فقه الصادق المجلد 38

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمد للّه على ما أولانا من التفقّه في الدِّين، والهداية إلى الحقّ المُبين، وأفضل صلواته على رسوله صاحب الشريعة الخالدة، وعلى آله العُلماء باللّه، الأُمناء على حلاله وحرامه، سيّما بقيّة اللّه في الأرضين، أرواحنا فداه.

وبعدُ: فهذا هو الجزء الثامن والثلاثون من كتابنا «فقه الصادق» وقد وفّقنا لطبعه، والمرجوّ من اللّه تعالى التوفيق لنشر ما بقي من أجزاء هذه الموسوعة الفقهيّة، فإنّه ولي التوفيق.

ص: 5

ص: 6

كتابُ القضاء والشهادات والحدود، وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في صفات القاضي:

[تتمة فصل الاول]

(كتابُ القَضاء والشهادات والحدود)

(وفيه فصول):

(الفصل الأوّل: في صفات القاضي)

أقول: وقبل الشروع في البحث ينبغي تقديم أُمور:

الأمر الأوّل: في تعريف القضاء:

وهو لغةً موضوع لمعان كثيرةٍ ، أنهاها في «الجواهر»(1) وغيرها(2) إلى عشرة، وهي:

الحكم، والعِلم، والإعلام وعَبّر عنه بعضهم(3) بالإنهاء، والقول، والحتم، والأمر، والخلق، والفِعل، والإتمام، والفراغ.

ويمكنُ إرجاع بعضها إلى بعضٍ ، بل كلّها إلى معنى واحد.

وعرّفوه في الاصطلاح:

تارةً : بما في «المسالك»(4)، و «الرياض»(5): بأنّه ولايةُ الحكم شرعاً لمن له

ص: 7


1- الجواهر: ج 40/7-8 (ط. 3).
2- القضاء والشهادات الأنصاري: 25 (ط. 1).
3- بدائع الكلام في تفسير آيات الأحكام: ص 269 وكذلك حكاه صاحب الجواهر: ج 40/7.
4- مسالك الأفهام: ج 13/325 (ط. 1).
5- رياض المسائل: ج 15/6.

أهليّة الفتوى بجزئيّات القوانين الشرعيّة، على أشخاصٍ معيّنين من البريّة، بإثبات الحقوق، واستيفائها للمستحقّ .

وهو المنسوب إلى جماعةٍ من الفقهاء(1)، بل في «المسالك»(2)، و «الرياض»(3)نسبته إليهم.

وأُخرى : بما أفاده الشهيد الأوّل قدس سره(4) من أنّه: (ولايةٌ شرعيّةٌ على الحكم والمصالح العامّة من قِبل الإمام).

والثاني أعمٌّ من الأوّل.

أقول: القضاء بحسب المتفاهم العرفي، وعلى ما يظهر من موارد استعماله في النصوص وغيرها، مرادفٌ للحكم، فكما أنّه لا يتوهّم أحدٌ أخذ الولاية في الحكم، كذلك لا وجه لتوهّم كون القضاء هو الولاية، والذي أوجبَ تفسيره بذلك أمران:

أحدهما: أنّه لا ريب في كونه من المناصب المجعولة في العُرف والشرع، ففي صحيح أبي خديجة، قال:

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إيّاكم أن يُحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(5).

وليس المجعول إلّاالولاية والإمارة والسلطنة على الغير في نفسه أو ماله، أو3.

ص: 8


1- إيضاح الفوائد: ج 4/293 (ط. 1).، كشف اللّثام: ج 10/5 (ط. 1).
2- مسالك الأفهام: ج 13/325 (ط. 1).
3- رياض المسائل: ج 15/6 قوله: وقد عرّفه جماعة...
4- الدروس: ج 2/65 (ط. 1).
5- من لا يحضره الفقيه: ج 3/2 ح 3216، وسائل الشيعة: ج 27/13 ح 33083.

أمرٍ من أُموره، وأمّا الحكم فهو غيرُ قابلٍ للجعل منصباً كما هو واضح.

وفيه أوّلاً: النقض بالحاكم، ففي مقبولة ابن حنظلة عنه عليه السلام:

«فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(1).

وثانياً بالحَلّ : وهو أنّ هناك أمرين:

1 - القضاوة.

2 - كونه منصوباً لفصل الخصومة ورفع النزاع، والحكم بين النّاس.

ولا إشكال في أنّ الثاني من أقسام الولاية، ولكن القضاء هو الأوّل.

ثانيهما: أنّه يصدق القاضي على المنصوب لرفع الخصومة، ولو لم يتلبّس بالقضاء والحكم، فيعلم من ذلك أنّ المبدأ فيه السّاري في المصدر أيضاً بمعنى الولاية المزبورة.

وفيه أوّلاً: النقض بالحاكم.

وثانياً: أنّه في جملة من المشتقّات نرى إطلاق المشتقّ على غير المتلبّس بالمبدأ كالتاجر وغيره من أرباب الحرف والصنائع، والوجه في ذلك ليس هو التصرّف في المبدأ الذي هو في ضمن هذه الهيئة الاشتقاقيّة خاصّة، كما أفاده المحقّق الخراساني(2)، بل الوجه فيه هو التوسعة في دائرة التلبّس الفعلي، بنحوٍ يشمل الشأنيّة والصّلاحيّة للاتّصاف بالمبدأ، وتمام الكلام في محلّه.

فعلى هذا المنوال يطلق عنوان القاضي على الشخص بمجرّد ما لو نُصِب لذلك، وإنْ لم يتلبّس بعد بالقضاء.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ القضاء عبارة عن الحكم بين النّاس عند التنازع7.

ص: 9


1- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.
2- كفاية الاُصول: ص 57.

والتشاجر، ورفع الخصومة، وفصل الأمر بينهم، ولكن باعتبار كونه منصوباً لذلك ولايةً ، ومنصبٌ من المناصب الشرعيّة.

أقول: وهو منصبٌ عالٍ عظيمٌ وشرفه جسيم، فإنّه من توابع الرئاسة العامّة الثابتة للنبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام، بل هو غصنٌ من تلك الدوحة العظمى ، وخلافة عنهم عليهم السلام، ولذلك خصّه اللّه سبحانه بالأنبياء والأوصياء من بعدهم، ثمّ بمن يحذو حذوهم، ويقتدي بهُداهم، ويسير بسيرهم من العلماء الذين هم خلفاء الرسول صلى الله عليه و آله، كما في الخبر(1).

ولأجل علوّ مرتبته جَعل اللّه يده فوق رأس القاضي، وأهبط اللّه عليه الملك تسديداً له.

ففي قوي السّكوني، عن أبي عبد اللّه، عن أمير المؤمنين عليهما السلام: «يد اللّه فوق رأس الحاكم تُرفرف بالرّحمة، فإذا جاف وكله اللّه إلى نفسه»(2).

كما أنّه منصبٌ جليلٌ ، كذلك خَطَره عظيم، فإنّ القاضي على شفير جهنّم، ففي خبر إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لشريح:

«يا شُريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّانبيّ أو وصي نبيّ أو شقي»(3).

وعن النبيّ صلى الله عليه و آله: «من جُعل قاضياً فقد ذُبح بغير سكين»(4).

وفي خبر ابن أبي يعفور، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:1.

ص: 10


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4/420 ح 5919، وسائل الشيعة: ج 27/92 باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 33298.
2- الكافي: ج 7/410 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/224 باب 8 من أبواب صفات القاضي ح 33649.
3- الكافي: ج 7/406 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/17 ح 33091.
4- وسائل الشيعة: ج 27/19 ح 33097، المقنعة: ص 721.

«من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه عزّ وجلّ ممّن له سوطٌ أو عصا، فهو كافرٌ بما أنزل اللّه على محمّد صلى الله عليه و آله»(1).

وفي خبر أبي بصير، عنه عليه السلام، قال: «من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّه عزّوجلّ ، فهو كافرٌ باللّه العظيم»(2).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالّة على ذلك.

القضاء واجبٌ كفائي

الأمر الثاني: لا خلاف بين فقهائنا في أنّ القضاء واجبٌ كفائي.

وفي «المسالك»(3)، و «الرياض»(4)، و «المستند»(5)، وغيرها(6): دعوى الإجماع عليه.

بل في الأخير(7) جعله من الضروريّات الدينيّة.

أقول: يقع الكلام فيه:

تارةً : في الدليل على وجوب القضاء.

وأُخرى : في تعيين محلّه.

ص: 11


1- الكافي: ج 7/407 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/31 ح 33136.
2- الكافي: ج 7/408 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/31 ح 33137.
3- المسالك: ج 13/337.
4- الرياض: ج 15/6 قوله: وهو من فروض الكفاية بلا خلاف فيه بينهم أجده.
5- مستند الشيعة: ج 17/10 (ط. 1).
6- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/19، كتاب القضاء للآغا ضياء: ص 4.
7- مستند الشيعة: ج 17/10 قوله: في الجملة بإجماع الأُمّة بل الضرورة الدينيّة.

وثالثة: في الجمع بين وجوب القضاء وما اشتهر بينهم من الاستحباب لمن يثق بنفسه عيناً.

أمّا الجهة الأُولى : فقد استدلّ له بقوله تعالى : (يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ ) (1).

وبقوله عزّ وجلّ : (إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ ) (2).

وبقوله تعالى : (وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ) (3).

وقريب منها آياتٌ اُخر.

والإيراد على الإستدلال بها: بأنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الآيات هي وجوب الحكم على الأنبياء، ولا ملازمة بينه وبين وجوبه على غيرهم، كما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله(4).

مندفع: بعدم كون ذلك من مختصّاته، وإلّا لبيّن كما بين سائر ما يختصّ به من الأحكام.

وقد يستدلّ له: بجملة من النصوص كخبرمعلّى بن خُنيس، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «وأمرت الأئمّة أن يحكموا بالعدل، وأمر النّاس أن يتّبعوهم»(5).

والنبويّ : «إنّ اللّه لا يقدّسُ أمةً ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقّه»(6).5.

ص: 12


1- سورة ص: الآية 26.
2- سورة النساء: الآية 105.
3- سورة المائدة: الآية 49.
4- كتاب القضاء للاغا ضياء ص 7 قوله: واضعف ما ذكر الاستدلال بامر داود عليه السلام وامر نبينا صلى الله عليه و آله لعدم الملازمة.
5- من لا يحضره الفقيه: ج 3/3 ح 3217، وسائل الشيعة: ج 27/14 ح 33084.
6- المستدرك: ج 17/345 ح 21537 (8)، عوالى اللآلي: ج 3/515 ح 5.

ونحوهما غيرهما.

والإيراد على النبويّ : بأنّه يمكن حمله على الأخذ بعنوان عون الضعيف لا بملاك فصل الخصومة(1).

يردّه: أنّه خلاف الظاهر، مع أنّه يكفي في الحكم بالوجوب ولو بالعنوان الآخر.

وأضعف منه: دعوى إشعاره بالكراهة.

ويمكن أن يستدلّ له: بأنّه لا ريب في توقّف نظام نوع الإنسان عليه، إذ الظلم من شيم النفوس، فلابدّ من قاضٍ وحاكمٍ ينصفُ من الظالم للمظلوم، ولذلك بنى العقلاء على لزوم ذلك حفظاً للنظام، كما في سائر الاُمور التي عليها بناء العقلاء، والشارع الأقدس أمضى ذلك، غاية الأمر قيّده بقيود.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ ذلك من الاُمور التي تطابقت عليها آراء العقلاء، لعموم مصالحها التي يعبّر عنها بالقضايا المشهورة.

أقول: ويمكن أن يقرّب هذا الوجه، بنحوٍ يدخل في القضايا العقليّة، لا القضايا المشهورة، بأن يقال:

إنّه وجوبٌ فطري بمناط وجوب دفع الضّرر المحتمل عن المجتمع، أو أنّ العقل مستقلّ بحسنه وقبح تركه، المستلزم لاختلال النظام، ويُستكشف من ذلك ببرهان الملازمة وجوبه الشرعي، وعلى هذا فلا يبقى ترديدٌ وشكٌّ في وجوبه، وترديد المحقّق العراقي رحمه الله فيه، من قبيل الترديد في ما هو من قبيل الواضحات.

ويؤيّد ذلك: إجماع الاُمّة عليه، وما يترتّب عليه من النهي عن المنكر).

ص: 13


1- المورد هو الشيخ ضياء الدِّين العراقي في كتاب القضاء: ص 7 بقوله: (ولكن يمكن حمله أيضاً على الأخذ بعنوان عون الضعيف لا بملاك فصل الخصومة).

والأمر بالمعروف.

وأمّا الجهة الثانية: فالظاهر أنّ محلّ الوجوب هو نفس الحكم، والقضاء للأمر به في الكتاب والسُّنة، وبه يُحفظ النظام، وبتركه يلزم الاختلال، وما قبله من تولّي مجلس القضاء، وتحصيل أصل الولاية من الاجتهاد والعدالة من مقدّماته.

وما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله(1): من أنّه حيثُ يكون الحكم مشروطاًبالترافع، وتماميّة الميزان عند القاضي.

فمع الشكّ في تحقّق هذا الشرط يوجبُ جريان البراءة عن بقيّة المقدّمات، ولازمه جواز ترك كلّ أحدٍ تحصيل المراحل السابقة، وليس كذلك، ومثل ذلك شاهدُ عدم كون الحكم تحت خطاب الشارع.

يرد عليه: أنّه في كلّ قضيّة شخصيّة خارجيّة وإنْ كان يُحتمل عدم تماميّة الميزان عند القاضي، ولكن يُعلم إجمالاً بتحقّق موارد يتمّ فيها الموازين للقضاء، وهو يكفي في ثبوت وجوب المقدّمات.

وأمّا الجهة الثالثة: فلا إشكال ولا ريب في ثبوت الاستحباب النفسي عيناً لمن يثق بنفسه، لما تضمّن النصوص(2) من الترغيب فيه، والتحريض عليه، وأنّ يد اللّه فوق رأس القاضي، وأنّ اللّه يُهبط الملك ليسدّده.

أقول: ولا ينافيه ما ورد(3) من التحذير والتهديد والتشديد في أمر القضاء، فإنّه بالنسبة إلى عدم مراعاة الموازين الشرعيّة، لا بالنسبة إلى أصل القضاء.ه.

ص: 14


1- كتاب القضاء للعراقي: ص 8.
2- الكافي: ج 7/410 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/224 ح 33649.
3- الكافي: ج 7/406 باب أنّ الحكومة إنّما هي للإمام عليه السلام، وسائل الشيعة: ج 27/16 باب 3 أنّه لا يجوز لأحدأن يحكم إلّاالإمام أو من يروي حكم الإمام فيحكم به.

وإنّما وقع الإشكال في الجمع بين ذلك وبين وجوب القضاء، بتوهّم استحالة اجتماع الوجوب ولو كفائيّاً، مع الاستحباب العيني والكفائي.

ويمكن الجواب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّه أيّ محذورٍ في اجتماع الوجوب الكفائي مع الاستحباب العيني ؟! فما المانع من الالتزام بالتأكّد كما في سائر موارده، أفلا تكون الطهارات الثلاث مستحبّات نفسيّة، وفي وقت الصلاة يعرضها الوجوب، وكم له نظيرٌ في الفقه.

الوجه الثاني: إنّ المستحبّ هو تحصيل الولاية، أو الحضور لسماع الدّعوى والموازين، والواجب هو الحكم في ظرفها.

الوجه الثالث: إنّ الواجب هو ما إذا لم يكن متصدٍّ للقضاء، أو كان ولم يكن النّاس يترافعون إليه، لتخيّلهم عدم أهليّته لذلك، والمستحبُّ ما إذا كان المتصدّي الذي يترافع النّاس إليه موجوداً.

الأمر الثالث: الظاهر عدم فوريّة القضاء بعد الترافع، إلّاإذا لزم من التأخير تضرّرهما أو أحدهما، فإنّه تجبُ حينئذٍ المبادرة، إلّاإذا كان هناك عذرٌ.

والوجه في عدم الفوريّة: الأصل، والإجماع، وما تضمّن(1) تأخير أمير المؤمنين عليه السلام الحكم في بعض القضايا إلى الغد، أو إلى ما بعد الصلاة.

الأمر الرابع: إذا كان من له أهليّة التصدّي للقضاء متعدّداً، ولكن المتنازعين اختاروا شخصاً خاصّاً للقضاء والحكم، فإنْ كانوا يعتقدون عدم أهليّة غيره، وجب عليه عيناً القضاء، وإلّا فلا، ولا يخفى وجهه.

***5.

ص: 15


1- الوافي: ج 9/165.

ولابدَّ أن يكون مكلّفاً،

البحث عن الشروط المعتبرة في القاضي

أقول: وتنقيح القول في هذا الفصل يتحقّق بالبحث في مسائل:

المسألة الأُولى : في الشرائط المعتبرة في القاضي، (و) هي:

الشرط الأوّل: إنّه (لابدّ أن يكون مكلّفاً) فلا ينفذ قضاء الصَّبي، وإنْ كان مراهقاً ومجتهداً جامعاً للشرائط، ولا المجنون ولو كان أدواريّاً في دور جنونه، وإنْ كان عارفاً بالأحكام الشرعيّة، بلا خلافٍ فيه.

وفي «المسالك»(1): (أنّه عندنا موضع وفاق).

وقد حكاه سيّد «الرياض»(2)، والمقدّس الأردبيلي(3) عن غيرها.

ويشهد له: - مضافاً إلى الإجماع - أنّه لا يحصل الاطمئنان من حكمٍ غير المكلّف كونه عن مَدركٍ شرعي، ولا طريق لنا إلى إحراز ذلك ولو تعبدّاً.

وبعبارة أُخرى : لا طريق لنا إلى إحراز عدم خيانته وكذبه بعد عدم وجود الرادع له شرعاً ولا عرفاً.

أقول: وقد استدلّ جماعة من الأساطين(4) لاعتباره بوجوهٍ آخر، بعضها مختصّ

ص: 16


1- المسالك: ج 13/327.
2- رياض المسائل: ج 1/8. قوله: (بلا خلاف في شيء من ذلك أجده بيننا، بل عليه الإجماع في عبائر جماعةٍ كالمسالك وغيره، في الجميع و «شرح الإرشاد» للمقدّس الأردبيلي رحمه الله فيما عدا الثالث والسادس).
3- مجمع والبرهان: ج 12/5.
4- كتاب القضاء للعراقي: ص 10، تكملة العروة الوثقى: ج 2/4-5.

بالبلوغ، وبعضها شامل للعقل أيضاً:

منها: قوله عليه السلام في مشهورة أبي خديجة الآتية: «اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا»(1).

وقوله عليه السلام في صحيحته المتقدّمة: «ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا»(2).

ومنها: أنّ غير المكلّف محجورٌ عن التصرّف، والقلم مرفوعٌ عنه(3) ومولّى عليه، وعمده خطاء(4)، ومنصب القضاء من أعظم المناصب الإلهيّة، فلا يكون قابلاً لتصدّيه.

ومنها: انصراف أدلّة النفوذ إلى البالغ العاقل.

ومنها: أنّه سيأتي أنّ لزوم ترتيب الآثار على الحكم، وعدم جواز نقضه ورَدّه خلاف الأصل، فيقتصر على المتيقّن، وهو المكلّف.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّلان: فلأنّ الظاهر أنّ المراد ب (الرجل) في الخبرين، هو الجنس لا خصوص البالغ، مع أنّهما أخصّ من المُدّعى، كما أشرنا إليه.

أضف إليهما: أنّه لا مفهوم لهما كي يقيّد به إطلاق مقبولة ابن حنظلة الآتية.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّهما من جهة ورودهما في مقام الرّدع عن الرجوع إلى قضاة8.

ص: 17


1- تهذيب الأحكام: ج 6/303 ح 53، وسائل الشيعة: ج 27/139 ح 33421.
2- وسائل الشيعة: ج 27/14 ح 33083.
3- وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 81 و 82، الخصال: ج 1/93 ح 40.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 4/141 ح 5310، وسائل الشيعة: ج 29/400 باب 11 (باب حكم عمد المعتوه والمجنون والصَّبي والسكران) ح 35858.

مؤمناً،

الجور، وصَرفهم إلى قضاة الشيعة، ظاهران في كونهما في مقام التحديد لمن يرجع إليه من القضاة، فلا محالة يكون لهما المفهوم، فتأمّل.

وأمّا الثالث: فلمنع سلب أفعاله وأقواله، وكونه صبيّاً مولّى عليه لا يُنافي صحّة قضاوته، كيف ومنصب الإمامة والنبوّة أعظم من منصب القضاء وقد حازهماالصَّبي.

وأمّا الرابع: فلمنع الانصراف.

وأمّا الخامس: فلأنّه مع وجود الإطلاق لا وجه للاقتصار على المتيقّن.

اعتبار الإيمان في القاضي

الشرط الثاني: أن يكون (مؤمناً) فلا ينفذ قضاء الكافر، ولا المخالف.

ويشهد به:

1 - إجماع الاُمّة.

2 - وصحيح أبي خديجة، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «إيّاكم أن يُحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(1).

3 - ومقبولة عمر بن حنظلة عنه عليه السلام: «عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دينٍ أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ ذلك ؟

قال عليه السلام: من تحاكم إليهم في حقٍّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم

ص: 18


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/2 ح 3216، وسائل الشيعة: ج 27/13 ح 33083.

عدلاً

له فإنّما يأخذُ سحتاً، وإنْ كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمَرَ اللّه أن يُكفَر به، قال اللّه تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) (1). قلت: فكيف يصنعان ؟

قال عليه السلام: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعَرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حَكَم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا رَدّ، والرادّ علينا الرّاد على اللّه، وهو على حَدّ الشرك باللّه، الحديث»(2).

ونحوهما غيرهما من النصوص المستفيضة.

4 - وما دلّ (3) على النهي من الركون إلى الظالم، فإنّ التحاكم إلى غير المؤمن من أظهر أنحاء الركون إلى الظالم.

أقول: وربما يستدلّ له بوجوهٍ اُخر منظورٌ فيها، وإنْ كانت للتأييد صالحة، لكن وضوح الحكم يُغنينا عن التعرّض لها.

وفي «الجواهر»(4): (بل هو من ضروريّات مذهبنا).

اعتبار العدالة في القاضي

الشرط الثالث: أن يكون (عَدْلاً) فلا ينفذ قضاء الفاسق.

ص: 19


1- سورة النساء: الآية 60.
2- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.
3- سورة هود: الآية 113.
4- جواهر الكلام: ج 40/13.

عالماً،

ويشهد به: - مضافاً إلى الإجماع، وإلى أنّ هذا المنصب من المناصب المهمّة في الشريعة، بل من المناصب المختصّة بالنبي صلى الله عليه و آله وأوصيائه عليهم السلام، ولا يُحتمل جعل الشارع هذا المنصب لمن هو خارج عن طريقته.

وبعبارة أُخرى : لا يكون الفاسق وصيّ نبيّ ، كيف وقد اعتبر الشارع العدالة في إمام الجماعة، فكيف بالقضاء الذي هو أهمّ منه -:

1 - صحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل، في المسلمين، لنبيّ أو وصي نبيّ »(1).

2 - وما دلّ على النهي عن الركون إلى الظالم، فإنّ التحاكم إلى الفاسق من أظهر أنحاء الركون إلى الظالم.

3 - وصحيح أبي خديجة، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة، أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء، أن تحاكِمُوا إلى أحدٍ من هؤلاء الفسّاق، الحديث»(2).

فإنّه وإنْ كان في قضاة العامّة، إلّاأنّ تعليق الحكم على الوصف مشعرٌ بالعليّة، وأنّ الفاسق لا يكون أهلاً للقضاوة، وعدم الأمن من خيانة الفاسق وكذبه.

اعتبار العلم بأحكام القضاء في القاضي

الشرط الرابع: أن يكون القاضي (عالماً) بأحكام القضاء، ليكون حكمه حكماً بحكم اللّه تعالى ، وبالحقّ والعَدل والقِسط.

ص: 20


1- الكافي: ج 7/406 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/17 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 33092.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/303 ح 53، وسائل الشيعة: ج 27/139 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 33421.

ويشهد به:

1 - الآيات الآمرة بالحكم بالقِسط والعَدل والحقّ ، كقوله عزّ وجلّ : (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (1).

وقوله عزّ وجلّ : (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا) (2). وقوله تعالى: (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ ) (3). ونحوها غيرها(4).

2 - والنصوص المستفيضة:

منها: صحيح أبي خديجة، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً»(5).

ومنها: الخبر، عنه عليه السلام: «القضاة أربعة: ثلاثةٌ في النار، وواحدٌ في الجنّة: رجلٌ قضى بجورٍ وهو يعلم فهو في النار، ورجلٌ قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجلٌ قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجلٌ قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة»(6).

ومنها: النبويّ الخاصّي: «من أفتى النّاس بغير علمٍ لعنته ملائكة السماء والأرض»(7).6.

ص: 21


1- سورة النساء: الآية 58.
2- سورة المائدة: الآية 8.
3- سورة المائدة: الآية 47.
4- سورة المائدة: الآية 44 و 45 و 47.
5- تهذيب الأحكام: ج 6/303 ح 53، وسائل الشيعة: ج 27/139 ح 33421.
6- الكافي: ج 7/407 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/22 ح 33105.
7- وسائل الشيعة: ج 27/29 ح 33131، دعائم الإسلام: ج 1/96.

طاهر المولد،

وفي آخر: «فليتبوّأ مقعده من النار».

ومنها: صحيح سليمان بن خالد، عن مولانا الصادق عليه السلام، قال:

«اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، لنبيّ أو وصيّ نبيّ »(1).

إلى غير تلكم من النصوص.

وهل يعتبر كونه عالماً بالكتابة قراءةً وكتابةً ، كما عن الشيخ(2)، والحِلّي(3)، وفي «المسالك» نسبه الشهيد رحمه الله(4) إلى الأكثر؟

أم لا يعتبر ذلك كما عن جماعةٍ (5)؟ وجهان:

من أصالة عدم الاشتراط، وعدم اعتباره في النبوّة التي هي أكمل المناصب، ومنها يتفرّع الأحكام والقضاء.

ومن اضطراره إليمعرفة الوقائع والأحكام التي لا يتيسّر ضبطها غالباً إلّابها.

أقول: والأظهر عدم الاعتبار.

الشرط الخامس: أن يكون القاضي (طاهر المولد) فلا يكون قضاء ولد الزّنا نافذاً بلا خلافٍ .).

ص: 22


1- الكافي: ج 7/406 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/17 ح 33092.
2- المبسوط: ج 8/120.
3- السرائر: ج 2/166.
4- مسالك الأفهام: ج 13/329.
5- حكاه في التنقيح: ج 4/236 قوله: (قال قوم: إنّها ليست شرط لأنّ رتبة القضاء دون رتبة النبوّة وليست الكتابة شرطاً فيها).

ضابطاً،

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - فحوى ما دلّ (1) على اعتبار طهارة المولد في إمام الجماعة والشاهد، اللّذين هما دون هذا المنصب العظيم.

الشرط السادس: أن يكون (ضابطاً) ذكره جماعة(2)، ولا دليل على اعتباره.

كما أنّ جملة من الاُمور التي اعتبروها في القاضي، كالحريّة، والسَّمع، والبَصَر، وما شاكل، لا دليل على اعتبارها، وإطلاق الأدلّة والأصل يقتضيان عدم الاعتبار.

اعتبار الذكوريّة في القاضي

نعم، في المقام شيء يعتبر فيه قطعاً، ولم يذكره المصنّف رحمه الله، وهو الذكوريّة، فلا ينفذ قضاء المرأة.

وفي «المسالك»(3): (وهو موضع وفاقٍ ) وخالف فيه بعض العامّة(4).

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك، وإلى التقييد بالرَّجل في خبري أبي خديجة المتقدّمين - نصوصٌ كثيرة:

منها: خبر الجُعفي، عن الإمام الباقر عليه السلام: «ليس على النساء أذانٌ ولا إقامة.

إلى أن قال: ولا تولّى المرأة القضاء ولا تولّى الإمارة ولا تُستشار الحديث»(5).

ص: 23


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/567 ح 1567، وسائل الشيعة: ج 8/321 باب 14 وجوب كون الإمام بالغاً عاقلاًطاهر المولد.
2- المحقّق في المختصر ص 271، الشرائع: ج 4/860، كشف اللّثام: ج 10/20.
3- مسالك الأفهام: ج 13/329.
4- الحاوي الكبير: ج 16/156، بدائع الصانع: ج 7/3، اللّباب في شرح الكتاب: ج 4/84.
5- وسائل الشيعة: ج 20/220 ح 25473، الخصال: ج 2/585 ح 12.

ومنها: النبويّ الخاصّي: «يا عليّ ليس على المرأة جمعة - إلى أن قال -: ولا تولّى القضاء ولا تستشار»(1).

ومنها: ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا يفلحُ قومٌ وليتهم إمرأة»(2).

ومنها: خبر عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«في رسالة أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن عليه السلام: لا تملك المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها، فإنّ ذلك أنعم لحالها، وأرجى لبالها، وأدوم لجمالها، فإنّ المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، الحديث»(3).

ومنها: ما رواه ابن عبّاس، عن النبيّ صلى الله عليه و آله في حديثٍ : «ولو خلقت حواء من كلّه لجاز القضاء في النساء، كما يجوز في الرّجال»(4).

إلى غير تلكم من النصوص الكثيرة.

أقول: ويمكن أن يستدلّ له بالروايات الناهية عن مشاورة النساء، وعن إطاعتهنّ ، وعن ائتمانهنّ على مالٍ وغيره:

منها: خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إيّاكم ومشاورة النساء، فإنّ فيهن الضعف والوهن والعجز»(5).

ومنها: خبر الحسين بن مختار، عنه عليه السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلامه له: اتّقوا شِرار النساء، وكونوا من خيارهن على حذر، ولا تطيعوهنّ في المعروف1.

ص: 24


1- الفقيه: ج 1/351 ح 5762.
2- الخلاف: ج 6/213.
3- الكافي: ج 5/510 ح 3، وسائل الشيعة: ج 20/168 ح 25327.
4- المستدرك: ج 14/285 ح 16731-1، الاختصاص: ص 49.
5- الكافي: ج 5/517 ح 8، وسائل الشيعة: ج 20/182 ح 25371.

فخالفوهنّ كي لا يَطمعن منكم في المنكر»(1).

ومنها: صحيح ابن سنان، عنه عليه السلام في حديثٍ ، قال: «قال عليٌّ عليه السلام: معاشر النّاس لا تطيعوا النساء على حال، ولا تأمنوهنّ على مال، ولا تذروهنّ يدبّرن أمر العيال، الحديث»(2).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

وهذه كما ترى دالّة على عدم جواز تصدّي المرأة للقضاء ولا يُنفّذ حكمها.

وتدلّ أيضاً على عدم جواز تولّي المرأة الإمارة وما شاكلها من المناصب وأنّها لا تستشار.

أقول: ولكن في زماننا هذا في بعض الدول الإسلاميّة يدبّرون النساء الاُمور، ويتصدّون للمناصب الهامّة من القضاء والوكالة والوزارة وما شاكل، وقد ساووا بين النساء والرّجال في جميع الاُمور، حتّى في الطلاق وما شاكله، وأفجع من ذلك ادّعاء المتصدّين لاُمور الدولة أنّ ذلك كلّه مطابقٌ للموازين الشرعيّة، وأنّ الشريعة هي التي حكمت بالمساواة بين الرّجل والمرأة في جميع الشؤون الاجتماعيّة، وقولهم إنّ الحجاب ليس من الدِّين، وأنّه كما يجوز للرجال النظر إلى مماثلهم، يجوز لهم النظر إلى النساء، إلى غير ذلك من ما يفعلون ويقولون، ووصل الفساد في المجتمع إلى حَدّ يكلّ اللّسان عن ذكره، نسأل اللّه تعالى ظهور وليّ الأمر عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف، وأن يحفظ المسلمين من يد الأجانب ومن عبثهم بعقول المسلمين، ونجاتهم من دسائس الرتل الخامس، وهلاك كلّ من تسوّل له نفسه العَبَث في بلاد المسلمين.7.

ص: 25


1- الكافي: ج 5/517 ح 5، وسائل الشيعة: ج 20/179 ح 25362.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/554 ح 4900، وسائل الشيعة: ج 20/180 ح 35367.

ولا يكفيه فتوى العلماء، ولا بدَّ من إذن الإمام عليه السلام، وينفّذ قضاء الفقيه مع الغيبة إذا جَمَع الصفات.

يعتبر في القاضي الاجتهاد

أقول: لا خلاف في أنّه يعتبر في القاضي زائداً على ما ذكرناه، أن يكون عالماً بالأحكام عن اجتهادٍ (ولا يكفيه فتوى العلماء)، بل ادّعي عليه الإجماع(1) في كثيرٍ من الكلمات، لما سيمرّ عليك من عدم جواز التصدّي لمنصب القضاء بدون إذن الإمام، (و) أنّه (لا بدَّ) في ذلك (من) تحصيل (إذن الإمام)، وقد أذن عليه السلام للفقيه أن يتصدّى لذلك، (و) دلّت النصوص على أنّه (ينفذ قضاء الفقيه مع الغيبة إذا جَمَع الصفات) المعتبرة فيه.

توضيح ذلك: أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّه لا يجوز لأحدٍ أن يتصدّى لمنصب القضاء بدون إذن من ولاة الأمر من جانب الملك العلّام، ويشهد بذلك جملةٌ من الآيات:

منها: قول اللّه تعالى : (فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ) (2).

وقوله عزّ وجلّ : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ ) (3).

وقوله سبحانه: (إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ ) (4).

وأيضاً: صحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

ص: 26


1- مسالك الأفهام: ج 13/328، رياض المسائل: ج 15/11.
2- سورة النساء: الآية 65.
3- سورة النساء: الآية 59.
4- سورة النساء: الآية 105.

«اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين كنبيٍّ أو وصيّ أو نبي»(1).

وأيضاً: خبر إسحاق بن عمّار، عنه عليه السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام لشُريح: يا شريح قد جَلَستَ مجلساً لا يجلسه إلّانبي أو وصيّ نبيّ أو شقيّ »(2).

وقد أذن ولاة الأمر أن يتصدّى المجتهد الجامع للشرائط لذلك كما تشهد به النصوص:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دينٍ أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان، أو إلى القضاة، أيحل ذلك ؟

قال عليه السلام: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، ومايحكم له فإنّما يأخذ سُحتاً، وإنْ كان حقّاً ثابتاً، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر اللّه أن يكفُر به، قال اللّه تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ) .

قلت: فكيف يصنعان ؟

قال عليه السلام: ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حَكَم بحُكمنا ولم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا رَدّ، والرّاد علينا الرّاد على اللّه، وهو على حَدّ الشرك باللّه»(3).6.

ص: 27


1- الكافي: ج 7/406 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/17 ح 33092.
2- الكافي: ج 7/406 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/17 ح 33091.
3- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.

وظهوره في معرفة الحكم عن اجتهادٍ، وعدم شموله لمن علم بالحكم من التقليد، لا ينبغي إنكارهما.

وتضعيف الخبر كما عن بعضٍ لا وجه له، لأنّه ليس في السند من يتوقّف فيه، سوى داود بن الحُصين، وقد وثّقه النجاشي(1) فلو ثبت ما عن الشيخ رحمه الله(2) من وقفه فالخبر موثّقٌ .

وأمّا عمر بن حنظلة فقد وثّقه جماعة منهم الشهيدالثاني رحمه الله(3)، وورد في مدحه روايات، وكثيرٌ من الأجلّاء يروون عنه، مع أنّ الراوي عنهما صفوان بن يحيى ، وهو ممّن أجمعت العُصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

أضف إلى ذلك تلقّي الأصحاب إيّاه بالقبول.

وعليه، فلا إشكال في الخبر سنداً ودلالةً .

ومنها: صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرّم الجمّال، قال:

«قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: إيّاكم أن يُحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا فإنّه قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(4).

وإنّما عبّرنا عنه بالصحيحة نظراً إلى أنّ الصَّدوق رواه بإسناده عن أحمد بن عائذ، وطريقه إليه صحيح، وأحمد نفسه موثّقٌ إمامي، وأمّا أبو خديجة فالشيخ وإنْ3.

ص: 28


1- رجال النجاشي: ص 159 تحت رقم 421 داود بن حصين. قوله: (داود بن حصين الأسدي مولاهم كوفي ثقة).
2- رجال الطوسي: ص 336 تحت رقم 5007 قوله: (داود بن الحصين واقفي).
3- معجم رجال الحديث: ج 14/32.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 3/2 ح 3216، وسائل الشيعة: ج 27/13 باب 1 من أبواب صفات القاضي ح 33083.

ضعّفه في موضعٍ (1)، ولكنّه وثّقه في موضعٍ آخر(2)، ووثّقه النجاشي(3)، وعَدّ المصنّف في كتاب الخمس(4) خبره من الصحيح.

ومنها: قويّه الآخر أو صحيحه، قال: «بعثني أبو عبد اللّه عليه السلام إلى أصحابنا فقال:

قُل لهم: إيّاكم إذا وقعتْ بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تُحاكموا إلى أحدٍ من هؤلاء الفُسّاق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإنّي جعلته عليكم قاضياً، وإيّاكم أن يُخاصِم بعضكم بعضاً إلى السّلطان الجائر»(5).

وعدم صدق العارف بالحلال والحرام على المقلّد الآخذ مسائله من المجتهد واضحٌ ، كيف وأنّ موضوع التقليد هو رجوع الجاهل إلى العالم، فلا يرتفع الموضوع باعمال الحكم.

ومنها: المرسل القويّ : قال الصَّدوق: «قال عليٌّ عليه السلام:

قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اللّهُمَّ ارحم خُلفائي ثلاثاً.

قيل: يا رسول اللّه ومن خلفائك ؟ قال: الذين يأتون بعدي ويروون حديثي وسنّتي»(6).

فإنّ المتيقّن ممّا يثبت بالاستخلاف هو الرجوع إليه في الأحكام والقضاء اللّذين هما وظيفة الرسول بما هو رسول.ن.

ص: 29


1- الفهرست للشيخ الطوسي: ص 141 تحت رقم 337.
2- اختيار معرفة الرّجال للشيخ الطوسي: ج 2/641 تحت رقم 661.
3- رجال النجاشي: ص 188 سالم بن مكرم تحت رقم 501.
4- مختلف الشيعة: ج 3/341، مسألة: تحليل الخمس للشيعة في حال غيبة الإمام.
5- تهذيب الأحكام: ج 6/303 ح 53، وسائل الشيعة: ج 27/139 ح 33421.
6- وسائل الشيعة: ج 27/139 ح 33422، الأمالي للصدوق: ص 180 المجلس الرابع والثلاثون.

ومنها: التوقيع الشريف: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إليرواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه»(1).

واختصاصهما بالمجتهد ظاهرٌ.

إلى غير ذلك من النصوص الخاصّة.

وقد يقال: إنّ جملةً من الآيات والأخبار تدلّ على جواز تصدّي غير المجتهد للقضاء؛ كقوله تعالى : (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (2).

وقوله تعالى : (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ) (3).

ومفهوم قوله تعالى : (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ ) (4).

وكذلك مفهوم قوله تعالى : (وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ ) (5). كما في أُخرى .

وقوله عليه السلام: «القضاة أربعة - إلى أن قال: ورجلٌ قَضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة»(6). وغير ذلك، بدعوى أنّه إذا علم الحكم بالتقليد، فله أن يحكم به، ويصدق عليه أنّه حكم بالقِسط والعدل والحقّ ، وبما أنزل اللّه.

وفيه أوّلاً: إنّ الآيات ليست في مقام بيان من له أهليّة الحكم، وإنّما هي في مقام5.

ص: 30


1- وسائل الشيعة: ج 27/140 ح 33424، كمال الدّين وتمام النعمة: ج 2/483 ح 4.
2- سورة النساء: الآية 58.
3- سورة النساء: الآية 135.
4- سورة المائدة: الآية 47.
5- سورة المائدة: الآية 44.
6- الكافي: ج 7/407 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/22 ح 33105.

بيان أنّ من له الحكم إذا أراد أن يحكم، فليحكم بالعدل والقِسط، وأنّ من له الحكم إذا حكم بغير ما أنزل اللّه فهو فاسقٌ أو كافر، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقها لإثبات أهليّة غير المجتهد للقضاء.

وأمّا الخبر وما شابهه: فالعلمُ فيه منصرفٌ إلى العلم بالأحكام عن طريق الاجتهاد، ولا يصدق عنوان (العالم) عرفاً على المقلّد الآخذ مسائله من الغير.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ وظيفة المقلّد وإنْ كان هو العمل بما أفتى به المجتهد، ولكن ذلك لا يوجبُ علمه بالحكم، كيف وجواز التقليد إنّما هو من باب رجوع الجاهل إلى العالم.

وثانياً: لو سُلّم إطلاقها، يتعيّن تقييده بما مرّ.

فإذاً لا إشكال في أنّه ليس لغير المجتهد التصدّي للقضاء، ولو تصدّى لا يكون حكمه نافذاً.

فإنْ قيل: إنّ مقتضى عموم ولاية الفقيه، جواز نصبه القاضي كما للإمام أن ينصبه، فلو نَصَب الفقيه عاميّاً للقضاء جاز لذلك.

قلنا: إنّه قد تقدّم في الرابع والعشرون(1) من هذا الشرح أن لا دليل على عموم ولاية الفقيه بنحو يشمل ذلك.

***).

ص: 31


1- فقه الصادق: ج 24/25 و 48، مبحث (ولاية الحاكم الشرعي) ومبحث (اشتراط العدالة).

حكومة المتجزّئ

ثمّ إنّه بعد اعتبار النظر والاجتهاد، فهل يعتبر في الاجتهاد المطلق ؟ أم يكفيه مطلقه، ليجوز للمتجزّئ أن يتصدّى للقضاء وفصل الخصومة، ويكون حكمه نافذاً، بناء على إمكان التجزّئ في الاجتهاد، لأنّ مَلَكة الاستنباط وإنْ كانت بسيطة، والبسيط لا يُتجزّى ولا يتبعّض، إلّاأنّها ذات مراتب متفاوتة، وتزيد وتنقص، نظير جميع الصفات النفسانيّة، فإنّها مع بساطتها تختلف مراتبها في الشدّة والضعف ؟

قولان: ظاهر مقبولة ابن حنظلة، الدالّة على الرجوع إلى العارف بالأحكام، اعتبار صدق هذا العنوان، وهو إنّما يصدق إذا كان مستنبطاً لجميع الأحكام أو جملة معتدٌّ بها منها.

وقد يقال: إنّ مقتضى قوله عليه السلام في خبر أبي خديجة المتقدّم: «فانظروا إلى رجلٍ منكم، يعرفُ شيئاً من قضايانا» الاكتفاء بالاجتهاد ولو في مسألةٍ واحدة، في نفوذ حكمه، فيقع التعارض بينه وبين المقبولة.

أقول: وذكروا في مقام الجمع بينهما أُموراً:

الأمر الأوّل: جعل (من) في قوله: «من قضايانا» بيانيّة، ليكون المراد: فانظروا إلى من يعلم قضايانا، فيكون مفاد الخبر مفاد المقبولة، ولو لم تكن لفظة (من) في نفسها ظاهرة في ذلك، لكان المتعيّن حملها عليه جمعاً بين الخبرين.

وفيه: إنّ البيان لابدّ من مطابقته للمبيّن به، وليس في ما نحن فيه كذلك، فإنّ أحدهما مفردٌ والآخر جمع.

ص: 32

نعم، لو كان بدل كلمة (شيئاً) (أشياء) لكان ما ذكر تامّاً.

الأمر الثاني: العمل بكليهما لعدم التهافت بينهما، فإنّ المقبولة تدلّ على كون المجتهد المطلق نافذ الحكم، ومقتضى المشهورة كون المتجزّئ كذلك.

وفيه: إنّهما حيث وردا في مقام التحديد، فيعارض مفهوم المقبولة مع منطوق المشهورة، لدلالة المقبولة بالمفهوم على أنّ غير العارف بالأحكام لا يجوزُ له التصدّي للقضاء.

الأمر الثالث: إنّ المشهورة مطلقة من حيث التمكّن من معرفة سائر الأحكام وعدمه، والمقبولة تدلّ على اعتبار التمكّن منها، فيقيّد إطلاقها بالمقبولة، فيكون المدار على المقبولة، أي لابدّ وأن يكون متمكِّناً من معرفة سائر الأحكام.

وفيه: إنّ المقبولة تدلّ على اعتبار أن يكون عارفاً بالأحكام، وساكتة عن بيان التمكّن من معرفة الأحكام، وحينئذٍ يقع التعارض بينهما، لأنّه بمقتضى المقبولة لابدّ وأن يكون عارفاً بجميع الأحكام، ومقتضى المشهورة كفاية معرفة قضيّةٍ من القضايا، والأخذ بالمدلول الالتزامي في المقبولة - وهو التمكّن من معرفة الجميع، مع سقوط المدلول المطابقي - ليس جمعاً عرفيّاً، مع أنّه حُقّق في محلّه تبعيّة حجيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة، فإذا سقطت المطابقيّة سقطت الالتزاميّة بالتبع.

الأمر الرابع: إنّ المراد من (شيئاً) في المشهورة، شيءٌ معتدّ به، كما هو الظاهر منه، لا ما يشمل قضيّة واحدة، فعلى هذا يكون مساقها مساق المقبولة في أنّه لابدّ من معرفة جميع القضايا، أو جملة مهمّة منها.

وفيه: أنّه هذه دعوى لا برهان لها، لأنّه ليس في الدليل أزيد من (شيئاً من قضايانا)، وحمله على إرادة الشيء المعتدّ به تبرّعي لا شاهد له.

ص: 33

وعليه، فالأظهر أنّهما متعارضتان، ولأشهريّة المقبولة لعمل الأصحاب بها دون المشهورة، تقدّم المقبولة، فضلاً عن أنّها موافقة للكتاب.

فتحصّل: أنّ الأقوى أنّه يعتبر في القاضي أن يكون عارفاً بالقضايا والأحكام الشرعيّة، وحيث أنّه هناك ملازمة بين معرفة مقدارٍ من الأحكام يصدق عليها هذا العنوان مع التمكّن من معرفة الجميع، وعليه فالأظهر عدم جواز حكومة المتجزّئ مطلقاً.

وحيث يكون الظاهر من المقبولة الإرجاع إلى من كان ناظراً في مورد الاحتياج إلى الخصومة، كي يصدق أنّه حَكَم بحُكمهم الذي عرفه عن نظرٍ واجتهاد، بناءً على ظهور الباء في كونه صلة لا سببيّة، فقد يُشكل حينئذٍ أمر قضاء من استنبط الأحكام بمقدّمات الانسداد من باب حكومة العقل، لعدم صدق أنّه حَكَم بحكمهم العارف عن نظر.

وأيضاً: يُشكل ما لو كان المرجع الاُصول العقليّة من جهة فقد الأمارة.

أقول: وأجاب المحقّق الإصفهاني(1) عن الإشكال في المورد الأوّل:

بأنّه يصدق (العالم) و (العارف) على من قامت عنده الحجّة القاطعة للعُذر، شرعيّة كانت أم عقليّة أم عرفيّة، كيف وقد اُطلقت المعرفة على الاستفادة عن الظاهر في قوله عليه السلام: «يعرف هذا وأشباهه من كتاب اللّه»، وقوله عليه السلام: «أنتم أفقه النّاس إذا عرفتم معاني كلامنا»(2) وغير ذلك، إذ غاية ما هناك الاستفادة من ظاهر اللّفظ أو بضميمة القرينة، مع وضوح أنّ حجيّة الظواهر إنّما تكون ببناء العقلاء، بمعنى1.

ص: 34


1- بحوث في الاُصول للإصفهاني: ص 4-5.
2- وسائل الشيعة: ج 27/117 ح 33360، معاني الأخبار: ص 1 ح 1.

تنجّز الواقع دون جعل الحكم المماثل من العرف، وكذا الأمر لو كان دليل حجيّة الخبر بناءالعقلاء، والظانّ بالحكم حتّى بناءً على الحكومة ممّن قامت عنده الحجّة، غاية الأمر الحجّة العقليّة دون الشرعيّة.

وفيه أوّلاً: إنّ أدلّة جواز الرجوع إلى القاضي ونفوذ حكمه، إنّما تدلّ على الرجوع إلى العارف بالأحكام، وعرفت ظهور المقبولة في اعتبار كونه عارفاً بما يحكم به أيضاً، وإرادة الحجّة القاطعة للعذر منها تحتاجُ إلى دليل، وما ذُكر من إطلاق المعرفة على ما يُستفاد من الظواهر ومن خبر الثقة، إنّما يكون من جهة ما حقّقناه في محلّه(1)من أنّ المجعول في الأمارات هو الطريقيّة والكاشفيّة، فليكن هذا الإطلاق دليلاً على هذا المُدّعى، لا من جهة إطلاق المعرفة على الحجّة القاطعة للعذر.

وثانياً: إنّ الظّن في حال الانسداد على الحكومة لا يكون منجزاً للحكم، بل المنجّز له هو العلم الإجمالي بثبوت التكاليف إجمالاً، ونتيجة المقدّمات على الحكومة ليست حجيّة الظّن بحكم العقل، إذ شأن العقل هو الإدراك، لا الحكم الذي هو وظيفة المولى وشأنه، بل نتيجتها التبعيض في الاحتياط، فعلى فرض إرادة مطلق الحجّة من (المعرفة) و (العلم) لا يجوزُ الرجوع على هذا الفرض.

وعليه، فالصحيح أنّ الإشكال لا مدفع عنه.

نعم، على الكشف يجوزُ الرجوع، لأنّ حال الظّن حينئذٍ حال سائر الأمارات.

وأمّا في المورد الثاني للإشكال فيمكن أن يقال: إنّه كما يجوز الرجوع إلى العالم بالحكم، كذلك يجوز إلى العالم بعدم الحكم، الذي يجب بحكم العقل موافقته وامتثاله، وفي موارد الاُصول العقليّة يكون المجتهد عالماً بعدم الحكم، فيرجع إليه وينفذ حكمه.

***7.

ص: 35


1- زبدة الاُصول: ج 4/7.

عدم جواز تفويض القضاء إلى المقلّد

وبعدما عرفت من أنّ القضاء من وظائف المجتهد، وأنّه ليس للمجتهد إعطاء هذا المنصب لغيره، يقع الكلام في أنّه:

هل يصحّ توكيل المجتهد غيره في الحكم ومقدّماته أم لا؟

أقول: لا إشكال في جواز أن يستنيب في بعض مقدّمات وأجزاء القضاء ممّا لا يتوقّف على الاجتهاد، كسماع البيّنة، بل في تعيين الشاهدين، والجرح والتعديل، والتحليف، وما شاكل، وذلك من جهة أنّ العمل قابلٌ للصدور عن الغير، فتشمله أدلّة الوكالة.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّ المتعارف عن القُضاة تفويض هذه الاُمور إلى الغير، فمقتضى إطلاق ما دلّ على جعل المجتهد قاضياً، أنّ له أن يفعل ما يفعله القُضاة، ومنها ذلك.

وبهذا يظهر أنّ للمجتهد الجامع للشرائط تفويض القيمومة والتولية، وما شاكل إلى الغير، وليس ذلك من جهة عموم ولاية الفقيه، كي يدفع بعدم الدليل عليه، بل من جهة أنّ إعطاء هذه المناصب كان من وظائف القضاة، كما هو المتعارف عندهم في هذه الأيّام، فقوله عليه السلام: «جعلته حاكماً أو قاضياً» ظاهرٌ في أنّ للفقيه أيضاً إعطاء هذه المناصب، وحيث أنّ القيّم الذي يجعله القاضي ظاهره هو صاحب الولاية على التصرّف، لا الوكيل والمأذون من قِبل الغير، وكذلك المتولّي المنصوب للوقف، فجَعل القيّم أو المتولّي من الحاكم كجعله من قِبل اللّه تعالى ، وليست

ص: 36

القيمومة أو التولية من شؤون ولاية المجتهد، فبموت المجتهد لا تبطلُ القيمومة والتولية، فإنّ المجتهد على ما ذكرناه واسطة في إثبات ذلك، ويكون المنصب من قِبل اللّه تعالى، وإنّما بموت المجتهد ينعدم كلّ ما هو من شؤون ولايته، لا ما هو واسطة في إثباته، هذا كلّه في غير الحكم.

وأمّا الحُكم والقَضاء:

ففي «المسالك»(1): (أنّه لا يجوز تولية غيره فيه).

وفي «الجواهر»(2):

(قلت: قد يقال: إنْ لم يكن إجماعٌ لا مانع من التوكيل في إنشاء صيغة الحكم من قول: حكمتُ ونحوه، نحو إنشاء صيغة الطلاق الذي هو بيد من أخذ بالسّاق، فإنّ عمومات الوكالة سواءٌ في تناولهما.

إلى أن قال: بل لعلّ ظاهر الدليل أنّ حجيّته على حسب حجيّته، فله حينئذٍ استنابته، وله توليته بين النّاس بفتاواه، ولعلّه لذا حُكي عن الفاضل القمّي جواز توكيل الحاكم مقلّده على الحكم بين النّاس بفتاواه، على وجهٍ يجري عليه حكم المجتهد المطلق، وهو قويّ إنْ لم يكن إجماعٌ كما لهجت به ألسنة المعاصرين، وألسنة بعض من تقدّمهم من المصنّفين، إلّاأنّ الإنصاف عدم تحقّقه)، انتهى .

فمحصّل كلامه: يرجع الى الاستدلال بوجهين:

الوجه الأوّل: عموم أدلّة الوكالة.

وفيه: إنّ شمول أدلّة الوكالة لموردٍ يتوقّف على مقدّمتين:9.

ص: 37


1- المسالك: ج 13/347.
2- جواهر الكلام: ج 40/49.

إحداهما: قابليّة الوكيل للتصدّي له، كإجراء صيغة الطلاق، فلو كان الفعل ممّا لا يكون الوكيل قابلاً للتصدّي له، لا يجوزُ التوكيل فيه.

ثانيتهما: عدم اعتبار صدور الفعل عن شخص الموكّل بما هو، وإلّا فلا يجوز التوكيل، ولذا لا يجوزُ التوكيل في إتيان الواجبات الشرعيّة كالصلاة اليوميّة وما شاكل، فإنّ ذلك من جهة اعتبار صدورها عن الشخص نفسه.

وفي المقام كلتا المقدّمتين ممنوعتان:

أمّا الأُولى : فلما دلّ على أنّ الحكم من مناصب النبيّ أو الوصيّ ولم يؤذَن لغير المجتهد التصدّي له.

وأمّا الثانية: فلأنّ ظاهر التكليف المتوجّه إلى شخصٍ ، اعتبار صدور الفعل عن نفسه، وجواز التوكيل فيه يتوقّف على إقامة دليلٍ على عدم اعتبار صدوره عن شخصه بالمباشرة.

وعليه، ففي المقام ظاهرُ الأدلّة اعتبار كون الحاكم هو المتصدّي بنفسه للحكم، فلا يجوزُ التوكيل فيه، ولو في إجراء الصيغة.

الوجه الثاني: الاستدلال بعموم ما دلّ على أنّ الفقيه حجّةٌ من قِبل الحجّة، كما أنّه الحُجّة من قِبل اللّه تعالى، ومحصّله الاستدلال بعموم أدلّة ولاية الفقيه.

ويردّه أوّلاً: ما حقّقناه في محلّه من عدم ثبوت الولاية للفقيه بالنحو الثابت للإمام عليه السلام، وقد مرّ الكلام في ذلك في كتاب البيع(1) وغيره من المواضع المناسبة في هذا الشرح.).

ص: 38


1- فقه الصادق: ج 24/25 و 48، مبحث (ولاية الحاكم الشرعي) و (اشتراط العدالة).

وثانياً: أنّه على تقدير ثبوت الولاية العامّة للفقيه، ليس معنى ذلك أنّ له تبديل الأحكام الشرعيّة، ألا ترى أنّه لا يتوهّم أنّ له أن يفوّض إمامة الجماعة للفاسق، وليس ذلك إلّامن جهة أنّ الشارع الأقدس حكم بعدم جواز الائتمام بالفاسق، فالمجتهد بل والإمام نفسه ليس له تبديل ذلك.

والمقامُ بعد دلالة الدليل على أنّ منصب القضاء لا يجوزُ التصدّي له لغير المجتهد كما مرّ، يكون من هذا القبيل، كما لا يخفى .

وعليه، فالأظهر أنّه ليس للفقيه تفويض منصب القضاء إلى غيره، ولا توكيله في إجراء صيغة الحكم.

قاضي التحكيم

أقول: المشهور بين الأصحاب(1) أنّه لو تراضى الخصمان بواحدٍ من الرعيّة، فترافعا إليه فَحَكم، لزمهما حكمه وإنْ كان هناك قاضٍ منصوب، وهذا هو الذي يعبّر عنه بقاضي التحكيم، ولقد أطالوا البحث في ذلك بما لا يرجع إلى محصّل ينفعنا، فإنّ بحثهم فيه إنّما هو بالنسبة إلى زمان الحضور، وأمّا في زمان الغيبة فلا يفيدُ ما ذكروه.

قال في «المسالك»(2): (واعلم أنّ الاتّفاق واقعٌ على أنّ قاضي التحكيم يُشترط فيه ما يُشترط في القاضي المنصوب من الشرائط التي من جملتها كونه مجتهداً، وعلى هذا فقاضي التحكيم مختصٌّ بحال حضور الإمام، ليفرّق بينه وبين غيره من القضاة

ص: 39


1- الخلاف: ج 6/241 المسألة 40، رياض المسائل: ج 15/20.
2- المسالك: ج 13/333.

بكون القاضي منصوباً، وهذا غير المنصوب من غير الخصمين، أمّا في حال الغيبة فسيأتي أنّ المجتهد ينفذ قضاءه لعموم الإذن، وغيره لا يصحّ حكمه مطلقاً، فلا يتصوّر حالتها قاضي التحكيم)، انتهى .

أقول: وربما يُحتمل تصوّره في زمان الغيبة بالمرافعة إلى المفضول مع وجود الأفضل، بناءً على اختصاص النصب به دونه.

ولكن مع ما فيه من النظر، سيظهر لك أنّ الحقّ عدم اختصاص النصب بالأفضل، فالأولى ترك التعرّض لدليله وفروعه.

نعم، في المقام شيءٌ وهو أنّه: يجوز للمُتخاصمين الرّجوع إلى عاميّ مُصلحٍ ، بأنْ يُقيما البيّنة أو الحلف، ثمّ بعد ثبوت الحقّ لأحدهما عنده أو عدمه يأمرهما بالصُّلح، أو رفع يد أحدهما عن دعواه به، أو بالهبة وما شاكل، وليس ذلك من القضاء في شيء ولا مانعٍ منه.

بل رُبما يُدَّعى أنّ القضاء هو الحكم لأحد المتخاصمين على أنّه حُكم اللّه تعالى ، وبعنوان الولاية الثابتة مِن قِبل حُجّة اللّه، وأمّا لو حَكم لا بهذا العنوان، كما في القُضاة المنصوبين من قِبل سلاطين العصر، فلا مانع من حكمهم، غاية الأمر عليهم أن يراعوا في الحكم ثبوت الحقّ لمن يحكم له، والعلم به، بل ومع شهادة العدلين عنده بناءً على حجيّة البيّنة، ولكن لا يجوزُ له تحليف المنكر، لأنّه من وظيفة المجتهد، إلّاأن يكون الحلف لا بعنوان القاطع للخصومة، بل من جهة أنّ المسلم لايحلفُ كاذباً، فيكون حلفه حينئذٍ أحد الاُمور الموجبة لحصول العلم أو الاطمئنان، فلا مانع عنه.

ص: 40

بل ومن الممكن دعوى مطلوبيّة ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعون الضعيف، واللّه تعالى أعلم.

حكم ما لو تعدّد المجتهد

المسألة الثانية: إذا تعدّد المجتهد في البلد:

فتارةً : لا يكون أحدهما أعلم من الآخر.

وأُخرى : يختلفون في الفضيلة.

وعليه، فيقع الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في صورة عدم اختلاف المجتهدين في الفضيلة:

1 - فإنْ كان أحد الخصمين مدّعياً والآخر منكراً، فالمعروف بين الأصحاب أنّ اختيار تعيين الحاكم بيد المُدّعي.

واستدلّ له في «المستند»(1): بأنّه المطالب بالحقّ ، ولا حقّ لغيره أوّلاً، فمن طلب منه المُدّعي استنقاذ حقّه، يجب عليه الفحص، فيجبُ اتّباعه ولا وجوبَ لغيره.

وفيه: إنّه إنْ اُريد بالحقّ ، حقّ المُدّعي، فهو غير ثابت.

وإنْ اُريد به حقّ الدّعوى، فهو لا يوجبُ تقديم مختاره، إذ بعد الدّعوى يكون لخصمه حقّ الجواب.

مع أنّه يمكن أن يسبق خَصمه إلى الحاكم، ويطلبَمنه تخليصه من دعوى المُدّعي.

وعليه، فالصحيح أن يستدلّ له بالإجماع، وقد ادّعاه غير واحدٍ(2).

ص: 41


1- مستند الشيعة: ج 17/51.
2- مستند الشيعة: ج 17/51 قوله: (فالحكم لمن اختاره المُدّعي وهو المتّبع إجماعاً).

2 - وأمّا إنْ كان الخصمان متداعيين:

فإنْ رضيا بأحدهما، فلا إشكال فيه ولا كلام.

وإنْ اختار كلّ منهما غير ما اختاره الآخر:

ففي «ملحقات العروة»(1) (لا ينبغي الإشكال في القرعة).

وفي «المستند»(2): (أنّه لو سبق أحدهما إلى مجتهدٍ فحَكَم له - بناءً على جواز الحكم على الغائب - يقدّم، ولو استبق كلٌّ منهما إلى حاكمٍ حكمَ له، يقدّم من حُكْمُه أسبق، وإن تقارنا لم ينفّذ شيءٌ منهما، إذ نفوذهما معاً ممتنعٌ ، ونفوذ أحدهما دون الآخر ترجيحٌ بلا مرجّح، وإن اشتبه السّابق كان المرجع هو القرعة).

أقول: ما ذكره رحمه الله يتمّ فيما إذا كان كلّ من المتداعيّين في بلدٍ، ورجع إلى حاكم ذلك البلد، فَحَكَم له من باب الحُكم على الغائب، وأمّا إذا كانا في بلدٍ واحد، فحيثُ أنّ المفروض بنائهما على الترافع، وأنّ اختلافهما إنّما هو في المرجع، فمع سبق أحدهما إلى حاكمٍ من دون رضى الآخر، ليس له الحكم مع عدم حضور خَصمه من باب الحكم على الغائب، إذ ليس هذا مورد الحكم على الغائب حتّى إذا أمر باحضاره ولم يحضر، إذ اللّازم حضوره للترافع، ولا دليل على لزوم حضوره عند هذا الحاكم وإنْ أمَرَ بإحضاره، وسيأتي زيادة توضيح لذلك.

المقام الثاني: فيما لو كان أحدهما أعلم، ففيه قولان؛ ذهب إلى كلٍّ منهما جماعة، وربما يُدّعى أشهريّة تقديم الأعلم(3).3.

ص: 42


1- تكملة العروة: ج 2/15.
2- مستند الشيعة: ج 17/52.
3- مسالك الأفهام: ج 13/343.

وفي «ملحقات العروة»(1): (والظاهر أنّ مرادهم الأعلم في البلد أو ما يقرب منه، لا الأعلم مطلقاً، ولا يبعدُ قوّة هذا القول)، انتهى .

واستدلّ لتعين الأعلم:

1 - بأن ما دلّ على الرجوع إلى المجتهد في القضاء - لوروده في مقام بيان عدم جواز الرجوع إلى قضاة الجور - لا إطلاق له.

2 - وبأنّه لو سُلّم إطلاقه، يقيّد بما دلّ على الرجوع إلى المرجّحات عند اختلاف الحاكمين كالمقبولة(2).

3 - وبأنّ الظّن الحاصل من قول الأعلم أقوى نوعاً، فبالإتّباع أحرى ، فإنّ أقوال المجتهدين كالأدلّة للمقلّدين.

4 - وبأنّه مقتضى مذهبنا، ومبناه قُبح ترجيح المفضول على الأفضل.

5 - وبما في «نهج البلاغة» عن أمير المؤمنين عليه السلام في عهد طويل كتبه إلى مالك الأشتر حين ولّاه مصر وأعماله، قال فيه:

«واختر للحُكم بين النّاس أفضل رعيّتك في نفسك ممّا لا تضيق به الاُمور»(3).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ النصوص الدالّة على الرجوع إلى المجتهد، كما تكون في مقام بيان عدم جواز الرجوع إلى قضاة الجور، كذلك تكون في مقام بيان الرجوع إلى المجتهدين، كيف وجملةٌ منها متضمّنة للمرجّحات عند التعارض.3.

ص: 43


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/8.
2- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.
3- وسائل الشيعة: ج 27/159 ح 33481، نهج البلاغة: ص 433.

وأمّا الثاني: فلأنّ المقبولة المتضمّنة للترجيح بالأفقهيّة، إنّما هي في صورة الحُكم على الخلاف، وهذا غير اعتبارها بمجرّد الاختلاف بل مطلقاً، فكما أنّ سائر المرجّحات المذكورة فيها مثل موافقة الكتاب وغيرها مختصّة بتلك الصورة، كذلك هذا المرجّح، بل صدر المقبولة يدلّ على عدم اعتبارها في غير مورد الحُكم بالخلاف، فإنّها مفصّلةً مذكورة صدرها في «الوسائل» في الباب 11، من أبواب صفات القاضي، وذيلها الذي هو مورد الاستدلال في الباب 9 من تلك الأبواب، مع أنّ موردها الشبهة الحكميُّة، وفصل الخصومة فيها إمّا بالفتوى، أو بنقل الرواية.

وعلى أيّ حال، فاعتبار الأفقهيّة في هذا المقام غير اعتبارها في مقام الحكم والقضاء مطلقاً، حتّى فيما إذا كانت الشبهة موضوعيّة.

وأمّا الثالث: فلمنع أقوائيّة الظّن الحاصل من قول الأعلم، سيّما في الشبهات الموضوعيّة، وفي الشبهات الحكميّة فيما إذا كان حكم غير الأعلم مطابقاً لحكم الأعلم ممّن قد مات، إذ قد يتمكّن غير الأعلم من الأسباب ما لايتمكّن منه الأعلم، مع أنّ تمام ملاك حجيّة حكم المجتهد ليس هو الظّن، كي يكون الظّن الأقوى أحرى بالاتّباع، وإلّا لزم العمل بالظَّن الحاصل من أسبابٍ أُخرى إنْ كان أقوى ، وهو باطلٌ قطعاً، ولا الظَّن الحاصل من حكم المجتهد، وإلّا لزم عدم لزوم العمل به، إذا لم يحصل الظّن من قوله، بل من الجائز كون تمام الملاك للرجوع إلى العالم كونه عارفاً بالأحكام، ولا فرق بين أفراده من جهة كون بعضها أعرف من بعض.

وأمّا الرابع: فلأنّ بطلان ترجيح المفضول إنّما هو بالنسبة إلى ما للأفضليّة دخل فيه، ولذا لم يتوهّم أحدٌ عدم جواز امامة المفضول مع وجود الأفضل، فإنّ الملاك في

ص: 44

الإمامة هو العدالة، وفي المقام كذلك، فإنّ نفوذ الحكم إنّما هو من جهة نصب المجتهد بما هو مجتهد، ولا فرق في ذلك بين الأفضل وغيره، ولذا يجوزُ للإمام عليه السلام نصب القاضي من غير اشتراط تعذّر الوصول إليه، بل نصب أمير المؤمنين عليه السلام في بلدٍ قاضياً مع تيسّر الوصول إليه.

وأمّا الخامس: فلأنّه ليس في مقام بيان حكم لزومي، وإلّا كان المتعيّن إرجاع الكلّ إلى شخصٍ واحدٍ لا في كلّ بلدٍ إلى أفضل رعيّة ذلك البلد، بل كان المتعيّن تصدّي مالك الأشتر رحمه الله بنفسه للقضاء، لأنّه أفضل من كان في مصره قطعاً.

أضف إلى ذلك كلّه: أنّه لو تمّ شيءٌ من تلك الوجوه، لزم ترجيح الأعلم مطلقاً لا خصوص أعلم البلد.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا وجه لتقديم الأعلم، بل مقتضى إطلاق النصوص، هو التخيير بين الأعلم وغيره، ويعضده نصبُ ولاة الأمر في زمان حضورهم أشخاصاً للقضاء، مع أنّهم كانوا أعلم منهم، بل كان القضاة المنصوبون بعضهم أفضل من بعض.

نعم، مع فرض تعارض حكمهما ولو في فرض حكمهما دفعةً ، لابدّ من البناء على ترجيح حكم الأفقه، كما لابدّ من البناء على الترجيح بسائر ما في المقبولة من المرجّحات، ولكنّها أيضاً في صورة عدم تعاقب الحكمين، وإلّا فلا يتصوّر التعارض، لأنّ الحكم الأوّل إنْ كان عن ميزانٍ ، فلا يبقى مجالٌ للحكم الثاني لفصل الخصومة بالأوّل، وإلّا فلا يُسمَع حكمه كي يُعارض الثاني.

فرع: بناءً على المختار من التخيّير، هل يجوزُ للمجتهد غير الأعلم أن يحكم بما

ص: 45

يراه حكم اللّه، وإنْ كان مخالفاً لفتوى الأعلم في الشبهات الحكميّة، أم لابدّ وأن يحكم بما يطابقها؟

وجهان بل قولان: أظهرهما الأوّل، كما يشهد به صدر المقبولة، فإنّه إنّما حكم بترجيح حكم الأفقه في فرض تعارض الحجّتين، وإلّا فكان المتعيّن العمل بما يحكم به أحدهما، وإنْ كان هو غير الأعلم، وهذا الباب غير باب التقليد، ولذا يجبُ على المجتهد إذا كان أحد المتخاصمين، أن يعمل بحُكم الحاكم وليس له التقليد.

***

ص: 46

حكم أخذ الأجرة على القضاء

المسألة الثالثة: في أخذ الأُجرة على القضاء بين النّاس أقوال، ولذلك قال صاحب «الجواهر»(1): (فقد اضطربت فيه كلمات الأصحاب اضطراباً شديداً)، وإليك جملة منها:

قال الشيخ في محكيّ «النهاية»(2): (لا بأس بأخذ الأُجرة والرزق على الحُكم والقضاء بين النّاس من جهة السلطان العادل).

وقال المفيد(3): (لا بأس بالاُجرة في الحُكم والقضاء بين النّاس والتبرّع بذلك أفضل وأقرب إلى الصَّلاح).

وقريبٌ من ذلك ما عن القاضي(4).

وقال أبو الصلاح(5): (يحرمُ الأجر على تنفيذ الأحكام).

وقال ابن إدريس(6): (يحرمُ الأجر على القضاء).

وهذا القولُ محكيٌّ (7) عن جماعةٍ من القدماء والمتأخّرين، بل هو المنسوب إلى المشهور.

ص: 47


1- جواهر الكلام: ج 22/122.
2- النهاية: ص 367، وكذلك نكت النهاية: ج 2/102.
3- المقنعة: ص 588.
4- المهذّب البارع: ج 2/286 قوله: (ولا ينبغي له أن يأخذ الرزق على القضاء).
5- الكافي في الفقه: ص 283 قوله: (فصل فيما يحرم من المكاسب... وتنفيذ الأحكام).
6- السرائر: ج 2/217.
7- مستند الشيعة: ج 14/181.

وقال المصنّف رحمه الله في محكيّ «المختلف»(1): (الأقربُ أن نقول: إنْ تعيّن القضاء عليه، إمّا بتعيين الإمام عليه السلام له، أو بفقد غيره، أو بكونه الأفضل، وكان متمكّناً لم يجز الأجر عليه، وإنْ لم يتعيّن، أو كان محتاجاً، فالأقربُ الكراهة).

وقريبٌ منه ما عن المحقّق في «الشرائع»(2).

وقد استدلّ للمنع مطلقاً:

1 - بخبر يوسف بن جابر، قال: «قال أبو جعفر عليه السلام: لعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له، ورجلاً خان أخاه في امرأته، ورجلاً احتاج النّاس إليه لتفقّهه فسألهم الرَّشوة»(3).

بتقريب: أنّ المراد من قوله صلى الله عليه و آله: «فسألهم الرَّشوة» مطلق الجعل في مقابل الحكم، ولو كان بالحقّ ، إمّا لأنّه حقيقةً فيه أو أنّه أطلق عليه الرَّشوة تأكيداً للحرمة، وأنّ ظاهر قوله صلى الله عليه و آله: «احتاج النّاس إليه»، الاحتياج إلى نوعه لا إليشخصه.

2 - وبصحيح عمّار، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «كلّ شيء غُلّ من الإمام فهو سُحتٌ ، والسُّحت أنواعٌ كثيرة، منها: ما اُصيب من أعمال الولاة الظَّلَمة، ومنها اُجور القضاة، واُجور الفواجر، الحديث»(4).

بناءً على أنّ الأجر في العرف يشمل الجعل.

3 - وبحسن ابن سنان: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام: عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من1.

ص: 48


1- مختلف الشيعة: ج 5/17.
2- شرائع الإسلام: ج 2/6، وكذلك: ج 4/61.
3- الكافي: ج 5/559 ح 14، وسائل الشيعة: ج 27/223 ح 33644.
4- وسائل الشيعة: ج 17/95 ح 22068، معاني الأخبار: ص 317 ح 1.

السلطان على القضاء والرزق ؟ فقال: ذلك السُّحت»(1).

بتقريب: أنّ ظاهره وإنْ كان كون القاضي منصوباً من قبل السلطان الجائر، إلّا أنّه يشمل من هو قابلٌ في نفسه للتصدّي، ويحمل الرزق من السلطان على ما يبذل من غير بيت المال بإزاء القضاء، بقرينة حرف (على) الدالّة على المقابلة.

4 - وبخبر «الجعفريّات» فقد جعل الإمام عليه السلام فيه من السُّحت أجر القاضي(2).

أقول: ولكن في كلٍّ نظراً:

أمّا الأوّل: فلأنّ الرَّشوة كما عن «المجمع»(3) عبارة عمّا يُجعل على الحكم بالباطل، وقد مرّ الكلام فيه في هذا الشرح مفصّلاً(4) فلا تشمل ما يُبذل بإزاء الحكم بالحقّ .

فإنْ قيل: إنّ ظاهر الخبر بقرينة إطلاق قوله: (رجلاً احتاج النّاس إليه لتفقّهه» إرادة مطلق ما يُبذل لبذل الفقه.

قلنا: إنّه على فرض ثبوت كون الرَّشوة ما يُدفع بإزاء الحكم بالباطل، لا يكون تلك الجملة قرينةً لإرادة الأعمّ منها، بل المستفاد من الخبر حينئذٍ أنّ الملعون هو الصنف الخاص من الرّجل الذي احتاج النّاس إليه لتفقّهه.

أضف إلى ذلك كلّه، ضعف الخبر في نفسه، لجهالة يوسف وبعضٌ آخر من رجال السَّند.).

ص: 49


1- الكافي: ج 7/409 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/221 ح 33640.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/69 ح 14773-1، الجعفريّات: ص 180.
3- مجمع البحرين: ج 2/182، قوله: (والرَّشوة بالكسر ما يعطيه الشخص الحاكم وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد).
4- فقه الصادق: ج 21/34 في (موضوع الرَّشوة).

وأمّا الثاني: - ومثله الرابع - فلأنّ منصرفه أو ظاهره ولو بملاحظة العهد القضاة المنصوبون من قبل السلطان الجائر.

وأمّا الثالث: فلأنّ الظاهر من الحَسن هو ما يؤخذ من السلطان من بيت المال، أو من جوائزه، وحيث أنّه ستعرف جواز الارتزاق من بيت المال إذا كان القاضي جامعاً للشرائط، فيتعيّن حمله على ما إذا كان في نفسه غير قابلٍ لذلك، وحرمة أخذه الرزق حينئذٍ واضحة، كما سيأتي، وهي غير مربوطةً بما نحن فيه.

واستدلّ للقول بالجواز مطلقاً: بخبر ابن حمران، قال:

«سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: من استأكل بعلمه افتقر.

قلت: إنّ في شيعتك قوماً يتحمّلون علومكم، ويبثّونها في شيعتكم، فلا يعدمون منهم البِرّ والصِّلة والإكرام ؟

فقال عليه السلام: ليس اُولئك بمستأكلين، إنّما ذلك الذي يفتي بغير علمٍ ولا هُدى من اللّه، ليبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدُّنيا»(1).

فإنّ الظاهر منه حصر الاستيكال المذموم بما إذا كان بأخذ المال في مقابل الحكم بالباطل، أو مع الجهل بالواقع، فمقتضى مفهومه جواز الاستيكال مع العلم بالحقّ والحكم به.

وأُورد عليه: بأنّ الحَصر إضافي بالنسبة إلى الفرد الذي سأله السائل، فمفهومه عدم الذَّم على ذلك الفرد دون سائر الأفراد.

واُجيب عنه: بأنّه خلاف الظاهر.1.

ص: 50


1- وسائل الشيعة: ج 27/141 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 33427، معاني الأخبار: ص 181.

أقول: وأيّد الاُستاذ(1) الإيراد، ووجّهه بأنّه:

لمّا توهّم السائل أنّ من يحمل العلوم ويبثها في الشيعة، ووصل إليه منهم البِرّ والإحسان من دون أن يُطالب من المستأكل بعلمه المذموم، أجاب عليه السلام بأنّ ذلك ليس من الاستيكال المذموم، وأنّ المستأكل هو الذي يفتي بغير علمٍ لإبطال الحقوق، وعليه فمفهوم الحصر هو العقد السلبي المذكور في الخبر صريحاً، ولا يكون الخبر متعرّضاً لحكم سائر الأفراد.

وفيه: أنّه وإنْ لم يثبت كون (إنّما) من أداة الحصر، إذ كما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله أنّه لا مرادف لها في عرفنا اليوم من اللّغة العربيّة وغيرها، ولا هي تُستعمل بنحوٍ يمكن تشخيص معناها، فلا يُعلم أنّها تدلّ على الحصر أم لا، وتمام الكلام في محلّه.

ولكن على فرض تسليم ذلك، لا ينبغي التوقّف في دلالة الخبر على الحصر بالإضافة إلى جميع الأفراد، إذ لو كان المراد ما ذكره، لما كان وجه للتقييد بقوله:

«بغير علمٍ ولا هُدىً من اللّه ليبطل به الحقوق».

وبعبارة أُخرى : ذكر خصوص هذا الفرد، وحصر المذموم فيه، مع عدم كونه موردا للسؤال كاشفٌ عن إرادة الحَصر بالنسبة إلى جميع الأفراد، فالإيراد في غير محلّه.

والحقّ أن يُورد عليه: بمنع إفادة (إنّما) للحصر، وبضَعف الخبر لتميم بن بهلول وأبيه.

واستدلّ للقول الثالث: بأنّه في صورة تعيّن القضاء عليه، لا يجوزُ أخذ الأجر، لما دلّ على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب، وفي صورة عدم التعيّن، وعدم).

ص: 51


1- مصباح الفقاهة: ج 1/267 (حرمة الرَّشوة).

كونه محتاجاً، لا يجوزُ الأخذ لما دلّ من النصوص على المنع من أخذ الأجر على القضاء المتقدّمة.

وأمّا في صورة عدم التعيّن والحاجة، فيجوزُ الأخذ للعمومات، بعد اختصاص نصوص المنع بصورة الاستغناء.

أقول: أمّا في صورة التعيّن، فقد تقدّم الكلام مفصّلاً في هذا الشرح(1) في جواز أخذ الأُجرة على الواجب، وبيّنا أنّ الوجوب من حيث هو لا يصلحُ مانعاً عن صحّة الإجارة، وأنّه يجوزُ أخذ الأجرة على الواجب.

وأمّا في صورة عدم التعيّن: فقد مرّ عدم دلالة النصوص على المنع، وعلى فرض الدلالة عليه لم يظهر لي وجهُ اختصاصها بصورة الاستغناء.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا دليل على المنع من أخذ الأجر على القضاء، فلابدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة، وهي تقتضي جوازه، سواءٌ أكان المراد به ما يُبذل بإزاء الحكم بالحقّ ، أم كان المراد به ما يُبذل بإزاء تقلّد منصب القضاء، والتهيّؤ لحَسم المرافعات، سواءٌ دفعت إليه خصومه أم لا، لأنّه عملٌ محترمٌ فلايذهب هدراً.

حكم تبليغ الأحكام الشرعيّة: ظهر ممّا ذكرناه جواز أخذ الأُجرة على تبليغ الأحكام الشرعيّة، وتعليم المسائل الدينيّة.

وقد استدلّ على المنع:

1 - بأنّ تبليغ الأحكام واجبٌ :9.

ص: 52


1- فقه الصادق: أوائل الجزء 21/39.

إمّا مطلقاً بالنسبة إلى كلّ من أراد التعلّم، كما عن «جامع المقاصد»(1)، أو في خصوص ما هو محلّ الابتلاء.

أو أنّ الواجب التهيّؤ للتعليم، وأنّه إذا أراد أحدٌ تعلّمها يكون قادراً عليه، كما اختاره اُستاذنا المحقّق الشيرازي(2)، ولا يجوزُ أخذ الأُجرة على الواجب.

2 - وبخبر يوسف بن جابر المتقدّم.

3 - وبالإطلاقات الناهية عن أخذ الرَّشوة على الحكم.

أقول: وفي كلٍّ نظر:

أمّا الأوّل: فلما مرّ من جواز أخذ الأُجرة على الواجب، وأنّ الوجوب من حيثُ هو لا ينافي صحّة الإجارة، وأخذ الأُجرة.

وأمّا الثاني: فلما تقدّم من ضعف سنده وغيره.

وأمّا الثالث: فلما عرفت من عدم صدق الرَّشوة على ما يؤخذ بإزاء الحكم بالحقّ ، وبيان الأحكام.

***ه.

ص: 53


1- جامع المقاصد: ج 4/37.
2- قد يظهر ذلك من حاشية المكاسب ج 1 النوع الخامس ممّا يحرم التكسّب به.

حكم ارتزاق القاضي من بيت المال

أقول: بقي في المقام مسائل:

المسألة الاُولى: هل يجوز ارتزاق القاضي من بيت المال أم لا؟

والارتزاق إنّما هو الأخذ من بيت المال بسبب كون الشخص قاضياً مثلاً أو مؤذّناً أو نحو ذلك، وهو منوطٌ بنظر الحاكم، من دون أن يقدّر بقدرٍ خاصّ ، بخلاف الأُجرة، فإنّها تحتاجُ إلى تقدير العوض، وضبط المدّة، وتقدير العمل.

والحقّ أن يقال: إنّ القاضي إنْ كان جامعاً لشرائط القضاء، جاز ارتزاقه من بيت المال، كما هو المشهور بين الأصحاب، سواءٌ أكان منصوباً من قبل السلطان العادل، أم كان منصوباً من قِبل السلطان الجائر.

وفرض كونه منصوباً من قبل الجائر مع كونه جامعاً لشرائط القضاء إنّما يكون فيما إذا كان غَرضه من قبول المنصب قضاء حوائج الشيعة، وإنقاذهم من المهلكة والشِّدة والتحبّب إلى فقرائهم.

أقول: وكيف كان، فيشهد للجواز:

1 - أنّ بيت المال مُعدٌّ لمصالح المسلمين، كانت تحت يد العادل أو تحت يد الجائر، وهذا من مهمّاتها، لتوقّف انتظام أُمور المسلمين عليه.

2 - ومرسل حمّاد بن عيسى ، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح عليه السلام، في حديثٍ طويل: «في الخمس والأنفال والغنائم.

قال: والأرضون التي اُخذت عنوةً فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها ويُحييها.

ص: 54

ثمّ ذكر الزّكاة، وحِصّة العمّال، إلى أن قال: ويؤخذ الباقي، فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام، وتقوية الدّين في وجوه الجهاد، وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة.. الحديث»(1).

3 - وما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام في عهدٍ طويل إلى مالك الأشتر حين ولّاه على مصر وأعمالها، يقول فيه:

«واعلم أنّ الرعيّة طبقات - إلى أن يذكر القضاة وصفاتهم وما يعتبر فيهم، ثمّ قال: وأكثر تعاهد قضائه، وافسح له في البذل ما يُزيح علّته، وتقلّ معه حاجته إلى النّاس، وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره»(2).

ويؤيّده خبر «الدعائم» عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

«لابدّ من قاضٍ ورزقٍ للقاضي، وكَرُه أن يكون رزق القاضي على النّاس الذين يقضي لهم، ولكن من بيت المال»(3).

واستدلّ لعدم جواز الارتزاق من بيت المال؛ إمّا مطلقاً، أو في ما إذا كان منصوباً من قِبل السلطان الجائر:

بحسن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السّلطان على القضاء الرزق ؟ فقال عليه السلام: ذلك السُّحت»(4).

ولكن الظاهر منه أو منصرفه هو القاضي المنصوب من قبل السلطان الجائر.

وإنْ أبيتَ عن ذلك، فهو محمولٌ على ذلك بعد الجمع بينه وبين ما تقدّم من ما0.

ص: 55


1- الكافي: ج 1/539 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/221 ح 33641.
2- وسائل الشيعة: ج 27/223 ح 33648، نهج البلاغة: ص 433.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/353 ح 21559-2، دعائم الإسلام: ج 2/538 ح 1912.
4- الكافي: ج 7/409 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/221 ح 33640.

دلّ على جواز الارتزاق.

واختار بعض(1) عدم جواز الارتزاق مع تعيّن القضاء عليه، معلّلاً بوجوب القضاء عليه، فلا يجوزُ له أخذ العوض كما في سائر الواجبات.

وفيه: ما تقدّم من أنّ الارتزاق من بيت المال غير الأُجرة، مع أنّه لا مانع من أخذ الأُجرة على الواجب كما مرّ.

وعن جماعة(2): عدم جواز الارتزاق مع عدم الحاجة، وعن «المسالك»(3)أنّه الأشهر.

واستدلّ له:

1 - بأنّ المسلّم جواز الارتزاق من بيت المال مع الحاجة، ولو بواسطة تقلّد منصب القضاء المانع من التكسّب.

2 - وبأنّ بيت المال مُعدٌّ للمحاويج.

ولكن يردّهما: أنّ بيت المال مُعدٌّ لمصالح المسلمين، كان القائمُ بالمصالح محتاجاً أم لم يكن كذلك، أضف إلى ذلك إطلاق الخبرين.

نعم، إذا لم يكن القاضي واجداً لشرائط القضاء المقرّرة في الشريعة، كجُلّ القضاة المنصوبين من قبل سلاطين الجور، لا يجوزُ ارتزاقه من بيت المال، لعدم كونه من موارد مصرف بيت المال، ولحسن ابن سنان.ت.

ص: 56


1- حكاه الشهيد الثاني في شرح اللّمعة: ج 3/71 بقوله: (وقيل لا يجوز مع تعيّنه عليه لوجوبه). وحكاه في المسالك: ج 13/348.
2- جامع المقاصد: ج 4/37، جواهر الكلام: ج 40/52، كتاب المكاسب الشيخ الأنصاري: ج 2/154 (ط. ج).
3- مسالك الأفهام: ج 13/348 قوله: اشهرهما المنع لأنّه حينئذٍ يؤدي واجباً فلا يجوز له اخذ العوض عنه كغيره من الواجبات.

حكم أخذ القاضي الهديّة

المسألة الثانية: هل يجوز للقاضي أخذ الهديّة، وهي ما يُبذل على وجه الهبة، ليورِثَ المودّة الموجبة للحكم له، أم لا يجوز؟ قولان:

اختار جماعة منهم الشيخ الأعظم(1)، وصاحب «الجواهر»(2) الحرمة، وقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: ما دلّ على حرمة الرَّشوة بدعوى أنّها تصدقٌ على الهديّة أيضاً.

وفيه: أنّ الرَّشوة هي ما كان بإزاء الحكم، لا ما يُبذل بداعي الحكم، ولا أقلّ من أنّ هذا هو المتيقّن منها، ويشهدُ له جعل ذلك في مقابل الرّشوة في خَبر الأصبغ(3).

الوجه الثاني: عموم مناط حرمة الرَّشوة، وهو صرف القاضي عن الحكم بالحقّ للمقام.

وفيه: أنّه لا قطع بالمناط كي يصحّ التمسّك بتنقيح المناط، وإلّا لحرم المدح له وتعظيمه، والمبادرة إلى سماع قوله، وقضاء حوائجه ونحو ذلك.

الوجه الثالث: قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (4).

بتقريب: أنّ المال الذي يُهدى قبل الحكم إلى القاضي ليورِث المودّة الموجبة للحكم له، وإنْ لم يقابل بالدّاعي الذي دَعى إلى البذل في الصورة، إلّاأنّه في اللُّب والواقع قوبل به.

ص: 57


1- كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: ج 1/246 (ط. ج).
2- جواهر الكلام: ج 40/133.
3- وسائل الشيعة: ج 17/94 ح 22066، ثواب الأعمال: ص 261.
4- سورة النساء: الآية 29.

وفيه: ما تقدّم مراراً من أنّ الدواعي لا تُقابل بالمال، ولذا لا يضرّ تخلّف الداعي بلزوم المعاملة وصحّتها.

الوجه الرابع: ما دلّ على حرمة الإعانة على الإثم.

وفيه: أنّه قد مرّ في هذا الشرح(1) أنّه لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم.

الوجه الخامس: ما تضمّن زَجر النبيّ صلى الله عليه و آله عمّال الصَّدقة عن أخذهم للهديّة، كالنبويّ المرويّ عن أبي حميد الأنصاري:

«والذي نفسي بيده لا يقبل أحدٌ منكم شيئاً إلّاجاء به يوم القيامة يحمله على رقبته»(2).

وفيه: إنّه ضعيف السند، لا يُعتمد عليه في الحكم.

الوجه السادس: ما عن «عيون الأخبار»، بإسناده عن الإمام الرّضا، عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «في قوله تعالى : (أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ) ؟

قال: هو الرّجل يقضي لأخيه الحاجة ثم يقبل هديّته»(3).

وفيه: مضافاً إلى ضعف سند الخبر، أنّ ظاهره حرمة أخذ الهديّة المتأخّرة عن قضاء الحاجة، وحيث إنّه لم يفتِ أحدٌ بالحرمة في الفرض، فيتعيّن حمله على الكراهة، ورجحان التجنّب عن قبول الهدايا من أهل الحاجة إليه، لئلّا يقع في الرَّشوة يوماً، فإنّ ذلك أولى من حمله على الهديّة المتقدّمة مقيّداً لها بما إذا كانت بداعي الحكم له بالباطل، كما لا يخفى .6.

ص: 58


1- فقه الصادق: ج 21/286.
2- المبسوط: ج 8/151.
3- وسائل الشيعة: ج 17/95 ح 22067، عيون الأخبار: ج 2/28 ح 16.

الوجه السابع: خبر الأصبغ عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أيّما والٍ احتجب عن حوائج النّاس، احتجب اللّه عنه يوم القيامة وعن حوائجه، إن أخذ هديّة كان غلولاً، وإن أخذ الأُجرة فهو مشركٌ »(1).

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده لأبي الجارود، وسعد الاسكاف - أنّه يدلّ على حرمة أخذ الوالي الهديّة، لا أخذ القاضي لها، ولعلّ وجه حرمته ما ذكره بعض الأكابر(2) من أنّها تكون عن كُرهٍ وخوفاً من ظُلمه وجوره، أو يُحمل على الكراهة أو غير ذلك من المحامل المذكورة في المطولات.

الوجه الثامن: ما ورد من أنّ : «هدايا العمّال غَلول» وفي آخر: «سحتٌ »(3).

وفيه: مضافاً إلى ضعف السند، أنّه إمّا أن يراد من هذه النصوص ما يهديه العُمّال إلى الرعيّة، أو يكون المراد ما يهديه العُمّال إلى الولاة.

وعلى أيّ تقديرٍ تكون أجنبيّة عن المقام.

أمّا على الأوّل: فواضحٌ ، لأنّها حينئذٍ تكون من النصوص المتضمّنة لعدم جواز أخذ جوائز السلطان وعمّاله.

وأمّا على الثاني: فلما مرّ في سابقه.

فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة أخذ الهديّة.

وعليه، فالأقوى جوازه سواءٌ أكانت متقدّمة على الحكم أو متأخّرة عنه،5.

ص: 59


1- وسائل الشيعة: ج 17/94 ح 22066، ثواب الأعمال: ص 261.
2- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/26 قوله: (ولعلّ الوجه في حرمتها هو أن تكون عن كره وخوفاً من ظلمه وجوره).
3- بحار الأنوار: ج 23/14 من طبع الكمباني، وسائل الشيعة: ج 27/223 في باب 8 من أبواب آداب القاضي: هدايا الأمراء غلول ح 33645.

وسواءٌ أكانت للروابط الشخصيّة أو قربةً إلى اللّه تعالى ، أم كانت بداعي الحكم بالباطل أو بالحقّ ، أو الأعمّ منهما، لعموم دليل صحّة الهبة وجوازها.

حكم المعاملة المحاباتيّة مع القاضي

المسألة الثالثة: في حكم المعاملة المشتملة على المحابات مع القاضي.

ونخبة القول:

إنّه تارةً : لا يقصد من المعاملة إلّاالمحابات التي في ضمنها، لا بمعنى عدم إنشاء المعاوضة أصلاً - فإنّ ذلك خروجٌ عن محلّ الكلام - بل بمعنى أنّ المقصود الأصلي من المعاملة إيصال الزائد إلى القاضي ليحكم له.

وبعبارة أُخرى : كان قصده للمعاملة تبعيّاً مقدّميّاً، لأجل أن يتوصّل إلى المحابات.

وأُخرى : يقصد المعاملة، ولكن يجعل المحابات لأجل الحكم له، بمعنى أنّ الحكم له من قبيل الشروط التي تواطيا عليها التي هي بحكم الّتي صرّح بها في العقد.

وثالثة: يقصد المعاملة ويُحابى فيها لأجل جلب قلب القاضي.

أمّا في الصورة الأُولى : فقد يقال بالحرمة من جهة كون الناقص من الرِّشا المحرّم.

وفيه: إنّ الرّشا هو بذل المال بإزاء الحكم، وفي المقام المال إنّما يُبذل بإزاء الثمن، غاية الأمر أنّ الدّاعي هو الحكم.

واستدلّ المحقّق التقي رحمه الله(1) لها: بأنّ عنوان الرّشا يصدقُ على نفس المعاملة.

ص: 60


1- حاشية المكاسب للميرزا الشيرازي: ج 1/75.

وفيه: إنّ عنوان المعاملة ينطبقُ على بذل المال بإزاء الثمن، وقبول صاحب الثمن، فالمقابلة إنّما هي بين المالين، وليس غير ذلك شيءٌ يقابل بالحكم كي يكون هو الرّشاء.

نعم، بعض ما استدلّ به على حرمة الهديّة، يدلّ على حرمة المعاملة المحاباتيّة، لكن عرفت ما فيه.

وعليه، فالأظهر عدم الحرمة.

وأمّا في الصورة الثانية: فإنْقلنا بأنّ الشَّرط حتّى مثل هذا الشرط غير المذكور، يقسّط عليه الثمن يحرمُ إعطاء مقدار ما قابل الشرط، لكونه رشوةً ، وإلّا فحكم هذه الصورة حكم الصورة الأُولى، وأولى بعدم الحرمة الصورة الثالثة، كما لا يخفى .

وقد قوّى الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله(1) فساد المعاملة المُحابى فيها، واستدلّ له في جميع الصور بالنصوص(2) الدالّة عليبقاءالمال عليملك الراشي بأيّطريقٍكان.

وفي الصورة الثالثة:

1 - بأنّ ذلك مقتضى النهي عن الرّشا، الصادق على المعاملة في المقام.

2 - وبأنّ إعطاء الرَّشوة صادقٌ على دفع المبيع الذي حابى في معاملته، فيكون الدفع حراماً، وهو لا يُجامع صحّة المعاملة، إذ صحّتها ملازمة لوجوب الدفع، وفي الصورة الثانية بأنّ الشرط الفاسد مفسدٌ.

أقول: وفي كلٍّ نظر:م.

ص: 61


1- كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري: ج 1/249 (ط. ج).
2- الكافي: ج 7/409 باب أخذ الأُجرة والرشا على الحكم، وسائل الشيعة: ج 27/221 باب 8 باب تحريم الرَّشوة في الحكم.

أمّا الأوّل: فلأنّ غاية ما يُستفاد من النصوص بقاء المال على ملك الراشي، إنْ لم يكن بعقدٍ من العقود، مع أنّه عرفت عدم صدق الرَّشوة على المعاملة المُحابى فيها.

وأمّا الثاني فيردّه: أنّ حرمة المعاملة لا تستلزمُ فسادها، كما مرّ تحقيقه، مع أنّ صدق الرَّشوة عليها ممنوع.

وأمّا الثالث: فلأنّ الدفع الواجب بمقتضى المعاملة الواقعة لا يكون مصداقاً للرّشا، أضف إليه أنّه لا يتأتّى فيما كان مقبوضاً قبل المعاملة، أو كان في حكم القبض ممّا هو ثابتٌ في الذّمة.

وأمّا الرابع: فلما تقدّم في محلّه من أنّ الشرط الفاسد لا يكون مفسداً.

فالمتحصّل: أنّ الأظهر عدم حرمتها، وصحّة المعاملة ولزومها.

حكمُ ما يُؤخذ بحكم قاضي الجور

المسألة الرابعة: قد عرفت أنّه يحرمُ على من ليس أهلاً للقضاء أن يتصدّى لمنصب القضاء، ولا ينفّذ حكمه، وأنّه لا يجوزُ الترافع إليه، وقد مرّ ما يدلّ على جميع ذلك.

إنّما الكلام في المقام في حكم المال الذي يُؤخذ بحكمه، وفيه أقوال:

1 - إنّه حرامٌ وإنْ كان الآخذ محقّاً، وهو المشهور بين الأصحاب، نعم استثنى بعضهم من ذلك مورداً سيأتي.

2 - الفرق بين المأخوذ بالترافع إلى قضاة الجور، وبين المأخوذ بالترافع إلى غيرهم ممّن ليس أهلاً للحكم، فيجوزُ التصرّف في الثاني إنْ كان مُحقّاً، ولا يجوزُ في

ص: 62

الأوّل، واليه مال السيّد في «ملحقات العروة»(1).

3 - التفصيل بين العين والدّين، فيجوزُ في الأوّل دون الثاني.

وفي «الجواهر»(2): (فلابدّ من حمل الخبرين على الأعمّ من ذلك، لكن على معنى أنّ أصل ثبوت الاستحقاق للدين أو العين قد كان بحكمهم الباطل، لا أنّهما ثابتان بالحكم الحقّ ، وأخذهما قد كان بحكم الطاغوت).

أقول: والأظهر هو الثاني، لقوله عليه السلام في المقبولة المتقدّمة: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل، فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سُحتاً، وإنْ كان حقّاً ثابتاً له».

ودعوى: أنّ السُّحت صفة الفعل لا المال، فالخبرُ يدلّ على حرمة الأخذ، وهي ممّا لا كلام فيه، وحيث إنّه عالمٌ بأنّه ماله، فيجوزُ له التصرّف فيه كسائر أمواله.

مندفعة: بظهور الهيئة، سيّما بواسطة قوله عليه السلام: «وإنْ كان حقّاً ثابتاً له» في كونه صفةٌ للمال المأخوذ.

فإنْ قيل: يختصّ الخبر بالدين ولا يشمل العين، إذ احتمال خروج العين عن ملكه بعيدٌ.

قلنا: إنّ تخصيص الخبر بالدين، مضافاً إلى منافاته للإطلاق، يأباه ما في صدر المقبولة من فرض التنازع في الدّين والميراث، والاستبعاد المذكور يندفعُ بأنّه لا مانع من صيرورته حراماً بالعنوان الثانوي، ولا يلتزم بخروجه عن ملكه.

وما أفاده السيّد(3): بأنّه يمكن حمل الخبر على أنّه بمنزلة السُّحت في العقاب،9.

ص: 63


1- تكلمة العروة الوثقى: ج 2/9 قوله: (لا يجوز الترافع الى قضاة الجور اختياراً ولا يحلّ ما أخذه).
2- جواهر الكلام: ج 40/37.
3- تكملة العروة الوثقى: ج 2/9.

لا أنّه يحرمُ التصرّف فيه، أو أنّ التصرّف فيه محرّمٌ بالنهي السابق.

يرد عليه: - مضافاً إلى عدم معنى معقول لثبوت الحرمة بالنهي السابق، وإنْ اُفيد ذلك في الخروج عن الدار الغصبيّة، ولكن بيّنا في محلّه فساده - أنّه حملٌ لا شاهد له، ورفعٌ لليد عن الظاهر بلا قرينة.

كما أنّ حمله على ما إذا كان حقّه ثابتاً بمقتضى حكمهم لا في الواقع، خلافُ الظاهر، لأنّ ظاهره الثبوت واقعاً.

فإنْ قيل: إنّ خبر ابن فضّال يدلّ على التخصيص، وقد جاء فيه: «قرأتُ في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني عليه السلام، وقرأته بخطّه:

سأله ما في تفسير قوله تعالى : (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ ) (1)؟

فكتب عليه السلام بخطّه: الحُكّام القضاة، ثمّ كتب تحته: هو أن يعلم الرّجل أنّه ظالمٌ فيحكم له القاضي، فهو غير معذورٍ في أخذه ذلك الذي قد حَكم له، إذا كان قد علم أنّه ظالم»(2).

قلنا أوّلاً: إنّ الخبر لوروده في تفسير الآية الكريمة يدلّ على حصر الباطل بهذا المورد، ولا يدلّ على حصر الحرام به.

وثانياً: أنّه لا يكون مختصّاً بقضاة الجور، بل هو إمّا مختصٌّ بقضاة العدل، أو مطلقٌ يُحمل عليهم بقرينة المقبولة المختصّة بقضاة الجور.

وعليه، فالأظهر حرمة المأخوذ وإنْ كان الآخذ محقّاً، من غير فرقٍ بين7.

ص: 64


1- سورة البقرة: الآية 188.
2- التهذيب: ج 6/219 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/15 ح 33087.

العين والدّين.

نعم، المقبولة مختصّة بقضاة الجور، فيختصُّ ذلك بهم، وفي غيرهم يرجعُ إلى ما يقتضيه القواعد، وهو عدم حرمة التصرّف إذا علم أنّه محقّ ، غاية الأمر أنّه إنْ كان حقّه ديناً، لابدّ وأن يكون المورد من موارد جواز التقاصّ إنْ لم يعط الخصم ذلك برضاه، وإلّا فلا إشكال فيه أيضاً.

ثمّ إنّه فيما يأخذه بحكم قاضي الجور إن أذِنَ الحاكم الشرعي في جواز التصرّف يجوز له ذلك.

أقول: قد استُثني من عدم جواز التصرّف وإنْ كان محقّاً، موردٌ وهو ما إذا انحصر استنقاذ حقّه بالترافع عند قاضي الجور، إمّا لعدم رضى الطرف الآخر إلّا بالترافع إليه، أو لعدم وجود الحاكم الشرعي، أو نحو ذلك.

ومن هنا قالوا - كما عن جماعة(1) -: إنّه يجوز الترافع إليه، ويحلّ ما يأخذه.

ونُسب إلى الأكثر المنع(2)، واستدلّ له بإطلاق النصوص، وبأنّه إعانة على الإثم، وبأنّ الترافع إليه أمرٌ منكرٌ وهو حرام.

أقول: وفي كلّ نظرٌ، لأنّ جميع هذه الأدلّة محكومة بحديث(3) نفي الضّرر، أضف إليه أنّه لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم، لا سيّما في هذا المقام، كما مرّ الكلام فيه مفصّلاً في المكاسب المحرّمة. ولا يبعدُ دعوى اختصاص المقبولة التي هي المدرك لحرمة التصرّف فيما يأخذه، وإنْ كان حقّاً، بغير هذا المورد، لفرضه النزاع3.

ص: 65


1- مسالك الأفهام: ج 13/335 / رياض المسائل: ج 15/24-25.
2- كفاية الأحكام: ج 2/663-664.
3- الكافي: ج 5/280 ح 4، وسائل الشيعة: ج 18/32 ح 23073.

بين رجلين من أصحابنا، وحكم الإمام عليه السلام برجوعهما إلى المجتهد الجامع للشرائط بعد سؤاله: «فكيف يصنعان ؟».

ويؤيّد الجواز في هذه الصورة، الأخبار(1) الدالّة على جواز الحلف كاذباً باللّه تعالى لدفع الضّرر المالي.

قال صاحب «الجواهر» رحمه الله(2): (ولعلّه المراد من خبر عليّ بن محمّد، قال:

«سألته هل نأخذ في أحكام المخالفين ممّا يأخذون منا في أحكامهم ؟ فكتب عليه السلام: يجوزُ ذلك إنْ شاء اللّه تعالى ، إذا كان مذهبكم فيه التقيَّة والمداراة لهم، بناءً على ما في «الوافي»(3) من أنّ المراد: هل يجوزُ لنا أن نأخذ حقوقنا منهم بحكم قضاتهم، يعني إذا اضطرّوا إليه كما إذا قدّمه الخصم إليهم)(4).

وفيه تأمّلٌ لعدم ربطه بالمقام.

هذا كلّه فيما إذا كان حقّه ثابتاً بالعلم الوجداني أو التعبّدي، من جهة قيام الحجّة عليه.

وأمّا في صورة الجهل، فحديثُ نفي الضّرر لا يصلح لرفع الحرمة، لعدم ثبوت الضّرر المالي، كي يُنفى الحرمة بدليل نفيه، وعلى فرض حكمهم، فلا يجوزُ أخذه لعدم ثبوت الحقّ بحكمهم.

***2.

ص: 66


1- الكافي: ج 7/435 باب اليمين الكاذبة، وسائل الشيعة: ج 23/224 باب 12 باب جواز الحلف باليمين الكاذبة للتقيّة.
2- جواهر الكلام: ج 40/35.
3- الوافي: ج 16/905.
4- التهذيب: ج 6/224 ح 27، وسائل الشيعة: ج 27/226 ح 33652.

ما يثبُت به اجتهاد القاضي

المسألة الخامسة: يَثبتُ اجتهاد القاضي وولايته بالتبع:

1 - بالعلم الحاصل من الإختبار لمن كان من أهل الخبرة، أو الحاصل من القرائن.

2 - أو الشِّياع والاستفاضة، لأنّ طريقيّة العلم ذاتيّة غير قابلة للانفكاك عنه.

3 - وبشهادة العدلين من أهل الخبرة، لعموم أدلّة حجيّة البيِّنة.

بل وبخبر العدل الواحد، بناءً على ما هو الحقّ من حجيّته في الموضوعات، وقد مرّ الكلام في ذلك في غير موضعٍ من هذا الشرح.

أقول: والمقصود في المقام التعرّض لما عن جماعةٍ من كفاية الظّن الحاصل من الشياع في ثبوت الاجتهاد والولاية، وقد استدلّوا له:

1 - بمرسل يونس، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن البيّنة إذا اُقيمت على الحقّ ، أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة إذا لم يعرفهم من غير مسألة ؟

فقال عليه السلام: خمسة أشياء يجبُ على النّاس أن يأخذوا فيها بظاهر الحكم:

الولايات، والتناكح، والمواريث، والذَّبائح، والشِّهادات، فإذا كان ظاهره ظاهراً مأموناً جازت شهادته، ولا يُسأل عن باطنه»(1).

بتقريب: أنّ المراد من الحُكم هي النسبة الخبريّة، وظهور هذه النسبة عبارة عن الشيوع والاستفاضة، فيدلّ المرسل على أنّه يجوز الأخذ بهذا الظهور الخبري في هذه الاُمور الخمسة، التي منها الولايات، ومنها هذه الولاية.

ص: 67


1- الكافي: ج 7/431 ح 15، وسائل الشيعة: ج 27/289 ح 33776.

2 - وبصحيح حريز، عن أبي عبداللّه عليه السلام، المتضمّن لقصّة ولده إسماعيل حيث إنّه دفع دنانيره إلى رجلٍ بلغه أنّه يَشرب الخمر، وأتلفها الرّجل ولم يأته بشيء منها، والحديث طويلٌ وفيه يقول الإمام عليه السلام:

«فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم، ولا تأتمن شارب الخمر»(1).

بتقريب: أنّه عليه السلام أمر بترتيب آثار الواقع على مجرّد قول النّاس أنّه يشرب الخمر، ووصف المقول فيه بأنّه (شارب الخمر) وهو عبارة عن الشِّياع.

3 - وبأنّ الظّن الحاصل منه أقوى من الظّن الحاصل من البيّنة العادلة.

4 - وبأنّه يعسرُ إقامة البيّنة عليه كالنسب، وعليه فيجري فيه مقدّمات الانسداد.

بتقريب: أنّ تحصيل العلم به عَسِرٌ وكذلك البيّنة العادلة، ويلزم من إجراء أصالة عدم الاجتهاد تفويتُ الحقوق، والاحتياط متعذّرٌ ومتعسّر، فلا مناص عن التنزيل إلى الظّن الحاصل لقبح ترجيح المرجوح على الراجح.

أقول: وفي كلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر منه إرادة النسبة من الحُكم لا الخبريّة، وظهور النسبة عبارة عن ظهور الحال، وهو غير ظهور الخبر عنها وشيوعه، ألا ترى أنّه ربما تكون عدالة زيدٍ وولديته لعمرو ظاهرة، ولكن الخبر عنها ليس شائعاً، والشاهد على إرادة ذلك من الحكم - مضافاً إلى ظهوره - قوله عليه السلام في ذيل المرسل: «فإذا كان ظاهره... الخ» فإنّه صريحٌ في أنّ الظاهر قبال الباطن.

وعن بعضِ نسخ «التهذيب»: «ظاهر الحال» بدل «ظاهر الحكم»، وعليه7.

ص: 68


1- الكافي: ج 5/299 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/82 ح 24207.

فالأمر أوضح.

فيكون المتحصّل من الخبر: أنّه في هذه الموارد الخمسة يجوزُ الأخذ بظاهر الحال، ففي مورد الشهادات مثلاً إذا كان الشاهد ظاهرُ الصَّلاح عند النّاس، تُقبل شهادته.

وأمّا الثاني: فلأنّ المأمور به فيه ليس ترتيب آثار الواقع بأجمعها، بل خصوص ما ينفع المُخبِر إليه، ولا يضرّ المُخبَر عنه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّه يدلّ على تصديق المُخبر، ولا يدلّ على العمل على طبق قوله، ويشهدُ لما ذكرناه قوله عليه السلام في خبرٍ آخر:

«كَذِّب سَمعَك وبَصَرك عن أخيك، فإنْ شَهِد عندك خمسون قسامة وقال قولاً فصدّقه وكذّبهم»(1).

فإنّه أمر بتكذيب خمسين قسامة، وتصديق قول الواحد، وليس ذلك إلّا لما ذكرناه.

وأمّا الثالث: فلأنّه لم يثبت كون ملاك حجيّة البيّنة إفادتها الظَّن، بل الثابت خلافه، فلذا تكون حجّة مع الظّن بالخلاف أيضاً، فضلاً عن عدم الظّن بالوفاق.

وأمّا الرابع: فلأنّ تحصيل العلم أو قيام البيّنة العادلة أو خبر الواحد على المختار لا يكون عَسِراً.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم ثبوت الاجتهاد بالشِّياع الظنّي.

***3.

ص: 69


1- الكافي: ج 8/147 ح 125، وسائل الشيعة: ج 12/295 باب 157 من أحكام العشرة ح 16343.

عدم جواز نقض حُكم الحاكم

المسألة السادسة: لا يجوز نقض حُكم الحاكم الجامع للشرائط، ولو لمجتهدٍ آخر، بل يجبُ عليه أيضاً إمضائه، بلا خلافٍ فيه في الجملة.

وفي «المستند»(1): (والظاهر أنّه إجماعيٌ ونَقْلُ الإجماع عليه مستفيض).

ويشهد له: قوله عليه السلام في المقبولة: «فإذا حَكَم بحُكْمِنا فلم يُقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا رَدّ، والرّاد علينا الرّاد على اللّه تعالى ، وهو على حَدّ الشرك باللّه»(2).

وهذا ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في موردين:

المورد الأوّل: أنّه إذا نظر المجتهد الثاني فتبيّن له خطأه، هل يجوزُ له نقضه أم لا؟.

ففي جملةٍ من الكتب كالقواعد(3)، و «الإرشاد»(4)، و «الشرائع»(5): أنّه يجوزُ النقض في هذه الصورة.

ويُحتمل أن يكون مرادهم صورة العلم الوجداني، كما صرّح به في خصوص هذه الصورة جماعة(6).

وفي «ملحقات العروة»(7): (لا يجوزُ له نقضه إلّاإذا علم عِلْماً قطعيّاً بمخالفته

ص: 70


1- مستند الشيعة: ج 17/100.
2- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.
3- قواعد الأحكام: ج 3/433.
4- الإرشاد: ج 2/141.
5- شرائع الإسلام: ج 4/68.
6- كالاجتهاد والتقليد، للسيّد الخوئي قدس سره: ص 276، مسألة 56.
7- تكلمة العروة الوثقى: ج 2/36.

للواقع، بأن كان مخالفاً للإجماع المحقّق، أو الخبر المتواتر، أو إذا تبيّن تقصيره في الاجتهاد، ففي غير هاتين الصورتين لا يجوزُ له نقضه، وإنْ كان مخالفاً لرأيه، بل وإنْ كان مخالفاً لدليل قطعي نظري)، انتهى .

والظاهر من هذه العبارة أنّ المستثنى عنده خصوص ما إذا كان التقصير في الاجتهاد عمداً أو سهواً أو نسياناً، وفي غير هذه الموارد لا يجوزُ النقض.

أقول: وحقّ القول في المقام إنّه إذا أُحرز تقصير الحاكم في الاجتهاد، وأنّ الحكم جارٍ على خلاف موازين الاستنباط، يجوز نقضه لعدم كونه حكماً بحكمهم، ولأنّ الحكم الجاري على خلاف موازين الاستنباط يوجبُ الفسق في بعض الموارد، وهو يمنع عن نفوذ حكم الحاكم، وإن علم عدم تقصيره في الاجتهاد، ولو بإحراز عدالته:

فإنْ أحرز خطاء اجتهاده، ومخالفته للواقع بدليلٍ اجتهادي، لا بدليل موجبٍ للعلم الوجداني، لا يجوزُ نقضه، لأنّ مورد المقبولة التي هي مستند عدم جواز النقض إنّما هو التنازع في الميراث والدّين، الظاهر في التنازع في الحكم الكلّي، مع استناد كلٍّ من المجتهدين إلى حجّة غير ما يكون مستند الآخر، ولذلك في مقام الترجيح حكم الإمام عليه السلام أوّلاً بترجيح الأفقه والأعدل والأوثق، وبعد فرض السائل تساويهما من هذه الجهات حكم عليه السلام بأنّه يعمل بمستند كلّ منهما كان واجداً لأحد مرجّحات الرواية عند التعارض، فإنْ التزم بجواز النقض بالاجتهاد، لزم خروج المورد، ففي هذا المورد لا ينبغي التوقّف في عدم جواز النقض.

وإنْ أُحرز مخالفة حكمه للواقع بالعلم الوجداني، فجواز النقض مع أنّ مقتضى إطلاق المقبولة عدمه، مبتنٍ على كون وجوب القبول وجوباً طريقيّاً، وحجيّة

ص: 71

الحكم نظير حجيّة الخبر على نحو الطريقيّة لا الموضوعيّة، وهو خلاف الظاهر جدّاً، سيّما بعد ملاحظة مورد المقبولة، كما هو واضح.

ودعوى: أنّ الموضوع هو الحكم بحكمهم، وهذا في الفرض معلومُ العدم، ومعه لا وجه لعدم النقض.

مندفعة: بأنّ الموضوع ليس هو الحكم بالحكم الواقعي، بل بما هو كذلك في نظره، وإلّا لما حَرُم النقض مع الحجّة على خلافه، بل مع الشكّ في كونه كذلك، لعدم إحراز قيد موضوعه.

فتحصّل: أنّ الأظهر بحسب الأدلّة عدم جواز النقض في هذا المورد أيضاً.

اللّهُمَّ إلّاأن يُدّعى الانصراف عن ذلك، لا سيّما ومن البعيد جدّاً وجوب قبول حكم بخلاف ما أنزل اللّه تعالى، ويكون الرّاد عليه كالرّاد على اللّه تعالى، أو يدّعي الإجماع على جواز النقض في هذا المورد أيضاً.

المورد الثاني: أنّه إذا أنكر المحكوم عليه حقّ المحكوم له، فحضرا عند الحاكم الثاني، وادّعى المحكومُ له الحقّ ، وأنكر غريمه، وتمسّك المحكوم له بحكم الحاكم الأوّل، فهل يجوزُ للحاكم الثاني إن ثبتَ عنده حُكم الحاكم الأوّل الحكم له به، كما يجوزُ له الحكم بالبيّنة والحَلف أم لا؟

وبعبارة أُخرى : أنّ الحكم السابق هل هو طريقٌ لإثبات الحقّ كالبيّنة واليمين والإقرار أم لا؟.

الظاهر هو الأوّل، فإنّه إذا ثبت عنده حكم الحاكم الأوّل، يكون ذلك حكم اللّه في حقّ المتخاصمين، وغيرهما عنده، فيجبُ عليه الحكم بمقتضاه.

ص: 72

وفي «المستند»(1): (ويمكن أن يكون قوله عليه السلام في بعض الروايات المتقدّمة(2):

«أو سُنّة قائمة» إشارة إلى ذلك أيضاً، وهو حسنٌ ).

أقول: وما ذكره بعضهم(3) من أنّه وإنْ وجبَ للحاكم الثاني إمضائه عليه، ولكن لا يجوزُ له الحكم، لجواز ابتناء الأوّل على فتوى مخالفة لرأيه، منظورٌ فيه، لأنّ فرض كون ما حَكم به الحاكم الأوّل حُكمُ اللّه في حقّهما إجماعيٌ بل ضروري لا يُحتمل المخالفة، وعليه فرأي المجتهد الثاني أنّ هذا حكمُ اللّه في حقّهما، وفتواه ذلك، وإنْ كان مخالفاً لرأيه مع قطع النظر عن ذلك الحكم.

بيان ما به يثبتُ حكُم الحاكم

ثمّ إنّه وقع الكلام في أنّ الحاكم الثاني إذا لم يحصل له العلم الوجداني بحكم الحاكم الأوّل، هل له الاعتماد على الطرق الظنيّة وإمضاء الحكم السابق، أم ليس له ذلك ؟

أقول: الطرق التي اختلفوا فيها ثلاثة:

الطريق الأوّل: مجرّد الكتابة، بأنْ يكتب قاضٍ إمّا مطلقاً أو في خصوص هذا الحاكم: (إنّي حكمتُ لفلانٍ أو على فلانٍ بكذا)، فالمشهور بين الأصحاب(4) عدم اعتبارها، بل لا خلاف فيه ظاهراً، بل عن «القواعد»(3)، و «المختلف»(4)، و «التحرير»(5) دعوى الإجماع عليه.

ص: 73


1- مستند الشيعة: ج 17/101 و 102.
2- الكافي: ج 1/32 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/43 ح 33167. (3و4) مستند الشيعة: ج 17/101 و 102.
3- قواعد الأحكام: ج 3/456. قوله: (لا عبرة عندنا بالكتاب إجماعاً).
4- مختلف الشيعة: ج 8/445 قوله: (المشهور عند علمائنا المنع من العمل بكتاب قاض إلى قاضٍ مطلقاً).
5- تحرير الأحكام: ج 2/188.

وعن الإسكافي(1): القولُ باعتبار الكتابة إذا كان المورد من قبيل حقوق النّاس.

وعن ظاهر المحقّق الأردبيلي(2): الميل إليه، بل في حقوق اللّه أيضاً.

وأيضاً: لا كلام كما لا إشكال في أنّ محلّ الكلام ليس ما لو حصل له العلم من الكتابة، ولا يُظنّ أن يلتزم أحدٌ بالفرق بينها وبين السماع منه، إذ العبرة حينئذٍ بالعلم الحاصل منها الذي هو حجّة ذاتاً، وكذلك إذا حصل الاطمئنان الذي هو علمٌ عادة، بل محلّ الكلام ما إذا لم يحصل منها شيءٌ منهما، لاحتمال التزوير، وكم له من نظير، أو عَبَث الكاتب، وعدم قصده ما فيها، أو بأن يكون متن الكتابة بغير خطّ الحاكم وقد أمضاه الحاكم، وبعد ذلك اُضيف إلى المتن بخطِ الكاتب نفسه أو ما شابه ذلك.

والظاهر عدم اعتبارها حينئذٍ، لتوقّف الحجيّة والاعتبار على الدليل، وإلّا فالظنّ بالحجيّة مساوقٌ للعلم بالعدم، كما حُقّق في الاُصول(3)، ويشهد به مع ذلك:

خبر السّكوني، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: «أنّه كان لا يُجيز كتاب قاضٍ إلى قاضٍ في حَدٍّ ولا غيره حتّى وَلِيت بنو اُميّة فأجازوا بالبيّنات»(4). ونحوه خبر طلحة بن زيد(5).

الطريق الثاني: إخبار الحاكم الأوّل مشافهةً : (إنّي حَكَمتُ بكذا).

وفي إنفاده، ووجوب اعتباره وعدمها قولان:

القول الأوّل: للمصنف في «القواعد»(4) و «الإرشاد»(5)، والشهيدين في).

ص: 74


1- حكاه عنه العلّامة الحِلّي في مختلف الشيعة: ج 8/445.
2- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/209.
3- زبدة الاُصول: ج 4/92. (4و5) التهذيب: ج 6/300 ح 47 و 48، وسائل الشيعة: ج 27/297 ح 33788.
4- قواعد الأحكام: ج 3/456.
5- إرشاد الأذهان: ج 2/148 قوله: (وكذا لو أخبر الحاكم الأوّل الثاني بذلك).

«الدروس»(1) و «المسالك»(2) على ما حُكي(3).

القول الثاني: للشيخ الطوسي رحمه الله في «الخلاف»(4)، والمحقّق في «النافع»(5).

وتردّد فيه بعضهم(6).

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ حكم الحاكم حكمُ الإمام، والرّد عليه حرام.

2 - وبأنّه أقوى من الشاهدين.

ويُردّ الأوّل: أنّه لا كلام في أنّ حُكم الحاكم حُكمَ الإمام، إنّما الكلام في أنّه هل يثبت حكم الحاكم بإخباره أم لا؟

ويُردّ الثاني: أنّ كونه أقوى من الشاهدين ممنوعٌ ، إذ هما عدلان وهو عدلٌ واحد، وقولُ العدلين حجّة دون الواحد عند المشهور.

نعم، لا كلام أيضاً في أنّه إذا انضمّ إلى اخباره مشافهةً أو كتابةً ، قرائن مفيدة للعلم، ولو العادي منه بصدور الحكم، يجبُ اعتباره، فإنّه حينئذٍ حكمٌ بعلم، وإلّا فعلى المختار من حجيّة الخبر الواحد في الموضوعات إلّاما خرج بالدليل - كباب المرافعات بالنسبة إلى ما هو محلّ الدّعوى - لابدّ من البناء على وجوب اعتباره، فإنّ الحكم حينئذٍ وإنْ كان بغير علمٍ وجداني، إلّاأنّه بعلمٍ تعبّدي، وعلى القول6.

ص: 75


1- الدروس: ج 2/92.
2- مسالك الأفهام: ج 14/5.
3- رياض المسائل: ج 15/138.
4- الخلاف: ج 6/245 قوله: (إذا قال الحاكم لحاكمٍ آخر قد حكمتُ بكذا).
5- المختصر النافع: ج 2/283.
6- شرائع الإسلام: ج 4/87، تحرير الأحكام: ج 2/188، جواهر الكلام: ج 40/306.

بعدم حجيّته.

وعليه، فالأظهر هو عدم الوجوب والإنفاذ.

الطريق الثالث: الشهادة على حكمه:

فعن جماعةٍ (1): عدم قبولها مطلقاً.

وقيل(2): بعدم القبول إنْ كانت البيّنة مجرّدة عن الإشهاد، أي لم يشهدهما الحاكم الأوّل على حكمه في الواقعة، والقبول إنْ أشهدهما، وهو مذهبُ المحقّق في «النافع»(3) على المحكيّ (4)، بل قيل(5) بعدم الخلاف فيه بين الأصحاب كافّة.

وقيل(6): بالقبول مطلقاً.

واستدلّ للأوّل:

1 - بالأصل.

2 - وبما في ذيل خبري السَّكوني وطَلحة المتقدّمين، من قوله عليه السلام:

«فأجازوا بالبيّنات».

ويُردّ الأوّل: ما سيأتي من الدليل على حجيّة البيّنة مطلقاً.

والثاني: ضعف السند، وظهورهما في أنّ البيّنة التي كانت بنو اُميّة تجيزها إنّما هي على صحّة الكتابة لا على أصل الحكم.6.

ص: 76


1- المهذّب: ج 2/587.
2- حكاه صاحب مستند الشيعة: ج 17/106-107.
3- المختصر النافع: ج 2/283.
4- حكاه صاحب مستند الشيعة: ج 17/107.
5- مسالك الأفهام: ج 14/15-16.
6- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/216.

واستدلّ للثاني:

في صورة عدم الإشهاد بما مرّ.

وفي صورة الإشهاد:

1 - بالإجماع.

2 - وبمسيس الحاجة إليه في إثبات الحقوق، مع تباعد البلاد، وتعذّر فعل الشهود أو تعسّرها، وعدم مساعدة شهود الفرع أيضاً على التنقّل، والشهادة الثالثة غير مسموعة.

3 - وبأنّها لو لم تُقبل لبطلت الحُجَج مع تطاول المدّة، ولأدّى إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة.

أقول: والأظهر هو قبول الشهادة مطلقاً، لعموم ما دلّ على حجيّة البيّنة، وقد مضى مراراً، وسيأتي في باب الشهادات(1) أيضاً.

***ء.

ص: 77


1- يأتي في (كتاب الشهادات) من هذا الجزء.

حُكم الحاكم على من لا تقبل شهادته عليه

المسألة السابعة: ذكر جماعة منهم المحقّق(1)، والمصنّف في جملةٍ من كتبه(2): أنّه لا ينفذُ قَضاء القاضي على من لا تُقبل شهادته عليه، ولا لمن لا تقبل شهادته له، واستدلّوا له بأنّ الحكم شهادة وزيادة، وهو كما ترى .

وعليه، فالأظهر هو نفوذ حكمه عليه، كحكم الولد على والده.

وكذا ينفذ حكمه لمن لا تُقبل شهادته له، كحكمه لمن يجرّ بحكمه له نفعاً، لإطلاق الأدلّة، وعدم المانع، إلّاأن يكون إجماعٌ وهو غيرُ ثابتٍ ، والقياس على الشهادة لا وجه له.

وقد يقال: إنّ الظاهر قيام الإجماع على أنّه إنْ كان للحاكم منازعة مع غيره لاينفذُ حكمه لنفسه عليذلك الغير، ولو بأن يوكل غيره في المرافعة معه فترافعا إليه.

قالوا: بل يجبُ الرجوع إلى حاكمٍ آخر.

وقدادّعاه في «المستند»(3)، و «ملحقات العروة»(4)، وهو الظاهر من «المسالك»(5)، و «الشرائع»(6) وغيرهما، حيث ذكروا ذلك ذكر المسلّمات.

ولكن قال صاحب «الجواهر»(7): (بل دعوى التزام ذلك في حاكم الغيبة، فلا

ص: 78


1- شرائع الإسلام: ج 4/63.
2- تحرير الأحكام: ج 2/181، قواعد الأحكام: ج 3/422.
3- مستند الشيعة: ج 17/75.
4- تكملة العروة الوثقى : ج 2/18.
5- مسالك الأفهام: ج 13/364.
6- شرائع الإسلام: ج 4/63.
7- جواهر الكلام: ج 40/71.

ينفذ حكمه على من كانت بينه وبينه خصومة، لم يخرج بها عن العدالة في غير تلك الخصومة من المنكرات، خصوصاً بعد قوله عليه السلام: «جعلته حاكماً عليكم»، و «هو حجّتي عليكم»، و «الرّاد عليه كالرّاد علينا»، ونحو ذلك، ولعلّه لذا حُكي عن بعضهم(1) اختصاص المنع بقاضي التحكيم)، انتهى .

واستدلّ للأوّل:

1 - بالإجماع.

2 - وبأخبار رجوع المتنازعين إلى من عَرِف أحكامهم، ونظر في حلالهم وحرامهم، فاللّازم أن يكون الحاكم غيرهما.

3 - وبما دلّ على تنازع النبيّ صلى الله عليه و آله مع الأعرابي في ثمن الناقة والفَرَس، وتنازع وليّ اللّه مع عقيل وعبّاس.

أقول: ولكن الإجماع كما عرفت غيرُ ثابتٍ ، وعلى فرضه كونه تعبديّاً غير معلوم، ولعلّ المستند أحد الأخيرين.

وأمّا أخبار رجوع المتنازعين، فليس في كثيرٍ منها الأمر برجوع المتنازعين إلى العالم، كي يُؤخذ بإطلاقه أو بظهوره في مغايرة المأمور بالرجوع مع من يرجع إليه، وهذه هي مقبولة ابن حنظلة لاحظها، فإنّه بعد سؤاله عن ما يصنعان، قال عليه السلام:

«ينظران مَنْ كان منكم قد رَوى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(2).

فإنّها بإطلاقها تشمل ما لو كان ذلك العالم هو أحد المتخاصمين، وليس بإزائه6.

ص: 79


1- كشف اللّثام: ج 10/23.
2- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.

ما يكون ظاهراً في اعتبار المغايرة.

وأوضح من ذلك: خبر أبي خديجة، فقد ورد فيه قوله عليه السلام:

«اجعلوا بينكم رجلاً قد عَرِف حلالنا وحرامنا، فقد جعلته عليكم قاضياً»(1).

ونحوهما غيرهما، فلاحظها وتدبّر.

مع أنّ عموم العلّة في التوقيع الشريف: «فإنّهم حُجّتي عليكم»(2) يقتضي نفوذ حكمه على خصمه مع اجتماع الشرائط.

وأمّا ما دلّ (3) على تنازع النبيّ صلى الله عليه و آله مع الأعرابي.

فيرده أوّلاً: أنّ غاية ما يُستفاد منه - على فرض الدّلالة - جواز الرجوع إلى الغير، لا عدم نفوذ حكم الحاكم لو حَكَم.

وثانياً: إنّه يمكن أن يكون الخصم في المورد لم يكن يَرضى إلّابذلك.

وثالثاً: إنّ ما تضمّن قضيّة النبيّ صلى الله عليه و آله مع الأعرابي يدلّ على العكس، فإنّه يدلّ على أنّهما بعدما رجعا إلى عليٍّ عليه السلام فبمجرّد تكذيب الأعرابي النبيّ صلى الله عليه و آله قَتَله عليّ عليه السلام.

فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: لِمَ فعلتَ يا عليّ ذلك ؟

قال: يا رَسول اللّه إنّا نُصدّقك على أمر اللّه ونهيه، وعلى أمر الجنّة والنّار، والثواب والعقاب، وَوَحي اللّه عزّ وجلّ ، ولا نُصدّقك على ثمن ناقة الأعرابي!

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أصبتَ يا عليّ ».

وعليه، فالأظهر هو نفوذ حكم الحاكم الجامع للشرائط لنفسه على الغير9.

ص: 80


1- تهذيب الأحكام: ج 6/303 ح 53، وسائل الشيعة: ج 27/139 ح 33421.
2- وسائل الشيعة: ج 27/140 ح 33424، كمال الدّين وتمام النعمة: ج 2/483 ح 4.
3- وسائل الشيعة: ج 27/274 ح 33759.

المُخاصِم له.

وعلى فرض البناء على المنع للإجماع، فللحاكم أن ينقل حقّه إلى الغير، ثمّ يرجع ذلك الغير مع الخصم إليه، فإنّه لا ينبغي الإشكال في نفوذ حكمه لذلك الغير، وإن انتقل إليه بعد ذلك بإقالةٍ ونحوها، أو كان بالفسخ، بأن كان النقل إليه بشرط الخيار لنفسه.

فرع: لو كان الحاكم وصيّاً لليتيم، فهل ينفذ حكمه له أم لا؟

قال في محكيّ «التحرير»(1): (فيه نظر ينشأ من كونه خَصماً في حقّه كما في حقّ نفسه، ومن أنّ كلّ قاضٍ فهو وليُّ الأيتام).

ولكنّه بناءً على ما عرفت من أنّ مقتضى القاعدة هو نفوذ حكمه لنفسه، فنفوذُ حكمه لمن له عليه الوصاية واضحٌ .

فلو قيل بالعدم للإجماع، فهو الفارق بين الوصيّ والوليّ الذي لا تختصّ الولاية به.

وأمّا بناءً على عدم نفوذ حكمه لنفسه للأخبار، فنفس تلك الأخبار تدلّ على عدم جواز حكمه لمن له عليه الوصاية، فإنّ المنازع في الحقيقة هو الوصيّ لا اليتيم، فنصوص رجوع المتنازعين إلى الغير تشمله، وحينئذٍ يبقى سؤالُ الفرق بين الوصاية والولاية الثابتة للقاضي على الأيتام، والفرق بأنّ ولايته إنّما هي في ظرف عدم الوصيّ لا يفيد، فإنّ مورد النقض ما لو لم يكن هناك وصيٌّ وادّعى أحدٌ على شيء من أموال اليتيم، وتصدّى القاضي بنفسه للنزاع بعنوان الولاية على اليتيم،1.

ص: 81


1- تحرير الأحكام: ج 2/181.

فإنْ التزم بأنّه ينفذ قضائه له أو قضاءِ قاضٍ آخر الذي هو أيضاً له الولاية، عادَ الإشكال، ولا يمكن الالتزام بأنّه لا ينفذ قضاء أحدٍ وأنّ المال لابدّ وأن يبقى حتّى يكبر عاقلاً.

اللّهُمَّ إلّاأن يُدّعى الإجماع على النفوذ في خصوص المورد.

أقول: وما ذكرناه يجري بعينه في ما لو كان للحاكم ولاية خاصّة كالأبوّة.

ولو كان المنازع شريك المولّى عليه لجهةٍ مشتركة بينهما كالإرث، فلا إشكال ولا كلام في أنّه ينفذُ حكم الحاكم للشريك، وأنّه انتقل إليه من مورثه، ويلزم من ذلك نفوذه للمولّى عليه أيضاً، وإنْ كان يرجع أمره بالولاية للملازمة بينهما، والمُثبِتْ لأحد المتلازمين مُثبِتٌ للآخر.

وما ذُكر(1) في وجه عدم نفوذ حكم الحاكم لنفسه من الإجماع، وانصراف أخبار نفوذ حكم الحاكم في حقّ نفسه، لايجري في الفرض، لأنّ الحكم إنّما هو للغير، وثبوته للمولّى عليه إنّما هو بالملازمة.

وأيضاً: بما ذكرناه يظهر حكم مسألةٍ أُخرى ، وهي أنّه لو كان للحاكم شركة مع غيره، ووقع النزاع بينهما وبين غيرهما، كما لو تنازع هو وأخوه مع غيره في مالٍ مشتركٍ بينه وبين أخيه من طرفِ الإرث، فإنّه لا إشكال في نفوذ حكمه في حصّة أخيه، لعموم الأدلّة، وعدم المانع، ويثبتُ به حقّه بالملازمة، بناءً على ما هو الحقّ من حجيّة الحجّة في مثبتاتها، إلّاأن يكون إجماعٌ على عدم النفوذ في حصّة نفسه، كما ادّعاه في «المستند»(2)، ولكنّه كما ترى .5.

ص: 82


1- مستند الشيعة: ج 17/75 قوله: (لا ينفذ حكم الحاكم لنفسه على خصمه إجماعاً).
2- مستند الشيعة: ج 17/75.

وقد فصّل السيّد في «ملحقات العروة»(1):

بين ما إذا كانت الدّعوى في عينٍ ، وقد قسّمها مع ذلك الغير، وأفرز حصّته، وحَكم بثبوت حقّ الحاكم أيضاً في تلك الحصّة.

وبين ما إذا كانت في عينٍ قبل القسمة، أو في دينٍ ، وحَكَم بعدم الشركة معه.

واستدلّ للأوّل: بقاعدة الإقرار.

وفيه: - مضافاً إلى ما مرّ من أنّه يثبتُ حقّه مطلقاً بالملازمة - أنّه لو قطع النظر عن ذلك، ففي مفروض المسألة إنّما ينفذُ حكم الحاكم في حصّةٍ من تلك العين التي هي لأخيه، فإقراره بالشركة إنّما هو إقرارٌ بأنّ الحصّة الأُخرى غير هذه للحاكم، فلا يكون من قبيل الإقرار على النفس حتّى يكون جائزاً كما لا يخفى .

***7.

ص: 83


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/17.

لو تبيّن خطأ الحاكم في حكمه

المسألة الثامنة: لو تبيّن للحاكم خطائه في حكمه، انتُقِضَ بلا كلامٍ ، لعدم بقاء حكمه، وحينئذٍ:

فإنْ كان ذلك قبل العمل به، فلا إشكال.

وإنْ كان بعده:

1 - فإنْكان في قتلٍ أو قَطعٍ ، فلا شيء على الحاكم قطعاً، لفرض عدم تقصيره، ولا جوره في الحكم، بل تكون الدِّية من بيت المال، لخبر الأصبغ بن نُباتة، قال:

«قضى أمير المؤمنين عليه السلام: أنّ ما أخطأت القضاة في دمٍ أو قطعٍ ، فهو على بيت مال المسلمين»(1).

إلّا أن يكون المحكوم له عالماً بفساد دعواه، ومع ذلك أقدم عليها، فإنّ عليه القصاص، لكونه السَّبب في ذلك، هكذا استدلّ له.

أقول: ولي في ذلك نظرٌ وهو أنّ الأمر كذلك إنْ لم يكن إجماعٌ ، لو لم يتصدّ المحكوم له للقطع أو القتل، لإطلاق الخبر.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الخبر إنّما هو منصرفٌ إلى ما لو كان القتل والقطع بغير حقٍّ مستنداً إلى خطأ القضاة خاصّة، وأمّا لو كان ذلك من جهة الخصومة العدوانيّة، أو شهادة الزور، وما شاكل، فلا يكون مشمولاً للخبر، بل يشمله ما دلّ على أنّ القصاص والدّية حينئذٍ على الشاهد، أو المنازع عدواناً، وهذا هو الأظهر.

ص: 84


1- الكافي: ج 7/354 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/226 ح 33651.

2 - وإنْ كان في مالٍ :

فإنْ كان المال موجوداً استردّ بلا كلام.

وإنْ كان تالفاً:

فإنْ أخذه المحكوم له، وهو عالمٌ بعدم كونه له، ضَمِن عوضه لقاعدة اليد والإتلاف.

وإنْ كان عالماً بفساد دعواه ولم يأخذ المال، فالظاهر كون ضمانه عليه، لأنّه السَّبب في تلف المال.

وإنْ لم يكن عالماً بفساد دعواه، ففيه أقوال:

القول الأوّل: ما عن المشهور(1) من كون ضمانه على بيت المال.

الثاني: أنّه إن أخذه المحكوم له فعليه الضمان وإلّا فلا ضمان على أحدٍ، اختاره السيّد في «ملحقات العروة»(2).

الثالث: عدم الضمان على أحدٍ مطلقاً، اختاره في «المستند»(3).

واستدلّ للأوّل:

1 - بفحوى خبر الأصبغ المتقدّم.

2 - وبصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، قال:

«كان أبو عبد اللّه عليه السلام قاعداً في حلقة ربيعة الرأي، فجاء أعرابيّ ، فسأل ربيعة الرأي، فأجابه، فلما سكت، قال له الاعرابي: أهو في عنقك ؟ فسكت عنه ربيعة ولم يردّ عليه شيئاً، فأعاد المسألة عليه، فأجابه بمثل ذلك.8.

ص: 85


1- جواهر الكلام: ج 40/79، جامع المدارك: ج 7/251.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/29.
3- مستند الشيعة: ج 17/87-88.

فقال الأعرابي أهو في عنقك ؟ فسكتَ ربيعة.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: هو في عنقه، قال: أو لم يقل: وكلّ مفتٍ ضامن»(1).

3 - وبالإجماع.

أقول: ولكن الفحوى غير قطعيّة، والصحيح ظاهرٌ في الإثم على تقدير التقصير، أو عدم الأهليّة أو ضمان العوض إذا كان سبباً لإتلافه بفتواه، مع كونه مقصّراً أو غير أهل، بل الظاهر منه خصوص الأوّل، لعدم الضمان المصطلح في كلّ فتوى قطعاً ما لم توجب إتلاف مالٍ أو نفس.

وعليه، فالمراد بالضمان هو الإثم والأجر.

وأمّا الإجماع فهو غير ثابت.

واستدلّ للقول الثاني: لعدم الضمان مع عدم الأخذ، بعدم ثبوت يده عليه، فلا ضمان عليه، ولا على الحاكم، لكونه مأذوناً شرعاً، وللضمان معه بقاعدة اليد.

وفيه: إنّ قاعدة اليد إنّما تكون عُقلائيّة ممضاة شرعاً(2) لا تعبديّة صرفة، وهي إنّما تكون لأجل احترام المال، ولا ريب في سقوطه مع كون التسليط مجانيّاً، إمّا من المالك أو بإذن الشارع الأقدس، ولذا اشتهر بينهم بأنّ : (كلّ ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده)، ولتمام الكلام محلّ آخر.

وعليه، فالأظهر عدم الضمان على أحد.

هذا كلّه إذا كان الحاكم غير مقصّر في الاجتهاد أو في مقدّمات القضاء، ولم يكن الحكم عن جورٍ.7.

ص: 86


1- الكافي: ج 7/409 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/220 ح 33639.
2- سنن البيهقي: ج 6/60، كنز العمّال: ج 5/257.

وإلّا فإن كانت الدّعوى في قتلٍ أو قطعٍ ، كان الضمان عليه إنْ لم يكن المحكوم له ظالماً في دعواه، أو لم يكن مباشراً للقطع أو القتل.

وإنْ كان ظالماً فيها ومباشراً له، كان الضمان عليه، لأنّ المباشر أقوى من السَّبب.

وإنْ لم يكن مباشراً له، وكان ظالماً في دعواه، فالمحكوم عليه، أو وليّه مخيّرٌ بين القصاص منه أو من الحاكم.

وإنْ كانت الدّعوى في مالٍ :

فإنْ لم يكن المحكوم له ظالماً في دعواه، كان الضمان على الحاكم.

وإنْ كان ظالماً فيها، كان المحكوم عليه مخيّراً بين الرجوع عليه، أو على الحاكم.

هذا في صورة التلف، وإلّا فيأخذ عين ماله على جميع التقادير.

***

ص: 87

ادّعاء المحكوم عليه عدم أهليّة الحاكم

المسألة التاسعة: إذا ادّعى المحكوم عليه بعد المرافعة والحكم، عدم أهليّة الحاكم، لعدم اجتهاده، أو فسقه، أو تقصيره في مقدّماته، أو جوره فيه، وحينئذٍ:

فتارةً : تكون الدّعوى متوجّهة إلى المحكوم له.

وأُخرى : تكون متوجّهة إلى الحاكم.

فإن كانت متوجّهة إلى المحكوم له، ففيه أقوال:

1 - أنّه لا تُسمع الدّعوى مطلقاً، صرّح به الشهيد قدس سره(1) واستوجهه المحقّق(2).

2 - أنّه لا تُسمع الدّعوى مع عدم البيّنة، اختاره جماعة منهم المحقّق العراقي رحمه الله(3)، وهو الظاهر من المصنّف في بعض كتبه(4).

3 - سماعها مطلقاً، اختاره السيّد في «ملحقات العروة»(5).

وهو الأقوى ، لأنّ مقتضى عموم ما دلّ على أنّ (البيّنة على المُدّعي واليمين على من أنكر)(6) وغيره من أدلّة سماع الدّعوى هو ذلك، أي سماع الدّعوى مطلقاً.

واستدلّ للأوّل: بأنّ الحاكم أمين الإمام، وفتح هذا الباب موجبٌ لعدم إجراء

ص: 88


1- الدروس: ج 2/85.
2- شرائع الإسلام: ج 4/98.
3- كتاب القضاء: ص 50.
4- تحرير الأحكام: ج 2/189، قواعد الأحكام: ج 3/437.
5- تكملة العروة الوثقى: ج 2/30.
6- الكافي: ج 7/415 باب أنّ البيّنة على المُدّعي، وسائل الشيعة: ج 27/233 باب 3 باب أنّ البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه.

الأحكام، والطعن في الحكّام، ممّا يوجب امتناعهم عن تصدّي القضاء.

وفيه: إنّ كونه أميناً في زمان الغيبة فرعُ ثبوت اجتهاده وعدالته، فعلى فرض ثبوت الفسق أو عدم الاجتهاد، لا يكون أميناً.

واستدلّ للثاني:

1 - بأنّ السماع بدون البيّنة يلزم منه الفساد.

2 - وبأنّه ليس حقّاً لازماً يثبت بالنكول ولا يمين الرّد.

ويَردّ الأوّل: بمنع لزوم الفساد، كيف وقد يُدّعى على الحاكم نفسه بدعاً، ومتضمّنة لتفسيقه، مع أنّه من عدم السماع قد يلزم ضياع حقٍّ خطير سهل الإثبات، أو إتلاف دمٍ ، أو تحليل بُضعٍ ، وما شاكل.

ويَردّ الثاني: أنّه إن ادّعى على المحكوم له بأنّ ما أخذه لم يكن بالاستحقاق، لعدم أهليّة الحاكم، فكيف لا يكون حقّاً لازماً، ولا يثبت بالنكول وردّ اليمين، وسيأتي زيادة توضيح له.

وعليه، فالأظهر سماع دعواه، وحينئذٍ:

فإنْكان المحكوم له هو الذي اختاره للحكومة، كما إذا كان المحكوم عليه غائباً حين الحكم، يكون المُدّعي هو المحكوم له، فعليه إثبات الأهليّة إنْ كانت الدّعوى عدم الأهليّة.

وإنْ كانت هو تقصيره في المقدّمات، أو جوره في الحكم، فالمدّعى هو المحكم عليه، فعليه الإثبات.

وإنْ كان المحكوم عليه هو الذي اختاره للترافع، أو كان مختاراً في الرجوع إليه، يكون هو المُدّعى لحمل فعله على الصحّة وكون الحاكم أهلاً.

ص: 89

وعلى ذلك، فإنْ لم يكن للمحكوم له بيّنة، ولكن المحكوم عليه أقرّ بذلك، فهل يكون هذا الإقرار ملزماً أم لا؟

ربما يقال: بعدم كونه ملزماً، - ولعلّه إلى ذلك يرجع الوجه الثاني المذكور، لعدم سماع الدّعوى مع عدم البيّنة، أو يكون ذلك وجهاً آخر له - لأنّه يستتبع لرّد حكم الغير الذي هو ضررٌ عليه، والإقرارُ غير مسموعٍ فيما يضرّ غيره، ويترتّب على ذلك عدم مثبتيّة حلف إنكاره، لأنّه غير مثبتٍ لحقّ الغير، إذ ليس مثله شأن الحلف كما سيجيء.

وفيه أوّلاً: النقض بما لو كذب الحالف نفسه، فإنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّه يُسمع وإنْ كان ذلك بعد حُكم الحاكم.

وثانياً بالحَل: وهو أنّه إذا انطبق على أمرٍ عنوانان، أحدهما أنّه إقرارٌ على نفسه، والآخر أنّه إقرارٌ على غيره، فمن الجهة الأُولى يحكم بنفوذه ولا يكون نافذاً من الجهة الثانية، ولا تكون الجهة الثانية مانعة عن النفوذ من الجهة الأُولى، إذ غاية الأمر أنّ هذه الجهة لا تقتضي نفوذه من جهتها، لا أنّها تقتضي عدم النفوذ من الجهة الأولى، مثلاً إذا كان مورد دعويثلاثة أشخاص عيناً خارجيّة، فأقرَّ أحدهم كون العين لأحد خصميه المعيّن، يكون هذا الإقرار بالنسبة إلى عدم كونها ملكاً له نافذاً، وبالنسبة إلى عدم كونها ملكاً للثالث غير نافذ، والمقام من هذا القبيل فإنّ إقرار المحكوم عليه ينفذ من جهة لزوم رَدّ المال وإنْ لم يكن نافذاً من حيث كونه مثبتاً لعدم أهليّة الحاكم.

وإنْ كانت الدّعوى متوجّهة إلى الحاكم نفسه:

ص: 90

فقد صرّح جماعة(1): بسماع الدّعوى مع البيِّنة، بل صرّح العلّامة الكني رحمه الله(2)بنفي صراحة كلمات القوم في عدم سماعها مع البيّنة، والاستدلال للعدم بما مرَّ قد عرفت جوابه.

وأمّا مع عدم البيّنة: فربّما يُستند إلى الأصحاب عدم السماع، واستدلّ له بعدم انتهاء الدّعوى إلى ميزان، لأنّه إمّا إقرارٌ أو حلف إنكار، أو غيرهما، ولا يكاد يتمّ واحدٍ منها في المقام.

أمّا الإقرار: فلأنّه غير نافذٍ بالنسبة إلى الغير.

وأمّا الحلف: فلأنّه لا يثبتُ حقّ الغير.

وأُورد عليه: بأنّه يمكن سماع إقرار الحاكم بفساد حكمه بقاعدة(3): (من ملك شيئاً ملك الإقرار به)، الموجبة لنفوذ الإقرار حتّى في حقّ الغير.

وفيه: أنّه لو تمّت القاعدة، فإنّما هو في صورة إحراز مالكيّته للمقرّ به نفياً وإثباتاً، وأمّا لو كان مفاد الإقرار نفي سلطنته على المقرّ به من جهة عدم الأهليّة، فلا مجال لسماعه، لأنّه حينئذٍ يلزم من وجوده عدمه، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

وعليه، فالأظهر عدم السماع في هذه الصورة.

هذا كلّه إذا لم تكن الدّعوى موجبة للضمان أو التغرير على الحاكم خاصّة، وإلّا فينعكس الأمر، أي ما ذكرناه في توجيه الدّعوى إلى المحكوم له، يجري في توجيهها إلى الحاكم، والعكس العكس كما لا يخفى .

***ا.

ص: 91


1- مستند الشيعة: ج 17/82 قوله: (فإذا ادّعى المحكوم عليه بعد الحكم فسق الحاكم فيسمع ويطلب منه البيّنة).
2- حكاه الشيخ ضياء الدِّين العراقي في كتاب القضاء: ص 50.
3- قاعدة عقلائيّة مصطادة من موارد خاصّة ستأتي الإشارة إليها عند التعرّض لها.

ويُستحبّ الإعلان بوصوله، والجلوس في وسط البلد مُستَدبّر القبلة، والسؤال عن الحُجَج والودائع، وأرباب السِّجن وموجبه، وأن يفرّق الشهود، خصوصاً مع التُّهمة،

آداب القاضي

المسألة العاشرة: (و) المشهور بين الأصحاب أنّه (يستحبّ ) للقاضي أُمورٌ لم يرد بكثيرٍ منها نصٌّ ، ولكن ذكرها الأصحاب، وعلّلوا استحبابها باُمور تمرّ عليك، وهي:

1 - (الإعلان بوصوله) وقدومه إنْ لم يُشتهر خبره، وطلب من يسأله ما يحتاج إليه من أُمور بلده، ليكون فيها على بصيرة من أمره.

2 - (والجلوس في وسط البلد) ليسهل وصول النّاس إليه، ويسوي بين الخصوم في مسافة الطريق.

3 - وأنْ يجلس في حالة القضاء (مستدبّر القبلة)، ليكون وجه الخصوم إليها.

قيل(1): وينبغي استقبال القبلة بنفسه، لكونه خير المجالس.

4 - (والسؤال عن الحُجَج والودائع، وأرباب السِّجن وموجبه) لأنّها من شؤون القضاء، وليعلم تفاصيل أحوال النّاس، ويعرف حقوقهم وحوائجهم، والإفراج عمّن يجب إطلاق سراحه.

5 - (وأن يفرّق الشهود، خصوصاً مع التُّهمة) لصحيح معاوية بن وهب وغيره المتضمّنة تفريق أمير المؤمنين عليه السلام الشهود، ثمّ قال عليه السلام:

ص: 92


1- المبسوط: ج 8/90، المهذّب: ج 2/595.

ومخاوضة العلماء، ويُكره القضاء مع شُغل القلب بالغَضَب والجوع والعطش والهَمّ والفرح وغيرها،

«اللّه أكبر أنا أوّل من فرّق بين الشهود إلّادانيال النبيّ ، الحديث»(1).

6 - (و) ينبغي أيضاً (مخاوضة العلماء) ليعاونونه في المسائل المشتبهة.

إلى غير ذلك من الاُمور المذكورة في المطولات.

أقول: وهناك اُمورٌ مكروهة على القاضي، وهي:

1 - (ويُكره القضاء مع شُغل القلب بالغضب والجوع والعَطَش والهَمّ والفَرَح وغيرها) من المشغلات.

ففي قوي السّكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من ابتلي بالقضاء فلا يقضي وهو غضبان»(2).

وفي مرفوع أحمد، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام لشُرَيح: لا تشاور أحداً في مجلسك، وإنْ غَضِبتَ فقُم، ولا تقضينّ وأنت غضبان.

قال: وقال أبو عبد اللّه عليه السلام: لسان القاضي وراء قلبه، فإن كان له قال، وإنْ كان عليه أمسك»(3).

وفي خبر سَلمة عن أميرالمؤمنين عليه السلام: «ولاتقعد في مجلس القضاء حتّيتطعم»(4).

إلى غير ذلك من النصوص.8.

ص: 93


1- الكافي: ج 7/425 ح 9، وسائل الشيعة: ج 27/277 ح 33762.
2- الكافي: ج 7/413 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/213 ح 33620.
3- الكافي: ج 7/413 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/213 ح 33621.
4- وسائل الشيعة: ج 27/211 ح 33618.

واتّخاذ الحاجب وقت القضاء. وتعيين قوم للشهادة،

2 - (و) يكره أيضاً (اتخاذ الحاجب وقت القضاء) للعلويّ : «أيّما والٍ احتجب عن حوائج النّاس، احتجبَ اللّه تعالى عنه يوم القيامة وعن حوائجه، الحديث»(1).

ونحوه النبويّ .

قال الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(2): (ونقل الشيخ فخر الدّين(3) عن بعض الفقهاء: أنّه حرامٌ عملاً بظاهر الحديث، وقرّبه مع اتّخاذه على الدوام، بحيث يمنعُ أرباب الحوائج ويضرّ بهم، وهو حسنٌ ، لما فيه من تعطيل الحقّ الواجب قضائه على الفور، والحديث يصلحُ شاهداً عليه وإنْ كان مفيداً للكراهية، للتسامح في أدلّته)، انتهى .

الظاهر أنّه إن وجب عليه القضاء، وكان الاحتجاب موجباً لمخالفة الواجب، فقد عَصى وهو واضحٌ ، وإلّا فلا دليل على حرمته، وإنّما يحكم بالكراهة للرواية المنجبر ضعفها بالعمل.

3 - قالوا: (و) يكره أيضاً (تعيين قومٍ للشهادة)، لما يترتّب عليه من التضييق على النّاس، والغضاضة من العدول غير المرتّب، ولأنّ ذلك لم يُؤثَر عن السَّلف.

أقول: ولكن الظاهر أنّ هذه الاُمور لا تصير منشئاً للفتوى بالكراهة.0.

ص: 94


1- وسائل الشيعة: ج 17/94 ح 22066، ثواب الأعمال: ص 261.
2- مسالك الأفهام: ج 13/377.
3- إيضاح الفوائد: ج 4/310.

والشفاعة إلى الغريم في إسقاط حقّه.

4 - (و) قالوا أيضاً تكره (الشفاعة إلى الغريم في إسقاط حقّه) خوفاً من أن لايسمع فيصير مهتوكاً، وهو كما ترى .

***

ص: 95

ويَقضي الإمام بعلمه وغيره

قضاء القاضي بعلمه

المسألة الحادية عشرة: (و) المشهور بين الأصحاب، بل المُجمع عليه(1)، أنّه (يقضي الإمام بعلمه)، ولكن هذا البحث كجملةٍ من الأبحاث المعنونة في «الشرائع»(2) وغيرها(3) لا ربط لها بنا، إذ ليس لنا تعيين وظيفة الإمام، (و) عليه فالمهمّ هو البحث في (غيره)، وفيه أقوال:

1 - أنّه يقضي به مطلقاً، وهو المشهور بين الأصحاب.

بل عن «الانتصار»(4)، و «الغنية»(5)، و «الخلاف»(6)، و «نهج الحقّ »(7):

الإجماع عليه.

2 - إنّه لا يقضي به مطلقاً، نُسب(8) ذلك إلى الإسكافي، وعن بعضهم(9) نسبته إلى السيّد أيضاً، ولكنّه اشتباهٌ لأنّ السيّد رحمه الله اعتبر الإسكافي مخطئاً في اختياره(10).

ص: 96


1- إيضاح الفوائد: ج 4/312، رياض المسائل: ج 15/31، جواهر الكلام: ج 40/86.
2- شرائع الإسلام: ج 4/67 قوله: (الأولى: الإمام عليه السلام يقضي بعلمه مطلقاً).
3- رياض المسائل: ج 15/31.
4- الانتصار: ص 486 المسألة 271.
5- غنية النزوع: ص 436.
6- الخلاف: ج 6/242-243.
7- نهج الحقّ : ص 563.
8- حكاه السيّد المرتضى في الانتصار: ص 488.
9- رياض المسائل: ج 15/33.
10- الانتصار: ص 488 قوله: (وإنّما عوّل ابن الجنيد فيها على ضربٍ من الرأي والاجتهاد وخطأه ظاهر).

في حقوق النّاس.

3 - إنّه يقضي به (في حقوق النّاس) خاصّة، كما في المتن، وعن ابن حمزة(1)، وربما نُسب(2) إلى الحِلّي(3).

4 - إنّه يقضي به في حقوق اللّه خاصّة، وهو المحكيّ عن «المختصر»(4).

أقول: والأوّل أظهر، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: عموم ما دلّ (5) من الآيات والروايات على لزوم الحكم بالحقّ والقِسط والعَدل، وأنّ مَن لم يحكُم بما أنزل اللّه فهو كافر فاسق، وما شابه ذلك من التعابير، وعليه فإذا حكمَ وجبَ على النّاس متابعته، لما دلّ (6) على لزوم قبول الحكم، وأنّه لا يجوزُ نقضه، وأنّ الرّاد على الحاكم رادٌ على الإمام، وهو كالرّاد على اللّه تعالى .

وأورد عليه المحقّق العراقي رحمه الله(7): بأنّه إنْ كان المراد من (الحكم) و (القسط) و (العدل) هو الحكم والحقّ وأخويه في نفس الواقعة، كان الاستدلال تامّاً، ولكن لازم ذلك كون القضاء من آثار نفس الواقع، لا من آثار الحجّة عليه، وينافيه8.

ص: 97


1- الوسيلة: ص 218.
2- رياض المسائل: ج 15/32.
3- السرائر: ج 2/179.
4- المختصر النافع: ج 2/180.
5- سورة المائدة: الآية 8، سورة النساء: الآية 58، سورة ص: الآية 26، وسائل الشيعة: ج 27/31 باب 5 باب تحريم الحكم بغير الكتاب والسُّنة.
6- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.
7- كتاب القضاء لشيخ ضياء الدِّين العراقي: ص 37-38.

حينئذٍ ما في قوله عليه السلام: «رجلٌ قضى بالحقّ وهو لا يعلم»(1) إذ الظاهر منه عدم جواز مثل هذا القضاء واقعاً، لا وضعاً ولا تكليفاً.

وعليه، ففي مقام الجمع يُحتمل أُمور:

منها: إرادة الحقّ والقسط والعدل، والحكم على القسط في مقام الفصل، وكذا الحقّ في هذا المقام قبال الباطل الناشيء عن غير ميزانه. وعليه، فلابدّ من إحراز ذلك من الخارج، ولا تكون هذه العمومات متعرّضة للصغرى .

وفيه: أنّ الظاهر من الآيات والروايات هو المعنى الأوّل، ولا ينافيها الخبر المشار إليه، فإنّ غاية مدلوله اعتبار العلم في القضاء زائداً على كون القضاء بالحقّ ، فيعمل بالجميع، ولا محذور فيه، والمفروض في المقام ثبوت القيدين معاً.

الوجه الثاني: عموم الأدلّة الدالّة على الحكم مع وجود الوصف، كقوله تعالى:

(وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (2) .

وقوله تعالى : (اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ ) (3).

ولا يخفى أنّ الخطاب فيهما للحكّام، فإذا علم الحاكم بالوصف عمل به.

الوجه الثالث: أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(4).

الوجه الرابع: مرفوع ابن أبي عمير، إلى أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«القضاة أربعة ثلاثةٌ في النّار، وواحدٌ في الجنّة - إلى أن قال -: ورجلٌ قضىر.

ص: 98


1- وسائل الشيعة: ج 22/22 ح 33105، دعائم الإسلام: ج 1/96.
2- سورة المائدة: الآية 38.
3- سورة النور: الآية 2.
4- سورة آل عمران: الآية 104 و 110، سورة الحجّ : الآية 41، وسائل الشيعة: ج 16/117 باب 1 باب وجوبها وتحريم تركها من كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة»(1).

وبمضمونه رواياتٌ اُخر، ودلالته على المطلوب ظاهرة.

وأورد عليه المحقّق العراقي رحمه الله(2): بأنّه يدلّ على نفوذ حكمه في حقّه وحقّ كلّ من علم بكون علمه مطابقاً للواقع، كي يُحرز به كون قضائه بالحقّ عن علم، وأمّا الشاكّ في مطابقته للواقع، فلم يَحرز كونه قضاءً بالحقّ ، وإنْ علم كونه حاكماً به باعتقاده وعلمه.

وفيه: أنّ الذي نريد إثباته بالخبر أنّ للقاضي أن يحكُم بعلمه، وأمّا نفوذ حكم الحاكم الصادر عن الموازين في حقّ الغير، فالمثبت له الأدلّة الاُخر لا هذا الخبر، فتدبّر جيّداً.

الوجه الخامس: خبر الحسين بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الواجبُ على الإمام إذا نظر إلى رجلٍ يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحَدّ، ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره، لأنّه أمينُ اللّه في خلقه، الحديث»(3).

وتقريب الاستدلال: أنّه يدلّ على أنّ للإمام أن يقضي بعلمه، وعلّل ذلك بأنّه أمين اللّه، وهذه العلّة موجودة في الحكّام في زمان الغيبة، لما تضمّن أنّهم: «أُمناء» أو «أُمناء الرسل» أو «العلماء باللّه الاُمناء على حلاله وحرامه»(4)، أو ما ورد في الفضلاء الأربعة بريد بن معاوية وأبي بصير ومحمّد بن مسلم وزرارة أنّهم: «أربعة7.

ص: 99


1- وسائل الشيعة: ج 27/22 ح 33105، دعائم الإسلام: ج 1/96.
2- كتاب القضاء للشيخ ضياء الدِّين العراقي: ص 38.
3- الكافي: ج 7/262 ح 15، وسائل الشيعة: ج 28/57 ح 34204.
4- الكافي: ج 1/46 باب المستأكل بعمله، تحف العقول: ص 237.

نجباء أُمناء اللّه على حلاله وحرامه»(1) إلى غير ذلك من النصوص المتضمّنة لما يُقرّب هذه المضامين.

الوجه السادس: اتّفاق الإماميّة على إنكارهم على أبي بكر في عدم حكمه بقول فاطمة عليها السلام مع علمه بعصمتها وطهارتها، وأنّها لا تقول إلّاحقّاً.

أقول: وقد استدلّ له بوجوه اُخر غير تامّة، لكنّها لا بأس بذكرها تأييداً:

منها: الإجماع المنقول.

ومنها: ما في «المسالك»(2) قال: (لأنّ العلم أقوى من الشاهدين اللّذين لا يفيد قولهما عند الحاكم إلّامجرّد الظّن إنْ كان، فيكون القضاء به ثابتاً بطريق أولى).

ومنها: استلزام عدمه إمّا إيقاف الحكم، أو فسق الحاكم، لأنّه إن حكم بخلاف معلومه لزم الفسق، وإلّا فالإيقاف.

وقد استدلّ لعدم الجواز:

1 - بأنّه موضع التُّهمة.

2 - وبالنبويّ في قضيّة الملاعنة: «لو كنتُ راجماً لغير بيّنة لرجمتها»(3).

3 - وبالحصر المستفاد من النصوص(4) الآتية المتضمّنة: «أنّ البيّنة على المُدّعي واليمين على من أنكر».

4 - وبأنّه موجبٌ لتزكية النفس.ه.

ص: 100


1- تنقيح المقال للعلّامة المامقاني: ج 1/165.
2- مسالك الأفهام: ج 13/385.
3- ذكره فقهاء الإماميّة في كتب الاستدلال كالجواهر: ج 40/91، ومستند الشيعة: ج 17/93 وغيرهما.
4- الكافي: ج 7/415 باب أنّ البيّنة على المُدّعي، وسائل الشيعة: ج 27/233 باب 3 باب أنّ البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه.

5 - وبمرسل يونس: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عَدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجلٌ ويمين المُدّعي، فإن لم يكن شاهدٌ فاليمين على المُدّعى عليه»(1).

6 - وبما دلّ على أنّه: «لا يُرجم الزاني حتّى يقرّ أربع مرّات بالزّنا، إذا لم يكن شهود»(2).

وأنّه: «لا يُرجم الرّجل والمرأة حتّى يشهد عليه أربعة شهود»(3).

ثمّ إنّ بعض هذه الوجوه للقول الثاني وبعضها للثالث.

أقول: وفي كلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلمنع كليّته، مع أنّ الحكم بشهادة الشاهدين أيضاً قد يكون موضع التُّهمة، أضف إليه أنّ ذلك لا يصلُح علّة لعدم الجواز.

وبه يظهر ما في الرابع.

وأمّا الثاني: فلعدم ثبوته من طرقنا.

وأمّا الثالث: فلأنّ تلكم النصوص تدلّ على أنّ كلّ بيّنةٍ فهي على المُدّعي، لا أن كلّ مدّعٍ يجبُ عليه البيّنة، مع أنّها ظاهرة في صورة الجهل بالواقعة، فإنّ حجيّتها طريقيّة مختصّة بتلك الصورة كسائر الطرق والأمارات، مع أنّ البيّنة هي الحجّة والدليل الموجبة للظهور، كما هي معناها اللّغوي، والمستعمل فيها في الآيات5.

ص: 101


1- الكافي: ج 7/416 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/271 ح 33753.
2- الكافي: ج 7/219 ح 2، وسائل الشيعة: ج 28/27 ح 34130.
3- الكافي: ج 7/183 باب ما يوجب الرّجم ح 2، وسائل الشيعة: ج 28/94 باب 12 أنّ الزّنا لا يثبت إلّابأربعة شهود ح 34305.

وكلمات العلماء، كقوله تعالى: (وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ ) (1) وغيره.

وحملها على الاصطلاح الجديد، يحتاجُ إلى دليلٍ مفقود.

ومقابلتها باليمين لا تصلحُ لذلك فإنّ المقابلة بلحاظ أنّ بيّنة المُنكر مختصّة باليمين، ولا تكون شهادة الشاهدين مفيدة له.

وأمّا الخامس: فلعدم كونه مُسنداً إلى الإمام عليه السلام ولا مضمراً، بل ظاهره كون ذلك فتوى يونس.

واحتمال اختصاص الاستخراج بما يحتاج إليه، والمعلوم للحاكم لا يحتاجُ إلى الاستخراج.

وأمّا الأخيران: فغايتهما كونهما مطلقين، فيقيّدان بما مرّ، والمطلق ممّا قدّمناه نسبته معهما عمومٌ من وجه، فيقدّم لوجوهٍ لا تَخفى .

فتحصّل: أنّ الأظهر أنّ القاضي يقضي بعلمه مطلقاً.

وفي «المسالك»(2): (واعلم أنّ من مَنَع من قضائه بعلمه استثنى صوراً:

منها: تزكية الشهود وجرحهم، لئلّا يلزم منه الدور أو التسلسل، فإنّه إذا علم بأحد الأمرين، وتوقّف في إثباته على الشهود، فإن اكتفى بعلمه بتزكية المزكّى أو الجارح، فقد حكم بعلمه، وإلّا افتقر على آخرين، وهكذا فيتسلسل إنْ لم يعتبر شهادة الأولين، أو الدوران اعتبرا في حقّ غيرهما.

ومنها: الإقرار في مجلس القضاء وإنْ لم يسمعه غيره.

وقيل: يُستثنى إقرار الخصم مطلقاً.6.

ص: 102


1- سورة البقرة: الآية 87.
2- مسالك الأفهام: ج 13/386.

ومنها: العلم بخطاء الشهود يقيناً أو كذبهم.

ومنها: تعزير من أساء أدبه في مجلسه، وإنْ لم يعلم غيره، لأنّه من ضرورة اُبّهة القضاء.

ومنها: أن يشهد معه آخر، فإنّه لا يقصر عن شاهد)، انتهى .

***

ص: 103

وإن انتفى العلم حَكَم بالشِّهادة

المُدّعي مخير بين إقامة البيِّنة وإحلاف المنكر

المسألة الثانية عشر: بناءً على جواز حكم القاضي بالعلم، كما هو الحقّ :

فإنْ تحقّق علمه بالواقعة، فهو.

(وإنْ انتفى العلم، حَكَم بالشهادة) مع تمكّن المُدَّعي من إقامتها، لعموم ما دلّ (1)على القضاء والحكم بالبيّنات، وهذا ممّا لا كلام فيه ولا خلاف.

أقول: إنّما الكلام في المقام في فروع:

الفرع الأوّل: إذا قال المُدّعي: (لي بيِّنة):

فعن الأكثر: أنّه يجبُ أن يحضرها الحاكم إنْ علم جهل المُدَّعي بأنّ له الإحضار، ويجوز إنْ لم يكن عالماً به.

وعن «المبسوط»(2)، و «المهذّب»(3)، و «السرائر»(4): أنّه لا يجوز مطلقاً.

وعن «المختلف»(5)، و «القواعد»(6)، و «الدروس»(7): أنّه لا يجوزُ إذا كان عالماً

ص: 104


1- الكافي: ج 7/415 باب أنّ البيّنة على المدّعي، وسائل الشيعة: ج 27/233 باب 3 باب أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على المُدّعى عليه.
2- المبسوط: ج 8/159.
3- المهذّب: ج 2/586.
4- السرائر: ج 3/158.
5- مختلف الشيعة: ج 8/376.
6- قواعد الأحكام: ج 3/19.
7- الدروس: ج 2/90.

بأنّ له الإحضار، ويجوزُ إنْ كان جاهلاً بذلك.

أقول: لا ينبغي التوقّف في أنّه يجوزُ على وجه الإرشاد مع علمه، ويجبُ كذلك مع جهله، ويحرمُ على وجه الإيجاب عليه، لأنّ الحقّ له، فإن شاء أحضرها وإلّا فلا، إذ له العدول عن أصل الدّعوى، وله اختيار اليمين، ولذلك قال صاحب «المستند»(1):

(إنّ النزاع بينهم لفظيّ ، فمن يقول بعدم الجواز، يريدُ به عدم الجواز على وجه الإلزام، ومن يقول بالجواز مراده ذلك على وجه الإرشاد).

الفرع الثاني: صرّح جماعة(2) بأنّ المُدّعي الذي له بيّنة حاضرة أو غائبة مخيّرٌ بين اقامتها وإحلاف المنكر، ولا يتعيّن عليه اقامتها، وإنْ علم بكونها مقبولة عند الحاكم، ونسبه بعضهم إلى الأصحاب(3)، وآخر(4) إلى أنّه المستفاد من الروايات.

وقد استدلّ له:

1 - بأنّ إقامة البيّنة حقٌّ ثابتٌ للمُدّعي، فله أن لا يُقيمها.

2 - وبصحيح ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«إذا رضى صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحق المُدّعي فلا دعوى له.

قلت له: وإنْ كانت عليه بيّنة عادلة ؟

قال عليه السلام: نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خمسين قسامة ما كان له، وكانت1.

ص: 105


1- مستندالشيعة: ج 17/240. قوله: (كماأنّ الظاهرأنّ مرادهم نفي جوازالأمر الإيجابي ومراد المجوّزين الإرشادي).
2- تحرير الأحكام: ج 2/191.
3- رياض المسائل: ج 15/73.
4- حكاه صاحب مستند الشيعة: ج 17/241.

اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه»(1).

3 - وبخبر محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«إنّ نبيّاً من الأنبياء شكى إلى ربّه كيف أقضي بأُمورٍ لم اُخبر ببيانها؟

قال: فقال له: ردّهم إليّ ، وأضفهم إلى اسمي يحلفون به»(2).

بتقريب: أنّ مقتضى إطلاقه ثبوت الحقّ بالحَلف مطلقاً، وإنْ كان للمُدّعي بيّنة، فإذا كان الحلف من طرق إثبات المُدّعي، فيكون مخيّراً بينهما.

وبذلك يظهر ما في إيراد السيّد في «ملحقات العروة»(3) من التأمّل في إطلاقه، وأنّ الأمر فيه متوجّه إلى النبيّ لا إلى المُدّعي، ومن المعلوم عدم كون التخيير له، فإنّ الذي يثبت بذلك كون الحلف من الطرق، وإثبات التخيير للمُدّعي حينئذٍ إنّما هو من جهة تخييره في إثبات مدّعاه بكلّ ما هو طريقٌ إليه، والأمر وإنْ توجّه إلى النبيّ ، إلّا أنّه أمرٌ إرشادي إلى ذلك.

وقد يقال: إنّه لا يجوزُ الإحلاف مع وجود البيّنة:

1 - لأنّ المستفاد من النصوص أنّ البيّنة وظيفة المُدّعي.

2 - ولصحيح سليمان بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «إنّ نبيّاً من الأنبياء شكى إلى ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟

قال: فأوحى اللّه إليه: اُحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به، وقال: هذا لمن لم تقم به بيّنة»(4).7.

ص: 106


1- الكافي: ج 7/417 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/244 ح 33689.
2- الكافي: ج 7/414 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/230 ح 33659.
3- تكملة العروة الوثقى: ج 2/69.
4- الكافي: ج 7/415 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/229 ح 33657.

3 - وبمرسل يونس، عمّن رواه في حديثٍ : «فإنْ لم يكن شاهدٌ، فاليمين على المُدّعى عليه»(1).

4 - وبما عن تفسير الإمام عليه السلام في حديثٍ : «وإنْ لم يكن له بيّنة حَلَف المُدّعى عليه»(2).

أقول: وفي كلّ نظر:

أمّا الأوّل: فلعدم دلالة تلك النصوص على الحصر.

وإنْ شئتَ قلت: إنّها تدلّ على أنّ كلّ بيّنةٍ فهي للمُدّعي، ولا تدلّ على أنّ كلّ مدّعٍ فعليه البيّنة.

وأمّا الثاني: فلأنّ المشار إليه بلفظة (هذا) هو ما تقدّم من الأمر بالتحليف، فيدلّ على أنّ تعيّن ذلك إنّما هو لمن لم يقم بيّنة، وهو غير المُدّعي، مع أنّ الموجود فيه عدم إقامة البيّنة لا عدم وجودها.

وأمّا الثالث: فلأنّ المراد به أنّ تعيّن اليمين كما يدلّ عليه لفظ (على) إنّما هو بعد عدم الشاهد.

وأمّا الرابع: فلأنّ الشرط فيه عدم البيّنة، الظاهر في عدم إقامتها لا عدم وجودها، ولا أقلّ من احتمال ذلك.

وبالجملة: الأظهر هو التخيير بين إقامة البيّنة، وإحلاف المُنكِر.

الفرع الثالث: لو قال المُدّعي: (لي بيّنة غائبة)، فلا إشكال في أنّ الحاكم يخيّره بين إحضارها، وبين إحلاف المنكر، لما مرّ من كونه مخيّراً بينهما.3.

ص: 107


1- الكافي: ج 7/416 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/241 ح 33682.
2- وسائل الشيعة: ج 27/239 ح 33678، تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ص 673.

وعليه، فهل يؤجّل ويُضرب له وقتاً، كما عن بعضهم(1)، أم لا يؤجّل كما عن آخر(2)؟ وجهان:

يشهد للأوّل: خبر سلمة بن كُهيل، قال: «سمعتُ عليّاً عليه السلام يقول لشُريَح - إلى أن قال -: واجعل لمن ادّعى شهوداً غُيّباً أمداً بينهما، فإن أحضرهم أخذتَ له بحقّه، وإنْ لم يحضرهم أوجبتَ عليه القضيّة، الحديث»(3).

والقضيّة التي أمر بإيجابها هي حلف المنكر أو إسقاط الحقّ .

وهل للمُدّعي مطالبة غريمه بالكفيل، كما عن «المقنعة»(4)، و «النهاية»(5)، والقاضي(6) في أحد قوليه، و «الوسيلة»(7) و «الغنية»(8)؟

أم ليس له ذلك كماعن «المبسوط»(9)، و «الخلاف»(10) والإسكافي(11)، والحِلّي(12)، والقاضي(13) في قوله الآخر، وعليه أكثر المتأخّرين، بل عامّتهم كما قيل(14)؟4.

ص: 108


1- إيضاح الفوائد: ج 4/335 / الدروس: ج 2/90 / مستند الشيعة: ج 17/242-243.
2- المختصر النافع: ج 2/281، التنقيح الرائع: ج 4/251، رياض المسائل: ج 15/73.
3- الكافي: ج 7/412 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/211 ح 33618.
4- المقنعة: ص 733.
5- النهاية: ص 339.
6- المهذّب: ج 2/586.
7- الوسيلة: ص 212.
8- غنية النزوع: ص 445 قوله: (وله أن يطلب كفيلاً).
9- المبسوط: ج 8/160.
10- الخلاف: ج 6/237.
11- حكاه عنه العلّامة الحِلّي في مختلف الشيعة: ج 8/376.
12- السرائر: ج 2/159.
13- المهذّب: ج 2/586.
14- رياض المسائل: ج 15/74.

وجهان:

من أنّ مطالبة الكفيل قبل أن يثبت الحَقّ ، لا دليل عليها، سيّما مع جواز الحكم على الغائب، وملازمته، وحبسه عقوبةً قبل حصول السّبب بلا دليل عليها.

ومن حفظ الحقّ المُدّعي، حَذَراً عن ذهاب الغريم، ولزوم مراعاة حقّ المسلم في نفس الأمر، فيجبُ أخذ الكفيل من باب المقدّمة.

أقول: الأظهر هو الأوّل، لعدم ثبوت حقّ المسلم في نفس الأمر، بل مجرّد احتمال.

***

ص: 109

مع علمه بعدالة الشهود أو التزكية.

أحكام الجَرح والتعديل

المسألة الثالثة عشر: إذا أقام المُدّعي البيّنة.

فلابدّ وأن ينظر الحاكم في شهادتها، فإنْ كانت جامعةً للشرائط قبلها، وإنْ كانت فاقدةً لها طرحها، وإنْ جهل حالها تفحَّص وعَمل بما يقتضيه من القبول والرَّد.

وعليه، ف (مع علمه بعدالة الشهود أو التزكية) المُثبِتة للعدالة، حَكَم له بلا خلافٍ فيه في الجملة.

أقول: وإنّما الكلام في موارد:

المورد الأوّل: أنّه إن ثبتَ عدالتهما عند الحاكم، فهل يلزمُ سؤال المُدّعى عليه أنّه هل له جارحٌ أم لا، أم يجوز ذلك، أم ليس له السؤال أصلاً؟

وجوهٌ خيرها أوسطها.

كما أنّه إذا علم الحاكم فسقهما، لا يطلبُ من المُدّعي التزكية، وإنْ كان له ذلك، وللمدّعي إثباتها إن ادّعى خطاء الحاكم في اعتقاد فسقهما، من جهة أنّه اعتمد في ذلك على الاستصحاب، ولا محلّ له لتغيّر الحال، أو على ظاهر الحال، وكان الواقع خلافه، فإنْ أثبتها نفذ شهادتها، وإلّا فلا.

المورد الثاني: لو جهل الحاكم حالهما، يجبُ عليه أن يبيّن للمُدّعي أنّ له تزكيتهما بالشّهود إنْ كان جاهلاً بذلك.

ص: 110

ولو قال: (لا طريق لي إلى ذلك)، أو قال: (لا أفعل) أو (أنّه يعسرُ عليّ ذلك)، فهل يجبُ على الحاكم الفحص عن ذلك أم لا؟ قولان:

استدلّ للأوّل:

1 - بأن الحكم واجبٌ على الحاكم، وهو متوقّفٌ على معرفة حال الشهود، فيجبُ ذلك من باب المقدّمة.

2 - وبما عن تفسير الإمام عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا تخاصم إليه رجلان، قال للمُدّعي: ألكَ حُجّة ؟

إلى أن قال: وإذا جاء بشهودٍ لا يعرفهم بخيرٍ ولا شَرّ، قال للشهود: أين قبائلكما؟ فيصفان أين سوقكما؟ فيصفان... ثمّ يُقيم الخصوم والشهود بين يديه، ثمّ يأمر فيكتُب أسامي المُدّعي، والمُدّعى عليه، والشهود، ويصف ما شهدوا به، ثمّ يدفع ذلك إليرجلٍ من أصحابه الخيار، ثم مثل ذلك إليرجلٍ آخر من خيار أصحابه، ثمّ يقول: ليذهب كلّ واحدٍ منكما من حيثُ لا يشعر الآخر إلى قبائلهما، وأسواقهما، ومحالّهما، والرَّبض الذي ينزلانه، فيسأل عنهما، فيذهبان ويسألان، فإن أتوا خيراً وذكروا فضلاً، رجعوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فأخبراه، أحضر القوم الذي أثنوا عليهما، وأحضر الشهود... قَضى حينئذٍ بشهادتهما على المُدّعى عليه.

فإن رجعا بخبر سييء وثناء قبيح.... لم يهتك ستراً الشاهدين، ولا عابهما، ولا وبّخهما، ولكن يدعو الخصوم إلى الصلح، الحديث»(1).

ولكن الأوّل: مندفعٌ بعدم الدليل على وجوب الحكم بالبيّنة العادلة مطلقاً، حتّى3.

ص: 111


1- وسائل الشيعة: ج 27/239 باب 6 من أبواب كيفيّة الحكم واحكام الدّعوى ح 33678، تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ص 673.

يجبُ مقدّمته، بل مع قيام البيّنة يجبُ عليه الحكم بها، كيف وقد مرّ أنّه إذا كان للمُدّعي بيّنة عادلة، لا يجبُ عليه إقامتها، بل هو مخيَّرٌ بين الإقامة وبين إحلاف المُنكِر، ولا يجب على الحاكم أن يأمر بإحضارهما.

وأمّا الثاني: فغاية ما يثبتُ به جواز ذلك، ولا كلام فيه، إنّما الكلام في وجوبه، والخبرُ قاصرٌ عن إفادته.

المورد الثالث: إذا أقام المُدّعي على التزكية بيّنةً مقبولة، فالمشهور بين الأصحاب أنّه يجبُ عليه أن يبيّن للمُدّعى عليه أنّ له حقّ الجرح إمّا مطلقاً كما عن جماعةٍ (1)، أو إذا لم يكن عالماً به كما عن آخرين(2)، واستدلّوا له بأنّ إهمال ذكره يوجبُ بطلان حقّه، وهو كما ترى .

ثمّ إنّ طلبَ منه الجارح، فإنْ أتى به، أو قال: (لا جارح لي) فلا كلام.

وإنْ استمهَل في إثبات الجرح، قالوا يُمهل ثلاثة أيّام، وقد استدلّوا لوجوب الإمهال:

1 - بأنّه مقتضى العدل.

2 - وبرواية سلمة المتقدّمة: «واجعل لمن ادّعى شهوداً غُيّباً أمداً بينهما، فإنْ أحضرهم أخذتَ له بحقّه»(3).

ولكن العدل يحصلُ بالحكم ثمّ الاسترداد إنْ أثبتَ الجَرحَ بعد ذلك، بل ربما قيل إنّ ذلك أقربُ إلى العدل.

والخبرُ في شهود المُدّعي على المُطالِب بالحقّ .8.

ص: 112


1- شرح اللّمعة: ج 3/90، رياض المسائل: ج 15/72.
2- مستند الشيعة: ج 17/248، تكملة العروة الوثقى: ج 2/71.
3- الكافي: ج 7/412 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/211 ح 33618.

وأمّا تقدير الإمهال بثلاثة أيّام، فلم أظفر بما يُمكن أن يستدلّ به له.

ثمّ إنّه على فرض الإمهال لا يبعدُ القول بجواز أن يأخذ المُدّعي الكفيل من المُدّعى عليه، لثبوت حقّه في الجملة.

المورد الرابع: إذا تبيّن بعد الحكم فسق الشاهدين حال الحكم انتقضَ ، من غير فرقٍ بين أن يكون الحاكم معتمداً في عدالتهما على الاستصحاب، أو متيقّناً بذلك، لانكشاف بطلان المستند.

وإنْ كان طارئاً بعد الحكم، لم يُنتقض قطعاً.

وإنْ كان بعد الشهادة وقبل الحُكم، ففيه قولان.

وإنْ جَهل الحال لم يُنتقض، لاستصحاب بقاء العدالة إلى حين الحكم، ولا يعارضه استصحاب عدم الحكم إلى زمان الفسق، لأنّه لا يثبتُ به كون الحكم في حال الفسق، من غير فرقٍ في ذلك بين الجهل بتاريخهما أو العلم بتاريخ أحدهما.

ما به يثبت العدالة

المورد الخامس: فيما تثبت به عدالة الشهود، وفيه موارد للبحث:

المورد الأوّل: المنسوب إلى الشيخ في «الخلاف»(1)، والمفيد في كتاب «الاشراف»(2)، والإسكافي(3): أنّه يكتفى فيه بظاهر الإسلام، بناءً منهم على أنّ الأصل فيه العدالة، وادّعى الأوّل عليه إجماع الطائفة.

ص: 113


1- الخلاف: ج 6/218.
2- الاشراف في عامّة فرائض أهل الإسلام: ص 25، وكذلك المقنعة: ص 730 قوله: (وكان الشاهد على ظاهر العدالة).
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 8/437.

أقول: والظاهر كما أفاده سيّد «الرياض»(1) أنّ مبنى الخلاف هنا على الاختلاف في تفسير العدالة:

هل هي ظاهر الإسلام مع عدم ظهور فسقٍ؟ أو مجرّد حسن الظاهر؟

أو الملكة، أي الكيفيّة النفسانيّة الباعثة على ملازمة التقوى؟

أو أنّها الاجتناب عن المعاصي عن ملكةٍ؟

أو مجرّد ترك المعاصي ؟

وقد أشبعنا الكلام في ذلك في مبحث العدالة في الأجزاء السابقة من هذا الشرح(2).

وبيّنا أنّ العدالة عبارة عن الاستقامة العَمَليّة على جادة الشرع، بإتيان جميع الواجبات، وترك جميع المحرّمات، حتّى الخفيَّة منها كالرِّياء، وبيّنا أنّ ذلك ملازمٌ لوجود المَلَكة، وذكرنا ما يمكن أن يستدلّ به للأقوال الاُخر، والجواب عنه.

كما أنّه بيّنا في تلك المسألة طرق معرفة العدالة، وأنّها لا تثبتُ بمجرّد الإسلام مع عدم ظهور الفسق، وأنّ شيئاً من الأخبار المستفيضة التي استدلّوا بها له لا يدلّ عليه، وبيّنا طريقيّة حُسن الظاهر، وأنّها تثبتُ بشهادة عدلين، بل العدل الواحد، وبالشهادة الفعليّة، وعدم ثبوتها بالشِّياع الظنّي والظّن المطلق.

وأيضاً: قد أثبتنا أنّه يجوزُ تعديل الشخص بمجرّد قيام الطريق إلى عدالته عنده من حُسن الظاهر، والبيّنة، وغيرهما، أو ثبوتها عنده بالاستصحاب فراجعه، فإنّه متضمّنٌ لمسائل هامّة، ومطالب نفيسة، يظهر منها ما في كلمات الفقهاء في المقام.).

ص: 114


1- رياض المسائل: ج 15/37.
2- فقه الصادق: راجع: ج 9/109، مبحث (في شرطيّة العدالة)، و ج 24/48، مبحث (اشتراط العدالة).

وإنّما بقي الكلام في خصوص ما لو أقرَّ المُدَّعى عليه بعدالة شهودِ المدَّعي مع دعواه خطأهما:

فعن الإسكافي(1)، والفاضل المقدّاد(2)، والمصنّف رحمه الله في «التحرير»(3)و «القواعد»،(4) و «الإرشاد»(5)، وولده في «شرح القواعد»(6): أنّها تثبتُ به، بمعنى أنّ للحاكم أن يحكم للمُدّعي.

وعن جماعة(7): أنّها لا تثبتُ به.

واستدلّ للأوّل:

1 - بما في ذيل المرويّ عن تفسير الإمام عليه السلام المتقدّم: «فإنْ كان الشهود من أخلاط النّاس غرباء، لا يُعرَفون، ولا قبيلة لهما، ولا سوق ولا دار، أقبل على المُدّعي عليه فقال: ما تقول فيهما؟

فإنْ قال: ما عرفنا إلّاخيراً، غير أنّهما قد غلطا فيما شهدا عليَّ ، أنفذ شهادتهما، وإن جَرَحهما وطَعَن عليهما، أصلح بين الخصم وخصمه، وأحلف المُدّعى عليه، وقطع الخصومة بينهما»(8).

2 - وبأنّ البحث لحقّ المشهود عليه، وقد أقرّ بعدالتهما، وأنّه أقرّ بوجود شرط3.

ص: 115


1- حكاه صاحب الرياض: ج 15/35.
2- التنقيح الرائع: ج 4/243.
3- تحرير الأحكام: ج 2/184.
4- قواعد الأحكام: ج 3/431.
5- الإرشاد: ج 2/141-142.
6- إيضاح الفوائد: ج 4/315.
7- جامع المدارك: ج 6/16.
8- وسائل الشيعة: ج 27/239 ح 33678، تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ص 673.

الحكم، وكلّ من أقرّ بشيء نفذ عليه، لقوله عليه السلام: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(1).

أقول: ولكن الأوّل ضعيف السند، والإقرار إنّما يكون نافذاً على المُقرّ نفسه، فليس له بعد ذلك الجرح عليهم، ولا يثبتُ به كونه ميزاناً يحكم به الحاكم، لعدم كونه طريقاً إلى ثبوت الواقع، ومجرّد كون التزكية استظهار حقّ المُدّعي، لا يقتضي سقوطه بإقراره، وشرط الحكم إنّما هو العدالة المعلومة للحاكم لا العدالة الواقعيّة، وإنْ لم تكن ثابتة عنده، والمفروض عدم حصول العلم له بهذا الإقرار من المُدّعى عليه، فلا يكفي في جواز الحكم.

وعليه، فالأظهر عدم ثبوتها به.

وبذلك يظهر حكمُ فرعٍ آخر، وهو ما لو أقام المُدّعي شاهدين ثابتي العدالة عند الحاكم، واعترف المُدّعي بعدم عدالتهما، ولم يكن قوله واجداً لشرائط الحجيّة كي يثبت به الجرح، فإنّ الظاهر عدم صحّة الحكم حينئذٍ، لأنّ شرط صحّة الحكم هو العدالة الواقعيّة الثابتة للحاكم، ولذا قالوا إنّه لو ظهر للحاكم فسق الشهود، انتقض الحكم، فالإقرار بعدم العدالة اعترافٌ بعدم وجود شرطالحكم، وعدم تماميّة الميزان، ولا يقاس المقام بإقرار المُدّعى عليه عدالة الشهود، فإنّ الإقرار بفقد أحد جزئي ميزان الحكم كافٍ في عدم جوازه، بخلاف الإقرار بوجود أحد الجزئين، فتدبّر.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الإقرار إنّما ينفذ على نفسه، ولا ينفى به ما هو ميزان للحاكم، إذ ليس شأن طريقيّة الإقرار هذا المقدار.

وعليه، فالأظهر هو صحّة الحكم له حينئذٍ.4.

ص: 116


1- وسائل الشيعة: ج 23/184 ح 29342، عوالي اللآلي: ج 1/223 ح 104.

وتُسمَعُ مطلقةً ، بخلاف الجَرح.

الإطلاق في الجرح والتعديل

ثمّ إنّه اختلف الأصحاب في كفاية الإطلاق في التعديل والجرح، أو لابدّ من ذكر السَّبب فيهما، أو في أحدهما على أقوال:

1 - ما هو المشهور بين الأصحاب من كفاية الإطلاق في التعديل دون الجرح، واختاره المصنّف رحمه الله في المقام، حيث قال: (وتُسْمعُ مطلقةً ) أي مطلق الشهادة بالعدالة (بخلاف الجرح).

2 - ما عن المصنّف رحمه الله في غير المقام(1): وهو عكس المشهور.

3 - كفاية الإطلاق فيهما.

4 - اعتبار التفصيل فيهما.

واستدلّ للأوّل: بأنّ العدالة تحصل بالتحرز عن أسباب الفسق، وهي كثيرة يعسر ضبطها وعدّها، بخلاف الجَرح فإنّه يكفي فيه ذكر سببٍ واحد.

وللثاني: بسهولة العلم بالفسق، لأنّه يكفي في تحقّقه فعل واحد، فالخطأ فيه نادر، بخلاف التعديل، فإنّه في معرض كثرة الخطأ، فلابدّ فيه من ذكر السَّبب.

وللثالث: بأنّ العادل لا يخبرُ عن أمرٍ إلّامع العلم بتحقّقه وتحقّق أسبابه.

وللرابع: بالاختلاف في أسبابهما، فلعلّ مذهبهما مخالفٌ لمذهب الحاكم.

والحقّ أن يقال: إنّه لو احتمل اختلاف الحاكم والمعدّل أو الجارح في حقيقة

ص: 117


1- مختلف الشيعة: ج 8/442 قوله: (بل الأحوط أن يسمع الجرح مطلقاً).

العدالة، أو في طريق ثبوتها من حيث الشُّبهة الحكميّة، فالأظهر عدم كفاية الإطلاق في شيء منهما، لعدم شمول دليل الشهادة لمثل ذلك.

ودعوى : قيام السيرة في جميع المقامات على عدم ذكر السَّبب، وأنّ المعلوم من طريقيّة الشارع الأقدس، حمل عبارة الشاهد على الواقع ولو مع الاختلاف، ولذا لايجبُ السؤال عن سبب الملك أو الطهارة أو النجاسة عند الشهادة بها، وما العدالة والفسق إلّامن قبيلها.

مندفعة: بأنّ المتيقّن من السيرة ما لا اختلاف في أسبابها، أو علم من الخارج اتّفاق المذهبين، وكون ما ذُكر طريقة الشارع حتّى مع الاختلاف في الأسباب وعدم اتّفاق المذهب غير معلوم، وإنْ لم يحتمل ذلك، ولكن احتمل الاختلاف في الشّبهة الموضوعيّة، كما لو احتمل أنّ الجرح كان من جهة أنّه رأى أنّه يكذب، واحتمل أن يكون ذلك في موردٍ كان الكذب جائزاً له، أو رآه أنّه يشرب الخمر واحتمل أن يكون به مرضٍ انحصر علاجه بذلك، أو علم به، فالظاهر عدم لزوم الاستفسار وكفاية مطلقه:

1 - لإطلاق أدلّة قبول الشهادة.

2 - ولقيام السّيرة على ذلك.

3 - ولأنّ من يشهد بالعدالة أو الجرح لا محالة يكون متوجّهاً إلى أسباب الفسق والعدالة.

واحتمال عدم توجّهه إلى بعضها، يندفعُ ببناء العقلاء وغيره كسائر الموارد.

وبما ذكرناه يظهر ضعف سائر الأقوال.

أقول: بقي الكلام في المراد من الإطلاق:

ص: 118

فقد صرّح غير واحدٍ من الأصحاب باعتبار ضَمّ أحد اللّفظين: (لي)، (عندي)، إلى قوله: (عَدلُ )، مثلاً أن يقول: (هو عَدْلٌ لي) أو (عدل عندي)، أو إضافة جملة:

(مقبولة الشهادة) إلى قوله (عدل) حكاه الشهيد الثاني(1) عن أكثر المتأخّرين.

وعن الإسكافي(2): ضَمّ الأوّل خاصّة.

وعن «المبسوط»(3): الاكتفاء بقوله: (وهو عدلٌ ) من دون اعتبار ضَمّ شيء مطلقاً.

وعن «المسالك»(4): الاجتزاء بقوله: إنّه مقبول الشهادة، وأنّ إضافة العدل إليه آكد.

والحقّ أن يقال: إنّه من جهة التعديل يُكتفى بكلّ ما هو منبئٌ عن العدالة، من دون اعتبار لفظٍ خاصّ ، بل لا يعتبر اللّفظ أصلاً، فلو رأينا العدل اقتدى به في الصلاة، كفي ذلك في التعديل، لإطلاق الأدلّة، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في مسألة ثبوت العدالة بالشهادة الفعليّة في مبحث العدالة من هذا الشرح(5).

وأمّا المقبوليّة من ناحية سائر الشرائط، فهي أيضاً لابدّ وأن تُحرز ولو بالأصل، على القول بأنّ سائر ما يعتبر في قبول الشهادة غير العدالة من قبيل الموانع، فمع تحقّق العدالة يجبُ الحكم مالم يثبت أحد الموانع من الخصومة، وجَرّ النفع، وكونه على والده، وما شاكل.).

ص: 119


1- مسالك الأفهام: ج 13/408-409.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 8/431 المسألة 34.
3- المبسوط: ج 8/110.
4- مسالك الأفهام: ج 13/409.
5- فقه الصادق: ج 9/109، (في شرطيّة العدالة).

ومع التعارض

تعارض الجرح والتعديل

ثمّ إنّه إنْ اختلف الشّهود في الجرح والتعديل:

فإنْ كان بنحوٍ قابلٍ للجمع بينهما، كما لو قال المُعدِّل: (قد جرّبته فوجدته حَسن الظاهر)، وقال الجارح: (رأيته يرتكبُ ذنباً)، أو قال المعدّل: (هو عادلٌ )، وقال الجارح: (رأيته ارتكب ذنباً)، أو قال الجارح: (إنّه فعل محرّماً في يوم كذا)، وقال المعدّل: (لقد تابَ بعد ذلك، وهو فعلاً ذو ملكة)، فلا إشكال فإنّه في الأولين يُبنى على الفسق، وفي الأخير على العدالة.

(و) أمّا (مع التعارض) بينهما، كما لو أطلق المُعدّل والجارح فقال المُعدّل: (إنّه عادلٌ )، وقال الجارح: (إنّه فاسق)، أو قال الجارح: (إنّه ارتكبَ معصيةً خاصّة في يوم كذا وساعة كذا)، وقال المُعدّل: (إنّه في ذلك اليوم كان معي، ولم يفعل ذلك)، ففيه أقوال:

1 - ما عن الشيخ في «الخلاف»(1): من أنّه وَقَف الحاكم، وقيل في المراد منه أمران:

أحدهما: أنّه يتوقّف عن الحكم بأحد الأمرين، ويكون كأنّه لا بيّنة.

ثانيهما: أنّه يتوقّف في الحكم أصلاً حتّى عن يمين المنكر.

2 - ما في «المسالك»(2) من تساقطهما في الصورة الثانية، وتقديم بيّنة الجارح في الصورة الأُولى .

ص: 120


1- الخلاف: ج 6/219 المسألة 12.
2- مسالك الأفهام: ج 13/410-411.

يُقدّم الجَرح.

3 - التساقط في الصورتين، اختاره صاحب «الجواهر» رحمه الله(1).

4 - الرجوع إلى القرعة في تقديم إحدى البيّنتين.

5 - أنّه (يُقدّم الجَرح).

أقول: إنّه في الصورة الأُولى حيث يُحتمل كون البيّنتين بنحوٍ لا تعارض بينهما، فحجيّتهما ثابتة، وسقوطهما غيرُ ثابتٍ ، فلابدّ وأن يستفسر الحال، فإنْ أمكن الجمع، وإلّا فيُعامل معهما معاملة المتعارضين.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ التعارض بينهما غيرُ ثابتٍ كي يُعمل قواعده.

وأمّا في الصورة الثانية: فعلى المختار في تعارض الأمارات من أنّ مقتضى القاعدة هو التخيير بين المتعارضين في المسألة الاُصوليّة، يكون المجتهد مخيّراً بين الأخذ ببيّنة العدالة أو ببيّنة الجَرح.

فإنْ قيل: إنّ ذلك مخالف للإجماع المركّب.

قلنا: لا محذور في مخالفة مثل هذا الإجماع المعلوم فيه مدرك المُجمعين.

ودعوى: أنّه يقدّم بيّنة الجَرح، لاعتضادها بأصالة عدم حصول سبب الحكم، ولأنّ الغالب في التعديل الاعتماد على أصالة عدم صدور المعصية.

مندفعة: بأنّ الأصل لايوجبُتقديم إحدى الأمارتين، ولايكون من المرجّحات، وكون الغالب في التعديل الاعتماد على الأصل لا ربط له بما هو محلّ الكلام.1.

ص: 121


1- جواهر الكلام: ج 40/120-121.

فإنْ قيل: لِمَ لا يرجع في ترجيح إحداهما إلى صفات الرّاوي، فيقدّم بيّنة من كان أعدل أو ما شاكل ؟

قلنا: إنّ الترجيح بها إنّما هو في الخبرين المتعارضين في الأحكام، وإسرائه إلى المقام من القياس، ولا نقول به.

وأمّا على القول بأنّ مقتضى القاعدة في تعارض الأمارات هو التساقط، فتتساقطان في المقام.

أقول: وبما ذكرناه ظهر مدارك القول الأوّل والثاني والثالث والخامس، والجواب عنها.

وأمّا الرابع: فقد استدلّ له:

تارةً : بعمومات(1) القُرعة.

وأُخرى : بالنصوص(2) الخاصّة الواردة في تعارض البيّنتين الدالّة على أنّه يرجع إلى القرعة.

أمّا الأُولى: لا مورد لها في المقام، لأنّها لكلّ أمرٍ مشكل، ولا إشكال في المقام، لوجود الميزان للحكم على أيّ حال.

وأمّا الثانية: فمن جهة تضمّنها لليمين المنتفية هنا إجماعاً، تختصّ بغير المقام.

وعليه، يظهر أنّه لا مورد لنصوص(3) الترجيح بالأكثريّة في المقام.

أقول: ما ورد في «ملحقات العروة»(2): (إذا كان شهود الجَرح اثنين، وشهود8.

ص: 122


1- التهذيب: ج 6/233 باب 90 باب البيّنتين يتقابلان أو يترحّج أحدهما على بعض وحكم القرعة، وسائل الشيعة: ج 27/257 باب 13 باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة. (2و3) الكافي: ج 7/418 باب الرجلين يدّعيان فيقيم كلّ واحدٍ منهما البيّنة، وسائل الشيعة: ج 27/249 باب 12 باب حكم تعارض البيّنتين وما ترجّح به أحدهما.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/78.

التعديل أربعة، يمكن أن يقال بتساقط اثنين بالاثنين، وبقاء اثنين للتعديل، وكذا العكس، وأولى بذلك إذا كان كلّ منهما اثنين، وبعد التساقط وجد اثنان آخران لأحدهما)، انتهى .

لا يكون نظره في ذلك إلى نصوص الأكثريّة قطعاً، كما لا يخفى ، بل الظاهر أنّ نظره الشريف إلى أنّه يتعارض الاثنان من الأربعة، مع الاثنين اللّذين في مقابلهما، فيتساقطان، فيكون الاثنان الباقيان بلا معارض.

وفيه أوّلاً: أنّ البيّنة عبارة عن شهادة اثنين فما فوق، لا أنّ شهادة كلّ اثنين بيّنة مستقلّة.

وعليه، فطرف المعارضة هو شهادة الأربعة، فعلى فرض التساقط لابدّ وأن يسقط الجميع.

وثانياً: أنّه لو سُلّم كون البيّنة عبارة عن شهادة اثنين، ولازمه أن يكون في مورد شهادة الأربع بيّنتان، إلّاأنّه لا وجه للقول بأنّه تعارض إحدى البيّنتين مع البيّنة التي في مقابلها، وتبقى الأُخرى على حالها، فإنّ البيّنة المقابلة لهما تعارضهما جميعاً حتّى إذا قامت إحداهما بعد التساقط، فإنّ التساقط لا يوجبُ سقوطها عن قابليّة الحجيّة، ونظير ذلك ما ذكروه في الاُصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي، من أنّه إذا كان في أحد الطرفين أصلان، وفي الآخر أصلٌ واحد، فإنّ الساقط جميع الاُصول حتّى الاُصول الطوليّة، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الشيئين اللّذين أحدهما مستصحبُ الطهارة، والآخر محكومٌ بالطهارة في نفسه، بمقتضى أصالة الطهارة، فإنّه لا سبيل إلى القول بتعارض الاستصحاب مع أصالة الطهارة الجارية في مقابله، فيبقى أصالة الطهارة في هذا الطرف الجارية بعد سقوطالاستصحاب بحالها،

ص: 123

وتَحرُم الرَّشوة، ويجبُ إعادتها وإن حكم بالحقّ .

بل العلم الإجمالي يوجبُ سقوط الجميع وفي المقام كذلك، ولتمام الكلام محلّ آخر.

وعليه، فالأظهر عدم الفرق بين التعدّد وعدمه.

المسألة الرابعة عشر: (وتَحرُم الرَّشوة، ويجبُ إعادتها وإنْ حكم بالحقّ ) كما تقدّم الكلام في ذلك مستوفى في المسألة الثالثة.

***

ص: 124

وإذا التمس الغريم إحضار خصمه أجابه، إلّاالمرأة غير البرزة أو المريض، فينفذ إليها من يَحكُم بينهما.

التماس الغريم إحضار الخصم

المسألة الخامسة عشر: (وإذا التمس الغريم إحضار خَصمه أجابه) الحاكم، على المشهور بين الأصحاب في الحاضر في البلد.

وفي «المسالك»(1): فإنْ كان في البلد، وكان ظاهراً يمكن إحضاره، وجَبَ إحضاره مطلقاً عند علمائنا (إلّا المرأة غير البَرْزَة(2)، أو المريض، فينفذ إليهما من يحكُم بينهما)، أو أمرهما بنصب وكيلٍ ليخاصَم عنهما.

أقول: هذا ما ذكره جماعة، وللفقهاء في المقام كلمات شتّى ، وتنقيح القول في المقام في جهات:

الجهة الأُولى : في أنّه هل يجبُ الإحضار في الجملة، ويجبُ على الخصم الحضور أم لا؟

أمّا كلماتهم فقد طفحت بدعوى الإجماع(3) على ذلك في الرّجل الصحيح الحاضر في البلد، إذا لم يكن من أهل الشرف والمروّات، واستدلّوا لذلك:

ص: 125


1- مسالك الأفهام: ج 13/423.
2- بفتح الباء وسكون الرّاء المهملة، وبفتح الزّاء المعجمة - وهي التي لا تحتجب احتجاب الشواب، وهي مع ذلك عفيفة عاقلة تجلُس للناس وتحدّثهم، من البروز وهو الظهور.
3- المبسوط: ج 8/154.

1 - بأنّ الحاكم منصوبٌ لاستيفاء الحقوق وحفظها، وترك تضييعها، فلو قلنا إنّه لا يحضره، ضاع الحقّ وبطل، لأنّ الرّجل ربما تسلّط على مال غيره وأخذه، وجلس في موضعٍ لا حاكم فيه، وما أفضي إلى هذا باطلٌ في نفسه.

بذلك استدلّ الشيخ رحمه الله(1) وتبعه غيره(2).

2 - وبأنّ الإلزام بالحضور من شؤون القُضاة عرفاً، أو خصوص قضاة الجور، الثابت مثلها لقضاتنا بالمقبولة.

3 - وبما في خبر عبد الرحمن، قال: «قلتُ للشيخ عليه السلام: أخبرني عن الرّجل يدّعي قِبل الرّجل الحقّ ، فلم تكن له بيّنة بماله ؟

قال: فيمينُ المُدّعى عليه.

إلى أن قال: وإنْ كان المطلوب بالحقّ قد مات، فإنْ ادّعى بلا بيّنةٍ ، فلا حقّ له، لأنّ المُدّعى عليه ليس بحيّ ، ولو كان حيّاً لأُلزم اليمين، أو الحقّ ، أو يردّ اليمين عليه، فمِنْ ثَمّ لم يثبت الحقّ »(3).

بدعوى: أنّه يدلّ على ثبوت هذا الحقّ للقاضي مقدّمةً لإلزامه بيمينه، ولو من جهة كون حضوره لدى الحاكم شرط يمينه.

4 - وبالإجماع.

5 - وبتوقّف الحكم بينهما على ذلك.

أقول: ولكن شيئاً من ذلك لا يكفي في الحكم بوجوب الإحضار والحضور.3.

ص: 126


1- الخلاف: ج 6/236 مسألة 34.
2- رياض المسائل: ج 15/52.
3- الكافي: ج 7/415 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/236 ح 33673.

أمّا الأوّل: فلأنّ الحاكم يُطالب المُدّعي بإثبات حقّه، فإذا ثبت يُعلِم خصمه بذلك، فإنْ حَضَر فهو، وإلّا حُكِمَ عليه غياباً، ولا يلزم من ذلك تضيّيع الحقوق، بل ربما يكون الإحضار - سيّما بالنحو الذي ذكره الأصحاب من أنّه لو امتنع استعان عليه بأعوان السلطان، وعن بعضهم(1): أنّه لو اختفى أَمَرَ الحاكمُ أن يُنادى على باب داره أنّه لو لم يَحضر إلى ثلاثة أيّام يُسمِّر بابه ويَختم عليه - إيذاءً للمُدّعى عليه، وإهانة إيّاه.

وأمّا الثاني: فغاية ماهناك أن يكون للقاضي الإحضار، بمعنى أن يُعلمه بأن يحضر أن يُوكّل من يخاصم خصمه، وإلّا فيحكم عليه غياباً، لا أنّه له أن يحضره بعينه.

وأمّا الثالث: فلأنّه يدلّ على الإلزام باليمين، أو الحقّ ، أو رَدّ اليمين، وهذا لا يدلّ على الإلزام بخصوص اليمين، مع أنّه سيأتي عدم لزوم كون اليمين في مجلس الحكم.

وأمّا الرابع: فلأنّ مدرك المُجمعين لعلّه بعض ما ذكر، فلا يكون تعبّديّاً.

وأمّا الخامس: فلما عرفت من أنّه لا يتوقّف الحكم بينهما على حضوره، وأنّه لو امتنع عنه صحّ الحكم عليه غياباً.

وبالجملة: فالأظهرتبعاً لجماعةٍمن متأخّري المتأخّرين(2)، عدم وجوب إحضاره، وعدم وجوب الحضور عليه إنْ أحضره، وله أن يسقط حقّ حضوره، فيحكم الحاكم بالميزان الثابت عنده.

الجهة الثانية: أنّه على فرض وجوب الإحضار والحضور، فهل يجبُ قبل تحرير الدّعوى أو بعده، أم يفصّل بين الحاضر في البلد والغائب عنه، ففي الأوّل قبله،1.

ص: 127


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/30 و 31.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/30 و 31.

وفي الثاني بعده ؟

المشهور بين الأصحاب هو التفصيل، واستدلّوا لذلك:

بأنّ الحاضر في البلد ليس لحضوره مجلس القاضي مؤونة ومشقّة شديدة، فلا مانع من وجوب إحضاره قبل تحرير الدّعوى، وأمّا الغائب فمن جهة لزوم المشقّة عليه، فيُطالب المُدّعي بتحرير الدّعوى، فقد تكون غير مسموعة، فخوفاً من تحميل المشقّة عليه بغير حقّ ، يُحكم بالوجوب بعد تحرير الدَّعوى لا قبله.

وفيه: إنّ ذلك يتمّ إذا كان مقتضى الأدلّة التي أقاموها على وجوب الإحضار، وجوبه قبل تحرير الدّعوى، مع أنّ شيئاً منها لا يقتضي ذلك، إلّاالوجه الثاني، وإلّا فمقتضى غيره ليس أزيد من الوجوب بعد تحرير الدّعوى، بل مقتضى بعضها وقت توجّه اليمين أو الحكم بينهما.

الجهة الثالثة: استثنى الأصحاب من وجوب الإحضار المرأة غير البَرْزَة والمريض، وأمّا الشريف فقد ألحقه بعضهم بالغائب في اختصاص وجوب إحضاره بما إذا كان بعد التحرير، وبعضهم ألحقه بالمعذور عن الحضور، وليس على شيء من ذلك دليلٌ يُستند إليه، فإنّه إذا توقّف الحكمُ على حضور الخصم، لا يصلُح قاعدة العُسر والحَرَج لإثبات صحّة الحكم مع عدم حضوره، ولكن الذي يُسهّل الخطب ما عرفت من عدم الدليل على وجوب الإحضار أصلاً.

***

ص: 128

الفصل الثاني: في كيفيّة الحكم:

وعليه أن يُسوّي بين الخَصمين في الكلام والسَّلام والمكان والنظر والإنصات،

(الفصل الثاني): (في كيفيّة الحُكم)

اشارة

وفيه بحثان:

البحث الأوّل: في وظائف الحاكم وآدابه، (و) هي أربع:

الوظيفة الأُولى : يجبُ (عليه) أي على القاضي:

1 - (أن يُسوّي بين الخصمين في الكلام، والسَّلام، والمكان، والنظر، والإنصات) على المشهور بين الأصحاب(1).

ويشهد به: نصوصٌ كثيرة:

منها: النّص الذي هو كالقريب من الصحيح بالحسن بن محبوب، المُجمع على تصحيح روايته، فينجبُر به جهالة راويه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال لشريح:

«ثمّ واس بين المسلمين بوجهك ومنطقك ومجلسك، حتّى لا يطمع قريبك في حيفك، ولا ييأس عدوّك من عدلك، الحديث»(2).

ومنها: قويّ السّكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السلام: من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة، وفي

ص: 129


1- المبسوط: ج 8/149، مسالك الأفهام: ج 13/427.
2- الكافي: ج 7/412 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/211 ح 33618.

النظر، وفي المجلس»(1).

ونحوه مرسل الصَّدوق إلّاأنّه رواه عن النبيّ صلى الله عليه و آله، وقال فيه: «فليساو بينهم» بدل «فليواس»(2).

ومنها: العلويّ القويّ : «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نَهى أن يُضاف الخصم إلّا ومعه خصمه»(3).

ونحوها غيرها.

قال المحقّق العراقي(4): (لا يخفى أنّ التعليل في ذيل الأخير - الأوّل الذي ذكرناه - يصلحُ للقرينة المانعة عن ظهور الأمر في صدره في الوجوب، وعليه فيشكل استفادة الوجوب من مثله، وأمّا البقيّة فهو فرع اتّكال المشهور عليها، ودونها خرط القتاد، وحينئذٍ فربما يُشكل أمر إقامة الدليل على أزيد من رجحانها، ولقد أجاد في «الجواهر»(5) في منعه ذلك بمقتضى الصناعة)، انتهى .

وفيه أوّلاً: منع قرينيّة التعليل لعدم الوجوب.

وإنْ شئتَ قلت: إنّه ما لم يدلّ القرينة على عدم الوجوب، لما كان وجهٌ لرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب، ومن الواضح عدم دلالة العلّة المذكورة على عدم الوجوب.

وثانياً: إنّ بقيّة الأخبار قويّة معتبرة لاتحتاجُ معها إلى الاستناد للمشهور.2.

ص: 130


1- الكافي: ج 7/413 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/214 ح 33623.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/14 ح 3242، وسائل الشيعة: ج 27/215 ذيل الحديث 33624.
3- الكافي: ج 7/413 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/214 ح 33624.
4- كتاب القضاء للمحقّق الشيخ ضياء الدّين العراقي: ص 69.
5- جواهر الكلام: ج 40/141-142.

والعدل في الحُكم. ويَجوزُ أن يكون المُسلمُ قاعداً أو أعلى منزلاً والكافرُ قائماً أو أخفض،

وعليه، فالأظهر هو الوجوب، فما عن الديلمي(1)، والحِلّي(2)، والمصنّف في «المختلف»(3) من القول بعدم الوجوب ضعيف.

2 - (و) يجبُ أيضاً (العَدل في الحكم)، بلا خلافٍ ، والإجماع منعقدٌ عليه، والكتاب والسُّنة دالّان عليه.

قال اللّه سبحانه: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) (4)، وقريبٌ منه آياتٌ أُخَر.

وأمّا الأخبار الدالّة عليه، فهي مستفيضة، تقدّمت جملةٌ منها وستأتي أُخرى .

ولو كان في العدل مظنّة الضَّرر بما لا يرضى به الشارع، ترك الحكم، لا أن يحكم بغير العدل.

فرعان:

الفرع الأوّل: إنّ وجوب التسوية بنحو الإطلاق، إنّما هو في صورة تساويهما في الإسلام، (و) أمّا مع الاختلاف ف (يجوز أن يكون المُسلم قاعداً أو أعلى منزلاً والكافر قائماً أو أخفض) قولاً واحداً، كما جلس عليٌّ عليه السلام بجنب شُريح في خصومةٍ له مع يهودي، كذا في «الرياض»(5).7.

ص: 131


1- المراسم العلويّة: ص 230.
2- السرائر: ج 2/157.
3- مختلف الشيعة: ج 8/421 المسألة 22.
4- سورة النساء: الآية 58.
5- رياض المسائل: ج 15/57.

ولا يُلقِّن الخَصم.

وهل تجبُ التسوية بينهما فيما عدا ذلك مطلقاً، كما هو ظاهر الأصحاب، لإطلاق النصوص المتقدّمة، أم تجبُ التسوية فيما عدا ما يرجعُ إلى الإكرام، فيتعدّى عن ما ذكر إلى غيره من وجوه الإكرام، كما عن الشهيدين(1) وسيّد «الرياض»(2)وغيرهم(3)؟ وجهان:

مقتضى الجمود على ظواهر النصوص هو الأوّل، ولكن لا يبعدُ القول الثاني، حفظاً لشرف الإسلام.

الفرع الثاني: إنّ التسوية الواجبة أو المستحبة إنّما هي في الأفعال الظاهريّة، دون الميل القلبي، فلا يجبُ التسوية في الميل القلبي، بلا خلافٍ ، من غير فرقٍ فيه بين محبّة أحدهما، أو الميل إلى التكلّم معه، والقُرب إليه في المجلس، والتعظيم له، أو الميل إلى أن يكون حكم اللّه موافقاً لهواه، لأنّ الحكم على القلب غير مستطاع.

وأمّا صحيح الثمالي(4) المتضمّن لقضيّة قاضي بني إسرائيل، فلا يكون ظاهراً في أنّ العقاب كان على ميله القلبي، بل من الجائز أنّه كان العقاب على إظهاره بقوله: (اللّهُمَّ اجعل الحقّ له).

نعم، لاريبَفي أنّه ينبغي للقاضي أنْ يُطهّرضَميره بحيث يساوى عنده جميع النّاس.

الوظيفة الثانية: (ولا) يجوزُ للحاكم أنْ (يُلقِّن الخَصم) ويعلّمه شيئاً يؤدّي إلى أن0.

ص: 132


1- اللّمعة الدمشقيّة: ص 89، شرح اللّمعة: ج 3/73.
2- رياض المسائل: ج 15/57-58.
3- جواهر الكلام: ج 40/143.
4- الكافي: ج 7/410 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/225 باب 9 من أبواب آداب القاضي ح 33650.

ولو بادر أحدهما بالدَّعوى قَدّمه فيها، ولو ادّعيا دفعةً سَمِع من الذي على يمين خَصمه،

يستظهر به على خصمه، كأن يدّعي بطريق الاحتمال، فيلقّنه الدّعوى بالجزم حتّى تُسمع دعواه، بلا خلافٍ فيه على الظاهر.

واستدلّ له في «المسالك»(1): بأنّه نصبٌ لسدّ باب المنازعة، وفعله هذا يفتحُ بابها، فيكون خلاف الحكمة الباعثة.

نعم، لا بأس بالاستفسار، وإن أدّى إلى صحّة الدّعوى، بأن يَذكر دراهم، فيقول: أهي صحاح أم مكسورة ؟ إلى غير ذلك.

ثمّ قال: ويحتمل المنع أيضاً.

ولكنّه كما ترى لا يصلُح للمنع، فإنّ الحاكم منصوبٌ لاستيفاء الحقوق، فلو كان في تلقينه ذلك ما يحفظ به الحقوق، لا يكون خلاف الحكمة، بل وفقها، فلو لم يكن إجماعٌ على الحرمة، لما كان وجهٌ لعدم الجواز.

الوظيفة الثالثة: (ولو بادر أحدهما بالدّعوى قدّمه فيها، ولو ادّعيا دفعةً ، سَمع من الذي على يمين خصمه) على المشهور بين الأصحاب(2) في الحكمين، بل عليهما دعوى الإجماع في كلام بعضهم(3).

واستدلّ للأوّل:2.

ص: 133


1- مسالك الأفهام: ج 13/429.
2- النهاية: ص 338، مسالك الأفهام: ج 13/434.
3- الخلاف: ج 6/234 المسألة 32، مختلف الشيعة: ج 8/412.

1 - بحديث(1) التسوية.

2 - وبما في «الفقه المنسوب إلى مولانا الرّضا عليه السلام».

3 - وبأنّه يجبُ القضاء بعد الطلب فوراً، فيجبُ تقديم الأسبق.

أقول: وكلّ كما ترى ، فالعمدة الإجماع فيه، إلّاإن ثبت.

وأمّا الثاني: فيشهد به صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يُقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام»(2).

وعن «الانتصار»(3)، و «الخلاف»(4)، و «السرائر»(5)، و «المبسوط»(6): أجمع أصحابنا على روايته، وزاد الأوّلان: (دعوى إجماعنا عليه فتوىً ونصّاً).

والإيراد عليه تارةً : باحتمال أن يكون المراد بذلك المُدّعي، لأنّ صاحب اليمين واليمين المردودة إليه كما عن الإسكافي(7).

وأُخرى : باحتمال أن يكون المراد باليمين، يمين القاضي، كما عن بعضِ متأخّري المتأخّرين(8).

يندفع: بأنّ كلّاً منهما خلاف الظاهر الذي فهمه الأصحاب، الذين هم أهل اللّسان منه، ويؤيّده صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:3.

ص: 134


1- الكافي: ج 7/412 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/211 ح 33618.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/14 ح 3240، وسائل الشيعة: ج 27/218 ح 33633.
3- الانتصار: ص 495.
4- الخلاف: ج 6/234.
5- السرائر: ج 2/157.
6- المبسوط: ج 8/154.
7- حكاه عنه في الانتصار: ص 295.
8- الفيض الكاشاني في المفاتيح: ج 3/253.

«إذا تقدّمتَ مع الخصم إلى والٍ أو إلى قاضٍ فكُن عن يمينه» - يعني عن يمين الخصم -(1).

فما عن الشيخ(2) من الميل إلى القرعة، ضعيف.

الوظيفة الرابعة: إذا سكت الخصمان، استحبّ للحاكم أن يقول لهما تكلّما، أو إن كنتما حَضَرتما لشيءٍ فاذكراه، أو ما شاكل ذلك، ولا يجوزُ له أن يوجّه الخطاب إلى أحدهما، بلا خلافٍ في شيء من ذلك، ولم يذكروا للاستحباب دليلاً.

واستدلّوا لعدم جواز توجيه الخطاب إلى أحدهما خاصّة، بحديث التسوية، وفيه نظر.

***3.

ص: 135


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/14 ح 3241، وسائل الشيعة: ج 27/218 ح 33632.
2- المبسوط: ج 8/154، الخلاف: ج 6/243.

فيما يتعلّق بالمُدّعى عليه وجوابه

البحث الثاني: في جواب المُدّعى عليه:

وهو: إمّا إقرارٌ، أو إنكارٌ، أو سكوتٌ ، وعدّه جواباً مسامحة.

وفي «ملحقات العروة»(1): (أو يقول: لا أدري، أو يقول: أدَّيتُ ، أو رددتُ ، أو أنتَ أبرأتني أو نحو ذلك ممّا يكون منافياً لدعوى المُدّعي، أو يقول ليس لي).

أقول: اللّازم في المقام بيان حكم كلٍّ من هذه، فالكلام في موارد:

المورد الأوّل: في الإقرار، وفيه جهات من البحث:

الجهة الاُولى: أنّه هل يكون الإقرار ميزاناً لفصل الخصومة أم لا؟

ربما يقال بالثاني نظراً إلى :

1 - حصر الميزان في النصوص(2) بالبيّنة واليمين، أو مع إضافة السُّنة الماضية(3).

2 - وإلى أنّه لا خصومة مع الإقرار كي يحتاج إلى الفصل.

ولكن الأوّل: يندفعُ بأنّه يقيّد الحَصر المستفاد من النصوص بالإجماعات المتكرّرة في كلماتهم، مع أنّ الحصر في تلك النصوص إنّما هو مع فعليّة الخصومة، لاحظ ما ورد في النبويّ من قوله صلى الله عليه و آله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(4)، والقضاوة بين المتخاصمين إنّما هي فرع الخصومة الفعليّة، ومع عدمها لا يحسن التعبير بقوله: «بينكم».

ص: 136


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/47.
2- الكافي: ج 7/415 باب أنّ البيّنة على المُدّعي، وسائل الشيعة: ج 27/233 باب 3 باب أنّ البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه.
3- الكافي: ج 7/432 ح 20، وسائل الشيعة: ج 27/231 ح 33662.
4- الكافي: ج 7/414 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/232 ح 33663.

فإنْ أقرّ خَصمه ألزمه إنْ كان كاملاً مختاراً،

وأمّا الثاني: فيندفع بأنّ ثمرة الحكم كونه فاصلاً للخصومة الفعليّة والشأنيّة، نظراً إلى إطلاق حرمة رَدّه.

الجهة الثانية: إنّ غاية ما يثبت بالإقرار بالعين، أنّها ليست مِلْكاً للمُقرّ، بمقتضى إقرار العقلاء على أنفسهم جائز(1)، ولا يثبتُ به كونها مِلْكاً للمقرّ له، وإنّما يُحكم بملكيّتها له من جهة سماع الدّعوى الّتي لا معارض لها في الأعيان، أو بمقتضى اليد، ومن الواضح أنّ هذه الاُمور لا تكون ميزاناً لفصل الخصومة، ولكن ذلك لايمنعُ عن حكم الحاكم بملكيّتها له، فإنّها من الطرق المُثبتة للملكيّة شرعاً، فإذا تمَّ ميزان الحكم، يَحكم الحاكم به، وإنّما تُسمع دعوى شخصٍ ثالثٍ بالنسبة إليها من جهة قواعد باب المُدّعي والمنكر، ولا تُسمع دعوى المُقرّ لأنّ الادّعاء بعد الإقرار لايُعتنى به.

الفرق بين الإقرار والبيّنة في الإلزام قبل الحكم

الجهة الثالثة: لا خلاف (ف) ي أنّه (إنْ أقرّ خَصمه) بما ادّعاه المُدّعي، (ألزمه إنْ كان كاملاً مختاراً) على ما هو المذكور في محلّه من شرائط سماع الإقرار، من دون فرقٍ في ذلك بين الدّين أو العين، سواء حكم به الحاكم أم لا، وهذا لا إشكال فيه.

إنّما الكلام في الفرق بين الإقرار والبيّنة، حيث قالوا بأنّه يجوزُ إلزام المُقرّ به قبل الحكم أيضاً، بخلاف ما إذا ثبت الحقّ بالبيّنة، فإنّه لا يُلزَم إلّابعد الحكم، وقد

ص: 137


1- وسائل الشيعة: ج 23/184 باب 3 من كتاب الإقرار ح 29342، عوالى اللآلي: ج 1/223 ح 104.

علّله الشهيد الثاني في «المسالك»(1) وتبعه غيره(2) بما حاصله:

إنّ البيّنة حجيّتها متوقّفة على حكم الحاكم، لكونها منوطة بنظر الحاكم ردّاً وقبولاً بخلاف الإقرار.

ثمّ قالوا: إنّه تظهر الثمرة في صورة كون الدّعوى ظنيّة أو احتماليّة، فإنّه يجوزُ للمدّعي المقاصّة من ماله مع الإقرار لا مع البيّنة، فإنّه لا يجوزُ المقاصّة إلّابعد حكم الحاكم، وأمّا في الدّعوى الجزميّة فتجوز المقاصّة ولو مع عدم الإقرار والبيّنة.

وأيضاً: تظهر الثمرة في جواز إلزام كلّ أحدٍ له على دفع الحقّ بعد الإقرار من باب النهي عن المنكر، بخلاف البيّنة فإنّه لا يجوزُ إلّابعد الحكم.

وأيضاً: يجوزُ للحاكم الآخر أن يحكم إذا ثبت عنده الإقرار عند الحاكم الأوّل، بخلاف البيّنة فإنّه لا يجوزُ الحكم بها بمجرّد ثبوت قيامها عند حاكمٍ آخر، بل لابدَّ من قيامها عند نفسه.

وفيه: إنّه بناءً على عموم حجيّة البيّنة لكلّ من قامت عنده أو سمع الشهادة منهما كما هو الأظهر، لا فرق من هذه الجهة بين الإقرار والبيّنة:

فكما يجوزُ لكلّ مَن سمع الإقرار أن يَلزم المقرّ بالحقّ ، كذلك يجوزُ لكلّ من سمع الشهادة مع علمه بعدالة الشهود أن يُلزم المُدّعى عليه بما شهدا به.

وكما أنّ الحاكم الآخر ما لم يثبت عنده قيام السنة عند الحاكم الأوّل ليس له أن يحكم، كذلك ليس له ذلك إنْ لم يثبت الإقرار عنده.

وكما أنّه في الدّعوى غير الجزميّة يجوزُ للمُدّعي المقاصّة بعد الإقرار، كذلك0.

ص: 138


1- مسالك الأفهام: ج 13/442.
2- رياض المسائل: ج 15/61، جواهر الكلام: ج 40/160.

يجوزُ له المقاصّة بعد قيام البيّنة بناءً على عموم حجيّتها.

والحاصل: أنّ الفرق بينهما إنّما يكون على القول بعدم حجيّة البيّنة إلّاعند الحاكم، فإنّه حينئذٍ لا يثبتُ بها الحقّ إلّابعد حكم الحاكم، وهذا بخلاف الإقرار، فإنّ حجيّته واضحة لكلّ أحدٍ لأنّها ممّا عليه بناء العقلاء.

وأيضاً: ربما يفرّق بينهما بأنّ تحقّق الإقرار لايحتاجُ إلى مؤونة واجتهاد غالباً، لأنّ حجيّته معلومة، ودلالة الألفاظ على الإقرار واضحة غالباً، بخلاف البيّنة فإنّ تحقّقها يحتاج غالباً إلى اجتهادات لا تحصل إلّاللحاكم.

ويمكن توجيهه: بأنّ ثبوت الحقّ بالبيّنة يتوقّفُ على :

1 - ثبوت حجيّتها لكلّ أحدٍ.

2 - وعلى معرفة حال الشهود من جهة الاُمور الشرعيّة التوقيفيّة، ككفاية حُسن الظاهر وعدمها، وما شاكل.

3 - وعلى معرفة القيود الشرعيّة المعتبرة في سماع الشهادة، وتشخيص من تُقبل شهادته ومن لا تُقبل.

ومن الواضح أنّ ذلك كلّه يحتاجُ إلى مؤونةٍ واجتهادٍ، بخلاف الإقرار فإنّ حجيّته واضحة لكلّ أحد.

وعلى أيّ حال، إنْ كانت البيّنة واجدة لجميع القيود المعتبرة في حجيّتها شرعاً، فحُكمها حُكم الإقرار في أنّه يجوزُ العمل على طبقها قبل حكم الحاكم، ولكن فصل الخصومة بينهما بنحوٍ لا تسمع الدّعوى بعده إنّما يكون بعد حكم الحاكم، وفي الإقرار أيضاً كذلك.

ص: 139

وجوب الحكم بعد الإقرار

الجهة الرابعة: لا خلاف في أنّه يجبُ على الحاكم الحكم بعد الإقرار الجامع للشرائط، وسؤال المُدّعي للحكم، وتوقّف وصول حقّه إليه عليه، وهذا من الوضوح بمكان، لأنّ الحاكم منصوبٌ لاستيفاء الحقوق، ولما دلّ (1) من النصوص الكثيرة على وجوب الحكم بما أنزل اللّه تعالى وبالحقّ .

إنّما الكلام فيما نُسب(2) إلى الأصحاب من وجوبه، حتّى مع عدم توقّف وصول حقّه إليه على الحكم، فإنّه يُشكل من جهة ما تقدّم من عدم كون الحكم جزءً لسببِ ثبوت الحقّ ، وأنّه يجوزُ للمُدّعي أخذ حقّه بنفسه بدون الحكم قهراً أو تقاصّاً، وجواز أخذ سائر المقتدرين، فإنّه لا أثر للحكم حينئذٍ إلّافصل الخصومة، ومجرّد ذلك لا يوجبُ صيرورة الحكم واجباً على الحاكم.

والاستدلال له: بعموم ما دلّ على وجوب الحكم بما أنزل اللّه تعالى .

يندفع أوّلاً: بالنقض بما لو وقع الصلح بينهما بعد الترافع، وقَبل الحكم، فإنّه لا شكّ لأحدٍ في عدم وجوب الحكم في هذا المورد.

وثانياً: بالحَلّ وهو أنّ وجوب الحكم مقيّدٌ بصورة الحاجة، وتوقّف وصول الحقّ إلى صاحبه عليه، وإلّا فلا يكون واجباً.

ثمّ إنّه على القول بوجوب الحكم إمّا مطلقاً، أو في صورة توقّف وصول الحقّ

ص: 140


1- الكافي: ج 7/407 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/31 ح 33136.
2- حكي في تكلمة العروة الوثقى: ج 2/49 بقوله: (بل قيل ظاهرهم عدم الخلاف في وجوبه بعد سؤال المُدّعي مطلقاً ولو مع عدم التوقّف).

إلى صاحبه، وقع الخلافُ بينهم في أنّه:

هل يجبُ قبل سؤال المُدّعي، أم يتوقّف وجوبه على السؤال ؟

وعلى الثاني: هل يجوزُ أم لا يجوزُ، أم يفصّل بين ما لو ظهر منه عدم الرّضا به، أو منع عنه لغرضٍ من الاغراض فلا يجوزُ، وإلّا فيجوز؟

فعن الشيخ في «المبسوط»(1): الاستدلال لعدم الجواز بأنّه حقٌّ له، فلا يستوفى إلّابمسألته.

ونقله في «الشرائع»(2) ناسباً له إلى القيل، إيذاناً بضعفه عنده.

وذكر في «المسالك»(3) في وجه ذلك:

1 - أنّ الحال تشهدُ بكونه طالباً للحكم، حيث أحضره للحكومة.

2 - وبأنّه حقّ قد تعيّن للحاكم، فوجب عليه إظهاره.

والحقّ أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق الأدلّة - سيّما بعد ملاحظة حال قضاة الجور - الثابتة شؤونهم لقضاتنا بمقتضى المقبولة(4) - أنّ الحكومة ومقدّماتها بعد حضور المتخاصمين مجلس الخصومة عنده إليه، ما لم يرفعا يداً أو المُدّعى عنها.

وعليه، فالأظهر هو جواز الحكم قبل السؤال، إلّاأن يثبت الإجماع على اعتبار الإذن، فإنّه عليه يجتزي عنه بشاهد الحال الموجود غالباً، لعدم الإجماع قطعاً على اعتبار الإذن بخصوصه، بنحوٍ لا تكفي شهادة الحال، فلولا الإجماع لكان القول الثاني أظهر، ومعه الثالث.6.

ص: 141


1- المبسوط: ج 8/158.
2- شرائع الإسلام: ج 4/74.
3- مسالك الأفهام: ج 13/442.
4- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.

فإنْ امتنع حَبَسه مع التماس خَصمه.

وعلى فرض الجواز هل يجبُ أم لا؟

وجهان، أظهرهما الثاني للأصل.

الجهة الخامسة: إذا وجبَ الحكم فيحكم عليه بما يُفيد إنشاء إلزامه، ولا يكفي فيه الإخبار، فإنّ الحكم عبارة عن إنشاء الإلزام بشيء من مالٍ أو عقدٍ أو إيقاعٍ أو إنشاءِ إثباتِ أمرٍ، كما في الحكم بالهلال ونحوه.

نعم، لا يعتبر فيه لفظٌ خاصّ ، فإنّه من مقولة المعنى دون اللّفظ، غاية الأمر يعتبر فيه الإبراز كسائر الاُمور الاعتباريّة.

وعليه، فلا فرق في إبرازه بأيّ لفظٍ كان، بشرط كونه مبرزاً له عرفاً، كأن يقول: حكمتُ ، وقضيتُ ، وألزمتُ ، وأنفذتُ ، وأدفع أليه ماله، أو ثبتَ عندي وما شاكل، بل يكفي فيه الفعل الدّال عليه، إذا قصد به الإنشاء، كما إذا أمر ببيع مال المحكوم عليه، أو أخذه ودفعه إلى المحكوم له وغيرهما.

عقوبة الممتنع عن أداء الدّين

الجهة السادسة: لو أقرّ الخصم وحَكَم الحاكم، وكان يمتلك المُقرُّ المال، وألزمه الحاكم على الدفع:

(فإنْ امتنع) عن أدائه، (حَبَسه) الحاكم (مع التماس خصمه) بلا خلافٍ ، ويشهد له:

ص: 142

1 - النبويّ : «ليّ الواجد بالدّين يَحلّ عرضه وعقوبته»(1).

ونحوه المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام(2).

وفُسِّر العقوبة بالحبس والعَرض بالإغلاظ له في القول كقوله: يا ظالم.

وأمّا اللَّي فهو سوء الأداء والمَطْل.

وعليه، فدلالتهما على الحكم واضحة.

2 - وموثّق عمّار، قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يحبس الرّجل إذا التوى على غرمائه، ثمّ يأمر فيقسّم ماله بينهم بالحِصص، فإنْ أبى باعه فيقسّم بينهم»(3).

3 - وخبر غياث، قال: «إنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدّين، فإذا تبيّن له حاجة وإفلاس خَلّى سبيله حتّى يستفيد مالاً»(4).

4 - وخبره الآخر: «إنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس الرّجل إذا التوى على غرمائه»(5).

5 - وخبر الأصبغ بن نُباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّه قَضى أن يُحجَر على الغلام حتّى يعقل. وقضي عليه السلام في الدّين أنّه يُحبس صاحبه فإن تبيّن إفلاسه وحاجته فيخلّي سبيله حتّى يستفيد مالاً، وقضى في الرّجل يلتوي على غرمائه أنّه يُحبس ثمّ يؤمر به فيقسّم ماله بين غرمائه بالحِصص، فإنْ أبى باعه فقسّمه بينهم»(6).3.

ص: 143


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/397 ح 15716، عوالى اللآلي: ج 4/72 ح 44.
2- وسائل الشيعة: ج 18/333 ح 23792، الأمالي للطوسي: ص 520 المجلس 18.
3- الكافي: ج 5/102 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/416 ح 23958.
4- التهذيب: ج 6/196 ح 58، وسائل الشيعة: ج 18/418 ح 23960.
5- التهذيب: ج 6/299 ح 40، وسائل الشيعة: ج 18/416 ح 23958.
6- التهذيب: ج 6/232 ح 19، وسائل الشيعة: ج 27/247 ح 33693.

ونحوها غيرها.

أقول: ويعضدها الأخبار الواردة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

منها: خبر جابر الطويل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عن الإمام الباقر عليه السلام، أنّه قال: «فانكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم»(1).

ومنها: مرسل الشيخ، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قد حقّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقّ لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرّجل منكم القبيح، ولا تنكرون عليه، ولا تهجرونه، ولا تؤذونه حتّى يتركه»(2).

ولا يعارضها، صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «كان عليٌّ عليه السلام لا يحبس في الدّين إلّاثلاثة: الغاصب، ومن أكل مال اليتيم ظُلماً، ومن ائتمن على أمانة فَذَهب بها، وإنْ وَجَد له شيئاً باعه، غائباً كان أو شاهداً»(3).

أمّا لما عن الشيخ(4) من احتمال إرادة أنّه كان لا يحبس حبساً طويلاً إلّا الثلاثة، لأنّ الحبس في الدّين إنّما يكون مقدار ما يتبيّن حاله.

أو لما في «الوسائل»(5): من أنّ تارك قضاء الدّين، لا يخرجُ عن الثلاثة.

أو لأنّه يقيّد إطلاقه بما مرّ.

وعليه، فلا إشكال في الحكم في الجملة، إنّما الكلام في فروع:4.

ص: 144


1- الكافي: ج 5/55 ح 1، وسائل الشيعة: ج 16/131 ح 21162.
2- التهذيب: ج 6/181 ح 24، وسائل الشيعة: ج 16/145 ح 21199.
3- التهذيب: ج 6/299 ح 43، وسائل الشيعة: ج 27/248 ح 33694.
4- الاستبصار: ج 3/48 ذيل الحديث 3، التهذيب: ج 6/300 ح 45.
5- وسائل الشيعة: ج 27/248 ذيل الحديث 33694.

الفرع الأوّل: أنّه كما يجوزُ الحبس والإيذاء لأداء الدَّين، هل يجوزُ إعطاء ماله للمحكوم له من غير إذنه إذا أمكن، وكان من جنس الحقّ ، وبيعه وإعطائه الثمن إنْ لم يكن من جنسه ؟

الظاهر هو ذلك، لكونه ممّا يتوقّف عليه إيصال الحقّ ، وللتصريح به في النصوص السابقة.

وعليه، فهل يكون جواز ذلك بعد العقوبة، أم قبلها، أو يكون الحاكم مخيّراً بينهما؟

ظاهر النصوص السابقة هو كونه بعدها، فمقتضى الأصل عدم الجواز قبلها.

الفرع الثاني: هل يجوزُ التغليظ في القول والشَّتم والحَبس في صورة الامتناع للمحكوم له، كما يجوز للحاكم، أم لا يجوزُ شيءٌ من ذلك، أم يفصّل بين الحبس، فلا يجوزُ وغيره فيجوز؟

وجوه وأقوال:

أقول: أمّا الحبس، فحيثُ أنّ جوازه مخالفٌ للأصل، والنصوص المجوّزة مختصّة بالحاكم، فلا يجوز لغيره.

ودعوى: أنّ ظاهر نقل فعل الأمير عليه السلام يدلّ على أنّ الحكم الشرعي فيه ذلك.

مندفعة: بعدم ظهوره فيه، نعم هو متحمّلٌ ، لكنّه لا يفيد.

فإنْ قيل: إنّ أدلّة وجوب رَدع المُماطل، وأخذ الحقّ منه، تدلّ على جوازه.

قلنا: إنّها مختصّة بالحاكم.

فإنْ قيل: إنّ إطلاق قوله صلى الله عليه و آله: «ليّ الواجد يَحلّ عرضه وعقوبته» يدلّ على

ص: 145

الجواز، فإن العقوبة شاملة للحبس، بل قد عرفت تفسيرها به.

ودعوى: أنّه مجملٌ إذ لم يبيّن أنّ العقوبة على من تحلّ .

مندفعة: بأنّه إمّا ظاهر في جوازها لصاحب الحقّ أو مطلق، والظاهر هو الثاني، من جهة أنّ حذف المتعلّق يفيدُ العموم، وكذا إطلاق قوله عليه السلام في أخبار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتقدّم جملةً منها: ولا تؤذونه.

توجّه عليه: أنّ مقتضى ذلك وإنْ كان هو الجواز، إلّاأنّ الظاهر ممّا ذكره صاحب «الجواهر»(1) في كتاب المفلّس قال:

(اللّهُمَّ إلّاأن يُدّعى أنّ الحبس ونحوه من وظائف الحكّام، لأنّه كالتعزير الملحق بالحدود)، انتهى .

هو كون اختصاص جوازه بالحاكم ممّا تسالم الأصحاب عليه.

ويمكن أن يستدلّ له: - مضافاً إلى ذلك - بكونه من وظائف قضاة الجور، وقد دلّت المقبولة على ثبوت جميع ما هو من شؤونهم ووظائفهم لخصوص الحاكم، فلاينبغي الإشكال في عدم جوازه لغيره.

نعم، يجوزُ للحاكم أن يأذن لغيره بمباشرته، كما هو المتعارف في الحبس، فإنّه لم يُعهد تَصدّي الحاكم بنفسه له، وأمّا سائر العقوبات فالأظهر جوازها للمحكوم له، بل لغيره أيضاً، لإطلاق الأدلّة، كما يظهر ممّا ذكرناه في الحبس.

ويشهد بجوازها للمحكوم له - مضافاً إلى ذلك - الآية الكريمة: (لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) (2).8.

ص: 146


1- جواهر الكلام: ج 25/353.
2- سورة النساء: الآية 148.

ولو طلب المُدَّعي إثبات حَقّه أثبته مع معرفته باسمه ونَسَبه، أو بعد معرفة عَدلين، أو بالحِلية.

الفرع الثالث: (ولو طلب المُدّعي إثبات حقّه) في قرطاسٍ ، (أثبته مع معرفته باسمه ونَسَبه، أو بعد معرفة عدلين) شاهدين، ولا يكتبُ بدون ذلك خوفاً من التزوير بتواطيء المتداعيين، لإثبات إقرارٍ على ثالث، فيكتبُ عليه حجّةً بخطّ الحاكم وختمه، ليحكم الحاكم عليه بحُكمه السابق المتذكّر له بخطّه وختمه حيثما يُجاء به، والحال أنّه غير مقرّ عنده أوّلاً، فيقع الخطاء بالتزوير في حكمه وهو لا يعلم به.

(أو بالحِلية) - بكسر الحاء المهملة ثم الياء المنقوطة نقطتين من تحت بعد اللّام - الصِّفة، فيكتب صفة المُقرّ من لونه وطوله وقصره وما شاكل من الأوصاف التي يؤمَن معها من التزوير.

أقول: ثمّ إنّه بعد الاتّفاق على جواز ذلك، مع عدم انطباق عنوانٍ آخر عليه، اختلفوا في وجوبه ؟

والظاهر هو الوجوب، إنْ كان الحاكمُ لا يقدرُ على إجراء الحكم، ولو كتب يوصله المُدّعي إلى من يقدر على الاجراء، وعدمه في غير هذا المورد ولايخفى وجهه.

وقد يقال: بعدم جواز الكتابة إذا علم بترتّب محرّم عليها - كالتعدّي من الجائر في الإيذاء من قذفٍ أو ضربٍ أو أخذ مالٍ أو مطالبةٍ من أقربائه ونحوه - لكونه إعانةً على إثمين: إثم المُدّعي حيث إنّ أخذه ذلك ليؤدّيه إلى المقتدر الجابر المتعدّي معاونةٌ

ص: 147

على الجابر على إثمه، وإثم الجابر.

ولكن يرده: ما تقدّم من عدم الدليل على حرمة الإعانة على الإثم، وعدم صدق الإعانة المحرّمة على القول بها على مثل ذلك.

***

ص: 148

حكم ما إذا كان الغريم معسراً

الجهة السابعة: إذا كان المُدّعى به عيناً موجودة، ألزمه الحاكم بردّها بعد الإقرار والحكم مطلقاً.

وأمّا إذا كان ديناً:

فإنْلم يكن مُعسِراً - والإعسار عندنا كماعن «كنزالعرفان»(1)، وفي «الرياض»(2):

(عجزه من أداء الحقّ ، لعدم ملكه لما زاد عن داره وثيابه اللّائقة بحاله، ودابته، وخادمه كذلك، وقوت يوم وليلةٍ له ولعياله الواجبي النفقة) - يُلزم بردّه.

وإنْ كان مُعسِراً، فلا إشكال ولا خلاف في أنّه لا يجوزُ حبسه والتغليظ في القول عليه وما شاكل وقد قال اللّه تعالى : (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (3).

وقال النبيّ صلى الله عليه و آله كما في خبر عبد اللّه بن سنان في حديثٍ :

«وكما لا يحلّ لغريمك أن يَمْطُلك وهو مُوسرٍ، فكذلك لا يَحلّ لك أن تَعسره إنْ علمتَ أنّه مُعسِرٌ»(4).

وقال عليٌّ عليه السلام - كما في خبر السّكوني - في زوجٍ مُعسرٍ استعدَتْ عليه امرأته عنده: «أنّه لا ينفق عليها بعد الإباء عن الحبس إنّ مع العُسر يُسرا»(5) ولم

ص: 149


1- كنز العرفان: ج 2/57 قوله: (والمراد بالمعسر عندنا من يعجز عن أداء ما عليه من الدّين..).
2- رياض المسائل: ج 15/66.
3- سورة البقرة: الآية 280.
4- التهذيب: ج 6/192 ح 43، وسائل الشيعة: ج 18/334 ح 23793.
5- التهذيب: ج 6/299 ح 44، وسائل الشيعة: ج 18/418 ح 23961.

يأمره بالتكسّب.

إنّما الخلاف في أنّه هل يُخلّى سبيله، ويُمهَل حتّى يحصل له مالٌ كما عن المفيد(1)، والشيخ في «الخلاف»(2)، والحِلّي(3)، والمحقّق(4)، والمصنّف رحمه الله في «القواعد»(5)، والشهيد الثاني في «المسالك»(6)، وغيرهم(7) في غيرها، بل هو المشهور، بل عن ابني زُهرة(8) وإدريس(9) الإجماع على عدم جواز دفعه إلى الغُرماء ليستعملوه، وعن بعضهم(10) إرسال عدم وجوب التكسّب عليه إرسال المسلّمات ؟

أو أنّه يُسلّم إلى الغرماء ليوجروه، أو يستعملوه، ويستوفوا حقّهم، كما عن الشيخ في «النهاية»(11)؟ أم يجبُ عليه التكسّب مع تمكّنه من غير حَرَج، وإنْ لم يكن ذا حرفةٍ كما عن جماعةٍ (12)؟

أم يلزم بذلك إنْكان مكتسباً وإلّا فيخلّى سبيله كما عن ابن حمزة(13)؟ وجوهٌ :2.

ص: 150


1- المقنعة: ص 733.
2- الخلاف: ج 3/272.
3- السرائر: ج 2/160.
4- شرائع الإسلام: ج 2/83، وكذلك: ج 4/75.
5- قواعد الأحكام: ج 3/438.
6- مسالك الأفهام: ج 13/444.
7- كشف الرموز: ج 2/499، مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/131.
8- غنية النزوع: ص 249.
9- السرائر: ج 2/160.
10- حكاه في تكملة العروة الوثقى : ج 2/56.
11- النهاية: ص 352.
12- رياض المسائل: ج 15/68-69، مستند الشيعة: ج 17/193.
13- الوسيلة: ص 212.

استدلّ للأوّل:

1 - بالآية الكريمة المتقدّمة: (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ ...) إلخ.

2 - وبالمرسل المتقدّم المتضمّن أنّ عليّاً عليه السلام لم يحبس العاجز عن الإنفاق على عياله، ولا أمره بالتكسُّب.

3 - وبخبر غياث المتقدّم أنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس الرّجل، فإذا تبيّن له حاجة وإفلاسٌ خلّى سبيله حتّى يستفيد مالاً(1).

4 - وبالنبويّين العاميّين:

ففي أحدهما: أنّه صلى الله عليه و آله لما حَجَر على معاذ لم يزد على بيع ماله.

وفي آخر: أنّه صلى الله عليه و آله قال في رجلٍ كَثُر دَينَه: «خذوا ما وجدتم ليس لكم إلّا ذلك»(2).

5 - وبالأخبار الناهية عن إعسار المُعسر، كخبر عبد اللّه بن سنان المتقدّم.

6 - وبالأخبار الدالّة على أنّ الإمام عليه السلام يقضي دين المديونين من سهم الغارمين(3).

أقول: وكلٌّ كما ترى منظورٌ فيه:

أمّا الآية: فلأنّ المتمكّن من الأداء بالتكسّب لا يُعدّ من ذي عسرة، مع أنّها تدلّ على عدم المطالبة حال تعسّر الأداء، ولا نظر لها إلى وجوب التكسّب وعدمه.

وأمّا المرسل: فلأنّه قضيّةٌ في واقعة، فلعلّه عليه السلام كان عالماً بعجزه عن التكسّب.

وأمّا خبر غياث: فهو على خلاف المُدّعى أدلّ ، فإنّ الظاهر من لفظة (حتّى )4.

ص: 151


1- التهذيب: ج 6/196 ح 58، وسائل الشيعة: ج 18/418 ح 23960.
2- تذكرة الفقهاء: ج 14/61 و 67 (ط. ج).
3- الكافي: ج 5/94 ح 8، وسائل الشيعة: ج 18/335 ح 23794.

في قوله: «حتّى يستفيد» كونها تعليليّة، فالمعنى أنّه كان يُخلّي سبيله لأن يستفيد ويتكسّب.

وعلى فرض التنزّل، فلا أقلّ من احتمال ذلك، فيسقطُ عن الاستدلال، مع أنّها لو كانت للغاية أيضاً، لما كان دالّاً على عدم وجوب التكسّب.

وأمّا النبويّان: فلأنّهما ضعيفا السند، مع أنّهما قضيّتان في واقعتين.

وأمّا الأخبار الناهية عن إعسار المُعسر: فهي لو دلّت على شيء، لدلّت على أنّه إنْ لم يقدر على التكسّب لا يُلزم به، ولا تدلّ على عدم إلزام القادر على التكسّب به لعدم كونه إعساراً.

وأمّا نصوص أداء الدّين من سَهم الغارمين: فالجمعُ بينها وبين نصوص الباب، خصوصاًالنصوص(1) المتضمّنة لحبس أميرالمؤمنين عليه السلام في أيّام بسطيده الغريم للدين، ثمّ إنّه إنْ ثَبَت إفلاسه كان يُخلّي سبيله حتّى يستفيد، ولم يكن يؤدّي دَينه، يقتضي البناء على اختصاصها بالمديون الذي لا يتمكّن من أداء دينه بالتكسّب ونحوه.

فالمتحصّل: أنّه لا دليل على عدم وجوب التكسّب.

واستدلّ للقول الثاني: بخبر السّكوني عن الإمام الصادق عليه السلام:

«إنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدّين، ثمّ ينظر فإنْ كان له مالٌ أعطى الغرماء، وإنْ لم يكن له مالٌ دفعه إلى الغُرماء، فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم، إنْ شئتم أجّروه، وإن شئتم فاستعملوه»(2).

وأورد عليه: في «المسالك»(3) بضعف السند.5.

ص: 152


1- التهذيب: ج 6/196 ح 58، وسائل الشيعة: ج 18/418 ح 23960.
2- التهذيب: ج 6/300 ح 45، وسائل الشيعة: ج 18/418، باب 7 من أبواب الحجر ح 23962.
3- مسالك الأفهام: ج 13/445.

أقول: وقد مرّ مراراً أنّ روايات السّكوني يُعتمد عليها، ولكن الصحيح أن يورد عليه بإعراض الأصحاب عنه.

فالحقّ أن يقال: إنّه إن أمكن له التكسّب، ولم يكن له فيه حرجٌ وعسر، وجب عليه ذلك، لأنّ أداء الدّين واجبٌ فيجبُ مقدّمته.

وإنْ كان فيه عُسرٌ وحَرَجٌ ، يرفع وجوبه بقاعدة نفي العُسر والحَرج.

أقول: ولنعم ما أفاده السيّد في «ملحقات العروة»(1) من (أنّ حال أداء الدّين حال نفقة العيال في وجوب التكسّب لأجلها مع التمكّن، وكذا سائر التكاليف الموقوفة على المال، إذا كان وجوبها مطلقاً، ولازمه جواز إلزامه وإجباره على العمل، إذا كان متوانياً، بل قد يصل إلى حَدٍّ يجوز إجارته واستعماله إذا لم يكن بعثه على العمل إلّابهذا الوجه).

***7.

ص: 153


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/57.

ولو ادّعى الإعسار وثَبَت، أنظره الحاكمُ ، وإنْ لم يَثبُت

انظار الحاكم من ادّعى الإعسار

الجهة الثامنة: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (لو ادّعى) الغريم (الإعسار):

فتارةً : يثبتُ ذلك.

(و) أُخرى : لا يثبت.

فإنْ (ثبتَ ، أنظره الحاكم) ولا يحبسه كما مرّ.

(وإنْ لم يثبت): فإمّا أن يكون مسبوقاً بالإعسار، ولم يُعرف له مالٌ ، كما إذا كانت الدّعوى على نفقة الزوجة وما شاكل، أو على مالٍ يُعلم تلفه، أو يكون مسبوقاً بالايسار بأن كان له مالٌ معهودٌ، أو كان أصلُ الدّعوى مالاً كالقرض ونحوه، وادّعى تلف ذلك المال، وأنّه معسرٌ فعلاً، أو لا يعلم حالته السابقة، أو كان قد توارد عليه الحالان ولم يعلم حاله فعلاً.

فعلى الأوّل: إنْ صَدّقه المحكوم له، فحكمه حكمُ ثبوت الإعسار.

وإنْ لم يُصدّقه، ولكن كان له البيّنة على أنّه موسرٌ، لحقه حكم المماطل.

وإلّا فالمشهور بين الأصحاب أنّه يُستحلف المُدّعى عليه، فإنْ حلف على الإعسار ترتّب عليه حكمه، لأنّه منكر، وإنْ لم يدّع كذبه جزماً بل ظنّ ذلك، أو احتمله لسماع الدّعوى بالظنّ أو الاحتمال، فيكون المحكوم له مدّعياً، والمحكوم عليه منكراً.

ص: 154

وعن المحقّق الأردبيلي(1): الحكم بأنّه لا يحلفُ في هذه الصورة، واستدلّ له:

1 - بآية النظرة.

2 - وبأنّه لا دليل على الإحلاف إلّامع سبق اليسار.

ولكن يَردُ على الوجه الأوّل: أنّ صدق موضوع الآية وهو كونه ذا عسرة مشكوكٌ فيه، ومعه كيف يتمسّك بالآية.

وعلى الثاني: أنّ الدليل عمومُ ما دلّ على أنّ اليمين على من أنكر(2).

أقول: ويمكن توجيه ما أفاده المحقّق المذكور، بأنّه إذا كان مسبوقاً بالإعسار، يستصحب بقائه، فيدخل بذلك في موضوع قوله تعالى : (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (3) ولكن ذلك لا يوجب عدم توجّه اليمين إليه بل يؤكّده، فإنّ المنكر من وافق قوله الأصل كما سيمرّ عليك.

وعليه، فالأظهر أنّه يُستحلَف.

فإن حَلِف لحقه حكم المعسر، وإنْ نَكَل فإنْ كان المُدّعي جازماً في دعواه يساره، حَلِف وجرى عليه حكم اليسار، لعموم ما دلّ على الرّد وعدم المانع عنه.

فإنْ قيل: إنّ الرّد إنّما هو في موردٍ يخرجُ المُدّعى عليه عن عهدة المُدّعى به على فرض الحلف.

وبعبارة أُخرى : إنّ معنى رَدّه الحَلف، أنّه إن حلفتَ أخرج عن عهدة المُدّعى0.

ص: 155


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/136.
2- الكافي: ج 7/415 باب أنّ البيّنة على المُدّعي، وسائل الشيعة: ج 27/233 باب 3 باب أنّ البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه.
3- سورة البقرة: الآية 280.

به، فمن يدّعي عدم القدرة عليه كيف يُردّ الحلف ؟

قلنا أوّلاً: أنّه تظهرالثمرة والفائدة في نكول المُدّعي، فإنّه حينئذٍ تسقط الدّعوى.

وثانياً: أنّ إنكاره القدرة لا ينفيها واقعاً، فلو رَدّ المنكر، وحلف المُدّعي، يثبت عليه اليسار، فيُحبس ويترتّب سائر أحكامه.

وإنْ نَكَل سقط دعواه.

وإنْ نَكَل المُنكر، ولم يكن المُدّعي جازماً في دعواه، فهل يترتّب عليه حكم المُعسر أو حكم الموسر؟.

أقول: ربما يقال بالثاني، نظراً إلى:

1 - أنّ مقتضى الآية، والأخبار الدالّة على الحبس، أنّ الإعسار شرطٌ في وجوب الإنظار، لا أن يكون الإيسار شرطاً في جواز الإجبار والحبس، فإذا لم يتبيّن كونه معسراً، يجوز إجباره وحبسه، وإنْ لم يثبت كونه موسراً أيضاً، ذكره السيّد في «ملحقات العروة»(1).

2 - وإلى أنّ الدّين مقتضٍ لجواز المطالبة، وإنْ كان بالإجبار والحبس والعجز مانعٌ عنه، فمع إحراز المقتضي والشكّ في المانع يُبنى على تحقّق المقتضى (بالفتح).

ولكن يردُ على الوجه الأوّل:

أنّه إنْ كان مراده التمسّك بعموم ما دلّ على جواز الإجبار والحبس، بدعوى أنّ الخارج عنه المُعسر، ومع الشَّك في مصداق الخاص يتمسك بعموم العام.

فيردّه: أنّه لا يجوزُ التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.3.

ص: 156


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/53.

ألزم بالبيِّنة إذا عرف له مالٌ ، أو كان أصل الدَّعوى مالاً.

وإنْ كان مراده أنّه حيثُ علّق وجوب الانظار على الايسار، فمع الشَّك في الشرط ينتفي المشروط.

فيردّه: أنّ لازم تعليق وجوب الإنظار على الايسار واقعاً تخصيص جواز الإجبار والحبس بغير الموسر، فكما أنّ وجوب الانظار غير معلومٍ ، فكذلك جواز الحبس، والإجبارُ غير ثابت.

ويرد على الوجه الثاني: منع حجيّة قاعدة المقتضى والمانع أوّلاً، وعدم الطريق إلى إحرازهما في الشرعيات ثانياً.

والحقّ أن يقال: إنّه يُستصحب في الفرض الإعسار، ويترتّب عليه حكمه، وبه يخرج عن الأخبار.

وهل يكفي إقامة المحكوم عليه البيّنة على الإعسار كما عن «التذكرة»(1)، أم لا كما اختاره صاحب «الجواهر»(2)؟ وجهان:

الظاهر هو الثاني، لأنّ البيّنة على المُدّعي، واليمينُ على من أنكر، وسيأتي لذلك زيادة توضيح.

وعلى الثاني: (أُلزم بالبيّنة)، يعني (إذا عَرف له مالٌ ، أو كان أصلُ الدّعوى مالاً) اُلزم بالبيّنة، لرجوع الدّعوى إلى تلف المال، فيصير المُدّعى عليه بالحقّ مدّعياً لتلف المال، فيطلب منه البيّنة:4.

ص: 157


1- تذكرة الفقهاء: ج 14/69 (ط. ج).
2- جواهر الكلام: ج 40/114.

1 - فإنْ أقامها اُنظر، لأنّه يثبتُ بها الإعسار، فيترتّب عليه حكمه، من غير فرقٍ في البيّنة التي يقيمها بين أن تكون على التلف، أو على الإعسار، لعموم ما دلّ على سماعها من المُدّعي، بلا احتياج إلى ضَمّ يمينٍ ، للتفصيل القاطع للشركة، ولكن المنسوب إلى الأكثر أن ذلك في البيّنة على التلف.

وأمّا البيِّنة على الإعسار من غير تعرّض لتلفٍ الأموال، فهي لا تُقبل، إلّاإذا كانت مطّلعة على باطن أُموره بالصُّحبة المتأكّدة، وتحتاجُ مع ذلك إلى ضَمّ اليمين.

وعن «التذكرة»(1): عكس ما نُسِب إلى الأكثر.

واستدلّ للأوّل صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) بما حاصله:

أنّ بيّنة الإعسار بيّنة نفي، لرجوعها إلى أمرٍ عدمي، وهو عدم المِلْك، المُحتمل أن يكون الاعتماد على الأصل، المفروض انقطاعه بالعِلم بمالٍ له في السابق، وأن يكون من جهة الإطّلاع على التلف.

وعليه، فمع الصُّحبة المتأكّدة، يقوى الاحتمال الثاني، فبالتَّبع يصيرُ جانب الإعسار قويّاً، فيصير بمنزلة الظاهر، ولازم ذلك صيرورة قول مدَّعي الإعسار موافقاً للظاهر، فيصيرُ منكراً، لقوّة جانبه بالظهور، فضَمّ اليمين حينئذٍ من جهة صيرورته بمثل هذه البيّنة منكراً، فإنّ اليمين تتبع مَن قَوى جانبه بالظهور أو الأصل.

والجواب: أنّ استدلاله رحمه الله من الغرائب، إذ ظهور المُدّعى به للشهود الذين يشهدون به غير كون ذلك ظاهراً بحسب النوع، وما ذكروه في ضابط المُدّعي والمنكر من أنّ المنكر من وافق قوله الأصل أو الظاهر، لو تَمّ فهو غير الظهور6.

ص: 158


1- تذكرة الفقهاء: ج 14/69-70 (ط. ج).
2- جواهر الكلام: ج 25/355-356.

للشهود، كيف وإلّا يلزم انقلاب المُدّعي منكراً بعد إقامة البيّنة في جميع الدعاوى فإنّه إنْ لم يكن الأمر ظاهراً للشهود، لا يجوزُ لهم الشهادة، ومع ظهوره ينقلب المُدّعي منكراً، فلاحظ «الجواهر» وتأمّلها، فلعلّك تفهم من عبارته غير ما فهمت، ويكون الإيراد المذكور ناشئا عن القصور في الفهم.

أقول: وربما يُستدلّ لما ذهب إليه الأكثر بأنّ بيّنة الإعسار بيّنة نفي وهي ليست بحجّة.

وفيه: أنّ كلام بيّنة النفي إنْ كان ظاهراً في الإطلاع على الانتفاء لا للاعتماد على الأصل، تكون هي حجّة كالبيّنة على الإثبات، وبيّنة الإعسار حيث تكونُ ظاهرةً في الجزم به فتكون حجّة.

أضف إلى ذلك أنّ الإعسار وإنْ كان أمراً عدميّاً، إلّاأنّ له جهة وجودٍ كالفقر، ولم يعتبروا في الشهادة بالفقر الإطلاع على باطن أمره، ولا ضَمّ اليمين إليها، مع أنّه لم تكن بيّنة الإعسار حجّة، فلا وجه للالزام بها، ولا يفيدُ ضَمّ اليمين، لأنّها وظيفة المنكر لا المُدّعي، وإن كانت حجّة فلا حاجة إلى ضَمّها.

أقول: ولم أظفر بمايمكن أن يستدلّ به لما اختاره المصنّف في موضعٍمن «التذكرة»(1)، والذي يُسهّل الخطب أنّه حُكي عن موضعٍ آخر منها(2)، أنّه اختار عدم الحاجة إلى اليمين في كلتا البيّنتين، كما هو المختار، وقد ظهر وجهه ممّا ذكرناه، وعلّله:

تارةً : بما ذكرناه من أنّ البيّنة على المُدّعي واليمين على من أنكر، والتفصيل قاطعٌ للشركة.).

ص: 159


1- تذكرة الفقهاء: ج 14/75 و 70 (ط. ج).
2- تذكرة الفقهاء: ج 14/75 و 70 (ط. ج).

وأُخرى : بأنّ فيه تكذيباً للشهود.

2 - وإنْ لم يقم البيّنة:

فالمنسوبُ إلى المشهور أنّه يُحبس حتّى يتبيّن إعساره، أو يُقرّ، أو يُخرجه صاحب الحقّ .

وعن «التذكرة»(1): أنّه يحلف مُدّعي الحقّ على عدم التلف، ثُمّ يُحبس، وهو ظاهرُ بعض متأخّري المتأخّرين(2).

واستدلّ للأوّل: بالأخبار(3) المتقدّمة الدالّة على أنّه يُحبس ما لم يتبيّن إعساره، وأنّه يكفي في جوازه عدم تحقّق الإعسار.

وللثاني: بعموم ما دلّ (4) على أنّ الحلف على المنكر.

قال صاحب «المستند»(5): (إنّ النسبة بين الطائفتين عمومٌ من وجه، فإنّ الأُولى شاملة لما إذا كان المُدّعى عليه منكراً جازماً بعدم التلف، وما إذا لم يكن جازماً به، لكنّها مختصّة بالدين، بل وبمن لم يثبت حاله من الإعسار وعدمه، والثانية شاملة للدين والعين، ولكنّها مختصّة بما إذا كان المُدّعى عليه جازماً بعدم التلف، فيتعارضان بالعموم من وجه في مورد الاجتماع، وهو الدّين مع الإنكار).

أقول: مقتضى القاعدة هو التخيير بين العمل بأيّ منهما شاء، وإنْ كان الأحوط8.

ص: 160


1- تذكرة الفقهاء: ج 14/69 (ط. ج).
2- كشف اللّثام: ج 10/95-96.
3- التهذيب: ج 6/232 ح 19، وسائل الشيعة: ج 27/247 ح 33693.
4- الكافي: ج 7/415 باب أنّ البيّنة على المُدّعي، وسائل الشيعة: ج 27/233 باب 3 باب أنّ البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه.
5- مستند الشيعة: ج 17/168.

الإحلاف ثُمّ الحبس، ولكن حيث يكون مقتضى القاعدة في تعارض العامّين من وجه هو الرجوع إلى أخبار الترجيح، فتقدّم الأُولى لفتوى الأكثر التي هي أوّل المرجّحات.

وعليه، فالأظهر جواز الإجبار والحبس وإنْ لم يحلف المنكر.

وعلى الثالث: وهو ما إذا لم يعلم الحالة السابقة، يجوزُ أن يُحبس حتّى يتبيّن الحال للنصوص.

***

ص: 161

البيّنة على المُدّعي واليمينُ على من أنكر

المورد الثاني: ما إذا أجابَ المُدّعى عليه بالإنكار:

فإنْ كان الحاكمُ عالماً بالحال، فقد مرّ أنّه يقضي بعلمه.

وإنْ لم يكن عالماً، فالحكم حينئذٍ: إمّا أن يكون بالبيّنة أو اليمين أو بهما.

وعليه، فالكلام في مواضع ثلاثة.

أقول: وقبل البحث فيها ينبغي تقديم مقدّمة وهي:

أنّه من القواعد المسلّمة عند الكلّ أنّ الدعاوى تُقطع بالبيّنة واليمين، والنصوص المستفيضة شاهدة بذلك، لاحظ صحيح سعد وهشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، الحديث»(1).

والمرتضويّ ، قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يحكم بين النّاس بالبيّنات والأيمان في الدّعاوى، الحديث»(2).

ونحوهما غيرهما.

ثمّ إنّ هذا حكمٌ مجملٌ من حيث المحلّ ، ومن حيث كفاية أحدهما، أو اعتبار ضَمّ الآخر إليه، ولكن فصّل ذلك في نصوصٍ اُخر، وهي تدلّ على أنّ البيّنة وظيفة المُدّعي، واليمين وظيفة المُدّعى عليه، كصحيح جميل وهشام، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال:

ص: 162


1- الكافي: ج 7/414 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/232 ح 33663.
2- وسائل الشيعة: ج 27/233 ح 33665، تفسير الإمام: ص 672.

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: البيّنة على من ادّعى واليمينُ على من اُدّعي عليه»(1).

وصحيح بُريدبن معاوية، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن القسامة ؟ فقال عليه السلام: الحقوق كلّها البيّنة على المُدّعي، واليمينُ على المُدّعى عليه، إلّافي الدَّم خاصّة»(2).

ونحوهما غيرهما.

ومقتضى التفصيل القاطع للشركة أنّه لا يُشترط ضَمّ اليمين إلى البيّنة إلّاإذا كان دليلٌ خاصّ كالدعوى على الميّت.

ولايستفاد من هذه النصوص عدم كون يمين المُدّعى عليه في طول البيّنة، بمعنى أنّه إنّما تصلُ النوبة إليها مع عدم البيّنة للمُدّعي، لكن يُستفاد ذلك من جملةٍ من النصوص الأُخر:

منها: صحيح سليمان بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في كتاب عليّ عليه السلام: إنّ نبيّاً من الأنبياء شكى إلى ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي في ما لم أرَ ولم أشهد؟

قال: فأوحى اللّه تعالى إليه اُحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به.

وقال عليه السلام: هذا لمن لم تقم له بيّنة»(3).

ومنها: خبر منصور، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ :

«إنّما أمر أن تُطلب البيّنة من المُدّعي فإنْ كانت له بيّنة وإلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّه عزّ وجلّ »(4).9.

ص: 163


1- الكافي: ج 7/415 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/233 ح 33666.
2- الكافي: ج 7/361 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/233 ح 33667.
3- الكافي: ج 7/415 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/229 ح 33657.
4- التهذيب: ج 6/240 ح 25، وسائل الشيعة: ج 27/234 ح 33669.

ومنها: المرويّ عن تفسير الإمام، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام، قال:

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا تخاصم إليه رجلان، قال للمُدّعي: ألكَ حُجّة ؟ فإن أقام بيّنة يرضاها ويعرفها، أنفذ الحكم على المُدّعى عليه، وإنْ لم يكن له بيّنة، حلّف المُدّعى عليه باللّه ما لِهذا قِبله ذلك الذي ادّعاه، ولا شيء منه، الحديث»(1).

ونحوها غيرها.

وأيضاً: المستفاد من النصوص المتقدّمة، أنّه لا تُقبل البيّنة من المنكر، وظاهر العلماء أيضاً عدم قبولها منه، ولكن قال السيّد في «ملحقات العروة»(2): (يمكن أن يقال - بناءً على عموم حجيّة البيّنة، بل الذي يقتضيه إطلاق الأخبار الدالّة على أن الفاصل هو البيّنة واليمين - إنّه لا مانع من كفاية البيّنة للمنكر أيضاً، إذا شهدت بالنفي على وجه الجزم)، انتهى .

الظاهر أنّ عموم حجيّة البيّنة لا دليل عليه سوى الإجماع والاستقراء، وفحوى ما دلّ على حجيّتها في باب المرافعات من الأموال والدّماء والفروج وغيرها، لما مرّ من أنّ قوله عليه السلام في موثّق مسعدة: «والأشياء كُلّها على هذا حتّى يستبين لك غير ذلك، أو تقومَ به البيّنة»(3) لا يدلّ على حجيّة البيّنة المصطلحة، كي يقال إنّ البيّنة جُعلت غايةً لحليّة كلّ شيء، ولو كانت مستندةً إلى اليد أو الاستصحاب، فيدلّ على حجيّتها بقولٍ مطلق، لأنّ البيّنة هي الحجّة والدليل الموجبة للظهور، كما هي معناها اللّغوي، والمستعمل فيها في الآيات وكلمات العلماء.3.

ص: 164


1- وسائل الشيعة: ج 27/239 ح 33678، تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ص 673.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/59.
3- الكافي: ج 5/313 ح 40، وسائل الشيعة: ج 17/89 ح 22053.

وحملها في الموثق على إرادة الاصطلاح الجديد يحتاجُ إلى دليل، وجعلها في مقابل الاستبانة لا يصلحُ دليلاً، فإنّ الاستبانة هي الظهور من قِبل نفسه، والبيّنة هي الظهور بواسطة الدليل، ومن الواضح أنّ شيئاً ممّا يدلّ على حجيّة البيّنة بنحو العموم المتقدّم إليه الإشارة، لا يصلحُ دليلاً لحجيّة بيّنة المنكر.

وأمّا إطلاق الأخبار الدالّة على أنّ الفاصل هو البيّنة واليمين، فيقيّد بما دلّ على أن البيّنة على المُدّعي، واليمينُ على المنكر.

وعليه، فالأظهر أنّه لا تُقبل البيّنة من المنكر، وقد خرج عن هذه القاعدة اليمين المردودة كما سيأتي.

ثمّ إنّ هذه القاعدة جارية في جميع الدعاوى، سواءٌ أكانت متعلّقة بالمال عيناً أو ديناً، أو بغيره من العقود والإيقاعات كالنكاح وما شاكل، وقد استثني من ذلك باب الحدود، إذا كان حقّ اللّه المحض، فإنّ الظاهر أنّه لا خلاف بينهم في أنّه لا يمين في حَدّ، وسيأتي التعرّض له عند تعرّض المصنّف رحمه الله له في الفصل الثالث.

وما ذكرناه هو القاعدة الأوّليّة، وقد خَرج عن تحتها موارد نشير إليها في ضمن المسائل الآتية.

إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في المواضع الثلاثة:

***

ص: 165

وإنْ جَحَد طُلبت البيّنة من المُدّعي، فإنْ أحضرها حُكم له، وإلّا توجَّهت له اليمين،

الحكمُ بالبيّنة

الموضع الأوّل: في الحكم بالبيِّنة، (و) فيه مسائل:

المسألة الاُولى: (إنْ جَحَد) المُدّعى عليه (طُلبت البيّنة من المُدّعي، فإنْ أحضرها حُكم له، وإلّا توجّهت له اليمين) أي على المنكر بلا خلاف، ويظهر وجهه ممّا ذكرناه في المقدّمة.

المسألة الثانية: إذا قال المُدّعي: (لي بيّنة)، فهل يجوزُ للحاكم أن يقول أحضرها، أم لا، أم هناك تفصيل ؟

وقد مرَّ الكلام في ذلك، وفي أنّ المُدّعي مخيّر بين إقامة البيّنة وإحلاف المنكر، وفي أنّه إذا قال: (لي بيّنة غائبة)، يُمهله الحاكم إلى أنْ يحضرها في المسألة الثانية عشر من الفصل الأوّل(1) فلا نعيد.

المسألة الثالثة: قال السيّد في «ملحقات العروة»(2):

(لا بأس بتفريق الشّهود، والسّؤال عن كلّ واحدٍ منهم في غياب الآخر عن مشخّصات القضيّة من الزمان والمكان، ونحوهما من الكيفيّات، إذا ارتاب من غلطهم، لعدم قوّة عقلهم وما شاكل، بل ربما يكون راجحاً.... كما فعله أمير

ص: 166


1- راجع: صفحة 104 من هذا المجلّد، مبحث (المُدّعي مخيّر بين إقامة البيّنة وإحلاف المنكر).
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/76.

المؤمنين عليه السلام في سبعة نفر خَرجوا في سفرٍ، ففُقِد واحدٌ منهم) وذكر إجمال ما تضمّنه خبر أبي بصير(1).

أقول: الأولى الاستدلال له بصحيح معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام، المتضمّن لقضيّة المرأة التي جاءوا بها إلى عمر، قد شهدوا عليها أنّها بغت، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام فرّق فيها بين الشهود، وبالغ في الأمر، واستقصى سؤالهم حتّى اعترفوا بكذبهم، ثمّ قال عليه السلام:

«اللّهُ أكبر، أنا أوّل من فرّق بين الشاهدين إلّادانيال النبيّ عليه السلام»(2).

فما عن بعض الفقهاء(3) من كراهة التعنيت، أي أن يدخل عليهم المشقّة، ويكلّفهم ما يثقل عليهم من التفريق وغيره، في غير محلّه.

ثمّ إنّ هنا عدّة مسائل مناسبة للمقام، ذكرناها في الفصل الأوّل(4)، فراجع.

***د.

ص: 167


1- الكافي: ج 7/371 ح 8، وسائل الشيعة: ج 27/279 باب 20 من أبواب كيفيّة الحكم ح 33763.
2- الكافي: ج 7/425 ح 9، وسائل الشيعة: ج 27/277 باب 19 من أبواب كيفيّة الحكم ح 33762.
3- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/48.
4- صفحة 7 وما بعدها من هذا المجلّد.

فإنْ التمسها حَلِف المُنكر، ولا يجوزُ إحلافه حتّى يلتمس المُدَّعي؛

الحكمُ باليمين

الموضع الثاني: في الحكم باليمين، وفيه أيضاً مسائل:

المسألة الاُولى: إذا قال المُدّعي: (لا بيّنة لي)، أو (لا اُقيمها) بناءً على أنّ له ذلك كما مرَّ، عرّفه الحاكم أنّ له اليمين على خصمه إنْ لم يعلم المُدّعي بذلك، وحينئذٍ (فإنْ التمسها) أي التمس المُدّعي اليمين (حلَّف) الحاكم (المُنكِر، ولا يجوز إحلافه حتّى يلتمس المُدّعي)، بلا خلافٍ فيه بينهم، بل قولاً واحداً كما في «الرياض»(1)، بل هو إجماعٌ محقّق كما في «المستند»(2) لأنّه حقّ له، وليس هنا شاهدُ حالٍ بعد كون حلف المنكر مسقطاً للدعوى، إذ قد يتعلّق غرض المُدّعي ببقائها إلى وقتٍ آخر إمّا ليتذكّر البيّنة، أو ليتحرّى وقتاً صالحاً لا يتحرّى المنكر على الحلف فيه، ونحو ذلك.

أقول: وربما يستدلّ له بصحيح ابن أبي يعفور، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«إذا رضى صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه، فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قِبله، ذهبت اليمين بحقّ المُدّعي، فلا دعوى له، الحديث»(3).

بتقريب: أنّه علق اذهاب اليمين بالحقّ برضا صاحب الحقّ ، وأيضاً اشترط استحلافه - أي طلب الحلف - فلا يذهب الدّعوى بدون طلبه.

ص: 168


1- رياض المسائل: ج 15/76.
2- مستند الشيعة: ج 17/205.
3- الكافي: ج 7/417 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/244 ح 33689.

فإنْ تبرّع أو أحلفه الحاكم، لم يُعتدَّ بها، واُعيدت مع التماس المدَّعي؛

قيل: وبه يظهر دلالة الأخبار المتضمّنة للاستحلاف على ذلك، كخبر النخعي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرّجل يكون له على الرّجل المال فيجحده ؟

قال: إنْ استحلفه، فليس له أنْ يأخذَ شيئاً، وإنْ تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»(1).

ونحوه غيره.

فهذه الأخبار تدلّ على اشتراط عدم جواز الأخذ باستحلافه، وبدونه يبقى على حقّه، وبها يقيّد إطلاقات حلف المنكر.

واستدلّ المحقّق العراقي رحمه الله(2) له بمنع إطلاقٍ في ميزانيّة اليمين، على وجهٍ يشمل عدم رضا المُدّعي بها، إذ إطلاقات اليمين طُرّاً وردت في مقام بيان غير هذه الجهة، فحينئذٍ يكفي لنا الشكّ في ميزانيّة اليمين في غير فرض رضاه بها.

وفيه: إنّ النصوص المتقدّمة، المتضمّنة أنّ البيّنة على المُدّعي واليمينُ على المُدّعى عليه مطلقة، ولا تكون في مقام بيان غير هذه الجهة، وعلى هذا (فإنْ تبرّع) المُنكِر فَحَلِف (أو أحلفه الحاكم، لم يعتدّ بها، واُعيدت مع التماس المُدّعي) لما عرفت من شرطيّة طلبه في ميزانيّة اليمين.

المسألة الثانية: كما لا يُعتدُّ بحَلف المنكر بدون طلب المُدّعي وإن أحلفه الحاكم، كذلك لا يُعتدّ بحلفه بدون إذن الحاكم وإن التمسه المُدّعي على المشهور.2.

ص: 169


1- الكافي: ج 7/418 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/246 ح 33691.
2- كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 82.

وفي «الجواهر»(1): (من غير خلافٍ أجده فيه).

وعن «مجمع البرهان»(2): نسبته إلى الأصحاب كافّة.

وقد استدلّ له:

1 - بأنّ إيقاعه موقوفٌ على إذنه، وأنّه وظيفته.

2 - وبأنّه من تتمّة الحكم، ولا حكم لغيره.

3 - وبأنّه المتبادر من الاستحلاف في الأخبار.

4 - وبأنّه المعهود المنصرف إليه إطلاق الأخبار.

5 - وبأصالة عدم ترتّب الأثر.

6 - وبمنع الإطلاق في أخبار الحَلف.

أقول: وفي كلّ نظرٌ:

أمّا الأوّل: فلأنّه مصادرة، فإنّ كونه وظيفته مورد النزاع.

وأمّا الثاني: فلأنّه من مقدّمات الحكم لا من أجزائه.

وأمّا الثالث: فلأنّ المذكور في الأخبار استحلاف المُدّعي لا الحكم.

وأمّا الرابع: فلعدم صلاحيّة مثل هذا الانصراف البدوي لتقييد الإطلاق.

وأمّا الخامس: فلأنّه لا يرجعُ إليه مع إطلاق الدليل.

وأمّا السادس: فلما مرّ من وجود الإطلاق.

ولعلّه لذلك كلّه قال صاحب «الجواهر»(3): (وإنْ كان إقامة الدليل عليه إنْ لم1.

ص: 170


1- جواهر الكلام: ج 40/171.
2- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/136.
3- جواهر الكلام: ج 40/171.

يكن إجماعاً في غاية الصعوبة).

أقول: ولكن يمكن أن يستدلّ له - مضافاً إلى الإجماع - بوجهين:

أحدهما: أنّ الاستحلاف من وظائف قضاة الجور، وقد دلّت المقبولة على ثبوت جميع ما هو من شؤونهم ووظائفهم للحاكم الشرعي، فيكون ذلك وظيفتهم أيضاً، فيقيّد بذلك إطلاق أخبار الحلف.

ثانيهما: النصوص المتضمّنة لقوله: (وأضفهم إلى اِسمي) أو (فحلّفهم)، كصحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«في كتاب عليّ عليه السلام: إنّ نبيّاً من الأنبياء شكى إلى ربّه، فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أرَ ولم أشهد؟

قال: فأوحى اللّه تعالى إليه: اُحكم بينهم بكتابي، وأضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به، قال هذا لمن لم تقم له بيّنة»(1).

ونحوه مرسل أبان(2)، وخبر محمّد بن قيس(3).

ويؤيّده: المرويّ عن تفسيرالإمام، المتضمّن لنسبة التحليف إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله(4)، وبعض النصوص المتضمّنة لقضاء أمير المؤمنين(5)، المُشْعِر بأنّ ذلك وظيفة الإمام والحاكم.

وأمّا خبر اليهودي(6) الآتي، المشتمل على تحليف الوالي، المعلوم كونه ليس2.

ص: 171


1- الكافي: ج 7/415 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/229 ح 33657.
2- الكافي: ج 7/414 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/229 ح 33658.
3- الكافي: ج 7/414 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/230 ح 33659.
4- وسائل الشيعة: ج 27/239 ح 33678، تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ص 673.
5- الكافي: ج 7/423 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/282 ح 33766.
6- الكافي: ج 7/430 ح 14، وسائل الشيعة: ج 27/246 ح 33692.

من أهل الحكومة، فلابدّ من طرحه ولو بحمله على التقيّة من ولاة الجور.

وعليه، فالأظهر أنّ التحليف وظيفة الحاكم.

المسألة الثالثة: صرّح جماعة منهم المصنّف عليه السلام، والمحقّق(1)، والحِلّي(2)، وغيرهم(3):

بأنّه يجبُ أن يكون الحلف في مجلس القضاء والحكم، ونَفى بعضهم(4) عنه الخلاف، بل قال إنّ ظاهر الإجماع عليه.

وعن «التحرير»(5): عدم اشتراطه.

أقول: الظاهر أنّ إقامة الدليل عليه لو لم يكن إجماعٌ في غاية الصعوبة، فإنّهم استدلّوا له ببعض ما تقدّم في كون الحلف وظيفة الحاكم، من الأصل، وعدم الإطلاق، والانصراف، والتبادر، وقد عرفت ما في الجميع، وبالأخبار المتضمّنة لأمر الحاكم بتحليف المُدّعى عليه، بدعوى أنّ المتبادر منها كونه في حضوره، بعد طلبه.

ويَردّه أوّلاً: أنّه لو تمّ لزم منه كون الحلف في مجلس الحاكم دون مجلس الحكم، وهو غير مطلوبهم.

وثانياً: أنّ التحليف وصدور الحلف بأمره، يمكن من دون أن يحضر المجلس.

وعليه، فالعمدة فيه الإجماع.).

ص: 172


1- شرائع الإسلام: ج 4/79.
2- السرائر: ج 2/182.
3- كشف اللّثام: ج 10/118.
4- رياض المسائل: ج 15/110.
5- تحرير الأحكام: ج 2/191 راجع قوله: (ولا ينبغي للحاكم أن يحلف أحداً إلّافي مجلس حكمه إلّافي حقّ المعذور...).

فإنْ نَكَل رُدَّت على المُدَّعي، وثَبَت حقّه إن حَلِف المُدَّعي؛

نكول المُنكر عن اليمين

المسألة الرابعة: إذا جَحَد المُنكر ولم يحلف:

فتارةً : يَنكُل ويأبى عن الرّد على المُدّعي.

وأُخرى : يردّه على المُدّعي.

(فإنْ نَكَل رُدَّتِ ) اليمينُ (على المدَّعي، وثبتَ حقّه إن حلف المُدّعي)، كما عن الأكثر.

بل عن «الخلاف»(1) و «الغنية»(2): الإجماع عليه.

وعن «السرائر»(3): أنّه مذهب أصحابنا عدا الشيخ في «النهاية».

وعن جماعة منهم الصدوقان(4)، والشيخان(5)، والديلمي(6)، والحلبي(7)، والمحقّق(8)، والمصنّف في بعض كتبه(9)، والمحقّق الثاني(10)، وجماعة من متأخّري

ص: 173


1- الخلاف: ج 6/293.
2- غنية النزوع: ص 445.
3- السرائر: ج 2/141.
4- المقنع: ص 396، وحكاه عن والده العلّامة الحِلّي في مختلف الشيعة: ج 8/397.
5- الشيخ المفيد في المقنعة: ص 724، الشيخ الطوسي في النهاية: ص 340.
6- المراسم العلويّة: ص 231.
7- الكافي في الفقه: ص 447.
8- شرائع الإسلام: ج 4/75.
9- تلخيص المرام: ص 301 قوله: (ويقضى بالنكول على المنكر على رأي).
10- حكاه صاحب مستند الشيعة: ج 17/230.

المتأخّرين(1): أنّه يقضي عليه بالنكول، ويلزم بحقّ المُدّعي بمجرّده.

واستدلّ للأوّل:

1 - بأصالة عدم ثبوت الحقّ بمجرّد النكول، فإنّ المتيقّن ثبوته به هو ما إذا حلف المُدّعي بعد الرّد عليه.

2 - وبأنّ الواجب على المُنكِر الحلف أو الرّد على المُدّعي، للأخبار(2) الدالّة على التخيير بينهما، فإذا امتنع عن الأمرين، رَدّ الحاكم اليمين من باب الولاية على الممتنع.

3 - وبالأخبار(3) المستفيضة المتضمّنة أنّ القضاء بين النّاس إنّما هو بالبيّنات والأيمان.

4 - وبصحيح عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في الرّجل يدّعى عليه الحقّ ولا بيّنة للمُدّعي ؟

قال عليه السلام: يستحلف، أويردّاليمين عليصاحب الحقّ ، فإنْلم يفعل فلاحقّ عليه»(4).

بناءً على قراءة يُردُّ بالبناء بصيغة المجهول.

5 - وبصحيح هشام، عنه عليه السلام: «تُردُّ اليمين على المُدّعي»(5).1.

ص: 174


1- الكفاية: ج 2/691، المفاتيح: ج 3/257.
2- الكافي: ج 7/216 باب من لم تكن له بيّنة، وسائل الشيعة: ج 27/241 باب 7 أنّ المُدّعي إذا لم يكن له بيّنة فله استحلاف المُنكِر.
3- الكافي: ج 7/415 باب أنّ البيّنة على المُدّعي، وسائل الشيعة: ج 27/233 باب 3 باب أنّ البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه.
4- الكافي: ج 7/416 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/241 ح 33680.
5- الكافي: ج 7/417 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/241 ح 33681.

6 - وبوجوهٍ اُخَر بيّنة الوهن.

أقول: ولكن الأصل معارضٌ باُصولٍ كثيرة:

كأصالة عدم ثبوت الحلف على المُدّعي، خرج عنها ما لو رَدّ المُدّعى عليه.

وأصالة براءة ذمّة الحاكم من التكليف بالرّد.

وأصالة براءة المُدّعي من التكليف باليمين.

وأصالة عدم كون النكول عنها حجّة للمنكر، إلى غير تلكم من الاُصول.

مع أنّه لو تمّ ، توقّفَ على عدم الدليل على القول الآخر.

أمّا الوجه الثاني: فمردودٌ بعدم الدليل على وجوب أحدهما، والنصوص إنّما تدلّ على أنّ له أحد الأمرين، لا أنّه واجبٌ عليه.

وأمّا الثالث: فالاستدلال بتلك النصوص يتمّ إنْ لم يكن هناك مقيّد، وقد عرفت أنّ إطلاقها قُيّد بما دلّ على أنّ البيِّنة على المُدَّعي واليمينُ على من أنكَر.

وأمّا الصحيحان: فالظاهر منهما ولا أقلّ من المحتمل، كون يردُ فيهما بصيغة المعلوم، مع أنّه على فرض كونه بصيغة المجهول، فالمراد رَدّ المنكر لا غيره من الحاكم أو غيره.

ويمكن أن يستدلّ للثاني: - مضافاً إلى الأصل - بخبر عبد الرحمن بن أبي عبداللّه، قال: «قلتُ للشيخ عليه السلام: خَبّرني عن الرّجل يَدعي قِبل الرّجل الحقّ ، فلم تكن له بيّنة بماله ؟

قال عليه السلام: فيمينُ المُدّعى عليه، فإنْ حلف فلا حقّ له، وإنْ لم يحلف فعليه، فإن كان المطلوب عليه قد ماتَ ...

ص: 175

إلى أن قال: ولو كان حيّاً لألزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه، فمن ثَمّ لم يثبت الحقّ »(1).

وفي كلٍّ من صدر الخبر وذيله دلالة على المطلوب.

أمّا الصَّدر: فقوله: «وإنْ لم يحلف فعليه» إذ الظاهر منه أنّ المنكر إنْ لم يحلف فعليه الحقّ .

وأمّا الذيل: فقوله: «ولو كان حيّاً لألزم باليمين أو الحقّ أو يُردّ اليمين» حيث لم يذكر رَدّ اليمين من الحاكم إذا امتنع عن الجميع.

أقول: وأورد على الاستدلال به:

تارةً : بضعف السند.

وأُخرى : بأنّ الجملة الأُولى ليست في «الفقيه»(2)، وبدلها فيه هو أنّ «رَدّ اليمين على المُدّعي، فلم يحلف فلا حقّ له» مع أنّه يحتمل كون الضمير راجعاً إلى المُدّعي، والمبتدأ المقدّر الحلف، أي فعلى المُدّعي الحلف، وحينئذٍ فيدلّ على القول الآخر.

وأمّا الجملة الثانية: فيمكن أن يكون (يرد) بصيغة المجهول، ويكون المراد رَدّ الحاكم، ولا أقلّ من الاحتمال.

وثالثة: بأنّ مقتضى إطلاقه ثبوت الحقّ عليه بعدم الحلف، وإنْ رَدّ اليمين، ولا قائل به، فلابدّ من تقييده: إمّا بالنكول عن الرّد، أو بما إذا رَدّه على المُدّعي وحلف.

والأوّل ليس بأرجح من الثاني.3.

ص: 176


1- الكافي: ج 7/415 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/236 ح 33673.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/63 ح 3343.

ورابعة: باحتمال التقيّة فيه، لكون ذلك مذهب جمعٍ من العامّة ومنهم أبو حنيفة.

أقول: وكلٌّ فاسد:

أمّا الأوّل: فلأنّه ليس في طريقه من يتوقّف فيه سوى ياسين الضرير، وقد عَدّ حديثه المحقّق الداماد(1) من القوي، وعن المجلسي(2): أنّه حَسنُ الحال، وعده ابن داود في الباب الأوّل(3) الكاشف عن اعتماده عليه. أضف إلى ذلك استناد جمعٍ كثيرٍ من القدماء والمتأخّرين عليه.

وأمّا الثاني: فما ذُكر بالنسبة إلى الجملة الأولى يُردُّ:

أوّلاً: باحتمال تعدّد الخبر.

وثانياً: بأنّ الكليني أضبط من الصَّدوق.

وثالثاً: بأنّه في «الوسائل» الموجودة عندي(4) أنّ الخبر مرويٌّ في «الفقيه» بدون الجملة الأُولى، لا مع تبديلها بما ذُكر.

وعليه، فمقتضى أصالة عدم الزيادة، البناء على وجودها، واحتمال كون الضمير فيها راجعاً إلى المُدّعي خلافُ الظاهر.

وأمّا ما ذكر بالنسبة إلى الجملة الثانية، فضعفه ظاهرٌ، لأنّ رَدّ الحاكم اليمين ليس منوطاً بالحياة، مع أنّه لو كان كذلك، كان اللّازم أن يقول: (ويُردّ) بلفظ واو دون أو.3.

ص: 177


1- اثنى عشر رسالة: ج 7/82.
2- راجع روضة المتّقين: ج 1/73 حيث عبّر عنه ب (لا بأس به).
3- الباب الأوّل ص 301 رقم 1689.
4- وسائل الشيعة: ج 27/236 ح 33673.

وأمّا الثالث: فلأنّ مقتضى القاعدة، هو تقييد الإطلاق بمقدار ما دلّ عليه المقيّد لا أزيد، ولا معنى للدوران، ففي المقام إطلاق الخبر ثبوت الحقّ عليه مطلقاً بعدم الحلف، خَرج عنه ما لو رَدّ اليمين، ولم يحلف المُدّعي، فيبقى الباقي.

وأمّا الرابع: فلأنّ مخالفة العامّة من مرجّحات إحدى الحجّتين على الأُخرى عند التعارض بعد فقد جملةٍ من المرجّحات، لا من مميّزات الحُجّة عن اللّاحُجّة.

وربما يستدلّ له أيضاً: بصحيح محمّد بن مسلم، عن الصادق عليه السلام:

«عن الأخرس، كيف يحلف إذا اُدّعي عليه دينٌ وأنكر، ولم يكن للمدّعي بيّنة ؟

فقال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام اُتي بأخرسٍ ، فادُّعي عليه دينٌ ، ولم يكن للمُدّعي بيّنة، فقال أمير المؤمنين...

إلى أن قال ما حاصله: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كتب له اليمين وغَسَلها وأمره بشربه فامتنع، فألزمه الدَّين»(1).

فإنّه ظاهرٌ في أنّه لم يرد اليمين على المُدّعي، سيّما مع وجود لفظ (فاء) الظاهرة في ترتّب الإلزام على الامتناع.

وأُورد عليه تارةً : بأنّه قضيّةٌ في واقعة، فلعلّه كان ذلك بعد حلف المُدّعي، أو أنّه لم يكن الرّد عليه لخصوصيّة.

وأُخرى : بأنّ المشهور لم يعملوا به.

وثالثة: بأنّ الجمهور نقلوا عن عليّ عليه السلام خلاف ذلك.

ورابعة: بلزوم التقدير، وإلّا لزم البناء على الإلزام بالحقّ ، وإنْ رَدّ اليمين.9.

ص: 178


1- الفقيه: ج 3/112 ح 3432، وسائل الشيعة: ج 27/302 ح 33799.

ويُردُّ الأوّل أوّلاً: ما تقدّم من ظهوره - ولو بقرينة فاء - في ترتّب الإلزام على الامتناع من دون واسطة شيء.

وثانياً: أنّ الإمام الصادق عليه السلام يروي القضيّة لبيان حكم اللّه تعالى ، ولا يحتمل دخل خصوصيّةٍ من خصوصيّات الواقعة في الحكم ولم يذكرها.

ويُردّ الثاني: إنّا نعمل به مع أنّ الأصحاب قالوا إنّه لاخصوصيّة للغُسل والشرب.

وعلى فرض كون ذلك من مصاديق الإشارة، فهم قائلون به.

ويُردّ الثالث: عدم الاعتبار بنقل الجمهور.

وأمّا الرابع: فيردّ بأنّ المُثبت للحقّ هو النكول، والامتناع عن الحلف، إلّاإذا رَدّ اليمين، والقيد يثبتُ بدليلٍ آخر.

وعليه، فالحقّ أنّه يدلّ على المطلوب، واحتمال الاختصاص بالأخرس يدفع بعدم القول بالفصل.

أقول: وربما يستدلّ له بخبر(1) أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ : «لو أنّ رجلاً ادّعى على رجلٍ عشرة آلاف درهم، أو أقلّ من ذلك أو أكثر، لم يكن اليمين على المُدّعي، وكانت اليمين على المُدّعى عليه.

بتقريب: أنّه يدلّ على أن لا يمين على المُدّعي مطلقاً، خرج عنه ما لو رَدّ المُدّعى عليه.

وعليه، ففي صورة النكول إمّا يلزم المُدّعى عليه بالحقّ ، أو المُدّعي بترك الدّعوى، أو يوقف الحكم، والأخيران باطلان بالإجماع، فيبقى الأوّل وهو المطلوب.3.

ص: 179


1- الكافي: ج 7/362 ح 8، وسائل الشيعة: ج 29/156 ح 35373.

وربما يقال في تقريب الاستدلال: أنّه إذا نَكَل المُدّعى عليه فليس إلّايمين المُدّعي، أو إلزام المُدّعى عليه إجماعاً، والأوّلُ باطلٌ بعموم الرواية، فيبقى الثاني، وهو المطلوب.

وبما ذكرناه ظهر أنّه يمكن الاستدلال للمطلوب، بقوله عليه السلام: «البيّنة على المُدّعي، واليمينُ على المُدّعى عليه».

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه إنْ نَكَل المُدّعى عليه عن اليمين، ثبت الحقّ بمجرّدة، بلا احتياج إلى يمين المُدّعي، والظاهر أنّه إنْ رجع المنكِر الناكل عن نكوله قبل حكم الحاكم، فيُلتفت إليه لعدم ثبوت الحقّ عليه بعد.

فإنْ قيل: إنّه قد وجبَ على الحاكم الحُكمَ عليه، فيستصحب.

قلنا: مضافاً إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة، أنّه لم يجبُ الحكم عليه إلّامشروطاً بأن لا يحلف، أو يردّ اليمين، وإنْ كان ذلك بعده، فلا يلتفت إليه، لثبوت الحقّ عليه.

وما دلّ على أنّ عليه اليمين، إنّما هو ما لم يثبُت عليه الحَقّ ، وإلّا فلا يُعتنى بالبيّنة ولا اليمين ولا غيرهما.

والمرجع في تحقّق النكول وعدمه هو العرف، وما عن «السرائر»(1) من أنّه يتحقّق النكول بعرض الحاكم عليه اليمين ثلاث مرّات، مع سكوته في كلّ مرّة، لا دليل عليه.

وعلى القول الآخر، لو رَدّ الحاكمُ اليمين على المُدّعي:0.

ص: 180


1- السرائر: ج 2/164 و 510.

فإنْ نَكَل بَطَلَت دعواه، وإنْ رَدّ اليمين حَلِف المُدَّعي،

(ف) إنْ حَلف ثَبَت الحقّ على المنكر.

و (إنْ نَكَل، بَطَلت دعواه) كما هو واضح.

هذا كلّه فيما إذا نكل.

رَدّ اليمين

(وإنْ رَدّ اليمين حَلف المُدّعي) بلا خلافٍ ، بل عليه الإجماع والنصوص الكثيرة شاهدة به:

منها: صحيحا هشام وعُبيد، وخبر البصري المتقدّمة في صورة النكول.

ومنها: صحيح محمّدبن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: «في الرّجل يدّعي ولا بيّنة له ؟

قال: يستحلفه، فإنْ رَدّ اليمين على صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له»(1).

ومنها: خبر جميل، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «إذا أقام المُدّعي البيّنة فليس عليه يمين، وإنْ لم يُقم البيّنة فَردّ عليه الذي ادّعى عليه اليمين فأبى فلا حقّ له»(2).

ومنها: مرسل أبان، عن رجلٍ ، عنه عليه السلام في حديثٍ :

«أنا أردُّ اليمين عليك لصاحب الحقّ ، فإنّ ذلك واجبٌ على صاحب الحقّ أن يحلف ويأخذ ماله»(3).

ومنها: غير ذلك من الأخبار.

ص: 181


1- الكافي: ج 7/416 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/241 ح 33679.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/63 ح 3342، وسائل الشيعة: ج 27/242 ح 33684.
3- الكافي: ج 7/416 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/242 ح 33683.

وعليه، فأصل الحكم ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في فروع:

الفرع الأوّل: أنّه إذا كان المورد ممّا لا يتمكّن المُدّعي من الحلف فيه، إمّا لكون المُدّعي به مال الغير، وكان المُدّعي وكيلاً أو وليّاً أو وصيّاً أو ما شاكل، أو لعدم الجزم بالحقّ ، فهل يشرعُ له اليمين، ويُخصّص به ما دلّ (1) على عدم جواز الحلف عن غير بتٍ أو لإثبات مال الغير؟

أم لا يجوزُ له الحَلف، فيثبتُ حكمُ نكول المنكر عن الحلف ؟

أم يوقف الدّعوى إلى مجيء الموكّل، أو بلوغ المولّى عليه أو رشده ؟ وجوه:

والتحقيق أن يقال: إنّ نصوص الرَّد مختصّة بما إذا جاز الحلف، لأنّ جواز الرّد فرع جواز الحلف، فإذا لم يجز لم يجز.

وأيضاً: مورد أكثرها ما إذا كان المُدّعي صاحب الحقّ ، وادّعى لنفسه، إمّا للتصريح بذلك، أو لقوله عليه السلام: «فيها حقّه» أو «لا حقّ له» أو «صاحب الحقّ » أو «ماله»، وهي لا تشمل الدّعوى على مال الغير، وما يبقى منها كصحيح هشام منصرفٌ إليه.

وعلى هذا، فيرجع في الموارد المشار إليها إلى عمومات: «البيّنة على المُدّعي واليمين على من أنكر»، غير المعارضة بنصوص الرّد، ومقتضاها - بضميمة ما ذكرناه في نكول المنكر عن اليمين - أنّه إنْ لم يحلف ثَبَت عليه الحقّ .

وما في «ملحقات العروة»(2): (نعم في الوكيل والوليّ يمكن أن يقال بإيقاف5.

ص: 182


1- الكافي: ج 7/445 باب أنّه لا يحلف الرّجل إلّاعلى علمه، وسائل الشيعة: ج 23/246 باب 22 أنّه لايجوز أن يحلف أو يستحلف إلّاعلى علمه.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/65.

فإنْ نَكَل بَطلت دعواه.

الدّعوى إلى مجيء الموكّل، أو بلوغ المولّى عليه أو رشده)، وإنْ كان يمكن توجيهه في الوكيل، لأنّه يتمكّن الموكلّ من الحلف، لأنّه المُدّعي حقيقةً والوكيل آلته، ولكنّه لا يتمّ في الوليّ ، لأنّه تركٌ لأدلّة الحكم بالنكول بلا موجب.

وتوهم: أنّه حيث يكون المُدّعي مخيّراً بين الحلف والنكول، ومعلوم أن مجرّد الاضطرار إلى ترك أحد الفردين، لا يوجبُ سقوط الآخر، فيجوزُ الرّد عليه، غاية الأمر ينكُل فيُقضى بسقوط حقّه.

يندفع: بأنّه يتمّ على فرض شمول دليل الرّد له، وقد عرفت عدم شموله.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الحكم بنكوله أيضاً ينصرفُ إلى صورة تمكّنه من حلفه، فينكل لا مطلقاً.

الفرع الثاني: إنّ اليمين المردودة هل هي بمنزلة بيّنة المُدّعي، أو بمنزلة إقرار المنكر؟

وقد ذهب إلى كلّ منهما جماعة، وفرّعوا على ذلك فروعاً، ولكن حيث إنّه لا دليل على شيء منهما يمكن الاستناد إليه، فالأظهر أنّها أمرٌ مستقلٌّ ، كما أفاده جمعٌ من المحقّقين، ففي تلكم الفروع لابدّ من الرجوع إلى سائر الاُصول والقواعد.

الفرع الثالث: أنّه بعد ما ظهر ممّا أسلفناه من أنّه بعد رَدّ اليمين إن حَلِف ثبتَ الحقّ ، (فإنْ نَكَل بَطلت دعواه)، وقع الكلام في أنّه:

هل تبطل في ذلك المجلس خاصّة، فتُسمع دعواه في مجلسٍ آخر، وله مطالبة

ص: 183

الخصم بعد ذلك، بل ومقاصّته كما عن «المبسوط»(1) وموضعٍ من «القواعد»(2)؟

أم تبطل دعواه مطلقاً، كما عليه أكثر من تقدّم(3)، وعامّة من تأخّر؟

أقول: ظاهر الأخبار المتقدّمة هو الثاني، ولا فرق في سقوطها بين ما إذا أقام بعده بيّنةً أم لم يقم، لإطلاق الأخبار المتقدّمة.

وعن «التحرير»(4)، والشهيدين(5)، وغيرهم(6): سماع دعواه إذا أتى ببيّنةٍ ، واستدلّوا له:

1 - بأنّ معنى قولهم عليهم السلام في الأخبار المتقدّمة: «ولا بيّنة له» أو «ليس له بيّنة» وما شاكل، انتفائها في نفس الأمر، وانحصار الحجّة المُثبتة لحقّه في اليمين.

2 - وبانصراف إطلاق الأخبار إلى صورة عدم البيّنة.

ولكن في موثّق جميل المتقدّم: «وإنْ لم يُقم البيّنة... الخ»، وهو شاملٌ لجميع صور عدم إقامة البيّنة، سواءٌ كان لعدمها، أو لعدم تذكّرها، أو لعدم إرادتها، أو غير ذلك، وقريب منه ما في خبر أبي العبّاس، ومرسل أبان.

وأمّا الانصراف فممنوع.

وعليه، فالأظهر عدم السماع.

نعم، الظاهر أنّه لو كان ذلك من أوّل ما رَدّ عليه، ولم يحلف بنحو الاستمهال5.

ص: 184


1- المبسوط: ج 8/209.
2- قواعد الأحكام: ج 3/439.
3- المقنع: ص 132، النهاية: ص 340، السرائر: ج 2/159.
4- تحرير الأحكام: ج 2/194.
5- الدروس: ج 2/89، شرح اللّمعة: ج 3/86.
6- مفاتيح الشرائع: ج 3/257، رياض المسائل: ج 15/85.

حتّى ينظر في الحساب، أو يسأل الشركاء، أو كان لأجل توقّع حضور البيّنة، لم يبطُل حقّه، كما عن «المسالك» وغيرها، لأنّه لا يصدق حينئذٍ أنّه لم يحلف، لأنّ الظاهر منه البناء على عدم الحلف مع عدم ادّعاء البيّنة، ومع ارتفاع أحد القيدين لا يصدقُ ذلك.

مع أنّ الوارد في طائفةٍ من الأخبار: «أبى أن يحلف» وظهوره فيما ذكرناه لاينبغي إنكاره.

وعليه، فما عن «التحرير»(1) من عدم السُّماع حينئذٍ أيضاً، ضعيفٌ .

والظاهر أنّه لا يقدر الإمهال بقدر، لعدم الدليل عليه، والأصل يقتضي عدمه، ولأنّ اليمين هنا لإثبات حقّه، واليمين حقّه، فله تأخيرها ما شاء، بخلاف المُدّعى عليه.

الفرع الرابع: أنّه ليس للمدّعي بعد الرّد عليه، الرَّد ثانياً، لأنّ جواز الرّد أمرٌ توقيفي ولا دليل عليه، ولأنّ ظاهر المرسل المتقدّم وجوب اليمين عليه، مع أنّه يلزم من جوازه التسلسل.

وهل للمنكر استردادها وحلفه بنفسه أم لا؟

الظاهر أنّه ليس له ذلك بعد حلف المُدّعي، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل عن بعضهم(2) دعوى الإجماع عليه، لأنّه يثبتُ له الحقّ بحلفه على ما تقتضيه الأخبار المتقدّمة.

ولا يسقطُ الحقّ الثابت باليمين، وإنْ كان قبل حلفه، ففيه قولان:7.

ص: 185


1- تحرير الأحكام: ج 2/194.
2- مسالك الأفهام: ج 13/487.

أولهما: للشيخ(1) وجماعة(2).

ثانيهما: للشهيد(3) وجمع(4).

ومنشأهما أنّ الرَّد في معنى الإباحة لا الإبراء، والأصل بقاء الحقّ ، وأنّ الرّد والحلف والاسترداد أُمورٌ شرعيّة توقيفيّة، ولا دليل هنا، وعليه فالأظهر هو الثاني.

ودعوى: أنّه يُستصحب جواز حلف المنكر.

مندفعة: بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة أوّلاً.

ومعارضتة باستصحاب جواز حَلف المُدّعي الثابت قبل الاسترداد، لعدم جريان الاستصحابين معاً، لعدم إمكان اجتماع الحلفين ثانياً.

وظهور الأخبار المتقدّمة في لزوم الحلف على المُدّعي، المستلزم سقوطه عن المنكر ثالثاً.

***0.

ص: 186


1- المبسوط: ج 8/190 و 211.
2- مسالك الأفهام: ج 13/487، مستند الشيعة: ج 17/223.
3- الدروس: ج 2/94.
4- شرائع الإسلام: ج 4/80، قواعد الأحكام: ج 3/440.

وإذا حَلِف المُنكر لم يكن للمُدَّعي المقاصّة، ولا تُسمع بيِّنته بعد اليمين إلّاأن يُكذِّب نفسه.

لا يجوز المقاصّة بعد اليمين

المسألة الخامسة: إذا لم يكن للمُدّعي البيّنة، واستحلف المُنكر:

فتارةً : لا يحلف، وقد مرَّ حكمه.

وأُخرى : يحلف، (وإذا حَلِف المُنكر، لم يكن للمُدّعي المقاصّة، ولا تُسمع بيّنته بعد اليمين، إلّاأن يُكذِّب نفسه) بلا خلافٍ في شيء من تلكم، وعليها الإجماع في كثيرٍ من الكلمات.

أقول: ويشهد للمستثنى منه جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح ابن أبي يعفور، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المُدّعي، فلا دعوى له.

قلت: وإنْ كانت عليه بيّنة عادلة ؟

قال: نعم، وإن أقام بعد ما استحلفه باللّه خَمسين قسامة ما كان له، وكانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «مَن حَلف لكم على حقّ فصدّقوه، ومن سألكم باللّه فأعطوه، ذهبتِ اليمينُ بدعوى المُدّعي ولا دعوى له»(1).

ص: 187


1- الكافي: ج 7/417 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/245 ح 33690.

ومنها: خبر خضر النخعي، عنه عليه السلام: «في الرّجل يكون له على الرّجل المال، فيجحده ؟

قال عليه السلام: إنْ استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، وإنْ تركه ولم يستحلفه فهو على حقّه»(1).

ومنها: خبر عبد اللّه بن وضّاح، في قصّة اليهودي الذي خانه ألف درهم، وحَلف عند الوالي، ثمّ وقع منه أرباح عنده، قال:

«فكتبت إلى أبي الحسن عليه السلام فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف، وقد وقع له عندي مال، فإنْ أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حَلف عليها فعلتُ؟

فكتب عليه السلام: لا تأخذ منه شيئاً، إنْ ظَلَمك فلا تظلمه، ولولا أنّك رضيتَ بيمينه فحلفته، لأمرتك أنْ تأخذ من تحت يدك، ولكنّك رضيتَ بيمينه، وقد ذهب اليمين بما فيها. فلم آخذ منه شيئاً، وانتهيتُ إلى كتاب أبي الحسن عليه السلام»(2).

ومنها: مرسل إبراهيم بن عبد الحميد: «في الرّجل يكون له على الرّجل فيجحده إيّاه فيحلف يمين صبر أنْ ليس له عليه شيء؟

قال عليه السلام: ليس له أن يطلب منه، وكذلك إن احتسبه عند اللّه، فليس له أن يطلبه منه»(3).

ومنها: صحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ وقع له عندي مالٌ فكابرني عليه، وحلف، ثمّ وقع له عندي مالٌ ، فآخذه لمكان مالي الذي أخذه2.

ص: 188


1- الكافي: ج 7/418 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/246 ح 33691.
2- الكافي: ج 7/430 ح 14، وسائل الشيعة: ج 27/246 ح 33692.
3- التهذيب: ج 8/294 ح 78، وسائل الشيعة: ج 23/286 ح 29582.

وأجحَدَه، وأحلفُ عليه كما صَنَع ؟

قال عليه السلام: إنْ خانكَ فلا تَخُنه، ولا تدخُل فيما عَتَبه عليه»(1).

ونحوها غيرها.

أقول: وأمّا حسن أبي بكر الحضرمي، عنه عليه السلام، قال:

«قلت له: رجلٌ لي عليه دراهم، فجَحَدني وحَلف عليه، أيجوزُ لي إنْ وقع له قِبلي دراهم أن آخذَ منه بقدر حقّي ؟ فقال عليه السلام: نعم، الحديث»(2).

فإنْ أمكن حمله على الحلف قبل استحلاف المُدّعي والحاكم أيضاً، نظراً إلى أنّه شاملٌ لذلك ولغيره، فيقيّد إطلاقه بما مرّ، فهو المتعيّن، وإلّا فيطرح لعدم صلاحيّته لأن يقاوم مع ما تقدّم.

ومقتضى إطلاق النصوص عدم الفرق:

بين اشتراط الحالف سقوط الحقّ باليمين وعدمه.

وبين أن يكون الإحلاف من المُدّعي لعدم علمه بالبيّنة، أو نسيانه إيّاها، وبين علمه ورضاه باليمين مطلقاً.

وعليه، فلا وجه للأقوال التالية:

1 - عن المفيد(3)، والديلمي(4)، والقاضي(5)، وابن حمزة(6): من السّماع مع عدم شَرط الحالف سقوط الحقّ بالحلف.3.

ص: 189


1- الكافي: ج 5/98 ح 1، وسائل الشيعة: ج 17/274 ح 22505.
2- التهذيب: ج 6/348 ح 103، وسائل الشيعة: ج 17/273 ح 22502.
3- المقنعة: ص 733.
4- المراسم العلويّة: ص 231.
5- المهذّب: ج 2/585.
6- الوسيلة: 213.

2 - وما عن موضعٍ من «المبسوط»(1): من سماعها مطلقاً.

3 - وما عن جماعةٍ (2): من التفصيل بين صورة عدم علمه بالبيّنة، أو نسيانه إيّاها، وبين صورة علمه ورضاه مطلقاً، لا وجه لها.

وقد استدلّ للأوّل: بإلحاق اليمين بالإقرار، وهو مضافاً إلى كونه قياساً، اجتهادٌ في مقابل النَّص.

وللثاني: بإطلاقات سماع البيّنة، وهي تقيّد بما مرّ.

وللثالث: بأنّ سماع البيّنة مع نسيان البيّنة، أو عدم علمه بها، من جهة أنّ طلب الحلف حينئذٍ لظنّ عجزه من استخلاص حقّه بالبيّنة، وجوابه ظاهرٌ ممّا قدّمناه.

وأيضاً: مقتضى إطلاق الأخبار، عدم الفرق بين كون المُدّعى به عيناً أو ديناً، فلو ادّعى عليه عيناً في يده، ولم يكن له بيّنة فاستحلفه فحلف، لم يجز له التصرّف في تلك العين، وانصرافها إلى الدّين ممنوعٌ ، سيّما وظاهر بعضها في العين.

أقول: وعلى ذلك، فقد يقال إنّه يقع التعارض بين هذه النصوص والنصوص الدالّة على عدم خروج المال عن ملك مالكه بالحلف، كصحيح سعد وهشام، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجلٌ قطعتَ له من مالِ أخيه شيئاً، فإنّما قطعتُ له به قطعة من النار»(3).3.

ص: 190


1- المبسوط: ج 8/158.
2- السرائر: ج 2/159، الكافي في الفقه 447.
3- الكافي: ج 7/414 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/232 ح 33663.

والمرويّ عن تفسير الإمام عليه السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يحكم بين النّاس بالبيّنات والأيمان في الدّعاوى، فكَثُرت المطالبات والمظالم، فقال صلى الله عليه و آله: أيّها النّاس إنّما أنا بشر وأنتم تختصمون، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، وإنّما أقضي على نحو ما أسمع منه، فمن قضيتُ له من أخيه بشيء، فلا يأخذ به، فإنّما أقطع له قطعةً من النار»(1).

ونحوهما غيرهما الدّال على أنّه يجبُ على الحالف فيما بينه وبين اللّه التخلّص من حقّ المُدّعي، وأنّ حقّه بالنسبة إلى المال لا يسقط بالمرّة، بل هو باقٍ على ملكيّته، فيقع المعارضة بينها وبين نصوص الباب الدالّة على سقوط حقّه.

واُجيب عنه: بأنّه تُحمل النصوص الثانية على خصوص ما هو وظيفة الحالف بينه وبين ربّه.

ويردّه: أنّ تخصيصه بذلك يُنافي قوله صلى الله عليه و آله: «فلا يأخذ به»، وفي الصحيح: «فإنّما قطعتُ له به قطعةً من النار»، فإنّهما ظاهران في بقاء المال على ملك مالكه.

وعليه، فالحقّ في الجمع يقتضي البناء على اختصاص نصوص الباب بعدم جواز المطالبة، وعدم جواز المقاصّة، وعدم سماع الدّعوى منه بعد الحلف، ونحو ذلك، ممّا يعدّ معارضة للمنكر كهبة العين وبيعها من غيره.

وأمّا ما لا يُعدّ معارضة له كإبرائه من الدَّين، أو احتساب ما عليه خُمساً، وما شاكل، فلا مانع منه.

وكما لا يجوز للحالف مع عدم اعتقاده كون حلفه على خلاف الواقع، التصرّف2.

ص: 191


1- وسائل الشيعة: ج 27/233 ح 33665، تفسير الإمام: ص 672.

في المال، كما يشهد به النصوص المتقدّمة، كذلك لا يجوزُ لكلّ من علم بكذب المنكر في حلفٍ أن يرتب آثار الملكيّة على ما حلف عليه، بل يجبُ عليه الأمر بالخروج عن حقّ المُدّعي من باب النهي عن المنكر.

أقول: ثمّ إنّ المشهور بين الأصحاب أنّه لو أكذب الحالف نفسه، فادّعى سهوه، أو أنّ إثباته بالحلف للعجز عن الأداء حين الترافع، وما شاكل ذلك، واعترف بالحقّ ، جاز للمُدّعي المطالبة، وحلّت له المقاصّة.

قال المحقّق الأردبيلي(1): (ولعلّه لا خلاف فيه).

وعن «المهذّب»(2): دعوى الإجماع عليه.

واستدلّ له:

1 - بانصراف النصوص بحكم التبادر إلى غير محلّ الكلام.

2 - وبتصادقهما على بقاء الحقّ في ذمّة الخَصم، فلا وجه للسقوط.

3 - وبعموم ما دلّ على أنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز(3).

4 - وبعموم ما دلّ على جواز المقاصّة الآتي.

5 - وبخبر مسمع أبي سيّار، قال: «قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام: إنّي كنتُ استودعتُ رجلاً مالاً فيجحدنيه، وحلف لي عليه، ثمّ إنّه جاءني بعد ذلك بسنتين بالمال الذي أودعته إيّاه، فقال: هذا مالُكَ فخذه، وهذه أربعة آلاف درهم ربحتها فهي لك مع مالك، واجعلني في حِلّ ، فأخذتُ منه المال، وأبيتُ أن آخذ الربح منه، ورفعتُ المال5.

ص: 192


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/127.
2- المهذّب البارع: ج 4/472.
3- وسائل الشيعة: ج 23/184 باب 3 صحّة الإقرار من البالغ العاقل ولزومه له. عوالي اللآلي: ج 3/442 ح 5.

الذي كنتُ استودعته وأبيتُ أخذه حتّى أستطلع رأيك، فما ترى؟

فقال عليه السلام: خُذ نصف الرّبح، واعطه النصف وحلّله، فإنّ هذا رجلٌ تائبٌ ، واللّه يجبّ التوّابين»(1).

أمّا الأوّل: فممنوعٌ .

والثاني: مصادرة، أو اجتهادٌ في مقابل النَّص.

والثالث: يدلّ على ثبوته في ذمّته، ولا يدلّ على جواز المقاصّة والمطالبة، لعدم كون الإقرار أقوى من العلم.

وبعبارة أُخرى : إنّه يدلّ على طريقيّة الإقرار لإثبات الواقع، فيجري فيه ما ذكرناه في العلم.

والرابع: أعمٌّ من النصوص المتقدّمة، وإطلاق المقيّد مقدّمٌ على إطلاق المطلق.

والخامس: يدلّ على جواز الأخذ لو بذل الحالف المال، وهو لا إشكال فيه حتّى مع عدم الإقرار.

فإذاً لا دليل على جواز المطالبة والمقاصّة سوى الإجماع.

قال صاحب «الجواهر» رحمه الله(2): (قد يتوهّم من ظاهر النصوص سقوط الدّعوى بمجرّد حصول اليمين من المنكر، من غير حاجةٍ إلى إنشاء حكمٍ من الحاكم بذلك، لكن التحقيق خلافه، ضرورة كون المراد من هذه النصوص وما شابهها، تعليم ما يحكم به الحاكم، وإلّا فلا بدَّ من القضاء والفصل بعد ذلك، كما أومأ إليه بقوله صلى الله عليه و آله:7.

ص: 193


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/305 ح 4091، وسائل الشيعة: ج 23/286 ح 29583.
2- جواهر الكلام: ج 40/177.

«إنّما أقضي بينكم بالأيمان والبيّنات»، بل لو أُخذ بظاهر هذه النصوص وشبهها لم يحتج إلى إنشاء الحكومة من الحاكم مطلقاً، ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المُدّعي، وثبوت الحقّ بالبيّنة ونحوها، فتأمّل جيّداً)، انتهى .

وهو حسنٌ .

***

ص: 194

ولو كان الدّين على ميّتٍ احتاج المُدَّعي مع البيِّنة إلى اليمين على البقاء استظهاراً،

ما به تثبتُ الدَّعوى على الميّت

الموضع الثالث: فيما يحكم فيه بالبيّنة واليمين معاً، (و) فيه مسألتان:

المسألة الأُولى: (لو كان الدّينُ على ميّتٍ احتاج المُدَّعي) في إثبات حقّه عليه (مع البيّنة إلى اليمين على البقاء استظهاراً) على المشهور بين الأصحاب كما قيل(1).

بل بلا خلافٍ بينهم كما عن آخر(2).

بل عليه الإجماع كما عن غير واحدٍ(3)، وإنْ كان لايخفى ما فيه، لأنّ أكثر القدماء لم يتعرّضوا لهذه المسألة، بل قيل(4) إنّه لم يتعرّض لها قبل المحقّق غير الشيخ رحمه الله، وعليه، فدعوى الإجماع كما ترى .

وكيف كان، فيشهد له:

1 - خبر عبد الرحمن، قال: قلتُ للشيخ عليه السلام: خبّرني عن الرّجل يُدّعي قِبل الرّجل الحقّ ، فلم تكن له بيّنة بماله ؟

قال عليه السلام: فيمينُ المُدّعى عليه، فإنْ حلف فلا حقّ له...

ص: 195


1- مسالك الأفهام: ج 13/461.
2- رياض المسائل: ج 15/96.
3- شرح اللّمعة: ج 3/104، غاية المرام: ج 4/233.
4- مفتاح الكرامة: ج 10/90.

إلى أن قال: وإنْ كان المطلوب بالحقّ قد مات، فاُقيمت عليه البيّنة، فعلى المُدّعي اليمين باللّه الذي لا إله إلّاهو لقد ماتَ فلانٌ وأنّ حقّه لعليه، فإنْ حلف وإلّا فلا حقّ له، لأنّ المُدّعى عليه ليس بحَيّ ، ولو كان حيّاً لاُلزم اليمين، أو الحقّ ، أو يردّ اليمين عليه، فمِن ثَمّ لم يثبت الحقّ »(1).

وأُورد عليه تارةً : بأن في طريقه محمّد بن عيسى العُبيدي، وهو ضعيفٌ على الأصَحّ ، وياسين الضرير، ولا نصّ على توثيقه.

وأُخرى : بأنّ ظاهره وجوب اليمين المغلّظة، بناءً على ظهور لفظ (عليه) في الوجوب، ولا قائل به، وإلّا فلا يدلّ على المطلوب، ويمكن حمله على الاستحباب أو التقيّة.

وثالثة: بوجوهٍ لا تستأهل رَدّاً.

أقول: قد مرّ في بعض المسائل المتقدّمة أنّ الخبر قويٌّ ، لأنّ الأظهر وثاقة العبيدي، وحُسن حال ياسين، أضف إليه استناد الأجلّاء من الأصحاب إليه في المقام، ورواية المحمّدين الثلاثة إيّاه.

وأمّا ظهوره في وجوب اليمين المغلّظة، فممنوعٌ لا للمناقشة في ظهور عليه في الوجوب، فإنّ ذلك غير قابل للإنكار، بل لأنّ ظاهره - ولا أقلّ من المحتمل - كون توصيفه عليه السلام تعظيماً للّه تعالى ، لا لأجل اعتبار ذكره في اليمين، مع احتمال أن تكون العبارة المذكورة من باب أحد الأفراد، لا لاشتراط خصوصيّتها.

أضف إليذلك كلّه: أنّه بناءً عليما حقّقناه في محلّه(2) من أنّ الوجوب و الاستحباب9.

ص: 196


1- الكافي: ج 7/415 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/236 ح 33673.
2- زبدة الاُصول: ج 3/29.

خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه، وأنّهما ينتزعان من الترخيص في الترك بعد الأمر به وعدمه، لو سُلّم ظهوره في وجوب اليمين المغلّظة، حيث أنّه قد دلّ الدليل على عدم وجوب التغليظ، فيُحمل ذلك على الاستحباب، وأمّا الأمر بأصل اليمين، فلا وجه لحمله عليه.

2 - ومكاتبة الصفّار إلى أبي محمّد عليه السلام: «هل تُقبل شهادة الوصيّ للميّت بدينٍ له على رجل مع شاهدٍ آخر عدل ؟

فوقّع عليه السلام: إذا شهد معه آخر عدل فعلى المُدّعي يمين، الحديث»(1).

ودلالتها واضحة، وسندها قويٌّ بل صحيح.

والإيراد عليه: بأنّها مكاتبة، وباشتمالها على ما هو مخالفٌ للقواعد، ومعارضتها في بعض مضمونها بصحيحه الآخر، لايستأهلُ ردّاً كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(2).

وعليه، فلا إشكال في أصل الحكم، إنّما الكلام في مواضع:

الموضع الأوّل: هل يلحق بالميّت من هو مثله في عدم اللِّسان والقدرة على النطق كالطفل والمجنون والغائب، كما عن الأكثر على ما في «المسالك»(3) وهو مذهب المصنّف رحمه الله في جملة من كتبه(4)؟

أم لا يلحق به، ولا يتعدّى عن مورد النَّص، كما ذهب إليه المحقّق(5)، وجماعة، ومنهم أكثر متأخّري المتأخّرين ؟ وجهان:6.

ص: 197


1- الكافي: ج 7/394 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/371 ح 33973.
2- جواهر الكلام: ج 40/196.
3- مسالك الأفهام: ج 13/462.
4- قواعد الأحكام: ج 3/441، تحرير الأحكام: ج 2/187.
5- شرائع الإسلام: ج 4/76.

من عموم العلّة المنصوصة، واتّحاد طريق المسألتين لا من باب القياس الممنوع.

ومن كون الحكم على خلافِ القاعدة، فلابدَّ من الاقتصار على القدر المعلوم.

أقول: والثاني أظهر، إذ لم يثبت كون العلّة مجرّد عدم اللّسان فعلاً، بل من الممكن كونها عدم اللّسان مطلقاً، وهي تختصّ بالميّت، حيث أنّه لا أمد له يُترقّب.

أضف إليه: أنّه في صحيح الصفّار لم يُعلّل الحكم، لكن عُلّل في خبر البصري بقوله: «إنّا لا ندري لعلّه وفّاه ببيّنةٍ لا نعلم موضعها، أو بغير بيّنةٍ قبل الموت».

واختصاصها بالموت ظاهرٌ، سيّما مع عدم إمكان تحقّق الإيفاء من الطفل.

مع أنّه لو كانت العلّة ما ذُكر، لعارضها في الغائب خبر(1) جميل، عن جماعةٍ من أصحابنا عنهما عليهما السلام:

«الغائبُ يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة، ويباع ماله، ويفي عنه دينه وهو غائبٌ ، ويكون الغائب على حجّة إذا قدم، ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلّا بكُفلاء».

ونحوه خبر محمّد بن مسلم(2).

وهم يصلحان قرينةً على احتمال أنّ علّة الحكم في الميّت عدم إمكان الوصول بعد ذلك، فيختصّ الحكم المذكور بالميّت.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم التعدّي عن مورد النصوص.

المورد الثاني: هل الحكم يختصّ بالدين، فلا يثبتُ إذا كان المُدّعي به عيناً في2.

ص: 198


1- الكافي: ج 5/102 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/294 ح 33782.
2- الكافي: ج 5/102 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/294 ح 33782.

يده بعاريةٍ أو غصب أو ما شاكل، كما عن «القواعد»(1)، و «المسالك»(2)، و «التنقيح»(3)؟

أم يعمّ أيضاً، بل يشمل كلّ دعوى على الميّت سواءً أكانت عيناً أو ديناً أو منفعةً أو حقّاً كحقّ الخيار، كما عن جماعة(4)؟ وجهان:

أقول: لا إشكال في اختصاص الخبرين بالدين، أمّا الصحيح فللتصريح فيه بالدين، وأمّا الخبر فلظهوره فيه، لمكان لفظ (الحقّ ) و (عليه) و (وفّاه).

ودعوى: أنّ الصحيح مرويٌّ في بعض كتب الفقهاء بدون لفظ (الدّين)، وعليه فهو مطلق.

مندفعة أوّلاً: بأنّه مرويٌّ عن كتب الحديث معه.

وثانياً: أنّه لو دار الأمر بين زيادة جملةٍ أو كلمةٍ في الحديث أو نقصانها، مقتضى الأصل البناء على وجودها.

فإنْ قيل: إنّه يمكن الاستدلال للشمول للعين بعموم ما في الخبر من التعليل، وبأنّ ذِكر الدّين من باب المثال.

قلنا: إنّ العلّة المذكورة هي احتمال الوفاء، وهو مختصٌّ بالدين، وحمله على كون ذلك من باب المثال خلاف الظاهر، وبه يظهر ما في الوجه الثاني.

وما في «ملحقات العروة»(5): (من أنّه يمكن الفرق بينهما بأنّ البيّنة القائمة على الدّين غالباً مستندة إلى الاستصحاب، فتحتاجُ إلى ضَمّ اليمين، بخلاف البيّنة على0.

ص: 199


1- قواعد الأحكام: ج 3/441.
2- مسالك الأفهام: ج 13/463.
3- التنقيح: ج 4/256.
4- رياض المسائل: ج 15/98، كفاية الأحكام: ج 2/695.
5- تكملة العروة الوثقى: ج 2/80.

العين، فإنّها إذا شهدت بالملكيّة السابقة لا تُسمع في مقابل اليد، فلابدّ في قبولها أن تكون بالملكيّة الفعليّة، وحينئذٍ فلا نحتاج إلى ضَمّ اليمين).

يدفعه: أنّ لازم ذلك أن لو أُحرز كون البيّنة على الدّين غير مستندةٍ إلى الاستصحاب، بل إلى العلم أو الأمارة وما شاكل، لا تحتاجُ إلى ضَمّ اليمين، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

وعليه، فالأظهر عدم احتياج البيّنة على العين إلى ضَمّ اليمين.

وأيضاً: بينهما فرقٌ من ناحيةٍ أُخرى ، وهي أنّه مع بقاء العين للمُدّعي توجيه الدّعوى إلى من بيده المال، وهو الوارث، إذا كانت في يده، فيكون الدّعوى على الحَيّ ، ويكفيه البيّنة قطعاً.

وكون يده مترتّبة على يد الميّت، لا يوجبُ تعيّن توجيه الدّعوى إلى الميّت.

ولو كانت العين تالفة في يد الميّت قبل موته، على وجه الضمان، فعلى المختار من الفرق بين الدّين والعين:

فهل يجري حينئذٍ حكم العين أو الدّين ؟

وجهان: من الأصل، ومن صيرورتها ديناً بعد الفقدان.

ولعلّ الأظهر هو الأوّل، بناءً على المختار في حقيقة الضمان، من كونه عبارة عن كون نفس الشيء المضمون في العُهدة إلى حين الأداء، وعلى ذلك بنينا على أنّ العبرة بالقيمة وقت الأداء، ووجهه ظاهرٌ حينئذٍ.

وأولى من ذلك ما لو تلفت بعد موته.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّه بناءً على كون الضمان هو انتقال العوض إلى الذّمة، لا ثبوت العين في العهدة، لو تلفت المال بعد الموت، ينتقل عِوضها إلى ذمّة الميّت،

ص: 200

فيكون حكمه حكم الدّين، فلا أولويّة.

الموضع الثالث: إذا كان المُدّعي على الميّت ورثة صاحب الحقّ ، كما لو ادّعى ورثة زيد على ورثة عمرو باشتغال ذمّة عمروٍ بدينٍ لزيد وأقاموا البيّنة على ذلك، فهل يكون تحت النَّص، أم لا؟

وعلى الأوّل: فهل يحلفون على عدم العلم باستيفاء مورّثهم أو الإبراء، أو يحلفون على البتّ؟

وعلى الثاني: فهل يثبتُ بالبيّنة، أم يعتبر ضَمّ اليمين ؟

وجوهٌ وبعضها أقوال:

والتحقيق أن يقال: إنّ الحلف على نفي العلم لا معنى له ولا مورد له في المقام، إذا ادّعى ورثة من عليه الحقّ علم ورثة صاحب الحقّ بالوفاء أو الإبراء.

وأمّا الحلف على البتّ : فإنْ علموا ببقاء الدّين، فلهم الحَلف قطعاً، وإلّا فلا يبعدُ القول بجواز الحلف، استناداً إلى الاستصحاب، كما يجوزُ استنادا إلى اليد، فتأمّل.

وأمّا من ناحية شمول الخبرين وعدمه، فالظاهر هو الأوّل، لإطلاق الخبرين، وحينئذٍ فإنْ علم الوارث ببقاء الحقّ فلا إشكال في أنّه يحلف مع البيّنة، ويثبتُ الحقّ على ورثة المُدين، وإلّا فله أيضاً أن يَحلف عليه استناداً إلى البيّنة القائمة إن شهدت بالبقاء، بناءً على ما هو الحقّ من قيام الأمارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقيّة، بل قد عرفت أنّه لا يبعدُ دعوى جواز الحَلف استناداً إلى الاستصحاب، كما يجوزُ استناداً إلى اليد.

وبذلك كلّه يظهر ما في كلمات القوم في المقام.

ص: 201

الموضع الرابع: إذا كان المُدّعي وليّاً على صاحب الحقّ ، أو وصيّاً، أو وكيلاً، فالظاهر كونه مشمولاً للخبرين، لأنّهما يدلّان على أنّ ثبوت الحقّ على الميّت متوقّفٌ على اليمين مع البيّنة.

ودعوى: أنّ الظاهر من الخبرين الاختصاص بمن له الحقّ ، لمكان قوله: «وإنّ حقّه لعليه»، وقوله: «فلا حقّ له».

مندفعة: بأنّ ذلك لو تمّ فإنّما هو في الخبر لا في الصحيح، مع أنّ الوصيّوالوليّ يعدّان صاحب الحقّ عرفاً، أضف إلى ذلك ظهوره في كون ذلك من باب المثال، سيّما بعد ملاحظة التعليل.

وعليه، فإنْ لم يقدر على الحلف، لا يثبتُ الحقّ ، وإلّا فإنْ حلف ثَبَت.

والظاهر تمكّنه من الحلف، لعدم الدليل على عدم جواز الحلف على مال الغير إلّا الإجماع، والمتيقّن منه غيرُ مثل الوليّ أو الوصيّ ممّن الأمر بيده، ويعدّ صاحب الدّعوى عرفاً.

ويمكن أن يقال: إنّ مقتضى إطلاق الخبرين أنّ على المُدّعي - مضافاً إلى البيّنة - الحلف سواءً كان هو صاحب الحقّ أو الوصيّ أو الوليّ أو الوكيل، فالنسبة بينهما وبين دليل المنع على عدم جواز الحلف على مال الغير - لو ثبت له الإطلاق، بنحوٍ يشمل الوليّ والوصيّ - عمومٌ من وجه، والترجيح مع الخبرين لوجوهٍ لا تخفى .

وعليه، فالأظهر أنّه يحلف ويأخذ الحقّ .

الموضع الخامس: إذا علم أنّه على فرض ثبوت الدَّين على الميّت يكون باقياً، للعلم بعدم الوفاء، وعدم الإبراء، أو أقرّ الورثة بذلك، أو قامت البيّنة على عدم

ص: 202

الوفاء، فهل يجبُ ضَمّ اليمين أيضاً لإطلاق الخبرين ؟

أم لا يجبُ من جهة أنّ العلّة كما تُعمّم تُخصّص، فتدلّ العلّة المذكورة فيهما - وهي احتمال الوفاء - على تقييد إطلاقهما بصورة عدم الحجّة على عدم الوفاء؟

وجهان، أظهرهما الثاني.

ودعوى: أنّ العلل الشرعيّة معرّفات، لا ينتفي المعلوم بانتفائها، فإنّه قد يكون وجود العلّة في بعض الأفراد علّة للحكم في الجميع كما في «المستند»(1).

مندفعة: بأنّ ما ذُكر يتمّ في الحكمة، ولا يتمُّ في العلّة، وظهور الخبر في كونه علّة لا حكمة لا يُنكر.

أقول: وأضعف من هذه الدّعوى، دعواه أنّه يمكن أن يكون التعليل من باب ابداء النكتة والتمثيل، فإنّ احتمال الإبراء أيضاً قائمٌ ، فإنّ طاهر الخبر أنّ لزوم ضَمّ اليمين إنّما هو لأجل احتمال الوفاء خاصّة، فلا وجه لحمله على إرادة التمثيل.

وأيضاً: أضعف من هاتين، ما أفاده رحمه الله(2) - بعد بنائه على إطلاق النَّص، وأنّ التعليل لايصلح لتقييده - أنّه يعارضه النصوص الدالّة على أنّه لو أقرّ رجلٌمريضٌ عند الموت لوارثٍ أو غيره بدينٍ له عليه، فقال عليه السلام: «يجوز ذلك»(3)، بدعوى أنّها تدلّ على نفوذ الإقرار والوصيّة، وإنْ لم يحلف المُقرّ له، فتتعارض مع النَّص بالعموم من وجه، وإذاً لا ترجيح، فيرجعُ إلى القاعدة المكتفية للمُدّعي بالبيّنة.

فإنّه يردّه: أنّ تلكم النصوص فيما لو أحرز الإقرار والوصيّة، ولا ربط لها بمقام4.

ص: 203


1- مستند الشيعة: ج 17/256.
2- مستند الشيعة: ج 17/256-257.
3- الكافي: ج 7/42 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/292 ح 24624.

الدّعوى على الميّت، كما لا يخفى على من لاحظها.

الموضع السادس: ولو أقام المُدّعي شاهداً واحداً، وضَمّ إليه اليمين، فهل يحتاجُ إلى يمين آخر للاستظهار كما عن «القواعد»(1)، أم لا كما عن جماعة(2)؟ وجهان:

وظاهرهم التسالم على ثبوت الحقّ على الميّت بالشاهد الواحد، بضَمّ اليمين بدل البيّنة العادلة.

أقول: والحقّ أنّه كذلك، وإنْ قال عليه السلام في الخبر: «فإنْ ادّعى بلا بيّنةٍ فلا حقّ له»(3) وذلك من جهة ظهور الخبرين في كونهما في مقام بيان تفرقة الميّت عن الحَيّ ، من حيث ضَمّ اليمين، بلا نظرٍ فيهما إلى التفرقة من سائر الجهات.

وعليه، فالمراد بالبيّنة حُجّة المُدّعي أيّاً ما كان، ويعضد ذلك ما في الخبر من التعليل بقوله: «لأنّ المُدّعى عليه ليس بحَيّ » إذ الظاهر أنّه علّة لنفي الحقّ بواسطة عدم البيّنة، ومعلومٌ أنّه لا يتمّ ذلك إلّابكون المراد من (البيّنة) في الخبر مطلق حُجَّة المُدّعي على فرض حياته، إذ نفي خصوص البيّنة العادلة مع وجود حجّةٍ أُخرى ، لا يوجبُ إلزام المُدّعى عليه باليمين أو الحقّ وغيرهما.

وعلى ذلك، فيبقى عمومات الاكتفاء بشاهدٍ ويمين في الماليّات بحالها.

أقول: والظاهر أنّ اليمين التي يضمّها المُدّعي إلى الشاهد الواحد:

إنْ كانت على ثبوت الحقّ ، فلا موقع للترديد في الاحتياج إلى اليمين الاستظهاريّة، فإنّهما حينئذٍ متغايرتان، إذ الأُولى على ثبوت الحقّ والثانية على بقائها.3.

ص: 204


1- قواعد الأحكام: ج 3/441. قوله: (ولو أقام شاهداً واحداً حلف يميناً واحدة).
2- مستند الشيعة: ج 17/259، كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 95.
3- الكافي: ج 7/415 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/236 ح 33673.

وأمّا إنْكانت على الاستحقاق فعلاً، المنحلّة إلى يمينين: إحداهما على ثُبوتِ الحقّ ، والأُخرى على بقائها، فالظاهر كفاية اليمين الواحدة، سيّما ولا فائدة حينئذٍ في التكرار، واللّه العالم.

الموضع السابع: قال الشهيد رحمه الله في «المسالك»(1): (ولو أقر له قبل الموت بمدّة لايمكن فيها الاستيفاء عادةً ، ففي وجوب ضَمّ اليمين إلى البيّنة وجهان:

من إطلاق النَّص الشامل لموضع النزاع، وقيام الاحتمال، وهو إبرائه منه، وقبضه من ماله ولو بعد الموت.

ومن البناء على الأصل، والظاهر من بقاء الحقّ ، وهو أقوى )، انتهى .

والأولى أن يستدلّ لعدم الاحتياج إلى اليمين، بعدم شمول النَّص لما مرّ في الأمر الخامس.

الموضع الثامن: الدّعوى على الميّت دعوى واحدة، فيكفي يمينٌ واحدةٌ ، ولايلزم الحلف لكلّ واحدٍ من الورثة، وظاهر الخبرين دالّ عليه.

نعم، لو كان المُدّعي ورثة صاحب الحقّ ، فالظاهر أنّه يجبُ على كلّ واحدٍ منهم الحلف، فلو لم يحلف واحد منهم لعدم علمه، لم يثبت مقدار حقّه.

الموضع التاسع: قال السيّد في «ملحقات العروة»(2): (إذا ادّعى أنّ الميّت أوصى له أو إليه، فهل يحتاجُ بعد البيّنة إلى اليمين ؟ مقتضى عموم التعليل ذلك)، انتهى .

وفيه: أنّ العلّة هو احتمال الوفاء، وهو لا يجري في الوصيّة، كما لا يخفى ، فلا يشمله الخبران، فالمرجع عموم ما دلّ على كفاية البيّنة في الدعاوى مطلقاً.8.

ص: 205


1- مسالك الأفهام: ج 13/463.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/88.

وكذا الظاهر أنّه تكفي البيّنة في دعوى النكاح، المستتبع للمال من طرف الإرث، وكذا في دعوى النَسَب المستتبع للإرث.

أقول: وعلى ذلك، فما أفاده السيّد رحمه الله(1) من أنّ مقتضى عموم التعليل في هذه الموارد، وفي جملةٍ من موارد اُخر ذَكَرها الحاجة إلى اليمين، ومع امتناعها عدم سماع البيّنة، وحيثُ أنّ الأصحاب غير ملتزمين بذلك فيُشكل التعويل على التعليل، لكونه موهوناً بعدم العلم به في سائر المقامات.

غير تامّ : لأنّه كماعرفت أنّ العلّة غير شاملة لجملةٍ من تلك الموارد، ومقتضى القاعدة سماع البيّنة فيها بغير يمين، مع أنّ خروج جملةٍ من الموارد لا يوجبُ وهناً في عموم العلّة.

وأضعفُ من ذلك ما أفاده قدس سره من إمكان حمل الخبرين على الاستحباب، إذ لا وجه له أصلاً.

***8.

ص: 206


1- تكلمة العروة الوثقى: ج 2/88.

الحكم بالشاهد الواحد واليمين

المسألة الثانية: لا خلاف ولا إشكال عندنا في جواز القضاء بشاهدٍ واحدٍ ويمين المُدّعي في الجملة، والأخبار الكثيرة شاهدة بذلك:

منها: صحيح منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقضي بشاهدٍ واحدٍ مع يمين صاحب الحقّ »(1).

ومنها: صحيح حمّادبن عيسى ، عن أبي عبداللّه، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قضى بشاهدٍ ويمين»(2).

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، قال: «دَخل الحكم بن عُتيبة وسَلَمة ابن كُهيل على أبي جعفر عليه السلام، فسألاه عن شاهدٍ ويمين ؟

فقال عليه السلام: قضى به رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وقضى به عليٌّ عليه السلام عندكم بالكوفة، الحديث»(3).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الصادق عليه السلام، قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يُجيز في الدّين شهادة رجلٍ واحدٍ ويمين صاحب الدّين، الحديث»(4).

ومنها: صحيح حمّاد بن عثمان، عنه عليه السلام: «كان عليٌّ عليه السلام يُجيز في الدّين شهادة رجلٍ ويمين المُدّعي»(5).

ومنها: خبر القاسم بن سليمان، عنه عليه السلام، قال: «قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بشهادة

ص: 207


1- الكافي: ج 7/385 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/264 ح 33733.
2- الكافي: ج 7/385 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/265 ح 33735.
3- الكافي: ج 7/385 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/265 ح 33737.
4- الكافي: ج 7/386 ح 8، وسائل الشيعة: ج 27/264 ح 33732.
5- الكافي: ج 7/385 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/265 ح 33734.

رجلٍ مع يمين الطالب في الدّين وحده»(1).

ومنها: صحيح محمّد عن الإمام الباقر عليه السلام، قال:

«لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرّجل الواحد إذا عُلِم منه خيرٌ مع يمين الخَصم في حقوق النّاس، فأمّا ما كان من حقوق اللّه عزّوجلّ أو رؤية الهلال فلا»(2).

ومنها: موثّق أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يكون له عند الرّجل الحقّ ، وله شاهدٌ واحد؟

فقال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقضي بشاهدٍ واحدٍ ويمين صاحب الحقّ ، وذلك في الدّين»(3).

ومنها: صحيح محمّد بن قيس المتضمّن لإدّعاء أمير المؤمنين عليه السلام من عبد اللّه بن قفل التميمي: «عند شُريح درع طلحة حيث وجدها بيده، فطلب شُريح البيّنة، فشهد الحَسَن عليه السلام بذلك، وقال شريح: إنّه واحدٌ ولا أقضي بشاهدٍ واحد - وساق الكلام إلى أنّ قال الأمير عليه السلام: - «هذا قضى بجور ثلاث مرّات - وعَدّ منها عدم قبول شهادة الحَسَن عليه السلام قائلاً: - إنّه قد قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بشهادة واحدٍ مع يمين»(4).

إلى غير تلكم من النصوص.

وعليه، فلا إشكال في الحكم، كما لا ريب في عدم القضاء بهما في حقوق اللّه تعالى ، وقد صرّح بذلك في صحيح محمّدبن مسلم، وعليه فالحكم ثابت لا غبار عليه.7.

ص: 208


1- التهذيب: ج 6/273 ح 150، وسائل الشيعة: ج 27/268 ح 33741.
2- التهذيب: ج 6/273 ح 151، وسائل الشيعة: ج 27/268 ح 33742.
3- الكافي: ج 7/385 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/265 ح 33736.
4- الكافي: ج 7/385 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/265 ح 33737.

القضاء بالشاهد الواحد مع اليمين في غير الأموال

إنّما الخلاف وقع في أنّه هل يقضى بهما في حقوق النّاس غير الأموال، كالطلاق والوكالة والنَسَب وما شاكل، كما عن «الكفاية»(1) الميل إليه، لولا الإجماع على خلافه ؟

أم يختصّ بالأموال كالدين والالتقاط ونحوهما؟

أو ما يقصد منه المال كالبيع، والصُّلح، والإجارة، والوصيّة بالمال، والجناية الموجبة للدّية، كماهوالمنسوب إلى المشهور(2)، بل عن الشيخ(3) والحِلّي(4) الإجماع عليه ؟

أم يختصّ من بين الأموال أيضاً بالدّين خاصّة، ولا يقضى بهما في غير الدّين، كماعن «الكفاية»(5)، و «الاستبصار»(6)، و «المراسم»(7)، و «الغُنية»(8)، و «الإصباح»(9)، و «الكافي»(10)، بل عن «الغنية»(11): الإجماع عليه ؟

أقول: مقتضى إطلاق كثيرٍ من النصوص المتقدّمة، هو القول الأوّل.

ص: 209


1- كفاية الأحكام: ج 2/709.
2- كفاية الأحكام: ج 2/709، رياض المسائل: ج 15/124.
3- النهاية: ص 334.
4- السرائر: ج 2/140.
5- كفاية الأحكام: ج 2/409.
6- الاستبصار: ج 3/32 ذيل الحديث 109 (2).
7- المراسم العلويّة: ص 231.
8- غنية النزوع: ص 439.
9- إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: ص 528 قوله: (ويقضى بشهادة الواحد مع يمين المُدّعي في الدِّيون خاصّة).
10- الكافي: ج 7/386 ذيل الحديث 8.
11- غنية النزوع: ص 439 قوله: (ويقضى بشهادة الواحد مع يمين المُدّعي في الديون خاصّة بدليل إجماع الطائفة).

ودعوى: أنّ جملة منها حكاية قضاء النبيّ صلى الله عليه و آله والوصيّ ، وهي حكاية فعلٍ لا عموم فيه كما في «المستند»(1) و «ملحقات العروة»(2).

مندفعة: بأنّ المحكيّ ليس فعل خاصّ ، وإنّما يَحكي الإمام عليه السلام فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وحيث أنّه غير مقيّدٍ بموردٍ خاصّ ، فظاهره أنّه صلى الله عليه و آله كان يقضي في جميع الحقوق بهما، غاية الأمر خَرَج عنه حقوق اللّه بالنَّص، وبقي الباقي.

كما أنّ ما في «الملحقات»(3): (من أنّ هذه الأخبار في مقام بيان أصل الجواز، في مقابل قول أبي حنيفة، وليست بصدد البيان إلّافي الجملة فلا إطلاق فيها).

ضعيفٌ ، فإنّ النصوص ظاهرها كونها في مقام بيان الوظيفة، لا أصل الجواز، وحيث أنّها غير مقيّدة فتكون مطلقة.

وقد استدلّ للقول الأخير: بالنصوص المقيّدة بالدين، كصحيح حمّاد، وموثّق أبي بصير، وخبر القاسم، وصحيح محمّد المتقدّمة، وخبر داود بن الحصين، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ :

«ولا يُجيز في الطلاق إلّاشاهدين عدلين.

فقلت: فأنّى ذكر اللّه تعالى : (فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ ) (2)؟

فقال: ذلك في الدّين، إذا لم يكن رجلان فرجلٌ وامرأتان، ورجلٌ واحدٌ ويمين المُدّعي إذا لم يكن امرأتان، قضى بذلك رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأمير المؤمنين عليه السلام بعده عندكم»(3).3.

ص: 210


1- مستند الشيعة: ج 17/269. (2و3) تكملة العروة الوثقى: ج 2/99.
2- سورة البقرة: الآية 282.
3- التهذيب: ج 6/281 ح 179، وسائل الشيعة: ج 27/360 ح 33943.

وفيه: أنّه ليس في هذه النصوص ما يوجبُ تقييد إطلاق غيرها، لأنّها لاتتضمّن إلّاعلى أنّ قضاء النبيّ صلى الله عليه و آله والوصيّ عليه السلام والآية المشار إليها في الدّين، ولا تدلّ على عدم القضاء بهما في غيره، فضلاً عن الدلالة على أنّه لا يجوزُ أن يقضى بها في غيره، ولذا لا يعارضها صحيح محمّد بن قيس المتقدّم المصرّح بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قَضى بشاهدٍ ويمين.

وقد استدلّ بذلك أمير المؤمنين عليه السلام على كون عدم قبول شهادة الحسن عليه السلام وحده بكون الدرع لطلحة، قضاءُ جور، مخالفٌ لقضاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فلو كان قضاؤه بهما مختصّاً بالدّين، لما كان لذلك وجهٌ ، كما لا يخفى .

وعليه، فالأظهر أنّ مقتضى العمومات هو القضاء بهما في حقوق النّاس مطلقاً، ولكن تسالم الأصحاب على عدم القضاء بهما في غير المال، أو ما يُقصد منه المال، يوجب تقييد إطلاق الأخبار، فيثبت بذلك القول الثاني، وحيث أنّ المخصّص يكون لبيّاً فيقتصر فيه على مورد الوفاق.

ولعلّ ذلك منشأ اختلاف الفقهاء في تعيين ما يدخل في الضابط وما لايدخل، فلا يكون ذلك إيراداً على هذا القول، كما في «المستند»(1) و «ملحقات العروة»(2).

أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالبحث في فروع:

الفرع الأوّل: المشهور بين الأصحاب(3) أنّه يعتبر في القضاء بالشاهد واليمين، تقديم الشاهد، وثبوت عدالته، ثمّ اليمين، ولو بدأ باليمين صارت لغواً، ولزم إعادتها، ونسبه في محكيّ «المفاتيح»(2) إلينا، واستدلّ له بوجوهٍ ضعيفة، أحسنها:4.

ص: 211


1- مستند الشيعة: ج 17/269. (2و3) تكملة العروة الوثقى: ج 2/99 و 92.
2- مفاتيح الشرائع: ج 3/264.

1 - أنّه في الأخبار قُدّم الشاهد ذكراً.

2 - وأنّه حُكمٌ مخالفٌ للقاعدة، فيقتصر فيه على مورد اليقين، وهو ما إذا قُدّم الشاهد.

وهما كما ترى ، إذ التقديم الذِّكري لا يدلّ على التقديم الخارجي، وجملة من النصوص كما مرّ مطلقة.

وعليه، فالأظهر عدم اعتباره لولا الإجماع عليه، كما ذهب إليه جماعة من متأخّري المتأخّرين(1).

الفرع الثاني: لو رجع الشاهد بعد الحكم، فهل يكون ضامناً لنصف المُدّعى به، كما في رجوع أحد الشاهدين، أم يضمن تمام المُدّعى به، أم لا يضمن شيئاً منه ؟

وجوهٌ مبنيّةٌ على أنّ الحُجّة مركّبة من الشاهد، أو خصوص الشاهد، واليمينُ من قبيل الشرط، أو خصوص اليمين لكونها جزء أخيرٌ للعلّة، وحيث أنّ الظاهر من الأخبار هو الأوّل، فيضمن النصف.

حكم ما لو حلف أحد الشركاء المدّعين

الفرع الثالث: لو ادّعى جماعةٌ مالاً مشتركاً بينهم بسببٍ واحد كالإرث، وأتوا بشاهدٍ واحدٍ، وحلف بعضهم.

فالمشهور بين الأصحاب أنّه يثبتُ حصّة الحالف خاصّة.

وعن المقدّس البغداديّ (2): كفاية حلفٍ واحدٍ منهم في ثبوت حقّ الجميع لولا الإجماع.

ص: 212


1- مستند الشيعة: ج 17/275.
2- حكاه في جواهر الكلام: ج 40/280.

وعن بعضٍ (1): احتمال توقّف ثبوت حصّة الحالف على حَلف الجميع.

أقول: والأوّل أظهر، لأنّ الحالف إن حلف على أنّ الجميع له ولشركائه، لا يكفي لشركائه، لكونه حلفاً على مال الغير، وظاهر النصوص حلف المُدّعي لنفسه، وإنْ حلف على حصّة نفسه، فعدم ثبوت حصّة شركائه أوضح.

فإنْ قيل: إنّه إذا ثبت بالشاهد واليمين حصّة الحالف، لزم منه ثبوت حصّة سائر الشركاء، بناءً على ما هو الحقّ من أنّ الأمارات حجّة في مثبتاتها، وأنّ الحجّة على أحد المتلازمين حجّةٌ على الآخر.

قلنا: إنّه لم يدلّ دليل على هذه الكليّة، وهي حجيّة الأمارات في مثبتاتها، بل هي تتوقّف على أمرين:

كون الأمارة حاكية عن الملازمات واللّوازم والملزومات، كما في الخبر.

وثبوت الإطلاق لدليل الحجيّة.

ومع فقد أحد القيدين، لا تكون الأمارة حجّة في مثبتاتها.

مثلاً: الظّن بالقبلة أمارة وحجّة عليها، ولكن لا يثبتُ به الوقت، لأنّ دليل حجيّته مختصّة بخصوص القبلة.

وأيضاً: اليد أمارة على الملكيّة، ولكن لا تكون حاكية عن اللّوازم والملازمات والملزومات، ولذلك لا تكون حجّة في مثبتاتها.

وفي المقام وإنْ كان اليمين كاشفة عنها، ولكن دليل حجيّتها مختصٌّ بالحجيّة على ثبوت حقّه خاصّة، فيقتصر على ذلك.0.

ص: 213


1- حكاه في جواهر الكلام: ج 40/280.

أقول: وبما ذكرناه ظهر ضعف ما استدلّ به للثاني، بأنّ الحقّ واحدٌ، فيثبتُ الجميع بحلفِ الواحد.

كما أنّه ظهر ضعف ما استدلّ به للوجه الثالث، بأنّه من جهة وحدة الحقّ ، يتوقّفُ ثبوت حصّة الحالف على حلف الجميع.

وعلى المشهور المنصور، هل يشتركُ سائر الشركاء في حصّة الحالف من جهة إقراره بالشركة أم لا؟

فيه وجوهٌ واحتمالات:

1 - الاشتراك مطلقاً عيناً وديناً.

2 - عدمه كذلك.

3 - التفصيل بين العين والدّين، فالاشتراك في العين دون الدّين.

وجه الأوّل: اعتراف القابض بالشركة بالإشاعة، وأنّ القسمة بغير إذنه، فباعترافه لم تقع موقعها.

ووجه الثاني: أنّ الممتنع من الحلف بامتناعه أبطل حجّته، فبطل حقّه في الظاهر، وكان حكمُ الشارع بذلك تقسيماً ظاهريّاً قهريّاً، وأنّه لولا ذلك لزم الضَّرر على الحالف، لعدم إمكان أخذ حقّه بدون إذن الشركاء.

ووجه الثالث: أنّه إنْ كان المُدّعى به عيناً، وقبض الحالف حصّته منها من المُدّعى عليه، فالحالفُ معترفٌ بشركة الشركاء في تلك الحصّة أيضاً، ولذلك لايجوز له التصرّف فيها إلّابرضا الكُلّ ، ولا يلزم من ذلك كون الحلف مثبتاً لمال الغير، لأنّ الثابت خصوص حصّته، ودفع المُدّعي إليه مقدار حقّه رفعٌ للمانع، فلا

ص: 214

يكون حَلفه مثبتاً لمال الغير ولا حلفاً عليه.

وإنْ كان المُدّعي به ديناً، فالثابتُ بحلفه خصوص مقدار حصّته من الدّين، ولا شركة فيها مع سائر الشركاء، لأنّ الدّين هو الكلّي لا خصوص هذا الفرد، والاشتراك إنّما هو فيه لا في الموجود الخارجي.

وبعبارة أُخرى : أنّ المُدّعى به كلّيٌ في الذّمة المنحلّ إلى أُمورٍ متعدّدة، والثابت بالحلف هو اشتغال ذمّة الغريم بحصّته، فيثبتُ به أمرٌ كلّي يُساوي حصّته من الدّين، وهذا الكلّي ليس جزءاً للكلّي الأوّل، لعدم تعيّنه، بل يساوي بعضه، والغريمُ يقبضُ ما هو مصداق للكلّي الثاني، والحالفُ يأخذه، وبذلك يتعيّن هو في الموجود الخارجي، فلا يكون هو مالاً مشتركاً بينه وبين شركائه.

ولا فرق في ذلك بين ما لو أجاز الشريك القبض، أو لم يُجِزه، لأنّه إذا كان بعنوان الكلّي الثاني، لا يقعُ مصداقاً للكلّي الأوّل، كي يلزمُ منه الشركة.

وعليه، فما أفاده صاحب «الجواهر»(1) (من الاشتراك إذا أجاز الشريك القبض، ويكون قصد الدافع والقابض لغواً، وأنّه إذا لم يُجِز الشريك يبقى على ملك الدافع، إذ ليس له تعيين حصّة الشركاء من الحقّ المشترك، بل الأمر بيدهم)، غير تامّ .

نعم، لو كان الدفع والقبض بعنوان الكلّي الأوّل، تمّ ما أفاده.

أقول: وبما ذكرنا ظهر أقوائيّة القول الأخير، كما ظهر ضعف ما ذُكر وجهاً للقولين الآخرين.4.

ص: 215


1- جواهر الكلام: ج 25/58، وأيضاً تكملة العروة الوثقى: ج 2/94.

فإنْ قيل: إنّه يلزمُ من الشركة في العين الضَّرر على الحالف.

قلنا: إنّ الموجب للضرر ليس هو الشركة، فإنّها ثابتة قبل الحلف وبعده، بل الموجبُ له عَدم حَلف الشّركاء، الموجبُ لعدم دفع الغريم بقيّة العين، فلا يصلحُ حديث نفي الضّرر(1) لدفع الشركة.

فإنْ قيل: إنّه يلزمُ من عدم الشركة فيما إذا كان المُدّعى به ديناً أنّه إذا أخذ أحد الشريكين حصّته من الدّين المشترك، أن لا يُشاركه الآخر فيما قبضه، مع أنّ المشهور بينهم الشركة فيما قبضه، إلّاإذا أجاز قبضه لنفسه.

قلنا: إنّ مقتضى القاعدة وإنْ كان عدم الشركة، إلّاأنّه وردت النصوص الخاصّة(2) بالشركة في بعض الصور، ولكونها على خلاف القاعدة، يُقتصر على مورد النصوص، ومن خصوصيّات موردها أنْ لا تكون حصّة بعض الشركاء ثابتة بحسب موازين القضاء، وحصّة الآخرين غير ثابتة، ولتحقيق هذه المسألة موضعٌ آخر.

الفرع الرابع: هل يختصّ الاكتفاء بشاهدٍ ويمين، بما إذا لم يمكن إثبات المُدّعى به بشاهدين، لما ورد في المرسل من قوله عليه السلام: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه:

بشهادة رجلين عدلين، فإنْ لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان، فإذا لم تكن امرأتان فرجلٌ ويمين المُدّعي... إلخ»(3)، ولعدم ثبوت الإطلاق لنصوص القضاء بهما؟

أم يقضى بهما مطلقاً، لما مرّ من إطلاق النصوص، وعدم ثبوت صحّة سند3.

ص: 216


1- الكافي: ج 5/280 ح 4، وسائل الشيعة: ج 18/32 ح 23073.
2- التهذيب: ج 6/207 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/12 باب 6 عدم جواز قسمة الدّين المشترك قبل قبضه.
3- الكافي: ج 7/416 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/271 ح 33753.

المرسل واعتباره ؟ وجهان.

الفرع الخامس: المشهور بين الأصحاب(1) جواز القضاء بشهادة امرأتين مع يمين المُدّعي.

وعن الحِلّي(2)، و «التحرير» في كتاب القضاء(3): المنع عنه.

ولكن المصنّف رحمه الله في باب الشهادات(4) جَزَم بما عليه المشهور، وعليه فينحصر الخلاف في الحِلّي(5).

ويشهد لما هو المشهور: موثّق منصور بن حازم، قال: حدّثني الثقة عن أبي الحسن عليه السلام أنّه قال: «إذا شهد لصاحب الحقّ امرأتان ويمينه فهو جائز»(6).

وحسن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدّين، يحلف باللّه إنّ حقّه لحقّ »(7).

الفرع السادس: إذا ادّعى غريم الميّت مالاً له على غيره، وأقام شاهداً واحداً، فهل له أن يحلف، أم للوارث الحلف، أم لا يكون لواحدٍ منهما ذلك ؟ وجوهٌ :

وجه الأوّل: أنّ له حقّاً في استيفاء دينه من هذا المال، وله تعلّقاً به، هذا إذا لم نقل بانتقال ما يُقابل من مال الميّت إلى الدائن، وإلّا فالأمر أوضح.4.

ص: 217


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/91.
2- السرائر: ج 2/116 قوله: (والذي تقتضيه الأدلّة ويحكم بصحّته النظر الصحيح أنّه لا يقبل شهادة امراتين مع يمين المُدّعي).
3- تحرير الأحكام: ج 2/193 قوله: (لا يقبل في الأموال امراتين ويمين المُدّعي).
4- إرشاد الأذهان: ج 2/160، قواعد الأحكام: ج 3/500.
5- السرائر: ج 2/116.
6- الكافي: ج 7/386 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/271 ح 33755.
7- الكافي: ج 7/386 ح 7، وسائل الشيعة: ج 27/271 باب 15 من أبواب كيفيّة الحكم ح 33754.

ووجه الثاني: أنّ التركة مع الدّين تنتقلُ إلى الوارث، وإنْ كان يجبُ عليه صرفها في الدّين، وعليه فهو يحلفُ على مال نفسه.

ووجه الثالث: أنّ مقدار ما يُقابل الدّين باقٍ على ملك الميّت، أو على حكمِ ملكه، فليس للوارث ولا للدائن الحلف حينئذٍ، لأنّه حلف على مال الغير.

والأقوى هو الثاني، كما حُقّق في محلّه.

حكم ما لو ادّعى الوقفيّة

الفرع السابع: إذا كان الوارث جماعة:

فتارةً : يدّعي جميعهم أنّ الميّت وَقَف عليهم وعلى نسلهم داره مثلاً، وأقاموا شاهداً واحداً، فقد اختلف الأصحاب في ثبوت الوقف به مع اليمين على أقوال:

1 - ما عن الشيخ في «المبسوط»(1)، والمحقّق(2)، وجماعة(3): من ثبوته بهما.

2 - ما عن الشيخ في «الخلاف»(4) من عدم ثبوته بهما مطلقاً.

3 - ما اختاره الشهيد الثاني في «المسالك»(5) من أنّه يثبتُ بهما في المنحصر دون غيره.

قال الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(6):

منشأ الاختلاف في أنّ الموقوف هل ينتقل إلى الموقوف عليه مطلقاً، أو إلى اللّه

ص: 218


1- المبسوط: ج 8/189-190.
2- شرائع الإسلام: ج 4/84.
3- جواهر الكلام: ج 40/291.
4- الخلاف: ج 6/280 المسألة 25. (5و6) مسالك الأفهام: ج 13/522 و 514.

تعاليكذلك، أو إلى الأوّل مع انحصاره، وإلى اللّه مع عدمه، أو يبقى على ملك الواقف ؟

فعلى الأوّل: يثبت بهما، لأنّه مال للمُدّعي فله أن يحلف.

وعلى الثاني والرابع: لا يثبتُ مطلقاً، لأنّ الحَلف حينئذٍ حَلفٌ على مال الغير.

وعلى الثالث: يثبتُ بهما في المنحصر دون غيره، وقد تقدّم البحث فيه في بابه.

أقول: يمكن أن يقال بثبوته بهما مطلقاً على جميع المباني، نظراً إلى أنّ الموقوف وإنْ لم ينتقل إلى الموقوف عليه، إلّاأنّ له الانتفاع به، وله منفعته، فهو متعلّق لحقّه، فالحَلف يكون حَلفاً على حقّ نفسه، فيشمله النصوص المتقدّمة، إذ لا يستفاد منها إلّا اعتبار حلف صاحب الحقّ .

وأمّا كونه مِلْكاً له، فلا تدلّ عليه، فراجعها(1) تجد صدق ما ادّعيناه.

واُخرى : يدّعي بعضهم(2) أنّ الميّت وَقَف عليهم وعلى نسلهم بعض أعيان التركة، كدارٍ مثلاً، وأنكر باقي الورثة، وأقاموا شاهداً واحداً ليضمّوا إليه اليمين، فللمسألة صورتان:

إحداهما: أن يكون الوقف ترتيبيّاً، فيقولون وَقَف علينا وبعدنا على أولادنا، أو على الفقراء.

الثانية: أن يدّعوا وقف التشريك.

أمّا في الصورة الأُولى: فإنْ حَلَف جميعُ من ادّعى الوقف منهم مع الشاهد، ثبت لهم الوقف، ولا حقّ لباقي الورثة في الدار، ولا يؤدّى منها الديون ولا الوصايا.

ثالثةً : لو انقرض المُدَّعون معاً، أو على التعاقب، فهل يأخذُ البطن الثاني الدّار7.

ص: 219


1- في الصفحات السابقة.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/97.

بغير يمينٍ ، أم يتوقّف حقّهم عليها؟

وجهان: مبنيان على تلقّي الطبقة الثانية الوقف من الأُولى، أو من الواقف.

فعلى الأوّل: لا يحتاجُ إلى يمينٍ ، كما إذا أثبتَ الوارثُ مِلْكاً بالشاهد واليمين ثمّ مات، فإنّ وارثه يأخذه بغير يمين، ولأنّه قد ثَبت كونه وقفاً بحجّةٍ يثبت بها الوقف، فيُدام كما لو ثبت بالشاهدين.

وعلى الثاني: لا يأخذُ إلّاباليمين كالبطن الأوّل.

ودعوى: أنّهم وإنْ تلقّوا الوقف من الواقف، ولكن لا يتوقّف على اليمين، من جهة أنّ الوقف أمرٌ واحدٌ مستمرٌّ، فلا حاجة إليها لذلك كما في «ملحقات العروة»(1).

مندفعة: بكونه أمراً واحداً مستمرّاً لا ينافي التفكيك في الظاهر، من جهة تماميّة الموازين بالنسبة إلى بعضهم دون بعض، ولذلك لو حلف بعض الورثة المُدَّعين للوقفيّة دون بعض، يُحكم بثبوت الوقف بمقدار حصّة الحالف خاصّة، مع أنّ المُدّعى كون الجميع وقفاً، فكما أنّ هناك يُلتزم بلزوم حَلف الجميع، فكذلك في المقام، وقد مرّ البحث في المبنى.

ورابعة: لو امتنعوا جميعاً عن الحلف، يُحكم بها ميراثاً، ويتعلّق بها الديون والوصايا، ولكن حصّة المدّعين للوقفية بعد إخراج الديون والوصايا محكومة بالوقفيّة من جهة الإقرار بها، وينفّذ حينئذٍ في حقّ سائر الطبقات المتأخّرة.

وهل لأولادهم حينئذٍ أن يحلفوا على وقفيّة جميع الدار أم لا؟

الظاهر أنّ لهم ذلك إذا لم يَطلبُ المُدَّعون من المنكرين الحَلف، كما هو واضح.7.

ص: 220


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/97.

فإنْ قيل: إنّه يُشكل ثبوت الوقفيّة بحلفهم، فإنّه حينئذٍ من الوقف المنقطع الأوّل وهو باطلٌ .

قلنا: إنّ الباطل هو الوقف المنقطع الأوّل، وهذا الوقف ليس كذلك، وإنّما ينقطع في الظاهر، ولم يثبُت من الأوّل لعدم الحَلف، فلا إشكال فيه من هذه الناحية.

وخامسة: لو حلف بعض المُدَّعين، وامتنع بعضهم، فيثبتُ الوقف في حصّة الحالف خاصّة، ولا يخرجُ منها الديون والوصايا، وتخرجُ من حصّة الناكلين، ويُقسّم الباقي بين الورثة.

نعم، حصّة إرث الناكلين من الباقي بعد إخراج الدّين والوصيّة تصيرُ وقفاً بمقتضى إقرارهم.

وأمّا حصّة الحالفين منهم، فهي أيضاً لا تنتقل إليهم بمقتضى إقرارهم، لكن هل تصير وقفاً، أم يكون حكمها حكم المجهول المالك كما اختاره صاحب «الجواهر»(1)؟

الظاهر هو الأوّل، للإقرار بالوقف فيما له أن يُقرّ به، فيشمله قاعدة (مَنْ مَلِكَ شيئاً مَلك الإقرار به).

وأمّا الصورة الثانية فهي كالأُولى، إلّاأنّه إذا تجدّد واحدٌ يكون شريكاً مع الموجودين من الحالفين.

والكلامُ في احتياج اشتراك المتجدّد إلى الحلف، هو الكلام في الاحتياج إليه في الطبقة الثانية في الأُولى ، وقد ادّعى صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) نفي الخلاف في الحاجة1.

ص: 221


1- جواهر الكلام: ج 40/295 و 301.
2- جواهر الكلام: ج 40/295 و 301.

إليه في هذه الصورة، وظاهره أنّ من ذهب إلى عدم الحاجة إليه في تلك الصورة، اختار الحاجة إليه في هذه، بل المُحقّق رحمه الله(1) صرّح بالفرق بين الصورتين، وهو غير ظاهرالوجه بعد اشتراك الصورتين في الدليل على كلّ من القولين، فلاحظ وتدبّر.

أقول: ثمّ إنّ ظاهر الأصحاب أنّه إذا ثبت الوقفيّة بالبيّنة، تكفي لسائر الطبقات، من غير حاجةٍ إلى الإثبات من كلٍّ منهم.

وأورد عليهم في «ملحقات العروة»(2): بأنّ ما ذكروه من الوجه في حاجتهم إلى الحَلف مع الشاهد الواحد، وهو كونهم متلقّين من الواقف، جارٍ في البيّنة أيضاً، لأنّ مقتضى ما ذكروه أنّ الوقف على البطون بمنزلة أوقاف عديدة، فكلّ واحدٍ منها يحتاجُ إلى الإثبات.

وفيه: هو غريبٌ ، فإنّ البيّنة إذا قامت على الوقفيّة على حسب ما يدّعونه من الوقف على جميع الطبقات، فهي كما تشهدُ للوقف بالنسبة إلى الطبقة الأُولى، كذلك تشهدُ بالنسبة إلى سائر الطبقات، وأمّا الحَلف فهو إنّما يكون على الوقف لخصوص الطبقة الأُولى ، ولا يُجزي لسائر الطبقات، لكونه حلفاً على حقّ الغير.

وبعبارة أُخرى : دليل حجيّة البيّنة عامٌ شاملٌ لسائر الطبقات.

وإنْ شئتَ قلت: إنّه في ثبوت الحقّ لا يعتبر إقامة صاحب الحقّ نفسه البيّنة، بل لو اُقيمت من قبل نفسها أو أقامها متبرّعٌ ، للحاكم أن يحكم على طبقها، وليس كذلك اليمين، وهذا واضحٌ جدّاً.0.

ص: 222


1- شرائع الإسلام: ج 4/84-85.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/100.

أقول: وبذلك يظهر أنّه يكفي في المتجدّدين والطبقات المتأخّرة ضَمّ الحلف إلى الشاهد الواحد الذي أقاموه من الأوّل، ولا يحتاج إلى تجديد إقامة الشاهد، اتّحد الحاكم أم تعدّد.

غاية الأمر لابدّ في ثبوت الحقّ أن يثبت عند الحاكم الثاني شهادة الشاهد الأوّل، كما لا يخفى .

***

ص: 223

ولو سكت المُنكِر لآفةٍ ، توصَّل الى معرفة إقراره أو إنكاره إلى مترجمٍ ، ولا يَكفي المترجم الواحد.

سكوت المُدَّعى عليه عن الجواب

المورد الثالث: في السكوت.

(ولو سكتَ المُنكِر) بعد طلب الحاكم الجواب منه:

1 - فإنْ كان سكوته لدهشته، أو لغباوةٍ ، توصّل إلى إيناسه برفقٍ ، وأمهله إلى أن تزول دهشته، ويَعرف الحال.

2 - وإنْ كان (لآفةٍ ) من صَمَم أو خَرَس (توصّل إلى معرفة) جوابه من (إقراره أو إنكاره) إلى الإشارة المفيدة للمطلوب، ولو بواسطة من يَعرف اشاراته.

3 - وإنْ كان لعدم فهم اللّغة، توصّل إلى إفهامه (إلى مترجمٍ ) بلا كلام، إنّما الكلام في أنّه هل يعتبر التعدّد (ولا يكفي المترجم الواحد)، أم لا يعتبر فيُكتفى بالواحد؟.

ولقد بنى بعض الأصحاب المسألة على كون الترجمة من باب الرواية أو الشهادة:

فعلى الأوّل يُكتفى بالواحد، وعلى الثاني يعتبر التعدّد.

أقول: وحيثُ أنّ هذا الابتناء يتمُّ على تقدير سماع الرواية وحجيّتها في الموضوعات الخارجيّة، وإلّا فعلى القول باختصاص حجيّتها بالأحكام الكليّة، لما

ص: 224

صَحّ ذلك كما هو واضح، فيُستكشف من ذلك أنّ نظر هؤلاء إلى ما اخترناه من عموم حجيّة الخبر الواحد وشمولها للخبر في الموضوعات الخارجيّة.

وكيف كان، فعلى ما اخترناه، فهل الترجمة من باب الرواية أو الشهادة ؟

الظاهر أنّ مقتضى عموم حجيّة الخبر حجيّة الخبر الواحدفي جميع الموضوعات، ولكن قد دلّ الدليل على اعتبار التعدّد في باب المنازعات والخصومات عند الحاكم.

فعن المحقّق الخرساني رحمه الله(1): أنّ الميزان فيما هو خارجٌ عن تحت العموم، سبق الدّعوى، وعليه فالترجمة من الرواية لعدم سبق الدّعوى بالنسبة إليها.

وعن بعضٍ (2): كون الميزان إثباتُ ما يترتّب عليه الحكم وعدمه.

وعن جماعةٍ (3): أنّ الفرق بين الخارج والمُخرَج عنه بكيفيّة نظر الدليل إلى حجيّته:

فإنْ كان ناظراً إلى اعتبار صِرف حكايته فهو رواية.

وإنْ كان لإطّلاعه، دَخَل في اعتبار حكايته عن الواقع، فهو شهادة.

أقول: وشيءٌ من ذلك لا يمكن إثباته بالدليل، سوى الأوّل، بعد توجيهه بأنّ المراد منه أنّ ما هو مَصبّ الدّعوى عند الحاكم يعتبر فيه التعدّد، للنصوص الدالّة عليه، فإنّ المستفاد من الدليل المُخصّص ليس أزيد من ذلك، وفيما زاد عليه يَرجعُ إلى عموم دليل حجيّة الخبر الواحد.

ولا يتوهّم: أنّ ذلك - أي التمسّك بعموم دليل حجيّة الخبر فيما شُكّ أنّه من موارد الرواية أو الشهادة - من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.6.

ص: 225


1- كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 55-56.
2- كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 55-56.
3- كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 55-56.

وإنْ كان عناداً حُبِس حتّى يُجيب.

لأنّه لم يرد دليلٌ على أنّ ما هو من باب الشهادة يعتبرُ فيه التعدّد، بل الدليل إنّما دلّ على اعتبار التعدّد فيما يقضي به الحاكم، والمتيقّن منه خصوص ما يُستند إليه القاضي في القضاء ولا يشمل كلّ ما هو دخيلٌ في ذلك، وهذا إنْ لم يكن ظاهراً لا ريب في أنّه المحتمل، وحيثُ لا إطلاق فالمُخصّص مجملٌ مفهوماً، فيكون التمسّك بعموم حجيّة الخبر من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المفهوميّة، وهو جائزٌ في المخصّص المنفصل، كما حُقّق في محلّه.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر هو الاكتفاء بالمترجم الواحد.

(وإنْ كان) سكوته (عناداً) ألزمه بالجواب أوّلاً بالرِّفق واللِّين، ثمّ بالشدّة والغِلظة متدرّجاً من الأدنى إلى الأعلى على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولو أصرّ على السّكوت عناداً، ففيه أقوال:

1 - أنّه يُ (حبس حتّى يجيب) كما في المتن، والمحكيّ عن المفيد(1)، والشيخ في «النهاية»(2)، و «الخلاف»(3)، وسلّار(4)، وابن حمزة(5)، وكافّة المتأخّرين(6).6.

ص: 226


1- المقنعة: ص 725.
2- النهاية: ص 342.
3- الخلاف: ج 6/238.
4- المراسم العلويّة: ص 230.
5- الوسيلة: ص 212.
6- مسالك الأفهام: ج 13/466، كفاية الأحكام: ج 2/696.

2 - ما عن بعضٍ (1): من أنّه يُضرب ويُهان حتّى يُجيب.

3 - ما عن «المبسوط»(2)، و «السرائر»(3)، وجماعةٍ (4): من أنّ الحاكم يقول له ثلاثاً:

(إنْ أجبتَ وإلّا جعلتك ناكلاً ورددتُ اليمينَ على المُدّعي)، فإنْ أصرَّ رَدّ اليمين على المُدّعي. وعن «المبسوط»(5): أنّه الذي يقتضيه مذهبنا.

وعن القاضي(6): أنّه ظاهر مذهبنا.

4 - التخيير بين الحبس والرَّد.

واستدلّ للأوّل:

1 - بالمرسل المرويّ في «الشرائع»(7)، قال: (والأوّل مرويٌ ، بدعوى أنّ ضعفه بالإرسال منجبرٌ بالعمل).

2 - وبالنبويّ الخاصّي المتقدّم: «ليّ الواجد بالدّين يَحلُّ عرضه وعقوبته»(8)، وقد مرّ أنّه فُسِّرت العقوبة بالحبس.

3 - وبالأخبار الدالّة على أنّ الوصيّ عليه السلام كان يَحبس الغَريم المماطل الواجد،(9)وقد تقدّمت.4.

ص: 227


1- حكاه صاحب المحقّق في شرائع الإسلام: ج 4/77.
2- المبسوط: ج 8/160.
3- السرائر: ج 2/163.
4- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/170.
5- المبسوط: ج 8/160.
6- المهذّب: ج 2/586.
7- شرائع الإسلام: ج 4/77.
8- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/397 ح 15716-5، عوالي اللآلي: ج 4/72 ح 44.
9- وسائل الشيعة: ج 27/140 ح 33424، كمال الدّين وتمام النعمة: ج 2/483 ح 4.

4 - وبأنّه يجبُ الجواب، للجزم بعدم رضا الشارع بتعطيل الواقعة، بعد تحرير الدّعوى بمجرّد سكوت المُدّعى عليه، للعلم باستلزامه تعطيل الحقوق، أمّا الضرب والإهانة فهما مخالفان للأصل، ولا دليل على إجراء حكم النكول، فيتعيّن الإلزام بالجواب بالحبس.

أقول: وكلٍّ كما ترى :

فإنّ المرسل وإن انجبر ضعف سنده بالاستناد، إلّاأنّ متنه ليس معلوماً لنا حتّى يُنظر في دلالته، ومثل ذلك ليس معتبراً عند الأصحاب، لأنّ الاستناد لايوجبُ جَبر ضعف الدلالة، فإنْ احتمل كون المتن غير ظاهرِ الدلالة على المُدّعى، فلا مثبت لها.

والحديث ظاهرٌ في إرادة الواجد للمال، ولا يشمُل الواجد للجواب، مع أنّ كون المراد بالعقوبة خصوص الحبس غيرُ ظاهرٍ.

وأخبار حَبس الغريم إنّما هي في صورة ثبوت الدّين، ولا ربط لها بالمقام.

والجواب إنّما يجبُ إذا لم يكن يترتّب على سكوته أحكامُ النكول، وإلّا فلا يجبُ ، كما هو واضح.

واستدلّ للثاني: بعموم أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لانتهائهما إلى الضرب والإهانة.

وفيه: أنّه إنْ تَمّ فلا يختصُّ بالضرب والإهانة، ويشملُ الحبس أيضاً، مع أنّه لا يتمُّ على تقدير عدم وجوب الجواب باجراء أحكام النكول.

واستدلّ للثالث:

1 - بأنّ الإصرار على عدم الجواب نكولٌ أو أولى منه، لكونه امتناعاً عن اليمين وعن الجواب.

ص: 228

2 - وبأنّه إذا أجاب إمّا يجيب بالإقرار أو الإنكار، والأوّلُ مثبِتٌ للحقّ ، والثاني يوجبُ إجراء حكم النكول عليه.

ولكن يُردّ الأوّل: منع كون السكوت نكولاً، سواءً قضينا به أم لا.

والثاني: بعدم حصر الجواب فيهما، فلعلّه يجيبُ بجوابٍ آخر، أو أنّ سكوته يكون لعذرٍ، بأن يكون قد أدّى الحقّ ، ويخاف من الإقرار، لعدم البيّنة على الأداء.

ولم أظفرُ بما يمكن أن يُستدلّ به للرابع.

والحقّ أن يقال: إنّه إن سكت ولم يُجِب، يقولُ له الحاكم: (إنْ أجبتَ وإلّا جعلتُك ناكلاً)، فإنْ أصرّ يترتّب عليه حكم النكول، وهو القضاء به والإلزام بالحقّ بمجرّد ذلك، من دون رَدّ اليمين على المُدّعي، كما مرّ تفصيل القول في ذلك، لأنّ القضاء به لم يعلق على صدق النكول، بل على عدم الحلف من غير تقييدٍ بكونه بعد الإنكار، لاحظ خبر البصري المتقدّم، ففي صدره: «فإن حَلِف فلا حقّ له، وإنْ رَدّ اليمين على المُدّعي فلم يحلف، فلا حقّ له، وإنْ لم يحلف فعليه».

وفي ذيله: «ولو كان حَيّاً لألزم اليمين أو الحقّ ، أو يردّ اليمين عليه»(1).

ونحوه غيره.

ويعضده النصوص الدالّة على أنّ اليمين على المُدَّعى عليه والمُنكر(2)، فإنّه يصدقُ على السّاكت المُصرّ على السكوت عنواني المُدّعى عليه والمنكر، فيُعرضُ عليه الحَلف، فإذا لم يَحلف فاللّازم إلزامه بالحقّ .

***ه.

ص: 229


1- الكافي: ج 7/415 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/236 ح 33673.
2- الكافي: ج 7/415 باب أنّ البيّنة على المُدّعي، وسائل الشيعة: ج 27/233 باب 3 باب أنّ البيّنة على المُدّعي واليمين على المدّعى عليه.

جواب المُدّعى عليه بقوله لا أدري

المورد الرابع: ما إذا أجابَ المُدّعى عليه بقوله لا أدري.

فتارةً : يُصدّقه المُدّعي في هذه الدّعوى.

وأُخرى : لا يُصدّقه.

أمّا في الصورة الأُولى : فالمنسوب إلى ظاهر الأصحاب(1) - من جهة حصرهم الجواب بالثلاثة المعروفة - أنّه يترتّب عليه حكم السكوت عن الإنكار والإقرار المتقدّم.

وصرّح بعضهم(2): بأنّه لا تَصحُّ الدّعوى حينئذٍ.

والحقّ أن يقال: إنّ المُدّعى به إنْ كان ديناً أو عيناً، ليست بيده، لا يتوجّه الحَلف إلى المُدّعى عليه، وليس له أن يحلف:

لا لعدم العلم، لاعتراف المُدّعي بعدم علمه، ولعدم ترتّب الأثر عليه.

ولا لنفي الواقع، لما مرّ في كتاب الأيمان(3) من أنّه يعتبرُ في جواز الحَلف العلم بالمحلوف.

وإن قيل: إنّه يُستصحب عدم الواقع، فيحلف علينفيه مستنداً إلى الاستصحاب.

توجّه عليه: أنّ ظاهر أخذ العلم في الموضع، كونه مأخوذاً على وجه الطريقيّة، لأنّ حقيقة العلم هي الطريقيّة التامّة، وقد حُقّق في محلّه في الاُصول أنّ الاستصحاب لا يقومُ مقام العلم المأخوذ في الموضوع على وجه الصفتيّة أو

ص: 230


1- مستند الشيعة: ج 17/285.
2- كفاية الأحكام: ج 2/696-697، مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/173.
3- فقه الصادق: ج 35/205.

الطريقيّة، نعم يقوم مقام العلم المأخوذ فيه بما أنّه موجبٌ للجَري العملي على طبقه، الذي هو المجعول في الاستصحاب، فمن جهة أخذ العلم في موضوع جواز الحلف، لا يجوزُ ذلك مستنداً إلى الاستصحاب.

ولا لنفي الاستحقاق الفعلي، لأنّ عدم الاستحقاق الفعلي عبارة عن عدم الاستحقاق في الظاهر، والمفروض أنّ المُدّعي معترفٌ ببراءة ذمّة المُدّعى عليه بحسب الظاهر، فلا وجه للحلف عليه.

وأمّا ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله(1): من أنّ المتيقّن في مقام التخاطب من دليل اليمين، هو اليمين على نفي الواقع، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقه لتوجّه اليمين على نفي الاستحقاق إليه.

فيندفع: بأنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب، لا يكونُ مانعاً عن التمسّك بالإطلاق.

وعلى هذا، فقد يقال إنّه تسقطُ الدّعوى حينئذٍ ولا أثر لها.

ولكنّه يتمُّ إنْ لم يترتّب على عدم حلفه حكم النكول، ولا يردّ اليمين، والظاهر أنّه لا يترتّب عليه حكم النكول، لأنّ المنساق إلى الذهن من ما دلّ على الحكم والقضاء بعدم حلف المُدّعى عليه، إنّما هو في ماله الحَلف، لا ما إذا لم يكن له ذلك، إلّا أنّه لا وجه لعدم رَدّ اليمين، فإنّ مقتضى إطلاق دليله أنّ له ذلك.

وما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله (2) : من أنّ ذلك كلّه فرعُ الفراغ عن كون اليمين وظيفته فعلاً، وإنّما امتنع عنه باختياره.0.

ص: 231


1- كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 99 و 100.
2- كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 99 و 100.

يردّه: أنّه تقييدٌ للدليل بلا وجهٍ يشهد به.

فالمتحصّل: أنّه لا وجه لسقوط الدّعوى، بل إقامتها صحيحة:

فإنْ كان للمُدّعي بيّنة قَضَى بها له، وإلّا فيردّ اليمين عليه، فإن حَلف يثبتُ دعواه، وإلّا فلا حقّ له.

أقول: وقد يستدلّ لسقوط الدّعوى وعدم الأثر لها - كما في «المستند»(1)، و «ملحقات العروة»(2) - بالأخبار الدالّة على أنّه لو ادّعى رجلٌ زوجيّة امرأةٍ لها زوج، أنّه لا تُسمع دعواه إذا لم يكن بيّنة(3).

بتقريب: أنّ المفروض في هذه الأخبار عدم علم الزوج بصدق المُدّعي وكذبه، والظاهر عدم الفرق بين دعوى الزوجيّة وغيرها.

وفيه أوّلاً: أنّه لو تمّ دلالة الأخبار، لدلّت على عدم سماع الدّعوى حتّى بالنسبة إلى الزوجة التي هي عالمة بالزوجيّة، على تقدير صدقه مع أنّها منكرة.

وثانياً: أنّه ليس في شيء منها فرضُ النزاع والمخاصمة عند الحاكم، بل ظاهرها بيان وظيفة الزوج نفسه، وأنّه بمجرّد دعوى الزوجيّة ليس له رفع اليد عنها، ما لم يُقم عليه حجّة، فلا ربط لها بالمقام، وقد مرّ الكلام في الفرع نفسه في كتاب النكاح في مبحث أولياء العقد، فراجع(4).

هذا إذا كان المُدّعى به ديناً أو عيناً في يده غيره.0.

ص: 232


1- مستند الشيعة: ج 17/285.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/105.
3- الكافي: ج 5/563 ح 27، وسائل الشيعة: ج 20/299 باب 23 حكم من تزوّج امرأة فادّعى آخر تزوّجها وأنكرت.
4- فقه الصادق: ج 31/180.

وإنْ كان عيناً في يده - فحيثُ أنّ يد الشخص أمارة على الملكيّة كما حُقّق في محلّه، وأيضاً دلّت النصوص على جواز الشهادة بالمِلك مستندةً إلى اليد(1) وهي أمارة الملكيّة، وأيضاً قد بيّنا في الاُصول(2) قيام الأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع - فللمُدَّعى عليه أن يحلف على نفي الاستحقاق واقعاً.

وعليه، فإجراء قاعدة باب المُدّعي والمنكر في غاية الوضوح، ولا وجه لتوهّم سقوط الدّعوى حينئذٍ أصلاً.

وما في «المستند»(3): (من أنّه إنْ رَدّ اليمين على المُدّعي، فحَلف كانت له، وإنْ لم يَدّع عليه العلم، أو ادّعى وحَلف على نفي العلم لا يحكم بكونها له، بل يقرع بينه وبين المُدّعي، لأنّه يشترط في دلالة اليد على الملكيّة، عدم اعتراف ذيّها بعدم علمه بأنّه له أو لا).

يردّه: ما ذكرناه في رسالتنا «القواعد الثلاث» من أنّه لا يُشترط في دلالة اليد على الملكيّة ذلك.

وعليه، فإنْلم يَحلف المُدّعي بعد رَدّ اليمين إليه، تسقطُ الدّعوى، ويُحكم بأنّ المال للمُدّعى عليه.

وأمّا في الصورة الثانية: فلا إشكال في أنّه له أن يُحلّف المُدَّعى عليه بنفي العلم، فحينئذٍ إن حلف عليه، تسقطُ دعوى العلم، ولا تُسمع بيّنةً بعد ذلك على علمه،7.

ص: 233


1- التهذيب: ج 6/296 ح 31، وسائل الشيعة: ج 27/292 باب 25 وجوب الحكم بملكيّة صاحب اليد حتّييثبت خلافها.
2- زبدة الاُصول: ج 4/7.
3- مستند الشيعة: ج 17/286-287.

ولكن لا وجه لسقوط دعوى المُدّعي باشتغال ذمّته واقعاً بنحوٍ لا تُسمع منه البيّنة بعد ذلك، ولا يجوزُ له المقاصّة، بل ما ذكرناه في الصورة الأُولى يَجري في هذه الصورة أيضاً من رَدّ اليمين على الواقع على المُدّعي، وأنّه لو حلف ثبتَ حقّه وإلّا سقط، وأنْ المُدّعى به إنْ كان ديناً يُحكم ببراءة ذمّته، وإنْ كان عيناً في يد المُدّعى عليه يُحكم بأنّها له.

***

ص: 234

جواب المُدّعى عليه بالإبراء

المورد الخامس: ما إذا أجابَ المُدّعى عليه أنّ المُدّعي أبرأ ذمّته، أو أقبضه ما ادّعى عليه، أو باعه إيّاه، أو وهبه، أو ما شاكل، فلا إشكال في أنّه ينقلبُ المنكِرُ حينئذٍ مدّعياً، والمُدّعيُ مُنكِراً، من غير فرقٍ بين ما إذا ثبت الدّعوى بالإقرار أو البيّنة أو اليمين المردودة.

وفي هذه الدّعوى أيضاً قد يُجيب المُدّعى عليه الثاني - وهو المُدّعي في الدّعوى الأُولى - بالإقرار او الإنكار، أو يسكتُ ، أو يقول: لا أدري، والحكم في الجميع كما مرّ.

وفي «المستند»(1): (نعم، لو أجاب بلا أدري، يكون الأصل حينئذٍ معه، ويعمل بمقتضى الأصل)، انتهى .

وقد عرفت أنّ الأصل معه أيضاً في ما تقدّم.

نعم، في بعض الموارد يكون الأصل مع المُدّعي، كما لو قال: (صالحتُكَ بكذا)، فأجاب: (بأنّك صالحتني ولستُ مشغول الذِّمة)، فإنّه يجري أصل البراءة بناءً على صحّة الصلح بلا عوض.

وهذا بخلاف ما لو قال: (بعتُك بكذا)، فقال: (بعتني، ولكن لستُ بمشغول الذِّمة بالثمن)، فإنّه حيثُ لا يصحّ البيع بلا عوض، فلا محالة يرجعُ دعواه إلى دفع الثمن أو إبرائه، أو كونه مشغول الذّمة للمشتري سابقاً، فباعه بما عليه من الدّين، أو أنّ مقدار الثمن كان عند البائع أمانة فاشترى بما كان في يده، وجميع ذلك خلاف الأصل.

***

ص: 235


1- مستند الشيعة: ج 17/301.

جوابُ المُدَّعى عليه بأنّ العين ليست له

المورد السّادس: ما لو كان جوابُ المُدّعى عليه أنّه ليس لي، ليصرف الدَّعوى عن نفسه، وهو إنّما يكون إذا كان المُدَّعى به عيناً في يد المُدَّعى عليه.

أقول: في هذه المسألة عدّة صور:

الصورة الأُولى: أن يقول: (ليس لي) مقتصراً عليه، أو يَضمّ : (وليسَ لك)، أو يضمّ معهما أو مع أحدهما: (هو لرجلٍ لا اُسمّيه):

فعن «القواعد»(1)، و «الشرائع»(2)، و «المسالك»(3) وغيرها(4): أنّه لا ينتزع من يد المتصرّف.

وعن «الإيضاح»(5): أنّ الحاكم ينزعُ منه، ويحفظه إلى أن يظهر مالكه، وترتفع الخصومة عنه.

وعلّله في محكى «الإيضاح»(6): (بأنّ نفي المتصرّف عن نفسه، وعدم البيان لمالكه أوجبَ صيرورته مجهول المستحقّ ).

وفيه: إنّ مجرّد جهل الحاكم أو المُدَّعي بالمُقرّ له، لا يجعله داخلاً في عنوان مجهول المالك، لاحتمال كونه وديعةً أو عاريةً أو نحو ذلك، فالظاهر أنّه لا يُنتزع من يده، فحينئذٍ إن أقام المُدَّعي البيّنة فيأخذه منه، وإلّا فللحاكم أن يلزمه ببيان مالكه،

ص: 236


1- قواعد الأحكام: ج 3/486.
2- شرائع الإسلام: ج 4/112.
3- مسالك الأفهام: ج 14/96.
4- كشف اللّثام: ج 10/242. (5و6) إيضاح الفوائد: ج 4/402.

كما صرّح به جماعة، من جهة أنّ للمُدّعي على مَن عيّنه حقّاً، أمّا الأخذ إن أقرّ، أو الحَلف إن أنكر. ولو كذب المُقرِّ، يثبتُ لصاحب ما يجهل مالكه عليه الحقّ ، فيكون تركه البيان تفويتاً لحقّ الغير ومنكَراً، يجبُ صرفه عنه على طريقة النهي عن المنكر.

وأيضاً: فإنّه من تتمّة جواب المُدّعي، فيُلزَمُ بالجوابُ بعد طرح الدّعوى معه.

ولكن يرد على الأوّل: أنّه ما لم يثبت حقّ المُدّعي، لا يكون ترك البيان مفوّتاً للحقّ الثابت، كي يكون ذلك منكراً يجبُ صرفه عنه.

ويَردُ على الثاني: ما مرّ من عدم دليل على إلزامه بالجواب.

وقد يقال: إنّه يجري في المقام الأقوال الثلاثة المتقدّمة في السكوت: من الحبس، والإجبار على البيان، والإلزام بالحقّ .

وأورد عليه في «المستند»(1): (بأنّ الأخير لا وجه له بعد نفيه عن نفسه).

أقول: حيث أنّ المال تحت سلطنته واختياره، ويُسمع إقراره بالنسبة إليه، لقاعدة: (مَنْ مَلِك شيئاً مَلِكَ الإقرار به)، حيث أنّ المراد بمِلْك الشيء كونه تحت سلطنته واختياره، لا الملكيّة الاعتباريّة، فيلزم بالحلف، أو رَدّ اليمين، أو يقضي عليه بالنكول.

ولعلّه إلى ما ذكرناه نظر الشهيد الثاني رحمه الله(2) حيث قال: (الظاهر أنّ ما في يده مِلْكه، وما صدر عنه ليس بمزيل).

وعلى ذلك، فلا يردُ عليه ما أورده جمعٌ من من تأخّر عنه بأنّه بعد إقراره6.

ص: 237


1- مستند الشيعة: ج 17/294.
2- مسالك الأفهام: ج 14/96.

بأنّه ليس له، كيف لا يكون الإقرار مزيلاً للملكيّة، فتدبّر جيّداً.

الصورة الثانية: أنْ يقول: (ليس لي ولا أعرف صاحبه).

وفي «المستند»(1): (لم يحضرني من صَرّح بحكمه).

أقول: والحقّ فيهما أنّه إن أقام المُدّعي البيّنة على أنّه له يأخذه منه، وإلّا فإن ادّعى المُدّعى عليه أنّه حين ما وقع في يدي ما كنتُ أعرف صاحبه، كان من مجهول المالك، الراجع أمره إلى الحاكم الشرعي، فيُعامل الحاكم مع المُدَّعي معاملة مَن ادّعى كون مجهول المالك له، ولا معارض لدعواه.

وإن ادّعى أنّه أودعه مالكه عنده، ولا يعرفه، لا يَنتزع الحاكمُ من يده ما لم يثبُت أنّه للمدّعي، وحينئذٍ:

فإنْ ادّعى المُدّعي عليه العلم أحلفه، فإن حَلَف سقطت الدّعوى، وإن نكل أو رَدّ اليمين، حَلف المُدّعي وأخذه منه.

الصورة الثالثة: أن يقرّ به لمعيّن حاضر:

فإنْ صَدّقه المُقرُّ له، كان هو طرف الدّعوى، وجَرت قاعدة المُدّعي والمنكر بالنسبة إليهما، فإنْ حَلف المُدّعى عليه أخذه، وإنْ نَكَل أو رَدّ اليمين فحلف المُدّعي أخذه.

ثمّ إن حلف المُقرّ له وأخذ المال، أو لم يحلف فأقام المُدّعي البيّنة، أو حلف بعد رَدّ اليمين، وحَكم بأنّه له، ولكن لم يقدر على أخذه، له الدّعوى على المُقرّ، حيث إنّه بإقراره صار سبباً لتلف ماله، فله أن يُحلّفه بأنّ المال لم يكن له، فإن حَلف برأ، وإن رَدّ عليه فحلف، اخذ منه الغرامة، وكذا إن نَكَل ولم يحلف.4.

ص: 238


1- مستند الشيعة: ج 17/294.

وإنْ أقام البيّنة أو حلف وأخذ ماله، ليس له الدَّعوى على المُقرّ، لوصول ماله إليه.

وهل له إقامة الدّعوى على المُقرّ قبل أن يترافع مع المقرّ له، أم لا؟

الظاهر أنّ له ذلك، إذا لم يتمكّن من المرافعة معه، أو علم بعدم تمكّنه من إثبات دعواه.

وأمّا مع تمكّنه منه، واحتمال إمكان إثبات دعواه، ففيه احتمالات:

1 - أنّه يجوزُ له ذلك من جهة ادّعائه أنّ المُقرّ حالَ بينه وبين ماله بإقراره، فله إثبات ذلك وأخذ بدل الحيلولة.

2 - أنّه ليس له، لعدم ثبوت كونه ماله، فلا يكونُ التفويتُ والحيلولة محرزاً.

3 - التفصيل بين صورة المشقّة في المرافعة مع المُقرّ له، أو ظنّه عدم إمكان إثبات حقّه عليه، أو ظنّه عدم إمكان المرافعة مع ذي اليد بعد ذلك لو قَدّم للمرافعة مع المُقرّ له، فيجوزُ وإلّا فلا يجوز.

أقول: الأظهر هو الثاني، لعدم الموجب لأخذ العوض منه، لعدم ثبوت بدل الحيلولة مع التمكّن من الوصول إلى ماله، ولا يصدق التلف، فعلى فرض الإثبات أيضاً ليس له ذلك.

الصورة الرابعة: أن ينفي عن نفسه، ويقول: (إنّه لفلان الغائب)، فيلحقه حكم الدّعوى على الغائب، وسيجيء.

الصورة الخامسة: أن يُضيفه إلى من يمتنع خصومته كالفقراء، وقد مرّ حكم ذلك مستوفى.

***

ص: 239

في بيان الحُكم على الغائب

خاتمة: في بيان الحُكم على الغائب.

ونخبة القول فيه:

إنّه تارةً : يكون المُدَّعى عليه غائباً عن البلد.

وأُخرى : يكون حاضراً.

أمّا في الصورة الأُولى: فالمشهور بين الأصحاب أنّه تُسمع الدّعوى عليه، ويجوزُ الحكم عليه مع البيّنة، أو علم الحاكم، بل يجبُ حيثما يجبُ الحكم، سواءٌ كان بعيداً أو قربياً.

وفي «المسالك»(1): دعوى اتّفاق أصحابنا عليه.

وعن غير واحدٍ(2): دعوى الإجماع عليه.

ويشهد به:

1 - مرسل جميل الذي هو كالصحيح، عن جماعةٍ من أصحابنا، عنهما عليهما السلام، قالا: «الغائبُ يقضى عليه إذا قامت عليه البيّنة، ويباع ماله، ويُقضى عنه دينه وهو غائب، ويكون الغائبُ على حجّته إذا قَدم.

قال: ولا يُدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلّابكُفلاء»(3).

ونحوه خبر محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام، وزاد: «إذا لم يكن مليّاً»(4).

ص: 240


1- مسالك الأفهام: ج 13/467.
2- كفاية الأحكام: ج 2/697، غاية المراد: ج 4/53.
3- وسائل الشيعة: ج 27/294 باب 26 من أبواب كيفيّة الحكم ح 33782.
4- الكافي: ج 5/102 ح 2.

2 - وخبر أبي موسى الأشعري، قال: «كان النبيّ صلى الله عليه و آله إذا حضر عنده خصمان فتواعدا الموعد، فَوفّى أحدهما ولم يفِ الآخر، قضى للذي وَفّى على الذي لم يَفِ - أي مع البيّنة -»(1).

وفي «المسالك»(2) وغيرها(3): قد استدلّ له بقوله في الخبر المستفيض عنه صلى الله عليه و آله، أنّه قال لهند زوجة أبي سفيان، وقد قالت: إنّ أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ لا يعطيني ما يكفيني وولدي:

«خُذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، وكان أبو سفيان غائباً»(4) وفيه تأمّل.

وأمّا خبر أبي البُختري، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن عليّ عليهم السلام: «لا يُقضى على غائب»(5)، فلضعفه، وعدم عمل الأصحاب به، ومعارضته مع ما تقدّم، لابدَّ من طرحه، أو حمله على ما أفاده صاحب «الوسائل»(6)، وهو عدم الجزم في الحكم بحيث لا يكون على حجّته.

ومقتضى إطلاق الخبرين، وفتاوى الأصحاب، عدم الفرق بين تيسّر حضوره وتعسّره، وبين إمكان إعلامه وعدمه.

وأمّا في الصورة الثانية: فإن تعذَّر عليه الحضور في مجلس القضاء، فالمشهور بينهم المُدّعى عليه الإجماع، أنّه يجوزُ الحكم عليه.5.

ص: 241


1- الخلاف: ج 4/160.
2- مسالك الأفهام: ج 4/467.
3- رياض المسائل: ج 15/172.
4- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/129 ح 10451-4، عوالي اللآلي: ج 1/402.
5- وسائل الشيعة: ج 27/296 ح 33785، قرب الإسناد: ج 1/66.
6- وسائل الشيعة: ج 27/296 ذيل الحديث 33785.

وفي «المسالك»(1): دعوى اتّفاق أصحابنا عليه.

وإنْ لم يتعذّر عليه الحضور:

ففي «المسالك»(2): فالمشهور الجواز أيضاً.

وعن الشيخ في «المبسوط»(1): عدم جوازه، ومال إليه المحقّق الأردبيلي(2).

وعن ظاهر «القواعد»(3)، و «الدروس»(4): التوقّف في المسألة.

وقد استدلّ للجواز مطلقاً:

1 - بعموم الأدلّة، والمراد بها ما دلّ على الحكم بالبيّنة.

2 - وبالخبر المستفيض المتضمّن لقضيّة هند زوجة أبي سفيان.

3 - وبإطلاق خبري جميل ومحمّد المتقدّمين، بدعوى أنّ مقتضى إطلاقهما الحكم على الغائب مطلقاً، كان غائباً عن البلد، أو عن مجلس القضاء.

أقول: ولكن العمومات تُخصَّص بما دلّ على أنّه لا يقضى لأحدهما ما لم يسمع من الآخر:

كخبر محمّد بن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقضِ للأوّل حتّى تسمعُ من الآخر، فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء»(5).6.

ص: 242


1- المبسوط: ج 8/162.
2- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/91.
3- قواعد الأحكام: ج 3/455.
4- الدروس: ج 2/91.
5- تهذيب الأحكام: ج 6/227 ح 9، وسائل الشيعة: ج 27/216 ح 33626.

وخبر العيّاشي في تفسيره، عن الإمام الحسن، عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله بعثه مع سورة براءة - إلى أن قال:

«فإذا أتاك الخَصمان، فلا تقضِ لواحدٍ حتّى تسمع الآخر، فإنّه أجدر أن تعلم الحقّ »(1).

والعلويّ : «قال النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا وَجَّهني إلى اليمن: إذا تحوكم إليك فلا تحكم لأحدِ الخصمين دون أن تسأل من الآخر.

قال عليه السلام: فما شككتُ في قضاءٍ بعد ذلك»(2).

ومقتضى إطلاق هذه النصوص أنّه لا يجوزُ الحكم على الغائب عن مجلس القضاء، ما لم يَسمع منه، وإنْ تعذّر حضوره، أو امتنع عنه.

نعم، لاتدلّ على اعتبار حضور مجلس القضاء، فلو سَمِع منه الحاكم في الخارج، لا بأس بحكمه عليه، إلّاأنّ الإجماع والتسالم على جوازه مع الامتناع من الحضور، أو تعذّره، ممّا يوجب تقييد إطلاقها، ويمكن أن يستدلّ له بخبر أبي موسى المتقدّم.

وأمّا الخبر المستفيض فهو قضيّةٌ في واقعة، فلعلّه كان أبو سفيان غائباً عن البلد، مع أنّه من الجائز عدم كونه من باب الحكم، بل بيان الفتوى.

وأمّا إطلاق الخبرين: فممنوعٌ ، لأنّ قوله عليه السلام: «ويكون الغائب على حجّته إذا قَدِم» ظاهرٌ في إرادة الغيبة عن البلد.

ودعوى: أنّه يصدقُ على قدوم المجلس أيضاً، كما ترى ، خصوصاً بعد كون ذلك مذكوراً بعد قوله عليه السلام: «يُباع ماله، ويُقضى عنه دَينه».8.

ص: 243


1- وسائل الشيعة: ج 27/217 ح 33631، تفسير العيّاشي: ج 2/75 ح 9.
2- وسائل الشيعة: ج 27/217 ح 33630، عوالي اللآلي: ج 1/38.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الجمع بين النصوص والفتاوى يقتضي البناء على جواز الحكم على الغائب عن البلد مطلقاً، وعلى الحاضر فيه، غير الحاضر مجلس القضاء، إذا امتنع عن الحضور، أو تعذّر عليه ذلك، وإلّا فلا يجوز.

أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالبحث في فروع:

الفرع الأوّل: المشهور بين الأصحاب، على ما نُسِب إليهم(1): أنّه لا يكفي قيام البيّنة في الحكم على الغائب، بل يُعتبر ضَمّ اليمين إليها، وقد مرّ الكلام في ذلك في الدّعوى على الميّت، وعرفت أنّه لا حاجة إلى ضَمّها.

الفرع الثاني: أنّه لا خلاف في أنّ الغائب على حجّته، إذا قدَّم من جَرح الشهود وعدم أهليّة الحاكم، وما شاكل، والخبران المتقدّمان شاهدان بذلك.

الفرع الثالث: المشهور بين الأصحاب اختصاص الحكم على الغائب بحقوق النّاس، فلا يجوزُ الحكم عليه في حقوق اللّه تعالى ، مثل الزِّنا واللّواط ونحوهما.

وقيل(2): الظاهر أنّه إجماعي، واستدلّ له بقاعدة دَرء الحدود بالشبهة، وبنائها على التخفيف.

بتقريب: أنّ احتمال إقامة الغائب الحُجّة شبهة.

وهو حَسنٌ ، لكنّه يختصّ بما إذا احتمل أن يكون للغائب حُجّة على فعله.

وأمّا خبرا جميل ومحمّد المتقدّمان، المتضمّنان الحكم على الغائب، فلا إطلاق لهما، من جهة كون ذلك في حقوق اللّه تعالى، أو حقوق النّاس، بل ظاهرهما كون ذلك في حقوق النّاس، وعلى فرض الإطلاق، فالنسبة بينهما وبين نصوص قاعدة0.

ص: 244


1- مسالك الأفهام: ج 13/461.
2- حكاه في مستند الشيعة: ج 17/310.

الدَّرء عمومٌ من وجه، والترجيح لها.

وعلى ذلك، فلو كان المُدَّعى به ذا جهتين كالسّرقة، لا إشكال في أنّه يجب التفكيك بينهما، بأن يُحكم عليه في حقّ النّاس وهو المال، ولا يُحكم عليه في حقّ اللّه تعالى وهو القطع.

وتردّدالمحقّق رحمه الله(1) في ذلك نظراً إلى أنّهمامعلولا علّة واحدة، فلاوجه للتبعيض.

وفيه أوّلاً: بالنقض بما لو أقرّ بالسَّرقة مرَّةً ، فإنّه يثبتُ عليه المال دون القطع، ولو كان كالمُقرّ محجوراً عليه في المال يثبُت الحكم بالقطع دون المال، فليكن المقام كذلك.

وثانياً: بالحَلّ ، وهو أنّ ما لا يمكن التفكيك فيه بين الأثرين، إنّما هو وسائط الثبوت، دون وسائط الإثبات، ولعلّه يكون العلّة في القطع هو ثبوت السرقة بحضور المُدّعى عليه، لا السرقة فقط.

وأمّا ما في «المسالك»(2) من أنّ هذه ليست عللاً حقيقيّة، وإنّما هي معرّفات للأحكام، فلعلّ نظره الشريف إلى ما ذكرناه، فلا يرد عليه ما أورده السيّد رحمه الله(3)بأنّها بعد الجعل كالعِلل العقليّة.

الفرع الرابع: إذا حكم على الغائب، فلا إشكال في جواز دفع الحقّ الثابت بالبيّنة من مال المُدَّعى عليه إلى المُدّعي، وإن توقَّف ذلك على بيع ماله، جاز للحاكم بيعه ودفع ثمنه إليه، كما يشهد بذلك كلّه الخبران المتقدّمان.7.

ص: 245


1- شرائع الإسلام: ج 4/77.
2- مسالك الأفهام: ج 13/469.
3- تكملة العروة الوثقى: ج 2/47.

وهل هو على وجه الوجوب، لو طَلب المُدَّعي، نظراً إلى ثبوت حقّه، فيجبُ دفعه إليه ؟

أم على وجه الجواز، من جهة أنّه مع بقاء الغريم على حجّته، وعدم الإحاطة بما يحتجّ به، لا يكون حقٌّ ثابت ؟

وجهان: أظهرهما الأوّل، لأنّه إذا حكم في الظاهر بثبوت حقّه، ولذلك جاز بيع ماله، وأداء حقّه، وجبَ دفعه إليه كسائر الحقوق الماليّة، غاية الأمر أنّه ليس كثبوت الحقّ في سائر الموارد، كي لا تُسمع الدَّعوى بعد ذلك.

الفرع الخامس: هل يتوقّف جواز الدفع على أخذ الكفيل، كما عن الشيخ رحمه الله في «النهاية»(1)، والقاضي(2)، والحِلّي(3)، والمحقّق(4)، وجماعة من المتأخّرين(5)؟

أم لا يتوقّف عليه، كما عن ابن حمزة(6) وفي «المستند»(7)، بل هو مذهب كلّ من أوجبَ اليمين هنا، فاكتفوا بالتحليف عن التكفيل ؟

أقول: الظاهر هو الأوّل، للخبرين المتقدّمين، ولما عرفت من عدم وجوب اليمين عليه، ولكن في خبر محمّد قيّد ذلك بما إذا لم يكن المُدَّعي مليّاً، فمع ملاءته لايجبُ التكفيل، وحيث أنّ ظاهر ذلك أن علّة التكفيل والتقييد إنّما هو دفع الضّرر9.

ص: 246


1- النهاية: ص 352.
2- المهذّب: ج 2/586. وحكى عنه العلّامة الحِلّي قولان في مختلف الشيعة: ج 8/376.
3- السرائر: ج 2/159.
4- شرائع الإسلام: ج 4/76.
5- شرح اللّمعة: ج 3/89، كفاية الأحكام: ج 2/698.
6- الوسيلة: ص 212.
7- مستند الشيعة: ج 17/309.

عن الغريم، لو ثبت استحقاقه الإسترداد، فلذلك قالوا إنّه يعتبر أن يكون الكفيل من يسهل الاستيفاء عنه، وكذلك المَلي.

وأيضاً يعتبر أن لا يكون المال المُدَّعى به زائداً عن قدر ملاءته، وإلّا فلا يُكتفى بها.

***

ص: 247

الفصل الثالث: في الاستحلاف.

ولا يجوزُ بغير أسماء اللّه تعالى ، ولو كان إحلاف الذِّمي بدينه أردع جازَ.

ويُستحبُّ الوَعظ والتخويف والتغليظ في نصاب القطع فما زاد بالقول والمكان والزمان، ويكفي واللّه ما له قِبلي كذا.

ويمينُ الأخرس بالإشارة،

الفصل الثالث: في الاستحلاف

اشارة

(الفصل الثالث: في الإستحلاف)

أقول: وفيه مسائل، تقدّم جملة منها في كتاب الأيمان(1):

منها: أنّه لا يُستحلف إلّاباللّه (ولا يجوزُ بغير أسماء اللّه تعالى )، وقد تقدّم ذلك مع فروعه.

(و) منها: أنّه (لو كان إحلاف الذِّمي بدينه أردع جاز) له إحلافه به عند جماعةٍ .

وقد بيّنا ما هو المختار عندنا.

(و) منها: أنّه (يُستحبُّ الوعظ والتخويف والتغليظ في نصاب القطع فما زاد، بالقول والمكان والزمان).

(و) منها: أنّه (يكفي) أن يقول الحالف: (واللّه ما له قِبلي كذا) بلا خلافٍ فيه.

(و) منها: أنّ (يمين الأخرس بالإشارة) المُفهمة لليمين على الأشهر.

ص: 248


1- فقه الصادق: ج 35/153، بحث: (كتاب الأيمان).

ولا يحلفُ إلّافي مجلس القضاء مع المُكنة، واليمينُ على القطع إلّافي نفي فعل الغير، فإنّها على نفي العلم.

ولو ادّعى المُنكر الإبراء أو الإقباض انقلب مدّعياً.

ولا يمين في حَدٍّ،

وعن الشيخ في «النهاية»(1): أنّه يُوضَع يده مع ذلك على اسم اللّه سبحانه في المُصحف إنْ حَضَر، وإنْ لم يحضر فعلى اسمه المطلق.

وعن ابن حمزة(2): أنّه يُكتب اليمين في لوحٍ ، ويُغسَل ويؤمر بشُربه بعد إعلامه، فإنْ شَرِب كان حالفاً، وإن امتنعَ اُلزم بالحقّ .

وقد مرّ ما هو الحقّ عندنا.

(و) من مسائل هذا الفصل أنّه (لا يحلفُ إلّافي مجلسِ القضاء مع المكنة)، وقد مرّ الكلام في ذلك في الفصل السابق، في المسألة الأُولى من مسائل الحكم باليمين.

(و) منها: أنّ (اليمين على القطع إلّافي نفي فعل الغير، فإنّها على نفي العلم)، وقد تقدّم الكلام في ذلك في الفصل المتقدّم، في ما إذا كان جواب المُدّعى عليه بقوله: (لا أدري)، (و) قد عرفت أنّه (لو ادّعى المُنكر الإبراء أو الإقباض، انقلب مدّعياً).

لا يمين في حَدّ

ومنها: أنّه لا تُسمع الدّعوى في الحدود مجرّدةً عن البيّنة، ولهذا قال المصنّف في المقام: (ولا يمين في حَدّ)، وهو حكمٌ لا خلاف فيه في الجملة، والنصوص

ص: 249


1- النهاية: ص 347.
2- الوسيلة: ص 228.

الكثيرة شاهدة بذلك:

1 - حسن إسحاق بن عمّار، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السلام:

«أنّ رجلاً استعدى عليّاً عليه السلام على رجلٍ ، فقال: إنّه افترى عَليَّ .

فقال عليه السلام للرجل: أفعلتَ ما فعلت ؟ قال: لا.

ثمّ قال للمستعدي: ألكَ بيِّنة ؟ فقال: ما لي بيّنة فأحلفه لي.

فقال عليه السلام: ما عليه يمين»(1).

2 - ومرسل البزنطي، الذي هو كالصحيح، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «أتى رجلٌ أمير المؤمنين عليه السلام برجلٍ ، فقال: هذا قذفني، ولم تكن له بيّنة.

فقال يا أمير المؤمنين استحلفه، فقال عليه السلام: لا يمين في حَدٍّ الحديث»(2).

ونحوه مرسل ابن أبي عمير(3).

3 - والنبويّ : «ادرأوا الحدودَ بالشُّبهات، ولا شفاعة ولا كفّارة ولا يمين في حَدّ»(4).

4 - والعلويّ : «لا يُستَحلفُ صاحب الحَدّ»(5).

واستدلّ له في «المسالك»(6) وغيرها(7): (بأنّه من شرط سماع الدّعوى أن يكون المُدّعي مستحقّاً لموجب الدّعوى، فلا تُسمع في الحدود، لأنّها حقّ اللّه،9.

ص: 250


1- تهذيب الأحكام: ج 6/314 ح 75، وسائل الشيعة: ج 27/299 ح 33791.
2- الكافي: ج 7/255 ح 1، وسائل الشيعة: ج 28/46 ح 34176.
3- تهذيب الأحكام: ج 10/79 ح 75، وسائل الشيعة: ج 28/46 ح 34176.
4- من لا يحضره الفقيه: ج 4/74 ح 5146، وسائل الشيعة: ج 28/47 ح 34179.
5- تهذيب الأحكام: ج 10/150 ح 33، وسائل الشيعة: ج 28/46 ح 34177.
6- مسالك الأفهام: ج 13/496.
7- رياض المسائل: ج 15/119.

والمستحقّ لم يأذن في الدّعوى، ولم يطلب الإثبات، بل ظاهره الأمر بخلاف ذلك، لأمره بدرء الحدود بالشُّبهات، وبالتوبة عن موجبها، من غير أن يظهره للحاكم، وقد قال صلى الله عليه و آله لمن حَمَل رجلاً على الإقرار عنده بالزّنا: «هَلّا سترته») انتهى .

أقول: وكيف كان، فلا إشكال في الحكم في الجملة، إنّما البحث في جهات:

الجهة الاُولى : أنّ النصوص المتقدّمة إنّما هي في اليمين المُسقطة للحَدّ، أمّا غير العلويّ منها فكونه فيها واضحٌ .

وأمّا العلويّ : فلأنّ الظاهر ولا أقلّ من المحتمل، كون (يُستحلف) مبنيّاً للمجهول، والمراد بالحلف هو حلف المُدّعى عليه، لا اليمين المردودة.

والمراد ب (صاحب الحَدّ) من عليه الحَدّ، لا من له الحَدّ وهو المقذوف، ولكن خصوص المورد لا يُخصّص الوارد، ومقتضى إطلاق قوله عليه السلام: «لا يمين في حَدٍّ» نفي اليمين المُثبتة والمسقطة له.

الجهة الثانية: لا إشكال في الحدود التي تكون حقّاً محضاً للّه كحد الزّنا، وشُرب الخمر، وأمّا لو اشترك الحَدّ بينه وبين الآدمي كحَدّ القذف ففي سماع الدّعوى به من المقذوف، قولان:

القول الأوّل: ما عن الشيخ في «المبسوط»(1) من أنّها تُسمع، ترجيحاً لجانب حقّ الآدمي وهو المقذوف، وفرّع الشيخ رحمه الله على قوله: (بأنّه لو ادّعى عليه بأنّه زنا، لزمه الإجابة عن دعواه، ويُستحلف على ذلك، فإنْ حلف سَقَطت الدّعوى، ولزم القاذف الحَدّ، وإنْ لم يحلف رُدَّت اليمين على القاذف، فيحلف، ويثبت الزّنا في6.

ص: 251


1- المبسوط: ج 8/216.

حقّه بالنسبة إلى سقوط حَدّ القذف، ولا يُحكم عليه بحَدّ الزّنا، لأنّ ذلك حقّ اللّه تعالى محض). واستحسنه الشهيد رحمه الله(1).

القول الثاني: ما هو المشهور بين الأصحاب من أنّه لا تُسمع دعواه، وهو الأظهر، لإطلاق النصوص، وخصوص ما كان منها في القذف الذي لا ضعف فيه بإرسالٍ ولا غيره، كما عرفت.

أقول: ثمّ إنّ النصوص المتقدّمة في أصل القذف مع الشكّ في صدوره في حقّ من هو محصن جزماً أو باعتراف القاذف.

وأمّا لو كان القذف ثابتاً مع دعوى القاذف عدم كون المقذوف محصِناً، فهو أجنبيٌ عن مورد الأخبار، إلّاعلى احتمال أن يكون قوله في مرسل البزنطي:

«ولم تكن له بيّنة» مقولاً لقول القائل الذي يرويه الراوي، ولكنّه خلاف ظاهر سوق العبارة.

وعلى ذلك، فهل يُقام الحَدّ على القاذف، لعموم أدلّة حَدّ القاذف، الخارج عنه غير المُحصَن الذي هو عنوان خلاف الأصل وخلاف ظاهر حال المسلم ؟

أم لا يُحَدُّ، من جهة أنّ القذف عبارة عن عنوان الافتراء، فبالأصل لا يثبتُ عنوان القذف المأخوذ فيه حيثيّة الافتراء، كما أفاده بعض المحقّقين(2)؟

وجهان، سيأتي تحقيق القول فيه في كتاب الحدود(3).

الجهة الثالثة: إذا كان للمُدّعى به أثران، أحدهما حقّ الآدمي، والآخر حقّ7.

ص: 252


1- الدروس: ج 2/93.
2- كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 126.
3- فقه الصادق: ج 39/207.

ولا مع عدم العلم، ولا ليثبت مالاً لغيره.

وتُقبل الشهادة مع اليمين إذا بدأ بالشهادة من عدلٍ في الأموال والديون، لا في الهلال والطلاق والقِصاص.

اللّه تعالى ، كالسَّرقة، فإنّ موجبه أمران: المال والقطع، والأوّل حقّ الآدمي، والثاني حقّ اللّه تعالى ، فإنّه لا تُسمع الدّعوى بالنسبة إلى الحَدّ لما مرّ، وتُسمع بالنسبة إلى حقّ الآدمي، ويترتّب عليه موجبه من اليمين والقضاء بالنكول، أو مع رَدّه على المُدّعي على الخلاف.

وقد تقدّم أنّه لا مانع من التفكيك بين الأثرين.

(و) منها: أنّه (لا) يجوزُ اليمين (مع عدم العلم)، بمعنى أنّه يعتبر في اليمين العلم بالمحلوف، وإلّا فلا يجوز، وقد تقدّم الكلام فيه.

(و) منها: أنّه (لا) يمين (ليثبتَ مالاً لغيره)، والظاهر أنّه لا خلاف فيه بين الأصحاب، بل عليه الإجماع في جملةٍ من الكلمات.

واستدلّ له: بانصراف أخبار اليمين عن مثله، فإنّها متكفّلة لإثبات طريقيّة اليمين على إثبات حقٍّ له، أو نفي حقّ منه، ولا بأس به سيّما مع دعوى الإجماع عليه، وقد مرّ الكلام فيه في مسألة الدّعوى على الميّت.

(و) منها: أنّه (تُقبل الشهادة) أي شهادة الواحد (مع اليمين، إذا بدأ بالشهادة من عدلٍ ، في الأموال والديون، لا في الهلال والطلاق والقصاص) وقد مرّ الكلام في ذلك مفصّلاً في المسألة الثانية من الموضع الثالث في الفصل السابق(1).).

ص: 253


1- تقدّم ذلك في مسألة: (الحكم بالشاهد الواحد واليمين).

وإذا شهد بالحُكم عَدْلان عند حاكمٍ آخر أنفذه الحاكم الثاني ما لم يُخالف المشروع.

(و) منها: أنّه (إذا شهد بالحكم عدلان عند حاكمٍ آخر، أنفذه الحاكم الثاني، ما لم يخالف المشروع) وقد مرّ الكلام فيه في الفصل الأوّل مستوفى.

***

ص: 254

الفصل الرابع: في المدَّعي:

الفصل الرابع: تعريف المُدّعي

اشارة

(الفصل الرابع: في المُدّعي) وقد عُرّف بتعاريف:

1 - أنّه مَن لو تَرَك تُرِك.

والظاهر إرادة التَرك في تلك الدّعوى لا مطلقاً، وعلى ذلك فلو كان مديوناً، وادّعى الوفاء يكون مدّعياً، لأنّه لو تَرك هذه الدّعوى يُترك فيها، فيكون الدّين باقياً في ذمّته، ولا ينافي عدم تركه من هذه الحيثيّة.

وبعبارة أُخرى : أنّه لو سكت ولم يُخاصم، سُكِت عنه ولم يُخاصَم.

2 - أنّ المُدّعي هو الذي يَدّعي خلاف الأصل.

والمراد به أعمٌّ من الأصل العملي والأمارة المعتبرة، وعليه فيساوق مصاديق هذا التفسير مع مصاديق التفسير الأوّل.

3 - أنّ المُدّعي هو الذي يذكر أمراً خفيّاً بحسب الظاهر، أي يدّعي خلاف الظاهر بحسب المتعارف والمعتاد.

وإشكاله ظاهرٌ، فإنّه يَصدُق المُدّعي على من يَدّعي خلاف الأصل قطعاً، وإنْ لم يكن قوله مخالفاً للظاهر.

وأيضاً: فهو يصدقُ على من يدّعي خلاف الظاهر غير المعتبر، مع أنّه لا يصدق عليه المُدّعي.

ص: 255

4 - أنّ المُدّعي من يكون بصدد إثبات أمرٍ على غيره.

وهذا بحسب المصاديق متّحدٌ مع التعريف الأوّل.

5 - المرجع فيه هو العرف.

وهذا أيضاً بحسب المصاديق يرجعُ إلى الأولين والرابع.

6 - أنّ المُدّعي من يُطلَب منه البيّنة.

وفيه: أنّ الكلام في تعيين المُدّعي ليكون له البيّنة.

أقول: والحقّ في التعريف هو الخامس، فإنّه لا إشكال في أنّه ليس لعنوان المُدّعي حقيقة شرعيّة ولا متشرّعيّة، وعليه فلفظ المُدّعي الواقع في النصوص كسائر الألفاظ، يكون المرجع في تعيين مفهومه - سعةً وضيقاً - هو العرف.

وقد يختلفُ صِدق المُدّعي والمنكر بحسب مصبّ الدّعوى، مثلاً إذا اختلفا في أنّ المال الذي أعطاه هل كان قرضاً ليكون تلفه على الآخذ ويصبح ضامناً، أم كان قراضاً فلا ضمان عليه ؟

فإنْ لم يكن نظرهما إلّاإلى تعيين أنّ الواقع هو القرض أو القراض، كان كلّ منهما مدّعياً ومنكراً.

وإنْ كان مصبَّ الدّعوى والغرض ثبوتُ الضِّمان وعدمه، كان مُدَّعي القرض مدّعياً، لأصالة البراءة عن الضمان.

فإنْ قيل: إنّ مقتضى عموم قاعدة(1) على اليد، هو الضمان في كلّ يدٍ مستولية على مال الغير، لم يُحرز كونها مجانية، وعليه فالمُدّعي هو من يدّعي القراض، ويصبح قوله خلاف الدليل.7.

ص: 256


1- سنن البيهقي: ج 6/90، كنز العمّال: ج 5/257.

ولابدَّ وأن يكون مكلّفاً،

قلنا: إنّه لا وجه للتمسّك بقاعدة اليد في المقام، للعلم بعدم ثبوت ضمان اليد، سواءٌ كان الدفع بعنوان القرض أو القراض، إذ على الأوّل يكون الضمان معاوضيّاً لا ضمان اليد، وعلى الثاني لا ضمان أصلاً.

فعلى التقديرين لا يكون ضمان اليد ثابتاً، مع أنّه لو اُغمض عن ذلك وقيل إنّ الضمان الثابت بقاعدة على اليد أعمٌّ من ضمان اليد، أو ضمان المعاوضة، يكون التمسّك بهما في الفرض تمسّكاً بالعام في الشُّبهة المصداقيّة، لفرض خروج القراض عن تحتها، وهو لا يجوز.

أقول: (و) كيف كان، فالكلام في هذا الفصل يقع في مسائل:

شرائط سماع الدَّعوى في اعتبار كون المُدّعي مكلّفاً

المسألة الأُولى : صرّح غير واحدٍ بأنّه يشترط في سماع الدّعوى أُمور:

الأمر الأوّل: (لابدّ وأن يكون) المُدّعي (مكلّفاً)، فلا تُسمع دعوى المجنون وغير البالغ، وإنْ كانا مميّزين مراهقين، بلا خلافٍ فيه، كما صرّح به جماعة.

وفي «المستند»(1)، وغيره(2): دعوى الإجماع عليه.

واستدلّ له تارةً : بأنّ المتبادر من الأدلّة هو العاقل البالغ، فإذا لم تشمل أدلّة سماع الدّعوى وأحكامها للمجنون والصَّبي، تعيّن الرجوع إلى الأصل، وهو أصالة

ص: 257


1- مستند الشيعة: ج 17/144.
2- صاحب مستند الشيعة: ج 17/144 عن المعتمد.

عدم ترتّب الآثار من وجوب السماع، وقبول البيّنة والإقرار، وسقوطها بالحلف ونحو ذلك.

وأُخرى : بما دلّ على أنّه لا يجوزُ أمر الصَّبي حتّى يحتلم، أو يبلغ خمس عشرة، أو يَنبُتَ قبل ذلك(1).

وثالثةً : بأنّهما مسلوبي العبارة.

ورابعةً : بأنّ الدّعوى ربماتتضمّن أُموراًتتوقّف على التكليف كإقامة البيّنة ونحوها.

أقول: لا إشكال في أنّه لا يصحّ صدور ما يعدّ من موازين القضاء الذي يكون موجباً للتصرّف المالي، كالإقرار، ورَدّ اليمين، والسَّكوت عن الجواب - الذي عرفت أنّه نكولٌ يترتّب عليه حكمه - من الصَّبي والمجنون كما لا يخفى ، وكذا لايجوز إحلافهما، ولا قبول حلفهما لو رُدَّت إليهما، ولكن سماع دعواهما لو ادَّعيا على شخصٍ أنّه جَنى عليهما، أو غَصَب مالهما، وأقاما شهوداً على ذلك وما شاكل، ممّا لا يتوقّف على التصرّفات الممنوعة، فلا أرى فيه محذوراً، إذ كون المتبادر من أدلّة سماع الدّعوى والحكم بالبيّنة هو العاقل البالغ ممنوعٌ ، وحديث(2) رفع القلم عنهما، وعدم جواز أمر الصَّبي، إنّما هو بالنسبة إلى التكاليف المتوجّهة إليهما، وأمّا الحكم لهما مستنداً إلى البيّنة القائمة، فهو نظير الحكم بأنّهما يرثان لو ماتَ من يرثان منه، فلا ربط لتلك الأخبار به.

وكونهما مسلوبي العبارة ممنوعٌ ، مع أنّه لا ربط لذلك أيضاً بالحكم لهما، وسماع دعواهما.0.

ص: 258


1- الكافي: ج 7/198 ح 1، وسائل الشيعة: ج 17/360 باب 14 باب اشتراط البلوغ والعقل والرّشد في جواز البيع.
2- وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 81 و 82، الخصال: ج 1/93 ح 40.

مُدَّعياً لنفسه، أو من له الولاية عنه،

والإجماع على عدم سماع دعواهما مطلقاً غيرُ ثابتٍ .

فإذاً الأظهر السَّماع، وحينئذٍ فإنْ كان هناك بيّنة يحكمُ الحاكم بها، وإلّا فللحاكم إحلاف المنكر مع المصلحة، ولا يلزمُ في سماع الدّعوى ترتيب جميع آثارها من الإحلاف والحلف ونحوهما.

الأمر الثاني: أن يكون المُدّعي رشيداً، فلا تُسمع من السفيه، كما عن المحقّق الأردبيلي(1)، والفاضل النراقي(2)، بل عن المعتمد(2) الإجماع عليه.

أقول: والكلام فيه هو الكلام في المجنون والصَّبي.

وعليه، فالأظهر أنّه لا تُسمع دعواه في خصوص الدّعاوى الماليّة المنتهية إلى التصرّف المالي، وأمّا ما يتعلّق بغير المال كالقذف وما شاكل وما يتعلّق به غير المنتهي إلى التصرّف المالي، فلا مانع من سماع دعواه، والحكم له لو أقام بيّنةً عليه.

اعتبار كون الإدّعاء لنفسه أو من له الولاية عنه

الأمر الثالث: أن يكون (مدَّعياً لنفسه أو من له الولاية عنه) بأن يكون وكيلاً أو وصيّاً أو وليّاً أو حاكماً أو أمينه بالإجماع مطلقاً إثباتاً، وفي الجملة نفياً، كذا في «المستند»(4).

أقول: لم يذكر الأصحاب لذلك دليلاً إلّاانصراف العمومات الدالّة على

ص: 259


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 14/149. (2و4) مستند الشيعة: ج 17/144 و 146.
2- حكاه في مستند الشيعة: ج 17/144.

وجوب الفصل بين المتخاصمين، والحكم بالحقّ والقِسط والعَدل عن مثل ذلك، وأنّه ليس شأن مثله عرفاً تحرير الخصومة، وأصالة عدم وجوب السماع منه، وعدم وجوب الجواب على المُدّعى عليه.

وهي كما ترى، لمنع الانصراف، ولا مورد للأصل مع إطلاقات الأدلّة، وعدم كون شأن مثله عرفاً تحرير الخصومة، لا يوجبُ عدم صحّة الحكم لو أقام بيّنة عليه.

فالعمدة في جانب النفي هو الإجماع، والمتيقّن منه الدّعوى للغير بلا ولايةٍ ولا وكالةٍ ولا إذن، وغير الدّعاوى الحِسْبيّة من المُحتَسبين، كما إذا غصب شخصٌ أموال الصغار، أو ادّعى على ميّتٍ له صغار بدينٍ ، وهو يعلمُ كِذب المُدَّعي، أو أنّه أوفاه وذمّته بريئة وله شهود.

فلو ادّعى بأحد هذه الوجوه تُسمع الدّعوى، ويَحكم الحاكمُ بما يقتضيه موازين باب القضاء.

نعم، بعض تلك الموازين، كرَدّ اليمين أو الحلف على ما مرّ، لا مورد له في بعض الدعاوى، وهو أمرٌ آخر لا ربط له بعدم سماع الدّعوى ، وعدم الحكم بالبيّنة القائمة، وقد بيّنا ذلك في موضعه.

الأمر الرابع: أن يكون ما يدّعيه أمراً ممكناً، فلا تُسمع دعوى أمرٍ محال عقلاً أو عادةً أو شرعاً، وأن يكون لازماً، فلو ادّعى هبةً أو وقفاً لم يُسمع إلّامع دعوى الإقباض.

واستدلّوا لذلك(1):8.

ص: 260


1- مستند الشيعة: ج 17/148.

1 - بأنّ الإنكار فيما لا يلزم رجوعٌ .

2 - وبأنّه مع الإثبات لا يجوزُ الإجبار على التسليم.

ولكن الأوّل ممنوعٌ ، فإنّ الرجوع أمرٌ قصديّ غير الإنكار، وليس جواز الإجبار على التسليم من آثار صحّة الدّعوى.

وإلى ذلك نظر من قال(1): (إنّ أصل الملك شيءٌ ، ولزومه أمرٌ آخر، ولكلّ منهما فوائد، فيمكن دعوى أحدهما بدون الآخر، وإذا ثبت أحدهما يبقى الآخر).

هذا على تقدير إرادتهم من اللّزوم معناه الظاهر.

ولكن الظاهر كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) أنّ مرادهم باللّزوم ليس هو كونه بحيثُ لا يكون للمُدّعى عليه الرجوع أو الفسخ، بل المراد استحقاق المُدّعي بعد الإثبات، لا مجرّد تهيّئه له كما في الوقف ونحوه، ممّا يكون القبض شرطاًللانتقال.

وعليه، فلا يرد النقض عليهم بدعوى البيع من دون دعوى انقضاء الخيار، ودعوى الهبة إذا كان المتَّهبُ أجنبيّاً، وما شاكل التي لا إشكال ولا خلاف بينهم في صحّتها وسماعها.

وأيضاً: لا يردُ عليهم ما أوردناه على الوجه الثاني الذي أفادوه، فإنّ تحرير الدّعوى إنّما هو لإثبات حقّ على المُدّعى عليه، فإذا لم يثبُت بإثبات المُدّعي به حقٌّ على المُدّعى عليه، لعدم انتقال المال بدون التسليم، ولا يجبُ عليه التسليم، فلا يمكن إجباره به، لَزِم لغويّة الدّعوى والحكم، ومثل ذلك لا يكون مجعولاً شرعاً.8.

ص: 261


1- مستند الشيعة: ج 17/148.
2- حكى استظهاره عن الجواهر السيّد اليزدي في تكملة العروة الوثقى: ج 2/38.

ما يَصحّ تملّكه.

الأمر الخامس: أن يكون (ما) يدّعيه ممّا (يصحُّ تملّكه)، فلو ادّعى عليه خمراً أو خنزيراً لا تُسمع، إلّاإذا كان في مقامٍ يثبتُ له حقّ الاختصاص، المنتهي إلى الملكيّة أو الصالح له كدعوى خمرٍ تصلحُ أن تصير خَلّاً.

عدم اعتبار الجزم في الدَّعوى

الأمر السادس: الجزم في الدَّعوى.

اعتبره ابن زُهرة(1)، والكيدري(2)، والمحقّق(3)، وعن «التنقيح»(4) نسبته إلى المشهور.

وعن ابن نما(5)، والفخر(6)، والشهيدين في «النكت»(7) و «المسالك»(8): عدم الاعتبار، وهو ظاهرُ المحقّق الأردبيلي(9).

وعن المحقّق الثاني(10): عدم الاشتراط فيما يَخفى عادةً ، ويعسُرُ الإطّلاع عليه

ص: 262


1- غنية النزوع: ص 444 قوله: (وإن ادّعى أحدهما على الآخر لم تسمع دعواه إلّاأن تكون مستندة إلى علم).
2- حكاه عنه صاحب الرياض: ج 15/149.
3- شرائع الإسلام: ج 4/73.
4- التنقيح: ج 4/276.
5- حكاه عنه المحقّق في شرائع الإسلام: ج 4/73 بقوله: (وكان بعض من عاصرنا يسمعها في التُّهمة).
6- إيضاح الفوائد: ج 4/327.
7- غاية المراد في شرح نكات الإرشاد: ج 4/30.
8- مسالك الأفهام: ج 13/437.
9- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/124.
10- حكاه صاحب مستند الشيعة: ج 17/150.

كالقتل والسَّرقة ونحوهما، والاشتراط في نحو المعاملات، وهو ظاهر «الدروس»(1)، و «الروضة»(2) على المحكيّ .

وعن بعضهم(3): الاشتراط مع عدم التُّهمة، وأمّا معها فلا يُشترط ذلك.

وعن «القواعد»(4)، و «الإرشاد»(5)، و «التحرير»(6)، و «المفاتيح»(7) وشرحه(8)وغيرها(9): التوقّف في المسألة.

أقول: والأظهر هو عدم الاشتراط مطلقاً، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: صدق المُدّعي على من ادّعى دعوى ظنّية أو احتماليّة، والمُدّعى عليه والمُنكِر على خصمه، فيشملهما ما دلّ على أنّ : (البيّنة على المُدّعي واليمينُ على المُدّعى عليه والمنكر) وأنّه يقضى بهما.

الوجه الثاني: الأخبار الخاصّة الواردة في استحلاف الأمين مع التُّهمة:

منها: ما رواه الصَّدوق في الصحيح، عن عبد اللّه بن مسكان، عن أبي بصير، عن الصادق عليه السلام، أنّه قال:

«لا يضمنُ الصائغ ولا القصّار ولا الحائك إلّاأن يكونوا متّهمين، فيجيئون5.

ص: 263


1- الدروس: ج 2/84.
2- شرح اللّمعة: ج 3/81-82.
3- اُنظر مستند الشيعة: ج 17/150.
4- قواعد الأحكام: ج 3/437.
5- إرشاد الأذهان: ج 2/144.
6- تحرير الأحكام: ج 2/186.
7- مفاتيح الشرائع: ج 3/259.
8- الأنوار اللّوامع في شرح مفاتيح الشرائع: ج 14/91.
9- كفاية الأحكام: ج 2/684-685.

بالبيّنة، ويُستحلف لعلّه يستخرج منه شيئاً»(1).

ومنها: ما رواه الشيخ، عن بكر بن حبيب، عنه عليه السلام، أنّه قال:

«لا يضمن القصّار إلّاما جنت يده، وإن اتّهمتَه أحلفته»(2).

ومنها: بهذا الإسناد، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أعطيتُ جُبّةً إلى القصّار فذهبت بزعمه.

قال عليه السلام: إنْ اتّهمته فاستحلفه، وإنْ لم تتّهمه فليس عليه شيء»(3).

ونحوهما غيرها.

فإنّها تدلّ على استحلاف المُدّعى عليه في صورة كون الدَّعوى غير جزميّة.

أقول: وأورد على الاستدلال بها:

تارةً : باختصاصها بالتّهمة، فلا تنهضُ دليلاً على العموم.

وأُخرى : بأنّها مختصّة بصورة تحقّق اليد، المقتضية للضمان من حيثُ هي، فلا تشمل سائر الدعاوى الظنيّة من غير تحقّق اليد، ذكره السيّد اليزدي في «ملحقات العروة»(4).

وثالثةً : بأنّها تدلّ على جواز الإحلاف، ولا تعرّض فيها لسماع الدّعوى وحُكم الحاكم.

والجواب: كلٌّ منظور فيه:3.

ص: 264


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/257 ح 3928، وسائل الشيعة: ج 19/144 ح 24327.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/254 ح 3919، وسائل الشيعة: ج 19/146 ح 24333.
3- تهذيب الأحكام: ج 7/221 ح 48، وسائل الشيعة: ج 19/146 ح 24332.
4- تكملة العروة الوثقى: ج 2/43.

أمّا الأوّل: فلأنّ التُّهمة تعمُّ جميع الموارد التي يَنكر فيها المُدَّعى عليه، لعدم اختصاص التُّهمة بمثل القتل والسرقة، بل هي عامّة شاملة للكذب في الإنكار، وجلب النفع ودفع الضّرر.

وأمّا الثاني: فلأنّ اليد المتحقّقة فيها ليست يد ضمان قطعاً، لكون من يكون المال تحت يده أميناً على الفرض.

وأمّا الثالث: فلأنّ الاستحلاف إنّما هو عند الحاكم.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الظاهر منها أنّه يُستحلف، فإنْ حَلف لا ضمان عليه، وإلّا فهو ضامن، ومن الواضح أنّ نفي الحقّ بالحلف وإثباته بالنكول إنّما هو في مقام الخصومة والنزاع.

فإنْ قيل: إنّها مختصّة بموارد خاصّة.

قلنا: إنّه بضميمة عدم القول بالفصل، وعدم العلّة في الصحيح، يثبتُ في جميع الموارد.

الوجه الثالث: خبرا أبي بصير والأصبغ، الواردان في قضيّة الشّاب الذي ذهبَ أبوه مع جمعٍ إلى سفرٍ ولم يرجع، حيثُ قَضى شُريح فيه بالحلف، ثمّ فرّق أميرالمؤمنين عليه السلام بين المتّهمين، وأخذ الإقرار منهم(1)، فإنّ الظاهر كون دعوى الشاب احتماليّة أو ظنّية.

الوجه الرابع: عموم أدلّة الحكم بما أنزل اللّه والقسط والعدل.

والإيراد عليه: - كما في «ملحقات العروة»(2)، بقوله: - لعلّ ما أنزل اللّه إيقاف3.

ص: 265


1- الكافي: ج 7/371 ح 8، وسائل الشيعة: ج 27/279 ح 33763.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/43.

الدّعوى إلى حصول الجزم.

يدفعه قوله: «البيّنة على المُدّعي» فإنّه الحقّ وما أنزل اللّه، والأصلُ عدم إنزال غيره.

واستدلّ المشترطون:

1 - بأنّ المتبادر من الدّعوى ما كان بالجزم.

2 - وبأنّ سماع الدّعوى يوجبُ التسلّط على الغير بالالتزام بالإقرار أو بالإنكار أو التغريم، وهو ضررٌ عليه.

3 - وبأنّ لازم السماع القضاء بالنكول، أو يمين المُدّعي في صورة عدم الإقرار والبيّنة، وكلاهما مشكلٌ :

أمّا الثاني: فلأنّه مع عدم علمه بما يدّعيه لا يجوزُ له أن يحلف.

وأمّا الأوّل: فلعدم جواز أخذ المُدّعى به مع عدم علمه بالحقّ وإنكار المُدّعى عليه، واحتمال كون نكوله عن الحلف للتعظيم أو نحوه.

4 - وبالأخبارالدالّة على أنّه لو رَدّ اليمين على المُدّعي فلم يحلف، فلا حقّ له(1).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا التبادر: فممنوعٌ كما مرّ.

ومنع كون الإنكار والحلف ضرراً، مع أنّه قد يُعارض بضرر المُدّعي، كما إذا علم بأنّ أحد شخصين أخذ ماله، ولم يعلم التعيين، فيكون دعواه على كلّ منهما غير جزميّة.9.

ص: 266


1- الكافي: ج 7/416 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/241 ح 33679.

وكون أثر سماع الدّعوى في بعض الموارد القضاء بالنكول، أو يمين المُدّعي، لا يوجبُ عدم سماع الدّعوى في موردٍ لا يترتّب عليه ذلك، لعدم الدليل على كونه من اللّوازم التي لا تنفكّ عن سماع الدّعوى.

مع أنّه يمكن منع امتناع ثمرة النكول، ومنع عدم الحليّة بمجرّد النكول، كيف وقد حَكَم الشارع في كثيرٍ من الموارد بحليّة المال المأخوذ من الغريم، مع عدم علم المُدّعي باشتغال ذمّته، كما في الغَسّال والصَّباغ والجَمّال، يتّهمهم صاحب المال بالخيانة أو التفريط، فإنّه دلّت النصوص(1) على أنّه يُسمع الدّعوى في هذه الموارد، ويُحكم بالضمان بدون البيّنة، فليكن المقام من قبيل ذلك.

وأمّا أخبار الرَّد على المُدّعي: فهي مختصّة بما أمكن فيه الرّد قطعاً، وهو هنا غير ممكنٍ ، لنهي الشارع عن الحلف بدون العلم.

أقول: وبما ذكرناه يظهر مدرك الأقوال الاُخر والجواب عنه.

وعلى المختار من السُّماع:

إن أقرّ المُدّعى عليه، أو أقام المُدّعي البيّنة، فلا إشكال في ثبوت الحقّ ، وكذا إن حَلف المنكر لا إشكال في سقوط الدّعوى.

وإنْ لم يحلف، فليس له الرَّد على المُدّعي، لما مرّ، وحينئذٍ فيُلزم المنكر بالحقّ ، لما مر من أنّه يقضي بالنكول، ويشهد به أخبار استحلاف الأمين المتقدّمة.

وقد يقال: إنّه يقضي بثبوت الحقّ على المنكر حتّى على القول بعدم القضاء بالنكول، مع إمكان رَدّ اليمين، واختصاص نصوص استحلاف الأمين بموردها، منم.

ص: 267


1- الكافي: ج 5/243 باب ضمان الجمال والمكاري وأصحاب السفن، وسائل الشيعة: ج 19/148 باب 30 باب ثبوت الضمان على الجمّال والحمّال والمكاري والملّاح ونحوهم.

جهة أنّه لا ريب في صدق الدّعوى والمنازعة في المقام، وأيضاً لا إشكال في عدم شمول أخبار رَدّ اليمين، وعلى ذلك فيدور الأمر:

بين إيقاف الدّعوى إلى الأبد، والحكم بثبوت الحقّ على المُدّعى عليه.

والأوّل على خلاف القاعدة المستفادة من النصوص الدالّة على أنّ الفاصل للخصومة هو البيّنة أو الحلف، وأنّه مع عدم البيّنة إن حلف المنكر سَقَطت الدّعوى، وإلّا ثبت الحقّ عليه، فإنّه قد خرج عنها صورة إمكان رَدّ اليمين ورَدّها بالأخبار، وبقي بقيّة الصور تحتها ومنها المقام.

ويترتّب على ما ذكرناه من عدم اعتبار الجزم في الدّعوى، أنّه لا يعتبر تعيين المُدّعى عليه، فلو ادّعى على أحدِ الشخصين أو الأشخاص مردّداً، بأن قال: (لي كذا على زيدٍ) أو (على عمروٍ) تُسمع الدّعوى، فله حينئذٍ أن يدّعي على كلّ واحدٍ منهما أو منهم مستقلّاً، فإنْ أقام البيّنة على كون أحدهما المعيّن مديوناً، ثبت الحقّ عليه، وسقطت الدّعوى بالنسبة إلى غيره، وإلّا:

فإنْ حَلف أحدهما، سَقَط الحقّ عنه خاصّة، وإنْ حَلفا برئا جميعاً، وإنْ نكلا كان مقتضى القاعدة إلزام كلّ منهما أو منهم بالحقّ ، وحيث يُعلم عدم اشتغال أزيد من واحدٍ منهما أو منهم، فمقتضى قاعدة العدل والإنصاف المصطادة من الأخبار هو الصلح بالسويّة.

بل يمكن القول بذلك لو أقام المُدّعي البيّنة على اشتغال ذمّة واحدٍ منهما أو منهم بنحو الترديد، أو أقرّوا بالدين كذلك، بأن قالوا: (نعم واحدٌ منّا مديونٌ لكن لا ندري المعيّن)، إذ لا مجال لرجوع كلّ واحدٍ من الجماعة إلى أصالة البراءة كما في

ص: 268

الجنابة المردّدة، لأنّ جريان الأصل بالنسبة إلى كلّ واحدٍ منهم مستلزمٌ للضَّرر على ذلك الشخص، وعليه فاللّازم توزيع ذلك المقدار عليهم، وإنْ أبيتَ عنهم، فالقُرعة، لأنّها لكلّ أمرٍ مشكل(1).

وعليه، فما يظهر من المحقّق(2) والمصنّف رحمه الله في محكيّ «القواعد»(3) في باب القصاص من سماع الدّعوى مع الترديد في المُدَّعى عليه، متينٌ .

وبذلك يظهر سماع الدّعوى مع الترديد فيمن له الحقّ ، فلو علم اثنان أنّ لأحدهما حقّاً على واحدٍ، يصحّ لهما تحرير الدّعوى كذلك وتُسمع، وبعد الإثبات بالإقرار على وجه الترديد أو البيّنة كذلك، يقتسمان على وجه الصلح القهري بالسويّة.

اعتبار المخاصمة، وكون المُدَّعى به معلوماً

الأمر السابع: من شرائط سماع الدَّعوى والحكم القاطع لها، أن يكون للمُدّعي طرفٌ يكون بينهما منازعة ومخاصمة فعلاً، فلو قال أحدٌ: (إنّ لي على زيدٍ كذا) وهو معترفٌ به، ويؤدّيه، ولكن اُريد منك طلبه وسماع الإقرار منه، والحكم بمقتضاه، أو اُريد إقامة البيّنة وصدور الحكم، لم يجُب السّماع.

ولو سمع واُقيمت البيّنة، أو أقرّ، لم يجبُ الحكم، بل لا يجوز من باب القضاء، ولو حكم لا يكون نقضه حراماً، ولا يجبُ العمل به.

ص: 269


1- تهذيب الأحكام: ج 6/233 باب 90 حكم القرعة، وسائل الشيعة: ج 27/157 باب 13 باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة.
2- شرائع الإسلام: ج 4/202.
3- قواعد الأحكام: ج 3/611.

وكذا لو كان هناك وقفٌ على نحوٍ مخصوص صحيح عند بعض العلماء، وأراد إصدار الحكم ممّن يقول بصحّته دفعاً لإدّعاء بعض البطون اللّاحقة، ونحو ذلك ممّا هو محلّ الخلاف، واستدلّوا لذلك:

1 - بظهور الدَّعوى فيما كان فيه مخاصمة.

2 - وباختصاص أدلّة وجوب القضاء ونفوذه وظهورها فيما كان كذلك.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ ذلك بالنسبة إلى وجوب سماع الدّعوى تامّ ، وأمّا لو سمع وحكم مستنداً إلى إحدى الأمارات الشرعيّة من البيّنة والإقرار، فلا قصور في ما دلّ على وجوب العمل على طبق الحكم، وعدم جواز نقضه له.

فإنْ قيل: إنّ عمدة الدليل على حرمة النقض ووجوب العمل هو المقبولة(1)والمشهورة المتقدّمتان، وهما في مورد النزاع والمخاصمة.

قلنا: إنّ خصوص المورد لا يصلحُ لتقييد إطلاق الوارد، ودعوى الإنصراف من هذه الجهة ممنوعة.

وممّا يشهد لذلك: إطلاق فتاوى الفقهاء أنّ جواب المُدّعى عليه إمّا إنكارٌ أو إقرارٌ أو سكوتٌ ، فإنّ مورد كلامهم إقرارُ المُدّعى عليه، ولو لم يَدّع المُدّعي إنكاره.

ويؤيّده: أنّه لا إشكال في صحّة الحكم بالهلال والحدود التي لا خصومة فيها.

الأمر الثامن: أن يكون المُدَّعى به معلوماً بالجنس والنوع والوصف والقدر.

نُسِب اشتراطه إلى الشيخ(2)، وأبي الصّلاح(3)، وبني حمزة(4) وزُهرة(5)،8.

ص: 270


1- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.
2- المبسوط: ج 8/156. (3و4و5) حكاه صاحب الجواهر: ج 40/149، والسيّد اليزدي أيضاً في تكملة العروة الوثقى : ج 2/38.

وإدريس(1)، والمصنّف رحمه الله في «التحرير»(2) و «التذكرة»(3) والشهيد في «الدروس»(4)، فلو ادّعى ثوباً، أو دابةً ، أو فرساً، أو شيئاً على شخصٍ لا تُسمع دعواه.

واستدلّوا له: بعدم الفائدة لو أقرّ به المُدَّعى عليه.

وفيه: منعُ عدم الفائدة، فإنّه يلزمُ حينئذٍ ببيان الحقّ المقرّ به أو المُثبَت بالبيّنة، ويقبل تفسيره بمُسمّى الدّعوى، ويَحلف على نفي الزائد أو العلم به، ولو لم يُفسَّر، لادّعائه الجهل أيضاً، أو لإصراره على العدم الواقعي لو ثبت بالبيّنة.

فلو كان الجهل بالقدر: يُلزم بالقدر المشترك، أي الأقلّ .

وإنْ كان بالوصف: فالظاهر أنّه يؤخذ منه أقلّ الأفراد بحسب الوصف والقيمة، ولا يبعد الرجوع إلى القيمة.

وإنْ كان بالنوع أو الجنس فالظاهر الرجوع إلى القيمة، كما لا يخفى وجهه، وعليه فيرجع الجهل حينئذٍ إلى القدر فيؤخذ بأقلّ ما يمكن من الثمن.

نعم، لو كان المدَّعى به مجهولاً مطلقاً مردّداً بين ما له قيمة وما ليس له قيمة، لاتُسمع دعواه.

أقول: ولما ذكرناه ذهب جماعة منهم المحقّق في «النافع»(5) والمصنّف رحمه الله في «الإرشاد»(6)، و «القواعد»،(7) وفخر المحقّقين في «الإيضاح»،(8) والشهيد7.

ص: 271


1- السرائر: ج 2/177.
2- نسبه صاحب رياض المسائل: ج 15/162 إلى التحرير: ج 2/186.
3- حكاه صاحب الجواهر: ج 40/149، واليزدي في تكملة العروة الوثقى: ج 2/38.
4- الدروس: ج 2/84.
5- المختصر النافع: ج 2/248.
6- إرشاد الأذهان: ج 2/143-144.
7- قواعد الأحكام: ج 3/437.
8- إيضاح الفوائد: ج 4/327.

الثاني(1) وغيرهم(2) على ما حُكي إلى السّماع، وعدم اشتراط هذا الشرط، بل نُسب(3) إلى الأكثر وهو الأقوى لعمومات الدَّعوى والمُدّعي والحُكم، مع أنّ عدم سماعها قد يوجبُ الضَّرر المعلوم نفيه شرعاً.

ويؤيّده: أنّهم ذكروا سماع الإقرار بالمجهول، وإلزام المُقرّ بالتفسير، وسماع الوصيّة بالمجهول، بل سُماع دعوى الوصيّة بالمجهول.

الأمر التاسع: أن تكون الدَّعوى صريحة في استحقاق المُدّعي، وإلّا فلا تُسمع.

أقول: والظاهر أنّه تامٌّ مع ضَمّ أمرين إليه:

أحدهما: إرادة الأعمّ من الظهور، والنصوصيّة من الصّراحة.

ثانيهما: أن يكون دعواه بما لا يوجبُ شيئاً على المُدّعى عليه، غير منضمّة إلى قوله: (أتمِم الدَّعوى بعد حصول البيّنة لي).

أمّا تماميّته مع الأمرين، فلعدم الفائدة لو ثبت ما يدّعيه بالإقرار أو البيّنة، مثلاً إذا قال: (هذا التمر الذي في يد زيدٍ من نخلي)، لا تُسمع دعواه، لاحتمال كونه لغيره مع كون النخل له.

وأمّا سماعها مع انتفاء الأمر الأوّل، بأن كان دعواه ظاهرة في الاستحقاق، وإنْ لم تكن صريحة فيه، كما لو قال: (هذا الخُبز الذي ليس في يد المُدّعى عليه من حنطة فلانٍ )، فإنّه إقرارٌ بأنّه له فواضح.

وأمّا سماعها مع انتفاء الأمر الثاني، فلعموم ما دلّ على سماع الدّعوى، إلّاأن لا يكون فيها فائدة.

***9.

ص: 272


1- مسالك الأفهام: ج 13/437.
2- مجمع الفائدة: ج 12/116، كشف اللّثام: ج 10/90.
3- مستند الشيعة: ج 17/158-159.

تنبيهات باب المخاصمة

أقول: وينبغي التنبيه على أُمورٍ مناسبة للمقام:

التنبيه الأوّل: لا يشترط في سماع الدّعوى ذكر سبب استحقاق المُدّعى به، ولا كشف ما يلزمها ويتعلّق بها من الحقوق واللّوازم، بل يكفي فيها الإطلاق مجرّداً عن ذكر السَّبب وغيره، بلا خلافٍ فيه بيننا، من غير فرقٍ بين أن يكون المُدّعى به عيناً أو ديناً أو عقداً من العقود.

والوجه في عدم الاشتراط: أصالة عدمه، وعمومات سماع الدّعوى والحكم.

وفي «المستند»(1): (نعم يُشترط في دعوى القتل من ذكر سببِ دعواه، وكيفيّة قتله، بأنّه قتله بنفسه، أو بأمره عمداً أو شبه عمدٍ أو خطأ، للخلاف الواقع في أحكام القتل باختلاف أسبابه وكيفيّاته)، انتهى .

وفيه: إنّ غاية ما يلزم من ذلك، عدم كون المُدّعى به معلوماً بجميع خصوصيّاته، وقد صرّح قدس سره قُبيل ذلك بعدم اشتراط العلم به، ونَسب الاشتراط في دعوى القتل إلى «المبسوط» مدّعياً عليه الإجماع، معلّلاً بأنّ أمره شديد، وفائته لايُستدرك، وهو كما ترى .

وعليه، فالأظهر عدم الاشتراط، وكفاية الإجمال، نعم للحاكم أن يستفصل.

التنبيه الثاني: حُكي عن بعض الفقهاء(2) الاستشكال في سماع دعوى الإقرار، ولو كان بالمعلوم، من جهة أنّه لا يثبتُ الحقّ في الواقع، وإنّما هو مثبتٌ له ظاهراً من باب أنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز(3).

ص: 273


1- مستند الشيعة: ج 17/160.
2- جواهر الكلام: ج 40/152.
3- وسائل الشيعة: ج 23/184 ح 29342، عوالي اللآلي: ج 1/223 ح 104.

ويردّه: أنّ ثبوت الحقّ ظاهراً يكفي في وجوب السّماع، مع أنّه من طرق إثبات الواقع كالبيّنة، فلو ثبت إقراره بالبيّنة أو الإقرار يحكم بثبوت الحقّ .

التنبيه الثالث: ظاهرُ كلمات القوم سماع الدَّعوى في كثيرٍ من المقامات بيمينه، وليس الوجه فيه سماع اليمين من المُدّعي كي يورد عليهم بمنافاة ذلك لقاعدة أنّ اليمين على المُدّعى عليه، بل الظاهر أنّ وجهه أنّ قول المُدّعي في تلك المقامات في نفسه مطابقٌللحجّة، نظير دعوى ذي اليد، فيكون هو منكراً حسب ما تقدّم ضابطه، فيتوجّه إليه وظيفته.

وإطلاقهم المُدّعى عليه والدّعوى على قوله، كإطلاق دعوى ذي اليد يكون مبنيّاً على التسامح في التعبير، وهي بمجموعها غير داخلة تحت كبرى واحدة، بل هناك كبريات متعدّدة:

منها: كُبرى المُدّعي بلا معارض.

ومنها: كُبرى سماع قول ذي اليد.

ومنها: كُبرى سماع قول الأمين فيما ثبت فيه أمانته.

ومنها: كُبرى مَنْ مَلِك في ما هو راجعٌ إلى تحت سلطنته.

ومنها: دعوى ما لا يُعلم إلّامن قبله.

ولا بأس بالتعرّض لما هو الوجه في هذه الكبريات.

سماع الدَّعوى بلا معارض

أمّا الكبرى الأُولى: فالمشهور بين الأصحاب أنّه إذا ادّعى مالاً لا يد لأحدٍ عليه، ولا معارض له في دعواه، يُحكم بأنّه له، وليس لأحدٍ معارضته، من غير

ص: 274

حاجةٍ إلى البيّنة ولا الحلف، وتصحّ تصرّفاته، وإن ادّعاه بعد ذلك مُدّعٍ آخر يكون هذا المُدّعي منكراً، فيجري عليهما حُكم المُدّعي والمنكر.

ويمكن أن يستدلّ له: - مضافاً إلى تسالم الأصحاب عليه، والسِّيرة القطعيّة على طبقه في الجملة -:

1 - بموثّق منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلت: عشرة كانوا جلوساً وسطهم كيسٌ فيه ألف درهم، فسأل بعضهم بعضاً: ألكَ هذا الكيس ؟ فقالوا كلّهم: لا، وقال واحدٌ منهم: هو لي. فلمن هو؟

قال عليه السلام: للّذي ادّعاه»(1).

2 - وصحيح البزنطي، عن أبي الحسن الرّضا عليه السلام: «عن الرّجل يصيد الطير يُساوي دراهم كثيرة، وهو مستوي الجناحين، فيعرف صاحبه أو يجيئه فيطلبه من لا يتّهمه ؟

فقال عليه السلام: لا يحلّ له إمساكه، يردّ عليه.. الحديث»(2).

3 - وصحيحه الآخر، عنه عليه السلام، «في الصيد: وإنْ جاءكَ طالبٌ لا تتّهمه رُدّه عليه»(3).

ودلالة هذه النصوص على حجيّة الدّعوى المزبورة واضحة، لحكمه عليه السلام في الموثق بأنّه للّذي ادّعاه، وفي الصحيحين بوجوب رَدّه إلى من يدّعيه، وهو غير مُتّهمٍ ، ويترتّب عليه صحّة الحكم بكونه له بمجرّد دعواه، وإنْ لم يكن يده عليه.5.

ص: 275


1- الكافي: ج 7/422 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/273 ح 33758.
2- الكافي: ج 6/222 ح 1، وسائل الشيعة: ج 23/388 ح 29814.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/394 ح 26، وسائل الشيعة: ج 25/461 ح 32355.

وفي «ملحقات العروة»(1) (إنّه لا يدلّ شيءٌ من الأدلّة المتقدّمة حتّى السيرة والإجماع على الحكم بأنّه له بمجرّد دعواه).

وقد ذكر في وجه عدم دلالة الموثّق على ذلك وجهين:

أحدهما: أنّ الحكم فيه من حيث حصول العلم، بأنّ الكيس لذلك الذي ادّعاه، فإنّ الظاهر أنّه لم يكن خارجاً عنهم، ومع نفي غيره ينحصر فيه.

وفيه: إنّه ليس في الخبر ما يُشعر بذلك، بل السؤال عن أنّه لمن هو ظاهرٌ في عدم العلم بذلك. ولا أقلّ من عدم الاستفصال.

ثانيهما: أنّ في مورده كان الكيس في يد الجماعة، وإذا نفى الجميع كونه لهم، تبقى يد ذلك الواحد، ومقتضاها كونه له.

وفيه: إنّ كون الكيس في وسط الجماعة أعمٌّ من كونه تحت يدهم، فبترك الاستفصال يثبتُ المطلوب.

أقول: وذُكر(2) في وجه عدم دلالة صحيح البزنطي: أنّ الأمر بالرَّد فيه قيدٌ بعدم الاتهام، وحقيقة ذلك عدم تجويز كذبه، إذ معه يصدق الاتّهام، ومع عدم تجويز كذبه يُعلم ملكيّته.

وفيه: إنّ حقيقة عدم الاتّهام كون المُدّعي بحيث لا يُحتمل في حقّه إرادة أكل مال الغير، وهذا في نفسه لا يوجبُ العلم بالملكيّة مع قيام احتمالاتٍ من الخطاء وغيره.

وعلى المختار من ثبوت الملكيّة بالدَّعوى بلا معارض، ما ذكره الأصحاب من9.

ص: 276


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/138.
2- مستند الشيعة: ج 17/359.

أنّه إذا جاء بعد ذلك من يَدَّعي ملكيّته، يكون مدّعياً، والمُدّعي الأوّل منكراً، ويجري عليهما أحكام المُدّعي والمنكر.

غير ظاهر الوجه، إذا قال: (كان لي من حين حصول يدكَ عليه)، بل الظاهر كونه معارضاً له، لأنّ اليد التي حالها معلومٌ لا تكفي في جعله منكراً، وكون من ادّعى بعده مدّعياً بل هما متداعيان.

وعلى ذلك، فيعتبر فيه عدم المعارض إلى الأبد، ولا يكفي عدم وجوده حين الدّعوى.

نعم، إذا لم يكن له معارضٌ حين الدّعوى، يُحكم في الظاهر بعدم وجوده إلى الأبد، بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الاُمور العدميّة، وفي الاُمور الاستقباليّة.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الإجماع والسيرة وموثّق منصور، تدلّ على الحكم بملكيّته له بمجرّد عدم وجود المعارض حين الدّعوى، وإنْ وُجد فيما بعد، فتأمّل.

أقول: ثمّ إنّ تمام الكلام يتحقّق بالبحث في فروع:

الفرع الأوّل: لو ادّعى اثنان على وجه الشركة مالاً لا يدَ لأحدٍ عليه:

فإنْ ادّعيا كونه لهما على وجه الشركة، يجري على دعواهما حكم الدّعوى بلا معارض.

وإنْ ادّعى كلّ واحدٍ منهما جميعه، فهل يُحكم بأنّه لأحدهما وينفى الثالث، أم لا يُحكم بذلك ؟

وجهان، مبنيّان على شمول أدلّة الدّعوى بلا معارض لهما وعدمه. وعلى تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة حجيّةً وعدمها، إذ لو قلنا بعدم الشمول، أو قلنا

ص: 277

بالتبعيّة، لا يُحكم بنفي الثالث.

أمّا على الأوّل: فواضحٌ .

وأمّا على الثاني: فلأنّه لو شمل دعوى كلّ منهما دليل السماع، وقع التعارض بينهما ويتساقطان، فلا يمكن نفي الثالث بهما.

ولو قلنا بالشمول وعدم التبعيّة، فيُحكم، به ولا يخفى وجهه.

وحيث أنّ الأدلّة لا تشملُ الفرض، والأظهر هو التبعيّة، فلا يُنفى الثالث بهما.

الفرع الثاني: إذا نفاه أوّلاً وقال: (إنّ المال ليس لي)، ثمّ ادّعى ثانياً كونه له:

قال صاحب «الجواهر»(1): إنّه تُسمع دعواه، لأصالة صحّة قوليه معاً، لاحتمال التذكّر وغيره.

وقد يستدلّ له: بموثّق منصور المتقدّم، بدعوى أنّه ورد فيه قول السائل:

«فقالوا كلّهم: لا، فقال واحدٌ منهم: هو لي»، وهذا ظاهرٌ في أنّ من ادّعى الملكيّة قد نفاها أوّلاً، ثمّ قال: هو لي، فتدبّر.

الفرع الثالث: إذا كان وقفٌ لم يعلم مصرفه، أو لم يُعلم المتولّي له، ولم يكن في يد أحدٍ، فادّعى شخصٌ أنّه المتولّي عليه، ولم يكن له معارض، فالظاهر جريان حكم الدّعوى بلا معارض على دعواه، وإنْ كان خارجاً عن مورد النَّص، ولكن لم يقل أحدٌ بالفصل، مع أنّه داخلٌ في معقد الإجماع، فتدبّر.

الفرع الرابع: القدر المُسلّم الثابت بالأدلّة من حجيّة الدّعوى بلا معارض إنّما هو في الماليّات، وكلّ ما يكون ربطاً بين الاثنين من الزوجيّة وغيرها، وأمّا مثل9.

ص: 278


1- جواهر الكلام: ج 40/399.

الطهارة والنجاسة والهلال وما شاكل، فهي خارجة عن مورد القاعدة بل ربما لايُصدّق المُدّعي في كثيرٍ من هذه المقامات، إلّاأن يكون المُدّعي ثقةً ، فإنّه يكون قوله حجّة حينئذٍ، بناءً على المختار من حجيّة الخبر الواحد في الموضوعات.

الفرع الخامس: قال صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) بعدم سماع الدّعوى بلا معارض، لو كان المال في يد شخصٍ يكون مخاطباً بإيصاله إلى مالكه - كالأمانة التي لا يُعلم مالكها، والمجهول المالك الذي صار بيد شخصٍ ، واللُّقطة، ومال الميّت الذي لا يُعلم وارثه، ونحو ذلك - فلا يُدفع إلى من يدّعيه إلّابالبيّنة، لأنّ المتيقّن من الإجماع والسيرة ومورد النصوص غير ذلك.

وهو حسنٌ ، لولا أنّ مورد صحيحي البزنطي كون المال بيد من يكون مأموراً بإيصاله إلى صاحبه، من جهة كون الطير مستوي الجناحين.

وعليه، فالأظهر جريانه في هذه الصورة أيضاً، خرج عن ذلك اللُّقطة، وقد مرّ الكلام فيها.

ولو كان المُدّعي ثقةً ، لا ينبغي التوقّف في الحكم بأنّه له في هذه الصورة أيضاً.

وأمّا الكبرى الثانية: وهي كُبرى سماع دعوى ذي اليد، فقد أشبعنا الكلام فيها في رسالتنا «القواعد الثلاث» المطبوعة، وفيها مباحث هامّة نافعة، من أراد الإطّلاع عليها فليراجعها.

وأمّا الكبرى الثالثة: وهي كُبرى سماع قول الأمين، فقد مرّ الكلام فيها في كتاب الإجارة والوديعة(2).ا.

ص: 279


1- جواهر الكلام: ج 40/399 ولكن نصّ هذا الكلام موجود في تكملة العروة الوثقى: ج 2/139-140.
2- فقه الصادق: ج 28/100 و ج 29/42 وما بعدها.

مَنْ مَلِك شيئاً مَلِك الإقرار به

وأمّا الكُبرى الرابعة: وهي سماع إقرار من مَلِك شيئاً وتسلّط عليه وإنْ لم يكن ملكاً له بالملكيّة الاعتباريّة.

والمراد بها أنّ مَنْ له التصرّف في شيء وإنْ لم يكن ملكاً له، ولا له السلطنة المطلقة عليه، كالوكيل والعبد المأذون ومن ماثل، كان إقراره ماضياً ونافذاً.

ثمّ إنّ المراد بنفوذ إقراره، ليس كون إقراره كإقرار ذلك الغير الذي يتصرّف المُقرّ عنه أو له حتّى أنّه لا يُسمع منه بيّنة على خلافه فضلاً عن حلفه على عدمه، بل المراد به:

إمّا أنّ إقراره به نافذٌ بالنسبة إلى الأصيل، كنفوذ إقراره وإنْ لم يترتّب عليه جميع آثار إقراره، من غير فرقٍ بين أن يقع هناك دعوى، وبين أن لا تكون، ولا بين أن يكون الدّعوى مع الأصيل، أو مع ثالث، فلو أخبر الوكيل بقبض الدّين من الغريم، فإخباره يكون بمنزلة البيّنة للغريم على الأصيل لو ادّعى عليه بقاء الدّين.

أو أنّ قوله يُقبل بالنسبة إلى الأصيل لو أنكره، فيختصّ بالتداعي الواقع بينهما، فلاتعرّض فيه لقبول قوله بالنسبة إلى الأصيل لو كانت الدّعوى ترجع على ثالث، حتّى يكون كالشاهد للثالث على الأصيل.

والمتيقّن هو الثاني.

والوجه في ثبوتها:

1 - الإجماع، قال الشيخ الأعظم رحمه الله(1):

ص: 280


1- كتاب الطهارة: ج 2/45 (ط. ق).

(القضيّة المذكورة في الجملة إجماعيّة، بمعنى أنّه ما من أحدٍ من الأصحاب ممّن وصل إلينا كلامهم إلّاوقد عمل بهذه القضيّة في بعض الموارد، بحيثُ نَعلم أن لا مستند له سواها)، انتهى .

2 - وبناء العقلاء عليه، كما في إقرار العقلاء على أنفسهم، وإليه نظر بعض الفقهاء(1) حيث قال:

(إنّ السيرة قائمة على معاملة الأولياء، بل مطلق الوكلاء، معاملة الأصيل في إقرارهم كتصرّفاتهم).

أقول: قد أفاد المحقّق العراقي رحمه الله(2) في وجه ثبوتها:

(أنّها من القواعد الإصطياديّة من مدارك مختلفة، واردة في مقامات خاصّة، كما ورد النَّص(3) في العبد المأذون في التجارة، المشتمل على لفظ الإقرار، ونفوذه في حقّ مولاه وعليه، ونفوذ إقرار الوكيل والأمين في الجهة الراجعة إلى أمانته)، انتهى .

ولتمام الكلام في هذه الكبرى الكليّة محلّ آخر.

قبول دعوى ما لا يُعلم إلّامن قِبل المُدّعي

وأمّا الكبرى الخامسة: وهي كُبرى سماع دعوى ما لا يُعلم إلّامن قِبل المُدّعي.

أقول: الظاهر أنّها في الجملة إجماعيّة، وقد استدلّ بها الفقهاء في موارد خاصّة، وظاهرهم كونها من المسلّمات، وقد ذكر الأصحاب مواضع يقبل فيها قول المُدّعي

ص: 281


1- رسائل فقهيّة للشيخ الأنصاري: ص 197.
2- كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 133.
3- لم أظفر به في كتب الحديث والفتوى، (من المصنّف حفظه المولى).

بغير بيّنة ولا يمين، وقد ذكرها الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(1) وأنهاها إلى اثنين وعشرين موضعاً، واستدلّوا في جملةٍ منها بهذه القاعدة، وإليك تلكم الموارد:

1 - دعوى الصَّبي الحربي الإنبات بعلاجٍ ليلحق بالذَّراري، فلا يُقتل.

2 - دعوى البلوغ بالإحتلام، بل والإنبات، بناءً على أنّ محلّه من العورة.

3 - ما لو ادّعى الذِّمي الإسلام قبل الحول، ليتخلّص من الجِزية، بناءً على وجوبها عليه مع الإسلام بعده.

4 - ادّعاء صاحب النصاب إبداله في أثناء الحول.

5 - ما لو خَرص عليه فادّعى النقصان.

إلى غير تلكم من الموارد التي استدلّوا للحكم بهذه القاعدة.

أقول: قد تنظّر بعض الأصحاب(2) في بعض تلك الموارد، لا للتشكيك في هذه القاعدة، بل لجهاتٍ اُخر، مثلاً:

أُورد على الحكم في المورد الأوّل: بأنّ مقتضى إطلاق ما دلّ (3) على أنّ الإنبات أمارة البلوغ، الحكم به في الفرض.

وبالجملة: تسالم الأصحاب على هذه القاعدة ممّا لا يُقبل الإنكار.

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - ما دلّ (4) من الأخبار على أنّ العِدّة والحيض إلى النساء، فإذا ادّعتْ صُدِّقت.ا.

ص: 282


1- مسالك الأفهام: ج 13/500.
2- مسالك الأفهام: ج 13/501-502.
3- الكافي: ج 7/132 ح 3، وسائل الشيعة: ج 20/277 ح 25625.
4- الكافي: ج 6/101 باب أنّ النساء يصدقن في العدّة والحيض، وسائل الشيعة: ج 22/222 باب 24 باب أنّ المرأة إذا ادّعت انقضاء العدّة مع الإمكان قبل قولها.

وفي بعض الأخبار - على ما أفاده الكني قدس سره(1) في محكيّ «كتاب القضاء» - التعليل بأنّه يتعذّر عليها الإشهاد.

ولعلّه إلى ذلك نظر القوم في تعليلهم سماع الدّعوى في أمثال هذه الموارد، بتعذّر إقامة الشهادة.

وظاهر كلمات القوم - حيث ذكروا جملةً من صُغريات هذه الكبرى الكليّة في كتاب القضاء، في ذيل أحكام الحلف، بعد أن ذكروا أنّه لا يَجري في الحدود - أنّ مرادهم ذلك حتّى في مقام النزاع.

ولكنّه مشكلٌ ، لما مرّ من أنّ الفصل للخصومة، والدّعوى المسموعة، لابدّ وأن يكون إمّا بالبيّنة أو باليمين، فلا وجه لعدم اليمين عليه.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّه مع كون المُدّعى به شيئاً لا يُعلم إلّامن قِبله، لا يتصوّر النزاع والمخاصمة فيه، لعدم إمكان العلم به من غير ناحيته، ولا إقامة البيّنة عليه.

وعليه، فيصحّ إطلاق كلامهم أنّه يُسمع قوله بلا يمين.

***3.

ص: 283


1- حكي عنه في كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 133.

كيفيّة التوصّل إلى الحقّ

المسألة الثانية: في التوصّل إلى الحقّ .

أقول: ويتحقّق الوصول إلى الحقّ إمّا بالعقوبة أو بالمال:

والأوّل: إمّا قصاصٌ أو حَدّ، أمّا الدِّية فهي داخلة في المال.

وأمّا القصاص: ففيه قولان:

1 - عدم الاحتياج إلى الحاكم، وجواز استقلال الولي فيه.

اختاره الشيخ في موضع من «المبسوط»(1)، والمحقّق في «النافع»(2)، والمصنّف في أحد قوليه(3)، وأكثر المتأخّرين بل عامّتهم(4).

2 - وجوب الرفع إلى الحاكم.

ذهب إليه الشيخ رحمه الله في موضع آخر من «المبسوط»(5)، و «الخلاف»(6) على ما حُكي، وعن «المقنعة»(7)، و «المهذّب»(8)، و «الكافي»(9)، و «القواعد»(10)، و «الغنية»(11)،

ص: 284


1- المبسوط: ج 7/54.
2- المختصر النافع: ج 2/299.
3- تحرير الأحكام: ج 2/255.
4- رياض المسائل: ج 15/154، مستند الشيعة: ج 17/443.
5- حكاه عنه صاحب التنقيح: ج 4/444.
6- الخلاف: ج 2/369.
7- المقنعة: ص 760.
8- المهذّب: ج 2/485.
9- الكافي في الفقه: ص 383.
10- قواعد الأحكام: ج 3/484.
11- حكاه عن الغنية في مستند الشيعة: ج 17/443، وفي (الجوامع الفقهيّة) الغنية: ص 620.

وقضاء «المسالك»(1).

وعن «الغنية»: نفي الخلاف فيه.

وعن «الخلاف»(2): الإجماع عليه.

ويشهد للأوّل: إطلاقات الآيات(3) والروايات(4) الدالّة على جواز قصاص الوليّ من الجاني، واشتراطه بذلك يُنفى بالإطلاق وبالأصل.

استدلّ للثاني صاحب «المسالك»(5):

1 - بعظم خطره، والاحتياج في إثباته.

2 - وبأنّ استيفاءه وظيفة الحاكم على ما تقتضيه السياسة وزجر النّاس، وفي غيرها.

3 - وبالإجماع المنقول.

4 - وبالقياس على الحدود بالطريق الأولى.

5 - وبمفهوم خبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام:

«من قتله القصاص بأمر الإمام، فلا دية له في قتلٍ ولا جراحةٍ »(6).

6 - وباحتياج إثبات القصاص واستيفاءه إلى الاجتهاد للاختلاف.

أقول: وفي كلّ نظرٌ:9.

ص: 285


1- مسالك الأفهام: ج 14/68-69.
2- الخلاف: ج 2/369.
3- سورة البقرة: الآية 178 و 179 و 194، سورة المائدة: الآية 45.
4- الكافي: ج 7/282 ح 9، وسائل الشيعة: ج 29/52 باب 19 أنّ الثابت بقتل العمد هو القصاص.
5- مسالك الأفهام: ج 14/68.
6- تهذيب الأحكام: ج 10/279 ح 17، وسائل الشيعة: ج 29/183 ح 35419.

أمّا الأوّل: فلأنّ عظم خطره يقتضي عدم جواز القصاص ما لم يثبت جوازه، والكلام فيما إذا ثبت جوازه في اشتراط اذن الحاكم وعدمه.

وأمّا الثاني: فلأنّ مقتضى السياسة عدم الاستيفاء ما لم يثبت، لا الرفع إلى الحاكم، بل ربما يقال إنّها تقتضي مباشرته.

وأمّا الثالث: فلعدم حجيّته، سيّما مع مخالفة الأكثر.

وأمّا الرابع: فلمنع الأولويّة، لعدم مقطوعيّة العلّة.

وأمّا الخامس: فلأنّه لا مفهوم للوصف، مع أنّ كلّ قصاصٍ شرعي فهو بأمر الإمام عليه السلام وإذنه.

أضف إليذلك: أنّ غاية مدلوله على فرض الدلالة ثبوت الدِّية عليه لو اقتصّ بغير إذن الإمام، لا عدم جوازه.

وأمّا السادس: فلخروج محلّ الخلاف عن مورد النزاع، فإنّ الكلام في موردٍ ثبت جواز القصاص.

وعليه، فالأظهر عدم وجوب الرفع إلى الحاكم.

والظاهر عدم وجوب الرفع في قصاص الطرف أيضاً، لعموم أدلّته.

وأمّا الحَدّ: فالظاهر أنّه لا يجوزُ المبادرة إليه بدون إذن الحاكم، للإجماع، ولخبر حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلت: من يقيم الحدود، السلطان أو القاضي ؟

قال عليه السلام: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم»(1).4.

ص: 286


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4/71 ح 5135، وسائل الشيعة: ج 27/299 ح 33794.

وقد تقدّم أنّ الحكم إنّما هو وظيفة المجتهد الجامع للشرائط في زمان الغيبة.

هذا كلّه إذا كان الحقّ عقوبة.

المقاصّة ودليلها

وأمّا إنْ كان الحقّ المطلوب مالاً:

فتارةً : يكون عيناً.

وأُخرى : يكون ديناً.

وعلى التقديرين:

تارةً : يكون المطلوب منه مُقرّاً به باذلاً غير مماطلٍ ولا معتذر.

وأُخرى : لا يكون كذلك.

فهاهنا فروعٌ ، وقبل التعرّض لها لابدّ من ذكر أدلّة جواز المقاصّة، الذي لا خلاف فيه في الجملة، بل عليه الإجماع في جملةٍ من الكلمات، وهي آيات وروايات:

أمّا الآيات:

فقوله تعالى: (فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (1).

وقوله سبحانه: (فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) (1).

وقوله عزّ وجلّ : (وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ ) (3).

وأمّا الروايات:

فمنها: صحيح الحضرمي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

ص: 287


1- سورة النحل: الآية 126.

«قلت له: الرّجل عليه دراهم، فيجحدني وحلف عليها، أيجوزُ لي إن وقع له قِبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي ؟

فقال عليه السلام: نعم، ولكن لهذا كلام، قلت: وما هو؟

قال: يقول اللّهُمَّ لم آخذه ظلماً ولا خيانةً ، وإنّما أخذته مكان مالي الذي أخذ منّي لم أزدد شيئاً عليه»(1).

ومثله صحيحان(2) آخران، وزاد في آخر أحدهما: «وإنْ استَحلَفه على ما أخذ منه، جاز أن يحلف إذا قال هذه الكلمة».

ومنها: خبر عبد اللّه بن وضّاح، قال: «كان بيني وبين رجلٍ من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم...

إلى أن قال: فوقع له بعد ذلك عندي أرباح ودراهم كثيرة، فأردتُ أن أقتصّ الألف درهم، فكتبتُ إلى أبي الحسن عليه السلام...

إلى أن قال: فكتبَ عليه السلام: لا تأخذ منه شيئاً، إنْ كان ظلمك فلا تظلمه، ولولا أنّك رضيت بيمينه فحلفته، لأمرتُك أن تأخذ من تحت يدك، ولكنّك رضيتَ بيمينه، وقد ذهبتِ اليمينُ بما فيها»(3).

ومنها: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن رجلٍ كان له على آخر دراهم فجحده، ثمّ وقعت للجاحد مثلها عند المجحود، أيحلّ له أن يجحده مثل ما جَحَد؟

قال عليه السلام: نعم، ولا يزداد»(4).8.

ص: 288


1- تهذيب الأحكام: ج 6/348 ح 103، وسائل الشيعة: ج 17/273 ح 22502.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/186 ح 3701، وسائل الشيعة: ج 17/274 ح 22504.
3- الكافي: ج 7/430 ح 14، وسائل الشيعة: ج 27/246 ح 33692.
4- وسائل الشيعة: ج 23/287 ح 29584، مسائل عليّ بن جعفر عليه السلام: ص 178.

ومنها: صحيحا دواد بن رزين وابن زربي:

قال في أحدهما: «قلت لأبي الحسن موسي عليه السلام: إنّي اُخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، والدابة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال، فلي أن آخذه ؟

قال عليه السلام: خُذ مثل ذلك، ولا تزد عليه»(1).

وقال في الآخر: «قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: إنّي اعاملُ قوماً، فربما أرسلوا إليّ فأخذوا مني الجارية والدابة، فذهبوا بهما مني، ثمّ يدور لهم المال عندي، فآخذ منه بقدر ما أخذوا منّي ؟

فقال عليه السلام: خُذ منهم بقدر ما أخذوا منك ولا تزد عليه»(2).

ومنها: خبر جميل بن درّاج، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ يكون له على الرّجل الدّين فيجحده، فيظفر من ماله بقدر الذي جَحَده، أيأخذه وإنْ لم يعلم الجاحد بذلك ؟ قال عليه السلام: نعم»(3).

ومنها: خبر أبي بكر الأرمنيّ ، قال: «كتبتُ إلى العبد الصالح عليه السلام: جُعِلت فداك إنّه كان لي على رجلٍ دراهم فجحدني، فوقعتْ له عندي دراهم، فأقبض من تحتِ يَدي ما لي عليه، وإنْ استَحلَفني حلفتُ أن ليس له عليّ شئ ؟

قال عليه السلام: نعم، فاقبض من تحت يدك، وإن استحلفك له أنّه ليس له عليك شيء»(4).0.

ص: 289


1- تهذيب الأحكام: ج 6/338 ح 60، وسائل الشيعة: ج 17/272 ح 22499.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/187 ح 3703.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/349 ح 107، وسائل الشيعة: ج 17/275 ح 22508.
4- تهذيب الأحكام: ج 8/293 ح 75، وسائل الشيعة: ج 23/285 ح 29580.

ومنها: خبر إسحاق بن إبراهيم، قال: «إنّ موسى بن عبد الملك كتبَ إلى أبي جعفر عليه السلام يسأله عن رجلٍ دفع إليه رجلٌ مالاً ليصرفه في بعض وجوه البِرّ، فلم يمكنه صرف ذلك المال في الوجه الذي أمر به، وقد كان له عليه مالٌ ، فسأل: هل يجوز لي أن أقبض مالي، أو أردّه عليه ؟

فكتب عليه السلام: أقبض مالك ممّا في يدك»(1).

ومنها: خبر عليّ بن سليمان، قال: «كتبتُ إليه: رجلٌ غَصب مالاً أو جاريةً ، ثمّ وقع عنده مالٌ بسبب وديعةٍ أو فرشٍ مثل ما خانه أو غصبه، أيحلّ له حَبسه عليه ؟

فكتب عليه السلام: نعم، يحلّ له ذلك، إنْ كان بقدر حقّه، وإنْ كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه، ويُسلّم الباقي إليه إن شاء اللّه»(2).

ومنها: صحيح البقباق: «إنّ شهاباً ماراه في رجلٍ ذهب له بألف درهم، واستودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العبّاس: فقلت له: خُذها مكان الألف التي أخذَ منك، فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبد اللّه عليه السلام فذكر له ذلك ؟

فقال: أمّا أنا فأحبُّ أن تأخذ وتحلف»(3).

أقول: وتمام الكلام في هذه المسألة في ضمن فروع:

***0.

ص: 290


1- تهذيب الأحكام: ج 6/348 ح 105، وسائل الشيعة: ج 17/275 ح 22506.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/349 ح 106، وسائل الشيعة: ج 17/275 ح 22507.
3- تهذيب الأحكام ج 6/347 ح 100، وسائل الشيعة: ج 17/272 ح 22500.

وله انتزاعُ العين،

بيان مورد المقاصّة وما يعتبر فيها

الفرع الأوّل: المال المطلوب إنْ كان عيناً لا يجوزُ لمالكه الأخذ من مال الغاصب بقدره، (و) إنّما (له انتزاع العين) من غير رفعٍ إلى الحاكم، إذا كان المالك قادراً على الأخذ، من دون فتنةٍ أو مشقّةٍ ، ولا ارتكاب أمرٍ غير مشروع، بلا خلافٍ فيهما.

أمّا جواز أخذ ماله: فلعموم ما دلّ على تسلّط الإنسان على ماله(1).

وأمّا عدم جواز الأخذ من مال الغاصب: فللأصل والإجماع.

والنصوص المتقدّمة مختصّة بصورة عدم إمكان أخذ ماله، فإنّ جملة منها في الدّين، وما كان منها شاملاً للعين كخبري ابن وضّاح وسليمان، وصحيح داود، لا إطلاق لشيء منها في الشمول لما أمكن أخذ ماله.

وإنْ لم يمكن أخذ ماله أصلاً، جاز له المقاصّة من ماله الآخر، بلا حاجةٍ إلى الاستئذان من الحاكم، لإطلاق الأخبار المتقدّمة، بل والآيات.

وإنْ أمكنه أخذ ماله لكن بمشقّة، أو ارتكاب محذورٍ، مثل الدخول في داره، أو كسر قفله، أو ما شاكل، فالظاهر جواز أخذ ماله، كما يجوزُ له المقاصّة من ماله الآخر.

أمّا جواز المقاصّة: فلإطلاق الأدلّة.

ص: 291


1- بحار الأنوار: ج 1/151 (ط. ق)، ج 2/272 (ط. ج).

وأمّا جواز أخذ ماله: فلأنّ عدم جواز التصرّف في مال الغير في الفرض ضرريٌ على المالك، منفيّ بحديث لا ضرر(1)، ولا يعارضه تضرّر الغاصب بذلك، فإنّه يُؤخذ بأشقّ الأحوال.

نعم، إذا لم يكن مقصّراً، بأن كان جاهلاً بأنّه ماله، ففي جواز أخذه إذا استلزم الضَّرر وعدمه وجهان، بل وجوه، وكلمات الفقهاء في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب.

قال المصنّف في محكيّ التذكرة(2): (لو غصب ديناراً فوقع في محبرة الغير بفعل الغاصب، أو بغير فعله، كسرت لردّه، وعلى الغاصب ضمان المحبرة، لأنّه السَّبب في كسرها، وإنْ كان كسرها أكثر ضرراً من تبقية الواقع فيما ضمنه الغاصب ولم تكسر)، انتهى .

وقال الشهيد رحمه الله في محكي «الدروس»(3): (ولو أدخل ديناراً في محبرته، وكانت قيمتها أكثر، ولم يمكن كسره، لم يُكسر المِحبرة، وضَمِن صاحبها الدينار مع عدم تفريط مالكه)، انتهى .

قال الشيخ الأعظم(4): - بعد نقل ذلك من الشهيد -: (ولابدّ أن يقيّد إدخال الدينار بكونه بإذن المالك، على وجهٍ يكون مضموناً، إذ لو كان بغير إذنه، تعيّن كسر المِحبرة وإن زادت قيمتها، وإنْ كان بإذنه على وجهٍ لا يضمن، لم يتّجه تضمين صاحبها الدينار)، انتهى .6.

ص: 292


1- الكافي: ج 5/280 ح 4، وسائل الشيعة: ج 18/32 ح 23073.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/391 (ط. ق).
3- الدروس: ج 2/110.
4- رسالة فقهيّة للشيخ الأنصاري: ص 126.

والحقّ أن يقال: إنّه إن أمكن المقاصّة من ماله الآخر تعيّن ذلك، جمعاً بين الحقّين، وإلّا فلا يبعد القول بملاحظة أكثر الضّررين.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ المستفاد من الأخبار ومذاق الشارع، أنّ الغاصب يؤخَذ بأشقّ الأحوال.

وعليه، فالأظهر جواز أخذ ماله مطلقاً.

ولو اقتصّ من الغاصب، وأخذ منه بدل ماله، فهل يحصل التعاوض بين ما أخذه مقاصّة، وبين عين ماله التي عند الغاصب، فيملك الغاصب العين، فلو رَدّ الغاصبُ العين ليس للمالك الأخذ، أم لا يحصل التعاوض وله أخذها، غاية الأمر أنّه إنْ لم يتلف ما أخذه، يجبُ عليه رَدّه إليه ؟

وجهان: والأظهر هو الأوّل، من جهة أنّ ظاهر النصوص الدالّة على المقاصّة، كون ما يأخذه المالك مِلْكاً له، ولذا لا ريب في جواز جميع التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك على القول بها فيه.

وعليه، فيمكن الاستدلال لانتقال العين إلى الضامن بوجهين:

أحدهما: إنّ أهل العرف يفهمون من الأمر بدفع البدل أو أخذه، حصول المعاوضة والمبادلة بين العين والبدل، وصيرورة كلّ منهما مِلْكاً للآخر وبدلاً عنه.

ثانيهما: إنّ مقتضى عنوان التدارك والغرامة ذلك، إذ مع فرض عدم تلف العين، لو حكم الشارع بتدارك ماليته بتمامه بعنوان تدارك ما في العهدة، وبعنوان أنّه أخذٌ للمتعذرّ، لا مناص عن الالتزام بخروجه عن ملكه، وحيث أنّ كون المتعذّر من المباحات الأصليّة، لم يقل به أحدٌ، فلابدّ من البناء على صيرورته ملكاً للضامن.

واستدلّ للثاني تارةً : بأنّ الآخذ لا يملك ما أخذه مقاصّة، نظراً إلى أنّه مع بقاء

ص: 293

العين يكون الفائتُ بسبب التعذّر هي السلطنة المطلقة على العين، فاللّازم تداركها بسلطنةٍ توازيها بأخذ المماثل، وكونه مباحاً له ليكون مقابلاً أو تداركاً للسلطنة الفائتة، فالتدارك لا يقتضي ملكيّة المتدارك في هذه الصورة، والسلطنة على الانتفاعات لا تستلزمُ الملكيّة، فالمأخوذ ليس ملكاً للآخذ فقهراً لا تصير العين ملكاً للضامن.

وأُخرى : بأنّ المأخوذ وإنْ صار ملكاً له، إلّاأنّه بعنوان الغرامة، والغرامة سادة للثلمة التي وردت على ملك المالك، فلا يقتضي لزومها على الغارم دخول العين في ملكه، لعدم كونها بدلاً عن نفس العين.

وثالثةً : أنّ ما يأخذه المقاصّ لا يكون عوضاً عن ماله، بل هو أمرٌ جوّزه الشارع عقوبةً .

ورابعةً : بمنع عدم جواز الجمع بين العِوض والمعوّض.

أقول: وفي كلّ نظرٌ:

أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ ظاهر النصوص والإجماع هو الملكيّة لا الإباحة.

وأمّا الثاني: فلأنّ تملك ما يساوي قيمة ماله لا بعنوان العقوبة والمجازاة، بل بعنوان تدارك ما في العهدة، يستلزمُ خروج العين عن ملكه، ودخولها في ملك الضامن.

وأمّا الثالث: فلأنّ ظاهر النصوص كون المأخوذ بعنوان العوضيّة من ماله لا بعنوان العقوبة.

وأمّا الرابع: فلأنّه مع تسليم العوضيّة، منع عدم جواز الجمع بين العِوض والمعوّض كما ترى ، منافٍ لمقتضى المعاوضة وللفهم العرفي.

وعليه، فالأظهر هو خروجها عن ملكه.

ص: 294

أمّا الدّين فكذلك مع الجحود، وعدم البيّنة ومع عدم البذل.

أقول: ويترتّب على ما ذكرناه، أنّه لو رجع الضامن عن جحوده، وبذل المال الذي عنده، وأراد رَدّ المال الذي اُخذ منه، أنّه لا يجبُ القبول على المقاصّ .

ودعوى أنّ التعاوض مادام الجحود، لا دليل عليها.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات المحقّق النراقي(1) في المقام فإنّه اختار أوّلاً بقاء العين على مِلك المقاصّ ، ومَنَع كون ما يأخذه عِوضاً عن ماله، ثمّ مَنَع عن عدم جواز الجمع بين العِوض والمعوّض، ثمّ قال:

(إنّ الثابت من الأدلّة، ليس أزيد من جواز التصرّف مادام الجحود والمماطلة، وأنّه يستصحب حينئذٍ عدم جواز التصرّف الثابت قبل المقاصّة).

ثمّ عارض هذا الاستصحاب باستصحاب جواز التصرّف الثابت بعد التقاصّ .

أقول: وعليك بالتأمّل التامّ فيما ذكرناه، حيث يظهر لك مواقع النظر في كلامه.

الفرع الثاني: ما ذكرناه في الفرع الأوّل إنّما هو فيما إذا كان المطلوب عيناً، و (أمّا الدّين فكذلك مع الجحود، وعدم البيّنة، ومع عدم البذل) بلا خلافٍ فيه، ويشهد به الآيات والنصوص المتقدّمة.

إنّما الكلام في أنّه هل يجوزُ المقاصّة مع إمكان الاستيفاء بالمرافعة ونحوها، بلا مشقّةٍ ولا ضررٍ، كما عن الأكثر على ما في «المسالك»(2)؟

أم لا يجوزُ كما عن «النافع»(3)؟4.

ص: 295


1- مستند الشيعة: ج 17/452.
2- مسالك الأفهام: ج 13/194.
3- المختصر النافع: ج 2/284.

الأظهر هو الأوّل، لعموم أدلّة الاقتصاص، بل صريح بعضها كخبر إسحاق المتقدّم، حيث قال فيه: «أو أردّه عليه وأقتضيه» فإنّ كلمة (الاقتضاء) صريحٌ في إمكان التوصّل.

واستدلّ للثاني:

1 - بأصالة عدم التسلّط على مال الغير بغير إذنه، خرج عنها ما إذا لم يمكن استيفاء الحقّ ، وبقي الباقي.

2 - وبانصراف الأخبار.

3 - وببعض الوجوه الاعتباريّة.

ولكن الأصل يُرفع اليد عنه بإطلاق الدليل، والانصراف ممنوعٌ ، والوجوه الاعتباريّة لا تستأهل جواباً.

جواز المُقاصّة من الوديعة

الفرع الثالث: اختلف الأصحاب في جواز الاقتصاص من الوديعة:

فعن جماعةٍ منهم الشيخ في «الاستبصار»(1) و «التهذيب»(2)، والحِلّي في «السرائر»(3)، والمحقّق في «الشرائع»(4) و «النافع»(5)، والمصنّف رحمه الله في «المختلف»(6)

ص: 296


1- الاستبصار: ج 3/53.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/349.
3- السرائر: ج 2/36.
4- شرائع الإسلام: ج 4/100.
5- المختصر النافع: ج 2/284.
6- مختلف الشيعة: ج 8/167.

و «الإرشاد»(1) و «التحرير»(2)، وغيرهم(3) في غيرها، وفي «المسالك»(4) نسبه إلى أكثر المتأخّرين: هو الجواز على كراهة.

وعن الشيخ في «النهاية»(5)، والصَّدوق في أكثر كتبه(6)، والتقي الحلبي(7)، والكيدري(8)، و الطبرسي(9)، وابن زُهرة(10) مدّعياً عليه الإجماع وهو عدم الجواز.

وعن «الدروس»(11)، وظاهر «الرّوضة»(12) التوقّف.

أقول: ومنشأ الاختلاف تعارض العمومات و النصوص الخاصّة، فالحريّ البحث في مقامين:

المقام الأوّل: فيما يقتضيه العمومات:

فقداستدلّ المجوّزون: بعموم الآيات والأخبار المتقدّمة، الدالّة على جوازالاقتصاص.

واستدلّ المانعون: بعمومات(13) وجوب رَدّ الأمانة، وحُرمة التصرّف(14)ة.

ص: 297


1- إرشاد الأذهان: ج 2/143 قوله: (ولو كان المال وديعة كره الأخذ على رأي).
2- تحرير الأحكام: ج 1/163، وكذلك: ج 2/188.
3- التنقيح الرائع: ج 4/268.
4- مسالك الأفهام: ج 14/71.
5- النهاية: ص 307، نكت النهاية: ج 2/26.
6- من لا يحضره الفقيه: ج 3/185.
7- الكافي في الفقه: ص 331.
8- حكاه صاحب رياض المسائل: ج 15/160.
9- مجمع البيان: ج 1/288.
10- غنية النزوع: ص 240.
11- الدروس: ج 3/174.
12- شرح اللّمعة: ج 3/242.
13- الكافي: ج 2/104 باب الصدق وأداء الأمانة، وسائل الشيعة: ج 19/67 باب 1 باب وجوب أداء الأمانة.
14- من لا يحضره الفقيه: ج 4/92 باب باب تحريم الأموال والدِّماء بغير حقّها، وسائل الشيعة: ج 5/120 باب 3 باب حكم ما لو طابت نفس المالك بالصلاة.

في مال الغير.

وحينئذٍ قد يقال: إنّ النسبة بين الطائفتين عمومٌ من وجه، فتتعارضان في الاقتصاص من الوديعة فتتساقطان، ويرجع إلى أصالة عدم جواز التصرّف في مال الغير.

وفيه: إنّ دليل حرمة التصرّف في الوديعة:

إمّا ما دلّ على حرمة التصرّف في مال الغير مطلقاً.

أو خصوص ما دلّ على حرمة الخيانة في الأمانة.

والنسبة بين أدلّة المقام مع الأوّل عمومٌ مطلق، فيقيّد إطلاقه بها.

وبينها وبين الثاني وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّ أدلّة المقام حاكمة عليه، فإنّ الخيانة هي التصرّف في مال الغير بلا استحقاق وولايةٍ مع الأخذ.

مع أنّه لو سُلّم التعارض بالعموم من وجه، وعدم الحكومة، لا وجه للتساقط والرجوع إلى الأصل، لأنّ المختار في تعارض العامين من وجه هو الرجوع إلى أخبار الترجيح، وهي تقتضي تقديم أدلّة الباب.

المقام الثاني: في النصوص الخاصّة:

فقد استدلّ المجوّزون بصحيح البقباق، وخبر عليّ بن سليمان المتقدّمين.

واستدلّ المانعون:

1 - بصحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلت له: الرّجل يكون لي عليه حقّ فيجحدنيه، ثمّ يستودعني مالاً، ألي أن آخذَ ما لي عنده ؟

ص: 298

قال عليه السلام: هذه الخيانة»(1).

2 - وخبر ابن أخي الفضيل بن يسار، قال: «كنتُ عند أبي عبداللّه عليه السلام ودخلتْ امرأةً وكنتُ أقرب القوم إليها، فقالت لي: اسأله، فقلت: عمّاذا؟ فقالت:

إنّ ابني ماتَ وتركَ مالاً كان في يد أخي فأتلفه، ثمّ أفاد مالاً فأودعنيه، فلي أن آخذ منه بقدر ما أتلف من شيء؟

فأخبرته بذلك، فقال عليه السلام: لا، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن مَن خانك»(2).

وقيل: إنّ الطائفتين متعارضتان، فتسقطان بذلك.

وفيه أوّلاً: إنّ المرجع في الأخبار المتعارضة أخبار الترجيح والتخيير، فلا وجه للتساقط والرجوع إلى دليل آخر.

وثانياً: إنّ إعمال قواعد التعارض إنّما هو إذا لم يمكن الجمع العرفي بين المتعارضين، وفي المقام يمكن ذلك بحمل المانعة على الكراهة، ليكون المراد من الخيانة فيها هي الخيانة الصوريّة.

وثالثاً: إنّه لو وقع التعارض بينهما، يقدم نصوص الجواز، لفتوى الأكثر التي هي أوّل المرجّحات، وللموافقة للكتاب.

فتحصّل ممّا ذكرناه: جواز الاقتصاص من الوديعة.

المُقاصّة بغير الجنس

الفرع الرابع: المشهور بين الأصحاب على ما هو المستفاد من ظاهر الفتاوى

ص: 299


1- الكافي: ج 5/98 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/275 ح 22509.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/348 ح 102، وسائل الشيعة: ج 17/273 ح 22501.

وصريح جماعةٍ ، جواز المقاصّة بغير جنس الحقّ ، وعموم أكثر الأخبار، وخصوص صحيحي داود وخبر عليّ بن سليمان شاهدان به.

إنّما الكلام في أنّه، هل يجوزُ المقاصّة من غير جِنس الحقّ إذا أمكن الأخذ من جنسه بلا صعوبة، أم لا؟

اختار ثانيهما الشهيد الثاني في «المسالك»(1)، وهو المحكيّ عن أوّل الشهيدين(2).

واختار في «المستند»(3) الأوّل، وحُكي عن جماعةٍ .

وتوقّف فيه السيّد في «ملحقات العروة»(4).

ويشهد للأوّل: عموم أدلّة جواز الاقتصاص.

واستدلّ للثاني في «المسالك»(5): بالاقتصار في التصرّف في مال الغير المخالف للأصل على أقلّ ما يندفع به الضرورة.

وفيه: إنّه لا وجه للاقتصار على المتيقّن مع وجود الدليل، وهو الإطلاق.

وربما يستدلّ له: بأنّ الأخذ من غير الجنس يتوقّفُ على تقويمٍ وتفويضٍ بقبولٍ أو بيع، وكلُّ ذلك مخالفٌ للأصل، لا يُصار إليه إلّامع التوقّف، ولا توقّف مع إمكان الأخذ من الجنس.

وفيه: إنّ التقويم ليس خلاف الأصل، والتفويض متحقّقٌ في الجنس أيضاً، مع أنّه لو سُلّم ذلك يجوز ارتكابه مع الدليل، وهو هنا موجود كما مرّ.4.

ص: 300


1- مسالك الأفهام: ج 14/74.
2- الدروس: ج 2/85.
3- مستند الشيعة: ج 17/463.
4- تكملة العروة الوثقى: ج 2/210.
5- مسالك الأفهام: ج 14/74.

وعليه، فالأظهر هو جواز الاقتصاص من غير الجنس مطلقاً.

أقول: ثمّ إنّه في المقاصّة بغير الجنس يتخيّر بين أن يأخذه بدل ماله بعد التقويم، ويجوزُ أن يبيعه، ويأخذ من ثمنه بمقدار قيمة حقّه، ويجوزُ أن يبيعه ويشتري بثمنه من جنس حقّه، كلّ ذلك لإطلاق الأدلّة.

ولو أخذ ليقتصّ منه فتلف في يده قبل أن يقتصّ منه بأحد الوجوه المذكورة، مع عدم التقصير، وعدم التأخير، أو نقصِ قيمته، لا ضمان عليه، كما لا يخفى .

الفرع الخامس: إذا لم يكن عالماً بثبوت الحقّ واقعاً، بل كان ثبوته بمقتضى الاُصول العمليّة، مع فرض جحود الغريم:

فهل يجوز التقاصّ كما في «المستند»(1)، أم لا يجوز قبل الترافع كما في «ملحقات العروة»(2)؟ وجهان:

يشهد للأوّل: أنّ جواز الاقتصاص رتّب في الآيات والنصوص على الواقع، لا على العلم، وقد حُقّق في محلّه قيام مقتضى الاُصول الشرعيّة مقام الواقع.

واستدلّ للثاني: بأنّ الظاهر من الأخبار صورة العلم بالحقّ .

ويردّه: أنّ هذه الأخبار كسائر الأخبار المتضمّنة للأحكام، المترتّبة على الواقع، لا ظهور لها في أخذ العلم في الموضوع، كي يقال إنّ الاُصول العمليّة لا تقوم مقام العلم المأخوذ في الموضوع.

وعليه، فالأظهر هو الأوّل.

الفرع السادس: لو كان الغريم غائباً، ولم يُعلم جحوده أو عدم بذله، هل يجوز2.

ص: 301


1- مستند الشيعة: ج 17/459.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/212.

التقاصّ من ماله الحاضر، كما في «المستند»(1)، للعمومات، ولإطلاق صحيح البقباق، وخبر إسحاق بل صحيح زربي، أم لا يجوز؟

الظاهر هو الثاني، لأنّ أكثر النصوص عُلّق فيها جواز التقاص على الجحود.

وأمّا صحيح البقباق: فظاهره بواسطة قوله: «في رجلٍ ذَهب له ألف درهمٍ » ذلك أيضاً.

وكذا ظاهر خبر إسحاق، ذلك بقرينة قوله: «أو أردّه عليه وأقتضيه»، الظاهر في أنّه لو لم يقتصّ من ماله، يتوقّف وصوله إليه إلى الترافع والخصومة، ولا يكون ذلك إلّامع الجحود.

وظهور صحيح زربي في ذلك أيضاً لا يُنكر، فإنّ ما يأخذه السلطان لا محالة يكون مع الجحود، أو عدم البذل.

وعلى ذلك، فالنصوص إنّما هي في صورة الجحود، أو عدم البذل والمماطلة، وحيث أنّ ذلك مشكوكٌ فيه في المفروض، فلا يجوز.

الفرع السابع: إذا كان لزيدٍ مالٌ على عمرو، وله مالٌ على بكر، وعَلم بكر بذلك، لا يبعدُ جواز المواطأة مع بكرٍ وأخذ حقّه منه، للعمومات، ويجوزُ لبكرٍ إعطائه؛ لأنّ جواز أخذ الغريم يستلزمُ ذلك، هكذا ذكره بعض المحقّقين(2).

ولكن يرد عليه: أنّه لو دلّ دليلٌ خاصّ على جواز الأخذ من بكرٍ، كان دالّاً بالدلالة الاقتضائيّة على ذلك، ولكن بما أنّ الدليل دالٌ عليه بالعموم، فلا يكون صالحاً لإثبات ذلك.1.

ص: 302


1- مستند الشيعة: ج 17/460 و 461.
2- مستند الشيعة: ج 17/460 و 461.

وبعبارة أُخرى : إنّ تعيّن الكلّي في الموجود الخارجي، يتوقّفُ على أخذ المالك، كما أنّ المديون مأمورٌ بإيصال الدّين إلى الدائن، وكون أخذ الدائن من الدائن معيّناً لكلّي ما في الذّمة، وكونه بمنزلة أخذ الدائن، يتوقّفان على دليلٍ خاصّ .

ولا يلزمُ اللّغوية في دليل الاقتصاص، لو إلتزمنا بعدم شموله للفرض لما ذُكر، حتّى يقال إنّه بدلالة الاقتضاء يدلّ على ذلك.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ تجويز الشارع الاقتصاص من مال الجاحد، بمنزلة التوكيل في ذلك، فكما أنّ أخذ الوكيل أخذٌ للموكّل، كذلك أخذ من يجوز له الاقتصاص.

ويمكن أن يقال: إنّه لزيدٍ أن يبيع ما له في ذمّة عمروٍ من بكر، ويأخذ ثمنه، فيصير بكرٌ مالكاً لما في ذمّة عمروٍ بقدر ما لعمروٍ في ذمّته، فيسقط ما في ذمّة كلّ منهما بالتهاتر.

الفرع الثامن: إذا عثر على مالٍ مشتركٍ بين الغريم وغيره:

فإن أذن الشريك لمن عثر في الاقتصاص، فلا إشكال فيه.

وإلّا فقد يقال بجواز التقاصّ من مال الغريم، ويجبُ عليه أداء مال الغير وإيصاله إليه، للعمومات، وأدلّة نفي الضّرر، لأنّ حُرمة مال الشريك ليست بأزيد من حرمة الزائد على الحقّ من مال الغريم.

ولكن يردّه: أنّ العمومات لا تصلحُ دليلاً لجواز التصرّف في مال غير الغريم بدون إذنه، إذ غاية الأمر كون الدائن بمنزلة المديون، وليس للمديون نفسه ذلك، فضلاً عمّن هو بمنزلته.

وأدلّة نفي الضَّرر لا تشمل المقام، لتعارض الضّررين، ولا يقاس مال الشريك

ص: 303

بمال الغريم نفسه الذي يؤخذُ بأشقّ الأحوال.

وعليه، فالأظهر عدم الجواز.

الفرع التاسع: إذا كان الغريم ناسياً للدين، أو جاهلاً بأنّه مديون، لا يجوزُ المقاصّة، كما ذكرناه في الفرع الخامس، فإنّ الكلام هنا فتوىً ودليلاً كالكلام في ذلك الفرع.

التقاصّ من مستثنيات الدّين

الفرع العاشر: قال المحقّق النراقي في «المستند»(1):

(هل يجوز تقاصّ مستثنيات الدّين، كفَرَس ركوبه، وثياب بدنه ونحوها، أم لا؟

الظاهر أنّه إنْ لم يتملّك ما يفي به الدّين غير هذه الاُمور، لا يجوز، ووجهه ظاهرٌ، وإلّا فيجوزُ، لأنّ المستثنى ليس عين المذكورات، بل أعمّ منها ومن أثمانها)، انتهى .

أقول: ما أفاده في الصورة الثانية متينٌ .

وأمّا ما أفاده في الصورة الأُولى ، فيمكن أن يورد عليه:

بأنّ إطلاق أدلّة الباب يقتضي الجواز، وما دلّ على استثناء تلكم الاُمور إنّما يختصّ بأداء المديون نفسه، ويدلّ على أنّه لا يجبُ عليه الأداء منها، ولا يدلّ على عدم الجواز، وعليه فما المانع من الالتزام بجواز الاقتصاص، وقياس الجاحد على غيره مع الفارق ؟! ولابدّ من التأمّل.

ص: 304


1- مستند الشيعة: ج 17/462.

الفرع الحادي عشر: إذا كان الغريم مديوناً بديونٍ لا يفي ماله بجميعها:

فإن كان قبل حَجْر الحاكم له عن التصرّف، يجوزُ لصاحب الحقّ المقاصّة بتمام حقّه.

وإنْ كان بعده لا يجوزُ، لأنّ ماله حينئذٍ متعلّقٌ لحقّ الغير، ولا يجوز التقاص ممّا هو متعلّق لحقّ الغير، كما إذا كان المال رهناً، فإنّه لا إشكال في عدم جواز المقاصّة منه.

وبه يظهر حكم ما إذا كان الغريم ميّتاً، لا يفي تركته بتمام ديونه، فإنّه لا يجوزُ المقاصّة حينئذٍ لتعلّق حقّ الغرماء بتركته.

الفرع الثاني عشر: قال المحقّق النراقي في «المستند»(1): (الحقّ الذي يجوز تقاصّه أعمٌّ من أن يكون ذو الحقّ معيّناً أو أحد الأفراد، فلو أوصى أحدٌ بشيء لواحدٍ من أولاد زيد، يجوزُ لأحدهم مقاصّته بعد الجحود أو المماطلة، لصدق كون حقّه عليه، لأنّ ذلك أيضاً نوعُ حقّ ، وعلى هذا فيجوزُ للفقير تقاصّ الزكاة أو الخمس ورَدّ المظالم عن الغنيّ المماطل.

وهل يجوزُ للحاكم ذلك للإيصال إلى أهله ؟

الظاهر نعم، بل يجبُ ، لما مرّ من وجوب دفع الظلم عن المظلوم)، انتهى .

ولكن يمكن أن يقال: إنّ الزكاة والخمس وما شاكل تكون ملكاً للكلّي لا للأفراد، فكلّ فردٍ لا يكون مالكاً لها كي يجوزُ له المقاصّة.

نعم، إذا أذنَ الحاكم الشرعي من باب الولاية الشرعيّة في الاقتصاص جاز،2.

ص: 305


1- مستند الشيعة: ج 17/462.

لأنّه حينئذٍ يكون من قبيل اقتصاص وليّ المالك بالتسبيب.

وعلى ذلك، فالأظهر اعتبار إذنه ولو على نحو العموم.

الفرع الثالث عشر: المشهور بين الأصحاب عدم وجوب الدُّعاء الذي تضمّنته أخبار الحضرمي عند إرادة التقاصّ .

وفي «الجواهر»(1): أنّه يمكن تحصيل الإجماع عليه. وعن الصَّدوق في «الفقيه»(2)، والشيخ في «التهذيب»(3): وجوبه.

أقول: الجمود على ظاهر الأخبار يقتضي البناء على وجوبه، ولكن من المحتمل أن يكون المراد بالكلام فيها الالتزام النفساني، وقصد الأخذ بأخذه كونه عِوضاً عن ماله، وبعنوان المقاصّة، لا بعنوان الخيانة، لا وجوب التلفّظ بذلك، فلو لم يكن ملتفتاً إلى التقاصّ ، أو لم يكن عالماً بجوازه وأخذه بغير قصد العوضيّة، لم يجز ولم يملك، وإطلاق الكلام على الالتزام شائعٌ - مثل ما يقال: إنّ كلام اللّيل يمحوه النهار -.

أقول: ويدفع هذا الاحتمال قوله: «يقول اللّهُمَّ ... الخ»، وعلى ذلك فيتعيّن حمله على الاستحباب لفتوى الأصحاب.

***4.

ص: 306


1- جواهر الكلام: ج 40/36.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/186 ح 3700.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/198 ح 64.

ولو ادّعى ما لا يدَ لأحدٍ عليه، قَضى له به مع عدم المنازع، ويُحكم على الغائب مع البيّنة، ويُباع ماله في الدّين، ولا يُدفع إلّابكفيل.

البحث عن جملةٍ من أحكام اليد

المسألة الثالثة: (ولو ادّعى ما لا يد لأحدٍ عليه، قضى له به مع عدم المنازع)، وهذا الحكم متّفقٌ عليه لاخلاف فيه لماتقدّم في أوائل هذا الفصل عند بيان الكبريات، والتي منها كبرى سماع دعوى ما لا معارض له.

ثمّ إنّ في المقام فرعا مناسباً ذكره المحقّق في «الشرائع»(1) وغيرها(2)، وهو ما لو انكسرت السفينة في البحر، قالوا: فما أخرجه البحر فهو لأهله، وما أُخرِجَ فهو لمُخرِجه.

وقد مرّ الكلام في كتاب الأطعمة والأشربة(3)، في مسألة الإعراض، وأنّه هل يوجبُ ذلك الخروج عن الملك أم لا.

المسألة الرابعة: (ويُحكم على الغائب مع البيّنة ويُباع ماله في الدّين، ولا يُدفع إلّا بكفيل) وقد مرّ الكلام فيها في خاتمة الفصل الثاني(4).

***

ص: 307


1- شرائع الإسلام: ج 4/100.
2- المختصر النافع: ج 2/284.
3- فقه الصادق: ج 36/195.
4- تقدّم في صفحة 240 من هذا المجلّد في مبحث: (في بيان الحكم على الغائب).

ولو تنازع اثنان ما في يدهما، فلهما بالسَّويّة، ولكلّ منهما إحلاف صاحبه.

حكم تنازع اثنين ما في يدهما أو أحدهما

المسألة الخامسة: (ولو تنازع اثنان ما في يدهما) فادّعى كلّ منهما أنّ مجموعه له، ولا بيّنة لواحدٍ منهما:

فالمشهور بين الأصحاب: جريان قاعدة المُدّعي والمنكر، حيث أنّ يد كلّ منهما على النصف المُشاع، فيكون كلّ منهما مدّعياً بالنسبة إلى ما في يد صاحبه، فيرجع إلى قاعدة: (البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه)، (ف) تكون النتيجة أنّ المال (لهما بالسَّوية، ولكلٍّ منهما إحلاف صاحبه) على نفي ما يدّعيه.

وعن «الخلاف»(1)، و «الغنية»(2)، و «الكافي»(3)، و «الإصباح»(4)، وفي «الشرائع»(5)، و «المستند»(6): التنصيف بينهما من غير يمين.

أقول: يقع الكلام في أمرين:

تارةً : فيما يستفاد من القواعد العامّة.

وأُخرى : فيما يستفاد من النصوص الخاصّة.

ص: 308


1- الخلاف: ج 6/329.
2- غنية النزوع: ص 444.
3- الكافي في الفقه: ص 453. قوله: (وإذا تنازع اثنين شيئين في أيديهما أو لا يد لأحدهما فيه...).
4- إصباح الشيعة بمصباح الشريعة: ص 531، 535.
5- شرائع الإسلام: ج 4/101.
6- مستند الشيعة: ج 17/347.

أمّا الأمر الأوّل: فإن كان يد كلٍّ منهما على النصف، فلا إشكال في أنّه يصدق على كلّ منهما أنّه مُدّعٍ في النصف، ومنكرٍ في النصف الآخر، ومقتضى قاعدة: (البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه) أن يحلف كلّ منهما لنفي ما يدّعيه الآخر.

وإنْ كان يدُ كلّ منهما على الكُلّ كدارٍ سَكَناها معاً:

ففي «ملحقات العروة»(1): (أنّه حيثُ يكون يد كلٍّ منهما على الكُلّ لا على النصف، لعدم تعقّل كونها على النصف المُشاع إلّابكونها على الكُلّ ، إذ كلّ جزءٍ يُفرض فيدِ كلّ منهما عليه، فيكون المورد من التّداعي لا المُدّعي والمنكر، فلا يدخل تحت قوله: (البيّنة للمدّعي واليمينُ على المُدّعى عليه). ومقتضى القاعدة - بعد عدم كونه خارجاً عنهما لمكان كون يدهما عليه - التنصيف بينهما، لا حلف إذ لا دليل عليه)، انتهى .

وفيه: أنّه قد مرّ في كتاب البيع(2) أنّ ملك المشاع ليس عبارة عن ملكيّة بعض المال، فلو كان مالٌ لشخصين ليس معنى ذلك مالكيّة كلّ منهما لنصف ذلك المال، بحيثُ يكون التنصيف في المملوك، بل معناه مالكيّة كلّ منهما لتمام المال بالملكيّة الناقصة.

فإنْ شئت فعبّر عنه: بثبوت الملكيّة لهما معاً لتمام المال، فيكون الفرق بين الملكيّة الإشاعيّة والمفروزة، باختلاف الكيفيّة في نفس الملكيّة.

وعلى هذا، فَيَد كلّ منهما وإنْ كان على تمام المال، ولكن بما أنّه تحت يدهما معاً، فهما معاً أمارة كونه لهما، لا بالملكيّة المستقلّة، بل بالمُشاعة بالنحو المعقول، فلكلٍّ4.

ص: 309


1- تكملة العروة الوثقى: ج 2/125.
2- فقه الصادق: ج 24/194.

منهما حُجّة على النصف بذلك المعنى، فيكون منكراً كما أفاده الأصحاب، فيشمله قاعدة المُدّعي والمنكر، فمقتضى القاعدة هو لزوم حلف كلّ منهما على نفي ما يدّعيه الآخر، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في رسالتنا «القواعد الثلاث» المطبوعة.

وأمّا الأمر الثاني: فقد يقال إنّ مقتضى النصوص الخاصّة، هو التنصيف بينهما بلا حلفٍ ، لا حظ:

1 - مرسل ابن المغيرة الصحيح عن ابن محبوب، عن غير واحدٍ من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك ؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: أمّا الذي قال هما بيني وبينك، فقد أقرَّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له فيه شيءٌ وأنّه لصاحبه، ويقسّم الآخر بينهما»(1).

2 - وموثّق يونس، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في المرأة تموتُ قبل الرّجل، أو الرّجل يموتُ قبلها، وما كان من متاع الرّجل والنساء فهو بينهما»(2).

3 - وقويّ السّكوني، عن الإمام الصادق، عن أبيه عليهما السلام: «في رجلٍ استودع رجلاً دينارين، فاستودعه آخر ديناراً، فضاع دينارٌ منهما، فقضى: لصاحب الدينارين ديناراً، ويقسمان الدينار الباقي بينهما نصفين»(3).

أقول: ولكن الأخيرين غير مربوطين بالمقام، سيّما خبر السّكوني، بل الوجه في5.

ص: 310


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/35 ح 3274، وسائل الشيعة: ج 18/450 ح 24022.
2- تهذيب الأحكام: ج 9/302 ح 39، وسائل الشيعة: ج 26/216 ح 32857.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/208 ح 14، وسائل الشيعة: ج 18/452 ح 24025.

ولو كان في يد أحدهما، فللمتشبِّث مع اليمين.

التنصيف فيه تردّد المال بينهما مع عدم يدٍ لأحدهما عليه، وإنّما حُكِم بالتنصيف لقاعدة العدل والإنصاف المصطادة من النصوص منها هذا الخبر.

وأمّا الأوّل: فهو وإن دلّ على التنصيف، لكنّه غير مربوطٍ بباب المرافعة والمخاصمة، بل يدلّ على حجيّة يد كلّ منهما على نصف ما في يدهما.

وعليه، فلا معارض لما دلّ على توقّف القضاء على الحلف.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة، هو التنصيف بينهما، وفي مورد النزاع والخصومة، لكلّ منهما إحلاف صاحبه، وعلى هذا:

لو حلفا يُقسّم المال بينهما بالسَّوية.

ولو حَلف أحدهما أوّلاً ولم يحلف الآخر، ورَدّ اليمين على الأوّل وحلف، يكون تمام المال له، ولا يكفيه الحلف الأوّل، لأنّه على النفي، والمردود على الإثبات.

نعم، لو رَدّ الحلف على الثاني، فالظاهر كفاية حلف واحدٍ، ولا يجبُ التعدّد، لأصالة تداخل الأسباب.

(ولو كان) ما تنازعا فيه (في يد أحدهما) فيقدّم قوله لأنّ يده حجّة على ملكيّته له، فيكون منكراً، وخصمه مدّعياً، وله إقامة البيّنة.

وإلّا (فللمتشبّثِ ) المال (مع اليمين).

وإنْ نكل، حُكِم به للمُدّعي بناءً على المختار من الحكم بالنكول، وكذا إنْ رَدّ وحلف المُدّعي.

ص: 311

ولو كان في يد ثالثٍ فهي لمن صَدَّقه، وللآخر إحلافه،

وإنْ لم يحلف بعد الرَّد، سقطت الدّعوى أيضاً، ويشهد بذلك - مضافاً إلى قاعدة المُدّعي والمنكر - بعض النصوص(1) الخاصّة.

لو كانت العين بيد ثالث

(ولو كان) العين المتنازع فيها (في يد ثالثٍ ) ولا بيّنة:

فإمّا أن يُصدّق الثالث أحدهما بخصوصه.

أو يُصدّق أحدهما لا بعينه، أي يقول: إنّها لأحدهما ولا أعرفه.

أو يُصدّقهما أو يكذّبهما معاً.

أو يقول: لا أدري أنّها لهما أم لا.

(فهي) في الصورة الأُولى (لمن صَدّقه) مع يمينه، (وللآخر إحلافه) أي إحلاف المُصدِّق إن ادّعى عليه علمه، بأنّ العين له، فإن امتنع يجب عليه إغرام القيمة له، بلا يمينٍ ، أو مع اليمين المردودة على اختلاف القولين.

هكذا أفاد جماعة، بل هو المشهور بين الأصحاب.

أقول: وعليه فهاهنا أحكام:

1 - إنّ من صَدّقه الثالث يكون قوله موافقاً للحُجّة ومنكِراً، والآخر مدّعياً، فيجري في حقّهما قاعدة المُدّعي والمنكر.

ص: 312


1- الكافي: ج 7/416 باب من لم تكن له بيّنة فيرد عليه اليمين، وسائل الشيعة: ج 27/241 باب 7 باب أنّ المُدّعي إذا لم يكن له بيّنة فله استحلاف المُنكِر.

وقد استدلّوا له: بأنّه في حكم ذي اليد، بتقريب أنّ ظاهر العرف أنّ من أسباب صدق اليد كون الشيء تحت تصرّف الإنسان، ولو بإقرار من في يده أنّه له، فإنّ مَنْ أقرّ بذلك، يصيرُ بواسطة الإقرار كالوكيل.

ويمكن أن يُستدلّ له: - مضافاً إلى ذلك - بقاعدة مَنْ مَلِكَ شيئاً ملك الإقرار به.

واستدلّ له في «المستند»(1): بالنصوص الخاصّة:

منها: صحيح سعد بن سعد، عن الإمام الرّضا عليه السلام: «عن رجلٍ مسافرٍ حضره الموت، فدفع مالاً إلى رجلٍ من التّجار، فقال: إنّ هذا المال لفلان بن فلان، ليس لي فيه قليلٌ ولاكثير، فأدفعه إليه يصرفه حيثُشاء، ولم يأمر فيه صاحبه الذي جعله له بأمرٍ، ولا يدري صاحبه ما الذي حَمَله على ذلك، كيف يصنع ؟ قال عليه السلام: يضعه حيث شاء»(2). ونحوه صحيح إسماعيل الأحوص(3)، فهما يدلّان على أنّ المال لصاحبه بمجرّد الإقرار، فتأمّل فإنّ احتمال كونه من باب الوصيّة لا الإقرار موجودٌ.

ومنها: صحيح أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ معه مالٌ مضاربة، فمات وعليه دين، وأوصى أنّ هذا الذي تَرك لأهل المضاربة، أيجوزُ ذلك ؟

قال عليه السلام: نعم إذا كان مُصدِّقاً»(4).

ولكنّه يدلّ عليحجيّة خبر الواحد الثقة في الموضوعات، ولا ربط له بالإقرار، الذي على فرض حجيّته لا يُعتبر فيه كونه مُصدِّقاً.

ومنها: مرسل جميل، عن بعض أصحابه، عن أحدهما عليهما السلام:4.

ص: 313


1- مستند الشيعة: ج 17/352.
2- تهذيب الأحكام: ج 9/160 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/293 ح 24626.
3- الكافي: ج 7/63 ح 23.
4- تهذيب الأحكام: ج 9/167 ح 25، وسائل الشيعة: ج 19/296 ح 24634.

«في رجلٍ أقرّ على نفسه بأنّه غَصَب جارية رجلٍ فولدت الجارية من الغاصب ؟

قال عليه السلام: تُردُّ الجارية والولد على المغصوب إذا أقرَّ بذلك الغاصب»(1).

وإطلاقه يشمل صورة ادّعاء الغير للجارية.

ونحوه مرسل الصَّدوق، عن الإمام الصادق عليه السلام إلّاأنّه قال:

«إذا أقرَّ بذلك أو كانت عليه بيّنة»(2).

2 - للمُدّعي إحلاف المُصدِّق له، ويشهد به عموم ما دلّ على أنّ اليمين على المُنكِر والمُدّعى عليه.

3 - أنّ له إحلاف المُصدِّق إذا ادّعى عليه علمه بأنّ العين له، ويشهدُ به ما دلّ على ثبوت الحلف على المُنكِر.

4 - أنّه إنْ امتنع من الحلف، أو رَدّ اليمين على المُدّعي فحلف، ثبت عليه الحقّ ، لما دلّ على ثبوت الحقّ بأحدهما، فحينئذٍ عليه الغرامة، لأنّه لا يمكنه دفع العين لاستحقاق المقرّ له إيّاها بإقراره، فلا يمكنه الارتجاع، فقد ضيّع حقّه بنفسه، وكلّ من ضيّع حقّ الغير عليه الغرامة بلا خلافٍ ، ويشهد به:

خبر حنظلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ قال لآخر: اخطب لي فلانة، فما فعلتَ من شيء ممّا قاولت من صِداقٍ ، أو ضَمِنت من شيء، أو شرطتَ ، فذلك لي رضاً، وهو لازمٌ لي، ولم يشهد على ذلك، فذهبَ فخطبَ له وبَذَل عنه الصِّداق وغير ذلك ممّا طالبوه وسألوه، فلما رجع إليه أنكر له ذلك كلّه ؟3.

ص: 314


1- الكافي: ج 5/556 ح 9، وسائل الشيعة: ج 21/177 ح 26832.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/421 ح 4466، وسائل الشيعة: ج 21/177 باب 61 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 26833.

فإنْ صَدّقهما

قال عليه السلام: يغرم لهانصف الصِّداق عنه، وذلك أنّه هو الذي ضيّع حقّها، الحديث»(1).

دلّ على أنّ كلّ من ضيّع حقّاً لغيره فعليه الغرامة له.

وأمّا في الصورة الثانية: وهي ما لو صَدّق الثالث أحدهما لا بعينه:

فعن «القواعد»(2): أنّه يُقرع بينهما بلا حَلفٍ .

وفي «المسالك»(3): أنّه يُقرع بينهما، ويحلفُ مَنْ خَرَجت له القرعة.

وقيل: بالتنصيف بينهما كما في «المستند»(4).

أقول: والأظهر هو التنصيف، إنْ لم يكن بينهما نزاعٌ ، أو كان بينهما خصومة، ولكن حَلفا جميعاً، أو نكلا كذلك من دون قرعة، لخبر السّكوني، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن أميرالمؤمنين عليهم السلام:

«في رجلٍ أقرَّ عند موته لفلانٍ وفلانٍ لأحدهما عندي ألف درهم، ثمّ ماتَ على تلك الحالة ؟

فقال عليّ عليه السلام: أيّهما أقام البيّنة فله المال، وإنْ لم يُقِم واحدٌ منهما البيّنة، فالمال بينهما نصفان»(5).

وأمّا في الصورة الثالثة: (ف) هي ما (إنْ صَدَّقهما):5.

ص: 315


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/85 ح 3384، وسائل الشيعة: ج 19/165 ح 24371.
2- قواعد الأحكام: ج 3/468.
3- مسالك الأفهام: ج 14/79.
4- مستند الشيعة: ج 3/354.
5- الكافي: ج 7/58 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/323 ح 24695.

تساويا، ولكلٍّ إحلاف صاحبه، وإنْ كذّبهما أقرَّت في يده.

فالمشهور بين الأصحاب أنّه يُقضى بها لهما بالسَّوية (وتساويا، ولكلٍّ ) منهما (إحلاف صاحبه) كما لو كانت في يدهما، ويظهر وجهه ممّا مرَّ، حيث أنّهما يصيران بإقرار الثالث ذي اليد بالنسبة إلى العين، فيجري فيهما ما تقدّم، ويزيدُ أنّ لهما إحلاف المُصدِّق إن ادّعيا علمه، لفائدة التغريم، فإن حلف، وإلّا فيُغرم القيمة تماماً لهما يقتسمانها بينهما نصفين.

وإنْ حلف لأحدهما خاصّة، غُرِم نصف القيمة للآخر.

وكذا إن رَدّ اليمين فحَلِف أحدهما دون الآخر.

وإن حلفا معاً غُرم تمام القيمة يقتسمانها بينهما نصفين.

(و) أمّا في الصورة الرابعة: وهي ما (إنْ كذّبهما) ف (أقرّت في يده)، ولكلّ منهما عليه الحلف، كما لا يخفى وجهه.

وأمّا في الصورة الخامسة: وهي ما لو قال: (لا أدري أنّها لهما أو لغيرهما) مع اعترافه بأنّها ليست لنفسه:

فعن «القواعد»(1)، وفي «المستند»(2): أنّه يُقرع بينهما، لأنّها لكلّ أمرٍ مجهول(3).ة.

ص: 316


1- قواعد الأحكام: ج 3/468.
2- مستند الشيعة: ج 17/355.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/233 باب 90 حكم القرعة، وسائل الشيعة: ج 27/257 باب 13 باب الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة.

أقول: والظاهر جريان حكم ما لا يَد لأحدٍ عليها الآتي في هذه الصورة.

ولوقال: (لا أدري أنّها لهما أو لي) فالظاهر جريان حكم الصورة الرابعة فيه، فان يده عليها أمارة كونها له، بناءً على أماريّة يد الإنسان نفسه على الملكيّة، كما حُقّق في محلّه.

لو لم تكن العين بيد أحد

ولو كانت العين المتنازع فيها لا يد لأحدٍ عليها، ففيه أقوال:

القول الأوّل: ما عن المحقّق الأردبيلي رحمه الله(1) قال: (فهو مثل ما كان في يد ثالثٍ ، ولم يُصدِّق أحدهما، ولم يدّعيا علمه، فيحلفان أو ينكلان ويقتسمانها بالسَّوية، وإن حلف أحدهما دون الآخر يكون للحالف بحكم العقل.

ولرواية إسحاق بن عمّار، وفيها: «فلو لم يكن في يد واحدٍ وأقاما البيّنة، قال عليه السلام: أحلفهما، فأيّهما حَلف ونكل الآخر جعلتها للحالف»)(2) انتهى .

وفيه: إنّ الحلف إنّما هو وظيفة المنكر، والمُدَّعى عليه، وكلٍّ من الطرفين في المقام مُدّع، ولا يُصدَّق المُدّعى عليه والمنكر على واحدٍ منهما، فيكون من التداعي، ولا دليل على توظيف الحلف هنا.

فإنْ قيل: إنّه وإنْ لم يُصدِّق المُدّعى عليه على واحدٍ منهما، لكنّه يُصدِّق المنكر على كلّ واحدٍ منهما، فإنّه يُنكر ما يدّعيه الآخر.

قلنا أوّلاً: أنّه قد عرفت أنّ المُنكر من لو تَرك تُرِك، وهذا لا يصدق في المقام.

ص: 317


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/277.
2- الكافي: ج 7/419 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/250 ح 33696.

وثانياً: أنّه لو سُلّم صدق المنكر على كلّ من أنكر ما يدّعيه الآخر، وإنْ لم يكن قوله موافقاً للأصل أو الحجّة، لا ريب في أنّه يعتبر كون إنكاره بنحو الصّراحة، لا بنحو الدلالة الالتزاميّة، وإلّا فكلّ مُدّعٍ يكون منكراً أيضاً.

وعليه، فإنْلم يقل واحدٌ منهما لخصمه أنّه ليس لك لايصدق المنكر بهذا المعنى .

وثالثاً: أنّ المتبادر من المُدّعي والمنكر في صورة ذكرهما متقابلين، هو الذي لم يجتمع مع الآخر، فالمراد بالمُدّعي هو الذي لا يكون منكراً، وبالمنكر الذي لا يكون مدّعياً.

أضف إلى ذلك كلّه أنّه لو سُلّم كون وظيفة كلّ منهما الحلف، فمع حلفهما لا وجه للقول بالتنصيف، إلّاإذا علم بعدم خروجها عنهما، فإن حلف كلٌّ منهما يسقط حقّ الآخر.

وأمّا الخبر الذي ذكره، فهو مختصٌّ بصورة البيّنة، فلا يشمل المقام.

القول الثاني: ما في «المستند»(1) قال: (والقرعة لكلِّ أمرٍ مجهول، فالرجوع إليها أظهر، كما حكم به عليٌّ عليه السلام في روايتي أبي بصير وابن عمّار:

الأُولى : «بعثَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عليّاً عليه السلام إلى اليمن، فقال له حين قَدِم: حدّثني بأعجبَ ما وردَ عليك.

قال: يا رسول اللّه أتاني قومٌ قد تبايعوا جاريةً فوطأوها جميعاً في طُهرٍ واحد، فولد غلاماً، فاختلفوا فيه، كلّهم يدّعيه، فأسهمتُ بينهم، وجعلته للّذي خَرَج سهمه، وضمنته نصيبهم، الحديث»(2).4.

ص: 318


1- مستند الشيعة: ج 17/355.
2- الكافي: ج 5/491 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/258 ح 33714.

والأُخرى : «إذا وطأ رجلان أو ثلاثة جاريةً في طُهرٍ واحد، فولدت فادّعوه جميعاً، أقرع الوالي بينهم، فمن قرع كان الولد ولده، ويردّ قيمة الولد على صاحب الجارية، الحديث»(1).

وعمل بهما الأصحاب طُرّاً في موردهما من غير إحلافٍ ).

وفيه: إنّ مقتضى قاعدة العدل والإنصاف - التي هي قاعدة عقلائيّة، ومصطادة من النصوص الواردة في الموارد المختلفة - هو التنصيف في الماليّات في صورة العلم بعدم خروج المال عنهما، ومعها لا مورد للرجوع الى القرعة.

وأمّا الخبران: فهما مختصّان بموردهما، وإنْ احتمل كونها لثالثٍ غيرهما، فلقاعدة سماع دعوى ما لا معارض له يُحكم بأنّها لهما، فيجري فيه ما ذكرناه، فتأمّل.

القول الثالث: التنصيف بينهما من غير إحلافٍ ، لأنّه من باب التَّداعي، فيرجع إلى قاعدة العدل والإنصاف، وهو الأقرب.

***3.

ص: 319


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/92 ح 3392، وسائل الشيعة: ج 27/261 ح 33723.

ولو تَداعى الزَّوجان متاع البيت، قيل: للرَّجل ما يصلحُ له، وللمرأة ما يصلحُ لها، وما يصلحُ لهما بينهما.

تنازع الزوجين في متاع البيت

المسألة السادسة: (ولو تداعى الزّوجان متاع البيت).

(قيل): والقائل الشيخ في محكيّ «النهاية»(1)، و «الخلاف»(2)، والإسكافي(3)والحِلّي(4)، والمحقّق(5)، والمصنّف رحمه الله في «التحرير»(6)، والشهيد في «الدروس»(7)وغيرهم(8) في غيرها، بل نسبه الشهيد(9) إلى الأكثر:

أنّ (للرّجل ما يصلحُ له) كالعمائم والدّروع والسِّلاح.

(وللمرأة ما يصلحُ لها) كالحُليّ والمقانع وقُمص النساء.

(وما يصلح لهما) كالفرش والأواني وما شاكل يُقسّم (بينهما).

ويشهد به جملة من النصوص:

منها: صحيح رفاعة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا طلّق الرّجلُ امرأته، وفي بيته

ص: 320


1- النهاية: ص 351.
2- الخلاف: ج 6/352.
3- حكي عنه في غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: ج 4/82.
4- السرائر: ج 2/192.
5- شرائع الإسلام: ج 4/110.
6- تحرير الأحكام: ج 2/200.
7- الدروس: ج 2/110.
8- الوسيلة: ص 227، المهذّب: ج 2/579.
9- غاية المراد: ج 4/82-83، الدروس: ج 2/110.

وقال في «المبسوط»: إذا لم تكن بيّنة، ويدهما عليه، فهو لهما.

متاعٌ ، فلها ما يكون للنساء، وما يكون للرّجال والنساء قُسّم بينهما.

قال: وإذا طلق الرّجل المرأة، فادّعت أنّ المتاع لها، وادّعى الرّجل أنّ المتاع له، كان له ما للرجال، ولها ما يكون للنساء، وما يكون للرجال والنساء قُسِّم بينهما»(1).

ومنها: موثّق سماعة: «عن رجلٍ يموتُ ؛ ما لَهُ من متاع البيت ؟

قال: السّيف والسِّلاح والرحل وثياب جلده»(2).

ومنها: موثّق يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في امرأةٍ تموتُ قبل الرّجل، أو رجلٌ قبل المرأة ؟

قال عليه السلام: ماكان من متاع النساء فهو للمرأة، وما كان من متاع الرّجال والنساء فهو بينهما، ومن استولى على شيء منه فهو له»(3).

ولا يضرّ اختصاص الأخيرين بالموت، والأوّل بالطلاق، لعدم القول بالفصل، وتتميم كلّ منهما بالآخر لعدم التنافي.

كما لايضرّ عدم اشتمال كلّ منهما على التفصيل المذكور، بعد دلالة المجموع عليه.

أقول: ولكن الاستدلال بها وإنْ كان تامّاً، إلّاأنّه يعارضها أخبار البجلي الآتية، فيتمّ ذلك لو أمكن حملها على ما لا ينافيها.

(و) كيف كان، ففي المسألة أقوالٌ اُخر، وروايات أُخرى .

(قال في «المبسوط»(4): إذا لم تكن بيّنةٌ ، ويدهما عليه، فهو لهما)، وحُكي عن0.

ص: 321


1- تهذيب الأحكام: ج 6/294 ح 25، وسائل الشيعة: ج 26/216 ح 32858.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/299 ح 39، وسائل الشيعة: ج 26/215 ح 32856.
3- تهذيب الأحكام: ج 9/302 ح 39، وسائل الشيعة: ج 26/216 ح 32857.
4- المبسوط: ج 8/310.

ظاهر «الإرشاد»(1)، وصريح «القواعد»(2)، و «الإيضاح»(3)، و «التنقيح»(4).

ولا دليل لهما، سوى ما تقدّم في مسألة ما لو تنازع اثنان ما في يدهما.

ويردّه النصوص المتقدّمة.

وعن الشيخ في «الاستبصار»(5)، و «التهذيب»(6)، وظاهر الكليني(7)، وعن «شرح المفاتيح»(8): أنّ الجميع للمرأة، إلّاما أقام الرّجل عليه البيّنة، واستدلّ له:

بصحيح عبد الرحمن، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: سألني: هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ رجع عنه ؟

فقلت له: بلغني أنّه قَضى في متاع الرّجل والمرأة إذا ماتَ أحدهما، فادّعاه ورثة الحَيّ وورثة الميّت، أو طلّقها فادّعاه الرّجل وادّعته المرأة: بأربع قضايا - فعدّها إلى أن قال في الرابعة: - ثُمّ قضى بقضاءٍ بعد ذلك، لولا أنّي شهدته لم أروه عنه:

ماتت امرأة منا ولها زوجٌ وتركتْ متاعاً، فرفعته إليه، فقال: اكتبوا المتاع، فلما قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال، والمرأة فقد جعلناه للمرأة إلّاالميزان، فإنّه من متاع الرّجل، فهو لكَ - إلى أن قال: - فقلت: ما تقول أنتَ فيه ؟

فقال عليه السلام: القول الذي أخبرتني أنّك شهدته وإنْ كان قد رجع عنه.4.

ص: 322


1- إرشاد الأذهان: ج 2/151.
2- قواعد الأحكام: ج 3/470.
3- الإيضاح: ج 4/381.
4- التنقيح الرائع: ج 4/278.
5- الاستبصار: ج 3/44.
6- تهذيب الأحكام: ج 6/297 ح 36.
7- الكافي: ج 7/130 ح 1.
8- مفاتيح الشرائع: ج 3/274.

فقلت: يكونُ المتاعُ للمرأة ؟

فقال: أرأيتَ إنْ أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج ؟ فقلت: شاهدين.

فقال عليه السلام: لو سألت من بين لابتيها - يعني الجبلين ونحن يؤمئذ بمكّة - لأخبروك أنّ الجهاز والمتاع يُهدى علانيةً من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت، وهذا المُدّعي، فإنْ زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأتِ عليه البيّنة»(1).

ونحوه صحيحاه الآخران.

وفيه أوّلاً: أنّه لو تمّت دلالتها، لكانت دالّة على القول الرابع، وهو ما عن الصَّدوق في «الفقيه»(2)، من أنّ ما يصلح للرجل له، وما يصلح لهما أو للنساء للمرأة، فإنّه استثنى الميزان الذي هو من مختصّات الرّجال، وعلّله بأنّه من متاع الرّجل، فما قضى به أخيرا الذي صحّحه الإمام عليه السلام هو كون ما يختصّ بالرجال للرجل.

فإنْ قيل: إنّ قوله: «فقلتُ : يكونُ المتاعُ للمرأة» يدلّ على أنّ الجميع لها.

قلنا: إنّ الألف واللّام فيه للعهد، وهو ما حُكم بكونه لها.

فإنْ قيل: إنّ استثناء الميزان إنّما هو في خبرين منها، وليس في الثالث.

قلنا: إنّه يقيّد إطلاقه بهما، سيّما وأنّ الظاهر أنّ الجميع متضمّنة لقضيّة واحدة.

وثانياً: أنّه لا تتمّ دلالتها على ما هو محلّ النزاع، فإنّ ما في ذيلها من التعليل يدلّ على أنّ الحكم بكون المتاع للمرأة، إنّما هو فيما علم بإتيانها إيّاه من بيتها، ولو من جهة جريان العادة بنقل الجهاز وأثاث البيت من بيت الزوجة، ولعلّ الحال كان كذلك في السابق، وفي مثله يكون الحكم على طبق القاعدة، فإنّ المتاع معلومٌ أنّه5.

ص: 323


1- الكافي: ج 7/130 ح 1، وسائل الشيعة: ج 26/213 ح 32855.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/65.

كان للمرأة، والشَّك إنّما هو في أنّه هل حَدَث فيه شيء أو لا، والاستصحاب يقتضي العدم، فيكون الرّجل مدّعياً، وعليه البيّنة، كما صرّح بذلك في ذيل الصحيح، وهذا غير ما هو محلّ النزاع من عدم العلم بكون المتاع لأيّهما.

وعلى ذلك، فالجمعُ بينها وبين الأخبار التي استدلّ بها للمشهور، القاضية بأنّ ما يكون مختصّاً بالرجال فهو للرجل، وما كان مختصّاً بالمرأة فهو لها، وما كان يصلحُ لهما فهو لهما، يقتضي البناء على أنّ ما علم فيه حالته السابقة، وأنّه كان للرجل أو المرأة وكانت يدٌ الآخر يد مأذونة من مالكه، ولو بحكم الاستصحاب، فهو له، وما لم يُعلم فيه الحالة السابقة، يجري فيه التفصيل المتقدّم، لأنّ هذه النصوص على ما ذكرناه أخصّ مطلق من تلك النصوص، وهي وإن اختصّت بما عُلم أنّه للمرأة، إلّا أنّه يتمّ في ما أُحرز كونه للرّجل بعدم الفصل.

ويمكن أن يقال: إنّ أخبار المشهور تدلّ بأنفسها على ذلك، من جهة ما ورد في ذيل موثّق يونس من قوله عليه السلام: «فمن استولى على شيء فهو له»، فإنّه يدلّ على أنّ ما كان تحت يد أحدهما خاصّة فهو له.

وحينئذٍ، فما عُلم أنّه كان لأحدهما خاصّة، يُحكم بكونه تحت يده بحكم الاستصحاب، وأنّ يد الآخر عليه يد مأذونة من مالكه.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ ما عُلِم حالته السابقة يُبنى عليها، وإلّا فيجري فيه ما ذكره المشهور من التفصيل، واللّه تعالى العالم.

أقول: وفي المقام قولٌ خامسٌ حُكي عن المصنّف في «المختلف»(1)، وتبعه2.

ص: 324


1- مختلف الشيعة: ج 8/409 مسألة 12.

الشهيدان(1)، وجماعة من المتأخّرين(2): وهو الرجوع في ذلك إلى العُرف والعادة في الاختصاص بأحدهما، فإنْ وَجده عَمل به، وإن فُقِد أو اضطرب كان بينهما نصفين.

وعُلّل بأنّ عادة الشرع في باب الدعاوى بعد الاعتبار والنظر راجعة إلى ذلك، ولهذا حُكم بقول المُنكر مع اليمين بناءً على الأصل، وكون المتشبّث أولى من الخارج، لقضاء العادة بملكيّة ما في يد الإنسان غالباً، فحكم بايجاب البيّنة على من يدّعي خلاف الظاهر، والرجوع إلى من يدّعي الظاهر.

وأمّامع انتفاء العرف، فلتصادم الدعوييّن مع عدم الترجيح لأحدهما، فتساويا فيها.

ويؤيّده: استشهاده عليه السلام بالعُرف، حيث قال: «قد عُلم من بين لابتيها، وقال: لو سألت من بينها.... الخ».

وإشكاله ظاهرٌ ممّا قدّمناه.

والظاهر من النصوص من جهة الخلوّ عن ذكر اليمين، عدم الاحتياج إليها، ولكن الظاهر اتّفاق الأصحاب على اعتبارها في موردالنزاع والخصومة عند الحاكم.

ويمكن أن يوجّه: بأنّ النصوص في مقام بيان من يُقدّم قوله منهما، ومن يكون قوله موافقاً للحُجّة، لا لبيان الحكم من جميع الجهات، وعليه ففي الحلف لابدّ من الرجوع إلى ما يقتضيه موازين باب القضاء، ولذلك فالأظهر اعتبارها.

وربما يُستدلّ له: بأنّ ما يصلحُ للمرأة لو كانت بيدها في غير بيت زوجها، وادّعاه الزوج، لا يُترك للمرأة بدون يمينها، فكيف إذا كان في بيت الزوج، ولم يثبت8.

ص: 325


1- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: ج 4/84، شرح اللّمعة: ج 3/108.
2- المهذّب: ج 2/579، كفاية الأحكام: ج 2/738.

يدها، وكذلك الرّجل.

أقول: في الحقيقة يعدّ هذا استدلالاً بالأولويّة ولا بأس به.

ثمّ إنّ الظاهر عدم الفرق بين كون التَّداعي في تمام متاع البيت أو بعضه، لإطلاق الأدلّة.

***

ص: 326

ولو تعارضت البيّنتان،

حكم تعارض البيّنتين إذا كانت العين في يد أحدهما

المسألة السابعة: (ولو تعارضت البيّنتان) في شيء:

1 - فإمّا أن تكون العين المتنازع فيها في يد أحد المتداعيين.

2 - أو تكون العين بيدهما.

3 - أو تكون العين بيد ثالثٍ .

4 - أو لا يد عليها.

فالكلام في فروع:

الفرع الأوّل: إذا كانت العين في يد أحدهما، وأقام كلٌّ منهما بيّنةً ، فللأصحاب فيه أقوال:

القول الأوّل: ترجيح بيّنة الخارج مطلقاً، سواءٌ شهدت البيّنة من الجانبين بالمِلْك المطلق، أو المقيّد بالسبب، أو التفريق، نُسب ذلك إلى والد الصَّدوق(1)، والشيخ في كتاب البيوع من «الخلاف»(2)، وسلّار(3)، وابن زُهرة(4)، والكيدري(4)، وعن «الغنية»(6) الإجماع عليه، واختاره طائفة من المتأخّرين(5).

ص: 327


1- حكي ذلك في المقنع: ص 399.
2- الخلاف: ج 3/130.
3- المراسم: ص 234. (4و6) غنية النزوع: ص 443.
4- حكاه في مستند الشيعة: ج 17/384.
5- التنقيح الرائع: ج 4/281، الإيضاح: ج 4/410.

قُضي للخارج، إلّاأن تشهد بيّنة المُتشبّث بالسَّبب. ولو شهدتا بالسَّبب فللخارج.

القول الثاني: ترجيح بيّنة الداخل مطلقاً، وهو المحكيّ من كتاب الدعاوى من «الخلاف»(1).

القول الثالث: (قُضي للخارج، إلّاأن تشهد بيّنةُ المتشبّث بالسَّبب) فيرجع، (ولو شهدتا بالسَّبب فللخارج) اختاره المصنّف رحمه الله في المقام، وحُكي عن الشيخ في «النهاية»(2)، والصَّدوق(3)، والقاضي(4)، والطبرسي(5)، والمحقّق في «النافع»(6)، و «الشرائع»(7)، والمصنّف رحمه الله في «المختلف»(8)، و «التحرير»(9)، و «الإرشاد»(10)، و «القواعد»(11)، وعن «نكت الإرشاد»(12)، و «الروضة»(13)، و «المهذّب»(14).

القول الرابع: ترجيح الخارج مطلقاً، إلّاإذا تضمَّنت البيّنتان أو بيّنة الداخل1.

ص: 328


1- الخلاف: ج 6/337.
2- النهاية: ص 344.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 3/39.
4- المهذّب للقاضي: ج 2/578.
5- المؤتلف من المختلف: ج 2/563.
6- المختصر النافع: ج 2/286.
7- شرائع الإسلام: ج 4/111.
8- مختلف الشيعة: ج 8/383 وما بعدها.
9- تحرير الأحكام: ج 2/195.
10- إرشاد الأذهان: ج 2/150.
11- قواعد الأحكام: ج 3/487.
12- غاية المراد: ج 4/74.
13- شرح اللّمعة: ج 3/109.
14- المهذّب البارع: ج 4/491.

فقط ذكر السَّبب، فيُرجّح الداخل، نُسب إلى الشيخ في جملةٍ من كتبه(1)، وجماعة(2).

القول الخامس: ترجيح الخارج مطلقاً، إلّامع أعدليّة بيّنة الداخل، ثمّ أكثريّتها، وهو مختار الشيخ المفيد(3).

القول السادس: ترجيح أكثرهما عدداً، ومع التساوي فللحالف منهما، فمع حلفهما أو نكولهما فللدّاخل، نقل عن الإسكافي(4)، و «المفاتيح»(5)، وشرحها(6).

القول السابع: الفرق بين السَّبب المتكرّر كالبيع، وغير المتكرّر كالنتاج ونساجة الثوب، نُسب إلى ابن حمزة(7)، وفُسّر ذلك بأنّه إذا شهدت لذي اليد على سبيل التكرار، كأن يقول: (كان يبيعها مرّةً ويشتريها أُخرى ) يُرجّح بيّنته، وإن قال:

(اشتراها مرّة)، واقتصر على ذلك، أو قال قولا آخر قُدِّمت بيّنة الخارج.

القول الثامن: تقديم بيّنة الخارج، إلّاإذا شهدت بالمِلْك، وشهدت بيّنة الداخل بالإرث، فيقدّم أكثرهم بيّنةً ، ويُستحلف هو، وهذا القول محكيٌّ عن ظاهر الصَّدوق في «الفقيه»(8)، وحُكي عن الحلبي(9).

القول التاسع: الرجوع إلى القرعة، اختاره العُمّاني(10).).

ص: 329


1- النهاية: ص 344، الخلاف: ج 6/332، المبسوط: ج 8/258.
2- نسبه في مستند الشيعة: ج 17/391 إلى القاضي وجماعة.
3- المقنعة: ص 730.
4- حكاه عنه في مختلف الشيعة: ج 8/388.
5- مفاتيح الشرائع: ج 3/271.
6- الأنوار اللّوامع في شرح مفاتيح الشرائع: ج 14/155.
7- الوسيلة: ص 219.
8- من لا يحضره الفقيه: ج 3/39.
9- حكاه في مختلف الشيعة: ج 8/389. وانظر الكافي في الفقه: ص 440.
10- حكاه في مختلف الشيعة: ج 8/387. قوله: (وقال ابن ابي عقيل ولو أنّ رجلين تداعيا شيئاً وأقام كلّ واحدٍ منهما شاهدين...).

وفي المسألة أقوالٌ اُخر، وتردّد جماعةٌ في الحكم كالشهيدين في «الدروس»(1)، و «اللُّمعة»(2)، و «المسالك»(3)، وصاحب «الكفاية»(4) على المحكيّ .

واختلفت كلماتهم أيضاً في نسبة الأقوال، وفي دعوى الإجماع، بل ربما يدّعي فقيهٌ واحدٌ في موردٍ الإجماع، ويدّعي على خلافه الإجماع في مقامٍ آخر، وقد يُحكم بضعف خبرٍ، ويَعمل به في مورد آخر!

أقول: وتنقيح القول في المقام يقتضي البحث في موضعين:

أحدهما: فيما تقتضيه القواعد العامّة.

ثانيهما: في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا الموضع الأوّل: فالبيّنة التي تكون حجّة في غير مقام فصل الخصومة، مطلقة غير مقيّدة ببيّنة خاصّة.

وأمّا البيّنة التي تكون حُجّة في ذلك المقام، فقد مرّ أنّها وظيفة المُدّعي، وأنّه لو أقامها المنكر لا يعتمد عليها في الحكم، وهو مستفادٌ من قولهم عليهم السلام: «البيّنة على المُدّعي واليمين على المُدّعى عليه» بواسطة التفصيل القاطع للشركة، بل خبر منصور، عن الإمام الصادق عليه السلام صريحٌ في ذلك، قال عليه السلام:

«حقّها للمُدّعي ولا أقبل من الذي في يده بيّنة، لأنّ اللّه عزّ وجلّ إنّما أمر أن يُطلب البيّنة من المُدّعي، فإنْ كانت له بيّنة، وإلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر).

ص: 330


1- الدروس: ج 2/101.
2- شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 3/107.
3- مسالك الأفهام: ج 14/82 وما بعدها.
4- كفاية الأحكام: ج 2/730 قوله: (والمسألة محلّ إشكال وتردّد).

اللّه عزّ وجلّ »(1).

وادّعى صاحب «الرياض»(2) الإجماع على عدم قبولها منه.

وفي «ملحقات العروة»(3) اختار السيّد سماع البيّنة من المنكر، واستدلّ له:

1 - بعموم مثل قوله صلى الله عليه و آله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(4).

2 - وبخصوص خبر حفص بن غياث، حيث قال للصادق عليه السلام:

«إذا رأيتَ شيئاً في يدي رجل أيجوزُ لي أن أشهد أنّه له ؟

قال عليه السلام: نعم»(5).

فإنّه يدلّ على جواز الشهادة لذي اليد وصحّتها.

3 - وخصوص صحيح حمّاد، الحاكي لأمر عيسى بن موسى في المسعى، إذ رأى أبا الحسن موسى عليه السلام مُقبلاً على بغلةٍ ، فأتاه رجلٌ وتعلّق باللّجام وادّعى البغلة، فثَنى أبو الحسن عليه السلام رِجله ونزل عنها وقال لغلمانه: خذوا سَرجها وادفعوها إليه، فقال: والسرج أيضاً لي.

فقال عليه السلام: كذبتَ ، عندنا البيّنة بأنّه سرجُ محمّد بن عليّ ، وأمّا البغلة فإنّا اشتريناها منذ قريبٍ ، وأنتَ أعلم، وما قلت»(6).

فإنّ السرج كان بيده، ومع ذلك قال عندنا البيّنة.8.

ص: 331


1- التهذيب: ج 6/240 ح 25، وسائل الشيعة: ج 27/234 ح 33669.
2- رياض المسائل: ج 15/221.
3- تكملة العروة الوثقى: ج 2/152.
4- الكافي: ج 7/414 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/232 ح 33663.
5- الكافي: ج 7/387 ح 1، عوالي اللآلي: ج 3/541.
6- الكافي: ج 8/86 ح 48، وسائل الشيعة: ج 27/291 ح 33778.

وأجابَ عن نصوص التفصيل: بأنّها في مقام بيان الوظيفة الأوّليّة للمدّعي والمنكر، وإلّا فلا مانع من سماع البيّنة للمنكر أيضاً.

وأيضاً يمكن أن يقال: إنّ القدر المعلوم عن الخبر أنّه لا يُلزم المنكر بالبيّنة، وإنّما يُلزم باليمين، لا أنّه لا تُقبل منه البيّنة.

ولكن يَردُ على الوجه الأوّل: ما تقدّم من أنّه يجبُ تقييد هذه النصوص بما دلّ على التفصيل.

وأمّا الثاني فيردّه: أنّه يدلّ على جواز الشهادة مستندةً إلى اليد، وهذا غير مربوطٍ بحجيّة البيّنة في مقام الترافع والخصومة، إذ غاية ما يمكن أن يقال إنّه إذا جازت الشهادة، لزم جواز القبول، وإلّا لغي ذلك.

وأمّا الثالث فيردُ عليه: - مضافاً إلى ذلك - أنّه من الجائز كونه في مقام بيان استحباب تصديق المُدّعي للمُدّعى عليه، مع احتمال الصدق لا بدونه، ولذا سَلّمه البغلة بلا بيّنةٍ ولا حلفٍ ، وامتنع عن تسليم السَّرج.

وأمّا ما أجاب به عن نصوص التفصيل فيردُ عليه:

أنّ ظاهر تلك النصوص كونها في مقام بيان الوظيفة الفعليّة، وكونها في مقام بيان الوظيفة من حيث الحكم الوضعي والتوقيف، لا في مقام بيان الحكم التكليفي، كي يقال إنّها تدلّ على الجواز لا الوجوب.

مع أنّه قد عرفت أنّه لا يُلزم المُدّعي بالبيّنة، وأنّ له ترك إقامتها، واختيار إحلاف الخصم، كما أنّ للمنكر ترك الحلف ورَدّه إلى المُدّعي أو النكول.

وعليه، فليست النصوص في مقام بيان أنّه لايُلزم المنكربالبيّنة و المُدّعي بالحلف.

ص: 332

أضف إلى ذلك: أنّ لازم ما أفاده جواز أن يَحلف المُدّعي ابتداءً .

وبالجملة: لا ينبغي التوقّف في أنّه ليس للمنكِر إقامة البيّنة، ولو أقامها لا تُسمع.

نعم، في غير باب الخصومة لذي اليد إقامة البيّنة، وتكون حُجّة له كاليد.

وعليه، فما أفاده المصنّف رحمه الله في محكيّ «القواعد»(1)، وتبعه الشهيد رحمه الله(2) من سماع بيّنة ذي اليد قبل المخاصمة للتسجيل، حسنٌ .

ومقتضى القاعدة في تعارض البيّنتين هو التساقط على المشهور، والتخيير على المختار، ولا فرق في ذلك بين وجود ما يوجبُ أقربيّة إحداهما إلى الواقع، أو أقوائيّة الظّن منها وعدمه.

وما في «ملحقات العروة»(3): (من أنّ اعتبار البيّنة ليس من باب السببيّة والموضوعيّة كالاُصول العمليّة، بل من حيث الأماريّة والطريقيّة، ومن باب الظّن النوعي، فإذا كان أحد المتعارضين أرجح وأقرب إلى إحراز الواقع، يجبُ تقديمه، لبناء العقلاء، بعد فرض الحجيّة حتّى حال المعارضة، مضافاً إلى فحوى الأخبار الواردة في علاج الأخبار المتعارضة، لعدم الفرق بين البيّنة والخبر في كون اعتبار كلٍّ منهما من باب الطريقيّة).

فيه مواقع للنظر:

أوّلاً: أنّ ماذكره من حجيّة البيّنة حتّى حال المعارضة، لايتمُّ عليمسلك المشهور8.

ص: 333


1- قواعد الأحكام: ج 3/489.
2- الدروس: ج 2/102.
3- تكملة العروة الوثقى: ج 2/128.

المختار عنده، من أنّ مقتضى القاعدة هو التساقط في تعارض الأمارتين، لأنّه:

إنْ أراد ثبوت الحجيّة حتّى في حال التساقط، فهو تناقضٌ .

وإن أراد أنّها تكون حجّة آناً مّا وتسقط.

فيردّه: أنّ المحذور المترتّب على بقائهما على حجيّتهما موجودٌ في ذلك الآن، فلا يصحّ البناء عليه، مع أنّ الحجيّة إنّما هي من المجعولات الشرعيّة، فلا يُعقل جعلها من دون ترتّب أثرٍ عليها، ويلزم منه سقوطها.

وثانياً: أنّ تمام العلّة في جعل الحجيّة للبيّنة ليس هو الظّن، ولذا تكون حجّة وإنْ لم تفد الظّن، ولا يكون الظّن الحاصل من غيرها، وإنْ كان أقوى من الحاصل منها حُجّةً .

وأمّا الأقربيّة إلى الواقع:

فإنْ اُريد بها أقوائيّة الظَّن الحاصل من واجدة المُرجّح.

فيرد عليه: ما ذُكر، وإلّا فهي غير محرزة، وعلى فرضها، الترجيح بها يتوقّف على دليل، وبناء العقلاء بالنسبة إلى الحجيّة المجعولة شرعاً لها غير ثابت.

وثالثاً: أنّ فحوى الأخبار العلاجيّة غير قطعيّة، ولذا بنينا على عدم التعدّي في موردها عن المرجّحات المنصوصة إلى غيرها.

وعليه، فالأظهر هو التساقط مطلقاً، أو التخيير كذلك، على اختلاف المسلكين.

هذا كلّه إذا كان تعارض بين البيّنتين، وإلّا كما لو كان مستند إحداهما الاستصحاب، ومستند الأُخرى العلم، قُدِّمت البيّنة الثانية، لأنّ الأُولى لا تُكذّب الثانية، ولا الثانية مكذّبة للأُولى كما لا يخفى .

***

ص: 334

الأخبار الواردة في تعارض البيّنات

وأمّا الموضع الثاني: فقد يقال إنّ الأخبار الواردة في الباب تدلّ على خلاف ما تقتضيه القاعدة في الجملة:

منها: خبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم ويُقيم البيّنة، ويقيم الذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها من أبيه، ولا يدري كيف كان أمرها؟

فقال عليه السلام: أكثرهم بيّنةً يستحلف وتدفع إليه.

وذكر أنّ عليّاً عليه السلام أتاه قومٌ يختصمون في بغلةٍ ، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا ولم يهبوا، وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك، فقضي عليه السلام بها لأكثرهم بيّنة، واستحلفهم.

قال: فسألته حينئذٍ فقلتُ : أرأيتَ إنْ كان الذي ادّعى الدار، قال: إنّ أبي هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، ولم يُقم الذي هو فيها بيّنةً ، إلّاأنّه ورثها عن أبيه ؟

قال عليه السلام: إذا كان الأمر هكذا، فهي للذي ادّعاها وأقام البيّنة عليها»(1).

ومنها: خبر إسحاق بن عمّار، عنه عليه السلام: «في رجلين اختصما عند الامير عليه السلام في دابةٍ في أيديهما...

فقيل له: فلو لم تكن في يد واحدٍ منهما، وأقاما البيّنة ؟

.... قيل: فإنْ كانت في يد أحدهما وأقاما جميعاً بيّنة ؟

ص: 335


1- الكافي: ج 7/418 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/249 ح 33695.

قال عليه السلام: أقضي بها للحالف الذي هو في يده»(1).

ومنها: خبر غياث، عنه عليه السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام اختصم إليه رجلان في دابةٍ ، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للّذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين»(2).

وقريبٌ منه خبر جابر الحاكي لقضاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله بذلك(3).

ومنها: خبر عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام وفيه:

«وكان - أي عليٌّ عليه السلام - إذا اختصم إليه الخصمان في جاريةٍ ، فزعم أحدهما أنّه اشتراها، وزعم الآخر أنّه أنتجها، فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً، قضى بها للذي أنتجت عنده»(4).

هذه هي تمام النصوص الواردة في المقام، الدالّة على خلاف القاعدة التي ذكرناها.

وأمّا سائر النصوص التي ذكرها في «ملحقات العروة»(5) فهي في غير الفرض، لأنّها مطلقة قابلة للحمل على صورة التَّداعي، بل هي في مقام بيان أنّه إن أقام كلٌّ من اللّذين لهما إقامة البيّنة تلك، يُقرع بينهما، أو تقدّم البيّنة الواجدة للمزيّة، ولا تدلّ على أنّ للمنكر أيضاً إقامة البيّنة.

ويعارضها خبران:

أحدهما: خبر منصور المتقدّم: قال عليه السلام: «حقّها للمُدّعي ولا أقبل من الذي في9.

ص: 336


1- الكافي: ج 7/419 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/250 ح 33696.
2- الكافي: ج 7/419 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/250 ح 33697.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/373 باب 10 من أبواب كيفيّة الحكم ح 5 (21616).
4- تهذيب الأحكام: ج 6/236 ح 13، وسائل الشيعة: ج 27/255 ح 33709.
5- تكملة العروة الوثقى: ج 2/148-149.

يده بيّنة، لأنّ اللّه تعالى أمر أنْ يُطلب البيّنة من المُدّعي، فإنْ كانت له بيّنة، وإلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّه عزّ وجلّ »(1).

ثانيهما: المرسل، عن أمير المؤمنين عليه السلام في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد، وإنْ كان في يد أحدهما فالبيّنة فيه على المُدّعي، واليمين على المُدّعى عليه»(2).

وهذه تُقدَّم على النصوص الأُول إنْ تمّت دلالتها، لفتوى جمعٍ من فحول العلماء من القدماء وغيرهم، وادُّعي عليه الإجماع، مع أنّه يمكن الإشكال على الاستدلال بها في أنفسها:

أمّا الأخبار الثلاثة الوسطى - فمع قطع النظر عن ضعف بعضها - أنّه ليس فيها إلّاأنّه بعد شهادتهما بالنتاج عنده، أن قضى لذي اليد بعد الحلف كما في اثنين منها، أو مطلقاً كما في الآخر المتعيّن حمله على المقيّد، وهذا كما يلائم مع كون الترجيح لبيّنة الداخل، يُلائمُ مع كون بيّنة ذي اليد مطروحة، لعدم التوظيف، وعدم فائدةٍ لبيّنة الخارج، لكونها شهادة على المِلْك السابق، وكونها مرجوحة بالنسبة إلى اليد الحالية، كما هو المشهور بينهم.

وأمّا خبر ابن سنان: فليس فيه ما يظهر منه كون الجارية تحت يد أحدهما، كما لا يخفى .

وأمّا صحيح أبي بصير:

فإنْ كان الاستدلال بذيله، فليس فيه تعرّض، لكون البغلة في يد أحدهما.

وإنْ كان بصدره، فيردُ عليه أوّلاً: أنّه لو دلّ لدلّ على القول الثامن، وعليه2.

ص: 337


1- التهذيب: ج 6/240 ح 25، وسائل الشيعة: ج 27/234 ح 33669.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/372 ح 21612-1، دعائم الإسلام: ج 2/522.

فلإعراض الأصحاب عنه لا يُعتمد عليه.

وثانياً: أنّ الظاهر من الدّعوى المفروضة فيها كونها على الميّت بقرينة قوله عليه السلام:

«ويُقيم الذي في يده الدّار البيّنة أنّه ورثها من أبيه، ولا يدري كيف أمرها»، إذ لو كانت الدّعوى على الحَيّ لما كان وجهٌ لقوله عليه السلام: «لا يدري كيف أمرها».

وعلى هذا فالبيّنة القائمة، ودعوى ذي اليد تدلّان على عدم اماريّة اليد، وأنّها يدٌ عمياء معلومة الحال لا تكون حجّة على الملكيّة، فيخرج مورده عن محلّ النزاع.

فإنْ قيل: إنّه على هذا لزم تقديم بيّنة الخارج مع الحلف، كما أفاده في آخر الحديث.

قلنا: فليكن ذلك إشكالاً آخر عليه، لا أنّه يصيرُ سبباً لحمله على ما استدلّ به له.

فالمتحصّل: أنّه ليس في النصوص الخاصّة ما يشهدُ بخلاف ما تقضيه القاعدة، وعليه فالقول الأوّل هو الأظهر.

أقول: وبما ذكرناه وإنْ ظَهر مدارك سائر الأقوال وضعفها، إلّاأنّه لا بأس بالإشارة الإجماليّة إليها.

فقد استدلّ للثاني:

1 - بالأصل.

2 - والاستصحاب.

3 - وبأنّ ذا اليد له حجّتان: اليد، والبيّنة، والآخر حجّة واحدة، فترجِّحان عليها.

4 - وبأنّ البيّنتين تتعارضان وتتساقطان، فيبقى العين في يد ذي اليد بلا بيّنة للمدّعي.

ص: 338

5 - وببعض الأخبار المطلقة الآتية.

ولكن الأصل والاستصحاب لا يرجع إليهما مع الدليل. وعرفت أنّ بيّنة ذي اليد لا تُسمع.

والأخبار المطلقة تقيّد بما مرّ لو سُلّم إطلاقها.

واستدلّ للثالث:

للجزء الأوّل: بما تقدّم في مدرك القول المختار.

وللجزء الثاني: بما تقدّم من النصوص المتوهّم دلالتها على تقديم بيّنة الداخل مع ذكر السَّبب.

ويردّه: - مضافاً إلى ما مر - أنّها في مورد اشتمال البيّنتين على السَّبب، فلا ربط لها بمدّعاهم.

وما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله(1) من التتميم بالأولويّة مردودٌ، بأنّه فرعُ قولهم بتقديم بيّنة الداخل في المسبّبين، حتّى يثبتُ في الفرع بالأولويّة، وهم غير ملتزمين به في الأصل.

أقول: ولكن الإنصاف أنّه مع قطع النظر عمّا أوردناه على صدر صحيح أبي بصير، فإنّ دلالته على هذا القول ظاهرة، لو اُلغي خصوصيّة السَّبب وهو الإرث، إلّا أنّه لا دليل عليه.

واستدلّ للرابع: بأخبار إسحاق، وجابر، وغياث، وقد مرّ ما فيه.

واستدلّ للقول الخامس:

للجزء الأوّل منه: بما مرّ.5.

ص: 339


1- مسالك الأفهام: ج 14/85.

وللجزء الثاني: ببعض النصوص الدّال بإطلاقه على تقديم الأكثر والأعدل.

ويردّه: ما تقدّم من أنّه إمّا في غير المورد، أو يقيّد إطلاقه بما تقدّم.

واستدلّ للقول السادس: بصحيح أبي بصير المتقدّم مع جوابه، كما أنّه استدلّ به للثامن، وظهر جوابه أيضاً ممّا قدّمناه.

وأمّا السابع: فلم أظفر بدليله.

وأمّا التاسع فقد استدلّ له: بالنصوص الكثيرة الآتية، ولكنّها مطلقة يقيّد إطلاقها بما قدّمناه من الأخبار الدالّة على القول الأوّل.

***

ص: 340

ولو تشبَّثا قَضى به لكلٍّ بما في يد صاحبه، فيكون بينهما بالسَّوية

حكم تعارض البيّنتين فيما لو كانت العين في أيديهما

الفرع الثاني: (ولو تشبّثا) أي كان المال المُدّعى به في يدهما، وأقام كلّ واحدٍ منهما بيّنةً على الجميع (قُضي به لكلّ بما في يد صاحبه، فيكون بينهما بالسَّوية) بلا خلافٍ في أصل الحكم إجمالاً، وإنّما الخلاف في موارد:

منها: إطلاق الحكم بالتنصيف، فإنّ المحكيّ عن جماعةٍ من القدماء، وبعض المتأخّرين أنّه يُحكم به مع تساوي البيّنتين في الاُمور المرجّحة من الأكثريّة والأعدليّة وذكر السَّبب، وإلّا فيقدّم قول من بيّنته أرجح.

ثمّ إنّهم اختلفوا في المُرجِّح:

فبعضهم: اعتبر الأعدليّة خاصّة.

والآخر: الأكثريّة كذلك.

وثالثٌ : الأعدليّة ثُمّ الأكثريّة.

ورابع: الأعدليّة أو الأكثريّة.

وخامس: اعتبر المرجّح بلا بيان له.

ومنها: لزوم اليمين وعدمه، فإنّ المشهور - كما قيل عدم - اعتبار اليمين، وعن جماعة اعتبارها.

ومنها: سببُ الحكم المذكور، وأنّه هل هو تساقط البيّنتين ليكون كما لا بيّنة

ص: 341

فيه، أو أنّ لكلّ واحدةٍ منهما مرجّحٌ باليد على النصف، فيُبنى على ترجيح بيّنة الداخل، أو ترجيح بيّنة الخارج، ويظهر الثمرة في ثبوت اليمين كما لا يخفى .

أقول: ويقع الكلام:

تارةً : في ما تقتضيه القاعدة.

وأُخرى : في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا الأمر الأوّل: فبناءً على ما قدّمناه من أنّ المال إذا كان في يد المتخاصمين، تكون يد كلّ منهما أمارة على كونه مالكاً للنصف، تُقبل بيّنة كلّ منهما بالنسبة إلى النصف، فإنّها - بالإضافة إلى النصف الذي يكون مِلْكاً له بحكم اليد - لا تكون ميزاناً وحجّةً في باب الخصومة والنزاع، فتختصّ حجيّتها بالإضافة إلى ما في يد الآخر، فيثبتُ بكلٍّ من البيّنتين مالكيّة من أقامها لما في يد صاحبه.

وإلى ذلك أشار المصنّف رحمه الله حيث قال: (قضى به لكلٍّ بما في يد صاحبه).

فإنْ قيل: إنّ إعمال البيّنتين إنّما هو العمل بتمام مقتضاهما، ولمّا لم يُمكن ذلك في المتعارضتين، فتكونان خارجتان عن مدلول العمومات.

قلنا: إنّ عدم العمل بمقتضاهما إنْ كان من جهة اقتران بعض المورد بمانع، وقصوره لا من جهة النقص في البيّنة كما في المقام، لا تكون البيّنة خارجةً عن مدلول العمومات، ويترتّب على ما ذكرناه عدم اعتبار الحلف، فإنّ السَّبب في الحكم بالملكيّة هو البيّنة، ومعها لا حاجة إلى الحلف.

وأمّا الأمر الثاني: فما يمكن الاستدلال به أو استدلّ به نصوصٌ :

منها: مرسل ابن المغيرة، عن غير واحدٍ من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

ص: 342

«في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما: الدِّرهمان لي، وقال الآخر: هما بيني وبينك ؟

فقال عليه السلام: أمّا الذي قال: هما بيني وبينك، فقد أقرَّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، وأنّه لصاحبه، ويُقسَّم الآخر بينهما»(1).

ومنها: خبر السّكوني، عنه، عن أبيه عليهما السلام: «في رجلٍ استودع رجلاً دينارين، فاستودعه آخر ديناراً، فضاع دينارٌ منهما؟

قال عليه السلام: يُعطى صاحب الدينارين ديناراً، ويقسّم الآخر بينهما نصفين»(2).

استدلّ بهما المحقّق النراقي قدس سره في «المستند»(3) للقول بالتنصيف في المقام، بدعوى أنّهما - بترك الاستفصال عن إقامة البيّنة وعدمها - يدلّان عليه.

وفيه: إنّهما في مقام بيان حكم القضيّة من حيث هي، لا مع إقامة كلٍّ منهما البيّنة، كما هو واضح.

ومنها: خبر غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«أنّ أمير المؤمنين عليه السلام اختصم إليه رجلان في دابّةٍ ، وكلاهما أقاما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها للّذي في يده، وقال: لو لم تكن في يده جَعلتُها بينهما نصفين»(4).

واستدلّ به النراقي(5) أيضاً للقول بالتنصيف، بدعوى أنّه أعمٌّ من أن يكون في يدهما.0.

ص: 343


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/35 ح 3274، وسائل الشيعة: ج 18/450 ح 24022.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/208 ح 14، وسائل الشيعة: ج 18/452 ح 24025.
3- مستند الشيعة: ج 17/348-349.
4- الكافي: ج 7/419 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/250 ح 33697.
5- مستند الشيعة: ج 17/400.

وفيه: إنّ عدم كون العين في يده، غير كونها في يدهما، كمالا يخفى .

ومنها: خبر تميم بن طرفة: «أنّ رجلين ادّعيا بعيراً، فأقام كلّ واحدٍ منهما بيّنة، فجعله أمير المؤمنين عليه السلام بينهما»(1).

ولكنّه ليس فيه إشارة إلى كون المال في يدهما، بل غايته الإطلاق، فيختصّ بغير هذا المورد لما مرّ ويأتي.

ومنها: خبر إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين عليه السلام في دابةٍ في أيديهما، وأقام كلّ واحدٍ منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما عليٌّ عليه السلام، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف»(2).

ومقتضى هذه الرواية عدم كون كلٍّ من البيّنتين في المقام حجّة وميزاناً، وإنّما الميزان هو الحلف، وعليه فهي مخالفة لفتوى الأصحاب، فتسقط بالإعراض عن الحجيّة.

ومنها: المرسل المتقدّم عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«في البيّنتين تختلفان في الشيء الواحد، يدّعيه الرّجلان: فأمّا إذا كان في أيدهما فهو فيما بينهما نصفان»(3).

وهو موافقٌ للقاعدة، ولفتوى المشهور، ولذلك قال المحقّق العراقي رحمه الله(4) إنّه:9.

ص: 344


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/36 ح 3276، وسائل الشيعة: ج 18/451 ح 24023.
2- الكافي: ج 7/419 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/250 باب 12 من أبواب كيفيّة الحكم ح 33696.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/372 ح 21612-1، دعائم الإسلام: ج 2/522.
4- كتاب القضاء للمحقّق ضياء الدّين العراقي: ص 189.

(ينجبر ضعفه بالعمل).

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: عدم اعتبار اليمين، وأنْ السَّبب في الحكم بالتنصيف هو بيّنة الخارج، كما هو المشهور بينهم، وصرّح به الأساطين.

***

ص: 345

ولو كان المال المتنازع فيه في يد ثالثٍ ، قضي للأعدل فالأكثر، وإنْ تساويا أُقرع، فيحلف من تخرج القرعة، فإنْ امتنع أحلَف الآخر، فإن امتنعا قُسِّم بينهما.

تعارض البيّنتين في صورة التداعي

الفرع الثالث: (ولو كانَ المال المتنازعُ فيه في يد ثالثٍ ) فالمشهور بينهم، خصوصاً المتأخّرين، بل عليه عامّتهم كما في «الرياض»(1) أنّه (قُضي للأعدل) أي بأرجح البيّنتين عدالةً (فالأكثر) منهما شهوداً إنْ تساويا في العدالة.

(وإنْ تساويا) عدالةً وكثرةً (اُقرع) بينهما، (فيحلفُ من تخرجُ القرعة)، فيُقضى له بتمام المُدّعى به.

(فإنْ امتنع) عن الحلف (أحلف الآخر) وقُضي له بتمامه.

(فإنْ امتنعا) معاً عن الحلف، (قُسِّم) المُدّعى به (بينهما).

وعن «الغنية»(2): الإجماع عليه.

أقول: وفي المقام أقوالٌ اُخر ستقف عليها.

وأمّا النصوص: فهي مختلفة:

منها: ما يدلّ على الترجيح بالأكثريّة، كصحيح أبي عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ : «إنّ عليّاً عليه السلام أتاه قومٌ يختصمون في بغلةٍ ، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على

ص: 346


1- رياض المسائل: ج 15/213.
2- غنية النزوع: ص 444.

مذودهم(1)، ولم يبيعوا ولم يهبوا، وقامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك، فقضي عليه السلام بها لأكثرهم بيّنة واستحلفهم»(2).

وخبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، وموثّق سماعة الآتيين.

ومنها: ما يدلّ على الترجيح بالأعدليّة، كخبر البصري، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «كان عليٌّ عليه السلام إذا أتاه رجلان بشهودٍ عدلهم سواء وعددهم، أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين، وكان يقول: اللّهُمَّ رَبِّ السَّموات السَّبع أيّهم كان له الحقّ فأدّه إليه)، ثم يجعل الحقّ للّذي يصير عليه اليمين إذا حلف»(3).

فإنّ ذكر الأعدليّة مع الأكثريّة، يقتضي كونها مثلها في الترجيح المستفاد من دليله بالخصوص، وإلّا لم يكن ثمرةٌ لذكرها معها بعد فرض معلوميّة كونها بمجرّدها مرجّحة، كما دلّ عليه صحيح أبي بصير.

ومنها: ما يدلّ على الترجيح بالقُرعة:

1 - كخبر البصري المتقدّم.

2 - وموثّق سماعة، حيث قال: «إنّ رجلين اختصما إلى عليٍّ عليه السلام في دابةٍ ، فزعم كلّ واحدٍ منهما أنّها نتجت على مذوده، وأقام كلّ واحدٍ منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلَّم السَّهمين كلّ واحدٍ منهما بعلامةٍ ، ثمّ قال: (اللّهُمَّ رب السماوات السَّبع، وربّ الأرضين السَّبع، وربّ العرش العظيم، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدّابة، وهو أولى بها، فأسألك أن يقرع ويخرج9.

ص: 347


1- المِذود: معتلف الدابّة.
2- الكافي: ج 7/418 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/249 ح 33695.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/233 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/251 ح 33699.

سهمه) فخَرَج سهمُ أحدهما فقضى له بها»(1).

3 - وصحيح داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في شاهدين شهدا على أمرٍ واحدٍ، وجاء آخران فشهدا على غير الذي شَهد الأوّلان عليه، واختلفوا؟

قال عليه السلام: يُقرع بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين وهو أولى بالقضاء»(2).

ونحوها غيرها.

أقول: والجمع بين النصوص يقتضي البناء على تأخّر القرعة عن الأكثريّة، وذلك لاختصاص جميع النصوص الدالّة على القرعة بصورة التساوي في العدد.

وتأخّرها عن الأعدليّة، لتأخّر الأكثريّة عنها، ولخبر البصري.

وأمّا تأخّرالأكثريّة عن الأعدليّة، فليس له دليلٌ من النصوص، إلّاأنّ الشهرة المعتضدة بدعوى الإجماع مكرّراً على تأخّرها عنها توجبُ البناء على ذلك.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ مقتضى دليل الترجيح بالأكثريّة، الرجوع إليها ولو مع الأعدليّة في الجانب الآخر، وكذا مقتضى إطلاق دليل الترجيح بالأعدليّة، فيقع التعارض بينهما فيما لو كانت البيّنتان مختلفتين بالأعدليّة في واحدة، والأكثريّة في الأُخرى بالعموم من وجه، فيرجع إلى المرجّحات، فيقدّم دليل الترجيح بالأعدليّة لفتوى الأصحاب التي هي أوّل المرجّحات، لتقديم أحد الخبرين المتعارضين على الآخر.

فتحصّل: أنّ مقتضى الجمع بين النصوص، ما ذكره المشهور من تقديم الأعدل، ثمّ الأكثر، ومع التساوي فيهما فالقرعة.

وأمّا ما أفادوه من لزوم الحلف على من خرجت القُرعة بإسمه، فيشهد له خبر0.

ص: 348


1- تهذيب الأحكام: ج 6/234 ح 7، وسائل الشيعة: ج 27/254 ح 33706.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/93 ح 3394، وسائل الشيعة: ج 27/251 ح 33700.

البصري، وصحيح داود بن سرحان المتقدّمان، ونحوهما غيرهما.

أقول: ثمّ إنّ الظاهر من اقتصار المصنّف رحمه الله وغيره على توجّه اليمين إلى من خرجت القرعة باسمه، أنّه لا يمين على صاحب البيّنة المرجّحة بغير القرعة من الأعدليّة والأكثريّة، ولكن قال صاحب «الجواهر»(1): (الظاهر كون تركه اعتماداً على ما ذكروه في القرعة التي هي إحدى المرجّحات للبيّنة).

وكيف كان، فصحيح أبي بصير يشهدُ بثبوت اليمين في الأكثريّة، وبعدم القول بالفصل يثبت في الأعدليّة أيضاً.

ويمكن أن يقال: إنّ بعض نصوص القرعة يتضمّن إقراعه عليه السلام على من تصير اليمين منهما، كخبر البصري، وهذا كاشفٌ عن ثبوت اليمين على أحدهما في صورة تعارض البيّنتين مطلقاً، وقد أخرجه الإمام عليه السلام بالقُرعة. وعلى أيّ حال لا مجال للتشكيك فيه.

وأمّا ما ذكروه من أنّه إن امتنع عن الحلف حَلِف الآخر:

فيشهد به: أنّه تدلّ النصوص الدالّة على حَلف من خرجت القرعة باسمه، أنّه لا حقّ له بدون الحلف، وهو صريحُ خبر البصري، وحيث أنّ المفروض انحصاره فيهما فيثبت للآخر.

واحتمال ثبوته له من دون يمينٍ ، منافٍ لقوله صلى الله عليه و آله: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان»(2).

أضف إلى ذلك: أنّ ثبوته فيمن أخرجته القرعة، يقتضي أولويّته بذلك.3.

ص: 349


1- جواهر الكلام: ج 40/428.
2- الكافي: ج 7/414 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/232 ح 33663.

وقيل: بل لعلّ اقراع الإمام عليه السلام لاستخراج من يصير اليمين عليه، يراد منه الأعمّ من الصيرورة ولو بالآخرة.

بل لعلّ إجماله بقوله عليه السلام: «ثمّ يجعل... إلخ»، إشارةٌ إلى ذلك.

وأمّا التنصيف بينهما على تقدير النكول: فيمكن أن يستدلّ له بعموم ما دلّ (1)على ثبوت الحقّ للخصم في صورة النكول، فإنّه يقتضي بنكول الأوّل كون المال تمامه للآخر، وكذلك بنكول الثاني، فمقتضى قاعدة العدل والإنصاف ذلك.

أقول: ويمكن الاستدلال بهذه القاعدة ابتداءً بدعوى أنّ البيّنتين متعارضتان، والمال مالٌ ادّعياه، ولا يكون خارجاً عنهما، ولا حجّة لأحدهما بالخصوص، فمقتضى القاعدة المزبورة التنصيف.

بل على هذا التقريب يمكن الاستدلال للتنصيف حينئذٍ بما دلّ في مسألة ما لو تنازعا فيما لا يد لأحدهما عليه، ولا بيّنة على التنصيف المتقدّم.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ استفادة جميع ما ذكره المشهور من الأخبار ظاهرةٌ لا إشكال فيها.

فما في «المسالك»(2): (من أنّ الحكم في هذا القسم لا يخلو عن إشكالٍ ، لإختلاف الأخبار على وجهٍ يعسرُ الجمع بينها، وضعف ما ذكروه من طريق الجمع، وضعف سند أكثرها، وعدم عمل الأصحاب بما اعتبر إسناده، مقتصرين عليه، ولأجل ما ذكرناه اقتصر الشهيد في «الدروس»(3) على مجرّد نقل الأقوال من1.

ص: 350


1- الكافي: ج 7/415 باب من ادّعى على ميّت، وسائل الشيعة: ج 27/236 باب 4 باب ثبوت الحقّ على المنكر إذا لم يحلف ولم يرد....
2- مسالك الأفهام: ج 14/88.
3- الدروس: ج 2/101.

غير ترجيح لأحدها) غير تامّ .

وأمّا سائر الأقوال:

من تقديم الأكثريّة على الأعدليّة، كما عن الحِلّي(1).

والاقتصار على الأُولى ، كما عن الإسكافي(2)، والأردبيلي(3).

وعلى الثانية، كما عن المفيد(4).

والرجوع إليهما من غير ذكر الترتيب، كما عن سلّار(5).

والاقتصار على القُرعة، كما عن العُمّاني(6).

والقرعة إنْ شهدتا بالمِلْك المطلق من الجانبين، وبالقسمة نصفين إنْ كانتا مقيّدتين بذكر السَّبب، والقضاء بالمقيّد إنْ كانتا مختلفتين كما عن «المبسوط»(7).

فقد ظهر ما يمكن أن يستدلّ به لكلّ واحدٍ منهما مع الجواب عنه، فلا حاجة إلى التكرار، ولا فائدة فيه.

أقول: ثمّ إنّ الأكثر لم يتعرّضوا لحكم تصديق الثالث الذي بيده العين لأحدِ المتداعيين هنا، كما ذكروه في صورة عدم البيّنة:

فعن «التحرير»(8) توجيهه: بأنّ البيّنتين متطابقتان على عدم ملكيّة الثالث،5.

ص: 351


1- السرائر: ج 2/167.
2- حكاه عنه في مختلف الشيعة: ج 8/388.
3- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/238 قوله: (فإنّ العدالة تكفي للشهادة).
4- المقنعة: ص 730.
5- المراسم العلويّة: ص 226.
6- حكاه في مختلف الشيعة: ج 8/387. قوله: (وقال ابن أبي عقيل: ولو أنّ رجلين تداعيا شيئاً وأقام كلّ واحدٍ منهما شاهدين...).
7- المبسوط: ج 8/258.
8- تحرير الأحكام: ج 2/195.

فلا يكون إقراراً، لأنّه إنّما يكون في مِلْك الشخص واقعاً أو ظاهراً، و مع البيّنتين لايكون كذلك.

وفيه: - بعد النقض بالإقرار في صورة عدم البيّنة، مع عدم كونها مِلْكاً له، إمّا للعلم به من الخارج، أو الثابت بالإقرار - أنّ مدرك ثبوت الحقّ للمقرّ به بإقرار ذي اليد، ليس قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، فإنّها لا تدلّ على أزيد من نفي المِلْكيّة عن نفسه، بل أُمورٌ اُخر تقدّمت في تلك المسألة، وهي جارية في المقام.

وعن «القواعد»(1): أنّه كاليد.

وعليه، فترجع إلى الصورة الأُولى من بيّنة الداخل أو الخارج، إذا صدق أحدهما.

ولكن الظاهر أنّ عدم ذكرهم له من جهة إطلاق الأخبار الخاصّة، كما ذكره بعضٌ (2).

***1.

ص: 352


1- قواعد الأحكام: ج 3/488.
2- مستند الشيعة: ج 17/411.

تنبيهات باب التعارض

أقول: وينبغي التنبيه على أُمورٍ:

التنبيه الأوّل: أنّ هناك فرعاً آخر لم يتعرّض له المصنّف، وهو ما لو لم تكن العين في يد أحدٍ، فالظاهر أنّه من جهة أنّ حكمه حكم ما لو كانت في يد ثالثٍ ، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، لإطلاق أكثر الأخبار لولا جميعها، ولذلك لا نتعرّض لمدرك الحكم فيه، وإلّا لزم التكرار بلا جهة.

التنبيه الثاني: أنّ عنوان المسألة في كلمات الأصحاب تعارض البيّنتين في النزاع في الأعيان، فهل الحكم في غيرها، كما لو تنازعا في دينٍ خاصّ من جميع الجهات، أو في منفعةِ ملكٍ ، أو في حقٍّ من الحقوق، أو في نكاحٍ أو طلاقٍ وما شاكل هو ذلك، أم له حكمٌ آخر، كما في «المستند»(2)؟

الظاهر هو الأوّل، فإنّ أكثر الأخبار وإنْ كانت في الأعيان، إلّاأنّ جملةً منها مطلقة كصحيح داود(3)، وصحيح الحلبي(4)، وبعضها في الدّين كخبر زرارة(5)، وبعضها في الزوجيّة كخبر داود العطّار(6).

وعليه، فالجمع بين النصوص يقتضي البناء على أنّ ذكر الأعيان في أكثر الأخبار من باب المثاليّة، فلذلك ولإطلاق الصحيحين يثبتُ الحكم في جميع موارد التنازع، ولا منافاة بين المطلق والمقيّد كي يُحمل عليه.

ص: 353


1- مستند الشيعة: ج 17/411.
2- مستند الشيعة: ج 17/412 قوله: (والتحقيق في الجميع أن يبنى على أصالة عدم قبول بيّنة المنكر...).
3- من لا يحضره الفقيه: ج 3/93 ح 3394، وسائل الشيعة: ج 27/251 ح 33700.
4- تهذيب الأحكام: ج 6/235 ح 8، وسائل الشيعة: ج 27/254 ح 33705.
5- الكافي: ج 7/420 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/252 ح 33701.
6- الكافي: ج 7/420 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/252 ح 33702.

حكمُ تعارض البيّنتين فيما لا يمكن التنصيف

التنبيه الثالث: في المواضع التي حَكَمنا فيها بالتنصيف، كما إذا لم يحلف من خرجتِ القُرعة باسمه، ولم يَحلف الآخر أيضاً، إذا كان المورد ممّا لا يمكنُ فيه التنصيف، كالنزاع في زوجيّة امرأةٍ ، فاللّازم الرجوع إلى القواعد والاُصول الاُخر:

ففي «المسالك»(1)، و «المستند»(2): أنّه يُحكم بأنّه لمن أخرجته القرعة، بلا حاجةٍ إلى الحلف بعدها.

واستدلّ له في «المسالك» (3) : (بأنّه لا فائدة في الإحلاف بعد القرعة، لأنّ فائدته القضاء للآخر مع نكوله، وهو منفيٌّ هنا).

وفيه: منع عدم الفائدة في الإحلاف، لما عرفت من أنّ مقتضى الجمع بين الأدلّة أنّه لو حلف من أخرجته القرعة ثبت الحقّ ، وإلّا فيحلف الآخر، ويثبتُ له الحقّ ، فهذه فائدة مهمّة.

واستدلّ له في «المستند» (4) : بإطلاق مرسل داود العطّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجلٍ كانت له امرأةً فجاء رجلٌ بشهودٍ أنّ هذه المرأة امرأة فلان، وجاء آخران فشهدا أنّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود وعُدِّلوا؟

فقال: يقرع بينهم، فمن خرج سهمه فهو المُحقّ وهو أولى بها»(1).

قال: (ولا يرد أنّ مقتضى رواية البصري، وداود بن سرحان، وصحيحة الحلبي الإحلاف، فإنّها عامّة، والمرسلة خاصّة بالزوجيّة فتُخصّص بها، فإنْ لوحظت جهة عموم للمرسلة أيضاً لدلالتها على الأولويّة مطلقاً، سواء كان بعد الحلف أو

ص: 354


1- الكافي: ج 7/420 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/252 ح 33702.

قبله، فيتساقطان، ويبقى حكم القرعة بلا معارض).

وفيه: أنّه قد عرفت أنّ الجمع بين النصوص يقتضي إلغاء خصوصيّات الأمثلة المذكورة فيها، وأنّ ما فيها من الموارد الخاصّة من قبيل المثال، وعليه فالجمع بين المرسل وسائر النصوص، يقتضي تقييد إطلاقه بما بعد الحلف.

وقد يقال: إنّه بعد سقوط البيّنتين بالنكول منهما إنْ لم تُصدِّق المرأة أحدهما يُخلّى سبيلها.

وفيه أوّلاً: أنّه ربما يُعلم زوجيّتها لأحدهما.

وثانياً: أنّ المختار في تعارض البيّنتين كتعارض سائر الأمارات هو التخيير، ففي المقام إنّما اعتبر الترجيح ثمّ الحلف، فمع عدمهما، مقتضى الأصل هو التخيير، وحيث أنّه لا يصحّ في المقام، لأنّه لو حكم بالتخيير يختار كلّ منهما بيّنته، فيعود النزاع، فلا يحكم به، ولكن في الحكم بنفي الثالث وثبوت إحدى الزوجيّتين لا محذور في الاعتماد على إحدى البيّنتين بنحو التخيير، وعلى ذلك فيتعيّن الرجوع إلى قرعةٍ أُخرى ، وتعيين الزوج بها، لأنّها لكلّ أمرٍ مشكل، ولا يكتفى بالقرعة الأُولى التي هي لتعيين من عليه اليمين، فإنّ هذه لتعيين من هي زوجته بلا احتياجٍ إلى حلفٍ بعدها.

نعم، إن صَدَّقت المرأة أحدهما، يحكم بأنّها زوجته، لأنّ المفروض سقوط البيّنتين، فيكون الأمر بيدها، لما دلّ من النصوص(1) على أنّها مُصدِّقة على نفسها.

ولا يتوهّم: أنّ مقتضى ذلك هو تصديق المرأة لأحد المتنازعين قبل القرعةك.

ص: 355


1- الكافي: ج 5/392 ح 4، وسائل الشيعة: ج 20/301 باب 25 أنّ المرأة مصدّقة في عدم الزوج وعدم العِدّة ونحو ذلك.

والإحلاف، كما عن المحقّق الأردبيلي رحمه الله(1) الالتزام بذلك.

فإنّه يرد عليه: أنّه لا اعتبار بتصديقها بعد وجود البيّنتين، وهذا بخلاف ما إذا تساقطتا.

التنبيه الرابع: في خبرإسحاق تحليفُ الطرفين معاً، حيث قال: «وإن حلفا جميعاً، جعلتها بينهما نصفين»(2)، وفي خبر السّكوني: «فقضى لصاحب الخَمسة خَمسة أسهم، ولصاحب الشاهدين سهمين»(3)، وحيث أنّه لم يَعمل الأصحاب بشيء منهما، إلّاعن أبي عليّ ، وهما منافيان لسائر الأخبار.

أمّا الأوّل: فلأنّ النصوص دلّت على أنّه إن حلف من قُدِّمت بيّنته بالمرجّح أو القرعة، قُضي له، وإنْ حَلِف الآخر.

وأمّا الثاني: فلدلالة الأخبار على الترجيح بالأكثريّة، فيتعيّن طرحهما.

وربما يُحمل خبرالسّكوني على إرادة سهام القرعة، لقاعدة الأقربيّة إلى الخروج.

وهو مضافاً على كونه خلاف الظاهر، لا عامل به إلّاما يُحكى عن أبي عليّ .

تعارض البيّنتين المختلفتين في التاريخ

التنبيه الخامس: إذا شهدت إحدى البيّنتين بالمِلْك في الحال، وأُخرى بالمِلْك منذ سنةٍ ، أو شهدتْ إحداهما بالمِلْك منذ سنةٍ ، وأُخرى بالمِلك منذ سنتين:

فالمشهورُ بين الأصحاب تقديم السّابق والأسبق، فمن المرجِّحات لإحدى

ص: 356


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/229.
2- الكافي: ج 7/419 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/250 ح 33696.
3- الكافي: ج 7/433 ح 23، وسائل الشيعة: ج 27/253 ح 33704.

البيّنتين المتعارضتين السّبق في الزمان، وذكروا في وجهه:

أنّ البيّنتين تتعارضان في الوقت المشترك وتتساقطان، وتبقى الأُخرى في الزيادة بلا معارض، ومقتضى الاستصحاب بقائه، وأنّ السَّبق رجحانٌ في نظر العرف، فيرجّح به بيّنة الأسبق.

وأنّ صحيح ابن سنان المتقدّم يدلّ عليه، فقد حكى الصّادق عليه السلام عن جدّه أمير المؤمنين عليه السلام: «أنّه كان إذا اختصم إليه الخصمان في جاريةٍ ، فزعم أحدهما أنّه اشتراها، وزعم الآخر أنّه أنتجها، فكانا أقاما البيّنة جميعاً، قضى بهاللذي أنتجت عنده»(1).

أقول: - بعد التنبيه على أمرٍ، وهو أنّ محلّ كلامهم ما إذا شهدت كلٌّ منهما بالمِلْك في الحال، وإلّا فإنْ شهدت إحداهما بالمِلْك في السابق فقط، والأُخرى بالمِلْك في الحال، فلا ينبغي التوقّف في تقديم الثانية لعدم المعارضة بينهما، وعدم صلاحيّة الاستصحاب لمعارضة البيّنة من الواضحات - أنّ شهادة من يشهد بالمِلْك في السابق، وبقاء تلك الملكيّة إنْ كانت في بقائها مستندةً إلى الاستصحاب - إنْ جوّزنا الشهادة مستندةً إليه، وسيأتي الكلام في المبنى في كتاب الشهادات(2) - تقدّم بيّنة مَن يشهد بالمِلْك في الحال، لتقدّم بيّنته على مدرك تلك الشهادة، وتوجبُ العلم التعبّدي بعدم بقاء الحالة السابقة، ومعه لا مجال لحجيّتها، فإنّه حينئذٍ كما لو علم بعدم مطابقة البيّنة للواقع، فإنّه لا شُبهة في سقوطها عن الحجيّة، بناءً على ما هو الحقّ من كون حجيّتها من باب الطريقيّة لا الموضوعيّة والسببيّة، وإنْ كانت كلّ منهما مستندةً إلى2.

ص: 357


1- تهذيب الأحكام: ج 6/236 ح 13، وسائل الشيعة: ج 27/255 ح 33709.
2- فقه الصادق: ج 39/12.

العلم أو ما بحكمه.

فإنْ قلنا: بأنّ الأصل في تعارض البيّنتين هو التخيير، وإنْ لم يمكن العمل بهذا الأصل في موارد التنازع، لا مجال للبناء على الترجيح بالسَّبق، فإنّ الاستصحاب لا يجري مع وجود البيّنة، كان موافقاً لها أو مخالفاً، وكون السَّبق مرجّحاً عند العرف ممنوعٌ ، وخبر ابن سنان لا ظهور له في كون منشأ التقديم السَّبق، ولعلّه يكون من جهةٍ أُخرى ، ولذا لم يستدلّ به الأصحاب للترجيح به.

وإنْقلنا: بأنّ الأصل في تعارضهما التساقط، فماذكروه من الرجوع إلى الاستصحاب تامٌّ في غير ما إذا كانت العين بيد الآخر، فإنّ يده حينئذٍ حجّة على المِلْك، وهي تُقدَّم على الاستصحاب، كما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله(1) هذا ما تقتضيه القاعدة.

وأمّا مقتضى النصوص الخاصّة الواردة في الصور المتقدّمة، فهو ما تقدّم فيها لشمولها لهذا المورد.

معارضة البيّنة مع شاهدٍ ويمين

التنبيه السّادس: لا خلاف بين الأصحاب ظاهراً في أنّه كما تتحقّق المعاوضة بين شاهدين مثلهما، كذلك تتحقّق بين شاهدين وشاهد وامرأتين، والمشهور بينهم عدم تحقّقها بين الشاهدين أو شاهدٍ وامرأتين، وبين شاهدٍ واحدٍ ويمين، والأصل فيه ما ذكره الشيخ رحمه الله في «المبسوط»(2) في فصل الدعاوى والبيّنات.

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ له بوجوه:

ص: 358


1- مسالك الأفهام: ج 14/92-93.
2- المبسوط: ج 8/210.

1 - ضعف الشاهد واليمين من جهة وقوع الخلاف في كونهما مُثبتاً، ومن جهة أنّ الحالف يُصدّق نفسه، بخلاف الشاهدين، فإنّهما يُصدّقان غيرهما، ذكره الشيخ رحمه الله في «المبسوط»(1).

2 - ما أفاده المحقّق الأردبيلي رحمه الله(2) من أنّ الشاهد واليمين ليسا بحجّة مستقلّة في جميع الأحكام، بل الشاهد حجّة مع انضمام يمين المُدّعي في بعض الأحكام مع تعذّر الشاهدين.

3 - ما أفاده صاحب «الجواهر»(3)، والسيّد في «ملحقات العروة»(4)، وهو عدم صدق البيّنة على شاهدٍ ويمين.

أقول: هذه الوجوه مردودة:

أمّا الوجه الأوّل: فهو اعتباري لا يصلحُ مدركاً للحكم الشرعي.

ويردُ على الوجه الثاني: أنّ الكلام في الأحكام التي يكون الشاهد واليمين حجّة فيها.

وأمّا الثالث: فلم أفهم المراد منه، إذ التعارض لا يتوقّف على صدق البيّنة، بل مقتضى إطلاق دليل كلّ منهما حجيّته في المورد، فيتعارضان.

نعم، إنْ أرادا بذلك أنّ الأحكام الخاصّة المترتّبة على تعارض البيّنتين لا تترتّب على تعارضهما، كان تامّاً، ولكن ذلك غير عدم التعارض بينهما.0.

ص: 359


1- المبسوط: ج 8/210.
2- مجمع الفائدة والبرهان: ج 12/238.
3- جواهر الكلام: ج 40/270.
4- تكملة العروة الوثقى: ج 2/160.

والحقّ أن يقال: إنّ المال إنْ كان بيد أحدهما، فما كان منهما من جانبٍ خارج اليد، - سواءً كان هو الشاهدان أو الشاهد واليمين - يقدّم إذ لا بيّنة على المنكر.

وإذا كان بيدهما، كان كلّ منهما حجّة، ومقدّماً بالنسبة إلى النصف الذي يكون بيد الآخر.

وفي هذين الفرضين لا يُعتبر الحَلف.

وإنْ كان بيد ثالثٍ :

فإنْ أقرّ هو لأحدهما، كان هو منكراً، فيقدّم ما قام على مالكيّة الطرف الآخر، وإلّا فيتعارض الحجّتان وتتساقطان، لعدم إمكان البناء على التخيير، وحينئذٍ فيرجع إلى ما تقتضيه قاعدة العدل والإنصاف من التنصيف، ومع الإغماض عنها؛ فإلى القرعة، وعلى التقديرين لا يعتبر الحلف.

اللّهُمَّ إلّاأن يرجع إلى القرعة لتعيين المُدّعي والمنكر، وحينئذٍ فعلى من أخرجته القرعة اليمين.

أقول: قد اشتهر بين المتأخّرين ومتأخّري المتأخّرين التعرّض لجملةٍ من مسائل الاختلاف في العقود، وحيث أنّ كلّ واحدةٍ من تلكم المسائل مذكورة في الكتاب المناسب لها من النكاح والإجارة والإرث وما شاكل، ولا أرى كثير فائدةٍ في إعادتها، فصرف الوقت في المسائل الاُخر أولى .

كما أنّهم قد تعرّضوا لفروعٍ اُخر متفرّعة على القواعد العامّة المتقدّمة، ولا أرى حاجة إلى التعرّض لها.

وأيضاً المذكور في كُتُب أكثر الأصحاب بيان أحكام القِسمة، مع أنّها بكتاب

ص: 360

الشركة أنسب، ولذا تعرّضنا لها تبعاً للمصنّف رحمه الله في ذلك الكتاب، فلا نعيدها، وقد تعرّضوا عند بيان أحكامها هنا لاستحبابٍ كما عن الأكثر، أو وجوبٍ كما عن «القواعد»(1)، أن يتّخذ الإمام عليه السلام قاسماً، وكان الأولى عدم التعرّض لذلك.

نعم، ما عن بعضهم من استحبابه للحاكم مطلقاً لا بأس بالبحث فيه، والأظهر عدمه لعدم الدليل عليه.

***0.

ص: 361


1- قواعد الأحكام: ج 3/460.

كتاب الشّهادات

جمعُ شهادة، وهي لغةً :

إمّا الحضور، ومنه قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (1).

أو العلم الذي عَبّر عنه في «المسالك»(2) بالإخبار عن اليقين، ومنه قوله تعالى :

(نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اَللّهِ ) (3) ، وقوله سبحانه: (وَ ما شَهِدْنا إِلاّ بِما عَلِمْنا) (4).

وفي «المسالك»(5): (وشرعاً إخبارٌ جازمٌ عن حقٍّ لازم لغيره، واقع من غير حاكم، وبالقيد الأخير يخرجُ إخبار اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام وإخبار الحاكم حاكماً آخر، فإنّ ذلك لا يُسمّى شهادة)، انتهى .

وفيه: أنّ الظاهر عدم ثبوت حقيقة شرعيّة لها، لعدم الدليل عليها، ولا المتشرعيّة، سيّما وأنّ المشهود في كلام الحُجَج استعمال لفظتي (الشهود) و (الشهادة) وما يسيق منهما في غير هذا المعنى.

وعليه، فاللّازم حمل الشهادة الواقعة في الآيات والنصوص على ما هو المتفاهم منها عرفاً.

ولا يهمّنا البحث في تعيين مفهومها بحسب المتفاهم العرفي سعةً وضيقاً، بعد وضوح الحكم من الأدلّة في الموارد الخاصّة، من حيث اعتبار التعدّد، وعدم جواز

ص: 362


1- سورة البقرة: الآية 185.
2- مسالك الأفهام: ج 14/153.
3- سورة المنافقون: الآية 1.
4- سورة يوسف: الآية 81.
5- مسالك الأفهام: ج 14/153.

الإخبار إلّاعن علم وما شاكل، وعليه فلا مورد لإطالة الكلام في النقض والإبرام الواردين على التعاريف التي ذكروها، والأصل فيها: الإجماع، والكتاب، والسُّنة، وستمرّ عليك.

***

ص: 363

الفصل الخامس: في صفات الشاهد:

وهي ستّة: البلوغ.

الفصل الخامس: في اشتراط بلوغ الشاهد

اشارة

(الفصل الخامس: في صفات الشّاهد، وهي سِتّة):

الشرط الأوّل: (البلوغ) فلا تُقبل شهادة غير البالغ، بلا خلافٍ فيه في الجملة.

وفي «الجواهر»: «إجماعاً بقسميه»(1).

أقول: وتنقيح القول فيه يتمّ في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: أنّ مقتضى عمومات الكتاب، وطائفة من النصوص، قبول شهادة الصَّبي أيضاً، لاحظ قوله تعالى : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ) (2).

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ المراد من ضمير الجمع، هو المراد من الضمير في (نِسائِكُمْ ) (3) وفي (فَأَمْسِكُوهُنَّ ) (4)، وهو الرِّجال قطعاً.

ويؤيّده: الآية الأُخرى ، وهي قوله تعالى : (وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (3)، وقوله سبحانه: (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ ) (4).

ص: 364


1- الجواهر: ج 41/14.
2- سورة النساء: الآية 15. (3و4) سورة النساء: الآية 15.
3- سورة البقرة: الآية 282.
4- سورة النور: الآية 4.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ هذه الآية في مقام بيان وجوب جلد من رَمى المُحصَنة، ولم يُقِم الشهود على ما رمى، وليست في مقام بيان من تُقبل شهادته كي يُتمسّك بإطلاقه لقبول شهادة الصَّبي، وبذلك يتطرّق الإشكال في النصوص التي استدلّ بها على قبول شهادته:

مثل ما ورد في حَدّ الرّجم أن يشهد أربع أنّهم رأوه يُدخِل ويُخرِج(1).

وما دلّ على جواز شهادة الولد لوالده، والأخ لأخيه(2)، وما شاكل.

وعليه، فمقتضى القاعدة الأوّليّة عدم قبول شهادته، وعدم نفوذه، وعدم ترتّب الأثر عليه، كما في سائر الشهادات.

ولكن ذلك بالنسبة إلى ما تضمّن من الآيات والروايات على لفظ الشهادة.

وأمّا ما دلّ على حجيّة خبر الواحد - بناءً على ما حقّقناه من حجيّته في الموضوعات(3) - فبعض تلك الأدلّة بإطلاقه يشمل الصَّبي المميّز.

أقول: وكيف كان، فيشهد لعدم قبول شهادته جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح محمّدبن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: «في الصَّبي يشهدُ على الشهادة.

فقال عليه السلام: إنّ عقله حين يُدرك أنّه حقّ جازت شهادته»(4).

ومنها: قوي السّكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السلام: إنّ شهادة الصِّبيان إذا أشهدوهم صغاراً جازت إذا4.

ص: 365


1- الكافي: ج 7/183 ح 1، وسائل الشيعة: ج 28/94 باب 12 من أبواب حَدّ الزّنا.
2- الكافي: ج 7/393 باب شهادة الوالد للولد، وسائل الشيعة: ج 27/367 باب 26 من أبواب الشهادات.
3- زبدة الاُصول: ج 4/148.
4- الكافي: ج 7/389 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/342 ح 33884.

كبروا، ما لم ينسوها»(1).

ونحوه خبر إسماعيل بن أبي زياد(2) المرويّ عن من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه.

دلّت هذه النصوص بمقتضيمفهوم الشرطعلى عدم قبول شهادته في حال الصِّغر.

ومنها: صحيح جميل، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: تجوزُ شهادة الصِّبيان ؟

قال عليه السلام: نعم، في القتل يؤخذ بأوّل كلامه، ولا يؤخذ بالثاني منه»(3).

فإنّ الجواب عن الخاص بعد السؤال عن العام، بمنزلة التفصيل القاطع للشركة.

ومنها: خبر محمّد بن حمران، عنه عليه السلام: «عن شهادة الصَّبي ؟

فقال عليه السلام: لا، إلّافي القتل، يؤخَذ بأوّل كلامه، ولا يُؤخذ بالثانى»(4).

ومنها: موثّق محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لم تَجُز شهادة الصَّبي، ولا خصمٍ ، ولا متّهمٍ ، ولا ظنين»(5).

ومنها: موثّقه الآخر عنه عليه السلام، قال: «رَدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله و سلم شهادة السائل الذي يسأل في كفّه.

قال أبو جعفر عليه السلام: لأنّه لا يؤمَن على الشهادة»(6).

دلّ بعموم العلّة على عدم قبول شهادة الصَّبي.6.

ص: 366


1- الكافي: ج 7/389 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/342 ح 33885.
2- الكافي: ج 7/389 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/343 ح 33887.
3- الكافي: ج 7/389 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/343 ح 33888.
4- الكافي: ج 7/389 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/343-344 ح 33889.
5- النوادر للأشعري: ص 160 ح 411، وسائل الشيعة: ج 27/374 ح 33982.
6- الكافي: ج 7/396 ح 13، وسائل الشيعة: ج 27/382 ح 34006.

إلى غير تلكم من النصوص.

أضف إليها أنّ المأخوذ في من تُقبل شهادته عناوين لا تَصدقُ على الصَّبي، كالعدالة، وكونه مرضيّاً، وغير متّهم، وما شاكل.

أقول: وبإزاء جميع تلك النصوص أخبار أُخر:

منها: خبر إسماعيل بن جعفر، قال: «فإذا كان للغلام عَشرُ سنين جازَ أمره، وجازت شهادته»(1).

ومنها: خبر طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق، عن أبيه، عن آبائه، عن عليّ عليهم السلام، أنّه قال:

«شهادة الصِّبيان جائزة بينهم ما لم يتفرّقوا، أو يرجعوا إلى أهليهم»(2).

ولكن الأوّل مقطوعٌ غير مسندٍ إلى الإمام عليه السلام، وظاهره كونه فتوى إسماعيل نفسه، ولذا قال صاحب «الوسائل»: (قول إسماعيل ليس بحجّة)(3).

وأمّا الثاني: - فمضافاً إلى أنّ طلحة عامّي - أنّه مختصٌّ بشهادتهم بينهم ما لم يتفرّقوا، مع أنّه شاذٌ ساقطٌ عن الحجيّة.

أضف إلى ذلك: أنّه لو سُلّم دلالته وحجيّته، فالنسبة بينه وبين ما دلّ على عدم قبول شهادة الصَّبي في غير القتل، عمومٌ من وجه، فيقدّم تلكم النصوص؛ لفتوى الأكثر التي هي أوّل المرجّحات.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ المستفاد من النصوص الكثيرة، عدم حجيّة قول0.

ص: 367


1- الكافي: ج 7/388 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/344 ح 33890.
2- الفقيه: ج 3/44 ح 3294، وسائل الشيعة: ج 27/345 ح 33893.
3- وسائل الشيعة: ج 27/344 ذيل ح 33890.

الصَّبي، وعدم قبول شهادته، وبها يقيّد إطلاق الآيات والروايات الدالّة على قبولها منه بإطلاقها، لو سُلّم وجودها.

وبالجملة: فالأصل في الصَّبي عدم قبول شهادته.

المسألة الثانية: لا خلاف ولا إشكال في أنّ شهادة الصَّبي غير المميّز لا تُسمع، ولا تكون حجّة، والأدلّة المتقدّمة بضميمة الإجماع شاهدة به.

المسألة الثالثة: الصَّبي المميّز إنْ كان بالغاً عشراً، فالمشهور بين الأصحاب قبول شهادته في الجنايات في الجملة، وفي غيرها عدم القبول، والمميّز غير البالغ عشراً لا خلاف بينهم في عدم قبول شهادته في غير الجنايات، والمشهور بينهم ذلك فيها أيضاً.

وعن جماعة(1): القبول فيها.

أمّا عدم قبول شهادة المميّز في غير الجنايات: فيشهدُ به الأدلّة المتقدّمة، ونَسَب جماعةٌ (2) إلى قائلٍ بقبولها منه في غيرها أيضاً، وقد صرّح عميد الرؤساء(3)بعدم الظفر به، وعلى أيّ حالٍ فهو مردودٌ بما مرّ.

وأمّا قبولها منه إذا بلغ عشراً في الجنايات: فقد تكرّر دعوى الإجماع عليه(4)، ويشهد به:

1 - صحيح جميل، وخبر محمّد بن حمران المتقدّمان.ه.

ص: 368


1- منهم الشيخ في الخلاف: ج 6/270-271 مسألة 20 (حكم شهادة الصِّبيان)، والنهاية: ص 331-332، وحكاه عن الإسكافي فخر المحقّقين في الإيضاح: ج 4/417، وهو ظاهر السيّد في الانتصار: ص 505-506.
2- منهم المحقّق في الشرائع: ج 4/910، والعلّامة في التحرير: ج 5/243، والشهيد في الدروس: ج 2/123.
3- كنز الفوائد: ج 3/540.
4- كما ادّعاه فخر الدّين في الإيضاح: ج 4/417 وغيره.

2 - وصحيح جميل أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الصَّبي تجوزُ شهادته في القتل ؟

قال عليه السلام: يُؤخذ بأوّل كلامه، ولا يؤخذ بالثاني»(1).

وهذه النصوص - كما تراها - مختصّة بالقتل.

وأمّا الجرح غير البالغ حَدّ القتل: فإنْ ثبتَ إجماعٌ على القبول فيه، وإلّا فما أفاده فخر المحقّقين(2) من أنّه لا تُقبل منه هو الصحيح.

ومن الغريب تخصيص الشهيد رحمه الله في محكيّ «الدروس»(3) قبول الشهادة بالجراح غير البالغ النفس ؟!

ويمكن توجيهه بطرحه الأخبار والأخذ بالإجماع.

وأمّا قبولها منه إذا لم يبلغ عشراً: فقد نَسب إلى الإسكافي(4)، و «الخلاف»(5)، وظاهر السيّد في «الانتصار»(6)، وابن زُهرة في «الغنية»(7)، وقوّاه في «المستند»(8)، ويشهد به إطلاق النصوص المتقدّمة.

ولكن عدم إفتاء جُلّ الأصحاب بذلك - ومن أفتى به فقد ذَكَر قبولها منه في الشِّجاح والجراح لا في القتل - يكون كاشفاً عن وجود حجّة عليه، وبالتالي فتردّد9.

ص: 369


1- الكافي: ج 7/389 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/344 ح 33891.
2- الإيضاح: ج 4/417.
3- الدروس الشرعيّة: ج 2/123.
4- حكاه عن الإسكافي فخر المحقّقين في الإيضاح: ج 4/417.
5- الشيخ في الخلاف: ج 6/207.
6- الانتصار: ص 505-506.
7- الغنية: 440.
8- المستند: ج 18/19.

جماعةٍ من متأخّري المتأخّرين(1) فيه في محلّه.

وأمّا ما اشتهر عن أمير المؤمنين عليه السلام في حكم ستّة غِلمان غَرق واحدٌ منهم، فشهد ثلاثة منهم على اثنين أنّهما غرقاه، واثنان على الثلاثة أنّهم غرقوه:

«فقضى عَليٌّ عليه السلام بالدِّية أخماساً: ثلاثة أخماس على الاثنين، وخمسين على الثلاثة»(2)، الذي استدلّ به بعضهم(3)، فهو قضيّةٌ في واقعة، مع أنّ استعمال كلمة (الغلام) في البالغ شائعٌ .

صرّح جماعة منهم الشيخ في محكي «الخلاف»(4)، والمحقّق في «الشرائع»(5)، والمصنّف في جملةٍ من كتبه(6)، بأنّه يُشترط في قبولها منه في مورده، عدم تفرّقهم إذا كانوا مجتمعين؛ حَذَراً أن يُلقَّنوا، واستدلّ له بمفهوم خبر طلحة، ولكنّه كما مرّ مختصٌّ بشهادتهم بينهم.

وعليه، فلا دليل على اعتباره إلّاالإجماع إنْ ثبت.

وأولى بعدم الاعتبار ما صرّح باعتباره من شرطين آخرين في المتن، وسيجيء الكلام فيهما.

***3.

ص: 370


1- منهم السيّد الطباطبائي في الرياض: ج 15/236.
2- الكافي: ج 7/284 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/235 ح 35528.
3- كما في الانتصار والغنية المتقدّم تخريجهما.
4- الخلاف: ج 6/270.
5- الشرائع: ج 4/910.
6- كالإرشاد: ج 2/156، والقواعد: ج 3/493، والتحرير: ج 5/243.

وكَمالُ العقل.

من شرائط قبول الشهادة كون الشاهد عاقلاً

(و) الشرط الثاني: (كمال العقل). قال صاحب الجواهر(1): (فلا تُقبل شهادة المجنون إجماعاً بقسميه، بل ضرورة من المذهب أو الدّين، على وجهٍ لا يَحسُنُ من الفقيه ذكر ما دلّ على ذلك من الكتاب والسُّنة).

وفي «المسالك»: (هذا محلّ وفاقٍ بين المسلمين)(2).

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - ما دلّ على اعتبار العدالة في الشاهد، وكونه مرضيّاً(3)، والمجنونُ ليس كذلك قطعاً.

وفي العلويّ في قوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ ) (4): «ممّن ترضون دينه وأمانته وصلاحه وعِفّته وتيقّظه فيما يشهد به، وتحصيله، وتمييزه، فما كلّ صالحٍ مميّزاً ولا محصّلاً، ولا كلّ محصّلٍ مميّزٍ صالحٌ »(5).

ويشهد به أيضاً: عموم التعليل في موثّق محمّد المتقدّم: «لأنّه لا يُؤمَن على الشهادة».

ص: 371


1- الجواهر: ج 41/15.
2- المسالك: ج 14/160.
3- كقوله تعالى : (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) سورة الطلاق: الآية 2، وقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ ) سورة البقرة: الآية 282.
4- سورة البقرة: الآية 282.
5- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ص 672 ح 375، وسائل الشيعة: ج 27/399 ح 34054.

واستدلّ له في «الرياض»(1): بما في صحيح جميل المتقدّم في شهادة الصَّبي، أنّ عقله حين يُدرك أنّه حقٌّ جازت شهادته.

وبالجملة: فالحكم من الواضحات.

ولا فرق في الجنون بين الأدواري منه، والمطبق.

نعم، لا بأس بشهادته في حال افاقته؛ لعموم الأدلّة، وزوال المانع، لكن بعد استظهار الحاكم بما تيقن معه حضور ذهنه، واستكمال فطنته.

قال في «الرياض»: (وذكر المتأخّرون من غير خلاف بينهم أجده أنّ في حكمه المُغفَّل الذي لا يحفظ ولا يضبط، ويدخل فيه التزوير والغَلَط وهو لا يَشعر؛ لعدم الوثوق بقوله، وكذا من يَكثُر غلطه ونسيانه، ومن لا يتنبه لمزايا الاُمور وتفاصيلها، إلّا أن يعلم عدم غفلته)(2)، انتهى .

أقول: ويدلّنا بوضوح على ذلك:

1 - عموم العلّة في موثَّق محمّد المتقدّم: «لأنّه لا يؤمَن على الشهادة».

2 - ومرسل يونس، عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ : «فإذا كان ظاهر الرّجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته، الحديث»(3).

فإنّ الظاهر من المأمونيّة إمّا المأمونيّة في جميع الحسنات، أو في خصوص الشهادة، وعلى التقديرين يثبت المطلوب.

واحتمال إرادة المأمونيّة من تعمّد الكذب خلاف الظاهر.4.

ص: 372


1- الرياض: ج 13/239.
2- الرياض: ج 13/239.
3- الفقيه: ج 3/16-17 ح 3244، وسائل الشيعة: ج 27/393 ح 34034.

والإيمان.

3 - وقوي السّكوني عن سيّدنا جعفرٍ، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضيّاً ومعه شاهدٌ آخر»(1).

وقد مرَّ تفسير الإمام عليه السلام للمرضيّ بما لا يشمل المغفّل.

4 - وموثّق سماعة: «سألته عمّا يُردُّ من الشهود؟ قال عليه السلام: المُريب، والخصم، والشريك، الحديث»(2).

ولا ريب في كون المغفَّل داخلاً في المُريب.

***

من شرائط قبول الشهادة الإيمان

(و) الشرط الثالث: من الأوصاف المعتبرة في الشاهد: (الإيمان) بالمعنى الأخصّ ، وهو: الإقرار بإمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام، بلا خلافٍ ، وعن غير واحد دعوى الإجماع عليه(3).

فلا تُقبل شهادة غير المؤمن وإن اتَّصف بالإسلام، ولا شهادة غير المسلم.

أمّا عدم قبول شهادة غير المسلم: فيشهد به - مضافاً إلى الإجماع، وفي «الجواهر»: (بل لعلّه ضروري المذهب)(4) - جملةٌ من النصوص:

ص: 373


1- التهذيب: ج 6/286 ح 195، وسائل الشيعة: ج 27/368 ح 33967.
2- التهذيب: ج 6/242 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/378 ح 33995.
3- كما عن القاضي في المهذّب: ج 4/510-511، الفاضل المقداد في التنقيح: ج 4/286، والصيمري في غاية المرام: ج 4/275، والشهيدالثاني في المسالك: ج 14/160، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 12/298.
4- الجواهر: ج 41/16.

منها: صحيح الحذّاء، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «تجوزُ شهادة المسلمين على جميع أهل الملل، ولا تجوزُ شهادة أهل الملل على المسلمين»(1).

ومنها: موثّق سماعة، عنه عليه السلام: «عن شهادة أهل المِلّة ؟ قال عليه السلام: لا تجوزُ إلّاعلى أهل ملّتهم»(2).

ومثله موثّقه الآخر(3).

ومنها: النصوص الدالّة على أنّ الكافر إذا تحمّل الشهادة في حال الكفر، وشهد بعد إسلامه تُقبل شهادته، فإنّها من جهة ما فيها من شرط تدلّ على عدم قبولها في حال الكفر.

منها: قويّ السّكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أميرالمؤمنين عليه السلام في حديثٍ :

«اليهود والنصارى إذا أسلموا جازت شهادتهم»(4).

ومنها: قويّ السّكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان لايقبل شهادة فحّاشٍ ولا ذي مُخزِيةٍ في دينه»(5).

ومثله خبر إسماعيل بن مسلم(6).

إلى غير تلكم من النصوص الواردة بألسنة مختلفة.

ويشهد به أيضاً: ما دلّ على اعتبار العدالة، وكون الشاهد مرضيّاً(7).2.

ص: 374


1- الكافي: ج 7/398 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/386 ح 34017.
2- الكافي: ج 7/398 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/386 ح 34018.
3- التهذيب: ج 6/252 ح 57، وسائل الشيعة: ج 27/390 ح 34031.
4- التهذيب: ج 6/250 ح 48، وسائل الشيعة: ج 27/389 ح 34027.
5- الكافي: ج 7/396 ح 7، وسائل الشيعة: ج 27/377 ح 33993.
6- الفقيه: ج 3/43 ح 3288، وسائل الشيعة: ج 27/378 ح 33997.
7- كقوله تعالى : (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) سورة الطلاق: الآية 2، وقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ ) سورة البقرة: الآية 282.

وأمّا عدم قبول شهادة غير المقرّ بامامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام: فقد قال صاحب «الجواهر» رحمه الله: (ولعلّه من ضروري المذهب في هذا الزمان)(1)، ويشهد به:

1 - خبر السّكوني وإسماعيل المتقدّمان.

2 - ما دلّ على عدم قبول شهادة الفاسق، واعتبار(2) العدالة، فإنّ المخالف ليس بعادلٍ قطعاً.

3 - وما دلّ على عدم قبول شهادة الظنين(3)، قال الصَّدوق: (الظنين هو المتّهم في دينه)(2).

وقال سيّدنا الصّادق عليه السلام في صحيح أبي بصير، في جواب قوله: «فالفاسقُ والخائن ؟ فقال: هذا يدخل في الظنين»(3).

أقول: ولا يُعارضها ما دلّ على قبول شهادة المسلم؛ لأنّه يقيّد إطلاقه بما مرّ، ولا حَسَن البزنظي، عن أبي الحسن عليه السلام:

«عمّن أشهد ناصبيّين على الطلاق أيكون طلاقاً؟

قال عليه السلام: كلّ من وُلِد على الفطرة، وعُرف بصلاحٍ في نفسه، اُجيزت شهادته على الطلاق بعد أن يُعرف منه خير»(4).

ونحوه صحيح ابن المغيرة(5)، فإنّه عليه السلام في الجواب اقتصر على بيان الحكم2.

ص: 375


1- الجواهر: ج 41/16. (2و3) أنظر وسائل الشيعة: ج 27/373 باب 30 من أبواب الشهادات.
2- معاني الأخبار: ص 209.
3- الكافي: ج 7/395 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/374 ح 33981.
4- الكافي: ج 6/68 ح 6، وسائل الشيعة: ج 22/26-27 ح 27930.
5- التهذيب: ج 6/284 ح 188، وسائل الشيعة: ج 27/398 ح 34052.

والعدالة.

الواقعي الكلّي، وهو أنّه تُقبل شهادة من كان معروفا بالصّلاح والخير، وليس ذلك إلّا الإيمان، والجواب بما لا ينطبق على السؤال لعلّه من جهة التقيّة.

***

من شرائط قبول الشهادة عدالة الشاهد

(و) الشرط الرابع: (العدالة)، فلا تُقبل شهادة الفاسق كتاباً وسنّةً مستفيضة أو متواترة، وإجماعاً بقسميه، كما في «الجواهر»(1).

وأمّا ما في كلام بعض القدماء(2): من كفاية ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق، بل عن «الخلاف»(3) دعوى الإجماع القولي والعملي عليه.

فليس مراده عدم اعبتار العدالة، ولا أنّ ذلك هو العدالة، بل مراده كون ذلك من طرق معرفة العدالة، ولذا استدلّ له:

1 - بأصالة عدم الفسق.

2 - وأصالة الصحّة في أقوال المسلمين وأفعالهم.

3 - وبظاهر حال المسلم من أنّه لا يَتركُ الواجبات ولا يفعل المحرّمات.

4 - وبقاعدة المقتضى والمانع، بدعوى أنّ الإسلام مقتضٍ لفعل الواجبات

ص: 376


1- الجواهر: ج 41/25.
2- منهم ابن الجنيد كما حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 8/483، والمفيد في الإشراف: ج 9/25، والشيخ في الإستبصار: ج 3/14 ذيل ح 3.
3- الخلاف: ج 6/218.

وتَرك المحرّمات، فالموجبُ للفسق لا محالة يكون لمانعٍ ، فإذا شكّ فيه يُبنى على عدمه.

5 - وبأنّه لو لم يُكتَف بالإسلام وعدم ظهور الفسق لم يُنظَّم الأحكام للحُكّام، خصوصاً في المدن الكبيرة، والقاضي القادم إليها من بعيد.

أقول: وهذه الوجوه كما ترى ظاهرةٌ في أنّه يرى اعتبار العدالة، وإنّما يكتفي بما ذكر لكونه من طرق معرفتها.

والأصل في اعتبارها: - مضافاً إلى الإجماع - من الكتاب:

1 - قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (1)، والشهادة نبأٌ، فيجبُ التبيّن عندها.

2 - وقوله عزّ وجلّ : (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2).

3 - وقوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (3).

4 - وقوله سبحانه: (اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (4).

5 - وقوله تعالى : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ ) (5)، والفاسقُ ليس بمرضيّ الحال، ويتمّ المطلوب بالإجماع المركّب.

ومن السُّنة: نصوصٌ كثيرة:

منها: ما دلّ على عدم قبول شهادة الفاسق، وقد مرّ.2.

ص: 377


1- سورة الحجرات: الآية 6.
2- سورة الطلاق: الآية 2.
3- سورة المائدة: الآية 95.
4- سورة المائدة: الآية 106.
5- سورة البقرة: الآية 282.

ومنها: ما دلَّ على عدم قبول شهادة غير المرضيّ ، تقدّم أيضاً.

ومنها: ما تضمّن اعتبارها، كمرسل يونس: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه:

شهادة رجلين عدلين، الحديث»(1).

وصحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أنّه كان يُجيزُ في الدّين شهادة رجلٍ واحد ويمين صاحب الدّين، ولم يُجِز في الهلال إلّا شاهدي عدل»(2).

ونحوه صحيح حمّاد بن عثمان(3).

وخبر أبي ضُمرة، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة، أو يمين قاطعة، أو سُنّة ماضية من أئمّة الهدى »(4).

ومثله خبر إسماعيل بن أبي أويس(5).

والنصوص الدالّة على قبول شهادة المملوك إذا كان عادلاً(6).

وصحيح ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلت: بِمَ تُعرف عدالة الرّجل بين المسلمين حتّى تُقبل شهادته لهم وعليهم ؟

فقال عليه السلام: أن تعرفوه بالسّتر والعِفاف، وكفّ البطن والفرج واليد واللّسان،2.

ص: 378


1- الكافي: ج 7/416 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/241 ح 33682 و ص 271 ح 33753.
2- الكافي: ج 7/386 ح 8، وسائل الشيعة: ج 27/264 ح 33732.
3- الكافي: ج 7/385 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/265 ح 33734.
4- الكافي: ج 7/432 ح 20، وسائل الشيعة: ج 27/231 ح 33662.
5- الخصال: ج 1/155 ح 195 وفيه: (عن إسماعيل بن أبي أويس، عن ضمرة بن أبي ضمرة، عن أبيه عن جدّه»، وسائل الشيعة: ج 27/231 ذيل ح 33662.
6- منها صحيحة البجلي: «لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً»، الكافي: ج 7/389 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/345 ح 33894 و ص 395 ح 34042.

ويُعرف باجتناب الكبائر، الحديث»(1).

إلى غير تلكم من النصوص المتواترة التي يصعب حصرها.

وقد يتوهّم: دلالة جملةٍ من النصوص على عدم اعتبار العدالة:

منها: صحيح حريز، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في أربعة شهدوا على رجلٍ مُحصِنٍ بالزّنا فعُدّل منهم اثنان ولم يُعدّل الآخران ؟

فقال عليه السلام: إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزور، اُجيزت شهادتهم جميعاً، واُقيم الحَدّ على الذي شَهِدوا عليه، إنّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعَلِموا، وعلى الوالي أن يُجيز شهادتهم إلّاأن يكونوا معروفين بالفسق»(2).

ومنها: خبر علقمة، عن سيّدنا الصّادق عليه السلام:

«قال: قلت له: يابن رسول اللّه أخبرني عمّن تُقبل شهادته ومن لا تُقبل ؟

فقال عليه السلام: يا علقمة لو لم تُقبل شهادة المقترفين للذّنوب لما قُبِلت إلّاشهادة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام؛ لأنّهم المعصومون دون سائر الخَلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة والسِّتر، وشهادته مقبولة، وإنْ كان في نفسه مذنباً»(3).

ومنها: خبر العلاء بن سيّابة، عنه عليه السلام: «عن شهادة من يلعب بالحَمام ؟

قال عليه السلام: لا بأس به إذا كان لا يُعرف بفسقٍ »(4).7.

ص: 379


1- الفقيه: ج 3/38 ح 3280، وسائل الشيعة: ج 27/391 ح 34032.
2- التهذيب: ج 6/277 ح 164، وسائل الشيعة: ج 27/397 ح 34049.
3- أمّالي الصَّدوق: ص 102 المجلس 22، وسائل الشيعة: ج 27/395 ح 34044.
4- التهذيب: ج 6/284 ح 189، وسائل الشيعة: ج 27/394 ح 34037.

ومنها: العلويّ : «أنّه قال لشريح: واعلم أنّ المسلمين عدولٌ بعضهم على بعض، إلّامجلوداً في حَدّ لم يتُب منه، أو معروفاً بشهادة الزّور أو ظنين»(1).

ومنها: حسن البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام في حديثٍ :

«من وُلِد على الفطرة أُجيزت شهادته على الطلاق بعد أن يُعرف منه خير»(2).

ونحوه صحيح ابن المغيرة(3).

وفيه أوّلاً: أنّه لو تمّت دلالتها تعيّن صرفها عن ظاهرها، وحملها على إرادة ما يجتمع مع اعتبار حسن الظاهر، جمعاً بين النصوص.

وثانياً: أنّها لا تدلّ على ذلك:

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر أنّ المراد من عدم المعروفيّة بالفِسق، عدم معروفيّته حتّى عند المعاشرين معه، وهذا يلازمُ مع حُسن الظاهر الذي هو من طُرقُ معرفة العدالة.

وأمّا الثاني: فلأنّ صدره وإنْ تضمّن قبول شهادة المُقترف بالذنب، إلّاأنّ ما ورد في ذيله من قوله عليه السلام: «فهو من أهل العدالة والسِّتر، وشهادته مقبولة»، يدلّ على اعتبار حُسن الظاهر، ويوجب ُتقييد الصَّدر بما إذا كان ذنبه مستوراً لا يعرفه أهله ومحلّته.

وأمّا الثالث: فلما ذكرناه في الأوّل.

وأمّا الرابع: فلأنّه مجملٌ وقد استثني منه الظنين، وهو كلّ فاسقٍ ، كما يُشير إليه6.

ص: 380


1- التهذيب: ج 6/225-226 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/211 ح 33618 و ص 399 ذيل ح 34054.
2- الكافي: ج 6/67 ح 6، وسائل الشيعة: ج 22/26 ح 27930.
3- التهذيب: ج 6/283 ح 183، وسائل الشيعة: ج 27/393 ح 34036.

صحيح أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«قلت: فالفاسقُ والخائن ؟ قال عليه السلام: كلّ هذا يدخل في الظنين»(1).

وأمّا الأخيران: فلأنّهما يدلّان على قبول شهادة من كان معروفاً بالخير والصلاح، وليس ذلك إلّاحُسن الظاهر.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا شكّ في اعتبار العدالة في الشاهد، وأنّه لا تُقبل شهادة الفاسق.

فإنْ قيل: إنّه يلزم من ذلك عدم نظم الأحكام للحُكّام، خصوصاً في المدن الكبيرة، والقاضي القادم إليها من بعيد.

قلنا: إنّ هذا يتمّ إذا اعتبرنا حصول العلم بها والوثوق، وأمّا لو اكتفينا بحُسن الظاهر، فلا يلزم ذلك، كما لا يخفى .

أقول: ثمّ إنّه قد تقدّم في كتاب الصلاة في الجزء التاسع من هذا الشرح في «رسالة العدالة»(2)، بيان المراد منها وطرق إثباتها، والبحث عن الكبائر والصغائر، واعتبار المروّة فيها وعدمه، والتوبة وما يتعلّق بها، وغير ذلك، فلا نعيدُ ما ذكرناه، فراجعها فإنّها رسالة نافعة متضمّنة لمطالب هامّة جدّاً.

***1.

ص: 381


1- الكافي: ج 7/395 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/374 ح 33981.
2- فقه الصادق: ج 9/111.

وانتفاء التُّهمة.

يعتبر في الشاهد انتفاء التُّهمة

(و) الشرط الخامس: (انتفاء التُّهمة) بلا خلافٍ أجده فيه.

وفي «المسالك»: (شهادة المتّهم مردودةٌ إجماعاً)(1).

ويشهد به نصوص عديدة:

منها: صحيح ابن سنان، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام ما يردّ من الشهود؟

قال: فقال عليه السلام: الظنين والمتّهم.

قلت: فالفاسق والخائن ؟ قال عليه السلام: ذلك يدخل في الظنين»(2).

ومنها: صحيح أبي بصير، عنه عليه السلام وهو مثله، إلّاأنّه قال: «الظنين والمتّهم والخَصم»(3).

ونحوه صحيح عُبيد اللّه الحَلبي(4).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لم تُجز شهادة الصَّبي ولا خصمٍ ولا متّهمٍ ولا ظنين»(5).

ومنها: موثّق سماعة، قال: «سألته عمّا يُردّ من الشهود؟

قال عليه السلام: المُريب، والخصم، والشريك، ودافع مغرمٍ ، والأجير، والعبد، والتابع،

ص: 382


1- المسالك: ج 14/189.
2- الكافي: ج 7/395 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/373 ح 33977.
3- الكافي: ج 7/395 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/374 ح 33981.
4- الفقيه: ج 3/40 ح 3281، وسائل الشيعة: ج 27/374 ح 33981.
5- النوادر للأشعري: ص 160 ح 411، وسائل الشيعة: ج 27/374 ح 33982.

والمتّهم، كلّ هؤلاء تُردُّ شهاداتهم»(1).

ونحوها غيرها.

أقول: ولكن الظاهر عدم إفتاء الأصحاب بمانعيّة التُّهمة عن قبول الشهادة بما لهذه اللّفظة من المفهوم.

فعن «كشف اللّثام»: (وقع الاتّفاق على أنّها لا تُردّ بأيّ تهمةٍ كانت)(2).

وعن «الدروس»: (ليس كلّ تهمةٍ تَدفعُ الشهادة بالإجماع)(3).

وقال المحقّق الأردبيلي رحمه الله: (والظاهر أنّه ليس كلّ متّهمٍ مردودٌ، بل أفرادٌ من المتّهم، وليس لهم في رَدّ شهادة المتّهم ضابطة).

ثمّ عَدّ مواضع كثيرة تُقبل فيها الشهادة، فقال: (لا شكّ أنّ التُّهمة هنا أيضاً موجودة).

ثمّ قال أخيراً: (وبالجملة: العدالة مانعة من رَدّ الشهادة، وسببٌ لقبولها، ومجرّد التُّهمة وأيّة تهمة كانت ليس سبباً للرَّد، فإنّ العدالة تمنع الخيانة، وإنْ كان له فيها نفع)(4)، انتهى .

وبالجملة: المستفاد من كلمات الفقهاء أنّ التُّهمة من حيث هي ليست مانعة من قبول الشهادة، وأنّ بنائهم في الرَّد والقبول على أمرٍ آخر وراءها، وفي تلكم الموارد المنطبق عليها عناوين اُخر: كجارّ النفع، والشَّريك، والوصيّ ، وما شاكل، وفي بعض أفرادها لا يتحقّق التُّهمة قطعاً، وإنّما حكموا بعدم القبول فيها لأجل نصوصٍ3.

ص: 383


1- التهذيب: ج 6/242 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/378 ح 33995.
2- كشف اللّثام: ج 10/303.
3- الدروس: ج 2/127.
4- مجمع الفائدة: ج 12/383.

خاصّة واردة فيها، وحَصَرها المصنّف في محكي «القواعد»(1) في ستّة وذكرها في المقام، وستأتي.

وبهذا كلّه يظهر عدم كون التُّهمة بنفسها من الموانع.

ويمكن أن يقال: إنّ المراد بالتُّهمة، من يحتمل في حقّه أو يُظنّ بشيءٍ قبيحٍ في الدّين من العقائد، والفسق، والمعاصي الخاصّة، والكذب وما شاكل، وحيث أنّ ذلك مناف للعدالة، فإنْ ثبتت عدالة الشاهد ترتفع التُّهمة، غاية الأمر إن علم بها يرتفع وجداناً وإلّا فتعبّداً، بناءً على أنّ المجعول في الأمارات الطريقيّة والوسطية في الإثبات.

وعلى ذلك، فلا تكون هذه النصوص منافية ومعارضة لما دلّ على قبول شهادة العادل، بل تكون الثانية حاكمة على الأُولى .

وعليه، فما في بعض الكلمات من اطالة البحث في ذلك، وملاحظة النسبة بينهما، والحكم بالتساقط، ثمّ الرجوع إلى أدلّة اُخر، في غير محلّها.

وعلى فرض تسليم التعارض - حيث تكون النسبة عموماً من وجه - فالمرجع إلى المرجّحات، والترجيح لنصوص قبول شهادة العادل؛ لفتوى الأصحاب، وموافقة الكتاب.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ التُّهمة من حيث هي ليست من موانع القبول في مقابل الفسق، وأمّا الموارد الخاصّة التي حكموا فيها بعدم قبول شهادة المتّهم، فسيأتي الكلام فيها، ولها أدلّة خاصّة.

***6.

ص: 384


1- القواعد: ج 3/496.

وطهارة المولد.

من شروط الشاهد طهارة المولد

(و) الشرط السابع: ممّا يعتبر في الشاهد: (طهارة المولد) أي عدم كونه ولد الزّنا، المعلوم كونه كذلك، كما هو المشهور بين الأصحاب.

وعن السيّد(1)، والشيخ(2)، وابن زُهرة(3): الإجماع عليه.

ويشهد به:

1 - خبر أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن ولدالزّناأتجوز شهادته ؟ فقال عليه السلام: لا.

فقلت: إنّ الحَكَم بن عُتيبة يزعم أنّها تجوز؟ فقال عليه السلام: اللّهُمَّ لا تغفر ذنبه»(4)، الحديث.

وأورد عليه في «المسالك»: (بأنّ في طريقه أبان وأبا بصير، وهما مشتركان بين الثقة وغيره)(5).

وفيه أوّلاً: أنّ الراوي عنهما البزنطي، وهو من أصحاب الإجماع.

وثانياً: أنّ الظاهر كون أبان الذي هو في الطريق، هو أبان بن عثمان الثقة؛ لأنّه الغالب المنصرف إليه الإطلاق، وللتصريح به في الطريق الآخر المنقول عن

ص: 385


1- الإنتصار: ص 501.
2- الخلاف: ج 6/309.
3- الغنية: ص 440.
4- الكافي: ج 7/395 ح 4، التهذيب: ج 6/244 ح 15، وسائل الشيعة: ج 27/374 ح 33983.
5- المسالك: ج 14/222.

«رجال الكَّشيّ »(1)، وأبو بصير ثقةٌ على الإطلاق، وفاقاً لجماعةٍ من المحقّقين(2)، كما حُقّق في محلّه.

2 - وصحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن شهادة ولد الزِّنا؟

فقال عليه السلام: لا، ولا عبد»(3).

وأُورد عليه في «المسالك»: بأنّ دلالته لا تخلو من قصور(4).

وهو كما ترى ؛ فإنّ الظاهر كون السؤال عن قبول شهادته.

3 - وخبر محمّد بن مسلم، الذي عبّر عنه المصنّف رحمه الله(5) وولده(6) بالصحيح:

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: لا يجوزُ شهادة ولد الزّنا»(7).

4 - وخبر عبيد بن زرارة، عن أبيه، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزِّنا على رجلٍ ، وفيهم ولد زنا لحددتهم جميعاً؛ لأنّه لا تجوزُ شهادته، ولا يؤمّ النّاس»(8).

ونحوها غيرها.

وقيل(9): - وإنْ لم يُعرف قائله، فإنّه وإنْ نُسب إلى الشيخ في «المبسوط»(10)،).

ص: 386


1- رجال الكشّي: ص 209.
2- منهم: القهبائي في مجمع الرّجال: ج 5/149، والوحيد البهبهاني في التعليقة على منهج المقال: ص 384، والحائري في منتهى المقال: ج 7/121.
3- التهذيب: ج 6/244 ح 17، وسائل الشيعة: ج 27/376 ح 33988.
4- المسالك: ج 14/222.
5- المختلف: ج 8/488.
6- الإيضاح: ج 4/425.
7- التهذيب: ج 6/244 ح 18، وسائل الشيعة: ج 27/375 ح 33985.
8- الكافي: ج 7/396 ح 8، وسائل الشيعة: ج 27/376 ح 33986.
9- المبسوط: ج 8/228.
10- المبسوط: ج 8/228، قال قدس سره: (شهادة ولد الزّنا إذا كان عدلاً مقبولة عند قوم في الزّنا وفي غيره، وهو قويّ ، لكن أخبار أصحابنا يدلّ على أنّه لا يُقبل شهادته، وكذلك كلّ من أتى معصية فحُدَّ فيها ثمّ تاب وأصلح فشهد بها قبلت، وقال بعضهم: لا تُقبل شهادة ولد الزّنا، وكلّ مَن حُدّ في معصيةٍ لا أقبل شهادته بها كالزاني والقاذف وشارب الخمر، متى حُدّ واحدٌ منهم بشيء من هذا ثمّ شهد به، لم تقبل شهادته، والأوّل مذهبنا).

لكن ذيل كلامه يشهد بعدم قوله بذلك - تُقبل شهادته.

واستدلّ له:

1 - بخبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن ولد الزّنا هل تجوز شهادته ؟ قال:

نعم تجوز شهادته ولا يؤمّ »(1).

2 - وخبر الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ينبغي لولد الزّنا أن لا تجوزُ له شهادةً ولا يؤمّ بالناس»(2).

بدعوى ظهوره في الكراهة.

ولكن الثاني غيرُ ظاهرٍ في الكراهة، غايته الإجمال، فيبيّن بما مرّ.

والأوّل ضعيفُ السَّند، وقد رواه عليّ بن جعفر في كتابه إلّاأنّه قال: «لا يجوزُ شهادته ولا يؤمّ »(3).

مع أنّهما - على فرض الدلالة - مخالفان لمذهب الأصحاب، فيُطرحان، أو يُحمل الأوّل على التقيّة؛ لأنّ الجواز مذهب أكثر العامّة كما في «المسالك»(4).

وعن الشيخ في «النهاية»(5)، وابن حمزة(6): أنّه تُقبل شهادته في الشيء0.

ص: 387


1- قرب الإسناد: ج 2/122، وسائل الشيعة: ج 27/377 ح 33990.
2- تفسير العيّاشي: ج 2/148 ح 28، وسائل الشيعة: ج 27/377 ح 33991.
3- مسائل عليّ بن جعفر: ص 191.
4- المسالك: ج 14/224.
5- النهاية: ص 326.
6- الوسيلة: ص 230.

اليسير، استناداً إلى رواية عيسى بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن شهادة ولد الزّنا؟ فقال عليه السلام: لا تجوزُ إلّافي الشيء اليسير، إذا رأيت منه صلاحاً»(1).

وفيه: إنّ الخبر لإعراض الأصحاب عنه لا يُعتمد عليه، لرجوع الشيخ - الذي هو الأصل في العمل به - عنه في «الخلاف»(2).

وأورد عليه المصنّف رحمه الله في محكى «المختلف»: (بأنّ قبول شهادته في الشيء اليسير، يُعطي المنع من قبول الكثير من حيث المفهوم، ولا يسير إلّاوهو كثيرٌ بالنسبة إلى ما دونه، فإذن لا تُقبل شهادته إلّافي أقلّ الأشياء الذي ليس بكثير بالنسبة إلى ما دونه، إذ لا دون له، ومثله لا يملك)(3)، انتهى .

ويرد عليه: - مضافاً إلى ذلك كلّه - ما ذكره السيّد المرتضى(4) دليلاً لعدم قبول شهادته، وهو الخبر الذي ورد أنّ ولد الزّنا لا يَنجُب(5)، قال:

فإذا علمنا بدليلٍ قاطعٍ عدم نجابة ولد الزِّنا وعدالته... لم يُلتفت إلى ظاهره المقتضي لظنّ العدالة به، ونحن قاطعون على خُبث باطنه وقبح سريرته، فلا تُقبل شهادته)(6).

وعليه، فلا إشكال في الحكم.2.

ص: 388


1- التهذيب: ج 6/244 ح 16، وسائل الشيعة: ج 27/376 ح 33987.
2- الخلاف: ج 6/309.
3- المختلف: ج 8/490.
4- الإنتصار: ص 502.
5- رواه الشيخ المفيد في أوائل المقالات: ص 87-88، والسيّد ابن طاووس في الطرائف: ص 469.
6- الإنتصار: ص 502.

قال صاحب «الرياض»: (المنع يختصّ بمن عُلم كونه ولد الزّنا، أمّا من جُهل فيقبل شهادته بعد استجماعه الشرائط الأُخر من العدالة وغيرها، وإنْ نُسب إلى الزّنا، ما لم يكن العلم بصدق النسبة حاصلاً، وبه صرّح جماعة من غير خلافٍ بينهم أجده، ولعلّه للعمومات، واختصاص الأخبار المانعة بالصورة الأُولى دون الثانية، لكونها من الأفراد الغير المتبادرة، فلا ينصرفُ إليها الإطلاق كما مرّ غير مرّة)(1)، انتهى .

أقول: إنْ كان هناك أصلٌ شرعيٌ كالفراش ونحوه، ويحكم بعدم كونه ولد الزّنا، فتُقبل شهادته، وإلّا فإنْ قلنا بأنّ الأصل طهارة مولد كلّ من لم يُعلم أنّه ابن زنا فكذلك، وإلّا فيُشكل الحكم؛ لمنع تبادر المعلوم كونه ابن زنا من النصوص.

وما في «الجواهر»(2): من أنّ النهي فيه حيث إنّه على طريق المانعيّة، فيكون ظاهراً في اختصاص المعلوم دون المشكوك فيه الداخل في العمومات.

يندفع: بأنّه لا فرق بين ذلك وبين سائر الأدلّة المتضمّنة لترتّب الحكم على نفس العناوين، من غير أخذ العلم فيها في ظهوره في كون المانع هو الشيء بوجوده الواقعي.

وأمّا قاعدة المقتضي والمانع، فقد ذكرنا غير مرّة أنّه لا أصل لها.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الإجماع قائمٌ على قبول شهادة من شُكّ في أنّه ولد الزّنا.

وعليه، فلا توقّف في الحكم، واللّه العالم.

***1.

ص: 389


1- الرياض: ج 15/321.
2- الجواهر: ج 41/121.

وتُقبل شهادة الصِّبيان في الجراح مع بلوغ العشر، وعدم الاختلاف، وعدم الاجتماع على الحرام.

شرائط قبول شهادة الصَّبي في القتل

وتمام الكلام في هذا المقام يتحقّق في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى : قد مرَّ أنّه لا تقبل شهادة الصَّبي إلّافي الشهادة على القتل، (و ) لكن صرّح جماعة(1) بأنّه (تُقبل شهادة الصِّبيان في الجراح مع بلوغ العَشر، وعدم الاختلاف، وعدم الاجتماع على الحرام) لغيرهم، كما في «الشرائع» حيث قال:

(تمسّكاً بموضع الوفاق)(2)، وظاهر ذلك طرحهم للنصوص، والرجوع إلى الإجماع، إذ النصوص كما مرّت متضمّنة لقبولها في القتل، وقبولها في الجراح غير المؤدّي إلى القتل، ولا دليل له سوى الإجماع.

وأمّا اعتبار بلوغ العشر: فقد مرَّ أنّه خلاف إطلاق النصوص، إلّاأنّ الظاهر تسالمهم على اعتباره إلّاعن نادر.

وأمّا عدم الاختلاف: فقد عرفت أنّه قد استدلّ له بخبر طلحة، وقد أشكلنا عليه، فلا دليل له سوى الإجماع إنْ ثبت.

وأمّا عدم الاجتماع على الحرام: واعتبار كونه على مباحٍ لغيرهم كالرّمي

ص: 390


1- غنية النزوع: ص 440 قوله: (وتقبل شهادة الصِّبيان في الشجاج والجراح خاصّة، إذا كانوا يعقلون ذلك، ويؤخذبأوّل أقوالهم، ولا يؤخذ بآخرها، بدليل إجماع الطائفة)، السرائر: ج 3/375 قوله: (فشهادة الصِّبيان لا تقبل عندنا، إلّافي الجراح، والشجاج فحسب)، المراسم العلويّة: ص 233 وغيرهم.
2- الشرائع: ج 4/910.

ونحوه، فقد اعترف غير واحدٍ(1) بعدم معرفة دليله، ومدركه الاقتصار على المتيقّن من معقد الإجماع، ويتمّ لو طرحنا النصوص، وإلّا فمقتضى الإطلاق عدم اعتباره في الشهادة على القتل.

وعلى هذا المسلك، لابدَّ من إضافة قيدين آخرين إلى القيود الثلاثة، بل لابدّ من إضافتهما حتّى على التمسّك بالنصوص، وهما:

أن لا يوجد غيرهم، والأخذ بأوّل كلامهم، الذي حكاه كاشف اللّثام(2) عن الشيخين في «المقنعة»(3)، و «النهاية»(4)، والمرتضى(5)، وسلّار(6)، وبني زُهرة(7)، وحمزة(8) وإدريس(9) ويحيى(10)، والمحقّق في «النافع»(11)، وجعله في «التحرير»(12)و «الدروس»(13) رواية.

أمّا الثاني: فللتصريح به في نصوص قبول شهادة الصَّبي في القتل المتقدّمة.3.

ص: 391


1- منهم الشهيد الثاني في المسالك: ج 14/156، والسيّد الطباطبائي في الرياض: ج 13/235، وصاحب الجواهر في الجواهر: ج 41/12.
2- كشف اللّثام: ج 10/271.
3- المقنعة: ص 727.
4- النهاية: ص 331.
5- الإنتصار: ص 506.
6- المراسم: ص 234.
7- الغنية: ص 440.
8- الوسيلة: ص 231.
9- السرائر: ج 2/137.
10- الجامع للشرائع: ص 540.
11- النافع: ص 278.
12- التحرير: ج 5/243.
13- الدروس: ج 2 ص 123.

وتُقبل شهادة أهل الذِّمة في الوصيّة مع عدم المسلمين.

وأمّا الأوّل: فلخبر محمّد بن سنان، عن الإمام الرّضا عليه السلام في حديثٍ : «فلذلك لا تَجوزُ شهادتهنّ إلّا في موضع ضرورة مثل شهادة القابلة، وما لا يجوز للرِّجال أن ينظروا إليه كضرورة تجويز شهادة أهل الكتاب إذا لم يوجد غيرهم، وفي كتاب اللّه عزّ وجلّ : (اِثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (1) أي مسلمين، (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (2) كافرين، ومثل شهادة الصِّبيان على القتل إذا لم يوجد غيرهم»(1).

وأضاف صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) قيدين آخرين:

أحدهما: كون الشهادة على الصِّبيان، فلا تُسمع شهادتهم على غيرهم.

ثانيهما: قبول شهادتهم في الدِّية خاصّة.

واستدلّ له: بخبر السّكوني المتقدّم، المتضمّن لقضاء أمير المؤمنين عليه السلام في ستّة غِلمان كانوا في الفرات فغَرِق واحدٌ منهم.

ويرد عليه: - مضافاً إلى مخالفته للإجماع، وإلى ما عرفت من عدم ظهوره في كون الغِلمان غير بالغين - أنّه لا مفهوم له؛ كي يقيّد به إطلاق النصوص، بل هي قضيّة في واقعة.

تقبل شهادة الذّمي في الوصيّة

المسألة الثانية: قد عرفت أنّه من شرائط قبول الشهادة، كون الشاهد مسلماً، (و) لكن الأصحاب استثنوا من ذلك مورداً، وقالوا: إنّه (تُقبل شهادة أهل الذِّمة في الوصيّة مع عدم المسلمين).

ص: 392


1- علل الشرائع: ج 2/508-509 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/365 ح 33958.
2- الجواهر: ج 41/13.

أقول: الظاهر أنّ قبول شهادة الذِّمي في الوصيّة للمسلم وعليه في الجملة ممّا لا خلاف فيه، وقد استفاض نقل الإجماع عليه(1)، ويشهد له - مضافاً إلى ذلك -: قوله تعالى : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (2)، ونصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح أحمد بن عمر، قال: «سألته عن قول اللّه عزّ وجلّ : (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟

قال: اللّذان منكم مسلمان، واللّذان من غيركم من أهل الكتاب، فإنْ لم يجد من أهل الكتاب فمن المجوس؛ لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: سنّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب، وذلك إذا مات رجلٌ في أرض غُربةٍ فلم يجد مسلمين يشهدهما، فرجلان من أهل الكتاب»(3).

ومنها: صحيح هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في قول اللّه عزّ وجلّ :

(أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟

فقال عليه السلام: إذا كان الرّجل في أرض غُربةٍ ولا يوجد فيها مسلمٌ ، جازت شهادة من ليس بمسلمٍ على الوصيّة»(4).

ومنها: موثّق سماعة، عنه عليه السلام: «عن شهادة أهل الملّة ؟

قال: فقال: لا تجوزُ إلّاعلى أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصيّة؛ لأنّه لا يصلحُ ذهاب حقّ أحد»(5).1.

ص: 393


1- الشيخ في الخلاف: ج 6/272، والسيّد الطباطبائي في الرياض: ج 9/532.
2- سورة المائدة: الآية 106.
3- الفقيه: ج 3/47 ح 3300، وسائل الشيعة: ج 27/390 ح 34029.
4- الكافي: ج 7/398 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/310 ح 24672.
5- التهذيب: ج 6/252 ح 57، وسائل الشيعة: ج 27/390 ح 34031.

إلى غير ذلك من النصوص.

فإنْ قيل: إنّه يعارض هذه النصوص ما دلّ على عدم قبول شهادة الكافر على المسلم(1)، فإنّ هذه النصوص لاتختصُّ بالشهادة على المسلم، والنسبة عمومٌ من وجه.

قلنا أوّلاً: - إنّه لو سلّم كون النسبة عموماً من وجه - تقدّم هذه النصوص على فتوى الأصحاب التي هي أوّل المرجّحات.

وثانياً: إنّه ورد في صحيح ضريس قوله عليه السلام: «لأنّه لا يصلحُ ذهاب حقّ إمرئ مسلم»، وفي خبر حمزة بن حمران، عن الإمام الصادق عليه السلام في الآية الكريمة، قال: «اللّذان منكم مسلمان، واللّذان من غيركم من أهل الكتاب.

فقال: إذا ماتَ الرّجل في أرض غُربةٍ ، وطلب رجلين مسلمين ليشهدهما على وصيّته، فلم يجد مسلمين، فليشهد على وصيّته رجلين ذميّين من أهل الكتاب مرضيّين عند أصحابهما»(2).

وحيث إنّ الكافر لا يرثُ من المسلم، فالخبر مختصٌّ بالشهادة على المسلم، فيكون أخصّ مطلقاً من النصوص المشار إليها، فيقيّد إطلاقها بهما.

أقول: وقد ذكر الأصحاب لقبول شهادته شروطاً:

الشرط الأوّل: عدم وجود المسلم.

وفي «المستند»: (والظاهر كونه إجماعيّاً أيضاً)(3)، وتشهد به أكثر النصوص، لاحظ ما تقدّم منها.7.

ص: 394


1- أنظر وسائل الشيعة: ج 27/386 باب 38 من أبواب الشهادات.
2- التهذيب: ج 6/253 ح 60، وسائل الشيعة: ج 19/312 ح 24675.
3- المستند: ج 18/37.

وقد اختلف كلمات القوم في التعبير عن هذا الشرط:

فعبّر جمعٌمنهم(1): بعدم وجودالمسلم، الشامل للواحد والمتعدّد العادل والفاسق.

وآخرون(2): بعدم وجود المسلمين.

وثالث(3): بعدم وجود المُسلِمين العدلين.

والذي يُستفاد من مجموع الروايات - بعد ضَمّ بعضها إلى بعض - أنّ الشرط فقد المُسلِمين اللّذين يصلحان لأن يشهدهما، وهما العدلان، فإنّ صحيحة أحمد وغيرها متضمّنة لذلك، وبها يقيّد إطلاق غيرها.

وهل يكفي وجود مُسلمٍ عَدْلٍ على القول بقبول شاهد عَدْلٍ مع يمينٍ ، أم لا؟

الظاهر عدم الكفاية؛ لإطلاق ما دلّ على قبول شهادة الذميّين مع عدم وجود المسلمين اللّذين يُقبل شهادتهما، وبه يظهر حكم ما لو كان هناك أربعُ مسلمات.

الشرط الثاني: الضرورة.

اعتبرها الشيخ في محكى «النهاية»(4)، وتبعه جماعة(5)، ولكن المراد بها:

إنْ كان عدم وجود المُسْلِمين العدلين، فالشرط الأوّل يُغني عن ذلك.

وإنْ كان عدم ما يُثبت به الوصيّة حتّى الشاهد الواحد ويمين، أو أربع مسلمات،4.

ص: 395


1- منهم الشيخ في المبسوط: ج 8/187، والمحقّق في النافع: ص 287، وهو ظاهر المقنعة والعُمّاني والديلمي والحِلّي والقاضي كما في المختلف: ج 8/506-507.
2- منهم الإسكافي كما حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 8/505.
3- منهم الكاشاني في المفاتيح: ج 3/230، والسيّد الطباطبائي في الرياض: ج 10/374.
4- النهاية: ص 612.
5- منهم المحقّق في الشرائع: ج 2/477، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 12/306، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 10/274.

أو لزوم الوصيّة كأن يُوصي بحقّ لازم، فلا دليل على اعتبارها، وإطلاق النصوص المتقدّمة يدفعه.

الشرط الثالث: أن يكونا اثنين فصاعداً.

والظاهر أنّه لاخلاف في اعتبار ذلك، والآية الكريمة و النصوص شاهدة بذلك.

نعم، لا يبعدُ القول بكفاية المُسلم العدل مع ذميّ واحدٍ للأولويّة، ولكن لايُكتفى بأربع ذميّات، اقتصاراً فيما خالف الأصل على موضع النَّص.

الشرط الرابع: أن يكون الموصى في السَّفر عرفاً، أي في أرض غُربةٍ .

اعتبره الشيخ في محكي «النهاية»(1)، والإسكافي(2)، والحلبي(3)، وابن زُهرة(4).

وفي «الرياض»: (وربمايُفهم منهما - أي من الشيخ والسيّد - كونه إجماعيّاًبيننا)(5).

ونَفى اعتباره جماعة، كعامّة المتأخّرين، وفاقاً منهم لظاهر أكثر القدماء كالشيخين في «المقنعة»(6) و «النهاية»(7)، والعُمّاني(8)، وسلّار(9)، والقاضي(10)،7.

ص: 396


1- النهاية: ص 334 و 612، وفيه: (ولا يجوز شهادة من ليس على ظاهر الإسلام في الوصيّة، إلّاعند الضرورة وفقد المسلم. بأن يكون الموصي في موضعٍ لا يجد فيه أحداً من المسلمين ليشهده على وصيّته، فإنّه يجوز والحال هذه أن يشهد نفسين من أهل الذّمة ممّن ظاهره الأمانة عند أهل ملّته).
2- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 8/505.
3- الكافي في الفقه: ص 436.
4- الغنية: ص 440.
5- الرياض: ج 15/241، وأشار لما ذكره الشيخ في المبسوط لا النهاية، أنظر المبسوط: ج 8/187.
6- المقنعة: 727.
7- النهاية: ص 334 و 612.
8- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 8/507.
9- المراسم: ص 233.
10- المهذّب: ج 2/557.

والحِلّي(1)، بل يظهر من المحقّق والمصنّف رحمه الله في «الشرائع»(2)، و «التحرير»(3) - على ما حُكي - انعقاد الإجماع عليه.

وجه الأوّل: ظهور الشرط في الآية الكريمة، وما ماثلها من النصوص، والتصرّيح بذلك في جملةٍ من الأخبار المتقدّمة.

ووجه الثاني: إطلاق كثيرٍ من النصوص، والتعليل في طائفةٍ منها بأنّه لايصلحُ ذهاب حقّ أحدٍ، فإنّه يُتعدّى به الحكم إلى غير مورده.

أقول: والأظهر هو الأوّل؛ إذ الإطلاق يقيّد بمفهوم الشرط والحصر، والتعليل - لو سُلّم دلالته على ذلك - لا يصلحُ لمعارضة الكتاب، بعد كون النسبة عموماً من وجه، كما لا يخفى ، مع أنّه مجملٌ ، إذ ليس محلّ الكلام ما لو حَصل العلم من قول الشاهدين، فإنّ حجيّة العلم ذاتيّة من أيّ شيء حصل، بل ما لو لم يحصل العلم.

وعليه، فالحقّ غير ثابتٍ ، وإنْ كان المراد به الحقّ المحتمل، فيُحتمل عدم تحقّق الوصيّة وذهاب حقّ الوارث بالقول.

الشرط الخامس: إحلاف الذميّين بالصُّورة المذكورة في الآية الكريمة:

(تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ اَلصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللّهِ إِنِ اِرْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اَللّهِ ) (4) ، اعتبره المصنّف رحمه الله في بعض كتبه(5)، وجعله في «المسالك»1.

ص: 397


1- السرائر: ج 2/139.
2- الشرائع: ج 4/911.
3- التحرير: ج 5/245.
4- سورة المائدة: الآية 106.
5- كالتحرير: ج 5/246، والتذكرة (ط. ق): ج 2/521.

ولا تُقبل شهادة الفاسق إلّامع التوبة.

أولى(1)، وقوّاه في «المستند»(2)، وتشهد به الآية الكريمة.

ولا يرد عليه: بأنّ الآية مختصّة بصورة الارتياب.

يدفعه: أنّه مالم يحصل العلم يكون الارتياب متحقّقاً، وعليه فالأظهر اعتباره.

الشرط السادس: أن تكون الشهادة في الوصيّة، واعتبار ذلك متّفقٌ عليه، ووجهه اختصاص الأدلّة من الآية والنصوص بها.

الشرط السابع: كون الوصيّة بالمال خاصّة، فلا تثبتُ بشهادة الولاية على صغيرٍ وما شاكل، اعتبره جماعة(3)، واستدلّ له بالاقتصار على المتيقّن من مورد النصوص.

وعن المحقّق الأردبيلي(4): أنّ به رواية.

ولكن الرواية لم تصل إلينا، والاقتصار على المتيقّن لا وجه له مع الإطلاق.

وعليه، فالأظهر عدم اعتباره.

شهادة الفاسق بعد التوبة

المسألة الثالثة: (ولا تُقبل شهادة الفاسق إلّامع التوبة) بلا خلافٍ .

أمّا عدم قبول شهادته بدون التوبة: فلما دلّ على اعتبار العدالة، مضافاً إلى

ص: 398


1- المسالك: ج 14/163.
2- المستند: ج 18/45.
3- كالحلي في السرائر: ج 2/139، والعلّامة في التحرير: ج 5/246، والفاضل المقداد في التنقيح: ج 4/287.
4- مجمع الفائدة: ج 12/307.

النصوص المصرّحة بذلك المتقدّمة.

وأمّا قبولها معها: فلأنّ التوبة موجبة لرجوع الفاسق عن الانحراف عن جادّة الشرع إلى الاستقامة فيها، وهي كفّارة الذنوب، وبها يصيرُ الفاسق عادلاً، والتوبة تَجبُّ ما قبلها، والتائبُ من الذنب كمن لا ذنبَ له، كما تقدّم الكلام في ذلك كلّه في «رسالة العدالة» في كتاب الصلاة(1).

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك، وإلى الآية الكريمة - جملةٌ من النصوص:

منها: قوي السّكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال:

ليس يصيبُ أحدٌ حَدّاً فيُقام عليه ثمّ يتوب إلّاجازت شهادته»(2).

ونحوه خبره(3) الآخر.

ومنها: خبر القاسم بن سليمان الصحيح عمّن يصحُّ عنه، عن الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يقذف الرّجل فيُجلَد حَدّاً ثُمّ يتوب، ولا يُعلم منه إلّاخير أتجوز شهادته ؟

قال عليه السلام: نعم، ما يُقال عندكم ؟

قلت: يقولون توبته فيما بينه وبين اللّه، ولا تُقبل شهادته أبداً.

فقال: بئسَ ما قالوا، كان أبي عليه السلام يقول: إذا تابَ ولم يُعلم منه إلّاخير جازت شهادته»(4).

ونحوها غيرها.9.

ص: 399


1- فقه الصادق: ج 9/111.
2- الكافي: ج 7/397 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27 / ص 384 ح 34010.
3- التهذيب: ج 6/245 ح 23، وسائل الشيعة: ج 27/385 ح 34015.
4- الكافي: ج 7/397 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/383 ح 34009.

وقد تقدّم الكلام في حقيقة التوبة، وأنّها بماذا تتحقّق وحَدّها، إنّما الكلام في المقام في خصوص توبة القاذف، فإنّهم اختلفوا فيها:

فقيل: يعتبر فيها اكذاب نفسه فيما قَذَف به، سواءٌ كان صادقاً في قذفه أو كاذباً، وإلى هذا ذهب الشيخ في محكيّ «النهاية»(1)، وجماعة(2)، بل نُسب(3) إلى المشهور.

وعن «المبسوط»(4)، والحِلّي(5)، والمصنّف(6): أنّ حَدّها أن يُكذِّب نفسه إنْ كان كاذباً، ويعترف بالخطاء إنْ كان صادقاً.

يشهد للأوّل: النصوص:

منها: صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن المحدود إذا تاب، أتُقبل شهادته ؟

فقال: إذا تابَ ، وتوبته أن يرجع ممّا قال، ويُكذِّب نفسه عند الإمام وعند المسلمين، فإذا فَعَل فإنّ على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك»(7).

ومنها: خبر الكناني، عنه عليه السلام: «عن القاذف بعدما يُقام عليه الحَدّ ما توبته ؟ قال عليه السلام: يُكذِّب نفسه.

قلت: أرأيتَ إنْ أكذب نفسه وتابَ ، أتُقبل شهادته ؟ قال عليه السلام: نعم»(8).8.

ص: 400


1- النهاية: ص 326.
2- منهم ابن البرّاج في المهذّب: ج 2/549، وابن زُهرة في الغنية: ص 440، والحلبي في الكافي: ص 244، والمحقّق في الشرائع: ج 4/912، والعلّامة في التحرير: ج 5/249، والشهيد في الدروس: ج 2/126.
3- نسبه إلى مشهور المتقدّمين والمتأخّرين السيّد الطباطبائي في رياض المسائل: ج 13/272.
4- المبسوط: ج 8/179.
5- السرائر: ج 2/116.
6- القواعد: ج 3/494، والتحرير: ج 5/249.
7- الكافي: ج 7/397 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/385 ح 34014.
8- الكافي: ج 7/397 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/383 ح 34008.

ومنها: مرسل يونس، عن أحدهما عليهما السلام في حديثٍ عن القاذف وما توبته ؟ قال عليه السلام: «يجيءُ فيكذّب نفسه عند الإمام، ويقول قد افتريتُ على فلانة، ويتوبُ ممّا قال»(1).

وأُورد على ذلك: بأنّ القاذف إنْ كان كاذباً فلا إشكال في تكذيبه نفسه، وإلّا فيكون التكذيب كذباً قبيحاً.

وعليه، فالجمعُ بين النصوص، وهذا التعليل يقتضي البناء على القول الثاني.

وفيه أوّلاً: إنّ الفرار عن الكذب يحصُل بالتوريّة، واعتبارها أقربُ إلى النصوص ممّا ذُكر وأنسب بالحكمة المطلوبة للشارع من الستر؛ لما في التصرّيح بالتخطئة من التعريض بالقذف أيضاً، فإفساده أكثر من إصلاحه، كما صرّح بذلك جماعة منهم الشهيد الثاني في «المسالك»(2)، والسيّد في «الرياض»(3)، وعن الشهيد في «الدروس»(4).

وثانياً: أنّه لا مانع من تكذيبه نفسه بعد إطلاق النصوص، وتسمية اللّه القاذف كاذباً، قال اللّه تعالى : (وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ * إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (5) إلى قوله تعالى: (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اَللّهِ هُمُ اَلْكاذِبُونَ ) (6)، فيقصد3.

ص: 401


1- الكافي: ج 7/397 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/384 ح 34011.
2- المسالك: ج 14/175.
3- الرياض: ج 13/271.
4- الدروس: ج 2/126.
5- سورة النور: الآية 4-5.
6- سورة النور: الآية 13.

ولا تُقبلُ شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريكٌ فيه.

بتكذيبه نفسه، جَعل اللّه تعالى إيّاه كاذباً.

وعليه، فالقول الأوّل أظهر.

أقول: والظاهر - كما أفاده المشهور - اعتبار كون التكذيب عند الحاكم، وعند من قَذَف عنده، فإذا تعذّر ففي مَلاءٍ من النّاس؛ للتصريح بذلك في النصوص، لاحظ صحيح ابن سنان المتقدّم، ومرسل يونس، لكن المرسل مختصٌّ بالتكذيب عند الإمام، والصحيح تضمّن التكذيب عند المسلمين، ومقتضى إطلاقه عدم اعتبار التكذيب عند خصوص من قذفه عنده، اللّهُمَّ إلّاأن يُبنى على ذلك بواسطة مناسبة الحكم والموضوع، فإنّ حِكمة اعتبار ذلك تبرئة المقذوف من ما قُذِف به، وهذا يناسبُ تبرئته عند من قُذِف عنده أو اطّلع عليه، واللّه العالم.

وزاد بعض الأصحاب(1) اشتراط إصلاح العمل على التوبة في قبول شهادة القاذف؛ للآية الكريمة المتقدّمة.

أقول: الأظهر هو ما في «الشرائع»(2) و «المسالك»(3) من الاكتفاء بالاستمرار على التوبة، لتحقّق الإصلاح بذلك، وفي الرواية السابقة ما يدلّ عليه.

شهادة الشريك لشريكه

المسألة الرابعة: (ولا تُقبل شهادة الشريك لشريكه فيما هو شريكٌ فيه)

ص: 402


1- منهم الشيخ في الخلاف: ج 6/262، والحِلّي في السرائر: ج 3/522، وفخر الدّين في الإيضاح: ج 4/424.
2- الشرائع: ج 4/912.
3- المسالك: ج 14/175.

بلا خلافٍ فيه في الجملة.

وليس الوجه في ذلك كونه متَّهماً؛ لما مرَّ من عدم كون التُّهمة من حيث هي، ما لم تكن منافيةً للعدالة، مانعةً عن قبول الشهادة، ولا جَرّ النفع؛ لأنّه أيضاً ليس من الموانع؛ إذ العادل لا يَجرُّ النفع بغير الحقّ .

والنبويّ المتضمّن للنهي عن جواز شهادة الجارّ إلى نفسه منفعة(1)، ضعيفُ السند ومجملٌ ، مع أنّ الشريك في شهادته بحقٍّ ثابتٍ لشريكه لا يَجرُّ النفع إلى نفسه.

ولا ما قيل - كما عن بعض الأساطين(2) - من أنّ الشريك إن شهد لشريكه فيما هو شريكٌ فيه، لا يخلو الأمر من أنّه:

إمّا أن تُقبل شهاته بالنسبة إلى الثابت لهما.

أو تُقبل بالنسبة إلى خصوص الحقّ الثابت لشريكه.

أو لا تُقبل بالنسبة إليهما.

ويلزم من الأوّل قبول شهادة الإنسان لنفسه، وهي لا تُقبل قطعاً؛ للإجماع، ولأنّ المتبادر - بل الظاهر من النصوص، بل النصيّة في كثيرٍ منها - إرادة الإخبار للغير، حتّى صحيح ابن أبي يعفور المتقدّم حيث ورد فيه قوله عليه السلام: «حتّى تُقبل شهادة لهم وعليهم»، ولأنّ المجعول الحلف على المُدّعى عليه مع عدم البيّنة للمُدّعي، فلو كانت شهادة الإنسان لنفسه مسموعة، كان يكتفى بها مع يمينه؛ لأنّ الشاهد الواحد مع اليمين بمنزلة البيّنة.ء.

ص: 403


1- دعائم الإسلام: ج 2/511 ح 1832، مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/431 ح 21768.
2- أشار إلى ذلك المحقّق الطباطبائي في الرياض: ج 15/284 (ط. ج)، وحكاه البعض عن كاشف الغطاء.

وبالجملة: لا خلاف ولا كلام في عدم قبول شهادة الإنسان لنفسه.

ولازم الثاني: التفكيك بين المتلازمين، فيتعيّن الثالث.

فإنّه يرد عليه: أنّه لا محذور في التفكيك بين المتلازمين بحسب الواقع، عند قيام الحجّة على أحدهما دون الآخر في الظاهر.

أقول: بل الوجه في ذلك، النصوص الخاصّة وهي طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على عدم قبول شهادة الشريك لشريكه مطلقاً:

منها: موثّق البصري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام «عن ثلاثة شركاء شَهد اثنان على واحدٍ؟

قال عليه السلام: لا تجوزُ شهادتهما»(1).

بناءً على إرادة معنى اللّام من لفظ (على )، وأنّ المراد على أمره.

ومنها: خبر محمّد بن الصلت، عن أبي الحسن الرّضا عليه السلام:

«عن رفقةٍ كانوا في طريقٍ فقُطع عليهم الطريق، وأخذوا اللّصوص، فشهد بعضهم لبعض ؟

قال عليه السلام: لاتُقبل شهادتهم إلّابإقرارٍ من اللّصوص، أو شهادة من غيرهم عليهم»(2).

الطائفة الثانية: ما يدلّ على قبولها، كخبر عبد الرحمن، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن ثلاثة شركاء ادّعى واحدٌ وشهد الاثنان ؟

قال عليه السلام: يجوز»(3).2.

ص: 404


1- الكافي: ج 7/394 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/369 ح 33969.
2- الكافي: ج 7/394 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/369 ح 33970.
3- التهذيب: ج 6/246 ح 27، وسائل الشيعة: ج 27/370 ح 33972.

ولا يرد عليه: بأنّ الظاهر كونه عين الموثّق الأوّل(1)، رواه الكليني مع إضافة كلمة (لا)، والشيخ بدونها، وحيث أنّ الكليني أضبط، والأصل عند تعارض النقلين يقتضي البناء على وجود الزائد، فالمتّبع هو الأوّل، ولا يُعتمد على هذا الخبر.

فإنّ ذلك فيما إذا احتمل الخطأ في حذف الزائد، وفي الخبر لا يُحتمل ذلك؛ لأنّ الشيخ رحمه الله بعد نقله قال: (الوجه فيه أن نحمله على ما لو شهدا على شيء ليس لهما فيه شركة).

اللّهُمَّ إلّاأن يُعمل الأصل المذكور بالنسبة إلى القاسم الرّاوي عن أبان في نقل الشيخ، وأحمد بن الحسن الميثمي الرّاوي عنه في خبر الكليني، إنْ ثبت وحدة الخبرين، كما هو الظاهر من وحدة السائل والمسؤول عنه ومورد السؤال.

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على التفصيل، كمرسل أبان - المُجمع على تصحيح ما يصحّ عنه، مع أنّه في «الفقيه» من غير إرسال(2) - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن شريكين شهد أحدهما لصاحبه ؟

قال عليه السلام: تجوزُ شهادته إلّافي شيء له فيه نصيب»(3).

وبهذا المرسل يقيّد إطلاق كلٍّ من النصوص المتقدّمة، فتكون النتيجة عدم قبول شهادته له فيما هو شريكٌ فيه، وقبوله فيما لا يكون شريكاً فيه، وعليه فلا إشكال في الحكم.1.

ص: 405


1- أي المتقدّم في الطائفة الأُولى، الدّال على عدم قبول شهادة الشريك لشريكه مطلقاً.
2- في الفقيه: «روى فضالة عن أبان قال...».
3- الفقيه: ج 3/44 ح 3293، التهذيب: ج 6/246 ح 28، وسائل الشيعة: ج 27/370 ح 33971.

ولا الوصيّ فيما له الولاية فيه، وكذا الوكيل.

شهادة الوصيّ والوكيل

المسألة الخامسة: (و) المشهور بين الأصحاب كما في «المسالك»(1): أنّه (لا) تُقبل شهادة (الوصيّ فيما له الولاية فيه، وكذا) لا تُقبل شهادة (الوكيل) فيما هو وكيلٌ فيه.

وفي «الرياض»: (إنّها شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً، كما هو ظاهر جماعة، ربما توجبُ المصير إلى ما هنا من المنع، ولذا صار إليه أكثر من تأمّل فيه بما ذكرناه)(2)، انتهى .

وعن الشيخ في «النهاية»(3): قبول شهادة الوصيّ مطلقاً.

أقول: وتنقيح القول في الوصيّ يقتضي أن يقال إنّه:

تارةً : يكون مدّعياً، بأن ادّعى للصغير على الغير.

وأُخرى : يكون المُدّعي غيره.

وعلى الثاني:

1 - قد يكون المُدّعى به ممّا يرجعُ إلى ولايته.

2 - وقد يكون ممّا لا يُرجع إليه، كما لو شهد بحقّ الوارث، وكان وصيّاً على

ص: 406


1- المسالك: ج 6/209.
2- الرياض: ج 13/279.
3- النهاية: ص 326.

الثُلث مثلاً، وفرض استيفائه له.

أمّا في الصورة الأُولى : فلا إشكال في عدم قبول شهادته؛ لما دلّ على أنّ البيّنة على المُدّعي، ولا تُقبل شهادته، وقد تقدّم.

وأمّا في الصورة الثالثة: فلا ينبغي التوقّف في القبول.

إنّما الكلام في الصورة الثانية: فقد يستدلّلعدم القبول تارةً بكونه متّهماً، وأُخرى بأنّه يجرّ النفع إلى نفسه، وقد مرّ ما فيهما، وعليه فالأظهر هو القبول لعموم الأدلّة.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - مكاتبة الصفّار، إلى أبي محمّد عليه السلام، قال: «سألته:

هل تُقبل شهادة الوصي للميّت بدينٍ له على رجلٍ مع شاهدٍ آخر عدل ؟

فوقّع عليه السلام: إذا شهد معه آخر عدل، فعلى المُدّعي يمين.

وكتب: أيجوزُ للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً وهو القابض للصغير، وليس للكبير بقابض ؟

فوقّع عليه السلام: نعم، وينبغي للوصيّ أن يشهد بالحقّ ، ولا يكتم الشهادة.

وكتب: أو تُقبل شهادة الوصي على الميّت، مع شاهدٍ آخر عدل ؟

فوقّع عليه السلام: نعم من بعد يمين»(1).

أقول: وأُورد عليها:

تارةً : بما عن «كشف اللّثام»(2): من أنّها تدلّ على أنّ له الشهادة، ولا تدلّ على قبولها.

وأُخرى : بأنّها تدلّ على اعتبار ضَمّ اليمين، ولعلّه من جهة عدم الاعتناء4.

ص: 407


1- الكافي: ج 7/394 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27 / ص 371 ح 33973.
2- كشف اللّثام: ج 10/304.

بشهادته، والاكتفاء بشاهدٍ آخر مع اليمين.

وثالثةً : بأنّ إطلاقها يشمل الصورة الأُولى .

ولكن يدفع الأوّل: بأنّ السؤال إنّما هو عن قبول شهادته، لا عن جوازها تكليفاً؛ فإنّه من الواضحات.

والثاني: بأنّ اعتبار اليمين لعلّه استحبابيٌ للاستظهار، نحو ما ورد في غيره من وصايا أمير المؤمنين عليه السلام لشُريح(1)، أو يُفرض كون المُدّعى عليه بدينٍ ميّتاً، فيكون اليمين للاستظهار.

وعلى أيّ حال، ليس الوجه فيه ما احتمل، فإنّ الاكتفاء بشاهدٍ ويمين إنّما هو مع عدم إمكان إقامة البيّنة، على أنّ الاكتفاء بهما حينئذٍ لا يعتبر فيه شهادة الوصي، فلا يكون وجه لقوله: «إذا شهد معه آخر... إلخ».

أضف إلى ذلك: أنّه حُكِم باعتباره حتّى في الشهادة على الميّت.

والثالثُ يندفع: بأنّ الظاهر كون الخبر بصدد بيان حكم شهادة الوصيّ من حيث هو، مع قطع النظر عن العناوين الاُخر المنطبقة عليه في بعض الأحيان، كعنوان المُدّعي، ولذلك لا مجال للتمسك بإطلاقها والحكم بقبول شهادة الوصيّ ، وإنْ كان شريكا أيضاً، مع أنّه لو تمّ ما ادّعى من الإطلاق، يقيّد إطلاقه بالأخبار الدالّة على عدم قبول شهادة المُدّعي لنفسه؛ بعد كون النسبة عموماً من وجه، والترجيح معها.

أقول: وبما ذكرناه يظهر حكم الوكيل؛ فإنّه إنْ كان مدّعياً لا تُقبل شهادته، وإلّا فلا مانع من قبوله.8.

ص: 408


1- الكافي: ج 7/412-413 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/211-212 ح 33618.

ولا العَدوّ،

حكم شهادة العدوّ

المسألة السادسة: (و) قالوا (لا) تُقبل شهادة (العدوّ) الدنيوي على عدوّه، وتُقبل له ولغيره وعليه.

وفي «المسالك»(1): دعوى الإجماع على الأوّل.

وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)(2).

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ العداوة من أسباب التُّهمة، ولا تُقبل شهادة المتّهم.

2 - وبصدق الخصم على العدوّ، وقد دلّت النصوص على عدم قبول شهادة الخصم، وقد تقدّمت.

3 - وبخبر «معاني الأخبار»: قال النبيّ صلى الله عليه و آله: «لا تجوزُ شهادة خائنٍ ولا خائنة، ولا ذي غَمز على أخيه ولا ظنين»(3) الحديث.

قال الصَّدوق: «الغَمز: الشَّحناء والعداوة»(4).

4 - وبخبر إسماعيل، عن الإمام الصادق، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام، قال: «لا تُقبل

ص: 409


1- المسالك: ج 14/191.
2- الجواهر: ج 41/70.
3- معاني الأخبار: ص 208 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/379 ح 34000.
4- معاني الأخبار: ص 209.

شهادة ذي شحناءٍ ، أو ذي مخزيةٍ في الدّين»(1).

والشَّحناء: العداوة.

أمّا الأوّل: فقد عرفت ما فيه، مع أنّ للمنع عن كون العداوة من أسباب التُّهمة مطلقاً مجالاً واسعاً، فإنّ سببها إنْ كانت توجيه ضرر إليه من قَتْلِ ولدٍ وما شاكل، وكان العدوّ في غاية العدالة، لانُسلّم صدق التُّهمة، سيّما إذا كان المُدّعى به شيئاً قليلاً.

والثاني يندفع: بأنّ كلمة (الخصم) في اللّغة(2) والعرف بمعنى المجادل والمنازع لا العدوّ، والنسبة بينهما عمومٌ من وجه؛ فإنّه ربما يكون طرف النزاع والمخاصمة هو العدوّ، وربما يكون غيره، فتلكم النصوص تدلّ على عدم قبول شهادة المنكر على المُدّعي، والمُدّعي على المنكر، ولا ربط لها بالمقام.

وأمّا الثالث فيرد عليه: أنّ كلمة (الغمز) ليس مطلق العداوة، بل هو الطعن عليه، والسّعي به شرّاً، وإظهار ما فيه من النقيصة، وهذا بنفسه من أسباب الفسق.

وأمّا الرابع: فلأنّ الشَّحناء ليست مطلق العداوة، قال في «المنجد»: (الشحناء:

العداوة التي امتلأت منها النفس)(3)، وعليه فهو أخصّ من المُدّعى ، مع أنّه أعمّ من وجهٍ آخر؛ لأنّه يشمل العداوة الدنيويّة والدينيّة، وأيضاً يشمل الشهادة له وعليه ولغيره وعليه.

وعلى هذا، فإنْ ثبت إجماعٌ ، وإلّا فللمنع عن عدم قبول شهادته إنْ كان عادلاً مجالٌ واسع.7.

ص: 410


1- الفقيه: ج 3/43 ح 3288، وسائل الشيعة: ج 27/378 ح 33997.
2- كما في معجم مقاييس اللّغة: ج 2/187، ولسان العرب: ج 13/180، راجع مادّة (خصم) وغيرهما.
3- المفردات في غريب القرآن: ص 447.

أورد الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(1)، وقبله غيره، وكذا بعده(2) على اعتبار هذا الشرط بأنّه:

(يُشكل فرض العدالة مع العداوة الدنيويّة، فإنّ عداوة المؤمن وبُغضه لا لأمر ديني، والفرح بمساءته، والحزن بمسرّته معصية موجبة بنفسها أو بالإصرار عليها الفسق المانع من قبول الشهادة، فهذا لا يكون شرطاً آخر وراء اشتراط العدالة).

وأجابوا عنه تارةً : بأنّها معصية صغيرة، فإذا لم يصرّ عليها يكون عادلاً وغير فاسق، فيظهر ثمرة اعتبارها، ذكره في «المسالك»(3).

وأُخرى : بحمل العداوة على عداوة غير المؤمن.

وثالثةً : بأنّ عداوة المؤمن حرامٌ إذا كانت بغير موجب.

أقول: والتحقيق أن يقال:

إنّ العداوة القلبيّة غير اختياريّة، فلا يُعقل توجّه النهي إليها، وكونها معصيةً ، وإنّما يكون المحرّم إظهارها بما لا يجوز، ومن الغريب ما أفاده سيّد «الرياض»(4) من كون العداوة المفسَّرة بالمسرّة والفَرح بالمساءة والمكروهات الواردة على صاحبه، والمساءة والاغتمام بالمسرّة والنِعم الحاصلة له، عين الحَسَد الذي هو من الكبائر، فإنّ الحَسَد بمعنى كراهة النعمة من المحسود، التي هي أمرٌ قلبي لا يكون حراماً ومعصية، فضلاً عن كونه من الكبائر، وعلى هذا يُحمل ما في حديث الرفع المعروف من عَدّ الحَسَد أحد التسعة المرفوعة عن هذه الاُمّة.2.

ص: 411


1- المسالك: ج 14/193.
2- أي أورده من بعده: المحقّقان الأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 12/390، والسبزواري في الكفاية: ج 2/755.
3- المسالك: ج 14/193.
4- الرياض: ج 13/282.

ولا شهادة الولد على الوالد،

شهادة الولد على الوالد

المسألة السابعة: (ولا) تُقبل (شهادة الولد على الوالد) كما عن الصدوقين(1)، والشيخين(2)، والقاضي(3)، وسلّار(4)، وابن حمزة(5)، والحِلّي(6)، والمحقّق(7)، والمصنّف(8)، وولده(9)، والشهيد(10)، وغيرهم(11)، بل هو المشهور كما في «المسالك»(12).

وعن غيرها(13)، وعن «الخلاف»(14): الإجماع عليه.

ويَشهدُ له: مرسل الصَّدوق، قال في خبرٍ آخر:

«لا تُقبل شهادة الولد على الوالد»(15).

ص: 412


1- الصدوق في المقنع: ص 397، وحكاه عن أبيه العلّامة في المختلف: ج 8/493.
2- المفيد في المقنعة: ص 726، والطوسي في النهاية: ص 330.
3- المهذّب: ج 2/558.
4- المراسم: ص 233.
5- الوسيلة: ص 231.
6- السرائر: ج 2/134.
7- الشرائع: ج 4/915.
8- التحرير: ج 5/254، والقواعد: ج 3/496.
9- الإيضاح: ج 4/427.
10- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: ج 4/117.
11- كابن سعيد في الجامع: ص 539.
12- المسالك: ج 14/194.
13- الدروس: ج 2/132.
14- الخلاف: ج 6/296.
15- الفقيه: ج 3/42 ح 3286، وسائل الشيعة: ج 27/369 ح 33968.

المنجبر ضعفه بعمل الأصحاب.

وقد يستدلّ له أيضاً: بقوله تعالى : (وَ صاحِبْهُما فِي اَلدُّنْيا مَعْرُوفاً) (1)وليس من المعروف الشهادة عليه، والرّد لقوله، وإظهار تكذيبه، فيكون ارتكاب ذلك عقوقاً مانعاً من قبول الشهادة.

ويردّه: ما في «المسالك» من أنّ (قول الحقّ ورَدّه عن الباطل، وتخليص ذِمّته من الحقّ عين المعروف، كما نبّه عليه قوله صلى الله عليه و آله:

«انصر أخاكَ ظالماً أو مظلوماً، فقيل: يا رسول اللّه كيف أنصره ظالماً؟ قال صلى الله عليه و آله:

تردّه عن ظلمه فذاك نصرك إيّاه»(2)، ولأنّ إطلاق النهي عن عصيان الوالد، يستلزمُ وجوبُ طاعته عند أمره له بارتكاب الفواحش، وترك الواجبات، وهو معلومُ البطلان)(3)، انتهى .

مضافاً إلى أنّه لو تمّ ، لاقتضى عدم قبول الشهادة على الوالدة أيضاً، ولم يقولوا به.

وعن السيّد(4) وجماعة(5): قبول شهادته عليه، كقبول شهادته له، واستدلّلذلك:

1 - بقوله تعالى : (كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ ) (6).5.

ص: 413


1- سورة لقمان: الآية 15.
2- مسند أحمد: ج 3/201، صحيح البخاري: ج 3/98 و ج 8/59.
3- المسالك: ج 14/195.
4- الإنتصار: ص 497-498.
5- قوّاه الشهيد في الدروس: ج 1/132، واستقربه السبزواري في الكفاية: ج 2/758، واختاره الكاشاني في المفاتيح: ج 3/279.
6- سورة النساء: الآية 135.

2 - وبقوله تعالى : (وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (1).

3 - وبخبر عليّ بن سويدالسائي، عن أبي الحسن عليه السلام في حديثٍ ، قال: «كتبَ إليّ في رسالته إليّ : وسألتَ عن الشهادات لهم ؟ فأقم الشهادة للّه ولو على نفسك أو الوالدّين والأقربين»(2).

ونحوه خبر داود بن الحصين(3).

أقول: ولكن الآية الأُولى ليست نصّاً في الشهادة على الحَيّ ، ولا خلاف في قبولها على الميّت، مع أنّ الظاهر من الآية الكريمة كونها في مقام بيان تقديم حقوق اللّه تعالى على النفس أو الوالدّين، لقوله تعالى : (شُهَداءَ لِلّهِ ) (4) ولم يَقُل:

(شهداء لغيركم من النّاس)، لا خصوص الشهادة بالمعنى الأخصّ .

أضف إليه: ما قيل من أنّ وجوب تحمّل الشهادة، وكذا أدائها، لايستلزم القبول، فإنّه يمكن أن يكون لفوائد اُخر من صيرورته جزءاً للاستفاضة العلميّة، أو قرينةً لإفادة العلم فيما إذا حصلت أُمورٌ اُخر، بل إظهار الحقّ في نفسه له فائدة جليلة من أعظم الفوائد، كيف وقد أُمرنا بالإنكار القلبي للمنكر، وفائدة إظهار الحقّ ، ولو لم يقبل لا تكون أقلّ من فائدته.

بذلك كلّه، يظهر ما في الاستدلال بالخبرين.

وأمّا الآية الثانية: فالخبران المتقدّمان أخصّ مطلقاً منها، فيقدّمان عليها.

وعليه، فالأظهر عدم قبول شهادة الولد على الوالد.5.

ص: 414


1- سورة الطلاق: الآية 2.
2- الكافي: ج 8/124 ح 95، وسائل الشيعة: ج 27/315 ح 33823.
3- التهذيب: ج 6/257 ح 80، وسائل الشيعة: ج 27/340 ح 33880.
4- سورة النساء: الآية 135.

ويَجوزُ العكس، وتُقبل شهادة كلٍّ منهما لصاحبه،

(ويجوزُ العَكس) أي تُقبل شهادة الوالد على الوالد (و) أيضاً (تقبل شهادة كلّ منهما لصاحبه) أي تقبل شهادة الولد للوالد والعكس.

وتجوزُ شهادة بقيَّة ذوي الأرحام والقِرابات بعضهم على بعض.

وعن «الانتصار»: (إنّ ذلك ممّا انفردت به الإماميّة)(1).

وفي «المسالك»: (ليس من أسباب التُّهمة عندنا العصبة، فتُقبل شهادة جميع الأقرباء لأقربائهم)(2).

وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)(3).

ويشهد به: - مضافاً إلى الإطلاقات والعمومات - صحيح الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «تجوزُ شهادة الولد لوالده، والوالد لولده، والأخ لأخيه»(4).

ونحوه صحيحا أبي بصير(5)، و عمّار بن مروان(6)، و موثّق سماعة(7)، وقوي السّكوني(8).

وهل يشترط في قبول شهادة القريب ضَمّ شاهدٍ آخر عَدلٍ أجنبي لكمال7.

ص: 415


1- الإنتصار: ص 496.
2- المسالك: ج 14/194.
3- الجواهر: ج 41/74.
4- الكافي: ج 7/393 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/367 ح 33963.
5- الكافي: ج 7/393 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/368 ذيل ح 33965.
6- الكافي: ج 7/393 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/367 ح 33964.
7- التهذيب: ج 6/247 ح 34، وسائل الشيعة: ج 27/368 ح 33966.
8- التهذيب: ج 6/286 ح 195، وسائل الشيعة: ج 27/368 ح 33967.

وكذا الزَّوجان.

العدد، فلا يكفي ضَمّ قريبٍ آخر مماثله، أو غير مماثله، ولا ضَمّ اليمين، كما عن الشيخ في «النهاية»(1)؟

أم لا يعتبر ذلك، كما هو المشهور بين الأصحاب ؟

أقول: الظاهر هو الثاني؛ لإطلاق الأدلّة.

واستدلّ للأوّل: بخبر السّكوني، عن جعفر عليه السلام، عن أبيه عليه السلام:

«أنّ شهادة الأخ لأخيه تجوزُ إذا كان مرضيّاً ومعه شاهدٌ آخر»(2).

وفيه: - مضافاً إلى عدم عمل الأصحاب به، وأخصّيته من المُدّعى - أنّه يدلّ على لزوم ضَمّ شاهدٍ آخر إلى الأخ، وليس فيه تقييد بالأجنبي، فالظاهر أنّه لأجل إكمال العدد.

الصِّداقة والزوجيّة لا تمنعان من قبول الشهادة

المسألة الثامنة: الصُّحبة والصِّداقة وإنْ كانتا مؤكّدتين، وكذلك الضيافة والزوجيّة، لكن لا يمنع شيءٌ منها من قبول الشهادة، فتُقبل شهادة كلٍّ من المصطحبين لصاحبه، (وكذا الزوجان) والصديقان والضيف.

وعن غير واحدٍ(3): دعوى الإجماع في الجميع.

ص: 416


1- النهاية: ص 330.
2- التهذيب: ج 6/286 ح 195، وسائل الشيعة: ج 27/368 ح 33967.
3- منهم الشهيد الثاني في المسالك: ج 14/197، وصاحب الجواهر في الجواهر: ج 41/78، والنراقي في المستند: ج 18/255.

ويشهد بذلك: - مضافاً إليه، وإلى إطلاق الأدلّة - نصوصٌ خاصّة في الزوجين والضيف:

منها: صحيح الحلبي، عن الصادق عليه السلام: «تجوزُ شهادة الرّجل لامرأته، والمرأة لزوجها إذا كان معها غيرها»(1).

ومنها: صحيح عمّار بن مروان، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يشهد لامرأته ؟

قال عليه السلام: إذا كان خيراً جازت شهادته لامرأته»(2).

ومنها: موثّق سماعة في حديثٍ : «سألته عن شهادة الرّجل لامرأته ؟ قال عليه السلام: نعم.

والمرأة لزوجها؟ قال عليه السلام: لا، إلّاأن يكون معها غيرها»(3).

ومنها: موثّق أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً»(4) الحديث.

وعن الشيخ في «النهاية»(5)، والقاضي(6)، وابن حمزة(7): أنّه يعتبر في قبول شهادة الزوج و الزوجة أن يُضمّ إليشهادة كلّ منهما شهادة غيرهمامن أهل الشهادة.

وعن جماعةٍ آخرين(8): اعتبار ذلك في خصوص شهادة الزوجة.5.

ص: 417


1- الكافي: ج 7/392 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/366 ح 33960.
2- الكافي: ج 7/393 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/366 ح 33961.
3- التهذيب: ج 6/247 ح 34، وسائل الشيعة: ج 27/367 ح 33962.
4- التهذيب: ج 6/258 ح 81، وسائل الشيعة: ج 27/395 ح 34041.
5- النهاية: ص 330.
6- المهذّب: ج 2/559.
7- الوسيلة: ص 231.
8- احتمله المحقّق في النافع: ص 279، واختاره في الشرائع: ج 4/915، والفاضل الآبي في كشف الرموز: ج 591/2، والعلّامة في التحرير: ج 5/255.

وعن «التحرير»(1): نسبته إلى أصحابنا.

والمدركُ هو صحيح ابن مروان، وموثّق سماعة، وهما مختصّان بشهادة الزوجة، فإسراء الحكم إلى شهادة الزوج قياسٌ مع الفارق.

وأمّا في الزوجة: فغاية ما يدلّ عليه الخبران، اعتبار انضمام آخر إليها، ولا يدلّان على أنّ للزوجة خصوصيّة، ولعلّه من جهة أنّه لا تُقبل شهادة المرأة الواحدة، وهذا بخلاف شهاة الرّجل، فإنّه يكتفى بهذا إذا انضمّ إليها اليمين، والظاهر أنّه لذلك لم يعتبر الأصحاب هذا الشرط، لا ما عن المصنّف رحمه الله في «المختلف»(2) بأنّ المراد بذلك في الخبرين كمال البيّنة من غير يمين، لأنّه لو كان المراد ما أفاده رحمه الله لما كان له بالزوجة اختصاص، وقد خصّاه بها، بل ظاهر الثاني منهما تخصيصه بها دونه.

شهادة الأجير والسّائل بكفّه

المسألة التاسعة: المشهور بين قدماء الأصحاب(3) أنّه لا تُقبل شهادة الأجير لمن استأجره، وأكثر المتأخّرين(4) لولا عامّتهم ذهبوا إلى قبولها.

مدرك الأوّل: جملةٌ من النصوص:

منها: موثّق سماعة، قال: «سألته عمّا يُردّ من الشهود؟ قال عليه السلام: المُريب، والخصم، والشريك، ودافعُ مغرمٍ ، والأجير، والعبد، والتابع، والمتّهم، كلّ هؤلاء تُردّ شهاداتهم»(5).

ص: 418


1- التحرير: ج 5/255.
2- المختلف: ج 8/497.
3- منهم الشيخ في النهاية: ص 325، والصَّدوق في المقنع: ص 398، والحلبي في الكافي: ص 436، القاضي في المهذّب: ج 2/558، ابن حمزة في الوسيلة: ص 230، ابن زُهرة في الغنية: ص 440.
4- منهم الحِلّي في السرائر: ج 2/121، والمحقّق في الشرائع: ج 4/916، والعلّامة في التحرير: ج 5/255.
5- التهذيب: ج 6/242 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/378 ح 33995.

ونحوه مرسل «الفقيه»(1).

ومنها: النبويّ المرويّ في «معاني الأخبار»، قال:

«لا تجوزُ شهادة خائنٍ - إلى أن قال: - ولا القانع مع أهل البيت»(2).

بضميمة تفسير الصَّدوق للقانع مع أهل البيت: (بالرّجل يكون مع القوم في حاشيتهم كالخادم لهم والتابع والأجير)(3).

ومنها: خبر العلاء بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«كان أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوّزُ شهادة الأجير»(4).

ومنها: صحيح صفوان، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ أشهد أجيره على شهادةٍ ثُمّ فارقه، أيجوزُ شهادته له بعد أن يفارقه ؟

قال عليه السلام: نعم، وكذلك العبد إذا اُعتق جازت شهادته»(5).

الظاهر بسبب التشبيه والتقرير في ذلك.

ومدرك الثاني: العمومات والمطلقات، وموثّق أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السلام:

«وتُكره شهادة الأجير لصاحبه، ولا بأس بشهادته لغيره، ولا بأس به له بعد مفارقته»(6).

بدعوى إرادة الكراهة بالمعنى المصطلح منها.6.

ص: 419


1- الفقيه: ج 3/40 ح 3282، وسائل الشيعة: ج 27/379 ح 33999.
2- معاني الأخبار: ص 208 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/379 ح 34000.
3- معاني الأخبار: ص 209 ذيل ح 3.
4- الكافي: ج 7/394 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/372 ح 33975.
5- التهذيب: ج 6/257 ح 79، وسائل الشيعة: ج 27/371 ح 33974.
6- التهذيب: ج 6/258 ح 81، وسائل الشيعة: ج 27/372 ح 33976.

وربما يقال: إنّه لو تمّت النصوص السّابقة سنداً ودلالةً ، لزم تقييد المطلقات والعمومات بها.

ولكن يمكن أن يقال: إنّ النسبة بينها وبين ما دلّ على قبول شهادة العادل عمومٌمن وجه، فيتعارضان، والمرجع إلى المرجّحات، وحيث أنّ من أدلّة قبول شهادة العادل آياتٌ من الكتاب، فتقدّم تلك الأدلّة، وتختصّ هذه بالأجير غير العادل.

مع أنّ صحيح صفوان لا يدلّ على المنع من قبولها؛ لعدم المفهوم له، ولم يُفرض في السؤال عدم القبول حتّى يكون تقريره عليه السلام دالّاً عليه.

وأمّا خبر العلاء: فضعيفُ السَّند لجهالته.

وأمّا النبويّ : فتفسير الصَّدوق قدس سره غير حجّة لنا.

وأمّا مرسل «الفقيه»: فلإرساله لا يُعتمد عليه.

وعليه، فلم يبق إلّاموثّق سماعة، وحيث إنّه لا يمكن الالتزام بإطلاق رَدّ شهادة الأجير، ولو لغير من استأجره عليه، وعلى من استأجره، ولم يَلتزم به أحدٌ، وتقييد إطلاقه بموثّق أبي بصير وغيره مستلزمٌ لتخصيص الأكثر المستهجن، فيكون المراد به الأجير الخاصّ ، فهو مجملٌ لا يستند إليه.

وعليه، فالأظهر قبول شهادته.

وأمّا السائل بكفّه: فالمشهور بين الأصحاب عدم قبول شهادته.

والمراد به: من جُعل السؤال ديدناً له، فيستجدي ويسأل الناس على أبواب الدور، وفي الشوارع والأسواق والدكاكين؛ لأنّه المتبادر من هذا التركيب، كما صرّح به بعض المحقّقين(1)، فمن يسأل أحياناً لحاجةٍ دَعتهُ إليه، لا يصدقُ عليه0.

ص: 420


1- المحقّق النراقي في المستند: ج 18/260.

هذا العنوان.

وعليه، فاستثناء الحِلّي(1)، والمحقّق(2)، والشهيد الثاني(3)، وغيرهم من المتأخّرين(4)، ومتأخّريهم(5) مَنْ دَعَته الضرورة إلى ذلك، استثناءٌ منقطع.

وكيف كان، فيشهد للحكم نصوصٌ :

منها: صحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن السائل الذي يسأل بكفّه هل تُقبل شهادته ؟

فقال عليه السلام: كان أبي عليه السلام لا يَقبل شهادته إذا سأل في كفّه»(6).

ومنها: موثّق محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«رَدّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله شهادة السائل الذي يسأل في كفّه.

قال أبو جعفر عليه السلام: لأنّه لا يؤمَن على الشهادة؛ وذلك لأنّه إن اُعطي رَضي، وإنْ مَنِع سَخَط»(7).

ونحوهما غيرهما، وعليه فلا إشكال في الحكم.

وقد يقال: إنّه من التعليل في الموثّق لعدم قبول الشهادة، يستفادُ عدم حرمة السؤال بالكفّ من حيثُ هو، وإلّا كان الأولى التعليل بكونه فاسقاً.6.

ص: 421


1- السرائر: ج 2/132.
2- الشرائع: ج 4/915.
3- المسالك: ج 14/199.
4- كالفاضل المقداد في التنقيح: ج 4/299، والشهيد في الدروس: ج 2/131.
5- كالسيّد صاحب الرياض فيها: ج 13/295، والمحقّق النراقي في المستند: ج 18/260.
6- الكافي: ج 7/397 ح 14، وسائل الشيعة: ج 27/382 ح 34005.
7- الكافي: ج 7/396 ح 13، وسائل الشيعة: ج 27/382 ح 34006.

ولا تُقبل شهادة المتبرّع،

وفيه نظر: فإنّه يمكن أن يكون وجه عدم التعليل بالحرمة، لزوم حمل أفعال المسلمين وأقوالهم على الصحّة؛ لعدم اتّصاف كل سؤالٍ بالحرمة، بل على القول بها الذي لا تدعو إليه حاجة ولا ضرورة.

قال صاحب «الجواهر»: (ولكن لا يخفى عليك أنّ هذا بعد فرض معلوميّة حُرمة السؤال ولو بالكفّ ، مع فرض عدم التدليس به، كما لو صرّح بغنائه عن ذلك، وهو وإنْ كان مغروساً في الذهن، والنصوص مستفيضة بالنهي عن سؤال النّاس، لكن كثيراً منها محمولة على بعض مراتب الأولياء، وهو الغِنى عن النّاس، والإلتجاء إلى اللّه تعالى ، وآخر منها محمولٌ على المدلّس بإظهار الحاجة، والفقر لتحصيل المال من النّاس بهذا العنوان، وهم الذين يسألون النّاس إلحافاً، عكس الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفّف.

وأمّا حرمة السؤال من حيث كونه سؤالاً، ولو بالكفّ ، فلا دليل يُطمأنّ به على حرمته، وإنْ كان ذلك مغروساً في الذهن، فتأمّل)(1)، انتهى .

شهادة المُتبرّع

المسألة العاشرة: (و) قد صرّح غير واحدٍ(2) بأنّه (لا تُقبل شهادة المتبرّع) والمراد منه مَن يؤدّي الشهادة قبل الاستنطاق، وقبل طلب الحاكم إيّاه من الشاهد،

ص: 422


1- الجواهر: ج 41/82-83.
2- منهم المحقّق في النافع: ص 280، والعلّامة في الإرشاد: ج 2/158، والشهيد في اللّمعة: ص 84.

سواءً كان قبل دعوى المُدّعي أم بعدها، بلاخلافٍ أجده فيه كما اعترف به غير واحد(1).

واستدلّوا له تارةً : بتطرّق التُّهمة بذلك.

وأُخرى : بالعلويّ : «تقوم الساعة عليقومٍ يشهدون من غير أن يستشهدوا»(2).

مع ما ورد أنّها تقوم على شِرار الخلق(3).

وبالنبويّ الوارد في مقام الذّم: «ثُمَّ يفشو الكَذِب حتّى يعجل الرّجل بالشهادة قبل أن يسأل عنها»(4).

أقول: ولكن قد عرفت أنّ التُّهمة من حيثُ هي ليست من موانع القبول، مع أنّه يمكن منع التُّهمة في جميع الموارد.

وقد أطال البحث بعض المحقّقين(5) في ذلك، وبيان صور شهادة المتبرّع، وإثبات منع التُّهمة في جملةٍ من الموارد، وأنّه ليس الغالب في شهادة المتبرّع وجود التُّهمة، ولا يهمّنا التعرّض له بعد عدم كونها من الموانع، وإنْ كان ما أفاده متيناً جدّاً، فإنّ تطرّق التُّهمة إلى الشاهد الذي عيّنه المُدّعي، واستدعى منه الشهادة، أقربُ من المتبرّع إليها، مع أنّ عدالته مانعة عن تطرّقها.

وأمّا الخبران: - فمضافاًإليضعف سنديهما، ومعارضتهما بقوله صلى الله عليه و آله: «ألا أخبركم بخيرالشهود؟ قالوا: بلى يارسول اللّه، قال صلى الله عليه و آله: أن يشهدالرّجل قبل أن يُستَشهد»(6).ت.

ص: 423


1- منهم الفاضل الآبي في كشف الرموز: ج 2/524، والسبزواري في الكفاية: ج 2/757، والشهيد الثاني في المسالك: ج 14/215.
2- الجعفريّات: ص 145-146، المستدرك: ج 17/446 ح 21823.
3- نوادر الراوندي: ص 16، البحار: ج 6/315 ح 25.
4- عوالي اللآلي: ج 1/123 ح 53، المستدرك: ج 17/448 ح 21829.
5- المحقّق النراقي في المستند: ج 18/263.
6- صحيح مسلم: ج 5/133، مسند أحمد: ج 5/193، بتفاوت.

والجمع بينهما بحمل الأولين على الشهادة في حقوق النّاس، والثالث على الشهادة في حقوق اللّه تعالى كما في «المسالك»، تبرّعيٌ لا شاهد به - أنّهما إنّما يدلّان على الذّم والجَرح، والفتوى به غير مشهورة، بل في «المسالك»: (أنّه ليس جرحاً عندنا)(1)، ولا يدلّان على عدم القبول.

أقول: فالحقّ الاعتراف بعدم الدليل عليه، سوى الإجماع الذي ادّعوه في المقام إن ثبت، وكان تعبّديّاً غير مستندٍ إلى ما ذكر، وكلاهما محلّ تأمّل.

وعليه، فالأظهر ما عن الحِلّي(2)، والمحقّق(3)، والأردبيلي(4)، وفي «المستند»(5)من القبول، ومالَ إليه صاحب «الكفاية»(6).

ولكن مخالفة الأصحاب مشكلة، والاحتياط طريق النجاة.

نعم، لا إشكال في قبول شهادته لو أعاد الشهادة بعد طلب الحاكم، كما لا ينبغي التوقّف في قبول شهادته في حقوق اللّه تعالى ، كما هو المشهور بين الأصحاب.

أضف إلى ما ذكرناه ما ورد في «المسالك» حيث قال:

(هذه الحقوق لا مُدّعي لها، فلو لم يُشرّع فيها التبرّع لتعطّلت، وهو غيرُ جائزٍ، ولأنّه نوعٌ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واجبٌ ، وأداء الواجب7.

ص: 424


1- المسالك: ج 14/215.
2- السرائر: ج 2/133.
3- النافع: ص 280 وفيه: (التبرّع بالأداء قبل الاستنطاق يمنع القبول؛ لتطرّق التُّهمة)، والشرائع: ج 4/917، وفيه: (التبرّع بالشهادة قبل السؤال يطرق التُّهمة فيمنع القبول).
4- مجمع الفائدة: ج 12/400.
5- المستند: ج 18/264.
6- كفاية الأحكام: ج 2/757.

ولا تُقبل شهادة النساء في الهلال،

لا يُعدّ تبرّعاً)(1)، انتهى .

أقول: وممّا ذكرناه يظهر الحكم في الحقّ المشترك بين اللّه تعالى وبين الآدمي، وأنّ الوجه القبول في حقّ اللّه والتوقّف في حقّ الآدمي، فيُقطع بالسَّرقة بشهادة المتبرّع، ويتوقّف في التغريم.

شهادة النساء في الهلال والطلاق والحدود

المسألة الحادية عشر: المشهور بين الأصحاب أنّ مِنْ شرائط الشهادة الذكورة في الجملة، بمعنى أنّها تُشترط في بعض الحقوق دون بعض.

وتفصيل القول في ذلك: إنّ شهادة النساء على أقسام:

1 - لا تُقبل في جملةٍ من الموارد، لا منفردةً ، ولا منضمّةً إلى شهادة الرّجال.

2 - وفي بعض الموارد تُقبل منضمّةً إلى شهادة الرّجال، ولا تُقبل مع الانفراد.

3 - وفي بعض الموراد تُقبل مطلقاً.

وعليه، فالكلام في موارد:

المورد الأوّل: (و) ما (لا تُقبل) فيه (شهادة النساء)، والكلام فيه في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: المشهور بينهم عدم قبول شهادة النساء (في الهلال)، بل بلا خلافٍ بينهم، وعليه الإجماع في كثيرٍ من الكلمات(2). ولم يُخالف فيه أحدٌ إلّاالعُمّاني(3)،

ص: 425


1- المسالك: ج 14/215.
2- كما في كلمات الإسكافي كما حكي عنه في المختلف: ج 8/455-456، وابن زهره في الغنية: ص 438، والسيّد الطباطبائي في الرياض: ج 13/320.
3- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 8/455.

والطلاق والحدود

حيث ذهب إلى قبول شهادتهن مع الرّجال في كلّ شيء.

ويشهد به: نصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «لا تجوزُ شهادة النساء في رؤية الهلال»(1).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، قال: «لاتجوزُشهادة النساءفي الهلال، ولافي الطلاق»(2).

ومنها: صحيح العلاء، عن أحدهما عليهما السلام، قال: «لاتجوزُشهادة النساء في الهلال»(3).

ونحوها غيرها من النصوص المستفيضة.

ولا يعارضها خبر داود بن الحُصين في حديثٍ طويل، قال:

«لا تجوزُ شهادة النساء في الفِطر إلّاشهادة رجلين عدلين، ولا بأس في الصوم بشهادة النساء، ولو امرأة واحدة»(4).

لما عن الشيخ رحمه الله(5) من أنّ الوجه فيه أن يصوم الإنسان بشهادتهنّ استظهاراً واحتياطاً، دون أن يكون ذلك واجباً، وقد مرّ الكلام فيه في كتاب الصوم(6).

الفرع الثاني: لا إشكال (و) لا خلاف يُعتدّ به في أنّه لا تقبل شهادة النساء في (الطلاق)، وقد مرَّ الكلام فيه في كتاب الطلاق.6.

ص: 426


1- الكافي: ج 7/391 ح 8، وسائل الشيعة: ج 27/353 ح 33918.
2- الكافي: ج 7/391 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/353 ح 33916.
3- التهذيب: ج 6/269 ح 130، وسائل الشيعة: ج 27/356 باب 24 من كتاب الشهادات ح 33926.
4- التهذيب: ج 6/269 ح 131، وسائل الشيعة: ج 27/361 ح 33944.
5- التهذيب: ج 6/270 ذيل ح 131.
6- فقه الصادق: ج 12/276.

الفرع الثالث: (و) المشهور أنّه يُعتبر في شهود (الحدود) الذكورة، فلا تُقبل شهادة النساء فيها إلّاما استثني ممّا ستأتي الإشارة إليه.

وعن بعض متأخّري المتأخّرين(1): الاتّفاق عليه.

ويشهد به: طائفةٌ من الأخبار:

منها: خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن عليّ عليهم السلام، قال: «لا تجوزُ شهادة النساء في الحدود ولا في القِوَد»(2).

ومثله خبر إسماعيل(3).

ومنها: صحيح جميل ومحمّد بن حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلنا: أتجوزُ شهادة النساء في الحدود؟

قال عليه السلام: في القتل وحده، إنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: لا يبطل دم إمرئ مُسلم»(4).

ومنها: خبر السّكوني، عنه عليه السلام، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «شهادة النساء لا تجوزُ في طلاقٍ ولا نكاحٍ ، ولا في حدودٍ، إلّافي الديون الحديث»(5).

ونحوها غيرها.

وقصور سند الأكثر، والتضمّن لما لا يقولون به، مجبورٌ بالعمل في ما هو محلّ البحث، مع أنّ جملةً منها صحيحُ السند غير متضمّنة لما لا يقول به الأكثر.

وأمّا خبر البصري، عن الإمام الصادق عليه السلام: «تجوزُ شهادة النساء في الحدود0.

ص: 427


1- حكى الإتّفاق عن بعض متأخِّري المتأخّرين المحقّق النراقي في المستند: ج 14/279.
2- التهذيب: ج 6/265 ح 114، وسائل الشيعة: ج 27/358 ح 33937.
3- التهذيب: ج 6/265 ح 115، وسائل الشيعة: ج 27/359 ح 33938.
4- الكافي: ج 7/390 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/350 ح 33909.
5- التهذيب: ج 6/281 ح 178، وسائل الشيعة: ج 27/362-363 ح 33950.

مع الرّجال»(1)، فبالشذوذ خارجٌ عن الحُجيّة.

وقد يُلحق بالحدود التعزيرات، بل قيل: إنّه المشهور بين الأصحاب، بل ظاهر «المستند»(2) كونه مجمعاً عليه.

أقول: ولا دليل عليه سوى الأصل، والإجماع، والإلحاق بالحدود.

ولكن الأصل يخرجُ عنه بما دلّ على قبول شهادة النساء مطلقاً، كخبر عبد الكريم أخي عبد اللّه بن أبي يعفور، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «تُقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كُنّ مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالسّتر والعفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذا والتبرّج إلى الرّجال في أنديتهم»(3).

وإطلاق النصوص الدالّة عليقبول شهادة العدول، فإنّها غير مختصّة بالرِّجال.

وعليه، فالأصل الثانوي قبول شهادتهنّ .

فإنْ قيل: إنّ خبر السّكوني المتقدّم - الذي هو قويُّ سنداً - بمفهوم الحصر يدلّ على عدم قبول شهادتهنّ في غير الديون، وما لا يستطيع الرّجال النظر إليه.

قلنا: - مع الإغماض عن تضمّنه لعدم جواز الشهادة على النكاح، وقد دلّت النصوص على جوازها، كما يأتي - إنّ الاستثناء منقطعٌ لا مفهوم له، ولو كُلّف بما يجعله متّصلاً ينحصر مفهومه حينئذٍ بما دلّ الدليل على عدم قبول شهادتهنّ بالنسبة إليه، وهي الحدود والطلاق والنكاح.

وأمّا الإجماع: فمدرك المُجمعين يُحتمل أن يكون ذلك، أو الإلحاق بالحدود.1.

ص: 428


1- التهذيب: ج 6/270 ح 133، وسائل الشيعة: ج 27/356 ح 33929.
2- المستند: ج 18/281.
3- التهذيب: ج 6/242 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/398 ح 34051.

أمّا ما ذهب إليه جماعة(1) من عدم قبول شهادتهنّ في حقوق اللّه تعالى مطلقاً، فستعرف عدم تماميّته.

وأمّا الإلحاق بالحدود: فهو قياسٌ ، فالأظهر عدم الإلحاق.

وقد استثني من الحدود الرَّجم، وقيل(2): إنّه تُقبل شهادتهنّ مع الرّجال في الرَّجم، على تفصيلٍ يأتي في كتاب الحدود(3).

شهادة النساء في النكاح والرِّضاع

الفرع الرابع: اختلف الأصحاب في قبول شهادة النساء مع الرّجال في النكاح:

1 - فعن المفيد(4)، و «الخلاف»(5)، وسلّار(6)، وابن حمزة(7)، والحِلّي(8)، وظاهر «التحرير»(9): المنع.

2 - وعن القديمين(10)، و الصدوقين(11)، و التهذيبين(12)، وابن زُهرة(13)،

ص: 429


1- راجع رياض المسائل: ج 15/341.
2- قال به الشيخ في الإستبصار: ج 3/25، والعلّامة في المختلف: ج 8/485، ويأتي تفصيله في كتاب الحدود.
3- فقه الصادق: ج 39/108، (كتاب الحدود).
4- المقنعة: ص 727.
5- الخلاف: ج 6/258.
6- المراسم: ص 234.
7- الوسيلة: ص 222.
8- السرائر: ج 2/139.
9- التحرير: ج 5/267.
10- حكي عن العُمّاني والإسكافي في المختلف: ج 8/455-456.
11- الصَّدوق في المقنع: ص 402، وعن والده في المختلف: ج 8/455.
12- التهذيب: ج 6/280 ذيل ح 174، والإستبصار: ج 3/25 ح 11.
13- الغنية: ص 438.

والمحقّق(1)، والمصنّف في أكثركتبه(2)، وولده(3)، والشهيد(4)، وغيرهم من المتأخّرين(5):

القبول، وقد نُسِب(6) ذلك إلى الأكثر، وعن «الغنية»(7) الإجماع عليه.

دليل المنع: خبر السّكوني المتقدّم.

ودليل القبول: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن شهادة النساء في النكاح ؟

فقال عليه السلام: تجوزُ إذا كان معهنّ رجلٌ »(8).

ومثله أخبار: زرارة(9)، وأبي الصّباح(10)، وابن الفُضيل(11)، وأبي بصير(12)، وابن الحُصين، والحارثي(13).

وفي «المسالك»: (يمكن الجمع بينهما، بحمل أخبار المنع على ما إذا كان المُدّعي الزوج؛ فإنّه لا يدّعي مالاً، وأخبار القبول على ما إذا كان المُدّعي المرأة؛ لأنّها تتضمّن المال من المهر والنفقة وهذا متَّجهٌ )(14) انتهى .3.

ص: 430


1- الشرائع: ج 4/921.
2- الإرشاد: ج 2/159، المختلف: ج 8/461.
3- الإيضاح: ج 4/432.
4- الدروس: ج 2/137.
5- كالشهيد الثاني في المسالك: 253.
6- نسبه الشهيد الثاني في المسالك: 253.
7- الغنية: ص 438.
8- الكافي: ج 7/390 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/351 ح 33910.
9- الكافي: ج 7/391 ح 9، وسائل الشيعة: ج 27/354 ح 33919.
10- التهذيب: ج 6/267 ح 118، وسائل الشيعة: ج 27/357 ح 33933.
11- الكافي: ج 7/391 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/352-353 ح 33915.
12- الكافي: ج 7/391 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/351 ح 33912.
13- الكافي: ج 7/392 ح 11، وسائل الشيعة: ج 27/352 ح 33913، وفي الأخير: «الحارقي».
14- المسالك: ج 14/253.

وفيه: إنّه جمعٌ تبرّعي لا شاهد له.

وعليه، فالأظهر تقييد إطلاق خبر السّكوني بأخبار القبول؛ لأنّه يدلّ على عدم القبول مطلقاً مع الانفراد، أو الانضام إلى الرّجل، ونصوص القبول تدلّ على أنّ شهادتهنّ تُقبل مع الرّجال.

وإنْ أبيتَ عن ذلك، فهما متعارضان، والترجيحُ لنصوص القبول، فالمتَّجه ذلك.

الفرع الخامس: في قبول شهادة النساء في الرِّضاع المحرّم خلافٌ بين الأصحاب:

فبين مانعٍ عنه كالشيخ في بعض كتبه(1)، والحِلّي(2)، والمصنّف في «التحرير»(3) على المحكى، ونُسب إلى الأكثر(4)، وعن «المبسوط»(5) نسبته إليهم مُشعراً بالإجماع عليه.

وبين من جَعَل القبول أظهر كالمفيد(6)، والعُمّاني(7)، والإسكافي(8)، وسلّار(9)، وابن حمزة(10)، والمحقّق(11)، والمصنّف في كتبهما(12)، وكذا الشهيدان(13)، وغيرهم من4.

ص: 431


1- الخلاف: ج 6/257، المبسوط: ج 8/175.
2- السرائر: ج 2/137.
3- التحرير: ج 5/268، ولكن فيه: (والأقرب قبول شهادة النساء منفردات في الرّضاع، وإنْ كان الأكثر قد منع من قبولها).
4- السرائر: ج 2/115، والتحرير: ج 5/268، والمسالك: ج 14/259.
5- المبسوط: ج 8/175.
6- المقنعة: ص 727.
7- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 8/473.
8- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 8/473.
9- المراسم: ص 234.
10- الوسيلة: ص 222.
11- النافع: ص 280، والشرائع: ج 4/921.
12- التحرير: ج 5/268، والإرشاد: ج 2/159، والقواعد: ج 3/499.
13- الدروس: ج 2/138، والروضة: ج 3/144.

المتأخّرين(1).

واستدلّ للأوّل:

1 - بالإجماع.

2 - والروايات التي نَسب الشيخُ في «المبسوط»(2) القول بالمنع إليها.

3 - وبأصالة عدم القبول، مع عدم وضوح مخصّص لها من الأدلّة.

ولكن الإجماع موهونٌ بذهاب الأكثر إلى خلافه، حتّى مدّعيه في كتابٍ آخر(3).

والروايات المشار إليها لم تصل إلينا، ولعلّ المراد بها ما توهّم دلالته على عدم قبول شهادة النساء، وأنّه الأصل، فيُرجع إلى الوجه الثالث، وقد تقدّم ما فيه.

وعرفت أنّ الأصل في شهادتهنّ هو القبول؛ لخبر عبد الكريم بن أبي يعفور، ونصوص قبول شهادة العدول.

وعليه، فالأظهر هو القبول.

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - المرسل كالموثّق بابن بُكير، المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في امرأةٍ أرضعتْ غلاماً وجارية ؟

قال: يعلم ذلك غيرها؟ قلت: لا.2.

ص: 432


1- فخر المحقّقين في الإيضاح: ج 4/435.
2- المبسوط: ج 8/175.
3- وهو الشيخ رحمه الله، حيث ادّعى الإجماع على المنع صريحاً في الخلاف: ج 6/258، وخالفه في المبسوط: ج 8/172.

قال عليه السلام: لا تُصدَّق إنْ لم يكن غيرها»(1).

فإنّ مفهوم الشرط أنّها تُصدّق إذا علم بذلك غيرها، كان ذلك الغير ذكراً أو أُنثى .

وقد استدلّ له: - مضافاً إلى ذلك كلّه - في «الرياض»(2) وغيره(3): بأنّه أمرٌ لا يطَّلع عليه الرّجال غالباً، فمسَّت الحاجة إلى قبول شهادتهنّ فيه، كغيره من الاُمور الخفيّة على الرّجال من عيوب النساء وغيرها، للنصوص الكثيرة الدالّة عليه الآتية.

وفيه: إنّه لم يقيّد تلك النصوص بالرجال الأجانب، ومن الواضح جواز أن ينظر إليه في المقام زوجُ المرضعة وأقربائها المحارم، وعليه فالعمدة ما ذكرناه.

شهادة النساء في حقوق الآدمي غير الماليّة

الفرع السادس: صرّح جماعة(4) بعدم قبول شهادة النساء، لا منفردات ولا منضمّات، فيما كان من حقوق الآدمي غير المالي، ولا المقصود منه المال، كالرَّجعة، والعِدّة، والوكالة، والوصاية، والجناية الموجبة للقِوَد، والبلوغ، والجَرح والتعديل، والعفو عن القصاص، والإسلام.

واستدلّوا له:

1 - بالإجماع.

ص: 433


1- التهذيب: ج 7/323 ح 38، وسائل الشيعة: ج 20/401 ح 25935.
2- الرياض: ج 15/338.
3- سبقه في ذلك الشهيد في غاية المراد: ج 4/133، والشهيد الثاني في المسالك: ج 14/258.
4- منهم الشيخ في الخلاف: ج 6/252، والشهيد في الدروس: ج 2/137، والشهيد الثاني في الروضة: ج 3/141.

2 - وبخبر السّكوني المتقدّم الدّال على حَصر قبول شهادة النساء في الديون، وما لا يستطيع للرّجال النظر إليه.

ولكن الإجماع ممنوعٌ ، وعلى فرض كونه تعبّديّاً غيرُ ثابتٍ .

وخبر السّكوني قد عرفت عدم دلالته على الحصر، بل قد مرّ أنّ الأصل قبول شهادتهنّ إلّاما خرج، ولم يدلّ على هذه الكليّة دليلٌ من النصوص، وإلى ذلك نظر صاحب «الجواهر» رحمه الله حيث إنّه بعدما نقل الكبرى الكليّة عن «الدروس»، قال:

(ولم أقف في النصوص على ما يفيده، بل فيها ما ينافيه)(1).

قال المحقّق الأردبيلي بعد نقل ذلك: (لا أعرفه، ولا دليل على ثبوت القاعدة، والأصل قبول الشهادة)(2).

وعليه، فالأظهر عدم ثبوت القاعدة المشار إليها.

وقد وقع الخلاف بينهم في أمثلة جعلها بعضهم من الحقّ المالي وآخرين من غيره، وحيث أنّ الكبرى غير ثابتة، فالبحثُ في الصغريات، وإثبات أنّها داخلة تحتها أو عدم الدخول لا حاصل له، فالصَّفح عنه أولى .

***2.

ص: 434


1- الجواهر: ج 41/159.
2- مجمع الفائدة: ج 12/422.

وتُقبل مع الرّجال في الحقوق،

شهادة النساء في حقوق اللّه

(و) المورد الثاني: فيما (تُقبل) فيه شهادة النساء (مع الرِّجال) ولا تُقبل منفردات، وقد ذكر المصنّف رحمه الله لذلك مقامين:

المقام الأوّل: ما إذا كانت الشهادة (في الحقوق).

أقول: ونخبة القول فيها:

1 - إنّ الحقّ إمّا أن يكون من حقوق اللّه تعالى .

2 - أو يكون من حقوق الآدمي.

أمّا القسم الأوّل: فالمشهور بين الأصحاب إلحاق جميع حقوق اللّه تعالى - حتّى الماليّة كالزكاة والخمس والنذر والكفّارة - بالحدود، فلا تُقبل فيها شهادة النساء مطلقاً، وصرّح بعضهم(1) بعدم الخلاف فيه، وآخر(2) بالاتّفاق على انحصار قبول شهادة النساء في الحقوق الماليّة الإنسانيّة.

ولكن الظاهر من المتن هو القبول، وكذا ما عن «الدروس»(3) من التصرّيح بالقبول في الحقوق الماليّة مطلقاً، بل يمكن استظهاره من «النهاية»(4)، و «السرائر»(5)،

ص: 435


1- السيّد الطباطبائي في الرياض: ج 13/329.
2- حكاه المحقّق النراقي في المستند: ج 18/279.
3- الدروس: ج 2/137.
4- النهاية: 333.
5- السرائر: ج 2/137-139.

حيث لم يتعرّضا لإلحاق حقوق اللّه تعالى بالحدود، ولعلّه لذلك اقتصر الشهيد الثاني في «المسالك»(1) للاستدلال على الإلحاق بالأصل.

وكيف كان، فقد استدلّ للإلحاق بالأصل:

1 - بأنّ الأصل عدم قبول شهادة النساء.

2 - وبالإجماع.

3 - وبالنصوص المتقدّم جملةً منها، والآتية أُخرى المتضمّنة لقبول شهادتهنّ في أُمور خاصّة، بدعوى أنّها ظاهرة في الاختصاص.

ولكن قد عرفت أنّ الأصل المشار إليه لا أصل له، وأنّ القاعدة المستفادة من نصوص قبول شهادة العادل، وخبر عبد الكريم(2)، هي قبول شهادة النساء، إلّاما خرج بالدليل.

والإجماع قد مرّ حاله.

والأخبار الخاصّة لا مفهوم لها، كي تكون ظاهرة في الاختصاص، الموجب لعدم القبول في غير تلك الموارد، إلّاعلى القول بمفهوم اللّقب.

وعليه، فالمتَّجه هو القبول.

بل يمكن الاستدلال في الحقوق الماليّة للقبول بالنصوص الآتية في الديون؛ لأنّها أيضاً من الديون حقيقةً ، ولذا استدلّوا لوجوب إخراجها من أصل التركة بالآية الكريمة: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (3).2.

ص: 436


1- المسالك: ج 14/250.
2- التهذيب: ج 6/242 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/398 ح 34051.
3- سورة النساء: الآية 11-12.

والأموال.

بل يمكن القول بذلك في مطلق حقوق اللّه تعالى؛ نظراً إلى ما دلّ على أنّها ديون(1)، وعلى ذلك بنينا على إخراج جميع الواجبات حتّى البدنية عن أصل التركة، فراجع ما ذكرناه.

وربما يستدلّ له بما دلّ على قبول شهادة المرأة لزوجها مطلقاً المتقدّم، فلا ترديد في القبول.

أقول: ثمّ إنّه على المختار، فهل يعتبر فيه ضَمّ الرّجال أم لا؟ فيه كلامٌ سيأتي في الديون.

وأمّا حقوق الآدمي:

فما كان مالاً، أو كان المقصود منه المال، سيأتي حكمه في ذيل بيان حكم الديون.

وما كان غير مالٍ ، ولا المقصود منه المال، تقدّم الكلام فيه في الفرع الخامس من المورد الأوّل.

شهادة النساء في الديون

(و) المقام الثاني: اللّذين ذكرهما المصنّف رحمه الله هو (الأموال).

أقول: ونخبة القول فيها إنّه:

تارةً : يقع الكلام في الديون.

ص: 437


1- وسائل الشيعة: ج 4/286 ح 5178، وج 11/66 ب 25 من أبواب وجوب الحجّ .

وأُخرى : في الأعيان وسائر الحقوق الماليّة.

أمّا الأُولى : فبعدما لا خلاف بينهم، بل عليه اتّفاقهم أنّه تُقبل شهادة النساء في الديون في الجملة، والكتاب والسُّنة شاهدان به:

قال اللّه تعالى : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ ) (1).

وأمّا السُّنة: فستمرّ عليك جملة من النصوص.

وقع الخلاف بينهم في أنّه هل تُقبل شهادتهنّ منفردات(2) عن الرّجال، كما عن «الخلاف»(3)، و «المبسوط»(4)، و «النهاية»(5)، والإسكافي(6)، والقاضي(7)، وابن حمزة(8)، و «الشرائع»(9)، و «الإرشاد»(10)، و «القواعد»(11)، و «المختلف»(12)، وشهادات7.

ص: 438


1- سورة البقرة: الآية 282.
2- أي شهادة اثنتين مع يمين بغير رجل معهما.
3- الخلاف: ص 254.
4- المبسوط: ج 8/174.
5- النهاية: ص 333.
6- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 8/455.
7- المهذّب: ج 2/558.
8- الوسيلة: ص 222.
9- أنظر الشرائع: ج 4/922، وفيه: (وتقبل شهادة امرأتين مع رجل - في الديون والأموال -، وشهادة امرأتين مع اليمين، ولا تقبل فيه شهادة النساء منفردات ولو كثرن).
10- الإرشاد: ج 2/160، وفيه: (وتقبل في الديون والأموال شهادة امرأتين ويمين، ولا تقبل شهادتهن منفردات وإن كثرن).
11- أنظر القواعد: ج 3/499-500، ولكن الذي فيه: (وتقبل شهادة النساء في الأموال والديون منضمّات إلى رجل أو يمين، لا منفردات وإن كثرن).
12- المختلف: ج 8/477.

«التحرير»(1)، والشهيدين(2)، بل قيل الكليني(3)، والصَّدوق(4)، وعن «الخلاف»(5)الإجماع عليه ؟ أم يعتبر ضَمّ الرّجال، فلا تُقبل بدونه، كما عن «السرائر»(6)، و «النافع»(7)، وقضاء «التحرير»(8)، والفاضل المقداد(9)؟

أقول: ومنشأ الاختلاف اختلاف النصوص:

منها: ما يدلّ على الأوّل:

1 - كصحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أجاز شهادة النساء في الدّين، وليس معهنّ رجل»(10).

2 - ومرسله: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أجاز شهادة النساء في الدّين مع يمين الطالب، يحلف باللّه أنّ حقّه لحقّ »(11).

3 - وموثّق منصور بن حازم، قال: «حدّثني الثقة عن أبي الحسن عليه السلام: إذا شهد لصاحب الحقّ امرأتان ويمينه فهو جائز»(12).9.

ص: 439


1- التحرير: ج 5/268.
2- الشهيد في الدروس: ج 1/137، والشهيد الثاني في الروضة: ج 3/147.
3- الكافي: ج 7/386.
4- الفقيه: ج 3/55.
5- الخلاف: ج 6/254.
6- السرائر: ج 2/138.
7- النافع: ص 280.
8- التحرير: ج 5/179.
9- التنقيح الرائع: ج 4/307.
10- الكافي: ج 7/390 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/351 ح 33910.
11- التهذيب: ج 6/269 ح 128، وسائل الشيعة: ج 27/351 ح 33910، وهي مسندة في كليهما لا مرسلة.
12- الكافي: ج 7/386 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/359 ح 33939.

ونحوها غيرها، المعتضدة بإطلاق جملةٍ أُخرى من النصوص.

ومنها: ما يدلّ على اعتبار الانضمام:

1 - كصحيح إبراهيم بن محمّد الهمداني، قال: «كتبَ أحمد بن هلال إلى أبي الحسن عليه السلام: امرأة شهدت على وصيّة رجلٍ لم يشهدها غيرها، وفي الورثة من يُصدِّقها وفيهم من يَتّهمها؟

فكتب عليه السلام: لا، إلّاأن يكون رجل وامرأتان، وليس بواجبٍ أن تنفذ شهادتها»(1).

2 - وصحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قلتُ : تجوزُ شهادة النساء مع الرّجل في الدّين ؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

3 - ومرسل يونس المتقدّم: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان، فإنْ لم تكن امرأتان فرجلٌ ويمين المُدّعي، فإن لم يكن شاهدٌ فاليمين على المُدّعى عليه»(3).

حيث حصر الاستحقاق بالأربعة، وليس منها النساء منفردات، مضافاً إلى تصريحه بأنّه إنْ لم يكن رجلٌ فيمينُ المُدّعى عليه.

واستدلّ للقول الثاني: - مضافاً إلى ذلك - بأنّ اللّازم هو الاقتصار على المنصوص في الكتاب ومورد الإجماع.

أمّا صحيح إبراهيم: فهو معارضٌ بالنصوص الكثيرة الآتية، الدالّة على قبول شهادتهنّ منفردات في الوصيّة بالمال، ومع ذلك فهو مخالفٌ لفتوى الأصحاب.

وأمّا صحيح الحلبي: فلا يدلّ على عدم قبول شهادتهنّ منفردات؛ إذ لا مفهوم3.

ص: 440


1- التهذيب: ج 6/268 ح 124، وسائل الشيعة: ج 27/360 ح 33942.
2- الكافي: ج 7/390 ح 2، وسائل الشيعة: ج 27/351 ح 33910.
3- الكافي: ج 7/416 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/271 ح 33753.

للوصف واللّقب، سيّما والقيد في كلام السائل.

وأمّا المرسل: فالمذكور فيه الشاهد، وهو يُطلق على الاُنثى أيضاً، مع أنّ غايته دلالته بالإطلاق، فيقيّد بما مرّ.

وأمّا الاقتصار على المنصوص من الكتاب ومورد الإجماع: فإنّما هو عدم الدليل.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأقوى عدم اعتبار ضَمّ الرّجال.

وأمّا الثانية: فالمشهور بين الأصحاب إلحاق جميع الدعاوى الماليّة، أو ما يكون المقصود منه المال بالدين، ولذلك حكموا بالقبول في دعوى الرهن، والإجارة، والمزارعة، والمساقاة، والإقالة، والسّرقة من جهة المال والخيار وغير تلكم، بل قال بعضهم: إنّ (إلحاقهم يشمل ما لو لم يكن هناك دينٌ أيضاً، كما إذا توافقا على أصل الدّين، واختلفا في الرهن مثلاً)(1).

وعن «المختلف»(2): دعوى الإجماع على إلحاق العين بالدين.

وعلى هذا، ففي الدّعوى على العين لا إشكال في الإلحاق.

وأمّا غيرها: فمقتضى الأصل المتقدّم الذي أسَّسناه هو القبول والإلحاق.

وعليه، فما عن الأردبيلي(3)، وفي «المستند»(4) من عدم الإلحاق ضعيفٌ .

وقد عرفت أنّ الشهادة في النكاح من المواردالتي تُقبل فيها شهادتهنّمع الانضمام.

***7.

ص: 441


1- المحقّق النراقي في المستند: ج 18/297.
2- المختلف: ج 28/477.
3- مجمع الفائدة: ج 12/423.
4- المستند: ج 18/297.

وتُقبل شهادتهنّ بإنفرادهنّ في العُذرة، وعيوب النساء الباطنة.

شهادة النساء فيما يَعُسر الإطلاع عليه للرَّجل

المورد الثالث: فيما يُقبل فيه شهادة النساء منضمّات مع الرّجال ومنفردات.

أقول: (و) الكلام فيه يتحقّق في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى : (تُقبل شهادتهنّ بانفرادهنّ ) عن كلٍّ من اليمين والرّجال (في العُذرة) والبكارة، (وعيوب النساء الباطنة) كالرَّتق، والقَرَن، وغير ذلك من الاُمور الخفيّة التي لا يطّلع عليها الرّجال، بلا خلافٍ أجده فيه، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، والصِّحاح المستفيضة ونحوها من المعتبرة شاهدة بذلك.

منها: موثّق ابن بكير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «تجوزُ شهادة النساء في العُذرة، وكلّ عيبٍ لا يراه الرّجل»(2).

ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام في حديثٍ : «تجوزُ شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوزُ للرّجال النظر إليه، وتجوزُ شهادة القابلة وحدها في المنفوس»(3).

ومنها: موثّق محمّد بن مسلم: «عن النساء تجوزُ شهادتهنّ وحدهن ؟ قال: نعم في العُذرة والنفساء»(4).

ص: 442


1- منهم الحِلّي في الغنية: ص 438، والسيّد الطباطبائي في الرياض: ج 13/338.
2- التهذيب: ج 6/271 ح 137، وسائل الشيعة: ج 27/353 ح 33917.
3- الكافي: ج 7/391 ح 8، وسائل الشيعة: ج 27/353 ح 33918.
4- الكافي: ج 7/391 ح 6، وسائل الشيعة: ج 27/353 ح 33916.

ومنها: خبر داود بن سرحان - بل صحيحه - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «اُجيز شهادة النساء في الصَّبي(1)، صاح أو لم يصحّ ، وفي كلّ شيء لا ينظر إليه الرّجال تجوزُ شهادة النساء فيه»(2). إلى غير تلكم من الأخبار الكثيرة.

أقول: ثمّ إنّه صرّح غير واحدٍ(3) بأنّه حيثُ تُقبل شهادتهنّ منفردات، يعتبر كونهن أربعاً.

وفي «الجواهر»: (كما هو المشهور للأصل، بل يمكن دعوى القطع به من الكتاب والسُّنة أنّ المرأتين تقومان مقام الرّجل، وهو ظاهرُ قوله تعالى : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى ) (4)(5)، انتهى .

وقد استدلّ له:

1 - بالآية الكريمة المذكورة آنفاً.

2 - وبأنّ الأصل عدم قبول شهادتهنّ مطلقاً، خرج الأربع في محلّ البحث اتّفاقاً فتوىً ونصّاً؛ لأنّ موردهما النساء بصيغة الجمع، غير الصادق حقيقةً على ما زاد على اثنين، وكلّ من قال بلزومه عيّن الأربع.

3 - وبالمرويّ عن تفسير الإمام عن أمير المؤمنين عليه السلام في تفسير الآية المتقدّمة:

«إذا ضلّت إحداهما عن الشهادة، فنسيتها ذكّرت إحداهما الأُخرى بها، فاستقامتا في7.

ص: 443


1- في الكافي: «الغلام».
2- الكافي: ج 7/392 ح 13، وسائل الشيعة: ج 27/354 ح 33920.
3- منهم السيّد الطباطبائي في الرياض: ج 13/339 ونسبه إلى عامّة من تأخّر، والمحقّق النراقي في المستند: ج 300/18، وصاحب الجواهر فيها: ج 41/176.
4- سورة البقرة: الآية 282.
5- الجواهر: ج 41/176-177.

أداء الشهادة عند اللّه تعالى ، شهادة امرأتين بشهادة رجل؛ لنقصان عقولهنّ ودينهنّ »(1).

4 - وبما يأتي في نصوص شهادتهنّ في الوصيّة، فإنّه بعدما حكم عليه السلام بنفوذ شهادة المرأة في الربع، قال: «شهادتها في الربع من الوصيّة بحسب شهادتها»(2)، حيث تدلّ على أنّ شهادتها المعتبرة تامّة مطلقاً هي الأربع.

5 - وبما ورد في شهادة القابلة من أنّه يجوز شهادتها في الولد على قدر شهادة امرأة واحدة(3).

أقول: ولكن يمكن أن يقال:

أمّا الآية الكريمة: فهي متضمّنة لبيان حكمة الحكم باعتبار امرأتين مع الرّجل في الدّين، وليس ذلك علّة يدور الحكم مدارها، كما هو واضح.

وأمّا الأصل: فقد مرّ أنّه قبول شهادتها كالرجل.

وأمّا ما ذكر في النصوص فيردّه: أنّ الإتيان بالجمع إنّما هو في مقابلة القضايا، فلا ينافي اعتبار الوحدة مثلاً في بعضها، كما يقال مثله فيما مرّ من النصوص من قبول شهادتهنّ مع الرّجال في الديون.

وأمّا المرويّ عن تفسير الإمام: فسنده غير معتبر، مع أنّ ما فيه من التعليل محمولٌ على الحِكمة قطعاً؛ وإلّا فكم امرأة أعقل من رجل، ثمّ أيّ ربطٍ بقوّة العقل وعدمها في الشهادة.

وأمّا الأخيران: وإنْ كانا مشعرين بذلك، لكن عدم دلالتهما واضحة.1.

ص: 444


1- تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ص 678 ح 337 بتفاوت، وسائل الشيعة: ج 27/335 ح 33871.
2- الكافي: ج 7/4 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/317 ح 24681.
3- التهذيب: ج 6/270 ح 135، وسائل الشيعة: ج 27/357 ح 33931.

أضف إلى ذلك كلّه ورود رواياتٍ خاصّة بعدم الاعتبار:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام «عن شهادة القابلة في الولادة ؟

قال عليه السلام: تجوز شهادة الواحدة، وشهادة النساء في المنفوس والعُذرة»(1).

ومنها: خبرأبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام: «تجوزُشهادة امرأتين في استهلال»(2).

ونحوهما غيرهما.

وعليه، فالذي يتحصّل من مجموع النصوص، بعد رَدّ بعضها إلى بعض، أنّ شهادة النساء في غير باب القضاء بحكم شهادة الرّجال، إلّاما دلّ الدليل الخاص على عدم قبول شهادتهن فيه، وقد مرّ، فيكفي شهادة امرأةٍ واحدة، وعلى هذا تُحمل ما دلّ من النصوص على الاكتفاء بها.

وأمّا في باب القضاء: فما كان يُعتبر فيه ضَمّ الرّجل يحتسب امرأتين برجل؛ للتصريح بذلك في نصوصه، وكذلك فيما لا يعتبر الضَمّ ، ولكن كان الرّجل موجوداً وشهد كما مرّ في كتاب القضاء(3).

وأمّا لو انفردنَ بالشّهادة: فالظاهر كفاية شهادة امرأتين، واللّه العالم، وإنْ كان الأحوط رعاية الأربع، بل لا يُترك ذلك؛ لأنّ المستفاد من الكتاب، ومجموع النصوص الواردة في الأبواب المختلفة، أنّه في باب القضاء يُحتسب شهادة امرأتين بشهادة رجلٍ واحد.

أقول: اختلف الأصحاب في قبول شهادة الرّجال في هذا المورد:ا.

ص: 445


1- الفقيه: ج 3/52 ح 3310، وسائل الشيعة: ج 27/364 ح 33954.
2- التهذيب: ج 6/284 ح 187، وسائل الشيعة: ج 27/362 ح 33949.
3- راجع صفحة 425 وما بعدها.

وشهادة القابلة في رُبع ميراث المُستَهلّ ،

فالمشهور بينهم ذلك.

وعن القاضي(1): عدم القبول، معلّلاً بأنّه لا يجوزُ للرّجال النظر إلى ما ذكر.

ويرده ما في «الرياض»: (من جواز إطّلاعهم عليه اتّفاقاً، أو عمداً مع التوبة قبل الإقامة، أو مع الحليّة، كما يتصوّر ولو في بعض الفروض النادرة. مع أنّ ذلك لو صَحّ علّة لرَدّ الشهادة، لاستلزم عدم قبول شهادة النسوة أيضاً في نحو البكارة، ممّا يستلزمُ الشهادة عليه النظر إلى العورة المُحرّم حتّى على النسوة)(2).

شهادة القابلة

(و) المسألة الثانية: تُقبل (شهادة القابلة في رُبع ميراث المُستهلّ ) من الاستهلال، وهو ولادة الولد حيّاً بلا خلافٍ فيه.

أقول: والأصل فيه صحيح عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن رجلٍ مات وترك امرأته وهي حامل، فوضعت بعد موته غلاماً، ثمّ ماتَ الغلام بعد ما وقع إلى الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها أنّه استهلّ وصاح حين وَقَع إلى الأرض ثُمّ مات ؟

قال عليه السلام: على الإمام أن يُجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام»(3).

ص: 446


1- المهذّب: ج 2/559.
2- الرياض: ج 13/339.
3- الكافي: ج 7/392 ح 12، وسائل الشيعة: ج 27/352 ح 33914.

وامرأةً واحدةً في رُبع الوصيّة.

قال الصَّدوق رحمه الله بعد حكاية هذا الخبر: (وفي روايةٍ أُخرى : «إنْ كانت امرأتين تجوزُ شهادتهما في نصف الميراث، وإنْ كُنّ ثلاث نسوة جازت شهادتهنّ في ثلاثة أرباع الميراث، وإنْ كُنّ أربعاً جازت شهادتهنّ في الميراث كلّه»(1).

وصحيح ابن سنان، عنه عليه السلام، قال: «تجوزُ شهادة القابلة في المولود إذا استهلّ وصاح في الميراث، ويورثُ الرّبع من الميراث بقدر شهادة امرأة واحدة.

قلت: فإنْكانت امرأتين ؟ قال عليه السلام: تجوز شهادتها في النصف من الميراث»(2).

ونحوهما موثّق سماعة(3).

(و) المسألة الثالثة: تُقبل شهادة (امرأةٍ واحدةٍ في رُبع الوصيّة)، وشهادة امرأتين في نصفها، وشهادة ثلاثة في ثلاثة أرباعها، وإذا كملن أربعاً يثبتُ تمام الوصيّة، بلا خلافٍ في شيء من ذلك.

وعن الحِلّي(4)، وغيره(5) الإجماع عليه.

ويشهد به:

1 - صحيح محمّد بن قيس، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«قضى أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّةٍ لم يشهدها إلّاامرأة، فقضى أن تُجاز شهادة6.

ص: 447


1- الفقيه: ج 3/54 ح 3317.
2- الكافي: ج 7/156 ح 4، وسائل الشيعة: ج 27/364 ح 33953.
3- التهذيب: ج 6/270 ح 135، وسائل الشيعة: ج 27/357 ح 33931.
4- السرائر: ج 2/138.
5- كالشيخ في الخلاف: ج 6/259، والفاضل الهندي في كشف اللّثام: ج 10/336.

المرأة في رُبع الوصيّة»(1).

2 - وصحيح ربعي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في شهادة امرأةٍ حضرتْ رجلاً يوصي ؟

فقال عليه السلام: تجوزُ في ربع ما أوصى بحساب شهادتها»(2).

ونحوهما غيرهما.

وهي وإنْ كانت في الربع، إلّاأنّه يتعدّى إلى الربعين فما زاد بالإجماع المركّب، وبقوله عليه السلام في صحيح ربعي: «بحساب شهادتها».

ولا يُعارضها صحيح إبراهيم بن محمّد الهمداني المتقدّم: «في امرأةٍ شهدت بالوصيّة» الدّال على عدم قبولها، ونحوه غيره؛ لشذوذها وموافقتها للعامّة، فلاتصلحُ لمعارضة ما تقدّم.

أقول: وتمام الكلام في هذه المسألة يتحقّق في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: هل يجوز للمرأة أن تضعف الموصى به في الشهادة، حتّى يثبت تمام الوصيّة، فتشهد فيما أوصى به بواحدٍ بأربعة، كما عن «كشف اللّثام»(3)، أم ليس لها ذلك ؟ وجهان:

يشهد للثاني: - مضافاً إلى أنّه كذبٌ وتزويرٌ وتدليسٌ - مرسل يونس، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يكون له على الرّجل الحقّ ، فيجحد حقّه، ويحلف أنّه ليس له عليه شيء، وليس لصاحب الحقّ على حقّه بيّنة، أيجوزُ له إحياء حقّه بشهادات الزور إذا خشى ذهابه ؟8.

ص: 448


1- التهذيب: ج 9/180 ح 9، وسائل الشيعة: ج 27/355 ح 33923.
2- الكافي: ج 7/4 ح 4 / التهذيب: ج 6/268 ح 123، وسائل الشيعة: ج 27/355 ح 33924.
3- كشف اللّثام: ج 10/338.

فقال عليه السلام: لا يجوزُ ذلك لعلّة التدليس»(1).

واستدلّ كاشف اللّثام للأوّل: بمرسل عثمان بن عيسى ، عنه عليه السلام، قال: «قلت له:

يكون للرجل من اخواني عندي الشهادة، ليس كلّها تجيزها القُضاة عندنا؟

قال عليه السلام: إذا علمت أنّها حقٌّ فصحّحها بكلّ وجهٍ حتّى يصحّ له حقّه»(2).

أقول: وبمضمونه روايات اُخر، كخبر داود بن الحصين، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يكون عنده الشهادة، وهؤلاء القُضاة لا يقبلون الشهادات إلّاعلى تصحيح ما يرون فيه من مذهبهم، وإنّي إذا أقمتُ الشهادة احتجتُ إلى أن اُغيّرها بخلاف ما أشهدتُ عليه، وازيد في الألفاظ ما لم أشهد عليه، وإلّا لم يصحّ في قضائهم لصاحب الحقّ ما أشهدتُ عليه، أفيحلّ لي ذلك ؟

فقال عليه السلام: أي واللّه، ولك أفضل الأجر والثواب، فصحّحها بكلّ ما قَدَرت عليه ممّا يرون التصحيح به في قضائهم»(3).

ونحوه غيره.

ولكن ليس في شيءٍ منها ما يجوّز الكَذِب والتدليس، بل في خبرٍ آخر لداود:

«بعد أن لاتكون تشهد إلّابحقّه، ولا تزيد في نفس الحقّ ما ليس بحقّ »(4).

وعليه، فإنْ أمكن التورية وَوَرَّت فلا إشكال، وإلّا فلا يجوز.

الفرع الثاني: هل يثبتُ النصف بشهادة الرّجل؛ لمساواته لإمرأتين في المعنى كما عن العلّامة الطباطبائي(5)؟4.

ص: 449


1- الكافي: ج 7/388 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/337 ح 33875.
2- الكافي: ج 7/387 ح 3، وسائل الشيعة: ج 27/317 ح 33826.
3- السرائر: ج 3/576-577، وسائل الشيعة: ج 27/316-317 ح 33825.
4- التهذيب: ج 6/285 ح 192، وسائل الشيعة: ج 27/316 ح 33824.
5- حكاه عن مصابيحه صاحب الجواهر في: ج 41/174.

أو الرّبع؛ للفحوى، كما عن «القواعد»(1)، و «الروضة»(2)، و «المسالك»(3)؟

أم تسقط شهادته رأساً، كماعن «الإيضاح»(4)، وفي «المستند»(5)، و «الجواهر»(6)؟

وجوهٌ : أقواها الأخير في الشهادة عند الحاكم؛ لعدم إحراز المناط، والنصوص لا تشمله، والأولويّة ظنّية.

الفرع الثالث: لا يختصّ قبول شهادة المرأة في هذه المسألة وسابقتها بصورة تعذّر الرّجال؛ لإطلاق بعض نصوصهما فلاحظها، وكون الغالب في مورد المسألة السابقة عدم وجود الرّجال، لا يصلحُ موجباً للانصراف المقيِّد للإطلاق، كما أنّ كون مورد أكثر نصوص المسألة الأخيرة صورة التعذّر لا يوجبُ التقييد، وعليه فما عن «نهاية» الشيخ(7)، و «السرائر»(8)، والقاضي(9)، وابن حمزة(10)، من اشتراط ذلك، ضعيفٌ . واللّه العالم.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.2.

ص: 450


1- القواعد: ج 3/500.
2- الروضة: ج 3/146.
3- المسالك: ج 14/260.
4- الإيضاح: ج 4/435.
5- المستند: ج 18/307.
6- الجواهر: ج 41/174.
7- النهاية: ص 333.
8- السرائر: ج 2/138.
9- المهذّب: ج 2/559.
10- الوسيلة: ص 222.

فهرس الموضوعات

الفصل الأوّل / في صفات القاضي 7

(كتابُ القَضاء والشهادات والحدود) 7

القضاء واجبٌ كفائي 11

البحث عن الشروط المعتبرة في القاضي 16

اعتبار الإيمان في القاضي 18

اعتبار العدالة في القاضي 19

اعتبار العلم بأحكام القضاء في القاضي 20

اعتبار الذكوريّة في القاضي 23

يعتبر في القاضي الاجتهاد 26

حكومة المتجزّئ 32

عدم جواز تفويض القضاء إلى المقلّد 36

قاضي التحكيم 39

حكم ما لو تعدّد المجتهد 41

حكم أخذ الأجرة على القضاء 47

حكم ارتزاق القاضي من بيت المال 54

حكم أخذ القاضي الهديّة 57

حكم المعاملة المحاباتيّة مع القاضي 60

حكمُ ما يُؤخذ بحكم قاضي الجور 62

ما يثبُت به اجتهاد القاضي 67

عدم جواز نقض حُكم الحاكم 70

ص: 451

بيان ما به يثبتُ حكُم الحاكم 73

حُكم الحاكم على من لا تقبل شهادته عليه 78

لو تبيّن خطأ الحاكم في حكمه 84

ادّعاء المحكوم عليه عدم أهليّة الحاكم 88

آداب القاضي 92

قضاء القاضي بعلمه 96

المُدّعي مخير بين إقامة البيِّنة وإحلاف المنكر 104

أحكام الجَرح والتعديل 110

ما به يثبت العدالة 113

الإطلاق في الجرح والتعديل 117

تعارض الجرح والتعديل 120

التماس الغريم إحضار الخصم 125

الفصل الثاني / في كيفيّة الحُكم 129

فيما يتعلّق بالمُدّعى عليه وجوابه 136

الفرق بين الإقرار والبيّنة في الإلزام قبل الحكم 137

وجوب الحكم بعد الإقرار 140

عقوبة الممتنع عن أداء الدّين 142

حكم ما إذا كان الغريم معسراً 149

انظار الحاكم من ادّعى الإعسار 154

البيّنة على المُدّعي واليمينُ على من أنكر 162

الحكمُ بالبيّنة 166

الحكمُ باليمين 168

نكول المُنكر عن اليمين 173

ص: 452

رَدّ اليمين 181

لا يجوز المقاصّة بعد اليمين 187

ما به تثبتُ الدَّعوى على الميّت 195

الحكم بالشاهد الواحد واليمين 207

القضاء بالشاهد الواحد مع اليمين في غير الأموال 209

حكم ما لو حلف أحد الشركاء المدّعين 212

حكم ما لو ادّعى الوقفيّة 218

سكوت المُدَّعى عليه عن الجواب 224

جواب المُدّعى عليه بقوله لا أدري 230

جواب المُدّعى عليه بالإبراء 235

جوابُ المُدَّعى عليه بأنّ العين ليست له 236

في بيان الحُكم على الغائب 240

الفصل الثالث / في الاستحلاف 248

لا يمين في حَدّ 249

الفصل الرابع / تعريف المُدّعي 255

شرائط سماع الدَّعوى في اعتبار كون المُدّعي مكلّفاً 257

اعتبار كون الإدّعاء لنفسه أو من له الولاية عنه 259

عدم اعتبار الجزم في الدَّعوى 262

اعتبار المخاصمة، وكون المُدَّعى به معلوماً 269

تنبيهات باب المخاصمة 273

سماع الدَّعوى بلا معارض 274

مَنْ مَلِك شيئاً مَلِك الإقرار به 280

قبول دعوى ما لا يُعلم إلّامن قِبل المُدّعي 281

ص: 453

كيفيّة التوصّل إلى الحقّ 284

المقاصّة ودليلها 287

بيان مورد المقاصّة وما يعتبر فيها 291

جواز المُقاصّة من الوديعة 296

المُقاصّة بغير الجنس 299

التقاصّ من مستثنيات الدّين 304

البحث عن جملةٍ من أحكام اليد 307

حكم تنازع اثنين ما في يدهما أو أحدهما 308

لو كانت العين بيد ثالث 312

لو لم تكن العين بيد أحد 317

تنازع الزوجين في متاع البيت 320

حكم تعارض البيّنتين إذا كانت العين في يد أحدهما 327

الأخبار الواردة في تعارض البيّنات 335

حكم تعارض البيّنتين فيما لو كانت العين في أيديهما 341

تعارض البيّنتين في صورة التداعي 346

تنبيهات باب التعارض 353

حكمُ تعارض البيّنتين فيما لا يمكن التنصيف 354

تعارض البيّنتين المختلفتين في التاريخ 356

معارضة البيّنة مع شاهدٍ ويمين 358

كتاب الشّهادات 362

الفصل الخامس / في اشتراط بلوغ الشاهد 364

من شرائط قبول الشهادة كون الشاهد عاقلاً 371

من شرائط قبول الشهادة الايمان 373

ص: 454

من شرائط قبول الشهادة عدالة الشاهد 376

يعتبر في الشاهد انتفاء التُّهمة 382

من شروط الشاهد طهارة المولد 385

شرائط قبول شهادة الصَّبي في القتل 390

تقبل شهادة الذّمي في الوصيّة 392

شهادة الفاسق بعد التوبة 398

شهادة الشريك لشريكه 402

شهادة الوصيّ والوكيل 406

حكم شهادة العدوّ 409

شهادة الولد على الوالد 412

الصِّداقة والزوجيّة لا تمنعان من قبول الشهادة 416

شهادة الأجير والسّائل بكفّه 418

شهادة المُتبرّع 422

شهادة النساء في الهلال والطلاق والحدود 425

شهادة النساء في النكاح والرِّضاع 429

شهادة النساء في حقوق الآدمي غير الماليّة 433

شهادة النساء في حقوق اللّه 435

شهادة النساء في الديون 437

شهادة النساء فيما يَعُسر الإطلاع عليه للرَّجل 442

شهادة القابلة 446

فهرس الموضوعات 451

ص: 455

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.