الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه ، مع الركب الحسينى المجلد 2

اشارة

سرشناسه : طبسي، نجم الدين، - 1334

عنوان و نام پديدآور : الامام الحسين عليه السلام في مكه المكرمه/ تاليف نجم الدين الطبسي

مشخصات نشر : قم : سپهر انديشه ، 1427ق=1385.

مشخصات ظاهري : ص 480

فروست : (مع الركب الحسيني من المدينه الي المدينه؛ الجزآ الثاني)

شابك : 964-7935-51-x

وضعيت فهرست نويسي : فهرستنويسي قبلي

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرست نويسي براساس اطلاعات فيپا

يادداشت : كتابنامه: ص. 472 - 455؛ همچنين به صورت زيرنويس

موضوع : حسين بن علي (ع)، امام سوم، 61 - 4ق. -- سرگذشتنامه

موضوع : واقعه كربلا، ق 61

موضوع : مكه -- تاريخ -- قرن ق 1

رده بندي كنگره : BP41/4/م 63 ج. 2، 1385

رده بندي ديويي : 297/953

شماره كتابشناسي ملي : م 85-11105

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة (الجز الثاني)

مقدمة مركز الدراسات الإسلاميّة التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية ..... ص : 3

اشارة

الحمد للَّه الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره و دليلًا على نعمه و آلائه، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

و بعدُ: فهذا الكتاب هو الجزء الثاني من سلسلة أجزاء الدراسة التأريخية التفصيلية (مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة)، و يختص هذا الجزء بالمقطع الثاني من مقاطع هذه الدراسة، و هو مقطع «الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية»، أي الأيام التي أقام الإمام الحسين عليه السلام فيها بمكّة المكرمة بعد إعلانه عن رفضه مبايعة يزيد بعد موت معاوية بن أبي سفيان.

و فترة الأيام المكيّة من عمر النهضة الحسينية من أصعب أيام هذه النهضة المباركة على صعيد المتابعة التاريخيه، لأنها أقلّ مقاطع هذه النهضة المقدّسة من حيث كميّة الوثائق التأريخية التي تحدّثت عنها، مع أنّ هذه الفترة هي أطول مقاطع النهضة الحسينية إذ بلغت ما يقارب مائة و خمسة و عشرين يوماً، و لا شكّ أنها كانت مليئة بالمهم من وقائع حركة الإمام عليه السلام لأنّ مكّة المكرّمة في تلك الأيام

كانت محطّ و ملتقى جموع المعتمرين والحجّاج.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 4

ولذا فقد عمد مؤلّف هذا الكتاب- من أجل سدّ ثغرة قلّة وثائق هذه الفترة- إلى دراستها من خلال متابعات ثلاث: الأولى هي متابعة حركة الإمام عليه السلام، والثانية متابعة حركة السلطة الأموية في مواجهة حركة الإمام عليه السلام، والثالثة هي متابعة حركة الأمّة إزاء قيام الإمام عليه السلام.

فجاءت هذه الدراسة غنيّة و جديدة بمعنى الكلمة من حيث النظم والمحتوى، والإلتفاتة البكر، والإستنباط الذكيّ الرائع، والتبويب المغني عن عناء المتابعات المرهقة.

و مؤلف هذا البحث هو سماحة الشيخ المحقّق الأستاذ نجم الدين الطبسي، صاحب الخبرة الطويلة في ميدان التحقيق العلمي والتأريخي، إذ هو أحد محقّقي موسوعة: «معجم أحاديث المهدي عليه السلام»، و من مؤلفاته القيّمة: كتاب «موارد السجن في النصوص والفتاوى»، و كتاب «النفى والتغريب»، و كتاب «الوهابية:

دعاوى و ردود».

ولا يسعنا هنا إلّاأن نتقدّم الى شيخنا المحقّق مؤلف هذا الكتاب بالشكر الجزيل على ما بذله من جهد متواصل و عناء كبير من أجل إنجاز هذا البحث القيّم، داعين له بمزيد من الموفقية والنجاح في ميدان خدمة الحقّ والحقيقة و نصرة دين اللَّه تعالى.

كما نتقدّم بالشكر الجزيل إلى الأخ الأستاذ المحقّق علي الشاوي الذي آزر مؤلّف الكتاب مؤازرة صميمية، و بذل جهداً كبيراً مشكوراً في مراجعة و نقد و تنظيم هذا البحث القيّم، داعين له بمزيد من الموفقية في ميدان التحقيق و مؤازرة المحقّقين، و في مواصلة عنايته الكبيرة في خدمة الأجزاء الباقية من هذه الدراسة القيّمة.

مركز الدراسات الإسلاميّة

لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 7

مقدمة المؤلف (الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية) ..... ص : 7

اشارة

ارتحل الإمام الحسين عليه السلام عن المدينة المنوّرة سنة ستين للهجرة إلى مكّة المكرّمة بعد موت معاوية بن أبي سفيان

على أثر إعلانه رفض البيعة ليزيد، وكان عليه السلام قد أقام في مكّة المكرّمة منذ اليوم الثالث من شعبان الى اليوم الثامن من ذي الحجة من نفس السنة، أي ما لايقلّ عن مائة وخمسة وعشرين يوماً، وهي فترة طويلة نسبياً في إطار حساب عمر النهضة الحسينيّة المباركة، غير أن هذه الفترة برغم طولها تعتبر الفترة المجهولة من عمر هذه النهضة المباركة إذا قورنت مع فتراتها الأخرى من حيث الوقائع والأحداث التي سجلها التاريخ عنها، ذلك لأن كتب التأريخ مرّت على هذه الفترة المكيّة مرور الكرام، فعدا وقائع أيّام ما قبيل خروج الإمام عليه السلام من مكة التي حظيت بنوع من العناية التأريخيّة التفصيلية، نلاحظ أنّ التأريخ لم يسجّل عن بقيّة هذه الأيام المكيّة الطويلة إلّا ملاحظات عامة هي أقرب إلى الغموض منها إلى الوضوح.

هذا مع أنّ دراسة النهضة الحسينيّة واستيعاب أبعادها وفهم أسرارها منال لا يبلغ منه المحقق أقصى غايته بمعزل عن معرفة مجريات وقائع هذه الأيام المكيّة ودراسة الأجواء والتحركات المؤيّدة والمضادة التي كانت تعايشها النهضة الحسينيّة والإمام عليه السلام في مكّة.

وتتزاحم في ذهن المتأمل في هذه الفترة المكيّة أسئلة كثيرة، قد يكون أوّلها

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 8

هو السؤال عن علّة ارتحال الإمام عليه السلام من المدينة المنورة إلى مكّة المكرّمة لا إلى سواها. هل أراد الإمام عليه السلام أن يتّخذ من مكّة مركزاً لانطلاق الثورة على الحكم الأمويّ!؟ أم كان عليه السلام يريد استثمار أشهر الحج في مكّة المكرّمة لإيصال صوت هذه النهضة المباركة والتعريف بأهدافها الى كلّ العالم الإسلامي آنذاك؟

وكان يمكن للمتأمّل أن يجيب بالإيجاب على محتوى الشقّ الأوّل من السؤال، أو يتبنّى الجمع بين محتوى الشقّين الأوّل والثاني معاً لو كان

في مكّة المكرّمة قاعدة شعبية كبيرة موالية لأهل البيت عليهم السلام، ولكن هل كانت هذه القاعدة الشعبية الموالية موجودة فعلًا آنذاك!؟

من المؤسف أنّ مثل هذه القاعدة الشعبية الموالية لم تتوفر للإمام الحسين عليه السلام ولا لأخيه الإمام الحسن عليه السلام من قبله ولا لأبيهما الإمام أميرالمؤمنين عليه السلام من قبلهما، بسبب ما تركته معارك الإسلام الأولى كبدرٍ وأُحدٍ وغيرهن في قلوب بطون قريش من أحقادٍ على أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام خاصة وعلى أهل البيت عليهم السلام فأضبّت على عداوتهم وأكبّت على منابذتهم، ذلك لأنها لا تنسى عليّاً عليه السلام الذي ناوش ذؤبانها وقتل صناديدها، وكيف تنساه «وهو صاحب لواء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله والمهاجرين» «1»!؟ كيف تنسى قريش علياً عليه السلام وقد أورد أوّلها النار وقلّد آخرها العار على حدّ قول الإمام زين العابدين عليه السلام وابن عبّاس «2»!؟ كيف تحبّه وقد قتل في بدرٍ وأُحد من ساداتهم سبعين رجلًا تشرب أنوفهم الماء قبل شفاههم؟ هكذا قال ابن عمر لأميرالمؤمنين عليّ عليه السلام الذي ردَّ عليه قائلًا:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 9

ماتركتْ بدرُ لنا مُذيقا ولا لنا من خلفنا طريقا «1»

عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن أبيه، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: سألته عن أميرالمؤمنين عليه السلام كيف مال الناس عنه الى غيره، وقد عرفوا فضله وسابقته ومكانه من رسول اللَّه صلى الله عليه و آله!؟ فقال عليه السلام:

«إنّما مالوا عنه الى غيره وقد عرفوا فضله لأنه قد كان قتل من آبائهم وأجدادهم وإخوانهم وأعمامهم وأخوالهم وأقربائهم المحادّين للَّه ولرسوله عدداً كثيراً، وكان حقدهم عليه لذلك في قلوبهم فلم يحبّوا أن يتولّى عليهم، ولم يكن في قلوبهم على غيره مثل ذلك، لأنه

لم يكن له في الجهاد بين يدي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مثل ما كان له، فلذلك عدلوا عنه ومالوا إلى سواه». «2»

وقد مارس ساسة السقيفة ومؤيدوهم عملًا إعلامياً مدروساً ومتواصلًا لتأجيج ثائرة قريش على عليّ عليه السلام ولترسيخ حقدها عليه، فهاهو عمر بن الخطّاب مثلًا ينظر الى سعيد بن العاص فيقول له: «مالي أراك كأنّ في نفسك عليَّ شيئاً، أتظنّ أنّي قتلت أباك؟ واللَّه لوددت أنّي كنت قاتله! ولو قتلته لم أعتذر من قتل كافر، ولكنّي مررت به في يوم بدر فرأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه، وإذا شدقاه قد أزبدا كالوزغ، فلمّا رأيت ذلك هبته ورغتُ عنه! فقال: إلى أين يابن الخطّاب!؟ وصمد له عليٌ فتناوله، فواللَّه ما رمت مكاني حتى قتله». «3»

وكان عليُ عليه السلام حاضراً في المجلس فقال:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 10

«اللّهُمَّ غفراً، ذهب الشرك بما فيه، ومحا الإسلام ما تقدّم، فمالك تُهيِّج الناس عليَّ!؟». «1»

وقد لخّصت سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليها السلام علّة كراهية قريش لعليّ عليه السلام أمام نساء المهاجرين والأنصار اللواتي جئن لعيادتها في مرضها قبل شهادتها حيث قالت عليها السلام:

«وما الذي نقموا من أبي الحسن!؟ نقموا منه واللَّه نكير سيفه، وقلّة مبالاته بحتفه، وشدّة وطأته، ونكال وقعته، وتنمّره في ذات اللَّه». «2»

وما برح أمير المؤمنين عليّ عليه السلام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه و آله يشكو الى اللَّه ما فعلت به قريش من غصب حقّه وتصغير عظيم شأنه حتى مضى شهيداً، ومن شكايا بثّه الى اللَّه تعالى في هذا قوله عليه السلام:

«مالنا ولقريش!؟ وما تنكر منّا قريش غير أنّا أهل بيت شيّد اللَّه فوق بنيانهم بنياننا، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا، واختارنا اللَّه

عليهم، فنقموا على اللَّه أن اختارنا عليهم، وسخطوا مارضي اللَّه، وأحبّوا ماكره اللَّه، فلمّا اختارنا اللَّه عليهم شركناهم في حريمنا، وعرّفناهم الكتاب والنبوّة، وعلّمناهم الفرض والدين، وحفّظناهم الصحف والزبر، وديّناهم الدين والإسلام، فوثبوا علينا، وجحدوا فضلنا، ومنعونا حقّنا، وأَلتونا «3» أسباب أعمالنا وأعلامنا، اللّهم فإنّي أستعديك على قريش فخذ لي بحقّي منها، ولا تدع مظلمتي لديها، وطالبهم- ياربّ- بحقّي، فإنّك الحكم العدل، فإنّ قريشاً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 11

صغّرت عظيم أمري ...». «1»

ويقول عليه السلام في نفثة أخرى وهو يدعو اللَّه تعالى على قريش:

«فأَجزِ قريشاً عني بفعالها، فقد قطعت رحمي، وظاهرت عليَّ، وسلبتني سلطان ابن عمّي ..». «2»

ويجيب عليه السلام أخاه عقيلًا في كتاب إليه: «فدع عنك قريشاً وتركاضهم في الضلال، وتجوالهم في الشقاق، وجماحهم في التيه، فإنّهم قد أجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول اللَّه صلى الله عليه و آله قبلي، فجزت قريشاً عنّي الجوازي، فقد قطعوا رحمي، وسلبوني سلطان ابن عمي ..». «3»

ويلخّص عليه السلام موقفه في صبره على الطامّة الكبرى في انحراف الأمّة عن وصيّة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وغصب قيادة السقيفة حقّه الإلهي في الخلافة:

«ما رأيت منذ بعث اللَّه محمّداً صلى الله عليه و آله رخاءً، والحمد للَّه، واللَّه لقد خفت اللَّه صغيراً وجاهدت كبيراً، أقاتل المشركين وأعادي المنافقين حتى قبض اللَّه نبيّه صلى الله عليه و آله فكانت الطامّة الكبرى، فلم أزل حذراً وجلًا أخاف أن يكون ما لا يسعني معه المقام، فلم أرَ- بحمد اللَّه- إلّا خيراً، واللَّه مازلت أضرب بسيفي صبياً حتى صرت شيخاً، وإنّه ليصبّرني على ما أنا فيه أنّ ذلك كلّه في اللَّه ...». «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 12

مكّة المكرّمة والتركيبة القبلية فيها ..... ص : 12

إنّ تركيبة مكّة المكرّمة

الإجتماعية آنذاك تركيبة قبلية، فهي بيوتات وعشائر وبطون، وتتألف قريش من خمسة وعشرين بطناً، «1» و «ما أن أعلن النبي صلى الله عليه و آله نبوّته رسمياً، واختياره لوليّ عهده، حتى وقفت قريش وقفة رجل واحد بقيادة البيت الأموي، وأعلنت رفضها المطلق للنبوّة والكتاب وولاية العهد، وصرّحت بأنها ستجنّد كلّ طاقاتها الماديّة والمعنوية لصدّ أهل مكّة خاصة والعرب عامة عن إتباع محمد صلى الله عليه و آله والدخول في دينه، وانقسم المجتمع المكي الى قسمين:

الأوّل: وهو الأكثر عدداً ومدداً ظاهرياً، ويتألّف من ثلاثة وعشرين بطناً من بطون قريش ومن والاهم من الموالي والأحابيش.

الثاني: وهو الأقلّ عدداً، ويتألّف من رسول اللَّه محمد صلى الله عليه و آله ومن بطنه الهاشمي وبطن بني المطّلب بن عبد مناف، ومن والى هذين البطنين من الموالي والأحابيش، مضافاً إليهم الذين اعتنقوا الدين الإسلامي». «2»

وقد «قرّرت البطون استعمال كلّ الوسائل لعزل محمد صلى الله عليه و آله عن الهاشميين، فإن هم أصرّوا على عدم التخلّي عنه فلابدّ من عزل الهاشميين أنفسهم عن البطون، وفرض محاصرتهم ومقاطعتهم، فإن لم تُجدِ هذه الوسائل تعيّن على البطون أن تختار رجالًا منها يشتركون جميعاً في قتل محمد صلى الله عليه و آله فيضيع دمه بين البطون، ولا يقوى الهاشميون على المطالبة بدمه، وإن لم تنجح محاولة القتل، وجب ملاحقة محمد صلى الله عليه و آله، ومحاربته حتى يتمّ القضاء التام عليه وعلى دعوته». «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 13

لكنّ هذه البطون المناوئة للدعوة المحمّدية أحسّت بالخيبة وبقوّة الصدمة وشدّة النكسة وهول ما أصابها من بني هاشم عامة ومن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام خاصة بعد تعاظم أمر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله واشتداد

شوكته، خصوصاً بعد معركة بدر الكبرى التي عبّأت فيها قريش كلّ قواها، إذ «مابقي أحد من عظماء قريش إلّا أخرج مالًا لتجهيز الجيش، وقالوا: من لم يخرج نهدم داره»، «1» ويرى أبوسفيان أنّ لوازم المواجهة مع رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تقتضي العداء الى آخر الدهر، هاهو يخاطب الرجل الجهني وهو يستقصيه أخبار جيش النبي صلى الله عليه و آله قبيل وقعة بدر الكبرى قائلًا:

«واللات والعُزّى لئن كتمتنا أمر محمّد لا تزال قريش لك معادية آخر الدهر، فإنّه ليس أحد من قريش إلّا وله شي ء في هذا العير». «2»

لقد ترسّخ حقد قريش على بني هاشم عامة وعلى أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهما السلام خاصة منذ انجلت بدر الكبرى عن انكسار قريش واندحارها، وإنها لتعلم أنّ علياً عليه السلام هو السبب الرئيس في انهزامها وخسارتها المفجعة، فهو الذي قتل الوليد ثم شرك في قتل عتبة وشيبة، ولقد تفرّد عليه السلام بقتل خمسة وثلاثين رجلًا ببدر- على ما أثبتهُ رواة العامة والخاصة معاً- سوى من اختلفوا فيه، ومن شرك أميرالمؤمنين عليه السلام غيره في قتله. «3»

وهو عليه السلام صاحب الموقف الفذ الفريد في الشجاعة والثبات يوم أحد، وكشاهد على هذا الموقف العُجاب ننقل من ميدان موقعة أحد هذه اللقطة: «قد كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري من بني عبد الدار، فبرز ونادى:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 14

يامحمّد، تزعمون أنكم تجهّزونا بأسيافكم الى النار ونجهّزكم بأسيافنا الى الجنّة، فمن شاء أن يلحق بجنّته فليبرز إليَّ. فبرز إليه أميرالمؤمنين عليه السلام وهو يقول:

ياطلحُ إنْ كنتم كما تقول لكم خيول ولنا نصولُ

فاثبت لننظر أيّنا المقتول وأيّنا أولى بما تقولُ

فقد أتاك الأسدُ الصؤول بصارم ليس به

فلولُ

ينصره القاهر والرسولُ

فقال طلحة: من أنت ياغلام؟

قال: أنا عليّ بن أبي طالب.

قال: قد علمتُ ياقضم «1» أنه لايجسرُ عليَّ أحدٌ غيرك!.

فشدَّ عليه طلحة فضربه، فاتّقاه أميرالمؤمنين عليه السلام بالحجفة، ثمّ ضربه أميرالمؤمنين عليه السلام على فخذيه فقطعهما جميعاً فسقط على ظهره، وسقطت الراية، فذهب عليّ عليه السلام ليجهز عليه فحلّفه بالرحم فانصرف عنه، فقال المسلمون: ألا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 15

أجهزت عليه؟ قال: قد ضربته ضربة لايعيش منها أبداً.

ثم أخذ الراية أبوسعيد بن أبي طلحة، فقتله عليّ عليه السلام، وسقطت رايته الى الأرض. فأخذها عثمان بن أبي طلحة فقتله عليّ، وسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها مسافع بن أبي طلحة، فقتله عليّ عليه السلام، وسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها الحارث بن أبي طلحة فقتله عليّ عليه السلام، وسقطت الراية الى الأرض.

فأخذها عُزير بن عثمان فقتله عليّ عليه السلام، وسقطت الراية الى الأرض. فأخذها عبداللَّه بن جميلة بن زهير فقتله عليّ عليه السلام وسقطت الراية الى الأرض. فقتل أمير المؤمنين التاسع من بني عبدالدار وهو أرطأة بن شرحبيل مبارزة، وسقطت الراية إلى الأرض. فأخذها مولاهم صوأب فضربه أميرالمؤمنين عليه السلام على يمينه فقطعها، وسقطت الراية الى الأرض، فأخذها بشماله، فضربه أميرالمؤمنين عليه السلام على شماله فقطعها، فسقطت الراية إلى الأرض، فاحتضنها بيديه المقطوعتين ثم قال: يابني عبدالدار، هل أُعذرت فيما بيني وبينكم؟ فضربه أميرالمؤمنين عليه السلام على رأسه فقتله، وسقطت الراية الى الأرض ...». «1»

فبنو عبدالدار يعادون بني هاشم عامة وعلياً وآل عليّ عليهم السلام خاصة ويبغضونهم الى يوم الدين، حتى وإن عرفوا أنّ علياً «أحد الأربعة الذين أمر اللَّه نبيّه أن يُحبّهم»، «2» أو سمعوا أنّه يقول فيه: «لا يحبّه إلّا مؤمن ولا يبغضه إلّا منافق»، «3»

أو أنه «أحبّ

الخلق إلى اللَّه»، «4»

أو أنه «وليُّ النبيّ صلى الله عليه و آله في الدنيا والآخرة». «5»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 16

ولبطون قريش الأخرى نصيبها من القتلى الذين مضوا الى جهنم بسيف أميرالمؤمنين عليه السلام في بدر وأحد ومعارك الإسلام الأخرى، هذا فضلًا عمّن قُتل منهم في حربي الجمل وصفّين، وأولاء عدا من حدّه عليّ عليه السلام لفسقه، أو فرَّ من طائلة عدل عليّ عليه السلام وقصاصه.

لذا فقد كان أهل مكّة وكثير من أهل الحجاز لايميلون الى بني هاشم عامة والى عليّ وآل عليّ عليهم السلام خاصة، ومالوا الى قيادة السقيفة ثمّ إلى بني أميّة بعدهم، يقول الإمام علي بن الحسين عليهما السلام كاشفاً عن تلك الحقيقة:

«ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا ..». «1»

ويقول أبوجعفر الإسكافي في هذا الصدد: «أمّا أهل مكّة فكلّهم كانوا يبغضون علياً قاطبة، وكانت قريش كلّها على خلافه، وكان جمهور الخلق مع بني أميّة عليه». «2»

لقد كان لحركة النفاق بجميع فصائلها دور مدروس ومخطّط وذو أثر بالغ في تأجيج ضغائن الجاهلية ضد أهل البيت عليهم السلام عامة وضد أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام خاصة، ولمّا تسلّم الحزب الأموي قيادة حركة النفاق بزعامة معاوية بن أبي سفيان الذي مابرح يبكي على قتلى مشركي قريش في بدر حتى لحظات احتضاره، «3» كان الهمّ الأكبر للأمويين هو فصل الأمّة عن أمير المؤمنين علي عليه السلام حتىّ على الصعيد الوجداني، فأمر معاوية بسبّه ولعنه والبراءة منه، واضطهد محبّيه معيشياً وسياسياً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 17

اضطهاداً رهيباً. «1»

من كلّ ما مضى تتأكد لنا حقيقة أنّ أهل البيت عليهم السلام لم تكن لهم قاعدة شعبية في مكة المكرّمة خاصة، قاعدة شعبية واسعة تتولاهم وتدعم مواقفهم وتنصرهم، أو تحبّهم على الأقلّ، والأمر

كما وصفه الإمام السّجاد عليه السلام:

«ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا»!!

ومن هنا أيضاً تتأكّد لنا حقيقة أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يقصد من توجّهه الى مكّة المكرّمة أهل هذه المدينة بالأساس، بل كان قصده الرئيسي في التوجّه إليها هو إبلاغ وفود العالم الإسلامي من المعتمرين والحجّاج بقيامه ونهضته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، طلباً للنصرة وإتماماً للحجّة على الناس.

ومن هنا نرجّح أنّ ماورد في بعض الروايات من أنّ أهل «2» مكّة فرحوا بالإمام عليه السلام فرحاً شديداً، أو عكف الناس بمكّة يفدون إليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه، ويضبطون مايروون عنه ... ليس المراد بذلك جلّ أهل مكّة بالذات بل المراد بذلك هم جموع الوافدين على مكّة من معتمرين وحجّاج ونزر قليل جداً من المكيّين الذين استوطنوا مكّة بعد فتحها وبعد انتشار الإسلام ومما يؤكّد ماذهبنا إليه أن التأريخ لم يحدّثنا أنّ أحداً من المكيين قد التحق بالإمام عليه السلام وسار معه الى العراق.

والأيام التي قضاها الإمام أبو عبداللَّه الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة تشكّل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 18

المقطع الأطول من عمر النهضة الحسينيّة المقدّسة، ولاشك أنّ ما يقارب المائة وخمسة وعشرين يوماً مساحة زمنية حفلت ثناياها بكثير من الإتصالات واللقاءات والمحاورات والمراسلات وأنشطة أخرى متعدّدة غيرها كان الإمام أبوعبداللَّه الحسين عليه السلام قد قام بها، ولو كان التأريخ قد سجّل لنا جميع تلك الوقائع وتفاصيلها، لكان أغنى المؤرخين والمتتبّعين المحققّين بمادة تأريخية مهمة، ولأعانهم عوناً كبيراً على كشف كثير من الغموض المحيط ببعض الأحداث والمواقف الواقعة في إطار تأريخ هذه النهضة المباركة.

لكنّ المؤسف فعلًا- كما قلنا في بداية هذه المقدّمة- أنّ التأريخ لم يسجل لنا عن هذه الأيام المكيّة

إلّا ملاحظات عامّة غضّت الطرف وأغمضته عن كثير من التفاصيل التأريخية اللازمة في الإجابة على كثير من التساؤلات التي تنقدح في ذهن المتأمل حول تلك الفترة وما جرى فيها وبعدها.

ويمكن للمتتبع أن يحدّد المحاور العامة التي سجلها التأريخ لهذه الفترة المكيّة بما يأتي:

1- إنشداد الناس في مكّة الى الإمام عليه السلام واحتفاؤهم به، وتضايق عبداللَّه بن الزبير والسلطة الأموية المحلّية في مكّة لذلك.

2- محاولات بعض وجهاء الأمّة لثني الإمام عليه السلام عن التوجّه الى العراق في إطار لقاءات ومحاورات النصح والمشورة وبعض المكاتبات في هذا الصدد.

3- رسائل أهل الكوفة الى الإمام عليه السلام، ورسائل الإمام عليه السلام إليهم والى أهل البصرة.

4- إرسال الإمام عليه السلام مسلم بن عقيل عليه السلام إلى أهل الكوفة.

5- خطب الإمام عليه السلام قبيل مغادرة مكّة، والمحاولات الأخيرة لثنيه عن التوجّه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 19

الى العراق.

ومجموع الروايات التأريخية الواردة في إطار هذه المحاور تعتبر نزراً قليلًا جداً إذا قيست إلى ما يمكن أن تتضمّنه فترة لا تقلّ عن مائة وخمسة وعشرين يوماً من وقائع وأحداث، خصوصاً في مدينة مكّة المكرّمة وفي أيّام كانت هذه المدينة قد غصّت بجموع غفيرة من معتمرين وحجّاج وفدوا إليها من شتى أنحاء العالم الإسلامي، وفيهم شخصيات مهمة كثيرة يستبعد المتأمّل ألا تكون لها لقاءات كثيرة وطويلة مع الإمام الحسين عليه السلام الذي هو آنذاك الرمز الديني والروحي لهذه الأمّة.

ومن أجل جبران هذا النقص في المادّة التأريخية لفترة الأيام المكيّة من عمر النهضه الإسلامية رأينا أن نتابع وقائع وأحداث هذه الفترة من خلال الزوايا الثلاث التالية:

1- حركة الإمام الحسين عليه السلام في هذه الفترة.

2- حركة السلطة الأموية في مواجهة الإمام عليه السلام.

3- حركة الأمّة إزاء قيام الإمام

عليه السلام.

وقد حاولنا- فضلًا عن الروايات المبذولة في إطار هذه الزوايا الثلاث- أن نلتقط كلّ الشوارد والإشارات التأريخيّة المتفرّقة في كتب التأريخ والتراجم وغيرها ونجمعها في متجهاتها كيما نزيح بأضواء جديدة بعض الغموض الجاثم على مساحة كبيرة من تلك الفترة، لنكون بذلك قد قدّمنا جديداً في إطار هذه الدراسة التأريخية التحليلية النقدية.

تُرى هل وفّقنا الى ذلك؟

التقييم في ذلك متروك الى القارى ء الكريم.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 20

وفي الختام: ..... ص : 20

أود أن أتقدم بالشكر والتقدير الفائق إلى صاحب الفضيلة الأستاذ المحقّق علي الشاوي المحترم حيث أتحفنا بملاحظات قيمة، مع بذل غاية جهده في تنظيم وترصين هذا الجهد المتواضع: كتاب «الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة» فله الفضل عليَّ والأيادي.

واستميح سيّدي الوالد المرحوم آية الله الطبسي عذراً إذ لم أوفّق حتّى الآن لتنفيذ ما أوصى به إلينا من تحقيق وطبع ونشر مؤلّفه القيّم- المخطوط- مقتل الإمام الحسين عليه السلام، وعسى أن يكون هذا الجهد المتواضع بداية خير لإنجاز ما طلبه منّا في قريب عاجل إن شاء الله تعالى.

نجم الدين الطبسي

قم المقدّسة

19/ محرّم الحرام/ 1421 ه. ق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 23

الفصل الأول ..... ص : 23

اشارة

حركة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام في مكّة

الفصل الأوّل: حركة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام في مكّة ..... ص : 23

ورود الإمام الحسين عليه السلام مكّة المكرّمة ..... ص : 23
اشارة

سار الإمام عليه السلام بالركب الحسينيّ من المدينة المنورة حتى وافى مكّة المكرّمة، فلمّا نظر إلى جبالها من بعيد جعل يتلو هذه الآية الكريمة: «ولمّا توجّه تلقاء مدين قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل»، «1» وذلك ما قاله رسول اللَّه موسى بن عمران عليه السلام حينما خرج من مصر إلى مدين.

وقيل: إنه لمّا قدم مكّة قال: «اللّهمَّ خِرْ لي واهدني سواء السبيل». «2»

وقد دخل عليه السلام مكّة ليلة الجمعة لثلاث مضين من شعبان. «3» أو دخلها عليه السلام يوم الجمعة، «4» ومكث فيها أربعة أشهر وخمسة أيّام.

الإستقبال الحافل والحفاوة البالغة ..... ص : 23

قال ابن كثير: «وعكف الناس بمكّة يفدون إليه، ويجلسون حواليه،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 24

ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه، ويضبطون ما يروون عنه». «1»

وقال الشيخ المفيد قدس سره: «فأقبل أهلها يختلفون إليه، ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق ...». «2»

وقال ابن الصباغ: «فأقبل الحسين حتى دخل مكّة المشرّفة ونزل بها، وأهلها يختلفون إليه ويأتونه، وكذلك من بها من المجاورين والحجاج والمعتمرين من سائر أهل الآفاق». «3»

وذكر بعض المؤرّخين أنّ أهل مكّة فرحوا به عليه السلام فرحاً شديداً، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّاً. «4»

ويبدو أنّ بعض المتتبعين المعاصرين- كباقر شريف القرشيّ- قد استفاد من مجموع مثل هذه النصوص أنّ المكيّين أنفسهم هم الذين احتفوا بالإمام عليه السلام وكانوا يختلفون إليه بكرة وعشياً، فأطلق القول هكذا: «وقد استقبل الإمام عليه السلام استقبالًا حافلًا من المكيّين، وجعلوا يختلفون إليه بكرة وعشيّاً، وهم يسألونه عن أحكام دينهم وأحاديث نبيّهم». «5»

لكننا نرجّح- كما قدّمنا في مقدمة الكتاب- أنّ الذين احتفوا بالإمام الحسين عليه السلام وكانوا يفدون إليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، وينتفعون بما يسمعون منه، ويضبطون مايروون عنه، هم أهل الأقطار

الأخرى من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 25

المعتمرين والحجاج المتواجدين آنذاك في مكّة، وفيهم من المكيين القليل ممن ليسوا من بطون قريش، ممن سكن مكّة بعد الفتح وبعد انتشار الإسلام في الأرض، ذلك لأنّ قريشاً توارثت العداء لعليّ وآل عليّ عليهم السلام، والظاهر أنّ جلّ المكيّين آنذاك هم من قريش، ولا ننسى قول الإمام السجاد عليه السلام:

«ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا ...». «1»

منزل الإمام الحسين عليه السلام بمكّة ..... ص : 25

صرّح الذهبي بأنّ الإمام الحسين عليه السلام «نزل بمكّة دار العبّاس»، «2» وكذلك قال المزّي، «3» ومن قبلهما ابن عساكر، «4» غير أنّ بعضاً آخر من المؤرخين ذكروا أنه عليه السلام «نزل في شِعب عليّ عليه السلام»، «5» ولامنافاة بين القولين و لأنّ دارالعبّاس بن عبدالمطلب كانت فى شعب عليّ عليه السلام.

لكن السؤال الذي قد يفرض نفسه هنا هو:

لماذا اختار الإمام الحسين عليه السلام دار العبّاس بن عبدالمطّلب؟

هل هناك غرض سياسي أو اجتماعي أو تبليغي من وراء ذلك؟ أم أنه عليه السلام لم يُرد أن يكون لأحدٍ عليه منّة بذلك؟ أو أنّه عليه السلام خشي أن ينزل على أحدٍ فيكلّف المنزول به ثمناً باهضاً وحرجاً شديداً، لأنّ السلطة الأموية بعد ذلك سوف تضطهد صاحب المنزل بأشدّ عقوباتها؟ أو أنه عليه السلام لم يُرد أن يمنح رجلًا من أهل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 26

مكّة بنزوله عنده اعتباراً اجتماعياً ومنزلة في قلوب الناس لا يستحقّها أو يستثمرها بعد ذلك لمنافعه الخاصة؟

أم أنّ الإمام عليه السلام لم ينزل من دور بني هاشم في مكّة إلا دار العباس بن عبدالمطلب لأنّ بني هاشم لم تبق لهم دار في مكّة إلّا دار العبّاس، ذلك لأنّ عقيل ابن أبي طالب كان قد باع دور المهاجرين من بني هاشم خشية أنّ

تستولي عليها قريش وتصادرها، لأنّ قريشاً عمدت حينذاك الى مصادرة منازل المهاجرين من المسلمين الى المدينة انتقاماً وإرهاباً، ولم يكن العبّاس بن عبدالمطلب قد هاجر آنذاك على فرض إسلامه حين هجرة النبي صلى الله عليه و آله- فسلمت داره من المصادرة.

يقول الواقدي: «قيل للنبي: ألا تنزل منزلك من الشعب؟ قال: فهل ترك لنا عقيل منزلًا؟ وكان عقيل قد باع «1» منزل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومنزل إخوته من الرجال والنساء بمكّة». «2»

ويعلل السيد علي خان الشيرازي هذه المصادرة قائلًا: «كان عقيل قد باع دور بني هاشم المسلمين بمكّة، وكانت قريش تعطي من لم يُسلم مال من أسلم، فباع دور قومه حتى دار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فلما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه و آله مكّة يوم الفتح قيل:

ألا تنزل دارك يارسول اللَّه صلى الله عليه و آله؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من دار؟». «3»

أمّا الشيخ الطوسي فيعلّل هذه المصادرة بسبب الهجرة لا بسبب الإسلام فقط حيث يقول: «.. قول النبي صلى الله عليه و آله يوم فتح مكّة وقد قيل له: ألا تنزل دارك؟ فقال:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 27

وهل ترك لنا عقيل من ربع؟ لأنه كان قد باع دور بني هاشم لمّا خرجوا الى المدينة ..». «1»

وفي الإجابة عن السؤال المثار حول سبب اختيار الإمام عليه السلام دار العبّاس بن عبدالمطّلب نقول: مما لاشك فيه أنّ سبب هذا الإختيار لاينحصر في كون دار العبّاس هي الدار السانحة آنذاك، وذلك لأنّ الإمام عليه السلام كان مقتدراً ذا سعة، وكان بإمكانه بل من اليسير عليه أن يهيأ داراً أو أكثر من دار في مكة له ولغيره من أفراد الركب

الحسينيّ، ونرى ألا منافاة بين جميع الدواعي المعقولة لهذا الإختيار، سواء التي ذكرناها في معرض التساؤل أو التي لم نذكرها، فمن الممكن أن يجتمع السبب السياسي مع السبب الاجتماعي مع السبب التبليغي مع الأسباب الأخرى وتتعاضد جميعها في متّجه واحد لتشكّل العلّة التامّة لهذا الإختيار.

رسائل الإمام عليه السلام إلى الولايات الأخرى ..... ص : 27
رسالته عليه السلام إلى البصرة ..... ص : 27

كانت الشيعة بعد استشهاد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام على صلة بالإمام أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام رغم الإضطهاد والإرهاب والمراقبة الشديدة من قبل الحكم الأمويّ على محبّي أهل البيت عليهم السلام، فكانت الشيعة في أنحاء البلاد الإسلامية تبعث الى الإمام الحسين عليه السلام المكاتيب وتسأله عمّا يهمّها من أمور دينهم، وكان للبصرة نصيبها من الصلة بالإمام عليه السلام، وقد أثبت التأريخ بعض رسائل شيعتها إليه، كالرسالة التي بعثوا بها إلى الإمام عليه السلام يسألونه فيها عن معنى الصمد، وبعث إليهم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 28

بجوابها ... «1»

لكنّ الملفت للإنتباه في الرسالة التي بعث بها الإمام عليه السلام إلى اشراف البصرة ورؤساء الأخماس «2» فيها هو أنَّ الإمام عليه السلام كان البادي ء بالمكاتبة، وقد دعا فيها أولئك الأشراف والرؤساء ومن يتبعهم من أهل البصرة إلى نصرته، في وقت لم يكن أحدٌ من أولئك قد بعث من قبل إلى الإمام عليه السلام بكتاب يدعوه فيه إلى القيام والنهضة ضد الحكم الأموي، كما فعل أشراف الكوفة ووجهاؤها وكثير من أهلها الذين كانت رسائلهم تنهال على مكّة حتى بلغت في يوم واحدٍ ستمائة رسالة!

فما هي علّة مبادرة الإمام عليه السلام الى الكتابة إلى أشراف البصرة ورؤسائها؟

لايشك مطّلع على التأريخ الإسلامي بالأهمية الخاصة التي كانت تتمتع بها كلٌ من ولايتي الكوفة والبصرة وأثرهما البالغ على حركة أحداث العالم الإسلامي آنذاك، خصوصاً وأنّ هاتين الولايتين المهمتين

لم تنغلقا لصالح الحكم الأموي كما انغلق الشام تماماً لصالحه آنذاك، فمحبّو أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم في كلّ من هاتين الولايتين برغم الإرهاب والقمع الأمويّ كانت لهم اجتماعاتهم ومنتدياتهم السريّة، وتطلّعاتهم الى يوم الخلاص من كابوس الحكم الأمويّ.

نعم، هناك فارق واضح بين الكوفة والبصرة من حيث تأريخ كلّ منهما في نصرة أمير المؤمنين عليه السلام، ومن حيث عدد الشيعة في كلّ منهما، ومن حيث درجة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 29

تحفّزهم للتحرّك ضد الحكم الأمويّ.

ويُضافُ الى ذلك أنّ البصرة آنذاك كانت تحت سيطرة والٍ قويّ وإرهابي مستبدّ هو عبيداللَّه بن زياد الذي كان قد هيمن على إدارة أمورها، وأحكم الرقابة الشديدة على أهلها، في وقت كانت الكوفة قد تراخت أزمّة أمورها بيد والٍ ضعيف يميل الى العافية والسلامة هو النعمان بن بشير، فكان الشيعة في الكوفة أقدر على الحركة والفعل من الشيعة في البصرة عموماً، مما قد يفسّر سبب مبادرة أهل الكوفة وبهذا الكمّ الكثير إلى المبادرة في الكتابة إلى الإمام عليه السلام ودعوته إليهم، في وقت لم تصل إلى الإمام عليه السلام رسالة من أهل البصرة يدعونه فيها إليهم أو يظهرون فيها استعدادهم لنصرته. «1»

فبادر الإمام عليه السلام إلى الكتابة إلى أهل البصرة عن طريق أشرافها ورؤساء الأخماس فيها، لأنَّ أهلها- عدا خُلَّص الشيعة منهم- لايتجاوزون أشرافهم في اتخاذ موقف وقرار، فكان لابدَّ من مخاطبتهم عن طريق أشرافهم ورؤساء الأخماس، وإن كان بعض هؤلاء ممّن يميل إلى بني أميّة، وبعضهم ممن لا يؤتمن، وبعضهم ممن لا تتسق مواقفه باتجاه واحد ..

ولعلّ الإمام عليه السلام أراد إلقاء الحجّة على الجميع، «2» مع ما قد تثمره رسالته من صدّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 30

المتردّد من الأشراف ورؤساء الأخماس عن

الإنضمام إلى أيّ فعل مضاد لحركة الإمام عليه السلام، وما تثمره هذه الرسالة أيضاً من إعلام البصريين الراغبين في نصرته بأمر نهضته وتعبئتهم لذلك من خلال أشرافهم الموالين لأهل البيت عليهم السلام كمثل يزيد بن مسعود النهشلي وأمثاله.

نصّ رسالة الإمام عليه السلام إلى أهل البصرة ..... ص : 30

قال الطبري: «قال أبومخنف: حدّثني الصقعب بن زهير، عن أبي عثمان النهدي، قال: كتب الحسين مع مولىً لهم يُقال له سليمان، وكتب بنسخة إلى رؤوس الأخماس بالبصرة وإلى الأشراف، فكتب إلى مالك بن مسمع البكري، وإلى الأحنف بن قيس، وإلى المنذر بن الجارود، وإلى مسعود بن عمرو، وإلى قيس بن الهيثم، وإلى عمرو بن عبيداللَّه بن معمر.

فجاءت منه نسخة واحدة إلى جميع أشرافها:

أمّا بعد، فإنّ اللَّه اصطفى محمّداً على خلقه وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثم قبضه اللَّه إليه، وقد نصح لعباده وبلّغ ما أرسل به، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته وأحقَّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومنا بذلك، فرضينا وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممن تولاه، وقد أحسنوا وأصلحوا وتحرّوا الحقّ، فرحمهم اللَّه وغفر لنا ولهم. «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 31

وقد بعثتُ رسولي إليكم بهذا الكتاب، وأنا أدعوكم إلى كتاب اللَّه وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد، والسلام عليكم ورحمة اللَّه». «1»

وقد نقل ابن نما الكتاب باختصار واختلاف قائلًا:

«كتب عليه السلام كتاباً إلى وجوه أهل البصرة، منهم الأحنف بن قيس، وقيس بن الهيثم، والمنذر بن الجارود، ويزيد بن مسعود النهشلي.

وبعث الكتاب مع زرّاع السدوسي، وقيل مع سليمان المكنّى بأبي رزين، فيه:

«أدعوكم إلى اللَّه وإلى نبيّه، فإنّ السنّة قد أُميتت، فإن تجيبوا دعوتي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد».

«2»

نماذج من أشراف البصرة الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام ..... ص : 31
اشارة

من هم أولئك البصريون الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام رسالته؟ هل كانوا جميعاً من محبّي أهل البيت عليهم السلام أو شيعة لهم؟ أم كانوا جميعاً على هوى واحد لبني أميّة؟ أم كانوا مختلفين في الميل والهوى؟

يحسن منا هنا أن نلقي ضوءً- وإن كان يسيراً- يكشف لنا عن هوية نماذج من هذه الشخصيات ومتجهات ميولها، لعلّنا بذلك نتعرّف على حقيقة الوضع النفسي والإجتماعي لولاية البصرة آنذاك، كما يساعدنا ذلك على معرفة سبب كون رسالة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 32

الإمام عليه السلام بذلك النصّ بالتحديد، لأنّ نوع المخاطَب مؤثّر في نوع الخطاب، فمن هذه الشخصيات المؤثرة في حياة المجتمع البصري آنذاك:

11- مالك بن مسمع: ..... ص : 31

كان رأيه مائلًا إلى بني أميّة، وكان مروان بن الحكم قد لجأ إليه يوم الجمل، وكان مالك بن مسمع يأمر الناس بعد واقعة الطف وقتل الإمام الحسين عليه السلام بتجديد البيعة ليزيد بن معاوية. «1»

2- الأحنف بن قيس: ..... ص : 31

قيل إنّه ولد في عهد النبيّ صلى الله عليه و آله ولم يدركه، ومات عام 67 ه، وقد روى فضائل عليّ عليه السلام عن أبي ذر، وعندما قرأ ابن عبّاس كتاب عليّ عليه السلام على أهل البصرة كان الأحنف أوّل رجل أجابه وقال: نعم، واللَّه لنجيبنّك ... وهو الذي اقترح على أميرالمؤمنين عليه السلام أن يجعله حكماً، وقد وجّهه عليّ عليه السلام إلى الخوارج.

وهو الذي بعث إلى عليّ قائلًا: إن شئتَ أتيتك في مائتي فارس فكنت معكَ، وإن شئتَ اعتزلت ببني سعد فكففت عنك ستّة آلاف سيف. فاختار عليّ عليه السلام اعتزاله. «2»

وعلى ضوء هذه المواقف يراه الرجالي المعروف المامقانيّ حسناً. «3»

ويقول رجاليّ آخر وهو النمازي: «يظهر منه كماله وحكمته ورضاية أميرالمؤمنين عليه السلام به، وأنه من السفراء الفصحاء». «4»

ولكن أليس الأحنف بن قيس هو القائل بعد أن دعاه الإمام أبوعبداللَّه الحسين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 33

إلى نصرته ولم يجبه: «قد جرّبنا آل أبي الحسن فلم نجد عندهم إيالة للملك ولا جمعاً للمال ولا مكيدة للحرب». «1»

أليس الأحنف بن قيس هو الذي ساعد مصعب بن الزبير على قتل المختار، «2» وكان على خمس تميم في قتل المختار. «3»

أليس هو القائل في صفين- وهو مع عليّ عليه السلام- «هلك العرب». «4»

وفي هذا مؤشّر على ضعف اعتقاد الأحنف بأميرالمؤمنين عليه السلام وبالحسنين عليهما السلام، إذ لو كان له اعتقاد راسخ بهم عليهم السلام لكان سلماً لمن سالمهم وحرباً لمن حاربهم، ولما همّه بعد ذلك،

هلكت العرب في حقّ أو بقيت.

ولذا لم يرتض رجاليّ آخر وهو التستري «5» تحسين المامقاني له، كما سكت الخوئي «6» في المعجم عن تأييده أو تضعيفه.

ومن المواقف الدالّة على عدم رسوخ اعتقاده بأمير المؤمنين عليه السلام بل الدالّة على تردده وضعف يقينه ووهن موقفه في وجوب نصرة أهل الحقّ وخذلان أهل الباطل أنه حينما قرأت رسالة معاوية على أهل البصرة لتحريضهم على أميرالمؤمنين عليه السلام تحت شعار الأخذ بثأر عثمان أنّ الأحنف قال: «أمّا أنا فلا ناقة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 34

لي في هذا ولا جمل، واعتزل أمرهم». «1»

3- مسعود بن عمرو بن عدي الأزدي: ..... ص : 34

وهو أحد قادة الأزد في معركة الجمل في جيش عائشة وطلحة والزبير، «2» وهو الذي أجار ابن مرجانة لمّا نابذه الناس ومنعه منهم، «3» ومكث ابن مرجانة تسعين يوماً بعد موت يزيد ثم خرج إلى الشام، وبعث معه مسعود بن عمرو مائة من الأزد عليهم قرّة بن قيس حتى قدموا به إلى الشام، وكان ابن زياد قد استخلف مسعود بن عمرو على البصرة حينما تركها متوجهاً إلى الشام. «4»

4- قيس بن الهيثم السلمي: ..... ص : 34

لمّا استنصر عثمان بأهل البصرة قام قيس فخطب وحرّض الناس على نصر عثمان، فسارع الناس إلى ذلك، وأتاهم قتل عثمان فرجعوا، «5» وكان قيس هذا والياً لعثمان على خراسان، «6» وقد ولي شرطة البصرة على عهد معاوية لعبد اللَّه بن عامر، ثم بعثه والياً على خراسان سنتين حيث عزله عنها بعد ذلك وعاقبه وسجنه، «7» وكان من أخواله فتشفّعت فيه أمّه فأخرجه «8» ... ثم عطف على قيس فاستخلفه على البصرة ... ثمّ ولىّ معاوية على البصرة زياد بن سميّة سنة 45 ه، فبعث قيس بن الهيثم على مرود الروذ والفارياب والطالقان، ثم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 35

انعزل قيس بعزل يزيد لعبد الرحمن بن زياد، فلمّا هلك يزيد كان قيس بالبصرة.

وكان قيس هذا على المقاتلة لابن الزبير في مقاتلة مثنّى بن مخربة الداعي إلى المختار سنة 66 ه، وكان على خمس أهل العالية مع مصعب بن الزبير لمقاتلة المختار سنة 67 ه، وكان قيس سنة 71 ه يستأجر الرجال ليقاتلوا معه خالد بن عبداللَّه داعية عبدالملك بن مروان معيناً وناصراً لابن الزبير، وكان يحذّر أهل العراق من الغدر بمصعب. «1»

5- المنذر بن الجارود العبدي: ..... ص : 35

ولّاه الإمام عليّ عليه السلام بعض أعماله فخان فيه، فكتب عليه السلام إليه:

«أمّا بعد، فإنّ صلاح أبيك غرَّني منك، وظننت أنّك تتبع هديه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما رقي إليَّ عنك لا تدع لهواك انقياداً، ولا تبقي لآخرتك عتاداً، أتعمّر دنياك بخراب آخرتك!؟ وتصل عشيرتك بقطيعة دينك!؟ ولئن كان ما بلغني عنك حقاً لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، من كان بصفتك فليس بأهل أن يُسدَّ به ثغر أو ينفذ به أمر أو يُعلى له قدر أو يُشرك في أمانة أو يؤمن على جباية، فأقبل إليَّ

حين يصلُ إليك كتابي هذا إن شاء اللَّه».». «2»

وقال عليه السلام في المنذر بن الجارود هذا أيضاً:

«إنّه لنظّارٌ في عطفيه، مختالٌ في بُردَيْه، تفّال في شِراكَيْه». «3»

أي أنه ذو زهوٍ، معجب بنفسه ومظهره، متكبر، همّه في نظافة ظاهره لا في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 36

طهارة الباطن وتزكية النفس وتهذيب المحتوى والعروج إلى آفاق المعنويات السامية.

و «كان عليّ عليه السلام ولّاه فارساً فاحتاز مالًا من الخراج .. وكان المال أربعمائة ألف درهم، فحبسه عليّ عليه السلام، فشفع فيه صعصعة وقام بأمره وخلّصه». «1»

ولقد شفّع المنذر بن الجارود خيانته في الأموال بخيانته في النفوس حيث قدّم نسخة رسالة الإمام الحسين عليه السلام إليه مع رسول الإمام عليه السلام سليمان بن رزين إلى عبيداللَّه بن زياد تقرّباً إليه وطمعاً في الزلفة منه، وكانت نتيجة هذه الخيانة أن قُتل رسول الإمام عليه السلام صبراً.

ولقد كافأ ابن زياد ابن الجارود على خيانته فولاه السند حيث توفي فيها سنة 61 ه، «2» فلم يهنأ بجائزته إلا شهوراً قليلة.

هذه صورة موجزة لمجموعة من أشراف البصرة آنذاك، قد تمثّل جلّ أشراف البصرة المعروفين يومها، ورأيناها مؤلّفة من ذي هوىً أموي خالص كمالك بن مسمع، ومعادٍ لأهل البيت عليهم السلام كمسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم السلمي، أو ذي معرفة بحقّ أهل البيت عليهم السلام ضعيف اليقين مترددٍ واهن المواقف كالأحنف بن قيس، أو طالبٍ للدنيا متكبّر معجب بنفسه متملّق للأمراء غير مؤتمن كالمنذر بن الجارود العبدي.

وكما قلنا من قبل، فقد اضطرّ الإمام عليه السلام إلى الكتابة إلى هؤلاء لأنهم المنفذ الوحيد إلى جلّ أهل البصرة الذين كانوا تبعاً لأشرافهم في فهم الأحداث وتبنّي المواقف، وكان لابدّ من إلقاء الحجّة على الجميع من خلال هذا

الطريق، فلعلَّ ثمّة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 37

من يهتدي ويُسعد بإبلاغ الحجّة.

وهنا لابدّ من التنبيه أنّ من أشراف البصرة مجموعة تعرف حقّ أهل البيت عليهم السلام وتواليهم ولها مواقف كريمة ورائعة في المبادرة إلى نصرة الإمام الحسين عليه السلام كمثل يزيد بن مسعود النهشلي الذي دعا قومه إلى نصرة الإمام عليه السلام وعبّأهم روحياً بهذا الإتجاه، وهو من الأشراف الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام بتلك النسخة أيضاً، وسيأتي تفصيل موقفه في فصل حركة الأمّة فيما يأتي من البحث، وقد دعا له الإمام عليه السلام بهذا الدعاء المبارك:

«مالكَ، آمنك اللَّه يوم الخوف، وأعزّك وأرواك يوم العطش الأكبر». «1»

وكيزيد بن ثبيط العبدي، وهو من أشراف البصرة أيضاً، ومن الشيعة، وقد بادر- بعدما علم بما عزم عليه الإمام الحسين عليه السلام- إلى الإلتحاق بركب الإمام عليه السلام في مكّة، مع ولديه عبداللَّه وعبيداللَّه وجماعة آخرين من الشيعة البصريين، ورزقوا الشهادة بين يدي الإمام أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام في كربلاء يوم العاشر من المحرم. «2»

الشهيد الأوّل في الثورة الحسينيّة: ..... ص : 37

يُطلق لقب (الشهيد الأوّل) في الثورة الحسينية عادةً على مولانا مسلم بن عقيل عليه السلام، وهو المشهور، وهذا صحيح إذا أردنا بذلك الشهيد الأوّل من شهداء بني هاشم في هذه الثورة المقدّسة، ولكننا إذا أردنا (الشهيد الأوّل) من شهداء هذه الثورة المقدّسة عموماً فإنّ رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى أشراف البصرة ورؤساء الأخماس فيها هو ذلك الشهيد الأوّل رضوان اللَّه تعالى عليه، الذي قتله عبيداللَّه بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 38

زياد قبل يوم من تركه البصرة متوجهاً إلى الكوفة، وذلك بسبب خيانة المنذر بن الجارود العبدي، الذي زعم «1» أنه خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيداللَّه بن زياد- وكانت بحرية بنت المنذر

زوجة لعبيداللَّه بن زياد- فأخذ عبيداللَّه بن زياد الرسول فصلبه، «2» أو قدّمه فضرب عنقه. «3»

وقد ذهب جلّ المؤرّخين إلى أنّ اسم هذا الرسول هو سليمان، إلا أنّ ابن نما ذكر- على قول- أن إسمه زراع السدوسي حيث قال: «وبعث الكتاب مع زراع السدوسي، وقيل مع سليمان المكنّى بأبي رزين ..»، «4» لكنّ السلام الوارد عليه في زيارة الناحية المقدّسة يؤكّد أنّ إسمه سليمان: «السلام على سليمان مولى الحسين ابن أميرالمؤمنين، ولعن اللَّه قاتله سليمان بن عوف الحضرمي» «5»

ويُكنى سليمان بأبي رزين، وقيل إنّ أبا رزين «هو إسم أبيه، وأمّه كبشة، جارية للحسين عليه السلام، فتزوجها أبورزين فولدها سليمان»، «6» لكنّ المحقّق السماوي ضبط اسم هذا الشهيد هكذا: سليمان بن رزين. «7»

وكان سليمان قد خرج مع الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى مكّة، ثم بعثه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 39

الإمام عليه السلام برسالته إلى البصرة، «1» وهذا كاشف عن ثقته به واعتماده عليه ومنزلته الخاصة عنده.

إجتماع الإمام عليه السلام برسل أهل الكوفة ومبعوثيهم ..... ص : 39

بعد أن علم أهل الكوفة بامتناع الإمام عليه السلام عن البيعة ليزيد، وأنه عليه السلام قد صار إلى مكّة، تقاطرت رسائلهم الكثيرة إليه بلا انقطاع، وقد أبدوا فيها استعدادهم لنصرته والقيام معه، ودعوه فيها إلى القدوم إليهم.

«وتلاقت الرسل كلها عنده، فقرأ الكتب، وسأل الرسل عن الناس ...»، «2» وكان هاني بن هاني وسعيد بن عبداللَّه الحنفي آخر الرسل القادمين عليه.

«فقال الحسين عليه السلام لهاني وسعيد بن عبداللَّه الحنفي:

خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب معكما إليّ؟

فقالا: يا أميرالمؤمنين، «3» اجتمع عليه شبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، ويزيد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 40

ابن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجّاج، ومحمد بن عمير بن عطارد. «1»

قال:

فعندها قام الحسين عليه السلام فتطهّر وصلّى ركعتين بين الركن والمقام، ثمّ انفتل من صلاته وسأل ربّه الخير فيما كتب إليه أهل الكوفة، ثمّ جمع الرسل فقال لهم: إني رأيتُ جدّي رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في منامي، وقد أمرني بأمر وأنا ماضٍ لأمره.

فعزم اللَّه لي بالخير، إنه وليّ ذلك والقادر عليه إن شاء اللَّه تعالى» «2».

رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أهل الكوفة: ..... ص : 40

«... ثم كتب مع هاني بن هاني وسعيد بن عبداللَّه «3»، وكانا آخر الرسل:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 41

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين:

أمّا بعدُ: فإنّ هانياً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم، وكانا آخر من قدم عليّ من رسلكم، وقد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 42

فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم: إنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ اللَّه أن يجمعنا بك على الحق والهدى.

وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليَّ أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ماقدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكاً إن شاء اللَّه، فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات اللَّه، والسلام» «1».

سفير الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة: ..... ص : 42
اشارة

«ودعا الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل، فسرّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي «2»، وعمارة بن عبداللَّه السلولي «3»، وعبداللَّه وعبدالرحمن ابني شدّاد الأرحبي «4»، وأمره

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 44

بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك ..» «1».

ماذا يعني كتمان الأمر هنا؟ ..... ص : 44

هل يعني أن يكتم مسلم بن عقيل عليه السلام أمر سفارته مادام في الطريق حتى يصل الى الكوفة؟ أم يعني أن يتّبع مسلم بن عقيل عليه السلام الأسلوب السرّي في تعبئة أهل الكوفة للنهضة مع الإمام عليه السلام؟ أم يعني أن يكتم أمر مكانه وزمان تحركاته ومواقع مخازن أسلحته وأشخاص قياداته ومعتمديه من أهل الكوفة وكلمة السرّ في وثبته؟ أم غير ذلك؟

وماذا يعني اللطف هنا؟ هل هو اللطف مع الناس وهو من أخلاق الإسلام؟

أم اللطف هنا بمعنى عدم المواجهة المسلّحة مع السلطة المحلّية الأموية في الكوفة حتى يصل إليها الإمام عليه السلام أو يأذن بذلك؟

وهل كانت مهمة مسلم بن عقيل عليه السلام- على ضوء هذه الرواية- منحصرة في معرفة الرأي العام الكوفي، ومعرفة صدق أهل الكوفة فيما كتبوا به إلى الإمام عليه السلام؟

هناك رواية أخرى تقول إنّ رسالة الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة حوت أيضاً هذه العبارات:

«... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّى مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وأمرته

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 45

أن يكتب إليَّ بحالكم وخبركم ورأيكم ورأي ذوي الحجى والفضل منكم، وهو متوجّه إليكم إن شاء اللَّه، ولا قوة إلّا باللَّه، فإن كنتم على ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولا تخذلوه، فلعمري ما الإمام العامل بالكتاب القائم بالقسط كالذي يحكم بغير الحقّ ولا يهتدي سبيلًا ...» «1».

ومن هذا النصّ يتجلّى لنا

أنّ مهمة مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة لم تنحصر في استطلاع الرأي العام الكوفي ومعرفة حقيقة ومصداقية التوجهات فيها، بل كانت مهمته الأساسية فيها هي الثورة بأهل الكوفة ضد السلطة المحلّية الأموية فيها والتمهيد للقضاء على الحكم الأموي كلّه، والدليل على هذا قوله عليه السلام:

«فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولا تخذلوه ..».

ويتابع ابن أعثم الكوفي روايته التأريخية قائلًا:

«ثم طوى الكتاب، وختمه، ودعا بمسلم بن عقيل فدفع إليه الكتاب، وقال:

إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي اللَّه من أمرك مايحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامضِ ببركة اللَّه وعونه حتى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق اهلها، وادع الناس الى طاعتي، فإن رأيتهم مجتمعين على بيعتي فعجّل عليّ بالخبر حتى أعمل على حساب ذلك إن شاء اللَّه تعالى. ثم عانقه الحسين عليه السلام وودّعه وبكيا جميعاً» «2».

ومن هذه الرواية نستفيد أنّ «كتمان الأمر» في الرواية الأولى لايعني اتّباع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 46

مسلم بن عقيل أسلوب العمل السرّي في الدعوة إلى طاعة الإمام عليه السلام ذلك لأن ظاهر قوله عليه السلام «وادع الناس إلى طاعتي» هو العلانية في العمل. نعم قد يلزم الأمر أن تكون البداية والمنطلق من أهل الثقة والولاء، وهذا ما يشعر به قوله عليه السلام: «فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها».

ويستفاد من هذه الرواية أيضاً أنّ الإمام عليه السلام قد أشعر مسلم بن عقيل عليه السلام أو أخبره بأنّ عاقبة أمره الفوز بالشهادة من خلال قوله عليه السلام: «وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء!» والعلم بأن المصير هو القتل لايمنع من المضيّ في أداء التكليف إذا كان الأمر متعلقاً بإحدى مصالح الإسلام العُليا. ومما

يدلّ على أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام قد علم من قول الإمام عليه السلام أنه متوجّه إلى الشهادة، وأنّ هذا آخر العهد بابن عمّه الإمام الحسين عليه السلام هو أنهما تعانقا وودّع أحدهما الآخر وبكيا جميعاً!

وتقول رواية تأريخية: «فخرج مسلم من مكّة في النصف من شهر رمضان، حتى قدم الكوفة لخمس خلون من شوّال ..» «1».

من هو مسلم بن عقيل عليه السلام ..... ص : 46

إنه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، من أصحاب عليّ والحسنين عليهما السلام، وقد تزوّج رقيّة «2» بنت الإمام عليّ عليه السلام، وكان على ميمنة جند أميرالمؤمنين عليه السلام يوم صفين مع الحسن والحسين عليهما السلام وعبداللَّه بن جعفر «3».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 47

قال الخوئي: «وكيف كان فجلالة مسلم بن عقيل وعظمته فوق ما تحويه عبارة، فقد كان بصفين في ميمنة أميرالمؤمنين عليه السلام ..» «1».

وعليه لا يعقل أن يكون عمره الشريف يوم بعثه الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة 28 سنة على ما قاله المامقاني «2»، لأنّ صفين كانت عام 37 للهجرة، ومعناه أن عمره يوم صفين كان أقل من عشر سنين!!.

هذا وقد أخبر النبي الأكرم صلى الله عليه و آله علياً عليه السلام بأنّ مسلماً عليه السلام سوف يقتل في محبّة الحسين عليه السلام، فقد روى الصدوق قدس سره في أماليه: «قال عليّ عليه السلام لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله: يارسول اللَّه، إنّك لتحبّ عقيلًا؟ قال: إي واللَّه، إني لأحبّه حبين: حباً له، وحبّاً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولده لمقتول في محبّة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلّي عليه الملائكة المقرّبون، ثمّ بكى رسول اللَّه صلى الله عليه و آله حتى جرت دموعه على صدره، ثمّ قال: إلى اللَّه أشكو ما تلقى عترتي من

بعدي». «3»

وكان مسلم عليه السلام مثالًا سامياً في الأخلاق الإسلامية عامة وفي الشجاعة والجرأة والبأس خاصة، وقد شهدت له ملحمته في الكوفة بتلك الأخلاقية السامية عامة وتلك الشجاعة خاصة، حتى قال عدوّه محمد بن الأشعث وهو يصفه لابن زياد: «.. أولم تعلم أيها الأمير أنّك بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كفّ بطل همام من آل خير الأنام ..» «4».

«ونقل عن بعض كتب المناقب: أنّ مسلم بن عقيل كان مثل الأسد، وكان من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 48

قوّته أنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت» «1».

وفي بعض كتب المناقب: أرسل الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة وكان مثل الأسد «2».

ومن مواقفه الكاشفة عن شجاعته الهاشمية الفذّة موقفه أمام معاوية أيّام حكمه وقد طلب منه ردّ المال وأخذ الأرض، حيث قال له مسلم: مه، دون أن أضرب رأسك بالسيف! «3».

هل طلب مسلم الإستعفاء من السفارة؟!: ..... ص : 48
اشارة

روى الطبري في تأريخه، والشيخ المفيد قدس سره في إرشاده أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام بعث إلى الإمام الحسين عليه السلام أثناء طريقه إلى الكوفة يطلب منه أن يعفيه من مهمة السفارة إلى أهل الكوفة، في قصة هي على رواية الطبري كمايلي:

«فأقبل مسلم حتى أتى المدينة، فصّلى في مسجد رسول اللَّه، وودّع من أحبّ من أهله، ثم استأجر دليلين من قيس فأقبلا به، فضلّا الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وقال الدليلان: هذا الطريق حتى تنتهي الى الماء، وقد كادوا أن يموتوا عطشاً (وفي رواية الإرشاد: ومات الدليلان عطشاً)، فكتب مسلم بن عقيل مع قيس بن مسهر الصيداوي الى الحسين وذلك بالمضيق من بطن الخُبيت (وفي رواية الإرشاد: بطن الخبت): أمّا بعدُ، فإنّي أقبلت من المدينة معي دليلان لي فجارا عن الطريق وضلّا،

واشتدّ علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 49

إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يُدعى المضيق من بطن الخبيت، وقد تطيّرتُ من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري، والسلام.

فكتب إليه الحسين:

أمّا بعدُ، فقد خشيت ألّا يكون حملك على الكتاب إليَّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجّهتك له إلا الجبن، فامضِ لوجهك الذي وجهتك له، والسلام عليك.

فقال مسلم لمن قرأ الكتاب (وفي رواية الإرشاد: فلما قرأ مسلم الكتاب قال:) هذا مالستُ أتخوّفه على نفسي ..» «1».

إنّ من يراجع ترجمة حياة مسلم بن عقيل- على اختصارها في الكتب- وله معرفة بالعرف العربي آنذاك عامة وبالشمائل الهاشمية خاصة لايتردد في أنّ هذه القصة مختلقة وأنها من وضع أعداء أهل البيت عليهم السلام لتشويه صورة وسمعة هذا السفير العظيم.

فإنّ مسلماً عليه السلام كان أحد قيادات ميمنة جيش أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، وهو الذي خاطب معاوية وكان آنذاك الطاغية ذا اليد المطلقة في العالم الإسلامي: مه، دون أن أضرب رأسك بالسيف!، وهو الذي ودّع الإمام الحسين عليه السلام وداع فراق لا لقاء بعده إلّا في الجنّة بعد أن عرف أنّه متوجّه إلى الشهادة لا محالة من قول الإمام عليه السلام له: وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 50

تُرى هل تخشى الموت نفس مطمئنّة بالسعادة بعده!؟ وهل تتطيّر من لقاء الموت نفس مشتاقة الى لقاء اللَّه ولقاء رسوله صلى الله عليه و آله والأحبّة الماضين من أهل البيت عليهم السلام!؟ وهل فارقت الطمأنينة نفس مسلم عليه السلام لحظة ما!؟ وهذه سيرته في الكوفة تشهد له بثبات وطمأنينة مستيقن من أمره، لايفوقه في مستوى

ثباته إلّا الإمام المعصوم عليه السلام. وهل يعقل العارف المتأمّل أو يقبل أنّ الإمام الحسين عليه السلام يُرسل في هذه السفارة الخطيرة من يعتوره جبن أو يتطيّر من وجهته لعارضٍ من المألوف أن يصيب كثيراً من المسافرين في تلك الأيام!؟ ثمّ هل من الأدب الحسيني أنّ يخاطب الإمام عليه السلام ابن عمّه مسلماً عليه السلام بهذا النوع من الخطاب ويتهمه بالجبن!؟

يقول السيّد المقرّم قدس سره: ..... ص : 50

«فإنّ المتامّل في صك الولاية الذي كتبه سيد الشهداء لمسلم بن عقيل لايفوته الإذعان بما يحمله من الثبات والطمأنينية ورباطة الجأش، وأنه لايهاب الموت، وهل يعدو بآل أبي طالب إلّا القتل الذي لهم عادة وكرامتهم من اللَّه الشهادة؟ ولو كان مسلم هيّاباً في الحروب لما أقدم سيد الشهداء على تشريفه بالنيابة الخاصة عن التي يلزمها كلّ ذلك.

فتلك الجملة التي جاء بها الرواة، وسجلها ابن جرير للحطّ من مقام ابن عقيل الرفيع متفككة الأطراف واضحة الخلل، كيف وأهل البيت ومن استضاء بأنوار تعاليمهم لايعبأون بالطيرة ولا يقيمون لها وزناً.

وليس العجب من ابن جرير إذا سجّلها ليشوّه بها مقام شهيد الكوفة كما هي عادته في رجالات هذا البيت، ولكنّ العجب كيف خفيت على بعض أهل النظر والتدقيق حتى سجّلها في كتابه، مع أنه لم يزل يلهج بالطعن في أمثالها ويحكم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 51

بأنها من وضع آل الزبير ومن حذا حذوهم» «1».

ويظهر أنّ السيّد المقرّم يرى صحة أصل الحادثة وموت الدليلين وأنّ مسلم ابن عقيل عليه السلام بعث برسالة الى الإمام عليه السلام وأنّ الإمام عليه السلام قد بعث إليه بجواب، ولكن المضمون الذي ينسب فيه التطيّر والجبن الى مسلم بن عقيل عليه السلام هو من الموضوعات المختلقة التي لا صحة لها «2».

غير أنّ الشيخ باقر

شريف القرشي ينكر أصل الرسالة والجواب ويراهما من الموضوعات حيث يقول:

1- «إنّ مضيق الخبت الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام يقع مابين مكّة والمدينة حسب مانصّ عليه الحموي (معجم البلدان 2: 343) في حين أنّ الرواية تنصّ على أنّه استأجر الدليلين من يثرب، وخرجوا إلى العراق فضلّوا عن الطريق وماتا الدليلان، ومن الطبيعي أنّ هذه الحادثة وقعت مابين المدينة والعراق، ولم تقع مابين مكّة والمدينة.

2- إنّه لو كان هناك مكان يُدعى بهذا الإسم يقع مابين يثرب والعراق لم يذكره الحموي فإنّ السفر منه الى مكّة ذهاباً وإياباً يستوعب زماناً يزيد على عشرة أيّام، في حين أنّ سفر مسلم من مكّة الى العراق قد حدّده المؤرّخون فقالوا: إنّه سافر من مكّة في اليوم الخامس عشر من رمضان، وقدم إلى الكوفة في اليوم الخامس من شوّال، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً، وهي أسرع مدّة يقطعها المسافر

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 52

من مكّة الى المدينة (ثم الى الكوفة) «1» ... وإذا استثنينا من هذه المدّة سفر رسول مسلم من ذلك المكان ورجوعه إليه، فإنّ مدّة سفره من مكّة إلى الكوفة تكون أقلّ من عشرة أيّام، ويستحيل عادة قطع تلك المسافة بهذه الفترة من الزمن.

3- إنّ الإمام اتهم مسلماً- في رسالته- بالجبن، وهو يناقض توثيقه له من أنه ثقته وكبير أهل بيته، والمبرّز بالفضل عليهم، ومع اتصافه بهذه الصفات كيف يتّهمه بالجبن!؟

4- إنّ اتهام مسلم بالجبن يتناقض مع سيرته، فقد أبدى هذا البطل العظيم من البسالة والشجاعة النادرة ما يبهر العقول، فإنّه حينما انقلبت عليه جموع أهل الكوفة قابلها وحده من دون أن يعينه أو يقف إلى جنبه أيّ أحد، وقد أشاع في تلك الجيوش المكثفة القتل مما ملأ

قلوبهم ذعراً وخوفاً، ولمّا جي ء به أسيراً الى ابن زياد لم يظهر عليه أيّ ذلٍ أو انكسار، ويقول فيه البلاذري: إنه أشجع بني عقيل وأرجلهم (أنساب الأشراف 2: 836)، بل هو أشجع هاشمي عرفه التأريخ بعد أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

إنّ هذا الحديث من المفتريات الذي وضع للحطّ من قيمة هذا القائد العظيم الذي هو من مفاخر الأمّة العربية والإسلامية»»

.ولذا فنحن نرجّح رأي القرشي على رأي المقرّم في هذه المسألة، ونذهب للذي ذهب إليه في أنّ أصل الرسالة والجواب لا صحة لهما، والشك قويّ في أنّ الحادثة أيضاً لا صحة لها.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 53

مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة ..... ص : 53
اشارة

كان الإمام الحسين عليه السلام قد أوصى مسلم بن عقيل عليه السلام- كما مرَّ بنا- أن يكون نزوله في الكوفة عند أوثق أهلها «فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها» «1»

، ذلك لأن من الطبيعي أن تكون انطلاقة عمله السياسي الثوري في دعوة الناس الى طاعة الإمام عليه السلام وتعبئتهم للقيام معه، وتخذيلهم عن آل أبي سفيان، من منزل يكون صاحبه من أوثق أهل الكوفة في الولاء لأهل البيت عليهم السلام.

قال ابن كثير في تأريخه: «فلمّا دخل الكوفة نزل على رجل يُقال له مسلم بن عوسجة الأسدي «2».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 54

وقيل نزل فى دار المختار بن أبي عبيدالثقفي «1» ..» «2».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 56

وقال الشيخ المفيد قدس سره: ..... ص : 56

«... ثمّ أقبل مسلم حتى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة، وهي التي تدعى اليوم دار مسلم بن المسيّب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام وهم يبكون، وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً. فكتب مسلم الى الحسين عليه السلام يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً، ويأمره بالقدوم ..» «1».

لكنّ مسلم بن عقيل عليه السلام بعد قدوم عبيداللَّه بن زياد الى الكوفة والياً عليها من قبل يزيد، وحصول التطورات السريعة المتلاحقة التي أدّت إلى ضرورة تحوّل عمل مسلم بن عقيل من حالة العلانية إلى السرّ، اضطرّ الى تغيير مقرّه فتحوّلَ الى دار هاني بن عروة «2» زعيم مراد وشيخها وهو شريف من أشراف الكوفة ومن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 60

وجوه الشيعة فيها.

رسالة الإمام عليه السلام الى محمد بن الحنفية ومن قِبله من بني هاشم ..... ص : 60
اشارة

روى ابن عساكر وابن كثير أنّ الإمام عليه السلام بعث الى المدينة (وهو في مكّة) يستقدم إليه من خفّ من بني هاشم، فخفَّ إليه جماعة منهم، وتبعهم إليه محمد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 61

ابن الحنفية، ولكنّ الرواية لم تحدّد من هم أفراد هذه الجماعة الهاشمية «1».

وقال الذهبي: «بعث الحسين عليه السلام الى المدينة، فقدم عليه من خفَّ معه من بني عبدالمطلب، وهم تسعة عشر رجلًا، ونساء ...» «2».

ومفاد ذلك أنّ هؤلاء لم يرافقوا الحسين عليه السلام حين خروجه من المدينة بل التحقوا به بعد الدعوة التي حملتها تلك الرسالة إلى المدينة.

لكنّ المصادر التأريخية الشيعية روت أنّ الإمام الحسين عليه السلام بعث من مكّة إلى أخيه محمد بن الحنفية ومن قبله من بني هاشم في المدينة رسالة موجزة العبارة عظيمة الدلالة هي من روائع رسائله عليه السلام.

ففي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام أنّ

الإمام الحسين عليه السلام كتب هذه الرسالة من مكّة ونصّها:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومن قبله من بني هاشم.

أمّا بعدُ: فإنّ من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح والسلام.» «3»

كما رويت رواية هذه الرسالة بتفاوت يسير عن الإمام الصادق عليه السلام، وظاهرها

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 62

أنّ الإمام الحسين عليه السلام كتبها بعد خروجه من مكّة «1».

معنى محتوى الرسالة: ..... ص : 62

قال المجلسي قدس سره في تعليقة له على هذه الرسالة: «لم يبلغ الفتح أي لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدنيا والتمتّع بها، وظاهر هذا الجواب ذمّه، ويحتمل أن يكون المعنى أنه عليه السلام خيّرهم في ذلك فلا إثمَ على من تخلّف». «2»

فالمجلسي قدس سره فسّر الفتح بالمكاسب والفتوح الدنيوية والتمتّع بها، كما احتمل أن يكون المعنى أنّ الإمام عليه السلام خيّر بني هاشم في مسألة الإلتحاق به فلا إثم على من تخلّف عنه ولم يلتحق به!!

لكنّ القرشيّ فسّره بفتح من نوع آخر لم يكن ولا يكون لغير الإمام أبي عبداللَّه الحسين عليه السلام مدى العصور وإلى قيام الساعة، فقال: «لقد أخبر الأسرة النبوية بأنّ من لحقه منهم سوف يظفر بالشهادة، ومن لم يلحق به فإنه لاينال الفتح، فأي فتح هذا الذي عناه الإمام؟

إنّه الفتح الذي لم يحرزه غيره من قادة العالم وأبطال التأريخ، فقد انتصرت مبادئه وانتصرت قيمه، وتألّقت الدنيا بتضحيته، وأصبح إسمه رمزاً للحق والعدل، وأصبحت شخصيته العظيمة ليست ملكاً لأمّة دون أمّة ولا لطائفة دون أخرى، وإنّما هي ملك للإنسانية الفذّة في كلّ زمان ومكان، فأي فتح أعظم من هذا الفتح، وأي نصرٍ أسمى من هذا النصر؟» «3».

وقد يفسّر هذا الفتح بتفسير آخر، وهو أنّ المراد

بهذا الفتح هو التحولات

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 63

والتغيرات الحاسمة لصالح الإسلام الناشئة عن شهادته عليه السلام في عصره وفي العصور المتعاقبة إلى قيام الطالب بدمه الإمام المهدي عليه السلام الذي يمثل قيامه الفصل الأخير من نهضة جدّه الحسين عليه السلام، والذي يمثّل ظهوره على كلّ الأرض ظهور الدين المحمديّ على الدين كلّه وذلك هو الثمرة الأخيرة لنهضة عاشوراء «1».

ولعلّ المرحوم السيّد المقرّم ذهب إلى بعض أبعاد هذا المعنى بقوله: «كان الحسين عليه السلام يعتقد في نهضته أنه فاتح منصور لما في شهادته من إحياء دين رسول اللَّه، وإماتة البدعة، وتفظيع أعمال المناوئين، وتفهيم الأمّة أنهم أحقّ بالخلافة من غيرهم، وإليه يشير في كتابه الى بني هاشم: من لحق بنا منكم استشهد، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح.

فإنه لم يرد بالفتح إلّا ما يترتّب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال وكسح أشواك الباطل عن صراط الشريعة المطهّرة، وإقامة أركان العدل والتوحيد، وأنّ الواجب على الأمّة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدين عليه السلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيداللَّه لمّا قال له حين رجوعه إلى المدينة: من الغالب!؟ فقال السجّاد عليه السلام:

إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم تعرف الغالب! «2»

فإنه يشير إلى تحقق الغاية التي ضحّى سيد الشهداء نفسه القدسية لأجلها، وفشل يزيد بما سعى له من إطفاء نور اللَّه، وما أراده أبوه من نقض مساعي الرسول صلى الله عليه و آله، وإماتة الشهادة له بالرسالة بعد أن كان الواجب على الأمّة في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 64

الأوقات الخمس الإعلان بالشهادة لنبيّ الإسلام ...» «1».

وقد راجعنا موارد كلمة الفتح في القرآن الكريم فوجدناها إثني عشر هي:

1- «فإن كان لكم فتح من اللَّه قالوا ألم نكن

معكم ...». «2»

2- «فعسى اللَّه أن يأتي بالفتح أو أمرٍ من عنده ...». «3»

3- «إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح). «4»

4- «ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين». «5»

5- «قل يوم الفتح لاينفع الذين كفروا إيمانهم». «6»

6- «إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً». «7»

7- «فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحاً قريباً».»

8- «فعلم مالم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً». «9»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 65

9- «فافتح بيني وبينهم فتحاً ونجني ومن معي من المؤمنين». «1»

10- «لايستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ...». «2»

11- «وأخرى تحبّونها نصر من اللَّه وفتح قريب». «3»

12- «إذا جاء نصر اللَّه والفتح». «4»

ومعنى الفتح في هذه الموارد: إمّا فتح مكّة، أو فتح بلاد المشركين، أو فتح اللَّه لمحمّد صلى الله عليه و آله على جميع خلقه، أو بمعنى نصر محمّد صلى الله عليه و آله، أو النصر بمحمد صلى الله عليه و آله، أو بمعنى القضاء والحكم، أو القضاء بعذاب المشركين في الدنيا، أو الحكم بالثواب والعقاب يوم القيامة «5».

وورد في تفسير القمي في (وأخرى تحبّونها نصر من اللَّه وفتح قريب): يعني في الدنيا بفتح القائم، وأيضاً قال: فتح مكّة «6».

وورد في كتاب تأويل الآيات عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: «قل يوم الفتح لاينفع الذين كفروا إيمانهم ولا هم يُنظرون» «7» أنه قال:

«يوم الفتح يوم تفتح الدنيا على القائم، لا ينفع أحداً تقرّب بالإيمان مالم يكن قبل ذلك مؤمناً وبهذا الفتح موقناً، فذلك الذي ينفعه إيمانه، ويعظم عند اللَّه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 66

قدره وشأنه، وتزخرف له يوم البعث جنانه، وتحجب عنه نيرانه، وهذا أجر الموالين لأمير المؤمنين وذرّيته الطيبين صلوات اللَّه عليهم أجمعين» «1».

والمتأمل يجد أنّ الفتح في رسالة

الإمام الحسين عليه السلام بأيّ معنىً كان من معانيه القرآنية لاينسجم مع ماذهب إليه العلامة المجلسي قدس سره في أنّ المراد به في هذه الرسالة هو ما يُتمنّى من فتوح الدنيا والتمتّع بها!.

رسالة أخرى من الإمام الحسين عليه السلام ..... ص : 66

روى صاحب الفتوح أنّ يزيد بن معاوية كتب من الشام كتاباً إلى أهل المدينة من قريش وبني هاشم، وأرفق مع كتابه أبياتاً من الشعر يخاطب فيها الإمام الحسين عليه السلام أساساً، ويفهم من سياق رواية ابن أعثم الكوفي أنّ الرسالة وصلت إلى المدينة والإمام عليه السلام في مكّة، كما يقوّي هذا الظن قول ابن أعثم بعد ذكره الأبيات الشعرية: «فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات ثم وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين ابن عليّ عليهما السلام».

والأبيات هي:

«ياأيها الراكب الغادي لطيّته على عذافرة في سيره «2»

قحمُ

أبلغ قريشاً على نأي المزار بها بيني وبين الحسين اللَّهُ والرحمُ

وموقف بفناء البيت ينشده عهد الإله وما توفي به الذممُ

غنيتم قومكم فخراً بأمِّكمُ أمٌّ لعمري حصان برّة كرمُ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 67

هي التي لايُداني فضلها أحدٌ بنت الرسول وخير الناس قد علموا

وفضلها لكم فضلٌ وغيركم من يومكم لهم في فضلها قسمُ

إني لأعلم حقاً غير ما كذبٍ والطرف يصدقُ أحياناً ويقتصمُ

أن سوف يُدرككم ما تدّعون بها قتلى تهاداكم العُقبان والرخمُ

ياقومنا لاتشبّوا الحرب إذ سكنتْ تمسّكوا بحبال الخير واعتصموا

قد غرّت الحرب من قد كان قبلكم من القرون وقد بادت بها الأممُ

فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً فرُبّ ذي بذخ زلّت به قدم» «1»

وتقول الرواية أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا نظر في الكتاب علم أنه كتاب يزيد ابن معاوية، فكتب عليه السلام الجواب:

«بسم اللَّه الرحمن الرحيم «وإنْ كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون ممّا أعمل وأنا بري ء مما تعملون» «2».

والسّلام» «3».

ومن ظاهر هذه الرواية لايمكن القطع بأنّ الإمام كتب الجواب ليزيد أو أرسله إليه وإن كان المخاطَب فيها هو يزيد، إذ قد يكون الإمام عليه السلام بعث بالجواب إلى أهل المدينة الذين وجّهوا بالكتاب وبالأبيات إليه، ثم هم بعد ذلك يوصلونه أو ينقلون محتوى الجواب إلى يزيد.

ولم تذكر هذه الرواية من هم أهل المدينة من قريش وبني هاشم الذين أرسل إليهم يزيد الكتاب، لكن ابن عساكر قال: كتبه يزيد إلى عبداللَّه بن العباس، وذكر

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 68

الأبيات الشعرية بتفاوت «1».

والمتأمّل في أبيات يزيد وفي جواب الإمام عليه السلام يرى سنن اللَّه تكرر نفسها في المواجهات بين الربانيين والطواغيت، فهذا يزيد بمنطق الطاغوت في أبياته يهدّد الإمام عليه السلام بالإضطهاد والقتل في الدنيا! وذلك قصارى ما يستطيعه الطغاة.

أمّا الإمام عليه السلام فبمنطق الرَّبانيّين فيصرّح بانفصام الآصرة بين عمل المهتدين وعمل الضالين وبالبراءة بينهم، تصريحاً يستبطن التهديد بالجزاء الأخروي وبعذاب اللَّه الذي لافتور فيه ولا انقطاع.

وفي متن الجواب ازدراء كامل بيزيد إذ لم يذكر الإمام عليه السلام اسمه ولم يلقّبه بلقب، ولم يسلّم عليه، مما يُفهم منه أنّ يزيد لعنه اللَّه مصداق تام للمكذّب بالدين وبالرسل والأوصياء عليهم السلام.

إرساله عليه السلام قيس بن مسهّر إلى الكوفة مرّة ثانية ..... ص : 68
اشارة

يظهر من النصوص التأريخية أنّ الإمام الحسين عليه السلام بعث قيس بن مسهّر الصيداوي إلى الكوفة مرّتين، إذ كان قد بعثه في المرّة الأولى مع مسلم بن عقيل عليه السلام فدخل الكوفة «2»، ثم بعثه مسلم عليه السلام سفيراً عنه إلى الإمام الحسين عليه السلام، ثم بعثه الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة مرّة ثانية ليستعلم خبر مسلم بن عقيل عليه السلام، فاعتقل في الطريق وجرى عليه ماجرى.

ففي التذكرة: «ثم دعا مسلم بن عقيل فبعثه مع

قيس بن مسهّر الصيداوي ...» «3».

وفيها أيضاً: «كان الحسين عليه السلام قد بعث قيس بن مسهّر إلى مسلم بن عقيل ليستعلم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 69

خبره قبل أن يصل إليه، فأخذه ابن زياد وقال له: قم في الناس واشتم الكذّاب ابن الكذّاب، يعني الحسين عليه السلام!

فقام على المنبر وقال: أيّها الناس، إنّي تركت الحسين بالحاجز، وأنا رسوله إليكم لتنصروه، فلعن اللَّه الكذّاب بن الكذّاب ابن زياد.

فطرح من القصر فمات» «1».

من هو قيس بن مسهّر الصيداوي؟ ..... ص : 69

لم نعثر على ترجمة وافية لهذا البطل الفذّ رغم التتبع والإستقصاء! فجميع من ترجموا له اكتفوا بأنه حمل كتاباً من أهل الكوفة إلى الإمام الحسين عليه السلام، وأنه رجع مع مسلم إلى الكوفة، ثمّ إنّه حمل كتاباً من مسلم إلى الإمام عليهما السلام في الطريق إلى الكوفة، ثم إنه حمل كتاباً من الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة، وتعرّض أثناء الطريق إليها إلى الإعتقال في القادسية، ثمّ كان منه ذلك الموقف الصلب الذي عبّر عن شجاعته وولائه وعظمته.

إنّه: «قيس بن مُسَهَّر بن خالد بن جندب ... الأسديّ الصيداوي، وصيدا بطن من أسد. كان قيس رجلًا شريفاً في بني الصيدا شجاعاً مخلصاً في محبّة أهل البيت عليهم السلام.

قال أبو مخنف: اجتمعت الشيعة بعد موت معاوية في منزل سليمان بن صرد الخزاعي، فكتبوا للحسين بن على عليهما السلام كتباً يدعونه فيها للبيعة، وسرّحوها إليه مع عبداللَّه بن سبع وعبداللَّه بن وال، ثم لبثوا يومين فكتبوا إليه مع قيس بن مسهّر الصيداوي وعبدالرحمن بن عبداللَّه الأرحبي، ثم لبثوا يومين فكتبوا إليه مع سعيد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 70

بن عبداللَّه وهاني بن هاني ...

فدعا الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل وأرسله إلى الكوفة، وأرسل معه قيس بن مسهّر وعبدالرحمن الأرحبي، فلما

وصلوا إلى المضيق من بطن خبت كما قدّمنا جار دليلاهم فضلّوا وعطشوا، ثم سقطوا على الأرض، فبعث مسلم قيساً بكتاب إلى الحسين عليه السلام يخبره بما كان، فلمّا وصل قيس إلى الحسين بالكتاب أعاد الجواب لمسلم مع قيس وسار معه إلى الكوفة «1». قال: ولمّا رأى مسلم اجتماع الناس على البيعة في الكوفة للحسين كتب إلى الحسين عليه السلام بذلك، وسرّح الكتاب مع قيس وأصحبه عابس الشاكري وشوذباً مولاهم، فأتوه إلى مكّة ولازموه، ثمّ جاءوا معه.

قال أبو مخنف: ثمّ إنّ الحسين لما وصل إلى الحاجر من بطن الرمّة كتب كتاباً إلى مسلم وإلى الشيعة بالكوفة وبعثه مع قيس، فقبض عليه الحصين بن تميم، وكان ذلك بعد قتل مسلم، وكان عبيداللَّه نظّم الخيل ما بين خفّان إلى القادسيّة وإلى القطقطانة «2» والى لعلع «3» وجعل عليها الحصين، وكانت صورة الكتاب:

«من الحسين بن علي إلى إخوانه من المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم. فإني أحمد إليكم اللَّه الذي لا إله إلّا هو. أمّا بعدُ: فإنّ كتاب مسلم جاءني يخبرني

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 71

فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقّنا، فسألت اللَّه أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أحسن الأجر، وقد شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم رسولي عليكم فانكمشوا في أمركم وجدّوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء اللَّه، والسلام عليكم ورحمة اللَّه وبركاته».

قال: فلمّا قبض الحصين على قيس بعث به إلى عبيداللَّه، فسأله عبيداللَّه عن الكتاب، فقال: خرقته.

قال: ولمَ!؟

قال: لئلا تعلم مافيه.

قال: إلى من؟

قال: إلى قوم لا أعرف أسماءهم.

قال: إنْ لم تخبرني فاصعد المنبر وسبّ الكذّاب بن الكذّاب يعني به الحسين عليه السلام.

فصعد

المنبر فقال:

أيّها الناس، إنّ الحسين بن عليّ خير خلق اللَّه، وابن فاطمة بنت رسول اللَّه، وأنا رسوله إليكم، وقد فارقته بالحاجر، فأجيبوه.

ثمّ لعن عبيداللَّه بن زياد وأباه، وصلّى على أميرالمؤمنين، فأمر به ابن زياد، فأُصعد القصر، ورمي به من أعلاه، فتقطّع ومات.

وقال الطبري: لمّا بلغ الحسين عليه السلام إلى عذيب الهجانات في ممانعة الحرّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 72

جاءه أربعة نفر ومعهم دليلهم الطرمّاح «1» بن عديّ الطّائي، وهم يجنبون فرس نافع المرادي، فسألهم الحسين عليه السلام عن الناس وعن رسوله، فأجابوه عن الناس، وقالوا له: رسولك من هو؟

قال: قيس!

فقال مجمع العائذي:

أخذه الحصين فبعث به إلى ابن زياد، فأمره أن يلعنك وأباك، فصلّى عليك وعلى أبيك، ولعن ابن زياد وأباه، ودعانا إلى نصرتك، وأخبرنا بقدومك، فأمر به ابن زياد فأُلقي من طمار القصر، فمات رضي اللَّه عنه.

فترقرقت عينا الحسين عليه السلام وقال:

فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، اللّهمَّ اجعل لنا ولهم الجنّة منزلًا، واجمع بيننا وبينهم في مستقرّ رحمتك ورغائب مذخور ثوابك» «2».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 73

فهو رضوان اللَّه تعالى عليه من شهداء الثورة الحسينيّة في الكوفة وليس من شهداء الطف، لكنّه شريكهم في الأجر والشرف، ولذا خُصَّ بالسلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة والرجبية «1».

وليس صحيحاً ما ورد في المناقب أنّه كان حاملًا رسالة الإمام الحسين عليه السلام من كربلاء إلى سليمان بن صرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد وعبداللَّه بن وال وآخرين، وذلك لأنّ قيساً قتل قبل ورود الإمام عليه السلام كربلاء «2».

نعم، لقد كان قيس بن مسهّر رضوان اللَّه تعالى عليه رسولًا أساسياً بين مكّة والكوفة أو على وجه الدقّة بين الإمام الحسين ومسلم عليهما السلام، فقد بعثه الإمام عليه السلام

مع مسلم في النصف من شهر رمضان، وعلى فرض صحة أصل وقوع حادثة المضيق من بطن الخبت فقد أرسله مسلم إلى الإمام عليه السلام، ثم حمل جواب الإمام عليه السلام إلى مسلم. ثم «لمّا رأى مسلم اجتماع الناس على البيعة في الكوفة للحسين كتب إلى الحسين عليه السلام بذلك، وسرّح الكتاب مع قيس وأصحبه عابساً الشاكري وشوذباً مولاهم، فأتوه إلى مكّة ولازموه، ثمّ جاؤوا معه» «3»، ثم بعثه الإمام عليه السلام من بطن الرمّة في الثامن من ذي الحجّة أو بعده.

رسالة مسلم بن عقيل إلى الإمام عليه السلام ..... ص : 73

روى الطبري أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام كان قد كتب إلى الإمام عليه السلام من الكوفة قبل أن يُقتَل لسبع وعشرين ليلة:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 74

«أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله، إنّ جمعَ أهل الكوفة معك، فأقبل حين تقرأ كتابي، والسلام عليك» «1».

وفي رواية ابن نما:

«أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لا يكذب أهله، وإنّ جميع أهل الكوفة معك، وقد بايعني منهم ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين تقرأ كتابي، والسلام عليك ورحمة اللَّه وبركاتُه» «2».

وفي رواية الدينوري:

«... فأقدم، فإنّ جميع الناس معك، ولا رأي لهم في آل أبي سفيان» «3».

وتقول الرواية التأريخية أنّ قيس بن مسهّر الصيداوي حمل هذه الرسالة الى الإمام عليه السلام في مكّة، وأصحبه مسلم عابسَ الشاكري وشوذباً مولاه «4».

وقد كان الإمام الحسين عليه السلام قد علّق عزمه في التوجّه الى الكوفة على تقرير مسلم عن حال أهل الكوفة، وقد صرّح عليه السلام لأهل الكوفة في رسالته الأولى إليهم بذلك حيث قال:

«... فإن كتب إليَّ أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فإني أقدم إليكم وشيكاً إن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 75

شاء

اللَّه ...». «1»

وعلى ضوء رسالة مسلم عليه السلام عقد الإمام الحسين عليه السلام عزمه على التوجّه إلى الكوفة، وكتب رسالته الثانية إلى أهلها «2» في الحاجر من بطن الرمّة «3»، وحملها قيس ابن مسهّر إلى الكوفة، لكنه قبض عليه أثناء هذه السفارة في الطريق، فمزّق الرسالة كي لا تقع في أيدي الأعداء.

خُطَبُ الإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة ..... ص : 75
اشارة

من المؤسف أنّ التأريخ لم يسجّل لنا طيلة مكث الإمام عليه السلام في مكّة المكرمة إلا خطبته المشهورة التي ورد فيها قوله عليه السلام خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة، وهي الخطبة التي خطبها قبل خروجه من مكّة، وخطبة أخرى قصيرة تضمّنت باقة من قصار الحكم!!

ويصعب على المتأمل أن يقتنع بأنّ الإمام عليه السلام طيلة ما يقارب مائة وخمسة وعشرين يوماً في مكّة وفي أيّام موسم الحجّ آنذاك لم يخطب في محافل مكّة إلّا هاتين الخطبتين، مع ما حدّثنا به التأريخ أنّ الناس كانوا يجتمعون إليه ويلتفون حوله، ويأخذون عنه، ويضبطون ما يسمعونه منه!

فهل يُعقل أنّ الإمام عليه السلام لم يستثمر تلك الأجواء الدينية القدسية في بيت اللَّه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 76

الحرام للتبليغ بالحقّ والتعريف به وبنهضته المقدّسة!؟

إنها ثغرة من ثغرات التأريخ المبهمة، وعثرة من عثراته المؤلمة!

الخطبة الأولى ..... ص : 76
اشارة

قال المحقّق المتتبع الشيخ السماوي قدس سره: «ولمّا جاء كتاب مسلم الى الحسين عزم على الخروج، فجمع أصحابه في الليلة الثامنة من ذي الحجّة فخطبهم ..» «1».

غير أنّ السيد ابن طاووس قدس سره لم يذكر أنه خطبها في أصحابه، بل قال: «ورُوي أنه عليه السلام لمّا عزم على الخروج الى العراق قام خطيباً ...» «2».

وقال ابن نما قدس سره: «ثم قام خطيباً ...» «3».

وقد يستفاد من نص ابن طاووس وابن نما أنّ الإمام عليه السلام خطب هذه الخطبة في الناس في مكة لا في خصوص أصحابه.

والخطبة هي:

«الحمد للَّه، ما شاء اللَّه، ولا قوّة إلّا باللَّه، وصلى اللَّه على رسوله، خُطّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف، وخِيرَ لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي

تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلا فيملأن منّي أكرُشاً جوفاً وأجربة سغباً، لا محيص عن يوم خُطَّ بالقلم، رضى اللَّه رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجر الصابرين، لن تشذّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرُّبهم عينه، وينجز بهم وعده، من كان باذلًا فينا مهجته

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 77

وموطّناً على لقاء اللَّه نفسه فليرحل معنا فإنني راحل مصبحاً إن شاء اللَّه تعالى» «1».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 78

ملاحظات مستفادة من هذه الخطبة الشريفة: ..... ص : 78

1- شبّه الإمام عليه السلام حتمية عدم انفلات الإنسان من طوق قهرية الموت بعدم انفلات عنق الفتاة من طوق القلاد المحكم، وتشبيه الموت بالقلادة على جيد الفتاة وهي زينة لها إلفاتة رائعة إلى أنّ الموت خطوة تكاملية في مسار حركة الإنسان التكوينية، وهو زينة للمؤمن خاصة في مسار حركة المصير لكونه معبراً للمؤمن من دار العناء والتزاحم والإبتلاء والشدائد الى دار النعيم والجزاء الأوفى والسعادة الأبدية، ولاشك أنّ الشهادة وهي أفضل وأشرف الموت أحرى بحقيقة الزينة من مطلق الموت، ولا يؤتاها إلا ذو حظّ عظيم.

2- في قوله عليه السلام: «خِيرَ لي مصرع أنا لاقيه» إشارة إلى أنّ هذا المصرع اختيار إلهي لا على نحو القهر والجبر طبعاً، بل على نحو التشريف بكرامة التكليف في الظروف الصعبة الخاصة المؤدية إلى أنْ يتحرّك الإمام عليه السلام نحو هذا المصرع تعبّداً وامتثالًا لأمر اللَّه تعالى في آداء هذا التكليف في مثل تلك الظروف.

كما أنّ في قوله هذا إشارة إلى علمه بمصيره ومآل أمره.

3- في قوله عليه السلام: «لامحيص عن يوم خُطّ بالقلم» إشارة جليّة إلى حتمية وقوع هذا المصرع، وتحقّق ذلك المصير قضاء من اللَّه تعالى، لا على نحو القهر

والجبر كذلك، بل على نحو أنّ حركة الأحداث في علم اللَّه تبارك وتعالى ستؤول في النهاية بمشيئة اللَّه تعالى إلى تحقّق هذا المصرع وبالكيفية التي وقع بها.

4- في هذه الخطبة ركّز الإمام عليه السلام على أن مصيره في التوجه إلى العراق هو القتل، واشار إلى بشاعة القتلة بأنّ أوصاله تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 79

وكربلاء، ولعلّ في قوله عليه السلام بين النواويس وكربلاء إشارة إلى امتداد الجيش الأموي وكثافته الشديدة على امتداد مابين هاتين المنطقتين ..

وشرط على من يلتحق به أن يكون باذلًا في موالاة أهل البيت عليهم السلام مهجته، وموطّناً على لقاء اللَّه نفسه، أي لا مصير إلّا القتل والصبر على السيوف والأسنّة!

فماذا اراد الإمام عليه السلام من وراء ذلك .. ولماذا!؟

إنّ القائد الرباني في حركته نحو تحقيق أهدافه يسعى كغيره من القادة إلى تهيأة العدّة والعدد ويتوسّل الى ذلك بالأسباب الظاهرة المألوفة، ولكنه يختلف عن القادة الساعين الى تحقيق النصر الظاهري فقط في انّه لا يبتغي الأعوان كيفما كانوا، بل القائد الربّاني يبتغي أعواناً ربّانين من نوعه، هدفهم الأساس في كلّ ما هم ساعون إليه مرضاة الربّ تبارك وتعالى، أعواناً هادين مهديين، مصرّين على المضيّ في طريق ذات الشوكة مع علمهم بمصيرهم، ومن أولئك تتشكّل العدّة الحقيقية للقائد الربّاني التي يرسم بحسبها خطّة الفعل ونوع المواجهة، فهو لا يعتمد في رسم خطط ونوع المواجهة على كلّ من التحق به، وكثير منهم الطامعون وأهل الريبة والعصيان، فلابد من تمحيصهم، ولابدّ من تنقية الركب الحسينيّ من كلّ أولئك قبل الوصول الى ساحة المواجهة، ولذا كان لابدّ من أن يختبر حقيقة النيّات والعزائم بالإعلام والتأكيد على أنّ المصير هو القتل والصبر على السيوف

والأسنة، وأنّ ذلك لا يقوى عليه إلّا باذل في حقيقة الموالاة مهجته، موطّن على لقاء اللَّه نفسه!!

وهذا الإختبار من سنن منهج القيادة الربانيّة، وقد حدّثنا القرآن الحكيم عن هذه السنّة في اختبار النهر على يد طالوت عليه السلام:

«فلمّا فصل طالوت بالجنود قال إنّ اللَّه مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 80

مني، ومن لم يطعمه فإنه مني، إلّا من اغترف غرفة بيده، فشربوا منه إلّا قليلًا منهم، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده، قال الذين يظنّون أنهم ملاقوا اللَّه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللَّه واللَّه مع الصابرين» «1».

يُضاف الى ذلك أنّ القائد الربّاني حينما يُطلع أنصاره على ما سوف يلقى ويلقونه من مصير وما سوف يواجهونه من شدائد ومكاره يكون بذلك قد فتح لهم باب علّو الدرجة وسمّو المنزلة والمثوبة العليا عند اللَّه تبارك وتعالى في حال إصرارهم على المضيّ على طريق الجهاد في سبيل اللَّه.

والمتأمل في تفاصيل حركة الإمام الحسين عليه السلام يرى أنّ الإمام عليه السلام كان قد دأب على الإخبار بمصرعه منذ أن كان في المدينة، وفي الطريق الى مكة، وفي مكّة، وفي منازل الطريق منها الى العراق، مغربلًا بذلك الركب الحسيني من جميع من أرادوا الدنيا من وراء الإلتحاق به، ولم يكتف بذلك بل عرّض حتى الصفوة الخالصة من أنصاره لهذا الاختبار، لتعلو بثباتهم درجاتهم الرفيعة عند اللَّه تبارك وتعالى، وهكذا كان، حتى رأوا منازلهم في الجنّة عياناً تلكم العشيّة، ثمّ في الغد الرهيب نراه عليه السلام قد رسم خطّته الحربية على أساس قوّته الحقيقية المؤلّفة من تلكم الصفوة القليلة الخالصة من كل شائبة!

5- في قوله عليه السلام:

«لن تشذّ عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله لُحمته، وهي مجموعة له في حظيرة القدس، تقرّ بهم عينه، وينجز بهم وعده ...» إشارة إلى أنّ مسار أهل البيت عليهم السلام امتداد لمسار رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، وهم معه في درجته ومنزلته، وتقرّ عين الرسول صلى الله عليه و آله بما

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 81

جعل اللَّه لهم وخصّهم به من كرامة الدنيا والآخرة «1». ولعل في قوله عليه السلام «وينجز بهم وعده» إشارة إلى أنّ الوعد الإلهي بإظهار دين اللَّه على الدين كلّه على كلّ الأرض سيتحقق في النهاية على يد رجل من أبناء رسول اللَّه صلى الله عليه و آله ومن أبناء الحسين عليه السلام هو الإمام المهدي المنتظر عليه السلام «2».

الخطبة الثانية ..... ص : 81

إنّ التأمّل في محتوى الخطبة الثانية وعدم ارتباط مضامينها بمضامين الخطبة الأولى يقوّي الظنّ في أنّ مناسبة الخطبة الثانية بعيدة عن مناسبة الخطبة الأولى زماناً ومكاناً، غير أن الحائري صاحب كتاب معالي السبطين أورد الخطبة الأولى نقلًا عن اللهوف لابن طاووس، ثمّ قال بعدها: «وخطب بعدها هذه الخطبة ...» وأورد الخطبة الثانية، علماً بأنّ اللهوف لم يحتو لا على هذه الإشارة ولا على الخطبة الثانية نفسها! واللَّه العالم عن أيّ مصدر أخذ صاحب معالي السبطين هذه الخطبة وتلكم الإشارة.

ونحن نورد هذه الخطبة هنا بعد الخطبة الأولى، لأنّ هذا الفصل يختصّ بكلّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 82

ما يرتبط بحركة الإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة، ولأنّ من المحتمل أن يكون الإمام عليه السلام قد اشار عقيب الخطبة الأولى بالإشارات الأخلاقية التي تضمنتها مقاطع الحكم القصار التي احتوتها الخطبة الثانية.

والخطبة الثانية هي:

«إنّ الحلم زينة، والوفاء مروّة، والصلة نعمة، والإستكبار صلف، والعجلة

سفه، والسفه ضعف، والغلوّ ورطة، ومجالسة أهل الدناءة شرّ، ومجالسة أهل الفسق ريبة» «1».

يوم الخروج من مكّة المكرّمة ..... ص : 82

روى الشيخ المفيد قدس سره، وكذلك الطبري روى عن أبي مخنف أنّ يوم خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة متجهاً الى العراق كان يوم الثامن من ذي الحجّة: «ثمّ خرج منها لثمان مضين من ذي الحجّة، يوم الثلاثاء، يوم التروية، في اليوم الذي خرج فيه مسلم بن عقيل» «2»، وهذا هو المشهور.

لكنّ المزّي وابن عساكر ذكرا أنّ خروجه عليه السلام من مكّة كان في يوم الإثنين في العاشر من ذي الحجّة سنة ستين: «فخرج متوجهاً إلى العراق في أهل بيته وستين شيخاً من أهل الكوفة، وذلك يوم الإثنين في عشر من ذي الحجّة سنة ستين» «3».

لكنّ السيّد ابن طاووس قدس سره قال: «كان قد توجّه الحسين عليه السلام من مكّة يوم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 83

الثلاثاء لثلاث مضين من ذي الحجّة» «1».

وأمّا سبط ابن الجوزي فقد قال في تذكرة الخواص: «وأمّا الحسين عليه السلام فإنه خرج من مكّة سابع ذي الحجّة سنة ستين ...» «2».

ولا يخفى أنّ المشهور هو الصحيح والقول الفصل لأنه ورد عن لسان الإمام عليه السلام نفسه في رسالته الثانية إلى أهل الكوفة، حيث قال فيها:

«... وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ...» «3».

وروى ابن كثير في تاريخه عن الزبير بن بكّار عن محمد بن الضحاك أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا أراد الخروج من مكّة الى الكوفة مرّ بباب المسجد الحرام وقال:

لا ذعرتُ السوام في فلق الصبح مغيراً ولا دُعيت يزيدا

يوم أُعطي مخافة الموت ضيماً والمنايا يرصدنني أن أحيدا» «4»

لماذا أصرَّ الإمام عليه السلام على مغادرة مكّة أيّام الحج؟ ..... ص : 83
اشارة

في حركة أحداث النهضة الحسينية هناك مجموعة من الوقائع ملفتة للإنتباه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 85

ومثيرة للإستغراب وداعية إلى التساؤل عن العلّة من ورائها،

ومن أبرز هذه الوقائع خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة في يوم التروية، وللمؤرّخين والمحققين والفقهاء تعاليق وآراء في صدد هذه الواقعة نورد منها هنا ثلاثة أقوال، أحدها للعلّامة المجلسيّ (ره) والثاني للشيخ التستري (ره) والثالث للسيّد المرتضى (ره)، ولنا بينها رأي وإيضاح:

تعليقة العلّامة المجلسى قدس سره ..... ص : 85

قال العلامة المجلسى فى بحار الأنوار: «قد مضى في كتاب الإمامة وكتاب الفتن أخبار كثيرة دالّة على أنّ كلًاّ منهم عليهم السلام كان مأموراً بأمور خاصة مكتوبة فى الصحف السماوية النازلة على الرسول صلى الله عليه و آله فهم كانوا يعملون بها. ولاينبغي قياس الأحكام المتعلّقة بهم على أحكامنا، وبعد الاطّلاع على أحوال الانبياء عليهم السلام، وانّ كثيراً منهم كانوا يبعثون فرادى على ألوف من الكفرة، .....

ويدعونهم الى دينهم، ولايبالون بماينالهم من المكاره والضرب والحبس والقتل والإلقاء في النار وغير ذلك.

لاينبغي الاعتراض على أئمّة الدين فى أمثال ذلك، مع أنه مع ثبوت عصمتهم بالبراهين والنصوص المتواترة لا مجال للإعتراض عليهم، بل يجب التسليم لهم فى كلّ ما يصدر عنهم.

على أنّك لو تأملت حقّ التأمّل علمت أنه عليه السلام فدى نفسه المقدسّة دين جده، ولم يتزلزل أركان دولة بني أميّة إلّا بعد شهادته، ولم يظهر للناس كفرهم وضلالتهم إلّا عند فوزه بسعادته. ولوكان عليه السلام يسالمهم ويوادعهم كان يقوى سلطانهم، ويشتبه على الناس أمرهم، فتعود بعد حين أعلام الدين طامسة، وآثار الهداية مندرسة، مع أنه قد ظهر لك من الاخبار السابقة أنه عليه السلام هرب من المدينة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 86

خوفاً من القتل الى مكّة، وكذا خرج من مكّة بعدما غلب على ظنّة أنهم يريدون غيلته وقتله، حتّى لم يتيسّر له- فداه نفسي وأبي وأمي وولدي- أن يتمّ حجّه، «1» فتحلّل وخرج

منها خائفاً يترقّب، وقد كانوا لعنهم اللَّه ضيّقوا عليه جميع الأقطار، ولم يتركوا له موضعاً للفرار.

ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولّاه أمر الموسم، وأمّره على الحاجّ كلهم، وكان قد أوصاه بقبض الحسين عليه السلام سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة، ثمّ إنه دسَّ مع الحاجّ في تلك السنة ثلاثين رجلًا من شياطين بني أميّة، وأمرهم بقتل الحسين عليه السلام على أي حال اتفق، فلمّا علم الحسين عليه السلام بذلك حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة. «2»

وقد روي بأسانيد أنّه لمّا منعه عليه السلام محمد بن الحنفية عن الخروج الى الكوفة قال:

واللَّه ياأخي لو كنت في حُجر هامة من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه حتى يقتلوني! «3»

بل الظاهر أنّه صلوات اللَّه عليه لو كان يسالمهم ويبايعهم لايتركونه لشدّة عداوتهم وكثرة وقاحتهم، بل كانوا يغتالونه بكلّ حيلة، ويدفعونه بكلّ وسيلة، وإنّما كانوا يعرضون البيعة عليه أوّلًا لعلمهم بأنّه لا يوافقهم في ذلك، ألا ترى إلى مروان لعنه اللَّه كيف كان يشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه، وكان عبيداللَّه بن زياد عليه لعائن اللَّه إلى يوم التنادِ يقول: إعرضوا عليه فلينزل على

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 87

أمرنا ثمّ نرى فيه رأينا، ألا ترى كيف أمّنوا مسلماً ثم قتلوه!!

فأمّا معاوية لعنه اللَّه فإنه مع شدّة عداوته وبغضه لأهل البيت عليهم السلام كان ذا دهاء ونكراء وحزم، وكان يعلم أنّ قتلهم علانية يوجب رجوع الناس عنه وذهاب ملكه وخروج الناس عليه، فكان يداريهم ظاهراً على أيّ حال، ولذا صالحه الحسن عليه السلام ولم يتعرّض له الحسين، ولذلك كان يوصي ولده اللعين بعدم التعرّض للحسين عليه

السلام لأنه كان يعلم أنّ ذلك يصير سبباً لذهاب دولته ...» «1».

تعليل الشيخ جعفر التستري قدس سره ..... ص : 87
اشارة

وللشيخ التستري كلام عميق في تفسير سرّ إصدار الإمام الحسين عليه السلام على مغادرة مكّة أيّام الحجّ والخروج الى العراق، يقول قدس سره:

«كان للحسين عليه السلام تكليفان واقعي وظاهري:

أمّا الواقعيّ ..... ص : 87

الذي دعاه للإقدام على الموت، وتعريض عياله للأسر وأطفاله للذبح مع علمه بذلك، فالوجه فيه أنّ عتاة بني أميّة قد اعتقدوا أنهم على الحق وأنّ علياً وأولاده وشيعتهم على الباطل «2» حتى جعلوا سبّه من أجزاء صلاة الجمعة، وبلغ الحال ببعضهم أنّه نسي اللعن في خطبة الجمعة فذكره وهو في السفر فقضاه! وبنوا مسجداً سمّوه «مسجد الذكر»، فلو بايع الحسين عليه السلام يزيد وسلّم الأمر إليه لم يبق من الحقّ أثر، فإنّ كثيراً من الناس يعتقد بأنّ المحالفة لبني أميّة دليل استصواب رأيهم وحسن سيرتهم، وأمّا بعد محاربة الحسين عليه السلام لهم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 88

وتعريض نفسه المقدّسة وعياله وأطفاله للفوادح التي جرت عليهم فقد تبين لأهل زمانه والأجيال المتعاقبة أحقيّته بالأمر وضلال من بغى عليه.

وأمّا التكليف الظاهري ..... ص : 88

فلأنه عليه السلام سعى في حفظ نفسه وعياله بكلّ وجه فلم يتيسّر له، وقد ضيّقوا عليه الأقطار حتى كتب يزيد إلى عامله على المدينة أن يقتله فيها، فخرج منها خائفاً يترقّب، فلاذ بحرم اللَّه الذي هو أمن الخائف وكهف المستجير، فجدّوا في إلقاء القبض عليه أو قتله غيلة ولو وجد متعلّقاً بأستار الكعبة، فالتزم بأن يجعل إحرامه عمرة مفردة وترك التمتع بالحجّ، فتوجّه إلى الكوفة لأنهم كاتبوه وبايعوه وأكّدوا المصير إليهم لإنقاذهم من شرور الأمويين، فألزمه التكليف بحسب الظاهر الى موافقتهم إتماماً للحجّة عليهم لئلا يعتذروا يوم الحساب بأنّهم لجأوا إليه واستغاثوا به من ظلم الجائرين فاتهمهم بالشقاق ولم يُغثهم، مع أنه لو لم يرجع إليهم فإلى أين يتوجّه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وهو معنى قوله لابن الحنفية: لو دخلتُ في حجر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقتلوني!» «1».

تمام الحق في القول ... ..... ص : 88

وأقول: لاشك في دقّة جلّ المضامين التي طرحها الشيخ التستري أعلى اللَّه مقامه، خصوصاً في الإلفات إلى أنّ للإمام عليه السلام تكليفين أحدهما ظاهري وآخر واقعي هما في طول بعضهما ولا تنافي بينهما، وقد أجاد قدس سره في تفصيل هذه الإلتفاتة التي هي من جديد ما قدّمه الشيخ التستري في وقته، لكنّ لنا تحفّظاً على قوله قدس سره: «مع أنه لو لم يرجع إليهم- أي إلى أهل الكوفة- فإلى أين يتوجّه وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت ...» ذلك لأنّ هناك أكثر من رواية تأريخية تفيد أنه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 89

كان بإمكانه عليه السلام أن يتوجّه إلى اليمن مثلًا ومناطق أخرى غيرها، فهذا محمّد بن الحنفيه يقول له:

«تخرج إلى مكة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن،

فإنهم أنصار جدّك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمأنت بك الدار وإلا بالرمال وشعوب الجبال، وجزت من بلد الى بلد، حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم اللَّه بيننا وبين القوم الفاسقين» «1».

وهذا الطرمّاح يقول له:

«فإن أردت أن تنزل بلداً يمنعك اللَّه به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى أنزلك مناع جبلنا الذي يُدعى (أجأ)، فأسير معك حتى أُنزلك (القُرَيّة)». «2»

وفي نصّ آخر:

«فإن كنت مجمعاً على الحرب فانزل (أجأ) فإنه جبل منيع، واللَّه ما نالنا فيه ذلٌ قطّ، وعشيرتي يرون جميعاً نصرك، فهم يمنعونك ما أقمت فيهم». «3»

إذن فالحقّ في هذه النقطة ليس كما ذهب إليه الشيخ التستري قدس سره في أنه عليه السلام لم يكن له ملجأ يتوجّه إليه من مكّة إلا الكوفة.

ولعلّ الصواب في هذه المسألة إضافة إلى ما تفضّل به العلامة المجلسي قدس سره

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 90

والشيخ التستري قدس سره هو: أنّ الإمام عليه السلام أراد أن (ينجو) من أن يُقتل في المدينة أو في مكّة خاصة، قتلة يُقضى بها على ثورته في مهدها، وتهتك بها حرمة البيت:

«ياأخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.» «1»

، حيث يتمكّن الأمويون في كلّ ذلك أن يدّعوا أنهم بريئون مما جرى على الإمام عليه السلام سواء في المدينة أو في مكّة أو في الطريق، فيحافظوا بذلك على الإطار الديني لحكمهم، أو أن تزداد المصيبة سوءً حين يطالبون هم بدم الإمام عليه السلام، فيقتلون من أمروه هم بقتله! أو يتّهمون بريئاً ليقتلوه! فيخدعون الناس بادعائهم أنهم أصحاب دمه الآخذون بثأره، فيزداد الناس انخداعاً بهم ومحبّة

لهم وتصديقاً بما يستظهرون من التدين والإلتزام، فتكون المصيبة على الإسلام والأمة الإسلامية أدهى وأمرّ!! ... فحيث إن لم يبايع يقتل، فقد سعى عليه السلام ألّا يقتل في ظروف زمانية ومكانية وبكيفية يختارها ويخطط لها ويعدّها العدوّ، وسعى عليه السلام بمنطق الشهيد الفاتح أن يتحقّق مصرعه الذي لابدّ منه على أرض يختارها هو، ولا يستطيع العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه، فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان الأمة ويحرّكها بالإتجاه الذي أراده الحسين عليه السلام، كما سعى عليه السلام أن تجري وقائع المأساة في وضح النار لا في ظلمة الليل ليرى جريان وقائعها أكبر عدد من الشهود، فلا يتمكّن العدوّ من أن يعتّم على هذه الوقائع الفجيعة ويغطّي عليها، ولعل هذا هو الهدف المنشود من وراء العامل الإعلامي والتبليغي في طلب الإمام عليه السلام عصر تاسوعاء أن يمهلوه إلى صبيحة عاشوراء!» «2». فتأمّل!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 91

قول السيد المرتضى قدس سره ..... ص : 91
اشارة

وللسيّد الشريف المرتضى أعلى اللَّه مقامه في سرّ إصرار الإمام عليه السلام على التوجّه الى الكوفة رأي غريب حيث قال قدس سره: «فإن قيل: ما العذر في خروجه صلوات اللَّه عليه من مكّة بأهله وعياله إلى الكوفة، والمستولي عليها أعداؤه، والمتأمرّ فيها من قبل يزيد اللعين، منبسط الأمر والنهي!؟ وقد رأى صنع أهل الكوفة بأبيه وأخيه صلوات اللَّه عليهما، وأنّهم غادرون خوّانون، وكيف خالف ظنّه ظنّ جميع نصحائه في الخروج، وابن عبّاس رحمه اللَّه يشير بالعدول عن الخروج! ويقطع على العطب فيه! وابن عمر لمّا ودّعه عليه السلام يقول له: «أستودعك اللَّه من قتيل» إلى غير ذلك ...

الجواب: ..... ص : 91

قلنا قد علمنا أنّ الإمام متى غلب على ظنه أنه يصل إلى حقّه والقيام بما فُوِّض إليه بضرب من الفعل، وجب عليه ذلك وإن كان فيه ضرب من المشقّة يتحمّل مثلها، وسيّدنا أبوعبداللَّه عليه السلام لم يسرِ طالباً الكوفة إلا بعد توثّق من القوم، وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه عليه السلام طائعين غير مكرهين، ومبتدئين غير مجيبين، وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرّائها تقدّمت إليه في أيّام معاوية، وبعد الصلح الواقع بينه وبين الحسن عليه السلام فدفعهم وقال في الجواب ما وجب، ثمّ كاتبوه بعد وفاة الحسن عليه السلام ومعاوية باقٍ، فوعدهم ومنّاهم، وكانت أيّام معاوية صعبة لايطمع في مثلها، فلما مضى معاوية وأعادوا المكاتبة وبذلوا الطاعه وكرّروا الطلب والرغبة، ورأى عليه السلام من قوّتهم على ما كان يليهم في الحال من قبل يزيد، وتسلّطهم عليه، وضعفه عنهم ما قوي فيه ظنّه أنّ المسير هو الواجب، تعيّن عليه ما فعله من الإجتهاد والتسبّب، ولم يكن في حسبانه عليه السلام أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف

أهل الحقّ عن نصرته، ويتّفق ما اتفق من الأمور الغريبة، فإنّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 92

مسلم بن عقيل لمّا دخل الكوفة أخذ البيعة على أكثر أهلها! ...» «1».

وواضحٌ أنّ جواب السيد الشريف المرتضى قدس سره قائم على مبنى أهل التسنن في أنّ الإمام عليه السلام كغيره من الناس يعمل على أساس ما يؤدّي إليه الظن، وهو مأجور على اجتهاده أخطأ أم اصاب إلّا أنّ أجره على الصواب أجران! وأنّ الإمام لم يكن يعلم منذ البدء بمصيره! وأنّه إنّما قام بسبب رسائل أهل الكوفة!

ويبدو أن الشريف المرتضى قدس سره- وهو من أكابر متكلّمي الشيعة- قد اعتمد هذا اللون من الإجابة على تلك التساؤلات ليخاطب به العقل السنّي في بغداد آنذاك، والمتسننون آنئذٍ هم الأكثرية فيها ..

وإلّا فإنّ هذا الجواب مخالف لاعتقاداتنا بالإمامة وأنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون ما كان وما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة علماً موهبياً من اللَّه تبارك وتعالى، هذا فضلًا عن الروايات التأريخية الكثيرة التي مفادها أنّ الإمام عليه السلام كان يعلم بمصيره ومصرعه، وأنه كان يخبر عن ذلك حتى في أيّام طفولته.

ثمّ إنّ قيام الإمام الحسين عليه السلام ورفضه البيعة ليزيد لم يكن بسبب رسائل أهل الكوفة إليه بعد موت معاوية، ذلك لأنّ الثابت أنّ هذه الرسائل لم تصل إليه إلّا بعد رفضه البيعة وقيامه وخروجه من المدينة ووروده مكّة، وهي لم تصل إليه إلّا بعد حوالي أربعين يوماً من أيامه في مكّة!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 93

عمرة التمتع أم عمرة مفردة؟ ..... ص : 93
هل بدّل الإمام عليه السلام إحرامه من عمرة التمتّع إلى العمرة المفردة؟ ..... ص : 93

أم أنه عليه السلام ابتداءً دخل في إحرام العمرة المفردة لعلمه بأنّ الظالمين سوف يصدّونه عن إتمام حجّه!؟

إنّ الذي يظهر من بعض المتون التأريخية «1» ومن صريح أقوال بعض المحدّثين هو أنّ الإمام عليه

السلام قد بدّل إحرامه من الحجّ أو من عمرة التمتع إلى العمرة المفردة.

ولكنّ ظاهر بل صريح بعض النصوص- ومنها نصوص صحيحة- هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد دخل في إحرام العمرة المفردة ابتداءً ولم يكن ثمّة تبديل في الإحرام، وقد تبنّى هذا القول من الفقهاء السيّد محسن الحكيم قدس سره والسيّد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 94

الخوئي قدس سره والسيد السبزواري قدس سره، وأشار إليه بعض المؤرّخين «1».

لقد تعرّض الفقهاء لهذا البحث في مسألة حكم الخروج من مكّة لمن أتى بالعمرة المفردة فأقام الى هلال ذي الحجّة، فقد ذهب بعضهم الى القول بوجوب أداء الحجّ فيما لو أدرك يوم التروية، وهو رأي ابن البرّاج «2» وهو قول نادر. كما ذهب بعض آخر الى القول بالاستحباب خصوصاً إذا أقام إلى هلال ذي الحجّة ولاسيّما إذا أقام في مكّة الى يوم التروية وهو اليوم الثامن، وهو قول صاحب الجواهر «3».

وبعض الروايات التي مفادها حرمة الخروج حملت على الكراهة استناداً الى روايات أخرى منها خبر اليماني في أنّ الإمام الحسين عليه السلام خرج قبل يوم التروية بيوم وقد كان معتمراً.

وفيما يلي النصوص ثم كلمات الفقهاء:

1- الكليني: «علي بن ابراهيم، عن أبيه، ومحمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن حمّاد بن عيسى، عن ابراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبداللَّه عليه السلام أنه سُئل عن رجل خرج في أشهر الحجّ معتمراً ثم رجع الى بلاده؟ قال: لابأس وإن حَجَّ في عامه ذلك وأفرد الحجّ، فليس عليه دم، فإنّ الحسين بن علي عليهما السلام خرج

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 95

قبل التروية بيوم الى العراق وقد كان دخل معتمراً» «1».

ومفاد هذا الخبر: أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يكن يوم خروجه من

مكّة محرماً حتى بإحرام العمرة، بل كان قد أحرم للعمرة يوم وروده مكّة المكرّمة. فتأمل.

وقد عبّر المجلسي في المرآة عن هذا الحديث بالحسن كالصحيح «2».

ولقد روى الشيخ الطوسي هذا الحديث في التهذيب عن الكليني، غير أنّ فيه:

«إنّ الحسين خرج يوم التروية» «3».

وعبّر المجلسيُ عنه أيضاً في ملاذ الأخيار بالحسن الصحيح «4».

وقال صاحب الجواهر: «وفي التهذيب: خرج يوم التروية، ولعلّه الأصحّ لصحيح معاوية ...» «5».

2- الكليني: «علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن اسماعيل بن مرّار، عن يونس، عن معاوية بن عمّار، قال: قلت لأبي عبداللَّه عليه السلام: من أين افترق المتمتّع والمعتمر؟

فقال: إنّ المتمتّع مرتبط بالحجّ، والمعتمر إذا فرغ منها ذهب حيث شاء، وقد اعتمر الحسين بن علي في ذي الحجّة ثمّ راح يوم التروية إلى العراق والناس يروحون إلى منى، ولابأس بالعمرة في ذي الحجّة لمن لا يريد الحجّ.» «6».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 96

وعبّر عنها المجلسي في الملاذ: «مجهول» وقال: «قوله: وقد اعتمر: لعلّ المراد أنّ عمرة التمتع أيضاً إذا اضطر الإنسان يجوز أن يجعلها عمرة مفردة كما فعله الحسين عليه السلام، ويحتمل أن يكون عليه السلام لعلمه بعدم التمكّن من الحجّ نوى الإفراد ولعلّه من الخبر أظهر.» «1».

إذن فالمجلسي يرى في الحديث احتمالين:

الأوّل: التبديل من عمرة التمتع الى عمرة مفردة.

الثاني: أنّه عليه السلام منذ البدء قد نوى الإفراد، وليس ثمّ تبديل.

ويرى المجلسي أنّ الإحتمال الثاني أظهر من الخبر، لكنه في البحار يصرّح بالإحتمال الأوّل حيث يقول: «ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة ... حلّ من إحرام الحجّ وجعلها عمرة مفردة.» «2»

وقال في نفس الصفحة من كتابه قبل هذا: «وكذا خرج من مكّة بعدما غلب على ظنه أنهم يريدون غيلته وقتله، حتى لم يتيسّر له-

فداه نفسي وأبي وأمي وولدي- أن يتمّ حجّة، فتحلّل وخرج منها خائفاً يترقّب ...» «3».

كلمات بعض الفقهاء ..... ص : 96

1- قال السيد محسن الحكيم في مستمسك العروة الوثقى: «... وأمّا مافي

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 97

بعض كتب المقاتل من أنّه عليه السلام جعل عمرته عمرة مفردة، ممّا يظهر منه أنها كانت عمرة تمتّع وعدل بها إلى الافراد، فليس مما يصحّ التعويل عليه في مقابل الأخبار المذكورة التي رواها أهل البيت عليهم السلام» «1».

2- ويقول السيد السبزواري قدس سره في مهذّب الأحكام: «... كما يسقط بهما- أي رواية اليماني ورواية معاوية بن عمار- مافي بعض المقاتل من أنّ الحسين عليه السلام بدّل حجّة التمتّع الى العمرة المفردة، لظهورهما في أنه عليه السلام لم يكن قاصداً للحجّ من أوّل الأمر، بل كان قاصداً للعمرة المفردة، فلا يبقى موضوع للتبديل حينئذ.» «2».

3- وقال السيّد الخوئي في معتمد العروة الوثقى: «لاريب في أنّ المستفاد من الخبرين أنّ خروج الحسين عليه السلام يوم التروية كان على طبق القاعدة لا لأجل الإضطرار «3»، ويجوز ذلك لكلّ أحد وإن لم يكن مضطرّاً، فيكون الخبران- أي خبر اليماني وخبر معاوية- قرينة على الإنقلاب الى المتعة قهراً والإحتباس بالحجّ إنّما هو فيما إذا أراد الحجّ، وأمّا إذا لم يرد الحجّ فلا يحتبس بها للحجّ ويجوز له الخروج حتى يوم التروية.» «4».

وممّا يضعّف القول بوقوع التبديل الى العمرة المفردة قول المشهور بعدم جواز التبديل الى العمرة المفردة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 98

قال الشيخ الوالد قدس سره: «المشهور بين الأصحاب رضوان اللَّه عليهم أنّ من دخل مكّة بعمرة التمتع في أشهر الحج لم يجز له أن يجعلها مفردة، ولا أن يخرج من مكّة حتّى يأتي بالحجّ لأنها مرتّبة (مرتبطة) بالحجّ، نعم عن

ابن إدريس القول بعدم الحرمة وأنه مكروه، وفيه أنه مردود بالأخبار.» «1».

كما يضعّف أيضاً القول بوقوع التبديل الى العمرة المفردة هو أنه لو كان لأجل الصدّ ومنع الظالم فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدي كما أشار إليه الشهيد الأوّل في الدروس «2» والشهيد الثاني في المسالك «3».

فلابدّ إذن من تأويل العبارات التي ظاهرها التبديل، والمهمّ المعوَّل عليه هو عبارة الشيخ المفيد قدس سره في الإرشاد: «لأنه لم يتمكّن من تمام الحج»، وأمّا القول الوارد في بعض الكتب من أنّه عليه السلام: «لم يتمكن من إتمام الحجّ» فهو مما ورد بعد زمان كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد قدس سره، ولعلّه وقع بسبب تصحيف غير مقصود، أو بسبب تصرّف مقصود قام على عدم التفريق بين «التمام» و «الإتمام»، واللَّه العالم.

هل خرج الإمام عليه السلام من مكّة سرّاً!؟ ..... ص : 98

قال المرحوم المحقّق الشيخ السماوي في كتاب (إبصار العين): «ولمّا جاء كتاب مسلم إلى الحسين عزم على الخروج، فجمع أصحابه في الليلة الثامنة من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 99

ذي الحجّة، فخطبهم فقال: ..» «1»، ثم أورد خطبته المعروفة بعبارتها الشهيرة «خُطَّ الموت على ولد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة» والتي ورد في آخرها قوله عليه السلام:

«فمن كان باذلًا فينا مهجته، موطّناً على لقاء اللَّه نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شاء اللَّه تعالى».

وقد يُستفاد من قول الشيخ السماوي قدس سره: «فجمع أصحابه ..» أنّ هذه الخطبة التي أعلن فيها الإمام عليه السلام عن موعد ارتحاله عن مكّة لم تكن أمام محضر عام، بل كانت في اجتماع خاص اقتصر على أصحابه عليه السلام فقط، فموعد السفر لم يعلم به إلّا أصحابه، ولم يخرج الموعد إذن عن كونه سراً من أسرار حركة الركب الحسيني من مكّة، أي أنّ الإمام

الحسين عليه السلام كان قد خرج بركبه من مكّة الى العراق سرّاً!

لكنّ الملفت للإنتباه أنّ الشيخ السماوي قدس سره لم يذكر المصدر الذي أخذ عنه قوله «فجمع أصحابه ..»، كما أننا لم نعثر على مصدر من المصادر التأريخية المعروفة والمعتبرة- والتي يحتمل أنّ الشيخ السماوي قدس سره قد أخذ عنها- كان قد ذكر هذه العبارة «فجمع أصحابه ..».

بل إنّ المصادر التي ذكرت هذه الخطبة بالذات لم تذكر تلكم العبارة، ففي اللهوف: «وروي أنّه عليه السلام لمّا عزم على الخروج الى العراق قام خطيباً فقال: ..» «2»، وفي مثير الأحزان: «ثم قام خطيباً فقال: ..» «3»، وفي كشف الغمة: «ومن كلامه عليه السلام لمّا عزم على الخروج الى العراق، قام خطيباً فقال: ..» «4».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 100

هذه هي المصادر الأساسية التي نعلم أنها ذكرت هذه الخطبة ..

ومع هذا، فإنّ خروج الإمام عليه السلام من مكّة لم يكن سرّاً حتى على فرض أنّ الإمام عليه السلام كان قد خطب هذه الخطبة في أصحابه فقط، ذلك لأنّ الذين كانوا ملتفّين حول الإمام عليه السلام وهو في مكّة كثيرون، وفيهم من يريد الدنيا وفيهم من يريد الآخرة، ولم يُغربل هذا الجمع الكبير إلّا في منازل الطريق إلى العراق منزلًا بعد منزل حتى لم يبق معه إلا الصفوة التي استشهدت بين يديه في الطف. فمن البعيد جداً أن تكون حركة الركب الحسيني من مكّة إلى العراق سرّاً، والمحيطون بالإمام عليه السلام في مكّة آنذاك خليط من أناس نواياهم شتّى، ثمّ هل يُتصوَّر أنّ حركة الركب الحسيني وهو كبير نسبياً في مكّة المكرّمة وهي آنذاك صغيرة نسبياً- بكلّ ما تستلزمه حركة مثل هذا الركب الكبير من مقدّمات واستعدادات- تخفى عن

أعين السلطة الذين كانوا يتحسسون الصغيرة والكبيرة من حركة الإمام عليه السلام!؟

يذهب بعض المحقّقين المتتبعين إلى عكس ما أورده الشيخ السماوي قدس سره حيث يقول: «ولمّا عزم الإمام عليه السلام على مغادرة الحجاز والتوجّه إلى العراق أمر بجمع الناس ليلقي عليهم خطابه التأريخي، وقد اجتمع إليه خلق كثير في المسجد الحرام من الحجّاج وأهالي مكّة، فقام فيهم خطيباً، فاستهلّ خطابه بقوله ..» «1»، ثم أورد تلكم الخطبة نفسها.

ومن الأدلّة على أنّ خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة لم يكن سرّاً أنّ والي مكة يومئذٍ عمرو بن سعيد بن العاص أمر صاحب شرطته باعتراض الركب الحسيني عند الخروج، يقول التأريخ: «ولمّا خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجند.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 101

فقال: إنّ الأمير يأمرك بالإنصراف فانصرف وإلا منعتك.

فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط.

وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شرطته يأمره بالإنصراف.» «1».

إذن فخروج الركب الحسينيّ من مكّة لم يكن سرّاً، وهذا لا ينافي الحقيقة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 102

التأريخية في أنّ الإمام الحسين عليه السلام قد استبق الأحداث والزمان فخرج من مكّة مبادراً قبل أن يغتاله الحكم الأمويّ فيها أو يُقبَض عليه، لأن خروج الإمام عليه السلام من مكّة بالركب الحسيني الكبير نسبياً وقتذاك كان على امتناع وأهبة واستعداد لكلّ احتمال، في وقت لم يكن من مصلحة الحكم الأموي أن تواجه سلطته المحلّية في مكّة- على فرض امتلاكها القوّة العسكرية الكافية- «1» الإمام الحسين عليه السلام مواجهة حربية علنية في مكّة أو في أطرافها، لأنّ الأمويين يعلمون ما للإمام الحسين عليه السلام من مكانة سامية عزيزة وقدسية بالغة

في قلوب جموع الحجيج الذين لازالوا آنذاك في مكّة، فهم يخافون من انقلاب الأمر وتفاقمه عليهم، ولعلَّ رواية الدينوري السابقه تشعر بهذه الحقيقة حيث تقول: «.. وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شرطته يأمره بالإنصراف».

وعلى ضوء ما تقدّم تتأكّد صحة ماتقدّم في الجزء الأوّل «2» من هذا الكتاب (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة): أنّ خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة المكرّمة (وكذلك من المدينة) في السحر أو في أوائل الصبح في ستر الظلام من أجل ألّا تتصفح أنظار الناس في مكّة (وكذلك في المدينة) في وضح النهار حرائر

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 103

بيت العصمة والرسالة والنساء الأُخريات في الركب الحسيني، وهذا هو السبب الأقوى- إن لم يكن السبب الوحيد- في مجموعة الأسباب التي دفعت الإمام عليه السلام إلى الخروج في السحر أو في أوائل الصبح، وهذا ما يتناسب تماماً مع الغيرة الحسينية الهاشمية.

لماذا حمل الإمام عليه السلام النساء والأطفال معه!؟ ..... ص : 103

في السحر الذي أرتحل فيه الإمام الحسين عليه السلام خارجاً عن مكّة الى العراق كان أخوه محمد بن الحنفية (رض) قد هرع إليه، حتى إذا أتاه أخذ زمام ناقته التي ركبها «فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك!؟

قال عليه السلام: بلى!

قال: فما حداك على الخروج عاجلًا؟

فقال عليه السلام: أتاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله بعدما فارقتك فقال: يا حسين، أخرج فإنّ اللّه شاء أن يراك قتيلا!

فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال!؟

فقال له عليه السلام: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا!

وسلّم عليه ومضى». «1»

وفي إحدى محاوراته عليه السلام مع ابن عباس (رض):

مع الركب

الحسينى (ج 2)، ص: 104

قال له ابن عبّاس: «جُعلتُ فداك يا حسين، إن كان لابدّ من المسير إلى الكوفة فلا تَسِر بأهلك ونسائك، فوالله إنّي لخائف أن تُقتل ...

فقال عليه السلام: يا ابن العمّ، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله في منامي وقد أمرني بأمرٍ لا أقدر على خلافه، وإنه أمرني بأخذهم معي، إنهنّ ودائع رسول الله صلى الله عليه و آله، ولا آمن عليهنّ أحداً، وهنّ أيضاً لايفارقنني ...». «1»

وفي محاورته عليه السلام مع أمّ سلمة (رض) في المدينة:

كان عليه السلام قد قال لها: «يا أمّاه، قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولًا مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولامعيناً». «2»

لقد علّل الإمام عليه السلام حمله لأهله ونسائه معه- في محاوراته مع ثلاثة من أشدّ الناس إخلاصاً له- بأنّ ذلك تحقيق لمشيئة الله سبحانه، وامتثال لأمر رسول الله صلى الله عليه و آله، وأنه عليه السلام يخاف أن تتعرض ودائع رسول الله صلى الله عليه و آله للأذى والمكروه من بعده إذا فارقنه و بقين في المدينة أو في مكّة! كما علّل ذلك بإصرارهن على الخروج معه! «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 105

فكيف نفهم ملامح الحكمة في هذه المشيئة الإلهية وهذا الأمر النبوي وفي مخافة الإمام عليه السلام على ودائع النبوّة وفي إصرارهن على الخروج معه!؟

ماذا سيجري على عقائل بيت الرسالة لو بقين خلاف الإمام عليه السلام في المدينة أو في مكّة مثلًا؟

يرى الشيخ المرحوم عبدالواحد المظفّر في كتابه: (توضيح الغامض من أسرار السنن والفرائض) أنّ: «الحسين عليه السلام لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السلطة الأموية

عليها الحجر، لا بل اعتقلتها علناً وزجّتها في ظلمات السجون، ولابدّ له حينئذٍ من أحد أمرين خطيرين، كلّ منهما يشلّ أعضاء نهضته المقدّسة!

إمّا الإستسلام لأعدائه وإعطاء صفقته لهم طائعاً ليستنقذ العائلة المصونة، وهذا خلاف الإصلاح الذي يُنشده وفرض على نفسه القيام به مهما كلّفه الأمر من الأخطار، أو يمضي في سبيل إحياء دعوته ويترك المخدّرات اللواتي ضرب عليهنّ الوحي ستراً من العظمة والإجلال، وهذا ما لاتطيق إحتماله نفس الحسين الغيور.

ولايردع أميّة رادع من الحياء، ولايزجرها زاجرٌ من الإسلام، إنّ أميّة لايهمّها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها وإدراك غاياتها، فتتوصل إلى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية والعقلية!

ألم يطرق سمعك سجن الأمويين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي، وزوجة عبيدالله بن الحرّ الجعفي، وأخيراً زوجة الكُميت الأسدي؟». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 106

وهذا الإحتمال الذي نظر إليه الشيخ المظفّر (ره) وارد بقوّة، لأنّ السلطة الأمويّة كانت تريد منع الإمام عليه السلام من القيام والخروج الى العراق بكلّ وسيلة، حتى وإن كانت هذه الوسيلة اعتقال الودائع النبوية من نساء وأطفال يعزُّ على الإمام الحسين عليه السلام تعرّضهم للأذى والإهانة والسجن، فيضطّر الى التحرّك لإنقاذهم، الأمر الذي يشلّ حركة النهضة أو يقضي عليها!

وإمكان إقدام السلطة الأموية على مثل هذه الفعلة لايحتاج إلى أدنى تأمّل، لقد كان ضغط السلطة الأموية على المناهضين لها وإحراجها إياهم من خلال إيذاء عوائلهم وإرهابها وسجنها سنّة من سنن الحكم الأموي، وإضافة الى الأمثلة التي قدّمها الشيخ المظفّر (ره)، فإنّ ما قامت به السلطة الأموية في واقعة الحرّة من انتهاك حرمات الأعراض واستباحتها، بل ما فعلته السلطة الأموية بالودائع النبوية نفسها في السبي بعد استشهاد الإمام عليه السلام دليل على سهولة مثل هذه الجسارة العظيمة عند

طغاة بني أميّة، وبهذا قد يتجلّى لنا هنا بعد من أبعاد الحكمة في الأمر النبوي بحملهن!

وهذا المحذور- حدث تعرّض الودائع النبوية للأذى والسجن- سواء وقع قبل خروج الإمام عليه السلام (من المدينة أو مكّة)، أو بعد خروجه (وقبل استشهاده)، سيكون حدثاً خارجاً عن مسار حركة أحداث النهضة وأجنبياً عنها، وذا أثر مضادّ لمتّجه آثارها، بخلاف ما إذا وقع هذا الحدث في إطار حركة أحداث هذه النهضة وفي مسارها المرسوم، إذ إنه يكون حينذاك امتداداً لها، وتبليغاً بحقائقها، وتحقيقاً لغاياتها.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 107

فكان لابدّ للإمام عليه السلام من حمل هذه الودائع العزيزة ونسائه معه كيلا يعوّق العدوّ من خلالها على مسار النهضة المقدّسة.

ومع تفويت الإمام عليه السلام الفرصة على أعدائه بذلك- والحمد لله الذي جعل أعداء أهل البيت عليه السلام من الحمقى- كان الإمام عليه السلام عالماً منذ البدء بضرورة حمل هذه الودائع النبوية معه تحقيقاً (لمسيرة التبليغ الكبرى)- بعد استشهاده- بدواعي النهضة الحسينية، وبأهدافها، وبمظلومية أهل البيت عليه السلام وأحقيتهم بالخلافة، وبحقيقة كفر آل أميّة ونفاقهم وعدائهم للإسلام الحقّ وأهله.

كان الإمام عليه السلام عالماً منذ البدء بضرورة هذه المسيرة الإعلامية التبليغية الكبرى من بعده، والتي ينهض بأعبائها بقيّة الله الإمام السجّاد عليه السلام وودائع النبوة في أيّام السبي والترحيل من بلد إلى بلد، إذ لولا هذه المسيرة الإعلاميّة التبليغية لما كان يمكن للثورة الحسينية أن تحقّق كامل أهدافها في عصرها وفي مابعده من العصور إلى قيام الساعة، ولعلّ هاهنا مكمن السرّ في «إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا»، وفي الأمر النبوي بحملهنّ.

إذن فحمل الإمام عليه السلام لودائع النبوّة معه ضرورة من ضرورات نجاح الثورة الحسينية، وكان لابدّ للإمام عليه السلام أن يقوم بذلك

حتى ولو لم يكن هناك احتمال لتعرّض هذه الودائع النبوية للأذى والسجن إذا بقين خلاف الإمام عليه السلام في المدينة أو مكّة! فما بالك واحتمال سجنهنّ وارد بقوّة؟

والمتأمل في تفاصيل ماجرى على بقيّة الركب الحسيني بعد استشهاد الإمام عليه السلام حتى عودتهم الى المدينة المنوّرة يشاهد بوضوح الأثر العظيم المترتب على العمل الإعلامي والتبليغي الكبير الذي قام بأعبائه أعلام بقية الركب الحسيني،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 108

ويؤمن أنّ الثورة الحسينية لم تكن لتصل إلى تمام غاياتها لولم تكن تلك الودائع النبوية في الركب الحسيني. «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 110

أمّا قوله عليه السلام: «وهنّ أيضاً لايفارقنني!» الحاكي عن إصرارهنّ على السفر معه وملازمته في رحلة الفتح بالشهادة، فيمكن أن يُفسّر بأنّ الودائع النبوية (خصوصاً بنات أمير المومنين عليه السلام وعلى رأسهن زينب الكبرى عليها السلام) كنّ قد أصررن على ملازمة الإمام عليه السلام في نهضته لأنهنّ- إضافة الى البُعد العاطفي والتعلّق الروحي بالإمام عليه السلام- كنّ يعلمن بأهمية الدور الإعلامي والتبليغي الذي بإمكانهن القيام به في مسار النهضة خصوصاً بعد استشهاد الإمام عليه السلام، إذ من المحتمل جدّاً أنّ «1» الإمام عليه السلام كان قد أطلعهنّ على تفاصيل ما يجري عليه وعلى من معه، وكشف لهنّ عن أهميّة الدور الذي يمكنهنّ أن يضطلعن بأعبائه من بعده، وإن كان من الثابت عندنا أنّ العقيلة زينب عليها السلام كانت تعلم كلّ ذلك بالعلم اللدنّي موهبة من الله تبارك وتعالى، فقد وصفها الإمام السجّاد عليه السلام ذات مرّة بأنها: «عالمة غير معلّمة وفهمة غير مفهّمة!»، «2» ولقد كشفت هي عليها السلام عن علمها حتى بما يجري

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 111

على جثمان أخيها عليه السلام الى قيام الساعة حينما رأت الإمام

السجّاد عليه السلام يجود بنفسه حزناً وهو ينظر الى مصارع شهداء الطفّ، فقالت: «مالي أراك تجود بنفسك يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟ فوالله إنّ هذا لعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس لاتعرفهم فراعنة هذه الارض، وهم معروفون في أهل السموات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة، فيوارونها وينصبون بهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لايُدرس أثره ولايمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدنّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلّا علوّاً!». «1»

رضي الله عنه رضي الله عنه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 113

الفصل الثاني ..... ص : 113

اشارة

حركة السلطة الأموية في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية

سفيدصفحه 114

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 115

الفصل الثاني: حركة السلطة الأموية في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية ..... ص : 115

اشارة

وصل الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة المكرّمة بعد أن استطاع عليه السلام النفاذ من حصار خطة (البيعة أو القتل) فى المدينة المنورة، تلك الخطّة التى أرادها يزيد، وتمنّاها وسعى إلى تنفيذها مروان بن الحكم، لكنّ الوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك تردّد فى تنفيذها وتمنى النجاة من تبعاتها.

وبذلك كان الإمام الحسين عليه السلام بدخوله مكّة المكرّمة قد اخترق المرحلة الأولى من الحصار العام الذي بادرت السلطة الأموية إلى فرضه عليه.

ولقد انتاب السلطة الأموية خوف شديد، واعتراها اضطراب لا تماسك معه، وقلق لا استقرار فيه، حينما علمت بدخول الإمام عليه السلام مكّة المكرّمة في الأيّام التي تتقاطر إليها جموع المعتمرين والحجّاج من جميع أقطار العالم الإسلامي آنذاك.

فهرعت هذه السلطة على جميع مستوياتها إلى اتخاذ التدابير اللازمة لمواصلة فرض الحصار على حركة الإمام عليه السلام من جديد، ولمنع انفلات الأمور في الولايات المهمّة عامة وفي الكوفة منها خاصة.

فما إن رُفعت الى يزيد تقارير جواسيسه في الكوفة عن ضعف موقف واليها النعمان بن بشير في مواجهة التحوّلات الناشئة عن تواجد مسلم بن عقيل عليه السلام فيها، حتى اجتمع يزيد مع مستشار القصر الأمويّ سرجون النصراني ليتلقى منه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 116

تعليماته في كيفية معالجة مستجدّات الأمور قبل انفلاتها وفقدان السيطرة عليها.

وينتهي الإجتماع باتخاذ قرارات خطيرة شملت عزل بعض الولاة ونشر سلطة بعض آخر، وتوجيه رسائل إلى بعض وجهاء الأمة تدعوهم إلى التدخل وممارسة الضغط على الإمام عليه السلام وبذل قصارى سعيهم لإخراج السلطة الأمويّة من مأزقها الكبير، ورسائل أخرى أيضاً تضمّنت تهديداً وإنذاراً لأهل المدينة عامة وبني هاشم خاصة، تحذّرهم من مغبّة

الإلتحاق بالإمام عليه السلام والإنضمام الى حركته.

ومن قرارات هذا الإجتماع أيضاً أن خطّطت حركة النفاق الحاكمة أن تغتال الإمام عليه السلام في مكّة، وقد بعثت جمعاً من جلاوزتها بالفعل الى مكّة لتنفيذ هذه المهمّة، إذا لم تُوفّق هذه الزمرة الغادرة بمساعدة السلطة المحلّية في مكّة في محاولة لإلقاء القبض على الإمام عليه السلام وإرساله الى دمشق، هذا على صعيد قرارات السلطة المركزية في الشام.

ولم يقلّ حال السلطات المحلّية في المدينة ومكّة والكوفة والبصرة في خوفها وقلقها واضطرابها عن حال السلطة المركزية في الشام، ففي مكّة يجتهد واليها في متابعة الصغيرة والكبيرة من حركات الإمام عليه السلام، ويطلب منه البقاء في مكة ويبذل له الأمان والصلة ويتعهّد له بذلك، ثمّ حيث يُصرّ الإمام عليه السلام على الخروج نرى هذا الوالي يبعث بقوة عسكرية لمنع الإمام عليه السلام من ذلك، ثمّ يكفّ عن منع الإمام عليه السلام خشية من تفاقم الأمر وانقلابه عليهم.

وفي البصرة نرى ابن مرجانة يبادر الى تهديد أهلها ويحذّرهم من مغبّة التمرّد والإستجابة لنداء الإمام عليه السلام والإنضمام إلى حركته، كما يبادر ابن مرجانة قبيل تركه البصرة الى قتل سليمان بن رزين قدس سره رسول الإمام عليه السلام إلى أشراف البصرة ورؤساء الأخماس فيها، ثم يبادر مسرعاً لايثنيه شي ء في سفره الى الكوفة ليستبق الزمن والأحداث في الوصول إليها، وليدير دفّة الأمور هناك في أصعب

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 117

أيّامه والكوفة تكاد تسقط حينها في يد سفير الإمام عليه السلام مسلم بن عقيل رضوان اللَّه تعالى عليه.

نشر ابن مرجانة في الكوفة جوّاً رهيباً من الرعب والخوف وحبس الأنفاس من خلال أعمال منوّعة بادر إليها، منها خطب وبيانات التهديد والوعيد بالتعذيب والتنكيل، ومنها حملة واسعة من

ممارسات القمع والاعتقالات، ومنها محاولات اختراق صفوف الثوّار بواسطة جواسيس ذوي خبرة وفنّ من اجل الوصول الى مكان ومخبأ قيادة الثورة في الكوفة، ومنها سلسلة من الإعدامات كان من أبرز ضحاياها نخبة من سفراء النهضة الحسينية، مثل مسلم بن عقيل عليه السلام، وقيس بن مسهر الصيداوي (رض)، وعبداللَّه بن يقطر (رض)، ومن أبرز ضحاياها أيضاً الوجيه الكوفي الصحابي الشيعي المبرز هاني بن عروة المرادي (رض).

هذا استعراض مجمل لأهم معالم تحرّك السلطة الأموية في مواجهة حركة الأحداث الناشئة عن قيام الإمام الحسين عليه السلام في الأيام المكيّة من عمر نهضته المباركة.

وفي المتابعة التأريخية لتفاصيل حركة السلطة الأموية في مواجهة قيام الإمام الحسين عليه السلام يحسن بنا على ضوء التسلسل التأريخي أن نقرأ حركة الأحداث في إطار الترتيب التالي:

1- حركة السلطة الأموية المحلّية في الكوفة.

2- حركة السلطة الأموية المركزية في الشام.

3- حركة السلطة الأموية المحلّية في البصرة.

4- حركة السلطة الأمويّة المحلّية الجديدة في الكوفة.

5- حركة السلطة الأمويّة المحلّية في مكّة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 118

حركة السلطة الأمويّة المحلّية في الكوفة ..... ص : 118
اشارة

كان والي الكوفة حينما دخلها مسلم بن عقيل عليه السلام هو النعمان بن بشير، «1» فلمّا رأى النعمان استقبال أهل الكوفة الكبير لمسلم عليه السلام وحفاوتهم البالغة به وتجاوبهم الرهيب معه، خرج إلى المسجد وخطب في الناس يحذّرهم من إثارة الفتنة والفرقة وشقّ عصا الأمّة.

يقول الطبري: «.. عن أبي الودّاك قال: خرج إلينا النعمان بن بشير فصعد المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعدُ، فاتّقوا اللَّه عبادَ اللَّه، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإنّ فيهما يهلك الرجال وتُسفك الدماء وتغصب الأموال- وكان حليماً ناسكاً يحبّ العافية!- قال: إني لم أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لايثب عليَّ، ولا أُشاتمكم،

ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف «2» ولا الظنّة ولا التهمة، ولكنّكم إنْ أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فواللَّه الذي لا إله غيره لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي منكم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 119

ناصر، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل.

قال: فقام إليه عبداللَّه بن مسلم بن سعيد الحضرمي «1»- حليف بني أميّة- فقال:

إنّه لا يُصلح ما ترى إلا الغشم، إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!!

فقال: أن أكون من المستضعفين في طاعة اللَّه أحبّ إليَّ من أن أكون من الأعزّين في معصية اللَّه.

ثمّ نزل، ..

وخرج عبداللَّه بن مسلم، وكتب إلى يزيد بن معاوية:

أمّا بعدُ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة فبايعته الشيعة للحسين بن عليّ، فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلًا قوياً، ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيف أو هو يتضعّف!

فكان أوّل من كتب إليه، ثمّ كتب إليه عمارة بن عقبة «2» بنحو من كتابه، ثمّ كتب

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 120

إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص «1» بمثل ذلك». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 121

وفي رواية الدينوري أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام لمّا وافى الكوفة، نزل في دار المختار، فكانت الشيعة تختلف إليه وهو يقرأ عليهم كتاب الإمام الحسين عليه السلام، «ففشا أمره بالكوفة حتى بلغ ذلك النعمان بن بشير أميرها، فقال: «لا أقاتل إلا من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 122

قاتلني، ولا أثب إلّا على من وثب عليَّ، ولا آخذ بالقرفة والظنّة، فمن أبدى صفحته ونكث بيعته ضربته بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم أكن

إلّا وحدي». وكان يحب العافية ويغتنم السلامة.

فكتب مسلم بن سعيد الحضرمي وعُمارة بن عقبة- وكانا عيني يزيد بن معاوية- إلى يزيد يعلمانه قدوم مسلم بن عقيل الكوفة داعياً للحسين بن عليّ، وأنه قد أفسد قلوب أهلها عليه، فإنْ يكن لك في سلطانك حاجة فبادر إليه من يقوم بأمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإن النعمان رجل ضعيف أو متضاعف، والسلام». «1»

أمّا البلاذري فقد قال في روايته: «فكتب وجوه أهل الكوفة: عمر بن سعد بن أبي وقاص الزهري، ومحمّد بن الأشعث الكندي، «2» وغيرهما إلى يزيد بخبر مسلم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 124

وتقديم الحسين إيّاه إلى الكوفة أمامه، وبما ظهر من ضعف النعمان بن بشير وعجزه ووهن أمره». «1»

تأمّلٌ وملاحظات ..... ص : 124
1)- سكون ما قبل العاصفة في الكوفة ..... ص : 124

أحدث دخول مسلم بن عقيل عليه السلام مدينة الكوفة داعياً للإمام الحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 125

تحوّلًا كبيراً في ظاهر الحياة السياسية في تلك المدينة بعد أن «انثالت الشيعة على مسلم تبايعه للإمام الحسين عليه السلام، وكانت صيغة البيعة الدعوة الى كتاب اللَّه وسنّة رسوله، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، وقسمة الغنائم بين المسلمين بالسوية، وردّ المظالم إلى أهلها، ونصرة أهل البيت عليهم السلام، والمسالمة لمن سالموا، والمحاربة لمن حاربوا ..»، «1» حتى كان عدد من بايعه من أهلها على أقل التقادير ثمانية عشر ألفاً، وعلى أعلاها أربعين ألفاً.

وكأنّ الكوفة- على أساس هذا التحوّل الظاهري- كانت قد سقطت سياسياً وعسكرياً أو تكاد في يد سفير الإمام الحسين عليه السلام، ولم يبق دون أن يتحقّق ذلك فعلًا إلّا أن يأمر مسلم بن عقيل عليه السلام بهبوب عاصفة الثورة والتغيير، لكنّ التزام مسلم عليه السلام بحدود صلاحياته التي رسمها الإمام عليه السلام حال دون هبوب العاصفة التي

تنتزع الكوفة فعلًا من يد الحكم الأموي، فظلّت الكوفة تعيش أيّامها تلك في سكون يُنذر باحتمال هبوب العاصفة في أية لحظة إذا ما أخلّ بذلك السكون سبب غير محتسب.

2)- «الغشم» وسيلة خروج الأمويين من مأزقهم الكبير! ..... ص : 125

فزع الأمويّون وعملاؤهم وجواسيسهم من تجاوب الرأي العام في الكوفة مع مسلم بن عقيل عليه السلام، ورأوا أنّ زمام الأمور سيكون بيد الثوّار تماماً إن لم تبادر السلطة الأموية المحلّية في الكوفة إلى اتخاذ التدابير اللازمة الكفيلة بإعادة الوضع الكوفي إلى سابق عهده أو منع تدهوره إلى حدّ سقوط الكوفة فعلًا بيد الثوّار.

ولعلم الأمويين «بالحالة النفسية الكوفية» العامة آنذاك ولخبرتهم الطويلة في التعامل معها، كان رأيهم أنه لا وسيلة لهم للخروج من هذا المأزق الكبير إلّا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 126

«الغشم» وهو الظلم والغصب، وأنه لابدّ للكوفة من حاكم أمويّ «غشوم» وهو الظالم المبادر بالظلم، الآخذ بالقهر كلَّ ما قدر عليه.

وقد أرادوا من النعمان بن بشير ذي التأريخ الأسود في معاداة أهل البيت عليهم السلام أن يكون هو هذا الحاكم الغشوم المنشود، وطلبوا إليه- بعد أن أنكروا عليه تراخيه في مواجهة مستجدّات الأحداث- «1» أن يبادر إلى تهديد الكوفيين وإرهابهم وقمعهم.

لكنّ الأمويين وعملاءهم في الكوفة أحسّوا بالخيبة حينما خطب النعمان بأهل الكوفة خطبته التي كشف فيها عن ضعفه أو تضاعفه، وجرّأ الكوفيين على مواصلة التعبئة للثورة والتأهب لها، فبادروا- وهم على خوف من تسارع الأيام والأحداث- إلى رفع تقاريرهم الى السلطة المركزية في الشام، والتي طلبوا فيها من يزيد أن يسارع إلى إقالة النعمان بن بشير وتعيين حاكم آخر غشوم يأخذ أهل الكوفة بالإحتيال والقوّة والقهر.

3)- سرّ التراخي في موقف النعمان بن بشير ..... ص : 126

للنعمان بن بشير بن سعد الخزرجي ولأبيه بشير تأريخ أسود طويل في نصرة حركة النفاق بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، فإنّ أباه بشير بن سعد الخزرجي لحسده سعد بن عبادة على موقعه المرموق في الخزرج خاصة والأنصار عامة، ولبغضه لأهل البيت عليهم السلام، كان أوَّل من

بادر إلى مبايعة أبي بكر في السقيفة، وظلّ موالياً لحزب السلطة ومعادياً لأهل بيت النبوّة عليهم السلام، وابنه النعمان «كان قد ولاه معاوية الكوفة بعد عبدالرحمن بن الحكم، «2» وكان عثمانيّ الهوى، يجاهر ببغض عليّ عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 127

ويسي ء القول فيه، وقد حاربه يوم الجمل وصفين، وسعى بإخلاص لتوطيد الحكم لمعاوية، وهو الذي قاد بعض الحملات الإرهابية على بعض المناطق العراقية، ويقول المحقّقون: إنّه كان ناقماً على يزيد، ويتمنّى زوال الملك عنه شريطة أن لا تعود الخلافة إلى آل عليّ عليهم السلام ..». «1»

ويُروى أنّ سبب نقمة النعمان على يزيد هو أنّ يزيد كان يبغض الأنصار بغضاً شديداً، ويُغري الشعراء بهجائهم، الأمر الذي أثار حفيظة النعمان بن بشير فطلب من معاوية قطع لسان الشاعر الأخطل النصراني الذي هجاهم، وأجابه معاوية إلى ذلك، لكنّ يزيد أجار الأخطل عند أبيه، فعفا معاوية عن الأخطل بدعوى أنه «لا سبيل إلى ذمّة أبي خالد- يعني يزيد»، وكُبت بذلك النعمان، فلم يزل ناقماً على يزيد. «2»

ويروي التأريخ أنّ عمرة بنت النعمان بن بشير كانت زوجة المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي نزل عنده مسلم بن عقيل عليه السلام، ويرى بعض المتتبعين أنّ هذه الصلة أيضاً كانت سبباً في تراخي موقف النعمان من الثوار، إضافة إلى السبب الأهم وهو نقمته على يزيد. «3»

ولعلّ بإمكاننا هنا أن نضيف سبباً آخر إلى أسباب تراخي موقف النعمان من الثوار، وهو أنّ النعمان وإن كان أنصارياً إلّا أنه كان أحد أفراد حركة النفاق، عُرف عنه أنه عثمانيّ الهوى، متفانٍ في حبّ بني أميّة، ومتبّنٍ لسياسة معاوية في قيادة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 128

حركة النفاق تبنياً تاماً، وكان من معالم هذه السياسة أنّ معاوية كان يتحاشى

المواجهة العلنية مع الإمام الحسين عليه السلام، وأنّ معاوية لو اضطرّ إلى مواجهة علنية أي إلى قتالٍ ضدّ الإمام الحسين عليه السلام، وظفر بالإمام عليه السلام لعفا عنه، وليس ذلك حباً للإمام عليه السلام وإنّما لأنّ معاوية- وهو من دهاة السياسة النكراء والشيطنة- يعلم أنّ إراقة دم الإمام عليه السلام علناً وهو بتلك القدسية البالغة في قلوب الأمّة كفيل بأن يفصل الأمويّة عن الإسلام ويذهب بجهود حركة النفاق عامة والحزب الأموي خاصة أدراج الرياح، خصوصاً الجهود التي بذلها معاوية في مزج الأموية بالإسلام فى عقل الأمّة وعاطفتها مزجاً لم يعد أكثر هذه الأمّة بعدها يعرف إلا (الإسلام الأموي)، حتّى صار من غير الممكن بعد ذلك الفصل بين الإسلام والأموية إلا إذا أريق ذلك الدم المقدّس- دم الإمام عليه السلام- على مذبح القيام ضد الحكم الأموي. «1»

ولقد صرّح معاوية بذلك حتى للإمام الحسين عليه السلام نفسه قائلًا: «.. ولكنني قد ظننتُ ياابن أخي أنّ في رأسك نزوة، وبودّي أن يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك، وأتجاوز عن ذلك، ولكنني واللَّه أتخوّف أن تُبلى بمن لاينظرك فواق ناقة». «2»

وقال في وصيته لابنه يزيد بصدد الإمام الحسين عليه السلام: «.. ولن يتركه أهل العراق حتى يخرجوه، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه فإنّ له رحماً ماسّة وحقاً عظيماً وقرابة من محمّد». «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 129

وكان النعمان بن بشير مؤمناً بصحة نظر معاوية في هذا الصدد، وقد أراد أن يذكّر يزيد نفسه بذلك، حينما استدعاه يزيد الى القصر بعد مقتل الإمام عليه السلام وبعد نصب الرأس المقدّس بدمشق، فلمّا جاءه سأله يزيد قائلًا: كيف رأيت ما فعل عبيداللَّه بن زياد؟

قال النعمان: الحرب دُوَل.

فقال يزيد: الحمد للَّه الذي قتله!

قال

النعمان: قد كان أميرالمؤمنين- يعني به معاوية- يكره قتله. «1»

ولا شك أن معاوية- كما قلنا من قبل- يكره قتل الإمام عليه السلام في مواجهة علنية، أمّا في مواجهة سريّة فما أكثر من قتلهم معاوية بالسّم أو الاغتيال، ومنهم الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، فمعاوية لايتورّع قيد أنملة في المبادرة الى قتل الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة سرية بسمّ أو اغتيالًا مادعته الضرورة إلى ذلك.

من كلّ ما تقدّم نرجّح أنّ موقف النعمان بن بشير من الثوّار ومن بوادر الثورة إنّما اتسم ظاهراً باللين والتسامح لأنه كان يرى- إيماناً بنظرة معاوية- أنّ المواجهة العلنيّة مع الإمام الحسين عليه السلام ليست في صالح الحكم الأموي.

فلم يكن النعمان ضعيفاً، بل كان يتضعّف مكراً وحيلة، معوّلًا على الأسلوب السرّي والخدعة الخفية للقضاء على الثورة والتخلّص من مسلم بن عقيل عليه السلام، بل حتى من الإمام الحسين عليه السلام.

فالنعمان لم يكن «حليماً ناسكاً يحبّ العافية!» كما صوّرته رواية الطبري، أو «يحب العافية ويغتنم السلامة!» كما صوّرته رواية الدينوري، بل كان شيطاناً يحذو

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 130

حذو معاوية كبيرهم الذي علّمهم الشيطنة في رسم الخطط الماكرة، لكنّه أخطأ هذه المرّة في حساباته، تماماً كما صوّرت ذلك التقارير المرفوعة إلى يزيد من عملاء وجواسيس الحكم الأمويّ في الكوفة، لأنّ الزمن آنذاك كان يجري في صالح النهضة الحسينية، وكان لابدّ من المسارعة الى عزل النعمان والإتيان بوالٍ غشوم كعبيد اللَّه بن زياد، يبادر إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تقلب مسار حركة الأحداث في العاجل لصالح الحكم الأموي، وهكذا كان.

ونحن- مع هذا- لاننفي احتمال أن يكون لسخط النعمان على يزيد، ولوجود صلة المصاهرة بينه وبين المختار تأثير على موقفه من الثوار، لكننا نرجّح أنّ

السبب الذي بيّناه كان هو السبب الأهم.

حركة السلطة الأموية المركزية في الشام ..... ص : 130
اشارة

لنعد إلى متابعة حركة الأحداث حسب تسلسلها التأريخي، وننظر ماذا صنعت في دمشق التقارير التي رفعها إلى يزيد من الكوفة الأمويون فيها مثل عمارة بن عقبة، وعملاؤهم مثل عمر بن سعد بن أبي وقاص، وجواسيسهم مثل عبداللَّه بن مسلم بن سعيد الحضرمي!

يتابع الطبريّ رواية القصة قائلًا: «فلمّا اجتمعت الكتب عند يزيد، ليس بين كتبهم إلّا يومان، دعا يزيد بن معاوية سرجون «1» مولى معاوية.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 131

فقال: مارأيُك؟ فإنّ حسيناً قد توجّه نحو الكوفة، ومسلم بن عقيل بالكوفة يبايع للحسين، وقد بلغني عن النعمان ضعفٌ وقول سي ءٌ- وأقرأه كتبهم- فماترى؟ من أَستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتباً على عبيداللَّه بن زياد.

فقال سرجون: أرأيت معاوية لو نُشر لك أكنت آخذاً برأيه؟

قال: نعم.

فأخرج عهد عبيداللَّه على الكوفة ..

فقال: هذا رأي معاوية، ومات وقد أمر بهذا الكتاب.

فأخذ برأيه، وضمّ المصرين إلى عبيداللَّه، وبعث إليه بعهده على الكوفة» «1».

ثمّ يتابع الطبري رواية القصة قائلًا:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 132

«ثمّ دعا مسلم «1» بن عمرو الباهلي وكان عنده، فبعثه إلى عبيداللَّه بعهده إلى البصرة، وكتب إليه معه:

أمّا بعدُ، فإنّه كتب إليَّ شيعتي! من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين، فَسِرْ حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي أهل الكوفة، فتطلب ابن عقيل كطلب الخرزة حتى تثقفه، فتوثقه أو تقتله أو تنفيه.

والسلام.

فأقبل مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيداللَّه بالبصرة. فأمر عبيداللَّه بالجهاز والتهي ء والمسير الى الكوفة من الغد». «2»

هذا وقد نقل الموسوي الكركي في كتابه (تسلية المجالس) رسالة يزيد إلى ابن زياد بتفاوت مهم، ونصّها:

«سلام عليك. أمّا بعد: فإنّ الممدوح مسبوب يوماً، والمسبوب ممدوح يوماً، ولك ما لك،

وعليك ما عليك، وقد انتميت ونُميتَ إلى كلّ منصب كما قال الأوّل:

رُفِعتَ فجاوزتَ السحاب برفعةٍ فمالك إلّا مقعدُ الشمسِ مقعَدُ

وقد ابتلي زمانك بالحسين من بين الأزمان، وابتلي بلدك دون البلدان. وقد أخبرتني شيعتي من أهل الكوفة أنّ مسلم بن عقيل في الكوفة يجمع الجموع ويشق عصا المسلمين وقد اجتمع إليه خلق كثير من شيعة أبي تراب، فإذا أتاك كتابي هذا فسر حين تقرأه حتى تقدم الكوفة فتكفيني أمرها، فقد ضممتها إليك، وجعلتها زيادة في عملك فاطلب مسلم بن عقيل طلب الخرز، فإذا ظفرت به فخذ بيعته أو اقتله إن لم يبايع واعلم أنه لا عذر لك عندي دون ما أمرتك، فالعجل العجل، الوحا الوحا، والسلام». «1»

وقد روى الوالد قدس سره في كتابه (مقتل الإمام الحسين عليه السلام) نقلًا عن كتاب ناسخ التواريخ أن يزيد في رسالته لابن زياد قال: «بلغني أنّ أهل الكوفة قد اجتمعوا على البيعة للحسين، وقد كتبت إليك كتاباً، فاعمل عليه، فإني لا أجد سهماً أرمي به عدوّي أجرأ منك، فإذا قرأت كتابي هذا فارتحل من وقتك وساعتك، وإيّاك والإبطاء والتواني، واجتهد ولا تبق من نسل عليّ بن أبي طالب أحداً، واطلب مسلم بن عقيل وابعث إليَّ برأسه». «2»

تأمّل وملاحظات ..... ص : 132
1)- سرجون النصراني .. والإقتراح المتوقَّع! ..... ص : 132

في إطار حركة النفاق- بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله- كان فصيل منافقي أهل الكتاب يرى أنّ غاية وجوده وعلّة تأسيسه هي دعم خطّ الإنحراف عن أهل البيت عليهم السلام، وتكفي نظرة عابرة على سيرة أمثال: كعب الأحبار، وتميم الداري،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 134

ووهب بن منبّه، ونافع بن سرجس مولى عبداللَّه بن عمر، وسرجون مستشار معاوية ويزيد، وأبي زبيد مستشار الوليد بن عقبة، دليلًا على منهج هذا الفصيل في نوع حركته

على أساس العداء لأهل البيت عليهم السلام.

فكان من المتوقّع بما يشبه اليقين- على ضوء التحليل التأريخي والنفسي- أن يبادر سرجون نفسه فيقترح على يزيد تعيين عبيداللَّه بن زياد والياً على الكوفة بدلًا من النعمان بن بشير لمواجهة المستجدّات الصعبة هناك، لما يعلمه سرجون من حقد عبيداللَّه على أهل البيت عليهم السلام وبغضه الشديد لهم، وهذا أهم مزايا عبيداللَّه في نظر سرجون، ولما يعلمه فيه من عدم التورع عن الغشم والظلم والقتل، وقدرة إدارية عمادها المكر والحيلة، فهو الرجل المناسب لإدارة الأمور في الكوفة في ذلك الظرف الإستثنائي المعقّد.

لكنّ سرجون يعلم أيضاً أنّ هذا الإقتراح قد لايقبله يزيد لأنّه كان يبغض عبيداللَّه بغضاً شديداً «1» أو كان عاتباً عليه، «2» فسعى سرجون إلى دعم هذا الإقتراح بكتاب معاوية- الذي أمر به قبيل وفاته- بتولية عبيداللَّه بن زياد على الكوفة، مؤكداً بذلك مطابقة رأي معاوية لرأيه في هذه المسألة أو العكس.

فسرجون وهو ممثل فصيل منافقي أهل الكتاب في البلاط الأمويّ لم يكن غير ذي رأي في المسألة، بل كان قد اقترح ما يراه هو- بطريقة غير مباشرة- في إطار رأي معاوية في نفس المسألة، وما يدرينا فلعلّه كان قد أشار على معاوية أيضاً بنفس هذا الرأي فتبنّاه معاوية، ثمّ أظهره سرجون ليزيد في الوقت المناسب على أنه رأي أبيه، واللَّه العالم.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 135

2)- ماذا يعني عهد معاوية- أواخر أيّامه- لعبيداللَّه على الكوفة!؟ ..... ص : 135

لقد أحسَّ معاوية بن أبي سفيان قبيل وفاته بإرهاصات تمرّد الكوفيين على الحكم الأموي، ذلك لأنّ عامة أهل العراق بنوع خاص نتيجة مالمسوه من فداحة الظلم الأموي صاروا يرون بغض بني أميّة وحبّ أهل البيت عليهم السلام ديناً لأنفسهم. «1»

فكان لابدَّ للكوفة خاصة من إدارة قويّة تمسك بأزمّة الأمور فيها، الأمر الذي

لم يوفّق فيه النعمان بن بشير واليها وقتذاك، فبادر معاوية إلى استباق الأحداث وعهد الى عبيداللَّه بن زياد بالولاية على الكوفة، ليضبط الأمور فيها، لكن الموت أدرك معاوية قبل التنفيذ العملي لهذا العهد، وبقي كتاب هذا العهد محفوظاً عند مستشاره سرجون النصراني، الذي ربّما كان هو الذي حرّك معاوية باتجاه اتخاذ مثل هذا القرار.

هذا، وهناك رأي آخر يقول: إنّ قرار معاوية- بمشورة سرجون- بتعيين عبيداللَّه بن زياد والياً على الكوفة يعتبر الخطوة العملية الأولى لقتل الإمام الحسين عليه السلام، ذلك لأنّ معاوية يعلم أنّ الإمام عليه السلام- بعد موت معاوية- لن يبايع ليزيد، ولابدّ له من القيام، ولابدّ لأهل الكوفة من تأييده ودعوته إليهم، فلابُدَّ إذن من المواجهة العلنية مع الإمام عليه السلام.

ومعاوية يعلم أنّ يزيد وعبيداللَّه بن زياد بما يحملانه من حقد شديد على أهل البيت عليهم السلام واعتساف في معالجة الأمور وقلّة في التدبّر والدهاء والصبر سوف يقدمان على قتل الإمام الحسين عليه السلام، بل كان معاوية قد أخبر الإمام عليه السلام بذلك في إحدى رسائله إليه. «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 136

إذن فمعاوية بهذا مشارك فعّال في جريمة قتل الإمام عليه السلام!

ونقول: إنّ هذا صحيح من حيث النظر الى النتيجة العملية، وقد أدرك معاوية هذه النتيجة في حياته، في إصراره على البيعة لإبنه يزيد ولياً للعهد من بعده- وتولية يزيد على كلّ البلاد أهمّ من تولية عبيداللَّه على الكوفة- وكان معاوية يعلم بأنّ يزيد سيرتكب تلك الجريمة- التي تحاشا معاوية أن يرتكبها هو في حياته- لأنه يعلم أنّ قتل الإمام عليه السلام في مواجهة علنية، سوف يقضي بالنتيجة على الحكم الأموي نفسه، وعلى كلّ جهود حركة النفاق منذ وفاة الرسول صلى الله عليه

و آله، إلى موت معاوية، ولذا كان معاوية إذا تأمّل في النتيجة العملية تأكلُ قلبه الحسرة إزاء ضعفه أمام عاطفته ليزيد وهواه فيه، فكان يقول: «ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي وعرفت قصدي ..». «1»

وقد حاول معاوية قبل موته أن يحتاط لهذا الأمر وأن يحول دون أن يرتكب يزيد من بعده حماقة قتل الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة علنية، فأوصاه بذلك، «2» ولعلّه أكّد عليه في هذه المسألة بأكثر من سبيل، ولات حين فائدة!!

3)- يزيد يستخدم أسلحة أبيه في الإرهاب الديني!! ..... ص : 136

من التضليل الديني الذي ابتدعه معاوية لتثبيت ملكه، ولاستخدامه في إرهاب الأمّة إرهاباً دينياً من أجل تحذيرها وتخديرها عن التفكير بالقيام ضده، الأحاديث الكثيرة التي وضعها له وافتراها على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله عملاؤه من صحابة وتابعين معروفين بنفاقهم وتهالكهم على دنيا معاوية، كأبي هريرة، وعمرو بن العاص،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 137

وعبداللَّه بن عمر، والمغيرة بن شعبة، وسمرة بن جندب، وغيرهم من النفعيين، الذين تفنّنوا في وضع مفتريات تدعو الأمّة الى الصبر على ظلم الحاكم الجائر والخضوع له وعدم الخروج عليه، فمن مفتريات ابن عمر- على سبيل المثال لا الحصر- «ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمّة وهي جمع فاضربوه بالسيف كائناً ما كان» و «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه، فإنّ من فارق الجماعة شبراً فمات إلا ميتة جاهلية!» و «أدّوا إليهم حقّهم- أي الحكام- واسألوا اللَّه حقّكم!» «1» وأمثال ذلك.

فأراد يزيد أن يعزف على نفس النغمة في رسالته الى عبيداللَّه بن زياد بقوله:

«فإنه كتب إليَّ شيعتي! من أهل الكوفة يخبرونني أنّ ابن عقيل بالكوفة يجمع الجموع لشقّ عصا المسلمين ..»، وكأنّ يزيد أراد أن ينبّه ابن زياد ليقوم باستخدام تهمة

«شقّ عصا المسلمين» في مواجهة مسلم إعلامياً، ويعرّفه أن عقوبة هذه التهمة هي القتل، وما يجري على مسلم من التهم عند الأمويين يجري بالضرورة على سيّده الإمام الحسين عليه السلام، بل لقد وجّه الأمويون هذه التهمة إلى الإمام عليه السلام بشكل سافر لمّا أرادوا منعه عن الخروج من مكّة المكرّمة فأبى عليهم، حيث نادوه: «ياحسين، ألا تتقي اللَّه؟ تخرج من الجماعة، وتفرّق بين هذه الأمّة!!». «2»

ولقد أسرف ابن زياد في استخدام هذه التهمة إعلامياً ضدّ مسلم بن عقيل عليه السلام والثوّار في الكوفة لتنفير الناس عنهم، وخاطب مسلماً عليه السلام بهذه التهمة مباشرة بعد أن تمكّنوا منه وأحضروه في القصر قائلًا: «ياعاقّ، ياشاقّ، خرجت على إمامك، وشققت عصا المسلمين، وألقحت الفتنة!»، لكنّ البطل الشجاع مسلم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 138

بن عقيل عليه السلام ردّ عليه قائلًا: «كذبت ياابن زياد، إنّما شقّ عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد، وأمّا الفتنة فإنّما ألقحها أنت وأبوك زياد ..». «1»

4)- من هو عبيداللَّه بن زياد!؟ ..... ص : 138

كان زياد بن أبيه قبل استلحاق معاوية إيّاه وادعّائه أنه أخوه من أبيه يرى نفسه من الموالي، لأنه ولد على فراش عبيد الرومي، «2» فكان زياد يحنو على الموالي ويدافع عنهم ويدرء عنهم الغوائل، كما فعل في ردّ عمر بن الخطاب عن خطّته في الفتك بالموالي والأعاجم التي كتب بها الى أبي موسى الأشعري. «3»

ولعلّ هذا العامل النفسي كان أقوى عوامل انتماء زياد بن أبيه إلى صفّ أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام والعمل تحت لوائه حينذاك.

وكان معاوية بدهائه وخبثه ومعرفته بنفسية زياد بن أبيه قد انتبه الى هذا العامل النفسي المؤثّر جدّاً في نوع انتماء زياد فكرياً وسياسياً، فبادر إلى القول بتلك الدعوى المختلقة، دعوى الإستلحاق، ليُطلق زياداً من عقدة انتمائه الى الموالي،

وينسبه إلى نسبه (إلى أبيه) أي إلى بيت معروف من بيوتات قريش، وبهذا ضمن معاوية- بماله من معرفة بزياد- تحوّله إلى صفّه وباطله.

وهكذا كان، فبعد أن تحوّل زياد إلى باطل معاوية متحرراً من عقدة الموالي بطش بالموالي أشدّ البطش، وكان جلّ الشيعة منهم، وساعده على ذلك معرفته السابقة بهم وبأشخاصهم ورموزهم وأمكنتهم.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 139

وفي الرسالة الإحتجاجية الشاملة التي بعثها الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية أشار عليه السلام إلى هذا البعد النفسي من وراء الإستلحاق إضافة إلى مخالفة هذا الإستلحاق للشريعة المقدّسة، تأمّل في قوله عليه السلام في هذه الرسالة:

«أولستَ المدّعي زياد بن سميّة المولود على فراش عبيد ثقيف!؟ فزعمت أنّه ابن أبيك، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، وتركت سُنّة رسول اللَّه تعمّداً وتبعت هواك بغير هدى من اللَّه، ثُمَّ سلّطته على العراقين، يقطّع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمّل أعينهم، ويصلّبهم على جذوع النخل، كأنّك لست من هذه الأمّة وليسوا منك ..». «1»

ولقد نشأ عبيداللَّه بن زياد في ظلّ الإعتزاز بالنسب السفياني، وكان يفخر به، «2» وأجّج فيه وهم هذا الإنتساب نيران حقد شديد على أهل البيت عليهم السلام خاصة والشيعة عامة، فسجّل له التأريخ ملفاً أسود مليئاً بأبشع الجرائم التي يندى لها جبين التأريخ نفسه!

وروي أنّ عبيداللَّه ولد سنة 20 ه، «3» وكانت أمّه مرجانة مجوسية معروفة بالبغاء، فارقها زياد وتزوّج بها شيرويه (الأسواري)، «4» ودفع زياد إليها عبيداللَّه فنشأ في بيت شيرويه (ولم يكن مسلماً) وتربّى في بيته، فكانت فيه لكنة لايستطيع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 140

بسببها أداء بعض الحروف العربية كماهي، فكان يقول للحروري مثلًا: هروري، فيضحك سامعوه. «1»

وهلك أبوه زياد سنة 53 ه،

فوفد ابنه عبيداللَّه على معاوية فولاه خراسان سنة 54 ه، «2» ثمّ ولاه البصرة سنة 55 ه، فترك على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي ورجع إلى البصرة. «3» ولما مات معاوية كان عبيداللَّه لم يزل والياً عليها.

ومع أنّ حقد عبيداللَّه بن زياد على أهل البيت عليهم السلام كان كافياً في دفعه الى ارتكاب جريمة قتل الإمام الحسين عليه السلام، لكنّ خوفه من نقمة يزيد عليه وبغضه له، ورغبة عبيداللَّه فى ترضية يزيد والتودّد إليه، شكّلا دافعاً مضافاً في العزم على قتل الإمام عليه السلام وإظهار الإخلاص التام ليزيد. «4»

وكان يزيد قد استخدم مع عبيداللَّه نفس سلاح أبيه معاوية مع زياد في تهديده بسحب هوية النسب الأموي المكذوب منه فيعود كما هو عبداً لثقيف، حينما حثّه على امتثال أمره في قتل الإمام عليه السلام إذ كتب إليه: «إنه قد بلغني أنّ حسيناً سار إلى الكوفة، وقد ابتلي به زمانك من بين الأزمان، وبلدك بين البلدان، وابتليت به من بين العمّال، وعنده تُعتق أو تعود عبداً، فقتله عبيداللَّه وبعث برأسه وثقله إلى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 141

يزيد». «1»

وكان عبيداللَّه قبيح السريرة، فاسقاً ظالماً غشوماً جباناً إذا ضعف، جبّاراً إذا تمكّن، قال الحسن البصري: «قدم علينا عبيداللَّه، أمّره معاوية غلاماً سفيهاً، سفك الدماء سفكاً شديداً .. وكان عبيداللَّه جباناً». «2»

«وكان الحسن البصري يسمّيه الشابّ المترف الفاسق، وقال فيه: مارأينا شراً من ابن زياد!». «3»

و «جي ء إليه بسيّد من سادات العراق، فأدناه منه ثمّ ضرب وجهه بقضيب كان في يده حتى كسر أنفه وشقّ حاجبيه، ونثر لحم وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه». «4»

«وغضب على رجل تمثّل بآية من القرآن، فأمر أن يُبنى عليه ركن من أركان قصره!». «5»

«وكان يقتل

النساء في مجلسه، ويتشفّى بمشاهدتهن يعذّبن وتقطّع أطرافهن!». «6»

«عاش مكروهاً عند أهل العراق» «7» و «مهيناً عند أهل الحجاز». «8»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 142

«لما مات يزيد أغرى بعضَ البصريين أن يبايعوه، ثم جبن عن مواجهة الناس فاستتر ثم هرب الى الشام .. وكان عبيداللَّه من الأكلة، كان يأكل جدّياً أو عناقاً يُتخيّر له في كلّ يوم فيأتي عليه! وأكل مرّة عشر بطّات وزبيلًا من عنب، ثمّ عاد فأكل عشر بطّات وزبيلًا من عنب وجدياً!!».»

«قال التنوخي: إنّ عبيداللَّه بن زياد لمّا بنى داره البيضاء بالبصرة بعد قتل الحسين صوّر على بابها رؤوساً مقطّعة، وصوّر في دهليزها أسداً وكبشاً وكلباً، وقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح.

فمرّ بالباب أعرابيّ فرأى ذلك فقال: أما إنّ صاحبها لا يسكنها إلّا ليلة واحدة لا تتم!

فرفع الخبر إلى ابن زياد، فأمر بالأعرابي فضُرب وحُبس، فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى قيس بن السكون ووجوه أهل البصرة في أخذ البيعة له، ودعا الناس الى طاعته فأجابوه، وراسل بعضهم بعضاً في الوثوب عليه في ليلتهم (أي على ابن زياد)، فأنذره قوم كانت له صنائع عندهم، فهرب من داره في ليلته تلك، واستجار بالأزد فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين بني تميم بسببه، حتى أخرجوه فألحقوه بالشام، وكُسِر الحبس فخرج الأعرابي، ولم يعد ابن زياد الى داره، وقتل في وقعة الخازر». «2»

ولما رأى ابن زياد- بعد فاجعة كربلاء- أنه لم يجنِ إلا غضب اللَّه وسخط الناس عليه «3» سعى إلى التنصّل من مسؤولية قتل الإمام عليه السلام، فكان يدّعي قائلًا: «أمّا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 143

قتلي الحسين فإنّه أشار إليّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترتُ قتله!». «1»

ولمّا جاء نعي يزيد هرب عبيداللَّه بعد

أن كاد يؤسر، واخترق البرية إلى الشام، وانضم إلى مروان وقاتل معه، فلمّا ظفر مروان ردّه إلى العراق، فلمّا دخل أرض العراق وجّه المختار إليه إبراهيم بن مالك الأشتر، فالتقوا بقرب الزاب، وقتل إبراهيم بن الأشتر عبيداللَّه بن زياد بضربة نجلاء قدَّه بها نصفين، وكان ذلك في يوم عاشوراء سنة 67 ه. «2»

«وأُنفذ رأس عبيداللَّه بن زياد الى المختار ومعه رؤوس قوّاده، فأُلقيت في القصر، فجاءت حيّة دقيقة فتخلّلت الرؤوس حتى دخلت في فم عبيداللَّه بن زياد ثم خرجت من منخره، ودخلت في منخره وخرجت من فيه، فعلت هذا مراراً، أخرج هذا الترمذيّ في جامعه». «3»

وكانت جثّته قد أحرقت بعد قطع رأسه. «4»

وهلك هذا الطاغية حين هلك ولم يكن له عقب. «5»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 144

ومع أننا نجد في كتاب اللَّه الحكيم أنّ اللَّه تعالى لعن المفسدين في الأرض القاطعين الرحم في قوله تعالى: «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم* أولئك الذين لعنهم اللَّه فأصمّهم وأعمى أبصارهم»، «1»

ولا نظن أنّ مسلماً عاقلًا عالماً يشك في أنّ يزيد وعبيداللَّه بن زياد وأضرابهم كانوا المصداق الأتمّ لمفهوم المفسد في الأرض والقاطع الرحم، كيف لا وقد قتلوا عامدين ريحانة رسول اللَّه صلى الله عليه و آله الإمام الحسين عليه السلام شرّ قتلة مع أنصاره من أهل بيته وأصحابه وسبوا حريم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله على أفجع حالة، يتصفّح وجوههنّ الأعداء والغرباء من كربلاء الى الشام!؟ وهل هناك عند اللَّه وعند المؤمنين رَحِم أعزّ وأولى بالصلة من رحم رسول اللَّه صلى الله عليه و آله!؟ وهل هناك إفساد مُتصوَّر أكثر وأكبر وأنكر مما اجترحه يزيد وعبيداللَّه وأضرابهم!؟

مع كلّ هذا، يقول الذهبي في

شدّة ورع وتقوى!!: «الشيعي لايطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في اللَّه!، ونبرأ منهم ولا نلعنهم، وأمرهم إلى اللَّه!». «2» ونقول: شنشنة أعرفها من أخزمِ!! «3»

هل غيّرت السلطة الأموية المركزية والي مكّة؟ ..... ص : 144

يذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ معاوية مات حين مات: «وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكّة يحيى بن حكيم بن صفوان بن أميّة، «4» وعلى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 145

الكوفة النعمان بن بشير الأنصاريّ، وعلى البصرة عبيداللَّه بن زياد». «1»

وهذا يعني أنّ السلطة الأموية المركزية في دمشق قد عزلت يحيى بن حكيم عن ولاية مكّة، وأحلّت مكانه عمرو بن سعيد الأشدق، ضمن الإجراءات الجديدة التي اتخذتها على أثر وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى مكة المكرّمة.

غير أنّ مؤرّخين آخرين رووا أنّ عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق هو الذي كان والياً على مكّة حين مات معاوية، «2» ثم جمع له يزيد الولاية على مكّة والمدينة بعد عزله الوليد بن عتبة عن منصب الولاية في المدينة.

ومما يؤيد هذا ماروي أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا ورد مكّة قال له عمرو بن سعيد: ما إقدامك!؟ فقال عليه السلام: عائذاً باللَّه وبهذا البيت. «3»

فتأمّل.

عزل الوليد بن عتبة عن ولاية المدينة ..... ص : 145

كان الوليد بن عتبة «4» أمويّاً مخلصاً كلّ الإخلاص للحكم الأمويّ عن وعيٍ تام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 146

لانتمائه القبلي وحرص بالغ على تقديم بني أميّة على من سواهم، وكان في نفس الوقت يتمنّى أن لايصطدم مع بني هاشم عامة وأهل البيت خاصة، ويطلب العافية من ذلك ويرجوها.

وفي صدد الموقف من الإمام الحسين عليه السلام خاصة كان الوليد يتبنّى نظرة معاوية الذي كان يرى أنّه ليس من مصلحة الحكم الأموي أن يدخل في مواجهة علنية مع الإمام الحسين عليه السلام، مع ماروي أنّ الوليد كان يرى لأهل البيت عليهم السلام حرمة ومنزلة عند اللَّه تعالى!، ولذا فقد اتّسم موقفه من رفض الإمام الحسين عليه السلام بالتسامح واللّين، الأمر الذي أغضب السلطة الأموية المركزية

في دمشق وأسخطها على الوليد، فقام يزيد بعزل الوليد عن ولاية المدينة في شهر رمضان من نفس السنة، «1» وأضاف ولاية المدينة لعمرو بن سعيد الأشدق مع ولاية مكّة المكرّمة.

رسالة يزيد إلى عبداللَّه بن عبّاس ..... ص : 146

ومن الإجراءات التي بادرت إليها السلطة الأموية المركزية في الشام بعد وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى مكّة إرسال الكتب إلى من يحتمل أن يكون له تأثير على موقف الإمام الحسين عليه السلام من بني هاشم خاصة أو من وجهاء الأمّة الإسلامية عامة، «2» وقد سجّل لنا التأريخ في هذا الإطار قصة الرسالة التي بعث بها يزيد الى عبداللَّه بن عباس يطلب إليه فيها أن يردَّ الإمام عليه السلام عن الخروج على النظام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 147

الأموي، وأن يحذّره من مغبّة ذلك، ويمنّيه بالأمان والصلة البالغة والمنزلة الخاصة عند السلطان الأموي!

«قال الواقدي: ولمّا نزل الحسين مكّة كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس:

أمّا بعدُ: فإنّ ابن عمّك حسيناً وعدوّ اللَّه ابن الزبير التويا ببيعتي ولحقا بمكّة مرصدين للفتنة، معرّضين أنفسهما للهلكة، فأمّا ابن الزبير فإنه صريع الفناء وقتيل السيف غداً، وأمّا الحسين فقد أحببت الإعذار إليكم أهل البيت مما كان منه، وقد بلغني أنّ رجالًا من شيعته من أهل العراق يكاتبونه ويكاتبهم ويمنّونه الخلافة ويمنّيهم الإمرة، وقد تعلمون مابيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحرمة ونتايج الأرحام، وقد قطع ذلك الحسين وبتّه، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد أهل بلادك، فالقه فاردده عن السعي في الفرقة، وردّ هذه الأمّة عن الفتنة، فإنْ قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة، وأجري عليه ما كان أبي يجريه على أخيه، وإنْ طلب الزيادة فاضمن له ما أراك اللَّه أنفذ ضمانك، وأقوم له بذلك وله عليَّ الأيمان المغلّظة والمواثيق

المؤكّدة بما تطمئن به نفسه ويعتمد في كلّ الأمور عليه.

عجّل بجواب كتابي وبكلّ حاجة لك إليَّ وقِبَلي، والسلام». «1»

وأضاف صاحب تذكرة الخواص قائلًا:

«قال هشام بن محمد: وكتب يزيد في أسفل الكتاب:

ياأيها الراكب الغادي لمطيته «2» على عذافرة في سيرها قحمُ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 148

أَبلغ قريشاً على نأي المزار بها بيني وبين الحسين اللَّهُ والرحمُ

وموقف بفناء البيت أنشده عهد الإله غداً يوفى به الذممُ

هنيتمُ قومكم فخراً بأمِّكمُ أُمٌّ لعمري حسانٌ «1» عفّة كرمُ

هي التي لايُداني فضلها أحدٌ بنت الرسول وخير الناس قد علموا

إنّي لأعلم أو ظنّاً لعالمه والظنّ يصدق أحياناً فينتظمُ

أنْ سوف يترككم ماتدّعون به قتلى تهاداكم العقبان والرخمُ

ياقومنا لاتشبّوا الحرب إذ سكنتْ وأمسكوا بحبال السلم واعتصموا

قد غرَّت الحرب من قد كان قبلكم من القرون وقد بادت بها الأممُ

فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخاً فَرُبَّ ذي بذخ زلّت به القدمُ» «2»

ملاحظات حول هذه الرسالة ..... ص : 148

1)- هناك مشتركات نفسية أساسية بين متن الرسالة وبين أبيات الشعر التي قال (هشام بن محمّد) إنّ يزيد أرفقها مع الرسالة، وأهم هذه المشتركات هو أنّ كليهما تضمّن الترغيب والترهيب معاً، ومخاطبة الإمام عليه السلام عن طريق ابن عبّاس الذي عبّر عنه يزيد ب (قريش) في الشعر، وهناك مشترك نفسي آخر فيهما وهو أنّ يزيد اجتهد في هذه الرسالة أن يمسك بزمام حنقه وغضبه، وهو الناصبيّ الفظّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 149

الغليظ الجلف الذي لايتناهى عن منكراته، «1» وهذا التماسك فرضته الضرورة السياسية على مزاج يزيد الذي تعوّد الإستهتار، ولا يبعد أن تكون هذه الموازنة في الترغيب والترهيب من تأثير وإملاء سرجون المستشار النصراني المعتّق صاحب الخبرة في الحرب النفسية ومعالجة الأزمات السياسية منذ عهد معاوية.

2)- ونقف في هذه الرسالة مرّة أخرى أيضاً أمام نفس النغمة التي يعزفها

الحكم الأمويُّ بوجه المعارضة، وهي التحذير من شقّ عصا الأمّة وتفريق كلمة المسلمين وإرجاعهم إلى الفتنة وما إلى ذلك.

هذا السلاح الذي ابتكره معاوية واستخدمه في وجه معارضيه بعد أن روّج له في الأمّة من خلال أحاديث مفتريات على رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تدعو الأمّة الى الخنوع للحاكم الظالم والصبر على جوره، وتدعو إلى قتل كلّ من ينهض للخروج على الحكّام الجائرين بتهمة شقّ عصا الأمّة وتفريق كلمتها.

فليس من المستغرب أن يخاطب يزيد ابن عبّاس بذلك فيقول: «فالقه فاردده عن السعي في الفرقة، ورُدَّ هذه الأمّة عن الفتنة!»، وليس بمستغرب أن يخاطب ابن زياد مسلم بن عقيل قائلًا: «أتيتَ الناسَ وهم جميع فشققتَ بينهم وفرّقتَ كلمتهم وحملت بعضهم على بعض!»، «2» فمن قبل كان معاوية يدسُ تلك التهم إلى الإمام الحسين عليه السلام ويعزف نفس النغمة من خلال تحذيره بألّا يشقّ عصا هذه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 150

الأمّة وألّا يردّها في الفتنة، وكان الإمام أبو عبداللَّه الحسين عليه السلام يجيبه قائلًا: «.. فلا أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي وولدي وأمّة جدّي أفضل من جهادك، فإن فعلته فهو قربة إلى اللَّه عزوجلّ، وإن تركته فاستغفر اللَّه لذنبي وأسأله توفيقي لإرشاد أموري ..». «1»

3)- سعى يزيد في هذه الرسالة الى اتهام الإمام عليه السلام بأنّ غاية خروجه طلب الملك والدنيا، ولذا فقد طلب في الرسالة الى ابن عبّاس أن يمنّي الإمام عليه السلام- في حال تخلّيه عن القيام- بالأمان والكرامة الواسعة! وإجراء ماكان معاوية يجريه على أخيه عليه السلام! وأنّ له ما يشاء من الزيادة على ذلك!

ويزيد يعلم تمام العلم أنّ الإمام عليه السلام لم يقم ولم يخرج أشراً ولا بطراً

ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرج لطلب الإصلاح في هذه الأمّة المنكوبة بكارثة الحكم الأموي الجاثم على صدرها سنين طويلة، لكنّها عادة الطغاة في مواجهة الثائرين وعادة الضلال في مواجهة الهدى، فمن قبل سعى أبو سفيان جدُّ يزيد وأعلام جاهلية قريش إلى إتهام النبي صلى الله عليه و آله بتهمة طلب الملك والدنيا، وشرطوا لأبي طالب عليه السلام أن يحققوا له صلى الله عليه و آله كلّ مايتمنّاه من ذلك فيهم إذا هو تخلّى عن دعوته، لكنّ النبي صلى الله عليه و آله ردّ على إغرائهم وتهمتهم بقاطعية يخلد ذكرها ما خلد الدهر:

«ياعم واللَّه، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ماتركته حتى يُظهره اللَّه أو أهلك فيه ماتركته». «2»

4)- ومع ماقدّمناه من ملاحظات حول متن هذه الرسالة، ينبغي أن نلفت الإنتباه إلى أنّ الواقدي الذي رويت عنه قصة هذه الرسالة قد تأمّل علماء الرجال فيه أو رموه بالكذب، فقد قال الذهبي: «قال البخاري: سكتوا عنه، تركه أحمد وابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 151

نمير، وقال أسلم وغيره: متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الشافعي:

كُتُب الواقدي كذب. وقال ابن معين: ليس الواقدي بشي ء. وقال مرّة: لايُكتب حديثه. وقال أحمد بن حنبل: الواقديّ كذّاب. وقال إسحاق: هو عندي يضع الحديث. وقال النسائي: المعروفون بوضع الحديث على رسول اللَّه أربعة ..

والواقدي ببغداد. وقال أبوزرعة: ترك الناس حديث الواقدي. وروى عبداللَّه بن علي المديني، عن أبيه قال: عند الواقدي عشرون ألف حديث لم أسمع بها، ثمّ قال: لا يُروى عنه وضعّفه». «1»

هذا عند رجاليّيّ العامة، وأمّا عندنا فلم يتعرّضوا له بمدح أو ذم، «2» وإن حاول المامقاني جعله في سلك الحسان، «3» كما

تفرّد ابن النديم في نسبته إلى التشيّع.

هذا فضلًا عن أنّ الرواية مرسلة، لأنّ الواقدي وراوي الرسالة ولد بعد المائة والعشرين للهجرة، والرسالة- على الفرض التأريخي- تكون قد صدرت عام ستين للهجرة.

والظاهر أنّ أوّل من ذكر أنّ هذه الرسالة كانت موجّهة الى ابن عباس هو ابن عساكر المتوفّى سنة 571 ه، «4» وبعده سبط ابن الجوزي المتوفى 654 ه، ثمَّ المزّي المتوفى 742 ه، أمّا الكتب التأريخية التي هي أقدم من هذه الكتب كالفتوح وتأريخ الطبري فهي خالية من هذه الرسالة، والأبيات الشعرية التي أوردها سبط ابن الجوزي في ذيل الرسالة أو ردها صاحب الفتوح على أنّ المخاطب بها هم أهل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 152

المدينة- وسيأتي ذكرها- مما يثير الشبهة في أنّ هذا الكتاب- الرسالة- ربّما كان من مفتعلات مرتزقة التأريخ الساعين في خدمة الشجرة الملعونة، ظنّاً منهم أنّ ذكر مثل هذه الرسالة يشكّل تبريراً لموقف يزيد بأنّه قد بادر وكتب الى ابن عبّاس (بني هاشم) وخاطب الحسين عليه السلام من خلالهم، وأنّه قد أعذر من أنذر!

رسالة يزيد إلى (القرشيين) في المدينة ..... ص : 152

ويروي التأريخ أيضاً أنّ يزيد بعث برسالة الى أهل المدينة تتضمّن أبياتاً من الشعر- وهي التي مرّ ذكرها- تحتوي على تهديدهم وتحذيرهم من أي تحرك يتنافى ومصالح السلطة الأموية، فعن ابن أعثم الكوفي: «وإذا كتاب يزيد بن معاوية قد أقبل من الشام إلى أهل المدينة على البريد- من قريش وغيرهم من بني هاشم، وفيه هذه الأبيات ..

قال: فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات، ثمّ وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين ابن عليّ- رضي اللَّه عنهما- فلمّا نظر فيه علم أنّه كتاب يزيد بن معاوية، فكتب الحسين الجواب:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

«وإنْ كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل،

وأنا بري ء مما تعملون». «1» والسلام. «2»

ويظهر من قول المزّي أنّ يزيد كان قد كتب هذه الأبيات إلى ابن عبّاس وإلى من كان في مكّة والمدينة من قريش، حيث يقول: «كتب بهذه الأبيات إليه وإلى من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 153

بمكّة والمدينة من قريش». «1»

والملفت للإنتباه هنا أنّ جواب الإمام عليه السلام كاشف عن ازدرائه عليه السلام الكامل ليزيد إذ لم يذكر في الجواب إسمه، كما لم يلقّبه بلقب، ولم يسلّم عليه، مما يتبيّن منه أنّ يزيد لعنه اللَّه مصداق تام للمكذّب بالدين وبالرسل والأوصياء عليهم السلام، وقد فصّلنا القول في التعليق على هذه الرسالة في الفصل الأوّل فراجع.

التخطيط لإغتيال الإمام عليه السلام أو إعتقاله في مكّة ..... ص : 153

ومن الإجراءات السرية التي اتخذتها السلطة الأموية المركزية في الشام بعد فشل خطّتها الرامية الى اعتقال الإمام عليه السلام أو قتله في المدينة المنوّرة، «2» هو قيامها بالتدابير اللازمة لاغتيال الإمام عليه السلام أو اعتقاله في مكّة المكرّمة.

وخطّة السلطة الأموية لاغتيال الإمام عليه السلام في مكة المكرّمة أو اعتقاله من المسلّمات التأريخية التي يكاد يجمع على أصلها المؤرّخون، وكفى بتصريح الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمّد بن الحنفية:

«ياأخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يُستباح به حرمة هذا البيت!» «3»

وقوله عليه السلام للفرزدق: «لو لم أعجل لأخذت». «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 154

ذكرت بعض المصادر التأريخية: «أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاج وولاه أمر الموسم وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد ..». «1»

ويقول مصدر آخر: «وبعث ثلاثين من بني أميّة مع جمع وأمرهم أن يقتلوا الحسين». «2»

ويقول آخر: «إنهم جدّوا في إلقاء القبض عليه وقتله غيلة ولو وجد متعلّقاً بأستار الكعبة». «3»

ومن الوثائق التأريخية الكاشفة عن هذه الحقيقة

رسالة ابن عباس الى يزيد والتي ورد فيها: «.. وما أنسَ من الأشياء، فلست بناسٍ اطّرادك الحسين بن علي من حرم رسول اللَّه الى حرم اللَّه، ودسّك عليه الرجال تغتاله .. فأكبر من ذلك مالم تكبر حيث دسست عليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم ..». «4»

وفي هذا القدر من المتون التأريخية كفاية في الدلالة على خطة السلطة الأموية المركزية في الشام لإلقاء القبض على الإمام عليه السلام أو اغتياله في مكّة المكرّمة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 155

حركة السلطة الأموية المحليّة في البصرة ..... ص : 155

كان عبيداللَّه بن زياد مدّة ولايته على البصرة قد هيمن على ظاهر الحياة السياسية والإجتماعية فيها، لما عُرف عنه من قدرة على الغَشَم والظلم والجور، والتفريق بين القبائل، وخَلْقِ الكراهية بين الوجهاء والأشراف، وما إلى ذلك من فنون المكر في إدارة شؤون الأمّة التي تعرف فساد حكّامها وفسقهم، وتنطوي على كرههم.

لكنّ باطن الحياة السياسية والإجتماعية في البصرة آنذاك كان يشهد أمراً آخر وهو النشاط السرّي للمعارضة الشيعية بشكل أساسي، فقد كان للشيعة في الخفاء منتدياتهم الخاصة التي يتداولون فيها الأخبار ووقائع الأحداث ومستجدّات الأمور ويتشاورون بصددها فيما بينهم، وكان ابن زياد على علم إجمالي بمثل هذه الحركة الخفية، وكان يتوجّس منها، والدليل على ذلك لحن الخطاب الأخير الذي ألقاه في البصرة قبل سفره منها الى الكوفة.

تلقّى ابن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه مسلم بن عمرو الباهلي والتي ولّاه فيها على الكوفة إضافة إلى البصرة، ودعاه فيها الى المبادرة- حين قراءة الرسالة- الى التوجّه الى الكوفة ليطلب مسلم بن عقيل طلب الخرزة حتى يثقفه فيوثقه أو يقتله أو ينفيه.

وما إنْ قرأ ابن زياد الرسالة حتى أمر بالجهاز والتهي ء والمسير الى الكوفة من الغد، «1» لكنّ المفاجأة التي أذهلته قبيل

سفره إليها هي معرفته بأنّ الإمام عليه السلام قد ارسل رسولًا إلى البصرة إلى الأشراف ورؤساء الأخماس فيها يدعوهم فيها إلى تأييده والإنضمام إليه في قيامه (وإن كان المتيقّن أنّ عبيداللَّه بن زياد قد اطّلع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 156

بالفعل على نسخة رسالة الإمام عليه السلام الى المنذر بن الجارود فقط، لكنّ مما لاريب فيه أنّ خبرة ابن زياد الإدارية والسياسية تجعله على يقين بأنّ المنذر بن الجارود كان واحداً من الأشراف الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام ولم يكن الوحيد فيهم).

ولم يحدّثنا التأريخ- بل لم نقع على وثيقة تحدّثنا- أنّ ابن زياد قد سعى إلى معرفة الأشراف الآخرين الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام، أو سعى إلى مطاردتهم واضطهادهم مثلًا، ولعلّ ذلك بسبب ضيق الوقت والعجالة التي كان عليها في عزمه على السفر الى الكوفة وهي الساحة الأهمّ والمضطربة الأحداث آنذاك، أو لأنه كان مطمئناً لولاء أكثر هؤلاء الأشراف للحكم الأمويّ.

لنعد إلى مجرى حركة الأحداث في البصرة قبيل يوم واحد من سفر ابن زياد إلى الكوفة ..

وصلت نسخة من رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى اشراف البصرة بيد رسوله سليمان بن رزين إلى المنذر بن الجارود- الذي كانت ابنته بحرية زوجة لعبيداللَّه بن زياد- فلم يُخفِ أمر الرسالة كما فعل الآخرون ولم يحفظ الأمان للرسول، بل عزم على الخيانة التي تعوّدها من قبل، فأقبل بالرسالة وبالرسول الى عبيداللَّه بن زياد، زعماً منه «1» أنه خاف أن يكون الكتاب دسيسة من عبيداللَّه نفسه، فصلبه عبيداللَّه بن زياد، «2» أو قدّمه فضرب عنقه على رواية أخرى. «3»

ثمّ صعد عبيداللَّه منبر البصرة، وقلبه يرتعد خيفة من استجابة أهلها لنداء الإمام عليه السلام، ويعتصره القلق من انتفاضة المعارضة الخفية

وقيامها مع الإمام عليه السلام،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 157

فكان خطابه مليئاً بالتهديد والوعيد، كاشفاً بذلك عن قلقه وخوفه، وعن قوّة المعارضة التي يخشاها، فقد قال في خطابه بعد أن حمد اللَّه وأثنى عليه: «أمّا بعدُ، فواللَّه ما تُقَرنُ بي الصعبة، «1» ولا يُقعقع لي بالشّنان، «2» وإنّي لَنَكِلٌ «3» لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارة من راماها. «4»

يا أهل البصرة، إنَّ أميرالمؤمنين ولّاني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان، «5» وإيّاكم والخلاف والإرجاف،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 158

فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلافٌ لأقتلنّه وعريفه ووليّه، ولآخذنّ الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي ولا يكون فيكم مخالفٌ ولا مشاق، أنا ابن زياد، أشبهته من بين من وطي ء الحصى ولم ينتزعني شَبهُ خالٍ ولا ابن عمّ». «1»

ويلاحظ المتأمّل هنا أيضاً أنّ عبيداللَّه بن مرجانة مع كلّ ما أظهره من استعداد للظلم والغشم والقتل الكاشف عن خوفه وتوجّسه من قدرة المعارضة الخفية على التحرّك لنصرة الإمام الحسين عليه السلام، كان قد افتخر بانتسابه الموهوم إلى أبي سفيان حيث قال: «وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان»، ومراده من هذا الإفتخار تحذير أهل البصرة وتخويفهم بتذكيرهم أنه وأخوه امتداد لعائلة معروفة بالحيلة والمكر والدهاء وبسابقة طويلة في الممارسة السياسية.

حركة السلطة الأموية المحلية الجديدة في الكوفة ..... ص : 158
السفر السريع إلى الكوفة ..... ص : 158

بعد أن تسلّم عبيداللَّه بن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه مسلم بن عمرو الباهلي، أمر بالجهاز من وقته والمسير والتهيؤ إلى الكوفة من الغد، «2» فلم يبق في البصرة بعدها إلّا يوماً قتل فيه سليمان بن رزين (رض) رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى أشراف البصرة، وألقى فيه خطاباً على منبر البصرة أعلن فيه لأهلها

عن استخلافه أخاه عثمان بن زياد عليها، وهدّد فيه أهل البصرة وحذّرهم من الخلاف والإرجاف! وتوعّدهم على ذلك، وفي غد ذلك اليوم خرج من البصرة إلى الكوفة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 159

تقول رواية تأريخية: «وأقبل الى الكوفة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي، «1» وحشمه وأهل بيته حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو متلثّم ..». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 160

وتقول رواية أخرى: «فتعجّل ابن زياد المسير إلى الكوفة مع مسلم بن عمرو الباهلي، والمنذرُ بن الجارود، وشريك الحارثي، وعبداللَّه بن الحارث بن نوفل، في خمسمائة رجل انتخبهم من أهل البصرة، فجدَّ في السير، وكان لا يلوي على أحد يسقط من أصحابه، حتى أنّ شريك بن الأعور سقط أثناء الطريق، وسقط عبداللَّه بن الحارث رجاء أن يتأخّر ابن زياد من أجلهم، فلم يلتفت ابن زياد إليهم مخافة أن يسبقه الحسين عليه السلام إلى الكوفة، ولمّا ورد القادسية سقط مولاه مهران.

فقال له ابن زياد: إنْ أمسكتَ على هذا الحال، فتنظر القصر فلك مائة ألف.

قال: واللَّه لا أستطيع.

فتركه عبيداللَّه، ولبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء وانحدر وحده، وكلّما مرّ (بالمحارس) ظنّوا أنّه الحسين عليه السلام فقالوا: مرحباً بابن رسول اللَّه. وهو ساكت، فدخل الكوفة مما يلي النجف». «1»

ونتابع القصة على رواية الطبري حيث يقول: «والناسُ قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا حين قدم عبيداللَّه أنّه الحسين، فأخذ لايمرّ على جماعة من الناس إلّا سلّموا عليه «2» وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول اللَّه! قدمت خير مقدم. فرأى من تباشيرهم بالحسين عليه السلام ماساءه، فقال مسلم بن عمرو لمّا أكثروا: تأخّروا، هذا الأمير عبيداللَّه بن زياد!

فأخذ- حين أقبل- على الظَهر، «3» وإنّما معه بضعة

عشر رجلًا. فلمّا دخل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 161

القصر وعلم الناس أنه عبيداللَّه بن زياد دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد، وغاظ عبيداللَّه ما سمع منهم، وقال: الا أرى هؤلاء كما أرى!». «1»

إنّ المتون التأريخية التي وصفت الطريقة التي دخل بها ابن مرجانة الكوفة تكشف لنا أنّ حالة التأهب (بل الغليان!) والتوتر التي كانت تعيشها الكوفة وهي تنتظر قدوم الإمام الحسين عليه السلام ما كانت تسمح لأي مبعوث أموي أن يدخلها علناً وبسهولة لأنّ الأمّة منتفضة على السلطة الأموية أو تكاد، فكان لابدّ لأي مبعوث أو مسؤول أموي من التخفّي والتنكّر ومخادعة الناس، فيأتي من طريق غير الطريق التي يأتي منها المسؤولون الرسميّون في العادة، ويتنكّر في زيّ آخر، ويشبّه على الناس أنه محبوبهم الذي ينتظرون قدومه بكلّ اشتياق، كي يستطيع العبور بسلام والوصول الى القصر، ليباشر منه التخطيط والقيام بالإجراءات اللازمة للقضاء على انتفاضة الأمة في الكوفة أوّلًا ثم القضاء على محبوب الأمة القادم إليها.

خدعة ابن زياد تنطلى حتى على النعمان بن بشير! ..... ص : 161

وتواصل الرواية التأريخية قصة خدعة ابن زياد فتقول: «وسار حتى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التقوا به لا يشكّون أنّه الحسين عليه السلام، فأغلق النعمان ابن بشير الباب عليه وعلى خاصته، فناداه بعض من كان معه ليفتح لهم الباب، فاطّلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسين عليه السلام.

فقال: أُنشدك اللَّه إلّا تنحيت، واللَّه ما أنا بمسلّم إليك أمانتي، ومالي في قتالك من أرب.

فجعل لا يكلّمه، ثم إنّه دنى وتدلّى النعمان من شرف القصر فجعل يكلّمه ..

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 162

فقال: إفتح لا فتحت، فقد طال ليلك!

وسمعها إنسان خلفه فنكص إلى القوم الذين اتبعوه من أهل الكوفة على أنه الحسين عليه السلام، فقال: ياقوم، ابن مرجانة والذي لا إله غيره!

ففتح له النعمان فدخل

وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا». «1»

هذا النصّ كاشف تماماً عن درجة الضعف المذهل التي كان عليها ممثّلو النظام الأمويّ في الكوفة يومذاك، فابن بشير يلبد في القصر ويخشى الخروج منه لمقابلة القادم الذي ظنّ أنّه الحسين عليه السلام، وعبيداللَّه وهو بين مجموعة من أهل الكوفة يخشى حتى من إظهار صوته مخافة أن يُعرف .. فما أقوى دلالة هذا النصّ على حالة (الإنقلاب) التي كانت الكوفة تعيشها في رفضها النظام الأمويّ، وانتظارها لوصول القيادة الشرعية القادمة إليها.

الخطاب الإرهابيّ الأوّل ..... ص : 162
اشارة

ما إن دخل ابن مرجانة القصر وهدأت أنفاسه المضطربة من الخوف والتعب حتى أمر الناس بالإجتماع في المسجد ليعلن لهم عن وصوله وعن بداية قرارات الغشم الإرهابية، تقول الرواية التأريخية: «لمّا نزل القصر نودي: الصلاة جامعة، قال: فاجتمع الناس، فخرج إلينا، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّ أميرالمؤمنين أصلحه اللَّه ولّاني مصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدّة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متّبع فيكم أمره، ومنفّذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البرّ، وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي، فليُبقِ امرؤ على

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 163

نفسه. الصدق ينبي ء عنك لا الوعيد! ثمّ نزل». «1»

إشارة: ..... ص : 163

تلفت انتباه المتأمّل في هذه الخطبة دعوى ابن مرجانة بأنّ يزيد أمره فيما أمره به «بالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم!» فمع أنّ هذه الدعوى لم تصدّقها وثائق التأريخ وهي أكذوبة من أكاذيب ابن زياد الكثيرة، وهذا الإحسان- لو تحقّق- مشروط بالإنقياد التام والخنوع للسلطة الأموية، فإنّ موعدة الإحسان الكاذبة هذه جاءت متأخرة جداً بعد سنين متمادية تعمّد فيها طاغية الأمويين الأكبر معاوية أن يُذيق أهل الكوفة الضيم والجوع والحرمان، وأن يجعلهم وقود حروبه في الثغور وفي مواجهة الخوارج، عقوبة لولائهم لعلي عليه السلام، وكان معاوية لايعبأ بشكاية أهل الكوفة، بل يردّ على من يحمل إليه الشكوى منهم أسوأ الردّ ويعامله بالإستخفاف والقسوة.

هذه سودة بنت عمارة تأتيه من العراق وتشكو إليه جور ولاته الذين حكّمهم في رقاب وأموال أهل الكوفة، فتقول: «لا تزال تُقدم علينا من ينهض بعزّك ويبسط سلطانك فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قُدم بلادي، وقتل رجالي وأخذ مالي ..». «2»

فما كان جواب

الطاغية إلا أن قال لها: «هيهات، لمّظكم ابن أبي طالب الجرأة!». «3»

وقالت له عكرشة بنت الأطرش: «إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من أغنيائنا فتُرَدُّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 164

على فقرائنا، وإنّا قد فقدنا ذلك، فما يجبر لنا كسير ولا يُنعشُ لنا فقير. فإنْ كان ذلك عن رأيك فمثلك من انتبه عن الغفلة وراجع التوبة، وإنْ كان عن غير رأيك فما مثلك من استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة!».»

فما كان جواب معاوية إلا أن قال لها: «هيهات ياأهل العراق، نبّهكم عليّ بن أبي طالب فلن تُطاقوا ..». «2»

فلم تكن الكوفة تنتظر من السلطة الأموية المركزية ولا من ولاتها إحساناً ورأفة ورفقاً طيلة سنين متمادية جرّعها فيها معاوية كأس الهوان والمذلّة والحرمان.

لكنّ بركان الكوفة لما فارت أعماقه بالحمم، ودوّت في فمه صرخة النُذُر بالتمرّد والقيام مع الحسين عليه السلام ضد الحكم الأموي، عزف الوالي الجديد ابن زياد نغمة الإحسان لتهدئة ثورة البركان المتأزّم بقذائف الحمم، بعد سنين طويلة، فلعلّ وعسى! ولكن أي إحسان هو!؟ إنه الإحسان الخاص للمنقادين السامعين الطائعين فقط.

الإجراء الإرهابي الأوّل ..... ص : 164
اشارة

ثمّ إنّ عبيداللَّه بن مرجانة أتبع خطابه الإرهابي الأوّل بعمل إرهابي كان الأوّل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 165

أيضاً في سلسلة أعماله القمعية: «فأخذ العرفاء والناس أخذاً شديداً، فقال: اكتبوا إليّ الغرباء، ومن فيكم من طلبة «1» أميرالمؤمنين، ومن فيكم من الحرورية، «2» وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمن كتبهم لنا فبري ء، ومن لم يكتب لنا أحداً فيضمن لنا مافي عرافته ألا يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل برئت منه الذمّة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيُما عريف وُجدَ في عرافته من بُغية أميرالمؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلغيت تلك العرافة

من العطاء، وسُيّر إلى موضع بعُمان الزارة «3»». «4»

إشارة: ..... ص : 165

كانت العرافة من وظائف الدولة لمعرفة الرعيّة وتنظيم عطائهم من بيت المال، وقد كان في الكوفة مائة عريف، وكان العطاء يُدفع إلى أمراء أرباع الكوفة الأربعة فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه هؤلاء إلى أهله في دورهم، وكان يؤمر لهم بعطائهم في المحرّم من كلّ سنة، وبفيئهم عند طلوع الشعرى في كلّ سنة حيث إدراك الغلات. وكانت العرافة على عهد النبي صلى الله عليه و آله. «5»

«وكانت الدولة تعتمد على العرفاء، فكانوا يقومون بأمور القبائل ويوزّعون عليهم العطاء، كما كانوا يقومون بتنظيم السجلات العامة التي فيها أسماء الرجال

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 166

والنساء والأطفال، وتسجيل من يولد ليفرض له العطاء من الدولة، وحذف العطاء لمن يموت، كما كانوا مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا في أيّام الحرب يندبون الناس للقتال ويحثّونهم على الحرب، ويخبرون السلطة بأسماء الذين يتخلفون عن القتال، وإذا قصّر العرفاء أو أهملوا واجباتهم فإنّ الحكومة تعاقبهم أقسى العقوبات.

ومن أهمّ الأسباب في تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل هو قيام العرفاء بتخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الإرهاب بين الناس، كما كانوا السبب الفعّال في زجّ الناس لحرب الإمام الحسين عليه السلام». «1»

قتل عبداللَّه بن يقطر «2» الحميري (رض) ..... ص : 166
اشارة

إنّ المشهور عند أهل السير «3» هو أنّ الإمام الحسين عليه السلام سرّح عبداللَّه بن يقطر (رض) إلى مسلم بن عقيل عليه السلام بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلم عليه السلام إلى الحسين عليه السلام يسأله القدوم ويخبره باجتماع الناس، فقبض عليه الحصين بن نمير «4» (أو بن تميم) «5» بالقادسية .. إلى آخر قصة استشهاده (رض).

ولذا فقصة استشهاده (رض) من مختصات تأريخ فترة وقائع الطريق بين مكّة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 167

وكربلاء، أي من مختصات (الجزء الثالث) من هذه الدراسة.

لكنّ

هناك روايتين تحدّثتا في قصة قتله (رض) مفادهما أنه قُتل في الفترة التي كان فيها الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، ولذا فنحن نتعرّض لهاتين الروايتين هنا في هذا الموقع.

الرواية الأولى: ..... ص : 167
اشارة

وهي رواية ابن شهرآشوب، وفيها أنّ عبيداللَّه بن زياد بعد أن زار شريك بن الأعور الحارثي في مرضه (في بيت هاني ء بن عروة)، وجرى ما جرى من حثّ شريك مسلماً عليه السلام على قتل عبيداللَّه من خلال رمز «ما الإنتظار بسلمى أن تحييها ..»، فأوجس عبيداللَّه منهم خيفة فخرج: «فلمّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي بكتاب أخذه من يدي عبداللَّه بن يقطر، فإذا فيه:

«للحسين بن علي: أما بعدُ، فإني أُخبرك أنه قد بايعك من أهل الكوفة كذا، فإذا أتاك كتابي هذا فالعجل العجل، فإنّ الناس معك، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى» فأمر ابن زياد بقتله». «1»

أما الرواية الثانية: ..... ص : 167

وهي رواية محمّد بن أبي طالب في كتابه (تسلية المجالس) فتفصّل القصة هكذا: أنّه بينما كان عبيداللَّه يتكلّم مع أصحابه في شأن عيادة هاني: «إذ دخل عليه رجل من أصحابه يُقال له مالك بن يربوع التميمي، فقال: أصلح اللَّه الأمير، إني كنت خارج الكوفة أجول على فرسي، إذ نظرتُ إلى رجل خرج من الكوفة مسرعاً إلى البادية، فأنكرته، ثمّ إني لحقته، وسألته عن حاله فذكر أنه من أهل المدينة! ثمّ نزلت عن فرسي ففتشته فأصبت معه هذا الكتاب.

فأخذه ابن زياد ففضّه فإذا فيه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم: إلى الحسين بن علي: أمّا بعدُ: فإنّي أُخبرك أنّه بايعك من أهل الكوفة نيفاً على عشرين ألف رجل،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 168

فإذا أتاك كتابي فالعجل العجل، فإنّ الناس كلّهم معك، وليس لهم في يزيد هوى ..».

فقال ابن زياد: أين هذا الرجل الذي أصبت معه الكتاب؟

قال: هو بالباب.

فقال: إئتوني به.

فلمّا وقف بين يديه قال: ما اسمُك؟

قال: عبداللّه بن يقطين.

قال: من دفع إليك هذا الكتاب؟

قال: دفعته إليَّ امرأة لا أعرفها!

فضحك

ابن زياد وقال: إختر أحد اثنين، إمّا أن تخبرني من دفع إليك الكتاب أو القتل!

فقال: أمّا الكتاب فإنّي لا أخبرك، وأمّا القتل فإنّي لا أكرهه لأنّي لا أعلم قتيلًا عند الله أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك!

قال فأمر به فضربت عنقه». «1»

فهذا الشهيد (رض) في هاتين الروايتين- وخلافاً للمشهور- هو رسول من مسلم عليه السلام إلى الإمام الحسين عليه السلام، «2» وهو في رواية (تسلية المجالس) ابن يقطين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 169

وليس ابن يقطر أو بقطر.

وهنا قد ينقدح في الذهن احتمال أنّ عبدالله بن يقطر هو غير عبدالله بن يقطين هذا، بقرينة: اختلاف إسم الأب أوّلًا. وثانياً اختلاف اسم الرجل الذي ألقى القبض على ابن يقطر وهو حسب المشهور الحصين بن نمير (او ابن تميم) عن اسم الرجل الذي ألقى القبض على ابن يقطين هذا وهو مالك بن يربوع التميمى.

وثالثاً أنّ الأوّل أُلقيَ عليه القبض خارج الكوفة. ورابعاً أنّ الأوّل كما هو مشهور قُتل برميه من فوق القصر، بينما الثاني ضُربت عنقه.

ويمكن أن يُردّ على هذه المرتكزات التي يقوم عليها هذا الإحتمال:

أولًا: أنّ هناك ظنّاً قوياً في أن يكون اسم يقطين تصحيفاً لإسم يقطر خصوصاً في الكتب المخطوطة قديماً، ويقوّي هذا الظنّ أنّ اسم يقطين لم يرد إلّا في كتاب تسلية المجالس، كما أن إسم الأب في رواية ابن شهراشوب المشابهة لهذة الرواية هو يقطر «1» وليس يقطين، هذا فضلًا عن أنّ رواية كتاب تسلية المجالس نفسها تذكر أنّ عبدالله هذا رجل من أهل المدينة، والتأريخ لم يذكر لنا رجلًا من شهداء النهضة الحسينية من أهل المدينة بهذا الإسم (من غير بني هاشم) سوى عبدالله بن يقطر.

وثانياً: أنّه لايمنع من وحدة الشخص أنّ الأوّل ألقى القبض

عليه الحصين بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 170

نمير (أو تميم) وأنّ الثاني ألقى القبض عليه مالك بن يربوع التميمي، إذ قد يكون مالك بن يربوع أحد مأموري الحصين، فتصحّ عندئذٍ نسبة إلقاء القبض إلى كليهما.

وثالثاً: أنّ قول مالك بن يربوع كما في رواية تسلية المجالس: «كنت خارج الكوفة أجول على فرسي إذ نظرت الى رجل خرج من الكوفة مسرعاً يريد البادية ..» قد يعني أنه نظر الى رجل أقبل من ناحية الكوفة مسرعاً يريد البادية، ولاينافي ذلك أنه نظر إليه في القادسية أو قريباً منها (من ناحية الكوفة) حيث تنتشر قوّات الرصد الأموي على اتساع تلك المنطقة.

ورابعاً: أنه لا منافاة في الإخبار عن قتله بأنه ضُربت عنقه في حين أنّ ابن يقطر (رض) رُمى به من فوق القصر فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ثم ذبحه اللخمي كما هو مشهور، ذلك لأنّ هذا التفاوت في التعبير عن القتل غير مستغرب في الاستعمال العرفي، وهو ليس في مستوى دقّة التعبير الفقهي أو الرياضي كما نعلم، ثمّ إنّ رواية ابن شهرآشوب ذكرت فقط أنّ ابن زياد أمر بقتله، ولم تتعرّض لطريقة القتل.

من هو عبداللَّه بن يقطر الحميري؟ ..... ص : 170

«كانت أمّه حاضنة للحسين عليه السلام كأمّ قيس بن ذريح للحسن عليه السلام، ولم يكن رضع عندها، ولكنّه يُسمّى رضيعاً له لحضانة أمّه له. وأمّ الفضل بن العبّاس لبابة كانت مربية للحسين عليه السلام ولم ترضعه أيضاً، كما صحّ في الأخبار أنه لم يرضع من غير ثدي أمّه فاطمة صلوات اللَّه عليها وإبهام رسول اللَّه صلى الله عليه و آله تارة، وريقه تارة أخرى». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 171

وذكر ابن حجر في الإصابة أنّ عبداللَّه بن يقطر كان صحابياً لأنّه لِدَةٌ للحسين عليه السلام. «1»

وكان عبداللَّه بن

يقطر رضوان اللَّه تعالى عليه من أهل اليقين والشجاعة الفائقة، إذ لمّا أمره ابن مرجانة قائلًا: «إصعد القصر والعن الكذّاب بن الكذّاب، ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيي». «2» صعد هذا البطل القصر «فلمّا أشرف على الناس قال:

أيّها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله إليكم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدعيّ بن الدعيّ!». «3»

والظاهر أنّ عبداللَّه بن يقطر رضوان اللَّه تعالى عليه قُتل قبل قيس بن مسهّر الصيداوي رضوان اللَّه تعالى عليه، الذي قتل بعد قتل مسلم عليه السلام، بدليل أنّ خبر مقتل عبداللَّه ورد إلى الإمام عليه السلام بزبالة في الطريق إلى العراق في نفس خبر مقتل مسلم عليه السلام وهاني رضوان اللَّه تعالى عليه، فنعاهم الإمام عليه السلام قائلًا: «أمّا بعدُ، فقد أتانا خبر فظيع، قُتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبداللَّه بن يقطر، وقد خذلنا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 172

شيعتنا ..». «1»

وبذلك يكون عبداللَّه بن يقطر رضوان اللَّه تعالى عليه ثاني رسل الإمام الحسين عليه السلام الذين استشهدوا أثناء أداء مهمة الرسالة، بعد شهيد النهضة الحسينية الأوّل سليمان بن رزين رضوان اللَّه تعالى عليه، رسول الإمام عليه السلام إلى أشراف البصرة، بل إنّ عبداللَّه بن يقطر هو الشهيد الثاني في النهضة الحسينية المباركة إذا ثبت تأريخياً أنه قُتل قبل قيام انتفاضة مسلم عليه السلام في الكوفة.

اضطهاد رجال المعارضة وحبسهم وقتلهم ..... ص : 172

«إنّ ابن زياد لمّا اطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسين عليه السلام حبس أربعة آلاف وخمسمائة رجل من التوابين من أصحاب أميرالمؤمنين وأبطاله الذين جاهدوا معه، منهم سليمان بن صرد وابراهيم بن مالك الأشتر و ... وفيهم ابطال وشجعان ولم يكن له سبيل الى نصر الحسين

عليه السلام لأنهم كانوا مقيّدين مغلولين وكانوا يوماً يطعمون ويوماً لا يُطعمون». «2»

وينقل المحقّق الشيخ باقر شريف القرشي عن كتاب (المختار مرآة العصر الأموي) أنّ عدد الذين اعتقلهم ابن زياد في الكوفة إثنا عشر ألفاً، كما ينقل عن كتاب (الدرّ المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء) أنّ من بين أولئك المعتقلين سليمان بن صرد الخزاعي، والمختار بن ابي عبيد الثقفي وأربعمائة من الوجوه والأعيان. «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 173

وذكر الطبري أنّ ابن زياد «أمر أن يُطلب المختار وعبداللَّه بن الحارث، «1» وجعل فيهما جعلًا، فأُتي بهما فحبسا». «2»

وقال البلاذري: «أمر ابن زياد بحبسهما- المختار وابن الحارث- بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين». «3»

«ثمّ إنّ الحصين «4»- صاحب شرطة ابن زياد- وضع الحرس على أفواه السكك، وتتبّع الأشراف الناهضين مع مسلم، فقبض على عبد الأعلى بن يزيد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 174

الكلبي، «1» وعمارة بن صلخب الأزدي «2» فحبسهما، ثمّ قتلهما، وحبس جماعة من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 175

الوجوه استيحاشاً منهم، وفيهم الأصبغ بن نباتة، «1» والحارث الأعور الهمداني «2»». «3»

حبس ميثم التمّار ..... ص : 175

يُستفاد من ظاهر بعض المتون التي تروي قصة مقتل الشهيد الفذّ ميثم التمّار (رض) أنّ قتله كان في أواخر شهر ذي الحجّة سنة ستين للهجرة، كقول الشيخ المفيد (ره): «وحجّ في السنة التي قُتل فيها»، «4» وتصرّح بعض المتون أنه (رض) قتل قبل وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق: «وكان مقتل ميثم قبل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 176

قدوم الحسين بن علي عليهما السلام إلى العراق بعشرة أيّام»، «1» بل تصرّح أخرى قائلة:

«وشهادته قبل يوم عاشوراء بعشرين يوماً أو عشرة أيام». «2»

وعلى أيٍ من هذه الأقوال، يكون ميثم التمار

(رض) قد قتل فيما بعد خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة، وفي أثناء أيّام الرحلة إلى العراق.

أمّا حبسه (رض) في سجن ابن زياد فهناك إشاره تأريخية يمكن الإستفادة منها أنه حُبس مع المختار في وقت معاً، كما في قول الشيخ المفيد (ره): «فحبسه وحبس معه المختار ..»، «3» أي قبل مقتل مسلم عليه السلام، وعلى هذا يكون حبسه (رض) في الفترة التي كان فيها الإمام عليه السلام بمكّة المكرّمة.

ميثم التمّار رضوان اللَّه تعالى عليه ..... ص : 176

يندُر أن ترى كتاباً يتناول تأريخ النهضة الحسينية وفاجعة عاشوراء يذكر ميثم التمّار (رض) في جملة شهداء فترة تأريخ تلك النهضة المقدّسة مع أنه (رض) من طليعة الأبرار وخواص الأولياء الذين استشهدوا في تلك الفترة لولائهم لأهل البيت عليهم السلام وعدائهم للحكم الأمويّ، ولشهادته نفسها خصوصية تجعلها في العلياء من روائع تأريخ وقائع الإستشهاد في سبيل اللَّه تعالى وفي القمة من نوادره.

هو ميثم بن يحيى- أو عبداللَّه- التمّار الأسديّ الكوفي، وهو من حواريّ أميرالمؤمنين والحسن والحسين صلوات اللَّه عليهم، والروايات في مدحه وجلالته وعظم شأنه وعلمه بالمغيّبات كثيرة لاتحتاج إلى البيان، ولو كان بين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 177

العصمة والعدالة مرتبة وواسطة لأطلقناها عليه. «1»

كان ميثم (رض) لمنزلته الخاصة عند اللَّه تبارك وتعالى وعند أهل البيت عليهم السلام قد رزق علم المنايا والبلايا، وقد شاعت عنه إخباراته بمغيّبات كثيرة، ومنها أنه أخبر حبيب بن مظاهر باستشهاده في نصرة الحسين عليه السلام وأنه يُجال برأسه في الكوفة كما أخبر المختار بأنه ينجو من سجن ابن زياد، ويخرج ثائراً مطالباً بدم الحسين عليه السلام فيقتل ابن زياد ويطأ بقدميه على وجنتيه، «2» بل أخبر ابن زياد نفسه بأنه يقتله وبالطريقة التي يقتله بها وأنّه أوّل من يُلجم في

الإسلام. «3»

روي «أنّ ميثم التمّار كان عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنين عليه السلام منها فأعتقه، فقال له: ما اسمك؟

فقال: سالم.

فقال: أخبرني رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّ اسمك الذي سمّاك به أبواك في العجم ميثم.

قال: صدق اللّه ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين، والله إنه لأسمي!

قال: فارجع إلى اسمك الذى سمّاك به رسول اللّه صلى الله عليه و آله ودع سالماً، فرجع إلى ميثم واكتنى بأبي سالم.

فقال له عليّ عليه السلام ذات يوم: إنك تُؤخذ بعدي فتُصلب وتُطعن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً يخضّب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، فتُصلب على باب

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 178

عمرو بن حُريث عاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهّرة، وامضِ حتى أريك النخلة التي تُصلب على جذعها.

فأراه إيّاها. وكان ميثم يأتيها فيصلّي عندها ويقول: بوركتِ من نخلة، لك خُلِقتُ ولي غُذِيتِ، ولم يزل يتعاهدها حتى قُطعت، وحتى عرف الموضع الذي يُصلب عليها «1» بالكوفة.

قال: وكان يلقى عمرو بن حُريث فيقول له: إنّي مجاورك فأحسن جواري!

فيقول له عمرو: أتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم؟

وهو لايعلم ما يريد.

وحجّ في السنة التى قُتل فيها، فدخل على أمّ سلمة رضي اللّه عنها.

فقالت: من أنت؟

قال: أنا ميثم.

قالت: واللّه لربّما سمعت رسول اللّه صلى الله عليه و آله يذكرك ويوصي بك عليّاً فى جوف الليل.

فسألها عن الحسين عليه السلام، فقالت: هو في حايط له.

قال: أخبريه أنّني قد أحببت السلام عليه، ونحن ملتقون عند ربّ العالمين إن شاء اللّه تعالى. «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 179

فدعت أمّ سلمة بطيب وطيّبت لحيته، وقالت له: أما إنّها ستُخضّب بدم!

فقدم الكوفة، فأخذه عبيد اللّه بن زياد لعنه الله،

فأُدخل عليه

فقيل له: هذا كان من آثر الناس عند عليّ!

قال: ويحكم، هذا الأعجميّ!

قيل له: نعم!

قال له عبيد اللّه: أين ربّك!؟

قال: لبالمرصاد لكلّ ظالم، وأنت أحد الظلمة!

قال: إنّك على عجمتك لتبلغ الذي تريد! ما أخبرك صاحبك أني فاعل بك؟

قال: أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة، أنا أقصرهم خشبة، وأقربهم إلى المطهّرة.

قال: لنخالفنّه.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 180

قال: كيف تخالفه!؟ فوالله ما أخبرني إلّا عن النبيّ صلى الله عليه و آله عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء!؟ ولقد عرفت الموضع الذي أُصلب عليه أين هو من الكوفة، وأنا أوّل خلق اللّه أُلجم في الإسلام!

فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة، قال له ميثم: إنّك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين عليه السلام فتقتل هذا الذي يقتلنا.

فلمّا دعا عبيد اللّه بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله يأمره بتخلية سبيله فخلّا عنه، «1» وأمر بميثم أن يصُلب، فأُخرج.

فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم!؟

فتبسّم وقال وهو يومي إلى النخلة: لها خُلقتُ، ولي غُذيتْ!

فلمّا رفع على الخشبة اجتمع النّاس حوله على باب عمرو بن حُريث، قال عمرو: قد كان واللّه يقول إنّي مجاورك! فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره، فجعل ميثم يحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد:

قد فضحكم هذا العبد! فقال: ألجموه. وكان أوّل خلق الله أُلجم فى الإسلام، وكان قتل ميثم رحمة الله قبل قدوم الحسين بن علي عليه السلام بعشرة أيّام، فلمّا كان اليوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحربة، فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 181

التجسس لمعرفة مكان قيادة الثورة ..... ص : 181

لمّا علم مولانا مسلم بن عقيل عليه السلام بالإجراءات الإرهابية المتسارعة التي اتخذها عبيد

الله بن زياد «وما أخذ به العرفاء والناس، خرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هاني ء بن عروة فدخلها، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هاني ء على تستّر واستخفاء من عبيد اللّه، وتواصوا بالكتمان، فدعا ابن زياد مولى له يُقال له معقل، فقال: خذ ثلاثة آلاف درهم، واطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه، فإذا ظفرت بواحدٍ منهم أو جماعة فأعطهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقل لهم:

استعينوا بها على حرب عدوّكم، وأعلمهم أنّك منهم، فإنّك لو قد أعطيتهم إيّاها لقد اطمأنّوا إليك ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئاً من أمورهم وأخبارهم، ثمّ اغدُ عليهم ورُحْ حتى تعرف مستقرّ مسلم بن عقيل وتدخل عليه.

ففعل ذلك، وجاء حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يصلّي، فسمع قوماً يقولون: هذا يبايع للحسين، فجاء وجلس إلى جنبه حتى فرغ من صلاته ثم قال: يا عبدالله، إنّي امرؤ من أهل الشام، أنعم الله عليَّ بحبّ أهل البيت وحبّ من أحبهم. وتباكى له، وقال: معي ثلاثة آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فكنت أريد لقاءه فلم أجد أحداً يدلّني عليه، ولا أعرف مكانه، فإنّي لجالس في المسجد الآن إذ سمعت نفراً من المؤمنين يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت وإنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال، وتدخلني على صاحبك فإنّي أخ من إخوانك وثقة عليك، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه.

فقال له ابن عوسجة: أحمُد الله على لقائك إيّاي، فقد سرّني ذلك، لتنال الذي تحبّ، ولينصرنّ اللّه بك أهل بيت نبيّه عليه وعليهم السلام، ولقد ساءني معرفة الناس إيّاي بهذا الأمر

قبل أن يتمّ مخافة هذا الطاغية وسطوته.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 182

فقال له معقل: لايكون إلّا خيراً، خذ البيعة عليَّ!

فأخذ بيعته، وأخذ عليه المواثيق المغلّظة ليناصحنّ وليكتمن، فأعطاه من ذلك مارضي به، ثمّ قال له: إختلف إليَّ أيّاماً في منزلي فإنّي طالب لك الأذن على صاحبك. وأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الأذن فأُذِنَ له، وأخذ مسلم بن عقيل بيعته، وأمر أبا ثمامة الصّائدي بقبض المال منه، وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يعين به بعضهم بعضاً، ويشتري لهم به السلاح، وكان بصيراً وفارساً من فرسان العرب، ووجوه الشيعة، وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، فهو أوّل داخل وآخر خارج، وحتى فهم ما احتاج إليه ابن زياد من أمرهم، فكان يخبره به وقتاً فوقتاً». «1»

حبس هاني بن عروة المرادي ..... ص : 182

ولمّا كثر تردد الرجال من أهل الكوفة على مسلم بن عقيل عليه السلام في بيت هاني بن عروة، أو جس في نفسه المحذور «وخاف هاني بن عروة عبيد الله على نفسه، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض، فقال ابن زياد لجلسائه: مالي لا أرى هانياً!؟

فقالوا: هو شاكٍ. فقال: لو علمتُ بمرضه لعدته.

ودعى محمّد بن الأشعث، وأسماء بن خارجة، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي وكانت رويحة بنت عمرو تحت هاني بن عروة، وهي أمّ يحيى بن هاني.

فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا؟

فقالوا: ماندري، وقد قيل إنه يشتكي.

قال: قد بلغني أنه قد بري ء وهو يجلس على باب داره! فالقوه ومروه ألّا يدع ما عليه من حقّنا، فإنّي لا أحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 183

فأتوه حتى وقفوا عليه عشيّة وهو جالس على بابه.

وقالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير فإنه قد ذكرك وقال لو أعلم أنه شاك لَعُدْتُه.

فقال

لهم: الشكوى تمنعني.

فقالوا له: قد بلغه إنك تجلس كلّ عشيّة على باب دارك، وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لايحتمله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبت معنا.

فدعى بثيابه فلبسها، ثمّ دعى ببغلة فركبها، حتى إذا دنى من القصر كأنّ نفسه أحسّت ببعض الذى كان.

فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن الأخ، إني واللّه لهذا الرجل لخايف، فما ترى؟

فقال: يا عمّ، والله ما أتخوف عليك شيئاً ولم تجعل على نفسك سبيلا. ولم يكن حسّان يعلم في أيّ شي ء بعث إليه عبيد الله.

فجاء هاني حتى دخل على عبيد الله بن زياد وعنده القوم، فلما طلع قال عبيد الله: أتتك بخاينٍ «1» رجلاه!

فلمّا دنى من ابن زياد، وعنده شريح القاضي، «2» التفت نحوه فقال:

أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

وقد كان أوّل ما قدم مكرماً له ملطفاً

فقال له هاني: وما ذاك أيها الأمير؟

قال: إيه يا هاني بن عروة، ما هذه الأمور التي تربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى عليّ؟

قال: ما فعلت ذلك، وما مسلم عندي.

قال: بلى قد فعلت.

فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هاني إلّا مجاحدته ومناكرته، دعى ابن زياد معقلًا ذلك العين فجاء حتى وقف بين يديه

فقال: أتعرف هذا؟

قال: نعم!

وعلم هاني عند ذلك أنه كان عيناً عليهم، وأنه قد أتاه بأخبارهم، فأُسقط في يده ساعة، ثمّ راجعته نفسه.

فقال: إسمع منّي وصدّق مقالتي، فوالله لا كذبت، والله مادعوته إلى منزلي، ولا علمت بشي ء من أمره حتّى جاءني يسألني النزول فاستحييتُ من ردّه، ودخلني من ذلك ذمام فضيّفته وآويته، وقد كان من أمره ما بلغك، فإن شئت أن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 187

أعطيك

الآن موثقاً مغلّظاً ألّا أبغيك سوءً ولاغائلة، ولآتينّك حتّى اضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض فأخرج من ذمامه وجواره!

فقال له ابن زياد: والله لا تفارقني أبداً حتّى تأتينى به.

قال: لا والله، لا أجيئك به ابداً، أجيئك بضيفى تقتله!؟

قال: والله لتأتينّي به.

قال: لا والله لا آتيك به.

فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي- وليس بالكوفة شامي ولا بصريٌ غيره- فقال: أصلح اللَّه الأمير، خلّني وإيّاه حتى أكلّمه.

فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان.

فقال له مسلم: ياهاني، أُنشدك اللَّه أن تقتل نفسك، وأن تدخل البلاء في عشيرتك، فواللَّه إنّي لأنفس بك عن القتل، إنّ هذا الرجل إبن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليهم فإنّه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان!

فقال هاني: واللَّهِ إنّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح، أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، واللَّه لو لم أكن إلّا واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه!

فأخذ يناشده وهو يقول: واللَّه لا أدفعه إليه أبداً!

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: أدنوه مني.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 188

فأدنوه منه، فقال: واللَّه لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك.

فقال هاني: إذن لكثر البارقة حول دارك!

فقال ابن زياد: والهفاه عليك، أبالبارقة تخوّفني!؟- وهو يظنّ أنّ عشيرته سيمنعونه- ثمّ قال: أدنوه منّي.

فأُدني منه، فاعترض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدَّه حتى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته، ونثر لحم جبينه وخده على لحيته حتى كسر القضيب،

وضرب هاني يده إلى قائم سيف شرطيّ، وجاذبه الرجل ومنعه.

فقال عبيداللَّه: أحروريّ ساير اليوم!؟ قد حلّ لنا دمك، جرّوه! فجرّوه، فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه.

فقال: إجعلوا عليه حرساً. ففعل ذلك به». «1»

أعوان السلطة .. والخدعة المشتركة! ..... ص : 188

في قصة حبس هاني بن عروة (رض) هناك دور مريب لعمرو بن الحجّاج الزبيدي الذي تفانى في امتثال أوامر ابن زياد وابن سعد في كربلاء، مع أنّ هانياً كان صهراً له!

فالرواية التأريخية التي قصّت علينا واقعة حبس هاني ذكرت أنّ عمرو بن الحجّاج كان أحد الذين أتوا هانياً إلى باب منزله وألحّوا عليه بإتيان عبيداللَّه، فالظاهر أنّه شهد ما جرى على هاني في لقائه مع عبيداللَّه، لكنّ سياقها بعد ذلك يُلفتُ الإنتباه حيث تقول: «وبلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانياً قد قُتل، فأقبل في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 189

مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم، ثمّ نادى: أنا عمرو بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم قتل فأعظموا ذلك.

فقيل لعبيداللَّه بن زياد: هذه مذحج بالباب!

فقال لشريح القاضي: أدخل على صاحبهم فانظر إليه، ثمّ اخرج وأعلمهم أنه حيّ لم يُقتل!

فدخل شريح فنظر إليه، فقال هاني لمّا رأى شريحاً: يالله، ياللمسلمين! أهلكت عشيرتي؟ أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟- والدماء تسيل على لحيته، إذ سمع الرجّة على باب القصر- فقال: إنّي لأظنّها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني!

فلمّا سمع كلامه شريح خرج إليهم فقال لهم: إنّ الأمير لمّا بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم وأعرّفكم أنّه حيّ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل!

فقال له عمرو بن الحجّاج وأصحابه: أمّا

إذا لم يُقتل فالحمد للَّه. ثمّ انصرفوا». «1»

فإذا كان المتأمّل في هذا النصّ لايشك في الدور الخياني الذي لعبه شريح القاضي في ممارسته التورية حيث أظهر لمذحج وكأنّ هاني بن عروة (رض) هو الذي أمره بلقاء مذحج وأن يعرّفهم بأنه حيّ لابأس عليه، فإنّ المتأمّل ليشك كثيراً في نزاهة الدور الذي لعبه عمرو بن الحجّاج الذي ربّما كان قد شهد ما فعله ابن زياد بهاني في القصر حسب ما يُستفاد من السياق الأوّل للرواية.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 190

متى خرج عمرو بن الحجاج من القصر؟ وكيف تصدّى لقيادة مذحج وأتى بجموعها في وقت قصير نسبياً؟ ولماذا اكتفى بقول شريح ولم يدخل- وهو من المقرّبين لابن زياد- ليرى بنفسه هانياً وحقيقة ماجرى عليه داخل القصر!؟

إنّ استمرار ولاء عمرو بن الحجّاج الزبيدي لابن زياد حتى بعد مقتل هاني بن عروة (رض)، ليقويّ الريب في أنّ هذا الرجل كان قد تعمّد التصدّي لجموع مذحج التي أقبلت الى القصر معترضة على حبس هاني، ليركب موجتها ثم ليخدعها وليصرفها عن إخراج هاني من القصر بقوّة السلاح، متواطئاً في ذلك مع عبيداللَّه بن زياد وشريح القاضي في تنفيذ الخدعة المشتركة لتضليل مذحج.

تسخير الأشراف لتخذيل الناس عن مسلم عليه السلام ..... ص : 190

لمّا علم مولانا مسلم بن عقيل عليه السلام باعتقال هاني قام في الكوفة على ابن زياد، وأعلن عن بدء الثورة، وحاصر القصر بجموع من اتبعه من أهل الكوفة، أغلق ابن زياد أبواب القصر عليه وعلى من كان معه في القصر من أشراف الناس ومن شرطته وأهل بيته ومواليه، وقبع فيه خائفاً يأكل قلبه الرعب وأبى من الجبن أن يخرج بمن معه لمواجهة قوات مسلم عليه السلام، يقول الطبري: «فلمّا اجتمع عند عبيداللَّه كثير بن شهاب ومحمد (أي ابن الأشعث) والقعقاع

فيمن أطاعهم من قومهم، فقال له كثير- وكانوا مناصحين لابن زياد- أصلح اللَّه الأمير، معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس، ومن شُرطك، وأهل بيتك، ومواليك، فاخرج بنا إليهم. فأبى عبيداللَّه ..». «1»

لكنّ عبيداللَّه في ساعات خوفه لجأ إلى تسخير الأشراف الذين كانوا معه في القصر وأمرهم بتخذيل الناس عن مسلم، يقول التأريخ: «فبعث عبيداللَّه الى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 191

الأشراف فجمعهم إليه، ثمّ قال: أشرفوا على الناس، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود من الشام إليهم». «1»

يقول شاهد عيان كان مع الناس خارج القصر، وهو عبداللَّه بن حازم الكبري من الأزد من بني كبير: «أشرف علينا الأشراف، فتكلّم كثير بن شهاب أوّل الناس حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيها الناس، إلحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشرّ ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أميرالمؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى اللَّه الأميرُ عهداً لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البري ء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرّت أيديها. وتكلّم الأشراف بنحو من كلام هذا، فلمّا سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرّقون وأخذوا ينصرفون». «2»

تفتيش دور الكوفة بحثاً عن مسلم عليه السلام ..... ص : 191

وبعد أن آل أمر مولانا مسلم بن عقيل عليه السلام إلى أن يبقى وحيداً متخفياً قد تفرّقت عنه جموع من كانوا معه من أهل الكوفة، وبعد أن اطمأنّ عبيداللَّه بن زياد إلى أنّ القوم قد تفرّقوا وأنّ المسجد قد خلا تماماً من أنصار مسلم عليه السلام، عمد «ففتح باب السدّة التي في المسجد، ثمّ خرج فصعد المنبر وخرج

أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا قبيل العتمة، وأمر عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمّة من رجل من الشُرَط والعرفاء والمناكب أو المقاتلة صلّى العتمة إلّا في المسجد. فلم يكن إلّا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 192

ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مناديه فأقام الصلاة، وأقام الحرس خلفه وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحدٌ يغتاله، وصلّى بالناس، ثمّ صعد المنبر فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإن ابن عقيل .. قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمّة اللَّه من رجل وجدناه في داره، ومن جاء به فله ديته، إتّقوا اللَّه عباد اللَّه والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولاتجعلوا على أنفسكم سبيلًا.

ياحصين بن نمير، ثكلتك أمّك إن ضاع باب سكّة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصد على أهل السكك، وأصبح غداً فاستبرء الدور وجس خلالها، حتى تأتيني بهذا الرجل ..». «1»

تجميد الثغور وتوجيه عساكرها إلى حرب الحسين عليه السلام ..... ص : 192

ومن الإجراءات المهمّة والخطيرة التي اتخذها ابن زياد تجميده حركة عدد كبير من الجيوش المتوجهة نحو الحدود لترابط فيها، ليعبئها تحضيراً لحرب الإمام الحسين عليه السلام، يروي الطبري: «عن شهاب بن خراش، عن رجل من قومه: كنتُ في الجيش الذي بعثهم ابن زياد إلى حسين، وكانوا أربعة آلاف يريدون الديلم، فصرفهم عبيداللَّه إلى حسين». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 193

حركة السلطة الأمويّة المحلّية في مكة المكرمة ..... ص : 193
قلق الوالي من تواجد الإمام عليه السلام في مكّة ..... ص : 193

ذعر عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق) «1» والي مكة آنذاك من دخول الإمام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 194

الحسين عليه السلام مكّة المكرّمة ومن تواجده فيها، ومن تقاطر الوفود عليه والتفاف الناس حوله، فلم يُطق الوالي صبراً، ولم يجد بُدّاً من أن يسأل الإمام عليه السلام عن سرّ قدومه إلى مكّة، «فقال له عمرو بن سعيد: ما إقدامك!؟

فقال: عائذاً باللَّه وبهذا البيت!». «1»

وفي جواب الإمام عليه السلام دلالة قاطعة على أنّ السلطة الأموية كانت قد أرادت بالإمام عليه السلام سوءً في المدينة المنوّرة، كأن تفرض عليه الإقامة الجبرية مثلًا أو تغتاله أو تُلقي عليه القبض فتدفع به الى يزيد، ولذا فقد خرج منها خائفاً يترقب، وقد أشرنا من قبل إلى أنّ خوفه على نفسه وإن كان سبباً في خروجه منها إلا أنه يقع في طول السبب الأهم وهو خوفه على ثورته من أن تؤسر في حدود المدينة أو تخمد في مهدها قبل اندلاعها فلا تصلُ إشعاعاتها المباركة الى حيث أراد عليه السلام، هذا فضلًا عن حرصه عليه السلام ألا تهتك حرمة حرم الرسول صلى الله عليه و آله بقتله.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 195

سفر الأشدق الى المدينة المنوّرة وتهديده أهلها ..... ص : 195

تتحدث روايات تأريخية عديدة عن قدوم عمرو بن سعيد الأشدق الى المدينة المنورة في شهر رمضان سنة ستّين للهجرة، والظاهر أنّ سفر هذا الطاغية الى المدينة كان بعد عزل الوليد بن عتبة عن منصب الولاية عليها في شهر رمضان نفسه، والأظهر أنّ سفر هذا الطاغية الأمويّ الى المدينة كان من مكّة إليها لأنّ جلّ المؤرّخين ذكروا أنه كان والياً على مكّة عند موت معاوية وأضيفت إليه ولاية المدينة بعد عزل الوليد عنها.

و «قدم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق المدينة أميراً، فخرج إلى

منبر رسول اللَّه صلى الله عليه و آله فقعد عليه وغمض عينيه، وعليه جُبّة خزّ قرمز، ومُطرَف خزّ قرمز، وعمامة خزّ قرمز، فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجاباً بها، ففتح عينيه فإذا الناس ينظرون إليه، فقال: مابالكم ياأهل المدينة ترفعون إليَّ أبصاركم، كأنّكم تريدون أن تضربونا بسيوفكم! أغرّكم أنّكم فعلتم ما فعلتم فعفونا عنكم! أما إنّه لو أُثبتُم بالأولى ما كانت الثانية! أغرّكم أنكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرنا منّا رفيقاً، قد فَني غضبه، وبَقي حلمُه! إغتنموا أنفسكم فقد واللَّه ملكناكم بالشباب المقتبل، البعيد الأمل، الطويل الأجل حين فرغ من الصغر، ودخل في الكبر، حليمٌ حديدٌ، ليّن شديد، رقيق كثيف، رفيق عنيفٌ، حين اشتدّ عَظْمهُ، واعتدل جسمه، ورقى الدهرَ ببصره، واستقبله بأسره، فهو إن عضَّ نهس، وإن سطا فرس لايقلقل له الحصى، ولا تُقرع له العصا، ولا يَمشي السُّمَهى. قال: فما بقيَ (أي يزيد) بعد ذلك إلا ثلاث سنين وثمانية أشهر حتى قصمه اللَّه!». «1»

«وعرض في خطابه لابن الزبير فقال: فواللَّه لنغزونّه، ثمّ لئن دخل الكعبة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 196

لنحرقنّها عليه، على رغم أنف من رغم ..

ورعف الطاغية على المنبر، فألقى إليه رجل عمامة فمسح بها دمَه، فقال رجل من خثعم: دم على المنبر في عمامة! فتنة عمّت وعلا ذكرها وربّ الكعبة!». «1»

وقد أُثر عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنه قال: «ليرعفنّ على منبري جبّار من جبابرة بني أميّة فيسيل رعافه!».». «2»

وقال ابن عبد ربه الأندلسي: «قدم عمرو بن سعيد أميراً على المدينة والموسم، وعزل الوليد، فلمّا استوى على المنبر رعف، فقال أعرابي: مه! جاءنا بالدم!. فتلقّاه رجل بعمامته، فقال: مه! عمَّ الناسَ واللَّهِ! ثمّ قام فخطب فناولوه عصا لها شعبتان، فقال:

تشعّبَ واللَّهِ ..».»

والملفتُ للإنتباه هنا هو أنّ الأشدق في هذه الخطبة بعد تهديده أهل المدينة وإرعابهم، «4» وتذكيرهم بِتِرَةِ دم عثمان الذي قتله الصحابة، «5» وبعد مدحه يزيد وثنائه عليه وتحذير أهل المدينة من بأسه، نراه لا يتطرّق بشي ء إلى قضية الإمام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 197

الحسين عليه السلام بصورة مباشرة، وإن كان تهديده أهل المدينة كاشفاً عن خوفه من تأييده أهل المدينة للإمام عليه السلام خاصة ولكل معارض عامة، ولعلّ سبب عدم تعرّضه مباشرة لقضية الإمام عليه السلام هو معرفته بمكانة الإمام عليه السلام وقدسيته في قلوب الأمّة، فهو يخشى أن يهيج قلوب الناس على السلطة الأموية بما يدفع الناس عملياً نحو الإلتفاف حول الإمام عليه السلام، ثمّ نرى الأشدق يُعلن صراحة عن عزم السلطة على قتل ابن الزبير، ولعلّ علمه بأنّ ابن الزبير لايتمتع بمكانة ومنزلة خاصة في قلوب الناس هو الذي جرّأه على تلك الصراحة، لكننا نجد هذا الجبّار الأموي لايتورّع عن سحق مشاعر الأمّة في إجلالها لحرمة الكعبة حين يهدّد بإحراقها على رغم أنف من رغم! وفي هذا مؤشر واضح على الدرجة الخطيرة التي بلغها مرض الشلل النفسي والروحي في كيان الأمّة، حيث تسمع مثل هذا التحدّي لمشاعرها في مقدّساتها ولا تثور على مثل هذا الجبّار العنيد!

تنفيذ أمر يزيد باعتقال الإمام عليه السلام أو اغتياله في مكّة ..... ص : 197

قلنا فيما مضى- في متابعتنا لحركة السلطة الأموية المركزية في الشام- تحت عنوان (التخطيط لاغتيال الإمام عليه السلام أو اعتقاله في مكّة): إنّ هذه الخطة من المسلّمات التأريخية التي يكاد يجمع على أصلها المؤرّخون، وقدّمنا هناك مجموعة كافية من الدلائل التأريخية على وجود هذه الخطة التي كانت السبب الصريح لمبادرة الإمام عليه السلام الى الخروج من مكّة يوم التروية كما هو المشهور والصحيح، إضافة الى

الأسباب الأخرى الداعية الى مبادرة الخروج والتي تقع في طول ذلك السبب الصريح.

ويهمّنا هنا في متابعتنا لحركة السلطة الأموية المحلّية في مكّة المكرّمة أن نتعرّف على حدود مسؤولية هذه السلطة المحلية في تنفيذ خطة السلطة المركزية لاغتيال الإمام عليه السلام أو إلقاء القبض عليه في مكة المكرمة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 198

إنّ المتأمّل في النصوص الواردة عن الإمام عليه السلام نفسه في هذا الصدد يرى أنه عليه السلام يُلقي بمسؤولية هذه الخطّة على النظام الأموي ككل وينسب هذه المسؤولية صراحة الى يزيد، كما في قوله لأخيه محمد بن الحنفية (رض): «يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت»، «1»

وفي قوله عليه السلام للفرزدق «لو لم أعجل لأُخذتُ». «2»

وفي قوله عليه السلام لابن الزبير: «لأن أُقتل خارجاً منها بشبرين أحبّ إليّ من أن أُقتل خارجاً منها بشبر، وأيمُ اللَّه، لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم!». «3»

لكنّ متوناً تأريخية أخرى تصرّح بأن المكلّف بتنفيذ هذه الخطة والإشراف عليها في مكّة هو واليها عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق)، يقول الطريحي في تعليله لعدم أداء الإمام عليه السلام مناسك الحج تلك السنة: «.. وذلك لأنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولّاه أمر الموسم، وأمّره على الحاج كلّه، وكان قد أوصاه بقبض الحسين سرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة. ثمّ إنّه لعنه اللَّه دسّ مع الحجّاج في تلك السنة ثلاثين رجلًا من شياطين بني أميّة، وأمرهم بقتل الحسين على كلّ حال اتفق ..». «4»

ومن قبله كان السيّد ابن طاووس قدس سره قد أشار إلى ذلك قائلًا: «فلمّا كان

يوم التروية قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى مكّة في جند كثيف، قد أمره يزيد أن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 199

يناجز الحسين القتال إن هو ناجزه، أو يقاتله إن قدر عليه، فخرج الحسين يوم التروية». «1»

ولاشك أنّ تصحيفاً وقع من سهو النسّاخ في بعض نسخ كتاب السيّد ابن طاووس قدس سره، حيث ورد فيه إسم (عمر بن سعد بن أبي وقّاص) بدلًا من (عمرو بن سعيد بن العاص)، ذلك لأنّ الثابت والمشهور تأريخياً أنّ عمر بن سعد كان في الكوفة في الأيام التي كان فيها الإمام عليه السلام في مكّة. «2»

ويذكر السيّد المقرّم (ره): «أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاج، وولّاه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجد ..». «3»

مما مرّ يتضح أنّ والي مكّة آنذاك عمرو بن سعيد بن العاص (الأشدق) كان مأموراً بتنفيذ خطة اغتيال الإمام عليه السلام أو إلقاء القبض عليه في مكّة سرّاً أو في مواجهة عسكرية علنية.

لكنّ لنا تحفّظاً على هذه المتون في نقطتين هما:

1)- أنّ المستفاد من متون تأريخية أخرى هو أنّ عمرو الأشدق كان في مكّة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 200

منذ أوّل يوم دخل إليها الإمام الحسين عليه السلام، «1» وقد كان هذا الأشدق والياً على مكّة منذ أيّام معاوية، وعلى هذا جُلّ المؤرّخين. ولم نعثر على نصّ تأريخي يفيد أنّ الأشدق سافر الى الشام ثم عاد الى مكّة في المدّة التي كان الإمام عليه السلام فيها بمكّة.

ولذا فإنّ ماورد في نصّ الطريحي أنّ «يزيد أنفذ عمرو» يحمل على معنى أنّ يزيد أمر عمرو، وما ورد في نصّ ابن طاووس أنّ عمرو قدم الى مكّة يوم التروية قد يحمل على عودته

من المدينة إلى مكّة بعد أن سافر إليها لإرعاب أهلها، ومع هذا فإنّ من المستبعد جدّاً أن يعود الأشدق إلى مكّة يوم التروية ويتركها أياماً طويلة والإمام عليه السلام فيها ووفود الناس تقبل عليه وتلتفّ حوله!

2)- ورد في بعض هذه المتون أنّ يزيد أنفذ الأشدق في عسكر عظيم أو في جند كثيف، لكنّ المستفاد من دلائل تأريخية أخرى هو أن والي مكة الأشدق لم تكن لديه تلك القوّة العسكرية المبالغ فيها، بل كان لديه جماعة من الجند والشرطة قد تكفي لضبط الأمور الإدارية داخل مكّة ولتنظيم حركة الحجيج آنذاك وحراسة السلطان فقط، وسنأتي على ذكر بعض هذه الدلائل التأريخية لاحقاً في متابعتنا لمحاولة عمرو بن سعيد الأشدق منع الإمام عليه السلام من الخروج عن مكّة.

ويؤكّد صحة مانراه: أنّ الأشدق لم يحقّق ما أمر به من إلقاء القبض على الإمام عليه السلام داخل مكّة، أو الفتك به سرّاً، أو جهراً في مواجهة علنية!

ولعلّ قائلًا يقول: إنّ وجود الحماية الكافية التي كان الإمام عليه السلام يتمتّع بها حيثما حلّ في مكّة كان السبب في عجز الأشدق عن تنفيذ ما أُمر به!

ولا يخفى أنّ هذا القول اعتراف ضمني بعدم كفاية القوّة الأموية!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 201

أو يقول: إنّ عمرو بن سعيد الأشدق تحاشى الفتك بالإمام عليه السلام في مواجهة علنية لأنه يخشى من تفاقم الأمر على السلطة الأمويّة بسبب تواجد جموع الحجيج العامرة قلوبهم بحبّ الإمام عليه السلام وتقديسه!

ولا يخفى أنّ هذا القول صحيح لو لم تكن هناك أوامر صريحة وصارمة من قبل يزيد بضرورة تنفيذ المؤامرة، أو أنّ عمرو الأشدق لم يكن ذلك الطاغية الجبّار الأرعن الذي لم يتورّع أمام أهل المدينة عن إعلان استعداده لحرق الكعبة

إذا تحصّن بها ابن الزبير رغم أنف من رغم! غير مبالٍ بقداسة الكعبة وحرمتها ولا بمشاعر الأمّة!

ويؤيّد مانراه أيضاً ماورد في نفس نصّ ابن طاووس (ره) أنّ يزيد أمر الأشدق بمناجزة الحسين عليه السلام (إن هو ناجزه!) أو يقاتله (إن هو قدر عليه!)، وفي هذا إشعار كافٍ بخوف يزيد من عدم كفاية القوّة الأموية، فأين إذن ذلك العسكر العظيم والجند الكثيف.

وينبغي التأكيد هنا: أنّ كلّ ما قدّمناه لاينافي كون أنّ هذه الخطة والمؤامرة كانت السبب الصريح في مبادرة الإمام عليه السلام الى الخروج من مكّة يوم التروية (قبيل الشروع بمراسم الحج)، وذلك لأنّ أعوان السلطة وعملاءها قد يتمكنون من اغتيال الإمام عليه السلام أثناء الحجّ حيث يكون هو وأنصاره وجميع الحجيج عُزّلًا من السلاح.

محاولة عمرو الأشدق لمنع الإمام عليه السلام من الخروج عن مكّة ..... ص : 201

يحدّثنا التأريخ عن أسلوبين سلكتهما السلطة الأمويّة المحليّة في مكّة لمنع الإمام عليه السلام من الخروج عن مكّة، أحدهما كان أسلوباً سلميّاً عرض فيه عمرو بن سعيد الأشدق الأمان والبر والصلة للإمام عليه السلام في رسالة وجهها إليه، والآخر كان

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 202

أسلوباً قمعياً وعسكرياً حيث تصدّت جماعة من جند السلطة للركب الحسيني لمنع حركته في الخروج عن مكّة.

ويبدو أنّ الأسلوب الأوّل أي أسلوب بذل الأمان والصلة كان قبل الأسلوب القمعي، كما هي العادة في مثل هذه الوقائع.

تقول رواية تأريخية أنّ الأشدق لما بلغه عزم الحسين عليه السلام على مغادرة مكّة بعث إليه رسالة ورد فيها: «إنّي أسأل اللَّه أن يلهمك رشدك، وأن يصرفك عمّا يرديك، بلغني أنك قد عزمت على الشخوص إلى العراق! وإني أُعيذك باللَّه من الشقاق، فإنّك إن كنت خائفاً فأقبل إليَّ فلك عندي الأمان والبرّ والصلة!». «1»

قد يُستفاد من قوله: «بلغني أنك قد عزمت على الشخوص

..» أنّ هذه الرسالة كتبها الأشدق والإمام عليه السلام في مكّة قبل شخوصه إلى العراق، لكنّ قوله الآخر فيها:

«فإنك إن كنت خائفاً فأقبل إليّ» مشعر بأنّ الأشدق قد كتبها إلى الإمام عليه السلام وقد خرج بالفعل عن مكة.

لكنّ رواية الطبري تصرّح بأنّ الأشدق بعث بهذه الرسالة إلى الإمام عليه السلام بعد خروجه باقتراح من عبداللَّه بن جعفر، وأنّ الذي تولّى أمر كتابة هذه الرسالة بالفعل هو عبداللَّه بن جعفر ثمّ ختمها الأشدق بختمه، يقول الطبري:

«وقام عبداللَّه بن جعفر الى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه، وقال: أكتب إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئن إلى ذلك فيرجع. فقال عمرو بن سعيد: أكتب ماشئت وأتني به حتى أختمه. فكتب عبداللَّه بن جعفر الكتاب، «2» ثمّ أتى به عمرو بن سعيد،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 203

فقال له: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنّه أحرى أن تطمئن نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك. ففعل». «1»

ويتابع الطبري روايته قائلًا: «.. فلحقه يحيى وعبداللَّه بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول اللَّه صلى الله عليه و آله وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له عليَّ كان أو لي! فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدّثت بها أحداً، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربي!

قال وكان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّ عليه السلام:

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

«من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي: أمّا بعد، فإني أسأل اللَّه أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما

يرشدك، بلغني أنك قد توجّهت إلى العراق، وإني أُعيذك باللَّه من الشقاق، فإني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبداللَّه بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك اللَّه عليّ بذلك شهيد وكفيل ومراعٍ ووكيل. والسلام عليك». «2»

ولا يخفى على ذي بصيرة مافي هذه الرسالة وأشباهها من رسائل السلطة الأموية الظالمة من مفردات متكررة مقصودة، فالخروج على النظام الظالم فيها من الموبقات، ومن الشقاق، وسعيٌ في تفريق كلمة الأمّة والجماعة، وما الى ذلك من أسلحة إعلامية لمواجهة كلّ قيام للحق والعدل والإصلاح!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 204

ويذكر الطبريّ أنّ الإمام عليه السلام كتب إليه:

«.. أمّا بعدُ: فإنه لم يشاقق اللَّه ورسوله من دعا إلى اللَّه عزّوجلّ وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين، وقد دعوتَ الى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان اللَّه، ولن يؤمن اللَّه يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، فنسأل اللَّه مخافه في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبري فجُزيت خيراً في الدنيا والآخرة والسلام». «1»

ويبدو أنّ الأشدق لمّا آيس من أسلوب عرض الأمان «2» على الإمام عليه السلام لجأ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 205

إلى ما تعوّد عليه من الأساليب القمعية في المواجهة، فقد روى الطبري عن عقبة بن سمعان قال: «لمّا خرج الحسين من مكّة اعترضه رسلُ عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف، أين تذهب!؟ فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط، ثمّ إنّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قويّاً، ومضى الحسين عليه السلام على وجهه، فنادوه: ياحسين، ألا تتقي اللَّه، تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه الأمّة!؟ فتأوّل حسين قول

اللَّه عزّوجلّ (لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بري ء مما تعملون)». «1»

وتقول رواية الدينوري: «ولما خرج الحسين من مكّة اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد ابن العاص في جماعة من الجند، فقال: إنّ الأمير يأمرك بالإنصراف، فانصرف وإلّا منعتك!

فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط.

وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل الى صاحب شُرَطهِ يأمره بالإنصراف!». «2»

والمتأمّل في هذين النصّين يستشعر بوضوح أنّ القوّة العسكرية الأموية لم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 206

تكن كافية لمنع الإمام عليه السلام من الخروج، والمفروض في مثل هكذا مواجهة تقع خارج حدود المدينة مع الركب الحسيني الكبير نسبياً حتى ذلك الوقت) أن يستعمل الأشدق كلّ ما لديه من قوّة في مواجهة الإمام عليه السلام لمنعه من الخروج، غير أنّ الحال لم تعدُ أن تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط ثمّ خاف الأشدق من تفاقم الأمر! وأمر (رسله) أو (جماعة من جنده) بالإنصراف خائبين.

رضي الله عنه رضي الله عنه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 207

الفصل الثالث ..... ص : 207

اشارة

حركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية

الفصل الثالث: حركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية ..... ص : 207

اشارة

سجّل لنا التأريخ في المدّة التي قضاها الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة وقائع كثيرة وصوراً مهمة لحركة الأمّة أفراداً وجماعات على صعيد مواقفهم التي اتخذوها إزاء قيام الإمام الحسين عليه السلام- سلباً أو إيجاباً- في أهمّ مدن العالم الإسلامي التي يمكن آنذاك فيها لحركة المعارضة إذا اشتدّت شوكتها أن تؤثّر في تغيير مجرى حركة الأحداث أو ترسم للعالم الإسلامي مستقبلًا آخر.

وعدا دمشق ومدن الشام الأخرى التي كانت مغلقة سياسياً وإعلامياً- بشكل عام- لصالح الحكم الأمويّ، فإنّ أهمّ مدن قلب العالم الإسلامي التي يمكن أن تتحرك فيها المعارضة السياسية آنذاك بصورة خطيرة هي الكوفة والبصرة والمدينة ومكّة.

وفي متابعتنا هنا لحركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية نرى من الأفضل- رعاية لترتب بدء التحرك تأريخياً- أن نبدأ أوّلًا في قراءة حركة الأمّة في الحجاز (في أهمّ مدنه: مكة والمدينة)، ثمّ نتابع هذه الحركة في الكوفة، ثمّ في البصرة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 210

حركّة الأمّة في الحجاز ..... ص : 210
اشارة

سجّل لنا التأريخ على صعيد حركة الأمة في الحجاز مجموعة من حوادث ووقائع وصُوَر في أهمّ حاضرتين فيه آنذاك وهما مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، نقرأها هنا على النظم التالي:

إحتفاء الناس في مكّة المكرّمة بالإمام عليه السلام ..... ص : 210

استقبل الناس «1» في مكّة المكرّمة خبر قدوم الإمام الحسين عليه السلام استقبال البشرى، واحتفوا به حفاوة بالغة، فكانوا يفدون ويختلفون إليه ويحوطونه دون غيره، إذ كان عليه السلام يومذاك بقيّة الرسول صلى الله عليه و آله في هذه الأمّة، وسيّد العرب والحجاز خاصة وسيّد المسلمين والعالم الإسلاميّ عامة، فما كان ثَمَّ مَن ينازعه يومذاك من الناس سموّ مرتبته وعلوّ مقامه وشرف منزلته في قلوب المسلمين.

يقول ابن كثير: «فعكف الناس على الحسين يفدون إليه، ويقدمون عليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد، وأمّا ابن الزبير فإنّه لزم مصلّاه عند الكعبة، وجعل يتردّد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولايمكنه أن يتحرّك بشي ء مما في نفسه مع وجود الحسين لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه عليه .. بل الناس إنّما ميلهم إلى الحسين لأنّه السيّد الكبير وابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحد يساميه ولايساويه ..». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 211

وقال الدينوري: «واختلف الناس إليه، فكانوا يجتمعون عنده حلقاً حلقاً، وتركوا عبدالله بن الزبير، وكانوا قبل ذلك يتحفّلون إليه، فساء ذلك ابن الزبير، وعلم أنّ الناس لايحفلون به والحسين مقيم بالبلد، فكان يختلف الى الحسين رضي الله عنه صباحاً ومساءً.». «1»

وجهاء الأُمّة .. مشورات ونصائح ..... ص : 211
اشارة

طيلة المدّة التي أقام الإمام عليه السلام فيها بمكّة المكرّمة كان عليه السلام، قد التقى مجموعة منوّعة المشارب والميول والأفكار من وجهاء مرموقين ومعروفين في أوساط الأمّة الإسلامية، وقد عرض هؤلاء على الإمام عليه السلام مشوراتهم ونصائحهم واعتراضاتهم، كلّ منهم على هدي مشربه وميله وطريقة تفكيره، ولئن اختلفت تلك المشورات والنصائح والإعتراضات في بعض تفاصيلها، فقد اشتركت جميعها في

منطلق التفكير والنظرة الى القضية، إذ إنّ جميعها كان يرى الفوز والنصر في تسلّم الحكم والسلامة والعافية والأمان الدنيوي، ويرى الخسارة والإنكسار في القتل والتشرّد والبلاء والتعرّض للإضطهاد، فمن هذا المنطق انبعثت جميع تلك الإعتراضات والمشورات والنصائح.

وكم هو الفرق كبير والبون شاسع بين هذا المنطق وبين منطق العمق الذي كان قد جعل أساس حساباته مصير الإسلام والأمة الإسلامية، ولم يغفل في نظرته إلى متّجه حركة الأحداث عن «أنّ معاوية بن أبي سفيان (الذي انتهت إليه قيادة حركة النفاق آنذاك) قد أضلّ جُلّ هذه الأمّة إضلالًا بعنوان الدين نفسه! حيث عتّم على ذكر أهل البيت عليهم السلام وعلى ذكر فضائلهم تعتيماً تاماً، وافتعل من خلال وُضّاع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 212

الأحاديث- افتراءً على النبيّ صلى الله عليه و آله- قداسة مكذوبة «1» له ولبعض مَن مضى مِن الصحابة الذين قادوا حركة النفاق أو ساروا في ركابها، وتآزروا على غصب أهل البيت عليهم السلام حقّهم الذي فرضه الله لهم، وخدّر معاوية بن أبي سفيان الأمّة المسلمة عن القيام والنهوض ضدّ الظلم من خلال تأسيس فرق دينية تقدّم للناس تفسيرات دينية تخدم سلطة الأمويين وتبرّر أعمالهم، كما في مذهب الجبر ومذهب الإرجاء، وأعانه على ذلك مابذله من جهدٍ كبير في تمزيق الأمّة قبلياً وطبقياً، وفي اضطهاد الشيعة اضطهاداً كبيراً.

ومع طول مدّة حكمه انخدع جُلّ هذه الأمّة بالتضليل الديني الأمويّ، واعتقدوا أنّ حكم معاوية حكم شرعي، وأنه امتداد للخلافة الإسلامية بعد رسول الله صلى الله عليه و آله، وأنّ معاوية إمام هذه الأمّة، وأنّ من ينوب عنه في مكانه إمام هذه الأمّة وامتداد لأئمتها الشرعيين!! ومن المؤسف حقّاً أنّ جُلّ هذه الأمّة خضع خضوعاً أعمى لهذا التظليل وانقاد له، فلم

يعد يبصر غيره، بل لم يعد يصدّق أنّ الحقيقة شي ء آخر غير هذا!! ... ولقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الإطار الديني هو أن يثور عليه رجلٌ ذو مركز دينيّ مسلّم به عند الأمّة الإسلامية، فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تمزّق الرداء الديني الذي يتظاهر به الحكّام الأمويون، وأن تكشف هذا الحكم على حقيقته، وجاهليته، وبُعده الكبير عن مفاهيم الإسلام، ولم يكن هذا الرجل الإّ الحسين عليه السلام، فقد كان له في قلوب الأكثرية القاطعة من المسلمين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 213

رصيد كبير من الحبّ والإجلال والتعظيم ... ولو لم تكن واقعة كربلاء لكان الأمويون قد واصلوا حكم الناس بإسم الدين، حتى يترسّخ في أذهان الناس بمرور الأيام والسنين أنه ليس هناك إسلام غير الإسلام الذي يتحدّث به الأمويون ويؤخذ عنهم!! وعلى الإسلام السلام!.

لو لم تكن واقعة عاشوراء لما كان بالإمكان فصل الإسلام والأموية عن بعضهما البعض، ممّا يعني أنّ زوال الأمويّة يوماً ما كان سيعني زوال الإسلام أيضاً! ولكانت جميع الإنتفاضات والثورات التي قامت على الظلم الأمويّ تقوم حين تقوم على الإسلام نفسه! لكنّ الفتح الحسيني في عاشوراء هو الذي جعل كلّ هذه الإنتفاضات والثورات التي قامت بعد عاشوراء إنّما تقوم باسم الإسلام على الأموية!.». «1»

اشارة: ..... ص : 213

ونلفت الإنتباه هنا إلى أنّ الإمام الحسين عليه السلام في الوقت الذي كان يتحرك بالفعل على أساس منطق العمق هذا- منطق الفتح بالشهادة- كان يتعاطى أيضاً بمنطق الحجج الظاهرة في تعامله مع منطق الظاهر، منطق تكلم المشورات والنصائح، كما أنه عليه السلام كان يراعي في ردوده وإجاباته في محاوراته مع أصحاب تلك المشورات والنصائح نوع المخاطَب من حيث قدر عقله ومستوى بصيرته ودرجة ولائه لأهل البيت عليهم السلام

ونوع اعتقاده بهم ومدى علاقته بأعدائهم.

فنراه عليه السلام مثلًا يردّ على أم سلمة (رض) ومحمد بن الحنفية (رض) وعبدالله بن عبّاس (رض) ردوداً تختلف عن ردوده على عبدالله بن عمر وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن مطيع العدوي وأمثالهم.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 214

هذه الحقيقة لابدّ من استحضارها وعدم الغفلة عنها في قراءتنا لمحاوراته عليه السلام حتّى نفهم سرّ التفاوت الظاهري في إجاباته وردوده عليه السلام.

تحرّك عبدالله بن عبّاس ..... ص : 214
اشارة

سجّل لنا التأريخ أكثر من محاورة تمّت بين الإمام عليه السلام وبين عبدالله بن عبّاس، وقد كشفت هذه المحاورات في مجموعها عن أنّ ابن عبّاس (رض) كان قد تحرّك في حدود السعي لمنع الإمام عليه السلام من الخروج الى العراق- لا من القيام والثورة على الحكم الأمويّ-، وكانت حجّته في اعتراضه على خروج الإمام عليه السلام إلى الكوفة أنّ على أهل الكوفة- قبل أن يتوجّه إليهم الإمام عليه السلام- أن يتحرّكوا عملياً لتهيئة الأمور وتمهيدها للإمام عليه السلام، كأن يطردوا أميرهم الأمويّ أو يقتلوه، وينفوا جميع أعدائهم من الأمويين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة، ويضبطوا إدارة بلادهم، وآنئذٍ يكون من الرشاد والسداد أن يتوجّه إليهم الإمام عليه السلام، وإلّا فإنّ خروج الإمام عليه السلام إليهم- وهم لم يحرّكوا ساكناً بعدُ- مخاطرة لاتكون نتيجتها إلّا القتل والبلوى، ومما قاله ابن عبّاس للإمام عليه السلام في صدد هذه النقطة:

«أخبرني رحمك الله، أتسير الى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم!؟ فإن كانوا قد فعلوا ذلك فَسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك الى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويكذّبوك ويخالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك!.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص:

215

وقال له ايضاً: «.. فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا- فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلّا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، وتبثّ دعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية.». «1»

هذه أهمّ نقطة أثارها عبد الله بن عبّاس في مجموع محاوراته مع الإمام عليه السلام، وهي كاشفة عن محورٍ أساس في تفكير ابن عبّاس يتلخّص في تأييده لقيام الإمام عليه السلام واعتراضه فقط على الخروج الى العراق قبل تحرّك أهله وقيامهم، وهذا فارق كبير من مجموع الفوارق بين موقف ابن عباس وموقف عبدالله بن عمر الذي كان يعترض على أصل القيام ضد الحاكم الأموي الجائر.

لكنّ هذه النقطة بالذات كاشفة أيضاً عن انتماء ابن عباس الى مجموعة الناصحين والمشفقين الذين نظروا الى القضية بمنظار النصر الظاهري الذي لم تكن متطلّباته لتخفى على الإمام عليه السلام لو كان قد تحرّك بالفعل للوصول الى ذلك النصر.

والآن فلنأتِ الى نصوص محاورات ابن عباس مع الإمام عليه السلام:

المحاورة الأولى: ..... ص : 215

وهي محاورة ثلاثية كان عبدالله بن عمر، الثالث فيها، ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت في الأيام الأولى من إقامة الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، وكان بها يومئذٍ ابن عباس وابن عمر (وقد عزما أن ينصرفا الى المدينة)، ونحن نركّز هنا على نصوص التحاور فيها بين الإمام عليه السلام وبين ابن عباس لأننا الآن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 216

بصدد تشخيص أبعاد موقفه وتحرّكه.

وقد ابتدأ ابن عمر القول في هذه المحاورة محذّراً الإمام عليه السلام من عداوة البيت الأموي وظلمهم وميل الناس الى الدنيا، وأظهر له خشيته عليه من أن يُقتل، وأنه سمع رسول الله صلى الله

عليه و آله يقول: «حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلهم الله إلى يوم القيامة»، «1» ثمّ أشار على الإمام عليه السلام أن يدخل في صلح ما دخل فيه الناس وأن يصبر كما صبر لمعاوية!! «2»

فقال له الحسين عليه السلام: «أبا عبدالرحمن! أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله فيه وفي أبيه ما قال!؟

فقال ابن عباس: صدقتَ أبا عبدالله، قال النبيّ صلى الله عليه و آله في حياته: مالي وليزيد، لا بارك الله في يزيد!، وإنّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه السلام، والذي نفسي بيده لايُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم!

ثم بكى ابن عباس، وبكى معه الحسين عليه السلام.

وقال: «يا ابن عباس، تعلمُ أنّي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله!

فقال ابن عباس: أللّهمّ نعم، نعلمُ ونعرف أنّ ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله غيرك، وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لايقدر أن يقبل أحدهما دون الأخرى!

قال الحسين عليه السلام: يا ابن عباس، فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله من داره وقراره ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره، ومولده،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 217

ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً لايستقرّ في قرار ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله!.

فقال ابن عباس: ما أقول فيهم إلّا «إنّهم كفروا بالله وبرسوله ولايأتون الصلاة إلّا وهم كُسالى»، «1» «يُراؤون الناس ولايذكرون الله

إلّا قليلًا، مذبذبين بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يُظلل اللهُ فلن تجد له سبيلا»، «2»

وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأمّا أنت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله فإنك رأس الفخار برسول الله صلى الله عليه و آله وابن نظيرة البتول، فلا تظنّ يا ابن بنت رسول الله أنّ الله غافل عمّا يعمل الظالمون، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك، وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد صلى الله عليه و آله فماله من خلاق.

فقال الحسين عليه السلام: أللّهمَّ اشهد.

فقال ابن عباس: جُعلتُ فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك! والله الذي لا إله إلّا هو أن لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممن أوفّي من حقّك عشر العشر وها أنا بين يديك مرني بأمرك.

وهنا يتدخل ابن عمر ليغيّر مجرى الحوار- حين أحسَّ أنّ الكلام بلغ الدرجة الحرجة بقول الإمام عليه السلام «أللّهمّ اشهد» أنّ الحجّة قائمة على المخاطب، وصار الحديث على لسان ابن عباس الذي أدرك مغزى «أللّهمّ اشهد» في وجوب نصرة الإمام عليه السلام ووجوب الإنضمام إلى رايته في القيام ضد الحكم الأموي، الأمر الذي

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 218

يعني أنه (أي ابن عمر) مقصود أيضاً بالإمتثال لهذا الواجب- فقال لابن عباس:

مهلًا، ذرنا من هذا يا ابن عباس!!

ثمّ عطف يخاطب الإمام عليه السلام داعياً إيّاه الى الرجوع الى المدينة والتخلّي عمّا عزم عليه من القيام، وطالباً منه الدخول في صلح القوم، والصبر حتى يهلك يزيد!!، ويدّعي ابن عمر هنا أنّ الإمام عليه السلام متروك ولابأس عليه إن هو ترك القيام حتى وإنْ

لم يبايع!!

وهنا يُظهر الإمام عليه السلام تبّرمه من منطق ابن عمر، ثم يُلزمه بالتسليم لحقيقة أنّ ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله في طهره ورشده ومنزلته الخاصة ليس كيزيد بن معاوية، ويُعلمه أنّ الأمويين لايتركونه حتى يبايع أو يقتل، ثمّ يدعوه إلى نصرته، فإن لم ينصره فلا أقلّ من أن لايسارع بالبيعة!!

ثمّ أقبل الإمام الحسين عليه السلام على ابن عباس رحمه الله ..

فقال: يا ابن عباس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنت مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ الى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شي ءٌ من أخبارك، فإنّي مستوطنٌ هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمتُ بالكلمة التي قالها إبراهيم الخليل عليه السلام يومَ أُلقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل) فكانت النار عليه برداً وسلاماً.

.. فبكى ابن عباس وابن عمر في ذلك الوقت بكاءً شديداً، والحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 219

يبكي معهما ساعة، ثمّ ودّعهما، وصار ابن عمر وابن عباس الى المدينة. «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 219

1)- أكّد ابن عباس (رض)- في أوّل ما نطق به خلال هذه المحاورة- أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان قد بلّغ الأمّة بأنّ يزيد قاتل الحسين عليه السلام، وأنّ على الأمّة أن تحمي الإمام عليه السلام وتنصره، وقد حذّر صلى الله عليه و آله الأمّة بأنّ الإمام عليه السلام لايُقتل بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم! وقد أكّد ابن عمر أيضاً على وقوع هذا التحذير والإنذار النبوي حيث قال إنه سمع الرسول صلى

الله عليه و آله يقول: «حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه، ليخذلهم الله الى يوم القيامة»، وهذا يعني أنّ الأمّة كان قد شاع في أوساطها خبر ملحمة مقتل الحسين عليه السلام وأنّ يزيد قاتله، وأنّ على الأمّة التحرك لحماية الإمام عليه السلام ونصرته!! لكنّ الأمّة بعد خمسين سنة من ارتحال الرسول صلى الله عليه و آله أعمتها أضاليل حركة النفاق عامة وفصيل الحزب الأموي منها خاصة، فتناءت عن وصايا رسول الله صلى الله عليه و آله وتحذيراته، الأمر الذي استشعر ابن عباس مرارته ونتائجه الخطيرة فبكى، وشاركه الإمام عليه السلام في البكاء!

2)- أكّد ابن عباس (رض) في هذه المحاورة على معرفته بمقام الحسين عليه السلام وضرورة موالاته ونصرته، بدليل قوله: «.. وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة ..»، وفي قوله: «.. لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 220

انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممّن أوفّي من حقّك عشر العشر ..».

3)- كما أكّد (رض) على معرفته بكفر الأمويين ونفاقهم، وأنّهم ومن أطاعهم في محاربة الإمام عليه السلام ممّن لانصيب لهم من الخير في الآخرة.

4)- قد يُستفاد من قوله (رض): «كأنّك تريدني إلى نفسك، وتريد منّي أن أنصرك ... الى قوله: وها أنا بين يديك مُرني بأمرك» أنّه وإن كان كبير السنّ يومذاك لكنّه كان صحيح القُوى سليم الجوارح وإلّا لما عرض استعداده للنصرة والجهاد، فلم يكن مكفوف البصر مثلًا- كما يُستفاد ذلك من رواية لقائه بأمّ سلمة (رض) بعد سماع صراخها تنعى الحسين عليه السلام «1»- نعم يمكن القول إنّ الإمام عليه السلام في جميع محاوراته مع ابن عباس لم يطلب منه الالتحاق به ونصرته، مما يقويّ القول

بأنه كان ضعيف البصر جداً أو مكفوفاً آنذاك، ومعذوراً عن الجهاد إلّا أنه (رض) عرض للإمام عليه السلام استعداده للجهاد والتضحية بين يديه استشعاراً منه لوجوب نصرة الإمام عليه السلام والذبِّ عنه وإنْ كان معذوراً.

5)- وقد يُستفاد أيضاً من أحد نصوص هذه المحاورة أنّ الإمام عليه السلام رخّص لابن عباس (رض) بالبقاء وعدم الالتحاق بركبه، حيث قال عليه السلام له: «فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شي ء من أخبارك».

6)- أخبر الإمام عليه السلام ابن عباس (رض)- في الأيام الأولى من إقامته في مكّة المكرّمة- أنّ الأمويين يريدون قتله وسفك دمه!، والإمام عليه السلام بهذا ربّما أراد أن يُخبر عن وجود خطة وضعتها السلطة الأموية المركزية بالفعل لقتله في المدينة أو في مكّة، أو أراد أن يُخبر عن حقيقة أنّة (ما لم يبايع يقتل)، مؤكّداً بذلك على عدم صحة دعوى بعض من يقول- كابن عمر مثلًا- إنه عليه السلام لابأس عليه ولاخطر إن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 221

ترك المعارضة وصبر حتى وإن لم يبايع!

7)- ومع علمه عليه السلام بأنّه مالم يبايع يقتل! ومع إصراره على أن لا يكون هو الذي تستباح بقتله حرمة البيت الحرام! يمكننا أن نفهم قوله عليه السلام لابن عباس (رض) في ختام هذه المحاورة: «فإنّي مستوطن هذا الحرم، ومقيمٌ فيه أبداً ما رأيت أهله يحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم ..» أنه عليه السلام أراد أن يطمئن ابن عباس (والمحاورة في أوائل الأيّام المكيّة) أنه باقٍ أيّاماً غير قليلة في مكّة، وأنّ هنالك متسعاً من الوقت، وإلّا فإنّ الإمام عليه السلام قد جعل استيطانه الحرم مشروطاً بحبّ أهله إيّاه ونصرتهم له! وهو عليه السلام يعلم أنه ليس

في (المكيّين) إلا نزر قليل جداً ممّن يحبّ أهل البيت عليه السلام، «1» فليس له في مكّة قاعدة شعبية تحميه وتنصره في مواجهة السلطة الأموية.

المحاورة الثانية: ..... ص : 221

ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت بين ابن عباس (رض) وبين الإمام عليه السلام بعد رجوع ابن عباس من المدينة الى مكّة المكرّمة مرّة أخرى، إذ تقول الرواية التأريخية: «وقدم ابن عباس في تلك الأيّام الى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين عزم على المسير، فأتى إليه ودخل عليه مسلّماً.

ثم قال له: جُعلتُ فداك، إنه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّك سائر الى العراق! فبيّن لي ما أنت عليه؟ «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 222

فقال: نعم، قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي «1» هذه إن شاء الله، ولاحول ولاقوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

فقال ابن عباس: أُعيذك بالله من ذلك، فإنك إنْ سرت الى قوم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، واتقوا عدوّهم، «2» ففي مسيرك إليهم لعمري الرشاد والسداد، وإن سرت إلى قوم دعوك إليهم وأميرهم قاهر لهم، وعمّالهم يجبون بلادهم، «3» فإنّما دعوك الى الحرب والقتال! وأنت تعلمُ أنه بلدٌ قد قُتل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله (!) وعبيد الله في البلد يفرض ويُعطي، والناس اليوم عبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن تُقتل، فاتّقِ الله والزم هذا الحرم، فإن كنت على حال لابدّ أن تشخص فَصِرْ إلى اليمن فإنَّ بها حصوناً لك، وشيعة لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس.

فقال الحسين عليه السلام: لابُدَّ من العراق!

قال: فإن عصيتني فلا تُخرج أهلك ونساءَك فيُقال إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فوالله ما آمَنُ أن تُقتل ونساؤك ينظرن كما قُتل عثمان.

فقال الحسين عليه السلام: والله يا ابن عم، لئن

أُقتل بالعراق أحبّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 223

مايكون». «1»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 223

1)- يمكن تشخيص تأريخ هذه المحاورة من قرائن متون روايتها أنّها حصلت في الأيام الأخيرة من إقامة الإمام عليه السلام في مكّة، بدليل قوله عليه السلام «قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه ..»، أو أنها حصلت في اليوم الأخير أو اليوم الذي قبله، بدليل قوله عليه السلام كما في رواية الطبري: «قد أجمعتُ المسير في أحد يوميّ هذين ..».

2)- تؤكّد نصوص هذه المحاورة أنّ تصميم الإمام عليه السلام على التوجّه الى العراق قد شاع في الناس في مكّة وغيرها، خصوصاً في الأيّام الأواخر من إقامته فيها، وهذا لاينافي أن يبقى موعد السفر سرّياً لو أراد الإمام عليه السلام ذلك، مع أن نفس موعد سفر الركب الحسيني من مكّة لم يكن سرّياً إذ كان الإمام عليه السلام قد أعلن عنه في خطبته قبيل سفره حين قال فيها: «... من كان باذلًا فينا مهجته، وموطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحاً إن شاء الله تعالى.». «2»

3)- في هذه المحاورة يتجلّى المحور الأساس في تفكير ابن عباس (رض) وموقفه من قيام الإمام عليه السلام فهو مع القيام، وضد الخروج الى العراق قبل أن يتحرّك أهله عملياً لترتيب وتهيئة الأوضاع وتمهيدها استقبالًا لمقدم الإمام عليه السلام إليهم، وهذه المقولة صحيحة في حدود منطق النصر الظاهري الذي كانت تنطلق منه مشورات ابن عباس (رض) ونصائحه، والمُلفت للإنتباه أنّ الإمام عليه السلام لم يُخطّي ء

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 224

مثل هذه المشورة والنصيحة في جميع المحاورات التي طُرحت فيها من قِبل ابن عباس وغيره، «1» بل

كان يعلّق عليها بما يُشعر بصحتها في حدود منطق الظاهر. «2»

4)- في ضوء منطق (الظاهر) يمكن للمتابع المتأمّل أن يفسّر قول الإمام عليه السلام «لابدّ من العراق» أنّ إصراره عليه السلام على التوجّه الى العراق كان بسبب رسائل أهل الكوفة إليه، إذ شكّلت هذه الرسائل حجّة على الإمام عليه السلام في وجوب الإستجابة لهم والتوجّه إليهم، خصوصاً بعد وصول رسالة مسلم بن عقيل عليه السلام إليه وقد أخبره فيها بأنّ عدد المبايعين له في الكوفة بلغ ثمانية عشر ألفاً (أو أكثر)، وطالبه فيها بالقدوم إليهم، ويؤيّد هذا ما روي عنه عليه السلام أنه قال لابن عباس في محاورة أخرى:

«.. وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم وقد وجب عليَّ إجابتهم وقام لهم العذر عليَّ عند الله سبحانه». «3»

أمّا في ضوء منطق «العمق» فإنّ قوله عليه السلام «لابدّ من العراق» مع علمه بأنّ أهل الكوفة سوف يقتلونه ومن معه من أنصاره- وتصريحات الإمام عليه السلام بأنه سوف يُقتل كثيرة متظافرة- لابدّ أن يفسّر بأنّ الإمام عليه السلام يعلم أيضاً أنّ العراق هو الأرض المختارة للمصرع المختار، وميدان الواقعة الحاسمة، واقعة «الفتح بالشهادة»، الواقعة التي تكون نتائجها جميعاً لصالح الإسلام المحمّدي الخالص وأهل البيت عليهم السلام إلى قيام الساعة، ذلك لأنّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 225

إقليم إسلامي آخر، ولأنّ العراق لم ينغلق إعلامياً ونفسيّاً لصالح الأمويين كما هو الشام، بل لعلّ العكس هو الصحيح، فالعراق آنذاك هو أرض المصرع المختار لما ينطوي عليه من استعدادات للتأثر بالحدث العظيم «واقعة عاشوراء» والتغيّر على هدي اشعاعاتها.

ويؤيّد هذا التفسير (في العمق) أنّ الإمام عليه السلام ظلّ مصرّاً على التوجّه الى الكوفة حتى بعد انتفاء حجّة أهل

الكوفة عليه عملياً حين بلغه خذلانهم لمسلم عليه السلام الذي أمسى وحيداً وجاهد وحيداً حتى قُتل!

5)- ورد في هذه المحاورة قول ابن عباس (رض) للإمام عليه السلام: «.. وأنت تعلمُ أنّه بلدٌ قد قُتِل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله! ...» ولاشك أنّ المراد ب (ابن عمّك) هو مسلم بن عقيل عليه السلام، ولذا فإنّ هذه العبارة شاذّة ومخالفة للمشهور الثابت، ذلك لأنّ خبر مقتل مسلم عليه السلام أتى الإمام الحسين عليه السلام بعد خروجه من مكّة في منزل من منازل الطريق (زرود)، ولعلّ هذه العبارة قد أُدخلت إدخالًا على أصل متن هذه المحاورة عمداً أو سهواً، والله العالم.

كذلك الأمر في قول ابن عباس (رض) للإمام عليه السلام: «.. فأتقِ الله والزم هذا الحرم ..»، ذلك لأنّ فيه من سوء الأدب في مخاطبة الإمام عليه السلام ما يبعد صدوره جدّاً عن ابن عباس (رض) العارف بمقام الإمام الحسين عليه السلام خاصة وبمقام أهل البيت عليهم السلام عامّة.

6)- يمكن حمل قول الإمام عليه السلام: «.. لئن أُقتل بالعراق أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة ..» على أصل إصرار الإمام عليه السلام ألّا يكون هو القتيل في مكّة الذي تُستحلّ به حرمة هذا البيت، ويمكن حمل هذا القول أيضاً على حقيقة علمه عليه السلام بأنّ العراق هو أفضل أرض للمصرع المختار كما قدّمنا قبل ذلك، ولأنّ الواقعة التي يُقتل عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 226

فيها على أرض العراق سوف تكون إعلامياً وتبليغياً (على الأقلّ) في صالح الإمام عليه السلام تماماً بحيث لايتمكّن العدوّ فيها أن يعتّم على مصرعه فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان هذه

الأمّة ويحرّكها بالإتجاه الذي أراده الحسين عليه السلام، وهذا بخلاف مالو قُتِل الإمام عليه السلام بمكّة غيلة في خفاء أو علانية، قتلة يمكن للعدوّ أن يُغطّي عليها ويتنصّل من مسؤوليته عنها، بل يستفيد من نفس الحادثة لصالحه إعلامياً، إذ يقتل القاتل- الذي كان قد أمره هو بقتل الإمام عليه السلام- فيظهر للأمّة بمظهر المطالب بدم الإمام عليه السلام الثائر له، فتنطلي اللعبة على أكثر الناس، وتبقى مأساة الإسلام على ماهي عليه، بل تترسخ المصيبة وتشتدّ.

7)- في ختام هذه المحاورة نقف أمام قول الإمام عليه السلام: «وما قضى اللّه فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر مايكون.»، وقد تكرّر قوله عليه السلام «أستخير الله» في بعض محاوراته عليه السلام مع ابن الزبير وابن مطيع وفي ردّه على كتاب المسور بن مخرمة.

فهل عنى الإمام عليه السلام بالإستخارة طلب معرفة ما فيه الخيرة من الأمور!؟ وهل يعني هذا أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم تكن لديه خطّة على الأرض في مسار نهضته منذ البدء، ولم يكن لديه علم بما هو قادم عليه من مصير في مستقبل ايّامه وأنّ بوصلة الإستخارة هي التي كانت توجّه حركته!؟

وهل يوافق هذا: الإعتقاد الحقّ بالشرائط اللازمة للإمامة المطلقة المتجسّدة في شخصيات أئمّة أهل البيت عليه السلام بعد النبي الأكرم صلى الله عليه و آله، خصوصاً على صعيد (علم الإمام عليه السلام)!؟

وهل يصدّق هذا التراث الروائي الكبير المتظافر المأثور عن النبيّ صلى الله عليه و آله

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 227

وعنهم عليهم السلام في إخباراتهم عن (الملاحم والفتن) إلى قيام الساعة، وخصوصاً الإخبارات المأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله وعن عليّ والحسن والحسين عليهما السلام بصدد (ملحمة عاشوراء)!؟

قبل الإجابة يحسن بنا أن نتعرّض

هنا الى معنى الإستخارة لغة واصطلاحاً.

معنى الإستخارة: ..... ص : 227

الإستخارة لغةً: طلب الخِيرَة في الشي ء، واستخار الله: طلب منه الخيرة، و:

أللّهمّ خِر لي: أي اختر لي أصلح الأمرين. «1»

وهي إصطلاحاً- كما ورد في الروايات- على معانٍ:

1- بمعنى طلب الخيرة من الله، بأن يسأل الله في دعائه أن يجعل له الخير ويوفّقه في الأمر الذي يريده.

2- بمعنى تيسّر ما فيه الخيرة. وهو قريب من الأوّل.

3- طلب العزم على ما فيه الخير، بمعنى أن يسأل الله تعالى أن يوجد فيه العزم على ما فيه الخير.

4- طلب معرفة ما فيه الخيرة، وهو المتداول في العرف. «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 228

لنرجع الى أصل المسألة ..

لاشك أنّ مراد الإمام عليه السلام من الإستخارة ليس معناها المتداول في يومنا هذا:

وهو طلب معرفة مافيه الخيرة، وأنّه عليه السلام كان يريد استكشاف الغيب بطريق الرجاء بلاجزم ويقين!!

إذ إنّ هذا ينافي الإعتقاد الحقَّ بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام عندهم علم ماكان وما هو كائن ومايكون الى قيام الساعة موهبة من الله تبارك وتعالى، كما ينافي هذا روايات أخبار (الملاحم والفتن) الكثيرة المأثورة عنهم عليهم السلام والكاشفة عن علمهم بمسار وتفاصيل حركة أحداث العالم الى قيام الساعة، وخصوصاً أخبار (ملحمة عاشوراء) المأثورة عن الخمسة أصحاب الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير صلوات الله عليهم أجمعين. «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 229

إذن فمعنى الإستخارة هنا من الممكن أن يكون هو الدعاء الى الله تبارك وتعالى في أن يجعل له عليه السلام الخير في مسعاه ويوفّقه في الأمر الذي يريده، أو أن ييسّر له ما فيه الخير بتذليل كلّ الصعوبات والعوائق لبلوغ ما يبتغيه عليه السلام في طريق نهضته المقدّسة، أو الدعاء الى الله تبارك وتعالى

في طلب المزيد من العزم والتصميم على ما فيه الخير وجزيل المثوبة.

ولاشك أن المتابع المتأمّل يُدرك أنّ الإمام عليه السلام في جميع محاوراته التي ذكر فيها أمر الإستخارة أراد بذلك أن يُسكت المخاطب عن الإلحاح في نهيه عمّا هو عازم عليه.

ولا ينافي ما قدّمنا إذا حدّثنا التأريخ أنّ الإمام عليه السلام لجأ لقطع إلحاح المحاور الى الإستفتاح بالقرآن- وهو يعلم نتيجة الإستفتاح مسبّقاً- كما فعل ذلك مع ابن عباس نفسه، فقد روي «أنّ ابن عباس ألحّ على الحسين عليه السلام في منعه من المسير الى الكوفة، فتفأل بالقرآن لإسكاته، فخرج الفأل قوله تعالى: «كلّ نفس ذائقة الموت، وإنّما توفون أجوركم يوم القيامة ...»، «1»

فقال عليه السلام: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صدق الله ورسوله. ثمّ قال: يا ابن عباس، فلا تُلحَّ عليَّ بعد هذا فإنه لا مردّ لقضاء الله عزّ وجلّ.». «2»

المحاورة الثالثة: ..... ص : 229

يقول التأريخ: «فلمّا كان من العشيّ أو من الغد أتى الحسين عبدالله بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 230

عباس ...

فقال: يا ابن عم، إني أتصبّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والإستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنّهم، أقم بهذا البلد فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإنْ أبيت إلّا أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتُرسل وتبثّ دُعاتك، فإني أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تحبّ في عافية!

فقال له الحسين عليه السلام: يا ابن عم، إنّي والله لأعلم أنّك ناصحٌ مشفق، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير!

فقال له ابن عباس:

فإن كنت سائراً فلا تَسِرْ بنسائك وصبيتك، فوالله إنّي لخائف أن تُقتلَ كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه!

ثم قال ابن عباس: لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لاينظر إليه أحدٌ معك، والله الذي لا إله إلّا هو، لو أعلم أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليَّ وعليك الناس أطعتني لفعلتُ ذلك!!

قال ثمّ خرج ابن عباس من عنده فمرَّ بعبدالله بن الزبير فقال: قرّت عينك يا ابن الزبير! ثمّ قال:

يالك من قُنبُرَةٍ بمَعمْرِ خلا لك الجوُّ فَبيِضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تنقّري

هذا حسينٌ يخرج الى العراق! وعليك بالحجاز!.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 232

المحاورة الرابعة: ..... ص : 232
اشارة

روى الطبري (الإمامي) عن عبدالله بن عباس قال: لقيتُ الحسين بن علىّ وهو يخرج الى العراق ..

فقلت له: يا ابن رسول الله، لا تخرج!

قال فقال لي: يا ابن عباس، أما علمتَ أنَّ منيّتي من هناك وأنّ مصارع أصحابي هناك!؟

فقلتُ له: فأنّى لك ذلك؟

قال: بسِرٍّ سُّرَّ لي وعلمٍ أُعطيته!». «1»

إشارة: ..... ص : 232

لايخفى على المتأمّل في ما عثرنا عليه من متون محاورات عبدالله بن عباس (رض) مع الإمام الحسين عليه السلام ظهور حقيقة- ما قدّمناه من قبل- أنّ المحور الأساس في تفكير ابن عباس (رض) هو تأييده لقيام الإمام عليه السلام، ومعارضته لخروجه الى العراق قبل تحرّك أهله عملياً لنصرته.

ولم نعثر- حسب تتبعنا- على نصٍّ منسوب الى ابن عباس (رض) يفيد أنه كان معارضاً لقيام الإمام عليه السلام، أو أنه (رض) نهى عن القيام، إلّا ما ورد في كتاب (أسرار الشهادة) للدربندي (ره) نقلًا عن كتاب (الفوادح الحسينية)، «2» عن ابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 233

عباس (رض) أنه قال للامام الحسين عليه السلام في ختام واحدة من محاوراته بعد أن بكى بكاءً شديداً: «يعزُّ واللّهِ عليَّ فراقك يا ابن العم. (ثمّ أقبل على الحسين وأشار عليه بالرجوع الى مكّة والدخول في صلح بني أميّة!!).

فقال الحسين عليه السلام: هيهات هيهات يا ابن عباس، إنّ القوم لم يتركوني، وإنهم يطلبونني أين كنت حتى أبايعهم كرهاً ويقتلوني، والله لو كنتُ في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني، واللّه إنهم ليعتدُون عليَّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت، وإنّي ماضٍ في أمر رسول الله صلى الله عليه و آله حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.» «1»

ونقل صاحب كتاب «معالي السبطين» هذه المحاورة قائلًا: «وفي بعض الكتب: جاء عبدالله بن عباس

الى الحسين عليه السلام وتكلّم معه بما تكلّم الى أن أشار عليه بالدخول في طاعة يزيد وصلح بني أميّة!!»، وفي نقله إضافة الى نقل الدربندي أنّ ابن عباس قال للامام عليه السلام بعد ذلك: يا ابن العمّ، بلغني أنك تريد العراق، وإنهم أهل غدر، وإنما يدعونك للحرب فلا تعجل فأقم بمكّة!

فقال عليه السلام: لَانْ أقتل والله بمكان كذا أحبّ إليَّ من أن أُستحلّ بمكّة، وهذه كتب أهل الكوفة ورسلهم، وقد وجب عليَّ إجابتهم وقام لهم العذر عليَّ عند الله سبحانه!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 234

فبكى عبدالله حتى بُلَّت لحيته، وقال: واحسيناه، وا أسفاه على حسين.» «1»

والملاحظ المتأمّل يرى: ..... ص : 234

1)- أنّ ما ورد في هذين الكتابين من دعوى «أنّ ابن عباس (رض) أشار على الامام عليه السلام بالدخول في صلح بني أميّة وطاعة يزيد» شاذّ غريب مخالف للمشهور الوارد في الكتب المعتبرة.

2)- أنّ صاحب أسرار الشهادة ينسب هذه الدعوى الى كتاب الفوادح الحسينية (لانعرفه في الكتب المعتبرة)، وصاحب معالي السبطين ينسبها الى (بعض الكتب!)، ولايخفى أنها نسبة ظاهرة الضعف.

3)- أنّ عبارة الدعوى نفسها ليست قولًا نطق به ابن عباس فنقل عنه، بل هي من إنشاء صاحب أسرار الشهادة وصاحب معالي السبطين.

4)- وهناك أيضاً تعارضٌ بيّن بين عبارة صاحبي أسرار الشهادة ومعالي السبطين، ففي الأولى: (وأشار عليه بالرجوع الى مكّة)، أي أنّ المحاورة حصلت بعد خروج الامام عليه السلام من مكّة، وفي الثانية: (فلا تعجل فأقم بمكّة) أي أنّ المحاورة حصلت في مكّة.

كما لايخفى أنّ القول بأنّ المحاورة حصلت بعد خروج الامام عليه السلام من مكّة أشدّ شذوذاً من أصل الدعوى نفسها لأن المشهور الثابت أنّ ابن عباس (رض) لم يلتق الامام عليه السلام بعد خروجه من مكّة المكرّمة.

خلاصة القضية: ..... ص : 234

انّ هذه الدعوى الشاذّة لاتستند الى دليل معتبر يمكن الإطمئنان اليه، بل لا دليل عليها، ويبقى الأصل المستفاد من المتون المعتبرة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 235

صحيحاً في أنّ موقف ابن عباس (رض) يتلخّص في تأييده لقيام الامام عليه السلام، ومعارضته لخروجه الى العراق قبل تحرّك أهله عملياً لنصرته، نعم، هناك قول للسيّد ابن طاووس (ره) مبهم الدلالة وهو: وجاء عبدالله بن عباس رضوان الله عليه، وعبدالله بن الزبير فأشارا إليه بالإمساك، فقال لهما: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه. قال فخرج ابن عباس وهو يقول: واحسيناه!». «1»

ولا دلالة في

هذه العبارة الغامضة: (فأشارا عليه بالإمساك) على أنّ ابن عباس أشار على الامام عليه السلام بترك القيام، بل الأقوى دلالتها على ترك الخروج الى العراق بقرينة المتون التفصيلية الأخرى ذات المضمون نفسه التي أجاب فيها الامام عليه السلام ابن عباس (رض) بأنه ماضٍ الى العراق بأمر رسول الله صلى الله عليه و آله.

لماذا تخلّف ابن عباس (رض) عن الإمام عليه السلام!؟ ..... ص : 235

عبدالله بن العبّاس بن عبدالمطلّب بن هاشم رضي الله عنهم أجمعين، كان مؤمناً بإمامة أئمة أهل البيت الإثني عشر عليهم السلام من بعد رسول الله صلى الله عليه و آله، «2» عارفاً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 236

بحقّهم، موقناً بأنّ نصرهم والجهاد تحت رايتهم فرض كفرض الصلاة والزكاة، «1» وكانت سيرته مع الامام أمير المؤمنين والامام الحسن والامام الحسين عليهما السلام كاشفة عن هذا الإيمان وهذا اليقين وهذه المعرفة، «2» وكان (رض) لايتردد في إظهار

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 240

اعتزازه وافتخاره بما أنعم الله عليه به من موالاتهم وحبّهم والإنقياد لهم والإمتثال لأمرهم، ومن جميل ما يُروى في ذلك أنّ مُدرك بن زياد اعترض على ابن عباس حين رآه ذات يوم وقد أمسك للحسن والحسين عليهما السلام بالركاب وسوّى عليهما:

«قائلًا: أنت أسنُّ منهما تُمسك لهما بالركاب!؟

فقال: يالُكع، وتدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله صلى الله عليه و آله، أو ليس ممّا أنعم الله به عليَّ أن أمسك لهما وأسوّي عليهما!؟» «1».

وكان ابن عباس (رض) قد حفظ ما سمع من رسول الله صلى الله عليه و آله ومن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ما أخبرا به حول مقتل الإمام الحسين عليه السلام، والارض التي يُقتل فيها، وأسماء أصحابه، فها هو يروي قائلًا: «كنت مع أمير المؤمنين عليه السلام في خرجته الى صفين، فلمّا نزل بنينوى

وهو بشطّ الفرات قال بأعلا صوته: يا ابن عباس، أتعرف هذا الموضع؟

قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين!

فقال عليه السلام: لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي!

قال: فبكى طويلًا حتّى اخضلّت لحيته، وسالت الدموع على صدره، وبكينا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 241

معاً وهو يقول: أوّه أوّه، مالى ولآل أبي سفيان!؟ مالى ولآل حرب، حزب الشيطان وأولياء الكفر!؟ صبراً يا أبا عبدالله، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم.». «1»

وكان ابن عباس (رض) يقول: «ماكُنا نشكُّ، وأهل البيت متوافرون، أنّ الحسين بن عليّ يُقتل بالطفّ!.». «2»

إذن لِمَ لم يلتحق ابن عباس (رض) بالركب الحسيني ليفوز بشرف نصرة سيد المظلومين عليه السلام وبشرف الشهادة بين يديه!؟

هل أثّاقل الى الارض وآثر الدنيا على الآخرة بعد عمر شريف عامر بالجهاد ونصرة الحق!؟

إنّ العارف بسيرة ابن عباس (رض) قد يرفض حتى التفكير في مثل هذا السؤال! أوليس ابن عباس هو القائل في محاورته الأولى مع الإمام الحسين عليه السلام في مكّة في شعبان سنة 60 للهجرة: «جُعلت فداك يا ابن بنت رسول الله، كأنك تريدني إلى نفسك، وتريد مني أن أنصرك! والله الذي لا إله إلّا هو أنْ لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي لما كنت ممن أوفّي من حقّك عشر العشر! وها أنا بين يديك مرني بأمرك.».

إذن هل كان تقادم العمر به قد أعجزه عن القدرة على النصرة!؟

إذا علمنا أنّ ابن عباس (رض) توفي سنة 68 للهجرة أو 69 وله من العمر سبعون عاماً أو واحد وسبعون، «3» أدركنا أنّ عمره سنة 60 للهجرة كان إثنين وستين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 242

عاماً أو ثلاثة وستين عاماً، فهو أكبر من الإمام الحسين عليه السلام بحوالي

خمسة أعوام، إذن فقد كان قادراً على الجهاد مع الإمام عليه السلام من حيث السلامة البدنية، خصوصاً وأنّه لم يُروَ أنّ ابن عباس كان مريضاً آنذاك كما روي بصدد محمّد بن الحنفية (رض) مثلًا.

فما هي علّة تخلّفه إذن!؟

لعلّ المتأمل في موضوع علّة عدم التحاق ابن عباس (رض) بالامام عليه السلام في نهضته المقدّسة يلاحظ- قبل الوصول الى الجواب- نقطتين مهمتين تساعدان على الإطمئنان أنه كان معذوراً، وهما:

1- في جميع ما روي من لقاءات ومحاورات ابن عباس مع الامام الحسين عليه السلام في مكة سنة ستين للهجرة، لا يجد المتتبّع أنّ الإمام عليه السلام قد دعا ابن عباس دعوة مباشرة الى نصرته كما صنع مثلًا مع ابن عمر، وحتى حينما قال الإمام عليه السلام في محاورته الأولى مع ابن عباس وابن عمر: «اللّهمّ اشهد» «1» أدرك ابن عباس مغزى قول الإمام عليه السلام، وبادر الى اظهار استعداده للنصرة والجهاد بين يدي الامام عليه السلام وعدا هذا لايجد المتتبع أية إشارة من قريب أو بعيد مؤدّاها أنّ الإمام عليه السلام قد دعا ابن عباس الى نصرته.

2- لم نعثر- حسب تتبعنا- على نصّ تأريخيّ عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام يفيد أنّ ابن عباس كان مقصّراً وملوماً ومداناً على عدم إلتحاقه بالإمام الحسين عليه السلام، بل لم نعثر على نصّ تأريخي عام يشير الى إدانته «2» سوى هذا النصّ الذي نقله ابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 243

شهر آشوب مرسلًا: «وعُنِّفَ ابن عباس على تركه الحسين فقال: إنّ أصحاب الحسين لم ينقصوا رجلًا ولم يزيدوا رجلًا، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم!» «1»، ويظهر من هذا النصّ أنّ ابن عباس لم يكن معذوراً في تركه الإمام عليه السلام، لكنّ إرسال هذا

الخبر، ومجهولية المُعنِّف، ومعلوميّة ولاء ابن عباس (رض) لأهل البيت عليهم السلام، كلّ ذلك يفرض عدم الإطمئنان الى صدر هذا الخبر، أي «وعُنِّف ابن عباس!».

بعد هذا، ينبغي أن نذكّر بأنّ ابن عباس قد كُفَّ بصرُه آخر عمره، وهذا متّفقٌ عليه عند المؤرّخين، وأنّ سعيد بن جبير كان يقوده بعد أن كُفَّ بصره «2»، وتعبير «كُفَّ بصره» مشعرٌ بأنّ الضعف كان قد دبّ الى بصره حتى استفحل عليه فكفّه عن رؤية الأشياء، ولعلَّ هذا الضعف كان قد دبّ الى بصره منذ أيّام معاوية (ويحتمل أنّ بصر ابن عباس قد كُفَّ أواخر سنين معاوية)، هذا ما يُشعر به قول ابن قتيبة في المعارف حيث يقول: «ثلاثة مكافيف في نسق: عبدالله بن عباس، وأبوه العباس بن عبدالمطلّب، وأبوه عبدالمطلب بن هاشم. قال: ولذلك قال

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 244

معاوية لابن عباس: أنتم يا بني هاشم تُصابون في أبصاركم. فقال ابن عباس: وأنتم يا بني أميّة تُصابون في بصائركم!»، «1» فلولا أنّ بصر ابن عباس (رض) كان قد ضعف جداً أو قد كُفّ بصره آنذاك لما كان لقول معاوية مناسبة ولا داعٍ.

ويقول مسروق: «كنتُ إذا رأيت عبدالله بن عباس قلتُ: أجمل الناس، فإذا تكلّم قلتُ: أفصح الناس، فإذا تحدّث قلتُ: أعلم الناس، وكان عمر بن الخطّاب يقرّبه ويُدنيه ويشاوره مع جلّة الصحابة، وكُفَّ بصره في آخر عمره». «2»

فإذا علمنا أنّ مسروقاً هذا قد مات سنة 62 أو 63 للهجرة، «3» أمكن لنا أن نقول:

إنّ ابن عباس كان مكفوفاً قبل سنة 62 أو 63 على الأظهر، هذا على فرض أنّ عبارة (وكفّ بصره في آخر عمره) من قول مسروق أيضاً.

وهناك رواية يمكن أن يُستفاد من ظاهرها أنّ ابن عباس (رض) كان

ضعيف البصر جداً أو مكفوفاً أوائل سنة إحدى وستين للهجرة، في الأيّام التي لم يكن خبر مقتل الإمام الحسين عليه السلام قد وصل بعد الى أهل المدينة المنورة.

هذه الرواية يرويها الشيخ الطوسى (ره) في أماليه بسندٍ الى سعيد بن جبير (وهو الذي كان يقود ابن عباس بعد أن كُفَّ بصره)، عن عبدالله بن عباس قال:

«بينا أنا راقدٌ في منزلى، إذ سمعتُ صراخاً عظيماً عالياً من بيت أمّ سلمة زوج النبيّ صلى الله عليه و آله، فخرجت يتوجّه بي قائدي الى منزلها!، وأقبل أهل المدينة اليها الرجال والنساء، فلمّا انتهيتُ إليها قلت: يا أمّ المؤمنين، ما بالك تصرخين وتغوثين؟ فلم تجبني، وأقبلت على النسوة الهاشميات وقالت: يابنات عبدالمطلّب، أسعدنني

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 245

وابكين معي، فقد واللّهِ قُتل سيّدكُنّ وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد واللّه قُتل سبط رسول اللّه وريحانته الحسين.

فقيل: يا أُمَّ المؤمنين، ومن أين علمتِ ذلك؟ قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله في المنام الساعة شعثاً مذعوراً، فسألته عن شأنه ذلك، فقال: قُتل ابني الحسين وأهل بيته اليوم فدفنتهم، والساعة فرغت من دفنهم.

قالت فقمتُ حتّى دخلتُ البيت وأنا لا أكاد أن أعقل! فنظرتُ فإذا بتربة الحسين التي أتى بها جبرئيل من كربلاء فقال إذا صارت هذه التربة دماً فقد قُتل ابنك! وأعطانيها النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: إجعلي هذه التربة في زجاجة- أو قال في قارورة- ولتكن عندك، فإذا صارت دماً عبيطاً فقد قُتل الحسين. فرأيت القارورة الآن وقد صارت دماً عبيطاً تفور.

قال: وأخذت أمّ سلمة من ذلك الدم فلطّخت به وجهها، وجعلت ذلك اليوم مأتماً ومناحة على الحسين عليه السلام، فجاءت الركبان بخبره، وأنّه قد قُتل في ذلك اليوم ...»

«1».

فقول ابن عباس (رض):» فخرجت يتوجّه بي قائدي الى منزلها» كاشف- على الأقوى- عن مكفوفية بصره آنذاك (أو عن ضعف شديد جداً في بصره)، لحاجته الى قائد يقوده هو، وليس الى قائد يقود دابّته- كما قد يُحتمل- وذلك لقرب المسافة، بدليل أنه سمع الصراخ بإذنيه وشخّص أنّ الصراخ كان ينبعث من بيت أم سلمة (رض).

مما مضى نكاد نطمئن الى أنّ ابن عباس (رض) كان يعاني من ضعف شديد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 246

في بصره أو كان مكفوفاً بصره أواخر سنة ستين للهجرة- وبالذات في الايام التي كان فيها الامام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة- الأمر الذي أعجزه عن القدرة على الإلتحاق بالامام عليه السلام والجهاد بين يديه، فكان (رض) معذوراً، ولعلّ هذا هو السرُّ في عدم دعوة الإمام عليه السلام إيّاه للإنضمام إليه، وترخيصه إيّاه في العودة الى المدينة ليرصد له أخبار السلطة الأموية والناس فيها حيث يقول عليه السلام: «يا ابن عباس، إنك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنتَ مع والدي تشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتشير عليه بالصواب، فامضِ الى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يخفَ عليَّ شي ءٌ من أخبارك ...». «1»

ولايقدح بما نطمئنّ إليه ما أورده المسعودي في مروج الذهب حيث يقول في ابن عباس (رض): «وكان قد ذهب بصره لبكائه على عليٍّ والحسن والحسين ..»، «2» إذ لايُستفاد من هذا النصّ بالضرورة أنه صار مكفوفاً بعد مقتل الحسين عليه السلام، بل الظاهر من هذا النصّ أنّ الذي سبّب ذهاب بصره هو كثرة بكائه المتواصل لفقد امير المؤمنين عليّ «3» والحسن والحسين عليهما السلام، ومؤدّى ذلك أنّ الضعف قد دبّ الى بصره لكثرة

بكائه منذ أيّام فقده لأمير المؤمنين عليه السلام ثمّ لفقده الحسن عليه السلام، «4» ثمّ الحسين عليه السلام، ولايخفى أنّ ابن عباس (رض) كان يبكي بكاءً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 247

شديداً للحسين عليه السلام وهو بعدُ لم يخرج ولم يُستشهد، لعلمه بما سيصيب الامام عليه السلام من شديد المحنة ولعلمه بمصيره، والدلائل التأريخية على ذلك كثيرة متوافرة.

رسائل ابن عباس (رض) إلى يزيد ..... ص : 247

تروي لنا بعض كتب التأريخ أنّ الامام الحسين عليه السلام لمّا نزل مكّة كتب يزيد بن معاوية الى ابن عباس رسالة «1» طلب اليه فيها أن يتوسّط في الأمر ليثني الامام الحسين عليه السلام عن عزمه على القيام والخروج على الحكم الأمويّ، وعرض فيها يزيد من الإغراءات الدنيوية ما يتناسب وضعف نفسيته هو!- أي يزيد-

وتقول هذه المصادر التأريخية: «فكتب إليه ابن عباس: أمّا بعدُ: فقد ورد كتابُك تذكر فيه لحاق الحسين وابن الزبير بمكّة، فأمّا ابن الزبير فرجل منقطع عنّا برأيه وهواه، يكاتمنا مع ذلك أضغاناً يسرّها في صدره، يوري علينا وري الزناد، لافك اللّه أسيرها، فآرأ في أمره ما أنت رائه.

وأمّا الحسين فإنه لمّا نزل مكّة وترك حرم جدّه ومنازل آبائه سألته عن مقدمه فأخبرني أنّ عُمّالك في المدينة أساؤا إليه وعجّلوا عليه بالكلام الفاحش، فأقبل الى حرم الله مستجيراً به، وسألقاه فيما أشرت إليه، ولن أدع النصيحة فيما يجمع الله به الكلمة ويُطفي ء به النائرة ويخمد به الفتنة ويحقن به دماء الأمّة، فاتّقِ الله في السرّ والعلانية، ولا تبيتنّ ليلة وأنت تريد لمسلم غائلة، ولاترصده بمظلمة، ولاتحفر له مهواة، فكم من حافر لغيره حفراً وقع فيه، وكم من مؤمّل أملًا لم يُؤتَ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 248

أمله، وخُذ بحظّك من تلاوة القرآن ونشر السُنّة! وعليك بالصيام والقيام لاتشغلك

عنهما ملاهي الدنيا وأباطيلها فإنّ كلَّ ما شُغلت به عن اللّه يضرّ ويفنى، وكلّ ما اشتغلت به من أسباب الآخرة ينفع ويبقى، والسلام.». «1»

وقد روى المزّي جواب ابن عباس مختصراً هكذا: «فكتب إليه عبدالله بن عباس: إنّي لأرجو أن لايكون خروج الحسين لأمرٍ تكرهه، ولست أدع النصيحة له في كلّ ما يجمع الله به الألفة ويُطفي ء به الثائرة.». «2»

ويبدو من نصّ هذه الرسالة- جواب ابن عباس- على فرض صحة الرواية أنّ هذه الرسالة كانت بعد لقاء ابن عباس مع الإمام الحسين عليه السلام في مكّة لقاءه الأوّل الذي عاد بعده الى المدينة (بعد الفراغ من العمرة)، كما يُستفاد من نصّها أنّ ابن عباس قَبِل القيام بدور الوساطة بين الإمام عليه السلام وبين يزيد! كما يظهر من نصّها أيضاً أنّ ابن عباس اعتمد أسلوب الملاينة دون التقريع حتى في نهيه عن ارتكاب الظلم واجتراح المآثم!

والعارف بعبد الله بن العباس (رض)، وبولائه لأئمّة أهل البيت عليهم السلام وبجرأته في الذَوْدِ عنهم، وبشدّته وقاطعيته في المحاماة عنهم في محاوراته مع رجال بني أميّة، لايستبعد أن يكون نصّ هذه الرسالة- جواب ابن عباس- من إنشاء الواقدي نفسه الذي يرويها «3» (ونقلها عنه سبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص)،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 249

ذلك لأنّ نَفَس هذا الجواب مغايرٌ تماماً لنَفَس ابن عباس في مواقفه قبال بني أميّة.

هاهو ابن عباس (رض) في بلاط معاوية يُخرس محاوريه: معاوية، وعمرو بن العاص، ومروان بن الحكم، وعتبة بن أبي سفيان، وزياد بن سميّة، وعبدالرحمن بن أمّ الحكم، والمغيرة بن شعبة، بعد أن دحض إدّعاءاتهم وبهرهم بالحجّة الدامغة، ويقول ليزيد بن معاوية نفسه في قصر أبيه: «مهلًا يزيد، فواللّه ما صفت القلوب لكم منذ

تكدّرت بالعداوة عليكم، ولا دنت بالمحبّة إليكم مذ نأت بالبغضاء عنكم، لارضيت اليوم منكم ما سخطت بالأمسِ من أفعالكم، وإن تَدُلِ الأيّام نستقض ما سُدَّ عنّا، ونسترجع ما ابتُزَّ منّا، كيلًا بكيل، ووزناً بوزن، وإن تكن الأخرى فكفى بالله وليّاً لنا، ووكيلًا على المعتدين علينا.». «1»

وها هو ابن عباس (رض) يجيب يزيد «2» بقارعة أخرى من قوارعه في رسالة كتبها إليه قائلًا: «من عبدالله بن عباس الى يزيد بن معاوية. أمّا بعدُ: فقد بلغني كتابُك بذكر دعاء ابن الزبير إيّاي الى نفسه وامتناعي عليه في الذي دعاني إليه من

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 250

بيعته، فإنْ يك ذلك كما بلغك فلستُ حمَدك أردتُ ولاوُدَّكَ، ولكنّ الله بالذي أنوي عليم، وزعمتَ أنّك لستَ بناسٍ ودّي فلعمري ما تؤتينا ممّا في يديك من حقّنا إلّا القليل، وإنك لتحبس عنّا منه العريض الطويل، وسألتني أن أحثّ الناسَ عليك وأخذّلهم عن ابن الزبير، فلا ولا سروراً ولاحبوراً، وأنت قتلت الحسين بن عليّ!، بفيك الكثكث، «1» ولك الأثلب، «2» إنّك إنْ تُمنّك نفسك ذلك لعازب الرأي، وإنّك لأنت المفند المهوّر.

لاتحسبني، لا أباً لك، نسيتُ قتلك حسيناً وفتيان بني عبدالمطلّب، مصابيح الدجى، ونجوم الأعلام، غادرهم جنودك مصرّعين في صعيد، مرمّلين بالتراب، مسلوبين بالعراء، لامكفَّنين، تسفي عليهم الرياح، وتعاورهم الذئاب، وتُنشي بهم عُرج الضباع، حتّى أتاح الله لهم أقواماً لم يشتركوا في دمائهم، فأجنّوهم في أكفانهم، وبي والله وبهم عززت وجلست مجلسك الذي جلست يايزيد.

وما أنسَ من الأشياء فلستُ بناسٍ تسليطك عليهم الدعيَّ العاهر «3» ابن العاهر، البعيد رحماً، اللئيم أباً وأمّاً، الذي في إدّعاء أبيك إيّاه ما اكتسب أبوك به إلّا العار والخزي والمذلّة في الأخرة والأولى، وفي الممات والمحيا، إنّ نبيّ الله

قال: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فألحقه بأبيه كما يُلحَقُ بالعفيف النقيّ ولدُه الرشيد! وقد أمات أبوك السُنّة جهلًا! وأحيا البدع والأحداث المظلّة عمداً!

وما أنسَ من الاشياء فلستُ بناسٍ اطّرادك الحسين بن عليّ من حرم رسول

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 251

الله إلى حرم الله، ودسّك إليه الرجال تغتاله، فأشخصته من حرم الله الى الكوفة، فخرج منها خائفاً يترقّب، وقد كان أعزّ أهل البطحاء بالبطحاء قديماً، وأعزّ أهلها بها حديثاً، وأطوع أهل الحرمين بالحرمين لو تبّوأ بها مقاماً واستحلّ بها قتالًا، ولكن كره أن يكون هو الذي يستحلّ حرمة البيت وحرمة رسول الله فأكبر من ذلك مالم تكبر حيث دسست إليه الرجال فيها ليقاتل في الحرم، وما لم يكبر ابن الزبير حيث ألحد بالبيت الحرام وعرّضه للعائر وأراقل العالم.

وأنت! لأنت المستحلّ فيما أظنّ، بل لاشك فيه أنّك للمُحرف العريف، فإنّك حلف نسوة، صاحب ملاهٍ، فلمّا رأى سوء رأيك شخص الى العراق، ولم يبتغك ضراباً، وكان أمر الله قدراً مقدوراً.

ثمّ إنّك الكاتب الى ابن مرجانة أن يستقبل حسيناً بالرجال، وأمرته بمعاجلته، وترك مطاولته والإلحاح عليه، حتى يقتله ومن معه من بني عبدالمطلّب، أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرّهم تطهيرا، فنحن أولئك، لسنا كآبائك الأجلاف الجُفاة الأكباد الحمير.

ثمّ طلب الحسين بن عليّ إليه الموادعة وسألهم الرجعة، «1» فاغتنمتم قلّة أنصاره، واستئصال أهل بيته، فعدوتم عليهم، فقتلوهم كأنّما قتلوا أهل بيت من الترك والكفر، فلا شي ء عندي أعجب من طلبك ودّي ونصري! وقد قتلت بني أبي، وسيفك يقطر من دمي، وأنت أخذ ثأري، فإن يشأ لايُطلّ لديك دمي ولا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 252

تسبقني بثأري، وإن سبقتني به في الدنيا فقبلنا ما قُتل النبيّون وآل النبيين، وكان الله الموعد، وكفى

به للمظلومين ناصراً، ومن الظالمين منتقماً، فلا يعجبنّك أن ظفرت بنا اليوم فوالله لنظفرنّ بك يوماً.

فأمّا ماذكرت من وفائي، وما زعمت من حقّي، فإن يك ذلك كذلك، فقد والله بايعتُ أباك «1»، وإنّي لأعلم أنّ ابني عمّي وجميع بني أبي أحقّ بهذا الأمر من أبيك، ولكنكم معاشر قريش كاثرتمونا، فاستأثرتم علينا سلطاننا، ودفعتمونا عن حقّنا، فبُعداً على من يجتري ء على ظلمنا، واستغوى السفهاء علينا، وتولّى الأمر دوننا، فبُعداً لهم كما بعدت ثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، ومكذّبو المرسلين.

ألا ومن أعجب الأعاجيب، وما عشت أراك الدهرُ العجيبَ، حملك بنات عبدالمطلّب، وغلمة صغاراً من ولده إليك بالشام كالسبي المجلوب، تُري الناس أنّك قهرتنا، وأنّك تأمر علينا، ولعمري لئن كنت تصبح وتمسي آمناً لجرح يدي، إنّي لأرجو أن يعظم جراحك بلساني ونقضي وإبرامي فلا يستقرّ بك الجدل، ولا يمهلك الله بعد قتلك عترة رسول الله إلّا قليلًا، حتّى يأخذك أخذاً أليماً، فيخرجك الله من الدنيا ذميماً أثيماً، فَعِش لا أباً لك فقد والله أرداك عند الله ما اقترفت، والسلام على من أطاع الله.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 253

تحرّك محمد بن الحنفية (رض) ..... ص : 253
اشارة

يشترك محمد بن الحنفية «1» مع عبدالله بن عبّاس رضي الله عنهما في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 254

الموقف من قيام الإمام الحسين عليه السلام بنفس المحورين الرئيسين اللذين هما:

1- تأييد قيام الإمام عليه السلام.

2- الإعتراض على خروج الإمام عليه السلام الى الكوفة، وترجيح اليمن كقاعدة لانطلاق الثورة الحسينية الى جميع البلاد الاسلامية.

كما يشتركان أيضاً في أنّ نظرتهما التي انبعثت منها اقتراحاتهما ومشوراتهما كانت ترتكز على حسابات النصر الظاهري وشرائطه ولوازمه، وتتجلّى هذه الحقيقة للمتأمّل إذا نظر في محاورات الإمام عليه السلام مع كلّ منهما.

وكان محمّد بن الحنفية (رض) قد قدّم رأيه

بين يدي الإمام عليه السلام في المدينة المنوّرة قائلًا: «يا أخي، أنت أحبّ الناس إليَّ، وأعزّهم عليَّ، ولستُ أدّخر النصيحة لأحدٍ من الخلق إلّا لك، وأنت أحقّ بها، تنحَّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثمّ ابعث رسلك الى الناس فادعهم الى نفسك، فإن بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمع الناس على غيرك لن يُنقص الله بذلك دينك ولاعقلك، ولا تذهب بذلك مروّتك ولافضلك، إنّي أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك، فيقتتلون فتكون لأوّل الأسنّة غرضاً، فإذا خير هذه الأمّة كلّها نفساً وأباً وأمّاً أضيعها دماً وأذلّها أهلًا!!». «1»

وقال له أيضاً: «إنزل مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار بها فسبيل ذلك، وإن نبت بك لحقت بالرمال وشعف الجبال، وخرجت من بلد الى بلد، حتى تنظر الى مايصير أمر الناس اليه، فإنّك أصوب ماتكون رأياً حين تستقبل الأمر استقبالًا.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 255

وفي رواية الفتوح: «أُخرجْ إلى مكّة، فإن اطمأنّت بك الدار فذاك الذي تحبّ وأُحبّ، وإن تكن الأخرى خرجت الى بلاد اليمن، فإنّهم أنصار جدّك وأخيك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقّهم قلوباً، وأوسع الناس بلاداً، وأرجحهم عقولًا، فإن اطمأنّت بك أرض اليمن وإلا لحقت بالرمال وشعوف الجبال، وصرت من بلد الى بلد، لتنظر ما يؤول إليه أمر الناس، ويحكم بينك وبين القوم الفاسقين.». «1»

ثم تحرّك محمد بن الحنفية (رض) من المدينة إلى مكّة للقاء الإمام الحسين عليه السلام قبل خروجه الى العراق، «2» ويحدّثنا التأريخ عن لقاء تمّ بينهما في مكّة في الليلة الأخيرة التي خرج الإمام عليه السلام في صبيحتها عن مكّة، يقول السيّد ابن طاووس (ره):

«رويتُ من كتاب أصلٍ لأحمد بن الحسين بن عمر بن بريدة الثقة، وعلى الأصل أنه كان لمحمّد بن داود القمّي، بالإسناد عن أبي عبدالله عليه السلام قال:

سار محمّد بن الحنفية الى الحسين عليه السلام في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها عن مكّة، فقال: يا أخي، إنّ أهل الكوفة من قد عرفتَ غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعزّ من في الحرم وأمنعه.

فقال عليه السلام: يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية في الحرم، فأكون

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 256

الذي يُستباح به حرمة هذا البيت.

فقال له ابن الحنفية: فإن خفت ذلك فَسِرْ الى اليمن أو بعض نواحي البّر، فإنّك أمنع الناس به ولايقدر عليك أحد!

فقال عليه السلام: أنظرُ فيما قلتَ.

ولمّا كان السحر ارتحل الحسين عليه السلام، فبلغ ذلك ابن الحنفية، فأتاه فأخذ زمام ناقته التي ركبها، فقال له: يا أخي، ألم تعدني النظر فيما سألتك!؟

قال عليه السلام: بلى.

قال: فما حداك على الخروج عاجلًا!؟

فقال عليه السلام: أتاني رسول الله صلى الله عليه و آله بعد مافارقتك، فقال: ياحسين، أُخرج فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلا!

فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنا اليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال!؟

فقال عليه السلام له: قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا!

وسلّم عليه ومضى.». «1»

إشارة: ..... ص : 256

كنّا في آخر الفصل الأول تحت عنوان (لماذا حمل الإمام عليه السلام النساء والأطفال معه؟) قد تناولنا بعض ملامح الحكمة في قول الامام عليه السلام عن لسان النبيّ صلى الله عليه و آله: «فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلا!» و «إنّ الله

قد شاء أن يراهنّ سبايا!»،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 257

ونودُّ أن نشير هنا إلى:

1)- أنّ من أبعاد خشية الامام عليه السلام من اغتيال السلطة الأموية إيّاه في مكّة المكرّمة- إضافة الى جميع الأبعاد التي مرَّ ذكرها فيما مضى في ثنايا هذا الكتاب- هو أنّ هناك روايات مأثورة عن النبيّ صلى الله عليه و آله تندّد بالمقتول القرشيّ في مكّة، الذي تُنتهك وتستباح به حرمة البيت الحرام، وأنّ ذنوب هذا الرجل لو وزنت بذنوب الثقلين لوزنتها، وأنّ عليه نصف عذاب العالم، «1» ومعلوم أنّ السلطة الأموية سوف تطبّق هذه الروايات على الإمام الحسين عليه السلام لتستفيد منها إعلامياً في تنفير الناس من الامام عليه السلام فيما لو تمكّنت من قتله في مكّة المكرّمة.

2)- لم يحدّد الإمام عليه السلام في قوله: «أتاني رسول الله صلى الله عليه و آله بعد مافارقتك» نوع هذا المجي ء، هل كان في يقظة أو في منام، وإنْ كانت النتيجة واحدة، لأنّ رؤية الامام عليه السلام النبيّ صلى الله عليه و آله في المنام كرؤيته في اليقظة، ومستوى التكليف الذي يوجّهه واحد سواء في يقظة أو في منام، ولاينحصر هذا في رؤية الإمام عليه السلام النبيّ صلى الله عليه و آله بل يشمل رؤية المؤمن النبي صلى الله عليه و آله أيضاً، إذ قد أُثر عنه صلى الله عليه و آله أنه قال: «من رآني في منامه فقد رآني، فإنّ الشيطان لايتمثّل في صورتي، ولافي صورة أحد من أوصيائي، ولافي صورة أحدٍ من شيعتهم، وإنّ الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبّوة». «2»

فلا يبقى مجال إذن للتشكيك بأنّ الثورة الحسينية وخروج الامام عليه السلام كانا قد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 258

ارتكزا على رؤيا منام

لا اعتبار لها! كما تسطّر ذلك بعض الأقلام المأجورة والعقول الضعيفة. «1»

لماذا تخلّف محمّد بن الحنفية عن الإمام عليه السلام؟ ..... ص : 258
اشارة

لم نعثر- حسب تتبعنا- على مأثور عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام بصدد علّة تخلّف محمد بن الحنفية (رض) عن الإلتحاق بالإمام الحسين عليه السلام سوى هذه الرواية: التي يرويها ابن فروخ صاحب «بصائر الدرجات» بسندٍ عن حمزة بن حمران عن الإمام الصادق عليه السلام، يقول حمزة: «ذكرنا خروج الحسين وتخلّف ابن الحنفية عنه، قال: قال أبوعبدالله عليه السلام: يا حمزة إنّي سأحدّثك في هذا الحديث ولاتسأل عنه بعد مجلسنا هذا: إنّ الحسين لمّا فصل متوجّهاً دعا بقرطاس وكتب:

بسم الله الرحمن الرحيم. من الحسين بن عليّ الى بني هاشم: أمّا بعدُ، فإنّه من لحق بي منكم استشهد معي، ومن تخلّف لم يبلغ الفتح. والسلام.». «2»

وقد علّق العلّامة المجلسي (ره) على هذه الرواية تعليقتين قائلًا:

في الأولى: ..... ص : 258

«قوله عليه السلام: لم يبلغ الفتح، أي لم يبلغ ما يتمنّاه من فتوح الدنيا والتمتع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 259

بها، وظاهر الجواب ذمّه، ويحتمل أن يكون المعنى أنه عليه السلام خيّرهم في ذلك، فلا إثم على من تخلّف!» «1».

وفي الثانية: ..... ص : 259

«ومن تخلّف لم يبلغ مبلغ الفتح، اي لايتيسّر له فتح وفلاح في الدنيا أو في الآخرة، أو الأعمّ، وهذا إمّا تعليل بأنّ ابن الحنفية إنّما لم يلحق لأنه علم أنّة يُقتل إن ذهب بإخباره عليه السلام، أو بيان لحرمانه عن تلك السعادة، أو لأنّه لاعُذر له في ذلك لأنه أعلمه وأمثاله بذلك!» «2».

ونقول: إنّ نصّ هذه الرسالة الشريفة- بغضّ النظر عن حقيقة المراد بالفتح «3» فيها- يقرّر بلا شك أنّ من لم يلتحق بالامام عليه السلام محروم من مبلغ الفتح هذا، سواء كان معذوراً أو غير معذور، فلا دليل من نفس النصّ على أنّ كلّ من تخلّف غيرُ معذور ويُذمّ، كما هو المستفاد من ظاهر تعليقتي العلّامة المجلسيّ (ره) «4» من أنّ كلّ من بلغته هذه الرسالة ليس بمعذور لأنّ الإمام عليه السلام أعلمه فيها بالمصير! «5» هذا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 260

فضلًا عن المناقشة الموجودة في سند هذه الرواية. «1»

ولعلّ الإمام الصادق عليه السلام أراد أن يصرف اهتمام المتذاكرين في سبب تخلّف ابن الحنفية الى ما هو أهمّ من أن يكون المتخلّف معذوراً أو غير معذور، وهذا الأهمّ هو أصل الحرمان من بلوغ منزلة «أنصار الحسين عليه السلام» الذين لم يسبقهم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 261

سابق في سموّ مرتبتهم ولايلحق بهم لاحق كما قرّر ذلك أمير المؤمنين عليه السلام «1»، إذ المعذور وغير المعذور من المتخلّفين سواء- من حيث النتيجة العملية لامن حيث الحساب والجزاء- في حرمانهم من

ذلك الشرف الذي لايُضاهى والمجد الذي لايُدانى، وحَقَّ لكلّ مؤمن (غير أنصار الحسين عليه السلام) أن تذهب نفسه حسرات أسفاً على حرمانه من ذلك الفوز العظيم كلّما ردّد: ياليتني كنت معكم فأفوز واللّه فوزاً عظيماً!!.

مع هذا، فإنّ من علمائنا من روى ونقل أنّ سيّدنا محمد بن الحنفية (رض) كان مريضاً أيّام خروج الإمام الحسين عليه السلام، إلى درجة أنه كان لايقوى على حمل السيف! وفي طليعة هؤلاء الأعلام السيّد ابن طاووس (قدّس)، فقد أورد في كتابه:

عن أبي مخنف قوله: «وقد كان محمد بن الحنفية موكوعاً «2»، لأنّه أُهدي الى أخيه الحسين عليه السلام درع من نسج داود على نبيّنا وعليه السلام، فلبسه ففضل عنه ذراع وأربعة أصابع، فجمع محمّد بن الحنفية ما فضل منه وفركه بيده فقطعه، فأصابته نظرة، فصارت أنامله تجري دماً مدّة، ولهذا لم يخرج مع الحسين عليه السلام يوم كربلاء، لأنّه ما كان يقدر أن يقبض قائم سيف ولاكعب رمح.». «3»

ومن هؤلاء الأعلام أيضاً العلّامة الحلي (ره)، ففي إجابته عن سؤال:

«مايقول سيّدنا في محمّد بن الحنفية، هل كان يقول بإمامة أخويه وزين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 262

العابدين عليهما السلام أم لا؟ وهل ذكر أصحابنا له عذراً في تخلّفه عن الحسين عليه السلام وعدم نصرته له أم لا؟ وكيف يكون الحال إن كان تخلّفه عنه لغير عذر؟ وكذلك عبدالله بن جعفر وأمثاله؟» قال العلامة الحلي (ره): «قد ثبت في أصول الإمامة أنّ أركان الإيمان: التوحيد والعدل والنبّوة والإمامة، والسيّد محمّد بن الحنفية وعبدالله بن جعفر وأمثالهم أجلّ قدراً وأعظم شأناً من اعتقادهم خلاف الحق وخروجهم عن الإيمان الذي يحصل به اكتساب الثواب الدائم والخلاص من العقاب. وأمّا تخلّفه عن نصرة الحسين عليه السلام فقد

نُقل أنه كان مريضاً، ويحتمل في غيره عدم العلم بما وقع لمولانا الحسين عليه السلام من القتل وغيره، وبنوا على ما وصل من كتب الغَدَرَةِ إليه وتوهمّوا نصرتهم له!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 263

كما أورد الدربندي في (اسرار الشهادة) نقلًا عن أبي مخنف محاورة في المدينة بين الامام عليه السلام وبين أخيه محمّد، كان منها قول محمّد: «إنّي والله ليحزنني فراقك، وما أقعدني عن المسير معك إلّا لأجل ما أجده من المرض الشديد، فوالله يا أخي ما أقدر أن أقبض على قائم سيف ولاكعب رمح، فوالله لا فرحت بعدك أبداً. ثم بكى شديداً حتى غُشي عليه، فلمّا أفاق من غشيته قال: يا أخي استودعك الله من شهيد مظلوم!». «1»

كما تعرّض الشيخ حبيب الله الكاشاني لهذا وذكر أنّ أبن الحنفية كان مصاباً بألم، فلم يقدر على حمل السيف والجهاد، «2» بل ذكر أنّ المشهور هو أنّ ابن الحنفية كان مريضاً في المدينة. «3»

وجدير بالذكر: أنّ محمّد بن يزيد المبّرد في كتابه (الكامل) روى قصة محمد بن الحنفية مع الدرع قائلًا: «وكان عبدالله بن الزبير يُظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله! وكان يحسدُه على أيْدِهِ (أي قوّته)، ويُقال: إنّ عليّاً استطال درعاً فقال:

لينقص منها كذا وكذا حلْقة، فقبض محمّد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثمّ جذبه فقطعه من الموضع الذي حدَّه أبوه، فكان ابن الزبير إذا حُدِّث بهذا الحديث غضب واعتراه له أَفْكَلٌ (أي رعدة)!» «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 264

زيادة .. ربّما كانت أموية! ..... ص : 264

ادّعى ابن عساكر في تأريخه، ومن بعده المزّي، والذهبي، أنّ ابن الحنفية لمّا يأس في مكّة من تغيير عزم الامام الحسين عليه السلام ومنعه من الخروج الى العراق منع ولده من الإلتحاق

بالامام عليه السلام، حيث قالوا: «وبعث الحسين الى المدينة، فقدم عليه من خفّ معه من بني عبدالمطّلب، وهم تسعة عشر رجلًا، ونساء، وصبيان، من إخوانه وبناته ونسائهم. وتبعهم محمّد بن الحنفية فأدرك حسيناً بمكّة، وأعلمه أنّ الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل [رأيه]، فحبس محمّد بن علي وُلْده [عنه] فلم يبعث معه أحداً منهم، حتى وجد حسين في نفسه على محمّد وقال [له]: أترغب بولدك عن موضع أُصاب فيه!؟

فقال محمّد: وماحاجتي أن تُصاب ويصابون معك، وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم!». «1»

أقول: لم نعثر على هذا- أي حبس محمّد أولاده عن الإلتحاق بالامام عليه السلام- في كتبنا، بل في تواريخ غيرنا أيضاً سوى ما أورده ابن عساكر ثمّ المزيّ «2» ثمّ الذهبي، «3» وقد أورد الذهبي هذه الرواية مرسلة، وكذلك أوردها المزّي، ولعلهما أخذاها عن ابن عساكر الذي أوردها بسند، فيه أكثر من مجهول، وفيه من اتهمه ابن عساكر نفسه برقّة دينه كالبزاز! «4»، وفيه من هو ليس بالقوي في حديثه كابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 265

فهم. «1»

فضلًا عن هذا، فإنّ مثل هذا الأمر لوكان قد حصل فعلًا، لكان سُبّةً وسَوْءةً يُعيَّر بها ابن الحنفية وأبناؤه، ولكان لهذا الحدث آثار ممتدّة يُعرف من خلالها، كأن يُعاتب ابن الحنفية أو أبناؤه من قبل واحد من أهل البيت عليهم السلام أو أكثر مثلًا، أو من قبل أحد الهاشميين، أو من قبل بعض الناس، فيردّ محمّد- أو أبناؤه- مدافعاً عن موقفه في منع أولاده من الالتحاق بالامام عليه السلام، ولاشك أن جميع هذه الآثار أو بعضها سوف تنطبع على صفحة التأريخ فنقرأها في المطبوع منه أو في المخطوط.

لكننا لانجد شيئاً من هذا على صفحة التأريخ،

ولا في المأثور عن أهل البيت عليهم السلام بصدد نهضة الامام الحسين عليه السلام، أو بصدد محمد بن الحنفية نفسه، بل ولانجد له أثراً في المأثور عن ابن الحنفية نفسه وعن أبنائه.

من هنا، نرى أنّ مارواه ابن عساكر بهذا الصدد، زيادة مكذوبة، ولايبعد أن يكون أحد الرواة في سندها ذا ميل أمويّ «2»، فأراد أن يشوِّه وحدة الصفّ الهاشمي في الموقف من نهضة الامام الحسين عليه السلام، ويُسي ء بالخصوص الى محمد بن الحنفية (رض) الذي كان معتقداً بإمامة الحسنين عليهما السلام، وبإمامة زين العابدين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 266

أئمّة له في حياته بعد أمير المؤمنين عليه السلام.

تحرّك عبدالله بن جعفر (رض) ..... ص : 266
اشارة

لم يحدّثنا التأريخ عن شي ء من تحرّك عبدالله بن جعفر (رض) «1» طيلة أيّام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 267

النهضة الحسينية إلّا في ثلاث قضايا:

الأولى:- ..... ص : 267

كتابته الرسالة التي بعث بها من المدينة الى الامام عليه السلام في مكّة بعد انتشار الخبر في أهل المدينة بأنّ الامام الحسين عليه السلام يريد الخروج الى العراق (على ما في رواية الفتوح)، أو بعثها إليه من مكّة بعد خروجه عليه السلام منها (على ما في رواية الطبري).

والثانية:- ..... ص : 267

وساطته بين والي مكّة والمدينة يومئذٍ عمرو بن سعيد الأشدق وبين الامام عليه السلام بُعَيْدَ خروجه من مكّة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 268

والثالثة:- ..... ص : 268

إرساله ولديه محمّداً وعوناً لنصرة الامام عليه السلام.

أمّا في قضية الرسالة فتقول رواية الفتوح:

«.. واتصل الخبر بالمدينة، وبلغهم أنّ الحسين عزم على الخروج الى العراق، فكتب إليه عبدالله بن جعفر الطيّار:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن علي من عبدالله بن جعفر: أمّا بعدُ، فإنّي أُنشدك الله أن تخرج عن مكّة، فإنّي خائف عليك من هذا الأمر الذي قد أزمعت عليه أن يكون فيه هلاكك وأهل بيتك، فإنّك إنّ قُتلتَ أخاف أن يُطفأ نور الأرض وأنت روح الهدى، وأمير المؤمنين، فلا تعجل بالمسير الى العراق، فإنّي آخذٌ لك الأمان من يزيد وجميع بني أميّة، على نفسك ومالك وولدك وأهل بيتك، والسلام.». «1»

فكتب إليه الحسين عليه السلام:

«أمّا بعدُ، فإنّ كتابك ورد عليَّ فقرأته وفهمت ما ذكرت، وأعلمك أنّي قد رأيت جدّي رسول الله صلى الله عليه و آله في منامي، فخبّرني بأمرٍ وأنا ماضٍ له، لي كان أو عليَّ، والله يا ابن عميّ، لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني ويقتلوني! واللّه يا ابن عمّي ليعدينّ عليَّ كما عدت اليهود على السبت. والسلام.». «2»

أمّا الطبري فقد روى أنّ عبدالله بن جعفر (رض) كان قد بعث برسالته هذه الى الامام عليه السلام من مكّة بعد خروجه عليه السلام منها، وقد رواها عن علي بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 269

الحسين عليه السلام قال: «لمّا خرجنا من مكّة كتب عبدالله بن جعفر بن أبي طالب إلى الحسين بن عليّ مع ابنيه عون ومحمد: أمّا بعدُ، فإني أسألك باللّه لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فإنّي مشفق عليك

من الوجه الذي توجّه له أن يكون فيه هلاكك، واستئصال أهل بيتك، إنّ هلكت اليوم طُفي ء نور الأرض، فإنك علم المهتدين ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فإنّي في أثر الكتاب، والسلام.». «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 269

1)- يستفاد من نصّ رواية الفتوح أنّ هذه الرسالة كتبها عبدالله بن جعفر (رض) من المدينة إلى الإمام عليه السلام بعد أن شاع في المدينة نفسها خبر عزم الامام عليه السلام على التوجّه الى العراق، أي في أواخر الأيام المكيّة من عمر النهضة الحسينية، بل المستفاد من رواية الطبري أنّ هذه الرسالة كتبت بعد خروج الامام عليه السلام من مكّة، أي بعد انتهاء الأيام المكيّة من عمر النهضة الحسينية.

وعلى كلا الإحتمالين قد يستشعر المتأمّل أنّ تحرّك عبدالله بن جعفر (رض) جاء متأخّراً كثيراً قياساً الى بداية حركة أحداث النهضة الحسينية، هذا على ضوء المتون التأريخية المتوفّرة، والله العالم.

أمّا ابن عساكر فقد أشار إلى هذه الرسالة فقط بقوله: «وكتب عبدالله بن جعفر بن أبي طالب إليه كتاباً يحذّره من أهل الكوفة ويناشده الله أن يشخص إليهم.»، «2» كما لم يَروِ من جواب الامام عليه السلام إلّا: «إنّي رأيت رؤيا، ورأيت فيها رسول الله صلى الله عليه و آله

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 270

وأمرني بأمرٍ أنا ماضٍ له، ولستُ بمخبرٍ بها أحداً حتى أُلاقي عملي.» «1»

2)- يظهر من نص رسالة ابن جعفر (رض) أنّه يشترك مع ابن عبّاس (رض) وابن الحنفيّة (رض) وغيرهم في النظرة الى قيام الامام عليه السلام من زاوية النصر أو الإنكسار الظاهريين، هذه النظرة التي كانت منطلق مشوراتهم ونصائحهم، وخوفهم أن يُقتل الإمام عليه السلام في الوجهة التي عزم عليها، ولذا فقد كان الامام عليه السلام يجيبهم بأنّ منطقه الذي يتحرّك على

أساسه غير هذا من خلال الرؤيا التي رأى فيها جدّه صلى الله عليه و آله، وأنه مأمور بهذا النوع من التحرك امتثالًا لأمر رسول الله صلى الله عليه و آله.

3)- كما يظهر من نصّ رسالة عبدالله بن جعفر (رض) أنه كان يعتقد أو يأمل- من خلال الوساطة- أن تتحقق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الإمام عليه السلام إذا انثنى عن القيام والخروج وإن لم يبايع!

ولذا فقد ردّ الامام عليه السلام على هذا الوهم بأنه ما لم يُبايع يُقتل لامحالة، ولأنه لايبايع يزيد أبداً فالنتيجة لا محالة هي: «لو كنت في جحر هامّة من هوامّ الارض لاستخرجوني حتى يقتلوني! ..»، وفي هذا ردٌّ أيضاً على تصوّر عبدالله بن جعفر- على فرض صحة رواية الفتوح- بأنه يستطيع أخذ الأمان من الأمويين للإمام عليه السلام ولما له وأولاده وأهله!

ولايخفى على العارف أننا هنا إنّما نناقش معاني مستوحاة من نصّ الرسالتين، وإلّا فإنّ الامام عليه السلام لم يكن لينثني عن قيامه ونهضته حتّى لو أُعطي الأمان مع عدم المبايعة، ذلك لأنه لم يخرج لفقده الأمان بل لطلب الإصلاح في أمّة جده صلى الله عليه و آله وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويسير بسيرة جدّه وأبيه صلوات الله عليهما وآلهما.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 271

أمّا قصة وساطته بين عمرو الأشدق وبين الامام عليه السلام ....

فالظاهر من رواية الطبري أنّ عبدالله بن جعفر (رض) لم يكتف بمراسلة الامام عليه السلام، بل ترك المدينة مسرعاً الى مكّة لتحقيق وعده بتحصيل الأمان الأموي للإمام عليه السلام!

ويستفاد من هذه الرواية أيضاً أنّ عبدالله بن جعفر (رض) حينما توسّط في الأمر كان الامام عليه السلام قد تحرك بالفعل خارجاً عن مكّة المكرّمة ..

تقول الرواية: «وقام عبدالله

بن جعفر الى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه وقال: أكتب الى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنيّه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئنّ إلى ذلك فيرجع.

فقال عمرو بن سعيد: أكتب ماشئت وأتني به حتّى أختمه.

فكتب عبدالله بن جعفر الكتاب، ثم أتى به عمرو بن سعيد، فقال له: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد، فإنه أحرى أن تطمئنّ نفسه اليه ويعلم أنه الجدّ منك.

ففعل ... فلحقه يحيى وعبدالله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان مما اعتذر به إلينا أن قال: إني رأيت رؤيا فيها رسول الله صلى الله عليه و آله وأُمرت فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له عليَّ كان أو لي!

فقالا له: فما تلك الرؤيا؟

قال: ما حدّثت أحداً بها، وما أنا محدّث بها حتى ألقى ربي!

قال وكان كتاب عمرو بن سعيد الى الحسين بن عليّ:

بسم الله الرحمن الرحيم. من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّ:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 272

أمّا بعد، فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك، بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أُعيذك بالله من الشقاق، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبدالله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إليَّ معهما، فإنّ لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار، لك الله عليَّ بذلك شهيدٌ وكفيلٌ ومُراعٍ ووكيل، والسلام عليك.». «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 272

1)- توحي هذه الرواية- كما أوحت ذلك من قبل أيضاً رسالة عبدالله بن جعفر الى الامام عليه السلام التي رواها صاحب الفتوح- بأنّ عبدالله بن جعفر كان يعتقد أنّ الامام عليه السلام إنّما خرج لفقده الأمان على حياته لا

لأمرٍ آخر وراء ذلك، فهو هنا يقول للأشدق: أكتب للحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة ...

لعلَّه يطمئن الى ذلك فيرجع!

كما توحي أيضاً بأنه كان يرى إمكان تحقق المتاركة بين السلطة الأموية وبين الامام عليه السلام في حال عدم مبايعته ليزيد! الأمر الذي لم يكن يراه محمّد بن الحنفية وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما كما هو المستفاد من محاوراتهما مع الامام عليه السلام.

ونحن نستبعد جدّاً أن يكون عبدالله بن جعفر (رض) ذا اعتقاد كهذا! وهو ابن عمّ الإمام عليه السلام، القريب منه الحميم العلاقة به، والمعتقد بإمامته وعصمته، العارف بنظرته الى الأمور، البصير بمشربه.

ونعتقد أنّ قلّة الوثائق التأريخية المتعلّقة بأخبار وتفاصيل موقف ابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 273

جعفر (رض) من قيام الامام عليه السلام ساعدت كثيراً على مظلوميته!

والنزر القليل جدّاً من الروايات التأريخية المتوفّرة في هذا الصدد قد شوّه الصورة الناصعة لهذا الهاشمي العظيم الذي وردت روايات فيه أنه أشبه رسول الله صلى الله عليه و آله خلقاً وخُلقاً. «1»

2)- وتدّعي هذه الرواية أيضاً أنّ رسالة الأشدق الى الامام عليه السلام كان قد كتبها عبدالله بن جعفر (رض)، وهذا من مظلوميته التأريخية أيضاً، ذلك لأنّ المتأمّل في متن هذه الرسالة يرى فيها كثيراً من سوء الأدب في مخاطبة الامام عليه السلام، كمثل:

«أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك .. وإني أُعيذك بالله من الشقاق!»، وهذا مستبعد صدروه من رجل مؤمن بإمامة الامام الحسين عليه السلام، ويراه: «نور الأرض» و «أمير المؤمنين» و «روح الهدى». «2»

ومن الجدير بالذكر هنا: أنّ ابن أعثم الكوفي في كتابه الفتوح «3» قد ذكر هذه الرسالة التي بعثها الأشدق الى الامام عليه السلام، ولكنّه ذكر

أن عمرو بن سعيد الأشدق هو الذي كتبها وليس عبدالله بن جعفر (رض)، كما ذكر أنّ حاملها الى الامام عليه السلام كان يحيى بن سعيد وحده، أي لم يكن عبدالله بن جعفر (رض) معه!

كما أنّ الشيخ المفيد (ره) روى نفس قصة هذه الرسالة- كما رواها الطبري- لكنّه لم يذكر أنّ عبدالله بن جعفر (رض) هو الذي كتبها «4»، بل قال: «فكتب إليه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 274

عمرو بن سعيد كتاباً ...»، «1» فتأمّل!

وأمّا قصة التحاق ابنيه عون ومحمّد «2» بالإمام عليه السلام ...

فإنّ ظاهر القرائن التأريخية يفيد أنهما كانا مع أبيهما، ثمّ التحقا بالإمام عليه السلام وانظمّا إلى الركب الحسيني بعد خروجه من مكّة بعلمٍ من أبيهما وبإذنه، يقول الشيخ المفيد (ره): «فلمّا أيس منه عبدالله بن جعفر (ره) أمر ابنيه عوناً ومحمّداً بلزومه والمسير معه والجهاد دونه، ورجع مع يحيى بن سعيد الى مكّة.». «3»

وقد كان إبناه محمد وعون حاملي رسالة أبيهما الى الامام عليه السلام قبل ذلك على ما في رواية الطبري والمفيد، «4» وإن كان سياق القصة على ما في رواية الفتوح أنه بعثهما برسالته من المدينة الى الامام عليه السلام في مكّة، «5» وهذا ما ذهب اليه ابن الصبّاغ أيضاً في الفصول المهمة حيث قال: «ثمّ إنّه وردت على الحسين عليه السلام كتب من أهل المدينة من عند عبدالله بن جعفر على يدي ابنيه عون ومحمّد، ومن سعيد بن العاص ومعه جماعة من أعيان المدينة ...». «6»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 275

وإرسال عبدالله بن جعفر (رض) ولديه عوناً ومحمّداً ليجاهدا دون الامام عليه السلام وليستشهدا بين يديه دليل تام على تأييده النهضة الحسينية، وهنا يلمح المتأمّل أنّ عبدالله بن جعفر يشترك مع ابن

الحنفية وابن عباس في أصل تأييد قيام الامام عليه السلام وفي أصل معارضة خروجه الى العراق ..

ومن الروايات الكاشفة عن تأييده (رض) لقيام الامام عليه السلام، ما رواه الشيخ المفيد (ره) قائلًا: «ودخل بعض موالي عبدالله بن جعفر بن أبي طالب عليهم السلام فنعى إليه ابنيه، فاسترجع، قال أبو السلاسل (أبو اللسلاس) «1» مولى عبدالله: هذا مالقينا من الحسين بن عليّ!

فحذفه عبدالله بن جعفر بنعله، ثم قال: يا ابن اللخناء، أللحسين عليه السلام تقول هذا!؟ والله لو شهدته لأحببت أن لا أفارقه حتى أُقتل معه! والله إنه لممّا يسخّي نفسي عنهما ويعزّي عن المصاب بهما أنهما أُصيبا مع أخي وابن عمّي مواسيين له، صابرين معه.

ثمّ أقبل على جلسائه فقال: الحمدُ للّه، عزَّ عليَّ مصرع الحسين، إن لا أكن آسيت حسيناً بيدي فقد آساه ولداي.». «2»

وجدير بالذكر هنا أن نضيف أنّ أبا الفرج الأصبهاني روى أنّ لعبدالله بن جعفر (رض) ولداً آخر أسمه عبيدالله، وأمّه الخوصاء بنت حفصة بن ثقيف، قُتل أيضاً في كربلاء بين يدي الامام الحسين عليه السلام، وهو أخو محمد بن عبدالله بن جعفر (رض) لأمّه وأبيه. «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 276

لماذا لم يلتحق عبد الله بن جعفر (رض) بالامام عليه السلام ..... ص : 276

لم نعثر- بحسب تتبعنا- على من تأمّل في جلالة عبدالله بن جعفر (رض)، لا في كتبنا ولا في كتب السنّة، فكأنّ جلالة قدر عبدالله بن جعفر (رض) أمرٌ متسالم ومتّفق عليه.

فالعلّامة الحلّي (ره)- على سبيل المثال لا الحصر- يقول فيه وفي محمّد بن الحنفية رضوان الله عليهما: «والسيّد محمّد بن الحنفية وعبدالله بن جعفر وأمثالهم أجل قدراً وأعظم شأناً من اعتقادهم خلاف الحقّ وخروجهم عن الإيمان ...». «1»

ويقول السيّد الخوئي (ره): «جلالة عبدالله بن جعفر الطيّار بن أبي طالب بمرتبة لا

حاجة معها إلى الإطراء ..». «2»

ويقول الذهبي: «عبدالله بن جعفر، السيّد العالم .. كان كبير الشأن، كريماً جواداً، يصلح للإمامة ..» «3».

ولا شك أنّ المتتبّع العارف بسيرة عبدالله بن جعفر (رض)، وبأخباره، وبمواقفه الجريئة في الدفاع عن الحق ودحض الباطل، وبانقطاعه الى عمّه أمير المؤمنين عليّ عليه السلام والحسنين عليهما السلام من بعده، وبمعرفته بأئمته الذين فرض الله طاعتهم وولايتهم، «4» وبعلاقته الحميمة بالامام الحسين عليه السلام وبقربه منه، يقطع مطمئنّاً بأنّ هذا السيّد الهاشميّ الإماميّ الشجاع البصير المنقطع الى الامام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 277

الحسين عليه السلام كان عارفاً بفرض امتثال أمر إمامه عليه السلام، وبوجوب نصرته، فلابدّ أنّه كان معذوراً في عدم التحاقه بالركب الحسيني، وكيف يتخلّف بلا عذرٍ وقد خرجت زوجته وابنة عمّه المكرّمة زينب الكبرى بنت عليّ عليهما السلام، وخرج ولداه- أو أولاده- مع الامام عليه السلام في رحلة الفتح بالشهادة!؟

إنّ من يواسي الامام عليه السلام بأعزَّ ما عنده من أهل بيته لابدّ وأن يكون تخلّفه عن الإمام عليه السلام على كُرْهٍ منه بسبب عُذر قاهر!

يقول المامقاني (ره): «وقد واساه بولده عون ومحمّد وعبدالله، قُتلوا معه بالطفّ لما كان هو معذوراً في الخروج معه.». «1»

أمّا ما هو عذره في عدم الإلتحاق بالامام عليه السلام، فإننا لم نعثر- مع تتبع غير يسير على مصدر يشخّص نوع هذا العذر، إلّا ما وجدناه في كتاب (زينب الكبرى) للمحقّق الشيخ جعفر النقدي، حيث يقول: «أمّا عدم خروجه مع الحسين عليه السلام الى كربلاء فقد قيل إنه مكفوف البصر!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 278

عبدالله بن الزبير .. والنصائح المتناقضة! ..... ص : 278
اشارة

لم يستثقل عبدالله بن الزبير «1» وجود الإمام الحسين عليه السلام من قبلُ في أيّ مكان

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 279

- بعد موقعة الجمل-

كما أستثقله في مكّة المكرّمة أيّام تواجد الإمام عليه السلام فيها بعد رفضه البيعة ليزيد، ذلك لأنّ ابن الزبير كان قد نوى منذ البدء أن يتّخذ مكّة المكرّمة منطلقاً للتمرّد على السلطة الأموية ومركزاً لإدارة أمور البلدان الأخرى في حال نجاحه في مسعاه، ولذا فقد كان في حاجة ماسّة إلى أن يخلو له وجه مكّة من أي منافس، وتصفو له من كلّ مزاحم، فما بالك بمزاحمٍ ومنافسٍ لايرى الناس ابن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 280

الزبير قباله شيئاً مذكوراً!؟ ولايعبأون بحضوره أو بغيابه إذا حضر ذلك الشخص المبجّل عندهم!؟.

فمع وجود الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة كانت الارض قد ضاقت على ابن الزبير بما رحبت، وضاقت عليه حرجاً أنفاسه كأنما يصّعدُ في السماء، لكنه كان يُداري حراجة تلك الأيّام باستظهار هدوءٍ مفتعل، وصبر مصطنع، ويتكتّم على حسده وغِلّه ونواياه بما هو فوق طاقته!

يقول التأريخ: «واشتدّ ذلك على ابن الزبير لأنه كان قد طمع أن يبايعه أهل مكّة، فلمّا قدم الحسين شقّ ذلك عليه، غير أنه لايُبدي ما في قلبه الى الحسين، لكنّه يختلف إليه ويصلّي بصلاته، ويقعد عنده ويسمع حديثه، وهو يعلم أنه لايبايعه أحدٌ من أهل مكّة والحسين بن عليّ بها، لأنّ الحسين عندهم أعظم في أنفسهم من ابن الزبير.». «1»

«وأمّا ابن الزبير فإنه لزم مصلّاه عند الكعبة، وجعل يتردد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولايمكنه أن يتحرّك بشي ء مما في نفسه مع وجود الحسين، لِما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه عليه ... بل الناس إنّما ميلهم الى الحسين لأنه السيّد الكبير، وابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله، فليس على وجه الأرض يومئذٍ أحدٌ يساميه ولايساويه ...».

«2»

من هنا كان كلُّ همِّ عبدالله بن الزبير وأقصى أُمنيته أن يخرج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة لتخلو له، وكان ابن الزبير يظنّ أنّ مايضمره خافٍ على

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 281

الإمام عليه السلام وعلى الآخرين من وجهاء الأمّة وأعلامها، غير أنّ أمره كان أظهر من أن يخفى على ذي فطنة كابن عباس مثلًا، فما بالك بالإمام عليه السلام!؟

يروي الطبري أنّ ابن الزبير أتى الإمام الحسين عليه السلام- بعد خروج ابن عباس (رض) من عند الإمام عليه السلام!- فحدّثه ساعة، ثمّ قال: ما أدري ما تركنا هؤلاء القوم وكفّنا عنهم، ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم!؟ خبّرني ما تريد أن تصنع؟

فقال الحسين عليه السلام: واللّه لقد حدّثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليَّ شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله.

فقال له ابن الزبير: أما لو كان لي بها مثل شيعتك ما عدلت بها! ثمّ خشي أن يتّهمه فقال: أما إنّك لو أقمت بالحجاز ثمّ أردتَ هذا الأمر ها هنا ماخولف عليك إن شاء الله!

ثم قام فخرج من عنده.

فقال الحسين عليه السلام: «ها إنّ هذا ليس شي ء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أن أخرج من الحجاز الى العراق، وقد علم أنه ليس له من الأمر معي شي ء، وأنّ الناس لم يعدلوه بي فودَّ أنّي خرجت منها لتخلو له.». «1»

ويروي ابن عساكر عن معمر، عن رجل أنه سمع الإمام الحسين بن عليّ عليهما السلام يقول لابن الزبير: «أتتني بيعة أربعين ألفاً يحلفون لي بالطلاق والعتاق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 282

من أهل الكوفة- أوقال من أهل العراق-.

فقال له عبدالله بن الزبير: أتخرج إلى قوم قتلوا أباك وأخرجوا أخاك!؟». «1»

ويروي الطبري أيضاً عن عبدالله بن سليم والمُذري بن المشمعّل الأسديين

أنهما رأيا- يوم التروية!- فيما بين الحجر وباب الكعبة كُلًّا من الإمام الحسين عليه السلام وعبدالله بن الزبير قائمين عند ارتفاع الضحى، وسمعا ابن الزبير يقول للإمام عليه السلام:

«إنْ شئت أن تقيم أقمتَ فَوُلِّيتَ هذا الأمر، فآزرناك وساعدناك ونصحنا لك وبايعناك!

فقال له الحسين عليه السلام: إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها! فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش!

فقال له ابن الزبير: فأقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر، فتُطاع ولاتُعصى!

فقال عليه السلام: وما أريد هذا أيضاً!». «2»

أمّا الدينوري فيروي قائلًا: «وبلغ عبدالله بن الزبير ما يهمُّ به الحسين، فأقبل حتى دخل عليه، فقال له: لو أقمت بهذا الحرم، وبثثت رسلك في البلدان، وكتبت إلى شيعتك بالعراق أن يقدموا عليك، فإذا قوي أمرك نفيتُ عمّال يزيد عن هذا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 283

البلد، وعليَّ لك المكانفة والمؤازرة، وإن عملتَ بمشورتي طلبتَ هذا الأمر بالحرم، فإنّه مجمع أهل الآفاق ومورد أهل الأقطار، لم يعدمك بإذن الله إدراك ما تريد، ورجوتُ أن تناله!». «1»

وفي رواية أخرى عن أبي مخنف عن أبي سعيد عقيصا، «2» عن بعض أصحابه قال سمعت الحسين بن عليّ وهو بمكّة وهو واقف مع عبدالله بن الزبير فقال له ابن الزبير: إليَّ يا ابن فاطمة!

فأصغى إليه، فسارّه، ثمّ التفت إلينا الحسين عليه السلام

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 284

فقال: أتدرون ما يقول ابن الزبير؟

فقلنا: لاندري، جعلنا فداك!

فقال: قال أَقِمْ في هذا المسجد أجمع لك الناس!

ثمّ قال الحسين عليه السلام: والله لئن أُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أن أُقتل داخلًا منها بشبر!، وأيمُ الله لو كنت في جُحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم!، والله ليعتدُنَّ عليَّ كما اعتدت اليهود في السبت!». «1»

أمّا

ابن قولويه (ره) فيروي (بسندٍ) عن سعيد عقيصا قال:

سمعت الحسين بن عليّ عليهما السلام وخلا به عبدالله بن الزبير فناجاه طويلًا، ثمَّ أقبل الحسين عليه السلام بوجهه إليهم وقال: إنّ هذا يقول لي: كن حماماً من حمام الحرم، ولأن أقتل وبيني وبين الحرم باعٌ أحبّ إليَّ من أن أقتل وبيني وبينه شبر، ولأن أُقتل بالطفّ أحبّ إليَّ من أن أُقتل بالحرم». «2»

ويروي ابن قولويه (ره) أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«قال عبدالله بن الزبير للحسين عليه السلام: ولو جئت إلى مكّة فكنتَ بالحرم! «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 285

فقال الحسين عليه السلام: لا نَستحلّها، ولاتُستحلُّ بنا، ولأن أُقتل على تل أعفر «1» أحبّ إليَّ من أن أُقتل بها». «2»

ويروي ابن قولويه (ره) أيضاً عن الإمام أبي جعفر عليه السلام أنّ ابن الزبير شيّع الإمام الحسين عليه السلام: «فقال: يا أبا عبدالله، قد حضر الحجُّ وتدعه وتأتي العراق!؟

فقال: يا ابن الزبير، لأن أُدفن بشاطي ء الفرات أحبّ إليّ من أن أُدفن بفناء الكعبة!». «3»

وروى السيّد ابن طاووس (ره) أنّ عبدالله بن العبّاس (رض) وعبدالله بن الزبير جاءا الى الإمام عليه السلام فأشارا عليه بالإمساك، فقال لهما: إنّ رسول الله صلى الله عليه و آله قد أمرني بأمرٍ وأنا ماضٍ فيه!». «4»

ويبدو أنّ ابن الزبير- من جملة محاوراته مع الإمام عليه السلام ومن مجموع الإخبارات المتناقلة آنذاك عن مصرع الامام عليه السلام- كان يعلم أنّ الإمام عليه السلام سوف يُقتل في سفره هذا الى العراق لا محالة، وأنّ ذلك آخر العهد به عليه السلام، فحرص في اللحظات الأخيرة على الإستفادة من علم الإمام عليه السلام، فسأله قائلًا: «يا ابن رسول الله، لعلّنا لانلتقي بعد اليوم، فأخبرني متى

يرث المولود ويورث؟ وعن جوائز السلطان هل تحلّ أم لا؟».

فأجابه عليه السلام: «أمّا المولود فإذا استهلّ صارخاً .. وأمّا جوائز السلطان فحلال مالم يغصب الأموال.». «5»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 286

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 286

1)- في محاوراته مع الإمام عليه السلام كان ابن الزبير يناقض نفسه في نصائحه ومشوراته، فمرّة يستظهر خلاف ما يستبطن فيشير على الإمام عليه السلام بالبقاء في مكّة!، وأخرى يغفل عن تصنّعه فتظهر أمنيّة قلبه في فلتات لسانه فيحثّ الامام عليه السلام على الخروج الى العراق!، وقد يعارض نفسه في المحاورة الواحدة فيشير في أوّلها بالخروج ثم يستدرك فيشير بالبقاء خوفاً من أن يُتّهم بما يُكنُّ في نفسه! وقد ينسى نفسه وماحوله فيطلب من الإمام عليه السلام أن يوليّه الأمر!!

2)- ويلاحظ على ابن الزبير أيضاً أنّ «حبّ الرئاسة» قد طغى على قلبه وهيمن على تفكيره إلى درجة أنساه عندها حتى الفرق الهائل بين قعر الوهدة وذروة القمة حين تعامى عن الفرق الكبير بينه وبين الإمام عليه السلام! فعدَّ نفسه- كما الإمام عليه السلام!- من ولاة الأمر وأصحاب الحقّ بالخلافة حيث يقول: «ونحن أبناء المهاجرين وولاة الأمر دونهم!»، بل يغلب حبّ الرئاسة على عقله الى درجة يفقد عندها توازنه فيعمى عن حقائق الأشياء وموازينها- فيما يمكن ومالا يمكن- فلا يرى مانعاً من أن يكون هو الخليفة حتّى مع وجود الإمام عليه السلام حيث يخاطبه قائلًا:

«فأَقم إن شئت وتولّيني أنا الأمر ..!!».

3)- ويلاحظ المتأمّل في جميع هذه المحاورات الأدب الجمّ والخلق السامي الذي تعامل به الإمام عليه السلام مع عبدالله بن الزبير، مع معرفته التامّة بما انطوى عليه ابن الزبير من بغض لأهل البيت عليهم السلام، فكان صلوات الله عليه يسارّه كما يسارّ الودود المخلص في وداده،

ويحاوره كما يحاور الناصح الصادق في نصحه، ومع كلّ هذا الخلق العظيم فقد حرص الإمام عليه السلام في محاوراته مع ابن الزبير على أمرين هما:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 287

الأوّل: التأكيد على حرمة استحلال البيت وانتهاك حرمته «إنّ أبي حدّثني أنّ بها كبشاً يستحلّ حرمتها! فما أحبّ أن أكون أنا ذلك الكبش!» و «والله لئن أُقتل خارجاً منها بشبر أحبّ إليَّ من أن أُقتل داخلًا منها بشبر!» و «لأَن أُقتل وبيني وبين الحرم باعٌ أحبُّ إليَّ من أن أُقتل وبيني وبينه شبر!» و «لانستحلّها ولاتُستحلّ بنا، ولأن أُقتل على تل أعفر أحبّ إليَّ من أن أُقتل بها!»، ولايخفى على المتأمّل أنّ الإمام عليه السلام أراد من خلال هذا التأكيد أيضاً نهي ابن الزبير ألّا يكون هو أيضاً ذلك الكبش القتيل إقامة للحجّة عليه، مع علمه عليه السلام بأنّ ابن الزبير هو ذلك المستحِلُّ لحرمة البيت الحرام!

الثاني: تأكيد الإمام عليه السلام على نفي أيّ ارتباط بينه وبين ابن الزبير، ويظهر حرص الإمام عليه السلام على ذلك كلّما أحسّ أنّ هناك من يراهما اثناء التحاور ويُنصت لهما، حيث يكشف الإمام عليه السلام لأولئك المراقبين عن ما يسرّه إليه ابن الزبير، كمثل قوله عليه السلام: «إنّ هذا يقول لي: كن حماماً من حمام الحرم ...» وقوله عليه السلام كاشفاً عن أمنية ابن الزبير:

«ها إنّ هذا ليس شي ء يؤتاه من الدنيا أحبّ إليه من أخرج الى العراق ...».

4)- ويلاحظ أيضاً أنّ الإمام عليه السلام أكّد لابن الزبير ولسامعيه الآخرين أنه لامحالة مقتول حيث قال عليه السلام: «وأيمُ الله لو كنت في جحر هامّة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا فيّ حاجتهم! والله ليعتدُنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت!»، كما

أشار عليه السلام تلميحاً إلى مكان مصرعه في قوله: «ولأن أُقتل بالطفّ أحبّ إليّ من أن أُقتل بالحرم!» و «يا ابن الزبير، لأَن أُدفن بشاطي ء الفرات أحبّ إليّ من أن أدفن بفناء الكعبة!»، ولعلّ الإمام عليه السلام أراد بذلك إلقاء الحجّة على ابن الزبير وعلى من كان يسمع تحاورهما بوجوب الخروج معه

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 288

لنصرته والجهاد بين يديه.

5)- ممّا لايخفى- على من له أدنى اطّلاع على تأريخ النهضة الحسينية- أنّ مشورات ونصائح ابن الزبير المتعارضة- وإن استمع إليها الإمام عليه السلام بأدبه السامي العظيم- لم يكن لها أيّ تأثير على الإمام عليه السلام الذي كان عارفاً بحقيقة مايستبطنه ابن الزبير من عداوة وبغضاء لآل محمّد صلى الله عليه و آله، وبكذب مايستظهره من نصح ومودّة لهم، ولذلك فلم يكن لرأي ابن الزبير أيّ أثر على حركة أحداث النهضة الحسينية لا من قريب ولا من بعيد.

من هنا حقَّ للمتأمّل أن يعجب كثيراً من سخيف ما ذهب إليه ابن أبي الحديد من أنّ الإمام الحسين عليه السلام خرج الى العراق عملًا بنصيحة ابن الزبير له بذلك، فغشه!

يقول ابن أبي الحديد: «واستشار الحسين عليه السلام، عبدالله بن الزبير وهما بمكّة في الخروج عنها، وقصد العراق ظانّاً أنه ينصحه، فغشّه، وقال له: لاتقم بمكّة، فليس بها من يبايعك، ولكن دونك العراق، فإنّهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحداً، فخرج الى العراق حتى كان من أمره ما كان!». «1»

وأسخف من قول ابن أبي الحديد قول محمّد الغزالي في الدفاع عن ابن الزبير واستبعاده أن يكون ابن الزبير قد أشار على الإمام عليه السلام بالخروج الى العراق ليستريح منه، قائلًا: «فعبد الله بن الزبير أتقى للّه وأعرق في الإسلام من

أن يقترف مثل هذه الدنيّة!». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 289

عبدالله بن عمر .. والمشورة المريبة! ..... ص : 289
اشارة

تميّز عبدالله بن عمر «1» عن جميع وجهاء الأمّة وأعلامها من الرجال الذين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 292

التقوا مع الامام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة وعرضوا عليه نصائحهم ومشوراتهم بموقفه الرافض لأصل القيام والنهضة! وبدعوته الإمام عليه السلام الى الدخول في ما دخل فيه الناس! وإلى مبايعة يزيد! والصبر عليه كما صبر لمعاوية من قبل!

وكان هذا النهي عن القيام والخروج، والدعوة الى مبايعة يزيد، والدخول في ما دخل فيه الناس، خطّاً ثابتاً لابن عمر في لقاءاته الثلاثة «1» مع الإمام الحسين عليه السلام منذ ابتداء قيامه المبارك.

ولم يسجّل لنا التأريخ في الأيام المكيّة من عمر النهضة الحسينية شيئاً عن موقف ابن عمر من قيام الإمام عليه السلام سوى آرائه ومشوراته التي أبداها في المحاورة الثلاثية بينه وبين الإمام عليه السلام وبين ابن عباس (رض).

وقد نقلنا هذه المحاورة في حديثنا عن تحرّك ابن عبّاس (رض) مركّزين

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 293

على نصوص التحاور بين الامام عليه السلام وبين ابن عباس (رض)، وننقلها هنا مركزّين على نصوص التحاور بين الامام عليه السلام وبين عبدالله بن عمر ..

تقول الرواية التأريخية: «وأقام الحسين عليه السلام بمكّة باقي شهر شعبان ورمضان وشوّال وذي القعدة، وبمكّة يومئذٍ عبدالله بن عبّاس وعبدالله بن عمر بن الخطّاب، فأقبلا جميعاً حتى دخلا على الحسين عليه السلام وقد عزما على أن ينصرفا الى المدينة ...

فقال له ابن عمر: أبا عبدالله، رحمك الله إتّق الله الذي إليه معادك! فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت لكم وظلمهم إيّاكم، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية! ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلونك

ويهلك فيك بشرٌ كثير، فإني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله وهو يقول: «حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله الى يوم القيامة»، وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين!

فقال له الحسين عليه السلام:

أبا عبدالرحمن! أنا أُبايع يزيد وأدخل في صلحه وقد قال النبيّ صلى الله عليه و آله فيه وفي أبيه ما قال!؟

وهنا يتدخّل ابن عبّاس في الحوار ليصدّق قول الامام عليه السلام، ويروي عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: «مالي وليزيد! لابارك الله في يزيد! وإنه ليقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه السلام، والذي نفسي بيده لايُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم»، ثم يبكي ابن عبّاس، ويبكي معه الإمام عليه السلام ويسأله أليس يعلم أنّه ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله؟ فيشهد ابن عبّاس بذلك ويؤكّد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 294

أنّ نصرة الامام عليه السلام فرض على هذه الأمّة كالصلاة والزكاة!

ثمّ يسأله الامام عليه السلام عن رأيه في الأمويين الذين أخرجوه عن حرم جدّه صلى الله عليه و آله وأرادوا سفك دمه بلا جُرم كان قد اجترحه، فيجيبه ابن عبّاس بأنّ هؤلاء قوم كفروا بالله ورسوله، وعلى مثلهم تنزل البطشة الكبرى، ثمّ يشهد ابن عبّاس أنّ من طمع في محاربة الامام عليه السلام والرسول صلى الله عليه و آله فماله من خلاق! وهنا يقول الامام عليه السلام «أللّهمّ اشهد!»، فيُدرك ابن عباس (رض) أنّ الامام عليه السلام قصده وابن عمر بطلب النصرة! فيبادر ابن عباس ويظهر استعداده

لنصرة الامام عليه السلام والجهاد بين يديه، ويقول انه لا يوفّي بذلك عشر العشر من حقّه عليه السلام!

وهنا يُحرج ابن عمر لأنّه مقصود أيضاً بالخطاب! فيتدخل ليحرف مسير الحوار عن الإتجاه الذي أراده الامام عليه السلام فيقول لابن عباس: مهلًا، ذرنا من هذا يا ابن عبّاس!

ثمّ أقبل ابن عمر على الحسين عليه السلام فقال: أبا عبدالله، مهلًا عمّا قد عزمت عليه، وارجع من هنا الى المدينة، وادخل في صلح القوم! ولاتغب عن وطنك وحرم جدّك رسول الله صلى الله عليه و آله، ولا تجعل لهؤلاء الذين لاخلاق لهم على نفسك حجّة وسبيلا، وإن أحببت أن لاتبايع فأنت متروك حتى ترى برأيك، فإنّ يزيد بن معاوية عسى أن لايعيش إلّا قليلًا فيكفيك اللّه أمره!

فقال الحسين عليه السلام:

أُفٍّ لهذا الكلام أبداً مادامت السموات والأرض!، أسألك بالله يا عبدالله! أنا عندك على خطأ من أمري هذا؟ فإن كنتُ عندك على خطأ فردّني فإني أخضع وأسمع وأطيع!

فقال ابن عمر: أللّهمّ لا، ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسوله على خطأ،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 295

وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول صلى الله عليه و آله على مثل يزيد بن معاوية باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأمّة ما لا تحب، فارجع معنا الى المدينة، وإن لم تحب أن تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزل!

فقال الحسين عليه السلام:

هيهات يا ابن عمر! إنّ القوم لايتركوني، إن أصابوني وإن لم يُصيبوني، فلا يزالون حتى أُبايع وأنا كاره، أو يقتلوني! أما تعلم يا عبدالله أنّ من هوان هذه الدنيا على الله تعالى أنه أُتي برأس يحيى بن زكريا عليه السلام الى بغيّة من

بغايا بني إسرائيل والرأس ينطق بالحجّة عليهم؟ أما تعلم أبا عبدالرحمن أنّ بني إسرائيل كانوا يقتلون ما بين طلوع الفجر الى طلوع الشمس سبعين نبيّاً ثمّ يجلسون في أسواقهم يبيعون ويشترون كلهم كأنّهم لم يصنعوا شيئاً، فلم يعجّل الله عليهم، ثمّ أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر! إتّقِ الله أبا عبدالرحمن ولا تدعنّ نصرتي! واذكرني في صلاتك! يا ابن عمر، فإن كان الخروج معي ممّا يصعب عليك ويثقل فأنت في أوسع العذر، ولكن لا تتركنّ لي الدُعاء في دبر كلّ صلاة، واجلس عن القوم، ولاتعجل بالبيعة لهم حتى تعلم الى ماتؤول الأمور!

ثمّ أقبل الامام عليه السلام على ابن عبّاس (رض) فأثنى عليه، ورخّصه بالمضيّ الى المدينة وأوصاه بمواصلته بأخباره، وأظهر عليه السلام أنه مستوطن الحرم ما رأى أهله يحبّونه وينصرونه، وأنه يستعصم بالكلمة التي قالها إبراهيم عليه السلام يوم أُلقي في النار (حسبي الله ونعم الوكيل) فكانت النار عليه برداً وسلاماً.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 296

فبكى ابن عبّاس (رض) وابن عمر بكاءً شديداً، وشاركهما الامام عليه السلام بكاءهما ساعة ثمّ ودّعهما وصارا الى المدينة. «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 296

1)- سبق ان قلنا «2» أنّ ابن أعثم الكوفي كان قد تفرّد برواية نصّ هذه المحاورة المفصّلة في كتابه الفتوح، ونقلها عنه الخوارزمي في كتابه مقتل الحسين عليه السلام، والملفت للإنتباه أنّ هذا النص قد احتوى على عبارات متعارضة، وأخرى لاتنسجم مع نظرة أهل البيت عليهم السلام الى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله سواء في حياته صلى الله عليه و آله أو بعد رحلته، ومثال على المتعارضات قوله عليه السلام لابن عمر «إتّق اللّه أبا عبدالرحمن ولاتدعنّ نصرتي» وقوله بعد ذلك «فإن كان الخروج معي ممّا يصعب

عليك ويثقل فأنت في أوسع العُذر!». ومثال على الاخرى قوله: «فوالذي بعث جدّي محمداً صلى الله عليه و آله بشيراً ونذيراً لو أنّ أباك!»، وقوله «واذكرني في صلاتك!» وقوله «ولكن لا تتركنّ لي الدعاء في دبر كُلّ صلاة!».

والظنّ قويٌّ أنّ العبارة التي ترخّص لابن عمر في عدم نصرة الامام عليه السلام وتجعله في أوسع العذر! والعبارة التي تثني على بعض الصحابة بمالم يفعله (والوثائق التأريخية تؤكد خلاف ذلك!)، والعبارة التي تدّعي عناية الامام عليه السلام بصلاة ابن عمر أو بدعائه- على فرض صحة رواية هذه المحاورة أصلًا- قد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 297

أُدخلت على أصل النصّ وأُقحمت عليه إقحاماً من قبل بعض الرواة أو النسّاخ من أجل تحسين صورة البعض على لسان الامام عليه السلام!!

2)- اعترف ابن عمر بأنّ نصرة الامام الحسين عليه السلام والإنضمام إليه واجب شرعيّ حين قال إنه سمع رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: «حسينٌ مقتول! ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله يوم القيامة!».

ويتأكد لابن عمر هذا الواجب الشرعيّ المقدّس حين يسمع من ابن عباس أيضاً أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و آله يقول:

«مالي وليزيد!؟ لابارك الله في يزيد! وإنه ليقتل ولدي وولد ابنتي الحسين عليه السلام! والذي نفسي بيده لايُقتل ولدي بين ظهرانيّ قوم فلا يمنعونه إلّا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم!».

ويُلقي الامام عليه السلام الحجّة صريحة بالغة تامة على ابن عمر حيث يقول له:

«إتّقِ الله أبا عبدالرحمن ولا تدعنّ نصرتي!».

ومع كلّ هذا نرى عبدالله بن عمر يقعد ويتخلّف عن نصرة الامام الحسين عليه السلام عامداً بلا عُذر! ولايكتفي بذلك بل يلحُّ بإصرار على الامام عليه السلام ليترك القيام، ويرجع الى المدينة، ويدخل في صلح القوم!،

ويصبر على يزيد!

3)- ونلاحظ ابن عمر أيضاً يحاول- وكأنّه ناطق رسميّ أمويّ!- أن يوهم الامام عليه السلام بأنّ المتاركة بينه وبين يزيد أمرٌ ممكن، وأنّه لابأس على الامام عليه السلام إنْ ترك القيام حتى وإن لم يبايع! فيقول له: «وإن أحببت أن لا تبايع فأنت متروك حتّى ترى برأيك!»، ويقول: «وإن لم تحب أن تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزل!».

تُرى هل كان ابن عمر مؤمناً حقّاً بإمكان هذه المتاركة!؟

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 298

كيف يكون مؤمناً بها وقد روى هو نفسه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و آله يقول:

«حسين مقتول! ...» ويسمع ابن عباس أيضاً يروي عنه صلى الله عليه و آله بأنّ يزيد قاتل الحسين عليه السلام!؟

وإذا لم يكن مؤمناً بإمكان هذه المتاركة! فلماذا كان يصرّ على دعوى إمكانها وكأنّه ينطق عن لسان الحكم الأمويّ!؟

هل كان ابن عمر يريد- بلسان المشورة والنصيحة- أن يوقع الامام عليه السلام في شِباك صيد يزيد بعد نزع فتيل الثورة قبل اندلاعها!؟

وهل يستبعد المتأمّل ان يصدر هذا من ابن عمر!؟

لعلّ التأمّل في أبعاد الملاحظة التالية يكشف لنا عن الجواب!

4)- أكّد ابن عمر في هذه المحاورة اعترافه بعداوة الأمويين لأهل البيت عليهم السلام وبظلمهم إيّاهم! وبأنّ الأمويين وعلى رأسهم يزيد هم «القوم الظالمون»! وأنهم «لاخلاق لهم» عند الله! وأكّد على خوفه من أن يميل الناس إليهم طمعاً في ما عندهم من الذهب والفضة «الصفراء والبيضاء»!

لكننا نجد أنّ ابن عمر هذا كان ممن تسلّم هذه الصفراء والبيضاء من معاوية رشوة أيّام تمهيده ليزيد بولاية العهد من بعده! حيث أرسل إليه معاوية مائة ألف درهم فقبلها! «1»

ونجد ابن عمر قد بادر الى بيعة يزيد! مع أنّ الإمام عليه السلام كان

قد طلب إليه في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 299

هذه المحاورة- على الأقلّ!- ألّا يعجل بالبيعة ليزيد حتّى يعلم ما تؤول إليه الأمور! هذا مع اعتراف ابن عمر بأنّ يزيد رجل ظالم ولاخلاق له عند الله! ثمّ نجد ابن عمر وقد انتفضت الأمّة في المدينة على يزيد وخلعته لفسقه وفجوره يصرُّ على التمسّك ببيعة يزيد مدّعياً أنها كانت بيعة للّه ولرسوله!! وينهى أهله عن التنكّر لهذه البيعة معلناً براءته ممّن تنكّر لها منهم!

يقول التأريخ: لمّا خلع أهل المدينة بيعة يزيد «جمع ابن عمر بنيه وأهله ثمَّ تشهد، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله! وإنّي سمعت رسول الله يقول: إنّ الغادر يُنصب له لواء يوم القيامة، يقال هذا غدر فلان، فإنّ من أعظم الغدر- إلّا أن يكون الشرك بالله- أن يبايع رجل رجلًا على بيعة الله ورسوله ثمّ ينكث بيعته! فلا يخلعنّ أحدٌ منكم يزيد! ولايسرفنّ أحد منكم في هذا الأمر فيكون الفيصل بيني وبينه- رواه مسلم، وقال الترمذي: صحيح.» «1»

فهل يُعقل أن تكون البيعة لرجل ظالم فاسق لاخلاق له عند الله تعالى بيعة لله ولرسوله!؟

أو ليسَ مما أجمعت الأمّة عليه أنّ العدالة من شروط الإمامة!؟ «2»

ومن هو الغادر الذي يُنصب له لواء يوم القيامة! الذي بايع الفاسق مع علمه بفسقه منذ البدء- كما فعل ابن عمر!- أم أهل المدينة الذين انتفضوا على يزيد بعد أن تيقّنوا من فسقه وخلعوا بيعته!؟

ثمّ لماذا لايرى ابن عمر كُلًّا من طلحة والزبير ومن معهما غادرين تُنصب لهم ألوية غدر يوم القيامة! حيث نكثوا بيعتهم لرمز العدالة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام!؟ أم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 300

يتوقّف ابن عمر في هذا الأمر فيبتدع مغالطة أخرى

من مغالطاته الكبيرة الكثيرة!؟

لقد كان عبدالله بن عمر لساناً من الألسنة التي خدمت الحكم الأمويّ، بل كان بوقاً أمويّاً حرص على عزف النغمة النشاز في أنشودة المعارضة! وسعى إلى تحطيم المعارضة من داخلها، ولا يُعبأ بما صوّره به بعض المؤرخين من أنه كان رمزاً من رموزها، لأنّ المتأمّل المتدبّر لا يجد لابن عمر هذا أيّ حضورٍ في أيّ موقف معارضٍ جادّ! بل يراه غائباً تماماً عن كلّ ساحة صدق في المعارضة!

وإذا تأمّل المحقق مليّاً وجد عبدالله بن عمر ينتمى انتماءً تاماً- عن إصرار وعناد- الى حركة النفاق التي قادها حزب السلطة، منذ البدء ثمّ لم يزل يخدم فيها حتى في الأيّام التي آلت قيادتها فيها الى الحزب الأموي بقيادة معاوية ثمّ يزيد! هذه هي حقيقة ابن عمر وإن تكلّف علاقات حسنة في الظاهر مع وجوه المعارضة عامّة ومع الإمام الحسين عليه السلام خاصة.

وحقيقة ابن عمر هذه يكشف عنها معاوية لابنه يزيد في وصيته إليه بلا رتوش نفاقية حيث يقول له: «.. فأمّا ابن عمر فهو معك! فالزمه ولاتدعه!» «1».

الأوزاعي .. والنهي عن المسير إلى العراق! ..... ص : 300

روى ابن رستم الطبري في كتابه (دلائل الإمامة) قائلًا:

«حدّثنا يزيد بن مسروق قال: حدّثنا عبدالله بن مكحول، عن الأوزاعي قال:

بلغني خروج الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام الى العراق، فقصدتُ مكّة فصادفته بها، فلمّا رآني رحّب بي وقال: مرحباً بك يا أوزاعي، جئت تنهاني عن المسير،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 301

وأبى اللّه عزّ وجلّ إلّا ذلك، إنّ من هاهنا الى يوم الاثنين منيّتي (مبعثي)!.

فسهدتُ في عدّ الأيّام، فكان كما قال!» «1».

تُرى من هو هذا الأوزاعيّ الذي أهمّه أمر الإمام الحسين عليه السلام حتى قصد مكّة لينهاه عن المسير الى العراق؟ وما هو دافعه في ذلك؟

وما معنى قول الإمام عليه السلام:

«إنّ من هاهنا الى يوم الإثنين منيّتي (مبعثي)!»؟

أمّا من هو هذا الأوزاعي؟ فانّ هناك جماعة من الرجال عُرفوا بهذا اللقب «2» لكنّ الاحتمال الأقوى هو أنّ المراد بهذا الأوزاعيّ: أبوأيّوب، مغيث بن سمّي

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 302

الأوزاعي: الذي يُقال إنه أدرك زهاء ألفٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله، «1» وقد روى عن ابن الزبير وابن عمر، وابن مسعود، وكعب الأحبار، وأبي هريرة، وهو من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وقد وثّقه ابن حبّان، وأبوداود، ويعقوب بن سفيان. «2» ولكن لم يرد له ذكر في كتبنا الرجالية على ما حقّقنا.

أمّا ما هو دافعه في التحرّك حتى قصد مكّة لينهى الامام عليه السلام عن المسير الى العراق، فذلك ممّا لا نستطيع أن نحدّده من متن الرواية- ومن عدم معرفتنا بتأريخ هذا الرجل وسيرته- إلّا أنّ ترحيب الامام عليه السلام به قد يكشف عن أنّ هذا الأوزاعي كان مشفقاً على الإمام عليه السلام من القتل في مسيره الى العراق، وإن كان ظاهر النصّ صريحاً في أنه كان ناهياً لا ناصحاً!

وأما ما هو المراد من قوله عليه السلام: «إنّ من هاهنا الى يوم الإثنين منيّتي (مبعثي)!»، فلا يخفى على المتأمّل أنّ فيه غموضاً وتشابهاً! فهل أراد الإمام عليه السلام أن يقول للأوزاعي إنّ لك أن تعدَّ مِن هذه الساعة الى يوم الاثنين الذي أُقتلُ فيه!؟ ولذا يقول الأوزاعي: فسهدتُ (اي سهرتُ) في عدّ الأيام فكان كما قال! وعلى هذا يكون الإمام عليه السلام قد قُتل في يوم الإثنين! وهذا مالا يتّفق مع المأثور أنّ يوم عاشوراء كان يوم الجمعة أو يوم السبت. «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 303

أم أنّ الإمام

عليه السلام اراد أن يقول للأوزاعي: إننّي باقٍ في مكّة الى يوم الإثنين، وبعده (أي يوم الثلاثاء) يكون مبعثي الى العراق، أي سفري إليه!؟

ونرى أنّ هذا هو الأقوى احتمالًا، لأنّ الإمام عليه السلام قد خرج من مكّة بالفعل يوم الثلاثاء بدليل قول الإمام عليه السلام نفسه في رسالته الأخيرة التي بعثها الى أهل الكوفة مع قيس بن مسهّر الصيداوي (رض) حيث يقول فيها: «.. وقد شخصت إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجّة يوم التروية ..». «1»

وعلى أساس هذا التقويم يكون يوم عاشوراء الجمعة إذا كان ذو الحجة تسعة وعشرين يوماً، أو السبت إذا كان ثلاثين يوماً، وهذا ما يتّفق مع المأثور بصدد يوم عاشوراء.

عمر بن عبدالرحمن المخزومي .. والنصيحة الصائبة! ..... ص : 303
اشارة

روى الطبري عن عمر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي أنه قال: «لمّا تهيأ الحسين عليه السلام للمسير الى العراق أتيته، فدخلت عليه، فحمدت الله وأثنيتُ عليه، ثمّ قلت: أمّا بعدُ، فإنّي أتيتك يا ابن عم لحاجة أريد ذكرها نصيحة، فإن كُنتَ ترى أنّك تستنصحني وإلّا كففتُ عمّا أريد أن أقول!

فقال الحسين عليه السلام:

قلْ، فوالله ما أظنّك بسيّ الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل!

فقال: إنه قد بلغني أنّك تريد المسير الى العراق، وإني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 304

لهذا الدرهم والدينار! ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحبّ إليه ممن يقاتلك معه!!

فقال الحسين عليه السلام: جزاك الله خيراً يا ابن عمّ، فقد والله علمتُ أنك مشيتَ بنصح وتكلّمت بعقل، ومهما يُقضَ من أمرٍ يكنْ، أخذتُ برأيك أو تركته، فأنت عندي أحمد مشير وأنصح ناصح!». «1»

تأمّل وملاحظات: ..... ص : 304

1)- هذه المحاورة كاشفة عن منزلة حسنة جداً لعمر بن عبدالرحمن المخزومي عند الإمام عليه السلام حيث أثنى عليه ثناء رائعاً في قوله عليه السلام: «قُلْ، فو الله ما أظنّك بسي ء الرأي، ولا هو للقبيح من الأمروالفعل!»، وفي تعبير آخر: «ما أنت ممّن يُستغشّ ولايُتّهم، فقلْ»، «2» وفي تعبير آخر: «قُلْ، فوالله ما أستغشّك، وما أظنّك بشي ء من الهوى!»، «3» وقال له في ختام هذه المحاورة «فأنت عندي أحمدُ مشير وأنصح ناصح!»، وفي تعبير آخر: «ولم تنطق عن هوى!»، «4» وجميع ذلك كاشف عن متانة هذا المخزومي وصدقه وحبّه للإمام الحسين عليه السلام.

ولم يرد لعمر بن عبدالرحمن المخزومي هذا ذكر في كتبنا الرجالية، لكنّه معدود من رجال الصحاح الستّة، وأحد

الفقهاء السبعة بالمدينة، وحدّث عن عمّار بن ياسر، وأمّ سلمة، وعائشة، وأبي هريرة، ومروان ... وقد استصغر يوم الجمل فرُدَّ، وعن ابن سعد: أنه ولد في خلافة عمر، ومات سنة الفقهاء، وقيل سنة خمس

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 305

وتسعين، «1» وكان يُقال له راهب قريش لكثرة صلاته، وكان مكفوفاً، وهو من سادات قريش. «2»

2)- إنّ المشورة التي قدّمها عمر بن عبدالرحمن المخزومي تشبه تماماً في مبناها مشورة لابن عبّاس (رض) «3» وأخرى لعمرو بن لوذان في هذا الصدد، «4» ويتلخّص مبني هذا المشورات الثلاث في أنّ الصحيح أن يتحرّك أهل الكوفة عملياً قبل توجّه الإمام عليه السلام إليهم، فيثوروا على السلطة في الكوفة، وينفوا عمّال يزيد وأتباعه، ويسيطروا على الأوضاع فيها، وعندها يتوجّه الامام عليه السلام إليهم، وهذا هو الرأي الصواب عندهم! ولكن على أساس منطق الفتح القريب والنصر الظاهري وتسلّم الحكم، ومن هنا نجد الإمام عليه السلام لايُخطّي هذه المشورات، بل نراه يثني على أصحابها، ومع هذا يخالفها ولايعمل بها، لأنه كان يتحرّك على أساس منطق آخر هو منطق (الفتح بالشهادة)! الفتح المبين العميق الشامل الدائم الذي يحفظ الإسلام المحمديّ الخالص نقيّاً من كلّ الشوائب الى قيام الساعة.

3)- ربّما يُقال: إنّ ما ورد في متن هذا الخبر من قول المخزومي: «لمّا تهيّأ الحسين عليه السلام للمسير الى العراق ..» لايدلّ بالضرورة على أنّ هذا اللقاء قد تمَّ في مكّة، لأنّ هناك روايات لبعض اللقاءات مع الإمام عليه السلام حملت مثل هذه الإشارات مع أنَّ المؤكّد أنها تمّت في المدينة، كلقائه عليه السلام مع أم سلمة (رض)، فهل ثمّ دليل آخر على أنّ لقاءه عليه السلام مع المخزوميّ تمّ في مكّة؟

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 306

فنقول: لم

ينتشر خبر عزم الإمام عليه السلام على السفر الى العراق إلّا في أواخر أيّام مكثه في مكّة المكرمة، وحينما كان الإمام عليه السلام في المدينة المنوّرة لم يكن قد أطّلع أحدٌ على نيّته في التوجّه الى العراق سوى خاصة الخاصة كمثل محمّد بن الحنفية (رض) وأمّ سلمة (رض)، وأمّا غير هؤلاء الخواصّ فإنّ الإمام عليه السلام غالباً ما كان يشير إليهم أنه متوجّه الى مكّة في أيامه تلك ثمّ يستخير الله في أمره، وعليه فإنّ أمثال عمر المخزوميّ هذا لم يكونوا على علم بنيّة الامام عليه السلام في التوجّه الى العراق منذ البدء.

هذا فضلًا عن أنّ لهذا الخبر تتمة- في رواية الطبري- على لسان المخزومي أنه «قال: فانصرفت من عنده، فدخلت على الحارث بن خالد بن العاص «1»- والي مكّة- فسألني: هل لقيتَ حسيناً؟ فقلت له: نعم.

فقال: فما قال لك، وما قلت له؟ قال: فقلت له: قلتُ كذا وكذا، وقال كذا وكذا.

فقال: نصحته وربّ المروة الشهباء! أما وربّ البنيّة إنّ الرأي لما رأيته، قَبِلَه أو تركه ..»، «2» وفي هذا دلالة كافية على أنّ هذا اللقاء كان قد حصل في مكّة المكرّمة.

لقاء جابر بن عبدالله الأنصارى (رض) مع الإمام عليه السلام ..... ص : 306

روى ابن كثير خبراً مرسلًا أنّ جابر بن عبدالله الأنصاري (رض) «3» كان قد

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 307

التقى الإمام عليه السلام وكلّمه ليردّه عن القيام والخروج على يزيد: «قال جابر بن عبدالله: كلّمتُ حسيناً، فقلت: إتّق الله، ولاتضرب الناس بعضهم ببعض، فوالله ماحمدتم ما صنعتم. فعصاني!».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 308

ولايخفى على ذي أدنى معرفة بجابر بن عبدالله الانصارى (رض) أنّ أصل اللقاء هذا إذا كان محتملًا، فلا سبيل إلى احتمال محتواه! لأنه بعيد كلّ البعد أن تصدر مثل هذه الجسارة على الامام عليه

السلام ومثل سوء الأدب هذا عن هذا الصحابي الجليل القدر العارف بحق أهل البيت عليهم السلام!

والظنّ قويّ جداً في أن يكون محتوى هذا الخبر من مفتعلات مرتزقة الإعلام الأموي من أجل الإساءة الى النهضة الحسينية وتخطئتها!

وممّا يؤيد كون هذا الخبر من الموضوعات أنّ ابن كثير أورده مرسلًا دون أن يذكر له طريقاً.

نعم، روى عماد الدين أبو جعفر محمد بن عليّ الطوسي «1» المعروف بابن حمزة في كتابه «الثاقب في المناقب» لقاءً لجابر الأنصاري (رض) مع الامام عليه السلام يفوح منه عطر حسن الأدب في مخاطبة الامام عليه السلام، والمعرفة بحقّ أهل البيت عليهم السلام، والصدق في موالاتهم ومحبّتهم والتشيّع لهم:

«عن جابر بن عبدالله (رض) قال: لمّا عزم الحسين بن عليّ عليهما السلام على الخروج الى العراق، أتيته فقلت له: أنت ولد رسول الله صلى الله عليه و آله، وأحد سبطيه، لا أرى إلّا أنّك تصالح كما صالح أخوك الحسن عليه السلام، فإنه كان موفّقاً راشداً.

فقال لي عليه السلام:

يا جابر، قد فعل أخي ذلك بأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله، وإنّي أيضاً أفعل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 309

بأمر الله تعالى ورسوله، أتريد أن أستشهد لك رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعليّاً وأخي الحسن عليهما السلام بذلك الآن!

ثمّ نظرتُ، فاذا السماء قد انفتح بابها، واذا رسول الله صلى الله عليه و آله وعليّ والحسن عليهما السلام وحمزة وجعفر وزيد، «1» نازلين عنها حتّى استقرّوا على الأرض، فوثبت فزعاً

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 310

مذعوراً!

فقال لي رسول الله صلى الله عليه و آله:

يا جابر، ألم اقل لك في أمر الحسن قبل الحسين، لاتكون مؤمناً حتّى تكون لأئمتّك مسلّماً ولاتكون معترضاً، أتريد أن ترى مقعد معاوية، ومقعد

الحسين ابني، ومقعد يزيد قاتله لعنه اللّه؟

قلت: بلى يا رسول الله!

فضرب برجله الأرض فانشقّت، وظهر بحر فانفلق، ثم ضرب فانشقّت هكذا حتى انشقّت سبع أرضين، وانفلقت سبعة أبحر، فرأيتُ من تحت ذلك كلّه النار فيها سلسلة قُرن فيها الوليد بن المغيرة وأبوجهل ومعاوية الطاغية ويزيد، وقُرن بهم مردة الشياطين، فهم أشدّ أهل النار عذاباً.

ثم قال صلى الله عليه و آله: إرفع رأسك!

فرفعتُ فإذا أبواب السماء مفتّحة، وإذا الجنّة أعلاها! ثم صعد رسول الله صلى الله عليه و آله ومن معه الى السماء، فلمّا صار في الهواء صاح بالحسين: يا بُنيّ إلحقني. فلحقه الحسين وصعدوا حتى رأيتهم دخلوا الجنّة من أعلاها!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 311

ثم نظر إليَّ من هناك رسول الله صلى الله عليه و آله، وقبض على يد الحسين عليه السلام وقال: يا جابر، هذا ولدي معي ها هنا، فسلّم له أمره ولاتشكّ لتكون مؤمناً.

قال جابر: فعميت عيناي إن لم أكن رأيتُ ما قُلت من رسول الله صلى الله عليه و آله.». «1»

لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء! ..... ص : 311
اشارة

روى ابن رستم الطبري (ره) قائلًا: «حدّثنا أبو محمّد سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن الأعمش، قال: قال لي أبو محمّد الواقدي وزرارة بن جلح:

لقينا الحسين بن عليّ عليهما السلام قبل أن يخرج الى العراق بثلاث ليالٍ، فأخبرناه بضعف الناس في الكوفة، وأنَّ قلوبهم معه وسيوفهم عليه! فأومأ بيده نحو السماء ففتحت أبواب السماء، ونزل من الملائكة عدد لايحصيهم إلّا الله، وقال:

«لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولكن أعلمُ علماً أنّ من هناك مصعدي، وهناك مصارع أصحابي، لاينجو منهم إلّا ولدي عليٌّ!.». «2»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 311

1)- من هو هذا الواقدي في سند هذه الرواية؟ ومن هو زرارة هذا؟

أمّا الواقدي، فإن كان هو محمّد بن عمر بن واقد، أبو عبدالله الأسلمي المدني

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 312

الواقدي، فولادته سنة عشرين بعد المائة، فهو لم يدرك عصر الحسين عليه السلام! «1»

وإن كان هو واقد بن عبدالله التميمي الحنظلي، فقد توفي أيام عمر بن الخطاب، «2» فهو لم يدرك أيضاً أيّام النهضة الحسينية عام ستين للهجرة!

وأمّا زرارة، فهو مهمل سواء كان ابن خلج او حلح (كما في دلائل الإمامة) أو صالح!

وعن النمازي في مستدركات علم الرجال: أنّ ابن خلج من أصحاب الحسين عليه السلام ورأى معجزته وإخباره إيّاه بشهادته وشهادة أصحابه، وأمّا ابن صالح فقد تشرّف بلقاء الحسين عليه السلام قبل خروجه الى العراق بثلاثة أيام! «3»

لكنّ النمازي (ره) لم يأتِ بأكثر مما في رواية الطبري، ولم يخرج زرارة هذا عن الجهالة والإهمال!

وربما كان في السند حذف وإرسال، وكان اللذان التقيا بالإمام عليه السلام هما غير الواقدي وزرارة، وقد حُذف إسماهما، والله العالم.

2)- في متن هذه الرواية صورة من صور الإرادة والقدرة التكوينية التي يتمتع بها الإمام المعصوم عليه

السلام، وهذا من صلب اعتقاداتنا، فالإمام عليه السلام إذا أشار الى جبل لزال من مكانه، كما في الحديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام، «4» وأنّ الكون-

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 313

أعمّ من العالم العلويّ والسفلي- تحت تصرف الإمام عليه السلام تفضّلًا من الله تبارك وتعالى، والأئمّة عليهم السلام مختلف الملائكة، تتنزّل عليهم وتطوف بهم، وأمّا في نهضة الإمام أبي عبدالله الحسين عليه السلام فقد نزلت إليه أفواج من الملائكة في طريقه من المدينة الى مكّة وعرضت عليه استعدادها لنصرته والقتال بين يديه! «1»

أمّا ماهو مراده صلوات الله عليه في قوله: «لولا تقارب الأشياء وحبوط الأجر»؟ فلعلّ من مراده عليه السلام في «تقارب الأشياء»: أنه لو توسّل في تحقيق أهدافه بالخوارق والمعاجز دون الأسباب الطبيعية لتحقّق له ذلك عاجلًا وعلى أحسن وجه- والله غالب على أمره- لكنّ ذلك خلاف للإرادة الإلهية في امتحان الخلق وابتلائهم في مجاري الأسباب والإقتضاءات والعلل الطبيعية العادية، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيَّ عن بيّنة، ولتكون الحجّة البالغة للّه على خلقه، هذا فضلًا عن أنّ الأعمال والإنجازات العظيمة التي يمكن للناس جميعاً أن يتأسّوا بها هي الأعمال والبطولات التي تتمّ في إطار السنن الطبيعية والمجاري العادية المألوفة لا الخوارق والمعاجز- التي لا يُلجأُ إليها إلّا إذا دعت الضرورة إليها- ذلك لأنّ استخدام المعاجز وخوارق العادة ليس ميسوراً لجميع الناس، وامتحان الخلق- في إطار التأسيّ بالقادة الربانيين- إنّما يصح إذا كان الإختبار والتكليف بما يستطيعونه لا بما يعجزون عنه.

ويؤيد هذا قوله عليه السلام لمؤمني الجنّ الذين عرضوا عليه نصرتهم قائلين:

«يا مولانا، نحن شيعتك وأنصارك، فمرنا بما تشاء، فلو أمرتنا بقتل كلّ عدوّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 314

لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك!». «1»

فجزاهّم

خيراً وقال لهم فيما قال:

«.. فإذا أقمتُ في مكاني فبمَ يُمتحن هذا الخلق المتعوس وبماذا يُختبرون!؟ ومن ذا يكون ساكن حفرتي؟ وقد اختارها الله تعالى لي يوم دحا الأرض، وجعلها معقلًا لشيعتنا ومُحبّينا، تقبل أعمالهم وصلواتهم، ويجاب دعاؤهم، وتسكن شيعتنا فتكون لهم أماناً في الدنيا وفي الآخرة ..». «2»

أمّا مراده عليه السلام من «حبوط الأجر» فلا شكّ أنّ الأجر مرتبط بالنيّة ودرجة المشقّة ومستوى أثر العمل، ولا شكّ أن العمل الذي يتمّ بالخوارق والمعاجز ليس كالعمل المتحقق في إطار السنن الطبيعية من حيث درجة المشقّة فيه! كما أنّ الأثر والفتح المترتب على شهادته عليه السلام هو أعظم أثر وفتح متصوَّر من حيث النتائج والبركات المترتبة عليه بالنسبة الى الاسلام والإمة الإسلامية، والإنسان المسلم خاصة، والإنسانيّة عامة! ولعلّ هذا من أسرار قول الرسول صلى الله عليه و آله له عليه السلام: «يا حسين أُخرج! فإنّ الله قد شاء أن يراك قتيلًا!» «3»

و «وإنّ لك في الجنّة درجات لا تنالها إلّا بالشهادة!». «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 315

ولأبي سعيد الخدري مشورة أيضاً ..... ص : 315
اشارة

روى إبن كثير: أنّ أبا سعيد الخدري (ره) لقي الإمام الحسين عليه السلام وحذّره من أهل الكوفة، إذ قال: «جاءه أبوسعيد الخدري فقال: يا أبا عبدالله، إني لكم ناصح، وإني عليكم مشفق، وقد بلغني أنه قد كاتبك قوم من شيعتكم بالكوفة يدعونك الى الخروج إليهم، فلا تخرج إليهم! فإني سمعتُ أباك يقول بالكوفة: والله لقد مللتهم وأبغضتهم وملّوني وأبغضوني! وما يكون منهم وفاء قطّ! ومن فاز بهم فاز بالسهم الأخيب، والله مالهم نيّات ولا عزم على أمرٍ، ولا صبرٌ على السيف!.». «1»

وروى ابن كثير أيضاًنصّاً آخر عن لسان أبي سعيد الخدري (ره) أنه قال:

«غلبني الحسين على الخروج، وقلت له: إتّقِ

اللّه في نفسك! والزم بيتك ولاتخرج على إمامك!!». «2»

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 315

1)- هذان النصّان لم يرد أيّ ذكر لهما في التواريخ الشيعية، فهما سنيّا المنبع، وإذا كان المتأمّل لايجد بأساً في قبول النصّ الأوّل مع ما فيه من بعض الهنات، فإنه يقف ذاهلًا متحيّراً في دهشته إزاء النصّ الثاني لأنه يشبه تماماً في محتواه- من حيث الجسارة وسوء الأدب في مخاطبة الإمام عليه السلام- خطابات قتلة الإمام عليه السلام الذين تالّبوا وتآزروا على قتله في كربلاء! أمثال شمر وعزرة بن قيس وغيرهم من مسوخ هذه الأمة! الذين اتهموا الإمام عليه السلام بالخروج على (إمامهم!) يزيد.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 316

ولذا فالمتأمّل المنصف العارف لايتردد في- بل يقطع- أنّ النصّ الثاني من مكذوبات مرتزقة الإعلام الأمويّ أعداء أهل البيت عليهم السلام ليزيّنوا للسذّج من هذه الأمّة أنّ جمعاً من صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله ذوي المكانة المرموقة قد أنكروا على الإمام الحسين عليه السلام خروجه وقيامه، واتهموه بشقّ عصا الطاعة وتفريق كلمة الأمة! فهذا نصّ مفترى على أبي سعيد الخدري (ره)، ومرّ بنا من قبل هذا نصٌ مفترىً آخر على جابر بن عبدالله الأنصاري (ره)، والأمثلة كثيرة!

2)- ولكي يطمئنّ القاري ء تماماً إلى أنّ هذا النصّ مكذوب على أبي سعيد ومفترىً عليه، يحسن هنا أن نقدّم صورة مباركة موجزة عن هذا الصحابي الجليل العارف بحقّ أهل البيت عليهم السلام، المتأدّب في محضر من شهد منهم:

إنّه سعد بن مالك بن سنان الخزرجي، من مشاهير أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله ونجباء الأنصار وعلمائهم، شهد مع رسول الله صلى الله عليه و آله إثنتي عشرة غزوة أوّلها الخندق، وتوفي عام 64 أو 74. «1»

وولاؤه لأمير المؤمنين عليّ

عليه السلام معروف، فهو من السابقين الذين رجعوا اليه، ورواياته في فضائل عليّ عليه السلام كثيرة، وكذلك رواياته عن النبيّ صلى الله عليه و آله في فضائل وأسماء الأئمة الاثني عشر عليهم السلام. «2»

كما ورد عن الامام الصادق عليه السلام في مدحه أنّه «رُزق هذا الأمر، وكان مستقيماً». «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 317

كما ذكره الإمام الرضا عليه السلام ضمن من لم يتغيّروا ولم يبدّلوا، «1» فهو من الذين تجب ولايتهم، والمستفاد من هذا وثاقته وجلالته.

هذا وقد مدحه علماء الرجال والتراجم:

فقد قال فيه الشيخ عبّاس القميّ (ره): «كان من السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين، وكان من اصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله، وكان مستقيماً.». «2»

وذكر السيّد الخوئي (ره) إطراء الرجاليين وثناءهم عليه ولم يذكر أي قدح فيه أو ذمّ له! «3»

وقد دافع التستري عنه حينما عدّه المسعودي فيمن تخلّف عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام قائلًا: «إلّا أنه بعد اتفاق أخبارنا على استقامته وقوله بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام وجب القول إمّا باستبصاره بعدُ، أو باشتباه المسعودي وأنه رأى تخلّف سعد بن مالك- أي سعد بن أبي وقّاص- فتوّهمه الخدري!- فكلٌّ منهما سعد بن مالك.». «4»

2)- قد ينقدح في ذهن المتأمّل سؤال حول سرّ عدم إلتحاق أبي سعيد بالإمام عليه السلام مع ماله من معرفة بحقّ أهل البيت عليهم السلام وولائه لهم؟

وهل يمكن القول: إنّ ذلك لايضرُّ بحسنه واستقامته!؟

قال النمازي: «ولانعلمُ علّة عدم حضوره لنصرة الحسين عليه السلام، فلا يضرُّ ذلك

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 318

في حسنه واستقامته». «1»

وقال المامقاني: «إنّ بعض الأواخر قد استشكل في حسن عاقبة الرجل بكونه لم يشهد مع الحسين عليه السلام طفّ كربلاء، مع أنّه ممن سمع رسول الله

صلى الله عليه و آله يقول:

الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة. وهذا إشكال واهٍ ضعيف، إذ لم يُحرز علمُه بخروجه عليه السلام الى كربلاء! ولا عُلِمَ عدم عذره لو كان عالماً، وليس كلّ متخلف عنه عليه السلام هالكاً، نعم لاينال تلك الدرجات الرفيعة المعدّة لأصحابه، وقد نبّهنا على ذلك في فوائد المقدّمة.». «2»

كلام المامقاني (ره) في الفائدة السادسة والعشرين: ..... ص : 318

ويحسن هنا أن نقرأ ماقاله المامقاني (ره)، في الفائدة السادسة والعشرين:

قال (ره): «إذا ثبت حسنُ حال الرجل أو عدالته وثقته، لم يمكن المناقشة في ذلك بحياته في زمان وقعة الطفّ وتركه الحضور لنصرة سيّد المظلومين عليه السلام، ضرورة أنّ عدم الحضور فعل مجمل لايحمل على الفاسد إلّا إذا احرز فيه جهة الفساد.

وسبب الحمل على الصحة في ذلك واضح لائح، ضرورة أنّ الرجل إن كان كوفياً فإنّ ابن زياد قد حبس أربعمائة وخمسين رجلًا من الشيعة والموالين حتى لايحضروا النصرة! فلعلّ الرجل كان فيهم.

وأيضاً فقد صدَّ على الطرق حتى لايصل أحدٌ الى كربلاء!

ومن حضر الطفّ: بين من كان معه، ومن خرج في عسكر ابن سعد ولمّا بلغ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 319

كربلاء انصرف الى الحسين عليه السلام.

ولعلّ من لم يحضر لم يلتفت إلى إمكان هذه المكيدة الحسنة: أعني الخروج بعنوان عسكر ابن سعد واللحوق في كربلاء بالحسين عليه السلام.

وإن كان الرجل من غير أهل الكوفة فلأنه مضافاً الى رصد الطرق، لم تطل المُدَّة ولم يمهل ابن زياد حتى يبلغهم الخبر، فإنّ أسباب وصول الخبر يومئذٍ من البريد والبرق لم يكن متهيئاً، ورصد الطرق أوجب تأخير وصول الخبر، ولذا لم يدر الأغلب بالوقعة إلّا بعد وقوعها، فعدم الحضور غير قادح في الرجل بعد إحراز وثاقته أو حسن حاله، إلّا إذا ثبت علمه بالحال وقدرته على

الحضور وتخلّفه عنه كما لايخفى.

وأمّا المتخلّفون عنه عند حركته من المدينة، فلأنّ الحسين عليه السلام حين حركته وإن كان يدري هو وجمع من المطّلعين على إخبار النبيّ الأمين بمقتضى خبره صلى الله عليه و آله أنه يستشهد بالعراق إلّا أنّه في ظاهر الحال لم يكن ليمضي الى الحرب حتى يجب على كلّ مكلّف متابعته، وإنّما كان يمضي للإمامة بمقتضى طلب أهل الكوفة، فالمتخلّف عنه غير مؤاخذ بشي ء! وإنّما يؤاخذ لترك نصرته من حضر الطفّ او كان قريباً منه على وجه يمكنه الوصول إليه ونصرته، ومع ذلك لم يفعل وقصّر في نصرته، فالمتخلّفون بالحجاز لم يكونوا مكلّفين بالحركة معه حتى يوجب تخلّفهم الفسق، ولذا فإنّ جملة من الأخيار الأبدال الذين لم يكتب الله تعالى لهم نيل هذا الشرف الدائم بقوا في الحجاز، ولم يتأمّل أحدٌ في عدالتهم كابن الحنفية وأضرابه!». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 320

مناقشة كلام المامقاني (ره) ..... ص : 320

1)- إنّ الإخبارات الكثيرة التي أُثرت عن النبيّ صلى الله عليه و آله، وعن أمير المؤمنين عليه السلام، (ومنها قليلٌ عن الحسن عليه السلام)، وعن الحسين عليه السلام نفسه، كانت قد شخّصت زمان استشهاده عليه السلام، ومكان الوقعة التي يستشهد فيها، بل وشخّصت الحاكم الآمر بقتله عليه السلام وهو يزيد، وأمير جيشه عمر بن سعد، بل وشخّصت حتى صفة القاتل المباشر للذبح شمر بن ذي الجوشن، وكانت هذه الإخبارات على كثرتها ووفرة تفصيلاتها قد انتشرت في أوساط الصحابة خاصة وفي كثير من أوساط الأمّة عامة، فمن البعيد ألّا يكون المخلصون من الصحابة (فضلًا عن سواهم من الصحابة الذين كانوا يعملون في خطّ حركة النفاق) قد علموا- أو توقّعوا على الأقلّ- أنّ الإمام عليه السلام في خروجه من المدينة ثمّ في خروجه

من مكّة الى العراق ماضٍ إلى حرب وقتال! نعم، قد يُعذر المتخلّفون عنه عند خروجه من المدينة بأنهم ربّما لم يعلموا بخروجه لأنّ خروجه من المدينة تمّ بسرعة ولم يعلم به إلّا المقرّبون منه عليه السلام، أو لأنهم لم يكونوا آنذاك في المدينة، ولكن ما عذرهم في عدم الالتحاق به عليه السلام في مكّة وقد أقام فيها ما يقرب من مائة وخمسة وعشرين يوماً!؟ خصوصاً وأنه قد شاع في أواخر تلك الأيام بين الناس في الحجاز أنّ أهل الكوفة قد كاتبوه وأنه عليه السلام عازم على التوجّه الى العراق، بما يكفي لمن يُريد الإلتحاق به أن يلتحق به حتى وإن تحرّك إليه من المدينة.

2)- من هنا وجب أن نبحث عن عذر كلّ واحدٍ من هؤلاء المخلصين في تخلّفه عن الإلتحاق بالامام عليه السلام على حدة، فإن علمنا عذره في عدم إلتحاقه بالامام عليه السلام فبها ونعمت، وإن علمنا بأنه لا عذر له في تخلّفه وانّه قصّر عن نصرة الإمام عليه السلام وقعد عن الجهاد معه عمداً فلا يمكننا حينذاك أن نقول بحسنه وعدالته، وإن لم نعلم بعذره أو عدم عذره استصحبنا حسن حال الرجل أو عدالته

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 321

ووثاقته إذا ثبت ذلك من مجموع تأريخ سيرته، خصوصاً إذا أثنى عليه السلام الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام أو أحد ممن جاء من بعده من الأئمة عليهم السلام.

3)- لم ينجُ أحدٌ من أعلام الأمّة ممن بقي في الحجاز ولم يلتحق بالإمام عليه السلام من التأمّل في عدالته من خلال التساؤل عن سرّ عدم التحاقه، ولعلّ أكثر من تعرّضوا للتأمّل في عدالتهم المتخلّفين من بني هاشم، كابن عبّاس وابن جعفر وابن الحنفيّة، ولعلّ الأخير

أكثر المتعرضين لهذا التأمّل منذ أيّام الأئمة عليهم السلام «1» وإلى الآن، مع أنّ المأثور أنّ ابن الحنفيّة (رض) أقعده وأعجزه المرض عن الإلتحاق بالإمام عليه السلام، وورد أنّ ابن جعفر كان مكفوفاً، وتحقّق عندنا أنّ ابن عبّاس (رض) كان عذره في كونه مكفوفاً أو ضعيف البصر جدّاً آنذاك. «2»

فالأمر ليس كما ذهب إليه المامقاني (ره) بقوله: «.. ولم يتأمّل أحدٌ في عدالتهم كابن الحنفية وأضرابه!».

4)- أمّا فيما يتعلّق بأمر أبي سعيد الخدري (ره)، فقد وردت روايات عن الإمامين الصادق والرضا عليهما السلام تثني عليه وتمدحه، كقول الإمام الصادق عليه السلام فيه:

«رُزق هذا الأمر، وكان مستقيماً» «3»

، وعدّه الإمام الرضا عليه السلام فيمن لم يُغيّروا ولم يبدّلوا، وهذا يكفي في الإطمئنان الى حسن حاله ووثاقته وعدالته.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 322

رسالة المسْور بن مخرمة ..... ص : 322
اشارة

روى ابن عساكر أنّ المسور بن مخرمة كتب الى الإمام الحسين عليه السلام رسالة يقول فيها: «إيّاك أن تغترَّ بكتب أهل العراق، ويقول لك ابن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك! إيّاك أن تبرح الحرم، فإنّهم إن كانت لهم بك حاجة فسيضربون إليك آباط الإبل حتّى يوافوك! فتخرج في قوّة وعدّة.». «1»

«فجزّاه الحسين خيراً وقال: أستخير الله في ذلك!». 2

تأمّلٌ وملاحظات: ..... ص : 322

1)- إنّ محتوى هذه الرسالة كاشف عن أنّ المسور بن مخرمة بعث بها إلى الامام عليه السلام في مكّة، بدليل قوله: «إيّاك أن تغترّ بكتب أهل العراق! ويقول لك ابن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك!»، ذلك لأن كتب أهل الكوفة لم تصل إلى الامام عليه السلام إلّا في مكّة، كما أنّ ابن الزبير لم يُشر على الامام عليه السلام بالتوجّه الى العراق إلّا في مكة المكرّمة، هذا فضلًا عن الدليل الواضح في قوله: «إيّاك أن تبرح الحرم!».

2)- صاحب هذه الرسالة هو المسور بن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري، وأمّه عاتكة أخت عبدالرحمن بن عوف وهي زهرية أيضاً، ولد بعد الهجرة بسنتين، وكان من صغار الصحابة، قدم دمشق بريداً من عثمان يستصرخ معاوية، وكان ممن يلزم عمر بن الخطّاب ويحفظ عنه، وقد انحاز الى مكّة مع ابن الزبير وسخط إمرة يزيد، وقد أصابه حجر منجنيق في الحصار فبقي ايّاماً ومات، وكانت

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 323

الخوارج تغشاه وتنتحله. «1»

وأمّا عندنا فهو مجهول، وذكر السيّد الخوئي (ره) أنّ الشيخ عدّه في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله تارة، وأخرى في أصحاب عليّ عليه السلام قائلًا: المسور بن مخرمة كان رسوله عليه السلام الى معاوية، «2» وقد روى الشيخ الطوسي رحمه الله في الأمالي رواية يُشَمُّ منها ضعف

المسور بن مخرمة، «3» ونقل القرشيّ عن كتاب الإصابة أنه كان من أهل الفضل والدين، «4» كما نقل الأميني (ره) عن كتاب أنساب الأشراف قائلًا:

«وكان مسور بن مخرمة الصحابيّ ممّن وفد الى يزيد، فلمّا قدم شهد عليه بالفسق وشرب الخمر، فكُتب الى يزيد بذلك، فكتب الى عامله يأمره أن يضرب مسوراً الحدَّ، فقال أبوحرّة:

أيشربُها صهباء كالمسكِ ريحها أبوخالد، والحدَّ يُضربُ مسورُ» «5»

3)- قد يُستفاد من بعض الأقوال التي أوردناها في النقطة الثانية أنّ المسور بن مخرمة كان عمريّ الميْل عثماني الهوى، كما قد يُستفاد من نقل الشيخ (ره) أنه كان رسول عليٍّ عليه السلام إلى معاوية، ومن رواية البلاذري أنه شهد على يزيد بالفسق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 324

وشرب الخمر، ومن قول الذهبي أنه سخط إمرة يزيد، أنّ المسور بن مخرمة ربّما كان ذا شي ء من التدين، وعلى هذا يحتمل أنه كتب رسالته الى الامام عليه السلام بدافع الشفقة والخوف عليه من غدر أهل الكوفة، ويساعد على هذا الإحتمال ما ورد في آخر رواية ابن عساكر أنّ الإمام عليه السلام جزّاه خيراً، هذا على فرض صحة الرواية أصلًا!!

كما يظهر من متن الرسالة أنّ المسور كان عارفاً بمكر ابن الزبير حيث يقول:

«ويقول لك ابن الزبير: إلحق بهم فإنّهم ناصروك!» لكنّ العجيب أنّ الذهبي يذكر أنه انحاز بعد ذلك إلى مكّة مع ابن الزبير، وقتله حجر منجنيق أصابه في الحصار!

رسالة عمرة بنت عبدالرحمن ..... ص : 324
اشارة

وروى ابن عساكر أيضاً قائلًا: «وكتبت إليه عمرة بنت عبدالرحمّن، تعظّم عليه ما يريد أن يصنع [من إجابة أهل الكوفة]، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة! وتخبره أنّه إنّما يُساق الى مصرعه وتقول: اشهد لحدّثتني عائشة أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: يُقتل حسين بأرض بابل!.

فلمّا قرأ [الحسين عليه السلام] كتابها قال:

فلابُدَّ لي إذن من مصرعي! ومضى.». «1»

إشارة: ..... ص : 324

عمرة بنت عبدالرحمن بن سعد الأنصارية المدنية، لم يرد لها ذكر في كتبنا الرجالية ولا التراجم، لكنّ كتب السنّة ترجمت لها بإطراء وثناء عليها! فها هو الذهبي يقول فيها: «الفقيهة، تربية عائشة وتلميذتها ... كانت عالمة، فقيهة، حجّة، كثيرة العلم، وحديثها كثير في دواوين الإسلام، توفيت عام ثمان وتسعين.». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 325

ويُغنينا قول الذهبي فيها إنها تربية عائشة وتلميذتها عن كلّ تعليق!

ذلك لأنّ كراهية عائشة لأهل البيت عليهم السلام وحقدها عليهم أمر أوضح من الشمس في رابعة النهار، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: «وأمّا فلانة فأدركها رأي النساء وظغن غلا في صدرها كمرجل القين!»، «1»

ولم تتورّع عائشة عن إعلان هذه الكراهية في مواقف كثيرة، وهل ينسى منعها دفن الإمام الحسن عليه السلام إلى جوار جدّه صلى الله عليه و آله وقولها: «تريدون أن تُدخلوا بيتي من لا أهوى ولا أحبّ!» «2» وقولها: «نحّوا ابنكم عن بيتي!». «3»

فإذا كان هذا حال الأستاذة فما حال مريدتها وربيبتها!؟ وهل يُتوقَّع منها غير أن تأمر الإمام عليه السلام بإطاعة يزيد وعدم شقّ عصا الجماعة! والقعود عن أيّ قيام في وجه الطاغوت!

حركة الأمّة في الكوفة ..... ص : 325

كان الكوفيون يكاتبون الإمام الحسين عليه السلام- بعد استشهاد الامام الحسن عليه السلام- باذلين له الطاعة ويدعونه الى القيام والنهضة ضد معاوية، فقد روى البلاذري أنّه:

«لمّا توفي الحسن بن عليّ اجتمعت الشيعة، ومعهم بنو جعدة بن هبيرة بن أبي

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 326

وهب المخزومي، «1» وأمُّ جعدة أمّ هاني بنت أبي طالب، في دار سليمان بن صرد، وكتبوا إلى الحسين كتاباً بالتعزية، وقالوا في كتابهم: إنّ الله قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى، ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 327

المسرورة بسرورك، المنتظرة

لأمرك. وكتب إليه بنو جعدة يخبرونه بحسن رأي أهل الكوفة فيه، وحبّهم لقدومه، وتطلّعهم إليه، وأن قد لقوا من أنصاره وإخوانه من يُرضى هديه ويُطمأنّ إلى قوله، ويُعرف نجدته وبأسه، فأفضَوا إليهم ماهم عليه من شنآن ابن أبي سفيان والبراءة منه، ويسألونه الكتاب إليهم برأيه ...»، «1» وكذلك نقل الشيخ المفيد (ره) عن الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السير أنّهم قالوا: «لمّا مات الحسن عليه السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا إلى الحسين عليه السلام في خلع معاوية، والبيعة له ...» «2» وكان الإمام الحسين عليه السلام في كلّ ذلك يمتنع عليهم، ويذكر لهم أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لايجوز له نقضه حتى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك.

لكنّ الثابت- من قرائن تأريخية عديدة- أنّ نبأ موت معاوية وصل الى أهل الكوفة بعد وصول الامام الحسين عليه السلام إلى مكّة المكرّمة أو وهو في الطريق إليها، ومعنى هذا: أنه لم تصل الى الامام عليه السلام وهو في المدينة- في غضون أيّام إعلانه رفض البيعة ليزيد إلى حين خروجه عنها- أيّة رسالة من أهل الكوفة تُنبي ء عن علمهم بموت معاوية، وعن دعوتهم الإمام عليه السلام إليهم، ولا من أهل مكّة أيضاً، ولا من سواهما. «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 328

أوّل اجتماع للشيعة في الكوفة بعد هلاك معاوية ..... ص : 328

روى الطبري قائلًا: «فلمّا بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية أرجف أهل العراق بيزيد، وقالوا: قد امتنع حسينٌ وابن الزبير ولحقا بمكّة، فكتب أهل الكوفة الى حسين ...»، وروى ايضاً عن أبي مخنف، عن الحجّاج بن عليّ، عن محمّد بن بشر الهمداني «1» قال: «اجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد، «2» فذكرنا هلاك

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 332

معاوية فحمدنا الله عليه.

فقال لنا سليمان بن صرد: إنّ

معاوية قد هلك، وإنّ حسيناً قد تقبّض على القوم ببيعته، وقد خرج الى مكّة، وأنتم شيعته وشيعة أبيه، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإن خفتم الوهل والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه!

قالوا: لا، بل نقاتل عدوّه ونقتل أنفسنا دونه!

قال: فاكتبوا إليه.

فكتبوا إليه: بسم الله الرحمن الرحيم.

لحسين بن عليّ، من سليمان بن صرد، والمسيّب بن نجبة، «1» ورفاعة بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 333

شدّاد، «1» وحبيب بن مظاهر، «2» وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة.

سلام عليك. فإنّا نحمد إليك اللّه الذي لا إله إلّا هو.

أمّا بعدُ: فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزّها وغصبها فيأها وتأمّر عليها بغير رضىً منها، ثمّ قتل خيارها واستبقى

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 334

شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبُعداً له كما بعدت ثمود.

إنه ليس علينا إمام، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولانخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنّك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسلام ورحمة الله عليك.». «1»

رسل الكوفة إلى الإمام عليه السلام ..... ص : 334
اشارة

«ثمّ سرّحوا بالكتاب مع عبدالله بن مسمع الهمداني، «2» وعبدالله بن وال، «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 335

وأمروهما بالنجاء، فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين عليه السلام بمكّة لعشر مضين من شهر رمضان.». «1»

وقال ابن كثير: «فكان أوّل من قدم عليه عبدالله بن سبع الهمداني، وعبدالله إبن وال، ومعهما كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية ..». «2»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 336

وروى ابن الجوزي عن الواقدي صيغة أخرى للرسالة الأولى التي بعث بها أهل الكوفة- ولعلّها رسالة أخرى- قائلًا: «ولمّا استقرّ الحسين بمكّة،

وعلم به أهل الكوفة كتبوا إليه يقولون: إنّا قد حبسنا أنفسنا عليك! ولسنا نحضر الصلاة مع الولاة، فاقدم علينا فنحن في مائة ألف! وقد فشا فينا الجور، وعُمل فينا بغير كتاب اللّه وسنّة نبيّه، ونرجوا أن يجمعنا الله بك على الحقّ، وينفي عنّا بك الظلم، فأنت أحقّ بهذا الأمر من يزيد وأبيه الذي غصب الأمّة فيئها، وشرب الخمر ولعب بالقرود والطنابير، وتلاعب بالدين.

وكان ممّن كتب إليه سليمان بن صُرد والمسيّب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة.». «1»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 337

إشارة: ..... ص : 337

لايخفى على المتأمّل في محتوى الرسائل التي بعث بها أهل الكوفة إلى الإمام عليه السلام، وفي تعبير ابن كثير «ومعهما كتاب فيه السلام والتهنئة بموت معاوية» أنّ جوّاً نفسياً طافحاً بالإبتهاج والفرحة عمَّ الشيعة في الكوفة لموت معاوية، الذي كان قد أذاقهم الويلات في جميع جوانب حياتهم، وجثم على صدورهم سنين عجافٍ طويلة مريرة يخنق أنفاسهم ويحصيها عليهم، ويرصد الشاردة والواردة من حركاتهم، ويجرّعهم مرارة الفقر وعذاب مكابدة حروبه في الداخل والخارج، وكان يُضاعف في فظاعة هذا الكابوس، وفي شوقهم إلى يوم الخلاص منه، أنّهم كانوا كلّما كاتبوا الإمام عليه السلام يدعونه إلى القيام والنهضة ردّ عليهم يوصيهم- لحكمته البالغة- بالتزام الصبر ومواصلة الإنتظار مادام معاوية حيّاً، فلمّا مات معاوية شعر أهل الكوفة وكأنهم أُطلقوا من عقال، وأفاقوا وقد تحرّرت ألسنتهم وأيديهم بعد أن زال عنهم ذلك الكابوس المطبق، فتباشروا فرحاً وتبادلوا التهاني والسرور بموت الطاغية، وأعينهم كقلوبهم تنظر بلهفة إلى ماذا سيفعل الإمام عليه السلام منتظرة إشارته.

لكنّ الصادقين منهم قليل، إذ كان الشلل النفسي ومرض إزدواج الشخصية وحبّ الدنيا وكراهية الموت قد تفشى في حياة هذه الأمة، وكان بدء نشوئه في السقيفة وتعاظم فيما

بعدها، حتى نُكِسَ جُلُّ الناس على رؤوسهم، فصارت قلوبهم مع الإمام عليه السلام وسيوفهم عليه، فكان انقلابهم وتخاذلهم عن مواصلة النهضة مع مسلم بن عقيل عليه السلام، ذلك الإنقلاب الذي يحارفيه المتأمل المتدبّر ويذهل من سهولة وسرعة وقوعه! ثمَّ كانت نكسة هذه الأمّة الكبرى بقتلها الإمام عليه السلام في عاشوراء.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 338

دفعة أخرى من الرُسُل والرسائل! ..... ص : 338

قال الشيخ المفيد (ره): «ولبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب، وأنفذوا قيس بن مسهّر الصيداوي، وعبدالله وعبدالرحمن ابني شدّاد الأرحبي، وعمارة بن عبدالله السلولي، إلى الحسين عليه السلام، ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة، من الرجل، والإثنين، والأربعة ...». «1»

ثمّ دفعة أخرى! ..... ص : 338

قال الشيخ المفيد (ره) أيضاً: «ثمَّ لبثوا يومين آخرين وسرّحوا إليه هاني بن هاني السبيعي «2» وسعيد بن عبدالله الحنفي، «3» وكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليّ عليهما السلام من شيعته من المؤمنين والمسلمين: أمّا بعدُ، فحيَّ هلّا فإنّ الناس ينتظرونك، ولا رأي لهم في غيرك، فالعجل العجل، ثمّ العجل العجل، والسلام.». «4»

ثمّ ما برحت الرسائل تترى على الإمام عليه السلام من أهل الكوفة «يسألونه القدوم عليهم، وهو مع ذلك يتأنّى ولايجيبهم، فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده منها في نُوَبٍ متفرّقة إثنى عشر ألف كتاب.». «5»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 340

ولقد روى السيّد ابن طاووس (ره) نفس الرسالة التي حملها الى الإمام عليه السلام هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبدالله الحنفي، ولكن بتفاوت وإضافة مفصّلة، ويرى السيّد (ره) أنّ هذه الرسالة كانت آخر ما ورد على الإمام عليه السلام من أهل الكوفة، ولعلَّ من الأفضل أن ننقل متن هذه الرسالة أيضاً كما رواها السيد ابن طاووس (ره)، وهي:

«بسم الله الرحمن الرحيم. للحسين بن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام. أمّا بعد: فإنّ الناس ينتظرونك، لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل يا ابن رسول الله، فقد اخضّرت الجنّات، وأينعت الثمار، وأعشبت الأرض، وأورقت الأشجار، فاقدم علينا إذا شئت، فإنّما تقدم على جُند مجنّدة لك، والسلام عليك ورحمة الله وعلى أبيك

من قبلك.». «1»

دور المنافقين في موجة الرسائل: ..... ص : 340

ركب المنافقون والذين في قلوبهم مرض موجة الرسائل التي بعث بها أهل الكوفة إلى الإمام عليه السلام، فشاركوا فيها، أو كتبوا إليه مستقلّين عن غيرهم يدعونه أيضاً الى القدوم عليهم مدّعين الطاعة له والإستعداد لنصرته!

روى السيّد ابن طاووس (ره) أنّ الإمام عليه السلام بعد أن قرأ الكتاب الذي حمله إليه هاني بن هاني وسعيد الحنفي سألهما قائلًا:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 341

«خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب به إليّ معكما؟»

فقالا: يا ابن رسول الله، شبث بن ربعي، وحجّار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، ويزيد بن رويم، وعروة بن قيس، وعمرو بن الحجّاج، ومحمّد بن عمير بن عطارد!». «1»

لكنّ الشيخ المفيد (ره) ذكر أنّ هؤلاء- المنافقين- كتبوا إلى الإمام عليه السلام رسالة مستقلّة عن رسائل غيرهم، فقال: «ثمّ كتب شبث بن ربعي، «2» وحجّار بن أبجر، «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 342

ويزيد بن الحارث بن رويم، «1» وعروة بن قيس، «2» وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 344

ومحمّد بن عمرو التيمي «1»: أمّا بعدُ، فقد اخضّر الجناب، وأينعت الثمار، فإذا شئت فأقبل على جنُدٍ لك مجنّدة.». «2»

التعاطف الكبير مع سفير الحسين عليهما السلام ..... ص : 344

بعد أن عمّت الفرحة الكوفة وشاع أريجُ الإبتهاج فيها لموت معاوية بن أبي سفيان، كان همُّ أكثر أهل الكوفة- بعد أن علموا بامتناع الإمام الحسين عليه السلام عن مبايعة يزيد وارتحاله الى مكّة المكرّمة- استنهاض الإمام عليه السلام للقيام ودعوته الى التوجّه إليهم، فكانت رسائلهم الكثيرة إليه.

ولم تزل قلوبهم وأعينهم ترقب الأنباء القادمة إليهم من مكّة، إذ لعلّ طالعاً بالخير يحمل إليهم نبأ البشرى بقدوم الإمام عليه السلام، أو قدوم نائب عنه يسبقه إليهم، فلمّا أفاقوا ذات يوم على خبر مجي ء مسلم بن عقيل عليه السلام إليهم

ونزوله دار المختار بين ظهرانيهم سفيراً عن الحسين عليه السلام، هبّوا للقائه ولتقديم البيعة

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 345

للإمام عليه السلام على يديه، وكان أقلّ عدد ذكره المؤرّخون لمن بايع مسلماً عليه السلام منهم اثني عشر الفاً.

قال ابن عساكر: «كان مسير الحسين بن علي من مكّة الى العراق بعد أن بايع له من أهل الكوفة إثنا عشر ألفاً على يدي مسلم بن عقيل، وكتبوا إليه في القدوم عليهم ..». «1»

وقال المحقّق المقرّم (ره): «وأقبلت الشيعة يبايعونه حتى أحصى ديوانه ثمانية عشر ألفاً، وقيل بلغ خمسة وعشرين ألفاً.». «2»

وعن ابن نما (ره): «إنّ أهل الكوفة كتبوا إليه: إنّا معك مائة ألف!، وعن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: بايع الحسين عليه السلام أربعون الفاً من أهل الكوفة على أن يحاربوا من حارب ويسالموا من سالم.». «3»

ولاشكّ أنّ هذا العدد سواء في أقلّ تقدير له أو أعلى تقدير حاكٍ عن انتفاضة شعبية وتحرّك جماهيريّ واسع النطاق تأييداً للإمام عليه السلام ورفضاً للحكم الأمويّ، بل يُستفاد من رسالة مسلم بن عقيل عليه السلام إلى الإمام عليه السلام أنّ الكوفة كلّها كانت مع الإمام عليه السلام! فإنَّ نصّ الكتاب: «أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجِّل الإقبال حين يأتيك كتابي هذا، فإنّ النّاس كلّهم معك! ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولاهوى، والسلام.». «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 346

الإجتماع الأوّل مع سفير الإمام عليه السلام ..... ص : 346
اشارة

روى الطبري يقول: «ثم أقبل مسلم حتّى دخل الكوفة، «1» فنزل دار المختار بن أبي عُبيد، وهي التي تُدعى اليوم دار مسلم بن المسيّب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب حسين، فأخذوا يبكون! فقام عابس بن أبي

شبيب الشاكري، «2» فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ فإنّي لا أُخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك منهم! واللّهِ، أحدّثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، واللّه لأُجيبنّكم إذا دعوتم، ولأُقاتلنَّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أريد بذلك إلّا ما عند اللّه!

فقام حبيب بن مظاهر الفقعسي فقال: رحمك الله، قد قضيت ما في نفسك بواجزٍ من قولك! ثمّ قال: وأنا والله الذي لا إله إلّا هو على مثل ما هذا عليه!. ثم قال الحنفيّ مثل ذلك!». «3»

إشارة: ..... ص : 346

لهذه الرواية تتمة تتحدّث عن جوّ آخر غير الجوّ الحماسيّ الحسيني الذي تجلّى في مقالات ومواقف رجال مؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أمثال عابس بن أبي شبيب الشاكري، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وسعيد بن عبدالله الحنفي، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

جوّ آخر يُخفي نفسه- على استيحاء- في الأجواء الحماسية فلا يبين! وإن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 347

كان تأثيره هو التأثير الأقوى والفاعل في تحديد ورسم مواقف أكثر الناس من أهل الكوفة يومذاك، إنه جوّ الشلل النفسي الذي تفشّى في أكثر الناس آنذاك وطغى عليهم حتى تنكّروا لبصائرهم، فاستحبّوا العمى على الهدى، وخالفت أيديهم قلوبهم، فأطاعت سيوفهم من كرهوا! فقتلت أعزَّ من أحبّوا!، وماذاك إلّا للوهن الذي أصابهم حين كرهوا الموت وأحبّوا الحياة الدنيا، فصاروا من خوف الموت في ذلّ! فازدوجوا وتناقض الظاهر مع الباطن فيهم، وكذلك يستحوذ الشيطان على من يؤثر الدنيا على الآخرة!

يقول الحجّاج بن عليّ- الذي يروي عنه أبومخنف قصة هذا الإجتماع-:

فقلت لمحمّد بن بشر- الهمداني الذي كان حاضراً هذا الإجتماع وروى قصّته-:

فهل كان منك أنت قول؟

فقال: أني كنتُ لأُحبُّ أن يُعزّ الله أصحابي بالظفر، وما كنت

لأحبّ أن أُقتلَ، وكرهتُ أن أكذب!! «1»

الكوفة بانتظار الحسين عليه السلام ..... ص : 347

في غمرة التفافها حول مسلم بن عقيل عليه السلام، وعدم مبالاتها بواليها يومذاك النعمان بن بشير الذي ضعف قبال موجة انتفاضة الامّة أو كان يتضعّف!، كانت أعين أهالي الكوفة ترقب طريق القوافل القادمة من الحجاز، وقلوبهم بأيديهم بإنتظار لحظات القدوم المبارك، قدوم الإمام الحسين عليه السلام، ليفرشوا تلك القلوب زرابيَّ مبثوثة على تراب طريق مقدم ابن رسول الله صلى الله عليه و آله.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 348

وذات يوم أبصرت أعين أهل الكوفة رجلًا متلثّماً، معتمّاً بعمامة سوداء، وعليه ثياب يمانية، قادماً وحده، راجلًا ممسكاً بزمام بغلته! فظنّوا أنه الإمام الحسين عليه السلام!- ويالسذاجة هذا الظنّ!- «فقالت إمرأة: اللّه أكبر! ابن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وربِّ الكعبة! فتصايح الناس، وقالوا: إنّا معك أكثر من أربعين ألفاً! وازدحموا عليه حتّى أخذوا بذنب دابّته، وظنّهم أنّه الحسين عليه السلام ..». «1»

فكان لا يمرّ على جماعة من الناس إلّا سلّموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول اللّه! قدمتَ خير مقدم!، وجعل يمرّ بالمحارس، فكلّما نظروا إليه لم يشكّوا أنّه الإمام الحسين عليه السلام! فيقولون: مرحباً بك يا ابن رسول الله! وهو لايكلّمهم! وخرج إليه الناس من دورهم وبيوتهم! يسايرونه طريقه الى قصر الإمارة، وهو لايحييهم ولايكلّمهم!

وسمع النعمان بن البشير بالصخب القادم على الطريق، فأغلق عليه وعلى خاصته القصر! وهو لايشكّ أيضاً أنّ هذا القادم هو الحسين عليه السلام ومعه الخلق يضجّون! ملتفّين حوله، فلمّا انتهى إليه قال له النعمان: أُنشدك اللّه إلّا تنحيّت! فما أنا بمسلّم إليك آمانتي! ومالي في قتالك من أرب!.

والقادم لايكلّمه! حتى دنا وتدلّى النعمان بين شرفتين قريباً جدّاً منه، فقال هذا القادم: إفتح لا

فتحتَ! فقد طال ليلك! فسمعها إنسان كوفيّ خلفه، فانكفأ الى الناس وقد أخذته الدهشة وهو يقول: أي قوم! ابن مرجانة! والذي لا إله غيره! فاندهش الناس، وقالوا- وهم يتشبّثون بظنّهم الساذج-: ويحك إنّما هو الحسين! «2» وفي رواية ابن نما (ره): «.. فحسر اللثام وقال: أنا عبيدالله! فتساقط القوم، ووطي ء

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 349

بعضهم بعضاً، ودخل دار الإمارة ...». «1»

فالقادم إذن لم يكن الإمام عليه السلام، بل كان عبيد الله بن زياد وابن مرجانة لعنهم الله، الوالي الذي أرسلته السلطة الأموية المركزية في الشام بمشورة من سرجون النصرانيّ إلى الكوفة، للسيطرة على طوارى ء حركة الأمّة فيها، لماله من معرفة بخصائص النفسية الكوفية، وخبرة إدارية شيطانية، وقدرة على الظُلم والغشم.

أهل الكوفة .. والمبادرة المطلوبة ..... ص : 349

هناك مجموعة من العوامل والشرائط اللازمة لنجاح أيّ تحرك ثوري يهدف الى تغيير الاوضاع السياسية في بلدٍ ما من البلدان، ينبغي لقيادة هذا التحرّك الإنتباه إليها والعمل على تحقيقها لضمان نجاح هذا التحرّك في الوصول إلى أهدافه المنشودة.

والمتأمّل في تحرّك أهل الكوفة بعد موت معاوية- في رفضهم خلافة يزيد بن معاوية، ومكاتبتهم الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، باذلين له الطاعة، وطالبين منه القدوم إليهم- يرى أنّ هناك مجموعة من الشرائط اللازمة لنجاح هذا التحرّك كان ينبغي لوجهاء وأشراف أهل الكوفة الذين تصدّوا لهذا العمل أن يسعوا إلى تحقيقها وتوفيرها حتّى يُوفَّقَ هذا التحرك وهذه الإنتفاضة في بلوغ الأهداف المنشودة.

ومن أهمِّ واوّل الأمور التي كان ينبغي للعقل الكوفي المعارض أنْ يُعدِّ العدّة لتحقيقه ويستبق الأيّام للقيام به المبادرة إلى السيطرة على الأوضاع في الكوفة قبل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 350

مجي ء الإمام عليه السلام إليها، وذلك مثلًا باعتقال الوالي الأمويّ، وجميع معاونيه وأركان إدارته، ومن عُرف من عيونه

وجواسيسه، ومنع الخروج من الكوفة إلّا بإذن خاص، وذلك لحجب أخبار ما يجري فيها عن مسامع السلطة الأموية أطول مدّة ممكنة من أجل تأخير تحرّكها لمواجهة الإنتفاضة في الكوفة قبل وصول الإمام عليه السلام، حتّى يصل الإمام عليه السلام فيمسك بزمام الأمور ويقود الثورة إلى حيث كامل الأهداف.

والإهتداء الى ضرورة القيام بمثل هذ المبادرة ليس بدعاً من الأمر، أو من الأفكار التي لايهتدي إليها إلّا الأوحديّ من الناس، بل هو من إدراكات الأذهان العامة، ها هو عبدالله بن العبّاس (رض) يتحدّث عن ضرورة القيام بهذه المبادرة قائلًا للإمام عليه السلام: «فإن كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ اقدم عليهم»، «1» وهذا عمر بن عبدالرحمن المخزومي يقول للإمام عليه السلام أيضاً: «إنّك تأتي بلداً فيه عمّاله وأمراؤه، ومعهم بيوت الأموال، وإنّما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار، ولا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره، ومن أنت أحبّ إليه ممّن يُقاتلك معه»، «2» وهذا عمرو بن لوذان يخاطب الإمام عليه السلام قائلًا: «وإنّ هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطّأوا لك الأشياء فقدمت عليهم، كان ذلك رأياً، فأمّا على هذه الحال التي تذكر فإنّي لا أرى لك أن تفعل!». «3»

والإمام عليه السلام لا يُخطَّي ء مقولات هؤلاء، بل يُقرّر عليه السلام أن ذلك من النصح والعقل والرأي! فهو يقول لابن عبّاس: «يا ابن عمّ، إنّي واللّه لأعلم أنك ناصح

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 351

مشفق!»، «1» ويقول للمخزومي: «فقد واللّه علمتُ أنك مشيت بنصحٍ وتكلّمت بعقل!»، «2» ويقول لعمرو بن لوذان: «يا عبدالله، ليس يخفى عليَّ الرأي!». «3»

ومن المُلفت للإنتباه أيضاً أنّه ليس في رسائل الإمام عليه السلام إلى أهل الكوفة ولا

في وصاياه لمسلم بن عقيل عليه السلام ما يمنع أهل الكوفة من القيام بهذه المبادرة التي أقرَّ الإمام عليه السلام أنها من العقل والرأي! بل لقد دعاهم عليه السلام الى القيام مع مسلم عليه السلام، حيث قال عليه السلام في رسالته الأولى إليهم- على رواية ابن أعثم-: «فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه وانصروه ولاتخذلوه!». «4»

وفي رسالته الثانية التي بعثها إليهم بيد قيس بن مسهرّ الصيداوي (رض)- والتي لم تصل إليهم لأنّ ابن زياد كان قد قبض على الرسول- دعاهم الإمام عليه السلام إلى السرعة والعزم على الأمر والجدّ فيه، حيث قال عليه السلام فيها: «فإذا قدم عليكم رسولي فاكمشوا أمركم وجدّوا!»، «5» إذ الكمْشُ في الأمر هو العزم عليه والسرعة فيه! «6»

إذن ما هي علّة عدم مبادرة الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها!؟ مع أنّ فيهم عدداً يُعتدُّ به من رجال ذوي خبرات عريقة في المجالات

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 352

العسكرية والسياسية والإجتماعية! ولاشكّ أنّ التفكير بمثل هذه المبادرة قد طرأ على أذهانهم أكثر من مرّة! فلماذا لم يبادروا!؟

لعلّ الإجابة على هذا السؤال من أصعب ما يواجه المتأمّل في حركة أحداث النهضة الحسينية المقدّسة، ومع هذا فإنَّ من الممكن هنا أن نتحدّث باختصار في أهمّ الأسباب التي أدّت الى عدم مبادرة الشيعة في الكوفة الى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجي ء الإمام عليه السلام إليها، وهي:

1)- لم يكن للشيعة في الكوفة- وهم من قبائل شتّى- خصوصاً في فترة ما بعد الإمام الحسن المجتبى عليه السلام عميدُ من شيعة أهل الكوفة، يرجعون إليه في أمورهم وملمّاتهم، ويصدرون فيها عن رأيه وقراره وأمره.

نعم، هناك وجهاء وأشراف متعدّدون من الشيعة في الكوفة، لكلٍّ منهم تأثيره في قبيلته،

لكنهم لاتصدر مواقفهم إزاء الأحداث الكبرى المستجدّة عن تنسيق بينهم وتنظيم يوّحد بين تلك المواقف، وينفي عنها التشتّت والتفاوت.

ولقد ترسّخت هذه الحالة في شيعة الكوفة خاصة نتيجة السياسات التي مارسها معاوية- بتركيز خاص على الكوفة خلال عشرين من السنوات العجاف الحالكة- في خلق الفرقة والتناحر بين القبائل، والإرهاب والقمع، والمراقبة الشديدة التي ترصد الأنفاس، والإضطهاد المرير والقتل الذي تعرّض له كثير من الشيعة ومن زعمائهم خاصة، الأمر الذي زرع بين الناس على مدى تلك السنين العشرين العجاف الحذر المفرط والخوف الشديد من سطوة السلطان، وضعف الثقة وقلّة الإطمئنان فيما بينهم، والفردية في اتخاذ الموقف والقرار.

ويكفي دليلًا على كلّ ما أشرنا إليه من التعددية والتشتّت نفس المنحى الذي تمّت فيه مكاتبة أهل الكوفة الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، فلولا التعددية في مراكز

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 353

الوجاهة والزعامة لما تعددّت الرسائل والرسل منهم إلى الإمام عليه السلام.

فلوكان لهم زعيم واحد يصدرون عن رأيه وأمره لكفى الإمام عليه السلام منهم رسالة واحدة تأتي من زعيمهم، لا إثنا عشر ألف رسالة!، ولما احتاج الإمام عليه السلام إلى أن يسأل آخر الرسل: «خبّراني من اجتمع على هذا الكتاب الذي كُتب به إليَّ معكما؟». «1»

كما يكفي دليلًا على ضعف الثقة والإطمئنان، والفردية في إتخاذ الموقف والقرار، قول الشهيد الفذّ عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض) بين يدي مسلم بن عقيل عليه السلام: «أمّا بعدُ، فإنّي لا أُخبرك عن النّاس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرُّك منهم! واللّه أحدّثك عمّا أنا موطّن نفسي عليه، واللّه لأجيبنّكم إذا دعوتم، ولأقاتلنّ معكم عدوّكم، ولأضربنّ بسيفي دونكم حتّى ألقى اللّه، لا أريد بذلك إلّا ما عند اللّه». «2»

2)- هناك ظاهرة عمّت القبائل العربية

التي استوطنت الكوفة، وهي ظاهرة انقسام الولاء في أفرادها، ففي كلّ قبيلة إذا وجدتَ من يعارض الحكم الأمويّ أو يوالي أهل البيت عليهم السلام فإنّك تجد أيضاً قبالهم من يوالي الحكم الأمويّ ويخدم في أجهزته، ولعلّ الموالين للحكم الأموي في جلّ هذه القبائل أكثر من المعارضين له عامة والموالين لأهل البيت عليهم السلام خاصة.

وهذه المشكلة ربّما كانت هي المانع أمام زعماء من الشيعة كبار في قبائلهم الكبيرة من أن يُثَوِّروا قبائلهم ضد الحكم الأمويّ علانية، وينهضوا بهم للقيام بمثل تلك المبادرة المطلوبة، ذلك لأنّ افراداً كثيرين هناك في نفس القبيلة ممّن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 354

يخدمون في أجهزة الأمويين ويوالونهم سيسارعون إلى اخبار السلطة الأموية بما عزم عليه زعيم قبيلتهم الشيعيّ، فيقُضى على ذلك العمل قبل البدء فيه، كما يُقضى على الزعيم الشيعيّ وعلى أنصاره أيضاً، ففي قبيلة مذحج الكبيرة في الكوفة مثلًا، كما تجد زعيماً شيعياً رائداً مثل هاني بن عروة (رض) تجد إزاءه ايضاً زعيماً آخر- أو أكثر- مثل عمرو بن الحجّاج الزبيدي، يتفانى في خدمة الأمويين إلى درجةِ أَنْ يؤثر مصلحة الأمويين حتى على مصلحة مذحج نفسها، حينما قام بدوره المريب في ركوب موجة انتفاضة مذحج وقيامها لإطلاق سراح هاني (رض) فردّهم عن اقتحام القصر وصرفهم وفرّق جموعهم، بمكيدة منه ومن شريح وابن زياد.

وهذه الظاهرة تجدها في بني تميم، وبني أسد، وكندة، وهمدان، والأزد، وغيرها من قبائل أهل الكوفة.

إذن فقد كان من العسير عملياً على أيّ زعيم كوفي شيعي أن يقود جموع قبيلته في عملٍ ما ضدّ الحكم الأمويّ، وذلك لوجود زعماء آخرين من نفس القبيلة موالين للحكم الأمويّ، باستطاعتهم التخريب من داخل القبيلة نفسها على مساعي الزعيم الشيعي، أو من خارجها بالإستعانة

بالسلطة الأموية نفسها.

3)- يُضاف إلى السببين الأوّل والثاني- وهما أهمُّ الأسباب- سبب ثالث وهو تفشيّ مرض الشلل النفسي، وازدواج الشخصية، والوهن المتمثّل في حبّ الدنيا والسلامة وكراهية الموت، في جُلّ أهل الكوفة آنذاك خاصة، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما عبّر به محمّد بن بشر الهمداني- الذي روى تفاصيل اجتماع الشيعة الأوّل مع مسلم بن عقيل عليه السلام في دار المختار، وروى مقالة عابس الشاكري ومقالة حبيب بن مظاهر ومقالة سعيد بن عبدالله الحنفي رضوان الله عليهم، في استعدادهم للتضحية والموت في نصرة الإمام عليه السلام- حينما سأله الحجّاج بن عليّ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 355

قائلًا: فهل كان منك أنت قول؟

أجاب قائلًا: إنّي كُنت لأُحبُّ أنْ يُعزَّ اللّه أصحابي بالظفر، وما كنت لأحبَّ أنْ أُقتل، وكرهت أن أكذب! «1»

ومن الأمثلة الواضحة على ذلك أيضاً، قول عبيد الله بن الحرّ الجعفي مخاطباً الإمام عليه السلام: «واللّه إني لأعلمّ أنّ من شايعك كان السعيد في الآخرة، ولكن ما عسى أن أُغني عنك ولم أخلّف لك بالكوفة ناصراً!؟ فأنشدك اللّه أن تحملني على هذه الخطّة، فإنّ نفسي لم تسمح بعدُ بالموت!». «2»

وكان زعماء الشيعة الكوفيون قد أدركوا خطورة إنتشار هذا المرض، وتفطّنوا لأثره السَّي ء على كلّ نهضة وقيام، فكانوا يحسبون لخذلان الناس في أيّ مبادرة جهادية ألف حساب، نلاحظ ذلك مثلًا في قول سليمان بن صرد الخزاعي في اجتماع الشيعة الأوّل: «فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوّه فاكتبوا إليه، وإنْ خفتم الوهل والفشل فلا تغرّوا الرجل من نفسه!». «3»

ونلمح أيضاً هذا الإدراك والمعرفة بتفشّي هذا المرض في قول عابس الشاكري (رض) وهو يخاطب مسلماً عليه السلام: «فإنّي لا أخبرك عن الناس، ولا أعلم ما في أنفسهم، وما أغرّك

منهم! ...». «4»

وبعدُ: فلعلّ هذه الأسباب المهمة الثلاثة التي ذكرناها تشكلّ إجابة وافية عن علّة عدم مبادرة زعماء الشيعة في الكوفة إلى السيطرة على الأوضاع فيها قبل مجي ء الإمام عليه السلام.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 356

حركة الأمّة في البصرة ..... ص : 356
اشارة

كان ظاهر الحياة السياسية والإجتماعية في البصرة سنة ستين للهجرة يوحي بأنّ عبيد الله بن زياد كان قد هيمن هيمنة سياسية وإدارية كاملة على مجاري أمورها وعلى حركة الأحداث فيها، لما اتصف به من قدرة على الغشم والظلم والجور، وبراعة شيطانية في التفريق بين القبائل، وخلق الكراهية بين الوجهاء والأشراف فيها، وما سوى ذلك من فنون المكر والخداع لمواصلة إخضاع وإذلال الأمّة التي عرفت فساد الطغاة الأمويين وولاتهم.

ويساعد على هذا الإيحاء في الظاهر أيضاً وجود مجموعة كبيرة من أشراف ووجهاء البصرة ورؤساء الأخماس «1» فيها ممن لهم علاقات ودّية حميمة مع الحكّام الأمويين عامة وعبيد الله بن زياد خاصة.

أمّا باطن الحياة السياسية والاجتماعية في البصرة آنذاك فكان يشهد أمراً آخر، إذ كان في البصرة أشراف ووجهاء ورؤساء أخماس آخرون- وإن كانوا قلّة- يعرفون حقائق الأمور ويحبّون الحقّ وأهله! كما كان في عمق الحياة البصرية نشاط سريّ لمعارضة شيعيّة، لها منتدياتها واجتماعاتها في الخفاء، تتداول فيها الأخبار ومستجدّات الأحداث، ولها نوع من الإرتباط والعلم بأنشطة المعارضة الشيعية في الحجاز وفي الكوفة، وكان عبيدالله بن زياد على علم إجمالي بوجود هذه المعارضة الشيعية في البصرة، وكان يتوجّس منها ويحذرها.

ويمكننا هنا أن نتابع حركة الأمة في البصرة من خلال:

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 357

ردّ رؤوس الأخماس والأشراف على رسالة الإمام عليه السلام ..... ص : 357
1)- ردّ الأحنف بن قيس: ..... ص : 357

كتب الأحنف بن قيس ردّاً على النسخة التي وصلته من كتاب الإمام الحسين عليه السلام الى رؤساء الأخماس في البصرة وأشرافها قائلًا: «أمّا بعدُ: فاصبر إنّ وعد اللّه حقٌ ولايستخفنّك الذين لايوقنون»، «1» ولم يزد على الآية «2» شيئاً! فكأنَّ الأحنف قد رأى أنه أدّى واجبه وتكليفه إزاء دعوة الإمام عليه السلام للنهضة لإحياء سنّة رسول الله صلى الله عليه و آله، فهو يكتفي بأن

يوصي الإمام عليه السلام بالصبر! وأن لايستخفّه الذين لايوقنون!

ولايخفى على العارف بسيرة الأحنف بن قيس أنّ هذا الرجل كان من أوضح مصاديق (الذين لايوقنون)، فموقفه هذا في جوابه هذا كاشف عن تردّده عن نصرة الإمام عليه السلام مع علمه بأحقيّة الإمام عليه السلام بالخلافة وقيادة الأمّة، وموقفه الآخر من قبلُ في البصرة أيضاً في فتنة عبدالله بن عامر الحضرمي الذي دعا أهل البصرة- بعد صفين- الى نكث بيعة أميرالمؤمنين عليّ عليه السلام مرّة أخرى، حيث قال الأحنف ردّاً على ما دعا إليه الحضرمي رسول معاوية: «أمّا أنا فلا ناقة لي في هذا ولاجمل!»، «3» بدلًا من أن يهبّ للدفاع عن أمير المؤمنين عليه السلام ويدعو أهل البصرة في المقابل إلى الثبات على البيعة والسمع والطاعة!، وله موقف آخر من قبل ذلك أيضاً نمَّ عن تردّده وضعف يقينه، إذ بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «إنّي مقيمٌ على طاعتك في قومي فإن شئتَ أتيتك في مائتين من أهل بيتي فعلتُ، وإن شئت حبست عنك أربعة آلاف سيف من بني سعد!. فبعث إليه أميرالمؤمنين عليه السلام: بل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 358

احبس وكُفَّ ..». «1»

2)- خيانة المنذر بن الجارود: ..... ص : 358

وكان هذا أيضاً من البصريين الذين كتب إليهم الإمام عليه السلام، فلمّا أتاه رسول الإمام عليه السلام سليمان بن رزين (رض) بالكتاب قرأه، ثمّ أخذ الكتاب والرسول الى عبيد الله بن زياد، زاعماً «2» أنه خشي أن يكون الكتاب دسيسة من ابن زياد!، فقتل ابن زياد الرسول! ثمّ صعد المنبر فخطب وتوعّد أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف! «3»

كان عبيد الله بن زياد صهراً للمنذر بن الجارود، إذ كانت بحرية بنت المنذر (أو أخته) «4» زوجة له، وقد كافأ ابن زياد، المنذر

على جريمته النكراء هذه مكافئة كان يصبو إليها المنذر الذي كشف تماماً في هذه الواقعة عن سوء عنصره وحقارته، حيث ولّاه السند من بلاد الهند، لكنّه لم يهنأ طويلًا بجائزته على خيانته تلك، إذ هلك في السند سنة 62 ه. «5»

ودعوى ابن الجارود أنه خشي أن يكون الكتاب دسيسة من ابن زياد دعوى كاذبة، إذ لم يكن طريق معرفة حقيقة الأمر منحصراً بتسليم الرسول والكتاب الى ابن زياد!، لقد كان بإمكان المنذر بن الجارود- لو كان صادقاً- أن يعرف صدق الرسول بأبسط تحقيق معه، لابتسليمه ليُقتل!.

3)- يزيد بن مسعود النهشلي .. والموقف المحمود: ..... ص : 358

ما إنْ وصلت إلى يد يزيد بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 359

مسعود النهشليّ نسخته من رسالة الإمام الحسين عليه السلام فقرأها حتى جمع بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، فلمّا حضروا قال: يا بني تميم، كيف ترون موضعي منكم وحسبي فيكم؟

فقالوا: بخٍّ بخٍّ! أنتَ والله فقرة الظهر، ورأس الفخر، حللتَ في الشرف وسطاً، وتقدّمتَ فيه فرطاً!

قال: فإني قد جمعتكم لأمرٍ أريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه.

فقالوا: واللّه إنّا نمنحك النصيحة، ونجهد لك الرأي، فقلْ نسمع.

فقال: إنّ معاوية قد مات، فأهون به واللّه هالكاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً وظنّ أنه قد أحكمه، وهيهات والذي أراد!، اجتهد والله ففشل، وشاور فخذل، وقد قام إبنه يزيد، شارب الخمور، ورأس الفجور، يدّعي الخلافة على المسلمين، ويتأمّر عليهم بغير رضىً منهم، مع قِصر حلم، وقلّة علم، لايعرف من الحقّ موطي ء قدمه.

فأُقسم باللّه قسماً مبروراً، لجهادُه على الدّين أفضل من جهاد المشركين، وهذا الحسين بن عليّ، ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له

فضل لايوصف، وعلم لاينزف، وهو أولى بهذا الأمر، لسابقته وسنّه وقدمه وقرابته، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير، فأكرم به راعي رعيّة وإمام قوم وجبت للّه به الحجّة، وبلغت به الموعظة، فلا تعشوا عن نور الحقّ، ولا تسكّعوا في وهدة الباطل، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلى الله عليه و آله ونصرته، واللّهِ لا يقصّر أحدٌ عن نصرته إلّا أورثه اللّه الذلّ في ولده، والقلّة في عشيرته، وها أنا قد لبست للحرب

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 360

لامتها، وأدّرعت لها بدرعها، من لم يُقتل يمتْ، ومن يهرب لم يفتْ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب.

فتكلّمت بنو حنظلة فقالوا: يا أبا خالد، نحن نبل كنانتك، وفرسان عشيرتك، إن رميتَ بنا أصبت، وإن غزوتَ بنا فتحت، لا تخوض واللّه غمرة إلّا خُضناها، ولاتلقى واللّه شدَّة إلّا لقيناها، ننصرك واللّهِ باسيافنا، ونقيك بأبداننا فانهض لما شئت.

وتكلّمت بنو سعد بن زيد فقالوا: يا أبا خالد، إنّ أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك، وقد كان صخر بن قيس «1» أمرنا بترك القتال، فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا! فأمهلنا نراجع المشورة ونأتك برأينا.

وتكلّمت بنو عامر بن تميم فقالوا: يا ابا خالد، نحن بنو أبيك وحلفاؤك، لانرضى إن غضبتَ، ولا نقطن إن ظعنت، والأمر إليك، فادعنا نجبك، ومُرنا نطعك، والأمر إليك إذ شئت.

فقال: واللّه يا بني سعد لئن فعلتموها لايرفع اللّه السيف عنكم أبداً، ولايزال سيفكم فيكم!

ثمّ كتب إلى الحسين عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعدُ: فقد وصل إليَّ كتابك، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له، من الأخذ بحظّي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك، وإنَّ اللّه لايُخلي الأرض من عامل عليها

بخير، أو دليل على سبيل النجاة، وأنتم حجّة الله على خلقه، ووديعته في أرضه، تفرّعتم من زيتونة أحمديّة هو أصلها وانتم فرعها، فاقدم سُعدتَ بأسعد طائر، فقد ذلّلتُ لك أعناق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 361

بني تميم، وتركتهم أشدّ تتابعاً لك من الإبل الظماء يوم خمسها لورود الماء، وقد ذللّت لك رقاب بني سعد، وغسلت لك درن صدورها بماء سحابة مُزنٍ حين استهلّ برقها فلمع.

فلمّا قرأ الحسين عليه السلام الكتاب قال:

«آمنك اللّه يوم الخوف، وأعزّك، وأرواك يوم العطش الأكبر.». «1»

وفي رواية ابن نما (ره) قال: «فلمّا تجهّز المشار إليه للخروج إلى الحسين صلوات الله وسلامه عليه بلغه قتله قبل أن يسير، فجزع لذلك جزعاً عظيماً لما فاته من نصرته.». «2»

ملاحظات وتأمّل: ..... ص : 361

1)- كان الإمام الحسين عليه السلام قد كتب نسخة واحدة إلى رؤساء الأخماس في البصرة وإلى الأشراف فيها، وذكر الطبري «3» أنّ الإمام عليه السلام كتب إلى مالك بن مسمع البكري، والأحنف بن قيس، والمنذر بن الجارود، ومسعود بن عمرو، وقيس بن الهيثم، وعمرو بن عبيد الله بن معمر.

لكنّ التأريخ لم يسجّل أنّ أحداً من هؤلاء قد أجاب على رسالة الإمام عليه السلام أو ردَّ ردّاً حميداً، فالأحنف بن قيس ردّ على رسالة الإمام عليه السلام يوصيه بالصبر! وألّا يستخفّه الذين لايوقنون!، أمّا المنذر بن الجارود فقد سلّم الرسالة والرسول إلى ابن زياد الذي قتل الرسول!، وأمّا مالك بن مسمع البكري فقد كان أمويّ الهوى، «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 362

ولم يسجّل التأريخ أنه أجاب على رسالة الإمام عليه السلام!، وأمّا قيس بن الهيثم فقد كان عثماني الهوى متباعداً عن أهل البيت عليهم السلام إلى آخر عمره، «1» ولم يذكر التأريخ أيضاً أنّ قيس بن الهيثم قد أجاب

على رسالة الإمام عليه السلام!، وأمّا عمر (أو عمرو) بن عبيد الله بن معمر فلم تذكر له كتب التواريخ والتراجم أيّة علاقة طيّبة مع أهل البيت عليهم السلام، بل عُرف عنه ولاؤه لابن الزبير أيّام سلطانه، وكان على ميمنة مصعب ابن الزبير في قتال المختار، ثمّ انقلب ولاؤه لعبد الملك بن مروان! فكان يأتمر بأمره، حتّى وفد عليه بدمشق، فمات عنده بالطاعون سنة 82 ه، «2» ولم يذكر التأريخ أيضاً أنّ هذا الرجل قد أجاب على رسالة الإمام الحسين عليه السلام!، وأمّا مسعود بن عمرو الأزدي فقد كان أيضاً مجانباً ومعادياً لأهل البيت عليهم السلام، وصديقاً حميماً وناصراً وحامياً لابن زياد حتى بعد مقتل الحسين عليه السلام، «3» ولم يذكر التأريخ أيضاً أنّ مسعود بن عمرو الأزدي هذا قد أجاب على رسالة الإمام الحسين عليه السلام! «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 363

فإذا كان جلُّ رؤساء الأخماس في البصرة وأشرافها بين متباعد عن أهل البيت عليهم السلام مجانب لهم، وبين متردّد متذبذب في حبّه إياهم وموقفه منهم، وبين متربّص خائن طامع في دنيا أعدائهم، فما هو السرّ في كتابة الإمام عليه السلام إلى مثل هؤلاء!؟

لعلّ مجموعة الأسباب التالية هي التي دعت الإمام عليه السلام إلى كتابة هذه الرسالة إلى رؤساء الأخماس والأشراف في البصرة:

أ- كانت مخاطبة القبائل في ذلك الوقت لاتتمُّ ولاتثمر إلّا من خلال رؤسائها وأشرافها ذلك لأنّ أفراد كلِّ قبيلة كانوا لايتجاوزون رؤساءهم وأشرافهم في إتخاذ أي موقف وقرار، والمتأمّل في خطبة يزيد بن مسعود النهشلي في بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، وردّهم عليه يرى هذه الحقيقة واضحة جليّة.

ب- إلقاء الحجّة على جميع أهل البصرة بما فيهم رؤساؤهم وأشراف

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 364

قبائلهم، خصوصاً

وأنّ البصرة برغم سيطرة ابن زياد عليها- ما يزيد على خمس سنين حتى ذلك الوقت- لم تكن قد انغلقت لصالح الأمويين كما هو حال مدن الشام، إذ كان فيها أشراف ورؤساء يعرفون حقّانية أهل البيت عليهم السلام، وأفئدتهم تهوي إليهم، كما كان في البصرة معارضة شيعية لها اجتماعاتها ومنتدياتها السريّة، إذن ففي مبادرة الإمام عليه السلام في الكتابة إلى كلّ هؤلاء إلقاء للحجّة عليهم وقطع العذر عليهم بالقول إنهم لم ينصروا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله لأنهم لم يعلموا بقيامه ونهضته.

ج- قد تُثمر رسالة الإمام عليه السلام صدّ المتردّد من الأشراف ورؤساء الأخماس عن الإنضمام إلى أيّ فعل مُضادّ لحركة الإمام عليه السلام، وقد يعتزل هو وكثير من أفراد قبيلته فلا ينصرون الحكم الأمويّ، وهذا على أيّة حال أفضل من اشتراكهم في القتال ضدّ الإمام عليه السلام.

د- من ثمرات هذه الرسالة إعلام البصريين الراغبين في نصرته عليه السلام بأمر نهضته، وتعبئتهم لذلك من خلال أشرافهم الموالين لأهل البيت عليهم السلام كمثل يزيد بن مسعود النهشلي وأمثاله.

2)- في قصة رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى رؤساء الأخماس في البصرة وإلى أشرافها، لم يوفّق أحدٌ منهم إلى الموقف المحمود إلّا يزيد بن مسعود النهشلي (ره)، الذي كشفت خطبته في بني تميم وبني حنظلة وبني سعد، ورسالته الى الإمام عليه السلام، عن أنّه كان مؤمناً بمقام أهل البيت عليهم السلام عامة وبمقام الإمام الحسين عليه السلام خاصة، وكان عارفاً بحقّهم، ويكفيه مجداً وفخراً موقفه الرائع هذا، كما يكفيه سعادة دعاء الإمام عليه السلام له: «آمنك اللّه يوم الخوف، وأعزّك، وأرواك يوم العطش الأكبر!».

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 365

لكنّ ممّا يؤسف له أننا لم نعثر في

كتب التواريخ والتراجم على ما يزيدنا معرفة بهذا الرجل الشريف الوجيه الماجد عدا ماورد في قصة هذه الرسالة، وعدا أنّه أرسل جوابه إلى الإمام عليه السلام مع الحجّاج بن بدر التميمي السعدي (رض)، الذي أوصل الرسالة إلى الإمام عليه السلام بمكّة، وبقي معه ورافقه إلى كربلاء واستشهد بين يديه يوم عاشوراء. «1»

3)- قال يزيد بن مسعود النهشلي (ره) في خطبته: «إنّ معاوية مات، فأهون به واللّه هالكاً ومفقوداً، ألا وإنّه قد انكسر باب الجور والإثم، وتضعضعت أركان الظلم ...»، والظاهر من طبيعة هذه العبائر أنّ يزيد النهشلي (ره) كان يقرّر لجموع بني تميم حقيقة مسلّمة عندهم وعند جميع أهل البصرة، في أنّهم كانوا قد عانوا الأمرّينَ من ظلم وجور ومآثم معاوية وولاته عليهم.

إنّ الكوارث التي أصابت البصريين على يد ولاة الأمويين لم تكن اقلّ من تلك التي أصابت الكوفة طيلة حوالي عشرين من السنوات العجاف من بعد شهادة أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام.

هذا سمرة بن جندب مثلًا، «2» كان «في زمن ولايته البصرة يخرج من داره مع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 367

خاصته ركباناً بغارة، فلا يمرُّ بجيوان ولاطفل ولاعاجز ولاغافل إلّا سحقه هو واصحابه بخيلهم! وهكذا إذا رجع! ولايمرُّ عليه يوم يخرج به إلّا وغادر به قتيلًا أو أكثر!»، «1» و «قتل من أهل البصرة ثمانية آلاف رجل من الشيعة في ستّة أشهر، وهي ايّام إمارته على البصرة!». «2»

ويروي الذهبي، عن عامر بن أبي عامر قال: «كنّا في مجلس يونس بن عبيد، فقالوا: ما في الأرض بقعة نشفت من الدم ما نشفت هذه- يعنون دار الإمارة- قُتل بها سبعون ألفاً! فسألتُ يونس فقال: نعم، من بين قتيل وقطيع! قيل: من فعل ذلك!؟ قال: زياد وإبنه وسمرة

..». «3»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 368

وروى الطبري عن محمّد بن سليم قال: «سألتُ أنس بن سيرين: هل كان سمرة قتل أحداً؟ قال: وهل يُحصى من قتلهم سمرة!؟ إستخلفه زياد على البصرة وأتى الكوفة، وقد قتل ثمانية آلاف من الناس! فقال له زياد: هل تخاف أن تكون قتلت أحداً بريئاً؟ قال: لو قتلت مثلهم ما خشيت!». «1»

من هنا يمكننا أن نستفيد بُعداً آخر ودافعاً جديداً يُضاف الى مجموعة الدوافع التي كانت من وراء كتابة الإمام عليه السلام رسالته إلى أهل البصرة، وهو أنّ أهل البصرة- كما أهل الكوفة- أولى من غيرهم في مجال المبادرة الى النهوض مع الإمام عليه السلام والجهاد بين يديه لإزالة الظلم والجور وإحقاق الحقّ، لأنهم عانوا الأمرَّين من جور وظلم بني أميّة الذين قتلوا الآلاف منهم، ولعلّ يزيد بن مسعود النهشلي (ره) كان ايضاً قد اراد هذا المعنى في مخاطبته بني تميم حينما ابتدأ خطبته بتذكيرهم بهذه الحقيقة.

المؤتمر الشيعيّ السرّيُّ في البصرة ..... ص : 368
اشارة

روى الطبري عن أبي مخارق الراسبي قال: «اجتمع ناسٌ من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبدالقيس يقال لها مارية «2» ابنة سعد- أو- منقذ أيّاماً، وكانت

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 369

تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه!

وقد بلغ ابن زياد إقبال الحسين فكتب إلى عامله بالبصرة أن يضع المناظر ويأخذ الطريق!

قال: فأجمع يزيد بن نبيط «1» الخروج وهو من عبدالقيس الى الحسين، وكان له بنون عشرة، فقال: أيّكم يخرج معي؟ فانتدب معه إبنان له: عبدالله وعبيد الله، فقال لأصحابه في بيت تلك المرأة: إنّي قد أزمعت على الخروج، وأنا خارج.

فقالوا له: إنّا نخاف عليك اصحاب ابن زياد. فقال: إنّي واللّه لو قد استوت اخفافهما بالجُدد لهان عليَّ طلب من طلبني!

قال: ثمّ خرج فقويَ في

الطريق حتّى انتهى الى حسين عليه السلام فدخل في رحله بالأبطح ...». «2»

إشارة: ..... ص : 369

شهدت البصرة في السرّ انعقاد هذا المؤتمر الشيعيّ فيها في الأيام التي كانت تشهد أيضاً في العلانية تحرّكات رؤساء الأخماس والأشراف على أثر وصول رسالة الإمام عليه السلام إليهم، وكان الفارق كبيراً جدّاً بين المشهدين!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 370

ذلك لأنها شهدت في تحرّكات الرؤساء والأشراف: تردّداً في نصرة الإمام عليه السلام، وشهدت إعراضاً عنه، وخيانة وغدراً! أللّهمّ إلّا ماشهدته في تحرّك يزيد بن مسعود النهشلي (ره) من تحريك وتوجيه المشاعر القبلية- من خلال مزجها بمشاعر دينية- باتجاه نصرة الامام عليه السلام.

لكنّ ما شهدته البصرة في السرّ كان شهوداً من نوع آخر!

إذ شهدت اجتماعاً استمرّ أيّاماً في السرّ، لم يقم على أساس الإنتماء القبلي، فالمجتمعون كانوا من قبائل شتّى، بل قام على أساس الولاء لأهل البيت عليهم السلام والبراءة من أعدائهم، وقد تذاكر فيه المجتمعون أمر الإمامة وما آل إليه الوضع الراهن يومذاك، «1» وتداولوا ما يجب عليهم القيام به أداءً للتكليف الديني «فأجمع رأي بعضٍ على الخروج فخرج، وكتب بعض بطلب القدوم»، «2» وبالفعل فقد نتج عن هذا المؤتمر المبارك أن انطلقت كوكبة كريمة من البصريين برغم أعين الرصد وحواجز الحصار، تتجّه مسرعة إلى مكّة المكرّمة لتلتحق بالركب الحسيني ولتفوز الفوز العظيم.

خمسمائة من البصريين في سفر ابن زياد الى الكوفة! ..... ص : 370
اشارة

روى الطبري عن عيسى بن يزيد الكناني قال: «لمّا جاء كتاب يزيد إلى عبيدالله بن زياد انتخب من أهل البصرة خمسمائة، فيهم عبدالله بن الحارث بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 371

نوفل، «1» وشريك بن الأعور، «2» وكان شيعة لعليّ، فكان أوّل من سقط بالناس شريك، فيقال إنه تساقط غمرة ومعه ناس، ثمَّ سقط عبدالله بن الحارث وسقط معه ناس، ورجوا أن يلوي عليهم عبيدالله ويسبقه الحسين الى الكوفة! فجعل لايلتفت إلى من سقط، ويمضي

حتّى ورد القادسية، وسقط مهران مولاه فقال: أيا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 372

مهران، على هذه الحال إن أمسكتَ عنك حتى تنظر الى القصر فلك مائة ألف! قال: لا واللّه ما استطيع. فنزل عبيد اللّه فأخرج ثياباً مقطّعة من مقطّعات اليمن، ثمّ اعتجر بمعجرة يمانية، فركب بغلته ثمّ انحدر راجلًا وحده ...». «1»

إشارة: ..... ص : 372

يبدو من ظاهر نصّ هذا الخبر أنّ عدد الشيعة الذين صحبوا ابن زياد الى الكوفة في هذا السفر لم يكن قليلًا- إن لم يكونوا هم الأكثر- فقد تساقط شريك الحارثي ومعه ناس! وكذلك تساقط عبداللّه يتأخّر إبن الحارث ومعه ناس! راجين أن يتأخّر ابن زياد لأجلهم فلا يسبقُ الإمام عليه السلام في الوصول الى الكوفة!

تُرى هل كان هذا التساقط أفضل الوسائل لتعويق ابن زياد ومنعه من دخول الكوفة قبل الإمام عليه السلام!؟

وإذا كان شريك ومن معه من الشيعة يعرفون الدور الخطير الذي سيقوم به ابن زياد لاستباق حركة الأحداث في الكوفة وإدارتها لصالح يزيد! أفلم يكن من الراجح أن يقتلوا ابن زياد بأيّة صورة، سرّاً أو علناً، وإن أدّى ذلك إلى قتل أحدهم أو جماعة منهم أو جميعهم بعد ذلك، ترجيحاً لمصلحة الإسلام العُليا!؟

أم أننا هنا ايضاً أمام صورة أخرى من صور الوهن والشلل النفسي الذي أصاب الأمّة وتفشّى فيها، فأصاب هؤلاء أيضاً، فرأوا أنّ أقصى ما يمكنهم المبادرة إلى هو التساقط في الطريق فقط! متمنّين للإمام عليه السلام أن ينصره الله على أن لاتتعرّض دنياهم لأيّ ضرر أو خطر!

إننا لانشكُّ في إخلاص شريك وأمثال شريك من شيعة عليّ عليه السلام، ولكننا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 373

نعجب من إقتصارهم على التفكير في التساقط فقط! وعدم تدبيرهم لخطّة يتخلّصون بها من ابن زياد ويخلّصون الأمّة منه

في ثنايا الطريق من البصرة إلى الكوفة! وربّما كان قتل ابن زياد بتدبير خفيّ غامض في ليلة ظلماء في هذه الرحلة أيسر بكثير- من حيث الإعتبارات العرفيّة والتبعات- من قتله في بيت هاني بن عروة على ضوء الخطّة التي أقترحها شريك نفسه يومذاك! نقول هذا كلّه بحسب الموازين والحسابات الظاهرية، ونعلم أنّ إرادة الله وتقديراته شي ء آخر!

الملتحقون بالركب الحسينيّ في مكّة المكرّمة ..... ص : 373
اشارة

إلتحق بالإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة مجموعة من أخيار هذه الأمّة وأبرارها، فانضمّوا إلى الركب الحسينيّ المتشكّل آنذاك ممن كان قد قُدم مع الإمام عليه السلام من المدينة المنوّرة، ومنهم من لازم الإمام عليه السلام حتّى استشهد معه في كربلاء يوم عاشوراء، ومنهم من أرسله الإمام عليه السلام فقُتل أو عاد إليه، ويمكننا أن نصنّفهم حسب الأمكنة التي انطلقوا منها للإلتحاق بالإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة الى:

1)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل المدينة

2)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة ولم تحدد التواريخ والتراجم أمكنة انطلاقهم.

3)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل الكوفة.

4)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل البصرة.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 374

1)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل المدينة: ..... ص : 374

روى ابن عساكر قائلًا: «وبعث الحسين إلى المدينة فقدم عليه من خفَّ معه من بني عبدالمطلّب وهم تسعة عشر رجلًا، ونساء وصبيان من إخوانه وبناته ونسائهم ..». «1»

ولايخفى أنّ متن هذه الرواية لا يحدّد لنا أسماء هؤلاء الملتحقين من بني هاشم! كما أنّه «لم يرد في الكتب التاريخية ذكر تفصيليٌّ لأسماء الهاشميين في الركب الحسينيّ القاصد من المدينة الى مكّة المكرّمة، بل ورد في أغلب هذه الكتب ذكر إجمالي لمن خرج من الهاشميين مع الإمام عليه السلام من المدينة ..»، «2» ولذا فقد يعسر تماماً على المتتبّع أن يحدّد بدقّة كاملة أسماء جميع بني هاشم الذين خرجوا مع الإمام عليه السلام من المدينة، فيعرف على ضوء هذا أسماء من التحقوا به عليه السلام في مكّة. ولذا فالمسألة بهذا الصدد تبقى على إجمالها وإبهامها!

نعم، تشير مجموعة من الدلائل التأريخية «3» إلى أنّ الإمام عليه السلام كان قد خرج من المدينة المنوّرة بجميع أبنائه،

وجميع أبناء أخيه الإمام الحسن عليه السلام، وجميع بقيّة إخوته لأبيه عدا محمّد بن الحنفيّة (رض)، وعدا عمر الأطراف كما هو الظاهر من سيرته. «4»

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 375

وتشير هذه الدلائل «1» أيضاً إلى أنّ مسلم بن عقيل عليه السلام كان معه أيضاً في خروجه من المدينة. ومع هذا فإنّ ذلك لايُخرج القضية من الإجمال الى التفصيل التام، ذلك لأننا مثلًا لانستطيع القول- على ضوء ما عندنا من وثائق تأريخية- بالنسبة إلى آل عقيل الذين كانوا مع الإمام عليه السلام في مكّة: مَن منهم التحق به في مكّة، ومَن منهم جاء معه من المدينة.

نعم، تفيد بعض المصادر التاريخية أنّ ولدي عبدالله بن جعفر: عوناً ومحمّداً كانا مع أبيهما في القدوم الى مكّة للقاء الإمام عليه السلام، ثمّ التحقا بالركب الحسيني أوائل خروجه من مكّة المكرّمة، «2» وتفيد مصادر أخرى أنّ أباهما أرسلهما من المدينة الى مكّة بكتاب الى الامام عليه السلام، وفي مكّة إلتحقا بالإمام عليه السلام. «3»

هذا غاية ما اتّضح لنا حول من التحق بالإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة من بني هاشم، أمّا من غير بني هاشم فلا نعلم أنّ أحداً إلتحق بالإمام عليه السلام في مكّة قادماً إليه من المدينة المنوّرة سوى مانظنّه ظنّاً بالنسبة إلى جُنادة بن كعب بن الحرث الأنصاري الخزرجي (رض)، الذي التحق مع عائلته بالإمام عليه السلام في مكّة المكرّمة، ذلك لأننا لم نعثر في التواريخ على أنّه كان من سكنة مكّة أو الكوفة أو البصرة أو حاضرة أخرى من حواضر العالم الإسلامي آنذاك، وربّما كان مع عائلته من المعتمرين، أو ممّن أراد الحجّ سنة ستين للهجرة، فالتحق بالإمام عليه السلام في مكّة وصحبه إلى كربلاء، وكذلك الأمر

بالنسبة إلى عبدالرحمن بن عبدربّ الأنصاري

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 376

الخزرجي (رض)، لكننا صنّفناهما مع عمّار بن حسّان الطائي (رض) تحت العنوان التالي، مع أننا نظنّ ظنّاً قوّياً أيضاً أنّ عمّار بن حسّان الطائي (رض) كان من سكنة الكوفة.

2)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة ولم تحدّد التواريخ والتراجم أمكنة إنطلاقهم ..... ص : 376
: جنادة بن كعب بن الحرث الأنصاريّ الخزرجي (رض): ..... ص : 376

قال المحقّق السماوي (ره): «كان جنادة ممّن صحب الحسين عليه السلام من مكّة، وجاء معه هو وأهله، فلمّا كان يوم الطفّ تقدّم الى القتال فقُتل في الحملة الأولى.». «1»

وذكرته بعض المصادر التأريخية بإسم (جنادة بن الحارث الأنصاري)، «2» كما ذكرت ابنه الذي استشهد بعده في الطفّ بإسم (عمرو بن جنادة)، أما السماويّ (ره) فقد ذكر ابنه بإسم (عمر بن جنادة). «3»

لكنّ السماوي (ره) لمّا ذكر أسماء أنصار الإمام عليه السلام الذين التحقوا بالإمام عليه السلام مع عوائلهم، ذكر جنادة هذا باسم (جنادة بن الحرث السلماني). «4»

ويرى النمازي إتحاد جنادة بن الحرث الأنصاري مع جنادة بن كعب بن الحارث الأنصاري، ويراه غير جنادة بن الحارث السلماني الأزدي الذي عدّه المامقاني، من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله وأميرالمؤمنين عليه السلام، ولم يجد النمازي في زيارة الناحية المقدسة أو في الرجبية ذكراً لإسم جنادة- خلافاً لما قال المامقانيّ «5»-

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 377

بل وجد في الموضعين: السلام على حيّان بن الحارث السلماني الأزدي، «1» وهذا هو الوارد في متن الزيارتين بالفعل. «2»

وروي في بعض الكتب أنّ جُنادة (رض) قُتل بين يدي الإمام عليه السلام في الحملة الأولى، «3» كما روي في بعض كتب المقاتل هكذا: «ثُمّ خرج من بعده- أي بعد نافع بن هلال (رض)- جنادة بن الحرث الأنصاري وهو يقول:

أنا جنادة، أنا ابن الحارث لستُ بخوّار ولا بناكثِ

عن بيعتي حتى يقوم وارثي من فوق شلوٍ في الصعيد

ماكثِ

فحمل ولم يزل يُقاتل حتى قُتل.

ثمّ خرج من بعده عمرو بن جنادة وهو يُنشد ويقول:

أضق الخناق من ابن هند وارمه في عقره بفوارس الأنصار

ومهاجرين مخضّبين رماحهم تحت العجاجة من دم الكفّار

خضبت على عهد النبيّ محمّد فاليوم تُخضب من دم الفجّار

واليوم تُخضب من دماء معاشرٍ رفضوا القُران لنصرة الأشرار

طلبوا بثأرهم ببدرٍ وانثنوا بالمرهفات وبالقنا الخطّار

واللّه ربّي لا أزال مضارباً للفاسقين بمرهف بتّار

هذا عليَّ اليوم حقٌّ واجب في كلّ يوم تعانق وحوارِ

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 378

ثُمَّ حمل فقاتل حتى قُتل.». «1»

وقال السيد المقرّم (ره): «وجاء عمرو بن جنادة الأنصاري بعد أن قُتل أبوه، وهو ابن إحدى عشرة سنة، يستأذن الحسين فأبى وقال: هذا غلامٌ قُتل ابوه في الحملة الأولى، ولعلّ أمّه تكره ذلك. قال الغلام: إنّ أمّي أمرتني!. فأذن له، فما اسرع أن قُتل ورمي برأسه إلى جهة الحسين عليه السلام، فأخذته أمّه ومسحت الدم عنه وضربت به رجلًا قريباً منها فمات! وعادت الى المخيّم فأخذت عموداً وقيل سيفاً وأنشأت:

أنا عجوز في النسا ضعيفه خاوية بالية نحيفه

أضربكم بضربة عنيفه دون بني فاطمة الشريفه

فردّها الحسين الى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين.». «2»

ولعلّ عمرو بن جنادة هو الشاب المقصود في الرواية التالية- لمشتركاتها الكثيرة مع الرواية السابقة- تقول هذه الرواية: «ثمّ خرج شاب قُتل أبوه في المعركة، وكانت أمّه معه، فقالت له أمّه: أخرج يا بُنيَّ وقاتل بين يدي ابن رسول الله! فخرج، فقال الحسين عليه السلام: هذا شابٌ قُتل أبوه ولعلَّ أمّه تكره خروجه. فقال الشاب: أمّي أمرتني بذلك!. فبرز وهو يقول:

أميري حسينٌ ونِعم الأمير سرور فؤاد البشير النذير

عليٌّ وفاطمةٌ والداه فهل تعلمون له من نظير

له طلعةٌ مثل شمس الضحى له غرّة مثل بدرٍ منير

وقاتل حتّى قُتل،

وجُزَّ رأسه ورُمي به إلى عسكر الحسين عليه السلام، فحملت أمّه رأسه وقالت: أحسنتَ يا بُنيَّ يا سرور قلبي ويا قُرّة عيني. ثُمَّ رمت برأس ابنها

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 379

رجُلًا فقتلته، وأخذت عمود خيمة، وحملت عليهم وهي تقول:

أنا عجوزٌ سيّدي ضعيفه خاوية بالية نحيفه

أضربكم بضربة عنيفه دون بني فاطمة الشريفه

وضربت رجلين فقتلتهما! فأمر الحسين عليه السلام بصرفها، ودعا لها.». «1»

: عبدالرحمن بن عبد ربّ الأنصاري الخزرجي (رض): ..... ص : 379

قال المحقّق السماوي (ره): «كان صحابياً، له ترجمة ورواية، وكان من مخلصي أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام. قال ابن عقدة: حدّثنا محمد بن إسماعيل بن إسحق الراشدي، عن محمّد بن جعفر النميري، عن عليّ بن الحسن العبدي، عن الأصبغ بن نباتة قال: نشد عليٌّ عليه السلام الناس في الرحبة: من سمع النبيّ صلى الله عليه و آله قال يوم غدير خمٍّ ما قال إلّا قام ولايقوم إلّا من سمع رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول. فقام بضعة عشر رجلًا فيهم أبوأيّوب الأنصاري، وأبو عمرة بن عمرو بن محصن، وأبو زينب، وسهل بن حنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبدالله بن ثابت، وحبشي بن جنادة السلولي، وعبيد بن عازب، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وثابت بن وديعة الأنصاري، وأبو فضالة الأنصاري، وعبدالرحمن بن عبدربّ الأنصاري، فقالوا:

نشهد أنّا سمعنا رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: «ألا إنّ اللّه عزّ وجلّ ولييّ، وأنا وليّ المؤمنين، ألا فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، أللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه وابغض من أبغضه، وأعِنْ من أعانه». «2»

وقال صاحب الحدائق: وكان عليُّ بن أبي طالب عليه السلام هو الذي علّم

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 380

عبدالرحمن هذا القرآن وربّاه. «1»

وكان عبدالرحمن جاء مع الإمام الحسين عليه السلام فيمن جاء

معه من مكّة، وقُتل بين يديه في الحملة الأولى. «2»

: عمّار بن حسّان الطائي (رض): ..... ص : 380

قال المامقاني (ره): «هو عمّار بن حسّان بن شريح، قال علماء السير إنّه كان من الشيعة المخلصين في الولاء، ومن الشجعان المعروفين، صحب الحسين عليه السلام من مكّة ولازمه حتى أتى كربلاء، فلمّا شبّ القيام بوم الطفّ تقدّم واستشهد بين يديه رضوان الله عليه، ومع شرف الشهادة نال شرف تخصيصه بالسلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة». «3»

وقال المحقّق السماويّ (ره): «كان عمّار من الشيعة المخلصين في الولاء، ومن الشجعان المعروفين، وكان أبوه حسّان ممن صحب أميرالمؤمنين عليه السلام وقاتل بين يديه في حرب الجمل، وصفين، فقُتل بها، وكان عمّار صحب الحسين عليه السلام من مكّة ولازمه حتى قُتل بين يديه. قال السروي: قُتل في الحملة الأولى. «4»

وورد السلام على عمّار في زيارة الناحية المقدّسة هكذا: «السلام على عمّار

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 381

بن حسّان بن شريح الطائي»، «1» وكذلك في الزيارة الرجبيّة وقد احتمل التستري «2» إتحاد عمار بن حسّان الطائي (رض) مع عمّار بن أبي سلامة الدالاني (رض)، لكنّ هذا الإحتمال غير وارد، لأنّ السلام قد ورد في زيارة الناحية المقدسة على كلٍّ منهما بإسمه. «3»

2)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل الكوفة: ..... ص : 381
: بُريرُ بن خُضير الهمداني المشرقي (رض): ..... ص : 381

كان برير شيخاً تابعياً ناسكاً، قارئاً للقرآن، من شيوخ القُرّاء، ومن أصحاب أمير المومنين عليه السلام، وكان من أشراف أهل الكوفة من الهمدانيين، وقال أهل السير: إنّه لمّا بلغه خبر الحسين عليه السلام سار من الكوفة إلى مكّة ليجتمع بالحسين عليه السلام، فجاء معه حتى استشهد.

وروى الطبريّ عن السرويّ أنّ الحرّ لمّا ضيّق على الإمام الحسين عليه السلام جمع الإمام عليه السلام أصحابه فخطبهم بخطبته التي قال فيها «أمّا بعدُ، فإنّ الدنيا قد تغيّرت ...»، فقام إليه جماعة من أنصاره فتكلموا وأظهروا استعدادهم وإصرارهم على الموت دونه، وكان برير

من هؤلاء المتكلّمين حيث قام فقال: «واللّه يا ابن رسول الله لقد منّ اللّه بك علينا أن نقاتل بين يديك، تُقطّعُ فيك أعضاؤنا، حتى يكون جدّك يوم القيامة بين أيدينا شفيعاً لنا، فلا أفلح قوم ضيّعوا ابن بنت نبيّهم، وويل لهم ماذا يلقون به الله!؟ وأُفٍّ لهم يوم ينادون بالويل والثبور في نار جهنّم!

وقال أبو مخنف: أمر الحسين عليه السلام في اليوم التاسع من المحرّم بفسطاط فضُرب، ثمّ أمر بمسكٍ فميث في جفنة عظيمة، فأطلى بالنورة، وعبدالرحمن بن

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 382

عبد ربّه، وبرير على باب الفسطاط تختلف مناكبهما، فازدحما أيّهما يُطلي على أثر الحسين عليه السلام، فجعل بُرير يُهازل عبدالرحمن ويضاحكه.

فقال عبدالرحمن: دعنا، فواللّه ما هذه ساعة باطل!

فقال بُرير: والله، لقد علم قومي أنّي ما أحببت الباطل شاباً ولاكهلًا، ولكنّي والله لمستبشرٌ بما نحن لاقون، واللّه إنَّ بيننا وبين الحور العين إلّا أن نحمل على هؤلاء فيميلون علينا بأسيافهم، ولوددتُ أن مالوا بها الساعة! «1»

: عابس بن أبي شبيب الشاكري (رض): ..... ص : 382

وورد إسمه في زيارة الناحية المقدّسة والزيارة الرجبية هكذا: عابس بن شبيب الشاكريّ. «2»

«كان عابس من رجال الشيعة، رئيساً شجاعاً خطيباً ناسكاً متهجّداً، وكانت بنو شاكر من المخلصين بولاء أميرالمؤمنين عليه السلام، وفيهم يقول عليه السلام يوم صفين: لو تمّت عدّتهم ألفاً لعُبد اللّه حقّ عبادته! وكانوا من شجعان العرب وحماتهم، وكانوا يُلقّبون فتيان الصباح.». «3»

ولمّا كتب مسلمٌ عليه السلام إلى الإمام عليه السلام من الكوفة يطلب إليه التعجيل بالقدوم، أرسل كتابه مع عابس (رض) وصحبه شوذب مولاه (رض)، ثمّ بقيا مع الإمام عليه السلام في مكّة، وصحباه في مسيره الى كربلاء، واستشهدا بين يديه. وروى أبو مخنف أنه لما التحم القتال في يوم عاشوراء، وقُتل بعض أصحاب الحسين

عليه السلام جاء عابس الشاكري ومعه شوذب.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 383

فقال لشوذب: «يا شوذب، ما في نفسك أن تصنع؟

قال: ما أصنع!؟ أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و آله حتّى أُقتل!

فقال: ذلك الظنّ بك، أمّا الآن فتقدّم بين يدي أبي عبداللّه حتّى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتّى أحتسبك أنا، فإنّه لو كان معي الساعة أحدٌ أنا أولى به منّي بك لسرّني أن يتقدّم بين يدي حتى أحتسبه، فإنّ هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكلّ ما نقدر عليه، فإنه لاعمل بعد اليوم، وإنّما هو الحساب!». «1»

ولمّا تقدّم عابس (رض) إلى الإمام عليه السلام يستأذنه في القتال قال: «يا أبا عبداللّه، أما واللّه ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولابعيد أعزّ عليَّ ولا أحبّ إليَّ منك، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشي ء أعزّ عليَّ من نفسي ودمي لفعلته، السلام عليك يا أبا عبداللّه، أشهد أنيّ على هداك وهدى أبيك. ثمّ مشى بالسيف مصلتاً نحو القوم وبه ضربة على جبينه». «2»

وروى أبومخنف عن ربيع بن تميم الهمداني أنه قال: «لمّا رأيتُ عابساً مقبلًا عرفته، وكنت قد شاهدته في المغازي والحروب وكان أشجع النّاس فصحت: أيها الناس، هذا أسدُ الأُسود! هذا ابن أبي شبيب! لايخرجنّ إليه أحدٌ منكم!. فأخذ عابس ينادي: ألا رجلٌ لرجل!؟

فقال عمر بن سعد: إرضخوه بالحجارة!، قال: فرمي بالحجارة من كلّ جانب، فلمّا رأى ذلك ألقى درعه ومغفره! ثمّ شدَّ على الناس، فوالله لرأيته يكردُ «3» أكثر من مائتين من الناس! ثمّ إنّهم تعطّفوا عليه من كلّ جانب فقُتل. قال: فرأيت رأسه في

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 384

أيدي رجال ذوي عدّة! هذا يقول أنا قتلته،

وهذا يقول أنا قتلته! فأتوا عمر بن سعد فقال: لاتختصموا، هذا لم يقتله سنان واحد! ففرّق بينهم.». «1»

: شوذب بن عبداللّه الهمداني الشاكري (رض): ..... ص : 384

وهو مولى لشاكر، «2» «وكان شوذب من رجال الشيعة ووجوهها، ومن الفرسان المعدودين، وكان حافظاًللحديث حاملًا له عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال صاحب الحدائق الوردية:

وكان شوذب يجلس للشيعة فيأتونه للحديث وكان متقدّماً في الشيعة (وجهاً فيهم).». «3»

وقد صحب شوذب عابس بن أبي شبيب الشاكري مولاه من الكوفة إلى مكّة بعد قدوم مسلم الكوفة بكتاب لمسلم ووفادة على الحسين عليه السلام عن أهل الكوفة، وبقي معه حتى جاء إلى كربلاء، «4» ولمّا التحم القتال حارب أوّلًا، ثم دعاه عابس، فاستخبره عمّا في نفسه، فأجاب بحقيقتها- كما مرَّ- فتقدّم الى القتال، وقاتل قتال الأبطال، ثمّ قُتل رضوان الله تعالى عليه. «5»

: قيس بن مسهّر الصيداوي (رض): ..... ص : 384

هو قيس بن مُسَهَّر بن خالد بن جندب ...

بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، الأسدي الصيداوي، وصيدا بطنٌ من أسد، كان قيس رجلًا شريفاً في بني الصيدا شجاعاً مخلصاً في محبّة أهل البيت عليهم السلام،

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 385

وكان رسول أهل الكوفة مع الأرحبي والسلولي الى الإمام عليه السلام في مكّة في الدفعة الثانية من رسائلهم إليه، وقد فصّلنا القول في قصته وترجمته في الفصل الأوّل. «1»

: عبدالرحمن بن عبدالله الأرحبي (رض): ..... ص : 385

هو عبدالرحمن بن عبدالله بن الكدن بن أرحب ... وبنو أرحب بطنٌ من همدان، كان عبدالرحمن وجهاً تابعياً شجاعاً مقداماً.

قال أهل السير: أوفده أهل الكوفة إلى الحسين عليه السلام في مكّة مع قيس بن مسهّر ومعهما كتب نحو من ثلاث وخمسين صحيفة .. وكانت وفادته ثانية الوفادات، فإنّ وفادة عبدالله بن سبع وعبدالله بن والٍ الأولى، ووفادة قيس وعبدالرحمن الثانية، ووفادة سعيد بن عبدالله الحنفي وهاني بن هاني السبعي الثالثة، وقال أبومخنف: ولمّا دعا الحسين مسلماً وسرّحه قبله إلى الكوفة سرّح معه قيساً وعبدالرحمن وعمارة بن عبيد السلولي، وكان من جملة الوفود، ثمَّ عاد عبدالرحمن إليه فكان من جملة أصحابه. «2»

وقال المامقاني: «وهو أحد النفر الذين وجههم الحسين عليه السلام مع مسلم، فلمّا خذلوا أهل الكوفة وقُتل مسلم ردَّ عبدالرحمن هذا إلى الحسين عليه السلام من الكوفة ولازمه حتى نال شرفي الشهادة وتسليم الإمام عليه السلام في زيارتي الناحية المقدّسة والرجبية رضوان الله عليه.». «3»

وعلى هذا يكون لعبدالرحمن الأرحبي (رض) إلتحاقان بالإمام عليه السلام، الأوّل

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 386

في مكّة، والثاني بعد خروجه عليه السلام من مكّة، لأنّ مقتل مسلم عليه السلام كان عند أوائل خروج الإمام عليه السلام منها الى العراق.

«حتى إذا كان اليوم العاشر،

ورأى الحال، استأذن في القتال، فأذن له الحسين عليه السلام، فتقدّم يضرب بسيفه في القوم وهو يقول:

صبراً على الأسياف والأسنّه صبراً عليها لدخول الجنّه

ولم يزل يُقاتل حتى قُتل رضوان الله عليه.». «1»

وقد ورد في زيارة الناحية المقدّسة: «السلام على عبدالرحمن بن عبدالله بن الكدر الأرحبي.»، «2» أما في الزيارة الرجبية فقد ورد السلام هكذا: «السلام على عبدالرحمن بن عبدالله الأزدي.»، «3» والظاهر إتحادهما لأنه ليس في شهداء الطفّ إلّا رجل واحدٌ اسمه عبدالرحمن بن عبدالله. فتأمل.

هذا وقد تفرّد الشيخ المفيد (ره) في ذكر أنّ الذين بعثهم أهل الكوفة الى الإمام الحسين عليه السلام في ثاني وفادة هم: قيس بن مسهّر الصيداوي، وعبدالله وعبدالرحمن ابنا شدّاد الأرحبي، (بدلًا من عبدالرحمن بن عبدالله الأرحبي)، وعمارة بن عبدالله السلولي، كما قال الشيخ المفيد (ره) إنّ الإمام عليه السلام دعا مسلماً عليه السلام فسرّحه إلى الكوفه مع هؤلاء أيضاً. «4»

وهو خلاف ما ورد في سائر التواريخ وخلاف الوارد في زيارتي الناحية والرجبية.

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 387

: الحجّاج بن مسروق الجعفي (رض): ..... ص : 387

وهو الحجّاج بن مسروق بن جعف بن سعد العشيرة المذحجي الجعفي، وكان الحجّاج من الشيعة، صحب أمير المؤمنين عليه السلام في الكوفة، ولمّا خرج الحسين عليه السلام الى مكّة خرج من الكوفة الى مكّة لملاقاته، فصحبه وكان مؤذّناً له في أوقات الصلوات، وهو الذي أرسله الإمام عليه السلام مع يزيد بن مغفل الجعفي في منطقة قصر بني مقاتل إلى عبيد الله بن الحرّ الجعفي يدعوانه إليه عليه السلام.

وقال ابن شهراشوب وغيره: لمّا كان اليوم العاشر من المحرّم، ووقع القتال تقدّم الحجّاج بن مسروق الجعفي الى الحسين عليه السلام واستأذنه في القتال، فأذن له، ثمّ عاد إليه وهو مخضّب بدمائه، فأنشده:

فدتك نفسي هادياً مهديّا

اليوم ألقى جدّك النبيّا

ثمّ أباك ذا الندى عليّا ذاك الذي نعرفه الوصيّا

فقال له الحسين عليه السلام: نعم، وأنا ألقاهما على أثرك.

فرجع يُقاتل حتّى قُتل رضي اللّه عنه. «1»

: يزيد بن مغفل الجعفي (رض): ..... ص : 387

وهو يزيد بن مغفل بن جعف بن سعد العشيرة المذحجي الجعفي، فهو ابن عمّ الحجّاج بن مسروق (رض)، ولقد كان يزيد بن مغفل أحد الشجعان من الشيعة، ومن الشعراء المجيدين، وكان من أصحاب عليّ عليه السلام، حارب معه في صفّين، وبعثه إلى حرب الخريّت من الخوارج، فكان على ميمنة معقل بن قيس عندما قتل الخريّت.

وروى عبدالقادر البغدادي صاحب كتاب خزانة الأدب: «2» أنّه كان مع

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 388

الحسين عليه السلام في مجيئه من مكّة، وأرسله مع الحجّاج الجعفي الى عبيد الله بن الحرّ الجعفي عند قصر بني مقاتل.

وقال المرزباني في معجم الشعراء: كان من التابعين، وأبوه من الصحابة. «1»

لكنّ المامقاني ذكر «أنّه أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله، وشهد القادسية في عهد عمر، وكان من أصحاب أمير المؤمنين يوم صفين، ثمّ بعثه في وقعة الخوارج تحت إمارة معقل بن قيس.». «2»

وذكر أهل المقاتل والسير أنّه لمّا التحم القتال في اليوم العاشر إستأذن يزيد بن مغفل الحسين عليه السلام في البراز فأذن له، فتقدّم وهو يقول:

أنا يزيد وأنا ابن مغفلِ وفي يميني نصل سيف منجل

أعلو به الهامات وسط القسطل عن الحسين الماجد المفضّل

ثمّ قاتل حتى قُتل. «3»

إذن فمجموع الأبرار من هذه الأمّة من أهل الكوفة الذين التحقوا بالإمام عليه السلام في مكّة- على ضوء هذه المتابعة- سبعة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

وقد ذكر الشيخ باقر شريف القرشي أنّ الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي (رض)- وهو من سكنة الكوفة- قد لازم الحسين عليه السلام وصحبه من

مكّة. «4» ولعلّ الشيخ القرشي عثر على وثيقة تأريخية تقول بذلك، أو لعلَّ هذا من سهو قلمه الشريف، لأنّ الذي عليه أهل السير أنّ أنس بن الحارث الكاهلي قد إلتحق

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 389

بالإمام عليه السلام بعد خروجه من مكّة (في العراق)، «1» أو عند نزوله كربلاء. «2»

3)- الملتحقون به عليه السلام في مكّة من أهل البصرة: ..... ص : 389
اشارة

ومن أهل البصرة كوكبة تتألّف من تسعة من أبرار هذه الأمة، كانوا قد التحقوا بالإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، وهم:

: الحجّاج بن بدر التميمي السعدي (رض): ..... ص : 389

وهو من أهل البصرة، من بني سعد بن تميم، وكان قد حمل رسالة جوابية من يزيد بن مسعود النهشلي (ره) «3» إلى الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، فلمّا وصل إلى الإمام عليه السلام بقي معه حتّى قُتل بين يديه في كربلاء. «4»

قال صاحب الحدائق: «5» قُتل مبارزة بعد الظهر، وقال غيره: قتل في الحملة الأولى قبل الظهر. «6»

: قعنب بن عمر النمري (رض): ..... ص : 389

«كان قعنب رجلًا بصرياً، من الشيعة الذين بالبصرة، جاء مع الحجّاج السعدي إلى الحسين عليه السلام، وانضمّ إليه، وقاتل في الطف

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 390

بين يديه حتّى قُتل. ذكره صاحب الحدائق. «1» وله في القائميات ذكر وسلام «2».». «3»

: يزيد بن ثبيط العبدي وإبناه عبدالله وعبيدالله (رض): ..... ص : 390

كان يزيد من الشيعة، ومن أصحاب أبي الأسْود الدؤلي، وكان شريفاً في قومه، وكان ممّن حضر المؤتمر السرّي الشيعي في بيت المرأة المؤمنة مارية بنت منقذ العبدية، التي كانت دارها مألفاً ومنتدى للشيعة في البصرة يتحدّثون فيه ويتداولون أخبار حركة الأحداث آنذاك، وقد كان ابن زياد قد بلغه عزم الإمام الحسين عليه السلام على التوجّه الى العراق، ومكاتبة أهل الكوفة له، فأمر عمّاله أن يضعوا المراصد ويأخذوا الطريق.

وقد عزم يزيد بن ثبيط (رض) على الخروج الى الإمام عليه السلام، وكان له بنون عشرة، فدعاهم إلى الخروج معه.

وقال: أيّكم يخرج معي متقدّماً؟

فانتدب له إثنان هما: عبداللّه، وعبيد اللّه.

فقال لأصحابه في بيت مارية: إني قد أزمعت على الخروج، وأنا خارج، فمن يخرج معي؟

فقالوا له: إنّا نخاف أصحاب ابن زياد!

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 391

فقال: إني واللّه أن لو قد استوت أخفافها بالجُدد «1» لهان عليَّ طلب من طلبني.

ثمّ خرج وإبناه، وصحبه عامر ومولاه، وسيف بن مالك، والأدهم بن أميّة، وقوي في الطريق حتى انتهى الى الحسين عليه السلام وهو بالأبطح من مكّة، فاستراح في رحله، ثم خرج الى الإمام الحسين عليه السلام الى منزله.

وبلغ الإمام عليه السلام مجيئه، فجعل يطلبه حتى جاء إلى رحله، فقيل له: قد خرج إلى منزلك. فجلس في رحله ينتظره!

وأقبل يزيد لمّا لم يجد الإمام الحسين عليه السلام في منزله، وسمع أنه ذهب إليه راجعاً على أثره، فلمّا رأى الإمام الحسين عليه السلام في رحله

قال: «قُل بفضل اللّه وبرحمته فبذلك فليفرحوا»، السلام عليك يا ابن رسول اللّه.

ثمّ سلّم عليه، وجلس إليه وأخبره بالذي جاء له، فدعا له الإمام الحسين عليه السلام بخير، ثمّ ضمّ رحله إلى رحله، وما زال معه حتّى قُتل بين يديه في الطفّ مبارزة، وقُتل إبناه في الحملة الأولى.

وفي رثائه ورثاء ولديه يقول ولده عامر بن يزيد:

يا فَرْو قومي فاندبي خير البريّة في القبور

وابكي الشهيد بعبرة من فيض دمعٍ ذي درور

وارثِ الحسين مع التفجّع، والتأوّه، والزفير قتلوا الحرام من الأئمّة في الحرام من الشهور.

وابكي يزيدَ مُجدَّلًا وابنَيْه في حرّ الهجير

متزمّلين، دماؤهم تجري على لُبَب النحورِ

يا لهف نفسي لم تفز معهم بجنّاتٍ وحورِ «1»

: الأدهم بن أميّة العبدي (رض): ..... ص : 391

كان الأدهم من الشيعة البصريين الذين يجتمعون في بيت مارية بنت منقذ العبدية (ره)، وكان قد عزم على الخروج إلى الإمام الحسين عليه السلام في مكّة مع يزيد بن ثبيط (رض)، فصحبه، وانضمّ إلى الركب الحسيني في مكّة، ثمّ استشهد بين يدي الإمام عليه السلام يوم عاشوراء، وقيل: قُتل في الحملة الأولى مع من قُتل من أصحاب الحسين عليه السلام. «2»

وذهب النمازيّ إلى أنّ الأدهم بن أميّة (رض) كان صحابياً. «3»

: سيف بن مالك العبدي (رض): ..... ص : 391

كان سيف من الشيعة البصريين الذين كانوا يجتمعون في دار مارية بنت منقذ العبدية (ره)، فخرج مع يزيد بن ثبيط (رض) فيمن خرج معه الى الإمام الحسين عليه السلام في مكّة، وانضمّ إليه وما زال معه حتى قُتل بين يديه في كربلاء مبارزة بعد صلاة الظهر. «4»

: عامر بن مسلم العبديّ ومولاه سالم (رض): ..... ص : 391

كان عامر من الشيعة في البصرة، فخرج هو ومولاه سالم مع يزيد بن ثبيط (رض) فيمن خرج معه إلى الإمام الحسين عليه السلام في مكّة المكرّمة، وانضمّا إلى الركب الحسيني في جملة كوكبة الأبرار الذين أتوا مع يزيد بن ثبيط (رض)، ولم يفارقا الإمام عليه السلام حتى استشهدا

مع الركب الحسينى (ج 2)، ص: 393

بين يديه في كربلاء يوم عاشوراء، وقيل: قُتلا في الحملة الأولى. «1»

رضي الله عنه رضي الله عنه

هذا والحمدلله على توفيقه لانجاز هذه السطور المتواضعة من كتاب (الأيام المكية من عُمر النهضة الحسينيّة)، وأنا العبد الخاطي ء، الراجي ربه، نجم الدين بن العلامة الفقيه الشيخ محمد رضا الطبسي النجفي، عفى الله عنه وعن والديه بحرمة السادة أصحاب الكساء.

الحمد لله

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.