوجب العقاب.

و كذلك كان النهي بالنسبة إلى أكل الشجرة، لأنه كان لإرشادهما إلى البقاء في الجنة أبدا، كما قال سبحانه: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ

لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى «1»، و كان الأكل موجبا للخروج من الجنة، و لقاء مشاكل الدنيا، و الظلم- كما تقدم- هو وضع الشي ء في غير موضعه و يلائم ارتكاب المنهي إرشادا، كما يلائم القبيح، كما أن الغفران هو الستر، و هو يلائم العصيان و يلائم ارتكاب المنهي الإرشادي، و الخسران يلائم عدم الربح المتوقع، و لذا يقول التاجر: «خسرت» فيما إذا لم يربح المتوقع.

ألا ترى أن المريض إذا ارتكب ما يسبب طول مرضه، يقول للطبيب: «اشتبهت، فتدارك الأمر، و إلا خسرت صحتك في هذه المدة» و لم يكن ذلك عصيانا إطلاقا. و من هنا اشتهر في تسمية هذا النوع من الخلاف ب «ترك الأولى» أي أن الأولى كان عدم الارتكاب، و هنا سؤالان:

______________________________

(1) طه: 119 و 120.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 167

[سورة الأعراف (7): آية 24]

قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)

الأول: كيف يصدر مثل هذا الترك من الأنبياء و لهم المقام الرفيع؟

الثاني: إن هذا فتح لباب التأويل و ارتكاب خلاف الظاهر و لا داعي له؟

و الجواب عن الأول: أن ذلك لئلّا يعتقد البشر ألوهية الأنبياء، فإن من عادة البشر الغلو بالنسبة إلى القديسين، و ذلك ضد الغلو، و إن غالى بعض الضعاف أيضا.

و الجواب عن الثاني: إن فتح هذا الباب مما لا بد منه، فإن الكلام مشتمل على المجاز و الكناية و ما أشبه- حتّى بالنسبة إلى كلام البشر العادي، فكيف بالبلغاء- و إلّا لزم القول بالتجسيم لقوله سبحانه: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1»، و الظلم لقوله: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ «2»، و الكذب لقوله:

وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ «3»،

إلى غير ذلك. و قد جرت قوانين البلاغة على أن يصرف الكلام إلى المراد منه، و إن كان خلاف الظاهر اللفظي، إذا دل دليل من العقل و النقل على المراد، أما إذا لم يكن هناك دليل، أخذ بظاهر الألفاظ.

[25] قالَ الله سبحانه لآدم و حواء و إبليس: اهْبِطُوا من الجنة هبوطا نحو الأسفل حيث كانت الجنة أعلى من الأرض، أو هبوطا رتبيّا، إن كانت من جنان الدنيا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فالشيطان عدوّ لهما و هما عدوّان له، و بين المرأة و الرجل تنافس و تجاذب وَ لَكُمْ جميعا فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي محل قرار وَ مَتاعٌ تتمتعون به من المأكل

______________________________

(1) القيامة: 24.

(2) النساء: 89.

(3) الأنفال: 18.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 168

[سورة الأعراف (7): الآيات 25 الى 26]

قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ (25) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

و الملبس و غيرهما إِلى حِينٍ الموت أو حين البعث.

[26] قالَ الله تعالى ثانيا: فِيها أي في الأرض تَحْيَوْنَ أي تعيشون، أو المراد يحيى لك نسل وَ فِيها تَمُوتُونَ جميعا وَ مِنْها أي من الأرض تُخْرَجُونَ يوم القيامة للحساب و الجزاء.

[27] ثم خاطب الله سبحانه البشر، بمناسبة نزع الشيطان لباس أبويهم، و بمناسبة ما وعد من أن لهم في الأرض متاع، بقوله: يا بَنِي آدَمَ و الخطاب بهذا اللفظ للتذكير بجدّهم آدم عليه السّلام- لمناسبة الموضوع- قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً إما المراد «الإنزال» حقيقة، بأن أنزل اللباس من الجنة، أو «الإنزال» مجازا بنزول المطر الذي هو سبب نبات القطن و ما أشبه، و رعي الحيوانات

ذات الأصواف، أو المراد «التعظيم» لعظم المعطي، كما يقال: «رفعت عريضتي إلى القاضي» تعظيما لمقامه و أنه أرفع منزلة من صاحب العريضة، و مثله وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «1»، وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «2»، أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولًا «3»، يُوارِي أي يستر سَوْآتِكُمْ أي عوراتكم وَ أنزلنا عليكم رِيشاً أي أثاثا مما تحتاجون إليه، و «الريش» ما فيه الجمال، و منه ريش الطائر وَ لِباسُ التَّقْوى أي الاجتناب عن معاصي الله سبحانه، و سمي لباسا لأنه يستر الشر الكامن في نفس الإنسان، كما يستر اللباس

______________________________

(1) الزمر: 7.

(2) الحديد: 26.

(3) الطلاق: 11 و 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 169

[سورة الأعراف (7): آية 27]

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)

مواضع القبح من بدن الإنسان، فمثلا من يغتاب غيره يظهر قبح نفسه، فإذا اتقى سترت هذه التقوى قبحه النفسي ذلِكَ خَيْرٌ من جميع أنواع اللباس الظاهرة، إذ القبائح النفسية أكثر و أبشع من القبائح البدنية، لأن القبائح الكامنة إذا ظهرت توجب النار و الخزي بخلاف قبائح الجسد ذلِكَ أي لباس التقوى مِنْ آياتِ اللَّهِ «من» إما للإنشاء، أي أن لباس التقوى ينشأ من الآيات و الحجج التي أنزلها الله سبحانه، و إما تبعيضية أي أن التقوى من جملة آيات الله و علاماته، لأنه هو الذي أمر بالتقوى لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي جعل الله التقوى آية لكي يتفكر الإنسان، و يتذكر فيما أودع في فطرته، فيسعد.

[28] يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ أي لا يضلنّكم بأن يدعوكم إلى المعاصي

فتجيبوه فيحرمكم من السعادة و الجنة كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ آدم و حواء مِنَ الْجَنَّةِ و نسبة الإخراج إليه لأنه كان بإغوائه و وسوسته، إخراجا بصورة بشعة حيث كان يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما و النزع و إن كان من فعله سبحانه، إلّا أنه حيث كان بسبب الوسوسة، صح الانتساب إليه، كما قال سبحانه عن فرعون: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ «1»، مع أن الذبح كان من فعل جنود فرعون لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما أي عورتيهما. و لعل السر في تكرار هذه اللفظة تركيز البشاعة في نفس السامع، فمن يرغب في أن تبدو سوءته؟

______________________________

(1) القصص: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 170

[سورة الأعراف (7): آية 28]

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28)

و حيث كان هنا محل سؤال: أنه كيف يفتن الشيطان الإنسان و لا يراه؟ قال سبحانه: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ أي نسله، فإن للشيطان نسلا كما للإنسان، كما قال سبحانه أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ «1»، مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ فإنهم من جنس لطيف لا يرى بالعين المجردة، كالهواء اللطيف الذي لا يرى، و إن أحس به الإنسان.

و من قال: إنه كيف يأمر بذلك؟

فالجواب: إن هذه الإلقاءات في القلب بالشر، كلها منه، كما أن الإلقاءات الخيرة من الملائكة- كما في الأحاديث- و إلا فمن أين هذه الإلقاءات؟! إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ و معنى «جعله» سبحانه: التخلية بينهم و بين الشياطين، و معنى كونهم أولياء: أنهم يتبعونهم، و يتخذونهم محل الولي الحميم في التصادق معهم دون المؤمنين.

[29] و الذين لا يؤمنون بالإضافة إلى أنهم اتخذوا الشيطان وليا، إنهم مقلّدون تقليدا

أعمى، كاذبون في أقوالهم، عالمون بالفحشاء، فهم مجمع الرذائل حيث تركوا الإيمان وَ إِذا فَعَلُوا أي فعل الذين لا يؤمنون فاحِشَةً أي خصلة فاحشة، متعدية عن الحق، فإن «فحش» بمعنى «تعدّى»، و هذا عام شامل لجميع المعاصي قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها

______________________________

(1) الكهف: 51.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 171

[سورة الأعراف (7): آية 29]

قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)

أي على هذه الفاحشة آباءَنا فإنا نقلّدهم في عملهم هذا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها أي بهذه الفاحشة- و كان قولهم هذا كذبا- قُلْ يا رسول الله لهم: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ثم ردّ عليهم من وجه آخر هو: أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ على نحو الاستفهام الإنكاري.

و قد ورد في التفسير: أن الآية نزلت بمناسبة ما كان يفعله المشركون، فإنهم كانوا يبدون سوءاتهم في طوافهم، فكان يطوف الرجال و النساء عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا و لا نطوف في الثياب التي قارفنا فيها الذنوب، و كانت المرأة تضع على قبلها النسعة في الطواف و تقول:

اليوم يبدو بعضه أو كلّه و ما بدا منه فلا أحلّه

تعني «العورة»، فكان التذكير بذلك بمناسبة إنعام الله على بني آدم باللباس، و في سياق نزع إبليس لباس آدم و حواء عليهما السّلام.

[30] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين إذا فعلوا الفاحشة قالوا إن الله أمرنا بها: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي بالعدل و الحق، لا بالفحش و التجاوز وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فلا تتخذوا الشيطان وليا، كالمشركين، و هذا إما عطف على «أمر ربي» أي قل: أقيموا، و إما عطف على «لا يفتننكم الشيطان». و لعله

المناسب للمعنى، و هو أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 172

[سورة الأعراف (7): الآيات 30 الى 31]

فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

الله يأمر بالقسط، و بالإخلاص، أو للقصة، و هو أن اللازم إقامة الوجه، لا إقامة الفرج- كما كانوا يطوفون عراة-.

و ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية هدم لما كان أهل الجاهلية يلتزمون به من اختصاص الشعائر بقبيلة دون قبيلة، فكان لهذا صنم و لذاك صنم و لهذه كعبة و لتلك كعبة، فإن الإسلام يرى المساجد كلها لله، و اللازم على المسلم أن لا يفرق بينها، أو أنه في قبال المسيحيين الذين كان لكل طائفة منهم كنيسة.

وَ ادْعُوهُ أي ادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي ليكن دعاؤكم في حال كونكم أخلصتم له دينكم كَما بَدَأَكُمْ أي خلقكم تَعُودُونَ فهو وحده الذي خلق و يعيد، فلا معنى لأن يشرك به غيره.

[31] إنكم ستعودون فريقين فَرِيقاً هَدى أي هداه الله سبحانه وَ فَرِيقاً حَقَ أي ثبت عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ لأنهم أعرضوا عن الهداية و سلكوا سبيل الغواية، و إنما ضلوا بسبب إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فكانوا يتبعون أوامر الشياطين لا أوامر الله سبحانه، و لذا ضلوا وَ من اللطيف أنهم يَحْسَبُونَ أي يظنون و يزعمون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ و أن طريقتهم حق.

[32] و بمناسبة ذكر المسجد يأتي الحكم حول أمر مرتبط بالمسجد كما أن بمناسبة ذكر المحرمات سابقا يأتي بيان الحرام و الحلال، و بيان أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص:

173

الطيب غير محرم و إنما حرّم الخبيث لمصلحة الإنسان يا بَنِي آدَمَ خطاب لكل مكلف من أبناء آدم و حواء خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي ثيابكم التي تتزيّنون بها، خذوها و ألبسوها إذا أردتم الذهاب إلى المسجد.

روي أن الحسن بن علي عليهما السّلام كان إذا قام إلى الصلاة لبس أجود ثيابه. فقيل له: يا بن رسول الله! لم تلبس أجود ثيابك؟ فقال: «إن الله جميل يحب الجمال فأتجمل لربي، و هو يقول: خذوا زينتكم عند كل مسجد، فأحب أن ألبس أجود ثيابي» «1».

و الظاهر أن الآية عامة تشمل غير الثياب أيضا و لذا

روي عن الصادق عليه السّلام تفسيرها ب «التمشيط» «2».

وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا أي مباح لكم المأكول و المشروب، فإن الأمر هنا للإباحة وَ لا تُسْرِفُوا في الأكل و الشرب، أو في كل شي ء، و الإسراف هو التجاوز، فقد يصل إلى حد المكروه، و قد يصل إلى حد الحرام إِنَّهُ تعالى لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي يكرههم و يبغضهم.

و لعل التعبير ب «لا يحب» لبيان أن الله سبحانه لعلوّ مقامه و عظمته فيجب على الإنسان أن يجتنب ما لا يحبّه، فكيف بما يكرهه، و قد جرى ديدن العظماء أن يعبروا ب «لا أحب» فيما لا يريدونه.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 4 ص 455.

(2) وسائل الشيعة: ج 2 ص 122.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 174

[سورة الأعراف (7): آية 32]

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

[33] قُلْ يا رسول الله: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ جميع أنواع الزينة من المساكن و المتنزهات

و الحليّ و الملابس و المراكب و غيرها وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المأكل الحلال، أو المراد: كل رزق، و الاستفهام على سبيل الإنكار، أي أنها ليست بمحرمة و لا حق لأحد في تحريمها، فما يفعله الرهبان ليس صحيحا.

قُلْ يا رسول الله هِيَ أي الزينة و الطيبات- باعتبار كل واحد منهما- لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فما يتناوله الكفار منها حرام لا يجوز، في حال كونها خالِصَةً للمؤمنين بلا مشاركة الكافرين لهم إطلاقا- حتى على وجه الحرام- يَوْمَ الْقِيامَةِ فإن الطيبات للمؤمنين في الدنيا و في الآخرة، لكن الكفار يشاركون المؤمنين زورا في الدنيا، و لا يقدرون على ذلك في الآخرة، و هناك احتمال آخر: أي أن الطيبات خالصة في الآخرة لمن آمن في الدنيا، فتكون جملة واحدة، لا جملتان، ثم لا يخفى أن كون الطيبات للمؤمن في الدنيا- على المعنى الأول- لا يقتضي جواز تناولها من يد الكافر غير الحربي، بحجة أنها ليست له، فإن الله سبحانه جعل في الدنيا لغير الحربي حرمة، لأجل استقامة أمور العالم.

كَذلِكَ أي كما فصلنا الأمور السابقة، واضحة لا لبس فيها نُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على الأصول و الفروع لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإن العلماء هم الذين يستفيدون من هذه الآيات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 175

[سورة الأعراف (7): الآيات 33 الى 34]

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

[34] و لما بيّن سبحانه المحللات عطف عليها المحرمات، فقال: قُلْ يا رسول

الله: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ جمع «فاحشة» أي الخصلة الفاحشة، المتعدّية عن الحق، من «فحش» بمعنى تعدّى، و المراد بها:

كل منكر ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ أي ما أعلن أو أخفي.

ثم بيّن سبحانه بعض أفراد الفاحشة لأهميتها وَ الْإِثْمَ أي الخمر، فإنه من أسمائها قال الشاعر:

شربت الإثم حتى زال عقلي كذاك الإثم يفعل بالعقول

وَ الْبَغْيَ أي الظلم بِغَيْرِ الْحَقِ هذا قيد توضيحي، لإفادة أن البغي ليس بحق، كقوله سبحانه: وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ «1»، وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ أي حرّم سبحانه الشرك ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي لم يقم له دليل، و كل شرك كذلك، فالقيد توضيحي لبيان أن الإشراك ليس بأمر الله، خلافا لما كان المشركون ينسبون شركهم إليه سبحانه وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي أنه تعالى حرم نسبة ما لا تعلمون إليه، خلافا للكفار حيث أنهم كانوا يفعلون المعاصي و يقولون: «أمرنا الله بها».

[35] ثم سلّى سبحانه نبيه، بأن لا يضيق صدره بما يفعله الكفار، من

______________________________

(1) آل عمران: 22.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 176

[سورة الأعراف (7): آية 35]

يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)

اقتراف هذه الجرائم كلها بقوله تعالى: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي لكل جماعة و أهل عصر و مصر مدة لا يتجاوزونها، و لهؤلاء مدة، ثم يلفّهم الموت، و ينسيهم البلى، و ستطهر الأرض منهم فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ بأن توجه الأجل إليهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً أي لا يتأخرون مقدارا من الزمن، فإن «الساعة» في اللغة بمعنى: مقدار الزمان قصر أم طال وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ أي لا يتقدمون

على موعدهم، فإذا قدّر هلاك أمة في الساعة الرابعة من يوم الجمعة، فإذا توجه الأجل إليهم في الصباح لا يتأخرون إلى الساعة الخامسة، و لا يتقدمون إلى الساعة الثالثة. و الظاهر أن الفعلين بمعنى «الاستفعال»، أي لا يطلبون- طلبا مفيدا- التقديم و التأخير، و ليس «جاء» بمعنى «وقع» حتى يقال: إن التقديم و التأخير لا يعقل بالنسبة إلى الأمر الواقع، و ليس في الكلام مجاز المشارفة، إذ «جاء» لفظ يقع بالنسبة إلى الواصل، و بالنسبة إلى من في الطريق.

[36] يا بَنِي آدَمَ خطاب لعموم المكلفين إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ أي إن أتاكم، فإن «إما» مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة رُسُلٌ مِنْكُمْ لا يقال:

لا رسول بعد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما معنى ذلك؟ قلت: إن الشرط قد يصاغ لإفادة التحقيق، فهو إنشاء مفهوم الشرط لغرض آخر، كما ينشأ مفهوم التعجب و الأمر و الاستفهام، لأغراض أخرى، فالمراد- هنا- أن الرسل تأتي لتبين للناس، فمن أطاع سعد، و من خالف شقي يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ أي يخبرونكم آياتِي و أحكامي فإن «قص» بمعنى «اتبع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 177

[سورة الأعراف (7): الآيات 36 الى 37]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)

الأثر»، فالنقل عن الله سبحانه قصة عنه فَمَنِ اتَّقى إنكار الرسل و الآيات، أو اتقى المعاصي وَ أَصْلَحَ عمل صالحا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ كخوف سائر الناس وَ

لا هُمْ يَحْزَنُونَ كحزنهم، فإن أهل التقوى يعلمون أن ما يصيبهم إنما هو بإذن الله، و أن الله أعدّ لهم أعظم الجزاء، و لذا لا يكون للكوارث عليهم وقع، كما أنهم يكونون مطمئنين بثواب الله في الآخرة و رحمته، و لذا لا يكون لهم خوف من العقاب كخوف غيرهم.

[37] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي حججنا و دلائلنا، و أنكروا الأنبياء و الرسل وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها بأن رأوا أنفسهم فوق الرسل، و فوق الإذعان لآيات الله أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها، فإن الملازم للشي ء يقال له الصاحب هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى الأبد.

[38] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا أحد أظلم منه، فهو إخبار في صورة استفهام، ليكون أبلغ، إذ السامع يعدّ نفسه ليجيب بجواب يرضي المتكلم، فهو إخبار مع أخذ الموافقة من السامع أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ الدالة على الألوهية، أو الرسالة، أو المعاد، أو سائر الشؤون الحقة أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ فينالهم جميع ما كتب لهم من الخير و الشر، و الرزق و العمر، في دار الدنيا، فلا يقطع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 178

[سورة الأعراف (7): آية 38]

قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38)

عنهم ما كتب لهم، بسبب كفرهم حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي ملائكة الموت لتقبض أرواحهم، بعد أن أتموا مدّتهم المكتوبة لهم يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي يقبضون أرواحهم قالُوا أي الملائكة، لهم: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين ذهبت أصنامكم

التي تجعلونها شريكة لله؟ و هذا الاستفهام للتوبيخ و التقريع، و بيان أنها لم تنفعكم في دفع العذاب الآن قالُوا يعني الكفار: ضَلُّوا تلك الأصنام عَنَّا فقد افتقدناهم فلا يقدرون على دفع العذاب عنا وَ شَهِدُوا أي الكفار عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ و أخذ بإقرارهم ليجزون بكفرهم.

[39] و إذا كان يوم القيامة قالَ الله سبحانه لهم: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ أي جماعات و طوائف من الكفار السابقين قَدْ خَلَتْ أي مضت و سبقتكم مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ و هذا نوع من عذاب آخر لأن الإنسان بحشره مع المجرمين يعذّب نفسيا، كما يعذب جسديّا بإدخاله النار، و هؤلاء لا صفاء بينهم، فاجتماعهم في الدنيا على الكفر لا يسبب ارتياح بعضهم مع بعض هناك، بل بالعكس، ف كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ من تلك الأمم الكافرة، النار لَعَنَتْ أُخْتَها أي الأمة السابقة التي هي أختها في الكفر، فإن النار محل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 179

خصام و تضارب بعكس الجنة التي دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ «1»، إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «2».

حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا أي تلاحقوا و اجتمعوا، أصله «تدارك» قلبت التاء دالا، و أدغمت الدال في الدال، و جي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن فِيها أي في النار جَمِيعاً أي جميع الأمم الكافرة قالَتْ أُخْراهُمْ أي الطائفة التي دخلت النار متأخرة و هم الأتباع لِأُولاهُمْ أي بالنسبة إلى الرؤساء الذين دخلوا أولا: رَبَّنا هؤُلاءِ الطائفة الأولى أَضَلُّونا حيث أغرونا لنتخذ معك شريكا و نخالف أوامر رسلك فَآتِهِمْ أي أعطهم عَذاباً ضِعْفاً أي مضاعفا: عذابا لكفرهم، و عذابا لإغوائهم إيانا مِنَ النَّارِ و بهذا يريدون الانتقام من القادة المغوين.

قالَ الله تعالى

في جوابهم: لِكُلٍ منهم و منكم ضِعْفٌ أي عذاب مضاعف، فللرؤساء الضعف للكفر و الإغواء، و للتابعين الضعف للكفر و تقوية مكانة الرؤساء، فإنه لو لا التابعين لم يتمكن المتبوعون من السيطرة و إقصاء الحق، كما

قال الإمام عليه السّلام لتابعي بني أمية «لو لا أنتم لما غصبوا حقنا»

وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ أيها الضالون

______________________________

(1) يونس: 11.

(2) الحجر: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 180

[سورة الأعراف (7): الآيات 39 الى 40]

وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)

و المضلون مقدار عذاب كل واحد منكم، و لا الفرق بين الضعف في المتبوع، و بين الضعف في التابع.

[40] و حينما يسمع القادة جواب الله سبحانه للتابعين، يتوجهون إليهم بالشماتة، قائلين: لسنا أولى منكم بالعذاب ليكون لنا ضعف، فكلنا سواء في الكفر وَ قالَتْ أُولاهُمْ القادة لِأُخْراهُمْ التابعين: فَما كانَ لَكُمْ أيها التابعون عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ و تفاوت في الكفر، بأن يكون كفركم أخف من كفرنا، حتى تستحقون عذابا أقل فَذُوقُوا أيها التابعون الْعَذابَ بسبب ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من الكفر و المعاصي.

[41] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يقبلوها وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أي تكبروا عن الخضوع لها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: «أما المؤمنون فترفع أعمالهم و أرواحهم إلى السماء فتفتح لهم أبوابها، و أما الكافر فيصعد بعمله و روحه حتى إذا بلغ السماء نادى مناد اهبطوا به إلى سجين»

وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ أي يدخل

البعير فِي سَمِّ الْخِياطِ أي ثقب الإبرة، فكما يستحيل دخول الجمل في ثقبها، كذلك يستحيل دخول الكافر في الجنة، و هذا تمثيل بديع للاستحالة، و قيل المراد ب «الجمل» الحبل الغليظ وَ كَذلِكَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 181

[سورة الأعراف (7): الآيات 41 الى 43]

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

أي كما جزينا هؤلاء المكذبين نَجْزِي سائر الْمُجْرِمِينَ و إن كان اختلاف بين أنواع الجزاء، فكل إجرام له جزاء خاص، و عقوبة مخصوصة.

[42] لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش و مضجع وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ جمع «غاشية»، أي لحف من نار، فالنار محيطة بهم سفلا و علوا وَ كَذلِكَ أي كما جزينا المكذبين نَجْزِي الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم باتباع أوامر الشيطان، و ترك عبادة الرحمن.

[43] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بأن صحّت عقيدتهم و عملهم، و لا يراد بأنهم عملوا كل الصالحات، بل قدر طاقتهم و وسعهم، لأنّا لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا مقدار وُسْعَها و الوسع دون الطاقة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ الملازمون لها أبد الآبدين هُمْ فِيها خالِدُونَ

[44] و هناك لا تنازع و لا تخاصم- كما كان عند أهل النار- وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ أي: أخرجنا ما في قلوبهم من حقد و حسد

و عداوة حتى لا يحسد بعضهم بعضا، فإن الإنسان مهما كان تقيا لا يخلو قلبه من شي ء من الصفات الذميمة، و هناك تصفّى قلوبهم، ليكونوا إخوانا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 182

[سورة الأعراف (7): آية 44]

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)

قلبا و قالبا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ أي من تحت قصورهم و بساتينهم الْأَنْهارُ هذه جملة مستأنفة، أي أنهم يكونون هكذا في الجنة في قبال الكفار الذين «لهم من جهنم مهاد» وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي أوصلنا إلى هذا النعيم، بما هدانا سابقا في الدنيا للعقيدة الصحيحة، و العمل الصالح وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ أي لم نقدر على الهداية بأنفسنا لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ فإن الإنسان لا يهتدي إلا بإرسال الله الرسل، و تبليغه الأحكام، و هذا شكر من أهل الجنة، و تقدير لنعم الله عليهم، في الدنيا بالهداية، و في الآخرة بالجنة لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ و أنهم أرسلوا من قبله سبحانه، و كان ما قالوه حقا، و ها نحن نرى صدق ما قالوا وَ نُودُوا أي أهل الجنة ينادون من قبل الله سبحانه: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ التي وعدتموها في الدنيا، هي هذه التي دخلتموها، و يحتمل أن يراد كون النداء قبل دخولها- فإن الواو لمطلق العطف أُورِثْتُمُوها أي أعطيتم إياها إرثا، و صارت إليكم كما يصير الميراث لأهل الميت بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي جزاء لأعمالكم الصالحة في الدنيا.

[45] و حيث يستقر كلّ فريق من المؤمنين و الكافرين، في مقرّه من الجنّة و النّار، يقع بينها

الحوار على النّحو الآتي وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 183

[سورة الأعراف (7): آية 45]

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45)

أي أهل الجنّة، أهل النّار، و الإتيان بلفظ الماضي «نادى» لأنّ المستقبل المتحقّق الوقوع ينزّل منزلة الماضي: أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فقد أعطينا الثواب و الجنة كما كنا نوعد في الدنيا فَهَلْ وَجَدْتُمْ أنتم يا أهل النار ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العقاب حَقًّا و الوعد و إن كان بالنسبة إلى كلتا الطائفتين إلا أن انحراف العاصين و إعراضهم، و اهتداء المطيعين إلى الطريق، أورث توجه الوعد إلى أهل الجنة، و الوعيد إلى أهل النار قالُوا أي قال أصحاب النار:

نَعَمْ وجدنا وعد ربنا حقا فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أي نادى مناد بَيْنَهُمْ أي بين أهل الجنة و أهل النار أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ و

في الأحاديث أن المؤذن هو الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام

«1»-، و المراد ب «لعنة الله» غضبه و انتقامه و طرده و عذابه، و إنما ينادي المنادي بهذا النداء ليذكرهم بما كانوا يفعلون، و من أجله استحقوا العقاب.

[46] و من هم الظالمون؟ إنهم هم الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس عن السير في الطريق الذي جعله الله لعباده، ليسعدوا بسلوكه في الدنيا و الآخرة وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أي يطلبون الطريق المعوج، فلا يسيرون في الطريق المستقيم، فالضمير في «يبغونها» راجع إلى المضاف و هو «السبيل» لا المضاف و المضاف إليه، و قيل:

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 426.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 184

[سورة الأعراف (7): آية 46]

وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ

نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ (46)

معناه يطلبون لطريق الله العوج بالشّبه التي يلتبسون بها و يوهمون أنها تقدح فيها وَ هُمْ بالدار الآخرة كافِرُونَ لا يعتقدون بها.

[47] وَ بَيْنَهُما أي بين أهل الجنة و أهل النار حِجابٌ أي فاصل و ستر وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ الأعراف: هي الأمكنة المرتفعة، أخذ من «عرف الفرس» و منه «عرف الديك» و كل موضع مرتفع من الأرض عرف، لأنه بظهوره أعرف مما انخفض، و هؤلاء الرجال يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة و أهل النار بِسِيماهُمْ «السيماء» العلامة، و هو فعل من «سام إبله» إذا أرسلها في المرعى معلّمة، و إنما يعرفون كلا بسيماهم لأن أهل الجنة معلّمون ببياض الوجه و الجلال و الحفاوة، و أهل النار معلّمون بعلامة على أنوفهم- كما قال سبحانه: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ «1»-، و الهيئة المنكرة، و الغبار على الوجوه كما قال سبحانه: وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ «2»، و غيرها.

وَ نادَوْا هؤلاء الذين على الأعراف أَصْحابَ الْجَنَّةِ الذين يرونهم من هناك آخذين في الذهاب إلى الجنة، أو المستقرين فيها أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ تهنئة لهم بفوزهم بالجنة لَمْ يَدْخُلُوها أي لم يدخل أصحاب الأعراف الجنة بعد وَ هُمْ يَطْمَعُونَ كما قال

______________________________

(1) القلم: 17.

(2) عبس: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 185

[سورة الأعراف (7): الآيات 47 الى 48]

وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)

سبحانه عن لسان إبراهيم عليه السّلام: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي «1»، فإنه يستعمل لليقين و الرجاء.

[48] وَ إِذا

صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ توجهت أنظار أصحاب الأعراف تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ الذين أخذوا في الذهاب إلى جهنم، أو المستقرين فيها قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فلا تدخلنا النار، و لا تجعلنا من أهلها. و قد وردت أحاديث متعددة أن المراد بأصحاب الأعراف الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام و ظاهر الآية لا يأباه «2».

[49] وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ الذين عليها رِجالًا من أصحاب النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلاماتهم، و أنهم من رؤساء المشركين، و المراد بالعلامات، إما العلامات التي كانوا معلّمين بها في الدنيا، أي صورهم التي كانوا يعرفونهم بها، و إنما عبر بلفظ «سيماهم» لأنهم تغيروا هناك فلا يعرفون إلا السحنة و سائر العلامات، و إما العلامات التي و سموا بها في الآخرة، من الزرقة، و غبار الوجه و تشوية الخلقة.

قالُوا أي قال أصحاب الأعراف لأولئك المجرمين: ما أَغْنى

______________________________

(1) الشعراء: 83.

(2) ورد كلمة الأنبياء عن العلامة المجلسي في بحار الأنوار: ج 8 ص 331، و كما ورد كلمة الأئمة

في رواية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال نحن أصحاب الأعراف: راجع بصائر الدرجات ص 499. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 186

[سورة الأعراف (7): الآيات 49 الى 50]

أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50)

عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أي اجتماعكم و كثرتكم، أو جمعكم الأموال و الأولاد و الخدم و الأصدقاء وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أي استكباركم على الله و الرسول، ما أغنى عنكم كل ذلك، فلم يدفع العذاب عنكم.

[50] ثم يقول أصحاب الأعراف

لأهل النار: أَ هؤُلاءِ المراد ب «هؤلاء» أهل الجنة الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ فقد كان الكفار يحلفون- في الدنيا- أن الله لا ينال المؤمنين برحمة منه، و هناك يريهم أصحاب الأعراف أن المؤمنين دخلوا الجنة، و أنالهم الله رحمته.

ثم يتوجه أصحاب الأعراف إلى المؤمنين قائلين لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ و بهذا النحو يقرع أهل النار، في قبال ما كانوا يقرعون المؤمنين في الدنيا.

[51] و حينما يستقر الفريقان في مقامهما من الجنة و النار يقع حوار بين الجانبين بهذه الكيفية: وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أي «ينادون»، و إنما أتى بلفظ الماضي، لأن المستقبل المتحقق وقوعه ينزّل بمنزلته- كما سبق-: أَنْ أَفِيضُوا أي صبّوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ لنسكن به حر النار، أو نروي به العطش و الظمأ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الطعام و اللباس و غيرهما، لننتفع به في محلنا الحار الفاقد لكل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 187

[سورة الأعراف (7): آية 51]

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)

شي ء من وسائل الراحة قالُوا أي قال أهل الجنة في جواب أهل النار: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما أي حرّم الماء و الرزق عَلَى الْكافِرِينَ فلا يباح لنا إعطاؤكم منهما شيئا.

[52] ثم وصف الكافرين بأنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً فدينهم الذي اختاره الله لهم- و هو الإسلام- اتخذوه أداة تلهّي و لعب، فكانوا به يستهزءون، أو المراد أن دينهم كان لهوا و لعبا، فيكون التبكيت لاتخاذهم أصل الدين- الكفري- لا اتخاذه لهوا. و ظاهر الكلام المعنى الأول، كما تقرر في علم

البلاغة أن القيد إذا كان في الكلام توجه النفي و الإثبات إليه.

وَ غَرَّتْهُمُ أي خدعتهم الْحَياةُ الدُّنْيا فظنوا أنهم يبقون فيها إلى الأبد، و أن نعيمها يكفيهم عن نعيم الجنة فَالْيَوْمَ في الآخرة نَنْساهُمْ أي نتركهم في العذاب، كفعل الناسي الذي لا يعتني بالمنسي، و إن أصابه ما أصابه كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا أي كما نسوا في الدنيا التأهّب ليوم القيامة وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ «ما» مصدرية، أي لسبب نسيانهم، و بسبب جحودهم، و إنكارهم لآيات الله و أحكامه. و من هذه الجملة يعلم أن قوله: «الذين اتخذوا» من كلام الله استئنافا، لا من تتمة كلام أهل الجنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 188

[سورة الأعراف (7): الآيات 52 الى 53]

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

[53] إن أهل النار وقعوا فيها بعد البيان و إتمام الحجة، فلم يكن هذا العذاب ظلم بالنسبة إليهم وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ و هو القرآن فَصَّلْناهُ تفصيلا فلم يكن مجملا لا يستفاد منه المطلب عَلى عِلْمٍ أي كنا عالمين بما أنزلنا، فلم يكن الكتاب كتاب جاهل لا يدري المصالح و المفاسد، و يحكم اعتباطا هُدىً أي جئنا به لأجل الهداية وَ رَحْمَةً و لأجل الرحمة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و إنما اختص بهم لأن الفائدة تعود إليهم وحدهم، و إن كان الكتاب للكل.

[54] هَلْ يَنْظُرُونَ أي هل ينتظر هؤلاء الكفار الذين لم يؤمنوا بالكتاب

إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي مآل الكتاب، بمعنى: المآل الذي أخبر به الكتاب، من العذاب و العقاب النازل بالكفار. و هذا تهديد كما يقال للعاصي أمر المولى: «هل تنتظر عقابه؟» يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ و ما حذّر منه يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ أي تركوه، و فعلوا به فعل الناسي مِنْ قَبْلُ في الدنيا:

قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ و هناك يعترفون بما أنكروه في الدنيا، حيث لا فائدة في الاعتراف فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا حتى نتخلص من العقاب أَوْ نُرَدُّ إلى الدنيا فَنَعْمَلَ عملا صالحا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ سابقا من المعاصي و الآثام؟ لكن ليس لهم شفيع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 189

[سورة الأعراف (7): آية 54]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)

و لا يردون، ف قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أهلكوها بالعذاب و العقاب، و أعطوها بمقابل النار، حيثما أعطى أهل الإيمان نفوسهم في مقابل الجنان، و ربحوا أكبر ربح وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أي ذهب و غاب ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي افتراؤهم على الله بالشرك، فإن الأصنام التي جعلوها شريكة لله، و كانوا يقولون: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1»، ضلت عنهم فلم يجدوها، و لا شفعت لهم هناك.

[55] ثم بيّن سبحانه أن الله واحد لا شريك له، و أنه الذي خلق و كوّن، لا شريك له في شي ء من الأمور الكونية إِنَّ رَبَّكُمُ أيها الناس اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ أنشأها و كوّنها وَ الْأَرْضَ أوجدها. و لعل ذكر «السماوات» غالبا بلفظ الجمع، و

«الأرض» بلفظ المفرد، مع أن كلتيهما متعددة، كما قال سبحانه: وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ «2»، أن تعدد السماوات كان مألوفا لديهم، لما يخبر به المنجمون، من أفلاك الكواكب السيارة، بخلاف تعدد الأرض، و من البلاغة أن يكلم الإنسان المخاطبين قدر عقولهم فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا، و إن لم تكن أيام ذلك الوقت، حيث لا شمس و لا قمر و لا حركة، أما مصلحة خلقها في ستة أيام مع قدرته سبحانه في

______________________________

(1) الزمر: 4.

(2) الطلاق: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 190

إنشائهما دفعة، فهي كمصلحة خلق الجنين و النبات تدريجا، مع قدرته على الإيجاد دفعة.

ثُمَ بعد خلق السماوات و الأرض اسْتَوى أي استولى عَلَى الْعَرْشِ و المراد: جعل تدبير الأمر من هناك، كما يقال:

«استوى الملك على العرش» يراد استيلائه على الملك، و «العرش» محل تشريفي خلقه سبحانه و أضافه إلى نفسه، كما خلق الكعبة في الدنيا، و جعلها بيته، و كان ذلك لألفة الأجسام بمصدر للأحكام و التوجه يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلبس النهار، و يمد رواق الليل المظلم على النهار المستنير، كما يغشي الإنسان العباءة على المصباح يَطْلُبُهُ أي يطلب الليل النهار طلبا حَثِيثاً سريعا بكل جد، كأن النهار يرفض الليل، لكن الليل يطارده مطاردة الطالب للمطلوب الهارب وَ خلق الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ في حال كونها مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ فهي تسري و تدور و تشرق و تغيب حسب أمره سبحانه أَلا أي تنبهوا أيها البشر أن لَهُ سبحانه الْخَلْقُ للأشياء كلها وَ الْأَمْرُ النافذ فيها، فما يكون من تغيير و تبديل إلا بأمره و إرادته، و هكذا لا أمر صحيح في التشريعات إلا له، أما أمر

سائر الآمرين، فليست لهم قيمة و اعتبار واقعي، إلا إذا كانوا تبعا لأمره تعالى تَبارَكَ اللَّهُ أي تعالى عن الشريك و سائر النقائص رَبُّ الْعالَمِينَ لا رب سواه، و لا إله إلا هو.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 191

[سورة الأعراف (7): الآيات 55 الى 56]

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

[56] ادْعُوا رَبَّكُمْ أيها البشر تَضَرُّعاً أي تخشّعا، فإن التضرع هو التذلل و التخشّع، و هو في موضع الحال، أي في حال كونكم متضرعين وَ خُفْيَةً أي في حال الاختفاء، فإن الضراعة المخفية أقرب إلى تركيز التوحيد في النفس. و لا يخفي أن هذا في مورد، و في مورد آخر يستحب الإجهار.

فقد نزل جبرئيل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حال الحج قائلا: «إن ربك يأمرك بالعج و الثج» «1»

و «العج» من العجيج. كما أن في الروايات استحباب الإجهار بالصلوات على محمد و آله الطاهرين فإنه موجب لذهاب النفاق، و كأن الجهر و الإخفات في الدعاء، كالإعلان و الإسرار بالصدقة، الذي لكل واحد منهما مورد. و

قد روى علي بن إبراهيم أن المراد بالتضرع: العلانية،

أي: «ادعوه علانية و سرا» «2».

إِنَّهُ سبحانه لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الذين يتجاوزون الحد، إنه سبحانه يحب الخشوع و الانكسار، لا التجاوز و الاعتداء.

[57] و بمناسبة كراهيته سبحانه للاعتداء يقول تعالى: وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها فإن الأنبياء و الأئمة أصلحوا الأرض بمنهاج السماء، و جعل كل شي ء في موضعه، فالتجاوز عن ذلك إفساد في الأرض و شقاء للبشر.

قال الباقر عليه السّلام: «إن الأرض كانت

فاسدة فأصلحها الله بنبيه» «3».

______________________________

(1) راجع معاني الأخبار: ص 224.

(2) نقلا عن مجمع البيان: ج 4 ص 271.

(3) الكافي: ج 8 ص 58.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 192

[سورة الأعراف (7): آية 57]

وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً أي في حال كونكم خائفين و طامعين، خوفا من عقابه و طمعا في ثوابه إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ فإنكم إذا لم تفسدوا و دعوتموه خوفا و طمعا جعلكم الله من المحسنين، فتكون رحمته قريبة منكم، و ذلك يوجب استجابة دعائكم، و لطف الله بكم.

[58] وَ هُوَ الله وحده الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً أي يطلقها و يجريها لأجل البشارة بالمطر بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي أمام رحمته- التي هي المطر- فإن الرياح إذا هبت في أيام السحاب، دلت على نزول المطر حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي حملت تلك الرياح سَحاباً ثِقالًا بالماء سُقْناهُ أي دفعنا السحاب لِبَلَدٍ مَيِّتٍ و موت البلد: تعفّي مزارعه و دروس مشاربه، لا نبات فيه، و لا عيون و أنهار فَأَنْزَلْنا بِهِ أي بالبلد، أو بالسحاب، و «الباء» على الأول بمعنى «في»، و على الثاني بمعنى «السبب» الْماءَ و هناك خلاف في تكوّن المطر، لكن ذلك لا يهم التفسير، و كيف كان فإنه بقدرة الحكيم القدير فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بسبب الماء مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ المتداولة هناك، لا أن المراد جميع أنواع الثمرات، إلا إذا أخذ الماء و السحاب بصورة عامة لا بالنسبة إلى بلد معيّن.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 193

[سورة الأعراف (7): الآيات 58

الى 59]

وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)

كَذلِكَ أي كما أخرجنا بالماء الثمرات نُخْرِجُ الْمَوْتى من الأرض، فنحييهم.

و في بعض الأحاديث «تمطر السماء ماء، فيسبب ذلك الماء إحياء الأموات، بقدرة الله سبحانه»

«1» لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ المعاد و الآخرة، و كأن «لعل» تفريع على إنبات الثمر من ماء السماء في الأرض الميتة، بأن يكون ذلك سببا لتذكيركم بالآخرة.

[59] وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ ترابه الصالح للزرع يَخْرُجُ نَباتُهُ «نبات» فاعل «يخرج»، أي يخرج زرعه حسنا ناميا بِإِذْنِ رَبِّهِ و أمره سبحانه، بلا نكد و لا عناء و لا تعب وَ البلد الَّذِي خَبُثَ ترابه بأن كان سبخا أو ما أشبه لا يَخْرُجُ النبات إِلَّا نَكِداً قليلا عسرا لا ينتفع به، و هكذا القلب الطيب ينمو فيه الخير و الفضيلة نموا سريعا ممرعا، و القلب الخبيث لا ينمو فيه الخير إلا قليلا عسرا كَذلِكَ أي كما بيّنا هذه الآية الدالة على كمال قدرة الله سبحانه نُصَرِّفُ الْآياتِ أي نقلبها و نبيّنها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ أي للشاكرين الذين يشكرون نعم الله سبحانه، فإنهم المنتفعون بتصريف الآيات، فغاية التصريف لهم دون غيرهم.

[60] و إذ تمّ الدليل على وجوده سبحانه بما له من الصفات، و أنه لا شريك له، يأتي الكلام حول الأنبياء السالفين الذين بلغوا

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار ج 7 ص 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 194

[سورة الأعراف (7): الآيات 60 الى 62]

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ

بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62)

رسالات ربهم، و لم يقبل قومهم منهم، فأخذوا بالعذاب، كما سبق في أول السورة «وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها» لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ حيث كان القوم يعبدون الأصنام و الأوثان ما لَكُمْ أي ليس لكم مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فهو خالقكم الذي لا شريك له إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ أيها القوم، إن لم تؤمنوا عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إما المراد يوم القيامة، أو عذابهم في الدنيا بالطوفان.

[61] قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف، و سمّوا به لأنهم يملأون العيون و الصدور هيبة و جمالا: إِنَّا لَنَراكَ يا نوح فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي انحراف واضح حيث تذر الأصنام و تعبد الإله الذي لم تره.

[62] قالَ نوح لهم: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ فلم أضلّ طريق الحق وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي يملك كل شي ء فهو رب كل شي ء، و ما لشي ء سواه ملك، فلا شريك له.

[63] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي أي أؤدّي إليكم ما أمرني ربي بتبليغه، و إنما جمعت الرسالات، باعتبار كل وحي وحي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ أي أنصح

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 195

[سورة الأعراف (7): الآيات 63 الى 64]

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)

لفائدتكم وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ من أمره و نهيه، و من صفاته و آثاره، و من ثوابه و عقابه ما لا تَعْلَمُونَ فاتبعوني حتى

أهديكم إلى الحق.

[64] و قد كان القوم يبدون التعجب من أقوال نوح عليه السّلام، كيف يدّعي هذا المنصب الخطير؟ و كيف يخبر عن أشياء لم يعلموها؟ فكان يقول لهم: أَ وَ عَجِبْتُمْ الهمزة للاستفهام، أي هل تتعجبون أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ أي بشر من جنسكم لِيُنْذِرَكُمْ و يخوّفكم من عذاب الله إن تمردتم و كفرتم وَ لِتَتَّقُوا أي جاءكم الذكر لتتقوا و تجتنبوا عقاب الله و الكفر و المعاصي وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي يرحمكم ربكم؟

[65] فَكَذَّبُوهُ أي كذب القوم نوحا عليه السّلام فيما دعاهم إليه، حتى أنهم كانوا يوسعونه ضربا، و كان الرجل يأتي بابنه إلى نوح، و يقول له: يا بني لا تؤمن بهذا فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ آمنوا مَعَهُ و في بعض الروايات: أنهم كانوا ثمانية- فِي الْفُلْكِ أي السفينة، حيث أمره الله سبحانه فعمل سفينة و ركب هو و المؤمنون فيها، ثم أمطرت السماء، و تفجرت العيون، حتى أخذ الماء وجه الأرض، و هلك الكفار بأجمعهم، ثم يبست الأرض و خرج نوح و المؤمنون، يعمرون الأرض بتقوى الله من جديد وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بدلائلنا الدالة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 196

[سورة الأعراف (7): الآيات 65 الى 66]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66)

على التوحيد و النبوة و المعاد إِنَّهُمْ أي المكذبون كانُوا قَوْماً عَمِينَ يقال: «رجل عم» إذا كان أعمى القلب، و رجل أعمى إذا كان أعمى البصر، و ستأتي جوانب أخرى من قصة نوح عليه

السّلام في بعض السور الآتية، كسورة هود و غيرها، و حيث كان المقصود في الكتاب تفسير الآيات- حسب ظواهرها- نطوي القصة طيا.

[66] وَ أرسلنا إِلى عادٍ أي قبيلة عاد، من أحفاد نوح عليه السّلام أَخاهُمْ في النسب هُوداً و هو من أحفاد نوح عليه السّلام، و قد كان هود النبي من نفس القبيلة ليكون أقرب إلى القبول، فإن غالب النفوس تأبى عن إطاعة غير بني قومهم قالَ هود لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فإن الأصنام ليست بآلهة أَ فَلا تَتَّقُونَ استفهام إنكاري، أي لماذا لا تتقون الشرك و المعاصي؟

[67] قالَ الْمَلَأُ الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ و التعبير ب «كفروا» إما لتجريد الفعل عن معنى الحدوث، و إما باعتبار الفطرة الإيمانية، كما

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة»

«1»، و إما باعتبار المجموع فإن قومه- إذا اعتبروا من زمان نوح عليه السّلام- كان فيهم بعض المؤمنين إِنَّا لَنَراكَ أي نعلمك، يا هود فِي سَفاهَةٍ فأنت سفيه، و «السفيه» هو

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 2 ص 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 197

[سورة الأعراف (7): الآيات 67 الى 69]

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

الذي ليس له ملكة إصلاح لنفسه أو ماله وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ فتكذب في دعوى النبوة، و أنه ليس للعالم

إلّا إله واحد.

[68] قالَ هود عليه السّلام في جوابهم: يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ فإني لست سفيها و هل السفيه من ينطق بالحق الذي دلّ عليه العقل و الفطرة؟! وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ و كلام السفيه غير كلام الرسول العاقل.

[69] أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي أؤدّي إليكم ما أوحى إليّ من الرسالات، و الجمع باعتبار كل رسالة رسالة في مختلف الأصول و الفروع وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أنصحكم لئلّا تقعوا في العقاب و العذاب أَمِينٌ في تأدية الرسالة فلا أكذّب و لا أغيّر.

[70] و حيث كان القوم يظهرون عجبهم من رسالة هود عليه السّلام قال لهم:

أَ وَ عَجِبْتُمْ أي هل تتعجبون أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ و وحي مِنْ قبل رَبِّكُمْ عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ من قبيلتكم لِيُنْذِرَكُمْ و يخوّفكم من بأس الله سبحانه وَ اذْكُرُوا أيها القوم نعمة الله عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ في الأرض، أي تخلفون من سبقكم في أموالهم و مساكنهم مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ فقد أهلكهم و أتى بكم مكانهم، أ فلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 198

[سورة الأعراف (7): الآيات 70 الى 71]

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71)

تخافون أن يصيبكم ما أصابهم، أم لا تشكرون ما وهب الله لكم من البلاد و الأموال وَ زادَكُمْ الله سبحانه فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً هيكلا و قوّة. فقد كانوا أقوياء ذوي هياكل كبيرة عظيمة فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ آلاء جمع «إلى» بمعنى «النّعم» لَعَلَّكُمْ

تُفْلِحُونَ أي تفوزون بنعيم الدنيا و سعادة الآخرة.

[71] قالُوا أي قال قوم هود: أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ بلا شريك وَ نَذَرَ أي ندع عبادة ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، و كيف يكون هذا؟ فإنّا لن نترك الأصنام فَأْتِنا أي ادع ربك ليأتينا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنه إن لم نؤمن نزل علينا العذاب.

[72] قالَ هود عليه السّلام لقومه: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ أي وجب أن يقع- فإن المستقبل المتحقق الوقوع ينزّل منزلة الماضي- مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ أي عذاب وَ غَضَبٌ حيث لم تؤمنوا بعد إتيان الحجة، و وضوح الأدلة، و حيث أن الله سبحانه منزّه عن الأحوال الزائدة، كان المراد ب «غضب» عاقبة الغضب، و هو العذاب، كما قيل: «خذ الغايات و اترك المبادئ».

و عليه فالفرق بين الرجس و الغضب أن الثاني أعم من الأول.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 199

[سورة الأعراف (7): الآيات 72 الى 73]

فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)

ثم ذكر هود عليه السّلام بطلان أصنامهم قائلا: أَ تُجادِلُونَنِي أي هل أنتم تناظرون معي و تخاصمونني فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ أي في أصنام سميتموها أنتم ربّا، و إلا فهي أحجار منحوتة، و إنما قال «في أسماء» إشارة إلى أن ربوبيتها مجرد اسم لا أكثر ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها أي بتلك الأصنام و الأسماء مِنْ سُلْطانٍ أي

من دليل دال على كونها تصنع شيئا، أو كونها آلهة و أربابا. و قد كان الاحتجاج منه عليه السّلام قويا جدا، إذ مدعي الآلهة الزائدة يحتاج إلى دليل و برهان فَانْتَظِرُوا عذاب الله و نكاله إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لنزول العذاب بكم، و سترون صدق مقالتي.

[73] فجاء العذاب الموعود إليهم، و ذلك أنه سبحانه ساق إليهم سحابة أمطرتهم بالعذاب حتى هلكوا جميعا و أنجيناه أي هودا عليه السّلام وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا فلقد كان عليه السّلام و المؤمنون في حظيرة لا يمرّ بهم العذاب وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا «الدابر» الأصل، أي قطعنا أصلهم، كما يقطع أصل الشجرة، و ذلك كناية عن إهلاكهم بأجمعهم وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ أي لم يكونوا ليؤمنوا من بعد، فقد عرفنا حالهم، و علمنا نواياهم و ضمائرهم و مستقبلهم.

[74] وَ أرسلنا إِلى ثَمُودَ و هي قبيلة من آل رجل يسمى «ثمود» من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 200

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 249

أحفاد نوح عليه السّلام أَخاهُمْ في النسب صالِحاً حيث كان صالح من نفس القبيلة قالَ صالح عليه السّلام لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده و لا تشركوا به شيئا ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ فتعبدوه معه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي دلالة و معجزة مِنْ رَبِّكُمْ شاهدة على صدق ادعائي للنبوة هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة إلى الله تشريفية، كإضافة مكة إلى الله يقال: «بيت الله»، و إضافة دم الحسين عليه السّلام إلى الله، يقال: «ثار الله» لَكُمْ آيَةً دالة على صدق كلامي.

و قد كان من قصة صالح ما

ورد: أنه بعث إلى قومه و هو ابن ست عشرة سنة فلبث فيهم حتى بلغ عشرين و

مائة سنة لا يجيبونه إلى خير، و كان لهم سبعون صنما، يعبدونها من دون الله، فقال لهم: إن شئتم فاسألوني حتى أسأل إلهي فيجيبكم فيما سألتموني الساعة، و إن شئتم سألت آلهتكم، فإن أجابتني بالذي أسألها خرجت عنكم، فقد سئمتكم و سئمتموني، فقالوا: قد أنصفت، فدعاها كلها بأسمائها فلم يجبه منها شي ء فنحّوا بسطهم و فرشهم و ثيابهم و تمرغوا على التراب و طرحوا التراب على رؤوسهم، و قالوا لأصنامهم: لئن لم تجيبوا صالحا اليوم لنفتضحنّ، ثم دعوه فقالوا: يا صالح ادعها، فدعاها فلم تجبه. قال صالح: فاسألوني حتى أدعو إلهي يجبكم الساعة، فقالوا: ادع لنا ربك يخرج لنا من هذا الجبل الساعة ناقة حمراء شقراء و براء عشراء بين جبينها ميل، فقال لهم: سألتموني شيئا يعظم عليّ و يهون على ربي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 201

[سورة الأعراف (7): آية 74]

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)

تعالوا، فسأل الله ذلك، فانصدع الجبل صدعا كادت تطير منه عقولهم لما سمعوا ذلك، ثم اضطرب ذلك الجبل اضطرابا شديدا كالمرأة إذا أخذها المخاض، ثم لم يفاجئهم إلا رأسها قد طلع عليهم من ذلك الصدع فما استتمّت رقبتها حتى اجترّت، ثم خرج سائر جسدها، ثم استوت قائمة على الأرض، فلما رأوا ذلك قالوا: يا صالح ما أسرع ما أجابك ربك، ادع لنا يخرج لنا فصيلها، فسأل الله ذلك فرمت به فدبّ حولها، فقال لهم: يا قوم أبقي شي ء؟ قالوا: لا، انطلق بنا إلى قومنا نخبرهم بما رأينا و يؤمنون بك. قال الراوي: فرجعوا فلم

يبلغ السبعون إليهم حتى ارتد منهم أربعة و ستون رجلا، و قالوا: سحر و كذب.

قال: فانتبهوا إلى الجميع فقال الستة: حق، و قال الجميع: كذب و سحر، فانصرفوا على ذلك ثم ارتاب واحد فكان فيمن عقرها «1».

فَذَرُوها أي دعوها و اتركوها و شأنها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ من نبات الأرض وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ و أذية فَيَأْخُذَكُمْ أي ينالكم و يصيبكم عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[75] وَ اذْكُرُوا نعمة الله عليكم إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ في الأرض بأن أورثكم إياها و مكّنكم فيها مِنْ بَعْدِ عادٍ الذين أهلكوا حيث عصوا ربهم وَ بَوَّأَكُمْ أي جعل لكم بيوتا و مساكن فِي الْأَرْضِ بحيث

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 11 ص 377.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 202

[سورة الأعراف (7): آية 75]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)

تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها أي سهول الأرض قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً و هذه نعمة كبري إذ جعل لكم الأرض ذلولا سهولها و جبالها فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي نعم الله عليكم، و قد تقدم أن «آلاء» جمع «إلى» بمعنى النعمة وَ لا تَعْثَوْا أي: لا تطغوا و تسعوا، من «العثا» بمعنى شدة الفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فلا تثيروا الفساد في الأرض.

[76] قالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا عن قبول الحق، و رفعوا أنفسهم عن ذلك مِنْ قَوْمِهِ أي من قوم صالح لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي للمؤمنين الذين نظر إليهم المستكبرون بنظر الضعف و الضعة لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله: «لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا و إنما جي ء به لئلّا يظن أن المراد «المستضعف في الدين»-: أَ

تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ و أنه رسول من الله.

و كان هذا السؤال منهم مقدمة لكلامهم أنهم غير مؤمنين به قالُوا أي: المؤمنون: إِنَّا بِما أُرْسِلَ صالح بِهِ مُؤْمِنُونَ فنعتقد بإله واحد و برسالته و بما جاء به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 203

[سورة الأعراف (7): الآيات 76 الى 77]

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)

[77] قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا السائلون- بعد سماعهم لكلام المؤمنين-:

إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ من التوحيد و الرسالة كافِرُونَ جاحدون منكرون.

[78] فَعَقَرُوا النَّاقَةَ أي: قتلوها، و «العقر» الجرح الذي يأتي على أصل النفس.

ورد أن الله أوحى إلى صالح عليه السّلام: قل لهم: إن الله قد جعل لهذه الناقة من الماء شرب يوم، و لكم شرب يوم، فكانت الناقة إذا كان يوم شربها شربت ذلك اليوم، فيحلبونها فلا يبقى صغير و لا كبير إلا شرب من لبنها يومهم ذلك، فإذا كان الليل و أصبحوا غدوا إلى مائهم فشربوا منه ذلك اليوم و لم تشرب الناقة ذلك اليوم، فمكثوا بذلك إلى ما شاء الله ثم أنهم عتوا على الله و مشى بعضهم إلى بعض و قالوا: اعقروا هذه الناقة و استريحوا منها لا نرضى أن يكون لها شرب يوم و لنا شرب يوم، فجعلوا حبلا لرجل أحمر أشقر أزرق من ولد الزنا لا يعرف له أب يقال له: «قدار» شقي من الأشقياء مشؤوم عليهم فقتلها و هرب فصيلها، و اقتسموا لحمها فيما بينهم، فأوحى الله إلى صالح: قل لهم: إني مرسل إليكم عذابي إلى ثلاثة أيام، فإن تابوا و رجعوا قبلت توبتهم

عنهم، و إن لم يتوبوا بعثت عليهم عذابي في اليوم الثالث «1».

وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي تجاوزوا الحد في الفساد وَ قالُوا

______________________________

(1) الكافي: ج 8 ص 187.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 204

[سورة الأعراف (7): الآيات 78 الى 79]

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب على قتل الناقة و البقاء في الكفر إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ثم أخبر سبحانه بما حلّ بهم من العذاب.

[79] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ «الرجف» الاضطراب فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي في محلهم، يقول الحاضر: «أنا في داري» أي بلدي و محلتي جاثِمِينَ أي صرعى ميّتين ساقطين لا حركة لهم.

ورد أن صالح لما وعدهم بالعذاب و أمهلهم ثلاثة أيام، قال صالح عليه السّلام: إنكم تصبحون وجوهكم مصفرّة، و اليوم الثاني محمرة، و الثالث مسودة. فجاءهم ما قاله لهم فلم يتوبوا و لم يرجعوا، فلما كان منتصف الليل أتاهم جبريل فصرخ بهم صرخة خرقت أسماعهم و فلقت قلوبهم و صدعت أكبادهم.

و في بعض التفاسير: إن النار كانت تصحب الصيحة حيث أخذتهم. و لعل تسمية ذلك بالرجفة لأجل الاضطراب الحاصل للإنسان حينما يسمع صيحة مهولة «1».

[80] فَتَوَلَّى أي أعرض صالح عليه السّلام عَنْهُمْ حين رأى إصرارهم على الكفر وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ أدّيت النصح الذي يسعدكم في دنياكم و أخراكم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 296.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 205

[سورة الأعراف (7): الآيات 80 الى 81]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ

(80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)

وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ فلا تقبلون نصحي. و لعل سر تأخير هذه الجملة، عن جملة «فأخذتهم الرجفة» مع تقديمها في ظرف الوقوع عليها، إيهام السياق سرعة الخاتمة، حتى لا يكون فصل بين الإعراض و بين العذاب في اللفظ، و هذا من فنون البلاغة، لكن حيث أن مصير صالح عليه السّلام لم يعلم مما قبل، استأنف السياق ذكر مصيره و أنه نفض يديه منهم، و تركهم ليلاقوا ما جلبوه على أنفسهم، دونه.

[81] وَ اذكر لُوطاً و لعلّ اختلاف السياق هنا عمّا سبقه، حيث كان يقول: «و إلى»، تنبيه عدم التعرض لمن توسطهما من الأنبياء، كإبراهيم عليه السّلام الذي كان معاصرا للوط، و إنما لم يذكر إبراهيم عليه السّلام لعله لعدم نزول عقاب على قومه كما نزل على قوم لوط، و قوم الأنبياء السابقي الذكر إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ؟

على نحو الاستفهام الإنكاري، و المراد ب «الفاحشة» المعصية المتجاوزة للحدود، و هي اللواط بالرجال ما سَبَقَكُمْ بِها أي بهذه الفاحشة مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ فإن قوم لوط أول من تعاطى هذا العمل الشنيع.

[82] إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً أي إتيانا شهويا، فإن لفظ «أتى» بدون هذا القيد «الشهوة» يكون بمعنى «جاء» مِنْ دُونِ النِّساءِ فلا تأتون المباح، و تأتون المحرّم، و لعلّ عدم الإتيان لهن كان أيضا محرما، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 206

[سورة الأعراف (7): الآيات 82 الى 84]

وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

أنه

كذلك عندنا، بعد أربعة أشهر بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ متجاوزون في الظلم و الفساد، فإن الإسراف بمعنى التجاوز.

[83] وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أي جواب القوم للوط عليه السّلام الذي كان ينهاهم عن اللواط إِلَّا أَنْ قالُوا أي قال بعضهم لبعض أَخْرِجُوهُمْ أي أخرجوا لوطا و أهله مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي مدينتكم، و هي «سدوم» إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي يتحرّجون عن هذا العمل، من أجل الطهارة و النزاهة.

[84] فَأَنْجَيْناهُ أي خلصنا لوطا وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ من العذاب النازل بقومه، حيث أمرناهم بالسير و الفرار من المدينة، ففروا جميعا إلا زوجته كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في قومه المتخلفين عن لوط، و إنما بقيت و هلكت لأنها كانت على طريقتهم، كما قال سبحانه في آية أخرى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما «1»، إذ لم تؤمنا بما آمن به زوجيهما.

[85] وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي أرسلنا عليهم الحجارة كالمطر، كما قال

______________________________

(1) التحريم: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 207

[سورة الأعراف (7): آية 85]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

تعالى في آية أخرى: وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «1»، ثم قلبت مدينتهم حتى جعل عاليها سافلها فَانْظُرْ أي فاعلم يا رسول الله، أو أيها الناظر كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ المرتكبين للسيئات.

[86] وَ أرسلنا إِلى مَدْيَنَ هم قبيلة سميت باسم جدّهم «مدين» حفيد إبراهيم عليه السّلام أَخاهُمْ شُعَيْباً و

هو من أحفاد إبراهيم عليه السّلام، فهو أخ القبيلة قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ من الأصنام التي تبعدونها قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ دلالة واضحة تدل على صدقي. و الظاهر أن المراد «المعجزة»، فإن الأنبياء كانوا مزوّدين بالإعجاز فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ أخذا و عطاء، فلا تأخذوا زائدا و لا تعطوا ناقصا وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ من «بخس» بمعنى «نقص» أَشْياءَهُمْ أي لا تعطوهم ناقصا حيث إن الشي ء المباع هو ملك المشتري، فيكون الشي ء للناس، و لذا أضيف إليهم وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بأن

______________________________

(1) الحجر: 75.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 208

[سورة الأعراف (7): آية 86]

وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)

تعملوا بالمعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها لا يراد بذلك الإصلاح التام، بل المعنى أن لا تأتوا بالفاسد مكان الصالح، فإن الفساد إنما يتدرج إلى المجتمع، أو المراد: لا تفسدوا بعد ما أصلح الأنبياء الأرض.

ذلِكُمْ الذي أمرتكم به من إتيان الواجبات و ترك المحرمات خَيْرٌ لَكُمْ أي أنفع مما أنتم فيه، و كأن الإتيان بصفة التفضيل في أمثال المقام، للفضل المتوهم في الطرف الآخر، مثلا: كان هؤلاء يزعمون أن ما يعملونه في الفضل، فقيل لهم: إن ما تدعون إليه خير إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ و هؤلاء و إن لم يكونوا مؤمنين لكن الشرط في أمثال المقام مرتبط بفعل مقدر، أي إن كنتم مؤمنين لعلمتم أنه خير لكم- كما ذكره أهل الأدب-.

[87] وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ فإنهم كانوا قطاع طرق، يقعدون في الطرق،

يوعدون الناس بالقتل و الإيذاء إن لم يرضخوا للنهب و السلب وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي تمنعون عن إيمان الناس، فقد كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بشعيب مَنْ آمَنَ بِهِ أي من أراد الإيمان، أو المراد صد المؤمنين عن القيام بوظائف الإيمان وَ تَبْغُونَها أي تطلبون السبيل عِوَجاً أي تريدون الطريق المعوجّ، و لا تريدون الطريق المستقيم، أو المراد تتصيدون الاعوجاج لسبيل الله تعالى، فإن أهل الباطل دائما يفكرون في نقد الحق، حتى يروه للناس أعوج.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 209

[سورة الأعراف (7): آية 87]

وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87)

وَ اذْكُرُوا أيها القوم إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا في العدد فَكَثَّرَكُمْ الله فإن جدّهم «مدين» كان واحدا، ثم كثروا، كما هو شأن كل قبيلة، فاشكروا أيها القوم هذه النعمة وَ انْظُرُوا تفكروا و تدبروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم التي تقدمتكم، حيث أهلكت بعذاب الله سبحانه لما فسدوا و أفسدوا و خالفوا أوامر الله سبحانه، فخافوا أيها القوم نكال الله و عقابه.

[88] و لا يغرّنكم أيها القوم تفرق الناس عني بين مؤمن و كافر، فإن المصلحين يتفرّق الناس عنهم فرقتين دائما، و قبل شروعهم في الإصلاح، و يكون الناس حولهم فرقة واحدة موالية، و لا يخفى أن هذا لا يكون سببا لأن يزعم كل من تفرّق الناس عنه فرقتين أنه مصلح و على حق، فإن العاقبة للحق و الضمائر تشهد بالصدق و الكذب، و هاتان علامتان مميزتان بين المحق و المبطل، و لذا تمسك شعيب عليه السّلام بقوله: «فاصبروا».

وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ

بأن صدقوني و قبلوا رسالتي وَ طائِفَةٌ أخرى لَمْ يُؤْمِنُوا بل جحدوا و بقوا على كفرهم فَاصْبِرُوا أيها القوم، المؤمن منكم و الكافر حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا في الدنيا بإعلاء كلمة الدين و إبطال كلمة الكافرين، أما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 210

الآخرة فهو شي ء واضح وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنه لا يجور في الحكم، عن عمد أو غير عمد، بل يعطي كل ذي حق حقه، وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ «1».

______________________________

(1) الأنبياء: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 211

تقريب القران الى الأذهان الجزء التّاسع من آية 89 من سورة الأعراف إلى آية 41 من سورة الأنفال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 212

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 213

[سورة الأعراف (7): الآيات 88 الى 89]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)

[89] قالَ الْمَلَأُ جماعة الأشراف الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا رفعوا أنفسهم فوق مقدارها و عتوا و طغوا مِنْ قَوْمِهِ أي من قوم شعيب لَنُخْرِجَنَّكَ بكل تأكيد يا شُعَيْبُ وَ لنخرجنّ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أي بلدنا أَوْ لَتَعُودُنَّ

فِي مِلَّتِنا «الملّة» هي الطريقة، أي ارجعوا كفارا كما كنتم، و العود في الملة إما باعتبار الغالب، فأدخل فيه شعيبا عليه السّلام تغليبا، فإن المؤمنين به كانوا كفارا ثم آمنوا، أو لزعمهم أن شعيبا عليه السّلام كان منهم حيث كان أحدهم قبل ادّعاء النبوة، و إما بمعنى الصيرورة، فإن «عاد» يستعمل بمعنى «صار»، كما قال الشاعر:

تلك المكارم لا ثعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

قالَ شعيب عليه السّلام لهم: أ تعيدوننا في ملتكم و تدخلوننا إليها أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ للدخول فيها؟ أي: أ تجبروننا على ذلك؟ و لعل القصد: إنكم لا تقدرون على ذلك في حين كراهيتنا لذلك، فإن العقائد لا تزول بالإكراه و الإجبار.

[90] ثم قال شعيب: إنه من المستحيل أن نتخذ طريقتكم، إذ قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بأن نجعل لله شريكا، و نحلّل حرامه، و نحرّم حلاله و ننسب كل ذلك إليه بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 214

بأن أوضح الحق و أقام الحجة عليه وَ ما يَكُونُ لَنا أي لا يجوز لنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا و هذا من التعليق على المحال، لأن الله لا يشاء الكفر و العصيان، كما قال: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «1»، و قال: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «2»، أو المراد مشيئة الله بسلب التوفيق منهم، و هذا ممكن بالنسبة إلى بعض المؤمنين الذين لا رسوخ لإيمانهم، كما ارتد بعضهم بعد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و حيث أن العود بالنسبة إلى كل واحد واحد صح ذلك وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أي

وسع علمه سبحانه كل شي ء، فهو أعلم بالصلاح و أعلم بالواقع و الحقيقة، فما كان من عبادتنا لتوحيده، بأمره و نهيه، هو الصحيح دون ما أنتم عليه من الشرك و العناد عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أمورنا، فلا نخاف من تهديدكم بإخراجنا.

ثم دعا شعيب عليه السّلام قائلا: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ و معنى «الفتح» النجاة و وضوح الحق، إذ الواقع في المشكلة كأن الطريق مسدود أمامه، كما أن من يريد الهداية يرى الضلال حاجزا، فيطلب الفتح لهذا الحاجز و إزالته ليرى الحق، و قيد «بالحق» توضيحي، لإفادة أن فتحه سبحانه بالحق، أو احترازي لأن الفتح يطلق على الفتح بالباطل- كما يفتح الكافر مدينة ما- و الفتح بالحق وَ أَنْتَ يا إلهنا

______________________________

(1) الزخرف: 82.

(2) الأعراف: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 215

[سورة الأعراف (7): الآيات 90 الى 91]

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91)

خَيْرُ الْفاتِحِينَ فإن سائر الفاتحين قد يظلم عمدا أو خطأ أو جهلا، أما الله سبحانه فلا يحيد فتحه عن الحق، قيد شعرة.

[91] ثم بيّن سبحانه ما قالت جماعة شعيب بعضهم لبعض وَ قالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي من قوم شعيب، بعضهم لبعض: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً في دينه و طريقته إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ خسرتم منافعكم و طريقة آبائكم.

[92] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي الزلزلة، أو الصيحة، الموجبة للرجف و الاضطراب فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي محلهم و بلدهم جاثِمِينَ أي ميتين ملقين لا حراك فيهم.

في المجمع: قيل: أرسل الله عليهم رمدة «أي هلاكا جعلهم كالرماد» و حرا شديدا فأخذ بأنفاسهم، فدخلوا أجواف البيوت، فدخل عليهم البيوت،

فلم ينفعهم ظل و لا ماء و أنضجهم الحرّ، فبعث الله تعالى سحابة فيها ريح طيبة فوجدوا برد الريح و طيبها و ظل السحابة فتنادوا: «عليكم بها» فخرجوا إلى البرية فلما اجتمعوا تحتها ألهبها الله عليهم نارا و رجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي و صاروا رمادا و هو عذاب يوم الظلّة «1».

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 309.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 216

[سورة الأعراف (7): الآيات 92 الى 93]

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

ثم

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنه بعث الله عليهم صيحة واحدة فماتوا» «1».

[93] الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً و لم يؤمنوا به و برسالته كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا «غنى بالمكان» يعني: «أقام فيه» أي: كأن المكذبين لم يقيموا في دارهم أصلا، حيث ذهبت أخبارهم و آثارهم الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً عاد اللفظ تأكيدا كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ فقد خسروا دينهم و دنياهم و آخرتهم، و هذا في قبال قولهم: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ

[94] فَتَوَلَّى عَنْهُمْ شعيب، أي أعرض عنهم، إما قبل الهلاك- و تأخير هذه الجملة لما تقدم في قصة قوم صالح- و إما حين الهلاك إذ أخذهم العذاب وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي و جمع «رسالات» باعتبار كل رسالة من مختلف الشؤون وَ نَصَحْتُ لَكُمْ بأن تتبعوني حتى تكونوا في أمن و سلامة فَكَيْفَ آسى أي أحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ بعد أن قمت بواجب النصح و الإرشاد. و المراد بالاستفهام «كيف» النفي، أي: لا أحزن،

فإنهم استحقوا العقاب بإعراضهم و استكبارهم و تمرّدهم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 383.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 217

[سورة الأعراف (7): الآيات 94 الى 95]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)

[95] ثم ذكر سبحانه أنه هكذا جرت عادة الناس بالنسبة إلى الأنبياء، و هكذا جرت سنة الله بالنسبة إلى المكذبين، تسلية للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إيقاظا لمن أراد القيام بالأمر و النهي في سبيل الله تعالى وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ المراد بها المدينة مِنْ نَبِيٍ لإرشادهم، فلم يؤمنوا به إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها أي أهل تلك القرية بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ البأساء: الشدة، و الضراء: سائر أنواع الضرر لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي يتضرعون، بأن يتنبهوا و يتوبوا عن شركهم و كفرهم و معاصيهم.

[96] ثُمَ بعد أخذهم بالبأساء و الضراء بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ بأن رفعنا عنهم الشدة و جعلنا الرفاه و الرخاء مكانها لعلهم يشكرون، كما قال سبحانه: فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ «1»، فإن الله سبحانه يوقظ العصاة أولا بالشدة، فإن لم تنفع يوقظهم بالرفاه، فإن لم ينفع عذّبهم، حيث لم يفدهم لا الخوف و لا الإحسان حَتَّى عَفَوْا «العفو» هو:

الإغضاء عن الذنب، أي فعلوا الذنوب غاضّين عنها، تاركين أنفسهم و شهواتها.

وَ إذا قيل لهم: إن الشدة و الرخاء للابتلاء و الإيقاظ، لم يصدقوا، بل قالُوا: هذه عادة الدنيا دائما ف قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ

______________________________

(1) الأنعام: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 218

[سورة الأعراف (7): آية 96]

وَ لَوْ أَنَّ

أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)

وَ السَّرَّاءُ ما يضر من الشدائد، و ما يسر من الرفاه، و ليسا للابتلاء و الإيقاظ فانسدت جميع أبواب الهداية في وجوههم، و لم ينفعهم إرشاد الأنبياء، و لا الضراء و لا السراء فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي فجأة بدون إمهال وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بالعذاب إلّا حين يرونه، و ربما كان هناك احتمال إقلاع، و هنا يأتي العذاب تدريجيا، كما حصل لقوم يونس عليه السّلام، أو إبلاغا للحجة إلى أقصاها، كما صنع بقوم صالح عليه السّلام.

ثم إن المؤمن و الكافر كلاهما يبتليان بالضراء و السراء، لكن هناك فرق؛ فضراء المؤمن مع صبر و ارتياح، و ضراء الكافر مع جزع و كمد، و سراء المؤمن مع بركة و أمن و اطمئنان، و سراء الكافر مع محق و قلق و اضطراب.

[97] وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا بالله تعالى و بأنبيائه وَ اتَّقَوْا معاصيه و عملوا الصالحات لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ «البركات» الخيرات النامية، و فتح الخير من السماء بكثرة الأمطار، و طيب الهواء، و فتحه من الأرض بإخراج النبات و الثمار، و تفجّر العيون، إلى غيرهما من الخيرات المادية و المعنوية كاستجابة الدعاء و نحوها، و هذا إلى جنب كونه معنويا بلطفه سبحانه، كذلك يكون بالأسباب الظاهرة، فإن الإيمان و التقوى يوجبان سيادة مناهج الله تعالى و هي توجب الأخوة و التعاون مما يسببان ازدهار الحياة و تعميم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 219

[سورة الأعراف (7): الآيات 97 الى 99]

أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ

أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)

الرفاه و الأمن، كما أن الكفر و العصيان سببان لعكس ذلك وَ لكِنْ كَذَّبُوا الرسل و لم يؤمنوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كسبهم المعاصي و الآثام.

[98] ثم ذكر سبحانه أن أهل المعاصي لا بد لهم أن يترقبوا العقاب و النكال أَ فَأَمِنَ أي هل يأمن أَهْلُ الْقُرى المكذبون للرسل العاصون لله سبحانه أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أي عذابنا بَياتاً أي ليلا وَ هُمْ نائِمُونَ في أمن و راحة و اطمئنان؟ و المعنى: أنهم يجب أن لا يأمنوا ذلك.

[99] أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى الهمزة للاستفهام، و الواو للعطف، أي و هل يأمن أهل البلاد أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا نكالنا و عقابنا ضُحًى نهارا عند ارتفاع الشمس وَ هُمْ يَلْعَبُونَ في أمن و اطمئنان، أنهم إن عصوا فلن يكونوا آمنين في أحسن أوقات أمنهم ليلا و لا نهارا.

[100] أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ المكر: العلاج الخفي، و إن غلب استعماله عرفا في معالجة الأشياء بالباطل، أي يجب أن لا يأمن أحد من مكر الله، و تسبيبه الأسباب للنكال به فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم، و لا ينكرون من أمرهم، و إلا فالمؤمنين يخافون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 220

[سورة الأعراف (7): الآيات 100 الى 101]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ

الْكافِرِينَ (101)

سوء العاقبة الموجب للنكال و العقاب، و المعصومون خارجون عن العموم لأن مصب الكلام حول العصاة- فإنه عبارة أخرى عن وجوب حذر العصاة- أو داخلون باعتبار احتمال صدور ترك الأولى منهم، الموجب لعدم بلوغ بعض الدرجات الرفيعة، كما قال سبحانه: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «1».

[101] أَ وَ لَمْ يَهْدِ أي: ألم ينبّه و يرشد لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي الذين صاروا خلفاء لآبائهم و أجدادهم، من بعد ما أفنينا أولئك، و أبحنا الأرض لهؤلاء، أي أليس يعرف الناس مما رأوه من عذاب الأمم السابقة- حينما عصوا- أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ و أخذناهم بِذُنُوبِهِمْ كما أهلكنا الأمم السابقة وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ بأن نعلمها بعلامة الكفر، أو نغفلها حتى لا تعقل شيئا، و ذلك بسبب اقترافهم الجرائم و الآثام- كما سبق- فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ الوعظ و لا يقبلونه.

[102] تِلْكَ الْقُرى التي هلكت و اضمحلت نَقُصُّ عَلَيْكَ يا رسول الله مِنْ أَنْبائِها أي أخبارها لتنظر فيها بنظر الاعتبار، و تخبر بها المسلمين و غير المسلمين حتى يعتبروا وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي الأدلة

______________________________

(1) طه: 116.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 221

[سورة الأعراف (7): الآيات 102 الى 103]

وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

الواضحة الدالة على المرسل و الرسول فأهلكناهم لأنهم تمادوا في غيهم و لم يكن احتمال إقلاعهم عن كفرهم و عصيانهم إذ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ إنهم كانوا كذلك حسب علمنا بكامن قلوبهم كَذلِكَ أي كما طبع

على قلوب هؤلاء، بمعنى أنها لم تكن قابلة للهداية بسوء صنيعها، كمن صارت المعصية ملكة له فلا يقدر عادة على تركها كذلك يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ و قد مرّ مرارا معنى «الطبع» و أنه بسوء اختيار الشخص، لا أنه ظلم من الله- تعالى عن ذلك- بالنسبة إلى الكافر.

[103] وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي أكثر الذين أهلكوا مِنْ عَهْدٍ أي كانوا ينقضون العهود و المواثيق، يقال: «لا عهد لفلان»، أي لا يفي بعهده، و المراد ب «العهد»، إما ما أودع في فطرة كل أحد من الإيمان، و إما ما كان مأخوذا من الناس على لسان الأنبياء، و تصح نسبة عدم العهد إلى الأبناء، بملاحظة التعهد مع الآباء، و لذا من عاهد قبيلة أن لا يحاربها خمسين سنة، كان الأبناء ملزمين بما التزم به آباؤهم وَ إِنْ وَجَدْنا أي قد وجدنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ خارجين من الوفاء بالعهد، فإن الفسق بمعنى الخروج عن الطاعة.

[104] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ أي بعد الرسل الذين تقدمت أسماؤهم، أو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 222

[سورة الأعراف (7): الآيات 104 الى 105]

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105)

بعد هلاك الأمم السالفة مُوسى عليه السّلام بِآياتِنا أي مع دلائلنا و حججنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي قومه، أو الأشراف منهم، و إنما خصّوا لأنه عليه السّلام قصدهم أولا و بالذات فَظَلَمُوا أي ظلم فرعون و ملأه أنفسهم بِها أي بسبب تلك الآيات، فإن نزولها صار سببا لظلم أنفسهم، و لو لا أنها نزلت لم يظلموا، لأنه لم تكن حينئذ شريعة

أصلا، و هذا مجاز في النسبة كقوله سبحانه: وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً «1»، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ أي انظر يا رسول الله، أو كل من يأتي منه النظر، و المراد ب «النظر» التدبر و التفكر، فيما آل إليه أمر المفسدين، من الهلاك و الغرق.

[105] وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي إني رسول إليك، من الله تعالى، و قد كان فرعون يقول أنه الإله، كما قال سبحانه: فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «2».

[106] حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ أي واجب عليّ أن أقول الحق، و لا أنسب إلى الله إلّا الصدق، فإن الجدير بالنبي أن يقول ما قاله سبحانه، لا أن ينسب إليه تعالى الباطل و الكذب قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ

______________________________

(1) الإسراء: 83.

(2) النازعات: 24 و 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 223

[سورة الأعراف (7): الآيات 106 الى 108]

قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

مِنْ رَبِّكُمْ أي بحجة دالة على صدق كلامي، و المراد بها الجنس لا حجة واحدة فَأَرْسِلْ يا فرعون مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ فإن فرعون كان قد سخّر بني إسرائيل للأعمال كالبناء و نحوه. و المراد بإرسالهم:

التخلية بين بني إسرائيل و بين موسى عليه السّلام ليوجّههم حسب الشريعة.

و في بعض التفاسير أنه عليه السّلام أرادهم ليذهب بهم إلى الأرض المقدسة موطن آبائهم و أجدادهم.

[107] قالَ فرعون: إِنْ كُنْتَ يا موسى جِئْتَ بِآيَةٍ أي حجة تدل على صدق نبوتك فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنك رسول رب العالمين.

[108] فَأَلْقى موسى

عليه السّلام عَصاهُ التي كانت بيده، و كانت من الجنة فَإِذا هِيَ تنقلب إلى ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي حية كبيرة عظيمة فتحت فاها لتلتقم قصر فرعون الذي كان طوله ثمانين ذراعا. و هنا خاف فرعون و الحاشية، و هربوا، و أحدث فرعون من الخوف، و التمس موسى أن يردّها، فردّها و إذا بها ترجع عصا كالسابق.

[109] وَ نَزَعَ موسى عليه السّلام يَدَهُ أي جعلها تحت إبطه، ثم أخرجها فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي صارت اليد أكثر ضياء من الشمس، ثم أعادها إلى إبطه و أخرجها فإذا بها كحالتها السابقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 224

[سورة الأعراف (7): الآيات 109 الى 113]

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113)

[110] و لما رأوا هاتين المعجزتين العظيمتين تحيروا، و هنا تدخلت الحاشية في الأمر ليخفّفوا من روع فرعون قالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا أي موسى عليه السّلام لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسحر، و أنه صنع ما صنع سحرا لا معجزة.

[111] يُرِيدُ أي موسى عليه السّلام أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ باستمالة قلوب بني إسرائيل و سائر الناس إلى نفسه حتى يغلب عليكم. و من الواضح أن شخصا إذا غلب يهرب أعضاء الحكومة السابقة خوفا منه فَما ذا تَأْمُرُونَ أن نصنع لاتقاء خطر موسى عليه السّلام؟

[112] قالُوا أي قال الملأ في جواب فرعون الذي سأل «ماذا تأمرون»:

أَرْجِهْ أمر من «أرجأ» بمعنى «أخّر»، أي أخّره و اضرب معه موعدا، و

لا تعجل في الحكم له أو عليه وَ أَخاهُ أي و أخّر أخاه هارون معه وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ التي حولك، جمع «مدينة» أي ابعث إلى البلدان الأخرى حاشِرِينَ أي أناسا جامعين للسحرة ليأتوا و يقابلوه بمثل سحره.

[113] يَأْتُوكَ أولئك المبعوثون بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ فاستحسن فرعون رأيهم و أرسل في طلب السحرة.

[114] وَ جاءَ السَّحَرَةُ و في عددهم خلاف: من سبعين، إلى ثمانين ألف فِرْعَوْنَ أي جاءوا إليه قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي عوضا على عملنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 225

[سورة الأعراف (7): الآيات 114 الى 117]

قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117)

إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ على موسى.

[115] قالَ فرعون: نَعَمْ لكم الأجر إن غلبتموه وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إليّ، فأكرمكم و أجعلكم في عداد المقربين إلي.

[116] قالُوا أي قال السحرة: يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ عصاك أنت أولا وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ لما معنا من السحر؟

[117] قالَ لهم موسى عليه السّلام: أَلْقُوا ما معكم أولا فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم و عصيّهم التي كانت آلة سحرهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ فقد احتالوا في تحريك العصي و الحبال بما جعلوا فيها من الزئبق حتى تتحرك بحرارة الشمس، و غير ذلك من أنواع التمويه، و خيّل إلى الناس أنها تتحرك، و قد ظن الناس أنها حيات تتحرك، و ما شعروا أنها حبال تحرّكها حرارة الشمس بما فيها من الزئبق وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ أي أرهبوهم، فإن الناس خافوا

من حيّاتهم وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ فإن الحبال الكثيرة المختلفة الألوان و الكيفية إذا صارت كلها حيات- في أعين الناس- تركب بعضها على بعض يكون عظيما لدى الناظر.

[118] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى عليه السّلام حين ذاك أَنْ أَلْقِ عَصاكَ التي هي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 226

[سورة الأعراف (7): الآيات 118 الى 121]

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121)

معك، فألقاها فصارت ثعبانا مدهشا فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي تلقم و تأكل ما يَأْفِكُونَ أي إفكهم، و المراد به حيّاتهم و عصيّهم، فإن العصا أخذت تأكل الحبال ثم توجهت إلى الناس، فأخذوا في الهرب، و قتل تحت الأيدي و الأرجل جمع كثير، ثم أخذها موسى عليه السّلام فإذا بها عصا، و هناك قال السحرة: لو كان هذا سحرا لم تأكل حبالنا، فلا بد و أن يكون إعجازا من رب السماء.

[119] فَوَقَعَ أي ظهر الْحَقُ و هو أمر موسى عليه السّلام و نبوته وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من التمويهات، أي ظهر بطلانها.

[120] فَغُلِبُوا أي غلب موسى عليه السّلام فرعون و ملأه، و بهت أولئك هُنالِكَ أي من ذلك المكان وَ انْقَلَبُوا أي انصرف فرعون و ملأه صاغِرِينَ أذلّاء مقهورين.

[121] وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ فإن السحرة لما شاهدوا تلك الآيات، و علموا أن موسى عليه السّلام نبي من عند الله تعالى، لم يتمالكوا أنفسهم إلّا و سجدوا إذعانا لله سبحانه، و التعبير ب «ألقي» مبني للمجهول، لأجل إفادة معنى عدم تمالك النفس، و أن ما رأوا من الآيات هي التي سببت أن يسجدوا.

[122] قالُوا أي قال السحرة: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ

صدّقناه و اعترفنا بوجوده، و كفرنا بألوهية فرعون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 227

[سورة الأعراف (7): الآيات 122 الى 124]

رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)

[123] رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ و إنما خصّوهما بالذكر، بعد قولهم «رب العالمين» لأنهما دعيا إلى الإيمان بالله.

[124] قالَ فِرْعَوْنُ حين رأى إيمان السحرة: آمَنْتُمْ بِهِ أي بموسى عليه السّلام و الاستفهام للتوبيخ و الإنكار قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ أي قبل أن تحصلوا على إذني، فإنه كان يرى نفسه المستحق لأن يأذن بالإيمان، و أن الإيمان بدون إذنه موجب للعقوبة إِنَّ هذا أي هذا الإيمان بهذه الكيفية لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ فإنه أراد أن يلبس على الناس أن إيمان السحرة ليس على علم و اعتقاد، و إنما عن تواطؤ من موسى و السحرة لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي صنعتم هذا المكر لأن تسودوا أنتم في البلاد، و تخرجوا من المدينة أهلها، و المراد بهم فرعون و ملأه، فإنه إذا جاءت سلطة جديدة، تجبر أهل السلطة القديمة بالفرار وقاية لأنفسهم من السجن و القتل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أيها السحرة عاقبة أمركم و جزاء عملكم.

[125] لَأُقَطِّعَنَ بكل تأكيد أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ أيها السحرة مِنْ خِلافٍ أي من كل شق طرفا، كاليد اليمنى و الرجل اليسرى، أو بالعكس. و كانوا يعملون ذلك لبقاء التوازن في الجملة للجسد، إذ لو كان القطع من طرف واحد، لم يكن لذلك الطرف رجل يمشي بها، و لا يد يتكئ بها على العصا ثُمَ بعد القطع لَأُصَلِّبَنَّكُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2،

ص: 228

[سورة الأعراف (7): الآيات 125 الى 127]

قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)

و «الصلب» هو الشد على الخشبة حتى يموت، و قد كان يطول بقاء المصلوب يوما و أكثر أَجْمَعِينَ فلا أدع منكم أحدا.

[126] قالُوا أي قال السحرة: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ «الانقلاب» هو الرجوع، و المعنى: إنك إن صلبتنا فإنا إلى جزاء الله و ثوابه نرجع، فلا يضرنا شي ء. و غرضهم بيان صبرهم على ما ينزل بهم من الشدة، و أنهم مصممون على استمرارهم في الإيمان.

[127] وَ ما تَنْقِمُ «النقمة» الإنكار، أي: ما تكره مِنَّا و ما تطعن فينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا أي دلائله و حججه لَمَّا جاءَتْنا فليس لنا ذنب سوى ذلك رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي اصبب علينا الصبر عند ما يفعل بنا من القطع و الصلب وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ أي وفّقنا للثبات على الإسلام إلى وقت الوفاة حتى نموت على الإيمان و الإسلام. و في أن فرعون صلب هؤلاء أم لا، خلاف بين المفسرين.

[128] وَ قالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ بعد أن رأوا غلبة موسى عليه السّلام و إيمان جمع به أَ تَذَرُ أي هل تبقي يا فرعون مُوسى وَ قَوْمَهُ و هم بنو إسرائيل لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بإظهار التوحيد، و أنك لست بإله وَ يَذَرَكَ أي يتركك موسى، فلا يعتني

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 229

[سورة

الأعراف (7): آية 128]

قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)

بك وَ يذر آلِهَتَكَ جمع «إله»، فقد كان يدّعي الربوبية، و جعل لهم آلهة أيضا، فكانوا يعبدون البقر و الأصنام. و قد كان الاستفهام منهم تحريضا لفرعون، حتى يقضي على موسى عليه السّلام قالَ فرعون في جوابهم: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ أي سوف نكثر في أبناء قوم موسى القتل حتى لا يبقى منهم أحد يصلح للقتال و الإفساد وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي نستبقيهن أحياء للخدمة و الاستمتاع إذلالا لهم، و إماتة لكلماتهم وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ بيدنا القوة و الجند و السلاح و الملك فلا يتمكنون من مقاومتنا.

[129] قد كان فرعون يفعل ذلك ببني إسرائيل، لما علم أن زوال ملكه بيد أحدهم، و لما ظهر موسى عليه السّلام كفّ عن ذلك خوفا، و بعد ما حثه قومه على الانتقام، عزم على العودة إلى ما كان يفعله سابقا، و لما علم بذلك بنو إسرائيل شكوا إلى موسى عليه السّلام ف قالَ مُوسى عليه السّلام لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ في دفع بلاء فرعون عن أنفسكم وَ اصْبِرُوا على أذى فرعون أياما قليلة، فلا ترجعوا عن دينكم، و لا تظهروا الجزع إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ تعالى يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي ينقلها بإماتة السابقين أو إقصائهم، و يجعلها في أيدي الآخرين، كما أن الإرث كذلك في الجملة وَ الْعاقِبَةُ الحسنة لِلْمُتَّقِينَ الذين يتقون الله تعالى، فإنهم يجلبون بذلك خير الدنيا و سعادة الآخرة، مع رضا الله سبحانه عنهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 230

[سورة الأعراف (7): الآيات 129 الى 131]

قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا

قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)

[130] قالُوا أي قال بنو إسرائيل، لما سمعوا جواب موسى بالصبر، و أنه لا يريد دفع فرعون عاجلا: أُوذِينا أي عذّبنا من قبل فرعون مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا و تبعث فينا بالرسالة وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا و بعثت إلينا رسولا، فلم ننتفع بك في دفع الأذى قالَ موسى عليه السّلام واعدا إياهم بالنجاة: عَسى رَبُّكُمْ أي لعل الله سبحانه أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون و ينقذكم منه وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أي يجعلكم خلفاءه و القائمين مقامه في البلاد فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ بعد ما ملكتم الأرض، هل تفسدون كما أفسد فرعون أم تصلحون، فإن الله سبحانه يجازي البشر بعملهم لا بعلمه فيهم.

[131] ثم بيّن سبحانه ما فعله بآل فرعون من النكال و العقاب جزاء بما كانوا يقترفونه من المعاصي و الآثام وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ «السنين» الأعوام المقحطة، يقال: «أخذتهم السنة» إذا كانت سنة مقحطة مجدبة، أي عاقبناها بالجدب و القحط وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ فإن أشجارها كانت تحمل أثمارا قليلة، و هذا غير جدب أراضيهم لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لكي يذكروا عذاب الله فيرجعوا إلى الإيمان.

[132] فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ أي أصابهم الخير كالخصب و السعة و الصحة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 231

[سورة الأعراف (7): آية 132]

وَ قالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)

و ما

أشبه قالُوا لَنا هذِهِ أي إنا نستحق ذلك، و هذا من حسن حظنا، و علوّ طالعنا، فلم يكونوا يشكرون الله سبحانه على ما أنعم عليهم وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ كالجوع و القحط و المرض و نحوها يَطَّيَّرُوا أصله «يتطير» فأدغمت التاء في الطاء بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ من المؤمنين، فكانوا يقولون: هذا من شؤم موسى و سوء طالعه، و الأصل في التطير ما كان العرب تزعمه من أن الطير إذا جاء من طرف شمال الإنسان كان شرا و إذا جاء من طرف يمينه كان خيرا، ثم غلب التطيّر في القسم الأول، فإذا قيل: «تطيّر» أريد أنه «تشاءم».

فكان آل فرعون يرون البلايا من موسى عليه السّلام و لم يكونوا يعلمون أنها من سوء أعمالهم أَلا أي تنبيه أيها المخاطب إِنَّما طائِرُهُمْ و الشؤم الذي كان يلحق بهم لم يكن من عند موسى و لأجله بل من عِنْدَ اللَّهِ فإنه كان يضربهم بالبلاء عقوبة لأعمالهم وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك بل كانوا يزعمون الشؤم من موسى عليه السّلام.

[133] وَ قالُوا أي قال فرعون و ملأه لموسى عليه السّلام: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا أي: أي شي ء من المعجزات لتموّه علينا بِها بسببها، تريد بذلك أن نؤمن بما تدعو إليه فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ و لا نصدّقك فيما جئت به من الألوهية و الرسالة و الوعد و الوعيد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 232

[سورة الأعراف (7): آية 133]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133)

[134] فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ هو الماء الغالب على أبنيتهم و أشجارهم حتّى خرّبها وَ الْجَرادَ حتّى أكل أشجارهم و زرعهم وَ

الْقُمَّلَ هو السوس الذي يخرج من الحنطة و نحوها وَ الضَّفادِعَ جمع «ضفدع» حتى كان يثب في أوانيهم و قدورهم و يكثر في بيوتهم و محلاتهم حتّى عجزوا عنها وَ الدَّمَ فقد انقلب ماء النيل دما فكانوا لا يتمكنون من شرب و لا يهنؤون بأكل و طعام آياتٍ مُفَصَّلاتٍ أي معجزات فصّلت بعضها عن بعض، ظاهرات واضحات فَاسْتَكْبَرُوا أي تكبروا عن قبول الحق بعد كل ذلك وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ عاصين ذوي كفر و إجرام.

روي أن السحرة لما سجدوا و آمن بموسى جمع من آل فرعون قال هامان لفرعون- و كان وزيره-: إن الناس قد آمنوا بموسى فانظر من دخل في دينه فاحبسه، فحبس كل من آمن به من بني إسرائيل، فجاء إليه موسى، فقال له: خلّ عن بني إسرائيل، فلم يفعل، فأنزل الله عليهم في تلك السنة الطوفان، فخرّب دورهم و مساكنهم حتى خرجوا إلى البرية و ضربوا الخيام، فقال فرعون لموسى: ادع ربك حتى يكف عنا الطوفان فأخلّي عن بني إسرائيل و أصحابك، فدعا موسى ربه فكفّ عنهم الطوفان و همّ فرعون أن يخلي عن بني إسرائيل، فقال له هامان: إن خليت عن بني إسرائيل غلبك موسى و أزال ملكك، فقبل منه و لم يخلّ عن بني إسرائيل، فأنزل عليهم في السنة الثانية الجراد فجردت كل شي ء كان لهم من النبت و الشجر حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 233

[سورة الأعراف (7): آية 134]

وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134)

كانت تجرد شعورهم و لحاهم، فجزع فرعون من ذلك جزعا شديدا، و قال: يا

موسى ادع ربك أن يكف عنا الجراد حتى أخلي عن بني إسرائيل و أصحابك، فدعا موسى ربه فكفّ عنهم الجراد.

فلم يدعه هامان أن يخلي عن بني إسرائيل فأنزل الله عليهم القمّل فذهب زرعهم و أصابتهم المجاعة فقال فرعون لموسى: إن دفعت عنا القمل كففت عن بني إسرائيل، فدعا موسى ربه حتى ذهب القمل، فلم يخلي عن بني إسرائيل، فأرسل الله عليهم بعد ذلك الضفادع فكانت تكون في طعامهم و شرابهم، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا، فجاءوا إلى موسى فقالوا: ادع الله يذهب عنا الضفادع فإنا نؤمن بك و نرسل معك بني إسرائيل، فدعا موسى ربه فرفع الله عنهم ذلك، فلما أبوا أن يخلوا عن بني إسرائيل حوّل الله ماء النيل دما فكان القبطي يراه دما و الإسرائيلي يراه ماء فإذا شربه الإسرائيلي كان ماء و إذا شربه القبطي كان دما، فجزعوا من ذلك جزعا شديدا فقالوا لموسى: لئن رفع عنا الدم لنرسلن معك بني إسرائيل، فلما رفع الله عنهم الدم غدروا و لم يخلوا عن بني إسرائيل.

[135] وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ «الرجز» العذاب، فقد أصابهم ثلج أحمر و لم يروه قبل ذلك فماتوا فيه و جزعوا و أصابهم ما لم يعهدوا من قبل قالُوا أي فرعون و ملأه: يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بما تقدم إليك أن تدعوه به، فإنه يجيبك كما أجابك سابقا لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا هذا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ بما جئت به من التوحيد و النبوة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 234

[سورة الأعراف (7): الآيات 135 الى 136]

فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ

كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)

وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فنطلق سراحهم من السجون و من تسخيرهم بالأعمال الشاقة.

[136] فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ بدعاء موسى عليه السّلام، و معنى «كشف الرجز» رفع العذاب إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ أي: إن رفعنا العذاب كان لأجل أن يبلغوا المدّة المحدودة المقدرة لهم، إذ لم يقدّر موتهم في ذلك الوقت الذي نزل بهم الرجز فيه إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ أي يخالفون و ينقضون عهدهم فلا يؤمنون و لا يطلقون بني إسرائيل.

[137] فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي عذّبناهم جزاء بما فعلوا من الكفر و المعاصي فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ أي في البحر بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها أي عن الآيات غافِلِينَ بمعنى أنهم كانوا يعملون عمل الغافل عن الآيات، إذ الملتفت العاقل لا يخالف و لا يكذب، أو المراد غافلين عن عواقب الآيات، كما يقال: «فلان غافل عن أمر السلطة» أي عن عواقبه السيئة فيما إذا خالف.

و في بعض الروايات: أنه بعد نزول الثلج خلّي عن بني إسرائيل فاجتمعوا إلى موسى في مصر و اجتمع إليه من كان هرب من مصر و بلغ فرعون ذلك، فقال هامان: قد نهيتك أن تخلّي عن بني إسرائيل فقد استجمعوا إليه، فجزع فرعون، و فرّ موسى إلى الخارج و اتبعهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 235

[سورة الأعراف (7): آية 137]

وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

فرعون، حتى وصلوا إلى البحر، فدخل موسى و من معه البحر بعد ما انشق لهم طرقا، و لما بلغوا منتصف البحر-

و هو البحر الأحمر- دخل فرعون و جنوده البحر و لما بلغ موسى آخر البحر و خرجوا، كان فرعوا قد بلغ منتصفه- و عرضه أربع فراسخ تقريبا- و هناك أطبق الماء على أصحاب فرعون، و أغرقوا أجمعين.

[138] وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ يعني: أعطينا بني إسرائيل الذين كانوا مستضعفين، فإن القبط كانوا يستضعفونهم، فأورثهم الله مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا أي مشارق الأرض التي كانوا فيها، و مغاربها يعني أرض الشام، فإن بني إسرائيل ملكوها بعد الفراعنة و العمالقة الَّتِي بارَكْنا فِيها بإخراج الزرع و الثمار و سائر صنوف النبات و الأشجار وَ تَمَّتْ و ثبتت كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى صفة «كلمة» أي الكلمة الحسنة التي وعدها الله عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ فإنه أنجز وعده بإهلاك أعدائهم و استخلافهم في الأرض و كان تمام الكلمة الحسنى بسبب ما صَبَرُوا على أذى فرعون متمسكين بدينهم، و قيل المراد ب «الكلمة الحسنى» ما بيّنه سبحانه في محل آخر بقوله:

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ إلى قوله- يَحْذَرُونَ «1».

______________________________

(1) القصص: 6 و 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 236

[سورة الأعراف (7): الآيات 138 الى 139]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139)

وَ دَمَّرْنا أي نسفنا و أهلكنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ من الأبنية و القصور وَ ما كان يصنعه قَوْمُهُ من المنازل و المزارع وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ من الأشجار و الأعناب و الثمار، أي يجعلون له عريشا و سقفا.

[139]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي قطعنا لهم بحر مصر الأحمر بأن جعلنا لهم فيه طرقا يابسة ليعبروا فلما عبروا فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ أي مرّوا على جماعة يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي يقبلون عليها ملازمين لها مقيمين عندها قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً مجسما حتى نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها قالَ موسى عليه السّلام: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ربكم و لا تعظّمونه فإنه لا يجوز أن تعبد الأصنام، لأنه شرك بالله سبحانه.

[140] إِنَّ هؤُلاءِ القوم الذين يعبدون الأصنام مُتَبَّرٌ أي مدمّر مهلك، من «التبار» بمعنى الهلاك ما هُمْ فِيهِ من عبادة الأصنام، أي أن هذه العبادة توجب الهلاك و الدمار وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي أن عملهم باطل لا نصيب له من الحق و الحقيقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 237

[سورة الأعراف (7): الآيات 140 الى 141]

قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

[141] ثم قالَ موسى عليه السّلام لقومه على نحو الاستنكار و التوبيخ:

أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أي ألتمس و أطلب لكم إلها غير الله، إن هذا لا يكون أبدا وَ الحال أنه إلهكم الوحيد و هُوَ الذي فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي عالمي زمانهم، فإنه هو المعطي المفضل، فكيف أتخذ إلها غيره؟! [142] ثم خاطب الله سبحانه بني إسرائيل الموجودين في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعدّد نعمه عليهم، استدراجا لهم إلى الإيمان، و تذكيرا بما سبق لهم منه سبحانه من الإحسان وَ اذكروا يا بني إسرائيل إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ

خلّصناكم منهم، و المراد ب «آل فرعون» قومه و ذووا السلطة في ملكه، حين كانوا يَسُومُونَكُمْ أي يولونكم و يفعلون بكم- من «سام فلانا» إذا عذبه و أذّله- سُوءَ الْعَذابِ أي العذاب السيئ.

ثم بيّن سبحانه طرفا من ذلك العذاب بقوله: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ «التقتيل» تفعيل من القتل، أي يكثرون القتل في الذكور منكم. فقد كان فرعون يقتل أولاد بني إسرائيل، لئلّا يولد فيهم مولود ذكر يذهب بملكه- حسب ما أخبره المنجّمون- ثم بعد ذلك و إن علم بموسى و أرسل إليه، أخذ يقتل الذكور ثانية، لئلّا يجتمعون حول موسى و تقوى شوكته فيعارضوه في سلطانه وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 238

[سورة الأعراف (7): آية 142]

وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)

يستبقونهن أحياء للخدمة و الاستمتاع و الإذلال وَ فِي ذلِكُمْ أي في تخلية فرعون و ما يفعل بكم بَلاءٌ أي ابتلاء مِنْ رَبِّكُمْ من قبله سبحانه ليجازي الصابرين عَظِيمٌ أو المعنى: في طرف ما فعل بكم من النجاة «بلاء» أي نعمة، فإنه يأتي بمعناها «من» طرف ربكم «عظيم» حيث تفضل عليكم بنعمة النجاة من ذلك الشقي.

[143] ثم ذكر سبحانه تمام نعمه على بني إسرائيل فقال: وَ واعَدْنا أي وعدنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً فقد روي أن موسى عليه السّلام لما كان بمصر وعد بني إسرائيل أنه إذا أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون و ما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فوعد الله موسى أن يأتي إلى الطور و يصوم ثلاثين يوما

ثم يعطيه الكتاب الذي فيه الشرائع. و لعل ذكر «ليلة» دون «يوم» لأجل أن الليل أقرب إلى المناجاة، فإن الظلمة تشع في النفس الانقطاع و الخوف و الرجاء، مما يجعل الإنسان أقرب إلى الله سبحانه من النهار، و لذا كان العبّاد يتخذونها ميقاتا لعبادتهم وَ أَتْمَمْناها أي أكملنا الثلاثين ليلة بِعَشْرٍ ليال حتى صار المجموع أربعين فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أي الوقت المضروب لإعطاء الكتاب أَرْبَعِينَ لَيْلَةً و قد كان ذلك لأجل تهيئة موسى عليه السّلام لأهلية إعطاء الكتاب، و لئن يعرف الناس عظمة الكتاب حتى أن مثل موسى عليه السّلام لا يعطى له إلا بعد الصيام و القيام.

و لا يخفى أن الإتمام عشرا لا ينافي وعده ثلاثين، فإن المقرّر كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 239

[سورة الأعراف (7): آية 143]

وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

إعطاء الكتاب بعد إتمام الثلاثين، لا بمجرد إكمال الثلاثين، و إنما قال: «فتم ميقات ربه» لئلا يوهم أن المعنى: أكملنا الثلاثين بعشر حتى كملت ثلاثين، نحو: «أكملت العشرة بدرهمين».

وَ حين أراد موسى عليه السّلام الخروج إلى ميقات ربه أوحى إلى أخيه هارون عليه السّلام إذ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي أي كن خليفتي فِي قَوْمِي فإن هارون و إن كان نبيا لكنه لم يكن رئيسا، ففوض إليه موسى عليه السّلام منصب الرئاسة وَ أَصْلِحْ فيما بينهم و أصلحهم وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ الذين يأمرون بالفساد و يفسدون الناس،

و هارون عليه السّلام و إن كان منزّها عن ذلك، إلّا أن ذلك لتنبيه القوم و إرشادهم إلى عمل هارون، فإن الإنسان قد يوصي لأجل الوصيّ، و قد يوصي لأجل من يسمع.

[144] وَ لَمَّا جاءَ مُوسى عليه السّلام لِمِيقاتِنا «الميقات» هو الزمان أو المكان الذي قدّر ليعمل فيه، و لذا يقال: «ميقات الحج» للمكان المقدّر فيه الإحرام، و المعنى: أنه لمّا انتهى موسى إلى المكان الذي وقّتنا له و أمرناه بالمسير إليه لننزل عليه التوراة، أو المراد الميقات الزماني، أي لمّا انتهى إلى زمان المواعدة وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ بأن خلق الكلام في الفضاء حتى سمعه موسى عليه السّلام، فإن الله سبحانه منزّه عن اللسان و اللهاة و سائر الأمور المرتبطة بالكلام الجسدي.

قالَ موسى: يا رَبِّ أَرِنِي نفسك أَنْظُرْ إِلَيْكَ نظر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 240

العيان. و قد كان هذا السؤال من موسى إجابة لطلب قومه،

فقد روي أنه لما كلّمه الله و قرّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم بذلك، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعته، فاختار منهم سبعين فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل و صعد إلى الطور و سأل الله أن يكلمه و يسمعهم كلامه، فكلمه الله فسمعوا كلامه من فوق و أسفل و يمين و شمال و وراء و أمام، لأن الله أحدثه في الشجرة ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن بأن هذا الذي سمعناه من جميع الوجوه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم و استكبروا و عتوا بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم فماتوا. فقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت

إليهم و قالوا إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله إياك؟

فأحياهم و بعثهم معه فقالوا: لو أنك سألت الله أن يريك تنظر إليه لأجابك فتخبرنا كيف هو و نعرفه حق معرفته، فقال: يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار و لا كيفية له و إنما يعرف بآياته و يعلم بعلاماته، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى: يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل و أنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله إليه: يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى: رب أرني انظر إليك

قالَ الله تعالى في جواب موسى: لَنْ تَرانِي أبدا، فإن «لن» لنفي الأبد، و ذلك لاستحالة رؤية الله سبحانه لا في الدنيا و لا في الآخرة، فإن للرؤية شرائط كلها مفقودة بالنسبة إليه سبحانه، و منها أن يكون المرئي جسما أو عرضا، و الله سبحانه ليس بجسم و لا عرض وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 241

الذي كان هناك فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ حال التجلّي فَسَوْفَ تَرانِي و قد كان هذا من باب التعليق بالمحال، فإن استقرار الجبل مكانه مع إرادة الله عدم الاستقرار له كان مستحيلا. فيكون التعليق على ذلك مثل قوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «1»، و قوله: إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «2»، لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «3»، مما جرى العرف بالتعليق على شي ء لا يكون، في بيان أن الشي ء الفلاني لا يكون فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ أي رب موسى عليه السّلام لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا أي مستويا مع الأرض، و المراد بالتجلي: خلق نور يشع على الجبل،

أو إظهار قدرة و عظمة له وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً أي وقع مغشيا عليه من الرعب و الخوف فَلَمَّا أَفاقَ من غشيته و رجعت قواه إليه قالَ موسى عليه السّلام: سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها عما لا يليق بك من رؤية و غيرها من النواقص تُبْتُ إِلَيْكَ أي رجعت إليك في أموري، و لم يكن ذلك توبة عن ذنب بل إنه على وجه الانقطاع و التخضّع، فإن الإنسان إذا رأى الأمور الجليلة يذكر الله بالتسبيح و التقديس و الاستغفار، و السر أن هذه الألفاظ صارت إعلاما للخضوع و الخشوع، لكثرة ما استعملت فيهما.

و منه الحديث: «كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستغفر الله من غير ذنب»

«4» و إن شئت قلت: إنه إنشاء مفهوم التوبة

______________________________

(1) الأعراف: 41.

(2) الزخرف: 82.

(3) الأنبياء: 23.

(4) راجع وسائل الشيعة: ج 7 ص 180.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 242

[سورة الأعراف (7): الآيات 144 الى 145]

قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)

بداعي التعظيم، كما أن أدوات الاستفهام في كلامه سبحانه هي لإنشاء مفهوم الاستفهام بداعي آخر، كالمفاضلة في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «1»، وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بك و بما يليق بك من الصفات.

[145] قالَ الله سبحانه: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ أي اخترتك عَلَى النَّاسِ و فضّلتك عليهم بِرِسالاتِي حيث ألقيت إليك أنواع الرسالة في الأصول و الفروع وَ بِكَلامِي حيث كلّمتك دون سائر خلقي.

و العطف إما للبيان، أو المراد

من الرسالة غير ما كلّم فيه، بل كانت بالإلهام، و من الكلام غير ما أرسل به، بل كان لسائر الأمور فَخُذْ يا موسى ما آتَيْتُكَ أي أعطيتك من التوراة و تمسك به وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمتي، و الشكر إما بالجنان بأن يعرف الإنسان قدر المنعم و فضله، و إما باللسان بأن يعترف بجميله، و إما بالأركان بأن يأتي الإنسان بما يستحق المنعم من التعظيم و الإجلال و الخضوع، قال تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً «2».

[146] وَ كَتَبْنا لَهُ أي لموسى عليه السّلام فِي الْأَلْواحِ جمع «لوح»، و هي القطعة من الخشب أو نحوها، و قد نزلت على موسى عليه السّلام ألواح

______________________________

(1) الزمر: 10.

(2) سبأ: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 243

[سورة الأعراف (7): آية 146]

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (146)

مكتوب فيها التوراة مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مما يحتاج إليه الناس في أمور دينهم و دنياهم مَوْعِظَةً هذا تفسير لقوله «كل شي ء»، و هي عبارة عن التحذير عن القبيح، و التبصير بمواقع الخوف وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ أي بيانا و توضيحا لكل أمر كانوا محتاجين إليه. و من المعلوم أن المراد بيان الخطوط العامة للحياة الدينية، لا كل جزئي جزئي، و هذا هو المراد من قوله: لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ «1»، لو أريد بالكتاب القرآن، و هو المراد من

قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من شي ء يقربكم إلى الجنة، إلّا

و قد أمرتكم به، و ما من شي ء يباعدكم عن النار إلّا و قد نهيتكم عنه»

«2»، فَخُذْها أي الألواح بِقُوَّةٍ أي بجدّ و اجتهاد، و المراد بأخذها: العمل بما فيها، كما قال سبحانه: يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ «3»، وَ أْمُرْ قَوْمَكَ أي بني إسرائيل يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها و هذا تحريض بالأخذ بالفضائل، فإن الشريعة لها عرض كبير للأمور يبتدئ من الواجبات و ينتهي إلى أكمل الفضائل و هذا من باب شدة الجذب بقصد الاعتدال، كما يشد الحمل من جانب كثيرا ليعتدل سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي جهنم، فاحذروا أن تخالفوا و تفسقوا حتى تكونوا منهم.

[147] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ أي أصرفهم عن الإيمان بها، أو أصرفهم عن

______________________________

(1) الأنعام: 60.

(2) راجع مستدرك وسائل الشيعة: ج 13 ص 30.

(3) مريم: 13.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 244

النيل منها الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ فعلى المعنى الأول: أن ذلك لكونهم تكبروا، فلم يلطف بهم الله سبحانه لطفه الخفي بل صرفهم عن الإيمان و خلّى بينهم و بين إضلال الشيطان، كما يصرف الإنسان ولده العاصي عن لطفه فلا يعتني بشأنه. و على المعنى الثاني: يكون المعنى حفظ الآيات عن الزيادة و النقصان كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1»، و الأول أقرب، و قوله: بِغَيْرِ الْحَقِ ليس قيدا احترازيا، بل لبيان أن التكبر لا يكون إلا بغير الحق، نحو: يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ «2».

ثم وصف سبحانه أولئك بقوله: وَ إِنْ يَرَوْا أي يرى المتكبرين كُلَّ آيَةٍ و معجزة دالة على صدق الأنبياء و سائر الأمور الحقة لا يُؤْمِنُوا بِها حيث قد لجّوا في الفساد و استحوذ عليهم الشيطان وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي

طريق الهدى و الحق، الموجب للرشد و النمو العقلي و المادي، فإن الرشد بمعنى النمو لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا فلا يسلكوه وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ أي طريق الغواية و الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لأنفسهم فيسلكوه ذلِكَ أي سبب صرفهم عن الآيات- على المعنى الأول- أو سبب اجتنابهم طريق الرشد و اتخاذهم طريق الغي

______________________________

(1) الحجر: 10.

(2) البقرة: 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 245

[سورة الأعراف (7): الآيات 147 الى 148]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148)

بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بحججنا و معجزات رسلنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ لا يتفكرون فيها و لا يتعظون بها، و المراد تشبيههم بالغافل الذي يغفل عن صلاحه فلا يعمل بمقتضاه.

[148] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي المعجزات و الحجج وَ كذبوا ب لِقاءِ الْآخِرَةِ بأن أنكروا القيامة و البعث و النشور حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي عملوها، فإن كل إنسان يعمل بعض الأعمال الخيرة، فإذا كان مؤمنا يثاب عليها، و إن كان كافرا لم يثب عليها، و هذا لا ينافي خفة العذاب، كما ورد في حاتم و أنو شروان و غيرهما هَلْ يُجْزَوْنَ أي لا يجزى هؤلاء المتكبرون، فإن الاستفهام للإنكار إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ فليس حبط أعمالهم ظلما لهم.

[149] ثم يبيّن سبحانه طرفا آخر من قصة بني إسرائيل، و هي قصة عبادتهم للعجل حين كان موسى عليه السّلام في الطور وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خروج موسى عليه السّلام إلى ميقات ربه مِنْ

حُلِيِّهِمْ الذهبية التي كانت لهم، من سوار و خلخال و قلادة و غيرها عِجْلًا أي صبّوا الحلي في صورة العجل و هو ولد البقر جَسَداً أي لا روح فيه، فكان تمثال العجل و صورته، لا واقعه و حقيقته، و لعل هذا القيد لئلّا يتوهّم أن القوم ألبسوا الحلي عجلا حقيقيا، فإن موسى عليه السّلام لما أبطأ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 246

أشاع رجل من بني إسرائيل و اسمه «السامري» أن موسى قد مات ثم جمع حلي القوم و صاغها عجلا، و قال لبني إسرائيل: إن هذا إلهكم، و قد كان العجل من آلهة مصر، و كانوا يألفون عبادته، و لذا قبلوه، و قد طلبوا سابقا من موسى عليه السّلام أن يجعل لهم إلها.

و في بعض التفاسير: إن القوم الذين رآهم بنو إسرائيل على البحر كانوا يعبدون العجل، حين قالوا لموسى: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «1»، و كان العجل الذي صنعه السامري لَهُ خُوارٌ أي صوت كصوت العجل. و قد اختلف في ذلك، ففي بعض التفاسير أن السامري صنعه بحيث إذا هبّت عليه الريح دخلت في جوفه فأحدثت صوتا. و في تفسير آخر: إن «السامري» رأى جبريل عليه السّلام راكبا فرسا حين عبروا البحر، فأخذ من تحت حافر فرسه التراب، فأدخله جوف العجل، و كان منه الخوار، أو أن الخوار كان منه سبحانه حيث خلقه فيه للابتلاء.

و لا يستشكل: أنه كيف يخلق ذلك، و هو موجب لافتتان الناس؟

فإن الجواب واضح: إذ المحل لم يكن محل اشتباه فقد علموا جميعا أن الله سبحانه لا يرى و ليس بجسم، فكان ضلالهم بسوء اختيارهم.

أَ لَمْ يَرَوْا أولئك الذين عبدوا العجل أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ فمن هو عاجز عن

أقل شي ء و هو الكلام كيف يكون إلها؟ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أي لا يرشدهم إلى خير ليأتوه و لا إلى شر ليجتنبوه

______________________________

(1) الأعراف: 139.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 247

[سورة الأعراف (7): الآيات 149 الى 150]

وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)

اتَّخَذُوهُ أي اتخذوا العجل إلها، فإن كثيرا منهم أطاعوا السامري في عبادة العجل، و لم يطيعوا هارون فيما وعظهم و أنذرهم وَ كانُوا ظالِمِينَ لأنفسهم بهذه العبادة حيث حرموها من خير الدنيا و سعادة الآخرة.

[150] وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ أي سقط البلاء في يدهم، و هذا من باب التمثيل و التشبيه، فإن الإنسان إذا عمل عملا فندم، يقال: «سقط في يده» كأن الشي ء الذي اكتسبه لم يرج، و لم يذهب كما هو عادة المتاع الجيد، بل سقط في يده و بقي عنده، و كأن الأصل فيه أن المتاع يسقط من محله إلى مستقره، و هو الذي يصرفه لأجل حوائجه، فإذا بقي عند الواسطة- و هو التاجر- كان ساقطا في يده، دون يد المستهلك وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا فإنهم بعد ما عبدوا العجل ندموا فيما أفرطوا، كما هو شأن غالب الحركات الاعتباطية فإن الناس يأتون بها من فورهم ثم يندمون حينما يتفكرون قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بقبول توبتنا وَ

يَغْفِرْ لَنا ما فعلناه من عبادة العجل لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم باستحقاق العقاب، و فوت الثواب.

[151] وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى من الميقات إِلى قَوْمِهِ و عرف الأمر صار غَضْبانَ أَسِفاً أي حزينا على ما صدر منهم من عبادة العجل، أو المراد رجع غضبان آسفا، لما أعلمه الله سبحانه من عبادتهم العجل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 248

قالَ لهم: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي عملتم خلفي مِنْ بَعْدِي أي بعد ذهابي إلى الميقات، فإن عملكم بعدي كان عملا سيئا أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي استعجلتم قضاء الله و عقابه، فكأن العاصي لا بد و أن يلاقي العقاب، فإذا فعل فعلا شنيعا استعجل العقاب وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ المكتوب فيها التوراة من يده تضجرا من عملهم وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ هارون يَجُرُّهُ إِلَيْهِ إما لينحّيه ناحية فيناجيه في أمر القوم، و إما إظهارا للغضب، و لم يكن ذلك إلا استنكارا عمليا لعمل القوم، كما يصيح الوالد على ولده البري ء، فيما إذا عمل بعض أهل البيت عملا مخالفا، يريد بذلك إظهار غضبه على عملهم.

قالَ هارون: يا ابْنَ أُمَ هذه الكلمة للاستعطاف لأن ذكر الأم يشع في النفس حنانا ولينا، و قد قصد هارون بهذا التعبير التسكين من غضب موسى عليه السّلام إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي أي اتخذوني ضعيفا، فلم يعملوا بكلامي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي أي همّوا بقتلي حين شددت عليهم في استنكاري عليهم عبادة العجل فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ فإن فعلك هذا يوهم أنك غاضب عليّ فيفرح الأعداء حيث يظنون أنهم ألقوا الخلاف بين الأخوين و جعلوني مغضوبا عليه في نظرك. و معنى الشماتة: إظهار الفرح بوقوع عدوهم في المحذور وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 2، ص: 249

[سورة الأعراف (7): الآيات 151 الى 152]

قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)

الذين عبدوا العجل، فلا تشملني معهم في الغضب علينا جميعا، فإن ذلك من عملهم.

إن هذا النحو من إظهار الغضب على الحبيب البري ء، لتنبيه العدو الآثم، من أساليب البلاغة العملية حيث أن الحبيب لا يحمل موجدة على حبيبه بسبب هذا العمل، بخلاف ما لو عمل بالآثم فإنه يجعله أبعد من الصواب، إذ يسبب مثل ذلك في نفسه بغضا و عداوة زائدة، و مثل خطاب البري ء، ما يفعله الإنسان بنفسه عند إرادة إظهار الغضب من ضرب نفسه، أو نتف شعره، أو شق جيبه، أو ما أشبه ذلك.

[152] قالَ موسى عليه السّلام بعد ذلك: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي قال على وجه الانقطاع إلى الله سبحانه، لا لأنه صدر منهما عصيان أو ذنب، و قد تقدم أن هذه الكلمة تقال عند إظهار الخضوع و الخشوع، و إن كان الأصل فيها طلب غفران الذنب وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ أي لطفك أو جنتك وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإن رحمتك أكبر من رحمة كل راحم، و هذا يذكر في آخر الدعاء استعطافا، كما يقال: «أنت أجود الأجودين» لاستدعاء الجود، لأنه اعتراف بالأفضلية.

[153] ثم قال موسى عليه السّلام، أو استئناف من الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها معبودا سَيَنالُهُمْ أي يلحقهم غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ في الآخرة، و هو موجب للنار وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 250

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 299

[سورة

الأعراف (7): الآيات 153 الى 154]

وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

يصبحون أذلاء، يكثر فيهم القتل و الطرد، و يذكرون بسوء أبدا. و قد مر تفسير قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ «1»، وَ كما جازينا اليهود بهذا الصنيع كَذلِكَ نَجْزِي سائر الْمُفْتَرِينَ الذين يفترون على الله سبحانه باتخاذ الأصنام شريكا له، فإنه افتراء على الحقيقة و الواقع.

[154] وَ لكن المعصية لا تسبب يأس صاحبها، فإن من تاب، تاب الله عليه ف الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ أي الشرك و المعاصي ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها أي بعد السيئات وَ آمَنُوا إيمانا صادقا إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله مِنْ بَعْدِها أي بعد السيئات، أو بعد التوبة، و لعل التكرار لإفادة عدم قبول التوبة مع الإصرار على المعصية، كما أنه لا توبة مع الإصرار لَغَفُورٌ يغفر الذنب رَحِيمٌ يرحم التائب بفضله و لطفه.

[155] وَ لَمَّا سَكَتَ أي: سكن، و فيه من البلاغة ما لا يخفى عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ بأن زالت فورته، فإن فورة الغضب تكون أول ملاقاة المكروه أَخَذَ الْأَلْواحَ التي كان عليه السّلام رماها إظهارا لضجره، مما فيها التوراة وَ فِي نُسْخَتِها أي ما نسخ و رقم فيها هُدىً يهدي إلى الحق وَ رَحْمَةٌ موجب ترحّم و تنعّم لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي

______________________________

(1) البقرة: 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 251

[سورة الأعراف (7): آية 155]

وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا

إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)

يخشونه و لا يعصونه.

[156] ثم بيّن سبحانه قصة سبق الإشارة إليها، و هي قصة طلب القوم أن يروا الله جهرة و قد كررت أولا لأجل ذكرها في قصة موسى، و ثانيا لأجل بيان أنها كانت من قومه، و قيل: إنها قصة ثانية، ذهبوا معه عليه السّلام للاعتذار من عبادة العجل، فإنهم طلبوا من موسى أن يصحبهم ليسمعوا كلام الله سبحانه وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا ليسمعوا كلام الله سبحانه بأسماعهم، فيزدادون إيمانا، و لما سمعوا كلام الله سبحانه، لم يقنعوا و طلبوا من موسى عليه السّلام أن يروا الله جهرة، رؤية الأبصار، لا رؤية العلم بالقلب فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الصاعقة التي رجفت بسببها أبدانهم و قلوبهم و هلكوا جميعا لسؤالهم الشنيع و عنادهم في الأمر بعد ما نصحهم موسى عليه السّلام، إن ذلك غير ممكن كما تقدمت الإشارة إليه. و هنا خاف موسى عليه السّلام أن يتهمه بنو إسرائيل أنه هو الذي قتلهم، لمّا لم يتمكن من إسماعهم كلام الله سبحانه، فيرتدوا عن الدين، و لذا قالَ موسى عليه السّلام لله: يا رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ هذا الموقف حين كانوا في بلادهم، لكن الآن ماذا أقول لبني إسرائيل إذا قالوا إنك قتلتهم؟ وَ إِيَّايَ و هذا للتخضّع و الاستكانة، و تسليم الأمر إليه سبحانه، فإنه تعالى لو شاء أهلك الجميع و أماتهم، فكلنا تحت إرادتك و في قبضتك.

أَ تُهْلِكُنا يا رب بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا و قد جاء الرجاء بصيغة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 252

الاستفهام،

كما أنك إذا رجوت الأمير في سماع كلامك تقول: «هل يسمع الأمير كلامي»، أي أن الإهلاك بسبب ما طلبه السفهاء من الرؤية، خلاف رجائنا فيك، و إن كان بالاستحقاق، حيث أن مثل هذا الطلب من السفهاء و سكوت العقلاء عنهم- بعدم إنكار المنكر- موجب لاستحقاق العقوبة، و إضافة الهلاك إلى ضمير المتكلم مع الغير «نا» باعتبار كون موسى عليه السّلام و من معه كتلة واحدة، فهلاك بعضهم هلاك للجميع- مجازا-.

ثم بيّن عليه السّلام أن ذلك الهلاك لم يكن اعتباطا، حتى لا يظن الظان أن موسى عليه السّلام في مقام الاعتراض إِنْ هِيَ ما هذه الرجفة التي أصابتهم إِلَّا فِتْنَتُكَ و اختبارك، إنك يا رب صنعت ذلك لأجل الامتحان، و الإهلاك امتحان للناس ليعتبروا، و لنفس الهالكين بعد حياتهم تُضِلُّ بِها أي بالفتنة مَنْ تَشاءُ ممن لم تنفعه الهداية، حيث تتركه و شأنه ليضل. و قد سبق أن الفعل ينسب إلى الله تعالى، لأن الأسباب و الآلات منه تعالى، كما يقال: «أفسد فلان ولده» إذا أعطاه المال و لم يؤاخذه بعمله الفاسد وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ لم يذكر هنا «بها» لأن الهداية تكون بدون الاختبار أيضا، فالهداية أعم من الابتدائية و مما تتعقب الاختبار أَنْتَ يا رب وَلِيُّنا مولانا و أولى بالتصرف فينا فلك ما تفعل و لا تسأل عن فعلك فَاغْفِرْ لَنا بستر ذنوب من أذنب منّا وَ ارْحَمْنا بفضلك و رحمتك وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ فإن غفرانك بلا منة و ذلة. ثم إنه سبحانه أحيى السبعين الذين هلكوا، كما تقدم في سورة البقرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 253

[سورة الأعراف (7): آية 156]

وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا

إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)

[157] وَ اكْتُبْ لَنا يا رب فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً الشي ء الحسن، و هو جنس شامل لأنواع الحسنات من أمن و صحة و رفاه و فضيلة و غيرها وَ فِي الْآخِرَةِ حسنة، بالجنة و الرضوان إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ من «هاد» بمعنى «رجع» أي رجعنا بتوبتنا إليك، فكأن العاصي يبتعد عنه سبحانه، ثم إذا تاب يرجع إليه، تشبيها للبعد و القرب عن الرحمة، بالقرب و البعد الحسّيّين.

و موسى عليه السّلام و إن لم يكن داخلا في العصيان لكن العادة جرت على أن يتكلم الرؤساء عن جماعتهم قالَ الله سبحانه في جواب موسى و طلبه التوبة: عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ممن استحق ذلك بالكفر و المعصية، فالمشيئة ليست باعتبار الزيادة عمّن استحق، بل باعتبار النقصان، فإنه تعالى لا يعذب بعض المستحقين، لا أنه يعذب المستحقين وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فإن الخلق و الرزق و غيرهما كلها رحمة منه سبحانه،

و في الدعاء: «يا من سبقت رحمته غضبه»

«1»، باعتبار أن الغضب لا يكون إلا بعد الخلق و الرزق و العصيان، فالرحمة سابقة.

و في هذا الجو الرقيق، الذي ترقّقت فيه قلوب بني إسرائيل يشير سبحانه إلى النبي الأمي، ليتركّز في قلوبهم، فإن الأمور تتركز في

______________________________

(1) مصباح الكفعمي: ص 667.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 254

[سورة الأعراف (7): آية 157]

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

القلوب أكثر إذا رقّت فَسَأَكْتُبُها أي اكتب رحمتي. و هذا على سبيل الاستخدام، فإن المراد بالرحمة أولا جميع أقسام الرحمة، و المراد بها من الضمير ثانيا: الرحمة الخاصة الزائدة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطونها وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا أي بحججنا و دلالاتنا يُؤْمِنُونَ ثم بيّن أولئك بقوله:

[158] الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ أي أن الذين تكتب لهم الرحمة الكاملة هم التابعون لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْأُمِّيَ نسبة إلى أم القرى «مكة» و بمعنى الذي لم يتعلم عند معلم- و إن كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم كل شي ء بوحي الله و إرادته- و العرب تسمي من لم يتعلم ب «الأمي»، نسبة إلى الأم، كأنه بقي مثل ما ولدته أمه الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ فإن الكتابين بشّرا به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبرا بنعته، و إنما حرّفهما- بعد ذلك- اليهود و النصارى.

و للشيخ محمد صادق فخر الإسلام، في كتابه «أنيس الأعلام» قصة طويلة حول هذا الموضوع، و لم يكن هذا بدعا، فقد كان كل نبي سابق يبشر بالنبي اللاحق، كما أن كل نبي لا حق يصدّق النبي السابق، و نحن اليوم نرى صفة الإمام المهدي عليه السّلام في كتبنا، حيث وعدنا بظهوره «عجل الله فرجه».

ثم بيّن سبحانه سائر صفاته التي تجعل من دينه دين الفضيلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 255

و الحرية الصحيحة و السعادة يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فما يأمرهم به يكون معروفا يقبله عرف العقلاء و يرتضيه وَ يَنْهاهُمْ عَنِ

الْمُنْكَرِ فما ينهاهم عنه يكون منكرا عند عرف العقلاء، فأمره و نهيه حسب الموازين العرفية العقلية، لا اعتباطا و اشتهاء وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ المستلذات الحسنة، من مأكل و مشرب و منكح و مسكن و مركب و غيرها وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ القبائح التي تعافها النفوس المستقيمة، فتحليله و تحريمه ليسا اعتباطين، بل لشي ء في ذات الحلال و الحرام، بخلاف تحليل سائر الناس و تحريمهم، فإنهم قد يحرمون الطيب، كما حرمت الجاهلية السائبة و ما إليها، و قد يحللون الخبيث كما أن اليهودية و النصرانية و من إليهما يحللون الخمر و لحم الخنزير. ثم لا يخفى أن الأمر و النهي أعم من التحليل و التحريم، لكن حيث تقابلا، كان لكل منهما مصداق غير مصداق الآخر.

وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ أي ثقلهم، فإن الإصر هو الحمل الثقيل و معنى «وضعه» أن مناهجه سهلة سمحة لا ثقل فيها و لا صعوبة وَ يضع عنهم الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ أغلال جمع «غلّ»، و هو ما يقيد يد الإنسان أو رجله أو غيرهما، فإن من خواص الإسلام أنه يطلق الحريات المعقولة، فالسفر و الإقامة و التجارة و الزراعة و الصناعة و البيع و الشراء و الكلام و الكتابة و التجمع و غيرها، كلها مباحة لا قيود عليها إلا بعض الشرائط الطفيفة التي هي في صالح المجتمع و الفرد، و لا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 256

[سورة الأعراف (7): آية 158]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

يعلم مدى ذلك إلا

بالمقايسة إلى الأنظمة و المناهج الدنيوية التي كلها كبت و استعباد و استغلال فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ أي بالرسول محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ عَزَّرُوهُ أي عظّموه و وقروه وَ نَصَرُوهُ على أعدائه وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي القرآن، فإنه نور يهتدى به في مسالك الحياة المظلمة، كما أن الضياء يهتدى به في مسالك الليل المظلم، أو المراد: علي و الأئمة عليهم السّلام كما في بعض الأحاديث، أو الجميع، لأنه لفظ عام، و كل واحد من هذه الأمور مصداق، و «الإنزال» بالنسبة إلى الأئمة ليس فيه محذور، لما سبق، أن التعبير بالإنزال في مثل هذه الموارد من جهة الله سبحانه الواهب لهذه الأشياء كما قال: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «1»، و كما قيل في قوله سبحانه: اهْبِطُوا «2»، أُولئِكَ الذين آمنوا بهذا النبي هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدنيا و الآخرة.

[159] و قبل أن يرجع السياق إلى تتميم قصة موسى عليه السّلام، تتميما لما سبق من وصف النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيخاطبه سبحانه بقوله: قُلْ يا رسول الله للناس: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً أرسلني إليكم لأدعوكم إلى الله الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك لهما

______________________________

(1) الحديد: 26.

(2) البقرة: 37.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 257

[سورة الأعراف (7): آية 159]

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159)

المتصرف فيهما لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فلا شريك له يُحيِي وَ يُمِيتُ فالجماد يجعله حيا نباتا أو إنسانا أو حيوانا، و الأحياء يميتهم، و لعل ذكر هذه الصفات لرد النصارى و اليهود الذين جعلوا لله شريكا و ولدا، و لرد المشركين الذين كانوا ينسبون

الإحياء و الإماتة إلى الأصنام فَآمِنُوا أيها الناس بِاللَّهِ إيمانا صحيحا وَ رَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النَّبِيِّ الْأُمِّيِ و كأنه أتي بهذا الوصف للتناسب مع ما في الكتابين السابقين الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ فإنه آمن أولا ثم أمركم بالإيمان، لا مثل كثير من الرؤساء الذين هم أنفسهم لا يطبقون المبادئ التي يدعون إليها.

و لعل المراد بالكلمات: الكتب السابقة و القرآن الكريم وَ اتَّبِعُوهُ فيما يأمركم و ينهاكم لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي لتكونوا مهديين، فإن الفعل قد ينسلخ من معناه الزمني ليدل على أصل المعنى المادي، أو المراد تهتدون إلى الجنة و الرضوان، حتى يصح تعقّب الاهتداء لما تقدم.

[160] و حيث فرغ السياق عن الفذلكة المرتبطة بذكر النبي محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجع إلى قصة موسى عليه السّلام و قومه، و لمّا أن وصف سبحانه قوم موسى عليه السّلام بالكفر و عبادة العجل و غير ذلك، ذكر أن منهم من بقوا على الإيمان و الطاعة وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ أي جماعة يَهْدُونَ بِالْحَقِ أي يدعون إلى الحق و يرشدون إليه وَ بِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ أي يحكمون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 258

[سورة الأعراف (7): آية 160]

وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)

بالحق و يعدلون في حكمهم. و هذا واضح، فإن كل أمة انحرفت لا بد و أن يبقى فيها أناس

معتدلون، و كذلك كان قوم موسى عليه السّلام في زمانه و بعده إلى زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فكانوا إذا رأوا عيسى نبيا آمنوا به، و إذا رأوا الرسول مبعوثا صدقوه و اتبعوه، لكن الكثرة الساحقة منهم لمّا كانت منحرفة، كانت «عمومات الخطاب القرآني» تنصب عليهم، فإن البلغاء غالبا يتكلمون حول الأمور بمراعاة الغالب، فيقال: «أهل مدينة كذا حسان الوجوه، أو قباح، أو كرماء، أو بخلاء أو جبناء، أو ما أشبه» و هم يريدون الكثرة الغالبة، لا الجميع.

[161] وَ قَطَّعْناهُمُ أي فرّقنا بني إسرائيل تفريقا قبيليا اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً كل فرقة منهم قبيلة تنتهي إلى سبط من أسباط يعقوب عليه السّلام فقد كان له اثني عشر ولدا، كل ولد ولّد قبيلة أُمَماً بيان لاثنتي عشرة أسباطا، فكل جماعة منهم أمة. و هذا من نعم الله سبحانه على بني إسرائيل لأن القبائل المتعددة تمشي أمورها بيسر بخلاف ما لو كان الجميع قبيلة واحدة، فإن الرؤساء إذا تعددوا تنافسوا في المكارم، و سهل مراجعة المرؤوسين إليهم، كما قال سبحانه: وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا «1».

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أي طلبوا منه السقيا، و أن يسقيهم ماء، و ذلك حينما كانوا في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ و هو حجر كان معه فإذا أرادوا الماء وضعوه، و ضربه موسى

______________________________

(1) الحجرات: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 259

[سورة الأعراف (7): آية 161]

وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)

بعصاه التي كانت تنقلب ثعبانا متى ما أراد فَانْبَجَسَتْ أي انفجرت. و لعل الفرق بينهما

أن الانبجاس خروج الماء بقلّة، و الانفجار خروجه بكثرة. و في بعض التفاسير: إن الماء كان يخرج من الحجر أولا بقلّة ثم بكثرة.

مِنْهُ أي من الحجر اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً لكل سبط عين، حتى لا يزاحم بعضهم بعضا في الشرب قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ من الأسباط مَشْرَبَهُمْ أي محل شربهم و أخذ الماء منه وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ حيث كان يؤذيهم حرّ الشمس فتأتي سحابة تظللهم ليستريحوا تحت ظلها وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَ هو شي ء حلو كالسكر وَ السَّلْوى هو الطير السماني- كما تقدم ذلك في سورة البقرة- كُلُوا يا بني إسرائيل مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ و اتركوا خبائثه وَ ما ظَلَمُونا إذ كفروا و عصوا، فإن الله لا يضره كفر الكافر و عصيان العاصي وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث حرموها من خير الدنيا و سعادة الآخرة.

[162] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قِيلَ لَهُمُ أي لبني إسرائيل، و القائل هو الله سبحانه على لسان نبيه موسى عليه السّلام: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس أو أريحا وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ من أنواع المآكل و مختلف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 260

[سورة الأعراف (7): الآيات 162 الى 163]

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163)

المزارع و المواضع وَ قُولُوا حِطَّةٌ إذ نطلب من الله سبحانه حطّ ذنوبنا وَ ادْخُلُوا الْبابَ أي باب القرية سُجَّداً جمع «ساجد»، أي: في حال السجود، بمعنى أنه إذا وصلتم

إلى الباب اسجدوا و ادخلوا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ متعلق بقوله: «قولوا حطة» أي إن قلتم و سجدتم نغفر لكم و سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ على غفران الخطايا بالتفضّل و التكرّم. و بين سياق هذه الآية، و ما تقدم في سورة البقرة خلاف جزئي، و ذلك من فنون البلاغة، و أوجه الإعجاز.

[163] فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ أي غيّر العاصون الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فبدلا من أن يقولوا:

«حطة» قالوا: «حنطة حمراء خير لنا» فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً أي عذابا مِنَ السَّماءِ من جهة العلو بِما كانُوا يَظْلِمُونَ أي بسبب ظلمهم.

[164] وَ سْئَلْهُمْ أي اسأل يا رسول الله اليهود، لأجل تذكيرهم بما كانوا يفعلون من المعصية فابتلوا بعذاب الله، حتى لا يتكرّر منهم ذلك عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ أي مجاورة للبحر و قريبة منه، من «حضر» ضد «غاب». و قد ذكر بعض المفسرين أنها كانت «إيلة».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 261

إِذْ يَعْدُونَ من التعدّي أي يتجاوزون حدود الله فِي أمر يوم السَّبْتِ فقد حرّم عليهم صيد الأسماك في هذا اليوم- اختبارا- و حلّل عليهم في سائر الأيام، و قد كانوا يتوصلون إلى حيلة ليحلوا بها ما حرم الله، فحفروا أخاديد تؤدي إلى حياض يتهيأ للحيتان الدخول فيها من تلك الأخاديد و لا يتهيأ لها الخروج، فإذا كان يوم السبت جاءت الحيتان جارية على أمان لها فدخلت الأخاديد و أصبحت في الحياض و الغدران، فلما كانت عشية اليوم همّت بالرجوع منها إلى اللجج لتأمن من صائدها، فلم تقدر فبقيت ليلها في مكان يتهيأ أخذها بلا اصطياد، و كانوا يأخذونها يوم الأحد و يقولون ما اصطدنا في السبت إنما اصطدنا في الأحد، و لكن

كانوا كاذبين في ذلك، فإنهم قد أخذوها يوم السبت و إنما القبض كان يوم الأحد إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ جمع «حوت»، و العرب تسمي السمك حوتا و نونا يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً أي ظاهرة على وجه الماء، من «الشرّع» بمعنى الظهور، جمع «شارع»، ك «كتّب جمع كاتب»، و إنما كانت تأتي في هذا اليوم لما علمت من كونها آمنة لا تؤخذ، و لما كان من عادة الحيوان أن يألف محل الأمان وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي لا يكون السبت، و التعبير بذلك، لأنهم كانوا يعتدون في السبت لا تَأْتِيهِمْ لما عرفت من عدم أمنها، و لعل الأمر كان خارقا للامتحان، أو لعلة أخرى لا نعرفها كَذلِكَ أي بمثل ذلك الاختبار الشديد نَبْلُوهُمْ أي نختبرهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 262

[سورة الأعراف (7): الآيات 164 الى 165]

وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165)

بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم و عصيانهم، فإنه إنما حرّم عليهم الاصطياد في السبت، أو إنما كان تظهر يوم السبت دون غيره، بسبب فسقهم ليشتد الامتحان عليهم.

[165] و قد انقسم بنو إسرائيل أمام هذا العمل إلى ثلاثة فرق أحدها:

الصائدة، الثانية: الساكتة، الثالثة: الناهية عن ذلك وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ أي جماعة مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل، و هي الساكتة، قالوا للفرقة الثالثة الناهية عن المنكر: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أي أية فائدة في وعظكم، فإن هؤلاء لا يرتدعون حتى يعذبهم الله أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً دون الهلاك قالُوا

أي قال الواعظون في جواب المعترضين:

مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي أن موعظتنا لأجل أن يكون لنا عذر عند الله سبحانه، فنقول له يوم القيامة: «يا رب إنا نهيناهم فلم ينتهوا»، حتى لا يقول لنا سبحانه: لماذا لم تنهوا عن المنكر؟ وَ لَعَلَّهُمْ بالوعظ يَتَّقُونَ و يرجعون عن غيّهم و عملهم المحرم، فإن الإنسان لا يدري من يبقى إلى الأخير في عصيانه و من يرجع عن طغيانه.

[166] فَلَمَّا نَسُوا أي نسي العاصون ما ذُكِّرُوا بِهِ ما ذكّرهم به الواعظون، بأن فعلوا فعل الناسي، فلم يبالوا بالنهي، بل استمروا على عادتهم في الاصطياد يوم السبت بتلك الحيلة أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 263

[سورة الأعراف (7): الآيات 166 الى 167]

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

و هم الواعظون وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا و هم الصائدون و الساكتون، فإن السكوت عن المنكر ظلم يرجع إلى الإنسان و باله بِعَذابٍ بَئِيسٍ هو «فعيل» من «بئس»، بمعنى الشديد البأس، أي: بعذاب شديد بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بسبب فسقهم.

[167] فَلَمَّا رأينا أنه لم يفدهم الوعظ و لا العذاب الشديد الذي عذبناهم به- لعلهم يرجعون عن غيهم- و عَتَوْا أي تكبّروا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ أي عن قبول الوعظ قُلْنا و المراد بالقول هنا التكوين: لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي مسخناهم قرودا، و معنى «خسأ» ابتعد عن الخير.

ورد أن الواعظين خرجوا من المدينة مخافة أن يصيبهم البلاء، فنزلوا قريبا منها، فلما أصبحوا غدوا لينظروا ما حال أهل المعصية، فأتوا باب المدينة فإذا

هو مصمت، فدقوه فلم يجابوا و لم يسمعوا منها حس لأحد، فوضعوا سلما على سور المدينة ثم أصعدوا رجلا منهم فأشرف على المدينة فنظر فإذا هو بالقوم قردة يتعاوون، لها أذناب، فكسروا الباب و دخلوا المدينة، قال الراوي: فعرفت القردة أنسابها من الإنس، و لم يعرف الإنس أنسابهم من القردة فقال القوم للقردة: ألم ننهكم؟

[168] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي أعلم ربك، فإن «تأذن و أذن» بمعنى واحد لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ أي يرسلن على اليهود إِلى يَوْمِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 264

[سورة الأعراف (7): آية 168]

وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)

الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ أي من يذيقهم العذاب الشديد. و قد دل التاريخ على أن اليهود كانوا أذلاء مضطهدين، و ما تاريخ «هتلر» منّا ببعيد، و ما يرى أحيانا من دولتهم فهي مليئة بالقلق و الرعب حتى تأتيهم القاضية.

ثم أن إرساله سبحانه العذاب إنما هو بسبب عمل كل جيل جيل، لا لأعمال آبائهم إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله لَسَرِيعُ الْعِقابِ فإن العقاب اللاحق سريع و إن أمهل الله الظالم أياما.

روي أنه سئل الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام عن القريب و الأقرب؟

فقال: «كل آت قريب و الموت أقرب»

و لعله يريد عليه السّلام أن «الآتي» يحتمل فوته، بخلاف الموت.

وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فلا يأس للعاصي أنه إذا تاب و عمل صالحا غفر الله له ما أذنب و رحمه.

[169] وَ قَطَّعْناهُمْ أي فرّقنا اليهود في البلاد فرقا مختلفة فِي الْأَرْضِ أُمَماً في كلّ مكان و اتجاه، و ذلك إذلالا لهم، فإن الاجتماع و الوحدة يوجبان العزة و السعادة مِنْهُمُ

الصَّالِحُونَ هم الذين إذا رأوا الحق آمنوا به كعبد الله بن أبي و غيره وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي دون الصلاح يعني المفسدون وَ بَلَوْناهُمْ أي اختبرناهم بِالْحَسَناتِ تارة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 265

[سورة الأعراف (7): آية 169]

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (169)

وَ السَّيِّئاتِ أخرى، أي بالنعم و النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا، فإذا جاءتهم الحسنات شكروا، و إذا أتتهم السيئات استغفروا، فإن كلّا من النعمة و البلاء، رحمة من جهة التذكير و الإيقاظ.

[170] أولئك اليهود الذين كان منهم الصالحون و منهم دون ذلك، ذهبوا و ماتوا فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ قام مقامهم وَرِثُوا الْكِتابَ يعني التوراة، و «الميراث» هو ما صار للخلف من السلف، لكن هؤلاء غير صالحين- إن وجد فيهم صالح فهو نادر- يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي ما وجدوه من الدنيا أخذوه بلا مراعاة للشريعة، و سمي «عرضا» لأن الدنيا فانية فما فيها عارض زائل، و سمي «أدنى» لأنه أقرب إلى الإنسان من الآخرة وَ إذا قيل لهم بأن فيه الإثم يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا و نتوب بعد ذلك وَ هم لا يستغفرون و لا يتوبون، بل يصرّون على تعاطي الحرام بدليل أنهم إِنْ يَأْتِهِمْ بعد ذلك عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أيضا.

ثم ينكر الله عليهم ذلك بقوله: أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ و لم يقل «منهم»، لإفادة أن الأخذ كان بإكراههم مِيثاقُ الْكِتابِ أي العهد الموجود في كتاب التوراة أَنْ لا يَقُولُوا

عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ فلا يحرّموا حلاله و لا يحلّلوا حرامه، فكيف يأخذون الرشوة و سائر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 266

[سورة الأعراف (7): الآيات 170 الى 171]

وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

المحرمات و يقولون أنها محللة عليهم؟ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ أي قرءوا ما في الكتاب فهم عالمون بذلك، و لا مجال لهم أن يقولوا: ما كنا عالمين بالميثاق وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أي أن الثواب الذي وعده الله خير من عرض هذه الدنيا الفانية، و هي و إن كانت خيرا لمطلق الناس إلّا أن تخصيص «المتقين» بلحاظ انتفاعهم به فقط دونه غيرهم أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيها اليهود أن الأمر على ما أخبرنا به و الاستفهام للإنكار.

[171] وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ أي يتمسكون بِالْكِتابِ بأن عملوا بما فيه من الميثاق و الأحكام وَ أَقامُوا الصَّلاةَ و تخصيصها بالذكر لأنها تنهى عن الفحشاء إذا أتي بها على وجهها، فكأنها جعلت علما لسائر الأعمال إِنَّا إلى آخر الجملة، خبر «و الذين» لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ الذين يصلحون أنفسهم و يقومون بما يجب عليهم، فنثيبهم بما عملوا و أصلحوا.

[172] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ نَتَقْنَا «النتق» قلع الشي ء من الأصل الْجَبَلَ أي قلعناه، و جعلناه فَوْقَهُمْ أي فوق بني إسرائيل كَأَنَّهُ أي كأن الجبل ظُلَّةٌ أي غمامة، أو سقيفة ذات ظلّ. و قد كان الجبل كبيرا حتى أن في بعض التفاسير أنه كان فرسخا في فرسخ وَ ظَنُّوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 267

[سورة الأعراف

(7): آية 172]

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172)

بأن رجح في نفوسهم أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي واقع عليهم، و لعل الإتيان ب «الباء» لإفادة أن وقوعه عليهم يسبب وقوعهم أيضا، و حينما رفع الجبل فوقهم قيل لهم: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من الأحكام بِقُوَّةٍ أي بشدة و جهد و اجتهاد. و ذلك أن موسى عليه السّلام لما جاءهم بالتوراة لم يقبلوها فقطع جبرئيل عليه السّلام قطعة من جبل الطور و رفعها فوق رؤوسهم، مهددا أنهم إن لم يقبلوا ألقاها عليهم حتى يهلكوا عن آخرهم، و لما رأوا ذلك خافوا و قبلوا بكل كره و إجبار وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ أي من العهود و المواثيق لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أي لكي يحصل منكم التقوى، أو لكي تخافوا عقاب الله، فتتجنبوا المعاصي، فإن من بنى على العمل بالكتاب يشع في نفسه جوّ من الرهبة يبعثه على التقوى.

[173] و حين انتهت قصص موسى عليه السّلام مع قومه يبدأ السياق ليفتح قصصا جديدة حول التوحيد، و إذ انتهى من الكلام السابق حول أخذ الله الميثاق من بني إسرائيل، تأتي هنا قصة أخذ الله سبحانه الميثاق من البشر جميعا حول الوحدانية. و في الآية قولان:

الأول: ما

روي أنه أخرج الله من ظهر آدم عليه السّلام ذريته كالذّرّ يوم القيامة فخرجوا مثل الذر فعرّفهم نفسه و أراهم صنعه، و لو لا ذلك لم يعرف أحد ربه فثبتت المعرفة و نسوا الموقف.

الثاني: إن الآية جارية مجرى الكلام العرفي البلاغي على طريقة التمثيل.

و من المعلوم أن القول الأول لا مانع فيه إطلاقا، فإن الله

قادر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 268

على كل شي ء وَ اذكر يا رسول الله إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ أي أخرج من بني آدم مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل من «من بني آدم» أي أخرج من أصلاب الرجال ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم و ذراريهم وَ بعد ما أخرجهم و أكملهم أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أي جعلهم شهداء على أنفسهم، فإن من اعترف بشي ء كان شهيدا على نفسه، قائلا لهم: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ على نحو الاستفهام التقريري، و قد كان ذلك بلسان الأنبياء، كما في كثير من الآيات، مثل: وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ «1»، و المراد: القول لهم على لسان موسى عليه السّلام قالُوا بَلى أنت ربنا.

و هذا اعتراف بالفطرة، فإن الفطرة أذعنت بذلك، كما

قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه»

و من قبيل ذلك إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها «2»، و فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «3»، و إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «4»، و أشباه ذلك مما هو كثير في القرآن، و هو نوع من البلاغة، كقول الشاعر: «أيا جبلي نعمان بالله خليا»، و قوله: «أيا شجر الخابور ما لك مورقا» و قوله:

قال الحبيب و كيف لي بجوابكم و أنا رهين جنادل و تراب

______________________________

(1) الإسراء: 105.

(2) الأحزاب: 73.

(3) فصلت: 12.

(4) النحل: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 269

فإن الغالب أن يصوغ البليغ الكلام في قالب جذاب لبيان المراد.

شَهِدْنا فالغرض من الآية أن الفطرة تشهد على توحيد الله سبحانه

بما أودع فيها من درك الحقيقة و فهم الواقع. و إنما أودعنا في الفطرة هذه الشهادة ل أَنْ لا تَقُولُوا أيها البشر يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يعاتب المشرك على شركه، و الجاحد على جحوده: إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا الأمر و هو التوحيد غافِلِينَ فقد أودعنا فيكم ما يزيل غفلتكم.

لا يقال: فعل هذا يلزم صحة العقاب حتى بالنسبة إلى من لم تبلغه الدعوة؟

لأنه يقال: هو كذلك، إلّا أن الله سبحانه بلطفه لا يعذب حتى يتمّ الحجة الظاهرة، كما قال سبحانه: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1»، و هذا التفسير للآية الكريمة إنما هو القول الثاني الذي يأخذ بالظاهر مع غض النظر عن أخبار «عالم الذر» و الذي أظن أنه لا مانع من الجمع بين الأمرين و دلالة الآية عليهما، فإنه لم يدل دليل على امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، بل الذي يظهر في بعض الروايات أن بعض الآيات القرآنية تدل على أكثر من معنيين سواء كان المعنيان من باب المصداق أو لا، كما أن في الآيات السابقة «إنّا عرضنا ..» يمكن الأمران، و كان الظاهر اللفظي البلاغي يؤكد كون الألفاظ مسوقة للمعنى العرفي، لا الخارجي- و الله أعلم-.

______________________________

(1) الإسراء: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 270

[سورة الأعراف (7): الآيات 173 الى 174]

أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

[174] أَوْ تَقُولُوا أي: لئلّا تقولوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ شركنا وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فلم نكن نعرف الحق من الباطل، فقلدنا آباءنا باعتقاد أنهم أعقل منا و أدرى، فلا بد و أن يكون شركهم

على علم و دراية فلا تقصير لنا أَ فَتُهْلِكُنا يا رب بِما لا جرم لنا فيه، فإنا قد اتّبعنا ما فَعَلَ آباؤنا الْمُبْطِلُونَ أي الذين هم على الباطل؟ فإنا قد جعلنا فيكم هذه الفطرة لتكون حاكمة و شاهدة على بطلان فعل الآباء، فلا يكون للمشرك عذر يوم القيامة بأنه لم يدر.

و هنا سؤال: إن الفطرة سواء جعلت في الإنسان أم لم تجعل، لم يصح احتجاج المشرك، إذ لو لا الأنبياء لم يعذب المشرك، و مع وجود الأنبياء يكون احتجاج الله على المشرك بأنه لم لم يؤمن بالنبي، لا لم لم يسمع نداء فطرته؟ فكيف يعلّل العقاب بجعل الفطرة؟

و الجواب: إنه تعليل بجزء العلة، فإنه لو لا الفطرة لم يكن الإنسان عارفا بصحة كلام الأنبياء، إذ ما لم يدل الباطل على شي ء لا يؤخذ الإنسان بما قام عليه الدليل، و لذا

ورد أن لله حجتين: ظاهرة هي الأنبياء، و باطنة هي العقول.

و عليه فالتعليل إنما هو بجزء العلة، كما يقول القائل: «هيأت لك دارا لتسعد»، مع العلم أن الدار بعض من علة السعادة لا كلها.

[175] وَ كما بيّنا لكم هذه الآية الدالة على التوحيد كَذلِكَ نُفَصِّلُ سائر الْآياتِ و البراهين و نوضحها جلية، ليعرفها كل أحد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 271

[سورة الأعراف (7): آية 175]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175)

وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي لكي يرجعوا عن غيّهم إلى الحق و الرشاد.

و الظاهر أن «الواو» في «و لعلهم» عطف على المعنى المستفاد من «نفصّل» أي «ليعرفونها» و «لكي يرجعوا».

[176] إنا جعلنا هذه الفطرة في الإنسان ليكون انحراف المشرك بلا عذر، و يكون انحراف من انحرف بلا مبرر، و

قد وقع مثل هذا الانحراف في بعض الأفراد و هو «بلعم بن باعورا» فقد أعطي «الاسم الأعظم» الذي يستجاب به الدعاء، و كان يدعو به فيستجيب الله سبحانه له، فمال إلى فرعون، فلما مرّ فرعون في طلب موسى عليه السّلام و أصحابه، قال فرعون لبلعم: ادع الله على موسى و أصحابه ليحبسه الله علينا، فركب بلعم حمارته ليمرّ في طلب موسى، فامتنعت عليه حمارته، فأقبل يضربها، فأنطقها الله عز و جل، فقالت: ويلك على ماذا تضربني، أ تريد أن أجي ء معك لتدعو على نبي الله و قوم مؤمنين، فلم يزل يضربها حتى قتلها و انسلخ الاسم الأعظم من لسانه فنسيه. و الآية و إن كانت في شأنه إلا أنها عامة لكل من انسلخ من آيات الله لترجيحه هوى نفسه، كما هو شأن الآيات القرآنية.

وَ اتْلُ أي اقرأ يا رسول الله عَلَيْهِمْ أي على الناس نَبَأَ أي خبر الَّذِي آتَيْناهُ أي أعطيناه آياتِنا أي حججنا و دلائلنا- و قد تقدم أن المراد من ذلك الاسم الأعظم- فَانْسَلَخَ مِنْها أي خرج من تلك الآيات، كالشي ء الذي ينسلخ من جلده، كأن الآيات كانت كالجلد الواقي له عن شرور الدنيا و الآخرة فأخرج نفسه منها، فتعرض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 272

[سورة الأعراف (7): آية 176]

وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)

للخطر و الهلاك فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي لمّا خرج عن الوقاية تبعه الشيطان ليضلّه عن طريقه فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ أي الهالكين.

[177] وَ لَوْ شِئْنا أي اقتضت مشيئتنا أن نجبره على البقاء

لَرَفَعْناهُ أي رفعنا «بلعم» بِها أي بتلك الآيات، فلو أردنا أن يبقى بالجبر لأمكننا ذلك، حتى ترتفع درجته وَ لكِنَّهُ أي «بلعم» و الضمير يرجع إلى «الذي آتيناه» كذلك الضمير السابق أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فركن إلى الدنيا و مال إليها، كأنه جعلها موضع خلده و إقامته و أعرض عن الدار الآخرة، أو «أخلد» بمعنى لصق وَ اتَّبَعَ هَواهُ عوض أن يتبع الحق و يسير في طريق الرشد فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ من «الحملة» أي إن تطرده يَلْهَثْ يخرج لسانه من فمه يتنفس أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ بأن تركته فلم تتعرض له، فإن كل حيوان يلهث في حال الإعياء و الإكلال بخلاف الكلب فإنه يلهث في حال الراحة و الإعياء.

و المراد أنه ضال على كل حال سواء عارضته أم لم تعارضه، بخلاف كثير من الناس الذين يضلون لدى المعارضة و حينما يغضبون أو يرون أن مصالحهم مهددة. إن بلعم أخرج لسانه ليدعو على موسى- شبيها بلهث الكلب- حينما لم يعارضه موسى عليه السّلام و لم يهدد مصالحه، بل كانت أموره أحسن تحت لواء موسى حيث يجمعهما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 273

[سورة الأعراف (7): الآيات 177 الى 179]

ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)

الدين، لكنه شبيه بالكلب اللاهث و إن لم تطرده.

ذلِكَ المثال بالكلب مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فإنهم بصفة الكلب في الإيذاء

و اللهث و إن لم يتعرض لهم بسوء فَاقْصُصِ يا رسول الله الْقَصَصَ أي أخبار الماضين لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيرتدعوا عن غيهم، إذ يعلمون أن مصيرهم كمصير أولئك إلى الهلاك و الدمار، إن عاندوا الحق و عارضوا الدين.

[178] ساءَ مَثَلًا أي بئس مثلا مثل الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا و المراد:

بئس الصفة المضروب لها المثل بصفة المكذبين، فإن سوء المثل يدل على سوء الممثل له وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ أي أنهم بالعصيان ظلموا أنفسهم حيث حرموها من خير الدنيا و سعادة الآخرة.

[179] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ أي: يهديه الله سبحانه فَهُوَ الْمُهْتَدِي فإن هداية الله هي الهداية الحقة التي تورث خير الدنيا و الآخرة وَ مَنْ يُضْلِلْ أي يضله، بأن يقطع لطفه عنه حيث يراه في سبيل العصيان و الفساد فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم و ما ربحوا شيئا.

[180] وَ لَقَدْ ذَرَأْنا أي خلقنا و أنشأنا لِجَهَنَّمَ اللام للعاقبة، كما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 274

قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «1»، كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فإنه سبحانه خلقهم ليعبدوه و يدخلوا جنته كما قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2»، و قال: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ «3»، لكنهم بسوء أعمالهم أوجبوا لأنفسهم الشقاء و دخول النار. و الكلام تعقيب لما تقدم في الآية السابقة من ضرب الأمثال للكفار، فكأنه قال: «مثلهم ذلك، و مصيرهم هذا». ثم إنه يدل على أن مصير «فلان» النار بهذه العلائم ف لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها أي لا يفهمون الحق بسببها، و المراد عدم إذعانهم للحق، لأن التارك و الجاهل سواء، فقد قال سبحانه: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ

اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها «4»، وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها الرشد، و إن رأوا بها الأمور المادية، فإن التارك للطريق و الأعمى سواء وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الوعظ و الإنذار سماعا مفيدا، و إن سمعوا ألفاظهما، فإن من لا يستجيب للوعظ هو و الأصم سواء.

أُولئِكَ الأشخاص كَالْأَنْعامِ من الإبل و البقر و الغنم، فكما أنها لا تفقه و لا تبصر الرشد، و لا تسمع إلى الوعظ كذلك هؤلاء بَلْ هُمْ أَضَلُ من البهائم لأنها تهتدي إلى مصالحها و مفاسدها و تنبعث إذا

______________________________

(1) القصص: 9.

(2) الذاريات: 57.

(3) النساء: 65.

(4) النحل: 84.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 275

[سورة الأعراف (7): الآيات 180 الى 181]

وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181)

بعثت و تنزجر إذا زجرت، بخلاف هؤلاء فإنهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة و لا ينصاعون للأوامر و الزواجر أُولئِكَ الضالون هُمُ الْغافِلُونَ عن الحق و الواقع، فإنهم كالغافل في عدم الانتفاع بالأوامر و النواهي، و ليست الأنعام غافلة، فهم أسوأ من الأنعام.

[181] و حيث ذكر سبحانه مصير الكافرين و أنهم الذين لا يعقلون و لا يهتدون، بيّن ما يجب أن يكون عليه أهل القلوب الفاقهة من العقلاء فقال: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الحسنة المعنى كالكريم و الغفور و الجواد و الرحيم و العفوّ و غيرها فَادْعُوهُ بِها أي فادعوا الله بهذه الأسماء بأن يقال: يا كريم يا غفور و هكذا وَ ذَرُوا أي اتركوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ أي ينحرفون فيها بتسمية أصنامهم بأسمائه سبحانه، فقد كانوا يقولون لشي ء: هذا إله المطر، و هذا إله

النبات، و هذا إله الأرض .. و هكذا، فكانوا يجعلون صفاته و أسمائه للأصنام أو الأوهام، أو المراد: يلحدون بأسمائه كما سموا صنما ب «اللات» مخفف «الله» و صنما ب «العزى» مخفف «عزيز»، أو المراد:

يلحدون بتسمية الله بأسماء لا تليق به كتسميته «أبا» و «زوجا» و ما أشبه ذلك. إنهم سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا بالشقاء و في الآخرة بالنار.

[182] ثم بيّن سبحانه أن ليس كل الناس منحرفين في الشرك و الظلم وَ مِمَّنْ خَلَقْنا من البشر أُمَّةٌ يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِ و يرشدونهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 276

[سورة الأعراف (7): الآيات 182 الى 184]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)

إليه وَ بِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ أي يحكمون بالعدل لا يزيغون عن الحق و لا يميلون نحو الباطل.

[183] وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فلم يؤمنوا، بل بقوا على عنادهم، مصرّين على كفرهم سَنَسْتَدْرِجُهُمْ «الاستدراج» هو تقريب شي ء إلى المقصد درجة درجة، أي أن المكذبين نقرّبهم إلى العذاب و الهلاك درجة فدرجة مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أنهم آخذون في القرب من الهلاك، فإن المؤمن كلما زلت به قدم تذكّر و استغفر و ابتعد بنفسه عن الهلكة، أما المكذب فإنه حيث لا يبالي بما عمل يتقرب إلى الهلاك شيئا فشيئا و هو لا يعلم ذلك.

[184] وَ أُمْلِي لَهُمْ «الإملاء» التأخير، أي: أمهلهم و لا أعاجلهم بالعقوبة فإنهم لا يفوتون الله سبحانه، و الإمهال لهم موجب لكثرة عذابهم لازدياد معصيتهم إِنَّ كَيْدِي «الكيد» هو معالجة الأشياء خفية، إن عملي للانتقام منهم مَتِينٌ مستحكم

لا يفوته شي ء.

[185] أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا أي هلّا يتفكر المشركون فيما يقولونه و يرمون به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الجنون، فإنهم كانوا يقولون أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مجنون ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ و كيف يكون مجنونا من يأتي بما يعجز عنه البشر، و كل أقواله و أعماله في غاية الصحة و الدقة؟! إِنْ هُوَ أي ما هو إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 277

[سورة الأعراف (7): آية 185]

أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)

منذر للناس إن عملوا شيئا يعاقبوا عليه، فواضح كونه منذرا، و إنما ذكر «الإنذار» فقط لأنه في مقابل المشركين الذين كانوا يعملون السيئات.

[186] إنهم كيف لا يؤمنون و الكون كله يدل على وجود الله سبحانه؟ ثم كيف لا يؤمنون و من الجائز أن يموتوا عاجلا فيبتلوا بالعقاب و العذاب؟! أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا نظر اعتبار و تعقّل فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي آثار الملك، فإن الأثر يدل على المؤثر حتى يعترفوا بالإله الخالق و بما يليق به من الصفات وَ أولم يتفكروا و ينظروا في ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ من أصناف خلقه فيعرف أنه خالق الأشياء جميعا وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ حتى يعدوا للموت عدّته و يحتاطوا لما بعد الموت حتى لا يندموا و يخسروا، فإن مجرد احتمال ذلك كاف في أن يرتدع الإنسان، كما

أشار إلى ذلك الإمام علي عليه السّلام في الأبيات المنسوبة إليه: قال المنجم و الطبيب كلاهما* لم يحشر

الأموات، قلت: إليكما إن كان قولكما فلست بخاسر* أو كان قولي فالخسار عليكما

إنهم لم يؤمنوا بالقرآن الكريم الذي تكتنفه كل شواهد الصدق و الحق فَبِأَيِّ حَدِيثٍ و مطلب و خبر بَعْدَهُ أي بعد القرآن يُؤْمِنُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 278

[سورة الأعراف (7): الآيات 186 الى 187]

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)

أو بعد «محمد» صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث تقدم قوله «ما بصاحبهم». و في الكلام مجاز سواء عاد الضمير إلى القرآن؛ لأن ليس كل القرآن حديثا و قصة و إنما فيه إنشاء، أو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؛ لأنه صاحب حديث.

[187] مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بأن يخلي بينه و بين الضلال، لما سبق منه من الإعراض عن الحق فَلا هادِيَ لَهُ إذ الهداية منحصرة بالله سبحانه، فإذا لم تشع الهداية من قبله فلم يكن للإنسان هاد سواه وَ يَذَرُهُمْ أي يترك هؤلاء المعرضين الذين لا يتفكرون و لا ينظرون إلى الحق فِي طُغْيانِهِمْ و ضلالهم، كأنهم طغوا عن الحق يَعْمَهُونَ أي يتحيّرون، فهم دائما متردّدون بين الحق و الباطل، حيث أن الضمير يناديهم لاتباع الحق، و شهواتهم تمنعهم. و قد تقدم أن العمى في العين، و العمه في القلب.

[188] و لما تقدم الوعيد بيوم القيامة، الذي يسمى ب «الساعة»، سأل جماعة عن وقت القيامة يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنِ السَّاعَةِ أي القيامة

أَيَّانَ مُرْساها أي متى وقوعها، من «رسا الشي ء يرسو» إذا ثبت.

و «المرسى» بمعنى المثبت، أي متى وقت ثبوتها؟ قُلْ يا رسول الله في جوابهم: إِنَّما عِلْمُها أي علم الساعة عِنْدَ رَبِّي فهو وحده يعلم وقتها لا يُجَلِّيها أي لا يكشفها. الظاهر أن المراد: لا يأتي بها لِوَقْتِها أي حين يكون وقتها إِلَّا هُوَ تعالى، فعلمها عنده، و وقتها عند إرادته، و إنما لم يكشف الله سبحانه عن وقتها لخلقه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 279

ليكون أدعى لهم إلى الطاعة و اجتناب المعصية، فإن الإنسان إذا لم يعرف وقت البلاء يكون خائفا دائما، أما إذا عرف أخّر الطاعات و كان خوفه لقرب وقت الساعة.

و لا يقال: إن القيامة ليس مما يخاف منه الإنسان في الدنيا، إذ هي بعد القبر، فعلمها و عدمه سواء بالنسبة إلى الإنسان الحي، و إنما يصح هذا التعليل بالنسبة إلى الموت.

لأننا نقول: قيام القيامة بالنسبة إلى العاصين- و هم في القبر- من أكثر الأشياء خوفا، كما ورد في الأحاديث.

ثَقُلَتْ الساعة، أي وقوعها فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإن أهل السماوات و الأرض يخافونها خوفا عظيما لشدتها و ما فيها من المحاسبة و المجازاة لا تَأْتِيكُمْ أيها البشر، أيها الشاعرون إِلَّا بَغْتَةً أي فجأة يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي أن الناس يسألونك يا رسول الله عن الساعة و عن وقت قيامتها، كأنك عالم بها، فإن «الحفي» بمعنى المستقصي في السؤال، و يقال للعالم النحرير: «حفي» باعتبار أنه من كثرة سؤاله استوعب الأمر تماما و علم الواقع كما هو، فالمعنى: «كأنك عالم بالقيامة قد أكثرت المساءلة عنها» قُلْ يا رسول الله في جواب السائلين: إِنَّما عِلْمُها أي علم الساعة عِنْدَ اللَّهِ كرّر هذا ليصل

بقوله: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ إن علمها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 280

[سورة الأعراف (7): آية 188]

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

خاص بالله لا يشترك معه في هذا العلم أحد.

[189] إن الساعة غيب لا يعلمه إلا الله، و كذلك سائر الأمور الغائبة عن الحواس، و إن كنت أنا- الرسول- أعلم الغيب بذاتي، لكنت أعلم ما يضرّني فاجتنبه و ما ينفعني فارتكبه قُلْ يا رسول الله لهؤلاء السائلين: لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا فإنني لا أقدر على جلب نفع و لا دفع ضرر إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فما شاء أن يملكني إياه؛ أتمكن منه، و ما لم يملكني إياه؛ لا أتمكن منه، و هذا كما ملّك سبحانه الرسول بعض المنافع و دفع عنه بعض المضارّ، نعم الرسول أكثر ملكا حيث أنه مزوّد بقسم من الحصانة و علم الغيب وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ علما مطلقا كما يعلمه الله سبحانه، فإن الرسول لم يكن يعلم الغيب بذاته، و إنما بمقدار علم الله سبحانه، كما قال سبحانه: فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ «1»، لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ أي أكثر من الأشياء الخيرة كالشراء الرخيص أيام الرخص لأيام الغلاء، و غيره مما لو عرفه الإنسان لانتفع به كثيرا وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ الذي يمكن دفعه، فإن الإنسان إذا عرف أن هذا الغذاء يضره أو هذا الشخص يقتله، أو هذا السفر يؤذيه- مثلا- لأجتنبها.

و من الغريب أن بعض الناس يتمسكون بمثل هذه الآية لعدم معرفة

الرسول بالأشياء المستقبلية إطلاقا، إنه ليس إلا كتمسك المجبرة بقوله

______________________________

(1) الجن: 27 و 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 281

سبحانه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ «1»، و المجسمة بقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ «2»، و القدرية بقوله: إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «3»، و القائلين بحجية التوراة و الإنجيل بقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً «4»، وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ «5»، و القائلين بمعصية الأنبياء بقوله: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى «6»، و القائل بجهل الله سبحانه و تعالى بقوله: قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ «7»، و القائل بتعدد الآلهة بقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «8»، حيث دلل على أن الآلهة مع الله لا توجب الفساد. و هكذا من أمثال هذه الاستدلالات التي إن دلت على شي ء فإنما تدل على عدم اطلاع القائل بأساليب الكلام، و عدم جمعه بين النص و الظاهر، و العام و الخاص، و المطلق و المقيد، و الحقيقة و المجاز، و معارض السياق.

إِنْ أَنَا أي ما أنا إِلَّا نَذِيرٌ أنذر الكافر و العاصي بالعقاب وَ بَشِيرٌ أبشر المؤمن المطيع بالثواب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اللام للعاقبة، أي أن فائدة إنذاري و بشارتي إنما هي للمؤمن، أما غيره فالرسول بشير نذير له، لكنه حيث لا ينتفع بقوله، فكأنه ليس مرسلا بالنسبة إليه.

و قد ورد في بعض التفاسير أن أهل مكة قالوا: يا محمد! ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتريه فتربح فيه،

______________________________

(1) الأعراف: 187.

(2) القلم: 43.

(3) القمر: 50.

(4) المائدة: 45.

(5) المائدة: 48.

(6) طه: 122.

(7) يونس: 19.

(8) الأنبياء: 23.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 282

[سورة الأعراف (7): آية 189]

هُوَ الَّذِي

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)

و بالأرض التي تريد أن تجدب فنرتحل منها إلى أرض قد أخصبت، فأنزل الله هذه الآية.

[190] و حيث انتهى السياق من قصة المعاد، و نبذ من يوم البعث، يأتي دور قصة أخرى من قصص البشر الذي لا يزال ينحرف عن الفطرة و يتوجه نحو الشرك و الكفر، كما تقدمت قصة «بلعم» بهذا الصدد هُوَ الله وحده الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فابتداء الخلقة بآدم عليه السّلام وحده وَ جَعَلَ أي خلق مِنْها أي من جنس تلك النفس و نوعها و صورتها زَوْجَها حواء عليها السّلام لِيَسْكُنَ آدم عليه السّلام المفهوم من قوله «نفس واحدة» إِلَيْها أي إلى الزوجة، فيستريح بها و تكون موضع سكونه و اطمئنانه و راحته فَلَمَّا تَغَشَّاها أي قاربها، إذ الرجل حين المقاربة يكون كالغشاء و الغطاء لها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً هو الماء الذي يستقر في الرحم أول الأمر، و في هذا الحين لا يحسّان بالحمل حتى يعلّقا عليه آمالا، و ينذرا لأجل الجنين نذورا فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت بالحمل على الخفة فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي صارت ذات ثقل، و تبيّن الحمل و ظهر أثره في الزوجة دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أي دعا الزوج و الزوجة، فإن الكلام حول الإنسان لا حول آدم و حواء عليهما السّلام، فإنه سبحانه يريد بيان الطبيعة البشرية التي تستقيم في أول الأمر ثم تنحرف لنوازع و رغبات، و الكلام في مثله حيث يبتدأ بجهة، ثم ينصرف لجهة أخرى، يسمى استخداما، فإن اللفظ خدم معنى، و الضمير معنى آخر

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 2، ص: 283

[سورة الأعراف (7): الآيات 190 الى 191]

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (191)

كما قال: وَ الْمُطَلَّقاتُ إلى قوله- وَ بُعُولَتُهُنَ «1»، فإن الضمير يرجع إلى بعض المطلقات، و هنّ الرجعيات فقط. لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً أي ولدا صالحا كاملا صحيح الخلقة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك وحدك لا شريك لك، فنقدر فضلك و لطفك علينا، و نحمدك و نشكرك على ما أعطيتنا هذا الولد الصالح.

[191] فَلَمَّا آتاهُما أي أعطى الله الأبوين ولدا صالِحاً جَعَلا أي الأبوان لَهُ سبحانه شُرَكاءَ فِيما آتاهُما في الشؤون المرتبطة بالولد، فتشكر الأصنام كما يشكر الله في إعطاء الولد، و يسمياه بعبد العزى و عبد اللات و عبد مناة، و أحيانا كانا ينذرانه للأصنام ذبحا أو خدمة؛ كما ينذر لخدمة المسجد و نحوه فَتَعالَى اللَّهُ أي أن الله أعلى و أجل عَمَّا يُشْرِكُونَ أي يشرك البشر، إنه سبحانه ليس له شريك و لا مثيل.

[192] أَ يُشْرِكُونَ استفهام توبيخي، أي كيف يشرك هؤلاء مع الله شريكا ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً؟ فإن الأصنام لا تتمكن من خلق شي ء وَ هُمْ يُخْلَقُونَ أي أولئك الشركاء- كالأصنام- هي كلها مخلوقة، أو المراد أن الجميع من المشرك و الأصنام مخلوقون.

______________________________

(1) البقرة: 229.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 284

[سورة الأعراف (7): الآيات 192 الى 193]

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)

[193] وَ لا يَسْتَطِيعُونَ أي لا تستطيع تلك الأصنام لَهُمْ أي لعبّادها نَصْراً حيث يقعون في المشاكل وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ

لا تستطيع الأصنام نصر أنفسها إذا تعدّى عليها متعدّ، كما قد رأى ذلك الشاعر أن الثعلب يبول على رأس صنمه، فكسره قائلا:

أرب يبول الثعلبان برأسه؟ لقدذلّ من بالت عليه الثعالب

و لا يخفى أن الإتيان بضمير العاقل للأصنام للتشاكل بما كان يعتقده عابدوها من أنها تعقل و تفهم و تضر و تنفع.

[194] وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أيها المسلمون إن تدعوا هؤلاء المشركين إِلَى الْهُدى ليهتدوا و يتركوا أصنامهم لا يَتَّبِعُوكُمْ حيث استحوذ الشيطان عليهم سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ فإن دعاءهم إلى الإيمان و السكوت عنهم متساويان، كما قال سبحانه:

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «1».

و قد يستشكل بعض الملحدين: بأن الأمر إن كان بالنسبة إلى مرحلة الظاهر فالله «سبحانه» و الأصنام متساويان من هذه الجهة، فإنه لا يظهر أثر للنصرة و عدمها، و إن كان بالنسبة إلى مرحلة الواقع، فأي

______________________________

(1) البقرة: 7.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 285

[سورة الأعراف (7): آية 194]

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194)

دليل على الفرق، و إن الأصنام تنصر في زعم عبادها كما أن الله ينصر في نظر المسلمين؟

و الجواب: إن الأدلة لما دلّت على وجوده سبحانه كانت كافية للفرق في مرحلة الواقع، فلو كان هناك شخصان أحدهما يملك شهادة الطب، و الآخر جاهل، و لم ينفع الدواء الذي وصفه صاحب شهادة الطب للمريض، لا يمكن أن يقال بالتساوي مع الجاهل، و إنما يجب أن يعلل بعلة أخرى، و إن شئت قلت: إن الدليل في قوله تعالى:

لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً خطاب في الظاهر، و إنما البرهان المقنع ما ذكرنا. و بهذا يجاب عن الإشكال بالنسبة إلى

التوسل بالأنبياء و الأولياء مما دلّ الدليل عليه.

[195] إِنَّ الَّذِينَ أي الأصنام الذين تَدْعُونَ هم مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تجعلونهم آلهة عِبادٌ أي مخلوقة لله، فإن العبد هو المطيع. و من المعلوم أن الجمادات تطيع الله تعالى، كما يطيعه الإنسان، كما قال سبحانه: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1»، أَمْثالُكُمْ أيها البشر فليسوا بآلهة حتى تعبدونهم.

فَادْعُوهُمْ في مهماتكم و كشف الضر عنكم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ الأمر هنا للتعجيز و التوهين، كما تقول للعاجز عن القيام: «قم إن صدقت أنك قادر» إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنها آلهة تنفع و تضر.

______________________________

(1) الإسراء: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 286

[سورة الأعراف (7): آية 195]

أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195)

و من الوهابيين من يستدل بهذه الآية بعدم صحة التوسل بالأنبياء و الأئمة، قائلا: «فادعوهم فليستجيبوا لكم».

و الجواب: نقضا؛ «فادع الله فليستجب لك» فإن قال: يستجيب، قلنا: يستجيبون بأمر الله تعالى و إذنه. و حلا؛ بأن الفارق هو الدليل، و عدم الاستجابة العاجلة لا دلالة فيه لأحد الطرفين.

[196] ثم بيّن سبحانه أن الأصنام لا تقدر على شي ء حتى على ما يقدر الإنسان العادي عليه، فمن لا يقدر على أقل شي ء كيف يكون إلها معبودا؟ أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أي: هل لهذه الأصنام أرجل يمشون بها في مصالحكم، أو مشيا لأنفسهم، حتى يتساووا مع أقل حيوان أو إنسان؟ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها «البطش» هو الأخذ بشدة، أي يأخذون بأيديهم بشدة ما يريدون الانتقام منه، أو مطلق الأخذ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ

بِها الأشياء؟ أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها الأصوات و الشكاوى و غيرهما؟ إنها لا تحس إطلاقا، فكيف تعبدون أنتم أيها البشر هذه الأشياء الفاقدة لكل حس؟

قُلِ يا رسول الله للمشركين: ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ أي الشركاء الذين جعلتموهم مع الله سبحانه ثُمَّ كِيدُونِ أي امكروا بي بأجمعكم عابدا و معبودا فَلا تُنْظِرُونِ لا تأخروني، بل أسرعوا في الكيد، فإن ربي ينصرني عليكم جميعا. إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 287

[سورة الأعراف (7): الآيات 196 الى 199]

إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)

يتحدّاهم، لبيان أن الله ناصر نبيه، لكن أصنامكم لا تنصركم.

[197] إِنَّ وَلِيِّيَ الذي يتولى أمري و ينصرني اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أي القرآن، فإنه كما أمرني بالرسالة ضمن لي النصرة وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ يتولى أمورهم و ينصرهم على أعدائهم، و هذا لا ينافي عدم الحيلولة بينهم و بين أعدائهم أحيانا لمصالح و جهات.

[198] وَ الأصنام الَّذِينَ تَدْعُونَ هم مِنْ دُونِهِ أي غير الله سبحانه من الآلهة لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ لا يقدرون على أن ينصروكم وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فإذا تعدّى عليهم متعدّ لا يتمكنون من الدفاع عن أنفسهم.

[199] وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إن تدعوا أيها المسلمون، المشركين إِلَى الْهُدى و الحق لا يَسْمَعُوا دعاءكم فإنهم معاندون، و قيل: المعنى إن تدعوا الأصنام لا يسمعوا لأنهم جماد وَ تَراهُمْ يا رسول الله، أو كل من

يتأتى منه الرؤية يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ أي المشركون، أو الأصنام، فإن الأصنام عيونها مفتوحة إلى الإنسان كالناظر وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ إبصارا نافعا؛ إذا كان وصفا للمشركين، أو أصل الإبصار؛ إذا كان وصفا للأصنام.

[200] و حيث أن الإنسان إذا ورد في خضم الاحتجاج و رأى عناد الخصم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 288

[سورة الأعراف (7): آية 200]

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

على الباطل يأخذه الغضب الموجب للخروج عن آداب المحاورة، أوصى الله سبحانه نبيه بمكارم الأخلاق- بمناسبة المقام- فقال: خُذِ الْعَفْوَ عن الناس أي لازم العفو عنهم، و أصفح عن السيئ منهم، أو المراد خذ الزائد من أموالهم، أي ما عفا و فضل من نفقاتهم، فإن الخمس و الزكاة و الخراج و الجزية كذلك- غالبا- و المعنى الأول أقرب إلى الظاهر، و المعنى الثاني وارد في الحديث، و لا يبعد إرادة الأمرين، فإن استعمال اللفظ في أكثر من معنى جائز إذا كان هناك دليل وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ أي ما يستحسنه العرف، و هو ما ليس بقبيح عند العقل، و هو ضد النكر وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلا تقابل جهلهم بجهل. إن المتكلم مع طبقات الناس المختلفة يحتاج إلى التزام هذه الأشياء إن أراد مراعاة الآداب، فاللازم أولا أن يعفو عمن يخشن في الكلام و يتنكب عن طريق الحق، ثم يأمره بالمعروف لعله يرجع و يسترشد، فإذا رأى منه جهلا و إصرارا، فليعرض عنه و لا يقابله بمثل عمله.

[201] وَ إِمَّا مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة تأتي لتجميل الكلام و فوائد أخر يَنْزَغَنَّكَ «النزغ» هو الإزعاج بالإغراء، و أكثر ما يكون ذلك عند الغضب، أي إن تالك مِنَ

الشَّيْطانِ نَزْغٌ وسوسة و نيل و نخسه في القلب، و حركة و إزعاج بأن ثار القلب أمام الجاهل و غضب و احتد، حتى أراد الانتقام و السباب فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي سل الله سبحانه أن يعيذك و يحفظك من شر الشيطان إِنَّهُ سبحانه سَمِيعٌ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 289

[سورة الأعراف (7): الآيات 201 الى 202]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)

لقولك عَلِيمٌ بقصدك و ما عرض لك.

[202] ثم بيّن سبحانه أن هذه قاعدة المؤمنين كلما ألقى الشيطان في قلوبهم ميلا و زيغا، أدركتهم الفطنة، فلم يميلوا إليه إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا بأن جعلوا التقوى شعارهم، و ذاقوا حلاوتها و صارت ملكة و عادة عندهم إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ بأن أتاهم من يطوف من الشياطين على قلوب بني آدم، فأراد إغواءهم، و ميلهم عن الحق، و أعمى قلوبهم، و زين في نفوسهم الشهوات. و قد دلت الأدلة الشرعية و العلمية «1» على أن في الجو أرواح شريرة شأنها الإغراء و الإغواء، و لا يراها الإنسان.

تَذَكَّرُوا و أدركتهم ملكة التقوى الكامنة في نفوسهم فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ يبصرون الطريق و لا يعمهون عن الحق، و لا يتمكن الشيطان من تغشية قلوبهم بغشاء الشهوات و المغريات.

[203] هذا شأن المتقين الذين لا يسايرون الشياطين في إغوائهم و إغرائهم وَ أما إِخْوانُهُمْ أي إخوان الشياطين الذين لا تقوى لهم ليرتدعوا عن المعاصي و الآثام فإنهم يَمُدُّونَهُمْ أي يمدون الشياطين و يسايرونهم فِي الغَيِ و الضلال، فإذا مس العاصي طائف من الشيطان عمل بما يوحي إليه، و كان ذلك إمدادا للشياطين، لأنه مشى في ركابهم، و

مسايرة لهم ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ بل يذهبون إلى آخر

______________________________

(1) المس الروحي/ عبد الرزاق نوفل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 290

[سورة الأعراف (7): آية 203]

وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

الشوط، بخلاف المتقين الذين لا يمدون الشياطين و يقصّرون في المسايرة، و لعل جملة «ثم لا يقصرون» للإشارة إلى أن المتقي إذا غفل و أغري و مشى بعض الطريق مع الشيطان أدركته بصيرته فرجع و لا يسير إلى آخر الشوط، بخلاف إخوان الشياطين.

[204] و في سياق الكلام حول أدب الحوار مع الناس، و أن المتقي متأدب بالآداب يأتي دور المحاورة بين الرسول و الكفار حول القرآن كشاهد لأدب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كون الكفار إخوان الشياطين الذين يمدونهم في الغي وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ يا رسول الله بِآيَةٍ أي بمعجزة يقترحونها عليك، فإن الكفار كانوا يقترحون على الرسول الأمور الخارقة للعادة لمجرد المجادلة و المعاندة، لا لإرادة الاهتداء و الاسترشاد، فإذا لم يستجب الرسول لمطلبهم قالُوا أي الكفار: لَوْ لا اجْتَبَيْتَها أي لماذا لم تختر هذه الآية المقترحة؟ و لماذا لم تأت بها؟ كأنهم، يرون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفاعل لما يشاء، فمهما اجتبى آية و اختارها، أتى بها قُلْ يا رسول الله: إن الآيات ليست باختياري و اجتبائي، بل إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فاللازم اختيار الله للآيات، فما رآها صلاحا أرسلها و زودني بها، و ما لم يرها صلاحا لم يرسلها، إن كنتم تريدون الحق و الهدى- حقيقة- و قصدكم من طلب

الآيات، إقامة الدليل و الحجة على صدقي ف هذا الذي جئت به من القرآن المعجز الذي لم تتمكنوا أن تأتوا بمثله بَصائِرُ و حجج و براهين مِنْ قبل رَبِّكُمْ وَ هُدىً يهدي من أراد الحق إلى الحق وَ رَحْمَةٌ يوجب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 291

[سورة الأعراف (7): الآيات 204 الى 205]

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205)

ترحّم الله سبحانه و لطفه بالعاملين به لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ اللام للعاقبة، إذ المنتفع بهذه الآيات هم المتقون فقط.

[205] و إذ تقدم ذكر القرآن تلميحا بقوله «هذا بصائر» بيّن سبحانه لزوم الأدب أمام القرآن بقوله: وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ أي قارئ كان فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي أعيروا أسماعكم له وَ أَنْصِتُوا «الإنصات» هو السكوت. و من المعلوم أن الإنصات أخص من الاستماع، فإن الإنسان ربما يستمع إلى الكلام و هو يتكلّم، و لذا نص عليه، فإن الأدب أن يستمع الإنسان، و لا يتكلّم، و هذا الأمر للاستحباب، ككثير من أوامر القرآن الكريم كقوله:

فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً «1»، كما دلّت على ذلك الأحاديث لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي لكي يرحمكم الله سبحانه بسبب تأدبكم أمام كتابه الكريم، أو بسبب اتعاظكم بمواعظه، حيث تستمعون لها.

[206] و بمناسبة الإنصات عند تلاوة القرآن، يأتي بيان كيفية دعوة الله سبحانه، فإن القرآن كلام الله للخلق، و الدعاء كلام الخلق مع الله سبحانه وَ اذْكُرْ يا رسول الله، أو كل من يأتي منه الذكر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أما المراد به حديث النفس، و أما المراد التذكر بالهمس و الإخفات، و

لعل الأول أقرب، بقرينة ما يأتي بقوله: «و دون ...» تَضَرُّعاً أي بنحو الضراعة و الاستكانة وَ خِيفَةً أي مع الخوف من

______________________________

(1) النور: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 292

[سورة الأعراف (7): آية 206]

إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ (206)

الله تعالى، فإن ذلك أقرب إلى الإجابة وَ اذكره سبحانه دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ فإن الكلام المتوسط خير، و هذا لا ينافي استحباب الإجهار لدواعي أخر، كما

نزل جبرئيل على الرسول، و قال: «يأمرك ربك بالعج و الثج»

«1» في باب التلبية و ما ورد من أن الصلوات المجهر بها تذهب بالنفاق، و ما دل على الإتيان بالصلوات الثلاث جهرية، إلى غير ذلك، و القول بأن الله لا يحتاج إلى الإجهار تعليل تافه، فإنه ينقض بأن الله لا يحتاج إلى الكلام، فليكتف المستشكل بحديث النفس في قراءته و دعائه و أذكاره؟ بِالْغُدُوِّ أي الصباح وَ الْآصالِ جمع «أصل»، و أصل جمع «أصيل»، فهو جمع الجمع، و معناه «العشيات»، و هو ما بين العصر إلى غروب الشمس، و هذا كناية عن دوام الذكر، و التفريق بين «الغدو و الآصال» بالإفراد و الجمع، تفنن بلاغي لا يخفى لطفه.

وَ لا تَكُنْ يا رسول الله، أو المراد العموم، و المقصد العموم على أي حال، و إنما الكلام في مرجع الضمير مِنَ الْغافِلِينَ الذين يغفلون عن ذكر الله سبحانه. و في الآية الكريمة روايات كثيرة غالبها من باب بيان المصداق، فلا تضر بعمومها.

[207] ثم بيّن سبحانه أن الملائكة الذين هم أبعد عن النزوات، و هم دائمو الذكر، فأجدر بالإنسان أن يكون متذكّرا دائما إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 96 ص 286.

تقريب

القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 293

أي الملائكة، و المراد بكونهم عنده سبحانه أنهم في قربه، قرب الجاه و المكانة، لا القرب المكاني لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ و لا يترفعون بأنفسهم عن الخضوع و الخشوع له سبحانه وَ يُسَبِّحُونَهُ أي ينزهونه عما لا يليق به، بذكر «سبحان الله» أو غيره وَ لَهُ تعالى يَسْجُدُونَ كسجودنا، أو المراد غاية الخضوع.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 294

8 سورة الأنفال مكية، مدنية/ آياتها (76)

سميت السورة بهذا الاسم لاشتمالها على كلمة «الأنفال» و حكمها.

و الجو العام لهذه السورة حول السلم و الحرب و شؤونهما، و حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، و مناوئيهم، و أمثلة من آل فرعون و من كذّب بآيات الله سبحانه.

و لما كانت سورة الأعراف لبيان قصص الأنبياء، و ثم ختمت بقصة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتحت هذه السورة بذكره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما جرى بينه و بين قومه، فقال سبحانه:

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ دليلا على ابتداء هذه السورة، و اختتام السورة السابقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 295

[سورة الأنفال (8): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

[2] يَسْئَلُونَكَ يا رسول الله عَنِ الْأَنْفالِ هو جمع «نفل» بمعنى الزيادة، و المراد هنا: الغنيمة، و إنما سميت نفلا لأنها عطية و فضل من الله سبحانه للمسلمين، و قد اختلف التفسير حول الأنفال، و الذي نعتقده بعد الجمع بين الآيات و الروايات أن الأشياء التي ليست ملكا لأحد و غنائم دار الحرب تنقسم إلى قسمين:

الأول: الغنائم؛ و هي

تقسم إلى خمسة أقسام: قسم يسمى «الخمس» لله و الرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل.

و الأربعة الباقية للمقاتلين.

الثاني: الأنفال؛ و هي ما سيأتي في الرواية، و تكون لله و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمام، و قد أبيحت في حال الغيبة لمن يتولى الأئمة عليهم السّلام، أو لمطلق من حازها مؤمنا كان أو غير مؤمن. و ظاهر سياق الآية أن المراد بالأنفال هنا هي مطلق الغنائم، فإن السورة نزلت في وقعة بدر، و لما هزم المسلمون الكفار، انقسموا ثلاث فرق.

روى عبادة بن الصامت قال خرجنا مع رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فشهدت معه بدرا فهزم الله تعالى العدو فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون و يقتلون، و أقبلت طائفة على العسكر يحوزونه و يجمعونه و أحدقت طائفة برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يصيب العدو منه غرّة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب. و قال الذين خرجوا في طلب العدو:

لستم بأحق منا نحن منعنا عنه العدو و هزمناهم. و قال الذين أحدقوا برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خفنا أن يصيب العدو منه غرّة فاشتغلنا به. فنزلت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 296

الآية: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ»؟ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ فقسمها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين المسلمين.

و هذا الحديث يدل على أن المراد بالأنفال مطلق الغنائم، كما هو ظاهر السياق، و هناك حديث يفسر الأنفال بما يحضر الإمام بعد

الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا منافاة بين الأمرين، فقد تكرر منا سابقا أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في أكثر من معنى واحد إذا كانت هناك قرينة.

فعن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب أو قوم صالحوا و أعطوا بيدهم»

«1».

و في حديث آخر عنه عليه السّلام: «الفي ء و الأنفال ما كان من أرض خربة أو بطون أودية أو أرض لم يكن فيها مهراقة دم أو صولحوا أو أعطوا بأيديهم و لم تفتح بالسيف فهو يكون من الفي ء و الأنفال، فهذه لله و رسوله فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث يشاء و هو للإمام بعد الرسول» «2».

و في حديث آخر عنه عليه السّلام: «الأنفال كل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال، و كل أرض انجلى عنها أهلها بغير قتال و الأرضون الموات و الآجام و بطون الأودية و قطائع الملوك و ميراث من لا وارث له فهو لله و لرسوله و لو من قام بنصه و من مات و ليس له مولى فماله من الأنفال» «3».

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 539.

(2) وسائل الشيعة: ج 9 ص 527.

(3) بحار الأنوار: ج 19 ص 210.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 297

[سورة الأنفال (8): آية 2]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)

و على هذا فتسمية هذا الشي ء بالأنفال لزيادة الإمام بحصة دون سائر شركائه في الخمس.

قُلِ يا رسول الله في جواب السائلين عن الأنفال: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ ليس لأحد حتى يتنازع فيها، و إذا كانت لله و الرسول فلهما الخيار في

أن يقسماها كيف شاءا فَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه في التنازع و طلب ما ليس لكم وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي ما بينكم من الخصومة و المنازعة، و إنما يؤتى بكلمة «ذات» لتشبيه الصلة التي بين الناس بأمر مجسّم فيما بينهم، تشبيها للمعقول بالمحسوس وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الغنائم و غيرها إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين للرسول فيما يأتيكم به من قبل الله سبحانه. قيل: إنه لما عرف المسلمين أنه لا حق لهم في الغنيمة و أنها لله و الرسول، قالوا: يا رسول الله سمعا و طاعة فاصنع ما شئت.

[3] ثم ذكر سبحانه صفات المؤمنين الكاملين ليكون درسا للمسلمين في مستقبل حياتهم و ليكون ميزانا يزن المسلم نفسه فيه فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي اضطربت و خافت من عظمته، و إن لم يكن خوفا من ذنب، فإن الإنسان إذا علم أنه سيحضر محضرا كبيرا و عظيما ارتجف قلبه خوفا من الفشل وَ إِذا تُلِيَتْ أي قرأت عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ الآيات إِيماناً فإن الإيمان ملكة في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 298

[سورة الأنفال (8): الآيات 3 الى 5]

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5)

القلب، كلما كرّر المطلب على الإنسان زادت الملكة قوة و ثباتا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ في أمرهم، فيفوّضون أمورهم إليه، في كل مرجو و مخوف.

[4] الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بالإتيان بها مواظبين عليها، و الحث عليها بالنسبة إلى سائر الناس، فإن الإقامة غير الإتيان وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ سواء الواجب

من الإنفاق أو غيره.

[5] أُولئِكَ المتصفون بهذه الصفات هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فهم الذين آمنوا بالله و رسوله، و هم الذين شعرت قلوبهم الإيمان و امتثلت جوارحهم لتطبيقه لَهُمْ دَرَجاتٌ رفيعة عِنْدَ رَبِّهِمْ فهم مكتوبون عنده أصحاب الدرجات الرفيعة، و سينالونها في الآخرة وَ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ فهم يرزقون بإكرام و إعظام لا بإهانة و إذلال.

[6] إن الأنفال لله و الرسول، و إن كره المسلمون ذلك، فإن في كونها لله و الرسول حسن العاقبة و المصير، كما إن إخراجك يا رسول الله لوقعة بدر كان بالحق و لعاقبة حسنة، و إن كره المسلمون ذلك، فإن الله وحده يعلم العواقب، و يأمر بما هو خير كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ يا رسول الله مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ و المراد ب «البيت» هنا محل الإقامة، و هي المدينة المنورة، و معنى «الإخراج» أمره بذلك وَ الحال إِنَّ فَرِيقاً مِنَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 299

الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ للخروج.

و قصة بدر في الجملة هي

إن الكفار في مكة لما شرّدوا قسما من المسلمين إلى الحبشة، و طاردوا الرسول و أصحابه، حتى اضطروا للهجرة تحت جنح الظلام، أخذوا بعد ذلك يؤذون المسلمين الباقين في مكة، و يشيعون حول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه مختلف الإشاعات، فأراد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يضع حدا لهذه التعديات التي لا مبرر لها إلّا الحقد و الحسد. و أخيرا عزم على قطع طريق تجارتهم التي تسير بين مكة و الشام، ليتأدبوا و يأخذوا بذلك حذرهم.

فخرجت عير لقريش إلى الشام فيها كثرة وافرة من أموالهم، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه بالخروج ليأخذوها،

و أخبرهم أن الله قد وعده إحدى الطائفتين؛ غنيمة العير، أو مطاردة قريش و محاربتها و تبديدها، فخرج هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، فلما قارب «بدر» و هي بئر هناك أبلغ أبا سفيان ذلك، و كان في العير فخاف خوفا شديدا، و بعث إلى قريش فأخبرهم بذلك و طلب منهم الخروج و الدفاع عن العير و أمر بالعير فأخذ بها نحو ساحل البحر، و تركوا الطريق و مروا مسرعين، و نزل جبرئيل عليه السّلام على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبر أن العير قد أفلتت و أن قريشا قد أقبلت لتمنع عن عيرها و أمره بالقتال، و وعده النصر، فأخبر به رسول الله أصحابه فجزعوا من ذلك و خافوا خوفا شديدا إذ لم يتهيئوا للحرب، فقال رسول الله: أشيروا عليّ. فقام أبو بكر فقال: يا رسول الله إنها قريش و خيلاؤها ما آمنت منذ كفرت و لا ذلت منذ عزّت و لم نخرج على هيئة الحرب. فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اجلس فجلس.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 300

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 349

[سورة الأنفال (8): آية 6]

يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (6)

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أشيروا عليّ. فقام عمر فقال مثل مقالة أبي بكر، فقال: اجلس، ثم قام المقداد فقال: يا رسول الله إنها قريش و خيلاؤها، و قد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق من عند الله و لو أمرتنا أن نخوض جو الفضاء و شوك

الهراس لخضنا معك و لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى: «اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» و لكنا نقول: «اذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون» و لكنا نقول: «اذهب أنت و ربك إنا معكما مقاتلون». فجزاه النبي خيرا ثم جلس ثم قال: أشيروا عليّ. فقام سعد بن معاذ فقال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله كأنك أردتنا؟ قال: نعم قال: فلعلك خرجت على أمر قد أمرت بغيره. قال: نعم. قال: بأبي أنت و أمي يا رسول الله، قد آمنا بك و صدقناك و شهدنا أن ما جئت به حق من عند الله، فمر بنا بما شئت و خذ من أموالنا ما شئت.

ثم قال: و الله لو أمرتنا أن نخوض هذا البحر لخضناه معك. إلى أن قال: و لكن نعد لك الرواحل و نلقي عدونا فإنا صبّر عند اللقاء أنجاد في الحرب، و إنا لنرجوا أن يقرّ الله عينيك بنا. فقال رسول الله: كأني بمصرع فلان هاهنا و بمصرع فلان هاهنا و بمصرع أبي جهل و عتبة و شيبة فإن الله وعدني إحدى الطائفتين و لن يخلف الله الميعاد «1»، فنزلت الآية: كَما أَخْرَجَكَ فأمر بالرحيل حتى نزل ماء بدر و أقبلت قريش.

[7] يُجادِلُونَكَ يا رسول الله بعض المؤمنين فيما دعوتهم إليه من محاربة قريش فِي الْحَقِ فإن الحرب واجب و حق بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أنه حق،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 301

[سورة الأنفال (8): آية 7]

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ

(7)

فإنهم كانوا يقولون: هلّا أخبرتنا لنعد عدتنا للحرب، و هم يعلمون أنك لا تأمرهم إلّا بأمر الله سبحانه كما قال سبحانه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1».

كَأَنَّما هؤلاء المجادلين يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ فيظنون أن سوقهم إلى الحرب موجب لهلاكهم حيث لم يعدوا لها العدة وَ هُمْ يَنْظُرُونَ أي ينظرون إلى الموت عيانا و يرونه بأبصارهم، فكيف يكون حال مثل هذا الإنسان، كذلك حال هؤلاء المجادلين.

[8] وَ اذكروا أيها المسلمون إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ على لسان رسوله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ إما طائفة العير فتغنمونها، و إما قريش فتقتلونهم و تتخلصون من بعض أعدائكم وَ تَوَدُّونَ أي تحبون و ترغبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ فإنهم كانوا يحبون أن يغنموا العير لئلّا يلاقوا مشقة الحرب، و الحال أن الحرب كانت لهم أكثر شوكة إذ تركز في العدو خوفهم و شوكتهم، و كأن الشوكة مأخوذة من الشوك لأن في الحرب شوكا و ليس الأمر سهلا، فيكون تشبيها، أو المراد بالشوكة: السلاح.

وَ يُرِيدُ اللَّهُ حيث أمركم بالحرب أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي

______________________________

(1) النجم: 4 و 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 302

[سورة الأنفال (8): الآيات 8 الى 9]

لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)

يظهر الحق، بما بيّنه و أوجبه عليكم من المقاتلة وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم، فإن «الدابر» هو الأصل، أي يجذ الكفر من أصوله، فإن وقعة بدر كانت أقوى الأسباب لنصرة المسلمين إلى الأبد و هزيمة الكافرين إلى الأبد.

[9] و إنما أراد الله ذلك لِيُحِقَّ الْحَقَ أي يظهر حقيقة الإسلام، و في التكرار

تركيز و توطئة لقوله: وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ أي يظهر بطلانه بإهلاك الكفار وَ لَوْ كَرِهَ ذلك الْمُجْرِمُونَ الذين أجرموا بالكفر و العصيان.

[10] و لما بلغ أصحاب رسول الله كثرة قريش و ما معها من السلاح و العتاد فزعوا و استغاثوا بالله و تضرعوا. «و» اذكروا أيها المسلمون إِذْ تَسْتَغِيثُونَ أي تطلبون الغوث و النصرة من رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ دعاءكم و تضرعكم أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي مرسل إليكم مددا بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي بعضهم خلف بعض، فهم مترادفون متتابعون في النزول إليكم.

فإن قيل: كيف يمكن الجمع بين هذه الآية و بين قوله: بِثَلاثَةِ آلافٍ «1» بِخَمْسَةِ آلافٍ «2»؟

______________________________

(1) آل عمران: 125.

(2) آل عمران: 126.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 303

[سورة الأنفال (8): آية 10]

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

فالجواب: إن الألف كانوا مقاتلين، و البقية للبشارة و تقوية القلوب، كما يقال: إن العاملين في المدينة عشرة، فإذا قيل: إنهم أكثر؟ أجيب بأن المائة مثلا إنما هي من حيث العدد و الحركة و العمل للعشرة. و

في الحديث: إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما نظر إلى كثرة عدد المشركين و قلة عدد المسلمين استقبل القبلة و قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض»

«1». فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبه، فأنزل الله الملائكة، و قد قاتلت الملائكة و أسرت بعض المشركين.

[11] ثم يذكر سبحانه أن إنزال الملائكة إنما كان لأجل تقوية قلوب المسلمين، و إلّا فنصر الله سبحانه لا يحتاج إلى مدد ملك أو غيره وَ

ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي ما جعل الله الإمداد بالملائكة إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بالنصر، فإن الإنسان يستبشر بكثرة الأعوان و إن كان علم أنهم للسواد و الكثرة فقط وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ أي بالإمداد قُلُوبُكُمْ فيزول الخوف و الوسوسة عنها وَ إلّا في الحقيقة و الواقع مَا النَّصْرُ أي ليس النصر إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ و لا تأثير للإمداد و الإعداد و إنما هي روابط و وسائط إلّا من عند الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب بسلطانه حَكِيمٌ فيما يفعل، و هذا لا يدل على عدم تهيئة الأسباب، بل يدل على لزوم تهيئتها، فإن الملائكة و قوى ما وراء الطبيعة بشائر،

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 259.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 304

[سورة الأنفال (8): آية 11]

إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)

و إلّا فالنصر من الله بأسبابه الظاهرية التي قررها هو سبحانه، كما قال تعالى: وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ «1».

[12] و لما أمسى القوم المساء قبل الواقعة أخذ أصحاب الرسول النوم، من كثرة التعب و قد كان إلقاء الله النوم عليهم ليذهب خوفهم، و يتقووا على القتال غدا، فإن من استراح و نام لم يقلق كما يقلق الساهر، كما أن أعصابه تهدأ، و قواه تكثر فيتمكن مما لا يتمكن عليه الساهر، و احتلم كثير من المسلمين تلك الليلة، و كان موضع نزولهم كثير الرمل، مما سبب صعوبة الحركة، فوسوس إليهم الشيطان قائلا: كيف أنتم على حق، و قد أصابتكم الجنابة، و محلّكم غير صالح، و لا ماء عندكم،

بينما المشركون على الماء، فأنزل الله المطر، حتى لبد الأرض، و اغتسلوا، و ارتووا. فاذكروا أيها المسلمون إِذْ يُغَشِّيكُمُ أي يستولي عليكم النُّعاسَ أي النوم أَمَنَةً أي أمانا مِنْهُ سبحانه، فإنه لم يفعل ذلك إلّا لأجل أمنكم و راحتكم و إزالة الخوف عنكم، و «الأمنة» الدعة التي تنافي المخافة وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من حدث الجنابة وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته فإنه كان يوسوس في قلوبهم: كيف يكونون على حق، و هم نجسون، و محلهم رمل، و هم ظماء وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي ليشد

______________________________

(1) الأنفال: 61.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 305

[سورة الأنفال (8): آية 12]

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12)

قلوبكم و يقويها، فإن النوم و نزول المطر قوّيا قلوبهم حيث أزالا المخاوف و الوساوس و الأتعاب وَ يُثَبِّتَ بِهِ أي بالمطر الْأَقْدامَ أي أقدامكم في الحرب بتلبد الرمل، أو المراد تقوية القلب فإنه يكنى بذلك عنه، أو المراد ذهاب الحالات الخمسة بالأمرين؛ فالنوم للدعة، و المطر لتطهير البدن عن نجاسة المني، و الاغتسال لذهاب رجس الشيطان، و تقوية القلب عن وسوسته، و تثبيت الأقدام بتلبد الرمل.

[13] و اذكروا أيها المسلمون إِذْ يُوحِي و هم و إن لم يروا ذلك و لم يسمعوه بآذانهم إلّا أنهم علموه رَبُّكَ يا رسول الله إِلَى الْمَلائِكَةِ المنزلين في وقعة بدر أَنِّي مَعَكُمْ و هذا لتقوية قلوب المسلمين، و إلا فمن المعلوم أن الملائكة لا تفعل شيئا إلّا بأمر الله سبحانه فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بتقوية قلوبهم و دحر الشياطين عنهم، فإن في القلب

لمّتان: لمّة من الملائكة و لمة من الشيطان، فالنوايا الحسنة و ما أشبه من الملائكة، و النوايا السيئة و ما أشبه من الشياطين.

سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الخوف من المؤمنين، و قد كان ذلك، فقد سلّط الله على الكفار رعبا عظيما، حتى أن أبا لهب قال لأبي سفيان- بعد الواقعة-: كيف كان أمر الناس؟

قال: لا شي ء و الله إلّا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا و يأسرونا كيف شاءوا، و أيم الله مع ذلك مالت الناس، رأينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض ما تليق شيئا و لا يقوم لها شي ء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 306

[سورة الأنفال (8): الآيات 13 الى 14]

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14)

فَاضْرِبُوا أيها الملائكة فَوْقَ الْأَعْناقِ أي الرؤوس أو المذابح، فإنهما فوق الأعناق، أو هو كناية عن ضرب القفا للإذلال و الإهانة وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ أي من الكفار كُلَّ بَنانٍ أي أصابع اليد و الرجل، أو المعنى: جزّوا أعناقهم و اقطعوا أطرافهم.

[14] ذلِكَ التعذيب و الضرب فوق الأعناق و البنان بسبب أنهم شَاقُّوا اللَّهَ أي خالفوا الله وَ رَسُولَهُ فكأنهم في شق و الله و الرسول في شق آخر وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و من المعلوم أنه يكتفي بذكر الله وحده أو الرسول وحده، و لكن ذلك لتعظيم الرسول حين يقرن باسم الله سبحانه، و أنه الشخص المقابل لهم في المشاقة فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ في الدنيا بعقوبة الكافرين على أيدي المسلمين، و في الآخرة بإخلادهم في النار.

[15] ذلِكُمْ «ذلك» إشارة إلى العذاب في

الدنيا بالأسر و القتل، و «كم» خطاب للكفار فَذُوقُوهُ أي ذوقوا هذا العذاب. و «الفاء» دخلت لإفادة الترتب على الكفر وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ علاوة على هذا العقاب العاجل عَذابَ النَّارِ في الآخرة. و لا يخفى أن «الذوق» يستعمل كثيرا في غير الذوق باللسان، باعتبار إدراك الإنسان له كما يدرك باللسان المذوقات، و هو يستعمل بالنسبة إلى الألم الروحي، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 307

[سورة الأنفال (8): الآيات 15 الى 16]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

يقال: «ذق الذل»، و بالنسبة إلى الألم الجسمي، كما يقال: «ذق السوط»، قال سبحانه: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ «1»، و قال:

ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ «2».

[16] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الخطاب عام لكل مؤمن، و إن كان نزول الآية بمناسبة قصة بدر إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من اللقاء في الحرب زَحْفاً «حال» أي حال كونهم و إياكم زاحفين متدانين للقتال، فإن الزحف بمعنى الدنو فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أي لا تنهزموا بأن تجعلوا ظهوركم إليهم، فإن الإنسان لا يجعل ظهره إلى ساحة القتال إلّا إذا أراد الفرار.

[17] وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أي من يجعل ظهره إليهم يوم القتال، و إنما قال «يومئذ» لأنه فهم من قوله: إِذا لَقِيتُمُ إِلَّا إذا كان مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي تاركا موقفه إلى موقف آخر أصلح للقتال من موقفه الأول، و «التحرّف» الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف بمعنى الطرف، و اللفظ، حال، أي: في حال كونه قاصدا الطرف حتى يكون أمكن

في الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ طلب حيزا غير حيزه السابق، أي مكان جديد، يقال: «فلان متحيز إلى فلان» أي

______________________________

(1) النحل: 113.

(2) الدخان: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 308

[سورة الأنفال (8): آية 17]

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)

منحاز نحوه، منضم إليه. فالمعنى: أنه ولّى دبره لينضم إلى جماعة يستعين بهم في القتال، فإن الإنسان وحده يجترئ عليه العدو أكثر مما إذا كان مع جماعة فَقَدْ باءَ خبر «و من يولهم» أي أن المولي دبره يرجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ فكأنه كان ذاهبا إلى الحرب برضى الله، و الآن بفراره رجع يحمل الغضب وَ مَأْواهُ أي مصيره جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ و بهذا يستدل على أن الفرار من الزحف كبيرة موبقة.

[18] ثم ذكر سبحانه أن السبب الحقيقي في انهزام الكفار إنما كان هو الله سبحانه فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي لم تقتلوا الكفار أنتم أيها المسلمون.

و «النفي عنهم» باعتبار كونهم السبب الأضعف، فلو لا تشجيع الله سبحانه بإنزال الملائكة و إنزال المطر و تقوية قلوبهم و مساعدة الملائكة لهم في القتل و الأسر لم يتمكنوا من الغلبة عليهم، و من المتعارف أن ينسب الفعل إلى أقوى السببين وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بتهيئة الأسباب و إلقاء الرعب في قلوب الكفار حيث انهارت أعصابهم وَ ما رَمَيْتَ يا رسول الله، أو أيها المسلم إِذْ رَمَيْتَ و المراد بالأول: الرمي المصيب، فإن الفعل ينفى عمن لم تكن نتيجة الفعل بقدرته، كما يقال لمن ألقى حجرا بدون معرفة فاصطاد طائرا: «فما صدت أنت و إنما صادته الصدفة». و لعل المراد ب

«الرمي»، رمي القوم بالهلاك، كما يقال: «رماه الله بهلاك و نكال». وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى فإنه كان السبب الأقوى في هلاكهم و نكالهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 309

و ذكر جمع من المفسرين: أن المراد بذلك، رمي الكفار بالتراب،

فإن جبرئيل عليه السّلام قال للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر: خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما التقى الجمعان لعلي عليه السّلام: أعطني قبضة من حصى الوادي. فناوله كفا من حصى عليه تراب فرمى به في وجوه القوم و قال: شاهت الوجوه، فلم يبق مشرك إلّا دخل في عينه و فمه و منخريه منه شي ء و تبعهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم و كانت تلك الرمية سبب هزيمة القوم، و لما أن اصطف القوم برز عتبة و شيبة و الوليد للقتال و طلبوا المبارز فخرج إليهم بعض المسلمين فلم يرضوا بهم لما جرت العادة من عدم احتشام القرن إلّا بقرنه حتى برز إليهم عليّ عليه السّلام و حمزة و عبيدة، و دارت المعركة بنصرة هؤلاء، و قتل أولئك، و هنا حمي الوطيس و استعرت الحرب و لم تنكشف إلّا بهزيمة الكفار و قتل جماعة كبيرة منهم، و أخذ المسلمون يأسرونهم و الملائكة تعينهم في الأسر كما أعانتهم في القتل. فكان المسلم يشير بسيفه أو رمحه و لما يصل إلى الكافر فإذا به يخر قتيلا تقتله الملائكة، و كذلك الأسر. حتى أن العباس أسره أبو اليسر و كان العباس جسيما و أبو اليسر نحيفا، فقال له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

كيف أسرت العباس يا أبا اليسر؟ فقال: يا رسول الله لقد

أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك و لا بعده. فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد أعانك عليه ملك كريم «1».

و كل هذه كانت للبشرى و إنما النصر كان من عند الله.

وَ قد فعل الله سبحانه ما فعل لِيُبْلِيَ أي لينعم على الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ أي من عنده سبحانه بَلاءً حَسَناً أي نعمة جسيمة،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 227.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 310

[سورة الأنفال (8): الآيات 18 الى 19]

ذلِكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

ف «الواو» على هذا استئنافية متعلقة بفعل مقدّر، كما قدّرناه، أو المراد:

ليمتحن المؤمنين امتحانا حسنا، فإن البلاء يأتي بمعنى النعمة كما يأتي بمعنى الاختبار، و إنما يقال للنعمة: بلاء، لأن أصل البلاء ما يظهر به الأمر من الشكر و الصبر، فالنعمة بلاء لأنها تظهر الشكر، و المصيبة بلاء لأنها تظهر الصبر إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بضمائركم و نياتكم. و في الحرب تظهر أقوال، و تجول في الصدر نيات، فمن الأحرى أن يحفظ الإنسان قلبه و لسانه لئلّا ينحرفان عن نهج الصواب بمحضر من يسمع و يعلم كل شي ء.

[19] الأمر ذلِكُمْ أي أن الأمر كما ذكرنا من القصة، و هذا كما أن من يذكر قصة يقول بعدها: «هكذا» و هذا شبه تأكيد للكلام السابق، ف «ذلك» إشارة و «كم» للخطاب، أي: أخاطبكم أيها المؤمنون أن الأمر كذلك وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ هذا عطف على «ذلكم» أي أن الغرض كان بلاء المؤمنين و

وهن كيد الكافرين. هذا بناء على رجوع «ذلكم» إلى البلاء المستفاد من قوله: «ليبلي المؤمنين»، و إلّا كان «و أن الله» استئنافية.

[20] و حيث بيّن سبحانه أن الله يوهن كيد الكافرين خاطب الكفار بقوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أيها الكفار فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ و هذا تهكّم، فإن أبا سفيان دعا قبل الواقعة بقوله: «اللهم أهلك أضل الفريقين و أقطعهما للرحم»، فقد استجاب الله دعاءه و أهلك أضل الفريقين و أقطعهما للرحم. و المراد ب «الاستفتاح» طلب الفتح، كأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 311

[سورة الأنفال (8): الآيات 20 الى 21]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ (21)

الذي يقع في مشكلة قد انسدت عليه الأبواب فيطلب فتحها ليتخلص من المشكلة.

ثم يرغّبهم سبحانه في الانتهاء عن كفرهم وَ إِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر و معاداة المسلمين فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في دنياكم و آخرتكم وَ إِنْ لم تنتهوا و تَعُودُوا إلى كفركم و مشاقتكم لله و الرسول نَعُدْ إلى ما رأيتم من إهلاككم و إذلالكم، و بأسنا لا يقف أمامه تجمع و كثرة وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً أي لا تفيد بكم جماعتكم شيئا وَ لَوْ كَثُرَتْ فإن النجاح ليس بالكثرة و إنما بالقوة التي هي متوفرة لدى المؤمنين وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ و من المعلوم انطباق هذه الآيات في كل زمان و مكان بشرط أن يعمل المسلمون على شرائط الإيمان.

[21] ثم خاطب سبحانه المؤمنين أن يلتزموا بما هو سبب نجاحهم بقوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و اختصاص الخطاب بالمؤمنين، مع أن الإطاعة واجبة على الجميع،

لأنهم هم المصغون المنتفعون بالخطاب دون غيرهم وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي لا تعرضوا عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الحال أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ دعاءه لكم و أمره و نهيه إياكم، فإن المعرض بعد العلم أشد عقوبة عن المعرض بلا علم.

[22] وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا و هم اليهود و المنافقون وَ هُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 312

[سورة الأنفال (8): الآيات 22 الى 23]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

لا يَسْمَعُونَ حقيقة، إذ لو سمعوا و وعوا لعلموا، فعدم علمهم دليل على عدم سماعهم سماع متعظ واع، فإنه يقال للعالم التارك لعلمه:

«إنه غير عالم»، كما يقال لمن سمع قول الرشد، فسلك سبيل الغي:

«أنه لم يسمع».

[23] و إذ أمر الله سبحانه المؤمنين بالسماع النافع المقترن بالعمل حذّرهم أن يكونوا كالدابة التي لا تسمع إلّا نداء من غير أن تعقل و تعمل حسب ما سمعت، و لا تنطق بالخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الكفار، إنهم أشر من الدابة، حيث إن الدابة لا تعقل، و هؤلاء يعقلون ثم يعرضون الصُّمُّ الْبُكْمُ «صمّ» جمع «أصم»: و هو الذي لا يسمع، و «بكم» جمع «أبكم»: و هو الذي لا يتكلم الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ عقلا مثمرا، و إلا فهم عقلاء، فإن هؤلاء شر ما دبّ على وجه الأرض من الحيوان حيث لم ينتفعوا بما سمعوا من الحق، و لم يتكلموا به.

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام: «إنها نزلت في بني عبد الدار، لم يكن أسلم منهم غير مصعب

بن عمير و حليف لهم يقال له:

سويبط» «1».

[24] وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً قبولا للحق و إذعانا به و إنصافا في الأمر لَأَسْمَعَهُمْ إسماعا نافعا، و لكنه علم أن ليس فيهم خير، و لا رجاء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 96.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 313

بهم، فلذا تركهم مغلقي القلوب، و هذا كما تقول: «لو علمت في هذه الأرض قابلية للزرع لحرثتها»، حيث إنها لا تصبح قابلة للزراعة حتى بالحرث. و هكذا قلب الإنسان القابل و قلب الإنسان غير القابل، فإن أغشية الكفر قد شملتهما، لكن الله سبحانه يزيل الغشاء عن قلب القابل حيث يعرف فيه الخير، و لا يزيله عن قلب غير القابل حيث يعرف فيه عدم الخير.

و بهذا تحقق أنه لا مجال للإشكال بأنه إن أريد من «الإسماع» المعنى الظاهري، فقد أسمع الله سبحانه كل برّ و فاجر؛ فلا يناسبه التعليق على «لو» الامتناعية، و إن أريد منه تطهير القلوب تكوينا فإن الله لو فعل ذلك لكان فيه من الخير؛ فلا يناسبه ما يفهم من الآية من عدم إمكان الخير.

و حاصل الجواب: أن هناك ثلاث مراتب: الإسماع الظاهري، و إزالة الأغشية، و طهارة القلوب ذاتا. فإزالة الأغشية خاصة بالمؤمن، بينما الإسماع عام لكل واحد، فالمعنى: لو علم الله الطهارة الذاتية في قلوبهم لأزال الأغشية المظلمة عنها، علاوة على الإسماع، و لكن علم أن ذلك لا ينجح، فإن قلوبهم كالأرض السبخة التي لا ينفع معها الحرث، فلذا تركهم و شأنهم.

وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ بهذا النحو من الإسماع بإزالة الأغشية لَتَوَلَّوْا أي أعرضوا، لأن قلوبهم سبخة لا ينفعها حتى إزالة الأغشية وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن الحق.

و ربما أورد بأنه: كيف يمكن ذلك، و الحال

أن لازم هذا النحو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 314

[سورة الأنفال (8): آية 24]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

من القياس المنطقي- بحذف الأوسط- «لو علم الله فيهم خيرا لتولوا»، مع وضوح أنه لو علم الله فيهم خيرا لم يتولوا؟

و الجواب: إن الكلام جار مجرى العرف، فليس هذا قياسا واحدا بل قياس و زيادة تقديره «لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، لكنه علم فيهم عدم الخير فلم يسمعهم»، «و لو أسمعهم مع علمه عدم الخير فيهم لتولوا» و هذا كما تقول عن ولد لك غير قابل للكسب: «لو علمت أنه غير كاسب لزودته برأس مال»، «و لو زودته لأتلف» تريد: لو زودته و الحال أني أعلم عدم قابليته.

[25] و بعد ما ذكر سبحانه وجوب إطاعة الله و الرسول، ألمع إلى أن في الاستجابة كل الخير كما أراهم ذلك فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا أي أجيبوا. و لعل السر في الإتيان بباب «الاستفعال» المفيد للطلب، إفادة أن اللازم كون الجواب عن القلب و الضمير، لا بمجرد اللفظ و الظاهر، فإن طلب الإنسان لأن يجيب إنما بنبع من قلبه و باطنه لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ و قد تقدم أن ذكر الرسول تعظيما له، و لأنه الداعي الذي يراه الإنسان و يقابله إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ فإن الحياة الكاملة إنما هي بالإيمان، إذ الحياة بمعنى الحس و الحركة مرتبة ضعيفة من الحياة، و المرتبة الأعلى بمعنى السعادة الملازمة للعلم و الفضيلة و الرفاه و الأمن و الصحة، هذا بالنسبة إلى الدنيا و كذلك بالنسبة إلى الآخرة، فإن حياة الجنة

هي الحياة الكاملة التي تستحق أن تسمى حياة، أما حياة النار فإنها لا تستحق اسم الحياة، و لذا قال سبحانه:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 315

لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى «1».

و «إذا» ليست شرطا له مفهوم، بل المراد إفادة أن دعوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما تكون لما فيه حياة الناس. و توحيد الفعل مع أن الله و الرسول اثنان، باعتبار أن دعوتهما واحدة، أو كان باعتبار كل واحد منهما، كما قال: طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ «2».

إنه سبحانه يريد أن تستجيبوا عن إرادة و طواعية و إن كان يقدر على كل شي ء وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ فمن هذه قدرته، أليس يقدر على جبركم أن تؤمنوا؟ و معنى «الحيلولة بين المرء و قلبه» أن لا تطيع الأعضاء القلب فيما يأمر و ينهى، بأن يريد قلبه شيئا فلا تطيعه الأعضاء بمنع الله سبحانه عن الإطاعة، و كذا العكس بأن تنقل الأعضاء- كالعين و الأذن و الذوق و الأنف و اللامسة- إلى القلب معلومات فلا يفهمها، فإن القلب كالسلطان يعطي و يأخذ، و الله قادر على أن يفصل بينه و بين رعيته و جيوشه وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي و اعلموا أنكم تجمعون إليه للجزاء و الحساب. و معنى «إليه» أي إلى الموضع المقرر للجزاء، كما يقال: «ذهب إلى الله» لمن يذهب إلى الحج، فيراد المكان المقرر لإتيان الأعمال. إن قلوبكم بين يديه و حشركم إليه، فأذعنوا له حتى تحيون حياة طيبة.

______________________________

(1) طه: 75.

(2) البقرة: 260.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 316

[سورة الأنفال (8): الآيات 25 الى 26]

وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ

اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

[26] وَ اتَّقُوا أي خافوا، إن لم تستجيبوا فِتْنَةً و بلاء عامّا لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فإن أفراد الأمة إذا سكتوا على المنكر عمّهم الله بالعقاب، أولئك بالعصيان و هؤلاء بالسكوت، كمن لا يأخذ بيدي من يريد ثقب السفينة فإنه يقرن مع الثاقب. كما مثل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و من قرأ: «لتصيبن» أدخل الساكت في جملة الظالمين، لأنه ظالم بسكوته. و يكون المعنى على هذا: إن الفتنة تصيبكم أيها الظلمة فقط، فلا تقولوا: كيف تصيبنا الفتنة فقط و نحن في جملة غير الظالمين؟ تريدون بذلك عدم إصابتكم بالفتنة لأنكم بين أظهر غير الظالمين، فإن الله سبحانه قادر على إصابتكم فقط، كما أصابت الفتنة أصحاب السبت دون الذين نهوهم و وعظوهم.

هذا، و لكنا حيث نرجح عدم الزيادة و النقيصة في القرآن الحكيم، و أن ما بين دفتيه هو القرآن المنزل حتى أن النظم أيضا منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، نوجّه الروايات الواردة «الخاصة بالقراءات» بأنها تأويل و اجتهاد لا نزول و وحي.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فإذا أخذتم يكون أخذه أليما شديدا، فاستجيبوا لله و الرسول، فإن فيه حياتكم، و في غيره النكال و العقاب.

[27] و قد رأيتم كيف تفضّل الله عليكم حين استجبتم له و للرسول وَ اذْكُرُوا أيها المؤمنون إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ في العدد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 317

[سورة الأنفال (8): آية 27]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)

مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ يطلب الأعداء ضعفكم فينزلون بكم أنواع الإهانة و الأذى تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أي يأخذونكم فجأة، و «الاختطاف» إما لأجل السجن أو لأجل القتل أو لأجل الأذية، و المراد ب «الناس» الكفار فَآواكُمْ أي جعل الله سبحانه لكم مأوى تأوون إليه، و هي المدينة وَ أَيَّدَكُمْ قوّاكم بِنَصْرِهِ لكم على أعدائكم حتى صرتم أقوياء بفضله سبحانه وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فإنهم في مكة كانوا فقراء لا يجدون طعاما و لا شرابا، حتى إذا صاروا في المدينة زرعوا و اتجروا فرزقوا من الطيبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي لكي تشكروا فضله سبحانه، و نعمته و إحسانه عليكم.

[28] و لما ذكر سبحانه وجوب استجابة المؤمن لله و رسوله، نهى عن الخيانة له و للرسول بقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ بترك أوامره وَ الرَّسُولَ بترك شريعته. و قد نزلت هذه الآية في أبي لبابة، و إن كانت هي عامة لكل من يريد الخيانة.

فقد ورد أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاصر يهود بني قريضة إحدى و عشرين ليلة- لما خانوا عهده- فسألوه الصلح على ما صالح عليه بنوا النظير بأن يصيروا إلى أذرعات و أريحا من أرض الشام فأبى إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة و كان مناصحا لهم لأن عياله و ماله و ولده كانوا عندهم، فبعثه رسول الله فقالوا: ما ترى يا أبا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 318

[سورة الأنفال (8): آية 28]

وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

لبابة أ ننزل على حكم سعد؟ فأشار بيده إلى حلقه «إنه الذبح» فلا

تفعلوا، فأتى جبرئيل رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بذلك، قال أبو لبابة: فو الله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني خنت الله و رسوله. فلم يرجع إلى الرسول بل جاء إلى المسجد و شد نفسه بسارية من سواري المسجد و قال: لا و الله لا أذوق طعاما و لا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي.

فمكث أياما لا يذوق طعاما و لا شرابا حتى خرّ مغشيّا عليه ثم تاب الله عليه، و نزلت: وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «1»، فقيل له:

يا أبا لبابة قد تاب الله عليك. قال: لا و الله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده ثم قال أبو لبابة: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب و أن انخلع من مالي. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يجزيك الثلث أن تصدّق به «2».

وَ لا تَخُونُوا أَماناتِكُمْ أي أمانة بعضكم عند بعض من مال، أو عرض، أو ما أشبه وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أن الخيانة محرّمة موجبة للعقاب و العذاب. و من الممكن أن تكون جملة «و تخونوا» استفهامية إنكارية، أي: «كيف تخونوا أماناتكم في حال العلم»، و سميت خيانة الله و الرسول خيانة الأمانة لنفس الإنسان.

[29] وَ اعْلَمُوا أي تيقنوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ امتحان و ابتلاء

______________________________

(1) التوبة: 102.

(2) راجع تفسير القمي: ج 1 ص 303.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 319

[سورة الأنفال (8): الآيات 29 الى 30]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً

وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)

ليختبر الله سبحانه من يرجّح أمر الله على ماله و ولده، و من يرجّحهما على أمره سبحانه، فإن أبا لبابة حمله على ما فعل أن أمواله و أولاده كانت عند اليهود فخاف إن نصح لله و الرسول أن تذهب أمواله و أولاده. وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فمن رجّح أمره سبحانه على ماله و ولده أوجر بأعظم أجر.

[30] إن الأمانة حمل ثقيل لا يقوم بها إلّا من اتقى الله، و لذا يقول سبحانه:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً فإن من اتقى الله سبحانه صار ميزان الخير و الشر ملكة له، فيفرق بين الحق و الباطل بتلك الملكة الحاصلة بالتقوى، فإن عرفان الإنسان أن عليه مراقبا يحدّد موقفه من الأعمال و الأقوال. وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ التي عملتموها. و معنى «تكفير السيئات» سترها، فإن التكفير بمعنى الستر و التغطية وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم بإزالتها، فإن الستر غير الإزالة، و هما نعمتان و فضلان وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فإنه يتفضل عليكم بالتكفير و المغفرة و جعل الفرقان.

[31] و إذ تقدم الكلام حول نصرة المؤمنين في بدر بعد أن كانوا قليلا مستضعفين في مكة، بيّن سبحانه حالة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل الهجرة وَ اذكر يا رسول الله إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يدبرون مؤامرة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 320

لِيُثْبِتُوكَ أي يقيّدوك و يسبحونك فتثبت في مكة لا تقدر على الإرشاد و التبليغ

أَوْ يَقْتُلُوكَ و يستأصلوا شأفتك أَوْ يُخْرِجُوكَ و يبعدوك، بإرسالك إلى بعض المحالّ النائية، حتى لا تتصل بأصحابك و بالناس وَ يَمْكُرُونَ تأكيد، تهيئة لقوله: وَ يَمْكُرُ اللَّهُ أي يدبر الله سبحانه الأمر خفية، فإن التدبير لا يكون إلّا خفية وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ فإنه أعرف بطرق العلاج. و الفرق بين مكر الله سبحانه و مكر الناس أن الأول لا يكون إلّا بحق، و الثاني لا يستعمل- غالبا- إلّا إذا كان بباطل.

إن هذه الآية الكريمة نزلت في قصة هجرة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذلك أن قريشا اجتمعت فخرج من كل بطن أناس إلى دار الندوة ليتشاوروا فيما يصنعون برسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإذا شيخ قائم بالباب و إذ ذهبوا إليه ليخرجوه قال: أنا شيخ من مصر «أو نجد» أدخلوني معكم. قالوا: و من أنت يا شيخ؟ فقال: أنا شيخ من مصر «أو نجد» ولي رأي أشير به عليكم.

فدخلوا و جلسوا فتشاوروا و هو جالس و أجمعوا أمرهم على أن يوثقوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال الشيخ: هذا ليس بالرأي، فإن فعلتم هذا ذهب أصحابه و فكّوا وثاقه، و محمد رجل حلو اللسان فإنه يفسد عليكم أبناءكم و خدمكم و ما ينفع أحدكم بهم بعد أن أفسدهم محمد. ثم تشاوروا فأجمعوا أمرهم على أن يخرجوه من بلادهم، فقال الشيخ:

هذا ليس بالرأي؛ إنه إن خرج أحاط به الناس الأعراب لحلو منطقه و أفسد عليكم من الخارج. فاستصوبوا رأيه ثم سألوه الرأي قال:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 321

أخرجوا من كل بطن من العرب إنسانا يجتمعون عليه و يضربونه ضربة رجل واحد حتى يقتلوه،

فيفرّق دمه في القبائل و لا تتمكن عشيرته من المطالبة بدمه و يجبرون على أخذ الدية، فتستريحون منه.

فأخذوا برأي الشيخ، و كان هو الشيطان «لعنه الله» تزيّ بزيّ البشر. و نزل جبرئيل على الرسول يخبره بمكر أهل الندوة، و يأمره بالفرار ليلا، و أن ينيم عليا عليه السّلام مكانه ليشتبه عليهم الأمر، فلما أمسى المساء جاء الفتيان مسلّحين، و أرادوا أن يدخلوا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لكن أبا لهب حال دون ذلك، و قال: لا أدعكم أن تدخلوا عليه بالليل فإن في الدار صبيانا و نساء و لا نأمن أن تقع بهم يد خاطئة، فنحرسه الليلة فإذا أصبحنا دخلنا عليه. فناموا حول حجرة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمر رسول الله أن يفرش له و قال لعلي عليه السّلام: أفدني بنفسك. قال: نعم يا رسول الله. قال: نم على فراشي و التحف ببردتي. و كان الفتيان ينظرون من شقوق الباب فيرون في مكان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شخصا نائما فظنوه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و جاء جبرئيل فأخذ بيد رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخرجه من بين ظهراني الكفار و هم نيام و هو يقرأ عليهم: وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ «1».

و قال له جبرئيل: خذ على طريق «ثور» و هو جبل على طريق «منى» له سنام كسنام الثور فدخل غارا كان فيه، فلما أصبحت قريش و بثوا إلى الحجرة و قصدوا الفراش فقام علي عليه السّلام في وجوههم و قال:

ما شأنكم؟ قالوا له:

أين محمد؟ قال: أ جعلتموني عليه رقيبا، ألستم

______________________________

(1) يس: 10. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 322

[سورة الأنفال (8): الآيات 31 الى 32]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32)

قلتم: نخرجه من بلادنا؟ فقد خرج عنكم فأقبلوا يضربونه و يقولون:

أنت تخدعنا منذ الليلة، فتفرقوا في الجبال و كان فيهم رجل من خزاعة يقال له أبو كرز يقفوا الآثار، فقالوا: يا أبا كرز اليوم اليوم، فوقف بهم على باب حجرة رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: هذه قدم محمد و الله إنها لأخت القدم التي في المقام، فما زال بهم حتى أوقفهم على باب الغار ثم قال: ما جاوزوا هذا المكان، إما أن يكون صعد إلى السماء أو دخل تحت الأرض، و قد كان بعث الله العنكبوت فنسجت على باب الغار و جاء فارس من الملائكة حتى وقف على باب الغار ثم قال: ما في الغار أحد، فتفرقوا في الشعاب و صرفهم الله عن رسوله ثم أذن له بالهجرة «1».

[32] وَ قد كان بعض الكفار إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا من القرآن الحكيم قالُوا قَدْ سَمِعْنا بآذاننا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا المسموع، فإن العاجز المتكبر دائما يظهر القدرة، لكنه لا يظهر منه الأثر بخلاف القادر المتواضع الذي يعمل كثيرا و يقول قليلا إِنْ هذا أي ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع «أسطورة»، و المراد بها: أخبار الماضين و مختلقاتهم. قالوا: و قد كان قائل هذا النضر بن الحارث

ابن كلدة و قد أسر يوم بدر و قتل.

[33] وَ اذكر يا رسول الله إِذْ قالُوا أي بعض الكفار و هو أبو

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 19 ص 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 323

جهل: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا الذي جاء به محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ و كنا نحن على الباطل فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً المراد بها «جنس الحجارة» و ليست «التاء» للمفرد مِنَ السَّماءِ أي من جهة العلو، كما أمطرت على قوم لوط أَوِ ائْتِنا أي صبّ علينا و جئنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ مؤلم.

فقد روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أجيبوني إلى ما أدعوكم إليه تملكون بها العرب و تدين لكم العجم. فقال أبو جهل: «اللهم إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» «1».

و

في بعض الروايات: أنها نزلت حين نصب الرسول عليّا خليفة له يوم غدير خم، فجاءه رجل يقال له الحارث بن عمرو الفهري فحاجّ النبي في شأن علي عليه السّلام ثم سأله: هل هذا من الله أو منك؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل من الله سبحانه. فأخذ يذهب و هو يدعو بهذا الدعاء «اللهم إن كان .. الى آخره»، حسدا و بغضا للإمام عليه السّلام. فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إما تبت و إما رحلت، فركب راحلته و خرج، و لما وصل إلى خارج المدينة أتته جندلة فرضّت هامته، و فيه نزلت: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ «2»، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبعض المنافقين: انطلقوا إلى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به «3».

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 18

ص 158.

(2) المعارج: 2.

(3) راجع بحار الأنوار: ج 35 ص 323.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 324

[سورة الأنفال (8): الآيات 33 الى 34]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَ ما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)

أقول: و كأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمره بالرحيل حتى لا يمنع عن عذابه وجوده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنده حيث قال سبحانه: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ». كما أنه لا منافاة بين الحديثين، فقد كانت بعض آي القرآن و سوره ينزل مرتين و أكثر، فلعلها نزلت مرة في قصة أبي جهل و مرة في قصة الحارث.

[34] ثم بيّن سبحانه أنهم مع استحقاقهم العذاب لما كانوا يفعلونه، لكنه لا يعجّل لهم ما دام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيهم، فلعلهم يرجعون و يتوبون، و ما دام أنهم- مع كفرهم- يستغفرون الله سبحانه، كما روي أن أبا جهل بعد ما ذكر الدعاء قال: و استغفر الله، فقال سبحانه: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بإمطار الحجارة عليهم- كما طلبوا- أو غيره وَ أَنْتَ فِيهِمْ جملة حالية، أي: في حال كونك يا رسول الله بين أظهرهم، و المراد بذلك إما الرحمة بهم لأجلك، أو عدم عذابهم لاحتمال الإيمان، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما دام فيهم يحتمل رجوعهم و هدايتهم. وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ و لعل اختلاف التعبير في «ليعذبهم» و «معذبهم» لأجل

أن كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أظهرهم له أمد و لذا جاء بالفعل، أما الاستغفار فإنه لا مدة له و لذا جي ء بالاسم الدال على الدوام.

[35] ثم بيّن سبحانه أنه و إن كان لا يعذبهم إلّا أنهم يستحقون العذاب بما يرتكبون من الآثام، فقال سبحانه: وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي لم لا يعذبهم و أي أمر يوجب ترك تعذيبهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 325

[سورة الأنفال (8): آية 35]

وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

وَ الحال أن هُمْ يَصُدُّونَ و يمنعون الناس المؤمنين عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فقد أخرجوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين، و أجبروهم إلى الهجرة نحو الحبشة و الطائف و المدينة وَ الحال أنهم ما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي أولياء المسجد، أي لم يكن المشركون أصحاب ولاية على المسجد الحرام حتى يكون الصدّ عنه مشروعا، فإنهم حيث كفروا برب المسجد و خالفوا أوامره لوضع الأصنام فيه و هتكوا حرمته بالتصفيق فيه، لم تكن لهم ولاية عليه إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أي ليس أولياء المسجد إلّا الذين يتقون الله سبحانه و يطيعون أوامره و هم المؤمنون، فإنهم أولياؤه الشرعيون وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر هؤلاء المشركين لا يَعْلَمُونَ ذلك و يظنون- حيث أنهم ورثوا سدانة البيت من آبائهم- أنهم بذلك يكونون أولى بالمسجد.

ورد في حديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: «كان في الأرض أمانان من عذاب الله، و قد رفع أحدهما، فدونكم الآخر، فتمسكوا به» «1». و قرأ الآية: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ....

[36] ثم بيّن سبحانه علّة عدم

كونهم أولياء المسجد، و ذلك لأن صلاتهم هتك لحرمته و إنفاقهم لأجل الصدّ عنه، و هل يكون وليّ شي ء هاتكا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 90 ص 284.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 326

[سورة الأنفال (8): آية 36]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)

و صادا عنه؟ وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ أي دعاء المشركين و عبادتهم عِنْدَ الْبَيْتِ الحرام إِلَّا مُكاءً وَ تَصْدِيَةً «المكاء» الصفير، يقال: «مكا يمكو مكاء» إذا صفّر بفيه. و «التصدية» التصفيق، و هو ضرب اليد على اليد. فقد كان المشركون يطوفون بالبيت عراة يصفرون و يصفقون.

و

في حديث: أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا صلّى قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران، و رجلان عن يساره يصفقان بأيديهما فيخلطان عليه صلاته، و قد قتلوا جميعا يوم بدر «1».

فَذُوقُوا أيها الكفار الْعَذابَ في الدنيا بالقتل و الأسر و غيرهما، و في الآخرة في نار حرّها شديد بسبب ما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بالله و رسوله.

[37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في قتال الرسول و المؤمنين و التأليف عليهم لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعوا الناس بذلك عن دين الله و طريقه المستقيم، فكيف يمكن أن يكون الصاد عن سبيل الله وليا لمسجد الله؟ فَسَيُنْفِقُونَها أي يقع منهم الإنفاق ثُمَّ تَكُونُ الأموال المنفقة للصد عن سبيل الله عَلَيْهِمْ حَسْرَةً موجبة للحزن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 17 ص 87.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 327

[سورة الأنفال (8): آية 37]

لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ

(37)

و التحسّر يخسرونها بلا جدوى ثُمَّ يُغْلَبُونَ في الدنيا بظفر المسلمين عليهم، و في الآخرة بأنها تسبب لهم النار وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أي يجمعون، فإنهم يجمعون كلهم هناك جزاء لما فعلوا من الكفر و العصيان.

و في بعض التفاسير: إن الآية نزلت فيما أنفقه الكفار يوم بدر لقتال المسلمين، و قد أخبر الله عن العاقبة قبل وقوعها فكانت كما ذكر.

[38] إن ما تقدم من إخلاء الله السبيل للكفار حتى ينفقوا أموالهم في سبيل الصدّ عن طريق الله سبحانه لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فتكون الأموال المنفقة في سبيل الله معلومة، و تكون الأموال المنفقة في سبيل الباطل معلومة، فقد كانت الأموال قبل الاحتكاك و حدوث الحادثة غير مميز خبيثها من طيبها، أما في الحادثة فسيتميز بعضها عن بعض وَ ل يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فإنه كان متفرّقا في أموال عدة، و بذلك تتجمع أجزاؤه فَيَرْكُمَهُ أي يجعله ركاما مجموعا جَمِيعاً كالنفايات و القاذورات التي تتجمع من البيوت، و يجعل بعضها على بعض في المزبلة فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كما تجتمع القاذورات في المنافي خارج المدينة. و هذا من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ليكون أوقع في النفس أُولئِكَ الذين أنفقوا هذه الأموال في سبيل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 328

[سورة الأنفال (8): الآيات 38 الى 39]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)

الباطل هُمُ الْخاسِرُونَ فقد خسروا الأموال، بل اشتروا بها العار و النار.

[39] قُلْ يا رسول الله لِلَّذِينَ كَفَرُوا لا تيأسوا من رحمة

الله، فإن الإنسان مهما عصى، إذا تاب؛ تاب الله عليه إِنْ يَنْتَهُوا عن كفرهم و عصيانهم، بالإسلام و الطاعة يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من ذنوبهم و معاصيهم وَ إِنْ يَعُودُوا إلى كفرهم و أعمالهم، و «العودة» باعتبار أن كل يوم كفر جديد و معصية جديدة فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي عادة الله فيهم بالإهلاك، فإنها تنطبق على هؤلاء، و إضافة السنة إلى الأولين، باعتبار كون سنة الله واقعة عليهم، و يكفي في الإضافة أدنى ملابسة- كما ذكروا- و يحتمل أن يكون المراد: إن ينتهوا عن قتال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تركوا و شأنهم و لم يعاقبهم الرسول بما فعلوا- فهو مغفرة لهم- و إن عادوا إلى القتال فقد مضت سنة الله في الأنبياء أن يكون المحاربون هم المغلوبون المنهزمون، و هذا تهديد إلى كل من تسوّل له نفسه قتال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[40] وَ قاتِلُوهُمْ أي قاتلوا الكفار أيها المسلمون حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا توجد فتنة- فإن «كان» تامة- فإن الكفار مهما وجدوا القوة و المنعة فتنوا المؤمنين عن دينهم، و أحدثوا الفتن و القلاقل، أما إذا قوتلوا و كسرت شوكتهم، ذهبت الفتن و تحطمت المؤامرات و المكايد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 329

[سورة الأنفال (8): آية 40]

وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (40)

وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ المراد ب «الدين» الطريقة، أي حتى تتجمع الطرائق على طريقة واحدة، هي طريقة الله سبحانه. و هذه الآية تدل على جواز المقاتلة إلى أن تتوحد الطرائق في طريقة ارتضاها الله سبحانه للعباد، فلا يكون دين سواه فَإِنِ انْتَهَوْا أي انتهى

هؤلاء الكفار عن الكفر و العصيان و محاربة الرسول و المؤمنين فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فإنه يعلم السر و أخفى. و ما على المسلمين إلّا توحيد الصفوف ظاهرا أما البواطن و السرائر فليس عليهم، بل الله يعلم بها و يجازي كل واحد حسب ضميره و سرّه.

[41] وَ إِنْ تَوَلَّوْا أي أعرض الكفار عن الإيمان، و لم ينتهوا عن الكفر و العصيان فَاعْلَمُوا أيها المؤمنون أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ سيّدكم و ناصركم، فلا تخشوهم، بل أقدموا على محاربتهم، فالله نِعْمَ الْمَوْلى حيث أنه عالم قادر و فيّ بما يعد وَ نِعْمَ النَّصِيرُ لا يغلبه أحد كما قال سبحانه: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ «1».

______________________________

(1) آل عمران: 161.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 331

تقريب القران الى الأذهان الجزء العاشر من آية 42 من سورة الأنفال إلى آية 93 من سورة التوبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 332

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 333

[سورة الأنفال (8): آية 41]

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (41)

[42] و حيث سبق الكلام حول قصة بدر، يعود السياق ليذكر جوانب أخرى من القصة كما هو عادة القرآن الحكيم، حيث يبيّن من القصة جوانب معينة فقط، ثم يبيّن تلك الجوانب في ثنايا آيات أخرى، لتبقى للقصة ظرافتها، و لئلّا تكون مملّة ككتب التاريخ التي تسرد القصص،

و لأن يكون للنفس شوق و تلهف إلى القرآن و إلى القصة يسوقان الإنسان إلى التملّي منها. و تبتدئ بذكر الغنيمة و الحكم فيها، كما ابتدأت السورة بذكرها في الجملة فقال سبحانه: وَ اعْلَمُوا أيها المسلمون أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ و الغنيمة: هي الفائدة مطلقا سواء حصلت من الحرب أو من غيرها، و إن كان مورد نزول الآية غنائم دار الحرب، و كلمة «من شي ء» للتأكيد، أي سواء كانت الغنيمة قليلة أو كثيرة فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى أي قرابة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو الإمام عليه السّلام، فالنصف من الخمس أي عشرة من المائة منه للإمام عليه السّلام، إذ حصة الله سبحانه للرسول و حصة الرسول للإمام، و في حال الغيبة يدفع هذا النصف إلى نواب الإمام و هم الفقهاء الجامعون للشرائط، و هم يصرفونه في ترويج الإسلام، حيث

قال الإمام عليه السّلام: «إن الخمس عوننا على ديننا» «1».

و إنما ذكر «الله» سبحانه تعظيما لأمر الرسول و الإمام و احتراما لهما، حيث قرنا به، و إلّا فالأموال كلها لله سبحانه وَ النصف الآخر من الخمس ل الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ ممن ينتهي نسبه

______________________________

(1) الكافي: ج 1 ص 547.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 334

[سورة الأنفال (8): آية 42]

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)

إلى هاشم جدّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من السادة. و يشترط

في هؤلاء الفقر، و قد عوّضهم الله عن الزكاة التي جعلت لغير السادة- إذا كانت من غير السادة- ثم أن الأربعة أخماس الباقية من الغنيمة، تقسم بين المقاتلين في غنائم دار الحرب، و لصاحب المال في خمس سائر الغنائم، فإن الخمس يجب في سبعة أشياء: غنائم دار الحرب، و المكاسب مطلقا، و الغوص، و الكنز، و المعدن، و الحلال المختلط بالحرام، و الأرض المنتقلة إلى الذمي إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي لا تطمعوا في كل الغنيمة إن كنتم آمنتم بالله، فهو متعلق بقوله «و اعلموا» و ليس مفهوم الشرط:

أن الخمس ليس لهؤلاء إن لم تكونوا آمنتم، بل مفهومه إن كنتم آمنتم تؤمنون بذلك.

وَ إن كنتم آمنتم ب ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يعني الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يَوْمَ الْفُرْقانِ أي يوم فرقنا بين الحق و الباطل و هو يوم بدر يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المؤمنين من أصحاب الرسول و جمع الكافرين من أهل مكة للقتال، و المراد ب «ما أنزلنا» الملائكة أو النصر، إي: إن كنتم مؤمنين بالله و بما أنزل من النصر و الملائكة على الرسول يوم بدر، تؤمنون بهذا الحكم الذي هو كون الخمس للطوائف الستة المذكورين و ليس للمقاتلين فيه حق وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر أن ينصر الجماعة القليلة على الجماعة الكثيرة.

[43] إن المسلمين خرجوا من المدينة لإدراك قافلة أبي سفيان التجارية فنزلوا بضفة الوادي القريبة من المدينة و نزل جيش المشركين- الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 335

جاءوا من مكة لإنقاذ القافلة- بقيادة أبي جهل على الضفة الأخرى البعيدة من المدينة، و بين الفريقين ربوة، أما القافلة فقد مال بها أبو سفيان إلى سيف

البحر أسفل من الجيش، و لم يكن كلا الجيشين يعلم بموقع الجيش الآخر حتى أنه لو كان بينهما موعد للقاء لم يجتمعا بهذه الكيفية و لكن الله جمعهما على جانبي الربوة لينصر المسلمين على الكفار و يرى الجميع من الدلائل الباهرة ما يكفي لإتمام الحجة، و قد رأى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الرؤيا جيش المشركين قليلا فأخبر أصحابه بذلك، فاستبشروا و تشجعوا و أقدموا على القتال، و لو رآهم كثيرا و أخبر أصحابه بذلك لخافوا و وجلوا فيفشلوا، و لم تكن الرؤيا كاذبة فإنهم بعددهم الكثير كانوا قليلا في الواقع بالنسبة إلى قواهم المعنوية الضئيلة.

و القرآن الحكيم يبيّن هذا الطرف من القصة بقوله سبحانه: إِذْ أَنْتُمْ «إذ» متعلق بقوله: «وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا» أي أن إنزالنا كان في وقت كنتم أيها المسلمون بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا مؤنث «أدنى» أي العدوة القريبة من المدينة، و «العدوة» شفير الوادي، فإن لكل وادي عدوتان أي جانبان وَ هُمْ أي الكفار بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى مؤنث «الأقصى» بمعنى البعيدة، أي في الطرف البعيد من الوادي، و بعده باعتبار المدينة المنورة وَ الرَّكْبُ أي قافلة قريش التجارية، و هو جمع «راكب»، كصاحب و صحب أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي في مكان أسفل منكم إلى جانب البحر، و ليس المراد ب «الأسفل» الانخفاض بل الأبعد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 336

و الفائدة في ذكر هذه المواطن الإخبار الدال على قوة المشركين و ضعف المسلمين و إن غلبتهم في مثل هذه الحالة كان بأمر إلهي و ذلك أن العدوة القصوى كان فيها الماء و لا ماء بالعدوة الدنيا، و كانت رخوة تسوخ فيها الأرجل و كانت العير وراء ظهورهم مع كثرة عددهم

فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم و تحملهم على أن لا يبرحوا مواطنهم و يبذلون نهاية جهدهم، و مع ذلك فقد نصر الله المسلمين.

وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم و الكفار على اللقاء في مكان واحد لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ فإنكم كنتم تخافونهم لكثرتهم و استعدادهم، و هم كانوا يخافونكم لشدة بطشكم، و ما أدخل في قلوبهم من الرعب منكم، فقد كانت أسباب عدم القتال، أو القتال بهزيمتكم متوفرة وَ لكِنْ شاء الله سبحانه و قدّر أن يجمعكم بهذه الكيفية و ينصركم عليهم لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً أي ينفذه و يأتي به إلى الوجود كانَ مَفْعُولًا أي واجبا أن يفعل و مقدرا أن يكون، فقد قضى سبحانه إعزاز الإسلام و نصرة المسلمين.

و إنما قضى ذلك لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ أي ليموت من يموت من الكافرين بعد تمام الحجة عليه، فإن نصر المسلمين بتلك الكيفية كان من البراهين الدالة على صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فمن لم يؤمن بعد ذلك و مات، كان هلاكه بعد إتمام الحجة عليه وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ أي يعيش من عاش منهم بعد إتمام الحجة عليه، و هذا كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 337

[سورة الأنفال (8): آية 43]

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43)

يقال: «أتممت الحجة على الأحياء و الأموات»، أو المراد من «الهلاك و الحياة» الكفر و الإسلام، فقد تقدم أن الحياة الكاملة في الإسلام، كما أن الكافر ليس إلا ميتا في كثير من الأمور الحيوية، و لذا يقال عن المؤمن أنه حي، و على الكافر أنه ميت، كما قال

سبحانه: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ «1»، وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بضمائركم، فإن الحرب غالبا مثار كلام غير لائق و نيات سيئة، و لذا يذكّرهم سبحانه بوجوب حفظ الألسنة و الضمائر عن السوء.

[44] و قد ذكر ما تقدم من نزول النصر إِذْ يُرِيكَهُمُ أي يريك اللَّهُ الكفار فِي مَنامِكَ يا رسول الله قَلِيلًا لتخبر بذلك المؤمنين فتقوى قلوبهم وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً أي أراك الله الكفار كثيرا، ثم أخبرت بذلك المؤمنين لَفَشِلْتُمْ أيها المؤمنون و ضعفت عزيمتكم في قتالهم، فإن الفشل هو الضعف عن فزع و خوف وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي في أمر محاربتهم حيث كنتم ترهبونهم، فيقول بعضكم:

نقاتلهم، و يقول بعض: لا نقاتلهم وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي سلّم المؤمنين عن الفشل و التنازع و اختلاف الكلمة إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما يدور في صدور الناس من الوساوس و تقلّب

______________________________

(1) الأنفال: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 338

[سورة الأنفال (8): آية 44]

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

وجوه الرأي. و قد ذكرنا أن «الإراءة قليلا» لم تكن كذبا بل باعتبار أن الإنسان القوي دائما يرى الكثير قليلا، بخلاف الإنسان الجبان الذي يرى القليل كثيرا، هذا بالإضافة إلى أنه محسوس مجرّب، مبسوط في علم النفس و مشروح.

[45] و حيث تقابل الجيشان رأى المسلمون قلّة المشركين، لما كانوا يحملونه من القوة في نفوسهم و التصميم و الإرادة بتسديدهم و عزمهم، و رأى المشركون قلة المسلمين حيث كانوا قليلا عددا، فإن المسلمين كانوا ثلاثمائة و ثلاث عشر بينما كان الكافرون بين التسعمائة

و الألف، و حيث كان كل فريق يرى خصمه قليلا تجرّأ الطرفان على القتال مما أدى إلى نصر المسلمين وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ أي يريكم الله أيها المؤمنون، الكافرين إِذِ الْتَقَيْتُمْ أي في زمان لقائكم و إياهم في ساحة القتال فِي أَعْيُنِكُمْ أي في نظركم قَلِيلًا فكان الكفار في نظر المسلمين قليلين لما عندهم من الإرادة و القوة.

و من المعلوم أن الحالات النفسية تؤثر في حواس الإنسان الظاهرة، و قد كان هذا بإرادة الله سبحانه حيث قوّى نفوس المسلمين حتى يروا الكافرين قليلين فيطمعوا فيهم وَ يُقَلِّلُكُمْ أيها المؤمنون فِي أَعْيُنِهِمْ أي أعين الكافرين، فقد أراد الله سبحانه أن يقلل المؤمنين في نظر الكافرين لئلّا ينسحبوا عن قتالهم، فلا ينال المؤمنون منهم نيلا، و قد كان ذلك سبب غرور الكافرين فقد كان أبو جهل يقول لأصحابه: خذوا المسلمين بالأيدي أخذا و لا تقاتلوهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 339

[سورة الأنفال (8): آية 45]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)

و إنما فعل ذلك سبحانه، بأن قلّل كل جانب في نظر الجانب الآخر لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ينفذ إرادته في غلبة المسلمين، التي كانت قد قدّرت. و قد كررت هذه الجملة تأكيدا، و لإفادة أن النصر كما كان من عند الله، كان التقليل من عنده أيضا وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فإن الأمور كما كانت بقدر الله و قضائه، كذلك تكون مصائر الأمور إليه، فبيده المبدأ و المعاد، و هذا التشجيع للمسلمين في أن يقدموا، فإن المبدأ و المنتهى بيد ناصرهم و معينهم و هو الله سبحانه.

[46] و حيث بيّن سبحانه كيف أنه نصر المؤمنين في موقعة بدر

مع كون القوى المادية كانت بجانب الكافرين، أمر المسلمين أن يثبتوا أمام كل مشكلة، فإن الله بجانبهم دائما يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً كافرة أو مخالفة، ممن عتي عن أمر الله سبحانه فَاثْبُتُوا و لا تنهزموا أمامهم، فإن الثبات يوجب النصر، و بالعكس الانهزام و الفرار يوجبان الفشل و الخسران وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً مستعينين به في الحرب و الدعوة، فإن ذكر الله سبحانه يشجّع الإنسان و يقوّي فيه العزيمة، كيف و الإنسان بتكرار الذكر، تتكون فيه ملكة الاتصال بالقوى الكونية، هذا بالإضافة إلى أن نصرة الله سبحانه توجب قوة و طاقة خارقة في النفس، كما ثبت في علم النفس لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي لكي تنجحوا و تظفروا و تفوزوا بخير الدنيا و الآخرة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 340

[سورة الأنفال (8): آية 46]

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)

[47] وَ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم وَ رَسُولَهُ فيما بيّن لكم- و قد مرّ مكررا أن قرن اسم الرسول باسم الله سبحانه للتعظيم، و لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو المبيّن- وَ لا تَنازَعُوا فيما بينكم فيقول بعض: نقدم، و يقول بعض:

نحجم فَتَفْشَلُوا فإن التنازع يوجب تبديد القوى المعنوية بالإضافة إلى تبديده و إضاعته للقوى المادية وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي دولتكم، فإن الريح بمعنى الدولة لغة، أو هو من باب التشبيه، فإن الدولة تشبّه بالريح لهبوبها و سيطرتها على الأشياء و نفوذ أمرها، يقال: «هبت ريح فلان» إذا نفذ أمره.

و التنازع، لا يجزئ القوى إلى سلب و إيجاب فقط، بل فوق ذلك يضعف القوى الإيجابية. فلو فرضنا أن طاقة زيد

تقدّر بألف مقاتل، فإذا خالفه عمرو قدّرت طاقته بخمسمائة، حتى أنه لو كان وحده بدون مخالف لقدرت طاقته بألف، و ذلك لأن المخالف يحدّ من النشاط و يضعف من القوى، بخلاف التجمع فإنه يزيد الطاقة الألفية إلى الألفين. و لذا ثبت في علم النفس أن الإنسان إذا رأى خلافا فالأفضل أن يصمّ عن المخالف حتى يبقى على قواه الذاتية، و لا تحد من نشاطه الطاقة المناوئة.

وَ اصْبِرُوا و الفرق بين الثبات و الصبر، أن الصبر يلائم حالة الهزيمة و النصر، و هو مقابل الجزع، و الثبات مقابل الانهزام، و من الواضح أن الصابر يصل إلى مطلبه و لو انهزم وقتيا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر و الظفر، و ليس المراد المعية الجسمية، كما هو واضح.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 341

[سورة الأنفال (8): الآيات 47 الى 48]

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48)

[48] وَ لا تَكُونُوا أيها المؤمنون كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ من أهل مكة بَطَراً «البطر» الخروج من موجب النعمة بالكفر، من «بطر» يعني «شق»، و منه «البيطار» لأنه يشق اللحم بالمبضع، فقد خرج الكفار من مكة بالمعازف و الطبول وَ رِئاءَ النَّاسِ فإنهم لما خرجوا ملئوا خوفا و رعبا من المسلمين، و لكن خرجوا ليظهروا أنهم لا يبالون بالمسلمين و يظهروا شوكتهم وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ

اللَّهِ هذا مقابل قولهم أنهم أولى بالبيت من المسلمين. و المراد ب «الصد» المنع عنه، حيث كانوا يقفون دون تبليغ الأحكام وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ إحاطة علم و قدرة فيجازيهم بما عملوا.

قال ابن عباس: أنه لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره، أرسل إلى قريش أن ارجعوا، فقال أبو جهل: و الله لا نرجع حتى نرد بدرا- و كان بدر موسم من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام- فنقيم بها ثلاثا ننحر الجزور و نطعم الطعام و نسقي الخمور و تعزف علينا القيان و تسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا «1».

و إلى هذا أشارت الآية الكريمة، فإن المسلمين يجب أن يكونوا مؤدبين بآداب الله سبحانه حتى في حالة الحرب.

[49]

في موقعة بدر جاء إبليس إلى كفار مكة في صورة سراقة بن مالك فقال لهم: إني جار لكم ادفعوا إليّ رايتكم. فدفعوها إليه و جاء

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 236. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 342

بشياطينه يهول بهم على أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أقبلت قريش يقدمها إبليس معه الراية فنظر إليه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال لأصحابه: غضوا أبصاركم و عضوا على النواجذ و لا تسلّوا سيفا حتى آذن لكم. ثم رفع يده إلى السماء فقال: «يا رب إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، و إن شئت لا تعبد، لا تعبد» «1» ثم أصابه الغشي فسري عنه و هو يسلت العرق عن وجهه و هو يقول: هذا جبرائيل قد أتاكم في ألف من الملائكة مردفين. فنظروا فإذا بسحابة سوداء فيها برق لامع قد وقع على عسكر رسول الله صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم و قائل يقول: أقدم حيزوم، أقدم حيزوم. و سمعوا قعقعة السلاح من الجو و نظر إبليس إلى جبرائيل فتراجع و رمى باللواء فأخذ منبه بن الحجاج بمجامع ثوبه ثم قال:

ويلك يا سراقة تفت في أعضد الناس، فركله إبليس ركلة في صدره و قال: إني بري ء منكم.

وَ قد كان ذلك إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي في وقت حسّن الشيطان أعمال المشركين في نظرهم بأن شجّعهم على قتال المسلمين، و يحتمل أن يكون «إذ» معمولا لفعل مقدّر هو «اذكر» وَ قالَ الشيطان للكفار: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا يغلبكم أحد من الناس لكثرتكم و قوتكم فانهضوا لقتال المسلمين- في بدر- وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ من الإجارة، ناصر لكم على عدوّكم فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقت، فرقتا المسلمين و الكافرين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 255.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 343

[سورة الأنفال (8): آية 49]

إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

نَكَصَ الشيطان أي رجع عَلى عَقِبَيْهِ أي متقهقرا منهزما، فإن الإنسان إذا أراد أن يتقهقر اعتمد على عقب رجليه، و هذا تشبيه لإفادة الفرار مع الجبن، فإن الجبان لا يدبر خوفا من أن يلحقه الطلب.

وَ قالَ الشيطان للكفار: إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ فلا صلة بيننا، و لا أفي بما ضمنت لكم من الإجارة و النصر إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ فقد رأى الشيطان الملائكة و كان يعرفهم، و علم أنه لا طاقة له بهم، كما أن الملائكة كانت تعرف الشيطان إِنِّي أَخافُ اللَّهَ بأن يعذبني على أيدي الملائكة وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ لا يطاق

عذابه.

و في بعض التفاسير: و إنما قام الشيطان بهذا العمل- أي تشجيع الكفار- لأن الله سبحانه شاء أن يخرجهم إلى حرب المسلمين، فتنكسر شوكتهم و تذهب ريحهم و يتحطم كبرياؤهم.

و من الانهزامية المادية أن نأوّل هذه الآية كسائر الآيات المبينة لما وراء المادة، بتأويلات لا تنافي الأمور المادية، فإن التأويل إنما يصح إذا دل عقل أو نقل قطعي على خلاف الظاهر، أما إذا لم يدل دليل و لم تكن هناك قرينة، فأي مبرّر لأن نترك الظاهر بمجرد أنه يلائم الأمور المادية، و لو فتح هذا الباب للزم أن نقول بذلك حتى في القرآن الحكيم نفسه، إذ هو أيضا أمر خارج عن طوق المادة.

[50] كان تزيين الشيطان للمشركين قتالهم مع المسلمين إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 344

[سورة الأنفال (8): آية 50]

وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50)

أي في حال صدور هذه المقالة عن المنافقين، و المراد بهم إما الكفار، فإن الكافر باعتبار أنه يعلم الواقع و يظهر خلافه يسمى منافقا، و إما المسلمون المنافقون وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إما عطف بيان، أو يراد أحد اللفظين المسلمون المنافقون، و بالتالي الكفار، و المراد بالمرض مرض الانحراف عن المنهج المستقيم، فإن البدن كما يصاب بالأمراض الجسمية، كذلك الروح تصاب بالأمراض الخلقية، فالبخل و الحسد و الجبن و ما أشبه أمراض غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ أي غرّ المسلمين دينهم حتى خرجوا مع قلّتهم و صمّموا على قتال الكفار الأقوياء عددا و عدّة وَ ليس الأمر كذلك فإنه مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فيسلم أمره إليه و يثق به فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغلب، و كذلك لا

يغلب المتوكلون عليه حَكِيمٌ فيما يفعل، يضع الأمور مواضعها، فلا يترك المسلمين و لا يخذلهم، بل ينصرهم على الكافرين، فإنه له القوة يمنحها المتوكلين عليه، و له الحكمة يدبّر بها الأمور.

[51] إن الكافرين كان مبدأ أمرهم- في مقابلة المسلمين- الانهزام، فلننظر إلى مصيرهم وَ لَوْ تَرى يا رسول الله، أو المراد كل من تتأتى منه الرؤية إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ أي تقبض الملائكة أرواح الكفار عند موتهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 345

[سورة الأنفال (8): آية 51]

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51)

أي يضربونهم من الأمام و من الخلف، كما يضرب المجرم الكثير الاجرام وَ يقال لهم: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي العذاب الذي يحرق.

و

قد روي أن الملائكة كانت تضرب قتلى المشركين في بدر بالمقامع فتلهب جراحاتهم بالنار و تزهق أرواحهم

«1». و الإتيان بصيغة الأمر في «ذوقوا» لتصوير المشهد كأنه مجسّم أمام المخاطب، و هو من باب الإلفات، كما ذكر في علم البلاغة.

[52] ذلِكَ العقاب لكم أيها الكفار بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي بما قدّمتم و فعلتم من الكفر و المعاصي، و إنما نسب إلى اليد، للتغليب، فإن كثيرا من الأعمال تأتي بواسطة اليد وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «ظلّام» صيغة للنسبة، لا مبالغة، كتمّار بمعنى المنسوب إلى التمر.

قال ابن مالك:

و مع فاعل، و فعّال، فعل في نسب أغنى عن اليا فقبل

و من المحتمل أن تكون مبالغة، و ذلك لإفادة أنه سبحانه لو كان ظالما لكان كثير الظلم لأن كل صفة تصحّ فيه تعالى لا بد و أن تبلغ شأنا كثيرا، فنفي المبالغة نفي للأصل، و المعنى: إن العقاب ليس إلا بسبب جناية العبد، لا

أنه اعتباطي منه سبحانه.

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 4 ص 480.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 346

[سورة الأنفال (8): الآيات 52 الى 53]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)

[53] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ الدأب: العادة، و الكافر للتشبيه، أي أن عادة هؤلاء المشركين في الكفر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كعادة آل فرعون و هم قومه و أتباعه وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أقوام الأنبياء، في الكفر بالرسل و تكذيبهم، فليس تكذيب هؤلاء جديدا، فإن السابقين عليهم أيضا كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ و ما أنزل على الأنبياء فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ بأن عاقبهم و أنزل عليهم أنواع العذاب إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ لا يقدر أحد على التمرد عليه، فإذا أراد أخذ أحد أخذه أخذ عزيز مقتدر شَدِيدُ الْعِقابِ و ليس عقابه يسيرا هيّنا حتى لا يخشى منه.

[54] ذلِكَ العقاب الذي حلّ بأولئك و هؤلاء، ليس اعتباطا و ابتلاء من الله سبحانه بلا استحقاق بل بسبب عملهم، لأن اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما أي الحالة الصحيحة التي كانت بِأَنْفُسِهِمْ إن الصحة و الرخاء و الأمن و الغنى أحوال لاصقة بأنفس الناس، منحها الله إياهم، و طلب أن يعملوا برضاه فيها، فإذا غيّروا ما طلب منهم بالنسبة إليها، بأن صرفوا تلك النعم إلى المعاصي، غيّر الله تلك النعم فأبدل الصحة مرضا، و الرخاء ضنكا، و الأمن اضطرابا، و الغنى فقرا. و هذا بالإضافة إلى كونه مرتبطا بما وراء المادة، مرتبط

بالمادة أيضا، فإن الصحة تنحرف باستعمال

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 347

[سورة الأنفال (8): آية 54]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)

المحرمات الضارة، و الرخاء ينحرف بعدم التعاون و العداء مما يسبب تفكك المجتمع فلا يزرع بمقدار ما كان التعاون يسببه، و هكذا، و الأمن ينحرف إذا نوى كل إنسان الشر بأخيه، و الغنى ينحرف إذا كسل الناس عن العمل أو عملوا أعمالا غير مثمرة لا تفيد مالا.

و من المعلوم أنه لا يلزم أن يكون الناس مؤمنين ثم يكفرون، بل هنالك مناهج بشرية عامة قرّرها سبحانه إذا سادت المجتمع كانوا في أمن و رفاه، فإذا غيّروها تغيرت النعمة، مثلا الظلم و القتل قبيحان، و التعاون و الإحسان حسنان، أما بالنسبة إلى من بدّل الإيمان كفرا و مناهج الشريعة أهواء، فذلك أوضح وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع أقوال الناس عَلِيمٌ بضمائرهم، فإذا رأى تغييرا في النيات، و انحرافا في الكلمات غيّر ما أعطاهم من نعمة و ما تفضّل عليهم من أمن و راحة.

[55] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ أي أن عادة هؤلاء الكفار كعادة آل فرعون وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من سائر الأمم. و إنما كرّر لتأكيد أن الحالة هي الحالة، فإن كثيرا من الناس لا يصدقون أن ما جرى في الأمم السابقة تجري في هذه الأمة، و لذا يحتاج الأمر إلى تركيز و تقرير، و ذلك لا يكون إلا بالتكرار و التذكير مرة فمرة كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ دلائله و حججه فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فلم يموتوا ميتة طبيعية، و إنما أخذوا بالعذاب وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ مع فرعون نفسه، فإنه قد يطلق «الآل» على

الأعم من الشخص

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 348

[سورة الأنفال (8): الآيات 55 الى 56]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ (56)

للتغليب، كما تقدم في قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ «1»، وَ كُلٌ من تلك الأمم التي أهلكناهم كانُوا ظالِمِينَ و تخصيص الكلام بآل فرعون، لأن كفرهم و عقوبتهم كانت ظاهرة واضحة لدى السامعين.

[56] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِ الدابة: كل ما يدبّ على وجه الأرض، لكن المنصرف منها الحيوان، و شرّ الجميع عِنْدَ اللَّهِ في حكمه الَّذِينَ كَفَرُوا و استمروا على كفرهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ «الفاء» لعطف جملة على جملة. و لا يقال: إن الدواب لا شر فيها، فكيف يجعل الكافر شرا منها، لأنه يجاب عنه: بأن من الدواب ما فيها شر كالسامة و المؤذيات. و التي ليس فيها شر، يعدّ شرا باعتبار أنها لا تهتدي طريقا، و ليس المراد بالشر هذا المعنى فقط.

[57] ثم بيّن سبحانه المصداق الظاهر لذلك بقوله: الكفار الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ عهد حسن الجوار بأن تكون في أمن منهم، و هم في أمن منك ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي كلّما عاهدوا نقضوا العهد و لم يفوا به وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ الله و لا يخافون عقابه، أو لا يتقون نقض العهد. و الظاهر من الآية أن ذلك كان دأب بعض الكفار.

و في «المجمع»: عن مجاهد أنه أراد به يهود بني قريظة فإنهم قد

______________________________

(1) آل عمران: 34.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 349

[سورة الأنفال (8): الآيات 57 الى 58]

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ

(57) وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)

عاهدوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أن لا يضرّوا به و لا يمالئوا عليه عدوا، ثم مالئوا عليه الأحزاب يوم الخندق و أعانوهم عليه بالسلاح، و عاهدوا مرة بعد أخرى فنقضوا «1».

[58] و ما هو جزاء هذه الفئة التي هي شرّ من الدواب و لا تلتزم حتى بالعهود؟! فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ «إن» الشرطية و «ما» زائدة، و «ثقف» بمعنى: ظفر، أي إن ظفرت بهم يا رسول الله فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ «التشريد» هو التفريق، أي نكّل بهؤلاء تنكيلا و فرّقهم تفريقا حتى يتعثّر بهم من هم ورائهم من الذين عاهدوا معك، حتى يخافوا فلا ينقضوا العهد. فتكون الآية دالّة على أمرين: الأول: تأديب هؤلاء الناقضين للعهد. الثاني: إلقاء الرعب في قلوب الآخرين لئلّا ينقضوا عهدهم لَعَلَّهُمْ أي لعلّ من خلفهم يَذَّكَّرُونَ أي يتذكرون أن نقض العهد يوجب مثل هذا التأديب فلا يقدموا على مثله، فإن نقض العهد من أسوأ الأعمال، إذ يدل ذلك على أن المعاهدة كانت للضعف، فكلّما وجد أحد المعاهدين سبيلا إلى نقضه نقضه، و هذا يوجب سقوط قيمة المعاهدات، و أن لا يكون المتعاهدون بعضهم في أمن من بعض. أما الخدعة في الحرب فليست قبيحة إذ تلك بعد تأهّب كل فريق.

[59] وَ إِمَّا تَخافَنَ «إمّا» مركّبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة، تأتي

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 483.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 350

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 399

[سورة الأنفال (8): آية 59]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)

للتوسع في معنى الشرط، يعني: و

لو كان الاحتمال ضعيفا، إن لم تدخل نون التأكيد، و إلّا أفادت التأكيد في الشرط، بأن يكون الاحتمال قويا مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً أي إن خفت يا رسول الله من قوم من هؤلاء المعاهدين خيانة، بأن يخونوا عهدك و يحاربوك فجأة بعد إبرام الميثاق فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أي ألق المعاهدة بينك و بينهم، إلقاء منتهيا إليهم، بمعنى أعلمهم عن إلقاءك للعهد، حتى يكون كلا الطرفين على سواء في الأمر، لا أن يكونوا هم بصدد المباغتة و أنتم في أمن و دعة منهم، فإن الإنسان إذا علم أن خصمه في عهد يأمن، أما إذا علم أنه في حرب يستعد، أما أن يبقى متزلزلا يخاف خيانته، فإنه في اضطراب و ارتباك، و العهد في نظر العرف ليس مما إذا أبرم دام، بل معلق بنقضه من الطرفين مع الاعلام إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ أي فلا تخنهم يا رسول الله بالقتال فجأة بدون إعلام، بل أعلمهم النقض ثم إذا أردت قتالهم، فقاتلهم بعد الاعلام.

و عن بعض المفسرين: إن الآية نزلت في بني قينقاع من اليهود، فإنه كان بين النبي و بين أولئك معاهدة، و حيث أن اليهود كان من طبعهم الخيانة خاف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك، و لذا حلّ العهد الذي بينهم، لئلّا يباغتوه و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أمن منهم. ثم صارت بينهم المحاربة «1».

[60] إن الكفار بنقضهم العهد دون الاعلام، و خيانتهم و غدرهم- كما صدر

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 485، عن الواقدي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 351

[سورة الأنفال (8): آية 60]

وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ

عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60)

من بني قريظة- يظنون أنهم قد سبقوا، و أدركوا فرصة ذهبية سببت عجز المسلمين، لكنه ليس كذلك وَ لا يَحْسَبَنَ يا رسول الله الَّذِينَ كَفَرُوا بنقضهم العهد و غدرهم سَبَقُوا و استفادوا من فرصة المباغتة و السبق إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي أن هؤلاء الكفار لا يعجزون المسلمين، بمعنى أنهم بغدرهم لا يسببون عجز المسلمين، بل الله سبحانه ناصرهم، فإن الله سبحانه في عون الوفيّ لا الغادر، و لذا ذهب بنو قريظة أدراج خيانتهم، بينما غلبهم المسلمون.

[61] وَ أَعِدُّوا أيها المسلمون، و الإعداد هو التهيئة قبل وقوع الأمر لَهُمْ أي للكفار مَا اسْتَطَعْتُمْ ما قدرتم عليه مِنْ قُوَّةٍ دفاعية و هجومية، بتهيئة وسائل الحرب، حتى تكونوا دائمي الاستعداد، سواء هاجمتم أو هوجمتم. و لعل إطلاق القوة يشمل جميع أنحاء القوى المادية و المعنوية و غيرها وَ ما استطعتم مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ أي ربط الخيل و اقتناءها للجهاد و الحرب تُرْهِبُونَ بِهِ أي تخوّفون بسبب إعداد ما استطعتم عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ فإن الكافر عدو الله لمخالفته له، و عدو المسلمين كما هو واضح. و لعل المراد بهم: أهل مكة، فإنهم كانوا ظاهري العداوة وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي ترهبون به كفارا آخرين دون أولئك في العداوة، أي أن عداوتهم أضعف، أو دون أولئك في المحل كبني قريظة الذين كانوا قريبين من المدينة لا تَعْلَمُونَهُمُ أي لا تعلمون أيها المسلمون أنهم أعداء لكم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 352

[سورة الأنفال (8): الآيات 61 الى 62]

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62)

اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ حيث يعلم ما بطن من الأمور.

و هذا درس للمسلمين بأن يستعدوا لأي عدو لئلّا يباغتوا وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فإن الحرب تحتاج إلى الإنفاق، و لذا يقرن غالبا الجهاد بالإنفاق في الآيات الكريمة يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يرجع إليكم في الدنيا بالغنيمة و شبهها، و في الآخرة بالثواب الجزيل وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا يظلمكم الله تعالى بأن يعطيكم أقل مما أخذ منكم.

[62] وَ إِنْ جَنَحُوا الجنوح: الميل، و منه جناح الطائر لأنه يميل به في أحد طرفيه، أي إن مال الكفار لِلسَّلْمِ و عدم الحرب فَاجْنَحْ لَها أي مل إليها و اقبلها منهم، و «السلم» مؤنث سماعي، و لذا جي ء بالضمير مؤنثا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوّض أمرك إليه، فلا تخف أن تفوتك الفرصة، فإن السلم أحرى أن تلين القلوب فيه و يكفي مؤونة أتعاب الحرب إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لأقوال الطرفين الْعَلِيمُ بنياتهم، فلا يفوته غدر غادر و سلم مسالم. و من المعلوم أن الجنوح للسلم إذا كان من مصلحة المسلمين فلا ينسخ قوله: قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ «1»، هذه الآية، بل كلّ في مقام المصلحة.

[63] وَ إِنْ يُرِيدُوا أولئك الذين يجنحون للسلم أَنْ يَخْدَعُوكَ بأن

______________________________

(1) التوبة: 36.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 353

[سورة الأنفال (8): الآيات 63 الى 64]

وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)

يجدوا فرصة لتهيئة

العدّة للغدر بك و قتالك فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هو يكفيك شرهم، و يتولى أمورك، فإنه كما كفاك سابقا يكفيك الآن هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ أي قوّاك بِنَصْرِهِ أي النصرة التي أنزلها عليك وَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي أيدك بالمؤمنين الذين التفوا حولك، فتمكنت أن تبارز بهم الأعداء.

[64] وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ المتنافرة حتى يكونوا قوة واحدة في وجه الأعداء، فإن وحدة الكلمة من أهم أسباب النصر، و قد كانوا قبل الإسلام في أشد حالة من العداوة و البغضاء حتى أنه كان بين الأوس و الخزرج عداوة و قتال دام أكثر من مائة سنة لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ فإن المال يزيد العداوة، فإنه يكون وقودا لها، و إنما أزال الله سبحانه الضغائن بتصفية القلوب و تطهير أدران النفوس وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بهدايتهم للإسلام المطهّر للعداوة عن الأفئدة إِنَّهُ سبحانه عَزِيزٌ غالب على أمره، فإذا أراد شيئا أوجده حَكِيمٌ بحكمته و تدبيره يدبّر الأمور و يديرها.

[65] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ أي يكفيك في مقابلة الأعداء وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإنهم كافون بالنسبة إلى القوى الظاهرة، و هذا تشجيع

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 354

[سورة الأنفال (8): الآيات 65 الى 66]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)

للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لئلّا ينظر إلى كثرة

الأعداء، كما جرت العادة في الحروب العادية.

قال بعض المفسرين: نزلت في البيداء قبل الشروع في القتال في وقعة بدر «1».

[66] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ أي رغّب الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ بذكر فوائده و آثاره و أنهم يسودون بسببه و يحوزون الأجر و الثواب في الآخرة لأجله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أيها المؤمنون عِشْرُونَ صابِرُونَ على القتال يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفار فكل واحد من المؤمنين في قبال عشرة من الكافرين وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا و ذلك لأن الإيمان و التضحية طاقتان عظيمتان تبدّلان الإنسان العادي إلى شخص شجاع مقدام، و ذلك الضعف في الكفار بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي لا يفهمون، فمن يحارب عن معرفة و إيمان يزوّد بما لا يزوّد به الإنسان الخليّ من العقيدة و الدين، و إن من عرف أنه إن قتل دخل الجنة و إن قتل دخل الجنة، كان قوي القلب في مقابل من لا يفقه ذلك.

[67] إن الفئة إذا كانت قليلة كانت الطاقة الإيمانية فيها قوية جدا، و ذلك لأنها تتقوّى حتى تتمكن من مقابلة القوي، و هذا أمر بيّن في علم

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 4 ص 490، عن الكلبي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 355

[سورة الأنفال (8): آية 67]

ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)

النفس، فالنفس القوية تأتي بما تحير العقول فيه، إما إذا كثرت الفئة فإن روح الاتكالية تقوى فيهم، و بمقدار ارتفاع نسبة الاتكالية، تنخفض القوة و الطاقة، و لذا نرى الأمم أول تكوّنها أنشط منها في أواسط حياتها، فكيف بأواخرها، و هذا هو السبب في

أن خفّف الله الحكم عن المؤمنين بعد أن كثروا، الْآنَ و بعد أن كثرتم أيها المؤمنون خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ في لزوم مقابلة الواحد منكم لعشرة من الكفار وَ عَلِمَ الله أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً عطف على «الآن» لا على «خفف» و المراد بالضعف: ضعف الطاقة، لا ضعف الجسد فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أيها المسلمون مِائَةٌ صابِرَةٌ تصبر على المكاره يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من الكفار وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ صابرين يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ من الكفار بِإِذْنِ اللَّهِ و إرادته حيث أراد لكم أن تكونوا أقوى من عدوكم بما وهب لكم من الإيمان، فإن الرجل منكم يعادل رجلين من العدو، فإنه و إن كان أضعف من الحكم السابق و لكنه أيضا بإذنه سبحانه وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ينصرهم و يعينهم.

و لعل الحكمين تابعان لحالة نفوس المسلمين في كل دور، فمتى رأوا قوة من أنفسهم كان العشرة منهم بمائة، و متى رأوا الضعف من أنفسهم كان العشرة منهم بعشرين، فلا نسخ في البين، و الله العالم.

[68] أسر المسلمون يوم بدر سبعين أسيرا فقتل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم ثلاثة، و خاف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 356

المسلمون أن يقتلهم جميعا فتقدموا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأخذ الفداء منهم رغبة في المال، و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم أن قتل بعضهم أصلح، كما كان كذلك شأن الأنبياء قبله، و ذلك لأن رؤوس المؤامرات إذا أطلقوا عاثوا في الأرض فسادا و عادوا إلى المجتمع بأكثر قتلا و فتكا، لكن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل طلب هؤلاء لأمر أصلح و هو أن لا يختلف

أصحابه بما يعود بأكثر ضررا، فنزلت هذه الآية توبيخا للمسلمين:

ما كانَ لِنَبِيٍ أي ليس له، و لم يكن في عهد الله إليه أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى بأن يأخذ الأسير ثم يطلقه منّا، أو في مقابل الفدية حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ الإثخان: التغليظ، أي يحمل الأرض ثقلا بالقتلى، أو المعنى: حتى يغلب في الأرض ليخاف الكفار سطوته، فإنهم إن علموا أنهم إن وقعوا أسرى فدّوا و تحرروا، جرّأهم ذلك على الاستمرار في المؤامرة و المكايدة، لكنهم إن عرفوا أن وراءهم القتل، قلت جرأتهم، و سلمت الدولة من شرهم.

فهل تُرِيدُونَ أيها المسلمون عَرَضَ الدُّنْيا أي المصالح الدنيوية، و سمي عرضا لأنه لا يبقى، و المراد به هنا: المال المأخوذ فدية وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ فإنكم إن صرفتم النظر عن المال لأجل ثواب الله سبحانه، كان خيرا لكم وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذو قوة و منعة، فاعملوا بأوامره حتى يقويكم حَكِيمٌ يدبر الأمور بحكمته البالغة، فما يأمر به هو المصلحة دون ما تظنون.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 357

[سورة الأنفال (8): الآيات 68 الى 69]

لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

[69] لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي لو لا أن الله سبحانه كتب سابقا أن لا يعذب الناس حتى يبيّن لهم، كما قال سبحانه: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1»، لَمَسَّكُمْ أيها المسلمون فِيما أَخَذْتُمْ من الفدية عَذابٌ عَظِيمٌ إن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن عليه غضاضة لأنه لاحظ الأصلح من توحيد كلمة أصحابه حيث قبل أخذ الفدية مكرها، أما المسلمون فقد

استحقوا العقوبة حيث رجّحوا المال على ما فيه خيرهم و رغبة نبيهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

قد ورد في الحديث: أن الفدية كانت أربعين أوقية من الفضة، كل أوقية أربعين مثقالا، إلّا العباس عم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث أخذ منه مائة أوقية «2».

[70] أما إذا انتهى الأمر و أخذتم الفدية فلا بأس في أكلكم لها فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من الكفار حَلالًا طَيِّباً و الطيب إذا قورن بالحلال أفاد معنى عدم نفرة الطبع منه في مقابل الحلال الذي ينفر منه الطبع وَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تخالفوا أوامره إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ قد غفر ذنبكم في أخذكم الفدية رَحِيمٌ يرحمكم فيما بعد بلطفه، مقابل بعض الكبار الذين إذا غفر ذنب المذنب، ينتهي الأمر عند ذلك، فلا يرحمه بعد ذلك.

______________________________

(1) الإسراء: 16.

(2) عوالي اللآلي: ج 2 ص 101.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 358

[سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

[71] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ أي تحت استيلائكم، و ذكر «اليد» لأنها تكون الآخذة للأشياء غالبا مِنَ الْأَسْرى جمع أسير، و المراد بهم أسرى بدر الذين أسرهم المسلمون إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً بأن لم تكن قلوبكم محشوة بالحقد و العداوة بل طاهرة نظيفة يُؤْتِكُمْ أي يعطيكم خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء، و إنما يعطيكم ذلك لطفا و رحمة لا استحقاقا و عوضا وَ يَغْفِرْ

لَكُمْ ذنوبكم. و من المعلوم أن ذلك مشروط بالإيمان وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ و قد كان العباس بن عبد المطلب يقول: نزلت هذه الآية فيّ و في أصحابي، كان معي عشرون أوقية ذهبا فأخذت مني فأعطاني الله مكانها عشرين عبدا كل منهم يضرب بمال كثير و أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية.

[72] ثم سلّى الله سبحانه نبيّه حول إطلاق الأسرى بالفداء نزولا عند رغبة أصحابه، بأنه لا يهمّه ما لعل الطلقاء يقومون به من مؤامرة جديدة ضده وَ إِنْ يُرِيدُوا أي يريد الطلقاء خِيانَتَكَ بأن يكون في نيّتهم تجديد المؤامرة فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في قصة خروجهم إلى بدر فَأَمْكَنَ الله المسلمين مِنْهُمْ فقتلوهم و أسروهم، و الله قادر على أن يمكّن المسلمين منهم ثانية إن خافوا منهم. و سمى خروجهم إلى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 359

[سورة الأنفال (8): آية 72]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)

بدر خيانة باعتبار وجوب شكر المنعم، لا باعتبار سبق معاهدة، فإنك إذا أنعمت و تفضلت على أحد، ثم قام ضدك يقال: أنه خانك وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بإرادتهم الخيانة و عدمها حَكِيمٌ يدير الأمور حسب الحكمة، فهم في قبضة علمه و إرادته لا يتمكنون من الإضرار بك.

[73] و بمناسبة ذكر الحرب و علاقة المسلمين بالمشركين، يأتي ذكر علاقة المسلمين بعضهم ببعض، و أنها علاقة الإيمان و

العقيدة و الهجرة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسوله و بما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة وَ جاهَدُوا أي حاربوا الكفار بِأَمْوالِهِمْ بأن بذلوها في سبيل الجهاد وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و يأتي ذكر «سبيل الله» في كل مناسبة للتنبيه على أن حركة المسلمين ليست إلا لإعلاء كلمة الله وَ الَّذِينَ آوَوْا أي الأنصار من أهل المدينة الذين جعلوا للرسول و المهاجرين مأوى بأن أسكنوهم في منازلهم، فإن المهاجرين لم يكن لهم مسكنا حين وردوا المدينة فأسكنهم الأنصار معهم في بيوتهم وَ نَصَرُوا أي نصروا الرسول و المهاجرين على أعدائهم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ و ليست هنالك ولاية بين المسلم و قريبه الكافر، و الولاية كلمة عامة تشمل أقسام الولاية و النصرة.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا إلى المدينة، بل بقوا في مكة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 360

[سورة الأنفال (8): آية 73]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ (73)

اختيارا ما لَكُمْ أي ليس لكم أيها المسلمون مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ لأنهم خالفوا أمر الرسول و أضعفوا- ببقائهم في مكة- كيان المسلمين حَتَّى يُهاجِرُوا كما هاجرتم وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ أي طلب المؤمنون غير المهاجرين منكم أيها المهاجرون أن تنصروهم على أعدائهم الكفار، في الأمور الدينية فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ و من المعلوم أن النصرة غير الولاية المطلقة، لأن المسلمين في المدينة كان ينصر بعضهم بعضا، و يسكن أحدهم الآخر في داره، و يجتمعون في السلم و الحرب، و أخذ الغنائم، و يتفقد أحدهم الآخر، كأهل بيت واحد، بخلاف النصر المجرّد على الكافر الذي قرّره سبحانه

للمسلمين في مكة.

إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ أيها المسلمون المهاجرون وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فإذا استنصركم المسلمون في مكة على كفار معاهدين معكم، فلا تخرقوا المعاهدة، و لا تنصروا المسلمين، لأن المسلم لا يغدر بعهده، و لا ينقض ميثاقه و إن كان مع الكافر وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تتركوا موالاة المهاجرين، و لا تتولوا غير المهاجرين.

[74] وَ الَّذِينَ كَفَرُوا ليسوا لكم بأولياء و إن كانوا أقرباؤكم بالنسب أو باللغة أو بالوطن بل بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ينصر بعضهم بعضا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 361

[سورة الأنفال (8): الآيات 74 الى 75]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (75)

ضدكم و إن اختلفوا. و بهذا المعنى

ورد: «الكفر كله ملة واحدة»

إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي إن لم تفعلوا ما أمرتم به من ولاية المؤمنين، و اعتبار الكفار كلهم ملّة واحدة، بأن عاديتم المؤمنين أو واليتم الكافرين تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ لأن في ذلك تعزيزا للكفر و إذلالا للإسلام، و قد دلّ منطق التاريخ أن كل وقت اتخذ فيه المسلمون الكافرين أولياء، ضعفت شوكتهم و ذهبت ريحهم، و بالعكس كل وقت اتخذوهم فيه أعداء، و اتخذوا سائر المسلمين أولياء، قويت شوكتهم و هبت ريحهم.

[75] وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته و تطبيق حكمه وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا من أهل المدينة الذين أعطوا المسلمين

مأوى و نصروهم على أعدائهم أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لقيامهم بجميع شرائط الإيمان لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من الله لذنوبهم وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ أي مع الكرامة في الدنيا و في الآخرة، فإن المؤمنين إذا ما عملوا بشرائط الإيمان تمّت عليهم بركات من السماء و الأرض.

[76] وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ في المستقبل- حتى لا يظن أن الأمر تمّ في زمن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- وَ هاجَرُوا و الهجرة باقية مهما كان الإنسان في دار

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 362

الكفر مما لا يتمكن معه من إظهار معالم الإسلام وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ و لو بنحو المعية المعنوية بأن كان جهادهم مع المؤمنين و في جماعتهم فَأُولئِكَ مِنْكُمْ في الأجر و الثواب و خير الدنيا وَ أُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو الأرحام و القرابة بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكم الله. و هذا أخص من الحكم الأول، فالقريب المسلم الجامع للشرائط أولى بقريبه المسلم الجامع للشرائط من البعيد المسلم الجامع للشرائط في جميع الجهات التي منها الإرث. و يفهم من الآية أن الأقرب من الرحم أولى من الأبعد إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فما يذكره من الأحكام إنما هو حسب الحكمة و المصلحة، لأنه يصدر عن علم و اطلاع.

و في بعض التفاسير: إن هذه الآية نسخت الآية السابقة أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فإن كان هناك دليل صحيح في الدين يدل على ذلك فهو، و إلا فظاهر الآيتين غير متناف حتى نحتاج إلى القول بالنسخ، و الله العالم «1».

______________________________

(1) راجع تفسير القمي: ج 1 ص 280.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 363

9 سورة التوبة مدينة/ آياتها (129)

تسمى هذه السور ب «سورة براءة» لأنها تبتدئ بهذه الكلمة، كما تسمى

بالتوبة، لكثرة اشتمالها على مشتقات هذه الكلمة. و لم تبتدئ هذه السورة ب «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لأنها نزلت لإعلان الحرب على الكفار و المنافقين، و ذلك ينافي «البسملة» التي تحمل في معناها الرحمة و السلام.

و لما اختتمت سورة الأنفال بعلاقة المسلمين بعضهم مع بعض ابتدأت هذه السورة بعلاقة المسلمين بالكافرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 364

[سورة التوبة (9): الآيات 1 الى 2]

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)

[1] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي هذه براءة، على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو «براءة» مبتدأ خبره «إلى الذين». و معنى البراءة: انقطاع العصمة، يقال: «برأ يبرأ من فلان» إذا قطع ما بينهما من الصلة. و المعنى: أن لا عصمة بين المسلمين و بين الذين عاهدوهم من المشركين، فقد كان بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين المشركين معاهدات، لكنهم غدروا، و لذا أجّلهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعة أشهر، فمن كان له معاهدة أعلمه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه يبقى على المعاهدة إلى أربعة أشهر، ثم هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرب عليه فليتخذ حذره.

و لم يكن هذا نقضا من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل نقضا منهم، و لذا قال سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ «1». و قد شاء الله سبحانه أن يطهر الجزيرة

التي أصبحت عاصمة الإسلام عن رجس الشرك و النفاق لتتوحد فيها الكلمة و يكون للمسلمين دولة مرهوبة الجانب ليفرغوا إلى الروم و الفرس.

[2] فَسِيحُوا أيها الكفار فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ معنى «السيح» السير، يقال: «ساح» إذا سار على مهل. أي: أنتم في مهلة بأن تسيروا آمنين و تتصرفوا في حوائجكم بكل تأن و طمأنينة إلى أربعة أشهر من ابتداء الإعلان، و هو من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، فإذا

______________________________

(1) التوبة: 4.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 365

انقضت هذه المدة فليس لكم عهد و لا أمان، و المحاربة معكم لا تعتبر غدرا و مباغتة وَ اعْلَمُوا أيها الكفار أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تتمكنون من أن تعجزوه و تغلبوه، بل هو القادر على أن يخزيكم بأيدي المسلمين، فلا تفكروا في محاربة المسلمين وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ «الخزي» النكال، أي أنه سبحانه ينكل بهم و ينتصر عليهم.

روى المفسرون أنه لما نزلت سورة براءة دفعها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أبي بكر ليذهب إلى الحج فيقرأها على المشركين، فلما مضى بعض الطريق جاء جبرئيل عليه السّلام إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال له: إن السورة لا يبلغها إلا أنت أو رجل من أهل بيتك، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا أن يخرج و يأخذها من أبي بكر، فرجع أبو بكر و ذهب علي عليه السّلام و قرأ السورة على الكفار في منى ثلاثة أيام، يوم العاشر من ذي الحجة، و الحادي عشر، و الثاني عشر منه، فكان يخرط سيفه و يقول: لا يحج بعد عامنا هذا مشرك، و لا يدخل البيت

إلا مؤمن، و لا يطوف بالبيت عريان، و من كانت بينه و بين رسول الله مدة فإن أجله إلى أربعة أشهر «1».

و لما أعلم الكفار بذلك، أظهروا تبرؤهم، فلم تبق صلة بينهم، و قد كان هذا العمل خطرا، حيث أن الكثرة الغالبة من الحجاج كانوا مشركين، فالاصطدام بهم بهذه الصورة الخشنة كان مظنة الإيقاع بالإمام عليه السّلام لكن الله سبحانه عصمه عن ذلك، و قد كان نزول سورة براءة في السنة التاسعة من الهجرة، بعد فتح مكة، و في العام القابل حج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجة الوداع، و لما أن رجع عن الحج نصب عليا

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 21 ص 266.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 366

[سورة التوبة (9): آية 3]

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3)

خليفة في غدير خم، و قبض في شهر صفر من تلك السنة.

[3] وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي إعلام منهما إِلَى النَّاسِ من المسلمين و المشركين يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ و هو يوم النحر، مقابل الحج الأصغر الذي هو العمرة، و سمي بالأكبر لأن أعماله أكثر، و إنما كان يوم النحر يوم الحج الأكبر لأن طواف الحج الذي هو أعظم أعماله يأتي فيه، و يحتمل أن يراد بذلك جميع أيام الحج، كما يقال: يوم الجمل، و يوم صفين، و يراد به الحين و الزمان الذي وقعت فيه هذه الحوادث.

و المعنى أن الله و رسوله يعلنان في هذا الوقت أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ

الْمُشْرِكِينَ فلا علاقة له بهم، و لا عهد له معهم وَ رَسُولِهِ أيضا بري ء منهم. و قد تقدم أن ذكره سبحانه هو الأصل، و ذكر الرسول للاحترام و لأنه المنفّذ المواجه فَإِنْ تُبْتُمْ أي رجعتم عن الشرك أيها المشركون فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في دنياكم حيث تسودون و تبقون مرفهين وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الإيمان و بقيتم على الشرك فَاعْلَمُوا أنكم في معرض عقاب الله و عذابه و أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي لا تتمكنون من أن تعجزوه و تغلبوه، بل هو ينتصر عليكم و يهلككم و يخزيكم وَ بَشِّرِ يا رسول الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ في الدنيا و الآخرة. و تسمية الإنذار بشارة، من باب الاستهزاء، و ذكر الضد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 367

[سورة التوبة (9): الآيات 4 الى 5]

إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

مكان الضد، كما يسمى الزنجي: كافورا، و الأعمى: بصيرا، و لبيان أن العذاب يأتي مكان انتظار البشارة، فإن الكفار كانوا ينتظرون بأعمالهم عاقبة حسنة فإذا بها عذاب و نكال.

[4] ثم استثنى سبحانه من براءته من المشركين و انتهاء معاهدتهم إلى أربعة أشهر، المعاهدين الذين وفوا بالعهد إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أيها المسلمون معهم مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً بل بقوا أوفياء على عهودهم وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً أي لم ينضموا إلى أعدائكم حتى يكونوا ظهيرا لهم

عليكم فَأَتِمُّوا أيها المسلمون إِلَيْهِمْ و إنما قال: «إليهم» كأن الإتمام يبتدئ من المسلمين و ينتهي إلى أولئك عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ المضروبة لهم، فهم في مدة عهدهم آمنون لا يحاربون إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون نقض العهد.

و قد كان جماعة من المشركين كذلك بقوا أوفياء على عهودهم كبني كنانة و بني حمزة، و قد كانت مدتهم تسعة أشهر، و كأهل هجر و البحرين و إيلة و دومة الجندل الذين كانت للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معهم مصالحات.

[5] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي مضت الأشهر الأربعة التي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها، و التي تنتهي بانتهاء عشرة أيام من ربيع الأول. و معنى الانسلاخ: المضي، كما ينسلخ الجلد عن الشاة، فتبدو

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 368

[سورة التوبة (9): آية 6]

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)

عارية ظاهرة، تشبيها للأشهر الحرم بالجلد الواقي لما بعدها من الأيام فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فقد رفعت الهدنة و العهد بما نقضوا من العهود. و ليس المراد قتل كل فرد فرد، بل المراد وقوع المقاتلة، و أنهم في حكم المحارب، و المراد من «حيث وجدتموهم» أينما كانوا في حلّ أو في حرم، فإن الحرم محترم لمن احترمه، أما من لم يحترمه فليس بمحترم فيه وَ خُذُوهُمْ أي خذوا من تمكنتم من أخذه، و الأخذ للقتل أو الحبس أو الاسترقاق وَ احْصُرُوهُمْ امنعوهم عن التصرف في حوائجهم و اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ كل محل للرصد و التطلع كقلل الجبال، و المضايق، و قوارع الطرق فَإِنْ تابُوا عن كفرهم وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ

أي التزموا بشرائط الإسلام، فإن إظهار مجرد الإيمان بدون الرضوخ للأحكام و الاستعداد لامتثال أوامر الله و الرسول، لا يعدّ إلا لقلقة لسان فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ دعوهم يتصرفون في البلاد، لهم ما للمسلمين و عليهم ما على المسلمين، لأنهم أصبحوا من زمرتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ بهم يتفضّل عليهم بلطفه.

[6] وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذي أمرتك بقتاله بعد انسلاخ الأشهر الحرم اسْتَجارَكَ أي استأمنك، بأن طلب الأمان منك ليسمع دعوتك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 369

[سورة التوبة (9): آية 7]

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)

فَأَجِرْهُ و أعطه الأمان حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ و حيث أن كلام الرسول هو الوحي، كما قال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1»، كان كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلام الله تعالى ثُمَ إن أسلم، كان له ما للمسلمين، و إن لم يسلم ف أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ أي أرجعه إلى محل أمنه، بأن يكون في حمايتك حتى يبلغ مكانه، لئلّا يغدر به في الطريق، و هذا كان كافرا حربيا، بعد عدم قبوله الإسلام إلّا أنه حيث جاء لغرض صحيح، لا يجوز قتله حتى يبلغ مأمنه ذلِكَ الأمان لمريد فهم الإسلام بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ حقيقة الإسلام، فهذا الأمان سبب لدخول بعضهم في الإسلام.

[7] ثم بيّن سبحانه وجه تبرؤ الرسول من العهود بعد أربعة أشهر بقوله: كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ و قد غدروا و ظاهروا الأعداء، و هل العهد يبقى مع ذلك؟ و قد كان ضرب المدة أربعة أشهر من سماحة الإسلام،

و إلّا فقد استحق الغادرون أن يجهز عليهم فور غدرهم إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ معهم عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فإنهم لم يغدروا، و كان استثناؤهم وحدهم دون سواهم، و قد كانوا كثيرين- كما عرفت- لأنهم «الفرد» الظاهر السابق إلى الذهن، و المراد بأولئك: هم قبائل بكر،

______________________________

(1) النجم: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 370

[سورة التوبة (9): الآيات 8 الى 9]

كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9)

بنو خزيمة و بنو مدلج و بنو حمزة، فقد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية- اليوم الذي عاهد رسول الله قريش قرب الحرم- و هؤلاء لم ينقضوا العهد، فأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإتمام مدتهم وفاء للعهد فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ أي مدة استقامة المشركين الذين لم ينقضوا العهد معكم، بأن لم تظهر منهم أمارات الغدر و الخيانة فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ و ابقوا على عهدكم معهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ الذين يتقون نقض العهد و خلف الوعد.

[8] كَيْفَ يكون للمشركين عهد، و تتورعون عن قتالهم وَ الحال أنهم إِنْ يَظْهَرُوا و يظفروا عَلَيْكُمْ و يتمكّنوا منكم لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً أي لا يحفظوا و لا يرعوا فيكم قرابة و لا عهدا، فإن «الإل» بمعنى القرابة، و «الذمة» بمعنى العهد، أو «الإل» بمعنى الحلف، أي تذهب المحالفات و العهود بمجرد أن يتمكن هؤلاء منكم يُرْضُونَكُمْ هؤلاء المعاهدون بِأَفْواهِهِمْ فيتكلمون بكلام الموالين وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ حبكم و ولاءكم، بل هي مليئة بغضا و عداوة وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن العهود و

المواثيق، فإن الفسق بمعنى الخروج عن الحق.

[9] اشْتَرَوْا هؤلاء الناكثون بمقابل آيات اللَّهِ التي كان المفروض الإيمان بها ثَمَناً قَلِيلًا فقد أعرضوا عن الدين في مقابل دنيا قليلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 371

[سورة التوبة (9): الآيات 10 الى 12]

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

زائلة تحفظوا عليها فَصَدُّوا أي منعوا الناس عَنْ سَبِيلِهِ أي سبيل الله تعالى إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بئس عملهم ذلك.

[10] لا يَرْقُبُونَ لا يراعون و لا يحفظون فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً و هذا تأكيد لما سبق، أي أنهم لا يراعون قرابة المؤمنين و لا عهدهم، بل إن ظفروا بهم قتلوهم و انتقموا منهم وَ أُولئِكَ الكفار الناقضون للعهد هُمُ الْمُعْتَدُونَ المجاوزون للحد، حيث لم يراقبوا العهود.

[11] فَإِنْ تابُوا عن الكفر و قبلوا الإسلام وَ خضعوا لأوامره بأن أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ بالنسبة إلى من تمكن منها فهم إخوانكم فِي الدِّينِ أيها المسلمون، لهم ما لكم، و عليهم ما عليكم وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ نميّزها و نبيّنها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لأهل العلم، فإنهم هم الذين يستفيدون منها لا الجهلة الذين لا يعرفون شيئا.

[12] وَ إِنْ نَكَثُوا أي نقضوا أَيْمانَهُمْ أي عهودهم و الأيمان التي حلفوها بعدم الاعتداء عليكم مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ معكم، و هذا كالتذكير ببشاعة عملهم، و إلا فكل نكث يكون بعد العهد وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أي أخذوا يقدحون و يعيبون

دينكم فَقاتِلُوا أيها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 372

[سورة التوبة (9): آية 13]

أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)

المسلمون أَئِمَّةَ الْكُفْرِ «أئمة» جمع إمام، و هم قادة الكافرين، و إنما خصّهم بالذكر لأنهم المضلون لأتباعهم الذين إن استأصلوا ذهبت شوكة الكافرين.

و يستفاد من الآية: أن الأولى قصد مراكز انتشار الكفر و معادنه إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي أن أئمة الكفر لا يحفظون العهود و الأيمان و لا وفاء لهم بها لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ أي قاتلوهم لكي ينتهوا عن الكفر.

[13] ثم حثّ سبحانه المؤمنين بقتالهم بقوله: أَ لا تُقاتِلُونَ أي هلّا تقاتلون قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ و نقضوها، و هذا لا ينافي قوله: «لا أيمان لهم» فإن معنى ذلك: أنهم لا يحفظوها، و معنى هذا أنهم عقدوها. و الحاصل أنهم عقدوا الأيمان و لكن نقضوها وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ حين تآمروا في دار الندوة لإخراجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مكة.

و لعل ذكر ذلك مع أنهم همّوا بقتله أيضا، أوقع في النفس، و أبلغ في التحريض و الحث، لأن الإخراج الذي قصده المتآمرون كان أسوأ من القتل، فإنهم قصدوا إخراجه حتى يموت في بيداء خالية من الماء و الطعام، أو المراد بالإخراج: إخراجه من بين أظهرهم بالإثبات أو القتل أو النفي وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فإنهم ابتدءوا بقتال المسلمين و إيذائهم و الصد عن سبيل الله.

إن كل هذه الأمور الثلاثة مما يبيح لكم قتالهم، فلما ذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 373

[سورة التوبة (9): الآيات 14 الى 16]

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ

وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)

لا تقاتلونهم أيها المسلمون؟ أَ تَخْشَوْنَهُمْ أي هل تخشون هؤلاء الكفار أن تصيبكم منهم أذية؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فإنكم إن تركتم قتال هؤلاء عذّبكم الله سبحانه، فهو أحق بالخشية من هؤلاء إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بالله و بما جاء به الرسول، أما غير المؤمن فلا يعتقد بعقاب الله سبحانه و لذا لا يخشاه.

[14] قاتِلُوهُمْ أي قاتلوا الكفار أيها المسلمون، إن تقاتلوهم يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ بالقتل و الأسر وَ يُخْزِهِمْ أي يذلهم و يحطّم شوكتهم وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ حتى تكون كلمتكم هي العليا و تكون الغلبة لكم وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ فإن صدور المؤمنين كانت ممتلئة غيظا و كمدا، و كل من انتصر شفي صدره و ذهبت فرحة النصر بغيظه.

[15] وَ يُذْهِبْ الله غَيْظَ قُلُوبِهِمْ الذي تجمع فيها من كثرة ما رأوا من الاضطهاد و الظلم وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ من هؤلاء الكفار إذا آمنوا مع فرط تعدّيهم و عتوّهم، فإن الإسلام يجبّ ما قبله وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمصلحة حيث يأمركم بقتال هؤلاء، فلا يأمر اعتباطا حَكِيمٌ فأمره عن حكمة و دراية.

[16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا «أم» أداة استفهام و عطف، فقد عطفت هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 374

[سورة التوبة (9): آية 17]

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ

(17)

الجملة على قوله: «ألا تقاتلون» أي: هل ظننتم أيها المسلمون أن تتركوا آمنين في دياركم من دون أن تكلّفوا الجهاد في سبيل الله سبحانه؟ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ «لمّا» حرف نفي مع تقريب وقوع الفعل الذي لم يقع بعد، أي لم يتعلق علم الله سبحانه بالمجاهدين، فإنه لم يصدر منكم جهاد، حتى يكون علم الله واقعا خارجيا، فإن العلم إنما يكون خارجيا، إذا وجد متعلقه، فإذا علم الإنسان أن زيدا سيجي ء غدا، يقال: لمّا يعلم فلان مجي ء زيد، بمعنى أنه لم يقع متعلق علمه وَ لمّا يعلم الله الذين لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً «الوليجة» هي البطانة التي يخفي الإنسان لديها أسراره، كأنه يلج فيها بسره، فإن حبّ الشخص لا يمتحن في أيام الرخاء، و إنما يمتحن في أيام الشدة و البلاء، فالصديق لا يتّخذ غير صديقه وليجة، بخلاف ضعيف الصداقة.

و لذا نرى أن كثيرا من المسلمين اتخذوا الولائج، و بدت ضمائرهم السيئة عند الجهاد وَ اللَّهُ خَبِيرٌ أي عليم بِما تَعْمَلُونَ أيها المسلمون. و الحاصل أنه لا بد من امتحانكم أيها المسلمون بالجهاد ليتبين المجاهد منكم من غيره، و يتبين الذي يخلص في النية لله و الرسول، من غيره.

[17]

روي أن المسلمين عيّروا أسرى بدر، و وبّخ علي عليه السّلام العباس بن عبد المطلب بقتال رسول الله و قطيعة الرحم. فقال العباس: تذكرون

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 375

[سورة التوبة (9): آية 18]

إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

مساوئنا و تكتمون محاسننا. فقالوا:

أولكم محاسن؟ قالوا: نعم، إنا نعمر المسجد الحرام، و نحجب الكعبة، و نسقي الحجيج، و نفك العاني «1». فنزلت هذه الآيات

: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ سواء المسجد الحرام أو غيره حال كونهم شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أي حال شهادتهم بكفر أنفسهم، فكيف يجتمع الإذعان لله و الكفر بآياته، إنك إن أهنت شخصا و عمّرت داره كان تعمير داره سيئة لا حسنة، فكيف يمكن الافتخار بأنه من المحاسن؟

و معنى «ما كان»: أنه ليس لهم ذلك. و لعلّ وجه الارتباط أنه لمّا نهي المشركون عن زيارة البيت بيّن سبحانه السبب، بأن الشرك و عمارة المسجد- ماديا و معنويا- لا يجتمعان.

أُولئِكَ الذين كفروا حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطلت فلا قيمة لحسناتهم التي يزعمون أنها حسنة، فإن الحسنة لا تقبل إلّا مع الإسلام و الإخلاص وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ أبد الآبدين، بمعنى أنهم لو ماتوا كافرين لم تنفعهم الحسنة في نجاتهم من النار.

[18] إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ بناءها و إقامة العبادة فيها مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ بأن أقرّ بالوحدانية و اعترف بيوم القيامة، إنه هو الذي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 41 ص 63.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 376

[سورة التوبة (9): آية 19]

أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)

يجوز له تعمير المسجد، و هو الذي يقبل منه وَ أَقامَ الصَّلاةَ بمعنى التزم بشرائع الإسلام، فإن الاعتراف اللفظي بدون الخضوع و الانصياع لأوامر الإسلام لا يعدّ إلا لقلقة لسان وَ آتَى الزَّكاةَ بالنسبة إلى من وجدها وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ

أي خشية من نوع الخشية التوحيدية، فإن المشرك يخشى من إلهين، و المؤمن يخشى من إله واحد. و ليس النفي مطلقا كما هو واضح، قال سبحانه بالنسبة إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ تَخْشَى النَّاسَ «1»، فَعَسى أُولئِكَ أي لعلّ الذين آمنوا بالله و اليوم الآخر و التزموا بشرائطه أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي في زمرتهم، و إنما قال «فعسى» لأن المرء لا يعرف مستقبله، فربما كان مؤمنا عاملا، ثم ينقلب كافرا، فلا يكون من المهتدين- بما للكلمة من معنى-.

[19] أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِ «السقاية» مصدر سقي الماء، و «الحاج» بمعنى القاصد إلى مكة، بعد ما كان في اللغة بمعنى مطلق القصد وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ تعميرا بالبناء، أو بالعبادة، و الأول هنا أقرب كَمَنْ آمَنَ الاستفهام إنكاري، و في الكلام حذف تقديره «أهل سقاية» أي ليس الساقي العامر للمسجد الحرام كالمؤمن بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و ذلك لأن الإيمان هو أصل الفضائل، أما السقاية و العمارة

______________________________

(1) الأحزاب: 38.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 377

فهما أمران شكليان، إذا لم تنضم إليهما روح الإيمان لن ينفعا شيئا وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لإعلاء كلمته سبحانه لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ أولئك و هؤلاء وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فإن من ظلم نفسه بالكفر لا يكون مهديا، فلا يكون عمله عن اهتداء حتى يترتب عليه فضل.

روي أن العباس و شيبة أنهما تفاخرا، فمر بهما أمير المؤمنين علي عليه السّلام فقال: بماذا تتفاخران؟ فقال العباس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد، سقاية الحاج. و قال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام. فقال علي عليه السّلام: استحييت لكما، فقد أوتيت على صغري ما لم

تؤتيا. فقالا: و ما أوتيت يا علي؟ قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتى آمنتما بالله و رسوله، فقام العباس مغضبا يجرّ ذيله حتى دخل على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: أما ترى إلى ما يستقبلني به علي؟ فقال:

ادعوا لي عليا فدعي له، فقال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما حملك على ما استقبلت به عمك فقال: يا رسول الله صدمته بالحق فمن شاء فليغضب و من شاء فليرض. فنزل جبرائيل عليه السّلام فقال: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام و يقول: اتل عليهم «أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ..».

فقال العباس: إنا قد رضينا «ثلاث مرات» «1».

و قد كانت سقاية الحاج عبارة عن تهيئة دلاء و أواني قبل الموسم فتملأ ماء من بئر زمزم، فإذا جاء الحجاج سقوا منها، حيث أن البئر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 36 ص 39.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 378

[سورة التوبة (9): الآيات 20 الى 23]

الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)

كانت لا تتحمل اجتماع خلق كثير عليها.

[20] الَّذِينَ آمَنُوا بالله و برسوله وَ هاجَرُوا من مكة إلى المدينة لأجل الإسلام وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بأن تحملوا المشاق بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فبذلوا المال و النفس لإعلاء كلمة الله سبحانه أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ من

الذين لم يفعلوا ذلك، و إن سقوا الحجيج و عمروا المسجد وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ الظافرون المفلحون.

[21] يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ أي من عنده. و الإتيان بكلمة «منه» لتعظيم قدر البشارة وَ رِضْوانٍ أي رضاه سبحانه عنهم، و هو أعظم بشارة، فإن الإنسان إذا علم أن الملك- مثلا- راض عنه كان مرتاح الضمير مسرور الخاطر، أما إذا علم أنه غاضب عليه كان بالعكس، و إن أغدق عليه في العطاء وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها أي في تلك الجنات نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم لا يزول و لا يتحول.

[22] خالِدِينَ فِيها أَبَداً فالجنات و النعيم كلاهما خالدان إلى ما لا نهاية إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فليرغب الراغبون فيه.

[23] و حيث ذكر سبحانه وجوب الجهاد في سبيله، و الهجرة من دار الكفر لأجله، بيّن أنه يجب أن يتجرّد الإنسان من أقرب العلاقات إلى نفسه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 379

[سورة التوبة (9): آية 24]

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)

لأجله تعالى فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ بأن تتولّونهم ولاء صادرا من الأعماق، و إن استحبّت معاشرتهم في الظاهر لقوله سبحانه: وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً «1»، إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ أي آثروا الكفر و اختاروه وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي الآباء و الإخوان مِنْكُمْ فيقدّم ولايتهم على ولاية الله و الرسول و المؤمنين فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الذين ظلموا أنفسهم حيث أوجبوا لها خزي الدنيا و

عذاب الآخرة.

و في بعض الأحاديث: إن الآية وردت في «حاطب بن أبي بلتعة» «2» فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما أراد فتح مكة، أمر أصحابه بكتمان الأمر حتى يفاجئ المسلمون الكفار و لا تراق الدماء، فكتب حاطب إلى أهل مكة يخبرهم بخبر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أطلع الله رسوله بالخبر، فوبخ حاطبا ثم عفا عنه، و أرجع الرسول الذي كان بيده الكتاب، فكان كما أراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من عدم وصول الخبر إليهم، و قد قال حاطب معتذرا أن له أهلا في مكة فخاف أن تكون الدائرة على المسلمين، فيكون له يد على الكفار، و يسلم أهله من عقابهم و عذابهم.

[24] ثم بيّن سبحانه ميزان الإيمان الصحيح، و أنه لا يكون إلا بأن يرجّح

______________________________

(1) لقمان: 16.

(2) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 380

المؤمن كفّة الإيمان على جميع الشؤون و الاعتبارات قُلْ يا رسول الله للمسلمين: إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ و اللفظان يشملان الأجداد و الأحفاد وَ إِخْوانُكُمْ الأعم من الأخوات وَ أَزْواجُكُمْ اللاتي عقدتم عليهن وَ عَشِيرَتُكُمْ أقاربكم غير من ذكروا، كالأعمام و الأخوال و من أشبههما وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها جمعتموها و كسبتموها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها تخشون أن تكسد و لا تدار، إن اشتغلتم بطاعة الله سبحانه وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها بأن تحبون المقام فيها، سواء كانت بلادا أو بيوتا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ و أقرب إلى نفوسكم مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ من طاعته و طاعة رسوله وَ أحب إليكم من جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ أي سبيل الله، فإذا دار الأمر بين ترجيح رضاه سبحانه أو

رضا رسوله و بين ذلك المحبوب لديكم من مال و قرابة قدمتموه عليها فَتَرَبَّصُوا انتظروا. و هذا تهديد، أي انتظروا العقاب فإنكم لستم من الله في شي ء. و كيف يدّعي الإنسان الإيمان و هو يقدّم تلك الأمور على أمر الله تعالى حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فإنكم لا خير فيكم، و إنما يأتي بأمر الله غيركم، كما يقال: «إن كنت لا تفعل هذا فانتظر حتى يأتي غيرك ليفعله»، فإن الله سبحانه غني عنكم فهو القادر على أن ينفذ أوامره بواسطة أناس غيركم وَ اللَّهُ لا يَهْدِي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 381

[سورة التوبة (9): آية 25]

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)

الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فإن من خرج عن طاعة الله بالفسق، بعد العلم و العرفان، يطبع على قلبه فلا يلطف به سبحانه ألطافه الخاصة.

[25] ثم بيّن سبحانه مصداقا من مصاديق إتيان الله بأمره، بعد ما اختار المسلمون الحياة، و فرّوا من الله و الرسول، في وقعة «حنين» التي كانت قريبة إلى مشاعرهم و أفكارهم عند نزول هذه السورة. و قصة هذه الغزوة باختصار:

أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما فتح مكة خاف الكفار الذين كانوا مبثوثين في الجزيرة أن يأتي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على آخرهم فاجتمع هناك جموع كثيرة من هوازن و غيرها ربما بلغ عددهم ثلاثين ألفا، و ساقوا معهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم و مروا حتى بلغوا «أوطاس» يريدون قتال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبلغه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

خبر اجتماعهم هناك، فجمع القبائل و رغّبهم في الجهاد و وعدهم النصر و أن الله وعده أن يغنمهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم، فرغب الناس و خرجوا كل قبيلة و فئة تحت راية، و عقد اللواء الأكبر للإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و خرج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في اثني عشر ألف رجل.

فلمّا صلّى الغداة انحدر في وادي حنين و الجو لا زال مظلما، و قد كانت هوازن قد سبقوا المسلمين من الليل و كمنوا في أطراف الجبال، و حنين واد كثير الانحدار، فلما انحدر جيش الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الوادي، و قد كان أول من انحدر بنو سليم معهم خالد بن الوليد، و كانوا غافلين عن اختفاء هوازن، و إذا بهم يرشقون بالسهام كقطر المطر من كل جانب دون أن يروا أحدا و ظهرت كتائب هوازن من كل ناحية، فانهزم بنو سليم، و كسرت بانكسارهم سائر جيوش الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فروا صعدا في الجبال و الوديان، و بقي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين و جماعة يعدون بالأصابع من أولاد العباس و غيرهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 382

و أخذ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينادي: يا معشر الأنصار إليّ و أنا رسول الله. و قد التفت كتائب هوازن به يريدون قتله و الإمام يضرب بالسيف يمنة و يسرة، فلم يبق من المسلمين أحد فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعباس: اصعد هذا الطرب و ناد: «يا أصحاب سورة البقرة» و «يا أصحاب بيعة الشجرة» إلى أين تفرون هذا رسول

الله؟ و قد كان العباس رفيع الصوت، ثم رفع يده فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللهم لك الحمد، و إليك المشتكى، و أنت المستعان، فنزل جبرائيل فقال: دعوت بما دعا به موسى حيث فلق الله له البحر و نجاه من فرعون، ثم أخذ كفا من حصى فرماه في وجوه المشركين قائلا: «شاهت الوجوه، ثم رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد، و إن شئت أن لا تعبد لا تعبد»، فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا و كسروا جفون سيوفهم و هم يقولون: لبيك، و مروا برسول الله و استحيوا أن يرجعوا إليه. فالتحقوا بالراية و نزل النصر من السماء و انهزمت هوازن و كانوا يسمعون قعقعة السلاح في الجو، و لما فر الكفار غنم المسلمون غنائم كثيرة من أموالهم و نسائهم و ذراريهم، و قسمها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

أقول: المراد ب «أصحاب سورة البقرة» إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «2»، الذين طلبوا

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 149.

(2) البقرة: 247.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 383

جهاد الكفار ثم فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا «1» يعني: أنكم أيها المسلمون صرتم كأولئك، و المراد ب «أصحاب بيعة الشجرة» أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين صلح الحديبية اتكأ على شجرة و بايع المسلمين من جديد، ليمتثلوا أوامره، كأنه ما كانت كما قال سبحانه: إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ «2».

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ أيها المسلمون فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ في بعض الأخبار أنها كانت ثمانين وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أي: و نصركم في

يوم حنين، و تخصيصه بالذكر لأنه لو لا نصرة الله سبحانه لم يكن لهم نصر حسب الظاهر بعد فرارهم و انهزامهم إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فإنه لم يتفق لجيش المسلمين أن يكونوا اثني عشر ألفا قبل ذلك، و قد قال بعضهم:

لن نغلب اليوم من قلة، لما رأوا من كثرتهم المدهشة في الجيش فَلَمْ تُغْنِ الكثرة عَنْكُمْ شَيْئاً أي لم تفدكم الكثرة وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي برحبها وسعتها، و «الباء» بمعنى مع، أي مع كونها وسيعة فسيحة ضاقت عليكم، فإن الإنسان إذا خاف، يرى في نفسه ضيق الأرض، بالإضافة إلى أنهم لم يجدوا موضعا للفرار، لاحتمال وجود العدو في كل مكان ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي انهزمتم من عدوكم، و أعطيتم أدباركم للعدو، و قد كان الخطأ من المسلمين

______________________________

(1) البقرة: 247.

(2) الفتح: 19.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 384

[سورة التوبة (9): آية 26]

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26)

أنهم لم يثبتوا أول الأمر، فإن الثبات أول الأمر خليق بأن يكشف النازلة، كما أنهم أخطئوا حين اغتروا بكثرتهم، فإن الإنسان إذا رأى كثرة من معه تقوى فيه روح الاتكالية، و ذلك خليق بانهزامه. ثم إن مقدمة الجيش لم تتخذ احتياطاتها اللازمة، فإن دخول مثل هذا الموضع مما يحيط به الجبال يحتاج إلى إرسال بعض القوات الاستطلاعية.

[26] ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ أي السكون النفسي الذي يزول الخوف معه، فإن أقوى أسباب الهزيمة في كل ميدان، تزلزل النفس و عدم اطمئنانها بالنصر، أما إذا قويت النفس على تحمّل المكروه كان الإنسان خليقا بالنصر وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين بقوا معه

و لم ينهزموا.

فقد بقي مع الرسول تسعة من بني هاشم أولهم أمير المؤمنين عليه السّلام كما بقي ابن أم أيمن و قد قتل في ذلك اليوم، أو المراد: المؤمنين حين رجوعهم إلى الرسول، فإن الجيش الذي يفر إذا فكر في العاقبة تقوى نفسه بإذن الله سبحانه وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها فقد أنزل الله سبحانه أفواجا من الملائكة لنصرة المؤمنين. و هذا ليس بغريب، فقد وعد سبحانه بنصرة الملائكة لكل من استقام فكيف بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال سبحانه: الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ «1».

و قد ورد: أن رجلا من المشركين قال للمؤمنين، و هو أسير في أيديهم: أين الخيل البلق و الرجال عليهم الثياب البيض، فإنما كان قتلنا

______________________________

(1) فصلت: 31.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 385

[سورة التوبة (9): الآيات 27 الى 28]

ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

بأيديهم و ما كنا نراكم فيهم إلا كهيئة الشامة. قالوا: تلك الملائكة وَ عَذَّبَ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل و الأسر وَ ذلِكَ العذاب جَزاءُ الْكافِرِينَ الذين يكفرون بالله و آياته.

[27] ثُمَ بعد تمام الأمر يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ من الكفار إذا أسلموا، و ذكر «على من يشاء» لإفادة أن التوبة ليست واجبة، أو المراد: من يشاء من المنهزمين، فإن الفرار من الزحف كبيرة موبقة، و قد شاء سبحانه أن يتوب على المؤمنين دون المنافقين وَ اللَّهُ غَفُورٌ يستر

الذنوب رَحِيمٌ يتفضّل بالرحمة عليهم.

[28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ النجاسة في الشريعة هي القذارة التي توجب الغسل للشي ء الذي يباشره برطوبة، و هذه النجاسة قد تكون لأضرار خارجية كالبول و الغائط، و قد تكون لأضرار معنوية كالكافر، فإنه و إن كان نظيف الجسم إلا أن معتقده الباطل أوجب الحكم بنجاسته. و ذلك خير وقاية للمسلمين من أن يتلوثوا بعقيدته، فإنهم إذا عرفوه نجسا حتى أنه يجب الاجتناب عنه في المأكل و الملبس و أنه مهما باشر شيئا برطوبة تنجس فورا منه، اجتنبوا عنه، فلا يتعدّى إليهم ما انطوى عليه من العقيدة الباطلة، و هو- بدوره- إذ يعرف أنه عند المسلمين نجس لا بد و أن يسأل عن السبب و يريد إزالة هذه الوصمة، ولدي تحقيق ذلك تظهر له خرافة معتقده مما يدعوه أن يتركها و يعتقد بالعقيدة الصحيحة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 386

و هناك بعض المتفلسفين يقولون: كيف يحكم بنجاسة إنسان، و لزوم الاجتناب عنه، لمجرد انحراف عقيدة، و هذا مناف لحرية الآراء؟

و الجواب: إنه كيف يحكم بالاجتناب عن إنسان لمجرد أنه مصاب بالجذام و نحوه، لمجرد انحراف مزاج، و هذا مناف لكرامة الإنسان، فإذا كان الخوف على الجسم يبيح الاجتناب فالخوف على الروح أولى بالإباحة.

فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ و المراد: عدم دخوله، و المسجد الحرام من باب المورد،

فإن عليا عليه السّلام أمر بحكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ينادي: «لا يحج بعد هذا العام مشرك» «1».

و إن قيل: فكيف دخل وفد نجران مسجد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟

نقول: إنه قبل نزول هذا الحكم، فإن الأحكام نزلت تدريجا، أما القول بأن النصارى ليسوا بمشركين.

فهو خلاف قوله تعالى: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ «2»، و قوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ «3»، و قوله: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ «4».

بَعْدَ عامِهِمْ هذا في السنين المقبلة وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا، فقد كان المنع عن المشركين يضر باقتصاد أهل مكة حيث أن كثيرا من وارداتهم كانت من الحجاج المشركين فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 13 ص 400.

(2) التوبة: 31.

(3) المائدة: 74.

(4) المائدة: 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 387

[سورة التوبة (9): آية 29]

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (29)

مِنْ فَضْلِهِ و قد وفى سبحانه بما وعد، فقد أسلم أهل اليمن و حملوا إليهم الميرة و الطعام عوض المشركين، كما أسلم أهل الآفاق و حجوا و أغنوا أهل مكة أكثر من إغناء المشركين. أما هذه الأيام فإن آبار الذهب الأسود قد أوصلت مستواهم الاقتصادي إلى علوّ مدهش إِنْ شاءَ للدلالة على أن الأمور بيده سبحانه، و لسوقهم إلى رجائه و السؤال منه و الخضوع و الضراعة إليه.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بالمصالح، فإن منعه عن حج المشركين إنما هو عن علم حَكِيمٌ يضع الأمور في مواضعها و يأمر بها حسب المصالح الكامنة، و إن لم يعرف الناس تلك المصالح فورا.

[29] قاتِلُوا أيها المسلمون الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ إيمانا صحيحا، و إن آمنوا به إيمان شرك و نحوه وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا صحيحا، و إن آمنوا به إيمانا منحرفا، كأهل الكتاب الذين قالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً

مَعْدُودَةً «1»، وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ المراد بالرسول: إما الأعم، فإنهم لا يحرّمون المحرمات التي أتى بها موسى و عيسى عليهما السّلام، أو الأخص يعني محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ أي لا يتخذونه دينا، و المراد به الإسلام مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ

______________________________

(1) البقرة: 81.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 388

[سورة التوبة (9): آية 30]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)

وصف ل «الذين لا يؤمنون» حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ هي «فعلة» من «جزى يجزي» مثل «العقدة» و «الجلسة»، و هي عطية مخصوصة، كأنها جزاء لهم على بقائهم على الكفر، أو جزاء للمسلمين عوض حمايتهم لهم، فإن الذمي في بلاد الإسلام يكون محترم المال و النفس موفّر الحرمة و الكرامة عَنْ يَدٍ أي يسلمونها بأيديهم، كما يقال: «كلمته وجها بوجه» وَ هُمْ صاغِرُونَ أي أذلاء من «الصغار».

إن أهل الكتاب حيث انحرفت عقيدتهم حتى جعلوا الخرافة في معتقدهم، و حيث حرفوا كتبهم حتى نسبوا الزنا و الكفر و شرب الخمر و القسوة و شبهها إلى أنبيائهم، و حيث هدموا نظم الله سبحانه ليجعلوا مكانها أنظمة مخترعة، استحق الإسلام أن يشعرهم بشي ء من الذلة ليتركوا الباطل إلى الحق، فإن الإنسان لا يرضى أن يبقى ذليلا، لكنه احترمهم حيث أقرّ بهم و سمح لهم بالبقاء تحت ظله، باحترام اسم الكتاب، و هذا الإذلال لا ينافي الحرية في شي ء، أ رأيت من ينحرف في سلوك أو أخلاق هل يستحق ما يستحقه المستقيم؟ و ليس الميزان في تقييم الإنسان الذي يراعي

جهتي المادة و الروح واقعا، هو النظر إلى صورته البشرية، بل الصورة و السيرة، فمن انحرفت سيرته لم تنفعه صورته.

فهرب بعض المفسرين و من إليهم عن الحكم على طبق هذه الآية أو ما أشبهها خروج عن الواقع الإسلامي، كما هو خروج عن الموازين البشرية الرفيعة التي تجعل للروح قسطا في تقييم الإنسان كما أن للبدن قسطا.

[30] ثم بيّن سبحانه طرفا من أقوال أهل الكتاب و افتراءاتهم على الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 389

سبحانه وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ و بهذا الانحراف خرجوا عن زمرة الموحّدين، فإن الله لا يمكن أن يكون له ولد إذ ليس جسما يلد، كما وصف تعالى نفسه بقوله:

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «1» ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ إن ألسنتهم اخترعت هذا القول بلا استناد إلى كتاب منزل أو دليل مبين. و «أفواه» جمع «فوه»، بمعنى:

الفم يُضاهِؤُنَ أي يشبه قول هؤلاء اليهود و النصارى، في هذه المقالة قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا الذين يجعلون لله شريكا، فإن كلا القولين تشبيه لا يليق بجلال الله سبحانه، فإن من له شريك إنما هو كمن له ولد في أنه مخلوق ليس بإله، و إنما كان التشبيه شركا لأن الشبيه يشارك شبهه في أمر جامع و يفترق عنه في أمور مميزة، و بذلك يكون مركبا، و المركب ليس بإله مِنْ قَبْلُ و هذا توبيخ لهم، فإن الأنبياء يأتون لقلع جذور الكفر فإذا ارتدت الأمة إلى مقالة الكفار الذين جاء الأنبياء لمحقهم، كانت معرضة عن الأنبياء، و تبيّن أن كلام الأنبياء لم يؤثر فيهم قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالهلاك،

فإن المفسد يدعى عليه بالموت ليستريح الناس من شره أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي كيف يصرفون عن

______________________________

(1) سورة الإخلاص: 2- 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 390

[سورة التوبة (9): آية 31]

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)

الحق إلى الإفك الذي هو الكذب.

[31] ثم بيّن سبحانه سببا آخر لكفرهم، أنهم أعطوا حق التشريع أي التحليل و التحريم إلى علمائهم، مع العلم أن هذا الحق خاص بالله سبحانه وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1»، اتَّخَذُوا أي اتخذ اليهود و النصارى أَحْبارَهُمْ جمع «حبر» و هو العالم وَ رُهْبانَهُمْ جمع «راهب» و هو العابد أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ أي مع الله، فإن أخذ الغير يعبّر عنه «من دون» و إن كان مع الأصل.

قال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله و في عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته ثم انتهيت إليه و هو يقرأ من سورة براءة هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً .. حتى فرغ منها. فقلت له: إنا لسنا نعبدهم. فقال:

أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، و يحلّون ما حرم الله فتستحلونه؟

قال فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم «2».

أقول الشرك على أربعة أقسام: الشرك في ذات الله، و الشرك في صفاته، و الشرك في أفعاله، و الشرك في أمره و نهيه. فمن قال: إن له شريكا، أو أن صفاته لغيره، أو أن قسما من الخلق لسواه، أو أنه يحق الأمر و النهي لغيره، فهو مشرك.

وَ اتخذوا الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ ربا من دون الله وَ

ما أُمِرُوا

______________________________

(1) المائدة: 45.

(2) بحار الأنوار: ج 9 ص 98.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 391

[سورة التوبة (9): الآيات 32 الى 33]

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)

إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا شريك له، فقد كان أنبياؤهم يأمرونهم بذلك لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي ليس في الكون إله غيره سُبْحانَهُ أي أنزهه تنزيها عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن شركهم، و جعلهم لله شريكا.

[32] و من صفات هؤلاء أنهم يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ القرآن الكريم أو أحكامه. و سمي نورا لأنه كما يهتدى بالنور في الظلمات، كذلك يهتدى بالقرآن في دروب الحياة المظلمة، فإن النور الظاهر لنفسه المظهر لغيره، كذلك أحكام الله سبحانه و كتابه الحكيم، و معنى إرادتهم إطفائه، أنهم يريدون أن ينطفئ فلا يضي ء العالم به بِأَفْواهِهِمْ فكما يطفأ النور بالفم بسبب النفخ، فإنهم يريدون إبطال كتاب الله بما يتقولون عليه وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي يمنع الله ذلك إلا أن يظهر أمره، و ذلك بإظهار الكتاب و الإسلام في جميع المجالات وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ أي حتى مع كرههم و عدم إرادتهم.

[33] و كيف يتمكن هؤلاء من إطفاء نور الإسلام و القرآن و الحال أن الله سبحانه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ أي محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِالْهُدى أي مع الهداية و الإرشاد، فإن الرسول حامل مشعل الهدى وَ ب دِينِ الْحَقِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 392

[سورة التوبة (9): آية 34]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ

الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)

الذي هو الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ فيكون هو الدين الوحيد الذي له الغلبة و الحجة على سائر الأديان.

و

في الأحاديث: إن تأويل هذه الآية عند خروج الإمام المهدي عليه السّلام الذي يملأ الأرض قسطا و عدلا بعد أن تملأ ظلما و جورا «1».

و يكون عند ذلك الإسلام وحده دين العالم لا دين سواه وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ بأن كرهوا إعلاء هذا الدين على سائر الأديان.

[34] ثم بيّن سبحانه بعض الصفات الذميمة الأخرى لأهل الكتاب بقوله:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وجّه الكلام إليهم لأنهم الذين يصدّقون بذلك، أما سائر أهل الكتاب فإنهم يكذبون الخبر، و إن علموا به باطنا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ و هم علماء أهل الكتاب وَ الرُّهْبانِ و هم عبّادهم لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ المراد ب «الأكل» التصرف، فإن معظم التصرف لما كان بالأكل غلب على سائر التصرفات بعلاقة الجزء و الكل، و المراد ب «الباطل» بالرشوة و نحوها مما لا يحق لهم أكل الأموال بتلك الصور وَ يَصُدُّونَ أي يمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فلا يتركون الناس أن يسلموا و يؤمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثم إن الأحبار و الرهبان يكنزون الذهب و الفضة فليحذر المسلمون

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 51 ص 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 393

[سورة التوبة (9): آية 35]

يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

أن يكونوا مثلهم فيجازوا بجزائهم وَ ذلك فإن الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ

وَ الْفِضَّةَ أي يجمعونها و لا يؤدون حقوقهما- لا الكنز المصطلح- وَ لا يُنْفِقُونَها أي الكنوز فِي سَبِيلِ اللَّهِ كما أمر من إعطاء الزكاة و الخمس فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي مؤلم موجع، و أتى بالبشارة مكان الإنذار استهزاء من استعمال الضد في ضده.

[35] في يَوْمَ أي ذلك العذاب إنما هو في يوم يُحْمى عَلَيْها أي يوقد على تلك الكنوز، فإن الشي ء إذا أريد انصهاره إما يوقد تحته أو يوقد فوقه فِي نارِ جَهَنَّمَ فهي في النار و توقد عليها النار، حيث تنصهر تماما فَتُكْوى بِها أي بتلك الكنوز المحماة جِباهُهُمْ جمع «جبهة» وَ جُنُوبُهُمْ جمع «جنب» وَ ظُهُورُهُمْ جمع «ظهر»، و إنما خصّصت هذه المواضع لأن الجبهة محل الوسم، و الجنب محل الألم، و الظهر محل الحدود. و قيل: لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته و طوى عنه كشحه- أي جنبه- و ولّاه ظهره.

و يقال لهم في حال الكي تعنيفا و توبيخا: هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ هذا جزاؤه، حيث لم تنفقوها في سبيل الله فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي ذوقوا عقابه و وباله و عاقبته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 394

[سورة التوبة (9): آية 36]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

[36] و لما أوجب سبحانه قتال الكفار و أهل الكتاب الذين انحرفوا، بيّن أنه لا يحل القتال في الأشهر الحرم التي هي: ذو القعدة، و ذو الحجة، و محرم، و رجب. فقد قرّر الله سبحانه السلام في هذه الأشهر ليستريح

الناس فيها و ليكونوا في أمن، كما قرر السلام في الحرم ليكون مكانا للسلام، و قد قدم على ذلك مقدمة هي عدة الشهور، و أنها مرتبطة بدورة الفلك إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ حسب أمره و تقديره اثْنا عَشَرَ شَهْراً محرم، و صفر، و ربيع الأول، و ربيع الثاني، و جمادى الأولى، و جمادى الآخرة، و رجب، و شعبان، و رمضان، و شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة فِي كِتابِ اللَّهِ أي ما كتبه و قرره، و ذلك طبق ناموس خلق الكون حيث دورة الفلك و سير الشمس و القمر، و قد كانت الكتابة يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فإنه من ذلك اليوم أجرى النيّرين المعدلين للشهور و السنوات. و الظاهر من الأشهر، الأشهر القمرية، لأنها المتبادر لدى الشرع و المتشرعة.

مِنْها أي من تلك الأشهر أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ سمّي الشهر حراما، لحرمة القتل و القتال فيه، و لما له من الاحترام، و قد كان كذلك قبل الإسلام أيضا، حتى أن ولي الدم لو رأى قاتل أبيه لم يهجم عليه بسوء حتى ينقضي الشهر الحرام ذلِكَ الترتيب للأشهر، و الحرم منها الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الطريقة القويمة المستقيمة، لأنها مطابقة لناموس الخلق و حركة النيّرين، و لأن السلام لا بد و أن يسود فترة من الزمن،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 395

[سورة التوبة (9): آية 37]

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)

حتى تهدأ النفوس، و تزول الهموم منها، فإن فترة الأشهر بغير ذلك فإنها لا تلائم الفطرة و الخلق فَلا

تَظْلِمُوا فِيهِنَ في تلك الأشهر الحرم أَنْفُسَكُمْ بخرق حرمتها، فإن خرق حرمتها يوجب عقابا و نكالا.

وَ قاتِلُوا أيها المسلمون الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً من غير فرق بين أقسامهم و أصنافهم، و «كافة» بمعنى الإحاطة، مأخوذة من «كافة الشي ء» و هي حرفه، و إذا انتهى الشي ء إلى ذلك كفّ عن الزيادة، و أصل الكف: المنع، و «كافة» منصوبة على المصدر كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً أي أن قتالكم لهم إنما هو في مقابلة قتالهم لكم وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فلا تفعلوا في الحرب ما ينافي التقوى، فإن الله سبحانه مع الذين يتقون معاصيه، و يمتثلون أوامره.

[37] لما بيّن سبحانه حرمة أشهر الحرم الأربعة، ذكر ما كان يفعله الجاهليون حيث كانوا يؤخرون تحريم الشهر الحرام إلى صفر حيثما شاءوا ذلك، فيحرمون صفر و يستحلون المحرم، ثم إذا انقضت حاجتهم أرجعوا الحرام إلى المحرم، و كان يقوم بذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، و كان رئيس الموسم، فيقول: أنا الذي لا أعاب و لا أجاب و لا يردّ لي قضاء. فيقولون: نعم صدقت، أنسئنا شهرا أو أخّر عنا حرمة المحرم و اجعلها في صفر، و أحل المحرم. فيفعل ذلك، فإنهم بذلك يريدون القتال في الحرم، و هذا العمل يسمى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 396

«نسيئا» فإن «أنسأ» بمعنى أخّر، و «النسي ء» بمعنى تأخير الشهر الحرام عن وقته.

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ فإن المشركين كانوا كفارا حسب عقائدهم حول الإله. و اليوم الآخر فتحليل الحرام و تحريم الحلال، زيادة في الكفر، لأن التشريع لله وحده، فمن شرع في قبال الله سبحانه فهو كافر وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «1». و من المعلوم

أن الكفر و الإيمان قابلان للزيادة و النقصان يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يضل بسبب هذا النسي ء الكفار، أما غير الكفار فإنهم لا يتبعون إلا شريعة الله سبحانه فلا ضلال لهم بالنسي ء، و معنى «يضلّ»- بالبناء للمفعول- أن النسي ء يسبب انحرافهم عن جادة الهدى يُحِلُّونَهُ أي يحلون الشهر الحرام عاماً في عام فيجعلون المحرم حلالا وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً فيمشون على الأصل في تحريم شهر محرم، و ذلك حين يحتاجون إلى القتال في المحرم يحلّلونه، و يجعلون صفر بدله حراما، و حين لا يحتاجون إلى القتال يكون المحرم على حاله في التحريم، و إنما يقدمون الحرام و يؤخرونه لِيُواطِؤُا أي ليوافقوا، يقال: «واطأ» في الشعر، إذا قال بيتين على قافية واحدة، و مثله «أوطأ» عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليكون تعداد الحرام بقدر

______________________________

(1) المائدة: 45.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 397

[سورة التوبة (9): آية 38]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)

تعداد الحرام الذي جعله الله، فإنهم لا يحلون الشهر الحرام، إلا و جعلوا مكانه شهرا آخر حراما، و هذان عصيانان: تحليل الحرام، و تحريم الحلال زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فقد زين الشيطان في نظرهم الأعمال السيئة فلازموها و افتخروا بها وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ الذين يصرّون على الكفر بعد تبيّن الحق، فإنه سبحانه لا يلطف بهم لطفه الخاص.

[38] و في سياق حكم الجهاد مع الأعراب يأتي دور الكلام حول جهاد الروم، فإنه لما رجع رسول الله من الطائف أمر بالجهاد لغزو الروم، و ذلك في زمان

إدراك الثمار فأحبوا المقام في مساكنهم و قريبا من أموالهم، و شق عليهم الخروج إلى القتال، و كان من عادته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخفي الغزوة التي يريدها غالبا، لئلّا يعرف العدو فيتخذ أهبته منها فيكثر القتلى، و لذا كان إذا أراد الخروج نحو غزوة في الشمال ذهب مقدارا نحو الجنوب ثم انحنى صوب قصده إلا في هذه الغزوة حيث كانت الشقة بعيدة و العدو كثير، فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبر أصحابه بذلك ليتأهبوا و يأخذوا حذرهم، و تسمى هذه الغزوة ب «تبوك» و قد بلغ رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن الروم قد جمعوا له أطراف الجزيرة بالشام و أن هرقل قد رزق أصحابه رزق سنة، و انضمت إليهم لخم و جذم و عاملة و غسان من قبائل العرب و قدموا مقدماتهم إلى البقاء. فاستنفر المسلمين لجهادهم، و هنا وجد المنافقون فرصتهم لإظهار نواياهم فأخذوا يخذلون المسلمين، قائلين: «لا تنفروا في الحر» فقد كان الهواء حارا،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 398

[سورة التوبة (9): آية 39]

إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39)

و قالوا: إن السفر بعيد، فلا طاقة لنا به، و العدو الروم فلا قبل لنا بهم، إلى غير ذلك من الأعذار الواهية.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ أيّ نفع و فائدة تعود إليكم في التخلّف و العصيان؟ إِذا قِيلَ لَكُمُ قال لكم الرسول: انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اخرجوا إلى مجاهدة المشركين في «تبوك» و هي من بلاد البلقاء اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ «اثاقل» من تثاقل، من باب «التفاعل»

أبدلت تاؤه ثاء، على القاعدة المشهورة في تاء «التفاعل» و «التفعّل» ثم جي ء بالهمزة لاستحالة الابتداء بالساكن. أي: ملتم إلى البقاء في الأرض، و عدم الخروج، كأن الجسم قد ثقل أزيد من وزنه العادي فكلما رفع جذبه ثقله نحو الأرض أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ الاستفهام إنكاري، و «من» بمعنى البدل، أي: هل رضيتم أيها المسلمون و آثرتم الحياة الفانية القريبة بدل الحياة الباقية الآخرة فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ بالنسبة إليها إِلَّا قَلِيلٌ فإن الدنيا قليلة، و الآخرة كثيرة، فلا ترجّحوا القليل على الكثير، و إذا تركتم الجهاد فاتتكم تلك المنافع الدائمة الخالدة.

[39] إِلَّا تَنْفِرُوا أي: إن لا تخرجوا إلى القتال الذي دعاكم إليه الرسول يُعَذِّبْكُمْ الله عَذاباً أَلِيماً مؤلما موجعا في الدنيا من قبل الكفار،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 399

[سورة التوبة (9): آية 40]

إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

و في الآخرة بالنار وَ يَسْتَبْدِلْ بكم قَوْماً غَيْرَكُمْ فيأتي بمسلمين آخرين مكانكم و بدلكم ينصرون الرسول و يطيعون أوامره، فإن الله على كل شي ء قدير وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً لا تضروا الله بقعودكم عن القتال شيئا، فإنه غني عنكم و عن العالمين، و إنما تضرون أنفسكم وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر أن يستبدل بكم غيركم، كما يقدر أن ينصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدونكم، كما نصره من ذي قبل حيث لم تكونوا مسلمين

أنتم- أيها المتخلفون-.

[40] ثم بيّن سبحانه إمكانية نصر الرسول بدونهم، بضرب مثل قريب، و هو نصرته على الكفار في مكة حيث أرادوا قتله فأنجاه منهم و أعزه، و أذلهم إِلَّا تَنْصُرُوهُ أي إن لم تنصروا الرسول في غزو الروم فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ من ذي قبل، و هو قادر على نصره الآن إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا من مكة، و نسبة الإخراج إليهم لأنهم كانوا السبب حين أرادوا قتله ففر من أيديهم ثانِيَ اثْنَيْنِ فقد كان حين الفرار هو و أبو بكر، إذ رآه في الطريق فأخذه كيلا يخبر الناس بخبره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيلحقه الطلب، فإن من عادة الإنسان أن يفشي الأنباء الهامة، و ذكر «ثاني اثنين» لبيان أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بهذه الغربة حتى أنه لم يكن معه إلا نفر آخر.

فالله القادر على نصره و هو بتلك الغربة و الوحدة، قادر على أن ينصره الآن. و لبيان ذلك جي ء بالقيدين الآخرين إِذْ هُما فِي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 400

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 449

الْغارِ «الغار» هو الثقب في الجبل إِذْ يَقُولُ الرسول لِصاحِبِهِ أبي بكر: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا مطّلع علينا، فالإنسان الفار اللاجئ إلى ثقب جبل لا أحد معه إلا شخص واحد يخشى و يخاف و يحزن فيزيده كآبة، كيف نصره الله على أعدائه، إن الله قادر على أن ينصره الآن كما نصره سابقا.

و قد استدل بعض على فضيلة أبي بكر بهذه الآية، لكن لا يخفى ما فيه، فإنها لم تدل إلا على كونه أحد الشخصين، و أنه صاحب، و أنه حزن، و أن الله معهما، و لا دلالة في

شي ء من ذلك، فإن الاثنين عدد «و ثاني اثنين» حكاية العدد، و ليس فيما يقتضي الفضل يعد، و الصاحب يطلق على كل مصاحب فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ «1»، و الحزن لم يكن صحيحا و إلا لم ينهه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ «2»، و الله سبحانه مع كل بر و فاجر ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «3»، بل ربما قيل: إن الآية دلت على خلاف الفضيلة إذ قال سبحانه: «عليه» و «أيده» بينما قال في مكان آخر عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «4».

إن هذا البحث له موضع غير هذا الموضع، و إنما المقصود الإشارة إلى عدم حسن أن يقحم في القرآن الحكيم ما ليس منه ثم جرّ الآيات إلى الأنظار و الأفكار جرّا بدون دلالة أو برهان. فقد ورد الذم لمن فسّر القرآن برأيه.

______________________________

(1) الكهف: 35.

(2) يونس: 63.

(3) المجادلة: 8.

(4) التوبة: 26.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 401

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ أي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي ألقى في قلبه ما سكن به، و علم أنه سبحانه ينصره عليهم وَ أَيَّدَهُ أي قوّى الرسول و نصره بِجُنُودٍ من الملائكة لَمْ تَرَوْها أي ما رأت الكفار إياها، بمعنى عدم كونهم أجساما حتى يروا.

ورد أنه كان رجل من خزاعة يقال له «أبو كرز» اقتفى مع المشركين أثر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى وقف بهم على الغار فقال لهم: هذه قدم محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي و الله أخت القدم التي في المقام، و قال: هذه قدم

محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هي و الله أخت القدم التي في المقام، و قال: هذه قدم أبي قحافة أو ابنه ما جاوزوا هذا المكان، إما أن يكونوا قد صعدوا السماء أو دخلوا في الأرض. و جاء فارس من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار و هو يقول لهم: اطلبوه في هذه الشعاب، و كانت العنكبوت نسجت على باب الغار، و أرسل الله زوجا من الحمام حتى باضا في أسفل الثقب فقال سراقة و كان مع الكفار: لو دخل الغار أحد لانكسر حتما البيض و تفسخ بيت العنكبوت. و دعا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا: «اللهم أعم أبصارهم» فعميت أبصارهم عن دخوله و جعلوا يضربون يمينا و شمالا حول الغار و يئسوا أخيرا فرجعوا «1».

وَ جَعَلَ الله تعالى كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا و كيدهم للرسول و شوكتهم السُّفْلى إذ تحطمت و فشلت فكانت في الدرجة السفلى

______________________________

(1) مناقب آل أبي طالب: ج 1 127.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 402

[سورة التوبة (9): الآيات 41 الى 42]

انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)

وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا المرتفعة المنصورة، و هذا إخبار بأن كلمته و قوله دائما يكونان كذلك. و من الواضح في التاريخ أن كلمة الله عالية و أنصارها الأعلون، و إن كانت الغلبة لكلمة الكافرين، حتى إن الناس لو كانت سيوفهم مع السلطات الباطلة كانت قلوبهم

مع أهل الحق و رأوا أن الحق عندهم وَ اللَّهُ عَزِيزٌ غالب حَكِيمٌ في تدبيره.

[41] انْفِرُوا من «نفر» إذا خرج مسرعا، أي اخرجوا إلى الجهاد خِفافاً جمع «خفيف» وَ ثِقالًا جمع «ثقيل»، و الخفة تطلق على قليل العيال، قليل السن و النشيط، و قليل المشاغل، كما أن الثقل عكس ذلك كله، و المراد: جاهدوا و اخرجوا لأجل الحرب كيفما كنتم في خفة أو ثقل وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ و المجاهدة بالمال:

بذله في سبيل إعلاء كلمة الإسلام، و المجاهدة بالنفس: الذهاب للحرب فِي سَبِيلِ اللَّهِ و يسمى جهادا، لأنه من الجهد و التعب ذلِكُمْ ذلك إشارة، و «كم» للخطاب، أي أن الجهاد- أيها المسلمون- خَيْرٌ لَكُمْ من تركه، فإنه فيه عزّ الدنيا و سعادة الآخرة إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ليس المعنى إن لم تعلموا لم يكن خيرا لكم، بل المعنى إن كنتم تعلمون، لعلمتم أنه خير لكم.

[42] كان المنافقون يرجفون بالمسلمين قائلين: «إن السفر بعيد» فإنها كانت مسافة بعيدة بين المدينة و بين «تبوك» فلا تذهبوا إلى الجهاد. فرد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 403

[سورة التوبة (9): آية 43]

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)

عليهم سبحانه لَوْ كانَ ما دعوتهم إليه يا رسول الله عَرَضاً قَرِيباً أي غنيمة سهلة التناول، فإن أموال الدنيا تسمى أعراضا باعتبار كونها زائلة فانية وَ سَفَراً قاصِداً أي سفرا متوسطا في البعد و القرب، بأن سهل عليهم الذهاب و الخروج لَاتَّبَعُوكَ لأنه يسهل عليهم ذلك وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ أي المسافة، فإن الشقة بمعنى القطعة من الأرض التي يشق على إنسان السير فيها لبعدها، و لذا يأتون بالأعذار الواهية فرارا وَ سَيَحْلِفُونَ

بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ فإنهم كانوا يحلفون بأنهم لا يقدرون على الخروج لاشتغالهم و أن لهم أعذارا مشروعة يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ هؤلاء المعتذرون باستحقاقهم العقاب في الآخرة، و النكال في الدنيا، فإن ترك الجهاد يوجب الذلة و الصغار للفرد و الجماعة وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في ادعائهم أنهم لا يستطيعون الخروج.

[43] استأذن جماعة من المنافقين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تركهم الخروج إلى تبوك، فأذن لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كان هذا الإذن كسائر أوامر الرسول و كلماته بالوحي بدليل قوله سبحانه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1»، لكن الاستئذان من القوم كان نفاقا فاستحقوا العقاب.

______________________________

(1) النجم: 4 و 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 404

و من البلاغة أن يوجه الإنسان العتاب إلى أحد و هو يريد إفهام غيره، فإذا ألحّ الشخص المتظاهر بالفقر، فأشرت إلى ولدك بإعطائه المال، تقول له- معاتبا- و أنت تريد إفهام الآخذ: لم أعطيته المال؟ مع أن إعطاءه كان بأمرك و لكنك تريد توبيخ الآخذ بصورة بليغة، و هذا كما يظهر في الكلام يظهر في العمل، فقد تأخذ بيد الولد لتقصيره أمام الآخذ مظهرا غضبك عليه، تريد إفهام الآخذ بسوء صنيعه في الأخذ، كما تقدم في قصة موسى و هارون عليهما السّلام.

و هذا هو المعنى من قول الإمام الرضا عليه السّلام في جواب أسئلة المأمون عن عصمة الأنبياء. و أنه كيف قال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عفا الله عنك ..»، هذا مما نزل ب «إياك أعني و اسمعي يا جارة» «1».

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ يا رسول الله. إنه لا يريد

أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فعل خلاف الأولى، حتى يستحق العفو أو العتاب، بل يريد إفهام المتخلفين أنهم فعلوا فعلا قبيحا حتى إن الإذن لهم في القعود يستحق العفو لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ في البقاء و عدم الخروج إلى الجهاد حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في أنهم لا يستطيعون الخروج وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ أي حتى تعلم و تميّز بين الصادق و الكاذب، و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يميّز و يعلم، كيف و أحدنا يعلم الصادق و الكاذب من أصحابه و أصدقائه؟ لكن هذا الكلام لتنبيه المتخلفين الكاذبين، و أنه عرف كذبهم و سوء قصدهم.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 83.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 405

[سورة التوبة (9): الآيات 44 الى 46]

لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)

[44] لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا صادقا، كيف و المؤمن يعلم أنه سواء غلب أو غلب كان له الأجر العظيم و العاقبة المحمودة عند الله سبحانه، و لذا لا يطلب الإذن في التخلّف أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ في أن يجاهدوا، و المعنى لا يستأذنوا للتخلّف في أمر الجهاد، لا أن المعنى لا يستأذنون للجهاد وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ الذين يتقون عصيان الله، و يعملون حسب أوامره.

[45] إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ و يطلب إذنك في القعود عن الجهاد الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ

بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا صادقا عن عقيدة و رسوخ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أي شكّت، من «الريب» بمعنى التردّد، أي شكّوا في صدق الأمر و حقيقته فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ و شكّهم حول المبدأ و المعاد يَتَرَدَّدُونَ فتارة ترجح عندهم العقيدة، و أخرى يرجح عندهم الإنكار. و لهذا فإن هؤلاء لمّا لم يستيقنوا يستأذنوك للتخلّص من الصعوبة.

[46] ثم بيّن سبحانه علامة نفاقهم و أنهم امتازوا عن المؤمنين بأن لم يستعدوا للجهاد فقد نووا من أول الأمر عدم الخروج وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الجهاد، كما أراد سائر المؤمنين لَأَعَدُّوا لَهُ للجهاد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 406

[سورة التوبة (9): آية 47]

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)

عُدَّةً أهبة، فإن العدة و الأهبة و الآلة نظائر وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ الانبعاث هو الانطلاق بسرعة في الأمر فَثَبَّطَهُمْ أي أوقفهم عن الجهاد بالتزهيد فيه فرغبوا عنه وَ قِيلَ القائل هو الله سبحانه- بلسان الحال- أو إخوانهم المنافقون: اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ النساء و الصبيان و العجزة الذين بقوا في المدينة و لم يخرجوا للجهاد.

إن أمر الجهاد كان متوجها إليهم مع صفاء النية و خلوص القصد، أما أنهم نافقوا و كانوا لو خرجوا ألقوا التشويش و الاضطراب- كما هو شأن المنافق في كل حركة- بالنميمة بين المسلمين، و كان الضرر في خروجهم أكثر، فالأحرى أن لا يخرجوا، فالله سبحانه كره ذهابهم للغزو لهذه الجهة فلم يوفّقهم للجهاد. و قد مرّ مكررا أنه تصحّ نسبة الفعل إليه سبحانه باعتبار أنه لم يزل العائق تكوينا، كما يقال: «إن الملك عوّق ذهاب الجيش و لم يدعهم يذهبوا»، فيما

إذا لم يزل العائق أمامهم.

[47] ثم بيّن سبحانه سبب كره الله انبعاثهم بقوله: لَوْ خَرَجُوا أي خرج هؤلاء المنافقون إلى الجهاد فِيكُمْ أي في ضمنكم أيها المسلمون ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا «الخبال» هو الفساد، أي كان خروجهم معكم سببا للفساد و الاضطراب، فإن المنافق دائم النقد للحركات، كثير التخذيل مما يوجب فسادا و اضطرابا و تشويشا وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ «الإيضاع» الإسراع في السير، و «الخلال» بمعنى «البين»، أي أسرعوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 407

[سورة التوبة (9): آية 48]

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ (48)

في الدخول بينكم بالفساد و النميمة و الإفساد يَبْغُونَكُمُ أي يطلبون لكم الْفِتْنَةَ و اختلاف الكلمة و الانشقاق- كما هو شأن المنافق- وَ يكونون فِيكُمْ أيها المسلمون سَمَّاعُونَ لَهُمْ يسمعون أقوال الكفار- المفهوم من الكلام- فيصبح هؤلاء المنافقون جواسيس و عيونا للكفار، أو المراد: إن كانوا معكم كان من المؤمنين البسطاء أشخاص يسمعون لأولئك المنافقين، فعدم مجيئهم كان أنفع لكم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالنفاق و عدم الخروج، فيجازيهم بما عملوا.

[48] لَقَدِ ابْتَغَوُا و طلب هؤلاء المنافقون الْفِتْنَةَ و الفساد بين المسلمين مِنْ قَبْلُ في أحد و في حنين و عند الثنية عند رجوع النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حجة الوداع حيث أرادوا قتله و دبروا مؤامرة خبيثة لتشتيت شمل المسلمين وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ «التقليب» تصريف الشي ء على غير وجهه، فقد احتال المنافقون لأن يقلبوا وحدة المسلمين تشتتا، و صفاءهم كدورة حَتَّى جاءَ الْحَقُ الظفر الذي وعد الله سبحانه وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ دينه و الإسلام و حقيقة الرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم وَ الحال أن هُمْ كارِهُونَ لمجرد الحق و ظهور أمر الله، فإن يثيروا الفتن الآن بالنفاق، فقد كانوا سابقا كذلك، فلا يهمّك أمرهم يا رسول الله، و لا تعيرهم وبالا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 408

[سورة التوبة (9): آية 49]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)

[49] وَ مِنْهُمْ أي من المنافقين المتخلّفين في غزوة تبوك مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي يا رسول الله في التخلّف وَ لا تَفْتِنِّي لا توقعني في الفتنة، بأن تأمرني فلا ألبّي الطلب، أو المراد: لا تفتني ببنات الأصفر.

فقد ذكر المفسرون: أن رسول الله لما استنفر الناس إلى حرب الروم في تبوك قال: انفروا لعلكم تغنمون بنات الأصفر، فقام جد بن قيس أخو بني سلمة فقال: يا رسول الله ائذن لي و لا تفتني ببنات الأصفر، فإني أخاف أن أفتتن بهن، فقال: قد أذنت لك، فنزلت الآية.

و يسمّى الروم بنوا الأصفر، لأن حبشيا غلب على ناحية الروم و كان له بنات قد أخذن بياض الروم و سواد الحبشة فكنّ صفرا لعسا- كما عن الفراء-.

ثم إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جزى هذا الرجل بصنيعه فقد قال لبني سلمة:

من سيدكم؟ قالوا: جد بن قيس إلا أنه بخيل جبان. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و أي داء أدوى من البخل، بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد بشر بن البراء بن المعرور «1».

أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا إنهم أظهروا بتخلفهم الفرار عن الفتنة، فقد سقطوا في الفتنة بتخلفهم عنك و عصيانهم لك، فإن الإذن عن كره كعدمه وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ تحيط

بهم فلا مخلّص لهم منها. و لعل هذا التعبير بمناسبة أنهم أظهروا الفرار من الفتنة، لكن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 193.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 409

[سورة التوبة (9): الآيات 50 الى 51]

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

المنافق لا يفرّ من فتنة إلّا و يسقط في فتنة أخرى، لأنه من أهل النار و هي محيطة به، فكيف يفر منها.

[50] و كيف يكون هؤلاء المنافقون مسلمين، و الحال أن صفاتهم صفات الكافرين إِنْ تُصِبْكَ يا رسول الله حَسَنَةٌ تصل إليك غنيمة أو خير تَسُؤْهُمْ أي يحزن المنافقون من أجلها وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ شدة و آفة في النفس أو المال أو غيرهما يَقُولُوا المنافقون: قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ أخذنا حذرنا من قبل وقوع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه في هذه البلية وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ رجعوا إلى بيوتهم فرحين بما أصاب المؤمنين من الشدة. و قد كان من عادة المؤمنين عكس ذلك، فإنهم إذا رأوا الرسول في شدة اجتمعوا حوله ليواسوه بأنفسهم.

[51] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا فلم يكن ما أصابنا شر لنا، كما زعمتم، بل إن الله سبحانه كتب هذه البلايا لنا لأن ترفع درجاتنا في الآخرة، و ينصرنا على أعدائنا في النهاية، و نحن مسلمون لأمر الله منقادون لإرادته هُوَ مَوْلانا أولى بنا من أنفسنا، فما كتبه لنا كان لخيرنا و صلاحنا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ بأن

يكلوا أمرهم إليه، و يرضوا بقضائه، فليس ذلك إلا للخير و السعادة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 410

[سورة التوبة (9): الآيات 52 الى 53]

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53)

[52] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: هَلْ تَرَبَّصُونَ «التربص» الانتظار، أي: هل تنتظرون بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إما النصر و الظفر و خير الدنيا، و إما الشهادة في سبيل الله و فيها خير الآخرة، فلا يعود تربّصكم بشر لنا أو خير لكم وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ ننتظر أن تقعوا في أحد الشرين أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بأن تهلكوا فتعذّبوا في الآخرة أَوْ بِأَيْدِينا بأن ننتصر عليكم فتصبحوا أذلاء في الدنيا خاسرين مقهورين فَتَرَبَّصُوا أي انتظروا. و هو تهديد في صورة الأمر كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1»، إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ أي منتظرون، حتى نرى لمن العاقبة الحسنة، و لمن العاقبة السيئة.

[53] قد كان بعض المنافقين عرضوا أموالهم لمساعدة المجاهدين في «تبوك» لينجوا بذلك عن الذهاب بأنفسهم و لا يقعوا موقع لوم المسلمين بأنهم نافقوا، و لم يشتركوا في الجهاد مع المجاهدين، لكن الله سبحانه أخبر عن نيتهم و أن إنفاقهم لا ينفع شيئا قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: أَنْفِقُوا أموالكم للجهاد طَوْعاً أَوْ كَرْهاً طائعين أو مكرهين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أي إن أنفقتم طائعين أو مكرهين

______________________________

(1) فصلت: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 411

[سورة التوبة (9): آية 54]

وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا

يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَ هُمْ كارِهُونَ (54)

لا يتقبل الله منكم الإنفاق. فاللفظ أمر و المعنى الشرط.

ثم بيّن السبب بقوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة الله سبحانه، و الفاسق لا يتقبل منه الإنفاق، لأن قبول الأعمال مشروط بالتقوى و هو منفي عنهم، قال سبحانه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1».

[54] وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ أيّ شي ء منع قبول إنفاقهم و الإثابة عليه؟ إنه كفرهم إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ فإن الكفر الباطني مانع عن قبول الأعمال، و إن أظهر الإسلام وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى متثاقلين، فإن المؤمن حيث امتلأ إيمانا يقدم على الطاعات بكل شوق و رغبة، بخلاف المنافق الذي لم يذعن قلبه لشي ء، فإنه لا يأتي الصلاة و سائر الطاعات إلّا متثاقلا كسلانا فإنه يريد بذلك إراءة الناس وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ للإنفاق، لأنهم لا يدفعون المال عن عقيدة و إخلاص، و إنما يدفعون للتستر بالإسلام و التحفّظ على أنفسهم من ألسنة المؤمنين، لئلّا يظهر ما ينوون من الكفر و النفاق.

______________________________

(1) المائدة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 412

[سورة التوبة (9): آية 55]

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (55)

[55] فَلا تُعْجِبْكَ يا رسول الله أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ أي لا يأخذ بقلبك ما تراه من كثرة أموال هؤلاء المنافقين و أولادهم، و لا تنظر إليهم بعين الإعجاب، فإن الأموال و الأولاد قد تكون نعمة و خيرا حينما يشكر الإنسان وجودها و يصبر و يحتسب لفقدها، أما إذا لم تكن كذلك،

فهي بالعكس تصبح وبالا على الإنسان إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها بهذه الأموال و الأولاد فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإن النفس غير المطمئنة تكون دائمة القلق على مصير الأموال و الأولاد لأنها دائمة الخوف عليهما، أما المؤمن فإن بقيت أمواله و أولاده شكر و إن ذهبت صبر، و علم أن ذلك موجب للأجر و الثواب، فلا يكون خائفا قلقا.

قال أحد الكافرين: إن أعجب ما رأيت من شيخ مسلم أنه كان صاحب أغنام تعدّ بالألوف و كان جميع كيانه بها و إذا به يفاجأ ذات يوم- و أنا عنده- بأن يخبره آت قائلا: إن الأغنام ذهب بها السيل، قال: و كنت أترقب انقلابا في حال الشيخ الذي ذهب كل كيانه بذهاب أغنامه، و إذا به يقول: «إنا لله و إنا إليه راجعون، و ماذا نصنع؟ نتوكل على الله، و نصبر، فهو خير للصابرين» و كأن أمرا لم يحدث.

وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ تهلك و تذهب بالموت بصعوبة، فهم قد عاشوا في الدنيا بصعوبة و قلق، و ها هم يموتون، و حينما تريد أرواحهم أن تخرج، تخرج بصعوبة، فيموتون بكل صعوبة وَ هُمْ كافِرُونَ فقد عاشوا أشقياء، و ماتوا أشقياء و يحشرون أشقياء إذ ماتوا كافرين. ثم إن جملة «تزهق» إما استئنافية، و إما عطف على «ليعذبهم». و إرادة الله

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 413

[سورة التوبة (9): الآيات 56 الى 57]

وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ (57)

ذلك، إنما كانت بسبب أنهم أعرضوا عن الحق فتركهم الله سبحانه في كفرهم. و هو معنى إرادته أن يموتوا كافرين.

[56] و قد

كان هؤلاء المنافقين يريدون اللعب على حبلين، فحيث أن السلطة بيد المسلمين يريدون إرضاءهم بإظهار أنهم منهم، و حيث أن قلوبهم كانت منكرة كانوا مع الكافرين باطنا و عملا، لكن الله سبحانه أبدى نواياهم وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ يقسمون بالله إنهم مثلكم في الإيمان و الإخلاص وَ ما هُمْ مِنْكُمْ ليسوا مثلكم وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ من «فرق» بمعنى خاف، أي يخافون و يجتنبون القتل و القتال، و كيف يكون من يجبن مثل غيره من المسلمين الأقوياء القلوب؟! [57] لَوْ يَجِدُونَ أي لو وجد هؤلاء المنافقون الجبناء مَلْجَأً حصنا، و يسمّى الحصن بذلك، لأن الإنسان يلجأ عند الخوف إليه أَوْ مَغاراتٍ جمع «مغارة»، من «غار يغور» إذا دخل، و منه «الغار» بمعنى النقب في الجبل أَوْ مُدَّخَلًا من «ادّخل» أصله أو «تدّخل» من باب الافتعال قلبت تاؤه دالا، وجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن، و المراد به النفق و شبهه، أي: لو وجد هؤلاء المنافقون الجبناء محل فرار سواء كان حصنا أو غارا أو ثقبا في الأرض لَوَلَّوْا إِلَيْهِ أي فروا منكم و من القتال إلى ذلك المخبأ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 414

[سورة التوبة (9): الآيات 58 الى 59]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)

«الجموح» بمعنى المضي مسرعين بحيث لا يردهم شي ء.

[58] وَ مِنْهُمْ أي من المنافقين مَنْ يَلْمِزُكَ يقال: «لمز الرجل» إذا عابه، قال سبحانه: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ «1»، فِي

الصَّدَقاتِ أي في تقسيم الصدقات و هي الغنائم و ما أشبهها، مما فرضه الله سبحانه لإقامة المصالح، أي يطعنون عليك في تقسيمك فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا و قالوا إن محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عدل و أعطى الحق في موضعه وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ يغضبون و يعيبون، فليسوا معترفين بك و أن أعمالك إنما تصدر عن الوحي، بل هم طلاب دنيا.

ورد أن هذه الآية نزلت لما جاءت الصدقات و جاء الأغنياء و ظنوا أن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقسمها بينهم، فلما وضعها في الفقراء تغامزوا على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لمزوه و قالوا: نحن الذين نقوم في الحرب و ننفر معه و نقوّي أمره، ثم يدفع الصدقات إلى هؤلاء الذين لا يعينونه و لا يغنون عنه شيئا.

إنهم قالوا هذا القول و طعنوا في الرسول، لا حبا للعدالة، بل غضبا لأنهم لم ينالوا منها.

[59] وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أي ما أعطاهم الرسول بحكم

______________________________

(1) الهمزة: 2.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 415

[سورة التوبة (9): آية 60]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

الله سبحانه وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ كافينا سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فإن لم يقسم لنا من هذه الصدقة قسم لنا من غيرها وَ رَسُولُهُ ذكر الله لأنه الآمر، و ذكر الرسول لأنه المقسم و المعطي إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ نرغب إليه و نطلب منه سبحانه أن يوسع علينا.

أي «لكان خيرا لهم» هذا هو جواب «لو» فإنه حذف للدلالة على العموم و التوسعة، فإن المذكور إنما هو لفظ واحد بخلاف المحذوف، و لذا قالوا: إن حذف المتعلق يفيد العموم.

[60] ثم بيّن سبحانه مصرف الصدقات، و أنها يجب أن تصرف في المصارف المذكورة لا أن تعطى للأغنياء و الطامعين إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ المراد بالصدقات الزكاة- كما أجمع المفسرون عليه- و هي تؤخذ بنسبة العشر و نصف العشر و ربع العشر، من أموال تسعة، بعنوان الوجوب، و من غيرها بعنوان الاستحباب- كما فصّل في الفقه- و الأموال التسعة هي: الإبل، و البقر، و الغنم، و الذهب، و الفضة، و الحنطة، و الشعير، و التمر، و الزبيب. بشرائط مخصوصة، و تعطى لثمانية أصناف، منهم:

الفقراء الذين لا يجدون قوت سنة لأنفسهم و لعيالهم حسب شأنهم، لا قوة و لا فعلا.

وَ الْمَساكِينِ و هم أسوأ حالا من الفقير، كأن الفقر أسكنه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 416

الأرض فلم يقدر على التحرك، و حيث أنهم في المجتمع صنفان متمايزان، إذ هناك صنف تعسّرت أموره و إن كان ظاهره لا بأس به، و صنف داخل في العجزة كالعميان و الزمنى و من إليهم، ذكرهم سبحانه صنفين، و إن كان الميزان في الصنفين واحدا، و هو عدم تمكنهم من مؤونة سنة فعلا و قوة.

و لعل وجه تقديم الفقراء: أن إعطاءهم من الزكاة أبعد في النظر و لذا جي ء بهم أولا، تداركا لهذا البعد، كما أنك إذا أردت أن تعدّ من أتاك تذكر الأبعد في نظر السامعين، كما أن ذكر المساكين مع أنهم داخلون في الفقراء لعلة، و ذلك لدفع احتمال أن مثل هؤلاء لا بد و أن يعيشوا على إحسان

المحسنين من الذين يتصدقون بالصدقات المستحبة لدفع البلاء، كما جرت العادة، لا أن يكون لهم رزق في خزينة الدولة.

وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها أي الذين يعملون لأجل جمع الزكوات، و جبايتها، و لو كانوا أغنياء فإنهم يأخذون حق العمل، و لفظة «على» لأجل أن العامل يقتطع من أموال الناس، فهو شبيه بالضرر، فإنه يعمل لأجل الفقير، على الغني.

وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ أي الكفار الذين يراد تأليف قلوبهم بالمال ليميلوا نحو الإسلام أو نحو المسلمين، فإن الأموال تقرّب الناس إلى الناس، و تقرّب الناس إلى الأديان و المبادئ، و كذلك المسلمون الذين أسلموا و لكن لم يدخل الإسلام في قلوبهم فيعطوا من الزكاة لتقوى عقيدتهم، و يستحكم إسلامهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 417

[سورة التوبة (9): آية 61]

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)

وَ فِي الرِّقابِ جمع «رقبة» و المراد بها: الإنسان، فإن الرقبة تستعمل في الإنسان بعلاقة الجزء و الكل، كما أن «العين» تستعمل في الجاسوس بهذه العلاقة، و المراد بهم: العبيد الذين هم تحت الشدة، يشترون من الزكاة و يعتقون، و كذلك العبيد الذين كاتبوا مواليهم و لم يقدروا على دفع تمام مال الكتابة.

وَ الْغارِمِينَ جمع غارم، من «غرم» بمعنى استدان، و المراد بهم: الذين اقترضوا ثم أنفقوا المال في غير معصية، و من غير سرف، فإنهم يعطون من الزكاة ليؤدّوا ديونهم، أو تدفع ديونهم منها و لو بعد موتهم.

وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هي جميع مصالح المسلمين التي من أظهرها: الجهاد لإعلاء كلمة الله.

وَ ابْنِ السَّبِيلِ و هو المسافر المنقطع به

في سفره، يعطى من الزكاة ليرجع إلى محله، و إن كان في بلده غنيا. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي افترض الله سبحانه تقسيم الزكاة بهذه الصورة فريضة وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بحاجة خلقه حَكِيمٌ فيما فرض عليهم، و على من فرض. و الكلام حول الزكاة طويل، راجع «عبادات الإسلام» «1» حتى تعرف بعض أحكامها.

[61] كان الكلام حول المنافقين و علامات النفاق و بعض ما صدر منهم مما

______________________________

(1) للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 418

يدل على انحرافهم و نفاقهم، فمنهم من يلمز النبي في الصدقات، و منهم من يؤذي النبي، و منهم من يخشى أن تنزل عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سورة، تفضحه و تبين نفاقه وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَ إيذاء بالقول، فقد كان عبد الله بن نفيل منافقا، و كان يقعد إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيسمع كلامه ثم ينقله إلى المنافقين و ينمّ عليه. فنزل جبرائيل عليه السّلام و أخبر رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخبر المنافق، فدعاه رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بذلك فحلف أنه لم يفعل فقبل منه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- حسب الظاهر- و نهاه أن يقعد مع أصحابه من بعد، فرجع إلى أصحابه و قال: إن محمدا «أذن» أخبره الله أني أنمّ عليه و أنقل أخباره، فقبل، و أخبرته: أني لم أفعل، فقبل، فأنزل الله هذه الآية: وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ أي يستمع إلى ما يقال له و يقبل، و لا فطنة له بأن يميّز بين الصحيح من الكلام و السقيم.

قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: إني أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ

فإنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أذن كما قالوا، و لكن ليس كما قصدوا، فإن «الأذن» قد يكون في سماع كلام الشر في أحد ثم يرتّب الأثر عليه، و قد يكون خيرا، يسمع الكلام و لا يكذّبه، و لكنه لا يرتّب ما على المجرم من العقاب، كيف يمكن أن يعاب عليه فعله هذا؟! لكن المنافق هو الذي يرى الإحسان- حتى بالنسبة إلى المنافق- إساءة.

يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إيمانا من القلب، و يعلم أن الله سبحانه صادق وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ أي لنفع المؤمنين، و فرق بين «الإيمان به» إذ معناه تصديقه، و «الإيمان له»، أي يرتب الأثر الذي هو نافع للمؤمن، سواء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 419

[سورة التوبة (9): آية 62]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

اعتقد بذلك أم لم يعتقد. فقد اعتقد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صحة كلام جبرئيل المنزل من قبله سبحانه، كما رتّب أثر الصحة لنفع ذلك المؤمن- المنافق- حيث لم يعاقبه. و لا يخفى أن «الإيمان» له إطلاقان: إطلاق على كل مؤمن مقابل الكافر، و هو من أظهر الإسلام، و إن لم يدخل في قلبه، كما قال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «1»، و إطلاق على المعتقد في مقابل المنافق، كما قال سبحانه: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا «2»، و المراد هنا: الإطلاق الأول.

وَ هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ و لو إيمانا ظاهريا، حيث أنه هداهم للأصلح بحالهم في الدنيا، أما المؤمن الحقيقي فإنه سعد بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دنيا و آخرة

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بالقول أو العمل، لا يظنون أنهم فاتوه حيث لم يعاقبهم و قبل عذرهم، فلم يرتّب على أذيتهم شي ء، بل لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع في الدنيا و الآخرة، أما في الدنيا فلأن إيذاء الرسول له أثر وضعي يوجب الخسران و الخزي، و أما في الآخرة فله عذاب أليم في النار.

[62] يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي يحلف هؤلاء المنافقون لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ حيث أنكم تقبلون عذرهم إذا أقسموا بالله بأنهم لم يقولوا ما قالوا، و لم يفعلوا ما فعلوا وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي يرضوا كل واحد

______________________________

(1) النساء: 137.

(2) الحجرات: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 420

[سورة التوبة (9): الآيات 63 الى 64]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)

منهما، بالإيمان الصحيح و عدم الإيذاء واقعا- مما يريدون ستره بالحلف- أما الترضية الظاهرية للرسول، فإنها لا تنفعهم في الباطن و الواقع إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ واقعا، و المعنى: إن كانوا مؤمنين واقعا لعلموا أن مرضاة الله و الرسول أولى من الترضية الظاهرية.

[63] أَ لَمْ يَعْلَمُوا أليس يعرف هؤلاء المنافقون أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ «المحادّة» مجاوزة الحد بالمشاقة و المخالفة فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها فإن علموا ذلك فكيف يحادّون الله و الرسول بالنفاق و إيذاء الرسول ذلِكَ الخلود في النار الْخِزْيُ أي الهوان الْعَظِيمُ الذي لا خزي فوقه.

[64] يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أي يخافون و يخشون أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ من القرآن تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ أي تخبرهم بنفاقهم، فتكون فضيحة لهم،

و قوله «تنبئهم» لإفادة أنهم كانوا يخفون نفاقهم، فكأنهم لا يعلمون. و إنما السورة المنزلة تخبرهم حسب تظاهرهم بالنفاق.

ورد أنه لما خرج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى «تبوك» قال قوم من المنافقين فيما بينهم: أ يرى محمدا أن حرب الروم مثل حرب غيرهم، لا يرجع منهم أحد أبدا. فقال بعضهم: ما أحرى أن يخبر الله محمدا بما كنّا فيه، و بما في قلوبنا، و ينزل بهذا قرآنا يقرأه الناس- قالوا هذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 421

[سورة التوبة (9): الآيات 65 الى 66]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)

على حد الاستهزاء- فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمار بن ياسر: الحق القوم فإنهم قد انحرفوا، فلحقهم عمار فقال لهم: ما قلتم؟ قالوا: ما قلنا شيئا إنما نقول ذلك على حد اللعب و المزاح. فنزلت هذه الآية.

قُلِ يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: اسْتَهْزِؤُا أمر في معنى الوعيد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ أي مظهر ما تحذرون ظهوره من نفاقكم و قولكم الاستهزائي.

[65] وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يا رسول الله! عن طعنهم في الدين و استهزائهم بك و بحركاتك، و قلت لهم: لم فعلتم ذلك؟ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ «الخوض» هو دخول القدم في المائع، من ماء أو طين، ثم كثر استعماله في الدخول فيها، يعني: على وجه اللهو دون الجد، أي كان كلامنا مجرد لعب و لهو دون إرادة الحقيقة و الجد قُلْ يا رسول الله لهم:

أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ استفهام إنكاري، أي كيف تستهزئون بالله و حججه و رسوله؟

[66] قل يا رسول الله لهؤلاء المنافقين: لا تَعْتَذِرُوا بهذه الأعذار الواهية الكاذبة قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ الظاهري، فإنهم بإظهارهم الإيمان دخلوا في زمرة المؤمنين، فاستهزاؤهم هذا كان كفرا و نقضا لذلك الإيمان، و قد اعتذر بعضهم اعتذارا صادقا فرجع عن نفاقه و دخل

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 422

[سورة التوبة (9): آية 67]

الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67)

الإيمان قلبه، فقبل الرسول عذره و عفا الله عنه.

و في بعض التفاسير: إنه كان مخشي بن حميّر، و يسمى عبد الرحمن، و سأل الله بعد توبته أن يقتل شهيدا لا يعلم أحد مكانه، فقتل يوم اليمامة و لم يوجد له أثر، و لذا قال سبحانه: إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ و هو التائب حقيقة نُعَذِّبْ طائِفَةً بسبب أنهم بقوا على نفاقهم و كانُوا مُجْرِمِينَ لم ينفكوا عن الجريمة.

[67] ثم بيّن سبحانه حقيقة المنافقين و صفاتهم بقوله تعالى: الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي أنهم من طبيعة واحدة و طينة واحدة يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ يأمر بعضهم بعضا بإتيان المنكر، من الكفر و المعاصي وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ فإذا أراد أحدهم أن يعمل بطاعة نهاه غيره وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ يمسكونها عن الإنفاق، بخلاف المؤمن الذي يبسط يده بالمال، أو المراد: قبض أيديهم عن كل خير نَسُوا اللَّهَ عملوا عمل الناسي و إن كانوا ذاكرين له، فكما أن الناسي يترك المنسي، كذلك هؤلاء يتركون أوامر الله سبحانه فَنَسِيَهُمْ الله سبحانه أي تركهم و شأنهم لا

يهديهم طريقا و لا يفعل بهم صلاحا.

و ليس المراد «النسيان» حقيقة، لأن الله سبحانه لا ينسى إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ الذين خرجوا عن طاعة الله سبحانه، و إن أظهروا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 423

[سورة التوبة (9): الآيات 68 الى 69]

وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)

الإيمان، و «الفسق» عبارة عن الخروج عن الطاعة. و هذه الآية تعطي ميزان النفاق إلى يومنا، و ما أكثر أمثال هؤلاء في زماننا هذا.

[68] وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ و حيث كان الكلام حول المنافقين مفصلا، أما الكفار فذكرهم استطراد نارَ جَهَنَّمَ يعذبهم بها جزاء لما اقترفوا من الآثام خالِدِينَ فِيها دائمين لا يخرجون منها هِيَ حَسْبُهُمْ أي أن النار تكفيهم جزاء لذنوبهم و كفرهم و نفاقهم وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم عن نعيمه و رضوانه، فإن اللعن بمعنى الطرد وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ يقيم عليهم فلا يجدون خلاصا منه. و لعل المراد بذلك: العذاب العام في الدنيا و الآخرة، فإن النفاق خلة يكون صاحبها دائم التعب و النصب لأنه بين المؤمن، المهين له، الحذر منه، و بين الكافر الذي لا يقبله لأنه لم يتمسك بالكفر كما تمسك الكافر الصريح بكفره.

[69] إن هؤلاء المنافقين حالهم كحال الذين مِنْ قَبْلِكُمْ من الكفار و المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان بالأنبياء و يبطنون الكفر، أو يحادّون الأنبياء و يكفرون

بما أنزل إليهم كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً فإن بعض الأمم كانت قواهم المادية و الجسمية أكثر من أمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- كما يشهد بذلك التاريخ- وَ أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً لخصوبة النسل فيهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 424

و ازدهار التجارة و العمران عندهم فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ «الخلاق» النصيب، أي صرفوا نصيبهم من المال و القوة و الأولاد في الاستمتاع و الملذات عوض أن يصرفوها في شكر المنعم و ما أمر به فَاسْتَمْتَعْتُمْ أنتم- يا أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- أي المنافقون منهم بِخَلاقِكُمْ أي بنصيبكم كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ دون أن تعتبروا بمصيرهم فتصرفوا نعم الله سبحانه فيما أمر وَ خُضْتُمْ في الكفر و الاستهزاء و ملاذ الدنيا كَالَّذِي خاضُوا أي كخوض أولئك الأولين أُولئِكَ الذين صنعوا هذه الصنائع السيئة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الحسنة، لأن الحسنة لا تقبل مع الكفر و النفاق و العصيان، قال سبحانه: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ «1». و معنى الحبط ذهاب الأجر فِي الدُّنْيا إذ لم ينتفعوا بها، فإن الانحراف عن مناهج الله سبحانه يوجب المشاكل التي لا تكافأ بها الأعمال، فمثلا الثروة توجب رفاه الإنسان، أما إذا كانت مقترنة بالانحراف فإنها توجب الضنك و الضيق عوض الرفاه وَ الْآخِرَةِ فلا ثواب لأعمالهم الخيرة وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم و كل شي ء عندهم.

______________________________

(1) المائدة: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 425

[سورة التوبة (9): الآيات 70 الى 71]

أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا

أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)

[70] أَ لَمْ يَأْتِهِمْ استفهام إنكاري، أي ألم يأت إلى هؤلاء المنافقين نَبَأُ أي خبر الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم قَوْمِ نُوحٍ عليه السّلام حيث أهلكهم الله بالغرق وَ عادٍ قوم هود عليه السّلام أهلكهم الله بالريح وَ ثَمُودَ قوم صالح عليه السّلام أهلكهم بالرجفة وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ عليه السّلام نمرود و أتباعه، حيث سلب الله ملكهم و نعمتهم وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ قوم شعيب عليه السّلام أهلكهم بعذاب يوم الظلة وَ الْمُؤْتَفِكاتِ من «ائتفك» بمعنى انقلب، أي البلاد التي انقلبت و هي بلاد قوم لوط عليه السّلام حيث أهلكوا، و ذلك أن الله سبحانه أمر جبرائيل فقلب تلك المدن بأن جعل عاليها سافلها أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج الظاهرة و الأدلة البينة، لكنهم عصوا و أبوا و تمردوا على الله و رسله فأهلكهم الله بذنوبهم و ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ فتعذيبهم بأنواع العذاب لم يكن ظلما منه سبحانه لهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فقد عوقبوا بسبب تمرّدهم و عصيانهم، و هؤلاء الكفار و المنافقون حالهم حال أولئك، إن تمردوا و عصوا أخذوا بذنوبهم، فليحذروا أن يصيبهم ما أصاب من قبلهم.

[71] و لما بيّن سبحانه صفات المنافقين و ما فعل بهم كما فعل بأسلافهم، بيّن صفات المؤمنين و العاقبة الحسنة التي تنتظرهم وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ فإن كل واحد منهم ينصر صاحبه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 426

[سورة التوبة (9): آية 72]

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

و يؤيده و يعينه، لأنهم من عنصر واحد و أصل واحد و تجمعهم عقيدة واحدة يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي الأمور الحسنة التي يعرفها الناس من واجب أو مندوب شرعا و عقلا وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ الذي ينكره الناس من حرام أو مكروه شرعا و عقلا وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يداومون على فعلها و يحثّون الناس عليها وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي الحق المفروض، أو مطلق الصدقة، فإن الزكاة تطلق عليهما وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمرهم و ينهاهم أُولئِكَ المؤمنون الذين هذه صفاتهم سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إما المراد: رحمتهم في الجنة، و لذا دخلت «السين»، و إما المراد: في الدنيا، و دخول «السين» لإفادة كون الرحمة إنما تأتي بعد مدة من استمرارهم في العمل و نجاحهم في الامتحان، فلا يتوقع المؤمن أن تشمله الرحمة فورا بمجرد وقوعه في مشكلة، و إنما تؤخر عنه للامتحان و الاختبار إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على أمره متمكن من إنفاذ إرادته حَكِيمٌ في تدبيره و فعله، فيفعل الأشياء حسب المصلحة.

[72] وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بالإضافة إلى الخير في هذه الحياة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت قصورها و أشجارها خالِدِينَ فِيها دائمين لا يزولون عنها وَ وعدهم مَساكِنَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 427

[سورة التوبة (9): آية 73]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (73)

طَيِّبَةً مهيأة فيها الأثاث و الرياش، طيبة الهواء و المرافق بحيث يطيب فيها العيش فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ العدن، و الإقامة و الخلود، نظائر، أي أنهم في

جنات الخلود.

و ورد في بعض الأحاديث: «إنها أعلى الجنان مما لم يخطر على قلب بشر»

«1» وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ أي أن رضاه سبحانه على هؤلاء المؤمنين أكبر من كل ذلك، فإن الإنسان إذا علم برضى الكبير منه ارتاح ضميره، فكيف به لو علم برضاه سبحانه عنه.

و من المعلوم أن ارتياح الضمير أكبر من ارتياح الجسد.

ذلِكَ النعيم الجسدي و الروحي للمؤمنين و المؤمنات هُوَ الْفَوْزُ و النجاح الْعَظِيمُ الذي لا نجاح فوقه و لا فوز أكبر منه و أعظم.

[73] و حيث ذكر سبحانه أحوال الكفار و المنافقين و بيّن صفاتهم الذميمة، أوجب الجهاد لتخليص البشرية منهم يا أَيُّهَا النَّبِيُ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاهِدِ الْكُفَّارَ بالمقاتلة و المحاربة و بيان عقائدهم السخيفة، فإن هذا الجهاد نوع من أنواع الحرب الباردة- في الاصطلاح الحديث- وَ الْمُنافِقِينَ و جهاد المنافقين بالوعظ و الإنذار لهم، و إجراء الحدود عليهم، و تخويف الناس من النفاق. و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجاهدهم مرة بإظهار نفاقهم، و تارة بضرب الحصار عليهم، كما قال سبحانه:

______________________________

(1) المستدرك: ج 6 ص 62.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 428

[سورة التوبة (9): آية 74]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (74)

وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا «1»، و أخرى بنهي المؤمنين عن أن يتصفوا بخلة النفاق.

و من المحتمل أن يراد

بالمنافق هنا: الكافر المنافق، فإن بعض الكفار ينافق بإظهار الودّ للمسلم و تأليفه و هو ألد الأعداء له، في مقابل الكافر الصريح الذي يظهر عداءه و شحناءه.

وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ حتى يرتدعوا، فإن الغلظة في الكلام و السلوك مع شخص خليق بأن يردعه عن عمله، كما قال سبحانه: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ «2»، وَ مَأْواهُمْ أي محلهم و مصيرهم، من «أوى» إذا اتخذ مكانا جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ أي بئس المرجع و المأوى لهم.

[74] و من المنافقين من يتأمرون على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون عنه أشياء، إذا استنطقهم الرسول حلفوا بالله كذبا أنه لم يصدر منهم شي ء،

فقد كان جماعة منهم خرجوا مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى «تبوك» و كانوا كارهين لذلك، فإذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انتقصوه، فأبلغ ذلك «حذيفة» إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فطلبهم و قال: ما هذا الذي بلغني عنكم. فأخذوا يحلفون بالله ما قالوا شيئا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية تفضحهم

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا أي أقسم هؤلاء المنافقون بالله بأنهم لم يقولوا شيئا ضد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ فإنهم

______________________________

(1) التوبة: 118.

(2) الفتح: 30.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 429

بسبّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الطعن في الإسلام صاروا كفارا وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ الظاهري، فإن المنافق إذا أظهر الإسلام صار مسلما، فإذا صدرت منه كلمة الكفر صار كافرا.

لا يقال: إنهم إن كفروا وجب عليهم حدّ المرتد.

لأنا نقول: إنهم كانوا مرتدين عن ملّة، و

لا يحدّ مثلهم، و إنما يستتابوا، و إنكارهم كان بمنزلة التوبة، و إن كان توبة صورية لا حقيقية.

وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا فقد أرادوا إخفاء نور الإسلام، و ذلك يتحقق بكل ما يهتم به المنافق من إرادة قتل النبي، و إيجاد الفساد بين المسلمين، و إخراج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المدينة، لكنهم لم ينالوا ذلك و لم يقدروا على ما هموا به، بل انعكس الأمر فقد زاد الإسلام علوّا، و الرسول ارتفاعا، و المسلمون سموّا.

و قد ورد في بعض الأحاديث: تأويل الآية بالذين خالفوا الرسول في قصة «غدير خم» و أرادوا إخماد نور الوصي، و قالوا في الرسول كلاما بذيئا «1».

وَ ما نَقَمُوا النقمة الإنكار و الغضب، أي أن هؤلاء لم ينكروا على المسلمين إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فإن الله سبحانه أغنى المسلمين و أنعم عليهم، بفضل إرشادات الرسول، فلم يكن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 37 ص 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 430

[سورة التوبة (9): آية 75]

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

للمسلمين ذنب يستحقون به النقمة من المنافقين، و لكن المنافقين كرهوا ذلك حسدا، أو المراد: أن الله أغنى هؤلاء المنافقين، فكان من اللازم أن يحبوا الله و رسوله حيث أعطاهم الغنائم لكنهم جعلوا مكان الشكر كفرانا، كما يقال: «لم يكرهني فلان إلا لأني أحسنت إليه».

فَإِنْ يَتُوبُوا عن نفاقهم و يرجعوا إلى الحق يَكُ خَيْراً لَهُمْ في دنياهم و في آخرتهم حيث يكونون كسائر المسلمين لا يجتنب أحد منهم و لا يكرههم المسلمون، و يقال في مثل هذه المواضع «خير» مقابل ما يظن أنه خير، و

إن لم يكن إلا شرا واقعا وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا أي يستمروا على إعراضهم عن الحق و سلوكهم سبيل النفاق يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً مؤلما موجعا فِي الدُّنْيا باجتناب المسلمين لهم، و تضييق العيش عليهم، كما قال سبحانه: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً «1»، وَ في الْآخِرَةِ بالنكال و النار وَ ما لَهُمْ ليس لهم فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍ يلي أمورهم و يحبهم وَ لا نَصِيرٍ ينصرهم، فليس كما ظنوا أن المنافقين ينصرونهم إذا وقعوا في المشاكل، فإن المنافق حيث اختمر على طبيعة النفاق، لا ينصر حتى أخاه و أقرب الناس إليه.

[75] وَ مِنْهُمْ من المنافقين مَنْ عاهَدَ اللَّهَ أي عهد مع الله لَئِنْ آتانا

______________________________

(1) طه: 125.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 431

[سورة التوبة (9): الآيات 76 الى 77]

فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77)

مِنْ فَضْلِهِ أعطانا الله من كرمه وجوده لَنَصَّدَّقَنَ نتصدق على الفقراء وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فيما أعطانا الله فننفق المال في وجهه، و لا نكون مفسدين مسرفين.

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: هو ثعلبة بن حاطب بن عمرو بن عوف كان محتاجا فعاهد الله، فلما آتاه بخل به. و في التفاسير: أنه قال للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني مالا. فقال: يا ثعلبة «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه» فقال:

و الذي بعثك بالحق لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه.

فدعا له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاتخذ غنما،

فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا و انقطع عن الجماعة و الجمعة، و بعث رسول الله المصدق ليأخذ الصدقة، فأبى و بخل و قال: ما هذه إلا أخت الجزية. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة» «1».

[76] فَلَمَّا آتاهُمْ أي أعطاهم الله مِنْ فَضْلِهِ وجوده ما طلبوه بَخِلُوا بِهِ و لم يدفعوا حقه و لم يفوا بما عاهدوا عليه وَ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن إعطاء حقه كما أمر الله وَ هُمْ مُعْرِضُونَ عن دين الله و أحكامه و أوامر الرسول و أعمال الخير.

[77] فَأَعْقَبَهُمْ فأورثهم بخلهم و نقضهم لعهد الله نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 13 ص 256.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 432

[سورة التوبة (9): آية 78]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)

فإن الإنسان إذا أعرض عن أمر كبير لا بد و أن يختلق لنفسه تبريرات و أعذارا، ليبرّر موقفه، و ذلك هو النفاق إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي يلقون جزاء بخلهم، فالضمير عائد إلى البخل، و أريد به جزاءه، أو المراد نفس البخل، بناء على تجسيم الأعمال، أو الضمير عائد إلى الله سبحانه المعلوم من السياق، و «ملاقاة الله» إنما هي في القيامة بملاقاة حسابه، فإنه سبحانه منزّه عن المكان و الرؤية.

و ذلك بسبب ما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ بسبب خلفهم للعهد الذي عاهدوا، من أن الله إذا أعطاهم من فضله تصدّقوا و كانوا شاكرين وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي و بسبب كذبهم على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو المراد بالكذب عليه: أن الصدقة أخت الجزية- كما تقدم-.

[78] أَ

لَمْ يَعْلَمُوا استفهام إنكاري، أي أليس يعرف هؤلاء المنافقون أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ المخفي في نفوسهم وَ نَجْواهُمْ التي يتناجون بها مع أمثالهم من المنافقين؟ فإن المنافق لا بد و أن يتناجى مع أمثاله لجعل حلول و مبرّرات لموقفهم النفاقي، كما تدور الأسرار في نفوسهم فيقلبون أوجه الرأي للخلاص من مأزقهم وَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم ما غاب عن الحواس، من الأمور المختفية في النفوس، و النجوى، و غيرهما، فإذا علموا ذلك، فلما ذا لا يخشون منه سبحانه و لا يفعلون حسب مرضاته؟

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 433

[سورة التوبة (9): الآيات 79 الى 80]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)

[79] و كان من المنافقين من يرصدون للمسلمين ليعيبونهم، فقد جاء رجل من المؤمنين بصاع من تمر للصدقة، فقال المنافقون: إن الله غني عن صاعه، و إنما جاء بذلك حتى يذكر في المتصدقين. و جاء رجل آخر بصرّة من دراهم، فقالوا: إنه جاء بذلك للرياء، فعابوا المكثر بالرياء، و المقل بالإقلال، فنزل قوله تعالى: المنافقون الَّذِينَ يَلْمِزُونَ «اللّمز» هو الطعن، أي يطعنون الْمُطَّوِّعِينَ أي معطي الصدقة تطوعا من «اطّوع»، أصله «تطوع»، أدغمت التاء في الطاء، و جي ء بهمزة الوصل، لتعذر الابتداء بالساكن مِنَ الْمُؤْمِنِينَ و لعلّ ذكر هذا للدلالة على أن إيمان المتطوع كان اللازم أن يحجز القائلين من الطعن بهم، لكنهم منافقون لا يبالون بالإيمان و المؤمنين فِي الصَّدَقاتِ

كما طعنوا فيمن أعطى الدراهم وَ يلمزون الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ أي إلّا طاقتهم في الإنفاق و التصدق، كما عابوا من أعطى الصاع فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ و يستهزئون بهم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ أي يجازيهم جزاء سخريتهم. و قد تقدم تفصيل الكلام في سورة البقرة، في قوله سبحانه: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «1»، وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع.

[80]

روي أنه عند نزول آية «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ» في حق المنافقين قالوا: يا

______________________________

(1) البقرة: 16. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 434

رسول الله استغفر لنا فوعدهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالاستغفار، فنزلت الآية

: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ يا رسول الله أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ الصيغة الأولى للأمر، و المراد بها المبالغة في الإياس، أي سواء استغفرت لهم أم لم تستغفر فإنهم لا يستحقون الغفران، و لذا لا يغفر الله لهم إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً صيغة مبالغة يراد بها الكثرة، كما يقال: «لو قلت لي ألف مرة ما قبلت» لا يريد الألف، بل المراد أنه لا يقبل و إن قال فوق الألف فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لأنهم جبلوا على النفاق و الجبل عليه لا يفيده الاستغفار، و هذا ليس إهانة للرسول- كما زعم- بل أفرغ التوبيخ لأولئك في هذا القالب، كما تقدم في قوله: (وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) «1».

و إن قيل: كيف جاز للرسول أن يعدهم بما لم يفعل؟

قلنا: إن ثبتت الرواية، لم يكن به بأس لأن الاستغفار إنما كان لأجل أن يغفر الله، فإذا أخبر سبحانه بأنه لا يغفر لم يبق للاستغفار مجالا، كما لو وعد إنسان بإطعام زيد ثم مات زيد. ثم إنه كان مراد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الاستغفار

بالشرط فلم يكن إخبارا مطلقا حتى يقال أنه يلزم جهله بالمستقبل، و أنه تكلم من عند نفسه، و هذا ينافي قوله تعالى: «ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2».

______________________________

(1) الأعراف: 151.

(2) النجم: 4 و 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 435

[سورة التوبة (9): آية 81]

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)

ذلِكَ الذي تقدم من عدم قبول توبتهم و عدم فائدة الاستغفار بالنسبة إليهم بسبب أنهم أي المنافقين كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ كفرا باطنا، و إن أظهروا الإسلام وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ فإنه سبحانه لا يلطف بهم اللطف الخفي بعد أن خرجوا عن طاعته و خالفوا أوامره عن علم و عمل.

[81] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ «المخلّف» بصيغة المفعول من باب «التفعيل» هو المتروك خلف من مضى، و سمّي مخلفا لأنه تخلّف بنفسه، أو خلّفه شخص آخر و أبقاه، كالمؤخّر، بِمَقْعَدِهِمْ هو «مصدر ميمي» بمعنى «القعود» أي أن من تخلفوا عن الجهاد في تبوك، فرحوا بقعودهم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ أي بعده، أو بمعنى: بقاؤهم خلافا للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقد فرحوا بأنهم نجوا من تلك السفرة المتعبة الخطرة وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ترجيحا للراحة على التعب فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لإعلاء كلمته وَ قالُوا قال أولئك المخلّفون للمسلمين و لنظرائهم من المنافقين: لا تَنْفِرُوا أي لا تذهبوا للجهاد فِي الْحَرِّ فإن وقت خروجهم كان مصادفا للحر الشديد قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: نارُ جَهَنَّمَ التي تجب للمتخلّف أَشَدُّ حَرًّا من هذه الحرارة

التي يلاقيها المجاهدون، فهي أولى بالاحتراز من هذه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 436

[سورة التوبة (9): الآيات 82 الى 83]

فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)

لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أي يفهمون، و المعنى: أنهم لو فقهوا لعلموا أن نار جهنم أولى بالاحتراز و التجنّب.

[82] إن الفرح الذي فرحه المخلفون بسبب بقائهم يوجب لهم العذاب الدائم، فاللازم أن يضحكوا قليلا لأنه لم يبق لهم مجال للضحك، فقد استحقوا بذلك العقاب، و المهدّد لا يضحك فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا إنه ليس أمرا بالضحك و إنما بيان لوجوب التقليل من ضحكهم وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً حيث عملوا ما يستحقون به البكاء حيث اشتروا النار بفرارهم من الزحف جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من النفاق و التخلّف عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[83] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ يا رسول الله من هذه الغزوة- غزوة تبوك- إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ لا خصوصية للرجوع إلى الطائفة، و إنما المقصود ترتيب الأثر على تلك الطائفة من المنافقين الذين تخلفوا عن تبوك فَاسْتَأْذَنُوكَ أي طلبوا منك الإذن لِلْخُرُوجِ معك إلى غزوة أخرى فَقُلْ لهم: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً إلى الغزوة وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا فإنا قطعنا عنكم و لا صلة بيننا و بينكم إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ عن الجهاد أَوَّلَ مَرَّةٍ في غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ الذين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 437

[سورة التوبة (9): آية 84]

وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ

وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ (84)

يخالفوننا، و كونوا معهم دائما، إن الذي يترك الإنسان في ساعة العسرة لا يصلح أن يكون معه، فطبعه طبع انهزامي مخلد إلى الدعة، و لو خرج لم يزد إلا خبالا و خذلانا، فلذا كان اللازم أن يجتنب عنه إطلاقا، بالإضافة إلى أن الإسلام في غنى عنه، و هو لا يستحق شرف الجهاد فليبق في بيته و يكن مع الخالفين.

[84] ثم نهى سبحانه نبيه عن الصلاة على مثل هؤلاء المنافقين ليحذر غيرهم من النفاق، و لأنهم لا يستحقون الرحمة و الغفران وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أي إذا مات أحد هؤلاء المنافقين فلا تصلّ على ميتهم أَبَداً أي إلى الأبد، فإنه تجوز الصلاة على من لم يصلّ عليه إلى آخر العمر- على قول- لكن المنافق لا يستحق ذلك وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أي لا تقف على قبره للدعاء كما هو عادة الناس أن يقفون على قبر المسلم يدعون له و يستغفرون من أجله.

و ذلك بسبب إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ و إسلامهم الظاهري إنما حقن دماءهم و حفظ أموالهم و أعراضهم، لكنه لم يدخلهم في زمرة المؤمنين الذين لهم الكرامة وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ خارجون عن طاعة الله سبحانه. ثم إن المراد ب «الصلاة» طلب الرحمة له، كما أن المراد ب «الوقوف على قبره» ذلك، فلا ينافي ذلك ما فعله النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعبد الله ابن أبيّ المنافق الذي مات فصلّى الرسول عليه، و لعنه عقيب الرابعة. ثم إنه قد اختلفت الأقوال حول هذا المنافق مما لا يهمنا التعرّض له.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 438

[سورة التوبة (9): الآيات 85 الى 86]

وَ

لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (85) وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86)

[85] وَ لا تُعْجِبْكَ يا رسول الله، أي لا تنظر نظرة إعجاب- المستلزمة للتكريم- أَمْوالُهُمْ أي أموال المنافقين وَ أَوْلادُهُمْ الكثيرة، كيف قد منحوا ذلك، و أنها تدل على تكريم الله لهم، بل بالعكس إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها بهذه الأموال و الأولاد فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ «زهق النفس» عبارة عن هلاكها وَ هُمْ كافِرُونَ فهم بين عذاب الدنيا للمال و الأولاد من التبعة و الهموم، و بين عذاب الآخرة حيث أنهم يموتون مع الكفر. و قد مر تفسير الآية فراجع.

و لعل المقصود من تكرار الآية: النهي عن هذا النوع من التكريم اللاشعوري للكفار و المنافقين، فإن نظر الإعجاب هو نظر التكريم، فيختلف المقصود هنا من المقصود هناك.

[86] وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن الكريم تتضمن أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ إما بالنسبة إلى غير المؤمنين، و إما بالنسبة إلى المنافقين، أي آمنوا إيمانا صحيحا، و إما بالنسبة إلى المؤمنين بقصد إبقائهم على الإيمان و استقامتهم فيه نحو «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ» وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ لإعلاء كلمة الإسلام، فآمنوا، و ادعوا غيركم إلى الإيمان و الجهاد اسْتَأْذَنَكَ أي طلب منك الإذن في عدم الجهاد أُولُوا الطَّوْلِ أي أصحاب المال و القدرة و الغنى مِنْهُمْ من المنافقين وَ قالُوا ذَرْنا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 439

[سورة التوبة (9): الآيات 87 الى 89]

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ

الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

أي دعنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ الذين ليس عليهم جهاد، من النساء و الصبيان و العاجزين.

[87] رَضُوا أي رضي هؤلاء المنافقين بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ جمع «خالفة»، و هي المرأة سميت به لأنها تتخلف عن الجهاد، أو هو أعم من «الخالف» فإن «فارس» يجمع على «فوارس»، و المراد: كل من تخلف عن الجهاد من النساء و الصبيان و العاجزين وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فإنهم بسبب نفاقهم طبع عدم الإيمان على قلوبهم فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ قبح عملهم و تركهم للجهاد، كشأن كل إنسان انغمر في الشهوات و المفاسد، فإنه لا يعرف قبح عمله بل يراه حسنا.

[88] لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ إيمانا صادقا جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ بإنفاقها في سبيل الله. و سمي جهادا لأن بذل المال يحتاج إلى جهد النفس و تعبها وَ أَنْفُسِهِمْ يقاتلون الكفار و يجالدون المردة الفجار وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ المنافع و الأشياء الخيرة من خيرات الدنيا و الآخرة، فإنهم يحرزون حسن السمعة و المال في الدنيا، و النعيم في الجنة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون الناجحون.

[89] أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 440

[سورة التوبة (9): آية 90]

وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)

و قصورها، فهم مشرفون على الأنهر الجارية، و في ذلك لذة و متعة خالِدِينَ فِيها أبدا لا خروج لهم منها، و لا زوال لنعيمها

عنهم ذلِكَ الإحراز للخيرات و للجنات الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا شي ء أعظم منه.

[90] أمام الحركات ينقسم الناس إلى ثلاثة أصناف: قسم يأتي و ينضم إلى الحركة، و قسم لا يأتي و لا يعتذر، و قسم يأتي و يعتذر. و هكذا حدث في غزوة تبوك، فالمؤمنون الصادقون انضموا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المنافقون بعضهم جاء ليعتذر بلا مبرّر، و بعضهم لم يجئ إطلاقا حتى للاعتذار وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ من «اعتذر» باب «التفعيل» بمعنى: أبدى العذر بدون أن يكون ذا عذر في الحقيقة مِنَ الْأَعْرابِ إما المراد بهم:

أهل البدو، و إما المراد: أهل الحضر، لكنهم شبّهوا بالأعراب في عدم استحقاقهم التكريم، كما قال سبحانه: (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً) «1».

جاء هؤلاء لِيُؤْذَنَ لَهُمْ أي يأذن لهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في التخلّف عن الجهاد وَ قَعَدَ المنافقون الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في باطنهم، و إن أظهروا التصديق في الظاهر- كما هو شأن المنافق- فإن هؤلاء لم يأتوا إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للاعتذار بل قعدوا في مكانهم و كأن أمرا لم يحدث سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من هؤلاء عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم موجع، و إنما خصص جماعة منهم لأنهم لم يكفروا كلهم، فالمعذورون من

______________________________

(1) التوبة: 97.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 441

[سورة التوبة (9): آية 91]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)

الأعراب غالبا لا ينطوون على الكفر، و إنما يتخلّفون تكاسلا.

[91] ثم بيّن سبحانه أهل الأعذار الذين يسقط

عنهم الجهاد بقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ جمع «ضعيف» كالشيخ الكبير، و الضعيف البنية، و العاجز لعمى أو زمانه أو ما أشبه- مما لا يسمّى مرضا- وَ لا عَلَى الْمَرْضى جمع «مريض» و هم أصحاب الأسقام و العلل المانعة عن الجهاد وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ ليست معهم نفقة الخروج و أسباب السفر حَرَجٌ ضيق، فلا جناح عليهم في التخلّف عن الجهاد إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ بأن أخلصوا العمل من الفسق، و كانوا ناصحين في قرارة نفوسهم. و ليس المعنى: وجود الحرج لغير الناصح- من جهة عدم الجهاد- بل المراد: أن عدم الحرج المطلق إنما يترتب على العاجز الناصح، أما العاجز المنافق فعليه حرج من جهة نفاقه.

ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ لا سبيل على تعذيبهم و لا جناح عليهم، فإنهم محسنون في أعمالهم. و لا يخفى أن الآية لا تدل على أن مريد الإحسان لا جناح عليه و إن أساء، فإن الظاهر منها أن المحسن حقيقة لا جناح عليه وَ اللَّهُ غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ بهم، فلا يحمّلهم فوق طاقتهم.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 442

[سورة التوبة (9): الآيات 92 الى 93]

وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)

[92] وَ لا سبيل و جناح عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ «ما» زائدة تأتي لتزيين الكلام، أي إذا جاءوك يا رسول الله لِتَحْمِلَهُمْ أي يسألونك مركبا يركبون عليه ليجاهدوا قُلْتَ يا رسول الله: لا أَجِدُ

ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ فليس عندي مركب تركبونه تَوَلَّوْا أي رجعوا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أعينهم تسيل بالدموع من حزنهم أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ ينفقونه لأجل تهيئة وسائل الجهاد.

ورد أن سبعة من الأنصار جاءوا إلى الرسول يطلبون منه المركب ليرافقوه في غزوة، فاعتذر منهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنه لا يجد ما يحملهم، فرجعوا باكين «1». و فيهم نزلت الآية.

[93] إِنَّمَا السَّبِيلُ أي السبيل لعقابهم و لومهم عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ يطلبون إذنك للتخلّف عن الجهاد و البقاء في المدينة وَ هُمْ أَغْنِياءُ قادرون على الجهاد و نفقاته رَضُوا أي رضي هؤلاء المستأذنون بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ من النساء و الصبيان و العاجزين وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ بسبب نفاقهم فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ بأن تخلّفهم عن الجهاد يسبب

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 104.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 443

تقريب القران الى الأذهان الجزء الحادي عشر من آية 94 من سورة التوبة إلى آية 6 من سورة هود

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 444

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 445

[سورة التوبة (9): آية 94]

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)

[94] لنذكر طرفا يسيرا من هذه الغزوة «تبوك» من كراس «رسول الإسلام في المدينة» من السلسلة التي وضعناها في قادة الإسلام «1»:

لما خرج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

من المدينة استعرض الجيش فكانوا ثلاثين ألفا، فغمر الجيش الفرح لكثرة عددهم، لكنهم عانوا في هذه السفرة أشد أنواع الجوع و العطش، فالمضرة كبيرة، و الحر شديد، و القلوب متعلقة بالمدينة، إذ نضجت الثمار، و حان قطفها، و المركوب قليل، حتى أن العشرة منهم كانوا يتناوبون في ركوب جمل واحد، و الطعام قليل جدا، ففي بعض الأحيان كان نفران منهم يتقاسمان تمرة واحدة شق لهذا و شق لذاك، و أصابهم أشد العطش فكانوا ينحرون إبلهم العزيزة، لينقبوا كروشها، و يشربوا ماءها، أو يعتصروا فرثها ليشربوا عصيره ثم يجعل ما بقي على كبده، حتى أن بعضهم رأى الموت بعينيه، فطلبوا من النبي الاستسقاء، فدعا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رافعا يديه إلى السماء. قال الراوي: فلم يرجعوا حتى هطلت السماء بمطر غزير.

هذا بالإضافة إلى الإشاعات التي ملكت القلوب- و إن سارت بأجسامها مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- أنه لا بد و أن تقضي جيوش الروم الهائلة المنظمة على الجيش الإسلامي، فلا يبقى منه أحد ..

و سار الرسول حتى وصل «تبوك» و قد كان «هرقل» وزع رواتب سنة كاملة على جيشه، كما وزع أموالا طائلة على القبائل التي استخدمها لقتال المسلمين، و هم لخم و جذم و عاملة و غسان و غيرها ... و قد أتت الروم أنباء هائلة عن جيش المسلمين، مما رأوا أن

______________________________

(1) للمؤلف.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 446

من الصالح عدم دخولهم في قتال لا يعرف مصيره، و قد كان الروم شاهدوا في حرب «مؤتة» قتال المسلمين، فإذا لم يتمكن جيشهم، و عدده «مائتا ألف» من جيش «مؤتة» الذي كان بقيادة جعفر عليه السّلام و عدده «ثلاثة

آلاف» فكيف يقاوم جيشهم جيش الإسلام كله و هم لا يعلمون عدده من الكثرة بقيادة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لذا قرروا انسحاب الجيش، فانسحبوا قبل الاصطدام بجيش المسلمين.

وصل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى «تبوك» فلم يلق جيشا، فاستشار أصحابه في غزو بني الأصفر- أي الروم- و الرجوع إلى المدينة؟ فأشاروا على الرسول بالرجوع، فبقي الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هناك عشرين يوما، و عقد الاتفاقيات مع الزعماء و القبائل، فأرسل إلى أصحاب أيلة: «يوحنا بن روبة» بالإذعان للمسلمين أو الغزو؟ لكن «يوحنا» كان رجلا حكيما، فاختار الإذعان، و تم الاتفاق بإعطائه الجزية للدولة الإسلامية، و عدم التعرض للدعوة الإسلامية ... و عقد الصلح بين المسلمين و بين أهل «جرباء» و هي قرية في منطقة «عمان» بالبلقاء، من أراضي الشام، على مثل المصالحة مع صاحب أيلة ... و عقد الصلح بين المسلمين و بين أهل «أذرح» قرية أخرى قريبة من الجرباء بمثل مصالحة الجرباء .. و تم الصلح بين المسلمين و بين «الأكيدر» ملك «دومة الجندل» على بذل الجزية و عدم التعرض للمسلمين.

و انتظر الرسول جيوش الروم لكنها لم تزحف، فأخذ الجيش الإسلامي طريقه إلى المدينة بعد ما أمن الحدود الشمالية، و صارت له منعة و قوة، و فتحت مجالات الإسلام في القلوب و المدن و القرى، و إذا بالمدينة تشاهد غبار جيش الإسلام المنتصر على الإمبراطورية

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 447

يبدو في الأفق البعيد، و يقترب رويدا رويدا، و إذا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يزحف بهذه الجيوش المنتصرة في هيبة الرسالة السماوية، و يلتقي الإمام بالرسول تلاقي الأخ

بأخيه في فرح و سرور، فقد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد خلّف عليا في المدينة لئلّا يفسد المتخلفون الجو، كما كانوا قد تآمروا، و هناك

قال له: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» «1»،

و يجي ء المتخلفون عن الجيش، ليعتذروا عما تقدم منهم من تفريط، و يطهروا آثامهم السالفة بالتوبة و الندم يَعْتَذِرُونَ أي يعتذر المتخلفون من المنافقين الذين كان عددهم ثمانين، و قد تخلفوا في المدينة خوفا و نفاقا، و إرادة للتآمر على الرسول، و قلب أوضاع المدينة إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من غزوة «تبوك» بأعذار كاذبة باطلة لا حقيقة لها و لا واقع، كما هو شأن المنافق في كل زمان قُلْ يا رسول الله لهم: لا تَعْتَذِرُوا فإن اعتذاركم لا يفيدكم، فإنا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ أي لن نصدقكم في ما تقولون قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ أخبرنا الله عز اسمه مِنْ أَخْبارِكُمْ و أعلمنا حقيقة أمركم، و أنكم لم تخرجوا نفاقا و جبنا لا لعذر مشروع.

و في بعض التفاسير أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نهى المسلمين أن يكلموهم أو يجالسوهم ليذوقوا و بال أمرهم، و لئلّا يتجرأ أحد على خرق أوامر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 31 ص 366.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 448

[سورة التوبة (9): آية 95]

سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)

الله و الرسول «1».

وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ أي سينظران في المستقبل إلى أعمالكم الدالة على نفاقكم و عدم صحة أعذاركم، فإن عمل الإنسان في المستقبل دليل على عمله في الماضي، فعمله بعضه من بعض ثُمَّ

تُرَدُّونَ أي ترجعون إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ في الآخرة، و المراد بذلك: التهديد، و في الآخرة سيحاسبكم الله على أعمالكم التي صدرت منكم، كما يقول الحاكم للمجرم: «سترد إليّ» يريد تهديده بالعقاب فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم الله سبحانه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليها.

[95] و جاء رئيس المنافقين «عبد الله بن أبي» حالفا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن لا يتخلّف بعد هذه الغزوة، و طلب من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يرضى عنه سَيَحْلِفُونَ سيقسمون بِاللَّهِ لَكُمْ أيها المؤمنون إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ إذا رجعتم إليهم و وصلتم إلى المدينة لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عن جرمهم، و لا توبّخوهم على ما صدر منهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إعراض ردّ و إنكار، لا إعراض صفح. و من البلاغة التشابه في اللفظ و الاختلاف في المعنى.

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 449

[سورة التوبة (9): الآيات 96 الى 97]

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)

إِنَّهُمْ رِجْسٌ أي نجس، و المراد نجاسة باطنهم، فهم كالشي ء المنتن النجس الذي يلزم الاجتناب عنه، و إلا أصاب الإنسان قذره و نتنه وَ مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ فهي مستقرّهم جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من النفاق و الآثام.

[96] يَحْلِفُونَ لَكُمْ يحلف هؤلاء المنافقون لكم أيها المسلمون، يريدون بذلك تقوية أعذارهم و تصديقكم لهم لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ طلبا لمرضاتكم حتى يؤمّنوا سعادتهم الدنيوية بينكم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ مجاملة، أو لعدم علمكم بواقعهم النفاقي فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ

الْفاسِقِينَ الذين فسقوا و خرجوا عن طاعة الله سبحانه، ثم لم يرجعوا عن نفاقهم، قد علقت الآثام بقلوبهم فهي رجس نجس، و المراد: أن الواجب عدم إظهار المؤمنين الرضا عنهم، بعد ما علموا أن الله غير راض عنهم.

[97] و بعد ما ينتهي الكلام حول الكفار و المؤمنين و المنافقين من أهل المدينة و نحوها، يأتي دور ذكر الكفار و المؤمنين و المنافقين من أهل البوادي، فإن لأهل البوادي لونا خاصا يميّزهم عن أهل المدن «فالأعراب أشد كفرا» لكفارهم، «مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً» لمنافقيهم «مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» لمؤمنيهم.

الْأَعْرابُ يقال: رجل أعرابي، إذا كان ساكنا في البادية سواء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 450

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 498

[سورة التوبة (9): آية 98]

وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)

كان عربيا أو أعجميا، و يقال: رجل عربي إذا كان من العرب سواء سكن البادية أو المدينة أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً لأنهم حيث كانوا من أهل البادية سرت فيهم جفوة الصحراء و قساوة الجهل، فكفرهم و نفاقهم أشد من كفر كفّار أهل المدن و نفاق منافقي أهل الحضر، لبعدهم عن الحضارة و العلم و الآداب وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ أي أنهم أحرى و أولى بعدم العلم بالفرائض و السنن و سائر الحدود التي أنزلها الله سبحانه على رسوله، و إنما قال: «حدود» لأن حدود الأحكام أدق من نفس الأحكام، و لذا كثيرا ما يعرف الناس الأحكام، لكنهم لا يعلمون حدودها، أي خصوصياتها و ميّزاتها، حتى لا يدخل فيها شي ء ليس منها، و لا يخرج منها شي ء هو

منها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بهم و بأحوالهم حَكِيمٌ فيما يأمر و ينهى بالنسبة إليهم. و في الآية دلالة على ذم بقاء الإنسان أعرابيا- ساكنا للبادية-.

[98] وَ مِنَ الْأَعْرابِ منافقون و هم مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ في سبيل الله مَغْرَماً «المغرم» هو الغرم، و هو نزول نائبة بالمال، فهم يظنون أن ما أنفقوه في سبيل الله من جهاد أو غيره غرامة لحقت بأموالهم، حيث لا يرجون خيره و ثوابه، و لا يصدّقون بما قال الله و الرسول في سبيل بذل الأموال و أجرها وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ أي ينتظر بكم صروف الزمان و حوادث الأيام، فقد كان هؤلاء المنافقون ينتظرون الانكسار و الذلة و الفقر و ما أشبه للمؤمنين. و سميت الحوادث السيئة بالدوائر،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 451

[سورة التوبة (9): آية 99]

وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

لأن الفلك يدور، فإذا دار جاء بالمكروه، و لذا يقال لمن يراد تحذيره:

«لا تغفل من دوران الفلك».

عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ هذا دعاء على أولئك الأعراب المنافقين بأن تدور الدائرة الآتية بالعاقبة السيئة عليهم، لا على المؤمنين وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالهم النفاقية عَلِيمٌ بضمائرهم و نواياهم، فيجازيهم عليها.

[99] وَ مِنَ الْأَعْرابِ قسم طيّب و هو مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فيعتقد بما جاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أحوال المعاد وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ فيعلم أن إنفاقه يقرّبه من الله سبحانه، فإن «قربات» جمع قربة، و هي الأعمال الخيرة التي تورث قرب العبد من الله سبحانه قربا تشريفيا

عِنْدَ اللَّهِ فهي تبقى عنده سبحانه لا تضيع و لا تذهب عبثا، كما كان يظن بعض المنافقين الذين يتخذون إنفاقهم مغرما. وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أي يبتغي بما ينفق دعوات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يدعو له بالخير، فإن «الصلاة» بمعنى العطف و الرحمة و الدعاء، فهو عطف على «قربات» أَلا إِنَّها أي نفقاتهم قُرْبَةٌ لَهُمْ موجبة لقربهم إلى ساحة رضا الله سبحانه، فلهم ما ابتغوا، و يبشّرون بحسن العاقبة سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ فتغمرهم الرحمة في الجنة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ بهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 452

[سورة التوبة (9): الآيات 100 الى 101]

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)

يتفضّل عليهم بالرحمة و الرضوان.

[100] و بعد ذكر أقسام من أهل البلاد و أهل البادية، يبيّن سبحانه أحوال الأمة بصورة عامة، و أن فيهم المؤمن و المنافق و الكافر، و أن لكلّ درجات و مراتب وَ السَّابِقُونَ إلى الإيمان و الطاعة الْأَوَّلُونَ بالنسبة إلى غيرهم، و إن كان فيهم الأول فالأول مِنَ الْمُهاجِرِينَ المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى الحبشة أو إلى المدينة وَ الْأَنْصارِ للإسلام و هم أهل المدينة الذين سبقوا إلى الإيمان و النصرة وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ أي بالإيمان و الطاعة، فإن الاتّباع يلزم أن يكون لشي ء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ و معنى رضاه أنه أكرمهم و أوجب لهم

الخير و الجنة وَ رَضُوا عَنْهُ فهم فائزون بشرف الرضا، و من دخل قلبه الرضا عن الرب ارتاح و اطمأن وَ أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ أي من تحت أشجارها و قصورها خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا زوال لهم عنها، و لا تغيّر لها عنهم ذلِكَ الرضوان و الجنة الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و الفلاح الذي يصغر دونه كل شي ء، و إنما فضّل الله السابقين لما تحمّلوه من المشاق و الأتعاب في نصرة الدين و الجهاد في سبيله.

[101] وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ أي في أطراف بلدكم مِنَ الْأَعْرابِ الساكنين في البادية، أي بعضهم مُنافِقُونَ يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 453

[سورة التوبة (9): آية 102]

وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أيضا منافقون مَرَدُوا أي تمرّنوا حتى صاروا ماهرين عَلَى النِّفاقِ و ذكرهم بهذه الصفة للإشعار بخطرهم، فإن المنافق الماهر أكثر خطرا من غيره من المنافقين لا تَعْلَمُهُمْ أي لا تدرك حقيقة نفاقهم و لا تعرف أشخاصهم، و هو تقرير لمهارتهم فيه، بحيث يخفون عليك حتى أنك لا تعلم ذلك. و هذا لا غضاضة فيه، فإن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يعلم الغيب إذا شاء الله. و من المعلوم أن الله إذا لم يشأ تعليمه بشي ء لم يعلمه. و من المحتمل أن يكون لفظة «لا تعلمهم» استعملت بقصد التهويل من نفاقهم، فإن مثل هذا اللفظ يستعمل بقصد شي ء آخر غير معناه، فيقال: «أنت لا تعرف زيدا كيف يحسن» يراد بذلك أنه كثير الإحسان.

نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ و نعرف حقائقهم سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ لعلّ المراد: مرّة في

الدنيا بالتضييق عليهم و عدم هدوء بالهم، كما قال تعالى: (وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) «1»، و مرّة في القبر ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو عذاب النار في الآخرة.

[102] وَ آخَرُونَ من أهل المدينة و من الأعراب حولها اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ

فقد جاء بعض المتخلّفين معتذرين إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عما صدر منهم من التخلّف، و كانوا سبعة ندموا على قعودهم و تخلّفهم عن

______________________________

(1) طه: 125. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 454

[سورة التوبة (9): آية 103]

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)

الجهاد في غزوة تبوك لما بلغهم ما نزل في المتخلفين، فأيقنوا على أنفسهم بالعذاب فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، فقدم رسول الله فدخل المسجد و صلّى ركعتين- و كانت هذه عادته إذا قدم من السفر- فلما رآهم موثقين سأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتى يحلّهم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و أنا أقسم أني لا أحلهم حتى أؤمر فيهم. فنزلت الآية، فأطلقهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا بعد ما فكّهم: هذه أموالنا، و إنما تخلفنا عنك بسببها، فخذها و تصدق بها و طهّرنا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا»، فنزلت (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها ..) «1».

خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ عملا آخَرَ سَيِّئاً فإنهم كانوا يقيمون الصلاة و يأتمرون بأوامر الرسول لكنهم تركوا الجهاد في تبوك عَسَى

اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ و إنما قال: «عسى» ليكونوا بين الخوف و الرجاء إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ بالناس يتفضّل عليهم بالرحمة.

[103] خُذْ يا رسول الله مِنْ أَمْوالِهِمْ أي أموال هؤلاء الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا صَدَقَةً هي بعض أموالهم، و لذا جاء ب «من». و الظاهر من السياق أنها غير الصدقة المفروضة التي هي من الزكاة. و قد قال المفسرون: إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ ثلث أموال التائبين و ترك لهم الثلثين «2» تُطَهِّرُهُمْ تلك الصدقة عن دنس الذنوب

______________________________

(1) التوبة: 103.

(2) راجع بحار الأنوار: ج 21 ص 201.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 455

و الخطايا، أو المراد تطهرهم أنت بتلك الصدقة، و تطهير الإنسان بالصدقة إنما هو تطهير معنوي، فإن للذنوب نجاسة، و الصدقة توجب تنظيف الإنسان من تلك النجاسة، لأنها موجبة للغفران و حتّ الآثام وَ تُزَكِّيهِمْ بِها «التزكية» هي التنمية أي توجب لهم النمو، و ذلك أعم من النمو الخلقي و الخلقي و سائر أقسام النمو، و سميت الزكاة زكاة، لأنها توجب نمو صاحبها، أو المال المزكّى، و «تزكيهم» خطاب، بخلاف «تطهّرهم» المحتمل للأمرين.

وَ صَلِ يا رسول الله عَلَيْهِمْ على معطي الصدقة، و المراد ب «الصلاة عليهم» الدعاء لهم، فإن الصلاة عبارة عن الدعاء، فإن صاحب الصدقة إذا دعا له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان جبرا لما يحسّ به من ألم فقد المال إِنَّ صَلاتَكَ عليهم سَكَنٌ لَهُمْ أي موجبة لسكون خاطرهم و هدوء بالهم و ارتياح نفوسهم.

روي أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أتاه آت بالصدقة قال: «اللهم صلّ عليه» «1».

و الظاهر تحقق الصلاة بكل

لفظ أفاد الدعاء، نحو: «بارك الله لك أو آجرك الله» أو ما أشبه، كما أن الظاهر من السياق و التعليل أن الحكم عام لا يخص الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك لأن لنا برسول الله أسوة حسنة، فما دل على الخصوصية استثني، و ما لم يدل بقي على عموم الأسوة وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالك و أقوالهم عَلِيمٌ بصدقاتهم و ما نووه

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 118.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 456

[سورة التوبة (9): آية 104]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)

من النيات الصالحة.

[104] أَ لَمْ يَعْلَمُوا أي: ألم يعلم هؤلاء المتصدقين، أو الناس جميعا؟! و هذا تحريض للناس على التوبة و التصدق، لا لأولئك التائبين الذين أرادوا أن يتصدقوا. فلا يقال: أنه لا مجال لمثل هذا الاستفهام إلا للمنكر، فلا يحسن أن يقول الإنسان لمريد الحج: «ألا تعلم أن للحج ثوابا عظيما»، بل إنما يحسن قول ذلك لمن يريد الحج. و إنما جاء الاستفهام في سياق قصة التائبين لإعطاء الصدقة للمناسبة أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ فلا صغار في التوبة حتى يأنف الإنسان من الإنابة، إن طرف القبول هو الله العظيم الشأن، و هذا أمر طبيعي، فإن الإنسان لا يكره الاعتراف لدى العظيم، و إنما يكرهه لدى الحقير وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ أي يقبلها، فليس الآخذ هو الفقير حتى لا يهتم الإنسان بشأنه، و إنما هو سبحانه، و ذلك يوجب الإعطاء بكثرة و احترام، لا بقلة و إهانة، كما هو الطبع البشري في إرادة إعطاء الشي ء لمن دونه.

و في الخبر: أن النبي صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تصل إلى يد السائل»

«1»، و هذا على وجه تشبيه المعقول بالمحسوس، مبالغة في الأمر.

وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ كثير قبول التوبة، إما باعتبار الأفراد، و إما

______________________________

(1) فقه القرآن: ج 1 ص 222 ..

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 457

[سورة التوبة (9): آية 105]

وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

باعتبار كل فرد حيث أن الإنسان لو عصى ألف مرة و في كل مرة تاب قبلت توبته، إذا كانت توبة نصوحا الرَّحِيمُ الذي يرحم العباد و يتفضّل عليهم.

[105] و بمناسبة أن الله يقبل التوبة و يأخذ الصدقة، مما يدل على أنه سبحانه مطّلع على الأعمال، يأتي السياق لبيان أن كل الأعمال كذلك، و ليس ذاك خاصا بالتوبة و الصدقة، و إن الاطّلاع ليس خاصا بالله سبحانه بل الرسول و المؤمنون أيضا مشاركون له سبحانه في الاطّلاع على أعمال الناس، و إن كان هناك فرق بين الاطّلاعين، فالله سبحانه يعلم كل شي ء من كل أحد، و الرسول و المؤمنون مطّلعون بقدر ما يريد الله سبحانه.

وَ قُلِ يا رسول الله للناس عامة: اعْمَلُوا ما شئتم من خير و شر، إن كان المراد صبّ الكلام على أن عملكم سوف يرى، لأنه حينئذ تجرد الصيغة عن معنى الأمر، أو المراد: اعملوا الأعمال الحسنة فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ يعلمها سبحانه، و لعلّ دخول «السين» لأن الرؤية إنما تكون بعد وجود العمل وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ و ذلك واضح لا يحتاج إلى التأويل، أ رأيت أن الناس يعلمون الخير من الشر كما يعرفون مقادير

الأشخاص في أعمالهم، منتهى الأمر أن الله سبحانه يعلم الخفايا بالتفصيل، و المؤمنون يعلمون بالإجمال.

و ربما يقال: إن دخول «السين» لتوحيد السياق بين الله و الرسول و المؤمنين، حيث أنهم لا يرون العمل إلا بعد زمان من وقوعه، كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 458

[سورة التوبة (9): آية 106]

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

ربما يقال: إن الإتيان بهذه الآية عقب الآية السابقة لإفادة أن التوبة المجردة لا تنفع و إنما اللازم تصديقها بالعمل.

و ما

ورد في بعض الأخبار: أن المراد بالمؤمنين الأئمة عليهم السّلام «1»

فهو من باب المصداق الظاهر، و إلا فالعموم على حاله، كسائر الآيات العامة التي لها مصاديق ظاهرة.

وَ سَتُرَدُّونَ أي ترجعون بعد موتكم إِلى عالِمِ الْغَيْبِ ما غاب عن الحواس وَ الشَّهادَةِ ما يشهده الإنسان أي يحضره، و هو كل ما يدرك بالحواس الظاهرة، أي سترجعون إلى عالم السر و العلانية فَيُنَبِّئُكُمْ أي يخبركم للجزاء بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ من خير أو شر.

[106] كان المتخلفون عن غزوة تبوك بين منافق معتذر، و منافق غير معتذر، و مخطئ معترف وَ هناك آخَرُونَ من المتخلفين مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ أي مؤخّرون موقوفون، من «أرجأ» بمعنى «أخّر» فلم يكن هذا القسم منافقا، و لا مخطئا، بل إنما تخلّف توانيا عن الاستعداد حتى فاته المسير، و لم يكن قبل نزول الآية قد بتّ في أمرهم بشي ء بل كان موكولا إليه سبحانه، إما يعذبهم بتوانيهم، و إما يتوب عليهم بسبب أنهم لم ينافقوا و لم تدنس قلوبهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ لعصيانهم و تخلفهم وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ لنقاء قلوبهم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 23 ص 347.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 2، ص: 459

بنياتهم و سبب توانيهم عن غزوة تبوك حَكِيمٌ فيما يفعله بهم من العذاب و التوبة.

لكن الله سبحانه تاب عليهم أخيرا، و هؤلاء هم الذين ذكروا في قوله تعالى في آخر السورة «وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا» «1» و كان من قصتهم ما ذكره المفسرون حيث قالوا: قد كان تخلف عن رسول الله قوم منافقون و قوم مؤمنون مستبصرون لم يعثر عليهم في نفاق و هم كعب بن مالك و مرارة بن الربيع و هلال بن أمية، فلما تاب الله عليهم قال كعب: ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى تبوك و ما اجتمعت لي راحلتان إلا في ذلك اليوم فكنت أقول: أخرج غدا، أخرج بعد غد، فإني قوي، و توانيت و بقيت بعد خروج النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أياما أدخل السوق و لا أقضي حاجة، فلقيت هلال و مرارة و قد كانا تخلّفا أيضا فتوافقنا أن نبكر إلى السوق و لم نقض حاجة، فما زلنا نقول: نخرج غدا و بعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فندمنا، فلما وافى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استقبلناه نهنّئه بالسلامة فسلمنا عليه، فلم يرد علينا السلام و أعرض عنا، و سلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام.

فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا، و كنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد و لا يكلمنا، فجاءت نساؤنا إلى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا أ فنعتزلهم؟ فقال رسول الله صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم:

لا تعتزلنهم و لكن لا يقربوكن، فلما رأى كعب و صاحباه ما حل بهم

______________________________

(1) المستدرك: ج 7 ص 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 460

[سورة التوبة (9): آية 107]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107)

قالوا: ما يقعدنا بالمدينة و لا يكلمنا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا إخواننا و لا أهلنا فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت.

فخرجوا إلى «ذناب» جبل بالمدينة فكانوا يصومون و كان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم فلا يكلمونهم، فبقوا على هذه الحالة أياما كثيرة يبكون بالليل و النهار، و يدعون الله أن يغفر لهم، فلما طال عليهم الأمر قال كعب: يا قوم قد سخط الله علينا و رسوله و سخط علينا إخواننا و سخط علينا أهلونا، فلا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه.

فبقوا على هذا ثلاثة أيام كلّ منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه و لا يكلمه، فلما كان في الليلة الثالثة و رسول الله في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله، و هو قوله سبحانه: «وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ ..» فأرسل النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من يبشرهم، و جاءوا مسلّمين على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد بان السرور في وجهه الشريف صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تصدق كعب بثلث ماله شكرا لله

تعالى «1».

و في بعض الأحاديث: انطباق الآية على مثل «الوحشي» قاتل حمزة عليه السّلام حيث أسلم بعد الجريمة، فإنه مرجأ لأمر الله إما يعذبه و إما يتوب عليه «2».

[107] ثم ذكر سبحانه قصة جماعة أخرى من المنافقين الذين ارتبطت

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 202.

(2) راجع الكافي: ج 2 ص 381.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 461

قصتهم بقصة تبوك و هم الذين أرادوا أن يتستروا بمسجد «ضرار» لحبك المؤامرات ضد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمين، و أرادوا انقلاب الأمر في المدينة لكن الله وقى المسلمين شرهم و أعلم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما نووه من المكر.

فقد روى بعض أهل السير: أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليها رجل من الخزرج يقال له أبو عامر الراهب و كان قد تنصّر و له عبادة في الجاهلية و له شرف كبير في قبيلته الخزرج، فلما قدم رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مهاجرا إلى المدينة و اجتمع عليه المسلمون و صارت للإسلام كلمة عالية و أظهرهم الله يوم بدر، شرق أبو عامر بريقه و بارز بالعداوة و ظاهر بها و خرج فارا إلى كفار مكة من مشركي قريش يمالؤهم على حرب رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب و قدموا عام أحد.

و كان من أمر المسلمين ما كان، و قد امتحنهم الله عز و جل و كانت العاقبة للمتقين، و كان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين، فوقع في إحداهن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم، و أصيب ذلك اليوم، فجرح وجهه، و كسرت رباعيته اليمنى السفلى و شج رأسه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و تقدم أبو عامر في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم و حثهم إلى نصرته و موافقته، فلما عرفوا كلامه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق يا عدو الله، و نالوا منه و سبّوه، فرجع و هو يقول: و الله لقد أصاب قومي شر. و لما فرغ الناس من أحد و رأى أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ارتفاع و ظهور ذهب إلى «هرقل» ملك الروم يستنصره على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوعده و منّاه و أقام عنده، و كتب إلى جماعة من قومه من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 462

الأنصار من أهل النفاق و الريب يعدهم و يمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله و يغلبه و يردّه عمّا هو فيه، و أمرهم أن يتخذوا له معقلا يقدم عليه من عنده لأداء كتبه و يكون مرصدا لهم إذا قدم عليهم بعد ذلك.

فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد «قبا» فبنوه و أحكموه و فرغوا منه قبل خروج رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى تبوك و جاءوا فسألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره و إثباته، و ذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء منهم و أهل العلة في الليلة الشاتية، فعصمه الله من الصلاة فيه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا على سفر و لكن إذا رجعنا إن شاء الله. فلما قفل

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم راجعا إلى المدينة من تبوك، و لم يبق بينه و بينها إلا يوم أو بعض يوم نزل عليه الوحي بخبر مسجد «ضرار» و ما أبطن بانوه من الكفر و التفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم- مسجد قبا- فأرسل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هدم المسجد و أحرقه، و أمر أن يتخذ مكانه كناسة يلقى فيها الجيف و القمامة، و ردّ الله كيده، فأصاب أبا عامر قبل رجوعه إلى المدينة بالقولنج و البرص و الفالج و اللّقوة، و بقي أربعين يوما في عذاب الدنيا، ثم هلك إلى عذاب السعير «1». و في هذه القصة نزلت هذه الآيات:

وَ منهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا أي بنوا مَسْجِداً و هو اسم لبقعة يتّخذ للصلاة، و إن كان أصله بمعنى موضع السجود ضِراراً أي مضارّة، فإنه مصدر من باب «المفاعلة»، يقال: «ضارّ ضرارا و ضيرارا»،

______________________________

(1) تفسير الإمام العسكري: ص 487.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 463

[سورة التوبة (9): آية 108]

لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)

فإنهم بنوه لأجل الإضرار بالمسلمين وَ كُفْراً لأجل الكفر وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ أي لاختلاف الكلمة و إبطال الألفة، و جعل المسلمين طائفتين، الموالي للرسول، و المخالف له وَ إِرْصاداً لأجل الإعداد للفتنة، و أن يجعلوه محل رصد و إشراف لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ و هو أبو عامر الراهب. و هذا أبو حنظلة غسيل الملائكة الذي هو من أخيار المؤمنين، و قد تقدم أن أبا عامر كان حربا للرسول من قبل غزوة تبوك. و قد

سماه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ب «الفاسق».

وَ لَيَحْلِفُنَ أي يحلف هؤلاء الذين اتخذوا المسجد و كانوا اثني عشر إِنْ أَرَدْنا أي ما أردنا ببنائنا للمسجد إِلَّا الْحُسْنى أي الفعلة الحسنة، من إقامة الصلاة، و درك الجماعة في الليلة الشاتية و الممطرة للضعفاء و نحوهم وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فإنهم لم يريدوا ببنائه الحسنى، بل السوءة و التآمر على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كفى بالله شهيدا على ذلك، بالإضافة إلى ما عرف بعد ذلك من الأدلة و الشواهد.

[108] لا تَقُمْ يا رسول الله فِيهِ في ذلك المسجد أَبَداً يقال:

«فلان يقوم الليل» أي يصلّي، و المعنى: لا تصلّ في ذلك المسجد، و لم يكن هذا خلفا من الرسول لوعده بالصلاة فيه،

لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إن شاء الله»

فلم يشأ الله و نهاه عن ذلك لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 464

[سورة التوبة (9): آية 109]

أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)

أي بني أصله على تقوى الله، و طاعته مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ منذ أول يوم وضع أساسه، و هو مسجد «قبا» فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما هاجر إلى المدينة أقام هناك أياما و بنى فيه هذا المسجد و صلى فيه، ثم انتقل إلى المدينة، و بنى فيه مسجده الذي دفن في حجرة مجاورة له أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ للصلاة، من مسجد «ضرار».

و لا يراد بهذا أن يصلي النبي صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم دائما في مسجد «قبا» بل إنه إذا أراد الصلاة هناك- خارج المدينة- فمسجد «قبا» أولى بالصلاة فيه من مسجد «ضرار» فِيهِ في هذا المسجد. و المراد بالظرف ذلك المكان، أي أن القبيلة الموجودة هناك و هم بنو عمرو بن عوف رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من لوث المعاصي و الذنوب، و ليسوا مثل بني غنم أصحاب مسجد ضرار الذين بنوه، فهم رجال يحبون النجاسة و لوث المعاصي وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ أي المتطهرين.

و هناك معنى آخر للتطهير

فقد روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال لأهل قبا: «ماذا تفعلون في طهركم فإن الله قد أحسن عليكم الثناء». قالوا نغسل أثر الغائط. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنزل فيكم هذه الآية» «1».

أقول: لأنه كان المتعارف عندهم في ذلك الوقت الاستنجاء بالخرق و الأحجار.

[109] ثم بيّن سبحانه الفرق بين البناءين، و بين الفريقين، و أن أحد البناءين

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 254.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 465

[سورة التوبة (9): آية 110]

لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

راسخ ثابت و الآخر هاو منهار، و أن أحد الفريقين صلد الإيمان قوي العقيدة، و الآخر شاكّ ذو ريبة و تزلزل أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ أي بنيان أمره و دينه و منهجه عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ فهو يتحرّى التقوى في كل أعماله وَ رِضْوانٍ أي رضى الله سبحانه، فلا يعمل شيئا إلا إذا علم أن فيه رضاه سبحانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ «شفا جرف» نهاية الشي ء في المساحة، و «جرف الوادي» نهايته

التي تنجرف بالماء، و «هار الجرف يهور»، إذا أشرف على السقوط و الهدم، و «أنهار» بمعنى سقط. فقد شبه سبحانه بنيان المنافق بالبناء الذي بني على شفا جرف جهنم و كان الجرف هائر فَانْهارَ الجرف بِهِ أي بالبناء، أو أنهار البناء بصاحبه فِي نارِ جَهَنَّمَ فذهبت أتعابه أدراج الرياح. و المعنى: أنه لا يستوي عمل المتقي و عمل المنافق فإن عمل المتقي ثابت راسخ و عمل المنافق هاو منهار وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فإن الإنسان الذي صار الظلم عالقا بقلبه، ينغلق فؤاده، فلا تدخله أشعة الهداية. و المراد بعدم الهداية: أنه يتركهم و شأنهم و لا يلطف بهم الألطاف الخاصة.

[110] ذاك كان مثل بنيانهم- من بناء المسجد- ثم انتقل سبحانه إلى البناء العام في حياتهم و مناهجهم في الدنيا، و انتقل إلى تصويره ببناء حسّي يبنى على جرف هار، فكما أن ذلك البناء ينحرف و يسقط، كذلك أعمالهم تسقط بهم في جهنم. و هنا مثل آخر لعقيدتهم الكائنة في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 466

[سورة التوبة (9): آية 111]

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)

قلوبهم و المختلجة في صدورهم لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا أي ما بنوا عليه حياتهم من النفاق رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ سببا للتزلزل و الشك في قلوبهم، فإن الإنسان كيفما بنى حياته و قرّر منهجه، يكون معتقده و ضميره، فهم مقسّمو القلوب بين المؤمنين و الكافرين «لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى

هؤُلاءِ» إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ تصير قطعة قطعة، فتزول الريبة بزوال موضعها، و إلا فما دام هؤلاء على ذلك البناء و المنهج، فالريبة لازمة لقلوبهم لا تنفك عنها أبدا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بنياتهم حَكِيمٌ فيما يفعله بهم.

[111] ثم يحرّض الله المؤمنين على الجهاد مبيّنا الثواب العظيم لمن جاهد قائلا: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ فأنفسهم لله سبحانه، و أموالهم له تعالى، لا يحق لهم أن يخلّوا بالنفس أو المال بعد هذه المبايعة التي عقدوها مع الله بقبول الإيمان، و قد كان في مقابل هذا المبيع بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ فالجنة بدل بذل النفس و المال في سبيل الله تعالى. و لا يخفى أن بيع النفس إنما هو لصرفها في مراضيه لسانا و قدما و قلما و سائر ما يتعلق بالبدن، فليس الأمر خاصا بالجهاد، و من أهمّ الأغراض في هذه المعاملة ما بيّنه بقوله: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لأجل إعلاء كلمته فَيَقْتُلُونَ الكفار تارة وَ يُقْتَلُونَ يقتلهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 467

الكفار تارة أخرى، و كون الجنة لهؤلاء وَعْداً عَلَيْهِ على الله حَقًّا و «وعدا» منصوب بالمصدر، لأن «اشترى» يدل على أنه سبحانه وعد بذلك، فإن المعاملة تستوجب وعد الطرفين ببذل السلعة، و بذل المال فِي التَّوْراةِ لموسى عليه السّلام كان هذا الوعد وَ الْإِنْجِيلِ لعيسى عليه السّلام وَ الْقُرْآنِ فإن وعد الجنة لمن باع نفسه و ماله في سبيل الله مذكور في هذه الكتب الثلاثة لهؤلاء الأنبياء العظام.

وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ استفهام في معنى الإنكار، أي لا أحد أكثر وفاء من الله، فهو إذا وعد لا يخلف البتّة، أما غيره فإنه و إن كان لا يخلف بإرادته،

لكنه قد يطرأ ما يضطرّه إلى الخلف فَاسْتَبْشِرُوا أيها المؤمنون بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ الضمير في «به» يرجع إلى «بيعكم» أي: افرحوا بهذه المعاملة، و «الاستبشار» هو شدة الفرح الذي يظهر أثره في وجه الإنسان، و أي بيع أحسن من هذا؟ إنه إعطاء المال لمالكه ثم أخذ العوض منه، ثم إن النفس في سبيل الفناء، و المال في سبيل الذهاب، فما أفضل أن يشتري بهما الإنسان شيئا باقيا دائما.

قال الإمام علي عليه السّلام: و إن كانت الأبدان للموت أنشأت* فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل «1»

______________________________

(1) ديوان الإمام علي عليه السّلام: ص 106.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 468

[سورة التوبة (9): آية 112]

التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

و قيل

و إن كانت الأموال لا بد تنفني* فتقديمها لله و الدين أجمل

وَ ذلِكَ البيع هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و الفلاح الذي لا يقابله فلاح.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة: «إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها»

«1».

و فيه: «فلا أموال بذلتموها للذي رزقها و لا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها» «2».

قال الشاعر:

أنفاس عمرك أثمان الجنان فلاتشري بها لهبا في الحشر تشتعل

و قد كان الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام و أهل بيته الطاهرين من أفضل مصاديق هذه الآية.

[112]

روي في الكافي عن الإمام الصادق عليه السّلام: أنه لما نزلت هذه الآية:

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» قام رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا نبي الله أ رأيتك الرجل يأخذ سيفه فيقاتل حتى يقتل، إلّا أنه يقترف من هذه المحارم أ شهيد هو؟ فأنزل

الله على رسوله: «التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ...» «3».

______________________________

(1) نهج البلاغة: الكلمات القصار رقم 456.

(2) نهج البلاغة: خطبة 116.

(3) التوبة: 112.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 469

أقول: قد وصف سبحانه المؤمنين الذين اشترى أنفسهم و أموالهم مقابل الجنة بهذه الأوصاف فقال: التَّائِبُونَ أي الراجعون إلى طاعة الله، من «تاب» إذا رجع. و لا يخفى أن الرجوع و التوبة لا يلازمان العصيان، و لذا ورد في القرآن: (لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ) «1»، فإن العصيان أشد أفراد البعد عنه سبحانه، و إلّا فكل نومة و أكلة و تكلّم مع الناس مما يسبب الغفلة عنه سبحانه تحتاج إلى التوبة و الأوبة. فلا يقال: كيف وصف الإمام عليه السّلام- و هو معصوم- بالتوبة، بعد ما ذكرتم أن الآية نزلت في شأنه؟ ثم إن «التائبون» رفع بالقطع، أي هم التائبون، كما قال ابن مالك:

و اقطع أو اتبع إن يكن معينابدونها أو بعضها اقطع معلنا

الْعابِدُونَ الذين يعبدون الله وحده و لا يشركون به شيئا الْحامِدُونَ الذين يحمدون الله سبحانه السَّائِحُونَ الذين يسيحون في الأرض، أي يسيرون فيها، للاعتبار و لطلب العلم كما قال سبحانه: (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) «2».

و ينسب إلى الإمام عليه السّلام:

تغرب عن الأوطان في طلب العلاو سافر ففي الأسفار خمس فوائد

و في بعض التفاسير: أن المراد ب «السائح» الصائم، لقول

______________________________

(1) التوبة: 117.

(2) الملك: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 470

[سورة التوبة (9): آية 113]

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113)

النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سياحة أمتي الصيام» «1».

الرَّاكِعُونَ الذين يركعون، إما مطلقا لاستحباب الركوع

تعظيما له سبحانه، أو المراد الركوع في الصلاة السَّاجِدُونَ في الصلاة أو مطلقا الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ و هو كل حسن يستحسنه الشرع أو العقل وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هو كل قبيح يستقبحه الشرع أو العقل.

و لا يخفى أنه بهذا المعنى الذي ذكرنا، ليس ترك كل معروف منكرا، فقراءة القرآن مثلا في يوم الجمعة معروف فليس تركها منكرا، كما أنه ليس ترك كل منكر معروفا فأكل الجبن- و هو مكروه- منكر فليس ترك أكله معروفا. نعم يتلازم الأمران في الواجب و الحرام.

وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي العاملون بالحدود، القائمون عليها في جميع أبواب العبادة و المعاملة، و سائر ما ورد في الشريعة وَ بَشِّرِ يا رسول الله الْمُؤْمِنِينَ الذين يجمعون هذه الصفات، بأن لهم كل خير و سعادة.

[113] و لما سبق حرمة موالاة الكافرين و المنافقين حتى الصلاة عليهم، و القيام على قبورهم، و الصلاة في مسجدهم، بيّن سبحانه حرمة الاستغفار لهم أحياء كانوا أم أمواتا، فإن الاستغفار أي طلب غفران الله لعدو الله لا يصح، إذ هو غير قابل للمغفرة.

و ذكر بعض المفسرين: أن بعض المسلمين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل

______________________________

(1) مستدرك الوسائل: ج 8 ص 115.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 471

[سورة التوبة (9): آية 114]

وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

لنا أن نستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الكفر. فنزلت هذه الآية «1».

لكن الظاهر أن ذلك غير طلب الغفران للكافر الحي، بمعنى طلب هدايته من الله ليستحق الغفران، فإذا قال: اللهم اغفر له، عنى:

اهده، ليكون قابلا للمغفرة.

فقد ورد عن الإمام الصادق

عليه السّلام: «أن إبراهيم عليه السّلام وعده أبوه آزر أن يسلم، فاستغفر له، فلما تبيّن له أنه عدو لله، تبرأ منه»

«2». كما أن الظاهر أن الخيرات للأقارب الكفار الذين ماتوا لا بأس بها، فإن ذلك موجب لتخفيف العذاب، و هو غير الاستغفار بطلب المغفرة، و قد ورد بذلك أحاديث كثيرة.

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ بأن يطلبوا من الله الغفران لمن أشرك بالله. و من المعلوم أنه لا خصوصية للمشرك، بل ذلك لا يجوز بالنسبة إلى كل كافر وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أي كان المستغفر لأجله صاحب قرابة للمؤمن المستغفر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي من بعد أن علم المؤمنون أن أولئك المشركين هم أصحاب النار.

[114] و لما كان هنا موضع سؤال و هو: كيف يحرم الاستغفار للكافر مع أن إبراهيم عليه السّلام استغفر لأبيه- و هو عمّه، و إنما يسمي العرب العم بالأب

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 132.

(2) بحار الأنوار: ج 71 ص 47.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 472

تعظيما- و الحال أن آزر كان كافرا؟ ورد قوله سبحانه: وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ أي وعد الأب إبراهيم بأن يؤمن فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أي لإبراهيم أَنَّهُ أي أباه عَدُوٌّ لِلَّهِ و أنه لا يؤمن تَبَرَّأَ مِنْهُ و ترك الاستغفار له. و قد تقدم الحديث عن الإمام الصادق عليه السّلام بذلك.

و روي: أن إبراهيم قال لأبيه: إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك، فلما لم يدع الأصنام تبرأ منه

«1». و من المعلوم أنه لا منافاة بين الأمرين. و على أي حال فعمل إبراهيم لا ينافي عموم «ما كان

للنبي و الذين آمنوا».

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ أي دعّاء، كثير الدعاء و البكاء، و أصل «الأواه» مبالغة- على وزن ضرّاب- من «التأوّه» بمعنى: التوجّع و التحزّن حَلِيمٌ يحلم عن الناس حتى عن الكفار، لعلّه يدخلهم في حظيرة الإيمان بحلمه. و أما مناسبة «أواه» للمقام فظاهرة، إذ مقتضى كثرة الدعاء أن يدعو حتى للكافر الذي يحتمل أن يؤمن.

و من المفسرين من أقحم في الآية ما اختلقته الأهواء الأموية من كفر أبي طالب، و لقد كان أبو طالب عليه السّلام من أشد المؤمنين بالله و رسوله حتى

أنه قال عليه السّلام:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 77. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 473

[سورة التوبة (9): آية 115]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (115)

و لقد علمت بأنّ دين محمد* من خير أديان البرية دينا

و حتى أنه حين مات نزل جبرئيل قائلا للرسول: «مات ناصرك فاخرج من مكة» «1». و سمى رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عام وفاته و وفاة خديجة «عام الحزن» «2». و إنما الكلام هنا أن ذلك لا يرتبط بالتفسير، و إنما يرتبط بالتعصّب، و كم أخفى التعصب الحق.

[115] إن ما يستفاد من الآيات السابقة من انقطاع صلة المؤمنين عن الكافرين، يوجب التساؤل، و هو: ماذا يعملون بما سلف من الأموات الكافرين، فقد كانت الوشائح بين المؤمنين و الكافرين قوية و كانوا يحسنون إليهم أحياء و يستغفرون لهم أمواتا؟ و لذا ورد: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بأن يصرفهم عن طريق الهدى و يحكم بضلالهم، بأعمال عملوها قبل النهي و التحريم بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ إلى الإيمان حَتَّى يُبَيِّنَ

لَهُمْ ما يَتَّقُونَ من أوامره و نواهيه، فإذا بيّن لهم ثم خالفوا، استحقوا العقاب و الحكم بالضلال، و هكذا قوله سبحانه: (ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «3»، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم من عمل قبل التحريم و من عمل بعد التحريم، فيجزي كلّا حسب عمله.

و في بعض التفاسير: إن سبب نزول هذه الآية، أنه مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، فقال المسلمون: يا

______________________________

(1) إيمان أبي طالب: ص 259.

(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 25.

(3) الإسراء: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 474

[سورة التوبة (9): الآيات 116 الى 117]

إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117)

رسول الله إخواننا المؤمنون الذين ماتوا قبل الفرائض ما هي منزلتهم؟

فنزلت: «وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ ..» «1».

[116] إِنَ المؤمن الذي يبيع نفسه لله قد ربح كل شي ء، و إن قطع صلته بأقرب الناس إليه حتى في الاستغفار ف اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا مالك فيهما سواه يُحْيِي الجماد وَ يُمِيتُ الأحياء، فالأرض الميتة يجعل منها نباتا و إنسانا و حيوانا، كما أنه يرد هذه الأحياء إلى الأرض فيجعلها جمادا وَ ما لَكُمْ أيها المسلمون مِنْ دُونِ اللَّهِ سواه مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ فلا يتولّى شؤونكم و لا ينصركم غيره، فمن له الملك، و بيده الحياة و الموت، و يتولّى و ينصر أحق بأن يربط الإنسان صلته به

دون سواه، و يترك غيره لأجله، و لو كان أقرب قريب إليه.

[117] ثم ذكر سبحانه قصة جماعة تخلفوا عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم لحقوا به، أو تابوا بعد ذلك.

فقد ذكر الرواة أن عبد الله بن خيثمة تخلف عن غزوة تبوك إلى أن مضى من مسير رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة أيام، ثم دخل يوما على امرأتين له في يوم حار في عريشين لهما قد رتبتاهما و برّدتا الماء و هيأتا له الطعام، فقام على العريشين ثم قال: سبحان الله، رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر، في الفتح و الريح و القرّ يحمل سلاحه على عاتقه، و أبو خيثمة في ظلال باردة و طعام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 42. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 475

مهيأ و امرأتين حسناوين، ما هذا بالنصف. ثم قال: و الله لا أكلم واحدة منكما كلمة و لا أدخل عريشا حتى ألحق بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فأخ ناضحه و اشتد عليه و تزوّد و ارتحل و امرأتاه تكلمانه و لا يكلمهما.

ثم سار حتى إذا دنا من تبوك قال الناس: هذا راكب على الطريق.

فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كن يا أبا خيثمة أولى لك، فلما دنا قال الناس: هذا أبو خيثمة يا رسول الله، فأناخ راحلته و سلّم على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أولى لك. فحدثه الحديث، فقال له خيرا و دعا له. و هو الذي زاغ قلبه للمقام ثم ثبّته الله

«1».

و نقل الرواة: أن ممن لقي العسر في هذه السفرة أبا ذر الغفاري رحمه اللّه فقد كان جمله أعجف تخلف به في الطريق حتى أنه لحق بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ثلاثة أيام و وقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه و حمل ثيابه على ظهره، فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كن أبا ذر فقالوا: هو أبو ذر.

فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أدركوه بالماء فإنه عطشان. فأدركوه بالماء، و وافى أبو ذر رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه إداوة فيها ماء فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا ذر معك ماء و عطشت؟ فقال: نعم يا رسول الله بأبي أنت و أمي انتهيت إلى صخرة و عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد، فقلت: لا أشربه حتى يشربه حبيبي رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا أبا ذر رحمك الله تعيش وحدك، و تموت وحدك، و تدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من العراق يتولون

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 21 ص 202. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 476

غسلك و تجهيزك و دفنك» «1».

لَقَدْ تابَ اللَّهُ أي تحنّن و لطف، فإن «تاب» لغة بمعنى:

غفر، و بمعنى: رجع بفضله عَلَى النَّبِيِ و ما ورد في بعض الأحاديث «بالنبي» إنما أريد به نفي كون معنى التوبة بالنسبة إلى النبي صادرة عن عصيان وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ فهم بين من يستحق المغفرة لمعصية

صدرت عنه، و بين من يستحقها تفضّلا الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي اتبعوا النبي فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ أي وقت صعوبة الأمر، و ذلك في غزوة تبوك، فقد كانوا في صعوبة من جهة المركب، و من جهة الماء و الزاد، و من جهة الحر، و من جهة التعب للسفر الطويل، و من جهة الخوف من الأعداء، فقد كان العشرة منهم يتراوحون على بعير و زادهم الشعير المسوس، و التمر المدود، و الإهالة السنخة «و هو ما أذيب من الشحم المتغير الريح»، و كانوا يمصون تمرة واحدة، و هم جماعة كثيرة، يخرجها هذا من فيه فيمصها الآخر و هكذا حتى لا يبقى إلا النواة مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ يميل و ينحرف قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الجهاد، فأرادوا البقاء في المدينة أو بقوا ثم لحقوا بالرسول كأبي خيثمة.

ثُمَّ تابَ الله عَلَيْهِمْ من بعد ذلك الزيغ و الانحراف إِنَّهُ

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 429.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 477

[سورة التوبة (9): آية 118]

وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

تعالى بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم، و بما عملوه من الكسل و المطل.

[118] وَ لقد تاب الله عَلَى الثَّلاثَةِ أشخاص الَّذِينَ خُلِّفُوا عن غزوة تبوك، كأن الشيطان خلّفهم و هم من تقدم ذكرهم مفصّلا في قوله سبحانه: «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ» حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ «ما» مصدرية، أي: مع رحبها- بالضم- وسعتها، ضاقت عليهم لأن الناس قاطعوهم بأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم و الإنسان إذا قاطعه الأصدقاء تضيق نفسه، حتى يظن أن الأرض ضيقة لا مجال له فيها وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ كأنهم لم يجدوا لأنفسهم موضعا يخفونها فيه، و هذا كناية عن شدة غمّهم. و لعل وجه «ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ» أن الإنسان إذا غمّ غمّا شديدا تسخن شرايينه و أعضاؤه، فلا يكفي النّفس المجذوب لتبريدها، فيحسّ بأن نفسه قد ضاقت، لأنها لم يصل إليها الهواء الكافي.

وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ أنه لا موضع للفرار من سخط الله سبحانه إلا إليه نفسه تعالى، فإنه سبحانه قد أحاط بأقطار الأرض و آفاق السماء فكيف يمكن الفرار منه إلا أن يتوجه الإنسان إليه بالتوبة و الاستغفار، و لعل الإتيان بلفظة «الظن» هنا لإفادة الحالة النفسية للإنسان المجرم حيث أنه لا يفكر في الملاجئ الممكنة، فهو يتردّد بين هذا أو ذاك، و إن ترجّح في نفسه الملجأ الحقيقي و هو الله تعالى.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 478

ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ أي تاب الله عليهم و رجع إليهم بعد أن أعرض عنهم بقبوله توبتهم في التخلف عن تبوك لِيَتُوبُوا أي يرجعوا إلى حالتهم الأولى قبل المعصية، فيكون لهم ما للمسلمين لا يقاطعون و لا ينبذون إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ مبالغة في «التائب»، فإنه سبحانه كثير الرجوع إلى عباده إن رجعوا إليه، و ليس ككبرياء الناس حيث أنه إن قطعوا عن أحد لا يعودون إليه، و لو عادوا لم يتكرر ذلك منهم مرات و مرات، فالإنسان مهما عصى و تاب، قبل الله توبته إذا كانت توبة نصوحا، و إن نقض التوبة قبل ذلك ألف مرة الرَّحِيمُ يرحم العباد و يتفضل عليهم بلطفه، فليست توبة مجردة، و

إنما مع التفضيل و التكرّم.

لقد كان هؤلاء الثلاثة المتخلفون- كعب و مرارة و هلال- أرجئوا، في الآية السابقة «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ» ثم تاب الله عليهم هنا، و كان في كلا الأمرين أبلغ حكمة، و خير تأديب و موعظة.

و هنا كلمة لا بد من بيانها و هي أن الناظر في الآيات يرى أن بعض العاصين كان الله و الرسول يعفوان عنهم كهؤلاء، و بعضهم يبقون موضع السخط و الغضب ك «ثعلبة» الذي تقدمت أحواله، إن هذا يكشف عن الفرق بين العصاة، فمن أصلح منهم و طهر قلبه استحق العفو و الغفران، أما من أبدى التوبة و قلبه ملوّث بالذنوب و النفاق، فلم يكن تنفعه الندامة، و لذا كان مطرودا من رحمة الله، و قد بيّن سبحانه أن قبول التوبة مشروط بالطهارة و النقاء، كما في قوله تعالى: (ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا) «1»، و غيرها من الآيات.

______________________________

(1) المائدة: 94.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 479

[سورة التوبة (9): الآيات 119 الى 120]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)

[119] و بمناسبة توبة هؤلاء و صفاء باطنهم في التوبة، و صدقهم في الرجوع إلى الحق، يأتي السياق ليبيّن وجوب كون الإنسان متقيا منضما إلى جماعة الصادقين، لينال الخير و الغفران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا

اللَّهَ اجتنبوا معاصيه و خذوا بأوامره وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ و «المعية» هنا تفيد المعية الانضمامية، و المعية العملية، بأن يصدق الإنسان، و ينضم مع الزمرة الصادقة، لينال كل خير و فضل. و قد ورد في أحاديث كثيرة: أن المراد بهم أمير المؤمنين و آله الطاهرين «1»، و هذا من باب أظهر المصاديق كما لا يخفى.

[120] ثم يأتي البيان العام للمسلمين بوجوب اتباع الرسول في كل أمر و عدم التخلّف عنه في غزو أو غيره ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ إنه خبر في معنى النهي، أي: لا يجوز للمسلمين من أهل المدينة وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أهل البدو، و تخصيص هؤلاء بالذكر ليس لأجل خصوصية فيهما دون سائر المسلمين، و إنما لأجل كونهما محل أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غالبا، في الجهاد و نحوه، و إلا فالمسلمون كلهم كذلك أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ في غزوة أو سفرة أو سائر ما يريده منهم و يعمله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، وَ لا لهم أن يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ الكريمة بأن يطلبوا لأنفسهم من الخير و الراحة دون نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بأن يؤثروا

______________________________

(1) تفسير فرات الكوفي: ص 174.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 480

أنفسهم على نفسه فإذا أراد الجهاد تركوه يقاسي الحر و البرد، و هم في مساكنهم هادئون آمنون. يقال: «رغبت بنفسي عن هذا الأمر» أي ترفعت بها عنه.

ذلِكَ النهي لهم و الزجر عن التخلف، ليس بلا عوض و لا مقابل، و إنما لهم بكل حركة و سكون و تعب أجر و ثواب بسبب أنهم لا يُصِيبُهُمْ في سفرهم ظَمَأٌ عطش وَ لا

نَصَبٌ تعب في أبدانهم وَ لا مَخْمَصَةٌ بمعنى المجاعة، و أصله ضمور البطن للمجاعة، يقال: «رجل خميص البطن»، أي ضامرها من الجوع، و المعنى: لا يصيبهم جوع فِي سَبِيلِ اللَّهِ و لإعلاء كلمته وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أي لا يضعون أقدامهم موضعا يسبب غيظ الكفار، و المراد: إما وطي أراضي الأعداء، فإنهم يغيظون إذا رأوا واحدا يطأ محلّهم، أو الذهاب مطلقا، فإن الكفار يغيظون بسير المسلمين إليهم لإرادة الغزو.

وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا لا يصيبون من الكفار أمرا، من قتل أو جراحة أو مال أو سبي أو ما أشبه إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لهؤلاء المسلمين المجاهدين بِهِ بسبب ذلك العمل عَمَلٌ صالِحٌ و طاعة مقبولة إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا و عملوا الأعمال الحسنة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 481

[سورة التوبة (9): الآيات 121 الى 122]

وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

[121] وَ لا يُنْفِقُونَ هؤلاء المسلمون، في الجهاد نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً أي قليلة أو كثيرة وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً أي لا يجتازون أرضا في مسيرهم إلى الكفار للجهاد إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك ليثابوا عليه لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أي يكتب ذلك للجزاء ب أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ جزاء أحسن أعمالهم، أو أحسن جزاء أعمالهم. و على الأول:

فالسكوت عن سائر الأعمال ليس لعدم الجزاء و إنما لوضوح أن من يجزي على الأحسن يجزي على غيره. و على الثاني: يكون

المعنى أنه سبحانه يجازيهم بجزاء هو أحسن من عملهم، فلو استحق عملهم جزاء ألف دينار، أعطاهم ألفين.

[122]

ورد أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا خرج غازيا لم يتخلّف عنه إلا المنافقون و المعذورون، فلما بيّن سبحانه عيوب المتخلّفين- في غزوة تبوك- قال المؤمنون: و الله لا نتخلّف عن غزوة يغزوها رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا سرية من سراياه. فلمّا أمر رسول الله بالسرايا إلى الغزو أراد المسلمون أن ينفروا جميعا، و كان ذلك مستلزما لأن يبقى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده، فنهاهم الله عن ذلك.

أقول: في الآية احتمالات نذكر أقربها إلى الظاهر و إلى السياق- أي الارتباط بالقصة المتقدمة في غزوة تبوك-.

وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً هذا نفي معناه النهي، أي:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 482

ليس للمؤمنين أن ينفروا و يخرجوا إلى الجهاد بأجمعهم و يتركوا النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحيدا فَلَوْ لا تحضيض و حث، بمعنى: أن اللازم ذهاب بعض و بقاء بعض نَفَرَ و خرج إلى الجهاد مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ من كل قبيلة و نحوها طائِفَةٌ جماعة، و يبقى من كل فرقة جماعة آخرون لِيَتَفَقَّهُوا أي ليتفقه هؤلاء الباقون- المفهوم من قوله: «نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ»- فِي الدِّينِ يبقون خدمة للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليتعلموا أحكام الإسلام التي تنزل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تدريجا وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ ينذر الباقون قومهم النافرين إِذا رَجَعُوا رجع النافرون إِلَيْهِمْ أي إلى الباقين لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ أي يحذر النافرون عما أنذروا به.

فلنفرض أن زيدا ذهب إلى

الجهاد، و بقي عمرو و تعلم من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرمة الاستمناء- مدة غياب زيد- فإذا رجع زيد حذره عمرو عن الاستمناء حتى يترك و ينقلع. و لو كان المعنى على هذا السياق المذكور لكان فهم وجوب الذهاب إلى مراكز العلم لتحصيله، بالفحوى، لأن المقصود من البقاء عند النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس إلا تعلم الحكمة و إفادتها للغائب، و كذلك من يسافر في طلب العلم ثم ينذر أهله إذا رجع إليهم.

روي عن الإمام الباقر عليه السّلام أنه قال: «كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله أن ينفر منهم طائفة و تقيم طائفة للتفقه، و أن يكون الغزو نوبا»

«1». و لا ينافيه

ما ورد عن الإمام الصادق- لأن الظاهر إرادة

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 19 ص 157. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 483

[سورة التوبة (9): آية 123]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)

الفحوى- في تفسير الآية، «فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله و يختلفوا إليه، فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم ..» «1».

ثم إنه لو قلنا: إن الآية مستقلة برأسها لا ترتبط بما قبلها، يكون المعنى: أن اللازم على كل طائفة من كل فرقة من المسلمين المنتشرين هنا و هناك أن يذهبوا إلى طلب العلم في مراكزه ثم ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم حتى يحذروا عن ترك الواجبات و إتيان المحرمات.

و تكون المناسبة بينها و بين الآيات السابقة بيان أن النفر واجب في مقامين: في مقام الجهاد و في مقام العلم. و لا يخفى أن الآية تشمل التفقه بنحو الاجتهاد، و بنحو أخذ

الرواية، و نحو بيان المسائل بعد أخذها عن المجتهد، فهي أعم من الاجتهاد و الوعظ و نشر المسائل.

[123] و إلحاقا بما تقدم من أمر الجهاد، يأتي السياق ليبيّن خطة الإسلام في جهاد الكفار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من «ولي يلي» إذا قرب، أي: يقربونكم- في الأرض- مِنَ الْكُفَّارِ فقاتلوا الأدنى فالأدنى، و ذلك لتتصل أرض الإسلام بعضها ببعض و لا تحدث بينها فجوة يتّخذها العدو مرصدا و قاعدة لمحاربتكم. و قد دلّ الدليل على جواز مقاتلة الأبعد إذا كان المسلمون في أمن من الأقرب لمهادنة أو معاهدة أو ما أشبه وَ لْيَجِدُوا أي يجد الكفار فِيكُمْ غِلْظَةً و خشونة، فإن ذلك مما يسبب انهيار معنويات العدو، لكن ليست «الغلظة» بالمثلة و نحوها فقد حرّم الإسلام ذلك كما منع عن قتل المرأة

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 27 ص 140.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 484

[سورة التوبة (9): آية 124]

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)

و الصبي و الفاني و الراهب و ممن لا يساعد المحاربين وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فلا تتركوا التقوى كما لا يرعوي المحاربون- إذا فتحوا البلاد- من كل إثم و شناعة، فإن الإسلام جاء محرّرا لا فاتحا، فليس للجيوش الإسلامية أن تفعل ما تشاء إذا غلبت.

و قد زجر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلالا حين رأى من بعض النساء اليهوديات- من أهل خيبر- تغيرا فسألهن ما بالهن؟ فلما أجبن بأن بلال مرّ بهن على مصارع قتلاهن- يعني يهود خيبر- قال الرسول لبلال زاجرا: كأن الله نزع الرحمة من قلبك!

[124] و يأتي السياق

ليبيّن كلام المنافقين و ما يرتسم في قلوبهم و حركاتهم إذا أنزلت سورة، فإن المنافق إذا أنزلت سورة تريب نفسه و تحمل السورة إلى محامل بعيدة عن الحقيقة و الواقع ليثلج صدره بالتكذيب، و طبق ما في نفسه يطفح كلام مريب على لسانه فيتساءل ممن حوله عن وقع السورة في نفوسهم، حتى يرتب الأثر، فإن جذبت السورة ناسا ردّهم، و إن لم تجذبهم يزيدهم ريبا و شكا. أما حركته فإنه ينزعج من الحضور في مجال تتلى السورة فيه لأن قلبه لا يميل إليهم و لا إليها، إذن فلينصرف عن المجلس متسلّلا حتى لا يعلم نفاقه، و يستريح إلى أقرانه وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «ما» زائدة جي ء بها لتحسين الكلام، و لعله لنكتة بلاغية هي تصوير حال المنافق المنكر، فقد نزلت السورة، لكن في قلب المنافق «ما أنزلت» فَمِنْهُمْ أي من المنافقين مَنْ يَقُولُ على وجه الإنكار و الاستخبار: أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 485

[سورة التوبة (9): الآيات 125 الى 126]

وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ (125) أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)

إِيماناً؟ ليعلموا وقع أثر السورة في النفوس و المقاومة إذا أرادوا إلقاء الريب و الشك.

و هنا يأتي الجواب من الله سبحانه ليفصل في الأمر بما هو الواقع، من غير حاجة إلى جواب المؤمنين أو إلى جواب المنافقين: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً فإن المؤمن المخلص كلّما ذكر الله سبحانه و كلّما رأى آية من آياته يزداد إيمانا و عقيدة وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون بنزول السورة فرحا

يظهر في وجوههم أثره، و كيف لا يفرحون و قد زادهم سبحانه دلالة و كرامة، و قوّى جانبهم بنزول سورة أخرى؟! [125] وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ روحي، و هو الشك و النفاق و الإنكار فَزادَتْهُمْ السورة رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ لأن قلوبهم كانت قذرة بإنكار ما سبق من آيات الله، فإذا أنكروا هذه السورة و شكوا فيها زادت قذارة قلوبهم. و يسمى الكفر رجسا، لأنه كالنجاسة الظاهرة التي تؤذي، و يجب على الإنسان أن يتجنّبها وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ فإن من لا تنفعه السور لا بد أن يبقى شاكا منافقا حتى يموت في كفره و نفاقه.

[126] إن أمر هؤلاء المنافقين عجيب، فإن السور لا تفيدهم، و الفتنة لا ترجعهم عن غيّهم أَ وَ لا يَرَوْنَ هؤلاء المنافقون- على نحو الاستفهام الإنكاري- أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أي يمتحنون، تارة بنصر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 486

[سورة التوبة (9): آية 127]

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)

المسلمين، و أخرى بكشف الرسول نواياهم، و ثالثة بالأمراض و ما أشبه، مما ينبغي أن يرجع المنافق عن غيّه إذا أصابه ذلك فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فالفتنة كثيرة الوقوع في حياتهم ثُمَّ لا يَتُوبُونَ عن نفاقهم و كفرهم وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ نعم الله سبحانه، و أدلته و حججه، إن قلوبهم قد تحجّرت فلا تفيدها السورة و لا الفتنة، فما ذا يصنع بها؟

[127] و لما فرغ من بيان أقوالهم و نواياهم، بيّن عملهم النفاقي تجاه نزول السورة وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ «ما» زائدة كما تقدم، و هم حضور عند النبي صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم نَظَرَ بَعْضُهُمْ أي بعض هؤلاء المنافقين إِلى بَعْضٍ ليغمز إليه و يشير إليه بأن لا يؤمن و لا يتزحزح عن نفاقه. فيقول بعضهم لبعض بالقول أو الغمز و الإشارة: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المؤمنين المخلصين؟ و الظاهر أن المراد رؤية الالتفات إلى نواياهم و إشاراتهم، لا رؤية العين، فإنهم كانوا يريدون عدم التفات المسلمين إلى أحوالهم لئلّا يعرفوا سبب قيامهم عن المجلس و انصرافهم ثُمَّ انْصَرَفُوا عن المجلس إذا لم يرهم أحد، أو حين انفضّ المجلس صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ دعاء عليهم بأن يصرف الله قلوبهم عن فهم الحق و إدراكه، فإنهم لما نافقوا لم يستحقوا الألطاف الإلهية الخفية بسبب أنهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ الحق، فقد طبع على قلوبهم بالكفر و العصيان و النفاق.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 487

[سورة التوبة (9): الآيات 128 الى 129]

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

[128] و في ختام السورة تأتي آيتان لبيان وظيفة المؤمنين تجاه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي يحنو عليهم، فاللازم أن ينصروه و يؤازروه، و لبيان ما يفعله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو تولّى الناس عنه و أعرضوا، و كأنها خاتمة لما تقدم من أحوال من آمن و آزر، و من نافق و تخلف لَقَدْ جاءَكُمْ أيها البشر، أو أيها المؤمنون رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنس نفوسكم، و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هذا تحريض لاتباعه و الأخذ بأمره حيث أنه

من أنفسهم عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ أي صعب عليه عنتكم و ما يلحق بكم من الضرر و الأذى حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على حفظكم و تقدمكم و سعادتكم، فلستم بهيّنين عليه حتى لا يهمّه أمركم، و يلقي بكم في المهالك اعتباطا، فإذا أمركم بأمر فإن فيه سعادتكم و خيركم، لأنه جاء من المشفق الحريص على شؤونكم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ الرأفة شدة الرحمة رَحِيمٌ للتأكيد و تفهيم من لا يفهم معنى الرؤوف، فهو وصف توضيحي من قبيل «سعدانة تنبت».

[129] فَإِنْ تَوَلَّوْا و أعرضوا عنك يا رسول الله، و عن رسالتك فَقُلْ يا رسول الله: حَسْبِيَ اللَّهُ أي كافيّ، فإنه قادر على أن ينصرني لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا شريك له أرجوه أو أخافه، بل هو وحده بيده كل شي ء، فهو قادر على نصري و إعزازي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ اتكلت في أموري كلها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 488

عليه وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فهو أعظم من كل عظيم، إذ العرش العظيم- أي السلطان الكبير- له، فمن اتصل به لا يخشى أحدا سواه، و إن أعرض عنه الناس، فإن العرش كناية عن السلطة و السيادة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 489

10 سورة يونس مكية/ آياتها (110)

سميت السورة بهذا الاسم حيث اشتملت على قصة «يونس» النبي عليه السّلام و السورة تدور مباحثها حول العقيدة، و ما يتفرع منها- غالبا- و حيث اختتمت سورة «براءة» بذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ابتدأت هذه السورة بذكره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الله سبحانه، فهو وحده المستحق للتقديم، و ذكر الرحمن الرحيم، لتلطيف الجو، فإن الناس قد اعتادوا أن يروا الظلم و الجور من الكبار و الطغاة،

لكنه ليس كذلك إنه الرحمن بعباده، الرحيم بالمؤمنين منهم، فلا خوف من ظلمه، و لا خشية من جوره.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 490

[سورة يونس (10): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1)

[2] الر من ألف و لام و راء و غيرها يتركب هذا القرآن المعجز، فإنه من جنس كلام البشر، لكنه معجز لا يتمكن أحد أن يأتي بمثله، كما أن من جنس المعادن و النبات يتركب الإنسان، لكن لا يقدر أحد على أن يأتي بمثله، و كذلك جميع صنع الله سبحانه- على الاختلاف في أوائل السور- تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ خبر لقوله «الر» أي هذه الحروف آيات الكتاب- على بعض الأقوال- و المراد ب «الكتاب الحكيم» القرآن العظيم الحاكم بالحق، المحكم في وصفه و أسلوبه و أحكامه.

[3] أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ استفهام إنكاري، أي: هل إيحاؤنا إلى رجل منهم موجب للعجب و الاستغراب، إنه لا ينبغي ذلك، فقد أوحي إلى جنس البشر قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فالأنبياء كلهم كانوا بشرا أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ مفعول «أوحينا» فقد كان الناس يرتكبون المحرّمات و يفعلون القبائح، فجاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لينذرهم بالعذاب إن اقترفوا الآثام وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا و اعتقدوا بما جئت به أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ فكما أن الإنسان الصادق في قوله لا تزل قدمه عند المحاكمة و الحكم، كذلك من آمن له قدم صدق لا تتزلزل و لا تضطرب عند الله سبحانه، و يوم محكمته الكبرى قالَ الْكافِرُونَ الذين لا يعتقدون بالله و آياته: إِنَّ هذا النبي- يعنون محمدا صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم- لَساحِرٌ مُبِينٌ أي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 491

[سورة يونس (10): آية 3]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (3)

واضح، حيث أنهم لم يتمكنوا من مقابلته و الإتيان بمثل كلامه.

[4] ثم عطف سياق الكلام حول الإله، على الكلام حول الرسول، و أخّره لأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الذي يقول هذا الكلام و يثبته و يدعو إلى التوحيد و يقدم عليه البراهين و الأدلة إِنَّ رَبَّكُمُ أيها البشر اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فالذي خلقهما و اخترعهما و أوجدهما من العدم هو ربكم و خالقكم، لا الأحجار المنحوتة و الأشجار و سائر المخلوقات. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ و قد جرت سنة الله سبحانه على التدرّج في الخلق، مع أنه قادر على الخلق دفعة واحدة، فالإنسان و الحيوان و النبات كلها تتدرّج في الخلق حتى تكمل، و لعلّ في ذلك اعتبار للملائكة و نحوهم، كما أن في تدريج خلقة الإنسان و سائر الأشياء عبرة للبشر، فإن الإذعان يأتي بالتدريج. و أما خصوصية «الستة» فهي كخصوصية «تسعة أشهر» للجنين و سائر الأزمان المضروبة لسائر المخلوقات.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ أي استولى عليه، أو توجّه نحو خلقه- كما مر في سورة الأعراف- يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي يقدّره و ينفذه على وجهه، فهو الخالق، و هو الآمر في الكون ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ فهو سبحانه كما بدأ و خلق، و أمر و نفّذ، كذلك بيده المعاد و إليه المرجع، و هناك لا بد من الشفاعة للعصاة

كما جرت العادة في الدنيا، و لكن الشفاعة هناك أيضا بيده، فلا يشفع أحد إلا من بعد إذنه ذلِكُمُ اللَّهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 492

[سورة يونس (10): الآيات 4 الى 5]

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)

الموصوف بهذه الصفات هو رَبَّكُمُ لا غيره من الأصنام و سائر المعبودات فَاعْبُدُوهُ وحده بدون شريك أَ فَلا تَذَكَّرُونَ فيه حثّ على التذكّر و التفكّر ليهتدوا إلى الطريق، و يجتنبوا المتاهات.

[5] ثم بيّن أن الرجوع إليه كما كان منه البدء، للتصريح بذلك بعد الإشعار و الإلماع إليه إِلَيْهِ إلى الله سبحانه مَرْجِعُكُمْ رجوعكم أيها البشر جَمِيعاً فلا يتخلّف منكم أحد وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا لا يخلف ما وعد من رجوعكم إليه إِنَّهُ وحده يَبْدَؤُا الْخَلْقَ و يوجدهم من العدم ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد موته و فنائه و عدمه، و إنما يعيده لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يعطيهم جزاءهم بِالْقِسْطِ بالعدل، فإذا لم يروا هنا «في الدنيا» جزاء أعمالهم الصالحة، لا بد و أن يروا هناك «في الآخرة» وَ الَّذِينَ كَفَرُوا و لم يؤمنوا بالله لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ «الحميم» هو الماء الحار الذي انتهى إلى آخر درجة من الحرارة وَ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم و موجع بسبب ما كانُوا يَكْفُرُونَ «ما» مصدرية، أي جزاء على كفرهم.

[6] ثم بيّن سبحانه صفاته الفعلية، و أقام البرهان على الألوهية

بما يرى الإنسان من الآثار الكونية البادية للعيان هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 493

أي نورا بالنهار، ليستفيد منه الإنسان و الحيوان و النبات و سائر المخلوقات الأرضية، و لولاها لم يكن ذو روح على وجه البسيطة وَ الْقَمَرَ نُوراً بالليل، قالوا: و الضياء أبلغ في كشف الظلمات من النور، و إن كان يطلق كل منهما على الآخر، إلا أنهما إذا اجتمعا دلّ الأول على زيادة.

إن هذا البرهان كاف للإنسان العادي الذي لا يعرف إلا الفطرة السليمة، كما أنه كاف لأكبر الفلاسفة دقة، و كذلك جميع آيات القرآن، فهي في حين تقنع الإنسان البسيط تكون أقوى الحجج للمنطقي و الفلسفي و المجادل. فمن يأتري خلق هذه الأشياء؟ هل أنها صنعت نفسها؟ إن هذا لا يمكن أبدا، أم صنعها جاهل عاجز؟ و هذا كالسابق في الاستحالة. فلا بد و أن يكون صانعها عالم قدير، و ليس هو إلا الله سبحانه.

وَ قَدَّرَهُ أي قدر القمر مَنازِلَ بأن جعل له منازل، ينزل في أحدهما بعد الآخر حتى يكمل الدور، و قوله «قدره» إما بحذف «اللام» أي «قدر له»، و إما مجاز لعلاقة الحال و المحل، فقد نسب ما للمحل إلى الحال. و إنما قدره منازل لِتَعْلَمُوا بالقمر و منازله عَدَدَ السِّنِينَ فإن السنة تتكون من اثني عشر شهرا، و الشهر لا يكون إلا بحركة القمر من منزل إلى منزل وَ الْحِسابَ حتى تعرفوا أي يوم أول الشهر و أي يوم آخره، و تضبط بذلك الحسابات و المواعيد. و قد كان القمر و الشهور خير وسيلة للعالم و الجاهل للضبط و التقدير، أما سائر الحسابات فهي غير محسوسة بالإضافة إلى كونها خاصة بالعالم.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 2، ص: 494

[سورة يونس (10): آية 6]

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ الخلق من سماوات و أرض و شمس و قمر و منازل إِلَّا بِالْحَقِ فلم يكن الخلق لهوا و عبثا لا طائل فيه، فإن فيه دلائل على الوحدانية و الصفات الأزلية، كما أن فيه الحساب و الميقات و المنافع للخلق يُفَصِّلُ الله سبحانه الْآياتِ الدالة على وجوده و يبيّنها آية آية لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيعطون كل آية حقها، أما الجهّال فإنهم معرضون عن الآيات (وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها) «1».

[7] ثم بيّن سبحانه آية أخرى من الآيات الدالة على وجوده مما هو ظاهر للعيان و يعرفه كل إنسان إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ و المراد ب «الاختلاف» إتيان أحدهما خلفة للآخر، كما قال سبحانه في آية أخرى: (جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً) «2». و لعلّ تقديم الليل، لأن الظلمة هي السابقة على النور، فقد قالوا: إن النور و الظلمة «عدم و ملكة» و من المعلوم تقدم العدم على الملكة ذاتا وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ من أنواع الكواكب و النيازك و الشهب و السحاب و الأمطار و الرياح و غيرها وَ الْأَرْضِ من أنواع الجبال و المعادن و المياه و النباتات و الحيوانات و الإنسان و غيرها لَآياتٍ أي أدلة دالة و براهين ساطعة على وجود الله سبحانه و صفاته، من العلم و القدرة و الإرادة و الحياة و غيرها لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ الانزلاق في مهاوي السفاسف

______________________________

(1) الأنعام: 26.

(2) الفرقان: 63.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 495

[سورة يونس (10): الآيات 7 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ

لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)

و الخرافة، كما أن فيهما آيات لمن يتقي عصيان الله سبحانه. و إنما خصّوا بالذكر لأنهم المنتفعون بهذه الآيات.

[8] ثم ذكر سبحانه جزاء الذين لا يقتنعون بهذه الآيات، و ينكرون المعاد المستلزم لإنكار المبدأ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أي: لقاء الله، و المراد ب «لقائه» لقاء الجزاء المقرّر لهم من عنده، فإن الله سبحانه منزّه عن المكان، و إنما هو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، و المراد ب «لا يرجون» لا يتوقعون، و إنما جي ء بهذا اللفظ لأن كل معتقد به يرجو ثواب الله سبحانه، فإن الإنسان بطبعه يرجو نوال الكريم. و هذا كناية عن عدم الإيمان، فإن الذين لا يؤمنون لا يرجون المعاد وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا أي الحياة القريبة، فإن «دنيا» مؤنث «أدنى» أي اختاروا هذه الحياة، فصرفوا همّهم في عمارتها، و لا يعملون إلا لها وَ اطْمَأَنُّوا بِها أي سكنوا إليها و ركنوا لها. و هذا من عجيب الأمر:

كيف يركن الإنسان إلى دنيا يعلم بفنائها السريع، و يشاهد كل يوم كثرة من الأموات؟! وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا دلائلنا التي أقمناها على التوحيد و سائر شؤون المبدأ و المعاد، من الأدلة الكونية و غيرها غافِلُونَ فلا يتأملون فيها و لا يعتبرون بها.

[9] أُولئِكَ الذين تلك أوصافهم مَأْواهُمُ أي مستقرّهم و مرجعهم النَّارُ إليها يصيرون بسبب ما كانُوا يَكْسِبُونَ من أنواع الكفر و المعاصي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 496

[سورة يونس (10): الآيات 9 الى 10]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي

جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)

[10] هذا هو الكفر، و هذا مصيره، فلننظر إلى الإيمان و مصيره إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و رسله و اليوم الآخر و صدقوا بما جاءت به الأنبياء وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة، فإن المحرمات لا تصلح لبناء فرد أو مجتمع أو دنيا أو آخره، بخلاف الواجبات و المندوبات و المباحات فإنها تصلح لذلك يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بسبب إيمانهم إلى الجنة في الآخرة، و إلى كل خير في الدنيا، فإن الإيمان مفتاح كل سعادة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أي تحت أبنيتهم و أشجارهم، أو من تحت أنفسهم، باعتبار أن ماء النهر أسفل من الإنسان إذا مشى على الأرض فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ بحيث يتنعّم الإنسان فيها بجميع أنواع النعم، من أمن و رفاه و صحة و علم و لذة و غيرها.

[11] دَعْواهُمْ أي دعاء المؤمنين، فإن الدعوى قول يدعى به إلى أمر فِيها أي في تلك الجنات: سُبْحانَكَ اللَّهُمَ «سبحان» مصدر منصوب بفعل مقدّر، أي: أنزّهك تنزيها، يا الله، فإن «الميم» في «اللهم» بدل من حرف النداء «يا» وَ تَحِيَّتُهُمْ «التحية» مصدر من باب التفعيل، بمعنى التكرمة، مشتقة من: «أحياك الله» فِيها أي في الجنات سَلامٌ من الله لهم، و من الملائكة بالنسبة إليهم، و من بعض المؤمنين لبعض،

و في الدعاء: «حينا ربنا بالسلام» «1».

و المراد

______________________________

(1) مستدرك وسائل الشيعة: ج 9 ص 320.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 497

[سورة يونس (10): آية 11]

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

ب «السلام» السلامة من الآفات و المكاره،

فإن الجنة هي دار السلام التي لا مكروه فيها أبدا. و من ذلك سلام الإنسان لبعض حيا أو ميتا، فإن سلامة الحي من المكاره هنا، و سلامة الميت من المكاره هناك، و هو دعاء، أو تفأّل، أو رجاء، بمعنى: «اللهم سلّمه»، أو: «أتفأّل لك السلامة»، أو: «أرجوها لك». وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أي آخر كلامهم الذي يتكلمون به أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فهم بين تسبيح و تسليم و تحميد.

[12] إن حكمة الله سبحانه اقتضت بقاء الإنسان في الدنيا حتى يبلغ الأجل المضروب له سواء كان صالحا أو طالحا، فالخيّر و الشرير اللذين سبق الكلام حولهما لا بد و أن يتمّا مدتهما المقرّرة لهما، و إن كان بعض الناس يستعجلون الشرّ بدعائهم، أو بأعمالهم وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ من الموت و المرض و الفقر مما يستحقّون بأعمالهم أو بدعائهم، فإن بعض الناس إذا غضب دعا على نفسه و على بعض ذويه بالهلاك و الأمراض و نحوهما اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ أي كما يعجّل سبحانه لهم إعطاء الخير الذي يستحقونه بأعمالهم، أو بدعائهم لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أي لفرغ من إهلاكهم، و لم يكن على وجه الأرض إنسان، و المعنى: لفرغ من أجلهم و مدّتهم المضروبة للحياة، و إذا انتهت مدّتهم هلكوا، كما قال سبحانه: (وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 498

[سورة يونس (10): آية 12]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)

عَجُولًا) «1»، فحيث اقتضت المشيئة الإلهية بقاء الإنسان مدة في الدنيا فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا

من الكافرين الذين لا يعتقدون بالمعاد فِي طُغْيانِهِمْ عن الحق و ترفّعهم عن الإيمان يَعْمَهُونَ «العمه» هو العمى، و شدة الحيرة، فلا نقضي أجلهم بل نمهلهم إمهالا. و هذا الإبقاء إنما هو ليزيد عذابهم حيث طغوا و أعرضوا عن الإيمان بعد ما رأوا الآيات الدالّة عليه.

[13] إن الإنسان الذي لم يتأدب بآداب الله سبحانه كثير التناقض، فبينما تراه يستعجل الشر، تراه لا يطيق أقل مس من الشر، حتى أنه إذا أصابه ذلك جعل يدعو الله في كل حالاته لكشفه عنه وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ مجرد مسّ و عبور عليه الضُّرُّ مشقة من مشقات الدنيا في نفس أو أهل أو مال أو نحوها دَعانا لكشفه و إزالته، في حال كونه نائما لِجَنْبِهِ مضطجعا أَوْ قاعِداً في حال قعوده أَوْ قائِماً في حال قيامه، و الظاهر أن «أو» هنا بمعنى «الواو»، فإنها تأتي بمعناها، قال ابن مالك:

خير، أبح، قسم، بأو، و أبهم و اشكك، و إضراب بها أيضا نمي

و ربما عاقبت الواو إذالم يلف ذو النطق للبث منفذا

______________________________

(1) الإسراء: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 499

[سورة يونس (10): آية 13]

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)

فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ و أزلنا البلاء الذي توجّه إليه مَرَّ في طريقه السابق، بدون أن يغيره إلى طريق الدين و الحق كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كأن لم يسألنا إزالة ضره، فهو لا يعرف الرب بعد إزالته. إنه يمرّ بدون أن يتوقف ليشكر، أو يتذكر، أو يعتبر، كَذلِكَ بمثل هذه الطبيعة المنحطّة التي تتضرّع إلى الله في الضراء، و تنساه في السراء زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما

كانُوا يَعْمَلُونَ إن المسرفين الذين أسرفوا في الحياة الدنيا و الركون إليها، و لم يجعلوا للآخرة خط رجعة إليها، لو وقفوا و تأملوا و شكروا، ارتدعوا عن أعمالهم الباطلة، لكنهم يمرّون بلا شكر و تدبّر، و لذا زيّن الشيطان في نظرهم قبح أعمالهم، فإن الإنسان إذا تدبر عرف الحسن من القبيح، أما إذا ركب هواه و سار لا يلوي على شي ء، لا يرى أعماله القبيحة إلا حسنة.

[14] فما ذا كانت عاقبة المسرفين؟ إن السياق يستعرضها بالنسبة إلى الأمم السابقة، لتعتبر هذه الأمة وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ جمع «قرن»، و هو أهل كل عصر، سموا بذلك لمقارنة بعضهم لبعض، و منه «القرن» بمعنى الشجاع المقابل لأنه مثل الشجاع الآخر مِنْ قَبْلِكُمْ بأنواع العذاب لَمَّا ظَلَمُوا أنفسهم و غيرهم، و أسرفوا في الركون إلى الدنيا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي الحجج و الأدلة، فإن الهلاك إنما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 500

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 550

[سورة يونس (10): الآيات 14 الى 15]

ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)

يكون بعد إتمام الحجة، أما مجرد الظلم بدون إتمام الحجة، فإنه لا يوجب هلاكا- عند الله سبحانه- قال: (وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «1»، وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا أي أن هلاكهم بعد العلم بأنهم لا يؤمنون أبدا، فهم ظالمون قد تمت عليهم الحجة، و لا يؤمنون بعد ذلك كَذلِكَ أي

كما جازينا أولئك القرون لمّا ظلموا نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ من جميع الأمم.

[15] ثُمَّ جَعَلْناكُمْ يا أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو أيها البشر المتأخرون عن أولئك خَلائِفَ جمع «خليفة» نحو: طرائق جمع طريقة فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد أولئك القرون، فإنكم خلفتموهم في الأرض، و صرتم خلفا لهم لِنَنْظُرَ أي نرى، و المراد: الرؤية العلمية، أو الرؤية حقيقة، فإنه سبحانه ناظر لأعمال العباد كَيْفَ تَعْمَلُونَ هل تعملون الصالحات أو السيئات، كأولئك القرون؟ و إنما نريد النظر للاختيار و الجزاء.

[16] ثم بيّن سبحانه بعض أعمال هؤلاء المشابهة لأعمال أولئك القرون الظالمة. فقد ذكر بعض المفسرون أن جماعة من المشركين قالوا للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات و العزى و مناة و هبل، و ليس فيه عيبها، أو بدّله و تكلم به من تلقاء نفسك «2».

______________________________

(1) الإسراء: 16.

(2) مجمع البيان: ج 5 ص 166.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 501

فنزلت: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ على هؤلاء الكفار آياتُنا المنزلة في القرآن بَيِّناتٍ واضحات قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أي لا يؤمنون بالمعاد، فإن المؤمن بالمعاد يرجو فضل الله سبحانه، فمن لم يرج فليس بمؤمن، لتلازم الرجاء و الإيمان: ائْتِ جئ يا محمد بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا القرآن الذي تلوته أَوْ بَدِّلْهُ فاجعله على خلاف ما تقرأه، و الفرق بينها: أن القرآن الثاني غير مرتبطة مطالبه بالقرآن الأول، بخلاف «بدله» فهو هو، لكن مع التبديل كأن يقول- عوض (إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) «1»-: «إنكم و ما تعبدون من دون الله زينة الجنة» مثلا. و قد ظن أولئك الجهلة أن القرآن

أمثال أشعار العرب التي يتمكن الشاعر أن يقول شعرا آخر، أو أن يبدل جزءا من الشعر فيجعل مكانه جزءا آخر.

قُلْ يا رسول الله لهم: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ أبدل القرآن مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من ناحية نفسي، فإنه معجز و ذلك بيد الله وحده، يقال: «فلان تلقاء فلان» أي بحذائه و إزائه إِنْ أَتَّبِعُ ما أتبع إِلَّا ما يُوحى أي الشي ء الذي يوحيه الله سبحانه إِلَيَ بلا زيادة و لا نقصان إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بتبديل كتابه أو تغييره، أو

______________________________

(1) الأنبياء: 99.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 502

[سورة يونس (10): آية 16]

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (16)

سائر أنواع المعاصي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم القيامة، و أي معنى للتبديل؟ هل لأن القرآن ليس معجزا؟ فليأتوا بمثله، أم لأن مطالبه و قوانينه ليست مطابقة للواقع أو للحكمة، فما هو نقدهم فيه؟ و هل المعاند يكتفي بالتبديل؟ إن كلامهم كان لمجرد العناد، و هذا مما لا يصغي إليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[17] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الذين يطلبون تبديل القرآن: ليس أمر تلاوته، و لا أمر إنزاله بيدي، إن جميع شؤون القرآن بيد الله سبحانه، فهو الذي أنزله، و هو الذي أمرني بتلاوته، و قل لهم: إني قد لبثت فيكم قبل نزول القرآن عمرا كاملا أربعين سنة، و لو كان القرآن مني لكنت أقرأه و أعلمه قبل نزوله، إن عدم قراءتي له من قبل، و عدم بيانه سابقا، دليل على أنه ليس من عندي و ليس بيدي حتى أتمكن من تبديله و تغييره لَوْ شاءَ اللَّهُ أن

لا أتلوه ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ فإنه هو الآمر بتلاوته عليكم و تبليغكم به وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ أي لو شاء الله أن لا تعلموه، ما أعلمكم به، و ذلك بعدم إنزاله أصلا. فبيده وحده إنزال القرآن فَقَدْ لَبِثْتُ مكثت و أقمت بينكم و فِيكُمْ عُمُراً أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ من قبل قراءتي للقرآن و تلاوتي له، فلو كان مني لكنت قرأته من قبل، فإنه أي فارق في كلامي قبل ادعائي للنبوة و بعد ادعائي لها. و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتكلم بكلام بينهم قبل النبوة فلم يكن يشبه كلامه القرآن أصلا أَ فَلا تَعْقِلُونَ و تتفكرون في هذه الحقيقة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 503

[سورة يونس (10): الآيات 17 الى 18]

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)

الواضحة، فكيف تطلبون مني أن أبدل القرآن.

[18] إذن، لم يبق أمامي في باب تبديل القرآن إلا أن أخترع قرآنا من نفسي، و هذا مما لا يمكن أبدا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ أي لا أحد أكثر ظلما من إنسان تجرّأ على الله سبحانه كَذِباً بأن نسب إليه كلاما ليس من كلامه، أو حكما ليس من حكمه، فكيف أعمل أنا هذا بأن أخترع قرآنا ثم أنسبه إلى الله تعالى؟! أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كما تعملون أنتم حيث تكذبون آيات الله و تقولون: أنها ليست من الله، فكلا الأمرين افتراء عليه

ما ليس منه، و سلب عنه ما هو منه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ لا يفوزون بخير الدنيا و لا سعادة الآخرة، فإن الله سبحانه بالمرصاد للمجرم، خصوصا الاجرام بهذا الحد من الجرأة عليه سبحانه.

[19] ثم بيّن سبحانه آلهة هؤلاء الكفار الباطلة، فإنهم تركوا الحق و اتخذوا الباطل وَ يَعْبُدُونَ يعبد هؤلاء الكفار مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله.

و هذا يجتمع مع الشرك و مع الكفر ما لا يَضُرُّهُمْ ضررا من قبلها وَ لا يَنْفَعُهُمْ فإن الأصنام جمادات لا تضر و لا تنفع، و العذاب للشرك إنما هو ضرر يتوجه إليهم من عملهم الباطل، كما أن بعض المنافع المادية لسدنة الأصنام و من إليهم إنما هي من الأشخاص الباذلين و الناذرين لا من قبل الأصنام، ثم إن كونها «لا تضر و لا تنفع» أبلغ في الردع عن عبادتها، لأنه لا تجوز العبادة حتى بالنسبة إلى من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 504

[سورة يونس (10): آية 19]

وَ ما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)

يضر و ينفع كعبادة الملوك الذين بيدهم الضر و النفع ظاهرا. أو المراد النافع و الضار حقيقة، و ليس في الكون نافع أو ضار في الحقيقة إلا الله سبحانه، فإنه هو الذي خلق المنافع و المضار و أمكن كل شي ء من الإتيان بمقتضاه.

وَ يَقُولُونَ أي يقول المشركون و هم الذين يعتقدون بالله و بالصنم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ فإنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عنده سبحانه قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ أي هل تخبرون الله سبحانه- على نحو الاستفهام الإنكاري- بِما لا يَعْلَمُ فإن الله سبحانه

لا يعلم كون الأصنام شافعة، فكيف تنسبون إليه أنه تعالى جعل الشفاعة لها، و «لا يعلم» من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فإنه إذا لم يكن موضوع للعلم، لم يكن علم. فهل يعلم هؤلاء الكفار ما لا يعلمه الله سبحانه فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ و يخبرونه بما لا وجود له؟ و يخترعون الشفاعة لما لم يجعله الله سبحانه شفيعا سُبْحانَهُ منزّه عن ذلك وَ تَعالى إنه أعلى و أجل عَمَّا يُشْرِكُونَ من أن يكون له شريك، و «ما» إما مصدرية، أي عن شركهم، فهو منزّه عن شركهم و أجلّ منه. و إما موصولة، أي عن الأصنام التي يشركونها مع الله، فهو منزّه عن المثل، و أعلى و أجل من أن يكون في عداد الأصنام.

[20] و قبل أن يستعرض القرآن سائر أقوالهم السخيفة، يبيّن أن الشرك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 505

[سورة يونس (10): آية 20]

وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)

عارض على البشر، و إلّا فالفطرة السليمة تدل على التوحيد، فإن الجهاز الموحّد المنظّم يدل على إرادة موحدة و رئيس واحد وَ ما كانَ النَّاسُ بفطرتهم و أصلهم إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً موحدة، كما

قال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كل مولود يولد على الفطرة إلا أن أبويه هما اللذان يهودانه و ينصرانه و يمجسانه»

«1»، فَاخْتَلَفُوا بأن بقي بعضهم على التوحيد، و انحرف بعضهم نحو الشرك.

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بأن قالها و قرّرها بأن تكون الدنيا دار امتحان، فيكون الناس فيها مختارين مطلقي السراح مهما شاءوا اعتقدوا، و مهما أرادوا عملوا، حتى يكون الجزاء عدلا و استحقاقا،

لا محاباة و اعتباطا لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ أي حكم الله بينهم في هذه الدنيا بأن يهلك المشركين و يذر الموحدين فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من التوحيد و الشرك، أو المراد: لقضي بينهم بأن أجبر الجميع على التوحيد، لكنه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) «2».

[21] وَ يَقُولُونَ أي يقول هؤلاء الكفار: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آيَةٌ معجزة خارقة كمعاجز عيسى و موسى عليهما السّلام مِنْ طرف رَبِّهِ فقد كانوا يقترحون خوارق أخرى، و كان ذلك منهم تعنّتا،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 58 ص 187.

(2) البقرة: 257.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 506

[سورة يونس (10): آية 21]

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)

إذ يكفي في الدلالة الخارقة دلالة القرآن العظيم المعجزة الباقية، لكنهم لم يكونوا يذعنون لها فَقُلْ يا رسول الله: إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ إن الآية الخارقة التي تطلبونها غيب خارق لقوانين هذا الكون، و إنه بيد الله سبحانه ليس بيدي و من عندي، و هو أعلم بالمصالح (وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) «1»، فإن المتعنّت لا يريد إلا اللّجاج لا الحجة و الاقتناع حتى يسير الإنسان حيث إرادته، إنه لو أراد الاقتناع و الدلالة لكفته هذه المعجزة العظيمة، فهو كمن يأتي بإمضاء الرئيس، ثم يقول الناس له: «جئ بإمضاء آخر حتى نقبل قولك» فَانْتَظِرُوا المستقبل حتى ترون هل يأتي الله سبحانه بما تطلبون إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ و هذا الجواب فيه شبه تهديد، كما تقول للمجرم: اصبر حتى نرى العاقبة.

[22] ثم بيّن سبحانه أن الطبيعة البشرية إنما تطغى إذا رأت

نفسها غنية غير محتاجة، أما إذا وقع الإنسان في أزمة و شدة، فهو يلوذ بالله و يتوسل إليه، و هذا دليل على ما كمن في فطرته من التوحيد و الاعتراف بالألوهية وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً «الإذاقة» تستعمل بمعنى الذوق باللسان، كما تستعمل بمعنى الإدراك مطلقا، و هذا هو المراد هنا، فإن الرحمة ليست خاصة باللسان مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ من شدة أو فاقة أو اضطراب أو غيرها إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا فإنهم حيث رأوا الشدة

______________________________

(1) الأنعام: 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 507

[سورة يونس (10): آية 22]

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)

كانوا جديرين بقبول الحق، و اتباع الرسل، و الأخذ بالأحكام، لكن طبيعتهم العاتية حيث ترى غناها بسبب الرحمة التي ذاقتها، ترجع إلى إنكار الآيات، و الاحتيال و المكر لإخمادها و إنكارها، و قد كانت عادة البشر هكذا مع الأنبياء، فقوم فرعون كلما أصيبوا بمكروه جاءوا إلى موسى عليه السّلام يسألونه الكشف عنهم حتى يؤمنوا، فإذا أذاقهم الله الرحمة، و كشف عنهم العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه، و أخذوا يمكرون بموسى، و يحتالون لإخماد آيات الله سبحانه، و هكذا سائر الأنبياء و المصلحين مع أممهم، إلى هذا اليوم.

قُلِ يا رسول الله، لمثل هؤلاء: لا تفعلوا و لا تمكروا ف اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً فإن مكر هؤلاء لا يصل إلى أعماق الحياة، بخلاف مكره سبحانه و علاجه للأمر- لأن المكر هو: التدبير الخفي-

فإنه يصل إلى أعماق الحياة، و لذا تكون جذور دعوات الأنبياء أعمق و أسرع في نفوس الناس من مكر الماكرين و إنكار الملحدين و تشكيك المشككين إِنَّ رُسُلَنا أي الملائكة يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أي ما تدبرون خفية ضد الدين و أهله، ثم تجزون على ذلك.

[23] ثم ضرب سبحانه مثلا لطبيعة الإنسان العاتية التي تتضرع عند الشدة، و تنسى عند الرخاء هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ فإن مشي الحيوان، و المركبة، و غيرها، إنما هو حسب تكوين الله سبحانه و نظامه الذي جعله للحياة و إلا لم يتمكن الإنسان من السير و لو خطوة واحدة وَ الْبَحْرِ بسبب الفلك و نظام عدم غرق ما وزن الماء أثقل منه- كما

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 508

بيّن في قانون أرخميدس- حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ فكأن الإنسان سار من بلده في طريق البحر حتى ركب في السفينة لإرادة الذهاب إلى مقصد من مقاصده البعيدة وَ جَرَيْنَ أي جرت السفن، فإن «الفلك» يأتي مفردا و جمعا بلفظ واحد بِهِمْ أي بالناس بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لينة يستطيبونها، لأنها تجري نحو المقصد في رخاء و هدوء وَ فَرِحُوا الراكبون بِها أي بهذه الريح. فهم في أمن و فرح و سير نحو المقصد بارتياح، و إذا بهم جاءَتْها السفينة رِيحٌ عاصِفٌ شديدة الهبوب، هائلة هائجة، فأخذت السفينة في الاضطراب و الإشراف على الغرق من الترنّح الشديد الذي يصيبها بسبب تلاطم الأمواج وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من الأطراف الأربعة، فإن الرياح إذا توجهت نحو الماء رفعت منه أجزاء كثيرة ربما صارت كالجبل العظيم، و هذا هو الموج، و الأمواج تسير بسير الهواء ما دامت تنفخ فيها و تسيّرها، فإذا اضطربت الرياح وهبت

من الجهات المختلفة جاءت الموج من كل مكان، و إذا بالسفينة في وسط الأمواج ترتفع مرة و تنحدر أخرى، و تميل ثالثة، و تقع من علو دفعة- إذا تلاشت الأمواج تحتها- رابعة، و هكذا ..

فتصبح:

كريشة في مهب الريح طائفةلا تستقر على حال من القلق

وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي أحاطت بهم الأمواج بحيث تغرقهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 509

[سورة يونس (10): آية 23]

فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

فلا نجاة من الهلكة، و حينئذ حيث رأوا الهلاك دَعَوُا اللَّهَ و تضرعوا إليه، و انقشعت عن عيونهم غواشي الشهوات و الأنانيات، و ظهرت فطرتهم صافية مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي على وجه الإخلاص في الاعتقاد، بحيث يجعلون الدين له، و ينقطعون عما سواه، قائلين:

لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا رب مِنْ هذِهِ الشدة و الورطة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ المعترفين بك و بفضلك و إحسانك فإن الشكر يستلزم الإذعان و التوحيد.

[24] فَلَمَّا أَنْجاهُمْ أي خلّصهم من تلك الأهوال إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ أي يظلمون أنفسهم و غيرهم، فإن من لا يسير على منهاج الله سبحانه لا بد و أن يكون ظالما باغيا يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإن ظلم الظالم يعود و باله عليه مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي أن بغيكم إنما هو ما يتمتّع به في الحياة الدنيا، و ذلك منقطع لا يبقى، فإن الإنسان إنما يبغي لأمور دنيوية، و لا فائدة فيما لا بقاء له و لا دوام ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ رجوعكم و مصيركم فَنُنَبِّئُكُمْ نخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و هذا تهديد

بأنهم سيجازون بأعمالهم السيئة، كما تقول للمجرم: «سأخبرك بأعمالك» تريد جزاءه

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 510

[سورة يونس (10): آية 24]

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

على تلك السيئات التي صدرت منه.

[25] و لما ذكر سبحانه أن الظلم إنما هو متاع الحياة الدنيا، بيّن فناءها، و أنه لا ينبغي أن يعمل الإنسان لما يفنى و لا يبقى إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي شبه الحياة القريبة في سرعة فنائها و زوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ و هو المطر فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فإن النبات يمتص الماء حتى ينضر و يزدهر و ينمو مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ من الثمار و البقول و نحوهما وَ الْأَنْعامُ كالحشيش و القات و غيرهما. و لعل الإتيان بهذا التفصيل للتناسق بين المثال و الممثل له فكما أن الماء يختلط بالأجناس العالية من النبات- و هو مأكل الإنسان- و الأجناس السافلة- و هو مأكل الحيوان- كذلك الحياة التي يفيضها الله سبحانه على الكون تختلط بالأشياء الراقية كالإنسان و الجواهر، و بالأشياء المنحطة كالمدر و الحجر و غيرهما.

حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها «الزخرف» كمال حسن الشي ء، يقال: «زخرفته» أي حسنته، فإن المطر لما ينزل من السماء يظهر ريع الزروع و الكروم و نضارة النباتات و الأشجار وَ ازَّيَّنَتْ أي تزينت الأرض بالنبات الزاهي و الزرع النضر، و أصل «ازينت» تزينت من باب «التفعل» قلبت «التاء» «زاء» وجي ء بهمزة الوصل لتعذر الابتداء بالساكن.

وَ ظَنَّ

أَهْلُها أي أهل الأرض أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها لزعمهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 511

أنهم هم الذين أوجدوها بجهدهم، و زيّنوها بصنعهم، و أنهم مالكوا الأمر فيها، فلا يتمكن أحد من تغييرها و تحريرها. و كذلك الإنسان دائما يظن أن ما يجري في الكون مما له دخل فيه، إنما هو بصنعه و إرادته، فإذا بنى دارا زعم أنها صنعه، و إذا جرت سفينته في الماء ظن أنها منه، و هكذا، و الحال أن الإنسان ليس إلا جزءا صغيرا متوسطا في سلسلة العلل. فقبله، الأرض التي منها أدوات البناء و بعده الصورة التي هي من الله سبحانه، و بها البقاء للدار، و هكذا بالنسبة إلى السفينة و سائر الأشياء.

أَتاها أتى تلك الأرض المزخرفة بالزرع و النظارة أَمْرُنا أي عذابنا من برد أو ثلج أو عاصفة أو جراد أو نحوها لَيْلًا أَوْ نَهاراً و هذا يدل على كمال القدرة، فإنه لا يخشى من أحد و لا يمنعه وقت يقظة الناس كما لا يمنعه حراس الليل فَجَعَلْناها حَصِيداً جعلنا تلك الأرض حصيدا أي محصودة، مقلوعة ذاهبة كَأَنْ لَمْ تَغْنَ لم توجد و لم تكن بِالْأَمْسِ من قبل، من «غني بالمكان» بمعنى أقام به، و منه «المغنى» بمعنى المنزل كَذلِكَ بما فصلنا هذا المثال و أوضحناه نُفَصِّلُ سائر الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في أدلة الله سبحانه، فالحياة الدنيا، كماء المطر و الدنيا كالمزرعة، فإن الحياة تختلط بماهية الأشياء، و إذ نرى الحياة مزدهرة، و الأسواق عامرة، و الأرض مخضرة، و الناس في أمن و رفاه، و أخذ و عطاء، و في هذه الغمرة من الحسن و الازدهار، و إذا بأمر الله سبحانه يأتي إما بسبب أرضي

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 2، ص: 512

[سورة يونس (10): الآيات 25 الى 26]

وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26)

كالخسف، أو بسبب سماوي كالصيحة و البرق و القذف، أو كالأمراض الفتاكة، أو كالوسائل الهدامة من الآلات الحربية المفنية- كالقنابل و غيرها- فيجعلها حصيدا لا حياة فيها و لا حركة، و لا عمارة و لا حضارة .. أليس الأمر كذلك؟ و أليس يكفي هذا دلالة على وجود الله و قدرته؟ فكيف يتكبر الإنسان و يعصي، و يطغى و يكفر؟

[26] هذه كانت حالة الدنيا فهي دار تغير و زوال، و فناء و اضمحلال وَ اللَّهُ يَدْعُوا الناس إِلى دارِ السَّلامِ التي يكون كل شي ء فيها سالما عن التغير و الآفات، و هي الجنة، فإنه سبحانه يحرّضهم للعمل، فهذه الدار لتلك الدار، و «السلام» و «السلامة» بمعنى واحد، كالرضاع و الرضاعة وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إما المراد بالهداية: معناها العام، ف «من يشاء» هم جميع الناس، و إما المراد بها: معناها الخاص، أي الألطاف الخاصة، ف «من يشاء» هم الذين اتخذوا مناهج الأنبياء، فإنهم مختصون بتلك الألطاف المؤدية بهم إلى جنات النعيم.

و من المحتمل أن يراد بالهداية: معناها العام- و هي إراءة الطريق- و يكون «من يشاء» خاصا بمن تمّت لديه الحجة، فإن كثيرا من أهل البلاد البعيدة لم تبلغهم الدعوة، و كذلك من مات في الفترة بين الرسل و نحوهم، و أولئك الذين لم تبلغهم الدعوة، إنما يمتحنون يوم القيامة، كما يقتضيه العدل، و دلّ على بعض موارده الدليل.

[27] تلك حال الدنيا

الزائلة و هذه حال الآخرة الباقية، فلننظر إلى أحوال أهل تلك، و أهل هذه بين الأمرين، ف لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الاعتقاد،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 513

[سورة يونس (10): آية 27]

وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)

و أحسنوا العمل، بأن آمنوا و عملوا الصالحات الْحُسْنى أي الحالة الحسنى، فإنهم يجزون بإحسانهم إحسانا وَ زِيادَةٌ فضل من الله سبحانه، فمن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، كما قال سبحانه في آية أخرى: (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) «1»، وَ لا يَرْهَقُ «الرهق» لحاق الأمر، و منه «راهق الغلام» إذا لحق بالرجال، و يستعمل اسما من «الإرهاق» و هو أن يحتمل الإنسان ما لا يطيقه، أي لا يلحق وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ أي غبار و سواد وَ لا ذِلَّةٌ انكسار و انهزام، فليست كوجوه أهل المعاصي التي يظهر عليها أثر العذاب الجسدي بالقتر، و أثر العذاب النفسي بالذلة، بل وجوههم نضرة، كما قال سبحانه:

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) «2»، أُولئِكَ الذين أحسنوا أَصْحابُ الْجَنَّةِ رفاقها و ملاكها هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون أبدا، لا خروج لهم منها، و لا تغيّر لها بهم.

[28] وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ أي عملوها، و غالبا يأتي «الكسب» بالنسبة إلى السيئات للدلالة على صعوبة السيئات بخلاف الحسنات، و ذلك واضح لأن السيئات لها التواءات توجب الصعوبة لمكتسبها فمثلا الزواج فيه سهولة اطمئنان النفس إلى دار، و أهل، و أولاد، و قلوب تحنو عليه، و مستقبل يقوم به النسل، و ذكر جميل و سيادة. و السفاح بالعكس من كل ذلك، بالإضافة إلى صرف المال و

الطاقة لقلب خاو

______________________________

(1) فاطر: 31.

(2) المطففين: 25.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 514

و عمل مذموم، و هكذا. و ليس المقصود أن الحلال بلا صعوبة، و أن الحرام بلا لذة، و إنما المقصود أن الحلال دائما أهنأ و أسهل من الحرام، فإنه سبحانه خلط الحرام باللذة القليلة، و الحلال بالتعب اليسير، ليختبر و يمتحن، فلو كان الحلال بلا تعب لم يكن الآتي به ممدوحا، و لو كان الحرام بلا لذة لم يكن التارك له مستحقا للأجر و الثواب.

جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها لا يجازون بأكثر من عملهم، إذ الجزاء بالأكثر ظلم قبيح، و «جزاء» مبتدأ خبره «بمثلها»، و الجملة خبر لقوله:

«الذين كسبوا» و العائد محذوف أي «لهم» و نحوه وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ تلحقهم ذلة نفسية، فإن الإنسان المعذّب يحس في نفسه ذلة و انهزاما ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ليس يحفظهم عن العذاب اللاحق بهم حافظ من قبل الله، أو المراد: لا ينجيهم من عذاب الله حافظ، و هم بالإضافة إلى العذاب و الصعوبات، فإن الدم يحترق في الجسد، و ينقلب أسودا، فيظهر لونه على الجسم لشفافية الجلد كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً فكأن الليل صار قطعا بسواده الشديد، فأغشيت وجوههم بقطع منه، قطعة فوق قطعة حتى لا يرى فيها أثر النور و الضياء، فهم في عذاب البدن، و ذلة النفس، و سواد الوجه أُولئِكَ الذين كسبوا السيئات أَصْحابُ النَّارِ رفاقها و الملازمون لها و المعرّفون بها هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون أبد الآبدين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 515

[سورة يونس (10): آية 28]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28)

[29] قد

كان أولئك الكفار و العصاة في الدنيا لهم آلهة و أصدقاء، فأين ذهبت آلهتهم و أصدقاؤهم؟ و هل أنقذوهم و شفّعوا فيهم؟ إنهم هناك انقلبوا أعداء بعد ما رأوا العذاب وَ اذكر يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ أي نجمعهم جَمِيعاً بلا استثناء أحد، و هو يوم القيامة ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا بالله، بأن جعلوا له شريكا: الزموا مَكانَكُمْ لا تبرحوا حتى تجازون بأعمالكم أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ أي كونوا جميعا في مكانكم حتى تعطون الجزاء. و إضافة الشركاء إليهم باعتبار أنهم اخترعوها، و جعلوها شركاء الله سبحانه فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ أي ميّزنا و فرّقنا، و المراد: التفريق بينهم في السؤال، فهناك سؤال عن المشركين، و سؤال عن الآلهة التي عبدوها من دون الله سبحانه وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ الأصنام و غيرها من المعبودات التي عبدوها، مخاطبين للكفار: ما كُنْتُمْ أيها المشركون إِيَّانا تَعْبُدُونَ إما المراد أنهم عبدوا الأهواء و الشياطين، و إما المراد نفي ذلك، مريدا به نفي العلم بعبادتهم. و هذا أيضا يصح بالنسبة إلى من لا يعلم، كالأصنام التي لا تعقل، فإنها ينطقها الله سبحانه هناك، أو أنهم يكذبون للتخلص من التبعة حتى لا يقال لهم: لم رضيتم بعبادة هؤلاء لكم؟ كما يكذب المشركون هناك قائلين: (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1».

______________________________

(1) الأنعام: 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 516

[سورة يونس (10): الآيات 29 الى 31]

فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ

الْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (31)

[30] ثم يستشهد المعبودون بالله سبحانه في أنهم لم يكونوا يعلمون بعبادة المشركين لهم فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي يكفينا شاهدا و فاصلا للحق بَيْنَنا معاشر المعبودين وَ بَيْنَكُمْ أيها المشركون إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ أيها المشركون لنا لَغافِلِينَ «إن» مخففة من المثقلة، و حذف اسمها، و هو ضمير الشأن أي يشهد الله: أنه كنا غافلين عن عبادتكم لنا، فإنا لم نعلم بذلك، فكيف نرضى به؟ و لا إثم علينا من هذه الجهة. و هذه حجة قوية على المشركين في الدنيا، فإنهم يعبدون ما لا يعلم شيئا من عبادتهم، و هل يصلح للعبادة ما هذا شأنه؟! [31] هُنالِكَ في ذلك الموقف الرهيب موقف الحشر تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ أي تختبر كل نفس أعمالها التي أسلفتها و قدمتها، فإن الإنسان في الدنيا لم يختبر أعماله، و لا يعلم الصالح و الفاسد منها إلا قليلا، إلّا إذا كان متّبعا للأنبياء فيعرف قيمة الأعمال، فمثلا لا يعلم الإنسان في الدنيا قيمة الصدقة، إذ لم يختبرها حتى يعرف ما الثمار الكثيرة المترتبة عليها، كما لا يعرف مقدار ضرر الشرك و ما أشبه وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ أي ارجعوا إليه، إلى ثوابه و عقابه، و حسابه و جزائه وَ ضَلَّ عَنْهُمْ أي ضاع و بطل عن نصرتهم و شفاعتهم و إنقاذهم ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي الأصنام و المعبودات الباطلة التي كانوا يفترون على الله سبحانه بكونها شركاء له.

[32] ثم يستدل سبحانه على كونه الحق و أن سواه باطل بما يشاهدونه في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 517

حياتهم اليومية قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: مَنْ يَرْزُقُكُمْ

و يعطي أرزاقكم مِنَ السَّماءِ بإنزال المطر وَ الْأَرْضِ بإخراج النبات، و هكذا يشمل الرزق طيور السماء و أسماك الماء و حيوانات الصحراء، أو هو أعم من ذلك و من سائر الأشياء التي يستفاد منها كالدور و القصور، و المراكب و الملابس، و غيرها أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ فإن من وهبهما و أبقاهما ليس إلا الله سبحانه، و هو القادر على أن يسلبهما وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالنباتات من الأرض، و الإنسان و الحيوان من المأكولات الميتة، أو ما أشبه ذلك وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ كالثمار و الحبوب من النباتات، و الجنين الميت من المرأة الحية، أو ما أشبه ذلك وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر السماء و الأرض بانتظام الحركات و تسيير الأجهزة، على وجه الحكمة و الصلاح.

فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ يفعل كل ذلك، فإنهم بصفتهم مشركون كانوا معترفين بالله، حيث لم تكن الأصنام و ما أشبهها تقدر على هذه الأشياء الكبيرة، فلا بد و أن يعترفوا بأنها من الله سبحانه وحده، لا شريك له في ذلك كله فَقُلْ يا رسول الله لهم: أَ فَلا تَتَّقُونَ في جعلكم الشريك له بغير علم، أ فلا تخافون عقابه و عذابه في شرككم بلا حجة و لا برهان؟.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 518

[سورة يونس (10): الآيات 32 الى 34]

فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)

[33] فَذلِكُمُ أي ذاك الموصوف بتلك الصفات- أيها المخاطبون- فإن «كم» للخطاب اللَّهُ رَبُّكُمُ و إلهكم

الْحَقُ الذي خلقكم و رزقكم و لا يستحق العبادة أحد سواه فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ استفهام تقريري، أي ليس وراء الحق إلا باطل، فالله الحق، و دونه باطل فَأَنَّى إلى أين تُصْرَفُونَ يصرفكم الشيطان و الأهواء، فتعدلون عن الحق و هو الإله الواحد إلى الآلهة المتعددة.

[34] كَذلِكَ الذي تقدم من قيام الأدلة عند هؤلاء المشركين على التوحيد، و مع ذلك لا يقبلون النتيجة و يجعلون مع الله شركاء حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ثبتت، و وجبت كلمة الله و حكمه و العلم الأزلي عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا و خرجوا عن طاعة الله الواحد إلى طاعة الأنداد و عبادة الأصنام أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ هذا بدل من «كلمة ربك» أي أن الله سبحانه علم من الأزل أن هؤلاء لا يؤمنون، و لم يكن ذلك لأنه لم تتم الحجة عليهم، بل لأنهم فسقوا، و خرجوا من توحيد الله إلى الشرك.

[35] ثم ذكر سبحانه حججا أخرى على التوحيد و نفي الشريك قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ أي الذين جعلتموهم شركاء لله، فإنهم لما كانوا مختلقين، كانت نسبتهم إلى مخترعيهم أولى من نسبتهم إلى الله سبحانه، فلم يقل تعالى «شركائي»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 519

[سورة يونس (10): آية 35]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)

مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالإيجاد ثُمَّ يُعِيدُهُ فانيا كما كان، أو يعيده بعد الموت إلى الحياة. و حيث لا يحير هؤلاء جوابا، إذ لا تفعل شركاؤهم ذلك، و يفحمون بهذا الاحتجاج قُلْ يا رسول الله في الجواب:

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ

ثُمَّ يُعِيدُهُ إن ذلك خاص به لا يتمكن أحد من هذا العمل سواه فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي إلى أين تصرفون عن الحق؟ من «أفك» بمعنى: انقلب و انصرف عن الحق.

[36] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المشركين: هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الأصنام التي جعلتموها شركاء كذبا و زورا مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ أي إلى الرشد و الصلاح كي يتنعم عبّادها بما فيه خيرهم و سعادتهم، و حيث أنهم لا يتمكنون من الإجابة بالإثبات، و إلا طولبوا بالدليل. و لا يخفى أن هذا الاحتجاج كان مع عبّاد الأصنام، لا مع عبّاد المسيح عليه السّلام و نحوهم قُلْ يا رسول الله في الجواب: اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ فإنه هو الذي أنزل الشرائع و أرسل الرسل لهداية الناس من الظلمات إلى النور، و تعليم طرق الصلاح و الرشاد و السعادة.

ثم يتوجه هنا سؤال يدخل فيه جميع الآلهة حتى عيسى عليه السّلام في زعم عبّاده أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ و يرشد إلى الطريق السوي، و هو الله سبحانه أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ و يأخذ الإنسان بأوامره و نواهيه أَمَّنْ لا يَهِدِّي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 520

[سورة يونس (10): آية 36]

وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)

أصله «يهتدي» من باب «الانفعال»، قلبت «التاء» «دالا» و أسقطت همزة الوصل من أوله، لنقل حركة التاء إلى الهاء، فصار «هدّى» «يهدّي» و المعنى: هل الله أحق بالاتباع أم من لا يهتدي إِلَّا أَنْ يُهْدى فمن يحتاج إلى الاهتداء لا يصلح أن يتخذ ربا، فالمسيح عليه السّلام و إن كان نبيا عظيما إلّا أنه ينطبق عليه هذا الوصف، إذ لا يهتدي إلا بهداية الله

سبحانه. أما الأصنام فهي أبعد، إذ أنها جمادات لا تهتدي حتى إذا أرادوا هدايتها.

و كأن القرآن جرى في هذا الاحتجاج مجرى المسلّم من خصمه ببعض مقدماته ليرد عليه حتى على ذلك الفرض، و المشركون كانوا قد فرضوا عقلا للأصنام و أنها تشعر فَما لَكُمْ أيها المشركون، و المعنى: ما هو سبب قولكم بغير الحق، و أنتم تعلمون كَيْفَ تَحْكُمُونَ بأن هذه الأصنام آلهة بعد ما قامت الحجة على بطلانها.

[37] وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي أن أكثر هؤلاء المشركين إنما يتبعون الظنون في اعتقادهم بألوهية الأصنام، فإنهم لا يتيقنون بذلك جزما، إنما رأوا آباءهم عبدوها، فظنوا بصحتها تقليدا، و الحال إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً فإن الظن ترجيح أحد الطرفين، و هذا ليس بواقع و لا معذّر، أما أنه ليس بواقع، فلأن الواقع لا يتبع أداء الأشخاص، و أما أنه ليس بمعذّر فلأن العقلاء الملتفتين لا يعتمدون عليه في الأمور المهمة، و هذا بخلاف القطع فإنه إن حصل من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 521

[سورة يونس (10): آية 37]

وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37)

مقدمات صحيحة كان مطابقا للواقع و معذّرا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ فيجازيهم بأعمالهم الباطلة التابعة لظنون تقليدية واهية.

[38] ثم ينتقل السياق إلى الكلام حول القرآن الذي كان معجزة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الدليل على صدقه و صحة كلامه، و يستعرض مناقشاتهم حوله و الجواب عنها وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى أي يكون مفترى مِنْ دُونِ نزول من عند اللَّهِ سبحانه،

فلا يتمكن أحد أن يفتري قرآنا و ينسبه إلى الله سبحانه، فإن الكلام المفترى ليس كالقرآن، لأن له أسلوبا خاصا معجزا، و أنظمة و تشريعات لا يتمكن البشر من الإتيان بمثلها. بالإضافة إلى أن أحدا لو افترى على الله و جاء بمعجز، كان حتما من الحكمة أن يكذبه الله سبحانه، و إلا كان إغراء بالجهل، و ذلك قبيح على الله سبحانه. و قد دل التاريخ أن كل كاذب جاء بشي ء ظاهره معجز- سحرا- لم يلبث أن انكشف سره و ظهر كذبه.

وَ لكِنْ هو كتاب سماوي من عنده تعالى، و كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي مصدقا للكتب السابقة التي جاء بها الأنبياء عليهم السّلام فهؤلاء المعارضون له غير مرتبطين بشرائع الله، فهم بمعزل عن الدين إطلاقا وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ أي أن القرآن تفصيل للذي كتبه سبحانه على البشر من الأحكام و الشرائع، كما قال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) «1»،

______________________________

(1) البقرة: 184.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 522

[سورة يونس (10): آية 38]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38)

لا رَيْبَ فِيهِ أي ليس في القرآن مجالا للريب، إذ حججه ساطعة و أدلته واضحة، فمن ارتاب فيه فقد ارتاب ارتيابا في غير موضعه، كمن يرتاب في النهار مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ بدليل أنه معجز لا يقدر أحد من البشر من الإتيان بمثله.

[39] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي أن الكفار بعد هذه الحجج يقولون أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم افترى القرآن، و نسبه إلى الله من دون أن يكون منه، و «أم» هنا بمعنى «بل» الإضرابية، و فيه استفهام إنكاري قُلْ يا رسول الله لهم: فَأْتُوا

بِسُورَةٍ مِثْلِهِ أي مثل القرآن في البلاغة و الإعجاز، فإن إعجاز القرآن من نواحي متعددة منها بلاغته الخارقة.

و قد تحدّى القرآن بلغاء العالم بأن يأتوا بسورة واحدة مثل سور القرآن و لو كأقصر سورة نحو (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ* اللَّهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ* وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) «1» لكنهم لم يتمكنوا. و قد كان تحدّي القرآن متدرجا، فتحدّاهم أولا أن يأتوا بمثل تمام القرآن، ثم بمثل عشر سور، ثم بمثل سورة، لكنهم لم يقدروا على أي منها، و ذلك دليل أنه معجز، إذ لو لم يكن معجز لقدر البشر على الإتيان بمثله، لأن مواده و هي الألفاظ و الكلمات بل و الجمل كانت تحت قدرتهم.

وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ دعوته من الجن و الإنس مِنْ دُونِ اللَّهِ

______________________________

(1) الإخلاص: 1- 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 523

[سورة يونس (10): آية 39]

بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)

أي غير الله سبحانه، ليشاركونكم و ليساندوكم في الإتيان بسورة واحدة مثل القرآن، أما الله فهو القادر على ذلك، فاللازم أن يكون الطلب من سواه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن القرآن من كلام البشر، و ليس من كلام الله سبحانه.

[40] ثم بيّن سبحانه أن تكذيب هؤلاء بدون دليل و برهان بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ كذبوا بالقرآن قبل أن يطّلعوا على كنه أمره و حقيقته، كالجاهل الذي يكذّب بالشي ء بدون أن يقلّب أوجه الرأي فيه. إنهم حيث لم يألفوا الأنبياء و المعاجز و كانوا جاهلين بذلك تمام الجهل كذبوا بمجرد السماع و الرؤية، بدون أن يتدبروا

في أنه لو كان كذبا مفترىّ لتمكنوا من الإتيان بمثله، فإن الحكيم دائما يفكر و يتدبر ثم يحكم و يظهر النتيجة، أما الجاهل فإنه يسرع في اتخاذ النتائج قبل التدبّر و التفكّر في المقدمات.

وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ أي لم يأتهم بعد ما يؤول إليه أمر الكتاب، أي بدون أن يعرفوا مآل الكتاب، و أنه كيف يكون و إلى ما ينتهي.

و هذا كقولك: «فلان يسرع بتكذيبي بدون أن يتدبر كلامي و أن يرى مصير هذا الكلام»، فإن كثيرا من الأشياء يعرف صدقها من كذبها من حال مصائرها، فإذا قال زيد: «سيجي ء الحاج إلى كربلاء»، كان اللازم أن لا يكذبه السامع إلا إذا جاء وقت إخباره و لم يظهر منهم أثر، أما أن يكذب بدون أن ينتظر أوله و آخره، فهو خارج عن منطق العقلاء و المفكرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 524

[سورة يونس (10): الآيات 40 الى 41]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)

كَذلِكَ أي كتكذيب هؤلاء كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من أمم الأنبياء بدون أن يفهموا كلامهم و ينتظروا عواقب كلامهم، هل يصدق إخبارهم عن المستقبل أم لا فَانْظُرْ يا رسول الله كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ الذين كذبوا الأنبياء، فعاقبة هؤلاء كعاقبة أولئك، فإن مصيرهم إلى الهلاك و العذاب.

[41] و إذا كان غالب هؤلاء متّبعين للظن مكذّبين اعتباطا، فإن منهم من يؤمن أيضا، إذ الحق لا يخلو من أنصار وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن، بترك كفرهم و شركهم، و اتباع الحق وَ مِنْهُمْ مَنْ لا

يُؤْمِنُ بِهِ بل يبقى في غيّه و ضلاله، وَ رَبُّكَ يا رسول الله أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الذين يدومون على فسادهم، فإن الكافر مفسد مهما كان نزيها، فإن الكفر هو أعظم فساد في الأرض، لأنه خرق لمنهاج الله سبحانه.

[42] وَ إِنْ كَذَّبُوكَ يا رسول الله بعد إلزام الحجة، و إتمام الدليل فَقُلْ لهم: ليعمل كلّ طرف منّا حسب منهجه و معتقده، فإني لا أحمل تبعة أعمالكم، كما أنكم لا تنتفعون بعملي لِي عَمَلِي و سأرى جزاءه وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ و سترون جزاءه أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ أنا من الطاعة و العبادة وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ من المعاصي و الكفران.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 525

[سورة يونس (10): الآيات 42 الى 44]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

و هذا شبه وعيد لهم بأنهم وحدهم يلاقون جزاء أعمالهم الباطلة.

[43] وَ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ بآذانهم، لكنهم أغلقوا قلوبهم عن الانتفاع، فهم متّخذون مكان المتفرج و إنما يستمعون فقط بدون قصد التعلم و العمل أَ فَأَنْتَ يا رسول الله تُسْمِعُ الصُّمَ جمع «أصم» بمعنى: من فقد حاسة السمع، أي أنك لا تقدر على إسماع الحق لمن صمّت أذن قلبه وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ فإن الإنسان يقدر على إسماع من يريد الاتباع و التعقل، أما غيره فليس ينجح فيه كل كلام.

[44] وَ مِنْهُمْ أي من هؤلاء الكفار مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يا رسول الله، حين إلقائك الحجج و الأدلة، و الناظر

لا بد و أن يبصر الحق في المنظور إليه، فإن الحركات و السكنات تدل على ما في قلب المتكلم من الحرارة و الصدق، و لكنهم ينظرون للتفرّج لا لتفهّم الحق و تعلّم الواقع أَ فَأَنْتَ يا رسول الله تَهْدِي الْعُمْيَ جمع «أعمى»، فإنهم و الأعمى سواء، فكما لا ينتفع الأعمى ببصره كذلك لا ينتفع هؤلاء بما يرون من الحق وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ فإن الإنسان يقدر على إراءة البصير، أما الأعمى فإن الإنسان لا يقدر على إراءته الحق و إن اجتهد كل جهد.

[45] و أخيرا، إن كل ما يصيب هؤلاء إنما يصيبهم بسبب ظلمهم لأنفسهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 526

[سورة يونس (10): الآيات 45 الى 46]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46)

لأنهم لم ينتفعوا بكل ما أقيم لهم من الحجج إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً أي ظلما و لو يسيرا وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإعراضهم عن الحق بعد إتمام الحجة و وضوح المحجة.

[46] ثم بمناسبة عدالة الجزاء و كون ظلمهم لا يعود إلّا على أنفسهم يأتي السياق ليبيّن أنهم في الحشر يكونون في أسوأ حال و كأن دنياهم قد مرت كساعة، و قد بقيت التبعات الجسام عليهم وَ يكون حال هؤلاء الكفار يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يجمعهم الله سبحانه لموقف القيامة، كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أي لم يبقوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ فهم لا يرون إلّا بريقا من الدنيا، و كأن عمر الدنيا كان ساعة فقط، و هذا ليس

بغريب، فالإنسان يرى و هو في الدنيا ماضي عمره كساعة أو شبهها يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ هناك، أي يعرّف بعضهم لبعض قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ خسروا أنفسهم و أهليهم و أموالهم، و المراد من «لقاء الله» لقاء جزائه، تشبيها للمعقول بالمحسوس وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ للحق، فإن عدم اهتدائهم هنا سبب خسارتهم هناك.

[47] إن الكفار تكون عاقبتهم إلى خسارة، و قد وعد الله رسوله خزي الكفار و نصرة المسلمين عليهم، ثم بيّن أنه سواء رأى خزيهم أو مات قبل أن يرى ذلك، فإنه سبحانه لا بد و أن يجازيهم على سوء صنيعهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 527

[سورة يونس (10): الآيات 47 الى 48]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48)

و كفرهم، وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ يا رسول الله «إن» شرطية و «ما» زائدة للتجميل بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بأن تكون في الحياة، فترى بعض العقوبات التي ننزلها بالكفار كما وعدناهم بها أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ نقبض روحك قبل أن ترى عقوبتنا لهم فإنهم لا يفوتوننا، بل فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ أي رجوعهم فنريكه في الآخرة ثُمَ بعد رجوعهم لا يتمكنون أن يفروا من عقابه بالإنكار، فإن اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ فيجازيهم حسب أعمالهم التي شهدها.

[48] ثم بيّن القرآن الحكيم أن تعجّب هؤلاء الكفار من ادّعاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للرسالة ليس في محله، فإن الرسل قد أتت قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الأمم وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ «الأمة» الجماعة، أي: لكل جماعة رسول يؤدي إليهم رسالة الله سبحانه فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بيّن لهم

و أنذر و حذّر، فإذا لم يقبلوا استحقوا العقاب، على ما وعد سبحانه (وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) «1»، قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي حكم الله سبحانه بينهم بالعدل، فمن آمن أجزل له الأجر، و من لم يؤمن تمّت عليه الحجة و استحق العقاب وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقص من ثواب طاعاتهم و لا يزاد في عقاب سيئاتهم.

[49] قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعد المكذبين الهلاك و العقاب، فكانوا يستعجلون

______________________________

(1) الإسراء: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 528

[سورة يونس (10): آية 49]

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (49)

العقاب، على طريقة الاستهزاء وَ يَقُولُونَ أي يقول الكفار: مَتى هذَا الْوَعْدُ أي وعد عذاب الدنيا، و عقاب الآخرة إِنْ كُنْتُمْ أيها المؤمنون القائلون بعذاب الكفار في الدنيا و الآخرة صادِقِينَ فيما تقولونه.

[50] قُلْ يا رسول الله في جوابهم: إن أمر ضرري و نفعي ليس بيدي، فكيف بأمر ضرركم و نفعكم، إن ما نعدكم آت لكن وقته بيد الله سبحانه لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً فلو شاء الله أن يضرّني لم أملك ردّه، و لو أراد الله أن ينفعني لم أملك تغييره أو تعجيله، و لو أردت نفعا لنفسي و لم يردّه الله لم أقدر عليه. و هذا واضح فإن الرسول لا يقدر على أمر لا يريده الله سبحانه، و إنما يقدر على نفع نفسه و ضرها و نفع الناس أو ضرها بأمر الله و إرادته.

فالنفي هنا إضافي لا مطلق، حتى ينافي ما دلّ على النفع الذي كان من الرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو الضر الذي كان بسببه، كما استثنى ذلك بقوله تعالى: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يملكني أو يقدرني عليه، و إذ لم أقدر على نفع نفسي و ضرّها، كيف أقدر لكم على ذلك. أما موعد عقابكم و حشركم فاعلموا أنه لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ و مدة لا بد أن يقضوها حتى تنزل بهم العقوبة على تكذيبهم و عصيانهم إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ بأن سار إليهم فَلا يَسْتَأْخِرُونَ أجلهم أي لا يؤخرونه، بمعنى عدم قدرتهم على ذلك ساعَةً جزءا من الزمان وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ لا يقدّمونه عن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 529

[سورة يونس (10): الآيات 50 الى 51]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)

موعده و وقته، فإذا كان وقت هلاكهم يوم الجمعة و سار الأجل نحوهم من يوم الأربعاء، لا يتمكنون أن يؤخروه إلى يوم السبت و لا يتمكنون أن يجعلونه في يوم الخميس.

[51] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء المكذبين المستعجلين بالعذاب:

أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني، فإن «أ رأيت» تستعمل بمعنى: أخبرني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ أي عذاب الله بَياتاً أي ليلا أَوْ نَهاراً ما أنتم صانعون؟ فقد حذف جواب «إن» لدلالة الكلام عليه ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ أي من العذاب الْمُجْرِمُونَ «ما» مبتدأ و «ذا» بمعنى «الذي» خبره، و الجملة استئنافية، أي: ما الذي يستعجل المجرمون من العذاب، و الاستفهام معناه التهويل، كما نقول لمن يفعل شيئا عاقبته سيئة: «ما الذي تجني على نفسك؟» فمفاد الآية: أنكم تستعجلون شيئا مهولا مهلكا.

[52] أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ

«الهمزة» للاستفهام، و «ثم» للعطف، أي:

هل- بعد استعجالكم للعذاب- إذا وقع العذاب، في ذلك الحين تؤمنون به. فقد كانوا لا يؤمنون بالعذاب، و كانوا يستعجلونه على جهة الاستهزاء، و «ما» زائدة جاءت للتزيين، و قد ذكرنا سابقا أنه- غالبا- يأتي الكلام بصورة النفي، و يراد منه الإثبات ..

ثم كأن النفس انتقلت إلى جو وقع العذاب فيه- بعد ما كانت في الدنيا طرفا لخطاب الرسول- فيقال للمكذّبين حين يشاهدون العذاب و يريدون الإيمان للتخلّص منه آلْآنَ تؤمنون، على نحو الاستفهام

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 530

[سورة يونس (10): الآيات 52 الى 53]

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)

الإنكاري، أي أنه لا ينفعكم الإيمان الآن وَ الحال أنه قَدْ كُنْتُمْ بِهِ بالعذاب تَسْتَعْجِلُونَ فكنتم مكذبين له مستهزئين به، أي أن الإيمان الآن في حين رؤية العذاب غير نافع بعد تكذيبكم له سابقا، و نظيره (آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) «1».

[53] ثُمَ بعد وقوع العذاب عليهم، و عدم فائدة إيمانهم حين معاينة العذاب قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر و العصيان و استعجال العذاب استهزاء: ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ أي العذاب الخالد الدائم في الآخرة بعد عذاب الدنيا هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي لا تجزون إلّا بما كسبتم في الدنيا، فليس العذاب ظلما و إنما هو جزاء أعمالكم.

[54] إن المكذبين لم يكونوا على علم في تكذيبهم، بل كانوا مستبعدين للعذاب و سائر ما يخبر به النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لذا كانوا يسألون عن حقيقة الأمر وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ يستخبرونك و يطلبون

منك يا رسول الله أن تخبرهم أَ حَقٌّ هُوَ هل حق ما جئت به من الأحكام و الوعد و الوعيد و غيرهما؟ قُلْ يا رسول الله في جوابهم: إِي إنه حق وَ رَبِّي أي قسما بالله إِنَّهُ لَحَقٌ لا شك فيه وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ لا

______________________________

(1) يونس: 92.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 531

[سورة يونس (10): آية 54]

وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (54)

تتمكنون من أن تعجزوا الله سبحانه فلا يتمكن من إنفاذ أمره، أو على أن تعجزوه من تعذيبكم، فقد كان الكفار يظنون أنهم قادرون على إطفاء نور الله، و الفرار من عقابه.

[55] إن العذاب إذا جاء للمكذّب لا يتمكن من النجاة منه، لا بنحو تعجيزه سبحانه بالقوة، و لا بنحو الافتداء للخلاص منه، و هو من الهول بحيث إن الإنسان حاضر لإعطاء جميع ما في الأرض للخلاص، و لكن هيهات! وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالشرك و الكفر، أو بالعصيان و الطغيان ما فِي الْأَرْضِ من الثروة لَافْتَدَتْ بِهِ أعطت كل ما في الأرض فدية عن نفسها ليخلّصها من العذاب، فإن عذاب الله هائل إلى هذا الحد، حتى يستعد المجرم للتنازل عن جميع ما يملك- و لو كان كل ما في الأرض- لأجل أن لا يعذّب، و لكن ليس للإنسان جميع ما في الأرض، و لا ينفعه في الافتداء و الخلاص لو ملكه وَ أَسَرُّوا أسرّ المجرمون النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أنهم أخفوا ندمهم على ما فات منهم لما رأوا العذاب. و لعل سر إخفائهم لندمهم أن لا يشمت بهم.

و قد روي ذلك

عن الصادق عليه السّلام «1».

وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل فكان عقابهم بمقدار أعمالهم السيئة وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فيما يفعل بهم من العذاب لأنه

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 198.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 532

[سورة يونس (10): آية 55]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55)

بمقدار أعمالهم.

و لا يقال: كيف أن هذه الأعمال القليلة استحقوا بها العقاب الكثير و مع ذلك فهو عدل؟

لأنه يقال: إن العقاب ليس بقدر حجم الجرم و مدته، بل بقدر آثاره المعنوية، كما أن من يسبّ الملك يقتل، و من يزني يرجم، فإن الأعمال ليست بحجومها و إنما بقيمتها، كما نرى المهندس يعطى لساعة قضاها في رسم خريطة عشرة دنانير، بينما العامل لا يعطى ليوم كامل دينارا، و قد لاقى الحر و البرد. أما دوام العذاب فهو لنيّاتهم السيئة التي أظهروها و هم باقون عليها (وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) «1».

[56] إن الله سبحانه يتمكن من إنفاذ و عوده لأن له كل شي ء، كما أنه تعالى ينفذها لأن وعده لا خلف فيه، فلا يظن الإنسان أنه يعصي و المهدّد غير قادر، أو أنه لا يفي بوعده، فلا يعاقب أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو المالك المطلق لكل شي ء. و المراد هنا: الأعم من الظرف و المظروف، كما تقول: «تحت سلطة الملك ما في البلاد»، تريد البلاد و ما فيها. و حيث أن له كل شي ء فهو يقدر على إنفاذ وعده بالعقاب لمن كفر و تمرد أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ لا خلف فيه. نعم دلّ الدليل على أن قسما من

وعيده يمكن العفو عنه وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر

______________________________

(1) الأنعام: 29.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 533

[سورة يونس (10): الآيات 56 الى 57]

هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)

الناس أو أكثر المجرمين لا يَعْلَمُونَ فينكرون أن يكون كل شي ء لله سبحانه، أو أنه يفي بما وعد، كما كانوا يقولون: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) «1»، و إنما قال أكثرهم، لا جماعة من الناس- حتى من المجرمين- يعلمون كل ذلك.

[57] أما إذا قال بعض الناس: إنا إذا متنا بطل كل شي ء، و لا عقاب حين ذاك، فليعلموا أن الله سبحانه هُوَ يُحيِي الأموات وَ يُمِيتُ الأحياء، فبيده الحياة و الموت وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، أي إلى حسابه و جزائه، فلا يظنوا أن لهم فرارا من حكمه «و لا يمكن الفرار من حكومتك».

[58] و يعقب السياق على ما تقدم من الوعد و الوعيد نداء عاما إلى البشر يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لجميع البشر قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ «الموعظة» بيان ما يجب أن يرغب فيه، و ما يلزم أن يحذر عنه، و المراد بها الأحكام الإسلامية و ما نزل من قبله سبحانه من القرآن الكريم و سائر ما بيّنه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ فإن الصدور كانت مليئة بالخرافة في العقيدة، و بالأدران في الصفات، و بالهموم و الأحزان و القلق، و القرآن بما له من المناهج و الإرشادات يعوض مكان الخرافة حقائق، و مكان الرذالة فضيلة، و مكان الأحزان

______________________________

(1) البقرة: 81.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2،

ص: 534

[سورة يونس (10): آية 58]

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

و القلق، الفرح و الطمأنينة، فهو يشفي الصدور من أمراضها وَ هُدىً أي دلالة و هداية إلى الحق وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ما يسبب لهم أن يرحمهم الله بفضله.

[59] فبهذا الفضل الذي تفضّل به سبحانه على عباده و الذي يسبب لهم صلاح الدنيا و الآخرة يلزم أن يفرح الناس، لا بالمال و الجاه و الأهل، فإنها أمور ما لم يوضع لها منهاج صحيح كانت وبالا على الإنسان و موجبة للهموم و الأحزان قُلْ يا رسول الله للناس: بِفَضْلِ اللَّهِ الذي تفضّل عليهم بالهداية وَ بِرَحْمَتِهِ التي رحم بها عباده فَبِذلِكَ بكل واحد منهما فَلْيَفْرَحُوا فإنهما هما اللذان ينظّمان الحياة السعيدة، و ينتهيان بالإنسان إلى سعادة الآخرة. و كأن إتيان «الفاء» مكرّرة لنكتة بلاغية، هي لأجل أن يبقى في النفس مجال للتملّي من الفضل و الرحمة، و لذلك جي ء بقوله «فبذلك» أيضا، مع غناء الكلام عنه، و هو بدل من «بفضل الله» هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من الأهل و المال و الجاه، فإنها إلى نفاد و فناء و توجب الوبال إن لم يقترن بها فضل الله و رحمته.

و ما

ورد أن «فضل الله» هو الإمام المرتضى،

و كذلك في الآية السابقة من تفسير «هو» في «أحق هو» بالإمام عليه السّلام، فإن ذلك من باب المصداق الجلي، أو أحد المصاديق، كما هو كذلك في غالب الآيات المفسرة به و بآله الأطهار عليهم السّلام، و كان هذا و أشباهه من بطون القرآن السبعة أو السبعين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 535

[سورة يونس (10): آية 59]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ

مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)

[60] إن الله سبحانه تفضّل عليهم بكل شي ء، لكن الإنسان الجاهل جعل الكفر مكان الشكر، فبدّل الأوهام مكان الحقائق في العقيدة، كما جعل من رزق الله سبحانه الحلال حراما افتراء منه عليه سبحانه، بلا دليل و لا برهان قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار الذين يحكمون حسب أهوائهم: أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ حلال كله، و المراد ب «الإنزال» كونه من ناحيته سبحانه، فله العلو المنزليّ، فما يأتي منه كأنه ينزل من علو، تشبيها للمعقول بالمحسوس كما قال: (وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) «1»، و (اهْبِطُوا مِنْها) «2»، و (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ) «3»- على احتمال في بعضها- أو المراد بإنزاله: إنزال بعض أجزائه الذي هو المطر و الشعاع فلولاهما لم يكن رزق فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ أي من ذلك الرزق حَراماً وَ حَلالًا بينما كان كله حلالا، فقد كانوا يرمون السائبة و البحيرة و الحام و أقسام أخرى من المأكولات قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أصله «أألله» بهمزتين، همزة الاستفهام، و همزة «أل» الداخلة على «إله» ثم قلبت إحداهما و جعلت هكذا بالمد. قال ابن مالك: مدّا في الاستفهام أو يسهل.

أي: هل إن الله أذن لكم في تحريم بعض ما أنزل إليكم من الرزق أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ في أن تنسبوا إليه تحريم ما لم يحرمه افتراء و كذبا.

______________________________

(1) الحديد: 26.

(2) البقرة: 39.

(3) البقرة: 100.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 536

[سورة يونس (10): الآيات 60 الى 61]

وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ

وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)

[61] وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ كهؤلاء الذين افتروا عليه تحريم بعض الرزق يَوْمَ الْقِيامَةِ أي عند لقائه سبحانه؟ ما يظنون أن يفعل بهم؟ إنه تهديد لهم، فإن المفتري لا بد و أن تكون له عاقبة سيئة وقت الجزاء، و المعنى: أ يحسبون أنهم لا يجازون على افترائهم؟ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أحلّ لهم الأرزاق بعد أن منحهم إياها وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ فيحرّمون ما أحلّه افتراء عليه، عوض أن يشكروه حيث أنعم و حلّل.

[62] إنهم يفترون على الله الكذب في تحريمهم ما أحلّ الله سبحانه، و الله شاهد على كل عمل لا يعزب عنه مثقال ذرة، فهل يغني افتراؤهم عليه؟ وَ ما تَكُونُ أنت يا رسول الله فِي شَأْنٍ من شؤون الدنيا أو الآخرة، من عمل أو عبادة أو غيرهما- و الخطاب و إن كان للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إلا أنه ليس خاصا به بل عام لكل أحد- وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ أي من الشأن مِنْ قُرْآنٍ فإنه من تلك الشؤون التي هي للإنسان قسم هو شأن تلاوة القرآن، كما أن من تلك الشؤون شأن الصلاة، و شأن الكسب و غيرهما. و خصّت قراءة القرآن لأهميتها وَ لا تَعْمَلُونَ أيها البشر مِنْ عَمَلٍ صغيرا كان أو كبيرا إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً نشهده و نعلمه. و الإتيان بضمير الجمع للتعظيم،

فقد جرت

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 537

العادة أن الكبراء يتكلمون عن أنفسهم و عن أتباعهم إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ تدخلون في ذلك العمل و تبتدئون به، فشهادتنا مقترنة بأول كل أمر لا يفوت منا شي ء من أوله، و الإفاضة غالبا تستعمل فيما يكون العمل سريعا، و لكن النكتة في الإتيان بهذا اللفظ: أن الأعمال السريعة غالبا تفوت على الشاهد، لكن الله سبحانه لا يغيب عنه شي ء و لو كان العامل مسرعا في عمله.

وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي لا يغيب عنه مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ أي ما هو بثقل الذرة و هي الهباءة الصغيرة التي تسبح في الفضاء و ترى إذا دخلت أشعة الشمس المكان المظلم من كوّة و نحوها، و «من» زائدة تأتي لبيان التعميم المستفاد من «ما» النافية قبلها، سواء كانت تلك الذرة فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ.

و لعلّ ذكر «مثقال» لبيان أن الله كما يعلم نفس الذرة يعلم ثقلها، و هو أدق من العلم بأصلها كثيرا، فإن العلم بأصل الذرة يحصل للناس كثيرا، أما العلم بوزنها فلا يحصل للناس إلا نادرا جدا وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ من مثقال ذرة، أي: أيّ شي ء كان أصغر من الذرة، أو وزنه أقل من وزن الذرة وَ لا أَكْبَرَ من ذلك إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كتاب واضح لديه سبحانه، فإن علم كل ذلك في كتاب كتبه قبل أن يخلق الخلق، و هو اللوح المحفوظ أو غيره، و قوله: «لا أصغر» استئناف، خبره «إلّا في كتاب مبين».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 538

[سورة يونس (10): الآيات 62 الى 63]

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ

(63)

[63] إن هذه الدقة في الحساب و العلم توجب دهشة الإنسان و خوفه الشديد من القيامة و لقاء الله سبحانه، لكن القرآن الحكيم يدرك هذا الأمر بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين هم أحباؤه، يأتمرون بأوامره و ينتهون عن زواجره لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ يوم القيامة من العقاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و الفرق بين الخوف و الحزن: أن الأول بالنسبة إلى الأمر المترقّب المحتمل صعوبته، و الثاني بالنسبة إلى المتقين، صعوبة الأمر، سواء كان ماضيا أو مستقبلا، يقال: «إني على فقد ابني الذي فقدته لمحزون»، و لا يقال: «لخائف»، و هكذا لا يقال «إني لمحزون» من احتمال فقده، و يقال: «إني لخائف منه». أما بالنسبة إلى المتقين في المستقبل، فإنه يستعمل الخوف و الحزن معا بمعنى واحد، فمن علم أنه سيدركه مخوف يقول: «إني خائف محزون»، قال يعقوب عليه السّلام: (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) «1».

ثم إن المحتمل أن يكون المراد من جملة: «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» إنشائية، بأن تكون نهيا عن الخوف و الحزن.

و يحتمل أن تكون إخبارية، أي: أنهم لا يخافون و لا يحزنون، إما في الآخرة، أو الأعم. و عدم خوفهم و حزنهم في الدنيا إضافي، يعني أن الخوف و الحزن الناشئين عن المعصية لا يكونان بالنسبة إليهم، و إن كان هناك لهم خوف و حزن من نوع آخر.

[64] ثم بيّن سبحانه ذلك بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا بأن صحّت عقيدتهم

______________________________

(1) يوسف: 14.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 539

[سورة يونس (10): الآيات 64 الى 65]

لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ

إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)

وَ كانُوا يَتَّقُونَ المعاصي فصحّت أعمالهم.

[65] لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإن مثل هذا الإنسان مطمئن القلب هادئ البال بينما يقلق العاصي و الكافر وَ فِي الْآخِرَةِ فإنه يبشر بنجاة النعيم و رضوان من الله. هذا بالإضافة إلى أن المؤمن المتقي لا تهمّه الكوارث و النوائب حيث يطمئن بثواب الله و الجزاء، فهو دائم البشارة و إن حزن قلبه و دمعت عيناه، كمن رضّ بعض جسمه و أعطى بدله عشرة آلاف دينار، فإنه و إن تألم لكنه مستبشر بالجزاء. و هكذا المتقون في الدنيا، و من مصاديق البشارة في الدنيا، ما يبشّرهم به الملائكة عند موتهم- كما ورد في الأحاديث-.

لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فإن ما قرّره سبحانه من الجزاء و الثواب للمتقين لا خلف فيه و لا تبديل ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الذي لا فوز فوقه، و الفلاح الذي لا فلاح مثله، بشارة في الحياة الدنيا و في الآخرة، و اطمئنان و هدوء فيهما، و هل فوق ذلك نجاح أو فوز؟

[66] وَ حيث أن أولياءه لا يحزنون ف لا يَحْزُنْكَ يا رسول الله قَوْلُهُمْ أي قول الكفار فيك و إيذائهم لك، و إيقاعهم في المؤمنين بك إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً فيمنعهم منك بعزّته، و يعزّك و ينصرك عليهم هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بأعمالهم، فيجازيهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 540

[سورة يونس (10): آية 66]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)

عليها، و ينقذك منهم.

[67] و كيف لا تكون العزة لله جميعا و الحال أن جميع الأشياء

مما يعقل و ما لا يعقل لله لا شريك له أَلا فلينتبه الإنسان إِنَّ لِلَّهِ ملكه و طوع إرادته مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من ملك و أنس و جن، و إذا كان العقلاء له، فغيرهم من غير العاقل أولى بأن يكون ملكا له و خصّ العقلاء بالذكر بلفظ «من» دلالة على العظمة، فإن من يملك العقلاء، له العزة التي لا عزّة فوقها. وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي أنه سبحانه يملك آلهة هؤلاء المشركين فهو عطف على «من» و جي ء ب «ما» لأن غالب الآلهة هي أصنام لا تعقل و لا تدرك.

و هنا احتمالان آخران:

الأول: أن يكون المعنى: أن ما يعبده هؤلاء من دون الله ليس شركاء لله، فإنها ليست آلهة حتى تكون شركاء حقيقيون و إن سموها شركاء.

الثاني: أن يكون المعنى: أي شي ء يتبع هؤلاء شركاء؟ تقبيحا لفعلهم.

ف «ما» على الأول موصولة، و على الثاني نافية. و على الثالث استفهامية.

ثم بيّن سبحانه أن عبّاد هذه الأصنام ليسوا على يقين في كونها

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 541

[سورة يونس (10): الآيات 67 الى 68]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68)

آلهة إِنْ يَتَّبِعُونَ أي ما يتبع هؤلاء المشركين إِلَّا الظَّنَ الحاصل لهم بالتقليد و العادة وَ إِنْ هُمْ أي ما هم إِلَّا يَخْرُصُونَ يحدسون حدسا بلا علم و لا يقين.

[68] إن الله سبحانه هو مالك من في السماوات و من في

الأرض، و مالك الأصنام، كما أنه هو الذي جعل الأنظمة الكونية، التي لا تزال تتكرّر على الناس كل يوم، بكل جمال و إتقان هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ أي لسكونكم عن أتعاب النهار وَ النَّهارَ مُبْصِراً أي جعل النهار مضيئا تهتدون بسببه إلى حوائجكم إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل لَآياتٍ حجج لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهّم و تعقّل، أما من لا يسمع و لا يصغي إلى الحق، فإن تلك الآيات لا تفيده.

[69] و حيث بيّن سبحانه عقيدة المشركين و زيف عقيدتهم و بيّن الأدلة على بطلانها، عطف الكلام حول عقيدة أخرى غزت الأدمغة كثيرا، و هي عقيدة اليهود و النصارى و بعض آخر، من أن الله له ولد قالُوا قال الكفار: اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً قال أهل الكتاب بأن عزير و المسيح أبناء الله، و قال الكفار بأن الملائكة بنات الله سُبْحانَهُ أسبّحه تسبيحا، و أنزّهه تنزيها من هذه الكذبة هُوَ الْغَنِيُ فلا حاجة له إلى اتخاذ الولد، و لو على نحو التبنّي لَهُ تعالى ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 542

[سورة يونس (10): الآيات 69 الى 70]

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

الْأَرْضِ فمن يملك كل شي ء لا يمكن أن يكون له ولد، إن الولد جزء الوالد فلا يكون مملوكا له إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ما عندكم دليل يدل على هذا الاعتقاد و أنه سبحانه اتخذ الولد أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فتنسبون إليه أمرا بدون علم و يقين، فإنهم لم يكونوا على علم بأن له ولدا. و

هذا استفهام توبيخي.

[70] قُلْ يا رسول الله لهؤلاء: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بأن ينسبون إليه أنه اتخذ شريكا أو اتخذ ولدا لا يُفْلِحُونَ أي لا يفوزون بالنجاة و السعادة لا في الدنيا و لا في الآخرة، و قال في آية أخرى:

(وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً) «1».

و قد دل التاريخ على صحة ذلك الإخبار، فقد وقعت في العالم المسيحي و العالم اليهودي على طول الخط مجازر مدهشة، فهم من عصر ظلامهم إلى عصر نورهم- هذا القرن- في حروب طاحنة عجيبة لا تبقي و لا تذر، و ألوف القصص شاهدة على ذلك، منها ما ذكره «سلامة موسى» في كتابه «حرية الفكر»: أن حربا وقعت بين قسمي المسيحيين- الكاثوليك و البروتستانت- و ذهب ضحيتها أربعة عشر مليون من البشر، في ألمانيا وحدها.

[71] لهم مَتاعٌ قليل فِي الدُّنْيا يتمتعون أياما قلائل ثُمَّ إِلَيْنا

______________________________

(1) الكهف: 5.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 543

[سورة يونس (10): آية 71]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71)

مَرْجِعُهُمْ رجوعهم، أي إلى حكمنا و جزائنا يكون مصيرهم ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ الدائم بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم.

[72] لقد سبقت الإشارة في هذه السورة إلى الأمم السابقة و أنهم لما كذبوا الرسل ذاقوا و بال أمرهم (وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) «1»، و سبقت الإشارة إلى أن لكل أمة رسول (وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ) «2».

و هنا يأتي البيان ليبين بعض تلك القصص اعتبارا و تذكرة وَ اتْلُ أي قص يا رسول الله عَلَيْهِمْ على هؤلاء الكفار نَبَأَ نُوحٍ أي خبر نوح النبي عليه السّلام إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ شقّ و صعب عليكم مَقامِي إقامتي بين أظهركم فاستثقلتموني وَ تَذْكِيرِي وعظي و تبييني لكم بِآياتِ اللَّهِ حججه و دلائله الدالة على وجوده و صفاته و سائر ما يرتبط به من النبوة و المعاد فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ في زجركم و ما تنوون إيقاعه علي، فإني متوكل على الله في جميع أحوالي، و أتوكل عليه في هذه الخصوصية أيضا.

فلا يقال: مفهوم الشرط: عدم توكلّه في صورة عدم الشرط؟

______________________________

(1) يونس: 14.

(2) يونس: 48.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 544

[سورة يونس (10): آية 72]

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)

الجواب: إن القضية سالبة حينئذ بانتفاء الموضوع. أي أنه إن لم يكبر مقام نوح عندهم لم يكن خوف منهم حتى يتوكل عليه السّلام، على الله سبحانه للتوقي من خوفهم.

فَأَجْمِعُوا أيها الكفار أَمْرَكُمْ حولي وَ شُرَكاءَكُمْ أي تعاونوا مع الذين اتخذتموهم شركاء لله سبحانه، و اعزموا على أمر واحد ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ لإيذائي عَلَيْكُمْ غُمَّةً غمّا و حزنا، بأن تتردّدوا فيه، و يكون لكم وجه الخلاص مني ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ انهضوا لتنفذوا تدبيركم علي وَ لا تُنْظِرُونِ لا تمهلونني حتى أفكر، و حتى أجمع قراري لمقابلتكم.

قال نوح عليه السّلام هذا لهم على وجه التحدّي و بيان أنهم لا يتمكنون من القضاء عليه و إن جمعوا كل قواهم و تشاوروا فيما بينهم و اتحدت كلمتهم و أسرعوا في تنفيذ كيدهم

نحوه، فإنه مستعصم بالله و مستنصر به، و جميع القوى لا تتمكن أن توصل إليه سوء. و هذا أدل دليل على وجوده سبحانه، و إلا لتمكن أولئك الكفرة من القضاء عليه. و هذا كما تقول أقوى الدول لأضعف الحكومات: «افعلوا ما شئتم و اجمعوا أمركم و أسرعوا في تنفيذ خططكم فإنكم لا تتمكنون من شي ء».

[73] فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن الحجج و الآيات و لم تقبلوا نصحي و تذكيري، فأنتم و شأنكم، إن تولّيكم لا ينقص أجري و ثوابي فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ حتى ينقص بإعراضكم، كالمعلم الذي إذا أعرض

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 545

[سورة يونس (10): الآيات 73 الى 74]

فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)

التلاميذ عنه نقص أجره. و الحاصل: إن أعرضتم عن قبول قولي لم يضرّني لأني لم أطمع في مالكم حتى يفوتني المال بتولّيكم عني، بل يعود ضرر تولّيكم عليكم إِنْ أَجْرِيَ أي: ما أجري إِلَّا عَلَى اللَّهِ سبحانه وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الذين يسلمون أمورهم إلى الله سبحانه، فإني ماض في رسالتي، مصمم على تبليغي، و إن توليتم و أعرضتم.

[74] فَكَذَّبُوهُ فكذّب أولئك الكفار نوحا عليه السّلام، و قالوا: أنت لست بنبي و أنكروا المبدأ و المعاد فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ من المؤمنين فِي الْفُلْكِ أي في السفينة وَ جَعَلْناهُمْ جعلنا نوحا عليه السّلام و المؤمنين معه خَلائِفَ خلفاء في الأرض بعد أولئك الكفار الذين أغرقوا وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ

كَذَّبُوا بِآياتِنا فقد أمطرت السماء و تفجّرت العيون حتى أخذ الماء كل ما في الأرض، و هناك هلك الكفار أجمع فَانْظُرْ يا رسول الله- و الخطاب لكل من يصح منه النظر- و المراد ب «النظر» العلم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ الذين أنذروا و لم ينفع فيهم الإنذار.

و قومك هؤلاء يا رسول الله مثل أولئك، إن كذبوا و أرادوا القضاء عليك نصرناك عليهم و أهلكناهم.

[75] ثُمَّ بَعَثْنا أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ بعد نوح عليه السّلام رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 546

[سورة يونس (10): آية 75]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)

كإبراهيم و هود و صالح و لوط و شعيب عليهم السّلام و غيرهم فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحة و الأدلة على المبدأ و المعاد و التكاليف فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ فقد كانت تلك الأقوام مثل أسلافهم لا يؤمنون بالحق الذي كذبت الأسلاف به، فإن المكذبين لهم طبيعة واحدة، و من قبيل موحّد، كما أن المؤمنين من قبيل واحد، و لذا صح نسبة ما للأسلاف إلى الأخلاف، كما نسب سبحانه ما صدر من أسلاف اليهود إلى أخلافهم الذين كانوا في زمن نبي الإسلام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ إن طبعنا على قلوب الذين يعتدون و يتجاوزون الحق، إنما هو بعد ما أغلقوا هم قلوبهم عن قبول الحق، و اعتدوا عن سنن الحق.

[76] ثُمَّ بَعَثْنا أي أرسلنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد أولئك الأمم و الرسل مُوسى وَ هارُونَ أخا موسى عليهما السّلام إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أشراف قومه أو كلّهم، فإن «الملأ» اسم للأشراف، لأنهم

يملئون القلوب هيبة، و الأنظار زينة و نظارة بِآياتِنا أي أرسلناهما مع أدلتنا الدالة على صدق دعواهما من المعجزات و الخوارق فَاسْتَكْبَرُوا عن الانقياد لها و الإيمان بها وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ قد أجرموا و ارتكبوا الآثام و المعاصي.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 547

[سورة يونس (10): الآيات 76 الى 78]

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78)

[77] فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ جاء فرعون و قومه المطالب الحقة التي كانت مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا الذي جئتما به من الخوارق و المعجزات لَسِحْرٌ مُبِينٌ سحر واضح، لا حقيقة له و إنما هو شي ء يجعلنا نتخيل الأمور على غير واقعها.

[78] قالَ مُوسى عليه السّلام لهم: أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ سحر؟ و قد حذف محكي القول لدلالة الكلام عليه، و ذلك لنكتة أدبية هي أن تبقى النفس منتظرة فتذهب كل مذهب، تعظيما لتشنيع القائل، أو المراد من «أ تقولون»: أ تعيبون و تطعنون في الحق؟ أَ سِحْرٌ هذا هل هذا الذي جئت به من الخوارق سحر؟ و كم من فرق بين السحر و المعجز، فالسحر شي ء ضعيف له سبب خفي يتمكن أن يفعله أي واحد و لا يقترن بالتحدي، بعكس المعجز في كل ذلك وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ لا يظفرون بمرادهم تماما، فإنه تمويه و تزييف للمستضعفين، و لذا لم يوجد ساحر تمكّن من تكوين أمة و كانت له سيادة و رفعة.

[79] قالُوا أي قال فرعون و ملؤه لموسى

عليه السّلام: أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا على نحو الاستفهام الإنكاري، أي: هل جئتنا يا موسى لتصرفنا- من «لفت» بمعنى صرف- عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام و الملوك، و ترشدنا إلى عبادة الله؟ إن هذا لا يكون وَ تَكُونَ لَكُمَا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 548

[سورة يونس (10): الآيات 79 الى 81]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)

الْكِبْرِياءُ السيادة و السلطة. فإنهم قالوا: إن موسى و هارون إنما ساقهم إلى هذه الدعوة إرادتهما أن يكونا سيدين ملكين على الناس، فهما من طلاب العظمة و السلطة فِي الْأَرْضِ أرض مصر و ما حولها وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أي بمصدّقين في دعوى النبوة.

[80] وَ قالَ فِرْعَوْنُ لملئه: ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ بالسحر، بليغ في عمله، لأواجه موسى به، فإنه قد عجز عن دحض حجته، فأراد الاستعانة بالسحرة ليقابل موسى بالمثل فتبطل حجته عليه السّلام في زعمه.

[81] فجمعوا له السحرة من كل مكان و لما جاءَ السَّحَرَةُ جمع «ساحر» نحو: كهنة، و طلبة، جمع «كاهن» و «طالب». و جاء موسى عليه السّلام في محضر فرعون و الناس قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فإنهم كانوا يلقون حبالا و عصيّا من أيديهم على الأرض فيظهر للناس أنها حيّاة و أفاعي، و قد أرادوا بذلك بيان أن عصيّ موسى عليه السّلام أيضا من هذا القبيل، و إذا بطلت هذه المعجزة تمكنوا من الخدش في سائر المعجزات التي أتى بها، بأنها أيضا أقسام من السحر. و «ألقوا» ليس أمرا

بالسحر، بل بيانا لبطلانه.

[82] فَلَمَّا أَلْقَوْا ألقت السحرة ما معها من الحبال و العصيّ قالَ مُوسى عليه السّلام لهم: ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ «ما» مبتدأ و «السحر» خبره،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 549

[سورة يونس (10): آية 82]

وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)

يعني: إن الذي جئتم به هو السحر، و ليس السحر ما جئت به كما قلتم. إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ يظهر بطلانه للناس إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ فالله سبحانه لا يبقي على عمل يراد به إفساد الدين بطابع الإصلاح، و لا يمضيه، بل يبيّن بطلانه و يظهر زيفه.

[83] وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَ أي يظهر الله سبحانه الحق للناس و يحقّقه، حتى يرون أنه حق و أن ما عداه باطل بِكَلِماتِهِ التكوينية و هي «كن فيكون» وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أن يظهر الحق و يتبيّن زيف الباطل. و قد تحقّق ما قاله موسى عليه السّلام فألقى عصاه- و قد صارت ثعبانا عظيما- فأكلت كل تلك الحبال و العصي، و خرّ السحرة ساجدين، و بطل كيد فرعون، بل ظهر كون الحق مع موسى عليه السّلام و أنه نبيّ مرسل.

و هنا أمر لا بد من التنبيه عليه هو: أن القرآن إنما يأخذ موضع العبرة من القصة، و لذا نجده في كل مناسبة يذكر طرفا خاصا منها.

ففي مقام يذكر أول القصة، و في مقام وسطها أو آخرها، و في مقام يطرحها باختصار، و في مقام بتفصيل، حسب اختلاف المقامات. فإذا كان الحديث حول عاقبة المجرمين، ذكر غرق فرعون، و إن كان حول غلبة رسل الله بالحجة ذكر غلبة موسى في إلقاء عصاه، و إن كان حول العاقبة الحسنة للمؤمنين ذكر نجاة بني إسرائيل

من مصر. و غالبا يخصّ الموضع المراد من القصة بجمل قصيرة من سائر مواضعها تحفظا على الربط و السياق.

و قد أكثر سبحانه من القصص المرتبطة بالأمم الموحّدة الباقية،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 550

[سورة يونس (10): آية 83]

فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)

و الأمم المشركة و الملحدة الباقية، لتكون لهم عبرة، أما تفصيل قصص قوم لوط و شعيب و إلياس- مثلا- فليس من البلاغة، أما قصة موسى و عيسى فلا بد من تفصيلهما لأنهما صاحبا شريعة يتمسك الناس بها إلى يوم الوقت المعلوم، و هكذا بالنسبة إلى الاحتجاجات مع الملحدين و المشركين، فقد بقي أكثر أهل العالم ملحدين مشركين طول الخط حتى يوم الناس هذا.

[84] فَما آمَنَ لِمُوسى و لم يصدّق دعوته و ما جاء به إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أي جماعة من الشباب- لا الكهول و الكبراء- و الضمير في «قومه» إما راجع إلى «فرعون» أي من قوم فرعون، أو راجع إلى موسى عليه السّلام أي: من بني إسرائيل، فإنهم كانوا من أقرباء موسى عليه السّلام لأن الجميع كانوا من أولاد يعقوب عليه السّلام. و كان إيمانهم عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ فقد كانوا يخافون بطشه و نكاله، وَ مَلَائِهِمْ أشرافهم و كبرائهم، أن يؤذوهم و أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يعذبهم فرعون و يصرفهم عن دينهم وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ قاهر متكبّر و سلطان فِي الْأَرْضِ فيقدر على ما يريد من التنكيل و العقاب وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا و تجاوزوا الحد في الطغيان، فقد أسرف في القتل و الظلم، و ادّعى الربوبية.

و السر في

هذا أن الأنبياء دائما يأتون إلى الناس عزّل بلا سلاح و مال، و الملوك الذين هم ضدّهم مزوّدون بالأمرين، و الناس بحاجة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 551

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 599

[سورة يونس (10): الآيات 84 الى 85]

وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)

إلى المال، كما أنهم يخافون من القوة، لذا تجبرهم الطبيعة على عدم الاعتناء بالأنبياء و إن كان الغالب أنهم يصدقونهم قلبا، كما قال ذلك الشاعر للحسين عليه السّلام: «قلوبهم معك و سيوفهم مع بني أمية»، و قال تعالى: (وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) «1». و من ذلك نرى أن الملوك إذا قبلوا الدين دخل فيه أتباعهم.

أما سر أن الأنبياء عزّل هو أن يكون في الدين صعوبة ليكون المؤمن مستحقا للأجر و الثواب، و هذا هو سر فضيلة السابقين إلى الدين، لأنهم يلاقون من الصعوبة ما لا يلاقيه غيرهم.

[85] وَ قالَ مُوسى لقومه المؤمنين به: يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ إيمانا صادقا راسخا فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا فوّضوا أموركم إليه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ أي إن كنتم منقادين لله، فإن «الإسلام» هو الانقياد عملا، كما قال تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) «2»، فالإيمان هو الاعتقاد، و الإسلام هو التسليم، و بينهما عموم من وجه، فكم من معتقد لا يسلم، و كم من مسلم لا يعتقد.

[86] فَقالُوا أي قال قوم موسى: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا فوّضنا أمورنا إليه واثقين بنصرته لنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فنكون امتحانا

______________________________

(1) النمل: 15.

(2) الحجرات: 15.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص:

552

[سورة يونس (10): الآيات 86 الى 87]

وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)

للكفار، كما قال سبحانه: (وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) «1». فإن الكفار يمتحنون و يفتنون بالمؤمنين، و معنى دعائهم: أن لا يسلّط الكفار عليهم، حتى يبتلوا بهم، و يكون الكفار ممتحنين بسبب هؤلاء.

و قد روي عن الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام أنهما فسرا الآية بأن معناها: لا تسلّطهم علينا فتفتنهم بنا «2».

[87] وَ نَجِّنا خلّصنا بِرَحْمَتِكَ بفضلك مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي فرعون و ملأه.

[88] وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ هارون، لما قرب الأمر، و أردنا نجاتهم من أيدي فرعون و قومه أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً يقال: «تبوأ بيتا» أي اتخذ بيتا، من باب «باء» بمعنى «رجع»، فإن الإنسان يرجع إلى بيته كلما خرج، و لذا يسمى البيت «مبوأ». أي اجعلا لبني إسرائيل المؤمنين بكم في مدينة مصر بيوتا خاصة بهم وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً قال سعيد بن جبير إن معناه: اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أي أديموها و واظبوا على فعلها. و لعلّ هذين الأمرين باتخاذ البيوت بتلك الكيفية و إقامة الصلاة، أن الأول لجمعهم في محل واحد بعضهم قبال بعض فلا يكونوا منتشرين هنا و هناك،

______________________________

(1) الفرقان: 21.

(2) بحار الأنوار: ج 5 ص 216.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 553

[سورة يونس (10): آية 88]

وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا

الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88)

و ذلك التكتّل و التنظيم مهم جدا في جمع الأفراد بصبغة واحدة، و لنشر الأخبار، و تنفيذ الأوامر فيهم بسرعة. كما أن إقامة الصلاة و توثيق الصلات بالله سبحانه تولد فيهم طاقة روحية و نشاطا، و تزكّي نفوسهم استعدادا لمقاومة القوم و عدم تأثير دعايات الكفار فيهم. و من المعلوم أن تزكية الروح لها أكبر الأثر في الانتصار و الثبات وَ بَشِّرِ يا موسى الْمُؤْمِنِينَ بالله ربك، بأنه سوف يفرّج عنهم.

[89] وَ قالَ مُوسى مخاطبا لله سبحانه: رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ أي أعطيته و الأشراف من قومه زِينَةً يتزيّنون بها من الملابس و المراكب و المساكن و غيرها وَ أَمْوالًا يديرون بها شؤونهم و يتعاظمون بها على غيرهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فإنها توجب الإغراء في هذه الحياة بالنسبة الى الغير، كما توجب الكبرياء بالنسبة الى أصحابها. و كان ذكر هذه الجملة للتضرع إليه سبحانه ببيان كونهما صدا للدعوة هنا- في هذه الحياة- كما يقول الطالب شاكيا إلى مدير المدرسة: «إنك جعلت فلانا مراقبا في المدرسة، و هو فاسد» يريد بيان الضراعة في أن كونه في المدرسة يسبب الفساد.

رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ «اللام» للعاقبة، كما قال سبحانه:

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً) «1»، أي أن عاقبة إعطائك

______________________________

(1) القصص: 9.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 554

المال لهم إضلال الناس عن دينك و طريقك و شريعتك رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ «الطمس» محو الأثر، و هنا بمعنى «الضرب» و لذا عدّى ب «على» أي اضرب عليها و امحي أثرها، حتى لا تكون سدا في طريق الدعوة.

و هل كان دعاؤه عليه السّلام بمسخها كما ذكر جمع من المفسرين، أو ذهاب البركة و إفنائها

تدريجيا؟ احتمالان.

وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أبلغ بهم إلى غاية الشدة و القسوة التي يستحق بها العقاب، لانقطاع كل رجاء في إيمانهم، فإن الكافر لا يهلكه الله سبحانه إلا إذا انقطع كل رجاء- حسب الظاهر- عن قبول الحق، فكان هذا دعاء لسرعة إهلاكهم، بذكر السبب.

و من هذا القبيل دعاء الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام لزيادة شقوة ابن ملجم، فإنه دعاء بالخلاص من القوم بذكر السبب، و حيث أن الأمر كائن لا محالة، فالدعاء بتقديمه ليس خلافا لموازين الدعاء إذا كان فيه فائدة مهمة.

فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم الموجع، أي أنهم يلازمون عدم الإيمان إلى رؤية العذاب، و في ذلك الوقت لا ينفع الإيمان لأنه إيمان إلجاء لا إيمان عقيدة. و من المعلوم أن استحقاق العقاب و الثواب إنما هو بالعمل المنبعث عن العقيدة.

و ربما يحتمل أن المراد ب «اشدد» اتركها حتى تتشدد و تتصلب و لا تلطف بها ألطافك الخفية، فيكون كقوله (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 555

[سورة يونس (10): الآيات 89 الى 90]

قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)

فَما لَهُ مِنْ هادٍ) «1»، المراد به تركهم حتى يضلوا.

[90] قالَ الله سبحانه في جواب دعاء موسى و هارون عليهما السّلام: قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما في طمس أموال فرعون و قومه و التشديد على قلوبهم فَاسْتَقِيما في الإرشاد و التبليغ و الدعوة إلى الله سبحانه.

روي عن الصادق عليه السّلام: «أنه كان بين قول الله

عز و جل: «قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما» و بين أخذ فرعون، أربعين سنة» «2».

وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ في الضجر من طول المدة، و عدم الوثوق و الاطمئنان بوعد الله سبحانه، فإن لله في أحكامه مصالح لا يتضجّر منها إلا الجاهل و لا يستبطئ و عوده إلا المستعجل.

[91] و جاء الموعد و خرج بنو إسرائيل بقيادة موسى عليه السّلام و وصلوا إلى البحر و انفلق الماء عن طريق لهم و جاء فرعون بجنوده ليدركهم و يأخذهم و ينكّل بهم، و توسط قوم موسى البحر حتى دخل قوم فرعون و لما أن خرج موسى و قومه توسط البحر فرعون و قومه و إذا بالماء ينطبق عليهم و يغرقون جميعا وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ عبرنا بهم البحر حتى جاوزوه سالمين فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ أي مع جنوده بَغْياً وَ عَدْواً إنما اتّبعوهم ليبغوا عليهم حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ أدرك فرعون

______________________________

(1) الزمر: 24.

(2) تفسير العياشي: ج 2 ص 127.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 556

[سورة يونس (10): آية 91]

آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)

الْغَرَقُ أي وصل إليه الماء ليغرقه قالَ فرعون للتخلص من الغرق: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الإله الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ يعني الله سبحانه، فقد كان إلى ذلك الحين ينكره و يدعي الربوبية وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إني أسلم له. لكن إيمانه كان للتخلص و النجاة، بالإضافة إلى أن الإيمان لا ينفع إذا عاين الإنسان الموت كما قال سبحانه:

(وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) «1».

[92] و لما كان هذا الكلام قال له جبرائيل: آلْآنَ تؤمن على نحو الإنكار، فإن

هذا الإيمان عن إلجاء و اضطرار وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ ذلك بترك الإيمان و فعل المعاصي و الفساد في الأرض وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ في الأرض بظلم الناس و التعدي عليهم و إطفاء نور الأنبياء إلى غير ذلك.

روي عن الصادق عليه السّلام قال: «ما أتى جبرائيل رسول الله إلا كئيبا حزينا، و لم يزل كذلك منذ أهلك الله فرعون، فلما أمره الله بإنزال هذه الآية «وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ»، نزل عليه و هو ضاحك مستبشر، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أتيتني يا جبرائيل إلا و تبيّنت الحزن من وجهك حتى الساعة. قال: نعم يا محمد! لما أغرق

______________________________

(1) النساء: 19. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 557

[سورة يونس (10): آية 92]

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)

الله فرعون قال: «آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل و أنا من المسلمين» فأخذت حمأة فوضعتها في فيه، ثم قلت له: «ءآلآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين» و عملت ذاك من غير أمر الله عز و جل، ثم خفت أن تلحقه الرحمة من الله عز و جل و يعذبني الله على ما فعلت. فلما كان الآن و أمرني الله عز و جل أن أودي إليك ما قلته أنا لفرعون، أمنت و علمت أن ذلك كان لله تعالى رضى» «1».

[93] فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ إن الناس غالبا لا يصدقون بموت العظماء، فكيف بمن ادّعى الربوبية و كان الناس يعبدونه. و لذا لما أخبر موسى عليه السّلام أن فرعون أغرق، لم يصدقه الناس، و لذا اقتضت

حكمة الله سبحانه أن ينجي فرعون ببدنه، بأن ألقى بدنه الذي لا روح فيه على الساحل حتى رآه الناس. و لذا قال سبحانه «اليوم» أي يوم غرقك ننجيك يا فرعون ببدنك فقط، فلم يذهب مع الماء ليضيع جسمه، و لا أكلته الأسماك لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ من الناس آيَةً علامة على قدرة الله سبحانه، و أنه لم يكن فرعون إلها، فإن الإله لا يموت و لا يغرق. و الخطاب إما حقيقي بأن خوطب به فرعون و هو حي، أو موجه إلى الناس يراد به إعلامهم بمصير كل ظالم، فالخطاب من قبيل خطابات العقلاء لما لا يعقل، كقول الشاعر:

أيا شجر الخابور ما لك مورقاكأنك لم تجزع على ابن طريف

و قوله:

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 13 ص 117.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 558

[سورة يونس (10): آية 93]

وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

أيا جبلي نعمان بالله خليانسيم الصبا يخلص إليّ نسيمها

وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ غافلون عن التفكير في أدلتنا و دلائلنا.

[94] وَ لَقَدْ بَوَّأْنا مكّنا بَنِي إِسْرائِيلَ بعد نجاتهم من فرعون و قومه، و خروجهم من مصر مُبَوَّأَ صِدْقٍ مكان ثبات و أمن، فإن المكان المتزلزل الذي لا يستقر فيه الإنسان هو مبوأ كذب، إذ لا وجه له واقع، فهو يحكي عما لا يكون، إذ ظاهره الاستقرار و باطنه الانفلات و الانقلاب. فقد مكّنهم سبحانه من الشام و بيت المقدس وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ بعد ما كانوا في أرض مصر متزلزلي المنزل حيث يضطهدهم فرعون، و لم يكن لديهم ما يأكلون حتى

صفرت أيديهم من المال، لكن لم يبقوا على تلك الحالة، فإنهم لما طال عليهم الأمد اختلفوا، و لم يكن اختلافهم عن جهل فإنهم ما اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ و عرفوا كل شي ء، بل اختلفوا حسدا و استعلاء، كما هو شأن كل أمة، أنهم يتّحدون ما داموا قلة مضطهدين، فإذا كثروا و أمنوا و أثروا اختلفوا على المال و الجاه و ما أشبههما. إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فقد أحيلوا إلى المحكمة الكبرى حيث لم يرضخوا لأحكام الله في الدنيا و لا ترافعوا إلى أنبيائه ليبيّنوا لهم الحق من الباطل فِيما كانُوا فِيهِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 559

[سورة يونس (10): آية 94]

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94)

يَخْتَلِفُونَ من الأصول و الفروع. و قد روي أنهم انقسموا إلى إحدى و سبعين فرقة.

[95] و بعد تمام قصة موسى عليه السّلام و فرعون، يتوجه الخطاب إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعرف الذين يشكّون، أنهم في شكّهم على غير حق بعد إقامة الحجة، و كثيرا ما يوجه الخطاب إلى أحد ما، ليعرف غيره قصد المتكلم على نحو «إياك أعني و اسمعي يا جارة». و من المحتمل أن يكون الخطاب لكل من يلتفت إلى هذه القصة، كما ذكر علماء البلاغة أن الخطاب في قوله تعالى: (وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) «1»، متوجه إلى كل من يأتي منه الرؤية.

فَإِنْ كُنْتَ يا رسول الله، أو إن كنت أيها السامع. و هذا لا ينافي قوله «مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ» إذ يستعمل ذلك بالنسبة إلى كل من

أمر بتبليغه، كما قال سبحانه: (أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً) «2»، و (أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) «3»، باعتبار أن الغاية من الإنزال هم.

فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من العقائد الحقة و القصص السالفة فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فإنهم في واقع أمرهم يعترفون بكل ذلك و إن أنكره بعضهم عنادا و حسدا، فإن الكتب السالفة كانت تدل على كل تلكم الأصول و حقائق هذه القصص لَقَدْ جاءَكَ

______________________________

(1) السجدة: 13.

(2) الطلاق: 11.

(3) الأنبياء: 11.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 560

[سورة يونس (10): الآيات 95 الى 96]

وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96)

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يا رسول الله، أو أيها السامع، فإن القرآن و ما يشتمل عليه من الأصول و الأحكام و القصص كله حق لا مرية فيه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ «الامتراء» طلب الشك مع ظهور الدليل، و هو من «مرى الضرع» إذا مسحه ليدر، و لا معنى لمسحه بعد درّه الحليب.

و لا يخفى أن مثل هذا الكلام، إنما يفيد التلقين و الإيماء، فإن المطلب إذا ألقي على النفس قبلته. فلا يقال: ما فائدة هذا الكلام؟ إذ المخاطب إن كان شاكا لا يزول شكه بقولك: «لا تشك»، و إن لم يكن شاكا كان مثل هذا الكلام معه لغوا، كما أنه لا تنافي بين «فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ» و بين «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ» فإنها بمعنى: «إن كنت في شك فاسأل حتى يزول الشك و لا تبقى فيه إلى الأبد».

[96] وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ أي لا تكن في جملة المكذبين بأدلة الله و حججه التي أقامها على

توحيده و سائر صفاته و أحكامه فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا أنفسهم و أموالهم و أهليهم إذ هم صرفوها و اشتروا بذلك العذاب و النكال.

[97] و بعد وضوح الحجة و ظهور المحجة و قيام الأدلة على ما أنزل على الرسول فما هو سبب إصرار قوم على الكفر و التكذيب؟ إنهم حقت فيهم كلمة الله، فقد بيّن سبحانه سابقا أن من أعرض عن الحق بعد وضوحه لا بد و أن يقسو قلبه حتى أنه لو رأى كل آية لا يؤمن، فقد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 561

[سورة يونس (10): الآيات 97 الى 98]

وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)

أغلق قلبه و طبع عليه فلا يؤمن و إن رأى الحجج و الآيات إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أي ثبتت لا يُؤْمِنُونَ بالله و ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[98] وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ خارقة تدل على صدق الأنبياء في الدعوة إلى التوحيد و سائر الأمور الدينية حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ المؤلم الموجع، فهناك يتيقّنون بأنهم كانوا على ضلالة لكن إيمانهم حينذاك لا ينفعهم.

[99] إن سنة الله لا بد و أن تجري بالنسبة إلى المكذبين بإهلاكهم، و قد تقرّر أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، فهل هناك من خلاص من هذا العذاب و الهلاك؟ هنا يذكر سبحانه أن الخلاص ممكن و هو أن يسلك المكذبون- حتى و لو شاهدوا العذاب- مسلك المؤمنين فيؤمنوا و يرجعوا عن غيّهم فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها

إِيمانُها أي لماذا لم يؤمن أهل القرى التي أهلكناها، حين شاهدوا العذاب؟ و في «لو لا» معنى التأنيب نحو: «هلّا امتنعت عن النساء و قد دعيت إلى التعفف عنهن» إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ استثناء متصل فإن قوم يونس خارجون عن هذا التأنيب لَمَّا آمَنُوا بعد مشاهدة العذاب كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ أي رفعنا عنهم العذاب الموجب لخزيهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 562

[سورة يونس (10): آية 99]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)

أي في هذه الحياة القريبة فصرفنا عنهم العذاب وَ مَتَّعْناهُمْ أبقيناهم متنعمين بنعم الدنيا إِلى حِينٍ جاء أجلهم فماتوا بالآجال المكتوبة.

فقد ورد أنه ما رد الله العذاب إلا عن قوم يونس عليه السّلام فكان يدعوهم إلى الإسلام فأبوا ذلك، فهمّ أن يدعو عليهم، و كان فيهم رجلان عالم و عابد و كان اسم العالم «روبيل» و اسم العابد «تنوخا» و كان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم و كان العالم ينهاه و يقول: لا تدع فإن الله يستجيب لك و لا يحب هلاك عباده. فقبل يونس عليه السّلام قول العابد و لم يقبل قول العالم حين يئس منهم بعد ما دعاهم ثلاثا و ثلاثون سنة. فدعا عليهم، فأوحى الله إليه يخبره بأنه يأتيهم العذاب في سنة كذا في شهر كذا في يوم كذا، فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد و بقي العالم فيهم. فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب- بأن رأوا في اليوم الموعود ريح صفراء مظلمة مسرعة لها صرير و حفيف- فقال العالم لهم:

يا قوم أفزعوا إلى الله فلعله يرحمكم فيرد العذاب عنكم. فقالوا: كيف

نصنع؟ فقال: اخرجوا إلى المغارة و فرقوا بين النساء و الأولاد، و بين الإبل و أولادها، و بين البقر و أولادها، و بين الغنم و أولادها، ثم ابكوا.

و فعلوا ذلك و ضجّوا و بكوا، فرحمهم الله، و صرف عنهم العذاب، و فرق العذاب على الجبال و قد نزل و قرب منهم «1».

[100] وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ يا رسول الله لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من البشر كُلُّهُمْ جَمِيعاً بلا استثناء أحد. و لذا جي ء بتأكيدين، حتى لا يظن

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 317.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 563

[سورة يونس (10): آية 100]

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)

أن التأكيد الأول عرفي لا حقيقي، فإنه سبحانه قادر على أن يلجئ الناس إلى الإيمان، كما أنه قادر على أن يحف الإيمان بالمغريات التي ترغّب الناس في الإيمان تلقائيا بلا جبر، لكنه لم يشأ الأمرين، إذ تعدم فائدة الإيمان حينئذ لعدم حصول الاختبار بالإكراه و الإغراء أَ فَأَنْتَ يا رسول الله تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي لا ينبغي لك إكراه الناس على الإيمان، أو لا تقدر على ذلك، فإن الإيمان أمر قلبي لا يدخل تحت طوقك.

فإن قيل: فلما ذا يكره الإسلام الناس على ترك المنكرات و فعل الواجبات؟

قلنا: إن ذلك بالنسبة إلى من قبل الدين كمن قبل القانون الذي يجبر على تطبيقه عليه، أما من لم يقبل و هو مورد الآية فلا إكراه له.

فإن قيل: فكيف لا يقبل الإسلام من الكفار غير الكتابيين إلا الإسلام أو القتال؟

قلنا: إن ذلك إذا خرقوا العهود التي بينهم و بين المسلمين، و ذلك غير الإكراه الابتدائي.

[101] إن الله سبحانه

لم يكره الناس على الإيمان، و لكنه بيّن لهم الطريق، فإن أحدا لا يتمكن من الإيمان إلا بإذنه سبحانه، بأن يهديه الطريق، أما من هداه و أرشده ثم أعرض عنه و سلك طريقا آخر فالله سبحانه يجعل عليه الرجس الروحي، إذ تنغلق منافذ عقله، و تتردى نفسه في مهاوي الضلالة التي هي أبشع أنواع الرجس وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 564

[سورة يونس (10): آية 101]

قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101)

إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بأن يمكنها من الإيمان و يدعوها إليه و يرشدها إلى طريقه وَ يَجْعَلُ الله الرِّجْسَ الدنس الروحي الذي هو أسوأ أقسام الدنس، فإن القذارات الظاهرية تذهب بالغسل و نحوه، أما القذارة الروحية فلا تذهب بألف غسل و غسل عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي لا يعملون عقولهم للاستضاءة و الاستنارة.

[102] قُلِ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الآيات الدالة على توحيد الله سبحانه و صفاته، فإن في كل شي ء آية.

قال رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، و ما خلاهن فهو فضل» «1».

فالآية المحكمة: هي الآيات الكونية الدالة بإحكامها و إتقانها على التوحيد و سائر صفاته سبحانه من العلم و القدرة و الحياة و الإرادة، و أنه لا يفعل العبث .. و غيرها.

و الفريضة العادلة: هي الأخلاق التي هي فرائض بأن يسير البشر في عدلها و وسطها، فلا جبن و لا تهوّر بل شجاعة، و لا بخل و لا سرف بل جود، و لا

شره و لا تزهد بل عفة ... و هكذا.

و السنة القائمة: هي الأحكام الإسلامية التي هي سنن الحياة السعيدة و مناهجها القائمة إلى الأبد، لا تزول و لا تتغير.

______________________________

(1) عوالي اللآلي: ج 4 ص 79.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 565

[سورة يونس (10): الآيات 102 الى 103]

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ أي لا تفيد هذه الدلالات و البراهين الجلية، و لا يفيد الإنذار و الوعظ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ إذ أنهم أغلقوا قلوبهم و غمضوا أبصارهم. و إنما عدي ب «عن» لأنه أشرب معنى «الدفع»، أي لا تدفع الآيات و العضلات العذاب عن قوم لا يؤمنون، فقد كان السياق حول عذاب المكذبين و أنه سبحانه يجعل الرجس عليهم.

[103] فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ أي ينتظر هؤلاء الكفار الذين لا تفيدهم الآيات و النذر، و الاستفهام إنكاري إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ أي إلا العذاب و الهلاك، و المراد بأيامهم: وقائعهم المؤلمة، و معنى «خلوا» مضوا. و الحاصل أنهم إن لم يؤمنوا فلينتظروا العذاب كما نزل بقوم عاد و ثمود و غيرهم قُلْ يا رسول الله لهؤلاء الكفار:

فَانْتَظِرُوا مثل تلك الأيام بعد ما أعرضتم عن الإيمان إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فلننتظر جميعا حتى يأتيكم العذاب.

[104] ثُمَ عند نزول العذاب نُنَجِّي رُسُلَنا فلا يصيبهم مكروه وَ الَّذِينَ آمَنُوا من بين أولئك الكفار، فلا يحرق الرطب مع اليابس- كما اشتهر على ألسنة الناس- كَذلِكَ أي كما ننجي الرسل حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي نجاة المؤمنين لازم علينا في الحكمة.

تقريب القرآن إلى

الأذهان، ج 2، ص: 566

[سورة يونس (10): الآيات 104 الى 105]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105)

و يحتمل أن يكون «كذلك» للمؤخر- لا المقدم- أي نجاة المؤمنين الآن كنجاة المؤمنين سابقا.

[105] قُلْ يا رسول الله: يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب للناس بصورة عامة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي و طريقتي التي جئت بها، أ حق هي أم باطل؟ فلا تدرون ذلك، فإن شككم لا يزحزحني من عقيدتي و دعوتي، بل أبقى صامدا للدعوة فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ و لا يثنيني إلى عبادة تلك الآلهة كثرة عبّادها و شككم في ديني، كما هو الغالب في الأفراد الذين يدعون إلى طريقة فلا يجدون مؤيدين لها فيعدلون عنها وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فهو الذي يميتكم و تكون ناصيتكم في قبضته و مصيركم إليه. و هذا تهديد لهم، و تذكير بأن الموت بيد الله سبحانه و ليس للأصنام شي ء وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بالله و كتبه و رسله و شرائعه.

[106] و كأن المقام صار مقام مخاطبة الله لنبيه، و أن الشاكين حاضرين في محضر الرسول حين يتلقى الوحي، من باب الإلفات الذي هو نوع من البلاغة، و لذا قال: وَ أَنْ أَقِمْ يا رسول الله وَجْهَكَ و اتجاهك فإن «الوجه» لمّا كان المحل الذي يتوجه الناس به إلى غيرهم، أمر بإقامته، و عدم صرفه إلى هنا و هناك لِلدِّينِ أي طريقة الإسلام حَنِيفاً أي في حال كونك مائلا

عن سائر الأديان، أو مستقيما في

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 567

[سورة يونس (10): الآيات 106 الى 107]

وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

طريقتك و دعوتك وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يشركون بالله غيره، و كأن عطف «أن أقم» على تقدير: «قيل لي» أن أقم.

[107] وَ لا تَدْعُ يا رسول الله مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله سبحانه ما لا يَنْفَعُكَ إن أطعته وَ لا يَضُرُّكَ ضرر معتد به إن عصيته. و إنما قيدنا بذلك لأنه المفهوم، فإن الله سبحانه هو المستقل بالنفع و الضرر أما غيره من الآلهة المزعومة فمنها ما لا ينفع و لا يضر إطلاقا، كالأصنام، و منها ما لا ينفع و لا يضر إلا بإذن الله سبحانه، كفرعون و نمرود و غيرهما من الأصنام البشرية فَإِنْ فَعَلْتَ تلك العبادة و الدعوة لغير الله فَإِنَّكَ إِذاً في ذلك الحين مِنَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بإيجاب العذاب عليها و على سائر الناس فيما لو صاروا سببا للضلال و الغواية. و لا ينافي كون الخطاب متوجها إلى النبي مع مقام عصمته، لأنه تعليمي، بالإضافة إلى إمكان استحالة المقدم في الشرط، و إنما صدق الجملة بصدق الملازمة.

[108] الأصنام و الآلهة المزعومة لا تنفع و لا تضر، أما الله سبحانه فهو وحده المالك للنفع و الضرر و لكل شي ء، فمن اللازم أن يدعوه الإنسان وحده وَ إِنْ يَمْسَسْكَ يا رسول الله اللَّهُ بِضُرٍّ أي

إن أحلّ ضرا. و كأن الإتيان بلفظ «المس» لإفادة أن أقل مقدار من الضر الذي يمس الإنسان مسا، لا كاشف له سوى الله، فكيف بالمقدار الكبير منه؟ فَلا كاشِفَ لَهُ لا دافع له إِلَّا هُوَ إلا الله وحده، فهو القادر

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 568

[سورة يونس (10): آية 108]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)

على دفع الضر وَ إِنْ يُرِدْكَ من «أراد يريد» بِخَيْرٍ يقال: «يريدك بالخير» و «يريد بك الخير» بمعنى واحد فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ أي لا يقدر أحد على منعه.

قال بعض المفسرين: إن ذكر الإرادة مع الخير، و المس مع الضر، لتلازم بين الأمرين، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، و أن الضر إنما يمسّ البشر لا بالقصد الأول، و وضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنه متفضل بما يريد بهم من الخير لا استحقاقا لهم عليه، و لم يستثني لأن مراد الله لا يمكن رده «1».

يُصِيبُ بِهِ أي بالخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فيعطيه كما تقتضي حكمته البالغة وَ هُوَ الْغَفُورُ لذنوبهم الرَّحِيمُ بهم يرحمهم و يتفضل عليهم.

[109] و أخيرا جاء الحق إلى الناس، و الرسول مأمور بالتبليغ، و بعد ذلك كل امرئ و ما اختار قُلْ يا رسول الله للناس: يا أَيُّهَا النَّاسُ على نحو العموم قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ هو دين الإسلام المشتمل على كل شي ء مما يحتاجه الإنسان في مختلف مجالات الحياة مِنْ رَبِّكُمْ إلهكم الحقيقي و مربّيكم فَمَنِ اهْتَدى إلى الحق فَإِنَّما يَهْتَدِي

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 68 ص 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 569

[سورة يونس (10): آية

109]

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)

لِنَفْسِهِ فإن فائدة هدايته عائدة إليه وَ مَنْ ضَلَ عنه و عدل إلى سائر السبل فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي على نفسه، فإن ضرر الضلال يعود إلى الإنسان نفسه وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فلست أنا مسئولا عمن ضل بعد إراءته الطريق و إرشاده السبيل، فأنتم موكلون إلى أنفسكم و ليس عليّ إلا البلاغ.

[110] وَ اتَّبِعْ يا رسول الله ما يُوحى إِلَيْكَ من قبل الله سبحانه، بتنفيذ أوامره وَ اصْبِرْ على إيذاء الكافرين و المشركين حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بينك و بينهم بالغلبة و الثواب لك هنا، و العقاب لهم هناك وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ فإنه يحكم بالعدل، و لا يغمط أحدا حقه و يشهد كل شي ء فلا يزيغ به حكم، و لا يميل به باطل، فهو الحاكم بالعدل و الصواب.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 570

11 سورة هود مكية/ آياتها (124)

سميت السورة بهذا الاسم، لاشتمالها على قصة هود النبي عليه السّلام و حيث أن سورة يونس اختتمت باتباع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للوحي، ابتدأت هذه السورة بالوحي.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء باسم الله، فإن للاسم خواصا، و لذا نرى أن سماع اسم المحبوب يزيد الإنسان نشاطا، كما أن سماع اسم المكروه يزيد الإنسان انقباضا، بالإضافة إلى أن اسم الله يطرد الشياطين و يوجب عناية الله للذي ذكره، و تركيز لصفة الرحمة في نفوس الناس، إنه هو الرحمن الرحيم، فليتخلّق الإنسان بأخلاقه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 571

[سورة هود (11): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ

اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (2)

[2] الر رموز بين الله و الخلق، أو أن من جنس «أ، ل، ر» كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ فكل آية من آياته محكمة متينة ليست رخوة لا تلائم الواقع و الحياة، و تكون غير صالحة لكل زمان أو مكان، بل إنها كالأحجار الكريمة المستحكمة التي لا يدخلها نقص و رخاوة و تفكك، ثُمَّ فُصِّلَتْ كل آية قد وضعت موضعها المناسب لها، كما يفصل الكتاب إلى أبواب و فصول، فليس نظمها مهلهلا غير منظم، كالبناء المحكم ذي الأحجار و الأدوات القديمة و الذي ينظم و يفصّل تفصيلا منسجما صحيحا دقيقا، فالآية محكمة بذاتها، منظمة في مكانها.

و هو مِنْ لَدُنْ أي من عند إله حَكِيمٍ في أفعاله يضع الأشياء في مواضعها، فلا يفعل شيئا اعتباطا و عبثا و إنما بالحكمة و الصلاح خَبِيرٍ عليم بالأشياء، فإن الحكمة غير العلم، إذ ربما حكيم غير عالم، كما أنه ربما عالم غير حكيم.

[3] أَلَّا تَعْبُدُوا تقديره «لأن لا تعبدوا»، فهو متعلق ب «أحكمت» أي أنزل الكتاب المحكم المفصل لعلّة أن لا تعبدوا، فهو منصوب محلا، كما تقول: «كتبت إليك أن تتعلم» إِلَّا اللَّهَ فهو وحده المستحق للعبادة و الطاعة لا إله سواه إِنَّنِي لَكُمْ أيها الناس مِنْهُ من طرفه سبحانه نَذِيرٌ أنذر العاصين بالعقاب وَ بَشِيرٌ أبشر المطيعين بالثواب.

و كان ذكر الإنذار قبل التبشير، للزوم تطهير النفس عن الكفر و المعاصي أولا ثم تحليتها بالفضائل، قالوا: و لذا قدم النفي على الإثبات في «لا إله إلّا الله».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 572

[سورة هود (11): آية 3]

وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ

فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)

[4] وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا غفرانه فيما سلف من ذنوبكم ثُمَّ تُوبُوا ارجعوا إِلَيْهِ في أموركم، فإن الاستغفار و التوبة أمران، فإن الأول تطهير، يمكن أن يرجع الإنسان- بعده- إلى الله و يمكن أن يرتكس في الذنوب، و إن كان الغالب استعمال كل واحد منهما و يراد به الاثنان.

و الحاصل أن الإنسان يحتاج إلى تطهير ما سبق، و طهارة المستقبل، فالاستغفار وضع للأول، و التوبة للثاني، و إن استلزم كل واحد الآخر يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً فإنه إن استغفرتم و تبتم تفضّل عليكم بالمتاع الحسن من رزق و أثاث و رياش، و حسنه بجماله الذاتي و أن لا يكدّره قلق و مرض و ما أشبههما إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت مسمى عنده، و هو منتهى عمركم وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ فمن أوتي بالفضل عن الاستغفار و التوبة آتاه الله سبحانه فضلا و زيادة على المتاع الحسن، فالمطيع له المتاع الحسن و المطيع الذي يزيد في طاعته على أصل الواجب بالمندوبات و نحوها يعطى أزيد على قدر فضله وَ إِنْ تَوَلَّوْا أي تعرضوا و أصله «تتولوا» بحذف إحدى التاءين- على القاعدة- و «التولي» بعدم الإيمان أو عدم الاستغفار و التوبة فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة، الذي تعظم الأهوال فيه و تكبر، فإن كان التولي بالمعصية كان الخوف بمعناه، فإن العاصي يخاف عليه، لا إنه يقطع بعذابه، لاحتمال خلاصه بالعفو و الشفاعة، و إن كان التولي بالكفر كان لفظة «الخوف» من التواضع في الكلام لمن لا يعتقد.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 573

[سورة هود (11): الآيات 4 الى 5]

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ

هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)

[5] إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم، و معناه إلى حسابه و جزائه رجوعكم بعد الموت وَ هُوَ سبحانه عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ يقدر على إحياء الأموات، و محاسبتهم و جزائهم و قد اشتملت هذه الآيات على التوحيد و النبوة و المعاد، و تعديل السلوك في الحياة.

[6] و يواجه هذا الكتاب الحكيم و هذا الرسول البشير النذير جماعة من الناس بالإعراض بحني رؤوسهم و ثني صدورهم كما يفعل كل من يريد أن يخفي نفسه منك و لا يعتني بك و بكلامك أَلا فلينتبه السامع إِنَّهُمْ أي الكفار يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يطوونها و يدخلون بعض أجزائها في بعض كالمطرق الشديد الإطراق لِيَسْتَخْفُوا يطلبون بذلك تخفيهم مِنْهُ من الله أو من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَلا فلينتبه السامع حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يتغطون بثيابهم، فإن الإنسان المعرض يتلفّح بثوبه، إما بأن يضعه على رأسه، أو يخفي به بعض جسده، و لعل بعضهم كان يفعل ذلك إظهارا لإعراضه حين يقرأ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم القرآن. يَعْلَمُ الله ما يُسِرُّونَ يخفون وَ يعلم الله ما يُعْلِنُونَ عند ما يستغشون ثيابهم إِنَّهُ سبحانه عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي الصفات و الأسرار الكامنة فيها، فلا ينفعهم ثني الصدور و استغشاء الثياب في تخفيهم عليه سبحانه، فإنه العالم بكل شي ء.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 575

تقريب القران الى الأذهان الجزء الثّانى عشر من آية 7 من سورة هود إلى آية 53 من سورة يوسف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 576

بسم اللّه الرّحمن

الرّحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و المرسلين محمد المصطفى و عترته الطاهرين.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 577

[سورة هود (11): الآيات 6 الى 7]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)

[7] إنه سبحانه عالم بكل شي ء، و لو لم يعلم كل شي ء لم يقدر على إيصال الرزق لكل دابة صغيرة أو كبيرة وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ «الدابة» كل حيوان يدبّ على وجه الأرض، و هذا من باب المثال، و إلا فمن الحيوانات ما لا يدب، كما أن منها ما ليس في الأرض إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها و لعلّ تخصيص الرزق بالذكر، للزومه عدة أمور من علم و حكمة و قدرة و غيرها، و لتكرره كل يوم- غالبا- وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها مستقر تلك الدواب وَ مُسْتَوْدَعَها و لعلّ الأول عبارة عن كل محل تقرّ فيه، و لو لم يكن مكانها، و الثاني محلها الذي هو عيشها و منزلها.

و قيل في ذلك أقوال أخرى كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي إن جميع ذلك بالإضافة إلى أنها معلومة لله سبحانه مدرجة في كتاب واضح، و لعله هو اللوح المحفوظ.

[8] وَ هُوَ سبحانه الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لا أكثر و لا أقل، و قد جرت حكمة الله سبحانه على الخلق التدريجي كما نشاهده في النبات و الحيوان و الإنسان،

و كذلك كان خلق السماء و الأرض، و خصوصية ستة أيام كخصوصية الآماد المعينة في سائر الأشياء كتسعة أشهر مثلا للجنين. و الظاهر أن المراد: مقدار ستة أيام، إذ لم يكن في ذلك الوقت يوم بمعناه الحالي وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ فقد كان سلطانه سبحانه و تصرفه- و هو المتبادر من العرش كما يقال: عرش الملك الفلاني من البلاد الكذائية إلى البلاد الكذائية- على

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 578

[سورة هود (11): آية 8]

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)

الماء، قبل خلق السماوات و الأرض، فإن الله قبل خلق السماوات و الأرض خلق ماء ثم كوّن الكون، و أما لم ذلك؟ فعلمه لدى علّام الغيوب لِيَبْلُوَكُمْ يختبركم و يمتحنكم أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا إن خلق السماوات و الأرض كان استعدادا لإمكان خلق الإنسان ليمتحن، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خلق الأشياء لأجلك».

أما خصوصية «الستة» و كون العرش على الماء، فهو من توابع الخلق لأجل الامتحان، لا من صميمه- كما يظهر لنا من السياق- كأن تقول: «هيأت لولدي الدار الفلانية في سنة، لأسكنه فيها». ثم إن ذلك كان لأجل امتحان البشر و ليظهر أيهم أحسن عملا، حتى يكون الجزاء وفق الامتحان، و من الغريب- إذن- أن ينكر أحد الجزاء وَ لَئِنْ قُلْتَ يا رسول الله لهؤلاء الكفار: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ للحساب و الجزاء لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله و رسله إِنْ هذا أي: ما هذا القول حول البعث إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي تمويه واضح، لا حقيقة له.

[9] إنهم يكذبون بكل شي ء لم يروه،

و قد وعدناهم بالعذاب لكنه تأخر عنهم، فيستعجلونه استهزاء، و ينكرونه كما ينكرون البعث وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الذي يستحقونه بتكذيبهم للرسول و إنكارهم لله سبحانه إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ «الأمة» بمعنى «الحين» أي إلى أجل مسمّى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 579

[سورة هود (11): آية 9]

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9)

و وقت معين عدّت أيامه في علم الله سبحانه لمصالح خاصة لَيَقُولُنَ على وجه الاستهزاء: ما يَحْبِسُهُ أي: أيّ شي ء يؤخر هذا العذاب الموعود عنّا إن كان الوعد حقا، فتأخيره دليل على كذبه أَلا فلينتبه السامع يَوْمَ يَأْتِيهِمْ العذاب لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ لا يقدر أحد على صرفه عنهم، بل يأخذهم و يهلكهم وَ حينذاك حاقَ بِهِمْ أحاط بهؤلاء المكذبين ما أي العذاب الذي كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فلا منجي لهم و لا مهرب. أما تأخير العذاب فلأجل إيمان من يؤمن، ممن يعلم الله إيمانه منهم، و لينشأ بعض الذراري من أصلاب الكفار، و إنما يأخذ الله سبحانه بعذاب الاستئصال من لم يجد منه خيرا إلى الأبد.

[10] إن الإنسان عجول في حكمه و تقلبه فهو يستعجل العذاب، كما أنه ييأس لمجرد نزول البلية، و الفخر بمجرد نزول النعمة وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أنزلنا إليه رحمة ذاقها، من صحة أو مال أو ولد أو نحوها. و المراد ب «الذوق» هنا مطلق الإدراك، فإنه يستعمل فيما يتذوق باللسان، و فيما يدرك بالحواس الظاهرة، و فيما يدرك و لو بالحواس الباطنة، كما أن الرؤية كذلك، تقول: رأيت وجه زيد، و رأيت خشونة الحصير، و رأيت الله أكبر كل شي ء ثُمَّ نَزَعْناها أي سلبنا تلك النعمة مِنْهُ من الإنسان

لمصلحة اقتضته إِنَّهُ أي الإنسان لَيَؤُسٌ ذو يأس و قنوط كَفُورٌ يكفر بالله و ييأس من روحه و رحمته.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 580

[سورة هود (11): الآيات 10 الى 12]

وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (12)

[11] وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ جعلناه يتذوق و يدرك، نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي بعد بلاء أصابه لَيَقُولَنَ الإنسان عند نزول النعماء به: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ أي الأمور التي تسوء صاحبها من فقر و مرض و عقم و ما أشبه عَنِّي فكأنه أمر عادي طبيعي لا يشكر الله على ذهابها، و لا يرى أنه هو الذي أذاقه النعمة إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ يفرح و يفخر على الناس فلا يصبر عند البلية و لا يشكر عند النعمة، إنه عجول في جميع أحواله في نعمة كان أم في نقمة.

[12] إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على الشدة فلم يكفروا، و على النعمة فلم يبطروا، فإن النعمة تحتاج إلى الصبر، كما أن البلية تحتاج إليها، و رب إنسان أنعم الله عليه فلم يصبر على النعمة حتى بدّلها كفرا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فلم يعملوا بالسيئات عند النعمة أو البلية أُولئِكَ الصابرون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ غفران ذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ في الدنيا بالسعادة، و في الآخرة بالجنة و الرحمة و الرضوان.

[13] ما هو موقف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمام هؤلاء الكفار الذين يقولون عن البعث

أنه سحر مبين، و يكفرون عند الشدة، و يبطرون عند النعمة؟ إنه لا بد و أن يضيق صدره، خصوصا و أنهم يطلبون منه ما لا يرتبط بالرسالة تعنّتا.

و

قد روي أن رؤساء مكة من قريش أتوا رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا:

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 581

يا محمد! إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكة ذهبا، أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوة. فنزلت هذه الآية «1».

و في التأويل،

ورد عن الإمام الصادق عليه السّلام: «أن رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعلي عليه السّلام: إني سألت ربي أن يؤاخي بيني و بينك ففعل، و سألت ربي أن يجعلك وصيّي ففعل، فقال بعض القوم: و الله لصاع من تمر في شنّ بال أحب إلينا مما سأل محمد ربّه، فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوه، أو كنزا يستعين به على فاقته. فنزلت «2»:

فَلَعَلَّكَ يا رسول الله تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ من التنقيص لآلهة المشركين و تسخيف عقائدهم و أعمالهم، كأن لا تقرأ بعض آي القرآن التي فيها هذه الأمور، خوفا من أذى الكفار و استهزائهم وَ ضائِقٌ بِهِ بذلك الوحي صَدْرُكَ فإن الإنسان إذا همّه أمر ارتفعت درجة حرارته مما يتطلب هواء كثيرا، و في النفس العميق تنتفخ الرئة كثيرا مما يسبب ضيق الصدر عند انتفاخها أَنْ يَقُولُوا أي كراهة أن يقول الكفار: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ أي لماذا لم ينزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَنْزٌ من المال ليستعين به على فقره أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ليشهد بصدقه، فإن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا ذكر آلهتهم و نقائصهم قابلوه

بالاستهزاء بمثل هذه الأمور «لو لا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك» يريدون بذلك كفّه عن بعض الوحي.

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 9 ص 103.

(2) الكافي: ج 8 ص 378.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 582

[سورة هود (11): آية 13]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13)

و هنا يرشده سبحانه أنه لا يحتاج إلى كنز أو ملك إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ تنذر الناس، و المنذر لا يحتاج إلى كنز، و إنما طالب المال يحتاج إليه، كما أنه لا يحتاج إلى الملك، بل إنه بحاجة إلى التصديق، و قد كانت معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أدلة الصدق، من المعجزات الباهرات وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ فهو الموكل بهم، و المتصرف في أمورهم، و «الوكيل» هو العارف بالصلاح دونهم، فما يفعله من عدم تلبية مثل هذه الخوارق إنما ذلك من صلاحهم و إن لم يعرفوا.

[14] أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي بل يقولون إن الرسول افترى القرآن على الله سبحانه و نسبه إليه كذبا مع أنه ليس من عنده قُلْ يا رسول الله لهم:

إن كان القرآن من كلامي و ليس من كلام الله سبحانه فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ أي مختلقات من عند أنفسكم، فإنه لو كان من كلام البشر لتمكن البشر من الإتيان بمثله.

و ليس لأحد أن يقول كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الدرجة الأولى في البلاغة، لذا لم يقدروا أن يأتوا بمثله. إذ كونه بالدرجة الأولى لا تمنع أقرانه أن يأتوا بجزء من بلاغته. و من المعلوم بأن القرآن كبير فليأتوا بمثل بعضه، كما أن كون أحد

المهندسين أقوى من غيره في التصميم و رسم الخرائط، ليس معناه أن سائر المهندسين لا يتمكنون حتى و لو بتخطيط تصميم واحد كتصميمات ذلك المهندس الكثيرة، بل معناه أنه من حيث المجموع أقدر من غيره. ثم لو كان افتراء لزم- عقلا- تعجيز الله له، و إلا لزم الإغراء بالجهل، و لذا لم يدّع أحد النبوة كاذبا إلا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 583

[سورة هود (11): آية 14]

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

فضح كما نرى الشي ء الكثير منه في التاريخ.

وَ ادْعُوا أيها المكذّبون مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لمناصرتكم في الإتيان بعشر سور مثل القرآن إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في قولكم أن القرآن افتراء، و ليس من عند الله سبحانه.

[15] فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ أي إن لم يجبكم هؤلاء الكفار إلى الإتيان بمثل عشر سور، و لعل الإتيان ب «لكم» خطابا للمسلمين، لأجل أن المسلمين كانوا يحاجّون الكفار بمثل هذه الاحتجاجات، و الكفار لم يكونوا يتمكنون من الإجابة فَاعْلَمُوا أيها المسلمون أَنَّما أُنْزِلَ القرآن بِعِلْمِ اللَّهِ فإن علمه وحده كفيل بأن يأتي بشي ء لا يقدر عليه البشر، أما غيره فلا علم له بحيث يعلم ما لا يقدر عليه كل البشر حتى يتحدّاهم. و معنى «اعلموا» أن ذلك العجز دليل على أنه من الله سبحانه، إذ لو لم يكن من عنده سبحانه لشحذ الكفار أفكارهم، و عقدوا ندوات و جاءوا أخيرا بمثل القرآن، لتوفّر الدواعي لذلك، فإن القرآن كان السلاح الوحيد الذي يتحداهم، و يبنى عليه إبطال كل مزاعمهم، فلو ملكوا أن يأتوا بمثل القرآن و لو بعد جهد و صعوبة، لأتوا حتى يستريحوا، و تكون لهم

حجة على مزاعمهم بأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس صادقا فيما يقول.

وَ اعلموا أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإنه لو كان له شريك، لتمكن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 584

[سورة هود (11): آية 15]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15)

من إسعاف هؤلاء المشركين به ليأتوا بمثل القرآن، فإذا لم يأتوا به دل ذلك أن الله واحد لا شريك له و لا مثيل فَهَلْ أَنْتُمْ بعد قيام الحجة عليكم مُسْلِمُونَ لكنهم لم يسلموا، بل ظلوا يحاربون الإسلام حتى خضعوا بالقوة.

ثم إن القرآن تحدّى الكفار مرة بالإتيان بسورة، و مرة بالإتيان بعشر سور، و مرة بالإتيان بمثل القرآن كله، فهل كان التحدي بهذا الترتيب؟ قاله بعض المفسرين، و قال آخرون: إن التحدي بعشر سور كان بعد التحدي بسورة واحدة، فما السر؟

الظاهر أن المراد: عدم إمكانهم أن يأتوا بشي ء مثل القرآن، سواء سورة واحدة منه أو أكثر، فإن ذلك خارج عن موضوع التحدي، و إنما اختلف حسب المقامات، و ذلك كما أن الطبيب إذا أراد تحدي من لا معرفة له بالطب و هو يدعي ذلك: يقول: «اشف مريضا، اشف عشرة مرضى، اشف من في البلد»، فإنه لا يريد إلّا التحدي، لا عدد المرضى الذين يريد المدعي علاجهم.

[16] إن الكفار الذين لم يرضخوا للقرآن و الحق، إنما كانوا يخافون منه على منافعهم الدنيوية من رئاسة و مال و ما إليهما، فكيف يستعدّ من هو سيد قومه في قريش أن يذعن للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي يزعم أنه دونه في المجتمع، و كيف يرضخ الرئيس الديني اليهودي الذي تجبى إليه

ثمرات عمل ألوف اليهود أن يترك كل ذلك، ليكون له ما للمسلمين و عليه ما عليهم. و لذا يذكرهم سبحانه بهذه الحقيقة الكامنة في نفوسهم مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا أي الحياة القريبة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 585

[سورة هود (11): الآيات 16 الى 17]

أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)

وَ زِينَتَها أي بهجتها و زخارفها، و هو معرض عن الآخرة نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها أي: نوفّ لهم جزاء أعمالهم، فإن كل عمل فيه جزاء و لا بد أن يرى الإنسان- صالحا أو طالحا- جزاء عمله وَ هُمْ فِيها في الحياة الدنيا لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون منها شيئا. فإن «البخس» بمعنى النقصان.

[17] أُولئِكَ المريدون للدنيا فقط، هم الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ إذ لم يعملوا في الدنيا عملا يستحقون به الجنة، بل عملوا ما استحقوا به النار و العذاب وَ حَبِطَ بطل ما صَنَعُوا فِيها ما عملوا في الدنيا من أعمال الخير، إذ لم تكن أعمالهم لله سبحانه حتى يستحقوا عليها الثواب، و حيث أن الثواب لازم طبيعي للعمل الصالح، عبر ب «الحبط» بالنسبة إلى ما لا ثواب له- نظرا إلى نوعه- و إن كان الأمر ليس من الحبط حقيقة وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فإن مبرّاتهم باطلة لا ثمرة لها، إذ لم تكن جامعة

لشرائط الصحة.

[18] صنف من الناس يريد الحياة الدنيا و زينتها، و صنف من الناس على بيّنة من ربه، فهو يعرف طريقه و يؤمن بالآخرة كما يؤمن بالأولى- فطرة- و عنده شاهد يشهد له بصدق فطرته، و هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سبقه مصدّق بطريقته كتاب موسى عليه السّلام. إن هؤلاء الصنف يؤمنون بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنهم ينظرون إلى فطرتهم، و إلى الشاهد، و إلى الوثيقة السابقة. أما غيرهم فالنار موعدهم. هذا هو ظاهر الآية، و يؤيده ما دلّ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 586

على حجية العقل و صحة حكم الفطرة، فهو كبيّنة من الرب.

؟ و قد روي عن الإمام زين العابدين عليه السّلام تفسير «الشاهد» في هذه الآية بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «1».

و في المقام روايات أخرى و احتمالات، أما الروايات فالظاهر أنها من باب ذكر المصاديق، كما

روي أن الشاهد هو الإمام المرتضى عليه السّلام

«2». و أما الاحتمالات فلا حجية فيها ما لم توافق الظاهر.

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ استفهام تقريري، أي هل من كان على برهان و حجة من قبل الله سبحانه، فله نور فطري يرى الحق و يؤمن به؟ و لفظة «على» للتشبيه بالذي يركب المركب الفاره، في مقابل الراجل وَ يَتْلُوهُ أي يعضده و يؤيده شاهِدٌ مِنْهُ أي شاهد من قبل الله سبحانه، و هو الرسول، يشهد له بما دلّت عليه فطرته و هداه إليه عقله، من أن للكون خالقا، و أنه لا بد و أن يجازى كلّا بعمله. إلى غير ذلك مما تدل عليه الفطرة.

وَ مِنْ قَبْلِهِ أي قبل هذا الشاهد كِتابُ

مُوسى عليه السّلام يدل على صحة طريقته، فله مؤيد فعلا و مؤيد سابقا إِماماً وَ رَحْمَةً حالان لكتاب موسى عليه السّلام أي أن كتاب موسى إمام يؤتمّ به في أمور الدين،

______________________________

(1) راجع الكافي: ج 1 ص 190.

(2) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 255.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 587

[سورة هود (11): آية 18]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)

و رحمة من الله على عباده، إذ يهديهم إلى الطريق.

و ذكر كتاب موسى، لأنه مقبول لدى اليهود و النصارى، و لأن عيسى عليه السّلام كان كمتمّم لكتاب موسى، فالتوراة هي الأصل.

و الحاصل المستفاد: أن التقدير: «أ فمن كان على بينة من الله، و له شاهد على حقيقته، و يعتقد به شاهد آخر، كمن أراد الحياة الدنيا و زينتها؟». و قد حذف جواب الاستفهام لدلالة الكلام عليه.

أُولئِكَ الذين وصفوا بأنهم على بيّنة من ربهم يُؤْمِنُونَ بِهِ بالله و سائر الأمور التي يلزم الإيمان بها وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ و الفئات، من أهل الكتاب كانوا أم من غيرهم فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ و مصيره و مستقره فَلا تَكُ يا رسول الله فِي مِرْيَةٍ و شك مِنْهُ من الموعد، أو من القرآن و ما يلزم الإيمان به. و الخطاب و إن كان للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلا أن المراد به سائر الناس إِنَّهُ أي ما تقدم من الموعد، أو ما يلزم الإيمان به- المعلوم من السياق- الْحَقُّ مِنْ قبل رَبِّكَ أو أن الخبر الذي أخبرت به هو الحق من عند الله سبحانه، فلا كذب فيه و

لا تحوير وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ به، بل يزعمون أنه كذب و افتراء.

[19] وَ مَنْ أَظْلَمُ أي لا أحد أكثر ظلما، و إن كان بصورة الاستفهام مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي نسب إلى الله الكذب افتراء، و قد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 588

[سورة هود (11): آية 19]

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)

ذكر ذلك بمناسبة ما كان المشركون ينسبونه إلى النبي من افترائه القرآن و نسبته إلى الله سبحانه، و لا يخفى أن عبارة «من أظلم» المستعملة في القرآن كثيرا، يراد بها الظلم النسبي غالبا، لا الحقيقي أُولئِكَ المفترون على الله يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ يوم القيامة، أي يستحضرون في المحكمة التي يعقدها الله سبحانه، إذ لا مكان له تعالى و لا يمكن رؤيته وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ جمع شاهد، و المراد بهم إما الأنبياء أو الملائكة أو المؤمنون هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ و نسبوا إليه ما لم يكن منه، فلا مجال للإنكار و لا محل للفرار، و لا يمكن لهم أن يحلفوا كما يحلف المشركون، قائلين: (وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) «1»، أَلا فلينتبه السامع لَعْنَةُ اللَّهِ طرده و عذابه عَلَى الظَّالِمِينَ الذين يظلمون أنفسهم و غيرهم بالافتراء على الله سبحانه، و هذا إما تتمة كلام الأشهاد، أو ابتداء كلام.

[20] ثم وصف سبحانه الظالمين، بقوله: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون الناس عن الاهتداء و سلوك سبيل الله، فيغرونهم بإلقاء الشّبه عليهم، و إثارة شكهم و كفرهم و عصيانهم بترك أوامره و نواهيه وَ يَبْغُونَها أي يريدون أن تكون السبيل عِوَجاً زيغا عن الاستقامة و عدولا عن الصواب، هذا لو رجع الضمير

إلى «السبيل»- و هي مؤنث

______________________________

(1) الأنعام: 24.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 589

[سورة هود (11): آية 20]

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (20)

سماعي- أما لو رجع إلى سبيل الله، كان المعنى: أنهم يزيدون و ينقصون في سبيل الله و أحكامه ليظهروا للناس أنها منحرفة زائفة، فيصرفوهم عنها وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ أي بالدار الآخرة، من البعث و الحساب و الجزاء هُمْ كافِرُونَ غير مقرّين.

و لا يخفى أن هذه الأوصاف، تنطبق على الذين يفترون على الله الكذب، فإنهم الصادون عن السبيل، الجاحدون بالآخرة، و إن أقرّ بعضهم بها لسانا، فلو لا جحودهم قلبا لم يصدوا عن طريقه سبحانه.

[21] أُولئِكَ الذين صدّوا عن السبيل و كفروا بالآخرة لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لم يكونوا يتمكنون من أن يعجزوا الله سبحانه في شي ء من إرادته، فيهدي الناس على رغمهم، و لو أراد أن يأخذهم و يهلكهم لم يكن أمرهم عسيرا عليه، فهم في قبضته و تحت قدرته، و كأن ذكر «في الأرض» للإشارة إلى أنهم لا يتمكنون من تعجيزه في محل سيطرتهم و إمكانياتهم، فكيف بالآخرة التي يحشرون فيها فرادى بلا مال و لا جاه و لا قوة وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غير الله سبحانه مِنْ أَوْلِياءَ و أنصار ينصرونهم و يتولون أمرهم، فإن الله سبحانه هو الذي بيده الأمور، و يتولى كل شي ء، فإذا نزلت بهؤلاء كارثة لم يكن هناك منقذ لهم يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ عذاب كفرهم بأنفسهم، و عذاب صدّهم، و كونهم سببا في كفر غيرهم، كما قال سبحانه في آية

أخرى: (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 590

[سورة هود (11): الآيات 21 الى 22]

أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)

يُفْسِدُونَ) «1»، فقد عاشوا صمّا عميا و ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ فقد كانوا يقولون: إنا لا نستطيع أن نسمع كلام الله، يريدون إظهار الضجر و الاستهزاء، لا أن المراد عدم استطاعتهم حقيقة وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ الأدلة و البراهين، قد سدّوا أسماعهم عن كلامه سبحانه، و أغمضوا عيونهم عن رؤية آياته، لقد عاشوا مغلقي البصائر، كأن ليس لهم سمع و لا بصر.

[22] أُولئِكَ البعداء الصادّون الضالّون الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فإن النفس، كرأس مال يجب أن يتحفظ الإنسان بها عن العطب و يجلب بها الربح، و هؤلاء قد خسروها، حيث عطبت نفوسهم، و لم يحصلوا على ربح وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ فقد تبدّد كذبهم و افتراؤهم، و ضاع عنهم فلم ينجهم، فإن عملهم هلك وضاع، حيث نجا سائر المؤمنين بأعمالهم الطيبة.

[23] لا جَرَمَ «لا» كلمة نفي و «جرم» معناه الكسب، أي لا كسب لهم في النفع بل كسبهم خسران الدنيا و الآخرة، أو بمعنى «لا محالة» و «لا بد» أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أي الأكثر خسارة من غيرهم، لشدة عذابهم، و لا شك أن الكفار الذين لهم تلك الأوصاف المتقدمة من أكثر الناس عقابا.

______________________________

(1) النحل: 89.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 591

[سورة هود (11): الآيات 23 الى 24]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ

فَلا تَذَكَّرُونَ (24)

[24] هكذا كان حال الكافر المتصف بتلك الصفات السيئة، أما المؤمنون فحالهم أحسن حال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالله و بما يلزم الإيمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي الأعمال الصالحة. و المراد هنا أعم من فعل الواجبات و ترك المحرمات، فإن من لم يترك الحرام لا يقال له أنه يعمل الصالحات و إن أتى بكل واجب. كما أنها تشمل عامل المستحبات و تارك المكروهات وَ أَخْبَتُوا أي أنابوا و تضرّعوا إليه، فإن الإخبات بمعنى الطمأنينة، أي اطمأنوا إِلى رَبِّهِمْ و خشوا و خضعوا له، فإن المؤمن خاضع لله، مطمئن إلى أحكامه و تقديراته، هادئ النفس لما يترقّبه من نصرته و عونه أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ المالكون الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ باقون أبدا دائما.

[25] ثم مثّل سبحانه الكافر و المؤمن بمثل محسوس فقال: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ فريق الكافرين و فريق المؤمنين، أما الكافرون فهم كَالْأَعْمى بصرا وَ الْأَصَمِ أذنا، و أي عمى أعظم من عدم إبصار آيات الله و براهينه و حججه، و أي صمم أعظم من عدم استماع أوامره و نواهيه و إرشاداته وَ أما المؤمنون فهم ك الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ فكما أنه يرى و يسمع، كذلك المؤمن قد تفتّحت بصيرته فيرى الآيات الكونية، و انفتح سمع قلبه فيسترشد بالموعظة و يسمع الحق سماع تفهّم و عمل هَلْ يَسْتَوِيانِ هؤلاء و هؤلاء مَثَلًا أي من حيث المثل، استفهام إنكاري، أي لا يستوي السميع البصير، و الأعمى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 592

[سورة هود (11): الآيات 25 الى 27]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا

مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27)

الأصم، عند أحد، فكذلك المؤمن و الكافر أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أي تتذكرون- حذفت إحدى تاءيه للقاعدة في باب التفعل- و هو استفهام إنكاري يراد به ردع الكافرين، كيف لا يفكرون في هذا الأمر الواضح، و يعتبرون به.

[26] و بعد ما بيّن سبحانه في هذه السورة حقائق كبري حول المبدأ و المعاد و الرسول و الأمة، و أن من كذّب فله الهلاك و الدمار و العذاب و النار، و من آمن فله خير و سعادة و جنات النعيم، ذكر جملة من القصص السالفة التي تثبت احتجاج الأنبياء مع أممهم حول هذه العقائد، و ما انجرّت إليه أمورهم، من تكذيب و اضطهاد، و ما أعقب تكذيب الأمم من الهلاك و العقاب وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فقال لهم: إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي منذر واضح، أنذركم أن إذا كفرتم و عملتم بالمعاصي تجازون بعذاب الدنيا و الآخرة.

[27] أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ متعلق ب «نذير» أي إنذاري هو أن تتركوا عبادة ما دون الله من الأصنام إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم موجع، و إنما قال «أخاف» لأنه لم يكن معلوما أنهم يموتون كفارا لعلهم يتوبون، أو ترقيقا في الكلام مع المنكر المعاند.

[28] فَقالَ الْمَلَأُ أي جماعة الأشراف- لأنهم يملئون العيون جلالا و القلوب هيبة- و حيث أن المعارضين للأنبياء و المصلحين دائما هم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 593

الطبقة المستعلية، يأتي بيان حوارهم، و إلّا فغيرهم أيضا كان يجادل و يحاور الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ صفة

«الملأ»، و ليس المراد ب «كفروا» تجدّد الكفر منهم، بل كونهم كفارا، فإن فعل الماضي ينسلخ عن الزمان غالبا- في مثل هذه الموارد- و لا مفهوم للوصف، بأنه كان هناك عدّة لم يكفروا، لأنه وصف توضيحي لا احترازي: ما نَراكَ يا نوح إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا فكيف تدّعي النبوة و الرسالة من الله سبحانه. فقد كانت كل أمة تظن أن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلزم أن يكون من الملائكة، لا لبرهان عندهم، بل لرفعة مقام الرسالة في نفوسهم، لأنه لا يمكن أن يكون بشرا مثلهم في حين يدعي أنه متصل بالسماء و واسطة بينهم و بين الله العظيم وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا لم يتبعك الأشراف و الرؤساء و المثرون، و إنما اتبعك و آمن بك الأراذل، و هو جمع «رذل» و هو الخسيس الحقير في كل شي ء، فكيف يؤمن الأشراف في صف الأراذل.

و قد كان الغالب أن الفقراء الذين ليس لهم ثروة و منصب هم أسرع الناس قبولا إلى اتباع كل حق و باطل، لأن المال و المنصب و الكبرياء تمنع عن الاستجابة، و تسبب القسوة و الغلظة، بخلاف الجماهير و الفقراء من مختلف الطبقات و الأعمال و ما أشبه، فإنهم أقرب إلى البساطة، و الفطرة السليمة.

في حال كونهم بادِيَ الرَّأْيِ أي ظاهر الرأي لا عمق لرأيهم، حتى يتدبروا و يتفكروا في الصدق و الكذب، و العواقب و المصير،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 594

[سورة هود (11): آية 28]

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)

مشتق من «بدا» بمعنى ظهر وَ

ما نَرى لَكُمْ يا نوح و للمؤمنين بك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ في ثروة أو مكانة اجتماعية، فكيف نتبعك؟ و قد ظنوا أن الرسالة من جنس هذه الأعراض الدنيوية، فاللازم أن تكون الفئة المؤمنة من أصحاب الأموال و المناصب، و قد غفلوا عن أن الرسالة من المناصب الروحية لا يتحملها إلا من اختاره الله و جعل نفسه أكمل الأنفس، و ليست من المناصب الدنيوية التي تحتاج إلى ثروة و كبرياء. و هكذا هم أهل الدنيا يستصغرون دائما أهل الدين، إذا خلت أيديهم من المال و الجاه.

بَلْ نَظُنُّكُمْ يا نوح أنت و المؤمنين بك كاذِبِينَ في دعوى النبوة و ما أتيت به، و تبعك هؤلاء عليه من الدين.

[29] قالَ نوح في جوابه لكفار قومه: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي على برهان و حجة يشهدان لي بصحة الدعوى و صدق النبوة، و بأني أتيت بالمعجزات، أ فلا تصدقونني؟ و تنسبوني إلى الكذب أيضا وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ أي جعلني نبيا و خصّني بهذه المنزلة الرفيعة من بين البشر فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ خفيت عليكم لعدم تهيؤكم لقبول تلك البينة، أَ نُلْزِمُكُمُوها نجبركم على المعرفة و البينة وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ أي تكرهون البينة و المعرفة و لا تتدبرونها، و الحاصل أن لي بينة، لكن أنتم تكرهون رؤيتها و التدبّر فيها، و إنما لا ألزمكم و أجبركم على التدبر لأنه «لا إكراه في الدين».

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 595

[سورة هود (11): الآيات 29 الى 30]

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَ يا

قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30)

[30] وَ يا قَوْمِ لماذا تمتنعون عن إجابتي و ليس في ذلك تكليف لكم بدفع الأجور حتى تخافون من ذلك و تهربون من دفعه، فإني لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على دعوتي لكم إلى الله سبحانه مالًا فتستثقلون دعوتي إِنْ أَجرِيَ أي: ما أجري في التبليغ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فهو الذي أمرني بذلك، و هو الذي يعطيني الأجر و الثواب على عملي وَ قد كان بعض الكفار سألوا نوحا بطرد المؤمنين- الأراذل في نظرهم- حتى يفكروا في أمره و يلتفوا حوله- كما قال بعض المفسرين- لكن نوحا أجابهم بقوله: ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا لست أطردهم من عندي و لا أقصيهم من حوالي، و لماذا؟ أ ليسوا هم مؤمنين بي و إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيجازي من طردهم بالعذاب و النار، كما تقول: «لا أقطع علاقتي بفلان فإنه يلاقي الملك»، تريد: فيشكوك عنده وَ لكِنِّي أَراكُمْ أيها الكفار قَوْماً تَجْهَلُونَ الحق، فتعلّلون عدم إيمانكم بعلل واهية و أعذار سخيفة.

[31] وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ بأس اللَّهِ و نقمته إِنْ طَرَدْتُهُمْ أي طردت هؤلاء المؤمنين بلا ذنب و لا عصيان، حين يشكوني خصمائي عند الله أَ فَلا تَذَكَّرُونَ تتفكرون، فتعلمون أن الأمر على ما قلته.

و هكذا يكون دائما المتكبرون، إنهم يقولون لأصحاب الرسالات

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 596

[سورة هود (11): آية 31]

وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)

و المصلحين: أطرد فلانا و فلانا، ممن يرون أنهم فوقهم

شأنا. و قد دلت التجارب أن أولئك المؤمنين هم المخلصون الذين يحملون مشعل الإصلاح دون أولئك المتكبرين الذين يريدون طرد جماعة، فإن المتكبر لا يصلح لحمل شعلة الهداية و الإصلاح.

[32] وَ يا قوم لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ فأتمكن فوق قدرة البشر بأن أبذل ما أشاء، و أفعل ما أشاء وَ لا أَعْلَمُ بنفسي من دون إرشاد ربي الْغَيْبَ الأمور الغائبة عن الحواس و المدارك، حتى أريد أن أتفضل عليكم بذلك وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ من الملائكة، فأنا بشر كما قلتم ذو إمكانية بشرية، لا خزائن، و لا غيب لي، و إنما أنا رسول من قبل الله سبحانه وَ لا أَقُولُ للمؤمنين الملتفين حولي الذين تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ «الازدراء» الاحتقار، أي الذين تحتقرونهم. و نسبة الازدراء إلى العين لأنهم إنما ازدروهم لما عليهم من ألبسة رثة و أطمار خلقه، و لو نظروا إلى واقعهم لرأوهم كبارا في نفوسهم، عظماء عند الله سبحانه. و قد حذف المتعلق في الكلام، أي تزدريهم أعينكم:

لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً حيث لم يعطهم مالا و جاها- كما تقولون أنتم- فإن الخير في الإيمان و الصفات الكاملة لا في المال و المنصب اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ فلقد أتاهم الخير كله، حيث هيأ نفوسا نظيفة و قلوبا طاهرة إِنِّي إِذاً إذا طردتهم، أو قلت: لن يؤتهم الله خيرا لَمِنَ الظَّالِمِينَ حيث ظلمتهم بذلك العمل، أو هذا القول.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 597

[سورة هود (11): الآيات 32 الى 34]

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ

أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)

[33] و لما حاجّهم نوح عليه السّلام بتلك الاحتجاجات الصريحة المعقولة، لم يجد القوم إلا الفرار عن المحاجة، ف قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا حاججتنا و خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا و بحثك معنا حول المبدأ و المعاد و ما إليهما فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب. فقد هددهم نوح بعذاب الله إن بقوا في كفرهم و غيّهم إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك النبوة، و أنّا إن لم نؤمن عذبنا الله بذنوبنا.

[34] قالَ نوح في جواب استعجالهم العذاب: إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ بالعذاب اللَّهُ إِنْ شاءَ تعذيبكم، و ليس من عندي حتى أعجّله أو أؤجله وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي إن أراد عذابكم فلا تتمكنون من تعجيزه حتى لا يتمكن من العذاب، و لا تتمكنون من صدّ العذاب أو الهرب عن مشيئته سبحانه.

[35] ثم قال نوح عليه السّلام: وَ لا يَنْفَعُكُمْ يا قوم نُصْحِي و إرشادي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ و إنما قيّد النصح بالإرادة، و قد صدر منه فعلا، تواضعا في الكلام، و كأنه لم ينصح من قبل، لا أنه نصح و لم يفد، أو لأنهم لم يعتبروا كلامه نصحا، فهو يقول: إن صدر مني نصح في المستقبل لا ينفعكم إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ و إرادة الله إغوائهم، يعني تركهم و شأنهم، حيث أنهم لمّا أعرضوا عن الحق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 598

[سورة هود (11): آية 35]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

تركهم سبحانه و شأنهم، فلم يلطف بهم الألطاف الخاصة ليستعدوا للاهتداء، كما تقول: «إن كان الملك يريد إفساد الشعب

لا ينفع وعظ الخطباء» تريد تركهم على حالهم حتى يفسدوا بطبعهم، و يعملوا الجرائم لعدم رادع لهم.

و هُوَ تعالى رَبُّكُمْ فهو يعلم دخائل نفوسكم، و أنكم غير صالحين للطفه الخفي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة فيجازيكم بسيئاتكم.

[36] أَمْ يَقُولُونَ أي: بل يقولون، و الظاهر من السياق أنه من تتمة المطلب المربوط بحوار نوح مع قومه افْتَراهُ على الله في دعواه الرسالة قُلْ يا نوح لهم: إِنِ افْتَرَيْتُهُ أي كذبت على الله فيما نقلته عنه فَعَلَيَّ إِجْرامِي و عقوبته لي، لا لكم، فأنتم بريئون من جرمي و افترائي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ لا أو آخذ بجريمتكم و كفركم.

و هناك احتمال آخر و هو أن يكون ذلك من الالتفات من قصة نوح إلى قصة النبي مع المشركين، فإنهم كانوا يتّهمون الرسول بما اتّهم قوم نوح نوحا عليه السّلام من الافتراء- و حيث كان ذلك من أغراض القصة، جي ء به هنا تنبيها، يرجع إلى تتمة قصة نوح و قومه- فالمعنى: إن هؤلاء المشركين يقولون لك يا رسول الله أنك افتريت على الله سبحانه بنسبة القرآن إليه. و البقية بهذا السياق جاعلا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكان نوح عليه السّلام.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 599

[سورة هود (11): الآيات 36 الى 37]

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)

[37] وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ بعد تلك البلاغات الكبيرة و المحاولات الطويلة، و الأمد البعيد أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ بك من قبل فلا رجاء في

الباقين فَلا تَبْتَئِسْ أي لا تحزن و لا تغتم، من «الابتئاس» و هو افتعال من «البؤس» بمعنى الغمّ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ من الكفر و أنواع المعاصي، فإن الإنسان إنما يحزن إما لنفسه كيف يكون مصيره مع قومه، و إما للقوم، أما إذا أدّى ما عليه بالدعوة مرارا كثيرة فلا حزن لنفسه، كما أنه لو علم أن لا خير فيهم فلا حزن عليهم.

[38] وَ اصْنَعِ اعمل الْفُلْكَ هي السفينة لتركبها أنت و المؤمنون عند الطوفان بِأَعْيُنِنا بمرأى منّا فإن «أعين» جمع «عين» أي برعايتنا و حفظنا، حيث ننظر إليك و إلى عملك. و من يراقبه الله سبحانه لا يضل و لا يزيغ وَ وَحْيِنا أي تعليمنا لك كيفية الصنع وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا لا تسألني العفو عن هؤلاء الكافرين، و لا تشفع لهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ قد حكم عليهم بالغرق و الهلاك، و إنما خاطبه سبحانه بذلك، ليعلم أنه لا يستجاب مثل هذا الدعاء، فلا يتعب نفسه في الطلب و السؤال.

و إن قيل: كيف يجمع هذا الأمر- و هو أن نوحا عليه السّلام كان يريد الدعاء لهم بالخير- مع قوله سبحانه حكاية عن نوح: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) «1»؟

______________________________

(1) نوح: 27.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 600

[سورة هود (11): آية 38 تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 649

وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38)

فالجواب: إن دعاء الخير لمن يحتمل إيمانه في المستقبل، لا ينافي دعاء الشر لمن علم بعدم إيمانه أصلا، فإن قوله عليه السّلام «من الكافرين» يعني الذين لا يرجعون عن غيّهم و كفرهم، و

فوق ذلك (يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) «1»، فلا خير في نسلهم كما لا خير فيهم .. أما الذين ظلموا فلعله كان يحتمل رجوع بعضهم. و بهذا الخطاب منه سبحانه تبين أنه لا يفيد فيهم الدعاء، و لا يرجعون عن غيّهم أبدا، و أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن من قبل.

[39] وَ جعل نوح عليه السّلام يَصْنَعُ الْفُلْكَ بيده، ينحتها و يسويها، كما يصنع النجار من الأخشاب الأبواب و غيرها وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ جماعة مِنْ قَوْمِهِ الذين دعاهم فلم تنفعهم الدعوة سَخِرُوا مِنْهُ استهزءوا منه قائلين: يا نوح صرت نجارا بعد طول الدعوة و ادّعاء النبوة، و الجدال و البحث حول الإله و المعاد، استهزاء به و سخرية منه، فكانوا يتضاحكون يقول بعضهم لبعض: انظروا إلى هذا المدّعي للنبوة كيف ينجر سفينة بهذا الكبر في اليابسة حيث لا ماء.

قالَ نوح عليه السّلام في جوابهم: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا على هذا العمل فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ أي نجازيكم على سخريتكم بسخرية منّا عند نجاتنا و غرقكم. إما سخرية حقيقية، و إما من باب تسمية الجزاء باسم المجزي به، نحو: (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا

______________________________

(1) نوح: 28.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 601

[سورة هود (11): الآيات 39 الى 40]

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)

عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) «1»، و (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) «2».

[40] فَسَوْفَ في المستقبل تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يفضحه و

يهينه و يذله، و ذلك بالغرق وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ لا يزول عنه و لا يتحول، و هو عذاب الآخرة الممتد من بعد الموت في القبر، ثم في جهنم إلى الأبد.

[41] حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا «حتى» غاية لحال نوح و حال قومه، أي بقي نوح يصنع السفينة و بقي القوم على كفرهم يستهزئون منه، حتى حين مجي ء أمرنا بإهلاكهم و نجاة المؤمنين وَ فارَ التَّنُّورُ بالماء، فقد كان فوران التنور بالماء علامة لوقت العذاب كي يحمل نوح عليه السّلام في السفينة المؤمنين قُلْنَا أي أوحينا إلى نوح عليه السّلام: احْمِلْ فِيها في السفينة مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ من كل أجناس الحيوانات زوجين ذكر و أنثى، يطلق «الزوج» على الذكر كما يطلق على الأنثى، و قد يطلق على الاثنين معا، فيقال لهما «زوج»، و لما كان يحتمل في الآية إرادة المعنى الأخير حتى يكون اللازم حمل أربعة من كل جنس، بيّن «الزوجين» بأن المراد بهما فرد و فرد، فيصير الحاصل اثنين لا أكثر.

وَ احمل في السفينة أَهْلَكَ عائلتك، زوجتك و أولادك

______________________________

(1) البقرة: 195.

(2) البقرة: 16.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 602

إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ من تقدم حوله قولنا بأنه من الهالكين من عائلتك و هي زوجة نوح عليه السّلام و اسمها واغلة، و كانت أما لكنعان الولد الذي هلك بالغرق، فقد كان لنوح عليه السّلام زوجتان و أولاد كلهم صالحون إلا هذه المرأة و ابنها وَ احمل في السفينة مَنْ آمَنَ و هم بين ثمانية و ثمانين، كما في الأحاديث، و لذا قال سبحانه: وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ و

قد ورد أن نوحا عليه السّلام نادى الحيوانات فأجابته و اجتمعت حوله فأركبها

في السفينة، و ذلك ليس على الله بعزيز.

و من غريب الأمر أن بعض المسلمين الذين فقدوا ثقتهم بنفوسهم أمام الغرب يأوّلون جميع المعاجز مهما تمكنوا و يجعلونها أمورا عادية و قصصا خارجية لا مسحة عليها من الغيب و الإعجاز، و إذا لم يلائم شي ء مع هذه الطريقة سمّوه ب «الإسرائيليات» و لم ذلك؟ لأنه معجز خارج عن نطاق مفاهيم الماديين الغربيين. ففي قصتنا مثلا، يقول:

سفينة نوح سفينة عادية صنعت، و «الوحي حولها» هو الإلهام في القلب كما يلهم قلب كل متعلم بالعلم، و «حمل نوح عدة حيوانات» مما يملكه نوح من الحيوانات، و كان الموسم فيضانا و المطر وابل فغرق بعض الناس الذين كانوا في تلك المناطق، و سلم نوح و قومه المؤمنون.

و هكذا يحرّفون كل خارقة إلى رماد و تراب بعد ما كانت خارقة تأخذ بالأنفس و تدل على رسالة الأنبياء، فإذا لم يكن في القرآن فهو خرافة و إسرائيليات، مهما بلغ سنده من الصحة و الثبات، أما إذا كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 603

في القرآن فباب التأويل واسع، ف (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ) «1» يراد به انشقاق بعض الأقمار التي دل العلم على وجودها سابقا ثم صارت منشقة بصورة هائلة أي: ابتعاد الأنجم بعضها عن بعض. و (وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) «2» كانت أسراب طير معها «ميكروب» الوباء فلما اختلطت بالناس، عدى المرض إليهم فماتوا بالوباء، و ما أشبه هذه التأويلات .. و هكذا هلمّ جرا.

حتى أن بعضهم- و هو مؤمن بالله و اليوم الآخر، طبعا- ذكر أن المراد ب «الإله» القوة المسيّرة للكون أو الطاقة المحركة للحياة، و «المعاد» هو حساب التاريخ للإنسان، و

«الجنة» ذكره الطيب المنبعث عن أعماله الحسنة، و «النار» ذكره السيئ المنبعث عن أعماله القبيحة ..

فلنتساءل: أي فرق بينكم أيها المؤمنون! و بين الماديين؟ و هل أحد ينكر الطاقة و محاسبة التاريخ و الذكر الحسن و السيئ؟ و إذا سألت هؤلاء المنهزمين، ماذا تصنعون بالنصوص و التصريحات؟ أجابوا بأنها على سبيل الكناية و المجاز، حسب فهم العرب المخاطبين ..

نقول: إن المؤمن هو من يؤمن بكل نص، أما أن يكون الإنسان ماديا قلبا، مسلما صورة فليس ذاك إلا النفاق، و الانهزام أمام بريق الغرب المادي .. و مثل هذه الانهزامية في العقائد، و الانهزامية في الأحكام، كمن يقول إن الإسلام جمهوري لقوله تعالى في قصة بلقيس: (فَما ذا تَأْمُرُونَ) «3»؟، أو برلماني، لقوله تعالى: (وَ أَمْرُهُمْ

______________________________

(1) القمر: 2.

(2) الفيل: 4 و 5.

(3) الأعراف: 111.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 604

[سورة هود (11): الآيات 41 الى 42]

وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42)

شُورى «1»، أو اشتراكي، لقوله: (وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ) «2»، أو ربوي لقوله: (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) «3»، مما يفهم منه جواز أكله بدون أن يصبح أضعافا، و هكذا .. مما هم بالهوس أقرب منهم إلى الإسلام. و قد رأينا أن معيار هؤلاء هو الغرب فما ذكره فهم تبع له، فإن وافق الإسلام فهو، و إلا فاللازم أن يطبق الإسلام عليه، يا للهراء و السخف!! [42] وَ قالَ نوح عليه السّلام: ارْكَبُوا فِيها في السفينة بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها

وَ مُرْساها أي قائلين بسم الله، وقت جريانها على الماء، و وقت إرسائها أي وقوفها و حبسها عن المسير، أو المعنى: بالله إجراؤها و إرساؤها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ للذنوب رَحِيمٌ و بهاتين الصفتين استحق المؤمنون النجاة.

[43] وَ كانت السفينة هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ جمع «موجة» و هي ما علا من الماء بسبب دخول الهواء فيه، فيكون الماء متخلخلا عاليا يسير بسير الهواء و اتجاه الرياح، و معنى «بهم» أي في حال كونها معهم، و حال كونهم فيها كَالْجِبالِ بارتفاعها و ضخامتها وَ نادى نُوحٌ عليه السّلام في تلك الحالة ابْنَهُ كنعان الذي كان من تلك المرأة

______________________________

(1) الشورى: 39.

(2) المعارج: 25.

(3) آل عمران: 131.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 605

[سورة هود (11): الآيات 43 الى 44]

قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

الخائنة وَ كانَ الابن فِي مَعْزِلٍ أي محل عزلة، لأنه لم يركب معهم في السفينة: يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا في السفينة لتنجو وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ حتى تهلك و تغرق.

[44] فأجابه الابن قالَ سَآوِي من «أوى يأوي» إذا اتخذ مأوى و محلّا، أي سأرجع إلى مأوى إِلى جَبَلٍ شاهق لا يعلوه الماء يَعْصِمُنِي يحفظني مِنَ الْماءِ فلا أغرق و لا أركب معك في السفينة قالَ نوح عليه السّلام: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي لا شي ء يحفظ الإنسان من عذاب الله و غرقه الذي قدّره على الكافرين إِلَّا

مَنْ رَحِمَ من المؤمنين الذين ركبوا السفينة، فآمن بالله و اركب السفينة كي تنجو و يرحمك الله وَ حالَ بَيْنَهُمَا) بين نوح و ابنه الْمَوْجُ جاءت الأمواج حتى لم يشاهد نوح ابنه فَكانَ أي صار الابن مِنَ الْمُغْرَقِينَ أغرق و أهلك في جملة الكافرين.

[45] لقد طافت السفينة على الماء أياما، و نوح و المؤمنون و الحيوانات فيها، و أخذ الماء ينهمر من السماء و يخرج من الأرض حتى غرق الكفار بأجمعهم وَ حينذاك قِيلَ المراد أن الله سبحانه قال ذلك، إما بنفسه أو بأمر بعض الملائكة أن يقول ذلك، أو المراد إرادته سبحانه، فعبّر عنه بالقول: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ردّي و اشربي الماء الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 606

أخرجتيه بسبب تفجّر العيون، و قد أريد بذلك: نشف الماء دفعة كأنه بلع له وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي أي قال تعالى للسماء: أمسكي المطر و لا ترسلي الماء إلى الأرض. فبلعت الأرض ماءها، و أمسكت السماء عن المطر. و هل أن المراد من «ابلعي ماءك» جميع الماء الموجود فيها و لو كان الماء النازل من السماء، أم خصوص مائها، و بقي ماء السماء و تسرب في المسارب و المنحدرات؟ احتمالان.

و قد روي عن الأئمة الطاهرين عليهم السّلام: أن الماء بقي، و صار بحارا و أنهارا «1».

أقول: إن العلم الحديث دلّ على كون الجبال كلها كانت غامرة في الماء، حتى أرفع الجبال كانت كذلك، و قد وجد فيها آثار للماء و الحيوانات المائية، و لعل ذلك- إن صح- كان من وقت الطوفان حيث دلّ الدليل على غمر الماء لكل الجبال.

و هل أن الخطاب حقيقي لشعور السماء و الأرض بالأمر و النهي، بمقتضى (وَ إِنْ مِنْ

شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) «2»، أو المراد نتيجة ذلك، من باب خطاب العارف نحو: «أيا جبلي نعمان بالله خليا». احتمالان؟

و لا يبعد الأول، كما قال سبحانه: (فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) «3»، و هكذا أمثالها، مما ظاهره شعور السماء و الأرض.

وَ غِيضَ الْماءُ أي ذهب الماء من وجه الأرض إلى باطنها من

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 304.

(2) الإسراء: 45.

(3) فصلت: 12.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 607

«غاض يغيض» إذا تسرّب في الباطن وَ قُضِيَ الْأَمْرُ تمّ الأمر المراد، و هو هلاك الكفار و نجاة المؤمنين وَ اسْتَوَتْ استقرت السفينة عَلَى جبل يسمى الْجُودِيِ و قد ورد في التفاسير أنه جبل بالموصل في شمال العراق «1» وَ قِيلَ أي قال الله سبحانه، أو الملائكة، أو نوح و المؤمنون، و المراد: نتيجة ذلك بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الذين كفروا و ظلموا أنفسهم، فليبتعدوا عن رحمة الله، و عن سعادة الدنيا بالهلاك، و عن خير الآخرة بدخول النار.

و قد ذكر المفسرون و أهل البلاغة أن هذه الآية الكريمة في كمال البلاغة مما يدهش العقول و الألباب فقد ذكروا أن كفار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ و لحوم الضأن و سلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم، فلما أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية، فقال بعضهم لبعض: هذا كلام لا يشبه شي ء من الكلام، و لا يشبه كلام المخلوقين، و تركوا ما أخذوا فيه و افترقوا.

و كان أهل الجاهلية إذا ألّفوا أفصح القصائد علقوها بالكعبة، و هكذا حتى جمعت من أفصح القصائد و أبلغها على الكعبة سبع، لامرئ القيس و زملائه، فلما نزلت هذه الآية، أمر النبي صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم بكتابتها، و أن تعلق قرب المعلقات السبع، ففعل ذلك بعض المسلمين، و لما أصبحت قريش و أتت إلى الكعبة، و رأت الآية إلى جنب المعلقات،

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 333.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 608

[سورة هود (11): آية 45]

وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45)

اضطرت إلى أن تقلع المعلقات و لم تدعها قرب الآية.

و يقال: أن ثلاثة من الملحدين أرادوا معارضة القرآن ليبطلوا أساس الإسلام، فاجتمعوا في مكة، و ضمن كل واحد منهم أن يقول مثل ثلث القرآن إلى العام القابل، و اجتمعوا في القابل في مكة فقال أحدهم: إني أعرضت عن معارضة القرآن لما رأيت أن فيه قوله:

«وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ ..»، فقد علمت أني لا أتمكن أن آتي بما يشابهها. و قال الثاني: إني أعرضت عن معارضة القرآن حيث رأيت في قوله: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) «1»، فقد علمت أنه لا يتسنّى لي مقابلة هذه الآية. و قال الثالث: إني أعرضت عن معارضة القرآن حيث رأيت فيه قوله: (وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) «2»، فقد علمت أنه لا يمكنني معارضة هذه الآية.

و يقال أن الإمام الصادق عليه السّلام مرّ بهم في ذاك الحال و هم يتذاكرون عجزهم و ينسبون تلك الأسباب فيما بينهم، فقال لهم: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) «3» «4».

[46] و

إذ قد انتهى الأمر و تذكر نوح عليه السّلام ابنه الغريق كنعان و أخذته الشفقة عليه وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ نداء دعاء و ضراعة فَقالَ يا رَبِّ إِنَّ ابْنِي

______________________________

(1) يوسف: 81.

(2) القصص: 8.

(3) الإسراء: 89.

(4) بحار الأنوار: ج 17 ص 213.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 609

[سورة هود (11): آية 46]

قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46)

مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ فقد وعدتني بنجاة أهلي فنجّه من الغرق، أو من العذاب في الغرق، فإن كان المراد الأول، فلعلّ نوحا لم يكن يعرف مصير ولده هل أنه غرق أم لا وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أي إن حكمك أصح الأحكام، فلا تحكم في ولدي أو غيره إلا بالصحيح.

[47] قالَ الله سبحانه في جواب طلب نوح عليه السّلام: يا نُوحُ إِنَّهُ أي ولدك لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ فإن الأهل الذين وعدت بنجاتهم ليس أهل لحم و دم، و إنما أهل عقيدة و إيمان إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ قد يبالغ في نسبة الفعل إلى شخص حتى يجعل ذلك الشخص نفس الفعل، كما يقال: «زيد عدل» مع العلم أن زيد ليس قطعة من العدل و إنما هو ذو عدل، و لكن البلاغة تقتضي ذلك. و هنا كذلك، فإن ابن نوح لما كان يعمل الأعمال الفاسدة، صار كأنه قطعة منها، فقيل: «إنه عمل غير صالح»، كما يقال: «زيد قطعة من فساد»، يراد أنه منهمك فيه، أو بتقدير «ذو» أي أنه «ذو عمل غير صالح» كما قال الشاعر: «فإنما هي إقبال و إدبار» أي: «ذات إقبال و إدبار».

و قال بعض أن الضمير

في «إنه» يعود إلى سؤال نوح، أي: إن طلبك بنجاة ابنك عمل غير صالح، لكن هذا الاحتمال بعيد عن الظاهر.

فَلا تَسْئَلْنِ يا نوح ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ السؤال إنشاء، و الإنشاء لا يتصف بالصدق و الكذب، و مطابقة الواقع و عدم مطابقته،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 610

[سورة هود (11): آية 47]

قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)

و كونه متعلق العلم و عدم كونه متعلقه. إلّا أن الإنشاء حيث يحمل دائما- في طيه- إخبار عن شي ء صح الاتصاف بهذه الأمور، فمثلا يسألك أحدهم مالا، فتقول: إنه يكذب، و لست تريد أنه يكذب في السؤال، بل تريد أن الخبر الذي يدل عليه هذا الإنشاء- و هو أنه فقير معدم- غير صحيح، إذ ظاهر السائل أنه لفقره يسأل، فأنت تريد تكذيب ذلك الخبر المنطوي في هذا الإنشاء ..

و هنا كذلك، فإن سؤال نوح لم يكن بما ليس له به علم، بل الخبر الضمني كان بدون علم فإنه عليه السّلام أخبر بأن الله وعده نجاة ابنه- بتشكيل القياس- «ابنه من أهله»، و «أهله موعود نجاتهم»، ف «ابنه موعود نجاته». و قد كان نوح عليه السّلام يرى أن الوعد بنجاة الأهل شامل للولد أيضا، و على هذا طلب الوفاء بالوعد، لكنه سبحانه بيّن أنه لم يكن داخلا في الوعد، و لم يدل دليل على لزوم علم الأنبياء بجميع الأمور، حتى يقال أن نوحا عليه السّلام كيف لم يعلم ذلك، و هذا لا ينافي مقام العصمة، فإن معنى العصمة أن لا يذنب، لا أن يعلم كل شي ء.

إِنِّي أَعِظُكَ يا نوح أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ

أي لئلّا تكون جاهلا، و لا شك أن وعظه سبحانه يبدّد الجهل. و قد يظن بعض الناس أن هذه عبارة خشنة، لكن الظاهر أنه جار مجرى التكلم المعتاد، في مقابل التكلم بلين، و مقامه سبحانه لا يقتضي اللين في الكلام، و يحتمل أن يكون إفراغ الغالب في هذا القالب لإفادة مبغوضية الكفار لدى الله سبحانه- و قد سبق ما يشبهه في قصة أخذ موسى عليه السّلام برأس أخيه-.

[48] قالَ نوح عليه السّلام بعد ذلك الكلام منه سبحانه: يا رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 611

بِكَ أي أعتصم بك، من «عاذ» إذا استجار أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ أي أسألك شيئا ليس فيه صلاح، و يكون سؤالي صادرا عن عدم علم لي بالواقع. و لا يخفى أن ذلك لا ينافي أيضا مقام العصمة، فإن «ولدك لو سألك أن تذهب إلى النجف، و لم يكن ذلك من الصلاح، لأن الأجور تحمّلك خسارة كبيرة، فهل أن سؤاله يعد عصيانا لك؟».

لكن نوحا عليه السّلام أراد أن يجنّبه الله سبحانه حتى من هذا النحو من السؤال.

وَ إِلَّا أي: و إن لم تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ «الغفران» الستر، و «الترحم» التفضّل، و هما كما يكونان بالنسبة إلى العاصي، يكونان بالنسبة إلى المطيع، فإن الإنسان مهما بلغ من النزاهة فإنه يحتاج إلى ستر الله لما لا يليق بشأنه، كما يحتاج إلى تفضّله، و هذا هو سر استغفار المعصومين.

فمثلا إن التوجه إلى إنسان في كلام مما يسبب عدم التوجه إلى الله سبحانه في ذاك الوقت لا يليق بشأن من يعرف الله حقّ معرفته، و إن كان راجحا في نفسه، و لذا يستحق الاستغفار. قال سبحانه للرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ* وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) «1». و من هذا القبيل ما قيل:

«حسنات الأبرار سيئات المقربين»

«2».

______________________________

(1) النصر: 2- 4.

(2) بحار الأنوار: ج 25 ص 205.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 612

[سورة هود (11): آية 48]

قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48)

ثم إن من المعلوم أن للخسران مراتب فمن من شأنه تحصيل الربح الكثير إذا لم يحصل عليه كان خاسرا، و هكذا قول نوح عليه السّلام:

«أكن من الخاسرين» فلو لا غفران الله و رحمته كان عليه السّلام خاسرا إذا لم يحصّل تلك المراتب الرفيعة التي تليق بمثله.

[49] و لما استقرت السفينة على جبل الجودي قِيلَ و القائل هو الله سبحانه، إما بنفسه، أو بأمر ملائكة بذلك: يا نُوحُ اهْبِطْ من السفينة و الجبل إلى الأرض بِسَلامٍ مِنَّا بتحية لك من عندنا، أو بنجاة و سلامة من قبلنا، فأنت آمن ناج وَ بَرَكاتٍ أي زيادة من فضل، و خيرات نامية عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ أي الجماعات التي معك من الإنس و الطير و الوحش، فإنها تنمو و تزداد حتى تملأ الأرض من ذراريها و نسلها، فإن الأمة تطلق على الحيوانات، كما قال سبحانه: (وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) «1». و هنا طريفة لفظية، و هي: أن ثمان «ميمات» اجتمعن في هذه الآية «أمم مّمّن مّعك» أصلها خمس ميمات و نونان و تنوين.

وَ من نسل هؤلاء أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ

نعطيهم متعة الحياة الدنيا في المستقبل ثُمَ يكفرون و يعصون ف يَمَسُّهُمْ يشملهم مِنَّا أي من طرفنا عَذابٌ أَلِيمٌ موجع مؤلم في الدنيا بصنوف القلق و المرض و الفقر و الحروب و ما أشبه، و في الآخرة بالنار و العقاب.

______________________________

(1) الأنعام: 39.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 613

[سورة هود (11): الآيات 49 الى 50]

تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50)

و كان قوله «و أمم» لأجل أن لا يستفاد من قوله «و على أمم» أن من حملهم نوح و ذريتهم كلهم تصحبهم السلامة و البركة، بل هناك من نسلهم من يكفر و يعصي فلا بركة له و لا سلام.

[50] تِلْكَ الأخبار التي قصصناها عليك من تفصيل أحوال نوح عليه السّلام و قومه مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي أخبار ما غاب عنك يا رسول الله معرفته نُوحِيها إِلَيْكَ و ليس في التوراة و الإنجيل لهذه الكيفية و التفصيل و النزاهة ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ يا رسول الله وَ لا قَوْمُكَ قريش، أو العرب، أو الناس المعاصرون لك، فإن لفظ «قوم» يستعمل بمعنى كل ذلك. و لا غضاضة في أن لا يعلمها الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هل علم الرسول إلا من علم الله سبحانه و وحيه فهو قبل ذلك لا يعلم شيئا مِنْ قَبْلِ هذا أي من قبل الوحي، أو من قبل القرآن فَاصْبِرْ يا رسول الله على أذى قومك كما صبر نوح عليه السّلام إِنَّ الْعاقِبَةَ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ الذين

يخافون الله و يعملون بأوامره، كما كانت العاقبة لنوح و المؤمنين به.

[51] و حيث ينتهي السياق من قصة نوح شيخ المرسلين، يأتي الكلام حول قصة هود عليه السّلام و يورد القرآن الكريم جملة من هذا القبيل من القصص كلها تركز على شي ء واحد هو بعثة الأنبياء عليهم السّلام لإصلاح الناس، ثم عدم سماع الناس- إلا نادرا- منهم، ثم إهلاك المكذبين و جعل كلمة الله هي العليا بنجاة المؤمنين و نصرتهم وَ أرسلنا إِلى عادٍ و هم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 614

[سورة هود (11): الآيات 51 الى 52]

يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ (51) وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)

قبيلة أَخاهُمْ في النسب هُوداً النبي عليه السّلام، و كان هؤلاء ساكنين في الأحقاف «و الحقف» كثيب الرمل المائل، في جنوب الجزيرة العربية، و كانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم أخاهم من تلك القبيلة هودا عليه السّلام، ف قالَ لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ ليس لكم مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ دخول «من» في المنفي يفيد العموم إِنْ أَنْتُمْ ما أنتم في اتخاذكم الأصنام شركاء لله تعالى إِلَّا مُفْتَرُونَ كاذبون في قولكم، و حيث أنكم تنسبون ذلك إلى الله سبحانه، فهو افتراء و بهتان.

[52] يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ و الإرشاد و الهداية أَجْراً مالا، فإنما أبلغكم مجانا و بلا عوض. و قد كانت الأنبياء تؤكد على ذلك لأن الناس دائما يخافون من الداعي لخوفهم على أموالهم، فإذا أمنوا ذلك، لم يكن لهم عذر مادي في

عدم قبولهم الدعوة إِنْ أَجْرِيَ أي ليس جزائي على الدعوة إِلَّا عَلَى الله الَّذِي فَطَرَنِي خلقني و سواني و أوجدني من العدم أَ فَلا تَعْقِلُونَ استفهام توبيخي، أي لما ذا لا تعملون عقولكم لتعلموا صدق و استقامة طريقتي؟! [53] وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا عفوه و غفرانه لما سلف منكم من الكفر و المعاصي ثُمَّ تُوبُوا ارجعوا إِلَيْهِ في العمل بأوامره

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 615

و نواهيه، فإن الإنسان العاصي يحتاج إلى أمر سلبي هو محو ما سلف، و إلى أمر إيجابي هو الاستقامة على منهاج جديد لما يأتي. و قد تقدم أن «الاستغفار و التوبة» لو افترقا شملا الأمرين، أما لو اجتمعا فالاستغفار للسلبي، و التوبة للإيجابي.

فإذا فعلتم ذلك يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً أي يرسل المطر عليكم متتابعا متواترا، بمعنى «جرى و نزل»، و استعمال «السماء» مريدا به المطر، لعلاقة الحال و المحل. قال الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه و إن كانوا غضابا

و في بعض التفاسير أنهم كانوا قد أجابوا فوعدهم هود عليه السّلام بالغيث إن تابوا و أنابوا، كما قال تعالى في آية أخرى: (وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) «1» «2».

وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ و المراد ب «القوة» كل ما يتقوّى به الإنسان من مال و أهل و قوى مادية و معنوية، و هذا بقدر ما هو مما وراء الغيب، هو حسب القوانين العادية، فإن المؤمنين أكثر نشاطا و تآلفا، و أصح منهاجا مما تؤدي إليه كثرة القوة وَ لا تَتَوَلَّوْا أي لا تعرضوا عن الله و أوامره في حال كونكم

مُجْرِمِينَ تعملون الكفر و الآثام.

______________________________

(1) الأعراف: 97.

(2) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 290.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 616

[سورة هود (11): الآيات 53 الى 55]

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55)

[54] قالُوا في جواب دعوته لهم: يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بحجة واضحة تدل على صدقك. فإنهم لم يكونوا يعتبرون الأدلة الواضحة حجّة، كما هو شأن كل معاند وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ لسنا نترك عبادة الأصنام لأجل قولك بأن الله واحد. و إنما جي ء ب «عن» لأنه يدل على التجاوز، نحو: «رميت السهم عن القوس»، أي فليس تركنا ناشئا عن قولك وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ بمصدّقين مقالك.

[55] إِنْ نَقُولُ ما نقول فيك و في هذه المقالات التي تقولها إِلَّا اعْتَراكَ أي أصابك بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ فإنك حيث كنت تسب آلهتنا، أصابوك بالجنون فجننت و خبل عقلك- كذا قال المفسرون- فلما رأى هود عليه السّلام أنه لا ينفع فيهم الكلام و لا يتفكرون قالَ لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا عليّ فإني أجعلكم شهودا على أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مع الله من الآلهة الباطلة، و لا أعترف لهم بالألوهية.

[56] فإن آلهتكم المزعومة التي تعبدونها مِنْ دُونِهِ من دون الله، ليست في نظري بآلهة حتى أعبدها، و إنما هو إله واحد لا شريك له. ثم كيف تزعمون أن آلهتكم مستني بسوء لسبي إياها، فإني أتحدّاكم أن تجتمعوا أنتم و الآلهة التي تعبدونها فَكِيدُونِي جَمِيعاً

فاحتالوا و اجتهدوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 617

[سورة هود (11): آية 56]

إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)

لضرّي و إيذائي ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ أي لا تمهلونني، بل فاجئوني بالهجوم لقصد إيذائي، فإني لا أبالي بكم و لا أكترث بكيدكم، بعد ما كنت مستظهرا بالله سبحانه، واثقا من نصره، إنكم جميعا لا تقدرون على إيذائي، فكيف يقدر بعض آلهتكم أن يمسني بسوء؟

قال بعض المفسرين: إن هذا من أعظم آيات الأنبياء عليهم السّلام أن يكون الرسول وحده، و أمته متعاونة عليه، فيقول لهم: كيدوني، فلا يستطيع واحد منهم صدّه، و كذلك قال نوح عليه السّلام: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ...) «1»- كما تقدم- و

قال نبينا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ)

«2». و مثل هذا القول لا يصدر إلا عمن هو واثق بنصر الله و بأنه يحفظه عنهم و يعصمه منهم.

[57] إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ إني وثقت به و فوضت أمري إليه فهو المدافع المحامي عني ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ سبحانه آخِذٌ بِناصِيَتِها أي ما من حيوان يدب على الأرض إلا هو مالك له يصرفه كيف يشاء، و «الناصية» هو مقدم الرأس، فكما أن الآخذ بشعر مقدم الرأس لأحد، يتصرف في ذلك الإنسان بالقهر و الغلبة، كذلك المالك للدواب، و هذا كناية عن قهره سبحانه لكل دابة و قدرته عليها كلها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فإنه مع قدرته فهو عادل فيما يعامل به البشر، و سنته و أحكامه عادلة مستقيمة. و هذا تشبيه للمعقول

______________________________

(1) يونس: 72.

(2) المرسلات: 40.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2،

ص: 618

[سورة هود (11): الآيات 57 الى 58]

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (57) وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58)

بالمحسوس فكما أن السائر المستقيم، يمشي على صراط مستقيم، فكذلك صراطه سبحانه في أحكامه و سننه.

[58] ثم قال هود عليه السّلام لقومه: فَإِنْ تَوَلَّوْا أصله «تتولوا»، أي فإن أعرضتم عن دعوتي فإني غير ملوم و غير مأخوذ بإعراضكم إذ قد أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ و بلغت لكم رسالة ربي، فتوليكم من سوء اختياركم. ثم إن ذلك لا يضر الله سبحانه كما لا يضرّني فإنه يهلككم بمعاصيكم وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يؤتي مكانكم بأناس آخرين يعبدونه و يوحّدونه، بعدكم و خلفا لكم وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً بتولّيكم، كما لم تضرّوني بذلك إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ يحفظ دينه من الضياع فيأتي بغيركم ليعبدوه، كما يحفظني عن أذاكم و ضرركم.

[59] وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا بهلاك عاد بعد أن لم تنفعهم الدعوة و تولّوا معرضين نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ من الهلاك- و في المجمع:

قيل أنهم كانوا أربعة آلاف- بِرَحْمَةٍ مِنَّا حيث رحمناهم بعدم عذابهم. و ذكر هذه الجملة، إما لإفادة أن نجاتهم لم تكن صدفة و إنما عن قصد، و إما لإفادة أن نجاة أولئك المؤمنين لم تكن باستحقاقهم، إذ أن كل أحد لا بد و أنه ممن يستحق العقاب، فنجاته تكون برحمة و فضل من الله وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ شديد. و الإتيان بهذا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 619

[سورة هود (11): الآيات

59 الى 60]

وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

اللفظ لدلالته على ما كان للعذاب من شدة و هول، و تكرّر «نجينا» إما لبيان الخصوصية فإن اللفظ أولا كان مطلقا، ثم جي ء به مع المتعلق، و إما لبيان أنهم نجوا من عذاب الآخرة كما نجوا من عذاب الدنيا، و هذا فيما إذا أريد من «العذاب الغليظ» عذاب الآخرة.

[60] ثم تأتي القصة في جمل قصار للتكرير و التركيز في الذهن وَ تِلْكَ القبيلة التي أهلكت و هي عادٌ أي قبيلة عاد جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أنكروا براهينه و أدلته التي أقامها على توحيده و رسالة رسوله و سائر الأصول و الفروع وَ عَصَوْا رُسُلَهُ بالمخالفة و المشاقة. و إنما قال «رسله» بلفظ الجمع، لأن من كذّب رسولا فقد كذّب الرسل، كما أن من المحتمل أن يكون سبحانه أرسل إليهم أنبياء، و إنما تعرض لقصة أحدهم فقط و هو «هود» وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ «الجبار» هو من يجبر الناس على ما يريد، و «العنيد» الكثير العناد الذي لا يقبل الحق، و المراد جبابرتهم، فقد كان قوم هود يمتثلون أمر الرؤساء الجبارين عوض امتثال أمر الأنبياء المصلحين.

[61] وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً فإن الله سبحانه سخّر للمؤمنين لعنة الكفار، فقوم هود «عاد» يلعنون في الدنيا، فتعقبهم اللعنات مدى الزمان وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يكونون ملعونين مطرودين عن الخير معذّبين في النار، يلعنهم الأنبياء و الملائكة و المؤمنون أَلا فلينتبه السامع إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أي: كفروا بربهم، أو المراد

أنهم ستروه بأن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 620

[سورة هود (11): آية 61]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)

لم يعترفوا به، فإن «الكفر» أصله «الستر» أَلا فلينتبه السامع بُعْداً لِعادٍ أي أبعد الله عادا قَوْمِ هُودٍ النبي هود عليه السّلام عن رحمته.

و هذا دعاء عليهم يتضمن التوهين و الإذلال.

و في تكرّر «ألا» و «عاد» إظهار فظاعة أمرهم، و حث الناس على الاعتبار بما نالهم، و الحذر من مثل أفعالهم، و إنما قال «قوم هود» ليتميزوا عن «عاد إرم».

ورد أن عاد كانت بلادهم في البادية، و كان لهم زرع و نخل كثير، و لهم أعمار طويلة و أجسام ضخمة، فعبدوا الأصنام و بعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام و خلع الأنداد، فأبوا و لم يؤمنوا و آذوه، فكفت السماء عنهم سبع سنين حتى قحطوا، فجاءوا إليه فقالوا: يا نبي الله قد أجدبت بلادنا و لم تمطر، فسل الله المطر و أن يخصب بلادنا، فتهيأ للصلاة فصلى و دعا، فقال لهم: ارجعوا فقد أمطرتم و أخصبت بلادكم. و بقي في قومه يدعوهم إلى الله و ينهاهم عن عبادة الأصنام حتى أخصبت بلادهم و أنزل الله عليهم المطر. فلما لم يؤمنوا و بقوا على كفرهم و إصرارهم بعبادة الأصنام أرسل الله عليهم الريح الصرصر يعني «الباردة» سبع ليالي و ثمانية أيام حتى أهلكهم عن آخرهم.

[62] وَ أرسلنا إِلى ثَمُودَ و هم قبيلة كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك و مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَخاهُمْ في النسب صالِحاً

قالَ صالح عليه السّلام لهم: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ من هذه الأصنام التي تعبدونها و سائر الآلهة الباطلة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 621

[سورة هود (11): آية 62]

قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)

هُوَ أَنْشَأَكُمْ أي ابتدأ خلقكم مِنَ الْأَرْضِ إما باعتبار آدم عليه السّلام، أو باعتبار كل فرد من أفراد البشر، فإنه كان ترابا ثم صار نباتا ثم مأكولا، أو حيوانا ثم منيا ثم إنسانا وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها الاستعمار هو أن يجعل القادر منهم أن يعمّر الأرض، فإذا قيل: «استعمر زيد عمروا» كان معناه: أنه جعل عمروا قادرا على عمارة الأرض بما هيأ له من الأسباب. فالمعنى أمركم بعمارة الأرض و أقدركم عليها.

و قد روى «النعماني» عن أمير المؤمنين عليه السّلام، في تفسير «و استعمركم فيها»: فأعلمنا سبحانه أنه قد أمرهم بالعمارة ليكون ذلك مما جعله الله تعالى سببا لمعايشهم بما يخرج من الحب و الثمرات و ما شاكل ذلك مما جعله الله تعالى معايش «1».

أقول: و يؤيد هذا المعنى قوله: «أنشأكم».

فَاسْتَغْفِرُوهُ أي اطلبوا غفرانه بالتوبة من الشرك و المعاصي و فعل الطاعات ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ بعد أن طهّرتم أنفسكم من الذنوب، و ارجعوا إليه في أخذ الأحكام و الطاعة و العبادة إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ قرب العلم و الاطلاع و الغفران، فليس بعيدا غير عالم، و لا متكبرا لا يلبي الطلب مُجِيبٌ لمن دعاه و طلبه.

[63] قالُوا قالت ثمود: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا نرجو

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 19 ص 35.

تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 2، ص: 622

[سورة هود (11): آية 63]

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)

منك الخير لما كنا نرى من صفاتك الحسنة و أخلاقك الطيبة، أما الآن فقد يئسنا منك حيث رأينا أقوالك و دعوتك إلى الله و نبذ عبادة الأصنام أَ تَنْهانا استفهام إنكاري أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أي: كيف تنهانا عن عبادة الأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها؟ وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من عبادة الله وحده و نبذ الأصنام مُرِيبٍ موجب للريبة و التهمة، كيف أنت تصدّق و آباؤنا كانوا على ضلالة و جهالة.

[64] قالَ صالح لهم: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة تشهد على صدقي مِنْ قبل رَبِّي سبحانه وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً أعطاني النبوة برحمته و فضله فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ أي من بأس الله و غضبه و عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ بعد إبلاغكم الدعوة، أو اتخاذ طريقتكم لرجائكم فيّ الخير، فإن رجاءكم فيّ الخير من دون عبادة الله وحده لا يدفع عني العذاب، خصوصا و أنه سبحانه أعطاني و فضلني فَما تَزِيدُونَنِي إذا لبّيت دعوتكم غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي خسارة على خسارة، من سلب النبوة عني و عذاب الله الشامل للعاصين، أو المعنى: غير أن أنسبكم إلى الخسران، بأن أريكم أنكم الخاسرون، إذ كلما أصرّ المبطل زاد المحق علما بأنه في خسارة و انحطاط و نقص.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 623

[سورة هود (11): الآيات 64 الى 66]

وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ

قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)

[65] ثم ذكر صالح عليه السّلام الدليل على كونه نبيا من قبل الله سبحانه، قال:

وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ الإضافة إليه سبحانه تشريفية، فإنه هو الذي كونها من غير ولادة عادية، و إنما أخرجها من الجبل الأصم لَكُمْ آيَةً أي علامة و دليل على صدقي و حجة كلامي- و قد سبقت قصتها فراجع- فَذَرُوها أي دعوها و اتركوها و شأنها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ من العشب و النبات، و لا تريد الأكل منكم حتى تستثقلوها و تتضجرون منها وَ لا تَمَسُّوها أي لا تصيبوها بِسُوءٍ أي بأذى قتل أو جرح أو عقر أو غيره فإن فعلتم ذلك فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ يقرب وقته من وقت إيذائكم لها.

[66] لكن القوم أصرّوا على كفرهم و عنادهم، و اجتمع جماعة منهم و جعلوا لأحدهم جعلا إن عقر الناقة و خلّصهم منها فَعَقَرُوها و إنما نسب الأمر إلى جميعهم لفعل بعضهم، و مشاركة جماعة بالتسبب، و رضى الآخرين فَقالَ صالح عليه السّلام لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ فإنه لم يبق من حياتكم و تمتعكم في الدنيا أكثر من ثلاثة أيام ذلِكَ العذاب بعد الثلاثة أيام وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي صادق لا كذب فيه.

[67] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا أي عذابنا لقوم صالح نَجَّيْنا صالِحاً من العذاب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 624

[سورة هود (11): الآيات 67 الى 68]

وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا

رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)

وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي رحمنا أولئك المؤمنين فلم نعذبهم. و لعل سر الإيثار في هذه الجملة إفادة أن المؤمن الناجي، أيضا ينجو بالرحمة لأن لكل إنسان من الذنوب ما يستحق بها العذاب، أو أن الإنسان لا يستحق الثواب و الجزاء الجميل و إنما يتفضل الله سبحانه بذلك، فالنجاة من الهلكة ليست بالاستحقاق و إنما بالفضل و الرحمة وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي نجيناهم من الموت و الخزي، فإن الموت بالعذاب خزي و إهانة، و معنى «يومئذ» أي خزي يوم العذاب إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله هُوَ الْقَوِيُ الذي يقوى على إهلاك الكفار و إفنائهم الْعَزِيزُ الغالب في سلطانه لا يمتنع عليه أي شي ء مما أراد.

[68] وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ بأن صاح بهم جبرائيل عليه السّلام أو خلق الله سبحانه صيحة فماتوا جميعا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ و بيوتهم جاثِمِينَ من «جثم» بمعنى لزم المكان، فلم يبرحه. أي: ميتين لا حراك لهم.

[69] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها «غنى في المكان» أقام فيه، و المعنى: كأن لم تكن ثمود في منازلهم قط لانقطاع آثارهم بالهلاك، إلا بقايا بيوتهم و جثثهم الهامدة. ثم يجمل السياق القول في ما فعلوا و كان سببا في عاقبتهم هذه أَلا فلينتبه السامع إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ فلم يعتقدوا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 625

[سورة هود (11): آية 69]

وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)

به و أشركوا معه غيره، و أصل «الكفر» الستر، كأنهم بعدم الاعتراف ستروا وجه الحقيقة أَلا فلينتبه السامع بُعْداً لِثَمُودَ عن حسن الذكر في الدنيا و السعادة في الآخرة، إنهم قد طردوا عن

رحمة الله و فضله.

[70] ثم يستعرض القرآن الحكيم القصة الرابعة في هذه السورة بعد قصة نوح و هود و صالح عليهم السّلام بقوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا أي الملائكة و هم جبرائيل و إسرافيل و ميكائيل و كروبيل إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى أي بشارة إعطائه الولد- إسماعيل عليه السّلام- بعد أن شاخ و يئس عن الولد. و لعل ذكر هذا الطرف من قصة إبراهيم عليه السّلام لبيان أن الله سبحانه أنجز وعده الذي وعده لنوح بقوله: (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) «1»، فقد كانت البركات في أولاد إبراهيم إسماعيل و إسحاق، و العذاب في أمة لوط.

قالُوا أي لما دخلت الملائكة قالت لإبراهيم: سَلاماً بهذا اللفظ، و هذا كناية عن تسليمهم عليه سلاما كاملا، بأن قالوا- مثلا- سلام عليكم، ف قالَ إبراهيم عليه السّلام في جوابهم: سَلامٌ بهذا اللفظ، فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ كأنه قال: «ما أبطأ عن المجي ء بالعجل»، فحذف حرف الجر و وصل الفعل بالمجرور- على القاعدة- «العجل» ولد البقر، و «الحنيذ» فعيل بمعنى مفعول من

______________________________

(1) هود: 49.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 626

[سورة هود (11): الآيات 70 الى 71]

فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71)

«حنذ» بمعنى شواه بالحجارة، أي جاء بعجل مشوي بالحجارة، أو المشوي مطلقا. و قد كان إبراهيم عليه السّلام محبا للضيف فلما رأى الملائكة ظنهم بشرا- لأنهم كانوا في صورة بشر- فأتى إليهم بالطعام، و هو

عجل مشوي.

[71] لكن الملائكة لا تأكل طعام الدنيا، و لذا لم يتقدموا للأكل كما هو عادة الضيوف فَلَمَّا رَأى إبراهيم عليه السّلام أَيْدِيَهُمْ أي أيدي الملائكة لا تَصِلُ إِلَيْهِ إلى العجل و لا يأكلون منه نَكِرَهُمْ أنكرهم فإن «نكر و أنكر» بمعنى واحد فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أي أضمر في نفسه منهم خوفا، يقال: «أوجس خوفا» أي أضمر، فإن الإيجاس يعني الإحساس. قالوا: فقد جرت عادتهم أن الضيف لو أكل من الطعام كانوا في أمن منه، و إن لم يأكل خافوا من شره لأن عدم أكله دليل أنه ينوي السوء بالمضيف. و قيل: إن خوفه كان بسبب ما علم أنهم ملائكة و خاف من أن يكونوا أمروا بعذاب القوم.

قالُوا أي قالت الملائكة، لما رأوا خوف إبراهيم عليه السّلام: لا تَخَفْ منا يا إبراهيم إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ بالعذاب و الإهلاك، و لا نضمر بك شرا، أو لا نضمر بقومك شرا.

[72] وَ قد كانت امْرَأَتُهُ أي زوجة إبراهيم سارة قائِمَةٌ في أثناء هذا الكلام بين إبراهيم و بين الملائكة فَضَحِكَتْ و لعلّ ضحكها كان بسبب البشارة بهلاك القوم المجرمين، فإن المرأة أكثر الناس غضبا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 627

[سورة هود (11): آية 72]

قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72)

لعمل الفاحشة من الرجال، أو أنها ضحكت مستبشرة بقدوم الملائكة إلى دارها، أو المراد من «ضحكت» حاضت، فإن «ضحك» بمعنى سال، يقال: ضحكت الشجرة، إذا سال صمغها، و المراد: أنها حاضت بعد عقم و انقطاع حيض، و إن الحيض لمن المبشرات بالولد، إذ لولاه لم يكن تكوّن الولد فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ و حيث أن بشارة الملائكة لا تكون

إلا من الله سبحانه صح إسناد البشارة إلى نفسه تعالى وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ فإن البشارة بالولد و الذرية من خير البشائر للمرأة العقيمة.

[73] قالَتْ سارة لما سمعت ببشارة الأولاد: يا وَيْلَتى حرف النداء دخل على منادى محذوف أصله: يا قوم ويلتي، أو المعنى: يا ويلتي احضري فهذا وقتك، كما قالوا في «يا للعجب» معناه: يا عجب احضر فهذا وقتك، و ليس حينئذ حقيقة و إنما القصد إنشاء التعجب بهذه العبارة، و «ويلتي» أصله الدعاء بالهلاك، لأن الويل بمعنى الشر و الهلاك لكنه استعمل لمطلق التعجب عرضا و لو كان في الفرح، من باب علاقة استعمال الضد في الضد، نحو: «لا أبا لك» الذي كان أصله للسب ثم استعمل للمدح أيضا أَ أَلِدُ أي: هل ألد الولد وَ الحال أَنَا عَجُوزٌ طاعنة في السن، و «العجوز» لفظ يستعمل لكل ذكر و أنثى وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً؟! «البعل» الزوج، أي إن هذا بعلي في حال كونه شيخا كبير السن.

روي أن سارة كان لها من العمر يوم ذاك تسعون سنة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 628

[سورة هود (11): الآيات 73 الى 74]

قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)

و لإبراهيم عليه السّلام مائة و عشرون سنة «1».

إِنَّ هذا التبشير بالولد، أو الولد منا و نحن هرمين لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ و لم يكن تعجبا إنكارا لقدرة الله سبحانه، بل الإنسان إذا رأى شيئا خلاف القوانين المودعة في الطبيعة تحرك فيه حس التعجب و الاستغراب.

[74] قالُوا أي قالت الملائكة التي بشروها بالولد: أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ

استفهام تنبيه، أي: كيف تعجبين من أمر إرادة الله سبحانه؟

و الحال رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ تفضله و خيراته النامية عَلَيْكُمْ يا أَهْلَ الْبَيْتِ أي أهل بيت النبوة، فإنه سبحانه لم يزل يرعاكم و يتفضل عليكم فلا عجب لأنه القادر على ما يشاء، و لا عجب من جهتكم لأنكم مورد ألطافه و كراماته إِنَّهُ سبحانه حَمِيدٌ محمود على أفعاله مَجِيدٌ ذو مجد و رفعة، فبكونه محمود الفعال يتفضّل، و بكونه رفيعا يقدر.

[75] فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ أي الخوف و الرعب الذي دخله من الرسل وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى بالولد، و اطمأن بفضل الله و لطف الملائكة به، شرع يُجادِلُنا أي يجادل رسلنا و يناقشهم. و حيث أن رسول

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 110.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 629

[سورة هود (11): الآيات 75 الى 76]

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

الشخص كالشخص، صح إسناد فعل الرسل إليه، كما صح إسناد فعل الأشخاص إلى الرسل، بفعلهم معه فِي قَوْمِ لُوطٍ الذين أرسلت الملائكة لتعذيبهم.

ورد أن إبراهيم عليه السّلام قال للرسل: إن كان في القوم مائة من المؤمنين أ تهلكونهم؟ قالوا: لا، قال: إن كان فيهم خمسون؟ قالوا:

لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا. و ما يزال ينقص و يقولون: لا، حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا، فقال: إن فيهم لوطا؟- و قد كان عليه السّلام ابن خالة إبراهيم عليه السّلام- قالوا: نحن أعلم بمن فيهم، لننجيّنه و أهله إلا امرأته «1».

[76] إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ يحلم عن العصاة، و بحلمه كان يطلب عدم تعذيب قوم لوط أَوَّاهٌ أي كثير الدعاء مُنِيبٌ راجع إلى

الله سبحانه في جميع أموره، من «أناب»، و كأن الإتيان بهذا الوصف له عليه السّلام، و قد قضي الأمر.

[77] ثم قالت الملائكة لإبراهيم عليه السّلام، بعد التساؤل و النقاش: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الطلب و انصرف عنه فإنه لا يفيد إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بهلاك هؤلاء و عذابهم فهو نازل بهم لا محالة وَ إِنَّهُمْ أي قوم لوط آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ لا يرد عنهم، فقد جرت سنة الله أن

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 546.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 630

[سورة هود (11): آية 77]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)

المعرضين ما داموا لم يحتجّ عليهم، أو يحتمل- و لو احتمالا خارجيا- أو كان في أصلابهم ذرية مؤمنة، لا يعذّبون، أما و قد انسدت الأبواب، فقد حقت عليهم كلمة العذاب و ما فائدة بقائهم أكثر من ذلك.

[78] و انتهى الأمر و سار الرسل نحو قرية لوط عليه السّلام في زي شبان حسان الصور- و هذه هي القصة الخامسة في السورة- وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً أي أتت الملائكة إلى لوط عليه السّلام سِي ءَ لوط بِهِمْ أي ساءه مجيئهم وَ ضاقَ لوط بِهِمْ أي بسبب ورودهم ذَرْعاً أي قلبا و طاقة. قالوا: إن الأصل في ذلك أن البعير يذرع بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوته، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذرعه فيضعف و يمد عنقه، و منه قولهم: «ما لي به ذرع» أي ليس لي به طاقة.

وَ قالَ لوط عليه السّلام: هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي يوم شديد عليّ، كيف أصنع بالقوم إذا أرادوا الفاحشة مع هؤلاء الضيوف،

أصل «عصب» من الشد، يقال: «عصبت الشي ء» أي شددته، و يستعمل غالبا في الشر.

و قد روي عن الإمام الباقر عليه السّلام- بتغيير يسير-: كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله، فطلبهم إبليس الطلب الشديد، و كان من فضلهم و خيرتهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم و تبقى النساء خلفهم، و لم يزل إبليس يعتادهم و كانوا إذا رجعوا خرّب إبليس

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 631

ما كانوا يعملون، فقال بعضهم لبعض: تعالوا نرصد لهذا الذي يخرب متاعنا، فرصدوه، فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان، فقالوا له: أنت الذي تخرب متاعنا مرة بعد مرة، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيّتوه عند رجل، فلما كان الليل صاح فقال له: ما لك؟ فقال:

كان أبي ينومني على بطنه. فقال الرجل: تعال فنم على بطني. قال:

فلم يزل الشيطان يدلك الرجل حتى علّمه أن يفعل بنفسه، ثم انسل ففر منهم، و أصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام و يحبّبهم منه و هم لا يعرفونه، فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بالرجال، ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق فيفعلون بهم، حتى تنكّب مدينتهم الناس، ثم تركوا نساءهم و أقبلوا على الغلمان، فلما رأى الشيطان أنه قد أحكم أمره في الرجال، جاء إلى النساء فصيّر نفسه امرأة ثم قال: إن رجالكن يفعل بعضهم ببعض. قلن: نعم قد رأينا ذلك. و كل ذلك ينصحهم لوط و يوصيهم، و إبليس يغويهم، حتى استغنت النساء بالنساء.

فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل في زي غلمان، عليهم أقبية فمروا بلوط عليه السّلام و هو يحرث قال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قط؟ قالوا: إنا أرسلنا سيدنا

إلى رب هذه المدينة. قال: أو لم يبلغ سيدكم ما يفعل أهل هذه المدينة، يا بني إنهم و الله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم. فقالوا: أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. قال: فلي إليكم حاجة؟ قالوا: و ما هي؟ قال:

تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام. قال: فجلسوا، فبعث لوط ابنته فقال: جيئي لهم بخبز و جيئي لهم بماء في القرعة و جيئي لهم بعباءة يتغطون بها من البرد. فلما أن ذهبت الابنة أقبل المطر، و جرى الوادي، فقال لوط: الساعة يذهب بالصبيان الوادي، قال: قوموا حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 632

نمضي، و جعل لوط يمشي في أصل الحائط و جعلت الملائكة يمشون وسط الطريق فقال: يا بني امشوا هاهنا، فقالوا: أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. و كان لوط يستغنم الظلام.

و مر إبليس و أخذ من حجر امرأة صبيا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلهم على باب لوط، فلما نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا؟ فقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحوني في ضيفي. قالوا: هم ثلاثة خذ واحدا و أعطنا اثنين. ثم أدخلهم الحجرة، و قال: لو أن لي أهل بيت يمنعوني منكم؟ قال:

و تدافعوا على الباب و كسروا باب لوط و طرحوا لوطا. فقال له جبرائيل: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك، فأخذ جبرائيل كفا من بطحاء فضرب بها وجوههم و قالوا: شاهت الوجوه. فعمي أهل المدينة كلهم و قال لهم لوط: يا رسل ربي فما أمركم ربي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم وقت السحر. قال: فلي إليكم حاجة؟ قالوا: و ما حاجتك؟

قال: تأخذونهم الساعة، فإني أخاف أن يرحمهم الله سبحانه و يصرف العذاب عنهم. فقالوا:

يا لوط إن موعدهم الصبح أليس بقريب لمن يريد أن يأخذ؟ فخذ أنت بناتك و امض ودع امرأتك.

و في رواية أخرى: ففعل لوط ما أمر و خرج ببناته ليلا و دعوا زوجته لأنها كانت منافقة، و لما خرج لوط من المدينة و جاء الصباح قلع جبرائيل المدينة و رفعها إلى السماء ثم قلبها و أمطر الله عليها و على أطرافها حجارة من سجيل.

و في بعض التفاسير: أن زوجة لوط هي التي أخبرت القوم بالضيوف «1».

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 544.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 633

[سورة هود (11): آية 78]

وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)

[79] وَ جاءَهُ أي توجه إلى طرف دار لوط قَوْمُهُ الكافرون يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ يسرعون في المشي نحوه لطلب الفاحشة بالضيوف، و لعل الإتيان بالمجهول لبيان كيفية الإسراع و أنه لم يكن هرع عقلاء و إنما هرع شهوة حيث قد انطوت أنفسهم على حب هذا العمل الشنيع، فكانت نفوسهم تسوقهم من حيث لا يشعرون وَ مِنْ قَبْلُ إتيان الملائكة أو من قبل وقوع هذه القصة كانُوا أي كان قوم لوط يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ جمع «سيئة» و المراد بها اللواط، و هذا لبيان وجه أنه عليه السّلام ضاق بهم ذرعا و رأى اليوم عصيبا.

قالَ لوط عليه السّلام لما رأى إصرار القوم على السيئة: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فتزوجوا بهن و اعملوا حيث أمركم الله، ففي المرأة الطهارة النفسية و الطهارة الجسدية، و إني مستعد أن أقدم بناتي لكم لئلّا تعملوا بالمعاصي و لئلّا تفضحونني في

ضيوفي. و هنا احتمال أنه عليه السّلام أراد من «بناتي» بنات المدينة، و أضافهن إلى نفسه لأن كبير الناس يضيف الأفراد إلى نفسه، أي: تزوجوا البنات عوض هذا العمل فَاتَّقُوا اللَّهَ خافوا عقابه في عمل اللواط وَ لا تُخْزُونِ أي لا تلزموني عارا فِي ضَيْفِي فإن الضيف لو أهين كان ذلك خزيا للمضيف و عارا عليه أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ استفهام توبيخي، أي أليس فيكم رجل أو رشيد لا سفاهة به يمنعكم عن اقتراف هذه الجريمة و عن أن يهتك أمري بالنسبة إلى ضيوفي، حتى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 634

[سورة هود (11): الآيات 79 الى 80]

قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)

لا يبقى عارها عليّ مدى الحياة؟

[80] قالُوا أي قال القوم في جواب لوط عليه السّلام: لَقَدْ عَلِمْتَ يا لوط ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ أي من حاجة، فكما لا يرغب الإنسان فيما لا حق له فيه، كذلك لا يرغب فيما لا حاجة له فيه، أو لأن من حق الرجل أن يتزوج البنت، أما إذا لم يرد فكأنه لا حق له فيها، أو المراد ب «الحق» الحصة، أي لا حصة لنا فيهن وَ إِنَّكَ يا لوط لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ من الضيوف و عمل السيئة بهم.

[81] و هنا انقطع لوط عليه السّلام و يئس و حزن و قالَ في أسف بالغ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً فأكون قويا قادرا على دفعكم، و «الباء» في «بكم» إما للمقابلة أي بمقابلتكم، أو بمعنى «على» أي عليكم، و حذف جواب «لو» توسعة في المتعلق، أو

لوضوح أن المراد «لمنعتكم» أَوْ آوِي من «أوى يأوي» بمعنى: لجأ إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ يمنعني منكم، أي: لو تمكّنت أن أستعين بقوة عشيرة أو ما أشبهها لدفعتكم و منعتكم.

في الحديث: إن جبرائيل قال- حين قال لوط ذلك-: «لو يعلم أية قوة له؟» «1».

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد».

______________________________

(1) الكافي: ج 5 ص 546.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 635

[سورة هود (11): آية 81]

قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)

[82] و هنا تكلم الرسل و قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ أرسلنا لإنقاذك و هلاك القوم.

روي أن جبرائيل قال للوط: دعهم يدخلوا. فلما دخلوا أهوى جبرائيل بإصبعه نحوهم، فذهبت أعينهم

كما قال سبحانه:

(فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) «1»، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ أي لا يقدرون أن يهجموا عليك و ينالوا منك سوءا في نفسك أو ضيوفك. و رجع القوم عن دار لوط خائبين من رعب الملائكة فقد ألقي في قلوبهم رعب شديد، و صاروا كلهم عميانا لا يبصرون.

و هنا توجهت الملائكة إلى لوط و قالوا له: فَأَسْرِ أي سر ليلا و اخرج من هذه المدينة، بِأَهْلِكَ «الباء» بمعنى «مع» أي مع أهلك بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ أي بعد ذهاب بعض الليل و قطعة منه، فإن القطع من الليل: بعضه وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إما بمعنى: لا يتخلّف في المدينة أحد منكم لأن كل من في المدينة سوف يصيبهم العذاب، و إما بمعنى: لا ينظر أحد ورائه حين السير

لئلّا يرى ما يزعجه من عذاب هؤلاء إِلَّا امْرَأَتَكَ استثناء من «أسر بأهلك» يعني فلتتخلف امرأتك، لأنها كانت مع القوم ضدك يا لوط إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ أي يصيبها من العذاب ما أصاب القوم، فاللازم عليك أن لا تخبرها و أن تخلّفها في المدينة إِنَّ مَوْعِدَهُمُ أي وقت هلاكهم

______________________________

(1) القمر: 38.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 636

[سورة هود (11): الآيات 82 الى 83]

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

و عذابهم الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ و هذا ما قالته الملائكة للوط حين استعجل عذابهم في ذلك الوقت.

[83] فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم جَعَلْنا عالِيَها أي عالي المدينة سافِلَها بأن قلبناها فإن جبرائيل أدخل جناحه تحت الأرض ثم قلبها بأن جعل أسفلها أعلاها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها الظاهر أن الإمطار كان على نفس الناس، و «الواو» لا تدل على تأخير الإمطار عن القلب، و إن كان الترتيب الذكري قد يعطيه، لأن «الواو» لمطلق الجمع كما ذكره أهل اللغة حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ قيل: إنه معرّب «سنك كل» كلمتان فارسيتان بمعنى المدر، و لا شاهد لذلك مَنْضُودٍ هو صفة سجيل، أي متراكم بعضه يلاحق بعضا، أو نضد بعضه على بعض حتى صار سجيلا، أي صار حجرا.

[84] مُسَوَّمَةً أي معلّمة، جعل فيها علامات تدل على أنها معدّة للعذاب عِنْدَ رَبِّكَ في علمه سبحانه، و في خزائنه التي لا يتصرف فيها أحد سواه. و كان ذكر هذه الأوصاف للتهويل، و إن الله سبحانه قد أعد لهم في خزائنه حجارة منضودة معلمة، كما أن الملك يهيئ لأعدائه سيوفا معلومة معلمة في خزائنه ليكون على استعداد

تام وَ ما هِيَ أي حجارة السجيل مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ فلا يستبعد أحد كيف يعذب

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 637

[سورة هود (11): آية 84]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)

الله أحدا بإمطار الحجارة؟ إنهم ظلموا فاستحقوا العقاب.

و في بعض الأحاديث: إنها مهيأة لظالمي هذه الأمة أيضا «1».

[85] وَ أرسلنا إِلى مَدْيَنَ و هم قبيلة سمّوا باسم جدهم مدين بن إبراهيم، أو أنها اسم مدينة. و في الكلام حذف، أي: أرسلنا إلى أهل مدين- لكن السياق يقوّي الأول- أَخاهُمْ في النسب شُعَيْباً و هذه القصة قد ذكرت في سورة الأعراف باختلاف في ذكر بعض الخصوصيات هنا- كما هو الشأن في القصص القرآنية- فإن القرآن يأخذ في كل موضع طرفا من القصة لإدراجه في المقصود العام المساق له الكلام قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده لا شريك له ما لَكُمْ أي ليس لكم مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ من الأصنام التي تعبدونها وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ أي لا تعطوا الناس أنقص من حقوقهم عند الكيل و الوزن بالتطفيف، و «المكيال» آلة الكيل، كما أن «الميزان» آلة الوزن، على وزن «مفتاح» إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ فقد أنعم الله عليكم بالرزق فلا تحتاجون معه إلى التطفيف و السرقة من الناس وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن بقيتم في الكفر و عملتم بالتطفيف عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ يحيط بكم

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 317.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 638

[سورة هود (11): الآيات 85 الى 86]

وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ

وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)

فلا ينجو منه أحد.

[86] وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل. و قد كان من عادة الأنبياء عليهم السّلام أن يركزوا جهودهم بعد الدعوة إلى التوحيد و المعاد، على النقطة المنحرفة في القوم كما ركّز لوط عليه السّلام جهوده لإزالة الانحراف الجنسي في قومه. و كان الانحراف العام في قوم شعيب بعد عبادة الأصنام تطفيف المكيال و الميزان، و لذا أكد على ذلك بالقول مكررا، مرة بالنهي عن التطفيف، و مرة بالأمر بإيفاء الكيل وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي لا تنقصوهم حقوقهم، فإن البائع إذا باع منّا ثم أعطى أقل من ذلك فقد نقص و بخس حق المشتري وَ لا تَعْثَوْا من «عاث» بمعنى سعى في الفساد فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ حال كونكم تفسدون. و هذا حال تأكيدي لأنه بمعنى الفعل، و إنما جي ء به لأن المفسد قد لا يعلم بإفساده، فهو يريد النهي عن الإفساد عمدا، أي لا تفسدوا متعمدين الإفساد قاصدين إليه بالذات.

[87] بَقِيَّتُ اللَّهِ الذي يبقى بإذن الله و إجازته و إباحته، و أضيف إليه تشريفا خَيْرٌ لَكُمْ أي ما أبقى الله تعالى لكم من الحلال بعد إتمام الكيل و الوزن خير لكم من التطفيف و البخس، فإنه أكثر بركة و أحسن عاقبة.

و ما ورد من أن الأئمة عليهم السّلام و الحجة عليه السّلام- بصورة خاصة- بقية الله، يراد بذلك أنهم و أنه عليه السّلام هم الذين أبقاهم الله سبحانه للهداية و الإرشاد إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي لو كنتم مؤمنين لعلمتم أن بقية الله

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 2، ص: 639

[سورة هود (11): الآيات 87 الى 88]

قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (88)

خير، أو أن خيرية البقية مشروطة بالإيمان وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم عن الحرام و عن العذاب، و إنما أنا مذكّر مرشد، فإن قبلتم قولي نجوتم، و إن لم تقبلوا أهلكتكم.

[88] قالُوا أي قال القوم في جواب إرشادات شعيب بالتوحيد و إيفاء المكيال و الميزان: يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ التي تصليها لله تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا قالوا ذلك على نحو التهكّم و الاستهزاء، كأن الصلاة قد دفعت شعيب لهدم دين القوم أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا أي هل الصلاة تأمر أن نترك التطفيف. و من المعلوم أن في الكلام حذفا تقديره: «أ صلاتك تكلّفك أن تأمرنا بترك عبادة الأصنام و ترك التطفيف في المكيال و الميزان» إِنَّكَ يا شعيب لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قالوا ذلك على وجه الاستهزاء، فإن الداعي الذي لا قوة له و لا طول كثيرا ما يظهر في مظهر الحليم ذي الرشد الذي يكتم غضبه و أسفه في مقابل الجهلة الذين لا يلبّون طلبه. و المراد: إنك مصطنع ذلك لاقتناص السيادة.

[89] قالَ شعيب في جواب استهزاء القوم: يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجة واضحة على نبوتي و صدق ادعائي

مِنْ رَبِّي أي من طرفه سبحانه وَ رَزَقَنِي مِنْهُ من عنده تعالى

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 640

رِزْقاً حَسَناً بإعطائي النبوة و التوسعة عليّ في معاشي. و الجواب محذوف، أي: هل يسعني أن أترك عبادته و طاعته أو أخون وحيه فلا أبلغه و لا أؤديه؟! وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ عملا إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ بأن أرتكب القبائح التي أنهاكم عنها، فأريد أن تتركوها و أعملها أنا.

و لعلّه إنما تكلم بهذا، لما يرى المصلحون- غالبا- أنهم يفعلون ما ينهون الناس عنه، و إنما يريدون أن يتنازل الناس عن قسم من شهواتهم ليأتوها هم إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ أي ما أريد من دعوتي إلا الإصلاح لكم عن المفاسد مَا اسْتَطَعْتُ أي على قدر استطاعتي.

قال بعض المفسرين: إن

قوله عليه السّلام «إن كنت على بينة»

إشارة إلى حق الله، و قوله «ما أريد» إشارة إلى حق النفس، و قوله «إن أريد» إشارة إلى حق المجتمع.

وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ «التوفيق» مصدر «وفق» أي: تجمّع الأسباب لدى الإنسان، و صيرورة بعضها وفق بعض لأخذ النتيجة.

و غالبا تستعمل هذه اللفظة في التوفيق للأمور الحسنة و إن كان معناها اللغوي أعم، فإن توفيقي في الكف عن القبائح و الإطاعة، و القيام بالدعوة إنما هو من عند الله سبحانه فإنه هو الذي أرشدني و هيأ لي أسباب ذلك عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و التوكل على الله: الرضا بتدبيره، و اتخاذه ظهرا في الأمور بالالتجاء و التضرّع إليه وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أي أرجع في أموري كلها إليه، فكما أن الإنسان إذا كان له ظهر و ركن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 641

[سورة هود (11): الآيات 89 الى 91]

وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي

أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91)

يلجأ إليه ليستمد منه القوة في نوائبه، كذلك من اتخذ الله ظهيرا رجع إليه في حوائجه بالتوسل إليه لقضاء حوائجه.

[90] ثم أخذ شعيب ينصح القوم و يذكرهم بمصارع الأقوام السابقة الذين خالفوا النبيين فأهلكوا وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أي لا يحملنّكم الخلاف معي و العناد و اللجاج أَنْ يُصِيبَكُمْ العذاب، فعنادكم يلجئكم إلى الكفر و التمادي في الغيّ حتى يصيبكم العذاب مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح الصرصر أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ فإنهم أهلكوا في عهد قريب، خالفوا الرسول و تمادوا في الفساد، فإن لم تعتبروا بالمتقدمين، فاعتبروا بهؤلاء القريبين منكم.

[91] وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا غفرانه لما سلف منكم من الكفر و المعاصي ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي ارجعوا إليه في عقيدتكم و أعمالكم، فالاستغفار لما مضى، و التوبة لما يأتي إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ بكم، فإذا فعلتم ما ذكرته رحمكم و تلطّف بكم وَدُودٌ أي محبّ لكم، و معنى ذلك أنه يفعل بهم ما يفعل المحب بمحبّه.

[92] قالُوا أي قال القوم بعد أن وعظهم شعيب بتلك الموعظة البالغة:

يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ أي ما نفهم، فإن «الفقه» في اللغة بمعنى «الفهم»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 642

[سورة هود (11): الآيات 92 الى 93]

قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ

عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ و هذا كلام المعاند فإنه يقول مثل ذلك و يريد أنه معرض عن كلام المتكلم، فقد أقيم السبب مقام المسبب لأن عدم العمل معلول لعدم العلم وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك و لا عزة، فلا تتمكن من دفع أذانا لو أردنا إيذاءك وَ لَوْ لا وجود رَهْطُكَ أي عشيرتك، و حرمتهم عندنا لَرَجَمْناكَ أي لقتلناك بالحجارة وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أي لا عزّة لك عندنا. و كأن الإتيان بلفظ «علينا» لأجل أن العزيز فوق الناس مرتبة و مقاما.

[93] قالَ شعيب عليه السّلام: يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أي هل عشيرتي و قومي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ فتتركون إيذائي لأجل حرمة عشيرتي، و لا تتركون إيذائي لأجل الله سبحانه، أي تراقبون العشيرة و لا تراقبون إله العشيرة و خالق الجميع. قال هذا الكلام على نحو الاستفهام الإنكاري وَ اتَّخَذْتُمُوهُ جعلتم الله سبحانه وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا جعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء ظهوركم، و معنى «الظهري» جعل الشي ء وراء الظهر حتى ينسى إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قد أحاط علمه بأعمالكم، فلا يخفى عليه شي ء تصنعونه، فيجازيكم عليه.

[94] وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على المكانة التي أنتم عليها من الكفر و العصيان، فإن «المكانة» هي الحالة التي يتمكن بها صاحبها من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 643

[سورة هود (11): آية 94]

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ

ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94)

العمل. و هذا تهديد يريد: أنكم سترون جزاء أعمالكم السيئة إِنِّي عامِلٌ حسب أمر الله سبحانه و لا أ تزحزح عن أوامره، فهذا كقوله:

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ) «1»، سَوْفَ تَعْلَمُونَ في الدنيا مَنْ منّا يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يهينه و يفضحه، هل أنتم أم أنا؟ فيتبيّن من هو الصادق وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ منّا وَ ارْتَقِبُوا انتظروا ما وعدكم ربكم من العذاب إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ و إني أيضا أنتظر و أرتقب ما وعدتكم أن يأتيكم، ليدلّ على صدقي و صحة رسالتي.

[95] و هكذا بقي القوم في الغيّ و تمادوا في الكفر و العصيان، و لم تنفعهم نصائح شعيب عليه السّلام حتى جاءهم العذاب وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا بعذابهم نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا حيث رحمناهم فلم يشملهم العذاب، و إن كان المؤمنون به مستحقين للعذاب أيضا لما تقدم أن كل إنسان- غير معصوم- لا بد و أن يصدر منه ذنب يستحق العقاب به فتكون نجاة كل فرد برحمته سبحانه.

قال في تفسير الصافي: و إنما ذكر هنا و في قصة عاد ب «الواو» أي «و لما»، و في قصتي صالح و هود ب «الفاء» أي «فلما»، لسبق ذكر وعد يجري مجرى السبب في قصتي صالح و هود دون الآخرين. انتهى «2».

______________________________

(1) الكافرون: 7.

(2) تفسير الصافي: ج 2 ص 470.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 644

[سورة هود (11): الآيات 95 الى 96]

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (96)

و احتمل بعض أن يكون قوله: «برحمة منّا» لأجل أن نجاتهم كانت بسبب هداية الله لهم و ألطافه

الخفية الموجبة لخروجهم عن حظيرة الكفار.

وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فقد صاح بهم جبرائيل عليه السّلام صيحة شديدة زهقت روح كل واحد منهم في مكانه فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ من «جثم» في المكان إذا أقام فيه، أي ماتوا و هم في ديارهم، و لم يتمكنوا من الحراك أصلا.

[96] كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها من «غنى في المكان» إذا أقام فيه، أي كأنهم لم يكونوا بتلك الديار، فقد ذهبت آثارهم، و عفت رسومهم أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ فلينتبه السامع إلى طرد قبيلة مدين من رحمة الله و لطفه كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ و لعلّ ذكر ثمود هنا لأن كلتا الأمتين ماتتا بالصيحة.

و ربما احتمل أن المراد ب «الصيحة» نوع من العذاب، تقول العرب:

«صاح الزمان بهم» إذا أهلكوا.

[97] ثم يحكي القرآن الحكيم القصة السابقة في هذه السورة و هي قصة موسى عليه السّلام و فرعون وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أي مع الأدلة الدالة على كونه من طرفنا، و هي الثعبان و اليد البيضاء و غيرهما وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ أي حجة واضحة عقلية على أن للكون إلها، و أن فرعون ليس بإله للناس.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 645

[سورة هود (11): الآيات 97 الى 99]

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)

[98] إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ إما المراد: الأشراف منهم، و تخصيص الذكر بهم لأنهم إذا أذعنوا أذعن الناس كلهم، أو المراد بالملإ: قومه كلهم فَاتَّبَعُوا أي اتبع الملأ أَمْرَ فِرْعَوْنَ في اتخاذه إلها و الإعراض عن موسى و حججه وَ ما

أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي ما هو هاد لهم إلى الرشد. و هو خلاف «السفه» فإن أمره غير مرشد و غير صحيح، بل فيه ضلالة و سفاهة.

[99] و كيف يكون أمره رشيدا، و الحال أنه و أتباعه يصيرون إلى النار؟! و هل الرشد ما يسبب الهلاك و العقاب؟! يَقْدُمُ فرعون قَوْمَهُ يتقدم عليهم و يمشي بين أيديهم يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ جميعا، ففي الدنيا كان يهديهم إلى النار، و في الآخرة يدخلهم فيها وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ «الورد» ورد الماء الذي يورد، أي: بئس الماء الذي يردونه عطشى، فإنه نار يردونها، فقد شبّه هؤلاء بأهل الجنة حيث يردون المياه الجارية و أنهار من لبن و عسل و خمر، و هؤلاء في مقابل أولئك يردون النار و يسقون من الحميم.

قال بعض المفسرين: أوردهم كما يورد الراعي قطيع الغنم، ألم يكونوا قطيعا يسير بدون تفكير؟

[100] وَ أُتْبِعُوا ألحقوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً إما بالغرق، و إما بأن الناس يلعنونهم، فكانت نتيجة اتّباعهم لفرعون أن تبعتهم اللعنة وَ يَوْمَ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 646

[سورة هود (11): الآيات 100 الى 101]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ (100) وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)

الْقِيامَةِ يتبعون باللعنات و العذاب بِئْسَ الرِّفْدُ أي العطاء الْمَرْفُودُ المعطى لهم ذلك العذاب و اللعنة، إن هذا كان عطاء فرعون لقومه، لهم النار و اللعنة، و هذا هو عاقبة من تخلّف عن الحق و اتبع الباطل.

[101] ثم بيّن سبحانه الغرض الذي سيق من أجله تلك القصص، و جعله كخاتمة

للفصول المتقدمة ذلِكَ الذي ذكرناه فيما تقدم من هذه السورة مِنْ أَنْباءِ الْقُرى أي أخبار البلاد السابقة و الأمم الخالية نَقُصُّهُ عَلَيْكَ و نخبره لك ليكون لك سلوة و ذكرى مِنْها أي من تلك القرى قائِمٌ باق إلى الآن، فإن بعض البلاد بقيت و إن هلك أهلها، كمصر وَ حَصِيدٌ أي منها حصيد قد حصد و عفا أثره، كقرى قوم لوط عليه السّلام.

[102] وَ ما ظَلَمْناهُمْ أي نحن لم نظلم الذين هلكوا وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و العصيان و هما سببين للهلاك و النكال فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ أي لم تنفعهم و لم تفدهم آلِهَتُهُمُ أصنامهم البشرية، كفرعون، و الحجرية، كالأوثان التي كانوا يعبدونها و الَّتِي كانوا يَدْعُونَ ها مِنْ دُونِ اللَّهِ و يتخذونها أربابا مِنْ شَيْ ءٍ متعلق به «ما أغنت عنهم» أي لم تنفعهم شيئا في دفع العذاب عنهم لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإهلاكهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 647

[سورة هود (11): الآيات 102 الى 103]

وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)

و نزول العذاب عليهم وَ ما زادُوهُمْ ما زادتهم تلك الآلهة غَيْرَ تَتْبِيبٍ من «التباب» أي الخسارة، أي أن الآلهة زادتهم خسارة على خسارتهم، فإنهم لو لم يكونوا يعبدونها، بل كانوا مجرد عاصين لم يزد في عذابهم، فقد جاء من قبل تلك الآلهة زيادة في عذابهم و نكالهم، و إنما قال: «زادوهم» بضمير العاقل، لأن الكفار كانوا يعتبرونها عاقلة، فجرى الكلام حسب اعتقادهم.

[103] وَ كَذلِكَ الذي بيّناه سابقا و أوضحناه أَخْذُ رَبِّكَ و هلاكه إِذا أَخَذَ

الْقُرى وَ هِيَ ظالِمَةٌ أي أهلكهم و عذبهم، فقد شبّه الإهلاك بالأخذ، فكما أن الأخذ لا يتمكن المأخوذ من الإفلات منه كذلك الذين عذبهم سبحانه لا يتمكنون من النجاة.

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: «إن الله تعالى يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ثم قرأ الآية»

«1». إِنَّ أَخْذَهُ للظالم أَلِيمٌ مؤلم موجع شَدِيدٌ فلا يمكن الإفلات منه.

[104] إِنَّ فِي ذلِكَ الذي تقدم من أحوال الأمم التي كفرت و عصت الرسل لَآيَةً دليل على بطش الله سبحانه لمن طغى و تكبّر لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ أي لمن آمن لعلمه بأنه أنموذج من ذلك العذاب المهول، فإن ذلك الأخذ الأليم الشديد مشابه لعذاب الآخرة لمن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 67 ص 335.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 648

[سورة هود (11): الآيات 104 الى 105]

وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (105)

اعتقد بها ذلِكَ اليوم يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ يجمعون كلهم للحساب و الجزاء وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ليشهده الخلائق كلهم من الجن و الإنس، و في محضرهم يجري الحساب و الجزاء.

[105] وَ ما نُؤَخِّرُهُ ما نؤخر يوم القيامة إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي أمد معدودة أيامه، فإذا انتهى ذلك الأمد أظهرناه للوجود، و اللام في «لأجل» لام العلة، أي لغرض تمام الأجل و انتهائه.

[106] يَوْمَ يَأْتِ حين يأتي يوم القيامة و الجزاء لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ لا يتكلم أحد مع أحد إلا بإجازة الله سبحانه، فقد شمل يوم القيامة صمت رهيب، فإن الإنسان إذا خاف و وجل لم يتكلم حيث يسود الخوف و الرهبة. و لعل في الإتيان بصيغة

المجهول- بناء على ذلك- للإشارة إلى أن الناس هناك كالمساجين الذين لا يحق لأحد أن يكلمهم، و فيه دلالة بليغة على الخوف السائد و الرهبة المخيمة على الناس حتى أن سماع الكلام لا يجوز إلا بإذن خاص، و لا يخفى أن هذا لا ينافي تكلم بعضهم مع بعض في مواقف مختلفة لأن ذلك بالإذن، و هل الإذن كالإذن هناك، أو المراد به الإذن التكويني برفع الأبهة؟ احتمالان.

فَمِنْهُمْ أي من الناس شَقِيٌ قد شقي بسبب الأعمال الفاسدة و العقائد الكاسدة وَ منهم سَعِيدٌ سعد و فاز بعقيدته الصحيحة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 649

[سورة هود (11): الآيات 106 الى 107]

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)

و عمله الصالح.

[107] فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا و هم الذين تركوا الفطرة الأصلية بسبب و وساوس الشياطين و النفس الأمارة فَفِي النَّارِ تلك محلّهم و مسكنهم لَهُمْ فِيها أي في النار زَفِيرٌ هو إخراج النفس وَ شَهِيقٌ و هو إدخال النفس. قالوا: «الزفير» أول نهيق الحمار، و «الشهيق» آخر نهيقه، و هما من أصوات المكروبين المحزونين، و «الزفير» من شديد الأنين و قبحه، بمنزلة إبقاء صوت الحمار، و «الشهيق» الأنين الشديد المرتفع جدا بمنزلة آخر صوت الحمار.

[108] خالِدِينَ فِيها أي دائمين أبدا في النار ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أي ما بقيت جهة العلو و جهة السفل، فإن اللفظين يطلقان على الجهتين إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ فإن بعض أهل النار يخرجون منها بإدراكهم الشفاعة أو استيفاء عقابهم لأنهم كانوا أهل معاصي، أو كانوا كفارا عصاة، لكن لم تتم الحجة عليهم بما

يوجب الخلود، و إنما كانت الحجة عليهم بقدر دخولهم النار كما لو خالفوا بعض الأوامر الثابتة عندهم أنها من قبله سبحانه، بقتل نفس محترمة، أو سلب مال أو ما أشبه. و لا يلازم خروجهم من النار دخولهم في الجنة، إذ هناك أماكن أخرى معدة للناس كالأعراف. فلا يقال: كيف يدخل الكافر الجنة؟

إِنَّ رَبَّكَ يا رسول الله فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ لا يمنعه عن إرادته مانع و لا يقف دون مشيئته شي ء. و لعلّ الإتيان بصيغة المبالغة «فعّال»

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 650

تقريب القرآن إلى الأذهان ج 2 699

[سورة هود (11): الآيات 108 الى 109]

وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

باعتبار العموم في ما يريد، أي يفعل كل ما يريده، فإذا أراد خلود الكفار خلدوا، و إذا أراد نجاة بعض العاصين نجوا.

[109] وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا بالطاعة و العمل الصالح فَفِي الْجَنَّةِ لهم مستقر و مأوى خالِدِينَ فِيها أبد الآبدين لا يزولون عنها و لا تزول عنهم ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أي ما بقيت جهتا العلو و السفل، فإن العرب تقول لما أطلها: «سماء»، و لما أقلها: «أرض» إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ هذا الاستثناء لإفادة أن الأمر لم يخرج عن إرادة الله سبحانه، فليس الخلود جبرا عليهم فإذا شاء إخراجهم من الجنة أمكنه ذلك و إن لم يفعل، أو الاستثناء باعتبار الأول يعني أن السعيد في الجنة إلا المقدار الذي هو في المحشر أو في النار- ابتداء- لما

صدر منه من بعض الأعمال السيئة، فليس في ذلك الوقت في الجنة لأن الله لم يشأ كونه فيها، و إذ كان الكلام موهما لانقطاع الخلود جاء التأكد لذلك بقوله سبحانه: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع، و «عطاء» منصوب بما فهم من الجملة، أي أعطاهم الجنة عطاء دائما.

[110] إن الأقوام الذين كذبوا الرسل حق عليهم العقاب في الدنيا و حق عليهم العقاب في الآخرة، كما استعرض كل من العقابين في قصصهم السابقة، و إذ قد علمت يا رسول الله ذلك فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ أي في شك، فإن «المرية» بمعنى الشك مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ الكفار، من الأصنام المنحوتة، فإن مصير الجميع إلى النار و الهلاك ما يَعْبُدُونَ إِلَّا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 651

[سورة هود (11): آية 110]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)

كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ فليس لهم حجة في عبادتهم إلا التقليد للآباء عن جهالة و ضلالة، فليست لهم حاجة في عبادتهم لدليل أو منطق. و من المعلوم أن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن يشك في أمرهم، و إنما جرى الكلام من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة» وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي معطوهم جزاء أعمالهم و عقاب أفعالهم وافيا غَيْرَ مَنْقُوصٍ لا ينقص من عقابهم شي ء.

[111] وَ شأن هؤلاء شأن من سبقهم من الأمم فلقد آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أعطيناه التوراة فَاخْتُلِفَ فِيهِ أي في موسى، هل هو نبي أم لا؟ أو اختلف في الكتاب، هل هو من عند الله أم لا؟ و على كل حال، فقد اختلفوا في الحق

كما اختلف قومك يا رسول الله وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ حسب ما قدّر من المصالح، بأن يكون لكل أمة أجل لا يتقدم و لا يتأخر لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ لحكم سبحانه بين المؤمنين و الكافرين بنجاة المؤمنين و إعطائهم الأجر، و هلاك الكفار و خزيهم، لكنه سبحانه حكم و قضى أن تكون الدنيا دار مهلة و اختبار، و لذا يترك كلّا و شأنه يعمل ما يشاء وَ إِنَّهُمْ أي الكافرين لَفِي شَكٍ فإنهم ما كانوا يتيقنون بكذب دعوى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مِنْهُ أي من وعد اللّه، أو من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو من الكتاب مُرِيبٍ موجب للريب، فان الإنسان قد لا يعتني فلا يكون الشك موجبا للريب و قد يعتني به حتى يوقعه في الريب حقيقة.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 652

[سورة هود (11): الآيات 111 الى 112]

وَ إِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

[112] وَ إِنَّ كُلًّا «إن» مخففة من الثقيلة، أو نافية، و على الأول أصل «لما»: «ل من ما» أي «لمن الذين»، فأبدلت النون ميما و اجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهن، فيكون المعنى: و إن كل طائفة من الفريقين- المؤمنين و الجاحدين- لمن الذين يعطيهم الله أجورهم.

و على الثاني يكون «لمّا» بمعنى «إلا» أي: «ما كل طائفة إلا ليعطيهم الله أجورهم» لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ أي يعطيهم ربك جزاء أعمالهم إن خيرا فخير و إن شرا فشر إِنَّهُ سبحانه بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا يفوته شي ء من أعمالهم، بل يعلم كل عمل و

يعطي جزاءه.

[113] فَاسْتَقِمْ يا رسول الله كَما أُمِرْتَ بالتبليغ و الإنذار، و لا يزحزحك إنكار المنكرين و جحود الجاحدين وَ ليستقم مَنْ تابَ و رجع إلى الله سبحانه بعد الكفر و العصيان مَعَكَ فإن الكافر و العاصي كأنهما ذاهبان عن الله سبحانه إلى غيره، فإذا آمن الكافر، و استغفر العاصي، كانا تائبين راجعين إليه سبحانه. و تقدير «ليستقم» إنما هو بقرينة «استقم» نحو: «نحن بما عندنا و أنت بما عندك راض» أي: نحن بما عندنا راضون.

وَ لا تَطْغَوْا أي لا تجاوزوا أوامر الله سبحانه، بالزيادة أو النقصان، فإن «الطغيان» تجاوز الحد، يقال: «طغى الماء» إذا تجاوز حده. و الخطاب للناس، المفهوم من قوله «من تاب» إِنَّهُ تعالى بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيبصر و يرى طغيان الطاغين و استقامة

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 653

[سورة هود (11): آية 113]

وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113)

المستقيمين، فيجازي كلّ حسب عمله.

في تفسير «الصافي»: قال ابن عباس: ما نزلت آية كان أشق على رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هذه الآية، و لهذا قال: «شيبتني هود و الواقعة و أخواتها» «1».

و عن بعضهم قال: رأيت رسول الله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النوم، فقلت: روي عنك أنك قلت:

«شيبتني هود»

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «نعم»، فقلت: ما الذي شيّبك منها، أ قصص الأنبياء و هلاك الأمم؟ قال: لا، و لكن قوله تعالى: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» «2».

[114] و إذ أمر سبحانه المؤمنين بالاستقامة، نهاهم عن الانحراف بالركون إلى الظالمين فإن كل انحراف عن الاستقامة ركون إلى الظالم الذي نهج

ذلك المنهج المنحرف وَ لا تَرْكَنُوا و «الركون» هو الاعتماد و الميل و السكون إلى شخص أو جهة أو نحوها إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا في عقيدة أو عمل أو غيرهما فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ و تأخذكم. و التعبير ب «المس» لعله لإفادة أن مس النار يقتضي الحذر منه فكيف بما فوقه وَ ما لَكُمْ أيها المؤمنون مِنْ دُونِ اللَّهِ أي سوى الله سبحانه مِنْ أَوْلِياءَ ينصرونكم في الدنيا و الآخرة، فإن الله هو وليكم ثُمَ إن ركنتم إلى الظالمين لا تُنْصَرُونَ إذ الله سبحانه يقطع نصره عنكم، و الكافرون-

______________________________

(1) وسائل الشيعة: ج 6 ص 172.

(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 11 ص 213.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 654

[سورة هود (11): آية 114]

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114)

بما انطووا عليه من عدائكم- لا ينصرونكم، و قد جرب المسلمون ذلك، فإنهم من يوم ركنوا إلى الكافرين أخذ أمرهم في الانحطاط إلى هذا اليوم، حتى يرجعوا عما اقترفوا، فينصرهم الله سبحانه.

[115] و بمناسبة لزوم الاستقامة يأتي السياق لبيان وجوب الصلاة، فإنها أحسن وسيلة للاستقامة، إذ هي تحتاج إلى يقظة دائمة في النفس و ملكة راسخة تحفظ الإنسان طيلة العمر عن الانحراف، و هذه اليقظة و الملكة لا تكون إلا بالتذكير الدائم الحاصل من إقامة الصلاة صباحا و عصرا و ليلا وَ أَقِمِ الصَّلاةَ يا رسول الله، أو كل من يأتي منه ذلك طَرَفَيِ النَّهارِ صباحا و عصرا، فإن صلاة الصبح في الطرف الأول من النهار، و صلاة الظهرين في الطرف الآخر منه وَ زُلَفاً جمع «زلفة» و هي المنزلة، مثل «غرف جمع غرفة»، و هي أول ساعات

الليل، كأن كل ساعة منزلة من منازل الليل مِنَ اللَّيْلِ و هي صلاة المغرب و العشاء «1».

و هذا هو المفهوم من

رواية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن: «طرفي النهار» الغداة، «وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» هي صلاة العشاء.

أقول: فعلى هذا تكون الآية ساكتة عن الظهرين، و لعلّ ذلك لصعوبة الثلاثة الأول دونهما.

إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ فإن الحسنة تكفّر السيئة

______________________________

(1) تفسير القمي: ج 1 ص 337.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 655

[سورة هود (11): الآيات 115 الى 116]

وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (116)

و تمحقها، و من الحسنات «الصلوات الخمس» فإنها تمحق الذنوب و تمحيها.

و قد روي ذلك عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما روي عن الإمام المرتضى عليه السّلام أنه قال: «إن الله يكفر بكل حسنة سيئة. ثم تلا هذه الآية» «1».

ذلِكَ الذي تقدم من قوله «استقم» ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ أي فيه تذكرة و موعظة لمن أراد التذكّر و التفكّر.

[116] وَ اصْبِرْ يا رسول الله على الاستقامة، أو على الصلاة، أو مطلقا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ و الصابر من أفضل أقسام المحسنين، و الصبر على ثلاثة أقسام: صبر على البلاء، و صبر على الطاعة، و صبر على الأحوال، بأن لا يبطر الإنسان عند الرخاء و لا يجزع عند البلاء.

[117] إن دعاة الإصلاح الذين يتمكنون من تغيير الواقع السيئ هم الذين يبقون على الأمم من الانهيار و الدمار فإذا خلت أمة منهم انهارت و اضمحلت، كما

أن المرضى يحتاجون إلى أطباء يتمكنون من علاجهم. أما إذا كان هناك مرضى بلا طبيب أو كان هناك طبيب لكن لم يتمكن من تنفيذ أوامره و علاج مرضاه فإن عاقبتهم الموت و الهلاك.

و هكذا جرت سنة الله في الأمم سابقها و لا حقها فحيث إن الأمم السابقة لم ينفذ فيهم دعاة الإصلاح لقساوة قلوبهم عذّبوا. و هكذا يذكّر

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 29 ص 319.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 656

[سورة هود (11): آية 117]

وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)

الله سبحانه بهذه الحقيقة حتى يأخذ الناس حذرهم، و يعلموا أنهم إن لم يصلحوا انهاروا و استحقوا العذاب.

فَلَوْ لا أي فهلّا، تقريح و ذم كانَ مِنَ الْقُرُونِ جمع قرن و هو الجيل، أي من الأجيال السابقة التي كانت مِنْ قَبْلِكُمْ أيها المسلمون أُولُوا بَقِيَّةٍ أصحاب بقايا فضل و عقل و تدبر، فكأنهم كلهم كانوا أحداثا، لا بقية عقل و حنكة و حكمة فيهم حتى يتدبروا و يتفكروا و يعتبروا بالماضين يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ فإنه كان من اللازم أن يكون فيهم جمع هذه صفتهم حتى ينقذوا الأمم و القرون من الهلاك إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ من أنبيائهم و بعض المؤمنين بهم، مما لم يكن يكفي لدفع العذاب عنهم، فإن الطبيب و لو كان من أحذق الأطباء لكنه إذا لم يجد آذانا صاغية من المرضى و الممرضين لم يكن لأمره نفع في إنقاذ المرضى، إن القليل الذين كانوا ينهون قد أنجيناهم، أما سائر الجيل فقد أهلكوا بفسادهم و عصيانهم وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا و عصوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ أي اتبعوا ترفهم و شهواتهم، في مقابل المؤمنين الذين اتبعوا أوامر الله سبحانه

و مناهج الأنبياء وَ كانُوا مُجْرِمِينَ ذوي إجرام و عصيان، و لذا أهلكوا بسبب أعمالهم الفاسدة.

[118] وَ ما كانَ رَبُّكَ يا رسول الله لِيُهْلِكَ الْقُرى السابقة، أي يهلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 657

[سورة هود (11): الآيات 118 الى 119]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)

أهل القرى بِظُلْمٍ منه لهم وَ الحال أن أَهْلُها مُصْلِحُونَ يصلحون أنفسهم و مجتمعهم باجتناب المعاصي و النهي عن المنكر، و إنما أهلكهم بالعدل حين كان أهلها مجرمين مفسدين.

[119] إن الدنيا دار اختبار و امتحان ليجزي كل حسب عمله و لذا ترك الله سبحانه الأمم و ما يختارون بعد أن بيّن لهم الرشد من الغي وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ يا رسول الله لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً بإلجاء الجميع إلى الإيمان و العمل الصالح، لكنه لا يشاء ذلك لئلّا يبطل الثواب و العقاب وَ لكن لا يَزالُونَ الناس مُخْتَلِفِينَ بعضهم كافر و بعضهم مؤمن، و بعضهم مطيع و بعضهم عاص، و ذلك بأن شاء الله اختيارهم و قدرتهم.

[120] إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ من المؤمنين فإنهم لا يختلفون و يجتمعون على الحق. و المراد ب «الرحمة» الألطاف الخفية، بعد هداية الجميع إلى الطريق و إرشادهم، فمن قبل و آمن لطف به اللطف الخفي الزائد، و من أعرض تركه و غيّه، كما أن الأب إذا أعطى أولاده رؤوس الأموال ليتّجروا بها فأعرض بعض و أقبل بعض، لطف بالمقبل كثيرا و أخذ بيده، أما المعرض فهو يخذله و يتركه ليفعل ما يشاء وَ لِذلِكَ أي للرحمة خَلَقَهُمْ فقد

خلقهم الله سبحانه حتى يرحمهم، لكن قسما منهم أبوا و تخلّفوا و عصوا، كما أن من أسس مدرسة إنما يؤسسها لتعليم الناس و هدايتهم، فإذا أعرض البعض كان

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 658

[سورة هود (11): الآيات 120 الى 121]

وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121)

من عنده، لا من عند من أسس المدرسة وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي انتهت فلا مبدل لها، و الكلمة هي: لَأَمْلَأَنَ من «ملأ» بمعنى:

إدخال الشي ء في الظرف حتى يمتلئ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ بسبب كفرهم و عصيانهم، و إنما ذكر هذا الطرف من الناس لأن الكلام حول العصاة و الكفار، و الذين أهلكوا بسبب مخالفتهم للأنبياء.

[121] وَ كُلًّا أي كلّا من هذه القصص المتقدمة نَقُصُّ عَلَيْكَ و نخبرك مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ أخبارهم، كيف بلغوا، و كيف وقف قومهم ضدهم و آذوهم؟ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ أي نقوّي به قلبك، حتى إذا رأيت إعراضا و أذى من قومك، لم يسبب ذلك يأسك عن البلاغ. و ليس معنى ذلك أنه لم يكن للنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثبات، و إنما استمرار الثبات هو بيد الله سبحانه وَ جاءَكَ يا رسول الله فِي هذِهِ القصص السالفة الْحَقُ فكل ما حكي كان حقا مطابقا للواقع وَ جاءتك في هذه مَوْعِظَةٌ تعظ بها الجاهلين و تبعد بها الناس عن المعاصي وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ تذكّرهم بالله و بآياته و بالآخرة.

[122] وَ قُلْ يا رسول الله لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ من الكافرين اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي

على حالتكم التي أنتم عليها، و هذا تهديد لهم،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 659

[سورة هود (11): الآيات 122 الى 123]

وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

كقوله: (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) «1»، إِنَّا عامِلُونَ على منهجنا، حتى نرى ما يصنع الله بكم و بنا.

[123] وَ انْتَظِرُوا أي توقعوا عقاب الله و عذابه إِنَّا مُنْتَظِرُونَ فضله و رضوانه، أو المعنى: نحن و أنتم ننتظر نتائج الأعمال، و هل نحن كنا على باطل أم أنتم؟.

[124] إن ما يأتي غيب و سينكشف الغيب و يظهر المجهول وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فكلّ ما غاب عن الحواس، أو غاب عن الوجود- بأن لم يوجد بعد- سواء كان في السماوات أو في الأرض، إنه لله وحده فهو العالم به و هو القادر على إيجاده أو إظهاره وَ إِلَيْهِ أي إلى الله تعالى يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فكل الأمور مرجعها إليه في الدنيا و في الآخرة، فهو الفاصل في القضايا التكوينية و التشريعية، حتى أنه إذا لم يشأ شيئا لم ينفع فيه إرادة الجن و الإنس فَاعْبُدْهُ يا رسول الله وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ اجعله وكيلا عنك و ناصرا لك، فإن من يعلم الغيوب، و يكون مصير الأمور إليه، أحق بالعبادة و التوكل عليه، من سائر الأشياء وَ ما رَبُّكَ يا رسول الله بِغافِلٍ أو جاهل عَمَّا تَعْمَلُونَ من الخير و الشر، فمن أحسن فلنفسه، و من أساء فعليها.

______________________________

(1) فصلت: 41.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 660

12 سورة يوسف مكية/ آياتها (112)

سميت السورة باسم «يوسف» عليه السّلام، لاشتمالها على قصته و اسمه المبارك. و حيث كانت سورة

«هود» مشتملة على قصص الأنبياء، كانت هذه السورة مكملة لتلك القصص، و أتت بقصة طريفة في موضوعها، و هي تشمل المقصود العام من القرآن الحكيم من التوجيه نحو المبدأ و المعاد، و تطهير النفس من الرذائل، و ذكر الأحكام و التشريعات.

[1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ابتداء للكلام بسم الله، فالله هو الذات المستجمعة لجميع صفات الكمال، فهو أحق الأسماء بالاستعانة و الابتداء، و بمن يبتدأ الكلام، غيره؟ و لما ذا يبتدئ الإنسان بغيره؟

و هل يعطي الغير ما يتطلبه الإنسان؟ و هو الرحمن الذي يرحم الكل، و الرحيم الذي يتفضل على المؤمنين بأنواع خاصة من التفضّل.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 661

[سورة يوسف (12): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)

[2] الر من جنس «ألف» و «لام» و «راء» أنشئ القرآن الحكيم، أو هي رموز بين الله و الرسول كالرموز التي بين رؤساء الحكومات و سفرائها، أو غير ذلك تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ فإن هذه الأحرف و ما من جنسها هي بعينها تلك الآيات البعيدة التي فوق الطاقة البشرية لا يتمكن الإنسان من الإتيان بمثلها لا لفظا و لا منهجا، و الكتاب مبيّن واضح لا لبس فيه و لا غموض و لا التواء.

[3] و لقد شاء الله سبحانه أن ينزل هذا الكتاب بلغة العرب إِنَّا أَنْزَلْناهُ أنزلنا هذا الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا و لماذا؟ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ و تفهمون، إذ هو بلغتكم، أو الخطاب في «لعلكم» عام يشمل جميع البشر، إذ كون القرآن من مصدر عربي أقوى في الدلالة على كونه من قبل الله سبحانه فإن الحضارة- عهد نزول القرآن- لم تكن إلا لفارس و

الروم، أما عرب الجزيرة فلم يكونوا أهل تحضّر و علم من قراءة و كتابة، فإذا جاء بالقرآن رجل عربي يعيش بين أظهرهم، كان أدل على أنه من قبل الله سبحانه، مما لو كان منزلا على رجل رومي أو فارسي وسط الحضارة.

و قد ذكر المفسرون: أن نزول القرآن على رسول من الجزيرة يشتمل على أنواع من الفضل لم تكن توجد لو أنزل على طرفي العالم المتحضر يوم ذاك، فإن الجزيرة تعد وسط العالم تقريبا، و أنها كانت أحوج إلى الرشاد، و أن أهلها كانوا أقدر على حمل الرسالة، لبداوتهم و عدم تلوثهم بمفاسد الحضارة، و غير ذلك مما بيّنوه في المفصلات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 662

[سورة يوسف (12): الآيات 3 الى 4]

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)

[4] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ و بالأخص قصة يوسف، فإنها قصة واقعية فيها أنواع من التذكرة و العظة، مشوقة حيث اشتملت على موضوع مثير بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ أي بسبب إيحائنا هذا القرآن قصصنا عليك هذه القصص فلو لا إيحاؤه لم تكن قصة وَ إِنْ كُنْتَ يا رسول الله مِنْ قَبْلِهِ قبل إيحاء القرآن إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ الذين لا يعرفون شيئا من ذلك. و هذا لا ينافي

الحديث المروي: «كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين»

«1» إذ لا ملازمة بين النبوة و بين علم كل شي ء، فلقد كان نبيا لكنه لم يكن يعلم بعض الأشياء، أو كان وحي القرآن قبل ذلك لأنه إنما أوحي إلى

النبي القرآن بعد البعثة في الظاهر، و أما في الحقيقة فقد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم القرآن قبل وحيه إليه.

؟ و قد ورد أن الإمام المرتضى عليه السّلام قرأ القرآن و هو طفل رضيع.

[5] فاذكر يا رسول الله إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السّلام: يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ في المنام أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ إنما أتى بالجمع العاقل لأن السجود من صفات العقلاء.

روي عن الباقر عليه السّلام في تأويل هذه

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 16 ص 402. تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 663

[سورة يوسف (12): الآيات 5 الى 6]

قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

الرؤيا: أنه سيملك مصر و يدخل عليه أبواه و أخوته، أما الشمس فأم يوسف راحيل، و القمر يعقوب، و أما الأحد عشر كوكبا فإخوته. فلما دخلوا عليه سجدوا شكرا لله وحده حين نظروا إليه. و كان ذلك السجود لله تعالى «1».

[6] قالَ يعقوب: يا بُنَيَ تصغير «ابن»، و لعلّ وجه التصغير الشفقة لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ أي لا تخبرهم بما رأيت في المنام فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً أي فيحسدوك، حيث تدل رؤياك على مقام رفيع، و يحتالوا لإهلاكك حيلة إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، فإنه يريد الإيقاع بين الأخوة بإشعال نار الحسد في قلوب بعضهم على بعض.

[7] وَ كَذلِكَ أي كما

أراك هذه الرؤيا تكرمة لك، مما كان تعبيره خضوع الأخوة و الأبوين لمقامك يَجْتَبِيكَ من «الاجتباء» أي الاختيار و هو الاصطفاء، أي يختارك رَبُّكَ يا يوسف للنبوة وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ «الأحاديث» هي الرؤيا، لأنها من أحاديث الملك و إخباره للإنسان في منامه إن كانت الرؤيا صادقة، و من أحاديث الشيطان و النفس إن كانت كاذبة، و «تأويلها» تعبيرها، سمي «تأويلا» لأن الرؤيا تأوّل إلى ذلك المعنى المتضمنة له وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعطائك

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 217.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 664

[سورة يوسف (12): الآيات 7 الى 8]

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8)

رغباتك في الدنيا و الآخرة وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ إخوتك و أولادكم بجعلهم أنبياء و ملوكا و سادة للناس كَما أَتَمَّها أي أتم الله سبحانه نعمته عَلى أَبَوَيْكَ أبيك و جدك مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ حيث جعلهما نبيين و أعطاهما نعم الدنيا إِنَّ رَبَّكَ يا يوسف عَلِيمٌ بمن يصلح للرسالة و السيادة و الملك حَكِيمٌ يفعل الأشياء حسب الصلاح و الحكمة.

[8] ثم شرع سبحانه في قصة يوسف بقوله: لَقَدْ كانَ فِي قصة يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ الأحد عشر آياتٌ أدلة و علامات على قدرة الله سبحانه، و إرشادات لمن أراد الاسترشاد لِلسَّائِلِينَ أي لمن يسأل عن الآيات و يهتم بالأمور و يفتش عن الحقائق.

؟ عن الجوامع: روي أن اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر و عن قصة يوسف؟

قال: فأخبرهم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقصة.

[9] إِذْ

قالُوا أي اذكر إذ قالوا، أو لقد كان آيات إذ قالوا، أي: قال بعض الأخوة لبعض، و قد كان عشرة منهم من غير أم، و يوسف و ابن يامين من أم- كما في بعض التفاسير و التواريخ- لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أي ابن يامين أَحَبُّ إِلى أَبِينا يعقوب عليه السّلام مِنَّا فقد كان يعقوب شديد

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 665

[سورة يوسف (12): آية 9]

اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)

الحب ليوسف و بعده لابن يامين، و كان يوسف من أحسن الناس وجها و أحسنهم أخلاقا.

فقد حكي أن رجلا سأل يعقوب: لم تفضل يوسف على باقي الأخوة؟ قال: أعلمك بالأمر، فطلب أحد الأخوة و سأله عما لو أساء شخص إليه ماذا يصنع؟ قال الولد: أنتقم منه .. ثم طلب يوسف و سأله عن مثل ذلك السؤال، فقال يوسف: أعفو عنه، قال: فإن أساء إليك ثانية؟ قال يوسف: أعفو، قال: فإن أساء إليك ثالثة؟ قال: أعفو.

وَ الحال أنّا نَحْنُ عُصْبَةٌ جماعة يتعصّب بعضنا لبعض، و يعين بعضنا بعضا، فكيف أن أبانا يقدّم يوسف و بنيامين علينا و نحن أنفع له منهما؟ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ انحراف عن طريق الصواب مُبِينٍ واضح لا شك فيه، فكيف يقدم أصغر الأولاد على سائر الأولاد؟

[10] أخذ الأخوة- و بالطبع لم يكن فيهم ابن يامين- يتآمرون على يوسف ليطفئوا حسدهم قائلين: اقْتُلُوا يُوسُفَ قتلا أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً مجهولة بعيدة، حتى لا يكون إلى جنبنا، و لعلّ السباع تأكله، أو يؤول أمره إلى الموت يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ تخلص لكم محبة الأب، و تملكون قلبه، فلا يصرف اهتمامه و حبه نحو يوسف فقط وَ

تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أي بعد هذا العمل من قتل يوسف أو طرحه في أرض مجهولة قَوْماً صالِحِينَ تستغفرون الله سبحانه. و هذا من عادة الذي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 666

[سورة يوسف (12): الآيات 10 الى 11]

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11)

يريد أن يسي ء و فيه بقية من إيمان، فإنه بين عزمه على ارتكاب الجريمة بما توسوس إليه نفسه، و بين نيته في أنه سيصبح صالحا مستغفرا بعد ارتكابها. و يحتمل أن يراد «صالحين في أمر دنياكم لا يزاحمكم فيها يوسف».

[11] قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ في بعض الأحاديث أن اسمه «لاوي» و هو جد موسى عليه السّلام: لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ «الجب» هو البئر و «غيابته» قعره، حتى لا يموت و لا يشرف على الموت حيث يَلْتَقِطْهُ أي يأخذه من هناك بَعْضُ السَّيَّارَةِ «السيارة» هي الجماعة المسافرون، سموا بذلك لأنهم يسيرون في البلاد. فإنهم إذا عطشوا و أرادوا الماء أدلوا دلوهم فيها، فيتعلق به يوسف فيخرجوه، و يذهبوا به إلى دورهم و محلهم، فقد تخلصنا من يوسف، و لم نرتكب جريمة قتله إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي تريدون في الحقيقة التخلص من يوسف، فليكن هذا عملكم و نوع تخلصكم.

[12] و لما أحكموا المؤامرة و أجمعوا على التخلص من يوسف الغلام البري ء الجميل حسدا و عداء، جاءوا إلى أبيهم يعقوب ف قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ لأي شي ء لا تثق بنا في أمر يوسف؟ ألسنا نحن أمناء عندك؟ و يظهر من الكلام أن

يعقوب كان سيئ الظن بهم في أمر ابنه يوسف عليه السّلام وَ الحال إِنَّا لَهُ أي ليوسف لَناصِحُونَ ننصح لأجله و نريد الخير به.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 667

[سورة يوسف (12): الآيات 12 الى 14]

أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)

[13] أَرْسِلْهُ يا أبانا مَعَنا إلى الصحراء غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ «جزم الفعلين» على جواب الأمر، و المعنى: إن ترسله معنا، يرتع و يلعب، و «الرتع» هو التوسع في أكل الفواكه و غيرها، من «الرتعة» و هي الخصب، أو التردد ذهابا و مجيئا وَ إِنَّا لَهُ ليوسف لَحافِظُونَ نحفظه عن أن يصيبه الأذى.

[14] قالَ يعقوب عليه السّلام في جواب الأولاد: إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ فذهابكم به موجب لغمي و حزني حيث لا أقدر على فراقه وَ أَخافُ عليه إن ذهبتم به أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ حيث كانت الأرض مذئبة وَ الحال أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ مشغولون بأنفسكم.

قيل: إن يعقوب رأى في منامه كأن يوسف قد شد عليه عشرة ذئاب يقتلوه، و إذا ذئب منها يحمي عنه فكأن الأرض انشقت فدخل فيها يوسف فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيام، و لذا قال لهم: أخاف أن يأكله الذئب.

[15] قالُوا قال الأولاد في جواب يعقوب: لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ الحال نَحْنُ عُصْبَةٌ يتعصّب بعضنا لبعض، و لنا من القوة و الطاقة قدر كاف إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ نكون كالذين تذهب عنهم رؤوس أموالهم، أو نكون إذن عاجزون هالكون، و هذا كالتعليق على ما لا يكون، للتأكيد

تقريب القرآن

إلى الأذهان، ج 2، ص: 668

[سورة يوسف (12): الآيات 15 الى 16]

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16)

على المقصود.

[16] ثم إن يعقوب سلم للأمر و أرسل يوسف معهم فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ بيوسف وَ أَجْمَعُوا أي عزموا جميعا، يقال: «أجمع» إذا عزم أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ في قعره، و جواب «لما» محذوف تقديره «فعلوه» وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ إلى يوسف و هو في الجب لَتُنَبِّئَنَّهُمْ أي تخبرن إخوتك بِأَمْرِهِمْ هذا بعد ما تنجو من البئر و تصبح ملكا، و يأتوك إخوتك لأجل الطعام، تحكي لهم القصة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ في ذلك الوقت أنك يوسف. و قد ذكر سبحانه في آخر السورة قول يوسف لأخوته- و هم جاهلون بأنه يوسف- (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ) «1»؟.

[17] و لما طرحوا يوسف في البئر، تأخروا في الرجوع إلى المدينة حتى يأتي الليل فلا يظهر على وجوههم آثار الكذب وَ جاؤُ أَباهُمْ أي رجعوا إلى أبيهم يعقوب عِشاءً أي وقت العشاء، و ذلك بعد ساعة من الغروب تقريبا يَبْكُونَ و إنما أظهروا البكاء ليوهموا أنهم صادقون في قولهم، فإن البكاء لا يكون إلا عن حرقة القلب التي تلازم الصدق غالبا، لكن البكاء قد يكون اصطناعا، و إن جرت الدمعة. و كان بكاء الأخوة هكذا.

______________________________

(1) يوسف: 90.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 669

[سورة يوسف (12): الآيات 17 الى 18]

قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ

سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)

[18] و لما رأى يعقوب بكاءهم، فزع و قال: ما لكم؟ قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي نتسابق في العدو لننظر أينا أقدر على العدو و الركض، و أينا يسبق أصحابه، من «استبق» بمعنى تسابق وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا أي رحلنا و بضاعتنا، لأنه صغير لا يقدر على العدو، و ليحفظ رحلنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ و افترسه وَ ما أَنْتَ يا أبانا بِمُؤْمِنٍ أي بمصدّق لَنا لكلامنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ و من عادة الكاذب أن يبرّر كذبه بمثل هذه التأكيدات، كما قال الشاعر: «كاد المريب أن يقول خذوني».

[19] وَ جاؤُ جاء الأخوة عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ جاءوا أباهم و معهم قميص يوسف ملطخا بدم مكذوب، فقد ذبحوا جديا و لطخوا قميص يوسف بدمه، حيث أنهم لما ألقوه في البئر جرّدوه من ثوبه و ألقوه في البئر عاريا.

و إنما جاء ب «على» لأن المعنى: «جاءوا على القميص بالدم»، أي صبّوا عليه الدم، هذا بناء على أن «جاء» يراد به المجي ء على القميص، لا المجي ء نحو الأب، و إنما يستفاد الثاني من السياق، و أما لو أريد من «جاءوا» المجي ء نحو الأب كان اللازم تقدير، حال مثل «صابّين» و نحوه. «و كذب» مصدر أقيم مقام الوصف، أي «مكذوب فيه»، و إنما جاء بالمصدر للمبالغة، كقولك: «زيد عدل».

و لما نظر يعقوب إلى القميص عرف أنهم كاذبون في قولهم و أنهم

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 670

إنما دبروا له مكيدة، و لذا توجه إليهم و قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي زيّنت لكم أنفسكم الحاسدة ليوسف مكيدة دبرتموها.

و قد روي: أنه عليه السّلام

لما رأى القميص و ليس به آثار الشق، علم أن الذئب لم يأكله فإن الذئب إذا أكل إنسانا مزّق ثيابه. قال الصادق عليه السّلام: لما أتي بقميص يوسف إلى يعقوب قال: «اللهم لقد كان ذئبا رفيقا حين لم يشق القميص» «1».

فأمري في هذا الفراق فَصَبْرٌ جَمِيلٌ

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمامين الباقر و الصادق عليهما السّلام: «إن الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه إلى الخلق»

«2» وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ به، من «استعان» بمعنى: طلب العون عَلى ما تَصِفُونَ أي على دفع ما تصفونه من هلاك يوسف.

و قد يقال: أنه كيف يوصف الصبر بالجميل، مع أنه عليه السّلام بكى حتى ابيضت عيناه؟ بل كيف يمكن للنبي أن يكون له مثل هذه العلاقة بالأولاد مع أنه يرى عظمة الله و ثوابه؟ و قد يقال مثل ذلك في بكاء آدم عليه السّلام و الصديقة الطاهرة عليها السّلام و الإمام السجاد؟

و الجواب: إن هذا النحو من البكاء و التوجّع كان له نوعا من التبليغ و الإرشاد لم يكن يؤدى إلا بذلك، فقد كان بكاء آدم عليه السّلام

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 299.

(2) الكافي: ج 2 ص 93.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 671

[سورة يوسف (12): آية 19]

وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)

إرشادا إلى وقع الخطيئة- و لو كانت ترك الأولى- و بيانا لما للجنة و رضا الله سبحانه من أهمية كبري حتى أن فراقها و الدخول فيما لا يرضيه سبحانه- و لو لم يكن عصيانا- يوجبان هذا النوع من البكاء.

و في قصة آدم، ما أجدر

البكاء و لو ألف سنة لسخط الله العظيم الذي له كل شي ء و بيده كل شي ء .. و بكاء يعقوب كان تنفيرا لمثل هذا الاجرام الجماعي و إرشادا عمليا لما للحسد من الوقع السيئ على الحاسد و المحسود و المجتمع، و إن مثل هذا التنفير العملي من أقوى أقسام الإرشاد و الهداية .. و كذلك بكاء الصديقة الطاهرة و السجاد عليهما السّلام كان تنفيرا عمليا لأعمال الغاصبين و السفاكين، و إرشادا إلى عظمة المعزّى له، الموجب لالتفات الناس حولهم فيستضيئون بأنوارهم و يهتدون بآثارهم.

[20] رجع الأولاد إلى أبيهم و تمت القصة هنا، لتبتدئ بحال يوسف في الجب، فقد ذكر المفسرون أن البئر كانت ذات ماء و لما طرحوا يوسف فيها أوى إلى صخرة كانت في ثناياها. و

قد روي أن جبرائيل عليه السّلام هو الذي أخذه،

و شاء الله سبحانه أن يطعمه في البئر، و هناك بقي ثلاثة أيام وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ أي قافلة تسير كثيرا، فإن «سيارة» صيغة مبالغة، و القافلة تسمى بهذا الاسم لسيرها كثيرا في الأرض فَأَرْسَلُوا أي أهل السيارة وارِدَهُمْ الذي يرد الماء ليستقي منه للقافلة، حتى يأتي إليهم من تلك البئر- التي فيها يوسف- بالماء فَأَدْلى الوارد دَلْوَهُ أي فأرسل دلوه في البئر ليأخذ الماء، فتعلق يوسف بالدلو. و

روي أن جبرائيل عليه السّلام هو الذي جعل يوسف في الدلو، بدل الماء، و لما أن أخرج الوارد الدلو، رأى غلاما جميلا فيه، عوض الماء، فدهش من

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 672

[سورة يوسف (12): الآيات 20 الى 21]

وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ

نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21)

هذه الصدفة العجيبة

و قالَ لأصحابه: يا بُشْرى يا قوم! البشارة هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً إن القوم لما رأوا يوسف نووا في أنفسهم أن يجعلوه بضاعة يبيعونه في البلد بعنوان أنه عبد «1».

و

ورد أن الأخوة جاءوا إلى البئر ليروا ماذا صنع بيوسف هل خرج أو هلك؟ و إذا بهم يتلاقون مع السيارة، فقالوا لهم أنه عبد لنا أبق من المدينة، ثم باعوه للسيارة ليستريحوا منه وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ

أي تعمل السيارة من نيتها جعل يوسف بضاعة. و قيل: في المعنى أمور أخرى، و ما ذكرناه الأظهر منها.

[21] وَ شَرَوْهُ أي باع الأخوة يوسف للسيارة بِثَمَنٍ بَخْسٍ ثمن ناقص مبخوس فيه عشرين درهما- كما في جملة من الأحاديث- دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ أي قليلة، و جي ء بهذا الوصف لدلالته على القلة، فإن القلة تعدّ، أما الكثرة فلا تعد بسهولة وَ كانُوا كان الأخوة فِيهِ أي في الثمن، أو في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ يقال: «زهد فيه» بمعنى لم يرغب، فإن الأخوة ما باعوه لقصد الربح حتى يرغبوا في الثمن، و إنما باعوه للتخلّص منه.

[22] و جاءت السيارة بيوسف إلى مصر، و هل هناك بيع آخر، أو كان عزيز مصر هو الذي اشتراه ابتداء؟ احتمالان، و على كل حال فقد صار

______________________________

(1) راجع مجمع البيان: ج 5 ص 372.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 673

يوسف عليه السّلام في كنف عزيز مصر، و قد قالوا: أنه كان كبير الوزراء هناك، أو كان هو الملك بالذات، و توسم العزيز فيه الخير لما رأى على شمائله من آثار

الكبر و الرفعة وَ لذا قالَ الَّذِي اشْتَراهُ اشترى يوسف مِنْ مِصْرَ من أهل مصر لِامْرَأَتِهِ و كانت تسمى «زليخا» أَكْرِمِي مَثْواهُ أي هيئي له مكانا شريفا كريما، ليكون في راحة و رفاه عَسى أَنْ يَنْفَعَنا في المستقبل باتخاذه عاملا عندنا في أمورنا، أو المراد: بيعه و الانتفاع بثمنه لأن مثله غالي الثمن أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً على وجه التبنّي. فقد قالوا: أن عزيزا لم يكن له ولد، كما أنه لم يكن يقدر على إتيان النساء وَ كَذلِكَ كما أنعمنا على يوسف بالنجاة من كيد الأخوة و الخلاص من الجب، كذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ بما عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه- أو الوزير- حتى صار بذلك متمكنا من الأمر و النهي، و صارت له منزلة حسنة، و المراد ب «الأرض» أرض مصر وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ أي تفسير الرؤيا ليبلغ المرتبة العالية بواسطة تمكّنه من هذا العلم.

و لعل المراد بذلك النبوة، و قوله: «و لنعلمه» عطف على المعنى، أي: دبرنا الأمر ليوسف لنمكنه في الأرض و لنعلمه، و قد كان التعليم بسبب أنه عف عن الزنا- كما قيل- وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي على أمر يوسف يحفظه و يهيئ له أسباب الرفاه حتى يوصله إلى السلطة و السيادة، أو المراد: أن الله غالب على أمر نفسه فمهما شاء من شي ء

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 674

[سورة يوسف (12): الآيات 22 الى 23]

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)

تمكن منه، لا

يتمكن أحد على دفعه عن مراده و لا يعجزه شي ء وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ و هذا يناسب المعنى الثاني، فإن الناس غالبا ينظرون إلى المقدمات التي ألفوها فلا يرون النتائج التي يريدها الله سبحانه، لكنه تعالى يفعل ما يشاء مما لا يظهر للناس بل يخفى عليهم.

[23] و لهذا بقي يوسف هناك منفردا مكرما وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ بأن اكتمل شبابه و قوته، و «أشد» جمع لا واحد له- كما قيل- آتَيْناهُ أعطيناه حُكْماً حكمة يعرف بها مواضع الأشياء و موارد الأمور و مصادرها، فكأنه يحكم على الأشياء حسب موازينها اللائقة بها وَ عِلْماً و هو العلم بالأشياء. و من المعلوم أن العلم بالشي ء غير الحكمة، فرب عالم غير حكيم، و رب حكيم غير عالم. و لعل تقديم «الحكم» على «العلم» لما في الحكم من الأهمية و لذا نرى كثيرا من العلماء لا حكمة لهم، و لذا لا ينجحون في الحياة وَ كَذلِكَ كما جزينا يوسف عليه السّلام على صبره و على المصائب التي وردت عليه نَجْزِي سائر الْمُحْسِنِينَ الذين يحسنون في العقيدة و العمل. و هل المراد بقوله «آتيناه» الرسالة، أو زيادة فيها؟ احتمالان.

[24] و إذ قد انتهت مرحلة امتحان يوسف الأولى، جاء دور المرحلة الثانية، و قد كانت أصعب من الدور الأول، و قد جرت سنة الله سبحانه على امتحان الأنبياء بأشق أنواع الامتحان، حتى يصلوا لأخذ زمام المجتمع، و ينالوا المراتب السامية وَ راوَدَتْهُ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 675

الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها فاعل «راودت» «التي» و المراد بها «زليخا» زوجة العزيز و «هو» يرجع إلى يوسف، أي طالبت يوسف المرأة التي كان يوسف في بيتها عَنْ نَفْسِهِ كأنها تريد

انتزاع نفس يوسف و شبابه و طاقاته الجسمية، فإن «المراودة» مفاعلة، بمعنى «الذهاب و الإياب» لأجل قضاء الحاجة، فقد تكررت زليخا في الذهاب إلى يوسف، لتغريه و تنتزع نفسه منه، بأن يجامعها، إشباعا لغرائزها الجنسية.

وَ غَلَّقَتِ زليخا الْأَبْوابَ أبواب القصر لئلّا يأتي أحد فجأة فيكشف مؤامرتها على يوسف، و لفظة «غلقت» من باب التفعيل تدل على كثرة في الأبواب وَ قالَتْ زليخا ليوسف: هَيْتَ لَكَ أي أقبل و بادر، فإن «هيت» اسم فعل بمعنى: «هلمّ» و «لك» خطاب، أي أنت يا يوسف، يأتي للتأكيد، كما يقال: «أنت».

و قد يصور هذا المقام الحرج الذي كان يوسف عليه السّلام عليه، فشاب عازب، في قصر ملي ء بالترف، و امرأة في سن الاقتضاء، و الأبواب مغلقة، و تقتضي القاعدة أن قبل ذلك كانت منها إشارات و تطلبات، و الآن أتت الساعة الحاسمة، بلفظ مكشوف «هيت لك» لكن الإيمان الراسخ في يوسف ضرب بالطلب عرض الحائط قالَ مَعاذَ اللَّهِ أعتصم بالله و أعوذ به أن أرتكب هذه الجريمة إِنَّهُ رَبِّي إن الله ربي، فكيف أخالفه بعد أن أَحْسَنَ مَثْوايَ و جعل مكاني مكانا حسنا. ثم أن المراد ب «المثوى» الأصل، أو المراد: النبوة، أو المراد: ما هيئ له في بيت العزيز من الكرامة و الاحترام. و ذكر بعض المفسرين أن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 676

[سورة يوسف (12): آية 24]

وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)

الضمير في «إنه» عائد إلى «زوجها» أي إن سيدي زوجك قد أحسن مثواي فكيف أخونه في زوجته. فإن «الرب» يطلق على السيد المحسن.

إِنَّهُ أي الشأن لا يُفْلِحُ

الظَّالِمُونَ الذين يظلمون أنفسهم بالعصيان، أو يظلمون الغير بالخيانة في عرضه.

[25] إن يوسف لم يهم بالخطيئة، كيف و قد قال: «معاذ الله» لكن الآية الكريمة تصور الطبيعة البشرية التي تهم بالخطيئة لو لا النبوة و العصمة وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ أي همت زليخا و قصدت الخطيئة بيوسف وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ أي لكان هم، لو لم يكن برهان الله يرعى يوسف، بكونه نبيا معصوما. و هكذا كما تقول: «قصد فلان قتلي و قصدت قتله لو كنت جاهلا».

قال الإمام الصادق عليه السّلام: «البرهان: النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، و الحكمة الصارفة عن القبائح» «1».

و حاصل المعنى: أن يوسف لو لا النبوة لكان همّ بها، لكن النبوة منعت عن ذلك لأن المعصوم لا يهم بالخطيئة كَذلِكَ أريناه البرهان و حفظناه بالنبوة و العصمة لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ كل أقسام السوء، فإن العصمة ملكة لا تدع المتصف بها يفعل شيئا مهما كان وَ الْفَحْشاءَ

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 12 ص 335.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 677

[سورة يوسف (12): الآيات 25 الى 26]

وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26)

ركوب الفاحشة، و المراد بها الزنا إِنَّهُ إن يوسف عليه السّلام مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ بصيغة المفعول- أي الذين أخلصناهم عن الزيف و العصيان، و اخترناهم للنبوة و الطهارة.

[26] إن زليخا همت بأخذ يوسف للخطيئة و يوسف هم بالفرار منها و توجه كل منهما

نحو الباب وَ اسْتَبَقَا الْبابَ أي تبادر كل من يوسف و زليخا نحو باب الغرفة، من «استبق» بمعنى السبقة، و قد كان التوجه إلى الباب أولا من يوسف حيث أراد الهروب و الفرار وَ أخذت زليخا قميص يوسف لتجرّه نحوها ف قَدَّتْ أي شقت قَمِيصَهُ أي قميص يوسف مِنْ دُبُرٍ أي من خلف يوسف، لأنها أخذت بالقميص من خلفه وَ أَلْفَيا من «ألفى» بمعنى «وجد»، أي وجدت زليخا و يوسف سَيِّدَها أي زوج زليخا، و هو «العزيز» لَدَى الْبابِ أي قرب الباب، و هنا سقط في يد زليخا، و تحيّر يوسف ماذا يصنع، لأن المنظر كان مريبا.

و هنا بادرت زليخا لتبرير نفسها قالَتْ مخاطبة زوجها: ما نافية، أي ليس جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ زوجتك سُوءاً عملا قبيحا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ يحبس أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ بأن يضرب بالسياط أو نحو ذلك.

[27] قالَ يوسف عليه السّلام: هِيَ أي زليخا هي التي راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 678

[سورة يوسف (12): الآيات 27 الى 28]

وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)

أي طالبتني بالسوء وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها أهل المرأة.

روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنه قال: «ألهم الله عز و جل يوسف أن قال للملك:

سل هذا الصبي في المهد، فإنه يشهد أنها راودتني عن نفسي. فقال العزيز: الصبي؟ فأنطق الله الصبي في المهد ليوسف».

أقول: قال بعضهم: أن الابن كان له من العمر ثلاثة أشهر، و كان ابن أخت زليخا، و كانت الشهادة أن قال: إِنْ كانَ قَمِيصُهُ أي ثوب يوسف عليه السّلام قُدَّ أي

شقّ مِنْ قُبُلٍ من مقدّمه فَصَدَقَتْ زليخا وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي أن يوسف كاذب، إذ يظهر أن يوسف أراد المرأة و هي أخذت بثوبه لتدفعه عن نفسها فانشق القميص، أو لأنه يدل أن المرأة فرّت و يوسف عقبها فتعثر بثوبه من الأمام و انشق الثوب من قدام.

[28] وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ إن كان ثوب يوسف شقّ من الخلف فَكَذَبَتْ تبيّن كذب زليخا وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيدل على أن المرأة هي التي راودت يوسف و أنه أراد الفرار، لأنه يدل على أن المرأة تبعت يوسف و أخذت بثوبه من خلف، فانشق الثوب لجذبها له.

[29] فالتفت الزوج إلى القميص و لما رَأى قَمِيصَهُ أي ثوب يوسف عليه السّلام قُدَّ مِنْ دُبُرٍ أي شقّ من خلف، عرف أن المرأة هي التي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 679

[سورة يوسف (12): الآيات 29 الى 30]

يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)

خانت و أرادت السوء قالَ متوجها إلى زليخا إِنَّهُ أي هذا العمل الذي رأى آثاره مِنْ كَيْدِكُنَ و حيلكن معاشر النساء إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ تعملن الأعمال السيئة، ثم تلقين التهم على البري ء.

[30] ثم توجه السيد إلى يوسف عليه السّلام قائلا: يا يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الحديث و اكتمه فلا تفشه وَ اسْتَغْفِرِي يا زليخا لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ أنت أذنبت لا يوسف عليه السّلام. قال «من الخاطئين» و لم يقل «من الخاطئات» تغليبا، كما قال: (وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) «1»، و كان ذلك لأن أول ما يتبادر إلى

الذهن الرجال، سواء في الإطاعة و العصيان، أو غيرهما.

[31] ثم لم يمض زمان حتى شاع هذا الأمر في البلد و أن زليخا قصدت يوسف بالسوء وَ قالَ نِسْوَةٌ أي جماعة من النساء. و إنما ذكر الفعل لأنه يجوز في الجمع مذكرا كان أو مؤنثا الأمران، تقول «قال و قالت رجال»، و كذا «قال و قالت نساء»، باعتبار اللفظ و المعنى، كما أن «قالت» باعتبار جماعة الرجال، قال ابن مالك:

و التاء مع جمع سوى السالم من مذكر كالتاء مع إحدى اللبن

فِي الْمَدِينَةِ في مصر، و كان ذكر هذه الجملة لإفادة أن الخبر

______________________________

(1) آل عمران: 44.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 680

[سورة يوسف (12): آية 31]

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)

شاع في البلد، و لو لم تذكر لاحتمل أن ذلك قول نسوة القصر، فقد قلن تلك النسوة على وجه التعجّب و الاستغراب: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ أي تدعو مملوكها إلى نفسه، فتريد أن تسلب نفس المملوك، ليفجر بها قَدْ شَغَفَها حُبًّا دخل حب الفتى في شغاف قلبها، فإن «الشغاف» هو حجاب القلب، يقال: «شغف زيد عمرو حبا» أي خرق حب زيد شغاف قلب عمرو، و فاعل شغفها الضمير الراجع إلى يوسف عليه السّلام إِنَّا لَنَراها نرى امرأة العزيز فِي ضَلالٍ مُبِينٍ انحراف عن نهج الصواب واضح، إذ كيف تتعلق المرأة ذات البعل بعبدها.

[32] فَلَمَّا سَمِعَتْ زليخا بِمَكْرِهِنَ أي تعيير تلك النسوة لها بحب يوسف. و إنما سمي «مكرا» لأن قصدهن من هذا القول

كان أن يرين يوسف لما وصف لهن منه حسنه- كذا في «المجمع»-. و قيل:

لأنهن أخفين التعيير كما يخفي الماكر مكره أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ تطلبهن للضيافة عندها وَ أَعْتَدَتْ هيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً هو ما يتكأ عليه لطعام أو شراب أو حديث، أي هيأت لهن مأدبة و قد كان العادة أن يأكلوا الطعام و هم متكئون على الوسائد- كما هو عادة أهل الترف- وَ آتَتْ أعطت زليخا كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً لقطع اللحم، أو تقشير الفاكهة كما هي العادة الجارية إلى هذا الزمان وَ قالَتِ زليخا ليوسف حين اشتغلن بالتقشير أو التقطيع: اخْرُجْ يا يوسف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 681

[سورة يوسف (12): آية 32]

قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)

عَلَيْهِنَ أمرته بذلك ليرين جماله فلا يعذلنها في ما قصدته منه فخرج عليه السّلام حيث كان بصورة مملوك مطيع لديها و لما رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أي أعظمنه و تحيّرن في جماله، فقد كان خارق الحسن و الجمال وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ بتلك السكاكين، بدل تقطيع اللحم أو الفاكهة، على جهة الخطأ، فقد بعثت دهشتهن بجماله أن لم يلتفتن إلى صنعهن، و المراد بالقطع- حسب الظاهر- الجرح و الخدش، يقال: «فلان قطع يده بالسكين» إذا جرحها و خدشها.

وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ و هي كلمة تنزيه تقال في موضع الدهشة و العجب، لبيان الدهشة في صنعه سبحانه، و أصل «حاش» «حاشا» حذفت الألف تخفيفا، بمعنى التنزيه، و «لله» جار و مجرور متعلق به ما هذا الذي نراه، أي يوسف عليه السّلام بَشَراً «ما» تعمل عمل ليس ف «هذا» اسمها، و «بشرا» خبرها، أي ليس هذا

كالبشر، فإن هذا الجمال الخارق لا يوجد في البشر إِنْ هذا ما هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ رفيع المنزلة عند الله سبحانه، ذو كرامة، و إلّا لم يمنحه هذا الجمال.

[33] قالَتْ زليخا بعد أن رأت أنها فازت عليهن و أنهن أعطين الحق لها فيما قصدت من السوء بيوسف: فَذلِكُنَ «ذا» إشارة إلى يوسف، و «كن» خطاب لهن، أي فهذا يوسف- أيتها النسوة- هو الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ من «لام» بمعنى «عذل» أي عذلتنني بالنسبة إليه، قائلات كيف أن امرأة العزيز تراود فتاها؟ ثم قالت زليخا، و قد بقي لها تعلق

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 682

[سورة يوسف (12): آية 33]

قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33)

به: وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ أي طلبت نفس يوسف فَاسْتَعْصَمَ أي لاذ بالعصمة و الامتناع وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ بعد ذلك ما آمُرُهُ من الفعل لَيُسْجَنَنَ أي ليحبس في السجن، فإني أكيد به حتى أوقعه في السجن وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ الصاغر هو الذليل، من الصفات، أي لأذله حتى يكون ذليلا.

[34] و لما رأى يوسف عليه السّلام إصرارها على الخطيئة به اختار السجن لنفسه الشريفة عن الآثام، و ليخلص من التذبذب و الاتهام، ف قالَ يا رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ من الفاحشة، و في الإتيان بلفظ «يدعونني» دلالة على أن تلك النسوة أيضا طمعن فيه.

و قد روي عن الإمام السجاد عليه السّلام: «أن النسوة لما خرجن من عندها أرسلت كل واحدة منهن إليه سرا من صاحبته تسأله الزيارة لها» «1».

و لا يخفى أن «أحب» هنا مجرد عن معنى التفضيل، كما هو القاعدة في

أمثاله كقوله: (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً) «2»، و (أَحْسَنُ تَأْوِيلًا) «3»، وَ إِلَّا تَصْرِفْ يا رب عَنِّي كَيْدَهُنَ بالعصمة و الحفظ أَصْبُ إِلَيْهِنَ يقال: «صبا يصبو»، إذا مال نحو الشهوة الجنسية، من

______________________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج 12 ص 275.

(2) الكهف: 45.

(3) النساء: 60.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 683

[سورة يوسف (12): الآيات 34 الى 36]

فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)

«الصبوة» و هي لطافة الهوى، أي: أمل إلى تلك النساء. و من المعلوم أنه لو لا لطف الله و عصمته تميل النفس البشرية إلى الشهوات وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ يقال للعاصي: جاهل، و إن كان عالما، لأنه لو لم يجهل حقيقة لم يعرض نفسه لعقاب الله سبحانه.

[35] فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ أجاب الله دعاء يوسف فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ فقد عصمه سبحانه حتى أنه لم يكن يتزحزح عن الطهارة و لو أصيب بالأذى و سجن، كما ألقى اليأس في قلب زليخا و النسوة لامتناع يوسف عن الفاحشة إِنَّهُ سبحانه هُوَ السَّمِيعُ لداعي الداعي الْعَلِيمُ بالنيات.

[36] ثُمَّ بَدا لَهُمْ ظهر للعزيز و زوجته و أصحابهما مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءة يوسف عليه السّلام لَيَسْجُنُنَّهُ فإن زليخا خدعت زوجها بأن يسجن يوسف حتى يظن الناس أنه المجرم و حتى تشفي زليخا غيظها منه حيث لم يطعها في الفاحشة حَتَّى حِينٍ إلى مدة حتى تخمد الضوضاء، و ينسى الناس القصة.

[37] و

سيق إلى السجن يوسف البري ء عليه السّلام و أخذت المرأة المجرمة تسرح و تمرح- كما هو عادة الدنيا-

روي عن الإمام الرضا عليه السّلام: أن السجان قال ليوسف: إني لأحبك. فقال يوسف: ما أصابني إلا من الحب، إن كانت خالتي أحبتني سرقتني، و إن كان أبي أحبني حسدني إخوتي،

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 684

و إن كانت امرأة العزيز أحبتني حبستني «1».

و روي عن الصادق عليه السّلام: أن يوسف بكى على يعقوب حتى تأذى منه أهل السجن فقالوا له: إما أن تبكي الليل و تسكن بالنهار و إما أن تبكي بالنهار و تسكن بالليل على واحد منهما «2».

وَ دَخَلَ مَعَهُ مع يوسف السِّجْنَ فَتَيانِ شابان، و كانا عبدين للملك أحدهما خبازه و الآخر صاحب شرابه. و في ذات يوم جاءا إلى يوسف يبيّنان له رؤيا رأياها- بزعمهما- ف قالَ أَحَدُهُما و هو صاحب الشراب: إِنِّي أَرانِي أرى نفسي في المنام أَعْصِرُ خَمْراً أي أعصر العنب لصنعه خمرا، فقد سمي العنب بذلك بعلاقة الأول، كما يقال: «فلان يطبخ الدبس» و إنما يطبخ التمر ليكون دبسا وَ قالَ الْآخَرُ و هو خباز الملك: إِنِّي أَرانِي أرى نفسي في المنام أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ من ذلك الخبز.

ثم قال الفتيان ليوسف: نَبِّئْنا أخبرنا بِتَأْوِيلِهِ ما يؤول إليه منامنا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذي يحسن إلى الناس. و من المعلوم إن الإنسان المحسن يتوسّم فيه الخير في كل شي ء حتى في تأويل الرؤيا و تعبير المنام، أو المراد تحسن تعبير الرؤيا.

قال الصادق عليه السّلام: لما أمر الملك بحبس يوسف في السجن

______________________________

(1) بحار الأنوار: ج 12 ص 247.

(2) إرشاد القلوب: ج 1 ص 95. تقريب القرآن إلى الأذهان،

ج 2، ص: 685

[سورة يوسف (12): آية 37]

قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37)

ألهمه الله تعالى علم تعبير الرؤيا فكان يعبر لأهل السجن رؤياهم «1».

أقول: و كأن ذلك العلم صار شعارا لمن منع نفسه عن الشهوة الجنسية، فقد قالوا: أن ابن سيرين كان تلميذا عند بزاز و كان جميلا جدا و في ذات يوم جاءت امرأة و اشترت من البزاز أجناسا ثم حمّلتها الفتى ليأتي بها إلى بيتها، و لما أن دخلا الدار أغلقت الباب و قالت:

هيت لك. قال ابن سيرين- لما لم يجد حيلة للفرار منها-: ائذني لي بالبراز لأقضي حاجتي ثم بعد ذلك أنت و شأنك. و لما أن دخل المرحاض لوث نفسه بالنجاسة، فلما خرج و رأته المرأة بتلك الحالة عافته استقذار له، و من ذلك الحين و هب الله له علم الرؤيا.

[38] و هنا أراد يوسف عليه السّلام أن يرشد الفتيين إلى الطريقة الصحيحة كما هو عادة الأنبياء و المرشدين حتى ينتهزوا كل فرصة لنشر الدين و تبليغ رسالة الله سبحانه، و قد أراد أن يقدم لذلك مقدمة مطمئنا بصحة ما يدعو إليه، فإن غالب الناس إذا رأوا من أحد خارقة أو ما أشبهها اطمأنوا إليه و صدقوا كلامه، بخلاف ما لو كان الكلام مجرد منطق و دليل، فإن الناس ينظرون إلى القائل لا إلى القول.

و لذا بدأ يوسف يبين لهم أنه يعرف بعض أمور الغيب بتعليم الله له، فبإمكانه أن يخبر عن الطعام الذي يؤتى به لهما قبل أن يؤتى به ف قالَ لا يَأْتِيكُما أيها الفتيان طَعامٌ تُرْزَقانِهِ لأجل

أكلكما و رزقكما إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ آتي بصفة ذلك الطعام و سائر خصوصياته، و إنما قال «بتأويله» لأن الطعام يؤول إلى تلك الصفة، فمثلا اللحم المعد للطعام يؤول إلى «الكباب» أو «المرق» أو ما أشبههما، و قد لوحظ في

______________________________

(1) تفسير العياشي: ج 2 ص 176.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 686

[سورة يوسف (12): آية 38]

وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38)

اللفظ- الجناس- حيث تقدم لفظ «التأويل» بالنسبة إلى الرؤيا، و قد كان عيسى عليه السّلام كذلك كما قال: (وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) «1».

قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما التأويل ذلِكُما أي ذلك التأويل للأشياء الغائبة عن الحواس، و «كما» خطاب، أي أن التأويل أيها الفتيان مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي و من هذا الباب تطرق إلى ذكر الرب، ليتسنى له الشرح حوله إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ أي رفضت فراعنة مصر الذين يتخذون الأصنام آلهة، أي أني تركت هذه الملة. و ليس معنى «تركت» كونه عليه السّلام فيها، ثم تركها، بل معناه: عدم قبولها و رفضها من الابتداء، فإن الفعل يستعمل في المعنيين وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ فلا يؤمنون بمبدإ و لا معاد، و حيث تركت تلك الملة ألهمني الله الغيب و تأويل الرؤيا.

[39] وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي و «الملة» هي الطريقة الدينية، يقال: «ملة اليهود» و «ملة النصارى» و لا يقال: ملة العطارين إِبْراهِيمَ جد أبيه وَ إِسْحاقَ جده وَ يَعْقُوبَ أبيه، و بذلك بيّن عليه السّلام أنه من بيت النبوة و الطهارة حتى يكون

كلامه مسموعا لديهم. فقد جرت عادة الناس أن يسمعوا من ذوي البيوتات و الشرف أصحاب الحسب

______________________________

(1) آل عمران: 50.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 687

[سورة يوسف (12): آية 39]

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39)

و النسب، و كان إبراهيم عليه السّلام مشهود لدى الجميع، و لعل إسحاق و يعقوب كان كذلك ما كانَ لَنا أي لا يجوز لنا معاشر الأنبياء، أو المراد عموم البشر، أي لا يحق للبشر أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ غيره باتخاذ الأصنام آلهة، و كيف يجوز للبشر أن يكفر بخالقه و يجعل له أندادا؟ ذلِكَ التمسك بالتوحيد و البراءة من الشرك مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا حيث هدانا إلى ذلك و أوحى إلينا به وَ عَلَى النَّاسِ حيث هداهم بسبب الفطرة و الأنبياء. و لعل سبب ذكر «علينا» مستقلا، لاختصاصهم بالنبوة و الوحي وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة العظيمة، و هي نعمة الهداية، بل يكفرون بها باتخاذ الأصنام آلهة.

[40] و بعد ما بيّن عليه السّلام طريقته و ملته، و ذكر أنه من بيت رفيع و أنه يعلم بعض أمور الغيب بتعليم الله له حتى يطمئن إليه، أخذ في الاستدلال على التوحيد، و قد كان الموقع مناسبا جدا للتبليغ، فإن المستمع حيث ينتظر جوابه يصغي جيدا، بخلاف ما لو أجابهم عن تأويل رؤياهم ثم بيّن التوحيد، و حيث قدم له مقدمة صار الموقع أنسب، لأنه بين ماض مشوّق و مستقبل متقرب، فالنفس متفتحة للاستماع و القبول يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي يا صاحبي فيه، فإن الشي ء قد يضاف إلى الزمان و المكان مجازا، كما قال الشاعر:

يا سارق الليلة أهل الداريا سارقا مالي و مال جاري

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 688

[سورة يوسف (12): آية 40]

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)

أو المراد «ملازمي السجن» فإن «صاحب» يقال للملازم للشي ء، يقال: «صاحب الدكان» لمن لازمه بالبيع و الشراء فيه .. و هكذا.

أَ أَرْبابٌ أي هل آلهة مُتَفَرِّقُونَ شتى متعدّدون خَيْرٌ في اتخاذها آلهة و عبادتها، بأن يعبد الإنسان آلهة من حجر و خشب أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ المتفرد الذي خلق كل شي ء، و بيده كل شي ء الْقَهَّارُ الغالب الذي لا يعادله شي ء و لا يتمكن شي ء أن يقاومه؟ و من الطبيعي أن يكون الجواب: بل الله الواحد القهار.

[41] ما تَعْبُدُونَ أنتم أيها المشركون مِنْ دُونِهِ من دون الله إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أي أسماء الآلهة لا حقيقة الإله، فإن ما تعبدون إنما هي أسماء فارغة لا حقيقة لها في منصب الألوهية، كما يقال: «الحاكم الفلاني اسم مجرد» يراد أنه ليس بحقيقة حاكم، و ليس لديه علم الحاكم و إرادته أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ بدل من ضمير الجمع، فأنتم و آباؤكم إنما تعبدونها باعتبار أسماء تطلقون عليها، فكأنكم لا تعبدون إلا الأسماء المجردة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بتلك الآلهة، أو بأسمائها مِنْ سُلْطانٍ من حجة، أي لا حجة لكم في كونها آلهة، إذ الحجة لا بد أن تكون معقولة، و العقل يأبى أن ينحت الإنسان حجرا أو ينجر صنما ثم يقول إنه إله الكون، و الله سبحانه لم يقل ذلك و لم ينزل بذلك دليلا.

و لعل ترك الدليل العقلي إنما هو لوضوحه، و لأنهم كانوا ينسبون

ذلك إليه سبحانه.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 689

[سورة يوسف (12): آية 41]

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41)

إِنِ الْحُكْمُ ليس الحكم و الأمر و النهي إِلَّا لِلَّهِ فكيف يعبد سواه؟ إذ العبادة خاصة بمن له الحكم و الأمر و النهي، لأن العبادة خضوع، و الخضوع لا يليق إلا أمام الحاكم الآمر و الناهي، و قد أَمَرَ سبحانه أَلَّا تَعْبُدُوا أحدا إِلَّا إِيَّاهُ وحده لا شريك له.

و لعل «إن الحكم» و «أمر» إشارة إلى مرتبتين من التوحيد. فقد قالوا إن التوحيد على أربعة أقسام: توحيد الذات، بأن يعتقد الإنسان أن الإله واحد لا شريك له، و توحيد الصفات، بأن يعتقد الإنسان أن صفات الله عين ذاته لا تعدّد فيها و لا مغايرة، و توحيد الخلق، بأن يعتقد الإنسان أن جميع الخلق إنما هو منه وحده لا يشاركه فيه أحد، و توحيد العبادة، بأن لا يعبد الإنسان أحدا إلا إياه.

ذلِكَ التوحيد الدِّينُ الْقَيِّمُ أي الطريقة المستقيمة، فإن «الدين» بمعنى الطريقة، و «القيم» بمعنى المستقيم، مشتق من «قام»، لا اعوجاج فيه و لا انحراف وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ إن هذا هو الدين القيم، و إن سواه معوج منحرف.

[42] و إذ أتم يوسف عليه السّلام الإرشاد و التبليغ، شرع في جواب سؤال صاحبيه من الرؤيا، فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أصله «صاحبين» حذفت النون لإضافته إلى السجن، كما هو القاعدة، قال ابن مالك:

نونا تلي الإعراب أو تنوينامما تضف أحذف كطور سينا

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 690

أَمَّا أَحَدُكُما و هو ساقي الملك الذي رأى أنه كان يعصر خمرا، فيخرج من السجن

و يصير حاله كحاله السابق فَيَسْقِي رَبَّهُ أي سيده الملك خَمْراً كما كان يسقي من ذي قبل. و في بعض التفاسير: أنه أخبر بأن بقاءه في السجن ثلاثة أيام و يخرج اليوم الرابع.

و إنما قال «ربه» لأن الرب يطلق على الصاحب، يقال: «رب الدار» و «رب الدابة».

وَ أَمَّا الْآخَرُ و هو الخباز الذي زعم أنه رأى خبزا على رأسه تأكل الطير منه فَيُصْلَبُ أي يشنق فيموت فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ تأنيث الفعل، باعتبار كون الطير اسم جنس يطلق على الجماعة من الطائر مِنْ رَأْسِهِ أي من دماغه. في الحديث: إن الخباز كان كاذبا في ما ادعى من الرؤيا و لم يكن رأى شيئا في منامه و إنما اختلق ذلك. و في بعض التفاسير: لما قال يوسف ذلك، قال الرجل: كذبت و ما رأيت شيئا، و إنما كنت ألعب «1».

فقال يوسف عليه السّلام: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي فرغ من الأمر الذي تسألان و تطلبان معرفته، و ما قلته لكما فإنه نازل بكما و كائن لا محالة، و «الاستفتاء» طلب الفتيا، أي الجواب في مسألة متعلقة بالدين أو الدنيا، و قد كان الواقع الذي سوف يجري على الخباز

______________________________

(1) مجمع البيان: ج 5 ص 404.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 691

[سورة يوسف (12): الآيات 42 الى 43]

وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43)

من خلال شعاعه في دماغه، فاخترع هذه الرؤيا المكذوبة، و يوسف عليه السّلام إنما

نظر إلى الواقع فأخبره به- و كان ذلك من علم الغيب لا من تفسير الرؤيا-.

[43] وَ قالَ يوسف عليه السّلام: لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا أي للعاصي الذي ظن يوسف عليه السّلام أنه ينجو من السجن و القتل، من صاحبيه، و لعل التعبير ب «ظن» لإمكان محو ما علم في علمه سبحانه فإن الأمور المستقبلة- إلا بعضها- قابلة للمحو، قال سبحانه: (يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) «1»، اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي اذكر حالي عند الملك و إني إنما حبست ظلما، لكي يفرج عني و يطلق سراحي فلما تحقق ما قاله يوسف و أن صاحب الشراب تخلّص من السجن، و أن الخباز صلب فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أي أنسى الشيطان صاحب الشراب أن يذكر يوسف لربه الملك فَلَبِثَ يوسف فِي السِّجْنِ بقي فيه بِضْعَ سِنِينَ «بضع» كلمة بمعنى «ما دون العشرة»، و أصله بمعنى «القطعة» من الدهر، أو من غيره.

و منه قول النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فاطمة بضعة مني» «2».

[44] بقي يوسف سنوات في السجن، و ساقي الملك ناس، مشغول

______________________________

(1) الرعد: 40.

(2) وسائل الشيعة: ج 20 ص 67.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 692

بملهيات القصر- و كذلك ينسي الرخاء الإنسان زميله الذي يكابد البلاء- حتى رأى الملك رؤيا هالته فطلب معبّرا لذلك. و هناك تذكر الساقي يوسف السجين الذي عبّر رؤياه من ذي قبل، و شاءت إرادة الله سبحانه إنقاذ يوسف في ذلك الحين، و قد كان السجن و الجب و كيد المرأة و حسد الأخوة امتحانات له و لرفع درجته، فقد وكّل البلاء بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى في

منامي. و كأنه حكاية حال ما ماضية، و إلا فاللازم أن يقول إني رأيت سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ جمع «سمين» ضد هزيل يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أي سبع بقرات كن هزيلات، و «عجاف» جمع «أعجف» و هو الهزيل و مؤنثه «عجفاء»، فقد أكلت البقرات الهزال البقرات السمان حتى دخلن في بطن الهزال وَ أرى سَبْعَ سُنْبُلاتٍ و «السنبلة» هي العود الذي تنبت عليه حبوب الحنطة و الشعير و ما أشبه خُضْرٍ جمع «خضراء»، أي قد انفتق حبها و كانت رطبة وَ سبع سنبلات أُخَرَ يابِساتٍ قد حصدت فالتوت تلك اليابسات على تلك الخضر حتى غلبن عليها.

يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أي الجماعة الأشراف، فإن الملأ هم الأشراف أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ أي أجيبوا عن هذه الرؤيا و عبّروها لي إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ أي إذا كنتم تعرفون التعبير. و سمي تأويل الرؤيا تعبيرا يعبر بالإنسان من هذا الجانب- و هو جانب ظاهر الرؤيا- إلى ذلك

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 693

[سورة يوسف (12): الآيات 44 الى 45]

قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)

الجانب- و هو جانب باطنه و أوله- مأخوذ من «العبور» من شاطئ النهر إلى الشاطئ الآخر.

[45] قالُوا أي قال الملأ في جواب الملك: إن رؤياك أَضْغاثُ أَحْلامٍ «أضغاث» جمع «ضغث»، و هي قبضة الحشيش المختلط رطبها بيابسها، و «أحلام» جمع «حلم» و هو المنام، أي إن هذه الرؤيا إنما هي أحلام مختلطة لا يعرف تأويلها، فكأنها إن كانت على وجه واحد عرف التأويل لها، أما إذا اختلطت، سمان و عجاف، حيوان و نبات، و تغلب الأضعف على الأقوى- بعكس القاعدة-

فلا يعرف تأويلها وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ التي هي من هذا القبيل بِعالِمِينَ و قد كان قولهم: «أضغاث أحلام» كمعذرة قدّموها إلى الملك، نسبة لعدم علمهم بتأويلها.

[46] وَ قالَ الساقي الَّذِي نَجا مِنْهُما من السجن- كلا الساقي و الخباز، اللذين سجنا مع يوسف- وَ ادَّكَرَ أصله «ذكر» و لما جي ء إلى باب الانتقال، صار «اذتكر»، فأبدلت التاء دالا، فصار «اذدكر»، و أدغمت الذال في الدال لقرب مخرجهما، فصار «ادّكر»، أي: و تذكّر قصة يوسف عليه السّلام بَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد مدة، فإن «الأمة» بمعنى الجماعة، سواء كانت من الناس أو غيرهم أو من الزمان، أو نحوه، كأنه من «أمّ» بمعنى قصد، فكأن الجماعة يدخل بعضها في بعض و يقصد بعضها بعضا أَنَا أُنَبِّئُكُمْ أي أخبركم بِتَأْوِيلِهِ أي تأويل هذه الرؤيا فَأَرْسِلُونِ

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 694

[سورة يوسف (12): الآيات 46 الى 47]

يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)

أي: فأرسلوني إلى يوسف ليأتي و يخبركم هو بتأويل الرؤيا، أو:

فأرسلوني إلى يوسف لأسأله تعبيرها و أخبركم بالجواب.

فقد قال للملك: إن في الحبس رجلا فاضلا صالحا كثير الطاعة، قد قصصت أنا و الخباز عليه منامين فذكر تأويلهما، فصدق في الكل و لم يخطئ، فإن أذنت مضيت إليه و جئتك بالجواب منه. فأذن له الملك، و جاء إلى يوسف عليه السّلام ليخبره بتعبيرها، قائلا:

[47] يا يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ الكثير الصدق فيما تخبر به، و إنما وصفه بهذا الوصف لأنه رأى صدقه في تأويل

رؤياه، و رؤيا زميله الخباز أَفْتِنا أي أعطنا الجواب فِي هذه الرؤيا سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ و كان تقديم السمان، مع أن مقتضى القاعدة أن يقول: «سبع بقرات عجاف يأكلن سبع سمان»، لأجل إفادة أنه رأى السمان قبل العجاف، كما أن التأويل أيضا كذلك، فقد تقدمت السنين الخصبة وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ تلتف عليها وَ تغلبها أُخَرَ يابِساتٍ فما تأويل هذه الرؤيا لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ الملك و حاشية لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ التفسير، أو لعلهم يعلمون فضلك فينقذوك من السجن. و إنما قال: «لعلي» لأن الإنسان يحتمل حيلولة الموت بينه و بين ما يقصده من المقاصد المستقبلة.

[48] قالَ يوسف عليه السّلام في جواب الساقي: أما البقرات السبع العجاف

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 695

[سورة يوسف (12): آية 48]

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)

و السنابل اليابسات فهن السنون الجدبة، و أما البقرات السبع السمان و السنابل السبع الخضر فإنهن سبع سنين مخصبات ذوات نعمة.

أقول: كأن البقر و السنابل إشارتان إلى المأكل، فإن الزرع و الضرع من البقر و السنبل و جنسهما، فقد أخبر عليه السّلام بأن سبع سنين تكون مخصبة ثم تأتي سبع سنوات مجدبة يأكل الإنسان ما ادّخر في المخصبة، و لذا التوت السنابل اليابسة على الخضر، و أكلت البقرات الهزال البقرات السمان.

ثم بيّن يوسف عليه السّلام ما ينبغي لهم أن يعملوا تجاه هذا القحط الذي سيأتيهم بعد سبع سنين من الخصب، فقال: تَزْرَعُونَ «خبر في معنى الإنشاء»، أي ازرعوا سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي متوالية بجهد وجد، أو بمعنى «على دأبكم و عادتكم في الزراعة»، فإن «دأب» يأتي بالمعنيين فَما حَصَدْتُمْ من الزرع

الذي هو أكثر من كفايتكم فَذَرُوهُ أي دعوه فِي سُنْبُلِهِ لا تدوسوه، بل اتركوه ليبقى أكثر، و لئلّا يسرع إليه الفساد، فإن الحبوب في سنبلها تبقى أكثر مدة إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ مما تحتاجون في نفس السنة، فادخروه لأكلكم و حوائجكم.

[49] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ السبع سنين الخصبة سَبْعٌ من السنين شِدادٌ جمع «شديد»، أي سنوات قحط و جدب صعاب على الناس تشتد عليهم لعدم الأكل و الزرع و الضرع يَأْكُلْنَ أي تلك السنوات الشدائد ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ ما أبقيتم من الحبوب، لأجل تلك السنوات.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 696

[سورة يوسف (12): آية 49]

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

و إنما قال: «يأكلن» ليطابق رؤيا الملك «يأكلهن سبع عجاف» و مثل هذا التعبير شائع في المجاز، قال: «أكل الدهر ما جمعت و مالي».

حكى في المجمع: عن زيد بن أسلم أن يوسف عليه السّلام كان يصنع طعام اثنين فيقربه إلى رجل فيأكل نصفه، حتى كان ذات يوم قربه إليه فأكله كله، فقال: هذا أول يوم من السبع الشداد.

أقول: و لا بعد في ذلك، فإن الهواء من القحط- غير المصطنع- يتغير و يتطلب الجفاف و الفناء، فما يصيب الأرض، يصيب الحيوان و الإنسان.

إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ استثناء من «يأكلن» أي أن السبع الشداد تنفق فيها جميع السنابل المحرزة إلا مقدار قليل مما أحصنتم و حفظتم فإنه يبقى ليكون بذرا للرخاء الذي يأتي بعد سنيّ القحط السبع.

[50] ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الذي ذكرنا من الأعوام الشداد عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ يمطرون، فإن الغيث بمعنى المطر وَ فِيهِ أي في ذلك العام يَعْصِرُونَ ما اعتادوا عصره من أنواع الفواكه في

أوقات الخصب و الرخاء كالعنب و غيره. و هذا يدل على شدة الخصب حتى أن الناس يتأنقون في المأكل و المشرب. و لعل الإتيان بهذه اللفظة بمناسبة كون الرجل السائل كان الساقي العاصر للملك، و قد كان هذا إخبارا من يوسف عليه السّلام بعلم الغيب خارجا عن المنام، لأن رؤيا الملك اشتملت على السبع الشداد، أما ماذا يكون بعدها، فلم يكن في الرؤيا.

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 697

[سورة يوسف (12): آية 50]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)

[51] ثم أن الساقي بعد ما علم التعبير من يوسف جاء الملك و أخبره أن الرجل السجين يقول هكذا في تعبير رؤياك وَ حينئذ قالَ الْمَلِكُ لمن حواليه ائْتُونِي بِهِ جيئوا إليّ بالسجين الذي عبّر الرؤيا فَلَمَّا جاءَهُ جاء يوسف الرَّسُولُ من قبل الملك ليخرجه من السجن، أبى يوسف عليه السّلام الخروج حتى تتبيّن براءته من التهمة التي قذفته بها زليخا و أنه أراد بها سوءا، ف قالَ يوسف للرسول: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ سيدك الملك فَسْئَلْهُ أي اسأل منه ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ أي يتعرف الملك على حال تلك النسوة اللاتي قطّعن أيديهن بالسكاكين لمّا رأينني. و إنما خصهن بالذكر لأنهن كن شاهدات على زليخا أنها دعت يوسف إلى الفاحشة، فقد سبق أنها قالت لهن: «وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ». و معنى «ما بال» أي ما شأنهن من تلك القصة.

في بعض الأحاديث: إن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أظهر التعجب لأمرين من قصة يوسف،

الأول: أنه عبّر رؤيا الملك بدون أن يشترط ذلك على

خروجه من السجن. الثاني: أنه لم يخرج من السجن بعد الأمر بإطلاقه حتى تظهر براءته.

أقول: لعل يوسف لم يذكر امرأة العزيز تأدبا، أو لأنه علم أنها لا تعترف بأنها صاحبة الجريمة، بخلاف سائر النساء، و كان ذكر «قطّعن أيديهن» لأنه خير مذكّر لهن بالقصة.

إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ فهو سبحانه العالم بأنهن قد كدن

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 698

[سورة يوسف (12): آية 51]

قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)

و مكرن- و إنما سمي كيدا، لأن أمرهن كان في خفاء- و إني بري ء من القذف و التهمة.

[52] ثم إن الرسول رجع إلى الملك، و قال له ما طلبه يوسف عليه السّلام، فأرسل الملك إلى النسوة و دعاهن، و قال لهن: ما شأنكن مع يوسف؟ و ما تعلمون من قصته و قصة زليخا؟ قالَ الملك لهن:

ما خَطْبُكُنَ أي ما شأنكن إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ أي طلبتن انتزاع نفس يوسف و دعوته إلى أنفسكن، فهل كان مائلا إلى ذلك؟ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ أي تنزيها لله، و أصله «حاشا» حذف الألف تخفيفا، و هي كلمة تقال في موارد، منها: في مقام تبرئة المتهم، كأنه تعجّب من قدرة الله على خلق بشر عفيف و بري ء مثله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ فإنه بري ء لم يكن مائلا إلى الشهوة و إنما نحن كن مجرمات. و لفظ «عليه» كأنه بسبب أن السوء يركب على المجرم.

و كأن امرأة العزيز «زليخا» كانت من جملة النساء اللاتي استجوبهم الملك ف قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ أي ظهر الحق،

و هو براءة يوسف. قال بعضهم: «حصحص» اشتقاقه من «الحصة» أي بانت حصة الحق من حصة الباطل، فظهر جليا واضحا لا لبس فيه و لا غموض أَنَا امرأة العزيز راوَدْتُهُ أي راودت يوسف، راجعته و اختلفت إليه عَنْ نَفْسِهِ لأسلب نفسه، و أقضي

تقريب القرآن إلى الأذهان، ج 2، ص: 699

[سورة يوسف (12): آية 52]

ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52)

معه الشهوة وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فيما قال «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي» فأنا كاذبة في التهمة، و هو صادق في براءته و كوني أنا المجرمة.

[53] و هنا عاد الرسول إلى يوسف من السجن و أخبره باستجواب الملك للنساء، و أنهن اعترفن ببراءته عليه السّلام و أنهن المجرمات. فقال يوسف:

ذلِكَ الذي طلبت من التثبّت في أمري لِيَعْلَمَ الملك- أو العزيز، على تقدير كونه الوزير- أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي أني لم أخن الملك في غيابه بقصد السوء إلى زوجته، و ذكر «بالغيب» لبيان شدة وقع الخيانة إذا وقعت كذلك، إذ خيانة المؤتمن أسوء من خيانة غيره وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي لا ينقذه و لا يوصله إلى مقصده. و هذا تنبيه على أن الخائن إن ستر أمره مدّة، و هبّت الرياح نحوه أياما، فإنه سيفضح و إن كيده سيفشل. و هناك احتمال أن يكون هذا من كلام زليخا، تريد: إنما اعترفت ليظهر أني لا أخون يوسف و هو غائب في السجن بأن أنسب إليه الجريمة، و كذلك (وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي) «1»، من تتمة كلامها.

______________________________

(1) يوسف: 54.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.