الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه ، مع الركب الحسينى المجلد 3

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة (الجز الثالث)

مقدمة مركز الدراسات الإسلاميّة ..... ص : 3

التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

الحمدُ للّه الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ودليلًا على نعمه وآلائه، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد: فهذا الكتاب هو الجزء الثالث المختصّ بوقائع طريق الركب الحسينيّ من مكّة المكرّمة إلى كربلاء المقدّسة، وهو المقطع الثالث من مقاطع دراستنا التأريخية التفصيلية الموسّعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة).

ولاندّعي شططاً إذا قلنا إنّ هذا الجزء- كأخويه الأوّل والثاني- قد حوى من التحقيقات والنظرات والإشارات الجديدة ما يؤهله لسدّ ثغرات كثيرة في تأريخ النهضة الحسينية المقدّسة كانت قبل ذلك مبهمة غامضة لم تتوفر الإجابة الوافية عنها.

وهنا لابدّ من أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى مؤلّف هذا الكتاب سماحة الشيخ المحقّق محمّد جواد الطبسي لما بذله من جهد كبير في إعداد مادّة هذا المقطع وإنجاز هذا البحث القيّم.

كما نتقدّم بالشكر الجزيل إلى فضيلة الأستاذ المحقّق علي الشاوي الذي تولّى العناية بهذا البحث مراجعة ونقداً وتنظيماً وتكميلًا كعنايته من قبل بالجزء الثاني، داعين له بمزيد

من الموفقيّة في ميدان التحقيق ومؤازرة المحقّقين، وفي مواصلة عنايته البالغة في خدمة الأجزاء الباقية من هذه الدراسة القيّمة.

مركز الدراسات الإسلامية

التابع لمثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 4

مقدّمة الكتاب

«الإشارات المهمّة على الطريق بين مكّة وكربلاء»

على طريق الركب الحسينيّ من مكّة المكرّمة إلى كربلاء المقدّسة هناك إشارات مهمة، ليست من نوع الإشارات التي توضع على جانبي الطريق ليستدلّ بها السائرون على معرفة الطريق، أو صحّة السير، أو مدى القرب أو البعد من الغاية المنشودة، بل هي إشارات من نوع آخر! ترتسم في آفاق «المعاني السامية» لتتحدّث عن «هويّة القاصد» على هذا الطريق لا عن «هويّة الطريق».

وطريق الركب الحسينيّ إلى كربلاء مليى ء بهذه الإشارات .. فمنها مثلًا:

الإشارة: في خروج الركب الحسينيّ من مكّة يوم التروية (الثامن من ذي الحجة)! والإشارة: في قول الإمام عليه السلام للفرزدق «لو لم أعجلْ لأُخذتُ!» وفي قوله عليه السلام لأبي هرّة الأزدي: «وطلبوا دمي فهربت!». والإشارة: في تصديقه عليه السلام لقول الفرزدق ولقول بشر بن غالب الأسدي في أنّهما خلّفا الناس في الكوفة قلوبهم مع الإمام عليه السلام وسيوفهم عليه! والإشارة: في قوله عليه السلام لعمرو بن لوذان: «يا عبداللّه، إنّه ليس يخفى عليَّ الرأي ما رأيتَ، ولكنّ اللّه لايُغلب على أمره!». والإشارة: في احتجاجه المتواصل برسائل أهل الكوفة إليه، حتى بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيل عليه السلام، وفي إصراره على التوجّه إلى الكوفة حتّى بعد منع الحرّ الرياحي (رض) الإمام عليه السلام من دخول الكوفة حُرّاً! والإشارة: في قوله عليه السلام بعد إصرار آل عقيل على الطلب بثأر مسلم عليه السلام: «لاخير في العيش بعد هؤلاء!». والإشارة: في قراءته عليه السلام في منزل زبالة بيانه الذي أعلن فيه

للركب عن مقتل مسلم وهاني وعبداللّه بن يقطر (رض) وترخيصه من معه في الركب بالإنصراف عنه بلاذمام!

والإشارة: في قوله عليه السلام: «.. وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم ..». والإشارة: في قوله عليه السلام: «ليرغب المؤمن في لقاء اللّه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 5

محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً!»، والإشارة: في قوله عليه السلام: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم اللّه ... فلم يغيّر عليه بفعل ولاقول كان حقّاً على اللّه أن يُدخله مدخله ..!». والإشارة: في قوله عليه السلام لابن الحرّ الجعفي: «.. فإن كنت قد بخلت علينا بنفسك فلا حاجة لنا بشي ء من مالك، ولم أكن بالذي أتخذ المضلّين عضدا ...».

وللقاري، الكريم أن ينعم بالتعرّف على هذه الإشارات وأخرى غيرها كثيرة بين دفتي هذا الكتاب!

لكننّي أحببت فيما تبقّى من مساحة هذه المقدّمة التأكيد مرّة أخرى على أهمّ هذه الإشارات المهمة: وهي كثرة الإمتحانات المتوالية التي كان الإمام عليه السلام يمحّص بها أتباعه!

لقد شرع الإمام عليه السلام بذلك- فضلًا عن الإخبارات الكثيرة المأثورة عن الرسول صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام حول مصرعه عليه السلام في أرض كربلاء- حين خطب النّاس في مكّة قبيل رحيله منها خطبته المعروفة بقوله: «.. كأنّي بأوصالي تقطّعها عُسلان الفلوت بين النواويس وكربلاء ..»، بل قبل ذلك أيضاً، ثمّ لم يزل عليه السلام يواصل امتحان أتباعه- وكان قد تبع الحسين خلق كثير من المياه التي يمرّ بها لأنّهم كانوا يظنّون استقامة الأمور له عليه السلام- فكان له في كلّ منزل من منازل الطريق امتحان من

خلال إشارة أو تصريح أو تصديق لخبر مخيّب للآمال يأتي به قادم من الكوفة، حتّى إذا بلغ عليه السلام زُبالة قرأ على الركب خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني (رض) وابن يقطر (رض) وقال: «.. وقد خذلتنا شيعتنا فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام!» فتفرّق الناس عنه يميناً وشمالًا، حتّى بقي في صفوة الأنصار الذين آثروا مواساته والقتل معه على التخلّي عنه!

وقيل: إنّه عليه السلام إنّما أراد ألّا يصحبه إنسان إلّا على بصيرة! وقيل: إنه عليه السلام كره أن يسيروا معه إلّاوهم يعلمون علام يقدمون! وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! وقيل: إنّ هذه الإمتحانات من ضرورات التخطيط

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 6

الحربي، لأنه عليه السلام أراد أن يميز قوّته الحقيقية التي سيواجه بها العدوّ ويرسم خطّته القتالية على أساسها، من قوّته الظاهرية المتألّف أكثرها من «أهل الطمع والإرتياب» الذين لايصمدون ساعة الحرب والنزال! وكلّ هذه الأقوال صحيحة في نفسها ...

لكننا نرى أنّ الإمام عليه السلام كان قد واصل هذه الإمتحانات حتّى بعد ذلك، وعرّض صفوة الأنصار لاختبارات متوالية حتّى ليلة عاشوراء!

فقد خطب فيهم بذي حسم قائلًا: «إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون! وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ...». وقال في عذيب الهجانات حين أتاه خبر مقتل قيس الصيداوي (رض): «.. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدّلوا تبديلا ..».

وقال حين سمع بإسم كربلاء: «.. هاهنا محطّ رحالنا، ومسفك دمائنا، وهنا محلّ قبورنا ..». ودعاهم ليلة عاشوراء إلى الانصراف عنه قائلًا: «.. فجزاكم اللّه عنّي جميعاً خيراً، .. ألا وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي ذمام،

هذا الليل غشيكم فاتخذوه جملًا ..». هذا فضلًا عن امتحاناته لبعض الأفراد كنافع بن هلال (رض) وبشر بن عمرو الحضرمي (رض)!

من هنا، نفهم أنّ هناك غاية علياً عند الإمام عليه السلام من وراء هذه التمحيصات- فوق الغايات الحربية- وهي الوصول بهذه الصفوة المقدّسة من الأنصار ذوي البصائر والعزائم الراسخة إلى أعلى منازل الآخرة، من خلال إرتقائهم في الدرجات بعد النجاح إثر كلّ امتحان، حتّى بلغ عليه السلام بهم منزلة «سادة الشهداء»، ودرجة «.. فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولاخيراً من أصحابي ..»، ورتبة «.. عشّاق شهداء لايسبقهم من كان قبلهم، ولايلحقهم من بعدهم ..». ثمّ نزل عليهم الفيض ليلة عاشوراء بالإستحقاقات، فكشف عليه السلام عن أعينهم الغطاء، وأراهم منازلهم ودرجاتهم في الجنّة!.

وما أروع السلام الذي شرَّفتهم به زيارة الناحية المقدّسة: «السلام عليكم يا خير أنصار! السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار! بوَّأكم اللّه مُبَوَّءَ الأبرار! أشهد لقد كشف اللّه لكم الغطاء! ومهَّد لكم الوِطاء! وأجزل لكم العطاء! وكنتم عن الحقِّ غير بِطاء! وأنتم لنا فرطاء! ونحن لكم خلطاء في دار البقاء! والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.».

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 7

الفصل الأول: الركب الحسينيّ في الطريق الى العراق ..... ص : 7

اشارة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 9

الفصل الأوّل: الركب الحسينيّ في الطريق الى العراق

بعد انقضاء ما يزيد على أربعة أشهر، «1» أي حوالي مائة وخمسة وعشرين يوماً، أقام الإمام الحسين عليه السلام خلالها في مكّة المكرّمة بعد رفضه المبايعة ليزيد ابن معاوية بعد موت أبيه، بادر الامام عليه السلام الى الخروج عن مكّة بعد أن أحلَّ من إحرام عمرته، مخافة أن يُقبض عليه أو أن يُغتال في مكّة- في ظروف وملابسات غامضة أثناء مراسم الحجّ- فتُنتهك بذلك حرمة البيت الحرام، وكان الركب الحسينيّ قد تحرّك قاصداً نحو العراق

سحراً أو أوائل الصبح من اليوم الثامن من ذي الحجّة الحرام سنة ستّين للهجرة.

سبعُ فوائد تحقيقية ..... ص : 9

اشارة

1)- اختلف المؤرّخون في يوم خروج الإمام عليه السلام من مكّة المكرّمة، فذكر بعضهم أنّ خروجه عليه السلام كان في اليوم الثالث من ذي الحجة، «2» وذكر آخر أنه كان في اليوم السابع منه، «3» وقال آخر إنّ ذلك كان في اليوم العاشر منه، «4» والصحيح هو أنّ خروجه عليه السلام من مكّة كان في اليوم الثامن من ذي الحجّة، بدليل قول الإمام الحسين عليه السلام نفسه في رسالته الثانيّة إلى أهل الكوفة، إذ ورد فيها: «... وقد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 10

شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية ..»، «1» وبدليل ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام في أكثر من رواية «2» أنّ الإمام الحسين عليه السلام خرج من مكّة المكرّمة يوم التروية أي اليوم الثامن من ذي الحجّة الحرام.

2)- خرج الامام عليه السلام من مكّة بجميع الأعلام «3» الذين قدموا معه إليها من المدينة المنوّرة، والذين انضموا إليه في الطريق بين المدينة ومكّة، «4» عدا مسلم بن عقيل عليه السلام الذي أرسله الامام عليه السلام إلى الكوفة قبله، وعدا سليمان بن رزين (رض) الذي أرسله الإمام عليه السلام برسالته إلى رؤساء الأخماس في البصرة وأشرافها. كما خرج الإمام عليه السلام بجميع من انضمّ إليه في مكّة من الأعلام عدا قيس بن مسهّر الصيداوي (رض)، وعبدالرحمن بن عبداللّه الأرحبي (رض)، وعمارة بن عبيداللّه السلولي، الذين بعثهم الإمام عليه السلام مع مسلم بن عقيل عليه السلام إلى الكوفة، «5» وعدا سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض) وهاني بن هاني الذين بعثهما الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة

برسالته الأولى إليهم قبل إرساله مسلماً عليه السلام إليهم. «6»

3)- لايعني خروج الركب الحسينيّ من مكّة في السحر أو في أوائل الصبح أنّ خروجه كان سرّاً لم تعلم به السلطة الأموية ولم يعلم به الناس، ذلك لأنّ الإمام عليه السلام كان قد أعلن عن موعد حركة الركب الحسينيّ وساعة خروجه في خطبته المعروفة بعبارته الشهيرة «خطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 11

جيد الفتاة»، حيث قال عليه السلام في آخرها «فمن كان باذلًا فينا مهجته، موطّناً على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا، فإنني راحلٌ مصبحاً إن شاء اللّه تعالى»، «1»

وكان الإمام عليه السلام قد خطب هذه الخطبة في عموم الناس لا في أصحابه خاصة. «2»

4)- من المعلوم تحقيقاً و ان كان المواجهة العسكرية العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام داخل مكّة أو على مشارفها لم تكن في صالح السلطة الأمويّة، وكانت السلطة الأمويّة تعلم ذلك جيّداً، الّا انهم بأمر يزيد صمموا لكى يغتالوالامام الحسين عليه السلام و ان كان معلّقاً باستار الكعبة و مع رحيل الامام الحسين عليه السلام من مكه فشلت نقشتهم كما أنّ هذه الحقيقة لم تكن لتخفى على الإمام عليه السلام، وذلك لأنّ الأمويين يعلمون ماللإمام الحسين عليه السلام من منزلة سامية وقداسة في قلوب المسلمين، فاغتيا له خفيتاً كان اولى عندهم من المواجهه فالمواجهة العسكرية معه داخل مكّة أو عند مشارفها تعني بالضرورة تأليب قلوب جماهير الحجيج عليهم، وتأييدهم للإمام عليه السلام، وانتصارهم له وانضوائهم تحت رايته، وهذا هو (تفاقم الأمر) «3» الذي يخشاه الأمويون.

فضلًا عن أنّ الملتفّين حول الإمام عليه السلام- وهو لمّا يزل في مكّة- كانوا كثيرين، بدليل أنّ الركب الحسينيّ الخارج من مكّة كان كبيراً

نسبياً.

وفضلًا عن أنّ مكّة وهي مدينة دينية مقدّسة عند الجميع، لم تكن للسلطة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 12

الأموية فيها بالفعل إلّا قوّة محدودة تكفيها لتنفيذ وضبط الأمور الإدارية والقضائية، وتنظيم حركة الحجيج، وحراسة السلطان، وحفظ الأمن الداخلي فعليه فكان يمكن لهم ان ينجّزوا اعتيال الام ولاتكفيها لمواجهة تمرّد أو انقلاب تقوم به جماعة كبيرة ذات عدّة واستعداد ان كان الاغتيال ممكن وهذا أيضاً شأن المدينة المنوّرة يومذاك- والدليل على ذلك أنّ كلَّ الإنتفاضات الكبيرة التي حصلت في المدينة المنوّرة أو في مكّة كانت السلطة الأموية قد واجهتها بجيوش استقدمتها من خارجها، او عيون قدد سوّهم فى بين الناس كما فى قضية الامام الحسين لاغتياله (ع) و هذا تختلف عن انتفاضة أهل المدينة ووقعة الحرّة الأليمة، وكما في مواجهة الأمويين لعبداللّه بن الزبير في مكّة. «1»

5)- وما قدّمناه لاينافي حقيقة أنّ الامام عليه السلام خرج من مكّة مبادراً- قبل شروع أعمال الحجّ- خوفاً من أن تغتاله السلطة الأموية في مكّة، فتنتهك بذلك حرمة البيت الحرام، ذلك لأنّ الأمويين إنْ لم يكونوا قد تمكّنوا من اختطافه أو اغتياله طيلة مدّة بقائه- الطويلة نسبياً- في مكّة بسبب احتياطات الإمام عليه السلام وحذره، وحمايته من قبل أنصاره من الهاشميين وغيرهم، «2» فإنَّ فرصة الأمويين لتنفيذ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 13

خطّتهم ستكون مؤاتية بصورة أفضل عند شروع أعمال الحجّ، وستكون احتمالات نجاحها أكبر، ذلك لأنَّ الإمام عليه السلام- على فرض بقائه في مكّة- سيكون هو ومن معه وجموع الحجيج مشغولين في أعمال الحجّ وأجوائها العبادية، عُزّلًا من السلاح، وسيساعد وجود الإمام عليه السلام في زحام الحجيج كثيراً على تنفيذ ما أرادته السلطة الأموية به من سوءٍ وشرّ، ولذا بادر عليه السلام إلى الخروج من

مكّة يوم التروية. «1»

6)- فإذا علمنا من كلّ ما مضى أنّ خروج الإمام عليه السلام لم يكن سرّاً، ولم يكن خوفاً من مواجهة حربية علنية مع السلطة الأمويّة في مكّة، أدركنا أنَّ هناك لعله كان سبباً آخر رئيساً كان قد دفع الإمام عليه السلام الى اختيار السحر أو أوائل الصبح في ستر الظلام موعداً للخروج، وهذا السبب لعله هو الغيرة الحسينية الهاشمية التي تأبى أن تتصفّح أنظار الناس في مكّة حرائر بيت العصمة والرسالة، والنساء الأُخريات في الركب الحسينيّ، في حال خروج الإمام عليه السلام في وضح النهار حيث تغصّ مكّة بالناس.

إنّ هذا لعله هو السبب الأقوى في مجموعة الأسباب التي دفعت الإمام عليه السلام إلى الخروج في السحر، أو في أوائل الصبح.

7)- يُستفاد من بعض كتب السير والمقاتل انّ الإمام عليه السلام كان قد اعتمر عمرة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 14

التمتع ثم عدل عنها إلى العمرة المفردة لعلمه بأنّ الظالمين سوف يصدّونه عن إتمام حجّه. «1»

والصحيح تحقيقاً هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد دخل في إحرام العمرة المفردة ابتداءً، أي لم يكن أحرم لعمرة التمتع ثمّ عدل عنها الى العمرة المفردة.

وقد تبنّى هذا القول من الفقهاء السيّد محسن الحكيم قدس سره، والسيّد الخوئي قدس سره، والسيّد السبزواري قدس سره، وآخرون غيرهم. «2»

يقول السيّد الحكيم قدس سره في مستمسك العروة الوثقى: «.. وأمّا ما في بعض كتب المقاتل من أنّه عليه السلام جعل عمرته عمرة مفردة، ممّا يظهر منه أنها كانت عمرة تمتّع وعدل بها إلى الإفراد، فليس ممّا يصحّ التعويل عليه في مقابل الأخبار المذكورة التي رواها أهل البيت عليهم السلام». «3»

ويقول الشيخ محمد رضا الطبسي قدس سره: «المشهور بين الأصحاب رضوان اللّه عليهم أنّ

من دخل مكّة بعمرة التمتع في أشهر الحجّ لم يجز له أن يجعلها مفردة، ولا أن يخرج من مكّة حتى يأتي بالحجّ لأنها مرتّبة (مرتبطة) بالحجّ، نعم عن ابن إدريس القول بعدم الحرمة وأنّه مكروه، وفيه أنه مردود بالأخبار.». «4»

«كما يضعّف أيضاً القول بوقوع التبديل الى العمرة المفردة هو أنّه لو كان لأجل الصدّ ومنع الظالم فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدي، كما أشار

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 15

إليه الشهيد الأوّل في الدروس، «1» والشهيد الثاني في المسالك. «2»». «3»

ولم يَرد في خبر أو أثرٍ أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد أحلّ من إحرام عمرته بالهدي.

لماذا توجّه الإمام الحسين عليه السلام الى العراق؟ ..... ص : 15
اشارة

إنّ أفضل من يجيب عن هذا السؤال هو الإمام الحسين نفسه عليه السلام، ويمكننا هنا التعرّف على أبعاد هذا الجواب، وتحديد العوامل التي دفعت الإمام عليه السلام إلى اختيار العراق لاغيره من البلدان، من خلال تتبع واستقصاء جميع ما اثِر من تصريحات الإمام عليه السلام في هذا الصدد، منذ إعلانه عن قيامه المقدّس في رفض البيعة ليزيد بعد موت معاوية أمام الوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك، حتى أواخر ساعات حياته في كربلاء في احتجاجاته على أعدائه قُبيل نشوب القتال يوم عاشوراء.

وعلى ضوء تصنيف تصريحاته عليه السلام على أساس نوع الإشارة فيها يمكننا تحديد العوامل التي دفعت الإمام عليه السلام إلى هذا الأمر، وهذه العوامل هي:

1)- العراق مهد التشيّع ومركز معارضة الحكم الأموي ..... ص : 15

في إجابته عليه السلام عن سؤال عبداللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة «4» بالأبواء- بين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 16

المدينة ومكّة-: أين تريدُ يا ابن فاطمة؟

قال الإمام عليه السلام: العراق وشيعتي!. «1»

وفي محاورة بينه وبين عبداللّه بن عباس قال ابن عبّاس (رض): فإنْ كنت على حال لابدّ أن تشخص فَصِر إلى اليمن فإنَّ بها حصوناً لك، وشيعة لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس!

فقال الإمام عليه السلام: لابدّ من العراق!. «2»

هذان النصّان- ونظائرهما- يكشفان بوضوح عن أهميّة العراق بذاته عند الإمام عليه السلام بمعزلٍ عن أثر رسائل أهل الكوفة التي وصلت إلى الإمام عليه السلام في مكّة بعد موت معاوية، وأهميّة العراق بذاته عند الإمام عليه السلام من الحقائق التأريخية التي لاتحتاج لإثباتها إلى الإستشهاد عليها بنصّ.

فلقد كانت الكوفة «مهداً للشيعة، وموطناً من مواطن العلويين، وقد أعلنت إخلاصها لأهل البيت في كثير من المواقف ... و قد خاض الكوفيون حرب الجمل و صفين مع الامام، وكانوا يقولون له: «سِر بنا يا أميرالمؤمنين حيث

أحببت، فنحن حزبك وأنصارك، نُعادي من عاداك، ونشايع من أناب إليك وأطاعك»، «3» وكان الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام يُثني عليهم ثناء عاطراً، فيرى أنّهم أنصاره وأعوانه المخلصون له، يقول لهم: «ياأهل الكوفة، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 17

الحقّ، ومجيبيَّ إلى جهاد المحلّين، بكم أضرب المدبر، وأرجو إتمام طاعة المُقبل»، «1» ويقول عليه السلام: «الكوفة كنز الإيمان، وجمجمة الإسلام، وسيف اللّه ورمحه، يضعه حيث يشاء. «2»».». «3»

وكانت الكوفة بعد أميرالمؤمنين عليه السلام والإمام الحسن عليه السلام المقرّ الرئيسي لمعارضة الحكم الأموي، وكان الكوفيون يتمنّون زوال الحكم الأموي، «ومما زاد في نقمة الكوفيين على الأمويين أنّ معاوية ولّى عليهم شُذّاذ الآفاق كالمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، فأشاعوا فيها الظلم والجور، وأخرجوهم من الدعة والإستقرار، وبالغوا في حرمانهم الإقتصادي، واتبعّوا فيهم سياسة التجويع والحرمان ... وظلّت الكوفة مركزاً للمؤامرات على حكم الأمويين، ولم يُثنهم عن ذلك ما عانوه من التعذيب والقتل والبطش على أيدي الولاة.». «4»

وكان الشيعة في العراق- بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام- على اتصال بالإمام الحسين عليه السلام من خلال المكاتبات واللقاءات، ونكتفي للدلالة على ذلك بهذين النصّين:

أ)- نقل الشيخ المفيد (ره) عن الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السير أنهم قالوا: «لمّا مات الحسن عليه السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا الى الحسين عليه السلام في خلع معاوية، والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لايجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك.». «5»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 18

ب)- روى البلاذري عن العتبي أنّ الوليد بن عتبة حجب أهل العراق عن الإمام الحسين عليه السلام (أي منعهم من اللقاء به، وهذا يعني أنّهم كانوا يأتون لملاقاته في

المدينة المنوّرة، وبصورة ملفتة ومثيرة لانتباه السلطة)، فقال الحسين عليه السلام:

«يا ظالماً لنفسه، عاصياً لربّه، علام تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمّك!؟». «1»

2)- العراق أرض المصرع المختار!؟ ..... ص : 18

لمّا عزم الإمام عليه السلام على الخروج من المدينة أتته أمّ سلمة (رض) فقالت: يا بُني لاتحزنّي بخروجك الى العراق، فإني سمعت جدّك يقول: يُقتل ولدي الحسين عليه السلام بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلاء!

فقال لها: «يا أمّاه، وأنا واللّه أعلم ذلك، وأنّي مقتول لامحالة، وليس لي من هذا بدٌّ، وإنّي واللّه لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وإنّي أعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإنْ أردتِ يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي!». «2»

وفي رواية أخرى أنّه عليه السلام قال لها (رض):

«واللّه إني مقتول كذلك، وإنْ لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً ..».»

«وقد روي بأسانيد أنه لمّا منعه عليه السلام محمّد بن الحنفية عن الخروج إلى الكوفة قال: واللّه يا أخي، لو كنت في جُحر هامّة من هوامِّ الأرض، لاستخرجوني منه حتّى

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 19

يقتلوني.». «1»

وفي رواية أنه عليه السلام قال لابن الزبير: لئن أُدفن بشاطي ء الفرات أحبُّ إلىَّ من أن أُدفن بفناء الكعبة. «2»

أو قوله عليه السلام: ولئن أُقتل بالطفِّ أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بالحرم. «3»

هذه النصوص- ونظائرها- تكشف لنا أنّ الإمام عليه السلام منذ البدء كان قد اختار العراق أرضاً لمصرعه!

وسرُّ ذلك هو أنّ الإمام عليه السلام بعد أن اختار موقفه المبدئي برفض البيعة ليزيد وبالقيام كان يعلم منذ البدء أنه مقتول لامحالة، خرج الى العراق أولم يخرج، فكان «من الحكمة أن يختار الإمام عليه السلام لمصرعه أفضل الظروف الزمانية والمكانية والنفسية والإجتماعية المساعدة على

كشف مظلوميته وفضح أعدائه، ونشر أهدافه، وأن يتحرّك باتجاه تحقيق ذلك ما وسعته القدرة على التحرّك. وبما أنّ الإمام عليه السلام كان يعلم منذ البدء أيضاً أنّ أهل الكوفة لايفون له بشي ء من عهدهم وبيعتهم وأنهم سوف يقتلونه: «هذه كتب أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلّا قاتليَّ ...»، «4»

إذن فهو عليه السلام- بمنطق الشهيد الفاتح- كان يريد العراق، ويصرُّ على التوجّه إليه لأنه أفضل أرض للمصرع المختار، ذلك لما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثر بالحدث العظيم «واقعة عاشوراء» والتغير نتيجة لها، وذلك لأنّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ إقليم اسلامي آخر، ولأنّ العراق لم ينغلق إعلامياً ونفسياً لصالح الأمويين كما هو الشام، بل لعلّ العكس هو الصحيح. وهذه الحقيقة أكّدتها الوقائع التي تلت واقعة عاشوراء، وأثبتت أيضاً صحة هذا المنطلق، ولعلّ هذا هو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 20

السرّ المستودع في قوله عليه السلام لمّا سأله ابن عيّاش: اين تريد يا ابن فاطمة؟

حيث أجاب عليه السلام: العراق وشيعتي! «1»

وقوله عليه السلام لابن عبّاس: لابدّ من العراق! «2»

». «3»

3)- رسائل أهل الكوفة بعد موت معاوية ..... ص : 20
اشارة

ما إنْ علم أهل الكوفة بموت معاوية بن أبي سفيان، وبأنّ الإمام الحسين عليه السلام قد رفض البيعة ليزيد، وقد خرج من المدينة وأقام في مكّة، حتّى تقاطرت إليه رسلهم ورسائلهم، يدعونه إليهم، مظهرين استعدادهم لنصرته والقيام معه، حتى إنه اجتمع عنده في نُوَبٍ متفرّقة إثنا عشر ألف كتاب، «4» ووردت إليه قائمة فيها مائة وأربعون ألف إسم يُعربون عن نصرتهم له حال ما يصل إلى الكوفة، «5» وكان سفيره إليهم مسلم بن عقيل عليه السلام قد كتب الى الإمام عليه السلام- بعد وصوله الكوفة وأخذه البيعة له منهم- قائلًا: «أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله،

وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلّهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولاهوىً، والسلام.»، «6» وكان أهل الكوفة في آخر وفاداتهم إلى الإمام عليه السلام في مكّة قد كتبوا إليه يقولون: «أمّا بعدُ، فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل يا ابن رسول اللّه، فقد اخضرّت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 21

الجنّات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فاقدم علينا إذا شئت، فانّما تقدم على جند مجنّدة لك.»، «1» وكتبوا إليه: «إنّا قد حبسنا أنفسنا عليك، ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فاقدم إلينا فنحن في مائة ألف!». «2»

لقد شكّلت رسائل أهل الكوفة حجّة على الإمام عليه السلام في وجوب الإستجابة لهم، وقد كان الإمام عليه السلام قد علّق عزمه في التوجّه إلى الكوفة على التقرير الميداني لمسلم بن عقيل عليه السلام عن حال أهل الكوفة، وقد صرّح عليه السلام لأهل الكوفة في رسالته الأولى إليهم بذلك حيث قال:

«.. فإنْ كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأتُ في كتبكم، فإني اقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللّه ...». «3»

وعلى ضوء رسالة مسلم عليه السلام عقد الإمام الحسين عليه السلام عزمه على التوجّه الى الكوفة محتجّاً برسائلهم إليه، واحتجاجاته عليه السلام برسائل أهل الكوفة إليه كثيرة، نقلتها إلينا كتب التأريخ، منها- على سبيل المثال لا الحصر- جوابه عليه السلام لعبد اللّه بن مطيع وكان قد سأله عمّا أخرجه عن حرم اللّه وحرم جدّه صلى الله عليه و آله حيث قال عليه السلام:

«إنّ أهل الكوفة كتبوا إلىَّ يسألونني أن أقدم عليهم ...». «4»

وقوله عليه السلام لعبداللّه بن عمر-

وكان قد نهاه عن التوجّه الى أهل العراق- «هذه كتبهم وبيعتهم!». «5»

وقوله عليه السلام ليزيد بن الرشك الذي سأله في منزل من منازل الطريق قائلًا: ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 22

أنزلك هذه البلاد الفلاة التي ليس بها أحد؟! حيث أجاب عليه السلام:

«هذه كتبُ أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلّا قاتليَّ ..!». «1»

وقوله عليه السلام للطرمّاح وقد سأله أن يلجأ إلى جبل أَجَأ: «إنَّ بيني وبين القوم موعداً أكره أن أخلفهم ..» «2»

وفي نصٍ آخر: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الإنصراف ..». «3»

إشارة: ..... ص : 22

لاشكّ أنّ حجّة أهل الكوفة على الإمام عليه السلام- برسائلهم إليه وببيعتهم- كانت قد انتفت عملياً وانتهت تماماً بعد انقلابهم على مسلم بن عقيل عليه السلام وخذلانهم إياه، فلماذا لم يُعرض الإمام عليه السلام عن التوجّه إلى العراق، بل أصرَّ على التوجّه إليهم، وواصل الإحتجاج عليهم برسائلهم وببيعتهم؟

وفي معرض الإجابة عن هذا التساؤل قد يُقال إنّ مسلم بن عقيل عليه السلام في مستوى تاثيره على أهل الكوفة ليس كالإمام عليه السلام في مستوى تأثيره لو دخل الكوفة وكان بين ظهراني أهلها، إذ إنّ المأمول والمتوقّع أنهم سيلتفّون حول الإمام عليه السلام ويسارعون الى نصرته، وهذا التصوّر كان قد أشار إليه بعض أصحاب الإمام عليه السلام حين قال له: «إنّك واللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع ..»، «4» ولذا واصل الإمام عليه السلام الإصرار على التوجّه إلى الكوفة حتى بعد مقتل مسلم عليه السلام!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 23

لكنّ التأريخ يثبت أنّ الإمام عليه السلام لم يعتمد هذا النظر ولم يتحرّك على أساسه لعلمه عليه السلام بما سيؤول إليه موقف أهل الكوفة من

قبل ذلك (لإعتقادنا الحقّ بأنّ الأئمة عليهم السلام يعلمون بما كان وبما سيكون الى قيام الساعة)، ودلائل تأريخية عديدة أيضاً تؤكّد أنه عليه السلام كان يعلم منذ البدء أنّ أهل الكوفة سوف يخذلونه ويقتلونه، «1» ولأنّ أنباء الكوفة بعد مقتل مسلم عليه السلام تدافعت إلى الإمام عليه السلام بسرعة مؤكّدة على أنّ أهل الكوفة- إلّا من رحم اللّه- قد أصبحوا إلباً على الإمام عليه السلام بعد أن عبّأهم ابن زياد لقتاله.

فلا يبقى إذن إلّا أن نقول: «إنّ الإمام عليه السلام واصل التزامه بالوفاء بهذا الموعد والقول، واصرَّ على التوجّه الى الكوفة لا لأنّ لأهل الكوفة حجّة باقية عليه في الواقع، بل لأنّه لم يشأ أن يدع أيّ مجال لإمكان القول بأنّه لم يفِ تماماً بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجّه الى الكوفة في بعض مراحل الطريق، حتّى بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها، ذلك لأنّ الإمام عليه السلام مع تمام حجّته البالغة على أهل الكوفة أراد في المقابل بلوغ تمام العذر وعلى أكمل وجه فيما قد يُتصوَّر أنّ لهم حجّة باقية عليه، بحيث لايبقى مجال للطعن في وفائه بالعهد.». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 24

4)- تنفيذ أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله ..... ص : 24

وفي مجموعة نصوص تصريحات الإمام الحسين عليه السلام بصدد علّة اختياره التوجّه الى العراق لا إلى غيره هناك فئة من هذه النصوص يصرّح فيها الإمام عليه السلام بأنه إنما يخرج الى العراق بالذات امتثالًا لأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

وقد تلقّى الإمام الحسين عليه السلام أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن طريق (الرؤيا)، التي تكررّت غير مرّة، وهي رؤيا حقّة لأنَّ الرائي إمام معصوم عليه السلام، لايأتيه الباطل من بين يديه ولامن خلفه، ولأنَّ

المرئيَّ هو رسول اللّه صلى الله عليه و آله، والثابت في الأثر أنّ من رآه في المنام فقد رآه. «1»

وكان بدء هذه الرؤيا الحقّة في المدينة المنوّرة بعدما أعلن الإمام عليه السلام رفضه مبايعة يزيد بعد موت معاوية أمام الوليد بن عتبة والي المدينة يومذاك، تقول الرواية:

«فلمّا كانت الليلة الثانية خرج الى القبر أيضاً، فصلّى ركعتين، فلمّا فرغ من صلاته جعل يقول:

«اللّهمّ إنّ هذا قبر نبيّك محمد، وأنا ابن بنت محمّد، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، أللّهمَّ وإنّي أُحبّ المعروف وأكره المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحقّ هذا القبر ومن فيه إلّا ما اخترت من أمري هذا ماهو لك رضى.

ثمّ جعل الحسين عليه السلام يبكي، حتى إذا كان في بياض الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ساعة، فرأى النبيّ صلى الله عليه و آله قد أقبل في كبكبة من الملائكة عن يمينه وشماله ومن بين يديه ومن خلفه، حتّى ضمَّ الحسين عليه السلام إلى صدره، وقبّل بين عينيه، وقال صلى الله عليه و آله:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 25

يا بنيّ يا حسين، كأنّك عن قريب أراك مقتولًا مذبوحاً بأرض كرب وبلاء من عصابة من أمّتي، وأنت في ذلك عطشان لاتُسقى وظمآن لاتُروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي!، ما لهم لا أنالهم اللّه شفاعتي يوم القيامة، فما لهم عند اللّه من خلاق.

حبيبي يا حسين، إنّ أباك وأمّك وأخاك قد قدموا عليَّ، وهم إليك مشتاقون، وإنّ لك في الجنّة درجات لن تنالها إلّا بالشهادة!

فجعل الحسين عليه السلام ينظر في منامه الى جدّه صلى الله عليه و آله ويسمع كلامه، وهو يقول:

يا جدّاه، لا حاجة لي في الرجوع الى الدنيا أبداً، فخذني إليك واجعلني معك إلى

منزلك!

فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله:

يا حسين، إنه لابدّ لك من الرجوع الى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما كتب اللّه لك فيها من الثواب العظيم، فإنّك وأباك وأخاك وعمّك وعمّ أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتى تدخلوا الجنّة.». «1»

وقد أشار الإمام عليه السلام إلى هذا الأمر أيضاً في آخر لقاء له مع أخيه محمد بن الحنفية (رض) في مكّة المكرّمة في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، تقول الرواية: «سار محمّد بن الحنفية الى الحسين عليه السلام في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنَّ أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإنْ رأيت أن تقيم فإنّك أعزُّ من في الحرم وأمنعه!

فقال عليه السلام: يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 26

فقال له ابن الحنفيّة: فإن خفت فَسِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البرّ، فإنك أمنع الناس به ولايقدر عليك أحد.

فقال عليه السلام: أنظر فيما قُلتَ.

ولمّا كان السحر ارتحل الحسين عليه السلام، فبلغ ذلك ابن الحنفيّة، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخيّ، ألم تعدني النظر فيما سألتك؟

قال عليه السلام: بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلًا!؟

فقال عليه السلام: أتاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعدما فارقتك، فقال: يا حسين، أخرج فإنّ اللّه قد شاء أن يراك قتيلا!.

فقال له ابن الحنفيّة: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك، وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟!

فقال له عليه السلام: قد قال لي: إنّ اللّه قد شاء

أن يراهنّ سبايا! وسلّم عليه ومضى.». «1»

كما أشار الإمام عليه السلام أيضاً الى أمر هذه الرؤيا بعد خروجه عن مكّة، في ردّه على عبداللّه بن جعفر (رض) ويحيى بن سعيد حينما ألحّا عليه بالرجوع وجهدا في ذلك، حيث قال عليه السلام لهما: «إنّي رأيتُ رؤيا فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، عليَّ كان أو لي!»، ولما سألاه: فما تلك الرؤيا؟

قال عليه السلام: «ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربّي!». «2»

ويستفاد من هذا الخبر أنّ هذه الرؤيا التي أخبر الإمام عليه السلام عنها عبداللّه بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 27

جعفر (رض) ويحيى بن سعيد هي غير الرؤيا التي رآها في المدينة وغير الرؤيا التي أخبر عنها أخاه محمّد بن الحنفيّة (رض)، بدليل أنه عليه السلام امتنع عن ذكر تفاصيلها، وذكر أنه لم يحدّث بها أحداً ولايحدّث بها.

ولايخفى أنّ الأخيرتين من هذه الرؤى الثلاث صريحتان في أنّ أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان متعلّقاً بالتوجّه إلى العراق لابأصل الخروج فقط، ذلك لأنّ الإمام عليه السلام ذكر أمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله في ردّه على كلّ من محمّد بن الحنفيّة (رض) وعبداللّه بن جعفر (رض) ويحيى بن سعيد الذين نهوه عن التوجه الى العراق.

هلع السلطة الأموية من خبر خروج الإمام عليه السلام! ..... ص : 27

روى ابن قتيبة الدينوري أنّ عمرو بن سعيد بن العاص والي مكّة حينما بلغه خبر خروج الإمام الحسين عليه السلام عن مكّة المكرّمة قال: «إركبوا كُلَّ بعير بين السماء والأرض فاطلبوه!»، فكان الناس يعجبون من قوله هذا، فطلبوه فلم يُدركوه! «1»

ومع أنّ لنا تحفّظاً على هذا الخبر من جهة أنّ الثابت تأريخياً أنَّ الإمام عليه السلام لم يخرج

عن مكّة سرّاً وإنْ كان خروجه في السحر أو في أوائل الصباح، إذ كان الامام عليه السلام قد خطب الناس في مكّة ليلة الثامن من ذي الحجة خطبته الشهيرة التي قال فيها:

«من كان باذلًا فينا مهجته، وموطّناً على لقاء اللّه نفسه، فليرحل معنا، فإنني راحلٌ مصبحاً إن شاء اللّه تعالى». «2»

وعلى هذا فإنّ خبر موعد خروجه عليه السلام كان قد انتشر بين الناس في مكّة قبل خروجه، أي في ذات الليلة التي خرج في أواخرها أو في أوائل صباحها، ومن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 28

الطبيعي ان تكون السلطة الأموية في مكّة قد علمت بهذا الموعد كما علم الناس في مكّة على الأقل من خلال جواسيسها وعيونها.

ومن جهة أخرى فإنّ الركب الحسينيّ الخارج عن مكّة- وكان كبيراً نسبياً أوائل الخروج- لايمكن أن يبعد كثيراً عن مكة فيختفي بهذه السرعة وفي تلك الفاصلة الزمنيّة القصيرة عن الأنظار حتى يُطلب فلايُدرك!

هذا مع أنّ المشهور تأريخياً أنّ رُسل عمرو بن سعيد ورجال شرطته قد أدركوا الركب الحسينيّ في أوائل طريقه نحو العراق!

غير أنَّ الأمر المهمّ الذي يكشف عنه هذا الخبر هو الهلع الكبير والذعر البالغ اللذان انتابا السلطة الأموية لخروج الإمام عليه السلام بالفعل، حتى كأنَّ والي مكّة آنذاك أراد أن يُعبّي ء كلّ واسطة بين السماء والأرض ويسخّرها لمنع الإمام عليه السلام من الخروج عن مكّة!

لقد عظم خروج الإمام عليه السلام عن مكّة على السلطة الأموية لأنّ هذا الخروج كان معناه انفلات الثورة الحسينيّة من طوق الحصار الذي سعت السلطة الأموية إلى تطويقها به في المدينة المنوّرة ففشلت، ثمّ جهدت في سبيل ذلك في مكّة أيضاً، طمعاً في القضاء على هذه الثورة في مهدها قبل انفلاتها من ذلك الحصار، من خلال القضاء

على قائدها بإلقاء القبض عليه أو اغتياله أو قتله بالسمّ في ظروف مفتعلة غامضة تستطيع السلطة الأموية أن تِلقي فيها بالتهمة على غيرها، وتغطّي على جريمتها بألف ادّعاء، وقد تطالب هي بدمه بعد ذلك فتضللّ الأمّة وتظهر للناس بمظهر الآخذ بثأر الإمام عليه السلام، فتبقى مأساة الإسلام على ما هي عليه، بل تترسّخ المصيبة وتشتدّ!

إذن فخروج الإمام عليه السلام عن مكّة المكرّمة في ذلك التوقيت المدروس كما فوّت على السلطة الأموية الفرصة للتخلّص من الإمام عليه السلام بطريقة تختارها هي، وتتمكن من الإستفادة منها إعلامياً لتضليل الأمّة، كذلك فقد فوّت عليها فرصة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 29

تطويق الثورة ومحاصرتها وخنقها، إذ كان «خروجه عليه السلام من المدينة- وكذلك من مكة- في الأصل انفلاتاً بالثورة المقدّسة من طوق الحصار والتعتيم الأمويّ، إضافة الى خوفه عليه السلام من أن تُهتك حرمة أحد الحرمين الشريفين بقتله». «1»

إذن فقد حقَّ لبني أميّة أن يهلعوا لخروج الإمام عليه السلام، لأنّ هذا الخروج حرمهم من أن يرسموا هم فصول المواجهة مع الإمام عليه السلام، وأن يختاروا هم الظروف الزمانية والمكانية والإعلامية لهذه المواجهة، في وقت «كان الإمام عليه السلام حريصاً على أن يتحقّق مصرعه- الذي كان لابدّ منه ما لم يبايع- في ظروف زمانية ومكانية يختارها هو عليه السلام، لايتمكّن العدوّ فيها أنْ يعتّم على مصرعه، أو أنْ يستفيد من واقعة قتله لصالحه، فتختنق الأهداف المنشودة من وراء هذا المصرع الذي أراد منه عليه السلام أن تهتزّ أعماق وجدان الأمّة لتتحرك بالإتجاه الصحيح الذي أراده عليه السلام لها.». «2»

محاولة السلطة الأموية في مكّة لإرجاع الإمام عليه السلام ..... ص : 29
اشارة

لقد سلكت السلطة الأموية المحلّية في مكّة المكرّمة من أجل إرجاع الإمام عليه السلام إلى مكّة مرّة أخرى أسلوبين، كان أحدهما أسلوباً سلمياً عرض

فيه عمرو بن سعيد الأشدق الأمان والبرّ والصلة للإمام عليه السلام في رسالة وجّهها إليه، وكان الآخر اسلوباً قمعياً وعسكرياً حيث تصدّت جماعة من رجال الشرطة الأموية للركب الحسينيّ لمنع مواصلة حركته في الخروج عن مكّة، ولايخفى أنَّ الأسلوب الأوّل أي اسلوب بذل الأمان والصلة كان قبل الأسلوب القمعي، كما هي عادة الطغاة في مواجهة مثل هذه الوقائع.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 30

دور عبداللّه بن جعفر في المحاولة السلميّة! ..... ص : 30
اشارة

تقول رواية الطبري: «وقام عبداللّه بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه وقال: أكتب إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئنّ إلى ذلك فيرجع!.

فقال عمرو بن سعيد: أكتب ماشئت وأتني به حتى أختمه. فكتب عبداللّه بن جعفر الكتاب!، ثمّ أتى به عمرو بن سعيد، فقال له: اختمه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنّه أحرى أن تطمئنّ نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك. ففعل!».

ويتابع الطبري روايته فيقول: «.. فلحقه يحيى وعبداللّه بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أنّ أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: إنّي رأيتُ رؤيا فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأُمرت فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له، عليَّ كان أو لي! فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربي!

قال وكان كتاب عمرو بن سعيد الى الحسين بن عليّ عليهما السلام:

«من عمرو بن سعيد الى الحسين بن عليّ: أمّا بعدُ، فإنّي أسأل اللّه أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك! بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أعيذك باللّه من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت

إليك عبداللّه بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك اللّه عليَّ بذلك شهيد وكفيل ومُراعٍ ووكيل، والسلام عليك.

وروى الطبري أنّ الإمام عليه السلام كتب إليه:

أمّا بعد، فإنّه لم يشاقق اللّه ورسوله من دعا إلى اللّه عز وجلّ وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين، وقد دعوتَ الى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان اللّه، ولن يؤمن اللّهُ يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، نسأل اللّه مخافة في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة فإن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 31

كنت نويت بالكتاب صلتي وبريّ فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة، والسلام.». «1»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 31

مضت في الجزء الثاني من هذه الدراسة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، ترجمة موسّعة لشخصية عبداللّه بن جعفر الطيّار (رض)، ودراسة مفصّلة لموقفه من النهضة الحسينيّة، وقد استوفت تلك الدراسة الإجابة عن جميع الأسئلة التي يمكن أن تُثار حول هذه الشخصية الهاشميّة.

ومع هذا، فإنّ دخول جزء من تحرّك عبداللّه بن جعفر (رض) في إطار متابعتنا هذه يلزمنا أن نذكّر هنا- على سبيل الإختصار- ببعض النقاط المهمّة المتعلّقة بتحرّك عبداللّه بن جعفر (رض):

1)- كان عبداللّه بن جعفر (رض)- بعد أن علم بعزم الإمام عليه السلام على التوجّه إلى العراق- قد كتب رسالة إليه يناشده فيها عدم التوجّه الى العراق، وقد روى ابن أعثم الكوفي «2» أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) قد كتب هذه الرسالة من المدينة إلى الإمام عليه السلام في مكّة، أمّا الطبري فإنه قد روى أنه بعث بها الى الإمام عليه السلام بعد خروجه عن مكّة، مع ولديه محمد وعون، ونصّ الرسالة على ما في رواية الطبري:

«أما بعدُ، فإنّي أسالك باللّه لما انصرفت حين

تنظر في كتابي، فإنّي مشفق عليك من الوجه الذي توجّه له أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك، إنْ هلكت اليوم طُفي ء نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين،»

فلا تعجل بالسير

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 32

فإنّي في أثر الكتاب، والسلام». «1»

ويُلاحظ أنّ متن هذه الرسالة كاشف عن أمور، منها:

أ- الأدب الجمّ الذي يتمتع به عبداللّه بن جعفر (رض) في مخاطبة الإمام عليه السلام، الكاشف عن اعتقاده بإمامة الإمام عليه السلام، خصوصاً في قوله على ما في رواية الطبري: إنْ هلكت اليومَ طُفي ء نور الأرض، فإنّك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين. أو على ما في رواية الفتوح: فإنّك إنْ قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض، وأنت روح الهدى، وأميرالمؤمنين.

ومن هنا، فإنّ الرسالة التي بعث بها والي مكّة عمرو بن سعيد الأشدق إلى الإمام عليه السلام بعد خروجه لايمكن أن تكون من إنشاء عبداللّه بن جعفر (رض)- كما روى الطبري!- ذلك لأن هذه الرسالة حوت شيئاً إدّاً من مضامين الجسارة والجهل بمقام الإمام عليه السلام، وسوء الأدب في مخاطبته عليه السلام، كما في قوله: «أسأل اللّه أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك ... وإنّي أُعيذك باللّه من الشقاق!»، وهذا مستبعد جدّاً صدوره من إنسان مؤمن بإمامة الإمام الحسين عليه السلام، ويراه «نور الأرض» و «أميرالمؤمنين» و «روح الهدى».

بل رسالة الأشدق من إنشائه هو، وذلك: أوّلًا لأنها انعكاس تام لنظرة هذا الطاغية الأمويّ المتجبّر، وحاكية عن لسان الإعلام الأمويّ ومفرداته الضالة المضلّة، فالخروج على النظام الظالم فيها من الموبقات! ومن الشقاق! وسعي في تفريق كلمة الأمّة والجماعة! وما إلى ذلك من أسلحة إعلاميّة لمواجهة كلّ قيام للحق والعدل والإصلاح.

ومن الجدير بالذكر هنا: أنّ ابن أعثم الكوفي ذكر أنّ عمرو

بن سعيد هو الذي كتب هذه الرسالة وليس عبداللّه بن جعفر (رض)، كما ذكر أنّ حاملها إلى

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 33

الإمام عليه السلام كان يحيى بن سعيد وحده، أي لم يكن عبداللّه بن جعفر (رض) معه! «1»

كما أنّ الشيخ المفيد (ره) روى نفس قصة هذه الرسالة- كما رواها الطبري- لكنّه لم يذكر أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) هو الذي كتبها، «2» بل قال: «فكتب إليه عمرو بن سعيد كتاباً ...»، «3» فتأمّل!

ب- ويستفاد أيضاً من محتوى رسالة عبداللّه بن جعفر (رض) إلى الإمام عليه السلام أنّه «يشترك مع ابن عبّاس (رض) وابن الحنفيّة (رض) وغيرهم في النظرة الى قيام الإمام عليه السلام من زاوية النصر أو الإنكسار الظاهريين، هذه النظرة التي كانت منطلق مشوراتهم ونصائحهم، وخوفهم أن يُقتل الإمام عليه السلام في الوجهة التي عزم عليها، ولذا فقد كان الإمام عليه السلام يجيبهم بأنّ منطقه الذي يتحرّك على أساسه غير هذا من خلال الرؤيا التي رأى فيها جدّه صلى الله عليه و آله، وأنه مأمور بهذا النوع من التحرّك امتثالًا لأمر رسول اللّه صلى الله عليه و آله.». «4»

وجدير بالذكر هنا أنّ الإمام عليه السلام كان قد كتب جواباً إلى عبداللّه بن جعفر (رض) قال فيه: «أمّا بعدُ، فإنّ كتابك ورد عليَّ فقرأتهُ وفهمت ما ذكرت، وأُعلمك أنّي قد رأيت جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أو عليَّ، واللّه يا ابن عمّي لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني ويقتلوني! واللّه ليعدينّ عليّ كما عدت اليهود على السبت، والسلام.». «5»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 34

2)- يظهر من أخبار تحرّك عبداللّه بن جعفر (رض) ومن رسالته

«1» التي بعث بها الى الإمام عليه السلام «أنه كان يعتقد أو يأمل- من خلال الوساطة- أن تتحقّق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الإمام عليه السلام إذا انثنى عن القيام والخروج وإنْ لم يبايع!

ولذا فقد ردَّ الإمام عليه السلام على هذا الوهم بأنه ما لمْ يُبايعْ يُقتلْ لا محالة! ولأنه لايبايع يزيد أبداً فالنتيجة لامحالة هي: «لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني حتى يقتلوني! ..»، وفي هذا ردٌّ أيضاً على تصوّر عبداللّه بن جعفر- على فرض صحة رواية الفتوح- بأنّه يستطيع أخذ الأمان من الأمويين للإمام عليه السلام ولماله وأولاده وأهله!». «2»

إذن، يتضّح لنا ممّا مرَّ أنّ دور عبداللّه بن جعفر (رض) في المحاولة السلمية لم يكن انضواءً منه تحت الراية الأمويّة، أو أنّه (رض) كان موالياً للسلطة الأمويّة وممثلًا أو مندوباً عنها، بل كلُّ ما حصل هو أنّ سعيه لتحقيق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الإمام عليه السلام كان قد توافق مع رغبة السلطة الأموية في ثني الإمام عليه السلام عن مواصلة التوجّه الى العراق، وإرجاعه مرّة أخرى إلى مكّة المكرّمة، من خلال بذل الأمان والبرّ والصلة وحسن الجوار، فكان سعي عبداللّه بن جعفر (رض) وسعي السلطة الأموية في هذا الإطار في طول واحد لاشيئاً واحداً.

ولذا نجد أنّ عبداللّه بن جعفر (رض) لمّا رأى إصرار الإمام عليه السلام على مواصلة القيام والتوجّه الى العراق، أنهى سعيه لتحقيق المتاركة، وأظهر ولاءه التام للإمام عليه السلام حين أمر ولديه محمّداً وعوناً بالإلتحاق به عليه السلام، إذ كان هو معذوراً

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 35

لإصابته بالعمى على ما في بعض الآثار. «1»

ويحسنُ هنا في ختام بحثنا الموجز عن دور عبداللّه بن جعفر (رض) أن نذكر هذه

الرواية التي رواها الشيخ المفيد (ره)، والكاشفة عن تأييده (رض) لقيام الإمام عليه السلام، تقول هذه الرواية: «ودخل بعض موالي عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب عليهم السلام فنعى إليه إبنيه، فاسترجع، فقال أبوالسلاسل مولى عبداللّه: هذا مالقينا من الحسين بن عليّ!.

فحذفه عبداللّه بن جعفر بنعله، ثمّ قال: يا ابن اللخناء! أللحسين عليه السلام تقول هذا!؟ واللّه لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتّى أُقتل معه! واللّه إنّه لممّا يسخّي نفسي عنهما ويعزّي عن المصاب بهما أنّهما أصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له صابرين معه.

ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمدُللّه، عزّ عليَّ مصرع الحسين، إنْ لا أكن آسيتُ حسيناً بيدي فقد آساه ولداي.». «2»

المحاولة القمعيّة: ..... ص : 35
اشارة

ولمّا يأس الأشدق من فائدة أسلوب عرض الأمان والبرّ والصلة وحسن الجوار! لجأ إلى ما تعوّد عليه من الأساليب الإرهابية القمعيّة في معالجة المشكلات التي تواجهه- وتلك سُنّة الطغاة- ظنّاً منه أنّ الأسلوب القمعي لابدّ وأنْ يثمر النتيجة المنشودة من وراءه!

روى الطبري عن عقبة بن سمعان قال: «لمّا خرج الحسين من مكّة اعترضه رُسلُ عمرو بن سعيد بن العاص، عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف، أين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 36

تذهب!؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط، ثمّ إنَّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قويّاً، ومضى الحسين عليه السلام على وجهه، فنادوه: يا حسين، ألا تتّقي اللّه! تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمّة!؟ فتأوّل حسين قول اللّه عزّ وجلّ (لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بري ء ممّا تعملون).». «1»». «2»

وتقول رواية الدينوري: «ولمّا خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد ابن العاص في جماعة من الجند، فقال: الأمير يأمرك بالإنصراف، فانصرف وإلّا منعتك!

فامتنع

عليه الحسين، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط! وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شُرَطِه يأمره بالإنصراف!». «3»

إشارة: ..... ص : 36

إنّ التدبّر في هذين النصّين يكشف بوضوح عن أنّ القوّة العسكرية الأموية لم تكن كافية لمنع الإمام عليه السلام من الخروج، ذلك لأنّ المفروض أن يستعمل عمرو الأشدق كلّ ما لديه من إمكانيّة وقوّة في مثل هكذا مواجهة تقع خارج حدود مدينة مكّة لقهر الركب الحسينيّ الكبير نسبياً حتى ذلك الوقت وإرغامه على الرجوع إلى مكّة، غير أنّ واقع الحال لم يعدُ أن تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، وكان امتناع الركب الحسينيّ (امتناعاً قويّاً)، فخاف الأشدق من تفاقم الأمر! وأمر (رُسلَه) أو (جنده) بالإنصراف خائبين، ولاشك أنّ معنى تفاقم الأمر هنا هو خوف الأشدق من انقلاب السحر على الساحر إذا طال التدافع وامتدّت المناوشة بين الفريقين وانتهى الأمر بهما إلى مواجهة حربية صريحة- لم يكن الأشدق قد استعدَّ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 37

لها تماماً- فضلًا عن خوفه من انقلاب جماهير الحجيج الواردين الى مكّة من أقطار العالم الإسلامي على السلطة الأموية وانضمامهم الى راية الإمام عليه السلام إذا سمعوا بمثل هذه المواجهة بين السلطة وبين الإمام عليه السلام عند مشارف مكّة.

هل كانت هذه المحاولة إجراءً صورياً!؟ ..... ص : 37

ومن الغريب هنا أن يتبنّى سماحة الشيخ المحقّق باقر شريف القرشي ما ذهب إليه الدكتور عبدالمنعم ماجد في كتابه «التاريخ السياسي للدولة العربية»، من أنّ المواجهة بين جند الأشدق وبين الركب الحسينيّ كانت مواجهة صورية أُريد منها إبعاد الإمام عن مكّة! والتحجير عليه في الصحراء حتى يسهل القضاء عليه!

يقول الشيخ القرشي: «ولم يبعد الإمام كثيراً عن مكّة حتى لاحقته مفرزة من الشرطة بقيادة يحيى بن سعيد، فقد بعثها والي مكّة عمرو بن سعيد لصدّ الإمام عن السفر الى العراق، وجرت بينهما مناوشات، وقد عجزت الشرطة عن المقاومة، وكان ذلك الإجراء فيما نحسب صورياً!، فقد خرج الإمام في

وضح النهار من دون أية مقاومة تذكر ... لقد كان الغرض من إرسال هذه المفرزة العسكرية إبعاد الإمام عن مكّة، والتحجيرعليه في الصحراء حتى يسهل القضاء عليه بسهولة، وأكّد ذلك الدكتور عبدالمنعم ماجد بقوله: (ويبدو لنا أنّ عامل يزيد على الحجاز لم يبذل محاولة جدّية لمنع الحسين من الخروج من مكّة الى الكوفة بسبب وجود كثير من شيعته في عمله، بل لعلّه قدّر سهولة القضاء عليه في الصحراء بعيداً عن أنصاره، بحيث أنّ بني هاشم فيما بعدُ اتهموا يزيد بأنّه هو الذي دسّ إليه الرجال حتى يخرج.).». «1»

ولعلَّ مردّ الإشتباه في هذا النظر يعود إلى الأمور التالية:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 38

1)- أنّ الدكتور ماجد ومعه الشيخ القرشي قد تصوّرا أنّ الأشدق كان يملك قوّة عسكرية كبيرة في مكّة، ولكنّه لم يرسل منها لمنع الإمام عليه السلام من الخروج إلّا (مفرزة!) من الشرطة، وقد عجزت عن مقاومة الركب الحسينيّ وهو كبير نسبياً آنذاك، الأمر الذي يكشف عن أنّ محاولة الصدّ والمنع لم تكن جادة! فتصوّرا أنّ الغرض الحقيقي من وراء هذه المحاولة هو إبعاد الإمام عليه السلام عن مكّة والتحجير عليه في الصحراء ليُقضى عليه بسهولة!.

والحقيقة- كما قلنا من قبل- أنّ كُلًّا من مكّة والمدينة المنوّرة مدينتان دينيّتان كان الوالي لايحتاج في كلّ منهما لإجراء أمور ولايته إلّا إلى قوّة محدودة من الحرس والشرطة تكفي لتنفيذ الأمور الإدارية والقضائية وحفظ الأمن الداخلي، فهما ليستا من المدن التي تشكلت للأغراض الحربية أساساً كالكوفة مثلًا، حيث تغصُّ بالجند الكثيف وبالمسالح، ولذا نرى أنّ الإنتفاضات التي شهدتها كلٌّ من مكّة والمدينة كان يُقضى عليها بجيوش تأتيها من خارجها كما في وقعة الحرّة في المدينة، ووقعة القضاء على عبداللّه بن الزبير

في مكّة.

2)- كان الإمام عليه السلام ما لم يبايع يزيد بن معاوية يُقتل لامحالة، ولو كان في جحر هامّة من هوامّ الأرض، لكنّ قتله في ظروف زمانية ومكانية وملابسات غامضة تختارها السلطة الأموية ليس كقتله في مواجهة عسكرية علنية يختار ظروفها الزمانية والمكانية الإمام عليه السلام نفسه، ذلك لأنَّ السلطة الأموية في الحالة الأولى تستطيع التعتيم على قتل الإمام عليه السلام والتغطية عليه بألف ادّعاء وادّعاء، أمّا في الحالة الثانية فسيتحقق للإمام عليه السلام استثمار مصرعه لتحقيق جميع أهدافه المنشودة من وراء قيامه المقدّس. «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 39

من هنا كان الأمويون يحرصون أشدّ الحرص على قتل الإمام عليه السلام في مكّة لا خارجاً عنها، بواسطة الإغتيال في ظروف وملابسات غامضة، وهذا هو السرُّ في قول عمرو بن سعيد الأشدق لرجاله لمّا بلغه خروج الحسين عليه السلام من مكّة: «اركبوا كلَّ بعير بين السماء والأرض فاطلبوه!»، وفي محاولته إغراء الإمام عليه السلام ببذل (الأمان الأمويّ!) «1» والصلة والبرّ وحسن الجوار! لإرجاع الإمام عليه السلام إلى مكّة، ثمّ في المحاولة القمعيّة التي لم تعدُ الإضطراب بالسياط.

فهذه المحاولة القمعية كانت محاولة جادّة لإرجاع الإمام عليه السلام إلى مكّة بالفعل، لا كما ذهب إليه الشيخ القرشي والدكتور ماجد أنها كانت إجراءً صورياً أُريد منها إبعاد الإمام عليه السلام عن مكّة!

3)- قال الشيخ القرشي: «وكان ذلك الإجراء صورياً، فقد خرج الإمام في وضح النهار من دون أيّة مقاومة تُذكر ..»، ولانعلم مصدراً تأريخياً روى أنّ الإمام عليه السلام خرج عن مكّة في وضح النهار، «2» فجلُّ المصادر التأريخية المعتبرة التي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 40

تعرّضت لساعة خروجه ذكرت أنّ خروجه عليه السلام عن مكّة كان في السحر أو في أوائل الصباح، «1»

لا في وضح النهار.

ولو فرضنا أنّ الإمام عليه السلام كان قد خرج فعلًا عن مكّة في وضح النهار، لما تعرّضت له السلطة الأموية داخل مكّة لمنعه من الخروج، لا لأنّ السلطة الأموية كانت راغبة بخروج الإمام عليه السلام، بل لِما في المواجهة معه عليه السلام داخل مكّة من خطورة انتفاضة جموع الحجيج الكثيرة جدّاً ضدّها وقد كانت مكّة تغصُّ بهم آنذاك، وهو أمرٌ كانت تتحاشاه السلطة الأموية وتخشى عواقبه.

4)- في قول الدكتور عبدالمنعم ماجد فضلًا عن الإشتباه الأصل هناك اشتباهان آخران- وقد وافقه الشيخ القرشيّ على ذلك!- وهذان الإشتباهان هما:

أ قوله: «ويبدو لنا أنَّ عامل يزيد على الحجاز لم يبذل محاولة جدّية لمنع الحسين من الخروج من مكّة الى الكوفة بسبب وجود كثير من شيعته في عمله!».

وهذه دعوى غريبة! لم نعثر على متنٍ تأريخي معتبر- حسب تتبّعنا- يؤيّدها أو يمكن أن تُستفاد منه استنتاجاً، ولانعلم من أين جاء بها هذا الكاتب، بل هناك من الدلائل التأريخية ما يشير إلى عكس هذه الدعوى، كما في قول الإمام السجّاد عليّ بن الحسين عليهما السلام: «ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا!»، «2»

وقول أبي جعفر الإسكافي في هذا الصدد: «أمّا أهل مكّة فكلّهم كانوا يبغضون عليّاً قاطبة، وكانت قريش كلّها على خلافه، وكان جمهور الخلق مع بني أميّة عليه!». «3»

ولعلّ منشأ هذا الإشتباه عائد إلى الخلط بين أهل مكّة وبين الوافدين إليها من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 41

المعتمرين والحجّاج الذين كانوا قد احتفوا بالإمام عليه السلام في مكّة حفاوة عظيمة وكانوا يأتونه ويسمعون كلامه ويأخذون عنه، لكنّ هذا أيضاً لايُستفاد منه أنّ للإمام عليه السلام شيعة كثيرين يعملون داخل الجهاز الأموي الحاكم في مكّة.

ب- قوله: «أنّ بني هاشم فيما بعدُ اتهموا

يزيد بأنّه هو الذي دسّ إليه الرجال حتّى يخرج!».

والإشتباه في هذا القول هو في عدم التفريق بين أن يكون يزيد قد دسَّ الرجال لإخراج الإمام عليه السلام، وبين أن يكون يزيد قد دسَّ الرجال لاغتيال الإمام عليه السلام أو لإلقاء القبض عليه في مكّة فاضطرّ الإمام عليه السلام الى الخروج، والتأريخ يؤكّد أنّ يزيد كان قد أراد اختطاف الإمام عليه السلام أو اغتياله في مكّة فاضطرَّ الإمام عليه السلام إلى الخروج، «1» لا كما توهّم الدكتور عبدالمنعم ماجد، ثمَّ إنّ بني هاشم في تقريعهم يزيد على ما فعله بالإمام عليه السلام أكّدوا على أنّ يزيد دسَّ الرجال لاغتيال الإمام عليه السلام لا لإخراجه، هذا ابن عباس (رض) مثلًا يقول في رسالة منه إلى يزيد: «وما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ إطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول اللّه إلى حرم اللّه، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فاشخصته من حرم اللّه الى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبّوأ بها مقاماً واستحلَّ بها قتالًا، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول اللّه، فأكبر من ذلك مالم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليُقاتل في الحرم ...». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 42

رسائل أموية إلى ابن زياد! ..... ص : 42

في كيان الحزب الأموي هناك تيّاران مختلفان في صدد نوع الموقف الذي يجب أن يتّخذه الأمويون في مواجهة الإمام الحسين عليه السلام، التيّار الأوّل يتزعّمه معاوية بن أبي سفيان، ويرى هذا التيّار أنّ المواجهة العلنيفة مع الإمام الحسين عليه السلام ليست في صالح الحكم الأموي، فلابدّ من تحاشي مثل هذه المواجهة معه عليه السلام، ويرى هذا التيّار أنّ

المتاركة بين الإمام عليه السلام وبين بني أميّة هي أفضل ما يوافق مصلحة الحكم الأموي، حتّى يأتي على الإمام عليه السلام ريب المنون فيخلو لبني أميّة وجه الساحة السياسية بعد موت ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ويرى هذا التيّار أنّه إذا كان لابدّ من مواجهة مع الامام عليه السلام فينبغي أن تكون مواجهة سريّة غير مكشوفة، يتمّ التخلّص فيها من وجود الإمام عليه السلام بنفس الطريقة التي تمّ التخلّص فيها من أخيه الإمام الحسن عليه السلام أو بما يماثلها، حتّى لايُستفزَّ الرأي العام في الأمّة- بموته عليه السلام- ضدّ الحكم الأموي.

ويتبنّى هذا الرأي دهاة الأمويين وحلماؤهم وذوو النظر البعيد منهم، ومن هؤلاء مثلًا الوليد بن عتبة بن أبي سفيان. «1»

أما التيّار الآخر فيتزعمه يزيد بن معاوية، وينضمّ إليه جميع قصيرو النظر والتفكير وأهل الحمق والخرق من بني أميّة، أمثال مروان بن الحكم، «2» وعمرو بن سعيد الأشدق.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 43

ويرى هذا التيّار أنّه لابدّ من المبادرة إلى التخلص من الإمام الحسين عليه السلام إذا ما أعلن عن رفضه البيعة وعن قيامه ضد الحكم الأموي، سواء من خلال مواجهة سرّية أو علنية!

وكان معاوية يعلم بوجود هذا التيار الآخر داخل الحزب الأمويّ، ويعرف أشخاصه، وقد حذّر الإمام عليه السلام من بطش هذا التيّار وهدّده به في رسالته التي بعث بها إلى الإمام عليه السلام على أثر حادثة استيلاء الإمام عليه السلام على حمولة القافلة القادمة إلى معاوية من اليمن، فقد ورد في هذه الرسالة قوله: «.. ولكنّي قد ظننت يا ابن أخي أنّ في رأسك نزوة! وبودّي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك! وأتجاوز عن ذلك! ولكنّي واللّه أتخوّف أن تُبتلى بمن

لاينظرك فواق ناقة!». «1»

فلمّا مات معاوية وسيطر التيّار الأرعن على دفّة الحكم الأموي، وبعد أن أصرَّ الإمام عليه السلام على رفض البيعة ليزيد، وخرج إلى العراق فعلًا- ولم يتمكّن الأمويون من خطفه أو اغتياله في المدينة أو في مكّة- اضطرب الأمويون عامة ودهاتهم خاصة اضطراباً شديداً خوفاً من نتائج المواجهة العلنية مع الإمام عليه السلام، ومن مصاديق هذا الإضطراب الرسالة التي بعثها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان إلى عبيداللّه بن زياد، والتي كان نصّها: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الوليد بن عتبة إلى عبيداللّه بن زياد: أمّا بعدُ، فإنّ الحسين بن عليّ قد توجّه نحو العراق، وهو ابن فاطمة، وفاطمة ابنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فاحذر يا ابن زياد أن تبعث إليه رسولًا فتفتح على نفسك ما لاتختار من الخاص والعام. والسلام». «2»

هذه الرسالة كاشفة تماماً عن طريقة التفكير التي يتبنّاها التيّار الأوّل داخل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 44

الحزب الأموي (طريقة تفكير معاوية)، فالوليد لايذكّر ابن زياد بجلالة منزلة الحسين بن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليخوّفه من عذاب اللّه في الآخرة، بل يحذّره ويخوّفه من انقلاب الرأي العام والخاص ضدّ الحكم الأموي!! ولا شي ء عن عذاب الآخرة!!

وجدير بالذكر أنّ التيّار الأموي الآخر لايعبأ بطريقة تفكير تيّار معاوية والوليد بن عتبة! ولذا ورد في ذيل خبر هذه الرسالة: «قال: فلم يلتفت عبيداللّه بن زياد إلى الكتاب». «1»

وروى ابن عساكر أن مروان كتب إلى عبيداللّه بن زياد: «أمّا بعدُ: فإنّ الحسين بن عليّ قد توجّه إليك، وهو الحسين بن فاطمة، وفاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وباللّه ما أحدٌ يسلّمه اللّه أحبّ إلينا من الحسين! فإيّاك أن تهيج

على نفسك مالا يسدّه شي ء، ولاتنساه العامة ولاتدع ذكره، والسلام.». «2»

وقال الشيخ محمد باقر المحمودي في حاشية الصفحة التي فيها هذا الخبر:

«وكلّ من ألمَّ بشي ء من سيرة مروان يعلم يقيناً أنّ هذا الكلام والكتاب لايلائم نفسيّات مروان ونزعاته وماكان يجيش في قلبه من بغض أهل البيت، وتمنّيه استئصالهم واجتثاثهم عن وجه الأرض، فإن كان لهذا الكتاب أصل وواقعيّة فالمظنون أنّه للوليد بن عتبة بن أبي سفيان، كما نقله عنه الخوارزمي في أوّل الفصل 11 من مقتله: ج 2: ص 221، ونقله أيضاً ابن أعثم الكوفي في كتاب الفتوح». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 45

وكذلك روى ابن كثير في تأريخه «1» أنّ هذه الرسالة من مروان إلى ابن زياد، وقال الشيخ المحقّق باقر شريف القرشي معلّقاً على ذلك: «واشتبه ابن كثير فزعم أنّ مروان كتب لابن زياد ينصحه بعدم التعرّض للحسين، ويحذّره من مغبّة الأمر، ورسالته التي بعثها إليه تضارع رسالة الوليد السابقة مع بعض الزيادات عليها ... إنّ من المقطوع به أنّ هذه الرسالة ليست من مروان فإنّه لم يفكّر بأيّ خير يعود للأمّة، ولم يفعل في حياته أيّ مصلحة للمسلمين، يُضاف إلى ذلك مواقفه العدائية للعترة الطاهرة وبالأخص للإمام الحسين، فهو الذي أشار على حاكم المدينة بقتله، وحينما بلغه مقتل الإمام أظهر الفرح والسرور! فكيف يوصي ابن زياد برعايته والحفاظ عليه!؟». «2»

نعم، إنّ مروان بن الحكم وهو من أعلام التيّار الأموي الأرعن الذين تتلظّى قلوبهم حنقاً على أهل البيت وبغضاً لهم، لايمكن أن تصدر عنه مثل هذه الرسالة- وإن كانت هذه الرسالة لاتفيض إلّا بالخوف من هياج الرأى العام ضد الأمويين!- ذلك لأنّ أفراد التيّار الأموي الأرعن تشابهت قلوبهم وتماثلت أقلامهم فيما كتبوا به من تهديد

لابن زياد: في أنّه إنْ لم يقتل الإمام عليه السلام يعُدْ إلى أصله الحقيقي عبداً لبني ثقيف! فهذا عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق وهو من طغاة بني أميّة الرعناء يكتب الى ابن زياد- بعد خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة- قائلًا: «أمّا بعدُ: فقد توجّه إليك الحسين، وفي مثلها تعتق أو تكون عبداً تسترقّ كما تسترقّ العبيد!»،»

وكأنّه يستلّ ذات المعاني من قلب سيّده يزيد بن معاوية الذي كتب إلى ابن زياد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 46

قائلًا: «قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدك من بين البلدان، وأيّأمك من بين الأيّام، فإنْ قتلته وإلّا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، «1» فاحذر أن يفوتك!». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 47

الفصل الثاني: حركة أحداث الكوفة أيام مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 47

اشارة

الفصل الثاني: حركة أحداث الكوفة أيام مسلم بن عقيل عليه السلام

في البدء: ..... ص : 49

ينبغي التذكير بأنّ عمدة المتون التأريخية التي ذكرت يوم خروج وقيام مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة هي:

1)- «وكان خروج مسلم بن عقيل رحمة اللّه عليه بالكوفة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستين، وقتله يوم الأربعاء لتسع خلون منه، يوم عرفة.». «1»

2)- «وكان مخرج ابن عقيل بالكوفة لثمان ليالٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستين، وقيل لتسع مضين منه». «2»

3)- «وكان قتل مسلم لثمانٍ مضين من ذي الحجّة بعد رحيل الحسين من مكة بيوم، وقيل يوم رحيله ..». «3»

4)- «ويُقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة 60 من يوم عرفة بعد مخرج الحسين من مكّة مُقبلًا إلى الكوفة بيوم.». «4»

5)- «وكان قتل مسلم بن عقيل يوم الثلاثاء لثلاث خلون من ذي الحجّة سنة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 50

ستّين، وهي السنة التي مات فيها معاوية، وخرج الحسين بن عليّ عليه السلام من مكّة في ذلك اليوم.». «1»

مناقشة هذه المتون: ..... ص : 50

اشارة

إنَّ المشهور وهو الصحيح «2» أنَّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد خرج من مكّة الى العراق يوم الثلاثاء، يوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستين، وعليه فإنّ القول الخامس الأخير وهو قول الدينوري في «الأخبار الطوال» لايُعتدُّ به، ولايستقيم إلّا إذا كانت ثمان بدلًا من ثلاث، أي أنَّ ثلاثاً وقعت تصحيفاً لثمانٍ، وهو أمرٌ ممكن الوقوع.

أمّا القول الرابع: «ويُقال يوم الأربعاء لسبع مضين سنة ستين من يوم عرفة بعد مخرج الحسين من مكّة مقبلًا الى الكوفة بيوم.» فهو فضلًا عن غموض دلالته، شاذٌ في نفسه على ظاهره، «3» ولايستقيم معناه إلّا إذا كانت (في) بدلًا مِن (من)، و (لتسعٍ) بدلًا من (لسبعٍ)، فيكون على النحو التالي: ويقال يوم الأربعاء لتسعٍ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 51

مضين سنة ستين في يوم

عرفة، بعد مخرج الحسين من مكّة مقبلًا إلى الكوفة بيوم.

ومثل هذا التصحيف ممكن وكثير الوقوع ..

أمّا القول الثالث فيؤاخذ على مبناه بأنّ خروج الإمام عليه السلام كان يوم السابع من ذي الحجّة، وهو خلاف المشهور الصحيح.

فلا يبقى من هذه الأقوال بعد هذا إلّا مالا يُعارض المشهور الصحيح وهو أنّ خروج الإمام عليه السلام من مكّة الى العراق كان في يوم التروية يوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستين للهجرة.

وعلى هذا يكون خروج مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة يوم الثلاثاء يوم التروية، يوم الثامن من ذي الحجّة سنة ستين، ويكون يوم مقتله يوم الأربعاء لتسع مضين منه، أي يوم عرفة، وهو الأقوى.

أو كان خروجه يوم التاسع من ذي الحجّة بتلك السنة، «1» فيكون مقتله عليه السلام في اليوم العاشر منه، أي يوم عيد الأضحى، وهو الأضعف. «2»

إشارة: ..... ص : 51

بقي أن نشير هنا إلى مسألة مهمّة أخرى في هذا الصدد، وهي أنّ الطبري قد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 52

روى نصّاً صريحاً مفاده أنّ أهم وقائع حركة أحداث الكوفة أيّام تواجد مسلم بن عقيل عليه السلام فيها: من تفكير السلطة الأموية المركزية في الشام بعزل النعمان بن بشير عن ولاية الكوفة، وتعيين عبيد اللّه بن زياد بدلًا منه، ثمّ ما جرى بعد ذلك إلى يوم مقتل مسلم عليه السلام، كلّ تلك الأحداث كانت قد وقعت بعد خروج الإمام عليه السلام من مكّة، أي وهو في الطريق إلى العراق، يقول الطبري في قصّة استشارة يزيد سرجون النصراني فيمن يستعمل على الكوفة بدلًا من النعمان:

«دعا يزيد بن معاوية سرجون مولى معاوية، فقال: ما رأيك؟ فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ

وقولٌ سيّ ء- وأقرأه كتبهم- فما ترى؟ من أستعمل على الكوفة؟ ...». «1»

وهذا النصّ بعبارة «فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة» شاذٌ إذ لم ترد هذه العبارة في أيّ مصدرٍ تأريخيّ آخر تعرّض لقصة هذه الإستشارة بين يزيد وسرجون، «2» هذا فضلًا عن كون رواية الطبري هذه مرسلة عن عوانة بن الحكم الذي كان عثمانيَّ الهوى، وكان يضع الأخبار لبني أميّة كما يقرّر ذلك العسقلانيّ في لسان الميزان، «3» وفضلًا عن أنّ الطبري نفسه قد روى قصّة هذه الإستشارة أيضاً بسند عن عمّار الدهني عن أبي جعفر، وليس فيها هذه العبارة أو ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 53

بمفادها، «1» بل روى ما يعارض هذه العبارة كمثل قوله «كان مخرج مسلم بن عقيل بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان ليالٍ مضين من ذي الحجّة سنة ستين ..» «2» أي في نفس اليوم الذي خرج فيه الإمام عليه السلام من مكّة، ومعنى هذا أنّ جُلّ وقايع أيّام مسلم عليه السلام في الكوفة قد وقعت والإمام عليه السلام في مكّة، ومنها واقعة عزل النعمان عن الكوفة وتنصيب ابن زياد على العراق.

إذن لايمكن التعويل على عبارة رواية الطبري الشاذة، المعارضة للمشهور الثابت وهو: أنّ عزل النعمان عن ولاية الكوفة وتعيين ابن زياد مكانه كان قد تمّ والإمام الحسين عليه السلام لم يزل في مكّة لم يرحل عنها.

وهناك أيضاً نصٌّ لابن عبد البرّ في كتابه العقد الفريد ربّما أوهم البعضَ كذلك أنَّ عزل النعمان عن ولاية الكوفة وتعيين ابن زياد بدلًا منه كان قد حصل والإمام عليه السلام في الطريق إلى العراق، يقول ابن عبدالبرّ: «فكتب يزيد إلى عبيد اللّه بن زياد وهو واليه على العراق أنه قد بلغني أنّ حسيناً سار الى الكوفة، وقد

ابتلي به زمانك بين الأزمان، وبلدك بين البلدان، وابتليت من بين العمّال، وعنده تُعتق أو تعود عبداً.». «3»

ومنشأ هذا الوهم من تصوّر أنّ هذا الكتاب هو الكتاب الأوّل الذي كتبه يزيد إلى ابن زياد، أي كتابه الذي أمره فيه بالتوجّه سريعاً من البصرة إلى الكوفة، والأمر ليس كذلك، إذ إنّ هذا الأخير هو كتاب آخر غير الأوّل، بدليل عبارة «وهو واليه على العراق»، أي كان يومذاك والياً على الكوفة والبصرة معاً قبل هذا الكتاب، لأنّ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 54

الولاية على العراق لاتُطلق على الولاية على البصرة فقط، وقد روى اليعقوبي أيضاً نفس نصّ نفس هذا الكتاب بعبارة واضحة كاشفة بصورة أفضل عن أنّ هذا الكتاب غير الكتاب الأوّل، يقول اليعقوبي: «وأقبل الحسين من مكّة يريد العراق، وكان يزيد قد ولّى عبيداللّه بن زياد العراق، وكتب إليه: قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنّه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدك من بين البلدان، وأيّامك من بين الأيّام، فإنْ قتلته وإلّا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد، فاحذر أن يفوتك!»، «1» وواضح من هذا النصّ أنّ ابن زياد كان قد صار والياً على الكوفة والبصرة معاً قبل خروج الإمام عليه السلام من مكّة، وأنّ يزيد كتب إلى ابن زياد هذا الكتاب بعدما ولّاه الكوفة أيضاً، لا أنّ هذا الكتاب كان كتاب التولية، فتأمّل!.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 55

استعراض أهمّ وقايع أيّام الإعداد للثورة «1» ..... ص : 55

اشارة

خرج مسلم بن عقيل عليه السلام «2» من مكّة المكرّمة سفيراً للإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة في منتصف شهر رمضان سنة ستين للهجرة، ودخل الكوفة في اليوم الخامس من شهر شوّال من نفس السنة، «3» وكان الإمام عليه السلام قد

سرّح معه قيس بن مسّهر الصيداوي (رض)، وعمارة بن عبيد اللّه السلولي (ره)، وعبداللّه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 56

وعبدالرحمن ابنا شدّاد الأرحبي (رض). «1» وقيل: بعث معه أيضاً عبداللّه بن يقطر (رض). «2»

وقد أوصى الإمام عليه السلام مسلم بن عقيل عليه السلام أن ينزل عند أوثق أهل الكوفة قائلًا: «فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها»، «3» وقد روي أنّه نزل عند مسلم بن عوسجة (رض)، «4» كما روي أنه نزل عند هاني بن عروة (رض) ابتداءً، «5» لكنّ الأشهر هو أنّ مسلماً عليه السلام نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي (ره) ابتداءً ثمّ تحوّل منها بعد ذلك إلى دار هاني (رض). «6»

وكان الإمام الحسين عليه السلام قد جعل مبادرته وإسراعه في القدوم على أهل الكوفة منوطاً بما إذا كتب إليه مسلم عليه السلام بأنّ حقيقة حالهم على مثل ما قدمت به رسلهم وكتبهم، إذ كتب عليه السلام في رسالته الأولى إليهم: «... فإنْ كتب إليَّ أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأتُ في كتبكم فإنّي اقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللّه ...». «7»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 57

وفي رواية أخرى أنّ الإمام عليه السلام كتب إليهم في تلك الرسالة قائلًا: «فإنّ كنتم على ماقدمت به رسلكم وقرأتُ في كتبكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولاتخذلوه ...». «1»

ويُستفاد من هذا النصّ أنّ مهمّة مسلم عليه السلام في الكوفة لم تكن منحصرة في إطار إعداد وتعبئة أهل الكوفة حتّى يأتي إليهم الإمام عليه السلام فيقوموا معه ضد الحكم الأمويّ، وكتابة التقارير المتوالية إلى الإمام عليه السلام بحال أهل الكوفة والتحوّلات الجارية آنذاك، بل كان من صلاحية مسلم عليه السلام- في

ظرف استثنائي- أن يبادر هو إلى القيام بأهل الكوفة ضدّ السلطة الأموية هناك ما رأى ذلك مناسباً حتّى قبل مجي ء الإمام عليه السلام، وهذا ما حصل بالفعل حينما أضطُرَّ مسلم عليه السلام- نتيجة الظروف الإستثنائية الطارئة بعد اعتقال هاني بن عروة (رض)- إلى أن يبادر إلى القيام يومذاك بمن معه.

البشرى بدرجة الشهادة! ..... ص : 57

وكان الإمام عليه السلام قد أشعر مسلماً عليه السلام بأنّ ختام أمره في هذا الطريق هو الفوز بدرجة الشهادة، إذ روي أنّه عليه السلام قال له وهو يودّعه في مكّة: «إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي اللّه من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامضِ ببركة اللّه وعونه حتّى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها، وادع الناس إلى طاعتي، فإنْ رأيتهم مجتمعين على بيعتي فعجّل عليَّ بالخبر حتّى أعمل على حساب ذلك إن شاء اللّه تعالى»، ثمّ عانقه الحسين عليه السلام وودّعه وبكيا جميعاً. «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 58

كتمان الأمر ..... ص : 58

وكان الإمام عليه السلام قد أوصى مسلماً عليه السلام أيضاً: «بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإنْ رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك ...». «1»

ولعلّ الإمام عليه السلام قد عنى ب «كتمان الأمر» الذي أوصى مسلماً عليه السلام به هو كتمان أمر سفارته مادام في الطريق حتّى يصل إلى الكوفة ..، والأُسلوب السرّي في تعبئة أهل الكوفة للنهضة، وكتمان أمر مكانه وزمان تحرّكاته، ومواقع مخازن أسلحته، وأشخاص قياداته ومعتمديه، وكلمة السرّ في وثبته، وغيره ذلك ممّا يكون من مصاديق كتمان الأمر.

وامتثالًا لهذه الوصيّة كان مسلم عليه السلام قد اعتمد الستر والرفق في تعبئة أهل الكوفة حتى يستكمل العدد والعدّة الكافيين لتأهيل الكوفة للقيام معه أو مع الإمام عليه السلام- إذا جاء الكوفة- بوجه السلطة الأمويّة.

يقول القاضي نعمان: «وكان مسلم بن عقيل رحمة اللّه عليه قد بايع له جماعة من أهل الكوفة في استتارهم!».»

ويقول الدينوري: «ولم يزل مسلم بن عقيل يأخذ البيعة من أهل الكوفة حتّى بايعه ثمانية عشر ألف رجل في ستر ورفق!». «3»

ويقول الفتّال النيسابوري: «وجعلت الشيعة تختلف

إلى مسلم بن عقيل رضي اللّه عنه حتى عُلِمَ بمكانه، فبلغ ذلك النعمان بن بشير وكان والياً على الكوفة ...». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 59

اجتماع الشيعة الأوّل مع مسلم عليه السلام ..... ص : 59

يقول الطبري: «ثمّ أقبل مسلم حتى دخل الكوفة، فنزل دار المختار بن أبي عبيد، وهي التي تُدعى اليوم دار مسلم بن المسيّب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب حسين، فأخذوا يبكون ...». «1»

وفي هذا الإجتماع الأوّل برزت ظاهرة ثابتة من ظواهر المجتمع الكوفي، وهي ظاهرة وجود القلّة من المؤمنين الصادقين المتحرّرين من أسر «الشلل النفسي» ومرض «الإزدواجية» و «حبّ الدنيا وكراهية الموت»، فعلى كثرة من حضر هذا الإجتماع ممّن هو محسوب على التشيّع لم يقم إلّا ثلاثة (هم من أعاظم شهداء الطفّ (رض)، أظهروا لمسلم عليه السلام استعدادهم التّام لامتثال أمره والتضحية في هذا السبيل!

يواصل الطبري روايته قائلًا: «... فقام عابس بن أبي شبيب الشاكري، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّي لا أخبرك عن الناس! ولا أعلم ما في أنفسهم! وما أغرّك منهم!، واللّه أحدّثك عمّا أنا موطّنٌ نفسي عليه، واللّه لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربن بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أريد بذلك إلّا ما عند اللّه!. فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي فقال: رحمك اللّه، قد قضيت ما في نفسك بواجزٍ من قولك! ثم قال: وأنا واللّه الذي لا إله إلّا هو على مثل ما هذا عليه!. ثمّ قال الحنفي مثل ذلك!.». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 60

وفي هذا الإجتماع كانت هناك أيضاً ظاهرة أخرى، تواجدت في هذا الإجتماع متخفيّة على استحياء، وإن كانت هي أكبر وأوضح ظواهر المجتمع الكوفي، وهي ظاهرة وجود الكثرة الكاثرة التي تحبّ الحقّ وتكره أن تموت

من أجله! ظاهرة «الوهن» و «الشلل النفسي»، التي أدّت بالنتجة إلى أن استحوذ الشيطان على جُلّ أولئك القوم، فقتلوا ابن بنت نبيّهم عليه السلام!

يقول الحجّاج بن عليّ- الذي يروي عن محمّد بن بشر الهمداني، شاهد العيان الذي روى قصة هذا الإجتماع-: «فقلتُ لمحمّد بن بشر: هل كان منك أنت قول؟ فقال: إنّي كُنتُ لأحبُّ أنْ يُعزَّ اللّه أصحابي بالظفر، وما كنتُ أحبُّ أنْ أُقتل! وكرهتُ أنْ أكذب!». «1»

توالي اجتماعات الشيعة مع مسلم عليه السلام ..... ص : 60

وقد تتابعت اجتماعات جماهير الشيعة في الكوفة مع مسلم عليه السلام، وكان يقرأ عليهم كتاب الإمام عليه السلام إليهم، فيبكون ويقولون: «واللّه لنضربنَّ بين يديه بسيوفنا حتّى نموت جميعاً!». «2»

رسالة مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام ..... ص : 60

وأخذ عدد الذين يبايعون مسلماً عليه السلام من أهل الكوفة يتزايد يوما بعد يوم، فلمّا بلغ هذا العدد ثمانية عشر ألفاً «3» كتب مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام بذلك، وبعث

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 61

الكتاب مع قيس بن مسهّر الصيداوي، وأصحبه عابس بن أبي شبيب الشاكري وشوذباً مولاه، وكان نصّ الرسالة:

«أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا، فإنّ الناس كلّهم معك! ليس لهم في آل معاوية رأي ولاهوى، والسلام.». «1»

النعمان بن بشير والٍ ضعيف أم يتضعّف!؟ ..... ص : 61
اشارة

ومع تزياد عدد المبايعين لمسلم عليه السلام والتفاف النّاس حوله، كان لابدّ للأمر أن يفشو بين الناس في الكوفة، ويصير موضوع مسلم عليه السلام وقضيّة انتظار الناس لمجي ء الإمام عليه السلام حديث الساعة يومذاك في المساجد والبيوت والأسواق والطرقات، فلمّا تعاظم الأمر واخترق حجب الستر، علم النعمان بن بشير بن سعد الخزرجي «2» والي الكوفة آنذاك بالتحوّلات الجديدة وأحسّ بالخطر الداهم «..

فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فاتقوا اللّه عباد اللّه،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 62

ولاتسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيهما يهلك الرجال وتُسفك الدماء وتُغصبُ الأموال- وكان حليماً ناسكاً يحبّ العافية- قال: إنّي لم اقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لايثب عليَّ، ولا أُ شاتمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فواللّه الذي لا إله غيره لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إنّي أرجو أن يكون من يعرف الحقَّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل.». «1»

فلّما أتمّ خطبته اعترض عليه أحد حلفاء بني أميّة وعملائهم، وهو عبداللّه

بن مسلم بن سعيد الحضرمي، فقال: «إنّه لايُصلح ما ترى إلّا الغشم! إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!!

فقال: أن أكون من المستضعفين في طاعة اللّه أحبُّ إليَّ من أن أكون من الأعزّين في معصية اللّه. ثم نزل.». «2»

ومنذ ذلك اليوم توالت التقارير المرفوعة من قبل الأمويين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة «3» إلى يزيد في الشام تخبره بمستجدّات حركة الأحداث في الكوفة، وبموقف النعمان بن بشير منها، وقد أجمعت هذ التقارير المرفوعة إلى يزيد تقول: «فإنْ كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلًا قويّاً، يُنفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 63

يتضعّف!». «1»

إشارة: ..... ص : 63

لم يكن النعمان بن بشير محبّاً لأهل البيت عليه السلام ولاذاميلٍ إليهم، «2» لقد كان له ولأبيه تأريخ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد رحلة النبي صلى الله عليه و آله، تامّاً وكان النعمان عثمانيَّ الهوى، يجاهر ببغض عليّ عليه السلام، ويسي ء القول فيه، وقد حاربه يوم الجمل وصفّين، وكان يتبنّى سياسة معاوية في قيادة حركة النفاق تبنيّاً تامّاً، «وكان من معالم هذه السياسة أنّ معاوية كان يتحاشى المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام، وأنَّ معاوية لو اضطُرَّ إلى مواجهة علنية أي إلى قتال ضدّ الإمام الحسين عليه السلام وظفر بالإمام عليه السلام لعفا عنه، وليس ذلك حبّاً للإمام عليه السلام وإنّما لأنّ معاوية- وهو من دهاة السياسة النكراء والشيطنة- يعلمُ أنَّ إراقة دم الإمام عليه السلام علناً وهو بتلك القدسيّة البالغة في قلوب الأمّة كفيل بأن يفصل الأمويّة عن الإسلام، ويذهب بجهود حركة النفاق عامة والحزب الأمويّ خاصة أدراج الرياح، خصوصاً الجهود التي بذلها

معاوية في مزج الأمويّة بالإسلام في عقل الأمّة وعاطفتها مزجاً لم يعد أكثر هذه الأمّة بعدها يعرف إلّا (الإسلام الأموي)، حتى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأمويّة إلّا إذا أُريق ذلك الدم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 64

المقدّس- دم الإمام عليه السلام- على مذبح القيام ضدّ الحكم الأموي.». «1»

من هنا كان أسلوب النعمان بن بشير في معالجته لمستجدّات الأمور في الكوفة- بعد ورود مسلم عليه السلام- يتّسم باللين والتسامح، لأنّه كان يرى- إيماناً بنظرة معاوية- أنّ المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام ليست في صالح الحكم الأموي.

فلم يكن النعمان ضعيفاً، أو «حليماً ناسكاً يحبّ العافية» كما صوّرته رواية الطبري، «2» أو «يحبّ العافية ويغتنم السلامة» كما صوّرته رواية الدينوري، «3» بل كان يتضعّف مكراً وحيلة، معوّلًا على الأسلوب السريّ والخدعة الخفية للقضاء على الثورة والتخلص من مسلم بن عقيل عليه السلام، بل التخلّص حتّى من الإمام عليه السلام، فهو- أي النعمان بن بشير- شيطان يحذو حذو معاوية كبيرهم الذي علّمهم الشيطنة في رسم الخطط الماكرة.

لكنّ تسارع حركة الأحداث في الكوفة يومذاك، والتحوّلات الكبيرة في ظاهر حياتها السياسية، أفزعا الأمويين وعملاءهم وجواسيسهم من تجاوب الرأي العام في الكوفة مع مسلم بن عقيل عليه السلام، ورأوا أنّ زمام الأمور سيكون بيد الثوّار تماماً إن لم تبادر السلطة الأموية المحليّة في الكوفة إلى اتخاذ التدابير اللازمة الكفيلة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 65

بإعادة الوضع الكوفي إلى سابق استقراره النسبي، ورأوا أنّ سياسة اللين والتسامح التي كان يمارسها «بتضعّفه» النعمان بن بشير سوف تؤدي إلى سقوط الكوفة فعلًا بيد مسلم بن عقيل عليه السلام، وكان رأيهم أنْ لا خلاص من هذا المأزق إلّا بعزل النعمان ومجي ء والٍ جديد ظلوم غشوم،

وبهذا بادروا إلى كتابة تقاريرهم السرّية بهذا النظر ورفعوها إلى يزيد في الشام.

عبيداللّه بن زياد والي الكوفة الجديد ..... ص : 65

فلمّا تتابعت الكتب (التقارير) التي بعثها من الكوفة الى يزيد أمويون وعملاء وجواسيس بني أميّة، واجتمعت عنده، استدعى يزيد مستشاره ومستشار أبيه من قبل سرجون بن منصور النصراني- وهو من أعلام رجال فصيل منافقي أهل الكتاب العاملين في ظلّ فصائل حركة النفاق الأخرى، الذي كانوا مقرّبين من الحكّام ومستشارين وندماء لهم- وسأله عن رأيه في من يكون الوالي على الكوفة بدلًا من النعمان، فأشار عليه سرجون باستعمال عبيداللّه بن زياد «1» قائلًا بأنّ هذا هو رأي معاوية أيضاً، وأخرج له كتاباً كان معاوية قد كتبه بذلك قبل موته، «2» فأخذ يزيد بهذا الرأي وضم المصرين (الكوفة والبصرة) الى عبيداللّه بن زياد.

ودعا يزيد مسلم بن عمرو الباهلي، «3» فبعثه الى عبيد اللّه بن زياد في البصرة بعهده الجديد إليه (اي ضمّ الكوفة الى البصرة) تحت ولايته، وكتب إليه معه: «أمّا بعدُ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 66

الجموع لشقّ عصا المسلمين، فَسِر حين تقرأ كتابي هذا حتّى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتّى تثقفه، فتوثقه، أو تقتله، أو تنفيه، والسلام.». «1»

وفي رواية أخرى أنّ يزيد كتب فيما كتب الى عبيداللّه بن زياد قائلًا: «وقد ابتلي زمانك بالحسين من بين الأزمان، وابتلي بلدك دون البلدان ... فاطلب مسلم بن عقيل طلب الخرز، فإذا ظفرت به فخذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع، واعلم أنه لاعذر لك عندي دون ما أمرتك ...». «2»

وفي رواية أخرى: «.. فإنّي لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرأ منك، فإذا قرأت كتابي هذا فارتحل من وقتك وساعتك،

وإيّاك والإبطاء والتواني، واجتهد، ولاتُبق من نسل عليّ بن أبي طالب أحداً!! واطلب مسلم بن عقيل وابعث إليَّ برأسه.». «3»

القادم المتنكّر في الظلام! ..... ص : 66

وما إنْ تسلّم عبيداللّه بن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه الباهلي حتّى أمر بالجهاز من وقته والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد، «4» فلم يبق في البصرة بعدها إلّا يوماً واحداً قتل فيه سليمان بن رزين (رض) رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى أشراف البصرة ورؤساء أخماسها، وألقى فيه خطاباً هدّد فيه أهل البصرة وحذّرهم من الخلاف والإرجاف وتوعّدهم على ذلك.

«ثمّ خرج عبيداللّه من البصرة، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 67

الأعور الحارثي، «1» وحشمه وأهل بيته، وكان شريك شيعياً، وقيل: كان معه خمسمائة، فتساقطوا عنه، فكان أوّل من سقط في الناس شريك، ورجوا أنْ يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فلم يقف على أحدٍ منهم ...» «2».

فلمّا أشرف عليها نزل حتّى أمسى ليلًا، فظنّ أهلها أنّه الحسين، «3» وكان معتمّاً بعمامة سوداء وهو متلثم، «والناس قد بلغهم إقبال الحسين عليه السلام إليهم فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا حين رأوا عبيداللّه أنّه الحسين عليه السلام، فأخذ لايمرّ على جماعة من الناس إلّا سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول اللّه، قدمتَ خير مقدم، فرأى من تباشرهم بالحسين ما ساءه ...». «4»

ولمّا صار في داخل المدينة في جنح الظلام توهّم الناس أنّه الإمام عليه السلام، «فقالت امرأة: أللّه أكبر! ابن رسول اللّه وربّ الكعبة! فتصايح الناس، قالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً. وازدحموا عليه حتّى أخذوا بذَنَبِ دابّته، وظنّهم أنّه الحسين ..». «5»

«وسار حتّى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التفّوا به لايشكون أنه الحسين عليه السلام، فأغلق النعمان بن بشير

الباب عليه وعلى خاصّته، فناداه بعض من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 68

كان معه ليفتح لهم الباب، فاطّلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسين عليه السلام، فقال:

أنشدك اللّه إلّا تنحيت، واللّه ما أنا بمسلّم إليك أمانتي، ومالي في قتالك من أرب!

فجعل لايكلّمه، ثمّ إنّه دنى وتدلّى النعمان من شُرف القصر، فجعل يكلّمه، فقال: إفتح لافتحتَ! فقد طال ليلك!

وسمعها إنسان خلفه فنكص إلى القوم الذين اتبّعوه من أهل الكوفة على أنّه الحسين عليه السلام، فقال: يا قوم! ابن مرجانة والذي لا إله غيره!

ففتح له النعمان فدخل، وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا!». «1»

وفي رواية المسعودي: «.. حتّى انتهى الى القصر وفيه النعمان بن بشير، فتحصّن فيه، ثمّ أشرف عليه، فقال: يا ابن رسول اللّه، مالي ولك؟ وما حملك على قصد بلدي من بين البلدان؟

فقال ابن زياد: لقد طال نومك يا نعيم. «2» وحسر اللثام عن فيه، فعرفه ففتح له، وتنادى النّاس: ابن مرجانة!

وحصبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر!».»

ممّا مرَّ- من هذه المتون التأريخية التي روت لنا كيف دخل ابن مرجانة الكوفة- تتضح لنا تماماً درجة الضعف المذهل التي كان عليها ممثلوا السلطة الأموية في الكوفة آنذاك، فالنعمان بن بشير يلبد في القصر ويخشى الخروج منه لمقابلة القادم المتنكّر في الظلام الذي ظنّ أنّه الحسين عليه السلام، وعبيداللّه بن زياد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 69

وهو بين مجموعة من أهل الكوفة يخشى حتّى من إظهار صوته مخافة أن يُعرف، ويحصبه الناس بالحجارة بعد أن عرفوه فلا يقوى على شي ء سوى الهروب الى داخل القصر! ومعنى هذا أنّ الكوفة يومذاك كانت تعيش بالفعل حالة (الإنقلاب) في رفضها النظام الأمويّ، وانتظارها لوصول القيادة الشرعية القادمة إليها من مكّة المكرّمة.

الإجراءات الإرهابية الغاشمة! ..... ص : 69

وما إنْ دخل ابن مرجانة القصر وهدأت أنفاسه

المضطربة من شدّة الخوف والتعب، واطّلع على حقيقة مجريات حركة الأحداث في الكوفة، حتى بدأت قرارات الغشم الإرهابية، وقد مهّد لقراراته وإجراءاته الظالمة بخطاب إرهابيّ توعّد أهل الكوفة فيه بالسوط، والسيف، ورغبّهم بالإنقياد إليه بادّعائه أنّ بزيد أمره بإنصاف المظلوم واعطاء المحروم وبالإحسان إلى السامع المطيع!، قال ابن زياد:

«أمّا بعدُ، فإنّ أميرالمؤمنين أصلحه اللّه ولّاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متّبع فيكم أمره، ومنفّذٌ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البرّ! وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليُبقِ امرؤ على نفسه! الصدق يُنبي ء عنك لا الوعيد!». «1»

ثمّ أتبع خطابه بإجراء قمعي رهيب «فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً، فقال:

اكتبوا إليَّ الغرباء، ومن فيكم من طلبة «2» أميرالمؤمنين، ومن فيكم من الحرورية، «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 70

وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق! فمن كتبهم لنا فبري ء، ومن لم يكتب لنا أحداً فيضمن لنا ما في عرافته ألّا يخالفنا منهم مخالف، ولايبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل برئت منه الذّمة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيّما عريف وجد في عرافته من بغية أميرالمؤمنين أحدٌ لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلغيت تلك العرافة من العطاء، وسُيّر إلى موضع بعُمان الزارة. «1»». «2»

لقد كان لهذا القرار الجائر أكبر الأثر على مجرى حركة الأحداث في الكوفة، إذ كان العرفاء الواسطة بين السلطة والناس آنذاك، فهم المسؤولون عن أمور القبائل، يوزّعون عليهم العطاء، ويقومون بتنظيم السجلّات العامة، التي فيها أسماء الرجال والنساء والأطفال، ويسجّل فيها من يولد ليفرض له العطاء، ويحذف منها الميّت ليحذف عطاؤه، وكانوا أيضاً مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا أيّام الحرب يقومون بأمور

تعبئة الناس لها، ويخبرون السلطة بأسماء المتخلّفين عنها، وتعاقب السلطة العرفاء أشدّ العقوبة إذا أهملوا واجباتهم أو قصّروا فيها، ولقد كان للعرفاء بعد هذا القرار دور كبير في تخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الخوف والرهبة بينهم، كما كان لهم بعد ذلك دور كبير في زجّ الناس لحرب الإمام الحسين عليه السلام.

تغيير مقرّ قيادة الثورة! ..... ص : 70

قال الشيخ المفيد (ره): «ولمّا سمع مسلم بن عقيل مجي ء عبيداللّه إلى الكوفة ومقالته التي قالها، وما أخذ به العرفاء والناس، خرج من دار المختار حتى انتهى الى دار هاني ء بن عروة فدخلها، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني على

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 71

تستّر واستخفاء من عبيداللّه، وتواصوا بالكتمان ..». «1»

ولعلّ سبب هذا التحوّل عن دار المختار إلى دار هاني ء هو ما يمكن أن يسببه بقاء مسلم في دار المختار من خطر قد يتعرض له مسلم عليه السلام نفسه والمختار (ره) أيضاً من قبل جلاوزة ابن زياد، خصوصاً وأنّ المختار (ره) ليس له من القوّة القبلية في الكوفة ما يجعله في منعة من اعتداء ابن زياد عليه، بعكس ما عليه هاني بن عروة المرادي (رض) من العزّة والقوّة القبلية في الكوفة، فقد كان فيما يقول المؤرّخون: إذا ركب يركب معه أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، فإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع، «2» ثمّ إنّ الحيطة والحذر- بعد التغيرات الجديدة- أوجبا على مسلم عليه السلام أن ينتقل إلى مقرّ آخر منيع وخفي بعد أن علمت السلطة الأموية المحلّية في الكوفة بمقرّه الأوّل حسب الظاهر.

خطّة اغتيال ابن زياد في بيت هاني ء! ..... ص : 71
اشارة

قال ابن الأثير: «ومرض هاني بن عروة ..، فأتاه عبيداللّه يعوده، فقال له عمارة بن عبدالسلولي: إنّما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية، وقد أمكنك اللّه فاقتله.

فقال هاني ء: ما أحبُّ أن يُقتل في داري!

وجاء ابن زياد فجلس عنده ثمّ خرج.

فما مكث إلّا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور، وكان قد نزل على هاني ء وكان كريماً على ابن زياد وغيره من الأمراء، وكان شديد التشيّع، وقد شهد، «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 72

صفّين مع عمّار، فأرسل إليه عبيداللّه: إني رائح

إليك العشيّة. فقال لمسلم: إنّ هذا الفاجر عائدي العشيّة، فإذا جلس أخرج إليه فاقتله، ثم اقعد في القصر، ليس أحدٌ يحول بينك وبينه، فإنْ برئت من وجعي سرتُ الى البصرة حتّى أكفيك أمرها.

فلمّا كان من العشيّ أتاه عبيداللّه، فقام مسلم ليدخل، فقال ل شريك:

لايفوتنّك إذا جلس! فقال هاني ء بن عروة: لا أُحبُّ أنْ يُقتل في داري!.

فجاء عبيداللّه فجلس وسأل شريكاً عن مرضه فأطال، فلمّا رأى شريكٌ أنّ مسلماً لايخرج خشي أن يفوته، فأخذ يقول:

ما تنظرون بسلمى لاتُحيّوها، اسقونيها وإنْ كانت بها نفسي! «1»

فقال ذلك مرتين أو ثلاثاً، فقال عبيداللّه: ما شأنه، ترونه يخلط!؟ فقال له هاني ء: نعم، ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتى ساعته هذه!

فانصرف، وقيل: إنّ شريكاً لمّا قال: اسقونيها، وخلط كلامه، فطن به مهران «2» فغمز عبيداللّه فوثب، فقال له شريك: أيّها الأمير، إنّي أريد أن أوصي إليك! فقال:

أعود إليك.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 73

فقال له مهران: إنّه أراد قتلك! فقال: وكيف مع إكرامي له!؟ وفي بيت هاني ء، ويدُ أبي عنده!؟ «1» فقال له مهران: هو ماقلت لك.

فلمّا قام ابن زياد خرج مسلم بن عقيل، فقال له شريك: ما منعك من قتله!؟

قال: خصلتان، أمّا إحداهما فكراهية هاني ء أن يُقتل في منزله، وأمّا الأخرى فحديث حدّثه عليٌّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ الإيمان قيد الفتك، فلا يفتك مؤمن بمؤمن!

فقال له هاني ء: لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً كافراً غادراً!

ولبث شريك بعد ذلك ثلاثاً ثمّ مات، «2» فصلّى عليه عبيداللّه!.». «3»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 73

1)- هذا النصّ الذي أورده ابن الأثير يفيد أنّ خطّة اغتيال عبيداللّه كانت من وضع شريك وعلى كراهية من هاني ء، لكنّ مصادر أخرى ذكرت أنّ هانئاً هو الذي كان مريضاً، وهو صاحب خطّة

اغتيال عبيداللّه بن زياد، قال اليعقوبي: «وقدم عبيداللّه بن زياد الكوفة، وبها مسلم بن عقيل قد نزل على هاني ء بن عروة، وهاني ء شديد العلّة، وكان صديقاً لابن زياد، فلمّا قدم ابن زياد الكوفة أُخبر بعلّة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 74

هاني ء، فأتاه ليعوده، فقال هاني ء لمسلم بن عقيل وأصحابه وهم جماعة: إذا جلس ابن زياد عندي وتمكّن، فإنّي سأقول اسقوني، فاخرجوا فاقتلوه ...». «1»

ويُرجّح أنّ خطّة اغتيال عبيداللّه بن زياد كانت من وضع شريك الحارثي لأنه كان من قبلُ في الطريق من البصرة الى الكوفة قد بادر إلى التساقط هو وجماعة ممن معه ليقف عليهم ابن زياد فيتأخّر عن الوصول إلى الكوفة ويسبقه الإمام عليه السلام إليها، كما أنّ شريكاً كان يحرّض هانئاً على مساعدة مسلم عليه السلام والقيام بأمره، وقد روى الدينوري: أنّ شريكاً قال لمسلم عليه السلام: «إنّما غايتك وغاية شيعتك هلاك هذا الطاغية، وقد أمكنك اللّه منه، هو صائرٌ إليَّ ليعودني، فقُم فادخل الخزانة، حتّى إذا اطمأنَّ عندي، فاخرج إليه فقاتله، ثم صِرْ إلى قصر الإمارة، فاجلس فيه فإنّه لاينازعك فيه أحدٌ من الناس، وإنْ رزقني اللّه العافية صِرتُ الى البصرة فكفيتك أمرها وبايع لك أهلها. فقال هاني ء بن عروة: ما أحبّ أن يُقتل في داري ابن زياد! فقال له شريك: ولِمَ؟ فواللّه إنّ قتله لقربان إلى اللّه!». «2»

2)- كانت كراهية هاني ء لقتل ابن زياد في بيته لاتختص بابن زياد، بل هي كراهية قتل أي رجل في بيته، «3» وذلك تمسكاً بالأعراف والعادات العربية التي لاتبيح قتل الضيف والقاصد إليها في بيوتها لما في ذلك من سُبَّة ومعابة تبقى على الألسن مدى الأيام، وهذا لايعني أنَّ هانئاً (رض) كان لايتمنى قتل ابن زياد، فقد قال

لمسلم عليه السلام على ما في رواية الطبري: «أما واللّه، لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 75

كافراً غادراً، ولكن كرهتُ أن يُقتل في داري!». «1»

3)- أساءت بعض المصادر التأريخيّة إلى شخصيّة مسلم بن عقيل عليه السلام، إساءة منكرة إذ نسبت إليه الجبن والفشل حيث لم يقدم على قتل ابن زياد، فقد قال الدينوري في أخباره الطوال: «ثمّ قام عبيداللّه وخرج، فخرج مسلم بن عقيل من الخزانة، فقال شريك: ما الذي منعك منه إلّا الجبن والفشل!؟»، «2» ومع اعتراف ابن قتيبة وهو دينوري آخر بأنَّ مسلماً عليه السلام كان من أشجع الناس إلّا أنّه ادّعى أنّ كبوة قد أخذت مسلماً عليه السلام حين لم يقدم على قتل ابن زياد، يقول هذا الدينوري:

«فخرج عبيداللّه، ولم يصنع الآخر شيئاً، وكان من أشجع الناس ولكنه أخذته كبوة ..». «3»

وهذا غير صحيح، فلم يعرف مسلم عليه السلام الجبن، ولم تأخذه كبوة، وقد ذكرت مصادر تأريخية أنّ كراهية هاني ء لقتل ابن زياد بل لقتل أي رجل في بيته، كانت واحداً من الأسباب التي منعت مسلماً عليه السلام من تنفيذ خطة شريك، «4» كما ذكرت بعض مصادرنا المعتبرة أنّ أمرأة في بيت هاني ء كانت قد تعلّقت بمسلم عليه السلام وتوسّلت إليه وهي تبكي ألّا يقتل ابن زياد في دارهم، قال ابن نما (ره): «فخرج مسلم والسيف في كفّه، وقال له شريك: يا هذا، ما منعك من الأمر!؟ قال مسلم: لمّا هممتُ بالخروج فتعلّقت بي امرأة قالت: ناشدتك اللّه إن قتلت ابن زياد في دارنا! وبكت في وجهي! فرميت السيف وجلستُ.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 76

قال هاني ء: يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها، والذي فررتُ منه وقعتُ فيه!». «1»

وهناك سببٌ آخر وهو أنّ مسلماً عليه

السلام ذكر أنّ السبب الذي منعه من قتل ابن زياد- إضافة إلى كراهية هاني ء (رض) لذلك- هو حديث سمعه عن عليّ عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّ الإيمان قيد الفتك، لايفتك مؤمن»، «2» والفتكُ لغة هو: «أن يأتي الرجلُ صاحبه وهو غارٌّ غافلٌ حتّى يشدَّ عليه فيقتله، وإنْ لم يكنْ أعطاه أماناً قبل ذلك.». «3»

وقد علّق هبة اللّه الشهرستاني (ره) على تعليل مسلم عليه السلام إحجامه عن قتل ابن زياد بهذا الحديث قائلًا: «كلمة كبيرة المغزى، بعيدة المدى، فإنَّ آل عليّ من قوّة تمسكهم بالحقّ والصدق نبذوا الغدر والمكر حتّى لدى الضرورة، واختاروا النصر الآجل بقوّة الحقّ على النصر العاجل بالخديعة، شنشنة فيهم معروفة عن أسلافهم، وموروثة في أخلاقهم، كأنهم مخلوقون لإقامة حكم العدل والفضيلة في قلوب العرفاء الأصفياء، وقد حفظ التأريخ لهم الكراسي في القلوب». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 77

ومن الملفت للإنتباه أنّ هناك إضافة مريبة في نقل ابن الأثير لمتن هذا الحديث، وهي «فلايفتك مؤمن بمؤمن!» بدلًا من «فلا يفتك مؤمن»، وكأنَّ ابن الأثير أراد أنّ يطبّق الإيمان على عبيداللّه بن زياد، وأنّ مسلماً عليه السلام إنّما امتنع عن قتله لأنّه مؤمن!!

ابن زياد يستبق الأحداث فيقتل وجوه الشيعة ..... ص : 77

ومن جملة مبادرات ابن زياد للسيطرة على زمام الأمور والقضاء على حركة مسلم بن عقيل عليه السلام، إسراعه في تقصّي رجال الشيعة في الكوفة وإلقاء القبض عليهم وقتلهم، وكان ضحيّة هذه المبادرة الإرهابية القمعية عدد كبير من رجالات الشيعة ممن كان يُعوَّلُ عليهم في مهمّات الأمور.

حبس ميثم التمّار (رض) وقتله ..... ص : 77

كان ميثم التمّار (رض) «1» قد عاد من العمرة «2» الى الكوفة «فأخذه عبيداللّه بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 78

زياد، فأدخل عليه، فقيل له: هذا كان من آثر الناس عند عليّ!

قال: ويحكم، هذا الأعجمي!؟

قيل له: نعم.

قال له عبيداللّه: أين ربُّك؟

قال: بالمرصاد لكل ظالم، وأنت أحد الظلمة.

قال: إنّك على عجمتك لتبلغ الذي تريد! ما أخبرك صاحبك أنّي فاعل بك!؟

قال: أخبرني أنك تصلبني عاشر عشرة، «1» أنا أقصرهم خشبة وأقربهم إلى المطهّرة!

قال: لنخالفنّه!

قال: كيف تخالفه!؟ فواللّه ما أخبرني إلّا عن النبيّ، عن جبرئيل، عن اللّه تعالى، فكيف تخالف هؤلاء!؟ ولقد عرفت الموضع الذي اصلبُ عليه أين هو من الكوفة، وأنا أوّل خلق اللّه أُلجمُ في الإسلام!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 79

فحبسه، وحبس معه المختار بن أبي عبيد. «1»

قال له ميثم: إنّك تفلت، وتخرج ثائراً بدم الحسين فتقتل هذا الذي يقتلنا!

فلمّا دعا عبيداللّه بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد اللّه يأمره بتخلية سبيله فخلّاه، «2» فأمر بميثم أن يُصلب فأُخرج، فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا!؟

فتبّسم وقال- وهو يومي ء إلى النخلة- لها خُلقتُ ولي غُذيتْ! فلمّا رفُع على الخشبة اجتمع الناس حوله على باب عمرو بن حُريث، قال عمرو: كان واللّه يقول: إنّي مجاورك!

فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره.

فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد!

فقال: إلجموه! فكان أوّل خلق اللّه أُلجم في

الإسلام.

وكان قتل ميثم رحمه اللّه قبل قدوم الحسين عليه السلام إلى العراق بعشرة أيّام، فلمّا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 80

كان في اليوم الثالث من صلبه طُعن بالحربة فكبّر! ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً.». «1»

وروي أنه اجتمع سبعة من التمّارين فاتعدوا بدفن ميثم، فجاؤا إليه ليلًا والحرس يحرسونه وقد أوقدوا النار، فحالت النار بينهم وبين الحرس فاحتملوه بخشبته حتى انتهوا به إلى فيض من ماء في مراد، فدفنوه فيه ورموا الخشبة في مراد في الخراب، فلمّا أصبحوا بعث الخيل فلم تجد شيئاً. «2»

وروي عن ميثم قال: دعاني أميرالمؤمنين عليه السلام، وقال: كيف أنت يا ميثم إذا دعاك دعيّ بني أميّة [ابن دعيّها] عبيداللّه بن زياد إلى البراءة منّي؟

فقلت: يا أميرالمؤمنين، واللّه لا أبرأ منك!

قال: إذن واللّه يقتلك ويصلبك.

قلت: أصبر، فذاك في اللّه قليل.

فقال: يا ميثم، إذن تكون معي في درجتي. «3»

قتل رشيد الهجري (رض) ..... ص : 80

وممّن قُتل من رجالات الشيعة وأعلامها في تلك الأيّام رُشيد الهَجَري (رض) «4»، فقد روى الكشّي بسندٍ عن أبي حيّان البجلي، عن قنوا بنت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 84

رشيد الهجري (رض): قال أبوحيّان: «قلتُ لها: أخبريني ما سمعت من أبيك.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 85

قالت: سمعتُ أبي يقول: أخبرني أميرالمؤمنين صلوات اللّه عليه، فقال: يا رشيد، كيف صبرك إذا أرسل إليك دعيُّ بني أميّة فقطع يديك ورجليك ولسانك؟

قلت: يا أميرالمؤمنين، آخر ذلك إلى الجنّة؟

فقال: يا رشيد، أنت معي في الدنيا والآخرة!

قالت: فواللّه ما ذهبت الأيّام حتّى أرسل إليه عبيداللّه بن زياد الدعيّ، فدعاه إلى البراءة من أميرالمؤمنين عليه السلام، فأبى أن يبرأ منه!

فقال له الدعيّ: فبأيّ ميتة قال لك تموت!؟

فقال له: أخبرني خليلي أنّك تدعوني إلى البراءة منه فلا أبرأ منه، فتقدّمني فتقطع يديّ ورجليَّ ولساني!

فقال: واللّه لأكذبنّ

قوله فيك.

قالت: فقدّموه فقطعوا يديه ورجليه وتركوا لسانه، فحملتُ أطراف يديه ورجليه، فقلت: يا أبتِ، هل تجد ألماً لما أصابك!؟ «1»

فقال: لا يا بُنيّة إلّا كالزحام بين الناس!

فلمّا احتملناه وأخرجناه من القصر اجتمع الناس حوله.

فقال: إئتوني بصحيفة ودواة أكتبْ لكم ما يكون إلى قيام الساعة! فأُرسل إليه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 86

الحجّام حتى يقطع لسانه، فمات رحمة اللّه عليه في ليلته.». «1»

وروى الكشّي أيضاً بسند عن فضيل بن الزبير قال: «خرج أميرالمؤمنين عليه السلام يوماً إلى بستان البرني، ومعه أصحابه، فجلس تحت نخلة، ثمّ أمر بنخلة فلُقطت فأُنزل منها رطب فوضع بين ايديهم، قالوا: فقال رشيد الهجري: يا أميرالمؤمنين، ما أطيب هذا الرطب!

فقال: يا رشيد، أما إنّك تُصلب على جذعها!

فقال رشيد فكنتُ أختلف إليها طرفي النهار أسقيها!

ومضى أميرالمؤمنين عليه السلام، قال فجئتها يوماً وقد قُطع سعفها، قلتُ اقترب أجلي، ثمّ جئت يوماً فجاء العريف فقال: أجب الأمير.

فأتيته، فلمّا دخلت القصر فإذا الخشب مُلقى، ثمّ جئت يوماً آخر فإذا النصف الإخر قد جُعل زرنوقاً «2» يُستقى عليه الماء، فقلت ما كذبني خليلي! فأتاني العريف فقال: أجب الأمير. فأتيته، فلمّا دخلت القصر إذا الخشب مُلقى، فإذا فيه الزرنوق! فجئت حتى ضربت الزرنوق برجلي ثمّ قلتُ: لك غُذيتُ ولي أنبتَّ! ثمّ أُدخلت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 87

على عبيداللّه بن زياد.

فقال: هات من كذب صاحبك!

فقلت: واللّه ما أنا بكذّاب ولاهو، ولقد أخبرني أنك تقطع يدي ورجلي ولساني.

قال: إذاً واللّه نكذّبه، إقطعوا يده ورجله، وأخرجوه!

فلمّا حُمل إلى أهله أقبل يحدّث الناس بالعظائم، وهو يقول: أيها الناس، سلوني فإنّ للقوم عندي طلبة لم يقضوها. فدخل رجل على ابن زياد فقال له: ما صنعتَ؟ قطعتَ يده ورجله وهو يحدّث الناس بالعظايم!

قال: ردّوه. وقد انتهى إلى بابه،

فردّوه فأمر بقطع يديه ورجليه ولسانه، وأمر بصلبه.». «1»

إضطهاد مجاميع من رجال المعارضة وحبسهم ..... ص : 87

قال المامقاني (ره): «إنّ ابن زياد لمّا أطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسين عليه السلام حبس أربعة آلاف وخمسمائة رجل من التّوابين من أصحاب أميرالمؤمنين وأبطاله الذين جاهدوا معه، منهم سليمان بن صُرد وإبراهيم بن مالك الأشتر و ... فيهم أبطال وشجعان.». «2»

ونقل القرشي أنّ عدد الذين اعتقلهم ابن زياد في الكوفة إثنا عشر ألفاً، «3» وأنّ من بين أولئك المعتقلين سليمان بن صُرد الخزاعي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 88

واربعمائة من الوجوه والأعيان. «1»

و «حبس جماعة من الوجوه استيحاشاً منهم، وفيهم الأصبغ بن نباتة، والحارث الأعور الهمداني». «2»

وذكر الطبري أنّ ابن زياد: «أمر أن يُطلب المختار وعبداللّه بن الحارث وجعل فيهما جعلًا، فأُتي بهما فحُبسا». «3»

قتل عبداللّه بن يقطر (رض) «4» ..... ص : 88
اشارة

إنّ المشهور عند أهل السير «5» هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام سرّح عبداللّه بن يقطر (رض) إلى مسلم بن عقيل عليه السلام بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلم إلى الإمام عليهما السلام الذي أخبره فيه باجتماع الناس وسأله فيه القدوم إلى الكوفة، فقبض عليه الحصين بن نمير «6» (أو بن تميم) «7» بالقادسية، لكنّ هناك روايتين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 89

تفيدان أنه (رض) كان رسولًا من مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام، وقبض عليه مالك بن يربوع التميمي أحد مأموري الحصين بن نمير خارج الكوفة.

وتفصيل القصة ..... ص : 89

- على أساس رواية كتاب تسلية المجالس- هكذا: أنه بينما كان عبيداللّه بن زياد يتكلّم مع أصحابه في شأن عيادة هاني ء: «1» «إذ دخل عليه رجل من أصحابه يُقال له مالك بن يربوع التميمي، فقال: أصلح اللّه الأمير، إني كنت خارج الكوفة أجول على فرسي، إذ نظرتُ إلى رجل خرج من الكوفة مسرعاً إلى البادية، فأنكرته، ثمّ إني لحقته، وسألته عن حاله فذكر أنه من أهل المدينة! ثمّ نزلت عن فرسي ففتّشته فأصبت معه هذا الكتاب. فأخذه ابن زياد ففضّه فإذا فيه:

بسم اللّه الرحمن الرحيم: إلى الحسين بن علي: أمّا بعدُ: فإني أخبرك أنه بايعك من أهل الكوفة نيفاً على عشرين ألف رجل، فإذا أتاك كتابي فالعجل العجل، فإنّ الناس كلّهم معك، وليس لهم في يزيد هوى ...

فقال ابن زياد: أين هذا الرجل الذي أصبت معه الكتاب؟

قال: هو بالباب.

فقال: إئتوني به.

فلمّا وقف بين يديه، قال: ما اسمك؟

قال: عبداللّه بن يقطين. «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 90

قال: من دفع إليك هذا الكتاب؟

قال: دفعته إليَّ أمرأة لا أعرفها!

فضحك ابن زياد وقال: إختر أحد إثنين، إمّا أن تخبرني من دفع إليك الكتاب أو

القتل!

فقال: أمّا الكتاب فإنّي لا أُخبرك، وأمّا القتل فإني لا أكرهه لأنّي لا أعلم قتيلًا عند اللّه أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك!

قال: فأمر به فضربت عنقه «1».». «2»

وقال المحقّق الشيخ محمّد السماوي (ره): «وقال ابن قتيبة وابن مسكويه: إنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مسهّر ... وإنَّ عبداللّه بن يقطر بعثه الحسين عليه السلام مع مسلم، فلمّا أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمّ عليه ماتمّ بعث عبداللّه إلى الحسين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 91

يخبره بالأمر الذي انتهى، فقبض عليه الحصين وصار ما صار عليه من الأمر الذي ذكرناه.». «1»

وهذا يؤيّد انّ عبداللّه بن يقطر (رض) كان رسولًا من مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام، ولكنّة يخالف ما في رواية المناقب ورواية تسلية المجالس في أنه (رض) كان قد حمل إلى الإمام عليه السلام خبر الخذلان لاخبر البشرى بالعدد الكبير من المبايعين!

والظاهر أنّ عبداللّه بن يقطر (رض)- على المشهور- قُتل بنفس الطريقة التي قُتل بها قيس بن مسهّر الصيداوي (رض)، حيث أُلقي كلُّ منهما من فوق القصر، لكنّ الأوّل قُتل قبل الثاني رضوان اللّه تعالى عليهما، بدليل أنّ خبر مقتل ابن يقطر (رض) ورد إلى الإمام عليه السلام بزبالة في الطريق إلى العراق في نفس خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني ء (رض)، فنعاهم الإمام عليه السلام قائلًا: «أمّا بعدُ، فقد أتانا خبرٌ فظيع، قُتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة وعبداللّه بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا ...»، «2»

وبذلك يكون عبداللّه بن يقطر (رض) ثاني رسل النهضة الحسينية الذين استشهدوا أثناء أداء مهمّة الرسالة، بعد شهيد النهضة الحسينية الأول سليمان بن رزين (رض) رسول الإمام عليه السلام إلى البصرة.

البحث لمعرفة مكان مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 91
اشارة

كان الهمُّ الأكبر لعبيداللّه بن زياد منذ بدء

وصوله الكوفة هو معرفة مكان مسلم بن عقيل عليه السلام، فهو طلبته الكبرى ومبتغاه الأساس تنفيذاً لرسالة يزيد التي طلب منه فيها أن يطلب مسلماً عليه السلام طلب الخرزة.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 92

وكان مسلم عليه السلام نتيجة الإجراءات الإرهابية المتسارعة التي اتخذها ابن زياد وما أخذ به العرفاء والناس قد خرج من دار المختار حتى انتهى الى دار هاني ء (رض) فاتخذها مقرّاً له، وأخذت الشيعة تختلف إليه فيها على تستر واستخفاء وتواصٍ بالكتمان.

قال الدينوري: «وخفي على عبيداللّه بن زياد موضع مسلم بن عقيل، فقال لمولى له من أهل الشام يسمّى معقلًا- وناوله ثلاثة آلاف درهم في كيس «1»- وقال:

خذ هذا المال وانطلق فالتمس مسلم بن عقيل، وتأتَّ له بغاية التأتّي!

فانطلق الرجل حتى دخل المسجد الأعظم، وجعل لايدري كيف يتأتّى الأمر، ثمّ إنّه نظر إلى رجل يكثر الصلاة إلى سارية من سواري المسجد، فقال في نفسه:

إنّ هؤلاء الشيعة يكثرون الصلاة! وأحسب هذا منهم! فجلس الرجل حتى إذا انفتل من صلاته قام، فدنا منه، وجلس فقال: جُعلت فداك، إني رجل من أهل الشام، مولى لذي الكلاع، وقد أنعم اللّه عليّ بحبّ أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وحبّ من أحبّهم، ومعي هذه الثلاثة آلاف درهم، أحبّ إيصالها إلى رجل منهم، بلغني أنه قدم هذا المصر داعية للحسين بن عليّ عليه السلام، فهل تدلّني عليه لأوصل هذا المال إليه، ليستعين به على بعض أموره ويضعه حيث أحبَّ من شيعته؟

قال له الرجل: وكيف قصدتني بالسؤال عن ذلك دون غيري ممّن هو في المسجد!؟

قال: لأنّي رأيت عليك سيما الخير، فرجوت أن تكون ممّن يتولّى أهل بيت رسول اللّه صلى الله عليه و آله.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 93

قال له الرجل: ويحك،

قد وقعتَ عليّ بعينك، أنا رجل من إخوانك وإسمي مسلم بن عوسجة، وقد سُررتُ بك، وساءني ما كان من حسّي قِبلك، فإنّي رجل من شيعة أهل هذا البيت، خوفاً من هذا الطاغية ابن زياد، فأعطني ذمّة اللّه وعهده أن تكتم هذا عن جميع الناس.

فأعطاه من ذلك ما أراد!

فقال له مسلم بن عوسجة: إنصرف يومك هذا، فإنْ كان غدٌ فائتني في منزلي حتى انطلق معك إلى صاحبنا- يعني مسلم بن عقيل- فأوصلك إليه.

فمضى الشاميُّ، فبات ليلته، فلمّا أصبح غدا إلى مسلم بن عوسجة في منزله، فانطلق به حتّى أدخله إلى مسلم بن عقيل، فأخبره بأمره، ودفع إليه الشاميّ ذلك المال، وبايعه!

فكان الشاميّ يغدو إلى مسلم بن عقيل، فلا يحجبُ عنه، فيكون نهاره كلّه عنده، فيتعرّف جميع أخبارهم، فإذا أمسى وأظلم عليه الليل دخل على عبيداللّه ابن زياد فأخبره بجميع قصصهم، وما قالوا وفعلوا في ذلك، وأعلمه نزول مسلم في دار هاني ء بن عروة.». «1»

إشارة: ..... ص : 93

قد يأسف المتتبّع بادي ء ذي بدء للسهولة التي تمّت بها عملية اختراق حركة مسلم بن عقيل عليه السلام من داخلها على يد الجاسوس معقل مولى عبيداللّه بن زياد،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 94

من طريق مسلم بن عوسجة الأسديّ (رض)، وهو علم من أعلام الشيعة في الكوفة، وأحد شهداء الطفّ، وهو الشريف السَرِيُّ في قومه، «1» والفارس الشجاع الذي له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية، وقد شهد له الأعداء بشجاعته وخبرته وبصيرته وإقدامه. «2»

وفي ظنّ المتتبع أنّ على مسلم بن عوسجة (رض) أن يحذر أكثر ويحتاط حتّى يطمئنّ تماماً إلى حقيقة هويّة معقل الجاسوس قبل أن يدلّه على مكان مسلم بن عقيل عليه السلام أو يستأذن له في الدخول عليه! ليخترق بذلك الحركة من داخلها!

لكنّ

ما وقع فعلًا هو أنّ ابن عوسجة (رض) لم يكن قد قصّر في حذره وحيطته، غير أنّ معقلًا كان فعلًا «ماهراً في صناعته وخبيراً فيما انتُدب إليه» «3» لاختراق حركة مسلم عليه السلام من داخلها.

أمّا سهولة تعرّفه على ابن عوسجة (رض) فلا تحتاج الى كثير جهد ومشقّة إذا كان (رض) وجهاً شيعياً معروفاً في الكوفة، وقد كشف له معقل عن سرّ سهولة تعرّفه عليه حين قال له: «سمعت نفراً يقولون: هذا رجلٌ له علم بأهل هذا البيت، فأتيتك لتقبض هذا المال وتدلّني على صاحبك فأبايعه، وإنْ شئتَ أخذتَ البيعة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 95

له قبل لقائه!»، «1» ولقد عبّر له ابن عوسجة (رض) عن استيائه لسرعة تعرّفه عليه بقوله: «.. ولقد سائتني معرفتك إيّاي بهذا الأمر من قبل أن ينمى مخافة هذا الطاغية وسطوته ..». «2»

ثمّ إن ابن عوسجة (رض) أخّر معقلًا أيّاماً قبل أن يطلب الأذن له، وكان يجتمع معه في منزله هو تلك الأيّام «إختلفْ إليَّ أيّاماً في منزلي فإني طالب لك الأذن على صاحبك ..»، «3» ثمّ لم يدخله على مسلم بن عقيل عليه السلام حتى طلب له الأذن فأُذن له، ولاشك أنّ أخذ الأُذن يتمّ بعد شرح ظاهر الحال الذي تظاهر به معقل، ومن الدلائل على مهارة ابن زياد ومعقل في فنّ التجسس أنّ ابن زياد أوصى معقلًا أن يتظاهر بأنّه رجل من أهل الشام ومن أهل حمص بالذات، «4» ذلك حتّى لايكون بإمكان مسلم بن عوسجة أن يسأل ويستفسر عن حقيقة حاله في قبائل الكوفة، كما أنّ أهل حمص آنذاك على ما يبدو قد عُرف عنهم حبّهم لأهل البيت عليهم السلام، أو عُرف أنّ فيهم من يحبّ أهل البيت عليه السلام، فيكون

ذلك مدعاة لاطمئنان من يتخذه معقل منفذاً لاختراق حركة مسلم عليه السلام من داخلها، كما أنّ معقلًا قد ادّعى أمام ابن عوسجة (رض) أنه مولىً لذي الكلاع الحميري هناك في الشام، والمعروف عن جلّ الموالي حبّهم لأهل البيت عليهم السلام!

الخلاصة أنّ معقلًا كان قد أحكم خطّته واتقن تمثيل دوره المرسوم وبرع في

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 96

ذلك، لكنّ في حضوره يومياً عند مسلم بن عقيل عليه السلام، ودخوله عليه في أوّل الناس، وخروجه عنه آخرهم، فيكون نهاره كلّه عنده، ما يدعو إلى الريبة والشك فيه، فلماذا لم يرتب ولم يشكّ فيه مسلم عليه السلام وأصحابه!؟ إنّ في هذا ما يدعو إلى الإستغراب والحيرة فعلًا!

لكننا حيث لانملك معرفة تفاصيل جريان حركة أحداث تلك الأيّام بشكلٍ كافٍ، وحيث لم يأتنا التأريخ إلّا بنزرٍ قليل منها لاينفعنا إلّا في رسم صورة عامة عن مجرى حركة تلك الأحداث، وحيث نعلم أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام ومسلم بن عوسجة (رض) وأصحابهما هم من أهل الخبرة الإجتماعية والسياسية والعسكرية، فلا يسعنا أن نتعرض باللوم عليهم أو أن نتهمهم بالسذاجة! بل علينا أن نتأدّب بين يدي تلك الشخصيات الإسلامية الفذّة، وأن ننزّه ساحاتهم المقدّسة عن كلّ مالايليق بها، وأن نقف عند حدود معرفتنا التأريخية القاصرة لانتعدّاها إلى استنتاجات واتهامات غير صائبة ولا لائقة، خصوصاً إذا تذكّرنا حقيقة أنَّ عمليات الإختراق من الداخل من خلال دسّ الجواسيس المتظاهرين بغير حقيقتهم كانت أمراً مألوفاً منذ قديم الأيام ولم تزل حتّى يومنا الحاضر وتبقى إلى ما شاء اللّه، وشذّ وندر أن يجد الإنسان حركة سياسية تغييرية تعمل لقلب الأوضاع سلمت من الإختراق من داخلها من قبل أعدائها، بل قد لايجد الإنسان حركة سياسية تغييرية غير مخترقة،

وهذ لايعني أنّ قيادتها ساذجة ولاتتمتع بالحكمة!

اعتقال هاني ء بن عروة (رض) ..... ص : 96
اشارة

كان هاني ء بن عروة المرادي (رض) بفطنته السياسية والإجتماعية يتوقع مايحذره من عبيداللّه بن زياد برغم التستر والخفاء الذي كانت تتمّ في ظلّهما اجتماعات مسلم عليه السلام مع مريديه وأتباعه في بيته، وبرغم التواصي بالكتمان، ذلك لأنّ هانئاً (رض) كان يعلم أنّ الهمّ الأكبر لابن زياد هو معرفة مكان ومقرّ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 97

مسلم عليه السلام، فلابدّ له من أن يتجسس ويحتال الحيلة لمعرفة ذلك، وكان هاني ء (رض) يعرف مكر ابن زياد وغدره، فانقطع عن زيارة القصر خشية أن يمشي الى المحذور برجليه فيواجه الخطر بمعزلٍ عن قوّة قبيلته التي يحُسب لها ألف حساب في مجتمع الكوفة، تقول الرواية التأريخية «وخاف هاني ء بن عروة على نفسه، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض.

فقال ابن زياد لجلسائه: مالي لا أرى هانياً!؟

فقالوا: هو شاكٍ.

فقال: لو علمتُ بمرضه لعدتُه!!

ودعى محمّد بن الأشعث، «1» وأسماء بن خارجة، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي- وكانت رويحة بنت عمرو تحت هاني ء بن عروة، وهي أمّ يحيى بن هاني ء-

فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا!؟

فقالوا: ما ندري، وقد قيل إنه يشتكي.

قال: قد بلغني أنه قد بري ء، وهو يجلس على باب داره!، فالقوه ومروه ألّا يدع ما عليه من حقّنا، فإنّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب!

فأتوه حتّى وقفوا عليه عشيّة وهو جالس على بابه.

وقالوا له: مايمنعك من لقاء الأمير!؟ فإنّه قد ذكرك وقال لو أعلم أنّه شاكٍ لَعدتُه.

فقال لهم: الشكوى تمنعني!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 98

فقالوا له: قد بلغه أنّك تجلس كلّ عشية على باب دارك! وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لايحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبتَ معنا!

فدعى بثيابه فلبسها، ثمّ دعى ببغلة فركبها، حتّى إذا دنى من

القصر كأنّ نفسه أحسّت ببعض الذي كان، فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن الأخ، إنّي واللّه لهذا الرجل لخايف! فما ترى؟

فقال: يا عمّ، واللّه ما أتخوّف عليك شيئاً، ولم تجعل على نفسك سبيلًا.

ولم يكن حسّان يعلمُ في أيّ شي ء بعث إليه عبيداللّه.

فجاء هاني ء حتى دخل على عبيداللّه بن زياد وعنده القوم، فلمّا طلع قال عبيداللّه: أتتك بخاين رجلاه! «1»

فلمّا دنى من ابن زياد، وعنده شريح القاضي، «2» إلتفت نحوه فقال:

أُريدُ حياته ويُريد قتلي عذيرك من خليلك من مُراد

وقد كان أوّل ما قدم مكرماً له ملطفاً ...

فقال له هاني: وما ذاك أيّها الأمير!؟

قال: إيه يا هاني بن عروة، ما هذه الأمور التي تربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنَّ ذلك يخفى عليَّ!؟

قال: ما فعلتُ ذلك، وما مسلم عندي.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 99

قال: بلى، قد فعلتَ!

فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هاني إلّا مجاحدته ومناكرته، دعى ابن زياد معقلًا ذلك العين، فجاء حتى وقف بين يديه.

فقال: أتعرف هذا؟

قال: نعم!

وعلم هاني عند ذلك أنّه كان عيناً عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم، فأُسقط في يده ساعة، ثُمَّ راجعته نفسه.

فقال: إسمع منّي وصدّق مقالتي، فواللّه لاكذبت، واللّه ما دعوته إلى منزلي، ولاعلمت بشي ء من أمره حتى جاءني يسألني النزول فاستحييتُ من ردّه، ودخلني من ذلك ذمام فضيّفته وآويته، وقد كان من أمره ما بلغك، فإنْ شئت أن أعطيك الآن موثقاً مغلّظاً ألّا أبغيك سوءً ولاغائلة، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتّى آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرجُ من ذمامه

وجواره.

فقال له ابن زياد: واللّه لاتفارقني أبداً حتى تأتيني به!

قال: لاواللّه، لاأجيئك به أبداً، أجيئك بضيفي تقتله!؟

قال: واللّه لتأتينّي به.

قال: لا واللّه لاآتيك به.

«فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي- وليس بالكوفة شاميٌّ ولابصريٌّ غيره- فقال: أصلح اللّه الأمير، خلّني وإيّاه حتّى أكلمه.

فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 100

سمع ما يقولان.

فقال له مسلم: يا هاني، أُنشدك اللّه أن تقتل نفسك، وأن تدخل البلاء في عشيرتك، فواللّه إنّي لأنفس بك عن القتل، إنّ هذا الرجل إبن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولاضائريه، فادفعه إليهم فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولامنقصة، إنما تدفعه إلى السلطان!

فقال هاني: واللّه إنّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، واللّه لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه!

فأخذ يناشده وهو يقول: واللّه لا أدفعه إليه أبداً!

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه منّي.

فأدنوه منه، فقال: واللّه لتأتينيّ به أو لأضربنّ عنقك.

فقال هاني: إذن لكثر البارقة حول دارك!

فقال ابن زياد: والهفاه عليك، أبالبارقة تخوّفني!؟- وهو يظنّ أنَّ عشيرته سيمنعونه- ثمّ قال: أدنوه منّي!

فأُدني منه، فاعترض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدّه حتى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته، ونثر لحم جبينه وخدّه على لحيته حتى كُسر القضيب!

وضرب هاني يده إلى قائم سيف شرطيّ، وجاذبه الرجل ومنعه! فقال عبيداللّه: أحروريٌّ «1» ساير اليوم!؟ قد حلّ لنا دمك! جرّوه.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 101

فجرّوه، فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه!

فقال: إجعلوا عليه حرساً. ففُعل ذلك به. «1»

فقام إليه حسّان بن أسماء فقال: أَرُسُلُ

غدرٍ ساير اليوم!؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتّى إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيّلت دماءه على لحيته، وزعمت أنّك تقتله!؟

فقال له عبيداللّه: وإنّك لهاهنا!؟ «2» فأَمر به فَلُهِزَ وتُعْتِعَ وأجلسَ في ناحية، فقال محمّد بن الأشعث: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا، إنّما الأمير مؤدِّب!». «3»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 101

1)- قد يتساءل المتأمّل عجباً من أمر هاني بن عروة (رض) الذي كان يعرف مكر ابن زياد وغدره، وكانت خبرته السياسية والإجتماعية وتجارب العمر الطويل تفرض عليه أن يحتمل احتمالًا قويّاً أن تكون حركة النهضة قد اخترقت من قبل جواسيس ابن زياد: كيف مضى برجله إلى مواجهة المحذور من إهانة أو حبس أو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 102

قتل دون أن يأخذ الأهبة والإحتياط الكافيين لكلّ احتمالات لقائه بابن زياد، كأن يأخذ معه من رجالات قبيلته (مذحج) مجموعة لايقوى معها ابن زياد على إهانته أو حبسه أو قتله، أو يوقف عند باب القصر كتيبة من قبيلته تقتحم القصر إذا استبطأته وقتاً محدّداً بينه وبينها!؟

وهذا تساؤل في محلّه تماماً! ومن البعيد جدّاً ألّا يكون هاني (رض) قد فكّر بتلكم الإحتياطات لمواجهة محذورات لقائه بابن زياد في القصر لو كان رسل ابن زياد إليه من الجلاوزة أو ممّن يرتاب فيهم هاني (رض)، لكنّ الرسل الذين انتقاهم ابن زياد- على علمٍ ومكر هم ممّن لايرتاب هاني (رض) فيهم أو في بعضهم على الأقلّ، فمنهم عمرو بن الحجّاج الزبيدي الذي كانت ابنته رويحة زوجة لهاني، وأسماء بن خارجة، أو ابنه حسّان، «1» وهو زعيم قبيلة فزارة، «2» ومحمّد بن الأشعث زعيم قبيلة كندة، «3» فهؤلاء من كُبّار وجهاء الكوفة وأشرافها، ومن البعيد جدّاً- في ظنّ هاني (رض)- أن يكونوا رُسُلَ غدر أو

أهلَ خيانة!

والظاهر أنّ هذا هو الذي جعلَ هانئاً (رض) يستبعد الإحتمال السي ء، فلم يعدّ العدّة ولم يأخذ الأهبة والإحتياط لمحذورات هذا اللقاء، فانطلت حيلة ابن زياد عليه، وصدّق الرُسُل في مانقلوه إليه من أنّ ابن زياد تفقّده لإنقطاعه عنه، وقال إنّه لم يعلم بمرضه ولو علم به لقام بزيارته! فاستظهر هاني ء (رض) أنّ ابن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 103

زياد حتى تلك الساعة لم يكن له علم بمكان مسلم عليه السلام، فدعا بثيابه فلبسها، وببغلة فركبها، ومضى معهم!

ومع استبعاد الإحتمال السي ء واستظهار أنّ ابن زياد لم يكن حتى تلك اللحظة قد علم بمكان مسلم عليه السلام، لايكون من الحكمة الإمتناع عن لقائه، أو أخذ الأهبة والعدّة للمحذور منه، أوطلب الأمان شرطاً للقائه، لأنّ كلَّ ذلك سيكشف عن المستور، ويؤكّد التهمة، ويؤديّ إلى تعجيل ضار في توقيت قيادة حركة النهضة لموعد قيامها ضد ابن زياد، ولعلَّ كلّ هذه الأمور قد خطرت على بال هاني بن عروة، فآثر المجازفة بنفسه دفعاً لكلّ تلك الأضرار والمساوي ء.

من هنا، يُستبعد ما أورده صاحب كتاب تجارب الأمم حيث قال: «ودعا عُبيد اللّه هاني ء بن عروة، فأبى أن يُجيبه إلّا بأمان! فقال: ماله وللأمان، هل أحدث حدثاً!؟ فجاءه بنوعمّه ورؤساء العشائر فقالوا: لاتجعل على نفسك سبيلًا وأنت بري ء. وأُتيَ به ...»، «1» أو ما رواه الطبري أنّ ابن زياد قال لأسماء بن خارجة ومحمّد بن الأشعث: «إئتياني بهاني ء. فقالا: إنّه لايأتي إلّا بأمان! قال: وماله وللأمان، وهل أحدث حدثاً!؟ إنطلقا فإنْ لم يأتِ إلّا بأمانٍ فآمناه! ..». «2»

2)- يبدو أنّ حيلة ابن زياد كانت قد انطلت حتى على بعض رُسُلِه إلى هاني ء بن عروة (رض)، إذ إنّ سياق القصة يكشف عن أنّ أسماء بن خارجة

«3» أو حسّاناً إبنه قد فوجي ء بغدر ابن زياد بهم وبهاني ء (رض)، فانتفض معترضاً بعدما رأى ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 104

صُنع بهاني ء (رض) وقال لابن زياد: أَرُسُلُ غدرٍ ساير اليوم!؟ أمرتنا أن نجيئك بالرجل حتّى إذا جئناك به هشمت أنفه ووجهه وسيّلت دماءه على لحيته، وزعمت أنّك تقتله!؟ فقال له ابن زياد: وإنّك لهاهنا!؟ فَلُهِزَ وتُعتع وأُجلس ناحية، وفي رواية الفتوح: «فضرب حتى وقع لجنبه .. فحبس في ناحية من القصر وهو يقول: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، إلى نفسي أنعاك يا هاني ء!». «1»

أمّا محمد بن الأشعث فقد روى الطبري قائلًا «وزعموا أنّ أسماء لم يعلم في أي شي ء بعث إليه عبيداللّه، فأمّا محمّد فقد علم به! ..»، «2» وسواء أكان عالماً بخطّة ابن زياد أم لم يكن يعلم، نراه- وقد أدركه عِرق النفاق الضارب في أعماق عائلته- يقول متملقاً لابن زياد: قد رضينا بما رأى الأمير، لنا كان أم علينا، إنّما الأمير مؤدِّب!

أمّا عمرو بن الحجّاج الزبيدي- وهو أحد هؤلاء الرسل الذين جاؤا بهاني (رض) إلى ابن زياد- فقد غاب فجأة ولم يشهد ما جرى في هذا اللقاء، مع أنّ المفروض عرفاً وهو أحد الرسل الثلاثة أن يبقى كوسيط لإزالة السخيمة بين هاني (رض) وابن زياد، أو ليحامي عن هاني ء (رض) إذا تجاوز ابن زياد حدّه واعتدى عليه- كما حصل فعلًا- خصوصاً وأنّ هاني بن عروة زوج ابنته!

إذن فغيابه المتعمّد فجأة عن مسرح الحدث يكشف عن علمه المسبّق بخطة ابن زياد للإيقاع بهاني ء (رض)، وعن تواطئه معه لحبسه وقتله! ولقد أراد من وراء هذا الغياب الفاجي ء المتعمّد أمرين: الأوّل هو أن يصرف عن نفسه حرج عدم دفاعه عن هاني ء (رض) في حال حضوره، كما يدفع

بذلك عن نفسه أيضاً شبهة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 105

تواطئه مع ابن زياد لقتل هاني ء (رض)، لقد كان عمرو بن الحجاج الزبيدي حقاً رسول غدر! أمّا الأمر الثاني: فهو أنَّ هذا الخائن أراد أن يستبق الوقت ليمتطي موجة غضب قبيلة مذحج التي كانت ستثور حتماً لما أصاب هاني ء (رض)، فيقود جموعها الزاحفة بسيوفها نحو القصر لإنقاذه، وهناك ليفرّق هذه الجموع الغاضبة، ويصرفها عن القصر بخدعة مشتركة- كما سيأتي- بينه وبين شريح القاضي وابن زياد! إنّ هذا الدور الخياني نفسه دليل آخر قاطع على علم الزبيدي المسبّق بخطة ابن زياد.

3)- أظهرت هذه الرواية وكأنّ هاني ء بن عروة (رض) إنّما امتنع عن تسليم مسلم عليه السلام لإبن زياد لسبب أخلاقي عربي وإسلامي وهو حماية الضيّف والذبُّ عن الجوار «واللّه إنَّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح، أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، واللّه لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه!»، وفي هذا الموقف- وبهذا الحدّ الأخلاقي- شرف ومفخرة لهاني ء (رض) وأيُّ مفخرة!

لكنّ هناك نصوصاً تأريخية أخرى تؤكّد أنّ الدافع الذي منع هانئاً (رض) من تسليم مسلم عليه السلام كان دافعاً أسمى وأعلى من الدافع الأخلاقي! وهو الدافع الايمانيّ الطافح بالولاء لأهل البيت عليهم السلام، فقد روى ابن نما (ره) أنّ هاني ء بن عروة (رض) قال: «واللّه إنّ عليَّ في ذلك العار أن أدفع ضيفي ورسول ابن رسول اللّه، وأنا صحيح الساعدين كثير الأعوان ..»، «1» وفي رواية ابن أعثم: «بلى واللّه، عليَّ في ذلك من أعظم العار أن يكون مسلم في جواري وضيفي، وهو رسول ابن بنت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 106

رسول اللّه صلى الله عليه و آله ...»،

«1» وفي رواية المسعودي أنّ هانئاً (رض) قال لابن زياد: «إنَّ لزياد أبيك عندي بلاءً حسناً، «2» وأنا أُحبّ مكافأته به، فهل لك في خير؟ قال ابن زياد: وما هو؟ قال: تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حقُّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك ..». «3»

4)- من مجموع النصوص التأريخية التي روت لنا قصة هذا اللقاء بين هاني ء (رض) وبين ابن زياد، أو جوانب من هذا اللقاء، يتضح جليّاً أنَّ هاني ء بن عروة (رض) كان يتمتع- وهو في التسعين من العمر- برباطة جأش، وثقة بالنفس، وشجاعة ملفتة للإنتباه، كما كان في غاية الإطمئنان والثقة بأنَّ مذحج لن تسلمه إذا تعرّض لمكروه، وأنَّ الكوفة يومذاك بالفعل كانت ساقطة بيد المعارضة وماهي إلّا إشارة تصدر عن مسلم عليه السلام حتّى يتحقق ذلك الأمر فعلًا وعلناً، فقوله لابن زياد لمّا هدّده بالقتل: «إذن لكثر البارقة حول دارك!» كاشف عن ثقته بردّ الفعل المناسب الذي كان لابد سيصدر عن مذحج خاصة وعن قيادة الثورة عامة، ومدُّه يده الشريفة إلى قائم سيف الشرطي ليقتل به ابن زياد كاشف عن شجاعته الفائقة، وقوله لابن زياد: «.. تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حقّ من هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك»، أو قوله: «أيها الأمير، قد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 107

كان الذي بلغك، ولن أضيع يدك عندي، فأنت آمن وأهلك! فَسِرْ حيث شئت!» «1» كاشف عن ثقته التامة بأنَّ الكوفة فعلًا بيد قيادة الثورة، وأنّ ابن زياد ليس إلّا أميراً رمزياً يومذاك! ولايخفى على ذي دراية أنّ قوله لابن زياد: «.. فإن شئت أعطيك الآن موثقاً مغلّظاً الّا أبغيك سوءً ولاغائلة،

ولآتينّك حتّى أضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتّى آتيك، وأنطلقُ إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرجُ من ذمامه وجواره!» كان قولًا صادقاً وفيه من العمق السياسي الشي ء الكثير، إذ لو خرج من القصر لأخرج مسلم بن عقيل عليه السلام من داره فعلًا ولكن إلى قيادة الثورة بالفعل، ولأعلنها حرباً على ابن زياد يؤلّب لها الآلاف الكثيرة من المبايعين من مذحج وكندة وبقية القبائل الأخرى، فليس بعد يومه ذاك مايدعو الى الصبر والإنتظار- بعدَ أن اخترق ابن زياد حركة المعارضة من داخلها وعلم بكلّ شي ء!- وهذا لاينافي أنّ هانئاً (رض) كان صادقاً بقوله لابن زياد: «ألّا أبغيك سوءً ولاغائلة، ولآتينّك حتى أضع يدي في يدك!»، لأنّه قد يشفع لابن زياد- بعد انتصار الثورة بالفعل وسيطرتها على الكوفة وعلى القصر- ويأتيه كما وعده ويضع يده في يده ليسرّحه مع أهله إلى الشام، ولهاني ء بن عروة (رض) من المنزلة الرفيعة عند مسلم عليه السلام وعند أهل الكوفة ما يُستبعد عندها ردُّ شفاعته، أللّهمَّ إلّا إذا اعتُرضَ عليه بالدماء الزاكيات التي سفحها ابن زياد ظُلماً وجورا.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 108

الخدعة المشتركة! ..... ص : 108

في قصة حبس هاني ء بن عروة (رض) هناك دور خيانيٌّ لاريب فيه، تقمّصه عمرو بن الحجّاج الزبيدي المتفاني في امتثال أوامر أعداء أهل البيت عليهم السلام مع أنّ هانئاً (رض) كان صهراً له! ودور خيانيُّ صريح آخر تقمّصه شريح القاضي العُمريّ الأمويّ الميل والهوى، «1» بتنسيق وتخطيط من ابن زياد لعنه اللّه.

تقول الرواية التأريخية: «وبلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانياً قد قُتل! فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم، ثم نادى: أنا عمر بن الحجّاج، وهذه

فرسان مذحج ووجوهها، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم قُتل فأعظموا ذلك!

فقيل لعبيداللّه بن زياد: هذه مذحج بالباب!

فقال لشريح القاضي: أُدخلْ على صاحبهم فانظر إليه، ثم أخرج وأعلمهم أنّه حميٌّ لم يُقتل!

فدخل شريح فنظر إليه، فقال هاني لمّا رأى شريحاً: «2» ياللّه! ياللمسلمين!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 109

أهلكت عشيرتي!؟ أين أهل الدين!؟ أين أهل المصر!؟- والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجّة على باب القصر- فقال: إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إنْ دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني!

فلمّا سمع كلامه شريح خرج إليهم، فقال لهم: إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم وأعرّفكم أنّه حيٌّ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل!

فقال له عمرو بن الحجّاج وأصحابه: أمّا إذا لم يُقتل فالحمد للّه! ثمّ انصرفوا!». «1»

وفي رواية الدينوري: «فقال لهم سيّدهم عمرو بن الحجّاج: أما إذ كان صاحبكم حيّاً فما يعجلكم الفتنة!؟ انصرفوا!. فانصرفوا». «2»

لقد تجسّد دور شريح القاضي الخياني- وما أكثر أدواره الخيانيّة- في ممارسته التورية في عبارته الأخيرة: «فأمرني أن القاكم وأعرّفكم أنّه حيّ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل!» لأنه أتى بهذه العبارة بعد قوله لهم: «فأتيته فنظرت إليه»، فكأن الذي أمره هو هاني (رض) نفسه لا ابن زياد، ليشيع في نفوسهم الطمأنينة، وليوحي لهم أنّ هائناً يقول: إنّ الذي أثاركم وألّبكم خبرٌ باطل، ولا داعي لهذه الإثارة وهذه الفتنة!

وهنا يواصل عمرو بن الحجّاج دوره الخياني الطويل، فلا يردٌّ على شريح

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 110

القاضي فيقول مثلًا: لنرَ سيّدنا هانئاً ولنكلّمه أو لنخرجنّه من القصر عنوة! أو مايشبه هذا القول، أو لايكتفي بقول شريح فيدخل القصر- وهو من المقرّبين لابن

زياد- ليرى بنفسه هانئاً وحقيقة ما جرى عليه داخل القصر!!

بل نراه يؤكد صحة مقالة شريح ويخاطب جموع مذحج الثائرة قائلًا: «صدق، ليس على صاحبكم يأس فتفرّقوا!». «1»، «أمّا إذا كان صاحبكم حيّاً فما يُعجلكم الفتنة!؟ انصرفوا» فتنصرف هذه الجموع فاشلة وقد ذهبت ريحها، وأكثرهم يحبُّ العافية لتفشّي (الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت) في قلوبهم، ولو انبعث في تلك اللحظات الحاسمة رجال من مذحج فأنكروا على الزبيدي الخائن «2» رأيه وموقفه، وحرّضوا جموع مذحج على اقتحام القصر وإطلاق سراح هاني (رض) ثمَّ واصلوا تطهير الكوفة من كلّ رجس أمويّ، لكان قد كُتب لمذحج دور رياديّ في تغيير مجرى تأريخ حياة المسلمين، يُذكر فيشكُر إلى قيام الساعة، لكنّهم آثروا طاعة ابن الحجاج الزبيدي حرصاً على احترام عرف قَبَليّ- وحُبّاً للعافية!- وإن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 111

كان ذلك خلافاً لما هو أحقٌّ وأهمّ!، فكُتب لهم دور في الخذلان والخيبة، ماتلاه التأريخ على مسامع الأجيال إلّا وبعث في العقول والقلوب استنكاراً وريبة ونفورا!!

قيام مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 111

اشارة

إنّ أصعب مقاطع النهضة الحسينية المباركة من ناحية التحليل التأريخي هو مقطع حركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيل عليه السلام بعامة وحركة أحداث قيامه وانكساره السريع بخاصة، ففي هذا المقطع من كثرة الحلقات المفقودة، ومن تشابك العوامل وتداخلها وتنوّعها، ومن اضطراب النقل التأريخي لبعض مهمّ من وقائع هذا المقطع، ومن خفاء علل بعض مهمّ آخر، ما يجعل المتتبّع المتأمّل في حركة هذه الأحداث في حيرة غامرة.

وكثيرون ممّن كتبوا في أحداث هذا المقطع- والأقدمون منهم خاصة- مرّوا به مروراً مرتبكاً كما ارتبكت رواياته التأريخية، فجاء ما نقلوه أقرب إلى السطحية منه إلى التعمق، خالياً من الربط المطلوب بين حلقات أحداثه، فاقداً لما ينبغي أن يكون فيه من التحليل

والتعليل.

والمحققّون الذين بذلوا جهداً كبيراً في تحليل وقائع هذا المقطع وفي الربط بينها، وإنْ جاؤا بتحليلات وتفاسير جديدة وصحيحة غير قليلة- شكر اللّه سعيهم- إلّا أنهم وجدوا أنفسهم مضطّرين إلى إعتماد بعض الإفتراضات التي لاتسندها رواية أو حتى إشارة تاريخية، وما ذلك إلّا لكثرة الثغرات التأريخية في هذا المقطع، التي ألجأت المتتبع المحقّق إلى مثل هذه الإفتراضات التي ربّما كانت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 112

صحيحة وفي محلّها تماماً. «1»

ونحن هنا، لاندّعى أنا سنقدّم التفسير والتحليل الجامع المانع لجريان حركة أحداث هذا المقطع، بل نقول: إننا في هذه السطور سنحاول ردم بعض الثغرات، وسنسلّط الضوء الكافي على قضايا مهمّة لم تنل من قبل من الإهتمام والإيضاح ما يكفي لإبراز دورها الكبير في ما وصلت إليه أحداث الكوفة من نتائج مؤسفة، ويُظهر أهميتها الكبرى في تفسير جريان تلك الأحداث.

وفي البدء يكون من اللازم أن نقدّم الإجابة عن هذا السؤال:

المبادرة التي كان ينبغي أن تتحقّق! ..... ص : 112

في حسابات التحرّك نحو الأهداف المنشودة هناك مبادرات ضرورية ينبغي القيام بها والسبق إليها لضمان نجاح الحركة السياسية الإجتماعية التغييرية في الوصول الى أهدافها، بل ولضمان صدق المنتمين إلى هذه الحركة فيما بايعوا قائدهم وعاهدوه عليه، بل ولاختبار قدرتهم بالفعل على تنفيذ الأوامر الملقاة من قبل القيادة إليهم، وصبرهم الميداني على تحمّل تبعات تلك الأوامر المفترضة الإطاعة.

وإدراك ضرورة القيام بمثل هذه المبادرات ليس من مختصات العقول المتفوّقة في الوعي والذكاء، بل إنّ إدراك هذه الضرورة في متناول العقل العادي، هذا عمرو بن لوذان يخاطب الإمام الحسين عليه السلام قائلًا: «وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لوكانوا كفوك مؤنة القتال، ووطأوا لك الأشياء، فقدمت عليهم، كان ذلك رأياً،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 113

فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل!».

«1»

وهذا عمر بن عبدالرحمن المخزومي يقول للإمام عليه السلام أيضاً: «إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراوه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره! ومن أنت أحبّ إليه ممّن يقاتلك معه!». «2»

ويقول له ابن عبّاس (رض): «فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ اقدم عليهم». «3»

والإمام عليه السلام لايُخطّي ء هذا الإدراك، بل يقرّر عليه السلام أنّ هذا الإدراك من النصح والعقل والرأي! فهو يقول لابن عبّاس: «يا ابن عمّ، إني واللّه لأعلم أنك ناصح مشفق!»، «4»

ويقول للمخزومي: «فقد واللّه علمتُ أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل!»، «5»

ويقول لعمرو بن لوذان: «يا عبداللّه، ليس يخفى عليَّ الرأي!». «6»

إذن فقد كان ينبغي للقوّة المعارضة للحكم الأموي في الكوفة أنْ تُعدَّ العدّة وتستبق الأيام للقيام، وتبادر إلى السيطرة على الأوضاع في الكوفة قبل مجي ء الإمام عليه السلام إليها، «وذلك مثلًا باعتقال الوالي الأمويّ وجميع معاونيه وأركان إدارته، ومن عُرف من عيونه وجواسيسه، ومنع الخروج من الكوفة إلّا بإذن خاص، وذلك

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 114

لحجب أخبار مايجري فيها عن مسامع السلطة الأموية أطول مدّة ممكنة من أجل تأخير تحرّكها لمواجهة الإنتفاضة في الكوفة قبل وصول الإمام عليه السلام، حتى يصل الإمام عليه السلام فيمسك بزمام الأمور ويقود الثورة إلى حيث كامل الأهداف.

وليس في رسائل الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة ولافي وصاياه إلى مسلم بن عقيل عليه السلام مايمنع أهل الكوفة من القيام بهذه المبادرة التي أقرّ الإمام عليه السلام أنها من العقل والرأي! بل لقد دعاهم عليه السلام إلى القيام مع مسلم عليه السلام، حيث قال عليه السلام في رسالته الأولى إليهم- على رواية ابن أعثم-:

«فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولاتخذلوه!».

وفي رسالته الثانية التي بعثها إليهم بيد قيس بن مسهّر الصيداوي (رض)- والتي لم تصل إليهم لأنّ ابن زياد كان قد قبض على الرسول- دعاهم الإمام عليه السلام إلى السرعة والعزم على الأمر والجدّ فيه، حيث قال عليه السلام فيها: «فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا!»، إذ الكمش في الأمر هو العزم عليه والسرعة فيه!». «1»

لكنّ هذه المبادرة لم تصدر عن الشيعة في الكوفة، مع أنّ فيهم من ذوي الخبرات العريقة في المجالات الإجتماعية والسياسية والعسكرية عدداً يُعتدُّ به، ومن البعيد جداً أنّ التفكير بمثل هذه المبادرة لم يكن قد طرأ على أذهانهم أكثر من مرّة! فلماذا لم يبادروا!؟

لعلّ أهمّ الأسباب التي أدّت إلى عدم مبادرة الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجي ء الإمام عليه السلام إليها هي:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 115

1)- لم يكن للشيعة في الكوفة- وهم من قبائل شتّى- خصوصاً في فترة ما بعد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عميدٌ من شيعة أهل الكوفة، يرجعون إليه في أمورهم وملمّاتهم، ويصدرون فيها عن رأيه وقراره وأمره.

نعم، هناك وجهاء وأشراف متعددّون من الشيعة في الكوفة، لكلّ منهم تاثيره في قبيلته، لكنهم لاتصدر مواقفهم إزاء الأحداث الكبرى المستجدّة عن تنسيق بينهم وتنظيم يوحّد بين تلك المواقف، وينفي عنها التشتّت والتفاوت.

ولقد ترسّخت هذه الحالة في شيعة الكوفة خاصة نتيجة السياسات التي مارسها معاوية- بتركيز خاص على الكوفة خلال عشرين من السنوات العجاف الحالكة- في خلق الفرقة والتناحر بين القبائل، والإرهاب والقمع، والمراقبة الشديدة التي ترصد الأنفاس، والإضطهاد المرير والقتل الذي تعرّض له كثير من الشيعة ومن زعمائهم خاصة، الأمر الذي زرع بين الناس على مدى تلك السنين العشرين

العجاف الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة السلطان، وضعف الثقة وقلّة الإطمئنان فيما بينهم، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار.

ويكفي دليلًا على كلّ ما أشرنا إليه من التعددّية والتشتّت نفس المنحى الذي تمّت فيه مكاتبة أهل الكوفة الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، فلولا التعددية في مراكز الوجاهة والزعامة لما تعدّدت الرسائل والرسل منهم إلى الإمام عليه السلام.

فلو كان لهم زعيم واحد يصدرون عن رأيه وأمره لكفى الإمام عليه السلام منهم رسالة واحدة تأتي من زعيمهم، لا إثنا عشر ألف رسالة! ولما احتاج الإمام عليه السلام إلى أن يسأل آخر الرسل: «خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب به إليَّ معكما؟». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 116

كما يكفي دليلًا على ضعف الثقة والإطمئنان، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار، قول الشهيد الفذّ عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض) بين يدي مسلم بن عقيل عليه السلام: «أمّا بعدُ، فإنّي لا أُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم! واللّهِ أحدّثك عمّا أنا موطنٌّ نفسي عليه، واللّه لأجيبنّكم إذا دعوتم ولأقاتلنّ معكم عدوّكم ولأضربن بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أريد بذلك إلّا ماعند اللّه». «1»

2)- هناك ظاهرة عمّت القبائل العربية التي استوطنت الكوفة، وهي ظاهرة إنقسام الولاء في أفرادها، ففي كلّ قبيلة إذا وجدتَ من يعارض الحكم الأمويّ أو يوالي أهل البيت عليهم السلام، فإنّك تجد أيضاً قبالهم من يوالي الحكم الأمويّ ويخدم في أجهزته، ولعلّ الموالين للحكم الأمويّ في بعض هذه القبائل أكثر من المعارضين له عامة والموالين لأهل البيت عليهم السلام خاصة.

وهذه المشكلة ربّما كانت هي المانع أمام زعماء من الشيعة كبار في قبائلهم الكبيرة من أن يُثوّروا قبائلهم ضد الحكم الأموي علانية، وينهضوا

بهم للقيام بمثل تلك المبادرة المطلوبة، ذلك لأنّ أفراداً كثيرين هناك في نفس القبيلة ممّن يخدمون في أجهزة الأمويين ويوالونهم سيسارعون إلى إخبار السلطة الأموية بما عزم عليه زعيم قبيلتهم الشيعيّ، فيُقضى على ذلك العمل قبل البدء فيه، كما يُقضى على الزعيم الشيعيّ وعلى أنصاره أيضاً، ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلًا، كما تجد زعيماً شيعياً رائداً مثل هاني ء بن عروة (رض) تجد إزاءه أيضاً زعيماً آخر- أو أكثر- مثل عمرو بن الحجاج الزبيدي، «2» يتفانى في خدمة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 117

الأمويين إلى درجة أنْ يؤثر مصلحة الأمويين حتى على مصلحة مذحج نفسها، حينما قام بدوره المريب «1» في ركوب موجة انتفاضة مذحج وقيامها لإطلاق سراح هاني (رض) فردّهم عن اقتحام القصر وصرفهم وفرّق جموعهم بمكيدة منه ومن شريح وابن زياد.

وهذه الظاهرة تجدها في بني تميم، وبني أسد، وكندة، وهمدان، والأزد، وغيرها من قبائل أهل الكوفة.

إذن فقد كان من العسير عملياً على أيّ زعيم كوفي شيعيّ أن يقود جموع قبيلته في عملٍ ما ضدّ الحكم الأمويّ، وذلك لوجود زعماء آخرين من نفس القبيلة موالين للحكم الأمويّ، باستطاعتهم التخريب من داخل القبيلة نفسها على مساعي الزعيم الشيعي، أو من خارجها بالإستعانة بالسلطة الأموية نفسها.

3)- يُضاف إلى السببين الأوّل والثاني- وهما أهمّ الأسباب- سبب ثالث وهو تفشّي مرض الشلل النفسي، وازدواج الشخصية، والوهن المتمثل في حبّ الدنيا والسلامة وكراهية الموت، في جُلّ أهل الكوفة آنذاك خاصة.

ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما عبّر به محمد بن بشر الهمداني- الذي روى تفاصيل اجتماع الشيعة الأوّل مع مسلم بن عقيل عليه السلام في دار المختار (ره)، وروى مقالة عابس الشاكري ومقالة حبيب بن مظاهر ومقالة سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض)،

في استعدادهم للتضحية والموت في نصرة الإمام عليه السلام- حينما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 118

سأله الحجّاج بن عليّ قائلًا: فهل كان منك أنت قول؟

أجاب قائلًا: إنّي كُنت لأحبّ أن يُعزّ اللّه أصحابي بالظفر، وما كنت لأِحبَّ أنّ أنْ أُقتل، وكرهتُ أن أكذب! «1»

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أيضاً: قول عبيداللّه بن الحرّ الجعفي مخاطباً الإمام عليه السلام: «واللّه إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً!؟ فأنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت!». «2»

وكان زعماء الشيعة الكوفيون قد أدركوا خطورة انتشار هذا المرض، وتفطّنوا لأثره السي ء على كلّ نهضة وقيام، فكانوا يحسبون لخذلان الناس في أيّ مبادرة جهادية الف حساب، نلاحظ ذلك مثلًا في قول سليمان بن صرد الخزاعي في اجتماع الشيعة الأوّل: «فإنْ كنتم تعلمون أنّكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهل والفشل فلاتغرّوا الرجل من نفسه!». «3»

وبعدُ، فلعلّ هذه الأسباب المهمة الثلاثة التي ذكرناها تشكّل إجابة وافية عن علّة عدم مبادرة زعماء الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجي ء الإمام عليه السلام.». «4»

حدود مهمّة مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 118

من هنا كانت مهمّة مسلم عليه السلام هي تعبئة وتنظيم وإعداد القوّة الموالية لأهل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 119

البيت عليهم السلام والمعارضة للحكم الأمويّ في الكوفة، والوصول بها إلى المستوى الكافي للقيام بكلّ ما تقتضيه متطلبّات ومسؤوليات النهضة مع الإمام الحسين عليه السلام.

ولاشكّ أنّ الوصول بهذه الحركة والقوّة إلى ذلك المستوى المنشود يحتاج إلى وقت كافٍ تُسدُّ فيه كلّ الثغرات وتستكمل فيه كل النواقص الروحية والعملية، لأنّ الغاية لم تكن إسقاط الحكومة المحليّة في الكوفة فحسب، بل الغاية في الأصل هو

إعداد الكوفة روحياً وعملياً- من جديد- كمركز لمواجهة ميدانية فاصلة مع جيش الشام.

وكان الأصل في مهمّة مسلم بن عقيل عليه السلام هو مواصلة تعبئة وتنظيم وإعداد الحركة الثورية حتى يأتي الإمام الحسين عليه السلام الى الكوفة، فيواصل من موقعه الذي لايرقى إليه موقع في القلوب قيادة النهضة على طريق تحقيق كامل أهدافها، والمتأمّل في ما كتبه مسلم بن عقيل عليه السلام من الكوفة إلى الإمام عليه السلام، وفي أسلوبه وطريقته في التعامل مع الأحداث سواء في أيام النعمان أو ابن زياد يلحظ هذا الأصل واضحاً جليّاً لاريب فيه.

لقد كان مسلم عليه السلام يتحاشى المواجهة الميدانية الفاصلة مع الحكومة الأموية المحليّة في الكوفة ما كان ذلك باختياره، حتى يستكمل الإعداد والتحضير من كلّ جهة لمهمّته التي أرسله من أجلها الإمام عليه السلام الى الكوفة، وكانت الحكومة المحليّة في الكوفة من جهتها أيضاً تتحاشى المواجهة الميدانية الفاصلة مع التكتل الثوري لأنها لم تكن تملك القدرة على ذلك إلّا إذا جاءتها النجدة من الشام.

والمتأمّل في أسلوب وطريقة تعامل عبيداللّه بن زياد مع حركة الأحداث في الكوفة يلحظ بوضوح أنّ هذا الطاغية- على ضوء معرفته ومعرفة أبيه العريقة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 120

بالوضع السياسي والإجتماعي والنفسي في الكوفة، وبرجالها وقبائلها- كان يسعى بدهائه وخبثه وغدره إلى أن يخرج من أزمتها برغم صعوبتها منتصراً دون الحاجة إلى الإستنجاد بجيش الشام، طمعاً في تقوية موقعه الإداري ومركزه القيادي عند يزيد بن معاوية.

وهكذا كان، فقد لجأ إلى حيلة اختراق الحركة من داخلها بواسطة أحد جواسيسه المحترفين المهرة، ثمَّ تواطأ مع عمرو بن الحجاج الزبيدي وغيره من الوجهاء الخونة «1» لاعتقال هاني (رض) ثمّ لامتطاء موجة غضب مذحج الزاحفة نحو القصر، ثمّ لصرفها عنه وتفريق

جموعها، ثمّ للوصول بعد ذلك الى المطلوب الأساس وهو اعتقال مسلم عليه السلام.

الإضطرار .. والقرار الإستثنائي ..... ص : 120

إذا كان اعتقال هاني (رض) في حسابات ابن زياد يعتبر الخطوة الناجحة الثانية- بعد نجاح خطوته الأولى في اختراق الحركة الثورية من داخلها- على طريق سعيه لإنهاء الأزمة الكوفية يومذاك، فإنّ اعتقال هاني (رض) في حسابات مسلم بن عقيل عليه السلام كان قد مثّل منعطفاً حرجاً خطيراً اضطرّه إلى الخروج عن خطّ السير المرسوم في الأصل، وألجأه إلى قرار استثنائي من أجل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 121

معالجة الوضع الطاري ء الجديد الذي فرضه ابن زياد على الحركة باعتقاله هانياً (رض)، إذ لم يعد أمام مسلم عليه السلام عندها إلّا أحد اختيارين:

الأوّل: هو البقاء على أصل خطّ السير المرسوم في مواصلة التعبئة والإعداد والتحضير، لكنّ هذه المواصلة لم تعد ممكنة بعد اعتقال هاني (رض) وذلك: لأنّ هاني بن عروة (رض) هو أقوى وأمنع شخصية كوفية من الناحية القبلية- فضلًا عن وجاهته الإجتماعية والدينية وموقعه البارز في حركة الثورة- فإذا تمكّن ابن زياد من اعتقاله ولم يواجه بانتفاضة كبرى جادة مستميتة من قبيلته خاصة ومن حركة الثورة عامة، فإنّ الكوفة بعدها لن تنتفض لإنقاذ أيّ رجل آخر من قبضة ابن زياد، وعندها فما هي فائدة مواصلة التعبئة والإعداد والتحضير!؟ ثمّ إنّ ابن زياد بعدها سيعتقل من يشاء من أشراف ووجهاء الكوفة بلا أدنى محذور، ومعنى هذا أنّ مسلماً عليه السلام لم يعد آمناً في الكوفة، ولاشك أنّه الرجل الثاني الذي سيُعتقل مباشرة بعد هاني (رض) الذي كان أقوى وأمنع حصن يمكن أن يحميه.

الثاني: هو التخلّي عن مواصلة الإعداد والتحضير، والتحرك قبل استكمال شرائط التحرك- تحت قهر الضرورة والإضطرار- لمواجهة حاسمة مع السلطة الأموية المحلّية في الكوفة، وهو الإختيار الوحيد

الذي لابُدّ من النهوض للقيام به فوراً.

وهكذا كان ... ..... ص : 121

يحدّثنا عبداللّه بن حازم البكري «1» فيقول: «أنا واللّه رسول ابن عقيل إلى القصر في أثر هاني ء لأنظر ما صار إليه أمره، فدخلت، فأخبرته الخبر، فأمرني أن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 122

أُنادي في أصحابي وقد ملأ الدور منهم حواليه، فقال: نادِ: يا منصور أَمِتْ! «1» فخرجت فناديتُ، وتبادر أهل الكوفة فاجتمعوا إليه، فعقد لعبدالرحمن بن عزيز الكندي على ربيعة، وقال له: سِرْ أمامي. وقدّمه في الخيل، وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج وأسد، وقال له: إنزل فأنت على الرجّالة. وعقد لأبي ثمامة الصائدي على تميم وهمدان، وعقد للعبّاس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة، ثمّ أقبل نحو القصر.». «2»

وفي رواية الإرشاد عن لسان عبداللّه بن حازم قال: «أنا واللّه رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هاني ء فلمّا ضُرب وحُبس ركبتُ فرسي فكنت أوّل الداخلين الدار على مسلم بن عقيل بالخبر، فإذا نسوة لمراد مجتمعات ينادين: يا عبرتاه! ياثكلاه! فدخلتُ على مسلم فأخبرته الخبر، فأمرني أن أُنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله، فكانوا فيها أربعة آلاف رجل ... فناديت: يا منصور أمت! فتنادى أهل الكوفة فاجتمعوا عليه، فعقد مسلم رحمه اللّه لرؤوس الأرباع على القبائل كندة ومذحج وتميم وأسد ومضر وهمدان، وتداعى الناس واجتمعوا، فما لبثنا إلّا قليلًا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوق، ومازالوا يثوبون حتّى المساء ...». «3»

ويُدهشنا في خبر يرويه الطبري- عن عبّاس الجدلي أحد قيادي جيش مسلم عليه السلام- أنّ عدد أصحاب مسلم عليه السلام كان قد تناقص في تحرّكهم من الدور إلى القصر!! غير أنّ الناس قد تداعوا إلى مسلم عليه السلام من جديد واجتمعوا إليه بعد أن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 123

أقبل في

المراديين وأحاط بالقصر: «.. عن عباس الجدلي قال: خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلثمائة!! وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر، ثُمَّ إنّ الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فواللّه ما لبثنا إلّا قليلًا حتى امتلأ المسجد من الناس والسوق، ومازالوا يتوبثّون حتى المساء ...». «1»

وكان عبيداللّه بن زياد بعد أن ضرب هانياً (رض) وحبسه، وبعد أن نجح في مؤامرته مع شريح القاضي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي في صرف قبيلة مذحج عن القصر وتفريق جموعها، قد بادر الى المسجد- «خشية أن يثب الناس به» «2»- فصعد المنبر، ومعه أشراف الناس وشُرَطُه وحشمه، «فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعدُ أيها الناس، فاعتصموا بطاعة اللّه وطاعة أئمتكم، ولاتختلفوا ولاتفرّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتُقتلوا وتُجفَوا وتُحرموا، إنّ أخاك من صدقك، وقد أعذر من أنذر.». «3»

وتواصل الرواية التأريخية الخبر فتقول:

«ثمّ ذهب لينزل، فما نزل عن المنبر حتّى دخلت النظّارة المسجد من قِبَل التمّارين يشتّدون ويقولون: قد جاء ابن عقيل! قد جاء ابن عقيل!

فدخل عبيد اللّه القصر مسرعاً، وأغلق أبوابه». «4»

وفي رواية ابن أعثم: «فما أتمّ عبيداللّه بن زياد تلك الخطبة حتّى سمع الصيحة، فقال: ما هذا؟ فقيل له: أيها الأمير، الحذر الحذر! هذا مسلم بن عقيل قد أقبل في جميع من بايعه!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 124

فنزل عبيد اللّه عن المنبر مسرعاً، وبادر فدخل القصر وأغلق الأبواب». «1»

وفي رواية أخرى: «فلمّا بلغ عبيداللّه إقباله تحرّز في القصر، وغلّق الأبواب، وأقبل مسلم حتى أحاط بالقصر، فواللّه ما لبثنا إلّا قليلًا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوقة، ومازالوا يتوثّبون حتّى المساء، فضاق بعبيداللّه أمره.». «2»

«وأقبل مسلم بن عقيل رحمه اللّه في وقته ذلك عليه، وبين

يديه ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون، وبين يديه الأعلام وشاكو السلاح، وهم في ذلك يشتمون عبيداللّه بن زياد ويلعنون أباه.». «3»

«وأقام النّاس مع ابن عقيل يكبّرون ويتوثّبون حتى المساء وأمرهم شديد.». «4»

«فضاق بعبيداللّه ذرعه، وكان كبر أمره أن يتمسّك بباب القصر، وليس معه إلّا ثلاثون رجلًا من الشُرط، وعشرون رجلًا من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه.». «5»

ماذا صنع الأشراف الموالون لابن زياد!؟ ..... ص : 124

فلمّا سمع وجهاء الكوفة وأشرافها الموالون لابن زياد- الطامعون في دنياه والخائفون من بطشته!- بما يجري عند القصر وحواليه بادروا الى التسلل والإلتحاق بابن زياد في القصر ليثبتوا لأنفسهم حضوراً عنده، تقول الرواية التأريخية: «وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 125

الروميين». «1»

وفي البدء كانت الحجارة والشتائم! ..... ص : 125

ولم يكن باستطاعة من كان في القصر مع ابن زياد من أشراف الكوفة الموالين له ومن الشُرَطِ والحشم والخدم أن يصنعوا شيئاً إلّا أن يُشرفوا على الناس من أعلى القصر لينظروا إليهم، ولم يكن جواب الجماهير الثائرة إلّا الحجارة والشتائم وسبّ ابن زياد وأبيه «وجعل من بالقصر مع ابن زياد يشرفون عليهم فينظرون إليهم، فيتّقون أن يرموهم بالحجارة وأن يشتموهم، وهم لايفترون على عبيداللّه وعلى أبيه.». «2»

ثمّ كان المَدَرِ والنُشّاب! ..... ص : 125

يقول الدينوري: «وتحصّن عبيداللّه بن زياد في القصر مع من حضر مجلسه في ذلك اليوم من أشراف أهل الكوفة والأعوان والشُّرَط، وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمَدرِ «3» والنُشّاب، ويمنعونهم من الدنوّ من القصر، فلم يزالوا بذلك حتّى أمسوا!». «4»

ثمّ بدأت حملات التخذيل ورايات الأمان الكاذب! ..... ص : 125

تقول رواية الطبري: «ودعا عبيداللّه كثير بن شهاب ابن الحصين الحارثي فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج! فيسير بالكوفة ويخذّل الناس عن ابن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 126

عقيل ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبث بن ربعي التميمي، وحجّار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشاً إليهم لقلّة عدد من معه من الناس.». «1»

إعتقال المجاهدَين عبدالأعلى بن يزيد وعمارة بن صلخب! ..... ص : 126

ويواصل الطبري روايته قائلًا: «وخرج كثير بن شهاب «2» يخذّل النّاس عن ابن عقيل، قال أبومخنف: فحدّثني ابن جناب الكلبي: أنّ كثيراً ألفى رجلًا من كلب يُقال له عبدالأعلى بن يزيد، قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان، «3» فأخذه حتّى أدخله على ابن زياد، فأخبره خبره.

فقال لابن زياد: إنّما أردتك!

قال: وكنت وعدتني ذلك من نفسك!؟ فأمر به فحبُس.

وخرج محمّد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، وجاء عمارة بن صلخب الأزدي، وهو يريد ابن عقيل، عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد، فحبسه.». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 127

مسلم عليه السلام يبعث بقوّة عسكرية تدحر ابن الأشعث! ..... ص : 127

ويبدو أنّ مسلماً عليه السلام علم أنّ مجموعات ابن زياد التي أخذت تخذّل الناس عنه، بقيادة كثير بن شهاب، ومحمّد بن الأشعث، والقعقاع، وشمر، وشبث، وحجّار، أخذت تقطع عليه المدد من المجاهدين المقبلين إليه من ضواحي الكوفة وتعتقلهم، فبعث بقوّة عسكرية من المسجد بقيادة المجاهد عبدالرحمن بن شريح الشبامي ليدحر ابن الأشعث ويردّه الى القصر، تقول رواية الطبري:

«فبعث ابن عقيل إلى محمّد بن الأشعث من المسجد عبدالرحمن بن شريح الشبامي، فمّا رأى محمّد بن الأشعث كثرة من أتاه أخذ يتنحّى- وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمّد بن الأشعث: قد حُلْتُ على ابن عقيل من العرار- فتأخّر عن موقفه فأقبل حتى دخل على ابن زياد من قِبل دار الروميين». «1»

والظاهر أنّ قوات مسلم عليه السلام لم تدحر مجموعة محمد بن الأشعث فحسب بل دحرت كلّ المجاميع التي أخرجها ابن زياد لرفع رايات الأمان ولتخذيل الناس واعتقال من يمكن اعتقاله من الثوّار، والدليل على هذا أنّ قادة هذه المجاميع مع مجاميعهم عادوا الى القصر مرّة أخرى، والأظهر أنهم عادوا منهزمين مقهورين، وعبيداللّه بن زياد

أكثر منهم انكساراً وخوفاً، تقول رواية الطبري: «فلمّا اجتمع عند عبيداللّه كثير بن شهاب، ومحمّد، والقعقاع، فيمن اطاعهم من قومهم، فقال له كثير- وكانوا مناصحين لابن زياد- أصلح اللّه الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شُرطك وأهل بيتك ومواليك، فاخرج بنا إليهم! فأبى عبيداللّه، وعقد لشبث بن ربعي لواءً فأخرجه!». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 128

فكان قتال وقتال! ..... ص : 128

ثُمَّ لايذكر التأريخ ماذا صنع لواء شبث بن ربعي! لكنّ بعض المتون التأريخية تشير إلى وقوع قتال شديد، فرواية ابن أعثم الكوفي تقول: «وركب أصحاب عبيداللّه، واختلط القوم، فقاتلوا قتالًا شديداً، وعبيداللّه بن زياد وجماعة من أهل الكوفة قد أشرفوا على جدار القصر ينظرون إلى محاربة النّاس!». «1»

وأمّا ابن نما (ره) فيروي خبراً خاصاً في محتواه، حيث ذكر أنّ أكثر الأشراف الذين كانوا قد بايعوا مسلماً عليه السلام قد نقضوا البيعة وتخلّوا عنه قبل أن يتوجّه إلى محاربة عبيداللّه بن زياد، ويُستفاد من روايته أنّ القتال الشديد بين الطرفين قد استمرّ إلى الليل!، يقول (ره): «ولمّا بلغ مسلم بن عقيل خبره «2» خرج بجماعة ممّن بايعه إلى حرب عبيداللّه بعد أن رأى أكثر من بايعه من الأشراف نقضوا البيعة، وهم مع عبيداللّه، فتحصّن بدار الإمارة، واقتتلوا قتالًا شديداً إلى أن جاء الليل.». «3»

لماذا لم يقتحم الثوّار القصر!؟ ..... ص : 128

لعلّ هذا التساول قد انقدح في ذهن كلّ من فكّر وتأمّل في قصة حركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيل عليه السلام، وهو سؤالٌ وجيه، يبقى السائل عنده في حيرة واستغراب مالم يُلمَّ بكل المتون التأريخية الواردة في قصة تلكم الأيّام، ويُحيط بشوارد الدلالات الظاهرة والخفيّة فيها، أو يتلقّى الإجابة المقنعة عن ذي علم قد أحاط بها.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 129

ومن مجموع تلكم المتون يمكننا أن نذكّر بمجموعة من الملاحظات التي تتضح وتتحدّد بمعرفتها واستذكارها الإجابة عن هذا التساؤل:

1)- ذكرنا من قبلُ أن قرار المواجهة مع الحكومة المحليّة في الكوفة كان قراراً إستثنائياً فرضته الضرورة التي اضطرّت مسلماً عليه السلام إلى الخروج عن أصل خط السير في إتمام إعداد وتحضير جموع المبايعين روحياً وعملياً لتحمّل أعباء النهضة مع الإمام عليه السلام، والمدّة التي

قضاها مسلم عليه السلام منذ دخوله الكوفة حتى محاصرته القصر وهي حوالي شهرين تعتبر قصيرة إزاء المدّة المطلوبة لإتمام الإعداد والتحضير.

إذن فقد حاصر مسلم عليه السلام القصر بجموع أكثريتها لم تستكمل الإعداد الكافي، فهي من حيث الناحية الروحيّة لم يزل الشلل النفسي والوهن الروحي يحبّب لهم الدنيّا والعافية والسلامة وكراهية الموت- إنهم يتمنّون لو انتصر مسلم أو الإمام عليهما السلام ولكن بلا مؤنة على أنفسهم في ذلك!-، ولم يزل إسم (جيش الشام) يثير فيهم أقصى درجات الرعب والإحساس بالهوان والمذلّة!، ومن الناحية العملية فإنّ ارتباطهم القبلي لم يزل- عند الأكثرية منهم- أقوى من الإرتباط الديني، وهذا أخطر ما يمكن أن يضرَّ بالحركة الدينية الثورية آنذاك، وربّما إلى اليوم في بعض بلدان العالم الإسلامي! هذا فضلًا عن عدم استكمال تحضير العدّة الكافية من أسلحة وأموال، وتدريب ووسائل وأساليب الإرتباط والإمداد وما إلى ذلك!

يرى المتتبع ماقلناه في هذه النقطة واضحاً جليّاً في دلالات بعض المتون التأريخية، فهذا عبّاس بن جعدة الجدلي وهو أحد قادة الألويّة في جيش مسلم عليه السلام يقول: «خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلّا ونحن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 130

ثلثمائة!»، «1» وهذا ابن نما (ره) يروي أنّ مسلماً عليه السلام أحسَّ بالخذلان قبل مهاجمته القصر حيث «رأى أكثر من بايعه من الأشراف نقضوا البيعة وهم مع عبيداللّه!»، «2» وخذ مثلًا على تفضيل الإنتماء القبلي على الرابطة الدينية رواية الطبري أنّ ابن زياد دعا كثير بن شهاب «فأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير في الكوفة ويخذّل الناس عن ابن عقيل ويخوّفهم الحرب ويحذّرهم عقوبة السلطان، وأمر محمّد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت ..»، «3» وفي هذا النصّ بالذات

إشعار كافٍ أيضاً بالحالة المعنوية المتدنيّة عند الناس يومذاك، والتي كان ابن زياد لعنه اللّه يعرفها جيداً فيهم وفي وجهائهم!

2)- كان لتفرّق قبيلة مذحج وإنصرافها عن القصر، وبقاء هاني (رض) رهن الإعتقال وخطر القتل- بعد أن اجتمعت مذحج قاطبة بكلّ فروعها لاستنقاذه أو للثأر له- أثرٌ سي ء كبير فيما بعد على المواجهة التي قام بها مسلم عليه السلام لاستنقاذ هاني (رض)، إذ ألقت هذه النهاية الخائبة في روع النّاس- وهذا ما كان يهدف إليه أيضاً ابن زياد وعمرو بن الحجّاج وأمثالهم- أنّه إذا كانت مذحج قبيلة هاني (رض) نفسه وهي أكبر وأقوى قبيلة في الكوفة لم تستطع إنقاذه، أو رضيت ببقائه معتقلًا عند ابن زياد، فما بال مسلم عليه السلام يصرُّ على إطلاق سراحه!؟ وهل يقوى بمن معه من هذا الخليط المنوّع من قبائل شتّى أن يحقّق مالم تحققه مذحج نفسها!؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 131

لقد كان هذا سبباً من اسباب انبعاث الشك في قلوب ضعاف الإيمان من أهل الكوفة- وما أكثرهم!- حول قدرة مسلم عليه السلام على تحقيق مايريد، ممّا أدّى إلى تراخي الهمّة والعزم فيهم وتفرّقهم عنه.

وإذا تذكّرنا أنّ حادثة اجتماع مذحج وإحاطتها بالقصر ثمّ تفرّقها وإنصرافها عنه قد تزامنت مع قيام مسلم عليه السلام وإقباله بمن معه لمحاصرة القصر- مع تفاوت زمني قليل جدّاً- علمنا أنه لم يكن هناك متسع من الوقت أمام قيادة الثورة لمعالجة هذا الأثر النفسي السي ء الذي سببته النهاية الخائبة لاجتماع مذحج ثمَّ انصرافها.

ولعلّ هذا الأثر النفسيّ السّي ء هو الذي يفسّر لنا تناقص عدد جيش مسلم عليه السلام في بداية الأمر كما حدّثنا بذلك القائد عبّاس الجدلي: «خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف، فما بلغنا القصر إلّا ونحن ثلثمائة!».

3)- الظاهر

مما توحيه بعض المتون التأرخية أنّ مسلماً عليه السلام حاصر القصر بعدد من مبايعيه (أربعة آلاف) يشكّل أقل من ثلث العدد الشهير لمجموع مبايعيه (ثمانية عشر ألفاً)، ويبدو أنّ بقيّة هذا المجموع- الذين لم يشتركوا في بدء محاصرة القصر- كانوا مبثوثين في داخل مدينة الكوفة وفي أطرافها وضواحيها، والظاهر أنّ مسلماً عليه السلام قد أرسل إليهم من يخبرهم بقراره الإستثنائي ويستنفرهم للإلتحاق به، ويبدو أنّ من كان منهم في داخل الكوفة قد استطاع الإلتحاق بمسلم عليه السلام قبل المساء، بدليل قول القائد عبّاس الجدلي أيضاً: «.. ثمّ إنّ الناس تداعوا إلينا واجتمعوا، فواللّه ما لبثنا إلّا قليلًا حتّى امتلأ المسجد من الناس والسوق ومازالوا يثوبون حتّى المساء ..»، «1» كما أرسل مسلم عليه السلام إلى قواته الموجودة في أطراف الكوفة، لكنها في الظاهر لم تستطع الوصول الى داخل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 132

الكوفة إلّا بعد تفرّق النّاس وانتهاء الحصار وانقلاب الوضع، مثل اللواء الذي جاء به المختار، واللواء الذي جاء به عبداللّه بن الحارث بن نوفل، حيث وصلا إلى داخل الكوفة بعد فوات الأمر، فاضطّر المختار إلى أن يدّعي أنه جاء لحماية عمرو بن حُريث! بعد أن وضح لهما قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، ففي رواية تأريخية:

«وكان المختار عند خروج مسلم في قرية له تُدعى (خطوانيّة) فجاء بمواليه يحمل راية خضراء، ويحمل عبداللّه بن الحارث راية حمراء، وركز المختار رايته على باب عمرو بن حريث وقال: أردتُ أن أمنع عمراً! ووضح لهما قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، وأشير عليهما بالدخول تحت راية الأمان عند عمرو بن حُريث ففعلا، وشهد لهما ابن حريث باجتنابهما ابن عقيل، فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه

بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين عليه السلام.». «1»

من هنا، يُفهم أنّ مسلماً عليه السلام بقي مدّة طويلة من ذلك النهار يستجمع قوّاته وينتظر وصول مالم يصل منها للقيام بعمل عسكري حاسم يؤدي إلى فتح القصر أمام الثّوار والسيطرة عليه وعلى من فيه.

4)- لايشكُ المتأمّل العارف بأخلاقية أهل البيت عليهم السلام السامية وأخلاقية من تربّى في أحضانهم وكنفهم، والمُدرك للضرورات السياسية والإجتماعيّة، أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام كان يحرص كلّ الحرص على سلامة هاني بن عروة (رض)

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 133

وعلى انقاذه وإطلاق سراحه محفوظ العزّة والجاه والكرامة، وبرغم أنف ابن زياد ومن شايعه من وجهاء وأشراف الكوفة.

وذلك: لإيمان هاني (رض) ومظلوميّته وأهميّته، فنصرته واستنقاذه وإعزازه أمرٌ واجب مع القدرة على ذلك، وتتجلّى أهميّة هاني (رض)- فضلًا عن كونه قياديّاً بارزاً جداً في التكتل الثوري- في كونه القطب الذي يمكن أن تجتمع عند كلمته قبيلة مذحج قاطبة، ففي إطلاق سراحه عزيزاً منتصراً على يد قوّات الثورة- برغم ابن زياد- تعزيز وتقوية لموقعه الرفيع في أهل الكوفة عامة، وفي قبيلة مذحج خاصة التي قد تستشعر فضل الثورة عليها بإطلاق سراح زعيمها معزّزاً مُكرّماً، الأمر الذي قد يدفع جميع مذحج بعد ذلك إلى إطاعة هاني (رض) في مناصرة الثورة والإنضمام إليها إلى آخر الأمر، ولايخفى ما في جميع ذلك من إذلالٍ للسلطة الأمويّة وكسر لشوكتها وإضعافها، هذا على فرض أنّ المواجهة بين الثوّار والسلطة كانت ستنتهي عند إطلاق سراح هاني (رض).

من هنا، يمكن للمتأمّل المتتبع أن يجزم بأنّ الثوّار كانوا قد عزموا على اقتحام القصر، ووضعوا لذلك الخطّة التي تضمن سلامة هاني (رض) أيضاً.

5)- هناك إشارات تأريخية تفيد أنّ عبيداللّه كانت قد تزايدت قواته

القتالية طيلة نهار ذلك اليوم- يوم حصار القصر- حتّى صار بإمكانها أن تؤخّر عملية اقتحام الثوار للقصر حتّى المساء.

نعم، لعلّ من الصحيح ما ورد أنه لم يكن معه في البدء لمّا أقبلت قوات مسلم عليه السلام نحو القصر غير ثلاثين رجلًا من الشُرَط وعشرين رجلًا من اشراف الناس وأهل بيته ومواليه، «1» لكنّ الأشراف والوجهاء الذين كان ميلهم مع ابن زياد أو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 134

كانوا يخشون أن تصيبهم دائرته تسللّوا إلى داخل القصر مع مواليهم ومن أطاعهم من قبائلهم بخفاء وتدريج: «وأقبل أشراف النّاس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين ..»، «1» حتى بلغ عددهم على مافي رواية الدينوري: «وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر والنشّاب، ويمنعونهم من الدنّو من القصر، فلم يزالوا بذلك حتّى أمسوا»، «2» ثمّ ازداد عددهم حتّى عبّر عنه كثير بن شهاب ب (الكثير) حين قال لابن زياد: «أصلح اللّه الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف النّاس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك فاخرج بنا إليهم!». «3»

إذن فإنّ قوّة ابن زياد الحربية تزايدت حتّى صار بمقدورها مقاومة الثوّار ومنعهم من الدنوّ من القصر وتأخير اقتحامه حتّى حلول المساء.

هذا فضلًا عن أنّ «من المعلوم أنّ إخضاع القصر بمن فيه لايتمّ خلال ساعة من الحصار، كما أنّ وقت النهار يكاد ينتهي، والهجوم على القصر الضخم البناء الذي أوصد ابن زياد أبوابه الكبيرة بشكل محكم لايسفر عن نتيجة نافعة، إنّه كالهجوم على الصخر- كان القصر مشيّداً بمتانة بالغة، تحكي ذلك أنقاضه الموجودة لحدّ الآن، رغم مرور ألف وثلاثمائة وخمسين عاماً على تشييده، ويكفي أن نتصوّر كون جدار القصر من القوة والسعة بحيث تتمكن الشاحنات من السير فوقه-

فلابُدَّ إذن والحالة هذه من المحاصرة المستمرة التي قد تطول أيّاماً

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 135

حتّى يستسلم من فيه مثلًا، أو يسلّموا هاني ء على أقلّ تقدير.». «1»

6)- لايتردد المتأمّل في المتون التاريخية التي تتحدّث عن نشوب القتال بين الطرفين في القطع بأنّ الثوّار بقيادة مسلم عليه السلام كانوا قد نفّذوا خطّتهم لاقتحام القصر، وأنّهم قاتلوا قتالًا شديداً لتحقيق النصر، كما أنّ قوّات ابن زياد قد دافعت عن القصر دفاعاً مستميتاً حتّى المساء، ومن هذه المتون التي تشير إلى ذلك قول ابن أعثم الكوفي: «وركب أصحاب عبيداللّه، واختلط القوم، فقاتلوا قتالًا شديداً ..»، «2» وقول ابن طاووس (ره): «وأقتتل أصحابه وأصحاب مسلم»، «3» وقول ابن نما (ره): «واقتتلوا قتالًا شديداً إلى أن جاء الليل.». «4»

وأقبل المساء يحمل النهاية الموسفة! ..... ص : 135

يقول الطبري: «.. وأقام النّاس مع ابن عقيل يُكبّرون ويثوبون حتّى المساء، وأمرهم شديد، فبعث عبيداللّه إلى الأشراف فجمعهم إليه ثمّ قال: أشرفوا على النّاس، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوِّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، واعلموهم فصول الجنود من الشأم إليهم»، «5» وفي رواية الدينوري:

«لِيُشرفْ كلُّ رجل منكم في ناحية من السور فخوِّفوا القوم! فأشرف كثير بن شهاب، ومحمّد بن الأشعث، والقعقاع بن شور، وشبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن، فتنادوا: يا أهل الكوفة! اتقوا اللّه ولاتستعجلوا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 136

الفتنة! ولاتشقّوا عصا هذه الأمّة! ولاتوردوا على أنفسكم خيول الشام! فقد ذقتموهم، وجرّبتم شوكتهم!.

فلمّا سمع أصحاب مسلم مقالتهم فتروا بعض الفتور!!». «1»

ويواصل الطبري رواية النهاية المؤسفة عن لسان عبداللّه بن حازم: «قال:

أشرف علينا الأشراف، فتكلّم كثير بن شهاب أوّل الناس حتّى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيّها النّاس، إلحقوا بأهاليكم ولاتعجلوا الشرّ، ولاتعرضوا أنفسكم للقتل، فإنّ هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد

قد أقبلت! وقد أعطى اللّه الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيّتكم، أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البري ء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتّى لايبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلّا أذاقها وبال ما جرّت أيديها!

وتكلّم الأشراف بنحوٍ من كلام هذا!

فلمّا سمع مقالتهم النّاس أخذوا يتفرّقون، وأخذوا ينصرفون!». «2»

ثمّ كان الإنهيار من الداخل! ..... ص : 136

يقول الدينوري: «وكان الرجل من أهل الكوفة يأتي إبنه وأخاه وابن عمّه فيقول: انصرف فإنّ الناس يكفونك! وتجي ء المرأة الى ابنها وزوجها وأخيها فتتعلّق به حتّى يرجع!». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 137

ويروي الطبري: «أنّ المرأة كانت تأتي إبنها وأخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك! ويجي ء الرجل إلى إبنه أو أخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر!؟ إنصرف! فيذهب به، فما زالوا يتفرقون ويتصدّعون ..». «1»

وقال ابن أعثم: «فلمّا سمع النّاس ذلك تفرّقوا وتحادوا عن مسلم بن عقيل رحمه اللّه، ويقول بعضهم لبعض: ما نصنع بتعجيل الفتنة، وغداً تأتينا جموع أهل الشام!؟، ينبغي لنا أن نقعد في منازلنا، وندع هؤلاء القوم حتّى يُصلح اللّه ذات بينهم ... ثمّ جعل القوم يتسلّلون والنهار يمضي ..». «2»

علّة الإنهيار المذهل والتداعي السريع! ..... ص : 137

هذا الإنهيار والتداعي السريع الذي هدم كيان التكتل الكبير الذي كان قد التفّ حول مسلم بن عقيل عليه السلام كاشف تماماً عن أنّ جماهير هذا التكتل لم تستكمل الإعداد الروحي لمثل هذه المواجهة ولما بعدها من مسؤوليات وتبعات، الإعداد الروحي الذي يستنقذها من مرض الوهن: وهو حبّ الدنيا وكراهية الموت! وحبّ السلامة والعافية! والرضا بالذلّة، والشلل النفسي الذي يتجلّى في السكوت عن الباطل! بل وفي إطاعة الباطل مع المعرفة بأنه باطل ومقارعة الحقّ مع المعرفة بأنه الحقّ!

هذان المرضان اللذان تسرّبا إلى شخصية الإنسان المسلم بعد السقيفة واشتدّا في حياة الأمّة المسلمة بعد كلّ منعطف إنحرافي تلا السقيفة، واشتدّ هذان المرضان بدرجة كبيرة في الشخصية الكوفية خاصة واستحكما فيها في فترة ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 138

بعد صفّين، وخصوصاً في الأيام التي صار فيها معاوية بلامنازع ينازعه، «1» حتّى صار لكلمة (خيل الشام) أو (جند الشام) أو (جيش الشام) يومذاك أثر رهيب في

روع جُلِّ أهل الكوفة خاصة، لما ذاقوه من ويلات ومرارات على يد ذلك الجيش، ولما عانوه في عهد معاوية من سياسات تعمّدت قهرهم خاصة وإذلالهم في جميع جوانب حياتهم، وكانت المواجهة مع (جيش الشام) في أذهان وقلوب جلّ الكوفيين تعني يومذاك المواجهة مع عدوّ لايرقب فيهم إلّا ولاذمّة، ولايتورّع عن انتهاك أعراضهم وحرماتهم وقتل العزّل والأبرياء منهم، وقطع أرزاقهم ومنع العطاء عنهم.

وهذا لايعني أنّ الكوفة قد عُدمت الأخيار الأبرار من أهاليها، بل إنّ في الكوفة، من رجالات المبدأ والعقيدة والجهاد جماعة مثّلوا المستوى الرفيع في الشخصية الإسلامية التي جسّدت النهج القرآنيّ في سيرتها وسلوكها.

لكنّ هؤلاء كانوا القلّة العزيزة النادرة في مجموع أهل الكوفة، ويكفي دليلًا على ذلك قياس مجموع من نصر الإمام الحسين عليه السلام منهم إلى مجموع من نكل عنه ونقض بيعته وأطاع أعداءه في قتاله وقتله!

فلو كان التكتل الكبير الذي بايع مسلماً عليه السلام قد نال حظّاً وافراً من الإعداد التربوي والإصلاح الروحي لما تفرّق هذا التفرّق السريع المذهل عن مسلم عليه السلام، ولكان فيه بقيّة وافية كافية لإنجاح خطّة مسلم عليه السلام وقهر ابن زياد، من الرجال القرآنيين الذين لم يُضعف عزائمهم الوهن، ولم يعتورهم الشلل النفسي، الذين أحبّوا الموت والقتل في اللّه من أجل لقاء اللّه، وكرهوا الدنيا بلا عزّة وما أثّاقلوا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 139

إلى الأرض، فكان هيهات منهم الذلّة: «الذين قال لهم النّاس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا اللّه ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من اللّه وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان اللّه واللّه ذو فضل عظيم.». «1»

وأطبق الليل مرّة أخرى على الكوفة .. ومسلم عليه السلام وحده! ..... ص : 139
اشارة

يقول ابن أعثم الكوفي: «فما غابت الشمس حتى بقي مسلم بن عقيل في عشرة أفراس من أصحابه، لا

أقلّ ولا أكثر! واختلط الظلام، فدخل مسلم بن عقيل المسجد الأعظم ليصيلّي المغرب، وتفرّق عنه العشرة!

فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه، ومضى في أزقّة الكوفة، وقد أُثخن بالجراحات، حتى صار إلى دار امرأة يُقال لها طوعة ..». «2»

وقال المفيد (ره): «.. أمسى ابن عقيل وصلّى المغرب ومامعه إلّا ثلاثون نفساً في المسجد، فلمّا رأى أنه قد أمسى ومامعه إلّا أولئك النفر خرج متوجّهاً نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب إلّا معه منهم عشرة، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدلّه!، فالتفت فإذا هو لايحسُّ أحداً يدلّه على الطريق! ولايدلّه على منزله! ولايواسيه بنفسه إنْ عرض له عدوٌّ! فمضى على وجهه متلدداً في أزقّة الكوفة لايدري أين يذهب! حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمشى حتى انتهى إلى باب امرأة يقال لها طوعة ..». «3»

وقال الدينوري: «فصلّى مسلم العشاء في المسجد، ومامعه إلّا زهاء ثلاثين رجلًا، فلمّا رأى ذلك مضى منصرفاً ماشياً، ومشوا معه، فأخذ نحو كندة، فلمّا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 140

مضى قليلًا التفت فلم يرَ منهم أحداً، ولم يُصب إنساناً يدلُّه على الطريق، فمضى هائماً على وجهه في ظلمة الليل حتى دخل على كندة، فإذا امرأة قائمة على باب دارها تنتظر ابنها، وكانت ممّن خفَّ مع مسلم! ..». «1»

إشارة وتأمّل ..... ص : 140

هذه أهمّ المتون التأريخية التي روت لنا كيف أمسى مسلم بن عقيل ومامعه إلّا قليل ممّن كان معه- عشرة فرسان على رواية الفتوح، وثلاثون رجلًا ثمّ قلّوا إلى عشرة على رواية المفيد والطبري- ثمّ كيف مضى وحده حتّى وقف على باب المرأة الصالحة طوعة.

وقد أشارت رواية الفتوح إلى أنّ مسلماً عليه السلام كان قد أُثخن بالجراحات، الأمر الذي يدلُّ على أنه عليه السلام

خاض المعارك التي دارت حول القصر بنفسه، ولم يكن قائداً موجِّهاً مرشداً فحسب، وهذا فضلًا عن كونه دليلًا على شجاعته عليه السلام، فهو دليل أيضاً على نشوب القتال حول القصر، وعلى أنّ الثوّار كانوا قد حاولوا اقتحامه بالفعل!

لكنَّ الذي يُثير التأمّل في هذه المتون هو طريقتها في عرض كيفية تفرّق هؤلاء الرجال القلّة الذين كانوا آخر الناس معه! ففي نصّ الفتوح: «وتفرّق عنه العشرة، فلمّا رأى ذلك استوى على فرسه ومضى ..»، وفي نصّ المفيد والطبري:

«فما بلغ الأبواب إلّا معه منهم عشرة، ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدلّه، فالتفت فإذا هو لايُحسّ أحداً ..».

هذه الطريقة في عرض الحدث تُلقي في روع المطالع أنّ هؤلاء ليس بينهم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 141

وبين جموع الناس الذين انفضّوا بسرعة عن مسلم عليه السلام إلّا فرق واحد وهو الفارق الزمني في الإنفضاض عنه ليس إلّا! بل تُشعر هذه الطريقة بأنّ هؤلاء القلّة أسوأ بكثير من أولئك الذين انفضّوا عنه بسرعة، وذلك لأنّ هؤلاء تفرّقوا في الختام عنه وهو أحوج ما يكون إليهم، كما تفرّقوا عنه خفية في غفلة منه! هذا ما يُشعر به التعبير «فالتفت فإذا هو لايحسُّ أحداً ...».

وهذا مالايقبل به اللبيب المتدبّر، كما أنه لايوافق طبيعة الأشياء وواقعها، إذ لنا أن نتساءل: ما الذي أبقى هؤلاء إلى الأخير مع مسلم عليه السلام!؟ أهو الطمع؟ وبماذا يطمع هؤلاء مع قائد قد انفضّ عنه أنصاره وبقي وحيداً غريباً لايدري أين يذهب وإلى أين يأوي!؟

أم هو الخوف من عار الإنصراف عنه بعد مبايعته، لاشجاعة منهم ولاثباتاً!؟

أفلا يعني هذا- في مثل هذا الحدّ الأدنى- أنّ هؤلاء ممن يرعى القيم والأخلاق، ويتجافى عن كلّ ما يعود عليه بالذّم!؟ وهل يُحتمل من

مثل هؤلاء مع مثل هذا الحفاظ والأخلاقيّة أن يتفرّقوا في بلدهم خفية وفي لحظة غفلة من صاحبهم الوحيد الغريب في أرضهم!؟

أم أنّ الذي أبقى هؤلاء القلّة مع مسلم عليه السلام إلى آخر الأمر هو الشجاعة والإيمان والثبات على البيعة؟ وأنّهم كانوا من صفوة المجاهدين في حركة الثّوار تحت راية مسلم عليه السلام، ومن صناديد أهل الكوفة؟

وهذا هو الحقّ! إذ لايشكُّ ذو دراية وتأمّل أنّ قادة الألوية الأربعة: مسلم بن عوسجة (رض) وأبا ثمامة الصائدي (رض) وعبداللّه بن عزيز الكندي (ره) وعباس بن جعدة الجدلي (ره)، وأمثالهم من مثل عبداللّه بن حازم البكري (ره) ونظرائه كانوا من القلّة التي بقيت مع مسلم عليه السلام إلى آخر الأمر، ذلك لأنّ من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 142

الممتنع على اخلاقية أمثال ابن عوسجة (رض) والصائدي (رض) وإخوانهم أن يتخلّوا عن مسلم عليه السلام خصوصاً في ساعة العسرة!

إنّ هؤلاء الصفوة من المجاهدين كانوا ممن اشتهر بالإيمان والإخلاص والشجاعة والثبات، وقد وفّقوا للشهادة في سبيل اللّه، فهذا مسلم بن عوسجة (رض)، وهذا أبو ثمامة الصائدي (رض) قد وفّقا للفوز بالشهادة بين يدي الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وهذا العبّاس بن جعدة الجدلي (ره) قتله ابن زياد بعد سجن، وهذا عبداللّه- أو عبيداللّه بن عمرو بن عزيز الكندي (ره)- قتله ابن زياد بعد سجن، وهذا عبداللّه بن حازم البكري (ره) المنادي بكلمة السرّ:

يامنصور أمت! ممّن شارك بثورة التوابين وقُتل فيها مما يوحي أنه اختفى أو سجن في أعقاب أحداث الكوفة أيام مسلم عليه السلام، وقِسْ على ذلك نظراءهم من صفوة المجاهدين في حركة الثوّار تحت راية مسلم بن عقيل عليه السلام.

أفهل يُعقلُ أن يتخلّى أمثال هؤلاء عن مسلم عليه السلام ساعة العسرة ويتفرّقوا

عنه في لحظة غفلة منه ويتركوه في الطريق وحيداً غريباً!؟

لاشكّ أنّ التأريخ حينما نقل لنا حادثة تفرّقهم عن مسلم عليه السلام كان قد نقلها بظاهرها فقط، أي بطريقة «صورة بلاصوت» كما يعبّر عنها في أيّامنا هذه! وذلك لأنه لم يكن بمقدور التأريخ وهو يشاهد حركة الحدث من بُعد أن ينقل إلينا ما دار من حوار بين مسلم عليه السلام ومن بقي معه إلى آخر الأمر!

إنّ التأريخ لايسجّل الهمس والسرار! وإنّ ما يطمئنّ إليه المتتبع والمتأمّل هو أن مسلماً عليه السلام اتّفق مع هذه الصفوة على التفرّق فرادى والإختفاء تربّصاً بسنوح الفرصة للإلتحاق بركب الإمام الحسين عليه السلام القادم إلى العراق لمواصلة الجهاد بين يديه، فلم يكن تفرّقهم عن مسلم عليه السلام إلّا بأمره وإذنه وعن امتثال لأمره! هذا ما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 143

يفرضه التصوّر السليم والتحليل الصحيح على أساس منطق الواقع وطبيعة الأشياء.

القائد المجاهد في ضيافة المرأة الصالحة طوعة ..... ص : 143

لنعد إلى مواصلة معرفة ما جرى على القائد المُفرد الغريب في قلب الكوفة ...

قال الطبري: «طوعة أمُّ ولد كانت للأشعث بن قيس فاعتقها، فتزوّجها أُسيد الحضرمي، فولدت له بلالًا، «1» وكان بلالٌ قد خرج مع النّاس، وأمّه قائمة تنتظره، فسلّم عليها ابن عقيل فردّت عليه.

فقال لها: يا أمةَ اللّه، إسقيني ماءً!

فدخلت، فسقته، فجلس، وأدخلت الإناء ثمّ خرجت.

فقالت: يا عبداللّه، ألم تشرب!؟

قال: بلى.

قالت: فاذهب إلى أهلك.

فسكت! ثم عادت فقالت مثل ذلك، فسكت!

ثمّ قالت له: فى ء للّه! سبحان اللّه! يا عبداللّه، فمُرَّ إلى أهلك عافاك اللّه، فإنّه لايصلح لك الجلوس على بابي ولا أُحلّه لك!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 144

فقام فقال: يا أمة اللّه، مالي في هذا المصر منزل ولاعشيرة، فهل لك إلى أجرٍ ومعروف؟ ولعليّ مكافئك به بعد اليوم!

فقالت: يا عبداللّه، وماذاك؟

قال: أنا مسلم بن عقيل،

كذبني هؤلاء القوم وغرّوني!

قالت: أنت مسلم؟

قال: نعم.

قالت: أُدخل.

فأدخلته بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه، وفرشت له، وعرضت عليه العشاء فلم يتعشَّ.

ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها، فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه فقال: واللّه إنه ليريبني كثرةُ دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه! إنّ لك لشأناً!

قالت: يا بُنيَّ الْهُ عن هذا.

قال لها: واللّه لتخبرنّي!

قالت: أقْبِلْ على شأنك ولاتسألني عن شي ء.

فألحَّ عليها، فقالت: يا بُنيّ لاتُحدّثنَّ أحداً من النّاس بما أُخبرك به!

وأخذت عليه الأَيْمانَ فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت! وزعموا أنّه قد كان شريداً «1» من الناس، وقال بعضهم كان يشرب مع أصحاب له ...». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 145

ابن زياد .. والمفاجأه السارّة عند المساء ...! ..... ص : 145

قال الشيخ المفيد (ره): «ولمّا تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل طال على ابن زياد، وجعل لايسمع لأصحاب ابن عقيل صوتاً كما كان يسمع قبل ذلك، قال لأصحابه: أشرفوا فانظروا هل ترون منهم أحداً؟

فأشرفوا فلم يروا أحداً!

قال: فانظروهم، لعلّهم تحت الظلال قد كمنوا لكم!

فنزعوا تخائج المسجد، وجعلوا يخفضون بشعل النار في أيديهم وينظرون فكانت أحياناً تُضي ء لهم، وأحياناً لاتُضي ء كما يريدون، فدلّوا القناديل، وأطناب القصب تُشدُّ بالحبال فيها النيران، ثمّ تُدلّى حتى تنتهي إلى الأرض، ففعلوا ذلك في أقصى الظلال وأدناها وأوسطها، حتّى فُعل ذلك بالظلّة التي فيها المنبر، فلمّا لم يروا شيئاً أعلموا ابن زياد بتفرّق القوم. «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 146

ففتح باب السدّة التي في المسجد، ثمّ خرج فصعد المنبر، وخرج أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا قبيل العتمة، وأمر عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمّة من رجل من الشُرط والعرفاء والمناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلّا في المسجد.

فلم يكن إلّا ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مناديه فأقام الصلاة،

وأقام الحرس خلفه «1» وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحدٌ يغتاله! وصلّى بالنّاس، ثمّ صعد المنبر: فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال:

أمّا بعدُ: فإنّ ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق! فبرئت ذمّة اللّه من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته، إتقوا اللّه عباد اللّه، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولاتجعلوا على أنفسكم سبيلًا. يا حصين بن نمير «2» ثكلتك أمّك إنّ ضاع باب سكة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة فابعث مراصد على أهل السكك، وأصبح غداً فاستبرء الدور وَجِسْ خلالها، حتّى تأتيني بهذا الرجل- وكان الحصين بن نمير على شرطته وهو من بني تميم- ثم دخل ابن زياد القصر، وقد عقد لعمرو بن حريث راية وأمّره على الناس ..». «3»

وفي رواية الفتوح: «ثمّ نزل عن المنبر، ودعا الحصين بن نمير السكّوني فقال:

ثكلتك أمّك إن فاتتك سكّة من سكك الكوفة لم تُطبق على أهلها أو يأتوك بمسلم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 147

ابن عقيل! فواللّه لئن خرج من الكوفة سالماً لنريقنّ أنفسنا في طلبه! فانطلق الآن فقد سلّطتك على دور الكوفة وسككها، فانصب المراصد وجُدَّ الطلب حتّى تأتيني بهذا الرجل.». «1»

وفي ذلك الصباح الأسود! ..... ص : 147

ويواصل الشيخ المفيد (ره) سرد بقية القصة قائلًا: «فلمّا أصبح جلس مجلسه وأذن للناس فدخلوا عليه، وأقبل محمّد بن الأشعث، فقال: مرحباً بمن لايُستغشّ ولايُتَّهم! ثمّ أقعده الى جنبه.

وأصبح ابن تلك العجوز، فغدا إلى عبدالرحمن بن محمّد بن الأشعث، فأخبره بمكان مسلم بن عقيل عند أمّه! فأقبل عبدالرحمن حتى أتى أباه وهو عند ابن زياد فسارّه، فعرف ابن زياد سراره، فقال له ابن زياد بالقضيب في جنبه: قم فأتني

به الساعة. فقام، وبعث معه قومه، لأنّه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أن يُصاب فيهم مسلم بن عقيل، وبعث معه عبيداللّه بن عبّاس السلمي في سبعين رجلًا من قيس، حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل.». «2»

وفي رواية الفتوح: «.. واقبل ابن تلك المرأة التي مسلم بن عقيل في دارها إلى عبدالرحمن بن محمّد بن الأشعث فخبّره بمكان مسلم بن عقيل عند أمّه، فقال له عبدالرحمن: أُسكت الآن ولاتُعلم بهذا أحداً من النّاس! «3» قال: ثمّ أقبل عبدالرحمن بن محمّد إلى أبيه فسارّه في أذنه وقال: إنّ مسلماً في دار طوعة! ثمّ تنحّى عنه.

فقال عبيداللّه بن زياد: ما الذي قال لك عبدالرحمن؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 148

فقال: أصلح اللّه الأمير، البشارة العظمى!

فقال: وماذاك؟ ومثلك من بشّر بخير!

فقال: إنّ ابني هذا يخبرني أنّ مسلم بن عقيل في دار طوعة، عند مولاة لنا.

قال: فَسُرَّ بذلك، ثمّ قال: قُم فأت به، ولك ما بذلتُ من الجائزة والحظّ الأوفى!

قال: ثمّ أمر عبيداللّه بن زياد خليفته عمرو بن حريث المخزومي أن يبعث مع محمّد بن الأشعث ثلاثمائة رجل من صناديد أصحابه!

قال: فركب محمد بن الأشعث حتى وافى الدار التي فيها مسلم بن عقيل ..». «1»

وفي رواية الدينوري أنّ عبيداللّه بن زياد أمر ابن حُريث أن يبعث معه مائة رجل من قريش، وكره أن يبعث إليه غير قريش خوفاً من العصبية أن تقع! «2»

وفي رواية الطبري أنه أمره أن يبعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلا كلّهم من قيس، وإنما كره أن يبعث معه قومه لأنه قد علم أنّ كلّ قوم يكرهون أن يُصادف فيهم مثل ابن عقيل! «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 149

المعركة الأخيرة .. حرب الشوارع! ..... ص : 149

كان سيّدنا مسلم بن عقيل عليه السلام قد

أبى أن يأكل شيئاً في ليلته الأخيرة، وحرص على أن يُحييها بالعبادة والذكر والتلاوة فلم يزل قائماً وراكعاً وساجداً يصلّي ويدعو ربّه إلى أن انفجر عمود الصبح، لكنّه لشدّة الإعياء من أثر القتال في النهار كان قد أخذته سِنُةٌ من النوم، فرأى في عالم الرؤيا عمّه أميرالمؤمنين عليّاً عليه السلام، وبشّره بسرعة التحاقه بمن مضى منهم عليهم السلام في أعلى عليين.

ففي كتاب نفس المهموم عن كتاب المنتخب للطريحي أنه: «لمّا أن طلع الفجر جاءت طوعة إلى مسلم بماءٍ ليتوضّأ.

قالت: يا مولاي، ما رأيتك رقدت في هذه الليلة!؟

فقال لها: إعلمي أنّي رقدت رقدة فرأيت في منامي عمّي أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يقول: الوحاء الوحاء، العجل العجل! وما أظنّ إلّا أنه آخر أيّامي من الدنيا!». «1»

يقول الطبري: «فلمّا سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال عرف أنّه قد أُتي، فخرج إليهم بسيفه، واقتحموا عليه الدار، فشدَّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار! ثم عادوا إليه فشدّ عليهم كذلك، فاختلف هو وبُكير بن حمران الأحمري ضربتين، فضرب بُكير فمَ مسلم فقطع شفته العُليا واشرع السيف في السفلى ونصلت له ثنّيتاه، فضربه مسلم ضربة في رأسه مُنكرة وثنّى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه!، فلمّا رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق ظهر البيت، فأخذوا يرمونه بالحجارة ويُلهبون النار في أطناب القصب ثم يقلبونها عليه من فوق البيت!، فلمّا رأى ذلك خرج عليهم مُصلتاً بسيفه في السكّة فقاتلهم!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 150

فأقبل عليه محمّد بن الأشعث فقال: يا فتى! لك الأمان، لاتقتل نفسك! «1» فأقبل يقاتلهم وهو يقول:

أقسمتُ لا أُقتلُ إلّا حُرّا وإنْ رأيتُ الموتَ شيئاً نُكرا

كُلُّ امري ء يوماً مُلاقٍ شرّا ويُخلط البارد سُخناً مُرّا

رُدَّ شعاع الشمس فاستقّرا أخافُ

أنْ أُكذَبَ أو أُغَرّا «2»

فقال له محمّد بن الأشعث: إنّك لاتُكذَب ولاتُخدَع ولاتُغرّ! إنّ القوم بنو عمّك، وليسوا بقاتليك ولاضاربيك!

وقد أُثخن بالحجارة وعجز عن القتال، وانبهر فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار، فدنا محمّد بن الأشعث فقال: لك الأمان!

فقال: آمنٌ أنا؟

قال: نعم! وقال القوم: أنت آمن!

غير عمرو بن عبيداللّه بن العبّاس السلمي فإنه قال: لاناقة لي في هذا ولاجمل وتنحّى.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 151

وقال ابن عقيل: أما لو لم تؤمنوني ما وضعتُ يدي في أيديكم! وأُتي ببغلة فحُمل عليها، واجتمعوا حوله وانتزعوا سيفه من عنقه! فكأنّه عند ذلك آيس من نفسه، فدمعت عيناه، ثم قال: هذا أوّل الغدر!

قال محمّد بن الأشعث: أرجو ألّا يكون عليك بأس!

قال: ما هو إلّا الرجاء!؟ أين أمانكم!؟ إنّا للّه وإنّا إليه راجعون! وبكى، فقال له عمرو بن عبيداللّه بن عبّاس: إنّ من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك!

قال: إني واللّه ما لنفسي أبكي، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحبّ لها طرفة عين تلفاً، ولكن أبكي لأهلي المُقبلين إليَّ! أبكي لحسين وآل حسين!

ثُمَّ أقبل على محمّد بن الأشعث فقال: يا عبداللّه، إنّي أراك واللّه ستعجز عن أماني! فهل عندك خير؟ تستطيع أن تبعث من عندك رجلًا على لساني يُبلغ حسيناً، فإنّي لا اراه إلّا قد خرج إليكم اليوم مقبلًا أو هو خرج غداً، هو وأهل بيته، وإنَّ ما ترى من جزعي لذلك! فيقول إنّ ابن عقيل بعثني إليك، وهو في أيدي القوم أسير! لايرى أن تمشي حتّى تُقتل! وهو يقول إرجع بأهل بيتك ولايغرّك أهل الكوفة، فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنّى فراقهم بالموت أو القتل! إنّ أهل الكوفة قد كذبوك وكذبوني،

وليس لمكذوب رأي.

فقال ابن الأشعث: واللّه لأفعلنَّ، ولأُعلمنّ ابن زياد أنّي قد آمنتك! «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 152

... وأقبل محمّد بن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر فاستأذن فأُذِن له، فأخبر عبيداللّه خبر ابن عقيل وضرب بُكير إياه، فقال: بُعداً له! فأخبره محمّد بن الأشعث بما كان منه وما كان من أمانه إيّاه، فقال عبيداللّه: ما أنت والأمان!؟ كأنّا أرسلناك تؤمنه!؟ إنّما أرسلناك تأتينا به. فسكت!

وانتهى ابن عقيل إلى باب القصر وهو عطشان، وعلى باب القصر ناسٌ جلوس يتنظرون الإذن، منهم عمارة بن عقبة بن أبي معيط، وعمرو بن حُريث، ومسلم بن عمرو، وكثير بن شهاب .. فإذا قُلّة باردة موضوعة على الباب.

فقال ابن عقيل: أسقوني من هذا الماء.

فقال له مسلم بن عمرو: أتراها ما أبردها! لا واللّه لاتذوق منها قطرة أبداً حتّى تذوق الحميم في نار جهنم!

قال له ابن عقيل: ويحك! من أنت؟

قال: أنا ابن من عرف الحقَّ إذ أنكرتَه! ونصح لإمامه إذ غششته! وسمع وأطاع إذ عصيته وخالفت! أنا مسلم بن عمرو الباهلي.

فقال ابن عقيل: لإمّك الثُكل، ما أجفاك وما أفظّك وأقسى قلبك وأغلظك!؟

أنت يا ابن باهلة أولى بالجحيم والخلود في نار جهنّم مني. ثم جلس متسانداً إلى حائط ...

وروى الطبري أيضاً: أنّ عمرو بن حُريث بعث غلاماً له يُدعى سليمان فجاءَه بماءٍ في قُلّة فسقاه ...

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 153

وروى أيضاً: أن عُمارة بن عقبة بعث غُلاماً له يُدعى قيساً فجاءه بقُلَّة عليها منديل، ومعه قدح، فصبّ فيه ماءً ثمّ سقاه، فأخذ كُلّما شرب امتلأ القدح دماً! فلمّا ملأ القدح المرّة الثالثة ذهب ليشرب فسقطت ثنيّتاه فيه! فقال: الحمد للّه، لو كان من الرزق المقسوم شربته!». «1»

ورواية أخرى أشدُّ صدقاً وحرارة ..! ..... ص : 153

روى ابن أعثم الكوفي: «قال: وسمع مسلم

بن عقيل وقع حوافر الخيل وزعقات الرجال فعلم أنّه قد أُتي في طلبه، فبادر رحمه اللّه الى فرسه فأسرجه وألجمه، وصبّ عليه درعه، وأعتجر بعمامة، وتقلّد بسيفه، والقوم يرمون الدار الحجارة، ويهلبون النّار في نواحي القصب.

قال: فتبسّم مسلم رحمه اللّه! ثم قال: يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس منه محيص ولاعنه محيد! ثم قال للمرأة: أي رحمك اللّه وجزاك عنّي خيراً، إعلمي أنّما أُوتيت من قبل ابنك! ولكن افتحي الباب.

قال: ففتحت الباب، وخرج مسلم في وجوه القوم كأنّه أسدٌ مُغضَب!، فجعل يضاربهم بسيفه حتّى قتل منهم جماعة! «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 154

وبلغ ذلك عبيداللّه بن زياد، فأرسل الى محمّد بن الأشعث وقال: سبحان اللّه يا عبداللّه! بعثناك الى رجل واحد تأتينا به فأثلم (بأصحابك هذه الثلمة العظيمة! فكتب) إليه محمد بن الأشعث: أيّها الأمير! أما تعلم أنّك بعثتني إلى أسدٍ ضرغام، وسيف حسام، في كفّ بطل همام من آل خير الأنام!؟

قال: فأرسل إليه عبيداللّه بن زياد: أن أعطه الأمان، فإنك لن تقدر عليه إلّا بالأمان. «1»

فجعل محمّد بن الأشعث يقول: ويحك يا ابن عقيل! لاتقتل نفسك، لك الأمان! ومسلم بن عقيل يقول: لاحاجة إلى أمان الغَدَرَة! ثمّ جعل يقاتلهم وهو يقول:

أقسمت لا أُقتَلُ إلّا حُرّا ولو وجدت الموت كأساً مُرّا

أكره أنْ أُخدعَ أو أُغَرّا كلّ امري ء يوماً يُلاقي شرّا

أضربكم ولا أخاف ضُرّا

قال: فناداه محمّد بن الأشعث وقال: ويحك يا ابن عقيل! إنّك لاتُكذب ولاتُغَرّ! القوم ليسوا بقاتليك فلاتقتل نفسك!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 155

قال: فلم يلتفت مسلم بن عقيل رحمه اللّه إلى كلام ابن الأشعث، وجعل يقاتل حتّى أُثخن بالجراح وضعف عن القتال، وتكاثروا عليه فجعلوا يرمونه بالنبل والحجارة!

فقال مسلم: ويلكم! ما لكم ترمونني بالحجارة كما تُرمى

الكفّار!؟ وأنا من أهل بيت الأنبياء الأبرار! ويلكم، أما ترعون حقّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وذرّيته!؟

قال: ثُمَّ حمل عليهم على ضعفه فكسرهم! وفرّقهم في الدروب! ثمّ رجع وأسند ظهره إلى باب دار هناك، فرجع القوم إليه، فصاح بهم محمّد بن الأشعث:

ذروه حتّى أكلّمه بما يُريد.

قال: ثمّ دنا منه ابن الأشعث حتّى وقف قبالته وقال: ويلك يا ابن عقيل! لاتقتل نفسك، أنت آمن ودمك في عنقي!

فقال له مسلم: أتظنّ يا ابن الأشعث أنّي أُعطي بيدي أبداً وأنا أقدر على القتال!؟ لا واللّه لاكان ذلك أبداً!

ثمّ حمل عليه حتّى ألحقه بأصحابه، ثمّ رجع إلى موضعه فوقف وقال: أللّهمّ إنّ العطش قد بلغ منّي! فلم يجسر أحد أن يسقيه الماء ولاقَرُبَ منه!

فأقبل ابن الأشعث على أصحابه وقال: ويلكم! إنّ هذا لهو العار والفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع! إحملوا عليه بأجمعكم حملة واحدة!

قال: فحملوا عليه وحمل عليهم، فقصده من أهل الكوفة رجل يُقال له بُكير بن حمران الأحمري، فاختلفا بضربتين فضربه بُكير ضربة على شفته العليا،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 156

وضربه مسلم بن عقيل ضربة فسقط الى الأرض قتيلًا «1»

قال: فطُعن من ورائه طعنة فسقط إلى الأرض، فأُخذ أسيراً، ثمّ أُخذ فرسه وسلاحه، وتقدّم رجل من بني سليمان يُقال له عبيداللّه بن العبّاس فأخذ عمامته!». «2»

ونُقل «أنّهم ا حتالوا عليه وحفروا له حفرة عميقة في وسط الطريق، وأخفوا رأسها بالدغل والتراب، ثم انطردوا بين يديه، فوقع بتلك الحفرة، وأحاطوا به، فضربه ابن الأشعث على محاسن وجهه، فلعب السيف في عرنين أنفه ومحاجر عينيه حتى بقيت أضراسه تلعب في فمه! فأوثقوه وأخذوه أسيراً الى ابن زياد ..». «3»

محمد بن الأشعث يسلب مسلماً عليه السلام سلاحه! ..... ص : 156

روى المسعودي قائلًا: «وقد سلبه ابن الأشعث حين أعطاه

الأمان سيفه وسلاحه، وفي ذلك يقول بعض الشعراء في كلمة يهجو فيها ابن الأشعث:

وتركتَ عمّك «4»

أن تقاتل دونه فشلًا، ولولا أنت كان منيعا

وقتلتَ وافد آلِ بيت محمّدوسلبتَ أسيافاً له ودروعا». «5»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 157

كلمة الحقّ الجريئة تزلزل قصر الخبال والضلال! ..... ص : 157

روى ابن أعثم الكوفي: «قال: فأُدخل مسلم بن عقيل على عبيداللّه بن زياد فقال له الحرسي: سلّم على الأمير!

فقال له مسلم: أُسكت لا أُمَّ لك! مالك وللكلام!؟ واللّه ليس هو لي بأميرٍ فأسلّم عليه! «1» وأخرى فيما ينفعني السلام عليه وهو يريد قتلي!؟ فإن استبقاني فسيكثر عليه سلامي! «2»

فقال له عبيداللّه بن زياد: لاعليك! سلّمتَ أم لم تسلّم، فإنك مقتول!

فقال مسلم بن عقيل: إن قتلتني فقد قتل شرٌّ منك من كان خيراً منّي!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 158

فقال له ابن زياد: يا شاقّ! يا عاقّ! خرجتَ على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحتَ الفتنة!

فقال مسلم: كذبتَ يا ابن زياد! واللّه ما كان معاوية خليفة بإجماع الأمّة، بل تغلّب على وصيّ النبيّ بالحيلة، وأخذ عنه الخلافة بالغصب، وكذلك ابنه يزيد! وأمّا الفتنة فإنك ألقحتها أنت وأبوك زياد بن علاج من بني ثقيف! وأنا أرجو أن يرزقني اللّه الشهادة على يدي شرّ بريّته! فواللّه ما خالفت ولاكفرتُ ولابدّلتُ! وإنّما أنا في طاعة أميرالمؤمنين الحسين بن علي، بن فاطمة بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ونحن أولى بالخلافة من معاوية وابنه وآل زياد!

فقال له ابن زياد: يا فاسق! ألم تكن تشرب الخمر في المدينة!؟ «1»

فقال مسلم بن عقيل: أحقُّ واللّهِ بشرب الخمر منّي من يقتل النفس الحرام (ويقتل على الغضب والعداوة والظنّ) وهو في ذلك يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئاً!

فقال له ابن زياد: يا فاسق! منّتك نفسك أمراً أحالك اللّه دونه وجعله لأهله!

مع الركب الحسينى(ج 3)،

ص: 159

فقال مسلم بن عقيل: ومن أهله يا ابن مرجانة!؟ «1»

فقال: أهله يزيد ومعاوية!

فقال مسلم بن عقيل: الحمدُ للّه، كفى باللّه حكماً بيننا وبينكم!

فقال ابن زياد لعنه اللّه: أتظنّ أنّ لك من الأمر شيئاً!؟

فقال مسلم بن عقيل: لا واللّه ماهو الظنّ ولكنه اليقين!

فقال ابن زياد: قتلني اللّه إن لم أقتلك!

فقال مسلم: إنّك لاتدع سوء القتلة وقبح المُثلة وخبث السريرة! «2» واللّه لو كان معي عشرة ممّن أثق بهم، وقدرتُ على شربة من ماءٍ لطال عليك أن تراني في هذا القصر! ولكنْ إن عزمت على قتلي ولابدّ لك من ذلك فأقم إليَّ رجلًا من قريش أوصي إليه بما أُريد.

فوثب «3» إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص، فقال: أوصِ إليَّ بما تريد يا ابن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 160

عقيل! ( «1» فقال له مسلم: أوصيك بتقوى اللّه، فإنّ التقوى درك كلّ خير، ولي إليك حاجة!

فقال عمر: قل ما أحببت.

فقال: حاجتي إليك أن تستردّ فرسي وسلاحي من هؤلاء القوم فتبيعه، وتقضي عني سبعمائة درهم استدنتها في مصركم هذا، وأن تستوهب جثّتي إن قتلني هذا الفاسق!، فتواريني في التراب، وأن تكتب للحسين: أن لايقدم فينزل به ما نزل بي!

فقال عمر بن سعد: أيّها الأمير! إنّه يقول كذا وكذا! «2»

فقال ابن زياد: يا ابن عقيل! أمّا ما ذكرتَ من دَينك فإنّما هو مالك تقضي به دينك، ولسنا نمنعك أن تصنع به ما أحببت، وأمّا جسدك فإنّا إذا قتلناك فالخيار لنا، ولسنا نبالي ما صنع اللّه بجثّتك! «3» وأمّا الحسين فإنه إن لم يُردنا لم نرده، وإن ارادنا

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 161

لم نكفّ عنه!)، ولكنّي أريد أن تخبرني يا ابن عقيل، بماذا أتيت الى هذا البلد!؟

شتّت أمرهم، وفرّقت كلمتهم، ورميت بعضهم على بعض!

فقال

مسلم بن عقيل: ليس لذلك أتيت هذا البلد، ولكنّكم أظهرتم المنكر، ودفنتم المعروف، وتأمّرتم على الناس من غير رضا، وحملتموهم على غير ما أمركم اللّه به، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر، وندعوهم إلى حكم الكتاب والسُنَّة، وكنّا أهل ذلك، ولم تزل الخلافة لنا منذ قُتل أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب، ولاتزال الخلافة لنا، فإنّا قُهرنا عليها، لأنكم أوّل من خرج على إمام هدىً، وشقّ عصا المسلمين، وأخذ هذا الأمر غصباً، ونازع أهله بالظلم والعدوان! ولانعلم لنا ولكم مثلًا إلّا قول اللّه تبارك وتعالى: «وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون» «1»

.. فجعل ابن زياد يشتمُ عليّاً والحسن والحسين رضي اللّه عنهم!

فقال له مسلم: أنت وأبوك أحقّ بالشتيمة منهم! فاقض ما أنت قاض! فنحن أهل بيت موكول بنا البلاء!

فقال عبيداللّه بن زياد: إلحقوا به إلى أعلى القصر فاضربوا عنقه، وألحقوا رأسه جسده! «2»

فقال مسلم رحمه اللّه: أما واللّه يا ابن زياد! لو كُنتَ من قريش أو كان بيني

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 162

وبينك رحم أو قرابة لما قتلتني، ولكنّك ابن أبيك!

قال: فأدخله ابن زياد القصر، ثُمّ دعا رجلًا من أهل الشام قد كان مسلم بن عقيل ضربه على رأسه ضربة منكرة، فقال له: خُذ مسلماً واصعد به إلى أعلى القصر، واضرب عنقه بيدك ليكون ذلك أشفى لصدرك!». «1»

أوّل شهداء النهضة الحسينية من بني هاشم ..... ص : 162

«فأُصعد مسلم بن عقيل رحمه اللّه إلى أعلى القصر، وهو في ذلك يسبّح اللّه تعالى ويستغفره، وهو يقول: أللّهمّ احكم بيننا وبين قوم غرّونا وخذلونا.

فلم يزل كذلك حتى أُتي به الى أعلى القصر، وتقدّم ذلك الشاميّ فضرب عنقه!». «2»

وفي رواية الطبري: «.. ثمّ قال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابنُ عقيل رأسه بالسيف

وعاتقه. فدُعي، فقال: إصعد فكن أنت الذي تضرب عنقه! فصُعد به وهو يكبّر ويستغفر ويصلّي على ملائكة اللّه ورسله، وهو يقول: أللّهم احكم بيننا وبين قوم غرّونا وكذبونا وأذلّونا. وأُشرف به على موضع الجزّارين «3» اليوم فضربت عنقه، وأُتبع جسده رأسه!». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 163

وفخراً عند الموت! ..... ص : 163

«.. نزل الأحمريُّ بُكير بن حمران «1» الذي قتل مسلماً، فقال له ابن زياد: قتلته؟

قال: نعم.

قال: فما كان يقول وأنتم تصعدون به؟

قال: كان يكبّر ويسبّح ويستغفر! فلمّا أدنيته لأقتله قال: أللّهم أحكم بيننا وبين قوم كذّبونا وغرّونا وخذلونا وقتلونا! فقلتُ له: أُدنُ منّي، الحمد للّه الذي أقادني منك! فضربته ضربة لم تُغنِ شيئاً! فقال: أما ترى في خَدْش تُخدشنيه وفاءً من دمك أيها العبد!؟

فقال ابن زياد: وفخراً عن الموت؟؟

قال: ثمّ ضربته الثانية فقتلته.». «2»

وكم من آية للّه أعرض عنها ابن زياد!! ..... ص : 163

قال ابن أعثم الكوفي: «ثُمَّ نزل الشاميّ إلى عبيداللّه بن زياد وهو مدهوش!

فقال له ابن زياد: ما شأنُك!؟ أقتلته؟

قال: نعم، أصلح اللّه الأمير! إلّا أنّه عرض لي عارض، فأناله فزعٌ مرهوب!

فقال: ما الذي عرض لك!؟

قال: رأيتُ ساعة قتلتُه رجلًا حذاي، أسود كثير السواد، كريه المنظر، وهو عاضٌّ على إصبعيه- أو قال: شفتيه- ففزعتُ منه فزعاً لم أفزع قطّ مثله!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 164

فتبسّم ابن زياد وقال له: لعلّك دُهشت!؟ وهذه عادة لم تعتدها قبل ذلك!!». «1»

مقتل هاني بن عروة (رض) ..... ص : 164

«قال: ثمّ أمر عبيداللّه بن زياد بهاني ء بن عروة أن يُخرج فيُلحق بمسلم بن عقيل، فقال محمّد بن الأشعث: أصلح اللّه الأمير، إنك قد عرفت شرفه في عشيرته، وقد عرف قومه أنّي وأسماء بن خارجة جئنا به إليك فأُنشدك اللّه أيها الأمير (إلّا) وهبته لي، فإني أخاف عداوة أهل بيته! فإنّهم سادات أهل الكوفة وأكثرهم عدداً!

قال: فزبره ابن زياد! ثمّ أمر بهاني ء بن عروة فأُخرج إلى السوق إلى موضع يُباع فيه الغنم، وهو مكتوف.

قال: وعلم أنه مقتول فجعل يقول: وامذحجاه! واعشيرتاه!

ثمّ أخرج يده من الكتاف وقال: أما من شي ء فأدفع به عن نفسي!؟ «2»

قال: فصكّوه، ثمّ اوثقوه كتافاً، فقالوا: أُمددْ عنقك!

فقال: لا واللّه، ما كنتُ الذي أعينكم على نفسي. «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 165

فتقدّم إليه غلام لعبيداللّه بن زياد يُقال له رشيد، «1» فضربه بالسيف فلم يصنع شيئاً!

فقال هاني ء: إلى اللّه المعاد، أللّهم إلى رحمتك ورضوانك، أللهم اجعل هذا اليوم كفارة لذنوبي! فإنّي إنما تعصّبت لابن بنت نبيّك صلى الله عليه و آله.

فتقدّم رشيد وضربه ضربة أخرى فقتله رحمه اللّه.». «2»

سحل الشهيدَيْن في الشوارع والسوق! ..... ص : 165

ثمّ قام جلاوزة ابن زياد لعنهم اللّه بسحل الجثتين الزكيتين في الشوارع وفي السوق، فقد روى الطبري أنّ عبداللّه بن سليم، والمذري بن المشمل، الأسديين أخبرا الإمام الحسين عليه السلام في منطقة زرود عن لسان الأسديّ الذي كان يحمل خبر مقتل مسلم عليه السلام أنّه «لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة، وحتّى رآهما يُجرّان في السوق بأرجلهما ..». «3»

صلبُ الشهدَينْ منكّسَين! ..... ص : 165

«ثمّ أمر عبيداللّه بن زياد بمسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة رحمهما اللّه فصُلبا جميعاً منكّسَيْن، وعزم أن يوجّه برأسيهما إلى يزيد بن معاوية.». «4»

«ولمّا صُلب مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، قال فيهما عبداللّه بن الزبير

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 166

الأسدي:

إذا كُنتِ لاتدرينَ ما الموت فانظري إلى هاني ءٍ بالسوق وابن عقيلِ

إلى بطلٍ قد هشّم السيف وجهه وآخر يهوي من طمارِ قتيلِ

ترَيْ جسداً قد غيّر الموتُ لونه ونضحُ دمٍ قد سال كُلَّ مسيلِ

فتىً كان أحيى من فتاة حييّةٍ وأقطع من ذي شفرتين صقيلِ

وأشجع من ليثٍ بخفّان مُصحرٍ وأجرأَ من ضارِ بغابةِ غيلِ

أصابهما أمر الأمير فأصبحا أحاديثَ من يسري بكُلّ سبيلِ

أيركبُ أسماء «1»

الهماليج آمناً وقد طلبته مذحجٌ بذُخولِ

تطوف حواليه مُرادٌ وكُلُّهم على رِقبَة من سائل ومسولِ

فإن أنتمُ لم تثأروا لأخيكمُ فكونوا بغايا أُرضيت بقليلِ». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 167

انتقام ابن زياد من بقيّة الثّوار! ..... ص : 167

الثائر عبدالأعلى بن يزيد الكلبي ..... ص : 167

«ثمّ إنّ عبيداللّه بن زياد لمّا قتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة دعا بعبدالأعلى الكلبي الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان، فأُتيَ به، فقال له:

أخبرني بأمرك!

فقال: أصلحك اللّه خرجت لأنظر ما يصنع الناس، فأخذني كثير بن شهاب!

فقال له: فعليك وعليك من الأيمان المغلّظة إن كان أخرجك إلّا ما زعمت!؟

فأبى أن يحلف! فقال عبيداللّه: انطلقوا بهذا إلى جبّانة السبع فاضربوا عنقه بها! .. فانطُلِقَ به فضُربَت عنقه.

الثائر عمارة ابن صلخب الأزدي ..... ص : 167

وأُخرج عمارة ابن صلخب الأزدي، وكان ممّن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنصرة لينصره، فأُتي به أيضاً عبيداللّه، فقال له: ممّن أنت!؟

قال: من الأزد.

قال: إنطلقوا به إلى قومه! فضُربت عنقه فيهم!». «1»

الثائر القائد عبيداللّه بن عمرو بن عزيز الكندي «2» ..... ص : 167

«فارس شجاع من الشيعة في الكوفة، ومن أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 168

وشهد مشاهده، وبايع لمسلم وكان يأخذ البيعة له، وأمر ابن زياد بقتله». «1»

وهو أحد القادة الأربعة الذين عقد لكلّ منهم مسلم عليه السلام راية، وعقد له مسلم عليه السلام على ربع كندة وربيعة وقال: سِرْ أمامي في الخيل. «2»

الثائر القائد العبّاس بن جعدة الجدلي ..... ص : 168

«كان من الشيعة المخلصين في الولاء، وبايع مسلماً، وكان يأخذ البيعة للحسين عليه السلام، ولمّا تخاذل الناس عن مسلم أمر ابن زياد بالقبض عليه وحبسه، ثمّ بعد شهادة مسلم قُتل شهيداً.». «3»

وهو الذي عقد له مسلم عليه السلام على ربع المدينة. «4»

الثائران القائدان المختار وعبداللّه بن الحارث ..... ص : 168

كان المختار (ره) وعبداللّه بن الحارث بن نوفل قد خرجا مع مسلم، خرج المختار براية خضراء، وخرج عبداللّه براية حمراء وعليه ثياب حمر. «5»

ولكنّهما دخلا الكوفة بعد فوات الأمر وانتهاء الحصار وبعد قتل مسلم عليه السلام وهاني (رض)، «6» فلمّا عرفا ذلك، ركز المختار رايته على باب عمرو بن حُريث وقال: أردتُ أن أمنع عمراً! وأشير عليهما بالدخول تحت راية الأمان عند عمرو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 169

بن حُريث ففعلا، وشهد لهما ابن حريث باجتنابهما ابن عقيل! فأمر ابن زياد بحبسهما بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه (فذهبت عينه)، «1» وبقيا في السجن إلى أن قُتل الحسين عليه السلام!. «2»

تقرير ابن زياد الأمنّي إلى يزيد! ..... ص : 169

«ثمّ إنّ عبيداللّه بن زياد لمّا قتل مسلماً وهانئاً بعث برؤوسهما مع هاني بن أبي حيّة الوادعي، والزبير بن الأروح التميمي، إلى يزيد بن معاوية وأمر كاتبه عمرو بن نافع أن يكتب إلى يزيد بن معاوية بما كان من مسلم وهاني ء، فكتب إليه كتاباً أطال فيه- وكان أوّل من أطال في الكتب- فلمّا نظر فيه عبيداللّه بن زياد كرهه وقال ما هذا التطويل وهذه الفضول!؟ أُكتب:

أمّا بعدُ، فالحمدُ للّه الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقّه، وكفاه مؤنة عدوّة، أُخبرُ أميرالمؤمنين أكرمه اللّه أنّ مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هاني ء بن عروة المُرادي، وإني جعلتُ عليهما العيون، ودسستُ إليهما الرجال، وكِدْتُهما حتّى استخرجتهما! وأمكن اللّه منهما فقدّمتهما فضربتُ أعناقهما، وقد بعثتُ إليك برؤوسهما مع هاني بن أبي حيّة الهمداني، والزبير بن الأروح التميمي، وهما من أهل السمع والطاعة والنصيحة! فليسألهما أميرالمؤمنين عمّا أحبّ من أمرٍ فإنّ عندهما علماً وصدقاً وفهماً وورعاً! والسلام.». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 170

«فكتب إليه يزيد: أمّا بعدُ، فإنّك لم تعدُ أن كُنتَ

كما أحبُّ! عملتَ عمل الحازم، وصُلتَ صولة الشجاع الرابط الجأش! فقد أغنيتَ وكفيت، وصدّقتَ ظنّي بك ورأيي فيك، وقد دعوت رسوليْك فسألتهما وناجيتهما، فوجدتهما في رأيهما وفضلهما كما ذكرتَ! فاستوصِ بهما خيراً، وإنّه قد بلغني أنّ الحسين بن عليّ قد توجّه نحو العراق، فضع المناظر والمسالح، واحترس على الظنّ! وخذ على التهمة! غير ألّا تقتل إلّا من قاتلك! واكتب إليَّ في كلّ ما يحدث من الخبر، والسلام عليك ورحمة اللّه.». «1»

وذكر ابن شهرآشوب أنّ يزيد لعنه اللّه نصب الرأسين الشريفين في درب من دمشق. «2»

وروى اليعقوبي أنّ يزيد كان قد كتب الى ابن زياد يأمره بقتل الإمام الحسين عليه السلام، قال اليعقوبي: «وأقبل الحسين من مكّة يريد العراق، وكان يزيد قد ولّى عبيداللّه بن زياد العراق، وكتب إليه: قد بلغني أنّ أهل الكوفة قد كتبوا إلى الحسين في القدوم عليهم، وأنه قد خرج من مكّة متوجّهاً نحوهم، وقد بُلي به بلدك من بين البلدان، وأيّامك من بين الأيّام، فإن قتلته وإلّا رجعت إلى نسبك وإلى أبيك عُبيد! فاحذر أن يفوتك!». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 171

إغلاق ورصد المناطق والمنافذ الحدودية الكوفية! ..... ص : 171

قال الشيخ المفيد (ره): «ولمّا بلغ عبيداللّه إقبال الحسين من مكّة إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شُرطه حتّى نزل القادسية، ونظّم ما بين القادسية إلى خفّان، وما بين القادسية إلى القطقطانيّة، وقال للنّاس هذا الحسين يُريد العراق!»، «1» «وكان عبيداللّه بن زياد أمر فأخذ ما بين واقصة إلى طريق الشام إلى طريق البصرة! فلا يدعون أحداً يلج ولا أحداً يخرج!». «2»

وقال الدينوري: «ثُمَّ إنّ ابن زياد وجَّه الحصين بن نُمير- وكان على شُرطه- في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة!، وأمره أن يُقيم بالقادسيّة إلى القطقطانة، فيمنع من أراد

النفوذ من ناحية الكوفة الى الحجاز، إلّا من كان حاجّاً أو معتمراً، ومن لايُتّهمُ بممالاة الحسين!». «3»

وفي أنساب الأشراف: «حتى نزل القادسية ونظّم الخيل بينها وبين خفّان، وبينها وبين القطقطانة إلى لعلع». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 172

تعبئة الكوفة، وتجميد الثغور، استعداداً لقتال الإمام عليه السلام ..... ص : 172

ثمَّ إنّ ابن زياد بالغ في إشاعة الرعب والخوف في أوساط أهل الكوفة، من خلال إجراءات إرهابية عديدة، تمهيداً لتعبئتهم وتوجيههم إلى قتال الإمام الحسين عليه السلام، لعلمه بأنّ جُلّ أهل الكوفة يكرهون «1» التوجّه لقتاله عليه السلام، «فقد كان يحكم بالموت على كلّ من يتخلّف أو يرتدع عن الخوض في المعركة». «2»

كما جمَّد الثغور ووجّه عساكرها الى قتال الإمام الحسين عليه السلام، فقد روى ابن عساكر «عن شهاب بن خراش، عن رجل من قومه: كنتُ في الجيش الذي بعثهم ابن زياد إلى حسين، وكانوا أربعة آلاف يريدون الديلم، فصرفهم عبيداللّه الى حسين ..». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 173

الفصل الثالث: وقايع منازل الطريق بين مكّة وكربلاء ..... ص : 173

اشارة

فشلت محاولة والي مكّة آنذاك عمرو بن سعيد الأشدق لإرجاع الامام الحسين عليه السلام إلى مكّة بالقوّة، حيث أبى الإمام عليه السلام الرجوع وتدافع الفريقان (رجال الركب الحسيني وجند الأشدق) واضطربوا بالسياط، فتراجع الأشدق عن قرار المنع بعد أن خشي من تفاقم الأمر عليه!

وجدَّ الركب الحسيني في المسير نحو العراق، وكان قد مرَّ في طريقه من مكّة حتّى وصوله الى كربلاء بمواقع ومنازل عديدة، بقي الإمام الحسين عليه السلام في بعضها يوماً وليلة، ولبث في بعضها الآخر يوماً، ولم يبق في بعض آخر إلّا ساعات قليلة، وتوقف في بعض آخر لأداء الصلاة فقط، ومرّ على بعضها مرور الكرام بلاتوقف، وأهمُّ هذه المواقع والمنازل على الترتيب هي:

1)- بستان بني عامر (أو ابن عامر) «1» ..... ص : 173

روي أنّ الشاعر الفرزدق «2» كان قد لقي الإمام الحسين عليه السلام قبل خروج الركب

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 176

الحسيني من الحرم إلى أرض الحلّ، فقد ورد عن لسان الفرزدق أنه قال:

«حججتُ بأمّي في سنة ستين، فبينا أنا أسوق بعيرها حين دخلت الحرم إذ لقيتُ الحسين بن عليّ عليهما السلام خارجاً من مكّة مع أسيافه وأتراسه فقلتُ: لمن هذا القطار؟

فقيل: للحسين بن عليّ عليهما السلام.

فأتيته فسلّمت عليه وقلت له: أعطاك اللّه سؤلك، وأمّلك فيما تحبُّ، بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول اللّه، ما أعجلك عن الحجّ!؟

فقال: لولم أعجل لأُخذتُ! «1»

ثم قال لي: من أنت؟

قلتُ: امرؤ من العرب!

فلا واللّه ما فتّشني عن أكثر من ذلك ..

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 177

ثم قال لي: أخبرني عن الناس خلفك؟

فقلتُ: الخبيرَ سألتَ، قلوب الناس معك وأسيافهم عليك «1» والقضاء ينزل من السماء، واللّه يفعل ما يشاء!

فقال: صدقت، للّه الأمر، وكلّ يوم هو في شأن! إن ينزل القضاء بما نحبّ ونرضى فنحمد اللّه على نعمائه وهو المستعان على

أداء الشكر، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحقّ نيّته والتقوى سريرته.

فقلت له: أجل، بلّغك اللّه ما تحبّ، وكفاك ماتحذر.

وسألته عن أشياء من نذور ومناسك، فأخبرني بها، وحرّك راحلته، وقال:

السلام عليك. ثمّ افترقنا!». «2»

ويبدو أنّ مكان هذا اللقاء هو بستان بني عامر الذي ذكره سبط ابن الجوزي في نقله خبر لقاء الفرزدق مع الإمام عليه السلام حيث قال: «فلمّا وصل بستان بني عامر

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 178

لقي الفرزدق الشاعر، وكان يوم التروية، فقال له: إلى أين يا ابن رسول اللّه، ما أعجلك عن الموسم!؟

قال: لولم أعجل لأُخذتُ أخذاً! فأخبرني يا فرزدق عمّا ورائك؟

فقال: تركتُ الناس بالعراق قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أميّة، فاتّقِ اللّه في نفسك وارجع! «1»

فقال له: يا فرزدق، إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة دين اللّه وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله لتكون كلمة اللّه هي العليا.

فأعرض عنه الفرزدق وسار! «2»». «3»

ف «بستان ابن عامر هو أوّل منزل مرَّ به الحسين عليه السلام». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 179

2)- التنعيم ..... ص : 179

اشارة

وهو موضع في حلّ مكّة، على فرسخين من مكّة (12 كم)، وقيل على أربعة، وسمّي بذلك لأن جبلًا عن يمينه يُقال له نعيم، وآخر عن شماله يُقال له ناعم، والوادي نعمان، ومن موضع التنعيم يُحرم المكيّون بالعمرة. «1»

قال البلاذري: «ولقي الحسين بالتنعيم عيراً قد أُقبل بها من اليمن، بعث بها بجير بن ريسان الحميري إلى يزيد بن معاوية، وكان عامله على اليمن، وعلى العير وِرسٌ وحُلل، ورسله فيها ينطلقون إلى يزيد، فأخذها الحسين فانطلق بها معه، وقال لأصحاب الإبل: لا أُكرهكم، من أحبَّ

أن يمضي معنا الى العراق وفيناه كِراه وأحسنّا صحبته، ومن أحبَّ أن يفارقنا من مكاننا هذا أعطيناه من الكراء على قدر ماقطع من الأرض. فأوفى من فارقه حقّه بالتنعيم، وأعطى من مضى معه وكساهم ..». «2»

لكنّ الشيخ المفيد (ره) روى قصة هذه العير هكذا: «وسار حتّى أتى التنعيم، فلقي عيراً قد أقبلت من اليمن، فاستأجر من أهلها جمالًا لرحله وأصحابه، وقال لأصحابها: من أحبَّ أن ينطلق معنا إلى العراق وفيناه كرائه وأحسنّا صحبته، ومن أحبّ أن يفارقنا في بعض الطريق أعطيناه كراه على قدر ما قطع من الطريق. فمضى معه قوم وامتنع آخرون.». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 180

هل صادر الإمام عليه السلام الوِرسَ والحُلَل فعلًا؟ ..... ص : 180

قال المحقّق القرشي: «وقد أنقذ الإمام عليه السلام هذه الأموال من أن تُنفق على موائد الخمور، وتدعيم الظُلم، والإساءة إلى الناس، وقد تقدّم أنّ الإمام عليه السلام قام بنفس هذه العملية أيّام معاوية. «1» وقد ذهب آية اللّه المغفور له السيّد مهدي آل بحر العلوم الى عدم صحة ذلك، فإنّ مقام الإمام عليه السلام أسمى وأرفع من الإقدام على مثل هذه الأمور، «2» والذي نراه أنّه لامانع من ذلك إطلاقاً، فإنّ الإمام كان يرى الحكم القائم في أيّام معاوية ويزيد غير شرعي، ويرى أنّ أموال المسلمين تُنفق على فساد الأخلاق ونشر العبث والمجون، فكان من الضروري إنقاذها لتنفق على الفقراء والمحتاجين، وأيّ مانع شرعي أو اجتماعي من ذلك؟». «3»

ولقد علّق السيد ابن طاووس (ره) في ضمن خبر قصة هذه العير قائلًا: «فأخذَ الهديّة لأنّ حُكم أمور المسلمين إليه.». «4»

ويقوّي القول بأنّ الإمام عليه السلام قد استولى على هذه الهدايا الموجّهة إلى يزيد، أنّ هناك روايات عديدة تتحدث عن ورس قد انتُهب من مخيم الإمام الحسين عليه السلام بعد

مقتله. «5»

هل التقى الإمام الحسين ابن عمر في التنعيم؟ ..... ص : 180

نقل لنا التأريخ خبر آخر لقاءٍ لعبداللّه بن عمر مع الإمام الحسين عليه السلام بعد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 181

خروجه من مكّة، «1» ففي أمالي الشيخ الصدوق (ره): «وسمع عبداللّه بن عمر بخروجه، فقدّم راحلته وخرج خلفه مسرعاً، فأدركه في بعض المنازل.

فقال: أين تُريدُ يا ابن رسول اللّه!؟

قال: العراق!

قال: مهلًا، إرجع إلى حرم جدّك!

فأبى الحسين عليه السلام عليه، فلمّا رأى ابن عمر إباءه، قال: يا أبا عبداللّه، إكشف لي عن الموضع الذي كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقبّله منك!

فكشف الحسين عليه السلام عن سرّته، فقبّلها ابن عمر ثلاثاً وبكى وقال: أستودعك اللّه يا أبا عبداللّه، فإنك مقتول في وجهك هذا!». «2»

وفي بعض المصادر: أنّه أدركه على ميلين من مكّة، «3» وفي أخرى: أنّه أدركه على مسير ليلتين أو ثلاث من المدينة، «4» «فقال: أين تريد؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 182

قال: العراق!- وكان معه طوامير وكتب-

فقال له: لاتأتهم!

فقال: هذه كتبهم وبيعتهم!

فقال: إنّ اللّه عزّ وجلّ خيّر نبيّه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يُرد الدنيا، وإنّكم بضعة من رسول اللّه صلى الله عليه و آله، واللّه لا يليها أحدٌ منكم أبداً! وما صرفها اللّه عز وجلّ عنكم إلّا للذي هو خيرٌ لكم، فارجعوا!

فأبى وقال: هذه كتبهم وبيعتهم!

قال فاعتنقه ابن عمر وقال: استودعك اللّه من قتيل!». «1»

ولم نعثر في مصدر من المصادر التأريخية- حسب متابعتنا- على تشخيص دقيق لمكان هذا اللقاء وتحديده، فقد كان هذا اللقاء في (بعض المنازل!) على رواية أمالي الصدوق، وكانت الإشارة إليه في مصادر أخرى تتحدث عن: ميلين من مكّة! أو مسير ليلتين أو ثلاث من المدينة!

نعم: صرح المحقّق السماوي (ره) ضمن استعراضه لمسير الإمام عليه السلام من مكّة الى العراق بأنّ

هذا اللقاء كان في (التنعيم) حيث قال (ره): «ثمّ أصبح فسار، فمانعه ابن عبّاس وابن الزبير فلم يمتنع، ومرَّ بالتنعيم فمانعه ابن عمر، وكان على ماءٍ له فلم يمتنع ...». «2»

غير أنّ السماوي (ره) لم يُشر إلى المصدر الذي أخذ عنه هذا التحديد والتشخيص، ولعلّه (ره) كان قد استنتج- أنّ هذا اللقاء كان في التنعيم- استنتاجاً

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 183

من أكثر من إشارة ودلالة تأريخية، أو لعلّه (ره) كان قد أراد عبداللّه بن مطيع العدوي بدلًا من عبداللّه بن عمر، لكنّ قلمه الشريف كتب ابن عمر بدلًا من ابن مطيع سهواً وعفواً، ذلك لأنّ ابن مطيع في لقائه الأخير مع الامام عليه السلام كان على ماءٍ له وليس ابن عمر! واللّه العالم.

منطق ابن عمر! ..... ص : 183

«لقد كان عبداللّه بن عمر لساناً من الألسنة التي خدمت الحكم الأموي، بل كان بوقاً أمويّاً حرص على عزف النغمة النشاز في أُنشودة المعارضة! وسعى إلى تحطيم المعارضة من داخلها، ولايُعبأُ بما صوّره به بعض المؤرّخين من أنّه كان رمزاً من رموزها، لأنّ المتأمّل المتدبر لايجد لابن عمرٍ هذا أيَّ حضور في أيّ موقف معارضٍ جادّ! بل يراه غائباً تماماً عن كل ساحة صدق في المعارضة! وإذا تأمّل المحقّق مليّاً وجد عبداللّه بن عمر ينتمي انتماءً تاماً- عن إصرار وعناد- إلى حركة النفاق التي قادها حزب السلطة منذ البدء، ثمّ لم يزل يخدم فيها حتّى في الأيّام التي آلت قيادتها فيها إلى الحزب الأموي بقيادة معاوية، ثمّ يزيد! هذه هي حقيقة ابن عمر، وإنْ تكلّف علاقات حسنة في الظاهر مع وجوه المعارضة عامّة ومع الإمام الحسين عليه السلام خاصة، وحقيقة ابن عمر هذه يكشف عنها معاوية لإبنه يزيد في وصيّته إليه بلا رتوش نفاقية

حيث يقول له: «فأمّا ابن عمر فهو معك! فالزمه ولاتدعه!». «1»». «2»

وهنا في هذا اللقاء أيضاً نجد ابن عمر يتحدّث عن لسان الأمويين بصورة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 184

غير مباشرة، فمعاوية الذي أشاع في النّاس الفكر الجبري بأنّ حكمه ومايفعله بالأمّة من قضاء اللّه الذي لايُبدّل! وليس للأمّة إلّا التسليم أمام الإرادة الإلهية في ذلك! أذاع في النّاس أيضاً من خلال كثير من وعّاظ السلاطين- أمثال عبداللّه بن عمر- أنّ اللّه اختار لآل النبيّ صلى الله عليه و آله الآخرة ولم يُرد لهم الدنيا بمعنى أنَّ هؤلاء المصطفين لم يُرد اللّه لهم أن يكونوا حكّاماً!! ولذا فقد صرفها عنهم لما هو خيرٌ لهم!!

والأعجب أنّ ابن عمر في ذروة اندفاعه- امتثالًا لأمر الأمويين- لمنع الإمام عليه السلام من مواصلة سفره إلى العراق، ينسى نفسه ويذهل عن أنّه يخاطب أحد أفراد العترة المطهّرة- الذين هم مع القرآن والقرآن معهم لايفارقهم، والذين هم أعلم الخلق بإرادة اللّه في التشريع والتكوين- فيقول له: واللّه لايليها أحدٌ منكم أبداً!! مخالفاً بذلك لصريح الحقائق القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة المتواترة، لا أقلَّ في ما أجمعت عليه الأمّة عن نبيّها صلى الله عليه و آله في أنّ المهديَّ عليه السلام وهو من ولد فاطمة عليها السلام، ومن ولد الحسين عليه السلام، هو الذي سوف يملأ الأرض عدلًا بعدما ملئت ظلماً وجورا!

لقد كان منتهى ما يتمنّاه ابن عمر- الأمويّ الهوى- هو أنّ يمنع الإمام عليه السلام من أصل القيام والنهضة، لا من السفر إلى العراق فحسب، ولذا نراه يعبّر بعد فشله في مسعاه عن هذه الأمنية الخائبة فيقول: «غلبنا الحسين بن عليّ بالخروج! ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة، ورأى من الفتنة وخذلان الناس لهم

ما كان ينبغي أن لايتحرّك ما عاش!! وأن يدخل في صالح ما دخل فيه الناس!! فإنّ الجماعة خير ..». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 185

لقد كان أفضل ردٍّ على منطق ابن عمر هو ردُّ الإمام الحسين عليه السلام نفسه حيث قال له في محاورته إيّاه في مكّة: «أُفٍّ لهذا الكلام أبداً مادامت السماوات والأرض!». «1»

3)- الصفاح ..... ص : 185

اشارة

«وهو موضع بين حُنينْ وأنصاب الحرم، على يسرة الداخل الى مكّة من مُشاش، وهناك لقي الفرزدق الحسين بن علي رضي اللّه عنه لمّا عزم على قصد العراق، قال:

لقيتُ الحسين بأرض الصفاح عليه اليلامقُ والدرقُ». «2»

وروى البلاذري أيضاً قائلًا: «ولمّا صار الحسين إلى الصفاح لقيه الفرزدق ابن غالب الشاعر، فسأله عن أمر الناس وراءه، فقال له الفرزدق: الخبير سألتَ، إنّ قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السماء، واللّه يفعل مايشاء. فقال الحسين: صدقت.». «3»

وكذلك روى الدينوري أنّ الفرزدق لقي الإمام عليه السلام في الصفاح «4» وكذلك روى ابن الأثير، «5» والطبري، «6» وابن مسكويه «7».

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 186

أين لقي الفرزدق الإمام عليه السلام بالضبط؟ ..... ص : 186

من الوقائع التي تفاوتت الروايات التأريخية تفاوتاً غير يسير فيها واقعة لقاء الفرزدق الشاعر مع الإمام الحسين عليه السلام، خصوصاً في تحديد مكان هذا اللقاء.

نجد مِنَ المؤرّخين من لايذكر المنزل لامن قريب ولابعيد، كالإربلي (ره) حيث يقول: «وقال الفرزدق لقيني الحسين في منصرفي من الكوفة ..»، «1» ومنهم من يذكر أنّ هذا اللقاء كان في أرض الحرم وخارج مكّة، كما مرّ في رواية الشيخ المفيد (ره) والطبري، «2» ومنهم من يشخّص مكانه في أرض الحرم كسبط ابن الجوزي حيث قال: «فلمّا وصل بستان بني عامر لقي الفرزدق الشاعر ..»، «3» ومنهم من روى أنهما التقيا في ذات عرق، كابن عساكر، والبلاذري، «4» ومنهم من قال في الشقوق، كابن شهر آشوب، والأربلي في قول ثانٍ، «5» ومنهم من قال في الصفاح، كالبلاذري، وابن الأثير، والطبري، وابن مسكويه، والحموي، والدينوري، «6» ومنهم من قال إنهما التقيا بعد خروج الإمام عليه السلام من منطقة زُبالة، كالسيّد ابن طاووس (ره) حيث قال: «ثمّ إنّ الحسين عليه السلام سار

من زُبالة قاصداً لما دعاه اللّه إليه فلقيه الفرزدق الشاعر ..». «7»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 187

وقول السيّد ابن طاووس (ره)- على فرض أنّ الفرزدق كان في طريقه إلى مكّة- هو أبعد الأقوال، بل لايمكن أن يُؤخذ به! لأنّ الفرزدق لايمكن أن يُدرك الحجّ اذا كان قد التقى الإمام عليه السلام- الذي خرج من مكّة يوم التروية- قبل زبالة من جهة الكوفة، وذلك لبُعد المسافة التي تستغرق أيّاماً بين زبالة ومكّة المكرّمة، فعلى هذا تكون أيّام الحجّ قد انتهت والفرزدق عند زُبالة لم يصل بعدُ إلى مكّة!

أمّا أقرب الأقوال وأقواها هو ما رواه الشيخ المفيد والطبري وسبط ابن الجوزي من أنّ هذا اللقاء كان في أرض الحرم أطراف مدينة مكة، وفي بستان بني عامر على حدّ نقل سبط ابن الجوزي، وذلك لأنّ هذا اللقاء كان في يوم التروية، فلابدّ أن يكون مكان اللقاء على هذا القرب- قريباً جدّاً- من مكّة حتّى يستطيع الفرزدق مع أمّه إدراك أعمال الحجّ في وقتها.

نعم، يمكن أن نحتمل إمكان أن الفرزدق لقي الإمام عليه السلام ما بعد زُبالة- على قول السيد ابن طاووس (ره)- فقط على فرض أنّ هذا اللقاء كان اللقاء الثاني بينهما- بعد عودة الفرزدق من مكّة بعد أدائه الحجّ- وهو احتمال بعيد، لبعد المسافة بين مكّة وزبالة التي هي قريب من القادسية! نعم، يمكن أن يُقال بإمكان ذلك إذا كان الفرزدق قد ترك مكّة مباشرة بعد انتهاء أعمال الحجّ، وجدَّ في السير على أثر الإمام عليه السلام فلم يَلوِ على شي ء حتّى أدرك الإمام عليه السلام فيما بعد زُبالة، ولكن لم نعثر على إشارة تأريخية تفيد أنّ الفرزدق قد قام بهذا فعلًا!

وإذا صحَّ أنّ هذا اللقاء- على رواية السيّد

ابن طاووس (ره)- كان اللقاء الثاني بينهما، بعد عودة الفرزدق من الحجّ، فلايُستبعد عندئذٍ ما رواه السيّد (ره) من أنّ الفرزدق بعد أن سلّم على الإمام عليه السلام قال: «يا ابن رسول اللّه كيف تركن إلى أهل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 188

الكوفة وهم الذين قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته!؟»، «1» ذلك لأنّ خبر مقتل مسلم عليه السلام آنئذٍ كان قد شاع في الديار، أو أنّ الفرزدق على الأقلّ كان قد علم خبره من أوساط الركب الحسيني نفسه قبل سلامه على الإمام عليه السلام وقد استدلّ بعض المحقّقين «2» على أنّ الصحيح هو أنّ لقاء الفرزدق مع الإمام عليه السلام كان في الصفاح لأنّ الفرزدق نظم في ذلك شعراً، وهو استدلال ساذج لإمكان أن ينظم هذا الشعر غير الفرزدق ثمّ ينسبه إليه!

وفي ختام البحث حول لقاء الفرزدق مع الإمام عليه السلام، يحسن هنا أن ننقل نصّ المحاورة بينهما- على رواية الإربلي (ره)- عن لسان الفرزدق أنه قال: «لقيني الحسين عليه السلام في منصرفي من الكوفة، فقال: ما وراءك يا أبافراس؟

قلت: أُصْدِقُك؟

قال: الصدقُ أُريد!

قلت: أمّا القلوب فمعك، وأمّا السيوف مع بني أميّة! والنصر من عند اللّه.

قال: ما أراك إلّا صدقتَ! الناس عبيدالمال! والدّين لغو (لعق) على ألسنتهم، يحوطونه مادرّت به معايشهم! فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الديّانون!». «3»

4)- ذات عرق ..... ص : 188

اشارة

«ذات عرق مَهَلُّ أهل العراق، وهو الحدُّ بين نجد وتُهامة، وقيل: عرق جبل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 189

بطريق مكّة، ومنه ذات عرق ...». «1»

«ويعتبر السُنّة ذات عرق ميقات العراقيين وأهل الشرق، بينما يحتاط فقهاء الإمامية بالإحرام من المسلخ وهو أبعدُ عن مكّة، وتبعد ذات عرق مرحلتين عن مكّة (أي حوالي 92 كم).». «2»

لقاء بشر بن غالب الأسدي «3» مع الإمام عليه السلام! ..... ص : 189
اشارة

قال السيد ابن طاووس (ره): «ثُمّ سار حتّى بلغ ذات عرق فلقي بشر بن غالب وارداً من العراق، فسأله عن أهلها، فقال: خلّفت القلوب معك، والسيوف مع بني اميّة! فقال عليه السلام: صدق أخو بني أسد، إنّ اللّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 190

إشارة: ..... ص : 190

في لقاء الإمام عليه السلام مع كلّ من الفرزدق وبشر بن غالب، نلاحظ أنّ كُلًّا من الرجلين كان قد أخبر الإمام عليه السلام أنّ القلوب في الكوفة معه وأنّ السيوف مع بني أُميّة! وكان هذا قبل مجي ء خبر مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام! ونلاحظ أيضاً أنّ الإمام عليه السلام قد صدّق كُلًّا من الرجلين! فهذا التصديق من أوثق الدلائل التأريخية على علم الإمام عليه السلام منذ البدء بأنّ أهل الكوفة سوف يخذلونه ويقتلونه، وكان عالماً منذ البدء بأنّ مصيره الشهادة.

تأمّل:

أين مضى بشر بن غالب بعد لقائه بالإمام عليه السلام!؟ ولماذا لم يلتحق به وينضمّ إلى ركبه!؟ وهو الذي روى عنه عليه السلام خاصة من الدعاء، وفي ثمرة حبّ أهل البيت عليهم السلام، وفي الإمامة، وفي أخبار القائم عليه السلام، وفي غير ذلك، مايكشف عن معرفته واعتقاده بأهل البيت عليهم السلام وحبّه لهم!؟

هل كان معذوراً في مفارقته الإمام عليه السلام وفي عدم نصرته!؟ هذا مالا نعلم عنه شيئاً حسب متابعتنا القاصرة، وهو ممّا سكت عنه المؤرّخون والرجاليون!

والفرزدق .. مرّة أخرى!؟ ..... ص : 190

روى البلاذري عن الزبير بن الخرّيت قال: «سمعت الفرزدق قال: لقيتُ الحسين بذات عرق وهو يريد الكوفة، فقال لي: ما ترى أهل الكوفة صانعين، فإنَّ معي جُملًا من كتبهم؟ قلت: يخذلونك فلاتذهب، فإنّك تأتي قوماً قلوبهم معك وأيديهم عليك! فلم يُطعني!». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 191

وقد مرَّ بنا في الإجابة عن هذا السؤال: أين لقي الفرزدق الإمام عليه السلام بالضبط؟

أنّ أقرب الأقوال وأقواها هو أنّ الفرزدق لقي الإمام عليه السلام في بستان بني عامر على مشارف مكّة وأوائل الأرض الحرام، لأنّ هذا اللقاء ينبغي أن يكون يوم التروية- يوم خروج الإمام عليه السلام من مكّة- وينبغي أن يكون قريباً

جدّاً من مكّة، حتّى يستطيع الفرزدق إدراك أعمال الحجّ في وقتها.

هل لقي الإمام عليه السلام بذات عرق عون بن عبداللّه بن جعدة؟ ..... ص : 191

وروى البلاذري أيضاً فقال: «قالوا: ولحق الحسين عون بن عبداللّه بن جعدة بن هبيرة بذات عرق بكتاب من أبيه يسأله فيه الرجوع، وذكر ما يخاف عليه من مسيره! فلم يُعجبه!». «1»

يُستفاد من نصّ هذه الرواية أنّ عوناً هذا كان في مكّة وسار حتى أدرك الإمام عليه السلام بذات عرق، بدليل كلمة «ولحق»، وأنّ أباه عبداللّه موجود في مكّة المكرّمة، بدليل عبارة «يسأله فيه الرجوع».

فالظاهر أنّ الراوي قد اشتبه فذكر إسم عون بن عبداللّه بن جعدة بدلًا من إسم عون بن عبداللّه بن جعفر!

يؤيّد هذا: أوّلًا: أنّ التأريخ حدّثنا عن التحاق عون ومحمّد ولدي عبداللّه بن جعفر بن أبي طالب بالإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة.

وثانياً: أنّ التأريخ حدّثنا أيضاً أنّ بني جعدة بن هبيرة المخزومي كانوا في الكوفة، وقد كان بنوجعدة ممّن اجتمع من الشيعة في دار سليمان بن صرد الخزاعي بعد شهادة الإمام الحسن عليه السلام، وكتبوا إلى الإمام عليه السلام يعزّونه، ويخبرونه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 192

بحسن رأي أهل الكوفة فيه، وحبّهم لقدومه، وتطلّعهم إليه ... «1»

فضلًا عن كلّ هذا، فإنّ هذا الخبر مما تفرّد به البلاذري، ولم نعثر عليه عند مؤرّخ آخر، ليساعدنا على كشف غموضه ورفع اضطرابه.

5)- الحاجر من بطن الرمّة ..... ص : 192

اشارة

«بضمّ الراء، وتشديد الميم .. وهو وادٍ معروف بعالية نجد، وقال ابن دريد:

الرُمَّةُ قاع عظيم بنجد، تنصبّ إليه أودية.» «2» و «الحاجرُ: بالجيم والراء، وفي لغة العرب: مايمسكُ الماء من شفة الوادي ..» «3» و «بطن الرمّة: منزل لأهل البصرة إذا أرادوا المدينة، وفيه يجتمع أهل الكوفة والبصرة، ويقع شمال نجد ..». «4»

روى الطبري قائلًا: «ولمّا بلغ عبيداللّه إقبال الحسين من مكّة الى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شُرطه حتى نزل القادسية، ونظّم الخيل

ما بين القادسية إلى خفّان، ومابين القادسية إلى القطقطانة، وإلى لعلع، وقال للناس: هذا الحسين يُريد العراق!». «5»

ثُمَّ إنّ الحسين عليه السلام: «أقبل حتّى إذا بلغ الحاجر من بطن الرمّة، بعث قيس بن مسهّر الصيداوي إلى أهل الكوفة، «6» وكتب معه إليهم:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 193

(بسم اللّه الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين. سلام عليكم، فإنّي أحمد إليكم اللّه الذي لا إله إلّا هو، أمّا بعدُ:

فإنّ كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألتُ اللّه أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا، فإنّي قادم عليكم في أيّامي هذه إن شاء اللّه، والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.)، ..

وأقبل قيس بن مسهّر الصيداوي إلى الكوفة بكتاب الحسين، حتى إذا انتهى الى القادسية أخذه الحصين بن نمير، فبعث به إلى عبيداللّه بن زياد، فقال له عبيداللّه: إصعد إلى القصر، فسُبَّ الكذّاب ابن الكذّاب!

فصعد، ثمّ قال: أيها الناس، إنّ هذا الحسين بن عليّ خير خلق اللّه، ابن فاطمة بنت رسول اللّه، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر، فأجيبوه. ثم لعن عبيداللّه بن زياد وأباه، واستغفر لعليّ بن أبي طالب.

قال: فأمر به عبيداللّه بن زياد أن يُرمى به من فوق القصر، فرُمي به فتقطّع فمات.». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 194

وقال السيد ابن طاووس (ره): «قال الراوي وكتب الحسين عليه السلام كتاباً إلى سليمان بن صُرَد الخزاعي، والمسيّب بن نجبة، ورفاعة بن شدّاد، وجماعة من الشيعة بالكوفة، وبعث به مع قيس بن مسهّر الصيداوي، فلمّا قارب

دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير صاحب عبيداللّه بن زياد لعنه اللّه ليفتّشه فأخرج قيس الكتاب ومزّقه، فحمله الحصين بن نمير إلى عبيداللّه بن زياد، فلمّا مثل بين يديه قال له: من أنت؟

قال: أنا رجل من شيعة أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وابنه!

قال: فلماذا خرقتَ الكتاب!؟

قال: لئلّا تعلم ما فيه!

قال: وممّن الكتاب وإلى من!؟

قال: من الحسين عليه السلام إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم!

فغضب ابن زياد وقال: واللّه لاتفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم، أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن عليّ وأباه وأخاه! وإلّا قطّعتك إرباً إرباً!

فقال قيس: أمّا القوم فلا أُخبرك بأسمائهم! وأمّا لعن الحسين عليه السلام وأبيه وأخيه فأفعل!

فصعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، وصلّى على النبيّ صلى الله عليه و آله، وأكثر من الترحّم على عليّ والحسن والحسين صلوات اللّه عليهم، ثمّ لعن عبيداللّه بن زياد وأباه، ولعن عُتاة بني أميّة عن آخرهم! ثمّ قال: أيها النّاس، أنا رسول الحسين عليه السلام إليكم، وقد خلّفته بموضع كذا فأجيبوه. فأُخبر ابن زياد بذلك، فأمر بإلقائه من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 195

أعالي القصر، فأُلقي من هناك فمات، فبلغ الحسين عليه السلام موته فاستعبر بالبكاء ثمّ قال:

أللّهمّ اجعل لنا ولشيعتنا منزلًا كريماً واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك إنّك على كلّ شي ء قدير.

وروي أنّ هذ الكتاب كتبه الحسين عليه السلام من الحاجر، وقيل غير ذلك.». «1»

قيس بن مُسهَّر (رض) أم عبداللّه بن يقطر (رض)؟ ..... ص : 195

هناك قضية لم تزل غامضة مبهمة على أكثر المتتبعين لحركة أحداث النهضة الحسينية- والقضايا الغامضة في إطار هذه النهضة المقدّسة كثيرة!- وهي:

هل أن الرسول الذي بعثه الإمام عليه السلام أثناء الطريق بعد الخروج من مكّة الى العراق، فأُلقي القبض عليه في القادسية، ثمّ أمر به ابن

زياد فأُلقي مكتوفاً من أعلى القصر فقضى نحبه، هو قيس بن مُسهّر (رض) أم عبداللّه بن يقطر (رض)!؟

ولقد عبّر الشيخ المفيد (ره) عن هذا الغموض والإبهام أفضل تعبير بقوله:

«ويُقال بل بعث أخاه من الرضاعة عبداللّه بن يقطر إلى الكوفة ..». «2»

أم أنّ كلًّا منهما كان رسولًا للإمام أثناء الطريق إلى الكوفة، وكُلًّا منهما أُلقي عليه القبض في القادسية، وكُلًّا منهما أمر به ابن زياد فأُلقي من أعلى القصر فمضى شهيداً!؟

أم أن هناك تفاوتاً بين قصتي هذين الشهيدين العظيمين؟

من أجل استكشاف الحقيقة وإزالة الإبهام والغموض في هذا الصدد نضع

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 196

الملاحظات التالية بين يدي القارى ء الكريم:

1)- تؤكّد مصادر تأريخية على أنّ كُلًّا من هذين الشهيدين كان رسولًا للإمام عليه السلام إلى الكوفة، لكنها تحدّد المكان الذي أرسل الإمام عليه السلام منه قيس بن مسهّر (رض) إلى الكوفة وهو الحاجر من بطن الرمّة، ولاتحدد المكان الذي أرسل الإمام عليه السلام منه ابن يقطر (رض) الى الكوفة ولازمان ذلك، فمثلًا: يقول مؤرّخون: «ثمّ إنّ الحسين لمّا وصل الى الحاجر من بطن الرمّة كتب كتاباً الى مسلم وإلى الشيعة بالكوفة وبعثه مع قيس ..» «1» لكنهم بصدد ابن يقطر يقولون: «وكان قد سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لايدري أنه أصيب». «2»

نعم، هناك ملاحظة مهمة صرّح بها الشيخ السماوي (ره) قائلًا: «وقال ابن قتيبة وابن مسكويه: إنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مسهّر .. وإنَّ عبداللّه بن يقطر بعثه الحسين عليه السلام مع مسلم، فلمّا أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمَّ عليه ماتمّ بعث عبداللّه إلى الحسين يخبره بالأمر ..»، «3» فإذا صحّ هذا يكون رسول الإمام عليه السلام الى الكوفة أثناء الطريق هو قيس

بن مسهّر لاسواه.

2)- على فرض أنّ عبداللّه بن يقطر (رض) كان أيضاً رسولًا من قبل الإمام عليه السلام الى الكوفة بعد خروجه من مكّة، فإنّ إرساله الى الكوفة كان قبل إرسال قيس بن مسهّر (رض) زمانياً، وقبل منطقة الحاجر من بطن الرمّة مكانياً، ذلك لأنه- على الأقلّ- كان قد وصل الى القادسية وأُخذ وقُتل بإلقائه من أعلى القصر قبل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 197

فترة من وصول قيس بن مسهّر (رض) الذي قتل بعد مقتل مسلم عليه السلام، بدليل أنّ خبر مقتل عبداللّه بن يقطر (رض) كان قد وصل الى الامام الحسين عليه السلام- بزبالة- بعد خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني بن عروة (رض) بقليل، فنعاهم الإمام عليه السلام قائلًا:

«أمّا بعدُ، فقد أتانا خبرٌ فظيع! قُتل مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، وعبداللّه بن يقطر ..»، «1» وأمّا خبر مقتل قيس (رض) فقد بلغ الإمام عليه السلام- بعد ذلك بفترة- في عذيب الهجانات. «2»

إذن لامانع من أن يكون كلّ منهما رسولًا للإمام عليه السلام إلى الكوفة بعد خروجه عليه السلام من مكّة، لكنّ إرسال ابن يقطر (رض) كان قبل إرسال ابن مسهّر (رض)، وقد قُتلا بنفس القتلة بالإلقاء من أعلى القصر، لكنّ ابن يقطر (رض) قُتل قبل ابن مسهّر (رض) بفترة.

3)- هناك مصادر تأريخية تقول إنّ عبداللّه بن يقطر (رض) كان رسولًا من قبل مسلم عليه السلام، فقُبض عليه بعد خروجه من الكوفة عند أطرافها قريباً من القادسية، وكان مقتله قبل مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام، فقد ورد في رواية ابن شهرآشوب أنّ عبيداللّه بن زياد بعد أن زار شريك بن الأعور الحارثي في مرضه (في بيت هاني ء بن عروة)، وجرى ما جرى من حثّ شريك

مسلماً عليه السلام على قتل عبيداللّه من خلال رمز «ما الإنتظار بسلمى أن تحييها ..»، فأوجس عبيدالله منهم خيفة فخرج: «فلمّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبداللّه بن يقطر، فإذا فيه: للحسين بن عليّ، أما بعدُ: فإنّي أخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل، فإنّ النّاس معك،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 198

وليس لهم في يزيد رأي ولاهوى. فأمر ابن زياد بقتله.»، «1» وكذلك روى السيّد محمد بن أبي طالب في كتابه تسلية المجالس، «2» فإذا أضفنا إلى هاتين الروايتين ماذكره الشيخ السماوي (ره) عن ابن قتيبة وابن مسكويه من أنّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد أرسل عبداللّه بن يقطر (رض) مع مسلم عليه السلام، فلمّا أن رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمّ عليه ماتمّ بعث عبداللّه إلى الحسين يخبره بالأمر .. «3»

يتحقّق إذن على أساس ذلك تفاوت بيّن بين قصتي هذين الشهيدين (رض)، إذ يكون عبداللّه بن يقطر (رض) مبعوثاً مع مسلم عليه السلام إلى الكوفة من مكّة- أو رسولًا من قبل الإمام عليه السلام إلى الكوفة بعد خروجه من مكّة- وحين أُلقي القبض عليه كان حاملًا كتاباً من مسلم عليه السلام إلى الإمام عليه السلام، لا كحال قيس بن مسهّر (رض) الذي أُلقي عليه القبض وهو رسول من الإمام عليه السلام يحمل كتاباً منه إلى الكوفة، إلى مسلم عليه السلام أو إلى بعض وجوه الشيعة فيها.

والمسألة لاتزال بحاجة الى مزيد من البحث والتنقيب والتحقيق، وباب المعرفة لازال مفتوحاً على مصراعيه، فكم ترك الأول للآخر!

اللقاء الثاني لعبداللّه بن مطيع «4» مع الامام عليه السلام ..... ص : 198
اشارة

قال الشيخ المفيد (ره): «ثمّ أقبل الحسين عليه السلام من الحاجر يسير نحو الكوفة، فانتهى إلى ماء من

مياه العرب، فإذا عليه عبداللّه بن مطيع العدوي وهو نازل به، فلمّا رأى الحسين عليه السلام قام إليه فقال: بأبي أنت وأمّي يا ابن رسول اللّه، ما أقدمك!؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 199

واحتمله فأنزله فقال له الحسين عليه السلام:

كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إليَّ أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم.

فقال له عبداللّه بن مطيع: أذكرّك اللّه يا ابن رسول اللّه وحرمةَ الإسلام أن تُنتهك! أُنشدك اللّه في حرمة قريش! أنشدك اللّه في حرمة العرب! فواللّه لئن طلبت ما في أيدي بني أميّة ليقتلُنَّك، ولئن قتلوك لايهابون بعدك أحداً أبداً، واللّه إنها لحرمة الإسلام تُنتهك وحرمة قريش وحرمة العرب! فلاتفعل ولاتأت الكوفة، ولاتعرّض نفسك لبني أميّة.

فأبى الحسين عليه السلام إلّا أن يمضي!». «1»

إشارة: ..... ص : 199

كان هذا هو اللقاء الثاني لعبداللّه بن مطيع العدويّ مع الإمام عليه السلام، إذ كان اللقاء الأوّل بينهما بين المدينة ومكّة، عند بئر لهذا العدوي كان يحفره آنذاك، «2» وهذا العدوي: «رجل من قريش، همّه العافية والمنفعة الذاتية، وحرصه على مكانة قريش والعرب أكبر من حرصه على الإسلام، وهو ليس من طلّاب الحقّ ولامن أهل نصرته والدفاع عنه، وكاذب في دعوى مودّة أهل البيت عليهم السلام مع معرفته

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 200

بمنزلتهم الخاصة عنداللّه تبارك وتعالى ... ونرى ابن مطيع هذا يكشف عن كذبه في دعوى حبّه للإمام عليه السلام، حين انضمّ الى ابن الزبير وصار عاملًا له على الكوفة «فجعل يطلب الشيعة ويخيفهم»، «1» وقاتلهم في مواجهته لحركة المختار! واستعان عليهم بقتلة الإمام الحسين عليه السلام أنفسهم، أمثال شمر بن ذي الجوشن، وشبث بن ربعي، وغيرهم! وفي أوّل خطبة له في الكوفة أعلن عن عزمه على تنفيذ أمر ابن الزبير في السير بأهل

الكوفة بسيرة عمر بن الخطّاب وسيرة عثمان بن عفان! لكنّه فوجي ء بحنين أهل الكوفة إلى سيرة عليّ عليه السلام ورفضهم للسير الأخرى ..». «2»

ولقد كان الإمام الحسين عليه السلام يعرفه تمام المعرفة! ويعرف حقيقة دعاواه! وكان يعامله بأدبه الإسلاميّ السامي، فلا يكذّب له دعواه في المودّة وفي حرصه على ألّا يُقتل، لكنه عليه السلام لم يُطلعه على شي ء من أمر نهضته إلّا بقدر ما يناسبه، ففي لقائه الأوّل معه لم يكشف له إلّا عن مقصده المرحلي (مكّة)، ولم يكشف له عن شي ء مما بعدها إلّا «فإذا صرت إليها استخرتُ اللّه تعالى في أمري بعد ذلك!» «3»

أو «يقضيّ اللّه ما أَحبَّ!»، «4» أمّا في لقائه الثاني فكان لابدّ- وقد رآه في الطريق إلى العراق- أن يكشف له عن ظاهر علّة سفره إلى العراق، أي رسائل أهل الكوفة إليه عليه السلام، ويُلاحظ بوضوح أنّ الإمام عليه السلام في كلا اللقائين لم يكن يعبأ بمعارضة العدويّ هذا وإصراره وتوسّلاته، بل كان عليه السلام يمرّ به مرور الكرام!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 201

6)- الخُزَيْميَّةُ ..... ص : 201

«بضم أوّله وفتح ثانيه، تصغير خزيمة، منسوبة إلى خزيمة بن خازم فيما أحسب، وهو منزل من منازل الحجّ بعد الثعلبية من الكوفة وقبل الأجفر، وقال قوم: بينه وبين الثعلبية إثنان وثلاثون ميلًا، وقيل: إنه الحزيمية بالحاء المهملة.». «1»

وقيل: «الخزيميّة: نسبة الى خزيمة بن حازم، وهي قبل زرود» «2».

قال ابن أعثم الكوفي: «وسار الحسين حتى نزل الخزيميّة، وأقام بها يوماً وليلة، فلمّا أصبح أقبلت إليه أخته زينب بنت عليّ فقالت: يا أخي ألا أُخبرك بشي ء سمعته البارحة!؟

فقال الحسين عليه السلام: وما ذاك؟

فقالت: خرجت في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً بهتف وهو يقول:

أَلا ياعَيْنُ فاحتفلي بجهدِ ومن يبكي على

الشهداء بعدي

على قومٍ تسوقهمُ المنايا بمقدارٍ إلى إنجاز وعدِ

فقال لها الحسين عليه السلام: يا أُختاه! المقضيُّ هو كائن!». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 202

7)- زَرُود ..... ص : 202

اشارة

«الزَرْدُ: البَلْعُ، ولعلّها سُميّت بذلك لابتلاعها المياه التي تمطرها السحائب، لأنها رمال بين الثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة .. وتسمّى زرود العتيقة، وهي دون الخزيميّة بميل، وفي زرود بركة وقصر وحوض!». «1»

إنضمام زهير بن القين (رض) إلى الركب الحسيني! ..... ص : 202

قال الدينوري: «ثُمَّ سار حتّى انتهى إلى زَرود، فنظر إلى فسطاط مضروب، فسأل عنه، فقيل له: هو لزهير بن القين. وكان حاجّاً أقبل من مكّة يريد الكوفة، فأرسل إليه الحسين: أَنْ الْقَني أُكَلِّمْكَ.

فأبى أن يلقاهُ! وكانت مع زهير زوجته، فقالت له: سبحان اللّه! يبعث إليك ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله فلا تجيبه!؟

فقام يمشي إلى الحسين عليه السلام، فلم يلبثْ أن انصرف وقد أشرق وجهه! فأمر بفسطاطه فقُلِعَ، وضُرب إلى لزِق فسطاط الحسين!

ثُمّ قال لامرأته: أنتِ طالق! فتقدّمي مع أخيكِ حتّى تصلي إلى منزلك، فإنّي قد وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام!

ثم قال لمن كان معه من أصحابه: من أحبَّ منكم الشهادة فَلْيُقِمْ، ومن كرهها فليتقدّم.

فلم يُقم معه منهم أحد! وخرجوا مع المرأة وأخيها حتّى لحقوا بالكوفة». «2»

وروى الطبري في تأريخه عن رجل من بني فزارة قال: «كُنّا مع زهير بن القين

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 203

البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين! فلم يكن شي ء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل! فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير! حتّى نزلنا يومئذٍ في منزل لم نجد بُدّاً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدّى من طعام لنا إذا أقبل رسول الحسين حتّى سلّم ثُمَّ دخل، فقال: يا زهير بن القين، إنّ أبا عبداللّه الحسين بن عليّ بعثني إليك لتأتيه.

قال فطرح كلُّ إنسان ما في يده حتّى

كأننا على رؤوسنا الطير!». «1»

ثم يواصل الطبري قصة هذا الحدث قائلًا: «قال أبومخنف: فحدّثتني دلهم بنت عمرو إمرأة زهير بن القين قالت: فقلت له: أيبعث إليك ابن رسول اللّه ثمّ لاتأتيه!؟ سبحان اللّه، لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفتَ!

قالت: فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه! قالت:

فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقُدِّم وحُمل الى الحسين! ثُمّ قال لامرأته: أنت طالقٌ، إلحقي بأهلك فإنّي لا أُحبُّ أن يُصيبك من سببي إلّا خير!

ثمّ قال لأصحابه: من أحبَّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنّه آخر العهد!

إنّي سأحدّثكم حديثاً: غزونا بَلَنْجَر «2» ففتح اللّه علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهليّ: «3» أفرحتم بما فتح اللّه عليكم وأصبتم من المغانم؟

فقلنا: نعم.

فقال لنا: إذا أدركتم شباب «4» آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم بما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 204

أصبتم من الغنائم. فأمّا أنا فإنّي استودعكم اللّه! ..». «1»

وفي رواية السيّد ابن طاووس (ره) أنّ زهير بن القين (رض) كان قد قال لزوجه فيما قال لها: «وقد عزمتُ على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بنفسي، وأقيه بروحي. ثمّ أعطاها مالها، وسلّمها إلى بعض بني عمّها ليوصلها إلى أهلها، فقامت إليه وبكت وودّعته وقالت: كان اللّه عوناً ومعيناً، خار اللّه لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدِّ الحسين عليه السلام! ...». «2»

زهير بن القين (رض)

هو زهير بن القين بن قيس الأنماري البجلي، كان رجلًا شريفاً في قومه، نازلًا فيهم بالكوفة، شجاعاً، له في المغازي مواقف مشهورة ومواطن مشهودة .. حجّ سنة ستين في أهله، ثمّ عاد فوافق الحسين عليه السلام في الطريق .. «3» فلحق به ولازمه حتّى استشهد بين يديه في كربلاء.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 205

وقد ورد السلام

عليه في زيارة الناحية: «السلام على زهير بن القين البجلي القائل للحسين عليه السلام وقد أذن له في الإنصراف: لا واللّه، لا يكون ذلك أبداً! أأترك ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أسيراً في يد الأعداء وأنجو أنا!؟ لا أراني اللّه ذلك اليوم.». «1»

وكانت لزهير (رض) مواقف جليلة فذّة مع الإمام عليه السلام منذ أن انضمّ إلى ركبه حتى استشهد بين يديه، يذكرها التأريخ وتقرأها الأجيال فتخشع إكباراً وتعظيماً لهذه الشخصية الإسلامية السامية، ومن هذه المواقف:

لمّا بلغ الركب الحسينيّ (ذا حسم) خطب الإمام عليه السلام أصحابه خطبته التي يقول فيها: «أمّا بعدُ، فإنّه نزل بنا من الأمر ما قد ترون ..» إلخ، قام زهير وقال لأصحابه: أتتكلّمون أم أتكلّم؟

قالوا: بل تكلّم.

فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: قد سمعنا هداك اللّه يا ابن رسول اللّه مقالتك، واللّه لو كانت الدنيا لنا باقية، وكُنّا فيها مخلّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا النهوض معك على الإقامة فيها! فدعا له الحسين وقال له خيراً.». «2»

وروى أبومخنف: عن الضحّاك بن عبداللّه المشرقي قال: لمّا كانت الليلة العاشرة خطب الحسين أصحابه وأهل بيته فقال في كلامه: «هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملًا، وليأخذ كلُّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فإنّ القوم إنّما يطلبوني»، فأجابه العبّاس عليه السلام وبقيّة أهله .. ثمّ أجابه مسلم بن عوسجة .. وأجابه سعيد .. ثم قام زهير فقال: واللّه لوددتُ أنّي قُتلت ثُمَّ نُشرتُ، ثمَّ قتلتُ حتّى أُقتل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 206

كذا ألف قتلة! وأنّ اللّه يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتية من أهل بيتك! «1»

وروى أبو مخنف عن عليّ بن حنظلة بن أسعد الشبامي، عن كثير بن

عبداللّه الشعبي البجلي قال: لمّا زحفنا قِبَل الحسين عليه السلام خرج إلينا زهير بن القين على فرسٍ له ذَنوب، وهو شاك في السلاح فقال: يا أهل الكوفة، نذارِ لكم من عذاب اللّه نذارِ! إنَّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة وعلى دين واحدٍ وملّة واحدة مالم يقع بيننا وبينكم السيف! فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أمّة وكنتم أمّة! إنّ اللّه قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّد صلى الله عليه و آله لينظر ما نحن وأنتم عاملون! إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية عبيداللّه بن زياد، فإنّكم لاتُدركون منهما إلّا السوء عُمَر سلطانهما كلّه، إنهما يسمّلان أعينكم، ويقطّعان أيديكم وأرجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل! ويقتّلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حُجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه!

قال: فسبّوه وأثنوا على عبيداللّه وأبيه! وقالوا: واللّه لانبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه! أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير!

فقال لهم زهير: عبادَ اللّه! إنّ ولد فاطمة عليها السلام أحقُّ بالودّ والنصر من ابن سميّة، فإنْ لم تنصروهم فأُعيذكم باللّه أنْ تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد، فلعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين عليه السلام!

قال فرماه شمر بسهم وقال له: أُسكتْ أَسَكتَ اللّه نامتك! فقد أبرمتنا بكثرة كلامك!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 207

فقال زهير: يا ابن البوّال على عقبيه! ما إيّاك أُخاطب، إنّما أنت بهيمة، واللّه ما أظنّك تُحكم من كتاب اللّه آيتين! فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال له شمر: إنّ اللّه قاتلك وصاحبك عن ساعة!

قال زهير: أفبالموت تخوّفني!؟ واللّه للموت معه أحبّ إليَّ من الخُلد معكم! قال: ثمّ أقبل على الناس رافعاً صوته، وصاح بهم: عبادَ اللّه! لايُغرنّكم عن دينكم هذا

الجلف الجافي وأشباهه، فواللّه لا تنال شفاعة محمّد صلى الله عليه و آله قوماً هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته! وقتلوا من نصرهم وذبّ عن حريمهم!

قال فناداه رجل من خلفه: يا زهير، إنّ أبا عبداللّه يقول لك:

أَقْبِلْ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح لقومه وأبلغ في الدعاء، لقد نصحت لهؤلاء وأبلغت لونفع النصح والإبلاغ! «1»

وبعد عدّة حملات وصولات له (رض) في يوم عاشوراء، رجع فوقف أمام الإمام الحسين عليه السلام وأنشد مودّعاً إيّاه:

فدتك نفسي هادياً مهديّاً أليوم ألقى جدّك النبيّا

وحسناً والمرتضى عليّا وذا الجناحين الشهيد الحيّا «2»

هل كان زهير بن القين عثمانياً!؟ ..... ص : 207
اشارة

الشائع في سيرة زهير بن القين (رض) أنه كان عثمانياً قبل التحاقه بالإمام الحسين عليه السلام، والعثماني أو عثمانيُّ الميل والهوى يومذاك مصطلح سياسي يعني- على الأقل- التأييد الكامل لبني أميّة في دعوى مظلومية عثمان بن عفان، ومعاداة

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 208

عليّ عليه السلام بسبب ذلك، ويعني- على الأكثر- الإشتراك في حرب أو أكثر ضدّ عليّ عليه السلام تحت راية المطالبة بالثأر لدم عثمان كما في الجمل وصفّين.

والظاهر أنّ أقدم مصدر تأريخي وردت فيه الإشارة بصراحة إلى عثمانية زهير بن القين (رض) هو تأريخ الطبري وأنساب الأشراف للبلاذري، فقد روى الطبري عن أبي مخنف، عن الحارث بن حصيرة، عن عبداللّه بن شريك العامري، بعض وقائع عصر تاسوعاء: كيف جاء شمر بأمانٍ من عبيداللّه بن زياد لأبي الفضل العباس وأخوته من أمّه عليهم السلام، وكيف رفض العباس وإخوته عليهم السلام هذا الأمان ولعنوا شمراً، ثم كيف أمر عمر بن سعد جيوشه بالزحف نحو معسكر أبي عبداللّه عليه السلام بعد صلاة العصر ذلك اليوم، ثمّ كيف أمر الإمام الحسين عليه السلام أخاه العبّاس عليه السلام أن يأتي القوم فيسألهم عمّا جاء

بهم، «فأتاهم العبّاس فاستقبلهم في نحوٍ من عشرين فارساً، فيهم زهير بن القين، وحبيب بن مظاهر، فقال لهم العبّاس: ما بدا لكم وما تريدون!؟

قالوا: جاء أمر الأمير بأن نعرض عليكم أن تنزلوا على حكمه أو ننازلكم!

قال: فلا تعجلوا حتّى أرجع إلى أبي عبداللّه فأعرض عليه ماذكرتم.

قال فوقفوا، ثمّ قالوا: إلْقَهْ فأَعلِمْهُ ذلك ثمّ الْقَنا بما يقول.

فانصرف العبّاس راجعاً يركض الى الحسين يخبره بالخبر، ووقف أصحابه يخاطبون القوم، فقال حبيب بن مظاهر لزهير بن القين: كلّم القومَ إنْ شئتَ، وإنْ شئت كلّمتهم. فقال له زهير: أنت بدأت بهذا، فكُنْ أنت تكلّمهم.

فقال له حبيب بن مظاهر: أما واللّه لبئس القوم عند اللّه غداً قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيّه عليه السلام وعترته وأهل بيته صلى الله عليه و آله وعباد أهل هذا المصر المجتهدين بالأسحار والذاكرين اللّه كثيراً!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 209

فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتُزكّي نفسك ما استطعت!

فقال له زهير: يا عزرة، إنّ اللّه قد زكّاها وهداها، فاتّقِ اللّه يا عزرة، فإنّي لك من الناصحين، أُنشدك اللّه يا عزرة أن تكون ممّن يعين الضُلّالَ على قتل النفوس الزكيّة!

قال: يا زهير، ماكنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كُنتَ عثمانياً!

قال: أفلستَ تستدلُّ بموقفي هذا أنّي منهم؟ أما واللّه ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلتُ إليه رسولًا قطّ، ولاوعدته نصرتي قطّ، «1» ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومكانه منه، وعرفتُ مايقدم عليه من عدّوه وحزبكم، فرأيت أنْ أنصره وأنْ أكون في حزبه، وأن أجعل نفسي دون نفسه حفظاً لما ضيعتم من حقّ اللّه وحقّ رسوله عليه السلام ...». «2»

وأما البلاذري فقد قال: «قالوا:

وكان زهير بن القين البجلي بمكّة، وكان عثمانياً، فانصرف من مكّة متعجّلًا، فضمّه الطريق وحسيناً فكان يسايره ولاينازله، ينزل الحسين في ناحية وزهير في ناحية، فأرسل الحسين إليه في إتيانه، فأمرته إمرأته ديلم بنت عمرو أن يأتيه فأبى! فقالت: سبحان اللّه! أيبعث إليك ابن بنت رسول اللّه فلاتأتيه؟ فلمّا صار إليه ثمّ انصرف إلى رحله قال لامرأته: أنت طالق! فالحقي بأهلك فإنّي لا أحبّ أن يُصيبك بسببي إلّا خيراً. ثمّ قال لأصحابه: من أحبّ منكم أن يتّبعني وإلّا فإنه آخر العهد! وصار مع الحسين.». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 210

كما أنّ الطبري أيضاً حدّثنا كذلك عن كراهيّة زهير (رض) أن ينزل مع الإمام عليه السلام نفس منازله في الطريق، فيما رواه عن أبي مخنف، عن السدّي، عن رجل من بني فزارة: «كنّا مع زهير بن القين البجليّ حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين! فلم يكن شي ء أبغض إلينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين تخلّف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدّم زهير، حتّى نزلنا يومئذٍ في منزل لم نجد بُدّاً من أن ننازله فيه ...». «1»

وساعد على ذلك أيضاً ما في رواية الدينوري أنّ زهيراً أبى أن يذهب إلى لقاء الإمام عليه السلام حين استدعاه في زرود: «فأبى أن يلقاه». «2»

ولنا في كلّ هذا كلام: ..... ص : 210

1)- رواية منازل الطريق التي رواها الطبري عن (رجل من بني فزارة!) فضلًا عن ضعف سندها- بمجهولية الفزاري- لايستقيم محتوى متنها مع الحقيقة التأريخية والجغرافية، ذلك لأنّ زهير بن القين (رض) كان عائداً من مكّة إلى الكوفة بعد الإنتهاء من أداء الحجّ، فلو فرضنا أنّه قد خرج من مكّة بعد انتهاء مراسم الحجّ مباشرة فإنه يكون قد خرج منها في اليوم الثالث عشر

من ذي الحجّة على الأقوى، وبهذا يكون الفرق الزمني بين يوم خروجه ويوم خروج الإمام عليه السلام منها خمسة أيّام على الأقلّ، وإذا كان هذا فكيف يصحّ ما في متن الرواية: «كنّا مع زهير بن القين البجلي حين أقبلنا من مكّة نساير الحسين! ...» «3» الدّال- حسب

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 211

الظاهر- أنّهم سايروا الإمام عليه السلام من مكّة!؟

أمّا رواية البلاذري فيكفي في عدم الإعتماد عليها أنها مأخوذة عن وكالة أنباء (قالوا)!

ولو أننّا افترضنا أنّ زهير بن القين (رض) بادر بعد الفراغ من أداء مناسك الحجّ «فانصرف من مكّة متعجّلًا»- على ما في رواية البلاذري- وجدَّ السير لايلوي على شي ء، فإنّ الفارق الزمني في أثره على الفارق المكاني قد لايتغيّر، ويبقى كما هو على الأقوى، لأنّ الإمام عليه السلام- حسب متون تأريخية عديدة- كان قد خرج من مكّة يجدّ السير أيضاً نحو العراق ولايلوي على شي ء!

من هنا، فإننا نحتمل احتمالًا قويّاً أنّ أوّل المنازل التي اشترك فيها الإمام عليه السلام مع زهير (رض) هو منزل زرود نفسه، لابسبب أنّ زهيراً كان يتحاشى الإشتراك مع الإمام عليه السلام في المنازل قبل زرود، بل لأنّ هذا المنزل هو المنزل الأوّل الذي يمكن أن يكونا فيه معاً! يعني أوّل المنازل التي يمكن لزهير (رض)- بسبب تعجّله!- أن يُدرك الإمام عليه السلام عنده.

2)- من المؤرّخين من روى قصة لقاء الإمام عليه السلام مع زهير (رض) دون أن يرد في روايته أي ذكر لامتناع زهير (رض) من الذهاب إليه عليه السلام كما ذكر الدينوري: «فأبى أن يلقاه!» والبلاذري: «فأمرته إمرأته ديلم بنت عمرو أن يأتيه فأبى!»، هذا الإمتناع المُفسَّر على أساس عثمانية زهير (رض)!

فهاهو ابن أعثم الكوفيّ- المعاصر لكلّ من الطبري والدينوري

والبلاذري- يروي قصة هذا اللقاء- بدون أي ذكر للعثمانية أو للإمتناع- قائلًا: «ثُمَّ مضى الحسين فلقيه زهير بن القين، فدعاه الحسين إلى نصرته فأجابه لذلك، وحمل إليه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 212

فسطاطه، وطلّق امرأته، وصرفها إلى أهلها، وقال لأصحابه: إنّي كنتُ غزوتُ بلنجر مع سلمان الفارسي، فلمّا فتح علينا اشتدّ سرورنا بالفتح، فقال لنا سلمان: لقد فرحتم بما أفاء اللّه عليكم! قلنا: نعم.

قال: فإذا أدركتم شباب آل محمّد صلى الله عليه و آله فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالكم معه منكم بما أصبتم اليوم. فأنا أستودعكم اللّه تعالى! ثمّ مازال مع الحسين حتّى قُتِلَ.». «1»

3)- لم يحدّثنا التأريخ في إطار سيرة زهير بن القين (رض) عن أيّ واقعة أو حدث أو محاورة أو تصريح من زهير نفسه تتجلّى فيه هذه العثمانية التي أُلْصقت فيه! مع أنّ الآخرين ممّن عُرفوا بعثمانيتهم كانوا قد عُرفوا بها من خلال آرائهم ومواقفهم واشتراكهم في حرب أو أكثر ضدّ عليّ عليه السلام!

4)- وإذا تأمّلنا جيّداً في ماقاله عزرة بن قيس لزهير (رض) وما ردّ به زهير (رض)- على ما في رواية الطبري- يتجلّى لنا أنّ زهير بن القين (رض) لم يكن عثمانيّاً في يوم من الأيّام! ذلك لأنّ زهير (رض) أجاب عزرة الذي اتهمه بالعثمانية فيما مضى قائلًا: «أفلستَ تستدلُّ بموقفي هذا أنّي منهم!؟» أي من أهل هذا البيت عليهم السلام رأياً وميلًا وانتماءً.

ولم يقل له مثلًا: نعم كنتُ عثمانياً كما تقول، ثمّ هداني اللّه فصرت من أتباع أهل هذا البيت عليهم السلام وأنصارهم، أو ما يشبه ذلك.

بل كان في قوله: «أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم» نفيٌ ضمنيٌّ لعثمانيته مطلقاً في الماضي والحاضر، ثمّ إنّ سكوت عزرة بعد ذلك عن الردّ كاشف عن

تراجعه عن تهمة العثمانيّة، فتأمّل.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 213

5)- إنّ التأمّل يسيراً في أقوال زهير بن القين (رض) وفي قول زوجه وموقفها، يكشف عن أنّ زهيراً (رض) وزوجه كانا يعرفان حقّ أهل البيت عليهم السلام وتعمر قلبيهما مودّتهم، تأمّلْ في قوله لزوجه- على ما في رواية السيّد ابن طاووس-: «وقد عزمت على صحبة الحسين عليه السلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي»، وفي قولها له: «كان اللّه عوناً ومعينا، خار اللّه لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام!»، أو قوله لها- على ما في رواية الدينوري-: «فإنّي قد وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام»، وقوله لأصحابه: «من أحبّ منكم الشهادة فَلْيُقِمْ ..»، وإخباره إيّاهم بحديث سلمان الفارسي (رض)- على ما في رواية الإرشاد-: «اذا أدركتم سيّد شباب آل محمّد فكونوا أشدّ فرحاً بقتالكم معهم ..»!

وتأمّل بتعمق أكثر في قوله: «وطّنتُ نفسي على الموت مع الحسين عليه السلام، وقوله: «من أحبّ منكم الشهادة فليقم ..»، وقوله زوجه: «أسألك أن تذكرني في القيامة عند جدّ الحسين عليه السلام، وقوله لأصحابه: «من أحبّ منكم أن يتبعني وإلّا فإنه آخر العهد!»، تجد أنّ هذه العائلة الكريمة كانت على علمٍ بأنّ الإمام عليه السلام سيستشهد في سفره هذا مع أنصاره من أهل بيته وأصحابه، وذلك قبل أن تظهر في الأفق معالم الإنكسار الظاهري، وخذلان أهل الكوفة، وقبل أن يصل إلى الإمام عليه السلام نبأ مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وهاني بن عروة (رض) وعبداللّه بن يقطر (رض)، وهذا كاشف عن أنّ زهيراً (رض) كان ذا عناية واهتمام بأخبار الإمام الحسين عليه السلام ومتابعاً لأنباء مستقبل حركته وقيامه، حتى لو فرضنا أنَّ زهيراً كغيره من الناس كان

قد سمع بأخبار الملاحم المتعلقة بنهضة الحسين عليه السلام واستشهاده، أو سمع من نفس الإمام عليه السلام بعض خطبه في مكّة التي كان قد أشار فيها عليه السلام إلى استشهاده.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 214

أضف الى ذلك: أنّ صاحب كتاب (أسرار الشهادة) نقل هذه الواقعة قائلًا:

«قيل: أتى زهير إلى عبداللّه بن جعفر بن عقيل قبل أن يُقتل فقال له: يا أخي ناولني الراية!

فقال له عبداللّه: أَوَ فيَّ قصورٌ عن حملها!؟

قال: لا، ولكن لي بها حاجة!

قال فدفعها إليه وأخذها زهير، وأتى تجاه العبّاس بن أميرالمؤمنين عليهما السلام.

وقال: يا ابن أميرالمؤمنين، أُريد أن أحدّثك بحديث وعيته!

فقال: حدّث فقد حلا وقت الحديث! حدّث ولاحرج عليك فإنّما تروي لنا متواتر الإسناد!

فقال له: إعلم يا أبا الفضل أنّ أباك أميرالمؤمنين عليه السلام لمّا أراد أن يتزوّج بأُمّك أمّ البنين بعث إلى أخيه عقيل، وكان عارفاً بأنساب العرب، فقال له: يا أخي، أُريد منك أن تخطب لي امرأة من ذوي البيوت والحسب والنّسب والشجاعة لكي أُصيب منها ولداً يكون شجاعاً وعضداً ينصر ولدي هذا- وأشار اإلى الحسين عليه السلام- ليواسيه في طفّ كربلاء! وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلاتقصّر عن حلائل أخيك وعن أخواتك ...». «1»

فإذا صحّت هذه الرواية، فإنّ هذا الحديث الذي (وعاه) زهير (رض) ورواه للعبّاس عليه السلام، كاشف عن أنّ زهيراً (رض) على اطّلاع منذ سنين بأخبار ووقائع البيت العلوي، وقد وعى أنباءَهم وعياً! وأنّه (رض) كان على قرب من أهل هذا البيت المقدّس غير متباعد عنهم!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 215

أفيمكن أن يكون مثل هذا الرجل عثمانياً!؟

إننا نستبعد ذلك بقوّة! وهذا مبلغ علمنا الآن! ولعلّ مِن أهل البحث والتحقيق مَن يأتي بعدنا، ويتتبّع الإشارات التي قدّمناها بتوسع أكبر وتعمّق أكثر،

ويصل الى مصادر لم نصل إليها، وينتبه إلى مالم ننتبه إليه، فيجلّي أبعاد هذه القضيّة التأريخية بوضوح أتم، فيزيد من كمال الصورة، وكم ترك الأوّل للآخر!

وسلام على زهير بن القين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً.

8)- الثَّعلبية ..... ص : 215

اشارة

«من منازل طريق مكّة من الكوفة، بعد الشقوق وقبل الخزيمية، وهي ثُلُثا الطريق ..». «1»

روى الطبري، عن أبي مخنف، عن أبي جناب الكلبي، عن عديّ بن حرملة الأسدي، عن عبداللّه بن سليم، والمُذري بن المشمعلّ الأسديين: «قالا: لمّا قضينا حجّنا لم يكن لنا همّة إلّا اللحاق بالحسين في الطريق لننظر ما يكون من أمره وشأنه!، فأقبلنا تُرقل بنا ناقتانا مسرعين حتّى لحقناه بزرود، فلمّا دنونا منه إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن الطريق حين رأى الحسين.

قالا: فوقف الحسين كأنّه يريده، ثمّ تركه ومضى، ومضينا نحوه، فقال أحدنا لصاحبه: إذهب بنا إلى هذا فلنسأله، فإن كان عنده خبر بالكوفة علمناه. فمضينا حتّى انتهينا إليه، فقلنا: السلام عليك.

قال: وعليكم السلام ورحمة اللّه. ثمّ قلنا: فَمَن الرجل؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 216

قال: أسديٌّ.

فقلنا: نحن أسديّان، فمن أنت؟

قال: أنا بكير بن المثعبة. «1»

فانتسبنا له، ثمّ قلنا: أخبرنا عن النّاس وراءك! قال: نعم، لم أخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، فرأيتهما يجرّان بأرجلهما في السوق!

قالا: فأقبلنا حتّى لحقنا بالحسين فسايرناه حتّى نزل الثعلبية ممسياً، فجئناه فسلّمنا عليه فردّ علينا.

فقلنا له: يرحمك اللّه، إنّ عندنا خبراً، فإنْ شئت حدّثنا علانية وإنْ شئت سرّاً.

قال فنظر إلى أصحابه وقال: مادون هؤلاء سرّ!

فقلنا له: أرأيت الراكب الذي استقبلك عشاء أمسِ؟

قال: نعم، وقد أردتُ مسألته!

فقلنا: قد استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو ابن امرى ء من أسدٍ منّا، ذو رأي وصدق وفضل وعقل،

وإنّه حدّثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتّى قُتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة، وحتّى رآهما يجرّان في السوق بأرجلهما!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 217

فقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، رحمة اللّه عليهما. فردّد ذلك مراراً!

فقلنا: ننشدك اللّه في نفسك وأهل بيتك إلّا انصرفت من مكانك هذا، فإنّه ليس لك بالكوفة ناصر ولاشيعة! بل نتخوف أن تكون عليك!

فوثب عندذلك بنوعقيل بن أبي طالب!». «1»

وروى الطبري، عن أبي مخنف، عن عمر بن خالد، عن زيد بن عليّ بن الحسين، وعن داود بن عليّ بن عبداللّه بن عبّاس: «أنّ بني عقيل قالوا: لاواللّه، لانبرح حتّى نُدرك ثأرنا أو نذوق ماذاق أخونا!». «2»

ثمّ يعود إلى رواية الأسديين، «قالا: فنظر إلينا الحسين فقال: لاخير في العيش بعد هؤلاء! قالا: فعلمنا أنّه قد عزم له رأيه على المسير، قالا: فقلنا: خار اللّه لك! فقال: رحمكما اللّه.

قالا: فقال له بعض أصحابه: إنّك واللّه ما أنت مثل مسلم بن عقيل، ولو قدمت الكوفة لكان الناس إليك أسرع.

قال الأسديان: ثمّ انتظر حتّى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه: أكثروا من الماء! فاستقوا وأكثروا، ثمّ ارتحلوا وساروا حتّى انتهوا إلى زُبالة.». «3»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 217

1)- الملفتُ للإنتباه والمثير للعجب في متن هذه الرواية- رواية الطبري- هو أنّ هذين الرجلين الأسديين مع حسن أدبهما مع الإمام عليه السلام وعاطفتهما نحوه لم يكونا ممّن عزم على نصرة الإمام عليه السلام والإلتحاق بركبه! كلُّ مافي أمرهما هو أنّ الفضول دفعهما إلى معرفة مايكون من أمر الإمام عليه السلام فقط!- هذا باعترافهما كما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 218

في الرواية- وقد تخلّيا عنه أخيراً بالفعل وفارقاه!.

2)- والمتأمّل في نصوص محاورات الإمام الحسين عليه السلام منذ أن أعلن عن قيامه المقدّس يجد أنّ الإمام كان

لايخاطب هذا النوع من الرجال- نوع هذين الأسديين- بمُرِّ الحقّ وصريح القضية، بل كان يسلك إلى عقولهم في الحديث عن مراميه سُبلًا غير مباشرة، يعرض فيها سبباً أو أكثر من الأسباب التي تقع في طول السبب الرئيس بما يُناسب المقام والحال!

فقوله عليه السلام صدق وحقّ: «لاخير في العيش بعد هؤلاء» أي بني عقيل، بعد أن وثبوا- لنبأ مقتل مسلم عليه السلام- وقالوا: واللّه لانرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ماذاق!، لكنّ هذا لايعني أنّ مواساة بني عقيل كانت هي السبب الرئيس في إصرار الإمام على التوجّه إلى الكوفة، فالإمام عليه السلام لم يعلّل في أي موقع أو نصّ إصراره على التوجّه إلى الكوفة بطلب الثأر لمسلم عليه السلام، بل كان يعلّل ذلك في أكثر من موقع ونصّ بحجّة رسائل أهل الكوفة وببيعتهم، بل حتّى رسائل أهل الكوفة كانت سبباً في مجموعة أسباب وقعت في طول السبب الرئيس لقيامه عليه السلام وهو إنقاذ الإسلام المحمّديّ الخالص من يد النفاق الأموية وتحريفاتها!

ها هو الإمام عليه السلام يوجّه مسلم بن عقيل الى الكوفة ويبشّره بالشهادة! فيقول:

«إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وهذه كتبهم إليَّ، وسيقضي اللّه من أمرك مايحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء! ...». «1»

ويقول عليه السلام للفرزدق: «رحمَ اللّه مسلماً، فلقد صار إلى روح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا ...». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 219

إذن فالقضية عند الإمام عليه السلام هي قضية نجاة الإسلام التي هي أكبر من دم مسلم عليه السلام ومن كلّ دم! وهذه القضيّة هي السبب الرئيس في إصرار الإمام عليه السلام على مواصلة السير نحو الكوفة، لاطلب الثأر لمقتل مسلم عليه

السلام! ولا لأنّه لاخير عنده في العيش بعد شباب بني عقيل وإن كان ذلك حقّاً!

3)- ولايُعبأ بما روي أنّ الإمام عليه السلام كان قد همّ بالرجوع بعد أن علم بمقتل مسلم عليه السلام وهاني (رض) وعلم بعدم وجود من ينصره في الكوفة!، ذلك ما ذكره ابن قتيبة في «الإمامة والسياسة» حيث قال: «وذكروا أنّ عبيداللّه بن زياد بعث جيشاً عليهم عمرو بن سعيد، وقد جاء الحسين الخبر فهمَّ أن يرجع! ومعه خمسة من بني عقيل فقالوا له: أترجع وقد قُتل أخونا، وقد جاءك من الكتب ما نثق به!؟

فقال لبعض أصحابه: واللّه مالي عن هؤلاء من صبر! ...»، «1»

وذكره ابن عبدربّه في «العقد الفريد» حيث قال: «فبعث معه- أي مع عمر بن سعد- جيشاً وقد جاء حسيناً الخبرُ وهم بشراف، «2» فهمَّ بأن يرجع! ومعه خمسة من بني عقيل ...». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 220

أمّا الطبري فله رواية أيضاً بهذا الصدد، هي: «فأقبل حسين بن علي بكتاب مسلم بن عقيل كان إليه، حتى إذا كان بينه وبين القادسية ثلاثة أميال لقيه الحرّ بن يزيد التميمي، فقال له: أين تريد؟ قال: أريد هذا المصر! قال له: إرجع فإنّي لم أدع لك خلفي خيراً أرجوه!، فهمَّ أن يرجع! وكان معه إخوة مسلم بن عقيل، فقالوا:

واللّه لانرجع حتى نصيب بثأرنا أو نُقتل! فقال: لاخير في الحياة بعدكم، فسار فلقيته أوائل خيل عبيداللّه، فلمّا رأى ذلك عدل إلى كربلاء ..». «1»

وهذه الرواية معارضة لرواية الطبري نفسه- الموافقة لماهو مشهور- من أنّ الحرّ (رض) التقى الإمام عليه السلام ما بعد شراف في ألف فارس، مأموراً من قبل ابن زياد ألّا يفارق الإمام عليه السلام حتى يُقدمه الكوفة! وقد قال للإمام عليه السلام

في (ذي حسم) وهو يسايره: ياحسين إنّي أذكّرك اللّه في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتَلَنّ، ولئن قوتلت لتهلكن فيما أرى! فقال له الحسين:

أفبالموت تخوّفني!؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني!؟ ما أدري ما أقول لك؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه، ولقيه وهو يريد نصرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال له: اين تذهب، فإنّك مقتول!؟ فقال:

سأمضي وما بالموت عارٌ على الفتى إذا مانوى حقّاً وجاهد مسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً يغشّ ويرغما.». «2»

هذه هي الهمّة الحسينية العالية القاطعة! «3» فأين هي من «فهمَّ أن يرجع»!؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 221

نعم، ربّما استفاد بعضُ المؤرّخين أنّ الإمام عليه السلام «همَّ بالرجوع» من أنّه عليه السلام- على بعض الروايات- نظر إلى بني عقيل فقال لهم: «ماترون، فقد قُتل مسلم؟ فبادر بنو عقيل وقالوا: واللّه لانرجع، أَيُقتل صاحبنا وننصرف!؟ لا واللّه، لانرجع حتى نصيب ثأرنا أو نذوق ماذاق صاحبنا ...». «1»

والأرجح أنّ الإمام عليه السلام أراد أن يختبر عزم وتصميم بني عقيل على مواصلة المسير معه- بعد نبأ مقتل مسلم عليه السلام- فسألهم «ماترون ..؟»، فكانوا عند حسن معرفته بهم.

إغفاءةٌ .. ورؤيا حقّة! ..... ص : 221

قال السيّد ابن طاووس (ره): «.. ثمّ سار حتى نزل الثعلبيّة وقت الظهيرة، فوضع رأسه فرقد، ثم استيقظ فقال:

قد رأيت هاتفاً يقول: أنتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنّة!

فقال له ابنه عليٌّ: يا أبه! فلسنا على الحق!؟

فقال: بلى يا بنيّ واللّه الذي إليه مرجع العباد!

فقال: يا أبه! إذن لانُبالي بالموت!

فقال الحسين عليه السلام: جزاك اللّه يا بُنيّ خير ما جزى ولداً عن والده.». «2» ونقلها الخوارزمي في المقتل عن ابن أعثم الكوفي بتفاوت. «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 222

وقد ذكر الشيخ الصدوق (ره) هذه الرؤيا

في عذيب الهجانات، «1» وذكرها الذهبي في قصر بني مقاتل»

.. ولابأس بذلك على فرض احتمال تعدّد الرؤيا.

وذكرها ابن شهرآشوب أيضاً دون أن يذكر أنّها كانت رؤيا منام، بل قال: «فلمّا وصل الثعلبية جعل يقول: باتوا نياماً والمنايا تسري! فقال عليّ بن الحسين الأكبر:

ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: إذن واللّه لانبالي!». «3»

مع أبي هرّة الأزدي ..... ص : 222
اشارة

قال ابن أعثم الكوفي: «فلمّا أصبح الحسين وإذا برجلٍ من الكوفة يُكنّى أباهرّة الأزدي، أتا فسلّم عليه، ثمّ قال: يا ابن بنت رسول اللّه، ما الذي أخرجك عن حرم اللّه وحرم جدّك محمّد صلى الله عليه و آله؟

فقال الحسين عليه السلام: يا أباهرّة، إنّ بني أميّة أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت! وأيمُ اللّه يا أباهرّة، لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسهم اللّه ذُلًّا شاملًا وسيفاً قاطعاً، وليسلطّن اللّه عليهم من يُذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهم فحكمت في أموالهم ودمائهم!». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 223

إشارة: ..... ص : 223

إنّ ظاهر جواب الإمام عليه السلام لأبي هرّة الأزدي هنا، وكذلك جوابه عليه السلام للفرزدق حينما سأله: «ما أعجلك عن الحجّ؟» حيث قال عليه السلام: «لو لم أعجل لأُخذتُ!» يوحي بأنّ الإمام عليه السلام كان همّه الأكبر النجاة بنفسه!! فقد صبر على أخذ ماله وشتم عرضه- على ما في جوابه عليه السلام لأبي هرّة الأزدي- وحين أرادوا قتله هرب لينجو بنفسه! هذه هي حدود مظلوميته لا أكثر! وكأنّه ليس هناك رفض بيعة ليزيد! ولا طلب إصلاح في أمّة جده صلى الله عليه و آله! ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر! ولاقيام ونهضة!

إنّ الإقتصار على مثل هذه النصوص يؤدّي إلى هذا الإستنتاج الخاطي ء الذي وقع فيه بعض من كتب في تأريخ النهضة الحسينية، وهو: أنّ علّة خروج الإمام عليه السلام من المدينة المنوّرة ومن مكّة المكرّمة هو خوفه على نفسه من الإختطاف أو القتل، وأنّ هذا هو سرّ أسرار النهضة الحسينية!!

كذلك الحال إذا اقتصر نظر الباحث مثلًا على النصوص المتعلّقة برسائل أهل الكوفة إلى الإمام عليه السلام، خصوصاً النصوص الواردة عنه عليه السلام في

ذلك، لأنّ نتيجة مثل هذا النظر ستكون اعتبار رسائل أهل الكوفة هي سبب قيام الإمام عليه السلام! وهذا من أشهر الإشتباهات الحاصلة في مجرى النظر إلى قيام الإمام الحسين عليه السلام.

وكذلك الحال إذا اقتصر نظر الباحث على النصوص التي تحدّث فيها الإمام عليه السلام عن «الإستخارة»، «1» ذلك لأنّ ظاهر هذه النصوص يوحي بأنّ الإمام عليه السلام لم تكن لديه خطّة على الأرض في مسار النهضة منذ البدء! ولاعلم له بما هو قادم عليه في مستقبل أيّامه من مصير! بل كانت توجّه حركته بوصلة الإستخارة! الأمر الذي يعارض وينافي كثيراً من النصوص الأخرى الورادة عنه عليه السلام، فضلًا عن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 224

منافاته للإعتقاد الصحيح بعلم الإمام عليه السلام!

وهكذا الحال، إذا اقتصر نظر الباحث على النصوص المتعلّقة بالرؤيا التي رأى فيها الإمام عليه السلام جدّه صلى الله عليه و آله، أو النصوص التي توحي بأنّه عليه السلام كان يأمل النصر والنجاح وتسلّم زمام الأمور ...

كلّ تلك النتائج القاصرة أو الخاطئة إنّما تنشأ نتيجة الأخذ الجزئي المفكّك، أمّا أخذ جميع النصوص المتعلّقة بهذه النهضة المقدّسة كمجموعة واحدة أخذاً كليّاً موحّداً فهو أحد عناصر عصمة الإستنتاج من القصور والخطأ، كذلك فإنّ معرفة نوع المخاطَب الذي يكلّمه الإمام عليه السلام، وردّ متشابه قوله عليه السلام إلى محكمه، هما العنصران الآخران لهذه العصمة في التدبر الإستنتاج.

وبشر بن غالب الأسدي .. مرّة أخرى ..... ص : 224

كُنّا في «ذات عرق» قد تعرّضنا للقاء الإمام عليه السلام مع بشر بن غالب الأسدي، وعلّقنا على هذا اللقاء، وعرضنا ترجمة موجزة لهذا الرجل.

لكنّ الشيخ الصدوق (ره) في الأمالي روى أنّ هذا اللقاء كان في الثعلبية، قال (ره): «فسار الحسين عليه السلام وأصحابه، فلمّا نزلوا ثعلبية ورد عليه رجل يُقال له بشر بن غالب،

فقال: يا ابن رسول اللّه، أخبرني عن قول اللّه عز وجلّ (يوم ندعوا كُلَّ أُناسٍ بإمامهم)؟ «1»

قال: إمامٌ دعا إلى هدىً فأجابوه إليه، وإمام دعا إلى ضلالة فأجابوه إليها، هؤلاء في الجنّة، وهؤلاء في النّار، وهو قوله عزّ وجلّ (فريقٌ في الجنّة وفريق في السعير) «2»

.». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 225

ولعلّ الإمام عليه السلام أراد- من خلال هذه الإجابة الحقّة- تنبيه بشر بن غالب الأسدي إلى وجوب إجابته في قيامه والإلتحاق به!

ولعلّ هذا اللقاء كان لقاء ثانياً لبشر بن غالب مع الإمام عليه السلام بعد لقاء (ذات عرق)، إذا كان بشر قد عاد باتجاه الكوفة مرّة أخرى وبسرعة!

ومع زهير الأسدي من أهل الثعلبية ..... ص : 225

روى ابن عساكر بسند إلى سفيان قال: «حدّثني رجل من بني أسد يُقال له:

بحير- بعد الخمسين والمائة- وكان من أهل الثعلبية، ولم يكن في الطريق رجل أكبر منه، فقلت له: مثلُ مَنْ كنتَ حين مرَّ بكم حسين بن عليّ؟ قال: غلامٌ قد يفعتُ، قال: فقام إليه أخٌ لي أكبر منّي يُقال له زهير وقال: أي ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّي أراك في قلّة من الناس!

فأشار الحسين عليه السلام بسوط في يده هكذا، فضرب حقيبة وراءه فقال: ها إنّ هذه مملوءة كُتباً! ...». «1»

ومع آخر من أهل الكوفة ..... ص : 225

روى صاحب بصائر الدرجات (ره) بسند عن الحكم بن عتيبة قال: «لقي رجلٌ الحسين بن عليّ عليهما السلام بالثعلبية وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلّم عليه، فقال له الحسين عليه السلام: من أي البلدان أنت؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 226

فقال: من أهل الكوفة.

قال: يا أخا أهل الكوفة، أما واللّه لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا ونزوله على جدّي بالوحي! يا أخا أهل الكوفة، مُستقى العلم من عندنا، أفعلموا وجهلنا!؟ هذا ما لايكون!». «1»

لقاء ربّما كان في الثعلبية أيضاً! «2» ..... ص : 226

وروى ابن عساكر بسند عن يزيد الرّشك قال: «حدّثني من شافه الحسين قال:

رأيتُ أبنية مضروبة بفلاة من الإرض، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه لحسين.

قال: فأتيته، فإذا شيخ يقرأ القرآن- قال- والدموع تسيل على خدّيه ولحيته! قال: قلتُ: بأبي وأمّي يا ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟

فقال: هذه كتب أهل الكوفة إليَّ، ولا أراهم إلّا قاتليّ! فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا للّه حرمة إلّا انتهكوها، فيسلّط اللّه عليهم من يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرم الأمة. «3»

». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 227

9)- الشقوق ..... ص : 227

اشارة

«جمع: شَقّ او شِقّ، وهو الناحية، منزل بطريق مكّة بعد واقصة من الكوفة، وبعدها تلقاء مكّة بطان ..». «1»

والفرزدق .. في الشقوق أيضاً!! ..... ص : 227
اشارة

روى ابن أعثم الكوفي قائلًا: «وسار الحسين حتى نزل الشقوق، فإذا هو بالفرزدق بن غالب الشاعر قد أقبل عليه، فسلّم ثمّ دنى منه فقبّل يده، فقال الحسين: مِن أين أقبلت يا أبافراس؟

فقال: من الكوفة يا ابن بنت رسول اللّه!

فقال: كيف خلّفت أهل الكوفة؟

فقال: خلّفت النّاس معك وسيوفهم مع بني أميّة، واللّه يفعل في خلقه ما يشاء.

فقال: صدقت وبررت، إنّ الأمر للّه يفعل ما يشاء، وربّنا تعالى كلّ يوم هو في شان،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 228

فإن نزل القضاء بما نحبّ فالحمد للّه على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وإنْ حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحقّ نيّته.

فقال الفرزدق: يا ابن بنت رسول اللّه! كيف تركن إلى أهل الكوفة وهم قد قتلوا ابن عمّك مسلم بن عقيل وشيعته!؟

قال: فاستعبر الحسين بالبكاء، ثم قال:

رحم اللّه مسلماً! فلقد صار إلى رَوْح اللّه وريحانه وجنّته ورضوانه، أما إنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا.

قال: ثمّ أنشأ الحسين يقول:

فإنْ تكن الدنيا تُعدُّ نفيسة فدار ثواب اللّه أعلى وأنبلُ

وإنْ تكن الأبدان للموت أُنشئت فقتل امرى ءٍ بالسيف في اللّه أفضلُ

وإنْ تكن الأرزاق قِسماً مقدّراً فقلّة حرص المرء في الكسب أجملُ

وإنْ تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخلُ

قال: ثمّ ودّعه الفرزدق في نفر من أصحابه، ومضى يريد مكّة، فأقبل عليه ابن عمّ له من بني مجاشع فقال: أبا فراس، هذا الحسين بن عليّ!

فقال الفرزدق: هذا الحسين بن فاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه و آله، هذا واللّه (خيرة اللّه) ابن خيرة اللّه، وأفضل من مشى على وجه الأرض

بعد محمد (من خلق اللّه)، وقد كُنت قلتُ فيه أبياتاً قبل اليوم، فلا عليك أن تسمعها.

فقال له ابن عمّه: ما أكره ذلك يا أبا فراس! فإنْ رأيت أن تنشدني ما قلتَ فيه!

فقال الفرزدق: نعم، أنا القائل فيه وفي أبيه وأخيه وجدّه صلوات اللّه عليهم هذه الأبيات:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحِلُّ والحرمُ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 229

هذا ابن خير عباد اللّه كلّهم هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلمُ

هذا حسين رسول اللّه والده أمست بنور هُداه تهتدي الأُمم

إلى آخر قصيدته العصماء المشهورة ...

قال: ثمّ أقبل الفرزدق على ابن عمّه فقال: واللّه، لقد قلت فيه هذه الأبيات غير متعرّض إلى معروفه، غير أنّي أردتُ اللّه والدار الآخرة.». «1»

إشارتان ..... ص : 229

1)- في متن هذه الرواية تصريح بأنّ الفرزدق كان على علم بمقتل مسلم عليه السلام (وقد قُتل في الثامن أو التاسع من ذي الحجّة) وهو في الشقوق، ومعنى هذا أنّ الفرزدق كان- على أقل تقدير- في الشقوق في ما بعد الثامن أو التاسع من ذي الحجّة، وعلى هذا فهو لن يُدرك الوصول إلى مكّة أيّام الحجّ قطعاً لبعد المسافة كثيراً عن مكّة، من هنا لابدّ من عدم القبول بمكان وزمان هذه الرواية وهي تصرح بهذا، وبأنّ الفرزدق ودّع الإمام عليه السلام ومضى يريد مكّة! لإداء الحج!

2)- المشهور أنّ هذه القصيدة ارتجلها الفرزدق في مدح الإمام السجّاد عليّ ابن الحسين عليهما السلام في مكّة متحدياً بذلك الطاغوت هشام بن عبدالملك، ولامانع من أن يكون الفرزدق قد نظمها من قبل في الحسين عليه السلام كما صرّح هو في هذه الرواية- وأبياتها تصلح لمدح جميع أئمة أهل البيت عليه السلام- فلما أراد أن يمدح الإمام السجّاد عليه السلام بنفس هذه الأبيات أمام هشام

أضاف إليها بيت المناسبة مخاطباً هشام بن عبدالملك:

وليس قولك من هذا بضائره العربُ تعرف من أنكرتَ والعجمُ

واللّه العالم بحقيقة الحال.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 230

10)- زُبالة ..... ص : 230

اشارة

«منزل معروف بطريق مكّة من الكوفة، وهي قرية عامرة بها أسواق، بين واقصة والثعلبية، وقال أبوعبيدة السكوني: زبالة بعد القاع من الكوفة قبل الشقوق فيها حصن وجامع لبني غاضرة من بني أسد، قالوا: سمّيت زُبالة بزبلها الماء أي بضبطها له وأخذها منه ..». «1»

وقد سجّل التأريخ لنا وقائع مهمة في هذا المنزل، منها:

قال الدينوري: «فلمّا وافى زُبالة وافاه بها رسول محمّد بن الأشعث وعمر بن سعد، بما كان سأله مسلم أن يكتب به إليه في أمره، وخذلان أهل الكوفة إيّاه بعد أن بايعوه، وقد كان مسلم سأل محمّد بن الأشعث ذلك.

فلمّا قرأ الكتاب استيقن بصحة الخبر، وأفظعه قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، ثمّ أخبره الرسول بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي رسوله الذي وجّهه من بطن الرمّة.

وقد كان صحبه قوم من منازل الطريق، فلمّا سمعوا خبر مسلم، وقد كانوا ظنّوا أنه يقدم على أنصار وعضُد تفرّقوا عنه، ولم يبق معه إلّا خاصّته.». «2»

وقال السيّد ابن طاووس (ره): «ثمّ سار الحسين عليه السلام حتّى بلغ زُبالة فأتاه فيها خبر مسلم بن عقيل، فعرف بذلك جماعة ممّن تبعه، فتفرّق عنه أهل الأطماع والإرتياب، وبقي معه أهله وخيار الأصحاب.

قال الراوي: وارتجّ الموضع بالبكاء والعويل لقتل مسلم بن عقيل، وسالت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 231

الدموع كلّ مسيل!». «1»

وكان الطبري قد روى قصة مبعوث محمّد بن الأشعث إلى الإمام عليه السلام هكذا:

«دعا محمّد بن الأشعث إياسَ بن العثل الطائي من بني مالك بن عمرو بن ثمامة، وكان شاعراً وكان لمحمّد زوّاراً، فقال له: إلْقَ حسيناً فأبلغه هذا الكتاب،

وكتب فيه الذي أمره ابن عقيل، وقال له: هذا زادك وجهازك ومُتعة لعيالك. فقال: مِن أينَ لي براحلة؟ فإنّ راحلتي قد أنضيتها! قال: هذه راحلة فاركبها برحلها.

ثمّ خرج فاستقبله بزُبالة لأربع ليال، فأخبره الخبر وبلّغه الرسالة، فقال له حسين: كُلُّ ما حُمَّ نازل، وعند اللّه نحتسب أنفسنا وفساد أمّتنا!». «2»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 231

1)- لم يبعث عمر بن سعد لعنه اللّه إلى الإمام صلى الله عليه و آله أحداً كما أوصاه مسلم عليه السلام، وماتفرّد به الدينوري في أنّ هذا المبعوث كان من قِبل محمّد بن الأشعث وعمر ابن سعد تعارضه رواية الطبري حيث ذكر أنّ إياسَ بن العثل الطائي كان مبعوثاً من قبل ابن الأشعث ولم يذكر عمر بن سعد معه، كما أنّ مسلماً عليه السلام أوصى ابن الأشعث بإرسال من يخبر الإمام عليه السلام بمعزل عن ابن سعد وقبل أن يطلب من هذا الأخير ذلك أيضاً، ثمّ إنّ عمر بن سعد كان قد خان الوصيّة في نفس مجلس ابن زياد وتنكّر لها، فقد مضى في رواية أخرى للطبري- وهو المشهور أيضاً- أنّ مسلماً عليه السلام قبل أن يُقتل حين سارّ عمر بن سعد بوصاياه، والتي كانت الأخيرة منها: «وابعث إلى حسين من يردّه فإنّي قد كتبت إليه أُعلمه أنّ النّاس معه، ولا أراه إلّا مقبلًا! فقال عمر لابن زياد أتدري ما قال لي!؟ إنّه ذكر كذا وكذا! قال له ابن زياد:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 232

إنّه لايخونك الأمين ولكنْ قد يؤتمن الخائن!!». «1»

2)- مرَّ بنا قبل هذا أنّ خبر مقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وهاني بن عروة (رض) قد بلغ الإمام عليه السلام في الثعلبية، ولامانع أن يتكرر ورود هذا الخبر المفجع على الإمام عليه السلام في

أكثر من منزل، وبواسطة أكثر من مُخبر، فيتجدّد اتقاد حزن الإمام عليه السلام ومن معه على هؤلاء الشهداء الأبرار كلّما حدّثه قادمٌ عليه بخبرهم! فيرتجّ الموضع بالإسترجاع وبالبكاء والعويل، وتسيل الدموع لأجلهم كلَّ مسيل، كما هو الوصف في رواية السيد ابن طاووس (ره)

3)- خبر مقتل عبداللّه بن يقطر (رض): أمّا قول الدينوري: ثمّ أخبره الرسول بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي رسوله الذي وجّهه من بطن الرمّة، فهو مخالف للمشهور الذي عليه جلُّ علماء السِير من أنّ الذي وصل إلى الإمام عليه السلام في زُبالة هو خبر مقتل عبداللّه بن يقطر أخيه من الرضاعة، يقول الطبري: «كان الحسين لا يمرُّ بأهل ماءٍ إلّا اتبعوه! حتّى انتهى إلى زُبالة سقط إليه مقتل أخيه من الرضاعة، مقتل عبداللّه بن يقطر، «2» وكان سرّحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لايدري أنّه قد أصيب، فتلقّاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية، فسرّح به إلى عبيداللّه بن زياد، فقال: إصعد فوق القصر فالعن الكذّاب ابن الكذّاب ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيي! قال: فصعد، فلمّا أشرف على النّاس قال: أيها النّاس، إنّي رسول الحسين بن فاطمة، بن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة، ابن سميّة الدعيّ! فأمر به عبيداللّه فأُلقي من فوق القصر إلى الأرض، فكُسرت عظامه وبقي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 233

به رمق، فأتاه رجل يُقال له: عبدالملك بن عمير اللخمي فذبحه! فلمّا عيب ذلك عليه قال: إنّما أردتُ أن أُريحه!- قال هشام: حدّثنا أبوبكر بن عيّاش عمّن أخبره قال: واللّه ماهو عبدالملك بن عمير الذي قام إليه فذبحه، ولكنه قام إليه رجل جَعْدٌ طُوال يشبه عبدالملك بن عمير- قال: فأتى ذلك الخبر حسيناً

وهو بزُبالة، فأخرج للناس كتاباً فقرأه عليهم:

بسم اللّه الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ فإنّه قد أتانا خبرٌ فظيع! قُتل مسلم بن عقيل وهاني ء بن عروة وعبداللّه بن يقطر! وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحبّ منكم الإنصراف فلينصرف ليس عليه منّا ذمام!

قال: فتفرّق الناس عنه تفرّقاً فأخذوا يميناً وشمالًا! حتّى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة! «1» وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ أنّما اتبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله! فكره أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون علامَ يقدمون! وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! ..». «2»

4)- تؤكّد مجموعة من المتون التأريخية على أنّ أهل الأطماع والإرتياب تفرّقوا عن الإمام عليه السلام في زُبالة، بعدما شاع فيهم خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني بن عروة (رض) وعبداللّه بن يقطر (رض)، وبعدما خطب فيهم الإمام عليه السلام- أو قرأ كتاباً عليهم- فأعلمهم بانقلاب الأمر وخذلان الشيعة في الكوفة، ثمَّ إذن لهم بالإنصراف بلاذمام!- كما مرَّ بنا في رواية الطبري- أو كما نقل الخوارزميّ في المقتل حيث قال: «وكان قد تبع الحسين خلقٌ كثير من المياه التي يمرُّ بها لأنهم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 234

كانوا يظنّون استقامة الأمور له عليه السلام، فلمّا صار بزُبالة قام فيهم خطيباً فقال:

ألا إنّ أهل الكوفة وثبوا على مسلم بن عقيل، وهاني بن عروة، فقتلوهما وقتلوا أخي من الرضاعة، فمن أحبّ منكم أن ينصرف فلينصرف من غير حرج، وليس عليه منّا ذمام!

فتفرّق الناس وأخذوا يميناً وشمالًا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكّة، وإنّما أراد أن لايصحبه إنسان إلّا على بصيرة!»، «1» أو «فكَرِهَ أن يسيروا معه إلّا وهم يعلمون

علامَ يقدمون! وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلّا من يريد مواساته والموت معه! ..». «2»

ونقول: تلك هي سُنّة القادة الربانييّن في قيامهم، إنهم يريدون العدّة وكثرة الأنصار، ولكنْ ليس أيّ ناصر وكيفما كان!، بل الناصر «الرِبيُّ»: «3» الشديد التمسّك بإطاعة الأمر الإلهي، الذي يُقدم على تنفيذ الأمر الإلهي ناظراً إلى التكليف لا إلى النتيجة!، قد نزع قلبه من كلّ عوالق الدنيا وما فيها وأخلصه لطاعة اللّه تبارك وتعالى، فكانت مرضاة «الربّ» عزّ وجلَّ هي الهمُّ الشاغل قلبه لاسواها.

هذه العدّة من «الربيّين» «4» هي العدّة التي يطلبها ويسعى إلى تكثيرها القائد الربّانيّ في قيامه ونهضته!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 235

ومن سُنّة القادة الربّانيين أيضاً أنهم يستثمرون كُلَّ مناسبة لامتحان (المجموع) الذي يصحبهم، وذلك لتخليص عدّتهم الربّانية من كلّ ما يعلق بها من أهل الطمع والإرتياب، حتّى تصفو هذه العدّة من الإضافات الكاذبة! فتبقى الصفوة الخالصة (القوة الحقيقية) التي يخطّط القائد الربانيّ على أساسها نوع المواجهة وأسلوب القتال يوم الملحمة!

وهذه مسألة مهمّة وأساسية في التخطيط الحربي، بل حتّى في التخطيط لكل مواجهة سياسية، ذلك لأنّ التخطيط في كلّ مواجهة على أساس (القوة الظاهرية) لا على أساس (القوّة الحقيقية) سيضع القوّة العسكرية أو الحركة السياسية أمام حدث هو أكبر من حجمها الحقيقي، فإذا تعرّضت هذه القوّة أو الحركة لضربة قاصمة أو إنكسار كبير مثلًا فإنّ هذه الضربة أو هذا الإنكسار سيقعان على رأس (القوّة الحقيقة) فقط! لأنّ الإضافات غير الحقيقية التي أحاطت بالقوّة الحقيقية وشكّلت معها القوّة الظاهرية ستتفرّق وتتلاشى عنها ساعة الشدّة كما هي عادة وطبيعة الأشياء، تاركة القوّة الحقيقية وحدها عرضة لضربة أو انكسار هما أكبر من استطاعتها وتحمّلها!! ولذا قد تتحطّم القوّة الحقيقية أو

تزول تماماً قبل تحقيق الهدف المنشود من وراء وجودها!

هذا في إطار الأثر على الأرض! أمّا في إطار الأثر في السماء، فإنّ اختبار العدّة الظاهرية بالإمتحان بعد الإمتحان، وتمحيصها حتّى لايبقى منها إلّا أهل البصائر والعزائم الراسخة، سوف يزيد من علوّ درجاتهم ومنازلهم الأخروية عند اللّه تبارك وتعالى، لأنّ لهم أجراً وفوزاً وارتقاءً لنجاحهم بعد كلّ امتحان وتمحيص! واللّه يختص برحمته من يشاء، واللّه واسع عليم!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 236

11)- بطن العقبة ..... ص : 236

اشارة

«العَقَبة: منزل في طريق مكّة بعد واقصة وقبل القاع لمن يريد مكّة، وهو ماء لبني عكرمة من بكر بن وائل.». «1»

لقاء الإمام عليه السلام مع عمرو بن لوذان ..... ص : 236
اشارة

قال الطبري: «.. ثمَّ سار حتّى مرّ ببطن العقبة فنزل بها، قال أبومخنف: فحدّثني لوذان أحد بني عكرمة أنّ أحد عمومته سأل الحسين عليه السلام: أين تريد؟ فحدّثه، فقال له: إنّي أُنشدك اللّه لما انصرفتَ، فواللّه لاتقدم إلّا على الأسنّة وحدّ السيوف! فإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لوكانوا كفوك مؤنة القتال ووطّأوا لك الأشياء فقدمّتَ عليهم كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكرها فإنّي لا أرى لك أن تفعل!

قال: فقال له:

يا عبداللّه، إنّه ليس يخفى عليَّ الرأيُ ما رأيتَ! ولكنّ اللّه لايُغلب على أمره!

ثمّ ارتحل منها.». «2»

وفي رواية الإرشاد أنّ هذا الشيخ من بني عكرمة يقال له: عمرو بن لوذان، وفيها أيضاً أنّ الإمام عليه السلام قال له: يا عبداللّه، ليس يخفى عليَّ الرأي! وإنّ اللّه لايُغلب على أمره!

ثم قال عليه السلام: واللّه لايدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي! فإذا فعلوا سلّط اللّه عليهم من يُذلّهم حتى يكونوا أذلّ فرق الأمم! «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 237

أمّا الدينوري فروى هذا اللقاء هكذا: «فسار حتّى انتهى إلى بطن العقيق، «1» فلقيه رجل من بني عكرمة، فسلّم عليه وأخبره بتوطيد ابن زياد الخيل ما بين القادسية إلى العُذَيْب «2» رصداً له! ثمّ قال له: إنصرف بنفسي أنت! فواللّه ماتسير إلّا الى الأسنّة والسيوف! ولاتتكلنّ على الذين كتبوا إليك، فإنّ أولئك أوّل الناس مبادرة إلى حربك!

فقال له الحسين: قد ناصحت وبالغت، فجُزيت خيراً!

ثمّ سلّم عليه ومضى ..». «3»

إشارة: ..... ص : 237

إنّ المشورة أو الرأي الذي عرضه عمرو بن لوذان للإمام عليه السلام هنا شبيه بالرأي الذي كان قد عرضه كلُّ من عبداللّه بن عبّاس (رض)»

وعمر بن عبدالرحمن المخزومي في مكّة، «5» ولاحظنا أنّ الإمام عليه السلام لم يُخطّي ء هذه

الآراء والمشورات والإقتراحات، بل أجاب أصحابها بما يؤكّد صحتها وصوابها وأنها كانت من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 238

النصح والعقل والرأي.

لكنّ الإمام عليه السلام مع إقراره بصحة وصواب تكلم النصائح والمشورات كان يؤكّد لكلّ من أصحابها بطريقة تتناسب ونوع المخاطَب أنّه لابدّ له من عدم الأخذ بتلكم النصائح والإقتراحات! وذلك لأنّ منطق هؤلاء وان كان صحيحاً بمقياس حدود الظواهر إلّا أنه لايتعدّى التفكير بالسلامة والمنفعة الذاتية والنصر الظاهري، في حين كان الإسلام آنئذٍ يمرُّ بمنعطف حاسم النتيجة في أن يبقى أولايبقى، وقد عبّر الإمام عليه السلام عن حال الإسلام الحرجة هذه أمام مروان بن الحكم بقوله:

«وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد!». «1»

كان الإسلام المحمّدي الخالص قد اشتبهت حقيقته على أكثر هذه الامة حين اختلط عليهم- بفعل جهود حركة النفاق عامة والحزب الأموي خاصة- اختلاطاً عجيباً مع أباطيل وتحريفات كثيرة وكبيرة افتريت عليه ودُسَّت فيه، حتى صار من غير الممكن فصل الإسلام المحمّدي الخالص عن (الإسلام الأموي!) إلّا إذا ارتكب الأمويون الجريمة الكبرى، جريمة سفك الدّم المقدّس، دم ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وإلّا لاستمرّت عملية التحريف والمزج، حتى تصل الأمّة إلى حدٍّ لا تعرف عنده إلّا الإسلام الأمويّ! فلا يبقى من الإسلام المحمّدي إلّا إسمه!

إذن فحال الإسلام يومذاك كحال المريض الذي لاينفع في علاجه إلّا الكيّ، وقديماً قيل في المثل (آخر الدواء الكيّ!) لما يترتّب عليه من علاج حاسم!

حال الإسلام يومذاك لم يكن ينفع في علاجها منطق السياسة والمعاملة السياسية والدهاء السياسي، ورعاية المصالح الذاتية، والتفكير بالسلامة،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 239

وحسابات الإستفادة والمنفعة والربح والخسارة الشخصيّة، وضوابط التخطيط للسيطرة على الحكم! حال الإسلام يومذاك ماكانت لتصل إلى علاجها الحاسم وتبلغ درجة الشفاء

التّام إلّا بمنطق الشهادة! ولم يكن لها مرهمٌ إلّا الدّم الأقدس، دم ابن رسول اللّه الذي هو دم رسول اللّه صلى الله عليه و آله نفسه!! دم الحسين عليه السلام، الشهيد الفاتح الذي جاء من قلب (المدينة) يسعى، يحدو به الشوق إلى المصرع المختار «وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف!»، «1»

في ركب من عُشّاق الشهادة لاتثنيهم عن مصارع العشق عقلائية عقلاء الظاهر ولانصائحهم ولاملامة المحجوب عن المحبوب!

رأيتُ كلاباً تنهشني أشدُّها عليَّ كلبٌ أبقع! ..... ص : 239
اشارة

روى الشيخ أبوالقاسم جعفر بن محمد بن قولويه القمّي (ره) بسندٍ عن شهاب بن عبدربّه، عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: «لمّا صعد الحسين بن عليّ عليهما السلام عقبة البطن قال لأصحابه: ما أراني إلّا مقتولًا!

قالوا: وما ذاك يا أباعبداللّه؟

قال: رؤيا رأيتها في المنام!

قالوا: وما هي؟

قال: رأيت كلاباً تنهشني أشدّها عليّ كلبٌ أبقع!». «2»

إشارة: ..... ص : 239

حدّثتنا المتون التأريخية أنّ أهل الطمع والإرتياب كانوا قد تفرّقوا عن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 240

الإمام عليه السلام ذات اليمين وذات الشمال في منطقة زبالة- بعد أن علموا بمقتل مسلم بن عقيل عليه السلام وهاني بن عروة (رض) وعبداللّه بن يقطر (رض)، وبعد أن خطبهم الإمام عليه السلام خطبته التي أعلمهم فيها بمقتل هؤلاء الشهداء الأبرار (رض)، ورخّصهم في الإنصراف عنه- فما بقي معه إلّا الصفوة من أصحابه الذين لازموه حتّى استشهدوا بين يديه.

لكننّا هنا نلاحظ أنّ الإمام عليه السلام ما برح يواصل إختبار وامتحان تصميم الباقين معه على الشهادة حتّى بعد منطقة زُبالة، من خلال إخبارهم بما رأى من الحقّ في عالم المنام، وما ذاك إلّا لتنقية الركب الحسينيّ تماماً من كلّ متردد مرتاب أو ذي طمع في دنيا أو عافية وسلامة ربّما كان لم يزل حتّى تلك الساعة عالقاً بالركب الحسينيّ، وكذلك ليزداد أهل البصائر والنيّات الصادقة يقيناً على يقينهم وتصميماً على المضيّ إلى القتل فوق تصميمهم، ليزدادوا بذلك عند اللّه مثوبة ويرقون إلى منازل أعلى في علييّن! ولعلّ الإمام عليه السلام أراد أيضاً- في ضمن ذلك- أن يكشف لهم عن وحشيّة الأعداء وإصرارهم على قتله، وأشدّهم نهشاً ووحشيّة وإصراراً على قتله ذلك الرجل الأبقع فيهم، وهو شمر بن ذي الجوشن العامري لعنه اللّه!

12)- شراف ..... ص : 240

«شراف بين واقصة والقرعاء على ثمانية أميال من الأحساء التي لبني وهب، ومن شراف إلى واقصة ميلان (4 كم تقريباً)، وهناك بركة تُعرف باللوزة، وفي شراف ثلاث آبار كبار، رشاؤها أقلّ من عشرين قامة، وماؤها عذب كثير، وبها قُلُبٌ كثيرة طيّبة الماء يدخلها ماء المطر ..». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 241

قال الشيخ المفيد (ره): «ثمّ سار عليه السلام في بطن العقبة حتى

نزل شراف فلمّا كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ..». «1»

هذا ما حدّثنا التأريخ به عمّا حصل في منطقة شراف لاغير، وإنّ لأمره عليه السلام فتيانه بالإستقاء من الماء والإكثار منه أثراً كاشفاً عن علمه عليه السلام بالوقائع قبل حصولها، وقد تجلّى هذا الأثر عند لقائهم لأوّل مرّة مع الحرّ بن يزيد الرياحي (رض) في قوّة قتالية مؤلّفة من ألف فارس! بعد قليل من شراف.

نعم، ذكر مؤرّخون «2» أنّ الإمام عليه السلام أمر بالإستقاء من الماء والإكثار منه قبل ذلك في أكثر من موضع، بل ربّما كان ذلك من عادة السير والسفر قبيل التحرك من كلّ منزل من المنازل، لكنّ الظاهر أنّ الإستقاء من الماء والإكثار منه في شراف كان أكثر من كلّ مرّة بحيث يزيد هذه المرّة عن حاجة الركب الحسينيّ كثيراً.

13) ذو حُسَم: ..... ص : 241

اشارة

وهو جبل يقع بين شراف وبين منزل البيضة، كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة يصطاد فيه. «3»

روى الطبري عن الرجلين الأسديين (عبداللّه بن سُلَيم والمذريّ بن المشمعل) قالا: «ثمَّ ساروا منها- أي شراف- فرسموا صدر يومهم حتى انتصف النهار، ثم إنّ رجلًا قال: اللّه اكبر!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 242

فقال الحسين: اللّه أكبر! ما كبّرت؟

قال: رأيت النخل!

فقال له الأسديان: إنّ هذا المكان ما رأينا به نخلة قطّ!

قالا: فقال لنا الحسين: فما تريانه رأى؟

قلنا: نراه رأى هوادي الخيل!

فقال: وأنا واللّه أرى ذلك! .. أما لنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟

فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإنْ سبقت القوم إليه فهو كما تريد.

قال فأخذ إليه ذات اليسار، قال ومِلْنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل فتبينّاها وعدلنا،

فلمّا رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأنَّ أسنّتهم اليعاسيب! وكأنّ راياتهم أجنحة الطير!

قال فاستبقنا إلى ذي حُسم فسبقناهم إليه، فنزل الحسين فأمر بأبنيته فضُربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمّون متقلّدو أسيافهم!

فقال الحسين لفتيانه: إسقوا القوم وارووهم من الماء! ورشّفوا الخيلَ ترشيفاً!

فقام فتيانه فرشّفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتّى أرووهم! وأقبلوا يملؤون القصاع والأتوار والطّساس من الماء ثمّ يُدنونها من الفرس، فإذا عبَّ فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلّها.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 243

قال هشام: حدّثني لقيط، عن عليّ بن الطّعان المحاربي: كنت مع الحرّ بن يزيد، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلمّأ رأى الحسين مابي وبفرسي من العطش قال: أنِخْ الراوية- والراوية عندي السقاء- ثمّ قال: يا ابن أخي، أنخ الجمل! فأنخته، فقال: إشرب. فجعلتُ كلّما شربتُ سال الماء من السقاء، فقال الحسين:

أخنث السقاء- أي إعطفه قال جعلت لا أدري كيف أفعل! قال فقام الحسين فخنثه، فشربت وسقيتُ فرسي.

قال: وكان مجي ء الحرّ بن يزيد ومسيره إلى الحسين من القادسية، وذلك أنّ عبيداللّه بن زياد لمّا بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن نمير التميمي وكان على شُرطه، فأمره أن ينزل القادسية وأن يضع المسالح، فينظّم ما بين القطقطانة إلى خفّان! وقدّم الحرّ بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية فيستقبل حُسيناً!

قال فلم يزل موافقاً حُسيناً حتى حضرت الصلاة صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجّاجَ بن مسروق الجعفي أن يؤذّن فأذّن، فلمّا حضرت الإقامة خرج الحسين في إزارٍ ورداءٍ ونعلين، فحمد اللّه وأثنى عليه،

ثم قال:

أيها النّاس، إنّها معذرة إلى اللّه عزّ وجل وإليكم! إنّي لم آتكم حتّى أتتني كتبكم وقدمت عليَّ رسلكم: أن أقدم علينا فإنّه ليس لنا إمام. لعلّ اللّه يجمعنا بك على الهدى، فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم، فإن تعطوني ما أطمئنّ إليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم الى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم!

قال فسكتوا عنه، وقالوا للمؤذّن: أقم. فأقام الصلاة.

فقال الحسين عليه السلام للحرّ: أتريد أنْ تصلّي بأصحابك؟

قال: لا، بل تصلّي أنت ونصلّي بصلاتك!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 244

قال فصلّى بهم الحسين، ثمّ إنّه دخل واجتمع إليه أصحابه، وانصرف الحرّ إلى مكانه الذي كان به، فدخل خيمة قد ضُربت له، فاجتمع إليه جماعة من أصحابه، وعاد أصحابه إلى صفّهم الذي كانوا فيه فأعادوه، ثمّ أخذ كلّ رجل منهم بعنان دابّته وجلس في ظلّها.

فلمّا كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيؤا للرحيل، ثمّ إنّه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام، فاستقدم الحسين فصلّى بالقوم ثمّ سلّم وانصرف الى القوم بوجهه، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:

أمّا بعدُ أيها النّاس، فإنكم إن تتقوا وتعرفوا الحقَّ لأهله يكنْ أرضى للّه، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجَوْر والعدوان! وإنْ أنتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم!

فقال له الحرّ بن يزيد: إنّا واللّه ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر!

فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجَيْن اللذين فيهما كتبهم إليَّ! فأخرج خرجَيْن مملوئين صحفاً، فنشرها بين أيديهم!

فقال الحرُّ: فإنّا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك، وقد أُمرنا إذا نحن لقيناك ألّا نفارقك

حتّى نقدمك على عبيداللّه بن زياد!

فقال له الحسين: الموتُ أدنى إليك من ذلك!

ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا. فركبوا وانتظروا حتّى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا بنا. فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الإنصراف، فقال الحسين للحرّ: ثكلتك أمّك! ما تُريد!؟

قال: أما واللّه لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 245

عليها ما تركت ذكر أُمِّه بالثكل أن أقوله، كائناًمن كان، ولكن واللّه مالي إلى ذكر أُمِّك من سبيل إلّا بأحسن ما يُقدر عليه!

فقال له الحسين: فما تُريد!؟

قال الحرّ: أُريد واللّه أن أنطلق بك إلى عبيداللّه بن زياد!

قال له الحسين: إذن واللّه لا أتّبعك!

فقال له الحرّ: إذن واللّه لا أَدَعُك!

فترادّا القول ثلاث مرّات، ولمّا كثر الكلام بينهما:

قال له الحرّ: إنّي لم أؤمر بقتالك وإنّما أُمرت أن لا أُفارقك حتّى أُقدمك الكوفة! فإذا أبيتَ فُخُذْ طريقاً لا تُدخلك الكوفة ولاتردّك إلى المدينة، لتكون بيني وبينك نصفاً، حتّى أكتب إلى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية إن أردت أن تكتب إليه، أو إلى عبيداللّه بن زياد إن شئت، فلعلّ اللّه إلى ذاك أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أُبتلى بشي ء من أمرك. قال: فخُذ هاهنا فتياسَرْ عن طريق العُذيب والقادسيّة. (وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلًا).

ثُمَّ إنَّ الحسين سار في أصحابه، والحرُّ يسايره ...». «1»

تأمُّلٌ وملاحظات: ..... ص : 245
1)- تعاملَ الإمام عليه السلام- القائد الربّانيّ- مع الظالين والمُغرَّر بهم والمشلولين نفسياً من أبناء هذه الأمة ..... ص : 245

معاملة الأب الرؤوف الحاني- مالم يقع بينه وبينهم السيف- وذلك لأنّ غاية الإمام عليه السلام أساساً هي دعوتهم الى الحقّ والهدى، وقد تجسّدت هذه الروح الأبوية الحانية في سقاية هؤلاء القادمين بأمر ابن زياد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 246

للجعجعة به عليه السلام، وإروائهم في ساعة هم أشدّ ما يكونون فيها حاجة إلى الماء، وكأنّه

عليه السلام كان قد أحياهم بعد احتضارٍ من شدّة العطش!- بل لقد تجلّت رأفته وحنّوه عليه السلام كخليفة للّه على كلّ خلقه أيضاً في إرواء الخيل والدوابّ الأخرى وترشيفها- ولاشكّ أنّ هذه الأخلاقية الربّانية حجّة بالغة على أولئك القوم، تهزّ ضمائرهم هزّاً عنيفاً وتدفعها دفعاً قويّاً إلى التأمّل والتفكير وتستنطق الفطرة فيهم للإجابة عن هذا السؤال: أيُّ الرجلين أحقّ بالإتباع والإطاعة: الإمام عليه السلام أم ابن زياد الجلف الجافي!؟

فلعلَّ ضالًّا- بعد هذه الهزّة في الضمير- يستبصر فيهتدي إلى الحقّ ويتّبعه، ومُغرَّراً به تنكشف له حقيقة الأمر فيعرف أهل الحقّ وقادته، ومشلولًا في نفسه يتحرر فينطلق بقوّة وعزم للإنضمام إلى أهل الحقّ وقد كان ولم يزل يعرفهم!!

2)- كان الإمام عليه السلام يريد أن يدخل الكوفة حُرّاً وبالطريقة التي يختارها هو!، وكان الحرُّ يريد أن يأخذه إليها أسيراً! ..... ص : 246

بأمر ابن زياد! كان هذا أصل الأخذ والردّ بينهما، لكنّ ما يُلفت الإنتباه في هذه النقطة هو أنّ الإمام عليه السلام ظلّ مصرّاً على التوجّه نحو الكوفة حتّى بعد الإختيار الموسّع الذي عرضه عليه الحرّ بن يزيد (رض) في أن يتّخذ طريقاً لاتُدخله الكوفة ولاتردّه الى المدينة، فيذهب حيث يشاء بين ذلك! بل كان الإختيار أوسع- على رواية ابن أعثم الكوفيّ- حيث شمل حتّى الرجوع الى المدينة إذا شاء! حين قال له الحرُّ (رض): «أبا عبداللّه، إنّي لم أؤمر بقتالك، وإنّما أُمرت أن لا أفارقك أو أقدم بك على ابن زياد! وأنا واللّه كارهٌ إنْ سلبني اللّه بشي ء من أمرك! غير أنّي قد أخذتُ ببيعة القوم وخرجت اليك! وأنا أعلم أنه لايوافي القيامة أحد من هذه الأمّة إلّا وهو يرجو شفاعة جدّك محمّد صلى الله عليه و آله! وأنا خائف إن قاتلتك أن أخسر الدنيا والآخرة! ولكن خذ عنّي هذا الطريق وامضِ حيث شئت! حتى أكتب إلى ابن زياد

أنّ هذا خالفني في الطريق

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 247

فلم أقدر عليه! ..». «1»

إنّ إصرار الإمام عليه السلام على التوجّه نحو الكوفة حتّى بعد انتفاء حجّة رسائل أهل الكوفة عمليّاً- بعد وصول خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني (رض) وعبداللّه بن يقطر (رض) إلى الإمام عليه السلام- كاشف عن أنّ رسائل أهل الكوفة إليه لم تكن السبب الرئيس في توجّهه نحو العراق! وإنْ كان صحيحاً القول إنّه عليه السلام «لم يشأ أن يدع أيّ مجال لإمكان القول بأنّه عليه السلام لم يفِ تماماً بالعهد لو كان قد انصرف عن التوجّه إلى الكوفة في بعض مراحل الطريق، حتّى بعد أن أغلق جيش الحرّ دونه الطريق إليها! ذلك لأنّ الإمام عليه السلام مع تمام حجّته البالغة على أهل الكوفة أراد في المقابل بلوغ تمام العذر وعلى أكمل الوجه فيما قد يُتصوَّر أنّ لهم حجّة باقية عليه، بحيث لايبقى ثمّة مجال للطعن في وفائه بالعهد!». «2»

نعم، هذا سببٌ من جملة الأسباب التي تقع في طول السبب الرئيس في توجّهه عليه السلام نحو العراق: وهو أنّ الإمام عليه السلام- مع علمه بأنّه مالم يبايع يُقتل- كان قد أصرَّ على العراق لأنّه أفضل أرض للمصرع الذي لابُدَّ منه، لما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثر بواقعة المصرع والتغيّر نتيجة لها! وقد فصّلنا القول في هذا تحت عنوان (لماذا اختار الإمام الحسين عليه السلام العراق) في الفصل الأوّل، فراجع.

3)- لم يقصد الإمام عليه السلام التخلّي عن نهضته بقوله في خطبته بعد صلاة الظهر: ..... ص : 247

«.. وإنْ لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم!» أو قوله في خطبته بعد صلاة العصر: «وإنْ كرهتمونا وجهلتم

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 248

حقّنا، وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به عليَّ رسلكم انصرفت عنكم!».

بل كلُّ ما عناه الإمام

عليه السلام في هذين القولين- وفي نظائرهما- هو التخلّي عن التوجّه إلى الكوفة- مادام لايمكنه أن يدخلها إلّا أسيراً!- وهذا لايعني تخلّيه عن مواصلة القيام والنهضة، بل يعني تغيير مسار حركة الركب الحسينيّ إلى جهة أخرى غير الكوفة، سواء بالعودة الى مكّة المكرّمة أو المدينة المنوّرة أو الذهاب إلى اليمن أو أي مكان آخر! هذه حدود المعنى المفهوم في قوله عليه السلام: انصرفت عنكم.

4) من هو الحرُّ بن يزيد الرياحي؟ ..... ص : 248
اشارة

هو الحرُّ بن يزيد بن ناجية بن قَعنَب بن عتّاب [الردف] بن هرميّ بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد بن مناة بن تميم، فهو التميميّ اليربوعيّ الرياحيّ.

كان الحرّ شريفاً في قومه جاهلية وإسلاماً، فإنّ جدّه عتّاباً كان رديف النعمان، وولد عتّاب قيساً وقعنباً ومات، فردف قيس للنعمان ونازعه الشيبانيون، فقامت بسبب ذلك حرب يوم الطخفة.

والحرّ هو إبن عمّ الأخوص الصحابيّ الشاعر: زيد بن عمرو بن قيس بن عتّاب. وكان الحرّ في الكوفة رئيساً، ندبه ابن زياد لمعارضة الحسين عليه السلام فخرج في ألف فارس! «1»

والظاهر من متون قصة لقاء الإمام عليه السلام مع الحرّ (رض) على رأس ألف فارس

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 249

قادماً من القادسية لمعارضة الإمام عليه السلام في مسيره: أنّ الحرّ (رض) كان يومذاك عارفاً ومؤمناً بمقام ومنزلة أهل البيت عليهم السلام عند اللّه تبارك وتعالى، وكارهاً لمأمورية خروجه لمعارضة الإمام عليه السلام!

فها هو يجيب الإمام عليه السلام حينما قال له: ثكلتك أمّك! ما تريد؟ قائلًا: أما واللّه لو غيرك من العرب يقولها لي، وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمّه بالثكل أن أقوله، كائناً من كان! ولكن واللّه مالي إلى ذكر أمّك من سبيل إلّا بأحسن ما يُقدر عليه!

ويقول للإمام عليه

السلام أيضاً: وأنا أعلمُ أنّه لايوافي القيامة أحدٌ من هذه الأمّة إلّا وهو يرجو شفاعة جدّك محمّد صلى الله عليه و آله! وأنا خائف إنْ قاتلتك أن أخسر الدنيا والآخرة! ...

وروى الشيخ ابن نما (ره) بإسناده أنّ الحرّ (رض)- بعد أن هداه اللّه ووفّقه للإنضمام إلى الإمام عليه السلام- «قال للحسين عليه السلام: لمّا وجّهني عبيداللّه إليك خرجت من القصر فنوديتُ مِن خلفي: أبشر يا حُرّ بخير! فالتفتُّ فلم أر أحداً! فقلتُ: واللّه ما هذه بشارة وأنا أسير إلى الحسين عليه السلام!! وما أُحدّثُ نفسي باتباعك!

فقال عليه السلام: لقد أصبت أجراً وخيراً.». «1»

لكنّ الظاهر من مجموع سياق قصة خروجه إلى الإمام عليه السلام وجعجعته به هو

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 250

أنّ الحرّ (رض) لم يكن يتوقّع أنّ القوم سوف ينتهي بهم الأمر إلى مقاتلة الإمام عليه السلام، ولذا نراه حينما رأى في كربلاء جدّية الموقف والحال، وأنَّ كلَّ ما حوله يؤكّد أنَّ فتيل الحرب على وشك الإشتعال، توجّه إلى عمر بن سعد يسائله مستغرباً قائلًا: أي عمر! أمقاتلٌ أنتَ هذا الرجل!؟

فقال عمر لعنه اللّه: إي واللّه قتالًا شديداً، أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي! فردّ عليه الحرّ (رض): أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى؟!

قال عمر: أما واللّه، لو كان الأمر إليَّ لفعلتُ، ولكنّ أميرك أبى!

فأقبل الحرّ حتّى وقف من الناس موقفاً، ومعه رجل من قومه يُقال له قُرَّة بن قيس، فقال له: يا قُرَّة! هل سقيت فرسك اليوم؟

قال: لا!

قال: فما تُريد أن تسقيه؟

قال قرّة: فظننتُ واللّه أنه يُريد أن يتنحّى ولايشهد القتال، فكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لم أسقه، وأنا منطلق فأسقيه.

فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه، فواللّه لو أنّه أطلعني على الذي يُريد لخرجت

معه إلى الحسين! فأخذ يدنو من الحسين قليلًا قليلا، فقال له مهاجر بن أوس: ما تريدُ يا ابن يزيد!؟ أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه، فأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة! فقال له المهاجر: إنّ أمرك لمريب! واللّه ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا! ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك!؟

فقال له الحرّ: إنّي واللّه أُخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فواللّه لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قُطّعتُ وأحرقتُ!!

ثمّ ضرب فرسه فلحق الحسين عليه السلام فقال له: جُعلت فداك يا ابن رسول اللّه!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 251

أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان! وما ظننتُ أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم! ولايبلغون منك هذه المنزلة! واللّه لو علمتُ أنّهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبتُ مثل الذي ركبت! وأنا تائب إلى اللّه ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلك توبة؟

فقال له الحسين عليه السلام: نعم، يتوب اللّه عليك، فانزل.

فقال: أنا لك فارساً خير منّي راجلًا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري!

فقال له الحسين عليه السلام: فاصنع يرحمك اللّه ما بدا لك. «1»

وبهذا يتجلّى أنّ الحرّ (رض) لمّا رأى من القوم مالم يكن يتوقعه منهم ناقش نفسه نقاشاً جادّاً حاسماً- في ظرف زمنّي صعب وعسير وقصير!- ليتّخذ الموقف الصحيح بين صفّ الحقّ وصفّ الباطل، وما هي إلّا لحظة مصيرية حاسمة تحرّر فيها الحرُّ من كلّ شلل نفسي وازدواج في داخله، فانطلق إلى الحقّ وانضمّ إليه متبرئاً من كلّ عوالق الباطل، منيباً إلى اللّه تائباً إليه، في لحظة تأريخية فريدة، وموقف رياديّ لامثيل له، جعل من إسم الحرّ الرياحيّ

(رض) رمزاً لكلّ عشّاق الحقيقة الأحرار على مرّ الدهور وتتابع الأجيال.

وكان الحرّ (رض)- كما وصفه المهاجر بن أوس- من أشجع أهل الكوفة، وقد روي «أن الحرّ لمّا لحق بالحسين عليه السلام قال رجل من تميم يُقال له يزيد بن سفيان: أما واللّه لو لحقته لأتبعته السِنان!

فبينما هو يقاتل، وإنّ فرسه لمضروب على أُذنيه وحاجبيه وإنّ الدماء لتسيل، إذ قال الحصين: يا يزيد هذا الحرّ الذي كنت تتمنّاه! قال: نعم.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 252

فخرج إليه، فما لبث الحرُّ أن قتله، «1» وقتل أربعين فارساً وراجلًا، فلم يزل يقاتل حتّى عُرْقِبَ فرسه، وبقي راجلًا وهو يقول:

إنّي أنا الحرُّ ونجلُ الحرّ أشجع من ذي لبدٍ هِزَبْرِ

ولستُ بالجبان عند الكرّ لكنّني الوقّاف عند الفَرِّ

كما روي أنّه (رض) قال للإمام عليه السلام: «يا ابن رسول اللّه، كنتُ أوّل خارج عليك، فائذن لي لأكون أوّل قتيل بين يديك، وأوّل من يصافح جدّك غداً!- وإنّما قال الحرّ: لأكون أوّل قتيل بين يديك، والمعنى يكون أوّل قتيل من المبارزين، وإلّا فإنّ جماعة كانوا قد قُتلوا في الحملة الأولى كما ذُكر- فكان أوّل من تقدّم إلى براز القوم، وجعل ينشد ويقول:

إنّي أنا الحرّ ومأوى الضيف أضرب في أعناقكم بالسيف

عن خير من حلَّ بأرض الخَيفْ أضربكم ولا أرى من حَيْفِ «2»

وروي أنه (رض) لمّا قُتل احتمله أصحاب الحسين عليه السلام حتّى وضعوه بين يدي الحسين عليه السلام وبه رمق، «فجعل الحسين يمسح وجهه ويقول: أنتَ الحرّ كما سمّتك أُمّك! وأنت الحرّ في الدنيا، وأنت الحرّ في الآخرة!

ورثاه رجل من أصحاب الحسين عليه السلام، وقيل: بل رثاه عليّ بن الحسين عليهما السلام:

لنِعمَ الحرُ حرُّ بني رياحِ صبورٌ عند مختلف الرماحِ

ونعم الحرُّ إذ فادى حسيناً وجاد بنفسه عند

الصباحِ

فيا ربّي أضفه في جنانٍ وزوّجه مع الحور الملاحِ «3»

وله (رض) خطبة في القوم يوم عاشوراء قال فيها:

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 253

«يا أهل الكوفة! لأمّكم الهبل والعبر! أدعوتم هذا العبد الصالح حتّى إذا جاءكم أسلمتموه! وزعمتم أنكم قاتلو أنفسكم دونه، ثمّ عدوتم عليه لتقتلوه! وأمسكتم بنفسه وأخذتم بكظمه! وأحطتم به من كلّ جانب لتمنعوه التوجّه في بلاد اللّه العريضة، فصار كالأسير في أيديكم! لايملك لنفسه نفعاً ولايدفع عنها ضرّاً! وحلأتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري! يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابهم! فها هم قد صرعهم العطش! بئسما خلفتم محمّداً في ذريّته، لاسقاكم اللّه يوم الضمأ.». «1»

فسلام على رمز التحوّل الواعي السريع الجري ء من ظلمات الباطل إلى نور الحقّ، سلام على الحرّ الرياحيّ يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً!

إنّي لا أرى الموت إلّا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما!

وروى الطبري عن عقبة بن أبي العيزار قال: «قام حسين عليه السلام بذي حسم، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: إنّه قد نزل من الأمر ما قد ترون! وإنَّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت جذاءً فلم يبق منها إلّا صُبابة كصُبابة الإناء! وخسيس عيش كالمرعى الوبيل! ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به وأنّ الباطل لايُتناهى عنه!؟

ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما. «2»

قال: فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه: أتتكلّمون أم أتكلّم؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 254

قالوا: لا، بل تكلّم.

فحمد اللّه فأثنى عليه، ثمّ قال: قد سمعنا هداك اللّه يا ابن رسول اللّه مقالتك، واللّه لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنّا فيها مخلّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك

لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها!!

قال: فدعا له الحسين، ثمّ قال له خيرا ...». «1»

لكنّ السيّد ابن طاووس (ره) ذكر أنّ الإمام عليه السلام خطب هذه الخطبة في أصحابه، ثم ذكرها، وذكر مقالة زهير (رض)، ثمّ أضاف قائلًا: «وقال الراوي: وقام هلال بن نافع البجلي «2» فقال: واللّه ما كرهنا لقاء ربّنا! وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

قال: وقام بُرير بن خضير فقال: واللّه يا ابن رسول اللّه لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتُقطّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدُّك شفيعنا يوم القيامة!.». «3»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 254
1) يُلاحظ المتأمّل في هذه الخطبة القصيرة البليغة الوافية التي خطب الإمام عليه السلام أصحابه بها: ..... ص : 254

أنّ الإمام عليه السلام ما فتأ يواصل امتحان عزائم أنصاره من خلال تذكيرهم هذه المرّة بتغيّر الأمور وتنكّر الدنيا وإدبار معروفها! وأنّ ما يستقبلهم من

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 255

مجرى حركة الأحداث لايحمل لهم إلّا المكاره!

لكنّ المُلفتَ للإنتباه هنا هو أنّ الإمام عليه السلام في هذه الخطبة أيضاً كان يحثّ أصحابه ويحرّضهم على التمسّك بنصرته! فهاهو يذكّرهم بأنّ مابقي من الدنيا ليس إلّا كماءٍ ضئيل في قعر إناء صغير! والأيّام الباقية من هذا العمر في ظلّ حكومة الطاغوت أيّام لاعزّة فيها، عيشها خسيس كالمرعى الوبيل! في عالم لايُعمل فيه بالحقّ، ولايُتناهى فيه عن الباطل! فالأولى للمؤمن أن يرفض هذا العيش الذليل النكد، راغباً في لقاء اللّه تحت راية قائم بالحقّ، فإنّ أفضل الموت القتل في سبيل اللّه، وهو الشهادة والسعادة! وإنّ أسوأ حياةٍ حياةٌ بذُلٍّ تحت قهر الظالمين، إنها التعاسة والبرم!

وهنا كان أنصاره عليه السلام قد أدركوا مراده من هذه المقالة، وعلموا أنّه محزون لقلّة ناصريه! وأنّه أراد أن يختبر نيّاتهم وعزائمهم في المضيّ معه حتى الشهادة! فبادر زهير بن القين (رض) عن لسان جميع الأنصار-

ثمّ تصدّى بالقول نافع بن هلال (رض) وبُرير بن خضير (رض) كما في رواية ابن طاووس (ره)- لتطمين الإمام عليه السلام بأنّهم ثابتون على نيّاتهم وبصائرهم، وعلى عهدهم في موالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وأنهم موقنون بأنّ اللّه قد منّ عليهم بالإمام عليه السلام إذ فتح لهم باب الجهاد بين يديه ليفوزوا بالشهادة وهي أقصى أمنيّة المؤمنين الصادقين!

والإنسانية لم تزل إلى اليوم- وتبقى إلى قيام الساعة- تقرأ قصة هذا المشهد الرائع من مشاهد مسيرة الركب الحسيني، فتقف إجلالًا وإكباراً لمقالة كلّ من نافع وبرير رضوان اللّه تعالى عليهما، وتتأمل بخشوع وإعجاب لاينقضي في المعاني السامية لأُنشودة الفداء والمواساة التي تضمّنتها مقالة زهير بن القين رضوان اللّه تعالى عليه: «واللّه، لو كانت الدنيا لنا باقية، وكُنّا فيها مخلّدين، إلّا أنّ فراقها في نصرك ومواساتك، لآثرنا الخروج معك على الإقامة فيها!!».

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 256

2) ويستفاد أيضاً من قوله عليه السلام: ..... ص : 256

«ألا ترون أنّ الحقّ لايعمل به، وأنّ الباطل لايُناهى عنه!؟ ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً! فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برما» أنّ المؤمنين جميعاً- في كلّ عصر- في مثل هذه الحال أمام تكليف عام بالقيام للّه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والعمل على تغيير واقع حياة الامة الإسلامية على أساس ما أمر اللّه تعالى به.

3) من هو نافع بن هلال الجملي؟ ..... ص : 256

«هو نافع بن هلال بن نافع بن جمل بن سعد العشيرة بن مذحج، المذحجي الجملي، كان نافع سيّداً شريفاً سريّاً شجاعاً، وكان قارئاً، كاتباً، من حملة الحديث، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، وحضر معه حروبه الثلاث في العراق.

وخرج إلى الحسين عليه السلام فلقيه في الطريق، وكان ذلك قبل مقتل مسلم، وكان أوصى أن يُتبع بفرسه المسمى بالكامل، فأُتبع مع عمرو بن خالد وأصحابه الذين ذكرناهم (مجمع بن عبداللّه العائذي (رض) وابنه عائذ (رض)، وسعد (رض) مولى عمرو، وواضح التركي (رض) مولى الحرث السلماني).». «1»

لقد كان نافع (رض) من ذوي البصائر، هاهي مقالته بين يدي الإمام عليه السلام في ذي حُسم تشهد له بذلك: «واللّه ماكرهنا لقاء ربّنا! وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك!»، «2» ولمّا بلغ الإمام الحسين عليه السلام قتل قيس بن مسهّر الصيداوي (رض) استعبر باكياً، ثمّ قال: «اللّهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلًا كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ من رحمتك، إنك على كلّ شي ء قدير.

قال: فوثب إلى الحسين عليه السلام رجل من شيعته يقال له هلال بن نافع البجلي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 257

(والصحيح هو: نافع بن هلال الجملي كما قدّمنا) فقال: يا ابن رسول اللّه! أنت تعلم أنّ جدّك رسول اللّه لم يقدر أن يُشرب النّاس

محبّته، ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ! وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ويضمرون له الغدر! يلقونه بأحلى من العسل، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل! حتّى قبضه اللّه إليه.

وإنّ أباك عليّاً رحمة اللّه عليه قد كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصره وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين، حتى أتاه أجله فمضى إلى رحمة اللّه ورضوانه.

وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة! فمن نكث عهده وخلع بيعته فلن يضرّ إلّا نفسه، واللّه مُغنٍ عنه! فَسِرْ بنا راشداً معافاً، مشرّقاً إن شئت، وإنْ شئت مُغرّباً، فواللّه ما أشفقنا من قدر اللّه، ولاكرهنا لقاء ربّنا، وإنّا على نيّاتنا وبصائرنا، نوالي من والاك ونعادي من عاداك!». «1»

وكان نافع (رض) على مرتبة عالية من الأدب والوفاء ومعرفة حقّ الإمام الحسين عليه السلام عليه وعلى جميع المسلمين، روى الطبري أنه لمّا اشتدَّ على الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه العطش في كربلاء- قبل يوم عاشوراء- «دعا العباس بن عليّ بن أبي طالب أخاه، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلًا، وبعث معهم بعشرين قربة، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ليلًا، واستقدم أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي: من الرجل؟ فجي ء، ما جاء بك؟

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه!

قال: فاشرب هنيئاً!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 258

قال: لا واللّه، لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومن ترى من أصحابه! فطلعوا عليه، فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنّما وُضِعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء!

فلمّا دنا منه أصحابه قال لرجاله: إملؤا قِرَبَكم. فشدَّ الرجّالة فملؤا قربهم. وثار إليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، فحمل عليهم العباس بن عليّ ونافع بن هلال فكفّوهم ثمّ انصرفوا إلى رحالهم ..». «1»

وخرج الإمام عليه

السلام ليلة عاشوراء في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عليه السلام عمّا أخرجه؟

قال: يا ابن رسول اللّه، أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي!

فقال الحسين عليه السلام: إنّي خرجتُ أتفقّد التلاع والروابي مخافة أن تكون مكمناً لهجوم

الخيل يوم تحملون ويحملون.

ثمّ رجع عليه السلام وهو قابضٌ على يد نافع ويقول: هي هي! واللّه وعدٌ لاخُلفَ فيه! ثمّ قال له: ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟ فوقع نافع على قدميه يقبّلهما ويقول: ثكلتني أمّي! إنّ سيفي بألف، وفرسي مثله! فواللّه الذي منّ بك عليَّ لافارقتك حتّى يملَّا عن فَرْيٍ وجَرْيٍ!». «2»

وقد جسّد نافع (رض) صوراً رائعة من صور الشجاعة يوم عاشوراء، منها: لمّا استشهد عمرو بن قرظة الأنصاري (رض)، خرج أخوه عليُّ بن قرظة وكان مع عمر بن سعد، فهتف بالإمام الحسين هتافاً سيئاً ثُمَّ حمل على الإمام عليه السلام فاعترضه

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 259

نافع بن هلال المرادي فطعنه فصرعه، فحمله أصحابه فاستنقذوه .. «1»

وكان نافع (رض) يقاتل يومئذٍ وهو يقول: أنا الجَملي أنا على دين عليّ، فخرج إليه رجل يُقال له مزاحم بن حُريث فقال: أنا على دين عثمان!

فقال له: أنتَ على دين الشيطان! ثمّ حمل عليه فقتله، فقال عمرو بن الحجّاج بالنّاس: يا حمقى! أتدرون من تقاتلون!؟ فرسانَ المِصر! قوماً مستميتين! لايبرزنّ لهم منكم أحد، فإنّهم قليلٌ، وقلّ ما يبقون! واللّه لولم ترموهم إلّا بالحجارة لقتلتموهم!

فقال عمر بن سعد: صدقتَ، الرأي ما رأيت. وأرسل إلى الناس يعزم عليهم ألّا يبارز رجلٌ منكم رجلًا منهم! «2»

وكان نافع (رض) قد كتب إسمه على أفواق نبله! فجعل يرمي بها مسمومةً! وهو يقول: أنا الجملي أنا

على دين علي.

فقتل إثني عشر من أصحاب عمر بن سعد سوى من جرح! فضُرب حتى كُسِرت عضداه، وأُخذ أسيراً، أخذه شمر بن ذي الجوشن لعنه اللّه ومعه أصحاب له يسوقون نافعاً (رض) حتى أُوتي به عمر بن سعد، فقال له عمر بن سعد: ويحك يا نافع! ما حملك على ما صنعت بنفسك!؟ قال: إنّ ربّي يعلمُ ما أردتُ! والدماء تسيل على لحيته وهو يقول: واللّه لقد قتلتُ منكم إثني عشر سوى من جرحتُ، وما ألوم نفسي على الجُهد! ولو بقيت لي عضد وساعد ما أسرتموني!

فقال شمر لعمر: أُقتلْه أصلحك اللّه!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 260

قال عمر: أنت جئت به، فإنْ شئت فاقتله!

فانتضى شمر سيفه، فقال له نافع: أما واللّه، لو كنتَ من المسلمين لعظم عليك أن تلقى اللّهَ بدمائنا، فالحمدُ للّه الذي جعل منايانا على يدي شرار خلقه. فقلته!. «1»

فسلام على نافع بن هلال يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً!

4)- أمّا بُرَيْرُ بن خُضَير الهمدانيُّ المشرقيّ (رض) .. ..... ص : 260

فقد كان شيخاً تابعياً ناسكاً، قارئاً للقرآن، وكان من شيوخ القرّاء في الكوفة، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين.

ونُقل: أنّه لمّا بلغه خبر الحسين عليه السلام سار من الكوفة إلى مكّة ليجتمع بالحسين عليه السلام، فجاء معه حتّى استُشهد. «2»

ومن مقالاته مع الإمام عليه السلام الكاشفة عن قوة بصيرته قوله (رض): «واللّه يا ابن رسول اللّه، لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، وتُقطّع فيك أعضاؤنا، ثمّ يكون جدُك شفيعنا يوم القيامة!».»

ومن المواقف الكاشفة عن قوّة يقينه (رض) ما رواه الطبري أنّ الإمام الحسين عليه السلام أمر بفسطاطٍ فضُرب، ثمّ أمر بمسكٍ فميثَ في جفنة عظيمة أو صحفة ثمّ دخل الإمام عليه السلام ذلك الفسطاط فتطلّى بالنورة،

وعبدالرحمن بن عبد ربّه وبرير بن خضير الهمداني على باب الفسطاط تحتكُّ مناكبهما! فازدحما أيّهما

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 261

يطلي على أثره! «فجعل برير يُهازل عبدالرحمن! فقال له عبدالرحمن: دعنا فواللّه ماهذه بساعة باطل! فقال له بُرير: واللّه لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شابّاً ولاكهلًا، ولكن واللّه إني لمستبشرٌ بما نحن لاقون! واللّه إنْ بيننا وبين الحور العين إلّا أن يميل هؤلاء علينا بأسيافهم! ولَوددتُ أنّهم قد مالوا علينا بأسيافهم! ..». «1»

ونُقل أنّه «لمّا بلغ من الحسين عليه السلام العطش ما شاء اللّه أن يبلغ، استأذن برير الحسين عليه السلام في أن يُكلِّم القوم فأذن له، فوقف قريباً منهم ونادى: يا معشر النّاس، إنّ اللّه بعث بالحقّ محمّداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى اللّه بإذنه وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابها! وقد حيل بينه وبين ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله، أفجزاء محمّد هذا!؟

فقالوا: يا بُرير، قد أكثرت الكلام فاكففْ! فواللّه ليعطشنّ الحسين كما عطش من كان قبله! فقال الحسين عليه السلام: أكففْ يا بُرير.». «2»

وروى الطبري عن عفيف بن زهير بن أبي الأخنس، وكان قد شهد مقتل الحسين عليه السلام قال: «خرج يزيد بن معقل من بني عميرة بن ربيعة ...

فقال: يا برير بن خضير، كيف ترى اللّه صنع بك!؟

قال: صنع اللّهُ واللّهِ بي خيراً، وصنع اللّه بك شرّاً!

قال: كذبتَ، وقبل اليوم ما كنتَ كذّاباً! هل تذكر وأنا أُماشيك في بني لوذان، «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 262

وأنت تقول: إنّ عثمان بن عفان كان على نفسه مسرفاً، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالٌّ مُضلّ، وإنّ إمام الهدى والحقّ عليّ بن أبي طالب!؟

فقال له برير: أشهدُ أنّ هذا رأي وقولي.

فقال له يزيد

بن معقل: فإنّي أشهد أنّك من الضالين!

فقال له برير بن خضير: هل لك أنْ أُباهلك؟ ولندعُ اللّه أنْ يلعن الكاذب، وأن يقتل المُبطل، ثم اخرج فلأبارزك!

قال فخرجا فرفعا أيديهما إلى اللّه يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المحقُّ المُبطلَ، ثمّ برز كلّ واحدٍ منهما لصاحبه فاختلفا ضربتين، فضرب بُرير بن خضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً! وضربه برير بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ! فخرَّ كأنّما هوى من حالق! وإنَّ سيف ابن خضير لثابتٌ في رأسه، فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه!

وحمل عليه رضيُّ بن منقذ العبدي فاعتنق بريراً، فاعتركا ساعة، ثمّ إنّ بريراً قعد على صدره! فقال رضيّ: أين أهل المصاع والدفاع!؟

قال فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه، فقلتُ: إنّ هذا برير إبن خضير القارى ء الذي كان يُقرئنا القرآن في المسجد!

فحمل عليه بالرمح حتّى وضعه في ظهره، فلمّا وجد مسَّ الرمح برك عليه فعضّ بوجهه وقطع طرف أنفه! فطعنه كعب بن جابر حتّى ألقاه عنه، وقد غيّب السِنانَ في ظهره، ثمّ أقبل عليه يضربه بسيفه حتّى قتله ..». «1»

فسلام على برير بن خضير يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 263

14)- البيضة: ..... ص : 263

اشارة

«بكسر الباء، ماء بين واقصة إلى العذيب، متصلة بالحَزَن، لبني يربوع». «1»

وروى الطبري: عن أبي مخنف، عن عقبة بن أبي العيزار قال: «إنَّ الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحرّ بالبيضة، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال:

أيّها الناس، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلًّا لحُرَم اللّه، ناكثاً لعهد اللّه، مخالفاً لسُنَّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلّم، يعمل في عباد اللّه بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولاقول كان حقّاً

على اللّه أن يُدخله مدخله! ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفي ء، وأحلّوا حرام اللّه، وحرّموا حلاله! وأنا أحقّ من غيّر، وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليَّ رسُلكم ببيعتكم: أنّكم لاتسلموني ولاتخذلوني، فإنْ تممّتم على بيعتكم تُصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن عليٍّ وابن فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه على وآله وسلّم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم فيَّ أُسوة، وإنْ لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ماهي لكم بِنُكر! لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم، والمغرور من أغترّ بكم! فحظَّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم! ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني اللّه عنكم! والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاتُه.». «2»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 264

إشارة: ..... ص : 264

هذه الخطبة من أشهر وأقوى خطب الإمام الحسين عليه السلام في منازل الطريق بين مكّة وكربلاء، وقد تضمّنت أقوى الأدلّة على أنّ المسلمين جميعاً أمام تكليف عام بوجوب النهوض لمواجهة السلطان الجائر المستحلّ لحرم اللّه، الناكث لعهد اللّه، المخالف لسنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، العامل في عباد اللّه بالإثم والعدوان! فالإمام عليه السلام يروي عن جدّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من رأى»: أيّ كلُّ من رأى، فلا تختصّ الحال بواحدٍ دون آخر ...

ثمّ ما أعجب قوله صلى الله عليه و آله: «فلم يغيّر عليه بفعل ولاقول كان حقّاً على اللّه أن يُدخله مدخله!»، فالإنكار القلبي فقط هنا لايُنجي صاحبه- كما هو ظاهر المتن- من الدخول في نفس مصير السلطان الجائر!

ونشاهد في هذه الخطبة أيضاً أنّ الإمام عليه السلام قد أشار إلى مسؤولية موقعه الخاص في الأمة، فهو ابن رسول اللّه صلى الله عليه و

آله، وإمام منصوصٌ عليه، منصوب من قِبَل اللّه تعالى، مفترض الطاعة، فهو «أحقّ من غَيَّرَ» على السلطان الجائر بالقيام ضده والنهضة لإسقاطه، إنّه عليه السلام القائم بالحقّ في وقته.

وهو الحسين بن عليّ وابن فاطمة بنت رسول اللّه صلوات اللّه عليهم أجمعين، فلجميع المسلمين فيه أُسوة حسنة «فلكم فيَّ أُسوة»، فعليهم عامة وعلى من سمع نداءه خاصة أن يقوموا معه وينصروه لإسقاط الطاغوت فيصيبوا بهذا رشدهم وخير دنياهم وآخرتهم.

فإنْ لم يفعلوا ونقضوا العهد وخلعوا البيعة فما ذلك بجديد مستغرب منهم! ولابجديد على الإمام عليه السلام، فقد عرف ذلك منهم فيما مضى بما صنعوه بأبيه وأخيه ثمّ بابن عمّه مسلم صلوات اللّه عليهم .. وهم بذلك يُخطئون حظّهم ويضيّعون

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 265

نصيبهم من الفرصة السانحة التي منّ اللّه بها عليهم في الجهاد بين يدي إمام مفترض الطاعة لإسقاط الطاغوت! .. والإمام عليه السلام على كلّ حال في غنىً عن الناكثين .. إنه الشهيد الفاتح الذي سيتحقق الفتح بدمه أساساً لابدم سواه! لو كانوا يعلمون!.

15)- عُذَيْب الهجانات ..... ص : 265

اشارة

«العُذَيب: تصغير العذب: وهو الماء الطيّب، وهو ماء بين القادسية والمغيثة، بينه وبين القادسية أربعة أميال، وإلى المغيثة إثنان وثلاثون ميلًا. وقيل هو وادٍ لبني تميم، وهو من منازل حاجّ الكوفة ..». «1»

يواصل الطبري روايته عن عقبة بن أبي العيزار التي حدّثنا فيها عن خطبة الإمام عليه السلام بأصحابه في ذي حُسم، وحدّثنا فيها أيضاً عن جواب زهير بن القين (رض) عن لسان جميع الأنصار (رض)، فيقول الطبري:

«.. وأقبل الحرّ يسايره، وهو يقول له: ياحسين، إنّي أذكّرك اللّه في نفسك! فإنّي أشهد لئن قاتلتَ لتُقتَلنَّ، ولئن قوتلتَ لتهلكنّ فيما أرى!

فقال له الحسين عليه السلام: أبالموت تخوّفني!؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني!؟ ما

أدري ما أقول لك! ولكن أقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه ولقيه وهو يريد نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، فقال له: أين تذهب فإنك مقتول!؟ فقال:

سأمضي ومابالموت عارٌ على الفتى إذا مانوى حقّاً وجاهد مُسلما

وآسى الرجال الصالحين بنفسه وفارق مثبوراً يغشّ ويرغما «2»

قال: فلمّا سمع ذلك منه الحرُّ تنحّى عنه وكان يسير بأصحابه في ناحية، وحسين في ناحية أُخرى، حتّى انتهوا إلى عذيب الهجانات- وكان بها هجائن النعمان ترعى هنالك- فإذا هم بأربعة نفرٍ قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم يجنبون «1» فرساً لنافع بن هلال، يُقال له الكامل، ومعهم دليلهم الطرمّاح بن عدي على فرسه وهو يقول:

يا ناقتي لاتذعري من زجْري وشمّري قبل طلوع الفجر

بخير رُكبانٍ وخير سفرِ حتّى تحلّي بكريم النَّجْرِ «2»

الماجد الحُّرِ رحيب الصدرأتى به اللّه لخير أمرِ

ثُمّتَ أبقاء بقاء الدّهرِ «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 267

قال: فلمّا انتهوا إلى الحسين أنشدوه هذه الأبيات فقال: أما واللّه إنّي لأرجو أن يكون خيراً ما أراد اللّه بنا، قُتلنا أم ظفرنا!

وأقبل إليهم الحرُّ بن يزيد فقال: إنّ هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممّن أقبل معك، وأنا حابسهم أو رادّهم!

فقال له الحسين عليه السلام: لأمنعنّهم ممّا أمنعُ منه نفسي! إنّما هؤلاء أنصاري وأعواني، وقد كنت أعطيتني ألّا تعرض لي بشي ء حتّى يأتيك كتاب من ابن زياد!

فقال: أجل، لكن لم يأتوا معك!

قال عليه السلام: هم أصحابي، وهم بمنزلة من جاء معي، فإنْ تممّتَ على ما كان بيني وبينك وإلّا ناجزتُك!

فقال فكفّ عنهم الحُرّ.

خبر مقتل قيس بن مُسهّر الصيداوي (رض) ..... ص : 267

قال: ثمّ قال لهم الحسين: أخبروني خبر النّاس وراءكم!؟

فقال له مجمع بن عبداللّه العائذي- وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه-:

أمّا أشراف النّاس فقد أُعظمت رشوتهم ومُلئت غرائرهم! يُستمال ودّهم ويُستخلص

به نصيحتهم! فهم أَلْبٌ واحد عليك! وأما سائر الناس بعدُ فإنّ أفئدتهم تهوي إليك وسيوفهم غداً مشهورة عليك!

قال: أخبرني فهل لكم علمٌ برسولي إليكم؟

قالوا: من هو؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 268

قال: قيس بن مسهر الصيداوي!

فقالوا: نعم، أخذه الحصين بن نمير فبعث به إلى ابن زياد، فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعا إلى نصرتك! وأخبرهم قدومك! فأمر به ابن زياد فأُلقي من طمار القصر!

فترقرقت عينا الحسين عليه السلام ولم يملك دمعه، ثمّ قال:

منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا. أللّهمّ اجعل لنا ولهم الجنّة نُزُلًا وأجمع بيننا وبينهم في مستقرٍ من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك!». «1»

مجموعة المجاهدين الذين التحقوا بالإمام عليه السلام في عُذيب الهجانات ..... ص : 268

إنّ النفر الذين التحقوا بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات لم يكونوا أربعة كما ذكرت رواية الطبري، بل كانوا ستة، هم: عمرو بن خالد الأسدي الصيداوي (رض)، ومولاه سعد (رض)، ومجمع بن عبداللّه العائذي (رض)، وابنه عائذ (رض)، وجنادة بن الحرث السلماني (رض)، وواضح التركي (رض) مولى الحرث السلماني، «2» وكان معهم أيضاً غلام لنافع بن هلال أتبعهم بفرسه المدعوّ الكامل، «3» وكان الطرمّاح بن عدي معهم كما هو ظاهر من رواية الطبري.

عمرو بن خالد الأسدي الصيداوي (رض) ..... ص : 268

كان عمرو- أبوخالد- (رض) شريفاً في الكوفة، مخلص الولاء لأهل

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 269

البيت عليهم السلام، قام مع مسلم عليه السلام، حتّى إذا خانته أهل الكوفة لم يسعه إلّا الإختفاء!، فلمّا سمع بقتل قيس بن مسهّر الصيداوي (رض) وأنّه أخبر أنّ الحسين عليه السلام صار بالحاجر خرج إليه (مع بقية المجموعة التي ذكرناها)، وأخذوا دليلًا لهم الطرمّاح بن عدي الطائي، وكان جاء الى الكوفة يمتار لأهله طعاماً، فخرج بهم على طريق متنكَّبة، وسار سيراً عنيفاً من الخوف لأنهم علموا أنّ الطريق مرصود. «1»

وقد مرّ بنا- في رواية الطبري الماضية- تفصيل قصة لقائهم بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات، وما جرى بين الإمام عليه السلام وبين الحرّ الرياحي (رض) بسببهم، وكيف ساءلهم الإمام عليه السلام عن قيس بن مسهر الصيداوي (رض)، وكيف أخبروه بمقتله ...

وروي أنه: لمّا التحم القتال يوم عاشوراء، شدَّ هؤلاء مقدمين بأسيافهم في أوّل القتال على الأعداء، فلمّا وغلوا فيهم عطف عليهم الأعداء فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم، فلمّا نظر الحسين عليه السلام إلى ذلك ندب إليهم أخاه العباس عليه السلام! فنهد إليهم وحمل على القوم وحده يضرب فيهم بسيفه قدماً! حتّى خلص إليهم واستنقذهم، فجاؤا معه وقد جُرحوا، فلمّا كانوا

في أثناء الطريق رأوا أنّ القوم تدانوا إليهم ليقطعوا عليهم الطريق، فانسلّوا من العبّاس، وشدّوا على القوم بأسيافهم شدّة واحدة على مابهم من الجراحات! وقاتلوا حتّى قُتلوا في مكان واحد، فتركهم العبّاس ورجع إلى الحسين عليه السلام فأخبره بذلك فترحّم عليهم الإمام عليه السلام وجعل يكرّر ذلك. «2»

فسلام على عمرو بن خالد الصيداوي يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعثُ حيّا!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 270

سعد (رض) مولى عمرو بن خالد الصيداوي (رض) ..... ص : 270

كان هذا المولى سيّداً شريف النفس والهمّة، تبع مولاه عمراً في المسير الى الإمام الحسين عليه السلام والقتال بين يديه حتّى قُتل شهيداً، وقد ذكرنا خبره مع مولاه، وكيف جاء معه، وكيف قتلوا في كربلاء. «1»

فسلام على سعد يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا!

مجمع بن عبداللّه العائذي (رض) وابنه عائذ (رض) ..... ص : 270

هو مجمع بن عبداللّه بن مجمع بن مالك بن أياس بن عبدمناة بن عبيداللّه بن سعد العشيرة، المذحجي العائذي.

كان عبداللّه بن مجمع العائذي صحابياً، وكان ولده مجمع (رض) تابعياً من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، ذكرهما أهل الأنساب والطبقات.

وكان مجمع (رض) مع ابنه عائذ (رض) قد التحقا بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات كما مرَّ، واستشهدا مع عمرو بن خالد الصيداوي (رض) وجنادة بن الحرث السلماني (رض) في مكان واحد- كما مرّ بنا في ترجمة عمرو بن خالد- لكنّ صاحب الحدائق الوردية ذكر أنّ ابنه عائذاً استشهد في الحملة الأولى. «2»

فسلام على مجمع بن عبداللّه العائذي يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّاً! وسلام على ابنه عائذٍ يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا!

جنادة بن الحرث السلماني (رض) ..... ص : 270

هو جنادة بن الحرث المذحجيّ المرادي السلماني الكوفي، كان من مشاهير

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 271

الشيعة، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، وكان خرج مع مسلم عليه السلام أوّلًا، فلما رأى الخذلان خرج إلى الحسين عليه السلام مع عمرو بن خالد الصيداوي (رض) وجماعته، «1» وكان من قصة إلتحاقهم بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات، ثمّ استشهادهم في مكان واحد ما قد مرَّ بنا قبل ذلك.

فسلام على جنادة بن الحرث السلماني يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا!

واضح التركي (رض) مولى الحرث المذحجي السلماني ..... ص : 271

كان واضح غلاماً تركيّاً شجاعاً قارئاً، وكان للحرث السلماني، فجاء مع جنادة بن الحرث، «2» والتحق بالإمام عليه السلام في عذيب الهجانات كما مرَّ.

قال الشيخ السماوي (ره): «والذي أظنُّ أنّ واضحاً هذا هو الذي ذكر أهل المقاتل أنّه برز يوم العاشر إلى الأعداء فجعل يقاتلهم راجلًا بسيفه وهو يقول:

البحر من ضربي وطعني يصطلي والجوُّ من عثير نقعي يمتلي

إذا حسامي في يميني ينجلي ينشقّ قلبُ الحاسد المبجّل

قالوا: ولمّا قُتل استغاث، فانقضّ عليه الحسين عليه السلام واعتنقه وهو يجود بنفسه، فقال: من مثلي وابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله واضع خدّه على خدّي! ثمّ فاضت نفسه رضي اللّه عنه». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 272

فسلام على واضح التركي يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّا!

إقتراح الطرماح وجواب الإمام عليه السلام ..... ص : 272
اشارة

روى الطبري، عن أبي مخنف قال: حدّثني جميل بن مرشد من بني معن، عن الطرماح بن عديّ: «أنّه دنا من الحسين فقال له: واللّه إنّي لأنظر فما أرى معك أحداً!، ولو لم يقاتلك إلّا هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيومٍ ظهرَ الكوفة وفيه من الناس مالم ترَ عيناي في صعيد واحدٍ جمعاً أكثر منه! فسألت عنهم فقيل: اجتمعوا ليُعرَضوا، ثمّ يُسرّحون إلى الحسين!

فأُنشدك اللّهَ إنْ قدرت على ألّا تقدم عليهم شبراً إلّا فعلتَ! فإنْ أردتَ أن تنزل بلداً يمنعك اللّه به حتّى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانعٌ فَسِرْ حتّى أُنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى (أجأ).

امتنعنا واللّه به من ملوك غسّان وحمير، ومن النعمان بن المنذر، ومن الأسود والأحمر، واللّه إنْ دخل علينا ذُلٌّ قطُّ!!

فأسير معك حتّى أُنزلك القُرَيَّة، «1» ثمّ نبعث إلى الرجال ممّن بأَجَأ وسَلْمى «2» من طي ء، فواللّه

لايأتي عليك عشرة أيّأم حتّى يأتيك طي ء رجالًا وركباناً! ثمّ اقِمْ فينا ما بدا لك، فإنْ هاجك هَيْجٌ فأنازعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 273

بأسيافهم! واللّه لايوصَل إليك أبداً ومنهم عينٌ تطرف!

فقال له عليه السلام:

جزاك اللّه وقومك خيراً، إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الإنصراف! ولاندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبه! «1»

قال الطرماح بن عدي: فودّعته، وقلت له: دفع اللّه عنك شرَّ الجنّ والإنس، إنّي قد امترتُ لأهلي من الكوفة ميرة، ومعي نفقة لهم، فآتيهم فأضع ذلك فيهم، ثمّ أُقبل إليك إن شاء اللّه، فإنْ أَلحقك فواللّه لأكوننّ من أنصارك!

قال: فإنْ كنت فاعلًا فعجّلْ رحمك اللّه!

قال فعلمتُ أنّه مستوحشٌ إلى الرجال حتّى يسألني التعجيل! قال فلمّا بلغتُ أهلي وضعتُ عندهم ما يُصلحهم وأوصيتُ! فأخذ أهلي يقولون: إنك لتصنع مرَّتَكَ هذه شيئاً ماكنت تصنعه قبل اليوم!؟ فأخبرتهم بما أُريد، وأقبلتُ في طريق بني ثُعَل حتّى إذا دنوتُ من عُذيب الهجانات استقبلني سماعة بن بدر فنعاه إليَّ! فرجعت.». «2»

إشارة ..... ص : 273

في عُذيب الهجانات كان مجمع بن عبداللّه العائذي (رض) قد أخبر الإمام عليه السلام عن حال أهل الكوفة- عن لسانه ولسان من معه- قائلًا: «أما أشراف الناس فقد أُعظمتْ رشوتهم ومُلئت غرائرهم، يُستمال ودّهم ويستخلص به

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 274

نصيحتهم، فهم ألبٌ واحد عليك! وأمّا سائر النّاس بعدُ فإنَّ أفئدتهم تهوي إليك، وسيوفهم غداً مشهورة عليك!.».

ومن قبل هذا كان الفرزدق وبشر بن غالب وغيرهم قد أخبروا الإمام عليه السلام بذلك! ثمّ ها هو الطرماح يقول له: «وقد رأيتُ قبل خروجي من الكوفة إليك بيومٍ ظهرَ الكوفة وفيه من الناس مالم تَرَ عيناي في صعيد واحدٍ جمعاً أكثر

منه! فسألتُ عنهم فقيل: اجتمعوا ليُعرضوا ثمَّ يُسرَّحون إلى الحسين!» فالأنباء تتابعت على الإمام عليه السلام بذلك، وفي عذيب الهجانات لم يعد ثمّة شكّ في أنّ الكوفة قد انقلبت على عهدها مع الإمام عليه السلام رأساً على عقب، بل وقد عبّأها ابن زياد عن بكرة أبيها واستعرض عساكرها ليسرّح بهم الى الحسين عليه السلام!

لكننا نجد الإمام عليه السلام يُصرُّ على التوجّه إلى أهل الكوفة قائلًا: «إنّه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الإنصراف! ..»، وعلى رواية ابن نما (ره):

«إنّ بيني وبين القوم موعداً أكره أنْ أُخلفهم، فإنْ يدفع اللّه عنّا فقديماً ما أنعم علينا وكفى، وإنْ يكن ما لابدّ منه ففوز وشهادة إنْ شاء اللّه!». «1»

هنا نعود لنكرّر القول ونؤكد على هذه الحقيقة مرّة أخرى: وهي أنّ من الصحيح القول إنّ الإمام عليه السلام لم يشأ أن يدع لأهل الكوفة أيّة مؤاخذة عليه يمكن أن يتذّرعوا بها لو أنّه كان قد انصرف عن التوجّه إليهم أثناء الطريق، لأنّهم يمكن أنّ يدّعوا أنّ الأخبار التي بلغت الإمام عليه السلام عن حال الكوفة لم تكن صحيحة أو دقيقة! وأنّ أنصاراً له كثيرين فيها كانوا ينتظرونه في خفاء عن رصد السلطة! ولذا كان عليه السلام قد قال للطرّماح: «بيننا وبين هؤلاء القوم قولٌ لسنا نقدر معه على الإنصراف!». أو «إنّ بيني وبين القوم موعداً أكره أخلفهم!».

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 275

لكنّ أصحَّ القول: هو أنّ الإمام عليه السلام كان يعلم بما لابدّ من وقوعه «وإنْ يكن ما لابدَّ منه ففوز وشهادة إنْ شاء اللّه!»، لقد كان عليه السلام يعلمُ منذ البدء أنه سوف يُقتل حتى لوكان في جُحر هامة من هوامّ الأرض، وكان عليه السلام

يعلم أنّ أهل الكوفة قاتلوه «هذه رسائل أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلّا قاتليّ!»، إذن فإصراره عليه السلام على العراق دون غيره هو إصرار على الأرض المختارة للمصرع المحتوم! الأرض التي ستهبُّ منها- بعد مقتله- عواصف التغيير والتحولات الكبرى التي لاتهدأ حتى تسقط دولة الأمويين! الأرض التي ستمتدّ منها وتتسع جميع آفاق الفتح الحسيني!

16)- قصر بني مقاتل ..... ص : 275

اشارة

«قال السكّوني: هو قرب القطقطانة وسُلام ثمّ القُرَيّات. وهو منسوب إلى مقاتل بن حسّان بن ثعلبة التميمي». «1»

روى ابن أعثم الكوفي قائلًا: «وسار الحسين عليه السلام حتّى نزل في قصر بني مقاتل، فإذا هو بفسطاط مضروب، ورمح منصوب، وسيف معلّق، وفرس واقف على مذودهِ! فقال الحسين عليه السلام: لمن هذا الفسطاط؟

فقيل: لرجل يُقال له عبيداللّه بن الحرّ الجعفي.

قال فأرسل الحسين برجل من أصحابه يُقال له الحجّاج بن مسروق الجعفي فأقبل حتّى دخل عليه في فسطاطه فسلّم عليه فردّ عليه السلام ثم قال: ماوراءك؟

فقال الحجّاج: واللّه، ورائي يا ابن الحرّ، واللّهِ قد أهدى اللّه إليك كرامة إنْ قبلتها!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 276

قال: وماذاك؟

فقال: هذا الحسين بن عليّ رضي اللّه عنهما يدعوك إلى نصرته! فإنْ قاتلت بين يديه أُجرتَ، وإنْ متَّ فإنك استشهدتَ!

فقال له عبيداللّه: واللّه ما خرجت من الكوفة إلّا مخافة أن يدخلها الحسين بن عليّ وأنا فيها فلا أنصره، لأنّه ليس له في الكوفة شيعة ولا أنصار إلّا وقد مالوا إلى الدنيا إلّا من عصم اللّه منهم! فارجع إليه وخبّره بذاك.

فأقبل الحجّاج إلى الحسين فخبّره بذلك، فقام الحسين ثمّ صار إليه في جماعة من إخوانه، فلمّا دخل وسلّم وثب عبيداللّه بن الحرّ من صدر المجلس، وجلس الحسين فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال:

أمّا بعد يا ابن الحرّ، فإنّ مصركم هذه كتبوا إليَّ

وخبّروني أنّهم مجتمعون على نصرتي، وأن يقوموا دوني ويقاتلوا عدوّي، وإنهم سألوني القدوم عليهم فقدمتُ، ولست أدري القوم على مازعموا؟ فإنّهم قد أعانوا على قتل ابن عمّي مسلم بن عقيل رحمه اللّه وشيعته! وأجمعوا على ابن مرجانة عبيداللّه بن زياد مبايعين ليزيد بن معاوية!

وأنت يا ابن الحرّ فاعلم أنّ اللّه عزّ وجلّ مؤاخذك بما كسبتَ وأسلفت من الذنوب في الأيام الخالية، «1» وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبة تغسل بها ما عليك من الذنوب، أدعوك الى نصرتنا أهل البيت، فإن أُعطينا حقّنا حمدنا اللّه على ذلك وقبلناه، وإن منعنا حقّنا ورُكبنا بالظلم كنت من أعواني على طلب الحقّ.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 277

فقال عبيداللّه بن الحرّ: واللّه يا ابن بنت رسول اللّه، لو كان لك بالكوفة أعوان يقاتلون معك لكنتُ أشدّهم على عدوّك! ولكنّي رأيتُ شيعتك بالكوفة وقد لزموا منازلهم خوفاً من بني أميّة ومن سيوفهم! فأنشدك اللّه أن تطلب منّي هذه المنزلة! وأنا أواسيك بكلّ ما أقدر عليه، وهذه فرسي ملجمة، واللّه ما طلبت عليها شيئاً إلّا أذقته حياض الموت، ولا طُلبتُ وأنا عليها فلُحقت، وخذ سيفي هذا فواللّه ما ضربت به إلّا قطعتُ!

فقال له الحسين رضي اللّه عنه:

يا ابن الحرُّ ما جئناك لفرسك وسيفك! إنّما أتيناك لنسألك النصرة، فإنْ كنت قد بخلت علينا بنفسك فلاحاجة لنا في شي ء من مالك! ولم أكن بالذي اتخذ المضلّين عضداً لأني قد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وهو يقول: من سمع داعية أهل بيتي ولم ينصرهم على حقّهم إلّا أكبّه اللّه على وجهه في النار!

ثمّ سار الحسين رضي اللّه عنه من عنده، ورجع إلى رحله، فلمّا كان من الغد رحل الحسين ..». «1»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص:

278

وفي رواية الدينوري: «.. فأتاه الرسول، فقال: هذا الحسين بن عليّ يسألك أن تصير إليه! فقال عبيداللّه: واللّه ما خرجت من الكوفة إلّا لكثرة من رأيته خرج لمحاربته، وخذلان شيعته، فعلمتُ أنه مقتول ولا أقدر على نصره! فلستُ أحبّ أن يراني ولا أراه!

فانتعل الحسين حتّى مشى، ودخل عليه قبّته، ودعاه إلى نصرته!

فقال عبيداللّه: واللّه إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة! ولكن ما عسى أن أُغني عنك!؟ ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً! فأنُشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت! ولكن فرسي هذه المُلحقة، واللّه ما طلبت عليها شيئاً قطّ إلّا لحقته! ولاطلبني وأنا عليها أحدٌ إلّا سبقته! فخذها فهي لك.

قال الحسين عليه السلام: أمّا إذا رغبت بنفسك عنّا فلاحاجة لنا إلى فرسك!». «1»

إشارة ..... ص : 278

في لقاء الإمام عليه السلام مع عبيداللّه بن الحرّ الجعفي تتجلى بشكل مفجع آثار مرض الوهن (حبّ الدنيا وكراهية الموت!) والشلل النفسي الذي تفشّى بدرجة واسعة وعميقة وخطيرة في هذه الأمّة، بعد ارتحال رسول اللّه صلى الله عليه و آله نتيجة المنعطفات الإنحرافية التي مرّت بها الامّة، بفعل حركة النفاق طيلة خمسين سنة! ها هو ابن الحرّ الجعفي يعترف قائلًا: «واللّه إنّي لأعلم أنّ من شايعك كان السعيد

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 279

في الآخرة!»، وهو يعلم- بحكم العقل والشرع- أنّ درجة وجوب نصرة الإمام عليه السلام على كلّ مسلمٍ تشتدّ كلّما اشتدّت حاجة الإمام عليه السلام إلى من ينصره! لكنّه يجيب الإمام عليه السلام بمنطق الوهن المتمثل بحبّ الدنيا وكراهية الموت والتثاقل إلى الأرض قائلًا: «ولكن ما عسى أن أُغني عنك!؟ ولم أُخلّف لك بالكوفة ناصراً! فأُنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطة! فإنّ نفسي لم

تسمح بالموت! ..».

ونرى الإمام عليه السلام الذي دعاه إلى التوبة وإلى الإلتحاق بركب الربّانيين يردُّ عليه- بعد أن أظهر الجعفي تثاقله الى الأرض وتشبّثه بالحياة الدنيا- قائلًا:

«أمّا إذا رغبتَ بنفسك عنّا فلاحاجة لنا إلى فرسك!» أو «يا ابن الحرّ! ما جئناك لفرسك وسيفك، إنّما أتيناك لنسألك النصرة! فإنْ كنت بخلت علينا بنفسك فلاحاجة لنا في شي ء من مالك، ولم أكن بالذي اتخذ المضلّين عضداً!».

نعم، فالقائد الربّاني ليست حاجته الأساس إلى وسائل وأسلحة وأموال، وإن كان ذلك من العدّة، بل حاجته الأساس إلى الإنسان الربّاني، المشتاق إلى لقاء ربّه، المبادر إلى طاعته، المخفّ إلى مرضاته، المسارع إلى نصرة أوليائه، المؤثر آخرته على دنياه .. ذلك لأنّ أفضل العدّة وأقوى الأسلحة على مرّ الزمان هو الإنسان الربّاني الذي يُجري اللّه على يديه الإنتصارات المعنوية الكبيرة والفتوحات الإلهية المبينة!

ونرى أيضاً خليفة اللّه في عصره، ووليّه الأعظم، الإمام الحسين عليه السلام يعامل هذا الواهن المشلول روحياً عبيداللّه بن الحرّ الجعفي- الذي خرج من الكوفة حتى لاينصر الحسين عليه السلام ولايكون ضدّه!- برحمته العامة ورأفته! فيحذّره من أن يكون ممّن يسمع واعية أهل البيت فلاينصرهم فيكبّه اللّه على وجهه في النار!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 280

ما أخسرَ صفقة الجعفي هذا! وما أحراه بالحسرة العظمى! «1» على ما فرّط في حظّ نفسه، وفي الفرصة النادرة التي كانت قد أُتيحت له للإلتحاق بركب الربانييّن العشاق الشهداء الذين لم يسبقهم سابق ولا يلحق بهم لاحق!

هل التحق الصحابيُّ أنسُ الكاهليّ بالإمام عليه السلام في قصر بني مقاتل؟ ..... ص : 280

قال البلاذري: «وكان أنس بن الحارث الكاهلي سمع مقالة الحسين لابن الحرّ، وكان قدم من الكوفة بمثل ما قدم له ابن الحرّ، فلمّا خرج «2» من عند ابن الحرّ

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 281

سلّم على الحسين وقال له: واللّه ما أخرجني من

الكوفة إلّا ما أخرج هذا من كراهة قتالك أو القتال معك! ولكنّ اللّه قذف في قلبي نصرتك! وشجّعني على المسير معك!

فقال له الحسين: فاخرج معنا راشداً محفوظاً.». «1»

ونقول: إنّ هذا التردّد الذي اعترى قلب هذا الصحابيّ الجليل القدر (رض)- كما تصف رواية البلاذري- لايتلائم مع ما رواه جماعة من أهل السير عن هذا الصحابيّ الكبير (رض) أنه قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:

إنّ ابني هذا- يعني الحسين- يُقتل بأرض يُقال لها كربلاء، فمن شهد ذلك منكم فلينصره!

قال: فخرج أنس بن الحارث إلى كربلاء فقُتل مع الحسين!». «2»

كما لايتلائم ما ذكره البلاذري من أنّ مكان لقائه بالإمام عليه السلام في قصر بني مقاتل مع ما يوحيه ظاهر رواية ابن عساكر، وما ذكره ابن حجر العسقلاني «3» من أنه خرج إلى كربلاء فقُتل مع الحسين!

وفي إبصار العين أنه «كان جاء الى الحسين عليه السلام عند نزوله كربلاء، والتقى معه ليلًا فيمن أدركته السعادة!». «4»

وهذا الصحابي الجليل هو: «أنس بن الحرث بن نبيه بن كاهل بن عمرو بن صعب بن أسد بن خزيمة، الأسدي الكاهلي، كان صحابياً كبيراً ممّن رأى

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 282

النبيّ صلى الله عليه و آله وسمع حديثه ... روى أهل السير: أنّه لمّا جاءت نوبته استأذن الحسين عليه السلام في القتال فأذن له- وكان شيخاً كبيراً- فبرز وهو يقول:

قد علمتْ كاهلها ودودان والخندفيون وقيس عيلان

بأنّ قومي آفة للأقران». «1»

وقد ذكر الشيخ باقر شريف القرشي أن الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي (رض) قد لازم الإمام الحسين عليه السلام وصحبه من مكّة. «2» ولعل الشيخ القرشي عثر على وثيقة تأريخية تقول بذلك- أو لعل هذا من سهو قلمه الشريف- لأن الذي عليه أهل

السير أن أنس بن الحارث الكاهلي (رض) قد التحق بالإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة (في العراق) «3» أو عند نزوله كربلاء.

لقاء الإمام عليه السلام مع الرجلين المَشرقيين ..... ص : 282
اشارة

روى الشيخ الصدوق (ره) بسنده عن عمرو بن قيس المشرقيّ قال: «دخلت على الحسين عليه السلام أنا وابن عمٍّ لي، وهو في قصر بني مقاتل، فسلّمنا عليه، فقال له ابن عمّي: يا أباعبداللّه، هذا الذي أرى خضابٌ أو شَعرُك؟

فقال: خضاب! والشيب إلينا بني هاشم يعجل!

ثمّ أقبل علينا فقال: جئتما لنصرتي؟

فقلت: إنّي رجل كثير العيال، وفي يدي بضائع للناس، ولا أدري ما يكون، وأكره أنْ أُضيع أمانتي!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 283

وقال له ابن عمّي مثل ذلك!

قال لنا: فانطلقا فلاتسمعا لي واعية ولاتريا لي سواداً! فإنّه من سمع واعيتنا أو رأى سوادنا فلم يجبنا ولم يُغثنا كان حقّاً على اللّه عزّ وجلّ أن يُكبّه على منخريه في النار!». «1»

إشارة: ..... ص : 283

لو كان هذان المشرقيّان صادقين فيما اعتذرا به! أو كانا صادقين في رغبتهما في الإلتحاق بالإمام عليه السلام! لكان بإمكانهما على الأقلّ- وهما إبنا عمّ- أن يختارا أحدهما للإلتحاق بالإمام عليه السلام لنصرته، والآخر منهما للبقاء وأداء الأمانات إلى أهلها!

لكنّه الوهن (حبّ الدنيا وكراهية الموت) والشلل النفسي المتفشّي في هذه الأمّة، له ذرائع ومعاذير لاتنتهي!

إنّ سؤالهما عن الخضاب! كاشف عن انحطاط اهتمامهما، فبدلًا من أنْ يسألا الإمام عليه السلام عن نهضته ومسارها ومصيرها وكلّ ما يرتبط بها! كان سؤال أحدهما:

«يا أبا عبداللّه، هذا خضابٌ أم شعرك؟»!

ثم ها هو الإمام عليه السلام يشملهما برحمته ورأفته الغامرة، فيحذّرهما من أن يكونا ممن يستمع واعيته فلايجيبه، ويرى له سواداً فلا يُغيثه وينصره! فيكون حقّاً على اللّه أن يُكبّه على منخريه في النار!

ما أعظمك وأرحمك يا مولانا يا أباعبداللّه الحسين!!

رؤيا المنايا أيضاً .. بين قصر بني مقاتل ونينوى! ..... ص : 283

روى الطبري، عن أبي مخنف، عن عبدالرحمن بن جندب، عن عقبة بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 284

سمعان قال: «لمّا كان في آخر الليل أمر الحسين بالإستقاء من الماء، ثمّ أمرنا بالرحيل ففعلنا .. فلمّا ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين برأسه خفقة، ثمّ انتبه وهو يقول: إنّا للّه وإنا إليه راجعون، والحمد للّه ربّ العالمين .. ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً! .. فأقبل إليه ابنه عليّ بن الحسين على فرس له فقال: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون، والحمدُ للّه ربّ العالمين! يا أبتِ، جُعلت فداك، مِمَّ حمدت اللّه واسترجعت؟

قال: يا بُنيَّ إنّي خفقتِ برأسي خفقة، فعنَّ لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم! فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيت إلينا!

قال له: يا أبتِ لا أراك اللّه سوءاً، ألسنا على الحقّ؟

قال: بلى والذي إليه مرجع العباد!

قال: يا أبتِ،

إذاً لانبالي نموتُ محقّين!

فقال له: جزاك اللّه من ولدٍ خير ما جزى ولداً عن والده.». «1»

17)- نينوى: ..... ص : 284

«وبسواد الكوفة ناحية يُقال لها نينوى، منها كربلاء التي قُتل بها الحسين رضي اللّه عنه» «2» و «نينوى: تقع شرق كربلاء .. وهي الموضع المعروف بباب طويريج شرقي كربلاء ..». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 285

كان الإمام الحسين عليه السلام قد ارتحل بالركب الحسيني من منطقة قصر بني مقاتل آخر الليل، «فلمّا أصبح نزل فصلّى الغداة، ثمّ عجّل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يُريد أن يفرّقهم! فيأتيه الحرُّ بن يزيد فيردّهم فيردّه! فجعل إذا ردّهم إلى الكوفة ردّاً شديداً امتنعوا عليه فارتفعوا! فلم يزالوا يتسايرون حتّى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين.

قال فإذا راكبٌ على نجيب له وعليه السلاح متنكّب قوساً مُقبلٌ من الكوفة! فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلمّا انتهى إليهم سلّم على الحرّ بن يزيد وأصحابه، ولم يُسلّم على الحسين عليه السلام وأصحابه! فدفع إلى الحرّ كتاباً من عبيداللّه بن زياد فإذا فيه: أمّا بعدُ، فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تُنزله إلّا بالعراء! في غير حصنٍ وعلى غير ماء! وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولايفارقك حتّى يأتيني بإنفاذك أمري، والسلام.

قال فلمّا قرأ الكتاب قال لهم الحرّ: هذا كتاب الأمير عبيداللّه بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وهذا رسوله وقد أمره أن لايفارقني حتّى أُنفذ رأيه وأمره!

فنظر إلى رسول عبيداللّه يزيدُ بن زياد بن المهاصر- أبوالشعثاء الكندي ثمّ النهدي «1»- فعنَّ له، فقال: أمالك بن النسر البَدّي!؟

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 286

قال: نعم. وكان أحدُ كندة.

فقال له يزيد بن زياد: ثكلتك أمُّك، ماذا جئت فيه!؟

قال: وما جئتُ فيه!؟ أطعتُ إمامي ووفيت ببيعتي!

فقال

له أبوالشعثاء: عصيتَ ربّك وأطعتَ إمامك في هلاك نفسك! كسبت العار والنار! قال اللّه عزّ وجلّ «وجعلنا منهم أئمّة يدعون إلى النار ويوم القيامة لاينصرون» «1»

فهو إمامك!

قال وأخذ الحرُّ بن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولافي قرية! فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية يعنون نينوى، أو هذه القرية يعنون الغاضرية، «2» أو هذه الأخرى يعنون الشفيّة! «3»

فقال: لا واللّه ما استطيع ذلك! هذا رجلٌ قد بُعث إليَّ عيناً!

فقال له زهير بن القين: يا ابن رسول اللّه! إنّ قتال هؤلاء أهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا مِن بعد من ترى مالا قِبَل لنا به!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 287

فقال له الحسين عليه السلام: ما كنت لأبدأهم بالقتال.

فقال له زهير بن القين: سِرْ بنا إلى هذه القرية حتّى تنزلها فإنها حصينة، وهي على شاطي ء الفرات، فإن منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال مَن يجي ء من بعدهم!

فقال له الحسين: وأيّة قرية هي؟

قال: هي العَقْر! «1»

فقال الحسين: أللّهمّ إنّي أعوذ بك من العقر!

ثُمَّ نزل، وذلك يوم الخميس وهو اليوم الثاني من المحرم سنة 61». «2»

وفي رواية الدينوري: «.. فقال له زهير: فها هنا قرية بالقرب منّا على شطّ الفرات، وهي في عاقول «3» حصينة، الفرات يحدق بها إلّا من وجه واحد!

قال الحسين: وما اسم تلك القرية؟

قال: العقر

قال الحسين: نعوذ باللّه من العقر!

فقال الحسين للحرّ: سِرْ بنا قليلًا، ثمّ ننزل!

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 288

فسار معه حتّى أتوا كربلاء! فوقف الحرّ وأصحابه أمام الحسين ومنعوهم من المسير، وقال: إنزل بهذا المكان، فالفرات منك قريب!

قال الحسين: وما اسم هذا المكان؟

قالوا له: كربلاء!

قال عليه السلام: ذات كرب وبلاء! ولقد مرَّ أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفّين وأنا

معه، فوقف فسأل عنه، فأُخبر باسمه، فقال: هاهنا محطّ ركابهم، وها هنا مهراق دمائهم! فَسُئل عن ذلك، فقال: ثقل لآل بيت محمّد، ينزلون هاهنا!

ثمّ أمر الحسين بأثقاله، فحُطَّت بذلك المكان يوم الأربعاء، غُرّة المحرّم من سنة إحدى وستين.». «1»

وفي رواية السيّد ابن طاووس (ره): «ثُمَّ إنّ الحسين عليه السلام قام وركب وسار، وكلّما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى، حتى بلغ كربلاء، وكان ذلك في اليوم الثاني، من المحرّم، فلمّا وصلها قال: ما اسم هذه الأرض؟ فقيل: كربلا.

فقال عليه السلام: أللّهم إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء! ثم قال: هذا موضع كرب وبلاء! إنزلوا، هاهنا محطّ رحالنا، ومسفك دمائنا، وهنا محلّ قبورنا! بهذا حدّثني جدّي رسول اللّه صلى الله عليه و آله! فنزلوا جميعا.». «2»

وفي تذكرة الخواص: «فلمّا قيل للحسين: هذه أرض كربلا. شمّها وقال: هذه واللّه هي الأرض التي أخبر بها جبرائيل رسول اللّه وأنني أُقتلُ فيها!». «3»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 289

وفي المقتل المنسوب إلى أبي مخنف: «وساروا جميعاً إلى أن أتوا أرض كربلاء وذلك يوم الأربعاء، فوقف فرس الحسين عليه السلام، فنزل عنها وركب أخرى فلم تنبعث خطوة واحدة! ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتّى ركب سبعة أفراس وهنّ على هذه الحال! فلمّا رأى ذلك قال: يا قوم ما اسم هذه الأرض؟

قالوا: أرض الغاضرية.

قال: فهل لها إسم غير هذا؟

قالوا: تُسمّى نينوى.

قال: أَهَلْ لها إسم غير هذا؟

قالوا: شاطى ء الفرات.

قال: أَهلْ لها إسم غير هذا؟

قالوا: تسمّى كربلاء.

فعند ذلك تنفّس الصعداء! وقال: أرض كربٍ وبلاء! ثمّ قال:

إنزلوا، هاهنا مناخ ركابنا، هاهنا تُسفك دماؤنا، هاهنا واللّه تُهتك حريمنا، هاهنا واللّه تُقتل رجالنا، هاهنا واللّه تذبح أطفالنا، هاهنا واللّه تُزار قبورنا، وبهذه التربة وعدني جدّي رسول اللّه صلى

الله عليه و آله ولاخلف لقوله. ثمّ نزل عن فرسه ...». «1»

أسماء بقيّة الأنصار الملتحقين بالإمام عليه السلام أثناء الطريق ..... ص : 289

اشارة

كُنّا قد تعرّضنا خلال البحث إلى ذكر مجموعة من أنصار الإمام الحسين عليه السلام الذين مرَّ لهم ذكر في بعض وقائع الطريق من مكّة إلى كربلاء، وترجمنا لكلّ منهم في موقعه المناسب من سياق البحث، كزهير بن القين (رض)، وبرير بن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 290

خضير (رض)، ونافع بن هلال الجملي (رض)، وعمرو بن خالد الصيداوي (رض)، ومجمع بن عبداللّه العائذي (رض) وآخرين غيرهم.

غير أنّ هناك عدداً آخر من أنصاره عليه السلام كانوا قد التحقوا به أيضاً أثناء الطريق، منهم من لم نأتِ على ذكره في موقع إلتحاقه لأنّه لم يكن له شأن يُذكر في جريان سياق أحداث الطريق، ومنهم من لم تحدّد كتب التواريخ أو التراجم مكان إلتحاقه، وقد آثرنا أن نجمع أسماء هؤلاء الأبرار رضوان اللّه تعالى عليهم في قائمة واحدة، نبدأها بالذين حُددّت مواقع التحاقهم، ثُمَّ نتبعهم الآخرين (رض):

سلمان بن مضارب البجلي (رض) ..... ص : 290

ذكره المحقّق السماوي (ره) قائلًا: «كان سلمان ابن عمّ زهير لحاً، فإن القين أخو مضارب، وأبوهما قيس، وكان سلمان حجّ مع ابن عمّه سنة ستين، ولمّا مال في الطريق مع الحسين عليه السلام وحمل ثقله إليه مال معه في مضربه.

قال صاحب الحدائق: إنّ سلمان قُتل فيمن قتل بعد صلاة الظهر، فكأنّه قُتل قبل زهير.». «1»

وقال السيّد الخوئي (ره): «سلمان بن مضارب: ابن قيس، ابن عمّ زهير بن القين، عدّه بعضهم من المستشهدين مع زهير بن القين يوم الطفّ.». «2»

وقال النمازي (ره): «سلمان بن مضارب بن قيس، ابن عمّ زهير بن القين، من أصحاب مولانا الحسين صلوات اللّه عليه المستشهدين بالطفّ، كان مع زهير، فلمّا عدل زهير إلى الحسين عليه السلام عدل معه، وقُتل يوم عاشوراء رضوان اللّه تعالى

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 291

عليه، كما ذكره العلّامة المامقاني

في رجاله، وكذا ذكره في عطيّة الذرّة.». «1»

وبهذا يتضح عدم صحة قول الدينوري «2» أنّه لم يعدل مع زهير أحد من أصحابه أو لم يُقم معه.

وهب بن وهب (ابن الحبّاب الكلبي) ..... ص : 291

روى الشيخ الصدوق (ره) في أماليه يصف وقائع حرب يوم عاشوراء وتتابع أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في الخروج إلى البراز قائلًا: «وبرز من بعده «3» وهب بن وهب، وكان نصرانيّاً أسلم على يد الحسين عليه السلام هو وأمّه، فاتّبعوه إلى كربلاء، فركب فرساً وتناول بيده عود الفسطاط (عمود الفسطاط)، فقاتل وقتل من القوم سبعة أو ثمانية، ثم استوسر فأُتي به عمر بن سعد لعنه اللّه، فأمر بضرب عنقه، ورمى به إلى عسكر الحسين عليه السلام، وأخذت أمّه سيفه وبرزت! فقال لها الحسين عليه السلام: يا أمّ وهب، إجلسي فقد وضع اللّه الجهاد عن النساء، إنّك وابنك مع جدّي محمّد صلى الله عليه و آله في الجنّة.». «4»

ويبدو أنّ العلّامة المجلسي (ره) يرى أنّ وهب هذا هو نفسه: وهب بن عبداللّه بن حباب الكلبي، لنقرأ هذه الفقرة من مقتل البحار:

«ثُمّ برز من بعده «5» وهب بن عبداللّه بن حباب الكلبي، وقد كانت معه أمّه يومئذ.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 292

فقالت: قم يا بُنيّ فانصر ابن بنت رسول اللّه!

فقال: أفعل يا أُمّاه ولا أقصّر!

فبرز وهو يقول:

إنْ تنكروني فأنا ابن الكلب سوف تروني وترون ضربي

وحملتي وصولتي في الحرب أدرك ثأري بعد ثأر صحبي

وأدفع الكرب أمام الكربِ ليس جهادي في الوغى باللعبِ

ثمّ حمل فلم يزل يقاتل حتّى قتل منهم جماعة، فرجع إلى أمّه وأمرأته، فوقف عليهما فقال: يا أمّاه أرضيتِ؟

فقالت: ما رضيتُ أو تقتل بين يدي الحسين عليه السلام!

فقالت إمرأته: باللّه لاتفجعني في نفسك!

فقالت أمّه: يا بُنيّ لاتقبل قولها، وارجع فقاتل بين يدي ابن

رسول اللّه فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي اللّه.

فرجع قائلًا:

إنّي زعيمٌ لك أُمَّ وَهْبِ بالطعن فيهم تارة والضربِ

ضرب غلام مؤمنٍ بالربّ حتّى يُذيق القوم مُرَّ الحربِ

إنّي امرؤٌ ذو مرَّة وعصبِ ولستُ بالخوّار عند النكب

حسبي إلهي من عليم حسبي

فلم يزل يقاتل حتّى قتل تسعة عشر فارساً وإثني عشر راجلًا! ثمّ قُطعت يداه، فأخذت امرأته عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمّي! قاتل دون الطيّبين حرم رسول اللّه. فأقبل كي يردّها إلى النساء فأخذت بجانب ثوبه وقالت:

لن أعود أو أموت معك! فقال الحسين عليه السلام: جزيتم من أهل بيت خيراً! إرجعي إلى النساء رحمك اللّه.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 293

فانصرفت، وجعل يُقاتل حتّى قُتل رضوان اللّه عليه، قال فذهبت امرأته تمسح الدّم عن وجهه، فبصر بها شمر، فأمر غلاماً له فضربها بعمودٍ كان معه، فشدخها وقتلها، وهي أوّل امرأة قتلت في عسكر الحسين.

ورأيت حديثاً أنّ وهب هذا كان نصرانيّاً، فأسلم هو وأمّه على يدي الحسين، فقتل في المبارزة أربعة وعشرين راجلًا وإثني عشر فارسااً، ثمّ أُخذ أسيراً، فأُتي به عمر بن سعد فقال: ما أشدّ صولتك!؟ ثمّ أمر فضربت عنقه، ورمي برأسه إلى عسكر الحسين عليه السلام، فأخذت أمّه الرأس فقبّلته، ثمّ رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد، فأصابت به رجلًا فقتلته! ثمّ شدّت بعمود الفسطاط، فقتلت رجلين! فقال لها الحسين عليه السلام: إرجعي يا أمّ وهب، أنت وابنك مع رسول اللّه فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء. فرجعت وهي تقول: إلهي لاتقطع رجائي! فقال لها الحسين عليه السلام: لايقطع اللّه رجاكِ يا أمّ وهب.». «1»

ونقل السيّد إبراهيم الزنجاني يقول: «وقيل إنّ وهب كان عمره خمساً وعشرين سنة، وإسم زوجته هانية، وكان لها سبعة عشر يوماً منذ

عرسه، وله عشرة أيّام منذ دخل في دين الإسلام على يدي الحسين عليه السلام من المنزل الثامن: الثعلبية في طريق كربلاء ..». «2»

نعيم بن العجلان الأنصاري الخزرجي (رض) ..... ص : 293

قال المحقّق السماوي (ره): «كان النضر والنعمان ونعيم إخوة، من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، ولهم في صفّين»

مواقف فيها ذكر وسمعة، وكانوا شجعاء

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 294

شعراء، مات النضر والنعمان، وبقي نعيم في الكوفة، فلمّا ورد الحسين عليه السلام إلى العراق خرج إليه وصار معه، فلمّا كان اليوم العاشر تقدّم إلى القتال، فقُتل في الحملة الأولى.». «1»

وقد ورد عليه السلام في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على نعيم بن عجلان الأنصاري». «2»

زاهر بن عمر الأسلمي الكندي- صاحب عمرو بن الحمق (رض): ..... ص : 294

قال النمازي (ره): «قال العلّامة المامقاني: هو زاهر بن عمر الأسلمي الكندي، من أصحاب الشجرة، وروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله، وشهد الحديبية وخيبر، وكان من أصحاب عمرو بن الحمق الخزاعي، كما نصّ على ذلك أهل السير، وقالوا: إنه كان بطلًا مجرّباً، شجاعاً، مشهوراً، محبّاً لأهل البيت، معروفاً، وحجّ سنة ستين، فالتقى مع الحسين عليه السلام فصحبه، وكان ملازماً له حتّى حضر معه كربلاء، واستشهد بين يديه ..». «3»

لكنّ المحقّق السماوي (ره) لم يذكر أنّ له صحبة، بل قال: «زاهر بن عمرو الكندي: كان زاهر بطلًا مجرّباً وشجاعاً مشهوراً، ومحبّاً لأهل البيت معروفاً، قال أهل السير: إنّ عمرو بن الحمق لمّا قام على زياد قام زاهر معه، وكان صاحبه في القول والفعل، ولمّا طلب معاوية عمرواً طلب معه زاهراً، فقتل عمرواً وأفلت زاهر، فحجّ سنة ستين، فالتقى مع الحسين عليه السلام فصحبه وحضر معه كربلاء. وقال السروي: قُتل في الحملة الأولى.». «4»

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 295

وقد ورد عليه السلام في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على زاهر مولى عمرو بن الحمق الخزاعي». «1»

نقول: إذا كان مفاد عبارة «وحجّ سنة ستين» أنّه أتمّ الحجّ فإنّ زاهراً يكون قد التحق بالإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة في

منزل من منازل الطريق، وإذا كان مفادها أنه أتى إلى مكّة قاصداً الحجَّ، فالتقى مع الإمام عليه السلام في مكّة وصحبه ولازمه، فإنَّ زاهراً يكون- على هذا- ممّن انضمّ إلى الإمام عليه السلام في مكّة، وخرج معه منها، ولم يتمّ حجّه.

أبوثمامة عمرو بن عبداللّه الهمداني الصائدي (رض) ..... ص : 295

قال المحقّق السماوي (ره): «كان أبوثمامة تابعياً، وكان من فرسان العرب ووجوه الشيعة، ومن أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام الذين شهدوا معه مشاهده، ثم صحب الحسن عليه السلام بعده، وبقي في الكوفة، فلمّا توفي معاوية كاتبَ الحسين عليه السلام، ولمّا جاء مسلم بن عقيل إلى الكوفة قام معه، وصار يقبض الأموال من الشيعة بأمر مسلم فيشتري بها السلاح، وكان بصيراً بذلك، ولمّا دخل عبيد اللّه الكوفة وثار الشيعة بوجهه، وجهّه مسلم فيمن وجهّه، وعقد له على ربع تميم وهمدان .. ولمّا تفرّق عن مسلم الناس بالتخذيل اختفى أبوثمامة، فاشتدّ طلب ابن زياد له، فخرج إلى الحسين عليه السلام، ومعه نافع بن هلال الجملي، فلقياه في الطريق وأتيا معه.

وروى أبومخنف: أنّ أبا ثمامة لمّا رأى الشمس يوم عاشوراء زالت، وأنّ الحرب قائمة، قال للحسين عليه السلام: يا أبا عبداللّه، نفسي لنفسك الفداء! إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا واللّه لاتُقتل حتّى أُقتل دونك إن شاء اللّه، وأحبّ أن

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 296

ألقى اللّه ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها، فرفع الحسين رأسه ثمّ قال:

ذكرت الصلاة! جعلك اللّه من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أوّل وقتها ..

قال: ثُمَّ إنّ أباثمامة قال للحسين وقد صلّى: يا أبا عبداللّه، إنّي قد هممتُ أن ألحق بأصحابي، وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيداً من أهلك قتيلًا. فقال له الحسين عليه السلام: تقدّم، فإنّا لاحقون بك عن ساعة! فتقدّم فقاتل حتّى أُثخن

بالجراحات، فقتله قيس بن عبداللّه الصائدي ابن عمّ له كان له عدوّاً، وكان ذلك بعد قتل الحرّ.». «1»

وقد ورد عليه السلام في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على أبي ثمامة الصائدي عمر بن عبداللّه الصائدي.». «2»

الحبّاب بن عامر بن كعب بن تميم اللّاة بن ثعلبة، التميمي (رض) ..... ص : 296

قال المحقّق السماوي (ره): «كان الحبّاب في الكوفة من الشيعة، وممّن بايع مسلماً، وخرج إلى الحسين عليه السلام بعد التخاذل عن مسلم فصادفه في الطريق، فلزمه حتّى قُتل بين يديه. قال السروي: قتل في الحملة الأولى.». «3»

جندب بن حجير الكندي الخولاني (رض): ..... ص : 296

قال المحقّق السماوي (رض): «كان جندب من وجوه الشيعة، وكان من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام، خرج إلى الحسين عليه السلام فوافقه في الطريق قبل اتصال الحرّ به، فجاء معه إلى كربلا.

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 297

قال أهل السير: إنّه قاتل فقُتل في أوّل القتال.

وقال صاحب الحدائق: إنّه قُتل هو وولده حجير بن جندب في أوّل القتال. «1»

ولم يصحّ لي أنّ ولده قُتل معه، كما أنّه ليس في القائميات ذكر لولده، فلهذا لم أُترجمه معه.». «2»

وقد ورد عليه السلام في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على جندب بن حجر الخولاني.». «3»

سويد بن عمرو بن أبي المطاع الأنماري الخثعمي (رض) ..... ص : 297

لم نعثر في كتب التواريخ والتراجم- حسب متابعتنا- على مكان إلتحاق هذا الشهيد بركب الإمام الحسين عليه السلام، إذ لم يُذكر فيمن التحق بالإمام عليه السلام في مكّة، كما لم يُذكر فيمن التحق به عليه السلام في كربلاء، فالظنّ أنّه ممّن التحق بالإمام عليه السلام في الطريق بين مكّة وكربلاء، ولذا فقد أوردنا ذكره هنا احتياطاً.

قال المحقّق السماوي (ره): «كان سويد شيخاً شريفاً عابداً كثير الصلاة، كان شجاعاً مجرّباً في الحروب، كما ذكره الطبري والداودي ...». «4»

ولقد كان آخر من بقي من أنصار أبي عبداللّه الحسين عليه السلام (من غير الهاشميين) بشر بن عمرو الحضرمي وسويد بن عمرو بن أبي المطاع «وقال أهل السير: إنّ بشراً الحضرمي قُتل، فتقدّم سويد، وقاتل حتّى أُثخن بالجراح وسقط على وجهه، فظُنَّ بأنه قُتل، فلمّا قُتل الحسين عليه السلام وسمعهم يقولون: قُتل الحسين،

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 298

وجد به إفاقة، وكان معه سكّين خبّأها، وكان قد أُخذ سيفه منه، فقاتلهم بسكّينه ساعة، ثمّ إنّهم عطفوا عليه، فقتله عروة بن بكّار التغلبي، وزيد بن ورقاء الجهني.». «1»

سعيد بن عبداللّه الحنفي (رض) ..... ص : 298

ولم نعثر في كتب التواريخ والتراجم- حسب متابعتنا أيضاً- على مكان إلتحاق هذا الشهيد بالإمام عليه السلام إلّا ما ذكره المحقّق السماوي (ره) بقوله: «ثمَّ بعثه مسلم بكتاب إلى الحسين، فبقي مع الحسين حتّى قُتل معه»، «2» ولايُعلم من هذه العبارة متى بعثه مسلم عليه السلام، أكان ذلك قبل بعثه عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض) أم بعده بقليل أو كثير؟ ولذا فالأقوى أنّه التحق بالإمام عليه السلام في مكّة، لكنّ الإحتمال باقٍ في أنّ إلتحاقه بالإمام عليه السلام ربّما كان في الطريق بعد خروج الإمام عليه السلام من مكّة.

وهذا الشهيد (رض) من أفاضل شهداء

الطفّ، وقد مرّت بنا ترجمته في الجزء الثاني من هذه الدراسة. «3»

ويكفيه فضلًا وشرفاً- فضلًا عن شرف الشهادة- ما ورد في حقّه من سلام مفصّل وثناء عاطر في زيارة الناحية المقدّسة:

«السلام على سعد بن عبداللّه الحنفي القائل للحسين وقد أذن له في الإنصراف: لا واللّه، لا نخلّيك حتى يعلم اللّه أنّا قد حفظنا غيبة رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيك، واللّه لو أعلم أنّي أُقتل ثمَّ أُحيى ثمّ أُحرقُ ثمّ أُذرى، ويفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتّى أَلقى حمامي

مع الركب الحسينى(ج 3)، ص: 299

دونك! وكيف أفعل ذلك وإنّما هي موتة أو هي قتلة واحدة!؟ ثمّ بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً!

فقد لقيت حمامك وواسيت إمامك، ولقيت من اللّه الكرامة في دار المقامة، حشرنا اللّه معكم في المستشهدين! ورزقنا مرافقتكم في أعلى عليين.». «1»

الحمد لله

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.