دراسات فی ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه المجلد 2

اشارة

سرشناسه : منتظری، حسینعلی، - 1301

عنوان و نام پديدآور : دراسات فی ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه/ لمولفه المنتظری

مشخصات نشر : قم: دار الفکر، 14ق. = - 13.

شابک : 2500ریال(ج.4)

يادداشت : فهرستنویسی براساس جلد چهارم، 1411ق. = 1370

يادداشت : جلد سوم این کتاب توسط انتشارات تفکر منتشر شده است

يادداشت : جلد سوم (چاپ دوم: 1415ق. = 1373)؛ بها: 7000 ریال. (ناشر: نشر تفکر)

يادداشت : ج. 3 (چاپ دوم) 1415 = 1374

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه

موضوع : ولایت فقیه

موضوع : اسلام و دولت

رده بندی کنگره : BP223/8 /م 78د4 1300ی

رده بندی دیویی : 297/45

شماره کتابشناسی ملی : م 70-2367

الباب السّادس في حدود ولاية الفقيه و اختياراته، و واجبات الحاكم الإسلامي تجاه الإسلام و الأمّة، و واجبات الأمّة تجاهه

اشارة

و ليس غرضنا في هذا الباب شرح التكاليف بالتفصيل في تمام المراحل، فإنه بنفسه يستوعب مجلدات ضخمة، بل نقتصر على ذكر بعض الكلمات و بعض الآيات و الروايات المتعرضة لذلك مع شرح و توضيح يناسب هذا الكتاب، و نشير إجمالا إلى السلطات الثلاث التي لا بدّ منها في كلّ حكومة، و إلى بعض المؤسّسات و المراتب الإدارية و الوظائف المهمّة.

و يشتمل هذا الباب على خمسة عشر فصلا:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 3

الفصل الأوّل في أهداف الدولة الإسلامية و ما يجب على الحاكم الإسلامي التصدّي له في حكومته

[الحاكم في الحقيقة هو اللّه تعالى و أساس الحكم هو ما أنزل اللّه]

اعلم أنّه قد ظهر لك في مطاوي البحث إلى هنا أنّ الحكومة الإسلاميّة ليس يراد بها السلطة على المسلمين و بلادهم و الحكم عليهم بما يريده الحاكم و يهواه كيف ما كان، نظير ما يشاهد من الملوك و الرؤساء في غالب البلاد، حيث يعاملون الناس معاملة المالك مع مملوكه.

بل المراد بها تنفيذ أحكام الإسلام و حدوده، و إدارة شئون الأمّة على أساس ضوابط الإسلام و قوانينه العادلة، فإنّ الإسلام دين جامع واسع كافل لجميع ما يحتاج إليه الإنسان في مراحل حياته الفرديّة و العائليّة و الاجتماعيّة، و يتوقّف عليه خيره و سعادته في الدارين، و قد روعي فيه حقوق جميع الأفراد و الفئات حتّى الأقليّات غير المسلمة.

ففي الحقيقة الحاكم هو اللّه- تعالى- كما قال: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ»*، و قال:

«أَلٰا لَهُ الْحُكْمُ» «1»، و الحكومة الإسلامية قوّة منفذة لأحكامه- عزّ و جلّ-، و تتصدّى

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 57 و 62.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 4

لمصالح الأمّة على أساس ضوابط الإسلام.

و ليست حكومة استبدادية ديكتاتورية. و لذا نعبّر عن الحاكم الإسلامي بالإمام و الوالي و الراعي، و عن الأمّة بالرعيّة.

فهو إمام لأنّه أسوة يقتدى به، و وال لأنّه يتولّى مصالح الأمّة كما يتولّى متولى الوقف مثلا مصالحه، و راع لأنّه يرعاهم في جميع مراحلهم حتى لا يعتري عليهم الفساد و الضرر.

و لا يلتفت عندنا إلى الحكومة بما هي مقام و شأن يتفاخر به و تكون حملا و عبأ ثقيلا على ظهر الأمّة، بل يلتفت إليها بما هي وظيفة و مسئولية خطيره على عاتق الحاكم تحقّق بها مصالح الأمّة و يرفع بها عن الأمّة إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم وراثة أو تقليدا أو تحميلا.

فيفترق نظام الحكم الإسلامي عن أنظمة الحكم الدارجة في العالم بوجهين أساسيين كما مرّ:

الأوّل: أنّ أساس الحكم الإسلامي هو أحكام اللّه- تعالى- و قوانينه العادلة.

الثاني: أنّ الحاكم يشترط فيه أن يكون فقيها عادلا بصيرا لا يهمّه إلّا إجراء أحكام اللّه و إدامة طرق الأنبياء و الأئمة «ع».

و النبيّ الأكرم «ص» كان هو أوّل من أقام الدولة الإسلاميّة و كان هو بنفسه يتولّى في جنب رسالته الخطيرة إدارة شئون المسلمين: السياسيّة و الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و العسكريّة، و يعيّن الأمراء و القضاة و الجباة للنواحي و البلاد، و يرسم لهم منهجهم في الحكم و السياسة. و الحكم الذي قام به النبي «ص» في عصره كان حكما فريدا في الحياة لم تعرف البشرية إلى الآن شبيها له في سهولته و سذاجته و ما وجد فيه الناس من عدل و حريّة و مساواة و إيثار.

و كان «ص» رءوفا بهم و حريصا عليهم يطلب خيرهم و رشادهم و يرفع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم. و لشدّة رأفته و رحمته و أخلاقه الكريمة جذب الناس إلى الإسلام و خلع سلاح أعدائه الّذين جمعوا قواهم

و إمكاناتهم ضدّ تقدمه؛

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 5

فتراه «ص» بعد ما فتح مكّة و سلّطه اللّه على أعدائه الألدّاء خاطبهم فقال: «يا معشر قريش، ما ترون انّي فاعل بكم؟ قالوا خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم. قال: اذهبوا، فأنتم الطلقاء.» «1»

فعفا «ص» عنهم و فيهم أمثال أبي سفيان، و صفوان بن أميّة و غيرهما من الرؤساء، و قد أمكنه اللّه منهم، و لم ينتقم حتى من وحشي قاتل عمّه حمزة، و من هند مع ما صنعت في أحد بأجساد القتلى و جسد حمزة و كبده.

و لم يكن أساس حكمه «ص» إلّا ما أنزله اللّه- تعالى-:

1- قال اللّه- تعالى- في سورة النساء: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ.» «2»

2- و قال في سورة المائدة: «وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ، وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ الْحَقِّ. الآية.» «3»

3- «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ، وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ. الآية» «4»

4- «أَ فَحُكْمَ الْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» «5»

إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

وظائف الحاكم الإسلامي:

[كلام الماوردي في وظائف الحاكم]

و كيف كان فلنتعرض لوظائف الحاكم الإسلامي و واجباته، فنقول:

______________________________

(1)- الكامل لابن الأثير 2/ 252، (ذكر فتح مكّة).

(2)- سورة النساء (4)، الآية 105.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 48.

(4)- سورة المائدة (5)، الآية 49.

(5)- سورة المائدة (5)، الآية 50.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 6

قال الماوردي:

«و الذي يلزمه من الأمور العامّة عشرة أشياء:

أحدها: حفظ الدين

على أصوله المستقرّة و ما أجمع عليه سلف الأمّة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجّة و بيّن له الصواب، و أخذه بما يلزمه من الحقوق و الحدود، ليكون الدين محروسا من خلل، و الأمّة ممنوعة من زلل.

الثاني: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين و قطع الخصام بين المتنازعين حتّى تعمّ النصفة، فلا يتعدّى ظالم و لا يضعف مظلوم.

الثالث: حماية البيضة و الذبّ عن الحريم، ليتصرف الناس في المعايش و ينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال.

و الرابع: إقامة الحدود، لتصان محارم اللّه- تعالى- عن الانتهاك و تحفظ حقوق عباده من إتلاف و استهلاك.

و الخامس: تحصين الثغور بالعدّة المانعة و القوّة الدافعة حتى لا تظهر الأعداء بغرّة ينتهكون فيها محرما أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دما.

و السادس: جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمّة، ليقام بحقّ اللّه- تعالى- في إظهاره على الدين كلّه.

و السابع: جباية الفي ء و الصدقات على ما أوجبه الشرع نصّا و اجتهادا من غير خوف و لا عسف.

و الثامن: تقدير العطايا و ما يستحق في بيت المال من غير سرف و لا تقتير و دفعه في وقت لا تقديم فيه و لا تأخير.

التاسع: استكفاء الأمناء و تقليد النصحاء فيما يفوّضه إليهم من الأعمال و يكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاية مضبوطة، و الأموال بالأمناء محفوظة.

العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور و تصفّح الأحوال لينهض بسياسة الأمّة و حراسة الملّة، و لا يعوّل على التفويض تشاغلا بلذّة أو عبادة، فقد يخون الأمين و يغشّ الناصح، و قد قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ، إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 7

فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ.» «1» فلم يقتصر اللّه- سبحانه- على التفويض دون المباشرة و لا عذره في الاتّباع حتى وصفه بالضلال.

و هذا و إن كان مستحقا عليه بحكم الدين و منصب الخلافة فهو من حقوق السياسة لكلّ مسترع.

قال النّبيّ «ص»: «كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته.» «2» ...

و إذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمّة فقد أدّى حقّ اللّه- تعالى- فيما لهم و عليهم، و وجب له عليهم حقّان: الطاعة و النصرة ما لم يتغيّر حاله.» «3»

و ذكر قريبا من ذلك أبو يعلى الفراء الحنبلي في كتابه المسمّى بالأحكام السلطانية أيضا. «4»

و الرجلان كانا في عصر واحد، إذ وفاة الماوردي كانت في «450 ه»، و وفاة أبي يعلى في «458 ه» و تقارب كتابيهما في العبارات يوجب العلم بأخذ أحدهما من الآخر، فلعلّ أبا يعلى أخذ من الماوردي.

[الآيات التي تعرّضت لوظائف الحاكم الإسلاميّ]

و قد تعرّضا كما ترى لأصول واجبات الحكومة الإسلامية، فالأولى أن نذكر بعض الآيات و الروايات المبيّنة للأهداف من الحكومة الإسلامية و واجباتها؛ فخير الكلام ما صدر عن منبع الوحي. و قد مضى أكثر هذه الروايات فيما مضى و لكن التكرار قد يجب و لا محيص عنه، كما ترى نظيره في الكتاب الكريم، حيث إنّه ملي ء من التكرار في القصص و الآيات المذكّرة، فنقول:

1- قال اللّه- تعالى-: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلٰالَ الَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا

النُّورَ

______________________________

(1)- سورة ص (38)، الآية 26.

(2)- مسند أحمد 2/ 111؛ و صحيح البخاري 1/ 160، كتاب الجمعة؛ و صحيح مسلم 3/ 1459، كتاب الإمارة، الباب 5، الحديث 1829.

(3)- الأحكام السلطانيّة للماوردي/ 15.

(4)- الأحكام السلطانيّة/ 27.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 8

الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.» «1»

فالآية تعرضت لخمس من الأمور المهمّة الّتي كان النبيّ «ص» يهتمّ بها و يستمرّ عليها في حياته في قبال الأمّة، و هو «ص» أسوة حسنة لكلّ من يتصدّى للحكومة الإسلامية، فيجب عليه أن يتأسّى به في ذلك.

و المعروف ما تعرفه الفطرة و العقول السليمة و أمر به الشرع لذلك. و المنكر ما تنكره العقول السليمة و نهى عنه الشريعة المطهرة.

فعلى الحاكم الإسلامي أن يجعل الجوّ بقدرته و نفوذه جوّا إسلاميّا سالما ينتشر فيه المعروف بشعبه و تنقطع فيه جذور المنكر و الفساد.

و لعلّ المراد بالأغلال هو الأعمّ من الرسوم و القيود الخرافية الطائفة، و من الأحكام الصعبة المشروعة في شريعة اليهود أو التي حرّمها إسرائيل على نفسه.

و في الحديث عن أبي أمامة عن النبيّ «ص»: «إنّي لم أبعث باليهودية و لا بالنصرانيّة، و لكن بعثت بالحنيفية السمحة.» «2»

2- و قال- تعالى-: «وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «3»

فالناصرون للّه- تعالى- المنصورون من قبله هم الّذين إن تمكّنوا في الأرض و حكموا عليها أقاموا و نفّذوا فرائض اللّه من الصلاة و الزكاة و نحوهما و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر.

3- و قال: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ

وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ؟!» «4»

بناء على كون المراد التصدي للولاية، كما لعلّه الظاهر، اللّهم إلّا أن يقال إنّ السياق يأباه، فتأمّل.

______________________________

(1)- سورة الأعراف (7)، الآية 157.

(2)- مسند احمد 5/ 266.

(3)- سورة الحج (22)، الآية 40- 41.

(4)- سورة محمد (47)، الآية 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 9

4- و قال: «وَ إِذٰا تَوَلّٰى سَعىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهٰا وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللّٰهُ لٰا يُحِبُّ الْفَسٰادَ* وَ إِذٰا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّٰهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهٰادُ» «1»

و الظاهر أنّ المراد بالتولّي هو التصدّي للحكم و الولاية بقرينة قوله: «يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ» و قوله: «أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ.»

فالحاكم الإسلامي يحرم عليه الإفساد و التعدّي على الحرث و النسل، يعني الأموال و النفوس، و يجب عليه أن يكون خاضعا مستسلما في قبال الذكرى و النصح.

فتدبّر في كلامه- تعالى- و انظر كيف بلي المسلمون في أعصارنا بالحكّام الطغاة الذين خمّر في طبعهم الإفساد و هتك الأموال و الأعراض و النفوس، و لا يسمحون لأحد الوعظ و النصيحة. و ليس ذلك إلّا بتفرّق المسلمين و اختلافهم، و فرارهم من الموت و إعجابهم بالدنيا و شئونها، و إنّ اللّه- تعالى- «لٰا يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ» «2»

[الروايات التي تعرّضت لوظائف الحاكم الإسلاميّ]

5- و لمّا بعث رسول اللّه «ص» معاذ بن جبل إلى اليمن وصّاه فقال: «يا معاذ، علّمهم كتاب اللّه، و أحسن أدبهم على الأخلاق الصالحة. و أنزل الناس منازلهم: خيرهم و شرّهم.

و أنفذ فيهم أمر اللّه و لا تحاش في أمره و لا ماله أحدا، فإنّها ليست بولايتك و لا مالك، و أدّ إليهم الأمانة في كلّ قليل و كثير. و عليك

بالرفق و العفو في غير ترك الحقّ، يقول الجاهل: قد تركت من حقّ اللّه. و اعتذر إلى أهل عملك من كلّ أمر خشيت أن يقع إليك منه عيب حتّى يعذروك.

و أمت أمر الجاهلية إلّا ما سنّه الإسلام. و أظهر أمر الإسلام كلّه صغيره و كبيره. و ليكن أكثر همّك الصلاة، فإنّها رأس الإسلام بعد الإقرار بالدين. و ذكّر الناس باللّه و اليوم الآخر. و اتبع الموعظة، فإنّه أقوى لهم على العمل بما يحبّ اللّه. ثم بثّ فيهم المعلّمين. و اعبد اللّه الّذي إليه ترجع. و لا تخف في اللّه لومة لائم.

و أوصيك بتقوى اللّه، و صدق الحديث، و الوفاء بالعهد، و أداء الأمانة، و ترك الخيانة، و لين الكلام، و بذل السلام، و حفظ الجار، و رحمة اليتيم، و حسن العمل، و قصر الأمل، و حبّ الآخرة،

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 205- 206.

(2)- سورة الرعد (13)، الآية 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 10

و الجزع من الحساب، و لزوم الايمان، و الفقه في القرآن، و كظم الغيظ، و خفض الجناح.

و إيّاك ان تشتم مسلما، أو تطيع آثما، أو تعصي إماما عادلا، أو تكذّب إماما صادقا، أو تصدّق كاذبا. و اذكر ربّك عند كلّ شجر و حجر. و أحدث لكلّ ذنب توبة: السرّ بالسرّ و العلانية بالعلانية.

يا معاذ، لو لا أنّني أرى ألّا نلتقي إلى يوم القيامة لقصّرت في الوصية، و لكنّني أرى أن لا نلتقي أبدا.

ثمّ اعلم يا معاذ، أنّ أحبّكم إليّ من يلقاني على مثل الحال التي فارقني عليها.» «1»

و ذكر في كنز العمّال حديثين طويلين في بعث معاذ يشتملان على أكثر مضمون هذا الحديث و زيادات نافعة، فراجع

«2».

و قد ذكرنا الحديث بطوله لما يتضمّن من النصائح العالية النافعة لكلّ من يتصدّى لعمل من أعمال الدولة الإسلاميّة.

و قد دلّ على أنّ من تكاليف الحاكم الإسلامي في نطاق حكومته: 1- تعليم كتاب اللّه. 2- تأديب الناس على الأخلاق الصالحة الفاضلة. 3- الفرق بين خير الناس و شرهم بالتقدير عن الخير و إكرامه، و تأنيب الشر و مجازاته. 4- إجراء المساواة في حكم اللّه و ماله بالنسبة إلى الجميع بلا استثناء لأحد. 5- أداء الأمانة إلى أهلها و إن قلّت. 6- الرفق و العفو بالنسبة إلى المسي ء ما لم يستلزم ترك حقّ. 7- تداوم الوعظ و التذكير. 8- بثّ المعلّمين فيهم لنشر العلوم.

و لا يخفى مناسبة الجملة الأخيرة في الحديث لما صار إليه أمر معاذ في النهاية.

6- و في رواية أنّه «ص» قال لمعاذ: «فأخبرهم أنّ اللّه قد فرض عليهم صدقة؛ تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم طاعوا لك بذلك فإيّاك و كرائم أموالهم، و اتّق دعوة المظلوم فإنّه ليس بينه و بين اللّه حجاب.» «3»

يظهر من الرواية أنّ المكلف إذا أدّى واجب ماله فالتعدّي إلى سائر أمواله من

______________________________

(1)- تحف العقول/ 25.

(2)- كنز العمال 10/ 594- 595، باب غزواته و بعوثه ... من كتاب الغزوات و الوفود من قسم الأفعال، الحديث 30291 و 30292.

(3)- صحيح البخاري 3/ 73، كتاب المغازي، بعث أبي موسى و معاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 11

أشدّ الظلم.

7- و في رواية أخرى: «إنّ رسول اللّه «ص» حين بعث معاذا أوصاه و عهد إليه ثمّ قال له: يسّر و لا تعسّر، و بشّر و لا تنفّر.» «1»

8- و بعث

رسول اللّه «ص» عمرو بن حزم واليا على بني الحارث ليفقّههم في الدين و يعلّمهم السنّة و معالم الإسلام، و يأخذ منهم صدقاتهم. و كتب له كتابا عهد اليه فيه عهده و أمره فيه بأمره:

«بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ* هذا بيان من اللّه و رسوله، يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، عهد من محمد النبي رسول اللّه «ص» لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى اللّه في أمره كلّه، فإنّ اللّه مع الذين اتّقوا و الذين هم محسنون. و أمره أن يأخذ بالحقّ كما أمره اللّه، و أن يبشّر الناس بالخير و يأمرهم به، و يعلّم الناس القرآن و يفقّههم فيه. و ينهى الناس؛ فلا يمسّ القرآن إنسان إلّا و هو طاهر. و يخبر الناس بالذي لهم و الذي عليهم. و يلين للناس في الحقّ، و يشتدّ عليهم في الظلم، فإنّ اللّه كره الظلم و نهى عنه فقال: «ألا لعنة اللّه على الظالمين». و يبشّر الناس بالجنّة و بعملها، و ينذر الناس النار و عملها. و يستألف الناس حتّى يفقّهوا في الدين، و يعلّم الناس معالم الحجّ و سنّته و فريضته، و ما أمر اللّه به في الحجّ الأكبر و الحج الأصغر، و هو العمرة.

و ينهى الناس أن يصلّي أحد في ثوب واحد صغير، إلّا أن يكون ثوبا يثني طرفيه على عاتقيه، و ينهى الناس أن يحتبى أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء. و ينهى أن يعقص أحد شعر رأسه في قفاه. و ينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل و العشائر. و ليكن دعواهم إلى اللّه- عزّ و جلّ- وحده لا شريك له. فمن لم يدع إلى اللّه

و دعا إلى القبائل و العشائر فليقطفوا بالسيف حتّى تكون دعواهم إلى اللّه وحده لا شريك له.

و يأمر الناس بإسباغ الوضوء وجوههم و أيديهم إلى المرافق و أرجلهم إلى الكعبين و يمسحون برؤوسهم كما أمرهم اللّه و أمر بالصلاة لوقتها، و إتمام الركوع و السجود و الخشوع، و يغلّس

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 4/ 237.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 12

بالصبح، و يهجّر بالهاجرة حين تميل الشمس، و صلاة العصر و الشمس في الأرض مدبرة، و المغرب حين يقبل الليل لا يؤخر حتى تبدو النجوم في السماء، و العشاء أوّل الليل. و أمر بالسعي إلى الجمعة إذ نودي لها، و الغسل عند الرواح إليها.

و أمره أن يأخذ من المغانم خمس اللّه، و ما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين و سقت السماء، و على ما سقى الغرب نصف العشر. و في كل عشر من الإبل شاتان، و في كلّ عشرين أربع شياه. و في كلّ أربعين من البقر بقرة، و في كلّ ثلاثين من البقر تبيع، جذع أو جذعة. و في كلّ أربعين من الغنم سائمة وحدها، شاة. فانها فريضة اللّه التي افترض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيرا فهو خير له.

و أنّه من أسلم من يهوديّ أو نصرانيّ إسلاما خالصا من نفسه و دان بدين الإسلام فإنّه من المؤمنين؛ له مثل ما لهم، و عليه مثل ما عليهم. و من كان على نصرانيته أو يهوديّته فإنّه لا يردّ عنها.

و على كلّ حالم: ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد، دينار واف أو عوضه ثيابا. فمن أدّى ذلك فإنّ له ذمّة اللّه و ذمّة رسوله.

و من منع ذلك فإنّه عدوّ للّه و لرسوله و للمؤمنين جميعا. صلوات اللّه على محمد و السلام عليه و رحمة اللّه و بركاته.» «1»

و إنّما نقلنا الحديث بطوله لأنّه على ما قالوا أجمع و أطول كتاب حفظ التاريخ نصّه من كتبه «ص». و اعتنى به أرباب السنن و المسانيد في الأبواب المختلفة من الفقه، و ادّعى بعض إجماع الصدر الأوّل على الأخذ به و إن قطعوه على الأبواب و اختلفوا في بعض ألفاظه.

و عن النووي في التهذيب في ترجمة عمرو بن حزم قال:

«استعمله النبي «ص» على نجران باليمن و هو ابن سبع عشرة سنة، و بعث معه كتابا فيه الفرائض و السنن و الصدقات و الجروح و الديات.» «2»

و النكات المهمّة في هذا العهد أوّلا: الأخذ بالحقّ على نحو ما أمر اللّه به، لا على نحو إعمال الرأي و السليقة الشخصية.

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 4/ 241؛ و تاريخ الطبري 4/ 1727- 1729.

(2)- راجع التراتيب الإداريّة 1/ 168.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 13

و ثانيا: البشارة بالخير و الأمر به.

و ثالثا: تعليم القرآن و تفهيمهم مطالبه المتنوعة.

و رابعا: إرشاد الناس إلى ما ينفعهم و ما يضرّهم.

و خامسا: إعمال الرفق و اللين مع المحقّ، و إعمال الشدّة في قبال الظلم.

و سادسا: التبشير و الإنذار.

و سابعا: تأليف القلوب و تشويقها ليرغبوا في تعلّم الدين و التفقّه فيه.

و ثامنا: تعليم معالم الحجّ و سائر الفرائض و السنن. إلى غير ذلك ممّا اشتمل عليه.

و من هذا العهد و سابقه يعلم إجمالا ما يترقبه رسول اللّه «ص» ممّن يصير واليا على البلاد الإسلامية.

9- و في نهج البلاغة: «اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان

منّا منافسة في سلطان، و لا التماس شي ء من فضول الحطام، و لكن لنردّ المعالم من دينك و نظهر الإصلاح في بلادك فيأمن المظلومون من عبادك و تقام المعطّلة من حدودك.» «1»

و قد مرّ نحو ذلك عن تحف العقول في خطبة تنسب إليه تارة، و إلى سيد الشهداء «ع» أخرى «2».

و يظهر من هذا الكلام أنّ أمير المؤمنين «ع» لم يكن ساكتا في قبال ما كان يقع، بل كان منه مطالبة و محاجّة، و لكن لا للتنافس و طلب الدنيا و المقام، بل لإحياء معالم الدين و الإصلاح في البلاد و رفع الظلم و إقامة الحدود المعطّلة.

10- و فيه أيضا: «قال عبد اللّه بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين «ع» بذي قار و هو يخصف نعله، فقال لي: «ما قيمة هذه النعل؟» فقلت: لا قيمة لها. فقال- عليه السلام-: و اللّه لهي أحبّ إليّ من إمرتكم إلّا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا.» «3»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 406؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.

(2)- راجع تحف العقول/ 239.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 111؛ عبده 1/ 76؛ لح/ 76، الخطبة 33.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 14

فهذا الكلام باختصاره جامع لجميع ما يكون على عهدة الحاكم الإسلامي، أي: «إقامة الحقّ و دفع الباطل.»

11- و فيه أيضا: «لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها و لسقيت آخرها بكأس أوّلها، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز.» «1»

أقول: الكظّة بالكسر و تشديد الظاء: البطنة و ما يعتري الإنسان

عند الامتلاء من الطعام. و السغب: الجوع. و عفطة العنز: ما تنثره من أنفها.

يظهر من الحديث الشريف أنّ المسلمين- و لا سيّما أهل العلم الواقفين على مذاق الشرع و حثّه على العدالة الاجتماعية- لا يجوز لهم السكوت في قبال التفاوت الفاحش الطبقي المنتج من غصب الأقوياء لحقوق الضعفاء و المستضعفين.

و إحقاق الحقوق لا يمكن إلّا بتحصيل القوّة و القدرة، فبذلك يظهر وجوب إقامة الدولة الحقّة و إحقاق الحقوق في ضوئها.

و اعلم أنّ اللّه- تعالى- لم يخلق الإنسان من دون أن يخلق له ما يحتاج إليه في عيشته و ما يتوقّف عليه حياته. و لو ترى الفقر الشديد و النقص الفاحش في بعض منهم فإنّما نشأ من ظلم بعضهم لبعض أو من كفرانهم نعم اللّه- تعالى- و عدم الاستفادة منها بالاستخراج و الاستنتاج:

ففي سورة إبراهيم قال بعد ذكر أصول نعمه: «وَ آتٰاكُمْ مِنْ كُلِّ مٰا سَأَلْتُمُوهُ، وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللّٰهِ لٰا تُحْصُوهٰا، إِنَّ الْإِنْسٰانَ لَظَلُومٌ كَفّٰارٌ.» «2»

و الظاهر أن المقصود بالسؤال هو الحاجة التكوينية الكامنة في الذوات؛ فاللّه- تعالى- علّل النقص الموجود بالأمرين، أعني الظلم و الكفران، فتدبّر في الآيات الشريفة.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 52؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 50، الخطبة 3.

(2)- سورة إبراهيم (14)، الآية 34.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 15

و في نهج البلاغة: «إنّ اللّه- سبحانه- فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقير إلّا بما متّع به غنيّ، و اللّه- تعالى- سائلهم عن ذلك.» «1» هذا.

12- و في نهج البلاغة أيضا في ردّ الخوارج: «هؤلاء يقولون: لا إمرة إلّا للّه، و إنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن و

يستمتع فيها الكافر، و يبلّغ اللّه فيها الأجل و يجمع به الفي ء و يقاتل به العدوّ و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القويّ حتى يستريح برّ و يستراح من فاجر.» «2»

13- و فيه أيضا فيما ردّه «ع» على المسلمين من قطائع عثمان: «و اللّه لو وجدته قد تزوج به النساء و ملك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة، و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.» «3»

يظهر من الحديث الشريف أنّ من وظائف الحاكم الإسلامي ردّ الأموال العامّة المغصوبة المتعلقة بالمجتمع إلى أهلها. و يأتى في الفصل الذى نعقده لوجوب اهتمام الإمام بأموال المسلمين شرح للخطبة و تتميم لها و روايات أخرى لها عن شرح ابن أبي الحديد و كتاب دعائم الإسلام، فانتظر.

14- و فيه أيضا: «إنّه ليس على الإمام إلّا ما حمّل من أمر ربّه، إلّا البلاغ في الموعظة و الاجتهاد في النصيحة و الإحياء للسنّة و إقامة الحدود على مستحقّيها و إصدار السهمان على أهلها.» «4»

15- و فيه أيضا في خطابه «ع» لعثمان: «فاعلم أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدي و هدى؛ فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة.» «5»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1242؛ عبده 3/ 231؛ لح/ 533، الحكمة 328.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 125؛ عبده 1/ 87؛ لح/ 82، الخطبة 40.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 66؛ عبده 1/ 42؛ لح/ 57، الخطبة 15.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 311؛ عبده 1/ 202؛ لح/ 152، الخطبة 105.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 526؛ عبده 2/ 85؛ لح/ 234، الخطبة 164.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 16

يظهر بذلك أنّ من تكاليف الإمام العادل إحياء السنّة و إماتة

البدع.

16- و فيه أيضا: «أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّا، و لكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم، و تعليمكم كيلا تجهلوا، و تأديبكم كيما تعلموا. و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النصيحة في المشهد و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم و الطاعة حين آمركم.» «1» و مفاد الحديث واضح، هذا.

و نهج البلاغة ملي ء من هذا القبيل من الكلمات المتعرضة لتكاليف الحاكم و لا سيّما كتابه «ع» لمالك الأشتر «2»، فراجع.

17- و في الغرر و الدرر للآمدي عن أمير المؤمنين «ع»: «على الإمام أن يعلّم أهل ولايته حدود الإسلام و الإيمان.» «3»

و المراد بأهل ولايته جميع من يكون تحت لواء حكومته.

18- و قد مرّ في كلام له «ع» أرسله إلى معاوية: «و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالّا كان أو مهتديا مظلوما كان أو ظالما حلال الدم أو حرام الدم أن لا يعملوا عملا و لا يحدثوا حدثا و لا يقدّموا يدا و لا رجلا و لا يبدءوا بشي ء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما و رعا عارفا بالقضاء و السنّة، يجمع أمرهم، و يحكم بينهم، و يأخذ للمظلوم من الظالم حقّه، و يحفظ أطرافهم و يجبى فيئهم و يقيم حجّتهم (حجّهم و جمعتهم- البحار) و يجبى صدقاتهم.» «4»

19- و مرّ عن كتاب المحكم و المتشابه نقلا عن تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين «ع»: «لا بدّ للأمّة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود و يجاهد العدوّ و يقسم الغنائم و يفرض الفرائض و يعرّفهم أبواب ما فيه صلاحهم و يحذّرهم ما فيه

______________________________

(1)-

نهج البلاغة، فيض/ 114؛ عبده 1/ 80؛ لح/ 79، الخطبة 34.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 991؛ عبده 3/ 92؛ لح/ 426، الكتاب 53.

(3)- الغرر و الدرر 4/ 318، الحديث 6199.

(4)- كتاب سليم بن قيس/ 182؛ و بحار الأنوار 8/ 555 (ط. القديم).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 17

مضارّهم، إذ كان الأمر و النهي أحد أسباب بقاء الخلق و إلّا سقطت الرغبة و الرهبة، و لم يرتدع و لفسد التدبير و كان ذلك سببا لهلاك العباد. فتمام أمر البقاء و الحياة في الطعام و الشراب و المساكن و الملابس و المناكح من النساء و الحلال و الحرام، الأمر و النهي، إذ كان- سبحانه- لم يخلقهم بحيث يستغنون عن جميع ذلك، و وجدنا أوّل المخلوقين و هو آدم «ع» لم يتمّ له البقاء و الحياة إلّا بالأمر و النهي.» «1»

20- و في الخبر الطويل الذي رواه عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا «ع»: «إنّ الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين. إنّ الإمامة أسّ الإسلام النامي و فرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و توفير الفي ء و الصدقات، و إمضاء الحدود و الأحكام، و منع الثغور و الأطراف. الإمام يحلّ حلال اللّه و يحرم حرام اللّه و يقيم حدود اللّه و يذبّ عن دين اللّه و يدعو إلى سبيل ربّه بالحكمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة.» «2»

21- و في خبر فضل بن شاذان، عن الرضا «ع» الذي مرّ: فإن قال: فلم جعل أولي الأمر و أمر بطاعتهم، قيل: لعلل كثيرة:

منها: أنّ الخلق لمّا وقفوا على حدّ محدود و أمروا أن

لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يجعل عليهم فيه أمينا ... يمنعهم من التعدّي و الدخول فيما حظر عليهم، لأنّه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره فجعل عليهم قيّما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام.

و منها: أنّا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا إلّا بقيّم و رئيس، لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق ممّا يعلم أنّه لا بدّ لهم منه و لا قوام لهم إلّا به فيقاتلون به عدوّهم و يقسمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم.

و منها: أنّه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملّة و ذهب الدين و غيّرت

______________________________

(1)- المحكم و المتشابه/ 50؛ و بحار الأنوار 90/ 41 (طبعة ايران 93/ 41)، كتاب القرآن. و فيه «في أمر البقاء» بدل «فتمام أمر البقاء».

(2)- الكافي 1/ 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام ...؛ و رواه في تحف العقول/ 438.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 18

السنّة (السنن- العلل). و الأحكام و لزاد فيه المبتدعون و نقص منه الملحدون و شبّهوا ذلك على المسلمين، لأنّا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم و تشتت أنحائهم (حالاتهم- العلل)، فلو لم يجعل لهم قيّما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بيّنا و غيّرت الشرائع و السنن و الأحكام و

الإيمان و كان في ذلك فساد الخلق أجمعين.» «1»

22- و قد مرّ خبر حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، و حلم يملك به غضبه، و حسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم.»

و في رواية أخرى: «حتّى يكون للرعية كالأب الرحيم.» «2»

فيجب أن يكون الوالي على الأمّة بمنزلة الأب الرحيم الذي قد أشرب في قلبه محبّة الأولاد و اللطف بهم فيجبر ضعفهم و نقصهم بقوّته و إمكاناته و لا يواجههم بالخشونة و الغضب.

23- و في خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ (كنبيّ خ. ل) أو وصيّ نبيّ.» «3»

فمن واجبات الإمام فصل الخصومات و رفع المنازعات الواقعة في الأمّة بالحق و العدالة مباشرة أو بالتسبيب.

24- و في كنز العمّال: «على الوالي خمس خصال: جمع الفي ء من حقّه، و وضعه في حقّه، و أن يستعين على أمورهم بخير من يعلم، و لا يجمّرهم فيهلكهم، و لا يؤخّر أمرهم لغد.» (و لا يؤخّر أمر يوم لغد خ. ل) (عق عن وائلة) «4».

قال في النهاية:

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا 2/ 100 (من نسخة مخطوطة مصححة)، الباب 34، الحديث 1؛ و علل الشرائع 1/ 95 (طبعة أخرى 1/ 253)، الباب 182، الحديث 9.

(2)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية ...، الحديث 8.

(3)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(4)- كنز العمال 6/ 47، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء، الفصل 3

في أحكام الإمارة، الحديث 14789.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 19

«تجمير الجيش: جمعهم في الثغور و حبسهم عن العود إلى أهلهم.» «1»

25- و قد مرّ روايات مستفيضة دالّة على أنّ الإمامة نظام الأمّة، و في بعضها:

«و مكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمّه، فإذا انقطع النظام تفرّق الخرز و ذهب ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا.» «2»

فعلى إمام المسلمين جمع أمرهم و توحيد كلمتهم و قطع جذور الاختلاف و التفرق عن مجتمعهم حتى يكونوا كيد واحدة على من سواهم و يكون ببركته «مثل المؤمنين في توادّهم و تعاطفهم و تراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه شي ء تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمّى.» «3»

[الآيات و الروايات التي تعرّضت لتكليف المسلمين و إمامهم في السياسة الخارجيّة]

و هاهنا آيات و روايات كثيرة أيضا يستفاد منها تكليف المسلمين و إمامهم في السياسة الخارجيّة و في علاقاتهم مع سائر الأمم و المذاهب نذكر هنا بعضا منها و التفصيل يأتي في فصل مستقل، فانتظر.

26- قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا بِطٰانَةً مِنْ دُونِكُمْ، لٰا يَأْلُونَكُمْ خَبٰالًا. وَدُّوا مٰا عَنِتُّمْ. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضٰاءُ مِنْ أَفْوٰاهِهِمْ، وَ مٰا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ. قَدْ بَيَّنّٰا لَكُمُ الْآيٰاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ.» «4»

27- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ.

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ* فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسٰارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشىٰ أَنْ تُصِيبَنٰا دٰائِرَةٌ. فَعَسَى اللّٰهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلىٰ مٰا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نٰادِمِينَ.» «5»

______________________________

(1)- النهاية لابن الأثير 1/ 292.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 442؛ عبده 2/ 39؛ لح/ 203، الخطبة 146.

(3)- مسند أحمد

4/ 270، عن رسول اللّه «ص».

(4)- سورة آل عمران (3)، الآية 118.

(5)- سورة المائدة (5)، الآية 51 و 52.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 20

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الناهية عن موالاة الكفّار و موادّتهم.

28- و قال اللّه- تعالى-: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «1»

فالعلاقة الموجبة لسلطة الكفّار على المسلمين كما نشاهدها في أعصارنا منهيّ عنها جدّا، و قد أمر اللّه- تعالى- بالقتال و جهاد الكفّار و المنافقين و الغلظة عليهم و إعداد القوّة في قبالهم، كما نطقت بذلك الآيات و الروايات الكثيرة و قد مرّ بعضها في فصل الجهاد من هذا الكتاب، فراجع. هذا.

و في قبال جميع ذلك وردت أدلّة تدلّ على المهادنة و المعاملة معهم بالبرّ و القسط إذا لم يقاتلوا المسلمين في دينهم و لم يخرجوهم من ديارهم:

29- قال اللّه- تعالى-: «لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ.» «2»

30- و قال بعد ما أمر بإعداد القوّة في قبال الكفّار: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.» «3»

31- و قد وادع رسول اللّه «ص» أهل أيلة و كتب لهم: «بسم اللّه الرحمن الرحيم هذه أمنة من اللّه و محمّد النّبيّ رسول اللّه ليوحنّة بن روبة و أهل أيلة و لسفنهم و لسيارتهم و لبحرهم و لبرّهم. ذمّة اللّه و ذمّة محمد النّبيّ «ص» و لمن كان معهم

من كلّ مارّ الناس من أهل الشام و اليمن و أهل البحر ...» «4»

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(2)- سورة الممتحنة (60)، الآية 8 و 9.

(3)- سورة الانفال (8)، الآية 61.

(4)- الاموال لأبي عبيد/ 258.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 21

32- و في كتاب النبي «ص» لأهل نجران و هم نصارى: «و لنجران و حاشيتها جوار اللّه و ذمّة محمّد النبيّ رسول اللّه على أنفسهم و ملّتهم و أرضهم و أموالهم و غائبهم و شاهدهم و عيرهم و بعثهم و أمثلتهم، لا يغيّر ما كانوا عليه و لا يغيّر حقّ من حقوقهم و أمثلتهم، لا يفتن أسقف من أسقفيّته و لا راهب من رهبانيّته و لا واقه من وقاهيته على ما تحت أيديهم من قليل أو كثير ...» «1»

قال في الأموال:

«الواقه: وليّ العهد بلغتهم.»

33- و في عهد طويل كتبه النبي «ص» لليهود حين ما قدم المدينة: «و إنّ يهود بني عوف أمّة مع المؤمنين، لليهود دينهم، و للمسلمين دينهم، مواليهم و أنفسهم إلّا من ظلم و أثم ...» «2»

و سيأتي تفصيله.

إلى غير ذلك من المعاهدات الواقعة بين رسول اللّه «ص» و بين أهل الكتاب أو بين المشركين، و كذلك ما ورد من الروايات الكثيرة في حرمة أهل الذمّة و حفظ حقوقهم. فإنّه يستفاد من جميع ذلك أنّ الواجب على إمام المسلمين أن تكون علاقته مع سائر الأمم و المذاهب بالقسط و العدل و رعاية الحقوق من الطرفين؛ لا بأن يضيّع حقوقهم المدنيّة و الاجتماعيّة، و لا بأن يتخذوا بطانة و يجعل لهم سبيل و استيلاء على المسلمين في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو نحو ذلك. هذا.

فهذه آيات و

روايات كثيرة جمعناها هنا، يستفاد من جميعها سنخ تكاليف الإمام و واجباته في نطاق الإسلام و في تجاه الأمّة.

[العناوين المتحصّلة من الآيات و الروايات في وظائف الحاكم الإسلاميّ]

و المتحصّل من جميعها مع التحفّظ على التعبيرات الواقعة فيها خمسة عشر عنوانا، و لعلّ بعضها متداخلة كما ترى و لكن نذكر الجميع حفظا للتعبيرات:

1- جمع أمر المسلمين و حفظ نظامهم، و منع الثغور و الأطراف، و الدفاع عنهم

______________________________

(1)- فتوح البلدان للبلاذري/ 76 و نحوه في الاموال لأبي عبيد/ 244.

(2)- سيرة ابن هشام 2/ 149.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 22

و قتال مقاتليهم و البغاة عليهم.

2- الإصلاح في البلاد و إيجاد الأمن فيها و في السبل.

3- أن يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم من الرسوم و القيود و العادات و التقاليد الباطلة.

4- أن يعلّمهم الكتاب و السنّة و حدود الإسلام و الإيمان، و يبيّن لهم الحلال و الحرام و ما ينفعهم و يضرّهم.

و يعمّم التعليم و التربية ببثّ المعلّمين فيهم و تأليف الناس جميعا ليرغبوا في تعلّم الدين و التفقّه فيه.

5- إقامة فرائض اللّه و شعائره من الصلاة و الحج و غيرهما، و تأديب الناس على الأخلاق الفاضلة.

6- إقامة السنّة و إماتة البدع، و الذبّ عن دين اللّه و حفظ الشرائع و السنن عن التغيير و التأويل و الزيادة و النقصان.

7- الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمفهومهما الوسيع، أعني السعي في إشاعة المعروف و بسطه، و مكافحة أنواع المنكر و الظلم و الفساد.

8- منع الظلم و إحقاق حقوق الضعفاء من الأقوياء و إعمال الشدّة في قبال الظالمين.

9- القضاء بالعدل و إقامة حدود اللّه و أحكامه.

10- ردّ ما غصب من بيت المال و الأموال العامّة، و إجراء المساواة

في حكم اللّه و ماله، و رفع التبعيضات الظالمة التي توجب كظّة الظالمين و سغب المظلومين.

11- جباية الفي ء و الصدقات على نحو ما أمر اللّه به و توفيرها على مستحقّيها من الأشخاص و المصارف العامة.

12- تتابع الوعظ و التذكير و الإنذار و التبشير.

13- التمييز بين الأخيار من الناس و الأشرار منهم بإكرام الخير و الإحسان اليه، و تأنيب الشر و مجازاته.

14- إعمال الرفق و العفو في غير ترك الحقّ، فيكون للرعيّة كالوالد الرحيم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 23

15- حسن العلاقة مع سائر الأمم و المذاهب بالسلم و البرّ و القسط و حفظ الحقوق المتقابلة في النفوس و الملة و الأراضي و الأموال إذا لم يقاتلوا المسلمين و لم يخرجوهم من ديارهم، لا بأن يتّخذهم الوالي بطانة أو يجعل لهم سبيلا على المسلمين و شئونهم.

فهذه خمسة عشر عنوانا لما يجب على الحاكم الإسلامي بالأصالة، اقتبسناها ممّا ذكر من الآيات و الروايات. و لم نرد الاستقصاء فيها، بل ذكر نماذج.

و الجامع لجميع هذه العناوين هو الأمور المتعلّقة بمجتمع المسلمين بما هو مجتمع، أي بنحو العامّ المجموعي لا الاستغراقي، كحفظ نظامهم، و أمن بلادهم و سبلهم، و دفع الأعداء عنهم و إعداد القوى في قبالهم، و تعليمهم و هدايتهم، و إقامة السنة و إماتة البدع و إقامة فرائض اللّه و شعائره فيهم، و إجراء حدود اللّه و أحكامه، و فصل الخصومات بينهم، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و جباية الفي ء و الصدقات و حفظ الأنفال و الأموال العامّة و إيصالها إلى أهلها، و تنظيم علاقتهم مع سائر الأمم و نحو ذلك مما يتعلّق بالمجتمع بما هو مجتمع و لا يكون

متعلّقا بشخص خاص.

و الخطابات الواردة في الكتاب و السنّة في هذا السنخ من الأمور أيضا توجّهت إلى المجتمع كذلك لا بنحو العموم الاستغراقي.

و على هذا فيكون المتصدي لها من يتمثل فيه المجتمع، أعني الحاكم المنتخب من قبل اللّه- تعالى- أو من قبلهم. و لعلّ قول أمير المؤمنين «ع» على ما في نهج البلاغة: «إلّا أن أقيم حقّا أو أدفع باطلا» باختصاره و جامعيّته يعمّ جميع ما ذكرنا، و إن شئت فعبّر «حراسة الدين و سياسة الدنيا»، فتأمّل.

و أمّا تعيين السلطات الثلاث و رعاية المواصفات المعتبرة فيها و مراقبة أعمالها و بعث العيون عليها و نحو ذلك فليست هذه الأمور من أهداف الحكومة و واجباتها بالأصالة، بل هي من قبيل المقدمات الواقعة في طريق تحصيل الأهداف.

و إن شئت قلت: هي قوام الحكومة لا من أهدافها، و البحث فيها يأتي في الفصول الآتية. هذا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 24

و إذا كانت هذه برامج الحكومة الإسلامية و أهدافها و كان المسؤول المنفّذ لها هو الإمام المعصوم أو الفقيه العادل البصير بالأمور و الواجد لسائر ما ذكرناه من الشروط الثمانية فأيّ شي ء يوجب الوحشة و الفرار منها؟ و هل لا يكون المخالف لإقامتها من عملاء الاستعمار أو ممّن يريد الإقدام على الظلم أو على الفساد و الفحشاء و الفرار من حدود اللّه و أحكامه؟ هذا.

[هنا ظهر أمران]
اشارة

و بما ذكرناه من الآيات و الروايات المبيّنة لتكاليف الحاكم الإسلامي و واجباته يظهر لك أمران:

الأوّل: ان الإمام و الحاكم الإسلامي قائد و مرجع للشئون الدينيّة و السياسية معا،

و ليس الدين منفكا عن السياسة على ما ربّما يسمع من بعض نواعق الاستعمار و أبواقه.

و على التفكيك بينهما أيضا يكون بناء الكنيسة و عملها لما نسبوه إلى السيد المسيح «ع» من قوله: «أعطوا لقيصر ما لقيصر و ما للّه للّه.» «1»

نعم، ساحة الدين الحقّ بريئة من السياسة الحديثة المبنيّة على المكر و الشيطنة و الهضم للحقوق و البراعة في الكذب و الخداع.

و أمّا السياسة بمعنى حفظ نظام المسلمين و حقوقهم و سيادتهم و إصلاح شئونهم العامّة بشعبها المختلفة و الدفاع عنهم على أساس ما أنزل اللّه- تعالى- من الأحكام فهي داخلة في نسج الإسلام و نظامه، كما مرّ بالتفصيل في الباب الثالث من الكتاب.

______________________________

(1)- إنجيل مرقس، الباب 12، الرّقم 17؛ و إنجيل متى، الباب 22، الرّقم 21؛ و إنجيل لوقا، الباب 20، الرّقم 25.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 25

و من الأسف أنه قد يتفوّه بالانفكاك المذكور بعض البسطاء و المقلّدة من المسلمين أيضا ممّن لم يعرف الدين و لا السياسة.

و كيف كان فبالجمع بين الشؤون الدينيّة و السياسيّة في الروايات المذكورة يعرف أنّ إمام المسلمين هو المرجع لهم في دينهم و ثقافتهم و سياستهم و الدفاع عنهم، كما كان كذلك النبي «ص».

نعم، ليس معنى ذلك أنّ الإمام بنفسه يتصدّى لجميع الشؤون بالمباشرة. بل كلّما اتسع نطاق الملك و زادت التكاليف تكثّرت الدوائر و المؤسسات و الأجهزة، و توجد قهرا سلطات تشريعيّة و تنفيذيّة و قضائيّة على أساس الحاجة، و يحال كلّ أمر إلى مؤسّسة تناسبه. و لكنّ الإمام و الحاكم بمنزلة رأس

المخروط يحيط بجميعها و يشرف على الجميع إشرافا تامّا، فهو المسؤول و المكلّف كما يأتي بيان ذلك في بعض الفصول الآتية.

الأمر الثاني: انّ الحاكم إنّما يتصدّى و يتدخّل في الأمور العامّة الاجتماعية التي لا بدّ منها
اشارة

للمجتمع بما هو مجتمع، و لا ترتبط بشخص خاص حتى يكون هو المتصدّي لها.

و أمّا الأمور و الأحوال غير العامّة كالزراعة و الصناعة و التجارة و الأرزاق و المسكن و المصنع و اللباس و الزواج و التعليم و التعلّم و المسافرات و الاحتفالات و نحو ذلك من الأمور المتعلّقة بالأشخاص و العائلات فالناس في انتخابها و انتخاب أنواعها و كيفيّاتها أحرار، و لكلّ منهم أن يختار ما يريده و يهواه ما لم يكن فيه منع شرعي.

فمصالح الأفراد و المجتمعات تقضي بترك الأفراد أحرارا في نشاطاتهم، و يكتفى بمساعدتهم و مراقبتهم فحسب، إذ يساعد ذلك على الابتكار و كثرة الإنتاج و التقدّم،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 26

و التحديد يوجب أن يفقد الشخص اعتماده على النفس و أن لا يزدهر الاستعدادات في مجالات الحياة.

اللّهم إلّا إذا فرض شي ء منها في مورد خاص موجبا للإضرار بالمجتمع أو ببعض الأفراد؛ فللحاكم حينئذ تحديده في ذلك المورد بمقدار يدفع به الضرر.

و بالجملة، يجب أن يكون البناء في هذه الأمور و الأحوال الشخصيّة على الإطلاق و الحرّية إلّا في موارد الضرورة، لا على المنع و التحديد إلّا بإذن الحكومة.

نعم، يتوقع من الحكومة بل ربما يتعين عليها بالنسبة إلى هذه الأمور التخطيط الكلي و التعليم و الإرشاد و الهداية إلى أنواعها و طرق تحصيلها و بيان أنفعها و الأصلح منها، و الإعانة و إيجاد الإمكانات لها لدى الاحتياج، و المنع عمّا حرّمه اللّه- تعالى- من الربا و الاحتكار و التطفيف و الغشّ و الخيانة و

نحو ذلك. و أمّا الإجبار على بعض الأنواع و سلب الحرّيات فمخالف لطبع الأمّة و لمذاق الشرع إلّا مع الضرورة. هذا.

و لكنّك تشاهد أنّ أكثر الحكومات الدارجة في أعصارنا ربّما يتدخّلون في هذه الأمور و يحدّدون الاختيارات و الحريّات التي جعلها اللّه- تعالى- في طباع البشر.

و يوجب تدخّلهم ذلك:

أولا: كراهة الأمّة و بغضاءها في قبال الحكومة.

و ثانيا: كثرة العصيان و الهتك لها.

و ثالثا: احتياج الحكومة إلى استخدام موظّفين كثيرين للتدخّل و التحديد و المراقبة.

و رابعا: إلى وضع ضرائب كثيرة فوق طاقة الأشخاص لمصارف الموظّفين و أجهزتهم. فلا تنتج هذه التدخّلات إلّا البغضاء و التنافر و الخصام المتتابع بين الحكومة و بين الأمّة بلا ضرورة.

هذا مضافا إلى أنّ سلب الحرية في الأمور الإنتاجيّة و الصناعية و التحديد فيها كما أشرنا إليه يوجب قلّة الإنتاج جدّا، فإنّ العلاقة النفسية و الحرية الطبيعية أقوى باعث يحفز الإنسان إلى الصناعة و الإنتاج و تحمّل المشاقّ في سبيلهما.

و من الأسف أنّ أكثر هذه التحديدات و التدخّلات إنّما تقع في بعض البلاد

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 27

الإسلاميّة و الحكومات الدارجة فيها. و ربّما تقع بإلقاء شياطين الاستعمار و إيحائهم إلى عملائهم، أو بتقليد بعض البسطاء من الحكّام لبعض آخر. مع أنّك ترى أن رءوس الكفر و الاستعمار قد أطلقوا أممهم و تابعوا أهواءهم، فهل لا يكون هذا إلّا نحو مكر مكروه لعدم راحة الأمّة الإسلاميّة و عدم استقرار نظامهم و عدم ثبات دويلاتهم؟! فاعتبروا يا أولي الأبصار! هذا.

و أسوأ من هذه التدخّلات و التحديدات مباشرة الدولة بنفسها للزراعة و التجارة و الصناعات؛ فقد عقد ابن خلدون في مقدّمته فصلا بديعا بعنوان أنّ التجارة من

السلطان مضرّة بالرعايا مفسدة للجباية.

و محصل كلامه:

«أنّ تصدي السلطان للتجارة و الفلاحة غلط عظيم، و إدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعدّدة، و منها أنّ له القدرة و المال الكثير فيجعل السوق تحت قبضته و اختياره، فلا يحصل أحد من التجار على غرضه في شي ء من حاجاته فيدخل على النفوس من ذلك غمّ و نكد، و يدخل به على الرعايا من العنت و المضايقة و فساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي و يؤدّي إلى فساد الجباية، فإنّه إذا انقبض الفلّاحون عن الفلاحة و قعد التجّار عن التجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش. و إذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية و بين هذه الأرباح وجدها بالنسبة إلى الجباية أقلّ من القليل. ثمّ فيه التعرّض لأهل عمرانه و اختلال الدولة بفسادهم و نقصه، فإنّ الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة و التجارة نقصت و تلاشت بالنفقات، و كان فيها إتلاف أحوالهم.» «1»

هذا.

و لنذكر مثالين من تحديد النبي «ص» و تدخّله بما أنّه كان واليا و حاكما في هذا السنخ من الأمور مقتصرا على قدر الضرورة:

______________________________

(1)- مقدمة ابن خلدون/ 197، الفصل 41 من الفصل 3 من الكتاب الأوّل (طبعة أخرى/ 281، الفصل 40).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 28

[مثالين في تدخّل النبي «ص» بما أنّه كان واليا في الأمور الاجتماعية الصغيرة]
الأوّل:

ما رواه في الوسائل بسنده، عن علي بن أبي طالب «ع» أنّه رفع الحديث إلى رسول اللّه «ص» أنّه «ص» مرّ بالمحتكرين، فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق و حيث تنظر الأبصار إليها. فقيل لرسول اللّه «ص»: لو قوّمت عليهم، فغضب رسول اللّه «ص» حتّى عرف الغضب في وجهه، فقال: أنا أقوّم عليهم؟! إنّما السعر إلى

اللّه؛ يرفعه إذا شاء و يخفضه إذا شاء.» «1»

و في رواية حذيفة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «نفد الطعام على عهد رسول اللّه «ص»، فأتاه المسلمون فقالوا: يا رسول اللّه، قد نفد الطعام و لم يبق منه شي ء إلّا عند فلان فمره ببيعه. قال: فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: يا فلان، إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلّا شي ء عندك فأخرجه و بعه كيف شئت و لا تحبسه.» «2»

فانظر انّه «ص» بمقتضى الضرورة ألزم البيع في مورد الاحتكار و لكنّه لم يسعّر، إذ لم تكن فيه ضرورة في ذلك العصر، فأحال ذلك إلى ما تقتضيه طبيعة العرض و الطلب. و يأتي منّا البحث في مسألة الاحتكار و التسعير في فصل مستقل، فانتظر.

الثاني:

ما رواه المشايخ الثلاثة بسند معتبر، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع» قال: «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار، و كان منزل الأنصاري بباب البستان فكان يمرّ به إلى نخلته و لا يستأذن. فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سمرة، فلمّا تأبّى

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 317، الباب 30 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(2)- الوسائل 12/ 317، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 29

جاء الأنصاري إلى رسول اللّه «ص» فشكا إليه و خبّره الخبر، فأرسل إليه رسول اللّه «ص» و خبّره بقول الأنصاري و ما شكا و قال: إذا أردت الدخول فاستأذن، فأبى، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه، فأبى أن يبيع، فقال: لك بها عذق يمدّ لك (مذلّل- يب) في الجنة، فأبى أن يقبل.

فقال

رسول اللّه «ص» للأنصاري: اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنّه لا ضرر و لا ضرار.» «1»

و في رواية أخرى لزرارة عنه «ع» نحوه، و فيه: «فقال له رسول اللّه «ص» خلّ عنه و لك مكانه عذق في مكان كذا و كذا. فقال: لا. قال: فلك اثنان. قال: لا أريد. فلم يزل يزيده حتّى بلغ عشرة أعذاق. فقال: لا. قال: فلك عشرة أعذاق في مكان كذا و كذا. فأبى. فقال:

خلّ عنه و لك مكانه عذق في الجنّة. قال: لا أريد. فقال له رسول اللّه «ص»: إنّك رجل مضارّ، و لا ضرر و لا ضرار على مؤمن. الحديث» «2»

و الظاهر أنّ المراد بالضرر هو النقص في المال أو في النفس، و الضرار أعمّ منه، فيشمل مطلق التضييق. أو انّ الضرر فعل الواحد، و الضرار فعل الاثنين كما في النهاية. «3» و قيل غير ذلك. و العذق كفلس: النخلة و بالكسر: العرجون بما فيه من الشماريخ.

و كيف كان فهو «ص» لم يأمر بقلع الشجرة في بادئ الأمر، بل أمر بالاستيذان، ثمّ ساومه حتّى بلغ به من الثمن عشرة أعذاق، فلمّا أبى ذلك و أبى العذق في الجنة أيضا و رأى منه اللجاجة اضطرّ إلى الحكم بقلع الشجرة لقلع جذر الفساد و قطع رجاء المفسد.

فإن قلت: لم لم يحكم هو «ص» بالبيع جبرا و قهرا عليه فإن الحاكم وليّ الممتنع؟

______________________________

(1)- الوسائل 17/ 341، الباب 12 من أبواب إحياء الموات، الحديث 3.

(2)- الكافي 5/ 294، كتاب المعيشة، باب الضرار، الحديث 8.

(3)- النهاية لابن الأثير 3/ 81.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 30

قلت: يظهر من معاملة سمرة مع رسول اللّه «ص» و الأنصاري أنه لم يكن

يتعبّد بالبيع و رفع المزاحمة عن الأنصاري و إن حكم به النبي «ص» و دفع إليه الثمن، فتدبّر. هذا.

و في مسند أحمد بن حنبل روى بسنده عن عبادة بن الصامت، عن رسول اللّه «ص» حديثا طويلا يشتمل على قضايا كثيرة و فيه: «و قضى أن لا ضرر و لا ضرار.» «1»

و هل يراد بقوله: «لا ضرر» نفي الضرر ادعاء، يعني نفي الحكم الضرري، أو يكون نهيا إلهيّا نظير سائر النواهي الشرعية، أو يكون نهيا ولائيا من قبل النبيّ الأكرم «ص» كما ربّما يشهد بذلك التعبير بالقضاء منه «ص»، فيكون نظير سائر النواهي الصادرة في مقام إعمال الولاية؟ وجوه. و للبحث فيه محل آخر.

و كيف كان فالأحكام الولائية الصادرة عن اضطرار إنّما تتقدّر بقدر الاضطرار و الضرورة.

______________________________

(1)- مسند أحمد 5/ 327.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 31

الفصل الثاني في الشورى

اشارة

و فيها جهات من البحث:

1- اهتمام الإسلام بالاستشارة:

[التشاور و القرآن]

لا يخفى أنّ بناء الحكم الإسلامي على إعمال التشاور و تبادل الآراء في الأمور، و الاجتناب عن الاستبداد و الديكتاتورية.

و الإسلام- على ما يظنّ- أوّل نظام قانوني حثّ على الشورى في مجال الحكم و تدبير الأمور، حينما كان العصر عصر الحكومات الاستعبادية الديكتاتورية.

فترى في القرآن الكريم سورة باسم الشورى عدّ فيها التشاور في الأمور في عداد الفرائض و الخلقيات المرغّب فيها، فقال- تعالى-: «وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبٰائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَوٰاحِشَ، وَ إِذٰا مٰا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ* وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ، وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ، وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ، وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ.» «1»

______________________________

(1)- سورة الشورى (42)، الآية 37 و 38.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 32

و قد بلغت الشورى من الأهميّة بحيث أمر اللّه- تعالى- نبيّه الأكرم «ص» مع عصمته و اتّصاله بمنبع الوحي أن يشاور أصحابه و يحصّل آراءهم، و استمرت سيرته «ص» على ذلك و إن كان العزم و القرار النهائي له «ص».

فقال- تبارك و تعالى-: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.» «1»

و لفظ الأمر و إن كان بحسب اللغة و المفهوم يعمّ جميع الشؤون الفردية و الاجتماعيّة من السياسة و الاقتصاد و الثقافة و الدفاع، و تحسن المشاورة أيضا في جميع ذلك حتى في الشؤون الفرديّة المهمة، و لكن المتبادر منه و المتيقّن هو الحكومة و الإمارة بشعبها التي من أهمّها مسألة الحرب و الدفاع، كما يشهد بذلك ما عن رسول اللّه «ص»: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.» «2» و ما عن أمير المؤمنين «ع»: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة. الحديث.» «3» و ما عن

الإمام المجتبى «ع» في كتابه إلى معاوية: «ولّاني المسلمون الأمر بعده.» «4» إلى غير ذلك من موارد استعمال كلمة الأمر.

و وقوع قوله- تعالى-: «و شاورهم في الأمر» في سياق الآيات الحاكية عن غزوة أحد لا يدلّ على اختصاص الكلمة بالحرب و الأمور الدفاعية، و لا على اختصاص مشاورة النبي «ص» بها، و إن كانت الحرب بنفسها من أهمّ شئون الحكومة و من أحوجها إلى التشاور. هذا.

و ينبغي أن يزداد إعجابنا بهذا الدستور القرآني إذا مثّلنا لعقولنا الوضع الحاكم في تلك الأعصار في الحكومات الدارجة، حيث لم يكن لعامّة الناس وعي سياسي يحفزهم إلى التدخل في الأمور و مطالبته، و كان للحكّام عند أكثرهم قداسة ذاتية تقربهم من الآلهة و تفرض التسليم لهم بلا نقد و اعتراض، و المسلمون كانوا خاضعين لرسول اللّه «ص» لا يتوقّعون منه «ص» تشريكهم في الأمر و الحكم؛ ففي هذا الظرف

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 159.

(2)- صحيح البخاري 3/ 91، كتاب المغازي، باب كتاب النبي «ص» إلى كسرى و قيصر.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 51؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 49، الخطبة 3.

(4)- مقاتل الطالبيين/ 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 33

تشاهد القرآن الكريم يؤكّد على مشاورة النبي «ص» المسلمين و على مشاورة بعضهم بعضا لتصير الشورى أساسا خالدا في الشريعة الإسلامية.

و السرّ في ذلك أنّ الشورى توجب تبادل الأفكار و تلاقحها و اتضاح الأمر و اطمينان الخاطر بعدم الاشتباه و الخطأ.

ففي الأمور المهمّة نظير تدبير أمور الأمّة و مسائل الحرب و الدفاع و نحوها لا محيص عنها و لعلّ تركها يكون ظلما على المجتمع و الأمّة.

نعم، تعيين شخص الإمام إن وقع من قبل اللّه- تعالى-

أو من قبل الرسول الأكرم أو الإمام المعصوم فلا يبقى معه مجال للشورى في أصله، فإنّ أمر اللّه حاكم على كلّ شي ء و قد مرّ بالتفصيل، فراجع. هذا.

و أمّا الأخبار الواردة في الحثّ على الشورى و الاهتمام بها

ففي غاية الكثرة من طرق الفريقين، فلنذكر بعضها:

1- ما رواه في العيون عن الرضا «ع» بإسناده عن النبي «ص»، قال: من جاءكم يريد أن يفرّق الجماعة و يغصب الأمّة أمرها و يتولّى من غير مشورة فاقتلوه، فإن اللّه قد أذن ذلك.» «1»

يظهر من الحديث الاهتمام بالمشورة في التصدّي لأصل الولاية أو في اعمالها، و لعلّ الثاني أظهر.

هذا و لكن الظاهر أنّ جواز القتل يرتبط بتفريق الجماعة و غصب أمر الأمّة، لا بترك المشورة فقط، فتدبّر.

2- ما رواه الترمذي بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا كانت أمراؤكم خياركم و أغنياؤكم سمحاءكم و أموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها ...» «2» و رواه في تحف العقول أيضا عن النبي «ص» «3».

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا 2/ 62، الباب 31، الحديث 254.

(2)- سنن الترمذي 3/ 361، أبواب الفتن، الباب 64، الحديث 2368.

(3)- تحف العقول/ 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 34

3- ما رواه في البحار عن الخصال، عن الصادق «ع»، قال: «لا يطمعنّ القليل التجربة المعجب برأيه في رئاسة.» «1»

4- ما رواه في الوسائل عن أبي هريرة، قال: سمعت أبا القاسم «ع» يقول:

«استرشدوا العاقل و لا تعصوه فتندموا.» «2»

5- و فيه أيضا عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: فيما أوصى به رسول اللّه «ص» عليا «ع» قال: «لا مظاهرة أوثق من المشاورة، و لا عقل كالتدبير.» «3»

أقول: التدبير: ملاحظة دبر الشي ء و عاقبته.

6- و فيه أيضا عن جعفر بن

محمد، عن أبيه «ع»، قال: «قيل: يا رسول اللّه، ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي و اتباعهم.» «4»

7- و فيه أيضا عن معمر بن خلاد، قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا «ع» يقال له: سعد، فقال له: أشر عليّ برجل له فضل و أمانة، فقلت: أنا أشير عليك؟ فقال شبه المغضب: «إنّ رسول اللّه «ص» كان يستشير أصحابه ثمّ يعزم على ما يريد.» «5»

يظهر من الحديث أنّ الاستشارة كانت من سيرة النبي «ص» و كان يداوم عليها.

8- و في نهج البلاغة: «لا مظاهرة أوثق من المشاورة.» «6»

9- و فيه أيضا: «من استبدّ برأيه هلك، و من شاور الرجال شاركها في عقولها.» «7»

______________________________

(1)- بحار الأنوار 72/ 98 (طبعة ايران 75/ 98)، كتاب العشرة، الباب 48، الحديث 2.

(2)- الوسائل 8/ 409، الباب 9 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

(3)- الوسائل 8/ 424، الباب 21 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

(4)- الوسائل 8/ 424، الباب 21 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

(5)- الوسائل 8/ 428، الباب 24 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 1.

(6)- نهج البلاغة، فيض/ 1139؛ عبده 3/ 177؛ لح/ 488، الحكمة 113.

(7)- نهج البلاغة، فيض/ 1165؛ عبده 3/ 192؛ لح/ 500، الحكمة 161.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 35

10- و فيه أيضا: «و الاستشارة عين الهداية، و قد خاطر من استغنى برأيه.» «1»

11- و فيه أيضا: «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.» «2»

12- و فيه أيضا: «فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة، و لا تتحفّظوا منّي بما يتحفّظ به عند أهل البادرة و لا تخالطوني بالمصانعة، و لا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي، و لا التماس إعظام لنفسي،

فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل، فإنّي لست بفوق أن أخطئ و لا آمن ذلك من فعلي إلّا أن يكفي اللّه من نفسي ما هو أملك به منّي.» «3»

فليتنبّه شيعة أمير المؤمنين المدّعون للاقتداء به، و ليتدبّروا في هذه الكلمات الصادرة عن باب علم النبي «ص» و أخيه و وزيره، و لا يستنكفوا عن المشاورة و لا يستثقلوا عن الحقّ الذي ربّما يقال لهم، حتّى ممّن هو دونهم بحسب العناوين الرسميّة الاعتباريّة.

13- فروى الحسن بن جهم، قال: «كنّا عند أبي الحسن الرضا «ع» فذكر أباه «ع» فقال: كان عقله لا توازن به العقول و ربّما شاور الأسود من سودانه. فقيل له تشاور مثل هذا؟ فقال: إنّ اللّه- تبارك و تعالى- ربّما فتح على لسانه. قال: فكانوا ربّما أشاروا عليه بالشي ء فيعمل به من الضيعة و البستان.» «4»

14- و في آخر الفقيه في وصية أمير المؤمنين «ع» لابنه محمد بن الحنفية: «اضمم آراء الرجال بعضها إلى بعض ثم اختر أقربها إلى الصواب و أبعدها من الارتياب.» (إلى أن قال): «قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه و من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ.» «5»

______________________________

(1)- نهج البلاغة/ فيض/ 1181؛ عبده 3/ 200؛ لح/ 506، الحكمة 211.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1169؛ عبده 3/ 193؛ لح/ 501، الحكمة 173.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 686؛ عبده 2/ 226؛ لح/ 335، الحكمة 216.

(4)- الوسائل 8/ 428، الباب 24 من ابواب احكام العشرة، الحديث 3.

(5)- الفقيه 4/ 385 و 388، باب النوادر، الحديث 5834.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 36

15- و في الغرر و الدرر للآمدي عن أمير المؤمنين «ع»: «أفضل الناس رأيا من لا يستغني عن رأي مشير.» «1»

16- و فيه أيضا: «إنّما حضّ على المشاورة لأنّ رأي المشير صرف و رأي المستشير مشوب بالهوى.» «2»

17- و فيه أيضا: «حقّ على العاقل أن يضيف إلى رأيه رأي العقلاء و يضمّ إلى علمه علوم الحكماء.» «3»

18- و فيه أيضا: «من لزم المشاورة لم يعدم عند الصواب مادحا و عند الخطأ عاذرا.» «4»

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب.

و قال قائل في هذا الشأن:

اقرن برأيك رأي غيرك و استشر فالحق لا يخفى على الاثنين للمرإ مرآة تريه وجهه و يرى قفاه بجمع مرآتين

و قال آخر:

شاور سواك إذا نابتك نائبة يوما و إن كنت من أهل المشورات فالعين تنظر منها ما دنا و نأى و لا ترى نفسها إلّا بمرآة

هذا.

و الظاهر أنّ عمدة مشاورة النبي الأكرم «ص» كانت مع وجوه القبائل لجلب أنظارهم و إعطاء الشخصيّة لهم و إظهار الاعتماد عليهم، و لا محالة كانت نفس هذا العمل من أقوى العوامل المؤثّرة في قوّة عزمهم و تحرّكهم و متابعتهم في جميع المراحل.

و أمّا غيره «ص» من الحكّام غير المعصومين فاللازم أن يكون لهم مشاورون

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 2/ 429، الحديث 3152.

(2)- الغرر و الدرر 3/ 92، الحديث 3908.

(3)- الغرر و الدرر 3/ 408، الحديث 4920.

(4)- الغرر و الدرر 5/ 406، الحديث 8956.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 37

أخصّائيون في الأمور العامّة المهمّة من السياسة و الاقتصاد و الثقافة و الدفاع، فيطرح لهم المسائل و يطلب منهم تبادل الآراء و استحصال الفكر الصحيح في كل مسألة

و تنظيم البرامج و الخطوط الكليّة لإدارة النفوس و البلاد.

و ليحذر الحاكم من الإعجاب بالنفس و بأفكار نفسه، بل يستمع الآراء المختلفة و يقلّب وجوه الرأي، و بعد التأمّل و التعمّق فيها يختار ما هو الأصلح في مجالات الحكم، و لا يتبادر إلى التصميم و القرار قبل المشاورة و تبادل الأفكار و تلاقحها، فإنّ الجواد قد يكبو و الصارم قد ينبو، و ضرر الخطأ و الاشتباه من العظيم عظيم.

نعم، لما كان المسؤول و المكلّف هو الحاكم فالملاك بعد المشاورة و استماع الأنظار المختلفة هو تشخيص نفسه، و لا يتعيّن عليه متابعة الأكثريّة، و لا يلزم من ذلك كون الشورى بلا فائدة، إذ يترتّب عليها مضافا إلى جلب أنظار المشاورين و إعطاء الشخصيّة لهم نضج الفكر و الاطلاع على جوانب الأمر و عواقبه حتّى يختار ما هو الأصلح بعد التأمّل في الأنظار المختلفة و المقايسة بينها.

و في نهج البلاغة: «و قال- عليه السلام- لعبد اللّه بن العباس و قد أشار عليه في شي ء لم يوافق رأيه: لك أن تشير عليّ و أرى، فإن عصيتك فأطعني.» «1»

و بالجملة فالإمام أو الأمير المسؤول هو الذي يختار و يعزم بعد إنضاج الفكر بالمشاورة.

و اعتبار الأكثريّة إنّما يكون فيما إذا كان المسؤول هو الأمّة أو أهل الحلّ و العقد، كما في انتخاب الإمام أو الممثّلين، و كما في التقنين في مجلس الشورى؛ ففي هذه الموارد يكون الملاك آراء الجميع أو الأكثريّة، كما لا يخفى.

و أمّا جعل الإمامة و الولاية للشورى لا للشخص- كما قد يتلقّى بألسنة بعض المتثقّفين و كنت أنا أيضا في مجلس الخبراء مدافعا عن هذه الفكرة- فالظاهر أنّه مخالف لسيرة العقلاء و المتشرعة، و ليس أمرا صالحا

لإدارة البلاد و العباد و لا سيّما في

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1239؛ عبده 3/ 230؛ لح/ 531، الحكمة 321.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 38

المواقع الحسّاسة الخطيرة، حيث يتوقّف مضيّ الأمور فيها على وحدة مركز القرار و التصميم.

و عن أمير المؤمنين «ع»: «الشركة في الملك تؤدي إلى الاضطراب.» «1»

و اللّه- تعالى- خاطب نبيّه «ص» فقال: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ.» فجعل العزم و القرار في النهاية لشخص النبي الأكرم «ص» فتأمّل.

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 2/ 86، الحديث 1941.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 39

2- مواصفات من يستشار

1- معاوية بن وهب، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «استشر في أمرك الذين يخشون ربهم.» «1»

2- الحسين بن المختار، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال علي «ع»: «شاور في حديثك الذين يخافون اللّه.» «2»

3- سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «استشر العاقل من الرجال الورع، فإنّه لا يأمر إلّا بخير، و إيّاك و الخلاف، فإنّ مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين و الدنيا.» «3»

4- منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «مشاورة العاقل الناصح رشد و يمن و توفيق من اللّه، فإذا أشار عليك الناصح العاقل فإيّاك و الخلاف، فإنّ في ذلك العطب.» «4»

5- المعلى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «ما يمنع أحدكم إذا ورد عليه ما لا قبل له به أن يستشير رجلا عاقلا له دين و ورع، ثمّ قال أبو عبد اللّه «ع»: أما إنّه إذا فعل ذلك لم يخذله اللّه بل يرفعه اللّه و رماه بخير الأمور و

أقربها إلى اللّه.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 3.

(2)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 4.

(3)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 5.

(4)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 6.

(5)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 40

6- الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال: إنّ المشورة لا تكون إلّا بحدودها، فمن عرفها بحدودها و إلّا كانت مضرّتها على المستشير أكثر من منفعتها له، فأوّلها أن يكون الذي تشاوره عاقلا، و الثانية أن يكون حرّا متديّنا، و الثالثة أن يكون صديقا مؤاخيا، و الرابعة أن تطلعه على سرّك فيكون علمه به كعلمك بنفسك، ثمّ يسرّ ذلك و يكتمه. فإنّه إذا كان عاقلا انتفعت بمشورته، و إذا كان حرّا متديّنا أجهد نفسه في النصيحة لك، و إذا كان صديقا مؤاخيا كتم سرّك إذا اطلعته عليه، و إذا اطلعته على سرّك فكان علمه به كعلمك به تمّت المشورة و كملت النصيحة.» «1»

و قد نقلنا هذه الأخبار الستة من الوسائل.

7- و في الغرر و الدرر: «أفضل من شاورت ذو التجارب، و شرّ من قارنت ذو المعايب.» «2»

8- و فيه أيضا: «جهل المشير هلاك المستشير.» «3»

9- و فيه أيضا: «خير من شاورت ذووا النهى و العلم و أولوا التجارب و الحزم.» «4»

10- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك الاشتر: «و لا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، و لا جبانا يضعفك عن الأمور، و لا حريصا يزيّن لك الشره

بالجور؛ فإنّ البخل و الجبن و الحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظنّ باللّه.» «5»

11- الحسن بن راشد، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «يا حسن، إذا نزلت بك نازلة فلا تشكها إلى أحد من أهل الخلاف، و لكن اذكرها لبعض إخوانك، فإنّك لن تعدم خصلة من خصال أربع: إمّا كفاية بمال، و إمّا معونة بجاه، أو دعوة تستجاب، أو مشورة برأي.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 8/ 426، الباب 22 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 8.

(2)- الغرر و الدرر 2/ 456، الحديث 3279.

(3)- الغرر و الدرر 3/ 367، الحديث 4767.

(4)- الغرر و الدرر 3/ 428، الحديث 4990.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 998؛ عبده 3/ 97؛ لح/ 430، الكتاب 53.

(6)- الوسائل 2/ 631، الباب 6 من أبواب الاحتضار، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 41

12- و في البحار عن العلل بسنده عن عمّار الساباطي، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «يا عمّار، إن كنت تحبّ أن تستتبّ لك النعمة و تكمل لك المروّة و تصلح لك المعيشة فلا تستشر العبد و السفلة في أمرك؛ فإنّك إن ائتمنتهم خانوك، و إن حدّثوك كذبوك، و إن نكبت خذلوك، و إن و عدوك موعدا لم يصدقوك.» «1»

13- و قد مرّ في حديث وصايا النبي «ص» لعليّ: «يا عليّ ليس على النساء جمعة و لا جماعة ... و لا تستشار.» «2»

14- و مرّ عن نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين «ع» إلى ابنه الحسن «ع»:

«إيّاك و مشاورة النساء، فإنّ رأيهنّ إلى أفن و عزمهنّ إلى وهن.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 72/ 99 (طبعة ايران 75/ 99)، كتاب العشرة، الباب 48، الحديث 9.

(2)- الفقيه 4/

364، باب النوادر، الحديث 5762.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 938؛ عبده 3/ 63؛ لح/ 405، الكتاب 31.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 42

3- حقّ المستشير على المشير و بالعكس

1- تحف العقول في رسالة الحقوق المروية عن علي بن الحسين «ع»: «و أمّا حقّ المستشير فإن حضرك له وجه رأي جهدت له في النصيحة و أشرت عليه بما تعلم أنّك لو كنت مكانه عملت به. و ذلك ليكن منك في رحمة و لين، فإنّ اللين يؤنس الوحشة، و إنّ الغلظ يوحش موضع الأنس. و إن لم يحضرك له رأي و عرفت له من تثق برأيه و ترضى به لنفسك دللته عليه و أرشدته اليه، فكنت لم تأله خيرا و لم تدّخره نصحا، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.

و أمّا حقّ المشير عليك فلا تتهمه فيما لا يوافقك عليه من رأيه إذا أشار عليك. فإنّما هي الآراء و تصرّف الناس فيها و اختلافهم، فكن عليه في رأيه بالخيار إذا اتّهمت رأيه، فأمّا تهمته فلا تجوز لك إذا كان عندك ممّن يستحقّ المشاورة. و لا تدع شكره على ما بدا لك من إشخاص رأيه و حسن وجه مشورته، فإذا وافقك حمدت اللّه و قبلت ذلك من أخيك بالشكر و الإرصاد بالمكافأة في مثلها إن فزع إليك، و لا قوّة إلّا باللّه.» «1»

2- و في سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«المستشار مؤتمن.» «2»

و مثله في سنن ابن ماجة عن أبي هريرة، و كذا عن أبي مسعود عنه «ص». و في سفينة البحار عن أمير المؤمنين «ع» «3».

3- و في سفينة البحار للمحدث القمي عن أبي عبد اللّه «ع»: «من استشار أخاه

______________________________

(1)-

تحف العقول/ 269.

(2)- سنن أبي داود 2/ 626، كتاب الادب، باب في المشورة.

(3)- سنن ابن ماجة 2/ 1233، كتاب الأدب، الباب 37، الحديث 3745 و 3746؛ و سفينة البحار 1/ 718.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 43

فلم يمحضه محض الرأي سلبه اللّه- عزّ و جلّ- رأيه.» و رواه في الوسائل إلّا أنّه قال:

«فلم ينصحه محض الرأي.» «1»

4- و في الغرر و الدرر: «ظلم المستشير ظلم و خيانة.» «2»

5- و فيه أيضا: «على المشير الاجتهاد في الرأي و ليس عليه ضمان النجح.» «3»

6- و فيه أيضا: «من غشّ مستشيره سلب تدبيره.» «4»

______________________________

(1)- سفينة البحار 1/ 718، باب الشين بعده الواو؛ و الوسائل 8/ 427، الباب 23 من أبواب أحكام العشرة، الحديث 2.

(2)- الغرر و الدرر 4/ 272، الحديث 6037.

(3)- الغرر و الدرر 4/ 316، الحديث 6194.

(4)- الغرر و الدرر 5/ 217، الحديث 8055.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 44

4- ذكر بعض موارد استشارة النبي «ص» تتميما للفائدة

الأوّل في غزوة البدر:

ففي كتاب المغازي للواقدي:

«قالوا: و مضى رسول اللّه «ص» حتّى إذا كان دوين بدر أتاه الخبر بمسير قريش، فأخبرهم رسول اللّه «ص» بمسيرهم و استشار رسول اللّه «ص» الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، ثمّ قام عمر فقال فأحسن، ثمّ قال: يا رسول اللّه، إنّها و اللّه قريش و عزّها، و اللّه ما ذلّت منذ عزّت، و اللّه ما آمنت منذ كفرت، و اللّه لا تسلم عزّها أبدا، و لتقاتلنّك، فاتّهب لذلك اهبته و أعدّ لذلك عدّته. ثمّ قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول اللّه، امض لأمر اللّه؛ فنحن معك. و اللّه لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لنبيّها: «فاذهب أنت و ربّك فقاتلا، إنّا

هاهنا قاعدون.» «1» و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا، إنّا معكما مقاتلون. و الذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك- و برك الغماد من وراء مكّة بخمس ليال من وراء الساحل ممّا يلي البحر و هو على ثمان ليال من مكّة إلى اليمن- فقال له رسول اللّه خيرا و دعا له بخير. ثمّ قال رسول اللّه «ص»: أشيروا عليّ أيّها الناس! و إنّما يريد رسول اللّه «ص» الأنصار. و كان يظن أنّ الأنصار لا تنصره إلّا في الدار، و ذلك أنّهم شرطوا له أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم و أولادهم. فقال رسول اللّه «ص»: أشيروا عليّ. فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أجيب عن الأنصار،

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 24.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 45

كأنّك يا رسول اللّه تريدنا. قال: أجل. قال: إنّك عسى أن تكون خرجت عن أمر قد أوحي إليك في غيره، و إنا قد آمنّا بك و صدقناك، و شهدنا أنّ كلّ ما جئت به حقّ و أعطيناك مواثيقنا و عهودنا على السمع و الطاعة، فامض يا نبيّ اللّه، فو الذي بعثك بالحقّ لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل، وصل من شئت، و اقطع من شئت، و خذ من أموالنا ما شئت، و ما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا ممّا تركت. و الذي نفسي بيده ما سلكت هذا الطريق قطّ، و مالي بها من علم، و ما نكره أن يلقانا عدوّنا غدا، إنّا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك ... قالوا فلمّا فرغ سعد من المشورة قال

رسول اللّه «ص»: سيروا على بركة اللّه، فإنّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين، و اللّه لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم. قال: و أرانا رسول اللّه «ص» مصارعهم يومئذ.» «1»

و روى نحوه علي بن إبراهيم في تفسيره في تفسير سورة الأنفال «2».

و في مسند أحمد:

«استشار رسول اللّه «ص» الناس في الأسارى يوم بدر.» «3»

الثاني في غزوة أحد:

ففي سيرة ابن هشام:

«قال رسول اللّه «ص» للمسلمين: إني قد رأيت و اللّه خيرا؛ رأيت بقرا، و رأيت في ذباب سيفي ثلما، و رأيت انّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة ... فإن رأيتم

______________________________

(1)- المغازي 1/ 48.

(2)- تفسير علي بن إبراهيم/ 238.

(3)- مسند أحمد 3/ 243.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 46

أن تقيموا بالمدينة و تدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا بشرّ مقام، و إن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. و كان رأي عبد اللّه بن أبيّ بن سلول مع رأي رسول اللّه «ص»؛ يرى رأيه في ذلك و ألّا يخرج إليهم، و كان رسول اللّه «ص» يكره الخروج.

فقال رجال من المسلمين ممّن أكرم اللّه بالشهادة يوم أحد و غيره ممّن كان فاته بدر: يا رسول اللّه، اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنّا جبنّا عنهم و ضعفنا.

فقال عبد اللّه بن أبيّ بن سلول: يا رسول اللّه، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم؛ فو اللّه ما خرجنا منها إلى عدوّ لنا قطّ إلّا أصاب منا و لا دخلها علينا إلّا أصبنا منه ...

فلم يزل الناس برسول اللّه «ص» الذين كان من أمرهم حبّ لقاء القوم حتّى دخل رسول اللّه «ص» بيته فلبس لأمته ... ثمّ خرج عليهم و قد ندم الناس، و قالوا:

استكرهنا رسول اللّه «ص» و

لم يكن لنا ذلك. فلمّا خرج عليهم رسول اللّه «ص» قالوا: يا رسول اللّه، استكرهناك و لم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد، صلى اللّه عليك. فقال رسول اللّه «ص»: ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتّى يقاتل.

فخرج رسول اللّه «ص» في ألف من أصحابه.» «1»

و في المغازي بعد نقل رؤيا النبيّ:

«و قال النبي «ص»: أشيروا عليّ. و رأى رسول اللّه «ص» ألّا يخرج من المدينة لهذه الرؤيا.» ثمّ ذكر القصّة بالتفصيل، فراجع «2».

فهو «ص» مع ما كان يرى من عدم الخروج من المدينة لمّا رأى إصرار أكثر أصحابه على الخروج و حرصهم على الشهادة في سبيل اللّه ترك رأي نفسه و تابع رأيهم، حرصا على حفظ حرمتهم و إبقاء لروح الإيثار و الشجاعة المحياة في نفوسهم.

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 3/ 66.

(2)- المغازي للواقدي 1/ 209.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 47

الثالث في غزوة الأحزاب (الخندق):

ففي المغازي:

«ندب رسول اللّه «ص» الناس و أخبرهم خبر عدوّهم، و شاورهم في أمرهم بالجدّ و الجهاد، و وعدهم النصر إن هم صبروا و اتّقوا، و أمرهم بطاعة اللّه و طاعة رسوله، و شاورهم رسول اللّه «ص». و كان رسول اللّه «ص» يكثر مشاورتهم في الحرب، فقال: أ نبرز لهم من المدينة، أم نكون فيها و نخندقها علينا، أم نكون قريبا و نجعل ظهورنا إلى هذا الجبل؟ فاختلفوا؛ فقالت طائفة: نكون مما يلي بعاث إلى ثنيّة الوداع، إلى الجرف، فقال قائل: ندع المدينة خلوفا، فقال سلمان يا رسول اللّه، إنا إذ كنّا بأرض فارس و تخوفنا الخيل خندقنا علينا، فهل لك يا رسول اللّه أن نخندق؟

فأعجب رأي سلمان المسلمين و ذكروا حين دعاهم النبي «ص» يوم

أحد أن يقيموا و لا يخرجوا، فكره المسلمون الخروج و أحبّوا الثبات في المدينة.» «1»

الرابع في غزوة الأحزاب أيضا:

حينما اشتدّ الأمر على رسول اللّه «ص» و أصحابه:

ففي المغازي أيضا ما ملخّصه:

«حصر رسول اللّه «ص» و أصحابه بضع عشرة حتّى خلص إلى كلّ امرئ منهم الكرب، فأرسل رسول اللّه «ص» إلى عيينة بن حصن و إلى الحارث بن عوف و قال لهما: أ رأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم و تخذّلان بين الأعراب؟

______________________________

(1)- المغازي للواقدي 1/ 444، (الجزء الثاني).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 48

قالا: تعطينا نصف تمر المدينة، فأبى رسول اللّه «ص» أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك.

و جاءا في عشرة من قومهما حين تقارب الأمر، فجاءوا و قد أحضر رسول اللّه «ص» أصحابه، و أحضر الصحيفة و الدواة.

فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول اللّه «ص» فقال: يا رسول اللّه، إن كان أمرا من السماء فامض له، و إن كان غير ذلك فو اللّه لا نعطيهم إلّا السيف، متى طمعوا بهذا منّا؟

فأسكت رسول اللّه «ص» و دعا سعد بن معاذ و سعد بن عبادة، فاستشارهما في ذلك و هو متكئ عليهما و القوم جلوس، فتكلم بكلام يخفيه، و أخبرهما بما قد أراد من الصلح.

فقالا: إن كان أمرا من السماء فامض له، و إن كان أمرا لم تؤمر فيه و لك فيه هوى فامض لما كان لك فيه هوى، فسمعا و طاعة، و إن كان إنّما هو الرأي فما لهم عندنا إلّا السيف، و أخذ سعد بن معاذ الكتاب.

فقال رسول اللّه «ص»: إنّي رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة فقلت: أرضيهم و لا أقاتلهم.

فقالا: يا رسول اللّه، إن كانوا ليأكلون

العلهز في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منّا قط أن يأخذوا تمرة إلّا بشرى أو قرى! فحين أتانا اللّه- تعالى- بك، و أكرمنا بك، و هدانا بك نعطى الدنيّة! لا نعطيهم أبدا إلّا السيف.

فقال رسول اللّه «ص»: شقّ الكتاب. فتفل سعد فيه ثم شقّه، و قال: بيننا السيف.» «1»

و في النهاية:

«العلهز: هو شي ء يتّخذونه في سني المجاعة، يخلطون الدم بأوبار الإبل ثمّ يشوونه بالنار و يأكلونه، و قيل: كانوا يخلطون فيه القردان.» «2»

______________________________

(1)- المغازي للواقدي 1/ 477، (الجزء الثاني).

(2)- النهاية لابن الأثير 3/ 293.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 49

أقول: الظاهر أنّ ما كان منه «ص» أوّلا مع عيينة و الحارث لم يكن إلّا مجرد المقاولة و المفاوضة، و لم يكن غرضه «ص» إلّا حفظ كيان الأنصار و حقن دمائهم، فلمّا رأى قوّتهم و شدّة بأسهم أحال الأمر إليهم. فهو «ص» لم يخلف وعدا جازما و لا أقدم على ما لا يصحّ، بل أخذ بعد المشاورة بما ظهر كونه أصلح.

و كيف كان فالظاهر كما مرّ أنّ عمدة مشاورة النبي «ص» كانت مع وجوه القبائل لجلب أنظارهم و إظهار الاعتماد عليهم، تقوية لعزمهم و تحرّكهم، و إلّا فهو «ص» كان متّصلا بمنبع الوحي و كان الحقّ واضحا له. فما كان استشارته «ص» أمّته إلّا وزان استشارة اللّه إيّاه: ففي مسند أحمد، عن حذيفة، عنه «ص» أنّه قال: «إنّ ربّي- تبارك و تعالى- استشارني في أمّتي ما ذا أفعل بهم؟ فقلت:

ما شئت أي ربّ، هم خلقك و عبادك. فاستشارني الثانية، فقلت له كذلك، فقال: لا أحزنك في أمّتك. الحديث.» «1»

الخامس في قصة الحديبية:

ففي سنن البيهقي بسنده عن المسوّر بن مخرمة و مروان بن

الحكم، قالا:

خرج رسول اللّه «ص» زمن الحديبية في بضع عشرة مأئة من أصحابه، حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد رسول اللّه «ص» الهدي و أشعره و أحرم بالعمرة، و بعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش.

و سار رسول اللّه «ص» حتّى إذا كان بوادي الأشطاط قريب من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إني تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش و جمعوا لك جموعا و هم مقاتلوك و صادّوك عن البيت.

______________________________

(1)- مسند أحمد 5/ 393.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 50

فقال النبي «ص»: أشيروا عليّ، أ ترون أن نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم، فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين و إن نجوا تكن عنقا قطعها اللّه، أو ترون أن نؤمّ البيت فمن صدّنا عنه قاتلناه؟

فقال أبو بكر: اللّه و رسوله أعلم يا نبيّ اللّه، إنّما جئنا معتمرين و لم نجئ نقاتل أحدا، و لكن من حال بيننا و بين البيت قاتلناه.

فقال النبي «ص» فروحوا إذا. قال الزهري: و كان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحدا قطّ كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول اللّه.» «1»

السادس في غزوة الطائف:

و بعد ما حاصر رسول اللّه «ص» الطائف «قيل إنّه استشار نوفل بن معاوية الدئلي في المقام عليهم، فقال: يا رسول اللّه ثعلب في جحر؛ إن أقمت عليه أخذته، و إن تركته لم يضرّك، فأذّن بالرحيل.» «2»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 50

إلى غير ذلك من الموارد التي ربما يعثر

عليها المتتبع.

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 218. كتاب الجزية، باب المهادنة على النظر للمسلمين.

(2)- الكامل لابن الأثير 2/ 267، (في ذكر حصار الطائف).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 51

الفصل الثالث في أنّ المسؤول في الحكومة الإسلاميّة هو الإمام، و السلطات الثلاث أياديه و أعضاده

اعلم أنّ المستفاد من الآيات و الروايات التي مرّت في بيان تكاليف الحاكم و كذلك من سيرة النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» هو أنّ الإمام و الحاكم في الحكومة الإسلامية يكون هو المكلّف و المسؤول لحفظ كيان المسلمين و تدبير أمورهم و إصلاح شئونهم على أساس ضوابط الإسلام و مقرراته.

فهو المكلف بإصلاح الملك و المسؤول عن فساده.

و لكنّه إذا اتّسعت حيطة ملكه و الاحتياجات و التكاليف المتوجّهة إليه احتاج قهرا إلى تكثير المشاورين و الأيادي و العمّال في شتّى الدوائر المختلفة، و لا محالة يفوّض كلّ أمر إلى فرد متخصّص أو دائرة تناسبه. و من هنا تنشأ السلطات الثلاث.

فليس وزان الحاكم الإسلامي وزان الملك في الحكومة المشروطة الدارجة في أعصارنا في بعض البلاد كإنكلترا مثلا، حيث ترى أنّه لا يكون إلّا وجودا تشريفيا يتمتّع من أعلى الإمكانيات و أغلاها من دون أن يتحمّل أيّة مسئوليّة علمية أو

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 52

نشاطية نافعة، و إنّما تتوجّه المسؤوليّات و التكاليف من أوّل الأمر إلى السلطات الثلاث.

و بالجملة، فالمسؤول و المكلّف في الحكومة الإسلاميّة هو الإمام الصلاة و الحاكم، و السلطات الثلاث أياديه و أعضاده، و يكون هو بمنزلة رأس المخروط مشرفا على الجميع شرافا تامّا.

1- ففي خبر عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا «ع»: «بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و توفير الفي ء و الصدقات و إمضاء الحدود و الأحكام

و منع الثغور و الأطراف.

الإمام يحلّ حلال اللّه و يحرّم حرام اللّه و يقيم حدود اللّه و يذبّ عن دين اللّه ...» «1»

2- و مرّ في خبر فضل بن شاذان، عن الرضا «ع» في حكمة جعل الإمام:

«فجعل عليهم قيّما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام ... فيقاتلون به عدوّهم و يقسّمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم.» «2»

3- و في خبر المحكم و المتشابه عن أمير المؤمنين «ع»: «لا بدّ للأمّة من إمام يقوم بأمرهم، فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود و يجاهد فيهم العدوّ و يقسّم الغنائم و يفرض الفرائض و يعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم و يحذّرهم ما فيه مضارهم ...» «3»

4- و في خبر سليم عنه «ع»: «يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما و رعا عارفا بالقضاء و السنّة يجمع أمرهم و يحكم بينهم، و يأخذ للمظلوم من الظالم حقّه، و يحفظ أطرافهم و يجبي فيئهم و يقيم حجّتهم (حجّهم و جمعتهم- البحار) و يجبي صدقاتهم.» «4»

إلى غير ذلك ممّا ورد في بيان واجبات الإمام و تكاليفه، حيث يظهر منها أن

______________________________

(1)- الكافي 1/ 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام، الحديث 1.

(2)- عيون أخبار الرضا 2/ 101، الباب 34، الحديث 1.

(3)- المحكم و المتشابه/ 50؛ و في بحار الأنوار 90/ 41 (طبعة ايران 93/ 41)، كتاب القرآن، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن. و لكن في البحار: «و يجاهد العدوّ»، بدل «و يجاهد فيهم العدوّ».

(4)- كتاب سليم بن قيس/ 182.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 53

المسؤول هو الإمام و الحاكم، و قد نسب

جميع الأعمال و النشاطات إليه.

5- و يشهد لذلك أيضا ما رواه الكليني بسنده عن المعلّى بن خنيس، قال:

قلت لأبي عبد اللّه «ع» يوما: جعلت فداك، ذكرت آل فلان و ما هم فيه من النعيم، فقلت: لو كان هذا إليكم لعشنا معكم. فقال «ع»: هيهات يا معلّى، أما و اللّه لو كان ذاك ما كان إلّا سياسة الليل و سياحة النهار و لبس الخشن و أكل الجشب، فزوي ذلك عنا. فهل رأيت ظلامة قطّ صيّرها اللّه- تعالى- نعمة إلّا هذه؟» «1»

فالمعلّى تمنّى أن تكون الحكومة للإمام الصادق «ع» ليعيش هو أيضا في ضوئها مرفّها، و الامام «ع» نبّهه على خطأه و اشتباهه و أنّه لو كان الأمر كذلك كان على الإمام صرف الليل في التدبير و السياسة و ترسيم الخطوط، و صرف النهار في التحرك و السياحة للإشراف على المسؤولين و الموظّفين و الاطلاع على أوضاع البلاد و العباد، و مع هذا كلّه يكون في المعيشة في سطح ضعفة الناس بلبس الخشن و أكل الجشب.

6- و في وصية الإمام الكاظم «ع» لهشام بن الحكم: «و يجب على الوالي أن يكون كالراعي لا يغفل عن رعيّته و لا يتكبّر عليهم.» «2»

7- و في كتاب أمير المؤمنين «ع» لمالك حين ولّاه مصر بعد ذكر العمّال و انتخابهم قال: «ثمّ تفقّد أعمالهم، و ابعث العيون من أهل الصدق و الوفاء عليهم. فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة و الرفق بالرعيّة، و تحفّظ من الأعوان. فإنّ أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه و أخذته بما أصاب من عمله، ثمّ نصبته بمقام المذلّة

و وسمته بالخيانة و قلّدته عار التّهمة.» «3»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 410، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام في نفسه ...، الحديث 2.

(2)- تحف العقول/ 394.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1011؛ عبده 3/ 106؛ لح/ 435، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 54

8- و فيه أيضا: «و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرغ لهم فيه شخصك و تجلس لهم مجلسا عامّا فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك، حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول في غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع.»

ثمّ احتمل الخرق منهم و العيّ، و نحّ عنهم الضيق و الأنف يبسط اللّه عليك بذلك أكناف رحمته و يوجب لك ثواب طاعته. و أعط ما أعطيت هنيئا، و امنع في إجمال و إعذار.

ثمّ أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها؛ منها: إجابة عمّا لك بما يعيا عنه كتّابك. و منها:

إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك.» «1»

أقول: التعتعة في الكلام: التردّد فيه من عجز. و الخرق بالضم: العنف و الشدة. و العيّ بالكسر: العجز عن النطق. و الأنف محركة: الاستنكاف و الاستكبار. و أكناف الرحمة: أطرافها. و تخرج: تضيق.

9- و فيه أيضا: «و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه الزمته.» «2»

10- و في نهج البلاغة أيضا في كتاب له «ع» إلى عبد اللّه بن عباس عامله على البصرة: «فاربع ابا العباس- رحمك اللّه- فيما جرى على لسانك و يدك من خير و شر؛ فإنّا شريكان في ذلك، و كن عند صالح ظنّي

بك و لا يفيلنّ «3» رأيي فيك. و السّلام.» «4»

إلى غير ذلك من الروايات الدالة على مسئولية الإمام بشخصه، و منها الحديث النبويّ المشهور المرويّ من طرق السنة الذي رواه البخاري و مسلم و أحمد و غيرهم:

11- ففي البخاري بسنده عن عبد اللّه بن عمر، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «كلّكم راع، و كلكم مسئول عن رعيّته: الإمام راع و مسئول عن رعيّته، و الرجل راع في

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1021؛ عبده 3/ 112؛ لح/ 439، الكتاب 53.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1016؛ عبده 3/ 109؛ لح/ 437، الكتاب 53.

(3)- قال: أخطأ و ضعف.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 868؛ عبده 3/ 21؛ لح/ 376، الكتاب 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 55

أهله و هو مسئول عن رعيّته، و المرأة راعية في بيت زوجها و مسئولة عن رعيّتها، و الخادم راع في مال سيّده و مسئول عن رعيّته. قال: و حسبت أن قد قال: و الرجل راع في مال أبيه و مسئول عن رعيّته، و كلّكم راع و مسئول عن رعيّته.» «1»

و روى نحوه مسلم، و أحمد، فراجع «2».

و بالجملة، يظهر من جميع هذه الروايات أنّ الإمام و الحاكم الإسلامي هو المسؤول و المكلّف بإدارة الأمور العامّة؛ فالوزراء و العمّال و الكتّاب و الجنود و القضاة أعوانه و أياديه، و يجب عليه الإشراف عليهم و على أعمالهم، و ليس له سلب المسؤوليّة عن نفسه.

و قد صرّح بما ذكرناه الماوردي و أبو يعلى، حيث ذكرا فيما يلزم الإمام من الأمور العامّة مباشرة نفسه بمشارفة الأمور:

قال الماوردي في عداد ما يلزم الإمام:

«العاشر: أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور و تصفّح الأحوال، لينهض بسياسة الأمّة

و حراسة الملّة. و لا يعوّل على التفويض تشاغلا بلذّة أو عبادة؛ فقد يخون الأمين و يغشّ الناصح، و قد قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ، إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ، وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ.» فلم يقتصر اللّه- سبحانه- على التفويض دون المباشرة و لا عذره في الاتّباع حتّى وصفه بالضلال.

و هذا و إن كان مستحقّا عليه بحكم الدين و منصب الخلافة فهو من حقوق السياسة لكلّ مسترع. قال النبي «ص»: «كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته.» ...» «3»

______________________________

(1)- صحيح البخاري 1/ 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى و المدن.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1459، كتاب الإمارة، الباب 5، الحديث 1829؛ و مسند أحمد 2/ 111.

(3)- الأحكام السلطانيّة للماوردي/ 16؛ و ذكر أبو يعلى أيضا نحو ذلك في الأحكام السلطانيّة/ 28.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 57

الفصل الرّابع في بيان إجمالي لأنواع السلطات و الدوائر في الحكومة الإسلامية

اشارة

و هو مع بساطته فصل طويل.

قد عرفت في مطاوي بعض الفصول السابقة أنّه ليس معنى ولاية الإمام أو الفقيه تصدّيه بنفسه لجميع الأعمال و الشؤون مباشرة، بل كلّما اتّسع نطاق الملك و تكثّرت الاحتياجات و التكاليف تكثّرت السلطات و الدوائر و فوّض كلّ أمر إلى دائرة تناسبه. و لكنّ الإمام أو الفقيه الواجد للشرائط بمنزلة رأس المخروط يشرف على جميعها إشرافا تامّا و هو المسؤول العالي و هو الذي تتوقّع منه الأمّة سياسة البلاد و العباد. و سائر المسؤولين بمراتبهم أياديه و أعضاده.

و أصول السلطات في الحكومة ثلاثة: التشريعية و التنفيذية و القضائية.

إذ تدبير أمور الأمّة يتوقّف أوّلا: على ترسيم الخطوط الكليّة و تعيين المقرّرات.

و ثانيا: على إجراء المقرّرات و الخطوط المعيّنة في شتّى الأمور

الواجبة على الحكومة.

و ثالثا: على فصل خصومات الأمّة و القضاء بينهم في المنازعات. فإلى هذه

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 58

السلطات الثلاث يرجع جميع تكاليف الحاكم في نطاق حكومته حتّى إن دائرة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الحسبة و الإذاعة و التلفزيون أيضا تعدّ من شعب التنفيذ. و إنّما عدّ القضاء سلطة مستقلّة لأنّ شأنه الحكم لا التنفيذ و الإجراء، و للاهتمام بشأنه، و لأنّ المقصود عموم سلطته حتّى بالنسبة إلى أعضاء سلطة التنفيذ و التشريع أيضا، و لذا يحال تعيين القضاة إلى نفس الإمام لا رئيس سلطة التنفيذ، فتدبّر، و بالجملة، فهنا سلطات ثلاث:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 59

الأولى: السلطة التشريعيّة و فيها جهات من البحث:

1- في بيان الحاجة إليها و حدودها و تكاليفها:
اشارة

فنقول: قد اصطلح على هذه السلطة في عصرنا مجلس الشورى و القوة المقنّنة، و تعدّ من أهمّ الأركان في الحكومات الديموقراطية الدارجة.

و الحاجة إليها مع فرض اتساع نطاق الملك و كثرة الحوادث الواقعة و الحاجة إلى ترسيم المخطّطات الكثيرة في غاية الوضوح لا نحتاج فيها إلى بيان.

لكن لا يخفى عليك وجود التفاوت الأساسي بين السلطة التشريعيّة في الحكومة الإسلاميّة، و بين ما تعارف في الحكومات الدارجة العصريّة: إذ النوّاب في الحكومات الدارجة لا يلتزمون بشي ء إلّا بما يرونه مصلحة لناخبيهم فقط، و يبدعون القوانين على حسب أهوائهم و إن باينت العقل و الشرع.

و أمّا في الحكومة الإسلاميّة فالأساس هو ضوابط الإسلام و أحكام اللّه- تعالى- النازلة على رسوله الأكرم «ص» في شتّى المسائل المرتبطة بالحياة بشؤونها المختلفة.

و لا يحقّ لأحد و إن بلغ ما بلغ من العلم و الثقافة و القدرة أن يشرّع حكما أو يبدع قانونا بارتجال. حتّى إنّ النبيّ

الأكرم «ص» بعلوّ شأنه و قربه من اللّه- تعالى- أيضا يكون تابعا لما أنزله اللّه- تعالى- حاكما على أساسه.

قال اللّه- تعالى-: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ.»* و قال: «أَلٰا لَهُ الْحُكْمُ.» «1»

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 57 و 62.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 60

و قال: «وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ، وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ ... أَ فَحُكْمَ الْجٰاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ، وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟» «1»

و ما سمعت منّا سابقا من تقسيم الأحكام إلى أحكام إلهية كان الرسول داعيا إليها و واسطة لإبلاغها، و كانت الأوامر الصادرة عنه في بيان هذه الأحكام أوامر إرشاديّة محضة، و إلى أحكام سلطانية مولويّة صدرت عنه بما أنّه كان وليّ أمر المسلمين و حاكمهم، فليس معنى ذلك أنّه «ص» كان يحكم في القسم الثاني بما يريده و يهواه، و أنّه كان له أن يحكم بأحكام مضادّة لأحكام اللّه- تعالى- ناسخة لها. بل الظاهر أنّ القسم الثاني كان أحكاما عادلة موسمية من قبيل الصغريات و المصاديق للأحكام الكليّة الشاملة النازلة من قبل اللّه- تعالى- على قلبه الشريف.

فالروح الحاكم على مجتمع المسلمين ليس إلّا ما أنزله اللّه- تعالى- حتّى فيما ربّما نسمّيها بالأحكام الثانوية، فإنّها أيضا مستفادة من كبريات كليّة أنزلها اللّه- تعالى- على نبيّه، فتدبّر. هذا.

و المأخذ لأحكام اللّه- تعالى-، كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و السنّة القويمة، و العقل الخالي عن شوائب الأوهام و التعصّبات الكاشف عن حكم اللّه- تعالى-. و المستخرج لها من هذه المآخذ هم الفقهاء الأمناء على حلاله و

حرامه.

و ليس عمل مجلس الشورى في الحكومة الإسلاميّة إلّا المشاورة في ترسيم الخطوط و البرامج الصحيحة العادلة للبلاد و العباد و لا سيّما القوّة التنفيذية على أساس ضوابط الإسلام المستخرجة باجتهاد الفقهاء.

فللحكم الشرعي ثلاث مراحل:
الأولى: مرحلة التشريع.

و هو حقّ للّه- تعالى- الذي يملك البلاد و العباد،

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 49 و 50.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 61

و يطّلع على مصالحهم و مفاسدهم و مضارّهم و منافعهم. و لا يشركه في ذلك أحد من خلقه.

الثانية: مرحلة استنباط الأحكام و استخراجها من منابعها الصحيحة،

و الإفتاء بها. و مرجعها الفقهاء العدول.

الثالثة: مرحلة ترسيم الخطوط الكليّة

و البرامج الصحيحة للبلاد و المسؤولين على ضوء الفتاوى المستخرجة من قبل الفقهاء. لا بتطبيق قوانين الإسلام كيف ما كان على المشاكل و أهواء الأمّة، بل بتطبيق المشاكل و الحوادث الواقعة على قوانين الإسلام بواقعيتها و قداستها، و بين الطريقين بون بعيد، كما لا يخفى.

نعم، يعتبر فيها فهم الوقائع و الحوادث و ادراك حقيقتها أيضا، لاختلاف الأحكام الشرعيّة بتفاوت الوقائع قهرا.

فقوانين الإسلام و مقرراته هي الأساس، و المسلمون جميعا لها تبع في شتّى المسائل من العبادة و الثقافة و الاقتصاد و السياسة و نحو ذلك، و ليس لمجلس الشورى التخلّف عنها.

و بالجملة ليس لمجلس الشورى في الحكومة الإسلامية التقنين و التشريع بارتجال أو على حسب أهواء الأمّة، بل على أساس ضوابط الإسلام.

و لا يلزم من ذلك ضيق المجال أو انسداد الطرق في بعض الأحيان، إذ الإسلام بجامعيّته و خاتميّته قد التفت إلى جميع جوانب الحياة و حاجاتها، و جميع الظروف و الحالات حتّى موارد الضرر و الضرورة، و العسر و الحرج، و تزاحم الموضوعات و الملاكات و نحو ذلك.

و قد مرّ عن النبي «ص» أنّه قال في خطبته في حجة الوداع: «يا أيّها الناس و اللّه ما من شي ء يقرّبكم من الجنّة و يباعدكم من النار إلّا و قد أمرتكم به. و ما من شي ء يقرّبكم من النار و يباعدكم من الجنّة إلّا و قد نهيتكم عنه.» «1»

______________________________

(1)- أصول الكافي 2/ 74، كتاب الإيمان و الكفر، باب الطاعة و التقوى، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 62

و في صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه «ع»: قال أمير المؤمنين «ع»:

«الحمد للّه

الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمّة جميع ما تحتاج إليه.» «1»

و في خبر حماد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سمعته يقول: «ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنّة.» «2»

و في خبر المعلّى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا و له أصل في كتاب اللّه- عزّ و جلّ-، و لكن لا تبلغه عقول الرجال.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

2- انتخاب النوّاب لمجلس الشورى:

قد عرفت في الفصل السابق أنّ المسؤول و المكلّف في الحكومة الإسلاميّة هو الإمام و الحاكم و أنّ السلطات الثلاث بمراتبها أياديه و أعضاده.

و على هذا فطبع الموضوع يقتضي أن يكون انتخاب أعضاء مجلس الشورى بيده و باختياره، لينتخب من يساعده في العمل بتكاليفه.

نعم، لمّا كان الغرض من مجلس الشورى التشاور و اتخاذ القرار في الأمور العامّة المتعلّقة بالأمّة، فلو أمكن أن يفوّض إليها انتخاب الأعضاء و تكون السلطة التشريعية منبثقة عن إرادتها و اختيارها كاختيار نفس الوالي عند عدم النصّ كان ذلك أولى و أوقع في نفوس الأمّة و أدعى لهم إلى الاحترام بالقرارات المتّخذة و التسليم في قبالها، بل يجري ذلك في انتخاب بعض الوزراء و الأمراء أيضا كما هو المتعارف في بعض البلاد.

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 6/ 319، آخر كتاب القضايا و الأحكام، باب الزيادات، الحديث 86.

(2)- الكافي 1/ 59، كتاب فضل العلم، باب الردّ إلى الكتاب و السّنة، الحديث 4.

(3)- الكافي 1/ 60، كتاب فضل العلم، باب الردّ إلى الكتاب و السنّة، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 63

و لعلّ آية الشورى و قاعدة السلطنة و توجّه الخطابات القرآنية المتضمّنة للأمور العامّة كآيات

القتال و الجهاد و إعداد القوى و حدّ السرقة و الزنا و نحو ذلك إلى المجتمع أيضا تناسب ذلك.

إذ الأمر إذا كان أمر الأمّة و التكليف تكليفها فالتصميم و اتخاذ القرار فيه أيضا يناسب أن يكون من قبل ممثّلي الأمّة.

و لكن الإمام العادل لو رأى عدم تهيّؤ الأمّة لانتخاب الأعضاء أو لم يكن لهم رشد و وعي سياسي لانتخاب الرجال الصالحين أو كانوا في معرض التهديدات و التطميعات و اشتراء آرائهم بذلك كان للإمام الذي فرض علمه و عدله و حسن ولايته انتخاب الأعضاء بنفسه. اللّهم إلّا أن يشترط عليه حين انتخابه على القول بصحّته كون انتخاب فريق الشورى بيد الأمّة لا بيده، فتدبّر.

ثمّ إنّ اتفاق الآراء في مجلس الشورى ممّا لا يحصل غالبا، فلا محالة يكون الاعتبار بآراء الأكثريّة كما هو المتعارف في جميع الاجتماعات و الأحزاب السياسيّة.

و الإشكال في ذلك بلزوم سحق حقوق الأقليّة و ضياع حقوق الغيّب يظهر الجواب عنه بما مرّ مستقصى في مسألة انعقاد الإمامة بانتخاب الأمّة، فراجع الفصل السادس من الباب الخامس.

3- مواصفات الناخبين و المنتخبين:

لا إشكال في أنّ الناخب يعتبر فيه البلوغ و العقل و الرشد الفكري بحيث يقدر على تشخيص من يكون أصلح لتحمّل هذه المسؤوليّة الخطيرة المتعلّقة بمصالح الأمّة.

و اللازم في المنتخب أن يكون بالغا عاقلا متدينا و رعا عالما بزمانه مطلعا على حاجات الأمّة شجاعا قادرا على أخذ التصميم و القرار.

و قد مرّ في الفصل الثاني أخبار مستفيضة تدلّ على مواصفات من يستشار.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 64

و سيأتي في هذا الفصل شرائط الوزراء و العمّال.

و كأنّ النائب في مجلس الشورى مشاور و عامل، فيعتبر فيه مواصفات كليهما.

و لكنّك ترى أنّ المتعارف

في أكثر الممالك و البلاد أنّهم يراعون في المنتخب الاعتبارات القوميّة و العنصريّة و العشائريّة، و كون الشخص ذا شهرة قومية و جبروت و ثروة، من دون أن يراعوا علمه و دينه و تقواه و شجاعته و كفايته و قدرته على الدفاع عن الإسلام و حقوق المسلمين.

و كثيرا ما يقع من هذه الناحية سقوط الملك و ضياع حقوق الأمّة و سلطة الطواغيت و الجبابرة، بل و نفوذ الأجانب و تدخّلهم في شئون المسلمين و بلادهم.

و ربّما توسلوا لذلك باشتراء آراء الناخبين أو بالتمويه عليهم و إغوائهم. فيجب على الناخبين الدقّة و التشاور في انتخاب النوّاب للمجلس و عدم الوقوع تحت تأثير الأجواء الكاذبة و الدعايات الباطلة و التهديدات و التطميعات الماديّة. اللّهم فاعذنا من شياطين الجنّ و الإنس.

4- منابع الحكم الإسلامي و مصادره:
[الكتاب العزيز، و السنّة القويمة بأقسامها]

قد مرّ منّا أن أساس الحكومة الإسلاميّة هو قوانين الإسلام و مقرّراته في شتّى مسائل الحياة، و أنّ منابعها و مصادرها هي الكتاب العزيز، و السنّة القويمة بأقسامها من قول المعصوم و فعله و تقريره الثابتة بطريق صحيح معتبر، و حكم العقل القطعي الخالي عن شوائب الأوهام و التعصّبات، كالحسن و القبح العقليّين و كالملازمات العقليّة القطعيّة. و هذه الثلاثة ممّا اتفق عليها الشيعة و السنّة.

و ما يرى في بعض الكلمات من التشكيك في حجّيّة العقل مطلقا فهو بظاهره كلام واه لا يعتنى به، إذ لو حصل بحكم العقل القطعي القطع بحكم الشارع فلا مجال لإنكار حجّيّته، فإن القطع حجة ذاتا، و العقل أمّ الحجج و أساسها. و هل يثبت التوحيد و النبوّة و حجّيّة كتاب اللّه و سنّة رسول اللّه إلّا من طريق العقل؟

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 65

و في

خبر عن الإمام الصادق «ع» قال: «العقل دليل المؤمن.» «1»

و في خبر آخر عنه «ع» قلت له: ما العقل؟ قال: «ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان.» «2»

و في خبر هشام بن الحكم، عن موسى بن جعفر «ع»: «يا هشام، إنّ للّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة و حجّة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل و الأنبياء و الأئمّة- عليهم السلام-، و أمّا الباطنة فالعقول.» «3»

و بالجملة، فأصل حجية العقل القطعي إجمالا ممّا لا مجال للإشكال فيه و إن وقع الإشكال في بيان مصاديقه. و للبحث فيه محل آخر. و كذا لا إشكال في حجيّة الكتاب و السنّة إجمالا على من أذعن بالإسلام و النبوّة.

نعم،

هنا أمور اختلف في حجّيتها الفريقان:
الأول- الإجماع بما هو إجماع و اتّفاق:

فعلماء السنّة يعتبرون إجماع الفقهاء بما هو إجماع حجّة مستقلة. و يستندون في ذلك إلى آيات و روايات:

أهمّها قوله- تعالى-: «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً.» «4»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 25، كتاب العقل و الجهل، الحديث 24.

(2)- الكافي 1/ 11، كتاب العقل و الجهل، الحديث 3.

(3)- الكافي 1/ 16، كتاب العقل و الجهل، الحديث 12.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 115.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 66

و ما رووه عن النبي «ص» من قوله: «لا تجتمع أمّتي على ضلالة أو خطأ.»

فروى ابن ماجة في سننه، عن أنس بن مالك، عنه «ص» أنّه قال: «إنّ أمّتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافا فعليكم بالسواد الأعظم.» «1»

و روى الترمذي بسنده، عن ابن عمر أن رسول اللّه «ص» قال: «إنّ اللّه لا يجمع أمّتي- أو قال: أمّة محمد- على ضلالة، و

يد اللّه على الجماعة، و من شذّ شذّ إلى النار.» «2»

و لم أجد في كتب الحديث للسنّة ما يشتمل على لفظ الخطأ، نعم هو مذكور في كتب الاستدلال.

و أمّا علماء الشيعة الإماميّة فيقولون: لا موضوعيّة للإجماع بما هو إجماع و اتفاق عندنا. نعم، لو اتفقت الأمّة على قول بحيث لا يشذّ منها أحد فلا محالة يكون الإمام المعصوم من العترة الطاهرة داخلا فيها، فيكون حجّة لذلك. كما أنّه كذلك لو كانت كثرة القائل في المسألة بحيث يحدس منها تلقي المسألة عن النبيّ «ص» أو عن الإمام المعصوم «ع» حدسا قطعيّا، فيكون الإجماع كاشفا عن الحجّة، أعني قول المعصوم، و ذلك إنّما يكون في المسائل الأصليّة المأثورة المتلقّاة يدا بيد عن المعصومين- عليهم السلام- المذكورة في كتب القدماء من أصحابنا المعدّة لنقل هذه المسائل، لا في المسائل التفريعيّة الاستنباطيّة التي أعمل فيها الرأي و النظر.

و بالجملة، فالحجة في الحقيقة هو قول المعصوم المكشوف به؛ إمّا بدخوله في المجمعين أو بالحدس عن قوله لا الإجماع بما هو إجماع.

فوزان الإجماع حينئذ وزان الخبر الواحد الصحيح الكاشف عن السنّة القويمة، فليس في عرض السنّة بل في طولها و يكون حجّة عليها.

قال الفقيه الهمداني في مبحث صلاة الجمعة من مصباح الفقيه:

«المدار في حجّية الإجماع على ما قرّرناه في محلّه و استقرّ عليه رأي المتأخّرين ليس على اتّفاق الكلّ بل و لا اتّفاقهم في عصر واحد، بل على استكشاف رأي المعصوم

______________________________

(1)- سنن ابن ماجة 2/ 1303، كتاب الفتن، باب السواد الأعظم، الحديث 3950.

(2)- سنن الترمذي 3/ 315، أبواب الفتن، الباب 7، الحديث 2255.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 67

بطريق الحدس من فتوى علماء الشيعة الحافظين

للشريعة. و هذا ممّا يختلف باختلاف الموارد؛ فربّ مسألة لا يحصل فيها الجزم بموافقة الإمام «ع» و إن اتفقت فيها آراء جميع الأعلام، كبعض المسائل المبتنية على مبادي عقليّة أو النقليّة القابلة للمناقشة. و ربّ مسألة يحصل فيها الجزم بالموافقة و لو من الشهرة.» «1» هذا

و أمّا آية المشاقّة فأجيب عنها بوجوه: منها: أنّا لا نسلّم أنّ سبيل المؤمنين هو إجماعهم، بل لعلّ المراد به هو سبيلهم بما هم مؤمنون، أي سبيل الإيمان بالرسول في قبال مشاقّته «ص»، و قد حقّق في محلّه أنّ ذكر الوصف يشعر بالعلّيّة و الدخالة، فمرجع ذلك إلى سنّة الرسول «ص» و ليس أمرا وراءها.

و في المستصفى للغزالي، قال:

«و الذي نراه أنّ الآية ليست نصّا في الغرض، بل الظاهر أنّ المراد بها أنّ من يقاتل الرسول و يشاقّه و يتّبع غير سبيل المؤمنين في مشايعته و نصرته و دفع الأعداء عنه نولّه ما تولّى. فكأنّه لم يكتف بترك المشاقّة حتّى تنضمّ إليه متابعة سبيل المؤمنين في نصرته و الذبّ عنه و الانقياد له فيما يأمر و ينهى. و هذا هو الظاهر السابق إلى الفهم، فإن لم يكن ظاهرا فهو محتمل.» «2» هذا.

و أمّا الرواية الّتي استندوا إليها فلم تثبت عندنا بسند يعتمد عليه.

و في سنن ابن ماجة قد حكى في ذيل الحديث عن الزوائد:

«في إسناده أبو خلف الأعمى، و اسمه حازم بن عطاء، و هو ضعيف، و قد جاء الحديث بطرق في كلّها نظر. قاله شيخنا العراقي في تخريج أحاديث البيضاوي.» «3»

نعم، في تحف العقول في رسالة الإمام الهادى «ع» إلى أهل الأهواز، قال:

______________________________

(1)- مصباح الفقيه- كتاب الصلاة/ 436.

(2)- المستصفى للغزالي 1/ 175.

(3)- سنن ابن ماجة 2/ 1303، كتاب

الفتن، الباب 8، الحديث 3950.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 68

«و قد اجتمعت الأمّة قاطبة لا اختلاف بينهم أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق، و في حال اجتماعهم مقرّون بتصديق الكتاب و تحقيقه، مصيبون مهتدون، و ذلك بقول رسول اللّه «ص»:

«لا تجتمع أمّتي على ضلالة» فأخبر أنّ جميع ما اجتمعت عليه الأمّة كلّها حقّ.» «1»

أقول: على فرض صحّة الحديث فظاهره إطباق جميع الأمّة؛ فلا يختص بالفقهاء و المجتهدين، كما لا يختصّ بعلماء السنّة فقط، بل يعمّ جميع طوائف المسلمين و منهم الشيعة الإمامية بأئمتهم الاثنى عشر، و قد مرّ منّا أنّ اتّفاق جمع يوجد فيه الإمام المعصوم حجّة عندنا بلا إشكال، فتدبّر.

الثاني- القياس و الاستحسانات الظنية:

فأكثر علماء السنة يعتمدون عليهما، حيث إنّهم تركوا التمسك بأقوال العترة و لم يتمكّنوا من استنباط الفروع المبتلى بها من الكتاب و السنّة النبويّة الواصلة اليهم، فلجئوا إلى الآراء و الاستحسانات، و لكن أخبار أهل البيت- عليهم السلام- و الروايات الحاكية لسيرتهم مليئة بالمعارف و الأحكام و الآداب، بحيث تشفي العليل و تروي الغليل و معها لا تصل النوبة إلى القياس و الاستحسانات الظنية.

و النبي «ص» جعل العترة قرين الكتاب في وجوب التمسك بهما على ما دلّ عليه حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين.

و قد استفاضت بل تواترت أخبارنا على عدم حجّيّة القياس و الآراء الظنّيّة، فراجع «2».

______________________________

(1)- تحف العقول/ 458.

(2)- راجع الوسائل 18/ 20، الباب 6 من أبواب صفات القاضي؛ و مستدرك الوسائل 3/ 175، الباب 6 من أبواب صفات القاضي.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 69

و من جملة أخبار الباب ما رواه الكليني بسنده، عن عيسى بن عبد

اللّه القرشي، قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد اللّه «ع» فقال له: يا أبا حنيفة، بلغني أنّك تقيس؟ قال:

نعم. قال: لا تقس، فانّ أوّل من قاس إبليس حين قال: خلقتني من نار و خلقته من طين.

فقاس ما بين النار و الطين. و لو قاس نوريّة آدم بنوريّة النار عرف فضل ما بين النورين و صفاء أحدهما على الآخر.» «1»

و منها: ما رواه بسند صحيح، عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«إنّ السنّة لا تقاس. ألا ترى أنّ المرأة تقضي صومها و لا تقضي صلاتها، يا أبان، إنّ السنّة إذا قيست محق الدين.» «2»

و منها: موثقة مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه أنّ عليا «ع» قال:

«من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس. و من دان اللّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و في سنن الدارمي عن ابن سيرين، قال:

«أوّل من قاس إبليس. و ما عبدت الشمس و القمر إلّا بالمقاييس.» «4»

و عن الحسن أنّه تلا هذه الآية: «خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»* قال:

«قاس إبليس، و هو أوّل من قاس.» «5»

و في إعلام الموقعين بسنده عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول اللّه «ص»: «تفترق أمّتي على بضع و سبعين فرقة، أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم؛ يحرّمون به ما أحلّ اللّه و يحلّون ما حرّم اللّه.» «6»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 58، كتاب فضل العلم، باب البدع و الرأي و المقاييس، الحديث 20.

(2)- الوسائل 18/ 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

(3)- الوسائل 18/ 25، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11.

(4)- سنن الدارمي 1/ 65، باب

تغيّر الزمان و ما يحدث فيه.

(5)- سنن الدارمي 1/ 65، باب تغيّر الزمان و ما يحدث فيه.

(6)- إعلام الموقعين 1/ 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 70

و الظاهريون من فقهاء السنّة و بعض المعتزلة أيضا ينكرون العمل بالقياس و الرأي:

قال ابن حزم الأندلسي في المحلّى:

«و لا يحلّ القول بالقياس في الدين و لا بالرأي، لأنّ أمر اللّه- تعالى- عند التنازع بالردّ إلى كتابه و الى رسوله «ص» قد صحّ، فمن ردّ إلى قياس و إلى تعليل يدعيه، أو إلى رأي فقد خالف أمر اللّه- تعالى- المعلّق بالإيمان و ردّ إلى غير من أمر اللّه- تعالى- بالردّ إليه، و في هذا ما فيه، قال عليّ: و قول اللّه- تعالى-: «مٰا فَرَّطْنٰا فِي الْكِتٰابِ مِنْ شَيْ ءٍ»، و قوله- تعالى-: «تِبْيٰاناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ»، و قوله- تعالى-: «لِتُبَيِّنَ لِلنّٰاسِ مٰا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ»، و قوله- تعالى-: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» إبطال للقياس و للرأي.» «1»

الثالث- أقوال العترة الطاهرة:

لا يخفى أن قول النبي «ص» و فعله و تقريره من السنّة قطعا و تكون حجّة بلا إشكال. و بعض علماء السنة يعدّون أقوال الصحابة بل و أعمالهم أيضا حجّة.

و أمّا الشيعة الإماميّة فيعدّون أقوال الأئمة الاثنى عشر من العترة و كذا أفعالهم و تقريرهم حجّة، لعصمتهم عندنا، و لأنّهم عترة النبي «ص» و قد عدّ النبي «ص» عترته عدلا للكتاب العزيز و قرينا له في خبر الثقلين المتواتر بين الفريقين.

و قد تعرض له أكثر أرباب الصحاح و السنن و المسانيد، فراجع.

و من ذلك ما رواه الترمذي بسنده، عن زيد بن أرقم، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من

الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض، و عترتي أهل بيتي. و لن يتفرقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما.» «2»

______________________________

(1)- المحلّى لابن حزم 1/ 56، المسألة 100.

(2)- سنن الترمذي 5/ 328، أبواب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي «ص»، الحديث 3876.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 71

و دلالة الخبر على حجّيّة أقوال العترة ظاهرة، لإيجاب التمسك بهم و بالكتاب العزيز.

و مسألة حجيّة أقوالهم غير مسألة الإمامة و الخلافة، فإنّ الأولى مسألة أصوليّة و الثانية مسألة كلاميّة.

و في كنز العمال، عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللّه «ص»: «أيّها الناس إنّي تارك فيكم أمرين، إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا، و أحدهما أفضل من الآخر: كتاب اللّه هو حبل اللّه الممدود من السماء إلى الأرض، و أهل بيتي عترتي. ألا و إنّهما لن يتفرّقا حتّى يردا عليّ الحوض.» (ابن جرير) «1».

إلى غير ذلك من الأخبار من طرق الفريقين.

و عترة النبي «ص» أهل بيته، و أهل البيت أدرى بما في البيت. و هم لا يحدّثون إلّا بما سمعوه من آبائهم عن النبي «ص»، كما دلّ على ذلك بعض الأخبار:

ففي خبر هشام بن سالم، و حماد بن عثمان و غيره، قالوا: سمعنا أبا عبد اللّه «ع» يقول: «حديثي حديث أبي، و حديث أبي حديث جدّي، و حديث جدّي حديث الحسين، و حديث الحسين حديث الحسن، و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين «ع»، و حديث أمير المؤمنين حديث رسول اللّه «ص»، و حديث رسول اللّه «ص» قول اللّه- عزّ و جلّ.» «2»

و لا يخفى أنّ محل البحث في هذه المسائل هو علم الكلام و علم أصول الفقه، و

غرضنا هنا ليس إلّا إشارة إجماليّة إليها، فراجع مظانّها.

5- الاستنباط و الاجتهاد:

أمّا الاستنباط، ففي لسان العرب:

______________________________

(1)- كنز العمال 1/ 381، الباب 2 من كتاب الإيمان و الإسلام من قسم الأفعال، الحديث 1657.

(2)- الوسائل 18/ 58، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 72

«نبط الماء ينبط و ينبط نبوطا: نبع. و كلّ ما أظهر فقد أنبط. و استنبطه و استنبط منه علما و خبرا و مالا: استخرجه. و الاستنباط: الاستخراج. و استنبط الفقيه: إذا استخرج الفقه الباطن باجتهاده و فهمه. قال اللّه- عزّ و جلّ-: «لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ.» «1»

أقول: فكأنّ حكم اللّه- تعالى- ماء حياة أو شي ء نفيس دفين في خلال مصادره و منابعه يستخرجه الفقيه منها.

و أمّا الاجتهاد، ففي لسان العرب:

«الاجتهاد و التجاهد: بذل الوسع و المجهود. و في حديث معاذ: «أجتهد رأيي.»

الاجتهاد بذل الوسع في طلب الأمر، و هو افتعال من الجهد: الطاقة، و المراد به ردّ القضية التي تعرض للحاكم من طريق القياس إلى الكتاب و السنّة، و لم يرد الرأي الذي رآه من قبل نفسه من غير حمل على كتاب أو سنّة.» «2»

أقول: أمّا الحديث الذي أشار إليه فهو ما رواه أبو داود و الترمذي و غيرهما: ففي سنن أبي داود بسنده عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل أنّ رسول اللّه «ص» لمّا أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال:

«أقضي بكتاب اللّه.» قال: «فإن لم تجد في كتاب اللّه؟» قال: «فبسنّة رسول اللّه «ص» قال: «فإن لم تجد في سنّة رسول اللّه «ص» و لا في كتاب اللّه؟» قال: «أجتهد رأيي و لا

آلو.» فضرب رسول اللّه «ص» صدره و قال: «الحمد للّه الذي وفّق رسول رسول اللّه لما يرضي رسول اللّه.» «3»

و أمّا قوله: «من طريق القياس»، فلعلّه أراد به أعمّ من القياس و الاستحسانات العقليّة الظنية.

______________________________

(1)- لسان العرب 7/ 410.

(2)- لسان العرب 3/ 135.

(3)- سنن أبي داود 2/ 272، كتاب الاقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 73

و قد صار لفظ الاجتهاد، و كذا الرأي في أعصار أئمتنا- عليهم السلام- ظاهرين في هذا المعنى. و بهذا المعنى وقع النهي عنهما في رواياتنا «1».

و أمّا الاجتهاد بمعنى إفراغ الوسع و الطاقة في استنباط الأحكام من أدلّتها الشرعيّة من الكتاب و السنّة و العقل القطعي فهو أمر واجب ضروري لا منع فيه و ليس لأحد إنكاره.

و عن أبي عبد اللّه «ع»: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرّعوا.» «2»

و عن الرضا «ع»: «علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع.» «3»

و الروايات الواردة في الإرجاع إلى الكتاب و السنّة في غاية الكثرة. و على هذا فالاجتهاد عندنا غير الاجتهاد باصطلاح السنّة.

و أمّا ما ذكره أخيرا فكأنّه أراد به نفي إرادة التصويب. و البحث فيه يأتي في العنوان التالي.

6- التخطئة و التصويب:

لا يخفى أنّ المسائل الدينية على قسمين: فقسم منها مسائل أصليّة ضرورية أجمع عليها جميع فرق المسلمين و دلّ عليها نصّ الكتاب العزيز أو السنّة المتواترة القطعية أو العقل السليم، و القسم الآخر فروع اجتهاديّة استنباطيّة تحتاج إلى إعمال الاجتهاد و النظر و استنباطها من الأصول المبيّنة في الكتاب و السنة أو من حكم العقل القطعي.

______________________________

(1)- راجع الوسائل 18/ 20، الباب 6 من ابواب صفات القاضي.

(2)- الوسائل 18/ 41، الباب

6 من ابواب صفات القاضي، الحديث 51.

(3)- الوسائل 18/ 41، الباب 6 من ابواب صفات القاضي، الحديث 52.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 74

أمّا القسم الأول، فلا خلاف فيها و لا إشكال و لا مجال فيها للاجتهاد و الاستنباط.

و أمّا القسم الثاني المتوقف على إعمال الاجتهاد و النظر، فلا محالة قد يقع فيها الخلاف لاختلاف في معاني بعض الألفاظ، أو للاختلاف في صحة الحديث و ضعفه، أو لاختلاف الروايات المنقولة، أو للاختلاف في أسباب الترجيح عند التعارض، أو للاختلاف في حجيّة بعض الأمور و عدم حجّيتها كالمفاهيم و خبر الواحد و الإجماع و لا سيّما المنقول منه و الشهرة بقسميها و كحجيّة أقوال الأئمة الطاهرين من العترة الثابتة عندنا و حجّيّة أقوال الصحابة عند بعض السنّة، و حجيّة القياس و الاستحسانات الظنيّة عندهم و نحو ذلك. و يرجع الجميع إلى الاختلاف في الدرك أو المدرك.

و في هذا القسم قد وقع البحث في أنّ الآراء المستنبطة المختلفة كلّها حقّ و صواب، أو أنّ الحقّ واحد منها و الباقون مخطئون و إن كانوا معذورين؟

فاتّفق أصحابنا الإماميّة على أنّ للّه- تعالى- في كلّ واقعة خاصّة حكما واحدا يشترك فيه الجميع. و جميع المسلمين مأمورون أوّلا و بالذات بالعمل به. فالدين في جميع المراحل واحد و الشرع واحد و الحقّ واحد، و إنّما الاختلاف وقع في إحراز الواقع و استنباطه من منابعه، فأصابه بعض و أخطأه بعض آخر.

فليست الاجتهادات المختلفة في مسألة واحدة يمثّل كلّها حكم اللّه المنزل على رسوله و إن جاز العمل بها لأهلها في الظاهر، و إنّما تكون آراء الفقهاء و المجتهدين طرقا محضة قد تصيب الواقع و قد تخطئه، كما

أنّ العلم الذي هو أمّ الحجج و تكون حجيّته ذاتية يكون كذلك، و كذلك سائر الطرق و الأمارات العقلائية و الشرعية.

فكأنّ حكم اللّه الواقعي دفين في خلال مبانيه و مصادره و يستخرجه الفقيه باستنباطه؛ فقد يعثر عليه و قد يخطئ، و يكون للمصيب أجران و للمخطئ أجر واحد.

فليس الحكم الواقعي تابعا لمفاد الطريق، مجعولا على وفقه كيفما كان، كما لا يوجب قيام الطريق على خلاف الواقع تبدّل الواقع و انقلابه إلى مفاد الطريق.

هذا ما عليه أصحابنا الإماميّة. فهم بأجمعهم ينكرون التصويب. و يسمّون

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 75

بذلك مخطّئة.

و أمّا علماء السنّة ففيهم خلاف: بعضهم مخطّئة، و بعض منهم مصوّبة: قال الامام فخر الدين الرازي في بحث الاجتهاد من كتاب المحصول:

«فإن لم يكن للّه- تعالى- فيها حكم فهذا قول من قال: «كلّ مجتهد مصيب.» و هم جمهور المتكلّمين منّا كالأشعري و القاضي أبي بكر، و من المعتزلة كأبي الهذيل و أبي علي و أبي هاشم و اتباعهم.» «1»

و قال الإمام الغزالي في المستصفى:

«الذي ذهب إليه محقّقوا المصوّبة أنّه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكم معين يطلب بالظنّ، بل الحكم يتبع الظن. و حكم اللّه على كلّ مجتهد ما غلب على ظنّه، و هو المختار، و إليه ذهب القاضي.» «2»

أقول: عمدة نظر المصوّبة كان إلى تصويب آراء الصحابة و أفعالهم. فكانوا يظنّون أنّ مطلق من صاحب النبيّ «ص» فهو ممّن لم يخطئ أبدا فضلا عن أن يصدر عنه فسق أو جور.

و لكنّ الحقّ في المسألة هو ما عرفته من أصحابنا الإمامية من القول بالتخطئة.

و قال ابن حزم الأندلسي في المحلّى:

«مسألة: و الحقّ من الأقوال في واحد منها

و سائرها خطأ ... فصحّ أنّ الحقّ في الأقوال ما حكم اللّه- تعالى- به فيه، و هو واحد لا يختلف، و انّ الخطأ ما لم يكن من عند اللّه- عزّ و جلّ-.

و من ادّعى أن الأقوال كلّها حقّ و أنّ كلّ مجتهد مصيب فقد قال قولا لم يأت به قرآن و لا سنّة و لا إجماع و لا معقول، و ما كان هكذا فهو باطل.» «3»

______________________________

(1)- المحصول/ القسم الثالث من الجزء الثاني/ 47.

(2)- المستصفى 2/ 363.

(3)- المحلّى لابن حزم 1/ 70، المسألة 109.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 76

و في الفقه الإسلامي و أدلّته للدكتور وهبة الزحيلي بعد ذكر المخطئة، قال:

«و هم جمهور المسلمين، منهم الشافعيّة و الحنفيّة على التحقيق، الذين يقولون بأنّ المصيب في اجتهاده واحد من المجتهدين، و غيره مخطئ، لأنّ الحقّ لا يتعدّد.» «1»

و لكن في المستصفى للغزالي بعد ذكر الاجتهاد و التصويب و التخطئة، قال:

«و قد اختلف الناس فيها، و اختلفت الرواية عن الشافعي و أبي حنيفة» «2». هذا.

و يدلّ على التخطئة- مضافا إلى وضوحها، فإنّ الاجتهاد في الحكم و استنباطه متفرع على وجوده واقعا في الرّتبة السابقة، فلا يعقل كونه تابعا له- روايات:

1- ففي صحيح مسلم، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، عن رسول اللّه «ص» في وصاياه لمن أمّره أميرا على جيش أو سريّة: «و إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم اللّه فلا تنزلهم على حكم اللّه و لكن أنزلهم على حكمك، فإنّك لا تدري أ تصيب حكم اللّه فيهم أم لا.» «3»

2- و روى الترمذي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران

و إذا حكم فأخطأ فله أجر واحد.» «4»

3- و في نهج البلاغة: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثمّ ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه، ثمّ يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوّب آراءهم جميعا، و إلههم واحد، و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد ...» «5»

4- و في الدر المنثور بإسناده عن الشعبي، قال: سئل أبو بكر عن الكلالة فقال:

______________________________

(1)- الفقه الإسلامي و أدلّته 1/ 72.

(2)- المستصفى 2/ 363.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1358، كتاب الجهاد، الباب 2، ذيل الرقم 1731.

(4)- سنن الترمذي 2/ 393، أبواب الأحكام، الباب 2، الحديث 1341.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 74؛ عبده 1/ 50؛ لح/ 60، الخطبة 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 77

«إنّي سأقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن اللّه وحده لا شريك له، و إن كان خطأ فمنّي و من الشيطان، و اللّه منه بري ء، أراه ما خلا الوالد و الولد.» «1»

5- و قال عمر لكاتبه:

«اكتب: هذا ما رأى عمر. فإن كان صوابا فمن اللّه، و إن كان خطأ فمنه.» «2»

6- و قال ابن مسعود في المفوضة:

«أقول فيها برأيي. فإن كان صوابا فمن اللّه، و إن كان خطأ فمنّي و من الشيطان.

و اللّه و رسوله عنه بريئان.» «3»

7- و في كنز العمال:

«اقض بينهما يا عمرو، فإذا قضيت بينهما القضاء فلك عشر حسنات، و إن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة.» (حم طب، عن عمرو) «4».

8- و فيه أيضا:

«اجتهد، فإذا أصبت فلك عشر حسنات، و إن أخطأت فلك حسنة.» (عد، عن عقبة بن عامر) «5»

9- و فيه أيضا عن موسى بن ابراهيم، عن رجل من آل ربيعة أنّه

بلغه أنّ أبا بكر حين استخلف قعد في بيته حزينا، فدخل عليه عمر فأقبل عليه يلومه و قال:

أنت كلّفتني هذا الأمر، و شكا إليه الحكم بين الناس فقال له عمر: أو ما علمت انّ رسول اللّه «ص» قال: «إنّ الوالي إذا اجتهد فأصاب الحقّ فله أجران و إن اجتهد فأخطأ الحقّ فله أجر واحد.» فكأنّه سهّل على أبي بكر. (ابن راهويه و خيثمة في فضائل الصحابة

______________________________

(1)- الدر المنثور 2/ 250.

(2)- المحصول للإمام الرازي/ القسم الثالث من الجزء الثاني/ 70 (في الاجتهاد).

(3)- المحصول/ القسم الثالث من الجزء الثاني/ 71 (في الاجتهاد).

(4)- كنز العمال 6/ 99، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الاقوال، الحديث 15018.

(5)- كنز العمال 6/ 99، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15019.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 78

هب) «1».

10- و في ديباجة الموطأ لمالك المطبوع بمصر: «قال معن بن موسى:

سمعت مالكا يقول: إنّما أنا بشر أخطئ و أصيب، فانظروا في رأيي فما وافق السنّة فخذوا به.» «2» هذا.

و لعلّ ما قد يتلقّى بالألسن و الأفواه حتّى من بعض الشيعة أيضا من قولهم:

«هذا ما أفتى به المفتي، و كلّ ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّي» يكون كلاما ورثوه من أهل التصويب، و إلّا فهو بظاهره ممنوع، فإنّ حكم اللّه لا يكون تابعا لإفتاء الفقيه كما مرّ.

نعم، الأنبياء كلّهم و النبي الأكرم «ص» و كذا الأئمة الاثنا عشر من العترة عندنا معصومون من الذنوب و من الخطأ، و محلّ البحث فيه الكتب الكلاميّة، فراجع.

7- انفتاح باب الاجتهاد المطلق:

قد ظهر بما مرّ أنّ أساس الحكومة الحقّة و أساس جميع أعمال المسلمين في

جميع شئونهم هو أحكام اللّه- تعالى- التي نزلت على رسوله الكريم بالوحي و يشترك فيها الجميع. و أنّ منابعها و مصادرها هي الكتاب العزيز، و السنّة القويمة، و العقل القطعي الخالي عن الأوهام.

فيجب أوّلا و بالذات الرجوع إلى هذه المنابع و أخذ الأحكام منها.

فمن كان قادرا على الرجوع إليها و الاستنباط منها عمل على وفق ما استنبط و استفاد. و من لم يقدر على الاستنباط رجع إلى فتوى من استنبط، رجوع الجاهل في

______________________________

(1)- كنز العمال 5/ 630، الباب 1 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14110.

(2)- الموطأ لمالك 1/ ج. (- أدبه مع آل رسول اللّه و كرم أخلاقه).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 79

كلّ فنّ تخصّصي إلى العالم الخبير به. و في الحقيقة هو طريق علمه العادي بالأحكام و لكن بنحو الإجمال.

و ليس لفتوى الفقيه موضوعيّة و سببيّة، بل هو طريق محض كسائر الطرق العقلائيّة و الشرعيّة قد يصيب و قد يخطئ.

و الأحوط بل الأقوى في المسائل الخلافية هو الرجوع إلى الأعلم، كما هو طريقة العقلاء في تقديم الأعلم على غيره في المسائل المهمّة المختلف فيها.

و على هذا فليس لمجتهد خاصّ و فقيه مخصوص خصوصيّة. و قد كثر الفقهاء من الشيعة و كذا من السنّة في جميع الأعصار.

و ربّما اختلف الفقهاء في الفتاوى و منابعها و في طريق الاستنباط و كيفيّتها كما مرّ.

و الخلاف في علماء السنة أكثر، حيث إنّ الشيعة تقيّدوا في فتاويهم بالكتاب، و بالنصوص من النبي «ص» أو الأئمة الاثنى عشر «ع».

و أمّا فقهاء السنّة فحيث اعتمد أكثرهم على القياس و الاستحسانات الظنيّة و المناطات الحدسية تشتتت آراؤهم و جاؤوا كثيرا بفتاوى

متناقضة متهافتة. و كم تدخّلت التعصّبات أو أيادي السياسة و الحكومات الدارجة في بعض البلاد و المناطق في تفضيل بعض الآراء على بعض، بل و في تحريم بعض المذاهب الفقهيّة و تعذيب متابعيها و الإلزام بأخذ مذهب آخر، كما شهد بذلك التاريخ، و الناس كانوا غالبا على دين ملوكهم.

و ربّما استعانوا في إعمال سياساتهم ببعض العلماء و العملاء أيضا، إلى أن استقرت آراء علمائهم و حكّامهم في النهاية على حصر المذاهب في المذاهب الأربعة الدارجة لهم فعلا، أعني مذاهب أبي حنيفة، و مالك، و الشافعي، و أحمد بن حنبل.

و في رياض العلماء للمتتبع الخبير الميرزا عبد اللّه الأفندي الأصفهاني نقلا من كتاب «تهذيب الأنساب و نهاية الأعقاب» تأليف أحد من بني أعمام السيد المرتضى «ره» ما ملخّصه أنّه:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 80

«اشتهر على ألسنة العلماء أنّ العامّة في زمن الخلفاء لمّا رأوا تشتّت المذاهب في الفروع و اختلاف الآراء، بحيث لم يمكن ضبطها فقد كان لكلّ واحد من الصحابة و التابعين و من تبعهم مذهب برأسه في المسائل الشرعيّة و الأحكام الدينيّة، التجئوا إلى تقليلها فأجمعوا على أن يجمعوا على بعض المذاهب ...

فالعامّة أيضا لمّا اضطربت اتّفقت كلمات رؤسائهم و عقيدة عقلائهم على أن يأخذوا من أصحاب كلّ مذهب خطيرا من المال و يلتمسوا آلاف ألف دراهم و دنانير من أرباب الآراء في ذلك المقال.

فالحنفية، و الشافعيّة، و المالكية، و الحنبلية لوفور عدّتهم و بهور عدّتهم جاؤوا بما طلبوه، فقرّروهم على عقائدهم.

و كلّفوا الشيعة، المعروفة في ذلك العصر بالجعفرية، لمجي ء ذلك المال الذي أرادوا منهم، و لمّا لم يكن لهم كثرة مال توانوا في الإعطاء و لم يمكنهم

ذلك.

و كان ذلك في عصر السيد المرتضى «ره» و هو قد كان رأسهم و رئيسهم، و قد بذل جهده في تحصيل ذلك المال و جمعه من الشيعة فلم يتيسّر له، حتّى إنّه كلّفهم بأن يجيئوا بنصف ما طلبوه و يعطي النصف الآخر من خاصّة ماله، فما أمكن للشيعة هذا العطاء. فلذلك لم يدخلوا مذهب الشيعة في تلك المذاهب، و أجمعوا على صحّة خصوص الأربعة و بطلان غيرها. فآل أمر الشيعة إلى ما آل في العمل بقول الآل السادة الأنجاب.

و العامّة قد جوّزوا الاجتهاد في المذهب و لم يجوّزوا الاجتهاد من المذهب، حتّى إنّهم لم يجوزوا تلفيق أقوال هذه الأربعة و القول في بعض المسائل بقول بعض و في بعضها بقول الآخر. و استمرّوا على هذا الرأي إلى يومنا هذا، و لم يخالفهم أحد منهم في تلك الأعصار المتمادية سوى محيي الدّين العربي المعاصر لفخر الدين الرازي، حيث خالفهم في الفروع؛ فتارة يقول بقول واحد من هؤلاء الأئمة الأربعة في مسألة و يقول في مسألة أخرى بقول الآخر، و تارة يخترع في بعض المسائل و ينفرد بقول

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 81

لم يدخل في تلك الأقاويل.» «1» انتهى كلام رياض العلماء.

و في روضات الجنّات بعد نقل ما في رياض العلماء، قال:

«و يؤيد هذا التفصيل ما ذكره صاحب «حدائق المقرّبين»: أنّ السيد المرتضى «ره» واطأ الخليفة- و كأنّه القادر باللّه المتقدم إليه الإشارة- على أن يأخذ من الشيعة مأئة ألف دينار ليجعل مذهبهم في عداد تلك المذاهب و ترفع التقيّة و المؤاخذة على الانتساب إليهم، فتقبّل الخليفة، ثمّ إنّه بذل لذلك من عين ماله ثمانين ألفا، و طلب من الشيعة

بقية المال فلم يفوا به.» «2»

و كيف كان فالمقصود من الاجتهاد هو استخراج أحكام اللّه- تعالى- و إحرازها.

و المنابع لها هي الأدلّة الأربعة من الكتاب، و السنة، و العقل، و الإجماع على القول به. و هي- بحمد اللّه- باقية لنا، و قد شرّحت و فسّرت و تنقّحت أكثر مما كانت في عصر الأئمة الأربعة للسنّة.

و قد تقدّم الفقهاء الأربعة و تأخّر عنهم فقهاء كثيرون و يوجدون في أعصارنا أيضا، و لم يكن الفقهاء الأربعة معاصرين للنّبيّ «ص»، و لا ورّاث علمه بلا واسطة، بل تأخّروا عنه «ص» بأكثر من قرن، و لم يجعل اللّه- تعالى- العلم و الاجتهاد ملكا طلقا لبعض دون بعض، و لم يرد آية و لا رواية على تعيّن الأربعة، و لا دلّ عليه دليل من العقل.

فبأيّ وجه ينسدّ باب الاجتهاد من الكتاب و السنّة، و يتعيّن التقليد منهم، أو الاجتهاد في نطاق مذاهبهم فقط؟! و هل كان يوحى إليهم و لا يوحى إلى غيرهم؟! أو كان لهم نبوغ علمي و شرائط غير طبيعية لا توجد لغيرهم أبدا؟! و هل يكون إلزام الخليفة العباسي حجة شرعية لا تجوز مخالفتها؟!

و بالجملة، نحن لا نرى وجها مبرّرا لحصر الاجتهاد المطلق و الاستنباط من

______________________________

(1)- رياض العلماء 4/ 33.

(2)- روضات الجنّات 4/ 308.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 82

الكتاب و السنة على فئة خاصّة عاشوا بعد النبي «ص» بأكثر من قرن، و لم يتميّزوا قطّ بخصائص غير عادية لا توجد لغيرهم إلى يوم القيامة، و قد سبقهم أساتذتهم، و تقدّمهم و عاصرهم أئمة أهل البيت- عليهم السلام-، و لحقهم فقهاء كثيرون ملكوا علوم القدماء و تجاربهم و أضافوا إليها استنباطات

جديدة و يكونون أعلم بشرائط الزمان و أعرف بحاجاته و خصوصياته.

و في كتاب نظم الحكم و الإدارة في الشريعة الإسلامية تأليف علي علي منصور:

عن أبي حنيفة أنّه كان يقول: «علمنا هذا رأي لنا و هو أحسن ما قدرنا عليه؛ فمن جاءنا بأحسن منه فهو الصواب. و لا يحلّ لأحد أن يقول بقولنا حتّى يعلم من أين قلنا.»

و كان مالك يقول: «إنّما أنا بشر؛ أخطئ و أصيب، فانظروا في رأيي، فإن وافق الكتاب و السنّة فخذوا به، و ما لم يوافقهما فاتركوه.»

و كان الشافعي يقول لأتباعه: «لا تقلّدوني في كلّ ما أقول، و انظروا في ذلك، فإنّه دين.»

و يقول الإمام أحمد بن حنبل: «لا تقلّدوني، و لا مالكا، و لا الشافعي، و لا الثوري.

و خذوا من حيث أخذوا.» «1»

و في ديباجة المغني لابن قدّامة نقلا عن أبي حنيفة أنّه قال:

«لا يحلّ لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم مأخذه من الكتاب و السنّة و إجماع الأمّة و القياس الجليّ في المسألة.» «2»

و في كتاب «السنّة» لعبد اللّه بن أحمد بن حنبل بسنده أنّ أبا حنيفة قال لأبي يوسف:

«يا يعقوب لا ترو عنّي شيئا، فو اللّه ما أدري أ مخطئ أم مصيب.» «3»

و في الفقه الإسلامي و أدلّته عن الشافعي أنه قال:

______________________________

(1)- نظم الحكم و الإدارة في الشريعة الإسلامية/ 35.

(2)- المغني 1/ 14.

(3)- السنة 1/ 226.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 83

«إذا صحّ الحديث فهو مذهبي. و اضربوا بقولي عرض الحائط.» «1»

و في ذيل مبادي نظم الحكم في الإسلام:

«كان الإمام أحمد يقول: لا تقلّد في دينك الرجال، فإنّهم لن يسلموا من أن يغلطوا. و من ترك الحديث و أخذ

بقول الرجال فقد ترك من لا يغلط إلى من يغلط.» ... إن أبا حنيفة كان يقول: «هذا رأيي؛ فمن جاء برأي خير منه قبلته.»

و إن الإمام أحمد كان يقول: «لا تقلّدني، و لا تقلّد مالكا، و لا الشافعي، و لا الثوري.

و تعلّم كما تعلّمنا.» «2»

إلى غير ذلك ممّا حكي عن الأئمة الأربعة في شأن آرائهم و فتاواهم.

نعم، الأئمة الاثنا عشر من العترة الطاهرة «ع» لهم ميز بلا ريب، لأنّهم أهل البيت، و أهل البيت أدرى بما في البيت، و قد جعلهم رسول اللّه «ص» عدلا للكتاب العزيز و قرينا له في حديث الثقلين المتواتر بطرق الفريقين. و قد رواه في عبقات الأنوار من طرق علماء السنّة عن خمسة و ثلاثين من الصحابة عنه «ص».

و قد مرّ نقل بعض أسناده في الباب الثاني من هذا الكتاب، و بيان دلالته على حجّيّة أقوال العترة الطاهرة، و أنّها غير مسألة الإمامة المختلف فيها بين الفريقين، فراجع.

و في نهج البلاغة: «هم موضع سرّه و لجأ أمره و عيبة علمه و موئل حكمه و كهوف كتبه و جبال دينه. بهم أقام انحناء ظهره و أذهب ارتعاد فرائصه ... لا يقاس بآل محمد «ص» من هذه الأمّة أحد، و لا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. هم أساس الدين و عماد اليقين. إليهم يفي ء الغالي، و بهم يلحق التالي و لهم خصائص حقّ الولاية و فيهم الوصية و الوراثة.» «3»

و فيه أيضا: و من خطبة له- عليه السلام- يذكر فيها آل محمد- صلّى اللّه عليه و آله و سلم-: «هم عيش العلم و موت الجهل يخبرهم حلمهم عن علمهم (و ظاهرهم عن باطنهم)

______________________________

(1)- الفقه الإسلامي و أدلّته 1/ 37.

(2)-

مبادي نظم الحكم في الإسلام لعبد الحميد المتولي/ 327.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 44؛ عبده 1/ 24؛ لح/ 47، الخطبة 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 84

و صمتهم عن حكم منطقهم، لا يخالفون الحقّ و لا يختلفون فيه. هم دعائم الإسلام و ولائج الاعتصام.

بهم عاد الحقّ في نصابه، و انزاح الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدين عقل وعاية و رعاية لا عقل سماع و رواية، فإنّ رواة العلم كثير و رعاته قليل.» «1»

و في مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده، عن أبي ذر، قال: سمعت النبي «ص» يقول: «ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه؛ من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق.» «2»

و فيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في حقّهم- عليهم السلام-.

و قال العلّامة شرف الدين الموسوي في كتاب المراجعات:

«و المراد بأهل بيته هنا مجموعهم من حيث المجموع باعتبار أئمّتهم، و ليس المراد جميعهم على سبيل الاستغراق، لأنّ هذه المنزلة ليست إلّا لحجج اللّه و القوّامين بأمره خاصّة، بحكم العقل و النقل. و قد اعترف بهذا جماعة من أعلام الجمهور. ففي الصواعق المحرقة لابن حجر: و قال بعضهم: يحتمل أن المراد بأهل البيت الذين هم أمان، علماؤهم لأنّهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، و الذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون ...» «4»

أقول: و لا أظنّ أنّ أحدا من المسلمين المنصفين يجترئ على تفضيل الأئمّة الأربعة في

فقه السنّة على الأئمّة الطاهرة من عترة النبي «ص» و أهل بيته في العلم و الفضائل.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 825؛ عبده 2/ 259؛ لح/ 357، الخطبة 239.

(2)- مستدرك الحاكم 3/ 151، كتاب معرفة الصحابة.

(3)- مستدرك الحاكم 3/ 149، كتاب معرفة الصحابة.

(4)- المراجعات/ 76 (المراجعة الثامنة).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 85

نعم، سياسة الأمويّين و العباسيّين في عصرهم صنعت ما صنعت بالعترة و الآل، و ما أدراك ما السياسة، و ما الذي يتعقبها إذا كانت شيطانية!! فتدبّر في المقام و احتط لدينك.

و قد ظهر لك بما ذكرناه أنّ حصر الاجتهاد في الأئمّة الأربعة لأهل السنّة لا أساس له في الشريعة و أنّه قبل أن يكون أمرا دينيّا فقهيّا كان أمرا سياسيّا متطوّرا على حسب تطوّر السياسة في الأزمنة و الأمكنة. و الأئمة الأربعة بأنفسهم أيضا بريئون منه، فراجع الكتب المتعرضة لتاريخ المذاهب الأربعة و المتمذهبين بها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 86

8- التقليد و أدلّته
[معنى التقليد و منشأه]

لا يخفى أنّ استنباط الأحكام الشرعية و استخراجها من أدلّتها و منابعها يكون بتصدّي المجتهد الفقيه العالم بالكتاب، و السنّة، و أحكام العقل القطعية، و ما يتوقّف عليه الاستنباط من العلوم المختلفة.

فمن يكون مجتهدا فعليه الاستنباط و العمل بما فهمه و استنبطه، أو الاحتياط في مقام العمل.

و من لم يبلغ مرتبة الاجتهاد فلا محالة يحتاط في العمل مع الإمكان أو يرجع إلى فتوى من اجتهد و استنبط.

و على هذا فعلى النوّاب في مجلس الشورى أيضا الرجوع في تخطيطهم و برامجهم السياسية إلى فتاوى المجتهد الواجد للشرائط. و الأحوط بل الأقوى في المسائل الخلافية رعاية الأعلميّة أيضا على ما يقتضيه ارتكاز العقلاء و سيرتهم، كما

أنّه المتعيّن لأمر الولاية أيضا إذا وجد سائر الشرائط كما مرّ.

و قد استقرّت سيرة العقلاء في جميع الأعصار و الأمصار من جميع الأمم و المذاهب على رجوع الجاهل في كلّ فنّ إلى العالم الخبير المتخصّص فيه إذا كان ثقة، و قد يعبّر عنه بأهل الخبرة.

فالمريض يرجع إلى الطبيب الحاذق الثقة و يعمل برأيه. و المتعاملان يرجعان في معاملاتهما إلى المتخصص في معرفة الأمتعة و قيمها. و هكذا في سائر الأمور التخصصية.

بل لا يمكن أن يستقيم نظام بدون التقليد إجمالا، إذ لا يوجد مجتمع يستطيع جميع أفراده تحصيل المعرفة التفصيلية بجميع ما يتّصل بحياتهم من الهندسة و الطبّ و أصول

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 87

الصناعات و الحرف الضروريّة.

و استمرّت سيرة أصحاب النبي «ص» و الأئمة «ع» أيضا على استفتاء بعضهم من بعض و العمل بقوله و فتياه من دون ردع منهم «ع».

و التقليد المذموم في الكتاب العزيز هو تقليد الأبناء للآباء أو الاتباع للرؤساء تعصّبا، أي تقليد الجاهل لجاهل مثله أو لفاسق غير مؤتمن، لا رجوع الجاهل في كل فنّ إلى العالم الخبير فيه إذا كان ثقة؛ فإنّه أمر فطريّ ضروريّ لا محيص عنه للمجتمعات و إن كانت في أعلى مراتب الرقي. و في الحقيقة ليس هذا تقليدا بل كسب علم بنحو الإجمال.

فالمجتهد يعرف حكم الواقعة بنحو التفصيل، و المقلّد برجوعه إلى العالم الثقة يكسب العلم أو الوثوق به إجمالا، و يعمل بما حصل له من العلم.

و الإشكال في السيرة بأنّها إنّما تفيد إذا اتصلت بعصر الأئمة «ع» و لم يردعوا عنها، و الاجتهاد بنحو يوجد في أعصارنا من إعمال الدقّة و استنباط الفروع من الأصول الكليّة لم يعهد

وجوده في تلك الأعصار، مدفوع. إذ التفريع على الأصول، و كذا مقايسة الأخبار المتعارضة و إعمال الترجيح فيها كان متعارفا بين أصحاب الأئمة «ع» أيضا، كما يشهد بذلك قوله «ع»: «إنّما علينا أن نلقى إليكم الأصول و عليكم أن تفرعوا» «1» هذا.

ما استدلوا به على حجّيّة فتوى الفقيه:
اشارة

و استدلوا على حجّيّة فتوى الفقيه مضافا إلى السيرة المذكورة ببعض الآيات و الروايات أيضا:

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 51.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 88

[الآيات]

1- فمن الآيات قوله- تعالى-: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ إِلّٰا رِجٰالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ، فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لٰا تَعْلَمُونَ». «1»

بتقريب أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول و ترتيب الأثر عليه و إلّا وقع لغوا، و إذا وجب قبول الجواب وجب قبول كلّ ما يصحّ أن يسأل عنه، إذ لا خصوصيّة لسبق السؤال.

2- و منها قوله- تعالى-: «وَ مٰا كٰانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فَلَوْ لٰا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طٰائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذٰا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ.» «2»

بتقريب أنّ الظاهر من الآية بمقتضى كلمة «لو لا» وجوب النفر، فتجب الغاية و غاية الغاية أيضا، أعني التفقّه و الإنذار و حذر القوم، و لأنّ طبع الحذر يناسب اللزوم. و المراد بالإنذار بقرينة لفظ التفقّه في الدين هو بيان الأحكام الشرعية، فذكر اللازم و أريد الملزوم. فتدل الآية على وجوب ترتيب الأثر على قول الفقيه المبيّن للأحكام. و إن شئت قلت إذا وجب بيان الأحكام وجب ترتيب الأثر و إلّا وقع لغوا.

3- و منها قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مٰا أَنْزَلْنٰا مِنَ الْبَيِّنٰاتِ وَ الْهُدىٰ مِنْ بَعْدِ مٰا بَيَّنّٰاهُ لِلنّٰاسِ فِي الْكِتٰابِ أُولٰئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللّٰاعِنُونَ.» «3»

فإنّ حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول بعد الإظهار و إلّا لزم اللغو.

4- و منها قوله- تعالى- حكاية عن إبراهيم الخليل: «يٰا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جٰاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مٰا لَمْ يَأْتِكَ، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرٰاطاً سَوِيًّا.» «4»

______________________________

(1)- سورة النحل

(16)، الآية 43.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 122.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 159.

(4)- سورة مريم (19)، الآية 43.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 89

دلّت الآية على وجوب إطاعة العالم في علمه و المتابعة له. إلى غير ذلك من الآيات.

[الروايات]
اشارة

و أمّا الروايات فهي في غاية الكثرة و تنقسم إلى طوائف سبع.

الطائفة الأولى: ما ورد في مدح الرواة

و الترغيب في نشر الأحاديث و بيان الأحكام الشرعية، و هي كثيرة:

5- فمنها ما رواه الرضا «ع» عن آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «اللّهم ارحم خلفائي»- ثلاث مرات- فقيل له: يا رسول اللّه و من خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي و يروون عنّي أحاديثي و سنّتي، فيعلمونها الناس من بعدي.» «1»

و قد مرّت أسانيد الحديث و شرحه في الفصل الثالث من الباب الخامس في الاستدلال به لإثبات ولاية الفقيه، و قلنا هناك أنّه ليس المراد به الحفّاظ لألفاظ الحديث نظير المسجّلات، بل المتفقّهون في أقواله «ص» و سنّته، فراجع ما حررناه هناك.

6- و منها خبر عبد السلام بن صالح الهروي، قال: سمعت الرضا «ع» يقول:

«رحم اللّه عبدا أحيا أمرنا.» قلت: و كيف يحيى أمركم؟ قال: «يتعلّم علومنا و يعلّمها الناس.» «2»

و تقريب الاستدلال بالحديثين يظهر ممّا مرّ و إن كان في الجميع إشكال يأتي بيانه.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 66، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 53.

(2)- الوسائل 18/ 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 90

الطائفة الثانية من الروايات: ما ورد من الأئمة- عليهم السلام- من إرجاع شيعتهم إلى الفقهاء منهم

بنحو العموم:

7- منها ما في توقيع صاحب الزمان- عليه السلام- الذي رواه الصدوق في كتاب كمال الدين، عن محمد بن محمد بن عصام الكليني، قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان «ع»، و فيه: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، و أنا حجّة اللّه عليهم.» و رواه الشيخ أيضا في الغيبة بسنده

عن الكليني.

و رواه الطبرسي في آخر الاحتجاج أيضا عنه «1».

و قد مرّ البحث في سند الحديث و متنه في الفصل الثالث من الباب الخامس في إثبات ولاية الفقيه، و قلنا هناك أنّ إسحاق بن يعقوب مجهول، و أنّ الرواية و إن دلّت على جلالته و لكن الراوي لها نفسه. و نقل الكليني عنه و إن أشعر باعتماده عليه و لكن الرواية لم تذكر في الكافي و لا ندري ما هو الوجه في ذلك؟!

و كيف كان فالظاهر أنّ المراد بالرواة في الحديث هم الفقهاء المستند علمهم و فقههم إلى روايات أهل البيت، في قبال أهل القياس و الاجتهادات الظنّيّة.

و احتمال العهد و عدم العموم في الحوادث لا يضرّ بالاستدلال بعد عموم التعليل، أعني قوله «ع»: «فإنّهم حجّتي عليكم.» فهم بجعله «ع» صاروا حجّة علينا، كما هو حجّة اللّه المطلق. و اطلاقه يقتضي جواز الرجوع إلى فقهاء الشيعة و الأخذ

______________________________

(1)- كمال الدين/ 483، باب ذكر التوقيعات ...، الحديث 4، و الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 91

بقولهم، سواء حصل العلم أو الوثوق من قولهم أم لا، فيكون حجة مطلقا.

8- و منها ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري- عليه السلام-: «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، و ذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.» «1»

و رواه الطبرسي أيضا في أواخر الاحتجاج عنه «ع» «2».

و الراوي لهذا التفسير هو الصدوق- عليه الرحمة- عن أبي الحسن محمد بن القاسم المفسّر الأسترآبادي الخطيب، قال: حدثني أبو يعقوب يوسف بن محمد

بن زياد و أبو الحسن علي بن محمد بن سيّار. و الثلاثة كلّهم مجاهيل و إن تكلّف في تنقيح المقال لتوثيقهم «3».

و مجرّد رواية الصدوق عنهم لا يدلّ على توثيقهم، فإنّه في غير الفقيه روى عن غير الموثقين كثيرا، بل فيه أيضا.

و قد قطع جمع من الأعلام منهم ابن الغضائري بكون التفسير موضوعا، و قالوا إنّ فيه مطالب لا يناسب صدورها عن الإمام- عليه السلام-.

و أمّا دلالة الرواية فواضحة. و إطلاقها يدلّ على حجّية قول الفقيه الواجد للشرائط مطلقا؛ حصل الوثوق من قوله أم لا. و لعلّ عدم إيجاب التقليد من جهة التخيير بينه و بين الاحتياط.

9- و منها ما رواه الكشّي بسنده، عن أحمد بن حاتم بن ماهويه، قال: كتبت إليه، يعني أبا الحسن الثالث «ع» أسأله عمّن آخذ معالم ديني، و كتب أخوه أيضا بذلك، فكتب «ع» إليهما: «فهمت ما ذكرتما، فاصمدا في دينكما على كلّ مسنّ في حبّنا، و كلّ كثير القدم في أمرنا، فإنّهما كافوكما إن شاء اللّه- تعالى-.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 95، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.

(2)- الاحتجاج للطبرسي/ 255 (طبعة أخرى 2/ 263).

(3)- راجع تنقيح المقال 3/ 175 و 336، و 2/ 305.

(4)- الوسائل 18/ 110، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 92

و المراد بأخيه على ما قيل فارس أو طاهر بن حاتم. و أحمد بن حاتم مجهول.

و هل المراد بأخذ معالم الدين تعلّمها، أو أخذها تعبّدا و إن لم يحصل العلم و الوثوق؟ فعلى الثاني يكون وزان الخبر وزان الروايتين السابقتين. و لو أريد بمعالم الدين الأعمّ من الأصول و الفروع كما هو

الظاهر يرد عليه أنّ التقليد التعبّدي لا يجزي في الأصول إلّا أن تخصّص الرواية بالنسبة إلى أصول الدين بدليل آخر، فتدبّر.

فهذه ثلاث روايات ضعيفة من حيث السند، و لكن لها دلالة على حجّية قول الفقيه مطلقا و إن لم يحصل علم أو وثوق.

الطائفة الثالثة: ما ورد من الأئمّة- عليهم السلام- من إرجاع بعض الشيعة إلى بعض،

و بيان وثاقتهم و أمانتهم. و هي أيضا كثيرة:

10- فمنها ما رواه الكليني، عن محمد بن عبد اللّه الحميري و محمد بن يحيى جميعا، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن «ع»، قال سألته و قلت: من أعامل أو عمّن آخذ و قول من أقبل؟ فقال له: العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، و ما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له و أطع، فإنّه الثقة المأمون.

و أخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمد «ع» عن مثل ذلك، فقال له: العمري و ابنه ثقتان.

فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، و ما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما و أطعهما، فإنّهما الثقتان المأمونان ...» و رواه الشيخ أيضا في كتاب الغيبة «1».

و الرواية صحيحة. و أحمد بن إسحاق شيخ القميّين من خواصّ أبي محمد «ع».

______________________________

(1)- الكافي 1/ 329، كتاب الحجة، باب في تسمية من رآه، الحديث 1؛ و الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 93

و المراد بالعمري و ابنه: عثمان بن سعيد العمري و ابنه محمد بن عثمان، و كلاهما من نوّاب الناحية المقدسة.

و هل الرواية في مقام جعل الحجيّة التعبّديّة لروايتهما أو لفتواهما، أو تكون إمضاء لما استقرّت عليه السيرة من العمل بقول الثقة المأمون رواية أو فتوى، و

إنّما تعرضت لكون الرجلين من مصاديق ما استقرت عليه السيرة؟ وجهان.

ظاهر تعليل الإمام- عليه السلام- هو الثاني. إذ التعليل يقع عادة بذكر كبرى كليّة ارتكازيّة معلومة للمخاطب. و سبق العهد بكبرى كليّة شرعيّة بهذا المضمون بعيد جدا.

ثمّ هل تكون الرواية دليلا لحجيّة رواية الثقة أو فتواه، أو كلتيهما؟ لعلّ الظاهر هو الأخير. إذ الفتوى في تلك الأعصار كانت قليلة المؤونة؛ فإن ذكر الرواية بقصد الحكاية عن الإمام كان رواية، و إن ذكرها بقصد الحكاية عمّا فهمه و أدركه من الحكم الشرعي كان فتوى.

11- و منها ما رواه الكشي بسنده، عن شعيب العقرقوفي، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»، ربّما احتجنا أن نسأل عن الشي ء، فمن نسأل؟ قال: «عليك بالأسدي، يعني أبا بصير.» «1»

12- و منها ما رواه الكشي أيضا، عن عبد اللّه بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: إنّه ليس كلّ ساعة ألقاك و لا يمكن القدوم، و يجي ء الرجل من أصحابنا فيسألني و ليس عندي كلّ ما يسألني عنه؟ فقال: «ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفي، فإنّه سمع من أبي و كان عنده وجيها.» «2»

و الرواية بنفسها شاهدة على أنّ رجوع بعض الأصحاب إلى بعض و الاستفتاء منه كان أمرا متعارفا.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 103، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 15.

(2)- الوسائل 18/ 105، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 94

13- و منها ما رواه أيضا عن يونس بن يعقوب، قال: كنّا عند أبي عبد اللّه «ع» فقال: «أ ما لكم من مفزع؟ أ ما لكم من مستراح تستريحون إليه؟ ما يمنعكم من الحارث بن المغيرة النضري؟»

«1»

14- و منها ما رواه عن عليّ بن المسيّب الهمداني، قال: قلت للرضا «ع»:

«شقتي بعيدة و لست أصل إليك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ قال: «من زكريا بن آدم القميّ المأمون على الدين و الدنيا.» قال عليّ بن المسيّب: فلمّا انصرفت قدمنا على زكريا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه «2».

15- و منها ما رواه عن عبد العزيز بن المهتدي و الحسن بن علي بن يقطين جميعا عن الرضا «ع»، قال: قلت: لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني، أ فيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني؟

فقال: نعم. «3»

16- و منها ما رواه أيضا عن عبد العزيز بن المهتدي- و كان خير قميّ رأيته، و كان وكيل الرضا «ع» و خاصّته- قال: سألت الرضا «ع» فقلت: إنّي لا ألقاك في كلّ وقت، فممّن آخذ معالم ديني؟ فقال: «خذ عن يونس بن عبد الرحمن.» «4»

17- و منها ما رواه أيضا عن عبد العزيز بن المهتدي، قال: قلت للرضا «ع»: إنّ شقّتي بعيدة فلست أصل إليك في كلّ وقت، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ قال: نعم. «5»

أقول: الشقّة بالضم و التشديد: المسافة التي يشقّها المسافر.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 105، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 24.

(2)- الوسائل 18/ 106، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 27.

(3)- الوسائل 18/ 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.

(4)- الوسائل 18/ 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 34.

(5)- الوسائل 18/ 107، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 35.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 95

18- و يشبه هذه الطائفة ما رواه الكشي بسنده عن جميل بن دراج، قال:

سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ بالجنة: بريد بن معاوية العجلي، و أبو بصير ليث بن البختري المرادي، و محمد بن مسلم، و زرارة. أربعة نجباء أمناء اللّه على حلاله و حرامه.

لو لا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة و اندرست.» «1»

19- و ما رواه بسنده عن سليمان بن خالد، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «ما أجد أحدا أحيا ذكرنا و أحاديث أبي «ع» إلّا زرارة، و أبو بصير ليث المرادي، و محمد بن مسلم، و بريد بن معاوية العجلي. و لو لا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هذا. هؤلاء حفّاظ الدين و أمناء أبي على حلال اللّه و حرامه ...» «2» هذا.

و الظاهر أنّ هذه الأحاديث بكثرتها ليست في مقام جعل الحجّية التعبّديّة لخبر الثقة أو فتواه، بل مفادها إمضاء السيرة المستمرة و بيان المصداق لموضوعها، فتدبّر.

الطائفة الرابعة: ما اشتمل على الأمر بالإفتاء و الترغيب فيه:

20- فمنها ما رواه الشيخ الطوسي، عن أبي جعفر الباقر «ع» أنّه قال لأبان بن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة و أفت الناس، فإنّي أحبّ أن يرى في شيعتي مثلك.» «3»

21- و منها ما رواه الكشي بسنده، عن معاذ بن مسلم النحوي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «بلغني أنّك تقعد في الجامع فتفتي الناس؟» قلت: نعم و أردت أن أسألك عن ذلك قبل أن أخرج. إنّي أقعد في المسجد فيجي ء الرجل فيسألني عن الشي ء، فإذا عرفته بالخلاف لكم أخبرته بما يفعلون. و يجي ء الرجل أعرفه بمودّتكم

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 103، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14.

(2)- الوسائل 18/ 104، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 21.

(3)- الفهرست للطوسي/

17 (طبعة أخرى/ 41).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 96

و حبّكم، فأخبره بما جاء عنكم. و يجي ء الرجل لا أعرفه و لا أدري من هو، فأقول:

جاء عن فلان كذا و جاء عن فلان كذا، فأدخل قولكم فيما بين ذلك. فقال لي:

«اصنع كذا، فإنّي كذا أصنع.» و رواه الصدوق في العلل أيضا. «1»

22- و منها ما في نهج البلاغة في كتابه إلى قثم بن عباس، و هو عامله على مكّة:

«أمّا بعد، فأقم للناس الحجّ، و ذكّرهم بأيّام اللّه و اجلس لهم العصرين فأفت المستفتي و علّم الجاهل و ذاكر العالم.» «2»

و يشبه هذه الطائفة ما في قصّة بعث رسول اللّه «ص» مصعب بن عمير و عمرو بن حزم:

23- ففي سيرة ابن هشام في قصّة بيعة العقبة: «قال ابن إسحاق: فلمّا انصرف عنه القوم بعث رسول اللّه «ص» معهم مصعب بن عمير ... و أمره أن يقرئهم القرآن و يعلّمهم الإسلام و يفقّههم في الدين.» «3»

24- و في السيرة، و الطبري: «و بعث رسول اللّه «ص» عمرو بن حزم واليا على بنى الحارث ليفقّههم في الدين و يعلّمهم السنّة و معالم الإسلام.» «4»

إذ تفهيم فروع الدين و الأحكام لم يكن إلّا بالإفتاء فيها، كما لا يخفى.

و تقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّ فائدة الإفتاء هي ترتيب الأثر عليه و العمل على طبق الفتوى، و إلّا وقع لغوا. فبدلالة الاقتضاء يفهم جواز العمل به.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 108، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 36.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1062؛ عبده 3/ 140؛ لح/ 457، الكتاب 67.

(3)- سيرة ابن هشام 2/ 76.

(4)- سيرة ابن هشام 4/ 241؛ و نحوه في تاريخ الطبري 4/ 1727.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 97

الطائفة الخامسة من الروايات: ما دلّ على حرمة الإفتاء بغير علم،

حيث يستفاد منها جواز أصل الإفتاء و صحّته:

25- فمنها ما رواه الصدوق في معاني الأخبار بسنده، عن حمزة بن حمران، قال:

«سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «من استأكل بعلمه افتقر.» قلت: إنّ في شيعتك قوما يتحمّلون علومكم و يبثّونها في شيعتكم، فلا يعدمون منهم البرّ و الصلة و الإكرام؟

فقال: «ليس أولئك بمستأكلين، إنّما ذاك الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا.» «1»

26- و منها ما رواه الكليني بسند صحيح، عن أبي عبيدة، قال: قال أبو جعفر «ع»: «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّه لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه.» «2»

إلى غير ذلك من الروايات، فراجع.

الطائفة السادسة: ما دلّ على أنّ الإفتاء و الأخذ به كان متعارفا

و لم يردع عنه الأئمّة بل قرّروه:

27- فمنها خبر علي بن أسباط، قال: قلت للرضا «ع»: يحدث الأمر لا أجد بدّا

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12.

(2)- الوسائل 18/ 9، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 98

من معرفته، و ليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال:

«ايت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشي ء فخذ بخلافه، فإنّ الحقّ فيه.» «1»

و لعلّ الراوي كان بلغه حديثان متعارضان في المسألة، و في مثله يحمل الموافق لأهل الخلاف على صدوره تقيّة، أو أنّه في عصر الرضا «ع» كان بناء فقهاء السلاطين على الإفتاء بخلاف أهل البيت.

28- و منها ما رواه الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، رفعه، قال: سألت امرأة أبا عبد اللّه «ع» فقالت: إنّي كنت أقعد في نفاسي

عشرين يوما حتّى أفتوني بثمانية عشر يوما؟ فقال أبو عبد اللّه «ع»: و لم أفتوك بثمانية عشر يوما؟ فقال رجل للحديث الّذي روي عن رسول اللّه «ص» ...» «2»

إلى غير ذلك من الروايات التي يظهر منها إمضاء الإمام و تقريره لأصل الإفتاء و الأخذ به.

الطائفة السابعة: ما دلّ على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء من الشيعة

و إيجاب القبول لحكمهم:

29- فمنها ما مرّ من مقبولة عمر بن حنظلة في حكم المتنازعين، و فيها: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا؛ فليرضوا به حكما، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما. فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على اللّه و هو على حدّ الشرك باللّه.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 83، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.

(2)- الوسائل 2/ 613، الباب 3 من أبواب النفاس، الحديث 7.

(3)- الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 99

30- و منها خبر أبي خديجة، و فيه: «اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته قاضيا.» «1»

و تقريب الاستدلال بها أنّ القضاء يلازم الإفتاء؛ فإذا كان القضاء نافذا و لم يجز ردّه لزم منه كون الإفتاء أيضا نافذا.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 99

فهذه سبع طوائف من الروايات التي ربّما استدل بها على حجيّة فتوى المجتهد لمن رجع إليه و قلّده.

المناقشة في أدلّة التقليد:

أقول: التقليد المصطلح عليه في أعصارنا عبارة عن الأخذ بقول الفقيه العادل تعبّدا، و إن فرض أنّه لم يحصل للمقلّد الوثوق و الاطمينان بمطابقته للواقع. فيكون قول الفقيه العادل و فتياه حجّة تأسيسية تعبّدية، نظير حجّيّة البيّنة الثابتة بخبر مسعدة بن صدقة.

و لا يخفى أنّ إثبات ذلك بالآيات المذكورة و أكثر الروايات

التي مرّت مشكل، لعدم كونها في مقام جعل التكليف الظاهريّ للجاهل و أنّه متعبّد بالأخذ بأقوال العلماء و فتاواهم و إن لم يحصل له وثوق بكونها مطابقة للواقع.

بل الظاهر من آية السؤال أنّ الجاهل يجب عليه السؤال حتى يحصل له العلم و لو بنحو الإجمال. و يشهد لذلك أنّ الظاهر منها بقرينة المورد كون المقصود هو السؤال عن مواصفات الأنبياء التي لا يجزي فيها الظن و التقليد قطعا.

و المراد بأهل الذكر على هذا أهل الكتاب من اليهود، كما عن ابن عباس

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6. و لفظة «عليكم» بعد قوله «جعلته» ليست في التهذيب بطبعيه، و إن وجدت في الوسائل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 100

و مجاهد. و في بعض الأخبار أنّ المراد بأهل الذكر هم الأئمة الاثنا عشر- عليهم السلام- «1».

و كيف كان فلا ترتبط بباب التقليد التعبّدي.

هذا مضافا إلى أنّ الآية في مقام بيان وجوب السؤال، لا وجوب العمل بما أجيب حتى يتمسك بإطلاقه لصورة عدم حصول الوثوق و العلم أيضا. و يكفي في عدم لغوية السؤال ترتب فائدة ما عليه، و هو العمل بالجواب مع الوثوق.

و بذلك يظهر الجواب عن آية الكتمان أيضا.

و أمّا آية النفر، فمحطّ النظر فيها هو بيان وجوب تعلّم العلوم الدينيّة و التفقّه فيها بالنفر إلى مظانّها، ثمّ نشرها في البلاد ليعمّ العلم جميع العباد فيتعلّم غير النافرين من النافرين لعلّهم يحذرون.

و ليست في مقام جعل الحجّيّة التعبّديّة لقول الفقيه و بيان وجوب الحذر من قوله مطلقا حتّى يتمسّك بإطلاقه لصورة عدم حصول العلم و الوثوق أيضا.

نعم، يحصل غالبا للجهال العلم العادي و سكون النفس

بصحّة ما أنذروا به إجمالا إذا كان المنذر ثقة من أهل الخبرة. و يكفي هذا قطعا، إذ العلم حجّة ذاتا و يكون عند العقلاء أعمّ ممّا لا يحتمل فيه الخلاف أصلا، أو يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفا جدّا بحيث لا يعتنى به و يكون وجوده كالعدم، و نعبّر عنه بالوثوق و الاطمينان و سكون النفس و نحو ذلك.

و يشهد لعدم كون الآية في مقام بيان الحكم الظاهري التعبّدي رواية عبد المؤمن الأنصاري، عن أبي عبد اللّه «ع» الواردة في تفسيرها، قال «ع»: «فأمرهم أن ينفروا إلى رسول اللّه «ص» فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم.» «2» فالغرض هو التعلّم ثمّ التعليم، لا التعبّد المحض.

______________________________

(1)- راجع اصول الكافي 1/ 210، كتاب الحجّة، باب أن أهل الذكر ... هم الأئمة.

(2)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 101

و يشهد له أيضا الاستدلال بها في أخبارنا لوجوب نفر البعض لمعرفة الإمام ثم تعريفه للباقين. «1»

مع وضوح أنّ الإمامة من المسائل الاعتقاديّة التي لا يجري و لا يجزي فيها التعبّد و التقليد.

و بذلك يظهر الأمر في قول الخليل «ع» لأبيه أيضا، إذ ليس مراده المتابعة التعبّدية، فإنّ التوحيد و نفي الشرك من أصول الدين و لا مجال للتعبّد فيه.

و كذلك الكلام في الطائفة الأولى من الروايات، فإن المقصود فيها بثّ العلم و نشره، و لذا قال: «فيعلّمونها الناس من بعدي.» فلا ربط لها بالتقليد التعبّدي.

و أمّا الطائفة الثالثة الواردة في إرجاع بعض الشيعة إلى بعض، فالظاهر أنّها ليست بصدد التأسيس و جعل الحجية لقول الفقيه أو الراوي تعبّدا، بل تكون إمضاء لما استقرّت عليه السيرة

من الأخذ بقول الخبير الثقة و بيانا لكون الأفراد المذكورة من مصاديق موضوعها.

هذا مضافا إلى امكان منع كونها مرتبطة بباب الاجتهاد و الإفتاء، بل لعلّها مرتبطة بباب الرواية. و بين البابين بون بعيد. فإنّ الراوي يحكي عن الإمام، و المفتي يحكي عن فهم نفسه و رأيه. اللّهم إلّا أن يقال بعمومها لكلا البابين.

و أمّا ما دلّ على الترغيب في الإفتاء أو جوازه أو تقريره، فلا يدلّ على وجوب القبول و التعبّد به مطلقا، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، بل لعلّ الواجب هو العمل بالفتوى بعد حصول الوثوق بمطابقته للواقع، كما عليه السيرة.

و ليست فائدة الإفتاء منحصرة في التعبّد به بنحو الإطلاق حتّى يحكم بذلك بدلالة الاقتضاء.

______________________________

(1)- أصول الكافي 1/ 378، كتاب الحجة، باب ما يجب على الناس عند مضي الإمام.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 102

و أما ما دلّ على إرجاع أمر القضاء إلى الفقهاء فالتعدّي منه إلى غير باب القضاء متوقّف على إلغاء الخصوصيّة و القطع بعدم دخالتها، و هو ممنوع. لارتباط القضاء بالمتنازعين، فلا يمكن فيه الاحتياط، و فصل الخصومة ممّا لا محيص عنه. ففي مثله يكون حكم الفقيه نافذا حتّى مع العلم بالخلاف أيضا فضلا عن صورة الشكّ.

و بالجملة، إثبات التقليد التعبّدي بهذه الآيات و الروايات مشكل.

نعم، الطائفة الثانية من الروايات، أعني التوقيع الشريف و ما في تفسير الإمام و خبر أحمد بن حاتم بن ماهويه ظاهرة في جعل الحجّية لقول الفقيه الثقة و جواز العمل بقوله مطلقا و إن لم يحصل العلم و الوثوق، فيكون حجّة تأسيسيّة شرعية.

و لكن الإشكال في سندها، كما مرّ. فإثبات هذا الحكم الأساسيّ بمثل هذه الروايات الضعيفة غير

المذكورة في الكتب الأربعة التي عليها المدار مشكل.

فالعمدة في الباب هي بناء العقلاء و سيرتهم

على رجوع الجاهل في كلّ فن إلى العالم فيه. و لا مجال للإشكال فيها، لحصولها في جميع الأعصار و الأمصار و جميع الأمم و المذاهب.

و قد استقرّت سيرة الأصحاب أيضا في عصر النبي «ص» و الأئمة «ع» على رجوع الجاهل إلى العالم و الاستفتاء منه و العمل بما سمعه من الخبير الثقة.

و لكن ليس بناء العقلاء مبنيّا على التعبّد من ناحية الآباء أو الرؤساء، و لا على إجراء دليل الانسداد و أنّهم مع الالتفات إلى انسداد باب العلم اضطرّوا إلى العمل بالتقليد و الظنّ، و لا على اعتماد كلّ فرد في عمله على عمل سائر العقلاء و بنائهم.

بل من جهة اعتماد كلّ فرد في عمله هذا على علم نفسه و الإدراك الحاصل في ضميره. فالمراد بناء العقلاء بما هم عقلاء، حيث إنّ الجاهل برجوعه إلى الخبير الثقة يحصل له الوثوق و الاطمينان، و هو علم عادي تسكن به النفس، و العلم حجّة عند العقل.

فيرجع بناء العقلاء هنا إلى حكم العقل، حيث إنّهم لا يتقيّدون في نظامهم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 103

بالعلم التفصيلي المستند إلى الدليل في جميع المسائل، بل يكتفون بالعلم الإجمالي أيضا. كما لا يتقيّدون بما لا يحتمل فيه الخلاف أصلا، بل يكتفون بالوثوق و العلم العادي أيضا، أي ما يكون احتمال الخلاف فيه ضعيفا جدا. و ليس في هذا تعبّد أصلا، لعدم التعبّد في عمل العقلاء بما هم عقلاء.

فإذا فرض أنّه في مورد خاص لم يحصل لهم الوثوق الشخصي بقول أهل الخبرة لجهة من الجهات- كما ربما يتّفق ذلك في المسائل التفريعيّة الدقيقة الخلافيّة- فإن لم يكن الموضوع

مهمّا و جاز فيه التسامح أمكن أيضا العمل رجاء. و أمّا إذا كان الموضوع من الأمور المهمّة التي لا يتسامح فيها كالمريض الدائر أمره بين الحياة و الموت مثلا فلا محالة يحتاطون حينئذ إن أمكن، أو يرجعون فيه إلى خبير آخر أو شورى طبيّة مثلا.

و لا يخفى أن مسائل الدين و الشريعة كلّها مهمّة لا يجوز لها فيها التسامح و التساهل.

و بالجملة، فالملاك في بناء العقلاء و عملهم حصول الوثوق الشخصيّ. و ليس هذا تقليدا تعبديّا، بل هو علم عادي بنحو الإجمال يكتفي به العقلاء.

و بعبارة أخرى، إن كان التقليد عبارة عن العمل بقول الغير من دون مطالبة الدليل فهذا يكون تقليدا، و أمّا إذا كان عبارة عن الأخذ بقول الغير تعبّدا فعمل العقلاء ليس تقليدا، إذ ليس بينهم تعبّد.

و يجري ما ذكرناه في جميع الأمارات العقلائيّة التي لا تأسيس فيها للشارع، فإنّ العقلاء لا يعتمدون عليها إلّا مع حصول الوثوق و العلم العادي.

فإن قلت: المعتبر في إحراز الواقعيّات و إن كان هو الوثوق الشخصي و العلم العادي، و لكنّ بناء العقلاء في مقام الاحتجاج الدائر بين الموالي و العبيد هو الاحتجاج بقول الخبير الثقة مطلقا، فلا يسمع اعتذار العبد في مخالفته لقول الخبير الثقة بأنّه لم يحصل له الوثوق شخصا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 104

قلت: لا نسلّم الفرق بين المقامين؛ فلو فرض أنّ المولى فوّض أمر ابنه إلى عبده، فمرض الابن و ذهب به العبد إلى طبيب، فصادف أنّ العبد تردّد في صحّة طبابته لجهة من الجهات، و كان يتمكّن من الاحتياط أو الرجوع إلى طبيب آخر أو شورى طبيّة، فترك ذلك و عمل بقول الطبيب الأوّل و

اتّفق أنّ الابن مات لذلك، فإذا اطّلع المولى على تفصيل الواقعة فهل ليس له أن يعاتب العبد؟ و هل يسمع اعتذار العبد بأنّه عمل بتكليفه من الرجوع إلى الطبيب؟

و الحاصل أنّ الرجوع إلى فقهاء أصحاب النبي «ص»، و كذا أصحاب الأئمة- عليهم السلام- أمثال زرارة، و محمّد بن مسلم، و بريد العجلي، و ليث بن البختري المرادي، و يونس و غيرهم من بطانة الأئمة «ع» كان أمرا متعارفا، كما تعارف إرجاع الأئمة «ع» أيضا إليهم، و لكن لم يكن الاجتهاد في تلك الأعصار بحسب الغالب مبتنيا على المباني الصعبة الدقيقة، بل كان خفيف المؤونة جدّا، فكان يحصل الوثوق غالبا للمستفتي و كان يعمل بوثوقه و اطمينانه الحاصل من فتوى الفقيه.

فكذلك في أعصارنا لو حصل الوثوق بصحّة فتوى المفتي و كونه مطابقا للواقع، كما لعلّه الغالب أيضا للأغلب، صحّ الأخذ به.

و في الحقيقة العمل إنّما يكون بالوثوق الذي هو علم عاديّ تسكن به النفس، لا بالتقليد و التعبّد.

و أمّا إذا لم يحصل الوثوق في مورد خاصّ لجهة من الجهات، فالعمل به تعبّدا مشكل.

نعم، لو ثبت جعل الشارع قول الفقيه حجّة تأسيسيّة تعبّدية، نظير جعل البينة حجّة في الدعاوي، صحّ العمل به و إن لم يحصل الوثوق، بل و إن حصل ظنّ ما بالخلاف، و لكن إثبات ذلك مشكل. إذ ما استدلّ به من الآيات و الروايات لإثبات ذلك إمّا أن تكون مرتبطة بباب التعليم و التعلّم، أو تكون إرشادا إلى

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 105

ما عليه بناء العقلاء و سيرتهم، أو تكون في مقام بيان المصاديق لذلك، أو يكون سندها مخدوشا، فتدبّر. هذا.

و لكن لقائل أن يقول: إنّ مقتضى

ما ذكرت وجوب الاحتياط فيما إذا لم يحصل الوثوق الشخصي من قول الثقة أو فتواه أو غيرهما من الأمارات مطلقا، سواء كان الشك في ثبوت التكليف أو في سقوطه بعد ثبوته، و سواء كان الموضوع من الأمور المهمّة كالدماء و الفروج أو من غيرها، و لا نظنّ أحدا يلتزم بذلك.

فالحقّ في المسألة هو التفصيل؛ فإن كان الشك في سقوط التكليف بعد ثبوته و لو بالعلم الإجمالي وجب الاحتياط أو العمل بأمارة شرعيّة أو عقلائيّة توجب العلم أو الوثوق بالامتثال. و كذلك الكلام إذا كان الشك في أصل ثبوت التكليف و لكن الموضوع كان من الأمور المهمة. و أمّا في غيرها فتجري البراءة العقلية و الشرعية. نعم، مع وجود الأمارة الشرعية أو العقلائية على التكليف يجب الأخذ بها و إن لم يحصل الوثوق الشخصي، إذ مع وجودها يحكم العقلاء بجواز احتجاج المولى على العبد، و لا يسمع اعتذاره بعدم حصول الوثوق له شخصا، فتدبّر. هذا.

كلام ابن زهرة في التّقليد:

و قد ناسب في المقام نقل كلام ابن زهرة في أوائل الغنية، قال:

«فصل: لا يجوز للمستفتي تقليد المفتي، لأنّ التقليد قبيح. و لأنّ الطائفة مجمعة على أنّه لا يجوز العمل إلّا بعلم.

و ليس لأحد أن يقول: قيام الدليل و هو إجماع الطائفة على وجوب رجوع العامي إلى المفتي و العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه يؤمنه من الإقدام على قبيح و يقتضي إسناد عمله إلى علم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 106

لأنّا لا نسلّم إجماعها على العمل بقوله مع جواز الخطأ عليه، و هو موضع الخلاف.

بل إنما أمروا برجوع العامي إلى المفتي فقط، فأمّا ليعمل بقوله تقليدا فلا.

فإن قيل: فما الفائدة في رجوعه إليه إذا لم

يجز له العمل بقوله؟

قلنا: الفائدة في ذلك أن يصير له بفتياه و فتيا غيره من علماء الإمامية سبيل إلى العلم بإجماعهم فيعمل بالحكم على يقين.» «1» انتهى كلام الغنية.

ثمّ على فرض دلالة الآيات و الروايات و السيرة على الحجّيّة التعبّدية لقول الفقيه فالاطلاع عليها و تحقيق دلالتها خارج من وسع العامي لتوقّف ذلك على الاجتهاد في هذه المسألة. اذ التقليد فيها يوجب التسلسل، كما لا يخفى. كما أن جواز العمل بالاحتياط و تشخيص موارده و كيفيته أيضا يتوقف على الاجتهاد في هذه المسألة أو التقليد فيها.

فلا يبقى للعاميّ في بادي الأمر إلّا الرجوع إلى أهل الخبرة و العمل بقوله بعد حصول الوثوق و الاطمينان الذي هو علم عاديّ، و حجّيته تكون ذاتية، فتدبّر.

و أمّا ما قد يرى من بعض العوام من التعبّد المحض بفتوى المجتهد مطلقا من دون التفات إلى أنّه يطابق الواقع أم لا، بل و إن التفتوا إلى ذلك و شكّوا في مطابقته له، فلعلّه من جهة ما لقّنوا كثيرا بأنّ تكليف العامي ليس إلّا العمل بفتوى المجتهد، و أنّ ما أفتى به المفتي فهو حكم اللّه في حقّه مطلقا. و الظاهر أنّ هذه الجملة تكون من بقايا إلقاءات المصوّبة، و إن تردّدت على ألسنتنا أيضا. هذا.

طريق آخر إلى مسألة التقليد:

و لكن هنا طريق آخر إلى مسألة التقليد ربّما ينقدح في بعض الأذهان، و إن كان لا يخلو من إشكال. و هو أنّ المناصب الثلاثة أعني بيان الشريعة، و أمر

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 485.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 107

القضاء، و الولاية الكبرى كلّها اجتمعت في عصر النبي الأكرم «ص» للنبي «ص». و في عصر الأئمة الاثنى عشر أيضا كانت الثلاثة

لهم عندنا. و في الحقيقة كان بيان الأحكام و القضاء أيضا من شئون من له الولاية و الإمامة الحقّة.

فكذلك في عصر الغيبة أيضا يكون المرجع للقضاء و للإفتاء من له الولاية الكبرى، أعني الفقيه الجامع للشرائط التي مرّت بالتفصيل. حيث إنّ الدين و السياسة في الشريعة الإسلامية متلازمان. فالمتصدي لإدارة شئونهما يجب أن يكون شخصا واحدا جامعا لصفات الإفتاء و القضاء و الولاية، و إن توقفت إدارة كلّ منها على الاستعانة بالآخرين.

و يشهد لذلك مجموع الآيات و الروايات التي مرّت منّا في الفصل الأوّل من هذا الباب، حيث ذكر فيها جهات الدين و السياسة توأما.

و يدلّ عليه أيضا ما مرّ من قوله «ص»: «اللّهم ارحم خلفائي.» ثلاث مرّات فقيل له: «يا رسول اللّه، و من خلفاؤك؟» قال: «الذين يأتون من بعدي و يروون عنّي أحاديثي و سنّتي، فيعلّمونها الناس من بعدي.» «1»

حيث إنّ المتبادر من خلفائه خلفاؤه في جميع شئونه العامّة، فتشمل الثلاثة.

و كذا قوله «ع» في التوقيع الذي مرّ: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، و أنا حجة اللّه عليهم.» «2»

إذ المراد بالحوادث، الأمور الحادثة للمسلمين في كلّ عصر و زمان إذا أشكل عليهم تشخيص هويّتها أو الأحكام المنطبقة عليها.

فيعلم بذلك أنّ المرجع للعلم بالكليات المأثورة و للعلم بالحوادث الواقعة شخص واحد. فصاحب العصر- عجل اللّه فرجه- جعل الفقيه المبتني فقهه على روايات أهل البيت مرجعا لكلا الأمرين من الإفتاء و الولاية.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 66، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 53.

(2)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9. و اعتمد في النقل على كمال الدين/ 484.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة

الإسلامية، ج 2، ص: 108

و كذلك ما مرّ في كلام سيد الشهداء «ع» من قوله: «ذلك بأنّ مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه الأمناء على حلاله و حرامه.» «1» فجعل منصب الولاية لمن له حقّ الإفتاء.

و هكذا مقبولة عمر بن حنظلة «2». إذ منصب القضاء أو الولاية المجعولة فيها يلازم دائما الإفتاء أيضا.

و بالجملة، المناصب الثلاثة متلازمة، و كلّها مجعولة لشخص واحد، فيكون منصب الإفتاء أيضا مجعولا تعبّديّا. و لا محالة يشترط في المفتي شروط خاصّة أيضا ذكروها في محلّها.

و بالجملة مرجعيّة الفتوى ليست إلّا تداوم مقام الولاية و الإمامة، و لأجل ذلك أجمع فقهاؤنا على عدم جواز تقليد الميت. هذا.

و لكن قد مرّ منّا الإشكال في انحصار طريق الإمامة في النصب، و في دلالة الأدلّة عليه ثبوتا و إثباتا. و لعلّ الشارع المقدّس أحال تعيين الوالي في عصر الغيبة إلى انتخاب الأمّة مع رعاية الشرائط المعتبرة، و أمر الإفتاء إلى ما استقرّت عليه السيرة كما مرّ بيانها، فتدبّر.

و حيث إنّ الوالي المنتخب يراعى فيه الشروط الثمانية التي مرّت و منها الفقاهة بل الأعلميّة مع الإمكان فلا محالة مع كون الأعلم واجدا لسائر الشرائط يتعيّن انتخابه للولاية، فتجتمع المناصب الثلاثة لواحد قهرا. و هو الأنسب لمصالح الإسلام و المسلمين، حيث إنّ المقصود جمع أمر المسلمين و توحيد كلمتهم، و لا يحصل ذلك إلّا بوحدة الإمام و القائد.

______________________________

(1)- تحف العقول/ 238.

(2)- الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 109

و لكن اللازم هو أن يستعين الإمام في كلّ شأن من الشؤون الثلاثة بأهل الخبرة فيه.

ففي الإفتاء أيضا يلزم أن يدعو جماعة

من أهل الفتوى و النظر و يعقد شورى فتوى يرجع إليها في المسائل المعضلة، فلا يفتي فيها إلّا بعد تلاقح الأفكار و استماع الأنظار المختلفة، إذ ربّما هلك من استبدّ برأيه.

بل ربّما يتوقّف الإفتاء في بعض المسائل السياسية أو الاقتصاديّة أو العسكريّة المستحدثة على معرفة خصوصيّات الموضوعات المستحدثة و الإحاطة بأطرافها و نواحيها أيضا، فيجب الاستمداد من المتخصصين فيها؛ فلربّما يؤثّر ذلك في معرفة الحكم الشرعي المنطبق عليها، فتدبّر.

و قد طال البحث في هذه المسألة فأعتذر من القرّاء الكرام.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 110

الثانية من السلطات الثلاث: السلطة التنفيذية و فيها جهات من البحث:

1- المراد منها و الحاجة اليها و مراتبها:

المراد بهذه السلطة هم الوزراء و الأمراء و المدراء و العمّال و الضبّاط و الكتّاب في الشؤون المختلفة و الدوائر المتفرقة في البلاد و النواحي. و أهمّها و أعلى مراتبها في أعصارنا هي الوزارة. و ليس اسم الوزارة أمرا مستحدثا بعد النبي «ص» كما توهّم.

1- فقد ترى أنّ موسى «ع» استدعى من ربّه وزارة أخيه و قال على ما في القرآن الكريم: «وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هٰارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.» «1»

2- و قال- تعالى-: «وَ لَقَدْ آتَيْنٰا مُوسَى الْكِتٰابَ وَ جَعَلْنٰا مَعَهُ أَخٰاهُ هٰارُونَ وَزِيراً.» «2»

3- و عن أمير المؤمنين أنّ النبي «ص» قال مخاطبا لعشيرته في قصّة دعوته لهم: «فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟» فقال أمير المؤمنين «ع» قلت: «أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه.» قال: فأخذ برقبتي ثمّ قال: «إنّ هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و أطيعوا.» «3»

______________________________

(1)- سورة طه (20)، الآيات 29- 32.

(2)- سورة الفرقان (25)، الآية 35.

(3)- تاريخ الطبري 3/

1172؛ و الكامل لابن الأثير 2/ 63؛ و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13/ 211.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 111

4- و في أواخر الخطبة القاصعة من نهج البلاغة أنّ النبيّ «ص» قال لعليّ «ع»: «انّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى، إلّا أنّك لست بنبيّ و لكنّك وزير.» «1»

5- و في مسند أحمد بسنده عن علي «ع»، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «ليس من نبيّ كان قبلي إلّا قد أعطي سبعة نقباء وزراء نجباء. و إنّي أعطيت أربعة عشر وزيرا نقيبا نجيبا:

سبعة من قريش، و سبعة من المهاجرين.» «2»

6- و فيه أيضا بسنده عن علي «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إنّه لم يكن قبلي نبيّ إلّا قد أعطي سبعة رفقاء نجباء وزراء، و إنّي أعطيت أربعة عشر: حمزة و جعفر و عليّ و حسن و حسين و أبو بكر و عمر و المقداد و عبد اللّه بن مسعود و أبو ذر و حذيفة و سلمان و عمّار و بلال.» «3»

7- و فيه أيضا عن عائشة قالت: قال رسول اللّه «ص»: «من ولّاه اللّه- عزّ و جلّ- من أمر المسلمين شيئا فأراد به خيرا جعل له وزير صدق، فإن نسي ذكّره، و إن ذكر أعانه.» «4»

8- و في سنن أبي داود بسنده عن عائشة قالت: قال رسول اللّه «ص»: «إذا أراد اللّه بالأمير خيرا جعل له وزير صدق، إن نسي ذكّره، و إن ذكر أعانه. و إذا أراد اللّه به غير ذلك جعل له وزير سوء، إن نسي لم يذكّره، و إن ذكر لم يعنه.» «5»

9- و في البحار عن اعلام الدين، قال النبيّ «ص»: «ما

من أحد ولّى شيئا من أمور المسلمين فأراد اللّه به خيرا إلّا جعل اللّه له وزيرا صالحا، إن نسي ذكّره، و إن ذكر أعانه، و إن همّ بشرّ كفّه و زجره.» «6»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 812؛ عبده 2/ 183؛ لح/ 301، الخطبة 192.

(2)- مسند أحمد 1/ 88.

(3)- مسند أحمد 1/ 148.

(4)- مسند أحمد 6/ 70.

(5)- سنن أبي داود 2/ 118، كتاب الخراج، باب في اتخاذ الوزير.

(6)- بحار الأنوار 72/ 359 (طبعه ايران 75/ 359)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك و الأمراء) الحديث 75.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 112

10- و فيه أيضا عن أمالي الصدوق بسنده، عن المفضل، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إذا أراد اللّه- عزّ و جلّ- برعيّة خيرا جعل لها سلطانا رحيما، و قيّض له وزيرا عادلا.» «1»

11- و في مسند أحمد بسنده، عن أبي هريرة، عن النبيّ «ص»، قال: «ويل للوزراء! ليتمنى أقوام يوم القيامة أنّ ذوائبهم كانت معلّقة بالثريّا يتذبذبون بين السماء و الأرض و إنّهم لم يلوا عملا.» «2» إلى غير ذلك من الأخبار.

فما في مقدمة ابن خلدون:

«كان رسول اللّه «ص» يشاور أصحابه و يفاوضهم في مهمّاته العامّة و الخاصّة ...

و لم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين، لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام.» «3»

واضح الفساد. هذا.

و روى الشيخ عبد الحي الكتّاني عن القاضي أبي بكر بن العربي في أحكام القرآن أنّ:

«الوزارة عبارة عن رجل موثوق به في دينه و عقله يشاوره الخليفة فيما يعنّ له من الأمور.» «4»

و ذكر الماوردي في الأحكام السلطانية في اشتقاق اسم الوزارة ثلاثة أوجه:

«احدها: أنّه مأخوذ من الوزر و هو الثقل، لأنّه يحمل عن الملك أثقاله.

الثّاني:

أنّه مأخوذ من الوزر و هو الملجأ، و منه قوله- تعالى-: «كَلّٰا لٰا وَزَرَ». «5» أي لا ملجأ. فسمّي بذلك لأنّ الملك يلجأ إلى رأيه و معونته.

و الثالث: أنّه مأخوذ من الأزر و هو الظهر، لأنّ الملك يقوى بوزيره، كقوة البدن بالظهر.» «6»

______________________________

(1)- بحار الأنوار 72/ 340 (طبعة ايران 75/ 340)، كتاب العشرة، الباب 81، الحديث 19.

(2)- مسند أحمد 2/ 521.

(3)- المقدمة لابن خلدون/ 166، الفصل 35 (طبعة أخرى/ 237، الفصل 34) من الفصل 3 من الكتاب الأول.

(4)- التراتيب الإدارية 1/ 17.

(5)- سورة القيامة (75)، الآية 11.

(6)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 24.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 113

و كيف كان فمهمّة السلطة التنفيذيّة بمراتبها من الوزارة و غيرها تنفيذ القوانين و التصميمات المتّخذة من قبل السلطة التشريعيّة في شتّى مسائل الحياة.

و الاحتياج إليها واضح، فإنّ القانون مهما كان صالحا راقيا فهو بنفسه لا يكفي في إصلاح شئون المجتمع و رفع حاجاته العامّة ما لم يكن هنا مسئول يلتزم بإجرائه و تنفيذه. و لا يمكن أن يفوّض تنفيذ التكاليف العامّة المتعلقة بالمجتمع، مثل نظم البلاد و إيجاد الأمن فيها و الدفاع عنها و إجراء الحدود و التعزيرات و نحو ذلك، إلى عامّة المجتمع. فإنّه يوجب إهمال كثير من الأمور و الفوضى و الاختلاف، فلا بدّ من أن يفوّض كلّ قسمة منها إلى مسئول خاصّ يكون متخصّصا فيها و يصير ملتزما بإجرائها.

و لا تتحدّد السلطة التنفيذية بشكل خاصّ أو عدد خاصّ أو مرتبة خاصّة. بل كلّما اتسع نطاق الملك و حيطته و تشعبت مسائل الحياة و احتياجاتها تشعّبت الدوائر و كثر العمّال قهرا.

نعم، تجب رعاية القصد فيها و الاحتراز عن الإفراط و التفريط.

فإنّ كثرة العمّال و الموظّفين توجب كثرة الدوائر و تفرّقها و تضييع أوقات المراجعين و وضع ضرائب كثيرة على عاتق المجتمع. و كلّ ذلك خسارة.

و قد كانت الحكومة في عصر النبي «ص» في غاية السذاجة و البساطة، فكان هو «ص» بنفسه يتولّى قسما كبيرا من الشؤون السياسيّة و القضائيّة و الاقتصاديّة و العسكرية. نعم، كان يفوّض بعض التكاليف و المسؤوليّات أيضا إلى الأفراد الصالحين للقيام بها حسب الضرورة و الحاجة، فكان يعيّن الولاة على البلاد، و الجباة على الصدقات، و الأمراء للسرايا و في بعض الغزوات و يرسم لهم تكاليفهم و منهجهم كما ضبطها التواريخ.

و كذلك نشاهد السذاجة فيما بعده و في خلافة أمير المؤمنين «ع» أيضا مع سعة نطاق الملك و كثرة البلاد. فالمهمّ هو إنجاح الطلبات و رفع الحاجات و العمل بالتكاليف بأسهل الطرق و في أسرع الأوقات و الأزمان بأقلّ المؤونات.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 114

و بذلك يستقرّ الملك و يكتسب رضا الأمّة الذي يكون ضمانة لبقاء الدولة و الأمن.

قال أمير المؤمنين على ما في نهج البلاغة في كتابه للأشتر النخعي: «و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعيّة، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصّة، و إنّ سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامة.» «1»

2- مصدر السلطة التنفيذية:

لا يخفى أنّ الوزراء و العمّال بأصنافهم و مراتبهم إمّا أن ينتخبوا من قبل الامام و الوالي الأعظم، أو من قبل مجلس الشورى، أو من قبل الأمّة مباشرة، أو بالتبعيض فينتخب بعض المراتب من قبل الأمّة بالمباشرة و بعضها من قبل الوالي أو المجلس، كما هو المتعارف في بعض البلاد. و لا محالة ينتهي

جميع ذلك إلى انتخاب الأمّة قهرا إذا فرض كون انتخاب الوالي و كذا المجلس من قبلها.

و قد عرفت في الفصل الثالث أنّ المكلّف و المسؤول في الحكومة الإسلاميّة أوّلا و بالذات هو الإمام و الوالي، و أنّ السلطات الثلاث أياديه و أعضاده.

و على هذا فطبع الموضوع يقتضي أن يكون انتخاب هذه السلطة أيضا بيده لينتخب من يراه مساعدا له في تكاليفه مسانخا له في فكره و سليقته، اللّهم إلّا أن يشترط عليه أمر آخر.

و المتعارف في بلادنا ترشيح الوزراء من قبل الوالي أو رئيس الجمهوريّة المنتخب و عرضهم على المجلس للتعيين و يكون للمجلس الردّ و القبول. و يكون انتخاب سائر العمّال من شئون الوزراء على حسب أعمالهم و مسئوليّاتهم. و لا ضير في ذلك بعد تشريعه في مجلس الخبراء و رعاية الشرائط المعتبرة عقلا و شرعا.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 996؛ عبده 3/ 95؛ لح/ 429، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 115

3- مواصفات الوزراء و العمّال و الأمراء بمراتبهم:
[شروط في الولاة و الوزراء و العمّال]

لا يخفى أنّ أكثر المشاكل التي تعانيها أنظمة الحكم في العالم ترجع إلى سوء انتخاب الوزراء و الأمراء و العمّال قصورا أو تقصيرا، و إلى فساد المسؤولين أو عدم كفايتهم، فيوجب ذلك تشتت الأمور و عدم انسجام الملك و بغضاء الأمّة المنتهية إلى ثورتها أحيانا.

و العقل و الشرع يحكمان باعتبار شروط و مواصفات في الولاة و الوزراء و العمّال تجب رعايتها و إعمال الدقّة في تحقيقها، و يكون إهمالها خيانة بالإسلام و الأمّة.

و عمدتها العقل الوافي و الإيمان و التخصص و التجربة و القدرة على التصميم و العمل و الوثاقة و الأمانة و أن لا يكون من أهل الحرص و الطمع.

و قسّم الماوردي الوزارة على قسمين:

«وزارة

تفويض، و وزارة تنفيذ. فأمّا وزارة التفويض فهو أن يستوزر الإمام من يفوّض إليه تدبير الأمور برأيه و إمضائها على اجتهاده.»

قال:

«و يعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلّا النسب وحده، لأنّه ممضى الآراء و منفّذ الاجتهاد، فاقتضى أن يكون على صفات المجتهدين.»

و قال في وزارة التنفيذ إنّه

«يراعى فيه سبعة أوصاف:

أحدها: الأمانة، حتى لا يخون فيما قد اؤتمن عليه و لا يغشّ فيما قد استنصح فيه.

و الثاني: صدق اللهجة، حتّى يوثق بخبره فيما يؤدّيه و يعمل على قوله فيما ينهيه.

و الثالث: قلّة الطمع، حتّى لا يرتشي فيمايل و لا ينخدع فيتساهل.

و الرابع: أن يسلم فيما بينه و بين الناس من عداوة و شحناء، فإنّ العداوة تصدّ عن التناصف و تمنع من التعاطف.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 116

و الخامس: أن يكون ذكورا لما يؤديه إلى الخليفة و عنه، لأنه شاهد له و عليه.

و السادس: الذكاء و الفطنة، حتى لا تدلّس عليه الأمور فتشتبه و لا تموّه عليه فتلتبس، فلا يصح مع اشتباهها عزم و لا يصلح مع التباسها حزم ...

و السابع: أن لا يكون من أهل الأهواء فيخرجه الهوى من الحقّ إلى الباطل و يتدلّس عليه المحق من المبطل، فإنّ الهوى خادع الألباب و صارف له عن الصواب، و لذلك قال النبي «ص»: «حبّك الشي ء يعمي و يصمّ.» ...

فإن كان هذا الوزير مشاركا في الرأي احتاج إلى وصف ثامن، و هو الحنكة و التجربة التي تؤدّيه إلى صحّة الرأي و صواب التدبير، فإن في التجارب خبرة بعواقب الأمور.» «1»

و ذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء أيضا «2». هذا.

[الولاة في الآيات]

و قد مرّ ذكر الشروط الثمانية المعتبرة في الولاة،

و بيان حكم العقل، و الآيات و الروايات الدالّة على اعتبارها في الباب الرابع. و لعلّه يستفاد من كثير منها أدلّة المقام أيضا، فلنذكر بعضها هنا مضافا إلى ما ورد في خصوص الوزراء و الأمراء:

1- قال اللّه- تعالى-: «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «3»

2- و قال: «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «4»

و الوزراء و الأمراء و العمّال يراد إطاعتهم في نطاق عملهم، فلا يجوز أن ينتخبوا من المسرفين المفسدين.

3- و قال: «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟» «5»

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 22 و 26 و 27.

(2)- الأحكام السلطانيّة لأبي يعلى/ 29، 31.

(3)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(4)- سورة الشعراء (26)، الآية 151- 152.

(5)- سورة القلم (68)، الآية 35- 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 117

4- و قال: «أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً، لٰا يَسْتَوُونَ.» «1»

5- و قال: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ؟ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.» «2»

6- و قال: «وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً». «3»

7- و قال حكاية عن يوسف النبيّ «ص»: «اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ». «4»

8- و قال حكاية عن بنت شعيب النبي «ص»: «قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.» «5»

[الولاة في الروايات]

9- و قد مرّ في صحيحة العيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه «ع»: «انظروا لأنفسكم، فو اللّه إنّ الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجي ء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان

فيها.» «6»

10- و في أصول الكافي عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح.» «7»

11- و فيه أيضا عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول:

«العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق؛ لا يزيده سرعة السير إلّا بعدا.» «8»

______________________________

(1)- سورة السجدة (32)، الآية 18.

(2)- سورة الزمر (39)، الآية 9.

(3)- سورة النساء (4)، الآية 5.

(4)- سورة يوسف (12)، الآية 55.

(5)- سورة القصص (28)، الآية 26.

(6)- الوسائل 11/ 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(7)- أصول الكافي 1/ 44، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 3.

(8)- الكافي 1/ 43، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 118

12- و فيه أيضا عن مفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس.» «1»

[الولاة في كلام أمير المؤمنين في عهده إلى الأشتر]

13- و في نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك الأشتر: «إنّ شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة فإنّهم أعوان الأثمة و إخوان الظلمة. و أنت واجد منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم و نفاذهم، و ليس عليه مثل آصارهم و أوزارهم ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. أولئك أخفّ عليك مئونة و أحسن لك معونة ...

و لا يكوننّ المحسن و المسي ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه ...

فولّ من جنودك أنصحهم

في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا، و أفضلهم حلما، ممّن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء و ينبو على الأقوياء، و ممّن لا يثيره العنف و لا يقعد به الضعف. ثمّ الصق بذوي (المروءات) الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة، ثمّ أهل النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة، فانّهم جماع من الكرم و شعب من العرف ...

ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختبارا و لا تولّهم محاباة و أثرة، فإنّهم (فإنّهما خ. ل) جماع من شعب الجور و الخيانة. و توخّ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدّمة، فإنّهم أكرم أخلاقا و أصحّ أعراضا و أقلّ في المطامع إشرافا و أبلغ في عواقب الأمور نظرا. ثمّ أسبغ عليهم الأرزاق، فإنّ ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم، و غنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم و حجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا أمانتك ...

ثمّ انظر في حال كتّابك، فولّ على أمورك خيرهم، و اخصص رسائلك الّتي تدخل فيها مكائدك و أسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق، ممّن لا تبطره الكرامة فيجترئ بها عليك في خلاف لك بحضرة ملأ و لا تقصر به الغفلة عن إيراد مكاتبات عمّا لك عليك و إصدار جواباتها على

______________________________

(1)- الكافي 1/ 26، كتاب العقل و الجهل، الحديث 29.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 119

الصواب عنك ...

ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك و استنامتك و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنعهم و حسن خدمتهم، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي ء، و لكن

اختبرهم بما ولّوا للصالحين قبلك، فاعمد لأحسنهم كان في العامّة أثرا و أعرفهم بالأمانة وجها، فإنّ ذلك دليل على نصيحتك للّه و لمن ولّيت أمره.» «1»

14- و في نهج البلاغة أيضا: «لا يقيم أمر اللّه سبحانه إلّا من لا يصانع و لا يضارع و لا يتبع المطامع.» «2»

15- و فيه أيضا: «آلة الرئاسة سعة الصدر.» «3»

[الولاة في كلمات أمير المؤمنين القصار]

و في الغرر و الدرر للآمدي الجامع لكلمات أمير المؤمنين «ع» كلمات كثيرة يستفاد منها مواصفات الحكّام و الوزراء و الأمراء و العمّال، و ما ينبغي أن يكونوا عليها نذكر بعضا من ذلك:

16- كقوله: «العدل نظام الإمرة.» «4»

17- و قوله: «الإنصاف زين الإمرة.» «5»

18- و قوله: «آفة الوزراء خبث السريرة.» «6»

19- و قوله: «آفة الزعماء ضعف السياسة.» «7»

20- و قوله: «آفة العمران جور السلطان.» «8»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 999؛ عبده 3/ 97؛ لح/ 430، الكتاب 53.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1137؛ عبده 3/ 176؛ لح/ 488، الحكمة 110.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1169؛ عبده 3/ 194؛ لح/ 501، الحكمة 176.

(4)- الغرر و الدرر 1/ 198، الحديث 773.

(5)- الغرر و الدرر 1/ 230، الحديث 923.

(6)- الغرر و الدرر 3/ 102، الحديث 3929.

(7)- الغرر و الدرر 3/ 103، الحديث 3931.

(8)- الغرر و الدرر 3/ 109، الحديث 3954.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 120

21- و قوله: «إذا ملك الأراذل هلك الأفاضل.» «1»

22- و قوله: «إذا استولى اللئام اضطهد الكرام.» «2»

23- و قوله: «تولّى الأراذل و الأحداث الدول دليل انحلالها و إدبارها.» «3»

24- و قوله: «حسن السياسة قوام الرعيّة.» «4»

25- و قوله: «حسن السياسة يستديم الرئاسة.» «5»

26- و قوله: «حسن التدبير و تجنّب التبذير من حسن السياسة.» «6»

27- و قوله:

«حسن العدل نظام البريّة.» «7»

28- و قوله: «خير السياسات العدل.» «8»

29- و قوله: «دولة العادل من الواجبات.» «9»

30- و قوله: «خور «10» السلطان أشدّ على الرعيّة من جور السلطان.» «11»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 3/ 129، الحديث 4033.

(2)- الغرر و الدرر 3/ 129، الحديث 4035.

(3)- الغرر و الدرر 3/ 295، الحديث 4523.

(4)- الغرر و الدرر 3/ 384، الحديث 4818.

(5)- الغرر و الدرر 3/ 385، الحديث 4820.

(6)- الغرر و الدرر 3/ 385، الحديث 4821.

(7)- الغرر و الدرر 3/ 385، الحديث 4819.

(8)- الغرر و الدرر 3/ 420، الحديث 4948.

(9)- الغرر و الدرر 4/ 10، الحديث 5110.

(10)- «الخور» بفتحتين: الضعف.

(11)- الغرر و الدرر 3/ 442، الحديث 5047.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 121

31- و قوله: «دولة اللئام مذلّة الكرام.» «1»

32- و قوله: «دول الفجّار مذلّة الأبرار.» «2»

33- و قوله: «دول اللئام من نوائب الأيّام.» «3»

34- و قوله: «دولة الأوغاد مبنيّة على الجور و الفساد.» «4»

35- و قوله: «زوال الدول باصطناع السفل.» «5»

36- و قوله: «شرّ الناس من يظلم الناس.» «6»

37- و قوله: «شرّ الملوك من خالف العدل.» «7»

38- و قوله: «شرّ الولاة من يخافه البري ء.» «8»

39- و قوله: «شرّ الوزراء من كان للأشرار وزيرا.» «9»

40- و قوله: «شرّ الأمراء من كان الهوى عليه أميرا.» «10»

41- و قوله: «شرّ الأمراء من ظلم رعيّته.» «11»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 4/ 10، الحديث 5113.

(2)- الغرر و الدرر 4/ 11، الحديث 5115.

(3)- الغرر و الدرر 4/ 11، الحديث 5116.

(4)- الغرر و الدرر 4/ 11، الحديث 5118.

(5)- الغرر و الدرر 4/ 112، الحديث 5486.

(6)- الغرر و الدرر 4/ 164، الحديث 5676.

(7)- الغرر و الدرر 4/ 165، الحديث 5681.

(8)- الغرر و

الدرر 4/ 166، الحديث 5687.

(9)- الغرر و الدرر 4/ 167، الحديث 5692.

(10)- الغرر و الدرر 4/ 167، الحديث 5693.

(11)- الغرر و الدرر 4/ 172، الحديث 5717.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 122

42- و قوله: «فقدان الرؤساء أهون من رئاسة السفل.» «1»

43- و قوله: «كيف يعدل في غيره من يظلم نفسه.» «2»

44- و قوله: «من حسنت سياسته وجبت طاعته.» «3»

45- و قوله: «من أحسن الكفاية استحقّ الولاية.» «4»

46- و قوله: «من لم يصلح نفسه لم يصلح غيره.» «5»

47- و قوله: «وزراء السوء أعوان الظلمة و إخوان الأثمة.» «6»

48- و قوله: «ولاة الجور شرار الأمّة و أضداد الأئمّة.» «7»

49- و قوله: «لا يكون عمران حيث يجور السلطان.» «8»

50- و قوله: «ليكن أحبّ الناس إليك و أحظاهم لديك أكثرهم سعيا في منافع الناس.» «9»

51- و قوله: «ليكن أحظى الناس منك أحوطهم على الضعفاء و أعملهم بالحقّ.» «10»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 4/ 424، الحديث 6569.

(2)- الغرر و الدرر 4/ 564، الحديث 6996.

(3)- الغرر و الدرر 5/ 211، الحديث 8025.

(4)- الغرر و الدرر 5/ 349، الحديث 8692.

(5)- الغرر و الدرر 5/ 415، الحديث 8990.

(6)- الغرر و الدرر 6/ 239، الحديث 10121.

(7)- الغرر و الدرر 6/ 239، الحديث 10122.

(8)- الغرر و الدرر 6/ 404، الحديث 10791.

(9)- الغرر و الدرر 5/ 49، الحديث 7377.

(10)- الغرر و الدرر 5/ 50، الحديث 7383.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 123

52- و قوله: «ليكن أخطى الناس عندك أعملهم بالرفق.» «1»

53- و قوله: «ليكن أبغض الناس إليك و أبعدهم منك أطلبهم لمعايب الناس.» «2»

54- و فيما رواه ابن أبي الحديد في آخر شرحه من الحكم المنسوبة إلى

أمير المؤمنين «ع» قوله: «لا تقبلنّ في استعمال عمّالك و أمرائك شفاعة إلّا شفاعة الكفاية و الأمانة» «3»

55- و قوله: «من علامات المأمون على دين اللّه بعد الإقرار و العمل، الحزم في أمره و الصدق في قوله، و العدل في حكمه، و الشفقة على رعيّته، لا تخرجه القدرة إلى خرق، و لا اللين إلى ضعف، و لا تمنعه العزّة من كرم عفو، و لا يدعوه العفو إلى إضاعة حقّ، و لا يدخله الإعطاء في سرف، و لا يتخطّى به القصد إلى بخل، و لا تأخذه نعم اللّه ببطر.» «4»

أقول: الخرق بالضم: ضد الرفق. و القصد: الاعتدال بين الإفراط و التفريط.

56- و في دعائم الإسلام عن عليّ «ع»: أنّه كتب إلى رفاعة قاضيه على الأهواز: «اعلم يا رفاعة، إنّ هذه الإمارة أمانة، فمن جعلها خيانة فعليه لعنة اللّه إلى يوم القيامة، و من استعمل خائنا فإنّ محمدا «ص» بري ء منه في الدنيا و الآخرة.» «5»

[الولاة في كلام النبيّ ص و سائر الأئمة]

57- و في البحار عن الغوالي، عن النبي «ص»: «أصلح وزيرك، فإنّه الذي يقودك إلى الجنّة و النار.» «6»

58- و فيه أيضا عن رسالة الغيبة للشهيد الثاني بسنده إلى الإمام الصادق «ع»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 5/ 49، الحديث 7375.

(2)- الغرر و الدرر 5/ 50، الحديث 7378.

(3)- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 20/ 276 (الحديث 184).

(4)- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 20/ 255 (الحديث 6).

(5)- دعائم الإسلام 2/ 531، كتاب آداب القضاة، الحديث 1890.

(6)- بحار الأنوار 74/ 165 (طبعة ايران 77/ 165)، كتاب الرّوضة، الباب 7 (باب ما جمع من مفردات كلماته «ص»).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 124

في رسالته إلى النجاشي والي الأهواز:

«فأمّا من تأنس به و تستريح إليه و تلجئ أمورك إليه فذلك الرجل الممتحن المستبصر الأمين الموافق لك على دينك، و ميّز عوامّك و جرّب الفريقين، فإن رأيت هنالك رشدا فشأنك و إيّاه.» «1»

59- و فيه أيضا عن الخصال بسنده عن أبي عبد اللّه «ع»: «لا يطمعنّ ذو الكبر في الثناء الحسن ... و لا المعاقب على الذنب الصغير في السؤدد، و لا القليل التجربة المعجب برأيه في رئاسة.» «2»

60- و في تحف العقول عن الإمام الصادق «ع»: «و ليس يحبّ للملوك أن يفرّطوا في ثلاث: في حفظ الثغور، و تفقّد المظالم، و اختيار الصالحين لأعمالهم.» «3»

61- و في البحار عن أمالي الطوسي بسنده، عن أبي ذرّ أنّ النبي «ص» قال:

«يا با ذرّ، إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، إنّي أراك ضعيفا، فلا تأمرنّ على اثنين و لا تولّين مال يتيم.» «4»

62- و في صحيح مسلم بسنده، عن أبي ذرّ أنّ رسول اللّه «ص» قال: «يا أبا ذرّ، إنّي أراك ضعيفا، و إنّي أحبّ لك ما أحبّ لنفسي، لا تأمرنّ على اثنين و لا تولّين مال يتيم.» «5»

63- و فيه أيضا بسنده، عن أبي ذرّ، قال: قلت: يا رسول اللّه، أ لا تستعملني؟

قال: فضرب بيده على منكبي، ثمّ قال: «يا با ذرّ، إنّك ضعيف و إنّها أمانة و إنّها يوم القيامة خزي و ندامة إلّا من أخذها بحقّها و أدّى الذي عليه فيها.» «6»

______________________________

(1)- بحار الأنوار 72/ 361 (طبعة ايران 75/ 361)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك و الأمراء)، الحديث 77.

(2)- بحار الأنوار 72/ 67 (طبعة ايران 75/ 67)، كتاب العشرة، الباب 44 (باب الأدب و من عرف قدره)، الحديث 4.

(3)- تحف العقول/

319.

(4)- بحار الأنوار 22/ 406، تاريخ نبيّنا، الباب 12 (باب كيفية إسلام أبي ذر)، الحديث 20، و ج 72/ 342 (طبعة إيران 75/ 342)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك و الأمراء)، الحديث 27.

(5)- صحيح مسلم 3/ 1458، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، الحديث 1826.

(6)- صحيح مسلم 3/ 1457، كتاب الإمارة باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، الحديث 1825.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 125

64- و فيه أيضا بسنده عن أبي موسى، قال: دخلت على النبي «ص» أنا و رجلان من بني عمّي فقال أحد الرجلين: يا رسول اللّه، أمّرنا على بعض ما ولّاك اللّه- عزّ و جلّ-. و قال الآخر مثل ذلك، فقال «ص»: «إنّا و اللّه لا نولّي على هذا العمل أحدا سأله و لا أحدا حرص عليه.» «1»

65- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس، عن رسول اللّه «ص»: «من استعمل عاملا من المسلمين و هو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه و أعلم بكتاب اللّه و سنّة نبيه فقد خان اللّه و رسوله و جميع المسلمين.» «2»

66- و في كنز العمّال، عن حذيفة: «أيّما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أنّ في العشرة أفضل ممّن استعمل فقد غشّ اللّه و غشّ رسوله و غشّ جماعة المسلمين.» «3»

67- و فيه أيضا، عن ابن عباس: «من استعمل رجلا من عصابة و فيهم من هو أرضى للّه منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين.» «4»

68- و فيه أيضا، عن واثلة: «على الوالي خمس خصال: جمع الفي ء من حقّه و وضعه في حقّه، و أن يستعين على أمورهم بخير من يعلم، و لا يجمّرهم فيهلكهم،

و لا يؤخر أمرهم لغد.» «5»

69- و فيه أيضا عن أبي هريرة: «يكون في آخر الزمان أمراء ظلمة، و وزراء فسقة، و قضاة خونة، و فقهاء كذبة. فمن أدركهم فلا يكوننّ لهم عريفا و لا جابيا و لا خازنا و لا شرطيا.» «6»

إلى غير ذلك من الآيات و الروايات الكثيرة التي يستفاد منها و لو بالالتزام مواصفات الحكّام و الوزراء و الأمراء و العمّال و أنّه يجب على المسؤولين رعايتها في

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1456، كتاب الإمارة باب النهي عن طلب الإمارة و الحرص عليها.

(2)- سنن البيهقي 10/ 118، كتاب آداب القاضي، باب لا يولي الوالي امرأة و لا فاسقا و لا جاهلا أمر القضاء.

(3)- كنز العمال 6/ 19، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14653.

(4)- كنز العمال 6/ 25، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14687.

(5)- كنز العمال 6/ 47، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14789.

(6)- كنز العمال 6/ 77، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14909.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 126

انتخابهم. و مع ذلك كلّه فقد غفل الأكثر في البلاد الإسلاميّة عن ذلك، و كم قد وردت و ترد من قبل ذلك خسارات على الأمّة، فتدبّر. هذا.

و في منهاج البراعة:

«قد قيل لحكيم: ما بال انقراض دولة آل ساسان؟ قال: لأنّهم استعملوا أصاغر العمّال على أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، و استعملوا أعاظم العمّال على أصاغر الأعمال فلم يعتنوا عليها، فعاد وفاقهم الى الشتات و نظامهم الى البتات.» «1»

و نذكر في الخاتمة أمرين مناسبين للبحث:
الأوّل: في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة قال:

«استكتب أبو موسى الأشعري نصرانيا. فكتب

إليه عمر: اعزله و استعمل بدله حنيفيّا. فكتب له أبو موسى إنّ من غنائه و خيره و خبرته كيت و كيت. فكتب له عمر: ليس لنا أن نأتمنهم و قد خوّنهم اللّه، و لا أن نرفعهم و قد وضعهم اللّه، و لا أن نستنصحهم في الدين و قد وترهم الإسلام، و لا أن نعزّهم و قد أمرنا بأن يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون. فكتب أبو موسى: إنّ البلد لا يصلح إلّا به. فكتب اليه عمر: مات النصراني. و السلام.» «2»

أقول: فعلى شيعة الخليفة الثاني في البلاد الإسلامية أن يعتبروا بذلك و يقلّلوا من تسليطهم اليهود و النصارى على أراضي المسلمين و بلادهم و سياستهم و اقتصادهم و ثقافتهم، و ان يستحيوا من اللّه- تعالى- و من أولياء اللّه و من أممهم و يرجعوا إلى قداستهم الإسلامية. و لا يقبل اللّه قطّ اعتذارهم بالخشية من أن تصيبهم دائرة من قبل ذلك، فتدبّر.

______________________________

(1)- منهاج البراعة 11/ 144.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 127

الثاني: قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«حكي أنّ المأمون كتب في اختيار وزير: إنّي التمست لأموري رجلا جامعا لخصال الخير ذا عفّة في خلائقه و استقامة في طرائقه قد هذّبته الآداب و أحكمته التجارب، إن اؤتمن على الأسرار قام بها. و إن قلّد مهمّات الأمور نهض فيها، يسكته الحلم و ينطقه العلم و تكفيه اللحظة و تغنيه اللمحة. له صولة الأمراء و أناة الحكماء و تواضع العلماء و فهم الفقهاء، إن أحسن إليه شكر، و إن ابتلي بالإساءة صبر، لا يبيع نصيب يومه بحرمان غده، يسترقّ قلوب الرجال بخلابة لسانه و حسن بيانه.» «1»

أقول: لو

فرض كون وزراء الحاكم بهذه الصفات التي ذكرها المأمون فمرحبا بهذا الحاكم و طوبى لمن يعيش في ظلّ حكمه.

4- إشارة إلى دوائر من السلطة التنفيذية:

لا يخفى أنّ المقصود بالسلطة التنفيذية هي الدوائر و المؤسسات التي تباشر إجراء الأهداف و التكاليف العامّة التي تكون على عهدة الحاكم سوى أمر القضاء و توابعه الذي لأهميّته يعدّ سلطة مستقلّة، كما سيأتي. و قد مرّ بيان تكاليف الحاكم و واجباته.

و على هذا فوزارة الدفاع و المؤسسات المرتبطة بتعليم الجنود و تمرينهم و إعداد القوى و تقوية الصنائع العسكرية و حفظ الثغور و الأطراف، و دوائر إيجاد الأمن في السبل و في البلاد، و دائرة التعليم و التربية، و إدارة الكلّيات و الجوامع و الحوزات العلميّة الدينيّة، و دائرة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و دائرة الحسبة بشعبها، و الوزارة الخارجيّة و تنظيم العلاقات مع سائر الأمم و البلاد، و الوزارة المالية المتصدية لجمع الفي ء و الخراج و الصدقات و صرفها في مصارفها المقرّرة و نحو ذلك من الأمور العامّة كلّها تكون من شعب سلطة التنفيذ. و نحن لا نبحث في هذا الكتاب إلّا في

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 128

بعض من ذلك، نذكره بعد ذلك في فصول مستقلة. إذ ذكره هنا في هذا الفصل يوجب طول الفصل و ملال القارئ.

5- ذكر بعض من ولّاه النبي «ص» على النواحي:

أخذنا ذلك من كتاب التراتيب الإدارية للشيخ عبد الحيّ الكتاني «1» بنحو التلخيص:

«قال الزرقاني في شرح المواهب: أمراؤه- عليه السلام-: ولاته الذين ولّاهم على البلاد و القضاء و الصدقات. الأمراء الذين وجّههم رسول اللّه «ص» على الجهات كثيرون، منهم أمير مكّة عتّاب بن أسيد.

1- قال ابن جماعة: أمّر رسول اللّه «ص» عتّاب بن أسيد على مكّة و إقامة الموسم و الحج بالمسلمين سنة ثمان. قلت: «قال ابن القيّم في الهدى: و هو دون

العشرين سنة.»

2- و في صبح الأعشى لمّا أسلم بادان نائب كسرى ولّاه النّبيّ «ص» على جميع مخاليف اليمن. و كان منزله بصنعاء مملكة التبابعة. و بقي حتّى مات بعد حجّة الوداع.

3- فولّى النبيّ «ص» ابنه شهر بن بادان على صنعاء. و ولّى على كلّ جهة واحدا من أصحابه.

4- و في ترجمة عبد اللّه بن جحش من الإصابة عن البغوي أنّه أوّل أمير في الإسلام.

5- و ترجم في الإصابة لعامر بن شهر الهمذاني أنّه أحد عمّال النبي «ص» على اليمن.

6- و ترجم فيها أيضا لعبد اللّه بن عمرو بن سبيع الثعلبي، فذكر عن الشعبي: أنّ

______________________________

(1)- التراتيب الإداريّة 1/ 240.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 129

المصطفى «ص» استعمله على بني تغلبة و عبس و بني عبد اللّه بن غطفان.

7- و في ترجمة أبي موسى الأشعري أنّه «ع» استعمله على بعض اليمن، كزبيد و عدن و أعمالهما.

8- و ترجم في الإصابة للحارث بن بلال المارني (المزني) أنّه كان عامل رسول اللّه «ص» على نصف جديلة بني طيّئ.

9- و ترجم للحرث بن نوفل الهاشمي أنّه ولّاه المصطفى «ع» بعض أعمال مكّة.

و عن ابن سعد: صحب الحارث المصطفى «ع» فاستعمله على بعض عمله بمكّة، و أقرّه أبو بكر و عمر و عثمان.

10- و ترجم لحصين بن نيار فقال: كان أحد عمّال النبي «ص».

11- و ترجم للحارث بن عبد المطلب أنّه صحب المصطفى «ع» و استعمله على بعض أعمال مكّة و ولّاه أبو بكر و عثمان. ثم حرّر أنّ الترجمة لحفيده الحارث بن نوفل السابق.

12- و ترجم لرافع بن عمرو الطائي، فذكر أنّ الحاكم خرّج أنّه لمّا كانت غزوة السلاسل استعمل رسول اللّه «ص»

عمرو بن العاص على جيش فيه أبو بكر و عمر.

13- و ترجم فيها لزياد الباهلي، والد الهرماس، فذكر عن الدارقطني عن الهرماس، قال: أتيت رسول اللّه «ص» مع أبي، فولّاه على عشيرته من باهلة.

14- و ترجم للسائب بن عثمان عن ابن إسحاق أنّه استعمله النبيّ «ص» على المدينة في غزوة بواط.

15- و ترجم لسعد الدوسي، قال: أتيت رسول اللّه «ص» فأسلمت، فاستعملني على قومي و جعل لهم ما أسلموا عليه من أموالهم. الحديث.

16- و ترجم أيضا لسعيد بن خفّاف التميمي أنّه كان عاملا للنبيّ «ص» على بطون تميم، و أقرّه أبو بكر.

17- و ترجم لسعد بن عبد اللّه بن ربيعة أنّه «ص» استعمله على الطائف.

18- و ترجم لسلمة بن يزيد الجعفي أنّه «ع» استعمله على مروان و كتب له كتابا.

19- و ترجم لصيفي بن عامر من بني ثعلبة فقال: أمّره النّبيّ «ص» على قومه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 130

20- و ترجم للضحاك بن قيس فقال فيه: عامل النبيّ «ص».

21- و ترجم لامرئ القيس بن الأصبغ الكلبي فقال: كان زعيم قومه، و بعثه النّبيّ «ص» عاملا على كلب في حين إرساله إلى قضاعة.

22- و ترجم للحارث بن بلال المزني فقال: عامل رسول اللّه «ص».

23- و ترجم لعبد الرحمن بن إيزي الخزاعي فنقل عن ابن السكن فقال: استعمله النبيّ «ص» على خراسان.

24- و ترجم عثمان بن أبي العاص فقال: استعمله «ص» على الطائف و أقرّه أبو بكر و عمر.

25- و في عكاشة بن ثور أنّه كان عامل المصطفى «ص» على السكاسك و السكون.

26- و في العلاء بن الحضرمي أنّه «ص» استعمله على البحرين.

27- و في عمرو بن حزم الأنصاري: استعمله «ص»

على نجران، و روى عنه كتابا كتبه له في الفرائض و الزكاة و الديات و غير ذلك. و في أسد الغابة: استعمله «ص» على أهل نجران، و هو ابن سبع عشرة سنة، بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا.

28- و في عمرو بن الحكم القضاعي: أنّه «ص» بعثه عاملا على بني القيس.

29- و في عمرو بن سعيد بن العاص: كان النّبيّ «ص» استعمله على وادي القرى و غيرها و قبض و هو عليها.

30- و في عمرو بن محجوب العامري أنّه كان من عمّال النّبيّ «ص».

31- و في عوف الوركاني: أنّه كان من عمّال رسول اللّه «ص».

32- و في عبد اللّه بن زيد الكندي: أنّه كان عامل المصطفى على اليمن.

33- و في عبد اللّه بن سوار: أنّه من عمّال المصطفى «ص» على البحرين.

34- و في فروة بن مسيك: استعمله المصطفى «ص» على مراد و مذحج و زبيد كلّها.

35- و في مردة بن نفاتة السّلولي: أنّه قدم على النبيّ «ص» في جماعة من بني

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 131

سلول فأسلموا و أمّره عليهم.

36- و ترجم السيوطي في درّ السحابة لأبي جديع المرادي فقال: إنّه كان عاملا للنبيّ «ص» و إنّه كان من أهل مصر.

37- و في ترجمة قضاعة بن عامر الدوسي: أنّه كان عامل النبيّ «ص» على بني أسد.

38- و في الترجمة بعدها أنّه ولّى عليهم أيضا سنان بن أبي سنان.

39- و في ترجمة قيس بن مالك الأرحبى: أنّه لمّا أسلم و أسلم قومه كتب له عهدا على قومه همذان: عربها و مواليها و خلائطها أن يسمعوا له و يطيعوا، و أنّ لهم ذمّة اللّه ما أقاموا الصلاة.

40- و

في مالك بن عوف النصري: استعمله «ص» على من أسلم من قومه و من تلك القبائل من أعماله، فكان يقاتل بهم ثقيف.

41- و في المنذر بن ساوي الدارمي: كان عامل النبيّ «ص» على هجر.

42- و في ترجمة أبي هيضم المزني: دعا رسول اللّه «ص» فقال: اللّهم إنّي مستعمله على هذا الوادي.

43- و في ترجمة سواد بن عزية البلوي الأنصاري: كان عامل رسول اللّه «ص» على خيبر.

44- و في ترجمة عمر بن أبي ربيعة الشاعر: أنّ المصطفى «ص» ولّى والده عبد اللّه بن أبي ربيعة المخزومي الجند (بفتح الجيم و النون: بلد باليمن و مخاليفها).

45- و في السيرة الشاميّة تراجم تضمّنت تأمير النبيّ «ص» خالد بن الوليد على صنعاء و أعمالها.

46- و تاميره للمغافر بن أبي أميّة المخزومي على كندة.

47- و تأميره زياد بن لبيب على حضرموت.

48- و تأميره لأبي موسى الأشعري على زبيد و عدن و ريع الساحل.

49- و معاذ بن جبل على الجند.

50- و أبا سفيان على نجران.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 132

51- و أبا زيد بن سفيان على غيرها.» «1»

6- ذكر بعض من بعثه رسول اللّه «ص» على الصدقات:

في سيرة ابن هشام:

«قال ابن إسحاق: و كان رسول اللّه «ص» قد بعث أمراءه و عمّاله على الصدقات، إلى كلّ ما أوطأ الإسلام من البلدان:

1- فبعث المهاجر بن أبي أميّة بن المغيرة إلى صنعاء، فخرج عليه العنسي و هو بها.

2- و بعث زياد بن لبيد أخا بني بياضة الأنصاري إلى حضرموت و على صدقاتها.

3- و بعث عديّ بن حاتم على طيّئ و صدقاتها و على بني أسد.

4- و بعث مالك بن نويرة- قال ابن هشام: اليربوعي- على صدقات بني حنظلة.

5- و فرّق صدقة بني سعد على رجلين

منهم، فبعث الزبرقان بن بدر على ناحية منها.

6- و قيس بن عاصم على ناحية.

7- و كان قد بعث العلاء بن الحضرمي على البحرين.

8- و بعث عليّ بن أبي طالب «ع» إلى أهل نجران ليجمع صدقتهم و يقدّم عليه بجزيتهم.» «2»

9- أقول: و في التراتيب الإدارية عن الاستبصار:

«أنّ رسول اللّه «ص» استعمل عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري على نجران و هو ابن سبع عشرة سنة ليفقّههم في الدين و يعلّمهم القرآن و يأخذ صدقاتهم و ذلك سنة عشر.» «3»

______________________________

(1)- التراتيب الإداريّة 1/ 240- 245.

(2)- سيرة ابن هشام 4/ 246.

(3)- التراتيب الإدارية للكتاني 1/ 44.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 133

10- و فيه أيضا عن الاستيعاب:

«أنّ رسول اللّه «ص» بعث معاذ بن جبل قاضيا على الجند من اليمن يعلّم الناس القرآن و شرائع الإسلام و يقضي بينهم و جعل إليه قبض الصدقات من العمّال الذين باليمن عام فتح مكّة.» «1»

7- في عدد غزوات النبي «ص» و سراياه:

في أوّل كتاب المغازي للواقدي بعد ما عدّ مغازي النبيّ «ص» و سراياه و ذكرها بأساميها و مواضعها و تواريخها قال:

«فكانت مغازي النبيّ «ص» الّتي غزا بنفسه سبعا و عشرين غزوة. و كان ما قاتل فيها تسعا: بدر القتال، و أحد، و المريسيع، و الخندق، و قريظة، و خيبر، و الفتح، و حنين، و الطائف. و كانت السرايا سبعا و أربعين سريّة.» «2»

و ذكر نحو ذلك ابن سعد في الطبقات «3».

و في التراتيب الإدارية قال:

«فصل في مخرج النبيّ «ص» بنفسه و كم غزوة غزاها: قال في الاستيعاب: أكثر ما قيل في ذلك أنّ غزواته بنفسه كانت ستة و عشرين غزوة. و كانت أشرف غزواته و أعظمها حرمة عند اللّه و عند

رسوله و عند المؤمنين غزوة بدر الكبرى، حيث قتل صناديد قريش و ظهر دينه من يومئذ ... قال أبو عمر بن عبد البرّ في الاستيعاب:

كانت بعوثه «ص» و سراياه خمسة و ثلاثين، من بين بعث و سرية. و قال غيره:

بلغت ستّا و خمسين، كما ذكر الحافظ الدمياطي. و قيل: ثمانيا و أربعين. و قيل:

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية للكتّاني 1/ 43.

(2)- المغازي 1/ 7.

(3)- الطبقات 2/ 1 (القسم الأوّل من الجزء الثاني).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 134

سبعا و أربعين. و قيل: ستّا و ثلاثين.» «1»

أقول: و في تحف العقول فيما روي عن أبي الحسن الثالث «ع»، قال: «و كان المتوكّل نذر أن يتصدّق بمال كثير إن عافاه اللّه من علّته. فلمّا عوفي سأل العلماء عن حدّ المال الكثير، فاختلفوا و لم يصيبوا المعنى. فسأل أبا الحسن «ع» عن ذلك، فقال «ع»: «يتصدّق بثمانين درهما.» فسأل عن علّة ذلك؟ فقال: إنّ اللّه قال لنبيّه «ص»: لقد نصركم اللّه في مواطن كثيرة. فعددنا مواطن رسول اللّه «ص» فبلغت ثمانين موطنا و سمّاها اللّه كثيرة. فسرّ المتوكّل بذلك.» «2»

8- ذكر من استخلفه رسول اللّه «ص» على المدينة أو على أهله حينما خرج من المدينة:

قال الواقدي في المغازي:

«قالوا: و استخلف رسول اللّه «ص» في مغازيه على المدينة: في غزوة ودّان، سعد بن عبادة، و استخلف في غزوة بواط سعد بن معاذ، و في طلب كرز بن جابر الفهري زيد بن حارثة، و في غزوة ذي العشيرة أبا سلمة بن عبد الأسد المخزومي، و في غزوة بدر القتال أبا لبابة بن عبد المنذر العمريّ، و في غزوة السويق أبا لبابة بن عبد المنذر العمريّ، و في غزوة الكدر ابن أمّ مكتوم المعيصي، و في غزوة ذي أمرّ عثمان بن عفّان،

و في غزوة بحران ابن أمّ مكتوم، و في غزوة أحد ابن أمّ مكتوم، و في غزوة حمراء الأسد ابن أمّ مكتوم، و في غزوة بني النضير ابن أمّ مكتوم، و في غزوة بدر الموعد عبد اللّه بن رواحة، و في غزوة ذات الرقاع عثمان بن عفان، و في غزوة دومة

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 313.

(2)- تحف العقول/ 481.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 135

الجندل سباع بن عرفطة، و في غزوة المريسيع زيد بن حارثة، و في غزوة الخندق ابن أمّ مكتوم، و في غزوة بني قريظة ابن أمّ مكتوم، و في غزوة بني لحيان ابن أمّ مكتوم، و في غزوة الغابة ابن أمّ مكتوم، و في غزوة الحديبية ابن أمّ مكتوم، و في غزوة خيبر سباع بن عرفطة الغفاري، و في عمرة القضية أبا رهم الغفاري، و في غزوة الفتح و حنين و الطائف ابن أمّ مكتوم، و في غزوة تبوك ابن أمّ مكتوم، و يقال: محمد بن مسلمة الأشهلي، و في حجة رسول اللّه «ص» ابن أمّ مكتوم.» «1»

و في التراتيب الإدارية:

«كان يستخلف المصطفى «ص» في كلّ غزواته. و آخرها غزوة تبوك استخلف محمد بن مسلمة الانصاري.

و في الإصابة نقلا عن ابن عبد البرّ و جماعة من أهل العلم بالنسب و السير: أنّ النبي «ص» استخلف ابن أمّ مكتوم ثلاث عشرة مرّة حتّى في تبوك و خروجه لحجة الوداع و في خروجه إلى بدر، ثمّ استخلف أبا لبابة لمّا ردّه من الطريق.

و فيها أيضا في ترجمة جعال بن سراقة الضمري نقلا عن ابن إسحاق: لما غزا رسول اللّه «ص» بني المصطلق في شعبان سنة ستّ استعمل على المدينة

جعالا الضمري.

و فيها لمّا ترجم لسباع بن عرفطة الغفاري ذكر أنّه «ص» استخلفه على المدينة لمّا ذهب لغزوة خيبر.

و فيها في ترجمة أبي رهم الغفاري: استخلفه النبي «ص» على المدينة في غزوة الفتح.

و في المواهب و شرحها: و استخلف النبي «ص» على المدينة في غزوة تبوك على ما قال ابن هشام محمّد بن مسلمة الأنصاري. قال الدمياطي تبعا للواقدي و هو عنده أثبت ممّن قال: استخلف عليّا أو سالما أو ابن أمّ مكتوم. و لكن قال الحافظ زين الدين العراقي في ترجمة عليّ «ع» من شرح التقريب: لم يتخلّف عليّ «ع» عن المشاهد إلّا تبوك، فإنّ النبيّ «ص» خلّفه على المدينة كما رواه عبد الرزاق في

______________________________

(1)- المغازى 1/ 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 136

مصنفه بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص. و لفظه: إنّ رسول اللّه «ص» لمّا خرج إلى تبوك استخلف على المدينة علي بن أبي طالب.

و في الاستيعاب: كان رسول اللّه «ص» لمّا قدم المدينة يستخلف عليّا في أكثر غزواته.

و في محاضرات الأبرار للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي: نوّابه «ص» الذين استعملهم على المدينة في وقت خروجه لغزوة أو عمرة: أبو لبابة، و بشير بن المنذر، و عثمان بن عفان، و عبد اللّه بن أمّ مكتوم، و أبو ذرّ، و عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي سلول، و سباع بن عرفطة، و نميلة بن عبد اللّه الليثي، و عريف بن أضبط الديلمي، و أبو رهم، و محمد بن مسلمة الأنصاري، و زيد بن حارثة، و السائب بن عثمان بن مظعون، و أبو سلمة بن عبد الأسد، و سعد بن عبادة، و أبو دجانة الساعدي.

ثمّ فصّل ولاية كلّ واحد من هؤلاء.

باب في الرجل يستخلفه الإمام على أهله إذا سافر:

خلّف المصطفى في غزوة تبوك علي بن أبي طالب على أهله، و أمره بالقيامة فيهم.

قلت: في المواهب نقلا عن شرح التقريب: إنّ النبي «ص» استخلف عليّا «ع» على المدينة و خلّفه على عياله.

قال الزرقاني: خلّفه على عياله فقال: يا عليّ، اخلفني في أهلي، و اضرب و خذ و أعط. ثمّ دعا نساءه فقال: اسمعن لعليّ و اطعن ...

و أخرج ابن إسحاق عن سعد بن أبي وقاص: خلّف «ص» عليّا على أمر أهله، و أمره بالإقامة فيهم.» «1»

أقول: لسنا نحن فيما نقلناه من ذكر عمّال النّبيّ «ص» و أمرائه و خلائفه و غزواته و سراياه بصدد سرد المسائل التاريخية و تمييز الصحيح منها من السقيم. بل الغرض أن يتّضح للقارئين الكرام إجمالا أنّ رسول اللّه «ص» أتى بدين و سلطة

______________________________

(1)- التراتيب الإداريّة 1/ 314- 316.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 137

دينية معا، و أنّه كان صاحب شريعة و مؤسّس حكومة و دولة.

فما قد يتوهّم من أنّه «ص» لم يكن إلّا نذيرا و بشيرا للبشر، و أنّه لم يكن من برامجه الحكومة و لوازمها ناش من الغفلة أو الجهل بموازين الإسلام و قوانينه الشاملة لجميع مجالات الحياة، و من الجهل بسيرته «ص» و سنّته، فتدبّر.

9- ذكر بعض من بعثه النبي «ص» إلى الملوك للدعوة إلى الإسلام:

قال ابن هشام في السيرة:

«بعث رسول اللّه «ص» رسلا من أصحابه، و كتب معهم كتبا إلى الملوك يدعوهم فيها إلى الإسلام:

1- فبعث دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، ملك الروم.

2- و بعث عبد اللّه حذافة السهمي إلى كسرى، ملك فارس.

3- و بعث عمرو بن أميّة الضمري إلى النجاشي، ملك الحبشة.

4- و بعث

حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس، ملك الإسكندرية.

5- و بعث عمرو بن العاص السهمي إلى جيفر و عياذ ابنى الجلندي الأزديين، ملكي عمان.

6- و بعث سليط بن عمرو، أحد بني عامر بن لؤي، إلى ثمامة بن أثال، و هوذة بن علي الحنفيين، ملكي اليمامة.

7- و بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوي العبدي، ملك البحرين.

8- و بعث شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغسّاني، ملك تخوم الشام.» «1»

و في التراتيب الإدارية للكتّاني:

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 4/ 254.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 138

9- «و بعث المهاجر بن أبي أميّة المخزومي إلى الحارث، ملك اليمن. قال ابن جماعة: بعث رسول اللّه «ص» ستّة نفر في يوم واحد في المحرّم سنة سبع. و في شرح الزرقاني على المواهب و شرح الألفية لابن كيران: و بعث ستّة نفر في يوم واحد إلى الملوك و أصبح كلّ منهم يتكلّم بلسان القوم الذين بعث إليهم، كذا لابن سعد و غيره، و هذه معجزة أخرى.» «1»

10- ذكر من بعثه النبي «ص» إلى الجهات يعلّم الناس القرآن و يفقّههم في الدين:

نذكر ذلك أيضا بالتلخيص من كتاب التراتيب الإدارية:

1- فمنهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف. في سيرة ابن إسحاق: لمّا انصرف النبيّ «ص» من القوم الذين بايعوه في العقبة الأولى- قال: و هم اثنا عشر- بعث معهم مصعبا و أمره أن يقرئهم القرآن و يعلّمهم الإسلام و يفقههم في الدين، و كان يسمّى المقرئ بالمدينة.

قلت: في الاستبصار لابن قدّامة المقدسي: لمّا قدم مصعب بن عمير المدينة نزل على أسعد بن زرارة، فكان يطوف به على دور الأنصار يقرئهم القرآن و يدعوهم إلى اللّه- عزّ و جلّ-، فأسلم على يديهما جماعة منهم سعد بن معاذ

و أسيد بن حضير و غيرهما.

2- و منهم معاذ بن جبل. في الاكتفاء: استخلف رسول اللّه «ص» عتّاب بن أسيد على مكّة، و خلّف معه معاذ بن جبل يفقّه الناس في الدين و يعلّمهم القرآن. و في الاستيعاب: بعثه النبيّ «ص» قاضيا على الجند من اليمن يعلّم الناس القرآن و شرائع الإسلام و يقضي بينهم، و جعل إليه قبض الصدقات من العمّال الذين

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 194.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 139

باليمن عام فتح مكّة.

3- و منهم عمرو بن حزم الخزرجي. في الاستيعاب: استعمله النبيّ «ص» على نجران ليفقّههم في الدين و يعلّمهم القرآن و يأخذ صدقاتهم، و ذلك سنة عشر بعد أن بعث إليهم خالد بن الوليد فأسلموا، و كتب له كتابا في الفرائض و السنن و الصدقات و الديات.

4- و منهم أبو عبيدة بن الجرّاح. أخرج أحمد في مسنده، عن أنس، قال: لمّا وفد أهل اليمن على رسول اللّه «ص» قالوا: ابعث معنا رجلا يعلّمنا السنّة و الإسلام.

فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح فقال: هذا أمين هذه الأمّة. و سيّره إلى الشام أميرا، فكان فتح أكثر الشام على يده.

5- و منهم رافع بن مالك الأنصاري. ترجمه في الإصابة فذكر عن ابن إسحاق: أنّه أوّل من قدم المدينة بسورة يوسف و أنّ الزبير بن بكّار روى في أخبار المدينة أنّ رافعا لمّا لقي المصطفى «ص» بالعقبة أعطاه ما أنزل إليه في العشر سنين التي خلت، فقدم به رافع إلى المدينة ثمّ جمع قومه فقرأ عليه في موضعه.

6- و منهم أسيد بن حضير. ترجم في الإصابة لإبراهيم بن جابر فقال: كان من جملة العبيد الذين نزلوا على النبيّ

«ص» أيّام حصاره الطائف، فأعتقه و بعثه إلى أسيد بن حضير و أمره أن يمونه و يعلّمه. ذكره الواقدي.

7- و ترجم في الإصابة أيضا للأزرق بن عقبة الثقفي، فذكر أنّه ممّن نزل على النّبيّ «ص» في حصار الطائف و أنّه أسلم و أعتقه و سلّمه لخالد بن سعيد بن العاص ليمونه و يعلّمه. «1»

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 42- 44.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 140

الثالثة من السلطات الثلاث: السلطة القضائية و فيها جهات من البحث:

1- الحاجة إليها:

لا يخفى على من راجع تواريخ الأمم و الأجيال في العالم أنّ لأمر القضاء و فصل الخصومات مكانة خاصّة حسّاسة في جميع الأمم و المجتمعات البشرية. إذ عليه و على سلامة نظامه تبنى سلامة المجتمع و أمنه و استقرار العدل فيه و حفظ الحقوق و الحرمات.

و لو لم ينسجم انسجاما سالما، أو فوّض أمره إلى غير أهله فشا الجور و الفساد و ضاعت الحقوق و ضعفت الدولة. بل ربّما أعقب ذلك سقوطها و زوالها.

و السرّ في ذلك أنّ عالم الطبيعة عالم التزاحم و التصادم، و الإنسان في طبعه مجبول على الولع و الطمع، و قد زيّن له حبّ الشهوات من النساء و الضياع و الأموال، و «يشيب ابن آدم و تشبّ فيه خصلتان: الحرص و طول الأمل.» «1»

فربّما يستفيد الشخص من قوّته و قدرته أو من غفلة غيره استفادة سوء فينزو على أموال الناس و حقوقهم. هذا.

مضافا إلى أنّه قد يشتبه الأمر عليه فيتسلّط على مال غيره عن جهل و شبهة، و يستعقب ذلك التنازع و البغضاء، بل ربّما يؤول الأمر إلى القتال و إتلاف النفوس و الأموال.

فلا محيص عن وجود سلطة عالمة عادلة نافذ الأمر تصلح بينهم أو تقضي بينهم

______________________________

(1)- جامع السعادات 3/

37؛ عن النبيّ «ص».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 141

بالحقّ و العدل فيرتفع النزاع و يجد كلّ ذي حقّ حقّه.

و لأجل ذلك ترى الشريعة الإسلاميّة قد حثّ على الصلاح و الإصلاح و نفي الإيمان عمّن لم يحكّم هذه السلطة و لم يسلّم لها تسليما، و أكّد في سلامة سلطة القضاء و تفويضها إلى أهلها.

1- قال اللّه- تعالى-: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ.» «1»

2- و قال: «فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ.» «2»

3- و في نهج البلاغة عن رسول اللّه «ص»: «صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة و الصيام.» «3»

4- و قال- تعالى-: «فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.» «4»

2- القضاء للّه و لرسوله و للأنبياء و الأوصياء، و كان الأنبياء و الأئمة يتصدّون له:

لمّا كان الأصل الأوّلي كما مرّ يقتضي عدم ثبوت الولاية لأحد على أحد إلّا للّه- تعالى- أو لمن ولّاه اللّه أو أجاز له و نفّذه، و القضاء أيضا شعبة من شعب الولاية بل من أهمّها و يكون ملازما للتصرّف في سلطة الغير، فلا محالة لا يصح القضاء و لا ينفذ إلّا من قبل اللّه- تعالى- مالك الجميع أو من ولّاه اللّه أو أجاز له ذلك و لو بالواسطة باسمه و شخصه أو بعنوان عامّ:

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 141

______________________________

(1)- سورة الحجرات (49)، الآية 10.

(2)- سورة الأنفال (8)، الآية 1.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 977؛ عبده 3/ 85؛ لح/ 421، الكتاب 47.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 65.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 142

1- قال اللّه- تعالى-: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ، يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفٰاصِلِينَ.» «1»

2- و قال: «وَ اللّٰهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ، وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لٰا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ، إِنَّ اللّٰهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.» «2»

3- و قال: «وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.» «3»

4- و في خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين، لنبي (كنبيّ) أو وصي نبيّ.» «4»

5- و في خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع» لشريح: «يا شريح، قد جلست مجلسا لا يجلسه (ما جلسه) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ.» «5»

6- و في مصباح الشريعة عن الصادق «ع»: «و الحكم لا يصحّ إلّا بإذن من اللّه و برهانه.» «6»

و كان من شئون الأنبياء و تكاليفهم أيضا فصل الخصومات و القضاء بين الناس بالعدل. و النبيّ الأكرم «ص» أيضا كان يمارس بنفسه أمر القضاء على أساس ما أنزله اللّه عليه:

7- قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ، إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ.» «7»

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 57.

(2)- سورة غافر (40)، الآية 20.

(3)- سورة الأحزاب (33)، الآية 36.

(4)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(5)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

(6)- مصباح الشريعة/ 41، الباب 63 في الفتيا (طبع بيروت/ 16، الباب 6 في الفتيا.).

(7)- سورة ص (38)، الآية 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية،

ج 2، ص: 143

فاللّه- تعالى- فرع جواز حكم داود على جعله خليفة له- تعالى- فيظهر من ذلك عدم نفوذ حكمه لو لا ذلك.

8- و قال: «وَ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ إِذْ يَحْكُمٰانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ، وَ كُنّٰا لِحُكْمِهِمْ شٰاهِدِينَ.» «1»

9- و قال مخاطبا لنبيّنا: «فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ، وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.» «2»

10- و في صحيحة سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «في كتاب علي «ع» أنّ نبيّا من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ، كيف أقضي فيما لم أر و لم أشهد؟ قال:

فأوحى اللّه إليه: احكم بينهم بكتابي و اضفهم إلى اسمي، فحلفهم (تحلفهم خ. ل) به، و قال: هذا لمن لم تقم له بيّنة.» «3»

11- و في حديث آخر عنه «ع»، قال: «في كتاب عليّ «ع» أنّ نبيّا من الأنبياء شكا إلى ربه القضاء فقال: كيف أقضي بما لم تر عيني و لم تسمع أذني؟ فقال: اقض عليهم بالبيّنات و أضفهم إلى اسمي يحلفون به. الحديث.» «4»

12- و في خبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئا فإنّما قطعت له به قطعة من النار.» «5»

أقول: «لحن الرجل» من باب علم: فطن بحجته و انتبه.

______________________________

(1)- سورة الأنبياء (21)، الآية 78.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 65.

(3)- الوسائل 18/ 167، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 167، الباب 1 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 2.

(5)- الوسائل 18/

169، الباب 2 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 144

13- و في سنن أبي داود بسنده عن أمّ سلمة، قالت: قال رسول اللّه «ص»:

«إنّما أنا بشر، و إنّكم تختصمون إليّ و لعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشي ء فلا يأخذ منه شيئا فإنّما أقطع له قطعة من النار.» «1»

و رواه أيضا مالك في أوّل الأقضية من الموطأ عن أمّ سلمة عنه «ص» «2».

و قد كان رسول اللّه «ص» يبعث القضاة إلى النواحي أيضا، فيتولّون هذه المهمّة بنصبه و أمره:

14- ففي سنن أبي داود أيضا بسنده عن عليّ «ع»، قال: «بعثني رسول اللّه «ص» إلى اليمن قاضيا فقلت: يا رسول اللّه، ترسلني و أنا حديث السن و لا علم لي بالقضاء؟ فقال: إنّ اللّه سيهدي قلبك و يثبّت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضينّ حتّى تسمع من الآخر كما سمعت من الأوّل، فإنّه أحرى أن يتبيّن لك القضاء، قال: فما زلت قاضيا أو ما شككت في قضاء بعد.» «3»

أقول: و قال عمر بن الخطاب في حقّه: «عليّ اقضانا.» «4»

15- و فيه أيضا بسنده عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل أنّ رسول اللّه «ص» لمّا أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟» قال: أقضي بكتاب اللّه. قال: «فإن لم تجد في كتاب اللّه؟» قال: فبسنّة رسول اللّه «ص». قال: «فإن لم تجد في سنّة رسول اللّه «ص» و لا في كتاب اللّه؟» قال: أجتهد رأيي و لا آلو. فضرب رسول اللّه «ص» صدره

و قال: «الحمد للّه الذي وفق رسول رسول اللّه لما يرضى رسول اللّه.» «5»

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 270، كتاب الأقضية، باب في قضاء القاضي إذا أخطأ.

(2)- الموطأ للمالك 2/ 106، كتاب الأقضية، باب الترغيب في القضاء بالحقّ.

(3)- سنن أبي داود 2/ 270، كتاب الأقضية، باب كيف القضاء.

(4)- مسند أحمد 5/ 113.

(5)- سنن أبي داود 2/ 272، كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في القضاء.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 145

16- و في سنن ابن ماجة بسنده عن معاذ بن جبل، قال: لمّا بعثني رسول اللّه «ص» إلى اليمن قال: «لا تقضينّ و لا تفصلنّ إلّا بما تعلم. و إن أشكل عليك أمر فقف حتّى تبيّنه أو تكتب إليّ فيه.» «1»

17- و في كنز العمال عن عليّ «ع»، قال: قلت: «يا رسول اللّه، إن عرض لي أمر لم ينزل فيه قضاء في أمره و لا سنّة كيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه و العابدين من المؤمنين و لا تقضي فيه برأي خاصّة.» (طس و أبو سعيد في القضاة) «2»

أقول: و الخبران يوهنان ما في خبر معاذ من قوله: «أجتهد رأيي و لا آلو.»

فيظهر منهما عدم الاعتبار بالرأي.

و كيف كان فأمر القضاء عظيم، و هو من أعظم شعب الولاية و يكون تصرّفا في سلطة الغير. فالأصل يقتضي عدم صحّته و نفوذه إلّا أن يكون من قبل اللّه- تعالى- مالك الملك و الملكوت أو من ولّاه اللّه- تعالى- أو أجاز له ذلك من نبيّ أو وصيّ نبيّ.

و الظاهر أنّ المقصود بالوصيّ الوارد في الرواية هو الأعمّ من الوصاية بلا واسطة أو معها، جعلت لشخص خاصّ أو لعنوان عامّ معرّف بالمواصفات،

فيشمل الفقهاء الواجدين للشرائط المجاز لهم القضاء في عصر الغيبة أيضا، فإنّ حاجة الناس إلى القضاء في كلّ عصر واضحة كما مرّ، و لا يمكن تعطيله و إهماله في عصر من الأعصار، كما لا يجوز تعطيل الولاية الكبرى، فيتعيّن له الفقيه الجامع للشرائط فإنّه القدر المتيقّن. و يستفاد أيضا من مقبولة عمر بن حنظلة و مشهورة أبي خديجة المتقدّمتين، حيث منع الإمام فيهما من الرجوع إلى قضاة الجور و أرجع شيعته إلى من يعرف أحكامهم «ع». و ظاهرهما اعتبار الاجتهاد و الفقاهة في القاضي، كما يأتي

______________________________

(1)- سنن ابن ماجة 1/ 21، المقدمة، باب اجتناب الرأي و القياس، الحديث 55.

(2)- كنز العمال 5/ 812، الباب 2 من كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال، الحديث 14456.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 146

بيانه عن قريب.

و ظاهر الخبرين جعل المنصب من قبله «ع» و تفريع جواز التحاكم إلى الفقيه على جعله- عليه السلام-، فيظهر من ذلك أنّه لو لا نصبه و جعله إيّاه قاضيا لم يجز الرجوع إليه و لم يكن قضاؤه شرعيا نافذا.

3- شرائط القاضي و مواصفاته:

قد ظهر بما مرّ أوّلا: أنّ الأصل يقتضي عدم نفوذ القضاء إلّا فيما قام الدليل عليه.

و ثانيا: أنّ المستفاد من الآيات و الروايات كون القضاء للّه و لرسوله و لأوصيائه.

و ثالثا: أنّه لا يمكن القول بتعطيله في عصر الغيبة، فيجوز للفقيه الواجد للشرائط التصدّي له لأنّه القدر القدر المتيقن و لدلالة المقبولة و المشهورة و غيرهما عليه كما يأتي بيانه. فلا محالة يراد بالوصيّ في الرواية ما يشمل الوصاية بعنوان عامّ أيضا، أو يكون مستثنى ممّا دلّ على الحصر.

بل يمكن القول بأنّ الحاكم المنتخب من قبل الأمّة أيضا-

بعد فرض صحّة انتخابه و كونه واجدا للشرائط التي منها الفقاهة و إمضاء الشرع لذلك- يصير بحكم الوصيّ، فتدبّر.

إذا عرفت هذا فقد حان الوقت لبيان الواصفات المعتبرة فيمن يقلّد أمر القضاء و يتولّى له، فنقول:

1- قال المحقّق في القضاء من الشرائع:

«و يشترط فيه البلوغ و كمال العقل و الإيمان و العدالة و طهارة المولد و العلم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 147

و الذكورة.» «1»

و في المسالك في شرح العبارة:

«هذه الشرائط عندنا موضع وفاق.» «2»

2- و قال العلّامة في القواعد:

«و يشترط فيه البلوغ و العقل و الذكورة و الإيمان و العدالة و طهارة المولد و العلم.» «3»

3- و في مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة:

«و لا يولّى قاض حتّى يكون بالغا عاقلا مسلما حرّا عدلا عالما فقيها و رعا.» «4»

4- و في المنهاج للنووي في فقه الشافعية:

«و شرط القاضي: مسلم مكلّف حرّ ذكر عدل سميع بصير ناطق كاف مجتهد.» «5»

5- و في بداية المجتهد لابن رشد:

«فأمّا الصفات المشترطة في الجواز فأن يكون حرّا مسلما بالغا ذكرا عاقلا عدلا ...

و اختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد و مثله حكى عبد الوهّاب عن المذهب. و قال أبو حنيفة: يجوز حكم العامّيّ ... و كذلك اختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحّة الحكم. و قال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال. قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكما على الإطلاق في كلّ شي ء.» «6»

6- و قال أبو الحسن الماوردي في الأحكام السلطانية ما ملخّصه:

«و لا يجوز أن يقلّد القضاء إلّا من تكاملت فيه شروطه، و هي سبعة:

فالشرط الأوّل:

أن يكون رجلا. و هذا الشرط يجمع البلوغ و الذكورية.

و الشرط الثاني: العقل. و هو مجمع على اعتباره. و لا يكتفى فيه بالعقل الذي يتعلّق

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 67.

(2)- المسالك 2/ 351.

(3)- القواعد 2/ 201.

(4)- راجع المغني لابن قدّامة 11/ 380.

(5)- المنهاج/ 588، (كتاب القضاء).

(6)- بداية المجتهد 2/ 449، كتاب الأقضية.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 148

به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية، حتّى يكون صحيح التمييز جيّد الفطنة بعيدا من السهو و الغفلة يتوصّل بذكائه إلى إيضاح ما أشكل و فصل ما أعضل.

و الشرط الثالث: الحرية.

و الشرط الرابع: الإسلام ... و لا يجوز أن يقلّد الكافر القضاء على المسلمين و لا على الكفّار، و قال أبو حنيفة: يجوز تقليده القضاء بين أهل دينه.

و الشرط الخامس: العدالة. و هي معتبرة في كلّ ولاية. و العدالة أن يكون صادق اللهجة ظاهر الأمانة عفيفا عن المحارم متوقّيا المآثم، بعيدا من الريب، مأمونا في الرضا و الغضب، مستعملا لمروءة مثله في دينه و دنياه.

و الشرط السادس: السلامة في السمع و البصر، ليصحّ بهما إثبات الحقوق و يفرّق بين الطالب و المطلوب، و يعرف المحقّ من المبطل. فإن كان ضريرا كانت ولايته باطلة. و جوّزها مالك، كما جوّز شهادته.

و الشرط السابع: أن يكون عالما بالأحكام الشرعيّة. و علمه بها يشتمل على علم أصولها و الارتياض بفروعها.» «1»

7- و قال أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية:

«لا يجوز تقليد القضاء إلّا لمن كملت فيه سبع شرائط: الذكورية و البلوغ، و العقل، و الحريّة، و الإسلام، و العدالة، و السلامة في السمع و البصر، و العلم.» «2»

و لا يخفى أنّ ما ذكره ثمانية لا سبعة، اللّهم إلّا ان

يعدّ الأوّلان واحدا، كما في الماوردي.

ثم أقول: أمّا اعتبار البلوغ و العقل فلقصور الصغير و المجنون و كونهما مولّى عليهما مسلوبي العبارة و الأفعال شرعا، و إذا لم تنفذ عبارتهما في حقّ أنفسهما فكيف تنفذ في حقّ الغير.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 65.

(2)- الأحكام السلطانية/ 60.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 149

و أمّا الإيمان فإن أريد به ما في قبال الكفر فيدلّ على اعتباره كلّ ما دلّ على حرمة تولّى الكفّار، و قوله- تعالى-: «لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «1» و ما عن النبي «ص»: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه.» «2» و القضاء على المؤمن سبيل عليه و علوّ، نعم، لا يجري هذا في القضاء على الكافر. هذا مضافا إلى وضوح الحكم و أنّ الكافر ليس نبيّا و لا وصيّا.

و إن أريد بالإيمان كونه إماميّا فيدلّ على اعتباره- مضافا إلى أصالة عدم الانعقاد مع الشك- قوله «ع»: «منكم» في خبر أبي خديجة، و كذا المقبولة كما يأتي بيانه «3».

هذا مضافا إلى أنّ القضاء يجب أن يكون على أساس مذهب المترافعين، فطبع الموضوع يقتضي أن يكون القاضي لهم منهم. و لعلّ القاضي في كلّ مذهب يناسب أن يكون من أنفسهم، فتدبّر.

و أمّا العدالة فيدلّ على اعتبارها- مضافا إلى الأصل المشار إليه، و إلى وضوحه، و إلى كثير ممّا دلّ على اعتبارها في الولاية من الآيات و الروايات، فراجع الفصل السادس من الباب الرابع- خصوص خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ (كنبيّ خ. ل) أو وصيّ نبيّ.» «4»

و يدل عليه خبر أبي خديجة و

كذا المقبولة أيضا.

و أمّا طهارة المولد، و كذا الذكورة فيدلّ على اعتبارهما ما دلّ على اعتبارهما في

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(2)- الفقيه 4/ 334، كتاب الفرائض، باب ميراث أهل الملل، الحديث 5719.

(3)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5، و 18/ 99، الباب 11 منها، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 150

الوالي، فراجع الفصل العاشر و الحادي عشر من ذلك الباب.

و في اعتبار الحرّية كلام، و قد مرّ البحث فيه في الفصل الثاني عشر من ذلك الباب، و مرّ أنّ موضوع البحث منتف في أعصارنا.

و أمّا السمع و البصر فإن توقف عليهما معرفة المحقّ و المبطل و القضاء بالحقّ و العدل لزم رعايتهما و إلّا فلا دليل على اعتبارهما بالخصوص، فتدبّر.

4- اعتبار العلم في القاضي:

و أمّا العلم فيدلّ على اعتباره إجمالا- مضافا إلى الأصل، و إلى وضوح ذلك لتوقّف القضاء بالحقّ عليه، و إلى كثير من أدلّة اعتباره في الوالي من الآيات و الروايات الّتي مرّت- خصوص خبري أبي خديجة و كذا مقبولة عمر بن حنظلة كما يأتي، و خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ (كنبيّ) أو وصيّ نبيّ.» «1»

و ما رواه الكليني مرفوعا، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنّة: رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو

في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة.» «2»

و روى أبو داود في السنن بسنده عن ابن بريدة، عن أبيه، عن النبيّ «ص»، قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنّة و اثنان في النار: فأمّا الذي في الجنّة فرجل عرف الحقّ فقضى به، و رجل عرف الحقّ فجار في الحكم فهو في النار، و رجل قضى للناس على جهل فهو في

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 151

النار.» «1»

و في نهج البلاغة في صفة من يتصدّى للقضاء و ليس أهلا له: «و رجل قمش جهلا موضع في جهّال الأمّة، عاد في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة. قد سمّاه أشباه الناس عالما و ليس به. بكّر فاستكثر من جمع ما قلّ منه خير ممّا كثر، حتّى إذا ارتوى من آجن و اكتنز من غير طائل جلس بين الناس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره.

فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثّا من رأيه ثمّ قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لا يدري أصاب أم أخطأ: فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب.

جاهل خبّاط جهالات عاش ركّاب عشوات. لم يعضّ على العلم بضرس قاطع. يذري الروايات إذراء الريح الهشيم. لأملئ- و اللّه- بإصدار ما ورد عليه و لا هو أهل لما فوّض إليه. لا يحسب العلم في شي ء ممّا أنكره، و لا يرى أنّ من وراء ما بلغ مذهبا لغيره. و

إن أظلم أمر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه. تصرخ من جور قضائه الدماء، و تعجّ منه المواريث.» «2»

و روى نحوه الكليني في الكافي، فراجع «3».

أقول: قمش جهلا: جمعه. موضع فيهم: أي مسرع. و الأغباش جمع الغبش بالتحريك: الظلمات. عاد فيها: أي مسرع فيها. و روي غارّ بالتشديد، أي غافل. عم بما في عقد الهدنة: جاهل بمصالح السكون و الدّعة. و يحتمل أن يراد أنّه غافل عمّا في التسامح و التساهل من المفاسد و المضارّ، و لعلّه أظهر. الآجن: الماء المتغير. الحشو:

فضل الكلام. و الرثّ: الخلق البالي. و الخبّاط، مبالغة الخابط: السائر على غير هدى. و العاشي: الأعمى أو ضعيف البصر. و العشوة: ركوب الأمر على غير هدى.

و الهشيم: ما يبس من النبت و تفتّت. و العجّ: رفع الصوت.

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 268، كتاب الأقضية باب في القاضي يخطئ.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 71؛ عبده 1/ 47؛ لح/ 59، الخطبة 17.

(3)- راجع أصول الكافي 1/ 55، كتاب فضل العلم، باب البدع و الرأي و المقاييس، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 152

فليتأمّل شيعة أمير المؤمنين- عليه السلام- المتصدّون لأمر القضاء في هذه الخطبة الشريفة، و ليلتفتوا إلى موقع عملهم و سلطتهم على دماء الناس و الأعراض و الأموال و أنّ أمرها لشديد عند اللّه- تعالى- فعليهم الدقّة و الاحتياط، و ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط.

و عن المفيد في المقنعة، عن النّبيّ «ص»، قال: «من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكّين.» «1»

و في رواية أنس بن مالك، عن النبيّ «ص»: «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس، فإمّا إلى الجنّة و إمّا إلى

النار.» «2»

و روى الترمذي بسنده عن رسول اللّه «ص»: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله، فإنّ الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.» «3» هذا.

و لكن لمّا كان أمر القضاء عظيما لا ينسجم نظام بلاد المسلمين و حفظ حقوقهم إلّا به فالمتصدّي له إذا كان أهلا له و راعى جانب الدقّة و الاحتياط في عمله فلا محالة كان أجره عند اللّه أيضا عظيما. و لا يجوز لمن يقدر عليه و يوجد فيه الشرائط أن يتركه إلّا مع وجود الكفاية.

و عن رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة.» «4» هذا.

و ذكر أمير المؤمنين- عليه السلام- في كتاب كتبه لمالك الأشتر مواصفات من يريد أن يختاره للقضاء، فقال: «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممّن

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 8، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

(2)- الوسائل 18/ 167، الباب 12 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(3)- سنن الترمذي 2/ 438، أبواب الحدود، الباب 2، الحديث 1447.

(4)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 153

لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم و لا يتمادى في الزلّة، و لا يحصر من الفي ء إلى الحقّ إذا عرفه، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه. و أوقفهم في الشبهات، و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممّن لا يزدهيه إطراء و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل.

ثمّ أكثر تعاهد قضائه

و افسح له في البذل ما يزيل علّته، و تقلّ معه حاجته إلى الناس. و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا. فإنّ هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى و تطلب به الدنيا.» «1»

أقول: أمحكه: جعله محكان، أي عسر الخلق. حصر كفرح: ضاق صدره و التبرّم: الملل و التضجّر. لا يزدهيه إطراء: لا يستخفّه كثرة الثناء عليه.

فعلى حكّام المسلمين و ولاتهم أن يهتمّوا بأمر القضاء و القضاة، كما اهتمّ به أمير المؤمنين «ع»، و أمر مالكا بالاهتمام بهم و بما يزيل علّتهم و حاجاتهم.

و في كنز العمّال: «إذا أراد اللّه بقوم خيرا ولّى عليهم علماؤهم و جعل المال في سمحائهم. و إذا أراد اللّه بقوم شرّا ولّى عليهم سفهاءهم و قضى بينهم جهّالهم و جعل المال في بخلائهم.» (فر، عن مهران) «2»

5- هل يعتبر في علم القاضي كونه عن اجتهاد؟
اشارة

هل يعتبر في القاضي أن يكون علمه عن اجتهاد، أو يكفي التقليد أيضا؟ و على الأوّل فهل يعتبر كونه مجتهدا مطلقا، أو يكفي التجزّي؟

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1009؛ عبده 3/ 104؛ لح/ 434، الكتاب 53.

(2)- كنز العمال 6/ 7 الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14595.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 154

[كلمات الأصحاب]

1- قال الشيخ في الخلاف:

«و لا يجوز أن يتولّى القضاء إلّا من كان عارفا (عالما خ. ل) بجميع ما وليّ، و لا يجوز أن يشذّ عنه شي ء من ذلك، و لا يجوز أن يقلّد غيره ثمّ يقضي به. و قال الشافعي:

ينبغي أن يكون من أهل الاجتهاد و لا يكون عامّيّا، و لا يجب أن يكون عالما بجميع ما وليه. و قال في القديم مثل ما قلناه. و قال أبو حنيفة: يجوز أن يكون جاهلا بجميع ما وليه إذا كان ثقة و يستفتى الفقهاء و يحكم به، و وافقنا في العامّي أنّه لا يجوز أن يفتي. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

2- و قال في القضاء من النهاية:

«و ينبغي أن لا يتعرّض للقضاء أحد حتى يثق من نفسه بالقيام به. و ليس يثق أحد بذلك من نفسه حتّى يكون عاقلا كاملا، عالما بالكتاب و ناسخه و منسوخه، و عامّه و خاصّه، و ندبه و إيجابه، و محكمه و متشابهه، عارفا بالسنّة و ناسخها و منسوخها، عالما باللغة، مضطلعا بمعاني كلام العرب، بصيرا بوجوه الإعراب، ورعا من محارم اللّه- تعالى-، زاهدا في الدنيا، متوفّرا على الأعمال الصالحات، مجتنبا للكبائر و السيئات، شديد الحذر من الهوى، حريصا على التقوى. فإذا كان بالصفات التي ذكرناها جاز له

أن يتولّى القضاء و الفصل بين الناس.» «2»

و قد ذكر نحو ذلك أستاذه الشيخ المفيد «قده» في المقنعة، فراجع «3». و يأتي كلام الشيخ في المبسوط أيضا.

3- و قال ابن زهرة في الغنية:

«يجب في المتولّي للقضاء أن يكون عالما بالحقّ في الحكم المردّد إليه، بدليل إجماع الطائفة. و أيضا فتولية المرء ما لم يعرفه قبيحة عقلا و لا يجوز فعلها. و أيضا فالحاكم مخيّر في الحكم عن اللّه- تعالى- و نائب عن رسول اللّه «ص» و لا شك في قبح ذلك من دون العلم. و أيضا قوله- تعالى-: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ.»

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 309، كتاب القضاء، المسألة 1.

(2)- النهاية/ 337.

(3)- المقنعة/ 111.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 155

و من حكم بالتقليد لم يقطع على الحكم بما أنزل اللّه- تعالى-.» «1»

4- و قال المحقّق في قضاء الشرائع:

«و كذا لا ينعقد لغير العالم المستقلّ بأهليّة الفتوى، و لا يكفيه فتوى العلماء. و لا بدّ أن يكون عالما بجميع ما وليه و يدخل فيه أن يكون ضابطا، فلو غلب عليه النسيان لم يجز نصبه.» «2»

5- و قال في المسالك:

«المراد بالعالم هنا المجتهد في الأحكام الشرعية، و على اشتراط ذلك في القاضي إجماع علمائنا. و لا فرق بين حالة الاختيار و الاضطرار.» «3»

6- و في الجواهر:

«بلا خلاف أجده فيه، بل في المسالك و غيرها الإجماع عليه من غير فرق بين حالتي الاختيار و الاضطرار.» «4»

7- و قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«و جوّز أبو حنيفة تقليد القضاء ممّن ليس من أهل الاجتهاد ليستفتي في أحكامه و قضاياه. و الذي عليه جمهور الفقهاء أنّ ولايته باطلة و أحكامه مردودة.»

«5»

8- و في كتاب الأقضية من بداية المجتهد:

«و اختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي: يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، و مثله حكى عبد الوهاب عن المذهب. و قال أبو حنيفة: يجوز حكم العامي.» «6»

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 562.

(2)- الشرائع 4/ 67.

(3)- المسالك 2/ 351.

(4)- الجواهر 40/ 15.

(5)- الأحكام السلطانية/ 66.

(6)- بداية المجتهد 2/ 449.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 156

ما يستدلّ به على اعتبار الاجتهاد في القاضي:

أقول: قد يستدلّ على اعتبار الاجتهاد في القاضي- مضافا إلى الأصل الحاكم بعدم صحّة القضاء و نفوذه إلّا فيما ثبت بالدليل، و إلى الاجماع المدّعى في الخلاف و الغنية و المسالك و غيرها و إن أمكن المناقشة في تحققه بنحو يفيد- بمقبولة عمر بن حنظلة، و خبري أبي خديجة، و توقيع صاحب الأمر- عجل اللّه تعالى فرجه-:

أمّا المقبولة فهي ما رواه الكليني بسند لا بأس به، عن عمر بن حنظلة، قال:

«سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان و إلى القضاة، أ يحلّ ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت. و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا و إن كان حقّا ثابتا له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر اللّه أن يكفر به، قال اللّه- تعالى-: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.» «1»

قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا، و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه و علينا ردّ، و

الرادّ علينا الرادّ على اللّه، و هو على حد الشرك باللّه.

قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر ...» «2»

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 60.

(2)- أصول الكافي 1/ 67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10؛ و الوسائل 18/ 99، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 157

و قد مرّ البحث في سند الحديث في الفصل الثالث من الباب الخامس، فراجع.

و مرّ أنّه و إن استدلوا بالحديث لإثبات منصبي الولاية و القضاء للفقيه و لكنّ القدر المتيقّن منه هو القضاء فقط على فرض دلالته على النصب، كما لعلّه الظاهر من قوله: «فإنّي قد جعلته.»

و تقريب الاستدلال به للمقام هو أنّ الظاهر من قوله: «روى حديثنا» كون حديث العترة الطاهرة أساس حكمه و قضائه، في قبال من كان يعتمد على القياس و الاستحسانات الظنّيّة. و مقتضى ذلك كونه مجتهدا، إذ منبع علم المقلّد هو فتوى المجتهد لا الأحاديث الصادرة عنهم- عليهم السلام-.

و الظاهر من قوله «ع»: «نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا» أيضا كونه من أهل النظر و المعرفة بالنسبة إلى أحكام الأئمة «ع» و فتاواهم الصادرة عنهم في الحلال و الحرام، و أن يعلم أنّ ما يحكم به هو حكمهم «ع». و ظاهر ذلك أيضا اعتبار الاجتهاد، إذ لا يصدق على المقلّد لغيره أنّه نظر و عرف، فإنّ المعرفة إنّما تصدق مع

الإحاطة بجميع خصوصيّات الشي ء و مميّزاته. ففرق بين العلم الإجمالي بوجود الشي ء، و بين معرفته بخصوصيّاته.

و تشخيص أحكام الأئمة «ع» و فتاواهم في الحلال و الحرام من خلال أحاديثهم المرويّة، و لا سيّما إذا كانت متعارضة بحسب الظاهر أو محتاجة إلى الشرح و التفسير لا يتيسّر إلّا لمن كان له ملكة الاجتهاد و الفقاهة.

و كذلك قوله «ع» في جواب سؤال السائل عن صورة اختلاف الرجلين: «الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث»

و قول السائل في ذيل الحديث: «أ رأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب و السنّة» كلّ ذلك ممّا يظهر منه اعتبار الفقاهة في من نصبه الإمام الصادق «ع» للقضاء بالنصب العامّ.

و احتمال أنّ الاجتهاد أخذ طريقا لا موضوعا، فالملاك هو الاطلاع على الأحكام و وقوع القضاء على وفق الحقّ و لو كان عن تقليد، مخالف لظاهر الحديث جدّا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 158

و العلم الاجتهادي بالأحكام علم تفصيلي و إحاطة تفصيليّة بها، و من المحتمل جدّا موضوعيّة ذلك لهذا المنصب الشريف.

و أمّا خبرا أبي خديجة فالأولى منهما ما رواه عن الإمام الصادق «ع» أنّه قال:

«إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه.» «1»

و الثانية ما رواه فقال: «بعثني أبو عبد اللّه «ع» إلى أصحابنا فقال: «قل لهم:

إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تداري في شي ء من الأخذ و العطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق. اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته قاضيا. و إيّاكم أن يخاصم

بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر.» «2»

و تقريب الاستدلال بهما أيضا واضح و لا سيّما الثاني، لظهور المعرفة في الإحاطة بالشي ء بجميع خصوصيّاته. و من المحتمل جدّا اتّحاد الخبرين، فيشكل الاعتماد على ظهور الأوّل منهما في كفاية التجزّي كما يأتي بيانه.

و أمّا التوقيع فهو ما رواه إسحاق بن يعقوب، عن صاحب الزمان «ع» من قوله «ع»: «و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّه عليهم.» «3»

بناء على شموله للإفتاء و الولاية و القضاء، كما مرّ بيانه في فصل اثبات الولاية به.

و تقريب الاستدلال أنّ الإرجاع وقع إلى رواة الحديث، و المقلّد ليس مبنى علمه الأحاديث كما مرّ.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2)- الوسائل 18/ 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6. و لفظة «عليكم» بعد قوله «جعلته» ليست في التهذيب بطبعيه، و ان وجدت في الوسائل.

(3)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9. و اعتمد في النقل على كمال الدين/ 484.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 159

فهذه روايات يمكن أن يستدل بها لاعتبار الاجتهاد في القاضي.

بل يمكن أن يقال: إنّ العالم في خبر سليمان بن خالد: «فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء،» «1» و في غيره من الأخبار أيضا منصرف إلى العلم عن اجتهاد، إذ المقلد لا يطلق عليه أنّه عالم إلّا بنحو من العناية. هذا.

كلام صاحب الجواهر: [في عدم اعتبار الاجتهاد في القاضي]

و لكن في الجواهر ما حاصله و ملخّصه:

«إنّ المستفاد من الكتاب و السنّة صحّة الحكم بالحقّ و العدل و القسط من كلّ مؤمن.

قال اللّه- تعالى-: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ

إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.» «2»

«يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ، وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ» «3»

«يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ. إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْلىٰ بِهِمٰا، فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا.» «4»

و مفهوم قوله: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ* ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ* ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 58.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 8.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 135.

(5)- سورة المائدة (5)، الآية 44، 45 و 47.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 160

و قال علي «ع»: «الحكم حكمان: حكم اللّه، و حكم الجاهلية. فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم الجاهلية.» «1»

و قال أبو جعفر «ع»: «الحكم حكمان: حكم اللّه- عزّ و جلّ-، و حكم أهل الجاهلية.

و قد قال اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» و أشهد على زيد بن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية.» «2»

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على أنّ المدار هو الحكم بالحقّ الذي هو عند محمّد و أهل بيته. و لا ريب أنّه يندرج في ذلك من سمع منهم- عليهم السلام- أحكاما خاصّة مثلا، و حكم بها بين الناس و إن لم يكن له مرتبة الاجتهاد.

و في خبر أبي خديجة: «انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من

قضايانا، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه.» «3»

بناء على إرادة الأعمّ من المجتهد منه، بل لعلّ ذلك أولى من الأحكام الاجتهادية الظنّيّة.

بل قد يقال باندراج من كان عنده أحكامهم بالاجتهاد الصحيح أو التقليد الصحيح و حكم بها بين الناس كان حكما بالحقّ و القسط و العدل.

نعم، قد يقال بتوقّف صحّة ذلك على الإذن منهم- عليهم السلام-، لخبر سليمان بن خالد «4» و غيره ممّا يقتضي توقّف الحكم و ترتّب الأثر عليه على الإذن و النصب.

اللّهم إلّا أن يقال بأنّ النصوص دالّة على الإذن منهم- عليهم السلام- لشيعتهم الحافظين لأحكامهم في الحكم بين الناس بأحكامهم الواصلة إليهم بقطع أو اجتهاد صحيح أو تقليد كذلك.

و في خبر عبد اللّه بن طلحة «5» الوارد في اللّص الداخل على المرأة و قتل ولدها و أخذ

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 7.

(2)- الوسائل 18/ 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

(3)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(4)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(5)- الوسائل 19/ 45، الباب 23 من أبواب قصاص النفس، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 161

ثيابها عن الصادق «ع» أمر السائل بالقضاء بينهم بما ذكره الإمام- عليه السلام-.

و إنّما شدّة الإنكار في النصوص على المعرضين عنهم المستغنين عنهم بآرائهم و قياساتهم.

قال الحلبي: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: «ربّما كان بين الرجلين من أصحابنا المنازعة في الشي ء فيتراضيان برجل منّا؟ فقال: ليس هو ذاك. إنّما هو الذي يجبر الناس على حكمه بالسيف و السوط.» «1»

و لو سلّم عدم ما يدلّ على الإذن

فليس في شي ء من النصوص ما يدلّ على عدم جواز الإذن لهم في ذلك.

بل قد يدّعى أنّ الموجودين في زمن النّبيّ «ص» ممّن أمر بالترافع إليهم قاصرون عن مرتبة الاجتهاد، و إنّما يقضون بين الناس بما سمعوه من النّبيّ «ص».

و نصب خصوص المجتهد في زمان الغيبة بناء على ظهور النصوص فيه لا يقتضي عدم جواز نصب الغير. و يمكن بناء ذلك- بل لعلّه الظاهر- على إرادة النصب العامّ في كلّ شي ء على وجه يكون له ما للإمام- عليه السلام-. و حينئذ فتظهر ثمرة ذلك بناء على عموم هذه الرئاسة أنّ للمجتهد نصب مقلّده للقضاء بين الناس بفتاواه التي هي حلالهم و حرامهم.

و أمّا دعوى الإجماع الّتي قد سمعتها فلم أتحقّقها، بل لعلّ المحقّق عندنا خلافها خصوصا بعد أن حكى في التنقيح عن المبسوط أقوالا ثلاثة: أوّلها جواز كونه عامّيا و يستفتي الفقهاء و يقضي بفتواهم، بناء على كون فتاوى المجتهد أحكامهم- عليهم السلام- فالقضاء حينئذ بها.

خصوصا إذا قلنا أنّ القضاء في زمن الغيبة من باب الأحكام الشرعية لا النصب القضائي، و أنّ ذلك هو المراد من قوله «ع»: «جعلته قاضيا و حاكما.» فإنّ الفصل بها حينئذ من المقلّد كالفصل بها من المجتهد. إذ الجميع مرجعه إلى القضاء بين الناس بحكم أهل البيت، و اللّه العالم.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 5، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 8.

(2)- الجواهر 40/ 15- 20.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 162

انتهى ما في الجواهر بتلخيص منا. و قد ذكرناه بطوله لاشتماله على عمدة ما يمكن أن يستدلّ به لعدم اعتبار الاجتهاد في القاضي.

الجواب عمّا في الجواهر: [في عدم اعتبار الاجتهاد في القاضي]

أقول: محصّل ما استدلّ به في الجواهر لعدم اعتبار الاجتهاد في

القاضي أمور:

الأوّل: إطلاق ما دلّ على الحكم بالحقّ و العدل و القسط.

الثاني: مفهوم الآيات الثلاث.

الثالث: ما دلّ على أنّ المدار هو الحكم بالحقّ.

الرابع: خبر أبي خديجة.

الخامس: خبر عبد اللّه بن طلحة.

السادس: خبر الحلبي.

السابع: أنّ الموجودين في عصر النّبيّ «ص» ممّن أمر بالترافع إليهم كمعاذ بن جبل و غيره من الصحابة كانوا قاصرين عن مرتبة الاجتهاد.

الثامن: أنّ نصب خصوص المجتهدين في عصر الغيبة لا يقتضي عدم جواز نصب الغير.

التاسع: أنّ مقتضى عموم ولاية الفقيه أنّ له نصب مقلّده للقضاء.

العاشر: عدم ثبوت الإجماع المدّعى على اعتبار الاجتهاد.

الحادي عشر: أنّ القضاء في عصر الغيبة من باب بيان الأحكام الشرعية لا النصب القضائي.

و يرد على الأول أوّلا: أنّها في مقام بيان أنّ الحكم يجب أن يكون بالحقّ و العدل و القسط، لا في مقام بيان من له الحكم و شرائطه، فلا إطلاق لها من هذه الجهة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 163

و ثانيا: قد مرّ منّا سابقا أنّ الأحكام العامّة المتعلّقة بالمجتمع بما هو مجتمع تتوجّه إلى ممثل المجتمع و من يتبلور فيه المجتمع، و هو الحاكم. فلا يجوز للآحاد التصدّي لها، للزوم الهرج و المرج.

و يؤيّد ذلك أنّ الخطاب في الآية الأولى يتوجّه إلى من عنده الأمانات، و قد فسّرت في أخبار الفريقين بالامارة و الولاية، كما مرّ شرح ذلك في الفصل الثالث من الباب الخامس، فراجع.

فالمخاطب في الآية هم الحكّام و الولاة لا جميع الناس، فتأمّل.

و في رواية معلّى بن خنيس، عن الصادق «ع» قال: قلت له: قول اللّه- عزّ و جلّ-: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.» فقال: «عدل الإمام أن

يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده و أمرت الأئمّة أن يحكموا بالعدل، و أمر الناس أن يتّبعوهم.» «1»

يظهر من الحديث أنّ المخاطب في الآية و المكلّف بالتكليفين هو الإمام، فتدبّر.

و يرد على الثاني أنّ الآيات الثلاث في مقام بيان حرمة الحكم بغير ما أنزل اللّه لا في مقام بيان من له الحكم و شرائطه، فلا يستفاد منها جوازه لكلّ أحد، لعدم الإطلاق من هذه الجهة.

و يرد على الثالث ما مرّ على الأوّل، فراجع.

و يرد على الرابع أنّ العلم بشي ء من قضاياهم بما هي قضاياهم «ع» يختص بالفقيه، أو منصرف إليه لما مرّ من انصراف لفظ العلم و العالم عن المقلّد التابع لغيره.

نعم، يستفاد من هذه الرواية على فرض صحّتها كفاية التجزي، فلا يعتبر كونه مجتهدا مطلقا.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 164

و يرد على الخامس أنّها قضية في واقعة خاصّة، فلعلّ المخاطب كان مجتهدا.

و الاجتهاد في تلك الأعصار كان خفيف المؤونة و لم يكن يتوقّف على علوم و مقدّمات كثيرة كما في أعصارنا. فمن كان يقدر على استنباط أحكام اللّه- تعالى- من الروايات الصادرة عن النبيّ «ص» و الأئمّة «ع» و كان يتّصف بكونه ممّن روى حديثهم و نظر في حلالهم و حرامهم و عرف أحكامهم كان يصدق عليه أنّه فقيه مجتهد. و كثير من أصحاب النبيّ «ص» و الأئمّة «ع» كانوا كذلك. هذا.

مضافا إلى أنّه يمكن أن يكون القضاء في قوله «ع»: «اقض على هذا كما وصفت لك» بمعنى بيان الحكم الشرعي لا القضاء الاصطلاحي بمعنى إعمال الولاية و إنشاء الحكم، فتأمّل.

و أمّا السادس، أعني خبر الحلبي

فتقريب الاستدلال به أنّ الإمام- عليه السلام- ترك الاستفصال. و ترك الاستفصال يقتضي العموم، فيشمل غير المجتهد أيضا. كما أنّ حصر عدم الجواز في من يجبر على حكمه بالسيف يدلّ على جواز غيره مطلقا.

و السند صحيح رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي. هذا.

و لكن يرد عليه أوّلا: أنّ الخبر ليس نصّا في القضاء، فلعلّ الرجل الذي كانا يتراضيان به كان يصلح بينهما بما يرتضيان به، كما هو المتعارف كثيرا في من ينتخب حكما من قبل المتنازعين في أعصارنا.

و ثانيا: أنّ قوله «ع»: «ليس هو ذاك» قرينة على كون الكلام مسبوقا بكلام لم ينقل لنا، و لعلّه كان فيه قرينة على المراد. و معه يشكل الاعتماد على ترك الاستفصال.

و ثالثا: أنّه يمكن أن يقال إنّ الخبر ليس في مقام بيان عقد الإثبات حتّى يتمسّك بالإطلاق فيه، بل عقد النفي أعني عدم صلاحية من يجبر الناس على حكمه

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 165

في تلك الأعصار لأمر القضاء.

و الحصر فيه إضافي قطعا، ضرورة عدم جواز الرجوع إلى قضاة أهل الخلاف و سائر من لا يوجد فيه شرائط القاضي و إن لم يكن من أهل السيف و السوط أيضا، فلا يدلّ الحصر على جواز غيره مطلقا.

و رابعا: أنّ العموم على فرض ثبوته يخصّص بالمقبولة و غيرها ممّا دلّ على اعتبار الاجتهاد.

و يرد على السّابع ما مرّ من كون الاجتهاد في تلك الأعصار خفيف المؤونة.

أ لا ترى أنّ رسول اللّه «ص» لمّا قال لمعاذ: «بما تقضي» قال: «بكتاب اللّه و سنّة رسول اللّه.» و الاجتهاد في تلك الأعصار لم يكن إلّا فهم الكتاب و

السنّة و الاستنباط منهما، فتدبّر.

و يرد على الثامن أنّ ظاهر المقبولة و المشهورة حصر القضاء شرعا في من وجد الصفات المذكورة، حيث إنّ الظاهر منهما كونهما في مقام التحديد و بيان شرائط القاضي و من يجوز التحاكم إليه شرعا، لا مجرّد ما اعتبره الإمام «ع» بنفسه في موضوع نصبه، فتأمّل.

و بذلك يظهر الجواب عن التاسع أيضا و سيأتي تفصيل لذلك، فانتظر.

و أمّا ما ذكره عاشرا من نفي الإجماع فلعلّه صحيح لا لوجود القائل بالخلاف فينا كما يتوهّم من نقله لكلام المبسوط، بل لأنّ الملاك في حجّيّة الإجماع كما مرّ أن يحدس منه عن قول المعصوم «ع» حدسا قطعيّا. و ثبوته هنا مشكل، لعدم تعرّض كثير من القدماء للمسألة و إن تعرض لها بعض. هذا. و لكن لا يضرّنا ذلك بعد ما مرّ من اقتضاء الأصل و كذا المقبولة اعتبار الاجتهاد.

و ليعلم أنّ ظاهر كلام المبسوط أيضا اتّفاق أصحابنا على اعتبار الاجتهاد.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 166

و القائل بعدم اعتباره إنّما هو من أهل الخلاف كأبي حنيفة و أصحابه.

قال في المبسوط:

«القضاء لا ينعقد لأحد إلّا بثلاث شرائط: أن يكون من أهل العلم، و العدالة، و الكمال. و عند قوم بدل كونه عالما أن يكون من أهل الاجتهاد. و لا يكون عالما حتّى يكون عارفا بالكتاب و السنّة و الإجماع و الاختلاف و لسان العرب، و عندهم و القياس.

فأما الكتاب فيحتاج أن يعرف من علومه خمسة أصناف: العام و الخاص، و المحكم و المتشابه، و المجمل و المفسّر، و المطلق و المقيد، و الناسخ و المنسوخ ...

و أمّا السنّة فيحتاج أيضا أن يعرف فيها خمسة أصناف: المتواتر و الآحاد، و المرسل

و المتصل، و المسند و المنقطع، و العام و الخاصّ، و الناسخ و المنسوخ ...

و في الناس من أجاز أن يكون القاضي عامّيا و يستفتي العلماء و يقضي به. و الأوّل هو الصحيح عندنا.» «1»

أقول: العالم على ما ذكره «قده» في بيان مفهومه مساوق للمجتهد المطلق، فلم يذكر في المسألة أقوالا ثلاثة على ما حكاه في الجواهر عن التنقيح بل قولين:

اعتبار الاجتهاد، و عدمه. و ظاهره اتّفاق الشيعة على الأوّل. فقوله: «و عند قوم بدل كونه عالما أن يكون من أهل الاجتهاد» ليس قولا آخر، بل تعبير آخر عن القول الأوّل.

و قوله: «و في الناس من أجاز أن يكون القاضي عامّيا» لا يراد به علماء الشيعة بل علماء أهل الخلاف كأبي حنيفة و أصحابه كما مرّ.

و كيف كان فلم نجد من قدماء الأصحاب من يصرّح بعدم اعتبار الاجتهاد في القاضي. و قد مرّ عن النهاية و كذا المقنعة ما يستفاد منه اعتبار الاجتهاد و قدرة الاستنباط من الكتاب و السنّة، من دون أن يعبّر بلفظ الاجتهاد، فراجع.

______________________________

(1)- المبسوط 8/ 99- 101.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 167

و يرد على الحادي عشر أنّه خلاف ظاهر المقبولة و المشهورة، فإنّ الظاهر منهما هو نصبه قاضيا و حاكما. و لا يصحّ القول باختصاصهما بزمان الحضور، إذ لا يمكن القول بتعطيل أمر القضاء بآثاره في عصر الغيبة و كون المسلمين محرومين من هذا الأمر الضروري المتوقّف عليه حفظ الحقوق و النظام طول غيبة الإمام الثاني عشر «ع» و إن طالت ما طالت. هذا.

كلام بعض الأساتذة في كتابه جامع المدارك:

و لكن قال بعض الأساتذة- طاب ثراه- في كتابه جامع المدارك في شرح المختصر النافع ما محصّله بتوضيح منّا:

«المعروف أنّ القضاء

منصب من المناصب الشرعية، إذ هو ولاية و سلطة على الغير في نفسه أو ماله أو أمر من أموره، كولاية الأب و الجد، و ليس هو مثل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و الظاهر من المقبولة بقرينة الذيل، أعني قوله: «فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما و اختلفا فيما حكما، و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث» كون المورد من الشبهات الحكمية و الاختلاف في الحكم. و القضاء فيها بإنشاء الحكم و الإلزام من قبل الحاكم لا يتصوّر، إذ الإلزام فيها ثابت من ناحية الشارع فلا يعقل إلزام مولوى فوق إلزامه، و لا يكون أمر الحاكم فيها إلّا إرشادا إلى حكم الشارع. نظير الأمر بالمعروف، و أوامر الفقيه في مقام بيان الأحكام، بل أوامر النبيّ «ص» و الأئمّة «ع» في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى- أيضا.

فلو تنازع الوارث و الأجنبيّ الموهوب له في مرض الموت في كون منجّزات المريض من الثلث أو من الأصل، أو اختلف الوراث في حرمان الزوجة من أراضي غير

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 168

الرباع فحكم الحاكم بالخروج من الثلث أو الأصل أو حرمان الزوجة و عدم حرمانها ليس أزيد من بيان الحكم الإلهي الثابت له من طرف الشرع. و على هذا فالمقبولة ترتبط بباب الاستفتاء و الإفتاء لا القضاء المشتمل على إعمال الولاية.

نعم، في الاختلاف الموضوعيّ يتصوّر إعمال الولاية، كما لو اختلف المتنازعان في مال و كان أحدهما مدّعيا و الآخر منكرا فتفصل الخصومة بقضاء الحاكم بعد إقامة البيّنة أو اليمين و ينفذ القضاء فيها حتّى

في حقّ من يقطع بالخلاف، إذ الواقع غير مشخّص للقاضي و المقصود فيها رفع النزاع و التخاصم بالموازين المشروعة.

هذا مضافا إلى أنّه إذا فرضنا كون الاختلاف في الحكم الشرعي الكلّي فكيف يمكن المراجعة فيه إلى الحاكم مع اختلاف الحاكم و المحكوم عليه بحسب الاختلاف في الحجّة الشرعيّة اجتهادا أو تقليدا؟ و كيف ينفذ حكم الحاكم في حقّ من يراه باطلا بحسب اجتهاده أو تقليده؟ و المذكور في المقبولة أنّه إذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، و المحكوم عليه في الشبهة الحكميّة ربّما لا يرى الحكم حكمهم «ع» بل على خلاف حكمهم.

و يمكن أن يقرّر الإشكال بوجه ثالث، و هو أنّ الظاهر من الرواية كون الموضوع لوجوب القبول و التسليم تشخيص كون الحكم حكمهم- عليهم السلام-. و الظاهر من ذلك تشخيص المتنازعين و اعتقادهما لا تشخيص الحاكم و اعتقاده، و إذا فرض تشخيصهما لذلك كان الإلزام من هذه الناحية لا من ناحية حكم الحاكم، فلا يكون حكمه إلّا من قبيل الأمر بالمعروف لا من باب إعمال الولاية. و لا يفرّق فيه بين أن يكون الحاكم مجتهدا مطلقا أو متجزّيا أو مقلّدا، إذ المتخاصمان لا يأخذان إلّا بما ثبت كونه حكم اللّه بنظرهما و اعتقادهما. و كيف كان فالمقبولة ترتبط بباب الإفتاء لا بباب القضاء.

فإن قلت: قوله: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» ظاهر في جعل المنصب، فلا يناسب باب الإفتاء.

قلت: لعلّ الجعل هنا بمعنى القول و التعريف، كما مرّ عن لسان العرب عن الزجاج في قوله- تعالى-: «وَ جَعَلُوا الْمَلٰائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبٰادُ الرَّحْمٰنِ إِنٰاثاً»،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 169

فراجع.» «1» انتهى كلامه قدّس سرّه بتوضيح منّا.

أقول:

يمكن أن يجاب عن إشكاله- طاب ثراه- أوّلا: بأنّ الظاهر من قول السائل: «بينهما منازعة في دين أو ميراث» كون النزاع في الموضوع لا في الحكم، إذ الاختلاف و التنازع في الدين يقع بحسب الموضوع غالبا. و الظاهر من قول الإمام- عليه السلام-: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» أيضا هو جعل المنصب. و احتمال كون الجعل بمعنى القول و التعريف بعيد جدّا.

فالمقبولة تشتمل على ثلاث قطعات: صدرها مرتبط بباب القضاء في الموضوعات، أو الأعمّ منها و من الأحكام. و الوسط، أعني قوله: «فإن كان كلّ رجل اختار رجلا ...» يرتبط باختلاف المجتهدين في الحكم و ترجيح أحدهما على الآخر بالأفقهية و غيرها. و الذيل يرتبط بباب اختلاف الحديثين و بيان المرجّحات للحديث من الشهرة و موافقة الكتاب و نحوها، فراجع. و كون رواية واحدة مشتملة على أحكام و مسائل متعدّدة مختلفة غير عزيز، كما يظهر بالتّتبّع.

و ثانيا: بمنع ما ذكره أخيرا، إذ ليس المراد تشخيص المتنازعين بكون حكم الحاكم حكمهم- عليهم السلام- في كلّ واقعة واقعة، بل المراد أن يكون حكم الحاكم مستندا إلى حديثهم- عليهم السلام- في قبال الأحكام المستندة إلى الأقيسة و الاستحسانات الظنّيّة، كما يشهد بذلك ردعه «ع» عن الرجوع إلى قضاة الجور، و إرجاعه إلى من روى حديثهم و نظر في حلالهم و حرامهم. فإذا كان الحاكم من شيعتهم- عليهم السلام- فلا محالة يكون حكمه كذلك.

و ثالثا: أنّ كون الأمر أو النهي في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إرشاديا أيضا قابل للمنع، بل لعلّه يكون مولويّا مؤكّدا لأمر الشارع و نهيه، كما لعلّه يشهد

______________________________

(1)- جامع المدارك 6/ 3 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2،

ص: 170

بذلك قوله- تعالى-: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» حيث إنّه- تعالى- ذكر الأمر و النهي بعد إثبات مرتبة من الولاية لكلّ أحد على أحد حتّى يحقّ له الأمر و النهي.

و لعلّ القضاء في الشبهات الحكميّة و الاختلاف الحكمي أيضا كذلك و يكون نافذا واجب الإطاعة. فإذا فرض اختلاف الزوجة و سائر الورثة في أراضي غير الرباع بحسب الحكم الشرعي اجتهادا أو تقليدا فهل يوجد طريق لفصل الخصومة إلّا المراجعة إلى قاض عادل مجتهد يحكم بينهم و يقطع نزاعهم و إن كان فتواه مخالفا لفتوى أحد المتخاصمين أو مرجعه؟

و بالجملة فصدر المقبولة يرتبط بباب القضاء قطعا على ما هو الظاهر منها، فتدبّر.

و قد ظهر بما ذكرناه بالتفصيل إمكان الخدشة في جميع ما ذكره في الجواهر لجواز تصدّي المقلّد لأمر القضاء.

كلام للفاضل النراقي في المستند:

و في المستند- بعد ما نسب إلى المشهور اعتبار الاجتهاد و استدلّ له بالإجماع المنقول و بالأصل و باشتراط الإذن و لم يثبت لغير المجتهد- قال ما حاصله:

«إن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد الذي لم يقلّد حيّا أو ميتا بتقليد حيّ بل رجع إلى ظواهر الأخبار و كتب الفقهاء من غير قوّة الاجتهاد فهو كذلك و لا ينبغي الريب فيه.

و إن كان مرادهم نفي قضاء غير المجتهد مطلقا فبعد ما علمت من عدم حجّية الإجماع المنقول يعلم ضعف الأدلّة، لأنّ المقلّد إذا علم فتوى مجتهد في جميع تفاصيل واقعة حادثة بين متنازعين من مقلّديه يعلم حكم اللّه في حقّهما، فذلك المقلّد عارف عالم بحكم الشارع في حقّهما فيكون مأذونا بالأخبار المتقدّمة عالما بالحكم خارجا من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص:

171

تحت الأصل، إلّا أن يتحقّق إجماع على خلافه و هو غير محقّق. كيف؟! و كلمات أكثر القدماء خالية عن ذكر المجتهد أو ما يرادفه.

إلّا أنّه يمكن أن يقال: إنّ أكثر تلك الأخبار و إن كان مطلقا شاملا للمقلّد المذكور أيضا إلّا أنّ قوله «ع» في المقبولة: «ممّن قد روى حديثنا» و في التوقيع:

«فارجعوا إلى رواة أحاديثنا» مقيّد بالمجتهد، إذ المتبادر منه الراوي للحديث المستنبط المستخرج منه الأحكام على الطريق الذي ارتضاه الشارع.

و يدلّ على التخصيص أيضا المروي في مصباح الشريعة «1» المنجبر ضعفه بما ذكر أنّه قال أمير المؤمنين علي «ع» لقاض: هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا، قال:

فهل أشرفت على مراد اللّه- عزّ و جلّ- في أمثال القرآن؟ قال: لا، قال: إذا هلكت و أهلكت. و المفتي يحتاج إلى معرفة معاني القرآن و حقائق السنن و مواطن (بواطن خ. ل) الإشارات و الآداب و الإجماع و الاختلاف، و الاطلاع على أصول ما اجتمعوا (أجمعوا خ. ل) عليه و ما اختلفوا فيه، ثمّ إلى حسن الاختيار، ثمّ إلى العمل الصالح، ثمّ الحكمة، ثمّ التقوى. و قال الصادق «ع»: «لا يحلّ الفتيا لمن لا يستفتى (لا يصطفي خ. ل) من اللّه- عزّ و جلّ- بصفاء سرّه و إخلاص عمله و علانيته و برهان من ربّه في كلّ حال، لأنّ من أفتى فقد حكم و الحكم لا يصحّ إلّا بإذن من اللّه و برهانه.» «2»

أقول: تسليمه- قدّس سرّه- صدق عنوان العارف العالم على المقلّد بعيد من مثله و لا سيما لفظ العارف، حيث عرفت أنّ المعرفة لا تطلق إلّا مع الإحاطة بجميع خصوصيّات الشي ء و مميّزاته، و المقلّد ليس كذلك.

و أبعد من ذلك احتمال شمول

الروايات الواردة في فضل العلماء و الإرجاع إليهم المستدلّ بها للولاية و الإذن في القضاء لمن علم الحكم عن تقليد. هذا.

و أمّا ما رواه الكشي في عروة القتّات بسنده عن أحمد بن الفضل الكناسي، قال: قال

______________________________

(1)- مصباح الشريعة/ 41- 42 الباب 63 في الفتيا. (ط بيروت/ 16- 17، الباب 6 في الفتيا).

(2)- المستند 2/ 517.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 172

لي أبو عبد اللّه «ع»: «أيّ شي ء بلغني عنكم؟» قلت: ما هو؟ قال: «بلغني أنّكم أقعدتم قاضيا بالكناسة.» قال: قلت: نعم جعلت فداك، ذاك رجل يقال له: عروة القتّات و هو رجل له حظّ من عقل نجتمع عنده فنتكلّم و نتسائل ثمّ نردّ ذلك إليكم. قال:

«لا بأس.» «1» فليس دالّا على جواز تصدّى العاميّ للقضاء، بل دلالته على عدم الجواز أظهر. يظهر لك ذلك من اعتراض الإمام «ع» و من جواب الراوي، حيث يستفاد منه عدم تحقّق قضاء جازم، فتدبّر.

6- هل للفقيه أن ينصب المقلّد للقضاء؟

قد يقال إنّ الأدلّة الدالّة على الإذن كما مرّ و إن كانت تختصّ بالفقهاء و المجتهدين، و لكن يجوز للمجتهد المأذون فيه نصب مقلّده العالم بمسائل القضاء عن تقليد لأمر القضاء، بتقريب أنّ للنبيّ «ص» و الوصيّ بمقتضى الولاية المطلقة نصب كلّ أحد لذلك و إن لم يكن مجتهدا. و كلّ ما كان لهما كان للفقيه الجامع للشرائط أيضا، لعموم أدلّة الولاية و النيابة.

فإن قلت: لا نسلّم جواز نصب العاميّ من قبل النبيّ «ص» أو الوصيّ، لدلالة المقبولة على اعتبار الاجتهاد في المنصوب له.

قلت: إنّ المقبولة لا تدلّ إلّا على نصب الفقيه، و أمّا كون ذلك بإلزام شرعي و كون الفقاهة معتبرا بحكم الشرع فممنوع. فلعلّ الإمام الصادق «ع»

حيث أراد النصب بنحو عامّ راعى في نصبه جانب الاحتياط، فلم ينصب غير الفقيه حذرا من أن يتمتّع بهذا النصب بعض من لا يكون أهلا للقضاء، و على هذا فلا مانع من

______________________________

(1)- اختيار معرفة الرجال/ 371.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 173

نصب غير الفقيه أيضا بحسب الشرع و لا سيّما إذا كان لفرد خاصّ يكون تحت إشراف الوالي، كما كان شريح تحت إشراف أمير المؤمنين «ع».

هذا.

و لكن يمكن أن يقال- مضافا إلى ما مرّ من ظهور المقبولة في كون الإمام «ع» بصدد بيان شرائط القاضي و من يجوز التحاكم إليه شرعا لا شرائط المنصوب من قبله فقط- إنّ المستفاد من خبري سليمان بن خالد و إسحاق بن عمار المتقدّمين اختصاص القضاء شرعا بالنبيّ و الوصيّ، فلا أهلية لغيرهما له، غاية الأمر استثناء الفقيه الجامع للشرائط بالدليل فلا دليل على استثناء غيره. بل لعلّ الفقيه أيضا كما مرّ يكون من مصاديق الوصيّ، فإنّه وصيّ الوصيّ بمقتضى أدلّة الولاية و لا سيّما قوله: «اللّهم ارحم خلفائي»، فلا استثناء أصلا، فتأمّل.

و كيف كان فلا دليل على صحّة قضاء المقلّد و استثنائه. و لا يكفي في ذلك عموم دليل الولاية، إذ الولاية لا تتحقّق واقعا فيما لا شرعيّة له و مقتضى مفهوم الحصر في الخبرين عدم شرعيّة قضاء غير النّبيّ و الوصيّ. فبين الدليلين عموم من وجه فيتعارضان في نصب المقلّد للقضاء، إذ مقتضى عموم الولاية شرعيّته، و مقتضى عموم مفهوم الحصر عدم شرعيّته، و بعد تساقط الدليلين يرجع إلى الأصل في المسألة، و مقتضاه عدم الصحّة و الشرعيّة، فتأمّل.

7- هل يجوز للمجتهد أن يوكّل العاميّ المقلّد للقضاء؟

قد يقال سلّمنا أنّ القضاء منصب لا يصحّ جعله لغير الفقيه على ما

مرّ، و لكن يجوز للفقيه أن يوكّل المقلّد العالم بمسائل القضاء عن تقليد لذلك بإطلاق أدلة الوكالة. فهو يقضي في الوقائع نيابة عن الفقيه الذي وكّله. و لعلّ قوله «ع» في قصة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 174

اللّصّ الوارد على المرأة و قتل ولدها: «اقض على هذا كما وصفت لك» «1» كان من هذا القبيل.

و أجيب عن ذلك بمنع الإطلاق فيما توهّم إطلاقه من أدلّة الوكالة كصحيحة معاوية بن وهب و جابر بن يزيد جميعا عن أبي عبد اللّه «ع» أنّه قال: «من وكّل رجلا على إمضاء أمر من الأمور فالوكالة ثابتة أبدا حتّى يعلمه بالخروج منها كما أعلمه بالدخول فيها» «2»

و صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»: «في رجل وكّل آخر على وكالة في أمر من الأمور ... قال: نعم، إنّ الوكيل إذا وكّل ثمّ قام عن المجلس فأمره ماض أبدا، و الوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافه بالعزل عن الوكالة.» «3»

إذ التمسّك بالإطلاق يتوقّف على كون الخبرين في مقام البيان من هذه الجهة، و ليست الروايتان في مقام بيان ما فيه الوكالة، بل بيان أنّ الوكالة بعد ثبوتها تبقى ما لم يبلغه العزل، فتدبّر.

و توهّم كون التوكيل من الأمور العقلائية غير المحتاجة إلى دليل شرعي، بل يكفي فيها عدم الردع، مدفوع أوّلا بأنّ التمسك ببناء العقلاء إنّما يصحّ فيما ثبت بناؤهم و استقرّت سيرتهم عليه حتّى في عصر النبي «ص» و الأئمة «ع»، كما في العقود و الإيقاعات المتعارفة و الوكالة في أمثالها.

و أمّا الوكالة في القضاء فلم يثبت كونها أمرا متعارفا في تلك الأعصار. و ثبوت السيرة في

بعض مصاديق الوكالة لا يكفي لإثبات السيرة و الإمضاء في غيره.

و ثانيا على فرض ثبوت السيرة فما دلّ على حصر القضاء في النبيّ و الوصيّ،

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 45، الباب 23 من ابواب قصاص النفس، الحديث 2.

(2)- الوسائل 13/ 285، الباب 1 من أحكام الوكالة، الحديث 1.

(3)- الوسائل 13/ 286، الباب 2 من أحكام الوكالة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 175

و كذا المقبولة و نحوها يكفي في الردع عنها.

و بالجملة قد تحصّل لك مما مرّ بطوله أنّ القضاء أوّلا و بالذات للّه- تعالى- و لرسله و للأوصياء. و ثبوته لغيرهم يحتاج إلى دليل. و الأصل عدم نفوذه إلّا من أهله.

و القدر المتيقّن ممّن ثبت له في عصر الغيبة هم الفقهاء. و يشهد لذلك المقبولة و المشهورة و غيرهما من الأدلة.

و الاحتياط الذي يحكم به العقل و الشرع في باب الدماء و الأموال و الأعراض أيضا يقتضي رعاية هذا الشرط.

و قد ترى أنّ شريحا مع سابقته في أمر القضاء اشترط عليه أمير المؤمنين «ع» أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه:

ففي صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لما ولّى أمير المؤمنين «ع» شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتّى يعرضه عليه.» «1»

فهو- عليه السلام- كان يلتفت إلى أهميّة أمر القضاء، و أنّ له ارتباطا عميقا بالنفوس المحترمة و الأعراض و الأموال فتجب الدقّة و الاحتياط فيها.

و على هذا فإذا لم يوجد قضاة مجتهدون واجدون للشرائط بقدر المحاكم الدارجة كما لعلّه كذلك في عصرنا فالأحوط إن لم يكن أقوى تصدّي بعض من يقدر و يطلع على موازين القضاء إجمالا و لو عن تقليد لأمر التحقيق

و تهيّة المقدّمات، ثمّ يحال القضاء و الحكم الجازم إلى القاضي المجتهد الواجد للشرائط. و يجب على المجتهدين التصدّي لذلك و قبوله بقدر الكفاية، كما هو واضح. هذا.

و لكن لو لم يتيسّر ذلك بأيّ علة كان فلا يبعد أن يقال إنّه حيث لا يتصوّر حكومة إسلامية بدون سلطة القضاء و ربما كان ضرر تعطيل القضاء و إهماله كثيرا جدّا بحيث يخاف منه على بيضة الإسلام و كيان المسلمين ففي هذه الصورة يجوز بل يجب على الفقيه المتصدّي للحكومة الإسلامية نصب بعض الملتزمين المحتاطين ممّن

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 6، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 176

يطّلع على الموازين و لو عن تقليد أو توكيله بمقدار الضرورة، و لكن يراقب أعمالهم و على فرض الخطأ يجبر أخطاءهم. و وجه ذلك واضح بعد فرض الضرورة و الأهميّة.

و باب التزاحم باب واسع في الفقه يحلّ به كثير من الحوادث الواقعة.

و في الحديث عن الإمام الصادق «ع»: «ليس شي ء ممّا حرّم اللّه إلّا و قد أحلّه لمن اضطر إليه.» «1»

و ليس أمر القضاء بأهمّ من الإمامة الكبرى، و لو فرض عدم وجود الفقيه الواجد للشرائط لأن يتصدّى لها فلا شك في وجوب تصدّي المؤمنين العدول الواقفين على مصالح الإسلام و المسلمين لها، و لا يجوز تعطيلها أو إحالة أمور المسلمين إلى الطغاة الظالمين، فتدبّر.

8- هل يجزي التجزّي في الاجتهاد؟

على فرض اعتبار الاجتهاد في القاضي فهل يجزي التجزّي فيه، أو يعتبر كونه مجتهدا مطلقا، أو يفصّل بين وجود المطلق و عدمه؟ وجوه. و اختار التفصيل في كفاية الأحكام «2»

أقول: قد يقع الإشكال في أصل فرض التجزّي في الاجتهاد بتقريب أنّ الاجتهاد إن كان

عبارة عن الاستنباط الفعلي للأحكام بأن يستخرجها من أدلّتها التفصيلية بالفعل أمكن فيه التجزّي و التبعّض، و أمّا إذا أريد به ملكة الاستنباط و القدرة عليه فهي أمر بسيط، و أمرها دائر بين الوجود و العدم، فلا يتصوّر فيه تبعيض.

______________________________

(1)- الوسائل 16/ 137، الباب 12 من كتاب الايمان، الحديث 18.

(2)- كفاية الأحكام/ 261.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 177

اللّهم إلّا أن يقال إنّ مباني مسائل الفقه بحسب السهولة و الغموض مختلفة، و لعلّ استنباط بعض المسائل يتوقّف على إدراك بعض المباني الصعبة الدقيقة و الإحاطة بها، و بعضها يبتني على المباني السهلة الساذجة، و الأفراد بحسب مراتب الإدراك مختلفون فيمكن التجزّي و التبعيض. و تحقيق البحث موكول إلى محل آخر.

و كيف كان فاستدلّ في الكفاية لكفاية التجزّي بخبر أبي خديجة عن الصادق «ع»:

«انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه.» «1»

و لا يعارضه المقبولة الظاهرة في اعتبار الاجتهاد المطلق بمنطوقها بل بمفهومها، فيقدّم منطوق خبر أبي خديجة على مفهوم المقبولة لكونه أظهر. و إن شئت قلت: إنّه يخصّص إطلاق مفهوم المقبولة بمنطوق الخبر.

و لكن يرد على ذلك أوّلا أنّ إطلاق الخبر يقتضي كفاية التجزّي و إن تمكّنا من المجتهد المطلق.

و ثانيا أنّ خبر أبي خديجة ورد بنقل آخر و فيه: «اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته قاضيا.» «2»

و ظاهره اعتبار الاجتهاد المطلق كالمقبولة.

و كون النقلين روايتين مستقلتين صادرتين حتّى يؤخذ بكلّ منهما مشكل، إذ من المحتمل قريبا كونهما رواية واحدة وقع الاختلاف فيها من ناحية الرواة.

فلا مجال للاستدلال بها للمقام، فيرجع إلى الأصل في المسألة، و

مقتضاه عدم الكفاية.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2)- الوسائل 18/ 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6. و لفظة «عليكم» بعد قوله «جعلته» ليست في التهذيب بطبعيه و إن وجدت في الوسائل. و اعتمد في النقل على التهذيب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 178

و ربّما يقال: إنّ الظاهر من قوله: «عرف أحكامنا» و «عرف حلالنا و حرامنا»، هو المعرفة الفعليّة التفصيليّة، و من الواضح ندرة تحقّق ذلك بالنسبة إلى جميع الأحكام فيجزي التجزّي بحسب الفعليّة قطعا.

و لا بأس بهذا القول، فتدبّر.

9- هل يتعين الأعلم مع الإمكان أو لا؟
[كلمات الأصحاب]

قال المحقق في قضاء الشرائع:

«إذا وجد اثنان متفاوتان في الفضيلة مع استكمال الشرائط المعتبرة فيهما فإن قلّد الأفضل جاز. و هل يجوز العدول إلى المفضول؟ فيه تردّد. و الوجه الجواز، لأنّ خلله ينجبر بنظر الإمام.» «1»

و قال في المسالك ما ملخّصه:

«لا إشكال في رجحان تقديم الأعلم لكن هل يتعيّن ذلك؟ فيه قولان مرتّبان على أنّ المقلّد هل يجب عليه تقليد الأعلم أم يتخيّر؟ فيه قولان للأصوليين و الفقهاء:

أحدهما: الجواز، لاشتراك الجميع في الأهليّة، و لما اشتهر من أنّ الصحابة كانوا يفتون مع اشتهارهم بالاختلاف في الأفضلية و لم ينكر عليهم أحد من الصحابة، فيكون إجماعا منهم.

و الثاني: و هو الأشهر بين الأصحاب المنع، لأنّ الظنّ بقول الأعلم أقوى، و اتباع الأقوى أولى. و لأنّ أقوال المفتين بالنسبة إلى المقلّد كالأدلّة، فكما يجب العمل بالدليل الراجح يجب تقليد الأفضل. و رواية عمر بن حنظلة عن الصادق «ع» صريحة في هذا.

و في كل واحد من أدلة الجانبين نظر ...» «2»

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 69.

(2)- المسالك 2/ 353.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية،

ج 2، ص: 179

أقول: إن كان اختلاف المتخاصمين يرجع إلى الاختلاف في الحكم الشرعي الكلّي فترتّب اعتبار الأعلميّة في القاضي بينهما على اعتبارها في أمر التقليد واضح. و أمّا إذا كان اختلافهما في الموضوعات و كانت الشبهة موضوعيّة كما هو الغالب في الدعاوى فالترتّب على تلك المسألة غير واضح. هذا.

و لكن الأصل في المسألة يقتضي اعتبار الأعلميّة، فإنّه القدر المتيقّن.

[دليل القائل بعدم الاعتبار]

و للقائل بعدم الاعتبار أن يستدلّ بوجهين:

الأوّل: إطلاق المقبولة و المشهورة و التوقيع الشريف و نحوها ممّا استفيد منه ولاية الفقيه و الإذن له في القضاء. بل المشهورة بأحد النقلين تدلّ على كفاية التجزّي أيضا كما مرّ، فيكفي المطلق غير الأعلم بطريق أولى.

و دعوى عدم كون المقبولة و المشهورة في مقام البيان من هذه الجهة بل في مقام الردع عن الرجوع إلى قضاة الجور، مدفوعة. إذ الظاهر كونهما في مقام بيان عقد النفي و عقد الإثبات معا، و لا سيّما المقبولة فإنّها تشتمل على سؤالين و جوابين مستقلين: الأوّل: للردع عن الرجوع إليهم، و الثاني: للإرجاع إلى الفقهاء من شيعتهم، فراجع.

الثاني: استقرار السيرة في زمان النبيّ «ص» و الأئمة «ع» على الرجوع و الإرجاع إلى آحاد الصحابة من غير لحاظ الأعلميّة مع وضوح اختلافهم في الفضيلة، بل النبيّ «ص» أرجع بنفسه إلى بعض الصحابة مع وجود نفسه و وجود أمير المؤمنين «ع» الذي قال: هو «ص» في حقّه: «أقضاهم علي بن أبي طالب.» «1»

هذا.

______________________________

(1)- سنن ابن ماجة 1/ 55، المقدمة، الباب 11، الحديث 154.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 180

ما يستدلّ به على اعتبار الأعلميّة:

و يستدلّ على اعتبار الأعلميّة بأمور:

الأوّل: الأصل.

و يرد عليه أنّ الأصل لا يقاوم ما مرّ من الدليلين.

الثاني: ما في الجواهر من:

«الإجماع المحكيّ عن المرتضى في ظاهر الذريعة و المحقّق الثاني في صريح حواشي الجهاد من الشرائع على وجوب الترافع ابتداء إلى الأفضل و تقليده، بل ربّما ظهر من بعضهم أنّ المفضول لا ولاية له أصلا مع وجود الأفضل.» «1»

و يرد عليه عدم ثبوت الإجماع المفيد، بل المحقّق عدمه لعدم كون المسألة معنونة في كتب القدماء من أصحابنا. و قد مرّ

أنّ المقبولة و قد مرّ أن المقبولة و غيرها تشمل الأعلم و غيره، و عليه استقرّت السيرة أيضا.

و في الدروس:

«لو حضر الإمام في بقعة و تحوكم إليه فله ردّ الحكم إلى غيره إجماعا، فإنّ النبيّ «ع» كان يردّ الحكم إلى عليّ «ع» في مواضع.» «2»

و في الجواهر:

«لم نتحقّق الإجماع عن المحقّق الثاني، و إجماع المرتضى مبنيّ على مسألة تقليد

______________________________

(1)- الجواهر 40/ 45.

(2)- الدروس/ 171.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 181

المفضول الإمامة العظمى مع وجود الأفضل، و هو غير ما نحن فيه.» «1»

الثالث: أنّ الظنّ بقول الأعلم أقوى، و ترجيح المرجوح قبيح.

و يرد عليه مضافا إلى منع القوّة دائما إذ لعلّ المفضول يوافق كثيرا من أفاضل الأموات، أنّه لا دليل على تعيّن الأخذ بهذا الرجحان هنا بعد احتمال وجود الرجحان في تسهيل الأمر على الناس بالتخيير بين الأفضل و غيره. و إطلاق المقبولة و غيرها شاهد بذلك.

الرابع: ما في كتاب أمير المؤمنين «ع» لمالك: «ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم و لا يتمادى في الزلّة ...» «2»

و يرد عليه أنّه لا دلالة فيه على اعتبار الأعلميّة، إذ المراد بالأفضل في كلامه «ع» من اشتمل على صفات كماليّة عديدة ذكرها «ع»، كما يظهر بالمراجعة. و لو سلّم شمول إطلاقه للأعلميّة أيضا فهو في مقام بيان وظيفة الوالي، فلا يدلّ على تكليف المتخاصمين، فتأمّل.

الخامس: بعض الروايات الدالة على تقديم الأفقه على غيره:

ففي مقبولة عمر بن حنظلة السابقة: «قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، و اختلفا فيما حكما و كلاهما اختلفا في

حديثكم؟ قال: الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما،

______________________________

(1)- الجواهر 40/ 45.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1009؛ عبده 3/ 104؛ لح/ 434، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 182

و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.» «1»

و روى الصدوق بإسناده عن داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّه «ع» في رجلين اتّفقا على عدلين جعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف، فرضيا بالعدلين فاختلف العدلان بينهما، عن قول ايّهما يمضى الحكم؟ قال: «ينظر إلى أفقههما و أعلمهما بأحاديثنا و أورعهما فينفذ حكمه، و لا يلتفت إلى الآخر.» و رواه الشيخ أيضا «2».

و روى الشيخ بإسناده عن موسى بن أكيل، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سئل عن رجل يكون بينه و بين أخ له منازعة في حقّ فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما حكما. قال: و كيف يختلفان؟ قال: حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان. فقال: «ينظر إلى أعدلهما و أفقههما في دين اللّه فيمضى حكمه.» «3»

و من المحتمل رجوع الروايات الثلاث إلى قصّة واحدة، فإنّ الراوي عن عمر بن حنظلة كما مرّ هو داود بن الحصين، فلعلّ رواية الصدوق نقل بالمعنى لقطعة من الرواية الأولى و سقط عمر بن حنظلة من سندها، و موسى بن أكيل لم يكن سائلا بل كان حاضرا في المجلس حين ما سأل ابن حنظلة، فتدبّر.

نقل كلام صاحب العروة و نقده:

قال صاحب العروة في كتاب القضاء من ملحقاتها بعد اختيار تقديم الأعلم في البلد أو ما يقرب منه:

«لكون الإطلاقات مقيّدة بالأخبار الدالّة على الرجوع إلى المرجّحات عند اختلاف

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 75، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث

1. و يعتمد في النقل على الكافي 1/ 47، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.

(2)- الوسائل 18/ 80، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 20.

(3)- الوسائل 18/ 88، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 45.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 183

الحاكمين من الأفقهية و الأصدقيّة و الأعدليّة ...

و دعوى أنّ مورد أخبار المرجّحات التي هي العمدة في المقام خصوص صورة اختيار كلّ من المترافعين حاكما، أو صورة رضاهما بحكمين فاختلفا فلا دلالة فيها على وجوب الرجوع إلى الأعلم مطلقا، مدفوعة بأنّ الظاهر منها أنّ المدار على الأرجح عند التعارض مطلقا، كما هو الحال في الخبرين المتعارضين بل في صورة عدم العلم بالاختلاف أيضا، لوجوب الفحص عن المعارض.

لكنّ هذا إذا كان مدرك الحكم هو الفتوى و كان الاختلاف فيها، بأن كانا مختلفين في الحكم من جهة اختلاف الفتوى. و أمّا إذا كان أصل الحكم معلوما و كان المرجع إثبات الحقّ بالبيّنة و اليمين و الجرح و التعديل و نحو ذلك فلا دلالة في الأخبار على تعيّن الأعلم.» «1»

أقول: ما ذكره «قده» من عدم دلالة الروايات بالنسبة إلى الشبهة الموضوعيّة التي هي أكثر موارد الترافع واضح.

و أمّا ما ذكره من الدلالة في الشبهة الحكميّة مطلقا فيمكن المناقشة فيه، إذ مورد الروايات كما ذكر هو صورة اختيار كلّ منهما حاكما، أو رضاهما معا بحاكمين و اختلف الحاكمان في حكمهما. و حيث لا يرتفع التخاصم حينئذ إلّا بتعيّن أحدهما فلا محالة حكم الإمام «ع» بإعمال الترجيح و تقديم الأفقه الأعدل فلا دلالة لها على تعيّن اختياره في بادي الأمر و عدم جواز رضاهما بغير الأفقه.

بل المفروض في المقبولة اختيار أحدهما

لغير الأفقه، و لو لم يجز ذلك لكان على الإمام «ع» الردع عنه لا الاقتناع ببيان حكم اختلافهما فقط بإعمال الترجيح.

هذا مضافا إلى أنّ المستفاد من هذه الروايات هو الترجيح بالأعدليّة و الأصدقيّة و نحوهما أيضا، و لم نجد أحدا يفتي بتعيّنها في الابتداء.

نعم، لو قلنا في مسألة التقليد بتعيّن تقليد الأعلم، كما هو الأقوى في صورة

______________________________

(1)- ملحقات العروة الوثقى لآية اللّه المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي 3/ 8 و 9، كتاب القضاء الفصل 1، المسألة 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 184

العلم باختلافهما تفصيلا أو إجمالا في المسائل المبتلى بها، فالمترافعان لو جهلا حكم المسألة و كان غرضهما تحصيل العلم بها فلا محالة يجب عليهما من أوّل الأمر الرجوع إلى الأعلم. و أمّا إذا علما بها عن اجتهاد أو تقليد صحيح و اختلفا في النظر، كما إذا كان نظر الورثة كون منجّزات المريض من الثلث و نظر الموهوب له في مرض الموت كونها من الأصل فاحتاجا إلى الترافع و القضاء، فلا دليل حينئذ على تعيّن الرجوع إلى الأعلم، بل إطلاق المقبولة و غيرها يقتضي العدم، فتأمّل.

و كيف كان فمقتضى إطلاق المقبولة و المشهورة و التوقيع الشريف ممّا دلّ على الإذن في القضاء هو كفاية الاجتهاد و عدم اعتبار الأعلميّة و لم نجد ما يوجب رفع اليد عن هذا الإطلاق، فالظاهر عدم اعتبارها. و لو سلّم فالظاهر أنّ المراد به هو الأعلم في البلد و ما يقرب منه لا مطلقا كما هو واضح. هذا كلّه في مسألة القضاء.

و أمّا مسألة التقليد فللتفصيل فيها محل آخر. و ملخّص الكلام فيها أنّه إن كان المستند للتقليد هي الروايات كالتوقيع الشريف و

رواية تفسير الإمام و نحوهما فالإطلاق فيها يقتضي العموم و عدم تعيّن الأعلم.

و أمّا إذا قلنا بكون المستند فيه هو بناء العقلاء في رجوع الجاهل في كلّ فنّ إلى أهل الخبرة فيه و أنّه ليس للشرع فيه تأسيس فالظاهر أنّ العقلاء مع العلم باختلاف أهل الخبرة كالأطبّاء مثلا تفصيلا أو إجمالا في المسائل المبتلى بها لهذا المقلّد يقدّمون الأعلم على غيره، بل لعلّهم كذلك مطلقا في المسائل المهمّة كالمريض الذي يخاف عليه التلف اللّهم إلّا إذا كان فتوى غير الأعلم مطابقا للاحتياط أو حصل منه وثوق و اطمينان أقوى.

نعم، في المسائل الساذجة غير المهمة ربّما يرجعون فيها إلى غير الأعلم أيضا، لكونه أسهل أو أقرب أو أخفّ مئونة و نحو ذلك.

و لا يخفى أنّ المسائل الدينية كلّها مهمّة عند الشارع و المتشرعة. و الاشتغال اليقيني بها يقتضي تحصيل البراءة اليقينيّة، و أصالة عدم الحجّيّة أيضا تقتضي تعيّن الأعلم، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 185

10- اهتمام الإسلام بالقسط و العدل و الحكم بالحقّ:
[الآيات]

1- قال اللّه- تعالى-: «لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ، وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ.» «1»

يظهر من الآية الشريفة أنّ من الأهداف الأساسيّة لبعث الرسل و إنزال الكتب و وضع الموازين المقرّرة هو القسط، و قد جعل اللّه الحديد و السلاح ضمانة لتنفيذها و إجرائها.

2- و قال: مخاطبا للنبيّ الأكرم «ص»: «وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.» «2»

3- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ لِلّٰهِ شُهَدٰاءَ بِالْقِسْطِ، وَ لٰا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلىٰ أَلّٰا تَعْدِلُوا، اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوىٰ، وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ خَبِيرٌ بِمٰا تَعْمَلُونَ.» «3»

4-

و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ، إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّٰهُ أَوْلىٰ بِهِمٰا، فَلٰا تَتَّبِعُوا الْهَوىٰ أَنْ تَعْدِلُوا، وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللّٰهَ كٰانَ بِمٰا تَعْمَلُونَ خَبِيراً.» «4»

5- و قال: «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ.» «5»

6- و قال: «فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.» «6»

______________________________

(1)- سورة الحديد (57)، الآية 25.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 42.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 8.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 135.

(5)- سورة الأعراف (7)، الآية 29.

(6)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 186

7- و قال: «وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ، لٰا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا، وَ إِذٰا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ.» «1»

8- و قال: «وَ نَضَعُ الْمَوٰازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيٰامَةِ فَلٰا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَ إِنْ كٰانَ مِثْقٰالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنٰا بِهٰا وَ كَفىٰ بِنٰا حٰاسِبِينَ.» «2»

9- و قال: «لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.» «3»

10- و قال: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللّٰهَ نِعِمّٰا يَعِظُكُمْ بِهِ، إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ سَمِيعاً بَصِيراً.» «4»

11- و قال: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي الْقُرْبىٰ، وَ يَنْهىٰ عَنِ الْفَحْشٰاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.» «5»

12- و قال: «فَلِذٰلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَمٰا أُمِرْتَ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ، وَ قُلْ آمَنْتُ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ مِنْ كِتٰابٍ، وَ

أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللّٰهُ رَبُّنٰا وَ رَبُّكُمْ، لَنٰا أَعْمٰالُنٰا وَ لَكُمْ أَعْمٰالُكُمْ.» «6»

13- و قال: «وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.» «7»

14- و قال: «يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 152.

(2)- سورة الأنبياء (21)، الآية 47.

(3)- سورة الممتحنة (60)، الآية 8.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 58.

(5)- سورة النحل (16)، الآية 90.

(6)- سورة الشورى (42)، الآية 15.

(7)- سورة المائدة (5)، الآية 48.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 187

الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ بِمٰا نَسُوا يَوْمَ الْحِسٰابِ.» «1»

إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعدل و القسط و الحكم بالحقّ.

[الروايات]

15- و في نهج البلاغة فيما ردّه أمير المؤمنين «ع» من قطائع عثمان: «و اللّه لو وجدته قد تزوج به النساء و ملك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة. و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.» «2»

أقول: و وجهه أنّه إذا كان الحاكم على النظام هو العدل ففي ظلّه تحفظ و تصان حقوق جميع الأفراد و الطبقات، و أمّا إذا فشا الجور و الظلم صار مثله مثل النار إذا أصابت الديار يحرق بها الرطب و اليابس.

16- و في نهج البلاغة أيضا مخاطبا لزياد عامله على فارس و أعمالها: «استعمل العدل و احذر العسف و الحيف، فإنّ العسف يعود بالجلاء، و الحيف يدعو إلى السيف.» «3»

أقول: العسف: الشدّة في غير حقّ. و الجلاء: التفرّق و ترك الأوطان. و الحيف:

الميل إلى

الظلم. و ظلم الحاكم و عمّاله هو العامل الأساسي لثورة الأمّة و قيامهم بالسيف في قبال الحكومة.

17- و في أصول الكافي عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «العدل أحلى من الشهد و ألين من الزبد و أطيب ريحا من المسك.» «4»

18- و في الوسائل عن أبي إبراهيم «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-:

______________________________

(1)- سورة ص (38)، الآية 26.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 66؛ عبده 1/ 42؛ لح/ 57، الخطبة 15.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1304؛ عبده 3/ 266؛ لح/ 559، الحكمة 476.

(4)- أصول الكافي 2/ 147، كتاب الإيمان و الكفر، باب الإنصاف و العدل، الحديث 15.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 188

«يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا.»* قال: «ليس يحييها بالقطر، و لكن يبعث اللّه رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل.» «1»

19- و فيه عن رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 188

و حدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.» «2»

20- و في نهج البلاغة خطابا لعثمان: «فاعلم أنّ أفضل عباد اللّه عند اللّه، إمام عادل هدي و هدى، فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة.» «3»

21- و في سنن الترمذي عن رسول اللّه «ص»: «إنّ أحبّ الناس إلى اللّه يوم القيامة و أدناهم منه مجلسا إمام عادل. و أبغض الناس إلى اللّه- تعالى- و أبعدهم منه مجلسا إمام جائر.» «4»

22- و فيه أيضا عنه «ص»: «اللّه مع القاضي ما لم يجر، فإذا

جار تخلّى عنه و لزمه الشيطان.» «5»

23- و في الوسائل عنه «ص»: «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس فإمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النار.» «6»

24- و في تفسير مجمع البيان في تفسير قوله- تعالى-: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا»، قال:

«ورد في الآثار أنّ صبيّين ارتفعا إلى الحسن بن علي «ع» في خطّ كتباه و حكّماه في ذلك ليحكم أيّ الخطّين أجود، فبصر به عليّ «ع» فقال: يا بنيّ انظر كيف تحكم، فإنّ هذا حكم و اللّه سائلك عنه يوم القيامة.» «7»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 526؛ عبده 2/ 85؛ لح/ 234، الخطبة 164.

(4)- سنن الترمذي 2/ 394، أبواب الأحكام، الباب 4، الحديث 1344.

(5)- سنن الترمذي 2/ 395، أبواب الأحكام، الباب 4، الحديث 1345.

(6)- الوسائل 18/ 167، الباب 12 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(7)- مجمع البيان 2/ 64. (الجزء 3).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 189

25- و في الوسائل عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه- عزّ و جلّ- فهو كافر باللّه العظيم.» «1»

26- و في نهج البلاغة: «و أيم اللّه لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، و لأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ و إن كان كارها.» «2»

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الواردة في وجوب العدل و بركات العدل و العادل، و ذمّ الجور و الجائر، فراجع مظانّها. هذا.

و ليس معنى العدالة تساوي الأفراد في المواهب و الأعمال و

المناصب، بل المراد بها إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، و تقديم الضوابط و الموازين التي شرّعها اللّه- تعالى- على أساس الطبائع و القابليات على الأهواء و العلاقات الشخصيّة، و إلّا فالمناصب و الأعمال إنّما تفوّض على أساس القابليّات. و عدم رعاية الاستعدادات و القابليّات و الاختصاصات المكتسبة فيها ظلم على الشخص و على الأمّة.

و قد مرّ عن رسول اللّه «ص»: «من استعمل رجلا من عصابة و فيهم من هو أرضى للّه منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين.» «3» و نحوه غيره.

و في نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك: «و لا يكوننّ المحسن و المسي ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلّا منهم ما ألزم نفسه.» «4»

يعني أنّ المسي ء بإساءته ألزم نفسه استحقاق اللوم و العقاب، و المحسن بإحسانه ألزمها استحقاق الكرامة و الثواب. هذا.

و في ظلّ العدل الاجتماعي و إعطاء المناصب و الأعمال على أساس القابليّات

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 18، الباب 5 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 417؛ عبده 2/ 26؛ لح/ 194، الخطبة 136.

(3)- كنز العمال 6/ 25، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14687.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 1000؛ عبده 3/ 98؛ لح/ 430، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 190

و التخصّصات تنمو القابليّة و تبرز الاستعدادات الكامنة قهرا.

نعم، جميع آحاد المجتمع و طبقاته متشاركون و متساوون أمام القانون، كما يأتي بيانه في البند الآتي.

11- المساواة أمام القانون:

يتميّز الحكم الإسلامي عن غيره بأنّه لا يفرّق فيه بين أفراد المجتمع و طبقاته في تطبيق القوانين الحقوقيّة و

الجزائيّة عليهم و إخضاعهم لها. فلا فرق فيه بين القويّ و الضعيف، و الرئيس و المرؤوس، و الراعي و الرعيّة، و العربي و الأعجمي، و الأسود و الأحمر، و الغنيّ و الفقير، بل و البرّ و الفاجر. فالقانون للجميع واحد و الحاكم واحد و المحكمة واحدة.

نعم، للتّقوى كرامتها و قداستها المعنوية كما قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ، إِنّٰا خَلَقْنٰاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثىٰ وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ.» «1»

و عن رسول اللّه «ص»: «أيّها الناس، ألا إنّ ربّكم واحد و إنّ أباكم واحد. ألا لا فضل لعربيّ على عجميّ و لا عجميّ على عربي، و لا لأسود على أحمر و لا لأحمر على أسود إلّا بالتقوى.» «2»

كما أنّ الأعمال و المناصب لا تنال إلّا بالقابليّات و المؤهّلات و ليست جزافية كما مرّ آنفا، و لكن القوانين الحقوقيّة و الجزائية شاملة للجميع على وزان واحد، و لا يوجب الاختلاف في النسب أو اللون أو الوطن أو اللغة أو المنصب تفاوتا فيها:

1- فنرى الكتاب الكريم يقول في باب القصاص حاكيا عن التوراة: «وَ كَتَبْنٰا عَلَيْهِمْ فِيهٰا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ، وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ،

______________________________

(1)- سورة الحجرات (49)، الآية 13.

(2)- تفسير القرطبي 16/ 342. (في تفسير سورة الحجرات).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 191

وَ الْجُرُوحَ قِصٰاصٌ. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّٰارَةٌ لَهُ، وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ.» «1»

فلم يفرّق فيه بين نفس و نفس.

2- و عن النبيّ «ص»: «الناس كأسنان المشط سواء.» «2»

3- و عنه أيضا: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه

من القويّ غير متتعتع.» «3»

4- و قد جسّد النبيّ «ص» هذه المساواة على نفسه في قصّته مع سوادة: ففي سفينة البحار: «سوادة بن قيس هو الذي قال للنبيّ «ص» في أيّام مرضه «ص»:

يا رسول اللّه، إنّك لمّا أقبلت من طائف استقبلتك و أنت على ناقتك العضباء و بيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب و أنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فأمره النبيّ «ص» أن يقتصّ منه فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول اللّه، فكشف عن بطنه، فقال سوادة: أ تأذن لي أن أضع فمي على بطنك، فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول اللّه من النار يوم النار، فقال «ص»:

يا سوادة بن قيس، أ تعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول اللّه. فقال: اللّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيّك محمد «ص».» «4»

5- و في صحيح مسلم: «إنّ قريشا أهمّهم شأن المرأة المخزوميّة التي سرقت، فقالوا من يكلّم فيها رسول اللّه «ص»، فقالوا: و من يجتري عليه إلّا أسامة حبّ رسول اللّه «ص»، فكلّمه أسامة، فقال رسول اللّه «ص»: أتشفع في حدّ من حدود اللّه؟

ثمّ قام فاختطب فقال: أيّها الناس، إنّما أهلك الذين قبلكم أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، و أيم اللّه لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 45.

(2)- الفقيه 4/ 379، باب النوادر، الحديث 5798.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1021؛ عبده 3/ 113؛ لح/ 439، الكتاب 53.

(4)- سفينة البحار 1/ 671. (باب السين، سوادة بن قيس.).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 192

لقطعت يدها.» «1»

6- و في صحيحة محمد بن قيس، عن

أبي جعفر «ع»، قال: «كان لأمّ سلمة زوج النبيّ «ص» أمة فسرقت من قوم، فأتى بها النبيّ «ص» فكلّمته أمّ سلمة فيها، فقال النبيّ «ص»:

يا أمّ سلمة، هذا حدّ من حدود اللّه لا يضيع، فقطعها رسول اللّه «ص».» «2»

7- و روى الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال أمير المؤمنين «ع» لعمر بن الخطّاب: ثلاث إن حفظتهنّ و عملت بهنّ كفتك ما سواهنّ، و إن تركتهنّ لم ينفعك شي ء سواهنّ.

قال: و ما هنّ يا أبا الحسن؟ قال: «إقامة الحدود على القريب و البعيد، و الحكم بكتاب اللّه في الرضا و السخط، و القسم بالعدل بين الأحمر و الأسود.» قال عمر: لعمري لقد أوجزت و أبلغت.» «3»

8- و في حديث أنّ إحدى بنات أمير المؤمنين «ع» استعارت من أمين بيت المال علي بن أبي رافع عقد لؤلؤ كان فيه، عارية مضمونة، فقال له أمير المؤمنين «ع»: «أ تخون المسلمين؟» فقال: معاذ اللّه أن أخون المسلمين، فقال:

كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني و رضاهم؟

فقال: يا أمير المؤمنين، إنّها ابنتك و سألتني أن أعيرها إيّاه تتزيّن به، فأعرتها إيّاه عارية مضمونة مردودة، فضمنته في مالي و عليّ أن أردّه سليما إلى موضعه.

قال: فردّه من يومك، و إيّاك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي ثمّ أولى لابنتي لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة مردودة لكانت إذا أوّل هاشميّة قطعت يدها في سرقة.

قال: فبلغ مقالته ابنته فقالت له: يا أمير المؤمنين: أنا ابنتك و بضعة منك، فمن أحقّ بلبسه منّي؟

فقال لها أمير المؤمنين «ع»: يا بنت علي بن أبي طالب، لا تذهبنّ بنفسك عن الحقّ، أ كلّ نساء المهاجرين تتزيّن

في هذا العيد بمثل هذا؟!

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1315، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف و غيره، الحديث 1688.

(2)- الوسائل 18/ 332، الباب 20 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 156، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 193

قال: فقبضته منها و رددته إلى موضعه «1».

9- و في كتاب لأمير المؤمنين «ع» إلى بعض عمّاله حين اختطف بعض ما كان عنده من أموال المسلمين: «و اللّه لو أنّ الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة و لا ظفرا منّي بإرادة حتّى آخذ الحقّ منهما و أزيل الباطل عن مظلمتهما.» «2»

10- و في البحار عن المناقب:

«بلغ معاوية أنّ النجاشي هجاه قدّس قوما شهدوا عليه عند عليّ «ع» أنّه شرب الخمر، فأخذه عليّ «ع» فحدّه، فغضب جماعة على عليّ «ع» في ذلك، منهم طارق بن عبد اللّه النهدي، فقال: يا أمير المؤمنين ما كنّا نرى أنّ أهل المعصية و الطاعة و أهل الفرقة و الجماعة عند ولاة العقل و معادن الفضل سيّان في الجزاء حتّى ما كان من صنيعك بأخي الحارث- يعني النجاشي- فأوغرت صدورنا و شتتت أمورنا، و حملتنا على الجادّة الّتي كنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النار. فقال عليّ «ع»: «إنّها لكبيرة إلّا على الخاشعين.» يا أخا بني نهد، هل هو إلّا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرمة اللّه فأقمنا عليه حدّها زكاة له و تطهيرا؟ يا أخا بني نهد، إنّه من أتى حدّا فأليم (فأقيم) كان كفّارته. يا أخا بني نهد، إنّ اللّه- عزّ و جلّ- يقول في كتابه العظيم: «و لا يجرمنّكم شنآن

قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى.»

فخرج طارق و النجاشي معه إلى معاوية و يقال: إنّه رجع.» «3»

فالنجاشي مع كونه من أشراف شيعة عليّ «ع» و ممّن هجا معاوية لأجله «ع» لمّا قام عليه الشهود بشرب الخمر أقام «ع» عليه الحدّ، و بذلك جسّد «ع» العدالة و المساواة أمام القانون.

11- و من أظهر مظاهر العدل و المساواة أنّ أمير المؤمنين- عليه السلام- في عصر

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 10/ 151، كتاب الحدود، باب من الزيادات، الحديث 37؛ و الوسائل 18/ 521، الباب 26 من أبواب حدّ السرقة، الحديث 1.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 957؛ عبده 3/ 74؛ لح/ 414، الكتاب 41.

(3)- بحار الأنوار 41/ 9، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 100، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 194

خلافته و حكومته حضر مجلس القضاء عند شريح القاضي و جلس في جنب يهودي مخاصم؛ ففي البحار أيضا، عن المناقب، عن حلية الأولياء و نزهة الأبصار:

«أنّه مضى عليّ «ع» في حكومة إلى شريح مع يهودي فقال: يا يهوديّ، الدرع درعي و لم أبع و لم أهب. فقال اليهودي: الدرع لي و في يدي، فسأله شريح البيّنة، فقال «ع»: هذا قنبر و الحسين يشهدان لي بذلك. فقال شريح: شهادة الابن لا تجوز لأبيه. و شهادة العبد لا تجوز لسيّده و إنّهما يجرّان إليك. فقال أمير المؤمنين «ع»:

ويلك يا شريح، أخطأت من وجوه: أمّا واحدة فأنا إمامك تدين اللّه بطاعتي و تعلم أنّي لا أقول باطلا، فرددت قولي و أبطلت دعواي، ثمّ سألتني البيّنة فشهد عبد، و أحد سيدي شباب أهل الجنة فرددت شهادتهما، ثمّ ادّعيت عليهما أنّهما يجرّان إلى أنفسهما. أما إنّي

لا أرى عقوبتك إلّا أن تقضي بين اليهود ثلاثة أيّام، أخرجوه. فأخرجه إلى قبا، فقضى بين اليهود ثلاثا ثمّ انصرف. فلمّا سمع اليهودي ذلك قال: هذا أمير المؤمنين جاء إلى الحاكم و الحاكم حكم عليه، فأسلم ثمّ قال: الدرع درعك سقطت يوم صفين من جمل أورق فأخذتها.» «1» هذا.

12- و في نهج البلاغة و من كلام له- عليه السلام- لمّا عوتب على التسوية في العطاء: «أ تأمرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه؟ و اللّه ما أطور به ما سمر سمير، و ما أمّ نجم في السماء نجما. لو كان المال لي لسوّيت بينهم، فكيف و إنّما المال مال اللّه! ألا و إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير و إسراف، و هو يرفع صاحبه في الدنيا و يضعه في الآخرة و يكرمه في الناس و يهينه عند اللّه. و لم يضع امرؤ ماله في غير حقّه و لا عند غير أهله إلّا حرّمه اللّه شكرهم و كان لغيره ودّهم، فإن زلت به النعل يوما فاحتاج إلى معونتهم فشرّ خدين و ألأم خليل.» «2»

أقول: قوله «ما أطور به ما سمر سمير»، أي لا أفعله و لا أقاربه مدى الدهر. و الخدين:

الصديق.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 41/ 56، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 105، الحديث 6.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 389؛ عبده 2/ 10؛ لح/ 183، الخطبة 126.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 195

13- و في كنز العمّال: «إيّاكم و الإقراد، يكون أحدكم أميرا أو عاملا فتأتي الأرملة و اليتيم و المسكين فيقال: اقعد حتّى ننظر في حاجتك فيتركون مقردين لا تقضى لهم حاجة و لا يؤمروا فينفضّوا، و يأتي الرجل الغنيّ الشريف

فيقعده إلى جانبه ثمّ يقول: ما حاجتك؟ فيقول:

حاجتي كذا و كذا فيقول: اقضوا حاجته و عجّلوا.» (حل عن أبي هريرة) «1»

أقول: أقرد الرجل: إذا سكت ذلّا، كما في النهاية. «2»

14- و في خاتمة هذا البحث نذكر تفسيرا ذكره أمير المؤمنين «ع» للحقّ، و هو من أبلغ الكلمات و ألطفها في بيان أنّ جميع آحاد الناس في عرض واحد أمام الحقّ و القانون، قال «ع»:

«أمّا بعد فقد جعل اللّه- سبحانه- لي عليكم حقّا بولاية أمركم، و لكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم. فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف، و أضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلّا جرى عليه، و لا يجري عليه إلّا جرى له. و لو كان لأحد أن يجري له و لا يجرى عليه لكان ذلك خالصا للّه- سبحانه- دون خلقه، لقدرته على عباده و لعدله في كلّ ما جرت عليه صروف قضائه.» «3»

و خلاصة الكلام أنّ الإسلام جاء و البشر أجناس متفرّقون يتعادون و يتفاضلون في الأنساب و الألوان و اللغات و الأوطان، و الأديان و المذاهب و المشارب، و الشعوب و القبائل، و الحكومات و السياسات، يقاتل كلّ فريق منهم من خالفه في شي ء من هذه العلاقات البشرية، فدعاهم إلى الوحدة و التآخي و المساواة أمام القوانين العادلة الصالحة لحفظ الحقوق و إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه.

فمن الأسف عدم معرفة المسلمين لبرامج الإسلام و عدم التفاتهم إلى مزاياها، و اغترارهم بما ورد من الغرب و الشرق.

______________________________

(1)- كنز العمال 6/ 29 الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 14705.

(2)- النهاية لابن الأثير 4/ 36.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 681؛ عبده 2/ 223؛ لح/ 332، الخطبة 216.

دراسات في ولاية الفقيه

و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 196

12- استقلال القاضي:

لا يخفى أنّ انسجام النظام و سلامة الملك و المجتمع يتوقّف على سلامة أمر القضاء و قوّته، كما مرّ.

و لا يحصل ذلك إلّا باستقلال القاضي و قوّته في السياسة و الاقتصاد حتّى لا يطمع أحد في إجباره و إخضاعه أو استمالته و إطماعه.

و قد ألفت أمير المؤمنين «ع» إلى هذه النكتة المهمّة في عهده إلى مالك، فقال عقيب الإشارة إلى مواصفات من ينتخب للقضاء: «ثمّ أكثر تعاهد قضائه و افسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته إلى الناس. و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك، فانظر في ذلك نظرا بليغا.» «1»

و بالجملة، فيجب أن يكون القاضي مستقلا في الفكر و الإرادة، قويّا في التصميم و القرار، غير متأثّر بشي ء من السلطات السياسيّة و الاقتصاديّة.

و إنّما عدّت سلطة القضاء مستقلة عن سلطة التنفيذ لئلا تتأثّر عنها و لتعمّ سلطته مراتب سلطة التنفيذ فيها منها جميع الوزراء و العمّال و الأمراء، بل قد رأيت أنّ أمير المؤمنين «ع» أيضا في عصر خلافته حضر مجلس قضاء شريح مع خصمه اليهودي. فيعلم بذلك أهميّة موقعية القاضي. و لو لا ذلك لأثّرت السلطات السياسيّة أو الاقتصاديّة في أمر القضاء و القضاة، فتدبّر.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1010؛ عبده 3/ 105؛ لح/ 435، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 197

13- بعض آداب القضاء:

و نكتفي في هذا المجال بذكر بعض الأخبار و كلام الشيخ في النهاية، و التفصيل يطلب من محلّه:

1- روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأوّل حتّى تسمع من

الآخر، فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء.» «1»

2- و روى الصدوق بسنده، عن الرضا «ع»، عن آبائه، عن علي «ع»، قال:

قال النبيّ «ص» لمّا وجّهني إلى اليمن: «إذا تحوكم إليك فلا تحكم لأحد الخصمين دون أن تسأل من الآخر. قال: فما شككت في قضاء بعد ذلك.» «2»

3- و روى العياشي، عن الحسن، عن عليّ «ع»: أنّ النبيّ «ص» بعثه ... فقال:

«إنّ الناس سيتقاضون إليك، فإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتّى تسمع الآخر، فإنّه أجدر أن تعلم الحقّ.» «3»

4- صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كان أمير المؤمنين «ع» لا يأخذ بأوّل الكلام دون آخره.» «4»

5- و روى السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «من ابتلى

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 158، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(2)- الوسائل 18/ 159، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 6.

(3)- الوسائل 18/ 159، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 7.

(4)- الوسائل 18/ 158، الباب 4 من أبواب آداب القاضي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 198

بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة و في النظر و في المجلس.» «1»

6- و بهذا الإسناد أنّ رجلا نزل بأمير المؤمنين «ع» فمكث عنده أيّاما ثمّ تقدّم إليه في خصومة (حكومة خ. ل) لم يذكرها لأمير المؤمنين «ع» فقال له: «اخصم أنت؟» قال: نعم. قال:

«تحوّل عنّا، فإنّ رسول اللّه «ص» نهى أن يضاف الخصم إلّا و معه خصمه.» «2».

7- و روى السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من ابتلى بالقضاء فلا يقضي و هو غضبان.» «3»

8- و روى الكليني: قال

أمير المؤمنين «ع» لشريح: «لا تشاور (لا تسارّ) أحدا في مجلسك. و إن غضبت فقم، و لا تقضينّ و أنت غضبان.» قال: و قال أبو عبد اللّه «ع»: «لسان القاضي وراء قلبه، فإن كان له قال، و إن كان عليه أمسك.» «4»

9- و روى الكليني بسنده، عن سلمة بن كهيل، قال: سمعت عليّا «ع» يقول لشريح: «انظر إلى أهل المعك و المطل و دفع حقوق الناس من أهل المقدرة و اليسار ممّن يدلي بأموال الناس إلى الحكّام، فخذ للناس بحقوقهم منهم و بع فيها العقار و الديار. فإنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم» و من لم يكن له عقار و لا دار و لا مال فلا سبيل عليه. و اعلم أنّه لا يحمل الناس على الحقّ إلّا من ورعهم عن الباطل.

ثم واس بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك حتّى لا يطمع قريبك في حيفك و لا ييأس عدوّك من عدلك.

و ردّ اليمين على المدّعي مع بيّنته، فإنّ ذلك أجلى للعمى و أثبت في القضاء.

و اعلم أنّ المسلمين عدول بعضهم على بعض إلّا مجلود في حدّ لم يتب منه أو معروف بشهادة زور، أو ضنين.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 157، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2)- الوسائل 18/ 157، الباب 3 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 156، الباب 2 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 156، الباب 2 من أبواب آداب القاضي، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 199

و إيّاك و التضجّر و التأذّي في مجلس القضاء، الذي أوجب اللّه فيه الأجر و يحسن فيه الذخر لمن قضى بالحقّ.

و

اعلم أنّ الصلح جائز بين المسلمين إلّا صلحا حرّم حلالا أو أحلّ حراما، و اجعل لمن ادعى شهودا غيّبا أمدا بينهما (بينهم)، فإن أحضرهم أخذت له بحقّه، و إن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية.

و إيّاك أن تنفذ قضية في قصاص أو حدّ من حدود اللّه أو حقّ من حقوق المسلمين حتّى تعرض ذلك عليّ ان شاء اللّه. و لا تقعد في مجلس القضاء حتّى تطعم.» و رواه الشيخ و الصدوق أيضا «1».

10- و في سنن أبي داود بسنده، عن عبد اللّه بن الزبير، قال: «قضى رسول اللّه «ص» أنّ الخصمين يقعدان بين يدي الحكم.» «2»

11- و فيه أيضا:

«دخل رجلان من أبواب كندة، و أبو مسعود الأنصاري جالس في حلقة، فقالا:

ألا رجل ينفّذ بيننا؟ فقال رجل من الحلقة: أنا. فأخذ أبو مسعود كفّا من حصى فرماه به و قال: مه، إنّه كان يكره التسرّع إلى الحكم.» «3»

12- و في سنن الترمذي بسنده، عن أبي هريرة، قال: «لعن رسول اللّه «ص» الراشي و المرتشي في الحكم.» «4»

13- و في الوسائل، عن سماعة، عن أبي عبد اللّه «ع»: «و أمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 155، الباب 1 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2)- سنن أبي داود 2/ 271، كتاب الأقضية، باب كيف يجلس الخصمان بين يدي القاضي.

(3)- سنن أبي داود 2/ 269، كتاب الأقضية، باب في طلب القضاء و التسرّع إليه.

(4)- سنن الترمذي 2/ 397، أبواب الأحكام، الباب 9، الحديث 1351.

(5)- الوسائل 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 200

14- و في كنز العمال، عن أمّ سلمة: «من ابتلي بالقضاء

بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مقعده و مجلسه.» «1»

15- و فيه أيضا عن أمّ سلمة: «من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فلا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر.» «2»

16- و فيه أيضا عن ابن عمر: «لا يضيفنّ ذو سلطان خصما و لا يدنيه منه و لا يسمع منه إلّا و خصمه معه.» «3»

17- و فيه أيضا عن أبي سعيد: «لا يقضي القاضي بين اثنين إلّا و هو شبعان ريّان.» «4»

هذا.

18- و في نهاية الشيخ الطوسي «قده»:

«و إذا أراد أن يجلس للقضاء ينبغي أن ينجز حوائجه التي تتعلّق نفسه بها ليفرغ للحكم و لا يشتغل قلبه بغيره، ثمّ يتوضّأ وضوء الصلاة و يلبس أحسن ثيابه و أطهرها، و يخرج إلى المسجد الأعظم في البلد الذي يحكم فيه، فإذا دخله صلّى ركعتين، و يجلس مستدبر القبلة لتكون وجوه الخصم إذا وقفوا بين يديه مستقبلة القبلة.

و لا يجلس و هو غضبان و لا جائع و لا عطشان و لا مشغول القلب بتجارة و لا خوف و لا حزن و لا فكر في شي ء من الأشياء، و ليجلس و عليه هدي و سكينة و وقار ...

و إذا دخل عليه الخصمان فلا يبدأ أحدهما بالكلام. فإن سلّما أو سلّم أحدهما ردّ السلام دون ما سواه، و ليكن نظره إليهما واحدا و مجلسهما بين يديه على السواء.

و لا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين بل يتركهما حتى يبدءا بالكلام.» «5»

______________________________

(1)- كنز العمال 6/ 102، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15032.

(2)- كنز العمّال 6/ 102، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15033.

(3)- كنز العمال 6/

103، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15037.

(4)- كنز العمال 6/ 103، الباب 2 من كتاب الإمارة و القضاء من قسم الأقوال، الحديث 15040.

(5)- النهاية/ 337.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 201

14- في تكاليف القاضي و اختياراته:

قال الماوردي في الاحكام السلطانية ما ملخّصه:

«فصل: و لا تخلو ولاية القاضي من عموم أو خصوص، فإن كانت ولايته عامّة مطلقة فنظره مشتمل على عشرة أحكام:

أحدها: فصل في المنازعات و قطع التشاجر و الخصومات، إمّا صلحا عن تراض أو إجبارا بحكم باتّ.

و الثاني: استيفاء الحقوق ممّن مطل بها و إيصالها إلى مستحقّيها بعد ثبوت استحقاقها من أحد وجهين: اقرار، أو بيّنة.

و اختلف في جواز حكمه فيها بعلمه فجوزه مالك و الشافعي في أحد قوليه. و قال أبو حنيفة: يجوز أن يحكم بعلمه فيما علمه في ولايته و لا يحكم بما علمه قبلها.

و الثالث: ثبوت الولاية على من كان ممنوع التصرّف بجنون أو صغر، و الحجر على من يرى الحجر عليه لسفه أو فلس حفظا للأموال على مستحقّيها.

و الرابع: النظر في الأوقاف بحفظ أصولها و تنمية فروعها و القبض عليها و صرفها في سبلها. فإن كان عليها مستحقّ للنظر فيها راعاه، و إن لم يكن تولّاه.

و الخامس: تنفيذ الوصايا على شروط الموصي فيما أباحه الشرع و لم يحظره. فإن كان فيها وصيّ راعاه، و إن لم يكن تولّاه.

و السادس: تزويج الأيامى بالأكفاء إذا عدّ من الأولياء و دعين إلى النكاح.

و لا يجعله أبو حنيفة من حقوق ولايته لتجويزه تفرّد الأيّم بعقد النكاح.

و السابع: اقامة الحدود على مستحقيها، فإن كانت من حقوق اللّه- تعالى- تفرّد باستيفائه من غير طالب إذا ثبت بإقرار أو بيّنة، و

إن كان من حقوق الآدميّين كان موقوفا على طلب مستحقّه. و قال أبو حنيفة لا يستوفيها معا إلّا بخصم مطالب.

و الثامن: النظر في مصالح عمله من الكفّ عن التعدّي في الطرقات و الأفنية

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 202

و إخراج ما لا يستحقّ من الأجنحة و الأبنية، و له أن ينفرد بالنظر فيها و إن لم يحضره خصم. و قال أبو حنيفة: لا يجوز النظر فيها إلّا بحضور خصم مستعد.

و التاسع: تصفّح شهوده و أمنائه و اختبار النائبين عنه من خلفائه في إقرارهم و التعويل عليهم مع ظهور السلامة و الاستقامة و صرفهم و الاستبدال بهم مع ظهور الجرح و الخيانة.

و العاشر: التسوية في الحكم بين القويّ و الضعيف و العدل في القضاء بين المشروف و الشريف، و لا يتبع هواه في تقصير المحقّ أو ممايلة المبطل، قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ، إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ وَ لٰا تَتَّبِعِ الْهَوىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ لَهُمْ عَذٰابٌ شَدِيدٌ بِمٰا نَسُوا يَوْمَ الْحِسٰابِ.» «1» الخ.» «2»

و ذكر نحو ذلك أيضا أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية، فراجع. «3»

أقول: فيظهر من ذلك أنّ عمل القاضي في تلك الأعصار لم يكن منحصرا في القضاء و فصل الخصومات فقط، بل كان هو المرجع أيضا في الأمور العامّة الحسبيّة التي لا مناص عن إجرائها و لا يجوز إهمالها و ليس لها مسئول خاصّ. و ربّما يصير تصدّي آحاد الناس لها و مباشرتهم لتنفيذها موجبا للتنازع و التشاجر. و كذلك المتعارف في أعصارنا أيضا كما تراه. و نحو ذلك إقامة الحدود و التعزيرات، بل و

الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و لعلّ المراد بلفظ الحاكم المعوّل إليه الأمور الحسبيّة العامّة في كلمات فقهائنا في الأبواب المختلفة من الفقه أيضا هو الفقيه بما أنّه منصوب للقضاء.

و هو المحتمل بل المظنون أيضا في قول الإمام الصادق «ع» في المقبولة: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» بقرينة مورد السؤال، و قوله في مشهورة أبي خديجة: «فإنّي

______________________________

(1)- سورة ص (38)، الآية 26.

(2)- الأحكام السلطانية/ 70.

(3)- الأحكام السلطانية/ 65.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 203

قد جعلته قاضيا.»

1- و في خبر إسماعيل بن سعد، قال: سألت الرضا «ع» عن رجل مات بغير وصية و ترك أولادا ذكرانا و إناثا و غلمانا صغارا، و ترك جواري و مماليك، هل يستقيم أن تباع الجواري؟ قال: نعم.

و عن الرجل يصحب الرجل في سفره فيحدث به حدث الموت، و لا يدرك الوصية، كيف يصنع بمتاعه و له أولاد صغار و كبار، أ يجوز أن يدفع متاعه و دوابّه إلى ولده الكبار أو إلى القاضي؟ فان كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟ و إن كان دفع المال إلى ولده الأكابر و لم يعلم به فذهب فلم يقدر على ردّه كيف يصنع؟

قال: إذا أدرك الصغار و طلبوا فلم يجد بدّا من إخراجه، إلّا أن يكون بأمر السلطان.

و عن الرجل يموت بغير وصية و له ورثة صغار و كبار، أ يحلّ شراء خدمه و متاعه من غير أن يتولّى القاضي بيع ذلك؟ فإن تولّاه قاض قد تراضوا به و لم يستأمروا الخليفة أ يطيب الشراء منه أم لا؟ فقال: إذا كان الأكابر من ولده معه في البيع فلا بأس به إذا رضي الورثة و قام

عدل في ذلك «1».

يظهر من هذا الخبر أيضا أنّ التصدّي لأمور الصغار في تلك الأعصار كان من شئون القضاة.

و لعلّ المراد بالسلطان في الخبر أيضا هو القاضي المتسلّط لا الخليفة، و بقوله في آخر الخبر: «قام عدل» هو العدل من القضاة لا أيّ عدل كان، فتأمّل.

2- و في خبر محمد بن إسماعيل بن بزيع، قال: مات رجل من أصحابنا و لم يوص. فرفع أمره إلى قاضي الكوفة، فصيّر عبد الحميد القيّم بماله ... قال:

فذكرت ذلك لأبي جعفر «ع» و قلت له: يموت الرجل من أصحابنا و لا يوصي إلى أحد و يخلف جواري فيقيم القاضي رجلا منّا فيبيعهنّ؟ أو قال: يقوم بذلك رجل

______________________________

(1)- فروع الكافي 7/ 66 (ط. القديم 2/ 253)، كتاب الوصايا، باب من مات على غير وصية ...، الحديث 1؛ و الوسائل 13/ 475، الباب 88 من كتاب الوصايا، الحديث 3؛ و الوسائل 12/ 270، الباب 16 من أبواب عقد البيع، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 204

منّا فيضعف قلبه لأنهنّ فروج فما ترى في ذلك؟ قال: فقال: إذا كان القيم به مثلك و مثل عبد الحميد فلا بأس «1».

يظهر من الحديث أن التصدّي لأمور من لم يوص أيضا كان من شئون القضاة في تلك الأعصار.

3- و في رواية حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع»: من يقيم الحدود؟ السلطان أو القاضي؟ فقال: «إقامة الحدود إلى من إليه الحكم.» «2»

و المراد بمن إليه الحكم هو القاضي الذي حكم في الواقعة، كما لا يخفى. هذا.

و لكن قال الكتّاني:

«قال ابن العربي في الأحكام: الحدود على قسمين: الأوّل إيجابها و ذلك للقضاة، و تناول استيفائها و قد

جعله النبيّ «ص» لقوم منهم علي بن أبي طالب و محمد بن مسلمة.» «3»

يظهر من ذلك أنّ للوالي و الإمام تفويض إقامة الحدود إلى غير من قضى بها، و هو الموافق للقاعدة أيضا فإنّ الجميع من شئون الوالي يفوّض ما شاء منها إلى من شاء ممّن يراه صالحا له. هذا.

و يتفرّع على ما ذكرنا من شئون القضاة أنّه إذا منع أئمّتنا المعصومون- عليهم السلام- من الرجوع إلى قضاة عصرهم من قضاة الجور و أرجعوا شيعتهم إلى فقهاء الشيعة كما في المقبولة و المشهورة فيمكن أن يستفاد من ذلك إرجاعهم إليهم في كلّ ما كان يرجع فيها إلى هؤلاء القضاة من فصل الخصومات و التصدّي للأمور الحسبيّة و إقامة الحدود الشرعيّة و التعزيرات و الإشراف على الوصايا و الأوقاف و نحو ذلك.

اللهم إلّا أن يجعل كون مورد السؤال هي المنازعات قرينة على إرادة خصوص فصل الخصومات، فتأمّل.

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 270، الباب 16 من أبواب عقد البيع، الحديث 2.

(2)- الوسائل 18/ 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(3)- التراتيب الإدارية 1/ 313.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 205

و يظهر بما ذكر أيضا أنّ ما ذكره الأستاذ الإمام- مدّ ظلّه- في بيان مفاد المقبولة و تقريب دلالتها على نصب الفقيه للقضاء و الولاية الكبرى معا، بتقسيم المنازعات و إرجاع بعضها إلى القضاة و بعضها إلى الولاة، محلّ إشكال، فإن المنازعات و لو كانت للمطل و الظلم على الضعيف كانت إلى القضاة.

و قد مرّ تفصيل الكلام في الفصل الثالث من الباب الخامس في تقريب دلالة المقبولة على الولاية، فراجع.

15- في ولاية المظالم: [و هي المرجع الأعلى للشكايات أو لمظالم نفس القضاة]
[كلام الماوردي في ذلك]

قد عقد الماوردي في الأحكام السلطانية بعد باب القضاء بابا باسم ولاية المظالم،

و مثله أبو يعلى الفراء في كتابه. و هي- كما يظهر لك ممّا نذكر- تكون من متمّمات القضاء و تكون المرجع الأعلى للشكايات و المظالم الّتي لا يقدر القضاة على حلّها، أو لمظالم نفس القضاة.

و نظيرها في عصرنا و بلادنا- بوجه ما- مجموع الديوان العالي و المحكمة العليا، و ديوان العدالة، و إدارة التفتيش عن مظالم الموظّفين. و لعلّها بوحدتها تتضمّن جميع ذلك.

قال الماوردي ما ملخّصه:

«و نظر المظالم هو قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة، و زجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة، فكان من شروط الناظر فيها أن يكون جليل القدر، نافذ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهر العفة، قليل الطمع، كثير الورع، لأنّه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة و ثبت القضاة، فيحتاج إلى الجمع بين صفات الفريقين، و أن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهتين.

فإن كان ممن يملك الأمور العامّة كالوزراء و الأمراء لم يحتج النظر فيها إلى تقليد، و كان له بعموم ولايته النظر فيها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 206

و إن كان ممّن لم يفوّض إليه عموم النظر احتاج إلى تقليد و تولية إذا اجتمعت فيه الشروط المتقدمة ...

فقد نظر رسول اللّه «ص» المظالم في الشرب الذي تنازعه الزبير بن العوّام و رجل من الأنصار، فحضره بنفسه فقال للزبير: «اسق أنت يا زبير ثمّ الأنصاري.» فقال الأنصاري: إنّه لابن عمّتك يا رسول اللّه. فغضب من قوله و قال: «يا زبير أجره على بطنه حتى يبلغ الماء إلى الكعبين.»

و إنّما قال: أجره على بطنه أدبا له لجرأته عليه. و اختلف لم أمره بإجراء الماء إلى الكعبين هل كان حقّا بيّنه لهما حكما أو كان مباحا فأمر به زجرا؟ على

جوابين.

و لم ينتدب للمظالم من الخلفاء الأربعة احد، لأنّهم في الصدر الأوّل مع ظهور الدين عليهم بين من يقوده التناصف الى الحقّ أو يزجره الوعظ عن الظلم، و انما كانت المنازعات تجري بينهم في أمور مشتبهة يوضحها حكم القضاء ...

ثمّ زاد من جور الولاة و ظلم العتاة ما لم يكفهم عنه إلّا أقوى الأيدي و أنفذ الأوامر.

فكان عمر بن عبد العزيز أوّل من ندب نفسه للنظر في المظالم، فردّها و راعى السنن العادلة و أعادها. و ردّ مظالم بني أميّة على أهلها حتّى قيل له- و قد شدّد عليهم فيها و أغلظ- إنّا نخاف عليك من ردّها العواقب، فقال: كلّ يوم أتّقيه و أخافه دون يوم القيامة لا وقيته!

ثم جلس لها من خلفاء بني العباس جماعة فكان أوّل من جلس لها المهدي، ثمّ الهادي، ثمّ الرشيد، ثمّ المأمون، فآخر من جلس لها المهتدي حتّى عادت الأملاك إلى مستحقّيها.

و قد كان ملوك الفرس يرون ذلك من قواعد الملك و قوانين العدل الذي لا يعمّ الصلاح إلّا بمراعاته، و لا يتمّ التناصف إلّا بمباشرته.

و كانت قريش في الجاهليّة حين كثر فيهم الزعماء و انتشرت فيهم الرئاسة و شاهدوا من التغالب و التجاذب ما لم يكفهم عنه سلطان قاهر عقدوا حلفا على ردّ المظالم و إنصاف المظلوم من الظالم ...

و اجتمعت بطون قريش فتحالفوا في دار عبد اللّه بن جدعان على ردّ المظالم بمكّة و أن

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 207

لا يظلم أحد إلّا منعوه و أخذوا للمظلوم حقّه.

و كان رسول اللّه «ص» يومئذ معهم قبل النبوة و هو ابن خمس و عشرين سنة فعقدوا حلف الفضول في دار عبد اللّه

بن جدعان، فقال رسول اللّه «ص» ذاكرا للحال:

لقد شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلف الفضول ما لو دعيت إليه لأجبت و ما أحبّ أنّ لي به حمر النعم.» «1» و أتى بقصته و ما يزيده الإسلام إلّا شدة ...

و هذا و إن كان فعلا جاهليا دعتهم إليه السياسة فقد صار بحضور رسول اللّه «ص» له و ما قاله في تأكيد أمره حكما شرعيّا و فعلا نبويّا.

فصل: فإذا نظر في المظالم من انتدب لها جعل لنظره يوما معروفا يقصده فيه المتظلّمون و يراجعه فيه المتنازعون، ليكون ما سواه من الأيّام لما هو موكول إليه من السياسة و التدبير إلّا أن يكون من عمّال المظالم المنفردين لها فيكون مندوبا للنظر في جميع الأيّام. و ليكن سهل الحجاب، نزه الأصحاب.

و يستكمل مجلس نظره بحضور خمسة أصناف لا يستغني عنهم و لا ينتظم نظره إلّا بهم:

أحدهم: الحماة و الأعوان، لجذب القوى و تقويم الجري ء.

و الصنف الثاني: القضاة و الحكّام، لاستعلام ما يثبت عندهم من الحقوق و معرفة ما يجري في مجالسهم بين الخصوم.

و الصنف الثالث: الفقهاء، ليرجع إليهم فيما أشكل.

و الصنف الرابع: الكتّاب، ليثبتوا ما جرى بين الخصوم.

و الصنف الخامس: الشهود، ليشهدهم على ما أوجبه من حقّ و أمضاه من حكم.

و الذي يختصّ بنظر المظالم يشتمل على عشرة أقسام:

فالقسم الأوّل: النظر في تعدّي الولاة على الرعيّة و أخذهم بالعسف في السيرة.

فهذا من لوازم النظر في المظالم الذي لا يقف على ظلامة متظلّم، فيكون لسيرة

______________________________

(1)- في نهاية ابن الأثير 3/ 456 في لغة فضل: «و فيه «شهدت في دار عبد اللّه بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.» يعني حلف الفضول، سميّ به تشبيها

بحلف كان قديما بمكّة أيّام جرهم على التناصف و الأخذ للضعيف من القوي، و للغريب من القاطن، قام به رجال من جرهم كلّهم يسمى الفضل، منهم الفضل بن الحارث، و الفضل بن وداعة، و الفضل بن فضالة.»

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 208

الولاة متصفّحا و عن أحوالهم مستكشفا ليقويهم إن أنصفوا و يكفهم إن عسفوا، و يستبدل بهم إن لم ينصفوا ...

و القسم الثاني: جور العمّال فيما يجبونه من الأموال، فيرجع فيه إلى القوانين العادلة في دواوين الأئمّة فيحمل الناس عليها و يأخذ العمّال بها و ينظر فيما استزادوه، فإن رفعوه إلى بيت المال أمر بردّه و إن أخذوه لأنفسهم استرجعه لأربابه ...

و القسم الثالث: كتّاب الدواوين، لأنّهم أمناء المسلمين على ثبوت أموالهم فيما يستوفونه له و يوفونه منه، فيتصفّح أحوال ما وكّل إليهم فإن عدلوا بحقّ من دخل أو خرج إلى زيادة أو نقصان أعاده إلى قوانينه و قابل على تجاوزه ...

و هذه الأقسام الثلاثة لا يحتاج والي المظالم في تصفّحها إلى متظلّم.

و القسم الرابع: تظلّم المسترزقة من نقص أرزاقهم أو تأخّرها عنهم و إجحاف النظر بهم، فيرجع إلى ديوانه في فرض العطاء العادل فيجريهم عليه و ينظر فيما نقصوه أو منعوه من قبل فإن أخذه ولاة أمورهم استرجعه منهم، و إن لم يأخذوه قضاه من بيت المال.

كتب بعض ولاة الأجناد إلى المأمون أنّ الجند شعبوا و نهبوا. فكتب إليه: لو عدلت لم يشعبوا و لو وفيت لم ينهبوا، و عزله عنهم، و أدرّ عليهم أرزاقهم.

و القسم الخامس: ردّ الغصوب، و هي ضربان:

أحدهما: غصوب سلطانية قد تغلب عليها ولاة الجور كالأملاك المقبوضة عن أربابها إمّا لرغبة فيها و إمّا

لتعدّ على أهلها. فهذا إن علم به والي المظالم عند تصفّح الأمور أمر بردّه قبل التظلّم إليه، و إن لم يعلم به فهو موقوف على تظلّم أربابه ...

و الضرب الثاني من الغصوب ما تغلب عليها ذوو الأيدي القويّة و تصرّفوا فيه تصرّف الملّاك بالقهر و الغلبة. فهذا موقوف على تظلّم أربابه و لا ينتزع من يد غاصبه إلّا بأحد أربعة أمور: و إمّا باعتراف الغاصب، و إمّا بعلم والي المظالم، و إمّا ببيّنة تشهد على الغاصب و إمّا بتظاهر الأخبار الذي ينفي عنها التواطؤ.

و القسم السادس: مشارفة الوقوف، و هي ضربان: عامة و خاصة، فأمّا العامّة فيبدأ بتصفّحها و إن لم يكن فيها متظلّم ليجريها على سبيلها و يمضيها على شروط

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 209

واقفها ... و أمّا الوقوف الخاصّة فإنّ نظره فيها موقوف على تظلّم أهلها عند التنازع فيها لوقفها على خصوم متعيّنين ...

و القسم السابع: تنفيذ ما وقف القضاة من أحكامها، لضعفهم عن إنفاذها و عجزهم عن المحكوم عليه لتعزّزه و قوّة يده أو لعلوّ قدره و عظم خطره ...

و القسم الثامن: النظر فيما عجز عنه الناظرون من الحسبة في المصالح العامّة، كالمجاهرة بمنكر ضعف عن دفعه و التعدّي في طريق عجز عن منعه و التحيّف في حقّ لم يقدر على ردّه ...

و القسم التاسع: مراعاة العبادات الظاهرة، كالجمع و الأعياد و الحجّ و الجهاد من تقصير فيها و إخلال بشروطها، فإنّ حقوق اللّه أولى أن تستوفى و فروضه أحقّ أن تؤدّى.

و القسم العاشر: النظر بين المتشاجرين و الحكم بين المتنازعين، فلا يخرج في النظر بينهم عن موجب الحقّ و مقتضاه. و لا يسوغ أن

يحكم بينهم إلّا بما يحكم به الحكّام و القضاة، و ربّما اشتبه حكم المظالم على الناظرين فيها فيجورون في أحكامها و يخرجون إلى الحدّ الذي لا يسوغ فيها.

و الفرق بين نظر المظالم و نظر القضاة من عشرة أوجه:

أحدها: أنّ لناظر المظالم من فضل الهيبة و قوة اليد ما ليس للقضاة.

و الثاني: أنّ نظر المظالم يخرج من ضيق الوجوب إلى سعة الجواز، فيكون الناظر فيه أفسح مجالا و أوسع مقالا.

و الثالث: أنّه يستعمل من فضل الإرهاب و كشف الأسباب بالأمارات الدّالة و شواهد الأحوال ما يضيق على الحكّام، فيصل به إلى ظهور الحقّ و معرفة المبطل من المحقّ.

و الرابع: أن يقابل من ظهر ظلمه بالتأديب.

و الخامس: أنّ له من التأنّي في ترداد الخصوم عند اشتباه أمورهم ما ليس للحكّام إذا سألهم أحد الخصمين فصل الحكم.

و السادس: أنّ له ردّ الخصوم إذا أعضلوا إلى وساطة الأمناء ليفصلوا التنازع بينهم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 210

صلحا عن تراض، و ليس للقاضي ذلك إلّا عن رضى الخصمين بالردّ.

و السابع: أن يفسح في ملازمة الخصمين إذا وضحت أمارات التّجاحد و يأذن في إلزام الكفالة فيما يسوغ فيه التكفّل لينقاد الخصوم إلى التناصف.

و الثامن: أنه يسمع من شهادات المستورين ما يخرج عن عرف القضاة في شهادة المعدلين.

و التاسع: أنّه يجوز له إحلاف الشهود عند ارتيابه بهم إذا بذلوا أيمانهم طوعا و يستكثر من عددهم ليزول عنه الشك، و ليس ذلك للحاكم.

و العاشر: أنّه يجوز أن يبتدئ باستدعاء الشهود و يسألهم عمّا عندهم في تنازع الخصوم، و عادة القضاة تكليف المدّعى إحضار البيّنة.

فهذه عشرة أوجه يقع بها الفرق بين نظر المظالم و نظر القضاء في التشاجر و التنازع، و هما فيما عداهما متساويان.» «1»

انتهى ما

أردنا نقله من كلام الماوردي، و نحو ذلك في كلام أبي يعلى، فراجع «2».

[كلام المؤلف في ذلك]

أقول: يظهر لك بالتأمّل في التكاليف العشر التي ذكرها الماوردي و أبو يعلى في البحث السابق لولاية القضاء و التكاليف العشر التي ذكراها هنا لولاية المظالم، و بالمقايسة بين التكاليف في البابين أنّ ولاية المظالم عندهم كأنّها كانت مرتبة عالية لولاية القضاء امتزج فيها كما قال الماوردي قوّة السلطنة بنصف القضاء، و كانت تفترق عن القضاء العادي بالقوّة و الشوكة الكثيرة، و كلتاهما كانتا من شئون الولاية الكبرى.

و ربّما كان الوالي الأعظم بنفسه يتصدّى لهما، كما نراه من تصدّى رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين «ع» كثيرا لكليهما. و أنت إذا تتبّعت كلمات أمير المؤمنين «ع» في خطبه و في كتبه إلى عمّاله تجد عنايته و اهتمامه كثيرا إلى ردّ المظالم و إحقاق الحقوق من قبل نفس الوالي، حيث إنّه بقدرته و قوّته يكون أقدر على

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 77- 84.

(2)- الأحكام السلطانية لأبي يعلى/ 73- 79.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 211

ذلك من كلّ أحد:

1- فهو «ع» بعد تصدّيه للخلافة ردّ على المسلمين ما أقطعه عثمان من أموالهم، و قال: «و اللّه لو وجدته قد تزوّج به النساء و ملك به الإماء لرددته، فإنّ في العدل سعة.» «1»

2- و قال «ع» في كتابه لمالك: «و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك و تجلس لهم مجلسا عامّا، فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك حتّى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع، فإنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول في غير موطن: «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها

حقّه من القوي غير متتعتع.» «2»

3- و قال أيضا: «ثمّ إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال، و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة، و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مئونته على غيرهم، فيكون مهنأ ذلك لهم دونك و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد. و كن في ذلك صابرا محتسبا واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع.» «3»

و أنت تعلم أنّ أكثر المظالم الكبيرة تقع من خاصّة السلاطين و عمّا لهم بالاستناد إليه و القرب منه.

4- و قال في ضمن كتاب كتبه إلى بعض عمّاله حين اختطف بعض ما كان في يده من أموال المسلمين: «و اللّه لو أنّ الحسن و الحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة و لا ظفرا منّي بإرادة حتّى آخذ الحقّ منهما و أزيل الباطل عن مظلمتهما.» «4»

إلى غير ذلك من الكلمات، و راجع في ذلك الفصل الثالث أيضا.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 66؛ عبده 1/ 42؛ لح/ 57، الخطبة 15.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1021؛ عبده 3/ 112؛ لح/ 439، الكتاب 53.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1025؛ عبده 3/ 115؛ لح/ 441، الكتاب 53.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 957؛ عبده 3/ 74؛ لح/ 414، الكتاب 41.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 213

الفصل الخامس في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إدارة الحسبة

اشارة

و المقصود هنا التعرض لهما و لشروطهما إجمالا، و بيان أنّ لهما مراتب: بعضها من الوظائف العامة الواجبة على كلّ مسلم بنحو الوجوب العيني على

ما قيل أو الكفائي على الأصحّ، و بعض مراتبها ممّا لا يتمكّن منه كلّ أحد بل لا يجوز له التصدّي له، و يكون من شئون الحكومة الإسلاميّة و السلطة التنفيذيّة و لا يجوز للأشخاص التصدّي لها إلّا بإذن الحاكم.

و قد اصطلحوا على تسمية المؤسّسة المفوّض إليها هذه الوظيفة بإدارة الحسبة، و الشخص المسؤول عنها بالمحتسب.

فنقول: في المسألة جهات من البحث:

الجهة الأولى: في انّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أهمّ الفرائض الشرعيّة،

بل يحكم بوجوبهما العقل أيضا:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 214

اعلم أنّهما من أهم الفرائض التي حثّ عليها الكتاب و السنّة، و عليهما يبتنى بقاء أساس الدّين و استمرار الرسالة الإلهية و حفظ نظام المسلمين و كيانهم.

و لعلّ الاهتمام بهما من خصائص الشريعة الإسلامية التى شرّعت لكافّة الناس و تكون باقية طوال القرون و الأعصار إلى يوم القيامة، فجعلت كلّ واحد ممّن آمن بها مسئولا إجمالا عن بسطها و نشرها و حفظها.

و السرّ في ذلك أنّ الفرد من أفراد المجتمع ليس منعزلا عن غيره منفردا في المسير و المصير، بل الإنسان مدنيّ بالطبع و يتأثّر بعضه ببعض في العقائد و الأخلاق و الأعمال بلا إشكال، كما هو المشاهد في جميع الأجيال و الأمم. و انحراف الفرد كما يضرّ بشخصه يضرّ بالمجتمع أيضا، فيحكم العقل بلزوم الرقابة العامة و حفظ المجتمع عن الفساد مهما أمكن، و الشرع أيضا أوجب ذلك و جعلها من أهم الفرائض.

فكما أنّه لو أصيب أحد من أفراد المجتمع بمرض جسماني معدّ كالوباء و الطاعون و نحوهما يعالج فورا بإعدام الجراثيم حذرا من السراية و الشيوع في الأفراد و العائلات و يحكم العقل بحسن ذلك بل بلزومه أيضا، فكذلك الأمراض الروحيّة و التخلّفات الأخلاقيّة لو لم يقف المجتمع

في وجهها و لم يجاهد في قبالها لشاعت و أوجبت في النهاية سقوط المجتمع و فساده.

فعلى الأمّة الإسلاميّة و لا سيّما على إمامها و ممثّلها أن تراقب بجميع طاقاتها ما يقع خلال المجتمع و أن تساعد على بسط المعروف و نموّ الخير و ازدهاره و على قلع جذور الشرّ و إنكاره.

و قد بلغت هذه الفريضة من الأهميّة حدّا جعلها أمير المؤمنين «ع» فوق الجهاد و سائر أعمال البرّ بمراتب: ففي نهج البلاغة قال: «و ما أعمال البرّ كلّها و الجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجيّ.» «1»

و السرّ في ذلك أن قوام جميع الفرائض و بقاءها بحدودها و شروطها رهين بإقامة

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1263؛ عبده 3/ 244؛ لح/ 542، الحكمة 374.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 215

هذه الفريضة. مضافا إلى أن الجهاد كفاح خارجي، و لا أثر له و لا أهميّة ما لم يصلح الداخل، فالواجب أوّلا تطهير الداخل و إصلاحه ثمّ الإقدام على إصلاح الخارج، فتأمّل.

الجهة الثانية: في أنّ للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر درجات و مراتب:

لا يخفى أنّ الفريضتين ببعض مراتبهما ممّا يتمكّن منه كلّ مسلم عارف بأحكام الإسلام و ضروريّاته، فيستوي فيه الحاكم و غيره و المحتسب و غيره. و ذلك كالإنكار بالقلب و باللسان، فيجب على جميع الناس و منهم الولاة فعل ذلك و إعانة من يفعله، و يبدأ في الإنكار بالأسهل، فإن زال المنكر فهو، و إلّا أغلظ. فإن توقّف على الضرب و الجراح فهل يجوز لكلّ أحد التصدّي له و يجب عليه، أو يكون من شئون الإمام أو من نصبه لذلك و لا يجوز التصدّي له إلّا بإذن الحاكم؟ في المسألة قولان:

قال الشيخ

في النهاية:

«الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرضان من فرائض الإسلام، و هما فرضان على الأعيان، لا يسع أحدا تركهما و الإخلال بهما.

و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يجبان بالقلب و اللسان و اليد إذا تمكن المكلّف من ذلك و علم أنّه لا يؤدّي إلى ضرر عليه و لا على أحد من المؤمنين لا في الحال و لا في مستقبل الأوقات، أو ظنّ ذلك ... و قد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب و الردع و قتل النفوس و ضرب من الجراحات إلّا أنّ هذا الضرب لا يجب فعله إلّا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة. فإن فقد الإذن من جهته اقتصر على الأنواع التي ذكرناها.

و إنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها، فأمّا باليد فهو أن يؤدّب فاعله بضرب من التأديب: إمّا الجراح أو الألم أو الضرب، غير أنّ ذلك مشروط

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 216

بالإذن من جهة السلطان حسب ما قدمناه. فمتى فقد الإذن من جهته اقتصر على الإنكار باللسان و القلب ...

فأمّا إقامة الحدود فليس يجوز لأحد إقامتها إلّا لسلطان الزمان المنصوب من قبل اللّه- تعالى- أو من نصبه الإمام لإقامتها، و لا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال.» «1»

و قال المحقّق في الشرائع:

«و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان إجماعا، و وجوبهما على الكفاية يسقط بقيام من فيه كفاية. و قيل: بل على الأعيان، و هو أشبه ... و لو لم يرتفع إلّا باليد مثل الضرب و ما شابهه جاز.

و لو افتقر إلى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل: نعم. و قيل: لا إلّا بإذن الإمام، و هو الأظهر.»

«2»

فالشيخ و المحقّق أفتيا باشتراط الجراح بإذن الإمام. نعم، اختلفا فيما اشتمل على الضرب فقط كما لا يخفى. و لعلّ الحقّ مع المحقّق في الضرب القليل غير المبرّح إذا مسّت الحاجة إليه، لاستقرار السيرة و إطلاق الأدلّة.

و قال العلّامة في المختلف ما ملخّصه:

«لو افتقر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلى ضرب من التأديب و الإيلام و الإضرار به و الجراح و إتلاف نفسه قال الشيخ في الاقتصاد: الظاهر من مذهب شيوخنا الإماميّة أنّ هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلّا للأئمّة أو لمن يأذن له الإمام.»

ثمّ قال:

«و كان المرتضى يخالف في ذلك و يقول: يجوز ذلك بغير إذنه. و الشيخ وافق المرتضى في كتاب التبيان، و في النهاية قال بقوله في الاقتصاد. و قال سلّار: و أمّا القتل و الجراح في الإنكار فإلى السلطان و من يأمره. و أبو الصلاح لم يشترط السلطان في

______________________________

(1)- النهاية/ 299.

(2)- الشرائع 1/ 341 و 343.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 217

ذلك و به قال ابن إدريس. و ابن البرّاج اشترط إذن الإمام. و الأقرب ما قاله السيّد.» «1»

أقول: و يستدلّ للقول بعدم الاشتراط بأنّهما واجبان لمصلحة العالم، فلا يتوقّفان على شرط كغيرهما من المصالح، و بأنّهما واجبان على النبيّ «ص» و الإمام «ع» فيجبان علينا أيضا لوجوب التأسّي.

و بإطلاق الآيات و الروايات الواردة في الباب و لا سيّما ما اشتمل منها على الوجوب و لو ببسط اليد و صكّ الجباه:

ففي خبر جابر، عن أبي جعفر «ع»: «فأنكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم.» «2»

و في خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ما جعل اللّه بسط اللسان

و كفّ اليد و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفّان معا.» «3»

و في نهج البلاغة: «و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى.» «4»

و فيه أيضا: «فمنهم المنكر للمنكر بقلبه و لسانه و يده، فذلك المستكمل لخصال الخير.» «5»

و في تفسير الإمام العسكري «ع»: «من رأى منكم منكرا فلينكر بيده إن استطاع.» «6»

و يرد على الوجه الأوّل أنّ وجوبهما لمصلحة العالم لا ينافي اشتراطهما بإذن الإمام

______________________________

(1)- المختلف 1/ 339.

(1)- الوسائل 11/ 403، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 404، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(3)- الوسائل 11/ 404، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.

(4)- الوسائل 11/ 405، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.

(5)- الوسائل 11/ 406، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 9.

(6)- الوسائل 11/ 407، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 218

حذرا من الهرج و المرج و اختلال النظام، فلعلّ المفسدة المترتبة عليهما حينئذ أقوى.

و يرد على الثاني أنّ التأسّي إنّما يجب في الأحكام العامّة لا في الوظائف الخاصّة، و الحكومة و شئونها من الوظائف الخاصّة، اللّهم إلّا أن يقال إنّه يجب الأخذ بإطلاق قوله: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» «1» ما لم يقم دليل على الاختصاص.

و أمّا الروايات المذكورة فخبر جابر ضعيف بوجوه، و يحيى الطويل مجهول اللّهم إلّا أن يجبر ذلك بكون الراوي عنه ابن أبي عمير، و عبارتا نهج البلاغة لا تنفيان الاشتراط، إذ ليستا في مقام البيان من

هذه الجهة، نظير ما ورد في فضل الحج و الصلاة، حيث لا يستفاد منهما عدم اشتراط الوجوب أو الواجب بشي ء. هذا مضافا إلى أن إلقاء الخطبة الأولى كان في صفين لتحريض شيعته على القتال، و واضح أنّ قتالهم كان تحت لوائه «ع» و بأمره، فتأمّل إذ الإنصاف أنّ إطلاق الروايات و آية التأسّي ممّا يمكن التمسّك بهما لعدم الاشتراط.

و يمكن أن يستدلّ للاشتراط، بوجوب عصمة النفوس و حرمة إراقة الدماء و التصرّف في سلطة الغير إلّا بالمقدار المتيقّن جوازه.

و بأنّ الضرب و الجراح يتوقّفان على القدرة و السلطة.

و بأنّه لا يتيسّر لكلّ فرد فرد تشخيص الموارد و الشروط و الظروف المناسبة و إنّما يتيسّر ذلك لمن له إحاطة بالمجتمع و علاقاته و إمكاناته.

و بأنّ تصدّي كلّ فرد فرد لذلك يوجب اختلال النظام غالبا، حيث إنّ الضرب و الإيلام إذا لم يكونا على أساس القدرة و السلطة الخارجية يستعقبان غالبا ردّ الفعل و المقاومة من الطرف فيقع النزاع و الكفاح و الهرج و المرج و في النهاية يختلّ النظام قهرا.

و لأجل ذلك كلّه أيضا جعلت إقامة الحدود الشرعيّة و التعزيرات المعيّنة من

______________________________

(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 21.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 219

شئون الحاكم، و ليس لكلّ أحد التصدّي لها و إن كان عالما بالمسائل و الأحكام:

ففي خبر حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع»: من يقيم الحدود:

السلطان أو القاضي؟ فقال: «إقامة الحدود إلى من إليه الحكم.» «1» هذا.

و لا يخفى أنّ الاحتياط في باب الدماء و قاعدة السلطنة يقتضيان العمل بالاشتراط. اللّهمّ إلّا إذا لم نتمكّن من الوصول إلى الإمام و توقّف حفظ بيضة الإسلام و كيان

المسلمين على الإقدام، فإنّ الدفاع عنهما لا يشترط فيه إذن الإمام بلا إشكال، فتدبّر.

نعم، هنا شي ء يجب التّنبيه عليه، و هو أنّ ظاهر الشيخ و المحقّق و غيرهما كون إذن الإمام شرطا للوجوب، نظير اشتراط وجوب الحج بالاستطاعة، فلا يجب تحصيل الشرط، إذ الشرط للوجوب بمنزلة الموضوع له و الحكم متأخّر رتبة عن موضوعه، فلا يعقل تأثيره في إيجابه.

و لكن سبق منا في الباب الثالث عند التعرّض الإجمالي لمسألة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر استظهار كون الوجود مشروطا بالإذن لا الوجوب، نظير اشتراط وجود الصلاة بالطهارة. فالوجوب مطلق و الواجب مشروط بإذن الإمام و كونه تحت إشرافه و نظره حذرا من الهرج و اختلال النظام.

و على هذا فيجب على كلّ مسلم السعي في بسط المعروف و إشاعته و قطع جذور المنكر و الفساد و السعي في إقامة الحدود الإلهيّة بقدر المكنة و القدرة.

غاية الأمر أنّ وجود العمل فيما إذا استلزم الجراح مشروط بإذن الحاكم فيجب الاستيذان منه و إيقاع العمل تحت إشراف حكمه لئلّا يلزم الهرج و المرج و الاختلال.

و لو فرض ضعف الحكومة و قلّة أعوانها وجب إعانتها و مساعدتها في بسط المعروف و دفع المنكر. و لو فرض عدم وجود الحكومة الحقّة العادلة وجب على الجميع

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 220

السعي لتحقيقها لذلك و لو بتشكيل دويلة صغيرة في منطقة معيّنة، كما يشهد بذلك صحيحة زرارة التي جعل فيها الولاية أفضل الخمسة التي بني عليها الإسلام لكونها مفتاحهنّ و الوالي هو الدليل عليهن «1».

فلا يجوز للمسلمين أن يقعدوا في بيوتهم و لا يبالوا بما

يقع في مجتمعهم من الفحشاء و الفساد و إراقة الدماء و غصب الأموال و هتك النواميس و هضم الكفّار و الصهاينة لحقوق المسلمين و المستضعفين بعذر أنّ رفع هذه المفاسد كلّها من وظائف الحاكم.

و لذا قلنا في محلّه بأنّ أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بإطلاقها و بمفهومهما الوسيع من أقوى الأدلّة على وجوب تأسيس الحكومة العادلة و الدولة الحقّة، فراجع ما حررناه هناك.

الجهة الثالثة: في أنّه هل يكون وجوبهما على الأعيان أو على الكفاية؟

[كلمات الأصحاب]

قد مرّ من نهاية الشيخ أنّهما فرضان على الأعيان.

و قال في الاقتصاد:

«و اختلفوا في كيفية وجوبه: فقال الأكثر إنّهما من فروض الكفايات إذا قام به البعض سقط من الباقين. و قال قوم: هما من فروض الأعيان، و هو الأقوى عندي لعموم آي القرآن و الأخبار.» «2»

و في الشرائع أفتى أولا بوجوبهما على الكفاية، ثمّ جعل وجوبهما على الأعيان أشبه، أي أشبه بالقواعد و الإطلاقات «3».

و حكى في الجواهر عن السيّد و الحلبي و القاضي و الحلّي و الفاضل و الشهيدين

______________________________

(1)- الوسائل 1/ 7، الباب 1 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 2.

(2)- الاقتصاد/ 147. فصل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(3)- الشرائع 1/ 341.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 221

و جمع آخر وجوبهما على الكفاية، و عن الشيخ و ابن حمزة و فخر الإسلام و بعض آخر وجوبهما على الأعيان «1». هذا.

و حكى في المختلف عن السيّد المرتضى أنّه احتجّ للكفاية:

«بأنّ المطلوب في نظر الشرع تحصيل المعروف و ارتفاع المنكر، و لم يتعلّق غرضه من مباشر بعينه فيكون واجبا على الكفاية «2».

قال العلامة:

«و الأقرب قول السيّد، و هو اختيار أبي الصلاح و ابن إدريس.» «2»

أقول: و الظاهر أن الحقّ مع هؤلاء لما ذكره السيّد

من الدليل.

فإن قلت: إنّ لكلّ كلام تأثيرا خاصّا في النفوس، فلعلّ الفاعل للمنكر لا يرتدع بنهي هذا و يرتدع بنهي ذاك، أو لعلّه لا يرتدع بنهي واحد و يرتدع بنهي جماعة، فما دام المنكر باقيا يجب على كلّ من اطّلع عليه النهي عنه. و ظاهر الآيات و الروايات أيضا هو العينيّة، بل هي الأصل في الوجوب على ما قيل.

قلت: نحن نفرض قيام أشخاص بالنهي بمقدار نقطع بكفايته في ارتداع الطرف لو كان ممّن يرتدع، بحيث لا يكون أثر لما زاد قطعا، فهل يجب مع ذلك شركة البقية في عرض هؤلاء مع العلم بأنّ الغرض يحصل بدونهم؟ لا أظنّ أنّ أحدا يلتزم بذلك، فالوجوب كفائي بلا إشكال، و ظاهر الآيات و الروايات إنّما يؤخذ به ما لم يظهر الخلاف. هذا.

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 359.

(2)- المختلف 1/ 338.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 222

تصوير الوجوب الكفائي:

و قد ناسب هنا أن نتعرّض إجمالا لماهيّة الوجوب الكفائي، و الفرق بينه و بين العيني و ما يقتضيه الإطلاق منهما ليتّضح حكم المقام أيضا، فنقول: قال في الكفاية:

«و التحقيق أنّه سنخ من الوجوب و له تعلّق بكلّ واحد بحيث لو أخلّ بامتثاله الكلّ لعوقبوا على مخالفته جميعا، و إن سقط عنهم لو أتى به بعضهم.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ ما ذكره- قدّس سرّه- تعريف له بلحاظ الخاصّة و الأثر لا بلحاظ الماهيّة.

و قال في موضع آخر:

«قضيّة إطلاق الصيغة كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا، لكون كلّ واحد ممّا يقابلها يكون فيه تقيّد الوجوب و تضيّق دائرته، فإذا كان في مقام البيان و لم ينصب قرينة عليه فالحكمة تقتضي كونه مطلقا، وجب هناك شي ء آخر أولا، أتى بشي ء آخر أولا،

أتى به آخر أولا.» «2»

و ظاهر هذا الكلام أنّ العيني و الكفائي بعد اشتراكهما في توجّه الخطاب إلى الجميع يفترقان بأنّ الوجوب في العيني مطلق و في الكفائي مشروط بعدم إتيان الغير، فإن أتى به البعض لم يجب على الآخرين، و إن لم يأت به أحد وجب على الجميع لوجود شرطه في الجميع.

و قال السيّد الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- ما محصّله بتوضيح منّا:

______________________________

(1)- كفاية الأصول 1/ 228.

(2)- كفاية الأصول 1/ 116.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 223

«إنّ الفرق بينهما عند القوم يكون في ناحية المكلّف، بتقريب أنّ المكلّف في العيني هو جميع الأفراد بنحو العموم الاستغراقي، فيكون كلّ فرد مكلّفا بالاستقلال. و أمّا في الكفائي فعند البعض هو المجموع من حيث المجموع، و عند آخرين أحد الأفراد.

و يرد على الأوّل أنّ المجموع من حيث المجموع أمر اعتباريّ لا حقيقة له، فلا يتصوّر تكليفه. و على الثاني أنّ أحد الأفراد إن أريد مفهومه ففيه أنّه غير قابل للتكليف، و إن أريد به مصداقه أعني الفرد المردد خارجا ففيه أنّه لا خارجية له حتّى يتوجّه إليه البعث.

فالتحقيق أن الوجوب له ثلاث إضافات: إضافة إلى الطالب، و إضافة إلى المطلوب، و إضافة إلى المطلوب منه. و الفرق بين العيني و الكفائي ليس في المكلف و المطلوب منه كما يظهر من القوم، و لا في إطلاق الوجوب و اشتراطه كما في الكفاية. بل الفرق بينهما بعد اشتراكهما في كون كلّ فرد مكلّفا مستقلا إنّما يكون في المطلوب و المكلّف به. فالمطلوب في الوجوب الكفائيّ هو نفس طبيعة الفعل بإطلاقها الذاتي، و في العيني طبيعة الفعل بقيد صدورها من هذا الفاعل الخاصّ.

و

السرّ في ذلك أنّ الأوامر تابعة للمصالح و الأغراض، فإن كانت المصلحة في صدور الفعل عن كلّ واحد من المكلّفين بحيث تترتّب المصلحة على الفعل بقيد صدوره عن الفاعل الخاصّ كما في الأمر الصلاتي حيث إنّ تكامل الشخص و ارتداعه عن الفحشاء و المنكر يترتبان على صلاة نفسه فحينئذ يكون الوجوب عينيا.

و إن كانت المصلحة في مجرد تحقق طبيعة الفعل في الخارج من غير دخالة لصدورها عن فاعل خاصّ كما في دفن الميت و تجهيزه فحينئذ يتعلّق التكليف بنفس الطبيعة بإطلاقها الذاتي و يكون الواجب كفائيا، إذ تقييدها بقيد صدورها من الشخص يكون جزافا.

و حيث إنّ كلّ واحد من المكلفين قادر على تحصيل هذه الطبيعة المطلقة أمر المولى كلّ واحد منهم بذلك، فإذا حصلت في الخارج سقط جميع الأوامر قهرا بحصول متعلّقها، و إن عصى الجميع عوقبوا جميعا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 224

و الحاصل أنّ الفرق بين العيني و الكفائي لا يرجع إلى المكلّف، بل إلى المكلّف به.

و المكلّف به في الكفائي مطلق الطبيعة، و في العيني الطبيعة بقيد صدورها من الفاعل الخاصّ. و على هذا فإطلاق المتعلّق يقتضي الكفائيّة. نعم، لا ننكر أن توجه الخطاب و التكليف يوجب الانصراف إلى العينية، فتدبر.» «1»

انتهى ما أردنا نقله من كلام السيد الأستاذ- قدّس سرّه- و إن شئت التفصيل فراجع ما قرّرناه من أبحاثه في كتاب نهاية الأصول المطبوع سابقا.

و الظاهر أنّ ما ذكره حقّ لا مرية فيه.

نعم، ما ذكره من عدم إمكان توجّه التكليف إلى المجموع من حيث المجموع قابل للخدشة، إذ الظاهر أنّ الواجبات الاجتماعيّة و الحدود الإلهية كلّها وضعت على عاتق المجتمع بنحو العام المجموعي، غاية الأمر أنّ

المتصدّي لامتثالها هو قيّم المجتمع و ممثله، أعني الإمام و الحاكم كما فصّلنا في بعض المباحث السابقة.

و لكنّ الظاهر أنّ الواجبات الكفائيّة ليست من هذا القبيل، فتأمّل. إذ من الممكن إرجاع الواجبات الاجتماعيّة أيضا إلى الكفائيّة، و إن كان الواجب مباشرة الإمام و عمّاله لتنفيذها. فالواجب على الأمّة كفاية هو تحصيل الحكومة و تأييدها و مساعدتها، و الواجب على الحاكم تنفيذ الواجبات الاجتماعيّة كإجراء الحدود و نحوها، فتدبّر.

الجهة الرابعة: في ذكر بعض الآيات و الروايات الواردة في المسألة:

اشارة

لا يخفى أنّ الآيات و الروايات الواردة في المسألة أيضا على طائفتين، يستفاد من بعضها كون الفريضة فريضة عامّة كلّف بها كلّ مسلم و من بعضها كونها فريضة خاصّة أعني كونها من شئون الحكومة.

______________________________

(1)- نهاية الأصول 1/ 210 و 211.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 225

و محصّل الجمع بينهما أنّ العمل بهذه الفريضة كغيرها من الفرائض يتوقّف على العلم و القدرة. فمثل الإنكار بالقلب و الإرشاد باللسان في الأحكام الواضحة الضروريّة ممّا يقدر عليه كلّ مسلم، و أمّا الضرب و الجرح بل و بعض مراتب الإرشاد باللسان في بعض الأحيان فهي ممّا لا يقدر عليه كل فرد أو لا يخلو صدوره عنه من ضرر كما مرّ، فيكون على عاتق الحاكم المتسلّط و أياديه قهرا. نعم، يجب على الأمّة تأييده و مساعدته، بل و السعي لتحقيق الحكومة الحقّة أيضا كما مرّت الإشارة إليه. فلنذكر بعض آيات المسألة و رواياتها:

[الطائفة الأولى من الآيات ما دلّت على كونها فريضة عامة]

1- فمن الطائفة الأولى قوله- تعالى-: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ يُطِيعُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ. أُولٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّٰهُ، إِنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» «1»

فالحكم في الآية عامّ لكلّ مؤمن و مؤمنة. و قد صرّح بخصوص المؤمنات أيضا ليكون نصّا في التعميم. و الظاهر من الولاية هو سلطة الشخص و أولويّته. فاللّه- تعالى- بولايته العامّة على عباده جعل لكلّ مؤمن و مؤمنة حقّ الولاية و السلطة على غيره ليكون له حقّ الأمر و النهي، غاية الأمر أنّ الولاية لها مراتب و الولاية هنا محدودة بمقدار جواز الأمر و النهي.

لا يقال: الأمر و النهي في باب الأمر بالمعروف و النهي

عن المنكر إرشاديّان لكونهما إرشادا إلى إطاعة أمر اللّه و نهيه، نظير أوامر الفقيه في مقام بيان الأحكام، فلا يتوقّفان على ثبوت الولاية و السلطة الشرعية.

فإنه يقال: لا نسلم ذلك و إن زعمه بعض، بل الظاهر من الأدلّة وجوب الأمر و النهي المولويّين تأكيدا لأمر اللّه و نهيه، نظير أمر الوالدين مولويّا بشي ء أمر اللّه به قبلهما فيكون التخلّف معصية للّه و للوالدين معا. و بالجملة، سبق أمر اللّه و نهيه

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 71.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 226

بالشي ء لا يدلّ على كونهما إرشاديّين، و ظاهر الأمر و النهي و الأصل فيهما هو المولويّة، فتأمّل.

2- و قال: «التّٰائِبُونَ الْعٰابِدُونَ الْحٰامِدُونَ السّٰائِحُونَ الرّٰاكِعُونَ السّٰاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النّٰاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحٰافِظُونَ لِحُدُودِ اللّٰهِ، وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.» «1»

فالموضوع في الآية جميع المؤمنين كما يظهر من الآية التي قبلها، أعني قوله: «إِنَّ اللّٰهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.»

3- و قال: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ.

وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتٰابِ لَكٰانَ خَيْراً لَهُمْ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفٰاسِقُونَ.» «2»

و الظاهر أنّ الخطاب للمسلمين، و المراد بالناس جميع الناس من المسلمين و غيرهم. و الإخراج: الخلق و الإظهار، كقوله- تعالى-: «أَخْرَجَ الْمَرْعىٰ.» فيكون المراد- و اللّه اعلم- أنّ المسلمين بما هم مسلمون خير أمّة خلقت و أخرجت لنفع المجتمعات البشرية، و ملاك خيريّتهم بسطهم للمعروف و ردعهم عن المنكرات و إصلاح المجتمعات. و في المجمع عن النبيّ «ص»: «أنتم و فيتم سبعين أمّة، أنتم خيرها و أكرمها على اللّه.» «3»

و أمّا ما في الدر المنثور: «أخرج

ابن أبي حاتم، عن أبي جعفر «ع»: كنتم خير أمّة أخرجت للناس، قال: أهل بيت النبيّ «ص»» «4» فلا محالة يكون من الجري و التطبيق، حيث إنّهم «ع» المصاديق الكاملة من هذه الأمّة.

و الفعل في قوله: «كنتم» قيل بكونه زائدا جي ء به للتأكيد. و قيل إنّ المراد:

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 112.

(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 110.

(3)- مجمع البيان 1/ 486 (الجزء 2)؛ و روى نحوه في الدر المنثور 2/ 64، حيث قال: قال النبي «ص»: «إنكم تتمون سبعين أمّة، أنتم خيرها و أكرمها على اللّه.» و لكن في المجمع طبعة صيدا- سنة 1333-: «أنتم زينتم ستين أمّة» بدل «أنتم وفيتم سبعين أمّة».

(4)- الدر المنثور 2/ 64.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 227

كنتم خير أمّة عند اللّه في اللوح المحفوظ أو مبشر بها في الكتب الماضية.

فهذه ثلاث آيات ظاهرة في كون الفريضة فريضة عامّة على حدّ سائر الفرائض.

[الطائفة الثانية من الآيات ما دلّت على كونها فريضة خاصّة]

4- و من الطائفة الثانية قوله- تعالى-: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.» «1»

قيل: إنّ سياق الآية يدلّ على كون الوجوب كفائيا.

أقول: الظاهر أنّ الخطاب في الآية لمّا كان موجّها إلى جميع المسلمين كان المستفاد منه أنّه يجب على الجميع السعي في تمحيض جماعة خاصّة لهذا الشأن، و هذا يؤيد ما قدّمناه من أنّ تأسيس الدولة الحقّة وظيفة عامّة خوطب بها الجميع و إن كانت إدارة شئون الحكومة و منها بعض مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر وظيفة خاصّة، فتدبّر. هذا.

و يحتمل في قوله: «كنتم خير أمّة أخرجت للناس» الواقع بحسب الترتيب بعد هذه الآية أيضا إرادة أمّة

خاصّة شأنها الأمر و النهي لا جميع المؤمنين. و يؤيّد ذلك وحدة السياق و بعض الروايات الواردة في تفسير الآية و تطبيقها على الأئمة «ع».

5- و من الآيات الظاهرة في الوظيفة الخاصّة أيضا قوله- تعالى-: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «2»

فيكون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر المذكوران في الآية من النوع الذي يتوقّف على السلطة و التمكّن في الأرض. و يشهد لذلك وقوع الآية في سياق آيات القتال و دفع الناس بعضهم ببعض.

و لا يراد بإقامة الصلاة و إيتاء الزكاة أيضا الإتيان بهما شخصيا، بل إشاعتهما

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 104.

(2)- سورة الحج (22)، الآية 41.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 228

و ترويجهما و تثبيتهما في المجتمع، أعني ما يكون من شئون الحكومة الحقّة، نظير ما ورد في زيارة السبط الشهيد «ع»: «أشهد أنّك قد أقمت الصلاة و آتيت الزكاة و أمرت بالمعروف و نهيت عن المنكر.»

6- و من هذا القبيل أيضا قوله- تعالى-: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلٰالَ الَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ. الآية.» «1»

[الروايات الواردة في المقام]

7- و في موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سمعته يقول- و سئل عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أ واجب هو على الأمّة جميعا؟- فقال:

لا، فقيل له: و لم؟. قال: إنّما هو على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف

الذي لا يهتدي سبيلا إلى أيّ، يقول: من الحقّ إلى الباطل. و الدليل على ذلك كتاب اللّه- عزّ و جلّ- قوله: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» فهذا خاص غير عام، كما قال اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ.» و لم يقل على أمّة موسى و لا على كلّ قومه، و هم يومئذ أمم مختلفة. و الأمّة واحد فصاعدا، كما قال اللّه- عزّ و جلّ-: «إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِلّٰهِ.» يقول: مطيعا للّه- عزّ و جلّ-. و ليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوّة له و لا عدد و لا طاعة.

قال مسعدة: و سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول- و سئل عن الحديث الذي جاء عن النبي «ص»: إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، ما معناه؟- قال: هذا على أن يأمره بعد معرفته و هو مع ذلك يقبل منه، و إلّا فلا.» «2»

فالنظر في هذه الموثقة أيضا إلى نوع خاصّ من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أعني ما يتوقّف على القوة و السلطة خارجا، فيراد منه ما يوجب الكفاح ممّا يشتمل على الضرب و الجرح و كذا بعض مراتب اللسان و موارده، و إلّا فالأمر

______________________________

(1)- سورة الأعراف (7)، الآية 157.

(2)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1. و الكافي 5/ 59 باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 16.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 229

و النهي الجزئيان في الموارد الجزئية العادية لا يختصّان بفرد دون فرد،

بل هما من الفرائض العامّة بلا إشكال. هذا.

و لعلّ الإمام الصادق «ع» كان مواجها لبعض الأفراد المعترضين على سكوت الأئمّة «ع» و شيعتهم في قبال المنكرات بلا ملاحظة للإمكانات و الظروف، نظير ما مرّ من سدير الصيرفي و أمثاله كما مرّ، فالموثّقة وردت في قبال هؤلاء، فتدبّر.

و بعض أخبار الباب خبر جامع يشتمل على جميع المراتب ممّا هي وظيفة خاصّة و ممّا تكون من الفرائض العامّة.

8- مثل ما في نهج البلاغة عن محمد بن جرير الطبري، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنّه قال: سمعت عليّا «ع» يقول يوم لقينا أهل الشام: «أيّها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم و برئ، و من أنكره بلسانه فقد أجر و هو أفضل من صاحبه، و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه هي العليا و كلمة الظالمين هي السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نوّر في قلبه اليقين.» «1»

و إلقاء هذه الخطبة يوم لقائه «ع» أهل الشام دليل على أنّ غرضه «ع» كان تحريض جنوده على القتال في صفّين، و واضح أنّ قتالهم كان تحت لوائه و أمره، فلا يستفاد من هذا الحديث جواز الإنكار بالسيف و لو بدون إذن الإمام.

و قد مرّ منّا أنّ في الموارد التي تكون الفريضة وظيفة خاصّة و تحتاج إلى إذن الحاكم ليس الوجوب فيها مشروطا، بل الواجب مشروط و تقدّم بيان ذلك و الفرق بينهما.

9- و قال الرضي «ره»: و في كلام آخر له يجري هذا المجرى: «فمنهم المنكر للمنكر بيده و لسانه و قلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير. و منهم المنكر بلسانه و قلبه و التارك بيده،

فذلك متمسّك بخصلتين من خصال الخير و مضيّع خصلة. و منهم المنكر بقلبه و التارك بيده و لسانه، فذلك الذي ضيّع أشرف الخصلتين من الثلاث و تمسّك بواحدة. و منهم تارك لإنكار المنكر بلسانه و قلبه

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1262؛ عبده 3/ 243؛ لح/ 541، الحكمة 373.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 230

و يده، فذلك ميّت الأحياء.

و ما أعمال البرّ كلّها و الجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجيّ، و إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل و لا ينقصان من رزق، و أفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عند إمام جائر.» «1»

10- و من الروايات الجامعة في هذا الباب أيضا خبر جابر، عن أبي جعفر «ع»، قال: «يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراءون يتقرؤون و يتنسّكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمرا بمعروف و لا نهيا عن منكر إلّا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص و المعاذير، يتّبعون زلّات العلماء و فساد علمهم، يقبلون على الصلاة و الصيام و ما لا يكلمهم في نفس و لا مال، و لو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم و أبدانهم لرفضوها كما رفضوا أتمّ الفرائض و أشرفها.

إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض. هنالك يتمّ غضب اللّه عليهم فيعمّهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الفجّار، و الصغار في دار الكبار.

إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تأمن المذاهب و تحلّ المكاسب و تردّ المظالم، و تعمر الأرض و ينتصف من

الأعداء و يستقيم الأمر. فأنكروا بقلوبكم و الفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم و لا تخافوا في اللّه لومة لائم، فإن اتّعظوا و إلى الحقّ رجعوا فلا سبيل عليهم، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ، هنالك فجاهدوهم بأبدانكم و أبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا و لا باغين مالا و لا مريدين بالظلم ظفرا حتّى يفيئوا إلى أمر اللّه و يمضوا على طاعته.

قال أبو جعفر «ع»: «أوحى اللّه إلى شعيب النبيّ- عليه السلام-: إنّي لمعذّب من قومك مأئة ألف: أربعين ألفا من شرارهم، و ستّين ألفا من خيارهم. فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى اللّه- عزّ و جلّ- اليه: أنّهم داهنوا أهل المعاصي و لم يغضبوا لغضبي.» «2»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1263؛ عبده 3/ 243؛ لح/ 542، الحكمة 374.

(2)- تهذيب الأحكام 6/ 180، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 21؛ و روى نحوه في فروع الكافي 5/ 55، باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الحديث 1. و رواه في الوسائل 11/ 394، 402 و 403، الباب 1 و 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 6، و الباب 3 منها، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 231

و الرواية من الروايات العالية المضامين و لكن سندها ضعيف، إذ مضافا إلى إرساله يشتمل على رجلين مجهولين و هما بشر بن عبد اللّه، و أبو عصمة قاضي مرو، فراجع.

و لا يخفى أنّ الرواية مع جامعيتها لجميع مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإن عمدة النظر فيها إلى الأمر و النهي الموجبين لإقامة الفرائض في المجتمع و

ردّ المظالم و أمن السبل و عمارة الأرض و الانتصاف من الظالمين و لو بصكّ الجباه.

و من الواضح أن هذه الأمور بسعتها لا تحصل إلّا بالقدرة الواسعة و السلطة الحاكمة، فيجب تحصيلها قهرا بإعداد مقدّماتها و شرائطها.

و من النكت المهمّة التي صرّحت بها الرواية أنّ الهدف من الأمر و النهي يجب أن يكون إقامة فرائض اللّه- تعالى- و بسط العدل و عمارة الأرض و في الأعداء إلى اللّه- تعالى-، لا تحكيم السلطة عليهم و بغي المال و تحصيل الظفر و لو بالظلم. و هذه نكتة دقيقة يجب أن يلتفت إليها كلّ من يتصدّى للجهاد و الكفاح. و قد سمّى رسول اللّه «ص» في الخبر المعروف جهاد النفس الجهاد الأكبر «1»، فنعوذ باللّه من وساوس النفس و نزغاتها.

11- و من الأخبار الجامعة أيضا ما رواه في الوسائل عن النبيّ «ص» أنّه قال:

«لا تزال أمّتي بخير ما أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر، و تعاونوا على البر. فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات و سلط بعضهم على بعض و لم يكن لهم ناصر في الأرض و لا في السماء.» «2»

12- و في وصية أمير المؤمنين «ع» قبيل وفاته: «لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثمّ تدعون فلا يستجاب لكم.» «3»

13- و في رواية محمد بن عرفة، قال: سمعت أبا الحسن الرضا «ع» يقول:

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 122، الباب 1 من أبواب جهاد النفس، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 398، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 18.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 978؛ عبده 3/ 86؛ لح/ 422، الكتاب 47.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 232

«لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ

عن المنكر أو ليستعملنّ عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم.» «1»

14- و بالإسناد عنه «ع» قال: «كان رسول اللّه «ص» يقول: إذا أمّتي تواكلت الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من اللّه- تعالى-.» «2»

أقول: الوقاع: المحاربة و الإيقاع في الشرّ.

فإذا راعت الأمّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و اهتمّت بصلاح المجتمع صارت أمّة صالحة و العلاقات بينها مبرمة، و كانت كالبنيان المرصوص يدعم بعضه بعضا فلا محالة يرأسها فئة صالحة عادلة منها.

و إذا لم تهتمّ بهذه الفريضة و اتّبع كلّ واحد منها ما يشتهيه و يهواه صارت أمّة متشتّتة متفرّقة متباغضة يلعن بعضها بعضا فيغتنم الأشرار و الكفّار هذه الفرصة و يترأسون عليها و يغتصبون حقوقها و ذخائرها و إمكاناتها، كما هو المشاهد في أعصارنا في أكثر البلاد الإسلاميّة، فلا حول و لا قوّة إلّا باللّه.

15- و من الروايات الجامعة في هذا الباب أيضا الرواية الطويلة المروية في تحف العقول عن السبط الشهيد- سلام اللّه عليه-. قال: و يروى عن أمير المؤمنين «ع»، و قد مرّت الرواية في فصل اعتبار العلم في الحاكم، فراجع «3».

و فيها قوله «ع»: «فبدأ اللّه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنّها إذا أدّيت و أقيمت استقامت الفرائض كلّها، هيّنها و صعبها. و ذلك انّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام مع ردّ المظالم و مخالفة الظالم و قسمة الفي ء و الغنائم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقّها. الحديث بطوله.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 394، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 4.

(2)- الوسائل 11/ 394، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5.

(3)- راجع الفصل

السابع من الباب الرابع.

(4)- تحف العقول/ 237.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 233

16- و في موثقة مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال النبيّ «ص»:

كيف بكم إذا فسدت نساؤكم و فسق شبّانكم و لم تأمروا بالمعروف و لم تنهوا عن المنكر؟ فقيل له:

و يكون ذلك يا رسول اللّه؟ فقال: نعم، و شرّ من ذلك، كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر و نهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول اللّه، و يكون ذلك؟ قال: نعم، و شرّ من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا و المنكر معروفا؟ «1»

17- و في خبر أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ويل لقوم لا يدينون اللّه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.» «2» هذا.

18- و في كتاب الجمعة من صحيح البخاري بإسناده عن عبد اللّه بن عمر، يقول: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «كلّكم راع و كلّكم مسئول عن رعيّته: الإمام راع و مسئول عن رعيّته، و الرجل راع في أهله و هو مسئول عن رعيّته، و المرأة راعية في بيت زوجها و مسئولة عن رعيّتها، و الخادم راع في مال سيّده و مسئول عن رعيّته- قال: و حسبت أن قد قال-: و الرجل راع في مال أبيه و مسئول عن رعيّته، و كلّكم راع و مسئول عن رعيّته.» «3»

و الأخبار في باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كثيرة متواترة إجمالا من طرق الفريقين، فراجع.

و لم يشكّ و لم يتردّد في وجوبهما إجمالا أحد من المسلمين، بل هو من ضروريّات الدين.

الجهة الخامسة: في وجوب إنكار العامّة على الخاصّة و تغيير المنكر عليهم إذا علموا به:

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 396، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 12.

(2)- الوسائل

11/ 393، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(3)- صحيح البخاري 1/ 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى و المدن.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 234

1- روى الصدوق بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمّد- عليهما السلام- قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «إنّ اللّه لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّا من غير أن تعلم العامّة، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهارا فلم تغيّر ذلك العامّة استوجب الفريقان العقوبة من اللّه- عزّ و جلّ-.»

قال: و قال رسول اللّه «ص»: «إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّا لم يضرّ إلّا عاملها، فإذا عمل بها علانية و لم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة.» قال جعفر بن محمد «ع»: «و ذلك أنّه يذل بعمله دين اللّه و يقتدي به أهل عداوة اللّه.» «1»

2- و بهذا الإسناد قال: قال عليّ «ع»: «إنّ اللّه لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة، و ذكر الحديث الأوّل ثمّ قال: و قال: لا يحضرنّ أحدكم رجلا يضربه سلطان جائر ظلما و عدوانا، و لا مقتولا و لا مظلوما إذا لم ينصره، لأنّ نصرته على المؤمن فريضة واجبة إذا هو حضره، و العافية أوسع ما لم تلزمك الحجّة الظاهرة. قال: و لما جعل التفضّل في بني إسرائيل جعل الرجل منهم يرى أخاه على الذنب، فينهاه فلا ينتهي، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله و جليسه و شريبه، حتّى ضرب اللّه- عزّ و جلّ- قلوب بعضهم ببعض و نزل فيهم القرآن حيث يقول- عزّ و جلّ-: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ عَلىٰ لِسٰانِ دٰاوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، ذٰلِكَ بِمٰا عَصَوْا وَ كٰانُوا يَعْتَدُونَ،

كٰانُوا لٰا يَتَنٰاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ. الآية.» «2»

3- و في مرفوعة محمّد بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ما أقرّ قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيّرونه إلّا أو شك أن يعمّهم اللّه بعقاب من عنده.» «3»

4- و في مسند أحمد بسنده عن عدي، يقول: سمعت رسول اللّه «ص» يقول:

«إنّ اللّه- عزّ و جلّ- لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتّى يروا المنكر بين ظهرانيّهم و هم قادرون على

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 407، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 408، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(3)- الوسائل 11/ 408، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 235

أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب اللّه الخاصّة و العامّة.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون. و يظهر بها أنّ تكليف العامّة في قبال الفسق المتجاهر به أشدّ، و أنّه يجب عليهم القيام في قبال الخاصّة و إن كانت لهم السلطة و القدرة و أوجب ذلك الكفاح. و إطلاقها يشمل الكفاح المسلح أيضا.

و قد مرّ حكم الثورة و الكفاح المسلّح ضد أهل الجور و السلطات الطاغية الباغية في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس، فراجع.

الجهة السادسة: في وجوب إنكار المنكر بالقلب و تحريم الرضا به و وجوب الرضا بالمعروف:

1- قد مرّ في أخبار كثيرة الترغيب في الإنكار بالقلب و منها خبر جابر، و فيه:

«فأنكروا بقلوبكم، و ألفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم.» «2»

2- و في خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «من شهد أمرا فكرهه كان كمن غاب عنه. و من غاب عن أمر فرضيه كان كمن

شهده.» «3»

3- و في مرفوعة محمد بن مسلم، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، فمن رضي أمرا فقد دخل فيه، و من سخطه فقد خرج منه.» «4»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 235

4- و في نهج البلاغة قال «ع»: «الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم، و على كلّ

______________________________

(1)- مسند أحمد 4/ 192.

(2)- الوسائل 11/ 403، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(3)- الوسائل 11/ 409، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(4)- الوسائل 11/ 411، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 236

داخل في باطل إثمان: إثم العمل به، و إثم الرضا به.» «1»

5- و فيه أيضا: «أيّها الناس، إنّما يجمع الناس الرضا و السخط، و إنّما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمّهم اللّه بالعذاب لمّا عمّوه بالرضا فقال- سبحانه: فعقروها فأصبحوا نادمين.» «2»

6- و فيه أيضا في خطبة يذكر فيها أصحاب الجمل: «فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلّا رجلا واحدا معتمدين لقتله، بلا جرم جرّه، لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه إذ حضروه فلم ينكروا و لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد، دع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم.» «3»

7- و في خبر طلحة بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن عليّ «ع»، قال:

«العامل بالظلم، و الراضي به، و المعين عليه شركاء ثلاثة.» «4»

8-

و في رواية أبي أبي عمير، رفعه، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «الساعي قاتل ثلاثة:

قاتل نفسه، و قاتل من سعى به، و قاتل من سعى إليه.» «5»

9- و في خبر عبد السلام بن صالح الهروي، قال: «قلت لأبي الحسن علي بن موسى الرضا «ع»: يا بن رسول اللّه، ما تقول في حديث روي عن الصادق «ع»، قال: إذا خرج القائم «ع» قتل ذراري قتلة الحسين «ع» بفعال آبائها؟ فقال «ع»: هو كذلك.

فقلت: قول اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ لٰا تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ»*، ما معناه؟ قال: صدق اللّه في جميع أقواله، و لكن ذراري قتلة الحسين «ع» يرضون بفعال آبائهم و يفتخرون بها، و من رضي شيئا كان كمن أتاه. و لو أنّ رجلا قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل بالمغرب لكان الراضي عند اللّه- عزّ و جلّ-

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1163؛ عبده 3/ 191؛ لح/ 499، الحكمة 154.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 650؛ عبده 2/ 207؛ لح/ 319، الخطبة 201.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 556؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 172.

(4)- الوسائل 11/ 410، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 6.

(5)- الوسائل 11/ 410، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 237

شريك القاتل، و إنّما يقتلهم القائم «ع» إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم ...» «1»

10- و بهذا الإسناد عن الرضا «ع»، قال: قلت له: لأيّ علّة أغرق اللّه- عزّ و جلّ- الدنيا كلّها في زمن نوح «ع» و فيهم الأطفال و من لا ذنب له؟ فقال: ما كان فيهم الأطفال، لأنّ اللّه- عزّ و جلّ- أعقم أصلاب قوم نوح و أرحام

نسائهم أربعين عامّا فانقطع نسلهم فغرقوا و لا طفل فيهم، ما كان اللّه ليهلك بعذابه من لا ذنب له، و أمّا الباقون من قوم نوح فأغرقوا بتكذيبهم لنبيّ اللّه نوح «ع»، و سائرهم أغرقوا برضاهم بتكذيب المكذّبين، و من غاب عن أمر فرضي به كان كمن شاهده و أتاه.» «2»

11- و عنه «ع»، عن آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «يأتي على الناس زمان يذوب فيه قلب المؤمن في جوفه كما يذوب الآنك في النار، يعني الرصاص. و ما ذاك إلّا لما يرى من البلاء و الإحداث في دينهم و لا يستطيعون له غيرا.» «3»

12- و في حديث سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لو أنّ أهل السماوات و الأرض لم يحبّوا أن يكونوا شهدوا مع رسول اللّه «ص» لكانوا من أهل النار.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فتتّبع. هذا.

و لا يخفى أنّ إنكار المنكر بالقلب بعد العلم به و إن كان من لوازم الإيمان قهرا، و لكن المؤاخذة على مجرد الرضا القلبي بالمنكر ربّما تنافي ما دلّ على أنّ العبد إذا همّ بالسيئة لم تكتب عليه «5». و إذا لم يؤاخذ بنية فعل نفسه فكيف يؤاخذ بالرضا بفعل غيره!؟ فتأمّل.

فلعلّ المقصود في هذه الروايات هو الرضا الظاهر في مقام العمل. فإنّ من سمع ارتكاب غيره للمنكر وجب عليه السعي في نهيه و رفع المنكر أو إظهار البراءة

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 409، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 4.

(2)- الوسائل 11/ 410، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5.

(3)- الوسائل 11/ 411، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.

(4)- الوسائل 11/

411، الباب 5 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 10.

(5)- الوسائل 1/ 36 و ما بعدها، الباب 6 من أبواب مقدمة العبادات، الحديث 6- 7- 8- 10 و ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 238

ممّن ارتكبه، فإن ترك ذلك بل ظهر منه أمارات الرضا به بل و الافتخار به أحيانا صار بهذا شريكا في ذلك المنكر، و هكذا كان قوم صالح، و أصحاب الجمل، و أولاد قتلة الحسين «ع».

و في الجواهر:

«إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يعقل كونهما بالقلب وحده، ضرورة عدم كون ذلك أمرا و نهيا. كضرورة عدم كون المعرف و المنكر بالقلب آمرا و ناهيا، و إنّما هو من توابع الإيمان بما جاء به النبيّ «ص»، فلا بدّ من اعتبار أمر آخر في المرتبة الأولى به تعدّ في الأمر و النهي، و هو إظهار عدم الرضا بضرب من الإعراض و إظهار الكراهة و نحو ذلك.» «1»

الجهة السابعة: في وجوب الإعراض عن فاعل المنكر و هجره إذا لم يرتدع:

1- في خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «أمرنا رسول اللّه «ص» أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة.» «2»

2- و في رواية أخرى قال أمير المؤمنين «ع»: «أدنى الإنكار أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة.» «3»

3- و في رواية الحارث بن المغيرة، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «لآخذنّ البري ء منكم بذنب السقيم، و لم لا أفعل و يبلغكم عن الرجل ما يشينكم و يشينني فتجالسونهم و تحدّثونهم فيمرّ بكم المارّ فيقول: هؤلاء شرّ من هذا؟ فلو أنّكم إذا بلغكم عنه ما تكرهونه زبرتموهم و نهيتموهم كان

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 368.

(2)- الوسائل 11/ 413، الباب 6 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(3)- الوسائل

11/ 413، الباب 6 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1 أيضا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 239

أبرّ بكم و بي.» «1»

4- و في رواية أخرى له أنّ أبا عبد اللّه «ع» قال له: «لأحملنّ ذنوب سفهائكم إلى (على خ. ل) علمائكم (إلى أن قال): ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون و ما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنّبوه و تعذّلوه و تقولوا له قولا بليغا؟ قلت: جعلت فداك إذا لا يقبلون منّا. قال: اهجروهم و اجتنبوا مجالسهم.» «2»

5- و في رواية الشيخ- قدّس سرّه-، قال: قال الصادق «ع» لقوم من أصحابه: «إنّه قد حقّ لي أن آخذ البري ء منكم بالسقيم، و كيف لا يحقّ لي ذلك و أنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه و لا تهجرونه و لا تؤذونه حتّى يترك.» «3»

6- و في رواية هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لو أنّكم إذا بلغكم عن الرجل شي ء تمشّيتم إليه فقلتم: يا هذا، إمّا أن تعتزلنا و تجتنبنا و إمّا أن تكفّ عن هذا، فإن فعل، و إلّا فاجتنبوه.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال.

و بالجملة، يجب إنكار المنكر بالقلب و باللسان بقول ليّن بليغ أوّلا، ثمّ يغلظ عليه في ذلك إلى أن تصل النوبة إلى اليد بمراتبها، و الأحوط كونها بإذن الحاكم فإن لم يتيسّر ذلك أو لم يؤثّر فبالإعراض و الهجر و ترك المجالسة معه. كلّ ذلك ليتأثّر الفاعل و يرتدع، لا للانتقام و نحوه.

و رعاية المراتب لازمة و بها صرّح الفقهاء و هو المستفاد من الأخبار أيضا، فراجع.

و قد مرّت عبارة صاحب الجواهر في

معنى الإنكار بالقلب و أنّ المراد به هجر

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 414، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(2)- الوسائل 11/ 415، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

(3)- الوسائل 11/ 415، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 4.

(4)- الوسائل 11/ 415، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 240

الفاعل و الإعراض عنه. و قصده لا محالة أن يكون ذلك في آخر الأمر أو أوّل الأمر بعد العلم بعدم تأثير اللسان و اليد أو عدم إمكانهما، فتدبّر.

الجهة الثامنة: في رفع توهّم و شبهة:

قد يتوهّم أنّ قوله- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. لٰا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّٰهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمٰا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «1»

يدلّ على أنّ الإنسان إذا لزم بيته و أصلح نفسه فلا يبال بما يقع في المجتمع من الفساد و الضلال، فيعارض ظاهر الآية ما مرّ من الدليل على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و فيه أنّه لا يمكن رفع اليد عن الآيات الكثيرة، و الأخبار المتواترة، و إجماع المسلمين بهذا الظهور المتوهّم. بل الظاهر أنّ المقصود بالآية بيان أنّه يجب على الإنسان أن يكون مستقلّا في فكره و إرادته، و أنّه إذا فرض ضلال أفراد المجتمع أو بعضهم فليس له أن يجعل نفسه تابعا لهم و مهضوما فيهم كما هو المتعارف في أكثر المجتمعات، بل يجب على كل فرد أن يهتدي بهدى اللّه و يعمل بوظائفه المقرّرة من قبله التي من أهمّها الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمقدار القدرة، و إذا فعل ذلك نفعه هداه قهرا و لم يضرّه ضلال من ضلّ، فإنّ

الحق حقّ يثاب عليه و إن أعرض عنه الأكثر، و الباطل باطل يعاقب عليه و إن أقبل إليه الأكثر.

و في نهج البلاغة: «أيّها الناس، لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلّة أهله، فإنّ الناس قد اجتمعوا على مائدة شبعها قصير و جوعها طويل.» «2» هذا.

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 105.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 649؛ عبده 2/ 207؛ لح/ 319، الخطبة 201.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 241

و في مجمع البيان في ذيل الآية ما محصّله:

«إنّ في جواب الإشكال وجوها: أحدها: أنّ الآية لا تدلّ على جواز ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بل توجب أنّ المطيع لربّه لا يؤاخذ بذنوب العاصي.

و ثانيها: أنّ ذلك في حال التقية أو حال لا يجوّز الإنسان تأثير إنكاره أو يتعلّق بإنكاره مفسدة.

و روي أن أبا ثعلبة سأل رسول اللّه «ص» عن هذه الآية فقال: «ايتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيت دنيا مؤثرة و شحّا مطاعا و هوى متبعا و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك و ذر الناس و عوامهم.» و ثالثها: إنّ هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لأنّ اللّه- تعالى- خاطب بها المؤمنين فقال: عليكم أنفسكم، يعني عليكم أهل دينكم، كما قال: «وَ لٰا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» لا يضرّكم من ضلّ من الكفار. و هذا قول ابن عباس في رواية عطاء عنه، قال: «يريد يعظ بعضكم بعضا و ينهى بعضكم بعضا و يعلم بعضكم بعضا ما يقرّبه إلى اللّه و يبعّده من الشيطان، و لا يضرّكم من ضلّ من المشركين و المنافقين و أهل الكتاب.» «1»

الجهة التاسعة: في بيان ما ذكروه شرطا لوجوبهما:

الشرط الأول: [أن يعلمه منكرا]

قال المحقّق في الشرائع:

«و لا يجب النهي

عن المنكر ما لم يكمل شروط أربعة: الأوّل: أن يعلمه منكرا ليأمن الغلط في الإنكار. الثاني: أن يجوّز تأثير إنكاره فلو غلب على ظنّه أو علم أنّه لا يؤثر لم يجب. الثالث: أن يكون الفاعل له مصرّا على الاستمرار فلو لاح منه أمارة

______________________________

(1)- مجمع البيان 2/ 254 (الجزء 3).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 242

الامتناع أو أقلع عنه سقط الإنكار. الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة فلو ظنّ توجّه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب.» «1»

و الظاهر أنّ ذكر النهي عن المنكر من باب المثال، فالشروط شروط لكلتا الفريضتين.

و قال العلّامة في الإرشاد:

«و إنّما يجبان بشرط علمهما، و تجويز التأثير، و إصرار الفاعل على المنهي أو خلاف المأمور، و انتفاء الضرر عنه و عن ماله و عن إخوانه.» «2»

و هكذا ذكر الشروط الأربعة في المنتهى و التذكرة و غيرهما.

أقول: كون الشرط الأوّل شرطا للوجوب بحيث لا يجب تحصيل العلم و كون الجاهل بالحكم و لو عن تقصير معذورا في هذا الباب لا يخلو من إشكال. إذ الموضوع هو واقع المعروف و المنكر، لا المعلوم منهما. نعم، لمّا كان العلم طريقا إلى الواقع فبدونه لا يمكن الأمر و النهي فهو شرط للوجود قهرا، و الجاهل القاصر معذور لا محالة.

و قد تعرض لهذا الإشكال المحقّق الكركي في حاشيته، و الشهيد الثاني في المسالك.

قال في المسالك:

«و قد يناقش في اعتبار الشرط الأوّل نظرا إلى ان عدم العلم بالمعروف و المنكر لا ينافي تعلّق الوجوب بمن لم يعلم، و إنّما ينافيه نفس الأمر و النهى حذرا من الوقوع في الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف، و

حينئذ فيجب على كلّ من علم بوقوع المنكر أو ترك المعروف من شخص معيّن في الجملة بنحو شهادة عدلين أن يتعلم ما يصحّ معه الأمر و النهي ثمّ يأمر أو ينهى، كما يتعلّق بالمحدث وجوب الصلاة و يجب عليه تحصيل شروطها.

و حينئذ فلا منافاة بين عدم جواز أمر الجاهل و نهيه حالة جهله، و بين وجوبهما عليه

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 342.

(2)- الإرشاد للعلامة، المقصد الخامس في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؛ و المنتهى 2/ 993؛ و التذكرة 1/ 458.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 243

كما يجب الصلاة على المحدث و الكافر و لا يصحّ منهما على تلك الحالة.» «1»

و حكى في الجواهر قريبا من ذلك عن المحقّق الكركي في حاشيته «2».

و أجاب عنهما في الجواهر بقوله:

«و فيه- مع أنّه مناف لما سمعته من الأصحاب من دون خلاف فيه بينهم كما اعترف به في المنتهى- أنّه مناف أيضا لما مرّ في خبر مسعدة السابق الذي حصر الوجوب فيه على القويّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر، بل يمكن دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو ما علمه المكلف من الأحكام من حيث كونه مكلّفا بها، لا أنّه يجب أن يتعلّم المعروف من المنكر زائدا على ذلك مقدّمة لأمر الغير و نهيه الذين يمكن عدم وقوعهما ممّن يعلمه من الأشخاص.

و أمّا ما ذكراه من المثال فهو خارج عمّا نحن فيه، ضرورة العلم حينئذ بتحقّق موضوع الخطاب، بخلاف من فعل أمرا أو ترك شيئا و لم نعلم حرمة ما فعله و لا وجوب ما تركه، فإنّه لا يجب تعرّف ذلك مقدّمة للأمر و النهي لو فرضنا كونهما منه،

بل أصل البراءة محكّم، و هو مراد الأصحاب بكونه شرطا للوجوب، و اللّه العالم.» «3»

و محصّل ما ذكره- قدّس سرّه- بعد ردّ الصدر من كلامه إلى الذيل، أوّلا: أنّ الموضوع هو المعروف و المنكر بوجودهما الواقعي كما هو الظاهر منهما، لا معلوم المعروفيّة و المنكريّة و لكنّ الطريق إليهما هو العلم، فإن لم يحصل العلم كان موردا للبراءة لكون الشبهة موضوعيّة وجوبيّة، و إن حصل العلم بهما و لو إجمالا كما في المثال وجب الأمر و النهي حينئذ للعلم بتحقّق الموضوع، و هو مراد الأصحاب بكون العلم شرطا للوجوب، و في خبر مسعدة أيضا حصر الوجوب على القوي المطاع العالم

______________________________

(1)- المسالك 1/ 161.

(2)- الجواهر 21/ 366.

(3)- الجواهر 21/ 367.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 244

بالمعروف من المنكر.

و ثانيا: أنّه يمكن دعوى أنّ المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو ما علمه المكلّف من الأحكام لتكليف نفسه لا أنّه يجب أن يتعلّمهما زائدا على ذلك مقدمة لأمر الغير و نهيه.

أقول: المفروض في المثال هو العلم إجمالا بوقوع المنكر أو ترك المعروف من شخص معيّن خارجا من دون أن يعلم بما هو معروف أو منكر شرعا، فلا يشمله خبر مسعدة إذ مفاده اعتبار كونه عالما بما هو المعروف شرعا، فالإشكال باق بحاله.

و أما ما ذكره من البراءة في الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة فهو صحيح، و لكن إجراؤها بدون الفحص مشكل. ألا ترى أنّ الأصحاب احتاطوا على من احتمل استطاعته للحج أو بلوغ ماله إلى حد النصاب للخمس و الزكاة أن يحسب ماله و يتفحّص، و لو قال المولى: أكرم علماء قم مثلا وجب الفحص عن علمائها.

و أما ما ذكره

من الدعوى فيشكل الالتزام بها، إذ لو فرض أنّه كان هنا رجل عالم بكلّ ما يبتلى به الرجال من المسائل و لم يعلم المسائل المختصّة بالنساء و كان حوله نسوة يعلم بابتلائهن بها إجمالا و لا يوجد من يعرفها منهنّ فهل لا يجب عليه تعلّمها لإرشادهنّ و أمرهنّ بالمعروف؟ هذا.

و لقائل أن يقول: أوّلا: إنّ مفاد خبر مسعدة ليس إلّا ما هو حكم العقل من توقّف العمل و تنجّز التكليف به على القدرة و العلم بالموضوع، إذ العاجز و كذا الجاهل في حال العجز و الجهل لا يمكن أن يصدر عنهما الفعل، و هذا لا ينافي وجوب تحصيل القدرة و العلم عليه لما بعد ذلك. و ثانيا: لعلّ محطّ النظر في الخبر بقرينة ذكر القويّ المطاع و نفي الوجوب عن الأمّة جميعا هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الواقعين من المحتسب بولاية الحسبة، و لا ننكر أنّ المنصوب لأمر الحسبة من قبل الولاة يجب أن يكون قويا مطاعا عالما بالمعروف من المنكر. فهذه شرائط لتصدّي هذا المنصب الشريف الذي هو من شعب الولاية، و أمّا ما يجب على العامة من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 245

الأمر و النهي في الموارد الجزئيّة فالعلم شرط لوجودهما لا لوجوبهما. هذا.

و لكن الإنصاف أن دلالة خبر مسعدة على شرطية العلم لنفس الوجوب غير قابلة للإنكار، فتأمّل و اللّه العالم.

هذا كلّه فيما يرتبط بالشرط الأوّل.

الشرط الثاني: أن يجوّز تأثير انكاره.
اشارة

و يدلّ على اعتبار هذا الشرط أخبار مستفيضة:

1- منها ما في ذيل موثقة مسعدة، قال مسعدة: و سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول- و سئل عن الحديث الذي جاء عن النبيّ «ص»: إنّ أفضل الجهاد كلمة عدل عند

إمام جائر ما معناه؟- قال: «هذا على أن يأمره بعد معرفته و هو مع ذلك يقبل منه، و إلّا فلا.» «1»

2- و منها خبر ابن أبي عمير عن يحيى الطويل، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إنّما يؤمر بالمعروف و ينهى عن المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلّم، فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا.» «2»

3- و منها خبر أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: كان المسيح «ع» يقول:

«إنّ التارك شفاء المجروح من جرحه شريك جارحه لا محالة (إلى أن قال): فكذلك لا تحدّثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، و لا تمنعوها أهلها فتأثموا، و ليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعا لدوائه، و إلّا أمسك.» «3»

4- و منها خبر الريان بن الصلت، قال: جاء قوم بخراسان إلى الرضا «ع» فقالوا: إنّ قوما من أهل بيتك يتعاطون أمورا قبيحة، فلو نهيتهم عنها. فقال «ع»:

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(3)- الوسائل 11/ 401، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 246

لا أفعل. قيل: و لم؟ قال: لأنّي سمعت أبي «ع» يقول: «النصيحة خشنة.» «1»

5- و منها خبر الحارث بن المغيرة أنّ أبا عبد اللّه «ع» قال له: «ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون و ما يدخل علينا به الأذى أن تأتوه فتؤنّبوه و تعذّلوه و تقولوا له قولا بليغا؟ قلت: جعلت فداك إذا لا يقبلون منّا. قال: اهجروهم و اجتنبوا مجالسهم.» «2»

6- و منها خبر داود الرقّي، قال: سمعت أبا

عبد اللّه «ع» يقول: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه. قيل له: و كيف يذلّ نفسه؟ قال: يتعرّض لما لا يطيق.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على المقصود.

فروع
اشارة

و هنا فروع ينبغي الالتفات إليها:

الأول: أنّه لو لا هذه الأخبار أمكن القول بالوجوب مطلقا

حتّى مع العلم بعدم التأثير لإطلاق الأدلّة، و فائدته إتمام الحجة على الفاعل.

الثاني: يظهر بذلك أنّ الساقط مع العلم بعدم التأثير هو الوجوب لا الجواز،

اللّهم إلّا مع الضرر الذي لا يجوز تحمّله.

الثالث: مقتضى إطلاق الأدلّة عدم كفاية غلبة الظنّ في السقوط

و إن حكم به المحقّق بل الأكثر على ما قيل، اللّهم إلّا أن يريدوا بذلك خصوص الاطمينان الملحق بالعلم عادة، بل مقتضى التشبيه بالطبيب أيضا هو الوجوب حتّى مع الظن

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 402، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 7.

(2)- الوسائل 11/ 415، الباب 7 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

(3)- الوسائل 11/ 425، الباب 13 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 247

بعدم التأثير، إذ الطبيب يعطي الدواء مع احتمال الشفاء أيضا. و لا يراد بقوله:

«يقبله» في خبر مسعدة خصوص العلم بالقبول، بل مجرد الاحتمال و المعرضية، إذ لم يقل أحد باشتراط العلم بالقبول، فتدبّر.

الرابع: قال في المنتهى:

«قد جعل أصحابنا هذا شرطا على الإطلاق، و الأولى أن يجعل شرطا للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر باليد و اللسان دون القلب.» «1»

أقول: و قد مرّ كلام صاحب الجواهر و أنّه لا يعدّ مجرد ما في القلب أمرا و نهيا ما لم يضمّ إليه إظهار عدم الرضا و لو بضرب من الإعراض و الهجر.

الخامس: الظاهر أنّه لا يتعيّن أن يكون التأثير في الحال،

فلو جوّز التأثير فيه و لو في المآل وجب الأمر و النهي، بل يمكن أن يقال: إنّه لو علم أنّ النهي لا يؤثّر في شخص الفاعل و لكنّه يؤثّر في غيره ممّن رأى أو سمع فيوجب إعراضه عن الفاعل و عمله و لو لا نهيه كان مظنّة لمتابعة الغير له و اقتدائه به فلا يبعد وجوب النهي حينئذ، بل لو كان الناهي عالما دينيا شاخصا مثلا و كان سكوته موجبا لضعف عقائد المسلمين و وهن علماء الدين، و نهيه و اعتراضه على الفاعل سببا لقوّة إيمانهم أمكن القول بالوجوب أيضا و إن لم يؤثّر في شخص الفاعل.

و يمكن أن يقال: إنّ تجويز التأثير يصدق في جميع هذه الموارد. فالمقصود بهذا الشرط إخراج صورة لغوية الإنكار بحيث لا يترتّب عليه أثر لا في الفاعل و لا في غيره، فتدبّر.

الشرط الثالث: أن يكون الفاعل له مصرّا على الاستمرار.

فلو لاح منه أمارة الامتناع أو أقلع عنه سقط الإنكار. هكذا في الشرائع «2».

______________________________

(1)- المنتهى 2/ 993.

(2)- الشرائع 1/ 342.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 248

و في الجواهر في شرح العبارة قال:

«بلا خلاف مع فرض استفادة القطع من الأمارة، بل و لا إشكال، ضرورة عدم موضوع لهما، بل هما محرمان حينئذ كما صرح به غير واحد. كما أنّه لا أشكال في عدم السقوط بعد العلم بإصراره. إنّما الإشكال في السقوط بالأمارة الظنيّة بامتناعه كما هو مقتضى المتن و غيره باعتبار إطلاق الأدلّة و استصحاب الوجوب الثابت، اللّهم إلّا أن يريد الظن الغالب الذي يكون معه الاحتمال و هما لا يعتدّ به عند العقلاء.» «1»

أقول: و ملخّص الكلام هو أنّ التعرّض للغير هتك لحرمته و مخالف لسلطته على نفسه، فلا يجوز إلّا مع

كونه فاعلا للمنكر فيجب ردعه. فمع الشك الابتدائي و الاحتمال لا يجوز التعرّض له قطعا و لا التفتيش و التجسّس، قال اللّه- تعالى-:

«وَ لٰا تَجَسَّسُوا.» «2»

و أمّا مع سبق العصيان و احتمال الإصرار و الاستمرار باستدامة العمل خارجا أو بمجرد قصد التكرار فهل يحكم بجواز النهي عن المنكر بل بوجوبه لإطلاق الأدلّة كما قيل- و إن كان الإشكال فيه واضحا، حيث إنّ موضوع الأدلّة هو المنكر و المفروض الشكّ فيه- أو لاستصحاب الوجوب ما لم يحرز الامتناع أو الندم و التوبة.

أو بعدم الجواز إلّا مع إحراز الإصرار كما عن جماعة أو ظهور أمارة الاستمرار كما عن آخرين. أو يفصّل بين كون المحتمل استدامة العمل خارجا و بين كونه مجرد القصد إذ لا حرمة لقصد المعصية حتّى ينهى عنه؟

في المسألة وجوه بل أقوال. و الاحتياط حسن على كل حال.

ثمّ هل يكفي مجرد الامتناع عن الاستمرار أو لا بدّ من التوبة؟ ربّما استظهر من

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 370.

(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 249

الأكثر سقوط النهي عن المنكر بمجرد الامتناع.

نعم، لمّا وجبت التوبة وجب الأمر بالمعروف إن ظهر منه إصراره على تركها بل بمجرد الاحتمال أيضا للاستصحاب. هذه بعض كلمات الأصحاب في المقام.

قال المحقّق الأردبيلي- قدّس سرّه- في مجمع الفائدة:

«و الذي يظهر أنّهم كانوا يكتفون بترك المنكر مثلا، و ما نقل تكليفهم أحدا بالتوبة بل بمجرد الترك كانوا يخلّون سبيله، و كذا في الأمر بالمعروف فإنّهم كانوا يتركون بارتكابه فقط.» «1»

أقول: و الحقّ صحّة ما ذكره، بل الظاهر استقرار السيرة في جميع الأعصار على مراقبة ظواهر الشرع المبين و المنع عن التجاهر بالمعصية، و لم يكن بناء

الأفراد و لا المحتسبين على التفتيش و التدخّل في دخائل الناس أو الأمر و النهي بمجرد الاستصحاب و نحوه. و في رواية محمد بن مسلم أو الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: لا تطلبوا عثرات المؤمنين، فإنّ من تتبّع عثرات أخيه تتبّع اللّه عثراته، و من تتبّع اللّه عثراته يفضحه و لو في جوف بيته.» و بهذا المضمون روايات مستفيضة، فراجع «2» و روى مالك في حدود الموطأ عن زيد بن أسلم، عن رسول اللّه «ص» أنّه قال:

«أيّها الناس، قد آن لكم أن تنتهوا عن حدود اللّه، من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه، فإنّه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب اللّه.» «3»

و روى نحوه الشيخ أيضا في كتاب الإقرار من المبسوط و في كتاب السرقة منه «4».

و في الموطأ أيضا بسنده عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: بلغني أنّ رسول اللّه «ص»

______________________________

(1)- مجمع الفائدة، المقصد الخامس في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(2)- راجع الكافي 2/ 355، كتاب الإيمان و الكفر، باب من طلب عثرات المؤمنين؛ و الوسائل 8/ 594، الباب 150 من أبواب أحكام العشرة.

(3)- الموطأ 2/ 169، كتاب الحدود، باب ما جاء فيمن اعترف على نفسه بالزنا.

(4)- المبسوط 3/ 2، و 8/ 40.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 250

قال لرجل من أسلم يقال له هزّال: «يا هزّال، لو سترته بردائك لكان خيرا لك.» «1»

الشرط الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة.

فلو ظنّ توجّه الضرر إليه أو إلى ماله أو إلى أحد من المسلمين سقط الوجوب. هكذا في الشرائع «2».

و أرادوا بالضرر الأعمّ ممّا في النفس أو العرض أو المال في الحال أو في المآل،

و الاكتفاء بالظنّ هنا من جهة أنّ الملاك في باب الضرر خوفه و هو يحصل مع الظنّ بل و بعض مراتب الاحتمال أيضا.

و قال في الجواهر:

«بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به بعضهم، لنفي الضرر و الضرار، و الحرج في الدين، و سهولة الملّة و سماحتها، و إرادة اللّه اليسر دون العسر.» «3»

ثمّ تعرّض لأخبار خاصّة في المسألة:

1- مثل ما رواه الصدوق في الخصال بإسناده، عن الأعمش، عن جعفر بن محمد «ع»، قال: «و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، و لم يخف على نفسه و لا على أصحابه.»

و رواه في العيون بإسناده، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا «ع» في كتابه إلى المأمون نحوه و أسقط قوله: «و لا على أصحابه.» «4»

2- و مثل قول الصادق «ع» في موثّقة مسعدة السابقة: «و ليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان لا قوّة له و لا عدد و لا طاعة.» «5»

3- و خبر يحيى الطويل، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «إنّما يؤمر بالمعروف و ينهى عن

______________________________

(1)- الموطأ 2/ 166، كتاب الحدود، باب ما جاء في الرجم.

(2)- الشرائع 1/ 342.

(3)- الجواهر 21/ 371.

(4)- الوسائل 11/ 398، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 22.

(5)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 251

المنكر مؤمن فيتعظ، أو جاهل فيتعلّم. فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا.» «1»

4- و خبر مفضل بن يزيد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال لي: «يا مفضّل، من تعرض لسلطان جائر فأصابته بليّة لم يؤجر عليها،

و لم يرزق الصبر عليها.» «2»

5- و خبر داود الرقي، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قيل له: و كيف يذلّ نفسه؟ قال: يتعرّض لما لا يطيق.» «3» إلى غير ذلك من الأخبار.

و استدلّ في مجمع الفائدة لذلك بقوله:

«لأنّه قبيح و الضرر أيضا قبيح، و رفع القبيح بالقبيح قبيح. و وجوب إدخال الضرر على نفسه أو المسلمين لدفع حرام غير ظاهر و إن فرض كونه أقلّ من الأوّل.

و الظاهر عدم الخلاف فيه أيضا.» «4»

و قال الشيخ في كتاب الاقتصاد:

«سواء كان ما يقع عنده من القبيح صغيرا أو كبيرا من قتل نفس أو قطع عضو أو أخذ مال كثير أو يسير، فإنّ الكلّ مفسدة» «5»

أقول: يمكن أن يقال أوّلا: إنّه ليس الغرض من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر تحصيل المثوبة مثلا، بل هما شرّعا بمفهوم وسيع لإصلاح المجتمع و قطع جذور المنكر و الفساد. و مقتضى رعاية ملاكات الأحكام و مصالحها، و اختلاف مراتب الضرر، و مراتب المنكر أن يعامل مع الدليلين معاملة التزاحم فيقدّم الأهمّ منهما ملاكا، فلربّما يريد أحد قتل واحد أو جماعة أو التجاوز على امرأة مسلمة محترمة

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 400، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(2)- الوسائل 11/ 401، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3.

(3)- الوسائل 11/ 425، الباب 13 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(4)- مجمع الفائدة، المقصد الخامس في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

(5)- الاقتصاد/ 149، فصل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 252

مثلا و يكون نهيه و ردعه موجبا لخسارة ما

على الناهي، فهل يمكن القول بعدم وجوب النهي عن المنكر حينئذ؟! و ربّما يكون المنكر منكرا فظيعا يتجاهر به و يكون في معرض السراية إلى المجتمع و ربّما يفسد المجتمع بسببه، أو يكون المرتكب له ذا شخصيّة اجتماعيّة أو دينيّة يقتدي به الناس طبعا، أو يكون عمله موجبا لهدم أساس الدين، أو يريد بعمله تغيير قانون من قوانين الإسلام أو تحريفه، أو يريد إقامة السلطة الظالمة الغاصبة على شئون المسلمين و سياستهم و اقتصادهم و ثقافتهم، و نحو ذلك من الأمور المهمّة التي لا يجوز السكوت في قبالها، و كان الناهي ممّن يقبل قوله، أو يوجب إقدامه و نهيه لا محالة وحشة المرتكب أو خفّته أو التزلزل في وضعه الاجتماعي، فهل لا يجب النهي و الردع بظن ضرر ماليّ أو حبس أو تضييق أو نحو ذلك؟! يشكل جدّا الالتزام بذلك، هذا.

مضافا إلى دلالة روايات كثيرة على وجوب الإقدام و القيام في قبال المنكر و الفساد و لو ترتب عليه ضرر أو شدّة:

1- ففي خبر جابر، عن أبي جعفر «ع»، قال: «يكون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراءون يتقرؤون و يتنسّكون، حدثاء سفهاء لا يوجبون أمرا بمعروف و لا نهيا عن منكر إلّا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص و المعاذير، يتّبعون زلّات العلماء و فساد علمهم، يقبلون على الصلاة و الصيام و ما لا يكلمهم في نفس و لا مال، و لو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم و أبدانهم لرفضوها كما رفضوا أتمّ الفرائض و أشرفها ... فأنكروا بقلوبكم و ألفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم و لا تخافوا في اللّه لومة لائم.» «1»

2- و في خبر آخر لجابر، عن أبي جعفر

«ع»: «من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى اللّه و وعظه و خوّفه كان له مثل أجر الثقلين: الجنّ و الإنس و مثل أعمالهم.» «2»

و واضح أن تخويف السلطان الجائر يلازم غالبا ردّ الفعل و التضييق.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 394، و 402 و 403 الباب 1 و 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 6، و الباب 3 منها، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 406، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 253

3- و في رواية تحف العقول عن السبط الشهيد «ع»: «و إنّما عاب اللّه ذلك عليهم لأنّهم كانوا يرون من الظلمة المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم و رهبة ممّا يحذرون، و اللّه يقول: فَلٰا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي.» «1»

4- و في رواية نهج البلاغة: «و إنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يقرّبان من أجل و لا ينقصان من رزق. و أفضل من ذلك كلّه كلمة عدل عند إمام جائر.» «2»

5- و في نهج البلاغة أيضا: «و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نوّر في قلبه اليقين.» «3»

6- و في رواية مسعدة، عن جعفر بن محمد «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «إنّ اللّه لا يعذّب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّا من غير أن تعلم العامّة، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهارا فلم تغيّر ذلك العامّة استوجب الفريقان العقوبة من اللّه- عزّ و جلّ-.» «4»

7- و خطب السبط الشهيد أصحابه و أصحاب الحرّ فقال: «أيّها الناس، إنّ رسول اللّه

«ص» قال: «من رأى سلطانا جائرا مستحلّا لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه مخالفا لسنة رسول اللّه «ص» يعمل في عباد اللّه بالإثم و العدوان فلم يغيّر عليه بفعل و لا قول كان حقّا على اللّه أن يدخله مدخله. ألا و إنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان. الحديث.» «5»

8- و خطب «ع» أيضا بذي حسم فقال: «أ لا ترون أنّ الحقّ لا يعمل به و أنّ الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّا فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة و لا الحياة مع الظالمين إلّا برما.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 403، الباب 2 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 9.

(2)- الوسائل 11/ 406، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 9.

(3)- الوسائل 11/ 405، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8.

(4)- الوسائل 11/ 407، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 1.

(5)- تاريخ الطبري 7/ 300، (طبعة ليدن).

(6)- تاريخ الطبري 7/ 301؛ و تحف العقول/ 245 إلّا أنّ فيه: «لا أرى الموت إلّا سعادة».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 254

و هو «ع» إمام المسلمين و قدوتهم، و قد برّر قيامه و ثورته بما ألفت إليه في خطبتيه، و قد استشهد هو و أولاده و أصحابه في هذا الطريق، و في زيارته الشريفة:

«أشهد أنّك قد أقمت الصلاة و آتيت الزكاة و أمرت بالمعروف و نهيت عن المنكر.» فعلى المسلمين و لا سيما شيعته جميعا أن يقتدوا به و يهتدوا بهداه.

9- و في الدر المنثور عن رسول اللّه «ص»: «إنّ رحى الإسلام ستدور، فحيث ما دار القرآن فدوروا به، يوشك السلطان و القرآن أن يقتتلا و يتفرّقا.

إنّه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم و لهم بغيره، فإن أطعتموهم أضلّوكم و أن عصيتموهم قتلوكم». قالوا: يا رسول اللّه فكيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى «ع»: نشروا بالمناشير و رفعوا على الخشب. موت في طاعة خير من حياة في معصية.» «1»

10- و في نهج السعادة: قال أبو عطاء: خرج علينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «ع» محزونا يتنفّس فقال: كيف أنتم و زمان قد أظلّكم، تعطّل فيه الحدود و يتّخذ المال فيه دولا و يعادى فيه أولياء اللّه و يوالى فيه أعداء اللّه؟ قلنا: يا أمير المؤمنين، فإن أدركنا ذلك الزمان فيكف نصنع؟ قال: كونوا كأصحاب عيسى «ع»: نشروا بالمناشير و صلبوا على الخشب، موت في طاعة اللّه- عزّ و جلّ- خير من حياة في معصية اللّه.» «2»

11- و في كنز العمّال: «سيكون عليكم أئمّة يملكون أرزاقكم، يحدثونكم فيكذبونكم، و يعملون فيسيؤون العمل، لا يرضون منكم حتّى تحسّنوا قبيحهم و تصدّقوا كذبهم، فأعطوهم الحقّ ما رضوا به فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد.» «3»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة، و قد مرّ بعضها في ذيل الرواية السادسة من الفصل الرابع من الباب الثالث، و بعضها في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس، فراجع.

______________________________

(1)- الدر المنثور 2/ 301.

(2)- نهج السعادة 2/ 639.

(3)- كنز العمال 6/ 67، الباب 1 من كتاب الإمارة و القضاء، الحديث 14876.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 255

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ محطّ النظر في بعض هذه الروايات هو عدم إطاعة الجائر في جوره لا أمره بالمعروف و نهيه عن المنكر، فيجوز تحمّل الضرر في الأوّل دون

الثاني، فتدبّر.

12- و في أصول الكافي بسنده، عن ابن مسكان، عن اليمان بن عبيد اللّه، قال:

«رأيت يحيى بن أمّ الطويل وقف بالكناسة ثمّ نادى بأعلى صوته: معشر أولياء اللّه، إنّا برآء مما تسمعون. من سبّ عليّا «ع» فعليه لعنة اللّه، و نحن برآء من آل مروان و ما يعبدون من دون اللّه. ثمّ يخفض صوته فيقول: من سبّ أولياء اللّه فلا تقاعدوه، و من شك فيما نحن فيه فلا تفاتحوه، الحديث.» «1»

و العلامة المجلسي- قدّس سرّه- في مرآة العقول بعد ذكر جمع من أصحاب علي بن الحسين منهم يحيى بن أم الطويل قال:

«و روي عن أبي جعفر «ع» أنّ الحجّاج طلبه و قال: تلعن ابا تراب و أمر بقطع يديه و رجليه و قتله.

و أقول: كأنّ هؤلاء الأجلّاء من خواصّ أصحاب الأئمّة «ع» كانوا مأذونين من قبل الأئمّة «ع» بترك التقيّة لمصلحة خاصّة خفيّة، أو إنّهم كانوا يعلمون أنّه لا ينفعهم التقيّة و أنّهم يقتلون على كلّ حال بإخبار المعصوم أو غيره، و التقيّة إنّما تجب إذا نفعت. مع أنّه يظهر من بعض الأخبار أنّ التقية إنّما تجب إبقاء للدين و أهله، فإذا بلغت الضلالة حدّا توجب اضمحلال الدين بالكليّة فلا تقيّة حينئذ و إن أوجب القتل، كما أنّ الحسين «ع» لما رأى انطماس آثار الحقّ رأسا ترك التقيّة و المسالمة.» «2»

أقول: و هذا يؤيّد ما ذكرناه من تحكيم التزاحم بين الدليلين و اختيار الأهمّ منهما. هذا.

______________________________

(1)- أصول الكافي 2/ 379، كتاب الإيمان و الكفر، باب مجالسة أهل المعاصي، الحديث 16.

(2)- مرآة العقول 11/ 98. (ط. القديم 2/ 370).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 256

و أمّا الأخبار التي مرّت فمضافا

إلى ضعف أكثرها تحمل على صورة عدم القوّة و القدرة و هي شرط عقلي، أو تحمل على صورة عدم إعداد المقدمات بحيث يقع عمله لغوا لا يترتّب عليه أثر إلّا هلاك نفسه أو على كون المورد جزئيّا لا يجوز بسببه إيقاع النفس في المهالك أو نحو ذلك من المحامل.

و بالجملة، فالواجب في المقام إجراء باب التزاحم، و تقديم ما هو الأهمّ ملاكا، و هكذا كانت سيرة أصحاب النبيّ «ص» و الأئمة «ع» الملتزمين بالموازين الشرعيّة أمثال أبي ذرّ، و ميثم التمّار، و حجر بن عديّ، و رشيد، و مسلم، و هاني، و قيس بن مسهر، و زيد بن علي، و حسين بن علي شهيد فخّ، و قد استشهدوا في طريق الدفاع عن الحقّ، فما في الجواهر هنا من قوله:

«و ما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون و أبي ذرّ و غيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصّة لا يقاس عليها غيرها،» «1» كلام بلا وجه، فتدبّر.

هذا كلّه ما يقال أوّلا.

و ثانيا: إنّ الظاهر أنّ محل بحث المحقّق و أمثاله هو الأمر و النهي الصادران عن الأشخاص العاديين في الموارد الجزئيّة. و أمّا صاحب المقام المسؤول من قبل الحاكم لذلك فعليه تفويض الأمر إلى العالم بالمعروف و المنكر القادر على الأمر و النهي و لو بالقدرة الحاصلة من قبل الحكومة. و لعلّه المراد أيضا بقوله «ع» في خبر مسعدة:

«إنّما هو على القوى المطاع العالم.» و لو لم يوجد هنا حكومة عادلة ملتزمة فعلى المسلمين التعاضد و التعاون و التجمع و التشكل و تهيّة الأسباب مقدّمة لتحصيل القدرة على ذلك و القيام في قبال الطغاة، كما مرّ بيانه بالتفصيل، فلاحظ.

و في الجواهر بعد بيان الشرائط الأربعة للوجوب قال:

«و

عن البهائي- رحمه اللّه- في أربعينه عن بعض العلماء زيادة أنه لا يجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إلّا بعد كون الآمر و الناهي متجنبا عن المحرمات

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 373.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 257

و عدلا، لقوله- تعالى-: «أَ تَأْمُرُونَ النّٰاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ» «1» و قوله- تعالى-:

«لِمَ تَقُولُونَ مٰا لٰا تَفْعَلُونَ» و قوله: «كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللّٰهِ أَنْ تَقُولُوا مٰا لٰا تَفْعَلُونَ» «2» و قول الصادق «ع» في خبر محمد بن أبي عمير المروي، عن الخصال و عن روضة الواعظين:

«إنّما يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه الحديث» «3» و قول أمير المؤمنين «ع» في نهج البلاغة: «و أمروا بالمعروف و ائتمروا به، و انهوا عن المنكر و انتهوا (تناهوا- الوسائل) عنه. و إنّما أمرنا بالنهي بعد التناهي» «4» و في الخبر: «و لا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به، و لا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه.» على أن هداية الغير فرع الاهتداء، و الإقامة بعد الاستقامة.

و فيه أنّ الأول إنّما يدلّ على ذمّ غير العامل بما يأمر به لا على عدم الوجوب عليه.

و احتمال الثاني اللوم على قول «فعلنا» أو ما يدلّ على ذلك و لا فعل. و الثالث الإشارة إلى الإمام القائم بجميع أفراد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و التعريض بأئمّة الجور المتلبّسين بلباس أئمّة العدل. كلّ ذلك لإطلاق ما دلّ على الأمر بهما كتابا و سنّة و إجماعا من غير اشتراط للعدالة، بل ظاهر حصرهم الشرائط في الأربعة عدم اشتراط غيرها.» انتهى

كلام الجواهر. «5»

أقول: و عن إرشاد الديلمي عن رسول اللّه «ص» قال: قيل له: لا نأمر بالمعروف حتّى نعمل به كلّه و لا ننهى عن المنكر حتّى ننتهي عنه كلّه؟ فقال: «لا، بل مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كلّه و انهوا عن المنكر و إن لم تنتهوا عنه كلّه.» «6»

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 44.

(2)- سورة الصفّ (61)، الآية 2- 3.

(3)- الوسائل 11/ 419 و 403، الباب 10 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 3. و الباب 2 منها، الحديث 10.

(4)- الوسائل 11/ 420، الباب 10 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 8. لكن لم اجده في نهج البلاغة، نعم في ذيل الخطبة 105: «و انهوا عن المنكر و تناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي».

(5)- الجواهر 21/ 373.

(6)- الوسائل 11/ 420، الباب 10 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 258

و في معالم القربة عن ابن عباس، عن النبيّ «ص»، قال: «مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كلّه و انهوا عن المنكر و إن لم تنتهوا عنه كلّه.» «1»

و في كشف الغطاء في بيان شروطهما قال:

«و يجب الأمر بالواجب و النهي عن المحرم وجوبا كفائيا بشروط أربعة عشر:

احدها: التكليف بجمع وصفي البلوغ و العقل حين الأمر و النهي.

ثانيها: العلم بجهة الفعل من وجوب و حرمة. و مع الاحتمال يدخل في السنّة للاحتياط.

ثالثها: امكان التأثير. و مع عدمه يلحق بالسنّة.

رابعها: عدم التقيّة و لو بمجرد الاطلاع.

خامسها: عدم ترتّب الفساد الدنيوي على المأمور أو غيره بسببه.

سادسها: عدم مظنّة قيام الغير به.

سابعها: مظنّة الوقوع ممّن تعلّق به الخطاب.

ثامنها: ألّا يتقدم منه أو من غيره

خطاب يظنّ تأثيره.

تاسعها: عدم البعث على ارتكاب معصية أو ترك واجب للمأمور أو غيره بسببه.

عاشرها: عدم ترتّب نقص مخلّ بالاعتبار على الآمر.

حادي عشرها: فهم المأمور مراد الآمر.

ثاني عشرها: ضيق الوقت في الواجب الفوري.

ثالث عشرها: عدم معارضة واجب مضيق من صلاة و نحوها.

رابع عشرها: كون المأمور ممّن يجوز له النظر إليه أو اللمس له إذا توقّف عليهما.» «2»

______________________________

(1)- معالم القربة/ 17 (ط. مصر/ 64).

(2)- كشف الغطاء/ 420.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 259

الجهة العاشرة: في بيان مفهوم الحسبة، و شروط المحتسب، و الفرق بينه و بين المتطوّع:

من الدوائر التي كانت رائجة في أعصار الخلافة الإسلاميّة هي دائرة الحسبة، و ربّما كان يعبّر عنها بولاية الحسبة، و يرجع تاريخها إلى عصر النبيّ «ص» كما سيظهر.

و كانت وظيفتها إجمالا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمراتبهما و مفهومهما الوسيع، و لعلّها توجد الآن أيضا في بعض البلاد الإسلاميّة بهذا الاسم أو ما يقرب منه. و قد وزّعت وظائفها في أعصارنا في أكثر البلاد على الوزارات و المؤسّسات المختلفة المنشعبة من سلطة التنفيذ، كما فوّض بعض وظائفها أيضا إلى سلطة القضاء.

و كانت في عصر بساطة الخلافة و سذاجتها تحت إشراف نفس الخليفة و الإمام الأعظم، بل ربّما كان الإمام بنفسه يتصدّى لأكثر وظائفها. فلنتعرّض لها هنا إجمالا فنقول:

1- قال ابن الأثير في النهاية:

«و الحسبة اسم من الاحتساب، كالعدّة من الاعتداد. و الاحتساب في الأعمال الصالحة و عند المكروهات: هو البدار إلى طلب الأجر و تحصيله بالتسليم و الصبر، أو باستعمال أنواع البرّ و القيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو منها.» «1»

2- و في الصّحاح:

«احتسبت عليه كذا: إذا أنكرته عليه. قال ابن دريد: و احتسبت بكذا [طلبت] أجرا عند اللّه، و الاسم الحسبة بالكسر و

هي الأجر.» «2»

______________________________

(1)- النهاية لابن الأثير 1/ 382.

(2)- الصحاح للجوهري 1/ 110.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 260

3- و في مجمع البحرين:

«يقال: احتسب فلان: عمله طلبا لوجه اللّه و ثوابه، و منه الحسبة بالكسر و هي الأجر ... و الحسبة: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و اختلف في وجوبهما عينا أو كفاية.» «1»

أقول: و يحتمل أن تكون الحسبة من المحاسبة بمعنى مراقبة أحد الرجلين للآخر و حسابه عليه، و لعلّ منه أيضا الحسيب بمعنى المحاسب، قال اللّه- تعالى-: «وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ حَسِيباً»* «2» هذا.

4- و في أول معالم القربة لابن الأخوة:

«الحسبة من قواعد الأمور الدينيّة. و قد كان أئمّة الصدر الأوّل يباشرونها بأنفسهم، لعموم صلاحها و جزيل ثوابها. و هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه و نهى عن المنكر إذا ظهر فعله، و إصلاح بين الناس، قال اللّه- تعالى-: «لٰا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوٰاهُمْ إِلّٰا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلٰاحٍ بَيْنَ النّٰاسِ». و المحتسب: من نصبه الإمام أو نائبه للنظر في أحوال الرعيّة و الكشف عن أمورهم و مصالحهم (و بياعاتهم و مأكولاتهم و ملبوسهم و مشروبهم و مساكنهم و طرقاتهم و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر خ. ل).

و من شرط المحتسب أن يكون مسلما حرّا بالغا عاقلا عدلا قادرا حتّى يخرج منه الصبيّ و المجنون و الكافر، و يدخل فيه آحاد الرعايا و إن لم يكونوا مأذونين، و يدخل فيه الفاسق و الرقيق و المرأة ... و أن يكون ذا رأي و صرامة و خشونة في الدّين، عارفا بأحكام الشريعة ليعلم ما يأمر به و ينهى عنه، فإنّ الحسن ما حسّنه الشّرع، و القبيح

ما قبّحه الشرع، لقوله «ص»: ما استحسنه المسلمون فهو حسن.» «3»

______________________________

(1)- مجمع البحرين/ 106.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 6؛ و سورة الأحزاب (33)، الآية 39.

(3)- معالم القربة/ 7- 8. (ط. مصر/ 51).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 261

أقول: ما ذكره من قوله: «و يدخل فيه آحاد الرعايا ...» يريد به لا محالة من يتصدّى للحسبة تطوّعا، فلا يناقض ما قبله. و أمّا ما ذكره من مباشرة أئمّة الصدر الأوّل لأمر الحسبة فأمر يظهر لكلّ من راجع الأخبار و التواريخ، و سيأتي ذكر بعض مواردها.

5- و في التراتيب الإدارية للكتّاني عن التيسير لابن سعيد:

«اعلم أنّ الحسبة من أعظم الخطط الدينيّة، فلعموم مصلحتها و عظيم منفعتها تولّى أمرها الخلفاء الراشدون، لم يكلوا أمرها إلى غيرهم مع ما كانوا فيه من شغل الجهاد و تجهيز الجيوش للمكافحة و الجلاد.» «1»

6- و فيه أيضا عن كشف الظنون:

«علم الاحتساب علم باحث عن الأمور الجارية بين أهل البلد من معاملاتهم اللاتي لا يتمّ التمدّن بدونها من حيث إجرائها على القانون المعدّل بحيث يتمّ التراضي بين المتعاملين، و عن سياسة العباد بنهي المنكر و أمر بالمعروف بحيث لا يؤدّي إلى مشاجرات و تفاخر بين العباد بحيث ما رآه الخليفة من الزجر و المنع.

و مباديه بعضها فقهي و بعضها أمور استحسانية ناشئة من رأي الخليفة. و الغرض منه تحصيل الملكة في تلك الأمور. و فائدته إجراء أمور المدن في المجاري على الوجه الأتمّ.

و هذا أدقّ العلوم و لا يدركه إلّا من له فهم ثاقب و حدس صائب، إذ الأشخاص و الأزمان و الأحوال ليست على وتيرة واحدة، بل لا بدّ لكلّ واحد من الأزمان و الأحوال سياسة خاصّة،

و ذلك من أصعب الأمور، فلذلك لا يليق بمنصبها إلّا من له قوّة قدسيّة مجردة عن الهوى.» «2»

7- و قال القاضي أبو يعلى الفرّاء في الأحكام السلطانية في أحكام الحسبة:

«و الحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، و نهى عن المنكر إذا ظهر فعله. و هذا

______________________________

(1)- التراتيب الإدارية 1/ 286.

(2)- التراتيب الإدارية 1/ 287.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 262

و إن صحّ من كلّ مسلم، فالفرق بين المحتسب و المتطوّع من تسعة أوجه:

أحدها: أنّ فرضه متعيّن على المحتسب بحكم الولاية، و فرضه على غيره داخل في فرض الكفاية.

الثاني: أنّ قيام المحتسب به من حقوق تصرّفه الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره، و قيام المتطوّع به من النوافل الذي يجوز التشاغل عنه بغيره.

الثالث: أنّه منصوب للاستعداء إليه فيما يجب، و ليس المتطوّع منصوبا للاستعداء.

الرابع: أنّ على المحتسب إجابة من استعدى به، و ليس على المتطوّع إجابته.

الخامس: أنّ عليه أن يبحث عن المنكرات الظاهرة، ليصل إلى إنكارها.

و يفحص عمّا ترك من المعروف الظاهر ليأمر بإقامته، و ليس على غيره من المتطوّعة بحث و لا فحص.

السادس: أنّ له أن يتّخذ على الإنكار أعوانا، لأنّه عمل هو له منصوب و إليه مندوب ليكون له أقهر و عليه أقدر، و ليس لمتطوّع أن يندب لذلك أعوانا.

السابع: له أن يعزّر على المنكرات الظاهرة و لا يتجاوزها إلى الحدود، و ليس للمتطوّع أن يعزّر على منكر.

الثامن: أن له أن يرتزق من بيت المال على حسبته، و لا يجوز لمتطوّع أن يرتزق على إنكاره.

التاسع: أنّ له اجتهاد رأيه فيما تعلّق بالعرف دون الشرع، كالمقاعد في الأسواق، و إخراج الأجنحة، فيقرّ و ينكر من ذلك ما أدّاه

اجتهاده إليه، و ليس هذا للمتطوّع.

فيكون الفرق بين والي الحسبة و إن كانت أمرا بالمعروف و نهيا عن المنكر، و بين غيره من المتطوّعة، و إن جاز أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر من هذه الوجوه التسعة.

و من شروط والي الحسبة أن يكون خبيرا عدلا ذا رأي و صرامة و خشونة في الدين، و علم بالمنكرات الظاهرة. و هل يفتقر إلى أن يكون عالما من أهل الاجتهاد في أحكام الدين ليجتهد رأيه؟ يحتمل أن يكون من أهله، و يحتمل أن لا يكون ذلك

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 263

شرطا إذا كان عارفا بالمنكرات المتّفق عليها.» «1» و ذكر نحو ذلك أيضا الماوردي. «2»

أقول: و في بعض ما ذكراه من الفروق التسعة نظر بل منع و لا سيّما في الثاني و السادس، كما لا يخفى وجهه.

الجهة الحادية عشرة: في ذكر بعض الموارد التي تصدّى فيها رسول اللّه «ص» أو أمير المؤمنين «ع» لأمر الحسبة

أو أمرا بها:

1- سيأتي في فصل الاحتكار: «أنّ رسول اللّه «ص» مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق و حيث تنظر الأبصار إليها.» «3»

2- و سيأتي أيضا في رواية حذيفة بن منصور: «أنّ رسول اللّه «ص» قال: يا فلان، إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلّا شي ء عندك فأخرجه و بعه كيف شئت.» «4»

3- و في خبر ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «جاء رجل إلى النبيّ «ص» فقال: يا رسول اللّه، إنّي سألت رجلا بوجه اللّه فضربني خمسة أسواط؟ فضربه النبيّ «ص» خمسة أسواط أخرى و قال: سل بوجهك اللئيم.» «5»

4- و في خبر سعد الإسكاف، عن أبي جعفر «ع»، قال: «مرّ النبيّ «ص» في سوق

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 284.

(2)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 240.

(3)- الوسائل 12/

317، الباب 30 من أبواب التجارة، الحديث 1.

(4)- الوسائل 12/ 317، الباب 29 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(5)- الوسائل 18/ 577، الباب 2 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 264

المدينة بطعام فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلّا طيّبا، و سأله عن سعره، فأوحى اللّه- عزّ و جلّ- إليه أن يدسّ (يدير- يب) يده في الطعام ففعل فأخرج طعاما رديّا، فقال لصاحبه: «ما أراك إلّا و قد جمعت خيانة و غشّا للمسلمين.» «1»

5- و في سنن الترمذي بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه «ص» مرّ على صبرة من طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال: «يا صاحب الطعام، ما هذا؟ قال:

أصابته السماء يا رسول اللّه، قال: «أ فلا جعلته فوق الطعام حتّى يراه الناس؟» ثمّ قال:

«من غشّ فليس منا.» «2»

6- و في سنن أبي داود بسنده عن أبي هريرة أن رسول اللّه «ص» مرّ برجل يبيع طعاما فسأله: «كيف تبيع؟» فأخبره، فأوحى اليه أن أن أدخل يدك فيه، فأدخل يده فيه فإذا هو مبلول، فقال رسول اللّه «ص»: «ليس منّا من غشّ.» «3»

7- و في كنز العمّال عن محمد بن راشد، قال: سمعت مكحولا يقول: مرّ رسول اللّه «ص» برجل يبيع طعاما قد خلط جيّدا بقبيح، فقال له النبيّ «ص»:

ما حملك على ما صنعت؟ فقال: أردت أن ينفق، فقال له النبيّ «ص»: «ميّز كلّ واحد منهما على حدة، ليس في ديننا غشّ.» (عب). «4»

8- و في صحيح البخاري بسنده عن ابن عمر: «إنّهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد النبيّ «ص» فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتّى

ينقلوه حيث يباع الطعام.» «5»

9- و فيه أيضا بسنده عن سالم بن عبد اللّه، عن أبيه، قال: «رأيت الذين

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 209- 210، الباب 86 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(2)- سنن الترمذي 2/ 389، أبواب البيوع، الباب 72، الحديث 1329.

(3)- سنن أبي داود 2/ 244، كتاب الإجارة، باب في النهي عن الغش.

(4)- كنز العمال 4/ 159، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 9974.

(5)- صحيح البخاري 2/ 14، كتاب البيوع، الباب 49 (باب ما ذكر في الأسواق).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 265

يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد رسول اللّه «ص» أن يبيعوه حتّى يؤووه إلى رحالهم.» «1»

و روى نحوه عن سالم عن ابن عمر أيضا «2».

10- و في التراتيب الإدارية للكتّاني عن ابن عبد البرّ في الاستيعاب: «استعمل رسول اللّه «ص» سعيد بن سعيد بن العاص بعد الفتح على سوق مكة.» «3»

11- و فيه أيضا عن الاستيعاب:

«سمراء بنت نهيك الأسدية أدركت النبيّ «ص» و عمّرت و كانت تمرّ في الأسواق تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تنهى الناس عن ذلك بسوط معها.» «4»

أقول: قد يقال: إن حسبتها لم تكن على عهد رسول اللّه «ص» بل في عهد عمر، و عن القاضي ابن سعيد: إنّ ولايتها كانت في أمر خاصّ يتعلّق بأمر النساء.

12- و في كنز العمّال عن أبي سعيد، قال: مرّ النبيّ «ص» بسلّاخ و هو يسلخ شاة و هو ينفخ فيها فقال: «ليس منّا من غشّنا و دحس بين جلدها و لحمها و لم يمسّ ماء.» (كر) «5»

أقول: دحس القصاب: أدخل يده بين الجلد و الصفاق للسلخ.

13- و فيه أيضا عن كليب

بن وائل الأزدي، قال: رأيت علي بن أبي طالب مرّ بالقصّابين فقال: «يا معشر القصّابين، لا تنفخوا، فمن نفخ اللحم فليس منّا.» (عب) «6»

14- و أمر أمير المؤمنين «ع» مالكا بمنع التجار من الاحتكار و معاقبة من قارف الحكرة بعد نهيه. «7»

______________________________

(1)- صحيح البخاري 2/ 15، كتاب البيوع، الباب 54 (باب ما يذكر في بيع الطعام و الحكرة).

(2)- صحيح البخاري 2/ 16، كتاب البيوع، الباب 56 (باب من رأى إذا اشترى طعاما جزافا ...).

(3)- التراتيب الإدارية 1/ 285.

(4)- التراتيب الإدارية 1/ 285.

(5)- كنز العمال 4/ 158، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 9972.

(6)- كنز العمال 4/ 158، الباب 2 من كتاب البيوع من قسم الأفعال، الحديث 9969.

(7)- نهج البلاغة، فيض/ 1017؛ عبده 3/ 110؛ لح/ 438، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 266

15- و أمر «ع» رفاعة قاضيه على الأهواز بالنهي عن الاحتكار و أنّه من ركبه فأوجعه و عاقبه بإظهار ما احتكر «1».

16- و في المحلّى لابن حزم عن حبيش قال: «أحرق لي علي بن أبي طالب «ع» بيادر بالسواد كنت احتكرتها لو تركها لربحت فيها مثل عطاء الكوفة.» «2»

17- و فيه أيضا بسنده عن أبي الحكم: «أنّ علي بن أبي طالب «ع» أحرق طعاما احتكر بمائة ألف.» «3»

18- و في خبر حبابة الوالبيّة، قالت: «رأيت أمير المؤمنين «ع» في شرطة الخميس و معه درّة لها سبابتان يضرب بها بيّاعي الجرّي و المارماهي و الزمّار.» «4»

19- و في خبر رزين، قال: «كنت أتوضّأ في ميضأة الكوفة فإذا رجل قد جاء فوضع نعليه و وضع درّته فوقها، ثم دنا فتوضّأ معي، فزحمته حتّى وقع على يديه،

فقام فتوضّأ فلمّا فرغ ضرب رأسي بالدرّة- ثلاثا- ثمّ قال: إيّاك أن تدفع فتكسر فتغرم. فقلت: من هذا؟ فقالوا: أمير المؤمنين، فذهبت أعتذر إليه فمضى و لم يلتفت إليّ.» «5»

20- و في خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ أمير المؤمنين «ع» أتى برجل عبث بذكره فضرب يده حتّى احمرّت ثمّ زوجه من بيت المال.» «6»

21- و في خبر زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «إنّ عليا «ع» أتى برجل عبث

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 36، كتاب البيوع، الفصل 6 (ذكر ما نهي عنه في البيوع)، الحديث 80.

(2)- المحلّى 6/ 65، (الجزء 9)، المسألة 1567.

(3)- المحلّى 6/ 65، (الجزء 9)، المسألة 1567.

(4)- الوسائل 16/ 332، الباب 9 من أبواب الأطعمة المحرمة، الحديث 3.

(5)- الوسائل 18/ 583، الباب 9 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 1.

(6)- الوسائل 18/ 574، الباب 3 من أبواب نكاح البهائم و ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 267

بذكره حتى أنزل فضرب يده حتّى احمرت. قال: و لا أعلمه إلّا قال: «و زوّجه من بيت مال المسلمين.» «1»

22- و في صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ أمير المؤمنين «ع» رأى قاصّا في المسجد فضربه بالدرّة و طرده.» «2»

23- و في خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «أتي أمير المؤمنين «ع» برجل نصراني كان أسلم و معه خنزير قد شواه و أدرجه بريحان. قال: ما حملك على هذا؟ قال الرجل:

مرضت فقرمت إلى اللحم. فقال: أين أنت عن لحم الماعز فكان خلفا منه، ثمّ قال: لو أنّك أكلته لا قمت عليك الحدّ و لكنّي سأضربك ضربا فلا

تعد، فضربه حتّى شغر ببوله.» «3»

أقول: قرم إلى اللحم: اشتدت شهوته له حتّى لا يصبر عنه. و شغر الكلب: رفع إحدى رجليه ليبول.

24- و في خبر السكوني أيضا، عن أبي عبد اللّه «ع»: «أنّ أمير المؤمنين «ع» ألقى صبيان الكتّاب ألواحهم بين يديه ليخير بينهم، فقال: أمّا إنّها حكومة، و الجور فيها كالجور في الحكم، أبلغوا معلّمكم إن ضربكم فوق ثلاث ضربات في الأدب اقتصّ منه.» «4»

25- و عن الكليني و الشيخ بسندهما عن جابر، عن أبي جعفر «ع» قال: «كان أمير المؤمنين «ع» عندكم بالكوفة يغتدي كلّ يوم بكرة من القصر فيطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا، و معه الدرّة على عاتقه، و كان لها طرفان، و كانت تسمّى السبيبة فيقف على أهل كلّ سوق فينادي: يا معشر التجار، اتقوا اللّه، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأيديهم و أرعوا إليه بقلوبهم و سمعوا بآذانهم فيقول: قدّموا الاستخارة، و تبرّكوا بالسهولة، و اقتربوا من المبتاعين، و تزيّنوا بالحلم، و تناهوا عن اليمين، و جانبوا الكذب، و تجافوا عن الظلم، و أنصفوا المظلومين، و لا تقربوا الربا، وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 575، الباب 3 من أبواب نكاح البهائم و ...، الحديث 2.

(2)- الوسائل 18/ 578، الباب 4 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 580، الباب 7 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 582، الباب 8 من أبواب بقية الحدود و التعزيرات، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 268

وَ الْمِيزٰانَ، وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. فيطوف في جميع أسواق الكوفة ثمّ يرجع فيقعد للناس.»

و عن

الصدوق بسنده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر «ع» نحوه «1»

أقول: في حاشية فروع الكافي أنّ السبيبة بمعنى الشقّ، إذ كانت لدرّته «ع» سبابتان «2». و قوله: «و أرعوا إليه بقلوبهم.» من قولهم: «أرعيته سمعي»، أي أصغيت إليه.

26- و في الغارات بسنده عن أبي سعيد، قال: كان عليّ «ع» يأتي السوق فيقول: يا أهل السوق، اتقوا اللّه. و إيّاكم و الحلف، فإنّه ينفق السلعة و يمحق البركة فإنّ التاجر فاجر إلّا من أخذ الحقّ و أعطاه، السلام عليكم. ثمّ يمكث الأيّام ثمّ يأتي فيقول مثل مقالته فكان إذا جاء قالوا: قد جاء المردشكنبه فكان يرجع إلى سرّته فيقول: «إذا جئت قالوا: قد جاء المردشكنبه فما يعنون بذلك؟» قال: يقولون: قد جاء عظيم البطن، فيقول «ع»: «أسفله طعام و أعلاه علم.» و رواه عنه في المستدرك «3».

27- و في دعائم الإسلام عن علي «ع» أنّه كان يمشي في الأسواق و بيده درّة يضرب بها من وجد من مطفّف أو غاش في تجارة المسلمين. قال الأصبغ: قلت له يوما: أنا أكفيك هذا يا أمير المؤمنين و اجلس في بيتك. قال: ما نصحتني يا أصبغ.

و كان يركب بغلة رسول اللّه «ص» الشهباء و يطوف في الأسواق سوقا سوقا فأتى يوما طاق اللحّامين فقال: يا معشر القصّابين، لا تعجّلوا الأنفس قبل أن تزهق، و إيّاكم و النفخ في اللحم. ثمّ أتى إلى التمّارين فقال: أظهروا من رديّ بيعكم ما تظهرون من جيّده. ثم أتى السماكين، فقال: لا تبيعوا إلّا طيّبا و إيّاكم و ما طفا. ثمّ أتى الكناسة و فيها من أنواع التجارة من نخّاس و قمّاط و بائع إبل و صيرفيّ و بزّاز و خيّاط فنادى بأعلى

صوت: يا معشر التجّار، إنّ أسواقكم هذه تحضرها الإيمان فشربوا إيمانكم بالصدقة، و كفّوا عن الحلف فإنّ اللّه

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 284، الباب 2 من أبواب آداب التجارة، الحديث 1.

(2)- الكافي 5/ 151، كتاب المعيشة، باب آداب التجارة.

(3)- الغارات 1/ 110؛ و رواه في المستدرك 2/ 463، الباب 3 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 269

- تبارك و تعالى- لا يقدّس من حلف باسمه كاذبا. «1»

28- و عن الصدوق بإسناده إلى قضايا أمير المؤمنين «ع» أنّ رجلا قال له: إنّ هذا زعم أنّه احتلم بأمّي. فقال «ع»: إنّ الحلم بمنزلة الظلّ، فإن شئت جلدت لك ظلّه.

ثمّ قال: لكنّي أؤدّبه لئلا يعود يؤذي المسلمين. «2»

و في صحيحة الحسين بن ابي العلاء، عن أبي عبد اللّه «ع» نحوه، و قال: «فضربه ضربا وجيعا.» «3»

29- و في التراتيب الإدارية للكتّاني عن عبد بن حميد في مسنده، عن مطرف، قال: «خرجت من المسجد فإذا رجل ينادي من خلفي: ارفع إزارك، فإنّه أنقى لثوبك و أبقى له. فمشيت خلفه و هو بين يديّ مؤتزر بإزار، مرتد برداء و معه الدرة كأنّه أعرابي بدويّ، فقلت: من هذا؟ فقال لي رجل: هذا علي بن أبي طالب أمير المؤمنين «ع».

حتّى انتهى إلى الإبل فقال: بيعوا و لا تحلفوا، فإنّ اليمين تنفق السلعة و تمحق البركة. ثمّ أتى إلى أصحاب التمر فإذا خادم يبكى فقال: ما يبكيك؟ قال: باعني هذا الرجل تمرا بدرهم فردّه عليّ مولاي. فقال له عليّ «ع»: خذ تمرك و أعطه درهمه، فإنّه ليس له من الأمر شي ء، فدفعه.» «4»

و روى نحوه ابن عساكر في تاريخه عن أبي المطر. و في

كنز العمال أيضا عن مسند علي «ع»، عن أبي مطر نحوه، فراجع «5».

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال ممّا يعثر عليها المتتبّع.

أقول: و ليس مقتضى نقلنا لهذه الروايات الكثيرة الالتزام بصحّة الجميع و جواز

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 2/ 538، كتاب آداب القضاة، الحديث 1613.

(2)- الوسائل 18/ 458، الباب 24 من أبواب حد القذف، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 458، الباب 24 من أبواب حد القذف، الحديث 1.

(4)- التراتيب الإدارية 1/ 289.

(5)- تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب 3/ 194؛ و كنز العمال 13/ 183، باب فضائل الصحابة من كتاب الفضائل من قسم الأفعال، الحديث 36547.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 270

الاعتماد على كلّ واحدة منها بانفرادها، بل الغرض هو إثبات اهتمام النبيّ «ص» و أمير المؤمنين «ع» بأمر الحسبة إجمالا، بحيث كانا بأنفسهما يتصدّيان لها. و الظاهر تحقّق الوثوق بصدور بعض هذه الروايات إجمالا، و هذا يكفينا في مقام الاستدلال، فتدبّر.

الجهة الثانية عشرة: في وظيفة المحتسب:

اشارة

وظيفة المحتسب إجمالا هي نشر المعروف و بسطه في المجتمع، و دفع المنكر و المكروه عنه.

[المراد بالمعروف في هذا الباب]

و الظاهر أنّ المراد بالمعروف في هذا الباب مطلق ما يستحسنه العقل أو الشرع من الواجب و المندوب بل و بعض المباحات الراجحة لجهة من الجهات الراجعة إلى مصالح المجتمع. و المراد بالمنكر مطلق ما يستنكره العقل أو الشرع، محرّما كان أو مكروها أو مباحا له حزازة عرفية لجهة من الجهات، إذ ربّ أمر لا يكون بالذات محرّما و لكن مصالح المجتمع و البلاد تقتضي تحديد حرّيات الأفراد بالنسبة إليه، كما لا يخفى على أهله.

قال المحقّق في الشرائع:

«و المعروف ينقسم إلى الواجب و الندب. فالأمر بالواجب واجب، و بالمندوب مندوب. و المنكر لا ينقسم. فالنهي عنه كله واجب.» «1»

قال في الجواهر:

«و كأنّه اصطلاح، و إلّا فيمكن قسمته إليهما أيضا على معنى وجوب النهي عن الحرام و استحباب النهي عن المكروه.» «2»

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 341.

(2)- الجواهر 21/ 365.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 271

أقول: و ما ذكره صحيح، و لذا قال ابن حمزة في الوسيلة:

«و الأمر بالمعروف يتبع المعروف في الوجوب و الندب، و النهي عن المنكر يتبع المنكر فإن كان المنكر محظورا كان النهي عنه واجبا و إن كان مكروها كان النهي عنه مندوبا.» «1»

[كلام ابن خلدون في وظائف المحتسب]

و كيف كان: فلنتعرض في المقام لبعض الكلمات المتعرضة لوظائف المحتسب:

ففي مقدّمة ابن خلدون في فصل الخطط الدينيّة الخلافيّة:

«أمّا الحسبة فهي وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين، يعيّن لذلك من يراه أهلا له فيتعيّن فرضه عليه، و يتّخذ الأعوان على ذلك، و يبحث عن المنكرات، و يعزّر و يؤدّب على قدرها، و يحمل الناس على المصالح العامّة في المدينة مثل المنع من المضايقة في

الطّرقات و منع الحمّالين و أهل السفن من الإكثار في الحمل، و الحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، و إزالة ما يتوقّع من ضررها على السابلة، و الضرب على أيدي المعلّمين في المكاتب و غيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلّمين.

و لا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر و الحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك و يرفع إليه، و ليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقا بل فيما يتعلّق بالغشّ و التدليس في المعايش و غيرها و في المكاييل و الموازين. و له أيضا حمل المماطلين على الإنصاف و أمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بيّنة و لا إنفاذ حكم.

و كأنّها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها و سهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها، فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء.» «2»

هذا.

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 733.

(2)- المقدمة/ 158، الفصل 32 من الفصل 3 من الكتاب الأوّل (طبعة أخرى/ 225، الفصل 31).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 272

[خلاصة كتاب ابن الأخوة محمد بن محمد بن أحمد القرشي «معالم القربة في أحكام الحسبة»]
اشارة

أقول: و ابن الأخوة محمد بن محمد بن أحمد القرشي- المتوفى 729 ه- قد ألّف كتابا جامعا في الحسبة سمّاه «معالم القربة في أحكام الحسبة» و عقد فيه أبوابا و فصولا كثيرة عدد أبوابه سبعون بابا، و فصّل فيها وظائف المحتسب في المجالات المختلفة.

فلنذكر بعض ما ذكره إجمالا تلخيصا من كتابه، لاشتماله على ما يعمّ نفعه و يكثر الابتلاء به، و إن كان للبحث و الإشكال في بعض ما ذكره مجال واسع كما لا يخفى على أهله. و أوصي الفضلاء بمطالعة هذا الكتاب، فإنّه كتاب وزين في موضوعه «1».

[في وجوب الأمر بالمعروف]

1- قال في الباب الثاني منه ما ملخّصه:

«أمّا بعد فإنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، و هو المهمّ الذي ابتعث اللّه به النبيّين أجمعين. و لو طوى بساطه و أهمل عمله و علمه لتعطّلت النبوّة و اضمحلّت الديانة و عمّت الفترة و فشت الضلالة و شاعت الجهالة و انتشر الفساد و اتّسع الخرق و خربت البلاد و هلك العباد ... فمن سعى في تلافي هذه الفترة و سدّ هذه الثلمة إمّا متكلّفا بعلمها أو متقلّدا لتنفيذها مجردا عزيمته لهذه السنّة الداثرة ناهضا باعتنائها و مشمّرا في إحيائها، كان مستأثرا من بين الناس باحتسابه و مستندا بقربة ينال بها درجات القرب.

و أمّا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فقد وردت فيه فضائل كثيرة: قال اللّه- تعالى-: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.» و قال اللّه- تعالى- «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ.» ...

و أمّا الأخبار فيها فما رواه الحسن

عن النبيّ «ص»: «من أمر بالمعروف و نهى عن المنكر فهو خليفة اللّه في أرضه و خليفة رسوله و خليفة كتابه.» و عن درّة بنت أبي لهب، قالت: جاء رجل إلى النبيّ «ص» و هو على المنبر فقال: من خير الناس

______________________________

(1)- و حيث يوجد اختلاف بين النسختين الموجودتين عندنا من الكتاب، نشير ذيل الصفحات إلى طبعتيه- طبعة دار الفنون بكيمبرج (ليدن)، و طبعة مصر-.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 273

يا رسول اللّه؟ قال: «آمرهم بالمعروف و أنهاهم عن المنكر و أتقاهم للّه و أوصلهم.» ...

و روى عن أبى ثعلبة أنّه سأل رسول اللّه «ص» عن تفسير قوله- تعالى-: «لٰا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، فقال: يا أبا ثعلبة، مر بالمعروف و انه عن المنكر، فإذا رأيت شحّا مطاعا و هوى متّبعا و دنيا مؤثّرة و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بنفسك و دع العوامّ.

الحديث.» «1»

و عن ابن عباس قال: قلنا: يا رسول اللّه، إنّك لتأمرنا بالمعروف حتّى لا يبقى من المعروف شي ء إلّا عملنا به، و تنهانا عن المنكر حتّى لا يبقى من المنكر شي ء إلّا انتهينا عنه، لم نأمر بالمعروف؟ و لم ننهى عن المنكر؟ فقال «ص»: «مروا بالمعروف و إن لم تعملوا به كلّه و انهوا عن المنكر و إن لم تنتهوا عنه كلّه.» و قال علي بن أبي طالب «ع»: «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمنين، و من نهى عن المنكر أرغم أنف المنافقين.» ...

و قال النبي «ص»: «لا يأمر بالمعروف و لا ينهى عن المنكر إلّا رفيق فيما يأمر به، رفيق فيما ينهى عنه، حكيم فيما

يأمر به، حكيم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به، فقيه فيما ينهى عنه.»

و هذا يدلّ على أنّه لا يشترط أن يكون فقيها مطلقا بل فيما يأمر به.

و أوصى بعض السلف بنيه و قال: إذا أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطّن نفسه على الصبر و ليثق بالثواب من اللّه، فمن وثق بالثواب لم يجد مسّ الأذى.

فأدب من آداب الحسبة توطين النفس على الصبر، و لذلك قرن اللّه به الصبر حاكيا عن لقمان: «يٰا بُنَيَّ، أَقِمِ الصَّلٰاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ اصْبِرْ عَلىٰ مٰا أَصٰابَكَ، إِنَّ ذٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ.»

و قال رسول اللّه «ص»: «ما من عين رأت منكرا و معصية للّه فلم تغيّره إلّا أبكاها اللّه يوم القيامة و ان كان وليّا للّه.»

و قال رسول اللّه «ص»: «من رأى منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه و هو أضعف الإيمان.»

______________________________

(1)- إحياء العلوم 2/ 308؛ و روى نحوه في الدر المنثور 2/ 339.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 274

و قال الحسن البصري: قال رسول اللّه «ص»: «أفضل شهداء أمّتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف و نهاه عن المنكر فقتله على ذلك، فذلك الشهيد منزلته في الجنّة بين حمزة و جعفر.» «1»

[سيرة العلماء الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر]

2- و كانت سيرة العلماء و عاداتهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و قلّة المبالاة بسطوة الملوك، لكنّهم اتّكلوا على فضل اللّه أن يحرسهم و رضوا بحكم اللّه أن يرزقهم الشهادة، فلمّا أخلصوا للّه النيّة أثّر كلامهم في القلوب القاسية، و أمّا الآن فقد استولى عليهم حبّ الدنيا، و من استولى عليه حبّ الدنيا لم

يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك و الأكابر، و كانت من عادات السلف الحسبة على الولاة ...

و عن سفيان الثوري قال: «حجّ المهدي فرأيته يرمي جمرة العقبة و الناس محيطون به يمينا و شمالا يضربون الناس بالسياط فوقفت فقلت يا حسن الوجه، حدثنا أيمن بن نابل عن قدامة، قال: رأيت رسول اللّه «ص» يرمي جمرة يوم النحر على جمل لا ضرب و لا طرد و لا جلد و لا إليك إليك. و ها أنت يخبط الناس بين يديك يمينا و شمالا.» ...

و قال أبو الدرداء: «إذا كان الرجل محبّبا في جيرانه، محمودا عند إخوانه فاعلم أنّه مداهن.» «2»

[معنى المعروف]

3- و قال بعض العلماء: المعروف كلّ فعل أو قول أو قصد حسن شرعا، و المنكر كلّ فعل أو قول أو قصد قبح شرعا. و الإنكار في ترك الواجب و فعل الحرام واجب، و في ترك المندوب و فعل المكروه مندوب. و الإنكار باليد إن أمكن و إلّا باللسان و إلّا بالقلب. و على الناس و الولاة فعل ذلك و إعانة من يفعله و تقويته فإنّه حفظ الدين، و يجب الإنكار على من ترك الإنكار الواجب. و يبدأ في الإنكار بالأسهل، فإن زال و إلّا أغلظ، فإن زال و إلّا رفعه إلى الإمام. و لا ينكر على غير مكلّف إلّا

______________________________

(1)- معالم القربة/ 15 (ط. مصر/ 61).

(2)- معالم القربة/ 20 (ط. مصر/ 70).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 275

تأديبا و زجرا و لا على ذمّي لا يجهر بالمنكر. «1»

[الأمر بالمعروف ينقسم إلى ثلاثة أقسام]
اشارة

4- و أمّا الأمر بالمعروف فينقسم إلى ثلاثة أقسام:

أحدها: ما تعلّق بحقوق اللّه. و الثاني: ما تعلّق بحقوق الآدميّين. و الثالث: ما كان مشتركا بينهما.

و أمّا المتعلّق بحقوق اللّه- تعالى- فضربان:
أحدهما ما يلزم الأمر به في الجماعة دون الانفراد

كترك الجمعة في وطن مسكون، فإن كانوا عددا قد اتّفق على انعقاد الجمعة بهم كالأربعين فما زاد فواجب أن يأخذهم بإقامتها و يأمرهم بفعلها، و يؤدّب على الإخلال بها ...

فأمّا صلاة الجماعة في المساجد و إقامة الأذان فيها للصلوات فمن شعائر الإسلام و علامات متعبّداته التي فرّق النبيّ «ص» (بها خ. ل) بين دار الإسلام و دار الشرك، فإذا اجتمع أهل محلّة أو بلد على تعطيل الجماعات في مساجدهم و ترك الأذان في أوقات الصلوات كان المحتسب مندوبا إلى أمرهم بالأذان و الجماعة في الصلوات ... فأمّا من ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس أو ترك الأذان و الإقامة لصلاته فلا اعتراض للمحتسب عليه إذا لم يجعله عادة لأنّها من الندب الذي يسقط بالأعذار إلّا أن يقترن بها استرابة أو يجعله إلفا و عادة و يخاف تعدّي ذلك إلى غيره في الاقتداء، فمراعاة حكم المصلحة في زجره عمّا استهان به من سنن عبادته و يكون وعيده على ترك الجماعة معتبرا بشواهد حاله، كالذي روى عن النبيّ «ص» أنّه قال: «لقد هممت أن آمر أصحابي أن يجمعوا حطبا و آمر بالصلاة فيؤذّن لها و تقام ثمّ أخالف إلى منازل قوم لا يحضرون الصلاة فأحرقها عليهم.» «2»

5- و أمّا ما يؤمر به آحاد الناس و أفرادهم

فكتأخير الصلاة حتّى يخرج وقتها فيذكر بها و يؤمر بفعلها و يراعى جوابه عنها فإن قال: تركتها للنسيان حثّه على فعلها بعد ذكره و لم يؤدبه، و إن تركها لتوان و اهوان أدّبه زجرا و أخذه بفعلها جبرا، و لا اعتراض على

______________________________

(1)- معالم القربة/ 22 (ط. مصر/ 72).

(2)- معالم القربة/ 22 (ط. مصر/ 73).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 276

من أخّرها و الوقت باق

... «1»

6- و أمّا الأمر بالمعروف في حقوق الآدميّين فضربان: عامّ و خاصّ.
فأمّا العامّ

فكالبلد إذا تعطّل سربه و استهدم سوره، و كذلك لو استهدم مساجدهم و جوامعهم، فأمّا إذا أعوز بيت المال كان الأمر ببناء سورهم و إصلاح سربهم و عمارة مساجدهم و جوامعهم متوجّها إلى كافّة ذوي المكنة منهم و لا يتعيّن أحدهم في الأمر به، فإن شرع ذووا المكنة في عمله و باشروا القيام به سقط عن المحتسب حقّ الأمر به.

و أمّا الخاصّ

كالحقوق إذا بطلت (مطلت خ. ل) و الديون إذا أخّرت فللمحتسب أن يأمر بالخروج منها مع المكنة إذا استعداه أصحاب الحقوق ... «2»

7- و أمّا الأمر بالمعروف فيما كان مشتركا بين حقوق اللّه- تعالى- و حقوق الآدميّين

فكأخذ الأولياء بنكاح الأيامى من أكفائهنّ إذا طلبن، و إلزام النساء أحكام العدد إذا فورقن، و له تأديب من خالف في العدّة من النساء، و ليس له تأديب من امتنع من الأولياء، و من نفى ولدا قد ثبت فراش أمّه و لحوق نسبه أخذه بأحكام الآباء جبرا و عزّره على النفي أدبا. و يأخذ السادة بحقوق العبيد و الإماء: نفقتهم و كسوتهم لقوله «ص»: للمملوك طعامه و كسوته بالمعروف. و أن لا يكلّفوا من العمل ما لا يطيقون ...

و من ملك بهيمة وجب عليه القيام بعلفها و لا يحمل عليها ما يضرّها كما في العبد و لا يحلب من لبنها إلّا ما فضل عن ولدها لأنّه خلق غذاء للولد فلا يجوز منعه منه.

و إن امتنع من الإنفاق عليها أجبر على ذلك ... «3»

8- و أمّا النهي عن المنكرات فينقسم أيضا على ثلاثة أقسام:
اشارة

أحدها: ما كان من حقوق اللّه- تعالى- و الثاني: ما كان من حقوق الآدميّين.

و الثالث: ما كان مشتركا بين الحقّين.

فأمّا النهي عنها في حقوق اللّه- تعالى- فعلى ثلاثة أقسام:
اشارة

______________________________

(1)- معالم القربة/ 24 (ط. مصر/ 75).

(2)- معالم القربة/ 26 (ط. مصر/ 76).

(3)- معالم القربة/ 26 (ط. مصر/ 77).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 277

أحدها: ما تعلّق بالعبادات. و الثاني: ما تعلّق بالمحظورات. و الثالث: ما تعلّق بالمعاملات.

فأمّا المتعلّق بالعبادات

فكالقاصد مخالفة هيئات الصلاة ... فللمحتسب إنكارها و تأديب العامل فيها و كذلك إذا أخلّ بتطهير جسده أو ثوبه أو موضع صلاته أنكر عليه إذا تحقّق ذلك منه، و لا يؤاخذه بالتهم و الظنون ... لكن يجوز له بالتهم أن يعظ و يحذّر من عذاب اللّه- تعالى- على إسقاط حقوقه و الإخلال بمفروضاته. فإن رآه يأكل في شهر رمضان لم يقدم على تأديبه إلّا بعد سؤاله عن سبب أكله إذا التبست عليه أحواله فربّما كان مريضا أو مسافرا، و يلزمه السؤال إذا ظهرت أمارات الريب، فإن ذكر في الأعذار ما يحمل حاله صدّقه و كفّ عن زجره و أمره بإخفاء أكله لئلّا يعرّض نفسه لتهمة، و لا يلزمه إحلافه عند الاسترابة بقوله لأنّه موكول الى امانته، و إن لم يكن له عذر جاهر بالإنكار عليه و ردعه و أدّبه عليه تأديب زجر ... «1»

9- فإن رأى المحتسب رجلا يتعرّض لمسألة الناس و طلب الصدقة و علم أنّه غني إمّا بمال أو عمل أنكره عليه و أدّبه فيه و كان المحتسب أخصّ بالإنكار من غيره فقد فعل عمر مثل ذلك في قوم من أهل الصدقة ... «2»

10- و هكذا لو ابتدع بعض المنتسبين إلى العلم قولا خرق الإجماع و خالف فيه النصّ و ردّ قوله علماء عصره أنكر عليه و زجره عنه، فإن أقلع و تاب و إلّا فالسلطان بتهذيب الدين أحقّ.

و إذا

تعرّض بعض المفسّرين لكتاب اللّه- تعالى- بتأويل عدل فيه عن ظاهر التنزيل إلى باطن بدعة يتكلّف له إغماض (أغمض خ. ل) معانيه أو انفرد بعض الرواة بأحاديث مناكير تنفر منها النفوس أو يفسد بها التأويل كان على المحتسب إنكار ذلك و المنع منه، و هذا إنّما يصحّ منه إنكاره إذا تميّز عنده الصحيح من الفاسد و الحقّ من الباطل ...

______________________________

(1)- معالم القربة/ 27 (ط. مصر/ 78).

(2)- معالم القربة/ 29 (ط. مصر/ 79).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 278

و المحتسب الجاهل إن خاض فيما لا يعلمه كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه، و لهذا قالوا: العاميّ لا يحتسب إلّا في الجليّات ... «1»

11- و أمّا ما تعلّق بالمحظورات
[منع الناس من مواقف الريب و مظانّ التّهم]

فهو أن يمنع الناس من مواقف الريب و مظانّ التّهم، فقد قال «ص»: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.» فيقدّم الإنذار، و لا يعجّل بالتأديب قبل الإنذار.

حكى إبراهيم النخعي أنّ عمر بن الخطاب نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء، فرأى رجلا يصلّي مع النساء فضربه بالدرّة، فقال له الرجل: و اللّه لئن كنت أحسنت لقد ظلمتني، و لئن كنت أسأت فما أعلمتني. فقال عمر: أ ما شهدت عزيمتي؟ قال: ما شهدت لك عزمة، فألقى إليه الدرّة و قال: اقتصّ. قال: لا أقتصّ اليوم، قال: فاعف. قال: لا أعفو، فافترقا على ذلك ثمّ لقيه من الغد فتغيّر لون عمر ...

و اذا رأى وقفة رجل مع امرأة في طريق سابل لم تظهر منهما أمارات الريب لم يتعرّض عليهما بزجر و لا إنكار، فما يجد الناس بدّا من هذا. و إن كانت الوقفة في طريق خال فخلوا بمكان ريبة فينكر على هؤلاء، و لا يعجّل في التأديب عليهما حذرا من

أن تكون ذات محرم، و ليقل إن كانت ذات محرم فصنها عن مواقف الريب و إن كانت أجنبية فخف اللّه- تعالى- من خلوة تؤديك إلى معصية اللّه- تعالى- ...

و يلزم المحتسب أن يتفقّد المواضع التي يجتمع فيها النسوان مثل سوق الغزل و الكتان و شطوط الأنهار و أبواب حمامات النساء و غير ذلك، فإن رأى شابّا متعرّضا بامرأة و يكلّمها في غير معاملة في البيع و الشراء أو ينظر إليها عزّره و منعه من الوقوف هناك، فكثير من الشباب المفسدين يقفون في هذه المواضع و ليس لهم حاجة غير التلاعب على النسوان، فمن وقف من الشباب في طريقهنّ بغير حاجة عزّره على ذلك «2».

______________________________

(1)- معالم القربة/ 29 (ط. مصر/ 79).

(2)- معالم القربة/ 30 (ط. مصر/ 80).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 279

[في إظهار الخمر]

12- و قال في الباب الثالث من الكتاب ما ملخّصه:

«و إذا جاهر رجل بإظهار الخمر فإن كان مسلما أراقها و أدّبه، و إن كان ذميّا أدّب على إظهارها، و اختلف الفقهاء في إراقتها عليه ... و روي عن عمر أنّه قال على منبر رسول اللّه «ص»: أيّها الناس، إنّه نزل تحريم الخمر و هي من خمس: العنب و التمر و البرّ و الشعير و الزبيب. و الخمر ما خامر العقل، أي غطّاه. و قد لعن رسول اللّه «ص» في الخمر عشرة، قال العلماء: أدخل فيه بيع العصير ممّن يتّخذ الخمر. قال الشافعي: أكره ذلك. و لا شكّ أنّه إعانة على المعصية يضاهيه بيع السلاح من قطّاع الطريق و بيع السلاح من أهل الحرب ...

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر

تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 2، ص: 279

و من شرب المسكر و هو بالغ عاقل مسلم مختار وجب عليه الحد ... و لا حدّ على الحربي و المجنون و الصّبيّ، و لا يجب على الذمّي، لأنّه لا يعتقد تحريمه، و لا يجب على المكره ...

[إظهار الملاهي المحرّمة]

فأمّا المجاهرة بإظهار الملاهي المحرّمة مثل الزمر و الطنبور و العود و الصنج و ما أشبه ذلك من آلات الملاهي فعلى المحتسب أن يفصلها حتّى تصير خشبا يصلح لغير الملاهي و يؤدّب على المجاهرة عليها و لا يكسرها إن كان خشبها يصلح لغير الملاهي، فإن لم يصلح لغير الملاهي كسرها ...

و إن كان الرضاض يعدّ مالا ففي جواز بيعها قبل الرضّ وجهان ... و يجي ء الوجهان في الأصنام و الصور المتّخذة من الذهب و الخشب و غيرهما ...

و أمّا آلة اللعب التي ليس يقصد بها المعاصي و إنّما يقصد بها إلف القينات لتربية الأولاد ففيها وجه من وجوه التدبير ... و قد دخل رسول اللّه «ص» على عائشة و هي تلعب بالبنات فأقرّها و لم ينكر عليها ...

و ليس يمتنع إنكار المجاهرة ببعض المباحات كما تنكر المجاهرة بالمباح من مباشرة الأزواج.

فأمّا ما لم يظهر من المحظورات فليس للمحتسب أن يبحث عنها و لا أن لا يهتك الأستار حذرا من الاستتار بها. قال النبي «ص»: من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر اللّه، فإنّه من يبد لنا صفحته يقم حدّ اللّه عليه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 280

و من شرط المنكر الذي ينكره المحتسب أن يكون ظاهرا. فكلّ من ستر معصية في داره و

أغلق بابه لا يجوز له أن يتجسّس عليه إلّا أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثق بصدقه أنّ رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها ...

حكى أنّ عمر بن الخطّاب دخل على قوم يتعاقرون على شراب و يوقدون في الأخصاص فقال: نهيتكم عن المعاقرة فعاقرتم، و نهيتكم عن الإيقاد في الأخصاص فأوقدتم. فقالوا: نهاك اللّه عن التجسّس فتجسّست، و عن الدخول بغير إذن فدخلت. فقال: هاتين بهاتين، و انصرف و لم يتعرّض لهم.

فإن سمع المحتسب أصوات ملاه منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتها أنكرها خارج الدار و لم يهجم عليها بالدخول، لأنّ المنكر ظاهر و ليس له أن يكشف عمّا سواه.» «1»

أقول: عاقر الشي ء: لازمه و أدمن عليه. و الخصّ بالضم: حانوت الخمّار.

[التساهل مع أهل الذمّة في أمور الدين]

13- و ذكر في الباب الرابع، الحسبة على أهل الذمّة فقال ما ملخّصه:

«اعلم أنّ التساهل مع أهل الذمّة في أمور الدين خطر عظيم، و قد قال اللّه- سبحانه و تعالى- في كتابه العزيز: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، لٰا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِيٰاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ، وَ أَنَا أَعْلَمُ بِمٰا أَخْفَيْتُمْ وَ مٰا أَعْلَنْتُمْ، وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوٰاءَ السَّبِيلِ.»

و قد ورد في الحديث عن النبيّ «ص» أنّه قال: «لأخرجنّ اليهود و النصارى من جزيرة العرب حتّى لا أدع بها إلّا مسلما.» ...

و هذا أصل يعتمد عليه في ترك الاستعانة بالكافر، فكيف استعمالهم على رقاب المسلمين؟ فحينئذ يجب على المحتسب النظر في أهل الذّمة و أن يلزمهم بما هو مشروط عليهم و بما التزموه على أنفسهم و لا يرخّص لهم في ترك شي ء منه قولا و لا فعلا ...

و يمنعون من احداث بيع

و كنائس في دار الإسلام و قد أمر عمر بهدم كلّ كنيسة

______________________________

(1)- معالم القربة/ 32 (ط. مصر/ 84).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 281

استجدّت بعد الهجرة و لم يبق إلّا ما كان قبل الإسلام. و أرسل عروة من نجد فهدم الكنائس بصنعاء، و صانع القبط على كنائسهم بمصر و هدم بعضها و لم يبق من الكنائس إلّا ما كان قبل مبعثه «ص». أمّا إذا استهدم منها شي ء فلا يمنعون من إعادته ...

و على الإمام حفظ من كان منهم في دار الإسلام و دفع من قصدهم بالأذيّة، أي من المسلمين، و إن تحاكموا إلينا مع المسلمين وجب الحكم بينهم ...

و يأخذ منهم الجزية على قدر طاقتهم. على الفقير المعيل دينار، و على المتوسّط ديناران، و على الغني اربعة دنانير عند رأس الحول ... و يشترط مع الجزية التزام أحكام الإسلام، فإن امتنع من لزوم الأحكام أو قاتل المسلمين أو زنى بمسلمة أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلما عن دينه أو قطع الطريق على مسلم أو آوى المشركين أو دلّهم على عورات المسلمين أو قتل مسلما أو ذكر اللّه- تعالى- أو رسوله أو دينه بما لا يجوز فقد انتقضت ذمّته في ذلك جميعه، فقتل في الحال و غنم ماله في أصحّ القولين ... «1»

[الحسبة على أهل الجنائز و مراقبة شئونها]

14- و ذكر في الباب الخامس، الحسبة على أهل الجنائز و مراقبة شئونها من التجهيز و الغسل و التكفين و الصلاة و التدفين بمباشرة أولياء الميّت:

و لا يمكن المحتسب من يتصدّى لغسل الموتى من الرجال و النساء إلّا ثقة أمينا صالحا خبيرا قد قرأ كتاب الجنائز في الفقه و عرف واجباته و سننه و مستحباته و

يسأله المحتسب عن ذلك ... و يستر الميّت في الغسل عن العيون بأن يكون في موضع ليس فيه إلّا الغاسل و من لا بدّ منه في معونته، و لا ينظر الغاسل إلّا إلى ما لا بدّ له منه لأنّه قد يكون فيه عيب فلا يهتكه، و أولى أن يغسله في قميص، لأنّه أستر ...

و تكفين الميّت فرض على الكفاية و يجب ذلك في ماله مقدّما على الدين و الوصية و إن كانت امرأة لها زوج فعلى زوجها ...

و القبر محترم فيكره الجلوس و المشي و الاتكاء عليه و ليخرج الزائر منه إلى حدّ كان

______________________________

(1)- معالم القربة/ 38 (ط. مصر/ 92).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 282

يقرب منه لو كان حيّا، و لا يحلّ نبش القبور إلّا إذا انمحق أثر الميّت بطول الزمان أو دفن في أرض مغصوبة و طلب المالك إخراجه ...

ثمّ يتفقّد المحتسب الجنائز و المقابر، فإذا سمع نائحة أو نادية منعها و عزّرها لأنّ النوح حرام، قال رسول اللّه «ص»: النائحة و من حولها في النار ...

أمّا البكاء فجائز من غير ندب و لا نياحة و لا شق جيب و لا ضرب خدّ ...

فإذا خرجت جنازة أمر النساء أن يتأخّرن عن الرجال و لا يختلطن بهم و يمنعهنّ من كشف وجوههنّ و رءوسهنّ خلف الميّت و يأمر مناديا ينادي في البلد بالمنع من ذلك، و الأولى أن يمنعن من تشييع الجنازة، و متى سمع بامرأة نائحة أو مغنّية أو عاهر استتابها عن معصيتها، فإن عادت عزّرها و نفاها من البلد ... «1»

أقول: في إطلاق حرمة النياحة نظر.

[المعاملات المنكرة]
[لا يجوز للمحتسب تسعير البضائع على أربابها]

15- و ذكر في الباب السادس المعاملات المنكرة كالبيوع الفاسدة

و الربا و السلم الفاسد و الإجارة الفاسدة و الشركة الفاسدة، و الشروط المعتبرة في العقد و العاقد و المعقود عليه ذكرها بالتفصيل، فراجع «2»

و قال:

«و لا يجوز للمحتسب تسعير البضائع على أربابها، فإن المسعّر هو اللّه- تعالى- فلا يتصرّفن فيه الإمام و الوالي، فإن فعل ذلك إلّا في سنين القحط كان ذلك محرّما، إذ غلا السعر على عهد رسول اللّه «ص» فقالوا: يا رسول اللّه، سعّر لنا. فقال رسول اللّه «ص»: «إنّ اللّه- تعالى- هو القابض و الباسط و الرازق و المسعّر، و إنّي لأرجو أن ألقى اللّه و ليس أحد يطالبني بمظلمة في نفس و لا مال.» ...

فإذا قلنا: التسعير جائز، فإذا سعّر الإمام و باع الناس بذلك السعر فحسن، و إن خالفوه في ذلك فهل ينعقد البيع أم لا؟ الصحيح أنّه ينعقد، و يعزّرهم لمخالفة ذلك. و إذا رأى المحتسب أحدا قد احتكر من سائر الأقوات- و هو أن يشتري ذلك

______________________________

(1)- معالم القربة/ 46 (ط. مصر/ 101).

(2)- معالم القربة/ 52 (ط. مصر/ 108).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 283

في وقت الغلاء و يتربّص ليزداد في ثمنه- ألزمه بيعه إجبارا، لأنّ الاحتكار حرام و المحتكر ملعون. قال رسول اللّه «ص»: «من احتكر طعاما أربعين يوما ثمّ تصدّق بثمنه لم تكن صدقته كفّارة لاحتكاره» ...

[ترويج الدراهم المزيّفة على الناس ظلم]

ترويج الصيارف الدراهم المزيّفة على الناس ظلم يستضرّ به المعاملون، فعلى المحتسب أن يأمرهم بقصّها و تغييرها عن هيئتها و أن لا يغشّوا الناس بها ... و يحرم على التاجر أن يثني على السلعة و يصفها بما ليس فيها، فإن فعل ذلك فهو تلبيس و ظلم مع كونه كذبا ... و لا ينبغي

أن يحلف عليه البتّة، فإنّه إن كان كاذبا فقد جاء باليمين الغموس و هي من الكبائر، و إن كان صادقا فقد جعل اللّه عرضة لأيمانه ...» «1»

[حرمة لبس الحرير و الذهب على الرجال و حرمة اتخاذ الأواني من الذهب و الفضّة]

16- و تعرّض في الباب السابع لحرمة لبس الحرير و الذهب على الرجال، و حرمة اتخاذ الأواني من الذهب و الفضّة مطلقا، و المنع من تحلية الكعبة و المساجد بقناديل الذهب و الفضّة «2».

[منكرات الأسواق و الطرق]

17- و ذكر في الباب الثامن، الحسبة على منكرات الأسواق و الطرق فقال ما ملخّصه:

«أمّا الطّرقات الضيّقة فلا يجوز لأحد من السوقة الجلوس فيها و لا إخراج مصطبة دكّانه عن سمت أركان السقائف إلى الممرّ، لأنّه عدوان و يضيق على المارّة فيجب على المحتسب إزالته و المنع من فعله، و كذا إخراج الفواصل و الأجنحة و غرس الأشجار و نصب الدكّة في الطّرق الضيّقة ... و قال الجويني لا يجوز الغراس في الشارع، و الدكّة المرتفعة في معناها. و لا نظر إلى اتساع الطريق و تضايقها، فإنّ الزقاق قد تصطدم ليلا و يزدحم اسراب البهائم، و ينضمّ إليه أنّه قد يلتبس على طول الزمان محلّ البناء و الغراس و ينقطع أثر استحقاق الطرق.

و كذا كلّ ما فيه أذية و إضرار على السالكين. و كذلك ربط الدوابّ على الطرق

______________________________

(1)- معالم القربة/ 64 (ط. مصر/ 120).

(2)- معالم القربة/ 76 (ط. مصر/ 133).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 284

منكر يجب المنع منه إلّا بقدر حاجة النزول و الركوب، لأنّ الشوارع مشتركة المنفعة. و كذا طرح الكناسة على جوانب الطرق و تبديد قشور البطيخ أو رشّ الماء بحيث يخشى منه التزلّق و السقوط.

و كذا إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط إلى الطرق الضيقة، فإنّ ذلك ينجّس الثياب و يضيق الطرق. و كذا ترك مياه المطر و الأوحال في الطرق من غير كسح، فذلك كلّه منكر يجب على المحتسب

أن يكلّف الناس بالقيام بها.» «1»

[ينبغي للمحتسب أن يمنع أحمال الحطب و أعدال التبن]

18- و ينبغي للمحتسب أن يمنع أحمال الحطب و أعدال التبن و روايا الماء و شرائج السرجين و الرماد و أحمال الحلفاء و الشوك بحيث تمزق ثياب الناس، فإن أمكن العدول بها إلى موضع واسع و إلّا فلا منع لحاجة أهل البلد إليه. و يأمر حاملي الحطب و التبن و البلاط و الكبريت و اللفت و البطيخ إذا وقفوا في العراص أن يضعوها عن ظهور الدوابّ، لأنّها إذا وقفت و الأحمال عليها أضرّتها و كان ذلك تعذيبا لها، و قد نهى رسول اللّه «ص» عن تعذيب الحيوان لغير مأكله.

و يأمر أهل الأسواق بكنسها و تنظيفها من الأوساخ المجتمعة و غير ذلك ممّا يضرّ الناس، لأنّ النبيّ «ص» قال: لا ضرر و لا ضرار. «2»

أقول: الشرائج جمع الشريجة: جوالق ينسج من سعف النخل. و الحلفاء: نبت محدّدة الأطراف يشبه سعف النخل. و البلاط: صفائح الحجارة التي يفرش بها.

و اللفت بالكسر: السلجم.

[التطلّع على الجيران من السطوحات و النوافذ]

19- و لا يجوز لأحد التطلّع على الجيران من السطوحات و النوافذ، و لا أن يجلس الرجال في طرقات النساء من غير حاجة، فمن فعل شيئا من ذلك عزّره المحتسب. «3»

[معرفة القناطير و الأرطال]

20- و تعرّض في الباب التاسع و الباب العاشر لمعرفة القناطير و الأرطال و المثاقيل و الدراهم و الموازين و المكاييل و الأذرع:

______________________________

(1)- معالم القربة/ 78 (ط. مصر/ 135).

(2)- معالم القربة/ 79 (ط. مصر/ 136).

(3)- معالم القربة/ 79 (ط. مصر/ 136).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 285

حيث إنّها أصول المعاملات و بها اعتبار المبيعات، فعلى المحتسب معرفتها و تحقيقها و مراقبتها لتقع المعاملة بها على الوجه الشرعي ... و يأمر أصحاب الموازين بمسحها و تنظيفها من الأدهان و الأوساخ في كلّ ساعة، فإنّه ربّما تحمل شيئا فيضرّ ...

فيلزم المحتسب مراعاة ذلك في كلّ وقت.

و اعلم أنّك ولّيت من الكيل و الميزان أمر من هلكت فيها الأمم السالفة، فباشرهما بيدك مباشرة الاختيار و الاختبار و لا تقل لأهلهما عثرة، فإنّ الإقالة لا تنهى عن العثار، و كلّ هؤلاء من سواد الناس فمن لم يفقه نفسه و ليس همّته إلّا فرجه أو ضرسه فحدّهم التعزير.

و القبان القبطي فينبغي للمحتسب أن يختبره بعد كلّ حين، فإنّه ينفسد بكثرة استعماله في وزن الحطب و البضائع الثقيلة ...

و ينبغي أن يتّخذ الأرطال من حديد و يعيّرها المحتسب و يختم عليها بختم من عنده و لا يتّخذوها من الحجارة، لأنّها إذا قرع بعضها ببعض فتنقص ...

و ينبغي للمحتسب أن يتفقّد عيار المثاقيل و الصنج و الأرطال و الحبّات على حين غفلة من أصحابها «1».

[الحسبة على العلّافين و الطحّانين]

21- و تعرّض في الباب الحادي عشر للحسبة على العلّافين و الطحّانين فقال ما ملخّصه:

«يحرم عليهم احتكار الغلّة و لا يخلطوا رديّ الحنطة بجيّدها و لا عتيقها بجديدها، فإنّه تدليس على الناس. و يلزم الطحّانين بغربلة الغلّة من التراب و تنقيتها من

الطين و تنظيفها من الغبار قبل طحنها، و لهم أن يرشوا على الحنطة ماء يسيرا عند طحنها، فإن ذلك يزيد الدقيق بياضا، و يغيّر عليهم مناخل الدقيق في كلّ ثلاثة أشهر أو أقلّ. و يختبر المحتسب الدقيق، فإنّهم ربّما خلطوا فيه دقيق الحمص أو الفول حتّى يزيده زهرة، و هذا غش فمن وجده فعل شيئا من ذلك أنكر عليه و أدّبه، و يمنعهم أن لا يطحنوا على إثر نقر الحجر فإنّه يضرّ بالناس إذا نزل مع الدقيق، و يلزمهم

______________________________

(1)- معالم القربة/ 80 (ط. مصر/ 137).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 286

بنقاء الغلّة و كثرة دوسها.

و ينبغي لأرباب الدوابّ أن يتّقوا اللّه- سبحانه- في استعمالها و أن يريحوها في كلّ يوم و ليلة لحاجتها إلى الراحة. و يتفقّد موازينهم المرصدة لوزن الدقيق و أرطالهم ...» «1»

[الحسبة على الفرانين و الخبازين]

22- و تعرّض في الباب الثاني عشر للحسبة على الفرانين و الخبازين فقال ما ملخّصه:

«ينبغي أن يأمرهم المحتسب برفع سقائف أفرانهم، و يجعل في سقوفها منافس واسعة للدخان، و يأمرهم بكنس بيت النار في كلّ تعميرة و غسل البسليت و تنظيف مائه و غسل المعاجن و تنظيفها ... و لا يعجن العجان بقدميه و لا بركبتيه و لا بمرفقيه، لأنّ في ذلك مهانة للطعام، و ربّما قطر في العجين شي ء من عرق إبطيه أو بدنه، و لا يعجن إلّا و عليه ملعبة ضيقة الكمّين، و يكون ملثما أيضا لأنّه ربّما عطس أو تكلّم فقطر شي ء من بصاقه أو مخاطه في العجين، و يشدّ على جبينه عصابة بيضاء لئلّا يعرق فيقطر منه شي ء، و يحلق شعر ذراعيه لئلّا يسقط منه شي ء في العجين.

و إذا عجن

في النهار فليكن عنده إنسان على يده مذبّة يطرد عنه الذباب. و يعتبر عليهم المحتسب ما يغشون به الخبز من الكركم و الزعفران ... و يلزمهم أن لا يخبزوه حتّى يختمر، فإنّ الفطير يثقل في الميزان و المعدة ... و لا يخرجون الخبز من بيت النار حتّى ينضج نضجا جيّدا من غير احتراق. و المصلحة أن يجعل على كلّ حانوت وظيفة رسما يخبزونه في كلّ يوم لئلّا يختلّ البلد عند قلّة الخبز، و يتفقّد الأفران في آخر النهار ...» «2»

أقول: الفرن بالضم: بيت غير التنور معدّ لأن يخبز فيه. الملعبة: الثوب بلا كمّ أو قصير الكمّ. و الكركم كقنفذ: الزعفران أو نبات يشبهه في اللون. و لم يظهر لي

______________________________

(1)- معالم القربة/ 89 (ط. مصر/ 152).

(2)- معالم القربة/ 91 (ط. مصر/ 154).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 287

معنى البسليت، و لعلّه كان اسما لإناء ماء يستعمله الخبّاز لترطيب يده و غيره.

[الحسبة على الفرانين و الخبازين]

23- و تعرّض في الباب الثالث عشر و عدّة أبواب أخر للحسبة على صنّاع الأغذية و الحلويات: الشوائين و النقانقيين و الكبوديّين و البوارديّين و الروّاسين و الطبّاخين و الشرائحيّين و الهرايسيّين و قلائي السمك و قلائي الزلابية و الحلوانيّين بأنواعها و أصنافها المختلفة، و ذكر المواد المستعملة فيها و كيفية صنعها و أن المحتسب يراقبهم في أعمالهم ليحسنوا صنعا و يحترزوا عن الغشّ و الخيانة و يراعوا موازين السلامة و الصحّة و النظافة «1».

أقول: النقانق: اللحوم تدقّ و تخلط بغيرها و تحشى بها المصارين ثمّ تقلى.

و الشريحة: اللحم تقطع للكباب. و البوارد جمع باردة، و يعني بها الحشائش و البقول المبرّدة، و كأنّها كانت تجعل في أوراق الكرنب

و تطبخ.

[الحسبة على الجزّارين و القصّابين]

24- و تعرّض في الباب السادس عشر للحسبة على الجزّارين و القصّابين و كيفيّة الذبح و النحر و شرائطهما و آدابهما، قال:

و لا يجرّ شاة برجلها جرّا عنيفا و لا يذبح بسكّين كالّة، لأنّ في ذلك تعذيب الحيوان و قد نهى النبيّ «ص» عن تعذيب الحيوان، و لا يشرع في السلخ بعد الذبح حتّى تبرد الشاة ... و يمنعهم المحتسب من الذبح على أبواب دكاكينهم، فإنّهم يلوّثون الطريق بالدم و الروث فإنّ في ذلك تضييقا للطريق و إضرارا بالناس، و يمنعهم من إخراج توالي اللحم من حدّ مصاطب حوانيتهم و يأمرهم أن يفردوا لحوم المعز عن لحوم الضأن و لا يخلطوا بعضها ببعض و يجعلوا لها علامة و لا يخلطوا شحوم المعز بشحوم الضأن و لا اللحم السمين بالهزيل و لا الذكر بالأنثى ...

ثمّ تعرّض لأنواع الحيوان و ما يؤكل منه و ما لا يؤكل، فراجع.

ثمّ قال:

و لا يجوز أكل ما فيه ضرر كالسمّ و الزجاج و التراب و الحجر، لقوله- تبارك و تعالى-:

______________________________

(1)- معالم القربة/ 92 (ط. مصر/ 156) من الباب 13 إلى الباب 23 إلّا الباب 16.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 288

و لا تقتلوا أنفسكم، و لا يحلّ كلّ شي ء نجس لأنّه من الخبائث «1».

[الحسبة على الشرابيّين و صنّاع أنواع الأشربة]

25- و تعرّض في الباب الرابع و العشرين للحسبة على الشرابيّين، و أراد بذلك صنّاع أنواع الأشربة المتّخذة من العقاقير المختلفة للتداوي بها، و قال:

«تدليس هذا الباب كثير لا يمكن حصر معرفته على التمام، لأنّ العقاقير و الأشربة مختلفة الطبائع و الأمزجة، و التداوي على قدر أمزجتها ... فالواجب عليهم أن يراقبوا اللّه- تعالى- في ذلك، فينبغي للمحتسب أن يخوّفهم و يعظهم

و ينذرهم العقوبة و يحذرهم بالتعزير، و يعتبر عليهم أشربتهم و عقاقيرهم في كلّ وقت على حين غفلة ...

أمّا الأشربة فأسماؤها كثيرة و تزيد على سبعين اسما و نذكر ما اشتهر من أسمائها ...

أمّا المعاجين فكثير أسماؤها و كذلك الأقراص و الربوبات و اللعوقات و الجوارشيات و الحبوب و الايارجات و الفتائل و ما يعمل من المطبوخات و لو ذكرت كلّ باب من ذلك و استقصيته لطال.» «2»

أقول: ففي الحقيقة يراد بالحسبة في هذا الباب و الباب التالي الحسبة على أنواع الأدوية المستعملة للتداوي و كيفيّة صنعها و تركيباتها، و هي أمور سريّة خفية غالبا و يكثر فيها التدليس كما ذكر فيحتاج إلى مراقبة كثيرة و دقيقة جدّا.

[الحسبة على العطّارين و الشمّاعين]

26- و تعرّض في الباب الخامس و العشرين للحسبة على العطّارين و الشمّاعين و قال:

«إنّ هذا الباب من أهمّ الأشياء التي ينبغي للمحتسب الاعتناء بها و الكشف عنها و يجب على المحتسب أن لا يمكن أحدا من بيع العقاقير و أصناف العطر إلّا من له معرفة و خبرة و تجربة، و مع ذلك يكون ثقة أمينا في دينه عنده خوف من اللّه

______________________________

(1)- معالم القربة/ 98 (ط. مصر/ 162).

(2)- معالم القربة/ 115 (ط. مصر/ 185).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 289

- تعالى-، فإنّ العقاقير إنّما تشترى من العطّارين مفردة ثمّ تركّب غالبا، و قد يشتري الجاهل عقّارا من العقاقير معتمدا على أنّه هو المطلوب ثمّ يبتاعه منه جاهل آخر فيستعمله في الدواء متيقّنا منفعته فيحصل له باستعماله عكس مطلوبه و يتضرّر به.»

ثمّ تعرّض لأنواع الغشّ و طرقه في الأدوية و العقاقير المختلفة، و كذا الغشّ في الشموع و قال:

«هذا كلّه غشّ

و تدليس، فيراعي المحتسب ذلك جميعه عليهم من غير إهمال.» «1»

أقول: و هذا ما أشرنا إليه من أهميّة أمر الأدوية و لزوم مراقبة الصيادلة في صنعهم و معاملاتهم، و تحتاج إدارة الحسبة لا محالة إلى المتخصّصين في الفنون المختلفة.

[لحسبة على البيّاعين و اللبّانين و البزّازين]

27- و تعرّض في الباب السادس و العشرين و ما بعده للحسبة على البيّاعين و اللبّانين و البزّازين و أنّه يعتبر عليهم الموازين و المكاييل و الصنج و الأذرع و النظافة و سلامة الجنس و معرفة أحكام البيع و عقود المعاملات و ما يحلّ لهم و ما يحرم عليهم و صدق القول في أخبار الشراء و مقدار رأس المال. و أن يظهروا جميع عيوب السلعة خفيّها و جليّها، فإنّ الغش حرام. «2»

[الحسبة على الدلّالين]

28- و تعرّض في الباب التاسع و العشرين للحسبة على الدلّالين:

فينبغي أن لا يتصرّف أحد من الدلّالين حتّى يثبت في مجلس المحتسب ممّن يقبل شهادته من الثقات العدول من أهل الخبرة، أنّه خير ثقة من أهل الدين و الأمانة و الصدق في النداء، فإنّهم يتسلّمون بضائع الناس و يقلّدونهم الأمانة في بيعها، و لا ينبغي لأحد منهم أن يزيد في السلعة من نفسه إلّا أن يزيد فيها التاجر و لا يكون شريكا للبزّاز و لا يشتري السلعة لنفسه و يوهم صاحبها أنّ بعض الناس اشتراها

______________________________

(1)- معالم القربة/ 121 (ط. مصر/ 199).

(2)- معالم القربة/ 128 (ط. مصر/ 207).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 290

و يواطئ غيره على شرائها منه ... و متى علم المنادي في السلعة عيبا وجب عليه أن يعلم المشتري بذلك و يوقفه عليه، و على المحتسب أن يعتبر عليهم جميع ذلك ... «1»

[لحسبة على الحاكة و الخيّاطين و الرفّائين و القصّارين]

29- و تعرّض في الباب الثلاثين و الأبواب بعده للحسبة على الحاكة و الخيّاطين و الرفّائين و القصّارين و صنّاع القلانس، و الحريريين و الصبّاغين و القطّانين و الكتّانيين و الصاغة و النحّاسين و الحدّادين و الأساكفة و غيرهم من أرباب المهن و الحرف، فيؤمرون بحسن العمل و جودته و الإنصاف و ترك الغشّ و الخيانة و السرقة و حفظ الأمانة و ترك المماطلة. «2»

[الحسبة على الصيارفة]

30- و تعرّض في الباب السادس و الثلاثين للحسبة على الصيارفة و قال:

إنّ التعيّش بالصرف خطر عظيم على دين متعاطيه و على المحتسب أن يتفقّد سوقهم و يتجسّس عليهم، و إن عثر بمن رابى أو فعل في الصرف ما لا يجوز عزّره و أقامه من السوق إذا تكرّر ذلك منه ... «3»

[الحسبة على البياطرة]

31- و تعرّض في الباب الأربعين للحسبة على البياطرة و قال:

«البيطرة علم جليل سطرته الفلاسفة في كتبهم، و وضعوا فيها تصانيف، و هي أصعب علاجا من أمراض الآدميّين، لأنّ الدوابّ ليس لها نطق تعبّر به عمّا تجد من المرض و الألم، و إنّما يستدلّ على عللها بالحسّ و النظر، فيحتاج البيطار إلى حسن بصيرة بعلل الدوابّ و علاجها، فلا يتعاطى البيطرة إلّا من له معرفة و خبرة بالتهجّم على الدوابّ بفصد أو قطع أو كيّ و ما أشبهه، فمن قدم على ذلك بغير مخبرة فيؤدّي إلى هلاك الدابّة أو عطبها فيلزمه أرش ما نقص من قيمتها من طريق الشرع و يعزّره المحتسب من طريق السياسة ... و ينبغي للبيطار أن يكون خبيرا بعلل الدوابّ و معرفة ما يحدث فيها من العيوب، و يرجع الناس إليه إذا اختلفوا في الدابّة، و قد ذكر بعض الحكماء في كتاب البيطرة أنّ علل الدوابّ ثلاثمائة و عشرون

______________________________

(1)- معالم القربة/ 135 (ط. مصر/ 216).

(2)- معالم القربة/ 136 (ط. مصر/ 218)، من الباب 30 إلى الباب 39 إلّا الباب 36.

(3)- معالم القربة/ 143 (ط. مصر/ 227).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 291

علّة، و نذكر ما اشتهر من ذلك ... «1»

[لحسبة على سماسرة العبيد و الجواري و الدوابّ و الدور]

32- و تعرّض في الباب الحادي و الأربعين للحسبة على سماسرة العبيد و الجواري و الدوابّ و الدور و قال:

«ينبغي أن لا يتصرّف في سمسرة العبيد و الجواري إلّا من ثبتت عند الناس أمانته و عفّته و صيانته و أن يكون مشهور العدالة، لأنّه يتسلّم جواري الناس و غلمانهم و ربّما اختلى بهم في منزله ...

و متى علم بالمبيع عيبا وجب عليه بيانه للمشتري كما

ذكرنا، و ينبغي أن يكون بصيرا بالعيوب خبيرا بابتداء العلل و الأمراض، و يؤخذ على دلّالين العقارات و يستحلفوا ألّا يبيعوا ما يظنّ به أنّه خرج من يد صاحبه بكتابة تحبيس أو كتاب إقرار أو رهن، و لا شبهة و لا لصبيّ و لا ليتيم إلّا باذن وصيّه ...» «2»

[لحسبة على الحمّامات و قوّامها]

33- و تعرّض في الباب الثاني و الأربعين للحسبة على الحمّامات و قوّامها و قال:

«يأمرهم المحتسب بإصلاحها و نضاجة مائها. و قد ذكر عن بعض الحكماء أنّه قال:

خير الحمّامات ما قدم بناؤه و اتّسع هواؤه و عذب ماؤه، و الحمّام يشتمل على منافع و مضارّ ... و قال ابن عمر: الحمّام من النعيم الذي أحدثوه، و قد دخل أصحاب رسول اللّه «ص» الحمّامات بالشام. و ينبغي أن لا يكثر صبّ الماء بل يقتصر على قدر الحاجة ...

و ينبغي أن يأمرهم المحتسب بغسل الحمّام و كنسه و تنظيفه بالماء الطاهر غير ماء الغسالة، يفعلون ذلك مرارا في اليوم، و أن يدلكوا البلاط بالأشياء الخشنة لئلّا يتعلّق بها السدر و الخطمي فيزلق الناس عليه ...

و يلزم المحتسب أن يتفقّد الحمّام في كلّ وقت و يعتبر ما ذكرناه، و إن رأى أحدا قد كشف عورته عزّره على كشفها، لأنّ كشف العورة حرام، و قد لعن رسول اللّه «ص» الناظر و المنظور إليه، و النساء في هذا المقام أشدّ تهالكا من

______________________________

(1)- معالم القربة/ 150 (ط. مصر/ 234).

(2)- معالم القربة/ 152 (ط. مصر/ 238).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 292

الرجال.» «1»

[الحسبة على الأطباء و الكحّالين و الجرّاحين و المجبرين و الفصّادين و الحجّامين]

34- و تعرّض في الباب الرابع و الأربعين و الخامس و الأربعين للحسبة على الأطباء و الكحّالين و الجرّاحين و المجبرين و الفصّادين و الحجّامين و الختّانين، و قال في الفصد:

«ينبغي أن لا يتصدّى له إلّا من اشتهرت معرفته و أمانته و جودة علمه بتشريح الأعضاء و العروق و العضل و الشرايين و أحاط بمعرفتها و كيفيّتها ...»

و قال في الطب ما ملخّصه:

«الطبّ علم نظري و عملي أباحت الشريعة تعلّمه لما فيه

من حفظ الصحّة و دفع العلل و الأمراض عن هذه البنية الشريفة.

و قد ورد في ذلك أحاديث، فعن رسول اللّه «ص» أنّه قال: ما أنزل اللّه داء إلّا و أنزل له دواء.

و قال «ص»: يا أيّها الناس، تداووا فإنّ اللّه لم ينزل داء إلّا و أنزل له شفاء ... و هو من فروض الكفاية و لا قائم به من المسلمين، و كم من بلد ليس فيه طبيب إلّا من أهل الذمّة! ... و الطبيب هو العارف بتركيب البدن و مزاج الأعضاء و الأمراض الحادثة فيها و أسبابها و أعراضها و علاماتها و الأدوية النافعة فيها و الاعتياض عمّا لم يوجد منها ... فمن لم يكن كذلك فلا يجعل له مداواة المرضى و لا يتعرّض لما لا علم له فيه ...،

قال رسول اللّه «ص»: من تطبّب و لم يعلم منه طبّ قبل ذلك فهو ضامن.

و ينبغي أن يكون لهم مقدّم من أهل صناعتهم، فقد حكى أنّ ملوك يونان كانوا يجعلون في كلّ مدينة حكيما مشهورا بالحكمة ثمّ يعرضون عليه بقية أطباء البلد فيمتحنهم فمن وجده مقصّرا في علمه أمره بالاشتغال و قراءة العلم و نهاه عن المداواة ...

و ينبغي للمحتسب أن يأخذ عليهم عهد ابقراط الذي أخذه على سائر الأطباء

______________________________

(1)- معالم القربة/ 154 (ط. مصر/ 240).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 293

و يحلفهم أن لا يعطوا أحدا دواء مضرّا و لا يركّبوا له سمّا و لا يضعوا السمام عند أحد من العامّة، و لا يذكروا للنساء الدواء الذي يسقط الأجنّة و لا للرجال الذي يقطع النسل، و ليغضوا أبصارهم عن المحارم عند دخولهم على المرضى، و لا يفشوا الأسرار و

لا يهتكوا الأستار و لا يتعرّضوا لما ينكر عليهم فيه ...» «1»

أقول: و من الأمور المهمّة في هذا المجال في عصرنا هو أجرة الطبيب و الجرّاح، فعليهما رعاية الإنصاف و لا سيّما في معالجة الضعفاء و أن يكتفيا بالكفاف و لا يبيعا علمهما الشريف و خدمتهما الشريفة بالمتاع الفاني، و على المحتسب مراقبتهما في ذلك و منعهما من الإجحاف بالوعظ و التوبيخ و التخويف.

[لحسبة على مؤدّبي الصبيان]

35- و تعرّض في الباب السادس و الأربعين للحسبة على مؤدّبي الصبيان و قال:

«و اعلم أنّها من أجلّ المعايش، لقوله «ص»: خيركم من تعلّم القرآن و علّمه.

و في حديث آخر: خير من مشى على الأرض المعلّمون الذين كلّما خلق الدين جدّدوه.

فحينئذ يشترط في المعلّم أن يكون من أهل الصلاح و العفّة و الأمانة حافظا للكتاب العزيز حسن الخطّ و يدري الحساب، و الأولى أن يكون مزوّجا، و لا يفسح لعازب أن يفتح مكتبا لتعليم الصبيان إلّا أن يكون شيخا كبيرا و قد اشتهر بالدين و الخير، و مع ذلك فلا يؤذن له بالتعليم إلّا بتزكية مرضيّة و ثبوت أهليّته لذلك، و ينبغي للمؤدّب أن يترفّق بالصغير و أن يعلّمه السور القصار من القرآن بعد حذاقته بمعرفة الحروف ...» «2»

[الحسبة على القومة و المؤذنين]

36- و تعرّض في الباب السابع و الأربعين للحسبة على القومة و المؤذنين، فقال:

«و ينبغي أن يشرف المحتسب على الجوامع و المساجد و يأمر قومتها بكنسها و تنظيفها في كلّ يوم من الأوساخ و نفض حصرها من الغبار و مسح حيطانها و غسل قناديلها ... و يلزم بغلق أبوابها عقيب الصلوات و صيانتها من الصبيان و المجانين،

______________________________

(1)- معالم القربة/ 159 (ط. مصر/ 247).

(2)- معالم القربة/ 170 (ط. مصر/ 260).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 294

و ممّن يأكل فيها الطعام و ينام أو يعمل صناعة أو يبيع فيها سلعة أو ينشد فيها ضالّة أو يجلس فيها لحديث الدنيا فجميع ذلك قد ورد الشرع بتنزيه المساجد عنه و كراهية فعله، و يتقدّم إلى جيران كلّ مسجد بالمواظبة على صلاة الجماعة عند سماع الأذان لإظهار معالم الدين و إشهار شعائر الإسلام، لقوله «ص»: لا

صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد ...

و يشترط في الإمام أن يكون رجلا عاقلا قارئا فقيها سليم اللفظ من رثّ أو لثغ ...

و يمنع المحتسب أيضا من يتخطّى رقاب الناس يوم الجمعة بعد النداء لما فيه من الإيذاء. و إذا كان في أئمّة المساجد و الجوامع من يطيل الصلاة حتّى يعجز عنها الضعيف و ينقطع بها ذووا الحاجات عن حاجاتهم أنكر المحتسب ذلك عليه كما أنكر رسول اللّه «ص» على معاذ حين أطال الصلاة بقومه فقال: أ فتّان أنت يا معاذ؟ ...

و لا يؤذّن في المنارة إلّا عدل ثقة أمين عارف بأوقات الصلوات، لأنّ النبيّ «ص» قال: «المؤذّنون أمناء و الأئمّة ضمناء، فأرشد اللّه الأئمّة و غفر للمؤذّنين.»

و ينبغي للمحتسب أن يمتحنهم بمعرفة الأوقات فمن لم يعرف ذلك منعه من الأذان حتّى يعرفها ... فيجب عليه معرفة الوقت و يقرأ باب الأذان و الإقامة في الفقه.

و يستحبّ أن يكون المؤذّن حسن الصوت و ينهاه المحتسب عن التغنّي في الأذان و هو التمطيط الفاحش و التطريب، و يأمره إذا صعد المنارة أن يغضّ بصره عن النظر إلى حريم الناس و دورهم و يأخذ عليه العهد في ذلك، و لا يصعد إلى المنارة غير المؤذّن في أوقات الصلوات ...

و يأمر المحتسب القومة أن يقفوا على أبواب الجامع يوم الجمعة و يمنعوا الصعاليك من الدخول للكدية جملة واحدة ففي دخولهم ضرر على الناس، و يمنعونهم من الاشتغال بالذكر و العبادة فإنّهم يشوّشون عليهم في الصلاة لا سيّما من يقف و يحكي أخبارا و قصصا ما أنزل اللّه بها من سلطان ...» «1»

______________________________

(1)- معالم القربة/ 172 (ط. مصر/ 263).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص:

295

[الحسبة على الوعّاظ]

37- و تعرّض في الباب الثامن و الأربعين للحسبة على الوعّاظ فقال:

«يجب على المحتسب أن ينظر في أمر الوعّاظ و لا يمكّن أحدا يتصدّى لهذا الفنّ إلّا من اشتهر بين الناس بالدين و الخير و الفضيلة، و أن يكون عالما بالعلوم الشرعيّة و علم الأدب، حافظا للكتاب العزيز و لأحاديث النبيّ «ص» و أخبار الصالحين و حكايات المتقدّمين، و يمتحن بمسائل يسأل عنها من هذه الفنون فإن أجاب و إلّا منع كما اختبر الإمام عليّ بن أبي طالب «ع» الحسن البصري و هو يتكلّم على الناس فقال له: ما عماد الدين؟ قال: الورع. قال: فما آفته؟ قال: الطمع. قال: تكلّم الآن إن شئت ... و من لا يدري ذلك و كان جاهلا بذلك منع من الكلام، فإن لم يمتنع و دام على كلامه عزّر.

و من عرف شيئا يسيرا من كلام الوعّاظ و حفظ من الأحاديث و أخبار الصالحين قبل ذلك و قصد الكلام يسترزق به و يستعين على قوته فيبيح له بشرط أن لا يصعد المنبر بل يقف على قدميه، فإنّ رتبة صعود المنبر رتبة شريفة لا يليق أن يصعد عليه إلّا من اشتهر بما وصفناه، و كفى به علوّا و سموّا أنّ النبيّ «ص» صعد عليه و الخلفاء الراشدون من بعده و الأئمّة ... فلا يمكّن من ذلك إلّا رجلا مشهورا بالدين و الخير و الفضيلة، كما تقدّم. و من شرطه أن يكون عاملا للّه، مجتهدا، قوّالا، فعّالا ...

و مهما كان الواعظ شابّا متزيّنا للنساء في ثيابه و هيئته كثير الأشعار و الإشارات و الحركات و قد حضر مجلسه النساء فهذا منكر يجب المنع منه، فإن الفساد أكثر من الصلاح. و يبين

ذلك منه بقرائن أحواله، بل لا ينبغي أن يسلّم الوعظ إلّا لمن ظاهره الورع و هيئته السكون و الوقار و زيّه زيّ الصالحين و إلّا فلا يزداد الناس إلّا تماديا في الضلال. و يجب أن يضرب بين النساء و الرجال حائل يمنع النظر إليهنّ، فإن ذلك مظنّة الفساد ...» «1»

[الحسبة على المنجّمين و كتّاب الرسائل]

38- و تعرّض في الباب التاسع و الأربعين للحسبة على المنجّمين و كتّاب الرسائل فقال:

______________________________

(1)- معالم القربة/ 179 (ط. مصر/ 271).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 296

«أمّا المنجّمون فقد ورد في ذلك أحاديث دالّة على النهي بالاشتغال بهذا العلم، لقوله «ص»: من أتى حزّارا فصدّقه في مقاله فقد كفر بما أنزل اللّه على محمد «ص» ...

و حينئذ يؤخذ عليهم و على كتّاب الرسائل أن لا يجلسوا في درب و لا زقاق و في حانوت بل على قارعة الطريق، فإن معظم من يجلس عندهم النسوان ... و يلزمهم بالقسامة أنّهم لا يكتبون لأحد من الناس شيئا من الروحانيّات مثل محبّة و تهييج و نزيف و رمد و عقد لسان و غير ذلك، فإن السحر حرام فعله، و متى وجد أحدا يفعل ذلك عزّره ليرتدع به غيره ...» «1»

[الحسبة على الحدود و التعزيرات الشرعية]

39- و تعرّض في الباب الخمسين من الكتاب «2» للحدود و التعزيرات الشرعية، فذكر فيه ما فيه الحدّ و ما فيه التعزير أو التأديب و كيفيّة إجراء الحدود و التعزيرات و آلة إجرائهما و حكم التعزير بالمال و بالحبس و نحو ذلك من الفروع. و حيث إنّا سوف نحكي عنه بعض ذلك في فصل التعزيرات الآتي فلا نتعرّض لها هنا.

و قال في هذا الباب:

«و يمنع المحتسب من خصي الآدمي و البهائم و يؤدّب عليه و إن استحقّ فيه قودا أو دية استوفاه لمستحقّه ما لم يكن فيه تخاصم و تنازع ...

و يمنع المحتسب من التكسّب بآلة اللهو و يؤدّب عليه الآخذ و المعطي و ينهى الاضرار و أهل الكدية المقيمين عن قراءة القرآن في الأسواق و الكدية به و قد نهت الشريعة عن

ذلك.» «3»

[القضاة و الشهود]

40- و تعرّض في الباب الحادي و الخمسين «4» للقضاة و الشهود و ذكر فيه معنى القضاء و بعض الآيات و الروايات الواردة فيه و تصدّي النبيّ «ص» و الخلفاء له، و شرائط القاضي و الشهود و آداب القضاء و ذكر بعض المحرّمات الشرعيّة. و حيث مرّ منّا بحث إجمالي عن القضاء في الفصل الرابع من هذا الباب فلا نعيد هنا.

______________________________

(1)- معالم القربة/ 182 (ط. مصر/ 275).

(2)- معالم القربة/ 184 (ط. مصر/ 277).

(3)- معالم القربة/ 197 (ط. مصر/ 291).

(4)- معالم القربة/ 200 (ط. مصر/ 295).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 297

و قال في هذا الباب:

«و متى رأى المحتسب رجلا يسفه في مجلس الحكم أو يطعن على الحاكم في حكمه أو لا ينقاد إلى حكمه عزّره على ذلك. و أمّا إذا رأى القاضي قد استشاط على رجل غيظا و يشتمه أو يحقد عليه في كلامه ردعه عن ذلك و وعظه و خوّفه باللّه- عزّ و جلّ- فإنّ القاضي لا يحكم و هو غضبان و لا يقول هجرا و لا يكون فظّا غليظا.

و غلمانه الذين بين يديه و أعوانه إن كان فيهم شابّ حسن الصورة لا يبعثه القاضي لإحضار النسوان.» «1»

[الأمراء و الولاة]

41- و تعرّض في الباب الثاني و الخمسين للأمراء و الولاة فقال:

«ينبغي للمحتسب أن يقصد مجالس الأمراء و الولاة و يأمرهم بالشفقة على الرعيّة و الإحسان إليهم و يذكر لهم ما ورد في ذلك من الأحاديث عن النبيّ «ص» أنّه قال: «ما من أمير يلي أمر المسلمين و لا يجهد لهم و ينصح إلّا لم يدخل الجنّة.» و في رواية: «لم يجد ريح الجنة.» و قال رسول اللّه «ص»: «ما من

أمير يؤمّر على عشرة إلّا و هو يأتي يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتّى يكون عمله هو الذي يطلقه أو يوثقه.»

... و كان عمر بن الخطّاب يخرج كلّ ليلة يطوف مع العسس حتّى يرى خللا يتداركه، و كان يقول: لو ضاعت شاة بالفرات لخشيت أن أسأل عنها يوم القيامة ...

و قال مكحول الدمشقي: ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة و أعوانهم، فلا يبقى أحد مدّ لهم دواة أو برى لهم قلما فما فوق ذلك إلّا حضروا فيجمعون في تابوت من نار فيلقون في جهنّم.

و في الحديث عن النّبيّ «ص» أنّه قال: «لا يقف أحدكم موقفا يضرب فيه رجل مظلوم، فإنّ اللعنة تنزل على من حضر حيث لم يدفع عنه.» ...

و خطر الولاية عظيم و خطبها جسيم، و لا يسلم الوالي إلّا بمخالطة العلماء و الصلحاء و فضلاء الدين، ليعلّموه طريق العدل و يسهّلوا عليه خطر هذا الأمر. و من أعظم

______________________________

(1)- معالم القربة/ 208 (ط. مصر/ 305).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 298

خصال الوالي و أحمدها توقعا في نفوس الخاصّة و العامّة إنصافه من خاصّته و حاشيته و أعوانه و تفقّدهم في كلّ ساعة، و يمنعهم أن يأخذوا من الغرماء فوق ما يستحقّونه ...

و ليكن في وعظه و قوله في ردعهم عن الظلم لطيفا ظريفا ليّن القول بشوشا غير جبّار و لا عبوس، قال اللّه- سبحانه-: «وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ.» ... «1»

42- و تعرّض في الباب الثالث و الخمسين لما يجب على المحتسب فعله، و نحن نذكر خلاصة ذلك مع ملخّص ما ذكره في الباب الأوّل من آداب الاحتساب و ما يجب على

المحتسب و ينبغي له في خاتمة هذا الفصل، فانتظر.

[الحسبة على أصحاب السفن و المراكب]

43- و تعرّض في الباب الرابع و الخمسين للحسبة على أصحاب السفن و المراكب، قال:

«و يؤخذ على أصحاب السفن و المراكب ألّا يحملوها فوق العادة خوف الغرق، و كذلك يمنعهم من السير وقت هبوب الرياح و اشتدادها، و إذا حملوا فيها النسوان مع الرجال حجبوا بينهما بحائل.» «2»

أقول: و ما ذكره في هذا الباب أمر خطير مهمّ يلزم رعايته و الاهتمام به في السيّارات و الطيّارات أيضا، كما لا يخفى.

[الحسبة على السدّارين]

44- و تعرّض في الباب الثالث و الأربعين بعد باب الحمّامات للحسبة على السدّارين «3».

و تعرّض في الباب الخامس و الخمسين إلى السبعين للحسبة على أمور- ففي الباب 55 على باعة قدور الخزف و الكيزان.- و في الباب 56 على الفاخرانيّين و الغضّارين.- 57 على الابّارين و المسلاتيّين.- 58 على المرادنيّين.- 59 على

______________________________

(1)- معالم القربة/ 216 (ط. مصر/ 316).

(2)- معالم القربة/ 222 (ط. مصر/ 324).

(3)- معالم القربة/ 158 (ط. مصر/ 245).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 299

الحناويّين.- 60 على الامشاطيّين.- 61 على معاصر الشيرج و الزيت.- 62 على الغرابليّين.- 63 على الدبّاغين و البططيّين.- 64 على اللبوديّين.- 65 على الفرّائين.- 66 على الحصريّين العبداني و الكركر.- 67 على التبّانين.- 68 على الخشّابين و القشّاشين.- 69 على النجّارين و النشّارين و البنّائين و الدهّانين و المبيضّين و الضببيين و الجبّاسين و الجيّارين.- 70 على الرزّازين و المراوحيين و باعة الكبريت و المكانس و الزفّاتين و سقّائي الكيزان و أرباب الروايا و القرب و الدّلاء و الغسّالين لأقمشة الناس، و الإنكار على نطاح الكباش و نقار الديوك و صياح السّمان و أمثالها «1».

و من أراد المقصود من هذه العناوين و وظيفة

المحتسب في قبالها يرجع إلى الكتاب المذكور.

و الحكم في الجميع واحد، و هو أنّه يجب على المحتسب مراقبة الأعمال و آلات العمل و الموادّ المستعملة و محالّ العمل و مقدار الأجرة و كون العامل متخصّصا في عمله و نحو ذلك، و المتخلّف يعزّر.

فهذا ما اقتبسناه من كتاب معالم القربة في بيان وظيفة المحتسب.

و قد وزّعت في أعصارنا هذه الوظائف على الدوائر و الوزارات المختلفة، و لكنّ المباشر لأكثرها الضبّاط و الحرّاس و المستخبرون.

و جلّ ما ذكره ممّا يمكن أن يستدلّ عليه بعمومات الكتاب و السنة و إن كان للإشكال في بعضها مجال، كما مرّ.

و ممّا يؤسفني أنّه لا مجال لي للتتبّع في هذا المجال لكثرة الأشغال المتفرقة، فأوصي الإخوان من الفضلاء الشبّان أن يهتمّوا بها، لكثرة الابتلاء بها في بلادنا بعد نجاح الثورة الإسلاميّة فيها، و يطبّقوا العناوين المذكورة على المصاديق و الموضوعات الرائجة في عصرنا.

______________________________

(1)- معالم القربة/ 222 (ط. مصر/ 325).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 2، ص: 300

و أنت ترى أنّ المتعرّض لهذه المسائل و لجلّ مسائل الدولة و الحكومة هم علماء السنّة و مؤلّفوهم. و السرّ في ذلك أنّ الشيعة و علماءهم كانوا بمعزل عن الحكم و السلطة في شتّى الأ