الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه ، مع الركب الحسينى المجلد 5

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة (الجزء الخامس)

مقدمة مركز الدراسات الإسلاميّة ..... ص : 5

التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

الحمدُ للّه الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ودليلًا على نعمه وآلائه. والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعدُ:

فهذا الكتاب: (وقائع الطريق من كربلاء إلى الشام) هو الجزء الخامس من دارستنا التأريخيّة التفصيليّة الموسعة، الموسومة ب (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة)، نقدّمه إلى القرّاء الكرام والمحقّقين الأفاضل لينضمَّ إلى مجموعة الأجزاء الصادرة من هذه الموسوعة من قبله، وهي:

1- الإمام الحسين عليه السلام في المدينة المنوّرة.

2- الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة.

3- وقائع الطريق من مكّة إلى كربلاء.

4- الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

وكتابنا هذا (الجزء الخامس) يواصل متابعة حركة أحداث النهضة الحسينية ما بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، وقراءة ما جرى على بقية أهل البيت عليهم السلام- في حركة الركب الحسيني من كربلاء إلى الكوفة، ثمّ منها إلى الشام- قراءة تحليلية نقدية تتلمس الاستفسار والإجابة الصحيحة عن كلّ مُشكل مهمّ في مسار هذه المتابعة.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 6

ولاندّعي شططاً

إذا قلنا- كما قلنا بحقّ الأجزاء السابقة- إنّ هذا الكتاب قد حوى من التحقيقات والنظرات والإشارات الجديدة ما وفّقه لسدّ جملة من ثغرات كثيرة في تأريخ النهضة الحسينية المقدّسة كانت قبل ذلك مبهمة غامضة، لم تنل قسطها اللازم من التحقيق، ولم تتوفر الإجابة الوافية بشأنها.

وهنا لابدّ من أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى مؤلّف هذا الجزء سماحة الشيخ المحقّق محمّد جعفر الطبسي لما بذله من جهد كبير في إعداد مادّة هذا البحث القيّم.

ويحسن هنا أيضاً أن ننوّه أن سماحة المؤلّف قد تكفّل من قبل ببحث حركة أحداث «المقتل» وإعداد مادة بحثه ضمن الجزء الرابع، كما حقّق كتاب (إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام) للمرحوم الشيخ المحقّق محمّد السماوي، والذي صدر- هو الآخر- عن مركزنا هذا، ولشيخنا المؤلف مؤلّفات أخرى أيضاً. «1»

كما ينبغي هنا أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى فضيلة الأستاذ المحقّق علي الشاوي الذي تولّى العناية بهذا البحث مراجعة ونقداً وتنظيماً وتكميلًا، كعنايته من قبل بالأجزاء الثاني، والثالث، والرابع- فضلًا عن تأليفه الجزء الأوّل من هذه الموسوعة- داعين له بمزيد من الموفقيّة في ميدان التحقيق ومؤازرة المحققين.

مركز الدراسات الإسلامية

التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 7

مقدّمة المؤلّف: «الدور التبليغي المتمم للنهضة المقدّسة» ..... ص : 7

اشارة

الحمدُ للَّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريّته محمّد صلى الله عليه و آله، وعلى أهل بيته الطاهرين، سيّما سيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين عليه السلام.

لاشك ولاريب في أنّ الدور التبليغي الذي قمن به النساء عامّة قبل وحين وبعد واقعة الطف، وعقائل الوحي خاصة، كان له أكبر الأثر والدور في توعية الناس وتعريفهم بحقيقة الأمور.

وبدأ هذا الدور من الكوفة عند ورود سفير الحسين عليه السلام وخذلان أهلها إياه، إلّا المرأة التي كانت

تسمّى (طوعة) رضي اللّه عنها، حيث سمحت لنفسها أن تُدخل مسلماً دارها وتضيّفه بأحسن وجه.

ثمّ تلك المرأة التي تأمر ولدها أن ينصر الإمام عليه السلام وتقول له:

أُخرج فقاتل بين يدي ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله. حتى تقتل: فقال: أفعل. فخرج.

وقال له الحسين عليه السلام: هذا شابٌ قُتل أبوه ولعلّ أمّه تكره خروجه.

فقال الشاب: إنّ أمّي أمرتني يابن رسول اللّه. «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 8

وفي هذا الإطار- إطار الفداء والتضحية- يذكر تأريخ كربلاء أنّ أمّ وهب بن عبداللّه بن حبّاب الكلبي كانت في كربلاء، وكانت تخاطب ولدها: قمْ يا بني فانصر ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله. فلم يزل يقاتل ...، ثمّ قُطعت يداه، وأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمّي! قاتل دون الطيبين حرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله ... وبعد أن قتل ذهبت إليه تمسح الدم عن وجهه، فبصر بها شمر، فأمر غلاماً له فضربها بعمود كان معه فشدخها وقتلها .. وهي أوّل امرأة قُتلت في عسكر الحسين عليه السلام. «1»

ولم تزل المرأة الحسينية الغيورة تُبدي وفاءها لسيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام، ففي يوم عاشوراء، وبعدما قُتل ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأخذ العدوّ يهجم على بنات العترة ويسلب النساء، وقفت امرأة من بكر بن وائل وصرخت في وجوه آل بكر وهي تقول: أتُسلبُ بنات رسول اللّه!؟ لاحكم إلّا للّه! يا لثارات المصطفى. «2»

إنّ شعار (يالثارات المصطفى) الذي رفعته هذه المرأة من قبيلة بكر بن وائل شعارٌ مهم جداً تأريخياً وسياسياً، ذلك لأنّ هذه المرأة الغيورة أدركت أنّ حقيقة المواجهة هي بين الأموية المنافقة وبين الإسلام الذي جاء به

المصطفى صلى الله عليه و آله.

وهذا أوّل خيوط الفتح الحسيني: وهو فصل الأموية عن الإسلام.

وعندما سلب مالك بن نسر (بشير) الكندي برنس الإمام عليه السلام، وأتى به إلى أهله، لتغسله قالت له زوجه- أمّ عبداللّه بنت الحارث-: أتسلب ابن بنت رسول

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 9

الله برنسه و تدخل بيتي؟ أخرج عنّي حشا اللّه قبرك ناراً!. «1»

هذا البحث له مصاديق مليئة في واقعة الطفّ، لسنا بصدد استيعابها.

دور نسوة بني هاشم ..... ص : 9

وأما دور نساء بني هاشم- أعمّ من العقيلة زينب وفاطمة بنت الحسين عليه السلام وأم كلثوم- فلهنّ كلّ الدور في تبليغ الرسالة الخالدة التي كنّ يستشعرن مسؤوليتهن في وجوب الدفاع عنها.

إنَّ الشي ء المهمّ الذي كان بنو أميّة يهتمّون به هو أن يعرّفوا للنّاس الإمام الحسين عليه السلام أنّه رجل خارجي، خرج على يزيد في العراق، وسعى ليشقّ عصا الطاعة، وليفرّق كلمة الأمّة .. كان الأمويون يسعون لترسيخ هذه الفكرة في النفوس الضعيفة بعد واقعة كربلاء.

وكان يزيد و عبيداللّه بن زياد يصرّان عامدين على وصف الإمام عليه السلام بأنّه كذاب .. فهذا عبيداللّه بن زياد يخاطب الأسرى من بني هاشم في قصره ويقول بأنّ اللّه نصر يزيد وقتل الكذّاب. فتقوم زينب عليها السلام وتقول ردّاً على أراجيفه:

الحمدُ للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله، وطهّرنا من الرّجس تطهيرا، وإنما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد للّه. «2»

من ثم ننتقل لهاتين الفكرتين: فكرة بني أميّة بأنّ الحسين عليه السلام كاذب في دعواه! وفكرة العقيلة زينب عليهما السلام: بأنّ الإمام عليه السلام من شجرة أهل بيت طهّرهم اللَّه تطهيرا.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 10

فنرى أنّ زينب سلام اللّه عليها بعد واقعة الطفّ قامت بكل وجودها أمام الطغاة من بني

أميّة لتكشف النقاب عن تلك الوجوه الممسوخة، ولتثبت للناس بأنّ الحسين ابن بنت رسول الإسلام عليهما السلام، وليس كما يزعم الناس بأنه خارجي خرج على يزيد.

والجدير بالذكر أنّ عمّال بني أميّة حينما حملوا رؤوس شهداء الطفّ مع السبايا الى الشام كانوا كثيراً ما يقولون للنّاس بأنّ الحسين عليه السلام خارجَى خرج على يزيد «1». وبهذا أرادوا قلب الحقائق للناس، وقد حقّقوا بالفعل تلك النتيجة ولكن لفترة قصيرة جدّاً.

مواصلة الرسالة التبليغية في دمشق ..... ص : 10

كانت دمشق تعدّ مركزاً أساسياً لبني أميّة إذ كان يزيد قد اتخذها عاصمة له، وكان قد أمر بجمع الناس، وأدخلوا سبايا الحسين عليه السلام بوضع فجيع، وكان يزيد يريد أن يستثمر تلكم الحال ضدّ أهل البيت عليهم السلام، لكنّ زينب عليها السلام أدّت رسالتها الخالدة فقامت في نفس المجلس، وهوت إلى جيبها فشقّته!! ثمّ نادت بصوت حزين يقرح القلوب: يا حسيناه! يا حبيب المصطفى! يا ابن فاطمة الزهراء!

يقول الراوي: فأبكت واللّه كلّ من كان حاضراً في المجلس! ويزيد ساكت! «2»

وفي الشام أيضاً .. يروي الشيخ الصدوق (ره) عن فاطمة بنت عليّ عليها السلام «3» أنها قالت: «لمّا أُجلسنا بين يدي يزيد بن معاوية رقّ لنا أوّل شي ء وألطفنا، ثمّ إنّ رجلًا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 11

من أهل الشام أحمر قام إليه فقال: يا أميرالمؤمنين! هب لي هذه الجارية تعينني- وكنت جارية وضيئة- فأرعبت وفرقت وظننت أنه يفعل ذلك!

فأخذت بثياب أختي وهي أكبر منّي وأعقل، فقالت: كذبت واللّه ولُعنت ما ذاك لك ولا له. فغضب يزيد فقال: بل كذبت! واللّه لو شئت لفعلته.

قالت: لا واللّه ما جعل الله ذلك لك إلّا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغير ديننا.

فغضب يزيد، ثم قال: إياي تستقبلين بهذا!؟ إنّما خرج من الدين أبوك

وأخوك.

فقالت: بدين اللّه ودين أبي وأخي وجدّي اهتديت أنت وجدّك وأبوك.

قال: كذبتِ يا عدوّة اللّه.

قالت: أميرٌ يشتم ظالماً ويقهر بسلطانه.

قالت فكأنّه لعنه اللّه استحيى فسكت ...». «1»

فزينب حقّاً من أبرز مصاديق «الذين يبلّغون رسالات اللّه ويخشونه ولا يخشون أحداً إلّا اللّه»، «2»

فهي لم تخف من أحدٍ في مجالس الحكّام الطغاة، وكان هدفها إيصال الرسالة المجيدة بأحسن وجه وصورة، ولقد استطاعت أن تبلّغ رسالات الله إلى أعداء اللّه من بني أميّة، فهذا الصراخ والعويل استطاع أن يغيّر كلّ شي ء! وما استطاع العدوّ أن يصل إلى أهدافه الشرّيرة!

إذن لنا أن نقول: لولا وجود زينب، وأمّ كلثوم، وفاطمة بنت الحسين، «3» ولولا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 12

خُطبهنّ الساخنة في الكوفة والشام لأخمد بنو أميّة صوت العدالة الإنسانيّة التي رفعها الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء يوم عاشوراء، بحيث لم يبق شي ء إسمه كربلاء ولا حسين عليه السلام إلى يومنا هذا!

الامام السجّاد ودوره في كربلاء ..... ص : 12

لاشك في أنّ عليَّ بن الحسين عليه السلام كان مريضاً في كربلاء، وذلك لمصالح أشرنا إلى بعضها في هذا الكتاب، ولكنّ ما تجدر الإشارة إليه هو الدور الإعلامي والتبليغي الذي قام به الإمام السجّاد عليه السلام بعد قتل أبيه الإمام الحسين عليه السلام للتعريف بالنهضة الحسينية خلال خطاباته في الكوفة والشام.

فقد كان عليه السلام في الكوفة جنباً إلى جنب مع عمّته العقيلة زينب عليه السلام في الدفاع عن كيان النهضة الحسينية ومواجهة الإعلام الأموي الكاذب الذي كان منتشراً في آفاق العالم ضدّ أهل البيت عليهم السلام.

فحينما دخل الكوفة مع الأسرى، ورأى أهلها يضجّون ويبكون، خاطبهم قائلًا: «أتنوحون وتبكون من أجلنا!؟ فمن قتلنا!؟». «1»

ويقف عليه السلام أمام الحشود الكثيرة في الكوفة ليؤدّي رسالته الخالدة، فيقول: «أيها الناس! من عرفني فقد

عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي: أنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات! أنا ابن من انتُهك حريمه، وسُلب نعيمه، وانتُهب ماله، وسُبي عياله! أنا ابن من قُتل صبراً وكفى بذلك فخراً ...

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 13

فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم وسَوْءاً لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمّتي!». «1»

كانت هذه الكلمات تصدر عنه عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام كان ما يزال مطروحاً في أرض المعركة! .. لقد أراد الإمام السجّاد عليه السلام أن يوجّه أنظار الكوفيين إلى عظم الجرم الذي ارتكبه بنو أميّة، وليقف بكلّ وجوده أمام دعوى أنّ الحسين عليه السلام خارجي خرج على يزيد، ويعرّف أباه الإمام الحسين عليه السلام بأنه ليس كما يزعم بنو أميّة، بل هو من أهل بيت النبّوة ومعدن الرسالة.

الامام السجّاد في مجلس الطاغية ابن زياد ..... ص : 13

لمّا أُدخل الإمام عليه السلام مع أسرى أهل بيت النبّوة على عبيداللّه بن زياد في الكوفة، وكان عليه السلام مغلولًا بالحبل، «2» وأراد الملعون قتله، ودارت المشاجرة بين زينب وابن زياد، قال عليه السلام لعمّته زينب عليها السلام:

«أسكتي ياعمّة حتّى أكلّمه. ثم أقبل إليه فقال: أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد!؟

أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة وكرامتنا من اللّه الشهادة؟». «3»

بهذا المنطق وقف عليه السلام أمام تفرعن ابن زياد وتجبّره وطغيانه ...

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 14

الامام السجاد في الشام ..... ص : 14

دعا يزيد بن معاوية خاطبه وأمره أن يصعد المنبر، فصعد الخاطب، فذمَّ الإمام الحسين عليه السلام، وبالغ في ذمّ أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام، فقام إليه الإمام السجّاد عليه السلام وقال له: «ويلك أيها الخاطب! اشتريت مرضاة المخلوق بسخط الخالق، فتبوَّأ مقعدك من النار!». «1»

أمّا في مجلس يزيد فيقول الخوارزمي: «فتقدّم عليّ بن الحسين حتّى وقف بين يدي يزيد وقال:

لا تطمعوا أنْ تهينونا ونكرمكم وأنْ نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا

فاللّه يعلمُ أنّا لا نحبّكم ولا نلومكم إنْ لم تحبّونا

فقال يزيد: صدقتَ! ولكن أراد أبوك وجدّك أن يكونا أميرين، فالحمد للّه الذي قتلهما وسفك دماءهما! ثم قال: يا عليّ! إنّ أباك قطع رحمي، وجهل حقّي، ونازعني في سلطاني، فصنع اللّه به ما قد رأيت! «2»

وفي تفسير علي بن ابراهيم القمي: قال الصادق عليه السلام: لما أدخل رأس الحسين عليه السلام على يزيد لعنه اللَّه، وأدخل عليه علي بن الحسين عليه السلام وبنات أمير المؤمنين عليه السلام وكان علي بن الحسين مقيداً مغلولًا، فقال يزيد: يا علي بن الحسين عليه السلام الحمد لله الذي قتل أباك.

فقال علي بن الحسين عليه السلام: لعن اللّه من قتل أبي. قال فغضب يزيد وأمر بضرب عنقه عليه السلام.

فقال علي بن الحسين عليه السلام: فاذا قتلتني فبنات رسول الله صلى الله عليه و آله من يردهم إلى منازلهم وليس لهم محرم غيري؟ فقال: أنت تردهم إلى منازلهم. ثم دعا بمبرد، فأقبل يبرد الجامعة من عنقه ليده. ثم قال له: يا علي بن الحسين أتدري ما الذي أريد

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 15

بذلك؟ قال: بلى تريد أن لا يكون لأحد عليّ منّة غيرك. فقال يزيد: هذا واللَّه ما أردت فعله. ثم قال يزيد: يا علي بن الحسين عليه السلام «ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم». فقال علي بن الحسين عليه السلام: كلا، ما هذا فينا نزلت، إنما نزلت فينا: «ما أصاب من مصيبة فى الأرض ولا في أنفسكم إلّا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على اللَّه يسير.

لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم» فنحن الذين لا نأسى على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا. «1»

قال الخوارزمي: فقال علي بن الحسين عليه السلام:

يا ابن معاوية وهند وصخر! لم تزل النبّوة والإمرة لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد، ولقد كان جدّي عليّ بن أبي طالب في يوم بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأبوك وجدّك في أيديهما رايات الكفّار.

ثمَّ جعل عليّ بن الحسين عليه السلام يقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي منهم أسارى ومنهم ضُرِّجوا بدم

ثم قال عليّ بن الحسين عليه السلام:

«ويلك يا يزيد! إنّك لو تدري ماذا صنعت، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي، إذن لهربت إلى الجبال، وافترشت الرمال، ودعوت بالويل والثبور، أيكون رأس أبي الحسين بن عليّ وفاطمة منصوباً على

باب مدينتكم وهو وديعة رسول اللّه فيكم!؟ فأبشر يا يزيد بالخزي والندامة إذا جُمع الناس غداً ليوم القيامة!.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 16

تلك المواقف البطولية هي التي استطاعت أن تقف أمام التيّارات الهدّامة، فبنو أميّة أرادوا مسخ الإسلام الأصيل، وتوهّموا أنهم بلغوا ذلك الهدف بقتل سيّد شباب أهل الجنّة عليه السلام! ولكنّ مواقف السيّدة زينب، وأمّ كلثوم وفاطمة بنت الحسين سلام اللّه عليه وعليهنّ، وعلى رأسهم سيّد الساجدين عليه السلام منعت العدوّ من أن يصل إلى هدفه الشيطاني.

وهذا الكتاب ... ..... ص : 16

يتناول الوقائع المؤلمة بعد مقتل سيد الشهداء عليه السلام حتى ورود الركب الحسيني أرض الشام. والبحث فى مقصدين.

المقصد الأوّل: ويشتمل على استدراك ما فات في المجلد الرابع غير ما ذكرناه هناك، وهو يكون على فصلين:

الفصل الأول: ويشتمل على آيات و تجلّيات الغضب الإلهي في السماء والأرض لمقتل سيد الشهداء عليه السلام.

الفصل الثاني: ويشتمل على الوقائع المتأخرة عن قتله عليه السلام.

المقصد الثاني: ويشتمل على وقائع الطريق حتى ورود الركب الحسيني أرض الشام، وهو يكون على فصلين:

الفصل الأول: ويشتمل على وقائع حركة الركب الحسيني من كربلاء إلى الكوفة والأحداث التي جرت على أهل البيت في الكوفة نفسها.

الفصل الثاني: ويشتمل على وقايع حركة الركب الحسيني من الكوفة إلى الشام.

نسأل الله أن يوفق الجميع لخدمة الدين الحنيف، إنه سميع الدعاء.

محمّد جعفر الطبسي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 17

المقصد الأول ..... ص : 17

اشارة

وهو يشتمل على استدراك ما فات في المجلد الرابع غير ما ذكرناه هناك. ويشتمل على فصلين:

الفصل الأول: تجليّات الغضب الإلهي لمقتل سيّد الشهداء عليه السلام ..... ص : 17

اشارة

«السلام عليك يا حجّة اللّه وابن حجّته، السلام عليك يا قتيل اللّه وابن قتيله، السلام عليك يا ثار اللّه وابن ثاره، السلام عليك يا وتر اللّه الموتور في السموات والأرض، أشهد أنّ دمك سكن في الخلد، واقشعرّت له أظلّة العرش، وبكى له جميع الخلائق، وبكت له السموات السبع والأرضون السبع، وما فيهنّ، وما بينهنّ، ومن يتقلّب في الجنّة والنار من خلق ربّنا، وما يرى وما لايُرى ...». «1»

لقد انعكس الغضب الإلهي لمقتل سيّد الشهداء أبي عبداللّه عليه السلام في مرايا عوالم الكائنات في صور منوّعة عديدة، ولقد رؤيت آيات هذا الغضب الإلهي في عالم الشهادة في السماء وفي الأرض، وفي النبات وفي الحيوان، وفي البحر وفي البرّ، وعرف بعض الناس علّة هذه الآيات في أقطار، وجهلها آخرون في أقطار أُخرى.

ويمكننا أن نتابع- من خلال الآثار الروائية- آيات هذا الغضب الإلهي على

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 20

النحو التالي:

الآيات السماوية ..... ص : 20
اشارة

ورد ذكر الآيات السماوية الكاشفة عن غضب اللّه تعالى لمقتل الإمام الحسين عليه السلام في المصادر السنيّة والشيعيّة الحديثية والتأريخية على حدّ سواء، ولم يتعرّض لإنكارها إلّا شرذمة قليلون من عديمي الإيمان والمعرفة، «1» ومن الآثار الروائية والتأريخية في هذا الصدد:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 21

1- صرخة جبرئيل عليه السلام ..... ص : 21

روى ابن قولويه بسنده، عن الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«إنّ الحسين لمّا قُتل أتاهم آتٍ وهم في العسكر، فصرخ فزبر، فقال لهم: وكيف لا أصرخ ورسول اللّه صلى الله عليه و آله قائم ينظر إلى الأرض مرّة وإلى حزبكم مرّة، وأنا أخاف أن يدعو اللّه على أهل الأرض فأهلك فيهم، فقال بعض لبعض:

هذا إنسان مجنون! فقال التوّابون: تا اللّه! ما صنعنا لأنفسنا!؟ قتلنا لابن سميّة سيّد شباب أهل الجنّة!! فخرجوا على عبيد اللّه بن زياد، فكان من أمرهم ما كان.

قال: فقلت له: جُعلت فداك! من هذا الصارخ؟

قال: ما نراه إلّا جبرئيل عليه السلام، أما إنّه لو أُذن له فيهم لصاح بهم صيحة يخطف به أرواحهم من أبدانهم إلى النار، ولكن أمهل لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب أليم ...». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 22

2- كسوف الشمس ..... ص : 22

روى الحافظ الطبراني في معجمه الكبير، قال: «حدّثنا قيس بن أبي قيس البخاري، ثنا قتيبة بن سعيد، ثنا ابن لهيعة، عن أبي قبيل «1» قال: لمّا قُتل الحسين بن عليّ رضي اللّه عنه انكسفت الشمس كسفة حتى بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننّا أنها هي!». «2»

ورواه ابن عساكر في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام بسنده عن أبي قبيل أيضاً. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 23

3- إسوداد السماء ..... ص : 23

روى ابن عساكر بسند عن خلف بن خليفة، «1» عن أبيه «2» قال: «لمّا قُتل الحسين اسودّت السماء، وظهرت الكواكب نهاراً حتّى رأيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر!». «3»

وروى ابن أعثم الكوفي في وصف ساعة مقتل الامام الحسين عليه السلام وسلبه يقول: «وارتفعت في ذلك الوقت غبرة شديدة سوداء مظلمة، فيها ريح أحمر، لايُرى فيها أثر عين ولاقدم، حتى ظنّ القوم أنه قد نزل بهم العذاب، فبقوا كذلك ساعة، ثمّ انجلت عنهم.». «4»

4- إحمرار السماء ..... ص : 23

روى الشيخ المفيد (ره)، عن سعد الأسكاف «5» قال: قال أبوجعفر عليه السلام: «كان

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 24

قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا، وقاتل الحسين بن علي عليه السلام ولد زنا، ولم تحمّر السماء إلّا لهما!». «1»

وروى ابن سعد في طبقاته، عن عليّ بن مدرك، عن جدّه الأسود بن قيس قال: «إحمرّت آفاق السماء بعد قتل الحسين ستّة أشهر، يُرى ذلك في آفاق السماء كأنّها الدّم! قال: فحدّثت بذلك شريكاً، فقال لي: ما أنت من الأسود؟ قلت: هو جدّي أبو أمّي. قال: أما واللّه إنّ كان لصدوق الحديث عظيم الأمانة مكرماً للضيف.». «2»

وروى ابن سعد أيضاً، عن محمّد بن سيرين قال: «لم تكن تُرى هذه الحمرة في السماء عند طلوع الشمس وعند غروبها حتى قُتل الحسين رضي اللّه عنه!». «3»

وروى أيضاً، عن عمرو بن عاصم الكلابي «4» قال: «حدّثنا خلّاد- صاحب السمسم، وكان ينزل بني جحدر- قال: حدّثتني أمّي قالت: كنّا زماناً بعد قتل الحسين وإنَّ الشمس تطلع محمّرة على الحيطان والجدران بالغداة والعشي. قالت:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 25

وكانوا لايرفعون حجراً إلّا وجدوا تحته دماً!». «1»

وروى ابن عساكر بأسناد عن عليّ بن مسهر قال: «حدّثتني جدّتي قالت: كنت أيّام الحسين جارية

شابّة، فكانت السماء أيّاماً علقة!»، (2)

وروى الشيخ الصدوق (ره) بسنده عن جبلّة المكيّة قالت: «سمعت ميثم التمّار يقول: واللّه لتقتلنّ هذة الأمّة ابن نبيّها في المحرّم لعشر مضين منه .. يا جبلّة! إذا نظرتِ إلى الشمس حمراء كأنها دم عبيط فاعلمي انّ سيّدك الحسين قد قُتل! قالت جبلّة: فخرجت ذات يوم فرأيت الشمس على الحيطان كأنها الملاحف المعصفرة! فصحت حينئذٍ وبكيت وقلتُ: قد واللّه قُتل سيّدنا الحسين بن عليّ عليه السلام!». «2»

وروى ابن شهرآشوب، عن حمّاد بن زيد، عن هشام، عن محمّد قال: «تعلُم هذه الحمرة في الأفق ممَ هي؟ ثم قال: من يوم قُتل الحسين!». (4)

وعن الأسود بن قيس: «لمّا قُتل الحسين ارتفعت حمرة من قبل المشرق، وحمرة من قبل المغرب، فكادتا تلتقيان في كبد السماء ستة أشهر!». «3»

5- بكاء السماء ..... ص : 25
اشارة

روى ابن قولويه (ره) بسنده عن كليب بن معاوية، عن الإمام أبي عبداللّه

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 26

الصادق عليه السلام أنه قال: «كان قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا، وكان قاتل الحسين عليه السلام ولد زنا، ولم تبك السماء إلّا عليهما!». «1»

وروى أيضاً بسنده عن الحسين بن ثوير، ويونس بن ظبيان، وأبي سلمة السرّاج، والمفضّل بن عمر، كلّهم قالوا: «سمعنا أبا عبداللّه يقول:

إنّ أبا عبداللّه الحسين بن عليّ عليهما السلام لمّا مضى بكت عليه السماوات السبع والأرضون السبع، ومافيهنّ وما بينهنّ، ومن ينقلب عليهنّ، والجنّة والنّار، وما خلق ربّنا، وما يُرى وما لايُرى». «2»

وروى أيضاً بسنده عن زرارة قال: «قال أبوعبداللّه عليه السلام:

يا زرارة، إنّ السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم، وإنّ الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإنّ الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإنّ الجبال تقطّعت وانتثرت، وإنّ البحار تفجّرت ...».»

معنى بكاء السماء ..... ص : 26

قال ابن حجر: «وأخرج الثعلبي أنّ السماء بكت وبكاؤها حمرتها!». «4»

وروى ابن قولويه (ره) بسنده عن عبداللّه بن هلال قال: «سمعت- أبا عبداللّه عليه السلام يقول: «إنّ السماء بكت على الحسين بن عليّ، ويحيى بن زكريا، ولم تبك على

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 27

أحدٍ غيرهما». قلت: وما بكاؤها؟ قال: مكثت أربعين يوماً تطلع الشمس بحمرة وتغرب بحمرة! قلت: فذاك بكاؤها؟ قال: نعم.». «1»

وينقل ابن البطريق عن صحيح مسلم في ذيل قوله تعالى: «فما بكت عليهم السماء والأرض»، «2»

عن السدّي أنه قال: «لمّا قُتل الحسين بن علي عليهما السلام بكت السماء، وبكاؤها حمرتها». «3»

إشارة ..... ص : 27

تحدّثت روايات كثيرة عن بعض المشتركات بين شخصيّة الإمام الحسين عليه السلام وما جرى عليه، وشخصية يحيى بن زكريا عليهما السلام وما جرى عليه، منها على سبيل المثال:

- ما روي عن ابن عبّاس أنه قال: «أوحى اللّه إلى محمد صلى الله عليه و آله: إنّي قتلتُ بيحيى ابن زكريا سبعين ألفاً، وإني قاتل بابن فاطمة سبعين الفاً.». «4»

- أنّ رأس يحيى بن زكريا عليهما السلام أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل، كما أشار إلى ذلك مراراً الإمام الحسين عليه السلام نفسه حيث قال: «ومن هوان الدنيا على اللّه أنّ رأس يحيى بن زكريا عليه السلام أُهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل!». «5»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 28

وكذلك فقد حُمل رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى ابن مرجانة وإلى يزيد. «1»

- روى ابن قولويه (ره) بسنده عن زرارة، عن عبدالخالق بن عبدربّه قال:

«سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول: «لم نجعل له من قبلُ سميّا» الحسين بن عليّ عليهما السلام لم يكن له من قبلُ سميّاً، ويحيى بن زكريا عليهما السلام لم يكن له

من قبل سميّاً ...». «2»

- وروي أنّ مدّة حمل زوج زكريا بيحيى كانت ستة أشهر، وكذلك كانت مدّة حمل مولاتنا فاطمة عليهما السلام بالإمام الحسين عليه السلام. «3»

- وأنّ قاتل يحيى عليه السلام كان ولد زنا، وكذلك كان قاتل الإمام الحسين عليه السلام. «4»

- وأنّ السماء لم تبك إلّا عليهما. «5»

- وأنّ رأس يحيى عليه السلام صُلب على باب جيرون في الشام، وكذلك صُلب رأس الإمام الحسين عليه السلام في الشام في نفس المكان. «6»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 29

6- إمطار السماء دما ..... ص : 29

كانت السماء بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام قد مطرت الناس دماً، وكانت هذه الآية السماوية الكاشفة عن غضب اللّه تعالى قد شاهدها الناس، وكانت من البيّنات الإلهية التي لايمكن إنكارها، حتّى احتجّت بها مولاتنا زينب الكبرى عليها السلام على أهل الكوفة في خطبتها حين قالت: «أفعجبتم أن تمطر السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لاتنصرون.». «1»

والروايات التي تخبر عن هذه الآية السماوية مستفيضة، منها على سبيل المثال:

ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن عمّار بن أبي عمّار قال: «أمطرت السماء يوم قتل الحسين عليه السلام دماً عبيطاً». «2»

وروى ابن سعد في طبقاته، عن أمّ شوق العبدية قالت: حدثتني نضرة الأزدية قالت: «لمّا قُتل الحسين بن عليّ مطرت السماء دماً، فأصبحت خيامنا وكلّ شي ء منّا ملي ء دماً!». «3»

وروى البيهقي هذا أيضاً عن نضرة الأزدية. «4»

وروى ابن سعد، عن سليم القاص قال: «مُطرنا دماً يوم قتل الحسين». «5»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 30

وروى ابن طلحة بسنده المتصل إلى هلال بن ذكوان قال: «لمّا قُتل الحسين مكثنا شهرين أو ثلاثة كأنّما لطخت الحيطان بالدم من صلاة الفجر الى غروب الشمس. قال: وخرجنا في سفر فمطرنا مطراً بقي أثره في ثيابنا

مثل الدم!». «1»

وروى البلاذري بسنده عن أبي حصين قال: «لمّا قُتل الحسين مكثوا شهرين أو ثلاثة وكأنّما تُلطّخ الحيطان بالدم من حين صلاة الغداة الى طلوع الشمس!»، «2» وروى أيضاً بسنده عن سالم القاص قال: «مُطرنا أيّام قتل الحسين دماً!». «3»

وروى القاضي نعمان المصري عن أمّ سالم قالت: «لمّا قُتل الحسين بن عليّ عليه السلام مطرت السماء مطراً كالدم، إحمرّت منه البيوت والحيطان، فبلغ ذلك البصرة والكوفة والشام وخراسان، حتى كنّا لانشك أنّه سينزل العذاب!». «4»

7- وأمطرت السماء رماداً أيضاً! ..... ص : 30

في رواية الشيخ الصدوق (ره) بسند عن المفضّل بن عمر، عن الإمام الصادق، عن أبيه، عن جدّه عليهم السلام

«أنّ الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام دخل يوماً إلى الحسن عليه السلام، فلمّا نظر اليه بكى، فقال له: ما يبكيك يا أبا عبداللّه؟

قال: أبكي لما يُصنع بك! فقال له الحسن عليه السلام: إنّ الذي يؤتى إليَّ سمٌّ يُدسُّ إليَّ فأقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا ابا عبداللّه! يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 31

يدّعون أنّهم من أمّة جدّنا محمّد صلى الله عليه و آله، وينتحلون دين الإسلام، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ... فعندها تحلُّ ببني أميّة اللعنة، وتمطر السماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلُّ شي ء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار.». «1»

وروي عن عليّ بن عاصم، عن حصين قال: «جاءنا قتل الحسين بن عليّ فمكثنا ثلاثاً كأنّ وجوهنا طُليت رماداً! قلت: مثل مَن أنت يومئذٍ؟ قال: رجل متأهل.». «2»

8- بكاء الملائكة وصلاتهم على الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 31

روى ابن قولويه (ره) بسنده الى أبان بن تغلب «قال: قال أبوعبداللّه عليه السلام:

إنّ أربعة آلاف ملك هبطوا يريدون القتال مع الحسين بن عليّ عليهما السلام، لم يؤذن لهم في القتال فرجعوا في الإستيذان، فهبطوا وقد قُتل الحسين عليه السلام، فهم عند قبره شعثٌ غُبرٌ يبكونه الى يوم القيامة، رئيسهم ملك يُقال له: منصور.». «3»

وروى ايضاً بسند الى أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السلام:

«قال: وكّل اللّه تعالى بالحسين عليه السلام سبعين ألف ملك، يصلّون عليه كلّ يوم، شعثاً غُبراً منذ يوم قُتل الى ما شاء اللّه- يعني بذلك قيام القائم عليه السلام.». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 32

9- عجيج السموات والأرض والملائكة لمقتله عليه السلام ..... ص : 32

وروى الكليني (ره) بسنده عن كرّام قال: «حلفت فيما بيني وبين نفسي أن لا آكل طعاماً بنهارٍ أبداً حتّى يقوم قائم آل محمّد صلى الله عليه و آله، فدخلتُ على أبي عبداللّه عليه السلام، قال: فقلت له: رجل من شيعتكم جعل للّه عليه أن لايأكل طعاماً بنهار أبداً حتّى يقوم قائم آل محمّد! قال:

فصُم إذن يا كرام، ولاتصم العيدين، ولا ثلاثة ايام التشريق، ولا إذا كنت مسافراً، ولامريضاً، فإنّ الحسين عليه السلام لمّا قُتل عجّت السماوات والأرض ومن عليهما، والملائكة، فقالوا: يا ربّنا إئذن لنا في هلاك الخلق حتى نجدّهم عن جديد الأرض بما استحلّوا حرمتك، وقتلوا صفوتك!

فأوحى اللّه إليهم: يا ملائكتي ويا سماواتي ويا أرضي، أسكنوا، ثمّ كشف حجاباً من الحجب، فإذا خلفه محمّد صلى الله عليه و آله وإثنا عشر وصيّاً له عليهم السلام، وأخذ بيد فلان القائم من بينهم، فقال: يا ملائكتي، ويا سماواتي، ويا أرضي، بهذا انتصر لهذا. قالها ثلاث مرّات.». «1»

الآيات الأرضية ..... ص : 32
اشارة

فضلًا عمّا تقدّم من بكاء الأرض مع السماء لمقتل سيد الشهداء عليه السلام، وأنهما لم تبكيا إلّا له وليحيى بن زكريا عليه السلام، وكذلك عجيج الأرض مع السماء والملائكة لتلك الفاجعة، تحدّثنا مجموعة مستفيضة من الروايات أنه ما رفع حجر إلّا ووجد تحته دم عبيط، وبعض هذه الروايات يذكر مطلق الأرض، وبعضها يذكر أرض

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 33

الشام، وبعض آخر يذكر أرض بيت المقدس.

روى ابن سعد عن محمد بن عمر قال: حدّثني عمر بن محمّد بن عمر بن عليّ، عن أبيه، قال: أرسل عبدالملك الى ابن رأس الجالوت، فقال: هل كان في قتل الحسين علامة؟ قال ابن رأس الجالوت: ما كُشف يومئذٍ حجر إلّا وُجد تحته دم عبيط!.». «1»

وروى أيضاً

عن محمّد بن عمر قال: حدّثني نجيح، عن رجل من آل سعيد يقول: سمعت الزهري يقول: سألني عبدالملك بن مروان فقال: ما كان علامة مقتل الحسين؟

قال: لم تكشف يومئذ حجراً إلّا وجدت تحته دماً عبيطاً! فقال عبدالملك: أنا وأنت في هذا غريبان.». «2»

أمّا الروايات التي اختصّت بأرض بيت المقدس ...

فقد روى ابن عساكر بسنده عن أمّ حيّان أنها قالت: «ولم يُقلب حجرٌ ببيت المقدس إلّا أصبح تحته دمٌ عبيط!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 34

وروى الخوارزمي عن حمّاد بن زيد «1» قال: «أوّل ما عُرف الزهري أن تكلّم في مجلس الوليد بن عبدالملك، قال الوليد: أيّكم يعلم ما فعلت أحجار بيت المقدس يوم قُتل الحسين؟ فقال الزهري: بلغني أنّه لم يُقلب حجرٌ إلّا وجد تحته دم عبيط!». «2»

وروى الشيخ الصدوق بسنده عن فاطمة بنت عليّ عليهما السلام أنها قالت: «ثمّ إنّ يزيد

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 35

لعنه اللّه أمر بنساء الحسين عليه السلام فحبسن مع عليّ بن الحسين عليه السلام في محبس لايكنّهم من حَرّ ولاقُرّ، حتّى تقشّرت وجوههم، ولم يُرفع ببيت المقدس حجر عن وجه الأرض إلّا وجد تحته دم عبيط! وأبصر الناس الشمس على الحيطان حمراء كأنها الملاحف المعصفرة! إلى أن خرج عليّ بن الحسين عليه السلام بالنسوة وردّ رأس الحسين إلى كربلاء.». «1»

أمّا الروايات التي تذكر أرض الشام، فقد روى الطبراني بسند عن ابن شهاب قال: «ما رُفع بالشام حجر يوم قُتل الحسين بن عليّ إلّا عن دم!! رضي اللّه عنه.». «2»

إشارة ..... ص : 35

روى ابن قولويه في كامل الزيارات بسنده عن الحسين بن ثوير، ويونس بن ظبيان، وأبي سلمة السّراج، والمفضّل بن عمر، «قالوا: سمعنا أبا عبداللّه عليه السلام يقول:

لمّا مضى الحسين بن عليّ عليهما السلام

بكى عليه جميع ما خلق اللّه إلّا ثلاثة أشياء: البصرة، ودمشق، وآل عثمان!»، «3» وفي بعض الروايات: «وبنو أميّة!». «4»

أمّا استثناء بني أميّة من البكاء على الإمام الحسين عليه السلام فلعِلّة واضحة، وهي أنّهم أعداء اللّه ورسوله وأهل البيت عليهم السلام وأعداء الإسلام، وهم الذين سفكوا دم الإمام عليه السلام، ولقد اشتفوا بقتله، هذا ابن زياد يخاطب زينب عليهما السلام قائلًا:

«لقد شفى اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!». «5»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 36

وهذا يزيد يصرّح بكفره وتشفيه بمقتل الإمام الحسين عليه السلام حيث أنشد متمثّلًا بأبيات ابن الزبعرى:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسلْ

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً ثمّ قالوا يا يزيدُ لا تُشلْ

قد قتلنا القرم من ساداتهم وعدلناه ببدرٍ فاعتدلْ

لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌّ نزلْ

لستُ من خندف إنْ لمْ أنتقمْ من بني أحمد ما كان فعل «1»

ويقول:

لمّا بدتْ تلك الحمول واشرقتْ تلك الرؤوس على شفا جيرون

نعب الغراب فقلتُ قلْ أولا تقل فقد اقتضيتُ من الرسول ديوني «2»

فهذا وذاك وغيرهما كثير ممّا يكشف عن مدى حقد هذه الشجرة الملعونة على أهل البيت عليهم السلام وفرحتهم بمقاتلهم.

وأمّا دمشق فلولائها لبني أميّة، إذ كفى أهلها عاراً وشناراً أنّهم أوقفوا بقيّة الركب الحسينيّ عند باب الساعات، وقد خرجوا إليهم بالدفوف والمزامير والبوقات، في حال من الفرح والسرور والإبتهاج بمقتل ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته وأصحابه.

وأمّا البصرة آنذاك فإنّ أغلب أهلها عثمانيو الرأي والهوى، فلا عجب أن تستثنى البصرة آنذاك من بقية بقاع الأرض التي بكت على الإمام الحسين عليه السلام. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 37

نوح الجن ..... ص : 37

هناك مجموعة من الروايات التي تحدّث عن نوح الجنّ لمقتل سيّد الشهداء

عليه السلام نذكر منها على سبيل المثال:

روى الشيخ ابن قولويه (ره) بسندٍ عن أمّ سلمة (رض) زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله أنها قالت: «ما سمعت نوح الجنّ منذ قبض اللّه نبيَّه إلّا الليلة، ولا اراني إلّا وقد أصبت بابني الحسين. قالت: وجاءت الجنيّة منهم وهي تقول:

أيا عيناي فانهملا بجهدِ فمن يبكي على الشهداء بعدي

على رهطٍ تقودهم المنايا إلى متجبّرٍ من نسلِ عبدِ» «1»

وروى (ره) أيضاً بسندٍ عن عبداللّه بن حسّان الكناني قال:

«بكت الجنّ على الحسين بن عليّ عليهما السلام فقالت:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم وأنتم آخرُ الأُممِ

بأهل بيتي وإخواني ومكرمتي من بين أسرى وقتلى ضُرِّجوا بدمِ» «2»

وروى (ره) أيضاً بسندٍ عن داود الرقّي قال: «حدّثتني جدّتي أنّ الجنّ لمّا قُتل الحسين عليه السلام بكت عليه بهذه الأبيات:

يا عينُ جودي بالعِبَرْ وابكي فقد حقّ الخبرْ

إبكي ابن فاطمة الذي ورد الفرات فما صدرْ

الجنُّ تبكي شجوها لمّا أُتي منه الخبرْ

قُتل الحسينُ ورهطه تعساً لذلك من خبر

فلأبكينّك حرقة عند العشاء وبالسحرْ

ولأبكينّك ما جرى عِرقٌ وما حمل الشجرْ». «1»

الطيور: ..... ص : 37

روى الخوارزمي بسند متصل إلى المفضّل بن عمر الجعفي قال: «سمعتُ جعفر بن محمّد عليهما السلام يقول:

حدّثني أبي محمد بن عليّ عليهما السلام، حدّثني أبي عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: لمّا قُتل الحسين جاء غراب فوقع في دمه، ثمّ تمرّغ، ثمّ طار فوقع بالمدينة على جدار فاطمة بنت الحسين وهي الصغرى، فرفعت رأسها إليه فنظرته فبكت ...». «2»

وينقل العلّامة المجلسيّ (ره) عن (بعض مؤلّفات أصحابنا) أنه روي من طريق أهل البيت عليهما السلام أنه:

«لمّا استشهد الحسين عليه السلام بقي في كربلاء صريعاً، ودمه على الأرض مسفوحاً، وإذا بطائرٍ أبيض قد أتى وتمسّح بدمه، وجاء والدم

يقطر منه، فرأى طيوراً تحت الظلال على الغصون والأشجار، وكلٌّ منهم يذكر الحبّ والعلف والماء،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 39

فقال لهم ذلك الطير المتلطّخ بالدّم: يا ويلكم أتشتغلون بالملاهي وذكر الدنيا والمناهي، والحسين في أرض كربلاء في هذا الحرّ ملقىً على الرمضاء ظامي ء مذبوح ودمه مسفوح، فعادت الطيور كلٌّ منهم قاصداً كربلا، فرأوا سيّدنا الحسين ملقىً في الأرض جثّة بلا رأس، ولا غسل ولا كفن، قد سفت عليه السوافي وبدنه مرضوض قد هشمته الخيل بحوافرها، زوّاره وحوش القفار، وندبته جنّ السهول والأوعار، قد أضاء التراب من أنواره، وأزهر الجوّ من إزهاره.

فلمّا رأته الطيور تصايحن وأعلن بالبكاء والثبور، وتواقعن على دمه يتمرّغن فيه، وطار كلّ واحدٍ منهم إلى ناحية يُعلم أهلها عن قتل أبي عبداللّه الحسين عليه السلام ...». «1»

وروى الخوارزمي بسنده عن المشطاح الورّاق قال: « «سمعتُ الفتح بن سحرف «2» العابد يقول: كنتُ أفتُّ الحَبَّ للعصافير كلّ يوم فكانت تأكل، فلمّا كان يوم عاشوراء فتتتُ لها فلم تأكل، فعلمتُ أنّها امتنعتْ لقتل الحسين بن عليّ عليهما السلام!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 40

تحوّل الورس رماداً! وامتلاء اللحم ناراً ومرارة! ..... ص : 40

روى ابن شهرآشوب عن أحاديث ابن الحاشر قال: «كان عندنا رجل فخرج على الحسين، ثمّ جاء بجمل وزعفران، فكلّما دقّوا الزعفران صار ناراً، فلطخت إمرأته على يديها فصارت برصاء. وقال: ونحر البعير فكلّما جزّوا بالسكّين صار مكانها ناراً! قال: فقطعوه فخرج منه النار! قال: فطبخوه ففارت القدر ناراً!». «1»

وروى ابن عساكر بسنده عن أبي حميد الطحّان قال: «كنت في خزاعة فجاؤا بشي ء من تركة الحسين، فقيل لهم: ننحر أو نبيع فنقسّم؟

قالوا: انحروا. قال: فنحر، فجعل على جفنة، فلمّا وضعت فارت ناراً!». «2»

وعنه أيضاً، بإسناده عن حمّاد بن زيد: حدّثني جميل بن مُرّة قال:

أصابوا إبلًا في عسكر الحسين يوم قُتل، فطبخوا منها، فصارت كالعلقم!». «3»

ونقل الذهبي، عن يحيى بن معين: حدّثنا جرير، عن يزيد بن أبي زياد «4» قال:

قُتل الحسين ولي أربع عشرة سنة، وصار الورس الذي كان في عسكرهم رماداً! واحمرّت آفاق السماء! ونحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 41

النيران!». «1»

وروى سبط ابن الجوزي بسند إلى مروان بن الوصين قال: «نُحرت الإبل التي حُمل عليها رأس الحسين وأصحابه، فلم يستطيعوا أكل لحومها، كانت أمرَّ من الصبر!». «2»

وروى الطبراني بسنده عن ذويد الجعفي، عن أبيه قال: «لمّا قُتل الحسين انتهب جزور من عسكره، فلمّا طُبخت إذا هي دم! فأكفوها». «3»

وقال ابن حجر: «وأخرج أبوالشيخ أنّ الورس الذي كان في عسكرهم تحوّل رماداً، وكان في قافلة من اليمن تريد العراق فوافتهم حين قتله!». «4»

آثار الحزن في العوسجة المباركة! ..... ص : 41

روى الزمخشري، عن هند بنت الجون أنه: نزل رسول اللّه صلى الله عليه و آله خيمة خالتي أمّ معبد، «5» فقام من رقدته ودعا بماء فغسل يديه ثمّ تمضمض ومجّ في عوسجة إلى جانب الخيمة، فأصبحنا وهي كأعظم دوحة! وجاءت بثمر كأعظم ما يكون في لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد! ما أكل منها جائع إلّا شبع، ولا ظمآن إلّا روى، ولاسقيم إلّا بري ء! ولا أكل من ورقها بعير إلّا سمن، ولا شاة إلّا درّ لبنها،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 42

فكنّا نسميّها المباركة!

وينتابنا من البوادي، من يستشفي بها ويتزوّد بها، حتّى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها واصفّر ورقها! ففزعنا فما راعنا إلّا نعي رسول اللّه، ثمّ إنها بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوك من أسفلها إلى أعلاها، وتساقط ثمرها وذهبت نضرتها! فما شعرنا إلّا بمقتل أميرالمؤمنين عليّ، فما أثمرت بعد

ذلك، فكنّا ننتفع بورقها، ثمّ أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط! وقد ذبل ورقها! فبينا نحن فزعين إذ أتانا خبر مقتل الحسين، ويبست الشجرة على أثر ذلك وذهبت!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 43

المقصد الأول

الفصل الثاني: الوقائع المتأخّرة عن قتل الامام الحسين عليه السلام ..... ص : 43

صُوَرٌ من عواقب قتلته وأعدائه عليه السلام ..... ص : 43
اشارة

لاشكّ في أنّ كلّ من اشترك في قتل سيّد شباب أهل الجنّة وسلبه ونهبه ابتُلي ببلية في دار الدنيا قبل الآخرة.

روى الخوارزمي في المقتل، عن مينا أنّه قال: «ما بقي من قتلة الحسين أحدٌ لم يُقتل إلّا رُمي ببلاء في جسده قبل أن يموت». «1»

ونقل سبط ابن الجوزي عن الزهري أنه قال: «مابقي منهم أحدٌ إلّا وعوقب في الدنيا، إمّا بالقتل، أو العمى، أو سواد الوجه، أو زوال الملك في مدّة يسيرة». «2»

مصير عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه ..... ص : 43

قُتل عبيداللَّه بن زياد (ل) على يد إبراهيم بن مالك الأشتر (ره) في وقعة الخازر حيث التقاه في ميدان المعركة فضربه ضربة بالسيف شرّقت منها يداه، وغرّبت رجلاه، وكان ذلك في الليل، فلمّا تأكّدوا منه وجدوا أنه عبيداللّه بن زياد نفسه،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 46

فاجتزّوا رأسه، وقال إبراهيم بن مالك: الحمدُ للّه الذي أجرى قتله على يدي. «1»

وبعث إبراهيم بن مالك (ره) برأس عبيداللّه بن زياد لعنه اللّه، ورؤوس الرؤساء من أهل الشام وفي آذانهم رقاع أسمائهم، فقدموا على المختار وهو يتغدّى، فحمد اللّه تعالى على الظفر، فلمّا فرغ من الغداء قام فوطأ وجه ابن زياد بنعله، ثمّ رمى بها إلى غلامه وقال: أغسلها فإنّي وضعتها على وجه نجس كافر. «2»

وروى الخوارزمي بسنده عن عمارة بن عمير قال: «لمّا جيى ء برأس عبيداللّه ابن زياد إلى المختار مع رؤوس أصحابه، نضّدت في المسجد في الرحبة، فانتهيت إلى الناس وهم يقولون: قد جاءت! قد جاءت! فلم أدر؟ فإذا حيّة قد جاءت فتخلّلت الرؤوس حتّى دخلت في منخر عبيداللّه بن زياد! فمكثت هنيئة، ثمّ خرجت فذهبت حتّى تغيّبت، ثمّ قالوا: قد جاءت! قد جاءت! ففعلتْ ذلك أمامي مرتين أو ثلاثاً!

قال أبوعيسى الترمذي: هذا حديث صحيح.».

«3»

«قال أبوعمر البزّاز: كنتُ مع إبراهيم بن مالك الأشتر لمّا لقي عبيداللّه بن زياد- لعنه اللّه- بالخازر، فعددنا القتلى بالقصب لكثرتهم، قيل: كانوا سبعين ألفاً، وصلب إبراهيمُ ابنَ زياد منكّساً، فكأنّي أنظر إلى خصييه كأنّهما جعلان!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 47

مصير عمر بن سعد لعنه اللّه ..... ص : 47

كانت الندامة والحسرة قد أكلت قلب عمر بن سعد لعنه اللّه، لأنّه لم ينل من ابن زياد ما كان يؤمّله من مناصب الدنيا وأطماعها، وخرج من مجلس ابن زياد يريد منزله إلى أهله «وهو يقول في طريقه: ما رجع أحدٌ مثل ما رجعت! أطعتُ الفاسق ابن زياد الظالم ابن الفاجر! وعصيتُ الحاكم العدل! وقطعتُ القرابة الشريفة! وهجره الناس، وكان كلّما مرَّ على ملأ من الناس أعرضوا عنه، وكلّما دخل المسجد خرج النّاس منه، وكلّ من رآه قد سبّه! فلزم بيته إلى أن قُتل!». «1»

وكان المختار (ره) قد أعطى عمر بن سعد الأمان بشرط ألّا يُحدث حدثاً، «2» ولمّا علم عمر بقول المختار فيه عزم على الخروج من الكوفة، فأحضر رجلًا إسمه مالك بن دومة وكان شجاعاً، وأعطاه أربعمائة دينار نفقة لحوائجهما، وخرجا من الكوفة، فلمّا كانا عند حمّام عمر أو نهر عبدالرحمن أطلع عمر صاحبه على نيّته في الهرب خوفاً من المختار، لكنّ صاحبه أقنعه بأنّ المختار أعجز من أن ينال عمر بسوء، وأوحى إليه أنّه أعزّ العرب! فاغترّ بكلامه فرجعا إلى الكوفة، ولمّا علم المختار بخروجه من الكوفة قال: أللّه أكبر! وفينا له وغدر! وفي عنقه سلسلة لو جهد أن ينطلق لما استطاع!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 48

وأرسل عمر إبنه إلى المختار فقال له: أين أبوك؟ قال: في المنزل- ولم يكونا يجتمعان عند المختار، وإذا حضر أحدهما غاب الآخر خوفاً أن يجتمعا فيقتلهما- فقال

حفص: أبي يقول: أتفي لنا بالأمان؟

قال: أجلس! وطلب المختار أباعمرة- وهو كيسان التمّار- فأسرَّ إليه أن اقتل عمر بن سعد، وإذا دخلت عليه وسمعته يقول: يا غُلام! عليَّ بطيلساني، فاعلم أنه يريد السيف، فبادره واقتله!

فلم يلبث أن جاء ومعه رأسه!

فقال حفص: إنّا للّه وإنا إليه راجعون. فقال له: أتعرف هذا الرأس؟ قال: نعم، ولاخير في العيش بعده! فقال: إنّك لاتعيش بعده! وأمر بقتله.

وقال المختار: عمر بالحسين عليه السلام، وحفص بعليّ بن الحسين عليه السلام، ولاسواء، واللّه لاقتلنّ سبعين ألفاً كما قُتل بيحيى بن زكريا عليهم السلام.

وقيل: إنّه قال: لو قتلت ثلاثة أرباع قريش لما وفوا بأنملة من أنامل الحسين عليه السلام. «1»

مصير شمر بن ذي الجوشن لعنه اللّه ..... ص : 48

قال مسلم بن عبداللّه الضبّابي: «كنتُ مع شمر حين هَزَمَنا المختار، فدنا منّا العبد، «2» فقال شمر: أركضوا وتباعدوا لعلّ العبدَ يطمعُ فيّ! فأمعنّا في التباعد عنه،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 49

حتى لحقه العبد فحمل عليه شمر فقتله، ومشى فنزل في جانب قرية إسمها الكلتانيّة «1» علئ شاطى ء نهر إلى جانب تلّ، ثمّ أخذ من القرية علجاً فضربه، ودفع إليه كتاباً، وقال: عجّل به إلى مصعب بن الزبير .. فمشى العلج حتّى دخل قرية فيها أبوعمرة بعثه المختار إليها في أمرٍ ومعه خمسمائة فارس، فأقرأ الكتاب رجلًا من أصحابه، وقرأ عنوانه، فسأل عن شمر وأين هو؟ فأخبره أنّ بينهم وبينه ثلاثة فراسخ .. قال مسلم بن عبداللّه: قلت لشمر: لو ارتحلت من هذا المكان فإنّا نتخوّف عليك! قال: ويلكم أكُلُّ هذا الجزع من الكذّاب!؟- واللّه- لابرحت فيه ثلاثة أيّام! فبينما نحن في أوّل النوم إذ أشرفت علينا الخيل من التلّ وأحاطوا بنا، وهو عريان مُتّزرٌ بمنديل، فانهزمنا وتركناه!

فأخذ سيفه ودنا منهم .. فلم يكُ

بأسرع أن سمعنا: قُتل الخبيث! قتله أبوعمرة، وقتل أصحابه.

ثم جيي ء بالرؤوس إلى المختار، فخرّ ساجداً، ونُصبت الرؤوس في رحبة الحذّائين، حذاء الجامع.». «2»

مصير سنان بن أنس لعنه اللّه ..... ص : 49

«وهرب سنان بن أنس لعنه اللّه إلى البصرة فهدم داره، ثمّ خرج من البصرة نحو القادسيّة، وكان عليه عيون، فأخبروا المختار، فأخذه بين العُذيب والقادسيّة، فقطّع أنامله ثمّ يديه ورجليه، وأغلى زيتاً في قدر وألقاه فيه». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 50

مصير خولي بن يزيد الأصبحي لعنه اللّه ..... ص : 50

«ثمّ بعث أباعمرة، فأحاط بدار خولّي بن يزيد الأصبحي، وهو حامل رأس الحسين عليه السلام إلى عبيداللّه بن زياد، فخرجت امرأته إليهم وهي النوّار ابنة مالك- كما ذكر الطبري في تأريخه- وقيل: إسمها العيّوف، وكانت محبّة لأهل البيت عليهم السلام، قالت: لا أدري أين هو!؟ وأشارت بيدها إلى بيت الخلاء! فوجدوه وعلى رأسه قوصرة، «1» فأخذوه وقتلوه، ثمّ أمر بحرقه.». «2»

مصير حكيم بن الطفيل السنبسي لعنه اللّه ..... ص : 50

«ثمّ بعث عبداللّه بن كامل إلى حكيم بن الطفيل السنبسي، وكان قد أخذ سلب العبّاس ورماه بسهم، فأخذوه قبل وصوله إلى المختار، ونصبوه هدفاً، ورموه بالسهام.». «3»

مصير حرملة بن كاهل لعنه اللّه ..... ص : 50

«حدّث المنهال بن عمرو قال: دخلت على زين العابدين عليه السلام أودّعه وأنا أريد الإنصراف من مكّة، فقال: يا منهال! ما فعل حرملة بن كاهل!؟ وكان معي بشر بن غالب، فقلت: هو حيٌّ بالكوفة!

فرفع يديه وقال: أللّهمّ أذقه حَرَّ الحديد، أللهمّ أذقه حَرَّ الحديد، أللهمّ أذقه حرَّ النار!

قال المنهال: وقدمت إلى الكوفة والمختار بها فركبت إليه، فلقيته خارجاً من داره، فقال: يا منهال! ألمْ تشركنا في ولايتنا هذه؟ فعرّفته أنّي كنت بمكّة، فمشى حتّى أتى الكناس، ووقف كأنه ينتظر شيئاً! فلم يلبث أن جاء قوم فقالوا: أبشر أيها

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 51

الأمير فقد أُخذ حرملة! فجي ء به فقال: لعنك اللّه، الحمدُ للّه الذي أمكنني منك! الجزّار، الجزّار! فأُتي بجزّار فأمره بقطع يديه ورجليه، ثمّ قال: النّار النّار!، فأُتي بنار وقصب فأُحرق ..». «1»

مصير بجدل بن سليم لعنه اللّه ..... ص : 51

وكان ممّن سلبوا الإمام عليه السلام، وكانوا قد أتوا المختار به «وعرّفوه أنه أخذ خاتمه وقطع إصبعه! فأمر بقطع يديه ورجليه، فلم يزل ينزف حتّى مات». «2»

مصير الذين وطأوا جسد الإمام عليه السلام بالخيل ..... ص : 51

«قال موسى بن عامر: فأوّل من بدأبه «3» الذين وطأوا الحسين عليه السلام بخيلهم، وأنامهم على ظهورهم، وضرب سكك الحديد في أيديهم وأرجلهم، وأجرى الخيل عليهم حتّى قطّعتهم، وحرّقهم بالنار، ثمّ أخذ رجلين أشتركا في دم عبدالرحمن بن عقيل بن أبي طالب وفي سلبه، كانا في الجبّانة، فضرب أعناقهما، ثمّ أحرقهما بالنار، ثمّ أحضر مالك بن بشير «4» فقتله في السوق.». «5»

مصير عمرو بن صبيح الصيداوي لعنه اللّه ..... ص : 51

«وطلب عمرو بن صبيح الصيداوي «6» فأتوه وهو على سطحه بعدما هدأت

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 52

العيون، وسيفه تحت رأسه، فأخذوه وسيفه، فقال: قبّحك اللّه من سيف! ما أبعدك على قربك! فجي ء به الى المختار، فلمّا كان من الغداة طعنوه بالرماح حتّى مات.». «1»

مصير زيد بن رقاد الجهني لعنه اللّه ..... ص : 52

«وأحضر زيد بن رُقاد فرماه بالنبل والحجارة وأحرقه». «2»

مصير أبجر بن كعب لعنه اللّه ..... ص : 52

قال الخوارزمي: «وقال عبيداللّه بن عمّار: رأيت على الحسين سراويل تلمع ساعة قُتل، فجاء أبجر بن كعب فسلبه وتركه مجرّداً! وذكر محمّد بن عبدالرحمن:

أنّ يدي أبجر بن كعب كانتا تنضحان الدم في الشتاء وتيبسان في الصيف كأنهما عود!». «3»

ويروي الخوارزمي أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «وجد فيه «4» ثلاث وثلاثون طعنة، واربع وثلاثون ضربة، وأخذ سراويله بحير بن عمرو الجرمي فصار

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 53

زمناً مقعداً من رجليه، وأخذ عمامته جابر بن يزيد الأزدي فاعتمّ بها فصار مجذوماً، وأخذ مالك بن نسر الكندي درعه فصار معتوهاً ..». «1»

مصير أحد سالبي الإمام عليه السلام ..... ص : 53

«ورُئي رجل بلا يدين ولارجلين وهو أعمى، يقول: ربّ نجّني من النّار! فقيل له: لم تبق عليك عقوبة وأنت تسأل النجاة من النار؟ قال: إني كنت في من قاتل الحسين بن عليّ في كربلاء، فلمّا قُتل رأيتُ عليه سراويل وتكّة حسنة، وذلك بعدما سلبه الناس، فأردت أن أنتزع التكّة، فرفع يده اليمنى ووضعها على التكّة، فلم أقدر على دفعها فقطعت يمينه! ثمّ أردت انتزاع التكّة، فرفع شماله ووضعها على التكّة، فلم أقدر على دفعها فقطعت شماله، ثمّ هممتُ بنزع السراويل! فسمعت زلزلة فخفت وتركته، فألقى اللّه عليَّ النوم، فنمت بين القتلى، فرأيتُ كأنّ النبيّ محمّداً صلى الله عليه و آله أقبل ومعه عليّ وفاطمة والحسن عليهم السلام، فأخذوا رأس الحسين، فقبّلته فاطمة وقالت: يا بنيّ قتلوك! قتلهم اللّه. وكأنّه يقول: ذبحني شمر، وقطع يدي هذا النائم! وأشار إليَّ.

فقالت فاطمة: قطع اللّه يديك ورجليك وأعمى بصرك وأدخلك النار، فانتبهت وأنا لا أُبصر شيئاً، ثمّ سقطت يداي ورجلاي مني! فلم يبق من دعائها إلّا النار!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 54

وروى الخوارزمي عن أبي عبداللّه غلام الخليل

قال: «حدّثنا يعقوب بن سليمان قال: كنتُ في ضيعتي فصلّينا العتمة، وجعلنا نتذاكر قتل الحسين عليه السلام، فقال رجل من القوم: ما أعان أحدٌ عليه إلّا أصابه بلاءٌ قبل أن يموت. فقال شيخ كبير من القوم: أنا ممّن شهدها، وما أصابني أمرٌ كرهته إلى ساعتي هذه!

وخبا السراج، فقام ليصلحه فأخذته النار! وخرج مبادراً إلى الفرات وألقى نفسه فيه، واشتعل وصار فحمة!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 55

نهب المخيّم الحسيني ..... ص : 55

لم يكتف جلاوزة بني أميّة، أعداء اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله، بعد قتل الإمام عليه السلام بسلبه ورضّ جسده الطاهر بحوافر الخيل، بل جاوزوا المدى فعدوا على المخيم لنهب ما فيه، ولهتك ستر حُرَم رسول اللّه صلى الله عليه و آله بسلب ما عليهن من حليّ وحجاب بصورة فجيعة يندى لها جبين كلّ أبيّ غيور! وما أحسن ما قال اليافعي: «لمّا قُتل السادة الأخيار مال الفجرة الأشرار إلى خيام الحريم المصونة وهتكوا الأستار!». «1»

وقال الدينوري: «ثمّ مال الناس على ذلك الورس الذي كان أخذه من العير، وإلى ما في المضارب فانتهبوه!». «2»

وروى الطبري عن أبي مخنف قائلًا «ومال الناس على نساء الحسين وثقله ومتاعه، فإنْ كانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تُغلب عليه فيُذهب به منها!.». «3»

ويقول السيّد ابن طاووس (ره): «وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول وقرّة عين الزهراء البتول، حتّى جعلوا ينتزعون ملحفة المرأة عن ظهرها، وخرجن بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله وحريمه يتساعدن على البكاء ويندبن لفراق الحماة والأحباء.». «4»

وكان نهب المخيّم بأمرٍ مباشر من عمر بن سعد! قال الاسفراييني: «قال (أي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 56

عمر بن سعد): دونكم الخيام انهبوها! فدخلوا وجعلوا يسلبون ما على الحريم والأطفال من

اللباس! ثمّ قطعوا الخيام بالسيوف، فخرجت أمّ كلثوم وقالت:

يا ابن سعد! اللّه يحكم بيننا وبينك، ويحرمك شفاعة جدّنا ولايسقيك من حوضه كما فعلت بنا وأمرتَ بقتال سبط الرسول، ولم ترحم صبيانه، ولم تشفق على نسائه! فلم يلتفت إليها.». «1»

وكان المبادر لتنفيذ هذا العمل المخزي شمر بن ذي الجوشن! يقول حسام الدين في الحدائق الوردية: «وأقبل شمر بن ذي الجوشن إلى الخيام وأمر بسلب كلّ ما مع النساء، فأخذوا كلّ ما في الخيمة، حتّى أخذوا قرطاً في أذن أمّ كلثوم وخرموا أذنها، وفرغ القوم من القسمة، وضربوا فيها النار!». «2»

وروى الشيخ الصدوق (ره) بسند عن عبداللّه بن الحسن عليهما السلام، عن أمّه فاطمة «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 57

بنت الحسين عليهما السلام قالت: «دخلت الغاغة علينا الفسطاط وأنا جارية صغيرة، وفي رجليّ خلخالان من ذهب، فجعل رجلٌ يفضّ الخلخالين من رجلي وهو يبكي! فقلت: ما يبكيك يا عدوّ اللّه!؟ فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلب إبنة رسول اللّه!

فقلت: لا تسلبني. قال: أخاف أن يجيي ء غيري فيأخذه!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 58

قالت: وانتهبوا ما في الأبنية حتّى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا!». «1»

وقال ابن نما (ره): «ثمّ اشتغلوا بنهب عيال الحسين ونسائه، حتّى تُسلب المرأة مقنعتها من رأسها، أو خاتمها من أصبعها، أو قرطها من أذنها، وحجلها من رجلها، وجاء رجل من سنبس «2» إلى ابنة الحسين عليه السلام وانتزع ملحفتها من رأسها، وبقين عرايا تراوحهنّ رياح النوائب وتعبث بهنّ أكف، قد غشيهنّ القدر النازل، وساورهنّ الخطب الهائل ...». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 59

روى ابن شهرآشوب عن الإمام الرضا عليه السلام أنه قال:

«إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون القتال فيه، فاستُحلّت فيه دماؤنا! وهُتك فيه حُرمتنا! وسبي فيه

ذرارينا ونساؤنا! وأضرمت النيران في مضاربنا! وانتهب ما فيها من ثقلنا!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 60

محاولة قتل الإمام زين العابدين عليه السلام! ..... ص : 60

لاشكّ في أنّ الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليّ بن الحسين عليهما السلام كان حاضراً في كربلاء مع أبيه عليه السلام وكان مريضاً، وهذا ممّا تسالم عليه التاريخ، وكان شمر بن ذي الجوشن قد سعى بعد قتل الإمام الحسين عليه السلام الى قتل البقيّة الباقية من ذريّة الحسين عليه السلام متمثّلة بابنه الإمام زين العابدين عليه السلام، وكان ذلك بأمر صادر عن ابن زياد لعنه اللّه كما صرّح شمر نفسه بهذا. «1»

قال الشيخ المفيد (ره) في كتابه الإرشاد: «قال حميد بن مسلم: فواللّه لقد كنتُ أرى المرأة من نسائه وبناته وأهله تنازع ثوبها عن ظهرها حتّى تُغَلب عليه فيُذهب به منها، ثمّ انتهينا إلى عليّ بن الحسين عليه السلام وهو منبسط على فراش وهو شديد المرض، ومع شمر جماعة من الرجّالة فقالوا له: ألا نقتل هذا العليل؟ فقلت:

سبحان اللّه! أيُقتل الصبيان؟ إنّما هو صبيّ وإنّه لما به! فلم أزل حتّى رددتهم عنه.

وجاء عُمر بن سعد فصاح النساء في وجهه وبكين، فقال لأصحابه: لا يدخل أحدٌ منكم بيوت هؤلاء النسوة، ولاتعرّضوا لهذا الغلام المريض.

وسألته النسوة ليسترجع ما أُخذ منهنّ ليتستّرن به فقال: من أخذ من متاعهنّ شيئاً فليردّه عليهن!

فواللّه ما ردّ أحدٌ منهم شيئاً، فوكّل بالفسطاط وبيوت النساء، وعليّ بن الحسين، جماعة ممّن كانوا معه وقال: إحفظوهم لئلّا يخرج منهم أحد، ولاتُسيئُنّ إليهم!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 61

وروى ابن سعد في طبقاته قائلًا: «وكان عليّ بن الحسين الأصغر مريضاً نائماً على فراش، فقال شمر بن ذي الجوشن الملعون: أقتلوا هذا! فقال له رجل من أصحابه: سبحان اللّه! أتقتل فتىً حدثاً

مريضاً لم يقاتل!؟

وجاء عمر بن سعد فقال: لا تعرضوا لهؤلاء النسوة ولا لهذا المريض!». «1»

وذكر القرماني في كتابه أخبار الدول قائلًا: «وهمّ شمر الملعون- عليه ما يستحقّ من اللّه- بقتل عليّ الأصغر ابن الحسين وهو مريض، فخرجت إليه زينب بنت عليّ وقالت: واللّه لايُقتل حتى أُقتل!». «2»

وفي روضة الصفا: «فلمّا وصل شمر- لعنه اللّه- إلى الخيمة التي كان عليّ بن الحسين عليهما السلام فيها مُتّكئاً سلّ سيفه ليقتله، قال حميد بن مسلم: سبحان اللّه! أيُقتل هذا المريض!؟ لاتقتله!

وقال بعضهم: إنّ عمر بن سعد أخذ بيديه وقال: أما تستحيي من اللّه تريد أن تقتل هذا الغلام المريض!؟ قال شمر: قد صدر أمر الأمير عبيد اللّه أن أقتل جميع أولاد الحسين. فبالغ عمر في منعه حتّى كفّ عنه، فأمر بإحراق خيام أهل بيت المصطفى!». «3»

وفي تذكرة الخواص، عن الواقدي قال: «وإنّما استبقوا عليّ بن الحسين لأنّه لمّا قُتل أبوه كان مريضاً، فمرّ به شمر فقال: اقتلوه! ثمّ جاء عمر بن سعد فلمّا رآه قال: لاتتعرّضوا لهذا الغلام! ثمّ قال لشمر: ويحك من للحرم؟». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 62

إشارة ..... ص : 62

تؤكّد جميع الروايات التي تتناول الحديث في حالة الإمام زين العابدين عليه السلام في كربلاء على أنّه كان مريضاً، ولم يرد في المصادر التاريخية إلى أي فترة استمرّ به هذا المرض، لكنّ المستفاد من بعض الإشارات التاريخية أنه عليه السلام كان لم يزل مريضاً ناحلًا ضعيفاً حتّى في الشام.

وقد ذهب بعضهم إلى أنّه قد أصيب بعين فمرض، كما ذهب إلى ذلك أحمد ابن حنبل حيث زعم- على ما ذكره ابن شهرآشوب- أنّه عليه السلام كان أُلبس درعاً ففضل عنه، فأخذ الفضلة بيده ومزّقه فصار سبباً لمرضه! «1»

واستبعد ذلك آخرون،

وقالوا إنّ الأمر أهمّ وأعظم ممّا ذهب إليه ابن حنبل، إذ إنَّ إرادة الباري تعالى تعلّقت بضرورة بقائه عليه السلام بعد أبيه عليه السلام لأنّه من مصاديق «بقيّة اللّه»، وحلقة من حلقات سلسلة الإمامة المباركة، فشاء اللّه تعالى أنّ يكون مريضاً تلك الأيام حتّى يسقط عنه الجهاد بين يدي أبيه، ليحفظ بذلك، ولتحفظ به سلسلة الإمامة الكبرى. «2»

ولامنافاة بين أن يكون لمنشأ مرضه سببُ في الخارج، وبين أن تكون الغاية من مرضه حفظ سلسلة الإمامة، فالأمور بأسبابها.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 63

ونريد هنا أن ننبّه إلى أنّ مرضه عليه السلام وإن كان سبباً مساعداً في انصراف الأعداء عن قتله لأنهم كانوا يرونه قاب قوسين من أجله لما به من شدّة المرض! لكنّ مرضه عليه السلام لم يكن السبب الرئيس في انصرافهم عن قتله، بل كان السبب الرئيس في حفظه من القتل ذلك الموقف الفدائي العظيم الذي قامت به عمّته زينب عليها السلام، حيث تعلّقت به وقالت مخاطبة شمراً: «حسبك من دمائنا! واللّه لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه!». «1»

وقد تكرّر منها عليها السلام هذا الموقف الفدائي العظيم في الكوفة في قصر عبيداللّه ابن زياد لعنه اللّه، حيث طرحت نفسها على ابن أخيها عليهما السلام وقالت: «لايُقتل حتّى تقتلوني! ...». «2»

وهنا ينبغي أيضاً أن ننبّه إلى أننا نشكُّ شكّاً قويّاً في الدور الإيجابي الذي صوَّره حميد بن مسلم لنفسه في الذود عن حياة الإمام زين العابدين عليه السلام وفي صرف شمر بن ذي الجوشن عن قتله- بل يمتدّ شكّنا إلى جميع الأدوار الإيجابيّة الأخرى التي رسمها حُميد بن مسلم لنفسه- على ما ورد في روايات ابن جرير الطبري في تأريخه، وفي تواريخ الذين أخذوا عنه بلا تدبّر!

ذلك

لأنّ حميد بن مسلم الأزدي هذا كان منتمياً انتماءً صريحاً إلى معسكر عمر بن سعد يوم عاشوراء! ويتضح من مجموع رواياته أنّه كان وجيهاً من وجهاء هذا المعسكر معروفاً عند قادته وقريباً منهم! ويكفي في الدلالة على هذا أنّه وخولّي بن يزيد الأصبحي حملا رأس الإمام عليه السلام إلى ابن زياد «3» بتكليف من عمر

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 64

بن سعد! ثمّ إنّ جميع الأدوار الإيجابيّة- إذا صحّ هذا الإطلاق- التي ظاهرها أنه تأثر لأهل البيت عليهم السلام أو دفع عنهم شرّاً، إنّما رويت من طريقه هو وهذا ما يدعو- على الأقلّ- إلى التحفظّ عن تصديقها، وإلى التأمّل فيها.

ثم أُحرقت الخيام! ..... ص : 64

قال السيّد ابن طاووس (ره): «ثمّ أخرجوا النساء من الخيمة، وأشعلوا فيها النّار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة ...». «1»

وقال ابن نما (ره): «وخرج بنات سيّد الأنبياء وقرّة عين الزهراء حاسرات مبديات للنياحة والعويل، يندبن على الشباب والكهول، وأُضرمت النار في الفسطاط فخرجن هاربات، وهنّ كما قال الشاعر:

فترى اليتامى صارخين بعولة تحثوا التراب لفقد خير إمام

وبقين ربّات الخدور حواسراً يمسحن عرض ذوائب الأيتام

وترى النساء أراملًا وثواكلًا يبكين كُلَّ مهذّب وهُمام.». «2»

ولايخفى أن جميع الخيام قد أُضرمت فيها النار، بدليل قول الإمام الرضا عليه السلام «وأُضرمت في مضاربنا النّار»، «3»

لكنّ الظاهر أنّ هذا الفسطاط الذي كنّ النسوة والأطفال فيه جميعاً مع الإمام زين العابدين عليه السلام هو آخر الخيام التي أُحرقت بعد إخراجهم منه.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 65

جائزة سنان بن أنس ..... ص : 65

ذكر الطبري أنّ الناس قالوا لسنان بن أنس: «1» قتلت حسين بن عليّ، وابن فاطمة ابنة رسول اللّه! قتلتَ أعظم العرب خطراً! جاء إلى هؤلاء يريد أن يزيلهم عن ملكهم! فأتِ أمراءك فاطلب ثوابك منهم، لو أعطوك بيوت أموالهم في قتل الحسين كان قليلًا!

فأقبل على فرسه، وكان شجاعاً شاعراً، وكانت به لوثة، فأقبل حتّى وقف على باب فسطاط عمر بن سعد، ثمّ نادى بأعلى صوته:

أَوْقِر ركابي فضّة أوذهبا أنا قتلت الملك المحجّبا

قتلتُ خير الناس أُمّاً وأبا وخيرهم إذ يُنسبون نسبا

فقال عمر بن سعد: أشهد إنك لمجنون ما صححت قطّ! أدخلوه عليَّ.

فلمّا أُدخل حذفه بالقضيب، ثمّ قال: يا مجنون! أتتكلّم بهذا الكلام!؟ أما واللّه لو سمعك ابن زياد لضرب عنقك!. «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 66

رؤوس الشهداء ..... ص : 66

إنّ واقعة حمل رأس سبط رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسائر الرؤوس الطاهرة جريمة أخرى من الجرائم الفظيعة التي شهدتها كربلاء، هذه الجريمة التي كشفت نقاباً آخر عن خبث سريرة النظام الأموي!

فقد ذكرت نصوص تاريخية معتمدة أنّ أعداء اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله بعدما قتلوا الإمام الحسين عليه السلام في اليوم العاشر من المحرم، بعثوا برأسه إلى عبيداللّه بن زياد من ساعته، فقد ذكر الدينوري أنّ عمر بن سعد بعث برأس الحسين من ساعته إلى عبيداللّه بن زياد مع خولّي بن يزيد الأصبحي. «1»

قال الشيخ المفيد (ره): «وسرّح عمر بن سعد من يومه ذلك- وهو يوم عاشوراء- برأس الحسين عليه السلام مع خولّي بن يزيد، وحميد بن مسلم الأزدي، إلى عبيد اللّه بن زياد، وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فنظّفت، وكانت إثنين وسبعين رأساً، وسرّح بها مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو

بن الحجّاج، فأقبلوا حتّى قدموا بها على ابن زياد». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 67

وخبر المفيد والطبري مشعرٌ بأنّ رؤوس بقية الشهداء عليهم السلام- بعد رأس الإمام عليه السلام- كانت أيضاً قد سبقت الركب الحسيني إلى الكوفة.

لكن بعض النصوص التأريخية الأخرى تفيد أنّ رؤوس بقيّة الشهداء عليهم السلام قد رافقت الركب الحسيني الى الكوفة، يقول الدينوري: «وأقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين عليه السلام يومين، ثمّ أذّن في الناس بالرحيل، وحُملت الرؤوس على اطراف الرماح!». «1»

الأجساد الطاهرة ..... ص : 67

بقي جسد الإمام الحسين عليه السلام مع أجساد الشهداء الآخرين من أهل بيته وأصحابه عليه السلام في العراء لا تُوارى، تصهرها حرارة الشمس، وتسفّ عليها الرياح السوافي، وكان اللعين عمر بن سعد قد دفن القتلى من جيشه وصلّى عليهم، وترك جسد الإمام عليه السلام وأجساد أنصاره صلوات اللّه عليهم أجمعين.

ويظهر من بعض المتون التأريخية أنّ النساء في الركب الحسيني قد مررن على الجثث الطواهر بعد إحراق المخيم، يقول: السيّد ابن طاووس: «ثُمَّ أخرجوا النساء من الخيمة وأشعلوا فيها النار، فخرجن حواسر مسلّبات حافيات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة، وقلن: بحقّ اللّه إلّا ما مررتم بنا على مصرع الحسين! فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن، قال: فواللّه لا أنسى زينب إبنة عليّ وهي تندب الحسين عليه السلام وتنادي بصوت حزين وقلب كئيب:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 68

وامحمّداه صلّى عليك مليك السماء، هذا حسينٌ بالعراء! مرمَّلٌ بالدماء! مقطّع الأعظاء! واثكلاه! وبناتك سبايا! إلى اللّه المشتكى وإلى محمّدٍ المصطفى وإلى عليٍّ المرتضى وإلى فاطمة الزهراء وإلى حمزة سيّد الشهداء!

وامحمّداه! وهذا حسينٌ بالعراء! تسفي عليه ريح الصبا! قتيل أولاد البغايا!

واحزناه! واكرباه عليك يا أبا عبداللّه! اليوم مات جدّي رسول اللّه!

يا أصحاب محمّد! هؤلاء ذريّة المصطفى يساقون سوق السبايا!!

وفي بعض الروايات:

وامحمّداه! بناتك سبايا! وذرّيتك مقتّلة تسفي عليهم ريح الصبا! وهذا حسينٌ محزوز الرأس من القفا! مسلوب العمامة والرداء! بأبي من أضحى عسكره في يوم الإثنين نهبا! بأبي من فسطاطه مقطّع العرى! بأبي من لاغائب فيرتجى، ولاجريح فيداوى! بأبي من نفسي له الفداء! بأبي المهموم حتّى قضى! بأبي العطشان حتّى مضى! بأبي من يقطر شيبه بالدماء! يابن علي المرتضى، يابن خديجة الكبرى، يابن فاطمة الزهراء سيدة النساء، ...

بأبي من جدّه رسول إله السماء! بأبي من هو سبط نبيّ الهدى! بأبي محمّد المصطفى! بأبي من رُدَّت عليه الشمس حتّى صلّى!

قال الراوي: فأبكت واللّه كلَّ عدوٍّ وصديق. «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 69

ثمّ إنّ سكينة اعتنقت جسد الحسين! فاجتمع عدّة من الأعراب حتّى جرّوها عنه!» «1»

ويقول قُرّة بن قيس التميمي: «2» «نظرتُ إلى النسوة لمّا مررن بالحسين، صحن ولطمن خدودهنّ، فاعترضتهن على فرس! فما رأيت منظراً من نسوة أحسن منهنّ!!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 70

الساعات الأخيرة من يوم عاشوراء ..... ص : 70

قال السيّد الأجلّ ابن طاووس (ره): «إعلم أنّ أواخر النهار يوم عاشوراء كان اجتماع حرم الحسين عليه السلام وبناته وأطفاله في أسر الأعداء، مشغولين بالحزن والهموم والبكاء، وانقضى عليهم آخر ذلك النهار وهم فيما لايحيط به قلبي من الذلّ والإنكسار، وباتوا تلك الليلة فاقدين لحماتهم ورجالهم، وغرباء في إقامتهم وترحالهم، والأعداء يبالغون في البراءة منهم والإعراض عنهم وإذلالهم، ليتقرّبوا بذلك إلى المارق عمر بن سعد مؤتم أطفال محمّد صلى الله عليه و آله ومُقرح الأكباد، وإلى الزنديق عبيداللّه بن زياد، وإلى الكافر يزيد بن معاوية رأس الإلحاد والعناد.». «1»

الليلة الحادية عشرة ..... ص : 70

يقول الأديب المؤرّخ المحقّق المرحوم السيّد عبدالرزاق المقرّم:

«يالها من ليلة مرّت على بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعد ذلك العزّ الشامخ الذي لم يفارقهن منذ أوجد اللّه كيانهن! فلقد كنّ بالأمسِ في سرادق العظمة وأخبية الجلالة، يشع نهارها بشمس النبوّة، ويضي ء ليلها بكواكب الخلافة ومصابيح أنوار القداسة! وبقين في هذه الليلة في حلك دامسٍ من فقد تلك الأنوار الساطعة بين رحل منتهب، وخباء محترق، وفَرَقٍ سائد، وحماة صرعى، ولامحام لهنّ ولا كفيل!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 71

لايدرين من يدفع عنهنّ إذا دهمهنّ داهم!؟ ومن الذي يردّ عادية المرجفين!؟

ومن يسكّن فورة الفاقدات ويخفّف من وجدهن!؟

نعم! كان بينهن صراخ الصبية، وأنين الفتيات، ونشيج الوالهات، فأُمُّ طفل فطمته السهام! وشقيق مستشهد! وفاقدة ولد! وباكية على حميم! وإلى جنبهنّ أشلاء مبضّعة! وأعضاء مقطّعة! ونحور دامية! وهنّ في فلاة من الأرض جرداء ...

وعلى مطلع الأكمة جحفل الغدر تهزّهم نشوة الفتح وطيش الظفر ولؤم الغلبة!

وعلى هذا كلّه لايدرين بماذا يندلع لسان الصباح؟ وبماذا ترتفع عقيرة المنادي؟ أبالقتل أم بالأسر!؟ ولامن يدفع عنهنّ غير الإمام (العليل) الذي لايملك لنفسه نفعاً ولايدفع

ضرّاً، وهو على خطر من القتل!!

لقد عمَّ الإستياء في هذه الليلة عالم الملك والملكوت! وللحور في غُرف الجنان صراخ وعويل! وللملائكة بين أطباق السماوات نشيج ونحيب! وندبته الجنّ في مكانها.». «1»

هاتفٌ من الجنّ ينعى الإمام عليه السلام ليلة الحادي عشر ..... ص : 71

روى الشيخ المفيد (ره) في أماليه عن المحفوظ بن المنذر قال: حدّثني شيخ من بني تميم كان يسكن الرابية قال: سمعت أبي يقول: ما شعرنا بقتل الحسين عليه السلام حتّى كان مساء ليلة عاشوراء! «2» فإني لجالسٌ بالرابية ومعي رجل من الحيّ فسمعنا هاتفاً يقول:

واللّهِ ما جئتكم حتّى بصرتُ به بالطفّ منعفر الخدّينِ منحورا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 72

وحوله فتيةٌ تدمى نحورهمُ مثل المصابيح يعلون الدُجى نورا

وقد حثثتُ قلوصي كي أصادفهم من قبل أنْ يُلاقوا الخُرَّدَ الحورا

فعاقني قدرٌ واللّه بالغُهُ وكان أمراً قضاه اللّه مقدورا

كان الحسين سراجاً يُستضاء به اللّه يعلمُ أنّي لم أقل زورا

صلّى إلاله على جسمٍ تضمّنه قبر الحسين حليف الخير مقبورا

مجاوراً لرسول اللّه في غُرفٍ وللوصيّ وللطيّار مسرورا

فقلنا له: من أنت يرحمك اللّه؟

قال: أنا وأبي من جنّ نصيبين، «1» أردنا مؤازرة الحسين ومواساته بأنفسنا فانصرفنا من الحجّ فأصبناه قتيلًا!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 73

اليوم الحادي عشر من المحرّم ..... ص : 73

إتفق المؤرخون على أنّ عمر بن سعد لم يخرج عن كربلاء في اليوم العاشر من المحرّم، بل بقي حتّى اليوم الحادي عشر إلى الزوال، فجمع قتلاه وصلّى عليهم، وترك قرّة عين الزهراء البتول عليها السلام مطروحاً على أرض كربلاء مع بقية الشهداء من أهل بيته وصحبه الكرام عليهم السلام بلاغسل ولاكفن!

كيف حمل ابن سعد بقيّة الركب الحسينيّ إلى الكوفة!؟ ..... ص : 73

يقول السيد ابن طاووس (ره): «وأقام ابن سعد بقيّة يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس، ثمّ ارتحل بمن تخلّف من عيال الحسين عليه السلام، وحمل نساءه على أحلاس أقتاب الجمال بغير وطاء ولا غطاء! مكشّفات الوجوه بين الأعداء وهنّ ودائع خير الأنبياء! وساقوهنّ كما يُساق سبي الترك والروم في أسر المصائب والهموم». «1»

وقال ابن أعثم الكوفي: «وساق القوم حُرَم رسول اللّه من كربلاء كما تُساق

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 74

الأسارى!». «1»

أمّا الطبري فقال: «وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثمّ أمر حميد بن بكير الأحمري، فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من الصبيان، وعليّ بن الحسين مريض.». «2»

لكنّ الدينوري في هذا الصدد كان قد ذكر أمراً شاذّاً غريباً خلافاً للمشهور حين ذكر أنّ ابن سعد كان قد حمل نساء الحسين عليه السلام وحشمه في المحامل المستورة على الإبل!، يقول الدينوري: «وأقام عمر بن سعد بكربلاء بعد مقتل الحسين يومين، ثمّ أذّن في الناس بالرحيل، وحُملت الرؤوس على أطراف الرماح! .. وأمر عمر بن سعد بحمل نساء الحسين وأخواته وبناته وجواريه وحشمه في المحامل المستورة على الإبل! وكانت بين وفاة رسول اللّه صلى الله عليه و آله وبين قتل الحسين خمسون عاماً.». «3»

مرور الركب الحسينيّ على مصارع الشهداء عليه السلام ..... ص : 74

قال السيّد محمّد بن أبي طالب (ره): «ثمّ أذّن ابن سعد بالرحيل إلى الكوفة، وحمل بنات الحسين وأخواته وعليَّ بن الحسين وذراريهم، فأُخرجوا حافيات حاسرات مسلّبات باكيات يمشين سبايا في أسر الذلّة!

فقلن: بحقّ اللّه! ما نروح معكم ولو قتلتمونا إلّا ما مررتم بنا على مصرع الحسين!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 75

فأمر ابن سعد لعنه اللّه ليمرّوا بهم من المقتل حتّى رأين إخوانهن وأبناءهنّ وودّعنهم.

فذهبوا بهنّ إلى

المعركة، فلمّا نظر النسوة إلى القتلى صحن وضربن وجوههن ..». «1»

وقال ابن الأثير: «... فاجتازوا بهنّ على الحسين وأصحابه صرعى، فصاح النساء ولطمن خدودهنّ وصاحت زينب أخته:

يا محمّداه! صلّى عليك ملائكة السماء، هذا الحسين بالعراء! مزّمل بالدماء! مقطّع الأعضاء! وبناتك سبايا! وذريّتك مقتّلة تسفي عليها الصبا! فأبكت كلّ عدوّ وصديق.». «2»

وقال الإسفرائيني: «فأمر ابن سعد أن تؤخذ النساء عن جسد الحسين بالرغم عنهن! فحملوا على أقتاب الجمال بغير غطاء ولاوطاء! مكشوفات الوجوه بين الأعداء! وساقوهم كما تُساق سبايا الروم في شرّ المصائب والهموم ...». «3»

لكنّ بعض المتون تصرّح بأنهم جاءوا بالنساء على مصارع الشهداء عليهم السلام ومرّوا بهنّ عليهم قسراً وعناداً لابطلب وإصرار منهنّ!

فقد «روي عن عبداللّه بن إدريس، عن أبيه: أنّهم قد جاءوا بالنساء عناداً وعبروهنّ على مصارع آل الرسول صلى الله عليه و آله، فلمّا نظرت أُم كلثوم أخاها الحسين تسفي عليه الرياح! وهو مكبوب! وقعت من أعلى البعير إلى الأرض وحضنت أخاها وهي تقول ببكاء وعويل:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 76

يا رسول اللّه! أنظر إلى جسد ولدك ملقى على الأرض بغير دفن! كفنه الرمل السافي عليه! وغسله الدّم الجاري من وريديه! وهؤلاء أهل بيته يُساقون أُسارى في أسر الذلّ! ليس لهم من يمانع عنهم! ورؤوس أولاده مع رأسه الشريف «1» على الرماح كالأقمار!

يا محمّد المصطفى هذه بناتك سبايا وذرّيتك مقتّلة!

فما زالت تقول هذا القول ونحو هذا، فأبكت كلّ صديق وعدوّ! حتّى رأينا دموع الخيل تتقاطر على حوافرها! وساروا بها وهي باكية حزينة لاترقأ لها دمعة ولاتبطل لها حسرة!». «2»

القبائل تتنافس على حمل الرؤوس إلى ابن زياد ..... ص : 76

قال السيّد محمّد بن أبي طالب: «روي أنَّ رؤوس أصحاب الحسين عليه السلام وأهل بيته كانت ثمانية وسبعين رأساً، واقتسمتها القبائل ليتقرّبوا بذلك إلى

عبيداللّه بن زياد ويزيد». «3»

وروى البلاذري عن أبي مخنف أنه: «لما قُتل الحسين جي ء برؤوس من قُتل معه من أهل بيته وأصحابه إلى ابن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً، وصاحبهم قيس بن الأشعث، «4» وجاءت هوازن بعشرين رأساً، وصاحبهم شمر بن ذي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 77

الجوشن، وجاءت بنوتميم بسبعة عشر رأساً، وجاءت بنوأسد بستة عشر رأساً،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 78

وجاءت مذحج بسبعة أرؤس، وجاء سائر قيس بتسعة أرؤس.». «1»

وقال الدينوري: «وحُملت الرؤوس على أطراف الرماح! وكانت إثنين وسبعين رأساً، جاءت هوازن منها بإثنين وعشرين رأساً، وجاءت تميم بسبعة عشر رأساً مع الحصين بن نمير، «2» وجاءت كندة بثلاثة عشر رأساً مع قيس بن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 79

الأشعث، وجاءت بنو أسد بستّة رؤوس مع هلال الأعور، وجاءت الأزد بخمسة رؤوس مع عهيمة بن زهير، وجاءت ثقيف بإثني عشر رأساً مع الوليد بن عمرو.». «1»

لكنّ الطبري ذكر قصة الرؤوس المقدّسة قائلًا: «وقطف رؤوس الباقين فسرّح بإثنين وسبعين رأساً مع شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجّاج، وعزرة بن قيس، فأقبلوا حتّى قدموا بها على عبيداللّه بن زياد». «2»

إشارة ..... ص : 79

من هنا يُلاحظ المتتبّع أنّ هناك أختلافاً بين المصادر التأريخية في صدد متى أُخذت بقيّة رؤوس الشهداء عليهم السلام إلى عبيداللّه بن زياد في الكوفة، فمنها من يصرّح أُخذت إلى الكوفة بعد رأس الإمام عليه السلام وقبل بقيّة الركب الحسيني، برفقة شمر بن ذي الجوشن، وقيس بن الأشعث، وعمرو بن الحجّاج، وعزرة بن قيس، وهؤلاء

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 80

أيضاً من قبائل مختلفة!.

ومنها من يصرّح بأنّ هذه الرؤوس المقدّسة أُخذت إلى الكوفة برفقة بقيّة الركب الحسيني، وكانت القبائل قد تنافست على السهم الأعظم منها!

كما أنّ المصادر

التأريخية قد اختلفت أيضاً في مجموع عدد هذه الرؤوس الشريفة، فمنها من صرّح بأنها ثمانية وسبعون رأساً كما مرَّ، ومنها من صرّح بأنها إثنان وتسعون رأساً، «1» أو سبعون رأساً، «2» ولايبعد هذا القول إذا عُلِمَ أنّ عشيرة الحرّ ابن يزيد الرياحي (رض) منعت من قطع رأسه، كذلك رأس الطفل الرضيع عبداللّه عليه السلام لأنّ الإمام عليه السلام- على رواية- قد دفنه.

لكنّ أشهر هذه الأقوال هو أنّ عدد هذه الرؤوس المقدّسة إثنان وسبعون. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 81

المقصد الثاني ..... ص : 81

اشارة

وهو يشتمل على وقائع الطريق حتى ورود الركب الحسيني أرض الشام. ويكون على فصلين:

الفصل الأول: الركب الحسينيّ في الكوفة ..... ص : 81

الرأس المقدّس يسبق الركب إلى الكوفة ..... ص : 81

مرَّ بنا أنّ الطبري من المؤرّخين الذين رووا أنّ عمر بن سعد أرسل برأس الإمام عليه السلام- بعد قتله مباشرة- مع خولّي بن يزيد وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيداللّه ابن زياد، لكنّه حينما يواصل روايته «1» يقول: «فأقبل به خولّي فأراد القصر فوجد باب القصر مغلقاً، فأتى منزله «2» فوضعه تحت أجانة في منزله، وله امرأتان، إمرأة من بني أسد، والأخرى من الحضرميين يُقال لها النوَّار إبنة مالك بن عقرب، وكانت تلك الليلة ليلة الحضرميّة.

قال هشام: فحدّثني أبي، عن النوّار بنت مالك قالت: أقبل خوّلي برأس الحسين فوضعه تحت أجانة في الدار، ثمّ دخل البيت فأوى إلى فراشه، فقلت له:

ما الخبر عندك؟ قال: جئتك بغنى الدهر! هذا رأس الحسين معك في الدار! قالت:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 84

فقلت: ويلك جاء الناس بالذهب والفضّة وجئت برأس ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله! لا واللّه لايجمع رأسي ورأسك بيتٌ أبداً!

قالت: فقمت من فراشي فخرجت إلى الدار، فدعا الأسدية فأدخلها إليه، وجلستُ انظر، قالت: فواللّه ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الأجانة! ورأيتُ طيراً بيضاً ترفرف حولها!

قال: فلمّا أصبح غدا بالرأس إلى عبيداللّه بن زياد ..». «1»

أمّا السيّد هاشم البحراني فيقول: «إنّ عبيداللّه بن زياد لعنه اللّه بعدما عرض عليه رأس الحسين عليه السلام، دعا ب خولّي بن يزيد الأصبحي وقال له: خذ هذا الرأس حتّى أسألك عنه. فقال: سمعاً وطاعة. فأخذ الرأس وانطلق به إلى منزله، وكان له امرأتان، إحداهما ثعلبى ة، والأخرى مضرية، فدخل على المضريّة فقالت: ما هذا؟! فقال: هذا رأس الحسين بن عليّ وفيه ملك

الدنيا!

فقالت له: أبشر! فإنّ خصمك غداً جدّه محمّد المصطفى!

ثم قالت: واللّه لاكنت لي ببعل، ولا أنا لك بأهل! ثمّ أخذت عموداً من حديد وأوجعت به دماغه!

فانصرف من عندها وأتى به إلى الثعلبية فقالت: ما هذا الرأس الذي معك؟

قال: هذا رأس خارجيّ خرج على عبيداللّه بن زياد. فقالت: وما اسمه؟ فأبى أن يخبرها ما اسمه، ثمّ تركه على التراب وجعل عليه أجانة.

قال فخرجت امرأته في الليل فرأت نوراً ساطعاً من الرأس إلى عنان السماء! فجاءت إلى الأُجانة فسمعت أنيناً وهو يقرأ! إلى طلوع الفجر! وكان آخر ما قرأ:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 85

«وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون» وسمعت حول الرأس دويّاً كدويّ الرعد! فعلمت أنه تسبيح الملائكة!

فجاءت إلى بعلها وقالت: رأيت كذا وكذا، فأيّ شي ء تحت الأجانة؟

فقال: رأس خارجي، فقتله الأميرعبيداللّه بن زياد، وأريد أن أذهب به إلى يزيد بن معاوية ليعطيني عليه مالًا كثيراً!

قالت: ومن هو؟!

قال: الحسين بن عليّ!

فصاحت وخرّت مغشيّة عليها! فلمّا أفاقت قالت: يا ويلك يا شرَّ المجوس! لقد آذيت محمّداً في عترته! أما خفت من إله الأرض والسماء حيث تطلب الجائزة على رأس ابن سيّدة نساء العالمين!؟

ثمّ خرجت من عنده باكية، فلمّا قامت رفعت الرأس وقبّلته ووضعته في حجرها وجعلت تقبّله وتقول: لعن الله قاتلك، وخصمه جدُّك المصطفى! فلمّا جنّ الليل غلب عليها النوم، فرأت كأنّ البيت قد انشقّ بنصفين وغشيه نور! فجاءت سحابة بيضاء، فخرج منها امرأتان، فأخذتا الرأس من حجرها وبكتا!

قالت: فقلت لهما: باللّه من أنتما؟

قالت إحداهما: أنا خديجة بنت خويلد! وهذه ابنتي فاطمة الزهراء! ولقد شكرناك، وشكر اللّه لك عملك، وأنت رفيقتنا في درجة القدس في الجنّة!

قال فانتبهت من النوم والرأس في حجرها، فلمّا أصبح الصبح جاء بعلها لأخذ

الرأس، فلم تدفعه إليه وقالت: ويلك! طلّقني، فواللّه لا جمعني وإيّاك بيت!

فقال: إدفعي لي الرأس وافعلي ماشئت!

فقالت: لا واللّه لا أدفعه إليك!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 86

فقتلها وأخذ الرأس، فعجّل اللّه بروحها إلى الجنّة في جوار سيّدة النساء.». «1»

منازل الطريق من كربلاء إلى الكوفة «2» ..... ص : 86

لم نجد في المصادر التأريخيّة- في ضوء متابعتنا- ذكراً وتفصيلًا لما جرى على الركب الحسيني في الطريق بين كربلاء والكوفة، غير أنّ هناك خبراً كاشفاً عن أنّ (الحنّانة) كانت أحد هذه المنازل، يقول الشهيد الأوّل (ره): «فإذا نزلت الثويّة، وهي الآن تلٌّ بقرب الحنّانة عن يسار الطريق لمن يقصد من الكوفة إلى المشهد، فصلّ عندها ركعتين، كما روي أنّ جماعة من خواصّ أميرالمؤمنين عليه السلام دُفنوا هناك، وقل ما تقوله عند رؤية القبّة الشريفة، فإذا بلغتَ العَلَمَ وهي الحنّانة فصلّ ركعتين، فقد روى محمّد بن أبي عمير، عن المفضّل قال: جاز الصادق عليه السلام بالقائم المائل في طريق الغريّ فصلّى ركعتين، فقيل له: ما هذه الصلاة؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 87

فقال: هذا موضع رأس جدّي الحسين بن عليّ عليهما السلام، وضعوه هاهنا لمّا توجّهوا من كربلاء، ثمّ حملوه إلى عبيداللّه بن زياد لعنة اللّه عليه ...». «1»

وقال الشيخ محمّد مهدي الحائري: «وقال المرحوم وحيد عصره شيخنا النوري نوَّر اللّه مضجعه: إنّه كان قريباً من النجف الأشرف ميل من الجص والآجر، ويقال له القائم ويسمّونه بالعَلَم، فلمّا قُبض أميرالمؤمنين عليه السلام وجاءوا إلى النجف الأشرف، فلمّا وصلوا إلى العلم والقائم انحنى تعظيماً لأمير المؤمنين كالراكع فسمّوه بالحنّانة، وزيد في شرفه انّه لمّا جي ء برأس الحسين عليه السلام الى الكوفة ووصل هناك وقد مضى من الليل شطره، فوضع اللعين الحامل الرأس المبارك في ذلك المقام، وهذا أوّل منزل نزل به

رأس الحسين عليه السلام في طريق الكوفة، بقي غريباً وحيداً في ذلك المقام، ثمّ بنوا مسجداً في ذلك المكان وسمّي بمسجد الحنّانة، ويستحب فيه الدعاء والزيارة ... وقيل سمّي بالحنانة لأنه لمّا وضع رأس الحسين عليه السلام في ذلك الموضع سُمع من الرأس الشريف حنين وأنين إلى الصباح، واللّه العالم.». «2»

بقيّة الركب الحسينيّ ..... ص : 87

تفاوتت المصادر التأريخية في عدد الباقين من الركب الحسينيّ، وفي أسماء الأسرى منهم حينما أُخذوا من كربلاء إلى الكوفة، فقد قال ابن سعد في طبقاته:

«ولم يفلت من أهل بيت الحسين بن عليّ الذين معه إلّا خمسة نفر، عليّ بن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 88

الحسين الأصغر، وهو أبوبقيّة ولد الحسين بن عليّ اليوم، وكان مريضاً فكان مع النساء، وحسن بن حسن بن عليّ، «1» وله بقيّة، وعمرو بن حسن بن عليّ ولابقيّة له، والقاسم بن عبداللّه بن جعفر، ومحمّد بن عقيل الأصغر، فإنّ هؤلاء استضعفوا فقدم بهم وبنساء الحسين بن عليّ وهنّ: زينب وفاطمة ابنتا عليّ بن أبي طالب، وفاطمة وسكينة ابنتا الحسين بن علي، والرباب بنت أنيف «2» الكلبية امرأة الحسين ابن علي، وهي أمّ سكينة وعبداللّه المقتول إبني الحسين بن علي. وأمّ محمّد بنت حسن بن عليّ امرأة عليّ بن حسين. وموالي لهم ومماليك عبيد وإماء قدم بهم على عبيداللّه بن زياد مع رأس الحسين بن عليّ ورؤوس من قُتل معه رضي اللّه عنه وعنهم.». «3»

وقال الطبري: «وأقام عمر بن سعد يومه ذلك والغد، ثمّ أمر حميد بن بكير الأحمري فأذّن في الناس بالرحيل إلى الكوفة، وحمل معه بنات الحسين وأخواته

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 89

ومن كان معه من الصبيان وعليّ بن الحسين مريض.».»

وفي مقاتل الطالبين: «وحمل أهله أسرى، وفيهم عمرو، وزيد، والحسن بن الحسن

بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، وكان الحسن بن الحسن بن عليّ قد ارتثّ جريحاً، فحُمل معهم، وعليّ بن الحسين الذي أمّه أمّ ولد، وزينب العقيلة، وأمّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وسكينة بنت الحسين ..». «2»

وقال الشيخ عماد الدين الطبرى فى كامل البهائى: «وكنّ جميعهن عشرين نسوة، وكان لزين العابدين في ذلك اليوم إثنان وعشرون سنة، ولمحمّد الباقر أربع، وكانا كلاهما في كربلاء وحفظهما اللّه تعالى». «3»

ويستفاد من (الفائدة الثالثة) التي ذكرها المحقق السماوي في كتابه إبصار العين: أنّ زوجة الشهيد جنادة بن الحرث السلماني (رض) كانت في الركب الحسيني أيضاً، وهي أمُّ الشهيد عمرو بن جنادة (رض) الغلام ذي الإحدى عشرة سنة من العمر، وكذلك كانت عائلة الشهيد مسلم بن عوسجة (رض) «4» في هذا الركب، وأمُّ الشهيد وهب الذي كان نصرانيّاً (رض)، «5» وآخرون قد يكشف عنهم التحقيق الدقيق.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 90

متى دخل الركب الحسينيّ الكوفة؟ ..... ص : 90

أكثر المصادر التأريخيّة تذكر أنّ عمر بن سعد كان قد ارتحل من كربلاء إلى الكوفة في اليوم الحادي عشر بعد الزوال، حاملًا معه بقايا الركب الحسينيّ، وفي ضوء حساب المسافة وسرعة الدوابّ في ذلك العصر، فإنّ الأرجح أنّ عمر بن سعد ومن معه يمسون عند مشارف الكوفة أوّل الليل- أيّ ليلة الثاني عشر- هذا إذا كانوا قد جدّوا السير إلى الكوفة.

من هنا فإن الأرجح أن الركب الحسينيّ قد بات ليلة الثاني عشر في صحبة عسكر ابن سعد في منزل من منازل الطريق القريبة جدّاً من الكوفة أو على مشارفها، والظاهر أنّ عمر بن سعد كان قد دخل الكوفة نهار اليوم الثاني عشر مع عسكره وبقيّة الركب الحسيني أسرى وسبايا، ودخوله الكوفة نهاراً لا ليلًا أمرٌ يقتضيه العامل

الإعلامي، وزهو الإنتصار، والمباهاة بالظفر، في صدر كلّ من ابن زياد وابن سعد واعوانهما، وهناك أيضاً إشارات تأريخية تؤكّد أنّ دخول عمر بن سعد الكوفة كان في النهار، منها:

ما رواه سهل بن حبيب الشهرزوري قال: ... فدخلت الكوفة فوجدت الأسواق معطّلة، والدكاكين مغلّقة، والناس مجتمعون خلقاً كثيراً، حَلَقاً حَلَقاً، منهم من يبكي سرّاً، ومنهم من يضحك جهراً، فتقدّمتُ الى شيخ منهم وقلت له: يا شيخ! ما نزل بكم؟ أراكم مجتمعين كتائب! ألكم عيد لست أعرفه للمسلمين!؟

فأخذ بيدي وعدل بي ناحية عن الناس، وقال: يا سيّدي، مالنا عيد! ثمّ بكى بحرقة ونحيب! فقلت: أخبرني يرحمك اللّه!؟

قال: بسبب عسكرين أحدهما منصور، والآخر مهزوم مقهور!

فقلت: لمن هذان العسكران!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 91

فقال: عسكر ابن زياد وهو ظافر منصور! وعسكر الحسين بن عليّ عليهما السلام وهو مهزوم مكسور!

ثمّ قال: واحرقتاه أن يدخل علينا رأس الحسين!

فما استتمّ كلامه إذ سمعتُ البوقات تضرب، والرايات تخفق قد أقبلت، فمددت طرفي وإذا بالعسكر قد أقبل ودخل الكوفة.». «1»

إعلان حالة الطواري ء القصوى في الكوفة! ..... ص : 91

لمّا وصل إلى ابن زياد خبر عودة جيشه بقيادة عمر بن سعد إلى الكوفة، أمر أن لايحمل أحدٌ من الناس السلاح في الكوفة، كما أمر عشرة آلاف فارس أن يأخذوا السكك والأسواق، والطرق والشوارع، خوفاً من النّاس أن يتحرّكوا حميّة وغيرة على أهل البيت عليهم السلام إذا رأوا بقيّتهم بتلك الحالة من الأسر والسبي، وأمر أن تُجعل الرؤوس في أوساط المحامل أمام النساء، وأن يُطاف بهم في الشوارع والأسواق حتّى يغلب على الناس الخوف والخشية. «2»

كما أمر عبيداللّه بن زياد أن يضعوا الرأس المقدّس على الرمح ويُطاف به في سكك الكوفة وقبائلها، واجتمع مائة ألف إنسان للنظر إليه، منهم من كان يهنّي ء ومنهم من كان

يعزّي!. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 92

كيف استقبلت الكوفة بقيّة الركب الحسينيّ!؟ ..... ص : 92

كانت الكوفة قد خرجت عن بكرة أبيها لتشهد احتفال ابن زياد بمقدم جيشه الظافر في الظاهر! ولتشهد بقايا العسكر الذي قاتله جيش عمر بن سعد، ولتتصفّح وجوه السبايا!

ومن أهل الكوفة من كان يعلم بحقيقة مجرى الأحداث، ويُدرك عِظَم المصاب وفظاعة الجناية التي ارتكبتها الكوفة بالأساس، ويدري أنّ السبايا المحمولين مع عمر بن سعد هم بقيّة آل النبيّ صلى الله عليه و آله، وأنّ الرؤوس المشالات على أطراف الأسنّة هي رؤوس ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأهل بيته وأصحابه، وهم خير أهل الأرض يومذاك، فكان يبكي لعظم الرزيّة!

ومنهم من كان أمويَّ الميل والهوى، أو جاهلًا لم يعلم بحقائق الأحداث، متوهّماً أنّ والي الكوفة وأميرها قد فتح فتحاً جديداً على ثغر من ثغور المسلمين! وجي ء إليه بسبايا من غير المسلمين، فكان يضحك جهراً ويهنّي ء من يلقاه بهذه المناسبة!!.

قال صاحب رياض الأحزان: «وقد مُلئت شوارعها- أي الكوفة- وسككها وأزقّتها من الرجال والنسوان والشيوخ والشبّان والصبايا والصبيان، من الموالي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 93

والمخالف، وحزب الرحمن، وأولياء الشيطان، منهم باك ومنتحب، ومنهم ضاحك وطرب، منهم عارف بالواقعة العظمى وأنها جرت على آل النبيّ محمد صلى الله عليه و آله، ومنهم جاهل غافل عن البلوى». «1»

وروى الشيخ الطوسي بسنده عن حذلم بن ستير «2» قال: «قدمت الكوفة في المحرّم سنة إحدى وستين منصرف عليّ بن الحسين عليهما السلام بالنسوة من كربلاء، ومعهم الأجناد يحيطون بهم، وقد خرج الناس للنظر إليهم، فلمّا أقبل على الجمال بغير وطاء جعل نساء الكوفة يبكين ويلتدمن! «3» فسمعت عليّ بن الحسين عليهما السلام وهو يقول بصوت ضئيل وقد نهكته العلّة، وفي عنقه الجامعة! ويده مغلولة إلى عنقه!:

إنّ هؤلاء النسوة يبكين! فمن قتلنا!؟». «4»

ويقول اليعقوبي في تاريخه: «وحملوهنّ إلى الكوفة، فلمّا دخلن إليها خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين! فقال عليّ بن الحسين: هؤلاء يبكين! فمن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 94

قتلنا!؟». «1»

ويقول ابن أعثم الكوفي: «وساق القوم حرم رسول اللّه من كربلاء كما تساقُ الأسارى! حتّى إذا بلغوا بهم إلى الكوفة خرج الناس إليهم فجعلوا يبكون وينوحون ..». «2»

وقال السيد ابن طاووس (ره): «قال الراوي: فأشرفت امرأة من الكوفيات فقالت: من أيّ الأسارى أنتنّ؟ فقلن: نحن أسارى آل محمد صلى الله عليه و آله!!

فنزلت المرأة من سطحها فجمعت لهنّ ملاء وأُزُراً ومقانع، وأعطتهنّ فتغطّينَ.». «3»

ويصف حاجب عبيد اللّه بن زياد حال الناس ذلك اليوم فيقول: «.. ثمّ أمر بعليّ بن الحسين عليه السلام فغُلَّ، وحمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنت معهم، فما مررنا بزقاق إلّا وجدناه ملاء رجالًا ونساء يضربون وجوههم ويبكون ..!!». «4»

مسلم الجصّاص يصف حال الكوفة يومذاك! ..... ص : 94

قال العلّامة المجلسي (ره): «رأيت في بعض الكتب المعتبرة «5» روى مرسلًا عن مسلم الجصاص قال: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 95

أجصّص الأبواب وإذا أنا بالزعقات «1» قد ارتفعت من جنبات الكوفة!

فأقبلت على خادم كان معنا، فقلت: مالي أرى الكوفة تضجُّ!؟

قال: الساعة أتوا برأس خارجيّ خرج على يزيد.

فقلت من هذا الخارجي!؟

فقال: الحسين بن علي!

قال فتركت الخادم حتّى خرج ولطمتُ وجهي حتّى خشيتُ على عيني أن تذهب! «2» وغسلت يدي من الجصّ، وخرجت من ظهر القصر وأتيتُ إلى الكناس، فبينما أنا واقف والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس، إذ أقبلت نحو أربعين شقّة «3» تُحمل على أربعين جملًا، فيها الحرم والنساء وأولاد فاطمة عليها السلام، وإذا بعليّ ابن الحسين عليه السلام على بعير بغير

وطاء! وأوداجه تشخب دماً! وهو مع ذلك يبكي ويقول:

يا أمّة السوء لاسقياً لربعكم يا أمّة لم تراع جدَّنا فينا

لو أننا ورسول اللّه يجمعنا يوم القيامة ما كنتم تقولونا

تسيّرونا على الأقتاب عارية كأننا لم نشيّد فيكم دينا

بني أميَّة ما هذا الوقوف على تلك المصائب لا تُلبون داعينا «4»

تصفّقون علينا كفّكم فرحاًوأنتم في فجاج الأرض تسبونا أليس جدّي رسول اللّه ويلكم أهدى البريّة من سُبْل المُضلِّينا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 96

يا وقعة الطفّ قد أورثتني حزناًواللّه يهتك أستار المسيئينا

قال: وصار أهل الكوفة يناولون الأطفال الذين على المحامل بعض التمر والخبز والجوز، فصاحت بهم أمُّ كلثوم وقالت: يا أهل الكوفة! إنّ الصدقة علينا حرام! وصارت تأخذ ذلك من أيدي الأطفال وأفواههم وترمي به إلى الأرض.

قال كلّ ذلك والنّاس يبكون على ما أصابهم!

ثمّ إنّ أمَّ كلثوم أطلعت رأسها من المحمل، وقالت لهم:

صهٍ يا أهل الكوفة! تقتلنا رجالكم وتبكينا نساؤكم!؟ فالحاكم بيننا وبينكم اللّه يوم فصل القضاء!

فبينما هي تخاطبهنّ إذا بضجّة قد ارتفعت، فإذاهم أتوا بالرؤوس يقدمهم رأس الحسين عليه السلام، «1» وهو رأسٌ زهريٌّ قمرىٌّ أشبه الخلق برسول اللّه صلى الله عليه و آله، ولحيته كسواد السَّبَج «2» قد انتصل منها الخضاب، ووجهه دارة قمر طالع! والرمح تلعب بها (كذا) يميناً وشمالًا، فالتفتت زينب فرأت رأس أخيها فنطحت جبينها بمقدَّم المحمل، حتّى رأينا الدّم يخرج من تحت قناعها، وأومأت إليه بخرقة وجعلت تقول:

يا هلالًا لمّا استتمَّ كمالا غاله خسفه فأبدى غروبا

ما توهمّت يا شقيق فؤادي كان هذا مُقدَّراً مكتوبا

يا أخي فاطم الصغيرة كلّمها فقد كاد قلبها أن يذوبا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 97

يا أخي قلبك الشفيق علينا ماله قد قسى وصار صليبا؟

يا أخي لو ترى عليّاً لدى الأسر مع اليتم لا يطيق

وجوبا

كلّما أوجعوه بالضرب نادا ك بذلّ يُغيض دمعاً سكوبا

يا أخي ضمّه إليك وقرّبه وسكّن فؤاده المرعوبا

ما أذلّ اليتيم حين ينادي بأبيه ولايراه مجيبا». «1»

اشارة ..... ص : 97

لاشكَّ بأنّ الصدقة الواجبة حرام على أهل البيت عليهم السلام وعلى ذراريهم، وهي كما ورد في الأثر «2» أوساخ الناس وأنّها لاتحلّ على محمّد ولا آل محمّد صلى الله عليه و آله، ثمّ إنّه لاخلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، فلماذا منعت السيّدة أمُّ كلثوم أو زينب عليها السلام الأطفال من أخذ ما كان يقدّمه لهم أهل الكوفة من تمر وخبز وجوز؟

ألأنّ ذلك كان صدقة واجبة وهي محرّمة عليهم، أم كان ذلك احتياطاً فلربّما كان بعض ذلك من الصدقة الواجبة؟ أم كان ذلك محمولًا على الكراهة أو الحرمة بتعليل خاص؟

يقول الشيخ الأنصاري (ره) في كتاب الزكاة «3» مانصّه: «ثمّ إنّه لاخلاف في عدم تحريم الصدقة المندوبة، وبه وردت أخبار كثيرة، إلّا أنّ في بعض الأخبار ما يدلّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 98

على نهي الإمام عليه السلام عن ماء المسجد معلّلًا بأنّها صدقة، وقد اشتهر حكاية منع سيدتنا زينب أو أمّ كلثوم عليهما السلام للسبايا عن أخذ صدقات أهل الكوفة، معللّتين بكونها صدقة، ويمكن حملها على الكراهة أو الحرمة إذا كان الدفع على وجه المهانة كما احتمله في شرح المفاتيح.».

وفي طول ذلك يمكن أن نقول بأنّ من المحتمل أيضاً أنّ سيدتنا عليها السلام أرادت من وراء ردّ عطايا أهل الكوفة ومنع السبايا منها- مع فرض الكراهة- أن تعرّف النّاس بأن سبايا هذا الركب ليسوا من أيّ الناس، بل هم آل رسول اللّه صلى الله عليه و آله الذين فرض اللّه مودّتهم واتباعهم، وأنّ يزيد بن معاوية وعامله ابن زياد قد عصيا اللّه ورسوله

صلى الله عليه و آله بارتكاب ما ارتكبا من آل الرسول صلى الله عليه و آله، حتّى ينكشف للنّاس من أهل الكوفة عظم الجريمة والرزيّة، وفظاعة ما اجترحوه من ذنب الإنقياد ليزيد وابن زياد وأتباعهما.

خطبة بطلة كربلاء عليها السلام ..... ص : 98

ولمّا رأت العقيلة زينب عليها السلام الحشود الكثيرة من أهالي الكوفة قد ملأت الشوارع والطرق والسكك اندفعت إلى الخطابة وإلى التبليغ وإلى تبيان ما جرى على أهل بيت النبوّة، وأخذت تحمّل أهل الكوفة مسؤولية نقض العهد والبيعة وقتل ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وتوخز ضمائرهم وتحرق قلوبهم بتعريفهم عظم ما اجترحوا من جُرم، وقبح ما ألبسوا أنفسهم من عارٍ لايُغسل أبد الدهر!

قال السيّد ابن طاووس (ره): «قال بشير بن خزيم الأسدي: ونظرتُ إلى زينب بنت عليّ يومئذٍ، ولم أر خفرةً واللّه أنطق منها! كأنّها تُفرغ من لسان أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام! وقد أومأت إلى النّاس أنِ اسكتوا فارتدّت الأنفاس

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 99

وسكنت الأجراس!! ثمّ قالت:

الحمدُ للّه، والصلاة على أبي محمّد وآله الطيبين الأخيار! أمّا بعدُ يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر! أتبكون!؟ فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة! إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثاً، تتّخذون أيمانكم دخلًا بينكم! ألا وهل فيكم إلّا الصَّلفُ النَّطِفُ، والصدر الشَّنِف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو كمرعى على دمنة، أو كفضّة (كقصة خ ل) على ملحودة!؟

ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم أن سخط اللّه عليكم وفي العذاب أنتم خالدون!

أتبكون وتنتحبون!؟ إيِ واللّه فابكوا كثيراً واضحكوا قليلًا، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغُسل بعدها أبداً! وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدره

ألسنتكم!؟ ألا ساء ما تزرون، وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من اللّه، وضُربت عليكم الذّلة والمسكنة!

ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أيَّ كبد لرسول اللّه فريتم!؟ وأيَّ كريمة له أبرزتم!؟ وأيَّ دم له سفكتم!؟ وأيَّ حرمة له انتهكتم!؟ ولقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء- وفي بعضها- خرقاء شوهاء، كطلاع الأرض أو ملاء السماء!

أفعجبتم أن مطرت السماء دماً!؟ ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لاتُنصرون! فلا يستخفّنكم المهل، فإنّه لايحفزه البدار، ولايخاف فوت الثار، وإنّ ربّكم لبالمرصاد!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 100

قال الراوي: فواللّه لقد رأيت النّاس يومئذٍ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم! ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلّت لحيته! وهو يقول: بأبي أنتم وأمّي كهولكم خير الكهول! وشبابكم خير الشباب! ونساؤكم خير النساء! ونسلكم خير نسل، لايخزى ولايُبزى!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 101

خطبة فاطمة الصغرى بنت الحسين عليها السلام ..... ص : 101

وقال السيّد ابن طاووس (ره): «وروى زيد بن موسى «1» قال: حدّثني أبي، عن جدّي عليهما السلام قال: خطبت فاطمة الصغرى بعد أن وردت من كربلاء، فقالت:

الحمدُ للّه عدد الرمل والحصى، وزنة العرش إلى الثرى، أحمده وأؤمن به، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لاشريك له، وأنّ محمّداً عبده

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 102

ورسوله صلى الله عليه و آله، وأنّ أولاده ذُبحوا بشطّ الفرات بغير ذُحل ولاترات!

أللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتري عليك الكذب، أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، المسلوب حقّه، المقتول من غير ذنب كما قتل ولده بالأمس، في بيت من بيوت اللّه في معشر مسلمة بألسنتهم! تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولاعند مماته، حتّى

قبضته إليك محمود النقيبة، طيّب العريكة، معروف المناقب مشهور المذاهب، لم تأخذه فيك اللّهم لومة لائم ولا عذل عاذل، هديته اللّهم للإسلام صغيراً، وحمدت مناقبه كبيراً، ولم يزل ناصحاً لك ولرسولك صلى الله عليه و آله حتى قبضته إليك زاهداً في الدنيا غير حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رضيته فاخترته فهديته إلى صراط مستقيم.

أمّا بعدُ يا أهل الكوفة، يا أهل المكر والغدر والخيلاء! فإنّا أهل بيت ابتلانا اللّه بكم، وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسناً، وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه وحكمته، وحجّته على الأرض في بلاده لعباده، أكرمنا اللّه بكرامته، وفضّلنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله على كثير ممّن خلق تفضيلًا بيّناً، فكذّبتمونا وكفرتمونا! ورأيتم قتالنا حلالًا! وأموالنا نهباً! كأنّنا أولاد ترك وكابل! كما قتلتم جدّنا بالأمسِ، «1» وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدّم! قرّت لذلك

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 103

عيونكم وفرحت قلوبكم، افتراءً على اللّه ومكراً مكرتم، واللّه خير الماكرين.

فلا تدعونّكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا، فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة «في كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على اللّه يسير، لكيلا تأسوا على مافاتكم ولاتفرحوا بما آتاكم، والله لايُحبُّ كلّ مختال فخور»، تبّاً لكم! فانتظروا اللعنة والعذاب، فكأنْ قد حلَّ بكم وتواترت من السماء نقمات، فيسحتكم بعذاب ويُذيق بعضكم بأس بعض، ثمّ تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا، ألا لعنة اللّه على الظالمين.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 104

ويلكم! أتدرون أيّة يدٍ طاعنتنا منكم!؟ وأيّة نفس نزعت إلى قتالنا!؟ أم بأيّ رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا!؟

قست واللّه قلوبكم، وغلظت أكبادكم، وطبع على

أفئدتكم، وخُتم على أسماعكم وأبصاركم، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم، وجُعل على بصركم غشاوة فأنتم لاتهتدون!

فتبّاً لكم يا أهل الكوفة! أيّ تراتٍ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله قبلكم، وذحول له لديكم بما عندتم بأخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلام جدّي وبنيه وعترة النبيّ الأخيار صلوات اللّه وسلامه عليهم!؟ وافتخر بذلك مفتخركم فقال:

نحن قتلنا عليّاً وبني علي بسيوف هنديّة ورماح

وسبينا نساءهم سبي ترك ونطحناهمُ فأيُّ نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب! افتخرت بقتل قوم زكّاهم اللّه وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً! فاكظِمْ وأقع كما أقعى أبوك فإنّما لكلّ امرء ما اكتسب وما قدّمت يداه، أحسدتمونا- ويلًا لكم- على ما فضّلنا اللّه!؟

فماذنبا إنْ جاش دهراً بحورنا وبحرك ساجٍ لايواري الدّعامصا

ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، واللّه ذو الفضل العظيم، ومن لم يجعل اللّه له نوراً فماله من نور.

قال: وارتفعت الأصوات بالبكاء! وقالوا: حسبك يا ابنة الطيبين! فقد أحرقت قلوبنا، وانضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا. فسكتت.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 105

خطبة أمّ كلثوم بنت عليّ عليها السلام ..... ص : 105

«قال: وخطبت أمُّ كلثوم بنت عليّ عليه السلام في ذلك اليوم من وراء كلّتها، رافعة صوتها بالبكاء فقالت:

يا أهل الكوفة! سوأة لكم! خذلتم حسيناً وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه!؟

وسبيتم نساءه ونكبتموه!؟ فتبّاً لكم وسحقاً.

ويلكم! أتدرون أيّ دواهٍ دهتكم!؟ وأيّ وزرٍ على ظهوركم حملتم!؟ وأيّ دماءٍ سفكتم!؟

وأيّ كريمة أصبتموها!؟ وأيّ صبية سلبتموها!؟ وأيّ أموالٍ انتهبتموها!؟ قتلتم خير رجالات بعد النبيّ صلى الله عليه و آله! ونُزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إنّ حزب اللّه هم الفائزون، وحزب الشيطان هم الخاسرون.

ثمّ قالت:

قتلتم أخي صبراً، فويلٌ لأمّكم ستُجزونَ ناراً حرّها يتوقّد

سفكتم دماءً حرّم اللّه سفكها وحرّمها القرآنُ ثمّ محمّدُ

ألا فابشروا بالنّار إنّكمُ غداً لفي سقرٍ حقّاً يقيناً تُخلّدوا

وإنّي لأبكي في حياتي

على أخي على خير من بعد النبيّ سيولدُ

بدمعٍ غزير مستهلّ مكفكف على الخدّ منّي دائماً ليس يجمدُ

قال فضجَّ الناس بالبكاء والحنين والنوح، ونشر النساء شعورهنّ، ووضعن التراب على رؤوسهنّ، وخمشن وجوههنّ وضربن خدودهنّ، ودعون بالويل والثبور، وبكى الرجال ونتفوا لحاهم! فلم يُرَ باكية وباكٍ أكثر من ذلك اليوم.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 106

خطبة الإمام السجّاد عليه السلام ..... ص : 106

«ثمَّ إنّ زين العابدين عليه السلام أومأ إلى الناس أن اسكتوا، فسكتوا، فقام قائماً، فحمد اللّه وأثنى عليه، وذكر النبيّ صلى الله عليه و آله ثمّ صلّى عليه، ثمّ قال:

أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، أنا ابن من انتهكت حرمته، وسُلبت نعمته، وانتهب ماله، وسُبي عياله! أنا ابن المذبوح بشطّ الفرات من غير ذُحلٍ ولاترات! أنا ابن من قُتل صبراً، فكفى بذلك فخراً!

أيها الناس! فأنشدكم اللّه، هل تعلمون أنّكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه!؟

وأعطيتموه من أنفسكم العهد والميثاق والبيعة وقاتلتموه!؟

فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم! وسوأة لرأيكم! بأيّة عين تنظرون إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمّتي!؟

قال الراوي: فأرتفعت الأصوات من كلّ ناحية، ويقول بعضهم لبعض: هلكتم وما تعلمون!!

فقال عليه السلام: رحم اللّه امرءً قبل نصيحتي وحفظ وصيّتي في اللّه وفي رسوله وأهل بيته، فإنّ لنا في رسول اللّه صلى الله عليه و آله أُسوة حسنة.

فقالوا بأجمعهم: نحن كلّنا يا ابن رسول اللّه سامعون مطيعون، حافظون لذمامك، غير زاهدين فيك ولا راغبين عنك! فمرنا بأمرك يرحمك اللّه! فإنّا حربُ لحربك! وسلم لسلمك! لنأخذنّ يزيد لعنه اللّه ونبرأ ممّن ظلمك!

فقال عليه السلام: هيهات هيهات أيها الغدرة المكرة! حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم!

أتريدون أن تأتوا إليَّ كما أتيتم إلى آبائي من قبل!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 107

كلّا وربِّ الراقصات! فإنّ الجرح لمّا يندمل، قُتل أبي صلوات اللّه عليه بالأمسِ وأهل بيته معه، ولم ينسني ثكل رسول اللّه وثكل أبي وبني أبي، ووجده بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصصه يجري في فراش صدري، ومسألتي أن لا تكونوا لنا ولاعلينا!

ثمّ قال:

لا غروَ انْ قُتل الحسين فشيخه قد كان خيراً من حسين وأكرما

فلا تفرحوا يا أهل كوفان بالذي أصيب حسين كان ذلك أعظما

قتيل بشطّ النهر روحي فداؤه جزاء الذي أرداه نار جنهما

ثم قال: رضينا منكم رأساً برأس! فلايوم لنا ولايوم علينا!». «1»

إشارة (1) ..... ص : 107

يُلاحظ المتأمّل في خُطَب كلّ من الإمام السجّاد، والعقيلة زينب، وأمّ كلثوم، وفاطمة الصغرى عليهم السلام أنّ الخطَّ المشترك الرئيس في كلّ هذه الخطب هو أنهم صلوات اللّه عليهم ألقوا باللائمة على أهل الكوفة، وخاطبوهم بصفتهم الجناة الذين ارتكبوا جريمة قتل سيد الشهداء عليه السلام وأنصاره رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين، بما ظهر منهم من ختل وغدر ونقضٍ للبيعة، وبما كان منهم من انقياد تام لأوامر يزيد وعبيداللّه بن زياد وعمر بن سعد وشمر وبقيّة طغاتهم!

فالأمّة هنا هي وقود النار التي اقتدح شرارتها الجبابرة الظالمون، وهي أداة القتل، بل هي التي باشرت ارتكاب الجريمة العظمى بيدها! فهي التي تستحقّ اللعن الدائم إلى قيام الساعة وفي هذا وردت نصوص كثيرة عن أهل بيت

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 108

العصمة عليهم السلام منها هذه الفقرة من زيارة عاشوراء:

«.. فلعن اللّه امّة أسست أساس الظلم والجور عليكم أهلَ البيت، ولعن اللّه أمّة دفعتكم عن مقامكم وأزالتكم عن مراتبكم التي رتّبكم اللّه فيها، ولعن اللّه أمّة قتلتكم ..». «1»

إنّ دور الأمّة- في مجموعة العلل

والأسباب الإجتماعية- هو الدور الفاعل الرئيس، فبالأمّة يستطيع قادة الخير أن يحققوا كلّ مشاريع الخير والصلاح، وبدونها يعجز هؤلاء القادة عن تحقيق أيّ هدف من أهداف الإصلاح والخير، وكذلك فإنّ أئمّة الضلال إنّما يستطيعون بلوغ أهدافهم الشرّيرة المشؤومة ما أطاعتهم الأمّة فيما يريدون، ويعجزون عن تحقيق أي مطمع من مطامعهم إذا خالفتهم الأمة في الرأي والعمل.

نعم، في البدء يكون سامريٌّ وعجل! لكنهما لا أثر لهما مالم تطعهما الأمّة وتقتف أثرهما!

فالأمّة وإن كانت تابعة لكنها ذات الدور الفاعل الأساس!

من هنا صبّ خطباء بقيّة الركب الحسينيّ جام غضبهم على أهل الكوفة وحمّلوهم أوزار جريمة فاجعة عاشوراء .. إذ لولا أمّة «أهل الكوفة» لكان ابن زياد وجلاوزته أعجز من أنْ يقوموا بما قاموا به!

الإشارة (2): هل كانت لفاطمة عليها السلام بنتٌ واحدة أم أكثر؟ ..... ص : 108

يُستفاد من بعض النصوص أن مولاتنا فاطمة الزهراء عليها السلام كان لها من ذريّتها

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 109

بنتٌ واحدة هي زينب عليها السلام وكانت كنيتها أمّ كلثوم، كما في هذا النصّ الذي ينقله الشيخ القمّي في كتابه (بيت الأحزان) عن كتاب مصباح الأنوار: «عن أبي عبداللّه عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، قال: إنّ فاطمة عليها السلام لمّا احتضرت أوصت عليّاً عليه السلام فقالت: إذا أنا مِتُّ فتولَّ أنت غسلي، وجهّزني، وصلّ عليَّ، وأنزلني في قبري، وألحدني، وسَوِّ التراب عليَّ، واجلس عند رأسي قبالة وجهي فأكثر من تلاوة القرآن والدعاء فإنّها ساعة يحتاج الميّت إلى أُنس الأحياء، وأنا أستودعك اللّه تعالى وأوصيك في ولدي خيراً، ثمَّ ضمّت إليها أمّ كلثوم فقالت له: إذا بلغت فلها ما في المنزل ثمَّ اللّه لها، فلمّا توفيت فعل ذلك أميرالمؤمنين عليه السلام.». «1»

وكما في النص الذي يرويه الشيخ الصدوق (ره) بسنده عن حمّاد بن عثمان «قال: قلت لأبي

عبداللّه عليه السلام: جُعلت فداك! ما معنى قول رسول اللّه: إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذريّتها على النار. فقال: المعتقون من النار هم ولد بطنها الحسن والحسين وأمّ كلثوم.». «2»

وكما في الخبر الذي ينقله الشيخ المفيد (ره) من رواية عثمان بن المغيرة حيث يقول: «لمّا دخل شهر رمضان كان أميرالمؤمنين عليه السلام يتعشّى ليلة عند الحسن، وليلة عند الحسين، وليلة عند عبداللّه بن جعفر، وكان لا يزيد على ثلاث لُقم ...». «3»

فإنّ ليلة عبداللّه بن جعفر (رض) تعني ليلة زينب عليها السلام لأنها زوجته، وليس هنا ليلة أخرى يتعشّى فيها عليٌّ عليه السلام عند ابنة له أخرى إسمها أمّ كلثوم!

لكنّ هناك روايات أخرى يستفاد منها أنّ عليّاً وفاطمة عليهما السلام كان لهما من

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 110

ذريتهما إبنتان هما زينب وأمّ كلثوم عليهما السلام، بل إنّ هذه الروايات هي الأكثر، وفي ضوئها ذهب جمع من علمائنا إلى هذا، منهم الشيخ المفيد (ره) حيث يقول في الإرشاد: «فأولاد أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه سبعة وعشرون ولداً ذكراً وأنثى:

الحسن والحسين وزينب الكبرى وزينب الصغرى المُكنّاة أمّ كلثوم، أمّهم فاطمة البتول ...». «1»

ويقول المقدسيّ المتوفّى سنة 620 ه في كتابه «التبيين في أنساب القرشيين»:

«وولدت- أيّ فاطمة عليها السلام- لعليّ رضي اللّه عنه: الحسن والحسين وأمّ كلثوم وزينب» «2» وقال أيضاً: «ولم يتزوّج عليّ امرأة سوى فاطمة حتّى ماتت، وولد له منها الحسن والحسين وأمّ كلثوم وزينب الكبرى رضي اللّه عنهم». «3»

وقال المرحوم المامقاني: «أمّ كلثوم بنت أميرالمؤمنين عليها السلام، هذه كنية لزينب الصغرى، وقد كانت مع أخيها الحسين عليه السلام بكربلاء، وكانت مع السجاد إلى الشام ثمّ إلى المدينة، وهي جليلة القدر فهيمة بليغة ...». «4»

وقال المرحوم النمازي:

«كانت لمولانا أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه بنات منهن ثلاث زينبات: زينب الكبرى، وزينب أخرى المكنّاة بأمّ كلثوم، من ولد فاطمة الزهراء صلوات اللّه عليها، وزينب أخرى من أمّ ولد.

أمّا زينب الكبرى صلوات اللّه عليها: من رواة الحديث، أدركت النبيّ صلى الله عليه و آله وولدت في حياته، وهي عقيلة بني هاشم، ذات الخصال الحميدة والصفات

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 111

المجيدة، وفي الصبر والثبات وقوة الإيمان والتقوى فريدة وحيدة، وفي الفصاحة والبلاغة كأنها تنطق من لسان أميرالمؤمنين عليه السلام ... وفي كتاب الزينبات روايات محصولها أنّ زينب الكبرى عليها السلام لمّا جاءت إلى المدينة كانت تحرّض الناس على الأخذ بثأر الحسين عليه السلام، فأبلغ خبرها والي المدينة إلى يزيد، فأمر يزيد بإخراجها من المدينة مع من تشاء من نساء بني هاشم إلى مصر، فجهّزهنّ إلى مصر، فلمّا وردوا مصر أقامت فيها أحد عشر شهراً وخمسة عشر يوماً، وتوفيت بمصر في 15 رجب سنة 62 ه ...». «1»

ويُنسب إلى السيّد محسن الأمين العاملي أنه قال: «وجد على قبر في الشام حجر مكتوب عليه: هذا قبر السيّدة زينب المكنّاة بأمّ كلثوم بنت سيّدنا عليّ رضي اللّه عنه.». «2»

حكاية اختطاف الإمام السجّاد!! ..... ص : 111

روى ابن سعد في طبقاته يقول: «قال عليّ بن الحسين: فغيّبني رجلٌ منهم، «3»

وأكرم نُزلي واختصّني، وجعل يبكي كلّما خرج ودخل! حتّى كنت أقول: إن يكن عند أحدٍ من الناس خيرٌ ووفاء فعند هذا!

إلى أن نادى منادي ابن زياد: ألا من وجد عليَّ بن حسين فيأتِ به فقد جعلنا فيه ثلاثمائة درهم!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 112

قال: فدخل واللّه عليَّ وهو يبكي، وجعل يربط يدي إلى عنقي وهو يقول: أخاف!!

فأخرجني واللّه إليهم مربوطاً حتّى دفعني إليهم وأخذ ثلاثمائة درهم وأنا أنظر إليها!!

فأُخذتُ

وأدخلت على ابن زياد فقال: ما اسمك؟

فقلت: عليّ بن حسين.

قال: أوَلمْ يقتل اللّه عليّاً؟

قال: قلت: كان لي أخ يُقال له عليّ، أكبر منّي، قتله النّاس!

قال: بل اللّه قتله.

قلت: «اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها».

فأمر بقتله، فصاحت زينب بنت عليّ: يا ابن زياد حسبك من دمائنا! أسألك باللّه إن قتلته إلّا قتلتني معه! فتركه ...». «1»

إشارة ..... ص : 112

إننا نتحفّظ على هذه الرواية- في صدد اختطاف الإمام عليه السلام أو تغييبه- من الناحية التحقيقية للأسباب التالية:

1- أنّ هذه الرواية فضلًا عن إرسالها كان ابن سعد قد تفرّد بها على مايبدو، إذ لم يذكرها مؤرّخ آخر من مؤرّخي أهل السنّة، فضلًا عن مؤرّخي الشيعة الأوائل.

وما في كتاب المنتظم أو في كتاب مرآة الزمان لابن الجوزي هو نقل عن كتاب الطبقات، وكذلك ما في كتاب تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي هو أيضاً نقل عن كتاب الطبقات.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 113

2- كان الإمام السجّاد عليه السلام زعيم قافلة السبي والراعي لها، ولاشك أنّه كان موضع حراسة مشدّدة خاصة من قبل حرس ابن زياد، فهو لايخفى عن أعينهم طرفة عين لأهميته، فلا يُعقل أن يأتي رجل فيأخذه ويغيّبه عن الركب وعن الحرس وعن الناس بهذه السهولة!!

3- ثمّ إنّ الإمام السجّاد عليه السلام لم يكن ليخفى طرفة عين عن نظر الهاشميّات في الركب الحسينيّ لأنه بقيّة السيف وبقيّة الإمامة، ولأنه حماهنّ الذي يلذن به، خصوصاً مولاتنا زينب عليها السلام التي كان أهمّ مايهمّها هو المحافظة على الإمام عليه السلام، وقد عرّضت نفسها مراراً للقتل دونه محافظة عليه، فلو صحّ ما في هذه الرواية لكانت زينب عليها السلام قد أقامت الدنيا وأقعدتها، ولبان ذلك في كتب التأريخ كحدث مهم جدّاً من أحداث وقائع الأسر والسبيّ.

4-

تُظهر هذه الرواية الإمام عليه السلام وكأنّه لايهمّه إلّا أمر نفسه! ولايهمّه ما تعانيه عمّاته وأخواته وبقية سبايا الركب الحسينيّ، إذ قد أحسّ بالراحة والإطمئنان عند هذا الرجل!!- كما تصوّره الرواية!- وهذا مما لايتلائم مع الغيرة الهاشميّة الحسينية التي خير ما تتجسد إن تجسَّدت ففي عليّ بن الحسين عليهما السلام نفسه.

5- وتُظهر هذه الرواية الإمام عليه السلام أيضاً وكأنّه ليس لايعلم ما يريده هذا الخاطف فقط- وهو الذي لايخفى عليه علم ما يشاء علمه!- بل وكأنّه من البساطة والسذاجة- حاشاه!- بحيث قد اطمأنّ بسرعة إلى هذا الرجل المجهول وهو من أهل الكوفة الذين يصفهم الإمام السجّاد عليه السلام نفسه بأنّهم أهل غدر وختل وخيانة.

6- ظاهر الرواية مُشعرٌ بأنّ الإمام عليه السلام بقي في منزل هذا الرجل نهاراً أو أكثر من نهار! وفي نقل ابن الجوزي: «فبينما أنا ذات يوم عنده» وهذا التعبير مُشعر بأنّه عليه السلام بقي عند هذا الرجل أيّاماً!!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 114

مع أنّ تسلسل حركة أحداث ووقائع وجود الركب الحسينيّ في الكوفة ينافي هذا تماماً، لأن لقاءهم مع ابن زياد في قصره كان قد تمّ في نفس اليوم الذي دخلوا فيه الكوفة- وهو اليوم الثاني عشر من المحرّم- ولأنّ إدخالهم السجن كان قد بدأ في أواخر نهار ذلك اليوم، فكيف يمكن لذلك الرجل- على ما تدّعيه رواية ابن سعد- أن يُغيّب الإمام عليه السلام عنده!؟

الطواف برأس الإمام عليه السلام في سكك الكوفة!! ..... ص : 114

قال السيّد ابن طاووس (ره): «ثمَّ أمر ابن زياد برأس الحسين عليه السلام فطيف به في سكك الكوفة، ويحقّ لي أن أتمثّل هاهنا بأبيات لبعض ذوي العقول يرثي بها قتيلًا من آل الرسول صلى الله عليه و آله فقال:

رأس ابن بنت محمّدٍ ووصيّه للناظرين على قناةٍ يُرفعُ

والمسلمون

بمنظرٍ وبمسمعٍ لامنكرٌ منهم ولا متفجّعُ

كحلت بمنظرك العيون عمايةً وأصمَّ رزؤك كلَّ أُذن تسمعُ

أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع

ما روضةٌ إلّا تمنّت أنّها لك حفرة ولخطّ قبرك مضجع» «1»

وقال الشيخ المفيد (ره): «ولمّا أصبح عبيداللّه بن زياد بعث برأس الحسين عليه السلام فدير به سكك الكوفة كلّها وقبائلها، فروي عن زيد بن أرقم أنّه قال:

مُرَّ به عليَّ وهو على رمح وأنا في غرفة، فلمّا حاذاني سمعته يقرأ «أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا». «1»

فقفّ «2» واللّه شعري وناديت رأسك واللّه يا ابن رسول اللّه أعجبُ!!

ولمّا فرغ القوم من التطوّف به بالكوفة ردّه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زجر بن قيس، ودفع إليه رؤوس أصحابه وسرّحه إلى يزيد بن معاوية.». «3»

وقال ابن شهرآشوب: وروى أبومخنف، عن الشعبي: أنّه صُلب رأس الحسين عليه السلام بالصيارف في الكوفة، فتنحنح الرأس وقرأ سورة الكهف إلى قوله:

«إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى» فلم يزدهم ذلك إلّا ضلالًا!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 116

كلام المرحوم السيّد المقرّم حول تكلّم الرأس ..... ص : 116

«لم يزل السبط الشهيد حليف القرآن مُنذ أُنشي ء كيانه لأنّهما ثقلا رسول اللّه وخليفتاه على أمته، وقد نصّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله بأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليه الحوض، فبذلك كان الحسين عليه السلام غير مبارح تلاوته طيلة حياته، في تهذيبه وإرشاده، وتبليغه في حلّه ومرتحله، حتى في موقفه يوم الطف بين ظهراني أولئك المتجمهرين عليه، ليتمّ عليهم الحجّة ويوضّح لهم المحجّة.

هكذا كان ابن رسول اللّه يسير إلى غايته المقدّسة سيراً حثيثاً حتّى طفق يتلو القرآن رأسُه المطهّر فوق عامل السنان، عسى أن يحصل في القوم من يكهربه نور الحقّ، غير أنّ داعية الهدى

لم يصادف إلّا قصوراً في الإدراك وطبعاً في القلوب، وصمماً في الآذان «ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة».

ولايستغرب هذا من يفقه الأسرار الإلهيّة، فإنّ المولى سبحانه بعد أن أوجب على سيّد الشهداء النهضة لسدّ أبواب الضلال بذلك الشكل المحدّد الظرف والمكان والكيفية لمصالح أدركها الجليل جلّ شأنه، فأوصى إلى نبيّه الأقدس أن يقرأ هذه الصفحة الخاصة على ولده الحسين عليه السلام، فلا سبيل إلّا التسليم والخضوع للأصلح المرضيّ لربّ العالمين «لايُسأل عمّا يفعل وهم يسألون».

وحيث أراد المهيمن تعالى بهذه النهضة المقدّسة تعريف الأمّة الحاضرة والأجيال المتعاقبة ضلال الملتوين عن الصراط السويّ، العابثين بقداسة الشريعة، أحبّ الإتيان بكلّ ما فيه توطيد أسس هذه الشهادة التي كتبت بدمها الطاهر صحائف نيّرة من أعمال الثائرين في وجه المنكر، فكانت هذه محفوفة بغرائب لاتصل إليها الأفهام، ومنها استشهاد الرأس المعظّم بالآيات الكريمة، والكلام من رأس مقطوع أبلغ في إتمام الحجّة على من أعمته الشهوات عن إبصار الحقائق،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 117

وفيه تركيز العقائد على أحقيّة دعوته التي لم يقصد بها إلّا الطاعة لربّ العالمين، ووخامة عاقبة من مدَّ عليه يد السوء والعدوان، كما نبّه الأمّة على ضلال من جرّأهم على الطغيان.

ولابدع في القدرة الإلهيّة إذا مكّنت رأس الحسين عليه السلام من الكلام للمصالح التي نقصر عن الوصول الى كنهها بعد أن أودعت في الشجرة قوّة الكلام مع نبيّ اللّه موسى بن عمران عليه السلام عند المناجاة، وهل تُقاس الشجرة برأس المنحور في طاعة الرحمن سبحانه!؟ كلّا!». «1»

ماهو السرُّ في تلاوته هذه الآية من سورة الكهف؟ ..... ص : 117
اشارة

لعلَّ السرَّ في تلاوة الرأس المقدّس هذه الآية الشريفة من سورة الكهف: «أم حسبت أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا» «2»

هو أنَّ هناك مشتركات بين أصحاب الكهف

عليهم السلام وبين الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه الذين استشهدوا بين يديه عليهم السلام، ومع وجود هذه المشتركات جعل اللَّه تبارك و تعالى آية الحسين عليه السلام أعجب وأعجب؟!

وهذا ما تؤكّده نفس الآية الشريفة حيث تبدأ باستفهام استنكاري مفاده أنّ في آيات اللّه ماهو أعجب من آية أصحاب الكهف عليهم السلام، وهذا المعنى هو ما أراد أن يُلفت الإنتباه إليه الرأس المقدّس بتكراره تلاوة هذه الآية الشريفة في مواضع كثيرة. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 118

فإذا كان الناس قد أيقنوا بحقانيّة دعوة واعتقاد أصحاب أهل الكهف بعد ثلاثمائة وتسع سنين، فإنّ نهضة الإمام الحسين عليه السلام قد حفّت بها آيات اللّه الكاشفة عن حقّانيّتها منذ بدئها وحتى يومنا هذا، وماجرى من آيات إلهيّة على يد الإمام الحسين عليه السلام في أعدائه في أيّام حياته وبعد استشهاده، وهي كثيرة جدّاً دليل على ذلك أيضاً، بل إنّ نفس نطق الرأس المقدّس بعد قطعه وحتى دفنه هو آية من أكبر الآيات المُفصِحةِ عن هذه الحقّانية وعن كونه عليه السلام فيما جرى عليه أعجب وأعجب من آية أصحاب الكهف!

وقد يحسن هنا أيضاً الإشارة إلى أهمّ المشتركات بين الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه صلوات اللّه عليهم أجمعين وبين أصحاب الكهف عليهم السلام، وهي:

1- الفتوّة: «إنهم فتية»: ..... ص : 118

والفتى لاينحصر معناه بمعنى الشاب والحدث، بل معناه الجزل من الرجال، الناهض بأعباء المسؤولية، المتحمّل لأعباء المعتقد، كما قال الشاعر:

إنّ الفتى حمّالُ كلِّ مُلمّة ليس الفتى بمنعَّمِ الشبّانِ

2- القيام للّه: ..... ص : 118

إنّ قيام أهل الكهف قرّره القرآن الكريم بقوله تعالى: «إذ قاموا فقالوا ...»، وقيام شهداء الطف لايحتاج إلى دليل.

3- الرجعة: ..... ص : 118

ورد في الروايات «1» أنّ لأهل الكهف رجعة، وأنهم من أنصار الإمام المهديّ عليه السلام قائد الفصل الأخير من فصول نهضة الإمام الحسين عليه السلام، كما ورد في الروايات أنّ شهداء الطفّ يرجعون أيضاً.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 119

في مجلس الطاغية ابن زياد ..... ص : 119
الرأس المقدّس يتلو القرآن عند باب دار الإمارة! ..... ص : 119

ينقل صاحب كتاب رياض الأحزان أنّه حكي عن شاهد عيان: أنّ الرؤوس لمّا كانت تؤخذ من الرماح وتُنزَّل على باب دار الإمارة كانت شفتا رأس الإمام الحسين عليه السلام تتحركان وهو يقرأ قوله تعالى: «ولاتحسبنّ اللّه غافلًا عمّا يعمل الظالمون». «1»

وسالت دماً حيطان دار الإمارة! ..... ص : 119

روى ابن عساكر بسنده عن أبي غالب قال: «حدّثني بوّاب عبيداللّه بن زياد أنّه لمّا جي ء برأس الحسين فوضع بين يديه رأيت حيطان دار الامارة تسايل دماً!!». «2»

ابن زياد يضرب ثنايا الرأس المقدّس بالقضيب!! ..... ص : 119

قال الشيخ المفيد (ره): «جلس ابن زياد للناس في قصر الإمارة، وأذن للناس أذناً عامّاً، وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه، «3» فجعل ينظر إليه ويتبسّم! وفي

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 120

يده قضيب يضرب به ثناياه! وكان إلى جانبه زيد بن أرقم صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله- وهو شيخ كبير- فلمّا رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له: إرفع قضيبك عن هاتين الشفتين! فواللّه الذي لا إله غيره لقد رأيت شفتي رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليهما مالا أحصيه كثرة تقبّلهما.

ثمّ انتحب باكياً، فقال له ابن زياد: أبكى اللّه عينيك! أتبكي لفتح اللّه!؟ واللّه لولا أنّك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك!

فنهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار إلى منزله». «1»

وفي نصّ ماينقله سبط ابن الجوزي، عن ابن أبي الدنيا: «فنهض زيدٌ وهو يقول: أيّها الناس أنتم العبيد بعد اليوم! قتلتم ابن فاطمة وأمّرتم ابن مرجانة!؟ واللّه

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 121

ليقتلنّ أخياركم! وليستعبدن شراركم! فبُعداً لمن رضي بالذلّ والعار!

ثمّ قال: يا ابن زياد لأحدّثنّك حديثاً أغلظ من هذا! رأيتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أقعد حسناً على فخذه اليمنى، وحسيناً على فخذه اليسرى، ثمّ وضع يده على يافوخيهما، ثمّ قال: أللّهم إنّي أستودعك إيّاهما وصالح المؤمنين. فكيف كانت وديعة رسول اللّه صلى الله عليه و آله عندك يا ابن زياد!؟». «1»

وأنس بن مالك أيضاً! ..... ص : 121

روى ابن عساكر بأسانيد إلى أنس بن مالك الصحابي أنه قال: «لمّا أُتي برأس الحسين- يعنى إلى عبيداللّه بن زياد- قال: فجعل ينكت بقضيب في يده ويقول:

إن كان لحسن الثغر! فقلت واللّه لأسوءنّك! لقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم يقبّل موضع قضيبك منه». «2»

إشارة ..... ص : 121

روى الشيخ المفيد (ره) بسند عن أبي سلمان المؤذّن، عن زيد بن أرقم قال:

«نشد عليٌّ النّاس في المسجد فقال: أُنشد اللّه رجلًا سمع النبيّ صلى الله عليه و آله يقول: من كنت

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 122

مولاه فعليٌّ مولاه، أللّهمَ والِ من والاه، وعادِ من عاداه؟

فقام إثنا عشر بدرياً، ستّة من الجانب الأيمن، وستّة من الجانب الأيسر، فشهدوا بذلك.

قال زيد بن أرقم: وكنت فيمن سمع ذلك فكتمته! فذهب اللّه ببصري.

وكان يتندّم على ما فاته من الشهادة ويستغفر.». «1»

وأمّا أنس بن مالك فقد كان أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام بعثه إلى طلحة والزبير- لمّا جاء عليه السلام إلى البصرة- ليذكّرهما شيئاً ممّا سمعه من رسول اللّه صلى الله عليه و آله في أمرهما، فلوى أنسُ عن ذلك ورجع إليه فقال: «إنّي أُنسيتُ ذلك الأمر! فقال عليه السلام: إن كُنت كاذباً فضربك اللّه بها بيضاء لامعة لاتواريها العمامة! فأصاب أنساً داء البرص فيما بعد في وجهه! فكان لايُرى إلّا مبرقعاً. «2»

فلاعجب أن يحضر مجلس ابن زياد، ويجلس إلى جانبه، أمثال هذين الصحابيين الذين كانا قد كتما ما سمعاه من الحقّ من فم رسول اللّه صلى الله عليه و آله! ولاعجب أن يكون هناك آخرون من الصحابة ممن تعوّدوا حضور مجلس الطاغية ابن زياد، في الأيام التي كانت حركة أحداث النهضة الحسينية تمرّ بأخطر منعطفاتها!

ألم يكن من واجب أمثال هؤلاء الصحابة أن يكونوا

إلى جنب الإمام عليه السلام في نهضته، حتّى وإن كانوا ممّن سقط عنه تكليف الجهاد والقتال، حتى تقوى بهم حجّة الحقّ على الباطل!؟ ثمّ أليسوا هم ممّن قتل ابن فاطمة عليها السلام وأمرّ ابن مرجانة!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 123

كيف لا!؟ وهم من المقرّبين الى ابن مرجانة الذين يجلسون الى جنبه، معرضين عن ركب الحسين عليه السلام في كربلاء وهي على قرب من الكوفة!

إننا لانملك أن نردّ أو أن ننكر ما أورده التاريخ من أنّ هذين الصحابيين قد أنكرا على ابن زياد نكته ثنايا الرأس المقدّس بالقضيب، لكننا نملك أن نفسّر سبب هذا الإستنكار فنقول: إنّ أمثال هؤلاء لايستنكرون على الطغاة مفتضَح مُنكراتهم وقبائحهم انتصاراً للحقّ وللمعروف، بل يستنكرونها عليهم حرصاً على ما تبقّى لهم أنفسهم عند الناس من سمعة حسنة!!- إن كان ثَمَّ سمعة حسنة لهم!؟- ثمّ هم لايصلون في استنكارهم الحدَّ الذي يهددّ حياتهم ويعرّضهم الى القتل، بل لايستنكرون إلّا مع اطمئنانهم من عدم وصول المكروه إليهم! ولو كان أمثال هؤلاء ممّن ينتصرون للحقّ في وجه الباطل في صدق من النيّة والعزم لرأيناهم في صفحة التأريخ تحت راية الهدى وفي صفّ الحقّ لافي مجالس الطغاة وأنديتهم وملاهيهم.

وكان للكاهن دور المستشار هناك أيضاً! ..... ص : 123

من الملفت للإنتباه أنّ من معالم الحكم الأموي- بل من معالم الفترة التي استولت فيها حركة النفاق على سدّة الحكم منذ السقيفة- هو أن أفراد فصيل منافقي أهل الكتاب من يهود ونصارى كانوا يقومون بدور (المستشار) لحكّام حركة النفاق. «1»

وهذا الخبر الذي ينقله سبط ابن الجوزي في كتابه تذكره الخواص من مصاديق هذه الحقيقة: «وقال هشام بن محمّد: لمّا وضع الرأس بين يدي ابن زياد قال له كاهنه: قُم فضع قدمك على فم عدوّك! فقام فوضع قدمه

على فيه! ثمّ قال

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 124

لزيد بن أرقم: كيف ترى؟

فقال: واللّه لقد رأيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله واضعاً فاه حيث وضعتَ قدمك!». «1»

العقيلة زينب في مواجهة ابن زياد! ..... ص : 124

«وسيقتْ العقائل الهاشميّات إلى قصر الإمارة في موكب تعسٍ لم تشهد الدنيا له مثيلًا من قبلُ ولامن بعد!

بناتُ النبيّ سبايا قد حُملن على أقتاب الجمال بغير وطاء! ممزّقات الجيوب حواسر الوجوه! حافيات الأقدام! يتقدّمهنّ حملة الرؤوس على أسنة الرماح!». «2»

ويقول الشيخ المفيد (ره): «وأُدخل عيال الحسين عليه السلام على ابن زياد، فدخلت زينب أختُ الحسين في جملتهم متنكّرة وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتّى جلست ناحية من القصر وحفّت بها إماؤها، فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟ فلم تجبه زينب، فأعاد ثانية وثالثة يسأل عنها!

فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول اللّه.

فأقبل عليها ابن زياد وقال لها: الحمدُ للّه الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أُحدوثتكم!

فقالت زينب: الحمد للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله وطهّرنا من الرجس تطهيراً،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 125

وإنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمدُ للّه.

فقال ابن زياد: كيف رأيت فعل اللّه بأهل بيتك؟

قالت: كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتختصمون عنده!

فغضب ابن زياد واستشاط.

فقال عمرو بن حُريث: «1» أيها الأمير! إنّها امرأة، والمرأة لاتؤخذ بشي ء من منطقها، ولاتُذمّ على خطابها.

فقال لها ابن زياد: لقد شفى اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!!». «2»

وفي عبارة الطبري: «فقال لها ابن زياد: قد أشفى اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك!

قال فبكت، ثمّ قالت: لعمري لقد قتلتَ كهلي، وأبرت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت!

فقال

لها عبيداللّه: هذه سجّاعة! قد لعمري كان أبوك شاعراً سجّاعاً!

قالت: ما للمرأة والسجاعة!؟ إن لي عن السجاعة لشُغلًا، ولكنّ نفثي ما أقول.». «3»

وفي رواية ابن أعثم الكوفي والسيّد ابن طاووس أنّ ابن زياد لمّا سأل زينب عليها السلام قائلًا: كيف رأيتِ صنع اللّه بأخيك وأهل بيتك؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 126

قالت: «مارأيتُ إلّا جميلًا! هؤلاء القوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم يا ابن زياد، فتحاجّون وتخاصمون، فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة!». «1»

الإمام السجّاد عليه السلام في مواجهة ابن زياد! ..... ص : 126

قال الشيخ المفيد (ره): «وعُرضَ عليه عليّ بن الحسين عليه السلام، فقال له: من أنت؟

فقال: أنا عليُّ بن الحسين.

فقال: أليس قد قتل اللّه عليَّ بن الحسين!؟

فقال له عليّ عليه السلام: قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّاً قتله الناس.

فقال له ابن زياد: بل اللّهُ قتله.

فقال عليّ بن الحسين عليه السلام: «اللّه يتوفى الأنفس حين موتها». «2»

فغضب ابن زياد وقال: وبكَ جرأة لجوابي!؟ وفيك بقيّة للردّ عليَّ!؟ إذهبوا به فاضربوا عنقه!

فتعلّقت به زينب عمّته وقالت: يا ابن زياد حسبك من دمائنا!

واعتنقته وقالت: واللّه لا أفارقه، فإنْ قتلته فاقتلني معه!

فنظر ابن زياد إليها وإليه ساعة، ثمّ قال: عجباً للرحم! واللّه إنّي لأظنّها ودّت أنّى قتلتها معه! دعوه فإنّي أراه لِما به!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 127

وفي رواية ابن أعثم الكوفي: «فالتفت ابن زياد إلى عليّ بن الحسين رضي اللّه عنه وقال: أَوَلَم يُقتل عليُّ بن الحسين؟

قال: ذاك أخي، وكان أكبر منّي، فقتلتموه، وإنَّ له مطلًا «1» منكم يوم القيامة!

فقال ابن زياد: ولكنّ اللّه قتله!

فقال عليّ بن الحسين رضي اللّه عنه: «اللّه يتوفى الأنفس حين موتها» «2»

، وقال تعالى «وما كان لنفس أن تموت إلّا بإذن اللّه». «3»

فقال

ابن زياد لبعض جلسائه: ويحك! خذه إليك فأظنه قد أدرك الحلم؟ قال:

فأخذه مري بن معاذ الأحمري، فنحّاه ناحية ثمّ كشف عنه فإذا هو أنبت، فردّه إلى عبيداللّه بن زياد وقال: نعم، أصلح اللّه الأمير، قد أدرك. «4»

فقال: خذه إليك الآن فاضرب عنقه!

قال فتعلّقت به عمّته زينب بنت عليّ وقالت له: يا ابن زياد! إنك لم تبق منّا أحداً، فإن كنتَ عزمت على قتله فاقتلني معه!

فقال عليّ بن الحسين لعمّته: أُسكتي حتّى أكلّمه.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 128

ثمّ أقبل عليٌّ رضي اللّه عنه على ابن زياد فقال: أبالقتل تهدّدني!؟ أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة!

قال فسكت ابن زياد، ثمّ قال: أخرجوهم عنّي!

وأنزلهم في دار إلى جانب المسجد الأعظم ..». «1»

الرباب زوج الإمام عليه السلام مع رأسه المقدّس ..... ص : 128

قال السيّد المقرّم: «ودعا بهم ابن زياد مرّة أخرى، فلمّا أُدخلوا عليه رأين النسوة رأس الحسين بين يديه والأنوار الإلهيّة تتصاعد من أساريره إلى عنان السماء، فلم تتمالك الرباب زوجة الحسين دون أن وقعت عليه تقبّله، وقالت:

إنَّ الذي كان نوراً يُستضاء به بكربلاء قتيلٌ غير مدفون

سبط النبيّ جزاك اللّه صالحة عنّا وجُنّبتَ خسران الموازين

قد كنت لي جبلًا صعباً ألوذ به وكنت تصحبنا بالرحم والدينِ

من لليتامى ومن للسائلين ومن يُعنى ويأوي إليه كلّ مسكين

واللّه لا أبتغي صهراً بصهركم حتّى أُغَيَّب بين الماء والطين» «2»

«وقيل إنّ الرباب بنت امري ء القيس زوجة الحسين أخذت الرأس ووضعته في حجرها وقبّلته وقالت:

واحسيناً فلا نسيتُ حسيناً أقصدته أسنّة الأعداء

غادروه بكربلاء صديعاً لاسقى اللّه جانبي كربلاء» «1»

أمُّ كلثوم عليها السلام في مواجهة ابن زياد! ..... ص : 128

وفيما رواه الشيخ الصدوق (ره) قوله: «.. وأرسل ابن زياد لعنه اللّه قاصداً إلى أمّ كلثوم (أخت. ظ) بنت الحسين عليه السلام، فقال: الحمدُ للّه الذي قتل رجالكم! فكيف ترون ما فعل بكم؟

فقالت: يا ابن زياد! لئن قرّتْ عينك بقتل الحسين عليه السلام فطالما قرّت عين جدّه به، وكان يقبّله ويلثم شفتيه ويضعه على عاتقه! يا ابن زياد أعدَّ لجدّه جواباً فإنّه خصمك غداً!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 130

إشارات ..... ص : 130
اشارة

هناك عدّة إشارات وملاحظات تلفت انتباه المتأمل في وقائع ماجرى في مجلس ابن زياد، وفي محاوراته مع رموز بقيّة الركب الحسينيّ، منها:

1- الشجاعة العليا التي يتمتع بها أهل البيت عليهم السلام ..... ص : 130

وقد تجسّدت هذه الحقيقة في مجموعة من الردود التي صدرت عنهم عليهم السلام في مواجهة ابن زياد، في مثل قول زينب عليها السلام: «الحمدُ للّه الذي أكرمنا بنبيّه محمّد صلى الله عليه و آله وطهّرنا من الرجس تطهيرا، وإنّما يُفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا والحمدُ للّه ..»

وفي قولها:

ما رأيت إلّا جميلًا! هؤلاء قوم كتب اللّه عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع اللّه بينك وبينهم يا ابن زياد، فتحاجّون وتخاصمون، فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة!».

وفي قول الإمام زين العابدين عليه السلام:

«أبالقتل تهدّدني!؟ أما علمتَ أنّ القتل لنا عادة، وكرامتنا الشهادة!».

وفي قول أمّ كلثوم عليها السلام: «يا ابن زياد أعدَّ لجدّه جواباً فإنّه خصمك غداً!».

2- العرفان والفداء في ذروته عند مولاتنا زينب عليها السلام ..... ص : 130

وقد تجلى ذلك في ردّها على ابن زياد قائلة: «ما رأيت إلّا جميلًا!»، ولم

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 131

تقل عليها السلام: «ما رأيت في كربلاء إلّا جميلًا!» بل صرّحت بإطلاق رؤية الجميل! أي أنّها عليها السلام منذ أن رأت لم ترَ مِنَ اللّه إلّا جميلًا!! في كربلاء وقبلها وبعدها! وفي هذا غاية المعرفة والعرفان، وغاية الرضا بقضاء اللّه والإطمئنان بقدره، وغاية الرضا عن اللّه تبارك وتعالى، وغاية الشكر له، ولايكون ذلك إلّا من الحبّ للّه سبحانه في أعلى مراتبه.

وأمّا فداؤها وتضحيتها صلوات اللّه عليها فقد تجسّد في مواصلتها إلقاء نفسها في فم الموت والقتل مراراً دفاعاً عن حجّة اللّه على عباده وإمام زمانه مولانا زين العابدين عليه السلام، وإصرارها على أن تقتل قبله ومعه! ولقد تجسّد ذلك في مثل قولها عليها السلام: «واللّه لا افارقه، فإن قتلته فاقتلني معه!» حتّى لقد تأثّر اللعين ابن زياد من تضحيتها وفدائها ظنّاً منه أنّ ذلك من عاطفة الرحم فقط! حتّى قال:

«عجباً للرحم! واللّه إنّي لأظنّها ودّت أنّي قتلتها معه!».

3- قربان اللّه وقتيله في كربلاء هو ريحانة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فقاتله قاتلٌ لرسول اللّه صلى الله عليه و آله، وهو خصمه يوم القيامة ..... ص : 131

وقد تجسّد هذا المعنى في قول أمّ كلثوم عليها السلام: «يا ابن زياد! لئن قرّت عينك بقتل الحسين عليه السلام فطالما قرّت عين جدّه به، وكان يقبّله ويلثم شفتيه ويضعه على عاتقه! يا ابن زياد أعدَّ لجدّه جواباً فإنّه خصمك غداً!»، كما ظهر هذا المعنى في اعتراض زيد بن أرقم وأنس بن مالك على ابن زياد أيضاً.

4- تفنيد المنطق الجبري الذي أشاعه الأمويون ..... ص : 131

وكان قد أصرَّ ابن زياد لعنه اللّه على ترسيخه في أذهان الناس في المجلس، في قوله لزينب عليها السلام: «كيف رأيتِ فِعلَ اللّه بأهل بيتك؟»، وفي قوله للإمام السجّاد عليه السلام: «أليس قد قتل اللّه عليَّ بن الحسين؟ «، وفي ردّه عليه مرّة أخرى حيث

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 132

قال: «بل اللّه قتله!».

كان الأمويون يريدون أن يوهموا النّاس بشبهة أنّ كلّ ما يجري من وقائع وأحداث وظلم وجور وقتل هو تجسيد لإرادة اللّه وتحقيق لأمره، فلا يحقّ لأحدٍ أن يعترض على إرادة اللّه، ففي ذلك الكفر والخروج عن ربقة الإسلام!! وشقّ لعصا المسلمين!! وتفريق كلمتهم!! وبذلك يحجر الأمويون وكلّ الطغاة على الأمّة أن تعترض أو تنهض وتقوم لإزالة الظلم والجور والطغيان! ليتمادوا هم في ممارسة ما يحلو لهم من اجتراح المظالم والمجازر وإخماد كلّ صوت يدعو إلى الحقّ والعدل!

وفي مواجهة هذا المنطق الجبري حرص أهل البيت عليهم السلام على نشر هذه العقيدة الحقّة وهي: أنّ ما يجري على يد الطغاة الظالمين من قتل وظلم وجور وفساد لايمثل إرادة اللّه، لأنّ اللّه تعالى- فيما صرّح به في كتابه الحكيم- لايريد الظلم، ولا الفساد، ولا الجور، ولاقتل النفس التي حرّم قتلها إلّا بالحقّ، ولايحبّ الظالمين ولايهديهم، بل هو مع المتقين والمحسنين، ومع المصلحين الذين لايريدون علّواً في الأرض ولافساداً.

واللّه تبارك وتعالى

قد دعا عباده المؤمنين المتّقين المصلحين إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى القيام بوجه الظالمين الجائرين الطغاة، وإلى المتاجرة مع اللّه بأموالهم وأنفسهم في سبيله، فإذا قُتلوا في سبيله فهم على الحقيقة أحياء عند ربّهم يُرزقون، وهذا لايعني أنّ اللّه سبحانه أراد قتلهم على نحو القهر والجبر، وأنّ الطغاة الذين قتلوهم إنّما نفّذوا وحقّقوا الإرادة الإلهيّة بقتلهم! بل هؤلاء الطغاة مسؤولون أمام اللّه عن قتل كلّ مظلوم.

وقد ردّت زينب عليها السلام على دعوى ابن زياد أنّ ما جرى على أهل بيتها هو من

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 133

فعل اللّه سبحانه فقالت: هؤلاء القوم كتب اللّه عليهم القتل- اي على نحو الأمر الشرعي في القيام ضد الحكم الأموي وإن أدّى هذا القيام إلى استشهادهم، فبرزوا إلى مضاجعهم امتثالًا للأمر الشرعي- وسيجمع اللّه بينك وبينهم يا ابن زياد- فأنت يا اين زياد مسؤول أمام اللّه عن قتلهم- فتحاجّون وتخاصمون! فانظر لمن الفلج يومئذٍ ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة.

وقد ردّ الإمام السجّاد عليه السلام على هذه الدعوى الجبرية أيضاً في قوله: «قد كان لي أخٌ يُسمّى علياً قتله الناس» وحينما اصرَّ ابن زياد على دعواه بقوله: «بل اللّه قتله!» ردّ عليه الإمام عليه السلام بهذه الآية الشريفة: «اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها» أي أنه سبحانه يتوفّى الأنفس حين موتها وحين النوم وحين القتل وهذا لايعني أنّ اللّه حتم على النفس القتيلة أن تُقتل على نحو القهر والجبر، بل القاتل مسؤول عند اللّه، وقد تجسّد هذا في ردّ الإمام عليه السلام على ابن زياد- في رواية أخرى- حيث قال: ذاك أخي، وكان اكبر منّي، فقتلتموه، وإنّ له مطلًا منكم- اي حقاً وديناً يطالبكم به- يوم القيامة!

وبهذا يكون هذا المنطق

الجبري قد خاب وافتُضِحَ واتّضح بطلانه أمام الناس في مجلس ابن زياد ببركة وعي وشجاعة الإمام السجّاد والعقيلة زينب عليها السلام.

5- الطغيان والتشفّي من علائم الطواغيت دائماً ..... ص : 133

وهذا ما يلحظه المتأمّل في سيرة جميع طواغيت العصور، وقد تجلّى ذلك في مجلس ابن زياد في قوله مستنكراً على الإمام السجّاد عليه السلام جرأته وشجاعته في الردّ عليه قائلًا:

«وبك جرأة لجوابي!؟ وفيك بقيّة للردّ عليَّ!؟ إذهبوا به فاضربوا عنقه!»، وفي قوله لزينب عليها السلام: «لقد شفى اللّه نفسي من طاغيتك والعصاة من أهل بيتك!!».

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 134

وينتفض رجل من بكر بن وائل في وجه ابن زياد! ..... ص : 134

ينقل المحقّق القرشي عن كتاب مرآة الزمان قائلًا: «وكان في المجلس رجل من بكر بن وائل يُقال له جابر، فانتفض وهو يقول: للّه عليَّ أن لا أصيب عشرة من المسلمين خرجوا عليك إلّا خرجتُ معهم!». «1»

ابن زياد يستفزُّ الصحابي أبا برزة الأسلمي! ..... ص : 134

روى الخوارزمي بسند إلى أبي العالية البراء «2» قال: «لمّأ قُتل الحسين عليه السلام أُتيَ عبيداللّه بن زياد برأسه، فأرسل إلى أبي برزة «3» فقال له عبيد اللّه: كيف شأني وشأن حسين بن فاطمة؟

قال: اللّه أعلم! فما علمي بذلك!؟

قال: إنّما أسألك عن علمك!

قال: أما إذا سألتني عن رأيي فإنّ علمي أنّ الحسين يشفع له جدّه محمّد صلى الله عليه و آله، ويشفع لك زياد!

فقال له: أخرج! لولا ما جعلتُ لك لضربت واللّه عنقك! فلمّا بلغ باب الدار، قال: لئن لم تغدُ عليَّ وتَرُحْ لأضربنَّ عنقك!!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 135

وينقل سبط ابن الجوزي رواية عن الشعبي أنّه: كان عند ابن زياد قيس بن عبّاد، «1» فقال له ابن زياد: ما تقول فيَّ وفي حسين؟

فقال: يأتي يوم القيامة جدّه وأبوه وأمّه فيشفعون فيه، ويأتي جدّك وأبوك وأمّك فيشفعون فيك! فغضب ابن زياد وأقامه من المجلس. «2»

الركب الحسينيّ في محبس ابن زياد ..... ص : 135

روى الشيخ الصدوق (ره) بسند إلى حاجب عبيداللّه بن زياد أنّ ابن زياد: «لمّا جيي ء برأس الحسين عليه السلام أمر فوضع بين يديه في طست من ذهب، وجعل يضرب بقضيب في يده على ثناياه ويقول: لقد أسرع الشيب إليك يا أبا عبداللّه!

فقال رجل من القوم: فإني رأيت رسول اللّه يلثم حيث تضع قضيبك!

فقال: يوم بيوم بدر!!

ثمّ أمر بعليّ بن الحسين عليه السلام فَغُلَّ وحمل مع النسوة والسبايا إلى السجن، وكنتُ معهم، فما مررنا بزقاق إلّا وجدناه ملاءً رجالًا ونساءً، يضربون وجوههم ويبكون، فحُبسوا في سجن وطُبق عليهم!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 136

ثمَّ إنّ ابن زياد لعنه اللّه دعا بعليّ بن الحسين والنسوة، وأحضر رأس الحسين عليه السلام، وكانت زينب ابنة عليّ عليها السلام فيهم، فقال ابن زياد: الحمدُ للّه الذي فضحكم

وقتلكم وأكذب أحاديثكم! فقالت زينب عليها السلام:

الحمدُ للّه الذي أكرمنا بمحمّدٍ وطهّرنا تطهيرا ... يا ابن زياد حسبك ما ارتكبت منّا فلقد قتلت رجالنا وقطعت أصلنا وأبحت حريمنا وسبيت نساءنا وذرارينا، فإن كان ذلك للإشتفاء فقد اشتفيت!

فأمر ابن زياد بردّهم إلى السجن، وبعث البشائر الى النواحي بقتل الحسين ...». «1»

وذهب ابن سعد في طبقاته إلى أنّ عبيداللّه بن زياد أمر بحبس من قدم به عليه من بقيّة أهل الحسين معه في القصر. «2»

وقال السيد ابن طاووس (ره): «ثمّ أمر ابن زياد بعليّ بن الحسين عليه السلام وأهله فحُملوا إلى دار جنب المسجد الأعظم، فقالت زينب بنت عليّ عليه السلام: لايدخلنّ علينا عربية إلّا أمّ ولد أو مملوكة، فإنهنّ سُبين كما سُبينا ..». «3»

وروى الطبري قائلًا: «فبينا القوم محتبسون إذ وقع حجر في السجن معه كتاب مربوط، وفي الكتاب: خرج البريد بأمركم في يوم كذا وكذا إلى يزيد بن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 137

معاوية، وهو سائر كذا وكذا يوماً، وراجع في كذا وكذا، فإنْ سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل! وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إنْ شاء اللّه.

قال فلمّا كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجرٌ قد أُلقي في السجن ومعه كتاب مربوط وموسى وفي الكتاب: أوصوا واعهدوا فإنّما ينتظر البريد يوم كذا وكذا، فجاء البريد ولم يُسمع التكبير، وجاء كتابٌ بأنْ سرِّح الأسارى إليَّ». «1»

إشارة ..... ص : 137

هناك عدّة ملاحظات مستفادة من مجموعة هذه النصوص:

1- يُستفاد من نصّ الشيخ الصدوق (ره) أنّ ابن زياد لم يحبسهم معه في القصر كما ذهب إلى ذلك ابن سعد في طبقاته، ولا في دار إلى جنب المسجد الأعظم كما روى السيّد ابن طاووس في اللهوف، بل حبسهم في سجن على بُعد

من القصر ومن المسجد، بدليل قول الحاجب: «فما مررنا بزقاق إلّا وجدناه ملاءً رجالًا ونساءً يضربون وجوههم ويبكون» وربّما كان ابن زياد قد أمر بحبسهم في السجن المطبق قبل أن تقع بينه وبينهم المحاورات الجريئة الساخنة، ثمّ بعد أن استدعاهم فحاورهم وحاوروه، وصار الناس يولولون ويلغط أهل المجلس خاف ابن زياد فأمر بردّهم إلى الحبس مرّة أخرى في دار إلى جنب المسجد كما ذهب الى ذلك السيد المقرّم «2»، أو في القصر.

2- كما أنّ هذا السجن كان مُطبقاً عليهم ومُضَيَّقاً عليهم فيه لايمكن أن يدخل عليهم فيه داخل باختياره، بدليل قول الحاجب كما في رواية الصدوق (ره):

«فحُبسوا في سجن وطُبق عليهم»، لا كما توحي رواية السيّد ابن طاووس (ره) أنّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 138

بإمكان أية أمرأة الدخول عليهم، حيث يقول: «فقالت زينب بنت عليّ عليه السلام:

لايدخلنّ علينا عربية إلَّا أمُّ ولد أو مملوكة فإنهنّ سبين كما سُبينا»، ولعلّ هذه العبارة كانت قد نطقت بها زينب عليها السلام في المدينة بعد العودة إليها كما هو المشهور، أو ربّما حصل إمكان دخول النساء عليهم في المحبس بعدما سجنوا في المرّة الثانية في دار إلى جنب المسجد إذا أخذنا برواية اللهوف وذهبنا إلى ما ذهبت إليه السيّد المقرّم، لكنّ رواية الشيخ الصدوق ظاهرة في أنّهم أُعيدوا مرّة أخرى إلى نفس السجن المطبق الأوّل.

3- الذى يبدو و يحتمل أنّ مراد حاجب ابن زياد من قوله: «.. وبعث البشائر إلى النواحي بقتل الحسين ..» هو أنّ ابن زياد بعث بخبر مقتل الحسين عليه السلام إلى بقيّة عمّال بني أميّة وإلى أمرائهم لا إلى الأمّة، لأنّ خبر مقتل ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله عند سواد الأمّة ليس من

البشرى في شي ء، بل هو مصيبة عظمى وفاجعة كبرى، لكنّ الطغاة من عادتهم تحميل الأمم المقهورة تحت سلطانهم وظلمهم أفراحهم وأحزانهم، وإن كانت الأمّة تعيش الحزن فيما يفرح به الطغاة، ويطفح قلبها بالفرح في مصائبهم!

4- المثير للتساؤل في رواية الطبري وابن الأثير أنّه بينما هم في الحبس إذ سقط عليهم حجر فيه كتاب مربوط ..»، تُرى من هذا الذي أرسل إليهم هذا الكتاب؟

هل السلطة الأموية هي التي أمرت بإرسال هذا الكتاب مع الحجر إليهم مواصلة منها للإرهاب النفسي والتعذيب الروحي الذي كانت تمارسه ضدّهم؟

وهذا النوع من أساليب التعذيب كانت الحكومات الطاغوتية ولم تزل إلى اليوم تستخدمه ضدّ سجناء المعارضة، حيث لايعرف السجين هل المُرسِلُ عدوّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 139

أم صديق مشفق؟

أم أنَّ أحداً- أو جماعة- من محبّي أهل البيت عليهم السلام كان على اطّلاع بأخبار البريد ومدّة ذهابه وإيابه، وبعلامة الأمر بالقتل وعلامة الأمان، وأراد أن يخبر الإمام السجّاد عليه السلام بذلك، ليعهد بعهده ويوصي بوصيّته؟ ويؤيد هذا ما في عبارة رواية الطبري: «وإنْ لمْ تسمعوا تكبيراً فهو الأمان إنْ شاء اللّه» فقوله: فهو الأمان إن شاء اللّه مُشعِرٌ بأنّ من ألقى الحجر والكتاب يتمنّى لهم الأمان والنجاة.

وممّا يؤيّد أيضاً أنّ هذا المُرسِل من محبّي أهل البيت عليهم السلام، قد لجأ إلى هذا الأسلوب خوفاً من بطش السلطة الأموية، هو أنّ هذه السلطة لو شاءت أن تمارس هذا الأسلوب من أجل الإرهاب النفسي والتعذيب الروحي لمارسته مع بقايا آل الحسين عليه السلام علناً، إذ العلانيّة لا تنقص من أثره شيئاً، أو إلّا شيئاً يسيراً.

دفن الإمام وبقيّة الشهداء عليهم السلام ..... ص : 139

يروي الطبري أنَّ الإمام الحسين عليه السلام وبقيّة الشهداء عليهم السلام دفنوا بعد مقتلهم بيوم، أي في اليوم الحادي عشر، وأنّ

أهل الغاضريّة من بني أسد قاموا بدفنهم، حيث يروي عن أبي مخنف قائلًا: «ودفن الحسين وأصحابه أهل الغاضريّة من بني أسد بعدما قُتلوا بيوم ..». «1»

وذهب إلى ذلك البلاذري أيضاً حيث يقول: «ودفن أهل الغاضريّة من بني أسد جثّة الحسين، ودفنوا جثث أصحابه رحمهم اللّه بعدما قُتلوا بيوم ..». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 140

أمّا الخوارزمي فيقول: «وأقام عمر بن سعد يومه ذلك إلى الغد، فجمع قتلاه فصلّى عليهم ودفنهم، وترك الحسين وأهل بيته وأصحابه! فلمّا ارتحلوا إلى الكوفة وتركوهم على تلك الحالة عمد أهل الغاضرية من بني أسد فكفّنوا أصحاب الحسين، وصلّوا عليهم، ودفنوهم ..». «1»

هذا قولُ جلّ مؤرّخي أهل السنّة ... ولعلّ المنبع الأوّل الذي أخذوا عنه هذا القول، هو نفس المنبع الذي أخذ عنه الطبري، وهو أبومخنف.

ويوافقهم في هذا الرأي أبرز مؤرّخي الشيعة! كالمسعودي أيضاً حيث يقول:

«ودفن أهل الغاضريّة- وهم قوم من بني غاضر من بني أسد- الحسين وأصحابه بعد قتلهم بيوم.». «2» والشيخ المفيد (ره) حيث يقول: «ولمّا رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولًا بالغاضرية إلى الحسين وأصحابه رحمة اللّه عليهم، فصلّوا عليهم، ودفنوا الحسين عليه السلام حيث قبره الآن، ودفنوا إبنه عليَّ بن الحسين الأصغر «3» عند رجليه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صُرّعوا حوله ممّا يلي رجلي الحسين عليهم السلام، وجمعوهم فدفنوهم جميعاً معاً، ودفنوا العبّاس بن عليّ عليهما السلام في موضعه الذي قُتل فيه على طريق الغاضريّة حيث قبره الآن.». «4»

وذهب إلى ذلك السيد ابن طاووس (ره) أيضاً حيث يقول: «ولمّا انفصل عمر ابن سعد لعنه اللّه عن كربلا، خرج قوم من بني أسد فصلّوا على تلك الجثث

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 141

الطواهر المرمَّلة

بالدماء، ودفنوها على ماهي الآن عليه.». «1»

ومن هؤلاء أيضاً ابن شهرآشوب (ره) حيث قال: «ودفن جثثهم بالطفّ أهل الغاضريّة من بني أسد بعدما قُتلوا بيوم، وكانوا يجدون لأكثرهم قبوراً! ويرون طيوراً بيضاً! ..». «2»

إنّ المستفاد من جميع هذه النصوص أنّ دفن الإمام الحسين عليه السلام والمستشهدين بين يديه عليهم السلام كان قد تمّ في نفس اليوم الذي ارتحل فيه ابن سعد عن كربلاء، وهو اليوم الحادي عشر، وكان ذلك عصراً لأنّ ابن سعد قد ارتحل عن كربلاء فيه بعد الزوال.

ولكن هل يمكن الأخذ بهذا الرأي!؟ ..... ص : 141

خصوصاً فيما يتعلّق بأنّ بني أسد من أهل الغاضرية هم الذين تولّوا تكفين الإمام عليه السلام وأصحابه، «3» وصلّوا عليهم، ودفنوهم؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 142

إنّ طريقة دفن الإمام عليه السلام وأهل بيته وأصحابه المستشهدين بين يديه صلوات اللّه عليهم أجمعين على النحو والتوزيع المعروف من خلال قبورهم- والمتسالم عليه بلاخلاف- لايمكن لبني أسد من أهل الغاضريّة وهم من أهل القرى الذين لم يشهدوا المعركة أن يحقّقوا ذلك بدون مرشد عارف تماماً بهؤلاء الشهداء وبأبدانهم ولباسهم- خصوصاً وأن الرؤوس الشريفة كانت قد قُطّعتْ وبقيت الأجساد الشريفة بلا رؤوس- فلولا هذا المرشد المطّلع العالم لما أمكن لبني أسد من أهل الغاضرية التمييز بين شهيد وآخر، ولولاه لكان الدفن عشوائياً بلا معرفة، ولم يكن ليتحقّق هذا الفصل المقصود وهذا التوزيع المدروس بين هذه القبور على ما هي عليه الآن.

وفي ضوء الإعتقاد: بأنّ الإمام لايلي أمره إلّا إمام مثله، «1»

فإنّ هذا المرشد الذي لابدّ أن يكون قد حضر عملية الدفن مع بني أسدٍ من أهل الغاضرية هو الإمام السجّاد عليه السلام، ولابدَّ أن يكون حضوره عليه السلام إلى ساحة كربلاء حضوراً إعجازياً خارقاً للعادة في الأسباب! لأنّه عليه السلام

حينذاك كان لم يزل في قيد الأسر بيد الأعداء.

وهذا ما يؤكده المأثور عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، كما في رواية اثبات الوصية عن سهل بن زياد عن منصور بن العباس عن اسماعيل بن سهل عن بعض أصحابه قال: «كنت عند الرضا عليه السلام، فدخل عليه عليّ بن أبي حمزة، وابن السرّاج، وابن المكاري، فقال عليٌّ بعد كلام جرى بينهم وبينه عليه السلام في إمامته: إنّا روينا عن آبائك عليهم السلام أنَّ الإمام لايلي أمره إلّا الإمام مثله.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 143

فقال له أبوالحسن عليه السلام: فأخبرني عن الحسين بن عليّ كان إماماً أو غير إمام؟

قال: كان إماماً.

قال: فمن ولي أمره؟

قال: علي بن الحسين!

قال: وأين كان عليّ بن الحسين؟

قال: كان محبوساً بالكوفة في يد عبيداللّه بن زياد.

فقال: كيف ولى أمر أبيه و هو محبوس؟

قال: له روينا أنه خرج وهم لايعلمون حتّى ولي أمر أبيه ثمّ انصرف الى موضعه.

فقال له أبوالحسن: إنّ هذا الذي أمكن عليَّ بن الحسين و هو معتقل فهو يمكّن صاحب هذا الأمر و هو غر معتقل أن يأتي بغداد ويلي أمر أبيه ويتصرف و ليس هو المحبوس و لا مأسور!». «1»

ويستفاد من متن هذه الرواية في هذه الفقرة: «كان محبوساً بالكوفة في يد عبيداللّه بن زياد، خرج وهم لايعلمون حتّى ولي أمر أبيه ثمّ أنصرف» أنَّ الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام خرج من محبسه بالكوفة- بالأمر المعجز- إلى كربلاء لدفن أبيه عليه السلام، وكان خروجه هذا «وهم لايعلمون».

إذن فخروجه عليه السلام إلى كربلاء بالأمر المعجز لم يكن في اليوم الحادي عشر حتماً، ذلك لأنّه لم يدخل المحبس إلّا في اليوم الثاني عشر، إذ لم يكن عمر بن سعد قد دخل بعسكره

وبالسبايا مدينة الكوفة إلّا في نهار اليوم الثاني عشر كما قدّمنا قبل ذلك في سياق الأحداث.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 144

وإذا علمنا أنّ جُلَّ نهار اليوم الثاني عشر كان انقضى على بقية أهل البيت عليهم السلام في عرضهم على الناس، وفي عرضهم على ابن زياد- لعنه اللّه- في مجلسه في القصر، وفي محاوراتهم معه، فإنّه يتّضح لنا أنّ ابن زياد أمر بحبسهم عصر أو أواخر نهار اليوم الثاني عشر، ثمَّ استدعاهم، ثمّ أعادهم إلى الحبس مرّة أخرى.

وبهذا تكون ليلة اليوم الثالث عشر هي أوّل ليلة لهم في السجن حيث بقوا فيه إلى اليوم الذي أرسلهم ابن زياد فيه إلى يزيد.

ومن هنا- مع الإنتباه إلى ما تذكره الرواية من أنّه عليه السلام خرج من محبسه الى كربلاء لدفن أبيه عليه السلام وهم لايعلمون- نستنتج أنّ خروجه كان من المحبس في وقت كان قد فرغ الطاغية من التحقيق معهم فلايعود إلى استدعائهم، أي في وقت كان الإمام السجّاد عليه السلام قد اطمأنَّ إلى أنّه إذا غاب عن الأنظار فإنّه لايُفتقد في الفترة التي ينشغل فيها بدفن أبيه وأنصاره صلوات اللّه عليهم أجمعين ..

وعليه فالمرجّح أنّه عليه السلام- في ضوء هذا التحليل- كان قد خرج إلى كربلاء بالأمر المعجز إمّا ليلة الثالث عشر أو في نفس اليوم الثالث عشر، مبادراً إلى دفن الشهداء عليه السلام في أقرب وقت ممكن.

لكنّ ظاهر بعض الآثار يدلُّ على أنّ عملية دفن الأجساد المقدّسة حصلت في اليوم الثالث عشر من المحرّم لا في ليلته، كما في كتاب أسرار الشهادة حيث يقول: «وكان إلى جنب العلقميّ حيّ من بني أسد، فمشت نساء ذلك الحيّ إلى المعركة فرأين جثث أولاد الرسول، وأفلاذ حشاشة الزهراء البتول، وأولاد

عليّ أميرالمؤمنين عليه السلام فحل الفحول، وجثث أولادهم في تلك الأصحار وهاتيك القفار، تشخب الدماء من جراحاتهم كأنّهم قُتلوا في تلك الساعة! فتداخل النساء من ذلك المقام العجب! فابتدرن إلى حيِّهنَّ، وقلن لأزواجهنّ ما شاهدنه، ثمّ قلن لهم: بماذا

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 145

تعتذرون من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام وفاطمة الزهراء إذا أُوردتم عليهم حيث إنكم لم تنصروا أولاده ولا دافعتم عنهم بضربة سيف ولابطعنة رمح ولابحذفة سهم!؟

فقالوا لهنّ: إنّا نخاف من بني أُميّة!

وقد لحقتهم الذلّة وشملتهم الندامة من حيث لاتنفعهم، وبقيت النسوة يجلن حولهم ويقلن لهم: إن فاتتكم نصرة تلك العصابة النبويّة، والذبّ عن هاتيك الشنشنة العليّة العلويّة، فقوموا الآن إلى أجسادهم الزكيّة فواروها، فإنّ اللعين ابن سعد قد وارى أجساد من أراد مواراته من قومه، فبادروا إلى مواراة أجساد آل رسول اللّه، وارفعوا عنكم بذلك العار! فماذا تقولون إذ قالت العرب لكم، إنّكم لم تنصروا ابن بنت نبيّكم مع قربه وحلوله بناديكم!؟ فقوموا واغسلوا بعض الدرن عنكم!

قالوا: نفعل ذلك.

فأتوا إلى المعركة، وصارت همّتهم أوّلًا أن يواروا جثّة الحسين عليه السلام ثم الباقين، فجعلوا ينظرون الجثث في المعركة، فلم يعرفوا جثّة الحسين عليه السلام من بين تلك الجثث لأنها بلا رؤوس وقد غيّرتها الشموس، فبيناهم كذلك وإذا بفارس أقبل إليهم حتّى إذا قاربهم قال: أنّى بكم؟

قالوا: إنّا أتينا لنواري جثّة الحسين عليه السلام وجثث ولده وأنصاره، ولم نعرف جثة الحسين عليه السلام!

فلمّا سمع ذلك حنَّ وأنَّ وجعل ينادي: وا أبتاه! وا أباعبداللّه! ليتك حاضر وتراني أسيراً ذليلًا!

ثمّ قال لهم: أنا أرشدكم.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 146

فنزل عن جواده، وجعل يتخطّى القتلى، فوقع نظره على جسد الحسين عليه السلام فاحتضنه وهو

يبكي ويقول: يا أبتاه! بقتلك قرّت عيون الشامتين! يا أبتاه! بقتلك فرحت بنو أميّة! يا أبتاه! بعدك طال حزننا! يا أبتاه! بعدك طال كربنا!

قال ثمّ إنّه مشى قريباً من محلّ جثّته فأهال يسيراً من التراب، فبان قبر محفور ولحد مشقوق! فأنزل الجثة الشريفة وواراها في ذلك المرقد الشريف كما هو الآن.

قال ثمّ إنّه عليه السلام جعل يقول: هذا فلان، وهذا فلان.

هذا والأسديّون يوارونهم، فلمّا فرغ مشى إلى جثّة العبّاس بن أميرالمؤمنين عليهما السلام فانحنى عليها وجعل ينتحب ويقول: يا عمّاه! ليتك تنظر حال الحرم والبنات وهنَّ ينادين: واعطشاه! واغربتاه!

ثمّ أمر بحفر لحده وواراه هنا، ثمّ عطف على جثث الأنصار وحفر حفيرة واحدة وواراهم فيها، إلّا حبيب بن مظاهر حيث أبى بعض بني عمّه ذلك، ودفنه ناحية عن الشهداء.

قال فلمّأ فرغ الأسديون من مواراتهم قال لهم: هلمّوا لِنُوَارِ جثّة الحرّ الرياحي.

قال فتمشى وهم خلفه حتى وقف عليه فقال: أمّا أنت فقد قبل اللّه توبتك وزاد في سعادتك ببذلك نفسك أمام ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

قال وأراد الأسديّون حمله إلى محلّ الشهداء فقال: لا، بل في مكانه واروه.

قال فلمّا فرغوا من مواراته ركب ذلك الفارس جواده، فتعلّق به الأسديّون، فقالوا بحقّ من واريته بيدك! من أنت؟

فقال: أنا حجّة اللّه عليكم، أنا عليّ بن الحسين عليه السلام، جئت لأواري جثّة أبي ومن معه من إخواني وأعمامي وأولاد عمومتي وأنصارهم الذين بذلوا مهجهم دونه، وأنا الآن راجع الى سجن ابن زياد لعنه اللّه، وأمّا أنتم فهنيئاً لكم، لاتجزعوا إذ تُضاموا فينا!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 147

فودّعهم وانصرف عنهم، وأمّا الأسديون فإنهم رجعوا مع نسائهم إلى حيّهم.». «1»

وقال المرحوم السيّد المقرّم: «وفي اليوم الثالث عشر من المحرّم أقبل

زين العابدين لدفن أبيه الشهيد عليه السلام لأنّ الإمام لايلي أمره إلّا إمام مثله «2» ... ولمّا أقبل السجّاد عليه السلام وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيّرين لايدرون ما يصنعون، ولم يهتدوا إلى معرفتهم ... فأخبرهم عليه السلام عمّا جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة، وأوقفهم على أسمائهم، كما عرّفهم بالهاشميين من الأصحاب ... ثمّ مشى الإمام زين العابدين إلى جسد أبيه واعتنقه وبكى بكاءً عالياً، وأتى إلى موضع القبر، ورفع قليلًا من التراب فبان قبر محفور وضريح مشقوق! فبسط كفّيه تحت ظهره

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 148

وقال: بسم اللّه، وفي سبيل اللّه، وعلى ملّة رسول اللّه، صدق اللّه ورسوله، ما شاء اللّه، لاحول ولاقوّة إلّا باللّه العظيم.

وأنزله وحده، لم يشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم: إنَّ معي من يعينني،. ولمّا أقرّه في لحده وضع خدّه على منحره الشريف قائلًا: طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أمّا الليل فمُسهَّد! والحزن سرمد! أو يختار اللّه لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم! وعليك منّي السلام يا ابن رسول اللّه ورحمة اللّه وبركاته.

وكتب على القبر: هذا قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب الذي قتلوه عطشاناً غريباً.

ثمّ مشى إلى عمّه العبّاس عليه السلام، فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء! وأبكت الحور في غرف الجنان! ووقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلًا: على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة اللّه وبركاته.

وشقّ له ضريحاً، وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد، وقال لبني أسد: إنّ معي من يُعينني!

نعم، ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء، وعيّن لهم موضعين، وأمرهم أن يحفروا حفرتين،

ووضع في الأولى بني هاشم، وفي الثانية الأصحاب.

وأمّا الحرّ الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن، وقيل: إنَّ أمّه كانت حاضرة، فلمّا رأت ما يُصنع بالأجساد حملت الحرّ إلى هذه المكان.

وكان أقرب الشهداء إلى الحسين ولده «الأكبر» عليه السلام، وفي ذلك يقول الإمام

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 149

الصادق لحمّاد البصري: «1» قُتل أبوعبداللّه غريباً بأرض غربة، يبكيه من زاره، ويحزن له من لم يزره، ويحترق له من لم يشهده، ويرحمه من نظر إلى قبره إبنه عند رجليه ..». «2»

خبر سليمان بن قتّة: ..... ص : 149

روى ابن نما (ره) يقول: «ورويت إلى ابن عائشة قال: مرَّ سليمان بن قتّة العدويّ «3» مولى بني تميم بكربلاء بعد قتل الحسين عليه السلام بثلاث، فنظر إلى مصارعهم، فاتّكأ على فرس له عربية وأنشأ:

مررتُ على أبيات آل محمّد فلم أرها أمثالها يوم حُلَّتِ

ألمْ ترَ أنَّ الشمس أضحت مريضة لفقد حسينٍ والبلاد اقشعرّتِ

وكانوا رجاءً ثمّ أضحوا رزيّة لقد عظمت تلك الرزايا وجلّتِ

وتسألنا قيس فنعطي فقيرها وتقتلنا قيس إذا النعلُ زلَّتِ

وعند غني قطرة من دمائنا سنطلبهم يوماً بها حيث حَلّتِ

فلا يُبعد اللّه الديار وأهلها وإنْ أصبحتْ منهم برغمٍ تخلَّتِ

فإنّ قتيل الطفّ من آل هاشم أذلَّ رقاب المسلمين فذلّتِ

وقد أعولتْ تبكي النساء لفقده وأنجمنا ناحت عليه وصلَّتِ

وقيل: الأبيات لأبي رمح الخزاعي.». «4»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 150

وقد يُستفاد ممّا ورد في متن الخبر: «مرَّ سليمان بن قتّة .. بعد قتل الحسين عليه السلام بثلاث فنظر إلى مصارعهم ..» أنّ الأجساد الطاهرة قد مرّت عليها ثلاث ليالٍ وهي بعدُ لم تدفن حين مرَّ عليها سليمان بن قتّة، فيكون هذا الخبر دليلًا على أنّ الدفن لم يحصل في اليوم الحادي عشر ولافي اليوم الثاني عشر، ولا في ليلة الثالث عشر.

لكننا إذا علمنا

أنّ المراد بمصارعهم هو الأمكنة التي صُرِّعوا فيها، «1» أي ساحة ميدان المعركة في كربلاء، فإنّ الإستفادة المشار إليها من هذا الخبر تنتفي، إذ يمكن أن يُقال: إنّ سليمان بن قتّة مرَّ بساحة المعركة في كربلاء في اليوم الثالث عشر بعد دفن الشهداء عليهم السلام فرأى قبورهم وآثار الحرب في ساحة الميدان فرثاهم بهذه الأبيات، وممّا يؤيد ذلك أنّه ذكر «أبيات آل محمّد» ولم يصف الأجساد حيث صُرِّعت، وربّما كان ذكر الأبيات كناية عن القبور، كما يؤيّد ذلك أنّ سليمان لو كان مرَّ بالأجساد الطاهرة قبل دفنها فكيف يصحّ منه عدم السعيّ إلى دفنها، وهو من محبّي أهل البيت عليهم السلام؟!

ولو كان- أيضاً حاضراً ساعة دفنهم مع جملة من حضر من بني أسد من أهل الغاضريّة بحضور الإمام السجّاد عليه السلام، لكان له خبرٌ يُذكر مع الإمام عليه السلام ومع بني أسد ذلك اليوم في التأريخ، بل لكان هو المبادر إلى تسجيل تلك اللحظات الخالدة من ساعة الدفن على صفحة التأريخ في قصيدة من شعره رائعة تبقى القلوب والألسن تتناقلها إلى قيام الساعة!

ولِنَعُد الآن إلى تتمّة مجرى أحداث الكوفة ...

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 151

ابن زياد يطلب مَن يُقَوِّرُ الرأس المقدّس! ..... ص : 151

روى الخوارزمي أنّه: «ولمّا جيي ء برأس الحسين إلى عبيداللّه، طلب من يقوّره ويُصلحه، فلم يجسر أحدٌ على ذلك، ولم يحر أحدٌ جواباً، فقام طارق بن المبارك «1» فأجابه إلى ذلك، وقام به فأصلحه وقوّره، فنصبه بباب داره!». «2»

وقال سبط ابن الجوزي: «وذكر عبداللّه بن عمر الورّاق في كتاب (المقتل) أنّه لمّا حضر الرأس بين يدي ابن زياد أمر حجّاماً فقال: قوّره.

فقوّره وأخرج لغاديده ونخاعه وما حوله من اللحم- واللغاديد ما بين الحنك وصفحة العنق من اللحم- فقام عمرو بن حُريث المخزومي

فقال: يا ابن زياد! قد بلغت حاجتك من هذا الرأس، فهب لي ما القيتَ منه.

فقال: ما تصنع به!؟ فقال: أواريه. فقال: خذه.

فجمعه في مطرف خزّ كان عليه، وحمله إلى داره، فغسله وطيّبه وكفّنه ودفنه عنده في داره وهي بالكوفة تُعرف بدار الخزّ دار عمرو بن حريث المخزومي». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 152

اوَّلُ رأس حُمل في الإسلام! ..... ص : 152

اختلفت الروايات في من هو أوّل رأس حُمل في الإسلام؟ فقد صرّحت بعضها بأنّ أوّل رأس حُمل (أي رُفع على رمح) هو رأس الإمام الحسين عليه السلام، وصرّح البعض الآخر أنّ أوّل رأس حُمل (نُقل من بلدٍ إلى آخر) هو رأس عمرو ابن الحمق (رض).

ومع اختلاف معنى الحمل فإنّ هذه الروايات لاتعارض بعضها بعضاً، أمّا إذا كان المراد بالحمل هو نقل الرأس من بلد إلى آخر، فإنّ الجمع بين هذه الروايات ممكن أيضاً إذا قلنا: إنّ أوّل رأس من بني هاشم حُمل في الإسلام هو رأس الحسين عليه السلام، وأوّل رأس حُمل في الإسلام من غيرهم هو رأس عمرو بن الحمق (رض).

ومن أمثلة هذه الروايات:

1- روي عن عاصم، عن زرّ «1» قال: «أوّل رأس حمل على رمح في الإسلام رأس الحسين بن عليّ، فلم أر باكياً ولاباكية أكثر من ذلك اليوم.». «2»

2- وروى ابن سعد في طبقاته بسنده عن عاصم، عن زرّ أنّه قال: «أوّل رأس رُفع

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 153

على خشبة رأس الحسين.». «1»

3- وروى أيضاً بسنده عن الشعبي قال: «رأس الحسين أوّل رأس حُمل في الإسلام.». «2»

4- وعن ابن مسعود، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنه قال: «إنّ أوّل رأس يحمل على رمح في الإسلام رأس ولدي الحسين عليه السلام. وقال: أخبرني بذلك أخي جبرئيل عن الربّ العظيم.». «3»

5-

وقال ابن الأثير الجزري: «وكان رأسه أوّل رأس حُمل في الإسلام على خشبة في قول، والصحيح أنّ أوّل رأس حُمل في الإسلام رأس عمرو بن الحمق.». «4»

انتفاضة عبداللّه بن عفيف الأزدي (رض)! ..... ص : 153

ولمّا قام طارق بن المبارك لعنه اللّه بتقوير الرأس المقدّس امتثالًا لأمر ابن زياد، أمر هذا الطاغية بالرأس الشريف فنُصب على باب داره، ثمّ إنَّ ابن زياد نادى في الناس فجمعهم في المسجد الأعظم، ثم خرج ودخل المسجد، وصعد المنبر، «فحمد اللّه وأثنى عليه، فكان من بعض كلامه أن قال: الحمدُ للّه الذي أظهر الحقّ وأهله! ونصر أميرالمؤمنين وأشياعه! وقتل الكذّاب بن الكذّاب!!

قال فما زاد على هذا شيئاً حتّى وثب إليه عبداللّه بن عفيف الأزدي ثمّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 154

العامري «1»- أحد بني والبة- وكان من رؤساء الشيعة وخيارهم، وكان قد ذهبت عينه اليسرى يوم الجمل، والأخرى يوم صفّين، وكان لايكاد يفارق المسجد الأعظم، يصلّي فيه إلى الليل ثمّ ينصرف إلى منزله ..

فلمّا سمع مقالة ابن زياد وثب إليه وقال: يا ابن مرجانة! إنَّ الكذّاب وابن الكذّاب أنت وأبوك! ومن استعملك وأبوه! يا عدوَّ اللّه ورسوله! أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بهذا الكلام على منابر المسلمين!؟

فغضب عبيداللّه بن زياد وقال: من المتكلّم!؟

فقال: أنا المتكلّم يا عدوّ اللّه! أتقتل الذريّة الطاهرة الذين أذهب اللّه عنهم الرجس في كتابه وتزعم أنّك على دين الإسلام!؟ وا غوثاه! أين أولاد المهاجرين والأنصار لينتقموا من هذا الطاغية اللعين بن اللعين على لسان رسول اللّه ربّ العالمين!؟

فازداد غضب ابن زياد حتّى انتفخت أوداجه، فقال: عليَّ به!

فوثب إليه الجلاوزة فأخذوه، فنادى بشعار الأزد: يا مبرور.

وكان عبدالرحمن بن مخنف الأزدي «2» في المسجد، فقال: ويح نفسك!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 155

أهلكتها وأهلكت قومك.

وحاضر الكوفة يومئذٍ سبعمائة مقاتل من

الأزد، فوثبت إليه فتية من الأزد فانتزعوه منهم وانطلقوا به إلى منزله!

ونزل ابن زياد عن المنبر ودخل القصر، ودخلت عليه أشراف الناس!

فقال: أرأيتم ما صنع هؤلاء القوم!؟

قالوا: رأينا أصلح اللّه الأمير، إنّما فعل ذلك الأزد، فَشُدَّ يدَك بساداتهم فهم الذين استنقذوه من يدك!

فأرسل عبيداللّه إلى عبدالرحمن بن مخنف الأزدي فأخذه، وأخذ جماعة من أشراف الأزد فحبسهم، وقال: لاخرجتم من يدي أو تأتوني بعبداللّه بن عفيف!

ثمّ دعا بع مرو بن الحجّاج الزبيدي، ومحمّد بن الأشعث، وشبث بن ربعي، وجماعة من أصحابه، فقال لهم: إذهبوا إلى هذا الأعمى الذي أعمى اللّه قلبه كما أعمى عينيه، فأتوني به!

فانطلقوا يريدون عبداللّه بن عفيف، وبلغ الأزد ذلك، فاجتمعوا وانضمّت إليهم قبائل من اليمن ليمنعوا صاحبهم.

فبلغ ذلك ابن زياد، فجمع قبائل مضر وضمّهم إلى محمّد بن الأشعث، وأمره أن يُقاتل القوم!

فأقبلت قبائل مضر، ودنت منهم اليمن فاقتتلوا قتالًا شديداً، وبلغ ذلك ابن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 156

زياد فأرسل إلى أصحابه يؤنّبهم ويضعفهم!

فأرسل إليه عمرو بن الحجّاج يخبره باجتماع اليمن معهم، وبعث إليه شبث ابن ربعي: أيها الأمير! إنك بعثتنا إلى أسود الآجام فلا تعجل!

قال: واشتدّ اقتتال القوم حتى قُتلت جماعة من العرب، ووصل القوم إلى دار عبداللّه بن عفيف، فكسروا الباب واقتحموا عليه!

فصاحت ابنته: يا أبتي أتاك القوم من حيث تحذر!

فقال: لا عليكِ يا بنيّة! ناوليني سيفي.

فناولته السيف، فجعل يذبّ عن نفسه وهو يقول:

أنا ابن ذي الفضل عفيفِ الطاهرِ عفيف شيخي وانا ابن عامرِ

كم دارعٍ من جمعكم وحاسرِ وبطلٍ جدّلتُه مغاورِ

وجعلت ابنته تقول: ليتني كنتُ رجلًا فأقاتل بين يديك هؤلاء الفجرة، قاتلي العترة البررة!

وجعل القوم يدورون عليه من يمينه وشماله وورائه، وهو يذبّ عن نفسه بسيفه فليس أحدٌ يقدم عليه، كلّما جاءوه من

جهة قالت ابنته: جاءوك يا أبتي من جهة كذا! حتّى تكاثروا عليه من كل ناحية، وأحاطوا به، فقالت ابنته: واذلّاه! يُحاط بأبي وليس له ناصر يستعين به!

وجعل عبداللّه يُدافع ويقول:

واللّه لو يُكشف لي عن بصري ضاق عليكم موردي ومصدري

ومازالوا به حتّى أخذوه.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 157

فقال جندب بن عبداللّه الأزدي «1» صاحب رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّا للّه وإنّا إليه

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 158

راجعون! أخذوا واللّه عبداللّه بن عفيف، فقبّح اللّه العيش بعده! فقام وجعل يُقاتل من دونه، فأُخذ أيضاً وانطُلق بهما، وابن عفيف يردّد: واللّهِ لو يكشف لي عن بصري ...

فلمّا أُدخل على عبيداللّه، قال له: الحمدُ للّه الذي أخزاك!

فقال ابن عفيف: يا عدوَّ اللّه! بماذا أخزاني!؟ واللّه لو يُكشف عن بصري ...

فقال له: ما تقول في عثمان؟

فقال: يا ابن مرجانة! يا ابن سميّة! يا عبد بني علاج! ما أنت وعثمان!؟ أحسنَ أم أساء، وأصلح أم أفسد!؟ اللّه وليّ خلقه يقضي بينهم بالعدل والحق، ولكن سلني عنك وعن أبيك! وعن يزيد وأبيه!

فقال ابن زياد: لا سألتك عن شي ء أو تذوق الموت!

فقال ابن عفيف: الحمدّ للّه ربّ العالمين، كنت أسأل اللّه ان يرزقني الشهادة قبل أن تلدك أمّك مرجانة، وسألته أن يجعل الشهادة على يدي ألعن خلقه وأشرّهم وأبغضهم إليه، ولمّا ذهب بصري آيست من الشهادة، أمّا الآن فالحمدُ للّه

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 159

الذي رزقنيها بعد اليأس منها، وعرّفني الإستجابة منه لي في قديم دعائي!

فقال عبيداللّه: إضربوا عنقه! فضُربت، وصُلِب!

ثمّ دعا ابن زياد بجندب بن عبداللّه، فقال له: يا عدوَّ اللّه! ألستَ صاحب عليّ ابن أبي طالب يوم صفّين؟

قال: نعم: ولازلتُ له وليّاً ولكم عدوّاً! لا أبرأ من ذلك إليك ولا أعتذر

في ذلك وأتنصّل منه بين يديك!

فقال ابن زياد له: أما إنّي سأتقرب إلى اللّه بدمك!

فقال جندب: واللّه ما يقرّبك دمي إلى اللّه، ولكنّه يباعدك منه، وبعدُ: فإنّي لم يبق من عمري إلّا أقلّه، وما أكره أن يكرمني اللّه بهوانك!

فقال: أخرجوه عنّي، فإنّه شيخ قد خرف وذهب عقله!

فأُخرج وخُلّي سبيله.». «1»

ابن زياد يحاول استعادة الموادعة مع الأزد ..... ص : 159

لاشكّ في أنّ ابن زياد لم يقدم على قتل جندب بن عبداللّه الأزدي (جندب الخير) مع ما في قلبه من غلٍّ وحقدٍ متأجّج عليه، لا لأنّه رجل قد تقادم به العمر فخرف وذهب عقله! بل لأنَّ قتله بعد قتل عبداللّه بن عفيف (رض) قد يؤجّج الأزد ويحرّضهم عليه، وهم من القبائل التي لها حساب مهم في كلّ أمرٍ مُلّم.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 160

إذن فالسبب هو حسابات الموازنات في تهدئة العشائر الكبيرة وكسب مودّتها وعدم إثارتها، فعفوه عن جندب بن عبداللّه (رض) محاولة لتهدئة ثائرة الأزد بعد تفاقم الوضع وتأزّم العلاقة معهم نتيجة وقائع انتفاضة عبداللّه بن عفيف (رض).

وفي هذا الإتجاه يروي لنا ابن أعثم الكوفي قائلًا:

«ثُمَّ قُدّم إليه سفيان بن يزيد، «1» فقال له ابن زياد: ما الذي أخرجك عليَّ يا ابن المعقل!؟ فقال له: بلغني أنّ أصحابك أسروا عمّي فخرجت أدافع عنه.

قال فخلّى سبيله، وراقب فيه عشيرته. ثمّ دعا ب عبدالرحمن بن مخنف الأزدي فقال له: ما هذه الجماعة على بابك!؟ فقال: أصلح اللّه الأمير! ليس على بابي جماعة، وقد قتلتَ صاحبك الذي أردت، وانا لك سامع مطيع! وإخوتي لك جميعاً كذلك! قال فسكت عنه ابن زياد، ثمّ خلّاه وخلّى سبيل إخوته وبني عمّه.». «2»

وهكذا قبلت رؤوس الأزد (وهم أسود الآجام!) أن توادع ابن زياد موادعة ذليلة، وهذا شأن من يهاب المواجهة مع الطغاة!، فلم

يؤثر عن أحدٍ من أشراف

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 161

الأزد أنّه آثر التأسّي بعبداللّه بن عفيف (رض)، الأزدي ذي القلب البصير والنفس العزيزة الأبيّة، الذي انتفض بوجه الطاغية ابن زياد صارخاً بكلمة الحقّ التي صُعِق ابن زياد لها ولجرأة صاحبها، فنزل عن المنبر مخذولًا مدحوراً ودخل قصره حائراً فيما يمكن أن يواجه به هذا الثائر الفرد الذي كان أمّة في انتفاضته!

ابن زياد يطالب ابن سعد بكتاب الأمر بقتل الإمام عليه السلام! ..... ص : 161

قال ابن الأثير الجزري: «ثمّ إنّ ابن زياد قال لعمر بن سعد بعد عوده من قتل الحسين: يا عمر إئتني بالكتاب الذي كتبته إليك في قتل الحسين!

قال: مضيتُ لأمرك وضاع الكتاب!

قال: لتجئني به.

قال: ضاع!

قال: لتجئني به!

قال: تُرك واللّه يُقرأ على عجائز قريش بالمدينة إعتذاراً إليهنّ! أما واللّه لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعد بن أبي وقّاص لكنتُ قد أدّيتُ حقّه!

فقال عثمان بن زياد أخو عبيداللّه: صدق! واللّه لوددتُ أنّه ليس من بني زياد رجل إلّا وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنّ الحسين لم يُقتل!

فما أنكر ذلك عبيداللّه بن زياد!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 162

وخرج عمر بن سعد من مجلس ابن زياد وهو يتجرّع كأس الندامة ولايكاد يسيغه وهو يقول: «ما رجع أحدٌ إلى أهله بشرٍّ ممّا رجعتُ به! أطعت الفاجر الظالم ابن زياد، وعصيت الحكم العدل، وقطعت القرابة الشريفة!». «1»

المختار يتصدّى لابن زياد في المسجد الأعظم! ..... ص : 162

ينقل الخوارزمي عن محمّد بن إسحاق «2» صاحب السيرة: «أنّ عبيداللّه لمّا قتل ابن عفيف الأنصاري، «3» وجاءت الجمعة الثانية، صعد المنبر وبيده عمود من حديد، فخطب الناس وقال في آخر خطبته: الحمدُ للّه الذي أعزّ يزيد وجيشه بالعزّ والنصر! وأذلّ الحسين وجيشه بالقتل!

فقام إليه سيّد من سادات الكوفة وهو المختار بن أبي عبيد، فقال له: كذبت يا عدوَّ اللّه وعدوَّ رسوله! بل الحمدُ للّه الذي أعزّ الحسين وجيشه بالجنّة والمغفرة، وأذلَّك وأذلَّ يزيد وجيشه بالنار والخزي!

فحذفه ابن زياد بعموده الحديد الذي كان في يده فكسر جبينه، وقال للجلاوزة: خذوه! فأخذوه.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 163

فقال أهل الكوفة: أيّها الأمير، هذا هو المختار! وقد عرفت حسبه ونسبه، وختنه عمر بن سعد، وختنه الآخر عبداللّه بن عمر!

فأوجس في نفسه خيفة، فحبس المختار ولم

يتجرّأ على قتله، فكتب المختار إلى عبداللّه كتاباً شرح فيه القصّة، فكتب ابن عمر إلى يزيد: أمّا بعدُ: أفما رضيت بأن قتلت أهل نبيّك حتّى ولّيت على المسلمين من يسبّ أهل بيت نبيّنا ويقع فيهم على المنبر!؟، عبر عليه ابن عفيف فقتله! ثمّ عبر عليه المختار فشجّه وقيّده وحبسه!

فإذا أنت قرأت كتابي هذا فاكتب إلى ابن زياد بإطلاق المختار، وإلّا فواللّه لأرمينَ عبيداللّه بجيش لاطاقة له به والسلام.

فلمّا قرأ يزيد الكتاب غضب من ذلك، وكتب إلى ابن زياد: أمّا بعدُ: فقد ولّيتك العراق ولم أولّك على أن تسبّ آل النبيّ على المنابر وتقع فيهم، فإذا قرأت كتابي هذا فأطلق المختار من حبسك مكرماً، وإيّاك أن تعود إلى ما فعلت، وإلّا فوالذي نفسي بيده، بعثت إليك من يأخذ منك الذي فيه عيناك!

فلمّا ورد الكتاب على ابن زياد أخرج المختار من حبسه، ودعا بمشايخ الكوفة وسلّمه إليهم سالماً، فخرج المختار من الكوفة هارباً نحو الحجاز ...». «1»

لكنّ المرحوم السيّد المقرّم ينقل عن كتاب «الأعلاق النفيسة» لابن رسته أنّه «لمّا أحضر ابن زياد السبايا في مجلسه أمر بإحضار المختار وكان محبوساً عنده من يوم قتل مسلم بن عقيل، فلمّا رأى المختار هيئة منكرة زفر زفرة شديدة، وجرى بينه وبين ابن زياد كلام أغلظ فيه المختار، فغضب ابن زياد وأرجعه الى

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 164

الحبس، ويقال ضربه بالسوط على عينه فذهبت!». «1»

وينقل صاحب كتاب «معالى السبطين» هذه الصورة:

«وفي بعض الكتب: ثمّ إنّ ابن زياد استخرج المختار من الحبس، وكان محبوساً، لأنّه لمّا قتل مسلماً وهانياً وبعث برأسيهما إلى يزيد، كتب يزيد كتاباً إلى ابن زياد يشكره في ذلك، وكتب أنه بلغني أنّ حسيناً توجّه إلى العراق، فَضَعِ المناظر والمسالح،

وأقتل واحبس على الظنّة والتهمة، فلمّا وصل الكتاب الى ابن زياد قتل من قتل، وحبس جماعة من الشيعة منهم المختار، فبقي في السجن حتى جي ء برأس الحسين عليه السلام، ووضع بين يديه فغطّاه بمنديل، واستخرج المختار من الحبس، وجعل يستهزي ء عليه (كذا)! فقال المختار، ويلك أتستهزي ء عليَّ وقد قرّب اللّه فرجي!؟

فقال ابن زياد: من أين يأتيك الفرج يا مختار!؟

قال: بلغني أنّ سيّدي ومولاي الحسين قد توجّه نحو العراق، فلابدّ أن يكون خلاصي على يده!

قال اللعين: خاب ظنّك ورجاؤك يا مختار! إنّا قتلنا الحسين!

قال: صه! فضَّ اللّه فاك! ومن يقدر على قتل سيّدي ومولاي الحسين!؟

قال له: يا مختار انظر! هذا رأس الحسين!

فرفع المنديل وإذا بالرأس بين يديه في طشت من المذهب، فلمّا نظر المختار إلى الرأس الشريف جعل يلطم على رأسه وينادي: وا سيّداه! وا مظلوماه!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 165

إشارة ..... ص : 165

يبدو من مجموع روايات حبس المختار (ره) أنه كان قد حُبس مرّتين، الأولى: حين حُبس مع ميثم التمّار (رض) في أوائل أيام ولاية ابن زياد على الكوفة، ثمّ أُخرج بشفاعة عبداللّه بن عمر له عند يزيد، والثانية: حين حُبس مع عبداللّه بن الحارث ابن نوفل في ختام حركة مسلم بن عقيل عليهما السلام في الكوفة «وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تُدعى (خطوانيّة) فجاء بمواليه يحمل راية خضراء، ويحمل عبداللّه بن الحارث راية حمراء، وركز المختار رايته على باب عمرو بن حُريث وقال: أردتُ أن أمنع عمراً!

ووضح لهما قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، وأُشير عليهما بالدخول تحت راية الأمان عند عمرو بن حريث ففعلا، وشهد لهما ابن حُريث باجتنابهما ابن عقيل، فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب

فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قُتل الحسين عليه السلام». «1»

لكنّ السيّد المقرّم (ره) يستفيد من رواية الخوارزمي الماضية أنّ عبداللّه بن عمر كان قد تشفّع في المختار مرتين وأطلقه من الحبس في كلّ منهما، حيث يقول: «وبعد قتل ابن عفيف كان المختار بن أبي عبيدالثقفي مُطلق السراح بشفاعة عبداللّه بن عمر بن الخطاب عند يزيد، فإنّه زوج أخته صفيّة بنت أبي عبيدالثقفي، ولكنّ ابن زياد أجّله في الكوفة ثلاثاً، ولمّا خطب ابن زياد بعد قتل ابن عفيف، ونال من أميرالمؤمنين عليه السلام ثار المختار في وجهه وشتمه وقال: كذبت يا عدوّ اللّه وعدوّ رسوله! بل الحمد للّه الذي أعزّ الحسين وجيشه بالجنّة والمغفرة، وأذلّك وأذلّ يزيد وجيشه بالنار والخزي.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 166

فخدفه ابن زياد بعمود حديد فكسر جبهته وأمر به إلى السجن، ولكنّ النّاس عرّفوه بأنّ عمر بن سعد صهره على أخته، وصهره الآخر عبد اللّه بن عمر، وذكروا ارتفاع نسبه فعدل عن قتله، وأبقاه في السجن، ثمّ تشفّع فيه ثانياً عبداللّه بن عمر عند يزيد، فكتب الى عبيداللّه بن زياد بإطلاقه ...». «1»

مقتل وَلَدَيْ مسلم بن عقيل عليهما السلام ..... ص : 166

روى الشيخ الصدوق (ره) بسندٍ إلى حمران بن أعين (ره)، عن أبي محمّد شيخ لأهل الكوفة قال: «لمّا قُتل الحسين بن عليّ عليه السلام أُسِرَ من عسكره غُلامان صغيران، فأُتي بهما عبيداللّه ابن زياد، فدعا سجّاناً له فقال: خُذ هذين الغلامين إليك، فمِنْ طيّب الطعام فلا تطعهما، ومن البارد فلا تسقهما، وضيّق عليهما سجنهما!

وكان الغلامان يصومان النهار، فإذا جنّهما الليل أُتيا بقرصين من شعير، وكوز من ماء القراح! فلمّا طال بالغلامين المكث حتّى صارا في السنّة! قال أحدهما لصاحبه: يا أخي، قد طال بنا مكثنا، ويوشك أن تفنى

أعمارنا وتبلى أبداننا! فإذا جاء الشيخ فأعلمه مكاننا وتقرّب إليه بمحمّد صلى الله عليه و آله لعلّه يوسّع علينا في طعامنا ويزيدنا في شرابنا!

فلمّا جنّهما الليل أقبل الشيخ إليهما بقرصين من شعير وكوز من ماء القراح.

فقال له الغلام الصغير: يا شيخ، أتعرف محمّداً؟

قال: فكيف لا أعرف محمّداً، وهو نبيي!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 167

قال: أفتعرف جعفر بن أبي طالب؟

قال: وكيف لا أعرف جعفراً، وقد أنبت اللّه له جناحين يطير بهما مع الملائكة كيف يشاء!؟

قال: أفتعرف عليَّ بن ابي طالب عليه السلام؟

قال: وكيف لا أعرف عليّاً، وهو ابن عمّ نبيي وأخو نبيّي!؟

قال له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله، ونحن من وُلدِ مسلم بن عقيل بن أبي طالب، بيدك أُسارى، نسألك من طيّب الطعام فلا تطعمنا، ومن بارد الشراب فلا تسقينا، وقد ضيّقت علينا سجننا!!

فانكبّ الشيخ على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء! ووجهي لوجهكما الوقاء يا عترة نبيّ اللّه المصطفى! هذا باب السجن بين يديكما مفتوح! فخذا في أيّ طريق شئتما!

فلمّا جنّهما الليل أتاهما بقرصين من شعير وكوز من ماء القراح! ووقفهما على الطريق، وقال لهما: سيرا يا حبيبيّ الليل، واكمُنا النهار، حتّى يجعل اللّه عزّ وجلّ لكما من أمركما فرجاً ومخرجاً!

ففعل الغلامان ذلك، فلمّا جنّهما الليل انتهيا إلى عجوز على باب فقالا لها: يا عجوز، إنّا غلامان صغيران غريبان، حدثان غير خبيرين بالطريق، وهذا الليل قد جنّنا، أضيفينا سواد ليلتنا هذه، فإذا أصبحنا لزمنا الطريق!

فقالت لهما: فمن أنتما يا حبيبيّ؟ فقد شممت الروائح كلّها فما شممت رائحة أطيب من رائحتكما!

فقالا لها: يا عجوز، نحن من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله، هربنا من سجن عبيداللّه ابن زياد

من القتل!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 168

قالت: يا حبيبيّ إنّ لي ختناً قد شهد الواقعة مع عبيداللّه بن زياد، أتخوّف أن يصيبكما هاهنا فيقتلكما!

قالا: سواد ليلتنا هذه فإذا أصبحنا لزمنا الطريق.

فقالت: سآتيكما بطعام.

ثمّ أتتهما بطعام فأكلا وشربا، ولمّا ولجا الفراش قال الصغير للكبير: يا أخي، إنّا نرجوا أن نكون قد أمنا ليلتنا هذه، فتعال حتّى أُعانقك وتعانقني، وأشمّ رائحتُك وتشمّ رائحتي، قبل أن يفرّق الموت بيننا!

ففعل الغلامان ذلك واعتنقا وناما، فلمّا كان في بعض الليل أقبل ختن العجوز الفاسق حتّى قرع الباب خفيفاً، فقالت العجوز: من هذا؟

قال: أنا فلان!

قالت: ما الذي أطرقك هذه الساعة، وليس هذا لك بوقت!؟

قال: ويحك! إفتحي الباب قبل أن يطير عقلي وتنشق مرارتي في جوفي جهد البلاء الذي قد نزل بي!

قالت: ويحك! ما الذي نزل بك؟!

قال: هرب غلامان صغيران من عسكر عبيداللّه بن زياد، فنادى الأمير في معسكره: من جاء برأس واحدٍ منهما فله ألف درهم! ومن جاء برأسيهما فله ألفا درهم! فقد أتعبت وتعبت ولم يصل في يدي شي ء!

فقالت العجوز: ياختني! إحذر أن يكون محمّد خصمك في القيامة!

قال: ويحكِ! إنّ الدنيا مُحرص عليها!

فقالت: وما تصنع بالدنيا وليست معها آخرة!؟

قال: إنّي لأراك تحامين عنهما، كأنّ عندك من طلب الأمير شي ء!؟ قومي فإنّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 169

الأمير يدعوك!

قالت: ما يصنع الأمير بي، وإنّما أنا عجوز في هذه البريّة!؟

قال: إنّما ليَ الطلب! إفتحي لي الباب حتى أُريح واستريح، فإذا أصبحتُ فكّرت في أيّ الطريق آخذُ في طلبهما.

ففتحت له الباب، وأتته بطعام وشراب، فأكل وشرب، فلمّا كان في بعض الليل سمع غطيط الغلامين في جوف الليل، فأقبل يهيج كما يهيج البعير الهائج، ويخور كما يخور الثور، ويلمس بكفّه جدار البيت حتى وقعت يده على جنب

الغلام الصغير!

فقال له: من هذا؟

قال: أمّا أنا فصاحب المنزل، فمن أنتما!؟

فأقبل الصغير يحرّك الكبير ويقول: قم يا حبيبي، فقد واللّه وقعنا فيما كنّا نحاذره!

قال لهما: من أنتما!؟

قالا له: يا شيخ، إن نحن صدقناك فلنا الأمان!؟

قال: نعم!

قالا: أمان اللّه وأمان رسوله، وذمّة اللّه وذمّة رسول اللّه؟

قال: نعم!

قالا: ومحمّد بن عبداللّه على ذلك من الشاهدين؟

قال: نعم!

قالا: واللّه على ما نقول وكيل وشهيد؟

قال: نعم!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 170

قالا له: يا شيخ، فنحن من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله، هربنا من سجن عبيداللّه بن زياد من القتل!

فقال لهما: من الموت هربتما، وإلى الموت وقعتما! الحمّد للّه الذي أظفرني بكما!

فقام إلى الغلامين فشدّ أكتافهما، فبات الغلامان ليلتهما مكتّفين، فلمّا انفجر عمود الصبح دعا غلاماً له أسود يُقال له فليح، فقال: خذ هذين الغلامين فانطلق بهما إلى شاطي ء الفرات وأضرب أعناقهما، وأئتني برؤسهما لأنطلق بهما إلى عبيداللّه بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم.

فحمل الغلام السيف، فمضى بهما ومشى أمام الغلامين، فما مضى إلّا غير بعيد حتّى قال أحد الغلامين: يا أسود، ما أشبه سوادك بسواد بلال مؤذّن رسول اللّه!!

قال: إنّ مولاي قد أمرني بقتلكما، فمن أنتما؟

قالا له: يا أسود، نحن من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله، هربنا من سجن عبيداللّه بن زياد من القتل، أضافتنا عجوزكم هذه، ويريد مولاك قتلنا!

فانكبّ الأسود على أقدامهما يقبّلهما ويقول: نفسي لنفسكما الفداء، ووجهي لوجهكما الوقاء يا عترة نبيّ اللّه المصطفى! واللّه لايكون محمّد صلى الله عليه و آله خصمي في القيامة.

ثمّ عدا فرمى السيف من يده ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر إلى الجانب الآخر، فصاح به مولاه: يا غلام عصيتني!؟

فقال: يا مولاي! إنّما أطعتك ما دمت لاتعصي اللّه،

فإذا عصيت اللّه فأنا منك بري ء في الدنيا والآخرة!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 171

فدعا إبنه فقال: يا بني! إنّما أجمع الدنيا حلالها وحرامها لك! والدنيا مُحرصٌ عليها، فخذ هذين الغلامين إليك فانطلق بهما إلى شاطي ء الفرات فاضرب أعناقهما، وائتني برؤسهما لأنطلق بهما إلى عبيداللّه بن زياد وآخذ جائزة ألفي درهم.

فأخذ الغلام السيف، ومشى أمام الغلامين، فما مضى (فما مضيا) إلّا غير بعيد حتّى قال أحد الغلامين: يا شاب! ما أخوفني على شبابك هذا من نار جهنّم!

فقال: يا حبيبيَّ فمن أنتما؟

قالا: من عترة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله يريد والدك قتلنا!

فانكبّ الغلام على أقدامهما يقبّلهما ويقول لهما مقالة الأسود، ورمى بالسيف ناحية، وطرح نفسه في الفرات وعبر! فصاح به أبوه: يا بنيَّ! عصيتني!؟

قال: لأن أطيع اللّه وأعصيك أحبّ إليّ من أن أعصي اللّه وأطيعك.

قال الشيخ: لايلي قتلكما أحدٌ غيري! وأخذ السيف ومشى أمامهما، فلمّا صار إلى شاطي ء الفرات سلّ السيف من جفنه، فلمّا نظر الغلامان إلى السيف مسلولًا اغرورقت أعينهما وقالا له: يا شيخ! انطلق بنا إلى السوق واستمتع بأثماننا، ولاترد أن يكون محمّد خصمك في القيامة غداً!

فقال: لا! ولكن أقتلكما وأذهب برأسيكما الى عبيداللّه بن زياد، وأخذ جائزة ألفين!

فقالا له: يا شيخ! أما تحفظ قرابتنا من رسول اللّه صلى الله عليه و آله!؟

فقال: ما لكما من رسول اللّه قرابة!!

قالا: يا شيخ! فائت بنا إلى عبيداللّه بن زياد حتى يحكم فينا بأمره!

قال: ما بي إلى ذلك سبيل إلّا التقرّب إليه بدمكما!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 172

قالا له: يا شيخ! أما ترحم صغر سننا!؟

قال: ما جعل اللّه لكما في قلبي من الرحمة شيئاً!

قالا: يا شيخ! إن كان ولابدّ فدعنا نصلّي ركعات!

قال: فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة!

فصلّى

الغلامان أربع ركعات، ثمّ رفعا طرفيهما إلى السماء فناديا: يا حيّ يا حكيم يا أحكم الحاكمين! أحكم بيننا وبينه بالحقّ!

فقام إلى الأكبر فضرب عنقه وأخذ برأسه ووضعه في المخلاة! وأقبل الغلام الصغير يتمرّغ في دم أخيه وهو يقول: حتّى ألقى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأنا مختضب بدم أخي!

فقال: لا عليك، سوف أُلحقك بأخيك! ثمّ قام إلى الغلام الصغير فضرب عنقه وأخذ رأسه ووضعه في المخلاة! ورمى ببدنيهما في الماء وهما يقطران دماً!

ومرَّ حتّى أتى بهما عبيداللّه بن زياد وهو قاعد على كرسيّ له، وبيده قضيب خيزران، فوضع الرأسين بين يديه، فلمّا نظر إليهما قام ثمّ قعد ثلاثاً، ثمّ قال: الويل لك! أين ظفرت بهما!

قال: أضافتهما عجوز لنا!

قال: فما عرفت حقّ الضيافة!؟

قال: لا!

قال: فأيّ شي ء قالا لك؟

قال: قالا: يا شيخ! إذهب بنا إلى السوق فبعنا فانتفع بأثماننا، فلا نرد أن يكون محمّد صلى الله عليه و آله خصمك في القيامة!

قال: فأيّ شي ء قلت لهما!؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 173

قال: قلت: لا! ولكن أقتلكما وانطلق برأسيكما إلى عبيداللّه بن زياد، وآخذ ألفي درهم.

قال: فأيّ شي ء قالا لك؟

قال: قالا: إئت بنا إلى عبيداللّه بن زياد حتّى يحكم فينا بأمره!

قال: فأي شي ء قلت!؟

قال: قلت: ليس لي إلى ذلك سبيل إلّا التقرّب إليك بدمهما!

قال: أفلا جئتني بهما حيَّيْن فكنت أضاعف لك الجائزة وأجعلها أربعة آلاف درهم!؟

قال: ما رأيت إلى ذلك سبيلًا إلّا التقرّب إليك بدمهما!

قال: فأيّ شي ء قالا لك أيضاً؟

قال: قالا: يا شيخ! إحفظ قرابتنا من رسول اللّه!

قال: فأيّ شي ء قلت لهما!؟

قال: قلت: مالكما من رسول اللّه قرابة!

قال: ويلك! فأيّ شي ء قالا لك أيضاً؟

قال: قالا: يا شيخ! إرحم صغر سننا!

قال: فما رحمتهما!؟

قال: قلت: ما جعل اللّه لكما من

الرحمة في قلبي شيئاً!

قال: ويلك؟ فأيّ شي ء قالا لك أيضاً؟

قال: قالا: دعنا نصلّي ركعات. فقلت: فصلّيا ما شئتما إن نفعتكما الصلاة! فصلّى الغلامان أربع ركعات.

قال: فأيّ شي ء قالا في آخر صلاتهما؟

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 174

قال: رفعا طرفيهما إلى السماء وقالا: يا حيّ يا حكيم يا أحكم الحاكمين! أحكم بيننا وبينه بالحقّ!

قال عبيداللّه بن زياد: فإنّ أحكم الحاكمين قد حكم بينكم وبين الفاسق!

قال فانتدب له رجل من أهل الشام فقال: أنا له!

قال: فانطلق به إلى الموضع الذي قتل فيه الغلامين فاضرب عنقه، ولاتترك أن يختلط دمه بدمهما، وعجّل برأسه! ففعل الرجل ذلك، وجاء برأسه فنصبه على قناة، فجعل الصبيان يرمونه بالنبل والحجارة وهم يقولون: هذا قاتل ذريّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 175

المقصد الثاني

الفصل الثاني: مع الركب الحسينيّ من الكوفة إلى الشام ..... ص : 175

مدّة بقاء الركب الحسينيّ في الكوفة ..... ص : 175

يُستفاد من بعض النصوص أنّ بقيّة الركب الحسينيّ لم يطل بقاؤهم في الكوفة إلّا يومين أو يوماً وبعض يوم!، كما في، نصّ سبط ابن الجوزي حيث يقول: «ثمّ إنّ ابن زياد حطّ الرؤوس في اليوم الثاني وجهّزها والسبايا إلى الشام إلى يزيد بن معاوية.»، «1» وهذه المدّة هي أقلّ مدّة ممكنة.

لكنّ نصوصاً أخرى تفيد أنهم بقوا في الكوفة المدّة التي يستغرقها ذهاب وإياب البريد بين الكوفة ودمشق، كما في نصّ ابن الأثير الجزري حيث يقول: «إنّ آل الحسين لمّا وصلوا إلى الكوفة حبسهم ابن زياد، وأرسل إلى يزيد بالخبر، فبينما هم في الحبس إذ سقط عليهم حجر فيه كتاب مربوط، وفيه: إنّ البريد سار بأمركم إلى يزيد، فيصل يوم كذا ويعود يوم كذا، فإن سمعتم التكبير فأيقنوا بالقتل! وإن لم تسمعوا تكبيراً فهو الأمان.

فلمّا كان قبل قدوم البريد بيومين أو ثلاثة إذا حجرٌ قد أُلقي، وفيه

كتاب يقول:

أوصوا وأعهدوا فقد قارب وصول البريد.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 178

والظاهر أنّ البريد آنذاك كان على نوعين: «بريد الطير»، و «بريد الخيل»، وبريد الطير أسرع من بريد الخيل، وبريد الخيل أسرع كثيراً من رحلة مسافر أو أكثر يجدّون السير على نفس مسافة البريد، ذلك لأن الخيل في البريد وهي من أجود الخيل وأسرعها تقطع مسافة جزئية من مسافة البريد، ثمَّ تسلّم البريد إلى غيرها لتقطع مسافة جزئية أخرى بعدها، وهكذا حتّى تتمّ مسافة البريد كلّها، فلا تعاني أفراس البريد ولا فرسانها من تعب ولا نصب، ويتمّ إيصال البريد بأسرع وقت ممكن!

فإذا علمنا- في ضوء بعض النصوص «1»- أنّ عميرة الذي أرسله عبداللّه بن عمر إلى يزيد ومعه كتاب يشفع فيه لإطلاق سراح المختار من سجن ابن زياد، توجّه إلى الكوفة من الشام حاملًا كتاب يزيد إلى ابن زياد بإطلاق سراح المختار، وقد قطع المسافة بين الشام والكوفة بأحد عشر يوماً! أمكننا القول بأنّ «بريد الخيل» يقطع هذه المسافة- بين دمشق والكوفة- في ستّة أيّام مثلًا.

وإذا علمنا- في ضوء نصوص أخرى «2»- أنّ هناك طريقاً مستقيماً بين الشام والعراق يمكن أن يقطعه المسافر في العادة خلال مدّة أسبوع، وكان عرب عقيل يسلكون هذا الطريق، كما كان عرب صليب يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيام، أمكننا أن نقبل بأنّ البريد آنذاك يمكن أن يقطع المسافة بين الكوفة ودمشق في سبعة أيّام أو أقلّ.

وإذا افترضنا أنّ ابن زياد كتب إلى يزيد بخبر انتهاء وقعة الطفّ مباشرة بعد

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 179

انتهائها، وأنّ البريد تحرّك برسالته إلى يزيد في ليلة الحادي عشر أو في اليوم الحادي عشر، فإنه يمكننا أن نحتمل- على فرض أنّ مدّة البريد

أسبوع- أن البريد وصل إلى دمشق حوالي اليوم السابع عشر من المحرّم.

وإذا افترضنا أيضاً أنّه تحرّك من دمشق إلى الكوفة بجواب يزيد في نفس اليوم، فإنّ من المحتمل أيضاً أنّه يصلها حوالي اليوم الرابع والعشرين من المحرّم.

وإذا قلنا أن الركب الحسينيّ تحرّك من الكوفة إلى الشام في نفس اليوم الرابع والعشرين من المحرّم، فإنَّ مدّة بقائهم في الكوفة- وهي تبدأ من اليوم الثاني عشر- تكون حوالي إثني عشر يوماً على احتمال قويّ، واللّه العالم.

كيف حُمل بقيّة أهل البيت عليهم السلام إلى يزيد!؟ ..... ص : 179

فيما رواه الطبري قوله: «ثُمّ إنّ عبيداللّه أمر بنساء الحسين وصبيانه فجُهّزن، وأمر بعليّ بن الحسين فَغُلَّ بغُلٍّ إلى عنقه! ثمّ سرّح بهم مع مُحفّز بن ثعلبة العائذي- عائذة قريش- ومع شمر بن ذي الجوشن، فانطلقا بهم حتّى قدموا على يزيد، فلم يكن عليٌّ بن الحسين يُكلِّم أحداً منهما في الطريق كلمة حتّى بلغوا ..». «1»

وقال السيد ابن طاووس (ره): «وأمّا يزيد بن معاوية فإنّه لمّا وصل كتاب ابن زياد ووقف عليه أعاد الجواب إليه يأمره فيه بحمل رأس الحسين عليه السلام إليه ورؤوس من قُتل معه، وبحمل أثقاله ونسائه وعياله، فاستدعى ابن زياد بمخفر بن ثعلبة العائذي فسلّم إليه الرؤوس والأسارى والنساء، فسار بهم مخفر إلى الشام كما يُسار بسبايا الكفّار، يتصفّح وجوههنّ أهل الأقطار!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 180

ويقول السيّد ابن طاووس (ره) في كتابه (إقبال الأعمال): «رأيتُ في كتاب المصابيح بإسناده إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام قال:

قال لي أبي محمّد بن عليّ: سألت أبي عليَّ بن الحسين عن حمل يزيد له، فقال:

حملني على بعير يطلع بغير وطاء! ورأس الحسين عليه السلام على علم! ونسوتنا خلفي على بغال، فأكفّ، والفارطة خلفنا وحولنا بالرماح، إن دمعت من أحدنا عين

قُرع رأسه بالرمح! حتّى إذا دخلنا دمشق صاح صائح: يا أهل الشام هؤلاء سبايا أهل البيت الملعون!». «1»

ويقول ابن الصبّاغ المالكي في كتابه الفصول المهمّة: «وقد جعل ابن زياد الغلَّ في يديه- أي الإمام السجّاد عليه السلام- وفي عنقه، ولم يزالوا سايرين بهم على تلك الحالة إلى أن وصلوا الشام.». «2»

وفيما يرويه لنا الصحابيّ سهل بن سعد «3» عن لقائه بالركب الحسينيّ في

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 181

دمشق قوله: «... فبينا أنا كذلك، حتّى رأيت الرايات يتلو بعضها بعضاً، فإذا نحن بفارس بيده لواء منزوع السنان، عليه رأس أشبه الناس وجهاً برسول اللّه صلى الله عليه و آله! فإذا أنا من ورائه رأيت نسوة على جمال بغير وطاء ...». «1»

وإنّ صفة دخول بقيّة أهل البيت عليهم السلام على يزيد كاشفة عن حالهم الأصعب أثناء الطريق، يقول السيّد ابن طاووس (ره): «ثُمّ أُدخل ثقل الحسين عليه السلام ونساؤه ومن تخلّف من أهله على يزيد، وهم مقرّنون في الحبال! فلمّا وقفوا بين يديه وهم على تلك الحال قال له عليّ بن الحسين:

أُنشدك اللّه يا يزيد! ما ظنّك برسول اللّه لو رآنا على هذه الحال!؟ ...». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 182

وفي خطبة مولاتنا زينب العقيلة عليها السلام في مجلس يزيد صورة وافية لطريقة حمل بقيّة أهل البيت عليهم السلام من الكوفة إلى الشام، حيث قالت عليها السلام وهي تقرّع الطاغية:

«أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول اللّه سبايا قد هتكت ستورهنّ!؟ وأبديت وجوههن!؟ تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد!؟ ويستشرفهنّ أهل المناهل والمناقل؟! ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدنيّ والشريف!؟ ليس معهن من رجالهنّ وليّ، ولا من حماتهنّ حميّ!؟ ...». «1»

هل كانت الرؤوس المقدّسة مع الركب الحسينيّ؟ ..... ص : 182

يُستفاد من النصوص التي

مضت عن السيّد ابن طاووس (ره) أنّ الرؤوس المقدّسة كانت مع الركب الحسينيّ في حركته من الكوفة إلى الشام.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 183

لكنّ نصوصاً أخرى تُشعر أنّ الرؤوس المقدّسة سبقت الركب الحسينيّ إلى الشام، كما في نصّ الشيخ المفيد (ره) حيث يقول: «ولمّا فرغ القوم من التطوّف به- أي الرأس المقدّس- بالكوفة، ردّه إلى باب القصر، فدفعه ابن زياد إلى زحر بن قيس، «1» ودفع إليه رؤوس أصحابه، وسرّحه إلى يزيد بن معاوية عليهم لعائن اللّه ولعنة اللاعنين في السموات والأرضين، وأنفذ معه أبابردة بن عوف الأزدي، «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 184

وطارق بن أبي ظبيان، «1» في جماعة من أهل الكوفة حتّى وردوا بها على يزيد بدمشق.». «2»

وأوضح من ذلك في هذا الصدد ما قاله الشيخ المفيد (ره) أيضاً: «ثمّ إنّ عبيداللّه بن زياد بعد إنفاذه برأس الحسين عليه السلام أمر بنسائه وصبيانه فجهّزوا، وأمر بعليّ بن الحسين فغُلّ بِغلّ إلى عنقه، ثمّ سرّح بهم في أثر الرأس مع مجفر بن ثعلبة العائذي، وشمر بن ذي الجوشن، فانطلقوا بهم حتّى لحقوا بالقوم الذين معهم الرأس، ولم يكن عليّ بن الحسين عليه السلام يكلّم أحداً من القوم في الطريق كلمة حتّى بلغوا ...». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 185

منازل الطريق من الكوفة إلى دمشق ..... ص : 185
اشارة

هناك طريقان يصلان بين الكوفة ودمشق، عرضت لذكرهما بعض الكتب التي تناولت الحديث في قصة سفر الركب الحسينيّ من الكوفة إلى الشام، وهذان الطريقان هما:

1- الطريق السلطاني: ..... ص : 185

وهو الطريق الذي ذكره الميرزا النوري، «1» وذهب إلى أنّ بقيّة الركب الحسيني كانوا قد سلكوا هذا الطريق من الكوفة الى الشام، وعلى هذا كان الميرزا النوري قد استبعد أن تكون زيارة الأربعين التي زار بها بقيّة أهل البيت عليهم السلام قبر الحسين عليه السلام في الأربعين يوماً الأولى بعد مقتله في سنة 61 للهجرة.

وهذا الطريق مع طوله وكثرة منازله لايمكن لسالك يجدّ السير فيه ولايلوي على أحد ولايتوقّف في منزل أن يسلكه في أقلّ من عشرة أيّام، ولو أردنا أن نقبل بأنّ مسير الركب الحسيني كان على هذا الطريق، ونقبل جميع ما حدث لهم في منازله لاستغرق ذلك سنة من الزمان على قول بعض المحققّين!. «2»

ومنازل هذا الطريق على ما ذهب إليه فرهاد ميرزا صاحب كتاب «قمقام زخّار» هي: حرّان، حصاصة، تكريت، وادي النخلة، برصاباد، الموصل، عين الوردة، قنسرين، معرّة النعمان، كفرطاب، الشيرز، الحمى (حماة)، حمص، بعلبك. «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 186

وقد وردت أسماء منازل هذا الطريق في المقتل المنسوب لأبي مخنف متفاوتة في الترتيب، مع إضافة ونقص. «1»

والمتأمّل في الخرائط الجغرافية يجدها لاتقبل بترتيب بعض تلك المنازل!! ويقول المرحوم المحدّث الشيخ عبّاس القميّ: «إعلم أنّ ترتيب المنازل التي نزلوها في كلّ مرحلة باتوا بها أم عبروها منها غير معلوم ولامذكور في شي ء من الكتب المعتبرة، بل ليس في أكثرها كيفية مسافرة أهل البيت إلى الشام ...». «2»

2- الطريق المستقيم (طريق عرب عقيل): ..... ص : 186

وهو طريق يمكن قطعه في مدّة أسبوع لكونه مستقيماً، وممّن ذهب إلى أنّ أهل البيت عليهم السلام سلكوا هذا الطريق هو المرحوم السيد محسن الأمين في موسوعته الكبيرة (أعيان الشيعة) حيث يقول: «.. والمشهور أنّهم وصلوا إلى كربلاء في العشرين من صفر، ومنه زيارة الأربعين الواردة عن

أئمّة أهل البيت عليهم السلام للحسين عليه السلام.

وقد يستبعد ذلك بأنّ المسافة بين العراق والشام تقطع في نحو من شهر، ولابدّ يكونوا بقوا في الشام مدّة، فكيف يمكن استيعاب الذهاب والإياب والبقاء في الشام، والذهاب للكوفة والبقاء فيها، أربعين يوماً؟!

ويمكن دفع الإستبعاد بأنّه يوجد طريق بين الشام والعراق يمكن قطعه في أسبوع لكونه مستقيماً، وكان عرب عقيل يسلكونه في زماننا.

وتدلّ بعض الأخبار على أنّ البريد كان يذهب من الشام للعراق في أسبوع،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 187

وعرب صليب يذهبون من حوران للنجف في نحو ثمانية أيّام.

فلعلّهم سلكوا هذا الطريق وتزوّدوا ما يكفيهم من الماء، وأقلّوا المقام في الكوفة والشام، واللّه أعلم.». «1»

ونحن أيضاً نرجّح أنّ أعداء اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله كانوا قد سلكوا ببقية الركب الحسيني في سفرهم من الكوفة إلى الشام أقصر الطرق مسافة، سواء أكان طريق عرب عقيل أو غيره، ونستبعد أنّهم سلكوا ما يُسمّى بالطريق السلطاني الطويل.

ذلك لأنّ من الطبيعي يومذاك أن يحرص كلٌّ من يزيد وابن زياد وجلاوزتهم الموكّلين ببقية الركب الحسيني على وصول هذا الركب إلى دمشق في أسرع وقت ممكن! ويتوسّلوا بكلّ الوسائل المساعدة لتحقيق هذه الرغبة!

أمّا يزيد لعنه اللّه، فلكي يروي ظمأه إلى التشفّي بمشهد انكسار أهل البيت عليهم السلام من رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين متوهماً أن بني أميّة عدلوا يوم عاشوراء ببدر فاعتدل! حتّى استشهد بشعر ابن الزبعرى في هذا المعنى! جذلان بمظاهر الظفر المكذوب!

وأمّا ابن زياد لعنه اللّه، فلكي يُري أميره يزيد كيف نفّذ أوامره كما يحبّ ويرضى! حتّى يحظى عنده بمزيد من الوجاهة والمنزلة والإعتماد، فهو على عجلة من أمر وصول بقيّة الركب الحسيني إلى الشام بأسرع وقت، من

أجل دفقة سرور موهومة تدخل على قلب يزيد تنعكس آثارها الإيجابية على حياة ابن زياد ومصيره!

وأمّا الجلاوزة لعنهم اللّه الذين رافقوا الركب الحسيني فهم أشدّ لهفة إلى

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 188

الوصول بالركب الى الشام بأسرع ما يمكن من الوقت، طمعاً في نوال جوائز يزيد، والحصول على مزيد من الحظوة عنده!

فكانت جميع مصالح الطغاة وجلاوزتهم تدعو الى اعتساف أقصر الطرق من الكوفة إلى الشام!! ويُذكر أيضاً أنّ جلاوزة ابن زياد حينما خرجوا برأس الحسين عليه السلام من الكوفة كانوا يخافون من قبائل العرب أن تثور فيهم الغيرة والحميّة، فكانوا يخشون أن يأخذوا منهم الرأس المقدّس ولذا كانوا يتجنّبون السير على الجادة المعروفة، وكلّما وصلوا إلى قبيلة طلبوا العلوفة وقالوا معنا رأس خارجيّ!. «1»

جملة من وقائع الطريق إلى الشام ..... ص : 188
اشارة

أشارت مصادر تأريخية إلى جملة من وقائع حدثت على طريق الركب الحسيني من الكوفة إلى الشام، نورد هنا ذكر هذه الوقائع- ممّا اشتهر منها، وممّا لم يتفرّد به المقتل المنسوب إلى أبي مخنف- في ضوء تتابعها حسب منازل الطريق ما أمكننا ذلك، وهي:

1- خروج يدٍ من الحائط تكتب بمدادٍ من الدم! ..... ص : 188

روى الخوارزمي بسند عن ابن لهيعة، «2» عن أبي قبيل، «3» قال: «لمّا قُتل

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 189

الحسين عليه السلام بُعث برأسه إلى يزيد، فنزلوا أوّل مرحلة، فجعلوا يشربون ويبتهجون بالرأس! فخرجت عليهم كفٌّ من الحائط، معها قلم من حديد، فكتبتْ سطراً بدم:

أترجو أُمّةٌ قتلت حسيناً شفاعة جدِّه يوم الحساب!؟» «1»

وفي المقتل المنسوب إلى أبي مخنف: أنّ ابن زياد دعا الشمر اللعين،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 190

وخولّي، وشبث بن ربعي، وعمر بن سعد، «1» وضمَّ إليهم ألف فارس! وأمرهم بأخذ السبايا والرؤوس إلى يزيد، وأمرهم أن يشهروهم في كلّ بلدة يدخلونها! فساروا على ساحل الفرات، فنزلوا على أوّل منزل كان خراباً، فوضعوا الرأس الشريف المبارك المكرّم، والسبايا مع الرأس الشريف، وإذا رأوا يداً خرج من الحائط معه (كذا) قلم يكتب بدم عبيط شعراً:

أترجو أمّة قتلت حسيناً شفاعة جدّه يوم الحساب

فلا واللّه ليس لهم شفيع وهم يوم القيامة في العذاب

لقد قتلوا الحسين بحكم جور وخالف أمرهم حكم الكتاب

فهربوا، ثمّ رجعوا، ثمّ رحلوا من ذلك المنزل، وإذا هاتف يقول:

ماذا تقولون إذ قال النبيّ لكم ماذا فعلتم وأنتم آخر الأممِ

بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي منهم أُسارى ومنهم ضُرّجوا بدمِ

ماكان هذا جزائي إذ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي.». «2»

وروى الخوارزمي عن إمامٍ لبني سليم قال: حدّثنا أشياخنا، قالوا: دخلنا في الروم كنيسة لهم، فوجدنا في الحائط صخرة، فيها مكتوب:

أترجو أُمّة قتلت حسيناً شفاعة جدّه يوم

الحساب

فلا واللّه ليس لهم شفيع وهم يوم القيامة في العذابِ

فقلنا لشيخ في الكنيسة: منذُ كم هذا الكتاب؟

فقال: من قبل أن يُبعث صاحبكم بثلاثمائة عام!!». «3»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 191

وفي «تاريخ الخميس» يقول الديار بكري: «فساروا إلى أنْ وصلوا إلى دير في الطريق، فنزلوا ليقيلوا به فوجدوا مكتوباً على بعض جدرانه:

أترجوا أمّة قتلت حسيناً شفاعة جدّه يوم الحسابِ

فسألوا الراهب عن السطر، ومن كتبه؟

فقال: إنّه مكتوب هاهنا من قبل أن يُبعث نبيّكم بخمسمائة عام!». «1»

2- قصّة الراهب مع الرأس المقدّس! ..... ص : 191

قال سبط بن الجوزي في (تذكرة الخواص): «وذكر عبدالملك بن هاشم في كتاب (السيرة) الذي أخبرنا القاضي الأسعد أبوالبركات عبدالقويّ بن أبي المعالي ابن الحبّار السعدي في جُمادى الأوّل سنة تسع وستّمائة بالديار المصرية قراءة عليه ونحن نسمع قال: أنبأنا أبومحمّد عبداللّه بن رفاعة بن غدير السعدي في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة قال: أنبأنا أبوالحسين عليّ بن الحسين الخلعي أنبأنا أبومحمد عبدالرحمن بن عمر بن سعيد النحّاس النحيي:

أنبأنا أبومحمد عبداللّه بن جعفر بن محمد بن رنجويه البغدادي: أنبأنا أبوسعيد عبدالرحيم بن عبداللّه البرقي: أنبأنا أبومحمد عبدالملك بن هشام النحوي البصري «2» قال:

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 192

لمّا أنفذ ابن زياد رأس الحسين عليه السلام إلى يزيد بن معاوية مع الأسارى، موثّقين في الحبال، منهم نساء وصبيان وصبيّات من بنات رسول اللّه صلى الله عليه و آله، على أقتاب الجمال، موثقين مكشّفات الوجوه والرؤوس! وكلّما نزلوا منزلًا أخرجوا الرأس من صندوق أعدّوه له، فوضعوه على رمح وحرسوه طول الليل إلى وقت الرحيل، ثمّ يعيدوه الى الصندوق ويرحلوا، فنزلوا بعض المنازل، وفي ذلك المنزل ديرٌ فيه راهب، فأخرجوا الرأس على عادتهم، ووضعوه على الرمح وحرسه الحرس على عادته، وأسندوا الرمح إلى الدير.

فلمّا كان

في نصف الليل رأى الراهب نوراً من مكان الرأس الى عنان السماء! فأشرف على القوم وقال: من أنتم؟

قالوا: نحن أصحاب ابن زياد.

قال: وهذا رأس من!؟

قالوا: رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب، ابن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله!

قال: نبيّكم!؟

قالوا: نعم!

قال: بئس القوم أنتم! لو كان للمسيح ولد لأسكنّاه أحداقنا!

ثم قال: هل لكم في شي ء؟

قالوا: وماهو؟

قال: عندي عشرة آلاف دينار، تأخذونها وتعطوني الرأس يكون عندي تمام الليلة، وإذا رحلتم تأخذونه!

قالوا: وما يضرّنا!؟

فناولوه الرأس، وناولهم الدنانير، فأخذه الراهب فغسله وطيّبه، وتركه على فخذه، وقعد يبكي الليل كلّه! فلمّا أسفر الصبح قال: يا رأس! لا أملك إلّا نفسي،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 193

وأنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأنّ جدّك محمّداً رسول اللّه، وأُشهد اللّه أنني مولاك وعبدك!

ثمّ خرج عن الدير وما فيه، وصار يخدم أهل البيت!

قال ابن هشام في السيرة: ثمّ إنهم أخذوا الرأس وساروا، فلمّا قربوا من دمشق قال بعضهم لبعض: تعالوا حتّى نقسم الدنانير لايراها يزيد فيأخذها منّا!

فأخذوا الأكياس وفتحوها، وإذا الدنانير قد تحوّلت خزفاً! وعلى أحد جانبي الدينار مكتوب: «ولاتحسبنّ اللّه غافلًا عمّا يعمل الظالمون» الآية، وعلى الجانب الآخر: «وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقبلون» فرموها في بردى «1».». «2»

أمّا الخوارزمي فقد روى نظير هذه القصة، حيث قال: «وروي: أنّ رأس الحسين عليه السلام لمّا حُمل إلى الشام، جنَّ عليهم الليل فنزلوا عند رجلٍ من اليهودِ، فلمّا شربوا وسكروا قالوا له: عندنا رأس الحسين!

فقال لهم: أروني إيّاه!

فأروه إيّاه بصندوق، يسطع منه النور إلى السماء! فعجب اليهودي، واستودعه منهم فأودعوه عنده، فقال اليهودي للرأس- وقد رآه بذلك الحال-: إشفع لي عند جدّك! فأنطق اللّه الرأس وقال: إنّما شفاعتي للمحمّدييّن، ولستَ بمحمّدي!

مع الركب

الحسينى (ج 5)، ص: 194

فجمع اليهودي أقرباءه، ثمّ أخذ الرأس ووضعه في طست، وصبّ عليه ماء الورد، وطرح فيه الكافور والمسك والعنبر، ثم قال لأولاده وأقربائه: هذا رأس ابن بنت محمّد!

ثمّ قال: وا لهفاه! لم أجد جدّك محمّداً فأُسلم على يديه! ثمّ وا لهفاه! لم أجدك حيّاً فأُسلم على يديك وأقاتل دونك! فلو أسلمت الآن أتشفع لي يوم القيامة؟

فأنطق اللّه الراس، فقال بلسان فصيح: إن أسلمتَ فأنا لك شفيع!

قالها ثلاث مرّات، وسكت، فأسلم الرجل وأقرباؤه!

وقال الخوارزمي: لعلّ هذا الرجل اليهودي كان راهب «قنسرين» لأنّه أسلم بسبب رأس الحسين عليه السلام، وجاء ذكره في الأشعار، وأورده الجوهري والجرجاني في مراثي الحسين كما سيرد عليك في موضعه إن شاء اللّه.». «1»

ونقول: لامانع من أن تتكرر قصة اهتداء راهب يهودي أو نصراني، وتتشابه الواقعة في أكثر من منزل، كما أنّه لا دليل على انحصارها في منزل واحد ومع راهب واحد! مع العلم أنّ الطرق الخارجية التي تمتد بين المدن الرئيسة يومذاك كانت تكثر فيها الصوامع والأديرة!

وينقل السيد هاشم البحراني (ره) عن الطريحي (ره) فيقول: «روى الثقاة عن أبي سعيد الشامي قال: كنت ذات يوم مع القوم اللئام الذين حملوا الرؤوس والسبي إلى دمشق، لمّا وصلوا إلى دير النصارى فوقع بينهم أنّ نصر الخزاعي قد جمع عسكراً ويريد أن يهجم عليهم نصف الليل، ويقتل الأبطال، ويجدّل الشجعان، ويأخذ الرؤوس والسبي، فقال رؤساء العسكر من عِظم اضطرابهم:

نلجأ الليلة إلى الدير ونجعله كهفاً لنا. لأنّ الدير كان لايقدر أن يتسلّط عليه العدوّ.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 195

فوقف الشمر وأصحابه على باب الدير، وصاح بأعلى صوته: يا أهل الدير!

فجاءهم القسيس الكبير، فلمّا رأى العسكر قال لهم: من أنتم!؟ وما تريدون!؟

فقال الشمر: نحن من عسكر

عبيداللّه بن زياد، ونحن سائرون من العراق إلى الشام.

فقال القسيس: لأيّ غرض؟

قال: كان شخص بالعراق قد تباغى، وخرج على يزيد، وجمع العساكر! فعقد يزيد عسكراً عظيماً فقتلوهم، وهذه رؤوسهم، وهؤلاء النساء سباياهم!

قال الراوي: قال: فنظر القسيس إلى رأس الحسين عليه السلام وإذا بالنور ساطع منه! والضياء لامع قد لحق بالسماء! فوقع في قلبه هيبة منه.

فقال القسيس: ديرنا ما يسعكم، بل أدخلوا الرؤوس والسبي إلى الدير، وحيطوا أنتم من خارج، إن دهمكم عدوّ فقاتلوه، ولاتكونوا مضطربين على السبي والرؤوس. قال: فاستحسنوا كلام القسيس صاحب الدير، وقالوا: هذا هو الرأي!

فحطّوا رأس الحسين في صندوق، وقفل عليه، وأدخلوه إلى داخل الدير والنساء وزين العابدين عليه السلام، وصاحب الدير حطّهم في مكان يليق بهم.

قال الراوي: ثمّ إنّ صاحب الدير أراد أن يرى الرأس الشريف، فجعل ينظر حول البيت الذي فيه الصندوق، وكان له رازونة، فحطّ رأسه فى تلك الرازونة فرأى البيت يُشرق نوراً! ورأى أنّ سقف البيت قد انشقّ! ونزل من السماء تخت عظيم والنور يسطع من جوانبه، وإذا بامرأة أحسن من الحور جالسة على التخت، وإذا بشخصٍ يصيح: أطرقوا ولاتنظروا، وإذا قد خرج من ذلك البيت نساء، فإذا حوّاء، وصفيّة، وزوجة إبراهيم أمّ اسماعيل، وراحيل أمّ يوسف، وأمّ موسى، وآسية، ومريم، ونساء النبيّ.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 196

قال الراوي: فأخرجوا الرأس من الصندوق، وكلُّ من تلك النساء واحدة بعد واحدة يقبّلن الرأس الشريف، فلمّا وقعت النوبة لمولاتي فاطمة الزهراء عليها السلام غشي على بصر صاحب الدير، وعاد لاينظر بالعين، بل يسمع الكلام، وإذا قائلة تقول:

السلام عليك يا قتيل الأمّ، السلام عليك يا مظلوم الأمّ، السلام عليك يا شهيد الأمّ، السلام عليك يا روح الأمّ، لايداخلك همّ وغمّ، فإنّ اللّه

سيفرّج عنّي وعنك ويأخذ لي بثأرك.

قال: فلمّا سمع الديرانيّ البكاء من النساء اللاتي نزلن من السماء اندهش ووقع مغشيّاً عليه، فلما أفاق من ذلك البكاء وإذا بالشخص نزل إلى البيت وكسر القفل والصندوق واستخرج الرأس وغسله بالكافور والمسك والزعفران، ووضعه في قبلته، وجعل ينظر إليه ويبكي ويقول: يا رأس رؤوس بني آدم، ويا عظيم، ويا كريم جميع العوالم! أظنّك أنت من الذين مدحهم اللّه في التوراة والإنجيل، وأنت الذي أعطاك فضل التأويل، لأنّ خواتين سادات الدنيا والآخرة يبكين عليك ويندبنك!

أمّا أنا أريد أن أعرفك باسمك ونعتك!

فنطق الرأس بإذن اللّه وقال: أنا المظلوم! أنا المقتول! أنا المهموم! وأنا المغموم! وأنا الذي بسيف العدوان والظُلم قتلت! أنا الذي بحرب أهل الغيّ ظُلمت!

فقال صاحب الدير: باللّه أيها الرأس زدني!

فقال الرأس: إنْ كنت تسأل عن حالتي ونسبي؟ أنا ابن محمّد المصطفى! أنا ابن عليّ المرتضى! أنا ابن فاطمة الزهراء! أنا ابن خديجة الكبرى! وأنا ابن العروة الوثقى!

أنا شهيد كربلاء! أنا مظلوم كربلاء! أنا قتيل كربلاء! أنا عطشان كربلاء! أنا ظمآن كربلاء! أنا مهتوك كربلاء!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 197

قال الراوي: فلمّا سمع صاحب الدير من رأس الحسين عليه السلام هذا الكلام جمع تلامذته ومريديه، وحكى لهم هذه الحكاية، وكانوا سبعين رجلًا، فضجّوا بالبكاء والنحيب، ونادوا بالويل والثبور، ورموا العمائم من رؤوسهم، وشقّوا أزياقهم، وجاءوا إلى سيّدنا ومولانا علي بن الحسين، زين العابدين عليه السلام، ثمّ قطعوا الزنّار وكسروا الناقوس! واجتنبوا أفعال اليهود والنصارى، وأسلموا على يديه، وقالوا: يا ابن رسول اللّه! مُرنا أن نخرج إلى هؤلاء القوم الكفرة ونقاتلهم ونجلي صدأ قلوبنا ونأخذ بثأر سيّدنا! فقال لهم الإمام:

لا تفعلوا ذلك، فإنّهم عن قريب ينتقم اللّه منهم ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

فردّوا

أصحاب الدير عن القتال.». «1»

3- الانبياء والملائكة يزورون الرأس المقدّس ..... ص : 197

قال السيّد ابن طاووس (ره): «روى ابن لهيعة وغيره حديثاً أخذنا منه موضع الحاجة، قال: كنتُ أطوف بالبيت فإذا أنا برجل يقول: أللّهمّ أغفر لي وماأراك فاعلًا!

فقلتُ له: يا عبداللّه، إتّقِ اللّه ولاتقل مثل هذا! فإنّ ذنوبك لو كانت مثل قطر الأمطار وورق الأشجار فاستغفرت اللّه غفرها لك فإنّه غفور رحيم!

قال: فقال لي: تعال حتّى أخبرك بقصّتي!

فأتيته، فقال: إعلم أنّا كنّا خمسين نفراً ممّن سار مع رأس الحسين عليه السلام إلى الشام، فكنّا إذا أمسينا وضعنا الرأس في تابوت، وشربنا الخمر حول التابوت! فشرب أصحابي ليلة حتّى سكروا ولم أشرب معهم، فلمّا جنّ الليل سمعتُ رعداً

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 198

ورأيتُ برقاً، فإذا أبواب السماء قد فُتحت! ونزل آدم عليه السلام، ونوح، وإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ونبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه وآله وعليهم أجمعين، ومعهم جبرئيل وخلق من الملائكة، فدنا جبرئيل من التابوت وأخرج الرأس وضمّه إلى نفسه وقبّله، ثمّ كذلك فعل الأنبياء كلّهم، وبكى النبيّ صلى الله عليه و آله على رأس الحسين عليه السلام وعزّاه الأنبياء، وقال له جبرئيل عليه السلام: يا محمّد! إنّ اللّه تبارك وتعالى أمرني أن أطيعك في أمّتك، فإن أمرتني زلزلتُ بهم الأرض، وجعلت عاليها سافلها كما فعلتُ بقوم لوط!

فقال النبيّ صلى الله عليه و آله: لا يا جبرئيل! فإنّ لهم معي موقفاً بين يدي اللّه يوم القيامة! ثمّ جاء الملائكة نحونا ليقتلونا، فقلت: الأمانَ الأمانَ يا رسول اللّه!

فقال: إذهب فلا غفر اللّه لك!». «1»

4- تكريت «2» ..... ص : 198

ينقل الطريحي عن مسلم الجصّاص قوله: «فلمّا وصلوا إلى تكريت أنفذوا إلى صاحب البلد أن تلقّانا (كذا) فإنّ معنا رأس الحسين وسباياه! فلمّا أخبرهم الرسول بذلك نشرت الأعلام وخرجت الغَلَمة يتلقّونهم!

فقالت النصارى: ما هذا؟

فقالوا: رأس الحسين!

فقالوا:

هذا رأس ابن بنت نبيّكم!؟

قالوا: نعم.

قال فعظم ذلك عليهم، وصعدوا إلى بيعهم وضربوا النواقيس تعظيماً للّه ربّ

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 199

العالمين! وقالوا: أللّهم إنّا إليك بُراء ممّا صنع هؤلاء الظالمون!». «1»

وقال القندوزي: «فلمّا وصلوا إلى بلد تكريت نشرت الأعلام وخرج الناس بالفرح والسرور! فقالت النصارى للجيش: إنّا براء ممّا تصنعون أيها الظالمون! فإنكم قتلتم ابن بنت نبيّكم وجعلتم أهل بيته أسارى!». «2»

المشاهد المقدّسة في منازل الطريق ..... ص : 199
1- مشهد النقطة في الموصل! ..... ص : 199

لم يُذكر في واحد من الكتب التاريخية المعتبرة على مستوى التحقيق أنّ أهل البيت عليهم السلام في الطريق من الكوفة إلى الشام قد مرّوا بمدينة الموصل، وقد تجنّب بعض المحققّين والمؤرّخين الخوض في صدد صحة أو عدم صحة هذا المدّعى، ومن ذكرها منهم ذكرها على نحو النقل عمّن ذكرها، فالمرحوم الشيخ عبّاس القمّي مثلًا يقول ما هذا نصّه: «وأمّا مشهده بالموصل، فهو كما في روضة الشهداء «3» ما ملخّصه: أنّ القوم لمّا أرادوا أن يدخلوا الموصل أرسلوا إلى عامله أن يهيي ء لهم الزاد والعلوفة، وأن يزيّن لهم البلدة، فاتّفق أهل الموصل أن يهيئوا لهم ما أرادوا، وأن يستدعوا منهم أنْ لايدخلوا البلدة، بل ينزلون خارجها، ويسيرون من غير أن

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 200

يدخلوا فيها، «1» فنزلوا ظاهر البلد على فرسخ منها، ووضعوا الرأس الشريف على صخرة، فقطرت عليها قطرة دم من الراس المكرّم، فصارت تشع «2» ويغلي منها الدم كلّ سنة في يوم عاشوراء! وكان الناس يجتمعون عندها من الأطراف ويقيمون مراسم العزاء والمآتم في كلّ عاشوراء، وبقي هذا إلى أيّام عبدالملك بن مروان فأمر بنقل الحجر، فلم يُرَ بعد ذلك منه أثر، ولكن بنوا على ذلك المقام قبّة سمّوها مشهد النقطة.». «3»

2- مشهد النقطة في نصيبين «4» ..... ص : 200

ويقول الشيخ عبّاس القمّي: «وأمّا السانحة التي وقعت بنصيبين: ففي الكامل للبهائي ما حاصله: أنّهم لمّا وصلوا إلى نصيبين أمر منصور بن الياس بتزيين البلدة، فزيّنوها بأكثر من ألف مرآة، فأراد الملعون الذي كان معه رأس الحسين عليه السلام أن يدخل البلد فلم يطعه فرسه! فبدّله بفرس آخر فلم يُطعه! وهكذا فإذا بالرأس الشريف قد سقط إلى الأرض، فأخذه إبراهيم الموصلي، «5» فتأمّل فيه فوجده رأس الحسين عليه السلام، فلامهم ووبخّهم فقتله

أهل الشام، ثمّ جعلوا الرأس في خارج البلد ولم يُدخلوه به.

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 201

قلتُ: ولعلّ مسقط الرأس الشريف صار مشهداً.». «1»

وفي كتاب الإشارات إلى معرفة الزيارات: «في مدينة نصيبين مشهد النقطة، يُقال إنّه من دم رأس الحسين عليه السلام، وفي سوق النشّابين مشهد الرأس فإنّه عُلِّق هناك لمّا عبروا بالسبي إلى الشام!». «2»

3- مشهد النقطة في حماة! ..... ص : 201

ويقول الشيخ عباس القمّي (ره): «وأمّا المشهد الذي كان بحماة: «3» ففي بعض الكتب «4» نقلًا عن بعض أرباب المقاتل أنه قال: لمّا سافرت إلى الحجّ فوصلت إلى حماة رأيت بين بساتينها مسجداً يسمّى مسجد الحسين عليه السلام! قال: فدخلت المسجد فرأيت في بعض عماراته ستراً مسبلًا من جدار، فرفعته ورأيت حجراً منصوباً في جدار، وكان الحجر مؤرّباً فيه موضع عنق رأسه أثر فيه، وكان عليه دم منجمد! فسألت من بعض خدّام المسجد: ما هذا الحجر والأثر والدم؟

فقال لي: هذا الحجر موضع رأس الحسين عليه السلام، فوضعه القوم الذين يسيرون به إلى دمشق ...». «5»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 202

4- هل هناك مشهد للرأس المقدّس بحمص؟ ..... ص : 202

يقول المرحوم الشيخ عبّاس القمّي: «وأمّا مشهد الرأس بحمص فما ظفرتُ به! كما أنّي لم أظفر بمشهد الرأس من كربلاء إلى عسقلان!

نعم، في جنب الباب الشمالي من صحن مولانا أبي عبداللّه الحسين عليه السلام مسجد يُسمّى مسجد رأس الحسين عليه السلام وفي ظهر الكوفة عند قائم الغري مسجد يسمّى بمسجد الحنّانة فيه يستحب زيارة الحسين عليه السلام لأن رأسه عليه السلام وضع هناك.». «1»

5- مشهد النقطة في حلب! «2» ..... ص : 202

يقول صاحب كتاب نهر الذهب في تاريخ حلب: «وفي سنة إحدى وستين قُتل الحسين عليه السلام بكربلاء، واحتزَّ رأسه الشريف شمر بن ذي الجوشن، وسار به وبمن معه من آل الحسين إلى يزيد في دمشق، فمرَّ بطريقه على حلب، ونزل به عند الجبل ووضعه على صخرة من صخراته، فقطرت منه قطرة دم بُني على أثرها مشهد عُرف بمشهد النقطة». «3»

وقال أيضاً: «قلت: ذُكر أنّ سبب بناء مشهد النقطة هو أنّ رأس الحسين لمّا وصلوا به إلى هذا الجبل وضعوه على الأرض فقطرت منه قطرة دم فوق صخرة، بنى الحلبيون عليها هذا المشهد، وسُمّي مشهد النقطة، ولعلّ هذه الصخرة نُقلت

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 203

من هذا المشهد بعد خرابه إلى محراب مشهد الحسين فبُني عليها ...». «1»

6- مشهد السقط في حلب! ..... ص : 203

قال الحموي: «وفي غربيّ البلد في سفح جبل جوشن «2» قبر المحسن بن الحسين، يزعمون أنه سقط لمّا جيي ء بالسبي من العراق ليحمل إلى دمشق، أو طفل كان معهم بحلب دفن هنالك.». «3»

وقال أيضاً: «جوشن جبل في غربي حلب، ومنه كان يُحمل النحاس الأحمر وهو معدنه، ويقال إنه بَطَل منذ عبر عليه سبي الحسين بن علي ونساؤه، وكانت زوجة الحسين حاملًا فأسقطت هناك، فطلبت من الصنّاع في ذلك الجبل خبزاً وماء، فشتموها ومنعوها! فدعت عليهم، فمن الآن من عمل فيه لايربح.». «4»

وقال الغزّي: «وممّا يُلحق بهذه المحلّة (أي محلّة الكلامته) مشهد محسن، ومشهد الحسين. فأمّا مشهد محسن فيعرف بمشهد الدكّة ومشهد الطرح، وهو غربيّ حلب، سُمّي بهذا المكان لأنّ سيف الدولة بن حمدان كان له دكّة على الجبل المُطلّ على موضع المشهد، يجلس عليها لينظر إلى حلبة السباق فإنّها كانت تُقام بين يديه هناك.

وعن تاريخ ابن أبي طيّ: أنّ مشهد

الدكّة ظهر في سنة 351 ه، وأنّ سبب ظهوره هو أنّ سيف الدولة كان في إحدى مناظره التي بداره خارج المدينة فرأى

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 204

نوراً ينزل على مكان المشهد وتكرر ذلك، فركب بنفسه إلى ذلك المكان، وحفره فوجد حجراً عليه كتابة: هذا قبر المحسن بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، فجمع سيف الدولة العلويين وسألهم هل كان للحسين ولد إسمه المحسن؟ فقال بعضهم: ما بلغنا ذلك، وإنّما بلغنا أنّ فاطمة كانت حاملًا فقال لها النبيّ صلى الله عليه و آله: في بطنك محسن! فلمّا كان يوم البيعة هجموا على بيتها لإخراج عليّ إلى البيعة فأحدجت! ...». «1»

«وقال بعضهم: إنّ سبي نساء الحسين لمّا مرّوا بهنّ على هذا المكان طرحت بعض نسائه هذا الولد. فإنّا نروي عن آبائنا أنّ هذا المكان سُمِّي بجوشن لأن شمر ابن ذي الجوشن نزّل عليه السبي والرؤوس، وكان معدناً يُستخرج منه الصفر، وإنّ أهل المعدن فرحوا بالسبي فدعت عليهم زينب بنت الحسين (هكذا)، ففسد ذلك المعدن.

فقال سيف الدولة: هذا الموضع قد أذن اللّه بإعماره، فأنا أُعمّره على اسم أهل البيت ..». «2»

وقال السيّد المقرّم (ره): «وبالقرب من حلب مشهد يُعرف ب «مسقط السقط»، وذلك أنّ حرم الرسول صلى الله عليه و آله لمّا وصلوا إلى هذا المكان أسقطت زوجة الحسين سقطاً كان يُسمّى محسناً!». «3»

وقال الشيخ عبّاس القمّي (ره): «وإنّي قد تشرّفت بزيارة هذا المشهد الشريف في مرجعي من زيارة بيت اللّه الحرام في سنة 1342 ه، وقد شاهدت عمارة المشهد الشريف، وكانت مبنيّة من صخور عظيمة في نهاية الإتقان والإستحكام،

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 205

ولكنّ الأسف أنّها لإجل المحاربة الواقعة بحلب تهدمت بنيانها، فهي الآن مخروبة منهدمة ساقطة حيطانها

على سقوفها، خاوية على عروشها ..». «1»

7- مشهد الرأس المقدّس في عسقلان!! ..... ص : 205

قال الشيخ عبّاس القمي (ره): «وأمّا مشهد الرأس الشريف بعسقلان ففي بعض الكتب «2» أنّه مشهور!». «3»

ولْنَعُدِ الآن إلى قنسرين وقصة راهبها! ..... ص : 205

قال النطنزي في الخصائص: «لمّا جاءوا برأس الحسين ونزلوا منزلًا يُقال له قنسرين، إطّلع راهب من صومعته إلى الرأس فرأى نوراً ساطعاً يخرج من فيه ويصعد إلى السماء! فأتاهم بعشرة آلاف درهم، وأخذ الرأس وأدخله صومعته، فسمع صوتاً ولم يَر شخصاً قال: طوبى لك! وطوبى لمن عرف حرمته!

فرفع الراهب رأسه وقال: يا ربّ بحقّ عيسى! تأمر هذا الرأس بالتكلّم معي! فتكلّم الرأس وقال: يا راهب! أيّ شي ء تريد؟

قال: من أنت؟

قال: أنا ابن محمّد المصطفى! وأنا ابن عليّ المرتضى! وأنا ابن فاطمة الزهراء! وأنا المقتول بكربلاء! أنا المظلوم! أنا العطشان! فسكت.

فوضع الراهب وجهه على وجهه، فقال: لا أرفع وجهي عن وجهك حتى

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 206

تقول: أنا شفيعك يوم القيامة!

فتكلّم الرأس وقال: إرجع إلى دين جدّي محمّد صلى الله عليه و آله.

فقال الراهب: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه.

فقبل له الشفاعة، فلمّا أصبحوا أخذوا منه الرأس والدراهم، فلمّا بلغوا الوادي نظروا الدراهم قد صارت حجارة!». «1»

وقد ذكر الطريحي قصة راهب مع الرأس المقدّس أيضاً تشبه قصة راهب قنسرين، لكنّه ذكر أنّ مكان هذه القصة كان قريباً (نحو ستة أميال) من بعلبك! «2»

تكلّم الرأس المقدّس مع الحارث بن وكيدة «3» ..... ص : 206

روى ابن رستم الطبري بسنده عن سعد بن أبي خيران (طيران)، عن الحارث بن وكيدة قال: «كنت فيمن حمل رأس الحسين فسمعته يقرأ سورة الكهف! فجعلت أشكّ في نفسي وأنا أسمع نغمة أبي عبداللّه!

فقال لي: يا ابن وكيدة! أما علمت أنّا معشر الأئمّة أحياء عند ربّنا نرزق!

فقلتُ في نفسي: أسرق رأسه!

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 207

فنادى: يا ابن وكيدة! ليس لك إلى ذاك سبيل، سفكهم دمي أعظم عند اللّه من تسييرهم رأسي، فذرهم فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل

يُسحبون!». «1»

وعلى مقربة من دمشق! ..... ص : 207

قال السيّد ابن طاووس (ره): «وسار القوم برأس الحسين عليه السلام والأُسَراء من رجاله، فلمّا قربوا من دمشق دنت أمّ كلثوم من شمر وكان من جملتهم.

فقالت له: لي إليك حاجة!

فقال: ما حاجتك!؟

قالت:

إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في درب قليل النظّارة، وتقدّم إليهم أن يُخرجوا هذه الرؤوس من بين المحامل، ويُنحّونا عنها فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال!

فأمر في جواب سؤالها أنْ يجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً!! وسلك بهم بين النظّارة على تلك الصفة حتّى أتى بهم باب دمشق!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 5)، ص: 208

اليوم الذي ورد فيه الركب الحسينيّ دمشق ..... ص : 208

قال المرحوم الشيخ عبّاس القمّي: «قال الشيخ الكفعمي، «1» وشيخنا البهائي، «2» والمحدّث الكاشاني: «3» في أوّل صفر أُدخل رأس الحسين عليه السلام إلى دمشق، وهو عيد عند بني أميّة، وهو يوم تتجدّد فيه الأحزان:

كانت مآتم بالعراق تعدّها أمويّة بالشام من أعيادها

وحكي أيضاً عن أبي ريحان في الآثار الباقية «4» أنه قال: في اليوم الأوّل من صفر أُدخل رأس الحسين عليه السلام مدينة دمشق ...». «5»

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.