فقه الصادق المجلد 30

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه على ما أولانا من التفقّه في الدِّين، والهداية إلى الحقّ ، والصراط المستقيم، والصّلاة والسّلام على أشرف النفوس القدسيّة، وأزكى الذّوات المطهرة الملكيّة، محمّد المصطفى وعترته المرضيّة، هُداة الخلق وأعلام الحقّ .

وبعدُ: فهذا هو الجزء الثلاثون كتابنا (فقه الصادق)، وقد وفّقنا إلى طبعه، وأرجو من اللّه تعالى التوفيق لنشر بقيّة المجلّدات، إنّه وليّ التوفيق.

ص: 5

ص: 6

الفصل الرابع: في الضمان

(الفصل الرابع: في الضمان)

اشارة

وهو التعهّد المالي الذي هو المراد منه في جميع موارد استعماله بل سائر موارد استعمال، مشتقّاته، وإليه يرجع ما قيل إنّه عبارة عن إدخال المضمون في عهدة الضامن، وله قسمان:

أحدهما: ضمان اليد والتلف والإتلاف.

ثانيهما: الضمان الإنشائي.

ومحلّ الكلام هو الثاني، أمّا الأوّل فقد مرَّ البحث فيه في كتاب الغصب(1).

وأمّا الضمان الإنشائي: فإنّه لا ريب في مشروعيّته في الجملة نصّاً وفتوى كما ستعرف، وحيث أنّه من المعاملات وبناء العقلاء والشارع على عدم الاعتناء بالاعتبارات النفسانيّة ما لم تُبرز بمبرزٍ خارجي من لفظٍ أو فعل، فهو يتوقّف كسائر المعاملات على الإيجاب والقبول، أو الإيجاب بالخصوص، والكلام فيما يعتبر فيهما، هو الكلام فيما يعتبر في سائر العقود والإيقاعات التي لم يرد نصٌّ باعتبار شيء خاص فيما تُنشأ به، وقد أشبعنا الكلام فيه في كتاب البيع(2).

أقول: إنّما الكلام في المقام في الأحكام المختصّة بالضمان الإنشائي، وتنقيح القول فيه يتحقّق بالبحث في موضعين:

ص: 7


1- فقه الصادق: ج 29/141.
2- فقه الصادق: ج 22/236.

وإنّما يصحّ إذا صدر عن أهله.

الموضع الأوّل: في الضامن:

وتمام الكلام فيه يتمّ في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: (وإنّما يصحّ ) الضمان (إذا صدر عن أهله) أي البالغ العاقل المختار، فلا يصحّ ضمان الصبي والمجنون والمكره عليه، لما مرَّ في كتاب البيع وغيره من كتاب المعاملات(1)، نعم هناك بحث في أنّه:

هل يعتبر كونه عالماً بالمضمون له والمضمون عنه، كما عن الشيخ رحمه الله في «المبسوط»(2)، والمقداد في «التنقيح»(3)؟

أم لا يصحّ مع الجهل، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل عن «التذكرة»: (لو ضمن الضامن عمّن لا يعرفه، صَحّ ضمانه عند علمائنا»(4).

أم يعتبر معرفة المضمون عنه دون معرفة المضمون له كما عن المصنّف رحمه الله في «المختلف»(5)؟ وجوه.

والأظهر هو القول الثاني، للعمومات السّالمة عن معارضة ما يقتضي ذلك.

واستدلّ للأوّل في «المبسوط»: بأنّه يُشترط معرفة المضمون له ليعرف هل هو سهل المعاملة أم لا، إذ مع انتفاء ذلك يتطرّق الغَرَر، ومعرفة المضمون عنه لينظر هلن.

ص: 8


1- فقه الصادق: ج 23/50 و 58.
2- المبسوط: ج 2/323.
3- التنقيح الرائع: ج 2/186.
4- تذكرة الفقهاء: ج 2/88، الطبع القديم.
5- مختلف الشيعة: ج 5/455، الفصل السادس: في الضمان.

يستحقّ بذلك عليه أم لا.

ويرد على الأوّل: أنّه لا يعتبر العلم بأنّه سهل المعاملة أم لا قطعاً، للإجماع على صحّة الضمان مع معرفة المضمون له، وإنْ لم يعلم كونه كذلك، كما لا يعتبر ذلك في شيء من المعاملات، فمثل هذا الغَرر لو سُمّي غرراً لا يكون مانعاً قطعاً.

ويرد على الثاني: أنّ الضمان لا يتوقّف على استحقاق المضمون له ذلك.

واستدلّ للثالث في محكي «المختلف»(1):

1 - بأنّ المضمون عنه لابدّ وأن يتميّز عند الضامن، ويتخصّص عن غيره ليقع الضمان عنه، وذلك يستدعى العلم به.

2 - وبالمنقول من ضمان أمير المؤمنين عليه السلام عن ميّتٍ امتنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الصَّلاة عليه(2)، والمنقول من ضمان أبي قتادة الدينارين عن آخر(3).

أقول: ولكن الأوّل مصادرة محضة، لأنّ هذا عين المُدّعى، وأمّا الخبران وإن ذكرهما الشيخ رحمه الله في محكي «الخلاف»، إلّاأنّ الظاهر أنّهما عامّيان(4)، وعلى فرض صحّة سندهما، فهما متضمّنان لقضيّتين في واقعتين، ولعلّهما كانا لا يعرفان المضمون عنه أيضاً، ولذا استدلّ بهما الشيخ رحمه الله للقول الأوّل، وإنْ كان الصحيح عدم دلالتهما على شيء من الأقوال.7.

ص: 9


1- مختلف الشيعة: ج 5/455، الفصل السادس: في الضمان.
2- الخلاف: ج 3/314، مسألة 3 من كتاب الضمان، وسائل الشيعة: ج 18/424 ح 23968.
3- الخلاف: ج 3/315 مسألة 3 من كتاب الضمان، وسائل الشيعة: ج 18/424 ح 23969.
4- ورد الأوّل في سنن الدارقطني: ج 3/46 ح 194، وسنن البيهقي: ج 6/73 ح 11181. والثاني في سنن الدارقطني: ج 3/79 ح 293، وسنن البيهقي: ج 6/75 ح 11187.

وعليه، فالأظهر عدم اعتبار العلم بالمضمون عنه ولا المضمون له.

نعم، يعتبر أنْ يكون كلّ منهما معيّناً خارجيّاً، فلا يصحّ الضمان عن المردّد المبهم، ولا له لما مرّ مراراً من أنّ المردّد من حيث هو مردّدٌ لا حقيقة له ولا وجود.

***

ص: 10

ولابدَّ من رضا الضامن والمضمون له.

اعتبار رضا المضمون له

المسألة الثانية: (ولابدّ من رضا الضامن) اتّفاقاً، (والمضمون له) كما هو المشهور بين الأصحاب:

أمّا اعتبار رضا الضامن: فهو من الواضحات، فإنّ اشتغال ذمّته بدينٍ بدون رضاه منافٍ لقاعدة السلطنة وغيرهما ممّا هو ثابتٌ في الشرع.

وأمّا رضا المضمون له: فيمكن أن يستدلّ لاعتباره بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع المحكيّ عن «التحرير»(1)، وفي «الجواهر»: (ادّعاء كونه من قطعيّات الفقه وضرورياته)(2).

الوجه الثاني: أنّ الضمان من العقود لا الإيقاعات، لأنّه مركّبٌ من نقل الضامن ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة نفسه، وقبول المضمون له تبديل ما يملكه من ما في ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، فكما أنّ نقل ملكه الخارجي متوقّفٌ على قبوله، كذلك نقل ما في الذمّة.

وعليه، فما عن «الإيضاح»(3)، والمحقّق الأردبيلي(4) من عدم اعتبار القبول

ص: 11


1- تحرير الأحكام: ج 2/557، الطبع الجديد، قال رحمه الله: (أمّا المضمون له فإنّه يشترط رضاه، فلو ضمن من غيررضا المضمون له لم يصحّ ).
2- جواهر الكلام: ج 26/126.
3- إيضاح الفوائد: ج 2/84.
4- مجمع الفائدة: ج 9/288.

العقدي، لأنّه التزامٌ وإعانة للمضمون عنه وتوثيقٌ للمضمون له، واضح الضعف، وعلى هذا فيعتبر رضاه باعتبار أنّه طرف المعاملة.

الوجه الثالث: لو سُلّم كونه من الإيقاعات دون العقود، لكن نفس انتقال ما يملكه المضمون له من ذمّةٍ إلى ذمّة اُخرى منافٍ لقاعدة السلطنة، ولذا أفاد العلمان اللّذان قالا بأنّه ليس من العقود باعتبار رضاه.

الوجه الرابع: النصوص الخاصّة، كصحيح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجل يموت وعليه دَين، فيضمنه ضامنٌ للغرماء؟

فقال عليه السلام: إذا رضى به الغرماء فقد برئت ذمّة الميّت»(1).

ونحوه غيره.

أقول: نُقل عن الشيخ رحمه الله(2) قولٌ بعدم اعتبار رضاه، محتجّاً بأنّ عليّاً عليه السلام وأبا قتادة ضمنا الدَّين عن الميّت، ولم يسأل النبيّ صلى الله عليه و آله عن رضا المضمون له، وربما يستدلّ له:

1 - بموثّق إسحاق، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجل يكون عليه دين فحضره الموت، فقال وليّه عليَّ دينك ؟

قال عليه السلام: يبرئه ذلك وإنْ لم يوفه وليّه بعده»(3).

2 - وبموثّق ابن الجهم، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ مات وله عليَّ دَينٌ وخلّف ولداً رجالاً ونساءً وصبياناً، فجاء رجلٌ منهم فقال: أنتَ في حِلٍّ ممّا لأبي عليك من حصّتي، وأنتَ في حِلٍّ ممّا لإخوتي وأخواتي، وأنا ضامنٌ لرضاهم عنك ؟7.

ص: 12


1- الكافي: ج 5/99 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/422 ح 23964.
2- الخلاف: ج 3/313، مسألة 1 من كتاب الضمان.
3- التهذيب: ج 6/188 ح 22، وسائل الشيعة: ج 18/346 ح 23817.

قال عليه السلام: يكون في سعةٍ من ذلك وحِلّ .

وقلت: وإنْ لم يعطهم ؟ قال: ذلك في عنقه.

قلت: فإنْ رجع الورثة عليَّ فقالوا أعطِنا حقّنا؟

فقال: لهم ذلك في الحكم الظاهر، فأمّا بينك وبين اللّه تعالى فأنتَ في حِلٍّ منها إذا كان الذي مَلك يضمن لك عنهم رضاهم، الحديث»(1).

3 - وبصحيح الخثعمي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

«قلتُ له: عن الرّجل يكون عنده المال وديعةً يأخذ منه بغير إذن ؟

قال عليه السلام: لا يأخذ إلّاأنْ يكون له وفاء.

قلت: أرأيتَ إنْ وجد من يضمنه، ولم يكن له وفاء، وأشهد على نفسه الذي يضمنه، يأخذ منه ؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

ولكن يرد على الأوّل: - مضافاً إلى ما مرّ من ضعف سند الخبرين المتضمّنين لتينك القضيّتين -: أنّهما يدلّان على وقوع الضمان خارجاً، الذي عرفت أنّه مركّبٌ من الإيجاب والقبول، فلا محالة كان المضمون له في كلّ من ذينك الموردين حاضراً وراضياً بذلك.

أضف إلى ذلك أنّ كلّاً من الخبرين متضمّنٌ لقضيّة في واقعة، لا يظهر لنا حالها، مع الإغماض عمّا ذكرناه، وعليه فلا يصحّ الاستدلال بإطلاقهما.

وأمّا موثّق إسحاق: فهو مطلقٌ يقيّد إطلاقه بما مرّ.

وأمّا موثّق ابن الجهم: فليس ما تضمّنه من الضمان المصطلح، لأنّه متضمّن3.

ص: 13


1- الكافي: ج 7/25 ح 7، وسائل الشيعة: ج 18/425 ح 23970.
2- التهذيب: ج 7/180 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/86 ح 24213.

ويبرأ المضمون عنه وإنْ أنكره.

لضمانه رضاهم عنه، وأنّ ذلك موجبٌ لحصول البراءة، وحيث أنّه مخالفٌ للإجماع والضرورة، فيتعيّن تأويله، وحينئذٍ يدور الأمر بين أن يُراد به الضمان المصطلح بدون رضا المضمون له، أو إرادة ذلك مع رضاه، ولكن لا بيّنة له على ذلك، وليس الأوّل أولى من الثاني.

وأمّا صحيح الخثعمي: فهو يدلّ على جواز الأخذ من الوديعة إذا لم يكن له مال، وقد تعهّد له شخصٌ بوفاء ذلك عنه، ومن الواضح خروجه عن محلّ الكلام، وكونه محمولاً على إذن المودع.

فتحصّل: أنّ الأظهر اعتبار رضاه، نعم لا يعتبر رضا المضمون عنه كما هو المعروف - بل في «الجواهر» دعوى قيام (الإجماع بقسميه عليه)(1) - وذلك للإجماع، ولما دلّ على صحّة الضمان عن الميّت(2)، ولا يتصوّر رضاه، ولما دلّ على عدم اعتبار رضا المديون في أداء دينه، فإنّه يدلّ بالفحوى على عدم اعتباره هنا، وللأصل بعد عدم الدليل على اعتبار رضاه، ولا ينافي ذلك مع قاعدة السلطنة كما لا يخفى .

(و) يترتّب على ذلك أنّه (يبرأ المضمون عنه وإنْ أنكره)، إذ لو لم يعتبر رضاه لم يكن لإنكاره أثر.

وعليه، فما عن الشيخ(3) وجماعة(4) من بطلانه بإنكاره ضعيف.4.

ص: 14


1- جواهر الكلام: ج 26/126.
2- الكافي: ج 5/99 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/422 ح 23964.
3- النهاية: ص 314، باب الكفالات والضمانات والحوالات.
4- كالشيخ المفيد في المقنعة: ص 814، والقاضي ابن البرّاج كما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/458، وكما هو ظاهر ابن إدريس في السرائر: ج 2/74.

ولكن مع ذلك كلّه، الالتزام بصحّة الضمان عنه، وإنْ لم يرض، فيما إذا استلزم الضمان أو الوفاء عنه ضرراً عليه أو حَرَجاً - من حيث كون تبرّع هذا الشخص لوفاء دينه منافياً لشأنه، كما إذا تبرّع وضيعٌ دين شريفٍ غنيّ قادرٍ على وفاء دينه فعلاً - مشكلٌ ، بل القول بعدم الصحّة قويّ لقاعدتي نفي الضرر والحَرج(1).

وعليه، فالأظهر هو التفصيل.

التعليق في الضمان

أقول: المشهور بين الأصحاب اعتبار التنجيز في الضمان، فلو علّقه على شرطٍ كما لو قال الضامن: (أنا ضامنٌ لما عليه إنْ أذن لي أبي)، أو (ضامنٌ إنْ لم يفِ المديون إلى زمان كذا) أو (إنْ لم يفِ أصلاً) بَطَل.

وقد استدلّوا على ذلك بما استدلّوا به على اعتبار التنجيز في العقود والإيقاعات مطلقاً، وذكرنا تلك الوجوه في كتاب البيع والإجارة(2)، والجواب عنها، ويظهر ممّا ذكرناه أنّه لا دليل عليه سوى الإجماع وإنْ به يقيّد العمومات.

وإنّما الغرض من التعرّض لذلك في المقام أنّه ربما يقال إنّه لا يجوز تعليق الضمان، ولكن يجوز تعليق الوفاء على شرطٍ مع كون الضمان مطلقاً.

وأورد عليه صاحب «العروة»: بأنّ (تعليق الوفاء عين تعليق الضمان، ولايُعقل التفكيك).

ثمّ قال: (نعم في ما لو قال: أنا ضامنٌ إنْ لم يفِ المديون إلى زمان كذا، يمكن أنْ

ص: 15


1- وسائل الشيعة: ج 25/419-420 باب 7 من أبواب نفي الحَرج.
2- فقه الصادق: ج 22/236، (تعريف البيع وبيان حقيقته).

يقال بإمكان تحقّق الضمان منجزاً مع كون الوفاء معلّقاً على عدم وفاء المضمون له، لأنّه يصدق أنّه ضَمن الدَّين على نحو الضمان في الأعيان المضمونة، إذ حقيقته قضيّة تعليقيّة»(1).

أورد على ما أفاده أخيراً جمع من المحشّين، بأنّه: (بعد القول بعدم تعقل التفكيك بين التعليقين، كيف يصير ممكناً أو واقعاً في هذا المثال، وتصحيح الضمان فيه لا يتمّ على أصلنا، بل على قول العامّة من أنّه ضَمُّ ذمّةٍ إلى ذمّة)(2).

أقول: ولكن الظاهر أنّ نظر السيّد رحمه الله إلى ما أفاده بعض الأساطين بقوله:

(إنّ الضمان في مورد تعليق الوفاء على عدم وفاء المديون، ليس بمعنى النقل إلى الذمّة، ليرجع تعليق الوفاء عليه إلى تعليق الضمان، بل هو بمعنى تعهّد ما في ذمّة الغير على حذو تعهّد العين الخارجيّة، وعليه فالضمان فعليّ ، وأثره الانتقال إلى الذمّة على تقدير عدم وفاء المديون، كما أنّ أثره في ضمان العين الخارجيّة ذلك على تقدير تلفها، وعلى هذا فلا بأس بما أفاده، ولا يبعد أنْ يكون الضمان بالمعنى المزبور من المرتكزات العرفيّة)(3).

***ه.

ص: 16


1- العروة الوثقى: ج 5/399-401 الطبع الجديد.
2- العروة الوثقى: ج 5/400، الطبع الجديد. تعليقة السيّد البروجردي قدس سره.
3- العروة الوثقى: ج 5/400، الطبع الجديد. تعليقة السيّد الخوئي قدس سره.

لا يعتبر العلم بمقدار الدين

المسألة الثالثة: قد ذكر جماعةٌ من جملة شرائط صحّة الضمان شرطين آخرين، هما:

الشرط الأوّل: العلم بمقدار الدِّين، ومالَ في «العروة»(1) إلى التفصيل بين الضمان التبرّعي فلا يعتبر، والإذني فيعتبر، واستدلّ للأوّل بما دلّ على نفي الغَرر(2) والضرر(3).

ولكن يرد على الأوّل: أنّه لا غَرر ولا خَطر، أمّا في الضمان التبرّعي فواضحٌ ، وأمّا في الإذني فلأنّه لا يرجع إلى المضمون له قبل الأداء، وبعد الأداء يكون ما يرجع فيه معلوماً، فلا يلزم الغَرر في مورد.

وعلى الثاني: أنّه ضررٌ يقدّم عليه، ومثل ذلك لا يكون منفيّاً.

وعليه، فالأظهر عدم اعتبار العلم به للعمومات العامّة.

وعن «المختلف»(4) الاستدلال للصحّة - مضافاً إلى الأصل، ومراده منه العمومات -:

1 - بعموم قوله تعالى : (وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ ) (5) مشيراً إلى حمل بعير، والأصل عدم تعيّنه.

ص: 17


1- العروة الوثقى: ج 5/405، الطبع الجديد.
2- عيون أخبار الرّضا عليه السلام: ج 2/45 ح 168، وسائل الشيعة: ج 17/448 ح 22965.
3- وسائل الشيعة: ج 18/31-32 باب 17 من أبواب الخيار.
4- مختلف الشيعة: ج 5/460.
5- سورة يوسف: الآية 72.

2 - وقوله صلى الله عليه و آله: «الزعيم غارم»(1).

3 - وما رواه عطاء، عن الإمام الباقر عليه السلام: «قال: قلت له: جُعِلت فداك إنّ عَليَّ دَيناً إذا ذكرته فسدَ عَليّ ما أنا فيه ؟

فقال: سبحان اللّه أوما بَلَغك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يقول في خطبته: من ترك ضياعاً فعليَّ ضياعه، ومن ترك دَيناً فعليَّ دَينه، ومن ترك مالاً فآكله، فكفالة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ميّتاً ككفالته حيّاً وكفالته حَيّاً ككفالته ميّتاً.

فقال الرّجل: نفّستَ عنّي جَعَلني اللّهُ فِداك»(2).

ولو لم يكن ضمان المجهول صحيحاً، لم يكن لهذا الضمان حكمٌ ولا اعتبار، إذ الباطل لا اعتبار به، فامتنع من الإمام عليه السلام الحكم بأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كافل.

أقول: ولكن الآية الكريمة ليس ممّا نحن فيه، مع أنّه لم يظهر عدم معلوميّة «حِمْلُ بَعِيرٍ»، وقوله صلى الله عليه و آله: «الزعيم غارم» لم يثبت من طرقنا، بل قال عنه صاحب «الجواهر»: (لعلّ الثابت منها تكذيبه، والخبر ليس من الضمان المصطلح)(3).

وقد يستدلّ لها: بحديث ضمان علي بن الحسين عليه السلام لدين عبد اللّه بن الحسن(4)، وحديث ضمانه لدين محمّد بن اُسامة(5)، بدعوى أنّهما ظاهران بل صريحان في عدم معلوميّة قدَر الدين وكمّيته وقت الضمان.

ولكنّهما في الضمان التبرّعي، وعليه فالعمدة هي العمومات.7.

ص: 18


1- عوالي اللآ لي: ج 2/257 ح 3، مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/435 ح 15831.
2- التهذيب: ج 6/211 ح 11، وسائل الشيعة: ج 18/337 ح 23798.
3- جواهر الكلام: ج 26/142.
4- الفقيه: ج 3/98 ح 3407، وسائل الشيعة: ج 18/426 ح 23971.
5- وسائل الشيعة: ج 18/423 ح 23967.

وما ذكرناه من صحّة الضمان مع عدم العلم بمقدار الدين، إنّما هو إذا كان له واقعٌ معيّن، وإلّا كما لو قال: (ضمنتُ شيئاً من دينك) فلا يصحّ ، إذ المبهم من جميع الجهات لا تحقّق له.

والظاهر أنّ مراد المصنّف بما أفاده في محكي «التذكرة» بأنّ : (الصحّة فيما إذا كان يمكن العلم به بعد ذلك، كقوله أنا ضامن للدَّين الذي لك عليه، أمّا ما لا يمكن فيه العلم كضمنتُ لك شيئاً ممّا في ذمّته، فلا يصحّ قولاً واحداً)(1) هو ذلك، فلا يرد عليه ما قيل من أنّه يصحّ وإنْ لم يمكن العلم به، فيأخذ بالقدر المتيقّن.

الشرط الثاني: أن لا تكون ذمّة الضامن مشغولة للمضمون عنه بمثل الدين الذي عليه.

أقول: لم أظفر بما يمكن أن يستدلّ به له إلّادعوى أنّه إذا كان ذمّته مشغولة بمثل ما للمضمون عنه، يكون ذلك من الحوالة التي هي قسيم الضمان.

وفيها: أنّه لا يحيل المضمون عنه مديونه على الضامن كي يكون حوالة، فهو داخل في الضمان، ويكون صحيحاً، وعليه فلا دليل على اعتبار هذا الشرط أيضاً.

***ة.

ص: 19


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/91، الطبعة القديمة.

وينتقلُ المال إلى الضامن،

انتقال المال إلى ذمّة الضامن

المسألة الرابعة: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه إذا تحقّق الضمان على الوجه المعتبر شرعاً، (ينتقلُ المال) من ذمّة المضمون عنه (إلى ) ذمّة (الضامن)، وتبرأ ذمّة المضمون عنه، وعليه الإجماع في كثيرٍ من الكلمات(1)، وفي «الجواهر»: (بل لعلّه من ضروريّات الفقه)(2).

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - أنّ حقيقة الضمان على ما مرَّ ذلك، فالمعاملة العقلائيّة الممضاة شرعاً إنّما تكون بهذا النحو، وبرغم ذلك فإنّ نصوص الباب شاهدة به، منها صحيح عبد اللّه بن سنان، وموثّقي ابن عمّار والحسن بن الجهم المتقدّمة(3) وغيرها، فإنّها صريحة في ذلك.

وعليه، فلا يصحّ الاستدلال لصحّة ما عن الجمهور من ضَمّ الذمّة إلى الذمّة، مع التصريح بذلك بالعمومات العامّة كما في «العروة»(4).

ويترتّب على ذلك أنّه لو أبرأ المضمون له ذمّة المضمون عنه، لم يفد شيئاً، لأنّ ذمّته بريئة. نعم، لو أبرأ ذمّة الضامن برئا جميعاً:

أمّا الضامن: فلأنّه مشغول الذمّة له، فتبرأ ذمّته إذا برئه.

ص: 20


1- كما في السرائر: ج 2/74، ومسالك الأفهام: ج 4/182.
2- جواهر الكلام: ج 26/127.
3- المسألة الثانية (اعتبار رضا المضمون له).
4- العروة الوثقى: ج 5/406، الطبع الجديد.

فإنْ كان مليّاً أو علم المضمون له بإعساره وقت الضمان صَحّ ، وإلّا كان له الفسخ.

وأمّا المضمون عنه: فلأنّ الضامن إنّما يستحقّ الرجوع إليه بالأداء الذي قد انتفى محلّه بالإبراء.

وأيضاً: لا خلاف ولا إشكال في أنّ الضمان لازمٌ من طرف المضمون له والضامن، فلا يجوز للضامن فسخه حتّى لو كان بإذن المضمون عنه، وتبيّن إعساره لعموم أدلّة لزوم العقد، وكذا لا يجوز للمضمون له فسخه والرجوع على المضمون عنه، ولكن يشترط في لزومه عليه ملائة الضامن حين الضمان، بأنْ يكون مالكاً لما يوفي به الدين فاضلاً عن المستثنيات في البيع للدين، أو علم المضمون له بإعساره، (و) عليه:

(فإنْ كان) الضامن (مليّاً، أو علم المضمون له بإعساره وقت الضمان صَحّ )، والمراد بالصحّة هو اللّزوم كما ينبّه عليه المصنّف رحمه الله بقوله: (وإلّا كان له الفسخ).

والوجه في الخيار مع إعسار الضامن، وعدم علم المضمون له بذلك - بعد الإجماع - هو الشرط الضمني الذي عليه بناء المتعاملين، من جهة أنّ عقد الضمان مبنيٌّ على تسهيل الامر، والقصد منه استيفاء الدين من الضامن، وإنّما يكون ذلك إذا أمكن الأداء منه بيساره، وهو كون الضامن موسراً، وقد حُقّق في محلّه أنّ الشروط الضمنيّة كالشروط المذكورة، يوجب تخلّفها الخيار، فيثبت له الخيار.

وبهذا البيان يظهر ثبوت الخيار له لو تبيّن كونه مماطلاً مع يساره، سيّما مع عدم

ص: 21

إمكان إجباره ولو بالرجوع إلى الحاكم.

وأمّا لو كان موسراً ثمّ اُعسر، لا يجوز له ذلك لعدم الشرط الضمني، كما أنّه لو كان معسراً ثمّ أيسر، وكان العلم بعد حصول اليسار، لا يجوز له الفسخ، فإنّ الشرط الضمني هو اليسار وقت الأداء لا حين العقد.

***

ص: 22

ويصحّ مؤجّلاً، وإنْ كان الدَّين حالّاً وبالعكس.

ضمان الحالّ والمؤجّل

المسألة الخامسة: المشهور بين الأصحاب، بل (و) لا خلاف فيه أنّه (يصحّ ) الضمان (مؤجّلاً وإنْ كان الدين حالّاً، وبالعكس).

أقول: تفصيل القول في المقام، هو: أنّ الصور المتصوّرة اثنتا عشرة:

إذ الضمان إمّا حالّ أو مؤجّل.

وعلى التقديرين: إمّا عن حالٍّ أو مؤجّلٍ .

وعلى تقدير ضمان المؤجّل مؤجّلاً إمّا أنْ يكون الأجل الثاني مساوياً للأوّل، أو أنقص أو أزيد.

وعلى التقادير الستّة: إمّا أنْ يكون الضمان تبرّعاً، أو بسؤال المضمون عنه.

قال صاحب «المسالك»(1): (وكلّها جائزة، إلّاأنّ موضع الخلاف فيها غير محرّر).

أقول: ولكن محلّ الخلاف محرّرٌ و واضح، لأنّهم اختلفوا في موارد:

المورد الأوّل: في ضمان المؤجّل حالّاً أو أنقص من أجله، فإنّ المحكيّ عن الفخر(2) والكركي(3) عدم جوازه، واستدلّ له:

ص: 23


1- مسالك الأفهام: ج 4/185.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/81-82.
3- جامع المقاصد: ج 5/310.

1 - بأنّه ضمان ما لم يجب.

2 - وبأنّ الفرع لا يرجّح على الأصل.

3 - وبأنّ مشروعيّة الضمان على نقل الدَّين على ما هو عليه.

أمّا الأوّل: فمندفع بأنّ المضمون هو الدين نفسه، وهو ثابتٌ ، والأجل إنّما هو من التوابع والحقوق، فمع الرضا بإسقاطه من الطرفين يسقط.

والثاني: بأنّه قاعدة كليّة لم يدلّ دليلٌ عليها، مع أنّه في الأصل يمكن الحكم بصحّته أيضاً إذا تراضيا وأوقعا العقد عليه.

والثالث أوّلاً: بالنقض بضمان الحال مؤجّلاً.

وثانياً: بأنّ الضمان حقيقة نقل الدين، أمّا اعتبار رعاية وصفه من التأجيل والتعجيل فلا دليل عليه، والإطلاقات تشهد بعدم اعتباره.

المورد الثاني: في اعتبار الأجل في الضمان على نحو اعتباره في السَّلم، حكي ذلك عن «المقنعة»(1)، و «النهاية»(2)، و «الغنية»(3)، واستدلّ له:

بالإجماع الذي ادّعاه السيّد ابن زُهرة، ولكن المعروف من الأكثر عدم اعتباره، قال الحِلّي: (وقد يوجد في بعض الكتب لأصحابنا: ولا يصحّ ضمان مالٍ ولا نفسٍ إلّابأجل، والمراد بذلك إذا اتّفقا على التأخير والأجل فلابدّ من ذلك، ولا يصحّ إلّابأجلٍ محروس، فأمّا إذا اتّفقا على التعجيل، فيصحّ الضمان من دون أجل، وكذا إذا أطلقا العقد، وإلى هذا القول ذهب شيخنا في مبسوطه(4) وهو حقّ اليقين،3.

ص: 24


1- المقنعة: ص 815، باب الضمانات والكفالات والحوالات والوكالات.
2- النهاية: ص 315، باب الكفالات والضمانات والحوالات.
3- الغنية: ص 260، فصل: في الضمان.
4- المبسوط: ج 2/323.

لأنّه لا يمنع منه مانع، ومن ادّعى خلافه يحتاج إلى دليل ولم نجده)(1) انتهى.

ومقتضى هذا الكلام اتّفاقهم على عدم اعتبار الأجل فيه بهذا المعنى، وعليه فالأظهر عدم اعتباره.

المورد الثالث: في ضمان الحال حالّاً، والمؤجّل بمثله مؤجّلاً.

فعن «المختلف»(2): الإشكال فيه نظراً إلى أنّ الضمان مبنيٌّ على الإرفاق، ولا إرفاق في هذين الموردين.

وفيه: عدم انحصار فائدته بالإرفاق، مع أنّ كون الإرفاق معتبراً على وجهٍ يقتضي البطلان بدونه يحتاجُ إلى دليلٍ ، مفقود في المقام، والإطلاقات تدفعه.

أقول: بقي الكلام في اُمور:

الأمر الأوّل: لو ضمن المؤجّل حالّاً، أو أنقص بإذن المضمون عنه كذلك أو مطلقاً:

1 - فهل يكون الدين على المضمون عنه كذلك، كما عن «التنقيح»(3).

2 - أو أنّه لا رجوع للضامن عليه، وإنْ أدّى، إلّابعد انقضاء الأجل الأصلي للدَّين، كماعن «المختلف»(4)، وظاهر «التحرير»(5)، و «التذكرة»(6)، والشهيدالثاني(7)؟7.

ص: 25


1- السرائر: ج 2/70-71.
2- مختلف الشيعة: ج 5/459.
3- التنقيح الرائع: ج 2/188.
4- مختلف الشيعة: ج 5/470.
5- تحرير الأحكام: ج 2/559 (ط. ج).
6- تذكرة الفقهاء: ج 2/86 (ط. ق).
7- مسالك الأفهام: ج 4/186-187.

3 - أو يفصّل بين الإطلاق والتصريح، فيحلّ أجله بالثاني دون الأوّل، كما عن بعض المتأخّرين(1) وقوّاه صاحب «الجواهر».

وجه الأوّل: أنّ الضمان في حكم الأداء، ومتى اذن المديون لغيره في قضاء دينه معجّلاً فقضاه استحق مطالبته، وأنّ الضمان بالسؤال موجبٌ لاستحقاق الرجوع على وفق الإذن، وأمّا مع الإطلاق فلتناوله التعجيل الذي قد عرفت اقتضائه ذلك.

ووجه الثاني: أنّ حلول الأجل يتوقّف على سبب، والإذن في الضمان حالّاً فضلاً عن الإطلاق، يقتضي الحلول بالنسبة إلى ذمّة الضامن، وأمّا بالنسبة إلى ذمّة المضمون عنه، فهو أعمٌّ من ذلك، فلا يكون مقتضياً له.

ووجه الثالث: أنّ ما ذكر وجهاً للثاني يتمّ مع الإطلاق، وأمّا مع التصريح بالتعجيل، فهو يقتضى الحلول.

أقول: والأظهر هو الثاني، لأنّ التصريح بالتعجيل إذنٌ في أداء الدين معجّلاً في استحقاق الدائن ذلك، حتّى يكون مقتضياً للتعجيل.

وأمّا ما ذكر في وجه الأوّل، فيرد الأوّل منهما: أنّ كون الضمان في حكم الأداء لا يقتضي ذلك، إذ أداء الدين المؤجّل لا يغيّر أجل الدَّين، ولا يصير سبباً لصيروته حالّاً.

ويرد الثاني منهما: أنّه مصادرة محضة، مع أنّه لو تمّ لاقتضى القول الثالث.

وعليه، فالمتحصّل أقوائيّة الثاني.

الأمر الثاني: لو ضمن الدين الحال مؤجّلاً، فهل الأجل للدين أو الضمان ؟2.

ص: 26


1- كما عن جواهر الكلام: ج 26/132.

وتظهر الثمرة لو أدّى الضامن قبل الأجل، فإنّه لا يستحقّ الرجوع على الأوّل بخلاف الثاني، والظاهر هو الأوّل، فإنّه إذا رضى المضمون له بتأخير الأداء فهو مؤجّل للدين.

وبعبارة أُخرى : أنّ الدَّين الحال إنّما هو ما في ذمّة المضمون عنه، وقد انتقل عن ذمّته وبرأت ذمّته منه، وثبت في ذمّة الضامن مؤجّلاً. نعم الضمان واسطة في ثبوت الأجل للدين.

الأمر الثالث: لو كان حالّاً فضمنه مؤجّلاً، سقطت مطالبة المضمون عنه، ولا يحقّ أن يطالب الضامن إلّابعد الأجل إجماعاً(1)، فلو مات الضامن حَلّ وأخذ من تركته، ورجع الورثة على المضمون عنه، كما لا يخفى .

***).

ص: 27


1- أرسله غير واحد من الأعلام إرسال المسلّمات؛ كالمبسوط والسرائر والتذكرة، وفي الجواهر: ج 26/133 بعدذكر المسألة قال: (بلا خلافٍ فيه عندنا ولا إشكال).

ويرجعُ الضّامن على المضمون عنه بما أدّاه إنْ ضمن بسؤاله، وإلّا فلا.

رجوع الضامن على المضمون عنه

المسألة السادسة: (ويرجع الضامن على المضمون عنه بما أدّاه إنْ ضمن بسؤاله، وإلّا فلا) بلا خلافٍ في ذلك في الجملة.

أقول: ونخبة القول في المقام أنّه:

تارةً : يكون الضمان بإذن المضمون عنه.

وأُخرى : يكون بغير إذنه.

وعلى التقديرين:

تارةً : يكون الأداء بإذنه.

وأُخرى : يكون بغير إذنه.

ولو كان الضمان بإذنه:

1 - قد يكون مع التصريح بالمجانيّة.

2 - وقد يكون بدونه.

ولو كان الضمان بغير إذنه، والأداء معه:

1 - فقد يصرّح بالرجوع إليه.

2 - وقد لا يصرّح بذلك.

الصورة الاُولى: فإنْ كان الضمان بإذنه لا مجّاناً يرجع الضامن إلى المضمون عنه،

ص: 28

سواءٌ أذنَ في الأداء أو لم يأذن، وذلك لأنّه وإنْ كان عقد الضمان لا اقتضاء بالنسبة إليه، وليس هناك يدٌ ولا إتلاف، إلّاأنّه قد مرّ في كتاب الإجارة(1) أنّ الامر بالعمل أو الإذن فيه، واستيفاء المال أو العمل لا مجاناً من أسباب الضمان، وعليه فلو أذن في الضمان يكون ضامناً لما يؤدّيه الضامن.

الصورة الثانية: وإنْ كان الضمان بغير إذنه، أو مع الإذن به مجاناً:

فإنْ كان الأداء بغير إذنه، لا إشكال في أنّه لا يرجع إليه، لعدم الموجب للضمان.

فإنْ قيل: إنّ مال المسلم وعمله محترمان لا يذهبان هدراً.

قلنا: قد مرّ في كتاب الغصب(2) أنّ قاعدة الاحترام ليست من القواعد المضمّنة.

فإنْ قيل: إنّ خبر الحسين بن خالد، قال: «قلت لأبي الحسن عليه السلام: وقول الناس:

الضامن غارم ؟ قال: فقال عليه السلام: ليس على الضامن غُرم، الغُرم على من أكل المال»(3)، بإطلاقه يدلّ على الضمان.

قلنا: إنّ اتّفاق الأصحاب على عدم الضمان مع عدم الإذن في الضمان، ولا في الأداء، يوجبُ تقييد إطلاقه، فيحمل على صورة الإذن.

الصورة الثالثة: وأمّا إنْ كان الضمان بدون الإذن والأداء معه:

فإنْ لم يصرّح بالرجوع إليه، فلا كلام يعتدّ به في عدم الضمان أيضاً، إنّما البحث فيما لو قال: (أدّ ما ضمنتُ وراجعني فيه).

فقد يقال: إنّه لا يكون ضامناً بالأداء، لأنّ مرجع القول المزبور إلى الوعد الذي3.

ص: 29


1- فقه الصادق: ج 28/7، (كتاب الإجارة والوديعة وتوابعها).
2- فقه الصادق: ج 29/141، (الفصل العاشر: في الغصب).
3- التهذيب: ج 6/209 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/421 ح 23963.

لا يجب الوفاء به، ولأنّ الضامن لما اشتغلت ذمّته بالضمان، وبرأت ذمّة المضمون عنه، فالأداء واجبٌ عليه ونفعه عائد إليه، فالأمر بالأداء لا يوجب الضمان لكونه أمراً بأداء ما على المؤدّى نفسه، والعائد نفعه إليه، وهذا لا يصلح لجعل عوضٍ بإزائه، فقوله: (وراجعني فيه) لا يكون مضمّناً.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ الوعد إنْ كان أمراً بالعمل، واستيفاءً للمال يوجبُ الضمان لا بما أنّه وعد، بل للكبرى الكليّة المتقدّمة المشار إليها آنفاً.

وعلى الثاني: أنّ جعل العوض بإزاء ما يعود نفعه إلى الغير لا إشكال فيه، وليست حقيقة المعاوضة مقتضية لدخول العوض في كيس من خرج المعوّض عن كيسه، ولذا لو أباح المالك ماله لزيد بإزاء عوضٍ في مال بكر، كان ذلك إباحة معوّضة صحيحة، والمقام من هذا القبيل.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه يرجع الضامن إلى المضمون عنه لو كان الضمان بإذنه لا مجاناً مطلقاً، وما لو كان الضمان لا بإذنه والأداء بإذنه، بشرط التصريح بالرجوع إليه.

أقول: ويترتّب على ما ذكرناه أمران:

أحدهما: أنّه ليس للضامن الرجوع على المضمون عنه فيما له ذلك إلّابعد أداء مال الضمان، كما هو المشهور بين الأصحاب.

ثانيهما: أنّه يرجع إليه بمقدار ما أدّى، لأنّ ذمّة الضامن وإن اشتغلت حين الضمان، إلّاأنّ ذمّة المضمون عنه لا تشتغل إلّابعد الأداء وبمقداره.

وللنصوص الخاصّة، لاحظ خبر عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن

ص: 30

رجلٍ ضَمن عن رجلٍ ضماناً، ثمّ صالح عليه ؟ قال عليه السلام: ليس له إلّاالذي صالح عليه»(1). ونحوه غيره.

فإنّ المستفاد من هذه النصوص أنْ ليس للضامن إلّاما خَسر، وعلى هذا فإنْ أبرأ المضمون له ذمّة الضامن عن تمام الدَّين، ليس له الرجوع إلى المضمون عنه أصلاً.

ولو وهبه ما في ذمّته، فهل هو كالإبراء أم لا؟

وجهان، أظهرهما الثاني، بناءً على صحّة هبة ما في الذمّة، وعدم رجوعها إلى الإبراء، ولا يخفى وجهه.

ولو أمر الضامن المضمون عنه بأداء الدين فأدّاه، فذمّة المضمون عنه تصبح مشغولة للضامن بالأداء كما مرّ، والضامن تشتغل ذمّته للمضمون عنه بأمره إيّاه بالأداء، بل به، فيتهاتران.

وإشكال صاحب «الجواهر»(2) رحمه الله في اشتغال ذمّة الضامن بالقول المذكور في غير محلّه، كما يظهر ممّا أسلفناه.

***).

ص: 31


1- التهذيب: ج 6/210 ح 7، وسائل الشيعة: ج 18/427 ح 23972.
2- جواهر الكلام: ج 26/136 (المبحث الثاني في الحقّ المضمون وأنواعه).

ولا يُشترط العلم بقدر المضمون به، ويلزمه ما تقوم به البيّنة خاصّة

عدم اشتراط العلم بقَدر المضمون عنه

المسألة السابعة: (ولا يشترط العلم بقدر المضمون به) كما عرفت عند ذكر شرائط صحّة الضمان مفصّلاً، (و) على هذا:

فإنْ ضَمن ما على المضمون عنه مع الجهل به، وجب على الضامن أداء ما ثبت كونه عليه، فلا (يلزمه) إلّا (ما تقوم به البيّنة خاصّة) من أنّه كان لازماً للمضمون عنه وقت الضمان، لا ما يتجدّد، لعدم تعلّق الضمان به. ولا يكفي إقرار المضمون عنه، لأنّ إقراره على نفسه جائزٌ دون الضامن. ولا يحلف المضمون له، لورد اليمين من المضمون عنه، لأنّ النزاع والخصومة حينئذٍ بين الضامن والمضمون له، فردّ اليمين من المضمون عنه لا أثر له.

نعم، لوكان رَدّ الحلف من الضامن، يثبت عليه ما حَلف عليه.

وبما ذكرناه يظهر ما في الأقوال الاُخر:

منها: ما عن أبي الصلاح(1) وابن زُهرة(2) من لزوم ما أقرَّ به الغريم أيضاً.

ومنها: لزوم ما يحلف عليه المضمون له، من غير تقييدٍ كما عن المفيد رحمه الله(3).

ومنها: تقييده برضاء الضامن، وهو قول الشيخ(4).

ص: 32


1- الكافي: ص 340.
2- الغنية: ص 260.
3- المقنعة: ص 815.
4- كتاب المكاسب: ج 3/216.

ولابدّ في الحقّ من الثبوت، سواء كان لازماً أو آئلاً إليه.

ضمان الأعيان

الموضع الثاني: في المضمون.

قالوا: (ولابدّ في الحقّ ) المضمون (من الثبوت، سواء كان لازماً) كالبيع بعد القبض وانقضاء الخيار، (أو آئلاً إليه) كمال الجعالة قبل فعل ما شرط عليه من العمل، وكمال السّبق والرماية، والثمن في مدّة الخيار.

أقول: وملخَّص القول في المقام، بنحوٍ يظهر ما هو المختار، وما يرد على القوم هو:

إنّ القدر المسلّم المتّفق عليه بينهم، هو ضمان ما في الذمّة، أي ضمان شخصٍ لما هو ثابتٌ في ذمّة آخر، وأمّا:

1 - ضمان الأعيان المضمونة، كما لو غصب شخصٌ مال آخر فيضمن بشخصٍ آخر عين ذلك المال.

2 - وضمان الأعيان غير المضمونة كالأمانة، كما لو ضمن شخصٌ الأمانة التي عند الشخص الآخر.

فقد وقع الخلاف فيهما بين الفقهاء، وهناك قسمٌ آخر لم يتعرّض له الفقهاء وهو:

ضمان الأعيان التي تكون عند أصحابها، كأموال الناس في متاجرهم، وحكم هذا القسم حكم القسمين الأخيرين.

ومحصّل ما ذكروه: في وجه بطلان الضمان في القسمين الأخيرين، واختصاصه بما في الذمم وجوهٌ ، وإنْ اختصّ بعض الوجوه بالأوّل، وبعضها بالثاني:

ص: 33

الوجه الأوّل: أنّه لادليل على العموم، وأخبار باب الضمان كلّها واردة في ضمان ما في الذمّة، وواردة لبيان أحكام اُخر، وليس في شيء منها ماله إطلاقٌ أو عموم يمكن أن يُتمسّك به لمشروعيّة الضمان بقول مطلق، وما يروى عن النبيّ صلى الله عليه و آله من أنّ :

«الزعيم غارمٌ »(1)، قد عرفت أنّه ليس من أخبارنا، بل يظهر من بعض الأخبار عدم ثبوته.

وفيه: أنّ أدلّة الضمان الإنشائي المختصّة به، وإنْ كان لا إطلاق له يتمسّك به، إلّا أنّ ما دلّ على نفوذ كلّ عقدٍ ومعاملة عقلائيّة، كآية «تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ »(2)، وقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3) وغيرهما له إطلاقٌ يشمل هذه الأقسام من الضمان بأجمعها.

الوجه الثاني: وهو مختصٌّ بالقسم الأوّل، وهو أنّ المضمون عنه كالغاصب مكلّفٌ بردّ العين أيضاً، فلو قلنا بمشروعيّة هذا الضمان، كان من قبيل ضَمّ ذمّةٍ إلى ذمّة، مع أنّ مذهبنا كون الضمان موجباً للانتقال من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن.

وفيه: أنّ الضمان المصطلح في ضمان ما في الذمّة هو الانتقال، وهذا لا يوجبُ المنع من الضمان بالمعنى الآخر في المقام، الثابت بالعمومات. فتأمّل.

مع أنّه لا مانع من الالتزام في المقام أيضاً بالانتقال، فيكون بقاء المال بيد الغاصب حينئذٍ أمانة، غاية الأمر يجب رَدّه فوراً إلى المالك، ولو لم يقصّر في الرّد1.

ص: 34


1- عوالي اللآ لي: ج 2/257 ح 3، مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/435 ح 15831.
2- سورة النساء: الآية 29.
3- سورة المائدة: الآية 1.

عليه، وتلف في أثناء ذلك، يكون ضمانه على الضامن دون الغاصب، ولو قصّر يكون يده بقاءً يدُ ضمانٍ ، فيكون ضامناً من جديد.

الوجه الثالث: بما ذكرناه في الجواب عن الوجه السابق يظهر الجواب عن هذا الوجه، وهو أنّ الضمان نقل الحقّ من ذمّة إلى أُخرى ، فلا ينطبق على الضمان بمعنى كون العين في العهدة.

الوجه الرابع: أنّ ضمان الأعيان كان المراد به نقلها عن عهدة ذي اليد إلى عهدته، أو ضمّها إليها، يحتمل كونه من الأحكام الشرعيّة لا من الاُمور التي بيد الناس وضعاً ورفعاً، ومع هذا الاحتمال لا وجه للتمسّك بالعمومات.

وفيه: أنّ المراجعة إلى المرتكزات العقلائيّة تدفع هذا الاحتمال، فإنّ العهدة والذمّة من باب واحد، فكما أنّ ما في الذمّة قابلٌ للنقل وللضمّ ، كذلك ما في العهدة من الأعيان.

الوجه الخامس: أنّه من ضمان ما لم يجب، فإنّ الملتزم به مثلها أو قيمتها في صورة التلف، وقد اشتهر في الألسن عدم صحّته.

وفيه: أنّ الالتزام بكون العين في العهدة، ليس من ضمان ما لم يجب، مع أنّ ضمان مالم يجب إنّما يكون باطلاً إذا كان المُنشَأ هو اشتغال الذمّة بالبدل فعلاً، وأمّا إذا كان المُنشَأ هو الاشتغال به بعد التلف، فلا محذور فيه. وتمام الكلام في محلّه.

الوجه السادس: أنّ من أركان الضمان المضمون عنه، وهو المدين، وهو مفقودٌ في الضمان في الأمانة، بل وفي ضمان العين المغصوبة، لأنّه ضمانٌ ابتدائي لا عن الغاصب.

وفيه: أنّه لا يعتبر في الضمان وجود المضمون عنه، بل أركانه ثلاثة: الضامن، والمضمون له، والمضمون.

ص: 35

فالمتحصّل: ان مقتضى العمومات جواز الضمان بجميع أقسامه حتّى ضمان العين التي بيد صاحبها، وليس هناك ما يمنع عنه، وعليه فالأظهر هو الجواز.

ثمّ إنّ ضمان ما عند صاحبه يتصوّر على وجهين:

أحدهما: الضمان بلا عوض.

ثانيهما: الضمان مع العوض، كأن يقول الضامن لصاحب المال: (أضمن لكَ العين سنةً على أن تعطيني عوضاً عن ذلك عشرة دراهم عن كلّ شهر).

أقول: والأظهر صحّته بكلا قسميه، ويترتّب على ذلك عقد التأمين، فإنّه من قبيل ضمان الأعيان غير المضمونة، إذ المؤمِّن يَضمن، أي يتعهّد ويُدخل الشيء في عهدته وحيازته في عمليّة التأمين، سواءٌ كان ذلك من الأعيان الخارجيّة، أو النفوس الحُرّة أو المملوكة، غاية الأمر ليس ضماناً مجانيّاً، بل بعوضٍ معيّن يشترط على المؤمّن له أنْ يدفعه دفعةً أو أقساطاً، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في الجزء الأوّل من كتابنا المسمّى ب «المسائل المستحدثة».

الضمان المُستَحدث

أقول: قد تعارف في هذا العصر نوعٌ من الضمان، وهو التعهّد بدفع مبلغٍ إلى من تعهّد لثالثٍ بعملٍ إذا تخلّف عنه، وقد يُعبّر عنه بالكفالة.

توضيحه: أنّه قد يتعهّد شخصٌ لآخر ببناء دارٍ له مع خصوصيّات معيّنة مذكورة خلال شهرين مثلاً، ويتّفق الطرفان على أن يتعهّد ثالثٌ بدفع مبلغ معيّن لو تخلّف المتعهِّد الأوّل عمّا تعهده، وذلك الشخص الثالث يقبل ذلك ويأخذ عمولة بإزاء تعهّده، ولنعبّر عن المتعهّد الثاني بالضمان، وهذا الضمان ليس من الضمان المصطلح.

ص: 36

وكيف كان، فالكلام فيه يقع في موارد:

المورد الأوّل: في الدليل على مشروعيّة هذا الضمان:

الدليل عليها أنّه وإنْ لم يكن داخلاً تحت عناوين العقود، إلّاأنّه قد عرفت أنّ مقتضى العمومات إمضاء كلّ معاملةٍ عقلائيّة، وكلّ تجارةٍ ناشئة عن تراضٍ ما لم تكن ممّا دلّت الأدلّة الشرعيّة على فسادها، وعليه فبما أنّ هذا الضمان عقدٌ عقلائي وتجارة عن تراض، وله أركان ثلاثة: الضامن، والمضمون عنه وهو المتعهّد، والمضمون له وهو المتعهّد له، وكلّ منهم يستفيد من هذه المعاملة، أمّا الضامن فبأخذه العمولة، وأمّا المضمون له فلضمان حقّه، وأمّا المضمون عنه فواضح، فيشمله دليل التجارة عن تراضٍ وغيره، ويترتّب عليه أنّه يجوز للضامن أخذ العمولة.

المورد الثاني: وممّا ذكرنا في المورد السابق يظهر الحال في المورد الثاني وهو وجه أخذ المضمون له المبلغ الذي تعهّده الضامن لو تأخّر المضمون عنه عن القيام بما توافق عليه مع المضمون له.

المورد الثالث: في وجه رجوع الضامن على المضمون عنه فيما دفعه عنه، ويمكن أن يذكر له وجهان:

1 - تنزيل ذلك على الشرط الضمني، بتقريب أنّ بناء المتعاملين على ذلك، وبما أنّ هذا البناء ارتكازي، فهو بحكم المذكور في ضمن العقد، فيرجع إليه بحكم الشرط.

2 - أنّ من أسباب الضمان الامر المعاملي على ما حُقّق في محلّه، وفي المقام بما أنّ ضمان الضامن إنّما يكون بأمرٍ ولو ضمني من المضمون عنه، فهو ضامنٌ لما يخسره الضامن، ويدفعه بمقتضى العقد إلى المضمون له.

ص: 37

أقول: ولا يخفى أنّ الأصحاب يصرّحون في ابتداء عنوان المسألة بأنّه يعتبر أنْ يكون المضمون ثابتاً في الذمّة، ويختلفون في أنّه هل يشمل ذلك العمل في الذمّة، أو المنفعة فيها، وأنّه هل يختصّ ذلك بالثبوت اللّزومي، أم يعمّ غيره كالثمن في زمان الخيار، وفي أواخر المسألة يذهب جماعة منهم إلى صحّة ضمان الأعيان المضمونة، ولم يتعرّض أحد للجمع بين الكلامين المتهافتين.

ضمان العُهدة

الظاهر عدم الخلاف بين الأصحاب في جواز ضمان العُهدة، وهو أن يضمن عهدة الثمن ودركه للمشتري، إذا ظهر كون المبيع مستحقّاً للغير، أو ظهر بطلان البيع لفقد شرطٍ من شروط صحّته مطلقاً، كما عن جماعة، أو إذا كان ذلك بعد قبض الثمن كما عن الآخرين.

وحيث أنّه من قبيل ضمان الأعيان، فقد اُشكل الأمر على جماعةٍ فلم يروا بُدّاً من التمسّك لصحّة خصوص ذلك واستثنائه من ضمان الأعيان بما أفاده المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة» حيث قال:

(وهذا الضمان عندنا صحيحٌ إنْ كان البائع قد قبض الثمن....

إلى أنْ قال: لإطباق النّاس عليه في جميع الأعصار، ولأنّ الحاجة تمسّ إلى معاملة من لايعرف ولا يوثَق بيده ومِلْكه، ويخاف عدم الظفر به لو خرج مستحقّاً للغير)(1).

ص: 38


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/91 (ط. ق).

ولو ضَمِن عُهدة الثمن لزمه مع بطلان العقد، لا تجدّد فسخه.

أقول: ولكن الإجماع موهونٌ بقلّة تعرّض الفقهاء له، والحاجة وإنْ مسّت إلى معاملة من لا يعرف، إلّاأنّ المعاملة معه صحيحة بمقتضى اليد، وانكشاف استحقاق الغير ليس بتلك الكثرة الموجبة لاستفادة جعل الشارع هذا الحكم، ولكنّا في فُسحةٍ من ذلك لما عرفت من صحّة ضمان الأعيان، بل بناءً على ما مرّ يصحّ ضمان درك الثمن للمشتري إذا حصل الفسخ بالخيار أو التقايل، أو تلف المبيع قبل القبض، وإنْ كان المشهور بين الأصحاب عدم صحّة هذا الضمان لعدم ثبوت الحقّ وقت الضمان، فيكون من ضمان ما لم يجب وقد مرّ ما فيه.

نعم، اختلفوا في الفسخ بالعيب السابق أو اللّاحق، في أنّه هل يدخل في العُهدة ويصحّ الضمان، أم لا؟

فالمشهور بينهم هو الثاني، لكن ظهر ممّا ذكرناه أنّ الأظهر هو الأوّل، فعلى ما أفادوه (و) بنوا عليه من صحّة ضمان دَرَك الثمن فيما إذا ظهر المبيع مستحقّاً للغير، أو كان العقد باطلاً دون ما لو فسخ بخيار قالوا: (ولو ضمن عُهدة الثمن لزمه مع بطلان العقد لا تجدّد فسخه) وهو على مبناهم متينٌ ، ولا يتمّ على ما قوّيناه.

وأخيراً: يظهر ممّا ذكرناه حال كثيرٍ من الفروع، فلا حاجة للتعرّض إليها.

***

ص: 39

وأمّا الحوالة: فيشترط فيها رضا الثلاثة.

الحوالة

(وأمّا الحَوالة) فهي عبارة عن إحالة المديون دائنه إلى غيره، أو إحالة المديون ما في ذمّته إلى ذمّة غيره، وعلى هذا فلا ينقض بالضمان لأنّه لا إحالة فيه.

وأمّا على ما أفاده المشهور من أنّها تحويل المال من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ مشغولة بمثلة، فينتقض طرده بالضمان، مع أنّ اعتبار شُغل الذمّة ينافي ما يصرّح به جماعة منهم من صحّة الحوالة على البريء.

وكيف كان، (ف) المشهور بين الأصحاب أنّه (يشترط فيها رضا الثلاثة) أي المُحيل، والمُحتال، والمُحال عليه.

بل عن الأردبيلي(1): أنّه لم يظهر فيه خلافٌ .

وعن «التذكرة»(2): نسبته إلى أصحابنا.

وعن «المختلف»(3): إلى علمائنا.

وعن الشيخ(4): الإجماع عليه.

وفي «الجواهر» قال بالنسبة إلى الأولين: (بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منهما مستفيضٌ أو متواتر)(5).

ص: 40


1- مجمع الفائدة: ج 9/308.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/106 (ط. ق).
3- مختلف الشيعة: ج 6/3، قوله: (المشهور بين علمائنا اعتبار رضى المحال عليه في الحوالة).
4- الخلاف: ج 3/305، كتاب الحوالة، مسألة 1 و 2، الأُولى عن المحتال والثانية عن المحال إليه.
5- جواهر الكلام: ج 26/160.

أقول: أمّا رضا المحيل، فيشهد لاعتباره: أنّ المديون ومن عليه الحقّ مخيّرٌ في جهات القضاء، فلا يتعيّن عليه بعض الجهات قهراً، فلو اُكره على أن يحيل فأحال بالإكراه، لم تقع الحوالة.

وفي «المسالك» تبعاً للتذكرة(1) قال: (ويستثنى من اعتبار رضا المحيل ما لو تبرّع المُحال عليه بالوفاء، فإنّه لا يعتبر رضا المحيل قطعاً، لأنّه وفاء دينه وضمانه بغير إذنه، والعبارة عنه حينئذٍ أن يقول المُحال عليه: (أحلتُ بالدين الذي لكَ على فلانٍ على نفسي) فيقبل، فيُشترط هنا رضا المحتال والمحال عليه)(2)، انتهى.

ويردّه: أنّ ما فرضه ليس من الحوالة، بل هو من قبيل الضمان، وقد مرّ عدم اعتبار رضا المضمون عنه إلّافي بعض الفروض النادرة، وبه يظهر ما في مناقشة صاحب «الجواهر» رحمه الله(3) في صحّة ذلك بالإجماع، على اعتبار رضا المحيل، وبعدم الإطلاق لدليل صحّة الحوالة بنحوٍ يشمل الفرض.

وأمّا المحتال: فالوجه في اعتبار رضاه هو أنّ حقّه ثابت في ذمّة المحيل، وانتقال ذلك إلى ذمّة المحال عليه بدون رضاه منافٍ لعدم جواز التصرّف في مال الغير بلا رضا صاحبه، ولقاعده السلطنة.

وأمّا المحال عليه: فالمشهور(4) بينهم اعتبار رضاه.

وعن جماعةٍ : عدم اعتبار رضاه، قيل وهو ظاهر «المقنعة»(5)، و «النهاية»(6)،6.

ص: 41


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/106 (ط. ق).
2- مسالك الأفهام: ج 4/214.
3- جواهر الكلام: ج 26/160-161.
4- كما عن مختلف الشيعة: ج 6/3.
5- المقنعة: ص 814-815.
6- النهاية: ص 316.

وعن «المختلف»(1) الميل إليه، بل هو خيرة «المقتصر»(2)، و «التنقيح»(3)، و «إيضاح النافع»(4) و «المسالك»(5) و «الروضة»(5).

وعن بعضهم(6): التفصيل بين أن يحوّله بغير جنس ما عليه فيعتبر رضاه، وبين ما لو حوّله بمثل ما عليه فلا يعتبر.

وعن بعضٍ : التفصيل في ما لو كانت الحوالة بمثل ما عليه بين أن يحوّله عليه بماله عليه، وبين أن يحوّله عليه من غير نظرٍ إلى الحقّ الذي له عليه، على نحو الحوالة على البريء، فيعتبر في الثاني دون الأوّل.

والحقّ أن يقال: إنّه إنْ كانت الحوالة على البريء، فلا إشكال في اعتبار رضاه، وهذا من الوضوح بمكان، قال في «المسالك» بعد بنائه على عدم اعتبار رضاه:

(يستثنى من القول بعدم اعتبار رضاه ما لو كان بريئاً من حقّ المحيل، فإنّ رضاه معتبرٌ إجماعاً)(8).

وإنْ كانت الحوالة على مشغول الذمّة بغير جنس ما عليه، فالظاهر اعتبار رضاه، إذ ذلك حينئذٍ بمنزلة المعاوضة الجديدة، فيعتبر فيها رضا المتعاقدين.

وإنْ كانت الحوالة على مشغول الذمّة بمثل ما عليه، فقد استدلّ لاعتبار رضاه:

1 - بأنّ الإجماع واقعٌ على صحّة الحوالة مع رضا المحال عليه، ولا دليل على صحّتها من غير رضاه.5.

ص: 42


1- مختلف الشيعة: ج 6/3-4.
2- المقتصر في شرح المختصر: ص 197.
3- التنقيح الرائع: ج 2/193.
4- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 26/161. (5و8) مسالك الأفهام: ج 4/213.
5- الروضة البهيّة: ج 4/136.
6- ذكر صاحب الجواهر هذه الوجوه: ج 26/164-165.

2 - وبأنّ إثبات المال في ذمّة الغير مع اختلاف الغرماء في شدّة الاقتضاء وسهولته تابعٌ لرضاه.

3 - وباستصحاب بقاء المال في ذمّة المحال عليه للمُحيل.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ مدرك صحّة الحوالة لو كان منحصراً في الإجماع، كان ما اُفيد تامّاً، وحيث أنّ أدلّة أُخرى من العمومات وخصوص إطلاق ما دلّ على الحوالة تدلّ عليها، ومعها لا وجه للأخذ بالمتيقّن، فلا يتمّ .

وعلى الثاني: أنّه لا يثبت المال في ذمّة الغير، بل يتصرّف فيما يملكه وينقله إلى غيره، ففي الحقيقة يكون التبديل المالكين، وليس هناك تصرف في مال الغير.

وعلى الثالث: أنّه لا يرجع إلى الاستصحاب مع الدليل.

وقد يستدلّ لعدم اعتبار رضاه مطلقاً: بأنّ المحتال يقام مقام المحيل في القبض بالحوالة، فلا وجه لا حتياجه إلى رضا من عليه الحقّ ، كما لو وكّله في القبض منه أو باع دَينه على غيره.

وأُورد عليه: بأنّ ما في الذمّة ليس من قبيل العين الخارجيّة لا يتغيّر بتغيّر طرف الإضافة والاعتبار، بل هو متخصّصٌ بطرفيه، فلا محالة بالحوالة يتبدّل شخصُ ما في الذمّة إلى شخصٍ آخر في ذمّته مضاف إلى المحتال، ومن الواضح أنّ تبدّل ما في ذمّة الإنسان متوقّفٌ على رضاه، ولا وجه لقياس ذلك بالتوكيل في القبض الذي ليس فيه تصرّف فيما في الذمّة.

وفيه: إنّ ما ذكره تامٌّ بالدقّة العقليّة، إلّاأنّه بنظر العرف لا يعدّ ذلك تصرّفاً في ذمّة الغير، بل أهل العرف يرون أنّ ما كان يملكه في ذمّته ملكه لآخر، فكأنّ شخصُ ما في الذمّة قد تبدّل طرف إضافته، فلو قايسنا الملكيّة بالخيط الذي أحد

ص: 43

ولا يجبُ قبولها.

طرفيها مرتبط بالمالك، والآخر بالمملوك، يكون التمليك بالغير حقيقته عندهم حَلّ ذلك الخيط من مالك وشدّه بمالكٍ آخر من دون أن يتصرّف في المملوك، من غير فرق بين العين والدين.

وعلى الجملة: المحيل عند العرف لا يتصرّف إلّافي ملكه فله ذلك.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الإنسان إذا مَلك في ذمّة الغير، كان من آثار الملكيّة ولوازمها التصرّف فيه كيف ما شاء: بالأخذ، أو بالتوكيل فيه، أو بنقله إلى الغير ببيعٍ أو غيره، أو بالإبراء، وكلّ واحدٍ من هذه من التصرّفات التي جوازها من آثار كونه مالكاً له، فلا إشكال في عدم اعتبار رضا المحال عليه.

أقول: ولكن مع ذلك كلّه في النفس شيئاً، سيّما بعد فتوى الأكثر باعتبار رضاه، فرعايته أحوط.

الحوالة من العقود

أقول: وقع الخلاف في أنّ الحوالة من الإيقاعات أو من العقود؟

وعلى الثاني: فهل هو مركّبٌ من إيجابٍ من المُحيل وقبولٍ من المحتال، أو مركّب من إيجابٍ وقبولين، والقبول الثاني من المحال عليه ؟

ظاهر المتن، حيث قال: (ولا يجبُ قبولها) هو الأوّل، وإنْ كان من الجائز أنْ يكون مراده بذلك أنّه لا يجبُ قبول الحوالة على المحال عليه لاعتبار رضاه.

وكيف كان، فقد ذهب إلى كلّ من الأقوال جماعة.

ص: 44

والحقّ أنْيقال: إنّه لاينبغي التوقّف في اعتبار القبول من المُحتال، لأنّ المُحيل إنّما ينقل مال الغير من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ أُخرى بلا سلطنة منه عليهما، فلا يصحّ بدون قبوله كنقل ماله الخارجي، ولا وجه لقياسه بالوفاء، بل دعوى أنّه نوعٌ من الوفاء بعد ثبوت الفرق الواضح بينهما، حيث أنّه في الوفاء ليس نقل وانتقال، وفي الحوالة انتقال الدين من ذمّة إلى ذمّة أُخرى .

وبذلك يظهر اندفاع ما قيل في وجه كونه إيقاعاً.

وأمّا اعتبار القبول من المُحال عليه، فقد ظهر ممّا ذكرناه في وجه اعتبار رضاه ما يمكن أن يستدلّ به له، والجواب عنه.

وأمّا الكلام في ما يعتبر في الإيجاب والقبول، والمُحيل والمحال والمحال عليه، فهو الكلام في ما تقدّم في كتاب الضمان(1) من ما يعتبر في عقده، وفي الضامن والمضمون له والمضمون عنه.

كما أنّ الكلام في أنّه هل تتوقّف صحّة الحوالة على أنْ يكون المال المحال به ثابتاً في ذمّة المحيل مستقرّاً أو متزلزلاً - فلا تصحّ في غير المستقرّ، سواءٌ وجد سببه، كمال الجُعالة قبل العمل، أو لم يوجد سببه كالحوالة بما يستقرضه كما هو المشهور بين الأصحاب - أم يكفي ثبوت سببه وإنْ لم يكن هو ثابتاً، أم لا يعتبر ذلك أيضاً، فتصحّ الحوالة بما يستقرضه على نحو كون الحوالة بعد القرض، هو الكلام في اعتبار ذلك وعدمه في الضمان.

وهل يعتبر في الحوالة كون المال المحال به معلوماًجنساً وقدراً للمحيل والمحتال، فلا تصحّ الحوالة بالمجهول كما هو المشهور، أم لا يعتبر ذلك ؟د.

ص: 45


1- صفحة 7 من هذا المجلّد.

وجهان تقدّما في الضمان(1)، ومن ما ذكرناه هناك تعرف عدم اعتباره هنا.

وقد يقال: باعتبار تساوى المالين - أي المحال به وما على المحال عليه - جنساً ونوعاً ووصفاً في صحّة الحوالة.

ونخبة القول في المقام: إنّ محلّ الكلام ليس ما لو أحال المديون دائنه إلى من عليه غير ما هو له بما عليه، كما لو أحال من له عليه الدراهم إلى من عليه الدنانير، بأنْ يدفع إليه الدنانير من باب الوفاء بغير الجنس، فإنّ الظاهر أنّه لا كلام في الصحّة في ذلك، وعدم اعتبار التساوي، كما يظهر من استدلالهم له، بل الدين وإنْ كان حينئذٍ غير ما على المحال عليه، إلّاأنّ المحال به مساوٍ له، بل الكلام فيما لو أحاله عليه بما في ذمّته وهو الدراهم في المثال.

وقد استدلّ لعدم صحّتها واعتبار التساوي:

1 - بأنّ المُحيل لا يكون مسلّطاً على المُحال عليه بما لم يشتغل ذمّته به، إذ لايجب عليه إلّادفع مثل ما عليه.

2 - وبأنّ الحكم على خلاف القاعدة، فيقتصر فيه على موضع اليقين.

ولكن الأوّل مردودٌ بأنّه وإنْ لم يكن مسلّطاً عليه، إلّاأنّه إذا رضي المحال عليه بذلك يرتفع المحذور، ويكون من قبيل وفاء الدين بغير الجنس مع التراضي.

والثاني يردّ بإطلاق الأدلّة وعمومها.

الحوالة لازمة

أقول: واستقصاء الكلام في هذا الباب يتحقّق في ضمن مسائل:

ص: 46


1- تقدّم ذلك في الصفحات الاُولى من هذا الجزء تحت عنوان: (لا يعتبر العلم بمقدار الدَّين).

ومعه يلزم، ويَبرأُ المُحيل، وينتقل المال إلى ذمّة المُحال عليه إنْ كان مليّاً أو علم بإعساره، وإلّا فله الفسخ.

المسألة الأولى: (ومعه) أي مع تحقّق عقد الحوالة بشرائطه (يلزم)، لما مرّ في الضمان من أنّ الأدلّة العامّة تدلّ على لزومها (ويبرأ المحيل، وينتقل المال إلى ذمّة المُحال عليه) كما هو مقتضى الحوالة (إنْ كان مليّاً، أو علم بإعساره، وإلّا فله الفسخ) على حذو ما تقدّم في الضمان، لاتّحاد المدرك لجميع ذلك في الموردين.

ومع ذلك تشهد بها نصوص:

منها: خبر أبي أيّوب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يحيل الرّجل بالمال أيرجع عليه ؟

قال عليه السلام: لا يرجع عليه أبداً إلّاأنْ يكون قد أفلس قبل ذلك»(1).

ومنها: خبر عقبة، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل يحيل الرّجل بالمال على الصيرفي ثمّ يتغيّر حال الصيرفي، أيرجع على صاحبه إذا احتال ورضي ؟ قال عليه السلام: لا»(2).

ومنها: خبر منصور بن حازم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يحيل على الرّجل بالدّراهم أيرجع عليه ؟

قال عليه السلام: لايرجع عليه أبداً إلّاأنْ يكون قد أفلس قبل ذلك»(3).2.

ص: 47


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/98 ح 3408، وسائل الشيعة: ج 18/433 ح 23990.
2- التهذيب: ج 6/212 ح 6، وسائل الشيعة: ج 18/434 ح 23993.
3- الكافي: ج 5/104 ح 4، وسائل الشيعة: ج 18/434 ح 23992.

ولكن المحكيّ عن أبي عليّ (1) والشيخ في «النهاية»(2)، وأبي الصلاح(3)، والقاضي(4)، وظاهر «المقنعة»(5): أنّه يعتبر في براءة ذمّة المحيل الإبراء زيادةً على الحوالة، واستدلّ له بصحيح زرارة، عن أحدهما عليه السلام:

«في الرّجل يحيل الرّجل بمال كان له على رجلٍ آخر، فيقول له الذي احتال برئتُ من مالي عليك ؟

قال عليه السلام: إذا أبرأه فليس له أنْ يرجع عليه، وإنْ لم يبرأه فله أنْ يرجع على الذي أحاله»(6).

أقول: وللقوم تأويلات للخبر، أحسنها ما هو مختار صاحب «المسالك» من:

(أنّ الإبراء في الخبر كناية عن قبول المحتال الحوالة، فمعنى قوله: (برئتُ من مالي عليك) أنّي رضيتُ بالحوالة الموجبة للتحويل، فبرئتَ أنت، فكنّى عن الملزوم باللّازم، وهكذا القول في قوله عليه السلام: «إنْ لم يبرأه فله أنْ يرجع» لأنّ العقد بدون قبوله ورضاه غير لازم، فله أنْ يرجع فيه)(7).

وإنْ لم يتمّ ذلك ولا غيره من التأويلات - كحمله على ما إذا ظهر إعسار المُحال عليه حال الحوالة، مع جهل المحتال بحاله، أو على ما إذا شرط المحيل البراءة - وقع التعارض بينه وبين النصوص المتقدّمة، والنسبة عمومٌ من وجه،5.

ص: 48


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/4-5.
2- النهاية: ص 316.
3- الكافي في الفقه: ص 340.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/5.
5- المقنعة: ص 814-815.
6- الكافي: ج 5/104 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/433 ح 23991.
7- مسالك الأفهام: ج 4/215.

لاختصاصها بغير صورة الإفلاس، واختصاص هذا الخبر بما إذا لم يبرأه، ومورد التعارض هو ما لو لم يبرأه ولم يظهر الإفلاس، والترجيح لها للشهرة التي هي أوّل المرجّحات.

المسألة الثانية: يصحّ الحوالة على البريء كما هو المشهور، بل الظاهر عدم الخلاف فيه إلّاعن الشيخ في آخر الباب(1)، وربما ينسب الخلاف إلى القاضي(2)وأبي حمزة(3)، ولم يثبت، بل عن الشيخ في أوّل الباب(2) موافقة المشهور، ولذا حكى عن «السرائر»(3) الإجماع عليه.

ويشهد به: إطلاق النصوص المتقدّمة، وعموم أدلّة الإمضاء العامّة، وربما يبنى الخلاف على القول بأنّها استيفاء أو اعتياض، فعلى الأوّل يجوز، وعلى الثاني لا يجوز.

ويردّه: أنّ الحوالة معاملة مستقلّة وإنْ لحقها حكم الوفاء تارةً وحكم الاعتياض أُخرى .

ثمّ إنّه ممّا ذكرناه في تعريفها وتعريف الضمان يظهر أنّ ذلك حوالة لا ضمان، فما في «الشرائع» من أنّ (ذلك بالضمان أشبه)(4)، وعن الكاشاني(5): (الأظهر أنّها ضمان)، في غير محلّه.9.

ص: 49


1- المبسوط: ج 2/321. (2و3) حكاه في التنقيح الرائع: ج 2/191، وأيضاً في المناهل: ص 151.
2- المبسوط: ج 2/313.
3- السرائر: ج 2/79.
4- شرائع الإسلام: ج 2/361.
5- حكاه عن الكاشاني الشيخ في الجواهر: ج 26/165، والسيّد في مستمسك العروة الوثقى: ج 13/399.

ولو طالب المُحال عليه بما أدّاه، فادّعى المُحيل ثبوته في ذمّته، فالقولُ قول المُحال عليه مع يمينه.

المسألة الثالثة: (ولو) أحال ثمَّ (طالب المُحال عليه بما أدّاه، فادّعى المُحيل ثبوته في ذمّته) وأنكره المُحال عليه:

(ف) على المختار من صحّة الحوالة على البريء، لا إشكال في أنّ (القول قول المحال عليه مع يمينه) لأصالة البراءة، فهو منكرٌ يقدّم قوله مع اليمين.

وأمّا على القول الآخر: فعن «المسالك»(1) و «جامع المقاصد»(2) و «مجمع البرهان»(3): تقديم قول المحال عليه، لأنّ أصل البراءة عن الدين يعارض أصالة الصحّة، المقتضية لكون قول المحيل موافقاً للأصل وهو منكر، فيبقى مع المحال عليه أداء دين المحيل بإذنه، فيرجع عليه.

وفيه أوّلاً: إنّ أصل الصحّة مع اعتراف المحال عليه بالحوالة مقدّمٌ على أصل البراءة، لأنّه يقدم على الاُصول التنزيليّة فضلاً عن أصل البراءة.

وثانياً: أنّ اعتراف المحال عليه بالحوالة، اعترافٌ منه باشتغال الذمّة، ومعه لا مورد للرجوع إلى أصل البراءة.

وعليه، فالأظهر أنّ القول قول المحيل على هذا المبنى .

نعم، لو ادّعى المحال عليه أنّه أذن له في أداء دَينه، ولم يكن حوالة يقدّم قوله لأصالة البراءة من شُغل ذمّته، فبإذنه في أداء دينه له مطالبة عوضه.

ودعوى: أنّه في موارد جريان أصالة البراءة المقتضية لتقديم قول المحال عليه،1.

ص: 50


1- مسالك الأفهام: ج 4/220.
2- جامع المقاصد: ج 5/364.
3- مجمع الفائدة: ج 9/311.

ولو أحال المشتري بالثمن ثمّ فَسَخ، بطلت الحوالة،

يجري أصلٌ آخر يعارض تلك، وهو أصالة عدم اشتغال ذمّة المحيل بعوض ما أدّاه المحال عليه.

مندفعة: بأنّ الشكّ في اشتغال ذمّته مسبّبٌ عن الشكّ في اشتغال ذمّة المحال عليه، فأصل البراءة عن اشتغال ذمّته حاكمٌ على هذا الأصل.

أقول: ثمّ إنّ المستفاد من عنوان المسألة - حيث قالوا: لو أحال المحيل ثمّ طالب المحال عليه بما أدّاه - أنّ حال الحوالة حال الضمان في عدم شغل الذمّة بالعوض إلّا بعد الأداء.

وأشكل على ذلك بعضهم: بأنّه كما يحصل بالحوالة الوفاء بالنسبة إلى دين المحيل، فكذا بالنسبة إلى دين المحال عليه للمحيل إذا كان مديوناً، وحصول شغل ذمّة المحيل له إذا كان بريئاً.

وفيه: ما تقدّم في مبحث الضمان(1) من أنّ ما أفادوه ممّا تقتضيه القاعدة، وإجمال ما مرَّ أنّ الحوالة على البريء مثلاً إنّما توجب الضمان من جهة استيفاء مال المحال عليه بأمره، ومن المعلوم أنّ قضيّة ذلك هو الاشتغال بعد الأداء وبمقداره، فراجع ما حقّقناه.

إذا أحال المشتري بالثمن رَدّ البيع

المسألة الرابعة: (ولو أحال المشتريُ ) البائعَ (بالثَّمن ثمّ فَسَخ) البيع بالعيب أو بغيره ممّا يقتضي الفسخ من حينه: (بطلت الحوالة) عند الشيخ في محكي

ص: 51


1- تقدّم في أوائل هذا الجزء، صفحة 7.

على إشكالٍ .

«المبسوط»(1)، والفخر(2)، والمحقّق الثاني(3)، والمقدّس الأردبيلي(4)، لأنّها تتبع البيع في ذلك.

وعن «القواعد»: (بطلت إنْ قلنا إنّها استيفاء، فإذا بطل الأصل بطلت هيئة الإرفاق، وإنْ قلنا إنّها اعتياضٌ لم تبطل)(5)، ولعلّه قال المصنّف رحمه الله هنا (على إشكالٍ )، وقال المحقّق في «الشرائع»: (وفيه تردّد)(6) كما عن «الإرشاد»(7)، و «التحرير»(8)، و «التذكرة»(9).

أقول: ولكن ما علّلوا به بطلان الحوالة عليلٌ ، إذ الحوالة حين ما وقعت كانت صحيحة لازمة لوجود شرائط الصحّة واللّزوم، ولا وجه لبطلانها بفسخ البيع، لأنّ الحوالة وإنْ تتبع البيع لوقوعها على الثمن، إلّاأنّ فسخها ليس تابعاً لفسخ البيع، بل هي حينئذٍ من قبيل تصرّف أحد المتبايعين فيما انتقل إليه ثمّ حصل الفسخ، والكلام فيه بفروعه تقدّم في مبحث الخيارات(10)، وعرفت أنّه في بعض الموارد يوجب7.

ص: 52


1- المبسوط: ج 2/313.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/95.
3- جامع المقاصد: ج 5/365.
4- مجمع الفائدة: ج 9/312.
5- قواعد الأحكام: ج 2/163-164.
6- شرائع الإسلام: ج 2/363.
7- إرشاد الأذهان: ج 1/402.
8- تحرير الأحكام: ج 2/580-581 (ط. ج).
9- تذكرة الفقهاء: ج 2/107 (ط. ج).
10- فقه الصادق: ج 25/7.

ويرجعُ المشتريُ على البائع مع قبضه، ولو أحالَ البائعُ أجنبيّاً ثمّ فَسَخ لم تبطل الحوالة، ولو بطل البيعُ بطلت فيهما.

سقوط الخيار، وفي بعض آخر لا يسقط، وينتقل إلى العوض. فراجع ما ذكرناه.

وأمّا ما أفاده المصنّف رحمه الله في «القواعد»، فيردّه ما مرّ من أنّ الحوالة معاملة مستقلّة، وليس حالها حال ما ذكره، ونظيراً له وهو ما إذا اشترى شيئاً بدراهم مكسورة فدفع إلى البائع الصحاح، أو دفع بدلها شيئاً آخر وفاءً ، حيث أنّه إذا انفسخ البيع يرجع إليه ما دفع من الصحاح أو الشيء الآخر لا الدراهم المكسورة، لأنّ الوفاء بهذا النحو ليس معاملة لازمة، بل يتبع البيع في الانفساخ بخلاف الحوالة التي هي معاملة مستقلّة لازمة لاتنفسخ بانفساخ البيع.

وعليه، فالأظهر عدم بطلانها.

(و) على البطلان (يرجع المشتري على البائع) ويستعيده (مع قبضه)، وإنْ لم يكن قد قبضه، فهو باقٍ في ذمّة المحال عليه للمشتري.

(ولو أحال البائع أجنبيّاً) له عليه دينٌ بالثمن على المشتري، (ثمّ فَسَخ) المشتري بما يقتضى الفسخ من حينه، (لم تبطل الحوالة) بلا خلافٍ ، بل عن الفخر في «شرح الإرشاد»(1) الإجماع عليه.

ووجهه ظاهر، لأنّ الحوالة غير متعلّقة بالمتبايعين، فلا موهم لرفع اليد عن أصالة اللّزوم.

(ولو بطل البيع) من أصله (بطلت) الحوالة (فيهما)، لأنّ الحوالة إنّما هي على ما6.

ص: 53


1- حكاه عنه في الجواهر: ج 26/184، وفي المستمسك: ج 13/317 م 16.

في ذمّته، وانكشف بذلك عدم اشتغال ذمّة المحال عليه، فهي حينئذٍ نظير ما لو أحال شخصٌ على من يراه مديوناً ثمّ ظهر عدم الدَّين.

حكم الحوالة المستحدثة

أقول: قد تداول أخيراً بين التّجار أخذ الزيادة وإعطائها، في الحوالات المسمّاة عندهم بصرف البرات، ويطلقون عليه بيع الحوالة وشرائها، وهي على أقسام:

القسم الأوّل: أن يدفع الشخص إلى التاجر مبلغاً، ويأخذ ذلك المبلغ بعينه من طرفه في بلدٍ آخر. والظاهر أنّ الحكم فيه خالٍ عن الإشكال، سواءٌ كان ذلك بعنوان البيع بأنْ يبيع المبلغ المعيّن مثلاً مائة دينار بمبلغ يساويها يدفعه في بلد آخر، أو بعنوان القرض بأنْ يقترض منه أو يقرضه ذلك المبلغ ليسلّمه في بلدٍ آخر.

أمّا إذا كان بعنوان البيع فواضح، وأمّا إذا كان بعنوان القرض فلعدم الزيادة فيه.

وقد استشكل فيه بعض الأساطين، مع كون المصلحة للمُقرِض لجرّ النفع.

ولكنّه ضعيفٌ ، لأنّ الممنوع عنه هي الزيادة في القرض عيناً أو صفةً ، وليس هذا واحداً منهما، مع أنّ جملة من النصوص تدلّ على جوازه:

منها: خبر يعقوب بن شعيب، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: يسلّف الرّجل الوَرِق على أن ينقدها إيّاه بأرضٍ أُخرى ، ويشترط عليه ذلك ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(1).

ومنها: خبر السكوني، عنه عليه السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

ص: 54


1- الكافي: ج 5/255 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/196 ح 23475.

«لابأس بأنْ يأخذالرّجل الدراهم بمكّة، ويكتب لهم سفاتج أن يعطوها بالكوفة»(1).

ومنها: خبر أبي الصباح، عنه عليه السلام:

«في الرّجل يبعث بمالٍ إلى أرضٍ ، فقال للذي يريد أن يبعث به: أقرضنيه وأنا أُوفيك إذا قَدِمت الأرض ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(2).

ومنها: خبر إسماعيل بن جابر، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: يدفع إليَّ الرّجل الدراهم فأشترط عليه أن يدفعها بأرضٍ أُخرى سوداء بوزنها، وأشترط ذلك ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(3).

ونحوها غيرها.

وهي إمّا ظاهرة في القرض، أو القرض أظهر مصاديقها.

القسم الثاني: أن يدفع الشخص مبلغاً للتاجر ويأخذ الحوالة من المدفوع إليه بالأقلّ منه، والظاهر أنّه لا إشكال فيه أيضاً، كان ذلك منزّلاً على البيع أو القرض:

أمّا الأوّل: فلعدم تتحقّق الرِّبا البيعي في هذه المعاملة.

وأمّا الثاني: فلأنّ الربا في القرض هو أن يأخذ الدائن من المدين الزيادة مع الشرط، وأمّا لو كان الشرط نفعاً للمستقرض كما في الفرض، فلا يكون رباً، بل هو جائزٌ كما مرّ في كتاب القرض(4).

القسم الثالث: أن يدفع التاجر مبلغاً كمائة دينار لشخصٍ في بلدٍ ليأخذه في بلدٍ3.

ص: 55


1- الكافي: ج 5/256 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/196 ح 23477.
2- الكافي: ج 5/256 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/196 ح 23476.
3- التهذيب: ج 7/110 ح 79، وسائل الشيعة: ج 18/19723479.
4- فقه الصادق: ج 29/253.

آخر مع الزيادة:

فإنْ كان ذلك بعنوان البيع صَحّ لما مرّ.

وإنْ كان بعنوان القرض، واشترط ذلك في ضمن القرض بطل، لأنّه من الرّبا الممنوع عنه.

وللفرار من الرّبا لابدّ من إعمال بعض الحيل الشرعيّة:

منها: أن يقرض منه بلا شرطٍ، وبعد تماميّته يحوّله المقترض لأنْ يأخذ المبلغ مع الزيادة من شخصٍ ثالثٍ في بلدٍ آخر.

***

ص: 56

وأمّا الكفالة:

الكفالة

(وأمّا الكفالة) بالفَتح، فلا ريب في أنّها من العقود الصحيحة، بل عن «التذكرة»(1) أنّها كذلك عند عامّة أهل العلم، والإجماع، وبناء العقلاء، والنصوص الآتي طرفٌ منها تشهد به، ولكنّها مكروهة لصحيح حفص بن البُختري(2)، وخبر الحَذّاء(3)، ومرسل الصدوق(4)، وخبري داود الرّقي(5) وإسماعيل بن جابر(6).

وأمّا الكلام فيما يعتبر في عقده وفي المتعاقدين فكما مرّ في اُختيها.

وأمّا حقيقتها: فهي التعهّد بإحضار النفس المستحقّ عليها ذلك لسبب حقٍّ ، ولو دعوى للمكفول له عليها.

أقول: وما عن بعضٍ من صحّة كفالة الأعيان المضمونة عنده، أو الأعيان التي يُراد الشهادة عليها، فتجوز كفالة الدابّة والكتاب وغيرهما للشهادة على أعيانها.

غيرتامّ ، إذ الكفالة عند العرف ليست إلّاما تقدّم، وما ذُكر داخلٌ في الضمان كما مرَّ، والمحكيّ عن «التذكرة»(7) تخصيصها بما إذا كان النفس ممّن يجب عليه حضور مجلس الحكم، وعليه فلا يصحّ كفالة الصبيّ والمجنون.

ص: 57


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/99 و 100 (ط. ق).
2- الكافي: ج 5/103 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/428 ح 23974.
3- الخصال: ص 12 ح 41، وسائل الشيعة: ج 18/428 ح 23977.
4- من لايحضره الفقيه: ج 3/97 ح 3405، وسائل الشيعة: ج 18/428 ح 23975.
5- التهذيب: ج 6/210 ح 9، وسائل الشيعة: ج 18/429 ح 23978.
6- من لا يحضره الفقيه: ج 3/168 ح 3632، وسائل الشيعة: ج 18/428 ح 23976.
7- تذكرة الفقهاء: ج 2/99 و 100 (ط. ق).

فيشترط فيها رضا الكفيل، والمكفول له خاصّة.

ولكن الظاهر كما أفاده في محكي «القواعد»(1) أعمّيتها من ذلك وممّن يجبُ إحضاره للشهادة أو غيرها.

نعم، لا تصحّ الكفالة على حَدّ من حدود اللّه تعالى بلا خلافٍ ، لقوله صلى الله عليه و آله في المرويّ من طرق الخاصّة والعامّة -: «لا كفالة في حَدّ»(2).

أقول: وتمام الكلام يتحقّق في هذا المقام في طيّ مسائل:

شرائط الكفالة

المسألة الأُولى: الكفالة من العقود، لأنّ الكفيل يلتزم إحضار المكفول متى طلبه المكفول له، والمكفول له يقبل ذلك، وعليه:

(فيُشترط فيها رضا الكفيل، والمكفول له) كما هو المشهور، بل في «الجواهر»(3)دعوى الإجماع عليه، أضف إلى ذلك أنّ من المعلوم عدم الالتزام بحقٍّ بدون رضا الطرفين.

وأمّا المكفول عنه: فالمعروف عدم اعتبار رضاه، وإليه أشار المصنّف رحمه الله بقوله (خاصّة).

ص: 58


1- قواعد الأحكام: ج 2/167.
2- الكافي: ج 7/255 ح 1، وسائل الشيعة: ج 28/44 ح 34172، دعائم الإسلام: ج 2/65، مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/439 ح 15846، والسنن الكبرى للبيهقي: ج 6/77 ح 11198.
3- جواهر الكلام: ج 26/186.

واستدلّوا له: بوجوب الحضور عليه، أو إحضاره متى طلب صاحب الحقّ وإنْ لم يكن ثمّة كفالة، وعليه فالكفيل بمنزلة الوكيل، حيث طلب منه المكفول له بإحضاره، وبما عن «التذكرة»(1) من دعوى الإجماع عليه.

وعن الشيخ(2)، والقاضي(3)، والحِلّي(4): اعتبار رضاه، وقوّاه المصنّف في محكي «التحرير»(5)، وصاحب «الجواهر» فيها(6)، واستدلّ له:

1 - بأنّه إذا لم يرض المكفول عنه بها، لم يلزمه الحضور مع الكفيل، فلم يتمكن من إحضاره، فلا تصحّ كفالته، لأنّها كفالة بغير المقدور، ولا تقاس بالضمان لإمكان وفاء دينه من مال غيره بغير إذنه، ولا يمكن أن ينوب عنه في الحضور.

2 - وباحتمال اعتبار رضا المكفول عنه في تحقّق مسمّاها، فيشكّ بدونه في صدقها، فلا يصحّ التمسّك بإطلاق دليل الكفالة، والأصل عدم ترتّب أثر الكفالة.

ولكن يرد على الأوّل أوّلاً: أنّه مصادرة محضة، إذ مع تحقّق الكفالة وشمول أدلّتها لها، يلحقها حكمها، وهو وجوب الإحضار الملازم لوجوب الحضور.

وثانياً: أنّ فرض الكفالة إنّما هو فيما لو كان المكفول له مستحقّاً على المكفول عنه حضوره متى طلبه، وعليه فيجبُ عليه الحضور وإنْ لم يكن مكفولاً، وفائدة الكفالة راجعة إلى التزام الكفيل بالإحضار حيث يطلبه المكفول له.7.

ص: 59


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/100 (ط. ق).
2- المبسوط: ج 2/337.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/12.
4- السرائر: ج 2/77.
5- تحرير الأحكام: ج 2/567 البحث الثامن من بحوث الكفالة (ط. ج).
6- جواهر الكلام: ج 26/187.

وفي اشتراط الأجل قولان.

ودعوى: أنّه في الكفالة يثبتُ حقٌّ زائدٌ على الوكالة، لأنّه متى تعلّق حقّ الكفالة كان له إحضاره، لإرادة البراءة من عهدته من دون طلب المكفول له.

مندفعة: بأنّ ذلك وإنْ كان حقّاً - كما عن «التذكرة»(1) و «التحرير»(2) و «جامع المقاصد»(3)، بل عن الكركي: أنّه قطعي - إلّاأنّه بعد تحقّق الكفالة، يكون إحضار الكفيل وطلبه حضور المكفول بمنزلة طلب المكفول له، فكأنّه بالكفالة يوكّله في الإحضار متى أراد، وعليه فيجبُ على المكفول الحضور لذلك.

وأمّا الثاني: فيتوجّه عليه:

أوّلاً: عدم اعتبار رضا المكفول ولا قبوله في صدق الكفالة عرفاً، كيف والكفالة من الاعتباريّات العقلائيّة، ولا شكّ عندهم في صدقها بدون ذلك.

وثانياً: أنّه لو سُلّم في صدقها يكفي في صحّة هذا القسم عموم أدلّة إمضاء المعاملات، فلا ينبغي الإشكال في عدم اعتبار رضاه.

وبالجملة: بما ذكرناه يظهر عدم اعتبار قبوله أيضاً، فهي كالحوالة والضمان من العقود المركّبة من إيجابٍ وقبول، وليست إيقاعاً ولا عقداً مركّباً من إيجاب وقبولين.

(وفي اشتراط الأجل) في الكفالة (قولان):

1 - المشهور بين الأصحاب عدم الاشتراط، فتصحّ الكفالة حالّة، كما5.

ص: 60


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/100 (ط. ق).
2- تحرير الأحكام: ج 2/571 (ط. ج).
3- جامع المقاصد: ج 5/385.

تصحّ مؤجّلة.

2 - وعن الشيخين في «المقنعة»(1)، و «النهاية»(2)، وابن حمزة(3) وسلّار(4)والقاضي(5) في أحد قوليه: اعتبار الأجل فيها، فلا تصحّ حالّة.

ولا دليل لهم سوى الاقتصار على المتيقّن، وعدم الفائدة في الحالّة، وهما كما ترى .

وعليه، فالأظهر عدم اعتباره لإطلاق الأدلّة، فللمكفول له أنْ يطالب من الكفيل إحضاره المكفول وقت وقوع الكفالة، ومع التأجيل لا فرق بين الكفالة إلى مدّة الشهر، فيلزم الإحضار بعد الشهر، وبين الكفالة في مدّةٍ بمعنى التعهّد به في ضمن الشهر مثلاً، وإنْ شئتَ سمِّ الثانية بالمؤقّتة، والأُولى بالمؤجّلة كما صنعة المصنّف رحمه الله في محكي «التحرير»(6).

ويعتبر مع التأجيل تعيين الأجل، كما هو المشهور، بل الإجماع بقسميه عليه كما في «الجواهر»(7)، وهو الحجّة مع عموم نفي الغَرر(8)، بناءً على عدم اختصاصه بالبيع كما هو المختار.3.

ص: 61


1- المقنعة: ص 733.
2- النهاية: ص 315، قوله: (ولا يصحّ ضمان مال ولا نفس إلّابأجل).
3- الوسيلة: ص 281.
4- المراسم: ص 203.
5- حكاه عنه العلّامة في مختلفة الشيعة: ج 6/12.
6- تحرير الأحكام ج 2/569 البحث السادس عشر من بحوث الكفالة (ط. ج).
7- جواهر الكلام: ج 26/188-189.
8- التذكرة: ج 1/466 (ط. ق). صحيح مسلم: ج 3/1153 ح 1513.

وتعيين المكفول.

(و) من شرائط الكفالة: (تعيين المكفول):

ففي «الحدائق»: (لا خلاف بينهم في وجوب كون المكفول معيّناً، فلو قال:

كفلتُ أحد هذين، لم يصحّ ، وكذا لو قال: كفلتُ بزيدٍ أو فلان، وكذا لو قال: كفلتُ بزيدٍ فإنْ لم آتِ به فبعمرو، لاشتراك الجميع في الجهالة وإبهام المكفول)(1) انتهى .

أقول: والأصل في ذلك بعد الإجماع، أنّه حيث يختلف الأشخاص في الإحضار سهولةً وعدمها، فمع الجهل به لا محالة يلزم الغَرر، وقد مرّ أنّ دليل نفي الغَرر لا يختصّ بالبيع، هذا مع التعيّن واقعاً، وأمّا مع الإبهام الواقعي فالأمر أوضح، لأنّ المبهم لا تحقّق له.

فرع: لو تعلّقت الكفالة بأحد شخصين بنحو التخيير، لا بنحو أحدهما المعيّن واقعاً غير المعيّن عندهما، فهل تصحّ أم لا؟

الظاهر عدم الصحّة، لا لما قيل من الجهالة لعدم الجهل، ولا لما قيل من أنّ حقّ الكفالة من قبيل الملك الذي لا يقبل مثل هذا، فإنّه في الملك أيضاً يمكن الالتزام به، ثمّ التعيين بالقرعة، أو اختيار المالك.

وبعبارة أُخرى : كما يصحّ ملك الكلّي في المعيّن، كذلك ملك أحد فردين بنحو التخيير.

بل لأنّ متعلّق الحقّ :4.

ص: 62


1- الحدائق الناضرة: ج 21/74.

وعلى الكافل دفع المكفول، أو ما عليه.

إنْ كانا هما معاً كما في الواجب التخييري، فتكون كفالة كلّ منهما مقيّدة بعدم الإتيان بالآخر، فتكون الكفالة حينئذٍ معلّقة، والتعليق موجبٌ لبطلان كلّ عقدٍ بالإجماع.

وإنْ كان المتعلّق أحدهما بنحو الكلّي في المعيّن، فتبطل للغرر إنْ لم يتساوى الشخصان في الإحضار سهولةً وصعوبةً . فتدبّر فإنّه دقيق.

الكفيل مخيَّر بين دفع المكفول أو ما عليه

(و) المسألة الثانية: إذا تحقّقت الكفالة، وجب (على الكافل) مع مطالبة المكفول له (دفع المكفول) عاجلاً إذا كانت الكفالة مطلقة، أو معجّلة، وبعد الأجل إنْ كانت مؤجّلة، فإنْ سلّمه فقد بَرئ من ما كان عليه، وإنْ لم يتسلّمه، لأنّ متعلّق الحقّ تسليمه لا تسلّمه.

وإنْ امتنع الكفيل من ذلك، أجبره الحاكم، وإنْ امتنع حبسه حتّى يحضره (أو) يؤدِّي (ما عليه)، كما صرّح به غير واحد(1).

ويشهد لجواز حبسه:

1 - خبر عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أتى أمير المؤمنين عليه السلام برجلٍ قد تكفّل بنفس رجلٍ فحبسه، وقال: اطلب صاحبك»(2).

ص: 63


1- كما في الروضة البهيّة: ج 4/152-153، و رياض المسائل: ج 8/600 (ط. ج).
2- الكافي: ج 5/105 ح 6، وسائل الشيعة: ج 18/430 ح 23984.

2 - وخبر الأصبغ بن نُباتة، قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجلٍ تكفّل بنفس رجلٍ أن يُحبس، وقال عليه السلام له: اطلُب صاحبك»(1).

3 - خبر إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام:

«أنّ عليّاً عليه السلام أتى برجلٍ كفل برجلٍ بعينه، فأخذ بالمكفول، فقال عليه السلام: احبسوه حتّى يأتي بصاحبه»(2).

ونحوها غيرها.

وأمّا التخيير بينه وبين دفع ما عليه، فقد يقال: إنّه لا دليل عليه، بل ظاهر النصوص المتقدّمة تعيّن الأوّل، ومن هنا قال في «التذكرة»(3) وغيرها إنّه لا يجب القبول على المكفول له لو بذل الكفيل له الحقّ ، لعدم انحصار الغرض فيه، إذ قد يكون له غرضٌ لا يتعلّق بالأداء، أو بالأداء من الغريم لا من غيره، فله حينئذٍ إلزامه بالإحضار، خصوصاً ممّا لا بدل له كحقّ الدعوى، أو في ذي البدل الاضطراري كالدية عوض القتل، ومهر المثل عوض الزوجة.

ولكن يمكن أن يُذكر لوجوب القبول، ولتخيير الكفيل بين دفع المكفول أو ما عليه وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الكفالة بنفسها مقتضية لذلك، لأنّ مبناها عرفاً على ذلك، وهو المقصود بين المتعاملين بها.

وإنْ شئتَ عبّر عنه: بأنّ دفع ما عليه إنْ لم يحضره من قبيل الشرط الضمني).

ص: 64


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/95 ح 3400، وسائل الشيعة: ج 18/431 ح 23985.
2- التهذيب: ج 6/209 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/431 ح 23986.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/101 (ط. ق).

ومَنْ أطلق غريماً عن يد صاحبه قهراً، لزومه إعادته أو ما عليه.

من الطرفين، فيجوز للمكفول مطالبة ما على الكفيل إنْ لم يحضره، وللكفيل أن يدفعه ابتداء.

الوجه الثاني: أنّ وفاء ما على الشخص يجوز وإنْ لم يرض الدائن بذلك.

الوجه الثالث: جملة من النصوص:

منها: مرسلة الصدوق، قال: «قال الصادق عليه السلام: الكفالة: خسارة، غرامة، ندامة»(1).

ومنها: ما في خبر الرّقي، عنه عليه السلام: «مكتوبٌ في التوراة: كفالة ندامة غرامة»(2).

وعلى هذا، فإنْ أدّى ما عليه، يرجع به على المكفول إنْ كان الأداء بإذنه أو كانت الكفالة بإذنه:

أمّا في الأوّل: فواضح.

وأمّا في الثاني: فلأنّ الكفالة إذا اقتضت تخيير الكفيل بين إحضار المكفول أو دفع ما عليه، كان الإذن فيها إذناً في الدفع فيضمن، لاستيفاء مال الغير بالإذن.

إطلاق الغريم من يد صاحب الحقّ

المسألة الثالثة: (ومَنْ أطلق غريماً عن يد صاحبه) أو وكيله (قهراً لزمه إعادته أو ما عليه) بلا خلافٍ ظاهرٍ كما عن «الرياض»(3)، وعليه الإجماع كماعن الصيمري(4).

ص: 65


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/97 ح 3405، وسائل الشيعة: ج 18/428 ح 23975.
2- لتهذيب: ج 6/210 ح 9، وسائل الشيعة: ج 18/429 ح 23978.
3- رياض المسائل: ج 8/604 (ط. ج).
4- حكاه عنه في الجواهر: ج 26/199.

أقول: أمّا لزوم إعادته، فقد استدلّ له:

تارةً : بأنّه بإطلاقه الغريم قهراً غاصبٌ ، فعليه ضمان ماغَصَبه بإحضاره، لأنّ اليد المستولية يد شرعيّة مستحقّة، وبه يتحقّق الغصب، ويبتني عليه الضمان بالإحضار.

واُخرى : بحديث لا ضَرر ولا ضِرار(1).

وثالثة: بدعوى شمول قوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(2) لمثل ذلك.

وفيها: في الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلعدم صدق الغاصب عليه، سيّما وهو غير داخل تحت استيلائه.

وأمّا الثاني: فلما مرّ من أنّ حديث لا ضرر نافٍ للحكم، ولا يكون مثبتاً.

وأمّا الثالث: فلأنّ الإطلاق غير الاستيلاء على الشيء، مع أنّه مختصٌّ بالأعيان.

وعليه، فالصحيح أن يستدلّ له بفحوى ما سيمرّ عليه في القاتل معتضدةً بالإجماع المُدّعى، وبه يظهر حال وجوب أداء ما عليه.

وربما يستدلّ له: بأنّه تفويتٌ لمال الغير فيضمن.

ويدفع: بأنّ الإتلاف موجبٌ للضمان، وأمّا التفويت فلم يدلّ دليلٌ على كونه من موجبات الضمان.

ودعوى : شمول الإتلاف للتفويت، لأنّه أعمٌّ من اعدام الموجود والمنع من الوجود.

مندفعة: بأنّه بحسب المفهوم العرفي مختصٌّ بالأوّل.2.

ص: 66


1- وسائل الشيعة: ج 18/31-32 باب 17 من أبواب الخيار كتاب التجارة.
2- سنن البيهقي: ج 6/90 ح 11262.

ولو كان قاتلاً دفعه أو الدية، ولو ماتَ المكفول أو دفعة الكفيل أو سلَّم نفسه أو أبرأه المكفول له، يبرأ الكفيل.

قال المصنّف رحمه الله: (ولو كان) الغريمُ (قاتلاً دفعه أو الدية) بمعنى أنّه يجب عليه دفعه، وإنْ لم يتمكّن فالدية، كما يشهد بذلك صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن رجلٍ قتل رجلاً عمداً، فرفع إلى الوالي، فدفعه الوالي الى أولياء المقتول ليقتلوه، فوثبَ عليهم قومٌ فخلّصوا القاتل من أيدي الأولياء؟

قال عليه السلام: أرى أن يُحبس الذي خلّص القاتل من أيدي الأولياء حتّى يأتوا بالقاتل.

وقيل: فإنْ ماتَ القاتل وهم في السجن ؟

قال: وإنْ مات، فعليهم الدّية يؤدّونها جميعاً إلى أولياء المقتول»(1).

فما عن صريح جماعةٍ (2) وظاهر آخرين من التخيير من الأوّل بين دفعه أو الدية لا وجه له.

نعم، فيما كان على المطلق قهراً الدّية، اتّجه تخييره كما مرّ في تخيير الكفيل بين دفع المكفول أو أداء ما عليه.

المسألة الرابعة: (ولو مات المكفول، أو دفعة الكفيل، أو سَلّم نفسه، أو أبرأه المكفول له، يبرأ الكفيل) بلا خلافٍ في شيء من تلكم.9.

ص: 67


1- الكافي: ج 7/286 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/437 ح 23997.
2- ذكر هذا الوجه صاحب الجواهر: ج 26/199.

ولو عيّنا موضع التسليم لزم.

أمّا الحكم الأوّل: فلتعلّق الكفالة بالنفس، وقد فاتت بالموت، والإحضار المذكور في الكفالة إنّما ينصرف إلى حال الحياة.

أقول: والظاهر أنّه لا خلاف فيه، نعم قال الشهيد الثاني رحمه الله: (هذا كلّه إذا لم يكن الغرض الشهادة على صورته، وإلّا وجب إحضاره ميّتاً مطلقاً، حيث يمكن الشهادة عليه)(1) انتهى .

ولا بأس به إنْ كانت الكفالة شاملة له، وإلّا فلا.

وأمّا الثاني: فوجهه واضح.

وأمّا الثالث: فلحصول الغرض.

وقال في «التذكرة»: بعد تقييده بما إذا سَلّم نفسه من جهة الكفيل، بأنّه: (فلو لم يُسلمه نفسه من جهته لم يبرأ الكفيل، لأنّه لم يُسملّه إليه ولا أحدٍ من جهته)(2)، وهو كما ترى .

وبه يظهر حكم الرابع.

المسألة الخامسة: (ولو عيّنا موضع التسليم لزم) عملاً بالشرط، ولا يبرأ بالدفع في غيره، إنْ كان تعيين موضع التسليم مأخوذاً قيداً في العقد، وإنْ أُخذ شرطاً، فغاية ما هناك تخلّف الشرط، وإلّا فقد عمل بمقتضى الكفالة فتسقط ويبرأ.

ولعلّه يمكن التصالح بين الشيخ وابن البرّاج وبين المشهور، حيث أنّ المشهور).

ص: 68


1- مسالك الأفهام: ج 4/250.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/101 (ط. ق).

وإلّا انصرف إلى بلد الكفالة.

قائلون بعدم البراءة لو دفع غير ما عُيّن للتسليم، وذهب الشيخ رحمه الله(1) وابن البرّاج(2)إليحصول البراءة لو لم يكن عليه مؤونة في حمله إلى موضع التسليم ولا ضرر. فتأمّل.

وعلى التقديرين، لا يجبُ عليه القبول لو دفعه في غير موضع التسليم، بل يجوز له إجباره بالتسليم في الموضع المعيّن.

هذا إذا عيّنا موضعاً للتسليم، (و إلّا) فقد قالوا: (انصرف إلى بلد الكفالة).

وعن ابن حمزة: (أنّه يلزمه التسليم في دار الحاكم، أو موضع لا يقدر على الامتناع)(3).

وقد تقدّم الكلام في ذلك في فصل السَّلَم من كتاب البيع(4).

***).

ص: 69


1- المبسوط: ج 2/338.
2- كما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/13.
3- الوسيلة: ص 281.
4- راجع: فقه الصادق: ج 27/172، (الفصل الثاني عشر: في السلف).

الفصل الخامس: في الصُّلح، وهو جائزٌ.

(الفصل الخامس: في الصُّلح)

اشارة

وهو التسالم على أمرٍ من تمليك عينٍ أو منفعةٍ ، أو إسقاط دينٍ أو حقٍّ ، أو غير تلكم، وهو في جميع هذه الموارد شيءٌ واحد يُنشأ مستقلّاً، ولا يكون تابعاً للعقود الاُخر كما قيل من إنّه فرع البيع إذا أفاد نقل المِلك بعوض معلوم، وفرع الإجارة إذا وقع على المنفعة، وفرع الهبة إذا أفاد مِلْك العين بغير عوض، وفرع العارية إذا تضمّن إباحة منفعةٍ بغير عوض، وفرع الإبراء إذا تضمّن إسقاط الدين، وإلّا لزم كون الصُّلح مشتركاً لفظيّاً، وهو واضح البطلان، فيتعيّن كون مفهومه معنى آخر غير كلّ واحدٍ من الاُمور المذكورة، وذاك المعنى ليس إلّاالتسالم الإنشائي، فيفيد في كلّ موردٍ فائدةً من الفوائد بحسب ما يقتضيه متعلّقه.

أقول: ثمّ إنّه ما في جملةٍ من الكلمات - منها كلام الشيخ الأعظم رحمه الله(1) - من (أنّ الصُّلح إذا تعلّق بالعين بعوضٍ يتضمّن التمليك) فيه مسامحة واضحة، إذ الصُّلح لا يتعلّق بالعين ولا بالمنفعة، بل هو نظير الالتزأم لا يعقل تعلّقه إلّابفعلٍ أو نتيجة كالملكيّة، ولذا لا يصحّ جعل العين مفعوله الثاني كما لا يخفى .

(وهو) عقدٌ (جائزٌ) بلا خلافٍ ولا إشكال، ففي صحيح حفص بن البختري - أو حسنه - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الصُّلح جائزٌ بين النّاس»(2).

ص: 70


1- المكاسب: ج 3/13.
2- الكافي: ج 5/259 ح 5، وسائل الشيعة: ج 18/443 ح 24010.

وعن «الفقيه»، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: الصُّلح جائزٌ بين المسلمين، إلّا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرّم حلالاً»(1).

ومثله خبر مسعدة بن صدقة، عن الإمام الصادق عليه السلام(2).

و في صحيح هشام، عنه عليه السلام: «لأنْ أصلح بين اثنين أحبّ إليَّ من أن أتصدّق بدينارين»(3).

إلى غير تلكم من النصوص التي سيمرّ عليك طرفٌ منها.

وأمّا الآيات: التي استدلّ بها لمشروعيّته وهي:

1 - قوله تعالى: (وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ) (4).

2 - وقوله سبحانه: (وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما) (5).

3 - وقوله عزَّ من قائل: (إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (6).

4 - وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ ) (7).

إلى غير تلكم من الآيات، ففي دلالة ما عدا الأولى منها على الصُّلح العقدي الذي هو محلّ الكلام تأمّلٌ ، بل قيل في الأوّل أيضاً.1.

ص: 71


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/32 ح 3267، وسائل الشيعة: ج 18/443 ح 24011.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/443 ح 15854.
3- الكافي: ج 2/209 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/439 ح 24000.
4- سورة النساء: الآية 128.
5- سورة الحجرات: الآية 9.
6- سورة الحجرات: الآية 10.
7- سورة الأنفال: الآية 1.

مع الإقرار والإنكار.

وكيف كان، فهو لازمٌ من الطرفين مع تحقّق شرائطه بلا خلافٍ ، لعموم ما دلَّ على لزوم العقد(1).

حكم الصُّلح مع الإنكار

أقول: وتمام البحث يتحقّق في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: الصُّلح جائزٌ (مع الإقرار والإنكار) بلا خلافٍ فيه، بل الإجماع بقسميه عليه كما في «الجواهر»(2)، وموضع وفاقٍ كما في «المسالك»(3)، ويشهد به إطلاق النصوص الدالّة على الجواز.

وصورة الصّلح مع الإقرار ظاهرة لا إشكال فيها، وصورته مع الإنكار أن يدّعي شخصٌ على غيره ديناً أو عيناً فينكر المدّعى عليه، فتقع المصالحة بينهما إمّا بمالٍ آخر أو ببعض المدّعى به أو غير ذلك من منفعةٍ أو غيرها.

وقد صرّح غير واحدٍ(4) بأنّ المراد بالصحّة، هي الصحّة الظاهريّة، وأمّا بحسب نفس الأمر فلا يستبيح كلّ منهما ما وصل إليه بالصُّلح، وهو غير محقّ .

توضيح ذلك: أنّه:

تارةً : يعلم المصالح بأنّه محقّ .

ص: 72


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- جواهر الكلام: ج 26/212. (3و4) مسالك الأفهام: ج 4/261.

وأُخرى : يعلم بأنّه غير محقّ .

وثالثة: يكون شاكّاً في ذلك أو في مقدار ما يستحقّه.

أقول: لا إشكال في صحّة الصُّلح في الصورة الأولى وإنْ علم بعدم محقيّة مدّعيه، إذ المال له، فكلّ ما وصل إليه منه فهو حقّه، كما لا ريب في صحّته في الصورة الثالثة، بل مبنى شرعيّة الصُّلح وأساسها في هذه الصورة.

وأمّا في الصورة الثانية: فمقتضى جملةٍ من النصوص عدم صحّته، بمعنى أنّه لا يحلّ له ما صُولح عليه:

منها: صحيح عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا كان لرجلٍ على رجلٍ دَينٌ فمطله حتّى مات، ثمّ صالح ورثته على شيء، فالذي أخذ الورثة لهم وما بقي فهو للميّت يستوفيه منه في الآخرة، وإنْ هو لم يصالحهم على شيء حتّى مات، ولم يقض عنه، فهو كلّه للميّت يأخذه به»(1).

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، قال: «قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: رجلٌ يهودي أو نصراني كانت له عندي أربعة آلاف درهم، مات أَلِيَ أن اُصالح ورثته ولا اُعلمهم كم كان ؟

قال عليه السلام: لا يجوز حتّى تخبرهم»(2).

ونحوهما غيرهما.

أقول: ونخبة القول في ما يستفاد من هذه النصوص يتحقّق بالبحث في جهات:

الجهة الاُولى: قال في «المسالك»: (لو كانت الدعوى مستندة إلى قرينةٍ تجوّزها4.

ص: 73


1- الكافي: ج 5/259 ح 8، وسائل الشيعة: ج 18/446 ح 24016.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/33 ح 3269، وسائل الشيعة: ج 18/445 ح 24014.

كما لو وجد المدّعي بخطّ مورّثه أنّ له حقّاً على أحدٍ، أو شهد له من لا يثبت بشهادته الحقّ ، ولم يكن المدّعي عالماً بالحال، وتوجّهت له اليمين على المنكر، فصالحه على إسقاطها بمالٍ أو على قطع المنازعة، فالمتّجه صحّة الصُّلح في نفس الأمر، لأنّ اليمين حقٌّ يصحّ الصُّلح على إسقاطها)(1) انتهى.

واحتمل المحقّق الثاني رحمه الله(2) الصحّة في الفرض.

ولكن الظاهر أنّه ينبغي القطع بالصحّة، وهو خارجٌ عن محلّ الكلام، لأنّ مورد النزاع الصُّلح على ما ليس له، وفي الفرض الصُّلح إنّما يكون على ماله، وهو إسقاط حقّ اليمين.

نعم، ممّا نحن فيه ما لو صالح في المثال على المال نفسه، وهو لا يجوز، وإنْ كان يحتمل استحقاقه واقعاً، إذ الأمارة القائمة لكون المُدّعى به للطرف تقومُ مقام العلم، فهو كالعالم بأنّه ليس له.

الجهة الثانية: قد يناقش على هذا بأنّه على هذا لا يصحّ للحاكم أن يصالح بتنصيف المال بين مدّعيين له، مع العلم بعدم كونه إلّالأحدهما، مع أنّه لا إشكال في صحّته ظاهراً.

وأجاب عنه صاحب «الجواهر» بقوله: (إنّ القطع بالواقع في الجملة لاينافي إجراء الحكم في الظاهر تبعاً لمؤثّريته)(3).

وفيه: إنّ الحكم الظاهري مع القطع بمخالفته للواقع لا مورد له، لأنّه في ظرف احتمال الموافقة، و إلّاخرج عن كونه ظاهريّاً.4.

ص: 74


1- مسالك الأفهام: ج 4/262.
2- جامع المقاصد: ج 5/409.
3- جواهر الكلام: ج 26/214.

إلّا ما حَلّل حراماً أو بالعكس.

والحقّ أنْ يقال: إنّ مبنى شرعيّة الصُّلح على التسالم في مورد الاشتباه، وإنّما الذي لايصحّ هو الصُّلح مع القطع بعدم الاستحقاق، فكما أنّ للمتصالحين الصُّلح على التقسيم مع علمهما بأنّ المال لأحدهما، كذلك للحاكم ذلك مع الجهل.

الجهة الثالثة: إنّ طرف العالِم بعدم الاستحقاق ربما يُصالح على المال مبنيّاً على دعوى المدّعي، ولا يكون راضياً بكون ما يأخذه له، وإنّما يستدفع بالصُّلح ضرراً عن نفسه أو عن ماله، فهو غير مبيحٍ للعالم بعدم الإستحقاق للنصوص المتقدّمة، ولعدم كون ذلك تراضياً مبيحاً لأكل مال الغير.

وربما يصالح عليه على تقديري الاستحقاق وعدمه، ويرضى بكون مقدار من المال له وإنْ لم يكن مستحقّاً، ومثل ذلك معاملةٌ عن تراضٍ وتكون صحيحة، ولا تشملها النصوص المتقدّمة، لأنّها في غير هذا الفرض أو منصرفة عنه، ويشهد به الخبر الصحيح المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في الرّجل يكون عليه الشيء فيصالح ؟ فقال: إذا كان بطيبة نفس من صاحبه فلا بأس»(1).

بناءً على إرادة الصُّلح بالأنقص، كما هو الغالب مع عدم إعلامه بالحال.

حكم الصُّلح المحلّل للحرام أو العكس

المسألة الثانية: يجوز الصُّلح مطلقاً (إلّا ما حَلّل حراماً أو بالعكس).

أقول: قد مرّت النصوص المتضمّنة لهذا الاستثناء، ومثل هذا العنوان - أي

ص: 75


1- التهذيب: ج 6/206 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/446 ح 24015.

تحليل الحرام وتحريم الحلال - وقع مستثنى في عدّة موارد، كما في أدلّة لزوم الوفاء بالشرط، وأدلّة انعقاد اليمين، وقد اختلفت كلمات القوم في تفسيره:

1 - فعن المحقّق القمّي(1): المراد من تحليل الحرام وتحريم الحلال، هو أن يُحدث قاعدة كليّة ويبدع حكماً جديداً، وقد اُجيز في الشرع الصُّلح على كلّ شيء إلّا صلحاً أوجب إبداع حكم كلّي جديد.

2 - وأفاد الشيخ الأعظم رحمه الله في ضابطه، بقوله: (إنّ المراد بالتحليل الترخيص، وبالتحريم المنع، ولكن المراد بالحلال والحرام هو ما كان كذلك، بحيث لا يتغيّر موضوعه بالصُّلح أو الشرط)(2).

وهناك تفاسيرٌ أُخر، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في مبحث الشروط(3)، وبيّنا أنّ الأظهر أنْ يقال: إنّ فاعل (حرّم) و (أحَلَّ ) في قوله عليه السلام: «إلّا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرّم حلالاً»(4) هو الصُّلح، وهذا لا يتحقّق إلّابكون ما صولح عليه حرمة الحلال أو حليّة الحرام، وأمّا الصُّلح على ترك الحلال فهو صلحٌ على ترك التصرّف دون حرمة الحلال.

أورد الشيخ الأعظم رحمه الله: - بعد نقل ذلك عن المحقّق النراقي(5) في باب الشرط - عليه إيرادين:

الإيراد الأوّل: (أنّ الحكم الشرعي أمره بيد الشارع، وغير مقدور للمكلّف،0.

ص: 76


1- راجع عوائد الأيّام: ص 147.
2- المكاسب: ج 6/41.
3- فقه الصادق: ج 26/219.
4- من لايحضره الفقيه: ج 3/32 ح 3267، وسائل الشيعة: ج 18/443 ح 24011.
5- عوائد الأيّام: ص 49-50.

ولا يدخل تحت الجعل، ولا معنى لاستثناءه عمّا يجب الوفاء به، لعدم إمكان الوفاء به عقلاً»(1).

وفيه أوّلاً: إنّ شرط النتيجة لا يعتبر فيه إلّاكونها واقعة بسبب الشرط، ولولا الاستثناء لكنّا ملتزمين بأنّ شرط حرمة الحلال نافذ، وكنّا نستفيد كونها ممّا يقع بالسبب من عموم دليل نفوذ الشرط(2) الشامل له.

وثانياً: إنّ بطلان هذا الشرط من جهة أُخرى غير هذه الجهة لا يكون مضرّاً.

وثالثاً: إنّ الشرط المحرِّم للحلال لاينحصر بشرط حرمة ما يكون حلالاً تكليفاً، بل يشمل ما لو اشترط حرمة ما هو حلالٌ وضعاً، كعدم كون الطلاق بيد الزوج، ونحو ذلك من الاعتباريّات، ومن المعلوم أنّ المشروط حينئذٍ هو ذلك الأمر في اعتبار نفسه، ولولا هذا الاستثناء وما دلّ على أنّ الشرط المخالف للكتاب لا يكون نافذاً، لكنّا ملتزمين بنفوذه.

الإيراد الثاني: أنّ استثناء الشرط المحرِّم إنّما يكون من الشرط الذي يجب الوفاء به، وليست الحرمة والحليّة من أفعال المكلّف كي يجبُ الوفاء بهما.

وفيه: إنّ الوفاء لا يختصُّ بشرط الفعل، لأنّه بمعنى الإنهاء وعدم النقض، وهذا موجودٌ في شرط النتيجة أيضاً.

فتحصّل: أنّ هذا التفسير تامٌّ ، وما ذكر في الشرط يجري في الصُّلح طابق النعل بالنعل.

وتمام الكلام في ذلك في مبحث الشروط(3)، فراجع ما حقّقناه هناك.9.

ص: 77


1- المكاسب: ج 6/40.
2- وسائل الشيعة: ج 18 / ص 16-17 باب 6 من أبواب الخيار كتاب التجارة.
3- فقه الصادق: ج 26/219.

مع علم المُصطَلحين بالمقدار أو جهلهما.

عدم اعتبار العلم بالمقدار

المسألة الثالثة: يصحّ الصُّلح (مع علم المصطلحين بالمقدار) المتنازع فيه (أو جهلهما)، بلا خلافٍ فيه في الجملة، وادّعى صاحب «المسالك»(1) قيام الإجماع عليه.

واستدلّ له: بصحيحي محمّد بن مسلم ومنصور، عن الإمامين الصادقين عليهما السلام أنّهما قالا: «في رجلين كان لكلّ واحدٍ منهما طعامٌ عند صاحبه، ولا يدري كلّ واحدٍ منهما كم له عند صاحبه، فقال كلّ واحدٍ منهما لصاحبه: لك ما عندك، ولي ماعندي ؟

فقال عليه السلام: لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت أنفسهما»(2).

ونحوهما الموثّق(3).

وأُورد عليها: بأنّه ليس في شيء منها تصريحٌ بالصُّلح، ولعلّه أُريد الإبراء.

وفيه: أنّه وإنْ لم يصرّح فيها بالصّلح، إلّاأنّه من جهة ظهورها في إرادة المعاوضة بين ما عند كلّ واحدٍ منهما وما عند صاحبه - وليست إلّاالصُّلح وفهم الأصحاب - تكون ظاهرة في إرادة الصُّلح، مع أنّه يمكن أن يستدلّ لصحّة الصُّلح بأنّ مبنى شرعيّة الصُّلح والغرض المهمّ في شرعيّته هو تحصيل البراءة عند الجهل، فيكون إطلاق أدلّته غير مقيد بما دلَّ على نفي الغَرر»(2).

ص: 78


1- مسالك الأفهام: ج 2/263. (2و3) من لايحضره الفقيه: ج 3/33 ح 3268، وسائل الشيعة: ج 18/445 ح 24013.
2- تذكرة الفقهاء: ج 1/466 (ط. ق). صحيح مسلم: ج 3/1153 ح 1513.

ديناً أو عيناً.

فالمتحصّل: جواز الصُّلح مع العلم بالمقدار أو الجهل به (ديناً) كان (أو عيناً)، وسواءٌ كان إرشادٌ أو غيره، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل عن «التذكرة»:

(عند علمائنا أجمع)(1)، ولا فرق في صورة الجهل بالمقدار بين تعذّر العلم به وتيسّره.

وعن «الرياض»(2) الإشكال في ما إذا كان عيناً وأمكن العلم بالمقدار، ومنشأه عموم الأدلّة بالجواز المعتضدة بإطلاق عبائر كثيرٍ من الأصحاب، وحصول الجهل والغَرر مع إمكان التحرّز عنهما.

وفيه أوّلاً: أنّه لم يظهر فرقٌ بين ما إذا كان ديناً أو عيناً، اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال إنّ الإجماع على الصحّة في ما إذا كان ديناً هو الفارق.

وثانياً: أنّه لو سُلّم شمول دليل النهي عن الغَرر للفرض، فإنّه لا وجه لما أفاده من أنّ النسبة بينه وبين دليل جواز الصُّلح عمومٌ من وجه، فيتعارضان و يتساقطان، والمرجع إلى أصل الفساد، إذ دليل نفي الغَرر حاكمٌ على دليل الصُّلح كحكومته على أدلّة سائر المعاملات.

وثالثاً: ما عرفت من أنّ دليل نفي الغَرر لا يشمل هذا الباب.

وعليه، فالأظهر هي الصحّة مطلقاً.

ولا فرق فيما ذكرناه بين العلم في الجملة بالوصف أو المشاهدة وعدمه. وعليه فما عن الأردبيلي رحمه الله من اعتبار العلم في الجملة وإنْ لم يعتبر المعلوميّة المعتبرة).

ص: 79


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/178 (ط. ق).
2- رياض المسائل: ج 9/39 (ط. ج).

ولا يبطل إلّابرضاهما أو استحقاق أحد العوضين.

ولو اصطلح الشريكان على أنّ لأحدهما الربح والخسران، وللآخر رأس المال صَحّ .

في البيع ونحوه، غير ظاهر الوجه.

نعم، يعتبر عدم الإبهام، لما مرّ من أنّ المبهم لا حقيقة له ولا تحقّق، لكنّه خارجٌ عن محلّ الكلام.

المسألة الرابعة: (ولا يبطل) الصُّلح (إلّا برضاهما، أو استحقاق أحد العوضين) بلا خلافٍ .

أمّا عدم بطلان الصُّلح في غير الموردين: فلما مرّ من لزوم الصُّلح.

وأمّا بطلانه في المورد الأوّل: فلما مرّ في كتاب الإجارة(1) من مشروعيّة الإقالة في جميع العقود.

وأمّا البطلان في المورد الثاني: فواضحٌ .

وقوع الصُّلح من الشريكين على كون الربح والخسران لأحدهما

المسألة الخامسة: (ولو اصطلح الشريكان على أنّ لأحدهما الربح والخُسران وللآخر رأس المال صَحّ ) بلا خلافٍ في الجملة فيه.

أقول: والأصل في هذا الحكم، هو الخبر الصحيح - أو الحسن - الذي رواه الحلبي عن الكليني في «الكافي» بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في رجلين اشتركا في مالٍ وربحا فيه ربحاً، وكان المال ديناً عليهما، فقال

ص: 80


1- فقه الصادق: أوّل ج 28/7، (كتاب الإجارة والوديعة وتوابعها).

أحدهما لصاحبه: أعطني رأس المال والربح لك وعليك ما توى (1)؟

فقال عليه السلام: لا بأس به إذا اشترط عليه، وإن كان شرطاً يخالف كتاب اللّه عزّ وجلّ فهو رَدّ إلى كتاب اللّه عزّ وجلّ »(2).

ورواه الشيخ رحمه الله في «التهذيب»(3) إلّاأنّه قال: «وكان من المال دينٌ وعين» ولم يقل وعليهما دين.

وأيضاً فيه(4): «إلّا أنّه قال: وكان المال ديناً»، ولم يذكر العين ولا عليهما دينٌ .

ورَوى الخبر بسندٍ آخر(5)، إلّاأنّه قال: «كان المال ديناً وعيناً».

وبالرغم من أنّه ليس في شيء من هذه النصوص تصريحٌ بالصُّلح، بل بالشرط، إلّاأنّ الظاهر منها كون المعاملة واقعة ابتداءً لا في ضمن عقد الشركة، وتدلّ على صحّتها مع الاشتراط، وحيث أنّ الشرط الابتدائي لا يصحّ ، وإطلاق الشرط على المعاملة من البيع والصُّلح وغيرهما شائعٌ ، وليس هناك معاملة غير الصُّلح يمكن تطبيقها عليها، فلا محالة يكون المراد بها الصُّلح.

فمحصّل مفادها: أنّه إنْ كان القول المزبور بعنوان الصُّلح صَحّ ، وإلّا فمجرّد الوعد لا يجب الوفاء به، ولا ينافي ذلك قوله: «فإذا كان شرطاً يخالف... الخ» فإنّ الصُّلح أيضاً مقيّد بأنْ لا يكون محلّلاً للحرام أو العكس.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص عدم الفرق في ذلك بين صورة وقوعه عند9.

ص: 81


1- التوى: هلاك المال.
2- الكافي: ج 5/258 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/17 ح 23043.
3- التهذيب: ج 6/207 ح 7.
4- التهذيب: ج 7/25 ح 24.
5- التهذيب: ج 7/186 ح 9.

إرادة فسخ الشركة، أو في أثنائها، أو عند ابتدائها - أي بعد مزج المالين - ومقتضى العمومات أيضاً صحّة ذلك في الموارد الثلاثة، ولاينافي مع مقتضى الشركة، ولا يكون صلحاً مخالفاً للشرع، لا الشركة إنّما تقتضي كون الربح بينهما والخسران عليهما، فكما أنّه لو وهب أحدهما ما ربحه للآخر وأبرأه من الخسران، ولا إشكال في صحّتهما، فكذلك لو أوقع الصُّلح على هذا النحو.

أقول: وممّا ذكرناه يظهر ما في «المسالك» حيث قال: (هذا إذا كان عند انتهاء الشركة، وإرادة فسخها، لتكون الزيادة مع من هي معه بمنزلة الهبة والخسران على من هو عليه بمنزلة الإبراء، أمّا قبله فلا، لمنافاته لوضع الشركة شرعاً، والمستند صحيحة أبي الصباح...

ثمّ نقل الخبر المتقدّم، ثمّ قال: وهذا الخبر مشعرٌ بما شرطناه من كون الشرط عند الانتهاء، لا كما أطلق المصنّف رحمه الله)(1). انتهى.

وسبقه في ذلك المحقّق الشيخ علي رحمه الله في محكي «شرح القواعد»(2).

فإنّه يرد عليهما: أنّ الصُّلح المذكور إنْ كان مخالفاً لوضع الشركة، الذي يقتضي المشاركة بينهما في الربح والخسران، مع عدم إيقاعِ عقدٍ أو إيقاع، أمّا معه فلا تكون الشركة مقتضية لها، كما لا يخفى.

نعم، في الصُّلح في الأثناء أو الابتداء بالنسبة إلى ما يتحقّق بعد من الربح والخسران إشكالٌ ، من ناحية عدم المتعلّق، إلّاأنّه يندفع بالصُّلح المشروط، الذي لا إجماع على بطلانه.

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام من الخلط والاشتباه.3.

ص: 82


1- مسالك الأفهام: ج 4/265.
2- جامع المقاصد: ج 5/413.

ولو ادّعى أحدهما درهمين في يدهما، والآخر أحدهما، اُعطي الآخر نصف درهمٍ .

لو ادّعى أحدهما درهمين في يدهما والآخر في أحدهما

المسألة السادسة: (ولو ادّعى أحدهما درهمين في يدهما)، (و) ادّعى (الآخر) كون الدرهمين في يد (أحدهما، اُعطي الآخر نصف درهمٍ ) بلا خلافٍ فيه في الجملة.

أقول: يقع الكلام في المقام:

تارةً : فيما تقتضيه القاعدة.

وأُخرى : في ما تقتضيه النصوص الخاصّة.

أمّا الأوّل: فبالنسبة إلى أحد الدرهمين لا نزاع بينهما فيه، فهو لمدّعي الدرهمين، وأمّا بالنسبة إلى الدرهم الآخر، فكلٌّ منهما يدّعيه، والمفروض كونه تحت يدهما، فلا محالة تكون يد كلّ منهما على النصف، وأمارة لملكيّته له، ويحكم بذلك، فيكون كلّ منهما مدّعياً بالنسبة إلى نصف الدرهم، ومنكراً بالنسبة إلى النصف الآخر، فتجري قاعدة المُدّعي والمنكر، وهو لزوم الحلف على كلّ منهما لنفي ما يدّعيه الآخر، فيعطى لكلّ منهما النصف مع الحلف لا بدونه.

وأمّا الثاني: فمقتضى النصوص الخاصّة أيضاً ذلك، لكن بدون الحلف، لاحظ:

صحيح عبد اللّه بن المغيرة، عن غير واحدٍ من أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في رجلين كان معهما درهمان، فقال أحدهما الدرهمان لي، وقال الآخر هما

ص: 83

بيني وبينك ؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: أمّا الذي قال هما بيني وبينك فقد أقرَّ بأنّ أحد الدرهمين ليس له، وأنّه لصاحبه، ويقسّم الآخر بينهما»(1).

ونحوه مرسل محمّد بن أبي حمزة(2)، الذي هو كالصحيح، لأنّ في سنده ابن أبي عمير.

والظاهر من كون الدرهمين معهما كونهما تحت يدهما، ومقتضى إطلاقهما عدم الفرق بين كون الدعوى فيهما بالنصف من كلّ منهما على الإشاعة، أو بواحدٍ منهما على التعيين، إنْ لم يكونا ظاهرين في خصوص صورة الإشاعة، وهما دالّان على التنصيف بدون الحلف.

فما عن «التذكرة»(3) من لزوم الحلف في الصورتين، وما عن «الدروس»(4) من لزومه في صورة الإشاعة، غير تامّين.

وأضعف منهما: الإيراد على الأوّل بأنّه لا يتمّ حلف كلّ منهما في صورة دعوى الإشاعة، لإختصاص الحلف حينئذٍ بالثاني والبيّنة بالأوّل، ومع ذلك يستحقّ بعد الحلف تمام الدرهم لا النصف.

فإنّه يرد عليه: أنّ كلّاً منهما منكرٌ بالنسبة إلى نصف الدرهم الذي بيدهما ومدع بالنسبة إلى النصف الآخر، فله الحلف على النصف لا على التمام. فتدبّر فإنّه دقيق.3.

ص: 84


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/35 ح 3274، وسائل الشيعة: ج 18/450 ح 24022.
2- التهذيب: ج 6/292 ح 16، وسائل الشيعة: ج 18/450 ح 24022.
3- تذكرة الفهاء: ج 2/195 (ط. ق).
4- الدروس: ج 3/333.

وكذا لو أودع أحدهما درهمين والآخر ثلاثاً وتلف أحدهما بغير تفريطٍ فلصاحب الاثنين درهمٌ ونصف، وللآخر ما بقي.

حكم من أودعه إنسانٌ درهمين وآخر درهماً

(وكذا) يُحكم بأنّ أحد الدرهمين لأحدهما والآخر بينهما (لو أودع أحدهما درهمين، والآخر ثلاثاً، وتلف أحدهما بغير تفريطٍ)، اذ لا إشكال في أنّ أحد الدرهمين الباقيين لصاحب الدرهمين، والآخر مردّدٌ بينهما يمكن أنْ يكون لكلّ واحدٍ منهما، فمقتضى القاعدة هو أن يقسّم نصفين (فلصاحب الاثنين درهم ونصف، وللآخر ما بقي)، ويشهد به مضافاً إلى ذلك، خبر السكوني، عن الإمام الصادق، عن أبيه عليهما السلام:

«في رجل استودع رجلاً دينارين، فاستودعه آخر ديناراً، فضاع دينارٌ منهما؟

قال عليه السلام: يعطى صاحب الدينارين ديناراً، ويقسّم الآخر بينهما نصفين»(1).

أقول: بقي في المقام إشكال، وهو:

أنّه لو انتقل نصفا الدرهم أو الدينار إلى ثالثٍ بهبةٍ أو نحوها، واشترى بمجموعهما ثوباً، يعلم تفصيلاً بعدم دخول الثوب بتمامه في ملكه، لأنّ بعض الثمن ملك الغير قطعاً، فلا يجوز الصَّلاة فيه ولا لبسه، لكن الأصحاب لم يلتزموا بذلك، وقد ذكروا في دفعه اُموراً:

ص: 85


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/37 ح 3278، وسائل الشيعة: ج 18/452 ح 24025.

أحدها: أنّ الامتزاج يوجب صيرورة كلٍّ من الدراهم أو الدنانير بينهما أثلاثاً، فما سُرق يكون من مالهما لا من مال أحدهما، فلا يلزم المحذور المذكور.

وفيه: أنّ الامتزاج في مثل المقام لا يوجبُ الشركة كما مرّ، مع أنّ لازم ذلك إعطاء درهم وثلث لصاحب الدرهمين، وثلثي الدرهم لصاحب الدرهم الواحد، كما نُسب إلى المصنّف رحمه الله في بعض كتبه(1) أنّه ذهب إلى ذلك.

وثانيهما: ما ذكرناه في أوّل البحث من اقتضاء قاعدة العدل والإنصاف ذلك.

وفيه: أنّ تلك القاعدة إنّما تقتضي جواز التصرّف لكلّ منهما فيما اُعطي له جوازاً ظاهريّاً، والكلام إنّما هو فيما لو اجتمعا عند ثالثٍ واشترى بهما ثوباً، وهو يعلم بعدم انتقاله إليه بتمامه، والحكم الظاهري لا يكون مع العلم التفصيلي بالخلاف.

ودعوى: أنّه بعد كون كلّ من النصفين ممّا يجوز تصرّف من هو تحت يده، فيه، لو انتقلا إلى ثالثٍ ، يجوز تصرّف الثالث فيهما واقعاً، فإنّ جواز تصرّف ذي اليد في المال ظاهراً موضوعٌ لجواز تصرّف من انتقل إليه ذلك المال واقعاً، فلا يحصل العلم التفصيلي بعدم جواز التصرّف فيما انتقل إليه بإزائهما.

مندفعة: بأنّ قاعدة اليد أيضاً من الأمارات، ولا تكون متكفّلة لبيان حكم واقعي، ولا توجب تبدّل الواقع.

ثالثها: البناء على أنّ ذلك من باب الصُّلح القهري، فبالتعبّد الشرعي من باب الولاية يدخل كلّ من النصفين في ملك كلّ واحدٍ منهما، فكلّ منهما يملك النصف واقعاً، فلا يحصل العلم المزبور لو اجتمعا عند ثالث واشترى بهما شيئاً.).

ص: 86


1- كما في تذكرة الأحكام: ج 2/195 (ط. ق).

ولو اشتبه الثوبان، بيعا، وقسّم الثمن على نسبة رأس مالهما.

أقول: وبما ذكرناه يظهر اندفاع ما في «المسالك» حيث قال:

(التالف لا يحتمل كونه منهما، بل من أحدهما خاصّة، لامتناع الإشاعة هنا)(1). انتهى .

وأمّا إيراده على الخبر بضعفه، فيردّه أنّ الخبر قويّ ، ولو سُلّم ضعفه فهو منجبرٌ بالشهرة.

فما قوّاه ومال إليه في «الدروس»(2) من القول بالقرعة ضعيفٌ .

حكم اشتباه الثوبين

المسألة السابعة: (ولو اشتبه الثوبان) لشخصين؛ أحدهما أقلّ قيمةً من الآخر، كما إذا كان لواحدٍ ثوبٌ بعشرين درهماً، وللآخر ثوبٌ بثلاثين، ثمّ اشتبها، فإنْ خيّر أحدهما صاحبه فقد أنصفه.

وإن تعاسرا (بيعا، وقُسّم الثمن على نسبة رأس مالهما)، ففي المثال يُعطى صاحب العشرين سهمين من خمسة، وللآخر ثلاثة كما هو المشهور(3) بين الأصحاب، وفرض الاشتباه يتوقّف على عدم إحراز كون الأقلّ قيمةً في البيع هو الأقلّ في الشراء، وإلّا فلا اشتباه.

ص: 87


1- مسالك الأفهام: ج 4/266.
2- الدروس: ج 3/333-334.
3- كما عن مسالك الأفهام: ج 4/267.

وكيف كان، فيشهد للحكم المذكور خبر إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجل يبضعه الرّجل ثلاثين درهماً في ثوب، وآخر عشرين درهماً في ثوب، فبعث الثوبين ولم يعرف هذا ثوبه ولا هذا ثوبه ؟

قال عليه السلام: يُباع الثوبان، فيعطى صاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن، والآخر خمسي الثمن.

قلت: فإنّ صاحب العشرين قال لصاحب الثلاثين اختر أيّهما شئت ؟

قال عليه السلام: قد أنصفه»(1).

المنجبر ضعفه بالشهرة.

أضف إليه ما قاله صاحب «الجواهر»: (مع احتمال صحّة سنده في طريق الصدوق بل الشيخ(2)، واحتمال اختصاصه بمورده كما ترى ، فما في «المسالك»(3) من الميل إلى القرعة، بل عن الحِلّي رحمه الله(4) الجزم بها في غير محلّه)(5).

أقول: وللمصنف قدس سره في المقام تفصيلٌ حيث قال في محكي «التذكرة»(6):

إن بيعا منفردين وتساويا في الثمن، فلكلّ واحدٍ ثمن ثوب، ولا إشكال، وإنْ اختلفا فالأكثر لصاحب الأكثر قيمةً ، وكذا الأقلّ بناءً على الغالب.

وإنْ بيعا مجتمعين، صارا كالمال المشترك شركة إجباريّة.).

ص: 88


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/36 ح 3277، وسائل الشيعة: ج 18/451 ح 24024.
2- التهذيب: ج 6/208 ح 13.
3- مسالك الأفهام: ج 4/268.
4- السرائر: ج 2/69.
5- جواهر الكلام: ج 26/227.
6- تذكرة الفقهاء: ج 2/196 (ط. ق).

وليس طلب الصُّلح إقراراً، بخلاف ما إذا قال: بعني، أو ملّكني، أو هِبني، أو أجّلني، أو قضيتُ .

وفيه: لو كان الأكثر قيمةً معلوماً أنّه للأكثر، فما أفاده وإنْ تَمّ ولا يشمله الخبر، إلّا أنّه لا وجه لبيعهما مجتمعين، لفرض إمكان إحراز ما لكلّ منهما وإنْ لم يكن ذلك معلوماً، فلا وجه لجعل الأكثر قيمةً للأكثر، بل لعلّ الذي له هو الأقلّ ، مع أنّ ذلك اجتهادٌ في مقابل النّص.

المسألة الثامنة: (وليس طلب الصُّلح إقرار) بالمِلك، لأنّ الصُّلح يصحّ مع الإنكار، فطلبه لايستلزم الإقرار، لأنّ طلبه يمكن أنْ يكون لأجل رفع المنازعة (بخلاف ما إذا قال: بعني، أو ملّكني، أو هِبني، أو أجّلني، أو قضيتُ ) فإنّ شيئاً من تلكم لا يتمّ بدون الملك، فقوله هذا يعدّ إقراراً بملكيّة صاحبه، واللّه العالم.

***

ص: 89

الفصل السادس: في الإقرار، وهو إخبارٌ عن حقّ سابق.

(الفصل السادس: في الإقرار)

إقرار العاقل على نفسه جائز

أقول: يدور البحث (في) المقام حول (الإقرار: و) المراد به الاعتراف، فليس هو من قبيل الإنشاء، بل (هو إخبارٌ عن حقّ سابقٍ ) على نفسه، من غير فرقٍ بين الإثبات والنفي، كالإقرار بالإبراء ونحوه، وبين الأعيان والمنافع والحقوق، وفي الحقوق بين حقّ اللّه تعالى وحقّ الناس.

و يشهد لجوازه على نفسه ومشروعيّته - مضافاً إجماع المسلمين - من الكتاب آيات:

منها: قوله تعالى: (أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا) (1).

ومنها: قوله عزّ وجلّ : (وَ آخَرُونَ اِعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ) (2).

ومنها: قوله سبحانه: (أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى ) (3).

ومنها: قوله تعالى :

(كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ) (4) فتأمّل.

ومن السُنّة: أخبارٌ، وهي عديدة:

1 - ما رواه جماعة من علمائنا عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «إقرار العقلاء على

ص: 90


1- سورة آل عمران: الآية 81.
2- سورة التوبة: الآية 102.
3- سورة الأعراف: الآية 172.
4- سورة النساء: الآية 135.

أنفسهم جائز»(1).

2 - خبر العطّار، عن بعض أصحابه، عن مولانا الصادق عليه السلام: «المؤمن أصدق على نفسه من سبعين مؤمناً عليه»(2).

3 - وخبر المدائني، عنه عليه السلام: «لا أقبل شهادة الفاسق إلّاعلى نفسه»(3).

أضف إلى تلكم، النصوص الواردة في الأبواب المختلفة:

منها: ما دلّ على أنّه يؤخذ به في الحَدّ بالزّنا وغيره(4).

ومنها: ما دلّ على أنّه إنْ أقرّ بعض الورثة بالدين يلزمه ذلك في حصّته(5).

ومنها: ما دلّ على أنّه إنْ أقرّ المريض بدينٍ يجوز ذلك(6).

ومنها: ما دلّ على أنّه إنْ أقرّ رجلٌ عند موته لواحدٍ من اثنين، فأيّهما أقام البيّنة فله المال، وإنْ لم يقم واحد منهم البيّنة، فالمال بينهما نصفان(7).

ومنها: غير تلكم.

بيان ما به يتحقّق الإقرار

وكيف كان، فالنظر فيه يكون في الأركان وفي اللّواحق:

أمّا الأركان: فهي أربعة:

الركن الأوّل: الصيغة.

ص: 91


1- عوالي اللآلي: ج 1/223 ح 104، وسائل الشيعة: ج 23/184 ح 29342.
2- صفات الشيعة: ص 37، وسائل الشيعة: ج 23/184 ح 29341.
3- الكافي: ج 7/395 ح 5، وسائل الشيعة: ج 23/186 ح 29345.
4- وسائل الشيعة: ج 28/103-108 باب 16 من أبواب حَدّ الزِّنا.
5- التهذيب: ج 6/310 ح 61، وسائل الشيعة: ج 23/185 ح 29344.
6- الكافي: ج 7/42 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/292 ح 24624.
7- التهذيب: ج 9/162 ح 12، وسائل الشيعة: ج 23/183 ح 29340.

ولا يختصُّ لفظاً،

لا خلاف بينهم (و) لا إشكال في أنّه (لا يختصّ لفظاً) بل يكفي فيه كلّ لفظٍ يفيد الإخبار، بأيّ لغةٍ كان.

وعن «التذكرة»(1): الإجماع عليه، وهو الحجّة فيه، مضافاً إلى إطلاق الأدلّة، فإنّ الموضوع هو الإقرار والاعتراف، وهما إنّما يصدقان بإبراز ثبوت حقّ سابقٍ ، سواءٌ أكان المبرز عربيّاً أو غيره، والمعتبر هو كون اللّفظ كاشفاً في عرف المتكلّم عن المعنى المطلوب ثبوته، ولا عبرة باللّغة هنا.

كما أنّه لا يعتبر كون اللّفظ المتكلّم به بحسب قواعد اللّغة العربيّة في مادّته وهيئته.

أقول: ويتفرّع على ذلك فروع:

منها: ما لو قال: (إنْ شهد فلانٌ لك عَليّ فهو صادقٌ ) وشهد، فالأقرب كما عن أكثر المتأخّرين(2) أنّه لا يكون إقراراً، إذ المفهوم العرفي من هذه الجملة امتناع الشهادة.

ومنها: ما لو ادّعى عليه أحدٌ أنّه أقرضه، فقال: (صدقتَ )، مقترناً ذلك منه بما يكون في المتفاهم العرفي استهزاءً .

ومنها: غير تلكم من الموارد التي لا تندرج تحت ضابطة كليّة، فإنّ فهم العرف الذي يرجع إليه غير منضبط، وعليه فلابدّ في كلّ موردٍ من ملاحظة الكلام الصادر3.

ص: 92


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/144 (ط. ق).
2- كما في الدروس: ج 3/123، وجامع المقاصد: ج 9/188-190، والروضة البهيّة: ج 6/383.

ويصحّ بالإشارة المعلومة، ولو قال: نعم، أو أجّل في جواب أعليك كذا؟ فهو إقرارٌ.

من المتكلّم، ورعاية القرائن الحاليّة والمقاليّة، فإنْ كان صريحاً أو ظاهراً في الأخبار عن ثبوت الحقّ بحسب المتفاهم العرفي فهو إقرارٌ وإلّا فلا.

(و) بهذا البيان يظهر عدم تعين اللّفظ، بل (يصحّ بالإشارة المعلومة) أي المفهمة، إذ المعيار هو الإعراب عمّا في الضمير، بلا دخلٍ لخصوصيّات المُعرب في ذلك.

وعن بعضهم: اشتراط التعذّر في الاكتفاء بالإشارة من جهة الشكّ في صدق الإقرار عليها، وإنْ عبّرت عمّا في الضمير، ولازم ذلك وإنْ كان عدم الاكتفاء بها حتّى مع التعذّر، إلّاأنّه يُكتفى بها في حال الضرورة للإجماع.

وفيه: إنّ الإقرار والاعتراف وما يساوقهما من الألفاظ لم يؤخذ فيها اللّفظ، وهذا العرف ببابك، والتبادر عندهم، وعدم صحّة السلب علامتان للحقيقة، فاعرض لفظ (الإقرار) عليهم، فهل يشك أحدهم في صدقه على المُعرِب عمّا في الضمير، وعدم صحّة سلب الإقرار عنه ؟!

وعلى الجملة: فلا ينبغي الشكّ في صدقه على الإشارة المُفهِمة والاكتفاء بها.

(ولو قال: نعم أو أجل في جواب أعليك كذا؟ فهو إقرارٌ) بلا خلافٍ فيهما ولا إشكال، لكون اللّفظين من كلمات التصديق.

نعم، إنْ كان المتكلم ممّن يُحتمل في حقّه أن لا يعرف معنى لفظ (أجل) وادّعى أنّه تخيّل كونه كلمة تكذيب أو استهزاء لا تصديق قُبل منه، ولكنّه خارجٌ عن محلّ الفرض، فإنّ هذا يجري في الألفاظ الصريحة إذا صدرت عن غير أهل ذلك اللّسان.

ص: 93

وكذا بلى عقيب أليس عليكَ؟ بخلاف نعم.

(وكذا) يكون إقراراً قول (بلى عقيب أليس عليكَ ) كذا وكذا، لأنّها بمقتضى الوضع حرف تصديق، وأكثر ما تقع يكون بعد الاستفهام، وتختصّ بالإيجاب، سواءٌ كان ما قبلها مثبتاً أو منفيّاً، هكذا ذكره أهل اللّغة، والظاهر أنّها بحسب المتفاهم العرفي أيضاً كذلك.

وعلى فرض التنزّل، وتسليم الشكّ في كونها في العرف كذلك، يستصحب قهقرائيّاً، ويثبت به ذلك على ما مرّ في محلّه من أنّ بناء العقلاء في المحاورات على إجراء هذا الاستصحاب، والظاهر أنّه لا خلاف بينهم فيما ذكرناه.

(بخلاف نعم) فقد ذهب جماعةٌ منهم الشيخ رحمه الله(1) والماتن إلى أنّها ليست إقراراً، وعن الشهيد(2) وسيّد «المدارك»(3) أنّها إقرارٌ، وتردّد المحقّق فيه في «النافع»(4).

وجه الأوّل: أنّها وضعت في اللّغة لتقرير ما سبق من السؤال، فإذا كان نفياً، اقتضت تقرير النفي، فهي في المثال إنكارٌ لا إقرار.

ووجه الثاني: أنّه لو سُلّم كونها في اللّغة كذلك، لكنّها بحسب الاستعمال الشائع عند العرف بلا قرينة بلى تكون إيجاباً مطلقاً، كان ما قبلها مثبتاً أو منفيّاً، مع أنّه صرّح جماعة بورودها في اللّغة كذلك، وفي المنجد أيضاً التصريح بمساواة (نعم)، و (بلى) من حيث المفاد.3.

ص: 94


1- المبسوط: ج 3/2.
2- الدروس: ج 3/121.
3- نهاية المرام: ج 2/30.
4- المختصر النافع: ص 233.

ولو قال: أنا مقرٌّ فليس بإقرارٍ، إلّاأن يقول به،

ووجه الثالث: عدم ترجيح أحد الوجهين على الآخر.

وبما ذكرناه تظهر أقوائيّة الثاني، إذ قد عرفت عدم العبرة باللّغة في مقابل العرف.

ودعوى: أنّ الاستعمال أعمٌّ من الحقيقة وإنْ كان شائعاً كما في «الرياض».

مندفعة: بما تقدّم من أنّه لا يتوقّف صدق الإقرار على إثبات كون اللّفظ حقيقة في المستعمل فيه، بل يكفي كونه مجازاً مشهوراً لا تتوقّف دلالته عليه على ذكر قرينة.

(ولو قال) بعد قول: (لي عليك كذا وكذا) (أنا مقرٌّ، فليس بإقرارٍ) لأنّه لم يذكر المقرّ به، فمن الجائز أن يقدّر ما لا يطابق الدعوى، والعام لا يدلّ على الخاص، (إلّا أن يقول به) أي بما تدّعيه فيلزمه، خلافاً للشهيد في محكيّ «الدروس»(1) حيث قال: (لا يكون إقراراً أيضاً)، إذ غايته الإقرار بالدعوى، وهو أعمّ من الإقرار به للمدّعي، وقد مرّ أنّه المعيار في هذا الباب، ولذلك قد يدّعي كونه إقراراً في الأوّل أيضاً، من جهة ظهور المحاورات العرفيّة في ذلك، فإنّ وقوعه بعد الدعوى يوجب عندهم صرفه إليها، كما يعلم ذلك من أنّه لو أقرَّ بشيء آخر صريحاً يعدّ هَذَراً، كما لو ادّعى عليه دينٌ ؛ فقال: (أنا مقرٌّ بأنّ السماء فوقنا)، قيل: والآية الكريمة المتقدّمة (أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا) (2) شاهدة به، وهو غير بعيد.1.

ص: 95


1- الدروس: ج 3/121.
2- سورة آل عمران: الآية 81.

ولو علّقه بشرطٍ بَطَل،

حكم تعلّق الإقرار بالشرط

(ولو علّقه) أي المقرّ إقراره (بشرطٍ بَطَل) كما عن أكثر المتأخّرين(1).

ونخبة القول فيه: إنّه لا إشكال كما مرّ في أنّ الإقرار عبارة عن الإخبار عن ثبوت حقّ على نفسه جزماً، فهل يعتبر فيه كونه عن ثبوت حقّ سابق، أم يكفي في صدقه الإخبار عن ثبوت حقّ في اللّاحق ؟

قولان، اختار ثانيهما صاحب «الجواهر» رحمه الله حيث قال:

(لا يمكن إنكار صدق الإقرار على الحقوق المعلّقة بنذرٍ أو عهدٍ أو يمين على شيء متوقّع أو معلوم الحصول، فإذا أقرَّ مثلاً أنّ لزيدٍ عليَّ مائة درهم إذا عُوفي في مرضه بنذرٍ أو عهدٍ أو يمينٍ ، كان ذلك إقراراًبالحقّ المعلّق بمقتضى السبب المتعلّق به)(2).

ولكن يرده: أنّ ذلك يكون إقراراً باعتبار كونه إخباراً عن السبب وهو النذر السابق مثلاً.

وعليه، فالحقّ ما أفاده الأكثر من اعتبار كونه إخباراً عن حقّ ثابت في السابق.

وعلى هذا فلو علّقه بشرطٍ مستقبلي لا يكون إقراراً، وأمّا لو علّقه بشرطٍ مضى ، فالظاهر أنّه إقرار، أمّا إذا علم بتحقّق الشرط، فلكونه إخباراً عن تحقّق التالي وثبوته لفرض العلم بتحقّق الشرط، وأمّا إذا لم يعلم به، فلأنّ الإخبار

ص: 96


1- كما في الدروس: ج 3/122، والروضة البهية: ج 6/380.
2- جواهر الكلام: ج 35/7.

ولو قال: إنْ شَهِد فلانٌ فهو صادق، لزمه وإنْ لم يشهد

المشروط إخبارٌ عن الملازمة بين الشرط والجزاء جزماً، فإذا انضمّ إليه تحقّق الشرط خارجاً، كانت النتيجة كونه إخباراً عن حقّ ثابت، كما لو قال: (إنْ كان مكتوباً في الدفتر أنّ لزيد عليَّ ألفاً كان كذلك جزماً) فإنْ كان مكتوباً كان هذا إخباراً جزميّاً بثبوت الألف، فيصدق عليه الإقرار.

نعم، إنْ كان الشرط ممّا يتخيّل أنّه لم يقع خارجاً، لم يكن ذلك إقراراً، بل هو إنكارٌ عرفاً، والضابط هو الرجوع إلى العرف بحسب ما يفهمه من القرائن الحاليّة والمقاليّة لهذا الكلام، ولا يمكن جعل ميزان كلّي له.

حكم مالو قال: (إنْ شهد فلانٌ فهو صادق)

(ولو قال: إنْ شَهِد فلانٌ فهو صادق، لزمه وإنْ لم يشهد) كما عن الشيخ في «المبسوط»(1)، وابن سعيد في «الجامع»(2)، والمصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(3)، بل حُكي عنه نسبته إلى الأصحاب.

واستدلّ له:

1 - بأنّه إذا صدق على تقدير الشهادة لزم الحقّ ، لوجوب مطابقة الخبر الصادق لمخبره في الواقع، فيكون في ذمّته على ذلك التقدير، ومن المعلوم أنّه

ص: 97


1- المبسوط: ج 3/22.
2- الجامع للشرائع: ص 340.
3- منها قواعد الأحكام: ج 2/411، وتذكرة الفقهاء: ج 2/145 (ط. ق)، وإرشاد الأذهان: ج 1/408.

لا دخل للشهادة في ثبوت المقرّ به في الذمّة في نفس الأمر، فيثبت حينئذٍ مطلوبه، إذ الصدق مطابقة نسبة الخبر للنسبة الخارجيّة في تحقّق الصدق عليتقدير الشهادة.

2 - وبأنّه إمّا أنْ يكون ثابتاً في ذمّته أو لا، والتالي باطلٌ لاستلزامه كذب الشاهد عليتقدير الشهادة، لأنّه خبر غير مطابق، لكنّه حكم بصدقه على تقديرها فيتعيّن الأوّل.

3 - وبأنّه يصدق كلّما لم يكن المال ثابتاً في ذمّته لم يكن صادقاً على تقدير الشهادة، وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا: (كلّما كان صدقاً على تقدير الشهادة، كان المال ثابتاً في ذمّته)، لكن المقدّم حقٌّ لإقراره، لأنّه حكم بصدقه على تقدير الشهادة، فالتالي مثله.

والجواب: أنّه إذا كان المفهوم من هذا الكلام عرفاً - بواسطة القرائن - أنّ هذه الشهادة ممتنعة الوقوع من الشخص المذكور، لامتناع الكذب عليه بحسب اعتقاد المتكلّم، والغرض أنّ هذا لا يصدر منه - كما يقع كثيراً في المحاورات العرفيّة، حتّى ادُّعي ظهور الكلام ولو بلا قرينة في ذلك - فهو ليس إقراراً قطعاً، وإنْ كان المفهوم منه عرفاً أنّه بصدد الإخبار عن الحقّ مشروطاً، فإنْ شهد كان إقراراً لأنّ الإقرار بالملازمة إقرارٌ بالتالي مع فرض وجود المقدّم، ولا تعتبر الصراحة في الإقرار، وإنْ لم يشهد لم يكن إقراراً قطعاً.

أقول: وما ذكر من الوجوه فيه مغالطات واضحة:

أمّا الأوّل: فلأنّه وإنْ لم يكن دخلٌ للشهادة في ثبوت المقرّ به في الذمّة في نفس الأمر، لكنّها دخيلة في الإخبار بالثبوت، لأنّ الفرض أنّ الإخبار مشروط، فهو

ص: 98

كالإنشاء على تقدير، فكما أنّه مع عدم ذلك التقدير لا يكون المُنشأ فعليّاً كذلك في الإخبار.

وأمّا الثاني: فلأنّ الميزان ليس هو الثبوت النفس الأمري كي يتمّ الحصر المزبور، بل الإخبار بالثبوت، وهو إخبارٌ على تقديرٍ دون آخر، فالثبوت على تقدير الشهادة لا يستلزم ثبوته على تقدير عدمها.

وأمّا الثالث: فلأنّ الثبوت في الذمّة ليس مناط الإقرار، بل الإخبار به.

وعليه، فالأظهر أنّه على تقدير عدم الشهادة لا إقرار، وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام.

***

ص: 99

ويُشترط في المُقرّ: التكليف والحريّة،

ما يعتبر في المُقرّ

الركن الثاني: المُقرّ.

قالوا: (ويشترط في المُقرّ: التكليف، والحُريّة)، والاختيار، وجواز التصرّف، بلا خلافٍ في شيء من تلكم، بل عليها الإجماع المنقول في «التذكرة»(1).

يشهد للأوّل: حديث رفع القلم(2) المتقدّم في الأبواب السابقة.

وللثاني: ما دلّ على عدم مالكيّة العبد(3)، فإنّه حينئذٍ لا يكون إقراراً علينفسه.

وللثالث: حديث رفع ما استكره عليه(4).

وللرابع: ما دلّ على حَجره(5).

وعلى هذا، فلا يقبل إقرار الصبي بمالٍ ولا عقوبةٍ وإنْ بلغ عشراً، إنْ لم يجز وصيّته ووقفه وصدقته، وإلّا قبل إقراره بها، لقاعدة: (من مَلِك شيئاً مَلك الإقرار به)، التي استند إليها الأصحاب لصحّة إقراره بما يصحّ منه.

ص: 100


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/145-146 (ط. ق).
2- وسائل الشيعة: ج 1 باب 4 من أبواب مقدّمة العبادات ص 42-45، ووسائل الشيعة: ج 29 باب 26 من أبواب القصاص في النفس ص 90.
3- وسائل الشيعة: ج 18 / باب 4 من أبواب الحجر ص 413، ووسائل الشيعة: ج 19 / باب 78 و 79 من أبواب الوصايا ص 410-412.
4- وسائل الشيعة: ج 15/369-370 باب 56 من أبواب جهاد النفس.
5- وسائل الشيعة: ج 18 باب 1 من أبواب الحجر ص 409-410، وباب 5 من نفس الباب: ص 414-415.

ويتبع العبد بإقراره بعد العتق.

أقول: والظاهر كونها قاعدة مستقلّة غير قاعدة الإقرار، ومدركها الإجماع وتسالم الأصحاب، بل وعليها بناء العقلاء، ولم يردع الشارع الأقدس عنها، وإنّما لا نقيّد إطلاقها بحديث رفع القلم عن الصبي، من جهة الإجماع على ذلك على فرض صحّة الوصيّة والعتق والوقف منه.

وأيضاً: لا يقبل إقرار المجنون إلّامن ذوي الدور وقت الوثوق بالعقل.

وأيضاً: لا يقبل من العبد، (و) لكن (يتبع العبد بإقراره بعد العتق).

وأيضاً: لا يقبل من المكرَه، لأنّ حديث الرفع أسقط حكم إقراره، ولخبر أبي البُختري، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام قال: من أقرَّ عند تجريدٍ أو حبسٍ أو تخويفٍ أو تهديد فلا حَدّ عليه»(1).

وأيضاً: لا يقبل من السفيه في ماله لكونه محجوراً عن التصرّف في ماله، ولا من المفلّس لأنّه بعد تعلّق حقّ الغرماء بالمال يكون ذلك بالنسبة إلى المال من قبيل الإقرار على الغير فلا يكون نافذاً، ولكنّه إنّما لا يثبت في ماله، ويثبت في ذمّته كما مرّ في مبحث المفلّس(2).

***6.

ص: 101


1- قرب الإسناد: ص 54 ح 175، وسائل الشيعة: ج 23/185 ح 29343.
2- فقه الصادق: ج 29/406.

وفي المقرّ له: أهليّة التمليك،

بيان ما يعتبر في المُقرّ له

الركن الثالث: المقرّ له.

(و) قد طفحت كلماتهم بأنّه يشترط (في المقرّ له أهليّة التملّك)، إذ مع عدمها يلغو الإقرار، فلا عبرة به، فلو أقرَّ بشيء لجمادٍ بطل.

فهل يقبل الإقرار للحمل أم لا؟ فيه تفصيل، إذ:

تارةً : يبيّن سبباً يفيد الملك له كوصيّةٍ أو إرث يمكن في حقّه.

وأُخرى : يبيّن سبباً لا يفيد الملك له كالجناية والمعاملة معه، وما شاكل.

وثالثة: لا يبيّن سبباً.

أمّا في الصورة الأُولى : فالظاهر صحّة إقراره، لأنّه يملك وإنْ كان استقرار ملكه له مشروطاً بسقوطه حال حياته، فلو قال: (إنّ للحمل ديناً في ذمّتي لوصيّةٍ مثلاً) ملك الحمل ذلك بالفعل، وإنْ لم يكن مستقرّاً، وليس من قبيل الإقرار على حقّ ثابتٍ في المستقبل، لفرض مالكيّته.

ويمكن أنْ يقال: إنّه إقرارٌ بوصيّة أو سببٍ للإرث، وهما أمران سابقان على الإقرار.

وأمّا في الصورة الثانية: فالوجه الصحّة عند المصنّف رحمه الله(1)، والمحقّق(2)،

ص: 102


1- قواعد الأحكام: ج 2/416.
2- شرائع الإسلام: ج 3/699.

والشهيدين(1)، وسيّد «الرياض»(2)، بل نسبه ثاني الشهيدين إلى الأكثر، قالوا:

نظراً إلى مبتدأ الإقرار، وإلغاء ما يبطله نحو غيره من صور تعقيب الإقرار بالمنافي.

وأُورد عليه: بأنّ الكلام كالجملة الواحدة، ولايتمّ إلّابآخره، وقد نافى أوّله فلا عبرة به، كالإقرار المعلّق على الشرط.

وأجابوا عنه: بأنّ كون الكلام كالجملة الواحدة، يتمّ فيما هو من متمّماته كالشرط والصفة، لا فيما لا تعلّق به، بل ينافيه، ومن ثمّ أجمعوا على بطلان المعلّق دون المعقب بالمنافي.

أقول: لكن قد مرّ أنّ الميزان في الإقرار هو الظهور العرفي للكلام، وعليه فما دام لم يتمّ المتكلّم كلامه، لاينعقد لكلامه ظهورٌ، لاحتمال ذكر القرينة الصارفة، وإذا تم كلامه يكون ما يستفاد منه هو المعيار والميزان، فإذا أقرَّ بملكيّته للحمل، وقرنه بذكر السبب غير المفيد للملك له، كان المقرّ به هو الملكيّة الخاصّة لا المطلقة، لأنّه لم يقرّ بها، بل بحصّة خاصّةٍ منها وهي الملكيّة المسبّبة عن سببٍ خاص، والمفروض عدم إمكان تحقّقها للحمل، فما أقرَّ به ممتنع الحصول، فلا يصحّ إقراره هذا.

وأمّا في الصورة الثالثة: فالمتّجه هي الصحّة، كما هو المشهور بين الأصحاب، للاكتفاء في الإقرار بإمكان الصحّة.

وبعبارة أُخرى: أنّه ينزّل الإقرار على الاحتمال الصحيح.

لكن نقل الشيخ رحمه الله في «المبسوط»(3) عن بعضٍ الحكم بالبطلان، ولم يُعرف قائله.4.

ص: 103


1- الدروس: ج 3/130، مسالك الأفهام: ج 11/103.
2- رياض المسائل: ج 11/412 (ط. ج).
3- المبسوط: ج 3/14.

نعم، عن الفخر في إيضاحه(1) البناء عليه، وإنْ حُكي عنه في «شرح الإرشاد» نسبة الصحّة إلى الأصحاب، مشعراً بدعوى الإجماع عليها، واستدلّ له:

1 - بأنّ الحمل لا يملك حقيقة، وإنّما يوجد سببٌ يصلح للتمليك، فإذا لم يقرّ به لم يصحّ .

2 - وبأنّ المِلك في صورة صحّته مشروطٌ بسقوطه حَيّاً، فقبله لا يعلم الصحّة، بل هو مراعى، فكان جانب عدم الصحّة أولى على التقديرين.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ الحقّ مالكيّة الحمل ملكيّة غير مستقرّة، مشروطاً استقراره بسقوطه حَيّاً، مع أنّ مقتضى حمل الإقرار على الصحّة - كحمل سائر أفعال العاقل - حمله على إرادة السبب الصالح للملك، فالإقرار بالملك إقرارٌ بالسبب الصحيح المملّك.

وعلى الثاني: أنّه قبل سقوطه حَيّاً يعلم بالصحّة مراعاةً لسقوطه حَيّاً. وعليه فالأظهر الصحّة.

***4.

ص: 104


1- إيضاح الفوائد: ج 2/434.

ولو أقرّ للعبد فهو لمولاه، ولو قال: له عليَّ مالٌ ، وإنْ فسَّر المقرّ به بما يملك، قُبل وإن قَلّ ، ولو لم يُفسّر حُبس عليه،

المقرّ به وما يشترط فيه

الركن الرابع: المقرّ به:

أقول: المقرّ به إمّا مالٌ ، أو نسبٌ ، أو حقٌّ ، وقد مرّ أنّ الأظهر جواز الإقرار في الجميع لعموم دليله.

(ولو أقرَّ للعبد فهو لمولاه، ولو قال: له عليَّ مالٌ ، وإنْ فُسّر المقرّ به بما يملك قُبل وإنْ قلّ ) بلا خلافٍ ، بل عليه الإجماع في محكي «التذكرة»(1)، وهو الحجّة، مضافاً إلى أصالة البراءة عن الزائد بعد صدق المال على القليل والكثير.

(ولو لم يُفسّر) قيل: وإنْ امتنع عن البيان (حُبس عليه) حتّى يبيّن، إلّاأن يدّعي النسيان فيُقبل على تفصيلٍ يأتي في كتاب القضاء مفصّلاً(2).

ومنه يظهر ضعف ما قيل من عدم الحبس.

ولو فسّره بما لم تجر العادة بماليّته كقشر الجوز واللّوز وما شاكل.

قيل: لم يُقبل لعدم صدق المال عليه، فضلاً عن انصراف إطلاقه إليه على وجهٍ يثبت في الذمّة، بل نُسب ذلك إلى المشهور.

ص: 105


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/151 (ط. ق).
2- راجع فقه الصادق: ج 38.

ولو قال: ألفُ درهمٍ ، قُبل تفسيره في الألف، ولو قال ألفٌ وثلاثة دراهم، أو مائة وعشرون درهماً، فالجميعُ دراهم،

وعن «التذكرة»(1) و «الروضة»(2): قبوله، إذ المال أعمٌّ من غير المتموّل، لأنّ كلّ غير متموّلٍ مالٌ ولا عكس.

أقول: في أنّ المال غير الملك إشكال، إذ ربّ مالٍ ليس بملكٍ كالمباحات الأصليّة، وملكٍ ليس بمالٍ ، مثل ما لا يصدق عليه المال لقلّته.

وعليه، فإنْ قال: (عليَّ مالٌ ) وفسَّره بذلك لم يُقبل، وأمّا لو قال: (عليَّ شيءٌ ) وفسَّره به قُبل.

والظاهر أنّ مورد كلام المصنّف رحمه الله هو الثاني، على ما يظهر من تعليله، وقد صرّح به في محكي «الروضة».

(ولو قال): عليَّ (ألفُ درهمٍ ) اُلزم بالدّرهم، و (قُبل تفسيره في الألف) الذي هو مجملٌ لا خلاف فيه، وفي قبول تفسيره بما شاء.

(ولو قال ألفٍ وثلاثة دراهم، أو مائة وعشرون درهماً) أو ما شاكلهما من الأعداد المتعاطفة المتخالفة في التمييز المتعقّبة لها بحسب الأفراد، والجمع والجَرّ والنصب، (فالجميعُ دراهم) كما هو المشهور بين الأصحاب، لأنّ المفسَّر لو وقع بين المبهمين وأكثر، يعود إلى الجميع، كما يظهر من ملاحظة موارده:9.

ص: 106


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/151 (ط. ق).
2- الروضة البهيّة: ج 6/389.

ولو قال: كذا درهماً فعشرون،

1 - قوله تعالى : (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً ) (1).

2 - ما ورد في الخبر من أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله توفّي وهو ابن ثلاث وستّين سنة.

وعن «المختلف»(2): إنّ المميّز في المثالين و نظائرهما كمايحتمل رجوعه إلى الجميع، كذلك يحتمل رجوعه إلى الأخير، وعليه فالمتيقّن الثابت هو الرجوع إلى الأخير، وفيما قبله يعامل معه معاملة المبهم، فله أنْ يفسّره بما شاء. ومالَ إليه الأردبيلي(3).

ولكن يتوجّه عليه أوّلاً: أنّه لا يحتمل ذلك بعد كون تعدّد التمييز، كما لو قال له: (عليَّ ألف درهمٍ ، وعشرون درهماً) مستهجناً، ويعدّ التمييز الأوّل زائداً غير محتاج إليه.

وثانياً: أنّ الاحتمال لا ينافي الظهور العرفي، ولو بواسطة الإطلاق في الرجوع إلى الجميع.

(ولو قال): له عليَّ (كذا درهماً ف) في المتن وعن الشيخ رحمه الله(4) وابن زُهرة(5):

أنّه يلزمه مع النصب (عشرون) درهماً، لأنّ أقلّ عدد مفرد ينصب مميّزه هو عشرون، إذ فوقه ثلاثون إلى تسعين، فيلزمه الأقلّ لأنّه المتيقّن.3.

ص: 107


1- سورة ص: الآية 23.
2- مختلف الشيعة: ج 6/41.
3- مجمع الفائدة: ج 9/445.
4- المبسوط: ج 3/13.
5- الغنية: ص 273.

ولو قال: كذا درهمٍ فمائة،

وفيه: أنّه يمكن جعل كلمة (درهماً) منصوباً على التمييز، كما لو قال:

(شيءٌ درهماً).

لا يقال: إنّه قد ادّعى إجماع الاُدباء على أنّه كناية عن العدد، بل عن «المهذّب البارع»(1) أنّه لم يوجد في كلام العرب غير ذلك.

فإنّه يقال: إنّ مدّعي الإجماع نفسه اعترف بأنّه يستعمل عرفاً في غير العدد، وقد مرّ أنّ العرف يقدّم في هذا الباب.

ثمّ إنّ ذلك كلّه إذا كان المتكلِّم عارفاً بأنّ الاُدباء اتّفقوا على كونه كناية عن العدد، وإلّا فالأمر أوضح كما لا يخفى .

(ولو قال): له عليَّ (كذا درهم، ف) عن الشيخ(2) والسيّد(3) والمصنّف رحمه الله: أنّه يلزمه (مائة)، إذاكان الدرهم مجروراً، لان أقلّ عددٍ مفردٍ مميّز مجرورٍ هو المائة، إذ فوقه الألف، فيحمل على الأقلّ .

ولكن يتوجّه عليه: أنّ الجَرّ يحصل بإضافة الجزء، فلا وجه لحمله على الدرهم الكامل، بل يثبت به جزء الدرهم، وإليه يرجع في تفسير الجزء، والتقدير جزء درهمٍ ، وكذا كناية عن الجزء.

ولو جعل كلمة (الدرهم) مرفوعاً، فلا كلام ظاهراً في أنّه يلزمه درهمٌ بجعله بدلاً عن كذا.3.

ص: 108


1- المهذّب البارع: ج 4/114.
2- المبسوط: ج 3/13.
3- الغنية: ص 273.

ولو قال: كذا كذا درهماً، فأحد عشر، و كذا و كذا درهماً فإحدى وعشرون درهماً،

(ولو قال): له عليَّ (كذا كذا درهماً، ف) المتَّجه هو لزوم درهمٍ واحد، لأنّ الظاهر منه إرادة التأكيد، فيجري فيه ما سبق.

ولكن الجماعة المتقدّم ذكرهم ذهبوا إلى أنّ اللّازم عليه (أحد عشر) درهماً، لان أقلّ عددٍ مركّب مع غيره ينتصب بعده المميّز أحد عشر، إذ فوقه الاثني عشر إلى تسعة عشر، فيلزمه الأقلّ .

أقول: قد مرّ الجواب عنه فلا نعيده.

(و) لو قال: (كذا وكذا درهماً) بأنْ كرّر كلمة (كذا)، وذكر حرف العطف:

(ف) عن من تقدّموا أنّه يلزمه (إحدى وعشرون درهماً)، لأنّه أقلّ عددين عطف أحدهما على الآخر، وميّزا بدرهم منصوباً، إذ فوقه اثني وعشرون إلى تسعة وتسعين.

وفيه: أنّه يضعف بما مرّ.

أقول: والحقّ عدم لزوم أزيد من درهمٍ واحد، لأنّه ذكر شيئين حينئذٍ وميّزهما بدرهم، فكأنّه قال: (شيءٌ هما درهم)، لأنّ كلمة كذا حيث يحتمل لما هو أقلّ من درهم، فيجوز تفسير المتعدّد منه وإنْ كثر بالدرهم.

وفي الثاني قولان آخران:

أحدهما: لزوم درهمين عليه، لأنّه ذكر جملتين كلّ واحدةٍ منهما تقع على الدرهم، ويكون كنايةً عنه، فيكون الدرهم تفسيراً لكلّ واحدٍ منهما.

ص: 109

هذا مع معرفته، وإلّا فله التفسير. ولو قال: مائة مؤجّلة، أو من ثمن خمرٍ، أو مبيعٍ لم أقبضه، أو ابتعتُ بخيارٍ، فالقولُ قول الغريم مع اليمين.

ثانيهما: أنّه يلزمه درهمٌ وزيادة يرجع فيها إليه، لأنّ الدرهم فسّر الجملة الأخيرة، فتبقى الأُولى على إجمالها، فيفسّرها بما شاء.

وفيه: قد ظهر ممّا أسلفناه ضعفهما، كما أنّه قد ظهر ممّا قدّمناه ما في قول المصنّف رحمه الله (هذا مع معرفته، وإلّا فله التفسير) فلا حاجة إلى بيانه.

تعقيب الإقرار بما ينافيه

(و) أمّا اللّواحق فثلاثة:

الملحق الأوّل: في تعقيب الإقرار بما ينافيه.

ف (لو قال): لك عليَّ (مائة مؤجّلة، أو من ثمن خمرٍ، أو مبيعٍ لم أقبضه، أو ابتعتُ بخيارٍ).

(ف) عن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله: أنّ (القول قول الغريم مع اليمين).

أقول: وتفصيل الكلام:

أمّا في الفرع الأوّل: فلا إشكال في أنّه بالإقرار يلزمه المائة، وحينئذٍ:

إنْ لم ينكر الغريم الأجل فلا كلام.

وإنْ أنكره:

فإنْ كان وصف التأجيل منفصلاً عن الكلام المتقدّم، ولو بسكوتٍ طويلٍ ، فلا خلاف بينهم في أنّ الدَّين حالّ ، وقول الغريم مقدّمٌ ، لأنّ دعوى التأجيل دعوى

ص: 110

أُخرى ، والمدين مدّعٍ فيها بلا إشكال.

وإنْ وصله به، فظاهر العبارة وكذا عبارة المحقّق في «النافع»(1) أنّه كذلك، وهو المحكيّ عن صريح الشيخ(2) والقاضي(3)، وعلّلوه بأنّ دعوى الأجل زائدة عن أصل الإقرار، فلا تسمع، كما لو أقرَّ بالمال ثمّ ادّعى قضائه.

ولكن المشهور بين الأصحاب - سيّما المتأخّرين(4) - أنّه يقبل قوله، ويقدّم على قول غريمه، فلا يكون الدَّين حالّاً، وهو الأظهر، لما مرّ من أنّ الإقرار إنّما هو بلحاظ ظهور الكلام، ومعلوم أنّه لا ينعقد للكلام ظهورٌ ما دام المتكلّم مشغولاً به، وله أنْ يلحق بكلامه ما شاء من اللّواحق.

وإنْ شئتَ قلتَ : إنّ المقرّ به بحسب ظهور الكلام، هو الدَّين المؤجّل، فلا تثبت به الحصّة الاُخرى من الدَّين، أي الدَّين الحالّ .

ويؤيّده: ما قيل من إنّه لولا قبول ذلك منه، لأدّى إلى إنسداد باب الإقرار بالحقّ المؤجّل، وأيضاً إذا كان على الإنسان دَينٌ مؤجّل، وأراد التخلّص، فإنْ لم يُسمع منه لزم الإضرار به، وربما كان الأجل طويلاً بحيث إذا علم عدم قبوله منه، لا يقرّ بأصل الحقّ ، خوفاً من إلزامه حالّاً والإضرار، فيؤدّي تركه إلى الإضرار بالحقّ ، وهذا غير موافق للحكمة الإلهيّة، وللصحيح الدالّ على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان لا يأخذ بأوّل الكلام دون آخره.

وأمّا الفرع الثاني: فلو قال: (له عليَّ مالٌ )، ثمّ قال منفصلاً عنه: (مِن ثمن خمرٍ5.

ص: 111


1- المختصر النافع: ص 234.
2- الخلاف: ج 3/377، مسألة 28 من كتاب الإقرار.
3- المهذّب: ج 1/414، قوله: (فإنْ قال: لزيد عليَّ ألف درهم مؤجّلاً إلى الوقت الفلاني، وجبَ عليه ذلك في الأجل المذكور).
4- كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 9/333، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 11/24-25.

غير محترمة أو خنزير)، لا يقبل منه الثاني، ويثبت عليه المال إجماعاً كما عن «التذكرة»(1)، ووجهه ظاهر.

أمّا لو وصل القول المنفصل بكلامه الأوّل، فالمشهور بينهم أيضاً ذلك، بل عن «نهاية المرام»(2) نسبته إلى علمائنا.

واستدلّوا له: باقتضاء ذلك سقوط الأوّل، لعدم صلاحيّة الخمر وكذا الخنزير مبيعاً يستحقّ به الثمن في شرع الإسلام.

أقول: وهو إنّما يتمّ مع عدم احتمال الجهل بذلك في حقّ المقرّ، وأمّا مع احتماله فلا، لأنّ الإقرار مبنيٌّ على اليقين، فكلّما لم يتيقّن لم يُلزم بشيء، ولا يخرج عنه بالظنّ وغيره، ويسمع فيه الاحتمال وإنْ كان نادراً كما أفاده المحقّق الأردبيلي رحمه الله(3).

وما في «الجواهر»(4): من أنّه لو صَحّ ذلك لانسدّ باب الإقرار.

يدفعه: أنّ الاحتمال إنْ لم يكن له منشأ عقلائي لا يُعتنى به، ولا يلزم منه ماذكر، وإنْ كان له ذلك لا يلزم منه انسداد باب الإقرار.

وأمّا الفرع الثالث: فإنْ وَصَل قوله: (من مبيع لم أقبضه)، بقوله: (عَليَّ مالٌ ):

فعن «المبسوط»(5)، و «الخلاف»(6)، و «نهاية المرام»(7)، و «المسالك»(8)،1.

ص: 112


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/166 (ط. ق).
2- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 35/143.
3- مجمع الفائدة: ج 9/459.
4- جواهر الكلام: ج 35/143.
5- المبسوط: ج 3/34.
6- الخلاف: ج 3/375، مسألة 24 من كتب الإقرار.
7- حكاه عنه في الجواهر: ج 35/143.
8- مسالك الأفهام: ج 11/121.

و «الكفاية»(1) وغيرها(2): إنّه يقبل قوله.

وذهب المصنّف رحمه الله(3)، والمحقّق(4)، والشهيد(5): إلى أنّه يقدّم قول الغريم، وهو المحكيّ عن يحيى بن سعيد(6) والحِلّي(7)، وعن غير واحدٍ من المتأخّرين(8).

واستدلّوا للثاني: بمنافاة الثاني للأوّل، وقد ظهر ضعفه ممّا قدّمناه، ومنه يظهر أقوائيّة الأوّل.

نعم، لو انفصل صَحّ ما ذكر كما مرّ.

وأمّا الفرع الرابع: وهو ما لو قال: (لكَ عليَّ مائة من مبيعٍ ابتعتُ بخيار)، فقد قالوا: إنّه يُلزم بالمائة، للتنافي بين قوله: (عليَّ ) وقوله: (بخيار) إذ مقتضى الأوّل ثبوت الثمن في الذمّة، ووجوب أدائه إليه في جميع الأحوال، ومقتضى الثاني عدم استقراره فيها، لجواز الفسخ، وعدم وجوب أدائه إليه مطلقاً.

وفيه: أنّ الثاني لا ينافي الأوّل، بل يبيّن كيفيّته، إذ لا منافاة بين ثبوته في الذمّة غير مستقرّ.

وعليه، فحيثُ أنّ المدار في باب الإقرار على الظهور العرفي، ولا ينعقد للكلام ظهورٌ مادام للمتكلّم أن يلحق بكلامه ما شاء من اللّواحق، فالأظهر قبول قوله، كما0.

ص: 113


1- كفاية الأحكام: ص 231.
2- مثل رياض المسائل: ج 11/430 (ط. ج).
3- قواعد الأحكام: ج 2/435.
4- المختصر النافع: ص 234.
5- اللّمعة الدمشقيّة: ص 200.
6- الجامع للشرائع: ص 340.
7- السرائر: ج 2/511.
8- منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 9/330.

ويُحكم بما بعد الاستثناء

عن «المبسوط»(1)، و «الخلاف»(2)، والقاضي(3)، و «المسالك»(4)، و «الرّوضة»(5)، وسيّد «المدارك»، و «الرياض»(6)، والمحقّق الأردبيلي(7) وغيرهم(8).

الاستثناء المتعقّب للإقرار

الملحق الثاني: في بيان أحكام الاستثناء المتعقّب للإقرار:

لا خلاف عندنا في جريان الاستثناء في الإقرار، بل الإجماع بقسميه عليه، كما في «الجواهر»(9)، (و) يترتّب عليه أنّه (يُحكم بما بعد الاستثناء).

نعم، يعتبر عندنا الاتّصال العادي، بأنْ يصحّ في الاستعمال عادةً .

وعن ابن عبّاس والحِلّي(10): تجويزه إلى شهرٍ، وحملاه على قبول خبره إلى تلك المدّة. وضعفه ظاهر.

وكيف كان، فقواعده وإنْ كانت كثيرة، إلّاأنّه تعارف بينهم ذكر قواعد ثلاث في هذا المقام:

ص: 114


1- المبسوط: ج 3/34.
2- الخلاف: ج 3/375 مسألة 24.
3- المهذّب: ج 1/405-406.
4- مسالك الأفهام: ج 11/121-122.
5- الروضة البهيّة: ج 6/418، قوله: (والتحقيق أنّ هذا ليس باب تعقيب الإقرار بالمنافي...).
6- رياض المسائل: ج 11/429-430 (ط. ج).
7- مجمع الفائدة: ج 9/461.
8- كالمحقّق السبزواري في كفاية الأحكام: ص 231.
9- جواهر الكلام: ج 35/85.
10- رياض المسائل: ج 13/138 (ط. ج)، مفتاح الكرامة: ج 9/297 (ط. ق).

المتّصل والمنفصل.

القاعدة الاُولى: أنّ الاستثناء من الإثبات نفيٌ ، ومن النفي إثباتٌ ، وفي «المسالك»(1): (أنّ الأوّل موضع وفاق بين العلماء) وهو ظاهرٌ، وأمّا الثاني: فقد ناقش فيه بعضهم نظراً إلى أنّ بين الإثبات والنفي واسطة، فلا يلزم من انتفاء النفي إثبات الإثبات لجواز التوقّف، وينتقض ذلك بالاستثناء من الإثبات، وتمام الكلام فيه في الاُصول.

القاعدة الثانية: المشهور بين الأصحاب جواز الاستثناء من الجنس المعبّر عنه ب (المتّصل)، ومن غير الجنس، (و) هو الذي يقال له (المنفصل) تارةً ، والمنقطع أُخرى .

أمّا جواز الأوّل: فواضح.

وأمّا الثاني: فيشهد به وقوعه في الكتاب وفصيح اللّغة:

قال اللّه تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (2).

وقال سبحانه: (فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ اَلْجِنِّ ) (3).

وقال عزَّ من قائل: (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً) (4).6.

ص: 115


1- مسالك الأفهام: ج 11/67.
2- سورة النساء: الآية 29.
3- سورة الكهف: الآية 50.
4- سورة الواقعة: الآية 25 و 26.

ويَسقطُ بقدر قيمة المنفصل.

إلى غير تلكم من الموارد.

وهل هو حينئذٍ على وجه الحقيقة أو المجاز؟ فيه خلافٌ ، لا يهمّنا في المقام البحث عنه.

ثمّ إنّ مرادهم من الجنس كون المستثنى داخلاً في المستثنى منه لولا الاستثناء، ومن غيره عدم دخوله، وبذلك اندفع ما في «المسالك» حيث قال: (إطلاق الاستثناء المنقطع على كونه من غير الجنس لا يخلو من مناقشة مشهورة، لأنّ مثل قوله: جاء بنوك إلّابنو زيد منقطعٌ ، مع أنّ الاستثناء من الجنس)(1) انتهى .

(ويسقط) في الاستثناء المنقطع (بقدر قيمة المنفصل)، فلو قال: (له عليَّ ألف درهم إلّاثوباً)، يسقط بمقدار قيمة الثوب عن الألف درهم.

القاعدة الثالثة: ذهب المحقّقون من الاُصوليّين والأكثر إلى أنّه يصحّ الاستثناء إذا بقى بقيّة قلّت أو كثُرت، كما في «المسالك»(2)، وذهب جماعة إلى اعتبار أنْ يكون الباقي من المستثنى منه أكثر من النصف.

والأصحّ أنّه يصحّ مطلقاً، وإنّما يستهجن استثناء الأكثر، وهذا لا يضرّ بالحمل عليه في باب الإقرار كما مرّ، وإنّما لا يفعل ذلك في كلام الشارع الأقدس.

وبه يندفع الإيراد على الاُصوليّين بأنّهم ذكروا في المقام أنّ الاستثناء يصحّ وإنْ كان الباقي قليلاً، وفي الاُصول بنوا على عدم صحّة استثناء الأكثر.9.

ص: 116


1- مسالك الأفهام: ج 11/69.
2- مسالك الأفهام: ج 11/69.

ولو قال: عشرة إلّاثلاثة إلّاثلاثة، لزمه أربعة. والوجه بطلانُ الاستثناء في درهمٍ ودرهمٍ إلّادرهماً.

أقول: (و) يتفرّع على القاعدة الأُولى، أنّه إذا ذكر استثنائان، وكان الثاني بقدر الأوّل، رجعا جميعاً إلى المستثنى منه، ف (لو قال): له عليَّ (عشرة إلّاثلاثة إلّا ثلاثة، لزمه أربعة) لأنّ الظاهر في صورة تعدّد الاستثناء إذا كان متعاطفاً، أو كان الثاني مستغرقاً لما قبله - سواءٌ زاد عليه أو ساواه - رجوع الجميع إلى المستثنى منه.

هذا إذا لم يحصل بالاستثناء المتعدّد استغراق المستثنى منه، وإلّا بطل ما يحصل به الاستغراق، كما لو قال في المثال: (له عشرة إلّاثلاثة إلّاسبعة)، فيبطل استثناء سبعة، وتثبت تلك كما هو واضح.

ويتفرّع على الثالثة: ما قاله المصنّف رحمه الله (والوجه بطلان الاستثناء في درهم ودرهم إلّادرهماً) إذ المختار عند جماعةٍ من المحقّقين رحمهم الله أنّ الاستثناء الواقع بعد جملٍ متعدّدة، يرجع إلى الجملة الأخيرة، وعليه فالا ستثناء مستغرقٌ فيكون باطلاً.

ولو قلنا بأنّ الاستثناء الواقع بعد جُملٍ متعدّدة يرجعُ إلى الجميع، فهل يصحّ الاستثناء في المثال، ويثبت درهمٌ واحد، لأنّه حينئذٍ في قوّة قوله: (له درهمان إلّا درهماً) كما في «الشرائع»(1)؟ أم يبطل أيضاً كما عن الشيخ(2)، والحِلّي(3)، والمصنّفً)

ص: 117


1- شرائع الإسلام: ج 3/697، قوله: (ولو قال درهم ودرهم إلّادرهماً فإنْ قلنا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، كان إقراراً بدرهم. وإنْ قلنا يرجع إلى الجملة الأخيرة - وهو الصحيح - كان إقراراً بدرهمين وبطل الاستثناء).
2- المبسوط: ج 3/10، قوله: (إذا قال لفلان عليَّ درهم... فعلى ما نذهب إليه أنّ الاستثناء إذا تعقّب جملاً معطوفة بعضها على بعض بالواو، أنّه يرجع إلى الجميع يجب أن نقول إنّه يصحّ ويكون إقراراً بدرهم..).
3- السرائر: ج 2/502، قوله: (إذا قال له عليَّ درهم ودرهم إلّادرهماً، فقد أسقط الاستثناء من الدرهمين درهماً، فلو رجع إلى الجملتين معاً من الكلام صار عَبثاً ولغواً)

ولو قال: عشرة إلّاخمسة إلّاثلاثة، لزمه ثمانية، ولوقال: عشرة ينقصُ واحداً لم يُقبل.

هنا وغيره(1)، وجماعة(2) من جهة استلزام صحّة الاستثناء حينئذٍ التناقض والرجوع عن الاعتراف، لورود الإقرار على الدرهم بلفظٍ يفيد النصوصيّة، فلم يصحّ إخراج أحدهما بعد أن نصّ على ثبوته ؟

وجهان، أظهرهما الأوّل، وذلك يظهر بعد ملاحظة أنّه لا خلاف ولا إشكال في أنّه لو قال: (له عليَّ درهمٌ إلّانصفه) يكون صحيحاً، ولعلّ سرّه أنّ التجوّز عن نصف درهمٍ نصفه، ونصفا درهم درهمٌ .

بل يمكن أنْ يقال بصحّة الاستثناء حتّى على المسلك الأوّل، لأنّ رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة خاصّة دون الجميع، إنّما هو فيما إذا لم يستغرق، وأمّا معه فيجب العود إلى الجميع، فيجرى فيه ما ذكرناه.

أقول: (و) من متفرّعات الأُولى:

1 - (لو قال): له عليَّ (عشرة إلّاخمسة إلّاثلاثة) بأنْ كان الاستثناء الثاني غير معطوفٍ على الأوّل، وكان أقلّ من سابقه، فإنّه حينئذٍ يعود إلى متلوّه لا إلى المستثنى منه، ففي المثال (لزمه ثمانية).

2 - (و) منها ما (لو قال: عشرةٌ ينقصُ واحداً لم يُقبل)، بل يُلزم بدفع العشرة على المشهور، واستدلّوا له:

1 - بأنّه رجوعٌ عن الإقرار، وذكروا في وجه الفرق بينه وبين الاستثناء4.

ص: 118


1- مختلف الشيعة: ج 6/42.
2- كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 11/86، والمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 9/484.

ولو قال: هذا لفلان، بل لفلان، كان للأوّل، وغَرُم للثاني القيمة.

وقوع الاتّفاق على قبوله، لوقوعه في فصيح الكلام بخلاف غيره من الألفاظ المتضمّنة للرجوع عن الإقرار.

2 - وبأن ينقص في المثال جملة أُخرى منفصلة عمّا سبقها، فيكون كالمنافي لها فلا يسمع، وهذا بخلاف الاستثناء، فإنّه مع المستثنى منه يعدّان جملة واحدة، يكون الاستثناء جزءً منها لا يمكن فصله عنها.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ قبول الاستثناء ليس للإجماع، بل من جهة أنّ الاستثناء من الإثبات نفيٌ ، ولازم ذلك ظهور مجموع الكلام الملقى في كونه إقراراً بغير ما أخرجه به، وهذا يجري في المثال أيضاً.

وعلى الثاني: أنّه لا عبرة بكون الجملتين واحدة أم متعدّدة، بل الميزان في باب الإقرار هو الظهور العرفي، ومن المعلوم أنّه لا ينعقد للكلام ظهورٌ ما دام كونه مشغولاً به، وله أنْ يذكر القرينة الصارفة ولو كانت بجملة أُخرى .

وبالجملة: فالأظهر أنّه يقبل مع الاتّصال، ويلزمه التسعة، وعن سيّد «المدارك» أنّ احتمال ذلك قويّ ، لأنّ الكلام إنّما يتمّ بآخره.

جملة من فروع الإقرار

الملحق الثالث: في جملةٍ من فروع الإقرار:

الفرع الأوّل: (ولو قال: هذا لفلانٍ بل لفلان، كان للأوّل، وغَرُم للثاني القيمة) لأنّه صار لمن أقرَّ له أوّلاً، فبإقراره أتلف على الثاني ماله الذي أقرَّ به ثانياً. هكذا استدلّ له.

ص: 119

ويرجعُ في النقد والوزن والكيل إلى عادة البلد، ومع التعدّد إلى تفسيره، ولو أقرَّ بالمظروف لم يدخل الظرف. ولو قال: قفيزُ حنطةٍ ، بل قفيزُ شعيرٍ، لزمه قفيزان.

أقول: لكن بما أنّ بل للاضراب، وأنّ الإنسان قد يسهو وقد يغلط فيستدرك بأداة بل، فالأظهر كونه للثاني خاصّة، لعدم انعقاد الظهور التامّ لإقراره للأوّل مادام كونه مشغولاً بالكلام، وبعد ذكر بل التي هي قرينة على الاشتباه والخطأ، فلا يصدّق على ما ذكره أوّلاً الإقرار بكونه للأوّل.

الفرع الثاني: (ويرجع في النقد والوزن والكيل إلى عادة البلد) لأنّ الألفاظ في الإقرار تُحمل على ما يفهم منها بحسب المتفاهم العرفي في المحاورات، وليس إلّا ذلك، (ومع التعدّد) يرجع (إلى تفسيره) بلا خلافٍ ، ولو تعذّر الرجوع إليه حُمل على الأقلّ لأنّه المتيقّن.

الفرع الثالث: (ولو أقرَّ بالمظروف لم يدخل الظرف) أخذاً بالمتيقّن، فلو قال:

(لزيدٍ عندي ثوبٌ في منديلٍ ) أو (زيتٌ في جَرّةٍ ) أو (حنطةٍ في سفينة) وما شاكل، لم يكن إقراراً بالظروف المذكورة، لاحتمال أنْ يكون مراده في منديلٍ وجرّةٍوسفينةٍ لي، وكذا العكس كما لو قال: (لزيدٍ عندي غَمدٌ فيه سيف)، يكون إقراراً بالظرف دون المظروف.

الفرع الرابع: (ولو قال) له عليَّ (قفيز حنطةٍ ) مثلاً، (بل قفيز شعيرٍ) فالمشهور بينهم أنّه (لزمه قفيزان)، ويجري فيه ما ذكرناه في الفرع الأوّل، وعليه فلا يلزمه إلّا قفيزُ شعيرٍ.

ص: 120

ولو قال: قفيزُ حنطةٍ ، بل قفيزان، لزمه اثنان، بل ولو قال: إذا جاء رأس الشهر فله عليَّ ألفٍ أو بالعكس، لزمه،

(ولو قال: قفيزُ حنطةٍ ، بل قفيزان، لزمه اثنان) بلا خلافٍ بينهم، بل ولا إشكال على ما مرّ منّا.

وأمّا على ما ذكروه في الفرعين من حمل (بل) على غير الاضراب، فغاية ما يمكن أن يستدلّ به لهم ظهور اللّفظ في إرادة دخول الأقلّ في الأكثر، وهو وإنْ كان تامّاً إلّاأنّ لازمه البناء في الفرعين السابقين على ما ذكرناه.

الفرع الخامس: (ولو قال: إذا جاء رأسُ الشَّهر فله عليَّ ألف أو بالعكس) بأن أخّر الشرط، وقال: (له عليَّ ألف إذا جاء رأس الشهر) (لزمه) الألف المذكور، أمّا لزوم الألف عليه في الجملة.

فإنْ قلنا: بأنّ الإقرار لا يختصّ باخبار ثبوت حقّ عليه في السابق، فواضح بعد ما عرفت من أنّ التعليق لا يضرّ به.

وإنْ قلنا: بالاختصاص:

فإنْ علم من قصده، وعرف من كلامه إرادة وجود السبب الفعلي للاستحقاق له بعد مجيء رأس الشهر، بأنْ نذر له مثلاً، صدق عليه الإقرار، وشمله دليله.

وإنْ علم منه أنّه يخبر عن تحقّق السبب في ذلك الوقت، بأنْ يكون بانياً على النذر له بذلك، فهو وعدٌ لا إقرار، فلا يشمله حكمه.

وإنْ أطلق ولم يُعلم أحدهما، فيقبل قوله فيه كما لا يخفى .

ص: 121

بخلاف إنْ قَدِم زيدٌ، ولو أبهم الجمعُ حُمل على أقلّه،

وأمّاعدم الفرق بين تقديم الشرط و تأخيره، فهوالمشهور بين الأصحاب، ووجهه أنّه لا فرق بينهما في العرف واللّغة، وأنّ الشرط وإنْ تأخّر لفظاً، فهو متقدّم معنى.

وعليه، فما عن «التحرير»(1) من الفرق بينهما ضعيفٌ .

كما أنّه قد ظهر ممّا ذكرناه ضعف ما عن المصنّف رحمه الله في «القواعد»(2)وغيرها(3)، والشهيد(4)، والكركي(5) وغيرهم(6) من ابتناء المسألة على ظهور اللّفظ في كونه تعليقاً أو تأجيلاً، فعلى الأوّل يبطل، وعلى الثاني يصحّ .

أقول: والمشهور بين الأصحاب أنّه لا فرق بين التعليق على رأس الشهر، أو قدوم زيد مثلاً، ولم يخالفهم أحد إلّاالمصنّف رحمه الله في المقام حيث قال: (بخلاف إنْ قَدِم زيد).

والأوّل أظهر، لأنّ التعليق على قدوم زيد صريحٌ في التعليق، بخلاف التعليق على مجيء رأس الشهر، فإنّه ظاهرٌ في التأجيل، ولا أقلّ من احتماله، وهو كما ترى .

الفرع السادس: (ولو اُبهم الجمع حُمل على أقلّه) لأنّه القدر المتيقّن الثابت، وفي الزائد عليه يرجع إلى أصالة البراءة، فلو قال: (عليَّ دراهم)، حُملت على الثلاثة بناءً على أنّها أقلّ الجمع.3.

ص: 122


1- تحرير الأحكام: ج 2/117 (ط. ق).
2- قواعد الأحكام: ج 2/411.
3- كما في إرشاد الأذهان: ج 1/408.
4- الدروس: ج 3/125.
5- جامع المقاصد: ج 9/191.
6- كالشهيد الثاني في المسالك: ج 11/23.

ولو أبهم المُقرّ له، أُلزم البيان، فإنْ عيّن قُبل، ولو ادّعاه الآخر كانا خصمين، ولهما اليمين على عدم العلم، ولو أُبهم المقرّ به ثمّ عَيّن، فإنْ أنكره المقرّ له، انتزعه الحاكم،

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّه حيث أنّ القوم قد اختلفوا في أنّ أقلّ الجمع هو الثلاثة أو الاثنان، ويحتمل أنْ يكون المقرّ ممّن يرى كونه اثنين، فتُقبل دعواه، فإنّه المتيقّن الثابت، والزائد مشكوكٌ فيه يرتفع بالأصل.

الفرع السابع: (ولو أبهم المقرّ له) كما لو قال: (لأحدِ هذين هذه الدار) قُبل منه، إذ كما يُسمع الإقرار بالمجهول، كذلك يُسمع الإقرار للمجهول، ثمّ (اُلزم بالبيان، فإنْ عيّن قُبل) نحو ما مرّ في الركن الرابع، فإنّه حينئذٍ ذو يدٍ، ولو للأصل، وينفذ إقراره، وحينئذٍ (لو ادّعاه الآخر كانا خصمين) إلّاأنْ من أقرَّ بها له ذو يدٍ، فيكون داخلاً والآخر خارجاً، فيترتّب عليهما حكم دعوى الداخل والخارج الآتي في كتاب القضاء مفصّلاً(1).

(و) لو ادّعى الآخر، علم المقرّ بأنّها له (لهما اليمين على عدم العلم)، وإنْ ادّعى لأنّه لو أقرَّ له تبعه بالغُرم.

الفرع الثامن: (ولو أبهم المقرّ به ثمّ عيّن) قُبل كما عرفت مفصّلاً، وحينئذٍ يجب أن نلاحظ الحالة:

(فإنْ أنكره المقرّ له) وادّعى الآخر، (انتزعه الحاكم) من المقرّ إلى أن يظهر مالكه، لأنّه وليُّ من لا وليّ له.8.

ص: 123


1- راجع: فقه الصادق: ج 38.

وأقرّه في يده بعد يمينه، ولو أنكر المقرّ له بالعبد قال الشيخ رحمه الله: يُعتق، وفيه نظرٌ.

ولو ادّعى المواطاة على الإشهاد، كان له الإحلاف. مسائل:

الاُولى : يُشترط في الإقرار بالولد إمكان البنوّة، والجهالة، وعدم المنازع،

(وأقرَّه في يده بعد يمينه)، لأنّه مكلّفٌ بإيصاله إلى مالكه بدسٍّ ونحوه، وبالحلف تسقط دعوى المقرّ له.

الفرع التاسع: (ولو أنكر المقرّ له بالعبد، قال الشيخ رحمه الله(1) يُعتق، وفيه نظر).

الفرع العاشر: (ولو ادّعى المواطاة على الإشهاد، كان له الإحلاف).

الإقرار بالولد

أقول: بقي في المقام (مسائل) ينبغي البحث عن أحكامها:

المسألة (الأُولى : يُشترط في الإقرار بالولد) مضافاً إلى ما تقدّم اعتباره، اُمورٌ ثلاثة:

(إمكان البنوّة، والجهالة، وعدم المنازع) بلا خلافٍ في شيء من تلكم، وإنْ اختلفت تعبيرات القوم عنها.

أقول: إنّ الأخبار الواردة في ثبوت النسب بالإقرار، وإنْ هي مطلقة، لاحظ:

1 - خبر السكوني، عن جعفر عليه السلام، عن أبيه عليه السلام، عن علي عليه السلام: «إذا أقرَّ الرّجل بالولد ساعة لم ينف عنه أبداً»(2).

ص: 124


1- المبسوط: ج 3/23.
2- التهذيب: ج 8/183 ح 63، وسائل الشيعة: ج 26/271 ح 32986.

ولا يُشترط تصديق الصغير، ولا يُلتفت إلى إنكاره بعد البلوغ. ويُشترط في الكبير،

2 - وصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المرأة تُسبى من أرضها ومعها الولد الصغير، فتقول: هذا ابني، والرّجل يُسبى فيلقى أخاه، فيقول:

هو أخي، وليس لهم بيّنة....

إلى أنْ قال: فقال: سبحان اللّه، إذا جاءت بابنها أو ابنتها ولم تزل مقرّة، وإذا أخاه وكان ذلك في صحّة منهما، ولم يزالا مقرّين، ورث بعضهم من بعض»(1).

ونحوهما غيرهما.

أمّا القيدين الأولين: فإنّ مدرك اعتبارهما مع عدم الإمكان أو المعلوميّة تكون مخالفة الإقرار للواقع معلومة، فلا يكون مثبتاً، لأنّ طريق الإثبات إنّما يكون طريقاً مع احتمال المصادفة، وأمّا مع القطع بالخلاف فلا مورد له.

وأمّا القيد الثالث: فلأنّه إذا كان هناك مدّعٍ آخر، فلا محالة يتعارض الإقراران، فيتعين الرجوع إلى القرعة، إنْ لم يكن لأحدهما بيّنة، والنصوص(2)الواردة في وطء الشركاء الأمَة المشتركة مع تداعيهم جميعاً في ولدها شاهدة بذلك.

قال المصنّف رحمه الله: (ولا يُشترط تصديق الصغير) بلا خلافٍ فيه.

وعن «جامع المقاصد»(3): الإجماع عليه، لإطلاق الأدلّة.

بل (ولا يُلتفت إلى إنكاره بعدالبلوغ) لثبوت النسب قبل البلوغ، ولاينتفي بإنكاره.

أيضاً: (ويشترط) التصديق (في الكبير) كما عن «المبسوط»(4)، وجميع من8.

ص: 125


1- الكافي: ج 7/165 ح 1، وسائل الشيعة: ج 26/278 ح 33000.
2- وسائل الشيعة: ج 21/171-172 باب 57 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
3- جامع المقاصد: ج 9/349.
4- المبسوط: ج 3/38.

وفي غير الولد، ومع تصديق غير الولد، ولا وارث يتوارثان،

تأخّر عنه(1)، فإنّ ما دلّ على ثبوت البنوّة بالإقرار مختصٌّ بالولد الصغير، وفي الكبير لابدّ من الرجوع إلى عمومات الإقرار، وهي تقتضي ثبوت النسب من جهة المقرّ خاصّة، وأمّا من جهة الولد فهو إقرارٌ في حقّ الغير، ولا يكون جائزاً فيعتبر تصديقه.

ثمّ على فرض تصديقه، إنّما يثبت بالإقرارين خصوص البنوّة والأبوّة دون حواشيهما، لكونهما من قبيل الإقرار في حقّ الغير، إلّاأنْ يكون قولهما واجداً لشرائط الحجيّة.

لا يقال: إنّ هذا الوجه يقتضي عدم ثبوت حواشي البنوّة والأبوّة كالجدودة والعمومة وما شا كل في الإقرار بالولد الصغير.

فإنّه يتوجّه عليه: أنّه خارج بالإجماع والنصوص الدالّة على ثبوت البنوّة بالإقرار التي من متفرّعاتها العناوين الاُخر.

هذا كلّه في الإقرار بالولد.

(و) أمّا (في) الإقرار ب (غير الولد): فلا إشكال في اعتبار تصديق الآخر، وإلّا لزم نفوذ الإقرار في حقّ الغير، بلا دليل خاص دالّ عليه، (ومع تصديق غير الولد ولا وارث) لهما (يتوارثان) بلا خلافٍ ، وتشهد به النصوص:

منها: ما مرّ.

ومنها: صحيح الأعرج، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلين حميلين جيء3.

ص: 126


1- كابن الجنيد كما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/50 واختاره ايضاً، والمحقّق في شرائع الإسلام: ج 3/703.

ولا يتعدّى التوارث إلى غيرهما، ولو كان له ورثة مشهورون لم يُقبل في النَسَب.

الثانية: لو أقرَّ الوارث بأولى منه، دفع ما في يده إليه،

بهما من أرض الشرك، فقال أحدهما لصاحبه: أنتَ أخي، فعرفا بذلك ثمّ اُعتقا ومكثا مقرّين بالإخاء، ثمّ إنّ أحدهما مات ؟

قال عليه السلام: الميراث للأخ يصدقان»(1).

(ولا يتعدّى التوارث إلى غيرهما)، لعدم جواز الإقرار في حقّ الغير.

(ولو كان له) أي للمقرّ (ورثة مشهورون) في نَسبه (لم يُقبل في النسب) ولو تصادقا، لأنّ الإرث ثابتٌ شرعاً للورثة المعروفين بنسبهم، فإقراره بوارثٍ آخر، وتصديقه له يقتضي منعهم عن جميع المال أو بعضه، فهو إقرارٌ على الغير، ولا يكون نافذاً.

هذا في غير الولد ممّا لا كلام فيه ولا خلاف.

وأمّا في الولد:

فإنْ كان الولد صغيراً، فلا خلاف في قبوله فيه، وإطلاق النصوص وإجماع فقهاء الاُمّة شاهدان به.

وإنّما الخلاف في الولد الكبير، ومنشأه الإجماع عليثبوت النَسَب مع التصادق، وأنّ منشأه دليلُ الإقرار غير الشامل له.

وأيضاً: المتيقّن من معقد الإجماع غير الفرض، والأظهر هو الثاني.

المسألة (الثانية: لو أقرَّ الوارث بأولى منه) كما إذا أقرَّ الأخ بولدٍ للميّت (دفع ما في يده إليه) من المال لإقراره بأنّه أولى منه.1.

ص: 127


1- الكافي: ج 7/166 ح 2، وسائل الشيعة: ج 26/279 ح 33001.

ولو كان مساوياً دفع بنسبة نصيبه من الأصل، ولو أقرّ باثنين فتناكرا، لم يلتفت إلى تناكرهما، ولو أقرّ بأولى منه ثمّ بأولى من المقرّ له، فإنْ صدّقه دفع إلى الثالث،

فإنْ قيل: إنّ الإقرار إنّما يثبت به عدم كون المال له، فما المُثبت لكونه للمقرّ له ؟

قلنا: إنّ مدركه قاعدة (من مَلك شيئاً ملك الإقرار به) التي هي قاعدة عقلائيّة ومجمعٌ عليها، أو ما دلّ على أنّه يقبل إخبار ذي اليد عمّا تحت يده(1)، أو أنّه إذا ادّعى المقرّ له المال، كانت دعواه من قبيل دعوى لا معارض لها، فيشملها ما دلّ على أنّها تُسمع(2).

(ولو كان) المقرّ له (مساوياً له) في الميراث، كما لو أقرَّ الابن بابنٍ آخر للميّت، (دفع) إليه (بنسبة نصيبه من الأصل).

(ولو أقرَّ باثنين) دفعةً (فتناكرا، لم يلتفت إلى تناكرهما) لأنّ استحقاقهما للإرث إنّما ثبت في حالة واحدة، ونسبة السبب إليهما على حَدّ سواء، ويثبت لكلّ منهما بنسبة نصيبه من الأصل، وإنكار الآخر لا أثر له.

(و) أمّا (لو أقرَّ) أوّلاً (بأولى منه) كما لو أقرَّ العمّ مثلاً بالأخ، (ثمّ ) أقرَّ ثانياً (بأولى من المقرّ له) كالولد.

(فإنْ صدّقه) المقرّ له بالأوّل (دفع) المال (إلى الثالث) سواءٌ كان المقرّان عدلين أم لم يكونا.د.

ص: 128


1- وهي النصوص الواردة في الموارد المخصوصة، بل يستفاد منها أنّ حجيّته كانت أمراً مفروغاً عنه. راجع رسالتنا القواعد الثلاث المطبوعة ص 78.
2- الكافي: ج 7/422 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/273 ح 33758، و وسائل الشيعة: ج 25 باب 15 من أبواب اللّقطة / ص 461، ووسائل الشيعة: ج 23/388-389 باب 36 من أبواب الصيد.

وإلّا إلى الثاني، ويُغرم للثالث،

نعم، إنْ كانا عدلين، يثبت بإقرارهما النَسَب، ويترتّب عليه جميع أحكامه ولوازمه وملازماته، (و إلّا) بأن أكذب الأخ العمّ في كون المقرّ به ثانياً ولد الميّت، لم يدفع المال إلى الثالث قطعاً، فإنّ الثاني استحقّ المال بالإقرار الأوّل، ولا يقبل الإقرار الثاني في حقّه، لأنّه إقرارٌ في حقّ الغير، بل يدفع المال بمقتضى الإقرار الأوّل (إلى الثاني)، وهذا لا كلام فيه.

(و) إنّما الكلام في ما ذكروه من أنّه (يُغرم للثالث)، وذكروا في وجهه أنّه بالإقرار الثاني يجبُ عليه دفع المال إلى الثالث، ولكن بما أنّه أتلفه عليه قبل ذلك بالإقرار الأوّل، يصبح ضامناً له.

وبعبارة أُخرى : إنّ الإقرار الثاني وقع بعد تعلّق حقّ الغير به، فلا ينفذ فيه في نفس العين، لكن إنّ ذلك لما كان من جهة إقراره الأوّل، صار هو السبب للحيلولة، فيغرم للثالث.

أقول: وفي المقام بحوث ينبغي التعرّض لها:

البحث الأوّل: إنْ تَمّ ذلك لابدّ وأن يقيّد بما إذا كان بعد دفع المال إلى الثاني، أو مع نفي الوارث غيره، وإلّا فلو أقرَّ باخوّة شخصٍ للميّت، ولم يدفع المال إليه، ثمّ أقرَّ بولديّة شخصٍ آخر، فلا تنافي بين الإقرارين، ولا يجبُ عليه إلّادفع المال إلى الثالث حينئذٍ، ووجهه واضح.

البحث الثاني: إذا أقرَّ بوارثيّة شخصٍ ، فقد خرج المال عن تحت تصرّفه سواءٌ دفع إليه المال أم لا، فالإقرار الثاني بكونه لشخصٍ آخر وأنّه الوارث دون الأوّل،

ص: 129

ولو أقرّ الولد بآخر، ثمّ أقرّا بثالثٍ ، وأنكر

ليس إقراراً على نفسه، ولا فيما يملك التصرّف فيه، فما الوجه في ثبوت الحقّ للثالث ولزوم الغرامة ؟

أقول: والذي يختلج بالبال عاجلاً في وجهه - وإنْكان يحتاج إلى تأمّل زائد - أمران:

الأمر الأوّل: إنّ قاعدة (من مَلِك شيئاً مَلِك الإقرار به) جارية بعد زوال ملك التصرّف، إنْ كان إقرارٌ بشيء في حال ملك التصرّف - كما يظهر من جماعة:

منهم: فخر الدين في «الإيضاح» في مسألة اختلاف الوليّ والمولى عليه بعد الكمال، حيث رجح قول الوليّ ، وقال: (إنّ الأقوى على كلّ من يلزم فعله غيره يمضي إقراره بذلك الفعل عليه)(1).

ومنهم: الشيخ في ظاهر محكي «المبسوط»(2) حيث صرّح بعدم إرث الزوجة في مسألة إقرار المريض في حال مرضه بالطلاق في حال الصحّة.

إذ الظاهر أنّه لا مستند له سوى عموم نفوذ إقرار المقرّ على ما ملكه، ولو في الزمان الماضي، وعليه فمقتضى هذه القاعدة أنّه يمكن الإقرار بكون المال للثالث، وإذا ثبت ذلك حيث أنّه أتلفه عليه بإقراره الأوّل فهو الضامن له.

الأمر الثاني: أنْ يقال: إنّه بالإقرار الثاني حيث أنّه إنّما يكون في حين ما تلف المال إنّما يقر باشتغال ذمّته ببدل المال، وهذا إقرارٌ على نفسه فيؤخذ به.

(ولو أقرَّ الولد بآخر، ثم أقرَّا بثالثٍ ) شاركهما في الإرث بالنسبة، (و) إنْ (أنكر9.

ص: 130


1- إيضاح الفوائد: ج 2/55.
2- المبسوط: ج 5/69.

الثالثُ الثاني، كان للثالث النصف، وللثاني السُّدس، ولو كانا معلومي النَسب لم يلتفت إلى إنكاره.

الثالثة: يَثبُت النَسَب بشهادة عدلين، لا برجلٍ وامرأتين، ولا برجلٍ ويمين،

الثالث الثاني):

قالوا: (كان للثالث النصف) لأنّ إرثه ثابتٌ باعتراف الأولين، فهو أحد الاثنين المتّفق عليهما، فيكون له النصف، وللأوّل الثُّلث، لأنّه باعترافه يعدّ أحد الثلاثة، فليس له إلّاثُلث التركة، (و) يبقى (للثاني السُّدس)، وهو يثبت له باعتراف الأوّل، ولا ادّعاء للثالث بالإضافة إليه، لأنّه يعترف بأنّه لا يستحقّ أكثر من النصف.

وربما يناقش في ذلك: بأنّ الأوّل والثاني معترفان بأنّ الثالث غاصبٌ لسدس المال، فكما أنّه لو غصب شيئاً من المال المشترك كان على الشريكين، فكذلك في المقام، فلابدّ من تقسيم النصف بينهما.

أقول: ويمكن أنْ يقال بقسمة المال بينهم أثلاثاً، لأنّ إقرار الأولين بثالث ليس إلّا إقراراً باستحقاقه ثلث المال، فلا يستحقّ إلّابهذا المقدار، ولا أثر لإنكاره نَسَب الثاني، (و) هذا هو الأظهر، فكما أنّه (لو كانا معلومي النسب لم يلتفت إلى إنكاره) كذلك مع عدم معلوميّته.

المسألة (الثالثة: يثبت النسب بشهادة عدلين) بلا خلافٍ ، لعموم ما دلّ على حجيّة البيّنة (لا برجلٍ وامرأتين، ولا برجلٍ ويمين) على قول، وسيأتي الكلام فيه مفصّلاً في كتاب الشهادات(1).ا.

ص: 131


1- راجع: كتاب الشهادات من فقه الصادق: ج 38/362 وما بعدها.

ولو شهد الأخوان بابنٍ للميّت، وكانا عدلين، كان أولى منهما، ويثبت النَسب، ولو كانا فاسقين ثبت الميراث دون النسب.

(ولو شهد الأخوان بابنٍ للميّت، وكانا عدلين، كان أولى منهما، ويثبت النسب، ولو كانا فاسقين ثبت الميراث دون النسب) ويظهر وجه الجميع ممّا تقدّم آنفاً.

***

ص: 132

الفصل السابع: في الوكالة.

(الفصل السابع: في الوكالة)

اشارة

وهي استنابة في التصرّف في أمرٍ من الاُمور في حال حياته، ويخرج بقيد (في التصرّف) الوديعة، فإنّها استنابة في الحفظ، وبقيد (في حال حياته) الوصاية، فإنّها استنابة بعد الموت.

وأمّا ما في «المسالك»(1) من الفرق بين الوكالة والوصاية، بأنّ الوصاية إعطاء ولاية، ففيه تأمّلٌ يأتي الكلام عليه في كتاب الوصاية(2).

وأمّا الفرق بينها وبين العارية: فهو أنّه في العارية ليس استنابة في التصرّف، ولا يتصرّف المستعير في العين نيابةً عن مالكها، وهو واضحٌ .

وكذا المضاربة و المزارعة و المساقاة، فإنّحقيقتها ليست استنابة كما مرّ في أبوابها.

ولا إشكال في مشروعيّتها، وفي «الجواهر»: (بل لعلّه من ضرورة الدِّين)(3).

وقد يستدلّ لها بقوله تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى اَلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ ) (4) فإنّ هذه وكالة، واحتمال كونه من الإذن لا من الوكالة يدفعه أنّ ظاهره توكيل أحدهم في الشراء بمالهم للجميع، ولكنّه مختصٌّ بالاُمم السابقة، ومع ذلك فليس في الآية ما يشهد بأنّها كانت مشروعة في مذهبهم كي يُستصحب.

ص: 133


1- مسالك الأفهام: ج 5/237.
2- صفحة 314 من هذا المجلّد.
3- جواهر الكلام: ج 27/347.
4- سورة الكهف: الآية 19.

ولابدَّ فيها من الإيجاب والقبول، وإنْ كان فعلاً أو متأخّراً.

وأمّا قوله تعالى : (اِذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً) (1) فعدم كونه وكالة ظاهرٌ.

أقول: ويمكن أن يستدلّ لها بقوله عزّ وجلّ : (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها) (2).

وتقريب الاستدلال به كما عن «التذكرة»(3): أنّه جوّز العمل، وذلك بحكم النيابة عن الشخص.

وكيف كان، فمشروعيّتها من الواضحات، وعليها بناء العقلاء، والنصوص الدالّة عليها متواترة، ستأتي الإشارة إلى جملةٍ منها.

الوكالة من العقود

أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالبحث في مقامات:

المقام الأوّل: في العقد وما يلحق به، (و) فيه مسائل:

المسألة الاُولى: المشهور بين الأصحاب أنّ الوكالة من العقود، ف (لابدّ فيها من الإيجاب والقبول)، ويتحقّق إيجابها بكلّ مايدلّ على الاستنابة، وقبولها بكلّ ما دلّ على الرّضا بذلك، (وإنْ كان فعلاً أو متأخّراً).

ص: 134


1- سورة يوسف: الآية 93.
2- سورة التوبة: الآية 60.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/113 (ط. ق).

وأورد عليهم في ملحقات «العروة» تارةً : بأنّه: (لو قال: وكّلتك في بيع داري، فباعه صَحّ بيعه، والظاهر ذلك وإنْ غَفل عن قصد النيابة، وعن كونه قبولاً لإيجابه، مع أنّها لو كانت من العقود لزم عدم صحّة بيعه، لعدم تماميّة الوكالة قبله)(1).

واُخرى : بأنّه: (إنْ كانت الوكالة من العقود، لزم مقارنة القبول لإيجابها، مع أنّه يجوز توكيل من ليس حاضراً ويبلغه الخبر بعد مدّة)(2).

ولكن يتوجّه على الأوّل، أوّلاً: ما مرّ في كتاب البيع في مبحث الفضولي(1) من أنّ العقد المقرّون برضا المالك لا يكون فضوليّاً، كما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمه الله.

وثانياً: أنّه بإيجاب الوكالة وإنْ لم تتمّ الوكالة، إلّاأنّ الإذن المتحقّق في ضمنه يكفي في جواز العقد وخروجه عن الفضوليّة.

ويتوجّه على الثاني: ما تقدّم في كتاب البيع(2) من أنّ الأظهر عدم مضرّية الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول، إذا كان الالتزام من الموجب باقياً.

والحقّ أنْ يقال: إنّ حقيقة الوكالة كما عرفت هي الاستنابة في التصرّف، فهي توجب صيرورة الوكيل نائباً، وانطباق هذا العنوان على الوكيل من دون رضاه منافٍ لسلطنة الإنسان على نفسه.

وعليه، فالأظهر كما أفاده الأصحاب: أنّ الوكالة من العقود، غاية الأمر أنّها نظير العقود الاُخر التي لم يدلّ دليلٌ خاص على اعتبار لفظٍ - او لفظ خاص - فيها ويكتفي في إيجابها وقبولها بكلّ لفظٍ أو فعلٍ دالّ عليهما، ويصحّ أنْ يكون الإيجاب بالقول، والقبول بالفعل، فلو وكّله في بيع داره مثلاً فباعها قاصداً به قبول الوكالة،4.

ص: 135


1- فقه الصادق: ج 23/131.
2- فقه الصادق: ج 23/34.

والتنجيز.

صحّ وتتحقّق الوكالة بالبيع، وحيث أنّ حصول البيع والوكالة يكون في زمان واحد، يصدق عليه بيع الوكيل ويترتّب عليه أحكامه.

أقول: ويترتّب على ما ذكرناه أنّه لا يكفي في تحقّق الوكالة الرضا الباطني في التصرّف، بل لابدّ له من مظهر لما أشرنا إليه مراراً من أنّ بناء العقلاء والشارع على عدم الاعتناء بالالتزامات النفسانيّة مالم تُبرز، نعم يكفي في جواز التصرّف العلم بالرضا الباطني.

اعتبار التنجيز في الوكالة

المسألة الثانية: (و) المشهور بين الأصحاب أنّه يعتبر (التنجيز) في الوكالة، فلا تصحّ معلّقة على شرطٍ متوقع كقدوم الحاجّ ، أو صفة مترقّبة كطلوع الشمس.

وعن «التذكرة»(1): الإجماع عليه.

وفي «المسالك»: (من شرط الوكالة وقوعها منجزة عند علمائنا)(2).

وفي «الجواهر»: (الإجماع بقسميه عليه)(3).

وقد علّله بعضهم بما علّلوا به لاعتبار التنجيز في جميع العقود، وقد ذكرناه والجواب عنه في كتاب البيع(4)، وعرفت هناك أنّه لا دليل على اعتباره فيها سوى

ص: 136


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/114 (ط. ق).
2- مسالك الأفهام: ج 5/239.
3- جواهر الكلام: ج 27/352.
4- فقه الصادق: ج 23/38.

الإجماع، ونفس ذلك يقتضي اعتباره في المقام.

وعليه، فما في «ملحقات العروة» من (أنّ الأقوى صحّتها لعدم الدليل على بطلانها، وشمول الإجماع على اشتراط التنجيز في العقود لمثل المقام، غير معلوم)(1).

غير تامّ أوّلاً: لأنّه بعد كونها من العقود يشملها معقد ذلك الإجماع.

وثانياً: أنّه قد مرّ أنّ الإجماع قائمٌ على اعتباره في المقام بالخصوص، فلا إشكال فيه.

كما لا إشكال في أنّه يجوز تنجيزها وتعليق التصرّف على شرطٍ أو صفةٍ أو اشتراط تأخير التصرّف إلى زمان كذا، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل عليه الإجماع عن «التذكرة» و «المسالك» وغيرهما.

إنّما الكلام في أنّه إذا علّق الوكالة على شرطٍ وبطلت، فهل يجوز التصرّف بعد حصول الشرط كما عن «التذكرة»(2) وغيرها؟

أم لا يجوز كما عن جماعةٍ (3)؟

وجه الأوّل:

1 - أنّ الفاسد بمثل ذلك هو العقد، وأمّا الإذن الموجود في ضمنه فهو باقٍ .

2 - وأنّ الوكالة أخصّ من الإذن، وعدم الأخصّ لا يلازم عدم الأعمّ .

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ الإذن الموجود إنّما هو الإذن بتصرّف الوكيل لا غيره، فمع بطلان الوكالة ينتفي الإذن أيضاً.4.

ص: 137


1- تكملة العروة الوثقى: ج 1/120-121.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/114 (ط. ق).
3- كما في إيضاح الفوائد: ج 2/334.

وعلى الثاني: أنّ الإذن وإنْ كان أعمّ من الوكالة، إلّاأنّ الإذن الخاص الموجود في ضمن التوكيل ليس أعمّ منها.

وبذلك يظهر مدرك القول الثاني، وهو الأظهر.

ودعوى «الجواهر»: من أنّ (الإذن والوكالة يشتركان في النيابة، ولا فرق بينهما سوى أنّه إنْ أدّى بصورة العقد، كانت وكالة، وإلّا كان إذناً، فبطلان الوكالة لايوجبُ بطلان الإذن، وحاصلُ ذلك يرجع إلى أنّ العقد بالمعنى الأخصّ أو الأعمّ هنا من مشخّصات الفرد التي مع انتفائها لا تنتفي الحقيقة، ضرورة أنّ مشخّصات زيد مثلاً لو ارتفعت لم ترتفع الإنسانيّة عنه)(1).

مدفوعة: بأنّ ما أفاده عبارة أُخرى عن أعميّة الإذن، بمعنى أنّه نظير الفرد بالإضافة إلى المشخّصات والخصوصيّات، وحيث أنّ الموجودات الخارجيّة غير الأفعال النفسانيّة، والأُولى لا تقبل التقييد بخلاف الثانية، فكما له أنْ يأذن مع اشتراط شيء، ولازمه أنّه مع عدم الشرط لا إذن كما اعترف به قبيل ذلك، فكذلك له أنْ يقيّد الإذن باقترانه مع الوكالة.

ولا يقاس ذلك بالموجود الخارجي غير القابل للتقييد، وحيث أنّ المتيقّن هو الإذن مع هذه الخصوصيّة - أي الحصّة الخاصّة من الإذن - فثبوت الإذن مع انتفاء الخصوصيّة يحتاج إلى كاشفٍ آخر، وإلى ذلك نظر فخر المحقّقين رحمه الله في «الإيضاح» حيث قال: (إنّ الكلّي لايوجد إلّافي أحد الجزئيّات، وليس هذا إلّاالوكالة وقد ارتفعت)(2) انتهى .4.

ص: 138


1- جواهر الكلام: ج 27/353.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/334.

فالمتحصّل: أنّه على فرض عدم صحّة الوكالة، لا يجوز التصرّف استناداً إلى الإذن الضمني.

نعم، إنْ أحرز وجود الرّضا جاز التصرّف، لكنّه خارجٌ عن محلّ النزاع.

اعتبار العلم في الوكالة

المسألة الثالثة: صرّح غير واحدٍ باعتبار العلم في الوكالة، ومنهم الشيخ رحمه الله في محكي «المبسوط» حيث قال: (إذا وكّله في شراء عبدٍ وجب وصفه، ولو أطلق لم يصحّ )(1) وتبعه جماعة(2).

وملخّص القول في المقام: إنّ المعلوميّة لها إطلاقان:

أحدهما: ما يقابل الترديد.

ثانيهما: مايقابل الجهل.

أمّا بالإطلاق الأوّل: فاعتبارها عقلي، إذ المردّد لا ثبوت له ولا يتعلّق به شيء.

وأمّا بالإطلاق الثاني: فلا دليل على اعتبارها إلّافيما إذا أوجب نفيها الوقوع في الغَرر والخطر.

وعلى ذلك، فإنْ وكّله في شراء شيء وأطلق، كان معنى ذلك كونه وكيلاً في كلّ واحدٍ من تلك الاُمور المختلفة، لا أنّه وكيلٌ في أحدها، وعليه فلا إشكال في الصحّة إذ لا غَرر ولا خطر.

ص: 139


1- المبسوط: ج 2/391-392. والعبارة منقولة باختصار.
2- كصاحب الحدائق: ج 22/13-14، وحكي عن المحقّق في الشرائع.

وهي جائزة من الطرفين.

وأمّا لو وكّله في أحد شيئين على سبيل البدل:

فإنْ كانا متساويين في جميع الجهات، فلا خَطر أيضاً.

وإنْ كانا مختلفين، فالظاهر أيضاً صحّته، من جهة أنّ الجهل في المقام لا يوجب الغَرر، إذ كون الشخص جائز التصرّف في أحد مالي المالك مثلاً المعيّن واقعاً غير المعلوم للموكّل، لا خطر فيه عليه، وأمّا التصرّف المعاملي الواقع على ذلك الشيء، فهو وإنْ كان غير معلومٍ للموكّل، لكن المدار في تلك المعاملة هو ملاحظة حال الوكيل، فإنْ كان عالماً كفى في رفع الغَرر، ولا يلاحظ حال الموكّل.

وبالجملة: الجهالة في الوكالة لا توجبُ الغَرر من حيث نفسها، وأمّا من حيث المعاملة الواقعة بعدها، فالميزان فيها حال الوكيل لا الموكّل، وعليه فالأظهر عدم اعتبار المعلوميّة إلّابالمعنى المساوق للتعيين المقابل للترديد.

الوكالة جائزة من الطرفين

المسألة الرابعة: (وهي جائزة من الطرفين) بلا خلافٍ كما عن «التذكرة»(1)، وإجماعاً كما عن ظاهر «الغنية»(2)، فلكلّ منهما إبطالها.

أقول: يقع الكلام في موردين:

المورد الأوّل: في عزل الوكيل نفسه:

ص: 140


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/115 (ط. ق).
2- الغنية: ص 269.

فالمشهور بيهنم أنّه ينعزل بمجرّد العزل، وأنّه لا فرق في بطلان الوكالة بذلك بين إعلام الموكّل وعدمه.

وصرّح جماعة منهم(1): بأنّه يحتمل توقّف انعزاله على علم الموكّل.

وقال السيّد في «ملحقات العروة»: (الأقوى عدم البطلان بعزله إنْ لم يكن إجماع)(2).

وسبقه في ذلك المحدِّث البحراني رحمه الله(3)، ولم يذكروا لبطلانها بعزل الوكيل نفسه وجهاً يمكن الاستناد إليه بعد كون الوكالة من العقود.

أقول: مقتضى عموم أدلّة لزوم العقد لزومها أيضاً، وكونها جائزة من طرف الوكيل، فإنّ العقد اللّازم من طرفٍ والجائز من الطرف الآخر لا محذور في ثبوته، بل هو موجودٌ كالرهن، فإنّه لازمٌ من طرف الراهن جائزٌ من طرف المرتهن، والكتابة عند الشيخ(4) جائزة من طرف العبد ولازمة من طرف المولى، وعلى ذلك فإنْ كان هناك إجماعٌ ، وإلّا فالأظهر عدم البطلان مطلقاً، بل ظاهر النصوص الآتية الحاصرة لبطلان الوكالة بما لو أعلمه بالخروج، عدم البطلان بعزل الوكيل نفسه.

ثمّ إنّ الكلام في صحّة التصرّف بالإذن الضمني على فرض القول بالبطلان، هو الكلام فيها المتقدّم في المسألة الثانية، وقد عرفت في تلك المسألة أنّ الأظهر عدم الصحّة، فكذلك هنا.).

ص: 141


1- كما حكاه المحقّق البحراني في الحدائق الناضرة: ج 22/15.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 1/122.
3- الحدائق الناضرة: ج 22/16.
4- المبسوط: ج 6/91 قوله: (الكتابة لازمة من جهة السيّد، جائزة من جهة العبد... إلخ).

ولو عزله الموكّل بطلَ تصرّفه مع علمه بالعزل.

أقول: وللمصنف رحمه الله في المسألتين أقوال ثلاثة:

ففي «القواعد»(1) جزم في هذه المسألة بصحّة التصرّف، وفي تلك المسألة جعل الصحّة احتمالاً.

وفي «التذكرة»(2) عكس ما في «القواعد».

وعن «التحرير»(3) و «الإرشاد»(4) إطلاق القول بالبطلان فيهما.

وقد مرّ ما به يظهر أنّ الحقّ هو عدم الصحّة في الموردين.

المورد الثاني: في عزل الموكّل الوكيل:

لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (لو عزله الموكّل بطل تصرّفه) لبطلان وكالته، والأخبار شاهدة بذلك.

إنّما الكلام في أنّه هل يُحكم بالبطلان (مع علمه بالعزل) خاصّة كما هو المشهور، فلاينعزل الوكيل بعزل الموكّل إيّاه إلّامع إعلامه به، فلوتصرّف قبل ذلك نفذ على الموكّل.

أم يحكم به بعد إعلامه به إنْ أمكن، وإلّا فمع الإشهاد كما عن الشيخ في «النهاية»(5)، وأبي الصلاح(6)، وابني البرّاج(7) وحمزة(8) والحِلّي(9)؟3.

ص: 142


1- قواعد الأحكام: ج 2/358 و 350.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/114 (ط. ق).
3- تحرير الأحكام: ج 3/18 (ط. ج).
4- إرشاد الأذهان: ج 1/417.
5- النهاية: ص 318.
6- الكافي في الفقه: ص 338.
7- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/26.
8- الوسيلة: ص 283.
9- السرائر: ج 2/93.

أم ينعزل بعزله مطلقاً كما عن «القواعد»(1)؟

أقول: الأظهر هو الأوّل لجملةٍ من النصوص:

منها: صحيح هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ وكّل آخر على وكالةٍ في أمرٍ من الاُمور، وأشهد بذلك شاهدين، فقام الوكيل فخرج لإمضاء الأمر، فقال: اشهدوا إنّي قد عزلتُ فلاناً عن الوكالة ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان الوكيل أمضى الأمر الذي وكّل فيه قبل العزل، فإنّ الأمر واقعٌ ماضٍ على ما أمضاه الوكيل، كره الموكّل أم رضى.

قلت: فإنّ الوكيل أمضى الأمر قبل أن يعلم العزل أو يبلغه أنّه قد عُزل عن الوكالة، فالأمر على ما أمضاه ؟ قال: نعم.

قلت له: فإنْ بلغه العزل قبل أن يمضي الأمر، ثمّ ذهب حتّى أمضاه، لم يكن ذلك بشيء؟

قال عليه السلام: نعم، إنّ الوكيل إذا وكّل ثمّ قام عن المجلس فأمره ماضٍ أبداً، والوكالة ثابتة حتّى يبلغه العزل عن الوكالة بثقة يبلغه أو يشافهه بالعزل عن الوكالة»(2).

ومنها: صحيح معاوية بن وهب، عنه عليه السلام: «من وكّل رجلاً على إمضاء أمرٍ من الاُمور، فالوكالة ثابتة أبداً حتّى يُعلمه بالخروج كما أعلمه بالدخول فيها»(3).

ومنها: خبر أبي هلال الرازي القريب من الصحّة لتضمّن سنده على جماعةٍ جملة من أصحاب الإجماع، قال:7.

ص: 143


1- قواعد الأحكام: ج 2/364.
2- من لايحضره الفقيه: ج 3/86 ح 3385، وسائل الشيعة: ج 19/162 ح 24368.
3- من لايحضره الفقيه: ج 3/83 ح 3381، وسائل الشيعة: ج 19/161 ح 24367.

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجلٌ وكّل رجلاً يطلّق امرأته إذا حاضت وطهرت، وخرج الرّجل، فبدا له فأشهد أنّه قد أبطل ما كان أمَرَهُ به، وأنّه بدا له في ذلك ؟

قال عليه السلام: فليُعلم أهله وليُعلم الوكيل»(1).

ومنها: صحيح العلاء بن سيّابة الطويل المتضمّن للإنكار على من فرّق في هذا الحكم بين النكاح وغيره، وأنّه ينعزل في الأوّل بالاشهاد دون الثاني، ولحكم أمير المؤمنين عليه السلام بذلك مع الإشهاد وعدم الإعلام(2).

وأمّا القول الثاني: فلم أظفر بما يمكن أن يستدلّ به له سوى الإجماع الذي ادّعاه ابن زُهرة(3) وهو كما ترى ، بل إطلاق الخبرين يدلّ على عدم تماميّة هذا القول، كما أنّ جميع النصوص تدلّ عليخلاف ما عن «القواعد»، ومعه لايُصغى إلى ما استدلّ به له:

من أنّ الوكالة جائزة من الطرفين، فلابدّ وأن تبطل بالعزل وإنْ لم يعمله.

ولا إلى ما قيل: من وجود روايةٍ بذلك، التي لم تصل إلينا، وغايته كونها رواية مرسلة لم يَعمل بها الأصحاب.

وعليه، فالأظهر أنّه يتوقّف بطلان الوكالة على إعلامه بالعزل، وإلّا فهي ثابتة أبداً كما ورد التصريح به في النصوص.

اشتراط الوكالة في عقد لازم

المسألة الخامسة: إذا شرط الوكالة على نحو شرط النتيجة في ضمن عقدٍ لازم، فالمشهور أنّها لازمة.

ص: 144


1- الكافي: ج 6/129 ح 4، وسائل الشيعة: ج 22/89 ح 28098.
2- من لايحضره الفقيه: ج 3/84 ح 3383، وسائل الشيعة: ج 19/163 ح 24369.
3- الغنية: ص 269.

واستدلّوا له: بأنّ الوكالة وإنْ كانت جائزة، إلّاأنّها تصبح لازمة إذا جائت من قبل الشرط.

توضيح ما أفادوه: إنّ الدليل دلّ على أنّ عقد الوكالة من العقود الجائزة التي يجوز فسخها، فالجواز من آثار العقد لا من أحكام الوكالة من حيث هي، وعليه فإذا شرط الوكالة على نحو شرط النتيجة، بناء على صحّة شرط النتيجة، كما هو الحقّ ، يكون السبب حينئذٍ هو الشرط، وهو لازم بمقتضى أدلّة لزوم الشرط(1)، ونظير ذلك أنّ الهبة - أي التمليك مجّاناً - جائزة، يجوز للواهب الرجوع فيها، ولكن لو شرط في ضمن عقدٍ لازم ملكيّة شيء مجّاناً، ليس له أنْ يرجع فيها، فكذلك في المقام، والظاهر أنّ الحكم كذلك فيما لو شرطها في عقدٍ جائز بناءً على أنّ الشرط في ضمنه لازم الوفاء ما دام بقاء العقد.

نعم، له أنْ يفسخ العقد فيبطل الشرط، ولعلّه يكون هذا هو مراد المشهور حيث ذهبوا إلى أنّ الوكالة المشترطة في ضمن عقد جائز تكون جائزة.

ولو شرط في ضمن عقد الوكالة أن لا يعزله، فالظاهر أنّه يجب عليه عدم العزل، فهل ينعزل لو عزله أم لا؟

الظاهر عدم الإنعزال، لكن لا من جهة حرمة العزل، لأنّ حرمة العقد والإيقاع لا تستلزم الفساد وكذا الفسخ، ولا لما قيل من إنّه خلاف مقتضى الشرط، لأنّه إنْ كان الشرط عدم الانعزال بالعزل، كان شرطاً مخالفاً للكتاب والسُنّة، وإنْ كان عدم العزل، فغاية مقتضاه وجوب ذلك فلا يجوز العزل، أمّا عدم تأثير العزل، فهو خارجٌ عن الشرط.ر.

ص: 145


1- وسائل الشيعة: ج 18/16-17 باب 6 من أبواب الخيار.

وتبطلُ بالموتِ والجنونِ والإغماء وتلف متعلّقها، وفعل الموكّل.

بل لأنّ مقتضى العمومات كون الوكالة كسائر العقود لازمة، خرج عنها ما لو لم يشترط عدم العزل بمقتضى النصوص الخاصّة المتقدّمة، فتبقى صورة الاشتراط داخلة تحت العمومات.

وبذلك يندفع ما أُورد على لزوم الوكالة حينئذٍ بالدّور، بدعوى أنّ لزوم الشرط موقوف على بقاء الوكالة، وبقاء الوكالة موقوف على لزومه، وإنْ كان هو غير واردٍ حتّى على الوجهين الأولين، فإنّ لزومه ليس موقوفاً على بقاء الوكالة، بل على إيقاع عقدها، وقد حصل.

موارد بطلان الوكالة

المسألة السادسة: (و) قد ذكر الأصحاب أنّه (تبطل) الوكالة (بالموت، والجنون، والإغماء، وتلف متعلّقها وفعل الموكّل).

أقول: تفصيل الكلام يتحقّق بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: في الموت:

أمّا في صورة موت الوكيل: فالبطلان ظاهر، لأنّ الوكالة قائمة به ومجعولة له، فبموته ترتفع قهراً.

ودعوى: أنّ الوكالة من الحقوق، فتنتقل إلى الورثة من حيث كونها حقّ تركه الميّت فلوارثه.

ص: 146

يدفعها: أنّ الحقّ القابل للبقاء ينتقل إلى الوارث، وهذا الحقّ الذي قوامه بالوكيل نفسه غير قابل للبقاء، حتّى لو كانت مشروطة في ضمن عقدٍ لازم، اذ الشرط هو وكالة الوكيل نفسه لا مطلق الوكالة.

نعم، لو اشتراط وكالة وارثه بعد موته صَحّ ، وإنْ كان الشرط في ضمن عقد الوكالة، فيصير الوارث وكيلاً لا لبقاء الوكالة بل للشرط، ولا يضرّ مثل هذا التعليق، لعدم اشتراط التنجيز في الشرط، ولعدم شمول معقد الإجماع لما كان مفاد العقد المنجز مع الشرط المعلّق في ضمنه واحداً، فتدبّر فإنّه دقيق.

وأمّا في صورة موت الموكّل: فقد استدلّوا لبطلان الوكالة فيها:

1 - بالإجماع على بطلان العقود الجائزة بالموت.

2 - وبالإجماع على بطلان الوكالة بموته بالخصوص.

3 - وبأنّ مناط جواز تصرّف الوكيل هو الإذن وينقطع بالموت.

4 - وبأنّ المال بعد موته ينتقل إلى الورثة، فيتوقّف التصرّف على إذنهم.

5 - وبموثّق ابن بكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في رجلٍ أرسل يخطب عليه امرأة وهو غائب، فأنكحوا الغائب، وفرض الصداق، ثمّ جاء خبره أنّه توفى بعد ما سَبق الصداق ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان أملك بعد ما توفى، فليس لها صداقٌ ولا ميراث، وإنْ كان قد أملك قبل أن يتوفّى، فلها نصف الصداق، وهي وارثة وعليها العدّة»(1).

ونحوه صحيح أبي ولّاد(2).3.

ص: 147


1- الكافي: ج 5/415 ح 1، وسائل الشيعة: ج 20/305 ح 25684.
2- من لايحضره الفقيه: ج 3/430 ح 4489، وسائل الشيعة: ج 20/305 ح 25683.

أقول: وفي الجميع مناقشة:

أمّا الأولان: فلعدم ثبوت الإجماع التعبّدي، مع أنّه قد عرفت عدم كون الوكالة من العقود الجائزة بقول مطلق، بل هي لازمة من بعض الجهات.

وأمّا الثالث: فلأنّه لا يعتبر في جواز تصرّف الوكيل بقاء الإذن والرّضا، ولذا لو وكّله ثمّ سهى عن توكيله بالمرّة، بحيث لم يبق في خزانة النفس نفذ تصرّفه.

وأيضاً: قد عرفت أنّه مع العزل والإشهاد على عدم الإذن والرضا، لا تبطل الوكالة ما لم يُعلمه بذلك.

وعلى الجملة: لا إشكال في عدم اعتبار بقاء الإذن في بقاء الوكالة الثابتة بالعقد، وليست هي من قبيل الإذن المجرّد.

وأمّا الرابع: فلأنّه لايتمّ لوكانت الوكالة متعلّقة بالثّلث الراجع أمره إليه، مع أنّه سيجيء في كتاب الوصيّة(1) أنّ له أنْ يتصرّف في ماله بعد موته بأزيد من الثُّلث بمثل البيع بثمن المثل ونحوه.

أضف إلى ذلك، أنّه قد لاتكون الوكالة متعلّقة بالمال.

وأمّا الخبران: فلأنّ الظاهر أنّ البطلان فيهما من جهة عدم صحّة تزويج الميّت لا من جهة بطلان الوكالة.

فالمتحصّل: أنّه لا دليل على بطلانها بموت الموكّل، بل النصوص المتقدّمة تُشعر بعدم البطلان، لاحظ قوله عليه السلام: «فالوكالة ثابتة أبداً حتّى يعلمه بالخروج».

وعليه، فالأظهر عدم البطلان، نعم إذا كان التوكيل ظاهراً أو منصرفاً إلى حالء.

ص: 148


1- يأتي في الفصل الثاث من هذا الجزء.

حياته - كما لعلّه الغالب - بطلت الوكالة بموته، لانتهاء امدها، ولعلّه إلى ذلك نظر الأصحاب، واللّه العالم.

المورد الثاني: في الجنون والإغماء، وقد تكرّر في كلماتهم دعوى الإجماع على بطلان الوكالة بالجنون أو الإغماء من أحدهما، من غير فرقٍ بين كون الجنون إطباقيّاً أو أدواريّاً، وكون مدّة الإغماء قصيرة أو طويلة، علم الموكّل بذلك أم جهل.

واستدلّوا له: بانقطاع الإذن في جنون الموكّل، وقد ظهر ضعفه من ما قدّمناه، بل قد يقال إنّ له أنْ يوكّل في حال عقله وإفاقته من يتصدّى اُموره إذا جَنّ أو اُغمي عليه، فيكون الوكيل أولى من الحاكم الشرعي والوليّ الإجباري، لأنّه أولى بنفسه وقد جعله لنفسه متصدّياً لاُموره، فالصحيح أنّ لا مدرك له الا الإجماع إنْ ثبت وكان تعبّديّاً.

المورد الثالث: في تلف المتعلّق، كموت المرأة الموكلة في تزويجها أو طلاقها، وتلف ما وكّل في بيعه ونحو ذلك، فالوجه في بطلان الوكالة حينئذٍ ظاهر، لأنّ الوكالة كما مرّ استنابة في التصرّف، فمع تلف المتعلّق لا تصرّف، فلا معنى للاستنابة حينئذٍ.

نعم، لو وكّله في شراء شيء، ودَفع إليه ديناراً ثمناً له، ولم يقم القرينة على التقييد بما دفعه، تبقى الوكالة، ولكنّه خارجٌ عن محلّ البحث لعدم تلف المتعلّق حينئذٍ.

المورد الرابع: في فعل الموكّل نفسه، كما لو وكّله في بيع داره ثمّ باعها مباشرة، ووجه بطلان الوكالة في هذا المورد ظاهر ممّا مرّ.

أقول: ولا تبطل الوكالة بالنوم، ولا بعروض النسيان لأحدهما، ولا بالسُّكر، ولا بالفسق إنْ لم تُعلّق الوكالة على العدالة، بل ولا بالحَجْر، أمّا على الوكيل

ص: 149

فواضحٌ ، وأمّا على الموكّل فلأنّ الحجر وإنْ كان موجباً لعدم جواز تصرّف الوكيل في مال الموكّل مادام بقاء المحجوريّة، ولكن لايوجب بطلانها بحيث لا يصحّ تصرّفه بعد رفع الحجر، إلّاأنْ يكون هناك إجماع.

***

ص: 150

وتصحّ فيما لم يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه مباشرةً .

ما تصحّ فيه الوكالة

(و) المقام الثاني: فيما (تصحّ في) - ه الوكالة:

وهو كلّ (ما) تكامل فيه شرطان غير ما مرّ من المعلوميّة:

أحدهما: أنْ يكون مملوكاً للموكّل، بمعنى كون مباشرته له ممكنة بحسب العقل والشرع، فلا تجوز الوكالة في الاُمور المستحيلة عقلاً، أو الممنوعة شرعاً كالغصب والسرفة والقتل، فلو غصب أو سرق أو قتل بوكالةٍ كان آثماً، وعليه الضمان دون ذلك الغير.

ثانيهما: إنْ (لم يتعلّق غرض الشارع بإيقاعه مباشرةً )، فكلّما كان يدخل فيه النيابة تصحّ فيه الوكالة لأنّهما زوجان، وهذا ممّا لا كلام فيه.

أقول: إنّما الكلام في الموارد المشكوك فيها، التي لم يدلّ دليلٌ خاص على جريان النيابة فيها كالنكاح والطلاق وما شاكل، ولا على عدم جريانها فيها كالواجبات من الصَّلاة والصيام وغيرهما.

فعن المشهور: أنّ الأصل صحّة النيابة، ولذا استقرّ بناء الفقهاء على طلب الدليل على عدم الصحّة واعتبار المباشرة في موارد الشكّ ، وقد استدلّ لذلك:

1 - بأصالة عدم اشتراط المباشرة.

2 - وبالأخبار المتقدّمة الدالّة على عدم انعزال الوكيل إلّابإعلامه بالعزل، إذ

ص: 151

مقتضى إطلاقها صحّة الوكالة في كلّ أمر، لاحظ قوله عليه السلام: «من وكّل رجلاً على إمضاء أمرٍ من الاُمور، فالوكالة ثابتة أبداً حتّى يعلمه بالخروج عنها».

3 - وبعموم قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) بدعوى شموله للوكالة ومعاملاته على ما مرّ في كتاب الحَجر(2).

أقول: يتوجّه على الأصل أنّ البناء على الصحّة يتوقّف على عموم يدلّ عليها، وأصالة عدم الاشتراط لا تكفي ولا يثبت بها العموم، بل الأصل هو عدم ترتّب الأثر على فعل الغير.

وعلى الأخبار: أنّها في مقام بيان حكم آخر، فلا إطلاق لها من جهة صحّة الوكالة في كلّ أمرٍ من الاُمور.

وعلى عموم الآية: أنّها دليلُ اللّزوم لا الصحّة، أضف إليه أنّ التمسّك بها - على فرض دلالتها على الصحّة - أيضاً تمسّكٌ بالعام في الشبهة المصداقيّة، إذ لاريب في أنّه خرج عنه ما يعتبر فيه المباشرة، فمع الشكّ في اشتراطها لا يصحّ التمسّك بالعموم.

وبالجملة: فالحقّ أنّه في ما تعلّق به التكليف أعمٌّ من الوجوب والاستحباب، ومقتضى إطلاق دليله اعتبار المباشرة - كما حُقّق في محلّه - وأمّا في غير ذلك من الموارد كباب العقود والإيقاعات فيمكن البناء على عدم اعتبار المباشرة بوجهين:

أحدهما: التمسّك بإطلاق دليل الوكالة المقامي، بتقريب أنّ الشارع الأقدس شرّع الوكالة ولم يبيِّن ما تصحّ فيه وما لا تصحّ ، فيستكشف إيكاله ذلك إلى العرف،7.

ص: 152


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- فقه الصادق: ج 29/367.

ولا يتعدّى الوكيلُ المأذونَ ،

ومن المعلوم أنّه لا يشترط المباشرة عند العقلاء في شيء من العقود والإيقاعات، فتصحّ الوكالة فيها شرعاً.

ثانيهما: إطلاق أدلّة العقود والإيقاعات، إذ لا تدلّ أدلّتها إلّاعلى اعتبار انتساب العقد أو الإيقاع إلى من يكون موضوع الأثر المترقّب منه، ومن الواضح أنّه بإذن الموكّل ينتسب العقد أو الإيقاع إليه.

وبعبارة أُخرى : ظاهر الأدلّة وإنْكان اعتبار استناد عناوين العقود و الإيقاعات إلى الموكّل، إلّاأنّه لمّا كان هي أسامي للمسبّبات لا الأسباب، والمسبّبات تستند إليه بالإذن، وإنْ كان السبب غير منتسبٍ إليه ومستنداً إلى فاعله بالمباشرة، فمتضى إطلاق تلك الأدلّة صحّة الوكالة والنيابة في الجميع إلّاما خرج بالدليل.

أقول: ويمكن أن يستدلّ على ذلك بالسيرة العقلائيّة، بل والمتشرّعيّة أيضاً.

وبما ذكرناه يظهر الحال في جميع الموارد المشكوك فيها كما لا يخفى .

عدم جواز تعدّي الوكيل المأذون

المقام الثالث: في بيان وظيفة الوكيل بالنسبة إلى العمل بما وكّل فيه، (و) فيه مسائل:

المسألة الاُولى: (لا) يجوز أن (يتعدّى الوكيل المأذون) فيه من حيث الجنس والنوع والشخص والوصف والقدر والعين والذّمة والنقد والنسيئة ونوع المعاملة والزمان والمكان وما شاكل.

ص: 153

إلّا في تخصيص السوق،

ولو خالف توقّف على الإجازة فيما يقبلها وبطل فيما لا يقبلها، واستثنى من ذلك ما لو علم عرفاً كون التعيين من باب المثال، كما لو قال: (بعه بثمن كذا)، وعلم أنّ لا غرض له في خصوص ذلك المقدار، وإنّما الغرض في عدم الأقلّ ، فيجوز بيعه بالأزيد. هذا كلّه ممّا لا كلام فيه.

إنّما الكلام في الاستثناء المذكور في المتن، حيث قال المصنّف رحمه الله:

(إلّا في تخصيص السوق)، فإنّ معنى ذلك صحّة المعاملة حينئذٍ لو باعه في سوقٍ آخر، مع أنّ جماعة حكموا بالضمان.

وجه الإشكال: أنّ الحكم بالضمان يتمّ مع عدم الإذن، والصحّة إنّما تكون في صورة الإذن، فكيف يجتمع الحكم بالصحّة مع الحكم بالضمان ؟!

وقد دفع في «الرياض»(1) ذلك بأنّ الإذن المفهوم غايته الدلالة على صحّة المعاملة خاصّة، دون نقل العين عن مواردها المعيّنة، ولا تلازم بينهما بالبديهة، فإنّ الإذن المفهوم ليس إلّامن حيث الأولويّة، ولاتحصل إلّاحين جريان المعاملة لا قبلة، إذ منشأ الأولويّة ليس إلّازيادة الثمن عمّا عينه، وهي قبل المعاملة غير حاصلة، وحينئذٍ فتكون اليد عادية عليها ضمان ما أخذته.

وفيه: إنّ الإذن في الشيء إذنٌ في مقدّماته، ولذا يحكم بعدم الضمان فيما لو وكّله في بيعه في أيّ سوق شاء، مع أنّ هذا البرهان يقتضي الضمان فيه، فإنّه لم يأذن له في نقله إلى السوق، وإنّما المأذون هو البيع في السوق.).

ص: 154


1- رياض المسائل: ج 9/251 (ط. ج).

ولو عَمّم التصرّف صَحّ ،

والحلّ ما أشرنا إليه، من أنّه لو سُلّم شمول الإذن له، لا محالة يكون ذلك إذناً في مقدّماته، ولا أقلّ من عدم كون يده في طريق نقله إلى السوق ليباع فيه يداً عادية مشمولة للحديث(1).

وعن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(2) التفصيل بين كون المحلّ المعيّن سوقاً فَعَدل إلى سوقٍ آخر، فحكم بعدم الضمان، وبين كونه بلدة معيّنة فعدل عنها إلى بلدةٍ أُخرى ، فحكم الضمان مع الصحّة لو نقله إليها، وأجرى المعاملة عليه فيها.

أقول: وأورد عليه سؤال وجه الفرق بينهما.

ويمكن أنْ يقال: إنّ نظره الشريف إلى أنّه مع تعيين سوق خاص، يكون ذلك بحسب الغالب من باب المثال، فيستفاد الإذن في المعاملة في سوقٍ آخر، والإذن في الشيء إذنٌ في مقدّماته، فلا ضمان عليه لو تلف.

وأمّا مع تعيين البلدة فبحسب المتفاهم العرفي يعلم أنّه لا نظر له إلى بلدة خاصّة، إنّما عيّنها حفظاً للمال عن التلف في السفر، فيستفاد الإذن منه في المعاملة في بلدٍ آخر على تقدير لا مطلقاً، وهو وصول المال سالماً تلك البلدة، فالنقل إليها ليس مأذوناً فيه، والمعاملة مأذونٌ فيها على تقدير النقل. فتدبّر فإنّه دقيق.

ويمكن أنْ يكون نظر من جمع بين الحكمين في السوق أيضاً إلى ما ذكرناه.

المسألة الثانية: (ولو عمّم التصرّف) كماإذا وكّله في كلّقليلٍ و كثيرممّا له فعله (صَحّ )).

ص: 155


1- سنن البيهقي: ج 6/90 ح 11262، كنز العمّال: ج 10/629 ح 29811.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/122 (ط. ق).

مع المصلحة، إلّافي الإقرار،

وفاقا للشيخين(1)، والحِلّي(2)، والقاضي(3)، والديلمي(4)، وعامّة المتأخّرين(5) عدا قليل منهم لإطلاق الأدلّة كما مرّ.

وعن «الخلاف»(6) و «الشرائع»(7) وفخر المحقّقين(8): عدم الصحّة، لأنّ فيه غَرراً عظيماً، لأنّه ربما ألزمه بالعقود ما لا يمكنه الوفاء أو ما يؤدّي إلى ذهاب ماله، كأن يزوّجه بأربع حرائر ثمّ يُطلّقهنّ قبل الدخول، فيلزمه نصف مهورهنّ ، ثمّ يزوّجه بأربع اُخرٍ وهكذا.

ويندفع ذلك: بما اتّفقت كلماتهم عليه من أنّه يشترط في صحّة تصرّفات الوكيل أنْ تكون (مع المصلحة)، فلا إشكال في أنّه يمضي تصرّفاته حينئذٍ (إلّا في الإقرار) كما عن الأكثر، إمّا لأنّه لا تدخله النيابة، لاختصاص حكمه بالمتكلّم إذا أنبأ عن نفسه، لظهور قوله صلى الله عليه و آله: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»(9).ر.

ص: 156


1- المقنعة: ص 816، النهاية: ص 317 باب الوكالات.
2- السرائر: ج 2/89.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/22.
4- المراسم: ص 204.
5- كالمحقّق الكركي: ج 8/223.
6- الخلاف: ج 3/350 مسألة 14.
7- شرائع الإسلام: ج 2/429.
8- إيضاح الفوائد: ج 2/341.
9- وسائل الشيعة: ج 23/184 ح 29342، باب 3 من أبواب الإقرار.

والإطلاق يقتضي البيع حالّاً بثمن المثل، بنقد البلد، وابتياع الصحيح، وتسليم المبيع في البيع، وتسليم الثمن في الشراء.

وبعبارة أُخرى : هو من مقولة اللّفظ والمبرِز، لا من مقولة المعنى، فإقرار الوكيل غير إقرار الموكّل، ودليل الجواز مختصٌّ بإقرار الإنسان نفسه، أو لأنّه خلاف المصلحة المشترطة في تعميم الوكالة.

المسألة الثالثة: لو أطلق التصرّف - أي لم يقيّده بقيدٍ ولا عمّمه كما لو أطلق البيع وقال: (وكّلتك في البيع) ولم يعيّن ثمناً ولا نقداً ولا حلولاً ولا صحيحاً - فالمشهور بين الأصحاب لزوم رعاية ما ينصرف إليه الإطلاق، ولذا قالوا:

(والإطلاق يقتضي البيع حالّاً بثمن المثل بنقد البلد، وابتياع الصحيح) فلو باع بأقلّ من ثمن المثل بما لايتسامح فيه وقف على الإجازة، وكذا لو باع نسيئةً مع إمكان النقد، وقف على الإجازة، إلّاإذا كانت المصلحة في النسيئة، وكذا الحال في البيع بغير نقد البلد وفي شراء المعيب.

نعم، إذا كان العيب خفيّاً يصحّ البيع، ويكون للموكّل خيار العيب، إذ المأذون فيه هو المعاملة على النحو المتعارف، فيكون الشراء من الوكيل غير مخالفٍ لمقتضى الوكالة فتصحّ ، غاية الأمر يثبت الخيار للموكّل بمقتضى دليله.

وربما يكون الشراء بغير ثمن المثل أيضاً من هذا القبيل.

وبالجملة: المناط كون المعاملة على المتعارف أو خلافه، ففي الأوّل تصحّ مع الخيار بخلاف الثاني.

المسألة الرابعة: المشهور بين الأصحاب أنّ إطلاق التوكيل في البيع (و) الشراء يقتضي (تسليم المبيع في البيع، وتسليم الثمن في الشراء) لأنّ الوكيل هو

ص: 157

والرّد بالعيب،

المملّك فيجبُ عليه تسليم ما ملكه.

وفي ملحقات «العروة»(1): أنّه لا وجه له ومحلّ منعٍ .

أقول: يمكن توجيه كلام المشهور بوجهين:

أحدهما: أنّه إذا تحقّق البيع بإذن الموكّل، فقد انتقل مال الموكّل إلى طرف المعاملة، فما في يد الوكيل ليس للموكّل بل للطرف، ويجبُ رَدّ المال إلى صاحبه.

فإنْ قيل: فعلى هذا لو اشتراط عليه عدم التسليم بَطَل الشرط.

قلنا: إنّه لو اشترط عليه ذلك، لابدّ وأن يُعامل عليه مع الطرف مع هذا الشرط، وعليه فلا يجبُ التسليم، بل لايجوز بمقتضى الشرط.

ثانيهما: أنّ بناء المعاملين على تسليم المبيع والثمن، فالإذن في البيع بمقتضى الظهور العرفي إذنٌ في التسليم.

وعليه، فما أفادوه متينٌ لا إشكال فيه.

المسألة الخامسة: قالوا إنّ إطلاق التوكيل في البيع (و) الشراء، يقتضي جواز (الرّد بالعيب):

والظاهر أنّ مرادهم ما لو كان وكيلاً في التصرّف من غير أنْ يكون مستقلّاً ووكيلاً مفوّضاً، ولم يكن في إجراء الصيغة، وإلّا فلا إشكال في أنّ له ذلك مع الاستقلال، وأنّه ليس له لو كان وكيلاً في إجراء الصيغة خاصّة، فمرادهم صورة إطلاق الوكالة دون الوكالة المطلقة، بمعنى جعل الأمر بيده مطلقاً.6.

ص: 158


1- تكملة العروة الوثقى: ج 1/128، مسألة 6.

ولا يقتضي وكالة الحكومة القبض.

و تمام الكلام في ذلك وفي سائر الخيارات، في مبحث الخيارات من كتاب البيع، فراجع(1).

المسألة السادسة: المعروف بينهم أنّ إطلاق الوكالة في الشراء لا يقتضي الإذن بقبض المبيع، كما أنّ إطلاقها في البيع لا يقتضي الإذن بقبض الثمن، وعلّلوه بأنّه قد لا يستأمن على المبيع والثمن من يُستأمن على البيع والشراء، وهو حسنٌ ، إلّاأنّه لابدّ وأن يقيّد بما إذا لم تدلّ القرائن على الإذن في القبض، وإلّا فهو مأذونٌ فيه، كما لو وكّله في شراء عين من مكان بعيد يخاف مع عدم قبض الوكيل ذهابها، أو وكّله في البيع في موضعٍ يضيع الثمن بترك قبضه كسوق غائبٍ عن الموكّل.

المسألة السابعة: إذا وكّله في المرافعة لإثبات حقّ ، ليس له قبضه بعد إثباته، إلّا مع القرينة على إذنه في ذلك أيضاً، (و) ذلك لأنّه (لا يقتضي وكالة الحكومة) الإذن في (القبض).

***7.

ص: 159


1- راجع: فقه الصادق: ج 25/7.

ويشترط أهليّة التصرّف فيهما.

اعتبار أهليّة التصرّف في الموكّل والوكيل

المقام الرابع: في بيان مايعتبر في الموكّل والوكيل، (و) فيه مسائل:

المسألة الأُولى : (يشترط أهليّة التصرّف فيهما) بلا خلافٍ فيه في الجملة، وتنقيح القول في طيّ فروع:

الفرع الأوّل: يشترط فيهما البلوغ، فلا يصحّ توكيل الصبي ولا وكالته:

أمّا الأوّل: فلما دلّ على رفع القلم عن الصبي، وعدم جواز أمره، مع أنّه لايجوز تصرّفه بنفسه فيما يوكّل فيه، وقد مرّ اعتبار ذلك في الوكالة.

نعم، يصحّ توكيله بإذن الوليّ كسائر تصرّفاته ومعاملاته على ما مرّ في كتاب الحجر.

وربما يستثنى من ذلك ما لو وكّل البالغُ عشر سنين فيما له أنْ يتصرّف فيه كالوصيّة للأرحام، بل في مطلق المعروف والصدقة والطلاق، بدعوى أنّه إذا جازت تلكم الاُمور له، يجوز له التوكيل فيها أيضاً، لما عرفت من أنّه الضابط لما يجوز فيه التوكيل.

وفيه: إنّ مدرك اعتبار البلوغ لو كان هو الوجه الثاني خاصّة، كان ما اُفيد تامّاً، وأمّا لو كان هو الوجه الأوّل أيضاً فلايتمّ ، لأنّ مقتضى إطلاق تلكم الأخبار كون غير البالغ ممنوعاً من جميع التصرّفات والمعاملات، إلّامع إذن الوليّ ومن جملتها التوكيل، فجواز تلكم الاُمور إنْ ثبت لا يستلزم جواز توكيله كما لا يخفى .

ص: 160

وأمّا الثاني: وهو عدم صحّة أنْ يكون الصبي وكيلاً في التصرّفات، فلا إشكال ولا كلام فيه بالنسبة إلى الوكالة المستقلّة، بأنْ يكون وكيلاً مستقلّاً في التصرّف، لعموم ما دلّ على عدم جواز أمر الصبي، ورفع القلم عنه، إنّما الكلام في أنّه هل يصحّ أن يوكّل الصبي في خصوص إجراء الصيغة أم لا؟

ومنشأ الوجهين: الخلاف في أدلّة الحَجر هل تدلّ على سلب عبارة الصبي، أم لا تدلّ على ذلك ؟ فعلى الأوّل: لا يصحّ .

وعلى الثاني: يصحّ ، وقد مرّ تفصيل القول في ذلك في كتاب الحجر(1)، وعرفت أنّها لا تدلّ على ذلك، وأنّه تصحّ معاملاته مع إذن الوليّ ، ويصحّ تصدّيه لإجراء الصيغة، حيث لا يعدّ ذلك أمر الصبي، ولا يشمله حديث رفع القلم، ويُشعر بالصحّة - بل يدلّ عليها - خبر إبراهيم أبي يحيى، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «تزوّج رسول اللّه صلى الله عليه و آله اُمّ سلمة، زوّجها إيّاه عمر بن أبي سلمة وهو صغير لم يبلغ الحلم»(2).

الفرع الثاني: يعتبر فيهما العقل، فلا يصحّ توكيل المجنون ولو أدواريّاً في حال جنونه لحديث رفع القلم عنه(3)، ولأنّه لا يجوز تصرّفه بنفسه فيما يوكّل فيه كما مرّ، فلا يصحّ توكيله، وقد مرّ أنّ المشهور بين الأصحاب بطلان الوكالة بعروض الجنون على الموكّل.

ولكن عرفت ضعفه، فهو - أي العقل - شرطٌ في الابتداء دون الاستدامة، ولا يصحّ أن يوكّل المجنون في المعاملات لحديث الرفع، وفي صحّة إجرائه الصيغة5.

ص: 161


1- فقه الصادق: ج 29/367.
2- الكافي: ج 5/391 ح 7، وسائل الشيعة: ج 20/295 ح 25663.
3- قرب الإسناد: ص 155 ح 569، وسائل الشيعة: ج 29/90 ح 35225.

مع إحراز كونه قاصداً غير لاغٍ وعدمها، الوجهان المتقدّمان في الصبي.

الفرع الثالث: يعتبر في الموكّل عدم السفه إذا كان التوكيل فيما يتعلّق بمال نفسه، لما عرفت في كتاب الحجر من أنّ السفيه ممنوعٌ عن التصرّف المالي للآية الكريمة(1)وجملة من النصوص(2)، وعليه فلا يصحّ توكيله، لأنّ ذلك ضابط ما لا يصحّ فيه التوكيل كما مرّ.

نعم، يصحّ توكيله فيما له التصرّف فيه، وكذا يجوز وكالته لاختصاص دليل المنع بالتصرّف في مال نفسه.

وبذلك يظهر حال توكيل المفلّس ووكالته، فإنّه يجري فيهما ما ذكرناه في السفيه.

حكم اكراه الوكيل والموكّل

الفرع الرابع: المعروف بين الأصحاب عدم صحّة توكيل المكرَه ولا وكالته.

أمّا الأوّل: فلا إشكال فيه لحديث رفع ما استكرهوا عليه(3)، فلو اُكره المالك على التوكيل في بيع ماله، أو الزوج في طلاق زوجته، أو ما شاكل، بطلت الوكالة، فيقع البيع أو الطلاق فضوليّاً.

وعلى هذا، فإنْ كان مورد الوكالة إيقاعاً دون العقد، كما في الإكراه على الطلاق، فإنْ أجاز الطلاق بعدذلك، فقد اتّفقوا على عدم صحّته، لعدم جريان الفضوليّة

ص: 162


1- سورة النساء: الآية 6.
2- وسائل الشيعة: ج 18/409-410 باب 1 من أبواب كتاب الحجر.
3- وسائل الشيعة: ج 15 باب 56 من أبواب جهاد النفس / 369-370، ووسائل الشيعة: ج 23 باب 12 من أبواب الأيمان / 224-228 وباب 16 من أبواب الأيمان / 235-237.

فيه، ولكن إنْ أجاز بعد رفع إكراه التوكيل فهل يصحّ الطلاق أم لا؟ وجهان.

أقول: والحقّ أنْ يقال:

إنْ كان معقد الإجماع عدم صحّة الطلاق الذي تعلّق به الإجازة، ففي المقام بما أنّ الإجازة تعلّقت بالوكالة دون الطلاق، صحّ الطلاق، وإنْ كان المعقد أنّ الطلاق لايصحّ أنْ يكون معلّقاً على الإجازة، كما هو الظاهر منه، فلا يصحّ في المقام، فإنّ صحّة الطلاق موقوفة على صحّة الوكالة، المتوقّفة على الإجازة، والمتوقّفُ على المتوقّف على الشيء متوقّفٌ عليه، فتكون صحّة الطلاق موقوفة على الإجازة، فلا يصحّ .

فالأظهر عدم صحّته، تعلّقت الإجازة بالطلاق أو تعلّقت بالوكالة.

وأمّا الثاني:

فتارةً : يُكره الوكيل على قبول الوكالة.

وأُخرى : يُكره على التصرّف المعاملي الذي وكّل فيه.

أمّا في الأوّل: فمقتضى حديث رفع الإكراه عدم صحّة الوكالة، لكنّه إنْ رضى بعد ذلك بها وقبلها صحّت.

وأمّا في الثاني:

1 - فقد يكون المكرِه هو المالك، كما لو قال المالك للوكيل: (بع داري) أو (طلِّق زوجتي).

2 - وقد يكون الإكراه من الأجنبي، كما لو أُكره الوكيل على بيع دار موكّله أو طلاق زوجة موكّله، فقد ذهب جماعة منهم الشيخ الأعظم رحمه الله(1) إلى الصحّة في2.

ص: 163


1- المكاسب: ج 3/321-322.

الفرعين، وآخرون إلى البطلان فيهما، واختار المحقّق النائيني رحمه الله(1) الصحّة في الفرع الأوّل والبطلان في الثاني.

أقول: قد استدلّ للبطلان فيهما بوجوه عمدتها وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ مقتضى حديث رفع الإكراه رفع أثر العقد.

وفيه: أنّ لفعل الوكيل جهتين:

إحداهما: جهة العقديّة.

ثانيتهما: جهة قيامة بالوكيل.

والإكراه لا يؤثّر في فقد عقد الوكيل لشيءٍ من الاُمور المعتبرة فيه من الجهة الأُولى من العربيّة ونحوها بعد فرض كونه مستجمعاً لها.

وأمّا الجهة الثانية فغير دخيلة في ترتّب الأثر وحصول النقل والانتقال، لكون الوكيل أجنبيّاً عن المال، بل عقده إنّما يؤثّر من حيث انتسابه إلى المالك الموكّل، والمفروض عدم كونه مكرهاً فيما هو موضوع الأثر، ولم يتعلّق الإكراه به، وما تعلّق الإكراه به لا أثر له.

الوجه الثاني: أنّ القصد إلى المعنى شرطٌ في صحّة العقد، ومع الشكّ في ذلك لا أصل يُحرز به كون المكرَه قاصداً له، إذ أصالة القصد الجارية في أفعال العقلاء إنّما هي في الأفعال الاختياريّة دون المكره عليها.

وفيه أوّلاً: أنّ الكلام إنّما هو بعد إحراز القصد.

وثانياً: أنّ أصالة القصد إنّما هي في مطلق الأفعال الاختياريّة في مقابل الاضطراريّة كحركة يد المرتعش.3.

ص: 164


1- منية الطالب: ج 1/401-403.

والحرّية، ولو توكّل العبد، أو وكّل بإذن مولاه صَحّ ، ولايوكّل الوكيل بغير إذنه.

أقول: واستدلّ للبطلان في الفرع الثاني: بأنّ المكرَه إذا كان غير المالك، فغاية ماهناك رضا المالك بالعقد، ومجرّد الرضا لا يصحّح الاستناد، كما أنّ الكراهة الباطنيّة ليست ردّاً.

وفيه: مضافاً إلى ما مرّ من كفايته، أنّ محلّ الكلام هو كون العاقد وكيلاً، وفعل الوكيل يستند إلى الموكّل من جهة الوكالة.

وعليه، فالأظهر هي الصحّة في الفرعين.

المسألة الثانية: قالوا: (و) يشترط (الحريّة، ولو توكّل العبد أو وكّل بإذن مولاه صَحّ ).

المسألة الثالثة: (ولا يوكّل الوكيل بغير إذنه) له في التوكيل صريحاً ولو بالتعميم، كاصنع ما شئتَ ، أو فحوىً كاتّساع متعلّقها بحيث تدلّ القرائن على الإذن فيه، أو عجزه عن مباشرته.

وإنْ لم يكن متّسعاً مع علم الموكّل بالعجز، أو ترفّع الوكيل عمّا وُكّل فيه عادةً ، فإنّ توكيله حينئذٍ يدلّ بالفحوى على الإذن له في توكيل الغير مع علم الموكّل بترفّعه عن مثله.

بحث: ثمّ إنّه في موارد جواز التوكيل هل يكون الوكيل الثاني وكيلاً عن الأوّل أو عن الموكّل، وتظهر الثمرة في أنّه على الأوّل ليس للموكّل عزله وللوكيل ذلك، وينعكس على الثاني ؟

الظاهر هو الأوّل، ولا أقلّ من الإطلاق، وأنّ للوكيل أن يوكّله عن نفسه أو

ص: 165

وللحاكم التوكيل عن السُّفهاء والبُلَه، ويستحبّ لذوي المروّات التوكيل.

عن موكّله، ولكن للوليّ (وللحاكم التوكيل عن) الصبي والمجنون و (السُّفهاء والبُلَه) بلا خلافٍ في ذلك، بل عليه الإجماع عن «التذكرة»(1)، والأردبيلي(2)، وهو الحجّة فيه، مضافاً إلى إطلاقات الأدلّة، فلكلّ منهما المباشرة بنفسه، فكذلك بغيره.

المسألة الرابعة: (ويستحبّ لذوي المروّات التوكيل) في المنازعة، وإنْ لا يتولّوها بأنفسهم، كما هو المشهور، بل في «الرياض»: (بلا خلافٍ في ظاهر الأصحاب)(3)، واستدلّوا له:

بما رووا في كتبهم الاستدلاليّة أنّ عليّاً عليه السلام وكّل عقيلاً في خصومة، وقال: «إنّ للخصومة قحماً، وأنّ الشيطان ليحضرها، وأنّي لأكره أن أحضرها»(4).

والقُحم بالضَّم المهلكة(5).

وضعف سنده لا يضرّه بعد استناد الأصحاب إليه، وكون الحكم استحبابيّاً، ولكن عموم التعليل يقتضي عموم الحكم لغير ذوي المروّات أيضاً، لكن لم يلتزم به الأصحاب.

وعن بعضهم التأمّل في الحكم، لتحاكم النبيّ صلى الله عليه و آله مع صاحب الناقة(6)، وتحاكم9.

ص: 166


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/141 (ط. ق).
2- مجمع الفائدة والبرهان: ج 9/491، فبعد ذكره المسألة قال: (ولا نعلم فيه خلافاً).
3- رياض المسائل: ج 9/256 (ط. ج).
4- المبسوط: ج 2/360، عوالي الآلي: ج 3/257 ح 6، مستدرك وسائل الشيعة: ج 14/43 ح 16065.
5- الصحاح: ج 5/2006 مادّة (قحم).
6- من لا يحضره الفقيه: ج 3/105 ح 3425، وسائل الشيعة: ج 27/274 ح 33759.

ولا يتوكّل الذّمي على المسلم،

الوصيّ عليه السلام مع من رأى درع طلحة عنده(1) مع زوجته الشيبانيّة، فكيف تولّوا سادات الأنام المنازعة مع كراهتها، إلّاأنّ احتمال الدّواعي والضرورات في مباشرتهم قائمٌ ، فلا ترفع اليد من دليل استحباب التوكيل.

وكالة الكافر عن المسلم

المسألة الخامسة: المشهور بين الأصحاب أنّه لا يجوز وكالة الكافر عن المسلم، (ولا يتوكّل الذّمي على المسلم) باستيفاء حقّ له عليه، بل عليه الإجماع في محكي «التذكرة»(2) وغيرها(3).

وقد استدلّوا له: بالآية الشريفة: (وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (4).

وفيه أوّلاً: إنّ ظاهر الآية بقرينة ما قبلها نفي الجعل في الآخرة.

وثانياً: أنّه قد ورد في خبر الهروي عن الإمام الرضا عليه السلام: «أنّ المراد من الآية نفي سبيل الحجّة»(5).

وثالثاً: إنّ السبيل ظاهره السلطنة، والوكيل لا سلطنة له على الموكّل لو لم يكن بالعكس، فالإنصاف أنّه لا دليل له سوى الإجماع وإنْ لم يتمّ .

ص: 167


1- الكافي: ج 7/385 ح 5، وسائل الشيعة: ج 27/265 ح 33737.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/117 (ط. ق).
3- كما في رياض المسائل: ج 9/259 (ط. ج).
4- سورة النساء: الآية 141.
5- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 1/220.

ولا يضمن الوكيل إلّابتعدٍّ أو تفريط، ولا تبطل وكالته به،

وعليه، فالأظهر هو الجواز.

وعلى القول بالمنع، فإنّ المتيقّن منه الحرمة التكليفيّة دون بطلان الوكالة، وأيضاً المتيقّن منه ما لو توقّف استيفاء الحقّ منه على المرافعة، كي يمكن دعوى صدق السلطنة والقهر عليه، وأمّا مجرّد استيفاء الحقّ منه أو له، فلايكون مشمولاً لدليل المنع.

أقول: ثمّ إنّ القائلين بالمنع اختلفوا في وكالة المسلم عن الكافر على المسلم:

فعن جماعةٍ : المنع عنها.

ونسب إلى أكثر القدماء(1)، وعامّة المتأخّرين الكراهة.

وقد ادّعى على كلٍّ من القولين الإجماع، ولا مدرك لهم سوى الآية الكريمة، وقد عرفت حالها، ولكن للإجماع على المرجوحيّة لا بأس بالالتزام بها، والمتيقّن الكراهة، وأمّا في باقي الصور المتصوّرة في المقام فالا ظهر هو الجواز بلاكراهة.

المسألة السادسة: (ولا يضمن الوكيل إلّابتعدٍّ أو تفريط) إجماعاً(2)، لأنّه أمين، وقد مرّ أنّ الأمين لا يضمن إلّامع التعدّي أو التفريط.

(ولا تبطل وكالته به) أي بالتعدّي أو التفريط، لأنّ مبطليّته لها تحتاج إليدليلٍ مفقود، والأصل، وكذا العمومات تقتضي العدم.

ولو تعدّى ثمّ عاد نفذ تصرّفه بمقتضى الوكالة، فهل يبقى ضمانه أم لا؟).

ص: 168


1- بل ادّعى العلّامة الإجماع في تذكرة الفقهاء: ج 2/117 (ط. ق).
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/130 (ط. ق).

المشهور بين الأصحاب هو الأوّل، والأظهر هو الثاني، إذ دليل الضمان مختصٌّ بحال التعدّي، وفي تلك الحال خرجت يده عن كونها أمانيّة وحكم بكونها مضمّنة لحديث على اليد، والمفروض عوده إلى الحالة الأُولى ، فيكون المقام من مصاديق المسألة المعروفة، وهي أنّه لو خرج فرد عن تحت العام في زمان، ثم شكّ بعد مضيّ ذلك الزمان في بقاء حكم الخاص أو عود حكم العام، هل يتمسّك بعموم العام، أو يستصحب حكم الخاص ؟ وحيث أنّ المختار هو الرجوع إلى عموم العام مطلقاً، فالمرجع في المقام إلى ما دلّ على عدم ضمان الأمين.

***

ص: 169

والقول قوله مع اليمين، وعدم البيّنة في عدمه، وفي العزل، والعلم به، والتلف، والتصرّف. وفي الرَّد قولان.

اختلاف الموكّل والوكيل

المقام الخامس: في جملة مسائل اختلاف الموكّل والوكيل، وأحكامها تذكر في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: (و) لو اختلفا في التعدّي أو التفريط، فادّعاه الموكّل وأنكره الوكيل، ف (القول قوله مع اليمين وعدم البيّنة في عدمه)، لأنّ الوكيل أمينٌ ولا يتّهم من ائتمن، ودعوى التفريط أو التعدّي اتّهامٌ .

(و) كذا لو اختلفا (في العزل، و) في (العلم به) بلا خلافٍ ، بل عليه الإجماع في محكي «الغنية»(1)، لأصالة عدمه.

وللخبر في الثاني: «في امرأةٍ وكّلت أخاها ليزوّجها، ثمّ عزلته بمحضر الشهود، وادّعت إعلامه بالعزل، وأنكره الأخ، فأتيا أمير المؤمنين عليه السلام فطلب منها الشهود فأتت بالشهود الذين عزلته بمحضرهم، فشهدوا على العزل دون الإعلام، فلم يقبله، وأمضى تزويج الأخ وأحلفه»(2). والخبر طويل.

(و) كذا لو اختلفا في (التلف والتصرّف) كما هو المشهور، بل عليه الإجماع في الأوّل، لأنّه أمينٌ لا يُتّهم، ولأنّ اليمين على المنكر.

الفرع الثاني: (و) لو اختلفا (في الرَّد) بأن ادّعاه الوكيل و أنكره الموكّل ف (قولان):

ص: 170


1- الغنية: ص 269.
2- من لايحضره الفقيه: ج 3/84 ح 3383، وسائل الشيعة: ج 19/163 ح 24369.

أحدهما: أنّ القول قول الموكّل مع يمينه، ذهب إليه الحِلّي(1) والمحقّق(2)والمصنّف(3) وولده(4) والشهيدان(5).

ثانيهما: أنّ القول الوكيل إنْ كان وكالته بجعل، نُسب إلى المشهور(6).

والحقّ أنْ يقال: إنّه كما يقبل قول الوكيل في التلف، كذلك يقبل قوله في الرّد، إذ لا وجه لقبوله في التلف سوى أنّ عدم تصديقه في دعوى التلف يندرج تحت عنوان اتّهام المؤتمن، وقد نهينا عن اتّهامه.

وكذا يقال في دعوى الرّد، فإنّ عدم تصديقه فيه يندرجُتحت عنوان اتّهام المؤتمن.

ودعوى: أنّ المنهيّ عنه هو اتّهام المؤتمن بالتأمين العقدي، فيختصّ بالوديعة، لا وجه لها، سيّما وقد ورد أنّ : «صاحب العارية مؤتمنٌ وصاحب البضاعة مؤتمن»(7).

وعليه، فالأظهر هو قبول قوله مع يمينه، ولا فرق في ذلك بين كون الاختلاف في الرّد والوكالة باقية، أو بعد انقضائها، لأنّ العين بعد انقضائها بيد الوكيل أمانة مالكيّة إلى أن يردّها إليه.

وبذلك يظهر ما في كلمات القوم.6.

ص: 171


1- راجع السرائر: ج 2/92 ولم يتّضح وجهه.
2- شرائع الإسلام: ج 2/437.
3- إرشاد الأذهان: ج 1/420.
4- إيضاح الفوائد: ج 2/361.
5- الروضة البهيّة: ج 4/386.
6- حكى صاحب الرياض: ج 10/84 (ط. ج) نسبته إلى المشهور عن المحقّق مع اختلاف عمّا ذكر هنا بقوله: (والثاني: أنّ القول قول الوكيل ما لم يكن وكالته بجُعل وهو أشبه... إلخ).
7- الكافى: ج 5/238 / ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/79 ح 24196.

والقولُ قولُ منكر الوكالة. وقول الموكّل لو ادّعى الوكيل الإذن في البيع بثمنٍ معيّن، فإنْ وجدت العين استُعيدت، وإنْ فُقدت أو تعذّرت فالمثل أو القيمة إن لم يكن مثليّاً. ولو زوّجه فأنكر الموكّل، حلف، وعلى الوكيل المَهر،

الفرع الثالث: (و) لو اختلفا في أصل الوكالة، ف (القول قول منكر الوكالة) مع الحلف، سواءٌ كان هو المالك، كما إذا تصرّف في ماله بدعوى الوكالة، فأنكر توكيله، أو المدّعي عليه الوكالة، كما إذا اشترى شيئاً فادّعى واحدٌ أنّه اشتراه بوكالته عنه وأنّه له، وأنكر المشتري، وقال اشتريته لنفسي، والوجه في تقدّم قول المنكر عموم ما دلّ على أنّ اليمين على المنكر.

الفرع الرابع: (و) يقدّم (قول الموكّل لو ادّعى الوكيل الإذن في البيع بثمنٍ معيّن) عند الماتن وغيره، لأصالة عدم الإذن.

ويُشكل: بأنّ الوكيل أمينٌ لا يُتّهم، فلو قيل بتقديم قول الوكيل كان أوجه، كمامرّ.

وعلى ما قالوه (فإنْ وجدت العين استعيدت، وإنْ فُقدت أو تعذّرت فالمثل أو القيمة إنْ لم يكن مثليّاً).

الفرع الخامس: (ولو زوّجه) امرأة مطلقاً أو مدّعياً وكالته على تزويجها، (فأنكر الموكّل) الوكالة، يقدّم قوله إنْ (حلف)، وللمرأة أن تتزوّج مع عدم علمها بصدق مدّعي الوكالة.

(و) اختلفوا في ثبوت المهر لها وعدمه على أقوال:

1 - أنّ (على الوكيل المَهر) كملاً كما عن «النهاية»(1)، والقاضي(2)،9.

ص: 172


1- النهاية: ص 319.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/29.

وقيل نصفه.

وقوّاه الحِلّي(1).

2 - ما نقله المصنّف رحمه الله، قال: (وقيل نصفه) نُسب ذلك إلى المشهور(2).

3 - ما عن جماعةٍ وهو عدم ثبوت المَهر.

واستدلّ للأوّل: بأنّ المهر يجب بالعقد كملاً، ولا ينتصف إلّابالطلاق المفقود في المقام، وقد فوّته الوكيل عليها بتقصيره في الإشهاد فيضمنه.

وأيضاً: أنّه أقرَّ بإخراج بُضعها عن ملكها بعوضٍ لم يُسلّم إليها، وكان عليه الضمان.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ المهر يجبُ على الزوج لا على الوكيل، فإنْ ثبت عليه وفوّته الوكيل ضَمِن على إشكال في أنّ التفويت موجبٌ للضمان أو الضمان مختصٌّ بالإتلاف، وحيث أنّه لا يثبت عليه، فلا تفويت أيضاً.

ويتوجّه على الثاني: أنّه أقرَّ بإخراج بُضعها عن ملكها بعوضٍ في ذمّة الزوج لا في ذمّة نفسه، فلا تشمله أدلّة الإقرار.

أقول: الصحيح أن يستدلّ له بالخبر الذي رواه محمّد بن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام: «عن رجلٍ زوّجته اُمّه وهو غائب ؟

قال: النكاح جائزٌ، إنْ شاء المتزوّج قَبل، وإنْ شاءَ تَرَك، فإنْ ترك المتزوّج تزويجه فالمهر لازم لاُمّه»(3).9.

ص: 173


1- السرائر: ج 2/95.
2- مسالك الأفهام: ج 5/301.
3- الكافي: ج 5/401 ح 2، وسائل الشيعة: ج 20/280 ح 25629.

بناءً على تنزيله على دعوى الوكالة، إلّاأنّه يجب حمله على إرادة النصف، جمعاً بينه وبين صحيح أبي عبيدة، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في رجلٍ أمر رجلاً أن يزوّجه امرأةً من أهل البصرة من بني تميم، فزوّجه امرأة من أهل الكوفة من بني تميم ؟

قال عليه السلام: خالف أمره، وعلى المأمور نصف الصداق لأهل المرأة، ولا عدّة عليها ولا ميراث بينهما.

فقال بعض من حَضَر: فإنْ أمره أن يزوّجه امرأة ولم يُسمّ أرضاً ولا قبيلة، ثمّ جَحد الآمر أنْ يكون أمرَه بذلك بعدما زوّجه ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان للمأمور بيّنة أنّه كان أمره أن يزوّجه، كان الصداق على الآمر، وإنْ لم يكن له بيّنة، كان الصداق على المأمور لأهل المرأة، ولا ميراث بينهما، ولا عدّة عليها، ولها نصف الصداق إنْ كان فَرَض لها صداقاً»(1).

وخبر عمربن حنظلة، عنه عليه السلام قال: «سألته عن رجلٍ قال لآخر: اخطُب لي فلانة، فما فعلت من شيءٍ ممّا قاولت من صداقٍ أو ضمنت من شيء أو شرطت فذلك لي رضاً، وهو لازمٌ لي، ولم يشهد على ذلك، فذهب فخطبَ له، وبذل عنه الصداق، وغير ذلك ممّا طالبوه وسألوه، فلمّا رجع إليه أنكر ذلك كلّه.

قال عليه السلام: يغرم لها نصف الصداق عنه، وذلك أنّه هو الذي ضيّع حقّها، فلمّا لم يشهد لها عليه بذلك الذي قال له حَلّ لها أن تتزوّج ولا يحلّ للأوّل فيما بينه وبين اللّه عزّ وجلّ إلّاأن يطلّقها، لأنّ اللّه تعالى يقول: (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ8.

ص: 174


1- التهذيب: ج 7 490 ح 178، و سائل الشيعة: ج 20 302 ح 25678.

ويجب على الموكّل طلاقها مع كذبه.

بِإِحْسانٍ ) (1) ، فإنْ لم يفعل فإنّه مأثومٌ فيما بينه وبين اللّه عزّ وجلّ ، وكان الحكم الظاهر حكم الإسلام، وقد أباح اللّه عزّ وجلّ لها أن تتزوّج»(2).

أقول: والمناقشة فيهما بمخالفتهما للقواعد، لأنّه مع بطلان النكاح ظاهراً لا وجه لثبوت المهر، في غير محلّها.

كما أنّ دعوى: أنّ صحيح الحذّاء يدلّ على ثبوت مهرٍ ونصف.

مندفعة: بأنّ الظاهر كون قوله عليه السلام: «ولها نصف الصداق» بياناً لما أجمله بقوله:

«كان الصداق على المأمور لأهل المرأة»، وبه يعلم أنّ المراد بالأهل هي المرأة.

وأمّا القول الثالث: فهو وإنْ كان موافقاً للقاعدة، إلّاأنّه لا يُصار إليه مع النّص الصحيح المعمول به.

وعليه، فخير الأقوال أوسطها.

(و) ذيل خبر عمر بن حنظلة يدلّ على أنّه (يجب على الموكّل طلاقها مع كذبه) ويصحّ أن يقول: (إنْ كانت زوجتي فهي طالق).

وهل يجبُ عليه أن يسوق إليها نصف المهر، كما عن المصنّف رحمه الله(3)، وولده(4)، والشهيد، والمحقّق الثانيين(5) الميل إليه ؟ر.

ص: 175


1- سورة البقرة: الآية 229.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/214 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/165-166 ص 24371.
3- قواعد الأحكام: ج 3/512.
4- راجع إيضاح الفوائد: ج 4/456.
5- راجع مسالك الأفهام: ج 5/276 مع عدم تصريحه بنصف المهر.

أم لا يجب ؟ وجهان:

مقتضى القاعدة وإنْ كان هو الوجوب، إلّاأنّ الخبرين يدلّان على عدم وجوبه، سيّما الثاني منهما، حيث حكم عليه السلام بوجوب أن يطلّقها خاصّة.

وبالجملة: فالأظهر عدم الوجوب.

ولو علمت المرأة بصدقه في دعوى الوكالة، فقد يقال إنّه ليس لها أن تتزوّج مالم يُطلّقها، وحينئذٍ إنْ امتنع من الطلاق، فهل لها الفسخ ؟ أو يجبر الحاكم الشرعي الزوج على الطلاق ؟ أو يطلّق عنه ؟ أم يجب عليها الصبر إلى موت ذلك الرّجل ؟

وجوه، ولكن مقتضى إطلاق الأخبار جواز التزويج مطلقاً.

وهل لها أن تأخذ نصف المهر من الوكيل، لو ساق إليها الزوج نصف المهر بعد الطلاق، أم لا؟

الظاهر ذلك، بعدما عرفت من عدم وجوبه على الزوج.

نعم، لو قلنا بوجوبه عليه وأخذته، ليس لها أن تأخذ من الوكيل، للتعليل في خبر ابن حنظلة الذي يخصّص كما يُعمّم.

***

ص: 176

ولو وكّل اثنين، لم يكن لأحدهما التصرّف، إلّاأن يأذن لهما، ولا تثبت إلّا بشاهدين عدلين.

بيان ما تثبت به الوكالة

المقام السادس: في بيان جملة من أحكام الوكالة، غير ما مرّ (و) فيه مسائل:

المسألة الأُولى : (لو وكّل اثنين) بأنْ جَعل وكالةً واحدة لهما، (لم يكن لأحدهما التصرّف إلّاأن يأذن لهما) بلا خلافٍ ولا إشكالٍ كما هو واضح.

المسألة الثانية: فيما تثبت به الوكالة:

فتارةً : لا يكون هناك منازعة وخصومة ويدّعى الوكالة مدّعٍ من دون أن ينكره أحدٌ.

وأُخرى : يكون في مقام المخاصمة.

أمّا في الصورة الأُولى : فتثبت بكلّ ما تثبت به سائر الموضوعات من العلم، والبيّنة، وخبر الواحد - بناءً على المختار من حجيّته في الموضوعات - ويكفي إخباره بذلك إنْ كان ثقةً ، بل يمكن قبول قوله مطلقاً بناءً على قبول كلّ دعوى لا معارض لها، وسيأتي الكلام في الكبرى الكليّة في كتاب القضاء(1).

(و) أمّا في الصورة الثانية: فعلى القول بأنّه لا يكفي في ذلك المقام سوى شهادة عدلين، ولا بعلم الحاكم، ولا بشهادة رجل واحد مع اليمين، أو مع شهادة امرأتين في غير الحقوق الماليّة، ف (لا تثبت) الوكالة (إلّا بشاهدين عدلين).

ص: 177


1- فقه الصادق: ج 38.

ولو أخّر الوكيل التسليم مع القدرة والمطالبة ضَمِن.

وتمام الكلام في المبنى موكولٌ إلى محلّه، وستعرف أنّ للحاكم أن يحكم بعلمه، وأنّ شهادة رجل واحد مع امرأتين تثبت بها الدعوى في غير الحقوق الماليّة أيضاً، وعلى الجملة لا خصوصيّة للوكالة، فالمتّبع فيها قواعد باب القضاء.

المسألة الثالثة: يجبُ على الوكيل تسليم ما كان بيده من مال الموكّل إليه عند مطالبته، كما في الوديعة والعارية وما شاكل، وتجبُ المبادرة إليه بحسب المتعارف، فلا يجبُ الإسراع في المشي في طريق الرّد، ولا رفع اليد عمّا يكون مشغولاً به من الأكل والشرب وما شاكل، (ولو أخّر الوكيل التسليم) في ما يجب (مع القدرة والمطالبة، ضمن) لعموم على اليد(1) فإنّه خرج عنه اليد المأذونة وبقي الباقي.

فإنْ قيل: إنّ هذه اليد حين حدوثها لم توجب الضمان، وبعد خروجها عن كونها مأذونة، يشكّ في ذلك، والاستصحاب يقتضي بقائها على ما كانت عليه عن كونها موجبة للضمان.

قلنا: إنّ المختار عندها هو الرجوع إلى عموم العام فيما بعد زمان التخصيص مطلقاً، ولا يرجع إلى الاستصحاب، سواءٌ أكان للعام عموم أزماني أم لم يكن، سيّما في مثل المقام ممّا كان خروج الفرد من أوّل زمان تحقّقه لا من الأثناء.

***1.

ص: 178


1- سنن البيهقي: ج 6/90 ح 11262، كنز العمّال: ج 10/360 ح 29811.

كتاب الهبات وتوابعها، وفيه فصول:

الفصل الأوّل: الهبة

(كتابُ الهبات وتوابعها)

تعريف الهبة وبيان حقيقتها

(وفيه فصولٌ ):

(الفصل الأوّل): في (الهبة):

وهي بالمعنى الأعمّ : تمليك مالٍ بلا عوض، فتشمل الوصيّة والوقف والصدقة، وبهذا الاعتبار عبّر المصنّف بكتاب الهبات.

وأمّا بالمعنى الأخصّ : فهي تمليك مال طلقاً منجزاً بلا عوضٍ بإزاء الموهوب، من غير اشتراطٍ بقصد القربة، فيخرج الوقف لعدم كونه تمليكاً مطلقاً، والصدقة لاشتراط القربة فيها، والبيع لكونه تمليكاً لا مجاناً، والصُّلح لأنّه إنشاءُ التسالم، وليس حقيقته التمليك والوصيّة لأنّها ليست منجزة.

وأمّا الهبة المعوّضة: ففي «الجواهر» بعد تعريف الهبة: (نعم ينتقض بالهبة المعوّضة ولو بالقربة، ويدفع بأنّ المراد من قوله بغير عوض ومجرّداً القربة عدم لزوم ذلك فيها، لا عدم اتّفاق حصوله فيه) انتهى(1).

وقد سبقه في ذلك سيّد «الرياض»، حيث قال في شرح قول المحقّق: تبرّعاً مجرّداً عن القربة:

ص: 179


1- جواهر الكلام: ج 28/158.

(أي من دون اشتراطها بها، وإلّا لانتقض بالهبة المعوّض عنها، والمتقرّب بها إلى اللّه، فإنّهما هبة إجماعاً)(1).

أقول: ولكن ما أفاداه يتمّ بالنسبة إلى قصد القربة، دون الهبة المعوّضة، لأنّ التمليلك فيها بلا عوض بإزاء الموهوب.

توضيح ذلك: إنّ الهبة المعوّضة تتصوّر على وجوه:

الأوّل: أن يهب المال ويشترط على المتّهب هبة شيء.

الثاني: أنْ يهبه المال، ويكون داعيه هبة المتّهب شيئاً.

الثالث: أنْ يهب المال ويشترط النتيجة، أي كون ذلك المال الآخر مِلْكاً له.

الرابع: أنْ يهبه بإزاء ذلك الشيء.

الخامس: أنْ يهبه في مقابل هبته، بحيث تكون المقابلة بين الهبتين.

أمّا في الوجه الأوّل والثاني: فيكون إعطاء المال إعطاءٌ لا بإزاء شيء بل مجّاناً.

وأمّا في الوجه الثالث:

فإنْ قلنا: بعدم صحّة شرط النتيجة، فلا كلام.

وإنْ قلنا: بصحّته، فذلك الشيء وإنْ كان يصير ملكاً له، إلّاأنّه للشرط لا لعقد الهبة، والمال الموهوب إنّما يعطى مجاناً لا بإزاء شيء.

وأمّا الوجه الرابع: فهو خارجٌ عن الهبة المعوّضة، بل هو بيعٌ بلسان الهبة.

وأمّا في الوجه الخامس: فالمقابلة إنّما هي بين الهبتين لا بين المالين، وكلٍّ من المالين مجانيٌ ليس بإزاء شيء.).

ص: 180


1- رياض المسائل: ج 9/375 (ط. ج).

إنّما تصحّ في الأعيان المملوكة وإن كانت مشاعة.

أقول: ولكن الظاهر عدم صحّة ذلك، لأنّه:

إنْ أُريد به تعليق هبته على هبة الآخر، فلو لم يهب الطرف لايكون هبة من هذا الطرف أيضاً، لتقيّدها بهبة الآخر، فهذا هو التعليق المُجمع على بطلانه.

وإنْ أُريد به أنّه يملك هبته في مقابل تملّك هبة الآخر.

فيرد عليه: أنّه في الهبة التمليك إنّما يتعلّق بالمال، وليس هناك تمليكٌ متعلّقٌ بهذا العمل من الحُرّ.

نعم، يصحّذلك فيما إذا وقع عقدٌ آخر على هذا العمل، بحيث صار مملوكاً بواسطة عقدٍ آخر، ولكنّه خارجٌ عن المقام.

وعليه، تنحصر الهبة المعوّض عنها بالوجوه الثلاثة الاُول، وكونها فيها تمليكاً مجانيّاً واضحٌ .

أقول: حكم هبة مافي الذّمة، وتمام الكلام في هذا الفصل، يتحقّق في ضمن مسائل:

المسألة الأُولى: (إنّما تصحّ ) الهبة (في الأعيان المملوكة، وإنْ كانت مشاعة) بلا خلافٍ في ناحية الإثبات، بل عليه الإجماع في محكي «الغنية»(1) و «نهج الحقّ »(2).

أمّا جواز هبة الأعيان المقسومة: فهو المتيقّن من معقد الإجماع على مشروعيّة الهبة، والأخبار المتواترة الدالّة على ذلك الآتية جملة منها في ضمن المسائل الآتية.

وأمّا جواز هبة المشاعة: فيشهد به - مضافاً إلى إطلاق الأدلّة - جملة من).

ص: 181


1- الغنية: ص 301.
2- كما حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 9/163 (ط. ق).

النصوص الخاصّة، لاحظ:

صحيح الحلبي، عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن دار لم تقسّم فتصدّق بعض أهل الدار نصيبه من الدار؟ قال عليه السلام يجوز.

قلت: أرأيتَ إنْ كانت هبةً؟ قال عليه السلام: يجوز»(1).

ونحوه غيره.

أقول: إنّما الكلام فيما يستفاد من مفهوم هذه الجملة، وهو عدم صحّة هبة ما في الذمّة.

وملخّص القول فيه أنّه:

تارةً : يوهب ما في الذمّة ثابتاً قبل الهبة.

وأُخرى : يهبه لغير من عليه.

وعلى التقدير الثاني:

تارةً : يكون ما في الذمّة ثابتاً قبل الهبة.

وأُخرى : يثبته في ذمّته بالهبة كما يملك ما في ذمّته بالبيع.

أمّا هبة ما في الذمّة لمن هو عليه، فالمشهور بين الأصحاب أنّها إبراء، وتصحّ بهذا العنوان، ولا تصحّ بعنوان الهبة، وعن جماعةٍ منهم سيّد «العروة»(2): صحّتها هبة.

أقول: والأوّل أظهر، فلنا دعويان:

إحداهما: عدم صحّتها هبةً .

ثانتيهما: صحّتها إبراءً .5.

ص: 182


1- الكافي: ج 7/34 ح 24، وسائل الشيعة: ج 19/246 ح 24518.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 1/161 مسألة 5.

أمّا الأُولى : فيشهد بها أنّ الهبة - كما مرّ - تمليكٌ مجاني، والإنسان لا يملك مالاً على نفسه، لعدم ترتّب الأثر على هذه الملكيّة، فيكون اعتبارها لغواً.

وما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله في كتاب البيع(1) في مقام الجواب عن هذا الوجه، من تعقّل ذلك - أي كون الإنسان مالكاً لما في ذمّته ورجوعه إلى سقوطه عنه - غير تامّ ، لأنّ السقوط:

إنْ كان لأجل ما أشرنا إليه من لغويّة اعتبار الملكيّة، فهو مانعٌ عن الحدوث كالبقاء.

وإنْ كان لكونه أثر تلك الملكيّة.

فيرد عليه: أنّ ثبوت الشيء لا يُعقل أنْ يكون علّة لسقوطه.

أقول: وقد يستدلّ له بوجهين آخرين:

الوجه الأوّل: ما عن بعض الأساطين(2)، من أنّ الملكيّة لمّا كانت نحواً من السلطنة على من في ذمّته المال، فلا يعقل نقله إليه، لأنّ الإنسان لا يمكن أن يتسلّط على نفسه بالنحو الذي كان لطرفه.

وبالجملة: لا يُعقل قيام طرفي السلطنة بشخصٍ واحد.

وشيّد بعض المحقّقين(3) ذلك بأنّ المسلّط والمسلّط عليه متضائفان، والتضائف من أقسام التقابل، فكيف يُعقل اجتماعهما في واحد؟!

وفيه: أنّه لا أرى محذوراً في اجتماع المسلّط والمسلّط عليه في شخصٍ واحد،).

ص: 183


1- كتاب المكاسب للشيخ الأعظم: ج 3/12 (ط. ج).
2- تعرّض لذلك المحقّق الخونساري في جامع المدارك: ج 3/70.
3- حاشية المكاسب للأصفهاني: ج 1/55 (ط. ج).

وليس كلّ ما هو من أقسام التضائف من أنحاء التقابل، بل ما كان بينهما تغاير في الوجود كالعلّية والمعلوليّة، وإلّا فالعالميّة والمعلوميّة، والمحبيّة والمحبوبيّة من أقسام التضائف، وليستا من أنحاء التقابل، وتجتمعان في شخصٍ واحد، ويُحبُّ الإنسان نفسه، ويعلم بنفسه، والسلطنة من هذا القبيل، فإنّ معناها كون الشخص قاهراً على شخص، وكون المسلّط عليه تحت إرادته واختياره، وهذا المعنى يمكن اجتماعه في شخصٍ واحد، بل سلطنة الإنسان على نفسه من أعلى مراتب السلطنة، وكيف وقد ورد أنّ الناس مسلّطون على أنفسهم، ولم يستشكل أحدٌ في معقوليّته، مع أنّ المسلّط عليه إنّما هو بمعنيين:

أحدهما: من بضرره السلطنة.

ثانيهما: طرف السلطنة، فمن سلطنة الإنسان على ما في ذمّته لا يلزم قيام طرفي السلطنة بشخصٍ واحد.

ثانيهما: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن الرّجل يكون له على الرّجل الدراهم فيهبها له، ألَهُ أن يرجع فيها؟ قال عليه السلام: لا»(1).

وفيه: أنّه كما يلائم مع الهبة المصطلحة، كذلك يلائم مع إرادة الإبراء منه، بل في «المسالك» استدلّ به على إرادة الإبراء منه، حيث قال:

(لأنّه لو لم يجعل إبراءً بل هبة، لما أمكن إطلاق القول بجواز الرجوع كما سيأتي إنْ شاء اللّه تعالى من جوازه فيها في مواضع كثيرة بخلاف الإبراء فإنّه6.

ص: 184


1- الكافي: ج 7/32 ح 13، وسائل الشيعة: ج 19/229 ح 24476.

لازمٌ مطلقاً)(1).

وإنْ كان يمكن الجواب عنه: بأنّه لا يرجع فيها من جهة سقوط ما في الذمّة وهو في حكم التلف.

أقول: وبما ذكرناه يظهر وجه صحّتها إبراءً ، ويشهد بها - مضافاً إلى ذلك، وإلى ما دلّ على العفو عن المهر(2) والدّية(3) والقَرض(2)، وغير تلكم من الموارد الخاصّة، إذ العفو في هذه الموارد إبراءٌ لما في الذّمة - أنّها عقدٌ أو إيقاع عقلائي، لم يردع الشارع الأقدس عنها، فتكون ممضاة عنده.

والسؤال المطروح حينئذٍ هو أنّ الهبة هل هي عقدٌ أو إيقاع ؟

الظاهر هو الثاني، إذ لا حقيقة لتلك الهبة غير الإسقاط لا نقل شيء إلى الملك.

ويمكن الاستشهاد له بجملةٍ من الآيات والروايات:

منها: قوله تعالى : (إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ) (5) حيث اكتفى في سقوط الحقّ بمجرّد العفو، ولا دخل للقبول في مسمّاه قطعاً.

ومنها: قوله تعالى : (وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا) (6) بناءً على ما مرّ من عدم كون هبة ما على الشخص وصدقة إليه إلّاإبراء، وليس فيه اعتبار القبول.

ودعوى: أنّ في إبراء الشخص من ما هو ثابتٌ في ذمّته منّةٌ فلا يُجبر عليتحمّلها.

مندفعة: بأنّ إسقاط الإنسان حقّه ابتداءً من دون أن يسأله من عليه الحقّض.

ص: 185


1- مسالك الأفهام: ج 6/15. (2و5) سورة البقرة: الآية 237. (3و6) سورة النساء: الآية 92.
2- وسائل الشيعة: ج 16/321-322 باب 13 من أبواب فعل المعروف، و: ج 18/363 باب 23 من أبواب الدَّين والقرض.

لايظهر فيه منّة يثقل تحمّلها على من عليه الحقّ عرفاً.

وعليه، فالأظهر عدم اعتبار القبول فيها.

وأمّا هبة الدين لغير من عليه: فالمعروف بينهم عدم الصحّة، وفي «المسالك»:

(عليه المعظم)(1).

وعن الشيخ(2) والحِلّي(3) والمصنّف رحمه الله في «المختلف»(4) وجماعةٍ صحّتها.

واستدلّ للأوّل: بأنّ القبض شرط في صحّة الهبة، وما في الذّمة يمتنع قبضه، لأنّه ماهيّة كليّة لا وجود لها في الخارج، والجزئيّات التي يتحقّق الحقّ في ضمنها ليست هي الماهيّة، بل بعض أفرادها، وأفرادها غيرها.

وفيه: إنّ الحقّ الثابت في محلّه أنّ وجود الكلّي عين وجود أفراده، وعليه فقبض أحد أفراده قبضٌ له. وهذا يكفي في المقام.

وربما يستدلّ للثاني: - مضافاً إلى ذلك - بصحيح صفوان، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«عن رجل كان له على رجلٍ مال فوهبه لولده، فذكر له الرّجل المال الذي له عليه ؟

فقال عليه السلام: إنّه ليس عليك منه شيء في الدُّنيا والآخرة، يطيب ذلك منه، وقد كان وهبه لولدٍ له.

قال عليه السلام: نعم يكون وهبه ثمّ نزعه فجعله لهذا»(5).

والإيراد عليه: بأنّ الهبة للولد لايجوز الرجوع فيها، وقد حكم فيه بجوازه.8.

ص: 186


1- مسالك الأفهام: ج 6/13.
2- المبسوط: ج 3/314.
3- السرائر: ج 3/176.
4- مختلف الشيعة: ج 6/277.
5- التهذيب: ج 9/157 ح 26، وسائل الشيعة: ج 19/230 ح 24478.

بإيجابٍ وقبول.

مندفع: بأنّه إنّما جوّز الرجوع فيه، لأنّه لم يقبضه، وإطلاق النزع حينئذٍ بلحاظ العقد.

وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو وهبه كليّاً في ذمّته، من دون أنْ يكون ثابتاً قبل الهبة في ذمّته وأنّه يصحّ ، وقبضه إنّما هو بقبض بعض أفراده.

وإذا وهبه ديناً له على غيره، وكان المتّهب مديوناً لذلك الغير بقدره، فإنْ قبضه الواهب، وسلّمه إلى المتّهب، أو أذن له في القبض فَقَبَضه ثمّ رَدّه عليه عوضاً عمّا عليه فلا كلام، إنّما الكلام في أنّه هل له أنْ يحتسب عليه بإزاء ما عليه أم لا؟

الظاهر أنّ له ذلك، لأنّه حينئذٍ بحكم القبض، بل لا معنى للقبض إلّاجعله تحت سلطنته واختياره، فكأنّه بالاحتساب قد قبض الكلّي على كليّته.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ المتّهب يأذن لمن عليه الدَّين أن يقبض ما عليه للواهب من طرفه على وجه المعاوضة بينه وبين ماله على المتّهب، فلا إشكال فيه.

فالمتحصّل من جميع ما قدّمناه: صحّة هبة المنافع، وقبض المنفعة إنّما يكون بقبض العين، بل يصحّ هبة الحقوق القابلة للنقل وإنْ لم تكن من الهبة المصطلحة، ولم تشمله نصوص الباب، لكنّه تكفى العمومات في صحّتها.

الهبة من العقود

المسألة الثانية: إنّما تصحّ الهبة (بإيجابٍ قبول) حيث أنّها تمليك من طرف وتملّك من طرف آخر، وبعبارة أُخرى هي خلعٌ ولبس، فيعتبر رضا كلّ من الخالع واللّابس، والتزامه بذلك، وحيث أنّ مجرّد الالتزامات النفسانيّة لا عبرة بها ما لم

ص: 187

تُبرز، فلابدّ من مبرزٍ من طرف الواهب وهو الإيجاب، ومن طرف المتّهب وهو القبول، والقول في ما يعتبر فيهما شيءٌ سوى كون المبرِز كاشفاً عن الالتزام النفساني عرفاً.

ولا يعتبر فيهما عدم الفصل الطويل بينهما، ولا اللّفظ، بل تجري المعاطاة فيها، فإنْ قيل: إنّه قال الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»: (وظاهر الأصحاب الاتّفاق على افتقار الهبة مطلقاً إلى العقد القولي في الجملة)(1)، وعليه فالإجماع دليلٌ على عدم صحّة الهبة المعاطاتيّة.

قلنا أوّلاً: إنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة.

وثانياً: أنّ مدرك المجمعين معلومٌ ، وهو ماذكروه في جميع العقود لعدم جريان المعاطاة فيها.

وعلى هذا، فتنحلّ العويصة التي في المقام، وهو أنّه قد تعارف بين الناس الهبة الفعليّة، ويعاملون مع الموهوب معاملة الملك، ويتصرّفون فيه التصرّفات المتوقّفة على الملك.

ثمّ إنّ الأصحاب لما بنوا على اعتبار الإيجاب والقبول اللّفظيين فيها، ورأوا أنّ المعهود من فعل النبيّ صلى الله عليه و آله والأئمّة رحمه الله المعاملة مع ما يهدى إليهم معاملة الملكيّة، إذ كانت الهدايا تحمل إليهم فيقبلون ويرتّبون آثار الملكيّة، فإنّ مارية القبطيّة قد أهداها بعض الملوك إلى النبيّ صلى الله عليه و آله(2) وكانت اُمّ ولدٍ له، وأهدى المختار إلى علي بن الحسين عليهما السلام جاريةً فأولدها زيداً وهكذا، التجأوا إلى جعل الهديّة غير الهبة، وأنّ4.

ص: 188


1- مسالك الأفهام: ج 6/10.
2- ذكرة الفقهاء: ج 2/415 (ط. ق)، والطبقات الكبرى: ج 1/134.

ذلك إنّما هو في الهديّة المأخوذ في حقيقتها إرسال شيء إلى شخصٍ بقصد الإكرام والإعظام دون الهبة، وجعلوا المعهود من فعل المعصومين عليهم السلام، والسيرة المستمرّة، على ترتيب آثار المِلْكيّة عليها بمجرّد الإرسال من المُهدي دليلاً على عدم اعتبار الإيجاب والقبول اللّفظيين، بل والفعلين أيضاً في خصوص الهديّة دون الهبة.

ولكن بناءً على ما قدّمناه من جريان المعاطاة فيها على القاعدة، لا حاجة إلى تكلّف الفرق بينهما بعد كون الهديّة في الحقيقة قسماً من الهبة، غاية الأمر أنّها هبة مقرونة بقصد الإكرام والإعظام، ويجعل ذلك كلّه دليلاً على المختار، إذ الفرق بين أقسام الهبة غير ظاهر.

فإنْ قيل: إنّ المعاطاة لا معنى لها في الهبة أصلاً، بل فيها الإعطاء من جانبٍ والأخذ من الجانب الآخر.

قلنا: إنّ عنوان المعاطاة لم يرد في آيةٍ ولا روايةٍ كي يدور الحكم بالنفوذ وعدمه مدار صدقه وعدمه، بل المراد بها هو الإنشاء الفعلي، وهو يشمل الاٍعطاء من جانبٍ واحد.

فإنْ قيل: إنّ المتعارف في الهدايا الاكتفاء بالإرسال من المُهدي ووصولها إلى المُهدى إليه، والسيرة قائمة على المعاملة معه حينئذٍ معاملة الملك، فلامناص عن البناء على الفرق بين الهديّة وغيرها من أقسام الهبة.

قلنا: إنّ المُهدي إنّما يقصد التمليك مجاناً، ويظهره بالإرسال إلى المُهدي إليه، فهو إنشاءٌ منه، وبعد الوصول إلى المُهدى إليه يقبل هو ذلك فيتمّ الإيجاب والقبول، ولا يضرّ الفصل الطويل بينهما كما مرّ في كتاب البيع(1).4.

ص: 189


1- فقه الصادق: ج 23/34.

وقبضٍ من المكلّف الحُرّ.

القبض شرط في صحّة الهبة

المسألة الثالثة: (و) المشهور بين الأصحاب أنّه يعتبر في صحّة الهبة (قبضٌ من الملّكف الحُرّ)، بل عليه الإجماع عن «التذكرة»(1)، و «الإيضاح»(2)، فلا تفيد الملكيّة قبله.

وعن الشيخين(3)، وابن البرّاج(4)، وابن حمزة(5)، والحِلّي(6)، والمصنّف في «المختلف»(7) كونه شرطاً في اللّزوم.

يشهد للأوّل:

1 - صحيح أبان، عمّن أخبره، عن مولانا الصادق عليه السلام، قال: «النحل والهبة ما لم تقبض حتّى يموت صاحبها؟

قال: هي بمنزلة الميراث، وإنْ كان لصبي في حجره وأشهد عليه فهو جائز»(8).

ولو كانت الهبة مفيدة للملك بدون القبض لم ترجع ميراثاً، غاية الأمر أنّ

ص: 190


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/163 (ط. ق).
2- إيضاح الفوائد: ج 2/412.
3- المقنعة: ص 658 باب النحلة والهبة، المبسوط: ج 3/303 كتاب الهبات.
4- المهذّب: ج 2/95.
5- الوسيلة: ص 378.
6- السرائر: ج 3/173.
7- مختلف الشيعة: ج 6/270-271.
8- التهذيب: ج 9/155 ح 14، وسائل الشيعة: ج 19/232 ح 24481.

الوارث مخيّر في الرجوع وعدمه.

2 - وموثّق داود بن الحُصين، عنه عليه السلام: «الهبة والنحلة ما لم تقبض حتّى يموت صاحبها؟ قال عليه السلام: هي ميراث، فإنْ كان لصبيّ في حجره فاشهد عليه فهو جائز»(1).

وتقريب الاستدلال به كما في سابقه.

3 - وقوي أبي بصير، عنه عليه السلام: «الهبة لاتكون أبداً هبةً حتّى يقبضها، والصدقة جائز عليه»(2).

وتقريب الاستدلال به: أنّه يدلّ على نفي الهبة بدون القبض، وظاهر النفي كونه نفياً تشريعيّا لا تكوينيّاً، ومعنى النفي التشريعي عدم ترتّب الأثر عليها.

وعلى هذا، فدلالة الخبر على نفي الصحّة بدون القبض، لو لم تكن بالصراحة، لا ريب في أنّها قريبة منها، ولا مجال للمناقشة فيها بما ذكروه.

واستدلّ للقول الآخر:

1 - بالأمر بالوفاء بالعقود(3).

2 - وبصحيح أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الهبة جائزة قبضت أو لم تقبض، قسّمت أو لم تقسّم، والنحل لايجوز حتّى تقبض، وإنّما أراد الناس ذلك فاخطأوا»(4).

3 - وخبر عبد الرحمن بن سيابة، عنه عليه السلام: «إذا تصدّق الرّجل بصدقةٍ أو هبة،4.

ص: 191


1- التهذيب: ج 9/157 ح 25، وسائل الشيعة: ج 19/235 ح 24490.
2- التهذيب: ج 9/159 ح 31، وسائل الشيعة: ج 19/234 ح 24487.
3- سورة المائدة: الآية 1.
4- التهذيب: ج 9/156 ح 18، وسائل الشيعة: ج 19/233 ح 24484.

قبضها صاحبها أو لم يقبضها، علمت أو لم تعلم، فهي جائزة»(1).

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّه دليل اللّزوم لا الصحّة، مع أنّه لو كان دالّاً على صحّة كلّ عقد لزم تقييده بما مرّ.

وأمّا الخبران: فالمراد من الجواز فيهما يحتمل اللّزوم، كما فهمه الشيخ في محكي «الاستبصار»(2) لا الصحّة، ويؤيّده إطلاق الجواز عليه في روايات الهبة لذي الرّحم الآتية، وفي خبر الإقرار(3) وغير ذلك من الموارد، وعلى هذا فلم يقل أحدٌ بمضمونهما لاتّفاق الأصحاب على عدم اللّزوم بدون القبض، مع أنّ أكثر أفراد الهبة جائزة حتّى بعد القبض.

ويحتمل أنْ يراد به النفوذ المترقّب منها جوازاً ولزوماً، فيرد عليهما أيضاً ما مرّ، إذ الهبة لذي الرّحم حكمها اللّزوم، ونفوذها إنّما يكون كذلك مع الاتّفاق على اشتراط لزومها بالقبض.

ويحتمل أنْ يراد به الجواز المقابل للّزوم، فلا يدلّ الخبران حينئذٍ على اشتراط القبض في اللّزوم، بل يدلّان على عدمه.

وأيضاً: غاية ما يدلّان عليه حينئذٍ جواز الرجوع في الهبة قبل القبض، وهذا يلائم مع اشتراطالقبض في تأثيرها في الملكيّة، كمايلائم مع حصول الملكيّة قبل القبض.

وأمّا حملهما على إرادة أنّ الهبة تؤثّر في حصول الملك وإنْ لم تُقبض، الذي هو مبنى الاستدلال، فهو يحتاجُ إلى قرينةٍ عليه مفقودة.2.

ص: 192


1- التهذيب: ج 9/156 ح 16، وسائل الشيعة: ج 19/232 ح 24482.
2- الاستبصار: ج 4/110 ح 15 و 16.
3- وسائل الشيعة: ج 23/184 ح 29342.

ولو وهبه ما في ذمّته كان إبراءً ، ويُشترط في القبض إذن الواهب.

وعلى فرض التنزّل وتسليم دلالتهما على ذلك، إنّهما لايصلحان للمقاومة مع النصوص المتقدّمة المشهورة بين الأصحاب، فإنّ الشهرة أوّل المرجّحات فتقدّم هي.

وعليه، فالأظهر أنّ القبض شرطٌ في صحّة الهبة، بمعنى أنّها لا تؤثّر في حصول الملكيّة إلّابعد القبض.

أقول: (و) فرّع المصنّف على ذلك أنّه (لو وهبه ما في ذمّته، كان إبراءً ) وقد مرّ الكلام في ذلك في المسألة الأُولى ، وعرفت ماهو الحقّ .

قال المصنّف رحمه الله: (ويُشترط في القبض إذن الواهب) كما هو المشهور بين الأصحاب.

وفي «المسالك»: (هذا ممّا لا خلاف فيه عندنا)(1)، وفي «الرياض»: (بلا خلافٍ أجده فيه، بل عليه في «نهج الحقّ »(2)، و «الدروس»(3)، و «المسالك» إجماع الإماميّة)(4).

وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)(5).

واستدلّوا له:

1 - بالإجماع.0.

ص: 193


1- مسالك الأفهام: ج 6/21.
2- حكاه عن العلّامة في نهج الحقّ صاحب رياض المسائل: ج 10/210 (ط. ج)، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 9/172 (ط. ق).
3- الدروس: ج 2/290.
4- رياض المسائل: ج 9/381 (ط. ج).
5- جواهر الكلام: ج 28/170.

إلّا أن يهبه ما في يده.

2 - وبأصالة عدم ترتّب الأثر، وعدم الانتقال مع عدم إطلاقٍ يوثق به في تناول مثله.

3 - وبأنّ ما دلّ على شرطيّته ظاهرٌ في غير القبض بدون إذن الواهب، بناء على قراءة (يقبضها) من باب الأفعال أو التفعيل.

4 - وبحرمة القبض بدون إذنه، بناءً على كونه شرطاً في حصول الملك، فإنّ المال قبل القبض ملكٌ للواهب، فلا يجوز التصرّف فيه بلا إذن صاحبه.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلمعلوميّة مدرك المُجمعِين.

وأمّا الثاني: فلأنّ الأصل لا مورد له مع إطلاق الدليل، ومنع إطلاقٍ يوثق به كما ترى .

وأمّا الثالث: فلأنّ اشتراط الإقباض خلاف المتّفق عليه، لبنائهم على كفاية كون المال بيد المتّهب.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ إبقاء المال عنده إقباض.

وعلى أيّ حال، المتيقّن من دليل الشرط اعتبار وصول المال إلى يد المتّهب، والزائد على ذلك اعتباره مشكوكٌ فيه يرتفع بالإطلاق.

وأمّا الرابع: فلأنّ الحرمة لا توجب فساد القبض، مع أنّها مطلقاً ممنوعة.

وبالجملة: فالأظهر عدم اعتبار إذن الواهب.

قال المصنّف رحمه الله: (إلّا أن يهبه ما في يده)، ويحتمل أنْ يكون ذلك استثناءً عن

ص: 194

اعتبار القبض، فمراده أنّه لو كان الموهوب حال الهبة في يد المتّهب، لا حاجة إلى قبضٍ جديد، كما هو المشهور بين الأصحاب، ويحتمل أنْ يكون استثناءً من اعتبار الإذن في القبض، فمراده أنّه لا يعتبر الإذن في هذا الفرض، وهو أيضاً مشهور.

وعليكلّ حال، فهو متين على ماقدّمناه من عدم اعتبار الإذن في القبض مطلقاً.

ولكن على القول الآخر:

فتارةً : يستدلّ لعدم اعتباره في الفرض، بانصراف ما دلّ على اعتبار القبض المأذون فيه عن الفرض.

واُخرى : بأنّ إجراء الواهب للعقد كاشفٌ عن رضاه بالقبض.

وثالثة: بعموم العلّة في الخبر الذي رواه محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«أنّه قال: في الرّجل يتصدّق على ولده وقد أدركوا: إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث، فإنْ تصدّق على من لم يُدرك من ولده فهو جائز، لأنّ والده هو الذي يلي أمره»(1).

فإنّه يدلّ على أنّ كونه في قبض الوليّ كافٍ من دون اعتبار قيد، وكفايته إنّما هي بلحاظ أنّ قبض الوليّ قبضٌ للمولّى عليه، فيدلّ على كفاية ذلك وإنْ يكن هناك إذن.

ولكن يتوجّه على الأوّل: إذا لم يكن الواهب عالماً بأنّ المال في يد المتّهب.

وعلى الثاني: أنّه من الجائز أنْ يكون للواهب نظرٌ خاص في الهبة بدون القبض، كأن يجعلها معلّقة، أو غير ذلك من الاحتمالات.2.

ص: 195


1- الكافي: ج 7/31 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/178 ح 24392.

وللأب والجَدّ ولاية القبول والقبض عن الصغير والمجنون،

والحاصل: أنّ محلّ الكلام ما لم يُحرز رضاه بذلك.

وعلى الثالث: أنّ المفروض في الخبر قبض الواهب ولايةً عن الصغير، فالإذن هناك موجود ولا ربط له بالمقام.

وأيضاً: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّ (للأب والجَدّ ولاية القبول والقبض عن الصغير والمجنون) كما لهما الولاية على العقود والإيقاعات بتوابعهما عنهما، على ما مرّ مفصّلاً في كتاب البيع(1)، ويترتّب على ذلك أنّه لو وهب الوليّ ما في يده للمولى عليه الصغير أو المجنون، لم تفتقر إلى قبضٍ جديد، ولا إلى مضيّ زمانٍ يمكن فيه القبض، بل يكفى قبضهما.

ويشهد بذلك في الصغير - مضافاً إلى كونه على وفق القاعدة - صحيح أبان، وموثّق داود المتقدّمان، المتضمّنان لقوله عليه السلام: «وإنْ كان الصبيّ في حجره فهو جائز».

وأيضاً يشهد به: التعليل في خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«إذا كان أبٌ تصدّق بها على ولد صغيرٍ، فإنّها جائزة، لأنّه يقبض لولده إذ كان صغيراً»(2). وقريب منه غيره.

فرع: هل يعتبر قصد القبض عن الصبيّ ، كما عن المصنّف رحمه الله، أم لا يكون معتبراً كما هو المشهور؟

وجهان؛ أظهرهما الثاني، لإطلاق الأخبار.3.

ص: 196


1- فقه الصادق: ج 23/58.
2- مسائل علي بن جعفر: ص 195 ح 411، وسائل الشيعة: ج 19/236 ح 24493.

وليس له الرجوع بعد الإقباض، إنْ كانت لذي الرَّحم، أو بعد التلف أو التعويض، وفي التصرّف خلافٌ ، وقيل: الزوجان كالرَّحم، وله الرجوع في غير ذلك.

ولو وهبا للصغير مالاً ليس في يدهما، فالظاهر اعتبار قبضهما كما هو المشهور، إذ الخبران منصرفان إلى صورة كون المال في يدهما، والتعليل في الخبرين الأخيرين يدلّ على اعتباره.

ولو كان المتّهب ولداً كبيراً يعتبر قبضه، ولا يكفي قبض الوليّ ، من غير فرقٍ بين الذكر والاُنثى .

وما عن الإسكافي(1) من عدم اعتباره في الاُنثى ، ما دامت في حجره، لا وجه له سوى القياس.

حكم الهبة من حيث اللّزوم والجواز

المسألة الرابعة: (وليس له الرجوع بعد الإقباض إنْ كانت لذي الرّحم، أو بعد التلف أو التعويض، وفي التصرّف خلافٌ ، وقيل: الزوجان كالرّحم، وله الرجوع في غير ذلك).

أقول: ها هنا فروع:

الفرع الأوّل: المشهور - بل ربما ادّعي الإجماع عليه - أنّه يجوز الرجوع بعد القبض، إلّافي مواضع مخصوصة، قد وقع الاتّفاق على بعضها، والخلاف في بعضٍ

ص: 197


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/279.

كما سيمرّ عليك، ومقتضى القاعدة هو اللّزوم، إلّاما خرج كما هو الشأن في جميع العقود، ولكن في خصوص المقام روايات خاصّة، وهي طائفتان:

الطائفة الأُولى : ما تدلّ على ما ذهب إليه المشهور:

1 - صحيح جميل والحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إذا كانت الهبة قائمة بعينها فله أنْ يرجع، وإلّا فليس له»(1).

2 - وصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «الهبة والنحلة يرجع فيها صاحبها إنْ شاء، حيزت أو لم تحز، إلّالذي رحمٍ فإنّه لا يرجع فيها»(2).

3 - وصحيح البصري، وعبد اللّه بن سليمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يهب الهبة أيرجع فيها إنْ شاء أم لا؟

فقال عليه السلام: تجوز الهبة لذوي القرابة، والذي يثاب عن هبته ويرجع في غير ذلك إنْ شاء»(3).

4 - ومرسل أبان كالصحيح، عنه عليه السلام قال: «سألته هل لأحدٍ أن يرجع في صدقةٍ أو هبةٍ؟

قال عليه السلام: «أمّا ما تصدّق به للّه فلا، وأمّا الهبة والنحلة فإنّه يرجع فيها حازها أو لم يحزها، وإنْ كان لذي قرابة»(4).

5 - وصحيح زرارة، عنه عليه السلام في حديثٍ ، قال: «ولا ينبغي لمن أعطى للّه شيئاً أن6.

ص: 198


1- التهذيب: ج 9/153 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/241 ح 24503.
2- التهذيب: ج 9/156 ح 20، وسائل الشيعة: ج 19/237 ح 24495.
3- التهذيب: ج 9/155 ح 13، وسائل الشيعة: ج 19/237 ح 24494.
4- التهذيب: ج 9/155 ح 14، وسائل الشيعة: ج 19/238 ح 24496.

يرجع فيه، وما لم يعط للّه وفي اللّه فإنّه يرجع فيه نحلةً كانت أو هبة، حيزت أم لم تحز، ولا يرجع الرّجل فيما يهب لامرأته ولا المرأة فيما تهب لزوجها حيز أو لم يحز»(1).

6 - وموثّق عبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ ، قال: «ولمن وهب أو نحل أن يرجع في هبته حيز أو لم يحز»(2).

إلى غير تلكم من النصوص.

الطائفة الثانية: ما تدلّ على عدم جواز الرجوع في الهبة:

1 - خبر إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنتَ بالخيار في الهبة مادامت في يدك، فإذا خرجتْ إلى صاحبها، فليس لك أن ترجع فيها، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من رجع في هبته فهو كالراجع في قيئه»(3).

2 - خبر أبي بصير: «عن الرّجل يشتري المبيع فيوهب له الشيء، فكان الذي اشترى لؤلؤاً فوهب له لؤلؤاً، فرأى المشتري في اللّؤلؤ أن يردّ، أيردّ ما وهب له ؟

قال عليه السلام: الهبة ليس فيها رجعة وقد قبضها، إنّما سبيله على البيع، فإنْ رَدّ المبتاع المبيع لم يردّ معه الهبة»(4).

3 - وخبر محمّد بن عيسى ، قال: «كتبتُ إلى عليّ بن محمّد عليه السلام: رجلٌ جَعل لك - جَعلني اللّه فداك - شيئاً من ماله، ثمّ احتاج إليه أيأخذه لنفسه أم يبعث به إليك ؟

قال عليه السلام: هو بالخيار في ذلك مالم يخرجه عن يده، ولو وصل إلينا لرأينا أن8.

ص: 199


1- التهذيب: ج 9/152 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/231 ح 24479، وص 239 ح 24498.
2- التهذيب: ج 9/153 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/243 ح 24507.
3- التهذيب: ج 9/158 ح 30، وسائل الشيعة: ج 19/244 ح 24510.
4- التهذيب: ج 7/231 ح 28، وسائل الشيعة: ج 18/33 ح 23078.

نواسيه وقد احتاج إليه»(1).

4 - وخبر جرّاج المدائني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من رجع في هبته فهو كالرجع في قيئه»(2).

أقول: ولكن الطائفة الثانية أكثرها ضعيفة السند، وأعمّ مطلق من الأخبار الأولى لشمولها للهبة المعوّض عنها، وما قصد بها القربة وهبة ذي الرّحم، فيقيّد إطلاقها بها، ومع الإغماض عن الجهتين، فإنّ الجمع العرفي بينهما إنّما يقتضي حمل الثانية على الكراهة.

وإنْ أبيتَ عن ذلك، فهي معرَضٌ عنها عند الأصحاب، لعدم لزوم الهبة بقول مطلق اتّفاقاً، وعلى فرض التنزّل فهي لا تصلح لمقاومة النصوص الاُولى .

وعليه، فالأظهر أنّ الهبة من العقود الجائزة، إلّاما خرج بالدليل.

فإنْ قيل: إنّه لو كانت الهبة من العقود الجائزة، لزم أنْ تنفسخ بالجنون والإغماء والموت، ومن المعلوم هنا خلافه.

قلنا: إنّه قد مرّ أنّه لا دليل على هذه الكبرى الكليّة، وأنّها غير تامّة، وعلى فرض التسليم يقيّد إطلاق الكبرى بما دلّ على عدم انفساخ الهبة بها.

لزوم الهبة لذي الرحم وهبة أحد الزوجين للآخر

الفرع الثاني: لايجوز الرجوع في هبة الأبوين للأولاد بعد القبض، وكذا العكس، ويشهد به صحيحا محمّد والبصري، وعبداللّه بن سليمان المتقدّمان، ولا يعارضهما

ص: 200


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/232 ح 5554، وسائل الشيعة: ج 19/234 ح 24488.
2- الاستبصار: ج 4/109 ح 11، وسائل الشيعة: ج 19/243 ح 24509.

مرسل أبان المتقدّم، لعدم صلاحيّته للمقاومة معهما لكونهما مشهورين بين الأصحاب، والشهرة أوّل المرجّحات، ولأصحيّة سندهما.

ويمكن أنْ يقال: إنّ قوله في المرسل: «وإنْ كان.. الخ» إنّما يرجع إلى قوله عليه السلام:

«أولَم يحزها»، فالمعنى أنّه إنْ لم يحزها لا فرق بين ذي الرّحم وغيره، فلا يعارض المرسل الصحيحين.

أقول: ومقتضى إطلاق الصحيحين عدم الفرق بين الولد وولد الولد، وبين الذكور والإناث، وبين الأولاد الصغار والكبار، وأنّه لا يجوز الرجوع في شيء من تلكم الموارد.

وعليه، فما عن السيّد المرتضى في «الانتصار»(1) من جعل الهبة جائزة مطلقاً ما لم يعوّض عنها، شاذّ لا يعبأ به، والغريب أنّه رحمه الله ادّعى الإجماع عليه مع ظهور الإجماع على خلافه.

وأمّا ماعن «المبسوط»(2) من الفرق بين كبار الأولاد وصغارهم، وأنّ لزوم الهبة مختصٌّ بالصغار، فيمكن أنْ يكون مراده على ما نبّه عليه صاحب «الجواهر»(3) صورة ما قبل القبض، حيث إنّه في الصغار لا حاجة إلى القبض كما عرفت، فلا يكون خلافاً في المسألة.

وكذا لا يجوز الرجوع في هبة سائر الأرحام بعد القبض، لإطلاق الصحيحين المتقدّمين، وعن بعضهم جوازه، واستدلّ له بمرسل أبان، لكنّه قد عرفت حاله،2.

ص: 201


1- الانتصار: ص 460 مسألة 261.
2- المبسوط: ج 3/308.
3- جواهر الكلام: ج 28/182.

وحمله على غير الأبوين والأولاد، وحمل الصحيحين عليهم تبرّعيٌ لا شاهد له.

وأمّا هبة كلّ من الزوجين للآخر: فعن جماعةٍ عدم جواز الرجوع فيها، لصحيح زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«إنّما الصدقة محدثة، إنّما كان الناس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ينحلون ويهبون، ولا ينبغي لمن أعطى للّه شيئاً أن يرجع فيه.

قال: وما لم يعط وفي اللّه، فإنّه يرجع فيه، نحلةً كانت أو هبة، حيزت أو لم تحز.

ولا يرجع الرّجل فيما يهب لامرأته ولا المرأة فيما تهب لزوجها، حيز أو لم يحز، لأنّ اللّه تعالى يقول: (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) (1)، وقال: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً) (2) وهذا يدخل في الصداق والهبة»(3).

هكذا في الفروع و «التهذيب»، لكن زاد في «الاستبصار» قوله تعالى : (وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) (4).

ولكن المشهور بين الأصحاب هو الجواز، لصحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام: «عن رجلٍ كانت له جارية فآذته امرأته فيها، فقال: هي عليك صدقة.

فقال عليه السلام: إنْ كان قال ذلك للّه فليمضها، وإنْ لم يقل فله أنْيرجع إنْشاء فيها»(5).

ويتوجّه على الاستدلال به: أنّه من المحتمل أنْ يكون المراد به أنّه حيث يكون المفروض فيه الصدقة، فإنْ قصد بها القربة فهي صحيحة، وإلّا فلا، لاشتراطها بقصد القربة، ولا نظر له إلى الهبة.9.

ص: 202


1- سورة البقرة: الآية 229.
2- سورة النساء: الآية 4.
3- وسائل الشيعة: ج 19/239 ح 24498، وص 239 ح 24498.
4- الاستبصار: ج 4/110 ح 17.
5- التهذيب: ج 9/153 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/240 ح 24499.

ويؤيّده لفظة (على ) فإنّه لم يجعلها صدقةً لامرأته بل عليها، فلا معارض لصحيح زرارة، وإنْ كان هو أيضاً لا يخلو عن إشكال لدلالته على لزومها حتّى مع عدم القبض.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّه لا إيراد على الخبر من هذه الجهة، لإمكان الالتزام بذلك في هبة الزوج خاصّة، أو يقال إنّ عدم العمل ببعض الخبر لا يُسقطه عن الحجيّة بالنسبة إلى باقي مدلوله، وعلى هذا فالمتعيّن هو البناء على لزوم هبة أحد الزوجين للآخر، والاحتياط في هبة الزوج قبل القبض لا يترك.

ثمّ الظاهر كما قيل عدم الفرق بين الدائم والمنقطع، والمدخول بها وغيرها، بل والمطلّقة الرجعيّة.

لزوم الهبة بالتلف

الفرع الثالث: المعروف بين الأصحاب أنّه إذا تلف المال الموهوب فلا رجوع، وإنْ كان المتّهب أجنبيّاً، بل عليه الإجماع في بعض الكلمات(1)، ويمكن أن يستدلّ لذلك بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ المتيقّن من دليل جواز الهبة في مقابل أصالة اللّزوم هو جواز ردّ العين والرجوع فيها، كما في النصوص، لا جواز عقد الهبة بمعنى التسلّط على فسخ العقد.

توضيح ذلك: أنّ الجواز قد يتعلّق بالعقد من كلّ وجه، وقد يتعلّق به من جهة خاصّة، وهو فسخه باسترداد العين خاصّة، والمتيقّن الثابت بالأدلّة في المقام هو

ص: 203


1- كما في الخلاف: ج 3/571 مسألة 16.

الثاني، وبعد التلف لا يمكن استرداده، فيصير العقد لازماً.

وما عن المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ (متعلّق الرّد ملكيّة العين لا نفسها، والملكيّة كما يصحّ انتزاعها من الموجود، كذلك يصحّ انتزاعها من التالف، فإنّها من الاعتباريّات، وهي لا تتوقّف على موضوعٍ موجود)(1)، وعليه فالموضوع وإنْ كان هو رَدّ العين، إلّاأنّه يمكن بعد التلف.

أقول: يظهر جوابه ممّا ذكرناه في تقريب هذا الوجه، فإنّ المدّعى أنّ الثابت بالأدلّة جواز فسخ العقد بأخذ العين نفسها لاجوازه من كلّ وجه، وهذا لا يمكن مع تلف العين.

ويترتّب على هذا الوجه أنّه لو تلف البعض، لا يجوز الرجوع في البعض الآخر، فإنّ المتيقّن من الأدلّة صحيح جميل والحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«إذا كانت الهبة قائمة بعينها، فله أنْ يرجع وإلّا فليس له»(2)، إذ من المعلوم أنّه مع التلف لا يصدق قيامها بعينها، لأنّ الظاهر منه بقاء الموهوب في ملكه، ولو تلف لايصدق ذلك، كما أنّه لو تلف بعض الموهوب لا يصدق أيضاً قيام العين بعينها، وإنْ كانت قائمة ببعضها.

أقول: بقى الكلام في أنّه إذا حدث في العين عيبٌ ، وخرجت عن خلقتها الأصليّة، وأوجب نقصاً فيها، هل يصدق قيام العين بعينها أم لا؟

الظاهر الثاني، كما يشهد به مرسل جميل الوارد في خيار العيب، عن أحدهما عليه السلام:

«في الرّجل يشتري الثوب أو المتاع فيجد فيه عيباً؟3.

ص: 204


1- حاشية المكاسب، للآخوند الخراساني: ص 22.
2- التهذيب: ج 9/153 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/241 ح 24503.

قال عليه السلام: إنْ كان الشيء قائماً بعينه رَدّه على صاحبه وأخذ الثمن، وإنْ كان الثوب قد قُطع أو خيط أو صبغ يرجع بنقصان العيب»(1).

فإنّه يدلّ على أنّ المراد بقيام العين بعينها ما ينافيه مثل الصبغ والخياطة والقطع، فحدوث العيب أيضاً ينافيه.

أقول: ويترتّب على ما ذكرناه في هذا الفرع أوّلاً وآخراً: أنّه إذا مات المتّهب بعد القبض، سقط جواز الرجوع، لأنّ القدر المتيقّن الثابت بالأدلّة جواز الرجوع على المتّهب، والمرجع في غيره أصالة اللّزوم.

وأيضاً: أنّ المال بموته ينتقل إلى ورثته، فلا يكون قائماً بعينه.

ولو مات الواهب بعد الإقباض، فهل تلزم الهبة كما عن المصنّف(2) رحمه الله، والشهيد(3)، والفخر(4)، والمحقّق الثاني(5)، وغيرهم(6)، أم لا؟

الظاهر هو اللّزوم، لأصالته بعد كون المتيقّن من الدليل المخرِج رجوع الواهب نفسه.

ودعوى: أنّ حقّ الرجوع ينتقل إلى ورثته، لعموم ما دلّ على أنّ : «ما تركه الميّت من مالٍ أو حقٍّ فلوارثه».

مردودة أوّلاً: أنّ كون ذلك حقّاً قابلاً للنقل والانتقال غير معلوم، فلعلّه من0.

ص: 205


1- الكافي: ج 5/207 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/30 ح 23069.
2- قواعد الأحكام: ج 2/407، قوله: (ولو مات الواهب قبله - أي الإقباض - بطلت الهبة).
3- الدروس: ج 2/286.
4- إيضاح الفوائد: ج 2/412-413.
5- جامع المقاصد: ج 9/150.
6- كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 6/20.

الأحكام، والعموم المشار إليه لا يصلح لإثبات كونه كذلك، فإنّ ذلك مفروضٌ في موضوعه.

وثانياً: أنّ المنتقل إلى الوارث إنّما هو الحقّ المتروك - أي ما يكون مطلقاًوقابلاً للبقاء بعد الموت - وكون هذا الحقّ كذلك غير معلوم، إذ لعلّه مختصٌّ بالواهب نفسه، وبموته ينتهي أمده، ولا يكون باقياً، والاستصحاب لامورد له في المقام.

التصرّف من ملزمات الهبة

الفرع الرابع: اختلف الأصحاب من المتقدّمين والمتأخّرين في سقوط جواز الرجوع بتصرّف المتّهب في العين الموهوبة للأجنبي، مع عدم سائر المسقطات على أقوال:

القول الأوّل: السقوط وعدم جواز الرجوع مطلقاً أيّ تصرّفٍ كان، حتّى سُكنى الدار، وركوب الدابّة وتعليفها، ولبس الثوب ونحو ذلك، ذهب إليه الشيخان(1)، وابن البرّاج(2)، وابن إدريس(3)، وأكثرالمتأخّرين(4)، كذافي «المسالك»(5).

القول الثاني: عدم سقوطه مطلقاً، وبقاء الجواز الثابت قبل التصرّف، نُسب ذلك إلى الإسكافي(6)، والديلمي(7)، والحَلبي(8)، وابن زُهرة العلوي(9)، مدّعياً عليه

ص: 206


1- المقنعة: ص 658 باب النحلة والهبة، الخلاف: ج 3/571 مسألة 17.
2- المهذّب: ج 2/94.
3- السرائر: ج 3/173.
4- كالشهيد الأوّل في اللّمعة الدمشقيّة: ص 90 كتاب العطيّة.
5- مسالك الأفهام: ج 6/33.
6- كما حكاه عنه الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 6/33.
7- المراسم: ص 201، ذكر أحكام الهبة.
8- الكافي في الفقه: ص 323.
9- الغنية: ص 300، فصل: في الهبة.

الإجماع، واختاره المحقّق في «الشرايع»(1).

القول الثالث: التفصيل بلزومها مع خروج الموهوب عن ملكه، أو تغيير صورته كقصارة الثوب، ونجارة الخشب.

وعدمه بدون ذلك كالركوب والسكني واللّبن ونحوها من الاستعمالات، كما عن ابن حمزة(2) والشهيد في محكي «الدروس»(3) وجماعة من المتأخّرين(4).

أقول: وتنقيح القول في المقام يتحقّق بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: في ما إذا نقل المتّهب المال الموهوب عن ملكه بعقدٍ لازم.

والحقّ عدم جواز الرجوع حينئذٍ، لما عرفت من أنّ المتيقّن من أدلّة الجواز ما إذا بقيت العين على صفة الملكيّة للمتّهب، وأيضاً لا يصدق قيام العين، فلا رجوع له، مع أنّ الناقل إذا كان لازماً امتنع الرّد، ومعه لا معنى لفسخ العقد الذي قد عرفت أنّ الثابت بالدليل فسخ العقد بردّ العين.

ولو عادت العين إليه بفسخٍ ، فهل يعود جواز الرجوع لاستصحاب جوازه الذي موضوعه ما يملكه المتّهب، وهو محفوظٌ قبل النقل وبعد الفسخ ؟

أم لايجوز، لأنّ الموضوع تبدّل حين ما انتقل المال عنه، فلايجري الاستصحاب ؟

وجهان، أظهر هما الثاني.

المورد الثاني: لو كان الناقل عقداً جائزاً، فالظاهر سقوط الجواز لعين ما مرّ،5.

ص: 207


1- شرائع الإسلام: ج 2/459.
2- الوسيلة: ص 379.
3- الدروس: ج 2/287.
4- كالمحقّق السبزواري في كفاية الأحكام: ص 145.

لأنّ المال ليس قائماً بعينه، ولا يمكن استرداد العين للواهب، لأنّ معنى جواز العقد الثاني جواز فسخه للمتّهب لا للواهب، فبالنسبة إليه العقد الجائز واللّازم سيّان.

المورد الثالث: مالو تصرّف المتّهب في العين تصرّفاً مغيّراً للصورة، فالظاهر عدم جواز الرجوع حينئذٍ أيضاً، لقوله عليه السلام في الصحيح: «إذا كانت الهبة قائمة بعينها، فله أنْ يرجع فيها، وإلّا فليس له»، إذ من المعلوم عدم صدق قيام العين مع تغيير صورتها، كما يشير إليه مرسل جميل المتقدّم، الوارد في خيار العيب:

«إنْ كان الثوب قائماً بعينه رَدّه على صاحبه وأخذ الثمن، وإنْ كان الثوب قد قطع أو خيط أو صُبغ رجع بنقصان العيب».

فإنّ التفصيل قاطعٌ للشركة، فيعلم منه مقابلة تغيير الصورة للقيام بعينه.

المورد الرابع: ما لو تصرّف في المال الموهوب تصرّفاً غير مغيّر للصورة، فالظاهر بقاء جواز الرجوع لإطلاق الأدلّة.

وقد استدلّ لعدم جواز الرجوع حينئذٍ:

1 - بأنّ الأصل هو اللّزوم في كلّ عقدٍ خرج عنه، ما لو لم يتصرّف فيه، فمع التصرّف يرجع إلى الأصل الثابت بالأدلّة.

2 - وبأنّجملة من النصوص تدلّ على لزوم الهبة، خرج عنها قبل التصرّف خاصّة.

3 - وبالإجماع.

أقول: وإلى هذه الثلاثة يرجع ما ذكره في «المسالك» من الوجوه العشرة للّزوم بالتصرّف مطلقاً، قال:

(وهذه الأدلّة جمعتها من تضاعيف عبارات أصحاب هذا القول، ولم يتّفق

ص: 208

جمعها لأحدٍ منهم هكذا)(1).

ولكن يتوجّه على الأوّل: ما مرّ من تعيّن الخروج عن هذا الأصل في باب الهبة، وأنّ الأصل فيها الجواز إلّاما خرج بالدليل.

وعلى الثاني: ما تقدّم من أنّ نصوص لزوم الهبة ضعيفة سنداً، وقاصرة دلالة عليه وعن مقاومة نصوص الجواز.

وعلى الثالث: أنّ دعوى الإجماع مع مصير الأكثر إلى الخلاف كما ترى .

وعليه، فالأظهر عدم كونه موجبا لسقوط الجواز.

المورد الخامس: ما إذا مزج الموهوبة، فالظاهر سقوط جواز الرجوع أيضاً، لأنّ المزج إنْ كان موجباً للتلف الحقيقي، وتبدّل صورتها النوعيّة إلى صورة نوعيّة أُخرى ، أو كان موجباً للتلف عرفاً كما لو صبغ شيءٌ باللّون الموهوب، فلما مرّ في صورة تلف المال - وإنْ لم يكن موجباً له - فإنْ كان المزج موجباً للشركة كما لو مزج منّاً من الدهن الموهوب بمنٍّ آخر، فالوجه في السقوط تبدّل الملكيّة الاستقلاليّة إلى المشاعة، فلا يمكن الرّد خارجاً ولا ملكاً، ولا تكون العين قائمة.

لا يقال: إنّ ذلك فيما لو مزجه بمال الغير، لا فيما إذا مزجه بمال نفسه.

فإنّه يتوجّه عليه: أنّه لو رجع الواهب وصار مِلْكاً له، إنّما يملك بالإشاعة لا استقلالاً، وإنْ لم يكن المزج موجباً للشركة، فلأنّ الرّد الملكي وإنْ كان ممكناً، إلّاأنّ الخارجي منه غير ممكن، والمتيقّن من دليل جواز الرجوع هو الرجوع بردّ العين، مع أنّ العين قد تغيّر وصفٌ من أوصافها، فلا تكون قائمة بعينها.7.

ص: 209


1- مسالك الأفهام: ج 6/37.

فإنْ غابَ فلا أرش، وإنْ زادت زيادة متّصلة تبعت، وإلّا فللموهوب له.

المورد السادس: ما لو أجار المال، أو أعاره، أو أودعه، وما شاكل.

والضابط أنّه إنْ صدق بقاء المال بعينه جاز الرّد وإلّا فلا، ومع الشكّ يشكّ في جواز الرجوع، فكما لا يصحّ التمسّك بالدليل المخرج، لايجوز التمسّك بعموم ما دلّ على الجواز، لكونه تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة، فالمتعيّن حينئذٍ البناء على اللّزوم، للشّك في تأثير الرجوع، والأصل عدمه.

الفرع الخامس: قد ظهر ممّا قدّمناه أنّه إنْ عاب المال عند المتّهب فلا رجوع، وبه يظهر ما في المتن حيث قال: (فإنْ عاب فلا أرش، و) أمّا (إنْ زادت زيادة متّصلة) كالسّمن وما شاكل، فالظاهر جواز الرجوع، لصدق بقاء المال بعينه، فإنّه زاد ولم ينقص.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إذا كان قصارة الثوب أو خياطته وصبغه موجبة لعدم بقاء المال بعينه، فكيف لا يكون كذلك مع حصول الزيادة المتّصلة كالسّمن والحمل، سيّما إذا تحقّق ذلك بفعل المتّهب، ولا أقلّ من الشكّ في صدقه.

وعليه، فالأظهر عدم جواز الرجوع.

وعلى القول بالجواز، لا وجه لما ذكره المشهور من أنّه إنْ رجع الواهب (تبعت) الزيادة، إذ بعد كون الرجوع فسخاً لعقد الهبة من حينه لا من الأوّل، وكون المال قبل الرجوع للمتّهب وتحقّق الزيادة في ملكه، ولذا قالوا: (وإلّا) أي وإنْ لم تكن الزيادة متّصلة، بل كانت منفصلة (فللموهوب له) ولا وجه للقول برجوع الزيادة، خصوصاً الحاصلة من فعله إلى الواهب، بل الأوجه هي الشركة إنْلم يكن إجماع.

ص: 210

لزوم الهبة المعوّضة

الفرع السادس: لا إشكال ولا كلام في مشروعيّة الهبة المعوّضة بأقسامها الثلاثة المتقدّمة، وهي:

1 - أنْ يهب المال، ويشترط على المتّهب شيءٌ .

2 - وأنْ يهبه، ويكون داعيه هبة المتّهب.

3 - وأنْ يهب المال ويشترط النتيجة، أي كون المال الآخر ملكاً له.

لإطلاق أدلّة الهبة والشرط.

ولا كلام أيضاً في أنّه إذا عوض عن الهبة تصير لازمة، ويشهد به صحيح عبد اللّه بن سنان، عن مولانا الصادق عليه السلام: «إذا عوض صاحب الهبة، فليس له أنْ يرجع»(1) ونحوه غيره.

ولا فرق في العوض بين القليل والكثير، ولا بين كونه مشروطاً في ضمن الهبة وعدمه، ومقتضى إطلاق النّص أنْ لا يعتبر رضا الواهب وإنْ كان له في صورة عدم الاشتراط عدم القبول، لعدم كونه ملزماً به، ولكن لوقبله صارت الهبة معوّضة، لايجوز الرجوع فيها، ومع إطلاق الهبة بدون اشتراط التعويض، لا يجب التعويض على المتّهب.

وعليه، فما عن الشيخ(2) وأبي الصلاح(3) من وجوبه مطلقاً كما عن الأوّل، أو في هبة الأدنى للأعلى كما عن الثاني، لا وجه له. نعم، يجب مع الاشتراط لوجوب

ص: 211


1- التهذيب: ج 9/154 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/242 ح 24504.
2- النهاية: ص 603، باب النحل والهبة.
3- الكافي في الفقه: ص 328.

الوفاء بالشرط، بل لايجوز له التصرّف في المال قبل أن يفي بالشرط، لخبر القاسم بن سليمان، عن مولانا الصادق عليه السلام:

«عن الرّجل يهب الجارية على أن يثاب فلا يثاب، ألَهُ أنْ يرجع فيها؟

قال عليه السلام: نعم إنْ كان شرط عليه.

قلت: أرأيتَ إنْ وهبها له ولم يثبه أيطأها أم لا؟

قال عليه السلام: نعم إذا كان لم يشترط حين وهبها»(1).

بناءً على عدم الفرق بين الجارية وغيرها.

وقد يقال: إنّ المراد به البناء على عدم الإثابة، فلو كان بانياً عليها، جاز له التصرّف بمقتضى منطوق الخبر.

قال صاحب «المسالك»: (ولا فرق في العوض بين كونه من بعض الموهوب وغيره عملاً بالإطلاق، ولأنّه بالقبض بعد العقد مملوكٌ للمتّهب، فيصحّ بذله عوضاً عن الجملة) انتهى (2).

وأُورد عليه: بأنّه كالتعويض بالكلّ يعدّ ردّاً لا تعويضاً.

وفيه: إنّ صدق الرّد غير منافٍ لصدق التعويض، فما أفاده الشهيد رحمه الله متين.

الصدقة

لا إشكال ولا خلاف في مشروعيّة الصدقة، والنصوص الدالّة عليها متواترة، وفي الكتاب أيضاً آيات تدلّ عليها:

قال اللّه تعالى : (وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ ) (3).

ص: 212


1- التهذيب: ج 9/154 ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/242 ح 24505.
2- مسالك الأفهام: ج 6/32.
3- سورة البقرة: الآية 272.

مسائل:

وقال سبحانه: (وَ اَلَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ ) (1).

وقال النبيّ صلى الله عليه و آله: «الصَّدقة تدفع ميتة السّوء»(2).

وقال صلى الله عليه و آله: «إنّ اللّه لا إله إلّاهو ليدفع بالصدقة الداء والدبيلة والحرق والغرق والهدم والجنون، وعدَّ سبعين باباً من السُّوء»(3).

وقال الإمام عليه السلام: «صنائع المعروف تَدفع مصارع السُّوء»(4).

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «المعروف شيءٌ سوى الزكاة، فتقرّبوا إلى اللّه تعالى بالبِرّ وصِلة الرَّحم»(5).

إلى غير تلكم من الآيات والأخبار.

أقول: ويشترطفي الصدقة - بعد أهليّة المتصدّق للتصرّف - الإيجاب و القبول لما مرّ في الهبة، ويكتفي فيهمابالفعل كما مرّ، وتصحّمع الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول.

ويعتبر فيها القبض، ففي الصحيح وغيره الآتيين في الوقف:

«في الرّجل يتصدّق على ولدٍ له قد أدركوا؟ فقال عليه السلام: إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث»(6).

أقول: وتمام الكلام في هذا المقام يتحقّق في ضمن (مسائل):2.

ص: 213


1- سورة المعارج: الآية 24 و 25.
2- الكافي: ج 4/2 ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/367 ح 12253.
3- الكافي: ج 4/5 ح 2، وسائل الشيعة: ج 9/386 ح 12300.
4- الكافي: ج 4/29 ح 3، وسائل الشيعة: ج 16/287 ح 21565.
5- الخصال: ص 48 ح 52، وسائل الشيعة: ج 9/51 ح 11498.
6- الكافي: ج 7/31 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/178 ح 24392.

الأُولى: لا يجوز الرجوع في الصّدقة بعد الإقباض، وإن كانت على الأجنبي

المسألة (الأُولى: لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد الإقباض، وإنْ كانت على الأجنبي) على الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر، وعن الحِلّي(1) الإجماع عليه، كما في «الرياض»(2).

ويشهد به: صحيح زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«إنّ الصدقة مُحدَثة، إنّما كان الناس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ينحلون ويهبون، ولا ينبغي لمن أعطى للّه شيئاً أن يرجع فيه.

قال: ومالم يعط للّه وفي اللّه فإنّه يرجع فيه، نحلةً كانت أو هبة، الحديث»(3).

والمعتبرة المستفيضة: «إنّما مَثَلُ الذي يتصدّق بالصَّدقة ثم يعود فيها، مثل الذي يقيء ثمّ يعود في قيئه»(4).

وعن الشيخ في «المبسوط»: جواز الرجوع، قال: (إنّ صدقة التطوّع عندنا بمنزلة الهبة في جميع الأحكام...

إلى أنْ قال: وكلّ من له الرجوع في الهبة له الرجوع في الصدقة عليه)(5) ويردّه ما مرّ.4.

ص: 214


1- السرائر: ج 3/177.
2- رياض المسائل: ج 9/371 (ط. ج).
3- التهذيب: ج 9/152 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/231 ح 24479.
4- التهذيب: ج 9/151 ح 65، وسائل الشيعة: ج 19/204 ح 24430.
5- المبسوط: ج 3/314.

ولو قبضها من غير إذن المالك قالوا لم تنتقل إليه.

الثانية: لابدّ في الصَّدقة من نيّة القُربة.

الثالثة: يجوز الصَّدقة على الذّمي وإن كان أجنبيّاً.

(ولو قبضها من غير إذن المالك، قالوا لم تنتقل إليه)، وقد مرّ في الهبة ما يظهر منه أظهريّة الانتقال.

المسألة (الثانية: لابدّ في الصدقة من نيّة القربة) بلا خلافٍ ، بل الفرق بينها وبين الهبة إنّما يكون بذلك.

ويشهد به: - مضافاً إلى الإجماع عليه - المعتبرة المستفيضة الدالّة على أنّه لا صدقة إلّاما أُريد به وجه اللّه سبحانه(1).

ونحوها كثير من النصوص الآتية.

المسألة (الثالثة: يجوز الصدقة على الذّمي وإنْ كان أجنبيّاً) كما صرّح به جماعة عن الأصحاب(2).

وعن ابن أبي عقيل: (المنع من الصّدقة على غير المؤمن)(3).

وظاهر بعض الأصحاب: أنّ الخلاف في الصدقة على الذّمي كالخلاف في الوقف عليه.

وسيأتي الكلام في الوقف عليه.

تشهد للأوّل: - مضافاً إلى إطلاق الأدلّة، وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ1.

ص: 215


1- التهذيب: ج 9 151 ح 66، و سائل الشيعة: ج 19 209 ح 24445.
2- منهم المحقّق في شرائع الإسلام: ج 2 454، و الشهيد في اللّمعة: ص 90 كتاب العطيّة.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 3 211.

الرابعة: صدقة السر أفضل، إلّامع التهمة.

لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ ) (1) جملة من النصوص:

منها: خبر عمرو بن أبي نصر، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ أهل البوادي يقتحمون علينا، وفيهم اليهود و النصارى و المجوس، فنتصدّق عليهم ؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

ومنها: مرسل الصدوق، عنه عليه السلام: «عن السائل ولا يُدرى ما هو؟

فقال عليه السلام: اعط من وقعت له الرّحمة في قلبك»(3).

ونحوهما غيرهما.

المسألة (الرابعة: صدقة السِّر أفضل)، قال اللّه تعالى : (وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (4).

وقال الإمام الصادق عليه السلام في خبر عمّار: «الصدقة واللّه في السِّر أفضل من الصدقة في العلانية»(5).

(إلّا مع التهمة) في ترك المواساة، فيظهرها دفعاً للتهمة.

***

والحمد للّه أوّلاً وآخراً وصلّى اللّه على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

***0.

ص: 216


1- سورة الممتحنة: الآية 8.
2- الكافي: ج 4/14 ح 3، وسائل الشيعة: ج 9/415 ح 12367.
3- الكافي: ج 4/14 ح 2، وسائل الشيعة: ج 9/414 ح 12364.
4- سورة البقرة: الآية 271.
5- الكافي: ج 4/8 ح 2، وسائل الشيعة: ج 9/395 ح 12320.

الفصل الثاني: في الوقف

وصريح ألفاظه: وقفتُ ، والباقي بقرينة.

(الفصل الثاني في الوقف)

ويطلق عليه الصدقة أيضاً، بل الغالب في الأخبار التعبير عن الوقف بالصدقة، بل التعبير عنه بلفظ الوقف قليلٌ ، فالوقف هو الصدقة الجارية، وحقيقته تحبيس العين وتسبيل المنفعة كما في النبويّ : «حَبِّس الأصل وسَبِّل الثمرة»(1).

وهو ثابتٌ بالنص والإجماع، وقد ورد في الأخبار الحَثّ عليه.

أقول: البحث في هذا الفصل يقع في مطالب:

المطلب الأوّل: في العقد وما يلحق به، وفيه مسائل:

المسألة الأُولى : ظاهر الأصحاب اعتبار اللّفظ فيما يُنشأ به الوقف، وأنّه بدونه غير صحيح، ولقد أطالوا البحث في اللّفظ الصريح فيه، وغير الصريح، ففي المتن:

(وصريح ألفاظه وقفتُ ، والباقي بقرينة)، وقال بذلك غيره(2)، وعلّلوه بأنّه الموضوع له لغةً وشرعاً.

وصرّح جماعة منهم(3): بأنّ أوقفتُ بالهمزة لغة شاذّة.

وفي «المسالك»: (والظاهر أنّ الصيغة بها صحيحة وإنْ كانت غير فصيحة)(4).

ص: 217


1- عوالي اللآلي: ج 1/260 ح 14، مستدرك وسائل الشيعة: ج 14/47 ح 16074.
2- منهم الشيخ في المبسوط: ج 3/292. (3و4) كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 5/310.

واختلفوا في (حَبستُ ) و (سبّلت)، فقيل: إنّه يصير وقفاً من غير توقّف على القرينة، وقيل: لا يكون إلّامع القرينة.

والمتَّجه كفاية كلّ ما يدلّ على المعنى المشار إليه، ولو بضميمة القرائن كما في سائر العقود.

جريان المعاطاة في الوقف

المسألة الثانية: مقتضى ما ذكروه من اشتراط الصيغه، عدم كفاية المعاطاة، لكن عن «الذكرى»(1)، و «السرائر»(2) كفايتها في المسجد، لأنّ معظم المساجد في الإسلام على هذه الصورة.

والأقوى كفاية تلك في جميع الأوقاف لإطلاق الأدلّة.

أقول: قد استدلّ لعدم جريان المعاطاة في الوقف بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ القول باللّزوم فيه منافٍ لما اشتهر بينهم من توقّف اللّزوم على اللّفظ، والجواز غير معروفٍ في الوقف من الشارع.

وفيه أوّلاً: أنّ اللّزوم لا يتوقّف على اللّفظ، كما حُقّق في كتاب البيع(3).

وثانياً: أنّ الإجماع على جواز المعاطاة مختصٌّ بالمعاملة التي تجتمع فيها الصحّة مع الجواز، ولا يشمل ما لا تجتمع فيه معه.

وبعبارة أُخرى : المُجمَع عليه عدم اللّزوم مع الصحّة، وأمّا عدم اللّزوم غير

ص: 218


1- الذكرى: ص 158.
2- السرائر: ج 3/167، قوله: (إذا بنى مسجداً... ولم يقل إنّ ذلك وقفٌ ، ولم يوجبه على نفسه بالقول والنطق بالوقفيّة، لم يزل عن ملكه عن ذلك، لأنّ الأصل الملكيّة... والوقف حكمٌ شرعيّ يحتاج إلى دليل شرعي).
3- راجع: فقه الصادق: ج 22/285، بحث المعاطاة.

المجتمع معها فلا يكون مشمولاً له.

وثالثاً: أنّه يمكن أن يجعل هذا بنفسه دليل اللّزوم فيه، فيقال إنّ المعاطاة تفيد أصل الوقف، وأمّا اللّزوم فهو ثابتٌ بمتقتضى الدليل الخاص الدالّ على أنّ كلّ وقفٍ صحيحٍ لازم.

وأمّا الجواب عن ذلك: بأنّه لا مانع من جواز الوقف، ولم يدلّ دليلٌ على عدم اجتماع الوقف والجواز، بل الوقف قبل القبض جائز.

فيردّه: أنّ القبض جزءُ المؤثّر، فقبله لا يكون المؤثّر تامّاً كي يكون لازماً أو جائزاً، وقد ورد عنهم عليهم السلام: «ما جُعل للّه فلا رجعة له فيه»(1)، وظاهر ذلك أنّ ما كان للّه لا يلائمه الرجوع، وهذا غير قابل للتخصيص.

الوجه الثاني: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله، من أنّه يختصّ ببعض أقسام الوقف، وحاصله: (أنّ بعض أقسامه كالوقف الخاص، أو لمصرفٍ خاص كالوقف لتعزية سيّد الشهداء سلام اللّه عليه، من جهة عدم كون فعلٍ مصداقاً له لا يجري فيه المعاطاة)(2).

وفيه: إنّا لا نتصوّر معاملة لايكون فعلٌ فيها مصداقاً لتلك المعاملة بالمعنى المعقول، وهو كون الفعل مظهراً عرفاً للاعتبار النفساني لا أقلّ من الأفعال التي يفهم الأخرس مقاصده بها، مثلاً إذا سأل أحدٌ عن من يريد وقف ماله: (هل توقف هذا المال لمصرفٍ خاص ؟) فحرك رأسه قاصداً به إنشاء الوقف، يكون هذا الفعل بضميمة القرائن الموجود مصداقاً لعنوان الوقف.ظ.

ص: 219


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4/247 ح 5587، وسائل الشيعة: ج 19/204 ح 24429.
2- منية الطالب: ج 1/189 مع اختلاف يسير في الألفاظ.

وعليه، فالأظهر صحّة الوقف المعاطاتي مطلقاً، وتعضده السيرة القطعيّة في مثل الفرش للمساجد، فإنّ الذي استقرّت سيره المشترّعة عليه شرائها وإعطائها للمسجد من دون إجراء الصيغة، وكذا تعمير المساجد الخَربة بالنسبة إلى الآلات المعمولة فيها.

ودعوى: أنّها من قبيل الإباحة، بيّنة الفساد.

وما عن «التذكرة»(1) في جعل الحصير للمسجد من أنّه من قبيل تمليك المسجد وليس وقفاً، وإنْ كان معقولاً نظراً إلى أنّ الملكيّة من الاُمور الاعتباريّة، ولا مانع من اعتبارها للمسجد، إلّاأنّه خلاف المرتكز العرفي، فإنّه لا يخطر ببال أحدٍ من أهل العرف هبة المسجد، ولم يعهد قبول الناظر لها وقبضه.

فالحقّ كون ذلك كلّه من قبيل الوقف المعاطاتي، واللّه العالم.

اشتراط القبول في الوقف

المسألة الثالثة: اختلفوا في اشتراط القبول في الوقف على أقوال:

القول الأوّل: ما عن ظاهر الأكثر، حيث ذكروا الإيجاب ولم يتعرّضوا لذكر القبول، ممّا يعني عدم اشتراطه مطلقاً.

القول الثاني: ما عن «التذكرة»(2) من الاشتراط مطلقاً، ونُسب إلى الأكثر أيضاً من جهة إطباقهم على أنّ الوقف من العقود.

ص: 220


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/427 (ط. ق).
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/427-428 (ط. ق)، قوله: (الأقرب أن يقول إنْ كان الوقف على جهة عامّة.. فلا يشترطالقبول لعدم الإمكان... وإنْ كان الوقف على شخص أوجماعة معينين فالأقرب اشتراط القبول...).

القول الثالث: التفصيل بين الأوقاف العامّة، مثل الوقف على الفقراء أو الفقهاء أو المساجد فالأوّل، والأوقاف الخاصّة وهي ما كان الوقف على جهةٍ معيّنة كشخصٍ معيّن أو جماعة معيّنين فالثاني، وإلى هذا القول ذهب الشهيد في «الدروس»(1)، ويظهر من المحقّق في «الشرائع»(2)، والشارح في «المسالك»(3) الميل إليه، كما في «الحدائق»(4).

أقول: الأظهر عدم اعتبار القبول مطلقاً:

1 - لإطلاق الأدلّة بعد صدق الوقف على فعل الواقف، خصوصاً على القول بأنّ الوقف ملكٌ لا تمليك.

2 - وأصالة عدم الاشتراط.

3 - وخلوّ النصوص الواردة المتضمّنة لأوقاف المعصومين عليهم السلام عن ذكر القبول، لاحظ ما تضمّن صَدَقة عليّ بن أبي طالب عليه السلام بداره التي في بني زُريق(5).

4 - وخبر عجلان المتضمّن لصدقة صادق الآل داره(6).

5 - وحديث صَدَقة الإمام الكاظم عليه السلام بأرضٍ له على أولاده(7).

وغير تلكم من الأخبار، وليس في شيء منها الإشارة إلى القبول.7.

ص: 221


1- الدروس: ج 2/264.
2- شرائع الإسلام: ج 2/450.
3- مسالك الأفهام: ج 5/313.
4- الحدائق الناضرة: ج 22/131.
5- التهذيب: ج 9/131 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/187 ح 24408.
6- التهذيب: ج 9/131 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/186 ح 24407.
7- التهذيب: ج 9/149 ح 57، وسائل الشيعة: ج 19/202 ح 24427.

6 - أضف إلى ذلك سيرة المتشرّعة في الوقف على الجهات، فإنّه لا ترى في شيء من تلك الموارد قبول الناظر أو الحاكم.

أقول: واستدلّ لاعتباره:

1 - بأنّه عقدٌ فيعتبر فيه القبول كسائر العقود.

2 - وبأنّ إدخاله في ملك الغير بغير رضاه بعيدٌ.

3 - وبأصالة بقاء الملك على مالكه بدونه.

أمّا الأوّل: فمصادرة محضة.

ويتوجّه على الثاني أوّلاً: النقض بالطبقات اللّاحقة، إذ لم يقل أحدٌ باعتبار قبولهم.

وثانياً: بأنّه لو تمّ لاختصّ بالوقف على شخصٍ معيّن أو أشخاص معيّنين.

وثالثاً: قد عرفت أنّ الوقف فكّ ملك لا تمليك.

ورابعاً: أنّه لا مانع من الالتزام به لو دلّ عليه الدليل، وقد عرفت وجوده، وكم له من نظير.

وعلى الثالث: أنّه لا مورد للأصل مع وجود الدليل.

وعليه، فالأظهر عدم اعتباره مطلقاً، وعلى فرض التنزّل فالمتعيّن البناء على اعتباره في الوقف الخاص، أمّا الوقف العام فلا محلّ للترديد في عدم اشتراطه فيه، واللّه العالم.

***

ص: 222

وشروطه: القبول، والتقرّب

شرائط الوقف

المطلب الثاني: في الشرائط: وهي أربعة أقسام:

القسم الأوّل: شرائط الوقف:

(وشروطه) خمسة، والمصنّف لمّا كان يرى اعتبار (القبول) في الوقف جعلها ستّة، وأمّا جعله من الشروط على تقدير اعتباره، مع أنّه جزءُ العقد، فلأنّ حقيقة الوقف إنّما هو فعل الواقف، وبالإيجاب يتمّ الوقف عرفاً، ولو كان القبول معتبراً فإنّما هو لكونه من شرائط الصحّة، وتأثير فعل الواقف في حصول الأثر.

أقول: (و) كيف كان، فينبغي البحث عن الشروط المذكورة:

الشرط الأوّل: (التقرّب) إلى اللّه سبحانه وتعالى كما هو المشهور، وعن الحِلّي(1)والسيّد ابن زُهرة(2) إجماع الإماميّة عليه.

واستدلّ له:

1 - بالإجماع.

2 - وبإطلاق الصدقة عليه في الأخبار، وهو يعتبر فيها، ففي الموثّق(3)والصحيح (4): «لا صدقة ولا عتق إلّاما أُريد به وجه اللّه عزّ وجلّ ».

توضيح هذا الوجه: أنّ إطلاق الصدقة على الوقف:

ص: 223


1- السرائر: ج 3/156.
2- الغنية: ص 297.
3- التهذيب: ج 9/151 ح 67، وسائل الشيعة: ج 19/209-210 ح 24445 و ح 24446.

إمّا أن يكون على وجه الحقيقة، فيكون الوقف من مصاديقها، فيعتبر فيه ما يعتبر في كلّ صدقة.

وإمّا أنْ يكون على وجه الاستعارة والتشبيه، وهما يقتضيان الشركة في الأحكام، إمّا جملةً أو المتبادر منها خاصّة، ولا ريب أنّ اشتراط القربة في صحّة الصدقة من أظهر أحكامها.

3 - وباتّباع الأئمّة وقوفاتهم المأثورة بقولهم: (ابتغاء وجه اللّه سبحانه).

4 - وبأنّ الأصل عدم صحّة الوقف، خرج عنه الوقف مع قصد القربة، وبقى الفاقد له.

5 - وبأصالة التعبّديّة في التكاليف، إذ لاريب في أنّه من المستحبّات، ومقتضى ذلك الأصل اعتباره فيه.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّه لم يثبت كونه تعبّديّاً، ولعلّ مستند المجمعين بعض ما ذكر.

وعلى الثاني: أنّه لو كانت الأخبار متضمّنة لحمل الصدقة على الوقف - مثل:

«الوقف صدقة» - كان هذا الوجه تامّاً، ولكن ليس في الأخبار إلّاإطلاق الصدقة على الوقف، ولازم ذلك أنّ للصدقة معنى عامّاً يصدق على الوقف، وأمّا أنّ كلّ وقفٍ يصدق عليه الصدقة فلا يستفاد من تلك الأخبار، وعليه فمن الممكن كون النسبة بين العنوانين عموماً من وجه.

وعلى الجملة: لا إشكال في أنّه إذا لم يقصد القربة بالوقف لا يطلق عليه الصدقة، وأمّا أنّ ذلك يقتضي بطلانه بنحوٍ يصلح ذلك لتقييد إطلاق ما دلّ على صحّة الوقف بقولٍ مطلق، فلا يستفاد من تلك الأخبار.

ص: 224

والإقباض.

وعلى الثالث: أنّه لا كلام في صحّة نيّة القربة فيه، وأرجحيّة تلك، وإنّما الكلام في لزومها، وفعل المعصومين عليهم السلام أعمٌّ من ذلك.

وعلى الرابع: أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الوقف، صحّة كلّ ما يصدق عليه هذا العنوان، ومعه لا مورد للأصل المزبور.

بل يمكن أنْ يقال: إنّ الوقف من الإيقاعات العقلائيّة التي أمضاها الشارع الأقدس، ولا يعتبر فيما عليه بناء العقلاء قصد القربة.

وعلى الخامس: ما حُقّق في محلّه من أنّ الأصل كون المأمور به توصّليّاً حتّى يثبت خلافه، مع أنّ للوقف حكمين: الصحّة، والاستحباب، وقصد القربة الثابت بالأصل إنّما هو في الحكم الثاني دون الأوّل.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم اعتبار قصد القربة في الوقف، نعم ترتّب الثواب عليه موقوفٌ على قصد القربة، فإنّه من آثار التقرّب إلى اللّه تعالى ، لا من آثار الفعل المجرّد.

يعتبر في الوقف الإقباض

الشرط الثاني: (و) ممّا قالوا باشتراطه في الوقف (الإقباض)، والظاهر عدم الخلاف فيه، وفي «المسالك»(1) دعوى الإجماع عليه، ويشهد به:

1 - صحيح صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل يقف الضيعة ثمّ يبدو له أنْ يحدث في ذلك شيئاً؟

ص: 225


1- مسالك الأفهام: ج 5/314.

فقال عليه السلام: إنْ كان وقفها لولده ولغيرهم، ثمّ جعل لها قيّماً، لم يكن له أنْ يرجع فيها، وإنْ كانوا صغاراً وقد شرط ولايتها لهم حتّى بلغوا، فيحوزها لهم، لم يكن له أنْ يرجع فيها، وإنْ كانوا كباراً ولم يُسلّمها إليهم، ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه، فله أنْ يرجع فيها، لأنّهم لا يحوزونها وقد بلغوا»(1).

2 - خبر محمّد بن الأسدي، فيما ورد عليه من جواب مسائله من محمّد بن عثمان العمروي، عن صاحب الزمان أرواحنا فداه:

«وأمّا ما سألت عنه من الوقف على ناحيتنا، وما يجعل لنا، ثمّ يحتاج إليه صاحبه، فكلّ ما لم يُسلّم فصاحبه فيه بالخيار، وكلّما سُلّم فلا خيار فيه لصاحبه، احتاج أو لم يحتج، افتقر إليه أو استغنى عنه.

إلى أنْ قال: وأمّا ماسألت عنه من أمر الرّجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعة ويُسملّها من قيّم يقوم فيها ويعمّرها، ويؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها، ويجعل ما بقى من الدخل لناحيتنا، فإنّ ذلك جائزٌ لمن جعله صاحب الضيعة قيّماً عليها، إنّما لايجوز ذلك لغيره»(2).

3 - ومادلّ على أنّه لو مات الواقف قبل القبض رجع ميراثاً(3)، وسيمرّ عليك.

وعليه، فلا إشكال في أصل الحكم.

أقول: وتمام الكلام في هذا الشرط يتحقّق في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: هل القبض شرطٌ للصحّة كماهو المشهور(4)؟ أم للّزوم كما هو).

ص: 226


1- الكافي: ج 7/37 ح 36، وسائل الشيعة: ج 19/180 ح 24395.
2- الاحتجاج: ج 2/298، وسائل الشيعة: ج 19/181 ح 24399.
3- التهذيب: ج 9/137 ح 24، وسائل الشيعة: ج 19/180 ح 24396.
4- مسالك الأفهام: ج 5/314، قوله: (لا خلاف بين أصحابنا في أنّ القبض شرط لصحّة الوقف).

ظاهر «الغنية»(1)، و «الشرائع»(2)، و «اللّمعة»(3)؟

ظاهر صحيح صفوان هو الثاني، لقوله: «فله أنْ يرجع فيها» أي في الضيعة، ولو كان شرطاً للصحّة لكانت الضيعة باقية على ملكه، فلا معنى للرجوع فيها.

وخبر الأسدي يلائم مع كلّ منهما، وكذا ما دلّ على أنّه لو مات الواقف قبل القبض رجع ميراثاً، وعلى هذا فإنْ كان إجماعٌ على كونه شرطاً للصحّة، وإلّا فالمتّجه كونه شرطاً للّزوم، وعليه فحكم النماء المتخلّل بين العقد والقبض ظاهرٌ.

وعلى القول بأنّه شرطٌ للصحّة، فهل هو كاشفٌ أو ناقل ؟

مقتضى إطلاقات الوقف هو الأوّل، فإنّها تقتضي عدم اعتبار القبض، وحصول النقل بمجرّد إجراء الصيغة، والمتيقّن من ما دلّ على شرطيّة القبض، عدم حصوله مع عدم القبض، وأمّا أنّه على تقديره، فلا يثبت النقل من الأوّل، فلا يدلّ عليه، وقياس الاعتبارات بالشرط الخارجي للموجود الخارجي في غير محلّه، وعليه فالمتّجه كونه كاشفاً.

بطلان الوقف بموت الواقف قبل القبض

الفرع الثاني: إذا مات الواقف قبل القبض بطل الوقف بلا خلافٍ ، واستدلّ له بخبر عبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في رجل تصدّق على ولد له قد أدركوا؟

ص: 227


1- الغنية: ص 298.
2- شرائع الإسلام: ج 2/442، قوله: (ولايلزم إلّابالإقباض). ولكنّه قال في ص 449: (والقبض شرط في صحّته فلو وقف ولم يقبض ثمّ مات كان ميراثاً).
3- اللّمعة الدمشقيّة: ص 88 كتاب الوقف.

قال: إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث، فإنْ تصدّق على من لم يدرك من ولده فهو جائزٌ، لأنّ الوالد هو الذي يلي أمره.

وقال عليه السلام: لايرجع في الصدقة إذا تصدّق بها ابتغاء وجه اللّه»(1).

وأورد عليه صاحب «المسالك»: باحتمال أن يريد بالصدقة معناها الخاص، فلا يكون دليلاً، قال: (ويؤيّده قوله في آخر الحديث، وقال: «لا يرجع إلخ» فإنّ هذا الحكم من خواصّ الصدقة الخاصّة)(2).

أقول: الأصحاب وإنْ فهموا من الخبر أنّ المراد بالصدقة في صدر الخبر إمّا الوقف أو الصدقة بالمعنى الأعمّ الشامل له، وذيل الخبر لا ينافيه، إذ يمكن أنْ يكون ذلك خبراً آخر، كما يؤيّده تكرار لفظ (قال)، مع أنّ كون ذلك من خواصّ الصدقة بالمعنى الأخصّ ممنوعٌ ، بل هو من خواصّ كلّ صدقةٍ أُريد بها وجه اللّه كما قيّد به في الخبر، ولكن كون الصدقة لها معنيان: المعنى الأخصّ ، والمعنى الأعمّ غير ثابت، ومجرّد الاستعمال أعمٌّ من الحقيقة، وليس استعمالها في غير المعنى الأخصّ بمقدار استعمالها فيه، وفهم الأصحاب ليس حجّة، فشمول الخبر لغير الصدقة بالمعنى الأخصّ مشكلٌ .

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ الصدقة لها معنى عام، كما يظهر من موارد استعمالها، واستعمال سائر مشتقّات هذه المادة، وأنّ استعمالها في المعنى الخاص من باب إطلاق اللّفظ الموضوع للمعنى العام على بعض مصاديقه.9.

ص: 228


1- التهذيب: ج 9/137 ح 24، وسائل الشيعة: ج 19/180 ح 24396.
2- مسالك الأفهام: ج 5/359.

وعليه، فمقتضى إطلاق الخبر ثبوت هذا الحكم للوقف، فتأمّل فإنّ هذا محلّ نظر بل منع.

وعلى أيّ حال، الحكم من المسلّمات عندهم وكفى به مدركاً.

هذا كلّه في موت الواقف.

وأمّا إذا مات الموقوف عليه قبل القبض، فهل يبطل أيضاً أم لا، بل يصحّ إذا قبض البطن اللّاحق ؟ وجهان:

استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ ذلك شأن العقد الجائز، فضلاً عن الذي لم يتمّ ملكه

2 - وبأنّ الظاهر أنّ المعتبر قبض من كان طرفاً في إجراء الصيغة، فلا يكفي قبض غيره، فإنّه نظير قبول غير من خوطب بالإيجاب.

3 - وبأنّه لو مات الموقوف عليه قبل القبض، يكون بمنزلة المعدوم، فيكون مثل الوقف على معدوم ثمّ موجود.

ولكن يتوجّه على الأوّل: ما تقدّم من أنّ ذلك ليس شأن العقد الجائز، وعلى فرضه فهو شأن العقد الجائز، وإسرائه إلى العقد اللّازم الذي لم تتمّ أركانه قياسٌ مع الفارق.

وعلى الثاني: أنّ الإيجاب ليس مختصّاً بالموجودين، بل لجميع الطبقات، وعليه فكما أنّه مع عدم موت الطبقة الأُولى يكتفي بقبضهم عن قبض سائر الموقوف عليهم، فكذلك مع موتهم يكتفي بقبض الطبقة الثانية.

ويتوجّه على الثالث: أنّ الوقف إنّما كان على موجودٍ ثمّ معدوم، وإنّما لم يكن

ص: 229

العقد تامّاً لفقد شرطٍ من شروطه الخارج عن حقيقة الوقف، سيّما على ما قوّيناه من كون القبض شرط اللّزوم لا شرط الصحّة.

وعليه، فالأظهر عدم بطلان الوقوف.

اشتراط القبض في الوقف على الجهات العامّة

الفرع الثالث: ظاهر كلمات الأصحاب أنّه يشترط القبض في الوقف على الجهات العامّة، كالوقف على المساجد وماشاكل، وكذا في الوقف على الفقراء والزوّار ونحوهم من الأصناف، وكذا في وقف المسجد والمدرسة والمقبرة، ولكن أخبار القبض مختصّة بغير المذكورات، فالقول بعدم اعتبار القبض فيها غير بعيدٍ، وعلى فرض اعتباره، ففي الوقف على الأصناف يكفي قبضُ واحدٍ منهم.

قيل: إنّه لابدّ من قبض الحاكم عن الجميع، ولا يكفي قبض واحدٍ منهم، لأنّ الموقوف عليه الجنس.

وفيه: أنّه لوكان الوقف على الجميع بنحو العموم، بحيث لزم التقسيم على الجميع، صَحّ ما اُفيد، وهو في الحقيقة منحلٌّ إلى أوقاف عديدة، وأمّا الوقف على الجنس، كما لو وقف داراً على العلماء، فيكفي قبض واحدٍ منهم كما ذكروه في وقف المسجد أنّه تكفي صلاة واحدة فيه، وفي وقف المقبرة يكفي دفن ميّتٍ واحد فيها.

وأمّا في الوقف على الجهات: فلابدّ من قبض الحاكم الشرعي أو المأذون من قبله.

وفي جميع هذه الموارد لو جَعل الواقف تولية الوقف لشخصٍ ، وجعله قيّماً يكفي قبضه، كما يشهد به:

ص: 230

صحيح صفوان المتقدّم، حيث جاء فيه قوله عليه السلام: «إنْ كان أوقفها لولده و لغيرهم، ثمّ جَعل لها قيّماً، لم يكن له أنْ يرجع».

والتوقيع الشريف: «ويسلّمها من قيّم يقوم فيها».

أقول: وبذلك يظهر أنّ ما ذكره جماعة، من أنّه يجوز للواقف في الوقف على الأصناف أن ينصب قيّماً لخصوص القبض، ولو بعد الوقف، وأنّه يكفي حينئذٍ قبضه، خصوصاً مع فقد الحاكم، مستنداً إلى الخبرين في غير محلّه.

وقوله عليه السلام: «ثمّ جعل» لا يدلّ على التراخي، وأنّ نصب القيّم يكون بعد الوقف، واللّه العالم.

الفرع الرابع: المشهور اعتبار كون القبض فيما يعتبر فيه ذلك أنْ يكون بإذن الواقف، والمستند في ذلك هو أنّ المعتبر الإقباض، ويشهد به:

1 - قوله عليه السلام في التوقيع الشريف المتقدّم: «فكلّ ما لم يُسلّم فصاحبه بالخيار» الظاهر في أنّ المناط تسليم الواقف.

2 - وقوله عليه السلام في صحيح صفوان: «وإنْ كانوا كباراً لم يُسلّمها إليهم... إلخ».

ولا يعارضهما قوله في الصحيح: «ولم يخاصموا حتّى يحوزوها عنه» بدعوى أنّ ظاهره جواز المخاصمة مع الواقف للقبض، فإنّ الظاهر منه بقرينة التعدية بحرف «عن» هو المخاصمة معه في الإقباض.

وعليه، فما أفادوه من اعتبار الإذن والإقباض هو الأظهر.

الفرع الخامس: إذا وقف الأب على أولاده الأصاغر، لم يحتجّ إلى قبضٍ جديد، لا لعدم اعتبار القبض أصلاً لانصراف أدلّته عنه، لأنّه يردّه ما في صحيح صفوان

ص: 231

ويتولّى الوليُّ القبض عن الطفل، والناظر في المصالح القبض عنها.

المتقدّم من قوله عليه السلام: «وقد شرط ولايتها لهم حتّى يبلغوا فيحوزها لهم لم يكن...

إلخ»، بل:

1 - لأنّ قبضه ولايةً عليهم قبضٌ لهم لعموم أدلّة الولاية.

2 - ولصحيح صفوان المتقدّم.

3 - وصحيح محمّد بن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام: «في الرّجل يتصدّق على ولده وقد أدركوا: إذا لم يقبضوا حتّى يموت فهو ميراث، فإنْ تصدّق على من لم يَدرك من ولده، فهو جائزٌ، لأنّ والده هو الذي يلي أمره»(1).

ونحوه خبر عليّ بن جعفر(2)، وهما بعموم العلّة يدلّان على المقام، وإنْ قلنا بشمول الصدقة للوقف فالأمر أوضح.

(و) على هذا، فهل يعتبرقصد كونه عن المولّى عليه أم لا؟

وجهان، لا يبعد دعوى عدم اعتباره، كما عن جماعةٍ ، لإطلاق الأخبار، بل عن كاشف الغطاء: (ولو نوى الخلاف، فالأقوى الجواز)(3)، ولا بأس به جموداً على الإطلاق.

أقول: (و) قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه:

1 - لو وقف أجنبيٌّ على الصغير (يتولّى الوليُّ القبض عن الطفل و).

أيضاً ظهر ممّا قدّمناه في الفروع السابقة أنّ ل (الناظر في المصالح القبض عنها).2.

ص: 232


1- الكافي: ج 7/31 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/178 ح 24392.
2- مسائل علي بن جعفر: ص 195 ح 411، وسائل الشيعة: ج 19/236 ح 24493.
3- كشف الغطاء: ج 2/372.

والتنجيز.

عدم اعتبار التنجيز في الوقف

(و) الشرط الثالث من شرائط الوقف: (التنجيز) عند المشهور، فلو قال:

(وقفتُ إذا جاء رأس الشهر) أو (إنْ قَدم زيدٌ) لم يصحّ .

وفي «الجواهر»: (بلا خلافٍ ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه)(1).

وفي «المسالك»: (اشتراط تنجيزه موضع وفاق)(2).

أقول: ولا دليل بالخصوص لاعتباره في الوقف، وإنّما ذكروا في وجه الاعتبار ما ذكروه وجهاً لاعتباره في مطلق العقود، قد مرّ الكلام في ذلك في كتاب البيع(3)وغيره من الكتب المتقدّمة، وعرفت عدم تماميّة شيء من ما ذكر، وأنّه لا دليل له سوى الإجماع.

وعلى ذلك، فحيث أفاد صاحب «الحدائق» في المقام بقوله: (وهذا الشرط لم أقف عليه في جملةٍ من كتب المتقدّمين، منها كتاب «النهاية» للشيخ، و «المبسوط»، وكتاب «السرائر» لابن إدريس، وكذا «المقنعة» للشيخ المفيد رحمه الله فإنّه لم يتعرّض أحد منهم لذكره في الكتب المذكورة)(4)، فالقول بعدم الاعتبار قويٌّ لعدم الإجماع، سيّما في التعليق على الصفة التي لابدّ من وقوعها. وأمّا التعليق على وصفٍ موجودٍ أو شرطٍ متحقّق، فلا إشكال في صحّته، كما مرّ تفصيل القول في ذلك.

ص: 233


1- جواهر الكلام: ج 28/62.
2- مسالك الأفهام: ج 5/357.
3- فقه الصادق: ج 23/38.
4- الحدائق الناضرة: ج 22/142.

والدوام.

عدم اعتبار الدوام في الوقف

(و) الشرط الرابع من شروط الوقف: (الدوام) بمعنى عدم توقيته بمدّةٍ كعشر سنين على المشهور.

وفي «الجواهر»: (بل الإجماع محصّله ومحكيه في «الغنية»(1) وعن «الخلاف»(2)و «السرائر»(3) عليه)(4).

واستدلّ له:

1 - بالإجماع.

2 - وبأنّ التأبيد معتبرٌ في مفهومه، ولذا قالوا إنّ لفظ (وقفتُ ) صريحٌ في الوقف، بخلاف سائر الألفاظ، فإنّها بضميمة القرائن.

3 - وبالنصوص المشتملة على أوقاف الأئمّة عليهم السلام، فإنّها مشتملة على التأبيد:

منها: خبر ربعي بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في صورة وقف أمير المؤمنين عليه السلام: بسم اللّه الرحمن الرحيم، هذا ما تصدّق به عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وهو حَيٌّ سَويّ ، تصدّق بداره التي في بني زُريق، صدقةً لا تُباع ولا تُوهب حتّى يرثها

ص: 234


1- الغنية: ص 298.
2- الخلاف: ج 3/548 مسألة 16.
3- السرائر: ج 3/156.
4- جواهر الكلام: ج 28/51.

اللّه الذي يرث السماوات والأرض، وأسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن وعاش عقبهن، فإذا انقرضوا فهي لذي الحاجة من المسلمين. الحديث»(1).

ونحوه خبر عجلان أبي صالح، في صورة وقف الإمام الصادق عليه السلام(2).

وخبر عبد الرحمن المتضمّن لوقف الإمام الكاظم عليه السلام وفيه: «تصدّق بجميع حقّه من ذلك على ولده من صُلبه الرجال والنساء...

إلى أنْ قال: صدقةً حبساً بتلاً بتّاً مبتوتة لا رجعة فيها ولا رَدّ، ابتغاء وجه اللّه تعالى سبحانه. الحديث»(3).

وتقريب الاستدلال بها: أنّ الظاهر من الوصف كونه صفة لنوع الصدقة لا لشخصها، ويبعد كونه شرطاً خارجاً عن النوع مأخوذاً في الشخص، مع أنّ سياق الاشتراط يقتضي تأخّره عن ركن العقد - أعني الموقف عليهم -.

4 - وبالأصل، فإنّ المتعيّن من دليل مشروعيّة الوقف صورة التأبيد، وفي غيرها يرجع إلى أصالة الفساد.

ولكن يتوجّه على الأوّل: عدم ثبوت كونه تعبّديّاً.

وعلى الثاني: أنّ التأبيد غير معتبرٍ في مفهوم الوقف الذي اتّفق النّص والفهم العرفي وكلمات الأصحاب على أنّه: (تحبيسُ الأصل وتسبيل المنفعة) كما مرّ، مضافاً إلى إطلاق الوقف على المنقطع في الأخبار كما سيأتي.

ويتوجّه على الثالث: منع كون الظاهر من الوصف كونه صفة لنوع الوقف.7.

ص: 235


1- التهذيب: ج 9/131 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/187 ح 24408.
2- التهذيب: ج 9/131 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/186 ح 24407.
3- التهذيب: ج 9/149 ح 57، وسائل الشيعة: ج 19/202 ح 24427.

نعم، دعوى عدم كونه شرطاً خارجيّاً عن الوقف مأخوذاً في الشخص قريبة، ولكن المدّعى أنّ للّوقف صنفين:

أحدهما: الدائم، كالنكاح الدائم.

والآخر: المنقطع، كالنكاح المنقطع.

ففي الدائم ليس هناك وقفٌ وقيدُ دوامٍ ، بل المُنشَأ والمتحقّق شيء واحد وهو الوقف دائماً وأبداً، والنصوص المتقدّمة لاتنفي ذلك.

وعلى الرابع: أنّ إطلاق أدلّة الوقف نظير قوله عليه السلام: «الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها إنْ شاء اللّه تعالى »(1) يدلّ على صحّة الوقف المنقطع، ويشهد لها - مضافاً إلى ذلك -:

صحيح عليّ بن مهزيار، قال: «قلت له: روى بعض مواليك عن آبائك عليهم السلام:

أنّ كلّ وقفٍ إلى وقتٍ معلوم فهو واجبٌ على الورثة، وكلّ وقفٍ إلى غير وقتٍ جهل مجهول فهو باطلٌ مردودٌ على الورثة، وأنتَ أعلم بقول آبائك عليهم السلام ؟

فكتب عليه السلام: هكذا هو عندي»(2).

فإنّه ظاهر في صحّة الوقف المنقطع، والأصحاب لمّا كان بنائهم على اشتراط التأبيد حَمَلوه على صحّته حبساً، والشيخ قدس سره حمل الوقت فيه على الموقوف عليه دون المدّة، استناداً إلى صحيح الصفّار الوارد فيه أنّه قال:

«كتبتُ إلى أبي محمّدٍ عليه السلام أسأله عن الوقف الذي يصحّ ، كيف هو، وقد روي أنّ الوقف إذا كان غير موقّتٍ فهو باطل مردودٌ على الورثة، وإذا كان موقّتاً فهو4.

ص: 236


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/237 ح 5567، وسائل الشيعة: ج 19/175 ح 24386.
2- التهذيب: ج 9/132 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/192 ح 24414.

وإخراجه عن نفسه

صحيحٌ ممضى، وقال قومٌ : إنّ الموقّت هو الذي يَذكر فيه أنّه وقف على فلانٍ وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها....

والذي هو غير موقّت أن يقول: هذا وقفٌ ولم يذكر أحداً، فما الذي يصحّ من ذلك وما الذي يبطل ؟

فوقّع عليه السلام: الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها إنْ شاء اللّه»(1).

وفيه أوّلاً: أنّهما خبران لا ربط لأحدهما بالآخر، فلا وجه لجعل أحدهما قرينةً على الآخر، فتأمّل.

وثانياً: أنّه ليس في الثاني سوى تفسير قومٍ الموقّت بالموقوف عليه، والسائل لم يسأل عن ذلك حتّى يكون عدم جوابه تقريراً لهم، بل سأل عن ما يصحّ من ذلك وما لايصحّ ، وأجاب عليه السلام بأنّ الوقف صحيحٌ على حسب مايوقف، وعليه فهو أيضاًيدلّ على صحّة الموقّت، فما اختاره جماعة و مال إليه آخرون كالشهيد الثاني رحمه الله(2) وصاحب «المفاتيح»(3)، وسيّد «العروة»(4) وغيرهم من عدم اشتراط التأبيد هو الأصَحّ .

الوقف على النفس

(و) الشرط الخامس: (إخراجه عن نفسه) بمعنى أنْ يكون الوقف على غيره، فلو وقف على نفسه بَطَل.

ص: 237


1- التهذيب: ج 9/132 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/192 ح 24415.
2- مسا لك الأفهام: ج 5/353.
3- مفاتيح الشرائع: ج 3/207.
4- تكملة العروة الوثقى: ج 1/192.

أقول: هذا ممّا لا خلاف فيه بين أصحابنا، كما في «المسالك»(1) و «الحدائق»(2)، وعن «التذكرة»(3): نسبته إلى علمائنا، وعن «السرائر»(4): الإجماع عليه، وهو الحجّة فيه، وإلّا ففيما ذكروه وجهاً له نظرٌ بل منع، لأنّهم قد استدلّوا على اعتباره:

تارةً : بعدم تعقّل الوقف على النفس، لاقتضاء الوقف نقل المنفعة خاصّة، أو مع العين إلى الموقوف عليه، ولا معنى لنقل ملكه إلى نفسه.

واُخرى : بفحوى النصوص الآتية الدالّة على عدم صحّة اشتراط العود إليه عند الحاجة.

وثالثةً : بخبر طلحة بن زيد، عن مولاناالصادق، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ رجلاً تصدّق بدارٍ له وهو ساكنٌ فيها؟ فقال عليه السلام الحين أُخرج منها»(5).

ورابعةً : بمكاتبة علي بن سليمان إلى أبي الحسن عليه السلام، قال:

«جُعلت فداك، ليس لي ولد ولي ضياع ورثتها عن أبي، وبعضها استفدتها، ولا آمن الحدثان، فإنْ لم يكن لي ولدٌ وَحَدث بي حَدَثٌ فما ترى جُعلت فداك، لي أن أقف بعضها على فقراء اخواني والمستضعفين، أو أبيعها وأتصدّق بثمنها عليهم في حياتي، فإنّي أتخوّف أنْ لا ينفد الوقف بعد موتي، فإنْ وقفتها في حياتي فلي أن آكل منها أيّام حياتي أم لا؟

فكتب عليه السلام: فهمتُ كتابك في أمر ضياعك، فليس لك أن تأكل منها من1.

ص: 238


1- مسالك الأفهام: ج 5/361.
2- الحدائق الناضرة: ج 22/155.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/428 (ط. ق).
4- السرائر: ج 3/155.
5- التهذيب: ج 9/138 ح 29، وسائل الشيعة: ج 19/178 ح 24391.

الصدقة، فإنْ أنتَ أكلت منها لم تنفذ، إنْ كان لك ورثة فبع وتصدّق ببعض ثمنها في حياتك، وإنْ تصدّقت أمسكتَ لنفسك ما يقوتك مثل ما صَنَع أميرالمؤمنين عليه السلام»(1).

أقول: وفي كلٍّ نظرٌ:

أمّا الأوّل: فلأنّه لو سُلّم كون الوقف نقلاً للمنفعة إلى الموقوف عليه - مع أنّه محلّ تأمّلٍ - أنّه يمكن تصحيحه في الوقف على النفس بأنّ مقتضى الوقف حيث يكون إيقاف العين وحبسها، ولازم ذلك في نفسه حبس المنفعة أيضاً، اذ بعد ما تخرج العين عن ملك الواقف، لا تكون المنفعة له، أن يمكلها بغيره، كذلك له أنْ يُبقيها لنفسه.

وبعبارة أُخرى : لم يؤخذ في حقيقة الوقف التمليك بالغير كي يكون إبقاء المالك المنفعة في ملكه منافياً له.

وعليه، فلا مانع من هذه الجهة في أن يوقف العين ويحبسها، ويجعل منفعتها لنفسه، ولا يكون ذلك خارجاً عن حقيقة الوقف.

وأمّا الجواب عن ذلك: - كما في ملحقات «العروة»(2) - بأنّه لا مانع من تبديل ملكيّةٍ بملكيّة أُخرى عليه بنحوٍ آخر، فلم أفهم مراده قدس سره.

وأمّا الثاني: فلمنع الأولويّة، مع أنّه سيأتي عدم دلالتها على ما استدلّ بها له.

وأمّا الثالث: فلأنّه ظاهرٌ في لزوم الخروج عن البيت بعد أن وقفه على الغير، ولايدلّ على عدم جواز الوقف على النفس.

وأمّا الرابع: فلأنّه لو لم يدلّ على جواز الوقف على النفس من جهة قوله عليه السلام:7.

ص: 239


1- الكافي: ج 7/37 ح 33، وسائل الشيعة: ج 19/176 ح 24388.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 1/197.

«وإنْ تصدّقت أمسكتَ لنفسك ما يقوتك»، بدعوى ظهوره في أنّه إذا وقفت وأراد أن يأكل منه مدّة حياته، فليجعل في ضمن إجراء الصيغة شيئاً منه ليقوتَ به، لايدلّ على المنع، فإنّه يدلّ على أنّه لو وقف على الفقراء، لا يجوز له أنْ يأكل مادام حياته، ولا يدلّ على عدم جواز جعل شيء من الوقف على نفسه.

فالمتحصّل: أنّه لا دليل على المنع عن الوقف على النفس سوى الإجماع.

أقول: على القول ببطلان الوقف على نفسه:

1 - لو وقف على نفسه، ثمّ على غيره، بطل بالنسبة إلى نفسه، وكان من الوقف المنقطع الأوّل.

2 - ولو وقفت على غيره، ثمّ على نفسه، كان من الوقف المنقطع الآخر.

3 - ولو وقف على غيره، ثمّ على نفسه، ثمّ على غيره، كان منقطع الوسط.

وسيأتي حكم هذه الصور بالنسبة إلى غيره.

حكم ما لو شرط الواقف شرطاً لنفسه

أقول: تمام الكلام في هذا المقام إنّما يكون بالبحث في فروع:

الفرع الأوّل: لو وقف على غيره وشرط أداء ديونه، أو إدرار مؤنته، ففيه أقوال:

1 - بطلان الشرط والوقف، ذهب إليه المشهور، سواءٌ شرط أداء دين معيّن أو أطلق الدين، وسواءٌ شرط إدرار مؤنته إلى آخر العمر أو إلى مدّة معيّنة، وسواءٌ عين مقدار المؤونة أو لم يعيّنه.

2 - صحّة الوقف وبطلان الشرط.

3 - صحّتهما معاً.

ص: 240

وجه الأوّل: كونه شرطاً مخالفاً لمقتضي الوقف، إذ مقتضاه خروجه عن العين والمنفعة.

ووجه الثاني: أنّه غير منافٍ لمقتضي الوقف، غايته كونه غير جائز وفاسداً، والشرط الفاسد لا يُفسد.

أقول: والحقّ أنْ يقال إنّه:

تارةً : يشترط على الموقوف عليه أن يؤدّي دَينه أو يدرّ مؤونته من ماله ولو من غير منافع الوقف، فلا إشكال في صحّة الوقف والشرط إنْ اجتمعت سائر شرائط صحّة الشرط، إذ لم يجعل المنفعة لنفسه.

واُخرى : يشترط عليه أداء دينه مثلاً من منفعة الوقف، لكن بعد تملّكه إيّاها، وهذا أيضاً خالٍ عن الإشكال، ويكون الوقف والشرط صحيحين.

وثالثةً : يشترط استثناء مقدار ديونه من منفعة الوقف، وهذا أيضاً خالٍ عن الإشكال، والفتاوى متّفقة على صحّة ذلك.

ورابعةً : يجعل الوقف على نفسه بمقدار دينه مثلاً وعلى غيره، وهذا موجبٌ لبطلان الوقف بالنسبة إلى نفسه، ولكن لا وجه لبطلانه بالنسبة إلى غيره، فما يخصّه وهو الزائد عن مقدار دينه، فيصحّ وقفه له، ويبقى بمقدار دينه في ملكه، وله أنْ يفعل به ما شاء.

فالمتحصّل: عدم البطلان في شيء من الموارد.

وبذلك يظهر حكم ما لو شرط نفقة زوجته الدائمة، وأمّا لو شرط نفقة أولاده او غيرهم من أقربائه أو نفقة زوجته الانقطاعيّة، فلا موجب للإشكال أصلاً.

الفرع الثاني: لا كلام في أنّه يجوز أن يجعل مقداراً من المنافع لحقّ التولية،

ص: 241

وحينئذٍ فإنْ جَعل التولية لنفسه، جاز له أخذ ذلك المقدار، إذ ليس ذلك من الوقف على النفس، لعدم كون المتولّى موقوفاً عليه، بل إنّما يأخذ مقداراً من المال بإزاء تصدّيه لذلك، وتعبه في حفظ عين الوقف، وإصلاحها، وصرف منافعها في مصارفه، ومن الجائز جعله من قبيل استثناء هذا المقدار من المنافع.

وما عن المحقّق القمّي رحمه الله(1) من أنّ ذلك من قبيل الوقف على نفسه فلا يجوز، في غير محلّه.

بيان صور إمكان انتفاع الواقف

الفرع الثالث: إذا وقف الواقف على صنفٍ من الأصناف، كالعلماء أو الفقراء أو الزوّار وما شاكل، وكان منهم:

فإنْ كان المراد التوزيع عليهم، فهو بالنسبة إلى نفسه من قبيل الوقف على النفس، فلا يجوز، وإنْ كان المراد بنحو بيان المصرف - كما هو الغالب المتعارف - ففيه أقوال:

منها: جواز انتفاعه مطلقاً، ذهب إليه المشهور.

ومنها: عدم الجواز مطلقاً، ذهب إليه الحِلّي(2) والمصنّف رحمه الله في بعض كتبه(3).

ومنها: جوازه إلّامع قصد خروجه.

ومنها: جوازه مع الإطلاق، لا مع قصد الدخول أو الخروج.

والحقّ أنْ يقال: إنّ ما دلّ على بطلان الوقف على النفس لا يشمل المقام، سيّما

ص: 242


1- راجع تكملة العروة الوثقى : ج 1/200 فقد حكاه عن المحقّق القمّي.
2- السرائر: ج 3/155.
3- مختلف الشيعة: ج 6/297-198، تذكرة الفقهاء: ج 2/447 (ط. ق).

ولو شَرَط عوده

على المختار من انحصار المدرك في الإجماع، لأنّ الموقوف عليه عنوان العالم أو الفقير أو الزائر، والملحوظ جهة العلم أو الفقر أو الزيارة، ولا نظر فيه إلى الأشخاص، وعليه فالوقف صحيحٌ ، ولد خوله تحت ذلك العنوان له أنْ ينتفع بمنافعه.

ولا يقاس ذلك بالخمس، إذا كان من عليه الخمس مورداً له، حيث لا يجوز أن يأخذه، لأنّه لا يجوز الأخذ في ذلك الباب من جهة أنّه يجبُ فيه الإعطاء، ولا يصدق ذلك بأكل نفسه، وهذا بخلاف المقام.

ولا يضرّ فيه قصد الدخول، نعم لو قصد خروج نفسه، لم يجز له الانتفاع به، لأنّ الموقوف عليه هو غيره لتقيّد العنوان الموقوف عليه بذلك.

وكذا يجوز له الانتفاع بالوقف، لو وقف على إمام مسجدٍ أو على الأعلم في بلده، وكان هو الإمام في ذلك المسجد أو الأعلم في ذلك البلد، سيّما إذا لم يكن حين الوقف ثمّ صار إماماً أو أعلم، فإنّ المتيقّن من معقد الإجماع الوقف على الشخص، وأمّا الوقف على العنوان وإنْ كان منطبقاً عليه فغير مشمول له، لكن الأظهر هو الجواز.

وأولى من جميع ذلك الأوقاف العامّة على الجهات العامّة، كالمساجد والقناطر والخانات للزوّار، والمدارس لأهل العلم وما شاكل، فإنّه لا إشكال، بل ولا خلاف في جواز انتفاع الواقف بها أيضاً، فإنّ الموقوف عليه هي الجهة دون نفسه، أضف إليه أنّ عليه السيرة المستمرّة الكاشفة عن رأي المعصوم عليه السلام.

شرط عود الوقف مِلْكاً

الفرع الرابع: المشهور صحّة الوقف (و) الشرط (لو) وقفَ و (شَرَط عوده)

ص: 243

كان حبساً

إليه عند حاجته، وعن المرتضى(1) الإجماع عليه.

وذهب جماعة إلى بطلان الوقف، منهم الحِلّي(2) مدّعياً عليه الإجماع.

وقال المصنّف رحمه الله وفي المتن: (كان حبساً).

أقول: والأوّل أظهر.

أمّا على المختار من صحّة الوقف المنقطع الآخر فواضح.

أمّا على القول ببطلانه، فلأنّ هذا النحو من الوقف مرجعه إلى الوقف ما دام كونه عيناً، فيكون نظير الوقف على من ينقرض غالباً، ووقفاً إلى غاية محتملة الحصول، الذي اتّفقوا على صحّته كما يأتي.

وبعبارة أُخرى : إنّ الذي قالوا ببطلانه هو الوقف المقيّد بزمان، وأمّا الوقف المغيّا بوصفٍ من أوصاف الموقوف عليه، ككونه عادلاً، أو ما دام فقيراً، أو المغيّا بوصفٍ من أوصاف الواقف محتمل الحصول، أو الوقف على من ينقرض غالباً، فلا دليل على بطلانه، ومقتضى قوله عليه السلام: «الوقوف على حسب ما يوقفها»(3)، صحّة جميع هذه الفروض، ولا إجماع على البطلان فيصحّ .

واستدلّ للبطلان:

1 - بأنّ الشرط المذكور منافٍ لمقتضى الوقف الذي هو البقاء أبداً.6.

ص: 244


1- الانتصار: ص 468 مسألة 462.
2- السرائر: ج 2/156-157.
3- من لايحضره الفقيه: ج 4/237 ح 5567، وسائل الشيعة: ج 19/175 ح 24386.

2 - وبأنّه يرجع إلى الوقف على النفس.

3 - وبأنّه يوجب التعليق، لأنّه حينئذٍ علّقه على عدم الحاجة.

4 - وبأنّه ينافيه ما دلّ على عدم جواز الرجوع في الصدقة.

5 - وبأنّه يرجع إلى شرط الخيار، ولا يجري في الوقف خيار الشرط ولا خيار الاشتراط.

6 - وبخبر إسماعيل بن الفضل، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن الرّجل يتصدّق ببعض ماله في حياته، في كلّ وجهٍ من وجوه الخير، وقال إنْ احتجتُ إلى شيء من المال فأنا أحقّ به، ترى ذلك له وقد جعله للّه يكون له في حياته، فإذا هَلَك الرّجل يرجع ميراثاً أو يمضى صدقة ؟

قال عليه السلام: يرجع ميراثاً على أهله».

وفي نقل آخر: «وقال: إنْ احتجتُ إلى شيء من مالي أو من غلّته، فأنا أحقّ به، ألَهُ ذلك وقد جعله للّه، وكيف يكون حاله إذا هَلَك الرّجل أيرجع ميراثاً...

إلى آخره»(1).

وخبره الآخر عنه عليه السلام: «من أوقف أرضاً، ثمّ قال: إنْ احتجتُ إليها فأنا أحقّ بها، ثمّ مات الرّجل، فإنّها ترجع إلى الميراث»(2).

بتقريب: أنّ حكمه عليه السلام بالرجوع إلى الميراث بعد السؤال عن صحّة هذا الشرط وعدمها، وعن رجوعه ميراثاً وعدمه إذا شَرَط هذا الشرط في الخبر الأوّل، وبالرجوع إليه في الخبر الثاني بقولٍ مطلق من غير سبق سؤالٍ ، ظاهرٌ في بطلانه.9.

ص: 245


1- التهذيب: ج 9/146 ح 54، وسائل الشيعة: ج 19/177 ح 24390.
2- التهذيب: ج 9/150 ح 59.

ولكن الأوّل يتوجّه عليه: ما مرّ من عدم اقتضاء الوقف من حيث هو للتأبيد.

ويتوجّه على الثاني: أنّ معنى الشرط ومقتضاه عود الوقف مِلْكاً لا الانتفاع به وهو وقف.

وعلى الثالث: أنّه يكون تعليقاً لارتفاع الوقف لا لحدوثه.

وعلى الرابع: أنّه تحديدٌ لمقدار بقائه صدقة، أضف إليه أنّ الوقف بغير قصد القربة لا يكون صدقةً ، فهو أخصّ من المُدّعى ، إلّاأن يتمّ بعدم القول بالفصل.

وعلى الخامس: أنّه لا يجعل الخيار لنفسه، بل يجعل غاية للوقف، وبينهما فرقٌ واضح.

وأمّا الخبران: فربما يستدلّ بهما على الصحّة، بدعوى أنّ المراد بهما أنّه إذا شرط ذلك، ثمّ حصلت الحاجة، وعاد إليه ثمّ مات، يرجع ميراثاً ولا يبقى وقفاً.

قيل: ويؤيّده التعبير بالرجوع، فإنّه ظاهرٌ في أنّه قبل ذلك كان وقفاً، وإلّا فعلى البطلان يكون باقياً في مِلْكه، ولا معنى حينئذٍ للرجوع.

وهذا وإنْ كان أيضاً غير تامّ ، إلّاأنّه يوجب إجمال الخبرين، فلا يصحّ الاستدلال بهما.

وعليه، فالأظهر صحّة الوقف والشرط.

أقول: وأمّا القول بصحّته حبساً كما في المتن، فلا وجه له سوى اعتبار الدوام في الوقف، إذ حينئذٍ لا يمكن وقوعه وقفاً، وإنّما يقع حبساً من جهة أنّ قصد هذا المعنى قصدٌ لحقيقة الحبس، ولا يضرّ اعتقاد كونه وقفاً بعد إنشاء ما هو حبس حقيقة.

فإنْ قيل: إنّ مقتضى الوقف خروجُ المال عن مِلك الواقف، ومقتضى الحبس

ص: 246

بقائه في ملكه، فهما متباينان، فكيف يُحكم بتحقّق أحدهما مع قصد تحقّق الآخر؟

قلنا: إنّ الخروج عن الملك في الوقف، وعدم خروجه في الحبس، لا يكونان داخلين في مفهوميهما، بل هما من آثار التأبيد وعدمه، كما سيجيء، ولكنّه مردودٌ بما مرّ من عدم اعتبار الدوام في الوقف، سيّما بنحوٍ يوجب بطلان هذا الوقف.

وعلى المختار من كونه وقفاً، لا إشكال في أنّه إذا لم تحصل الغاية، ولم يرجع المال إليه، يبقى على وقفيّته، ولا يرجع بالموت ميراثاً، وكذا على القول بصحّته حبساً.

أقول: ولكن المحكيّ عن المحقّق القمّي رحمه الله(1) أنّه بعد اختياره كونه حبساً، قال:

أنّه يرجع بالموت إلى الورثة، وإنْ لم تتحقّق الحاجة، وأسنده إلى جماعةٍ من العلماء.

ولعلّ نظره الشريف:

1 - إلى أنّ الحبس حيث لا يكون مستلزماً للخروج عن ملك الحابس، فبموته ينتقل أصل المال إلى الورثة حسب سائر أمواله، وحيث أنّ منافعه والتسلّط على المال من حين الموت للورثة، فحبس المورث وتمليكه المنفعة من ذلك الزمان تصرّفٌ في ملك الغير فيكون باطلاً.

2 - أو يكون إلى إطلاق الخبرين.

ولكن الأوّل: مندفعٌ بما مرّ في كتاب الإجارة، من أنّ المالك يملك العين ومنفعتها المرسلة اللّاموقّتة بحال حياته، فله تملكيها.

وأمّا الخبران: فقد مرَّ أنّهما مجملين.

وعليه، فالأظهر عدم عوده ميراثاً مع عدم تحقّق الحاجة.3.

ص: 247


1- حكاه عنه في تكملة العروة الوثقى: ج 1/203.

ولو جعله إلى أمدٍ أو لمن ينقرض غالباً

الوقف على من ينقرض غالباً

الفرع الخامس: (ولو جعله إلى أمدٍ، أو لمن ينقرض غالباً) صَحّ الوقف وقفاً في الموردين.

أمّاالأوّل: فلما مرّ من عدم اعتبار الدوام في الوقف.

وأمّا الثاني: فلأنّه لو سُلّم البطلان في الأوّل، لا مجال للبناء عليه فيه، إذ الإجماع المدّعى على بطلان الوقف المنقطع، إنّما هو في الموقّت إلى مدّة، فلا يشمل المقام.

أضف إليه أنّ الصحيحين المتقدّمين في مسألة شرطيّة الدوام دالّان عليه، أمّا على ماذكرناه في تقريب الاستدلال بهما على المختار فبالإطلاق، وأمّا على القول الآخر فبالظهور.

أقول: ثمّ إنّ المصنّف رحمه الله استدلّ على صحّته وقفاً في محكي «المختلف»(1):

1 - بأنّ الوقف نوعُ تمليكٍ وصدقة، فيتبع اختيار المالك في التخصيص وغيره.

2 - وبأنّ تمليك الأخير ليس شرطاً في تمليك الأوّل، وإلّا لزم تقدّم المعلول على علّته.

3 - وبالخبر الوارد في وصيّة فاطمة عليها السلام حيث جعلت أمر صدقاتها إلى أولادها مع احتمال الانقراض(2).

ص: 248


1- التهذيب: ج 9/144 ح 603، وسائل الشيعة: ج 19/198 ح 24424.
2- مختلف الشيعة: ج 6/303.

رجع إلى ورثة الواقف

ويرد الأخير: أنّه لعلّها كانت عالمة بعدم الانقراض، مع أنّه ليس في الخبر كونه وقفاً، بل ظاهره الوصيّة.

ويرد على ما قبله: بأنّ من يدّعي بطلانه وقفاً إنّما يقول به من جهة كون الدوام شرطاً، ولا يلزم من ذلك كون تمليك الأخير شرطاً، بل اللّازم بيان المصرف الآخر ليتحقّق الدوام.

وبه يظهر ما في الأوّل.

وعليه، فالصحيح ما ذكرناه.

أقول: ثمّ إنّه على القول ببطلانه وقفاً، يصحّ حبساً، لما مرّ من أنّه لا حقيقة له سوى إيقاف العين في مدّة معيّنة، ولا إشكال ولا خلافٍ في أنّه على تقدير كون الوقف على من ينقرض أو إلى أمد حبساً، أنّه بعد الانقراض وانتهاء الأمد (رجع إلى ورثة الواقف) أو نفسه، لأنّه لم يخرج من الأوّل عن ملكه، ويتعيّن رجوعه إلى ورثة الواقف حين موته.

وأمّا على القول بصحته وقفاً:

فإنْ قلنا بأنّه لا يخرج العين عن ملك الواقف، فالحكم واضحٌ ، لأنّها ملك للواقف، فإنْ مات تنتقل إلى ورثته.

وإنْ قلنا بخروجها عن ملكه، فحيث أنّ الإخراج إخراج إلى مدّة أو غاية، وليس إخراجاً دائميّاً، فبعد مضيّ المدّة وحصول الغاية ترجع إلى الواقف، فإنْ كان

ص: 249

حَيّاً وإلّا فتنتقل منه إلى ورثته.

ثمّ هل المدار على ورثة الواقف حين موته، أو ورثته حين الانقراض ؟

قولان، أقواهما الأوّل.

أمّا إذا قلنا بعدم خروج المال عن ملكه بالوقف فواضحٌ .

وأمّا على القول بخروجه عن ملكه، فلأنّه إنّما يخرج في مدّة محدودة واقعاً، علم بها أم لم يعلم، فهو في تلك المدّة للعين من بعد تلك المدّة بالملكيّة، نظير الوجوب المعلّق، فعند موته ينتقل تلك إلى ورثته، وعلى هذا لو وقفَ على ولديه، وبعد موته ماتَ أحد الولدين عن ولدٍ قبل الانقراض، يشترك مع الولد الباقي ابنُ أخيه لتلقّيه من أبيه.

***

ص: 250

وأن يكون عيناً

شرائط الموقوف

القسم الثاني: شرائط الموقوف، (و) هي اُمور:

الشرط الأوّل: (أنْ يكون عيناً):

1 - فلا يصحّ وقف المنفعة، كأن استأجر داراً عشرين سنة وأراد أن يجعل منفعتها - وهي قابليّتها لأن يُسكن فيها - وقفاً مع بقاء العين على ملك مالكها طلقاً.

2 - ولا وقف الدين، كما إذا كان له على الغير عشر شياة مثلاً، فإنّه لا يصحّ أن يجعلها وقفاً قبل قبضها من ذلك الغير.

3 - وكذا لا يصحّ وقف الكلّي في الذمّة، أي ذمّة الواقف نفسه.

بلا خلافٍ في شيء من تلكم، وعن «الغنية»(1) دعوى قيام الإجماع في الأولين، وفي «الجواهر»(1) دعوى اتّفاق الأصحاب على الجميع ظاهراً.

4 - ولا وقف المبهم، وعن «الغنية»(3) الإجماع عليه أيضاً، فالكلام في مواضع:

الموضع الأوّل: في وقف المنفعة:

والظاهر تماميّة ما أفادوه من عدم صحّة وقفها، لأنّ الوقف كما عرفت عباره عن تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة، وهذا لا يتصوّر في المنفعة، لأنّ الانتفاع بها إنّما يكون بإتلافها، فلا يتصوّر فيها تحبيس الأصل، إذ الأصل حينئذٍ هي المنفعة.

ص: 251


1- جواهر الكلام: ج 28/14.

الموضع الثاني: في وقف الدَّين:

كما لو كان له دينٌ على غيره فأراد وقفه، فاستدل لعدم صحّة وقفه:

1 - بالأصل، واختصاص الأدلّة كتاباً وسُنّةً بغيره بحكم الصراحة في بعضٍ ، والتبادر في آخر، والشكّ في دخوله في الوقف.

2 - وبأنّ الوقف يقتضي أصلاً يحتبس، وذلك يقتضى أمراً خارجيّاً يحكم عليه بالتحبيس، والدين في الذمّة أمرٌ كلّي لا وجود له في الخارج، فوقفه قبل التعيين كوقف المعدوم.

3 - وبأنّ الماهيّة الكليّة لمّا لم يكن لها وجودٌ في الخارج، لم يكن الموقوف موجوداً حال العقد، فكان في معنى وقف المعدوم وإنْ وجد بعد ذلك.

أقول: ولكن الأصل لا مورد له مع وجود الإطلاق، واختصاص الأدلّة جميعها بغيره ممنوعٌ جدّاً، بل بعض الأخبار مطلقٌ شاملٌ له أيضاً، والوقف وإنْ كان يقتضي أصلاً يحتبس، لكن كما يكون الكلّي في الذمّة مملوكاً للغير ومالاً ويقع عليه البيع، كذلك وقوع الوقف عليه، فكما يُملك ما في الذمّة للغير كذلك يُحتبس عليه.

ودعوى: أنّه يعتبر في الوقف الإقباض، والكلّي غير قابلٍ لذلك.

مندفعة أوّلاً: بأنّه لووقف على صنفٍ يكون من عليه الدين واحداً منهم يكون ذلك قبضاً للكلّي بكليّته كما في هبته.

وثانياً: أنّه حيث يكون وجود الفرد عين وجود الكلّي فيكتفي بقبض فردٍ منه، فإنّه قبض للكلّي.

وإلى هذا نظر الشهيد رحمه الله(1) حيث قال - في بيع السَلَم قبل القبض على غير من0.

ص: 252


1- نقله عنه الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 3/250.

هو عليه - إنّ العقد إذا كان متعلّقه ماهيّة كليّة، ثمّ عيّنت في عينٍ شخصيّة، أنصبّ العقد عليها وكانت كأنّها المعقود عليها ابتداءً ، والماهيّة الكليّة غير المتّصفة بنحوٍ من أنحاء التحقّق لا يصحّ وقفها قطعاً، ولكن الكلام في الكلّي المتحقّق في الذمّة الذي تعرضه الملكيّة، ويقع عليه البيع وما شاكل، وهو ليس كالمعدوم المطلق كي لايصحّ وقفه.

فإذاً لا دليل على بطلان وقف الكلّي في الذمّة سوى الإجماع.

نعم، لا يصحّ وقف ما في ذمّة الواقف، بأنْ يُراد إثبات الموقوف في ذمّته بنفس الوقف، وهو واضح.

الموضع الثالث: في وقف المبهم، والمراد به:

إنْكان هو المردّد غير العين واقعاً، فعدم صحّة وقفه واضح، فإنّه لا تحقّق للمردّد.

وإنْ كان هو المعيّن في الواقع المجهول عند الواقف، فيشهد لعدم صحّة وقفه ما دلّ على نفي الغَرر، بناءً على عدم اختصاصه بالبيع، وبشموله لكلّ عقدٍ وإيقاع.

وإنْ كان الجهل به غير مستلزمٍ للغَرر، كما لو وقف إحدى الدارين المتساويتين من جميع الجهات، فلادليل على بطلان وقفه سوى إجماع «الغنية»، وهو كما ترى .

أقول: بما ذكرناه يظهر حكم وقف إحدى الدارين مثلاً بنحو التخيير، بأنْ يكون أمر تعيينه بيد الواقف أو بالقرعة.

كما ظهر أنّه لا إشكال في وقف الكلّي في المعيّن، كوقف مائة ذراع مثلاً من القطعة المعيّنة من أرض، لعدم الإشكال في صحّة بيعه، والإجماع على بطلان وقف الكلّي غير شامل له.

ولا يخفى أنّه كما يصحّ وقف العين المعيّنة الخارجيّة، كذلك يصحّ وقف المشاع،

ص: 253

مملوكة

والظاهر أنّه لاخلاف في صحّته، والأخبار الدالّة على جواز التصدّق بالمشاع الشامل للوقف شاهدة به، مضافاً إلى العمومات والمطلقات.

الشرط الثاني: أنْ تكون العين الموقوفة (مملوكة):

فلا يصحّ وقف ما لا يملكه المسلم كالخنزير، سواءٌ وقفه على المسلم أو الكافر، وكذا لا يصحّ وقف الحُرّ وماشاكل، وهذا واضح.

إنّما الكلام في وقف ما لايملكه الواقف فعلاً، وإنْ كان مملوكاً لغيره:

فذهب جماعة منهم المحقّق في «الشرائع»(1)، والمصنّف رحمه الله في «الإرشاد»(2)و «القواعد»(3) و «التحرير»(4)، والشهيد الثاني في «المسالك»(5) على ما حكي إلى الصحّة، لأنّه عقدٌ صادر من أهله، صحيح العبارة، واقعٌ في محلّه، قابلٌ للنقل، وقد أجازه المالك، فيصحّ كغيره من العقود.

وعن جماعةٍ : القول بالبطلان أو الميل إليه، منهم المصنّف رحمه الله في بعض كتبه(6)، والشهيد الثاني في «الروضة»(7)، وفخر الإسلام(8)، وقوّاه سيّد «الرياض»(9)،).

ص: 254


1- شرائع الإسلام: ج 2/444.
2- إرشاد الأذهان: ج 1/451.
3- قواعد الأحكام: ج 2/393.
4- تحرير الأحكام: ج 3/294 (ط. ج).
5- مسالك الأفهام: ج 5/322.
6- تذكرة الأحكام: ج 2/431 (ط. ق).
7- الروضة البهيّة: ج 3/176.
8- إيضاح الفوائد: ج 2/389.
9- رياض المسائل: ج 9/299 (ط. ج).

واستدلّ له:

1 - بأنّ عبارة الفضولي لا أثر لها، وتأثير الإجازة في ما عدا محلّ النّص المختصّ بالبيع والنكاح غير معلوم.

2 - وبأنّ الوقف فكّ ملك في كثير من موارده، ولا أثر لعبارة الغير فيه.

3 - وبأنّه يعتبر في الوقف القُربة، وهي بملك الغير غير حاصلة، ونيّة المجيز لها حين الإجازة غير نافعة، إمّا لاشتراط المقارنة بالصيغة، وهي في الفرض مفقودة، أو لأنّ تأثير نيّته لها بعدها وإفادتها في الصحّة غير معلومة، وعليه فالأصل بقاء الملكيّة إلى أن يعلم الناقل، وهو بما قرّر غير معلوم.

ولكن يتوجّه على الأوّل: ما تقدّم في كتاب البيع(1) من كون صحّة المعاملة الفضوليّة إنّما تكون على القاعدة لا للنّص الخاص، وهي شاملة للوقف أيضاً.

وعلى الثاني: أنّ العقد الصادر من الفضولي إذا أجازه المالك، يستند إليه، ويكون كالعقد الصادر عنه، بلا فرقٍ في ذلك بين كون أثره الملكيّة أو فكّ الملك أو الزوجيّة أو غيرها.

وعلى الثالث أوّلاً: النقض بوقف الوكيل.

وثانياً: بالحَلّ ، وهو ما مرّ من عدم اعتبار القُربة فيه، وعلى فرض اعتبارها تكفي نيّة القُربة حين الإجازة التي بها يُستند الوقف إلى الواقف، ولادليل على اشتراط مقارنتها للصيغة.

وعليه، فالأظهر صحّته.1.

ص: 255


1- فقه الصادق: ج 23/131.

ينتفع بها مع بقائها، وإنْ كانت مشاعةً

الشرط الرابع: إمكان أن (ينتفع بها مع بقائها وإنْ كانت مشاعة):

فلا يصحّ وقف الأطعمة والفواكه ونحوها ممّا يكون الانتفاع به إتلافاً له، لأنّ الوقف عبارة عن تحبيس الأصل، قالوا: (ولا يعتبر في الانتفاع به كونه في الحال، فيصحّ وقف ما لا منفعة فيه إلّابعد مدّة، كما يجوز بيعه).

وهل يعتبر طول زمان المنفعة، فلايصحّوقف وردٍ أو ريحانٍ ، أم لايعتبر؟ قولان:

الأكثر على الأوّل، وهو الأظهر، لإطلاق الأدلّة، ولا ينافي ذلك اعتبار التأبيد على القول به، لأنّ المراد به مدّة عمر الشيء كما هو واضح.

وذكروا في عداد شرائطها إمكان إقباضه، ولكن اشتراط الإقباض في الوقف كما مرّ يُغني عن ذلك.

***

ص: 256

وجواز تصرّف الواقف

شرائط الواقف

القسم الثالث: شرائط الواقف:

(و) جمعها المصنّف رحمه الله في قوله: (جواز تصرّف الواقف)، فلا يجوز وقف الصبي، والمجنون، والمكرَه، والمفلّس، والسَّفيه، بلا خلافٍ في شيء من ذلك، بل عليها الإجماع في محكي «الغنية»(1)، وتشهد بها أدلّة الحَجر المتقدّمة في بابه.

نعم، في خصوص وقف الصبي البالغ عشر سنين خلافٌ بين الأصحاب:

فبين من صحّحه كالطوسي(2)، والمفيد(3)، والإسكافي(4) والتقي(5) وغيرهم.

ومن أفسده كسلّار(6)، والحِلّي(7)، والمحقّق(8)، والمصنّف(9)، والشهيدين(10).

وفي «الرياض»: (ولعلّه عليه كافّة المتأخّرين، وربما يستفاد من «الغنية»(11)

ص: 257


1- الغنية: ص 296.
2- النهاية: ص 546، قوله: (وإذا أتى على الغلام عشر سنين، جاز عتقه وصدقته إذا كان على جهة المعروف).
3- المقنعة: ص 667-668.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/391.
5- الكافي في الفقه: ص 364.
6- المراسم: ص 206.
7- السرائر: ج 3/206.
8- شرائع الإسلام: ج 2/444.
9- مختلف الشيعة: ج 6/393.
10- مسالك الأفهام: ج 5/323.
11- الغنية: ص 296، قوله: (أن يكون الواقف مختاراً مالكاً للتبرّع).

الإجماع عليه)(1). انتهى.

مستند البطلان: أدلّة الحَجر.

واستدلّ للصحّة: بالنصوص الواردة في جواز صدقته، بناءً على أنّ المراد بها ما يشمل الوقف:

منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا أتى على الغلام عشر سنين، فإنّه يجوز له ما في ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصى على حَدٍّ معروف فهو جائز»(2).

ومنها: موثّق جميل بن درّاج، عن أحدهما عليه السلام: «يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عَقَل، وصدقته ووصيّته وإنْ لم يحتلم»(3).

ومنها: موثّق الحلبي ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن صدقة الغلام ما لم يحتلم ؟

قال عليه السلام: نعم، إذا وضعها في موضع الصدقة»(4).

ونحوها غيرها.

والإيراد عليها: بمخالفتها للقواعد والاحتياط والأصل كما ترى .

أقول: ولكن يرد على الاستدلال بها أنّ كون المراد بالصدقة المعنى الأعمّ غير ظاهر، والمتيقّن منها الصدقة بالمعنى الأخصّ .

وعليه، فالأظهر عدم صحّة وقفه، نعم إذا أوصى بالوقف صَحّ عنه وقف الوصيّ ، لكنّه خارجٌ عن محلّ الكلام.

***1.

ص: 258


1- رياض المسائل: ج 9/304 (ط. ج).
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4/197 ح 5451، وسائل الشيعة: ج 19/362 ح 24764.
3- التهذيب: ج 9/182 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/212 ح 24450.
4- التهذيب: ج 9/182 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/212 ح 24451.

و وجود الموقوف عليه

شرائط الموقوف عليه

القسم الرابع: ويدور البحث فيه عن شرائط الموقوف عليه، (و) هي اُمور:

الشرط الأوّل: (وجود الموقوف عليه)، فلا يصحّ الوقف على المعدوم، كما لو وقف على ابن زيدٍ بتخيّل أنّ له إبناً، فتبيّن عدمه، والمشهور عدم جواز الوقف على من سيوجد، بل ظاهرهم الإجماع على عدم جوازه، وعلّلوه بأنّ الملكيّة صفةٌ وجوديّة تستدعي محلّاً موجوداً.

وأُورد عليه في ملحقات «العروة»(1):

أوّلاً: بالنقض بما إذا كان تبعاً لموجود، فإنّهم يجوّزونه، كما إذا وقف على أولاده الموجودين، ومن سيوجد منهم، وكما في سائر البطون اللّاحقة.

وثانياً: بأنّه لافرق في عدم المعقوليّة بين كون المالك معدوماً أو المملوك، مع أنّهم يجوّزون تمليك الكلّي في الذمّة، ويجوّزون تمليك المنافع وليست موجودة، بل تستوفي شيئاً فشيئاً، ويجوّزون الوصيّة بما تحمله الجارية أو الدابّة.

وثالثاً: أنّه لا إشكال في جواز الوقف على الحجّاج والزوّار مع عدم وجود زائرٍ أو حاجّ حين الوقف، وكذا الوقف على طلّاب مدرسة معيّنة مع عدم وجودهم فيها حاله، وكذا الوقف على إمام مسجد مع عدم إمام له بالفعل، والوقف

ص: 259


1- تكملة العروة الوثقى: ج 1/209.

على فقراء قريةٍ مع عدم وجود فيها فعلاً، وهكذا.

ورابعاً: أنّ الوقف ليس تمليكاً.

وخامساً: أنّ الملكيّة من الاُمور الاعتباريّة، فوجودها عين الاعتبار العقلائي، وليست كالسواد والبياض والاُمور التي تحتاج إلى محلّ خارجي، بل يكفيها المحلّ الاعتباري.

ويتوجّه على ما أفاده أوّلاً: أنّ الوقف للمعدوم بتبع الموجود إنّما يكون بالوقف له بعد وجوده، ولا يكون المال وقفاً له بالفعل، بل هو بالفعل وقف للموجود.

فإنْ قيل: يلتزم به في المقام أيضاً.

قلنا: إنّه يلزم منه التعليق المُجمع على بطلانه.

وعلى ما أفاده ثانياً: أنّ ما في الذمّة ليس معدوماً صرفاً، بل له تحقّق اعتباري، وهو يكفي في عروض الملكيّة له، وهذا بخلاف المعدوم المطلق، والمنفعة ليست عبارة عن استيفاء المنتفع الذي هو من أعراضه، بل عبارة عن الحيثيّة القائمة بالعين الموجودة بوجودها على نحو وجود المقبول بوجود القابل، فمنفعة الدابّة حيثيّة كونها صالحة لأن تُركب، وهذه إنّما تصير فعليّة بالاستيفاء الذي هو عبارة عن الانتفاع، ومن المعلوم أنّ تلك الحيثيّة متحقّقة بتحقّق العين، ولذا يجوز تمليك المنفعة المرسلة للغير.

ويتوجّه على الرابع: أنّ الوقف ليس تمليكاً للعين، ولكنّه تسبيلٌ للمنفعة على الموقوف عليه، فإذا لم يكن مورداً للتسبيل لم يكن وقفاً.

وعلى خامس ما أفاده: أنّه لا إشكال في أنّ الملكيّة من الاُمور الاعتباريّة، ولا

ص: 260

تحتاج في اعتبارها إلى معروض خارجي، ولكنّها تتوقّف على أنْ يكون لها طرف في اُفق الاعتبار، والمعدوم بقول مطلق لا يصلح لذلك.

والحقّ أنْ يقال: إنّ حقيقة الوقف هو تحبيس الأصل، وفي ذلك لا حاجة إلى وجود الموقوف عليه، وتسبيل المنفعة ولو كان التسبيل بنحو جعل المنفعة بعدما يوجد لا بجعلها له بالفعل، فإنّه لا أرى فيه محذوراً، والظاهر أنّه في الوقف على الحجّاج والزوّار وما شاكل يكون من هذا القبيل.

لا يقال: إنّ ذلك يكون تعليقاً مجمعاً على بطلانه.

لأنّه يتوجّه عليه: أنّ تعليق الوقف من تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة كليهما على أمرٍ متأخّر موجبٌ للبطلان للإجماع، وأمّا إذا كان التحبيس فعليّاً والتعليق إنّما يكون في تسبيل المنفعة، فلا إجماع على بطلانه.

فإنْ قيل: إنّه يعتبر في الوقف القبض، والمعدوم لا يتصوّر فيه القبض.

قلنا: إنّه يمكن أن يقبض الحاكم أو المتولّي، مع أنّه لا فوريّة في القبض فيقبض بعد ما يوجد.

وعليه، فالأظهر صحّة الوقف على المعدوم بهذا النحو، إلّاأنْ يقوم إجماعٌ على بطلانه، والظاهر وجوده، بل ظاهرهم الإجماع(1) على عدم جواز الوقف على الحمل مستدلّين على ذلك بأنّ الوقف تمليك ولا يعقل تمليك المعدوم.

ويردّه: - مضافاً ما مرّ - أنّ الحمل موجودٌ قابل للملكيّة، واشتراط إرثه بتولّده حَيّاً ليس لعدم قابليّته للملكيّة، بل للدليل الخاص، فلا يقاس المقام به.6.

ص: 261


1- انظر: الغنية: ص 297، السرائر: ج 3/156.

أقول: ثمّ إنّ المتيقّن من بطلان الوقف على المعدوم، هو الوقف على الأشخاص، وأمّا الوقف على الأصناف كالزوّار والفقراء والعلماء وما شاكل فلا إجماع على بطلان الوقف إذا كان أشخاصها غير موجودين.

كما أنّ المتيقّن من معقد الإجماع، هو البطلان في المعدوم في أوّل الوقف، أمّا لو وقف على طبقاتٍ طوليّة، فمات الطبقة الأُولى، ولم يكن من الطبقة الثانية أحدٌ موجوداً بل وجد بعد مضيّ زمانٍ ، لا يكون الوقف باطلاً كما لا يخفى .

ولو وقف على المعدوم، ثمّ على الموجود، بطل بالنسبة إلى المعدوم، أمّا بالنسبة إلى الموجود:

فهل يبطل الوقف كما هو المشهور، أم يصحّ كما عن «المبسوط»(1) وغيره(2)؟

وجهان، ويجري الوجهان في كلّ موردٍ بدءاً بمن لا يصحّ الوقف عليه، كالوقف على نفسه وما شاكل، ثمّ بمَن يصحّ .

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ المرتبة المتأخّرة إنّما تتلقّى الوقف من المرتبة السابقة، وهو غير ممكن في الفرض.

2 - وبأنّ مراد الواقف من السلسة الطوليّة المرتب بقيد الترتيب، فلا يمكن الحكم بالصحّة في البعض دون البعض.

3 - وبأنّه إنْ حكم بصحّة الوقف للموجود من حين الوقف لزم تخلّف العقد0.

ص: 262


1- المبسوط: ج 3/293.
2- الخلاف: ج 3/544 مسألة 10.

عن القصد، وأن يقع ما لم يُقصد، ويقصد ما لايقع.

وإنْ حكم بالصحّة له بعد انقضاء مدّة المعدوم، لزم التعليق في الوقف، وهو باطلٌ بالإجماع، وإنْ حكم بصحّة الوقف لا للموجود، وإنّما يكون له بعد انقضاء مدّة المعدوم، لزم الوقف بلا موقوف عليه.

ويمكن الجواب عن الأوّل: بأنّ المرتبة المتأخّرة إنّما تتلقّى الوقف من الواقف، فإنّه الذي بجعله يصير الوقف لهم.

وعن الثاني: بأنّ المراد الواقعي لاعبرة به، وظاهر الوقف على المراتب كالوقف على جماعةٍ في عَرْضٍ واحد إنّما هو انحلال الوقف إلى أوقافٍ عديدة، كما في بيع ما يَملك وما لا يَملك وما شاكل ذلك من الموارد، فبطلان بعضها لا يوجبُ بطلان الجميع إلّاأن يقيّد في إنشائه.

وعن الثالث: بأنّه يمكن أن يلتزم بصحّة الوقف للموجود بعد انقضاء مدّة المعلوم.

ويجاب عن إشكال التعليق: بأنّ مثل هذا التعليق الناشئ من فساد الوقف بالنسبة إلى بعضٍ من دون أنْ يكون إنشاء الوقف تعليقيّاً لايوجب البطلان، كما ذكروا في بيع ما يَملك وما لا يَملك من أنّ الجهل بما يقابل ما يَملك من الثمن لايوجبُ البطلان، إذ الشرط معلوميّة الثمن المجعول في البيع، فكذلك يقال في المقام بالنسبة إلى التعليق.

وعليه، فيكون هذا من الوقف المنقطع الأوّل، فيكون صحيحاً، وفي المدّة التي كان الوقف للمعدوم يكون المال ومنافعه له.

ص: 263

وتعيينه

اشتراط تعيين الموقوف عليه

(و) الشرط الثاني: (تعيينه) فلو وقف على أحد الشخصين، أو أحد المسجدين، أو إحدى الطائفتين لم يصحّ بلا خلافٍ ، وعليه الإجماع كما عن «الغنية»(1).

وعن «المبسوط»: (الذي يقتضيه مذهبنا أنّه لايصحّ الوقف على المجهول)(2).

وحقّ القول فيه: إنّ التعيين المقابل للإبهام والترديد اعتباره عقلي، فإنّ المردّد لا وجود له ولا تحقّق، وبالمعنى المقابل للجهل كما لو كان معيّناً واقعاً مجهولاً عند الواقف، لا دليل عليه سوى الإجماع، إذ دعوى انصراف أدلّة الوقف وعدم المعهوديّة مندفعة بمنع الانصراف، وعدم المعهوديّة لايصلحُ مقيّداً لإطلاق الأدلّة.

وهل يصحّ الوقف على الجامع بين الفردين، الذي يعبّر عنه بأحدهما نظير الوقف على الأصناف ؟

الظاهر ذلك، فإنّه منها، ولعلّه المراد من الوقف على مفهوم أحدهما الذي يكون في بعض الكلمات، فلا إيراد عليه.

وكذا يصحّ الوقف على أحدهما بنحو الكلّي في المعيّن كما يصحّ بيعه، وما ذكرناه في الفرضين الآخرين إنّما هو إنْ لم يكن إجماعٌ على بطلانه كما في سابقهما.

ص: 264


1- الغنية: ص 297.
2- المبسوط: ج 3/293.

وأهليّته للتملّك، وإباحة منفعة الوقف على الموقوف عليه

(و) الشرط الثالث: (أهليّته للتملّك):

1 - فلا يصحّ الوقف على المملوك.

2 - ولا على المرتدّ الفطري، حيث إنّ أمواله لورثته.

3 - ولا على الحربيّ ، لأنّ أمواله فيءٌ للمسلمين.

أقول: لكن قد مرّ أنّ المرتدّ الفطري إنّما يخرج أمواله الموجودة حين الارتداد، وتنتقل إلى ورثته، وأمّا المتجدّدة فلا دليل عليه، مع أنّ الوقف لايستلزم التمليك، ويمكن جعله مصرفاً فإنْ لم يكن إجماعٌ فإنّه لا دليل على اعتبار ذلك أيضاً.

(و) الشرط الرابع: (إباحة منفعة الوقف على الموقوف عليه) فلايصحّ وقف آلات اللّهو، وهياكل العبادة، ولا وقف الدابّة لحمل الخمر والخنزير، والوجه في ذلك ظاهرٌ، فإنّ الوقف تحبيسٌ للأصل وتسبيلٌ للمنفعة، ولا يصحّ تسبيل المنفعة المحرّمة.

وهل يجوز الوقف على من يعلم أنّه يصرف منافع الموقوفة في المحرّمات من الزنا وشُرب الخمر؟

وجهان بل قولان، أظهرهما الجواز، ويظهر وجهه ممّا قدّمناه في البيع على من يعلم أنّه يصرف المبيع في الحرام، كبيع العنب ممّن يُعلم أنّه يجعله خمراً، وقد بسطنا القول فيه كتاب البيع(1)، وأكثر ما ذكر في وجه المنع في تلك المسألة جارية هنا، ويُضاف دعوى إنصراف الأدلّة، وأنّه تعتبر القُربة في الوقف ولا تحصل مع4.

ص: 265


1- فقه الصادق: ج 20/224.

العلم بصرفها في الحرام، وحيثُ عرفت عدم تماميّة تلك الأدلّة - وقد مرّ أيضاً عدم اعتبار القُربة في الوقف - فينحصر دليل المنع بانصراف الأدلّة، واللّه العالم.

***

ص: 266

وله جعل النظر لنفسه.

جعل الواقف النظر لنفسه

المطلب الثالث: في اللّواحق، وفيه مسائل:

المسألة الاُولى: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّ (له جعل النظر لنفسه) مادام حَيّاً أو إلى مدّةٍ ، مستقلّاً أو بالشركة.

وعن «المختلف»(1): الإجماع عليه، وفي «الرياض»: (وهو الحجّة فيه، مضافاً إلى الأصل والعمومات كتاباً وسنّةً ، خلافا للحِلّي(2)، فمنع عن صحّة هذا الشرط، وافسد به الوقف، وهو شاذٌ، ومستنده غير واضح)(3). انتهى.

أقول: وكيف كان، فيشهد له عموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالشرط(4)، بل ما دلّ على أنّ : «الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(5).

وفي «المسالك»: (الأصل في حقّ النظر أنْ يكون للواقف، لأنّه أصله وأحقّ من يقوم بإمضائه وصرفه في أهله)(6).

فهذا ممّا لا كلام فيه.

ص: 267


1- مختلف الشيعة: ج 6/300.
2- السرائر: ج 3/156.
3- رياض المسائل: ج 9/306 (ط. ج).
4- وسائل الشيعة: ج 18/16-17 باب 6 من أبواب الخيار.
5- الكافي: ج 7/37 ح 34، وسائل الشيعة: ج 19/175 ح 24387.
6- مسالك الأفهام: ج 5/324.

فإن أطلق كان لأربابه.

كما أنّه لا كلام في ما إذا جعل النظر لغيره:

1 - لما مرّ.

2 - ولما تضمّن أنّ فاطمة الزهراء عليها السلام جَعَل النظر في حوائطها السَّبعة التي وقفتها؛ لأمير المؤمنين عليه السلام ثمّ الحسن ثمّ الحسين ثمّ الأكبر من ولده(1).

3 - وما دلّ على شرط الإمام الكاظم عليه السلام النظر في الأرض التي وقفها للإمام الرضا عليه السلام(2).

4 - وللتوقيع الشريف المتقدّم: «وأمّا ما سألت من أمر الرّجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعةً يُسملّها من قيّمٍ يقوم بها، ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها، ويجعل ما بقى من الدخل لناحيتنا، فإنّ ذلك لمن جعله صاحب الضيعة، إنّما لايجوز ذلك لغيره»(3).

ولغير تلكم من الأخبار.

أقول: إنّما الكلام (ف) يما (إنْ أطلق) ولم يشترط النظر في متن العقد إلى أحدٍ:

فقد صرّح غير واحدٍ بأنّ النظر حينئذٍ (كان لأربابه)، وذكر في «المسالك» وتبعه غير واحدٍ: (أنّه يبنى الحكم هنا على انتقال الملك، فإنْ جعلناه للواقف أو الموقوف عليه مطلقاً فالنظر له، وإنْ جعلناه للموقوف عليه إنْ كان معيّناً، وللّه تعالى9.

ص: 268


1- التهذيب: ج 9/144 ح 50، وسائل الشيعة: ج 19/198 ح 24424.
2- التهذيب: ج 9/149 ح 57، وسائل الشيعة: ج 19/202 ح 24427.
3- الاحتجاج: ج 2/198، وسائل الشيعة: ج 19/181 ح 24399.

إنْ كان عامّاً، فالنظر في الأوّل إلى الموقوف عليه، وللحاكم الشرعي في الثاني، لأنّه الناظر العام حيث لا يوجد الخاص)(1).

أقول: لولا تسالمهم على لزوم كون التولية لأحدٍ، وأنّ المتولّي يتصدّى لما هو وظيفته لو كان مجعولاً من قبل الواقف، وتوقّف تصرّف الموقوف عليه على إذنه، لقلنا بعدم التولية بهذا المعنى لأحدٍ، باعتبار أنّ الانتفاع بالأوقاف لايتوقّف على إذن أحدٍ، وليس لغير الموقوف عليه التصرّف فيه، كما قاله جماعة في الأوقاف العامّة، كالخان الذي وقف لنزول الزوّار والمسافرين، والبئر التي حفرت لهم، والمعبر على المارّ لعبور الناس وما شاكل، فإنّ قصد المالك انتفاع الموقوف عليه، سواءٌ كان خاصّاً أو عامّاً، ولكن الظاهر تسالمهم عليه.

وعليه، فالظاهر كون التولية في أمثال ذلك للحاكم الشرعي لا للواقف، فإنّه بالوقف خرج المال عن تحت سلطنة، إمّا ملكاً أو طلقاً، ولا دليل على جواز تصرّفه فيه بعد ذلك، واستصحاب الجواز لايجري سيّما بعد تبدّل الموضوع، إمّا تبدّل الملك إلى عدمه، أو المِلك الطلق إلى غير الطلق، ولا للموقوف عليهم، لتعلّق حقّ البطون المتأخّرة بالمال.

نعم، لهم التصرّف في تنميته وإصلاحه، ونحو ذلك ممّا يرجع إلى انتفاعهم به، وأمّا ولايتهم على نحو ولاية المتولّي المنصوب، بحيث تمضي إجارتهم على البطون اللّاحقة مثلاً، فلا دليل عليها، بل الظاهر أنّها للحاكم الشرعي.

وليس الوجه في ثبوتها له عموم ولاية الفقيه، كي يدفع بعدم الدليل عليه، بل).

ص: 269


1- مسالك الأفهام: ج 5/324، كفاية الأحكام: ص 141، رياض المسائل: ج 9/307 (ط. ج).

الوجه فيه أنّه:

1 - لا شبهة في أنّ القضاة المنصوبين من قبل الخلفاء كانوا يتصدّون لذلك المنصب، كما يظهر لمن لاحظ أحوالهم فعلاً.

2 - ومقتضى إطلاق قوله عليه السلام في مقبولة ابن حنظلة: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً»(1).

وقوله عليه السلام في صحيحة أبي خديجة: «فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً»(2) هو ثبوت جميع مناصبهم ومنها هذا المنصب له.

وبهذا البيان يمكن أنْ يقال بثبوت التولية له في الأوقاف العامّة.

وأمّا السيرة على الانتفاع بها بدون إذن الحاكم، فالظاهر أنّها من جهة كون إذن حكّام الشرع في أمثال ذلك معلوماً.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ التولية على الأوقاف العامّة والخاصّة مطلقاً تكون للحاكم، إلّاأن يعيّن الواقف متولّياً خاصّاً.

أقول: وينبغي التنبيه على اُمور:

التنبيه الأوّل: أنّه كما للحاكم الشرعي أن يأذن غيره في التصرّف في الأوقاف، كذلك له أنْ يفوّض التولية إلى غيره، وذلك لكون إعطاء المنصب من وظائف القضاة، والفرق بين إعطاء المنصب والإذن في التصرّف، أنّه في صورة الإذن بموت المجتهد ينتقي الإذن، ولا يجوز له التصرّف بعد ذلك، وأمّا في صورة إعطاء المنصب،1.

ص: 270


1- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27 ص 136 ح 33416.
2- التهذيب: ج 6/303 ح 53، وسائل الشيعة: ج 27 ص 139 ح 33421.

فيبقى ذلك بعد موته، فإنّه في فرض الإذن يكون ما ثبتَ للمأذون من شؤون منصب المجتهد، فلا محالة ينعدم بموته، وأمّا مع إعطاء المنصب، يكون الحاكم واسطةً لإثباته بنحوٍ يكون المنصب من قِبل اللّه تعالى بجعل الحاكم، فلا وجه لانعدامه بموته، بل هو يكون باقياً.

النبيه الثاني: أنّه لا يجب القبول على من جعله الواقف متولّياً للأصل، سواءٌ كان حاضراً مجلس الوقف أم لا، وإجراء حكم الوصاية هنا لا يَخرج عن القياس حتّى مع التمسّك بالتعليل في خبرها بأنّه: «لو كان شاهداً فأبى أن يقبلها طلب غيره»(1)، فإنّه في المقام إنْ لم يقبل التولية تكون التولية للحاكم كما مرّ.

ولو قَبِل التولية، فإنّه لا يجب على المتولّين بعده قبولها، فلهم الرّد لما مرّ.

التنبيه الثالث: ليس للواقف أن يعزل المتولّي بعد قبوله مادام باقياًعلى الأهليّة، للّزوم الوفاء بالشرط.

وهل للمتولّي أن يعزل نفسه ؟ قولان، أقواهما الثاني، إذ ثبوت حقّ العزل له يحتاج إلى دليل، والأصل عدمه.

واستصحاب جواز الرّد الثابتُ له قبل القبول لا يجرى، لان المتيقّن أن له أنْ لا يقبل الولاية، والمشكوك فيه سلبها عن نفسه، فهما حكمان.

وكونه في معنى التوكيل، ويجوز للوكيل عزل نفسه، ممنوعٌ جدّاً، لأنّ الوكيل يتصرّف عن قِبل الموكّل، والمتولّي صاحبُ منصب الولاية مستقلٌّ في التصرّف.

ويمكن أن يستدلّ له: بعموم وجوب الوفاء بالشرط(2)، فإنّ هذا الشرط كمار.

ص: 271


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/196 ح 5449، وسائل الشيعة: ج 19/320 ح 24690.
2- وسائل الشيعة: ج 18/16-17 باب 6 من أبواب الخيار.

يكون للمتولّي، يكون للواقف أيضاً، فيجبُ الوفاء به لذلك.

واستدلّ له صاحب «الجواهر»: (بإطلاق الامر بالوفاء بالعقد من المتعاقدين، ومن له تعلّق بالعقد)(1).

ويردّه: أنّ الشرط خارج عن العقد، وحقيقته التزامٌ في ضمن التزام، ووجوب القيام بمقتضى النظارة مع عدم الرد، وأنّه ليس له أزيد ممّا شرط له من أقلّ من اُجرة عمله، لا يدلّان على أنّ ذلك من مقتضى العقد المفروض لزومه، كما أفاده رحمه الله، فإنّ ذلك إنّما يكون مع عدم الرّد، ولا دلالة لهما على عدم جواز الرّد.

أقول: ولو كان قد استدلّ بدليل وجوب الوفاء بالعقد(2) - باعتبار أنّ نفس جعل التولية وقبول المتولّي، سيّما مع جعل اُجرة بإزائها يصدق عليه العقد، إذ لا حقيقة للعقد سوى ربط أحد الالتزامين بالآخر الصادق على ذلك، فمقتضى عموم وجوب الوفاء بالعقد لزومه وعدم جواز رَدّه - كان أولى .

وعليه، فالأظهر لزومه من الطرفين.

وبهذا البيان يظهر أنّه لو نصب الحاكم متولّياً للوقف لا يجوز عزله ما دام بقاء الأهليّة.

التنبيه الرابع: لا إشكال في أنّه لا تشترط العدالة في الوقف إذا جعل التولية لنفسه، والظاهر أنّه المشهور، وسيّد «الرياض» رحمه الله(3) نقل فيه قولين، ولم أظفر بقائل الاعتبار، نعم توقّف فيه صاحب «الحدائق» رحمه الله(4).4.

ص: 272


1- جواهر الكلام: ج 28/22.
2- سورة المائدة: الآية 1.
3- رياض المسائل: ج 9/307 (ط. ج).
4- الحدائق الناضرة: ج 22/184.

أقول: وكيف كان، فمقتضى الأصل، وعموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالشرط عدم اعتبارها فيه.

وأمّا إنْ جعل الواقف التولية لغيره، فهل يعتبر فيه العدالة أم لا؟

ففي «الرياض» ادّعى السيّد رحمه الله(1) الاتّفاق على اعتبارها، واستدلّ له:

1 - بالإجماع.

2 - وبخبر البَجَليّ المتضمّن لصدقة أمير المؤمنين عليه السلام بماله الذي في ينبع، حيث قال في آخره بعد ذكر الحسن والحسين عليهما السلام:

«وإنْ حَدَث بحسنٍ وحُسينٍ حدثٌ ، فإنّ الآخر منهما ينظر في بني عليّ ، فإنْ وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته، فإنّه يجعله إليه إنْ شاء، وإنْ لم يرَ منهم بعض الذي يريد فإنّه يجعله في بني فاطمة، فإنْ وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته، فإنّه يجعله إليه إن شاء، فإن لم يرَ فيهم بعض الذي يريد فإنّه يجعله إلى رجلٍ من آل أبي طالب يرضى به، فإنْ وجد آل أبي طالب قد ذهب كبراؤهم وذوو آرائهم، فإنّه يجعله إلى رجلٍ يرضاه من بني هاشم...»(2).

ولكن الخبر يدلّ على أنّ أمير المؤمنين عليه السلام اشترط فيمن يجعل متولّياً على ما وقفه أنْ يكون مرضيّاً، وهذا لايستلزم اعتباره في كلّ من يجعل متولّياً، مع أنّ كونه مرضيّاً أعمٌّ من العدالة. وأمّا الإجماع فثبوته ثمّ تعبّديّته محلّ نظر.

وعليه، فالأقوى ما عن «التحرير» - وقوّاه صاحب الجواهر - من عدم اعتبارها.6.

ص: 273


1- رياض المسائل: ج 9/307 (ط. ج).
2- التهذيب: ج 9/146 ح 55، وسائل الشيعة: ج 19/199 ح 24426.

التنبيه الخامس: إذا جعل التولية لاثنين على وجه الشركة، لا ينفذ تصرّف أحدهما من دون إذن الآخر أو إجازته، كما أنّه لايجوز لهما قسمة الوقف، ولا قسمة المنافع للصرف في مصارفها، بل اللّازم اجتماعهما في جميع تلكم.

التنبيه السادس: ليس للمتولّي تفويض التولية إلى غيره، إلّاإذا كان الواقف أذن له في ضمن إجراء الصيغة.

أمّا الأوّل: فللأصل.

وأمّا الثاني: فللخبر المتضمّن لصدقة أمير المؤمنين عليه السلام.

وهل يجوز له إيكال الأمر إلى الحاكم الشرعي، مع عدم التعذّر عليه ؟ وجهان.

نعم، يجوز له توكيل الغير في التصرّف إذا لم يشترط المباشرة.

التنبيه السابع: إذا عيّن الواقف وظيفة المتولّي فهو المتعيّن، وإلّا انصرف إطلاقه إلى ما هو المتعارف من التعمير والإجارة، واستيفاءالعوض، وجمع الحاصل وقسمته على الموقوف عليهم ونحو تلكم، ولا يجوز لغيره التصدّي لذلك لقوله عليه السلام في التوقيع الشريف: «وأمّا ما سألت من أمر الرّجل الذي يجعل لناحيتنا ضيعةً فيسلّمها إلى مَنْ يقوم بها ويعمرها ويؤدّي من دخلها خراجها ومؤونتها، ويجعل مابقى من الدخل لناحيتنا، فإنّ ذلك لمن جعله صاحب الضيعة، لايجوز ذلك لغيره»(1).

وهل يعتبر إذن المتولّي في التصرّف بعد حصول المنفعة، وتعيين ما للموقوف عليه، كما أفاده الشهيد الثاني ؟ أم لا كما قوّاه سيّد «العروة»؟

أظهرهما الثاني، للأصل بعد الشكّ في شمول الدليل لذلك.9.

ص: 274


1- الاحتجاج: ج 2/198، وسائل الشيعة: ج 19/181 ح 24399.

ويَصحّ الوقف على المعدوم تبعاً للموجود، ويُصرف الوقف على البِرّ إلى الفقراء ووجوب القُرب، ولو وقف المسلم على البِيَع والكنائس بَطَل بخلاف الكافر.

المسألة الثانية: (ويصحّ الوقف على المعدوم تبعاً للموجود) كما مرّ.

المسألة الثالثة: (ويصرف الوقف على البِرّ إلى الفقراء، ووجوب القُرب) كعمارة المساجد والمدارس، وإعانة الحجّاج والزوّار، ونفع طلبة العلم وما شاكل، بل له أنْ يصرفه في مطلق نفع المسلمين وإنْ كانوا أغنياءً لكونه برّاً، ولم يدلّ على وجود تحرّي الأكمل، للأصل بعد صدق الموقوف عليه.

الوقف على الكافر

المسألة الرابعة: (ولو وقف المسلم على البيعَ والكنائس) أي معابد اليهود والنصارى (بَطل) الوقف بلا خلافٍ ، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، لأنّ الوقف عليهما وقفٌ على جهةٍ خاصّة من مصالح الكفّار، غير مشروعة، لأنّ ما يصنع فيهما عبادات محرّمة وكفر، وقد مرّ اعتبار حليّة المنفعة.

أقول: وبذلك يظهر أنّ قولنا بجواز الوقف على الكافر نفسه لاينافي ذلك، ولكن هذا في وقف المسلم (بخلاف الكافر)، فإنّه لو وقف عليهما يصحّ كما هو المشهور، إقراراً له على دينه، مع أنّه لابدّ له من معبد(2).

ص: 275


1- انظر شرائع الإسلام: ج 2/445، مسالك الأفهام: ج 5/334، رياض المسائل: ج 9/311 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 22/72-75 باب 30 من أبواب مقدّمات الطلاق، وج 26/157-159 باب 4 من أبواب ميراث الاخوة والأجداد، وج 26/319 باب 3 من أبواب ميراث المجوس.

ويبطلُ على الحَربيّ وإنْ كان رحماً لا الذّمي وإن كان أجنبيّاً.

والإشكال فيه: من جهة عدم تمكّن الكافر من قصد القُربة.

مندفعٌ : بعدم اعتبار قصد القربة أوّلاً، وتمشّي قصد القربة من الكافر ثانياً وإنْ لم يحصل له التقرّب.

المسألة الخامسة: (و) في وقف المسلم على الكافر أقوال:

أحدها: أنّه (يبطل على الحربيّ وإنْ كان رحماً، لا الذّمي وإنْ كان أجنبيّاً) اختاره المصنّف رحمه الله هنا، والمحقّق في «الشرائع»(1) و «النافع»(2).

ثانيها: الجواز في الرّحم دون غيره.

ثالثها: الجواز في الأبوين دون غيرهما.

رابعها: الجواز مطلقاً.

خامسها: المنع كذلك.

أقول: مقتضى إطلاق أدلّة الوقف والعقد الجواز مطلقاً، ويشهد به أيضاً قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ) (3)، وما دلّ على الترغيب في البِرّ والإحسان، وجواز الصدقة على الكافر(4).

واستدلّ للمنع:ة.

ص: 276


1- شرائع الإسلام: ج 2/445.
2- المختصر النافع: ص 157.
3- سورة الممتحنة: الآية 8.
4- وسائل الشيعة: ج 16/285-292 وص 294-296 باب 1 و 3 من أبواب فعل المعروف، وج 9/408-410 وص 413-416 باب 19 و 21 من أبواب الصدقة.

1 - بأنّ مال الحربي فيءٌ للمسلمين يصحّ أخذه وبيعه، ولا يجب دفعه إليه، لأنّه غير مالك، ومال المرتدّ الفطري مِلكٌ لورثته، وقد مرّ اعتبار أهليّة التملّك في صحّة الوقف.

2 - وبقوله تعالى : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ ) (1).

أقول: ولكن الأوّل قد تقدّم ما فيه عند ذكر شرائط الموقوف.

وأمّا الثاني: فيرد على الاستدلال به:

أوّلاً: ما ذكره جماعة(2) من أنّ النهي عن الموادّة إنّما هو من حيث كونه يحادّ اللّه ورسوله، وإلّا لحرم اللّطف والإكرام.

وثانياً: أنّه يقيّد إطلاق هذه الآية السابقة.

أضف إلى ذلك كلّه ما ورد في الأرحام من الأمر بصلة الرَّحم(3)، وفي الأبوين من الأمر بمصاحبتهما في الدُّنيا معروفاً(4).

وعليه، فالأظهر هو الجواز مطلقاً.

فيما يتعلّق بألفاظ الوقف

المسألة السادسة: قد ظهر ممّا بيّناه أنّ شرائط الواقف التي شرطها في متن العقد تكون معتبرة، ولا يجوز تغييرها ولا تبديلها إذا لم تكن مخالفة للشرع ولا لمقتضى الوقف.

ص: 277


1- سورة المجادلة: الآية 22.
2- كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 5/332.
3- الكافي: ج 2/155 باب صلة الرّحم.
4- سورة لقمان: الآية 15.

وينصرف وقف المسلم على الفقراء إلى فقراء المسلمين، والكافر إلى فقراء ملّته. وعلى المسلمين إلى المصلّي إلى القبلة، وعلى المؤمنين أو الإماميّة إلى الإثنى عشريّة، وكذا كلّ منسوبٍ إلى من انتسب إليه.

وعليه، فتجبُ مراعاة ما يدلّ عليه اللّفظ الواقع في كلام الواقف من حيث العموم والخصوص، وحيث أنّ استكشاف المراد كما يكون بإلقاء اللّفظ الموضوع لمعنى عامٍ بلا قرينةٍ ، فإنّه يُستكشف منه بحسب قانون المحاورة أنّ المراد المعنى العام، كذلك قد يكون بواسطة القرائن الحاليّة والمقاليّة على إرادة المعنى الخاص، وفي مثل ذلك لا وجه لملاحظة المعنى الموضوع له، فإنّ الميزان مراد الواقف.

وبهذا يظهر أنّ القرائن المنضمّة المفيدة للظهور لها التقدّم، ثمّ العرف الخاص مقدّمٌ على العرف العام، وهو مقدم على اللّغة.

(و) يترتّب على هذا أنّه (ينصرف وقف المسلم على الفقراء إلى فقراء المسلمين، والكافر إلى فقراء ملّته) لأنّ لفظ (الفقراء) وإنْ كان عامّاً لأنّه جمعٌ محلّى باللّام، إلّاأنّ شاهد الحال قرينة على الاختصاص.

(و) لو وقف (على المسلمين) انصرف (إلى المصلّي إلى القبلة) مطلقاً، وعن الحِلّي: (الاختصاص بالمحقّين إذا كان الواقف محقّاً، لشهادة الحال، والانصراف إلى أهل مذهبه)(1)، وهو كما ترى .

(و) لو وقف (على المؤمنين أو الإماميّة) انصرف (إلى الإثني عشريّة، وكذا كلّ مسنوبٍ إلى من انتسب إليه).ظ.

ص: 278


1- السرائر: ج 3/160، مع اختلاف يسير في الألفاظ.

ولو نَسب إلى أبٍ

وعن جماعةٍ من القدماء(1): أنّه لو وقف على المؤمنين، اختصّ بالعدول منهم، لأنّ المستفاد من جملةٍ من النصوص(2): «أنّ الايمان عبارة عن الإقرار باللِّسان، والتصديق بالجنان، والعمل بالأركان».

وأُورد عليهم: بأنّ جملةً أُخرى (3) تدلّ على أنّه عبارة عن الإقرار باللّسان، والتصديق بالجنان، والجمع بحمل الأولى على الفرد الأكمل أولى من الجمع بتقييد الثانية بالأُولى .

أقول: ويتوجّه على الاستدلال وجوابه ما مرّ من أنّ العرف العام مقدّمٌ على اللّغة، ولا شبهة في أنّ الإيمان في العرف العام للأعمّ ، ومعه لا عبرة بما فُسِّر به الإيمان في النصوص.

وأيضاً: لا إشكال (و) لا خلاف في صحّة الوقف (لو نُسب إلى أبٍ ) كما لو قال:

(وقفتُ لبني فلان)، لإطلاق الأدلّة، ولخصوص مكاتبة عليّ بن محمّد بن سليمان النوفلي، قال:

«كتبتُ إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام أسأله عن أرضٍ وقفها جدّي على المحتاجين من ولد فلان ابن فلان، وهم كثيرٌ متفرِّقون في البلاد؟

فأجاب عليه السلام: ذكرتَ الأرض التي وقفها جدّك على فقراء ولد فلان، وهي لمن حَضَر البلد الذي فيه الوقف، وليس لك أن تتبّع من كان غائباً»(2).6.

ص: 279


1- كالشيخ في النهاية: ص 597-598، والقاضي في المهذّب: ج 2/89، وابن حمزة في الوسيلة: ص 371. (2و3) الكافي: ج 2/27 ح 1.
2- الكافي: ج 7/38 ح 37، وسائل الشيعة: ج 19/193 ح 24416.

كان لمن انتسب إليه بالأبناء، وفي البنات قولان. ولو شرك استوى الذّكور والإناث ما لم يفضَّل، والقوم أهلُ لغته،

وعليه، فلا إشكال في أنّه (كان لمن انتسب إليه بالأبناء).

(و) أمّا (في البنات قولان):

المشهور عدم دخول أولاد البنات، وإنْ قلنا إنّهم أولاده، واستدلّوا له بأنّ الحكم المعلّق على الانتساب غير الحكم المعلّق على الوليد، والأوّل لا يشمل من انتسب إليه بالبنات.

ولكن الظاهر من الانتساب إلى الشخص بحسب المتفاهم العرفي، أعمٌّ من الانتساب إليه من طريق الإبن أو البنت.

(ولو شرك استوى الذّكور والإناث مالم يفضَّل) لأنّ التفضيل في الإرث لايلازم التفضيل في هذا المقام.

(و) لو وقف على (القوم) بمعنى أنّه أخذ هذا العنوان في وقفه كما لو قال:

(وقفتُ على قومي)، انصرف إلى (أهل لغته) على المشهور بين الأصحاب وإنْ اختلفوا في الإطلاق كما في المتن، أو «النافع»(1)، وعن الديلمي(2)، أو التقييد بالذكور منهم خاصّة دون الإناث، كما عن الشيخين(3)، والقاضي(4)، وغيرهم(5).9.

ص: 280


1- المختصر النافع: ص 158.
2- المراسم: ص 202.
3- المقنعة: ص 655.
4- المهذّب: ج 2/91.
5- كإبن زُهرة في الغنية: ص 299.

وخالف في أصل الحكم الحلبي(1) - فأوجبَ الرجوع إلى المعلوم من قصده مع إمكانه، وإلّا فإلى المعروف في ذلك الإطلاق عند موته - والحِلّي(2) فصَرَفه إلى الرِّجال من قبيلته ممّن يطلق العرف بأنّه أهله وعشيرته دون من سواهم.

أقول: قد استدلّ لما هو المشهور:

1 - بالإجماع، وقد ادّعاه السيّد ابن زُهرة(2).

2 - وبما عن الحِلّي(4)، و «التنقيح»(3) أنّ به رواية.

فإنْ تمّ الإجماع، وإلّا فالظاهر تماميّة ما أفاده الحلبي، وإنْ كان يبقى الإشكال حينئذٍ فيما إذا لم يعلم المعروف في ذلك الإطلاق عند موته.

ولا يبعد أظهريّة ما أفاده الحِلّي في هذا الفرض، فينصرف إلى عشيرته وإنْ كانوا من أهل لغةٍ أُخرى غير لغته.

وأمّا التقييد بالذكور: فقد استدلّ له:

1 - بقوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ ) (4).

2 - وبقول الشاعر:

وما أدري وسوف أخالُ أدري أقومٌ آل حصن أم نساء1.

ص: 281


1- الكافي في الفقه: ص 327. (2و4) السرائر: ج 3/164.
2- الغنية: ص 299.
3- يظهر ذلك من السرائر: ج 3/163.
4- سورة الحجرات: الآية 11.

والعشيرة الأقرب في النسب، والجار لمن يلي داره أربعين ذراعاً.

(و) لو وقف على (العشيرة) انصرف إلى الخاص من قومه، وهم (الأقرب في النسب) كما عن الشيخين(1)، والديلمي(2)، والقاضي(2)، والحِلّي(3)، لأنّ ذلك ينساق إلى الذهن عند إطلاقها.

مضافاً إلى ما قيل من ورود رواية بذلك.

نعم، لابدّ وأن يقيّد بما إذا لم يعلم من قصده الأعمّ أو الأخصّ .

(و) لو وقف على (الجار):

فعن جماعةٍ منهم المحقّق في «النافع»(4)، والمصنّف في جملةٍ من كتبه(5): أنّ المرجع هو العرف.

وعن الشيخين(6)، والقاضي(7)، والحلبي(8)، والديلمي(10)، والكيدري(9)، وابني حمزة(10) وزُهرة(11)، والحِلّي(12): أنّه (لمن يلي داره إلى أربعين ذراعاً)،3.

ص: 282


1- المقنعة: ص 655، النهاية: ص 599. (2و10) المراسم: ص 202 و 201.
2- المهذّب: ج 2/91.
3- السرائر: ج 3/164.
4- المختصر النافع: ص 158.
5- قواعد الأحكام: ج 2/392، تذكرة الفقهاء: ج 2/439 (ط. ق).
6- المقنعة: ص 653، النهاية: ص 599.
7- المهذّب: ج 2/91.
8- الكافي في الفقه: ص 326.
9- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 9/58 (ط. ق).
10- الوسيلة: ص 371.
11- الغنية: ص 299.
12- السرائر: ج 3/163.

وهو مختار الماتن هنا، وعن «الغنية»(1) دعوى قيام الإجماع عليه.

وقيل: إنّه إلى أربعين داراً، وهو مختار صاحب «الحدائق» رحمه الله(2).

وجه الأوّل: ماتقدّم من أنّه المحكّم إذا لم يكن للواقف عرفٌ خاص، وفُقِدت القرائن المفيدة لغير ما هو المفهوم من اللّفظ عرفاً.

وجه الثاني: ما عن «الخلاف»(3) من نسبته إلى روايات أصحابنا وإجماعهم.

وجه الثالث: نصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح جميل - أو حسنه - عن أبي جعفر عليه السلام: «حَدّ الجوار أربعون داراً من كلّ جانبٍ ، من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله»(4).

ومنها: خبر عمرو بن عكرمة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«كلّ أربعين داراً جيرانٌ ، من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله»(5).

ونحوهما غيرهما.

ولكن يتوجّه على وجه الثالث: - مضافاً إلى إعراض الأصحاب عن هذه النصوص - أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه أنّها حقيقة شرعيّة، وهي معتبرة في الألفاظ الواردة عن الشرع، مثل ما دلّ (6) على تأكّد حضور المسجد لجاره، واستحباب حسن الجوار(7) وما شاكل، دون الألفاظ المتداولة بين أهل العرف واللّغة المستعملة .

ص: 283


1- الغنية: ص 299.
2- الحدائق الناضرة: ج 22/210.
3- الخلاف: ج 4/152 كتاب الوصايا، مسألة 25.
4- الكافي: ج 2/669 ح 2، وسائل الشيعة: ج 12/132 ح 15855.
5- الكافي: ج 2/669 ح 1، وسائل الشيعة: ج 12/132 ح 15856.
6- وسائل الشيعة: ج 5/194-196 باب 2 من أبواب أحكام المساجد من كتاب الصَّلاة.
7- وسائل الشيعة: ج 12/128-129 باب 87 من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحجّ .

وسبيل اللّه كلّ ما يُتقرّب به إليه، والموالي الأعلون والأدنون. ولا يتبع كلّ فقيرٍ في الوقف على الفقراء، بل يُعطى أهل البلد منهم ومن حضره،

في مجعولات الناس كالوقف والنذر والحلف وماشاكل، فإنّ المعيار كما مرّ هو العرف الخاص، ثمّ العام، وسِرّه ما تقدّم.

وعلى وجه الثاني: أنّ الإجماع لعلّه من جهة ما ذكره بعضهم بموافقته لمقتضى العرف والعادة، والروايات لم تصل إلينا.

وبالجملة: فالأظهر هو الأوّل.

(و) لو وقف على (سبيل اللّه)، جاز صرفه في (كلّ ما يتقرب به إليه) كما لايخفى .

والقول باختصاصه بالجهاد، كما عن ابن حمزة(1)، أو بقسمته أثلاثاً: ثلثٌ للغزاة، وثلثٌ للحجّ ، وثلثٌ للعمرة كما عن الشيخ(2)، لا دليل عليه.

ولو كان له مولى عتاقة - أي المولى من الأعلى وهو المعتِق له - ومولى نعمة - أي المولى من الأسفل، وهو عتيقه.

(و) لو وقف على (الموالي) كان المراد بها (الأعلون والأدنون).

فرع: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (لا يُتبع كلّ فقيرٍ في الوقف على الفقراء، بل يُعطى أهل البلد منهم ومن حضره) فإنّ الظاهر من حال من يقف على الفقراء - مع كونهم كثيرين متفرّقين في البلاد لا يمكن استقصائهم - ذلك.

نعم، لو علم من حال الواقف أنّه وَقَف على الجهة، كان له أنْ يصرفه في غير أهل بلده.2.

ص: 284


1- الوسيلة: ص 371.
2- الخلاف: ج 3/545 كتاب الوقف، مسألة 12.

ومن صار منهم جاز له أن يأخذ معهم.

مسائل: الاُولى: إذا بطلت المصلحة الموقوف عليها صُرِف إلى البِرّ.

ولو أراد صرفه فيهم، جاز له تخصيص بعضهم به، ولا يجبُ تتبّع الجميع.

كما أنّه لو علم في الفرض الأوّل من حاله عدم إرادة العموم، وإرادة الجهة، لا يجب عليه إلّاالصرف في فقراء بلده، من دون أن يجب عليه تتبع الجميع، وكذا لو وقف على فقراء قبيلة معيّنة.

وأمّا مكاتبة عليّ بن محمّد بن سليمان المتقدّمة: «في أرضٍ وقفت على المحتاجين من ولد فلان، وهم كثيرون متفرّقون في البلاد؟

قال عليه السلام: وهي لمن حضرالبلد الذي فيه الوقف، وليس لك أن تتبع من كان غائباً»(1).

فلا تنافي ما ذكرناه، لأنّ المفروض فيها كون المحتاجين من تلك القبيلة كثيرين متفرّقين في البلاد، فهو قرينة على إرادة الوقف لفقرائهم الموجودين في البلد، ولا تدلّ على لزوم تتبّع الحاضرين في البلد أو عدمه، فالمتّبع ما بيّناه.

(و) كيف كان، فقد ظهر ممّا أسلفناه في مسألة الوقف على النفس أنّه (من) وَقَف على عنوانٍ عام وجهةٍ عامّة، و (صار منهم)، أو كان منهم حين إنشاء الصيغة (جاز له أنْ يأخذ معهم).

إذا بطلت المصلحة الموقوف عليها

أقو: بقي في المقام (مسائل) لابدّ من التعرّض لها:

المسألة (الأُولى: إذا بطلت المصلحة الموقوف عليها) فالمشهور أنّه ي (صرف إلى البِرّ)، بل لاخلاف فيه ظاهراً، وإنْ كان قول المحقّق في «النافع»: (وقيل يصرف إلى

ص: 285


1- الكافي: ج 7/38 ح 37، وسائل الشيعة: ج 19/193 ح 24416.

البِرّ)(1)، مشعراً بتردّده فيه.

نعم، فصّل صاحب «المسالك»(2) بين ما لوكان الوقف على مصلحة تنقرض غالباً فيجري عليه حكم منقطع الآخر، وبين ما إذا كانت ممّا يدوم غالباً، فالمتّجه ما ذكره المشهور، وبين ما يكون مشتبه الحال ففي حمله على أيّ الجهتين نظرٌ.

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ المِلْك قد خرج عن ملك الواقف، فعوده يحتاج إلى دليل مفقود في المقام، والأصل بقائه على الوقفية، وحيث لا يمكن صرفه في المصلحة المعيّنة فيصرف في وجوه البِرّ.

2 - وبأنّ الوقف على المصلحة في الحقيقة وقفٌ على المسلمين، وتعذّر المصرف الخاص لا يوجبُ بطلانه بعد أنْ كان قصده الصرف فيما يكون مصلحة لهم.

أقول: ويمكن أن يوجّه هذان الوجهان بنحوٍ يسلمان عمّا أُورد عليهما، فنقول:

إنّ الواقف بحسب ارتكازه حينما يوقف ما يكون باقياً بعد فوات المصلحة الموقوف عليها إلى الأبد، يقصد بذلك أن تكون العين الموقوفة محبوسة على المصلحة المعيّنة مع وجودها، وإمكان الصرف فيها وإلى مصلحةٍ أُخرى من مصالح المسلمين مع عدم إمكانه، وعليه فإذا بطلت المصلحة الموقوف عليها، كان لازم قوله عليه السلام:

«الوقوفُ تكون على حسب ما يوقفها أهلها»(3) صرفها في مصلحة أُخرى .

وعلى الجملة: جعل الشيء وقفاً إلى الأبد، ورفع المالك يده عنه وحبسه7.

ص: 286


1- المختصر النافع: ص 158.
2- مسالك الأفهام: ج 5/347.
3- الكافي: ج 7/37 ح 34، وسائل الشيعة: ج 19/175 ح 24387.

مستمرّاً ما دام كونه باقياً، يوجبُ التوسعة في المصلحة الموقوف عليها، ويكون حبسه بالنحو الذي ذكرناه.

أقول: وبهذا البيان يندفع ما أُورد على الوجهين المزبورين بأنّ المفروض أنّه قصد الخصوصيّة، فلا يبقى العام بعد فواتها، وإلّا أمكن أنْ يقال في الوقف على أولاد زيد مثلاً إذا انقرضوا، أنّ قصده كان الإحسان إلى جماعةٍ معيّنة، وإذا تعذّر يصرف إلى قُربةٍ أُخرى كما في ملحقات «العروة»، فإنّ الفرق إنّما جاء من قبل دوام الوقف وعدمه.

كما أنّه بما ذكرناه يظهرمدرك لزوم مراعاة الأقرب إلى المصلحة الباطلة فالأقرب.

أقول: وربما يستدلّ بالأخبار المتفرّقة المستفاد من مجموعها أنّ كلّ مالٍ تعذّر صرفه فيما عيّن مورداً معيّناً لصرفه يصرف في وجوه البِرّ.

منها: خبر محمّد بن الريّان، قال: «كتبتُ إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن إنسانٍ أوصى بوصيّة فلم يحفظ الوصي إلّاباباً واحداً منها، كيف يصنع بالباقي ؟

فوقّع عليه السلام: الأبواب الباقية اجعلها في وجوه البِرّ»(1).

ومنها: خبر عليّ بن زيد صاحب السّابري، قال:

«أوصى إليّ رجلٌ بتركته، فأمرني أن أحجّ بها عنه، فنظرتُ في ذلك فإذا هي شيءٌ يسير لا يكفي للحجّ ، فسألت أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة، فقالوا: تصدّق بها عنه - إلى أنْ قال - فلقيتُ جعفر بن محمّدٍ عليهما السلام في الحِجْر - إلى أنْ قال - فقال: ما صنعت ؟ قلت: تصدّقت بها.0.

ص: 287


1- التهذيب: ج 9/214 ح 21، وسائل الشيعة: ج 19/393 ح 24830.

قال عليه السلام: ضمنتَ إلّاأن لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكّة، فإنْ كان لا يبلغ ما يحجّ به من مكّة، فليس عليك ضمان، وإنْ كان يبلغ ما يحجّ به من مكّة فأنتَ ضامن»(1).

ونحوهما غيرهما.

وتؤيّده النصوص(2) الكثيرة الواردة في إهداء الجارية للكعبة، أو الوصيّة به، أو نذر الجارية لها، أو الوصيّة بألف درهمٍ للكعبة، الدالّة على أنّه تباع الجارية ويُصرف ثمنها على الحاجّ المنقطعين، وكذا تُصرف الدراهم عليهم، وربما يستدلّ بها للمطلوب، ولكن في الاستدلال بها له نظراً واضحاً، إلّاأنّ ذكرها تأييداً كما صنعه سيّد «الرياض» رحمه الله لابأس به، هذا كلّه مع بطلان المصلحة.

وأمّا إذا جهل المصرف فلا يُحكم بالبطلان بلا كلام، فحينئذٍ:

إنْ كان الترديد مع انحصار الأطراف، يوزّع عليهم كما هو الشأن في المال المردّد بين الشخصين.

وإنْ كان مع عدم الانحصار:

فإنْ كان الترديد بين الجماعات، كأن لم يعلم أنّه وَقَف على العلماء أو الزوّار أو غيرهم جرى على منفعته حكم المال المجهول مالكه فيتصدّق به.

ويشهد به - مضافاً إلى إطلاق أخبار المجهول المالك -: خبر أبي عليّبن راشد، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام قلت: جُعلت فداك اشتريتُ أرضاً إلى جنب ضيعتي بألفي درهم، فلمّا وفّرت المال خُبّرت أنّ الأرض وقفٌ؟ .

ص: 288


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4/207 ح 5482، وسائل الشيعة: ج 19/349 ح 24742.
2- وسائل الشيعة: ج 13/247-254 باب 22 من أبواب مقدّمات الطواف من كتاب الحجّ .

الثانية: لو شرط إدخال من يوجد مع الموجود صَحّ .

فقال عليه السلام: لا يجوزُ شراء الوقف، ولا تدخل الغِلّة في ملكك، ادفعها إلى من اُوقفت عليه.

قلت: لا أعرف لها ربّاً؟ قال عليه السلام: تصدّق بغلّتها»(1).

وإنْ كان بين الجهات كأن لم يعلم أنّه وَقَف على المدرسة، أو على المسجد، أو على القنطرة، أو نحو ذلك من الجهات، صُرِف في وجوه البِرّ غير الخارج عن أطراف الترديد.

حكم تغيير الوقف عن هيئته

المسألة (الثانية: لو شرط إدخال من يوجد مع الموجود صَحّ ) بلا خلافٍ ، سواءٌ أكان الوقف على أولاده أو غيرهم.

واستدلّ له في «المسالك»(2) وغيرها(3): بأنّ هذا الشرط لاينافي مقتضى الوقف، فإنّ بناءه على جواز إدخال من سيوجد وسيولد مع الموجود، واشتراط إدخال من يريد إدخاله في معناه، فيبقى الوقف على أصله، فإذا جاز الأوّل اتّفاقاً جاز الآخر كذلك أو بطريق أولى ، ولا يضرّ نقصان حصّة الموقوف عليه، إذ هو لازمٌ في كلّ موردٍ يُضمّ المعدوم إلى الموجود.

وفيه: أنّه بناءً على كون الشرط خارجان عن العقد - كما هو الحقّ - الفرق بين الشرط المذكور والوقف على الموجود ومن سيوجد ظاهرٌ، فإنّه بالشرط يغيّر

ص: 289


1- الكافي: ج 7/37 ح 35، وسائل الشيعة: ج 19/185 ح 24405.
2- مسالك الأفهام: ج 5/368-369.
3- كما في جواهر الكلام: ج 28/76.

الوقف عمّا وقع عليه، بخلاف تلك المسألة.

أقول: فالأولى أن يستدلّله مضافاً إلى عموم ما دلّ عليوجوب الوفاءبالشرط(1) -:

1 - بأنّ مقتضى الوقف المشروط بالشرط المذكور، دخول من شُرط دخوله، فيشمله قوله عليه السلام: «الوقوفُ على حسب ما يوقفها أهلها»(2).

وإنْ شئتَ قلت: إنّ مرجع الشرط المذكور إلى أخذ عنوانٍ في الموقوف عليه، فكما أنّه لا إشكال فيما إذا قال: (وقفتُ على أولادي الفقراء)، وأنّه إذا كان بعض ولده غنيّاً لم يكن داخلاً في الموقوف عليهم، ثمّ صار فقيراً شاركهم، كذلك في الوقف مع الشرط المذكور.

2 - وبخبر أبي طاهر البلالي، قال: «كتبَ جعفر بن حمدان: استحللتُ بجاريةٍ - إلى أنْ قال - ولي ضيعة قد كنتُ قبل أن تصير إلى هذه المرأة سبلتها على وصاياي وعلى سائر ولدي، على أنّ الأمر في الزيادة والنقصان منه إلى أيّام حياتي، وقد أتت بهذا الولد فلم ألحقه في الوقف المتقدّم المؤبّد، وأوصيتُ إنْ حدَث بي حدثُ الموت أن يجري عليه ما دام صغيراً، فإنْ كَبُر اُعطي من هذه الضيعة حملة مائتي دينار غير مؤبّد، ولا تكون له ولا لعقبه بعد إعطائه ذلك في الوقف شيءٌ ، فرأيك أعزّك اللّه ؟

فورد جوابه - يعني من صاحب الزمان عليه السلام -: أمّا الرّجل الذي استحلّ بالجارية - إلى أنْ قال - وأمّا إعطائه المائتي دينار، وإخراجه من الوقف فالمال ماله فَعَل فيه ما أراد»(3).

فإنّ ظاهره جواز تغيير الوقف مع الشرط.3.

ص: 290


1- الوسائل ج 18 باب 6 من ابواب الخيار ص 16-17.
2- الكافي: ج 7/37 ح 34، وسائل الشيعة: ج 19/175 ح 24387.
3- كمال الدين: ص 500 ح 25، وسائل الشيعة: ج 19/184 ح 24403.

ولو أطلق وأقبض لم يصحّ .

(ولو أطلق وأقبض لم يصحّ ) تغييره بالإخراج أو الإدخال أو التشريك أو غير ذلك، لأنّ الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها، وبعد تماميّة الوقف ولزومه لايجوز تغييره.

ولكن في خصوص الوقف على أولاده الأصاغر خلافاً:

فعن الشيخ في «النهاية»(1) أنّه إذا وقف على أولاده الأصاغر جاز أن يشترط معهم من يتجدّد له من الأولاد، وإنْ لم يشترط ذلك في العقد.

وعن القاضي(2) موافقته بشرط عدم تصريحه بإرادة الاختصاص، ووافقه الشهيد الثاني رحمه الله(3).

لكن المشهور(4) منعوا عن ذلك.

أقول: منشأ الاختلاف هو اختلاف النصوص، فإنّها طائفتان:

الأُولى : مايدلّ على ما هو المشهور، كصحيح علي بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام:

«عن الرّجل يتصدّق ببعض ماله على بعض ولده، ويبيّنه لهم، ألَهُ أنْ يُدخل معهم من ولده غيرهم بعد أن أبانهم بصدقة ؟

قال عليه السلام: ليس له ذلك إلّاأن يشترط أنّه من ولد له، فهو مثل من تصدّق عليه، فذلك له»(3).0.

ص: 291


1- النهاية: ص 596.
2- المهذّب: ج 2/89. (3و4) مسالك الأفهام: ج 5/371.
3- التهذيب: ج 9/137 ح 22، وسائل الشيعة: ج 19/183 ح 24400.

وظهوره في الصدقة الجارية أي الوقف لا يُنكر.

الطائفة الثانية: مايدلّ على ماذهب إليه الشيخ رحمه الله:

منها: صحيح علي بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل يتصدّق على بعض ولده بطرفٍ من ماله، ثمّ يبدو له بعد ذلك أن يدخل معه غيره من ولده ؟

قال عليه السلام: لابأس بذلك»(1).

ونحوه خبر محمّد بن سهل، عن الرضا عليه السلام(2).

ومنها: صحيح ابن الحجّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرّجل يجعل لولده شيئاً وهم صغار، ثمّ يبدو له أنْ يجعل معهم غيرهم من ولده ؟

قال عليه السلام: لابأس»(3).

ومنها: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن رجل تصدّق على ولده بصدقة، ثمّ بدا له أنْ يُدخل غيره فيه مع ولده، أيصلح ذلك ؟

قال عليه السلام: نعم، يصنع الوالد بمال ولده ما أحبّ ، والهبة من الولد بمنزلة الصدقة من غيره»(4).

وقد جمع الشهيد الثاني رحمه الله(5) بين الطائفتين بحمل الأُولى على صورة التصريح بالاختصاص، والثانية على صورة الإطلاق، بدعوى أنّه الظاهر من قوله عليه السلام:

«يبيّنه»، وقوله عليه السلام: «بعد أن أبانهم».1.

ص: 292


1- التهذيب: ج 9/137 ح 22، وسائل الشيعة: ج 19/183 ح 24400.
2- التهذيب: ج 9/136 ح 21، وسائل الشيعة: ج 19/183 ح 24401.
3- الكافي: ج 7/31 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/183 ح 24402.
4- قرب الإسناد: ص 285 ح 1126، وسائل الشيعة: ج 19/184 ح 24404.
5- مسالك الأفهام: ج 5/371.

ولو شرط نقله بالكليّة، أو إخراج من يريد بطل الوقف،

وربما يُجمع بحمل النفي في الأُولى على الكراهة.

فالحقّ أنْ يقال: إنّ صحيح ابن الحجّاج غير ظاهر في الوقف، إذ ليس فيه أن ما يجعل لهم من باب الوقف والصدقة، وخبري عليّ بن جعفر ومحمّد بن سهل(1)ضعيفان سنداً، فيبقى صحيح عليّ بن يقطين، وهو:

أوّلاً: غير مختصّ بالصغار.

وثانياً: أعمٌّ من الصحيحة الأُولى من جهة الإقباض وعدمه، والأوّل مختصٌّ بتلك الصورة لأنّ ظاهر قوله عليه السلام: «أبانهم بصدقة» إرادة الإقباض، فيقيّد إطلاقه به.

بذلك يظهر ما في الجمعين المذكورين، وعليه فالأظهر ما هو المشهور.

(ولو شرط نقله بالكليّة، أو إخراج من يريد، بطل الوقف) عند الأكثر، بل عليهما الإجماع في كثيرٍ من الكلمات(2).

أقول: يقع الكلام في موردين:

المورد الأوّل: فيما لوشرط نقل الوقف بالكليّة عن الموقوف عليهم إلى من سيوجد، فقد سمعتَ دعوى الإجماع على بطلان الوقف بذلك، ولكن:

عن «القواعد»(3): الإشكال فيه.

وعن «الدروس»(4): اختيار جوازه.0.

ص: 293


1- انظر رجال النجاشي: ص 367 رقم 996.
2- انظر مسالك الأفهام: ج 5/368، كفاية الأحكام: ص 141.
3- قواعد الأحكام: ج 2/390.
4- الدروس: ج 2/270.

وفي محكي «التذكرة»: (لو قال: هذا وقفٌ على أولادي سنةً ثمّ على المساكين، صَحّ إجماعاً).

وفيه أيضاً: (لو قال: هذا وقفٌ على أولادي مدّة حياتي، ثمّ بعد مماتي للمساكين، صَحّ إجماعاً)(1).

لكن أفتى في المقام بالبطلان.

وعن «جامع المقاصد»: توجيه الفرق بين المسألتين: (بأنّ الوقف في المثال الأوّل لم يكن على الأولاد بل على الفقراء منهم، فإذا زال الفقر ينتقي الموقوف عليهم، فكان ذلك جارياً مجرى موتهم وعدمهم، بخلاف ما إذا ثبت الوقف لهم، وشرط نقله عنهم، فإنّ ذلك إبطالٌ للوقف باختياره)(2).

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ للبطلان في هذه المسألة:

تارةً : بما ذكره المحقّق الثاني رحمه الله، وحاصله أنّ هذا الشرط بمنزلة شرط الخيار الممنوع بالإجماع.

واُخرى : بأنّه شرطٌ منافٍ لمقتضى الوقف، إذ وضعه على اللّزوم.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ الممنوع بالإجماع اشتراط أنْ يكون له فسخ الوقف بحيث يرجع إلى ملكه، وأمّا هذا النحو من الانفساخ المستلزم لحبسه على غيرهم، فلا دليل على المنع عنه، وإطلاق أدلّة الشروط يوجب صحّته.

ويرد على الثاني: أنّ مقتضى الوقف بدون الشرط، كون الموقوف وقفاً على الموقوف عليهم، ومع الشرط يكون مقتضاه بمتقضى قوله عليه السلام: «الوقوف عليحسب2.

ص: 294


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/434 (ط. ق).
2- جامع المقاصد: ج 9/32.

الثالثة: نفقة المملوك على الموقوف عليه،

ما يوقفها أهلها»، انتقاله إلى غيره، كما لو وقف على أولاده الفقراء ثمّ على غيرهم، فإنّه بانتفاء الفقر ينتقل منهم إلى غيرهم.

وعلى الجملة: الفرق بين اشتراط الانتقال إلى غيرهم، وبين أخذ عنوانٍ في الموقوف عليهم مستلزمٌ للانتقال، غيرُ ظاهرٍ، فمقتضى الأدلّة صحّة الوقف.

وبما ذكرناه يظهر الحال في شرط الإخراج، فإنّه يجري فيه ما ذكرناه في هذا المورد، فلو لم يكن إجماعٌ في الموردين، كان الحقّ هو البناء على الصحّة.

مصارف تعمير الأملاك الموقوفة

المسألة (الثالثة: نفقة المملوك) كالدّابة الموقوفة (على الموقوف عليه) بناءً على انتقال العين الموقوفة إلى الموقوف عليه، لما دلّ على وجوب نفقة المملوك على مالكه(1)، وعلى الواقف إنْ قلنا ببقائها على ملك الواقف.

ودعوى: انصراف ما دلّ على وجوب نفقة المملوك على مالكه عن مثل هذا المالك الذي صار مثل الأجنبي، ممنوعة.

وإنْ قلنا بخروجها عن ملك الواقف، وعدم دخولها في ملك الموقوف عليه، كما هوالأظهر، فقد يستدلّ لوجوب نفقتها على الموقوف عليه، بما دلّ على وجوب حفظ النفس المحترمة والمال المحترم.

وفيه أوّلاً: أنّه لادليل على ذلك في غير الآدمي، ولذا لا يجب التقاط الحيوان إذا خاف عليه التلف.

ص: 295


1- وسائل الشيعة: ج 21 باب 4 و 13 و 14 من أبواب النفقات كتاب النكاح ص 515 وص 528-529، وج 11 باب 9 من أبواب أحكام الدواب كتاب الحجّ ص 478-481.

ولو أقعد انعتق، وكانت نفقته على نفسه، ولو جَنى الموقوف عليه لم يبطل الوقف إلّابقتله قصاصاً، ولو جُني عليه كانت القيمة للموقوف عليه.

وثانياً: أنّ الوجوب من هذه الجهة لا يختصّ بالموقوف عليه، بل يجب على عامّة المكلّفين كفائيّاً.

ويمكن أن يستدلّ له: بأنّ العين أمانة شرعيّة في يد الموقوف عليه، فيجب حفظها، وهو متوقّفٌ على تعليفها وسقيها، ولا يبعد دعوى كون الشرط الضمني في ضمن عقد الوقف ذلك.

وأمّا مصارف تعمير الأملاك الموقوفة ومؤونة إصلاحها للاستنماء بها، وما تحتاج إليه في بقائها، مع عدم تعيين الواقف، فتكون من نمائها مقدّماً على حقّ الموقوف عليهم.

نعم، لهم أن يعطوا عوضه من غيره، وإذا لم يف بها لم تجب على أحدٍ، كما قالوا، ولكن لا يحضرني الآن وجهٌ يستند إليه لتقديم مصارف تعمير الأملاك الموقوفة على حقّ الموقوف عليهم، سوى الشرط الضمني الذي عليه بناء الواقف حين الوقف، فإنّه إذا وقف داراً أبداً على الفقراء أو العلماء أو غيرهم، لا محالة يكون المرتكز في ذهنه صرف مقدارٍ من نمائها ومنفعتها في تعميرها، حيث إنّه من المعلوم أنّه لو لم يصرف في تعميرها لانهدمت بعد مدّة قليلة، وخرجت عن قابليّة الانتفاع بها، وكفى بذلك مدركاً.

(ولو) كان المملوك عبداً و (أقعد انعتق، وكانت نفقته على نفسه، ولو جَنى الموقوف عليه لم يبطل الوقف إلّابقتله قصاصاً، ولو جُني عليه كانت القيمة للموقوف عليه).

ص: 296

الرابعة: لو وقف على أولاده، اشترك أولاد البنين والبنات، الذكور والإناث.

ولو قال: من انتسب إليَّ ، فهو لأولاد البنين خاصّة على قول.

الخامسة: كلّ ما يشترطه الواقف من الأشياء السّائغة لازمٌ .

المسألة (الرابعة: لو وقف على أولاده، اشترك أولاد البنين والبنات، الذكور والإناث) عند المصنّف وجماعة(1).

أقول: ولكن المشهور بين الأصحاب أنّه ينصرف إلى أولاده الصُّلبي، فلا يشمل أولاد الأولاد، لا أولاد البنين، ولا أولاد البنات.

واستدلّ للأوّل: بصدق الولد على ولد الولد.

ويدفعه: أنّه لا يكفي صدقه بما له من المعنى اللّغوي، بل الميزان صدقه بما هو المفهوم منه عرفاً كما مرّ، ومع عدم القرينة لا يبعد انصرافه إلى الصُّلبي.

نعم، لو قال: (وقفتُ على أولاد أولادي) كان المنساق منها إلى الذهن الأعمّ من الطبقة الثانية ومن يليهم من الطبقات.

وكيف كان، فالميزان هو الفهم العرفي.

(ولو قال: من انتَسَب إليَّ ، فهو لأولاد البنين خاصّة على قولٍ ) قد تقدّم قريباً في مسألة ما لو وقف على من نَسب إلى أب. فراجع.

المسألة (الخامسة: كل ما يشترطه الواقف من الأشياء السائغة لازمٌ ) لعموم وجوب الوفاء بالشرط(2).ة.

ص: 297


1- كالمحقّق في شرائع الإسلام: ج 2/448، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 9/90.
2- وسائل الشيعة: ج 18/16-17 باب 6 من أبواب الخيار كتاب التجارة.

السادسة:

حكم استيجار الأرض لتُجعل مسجداً

المسألة (السادسة): يجوز استيجار الأرض لأنْ تُجعل معبداً ومصلّى للناس، لأنّ ذلك منفعة محلّلة يجوز الإجارة لها، وهل تصير وقفاً لو وقف ؟

الأظهر عدمه، لما مرّ من أنّه لا يصحّ وقف المنفعة، ويعتبر في الموقوف أنْ يكون عيناً.

وهل يصحّ جعلها مسجداً ويصبح بذلك مسجداً يترتّب عليه أحكامه من حرمة التنجيس، ومكث الجنب والحائض، وما شاكل أم لا؟

الأظهر هو الثاني، لأنّ المسجديّة من العناوين الاعتباريّة العقلائيّة الممضاة شرعاً، ومورد الاعتبار نفس الأرض، وهي التي تتشرّف بكونها متحيّثة بحيثيّة كونها بيت اللّه تعالى ، وهذا لا يكون في المنفعة.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: نفس قابليّة الأرض لأن تُجعل مسجداً منفعة محلّلة تقع عليها الإجارة، فتُجعل الأرض مسجداً، مع أنّ المسجد اسمٌ للموقوف مؤبّداً كما عن «جامع المقاصد»(1)، ولذلك بنينا على أنّ عنوان المسجديّة غير قابل للزوال، فالأرض الّتي صارت مسجداً تكون مسجداً إلى الأبد.

وما في ملحقات «العروة»(2) تبعاً للمحقّق الأردبيلي(3) من أنّه لا دليل على

ص: 298


1- جامع المقاصد: ج 9/82.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 1/247 مسألة 27.
3- مجمع الفائدة والبرهان: ج 2/160، فإنّه بعد ذكره المسألة قال: (والظاهر عدم جواز التغيير).

أنّ المسجد لايخرج عن المسجديّة أبداً، غير تامّ .

وأيضاً: ما أفاده السيّد رحمه الله في «العروة» في كتاب الإجارة من أنّه (إذا قصد عنوان المسجديّة، لا مجرّد الصَّلاة فيه، كانت المدّة طويلة كمائة سنة أو أزيد لايبعد ذلك، لصدق المسجد عليه حينئذٍ)(1).

في غير محلّه، إذ لو اعتبر الدوام في المسجديّة، فلا مورد للإجارة المذكورة، وإلّا فلا وجه لاعتبار أنْ تكون المدّة طويلة.

ومع الإغماض عن جميع ما ذكرناه، فإنّ الشكّ في أنّه هل يصحّ جعل الأرض التي استؤجرت لأن تُجعل مسجداً، وهل يتحقّق هذا العنوان بذلك أم لا؟ كافٍ في البناء على عدم التحقّق، وعدم ترتّب آثار المسجد عليها، ومع ذلك فالمسألة مشكلة، والاحتياط طريق النجاة.

الشكّ في اعتبار قيدٍ في الموقوف عليه

المسألة السابعة: في الأوقاف العامّة إذا شكّ في اعتبار قيدٍ أو خصوصيّة في الموقوف عليهم يكون هو فاقداً له، كما لو شكّ في مدرسةٍ أنّها وقفٌ على مطلق المشتغلين، أو خصوص العدول منهم، أو على من لا مسكن له، أو نحو ذلك، فهل يجوز له أنْ يسكن فيها أم لا يجوز إلّاإذا كان واجداً لذلك القيد؟ قولان.

استدلّ للجواز: بقوله عليه السلام:

1 - «كلّ شيء يكون فيه حلالٌ وحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه، فتدعه»(2)، ونحوه غيره، بدعوى أنّ وقف المدرسة فيه حلالٌ ، وهو ما لم

ص: 299


1- العروة الوثقى: ج 5/99.
2- من لايحضره الفقيه: ج 3/341 ح 4208، وسائل الشيعة: ج 17/87 ح 22050.

يقيّد بقيدٍ، وحرامٌ وهو ما قُيّد بقيدٍ مفقودٍ فيه، فيحكم بجواز التصرّف ما لم يعلم حرمته.

2 - وبأنّ الأصل عدم الاشتراط، فأصل الوقف للمشتغلين مثلاً معلومٌ ، وتقيّده بقيد مفقود فيه مرتفعٌ بالأصل، فالموضوع متحقّقٌ بضمّ الوجدان بالأصل، ويترتّب عليه حكمه، وهو جواز التصرّف.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّه إنّما يدلّ على ثبوت الحلية فيما شكّ في حليّته وحرمته، فهو أصلٌ غير محرزٍ، ومن الثابت في محلّه حكومة الأصل التنزيلي وهو الاستصحاب عليه، وهوفي المقام يقتضي عدم الجواز لأصالة عدم الوقف بنحو يشمله.

وبعبارة أُخرى : أصالة حرمة التصرّف في الأموال حتّى يثبت المجوّز.

وعلى الثاني: أنّ أصالة عدم الاشتراط لا تثبت وقوع الوقف على المطلق، إذ غاية ما يدلّ عليه الأصل عدم أخذ القيد في الوقف، وهذا أعمٌّ من وقوعه على المطلق.

ودعوى: العلم بأنّ العقد واقعٌ إمّا على المطلق أو المقيّد، فإذا انتفى الثاني يثبت الأوّل.

مندفعة: بأنّ مثبتات الاُصول ليست بحجّة.

وعليه، فالأظهر حينئذٍ عدم جواز التصرّف.

وإنْ علم أنّه وقف على جماعةٍ كالذّكور من أولاده مثلاً، وشكّ في أنّ الوقف عليهم خاصّة أو مع اشتراك الإناث، يكون ثبوت نصف الوقف على الذكور معلوماً، والنصف الآخر مردّداً بين أنْ يكون لهم أو للإناث، فيعامل معه معاملة المال المردّد بين شخصين أو طائفتين، وحكمه التنصيف لقاعدة العدل والإنصاف، هذا إذا كان الوقف بنحو التوزيع.

ص: 300

يفتقر السُّكنى والعُمري إلى إيجابٍ وقبول

وإنْ كان بنحو المصرف، بحيث لو كان شاملاً للإناث، جاز الاقتصار على الصرف في الذكور.

يمكن أنْ يقال: إنّ صرف المال في الذكور متيقّنُ الجواز، ويشكّ في جواز صرفه في الإناث، والأصل يقتضي عدمه.

فإنْ قيل: إنّه في الفرض السابق تجري أصالة عدم الوقف على الإناث، ويترتّب عليه كونه بتمامه للذكور.

قلنا: إنّ هذا الأصل لا يثبت كون تمام المال للذكور، لعدم حجيّته في مثبتاته، بل الأصل بالنسبة إلى الزائد عن النصف عدم الوقف للذكور.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات المحقّق القمّي رحمه الله حيث بنى على أنّه يقسّم المال على الجميع بالسَّوية.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ مورد كلامه قدس سره ما إذا لم يعلم أنّه وَقَف على الذكور خاصّة أو على الإناث كذلك، أو أنّه لمطلق أولاده كما هو المفروض في سؤالٍ ذكر ذلك جواباً عنه، وحينئذٍ ما أفاده متينٌ لكون المال حينئذٍ مردّداً بين طائفتين، ومقتضى قاعدة العدل والإنصاف توزيع المال بينهم بالسّوية.

السُّكنى والعُمري والرُّقبي

خاتمة: في مسائل تتعلّق بالسُّكني والعُمري والرُّقبي.

وهي بأجمعها ثابتة بالإجماع، وبالنصوص المستفيضة الآتية جملة منها.

أقول: يقع الكلام فيها في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: (يفتقر السُّكنى والعُمري) والرُّقبي (إلى إيجابٍ وقبول)

ص: 301

وقبضٍ ، وليست ناقلة

بلا خلافٍ ، إلّافيما لو أطلقها، ولم يقترنها بالعُمر أو المدّة، فاحتمل بعضهم عدم احتياجها حينئذٍ إلى القبول، ومستند الحكم أنّ الأصل عدم انتقال شيء إلى مِلْك الغير بدون قبوله.

واستدلّ لعدم الاحتياج إلى القبول في صورة الإطلاق: بأنّها حينئذٍ بمعنى إباحة السكنى، لجواز الرجوع فيها متى شاء كما سيجيء.

ويردّه: أنّ جواز الرجوع إنّما هو بعد انقضاء المسمّى، وهذا لا ينافي انتقال المنفعة إليه، ولا لزومها قبله.

وتفتقر أيضاً إلى ال (قبض) بلا خلافٍ ، بل عليه الإجماع في جملة من الكلمات(1)، وهذا لا خلاف فيه ولا نزاع، إنّما الكلام في أنّه شرطٌ الصحّة أو اللّزوم ؟ والمتيقّن من دليل اعتباره - وهو الإجماع - الثاني.

ولا يعتبر فيها قصد القُربة للأصل.

المسألة الثانية: (وليست ناقلة) للعين، بل إنّما هي تنقل المنفعة كما تشهد بهما النصوص المستفيضة(2) المتضمّنة لأنّ من جَعَل سكنى داره لغيره يجبُ الوفاء به، وردّ العين بعده إليه، ويجوزُ بيعها بعد انقضاء المدّة أو قبله مع اشتراط أنْ لا يستحقّ المشتري السكنى في تلك المدّة، إذ لو كانت العين منتقلة عنه، لما جاز بيعها له، وقوله عليه السلام: «جعل سُكنى داره لغيره» ظاهرٌ في تمليكها إيّاه، لاحظ:س.

ص: 302


1- انظر الحدائق الناضرة: ج 22/280، رياض المسائل: ج 9/355 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 20/218-219 باب 2 من أبواب السكنى والتحبيس.

1 - خبر حمران عن السكنى والعمرى حيث قال عليه السلام: «النّاس فيه عند شروطهم، إنْ كان شرط حياته فهي حياته، وإنْ كان لعقبه فهو لعقبه، كما شرط، حتّى يفنوا، ثم يردّ إلى صاحب الدار»(1).

2 - وخبر الكناني، عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن السُّكنى والعمري ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان جعل السّكني في حياته، فهو كما شرط، وإنْ كان جعلها له ولعقبه من بعده حتّى يفنى عقبه، فليس لهم أن يبيعوا ولا يورثوا، ثمّ ترجع الدار إلى صاحبها الأوّل»(2).

3 - وصحيح الحسين بن نعيم، عن أبي الحسن موسى عليه السلام: «عن رجلٍ جعل دار سكنى لرجلٍ أيّام حياته، أو جعلها له ولعقبه من بعده، هل هي له ولعقبه من بعده كما شرط؟ قال: نعم.

قلت: فإنْ احتاج يبيعها، قال: نعم.

قلت: فينقض بيع الدّار السُّكنى ؟

قال عليه السلام: لاينقض البيع السُّكنى كذلك، سمعتُ أبي يقول: قال أبو جعفر عليه السلام:

لاينقض البيع الإجارة ولا السُّكنى، ولكن تبيعه على أنّ الذي اشتراه لا يملك ما اشترى حتّى تنقضي السكنى كما شرط، وكذا الإجارة. الحديث»(3).

ونحوها غيرها.

فما عن الشيخ رحمه الله(4) في العُمري من أنّها لا ترجع إلى المالك، ضعيفٌ لا مستند6.

ص: 303


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/253 ح 5598، وسائل الشيعة: ج 19/218 ح 24459.
2- الكافي: ج 7/33 ح 22، وسائل الشيعة: ج 19/220 ح 24462.
3- التهذيب: ج 9/141 ح 40، وسائل الشيعة: ج 19/135 ح 24308.
4- المبسوط: ج 3/316.

له سوى ما عن «الدروس»(1) من رواية جابر، ولعلّه أراد بها ما رواه عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«أيّما رجلٍ أعمر عُمرى له ولعقبه، فإنّما هي للّذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها»(2).

وهو مضافاً إلى ضعف سنده محجوجٌ بما مرّ.

المسألة الثالثة: أنّ من يُسكن غيره داره:

تارةً : يعيّن للسّكنى مدّة معيّنة كعشر سنين مثلاً، ويُسمّى بالرقبى.

واُخرى : يجعلها له مدّة عمر المالك أو الساكن، ويسمّى بالعُمرى.

وثالثة: يجعلها له من غير تعيين مدّة وهي السكنى.

ثمّ إنّه في العمري كما يجوز تعليق العُمر على عمر المعمّر، يجوز إضافة عقبه إليه بحيث يجعل المنفعة بعده لهم مدّة عمرهم أو مدّة معيّنة.

أقول: وتدلّ النصوص على مشروعيّة جميع تلكم، ولا يهمّ البحث في أنّ النسبة بين هذه العناوين الثلاثة عمومٌ مطلق بأنْ يكون السّكنى عامّة للجميع، وحينئذٍ إنْ اقترنت بالمدّة يطلق عليها الرقبى أيضاً - وإنْ اقترنت بالعُمر يقال لها العُمري -، أو تكون النسبة عموماً من وجه كما عن الأكثر، لاجتماع السكنى مع كلّ منهما فيما لو قرن تمليك المنفعة بالسكنى ومشخّصات إحداهما كالسُّكنى مدّة العُمر في العُمري، ومدّةً في الرّقبى، وافتراقها عن كلّ منهما باقتران التمليك بالسكنى خاصّة، ويفترقان عنها بتجرّد التمليك عن الإسكان، وتقييده بالعمر أو المدّة، فإنّ6.

ص: 304


1- الدروس: ج 2/281.
2- عوالي الآ لي: ج 3/263 ح 15، مستدرك وسائل الشيعة: ج 14/66 ح 16116.

فإن عيّن مدّةً لزمت، ولو ماتَ المالك قبلها. وكذا لو قال له عمرك، فإنْ ماتَ الساكن بطلت،

ذلك كلّه اُمورٌ اصطلاحيّة لا مشاحة فيها، بناء على ما هو الحقّ من عدم اعتبار لفظٍ خاص في ما تُنشَأ به هذه العناوين، كما في سائر عناوين العقود والإيقاعات.

نعم، في خصوص جريان العُمري والرقبى في غير المسكن كلامٌ سنتعرّض له إنْ شاء اللّه تعالى .

وبناءً على ما مرّ (فإنْ عيّن مدّةً لزمت) ولا يجوزُ له الرجوع ما لم ينقض المدّة، حتّى (ولو مات المالك قبلها)، كما هو المشهور، بل صرّح جماعة بجهالة القائل بخلافه.

ويشهد به: - مضافاً إلى ما دلّ على لزوم العقد مطلقاً - خصوص روايات تقدّمت جملة منها، دالّة على وجوب العمل بالشرط.

وعليه، فما عن الشيخ(1) والحلبي من عدم لزومها كالعُمرى، إمّا مطلقاً كما عن الأوّل، أو مع عدم قصد القُربة كما عن الثاني، ضعيفٌ .

(وكذا) لايجوز الرجوع (لو قال له: عُمركَ ) ولا تبطل بموت المالك، (فإنْ ماتَ الساكن بطلت) عند الأكثر، بل عليه عامّة من تأخّر(2)، لما مرّ.

وعن الإسكافي: (أنّه إذا مات المالك، وأراد ورثته إخراج الساكن، نظر إلى).

ص: 305


1- المبسوط: ج 3/317.
2- كما عن رياض المسائل: ج 9/359 (ط. ج).

ولو قال: مدّة حياتي بطلت بموته، ولو مات الساكن قبله، انتقل الحقّ إلى ورثته مدّة حياته.

قيمة الدار، فإنْ كانت تحيط بها ثلث الميّت لم يكن لهم إخراجه، وإنْ كانت تنقص عنه كان ذلك لهم)(1).

واستند في ذلك:

1 - إلى أنّ المالك لا يملك منفعة الدار بعد موته، وإنّما له أنْ يملكها إذا لم تزد على الثُّلث.

2 - وإلى خبر خالد بن نافع البجلي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(2).

ويتوجّه على الأوّل: أنّ المالك في حال حياته يملك المنفعة المرسلة، وله أن يملكها كما مرّ في الإجارة.

وعلى الثاني: أنّه ضعيف السند لخالد الذي هو إماميٌّ مجهول، ولغيره، مع أنّه فيما لو جعل له مدّة عمر المالك.

(ولو قال): أسكنتُك (مدّة حياتي، بطلت بموته).

(ولو مات الساكن قبله، انتقل الحقّ إلى ورثته مدّة حياته) بلا خلافٍ .

ويشهد به: ما دلّ على لزوم العقد، والنصوص المشار إليها.

وفي خصوص الحكم الثاني: أدلّة الإرث، وصحيح محمّد بن قيس، عن الإمام الباقر، عن أمير المؤمنين عليهما السلام: «أنّه قضى في العُمري أنّها جائزة لمن أعمرها، فمن4.

ص: 306


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/332.
2- التهذيب: ج 9/142 ح 41، وسائل الشيعة: ج 19/227 ح 24474.

ولو لم يعيَّن كان للمالك إخراجه متى شاء.

أعمر شيئاً ما دام حَيّاً، فإنّه لورثته إذا توفّى»(1).

(ولو) أطلق السُّكنى، و (لم يعيّن) لها مدّة معلومة، ولا عمراً أصلاً، صَحّ السُّكنى بلا خلافٍ ، ولكن (كان للمالك إخراجه متى شاء) بلا خلافٍ ، لموثّق الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ :

«عن رجلٍ أسكن رجلاً ولم يوقّت له شيئاً؟ قال: يخرجه صاحب الدار إذا شاء»(2).

ونحوه صحيحه الآخر أو حسنه(3).

أقول: وقد وقع الخلاف في أنّه هل يلزم الإسكان، ولو في الجملة كيومٍ ونحوه ممّا يُسمّى إسكاناً في العرف والعادة ؟

أم هي حينئذٍ من العقود الجائزة ؟

نسب الشهيد الثاني(4) إلى الأكثر، وعن «التذكرة»(5)، والمحقّق الثاني(6)وصاحب «الكفاية»(7): اختيار الأوّل، وهو الأظهر لعموم وجوب الوفاء بالعقد ولزومه، وليس في نصوص الباب ماينافي ذلك، فإنّها تدلّ على أنّ له أن يُخرجه من الدّار متى شاء، ومن المعلوم أنّ الإخراج إنّما يكون بعد الإسكان.2.

ص: 307


1- التهذيب: ج 9/143 ح 42، وسائل الشيعة: ج 19/228 ح 24475.
2- الكافي: ج 7/34 ح 24، وسائل الشيعة: ج 19/222 ح 24466.
3- الكافي: ج 7/34 ح 25، وسائل الشيعة: ج 19/221 ح 24465.
4- مسالك الأفهام: ج 5/425.
5- تذكرة الفقهاء: ج 2/450 (ط. ق).
6- جامع المقاصد: ج 9/124.
7- كفاية الأحكام: ص 142.

ولو باع المسكن لم تبطل السُّكنى.

ودعوى: أنّ السُّكنى بهذا النحو باطلة للغرر، والمتيقّن من الدليل صحّتها، فهي غير مشمولة لأدلّة وجوب الوفاء بالعقد كي يحكم بلزومها.

مندفعة: بأنّ دليل الصحّة يقيّد دليل نفي الغَرر، فهو عقدٌ صحيحٌ مشمول لدليل وجوب الوفاء.

فرع: لو مات المالك والحال هذه، هل تبطل السُّكنى بالمرّة، لأنّها بعد تحقّق المسمّى من العقود الجائزة، وهي تبطل بموت أحد المتعاقدين ؟ أم لا تبطل، غاية الأمر لورثة المالك إخراجه كما كان لنفسه ؟

وجهان، أظهرهما الثاني، لما مرّ من عدم الدليل على هذه الكليّة، أي بطلان العقد الجائز بالموت.

المسألة الرابعة: (ولو باع المسكن لم تبطل السُّكنى) إنْ وقَّت بأمدٍ أو عمرٍ على المشهور، لصحيح الحسين بن نُعيم المتقدّم، وهو كما يدلّ على عدم بطلان السُّكنى، يدلّ على صحّة البيع.

أقول: ومعه لا يُصغى إلى ما عن «المختلف»(1)، و «التذكرة»(2)، و «القواعد»(3)من الاستشكال في الصحّة، وعن «التحرير»(4): القطع بعدمها، نظراً إلى أنّ المقصود).

ص: 308


1- مختلف الشيعة: ج 6/336.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/451 (ط. ق).
3- قواعد الأحكام: ج 2/403.
4- تحرير الأحكام: ج 3/303 (ط. ج).

وللساكن أن يسكن بنفسه ومَنْ جرت عادته بإسكانهم، كالولد والزّوجة، والخادم.

وليس له إسكان غيره من دون إذنه ولا إجازته.

من البيع هو المنفعة، ولذا لا يجوزُ بيع ما لا منفعة فيه، وزمانُ استحقاق المنفعة في العُمري مجهولٌ ، لكونه اجتهاداً في مقابل النّص، مع أنّه في نفسه غير تامّ ، فإنّه يمكن أن يشتري العين مسلوبة المنفعة في مدّةٍ لغرضٍ له فيها، إنّما المانع عن صحّة البيع هو الجهل بالمبيع فقط لا غير.

ولا يعتبر العلم بالمنفعة قطعاً، ولذا يصحّ بيع مالا يعلم منفعته.

المسألة الخامسة: (وللساكن أن يسكن بنفسه ومَنْ جرت عادته بإسكانهم، كالولد والزّوجة، والخادم) لإقتضاء إطلاق السّكنى بأقسامها الثلاثة حيث تتعلّق بالمسكن ذلك.

وما عن «النهاية»(1)، والقاضي(2)، وابن حمزة(3)، من الاقتصار على ذكر الولد والأهل، يكون مرادهم منه التمثيل كما فهمه المتأخّرون.

(وليس له إسكانُ غيره من دون إذنه، ولا إجازته) على المشهور، اقتصاراً فيما خالف الأصل على مقدار الإذن والترخيص.

وعن الحِلّي(4): أنّ له إسكان من شاء وإجارته، ونقله كيف شاء، محتجّاً بأنّه9.

ص: 309


1- النهاية: ص 601.
2- المهذّب: ج 2/102.
3- الغنية: ص 302.
4- السرائر: ج 3/169.

ملك المنفعة بعقدٍ لازم، فيجوزُ له التصرّف فيها مطلقاً كما لو تملّكها بالإجارة.

وفيه: أنّه لا إشكال كما مرّ في أنّ السّكنى إنّما تكون تمليكاً للمنفعة، ولكن تمليك المنفعة:

تارةً : يكون بنحو الإطلاق.

وأُخرى : يكون بتمليك حصّة خاصّة منها، وهي قابليّة الدار مثلاً لسكنى الساكن نفسه، ومن يتعلّق به، لا مطلق مسكنيّة الدار.

وعلى الأوّل وان صَحّ نقل المنفعة كيف شاء، ولكنّه لا يجوز على الثاني، إذ لا مملوك له حتّى يملّكه، والمُدّعى أنّ ظاهر السكنى هو كون نقل المنفعة من قبيل الثاني.

فإنْ قلت: إنّ سكنى الدار بالمعنى القائم بالسُّكنى برغم كونها كليّةً ولها حصص، لكنّها ليست منفعة الدار، وبالمعنى القائم بالمسكن الذي هو موجودٌ بالقوّة، تكون جزئيّة بتبع وجود القابل، فلا تقبل التقييد.

قلنا: إنّ الموجود بالقوّة إذا كان مضائفه غير متعيّن، يكون هو أيضاً غير متعيّن قابلاً للتقييد، ومضائف مسكنية الدار القائم بالساكن غير متعيّن، لأنّ سكنى زيدٍ غير سكنى عمرو، وهكذا فمسكنيّة الدار أيضاً كذلك، ويقال إنّ مسكنيّتها بالقوّة بالنسبة إلى سُكنى زيد غير مسكنيتها بالإضافة إلى سُكنى عمرو، وهذا من شأن مقولة الإضافة والاُمور الموجودة بالقوّة، فكون الموجود بالقوّة جزئيّاً، لاينافي كونه لا متعيّن، فيقبل التعيّنات الخاصّة، ويقبل بقائه على حاله من عدم التعيّن، فيكون مطلقاً.

ص: 310

وكلّ ما يصحّ وقفه يصحّ إعماره كالمِلْك والعبد والأثاث.

الحبس

المسألة السادسة: في الحبس، ولم يتعرّض الأكثر لأحكامه مستوفى، ولم يتعرّضوا لعقده ولا لاعتبار القبض فيه وما شاكل، (و) إنّما ذكروا ضابط صنفٍ من الحبس، حيث قالوا: (وكلّ ما يصحّ وقفه يصحّ إعماره، كالمِلك والعبد والأثاث).

والحقّ أنْ يقال: إنّ كلّ ما يصحّ وقفه، يصحّ حبسه، لعموم أدلّة لزوم الوفاء بالعقد، وما دلّ على صحّة الوقف ولزومه، بناءً على ما تقدّم من عدم أخذ الدوام في الوقف، وعليه فجميع ما ذكرناه من الأحكام والشروط في الوقف جارية في الحبس، والظاهر أنّه لاخلاف بينهم في شيء منها، ولعلّه لذلك لم يستوفوا أحكامه في المقام، وقد مرّ في بعض مسائل الوقف ما يوضح ذلك.

(و) إنّما الكلام في المقام في موردين:

المورد الأوّل: في إعمار غير الدّار، كما إذا حَبَس فرسه مثلاً مدّة عمر المالك أو المحبوس له، والظاهر صحّته:

1 - لعموم الأدلّة.

2 - ولخصوص صحيح محمّدبن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام، عن أميرالمؤمنين عليه السلام:

«أنّه قضى في العُمري أنّها جائزة لمن أعمرها. الحديث»(1).

ص: 311


1- التهذيب: ج 9/143 ح 42، وسائل الشيعة: ج 19/228 ح 24475.

لو حبس فرسه أو غلامه في خدمة بيوت العبادة، أو في سبيل اللّه، لزم ما دامت العين باقية.

وصحيح يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يكون له الخادم يخدمه، فيقول: هي لفلان تخدمه ما عاش، فإذا مات فهي حُرّة فتأبق الأمَة قبل أن يموت الرّجل بخمس سنين أو ستّة، ثمّ يجدها ورثته، ألَهُم أن يستخدموها قدر ما أبِقَتْ؟

قال عليه السلام: إذا مات الرّجل فقد عُتقت»(1).

فإنّه يظهر منه أنّ إعمار الجارية كان جوازه مفروغاً عنه، والإمام عليه السلام قرّره على ذلك.

ومثله خبر عليّ بن معبد(2) وغيره.

وهل يجوز جعله له غير موقّتٍ؟ الأظهر ذلك لإطلاق الأدلّة.

المورد الثاني: في خصوص ما (لو حَبَس) ماله لغير إنسانٍ ، كما لو حبس (فرسه أو غلامه في خدمة بيوت العبادة، أو في سبيل اللّه) فالمشهور أنّه ي (لزم مادامت العين باقية)، وهو كذلك للإجماع، وإطلاق أدلّة الوقف، والسيرة القطعيّة، وفي المقام روايتان تمسّك بهما صاحب «الكفاية»(3) له، وفي سند إحداها ودلالة الاُخرى تأمّل، ولذلك فالإعراض عن ذكرهما أولى .6.

ص: 312


1- الكافي: ج 7/34 ح 23، وسائل الشيعة: ج 19/225 ح 24471.
2- التهذيب: ج 9/138 ح 28، وسائل الشيعة: ج 19/221 ح 24464.
3- راجع كفاية الأحكام: ج 2/26.

وهل يَملك ما حَبَس له من البيت ونحوه، كما عن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(1)؟ أم لا بل يكون مالاً بلا مالك ؟

لا يهمّنا التعرّض له لعدم ترتّب الأثر عليه. والحمدللّه أوّلاً وآخراً.

***).

ص: 313


1- تذكرة الفقهاء: ص 448 (ط. ق).

الفصل الثالث: في الوصايا.

(الفصل الثالث في الوصايا)

أمّا من الناحية اللّغوية: فهي جمعُ وصيّة.

وأمّا من الناحية الفقهيّة: فقد عرّفها الفقهاء:

قال العلّامة في «التذكرة»: (هي مشتقّة من قولهم: وصى إليه بكذا، يصيه صية إذا وصل به، وأرضٌ واصية أي متّصلة النبات، فسمّي هذا التصرّف وصيّة لما فيه من وصلة القربة الواقعة بعد الموت بالقُرُبات المنجزة في الحياة، فكأنّه وَصَل تصرّفه في حياته بتصرّفه بعد مماته)(1).

ونحوه عن «جامع المقاصد»(2).

وعن «المبسوط»: (الوصيّة مشتقّة من وصى يصي، وظاهرهم كونها مشتقّة من الثلاثي بمعنى الوصل)(3).

وفي «الرياض»: (هي من وصى يصي، أو أوصى يوصي، أو وصى يوصي، وأصلها الوصل، سمّيت به لما فيها من وصلة التصرّف في حال الحياة به بعد الوفاة)(4).

ونحوه عن «الروضة»(5)، وقريبٌ منهما ما في «العروة»(6).

ص: 314


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/452 (ط. ق).
2- جامع المقاصد: ج 10/7.
3- المبسوط: ج 4/3.
4- رياض المسائل: ج 9/427 (ط. ج).
5- الروضة البهيّة: ج 5/11.
6- العروة الوثقى: ج 5/642 (ط. ج).

وظاهر هؤلاء الترديد في أنّ الوصيّة مأخوذة من الثلاثي أو من الرّباعي.

وفي «الجواهر»: (الوصايا جمع وصيّة، من أوصى يوصي، أو وصى يوصي، قال في الصحاح: أوصيتُ له بشيء أو أوصيت إليه، إذا جَعلتَه وصيّك، والاسم الوصاية بالكسر والفتح، وأوصيته ووصيّته أيضاً توصية بمعنى.

إلى أنْ قال: وصيّت الشيء بكذا إذا وصلته به، وذكر غير واحدٍ من الأصحاب: أنّ الوصيّة منقولة من وصى يصي بالمعنى الأخير.

إلى أنْ قال: والأولى نقلها من الوصيّة بمعنى العهد)(1).

أقول: الظاهر تماميّة ما في «الجواهر» كما صرّح به جمعٌ من أهل اللّغة في كتبهم كالصحاح(2) و «القاموس»(3) و «المنجد».

ومحصّله: أنّ الوصيّة إنّما هي اسمُمصدر للإيصاءأو التوصية، لا مصدر للثلاثي، ولا اسمُ مصدرٍ له، وأنّها بمعنى العهد لا غير، كما ترشد إلى ذلك الآيات القرآنيّة:

قوله تعالى : (وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ ) (4).

وقوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ ) (5).

وأيضاً: («مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ » (6).

وأيضاً: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ) (7).

وغير تلكم من الآيات.2.

ص: 315


1- جواهر الكلام: ج 24/241.
2- الصحاح: ج 6/2525، مادّة (وصى).
3- القاموس المحيط: ج 4/400، مادّة (وصى).
4- سورة البقرة: الآية 240.
5- سورة النساء: الآية 12.
6- سورة النساء: الآية 12.
7- سورة النساء: الآية 12.

بل الرباعي المأخوذ منه الوصيّة أيضاً استعمل في ضمن سائر مشتقّاته في الكتاب بمعنى العهد، لاحظ الآيات التالية:

1 - قوله تعالى : (إِذْ وَصّاكُمُ اَللّهُ بِهذا) (1).

2 - قوله تعالى : (ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (2).

3 - قوله تعالى : (ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) (3).

4 - قوله تعالى : (وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ ) (4).

5 - قوله تعالى : (وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) (5).

إلى غير تلكم من الآيات الكريمة.

وحيث لا يكون للشارع اصطلاحٌ خاصٌ في الوصيّة، وإنّما اُطلقت على التصرّف الخاص، وهو العهد في حال الحياة لما بعد الوفاة، لكونه من مصاديق معناها العام، فالصحيح أنْ يقال:

إنّها في عُرف المتشرّعة والفقهاء عبارة عن العهد بشيء من تمليك عينٍ أو منفعةٍ أو تسليطٍ على التصرّف في حال الحياة لما بعد الوفاة.

وإنّما أضفنا إليه (أو تسليط على التصرّف) فراراً عمّا أُورد على تعريف «الشرائع»(6) المنسوب إلى أكثر الأصحاب بأنّها تمليكُ عينٍ أو منفعة بعد الوفاة، بأنّه يلزم خروج الوصيّة بالولاية على الثُّلث، وبالولاية على الأطفال والمجانين،8.

ص: 316


1- سورة الأنعام: الآية 144.
2- سورة الأنعام: الآية 152.
3- سورة الأنعام: الآية 151.
4- سورة النساء: الآية 131.
5- سورة العنكبوت: الآية 8.
6- شرائع الإسلام: ج 2/468.

مع أنّها من الوصيّة.

وعليه، فالمتعيّن ما في «التذكرة»(1) من إضافة قيد التبرعيّة لإخراج الوصيّة بالبيع والتمليك المعاوضي.

أقول: ثمّ إنّ الوصيّة: إمّا تمليكيّة، أو عهديّة.

وبعبارة أُخرى : الوصيّة على أقسام لأنّها:

قد تكون تمليك عين أو منفعة.

وقد تكون تسليطٌ على حقٍّ أو فكّ ملك.

وقد تكون عهداً متعلّقاً بالغير.

وقد تكون عهداً متعلّقاً بنفسه كالوصيّة بما يتعلّق بتجهيزه.

والأصل في شرعيّتها - بعد إجماع المسلمين عليها - كافّة الآيات المتكاثرة، قال اللّه تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ ) (2).

والنصوص المتواترة، يأتي إلى جملةٍ منها الإشارة، مضافاً إلى النصوص المستفيضة الواردة في فضلها، والآمرة بها:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «الوصيّة حقٌّ وقد أوصى رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فينبغي للمسلم أن يوصي»(3).

ومنها: خبر الكتاني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الوصيّة ؟ قال عليه السلام: هي حقّ9.

ص: 317


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/452 (ط. ق).
2- سورة البقرة: الآية 180.
3- الكافي: ج 7/3 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/256 ح 24539.

وهي واجبة.

على كلّ مسلم»(1).

ومنها: خبر سليمان بن جعفر، عنه عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من لم يحسن وصيّته عند الموت، كان نقصاً في مروّته وعقله»(2).

ومنها: النبوي الخاصي: «ما ينبغي لإمرئٍ مسلمٍ أن يبيت ليلته إلّاووصيّته تحت رأسه»(3).

ومنها: النبويّ : «من مات بغير وصيّةٍ مات ميتة جاهليّة»(4).

إلى غير تلكم من النصوص.

(و) لهذا قال المصنّف رحمه الله (هي واجبة)، ولكنّها حُملت:

على تأكّد الفضيلة، بل الظاهر عدم استفادة أزيد منها من مجموع النصوص، بعد ضَمّ بعضها إلى بعض.

أو على الوصيّة بالاُمور الواجبة، كالخمس والزكاة المفروضة، وسيأتي الكلام فيه.

حكم القبول في الوصيّة

أقول: والكلام في هذا الفصل يقع في مطالب:

ص: 318


1- الكافي: ج 7/3 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/256 ح 24540.
2- الكافي: ج 7/2 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/260 ح 24550.
3- المقنعة: ص 666، وسائل الشيعة: ج 19/258 ح 24545.
4- المقنعة: ص 666، وسائل الشيعة: ج 19/259 ح 24546.

ولابدَّ فيها من إيجابٍ وقبول

المطلب الأوّل: في عقد الوصيّة، وما يلحق به، (و) فيه مسائل:

المسألة الأُولى: (لابدَّ فيها من إيجابٍ ) إجماعاً(1)، (وقبولٍ ) بلا خلافٍ فيه في الجملة، بل عليه الإجماع عن «الغنية»(2).

أمّا اعتبار الإيجاب: فلما مرّ مراراً من أنّ بناء الشارع الأقدس على عدم الاعتناء بالالتزامات والبنائات النفسانيّة ما لم تبرز.

وأمّا اعتبار القبول: ففيه وجوهٌ وبعضها أقوال:

1 - عدم اعتباره مطلقاً، بل يكون الرّد مانعاً، اختاره بعض متأخّري المتأخّرين(3).

2 - عدم اعتباره في الوصيّة العهديّة، واعتباره في التمليكيّة.

3 - اعتباره فيها مطلقاً، وهو المشهور.

ثمّ إنّ القائلين باعتباره فيها اختلفوا في أنّه:

1 - جزءُ السبب.

2 - أو شرط تأثيره على وجه النقل أو الكشف.

3 - أو أنّه لا دخل له في انتقال الملك، بل ينتقل المِلْك بمجرّد الموت، لكنّه متزلزلٌ ، فإذا حصل القبول استقرّ.د.

ص: 319


1- رياض المسائل: ج 9/429 (ط. ج).
2- الغنية: ص 306.
3- كما قوّاه السيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 2/878 وص 886 في مسألة الوصيّة العهديّة والتمليكيّة، ووافقه غير واحد.

نُسِب الأوّل إلى «المختلف»(1)، و «الشرائع»(2)، وجماعة.

ونُسِب في «المسالك»(3) الثاني إلى الأكثر، والثالث محكيٌّ عن «المبسوط»(4).

ثمّ إنّ الظاهر من استدلالاتهم، إرادتهم من الجزئيّة أو الشرطيّة، الجزئيّة أو الشرطيّة للوصيّة، وعليه ففي المقام قولٌ آخر اختاره بعض المعلّقين على «العروة»، وهو: (عدم اعتباره في تحقّق الوصيّة، بل هي من الإيقاعات، ولكنّه جزء السبب للملكيّة)(5).

أقول: والحقّ عدم اعتبار القبول مطلقاً، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: صدق الوصيّة على إنشاء الموصى، فمقتضى إطلاق أدلّة نفوذ الوصيّة نفوذها وصحّتها، وترتّب الأثر عليها ولو لم يقبل.

ودعوى: أنّها مسوقة لبيان حكم الوصيّة بعد إحرازما يعتبر فيها من شرائط الموصي والموصى له والموصى به.

يردّها: أنّ آية(6) المشروعيّة مطلقة، سيّما بواسطة ما ورد في ذيلها من قوله (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) (7) الظاهر في استثناء ذلك من حرمة التبديل ونفوذ الوصيّة، إذ الاستثناء دليل العموم.

الوجه الثاني: أنّه لا خلاف بينهم في صحّة القبول بعد الموت - أي موت2.

ص: 320


1- مختلف الشيعة: ج 6/338.
2- شرائع الإسلام: ج 2/468.
3- مسالك الأفهام: ج 6/118.
4- المبسوط: ج 4/33.
5- العروة الوثقى: ج 5/643 (ط. ج)، تعليقة السيّد البروجردي قدس سره.
6- سورة البقرة: الآية 180.
7- سورة البقرة: الآية 182.

الموصى - ولو كان القبول دخيلاً فيها، ولم تكن الوصيّة من الإيقاعات، لما صَحّ ذلك، لأنّه لا يعقل صدق العقد على ربط التزامٍ بالتزامٍ معدومٍ بموت صاحبه.

الوجه الثالث: النصوص القادمة الدالّة عليوجوب العمل بالوصيّة على الموصى إليه إذا لم يردّ أو إذا رَدّ، ولكن يبلغ الموصي الرّد، فإنّ ذلك ينافي اعتبار القبول.

أقول: قد استدلّ على اعتبار القبول فيها مطلقاً، أو في خصوص التمليكيّة منها جزءاً أوشرطاً، أو في تحقّق الملكيّة بوجوه:

الوجه الأوّل: ما هو المشهور بينهم، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع(1) عليه، من كون الوصيّة التمليكيّة من العقود، واعتباره في العقد من الواضحات، ولازم ذلك كونه جزءاً.

وفيه: إنّ ذلك ينافي ما لا خلاف فيه بينهم، من أنّه يصحّ القبول بعد الموت، بل في صحّة القبول قبل الموت قولان، ومن المعلوم أنّ الموت قبل القبول مانعٌ عن تحقّق العقد الذي حقيقته ربط أحد الالتزامين بالآخر.

وأيضاً: ينافيه ماذكروه من اعتبار التوالي بين الإيجاب والقبول، مستنداً إلى عدم صدق العقد مع الفصل الطويل.

الوجه الثاني: أنّ نفوذ الوصيّة التمليكيّة خصوصاً للأشخاص، ينافي قاعدة السلطنة على النفس.

وقرّب بعضهم هذا الوجه بأنّ أدلّة الوصيّة غايتها الدلالة على نفوذ عهد الإنسان عند موته فيما كان قبله تحت سلطنته، وأنّ سلطنته عليه باقية إذا عهد فيه8.

ص: 321


1- راجع مستمسك العروة الوثقى : ج 14/538.

بأمرٍ، وأمّا كونه سلطاناً عند موته على ما لم يكن سلطاناً عليه قبل ذلك، كما هو قضيّة المِلك القهريّ ، فلا تدلّ عليه.

وفيه: إنّ أدلّة نفوذ الوصيّة ليست مفادها ما ذُكر، بل مفادها نفوذ الوصيّة بقول مطلق، وأمّا قاعدة السلطنة فيدفعها:

أوّلاً: أنّه مع وجود الدليل لامانع من الالتزام به، وكم له نظير، فإنّ حصول المِلك القهري كثير، أليس الإنسان يملك في ذمّة من أتلف ماله عوض ماله، وكذا من جَنى عليه بما يوجبُ الدية ؟

وأليس الإرث من المِلك القهريّ ، وكذا الوقف ؟

وهكذا فلامانع من كون المقام كذلك.

وقد التزم الأصحاب في الوصيّ بأنّه لو مات الموصي قبل الرّد ليس له أنْ يردّ، وأجابوا عن محذور إثبات الحقّ على الوصي قهراً، بأنّه لا محذور فيه مع دلالة الدليل عليه، فليكن المقام كذلك.

وثانياً: أنّ الجمع بين قاعدة السلطنة، وأدلّة نفوذ الوصيّة على فرض عدم تماميّة ما ذكرناه، إنّما يكون بجعل الرّد مانعاً، ولا يوجبُ كون القبول جزءاً أو شرطاً.

ويما ذكرناه يظهر اندفاع ما قيل من إنّ ذلك عديم النظير.

الوجه الثالث: ما يظهر من الشيخ الأعظم رحمه الله(1)، وهو أصالة عدم انتقال المال مع عدم القبول.

ويردّه: أنّه لا مجال للرجوع إلى الأصل مع الدليل، وقد مرّ وجوده.3.

ص: 322


1- الوصايا والمواريث: ص 32-33.

فتحصّل: أنّ الأظهر كون الوصيّة من الإيقاعات مطلقاً، وأنّ القول بدخل القبول فيها ضعيف، والإجماع المُدّعى عليه في الجملة بعد معلوميّة مدرك المُجمعين كما ترى ، وأضعف من ذلك القول بكونها من الإيقاعات، ومع ذلك يعتبر القبول في تحقّق المِلْكيّة لقاعدة السلطنة، أو لأدلّة نفوذ الوصيّة، فهي إنّما تدلّ على نفوذها على نحو ما كان له في حال الحياة، إذ لا نتعقّل نفوذ الوصيّة وصحّتها، ومع ذلك لايترتّب عليها أثرها وهو الملكيّة، ولو اقتضى ما ذكر في وجهه شيئاً لاقتضى عدم صحّتها بدون القبول، ولو لا الإجماع وتسالم الكلّ لقلنا بعدم مانعيّة الرّد عنها.

ولكن قال المحدِّث البحراني: (ظاهرهم الاتّفاق عليها)(1)، وتكرّر في كلمات الشيخ الأعظم دعوى الإجماع عليها.

وفي «الجواهر»: (الإجماع بقسميه عليها، وكفى بذلك حجّة لها)(2).

أقول: ولا يخفى أنّ ذلك بالنسبة إلى الموصى له، وأمّا الموصى إليه - أي الوصي - فسيأتي الكلام فيه.

بحث: المتيقّن من دليل الرّد المانع، مانعيّة الرّد بعد الموت وقبل القبول، ففي غير ذلك يُبنى على عدم المانعيّة.

توضيح ذلك: إنّ الرّد على أقسام:

تارةً : يكون الرّد بعد الموت وقبل القبول.

واُخرى : يكون بعد الموت والقبول والقبض.

وثالثة: يكون بعد الموت وبعد القبول لكن قبل القبض.ف.

ص: 323


1- الحدائق الناضرة: ج 22/597.
2- جواهر الكلام: ج 28/253 بتصرّف.

ورابعة: يكون في حال الحياة.

أمّا الصورة الأُولى : فالظاهر من كلماتهم كون مانعيّة الرّد فيها من الاُمور الثابتة والمسلّمة.

وأمّا في الثانية: فالظاهر عدم الخلاف في عدم مانعيّته.

وأمّا في الثالثة: فعن الشيخ(1) وابن سعيد(2): مانعيّته، وأنّ الرّد قبل القبض يؤثّر في البطلان، واستدلّا له باشتراط القبض في صحّتها، لاشتراكها مع الوقف والهبة في العلّة المقتضية، وهي العطيّة المتبرّع بها، مع أولويّة الحكم في الوصيّة، من حيث أنّها معلّقة فيها بخلاف العطيّة في الهبة والوقف، فإنّها فيهما منجزة.

وفيه: أنّ الأظهر عدم اشتراط القبض فيها كما هو المشهور، وما ذكر في وجه اعتباره استحسانٌ محضٌ لا يمكن الاستناد إليه في الحكم الشرعي.

فإنْ قيل: إنّ الوصيّة من العقود الجائزة عندهم، كما ادّعى الإجماع عليه في «الجواهر»(3)، فكيف لايؤثّر الرّد في بطلانها؟

قلنا أوّلاً: ينتقض بالرّد بعد القبول.

وثانياً: أنّ جوازها بعد تماميّتها - عقداً كانت أو إيقاعاً - خلاف إطلاق الأدلّة، لا وجه للالتزام به.

وعليه، فالأظهر عدم تأثير الرّد في هذه الصورة أيضاً.

وأمّا في الرابعة: - أي ما لو كان الرّد في حال حياة الموصى - فالظاهر عدم5.

ص: 324


1- المبسوط: ج 4/33.
2- حكاه عنه السيّد في مستمسك العروة الوثقى: ج 14/546.
3- جواهر الكلام: ج 28/265.

بطلانها إذا كان الموصي باقياً على إيجابه منتظراً لأن يبدو له فيقبله.

ودعوى: الإجماع على بطلان الإيجاب في جميع الموارد بالرّد، ولذا قالوا في سائر العقود إنّه لو رَدّ بعد الإيجاب ليس له القبول بعده، ولو رَدّ الفضولي ليس له أنْ يجيزه وهكذا.

مندفعة: بأنّ الإجماع المشار إليه على فرض وجوده ليس تعبّديّاً، وإنّما يكون مدرك المجمعين عدم صدق العقد على الإيجاب والقبول المتخلّل بينهما الرّد، وأنّ الرّد يوجبُ حَلّ الالتزام الإيجابي، ويجعله كأن لم يكن، أو غير ذلك من الوجوه الفاسدة، كما حُقّق في محلّه.

وعليه، فلا مانع من البناء على الصحّة لو قبل بعد الرّد.

هذا كلّه في الرّد.

وأمّا القبول على القول باعتباره:

فإنْ كان بعد الموت، صَحّ إجماعاً.

وإنْ قبل قبل وفاته:

فعن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله في محكي «القواعد»(1): عدم صحّته، واختاره المحقّق الثاني رحمه الله، وعلّله بأنّ (الوصيّة تمليكٌ بعد الوفاة، فالقبول قبله كالقبول قبل الوصيّة، وأنّ القبول إمّا كاشفٌ أو جزءُ السبب، وعلى كلّ تقديرٍ يمتنع اعتباره قبل الموت، إذ الكاشف عن الشيء وأن يتأخّر عنه، ويمتنع المِلك قبل وفاة الموصي، وإنْ جُعل جزء السبب لزم منه حصول الملك من حينه، وهو هنا ممتنع)(2).ة.

ص: 325


1- قواعد الأحكام: ج 2/444.
2- جامع المقاصد: ج 10/10، مع تصرّف في نقل العبارة.

وتكفي الإشارة والكتابة مع قرينة الإرادة

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ القبول بعد الإيجاب ليس كالقبول قبله، وأيضاً أنّ القبول ليس إلّاالرضا بالإيجاب، فإذا صَحّ الإيجاب كيف يعقل عدم صحّة القبول.

ويتوجّه على الثاني: أنّه يلتزم بكونه جزء السبب، ولكنّه لايستلزم حصول الملك من حينه لعدم كونه تمام السبب.

وعليه، فالأظهر أنّ له القبول في حال حياته.

وممّا ذكرناه في الرّد، ظهر صحّة القبول بعد الرّد، سواءٌ كان الرّد في حال حياة الموصي أو بعد وفاته، إلّاأنْ يكون في حال الحياة والموصي يرفع اليد عن وصيّته.

الوصيّة بالفعل والكتابة

المسألة الثانية: (و) الأظهر أنّه يكفي في تحقّق الوصيّة كلّ ما دلّ عليها من الألفاظ، لإطلاق الأدلّة، بل (يكفي) كلّ فعلٍ دالّ عليها، حتّى (الإشارة والكتابة، مع قرينة الإرادة) ولو في حال الاختيار.

أمّا الإنشاء بالفعل غير الكتابة: فلما مرّ في أبواب العقود المتقدّمة من أنّ جريان المعاطاة - والمراد بها الإنشاء بالفعل - ممّا تقتضيه القاعدة، أي إطلاق أدلّة المعاملات بالمعنى الأعمّ .

فإنْ قيل: إنّ الوصيّة اتفقوا على أنّها من العقود، والعقدُ لايتحقّق بالفعل.

قلنا: إنّها ليست من العقود كما مرّ، مع أنّ العقد ليس من مقولة اللّفظ، بل هو من مقولة المعنى، وحقيقته ربط أحد الالتزامين بالآخر، واللّفظ كالفعل مبرزٌ له لا أنّه مصداق له.

ص: 326

والتعذّر لفظاً.

وأمّا الإنشاء بالإشارة: فالأمر فيه أوضح من الإنشاء بسائر الأفعال، ولاينبغي التوقّف في صحّة إنشاء الوصيّة بها، لما نرى بالوجدان أنّ العقلاء في مقام تفيهم مراداتهم من الأمر والنهي وغيرهما يبرزونها بالإشارة، وليس الإنشاء إلّاإبراز الأمر النفساني بداعي تنفيذ العقلاء، والشارع ذلك الأمر، وليست هي كالإعطاء ذا وجوهٍ كي يُقال إنّها قاصرة عن إفادة المطلوب، وعليه فمقتضى العمومات قيامها مقام اللّفظ، وصحّة الوصيّة بالإشارة حتّى على القول بعدم صحّة الإنشاء بالفعل.

(و) لافرق في ذلك بين (التعذّر لفظاً) والتمكّن منه، فما في المتن وعن غيره من التقييد بالتعذّر، بل وبعدم القدرة على التوكيل، لا وجه له.

وما عن «جامع المقاصد»(1) من أنّه مع إمكان النطق لا تكفي الإشارة، لانتفاء دليل الصحّة كما ترى ، فإنّه يتمّ لو كان دليل الاكتفاء بها الإجماع، وأمّا حيث عرفت أنّه العمومات والإطلاقات فلا يتمّ .

وأمّا الكتابة: إذا علم كونها بعنوان الوصيّة، فتدلّ على الاكتفاء بها العمومات على ما مرّ.

ودعوى: أنّ الكتابة ليست مصداقاً في العرف والعادة لعنوان عقدٍ أو إيقاعٍ ، فليست آلةً لإيجاد عنوان بها كما عن المحقّق النائيني رحمه الله(2).6.

ص: 327


1- جامع المقاصد: ج 10/20.
2- منية الطالب: ج 1/236.

مندفعة: بأنّ عناوين العقود والإيقاعات أسامٍ للاُمور الاعتباريّة النفسانيّة، واللّفظ وكذا ما يقوم مقامه مبرزٌ لذلك، وعليه فكما يصحّ الإخبار بالكتابة، كذلك يصحّ الإنشاء بها، لعدم الفرق بينهما من هذه الجهة، كما حُقّق في محلّه، ولا فرق في ذلك بين العاجز عن التكلّم كالأخرس وغيره.

أقول: وفي المقام خبرٌ استدلّ به:

تارةً : للقول بالصحّة.

واُخرى : للقول بالبطلان.

وثالثة: للتفصيل المنسوب إلى الشيخ في «النهاية»(1) بين ما إذا عمل الورثة ببعض المكتوب فيلزمون بالعمل به، وبين ما إذا لم يعملوا ببعضه فلا يلزمون به.

ورابعة: للتفصيل بين الولد وغيره من الورثة.

والخبر هو الذي رواه إبراهيم بن محمّد الهمداني، قال:

«كتبتُ إلى أبي الحسن عليه السلام: رجلٌ كتب كتاباً بخطّه، ولم يقل لورثته هذه وصيّتي، ولم يقل إنّي قد أوصيتُ ، إلّاأنّه كتب كتاباً فيه ما أراد أن يُوصي به، هل يجبُ على ورثته القيام بما في الكتاب بخطّه، ولم يأمرهم بذلك ؟

فكتب عليه السلام: إنْ كان له ولدٌ، ينفذون كلّ شيء يجدون في كتاب أبيهم في وجه البِرّ وغيره»(2).

وعن «التذكرة» روايته هكذا: (إنْ كان له ولدٌ ينفذون شيئاً منه، وجب عليهم أن ينفذوا كلّ شيء»(3).).

ص: 328


1- النهاية: ص 622.
2- من لايحضره الفقيه: ج 4/198 ح 5456، وسائل الشيعة: ج 19/372 ح 24790.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/452 (ط. ق).

ولا يجبُ العمل بما يوجد بخطّه.

واستدلّ به للصحّة: باعتبار أنّه يدلّ على الصحّة بالنسبة إلى الولد، فبعدم القول بالفصل تثبت في غيره.

واستدلّ به للبطلان: باعتبار أنّه يدلّ على أنّ التنفيذ كذلك من خواصّ الولد، نظير قضاء الصَّلاة والصوم، فتدلّ على عدم حجيّة الكتابة المجرّدة عن القول، فتقيّد به العمومات.

وللتفصيل الأوّل: بظهور النقل الثاني فيه.

وللثاني منه: بأنّ منطوقه يدلّ على صحّة الوصيّة بها للولد، ومفهومه يدلّ على عدم الصحّة بالنسبة إلى غيره من الورثة.

أقول: وربما يناقش فيه من حيث السند.

وفيه: أنّ الظاهر اعتبار سنده، فإنّ الصدوق يرويه عن أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن إبراهيم بن محمّد الهمداني، وأحمد بن زياد ثقة، وعليّ بن إبراهيم من الأجلّاء، وأبوه مقبولُ الحديث، بل من الثقات، وكذا إبراهيم.

وأمّا دلالته: فالذي يظهر لي منه أنّه يدلّ على أنّ الكتابة المجرّدة، من دون أنْ تكون هناك قرينة تشهد بكونها بعنوان الوصيّة، وداعياً على إنشائها، لاتكون حجّة على الوصيّة، إذ من الجائز أنّه إنّما كتب ذلك لينظر فيه، ثمّ يوصي بعد ذلك، وهذا لا ربط له بما هو محلّ الكلام، بل هو الذي قاله المصنّف رحمه الله بقوله: (ولا يجبُ العمل بما يوجد بخطّه).

ص: 329

نعم، إذا عمل الولد ببعض الوصيّة، كان ذلك اعترافاً منه بالعلم بأنّه أوصى بذلك، فيؤخذ باعترافه، وعليه فيمكن القول بدلالته على صحّة الإنشاء بها، إذ لو لم تصحّ لما كان وجهٌ لأخذ الولد باعترافه، ولا يحتمل الاختصاص بالولد. فتدبّر حتّى لا تُبادر بالإشكال.

***

ص: 330

حكم الوصيّة بأمرين وقبول الموصى له أحدهما

المسألة الثالثة: المعروف بين الأصحاب أنّه:

1 - لو أوصى له بشيئين بإيجابٍ واحد، فَقبِل المُوصى له أحدهما وردّ الآخر، صَحّ فيما قبل، وبَطَل فيما ردّ.

2 - وكذا لو أوصى له بشيء، فقبل بعضه مشاعاً أو مفروزاً، وردّ بعضه الآخر.

واستدلّ له جماعة: منهم الشيخ الأعظم رحمه الله(1) بانحلال العقد على الجملة إلى عقودٍ متعدّدة، كانحلال العقد المشروط إلى ذلك، ولذلك صَحّ تبعّض الصفقة، كما صَحّ العقد مع فوات وصف الصحّة، وغيره من الشروط في ضمن العقد.

وأُورد عليه: بأنّه يعتبر المطابقة بين الإيجاب والقبول، وهي مفقودة في المقام.

وأجاب عنه صاحب «الجواهر» رحمه الله تارةً : (بأنّ الوصيّة ليست من العقود المعتبر فيها المطابقة، لتحقّق اسم العقد الذي هو الإيجاب وقبول ذلك بالإيجاب بها).

واُخرى : (بأنّه في الوصيّة لم يصدر من الموجب غير تعلّق قصد الإيصاء بكلّ منهما من غير مدخليّة لاجتماعهما وانفرادهما)(2).

ولعلّه إلى هذا يرجع ما أفاده المحقّق الثاني رحمه الله(3) من أنّ الوصيّة لمّا كانت تبرّعاً محضاً، لم ترتبط اجزائها بعضها ببعض، فكما يصحّ قبولها جميعاً يصحّ قبول بعضها.

أقول: أمّا على المختار من أنّ الوصيّة من الإيقاعات فالأمر ظاهرٌ، لأنّ الوصيّة قد تمّت بالإيجاب، غاية الأمر أنّ للموصى له رَدّ الوصيّة، فكما أنّ له رَدّ الكلّ له رَدّ

ص: 331


1- الوصايا والمواريث: ص 42.
2- جواهر الكلام: ج 28/257-258.
3- جامع المقاصد: ج 10/14.

البعض، وكذلك على القول بأنّ القبول من قبيل الشرط لا جزءً للعقد.

ودعوى: أنّه لا إطلاق يشمل الوصيّة بالبعض، لأنّ كلّ جزءٍ وإنْ كان موضوعاً للوصيّة، لكنّه في حال الاجتماع، ولا يشمل حال الانفراد، فلا موضوع لدليل الصحّة والنفوذ.

ممنوعة أوّلاً: النقص بما إذا أوصى بما يزيد على الثلث فلم يقبل الورثة، فإنّه لا إشكال في صحّة الوصيّة بالنسبة إلى الثُّلث، فيستكشف من ذلك شمول دليل الوصيّة للوصيّة بالبعض.

وثانياً: بالحَلّ بأنّ الوصيّة بشيئين وصيّةٌ بكلّ منهما، لا أنّ الوصيّة توزّع عليهما، فلكلّ منهما نصف الوصيّة، فإنّ الوصيّة من قبيل الوجود، فكما أنّه لو أوجد شيئين في الخارج أو الذهن، يصحّ أنْ يقال إنّه أوجد كلّاً منهما، كذلك في الوجودات الاعتباريّة، فكلٍّ من الشيئين تعلّق به الوصيّة، فتشملها إطلاقات أدلّة الصحّة.

وأمّا على القول بأنّ القبول جزءٌ للعقد، فبعد انحلال العقد إلى عقدين، يكون قبول أحدهما مطابقاً لإيجابه، ولم يدلّ دليلٌ على اعتبار المطابقة بين القبول ومجموع ما أنشأ بإيجابٍ واحد، ولذلك بنينا على صحّة البيع مع تبعّض الصفقة.

أقول: ولا فرق في جميع ما ذكرناه بين ما لو علم من حال الموصي إرادته تمليك المجموع من حيث المجموع، وبين ما لو علم من حاله عدم قصد له في الاجتماع، إذ المدار في الإنشائيّات على الإنشاء، لا ما في نفس المُنشَأ، فما لم يشترط في الإنشاء جاز فيه التبعض، وإنْ كان غرضه الاجتماع.

***

ص: 332

وإنّما تصحّ في السائغ.

لزوم الوصيّة بالأمر السائغ

المسألة الرابعة: (وإنّما تصحّ ) الوصيّة (في السّائغ) ولا تصحّ في المعصية كمساعدة الظالم في ظلمه، بلا خلافٍ أجده فيه، وتشهد به:

الآية الكريمة: (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) (1).

وفي خبر محمّد بن سوقة، عن الإمام الباقر عليه السلام: عن قول اللّه تعالى : «فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ » (2) الآية ؟ فقال عليه السلام: نَسَختها التي بعدها: (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) ».

قال: يعني الموصى إليه إنْ خاف جنفاً من الموصي فيما أوصى به إليه ممّا لا يرضى اللّه عزّ ذكره من خلافِ الحقّ (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (3) أي على الموصى إليه أن يردّه إلى الحقّ ، وإلى ما يرضى اللّه عزّ وجلّ فيه من سبيل الخير»(4).

وفي المرسل المضمر: «إنّ اللّه تعالى أطلق للموصى إليه أن يغيّر الوصيّة إذا لم تكن بالمعروف، وكان فيها حيفٌ ، ويردّها إلى المعروف، لقوله عزّ وجلّ : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً(5)) »(6).

والمراد من التبديل في الخبرين ما لاينافي البطلان، لا أنّ المراد تبديل الوصيّة

ص: 333


1- سورة البقرة: الآية 182.
2- سورة البقرة: الآية 181.
3- سورة البقرة: الآية 182.
4- الكافي: ج 7/21 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/351 ح 24746.
5- سورة البقرة: الآية 182.
6- الكافي: ج 7/20 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/352 ح 24747.

فلو أوصى المسلم ببناء كنيسةٍ لم تصحّ .

بصرف المال في المحرّم إلى صرفه فيما هو حلال، إذ تبديل الوصيّة بما زاد على الثُّلث معناه البطلان فيما زاد عليه، كما هو واضح.

ويمكن أن يستدلّ لبطلانها:

1 - بانصراف أدلّة الوصيّة عنها، فهي باقية تحت أصالة المنع.

2 - وبعدم إمكان تنفيذها، فهي كالوصيّة بغير المقدور، إذ المتنع شرعاً كالمتنع عقلاً، وعليه (فلو أوصى المسلم ببناء كنيسةٍ لم تصحّ ).

***

ص: 334

وله الرجوع فيها.

جواز رجوع الموصي في الوصيّة

المسألة الخامسة: (وله) أي للموصي (الرجوع فيها) أي في الوصيّة متى شاء في مرضٍ أو صحّة، بلا خلافٍ أجده فيه، وبه صرّح غير واحد، وتشهد به نصوص كثيرة:

منها: موثّق بُريد العِجلي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لصاحب الوصيّة أن يرجع فيها ويُحدث في وصيّته ما دام حَيّاً»(1).

ومنها: صحيح ابن مسكان، عنه عليه السلام: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام أنّ المدبَّر من الثُّلث، وأنّ للرجل أن ينقض وصيّته فيزيد فيها وينقص منها ما لم يمت»(2).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عنه عليه السلام: «للرّجل أن يرجع في ثلثه إنْ كان أوصى في صحّةٍ أو مرض»(3).

ومنها: خبر عبيد بن زرارة، عنه عليه السلام: «للموصي أن يرجع في وصيّته إنْ كان في صحّةٍ أو مرض»(4).

ونحوها غيرها.

ص: 335


1- الكافي: ج 7/12 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/303 ح 24654.
2- الكافي: ج 7/12 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/302 ح 24651.
3- الكافي: ج 7/22 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/307 ح 24665.
4- الكافي: ج 7/12 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/303 ح 24653.

أقول: ثمّ إنّه لا إشكال فيما لو رجع قولاً أو فعلاً مع قصد الرجوع به، وكذا لا إشكال فيما إذا كان الفعل موجباً لعدم إمكان بقاء الوصيّة، كما لو باع ما أوصى به أو وهبه أو ماشاكل ممّا يوجب خروج المال عن ملكه، فينتفي بذلك موضوع الوصيّة.

إنّما الإشكال فيما لو تصرّف في الموصى به تصرّفاً أخرجه عن مسمّاه، من دون أن يقصد به الرجوع، كما لو أوصى بطعامٍ فطحنه، أو بدقيق فَعَجَنه أو خَبزه.

فعن غير واحدٍ(1): تحقّق الرجوع به، نظراً إلى أنّ الموصى به هو المسمّى باسمٍ خاص، فمع التغيير ينعدم موضوع الوصيّة، وهو مقتضٍ لبطلانها.

وإلى أنّ الوصيّة على ما يفهم منها، تقتضي عدم التصرّف المنافي، وبقاء العين على حالها، كما يقال ذلك في النذر المعلّق، كما لو نذر أن يعطي داره لزيدٍ إنْ رُزق ولداً، فكأنّه نذر أن يُبقي الدار إلى أن تعطى زيداً.

وعليه، فكما أنّ التصرّف المنافي حينئذٍ كاشفٌ عن رفع اليد عن الوصيّة، كذلك التصرّف المغيّر للعين كاشفٌ نوعي عن رفع اليد عن الوصيّة، ولازم الوجه الأوّل البطلان حتّى مع العلم بعدم قصد الرجوع، والثاني البطلان مع عدم إحراز عدم قصد الرجوع.

وبالجملة: وبه يظهر أنّ ما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله(2) - من عدم بطلان الوصيّة لو فعل المغيّر للاسم لمصلحة العين، كدفع الدود عن الحنطة - إنّما يتمّ لو كان منشأ البطلان الوجه الثاني دون الأوّل، فتفريعه ذلك على الوجوه الأوّل غير تامّ .

أقول: وعلى ما ذكرناه لو علّق الموصي وصيّته باسم الإشارة ونحوه ممّا لم يُذكر7.

ص: 336


1- انظر: شرائع الإسلام: ج 2/469، مسالك الأفهام: ج 6/137.
2- مسالك الأفهام: ج 6/137.

فيه الاسم، ثمّ تصرّف في الموصى به تصرّفاً مغيّراً، فحيث أنّ الوجه الأوّل لا يجري هنا، وينحصر الوجه في الثاني، فلو علم من قصده عدم الرجوع، لا تبطل الوصيّة بذلك، وإلى هذا نظر المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»(1)، لا ما توهّمه المحقّق والشهيد الثانيان(2) من أنّه يفصّل بين الوصيّة بالمعيّن والوصيّة بالمطلق، وأنّه تصحّ الوصيّة بالمعيّن وإنْ تغيّر الاسم، بخلاف الوصيّة بالثاني، فإنّ الوصيّة تبطل بمجرّد تغيّر ما عنده من أفراده لو كان، فإنّ هذا شيء لايمكن أن يتفوّه به متفقِّهٌ فضلاً عمّن هو في الصف الأوّل من الفقهاء المحقّقين، فإنّه في الوصيّة بالمطلق - أي الكلّي - لاتبطل حتّى مع التصرّف المُتلِف للأفراد، لعدم كون التصرّف وارداً على ما هو متعلّق الوصيّة، وهذا من الوضوح بمكان.

فرع: لو مات الموصي، فهل لورثته الرجوع ما لم يقبل الموصى له أم لا؟

الظاهر أنّه ليس لهم ذلك:

أمّا على المختار من كون الوصيّة من الإيقاعات فواضحٌ .

وأمّا على القول باعتبار القبول فيها، فلأنّ رفع اليد عن الوصيّة إنّما يجوز للموصي، ولم يدلّ دليلٌ على جواز ذلك لورثته.

فإنْ قيل: إنّ حقّ الرجوع من ما تركه الموصي فهو لوارثه.

قلنا: إنّه لم يثبت كون ذلك من الحقوق، بل لعلّه من قبيل الحكم فلا يورث، مع أنّ المتيقّن الثابت هو رجوع الموصي، فلا يكون ذلك ممّا ترك الميّت، بل ينتفي بالموت لانتفاء موضوعه.8.

ص: 337


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/516 (ط. ق).
2- جامع المقاصد: ج 11/319، مسالك الأفهام: ج 6/138.

نعم، يمكن البناء على جواز تصرّفهم فيه ظاهراً، ما لم ينكشف تعقّب القبول نظراً إلى استصحاب عدم القبول، بناءاً على جريانه في الاُمور الاستقباليّة، ولايجوز ذلك على ما اخترناه، لأنّ استصحاب عدم الرّد على المختار يقتضي عدم جواز التصرّف، وكون المال للموصى له.

***

ص: 338

ويشترط صحّة تصرّف الموصي،

البحث عن شرائط الموصي

المطلب الثاني: في شرائط الموصي.

أقول: ذكروا له شروطاً (و) قد جمعها المصنّف رحمه الله في قوله: (يشترط صحّة تصرّف الموصي).

وتفصيل ذلك: أنّه يعتبر فيه اُمور:

الشرط الأوّل: البلوغ:

فلا تصحّ وصيّة غير البالغ بلا خلافٍ ، وعليه الإجماع في الجملة، ولعلّه من القطعيّات كما صرّح به بعضهم، لما دلّ على رفع القلم عنه، وعدم جواز أمره، وعدم صحّة تصرّفاته من الكتاب(1) والسُنّة(2).

إنّما الكلام في وصيّة البالغ عشراً:

1 - فالمشهور أنّه تصحّ وصيّته إذا كان عاقلاً في وجوه المعروف.

2 - وعن الحِلّي(3)، والمصنّف في «المختلف»(4)، والمحقّق الثاني في «جامع

ص: 339


1- سورة النساء: الآية 6.
2- الخصال: ص 175 ح 233، وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 81، وقرب الإسناد: ص 155 ح 569، وسائل الشيعة: ج 29/90 ح 35225، وأيضاً في وسائل الشيعة: ج 17/360-361 باب 14 من أبواب عقد البيع، وج 18/410-412 باب 2 من أبواب الحجر.
3- السرائر: ج 3/206.
4- مختلف الشيعة: ج 6/393.

المقاصد»(1)، والشهيد الثاني في «المسالك»(2): عدم الصحّة.

واستدلّ للأوّل: بجملةٍ من النصوص:

منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا أتى على الغلام عشر سنين، فإنّه يجوز له في ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصى على حَدٍّ معروف وحقّ فهو جائز»(3).

ومنها: مصحّح البصري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا بلغ الغلام عشر سنين جازت وصيّته»(4).

ومنها: موثّق منصور، عنه عليه السلام: «عن وصيّة الغلام هل تجوز؟ قال عليه السلام: إذا كان ابنُ عشر سنين جازت وصيّته»(5).

ومثله موثّق البصري عنه(6).

ومنها: موثّق أبي بصير وأبي أيّوب، عنه عليه السلام: «في الغلام ابن عشرُ سنين يوصي ؟ قال عليه السلام: إذا أصاب موضع الوصيّة جازت»(7).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عنه عليه السلام: «إنّ الغلام إذا حضره الموت فأوصى ولم يُدرك، جازت وصيّته لذوي الأرحام، ولم تجز للغرباء»(8).

ومنها: صحيح أبي بصير، عنه عليه السلام: «إذا بلغ الغلام عشر سنين، وأوصى بثلث1.

ص: 340


1- جامع المقاصد: ج 10/34.
2- مسالك الأفهام: ج 6/142.
3- من لايحضره الفقيه: ج 4/197 ح 5451، وسائل الشيعة: ج 19/362 ح 24764.
4- من لايحضره الفقيه: ج 4/196 ح 5450، وسائل الشيعة: ج 19/362 ح 24763.
5- التهذيب: ج 9/182 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/363 ح 24766.
6- التهذيب: ج 9/181 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/362 ح 24765.
7- التهذيب: ج 9/181 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/363 ح 24766.
8- من لايحضره الفقيه: ج 4/197 ح 5453، وسائل الشيعة: ج 19/360 ح 24761.

ماله في حقّ ، جازت وصيّته»(1).

ومنها: موثّق جميل، عن أحدهما عليه السلام: «يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل، وصدقته ووصيّته وإنْ لم يحتلم»(2).

ومثله موثّق محمّد بن مسلم عن أحدهما عليه السلام(3).

أقول: والكلام فيما يستفاد من هذه النصوص في جهات:

الجهة الاُولى: أنّه اشتملت بعض هذه النصوص على العقل، وبعضها على العشر سنين، ومقتضى الجمع بين قضيّتين شرطيّتين متضمّنتين لشرطين مع وحدة الجزاء، البناء على سببيّة كلّ من الشرطين.

الجهة الثانية: أنّه في بعض الأخبار جُعل الحَدّ (المعروف) و (الحقّ ) وفي آخر (إصابة موضع الوصيّة)، والظاهر من الجميع إرادة أنْ تكون الوصيّة عقلائيّة واقعة في محلّها، فيعتبر كون الوصيّة في وجوه المعروف.

الجهة الثانية: أنّ صحيح محمّد بن مسلم متضمّنٌ لاختصاص جواز وصيّته بما كانت للأرحام، وأنّه لايجوز الوصيّة للغرباء، كما أنّ صحيح أبي بصير مذيّلٌ بقوله:

«وإذا كان ابنُ سبع سنين، فأوصى من ماله باليسير في حقّ جازت وصيّته» ولكن لعدم عمل الأصحاب بهما يسقطان عن الحجيّة.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: بعد رَدّ بعض النصوص إلى بعض، وإلغاء ما أعرض عنه المشهور: كون المتّجه ما أفاده المشهور.

أقول: وقد ظهر ممّا قدّمناه أنّ الإيراد عليها بأنّها مختلفة، بحيث لايمكن الجمع0.

ص: 341


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/197 ح 5452، وسائل الشيعة: ج 19/361 ح 24762. (2و3) التهذيب: ج 9/182 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/212 ح 24450.

العرفي بينها، فإثبات الحكم المخالف للأصل بها مشكلٌ ، كما أفاده الشهيد الثاني(1)، غير تامّ ، مع أنّه لو تمّ عدم إمكان الجمع بينها، تعيّن الرجوع إلى أخبار الترجيح والتخيير، لا طرح النصوص.

كما أنّه لا يبقى مع ما قدّمناه موردٌ لما عن «المختلف» حيث قال:

(وهذه الروايات وإنْ كانت متظافرة، والأقوال مشهورة، لكن الأحوط عدم إنفاذ وصيّته مطلقاً حتّى يبلغ، لعدم مناط التصرّف في المال عنه)(2).

ثمّ إنّ في المقام رواية أُخرى ، وهي رواية الحسن بن راشد، عن العسكري عليه السلام، قال: «إذا بلغ الغلام ثماني سنين فجائزٌ أمره في ماله، وقد وجب عليه الفرائض والحدود، وإذا تمّ للجارية سبع سنين فكذلك»(3).

ولكنّها كما أفاده المحقّق(4) شاذّة، ومخالفة لإجماع المسلمين، لأنّها تدلّ على حصول البلوغ بذلك، فيتعيّن طرحها وإنْ عمل بها ابن الجُنيد(5) في المقام.

الشرط الثاني: العقل، فلا تصحّ وصيّة المجنون: للإجماع، ولحديث رفع القلم المتقدّم آنفاً، وعدم قصده.

نعم، تصحّ وصيّة الأدواري منه إذا كانت في دور إفاقته، لأنّه حينئذٍ عاقل فلا مانع، وإطلاق الأدلّة يشملها.

ولو أوصى ثمّ جُنَّ لم تبطل، لعدم الموجب له حتّى على القول بأنّها من العقود1.

ص: 342


1- مسالك الأفهام: ج 6/142.
2- مختلف الشيعة: ج 6/393.
3- التهذيب: ج 9/183 ح 11، وسائل الشيعة: ج 19/212 ح 24452.
4- شرائع الإسلام: ج 2/470.
5- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/391.

الجائزة، والقول ببطلان القعد الجائز بالجنون، فإنّ ذلك فيما يبطل بالموت، لا في مثل الوصيّة التي لا تبطل به قطعاً، بل هو ملزمٌ لها، فالإجماع على بطلان العقد الجائز بالجنون لا يشمل المقام.

الشرط الثالث: الاختيار، فلاتصحّ وصيّة المكرَه إلّاإذا جاز بعد رفع الإكراه إجماعاًلحديث نفي الإكراه(1)، بناءً على المختار من كونه رافعاً لجميع الأحكام التكليفيّة والوضعيّة، ويعضده أنّه قد استشهد به الإمام عليه السلام في بعض الأخبار لنفي الصحّة(2).

الشرط الرابع: الرّشد، فلا تصحّ وصيّة السفيه، اعتبره جماعةٌ منهم ابن حمزة(1)، والمصنّف رحمه الله في محكيّ «التحرير»(2)، وظاهر «القواعد»(3)، والمحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(4).

ولكن المشهور على ما اعترف به غير واحدٍ عدم اعتباره، وأنّه تصحّ وصيّته في البِرّ والمعروف أو مطلقاً.

بل عن ظاهر «الغنية»(5): الإجماع على ذلك.

واستدلّ في «الجواهر» للاعتبار: - وفاقاً لجامع المقاصد - بعموم أدلّة الحَجْر عليه، وقال: (دعوى اختصاصها في حال الحياة واضحة المنع)(6).4.

ص: 343


1- الوسيلة: ص 372.
2- تحرير الأحكام: ج 3/356 (ط. ج).
3- قواعد الأحكام: ص 447.
4- جامع المقاصد: ج 10/35-36.
5- غنية النزوع: 305-306 ولكنّه صرّح باختصاصها بأبواب البِرّ بقوله: (ومن بلغ عشر سنين فصاعداً من الصبيان، فيما يتعلّق بأبواب البِرّ خاصّة).
6- جواهر الكلام: ج 28/274.

ولكن يتوجّه عليه: أنّه لم يدلّ دليلٌ على منع السفيه عن كلّ تصرّف، وإنّما دلّ على المنع عن تصرّفه في ماله، وظاهره كونه في مقام الامتنان عليه، لئلّا يذهب ماله هدراً، فلا يشمل التصرّف فيه في المقام الذي يوجبُ المنع حرمانه عن الانتفاع بماله.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّه يلزم من ذلك صحّة تصرّفاته في ماله في حال حياته إذا كان بنفعه، ولم يلتزموا به، فالجمود على إطلاق أدلّة المنع يقتضي ذلك في الوصيّة المتعلّقة بماله، وأمّا في غيرها فلا مانع عن نفوذها، وإطلاق أدلّة الصحّة يقتضي البناء عليها.

وأمّا المفلّس: فالأظهر جواز وصيّته، لعدم معارضتها لحقّ الغُرماء، لتقدّم الدين عليها.

الشرط الخامس: الحُريّة.

الشرط السادس: أن لا يكون قاتل نفسه، وسيأتي الكلام فيه عند تعرّض المصنّف رحمه الله لهذه المسألة.

الوصيّة بالولاية على الأطفال

مسألة: لاخلاف في أنّه يصحّ لكلٍّ من الأب والجَدّ الوصيّة بالولاية على الأطفال مع فقد الآخر.

وفي «الجواهر»: (أنّ عليه الإجماع بقسميه)(1).

أقول: والمستند جملة من الأخبار:

ص: 344


1- جواهر الكلام: ج 28/277.

منها: موثّق محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ أوصى إلى رجلٍ بولده وبمال لهم، وأذن له عند الوصيّة أن يعمل بالمال، وأنْ يكون الربح بينه وبينهم ؟

فقال عليه السلام: لا بأس به من أجل أنّ أباه قد أذن له في ذلك وهو حيّ »(1).

ومنها: خبر سعد بن إسماعيل، عن أبيه، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«عن وصيّ أيتامٍ يدرك ايتامه فيعرض عليهم أن يأخذوا الذي لهم، فيأبون عليه، كيف يصنع ؟

قال عليه السلام: يردّ عليهم ويكرههم عليه»(2).

ونحوهما غيرهما.

أقول: والمشهور أنّه لا تصحّ الوصيّة بالولاية من أحدهما مع وجود الآخر، بل الظاهر عدم الخلاف فيه، وهو المتّجه، فإنّ أدلّة الوصيّة بالولاية لا إطلاق لها تشمل صورة وجود أحد الوليّين، وأمّا أدلّة ولاية الموصي - سواءٌ كان هو الأب أو الجَدّ - فدلالتها على ولايته على الصغير بالنسبة إلى ما بعد موته حتّى مع وجود الآخر غير ظاهرة، والشكّ فيها كافٍ في البناء على العدم.

وبهذا البيان يظهر أنّه لا تصحّ الوصيّة من الحاكم الشرعي أو الوصي بالولاية عليهم، إذ الحاكم وإنْ كانت له الولاية على الأيتام لأنّها من شؤون القضاة والحكّام، وقد جُعِل الحاكم قاضياً وحاكماً(3)، ولازم ذلك ثبوت جميع ما للقضاء6.

ص: 345


1- الكافي: ج 7/62 ح 19، وسائل الشيعة: ج 19/427 ح 24885.
2- من لايحضره الفقيه: ج 4/222 ح 5525، وسائل الشيعة: ج 19/371 ح 24788.
3- الكافي: ج 1/67 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416.

والحاكم له، إلّاأنّه لم يثبت له ولاية نصب الوليّ بعده، فالمرجع أصالة عدم ترتّب الأثر.

وأمّا الوصي فولايته مجعولة من قبل المُوصي، والمجعول ولاية نفسه لا أنْ تكون له ولاية على نصب الغير.

وربما يستدلّ : على أنّه ليس للحاكم الوصيّة بالولاية، بأنّ الولاية على الصغير ثابتة للصنف لا للفرد، فإذا انعدم فردٌ قام فردٌ آخر ممّا حَلّ فيه طبيعة الصنف مقامه.

وفيه: أنّه إذا فرضنا أنّ له الوصيّة بالولاية في نفسه فإنّ هذا الوجه مردودٌ، لأنّه إذا ثبت الولاية للصنف جاز لكلّ فردٍ منه القيام بها، ومع قيام واحدٍ منهم بها ليس لآخرين مزاحمته.

وعليه، فإذا عيّن أحدُ الأفراد شخصاً للتصدّي بعد وفاته، فكأنّه تصدّى للأمر بنفسه، فليس للآخرين مزاحمته، لكن العمدة ما ذكرناه.

أمّا الاُمّ : فإنّه لا ولاية في ذلك لها على المشهور.

وفي «الجواهر»: (بلا خلافٍ معتدّ به، للأصل بعد عدم الدليل)(1).

وعن ابن الجنيد: (أنّ لها الولاية بعد الأب إذا كانت رشيدة)(2).

والأصحاب نقلوا عنه الفتوى دون الدليل، ولم أظفر بما يمكن أن يستدلّ به له.

***2.

ص: 346


1- جواهر الكلام: ج 28/277.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/412.

و وجود الموصي له.

في المُوصى له

المطلب الثالث: في الموصى له.

قالوا: (و) يشترط (وجود المُوصي له) حال الوصيّة، فلو أوصى لميّتٍ ، أو لمن ظَنَّ وجوده، فبان ميّتاً عند الوصيّة لم تصحّ ، وكذا لو أوصى لما تحمله المرأة في الزمان المستقبل، أو لمن يوجد من أولاد فلان، بلا خلافٍ أجده في شيء من تلكم، بل عن «نهج الحقّ »(1) و «التذكرة»(2): الإجماع عليها، كما نقله صاحب «الجواهر»(3).

وعلّلوه بأنّ الوصيّة تمليك عين أو منفعة كما سلف من تعريفها، والمعدوم غير قابلٍ للتمليك.

ويرد عليهم أوّلاً: أنّ ذلك لو تمّ لا قتضى وجود الموصى له حين موت الموصي لا حين الوصيّة، فإنّ ظرف التملّك هو حين الموت، وأمّا قبله فالمال باقٍ على ملك الموصى.

وثانياً: أنّه لا يتمّ فيما إذا أوصى بشيء لمن سيوجد بنحو تعليق التملّك على وجوده.

ودعوى: أنّه يلزم بقاءالمِلْك من حين الموت إلى زمان وجود الموصى له بلا مالكٍ .

ص: 347


1- بلغة الفقيه: ج 4/132.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/460 (ط. ق).
3- جواهر الكلام: ج 28/363.

مردودة: إذ لا محذور في ذلك، وكم أموال بلا مالك، فليكن هذا منها، غاية الأمر من جهة تعلّق الوصيّة به لايكون من قبيل المباحات الأصليّة كي يكون لكلّ أحدٍ أن يتملّكه.

وثالثاً: أنّ الملكيّة من الاُمور الاعتباريّة، ووجودها عين الاعتبار العقلائي، فكما أنّ المملوك قد يكون كليّاً، والمالك أيضاً كذلك، فإنّه لا مانع من الالتزام بمالكيّة الميّت، وأثر اعتبار الملكيّة له انتقاله منه إلى ورثته.

استدلّ صاحب «الجواهر» له: (بأنّ إطلاقات الوصيّة في الكتاب والسُنّة منصرفة إلى الوصيّة للموجود)(1).

ويتوجّه عليه: أنّه لا وجه للانصراف سوى الغلبة، وهي غير صالحة لأن تكون منشئاً للانصراف المقيّد للإطلاق.

فإذاً لا دليل على ذلك سوى الإجماع، وتسالم الأصحاب عليه، وعليه فلابدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقّن، وهو المعدوم حين موت الموصي والوصيّة التمليكيّة، وأمّا الوصيّة العهديّة التي ليس في الوصيّة إنشاء تمليكٍ فيها - كما لو أوصى الميّت في إعطاء شيء أو وقفه أو نحو ذلك لمن يتولّد من زيد - فلا أجد مانعاً عن صحّتها، كما صرّح به صاحب «الجواهر»(2).

وإطلاق اشتراط الأصحاب الوجود في الموصى له منزل - بقرينة ما في كلماتهم من التعليل - على التمليكيّة.4.

ص: 348


1- جواهر الكلام: ج 28/363.
2- جواهر الكلام: ج 28/364.

ولايعتبر في الموصى له أنْ لايكون وارثاً، فيجوز الوصيّة للوارث كما تجوز للأجنبي إجماعاً، حكاه جماعة(1).

ويشهد به: - مضافاً إلى إطلاق أدلّة الوصيّة من الكتاب والسُنّة -:

1 - الآية الكريمة: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ ) (2) والوالدان لابدّ أن يكونا وارثين وإنْ تخلّف ذلك في الأقربين على بعض الوجوه، إلّاأنْ يكون الأبوان ممنوعين من الإرث بكفرٍ ونحوه، واللّفظ أعمٌّ منه، فيشمل موضع النزاع.

2 - جملة من النصوص:

منها: صحيح محمّدبن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «الوصيّة للوارث لا بأس بها»(3).

ومنها: موثّقه الآخر، عنه عليه السلام: «عن الوصيّة للوارث ؟ فقال عليه السلام: تجوز.

قال: ثمّ تلا هذه الآية (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) (4) الآية»(5).

ومنها: صحيح أبي ولّاد الحنّاط، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن الميّت يوصي للوارث بشيء؟ قال: نعم، أو قال جائزٌ له»(6).

ونحوها غيرها.

وأمّا خبر أبي بصير، عن أحدهما عليه السلام: «في الآية الشريفة (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا6.

ص: 349


1- منهم السيّد المرتضى في الانتصار: ص 597 مسألة 329، و الشيخ في الخلاف: ج 4 135 كتاب الوصايا مسألة 1.
2- سورة البقرة: الآية 180.
3- الكافي: ج 7 9 ح 3، و سائل الشيعة: ج 19 288 ح 24609.
4- سورة البقرة: الآية 180.
5- الكافي: ج 7 10 ح 5، و سائل الشيعة: ج 19 287 ح 24607.
6- الكافي: ج 7 9 ح 2، و سائل الشيعة: ج 19 287 ح 24606.

حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ ) (1) ؟ قال عليه السلام:

هي منسوخة، نسختها آية الفرائض التي هي المواريث(2)»(3).

فمحمولٌ - بقرينة موثّق محمّد بن مسلم الذي استدلّ الإمام عليه السلام فيه بهذه الآية على جواز الوصيّة للوارث - على نسخ الوجوب، بل يمكن أنْ يقال إنّه لايستفاد منه أزيد من ذلك، من جهة أنّ ظاهر الآية هو الوجوب، وقد نسخ ذلك بآية المواريث(4)، فلا ينافي الجواز بل الاستحباب.

أقول: والأصحاب حملوا الخبر:

تارةً : على التقيّة.

واُخرى : على إرادة الكافرين من الوالدين وغير الوارث من الأقارب.

وثالثة: على إرادة أنّها منسوخة فيما يتعلّق بالوالدين خاصّة.

وأمّا خبر القاسم بن سليمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ اعترف لوارثٍ بدين في مرضه ؟

فقال عليه السلام: لا تجوز وصيّته لوارث، ولا اعترافٍ له بدين»(5).

فهو لا يصلح لمعارضته النصوص المتقدّمة، فيطرح أو يُحمل على التقيّة، أو على ما زاد عن الثُّلث.

***7.

ص: 350


1- سورة البقرة: الآية 180.
2- سورة النساء: الآية 11.
3- تفسير العياشي: ج 1/77 ح 167، وسائل الشيعة: ج 19/290 ح 24620.
4- سورة النساء: الآية 11.
5- التهذيب: ج 9/200 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/289 ح 24617.

والتكليف.

اعتبار التكليف في الوصي

المطلب الرابع: في الوصيّ .

(و) يشترط فيه اُمور:

الشرط الأوّل: (التكليف) بالبلوغ والعقل، فلا تصحّ الوصيّة إلى صبي بحيث يتصرّف حال صباه مطلقاً، ولو كان إلى البالغ منضمّاً، ولا إلى مجنونٍ كذلك، بلا خلافٍ في شيء من تلكم في الجملة، بل عليها الإجماع.

أقول: وتفصيل القول يتحقّق بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: لا تصحّ الوصيّة إلى صبيّ بأنْ يتصرّف حال صباه، واستدلّ له بقصوره بالصبا السّالب لأقواله وأفعاله عن منصب الوكالة، فضلاً عن الوصاية التي هي أعظم منها باعتبار كونها ولاية بخلافها.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ الصبي ليس مسلوب القول والفعل، وإنّما هو ممنوعٌ عن التصرّف مستقلّاً، وعليه فإذا أوصى إليه بأنْ يتصرّف بإذن وليّه، فإنّه لا أرى في ذلك محذوراً.

وثانياً: أنّ الوصيّة بأنْ يتصرّف معامليّاً مستقلّاً أو بالولاية على أولاده، وإنْ كانت لا تصحّ - أمّا الأوّل فلكونه ممنوعاً عنه، وأمّا الثاني فلأنّه لا ولاية له على نفسه، فكيف يمكن أنْ يكون له الولاية على الغير، وفي غير ذينك من التصرّفات والاُمور التي يوصي بها - فما الموجب لعدم صحّة جعله وصيّاً فيها، فلو أوصى بأن

ص: 351

يصلّى عليه بناءً على شرعيّة عباداته، أو يتصدّى لتجهيزه، أو يكون هو المجري للصيغة في المعاملات الواقعة على ثلث ماله مثلاً، أو صرف الثُّلث في مصارفه وما شاكل، لا يوجب الوجه المزبور عدم صحّتها.

وربما يستدلّ له: بأنّ الوصاية نوعُ ولايةٍ لايصلح الصبي لتصدّيها، و التلبّس بها.

وفيه: إنّا لا نعبّر عنها بالولاية حتّى يأتي هذا المحذور، ومجرّد أنّ له أنْ يتصرّف كالوكيل، لا تكون ولايةً التي هي اعتبار عقلائي خاص منشأ لآثار.

وعليه، فالحقّ أنّه لادليل على المنع عنه مطلقاً سوى الإجماع.

المورد الثاني: المشهور أنّه تصحّ الوصيّة إلى الصبي منضمّاً إلى بالغ، وأنّه لايتصرّف الصغير قبل البلوغ، فإذا بلغ صار شريكاً، وللبالغ الاستقلال في التصرّف ما دام صغيراً.

أقول: والأصلُ في هذه الأحكام مدلول الخبرين:

الأوّل: الخبر الذي رواه عليّ بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجل أوصى إلى امرأة وأشرك في الوصيّة معها صبيّاً؟

فقال عليه السلام: يجوز ذلك وتمضي المرأة الوصيّة، ولا تنتظر بلوغ الصبي، فإذا بلغ الصبي فليس له أن لا يرضى إلّاما كان من تبديلٍ أو تغيير، فإنّ له أن يردّه إلى ما أوصى به الميّت»(1).

الثاني: صحيح الصفّار، قال: «كتبتُ إلى أبي محمّد عليه السلام: رجلٌ أوصى إلى ولده وفيهم كبار قد أدركوا وفيهم صغار، أيجوز للكبار أن ينفذوا وصيّته، ويقضوا دَينه5.

ص: 352


1- التهذيب: ج 9/184 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/375 ح 24795.

لمن صَحّ على الميّت بشهود عدول قبل أن يُدرك الأوصياء الصغار؟

فوقّع عليه السلام: نعم، على الأكابر من الولد أن يقضوا دَين أبيهم، ولا يحبسوه بذلك»(1).

ونحوهما غيرهما.

وفي خبر زياد بن أبي الحلال(2) ما يظهر منه عدم جواز الوصيّة إلى الصبي قبل بلوغ خمس سنين، ولكن لم يَعمل به الأصحاب.

المورد الثالث: وقع الخلاف بين الأصحاب في وقت اعتبار البلوغ على قولين نقلهما الشيخ في محكي «المبسوط»(3):

أحدهما: أنّه يعتبر حال الوصيّة، وهذا القول اختيار الشيخ وابن إدريس(4)، ونُسب إلى الأكثر، وظاهر المحقّق(5) اختياره.

ثانيهما: أنّ العبرة بحال الوفاة.

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ البلوغ إذا كان شرطاً، لزم تقدّمه على المشروط ولو بفترة وجيزة، فإذا كان شرطاً لصحّة الوصيّة، ولم تكن موجودة حال إنشائها، لم يكن العقد صحيحاً، لانتفاء الشرط المقتضي لانتفاء المشروط.

2 - وبأنّه منهيّ وقت الوصيّة عن التفويض إلى من ليس بالصفات، والنهي المتوجّه إلى ركن المعاملة يقتضي فسادها.4.

ص: 353


1- التهذيب: ج 9/185 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/375 ح 24794.
2- من لايحضره الفقيه: ج 4/237 ح 5566، وسائل الشيعة: ج 19/376 ح 24796.
3- المبسوط: ج 4/51-52.
4- السرائر: ج 3/189.
5- شرائع الإسلام: ج 2/484.

3 - وبأنّه يجب أنْ يكون الوصيّ بحيث لو مات الموصى نافذ التصرّف مشتملاً على صفات الوصيّة، وهو هنا منتفٍ .

أقول: ولكن الجميع - مضافاً إلى ما مرّ - كما ترى مصادرة على المطلوب، إذ كون البلوغ شرطاً مقارناً للوصيّة أوّل الكلام، وكذا كونه منهيّاً وقت الوصيّة عن التفويض، وكذا اعتبار كونه مشتملاً للصفات نافذ التصرّف حين الوصيّة، فالأظهر القول الثاني.

نعم، لو قلنا بأنّ الوصيّة من العقود، وأنّ قبول الوصي جزءُ العقد، اتّجه اعتبار كون الوصي قابلاً للمعاهدة حال الوصيّة وواجداً للشرط، لا لما أفاده جمعٌ من المحقّقين(1) من أنّ مناط المعاهدة والمعاقدة لايتحقّق بدون ذلك، لأنّ المعاهدة مع الغير تقتضي كونهما معاً كذلك في حال الإيجاب والقبول، إذ معيّة المتعاقدين إنّما هي معية شاعرٍ ملتفتٍ إلى ما يلزم للغير، ويلتزم الغير له، وإلّا فلا ينقدح القصد الجديّ في نفس العاقد إلى المعاهدة، مع من هو كالجدار أو كالحمار، وعلمه بالتفاته فيما بعد لايُصحّح المعاهدة معه فعلاً.

فإنّه يرد عليه: أنّ عنوان العقد إنّما ينطبق على الالتزامين الواردين على موردٍ واحد، وليس منطبقاً على الإيجاب خاصّة، وإنّما شأن الموجب هو الالتزام النفساني وإبرازه، وهو إنّما يكون باقياً ما لم ترفع اليد عنه، فإذا كان باقياً حين القبول، التزم القابل الأهل لذلك حين القبول، فقد ارتبط الالتزامان لا محالة، وتحقّق عنوان العقد، مع أنّه لاينحصر دليل النفوذ ب (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2)، بل لأنّه بعدما لا ريب في أنّه1.

ص: 354


1- حاشية المكاسب - للشيخ الإصفهاني -: ج 1/291.
2- سورة المائدة: الآية 1.

يعتبر في ترتيب العقلاء والشارع الأثر على الالتزام النفساني، أن يظهره لمن هو طرفه في المعاملة، فإذا كان الطرف غير قابل للتخاطب، فالإظهار له كلّا إظهار، فلأجل ذلك تعتبر قابليّة القابل للتخاطب حال الإيجاب.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّه لو تمّ ذلك في سائر العقود، لم يتمّ في الوصيّة التي يصحّ إيجابها في حالٍ يكون القابل نائماً غير ملتفتٍ ، أو غائباً، فلو كانت من العقود لاتكون على حَدّ سائر العقود، ولكن الذي يُسهّل الخَطب ما مرّ من عدم كونها من العقود، فلا إشكال في عدم البلوغ حين الوصيّة.

اعتبار العقل في الوصيّ

المورد الرابع: يعتبر في الوصى العقل، فلا يصحّ الإيصاء إلى مجنونٍ مطبقاً أو أدواراً في دور جنونه.

أقول: والكلام في اعتبار العقل، كالكلام في اعتبار البلوغ، فلا دليل له سوى الإجماع والخبر الآتي.

نعم المجنون الذي يكون فاقداً للقصد، وغير مميّزٍ، لا إشكال في بطلان الوصيّة إليه، لعدم صحّة تصرّفاته، وعدم صلوحه للوكالة، ومثلها الوصاية، بل هي أعظم منها، بل لو طرأ الجنون على الوصيّ قالوا بطلت وصيّته، ففي خبر «دعائم الإسلام»، عن الإمام علي عليه السلام، أنّه قال: «لا يزيل الوصيّ إلّاذهاب عقلٍ أو ارتدادٍ، أو تبذيرٍ، أو خيانةٍ ، أو ترك سُنّة، والسلطان وصيُّ من لا وصيّ له، والناظر لمن لا ناظر له»(1).

ص: 355


1- دعائم الإسلام: ج 2/363 ح 1325، مستدرك وسائل الشيعة: ج 14/139 ح 16315 و ص 141 ح 16322.

والإسلام في الوصيّ .

وهل تعود الوصيّة بعود العقل ؟ جزم المصنّف رحمه الله(1) بالعدم، وتردّد في «الدروس»(2)، وأرى أنّ عدم العود أظهر لعدم المقتضى للعود.

ولو كان المجنون يعتوره أدواراً:

قال في محكيّ «الدروس»: (الأقرب الصحّة، وتُحمل على أوقات الإفاقة...

والفرق بينه وبين ما إذا طرأ الجنون، انصراف الوصيّة في ابتدائها إلى أوقات الإفاقة، وانصرافها هناك إلى دوام عَقله الذي لم يدم)، وهو حسنٌ .

(و) الثاني من الشرائط: (الإسلام) والظاهر أنّه لا خلاف في اعتباره (في الوصيّ ) إذا كان الموصى مسلماً، فلا تصحّ وصيّة المسلم إلى الكافر ولو كان رحماً، بل ربما يدّعى عليه الإجماع، ولا دليل لهم على ذلك سوى دلالة آيتين على ذلك:

إحداهما: قوله تعالى : (وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (3).

ثانيتهما: قوله عزّ وجلّ : (لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ ) (4).

لكن يتوجّه على الاستدلال بالأُولى: أنّ ظاهر الآية بقرينة ما قبلها نفي الجعل في الآخرة، مع أنّه قد ورد في خبر الهروي أنّ المراد من الآية نفي سبيل الحُجّة(5)، مع0.

ص: 356


1- تحرير الأحكام: ج 3/356 (ط. ج).
2- الدروس: ج 2/321.
3- سورة النساء: الآية 141.
4- سورة آل عمران: الآية 28.
5- عيون أخبار الرّضا عليه السلام: ج 1/220.

أنّ السبيل ظاهره السلطنة، والوصيّ لا سلطنة له على الموصي.

ويتوجّه على الاستدلال بالثانية: أنّه لا يأخذه الموصي وليّاً وإنّما يجعله وصيّاً بعد موته، فالإنصاف أنّه لا دليل على المنع سوى الإجماع، إنْ لم نعتبر العدالة في الوصي، وإنْ لم يثبت فالأظهر الجواز.

وعلى القول بالمنع، فإنّ المتيقّن منه هي الحرمة التكليفيّة دون بطلان الوصيّة.

وأمّا وصيّة الكافر لمثله، فلا إشكال في جوازها إنْ لم نعتبر العدالة في ديننا.

اعتبار العدالة في الوصي

وقد ذهب جماعةٌ منهم الشيخان(1)، والقاضي(2)، وابن حمزة(3)، والديلمي(4)، وابن زُهرة(5) إلى اعتبار العدالة في الوصيّ .

وعن «الغنية»: عليه إجماع الإماميّة.

واستدلّ له:

1 - بأنّ الوصاية استئمانٌ على مال الأطفال ومن يجري مجراهم من الفقراء والجهات التي لا يراعيها المالك، والفاسق ليس أهلاً للإستئمان على هذا الوجه، وإنْ كان أهلاً للوكالة، لوجوب التثبّت عند خبره.

ص: 357


1- المقنعة: ص 668، المبسوط: ج 4/51 في ذكر الأوصياء.
2- المهذّب: ج 2/116.
3- الوسيلة: ص 373.
4- المراسم: ص 205.
5- الغنية: ص 306.

2 - وبأنّ الوصيّة تتضمّن الركون باعتبار فعل ما أوصى إليه به من تفرقة المال، وإنفاقه وصرفه في الوجوه الشرعيّة، والفاسق ظالمٌ لا يجور الركون إليه، لقوله تعالى : (وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا) (1).

3 - وبأنّ الوصيّة استنابة على مال الغير، لا على مال الموصي، لانتقاله عنه بعد موته، وولاية الوصيّ إنّما تحصل بعد الموت، فيشترط في النائب العدالة كوكيل الوكيل، بل أولى، لأنّ تقصير وكيل الوكيل مجبورٌ بنظر الوكيل والموكّل، بخلاف الوصيّ فإنّه لا يشاركه فيها أحدٌ غالباً، ولا يتبع أفعاله.

4 - وبالنصوص(2) الواردة فيمن مات وله أموال وورثة صغار، ولا وصيّ له، قد اشترطت عدالة المتولي لذلك، حيث أنّها تدلّ على أنّ المتولّي لأمر الوصاية لابدّ فيه من العدالة، ولا فرق بين تعيين الموصى أو الحاكم الشرعي.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ المسلم محلٌّ للأمانة كما في الوكالة والاستيداع، ونمنع كون الفسق مانعاً إذا لم يكن له دخلٌ في حفظ المال، مع أنّ الموصي إنّما يعينه في التصرّف في ماله، فكما أنّه لايعتبر في تصرّف نفسه العدالة، كذلك في من يعنيه للتصرّف.

ودعوى: أنّ المال يخرج عن اختياره بالموت.

مندفعة: بأنّ ثلثه باقٍ تحت اختياره.

ووجوب التثبت عند خبره، لم يظهر لي ارتباطه بالدليل، مع أنّه إذا ائتمن يقبل قوله للنهي عن اتّهام المؤتمن.

وعلى الثاني: أنّ الوصاية ليست ركوناً، ومع التسليم فالممنوع الركون إلىا.

ص: 358


1- سورة هود: الآية 113.
2- وسائل الشيعة: ج 19/421-422 باب 88 من أبواب كتاب الوصايا.

خصوص الظالم من الفاسق، لا مطلقاً، وكلّ فاسقٍ وإنْ كان ظالماً لنفسه، إلّاأنّ ظاهر الآية الركون إلى من يظلم غيره.

وعلى الثالث أوّلاً: ما تقدّم من كونه استنابة على مال الموصي.

وثانياً: أنّه لا دليل على المنع عن استنابة الفاسق على مال الغير فيما له أنْ يستنيب عليه أحداً.

وأمّا وكيل الوكيل، فنمنع اعتبار العدالة فيه، بل الأمر فيه يتبع إذن الموكّل أو ما تقتضيه مصلحته.

وعلى الرابع: أنّ موضوعها تولّي عدول المسلمين الذين هم أحد الأولياء مع فقد الحاكم، ولا ربط لها بباب الوصاية والوصيّ ، واعتبار العدالة في الوليّ لايستلزم اعتبارها في الوصي.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أقوائيّة ما ذكره جماعةٌ منهم الحِلّي(1) والمحقّق في «النافع»(2)، والمصنّف في بعض كتبه(3)، من عدم اعتبار العدالة، للأصل، وإطلاق الأدلّة، ويؤيّده ما ورد في وصاية الأولاد وفيهم كبار وصغار، وأنّ الصبي يصيرُ وصيّاً بذلك عند بلوغه أو قبله، والتصرّف عند البلوغ(4).

وما ورد في وصاية الامرأة(5)، التي من الغالب عدم عدالتها، وما ورد من وصيّة الإمام الكاظم عليه السلام جميع ولده(6) ومنهم غير العدل، وجعل الولاية بيد عليّ عليه السلام،7.

ص: 359


1- السرائر: ج 3/189.
2- المختصر النافع: ص 164.
3- مختلف الشيعة: ج 6/394-395.
4- التهذيب: ج 9/185 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/375 ح 24794.
5- التهذيب: ج 9/184 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/375 ح 24795.
6- التهذيب: ج 9/149 ح 57، وسائل الشيعة: ج 19/202 ح 24427.

لايُجدي على القول بالمنع من وصاية الفاسق.

إلى غير تلكم من الأخبار التي لا يُنكَر ظهور ها في عدم اعتبار العدالة.

ولو تمّت دلالة ما مرّ على اعتبار العدالة، فهي إنّما تدلّ على اعتبار العدالة لا على مانعيّة الفسق - كما في «المسالك»(1) - حتّى يصحّ استصحاب عدم الفسق، فتصحّ الوصيّة إلى مجهول الحال.

أقول: وأمّا ما أفاده سيّد «الرياض» تبعاً للتذكرة(2) و «الروضة»(3): (من أنّ هذا الشرط إنّما اعتبر ليحصل الوثوق بفعل الوصي، ويقبل خبره به، لا في صحّة الفعل في نفسه، فلو أوصى إلى من ظاهره العدالة وهو فاسقٌ في نفسه ففعل مقتضى الوصيّة، فالظاهر نفوذ فعله، وخروجه عن العهدة، ويمكن كون ظاهر الفسق أيضاً كذلك لو أوصى إليه فيما بينه وبين اللّه، وفعل مقتضاها، بل لو فعله كذلك لم يبعد الصحّة، وإنْ حكم ظاهراً بعدم وقوعه وضمانه ما ادّعى فعله)(4).

فمرجعه إلى إنكار شرطيّة العدالة.

وعليه، فلا وجه للحكم بضمانه بعدما دلّ الدليل على أنّ الأمين لا يُتّهم.

وكيف كان، فالأظهر عدم اعتبار العدالة فيه.

وعليه، فقد يقال بأنّه لو أوصى إلى عَدْلٍ ثمّ ظهر فسقه بعد موت الموصي، بطلت وصايته، ووجب عزله.

وعن «المختلف» الاحتجاج له: (بأنّ الظاهر أنّ الباعث له على اختيار العدل مع جواز الوصيّة إلى غيره، إنّما هو عدالته والوثوق بأمانته، فإذا خرج عن).

ص: 360


1- مسالك الأفهام: ج 6/242.
2- تذكرة الفقهاء: ص 511 (ط. ق).
3- الروضة البهيّة: ج 5/72.
4- رياض المسائل: ج 10/479-480 (ط. ج).

حَدّ العدالة، فاتَ الباعث، وخرج عن الاستئمان، إذ الظاهر أنّه لو كان حَيّاً لاستبدل به)(1).

وفيه أوّلاً: أنّه من الجائز كون الباعث له على جعله وصيّاً، قرابته أو نحو تلك لا عدالته، وعليه فمجرّد الاحتمال لايكفي في الحكم بالبطلان.

وثانياً: أنّ المدار هو على الإنشاء لا على ما في نفس الموصي:

فإذا جعله وصيّاً لا بعنوان أنّه عادلٌ لا وجه لبطلان وصيّته بظهور الفسق أو عروضه.

وإنْ علم أنّ الباعث له على نصبه وصيّاً كونه عادلاً، فإنّ الآثار الوضعيّة تتبع الإنشاء، ولا ترتبط بما في النفس من المرجّحات، ولذا اشتهر أنّ تخلّف الدّواعي في باب المعاملات لا يوجبُ الخيار.

ولا يعتبر في الوصي أنْ لا يكون وارثاً، ولا الذكوريّة، ولا الوحدة إجماعاً، لإطلاق الأدلّة ولجملة من النصوص(2) في الأوّل، وخبر عليّ بن بقطين(3) في الثاني.

وأمّاخبرالسكوني، عن جعفربن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن أميرالمؤمنين عليهم السلام:

«المرأة لا يُوصى إليها لأنّ اللّه تعالى يقول: (وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ (4)) »(5).

فلإعراض الأصحاب عنه، ومعارضته بخبر عليّ بن يقطين، لابدّ من طرحه، أو حمله على ما لو فقد بعض الشرائط السابقة كما يشعر به التعليل.

***1.

ص: 361


1- مختلف الشيعة: ج 6/395.
2- وسائل الشيعة: ج 19/291-296 باب 16 من أبواب كتاب الوصايا.
3- التهذيب: ج 9/184 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/375 ح 24795.
4- سورة النساء: الآية 5.
5- من لايحضره الفقيه: ج 4/226 ح 5533، وسائل الشيعة: ج 19/379 ح 24801.

والمِلك في الموصى به.

الموصى به وما يعتبر فيه

المطلب الخامس: في الموصى به.

وهو: إمّا عينٌ ، أو منفعة، أو حقٌّ قابل للنقل.

(و) المعروف صحّة الوصيّة في الجميع، لعمومات الصحّة والنفوذ، كما أنّ المعروف بين الأصحاب أنّه إنْ كانت الوصيّة بمال أو منفعةٍ يعتبر (الملك في الموصى به)، فلا تصحّ الوصيّة بمال الغير، ولا بما لا يُملك، ولا بالمحرّمات.

أمّا الأوّل: فلعدم جواز التصرّف في مال الغير، كانت الوصيّة تمليكيّة أو عهديّة، وحينئذٍ فإنْ أوصى بمال الغير، بأنْ علّق التمليك على موت ذلك الغير، وأجاز ذلك الغير، صحّت الوصيّة، لأنّه بالإجازة تصير الوصيّة وصيّة المجيز ومستندةً إليه، وتصدق الوصيّة من المالك كما في سائر موارد الفضولي، بناءً على ما هو الحقّ من صحّة الفضولي على القاعدة.

وإنْ أوصى بمال الغير بأنْ علّق التمليك على موت نفسه، فأجازه ذلك الغير، لم تصحّ لا وصيّةً ولا تملّكيّاً:

أمّا الأوّل: فلأنّ الوصيّة عرفاً عبارة عن تمليك المال معلّقاً على موت المالك لا على موت غيره، فلو قال: (هذا لكَ بعد موت أبيك)، لا يكون من الوصيّة.

وأمّا الثاني: فللتعليق المُجمع على مبطليّته للعقود والإيقاعات سوى الوصيّة.

ص: 362

وبذلك يظهر بطلان ما لو أوصى بماله لزيدٍ إذا ماتَ عمرو.

وأمّا الوصيّة بما لا يُملك:

فإنْ كانت على وجه التمليك، فبطلانها ظاهر.

وأمّا إذا كانت على وجه العهد والتخصيص، وكانت فيه فائدة ولو نادرة بنحو تُصحّح التخصيص، فالأظهر صحّتها، إلّاأنّ فرض كون الشيء ممّا له فائدة ولو نادرة، مع عدم قابليّته للتملّك لا أتصوّره عاجلاً.

وإنْ لم يكن فيه فائدة، لاتصحّ الوصيّة، لا تمليكيّةً ولا عهديّةً ولا تخصيصيّةً .

وأمّا الوصيّة بالمحرّمات: كالخمر والخنزير:

فإنْ كان الملحوظ في الوصيّة المنفعة المحرّمة، مثل الشرب في الخمر، واللّعب بالآت اللّهو وما شاكل، فلا إشكال في البطلان كما مرّ.

وإنْ أوصى بصيرورتها مِلْكاً، وفرضنا عدم قابليّتها للملكيّة، فالبطلان ظاهر أيضاً.

وأمّا إنْ أوصى بها للانتفاع بها منفعةً محلّلة، كما لو أوصى بالخمر للطلي أو للإسراج أو للتخليل أو نحو ذلك من الفوائد المحلّلة، فالظاهر صحّة الوصيّة بها على نحو التخصيص.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ له أنْ يوصي بانتقال حقّ الأولويّة الثابت له إلى الموصى له، وعليه فتصحّ الوصيّة بالكحول الذي لا يُشرب، وإنّما له استعمالات وفوائد اُخرى .

***

ص: 363

ولو جَرح نفسه بالمُهلِك ثمّ أوصى لم تصحّ ،

حكم وصيّة القاتل نفسه

المطلب السادس: في الأحكام. (و) فيه مسائل:

المسألة الاُولى: (ولو جَرح) الموصي (نفسه بالمُهلك) أو شرب سُمّاً أو نحو ذلك، (ثمّ أوصى ، لم تصحّ ) وصيّته على المشهور.

وعن «الإيضاح»(1): نسبته إلى الأصحاب مشعراً بالإجماع عليه.

والمستند صحيح أبي ولّاد حفص بن سالم، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:

من قتل نفسه متعمّداً فهو في نار جنّهم خالداً فيها.

قلت: أرأيتَ إنْ كان أوصى بوصيّةٍ ثمّ قتل نفسه من ساعته، تنفذ وصيّته ؟

قال: فقال: إنْ كان أوصى قبل أن يُحدث حدثاً في نفسه من جراحةٍ أو قتلٍ اُجيزت وصيّته في ثلثه، وإنْ أوصى بوصيّة بعدما أحدث في نفسه من جراحةٍ أو قتلٍ لعلّه يموت، لم تجز وصيّته»(2).

وما أفاده الحِلّي:(3) من أنّه لايجوز تخصيص القرآن بخبر الواحد، وحيث أنّه حيٌّ عاقلٌ مكلّفٌ ، وأوصى بوصيّةٍ ، وقد دلّ القرآن على نفوذ وصيّة كلّ حيّ عاقل، وأنّه لايجوز تبديلها، فالبناءُ على صحّة وصيّته متعيّنٌ .

ص: 364


1- إيضاح الفوائد: ج 2/478-479.
2- التهذيب: ج 9/207 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/378 ح 24800.
3- السرائر: ج 3/197-198.

يردّه: ما حُقّق في محلّه من أنّ عموم القرآن يُخصّص بخبر الواحد الواجد لشرائط الحجيّة.

ومن الغريب ما قاله صاحب «المختلف» من أنّ : (قول إدريس لا بأس به)(1).

وعن «الروضة»: (أنّه حسنٌ )(2).

وعن «القواعد»: (لو قيل بالقبول مع تيقّن رشده بعد الجرح، كان وجهاً)(3).

مع أنّ بناء المصنّف رحمه الله والشهيد الثاني على تخصيص الكتاب بخبر الواحد والصحيح، مضافاً إلى أنّ فرض حجيّته في نفسه معمولٌ به بين الأصحاب، سيّما وأنّ المصنّف رحمه الله في محكيّ «المختلف»(4) علّل عدم القبول بوجوه اُخر من دلالة فعله على سفهه، وعدم استقرار حياته، فيكون في حكم الميّت، وأنّ القاتل يُمنع من الميراث لغيره فيمنع عن نفسه، وأنّ قبول وصيّته نوعُ إرثٍ له، وإنْ كانت هذه الوجوه بيّنة الضعف.

أقول: ثمّ إنّ الخبر مختصٌّ بمن جَرَح نفسه لعلّه يموت لا لغرضٍ آخر، وما لو كان ذلك على وجه العصيان لقوله عليه السلام: «فهو في نار جهنّم»، وبما إذا كان فَعَل ذلك عمداً، وبما لو ماتَ من ذلك، وبالوصيّة في ماله لقوله عليه السلام: «في ثُلثه».

وعليه، فلو أوصى بما يتعلّق بالتجهيز ونحوه ممّا لا تعلّق له بالمال، أو فعل ذلك سهواً أو خطئاً، أو لغرضٍ آخر، او على غير وجه العصيان، كما في الجهاد في سبيل اللّه، أو عوفي ثمّ أوصى ، صحت الوصيّة في جميع هذه الموارد لعموم أدلّة الوصيّة.8.

ص: 365


1- مختلف الشيعة: ج 6/368.
2- الروضة البهيّة: ج 5/23، قوله: (وهو حسن لولا معارضة النّص المشهور).
3- قواعد الأحكام: ج 2/447.
4- مختلف الشيعة: ج 6/368.

ولو تقدّمت الوصيّة صحّت، وتصحّ الوصيّة للحمل

ولو جرح نفسه برجاء أن يموت وأوصى ثمّ عُوفي:

هل تصحّ وصيّته، لإطلاق أدلّة الوصيّة بعد اختصاص النَّص بما إذا ماتَ بذلك السبب ؟

أم لا تصحّ كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله بقوله: (لايخلو من نظرٍ، مع فرض عدم تجدّد إنشاء تمليك، ولذا لو نساها ولم يجدّدها لم تنفذ على الأقوى )(1)؟

وجهان، أوجههما الأوّل كما لا يخفى .

هذا فيما كانت الوصيّة بعدما جَرَح نفسه بالمُهلِك.

(و) أمّا (لو تقدّمت الوصيّة)، فلا إشكال في أنّها (صحّت)، من غير فرقٍ بين أنْ يكون حين الوصيّة بانياً على أن يحدث ذلك بعدها، وما لو لم يكن بانياً عليه، لإطلاق الصحيح المتقدّم.

الوصيّة للحمل

المسألة الثانية: لا خلاف بينهم (و) لا إشكال في أنّه (تصحّ الوصيّة للحمل) الموجود حين الوصيّة، وإنْ لم تحلّه الحياة، والوجه في ذلك:

1 - أمّا على ما ذكرناه في شرائط الموصى له، من أنّ مقتضى القاعدة صحّة الوصيّة للمعدوم، وإنّما لم نلتزم بها للإجماع فظاهرٌ.

2 - وأمّا على القول الآخر، فالوجه فيه أنّ الحمل ليس معدوماً صرفاً لا يقبل

ص: 366


1- جواهر الكلام: ج 28/276.

بشرط وقوعه حيّاً،

التملّك، بعد كون الملكيّة من الاُمور الاعتباريّة، وهي خفيفة المؤونة، فيوصي له وأنْ مات الموصي قبل أن يولد.

إنّما الكلام فيما طفحت به كلماتهم، من أنّه إنّما تصحّ الوصيّة (بشرط وقوعه حَيّاً)، وعُلّل ذلك بأنّ الحمل لو لم يولد حَيّاً، لا يقبل لأن يملك لعدم ترتّب أثر على ملكيّته، وبقياس الوصيّة على الإرث.

فإنّه يتوجّه على الأوّل: النقض بما لو ولد حَيّاً ومات في ساعته.

والحَلّ ما مرّ في الوقف، من أنّه إذا ملك وسقط ميّتاً بعد ولوج الروح فيه، يكون ذلك إرثاً لورثته.

وعلى الثاني: إنّا لا نقول بالقياس.

فإذاً لا مدرك لاعتبار هذا الشرط سوى الإجماع.

أقول: وعلى المختار من كون الوصيّة من الإيقاعات، غاية الأمر أنّ للموصى له رَدّ الوصيّة، لا إشكال فيما سقط حَيّاً ومات من ساعته.

وأمّا على القول بأنّها من العقود، ويعتبر فيها القبول، فقد أشكل الأمر على القوم فيمن يقبل هذه الوصيّة، قال في «المسالك»:

(ولكن يعتبر هنا قبول الوارث، لإمكانه في حقّه، وإنّما أسقطنا اعتباره عن الحمل لتعذّره، كما سقط اعتباره في الوصيّة للجهات العامّة، ووجه سقوطه عن الوارث، تلقّيه الملك عن المولود المالك لها بدون القبول، والمتّجه اعتبار القبول في الوصيّة للحمل مطلقاً، فيقبل وليّه ابتداءً أو وارثه هنا)(1) انتهى .6.

ص: 367


1- مسالك الأفهام: ج 2/236.

وفيه: أمّا اعتبار قبول الوارث فلا وجه له أصلاً، لأنّ الوارث يتلقّى المِلْك من المولود، وثبوت الملكيّة القهريّة له بحكم أدلّة الإرث ممّا لا كلام فيه، فملكيّته تتوقّف على ملكيّته للمولود، فلو توقّفت الملكيّة له على قبول الوارث، لزم الدور، مع أنّه لا وجه لاعتبار قبول غير من هو طرف المعاملة.

وأمّا قبول الوليّ : فاعتباره أيضاً لا يمكن تطبيقه على الأدلّة:

إذ ما دام حملاً لا دليل على ولايته عليه، بحيث يصحّ له عنه الهبة والبيع ونحوهما خصوصاً قبل ولوج الروح وبعد الولادة.

وإنْ كانت ولايته ثابتة عليه، إلّاأنّ ظاهر الفتاوي المتضمّنة لاستقرار الوصيّة بانفصاله حَيّاً ينافي ذلك.

وعليه، فالمتّجه عدم اعتبار القبول في هذا المورد أيضاً.

الوصيّة للكافر

المسألة الثالثة: في الوصيّة للكافر أقوالٌ أنهاها في محكيّ «التنقيح»(1) في الذّمي خاصّة إلى سبعة أقوال، لكن العمدة منها في الذّمي ثلاثة:

1 - الجواز مطلقاً، اختاره الشيخ في «الخلاف»(2)، والحِلّي(3)، والمحقّق(4)، والمصنّف رحمه الله(5) وغيرهم(6).

ص: 368


1- التنقيح الرائع: ج 2/370-371.
2- الخلاف: ج 4/153 مسألة 26.
3- السرائر: ج 3/186.
4- شرائع الإسلام: ج 2/479.
5- مختلف الشيعة: ج 6/345.
6- كفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد: ج 2/487.

وللذّمي دون الحربي

2 - عدم الجواز مطلقاً، هو قول القاضي(1).

3 - التفصيل بين كونه رحماً وأجنبيّاً، فتصحّ في دون الثاني.

والأمر كذلك في الحربي، غاية الأمر يختلف القائل.

(و) الذي ذهبَ جمعٌ من الأساطين(2) هو صحّة الوصيّة (للذّمي دون الحربي).

أمّا الوصيّة للذّمي: فيشهد لجوازها - مضافاً إلى إطلاق أدلّة الوصيّة، وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ ) (3)، وما دلّ على الترغيب في البِرّ والإحسان(4)، وجواز الصدقة على الكافر(5) جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل أوصى بماله في سبيل اللّه ؟

فقال عليه السلام: اعطه لمن أوصى له، وإنْ كان يهوديّاً أو نصرانيّاً، إنّ اللّه تعالى يقول:

(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ (6)) »(7).

وقريب منه صحيحه الآخر عن أحدهما عليهما السلام(8).2.

ص: 369


1- المهذّب: ج 2/106.
2- كالشهيد الأول في اللّمعة الدمشقيّة: ص 156، والشهيد الثاني في الروضة البهيّة: ج 5/51.
3- سورة الممتحنة: الآية 8.
4- وسائل الشيعة: ج 16/294-296 باب 3 من أبواب فعل المعروف كتاب الجهاد.
5- وسائل الشيعة: ج 9/408-410 باب 19 من أبواب الصدقة كتاب الزكاة.
6- سورة البقرة: الآية 181.
7- وسائل الشيعة: ج 19/345 ح 24734.
8- من لايحضره الفقيه: ج 4/200 ح 5462، وسائل الشيعة: ج 19/337 ح 24722.

ومنها: صحيح الريّان بن شبيب، عن الإمام الرضا عليه السلام، قال:

«قلت له: إنّ اُختي أوصت بوصيّةٍ لقومٍ نصارى ، وأردتُ أن أصرف ذلك إلى قومٍ من أصحابنا مسلمين ؟

فقال عليه السلام: امض الوصيّة على ما أوصت به، قال اللّه تعالى (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ (1)) »(2).

واستدلّ لعدم الجواز: بقوله تعالى (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ »(3)، بتقريب أنّ الآية متناولة للأرحام وغيرهم، والوصيّة لهم مودّة.

وجَمَع في «الحدائق»(4) بين الآية والنصوص المتقدّمة، بحمل تلك النصوص على إرادة صحّة الوصيّة، وإبقاء الآية على ظاهرها من عدم الجواز، فتكون الوصيّة له كالبيع وقت النداء.

أقول: ولكن يرد على الاستدلال بالآية:

أوّلاً: ما ذكره جماعة(5) من أنّ النهي عن الموادّة إنّما هو من حيث كونه يحادّ اللّه ورسوله، وإلّا لزم حرمة اللّطف والإكرام.

وثانياً: أنّه يقيّد إطلاق هذه الآية بالآية المتقدّمة.

وثالثاً: منع كون العطيّة، سيّما إذا كانت مكافاة أو تأليفاً موادّةٌ .5.

ص: 370


1- سورة البقرة: الآية 181.
2- الكافي: ج 7/16 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/343 ح 24730.
3- سورة المجادلة: الآية 22.
4- الحدائق الناضرة: ج 22/521.
5- كالبحراني في الحدائق الناضرة: ج 22/195.

أضف إلى تلكم ما ورد في الأرحام من الأمر بصلتهم(1)، وفي الأبوين من الأمر بمصاحبتهما في الدُّنيا معروفاً(2).

أقول: ويتوجّه على صاحب «الحدائق» رحمه الله - مضافاً إلى ما تقدّم - الإجماع ظاهراً على التلازم بين الأمرين، مع أنّ ظاهر النصوص الجواز التكليفي أيضاً، فيقيّد بها إطلاق الآية، وعليه فلا إشكال في جواز وصيّة للذّمي.

وأمّا الحربي: فقد استدلّ لعدم جواز الوصيّة له:

1 - بالإجماع.

2 - وبانصراف أدلّة الوصيّة إلى الوصيّة غير المحرّمة، وهذه محرّمة لآية النهي عن الموادّة(3)، فالمتّبع فيها أصالة عدم المشروعيّة.

3 - وبأنّ الحربي لا يَملك فإنّ ماله فيءٌ للمسلمين، وقد تقدّم أنّه يشترط في الوصيّة قابليّة الموصى له للتملّك.

ويتوجّه على الأوّل: عدم ثبوته أوّلاً، وعدم كونه تعبّديّاً كاشفا عن رأي المعصوم ثانياً.

وعلى الثاني: منع حرمة الوصيّة للكافر، إذ لا دليل لها سوى آية النهي عن الموادّة، وقد عرفت حالها.

أضف إليه أنّ حرمة الوصيّة لا تستلزم فسادها، وانصراف أدلّتها عن الوصيّة المحرّمة ممنوعٌ .

وعلى الثالث: أنّ غاية ما يلزم ممّا اُفيد أنّه يجوز أخذه منه، ولا يجب التسليم2.

ص: 371


1- الكافي ج 2/150-157 باب صلة الرّحم.
2- سورة لقمان: الآية 15. الكافي: باب البِرّ بالوالدين ص 157-163.
3- سورة المجادلة: الآية 22.

ولو أوصى لذكورٍ وإناثٍ تساووا، إلّامع التفضيل، وكذا الأعمام والأخوال، ولو أوصى لقرابته فهم المعروفون بنسبه والعشيرة والجيران والسبيل والبِرّ والفقراء كالوقف.

إليه، وهذا لا يوجبُ بطلان الوصيّة، وعدم كونها مملّكة له، بل تصحّ الوصيّة، ويصير الموصى به مِلْكاً له، يترتّب عليه حكم سائر أملاكه.

وعليه، فالأظهر صحّة الوصيّة له أيضاً لإطلاق أدلّة الوصيّة.

أقول: ويمكن القول بشمول إطلاق النصوص الخاصّة المتقدّمة له، فإنّ اليهودي أو النصراني قد يكون ذميّاً، وقد يكون غير ملتزمٍ بشرائط الذمّة وحربيّاً.

ودعوى : انصرافها إلى الذّمي لا منشأ لها سوى الغلبة، وهي لا تصلح منشئاً للانصراف.

وما في «الرياض» من أنّه (لا عموم فيهما، لكونهما نكرتين في سياق الإثبات، لاعموم فيهمالغةً ، بل مطلقان ينصرفان بحكم التبادرإلى الملتزم منهما بشرائطالذمّة)(1).

فيه: المطلق حجّة كالعام، وانصرافه ممنوعٌ لمنع التبادر.

ثمّ إنّ المصنّف رحمه الله ذكر جملة من فروع الوصيّة للمملوك، فعلى ما بنينا عليه من إلغاء المباحث المتعلّقة بالإماء والعبيد لا نتعرّض لها.

المسألة الرابعة: (ولو أوصى لذكورٍ وإناثٍ تساووا، إلّامع التفضيل، وكذا الأعمام والأخوال، ولو أوصى لقرابته فهم المعروفون بنسبه) على ما مرّ في الوقف، (والعشيرة والجيران والسبيل والبِرّ والفقراء كالوقف).).

ص: 372


1- رياض المسائل: ج 9/451-452 (ط. ج).

ولو مات الموصي له قبله ولم يرجع، كانت لورثته.

حكم ما لو مات الموصى له قبل الموصي

المسألة الخامسة: (ولو ماتَ الموصي له قبله) أي قبل الموصي (ولم يرجع) الموصي عن وصيّته له (كانت) الوصيّة (لورثته) كما هو المشهور بين الأصحاب.

وعن ابن الجُنيد(1) والمصنّف في «المختلف»(2): بطلان الوصيّة بموته قبل القبول.

وقيل بالتفصيل بين ما إذا علم أنّ غرض الموصي خصوص الموصى له فتبطل، وبين غيره فلورثته.

وعن «الدروس»(3): إنّ التفصيل المذكور حقٌّ ، وبه يُجمع بين النصوص.

أقول: مقتضى القاعدة هو البطلان:

أمّا على المختار من عدم اعتبار القبول، وكون الرّد مانعاً، فلأنّ الموصى له لايملك المال في حياة الموصي كي ينتقل عنه إلى ورثته، وانتقال الموصى به إلى الموصى له بعد موت الموصي وإنْ كان ممكناً كالدّية، إلّاأنّ أدلّة الوصيّة لا إطلاق لها من هذه الجهة، ولا تدلّ عليه.

فإنْ قيل: إنّ كون المال بحيث ينتقل إلى الموصى له بعد موت الموصي من الحقوق، فينتقل ذلك إلى ورثته، لأنّ ما تركه الميّت من مال أو حقّ فلوارثه، ولازم ذلك صيرورته بموته ملكاً لورثته كما عن جماعةٍ في حقّ القبول.

ص: 373


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/408.
2- مختلف الشيعة: ج 6/408.
3- الدروس: ج 2/297.

قلنا: إنّه ممنوعٌ صغرى وكبرى.

توضيح ذلك: إنّ الحقّ المقابل للملك والحكم بحسب الاصطلاح عبارة عن اعتبار السلطنة على شيء أو شخص في جهةٍ خاصّة، مثلاً حقّ الخيار عبارة عن السلطنة على الفسخ والإمضاء، وحقّ الشفعة عبارة عن السلطنة على ضَمّ حصّة الشريك إلى حصّته بتملّكه عليه قهراً، ولكن ليس ذلك حقيقة شرعيّة له، إذ مضافاً إلى عدم الدليل عليه، كثيراً ما يستعمل الحقّ في الأخبار في الحكم، وعليه فتشخيص كون مورد خاص من قبيل الحكم أو الحقّ بالمعنى الذي ذكرناه يتوقّف على ملاحظة الخصوصيّات والقرائن، ولا يستفاد ذلك من مجرّد إطلاق الحقّ عليه، هذا فضلاً عن أنّ الشيخ الأعظم رحمه الله(1) قد جعل للحقّ أقساماً:

القسم الأوّل: ما لايقبل المعاوضة بالمال، أي لا يقبل النقل ولا الإسقاط، كحقّ الحضانة والولاية.

القسم الثاني: ما يقبل الإسقاط ولا يقبل النقل، كحقّ الشفعة والخيار.

القسم الثالث: ما يكون قابلاً للنقل والانتقال والإسقاط، كحقّ التحجير.

والمصنّف رحمه الله جعل ما يصحّ نقله وإسقاطه قسمين:

أحدهما: ما يصحّ ذلك فيه بالعوض ومجاناً.

ثانيهما: ما لا يصحّ ذلك فيه إلّامجاناً، كحقّ القسم، فإنّ لكلّ من الأزواج نقله إلى ضرّتها وإسقاطه، إلّاأنّه ليس لها أخذ المال بإزاء ذلك.

وعلى هذا، فحيثُ لا يعلم أنّ ما اُشير إليه من قبيل الحقّ أو الحكم - وعلى9.

ص: 374


1- المكاسب: ج 3/8-9.

فرض كونه من قبيل الأوّل من أيّ قسم من أقسام الحقّ - ففساد القول المزبور صغرى وكبرى واضحٌ .

وأمّا على القول باعتبار القبول فيها، فالبطلان أوضح، إذ مضافاً إلى ماذكرناه، يشهد له أنّ المفروض أنّ الإيجاب مختصٌّ بالموصى له، وحينئذٍ إنْ قبل الوارث لنفسه، لزم عدم مطابقة الإيجاب والقبول، وإنْ قبل للمورّث فهو ليس وكيلاً عنه، ولا وليّاً عليه، فلابدّ من البناء على البطلان.

هذا بحسب القاعدة.

وأمّا النصوص الخاصّة: فهي طائفتان:

الطائفة الأُولى : ما تدلّ على المشهور، منها الخبر الصحيح الذي رواه محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجلٍ أوصى لآخر والموصى له غائبٌ ، فتوفّى الموصى له الذي أوصى له قبل الموصي ؟

قال عليه السلام: الوصيّة لوارث الذي أوصي له.

قال: ومن أوصى لأحدٍ شاهداً كان أو غائباً، فتوفّى الموصى له قبل الموصي، فالوصيّة لوارث الذي أوصى له، إلّاأن يرجع في وصيّته قبل موته»(1).

وأورد عليه: الشهيد الثاني(2)، وقبله المصنّف رحمه الله في محكيّ «المختلف»(3) بأنّ محمّدبن قيس مشتركٌ بين جماعة أحدهم ضعيف، ولعلّه راوي الخبر، فهو ساقطٌ عن الحجيّة.9.

ص: 375


1- الكافي: ج 7/13 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/333 ح 24716.
2- مسالك الأفهام: ج 6/128.
3- مختلف الشيعة: ج 6/409.

وفيه أوّلاً: أنّه كما ذكره الشيخ في «الفهرست»(1) وغيره من المحقّقين على ما حُكي، أنّ الذي يروي عنه عاصم بن حميد هو البَجَلي الثقة، وعليه فلا إشكال في الخبر سنداً.

وثانياً: أنّه لو كان في سنده شيءٌ لكان منجبراً بعمل الأصحاب.

وقد يذكر من هذه الطائفة خبران آخران:

الخبر الأوّل: خبر محمّد بن عمر الباهلي، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجلٍ أوصى إليّ وأمرني أن أعطي عمّاله في كلّ سنةٍ شيئاً، فمات العمّ؟ فكتب: اعط ورثته»(2).

ولكنّه غير مربوط بمسألتنا، وإنّما هو في الوصيّة بالتمليك في كلّ سنة، ويكون إيجاب التمليك من الوصي، ومقتضى القاعدة في تلك المسألة أيضاً البطلان، والخبر لجهالة رواية لايكون مستنداً للصحّة.

الخبر الثاني: خبر المثنّى بن عبد السلام، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن رجلٍ أوصى له بوصيّةٍ فمات قبل أن يقبضها، ولم يترك عقباً؟

قال عليه السلام: اطلبه وارثاً أو مولى فادفعها إليه.

قلت: فإنْ لم أعلم له وليّاً؟

قال عليه السلام: اجهد على أن تقدر له على وليّ ، فإنْ لم تجد، وعلم اللّه منك الجِدّ، فتصدّق بها»(3).

وهو في خصوص مورد عدم القبض، وظاهرٌ في وقوع القبول، فلا يدلّ على هذا القول، وعليه فالمستند خصوص صحيح محمّد بن قيس.7.

ص: 376


1- الفهرست: ص 206 رقم 590. (2و3) الكافي: ج 7/13 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/334 ح 24717.

الطائفة الثانية: ما تدلّ على بطلان الوصيّة:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، وأبي بصير جميعاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سُئل عن رجلٍ أوصى لرجلٍ فمات الموصى له قبل الموصي ؟ قال عليه السلام: ليس بشيء»(1).

ومنها: موثّق منصور بن حازم، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ أوصى لرجلٍ بوصيّة إنْ حَدَث به حدثٌ فمات الموصى له قبل الموصي ؟ قال عليه السلام: ليس بشيء»(2).

ولكن الطائفة الثانية غير ظاهرة في بطلان الوصيّة، إذ يمكن أنْ يكون المراد بقوله عليه السلام: «ليس بشيء» أنّ الموت ليس بشيء قادحٍ في الوصيّة، لا أنّ الإيصاء ليس بشيء، فلا معارض لصحيح محمّد بن قيس.

وعلى فرض التنزّل، فغاية الامر ظهورها في ذلك.

والجمع بينها وبين صحيح ابن قيس يقتضي حملها على إرادة أنّ الموت ليس بشيء، إذ حمل الظاهر على النّص أو الأظهر جمعٌ عرفي.

وإنْ أبيتَ إلّاعن ظهورها في بطلان الوصيّة، بنحو لا يصحّ حملها على غير ذلك، فهي معارضة مع صحيح ابن قيس، ويقدّم هو لأنّه المشهور التي هي أوّل المرجّحات.

وعليه، فأصل الحكم ممّا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال في اُمور:

الأمر الأوّل: أنّه قد يدّعى اختصاص الصحيح بما إذا لم يُعلم غرض الموصي خصوص شخص الموصى له على وجه التقييد، وأمّا فيما إذا عُلم ذلك فالمرجع إلى القواعد المقتضية للبطلان، ولم يذكروا وجهاً للاختصاص سوى الانصراف، وأنّ0.

ص: 377


1- التهذيب: ج 9/231 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/335 ح 24719.
2- التهذيب: ج 9/231 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/335 ح 24720.

فإنْ لم يكن له وارثٌ فلورثة الموصي

ذلك هو المتيقّن منه:

أمّا الانصراف: فلا أرى له منشأً.

وأمّا كونه هو المتيقّن: فلا يمنع عن التمسّك بالإطلاق، إذ الثابت في محلّه أنّ وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب ليس مانعاً عن الإطلاق، فضلاً عن المتيقّن من الخارج.

وعليه، فالأظهر عدم الاختصاص.

الأمر الثاني: أنّه لو مات الموصى له قبل الموصي (فإنْ لم يكن له وارثٌ ف) هل الوصيّة (لورثة الموصي) كما في المتن وعن غيره(1)، أم لا؟

وجهان، أوجههما الأوّل، لأنّ النّص وإنْ كان في وارث الموصى له، ولكنّه يدلّ على أنّ الوصيّة موروثة للوارث، فمقتضى إطلاق أدلّة الإرث ثبوتها لوارث الوارث أيضاً.

الأمر الثالث: أنّه هل ينتقل الموصى به بموت الموصي إلى الميّت، ثمّ إلى الوارث، أو إليه ابتداءً من الموصى ؟ قولان.

استدلّ للثاني: بأنّ الميّت بمنزلة المعدوم، فلا يقبل الملك.

وللأوّل: بأنّه لا إشكال في أنّها تقسّم على حسب قسمة المواريث، ولو كانت منتقلة إلى الورثة من الموصي لم يكن لذلك وجه.7.

ص: 378


1- كإيضاح الفوائد: ج 2/497.

ويتوجّه على الأوّل: أنّ الملكيّة من الاُمور الاعتباريّة، ولا حقيقة لها وراء الاعتبار، ولذا ربما يكون المملوك كليّاً، وقد يكون المالك كذلك، وعليه فاعتبارها للميّت لا محذور فيه أصلاً، بل ظاهر الأدلّة الدالّة على انتفاع الميّت بالمال ذلك، وقد مرّ تفصيل القول في ذلك في المباحث المتقدّمة.

وعلى الثاني: أنّه ما المانع من كون تقسيم الوصيّة في المقام بحكم الميراث من هذه الجهة إنْ دلّ على ذلك دليل.

والحقّ أنْ يقال: إنّ ظاهر النّص كون الوصيّة موروثة للوارث لا المال، فبعد انتقال الوصيّة إليهم إذا مات الموصي، ينتقل المال منه إليهم كما في سائر الوصايا.

الأمر الرابع: أنّه هل المدار على الوارث حين موت الموصى له أو الوارث حين موت الموصى ؟

وجهان، أظهرهما الأوّل، بناءً على ما عرفت من انتقال المال من الموصي إلى الورثة، وأنّه إنّما تنتقل الوصيّة إلى الورثة، فإنّ الوارث حين موت الموصى له حينئذٍ يرث الوصيّة، ولا يبقى شيءٌ حتّى يرثه الوارث حين موت الموصي.

نعم، لو قلنا بأنّ الورثة لا يرثون الوصيّة، بل يرثون المال، وأنّه إنّما ينتقل المال من الموصي إلى الموصى له ومنه إلى ورثته، كان الأوجه هو الثاني، لأنّ المدار على الوارث حين انتقال المال.

الأمر الخامس: أنّه إذا أوصى له بأرضٍ ، فمات قبل القبول، فهل ترث زوجته منها أو لا؟

وجهان مبنيّان على أنّ المنتقل إلى الورثة هو المال أو الوصيّة ؟

فعلى الأوّل لا ترث، وعلى الثاني ترث، إذ الدليل دلّ على محروميّتها عن

ص: 379

وتصحّ الوصيّة بالحمل،

الأرض، لا عن مايؤدّي إلى ملكيّة الأرض، ودلالة الدليل على كونها على نحو الإرث، ولذا يجبُ أن تقسّم على نحو قسمة الميراث، لاتستلزم ترتّب الحكم الخاص لموروث خاص على الوصيّة بذلك الموروث، كما هو واضح.

وحيث عرفت أنّ الأظهر أنّ الوصيّة تورث، والمال ينتقل من الموصى إلى الورثة، فالأوجه أنّها ترث منها.

الأمر السادس: أنّه هل يختصّ ذلك بالوصيّة التمليكيّة، أم يعمّ العهديّة، بأنْ يوصي إلى وصيّه أن يعطي زيداً مثلاً شيئاً؟

الأظهر هو الأوّل لاختصاص النّص بالتمليكيّة، وقد مرّ أنّ خبر الباهلي وإنْ دلّ على جريان هذا الحكم في العهديّة، إلّاأنّه ضعيف السند غير مجبور بالعمل.

الوصيّة بالحمل

المسألة السادسة: (وتصحّ الوصيّة بالحَمل) بلا خلافٍ ، وكذا بما تحمله الدابّة أو الشجرة، من غير فرقٍ في جواز الوصيّة بالمتجدّد بين المضبوط بمدّةٍ كالمتجدّد في هذه السنة، أو عشر سنين، أو عددٍ كأربعة، ولا في المضبوط بمدّةٍ بين المتّصل بالموت والمتأخّر كالسنة الفلانية من المتجدّد، كلّ ذلك لإطلاق أدلّة الوصيّة.

ودعوى: أنّ الحمل المتجدّد بعد موت الموصى إنّما هو لورثته فكيف يوصى به ؟

مندفعة أوّلاً: بالنقض بالوصيّة بسكنى الدّار مدّة مستقبلة.

وثانياً: بالحمل، وهو أنّ المالك كما يملك العين الخارجيّة ملكيّة مرسلة غير

ص: 380

ويستحبّ للقريب وإن كان وارثاً، وإذا أوصى إلى عَدلٍ ففسق بطلت، ويصحّ أن يوصي إلى المرأة، والصبيّ بشرط انضمامه إلى الكامل، وإلى المملوك بإذن مولاه، فيمضي الكامل الوصيّة إلى أن يبلغ الصبي، ثمّ يشتركان، ولا ينقض بعد بلوغه ما تقدّم ممّا هو سائغٌ ، ولو أوصى الكافر إلى مثله صحّ ، ولو أوصى إلى اثنين

محدودة بزمانٍ ، كذلك يملك بتبع ملك العين منافعها المرسلة غير المحدودة، فله أنْ يوصي بها كيف ما شاء.

المسألة السابعة: (ويستحبّ ) الوصيّة (للقريب، وإنْ كان وارثاً) وقد مرّ الكلام فيه في شرائط الموصى له، كما أنّه قد مرّ الكلام:

فيما إفادة بقوله: (وإذا أوصى إلى عَدلٍ فَفَسق بطلت)، وعرفت أنّ فسقه لايوجب بطلان الوصيّة.

(و) ما ذكره بقوله: (يصحّ ان يوصى إلى المرأة).

(و) قد مرّ أيضاً: صحّة جعل (الصبي) وصيّاً (بشرط انضمامه إلى الكامل، وإلى المملوك بإذن مولاه، فيمضي الكامل الوصيّة إلى أن يبلغ الصبي ثمّ يشتركان، ولا ينقض بعد بلوغه ما تقدّم ممّا هو سائغٌ ).

(و) أيضاً: قد تقدّم أنّه (لو أوصى الكافر إلى مثله صَحّ )، بل عرفت صحّة وصيّة المسلم إليه أيضاً.

حكم ما لو أوصى إلى اثنين

المسألة الثامنة: (ولو أوصى إلى اثنين) فلا يخلو:

1 - إمّا أن يشترط اجتماعهما.

ص: 381

وشَرَط الاجتماع أو أطلق، فليس لأحدهما الانفراد.

2 - (و) إمّا أن يجوز لهما الانفراد.

3 - وإمّا أن يُطلق.

فإنْ (شرط الاجتماع أو أطلق، فليس لأحدهما الانفراد) بل عليهما الاجتماع فيه، بمعنى صدوره عن رأيهما ونظرهما، وإنْ باشره أحدهما بلا خلافٍ في الأوّل، بل عليه الإجماع عن «التنقيح»(1)، وعلى الأشهر في الثاني، وفي «الرياض»: (بل عليه عامّة المتأخّرين)(2).

أمّا مع شرط الاجتماع فظاهرٌ، لأنّ ولايتهما لم تثبت إلّاعلى هذا الوجه.

وأمّا مع الإطلاق: فإنْ كان المستفاد عرفاً من الإطلاق إرادة الاجتماع فكذلك، وإلّا بأنْ حصل الاشتباه في المراد، فثبوت الولاية لهما بنحو الاجتماع معلومٌ ، وثبوتها لكلّ واحدٍ منفرداً مشكوكٌ فيه، والأصل يقتضي عدمه.

أقول: ويمكن أن يستدلّ له مع ذلك بصحيح الصفّار، قال:

«كتبتُ إلى أبي محمّدٍ عليه السلام: رجلٌ كان أوصى إلى رجلين، أيجوز لأحدهما أن ينفرد بنصف التركة، والآخر بالنصف ؟

فوقّع عليه السلام: لاينبغي لهما أن يخالفا الميّت وأن يعملا على حسب ما أمرهما إنْ شاء اللّه تعالى »(3).7.

ص: 382


1- التنقيح الرائع: ج 2/388.
2- رياض المسائل: ج 9/486 (ط. ج).
3- التهذيب: ج 9/185 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/376 ح 24797.

فإنْ قيل: إنّ قوله عليه السلام: «لا ينبغي» ظاهرٌ في الكراهة، فهو يدلّ على جواز الانفراد.

قلنا: إنّ لفظ «لا ينبغي» وإنْ لم يكن في نفسه ظاهراً في الحرمة، ولكنّه لايكون ظاهراً في الكراهة أيضاً، وفي المقام أُريد منه الحرمة قطعاً، بقرينة قوله: «أن يخالفا الميّت» إذ لا ريب في حرمة مخالفة الميّت لتضمّنها التبديل المنهيّ عنه كتاباً وسنّةً .

وقوله عليه السلام: «وأنْ يعملا على حسب ما أمرهما» يدلّ على حمل الإطلاق على أمره بالاجتماع، ومع أمره به لا إشكال في عدم جواز الانفراد.

أقول: ذهب الشيخ في أحد قوليه(1) - ومن تبعه(2) - إلى جواز انفراد كلّ منهما مع الإطلاق، واستدلّ لهم بموثّق بُريد بن معاوية، قال:

«إنّ رجلاً مات وأوصى إليّ وإلى آخر، أو إلى رجلين، فقال أحدهما خُذ نصف ما ترك، واعطني النصف ممّا ترك، فأبى عليه الآخر، فسألوا أبا عبداللّه عليه السلام عن ذلك، فقال: ذلك له»(3).

ولكن الاستدلال به يتوقّف على رجوع الإشارة إلى القسمة، والضمير المجرور إلى الطالب، مع أنّه يحتمل رجوع الإشارة إلى الإباء، والضمير إلى المطلوب، بل لعلّ هذا أولى كما عن الشيخ في «التهذيب»(4)، والمصنّف رحمه الله في «المختلف»(5)وغيرهما، لقُرب مرجع الإشارة، فهو أيضاً يدلّ على عدم جواز الانفراد.4.

ص: 383


1- النهاية: ص 606.
2- كالقاضي في المهذّب: ج 2/116-117، وابن سعيد في الجامع للشرايع: ص 492.
3- التهذيب: ج 9/185 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/377 ح 24799.
4- تهذيب الأحكام: ج 9/185 ذيل ح 4.
5- مختلف الشيعة: ج 6/404.

ويجبرهما الحاكم على الاجتماع، ولو تشاحّا

وما في «المسالك» من (أنّ الإشارة بذلك إلى البعيد، فحمله على القسمة أنسب باللّفظ)(1).

فيه: أنّ المحكيّ عن نسخة «الكافي»(2) و «الفقيه»(3) عدم وجود اللّام مع الإشارة، وإنّما هي موجودة في نسخة الشيخ، وعند دروان الأمر بين الزيادة والنقصان - وإنْ كان الأصل مقتضياً للبناء على الثاني، إلّاأنّه في المقام بما أنّ الشيخ أخذ الخبر من «الكافي» - فالأوّل لو لم يكن أظهر، لا ريب في تساوي الاحتمالين، فيكون الخبر مجملاً من هذه الجهة.

ومع الإغماض عن جميع ذلك، وتسليم دلالته على ما استدلّ به له، فحيثُ يقع التعارض بينه وبين صحيح الصفّار، فإنْ قلنا بأنّ الجمع العرفي بينهما بحمل الظاهر على النّص أو الأظهر يقتضي حمل الموثّق على إرادة المنع عن الانفراد، كما فهمه المصنّف ومن بعده، وإلّا فيقدّم الصحيح للشهرة التي هي أوّل المرجّحات، ولأرجحيّة السند التي هي ثاني المرجّحات، فلا إشكال في أنّه ليس لكلّ منهما الانفراد، (و) على هذا ف (يجبرهما الحاكم على الاجتماع).

(ولو تشاحّا) وتعاسرا فأراد أحدهما نوعاً من التصرّف ومنعه الآخر، من غير أن يستبدل بهما مع الإمكان، لأنّ المفروض أنّ الميّت جعل لنفسه وصيّاً، فلا ولاية للحاكم فيه، وإنّما له الإجبار، لأنّه وليّ الممتنع عن أداء حقّ الغير، إذ ذلك شأنٌ من شؤون القضاة والحاكم، فيكون ثابتاً له.2.

ص: 384


1- مسالك الأفهام: ج 6/250.
2- الكافي: ج 7/46 ح 1.
3- من لايحضره الفقيه: ج 4/203 ح 5472.

فإنْ تعذّر استبدل، ولو عجز أحدهما ضُمّ إليه.

(فإنْ تعذّر) الإجبار، ولم يمكن جمعهما، (استبدل) الحاكم بهما، لأنّهما بامتناعهما عن الاجتماع المشروط بحكم العدم، فللحاكم أن ينصب أميناً من قبله.

وقد يقال: إنّهما بالتعاسر والتشاحّ يفسقان، فيخرجان عن الوصاية، فللحاكم نصب الأمين، وإنْ أمكن إجبارهما.

ولكن يرد عليه: - مضافاً إلى ما مرّ من عدم اعتبار العدالة في الوصيّ - أنّ التشاح إنْ كان مستنداً إلى اعتقاد رجحان ما رأياه بحسب المصلحة لا التشهّي والمعاندة، فإنّه لا يوجب الفسق.

(ولو عجز أحدهما) عن القيام بتمام ما يجب عليه من العمل بالوصيّة لمرضٍ ونحوه، (ضَمّ إليه) الحاكم من يُعينه، فيكون النظر حينئذٍ للثلاثة بلا خلافٍ ، إلّاعن الشهيد في «الدروس»(1) فإنّه ذهب إلى أنّه يضمّ الحاكم إلى الآخر لا إلى العاجز، فيكون النظر لاثنين.

ويتوجّه عليه: أنّ العاجز بعجزه عن القيام بتمام ما يجبُ عليه من العمل بالوصيّة لمرضٍ ونحوه، لا يخرجُ عن الوصاية، لجواز الوصيّة إلى العاجز كذلك ابتداءً إجماعاً(2)، فكذا في الاستدامة.

ولو عجز أحدهما عن القيام به أصلاً لموتٍ أو جنون:

فعن الأكثر: أنّه يستقلّ الآخر في التصرّف.).

ص: 385


1- الدروس: ج 2/324.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/511 (ط. ق).

وفي «النافع»(1)، وعن «القواعد»(2)، و «الإرشاد»(3)، و «التحرير»(4)، والفخر(5)، والشهيدين(6)، وجماعة(7): أنّه يضم الحاكم إلى الآخر أمينٌ من طرفه.

وجه الأوّل: أنّه مع وجود الوصيّ لا ولاية للحاكم، ويضعف بأنّه بانفراده لم يجعل وصيّاً، والموصي لم يرض برأيه منفرداً، وإنّما جعلهما معاً وصيّاً، فلا وجه لتفرّده بالتصرّف، وحينئذٍ فيمكن أنْ يقال:

لو لم يكن خلافُ الإجماع بسقوط الآخر عن الوصاية رأساً، إذ الولاية المجعولة له إنّما كانت ولايةً له لصاحبه، فمع تعذّر الجزء ينتفي الكلّ ، فيرجع الأمر إلى الحاكم، وله أنْ يجعل أميناً من قبله، وحينئذٍ له أنْ يجعل الآخر وليّاً مستقلّاً.

ودعوى: أنّ الموصى لم يرض برأيه على الانفراد، فليس للحاكم تفويض جميع الأمر إليه، وإلّا لزم التبديل المنهيّ عنه في الشريعة.

مندفعة: بأنّ الموصي لم يرض برأيه في الوصاية التي جعلها، ولا عبرة بنظره فيما يجعله الحاكم.

وعليه، فالأظهر أنّ له ذلك، كما أنّ له تفويض الأمر إلى غيره.

هذا كلّه مع شرط الاجتماع أو الإطلاق.).

ص: 386


1- المختصر النافع: ص 165.
2- قواعد الأحكام: ج 2/566.
3- إرشاد الأذهان: ج 1/463.
4- تحرير الأحكام: ج 3/358 (ط. ج).
5- إيضاح الفوائد: ج 2/632.
6- الدروس: ج 2/324، مسالك الأفهام: ج 6/259.
7- انظر: رياض المسائل: ج 9/490-491 (ط. ج).

ولو شرط الانفراد جاز، وتصرّف كلّ واحدٍ منهما، ويجوز الاقتسام.

(ولو شرط الانفراد، جاز تصرّف كلّ واحدٍ منهما) منفرداً بلا خلافٍ ولا إشكال، لأنّ كلّاً منهما وصيٌّ مستقلّ .

(ويجوز) لهما (الاقتسام) بالتنصيف أو التفاوت، إنْ لم يمنع عنه الموصي، ولم يحصل بالقسمة ضررٌ، ولكن ليست هذه القسمة حقيقيّة، فيجوز لكلّ منهما التصرّف في نصيب الآخر، لأنّ كلّاً منهما وصيٌّ في المجموع، وهذا كلّه ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في أنّه هل يجوز لهما الاجتماع حينئذٍ أم لا إذا لم يشترط عليهما عدم الاجتماع ؟

منشأ الإشكال هو أنّ الاجتماع يقتضي صدوره عن رأي كلّ واحدٍ منهما، لكن شرط الانفراد اقتضى الرضا برأي كلّ واحدٍ، وهو حاصلٌ إنْ لم يكن هنا آكد ومخالفته للشرط.

أقول: والحقّ أنْ يقال إنّه:

إنْ فُهم من شرطالانفراد بواسطة القرائن، الرّخصة لا التضييق، فإنّه لا إشكال في الجواز.

وإنْ فهم التضييق، فلا إشكال في عدم الجواز.

وإنْ لم يظهر شيءٌ ، فالظاهر عدم الجواز، لأنّه ثبوت الولاية لهما منفردين معلومٌ ، وثبوتها لهما مجتمعين مشكوكٌ فيه، فالمرجع حينئذٍ إلى أصالة الانتفاء.

حكم رَدّ الوصيّة

المسألة التاسعة: لا خلاف بين الأصحاب في أنّه كما أنّ للموصى له رَدّ الوصيّة، كذلك للوصي أن يردّ الوصاية ما دام الموصى له حَيّاً وإنْ كان قد قبلها، إلّا

ص: 387

عن الصدوق رحمه الله(1) فيما إذا كان الموصي أباً أو كان الأمر منحصراً في الموصى إليه، فلم يجز الرّد فيهما، وعن «المختلف»(2): الميل إليه.

وفي «الرياض»: (وهو كذلك إنْ لم ينعقد الإجماع على خلافه، ولا يمكن دعواه باعتبار إطلاق عبائر الأصحاب بجواز الرّد لعدم تبادر المقامين منه جدّاً)(3).

وجه الأوّل: إطلاق النصوص الآتية.

أقول: استدلّ الشيخ الصدوق لعدم جواز الرّد:

في المورد الأوّل: بمكاتبة علي بن الرّيان إلى أبي الحسن عليه السلام أنّه قال: «ليس له أنْ يمتنع»(4).

وإيراد «الرياض» عليه بأنّه قاصرُ السند بسهل، غريبٌ ، فإنّه في كثير من الموارد صرّح بأنّ خبر سهل يُعتمد عليه.

وفي الموارد الثاني: بصحيح الفضيل، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «في رجلٍ يوصى إليه ؟

قال عليه السلام: إذا بعث بها إليه من بلدٍ فليس له ردّها، وإنْ كان في مصر يوجد غيره فذلك إليه»(5).

ونحوه غيره.

وأيّد المصنّف رحمه الله(6) الأوّل بأنّ امتناع الولد نوع عقوق، والثاني بأنّ من لايوجد غيره يتعيّن عليه، لأنّه فرض كفاية.6.

ص: 388


1- المقنع: ص 479.
2- مختلف الشيعة: ج 6/406.
3- رياض المسائل: ج 9/493 (ط. ج).
4- الكافي: ج 7/7 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/322 ح 24694.
5- من لايحضره الفقيه: ج 4/195 ح 5446، وسائل الشيعة: ج 19/320 ح 24689.
6- مختلف الشيعة: ج 6/406.

وأُورد على ذلك صاحب «الجواهر» بقوله: (إنّ نصوص الإطلاق متعدّدة، وخبر التقييد واحد، فلا يصلح لتقييد إطلاقها، سيّما وأنّ إطلاق الأخبار معتضدٌ بإطلاق الفتاوى، والعقوق مبنيٌّ على أمر الوالد بذلك على وجه يؤذيه عدم القبول، ووجوب إطاعة الولد في مثل ذلك، وإنْ كان هو الظاهر، لكن محلّ البحث عدم قبول الوصيّة من حيث كونها كذلك، لا ما إذا اشتملت مع ذلك على أمرٍ بالقبول، ويمكن حمل المكاتبة المزبورة على ذلك، بل لعلّه الظاهر منها، فتخرج حينئذٍ عن محلّ البحث)(1).

أمّا قوله: (إنّ خبر التقييد واحدٌ، لا يصلح لتقييد إطلاق نصوص الرّد، لأنّها متعدّدة).

فمن غرائب الكلام، إذ إطلاق القرآن يقيّد بخبر الواحد كما اعترف به قدس سره في غير موضعٍ ، فكيف لا يقيّد إطلاق النصوص المتعدّدة به.

وأمّا دعوى: إعراض المشهور عن خبر التقييد.

فيتوجّه عليها: ما أفاده سيّد «الرياض»(2) من عدم تبادر المقامين من إطلاق عبائر الأصحاب، حتّى مع معلوميّة فتوى الصدوق رحمه الله.

وأمّا قوله: (إنّ العقوق مبنيٌّ على أمر الوالد له بذلك).

فيردّه: أنّه يتحقّق مع طلبه منه ذلك، وإنْ لم يأمر به.

وعليه، فالإنصاف تماميّة ما أفاده الصدوق في الموردين، فالنصوص الدالّة على جواز الرّد:).

ص: 389


1- جواهر الكلام: ج 28/416.
2- رياض المسائل: ج 9/493 (ط. ج).

وإذا بلغ الموصي رَدّ الموصي إليه، صحّ الرّد وإلّا فلا.

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنْ أوصى إلى رجلٍ وهو غائبٌ ، فليس له أنْ يردّ وصيّته، وإنْ أوصى إليه وهو بالبلد فهو بالخيار، إنْ شاء قبل، وإنْ شاء لم يقبل»(1).

ومنها: خبر منصور بن حازم، عنه عليه السلام: «إذا أوصى الرّجل إلى أخيه وهو غائب، فليس له أنْ يردّ عليه وصيّته، لأنّه لو كان شاهداً فأبى أن يقبلها طلب غيره»(2).

ونحوهما غيرهما، يقيّد إطلاقها بما مرّ.

وأمّا في غير الموردين: فلا إشكال في جواز الرّد في الجملة، والأصحاب ذهبوا إلى أنّ له الرّد مع بلوغ الرّد إليه وهو حَيّ ، وإليه أشار المصنّف رحمه الله بقوله: (وإذا بلغ الموصي رَدّ الموصى إليه صَحّ الرّد، وإلّا فلا).

أقول: ويمكن أن يستفاد من النصوص المشار إليها بجعل الغيبة والحضور كنايةً عن بلوغ الرّد إليه وهو حَيّ وعدمه، بقرينة التعليل في خبر منصور، والإجماع على عدم مدخليّة ذلك.

نعم، ذهب الشهيد الثاني في «المسالك»(3)، وسيّد «الرياض» فيه(4) إلى أنّه يشترط مع بلوغ الموصى الرّد إمكان إقامته وصيّاً غيره، لعموم العلّة المنصوصة، ولانتفاء الفائدة بدونه، فعلى هذا لو كان حَيّاً ولكن لا يمكنه نصب أحدٍ، ولو بالإشارة، لم يصحّ الرّد، وهو حسنٌ .).

ص: 390


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/195 ح 5445، وسائل الشيعة: ج 19/319 ح 24688.
2- من لايحضره الفقيه: ج 4/196 ح 5449، وسائل الشيعة: ج 19/320 ح 24690.
3- مسالك الأفهام: ج 6/256.
4- رياض المسائل: ج 9/493 (ط. ج).

وإيراد صاحب «الجواهر» رحمه الله عليهما: (بكون المنساق من التعليل إرادة بيان واقع، فهو شبه الحكميّة، لا أنّ المراد من التعليل قصد إدارة الحكم مداره، ضرورة عدم لزوم طلب غيره، إذ قد لا يريد وصيّة غير هذا الذي ردّها)(1).

غير واردٍ، لأنّ ظاهر التركيب كونه علّة للحكم، والعلّة تمكّنه من نصب غيره، لا النصب خارجاً، فلاينافي كونه علّة يدور الحكم مدارها، عدم لزوم طلب غيره.

أقول: وكيف كان، فلو مات الموصي قبل الرّد أو بعده، ولم يبلغه، لم يكن للرّد أثر، وكانت الوصيّة لازمة للموصى إليه، وإنْ لم يقبلها أصلاً على المشهور في صورة عدم القبول، وإجماعاً في فرض القبول ثمّ الرّد.

ويشهد به: - مضافاً إلى النصوص المتقدّمة - صحيح الفضيل بن يسار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجلٍ يوصى إليه ؟

قال: إذا بعث بها إليه من بلدٍ فليس له ردّها، وإنْ كان في مصر يوجد فيه غيره فذلك إليه»(2).

وحسن هشام بن سالم عنه عليه السلام: «لا يخذله على هذه الحال»(3).

وأورد عليها المصنّف رحمه الله: في محكيّ «المختلف»(4) و «التحرير» - ومال إليه في «المسالك»(5) -: بعدم صراحتها في المطلوب، لاحتمال حملها على الاستحباب أو سبق القبول أو نحو ذلك ممّا لا بأس بحملها عليه، فإثبات الحكم العظيم المخالف للاُصول الشرعيّة والعقليّة بمثل ذلك مشكلٌ .8.

ص: 391


1- جواهر الكلام: ج 28/418.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 4/195 ح 5446، وسائل الشيعة: ج 19/320 ح 24689.
3- من لايحضره الفقيه: ج 4/196 ح 5448، وسائل الشيعة: ج 19/321 ح 24691.
4- مختلف الشيعة: ج 6/405.
5- مسالك الأفهام: ج 6/258.

ولو خان استبدل به الحاكم،

وزاد: (إنّ إثبات حقّ على الموصى إليه على وجه قهري، وتسليط الموصي على إثبات وصيّته على من شاء مخالفٌ للأصل، مضافاً إلى استلزم ذلك للحرج العظيم، والضرر الكثير، في أكثر مواردها)(1)، وهما منفيّان بالآية(2) والرواية(3).

وفيه: إنّ عدم الصراحة لو سُلّم لايوجب عدم العمل بالأخبار بعد كونها ظاهرة في المطلوب، وكون أكثر الفقه ثابتة بالظواهر، وإثبات حقٍّ على الموصى إليه على وجه قهري وإنْ كان مخالفاً لقاعدة السلطنة(4)، لكنّها كسائر القواعد الشرعيّة قابلة للتقييد، فما المانع من تقييدها بالنصوص المتقدّمة ؟!

والأحكام الضروريّة والحرجيّة وإنْ كانت مرفوعة، إلّاأنّ المدار على الضرر أو الحَرج الشخصي لا النوعي.

وعليه، فالأظهر عدم جواز الرّد، إلّاإذا استلزم الضرر أو الحرج، فترتفع حينئذٍ حرمة الرّد كسائر الأحكام الشرعيّة.

الوصيّة تبطل بخيانة الوصي

المسألة العاشرة: (ولو خان) الوصي (استبدل به الحاكم) أميناً بلا خلافٍ فيه، بل في «المسالك»: (إنّما يتوقّف عزله على عزل الحاكم، لو لم نشترط عدالته،

ص: 392


1- مسالك الأفهام: ج 6/258.
2- سورة الحجّ : الآية 78.
3- وسائل الشيعة: ج 25/427-429 باب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات.
4- بحار الأنوار: ج 2/272 ح 7 الطبع الحديث.

ولا يضمن الوصيّ إلّامع التفريط

فللحاكم حينئذٍ أن يعزل الخائن مراعاةً لحقّ الأطفال وأموال الصدقات ونحوها، وأمّا إذا اشترطنا عدالته، فإنّما ينعزل بنفس الفسق، وإنْ لم يعزله الحاكم)(1)، وهو متينٌ ، ولكن عرفت عدم اشتراط العدالة.

أقول: واستدلّ لجواز عزل الحاكم بأنّ مِنْ وظائفه حفظ أموال القاصرين وحقوقهم، وأموال الصدقات ونحوها.

وفيه: إنّ غاية ما يقتضيه ذلك، منع الحاكم له عن استقلاله بالتصرّف، بل يجعل عليه ناظراً منفّذاً للوصاية معه على وجهها.

وأمّا دعوى: أنّه يفهم من الموصي إشراط وصايته بأمانته، وأنّه متى خان لم يكن وصيّاً.

فيردّها: أنّ الآثار الوضعيّة تابعة للإنشاء، ولا ترتبط بما في النفس من المرجّحات، وعليه فالأولى أن يستدلّ له بالخبر المرويّ في «دعائم الإسلام» عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه قال:

«لا يزيل الوصيّ إلّاذهاب عقل أو ارتداد أو تبذير أو خيانة أو ترك سُنّة، والسلطان وصيُّ من لا وصيّ له، والناظر لمن لا ناظر له»(2).

وضعف سنده مجبورٌ بالعمل.

ولو تاب ورجع فالظاهر عدم عود الوصاية، لعدم الدليل عليه، والأصل عدمه.

قال المصنّف رحمه الله: (و) كيف كان، ف (لا يضمن الوصيّ إلّامع التفريط) أو مخالفة5.

ص: 393


1- مسالك الأفهام: ج 6/260.
2- دعائم الإسلام: ج 2/363 ح 1325.

شرط الوصيّة بلا خلافٍ كما في «المسالك»(1).

والوجه في ذلك: أنّه أمين، ويكون استيلاء يده على المال بإذن مالكي وشرعي، والأمين لا يضمن إلّامع التعدّي أو التفريط كما سبق، وأمّا ما دلّ من النصوص بإطلاقه على الضمان فمحمولٌ على ذلك.

وأمّا النصوص الدالّة على ضمانه بالتبديل فمستفيضة:

منها: صحيح محمّد بن مارد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ أوصى إلى رجلٍ وأمره أن يعتق عنه نسمةً بستّمائة درهم من ثُلثه، فانطلق الوصيّ فأعطى الستّمائة درهم رجلاً يحجّ بها عنه ؟

فقال عليه السلام: أرى أن يُغرم الوصيّ ستّمائة درهم من ماله، ويجعلها فيما أوصى الميّت في نسمة»(2).

وقد يستشكل على القوم: بأنّ ظاهرهم في هذه المسألة أنّ غاية ما يوجبه التعدّي والتفريط، وجوب الضمان عليه مع بقائه على الوصاية، بل هو المستفاد من الصحيح، ولا يوجب ذلك عزله، مع أنّهم صرّحوا في المسألة السابقة بأنّ للحاكم أن يعزله.

ويمكن دفعه: بأنّ كلمات الأصحاب في المقام إنّما هي لبيان الضمان خاصّة، ولا نظر لهم إلى عزل الوصيّ وعدمه، وأمّا الصحيح فلم يفرض فيه الخيانة، ولعلّه كان فعله جهلاً بتخيل أنّه أنفع وأعود للميّت، بل ظاهره ذلك.1.

ص: 394


1- مسالك الأفهام: ج 6/260.
2- من لايحضره الفقيه: ج 4/207 ح 5481، وسائل الشيعة: ج 19/348 ح 24741.

وله أن يستوفي دَينه،

استيفاء الوصيّ دَينه من مال الميّت

المسألة الحادية عشرة: (و) لو كان للوصي دينٌ على الميّت ف (له أنْ يستوفي دينه) ممّا في يده بلا خلافٍ في بعض الصور.

توضيح ذلك: إنّ الوصي:

تارةً : يكون وصيّاً على وفاء الديون أو ما يشمله.

واُخرى : يكون وصيّاً على غيره.

وعلى التقديرين:

تارةً : يمكن له إقامة البيّنة على حقّه.

واُخرى : ليس له حجّة عليه.

أمّا إذا كان وصيّاً على وفاء الديون، فالظاهر أنّه يجوز له استيفاء دينه وإنْ أمكن له إقامة البيّنة، إذ هي إنّما تجبُ لإثبات الحقّ ، والمفروض أنّه ثابتٌ عنده، وإلى ذلك نظر القوم حيث قالوا: إنّ فائدتها احتمال كذب المدّعي، والمفروض عدمه.

وحيث أنّه مخيّرٌ في جهات القضاء، فلا إشكال في أنّ له قضاء دينه، كما أنّ له ذلك لو علم بدين الأجنبي.

وأمّا موثّق بُريد بن معاوية، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«قلت له: إنّ رجلاً أوصى إليَّ فسألته أن يشرك معي ذا قرابة له فَفَعل، وذكر الذي أوصى إليّ أنّ له قبل الذي أشركه في الوصيّة خمسين ومائة درهم

ص: 395

عنده، ورهن بها جاماً من فضّة، فلمّا هلك الرّجل أنشأ الوصي يدّعي أنّ له قبله أكرار حنطة ؟

قال عليه السلام: إنْ أقام البيّنة، و إلّافلا شيء له.

قال: قلت له: أيحلّ له أنْ يأخذ ممّا في يديه شيئاً؟

قال عليه السلام: لا يحلّ له.

قلت: أرأيتَ لو أنّ رجلاً عدا عليه، فأخذ ماله، فقدر على أن يأخذ من ماله ما أخذ، أكان ذلك له ؟ قال عليه السلام: إنّ هذا ليس مثل هذا»(1).

فالظاهر كونه أجنبيّاً عن المقام، فإنّ المفروض في مورده أنّ الوصي شخصان، وإناطة جواز تصرّفاتهما بنظرهما معاً، ومن المعلوم أنّه لا يجوز لغير الدائن أن يؤدّي الدين إلّامع إثباته عنده.

وبعبارة أُخرى : إنّ الكلام في صورة ثبوت الدين عند الوصيّ ، وفي فرض الخبر لم يثبت عند أحدهما، فلا ربط للخبر بما هو محلّ الكلام.

وأمّا إذا لم يكن وصيّاً على وفاء الديون، فحيث أنّ الدين إنّما يخرج من الأصل، فمخرج الدين غير المال الذي بيده، فالظاهر أنّه ليس له أنْ يأخذ منه مقاصّة.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ المقاصّة وإنْ كانت جائزة، إلّاأنّها عبارة عن أخذ دينه من مال المديون مع اجتماع الشرائط، والميّت بموته تنتقل ديونه إلى أمواله، والثُّلث والإرث إنّما يتعلّقان بأمواله بعد إخراجها، فما في يده متعلّق بالميّت، ودينه إنّما يكون7.

ص: 396


1- التهذيب: ج 9/232 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/428 ح 24887.

أو يقترض مع الملائة، أو يقوّم على نفسه ويأخذ اُجرة المثل مع الحاجة،

على الأموال الاُخر التي بيد الورثة، فليس مورداً للمقاصّة، وإلى ذلك أشار الإمام عليه السلام في الموثّق.

وبما ذكرناه يظهر ما في الاستدلال للجواز بأنّه محسنٌ باستيفاء دينه و (ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (1).

قال المصنّف رحمه الله: بعد قوله له أنْ يستوفي دينه: (أو يقترض مع الملائة، أو يقوّم على نفسه ويأخذ اُجرة المثل مع الحاجة).

أقول: فهاهنا أحكام:

الأوّل: أنّ للوصيّ أن يشتري من نفسه لنفسه، باعتبار ولايته على المال الذي يريد شرائه بالوصاية، كما هو المشهور.

ووجهه: المفروض أنّه مأذونٌ في هذه المعاملة، والتغاير المعتبر في العقود بين الموجب والقابل يكفي الاعتباري منه، ولايعتبر التغاير الحقيقي، فإطلاقات أدلّة الإمضاء تدلّ على صحّته، ويشهد بها أيضاً خبر الهمداني المنجبر ضعفه بعمل الأكثر، قال:

«كتبتُ مع محمّد بن يحيى: هل للوصيّ أن يشتري من مال الميّت إذا بيع فيمن زاد يزيد ويأخذ لنفسه ؟

فقال عليه السلام: يجوز إذا اشترى صحيحاً»(2).1.

ص: 397


1- سورة التوبة: الآية 91.
2- من لايحضره الفقيه: ج 4/219 ح 5514، وسائل الشيعة: ج 19/423 ح 24881.

وعن «الخلاف»(1)، والحِلّي(2): عدم الجواز، واستدلاله:

1 - بوجوب التغاير بين الموجب والقابل وهو مفقودٌ.

2 - والأخبار المانعة عن شراء الوكيل لنفسه الذي هو بمنزلة الوصيّ (3).

3 - وبفتوى ابن مسعود.

ولكن الأوّل: قد عرفت ما فيه.

والأخبار المانعة عن شراء الوكيل لنفسه، قد عرفت في باب الوكالة أنّها محمولة على الحكم التنزيهي لدفع التهمة، ولا مانع من الالتزام به في المقام أيضاً.

وقول ابن مسعود ليس بحجّة.

الحكم الثاني: للوصي أن يقترض من ما في يده مع الملائة، والمستند النصوص الدالّة على جواز الاقتراض من مال اليتيم، الذي تحت يد الإنسان مع الملائة(4)، وقد مرّت النصوص في بابه.

وأمّا الاقتراض من المال الذي عُيّن لمصارف خاصّة، فإنْ علم من الوصيّة الإذن فيه فلا كلام، وإلّا فيمكن استفادة حكمه من تلك النصوص الواردة في الاقتراض من مال اليتيم، سيّما وأنْ مورد أكثرها كونه وصيّاً عليه.

أخذ الوصيّ اُجرة عمله

الحكم الثالث: للوصي أخذ اُجرة المثل مع الحاجة، بلا خلافٍ فيه في الجملة.

وملخَّص القول في هذه المسألة: إنّ الوصي:

ص: 398


1- الخلاف: ج 3/346-347 كتب الوكالة مسألة 9.
2- السرائر: ج 3/193.
3- وسائل الشيعة: ج 17/391 باب 6 من أبواب آداب التجارة.
4- وسائل الشيعة: ج 17/258-260.

تارةً : يكون وصيّاً على الأيتام، وتكون أموالهم تحت يده ويعمل لهم فيها.

واُخرى : يكون وصيّاً على صرف مال الوصيّة في الموارد المقرّرة.

أمّا في المورد الأوّل: فبعد اتّفاق الأصحاب على جواز أخذ العوض، اختلفوا فيما يؤخذ على أقوال:

أحدها: أنّ له أن يأخذ اُجرة المثل عن نظره في ماله، وهو مختار الشيخ في أحد أقواله(1)، والإسكافي(2) والمصنّف رحمه الله في محكي «القواعد»(3)، والمحقّق(4) وغيرهم(5)، بل عن «مجمع البيان»: (أنّه الظاهر من روايات أصحابنا)(6).

ثانيها: أنّه يأخذ قدر كفايته، ذهب إليه الشيخ في قوله الآخر(7)، والحِلّي(8).

ثالثها: أنّه يأخذ أقلّ الأمرين، فإنْ كانت كفايته أقلّ من اُجرة المثل، فله قدر الكفاية دون اُجرة المثل، وإنْ كانت اُجرة المثل أقلّ من الكفاية، فله الاُجرة دون الكفاية، واختاره جماعة(9):

وهؤلاء بين من قيّد الأخذ بالحاجة، ومن قال إنّه يجوز الأخذ ولو كان غنيّاً.

والحقّ أنْ يقال: إنّ مقتضى القاعدة والآية الشريفة والنصوص، هو أخذ اُجرة المثل:5.

ص: 399


1- النهاية: ص 361.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/35.
3- قواعد الأحكام: ج 2/567.
4- شرائع الإسلام: ج 2/485.
5- كالشهيد في الدروس: ج 2/327 درس 179.
6- مجمع البيان: ج 3/21.
7- النهاية: ص 362.
8- السرائر: ج 2/211.
9- كالشيخ في الخلاف: ج 3/179 مسألة 295.

أمّا القاعدة: فظاهرة، وأمّا الآية وهي قوله تعالى : (وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (1) فلأنّ الظاهر أنّ المراد من الأكل فيها هو التملّك، أو جميع التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك، وليس المراد منه معناه الموضوع له كما في الآيات الاُخر، مثل قوله تعالى : (إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً) (1)وقوله عزّ وجلّ : (وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً) (3) وقول عزَّ من قائل (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (2) إلى غيرها من الآيات المتضمّنة لهذه الكلمة.

وبالجملة: لا شبهة في أنّ الأكل اُريد به معناها الكنائي، وهو ما ذكر، وأمّا المعروف فظاهره إرادة ما هو المتعارف بين الناس، وعلى ذلك فتدلّ الآية الكريمة على أنّه يجوز لمن يتصدّى أمر الأيتام أن يأخذ من أموالهم ماهو المتعارف أخذه بإزاء العمل، وليس هو إلّااُجرة المثل.

وعليه، فالاستدلال بالآية للقول الثاني في غير محلّه.

وأمّا النصوص: فهي طائفتان:

الطائفة الأُولى : ما يكون ظاهراً في جواز أخذ اُجرة المثل، مثل الخبر الصحيح الذي رواه هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«سألته عمّن تولّى مال اليتيم ما له أنْ يأكل منه ؟

فقال عليه السلام: ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم فليأكل بقدر ذلك»(3).

ونحوه غيره.2.

ص: 400


1- سورة النساء: الآية 10.
2- سورة النساء: الآية 29.
3- التهذيب: ج 6/343 ح 81، وسائل الشيعة: ج 17/251 ح 22452.

وظهور هذه النصوص في إرادة المثل لا يُنكر.

الطائفة الثانية: ما لا يكون كذلك، لكنّه قابلٌ للحمل عليه، كصحيح عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «عن القيّم لليتامى في الشراء لهم والبيع فيما يصلحهم، ألَهُ أن يأكل من أموالهم ؟

فقال: لا بأس أن يأكل من أموالهم بالمعروف كما قال اللّه تعالى في كتابه (وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (1) هو القوت، وإنّما عنى فليأكل بالمعروف الوصي لهم، والقيّم في أموالهم ما يصلحهم»(2).

وصحيحه الآخر عنه عليه السلام: «في قول اللّه عزّ وجلّ (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) قال: المعروف هو القوت، وإنّما عَنى الوصيّ أو القيّم في أموالهم ما يصلحهم»(3).

ونحوهما غيرهما.

وهذه النصوص قابلة للحمل على اُجرة المثل، بناءً على أنّ اُجرة المثل بحسب الغالب بالنسبة إلى من جُعل حرفته ذلك، لا تزيدُ على القوت فتحمل عليها.

والشاهد على هذا الحمل الآية والنصوص الاُخر:

1 - خبر أبي الصباح، عنه عليه السلام: «فإنْ كان المال قليلاً فلا يأكل منه شيئاً»(4).

2 - خبر زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «في الآية سُئل عنها، فقال: ذلك إذا0.

ص: 401


1- سورة النساء: الآية 6.
2- التهذيب: ج 9/244 ح 42.
3- الكافي: ج 5/130 ح 3، وسائل الشيعة: ج 17/250 ح 22448.
4- الكافي: ج 5/130 ح 5، وسائل الشيعة: ج 17/251 ح 22450.

حبس نفسه في أموالهم، فلا يحترف لنفسه، فليأكل بالمعروف من أموالهم»(1).

وفي جملة من النصوص أنّ من تولّى إبل الأيتام أو مواشيهم أنّ له أنْ يصيب من لبنها(2).

وبالجملة: بعد رَدّ النصوص بعضها إلى بعض، يظهر أنّ المراد من الجميع اُجرة المثل، ويؤيّده أنّ العمل للأيتام يختلف كثرة وقلّةً باعتبار زيادة المال وقلّته، كما أنّ قوت الأشخاص يختلف، سيّما إذا قلنا بأنّ المراد قوته وقوت عياله، فلا ترديد في أنّ المراد اُجرة المثل.

وظاهر الآية الكريمة: (مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) (3) عدم جواز أخذ الاُجرة مع عدم الحاجة، كما عن الحِلّي(4)، وصاحبي «المسالك»(5) و «الرياض»(6).

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - الخبر الموثّق الذي رواه سماعة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«من كان يلي شيئاً لليتامى، وهو يحتاج، ليس له ما يقيمه، فهو يتقاضى أموالهم ويقوم في ضيعتهم، فليأكل بقدرٍ ولا يُسرف، وإنْ كان ضيعتهم لا تشغله عمّا يعالج بنفسه، فلايرزأنّ من أموالهم شيئاً»(7).1.

ص: 402


1- تفسير العياشي: ج 1/222 ح 32، وسائل الشيعة: ج 17/253 ح 22457.
2- الكافي: ج 5/130 ح 4، وسائل الشيعة: ج 17/250 ح 22449.
3- سورة النساء: الآية 6.
4- السرائر: ج 2/211.
5- مسالك الأفهام: ج 6/276.
6- رياض المسائل: ج 9/505 (ط. ج).
7- الكافي: ج 5/129 ح 1، وسائل الشيعة: ج 17/251 ح 22451.

وأن يوصي مع الإذن لا بدونه.

وعليه، فما عن الشيخ(1)، والإسكافي(2)، والمصنّف رحمه الله في بعض كتبه(3) من جواز الأخذ على كراهةٍ غيرُ تامٍّ ، والعفّة لا تكون ظاهرة في الجواز كي توجبُ صرف ظهور الأمر في الوجوب.

وأمّا ما في بعض النصوص من أنّه: «لو كان المال قليلاً أو كان ضيعتهم لاتشغله عمّا يعالج نفسه، أو أنّ عمله لوكان حفظ الدراهم والدنانير فلا يأخذ شيئاً» فإنّما هو من جهة أنّ هذه الأفعال لا اُجرة لها على العادة.

حكم إيصاء الوصي

المسألة الثانية عشرة: (و) يجوز للوصي (أن يوصي) بالموصى به إليه إلى الغير (مع الإذن) من الموصي بلا خلافٍ لإطلاق الأدلّة، و (لا) يجوزُ له (بدونه) بلا خلافٍ أيضاً مع المنع، بل عليه الإجماع كما عن غير واحدٍ، ووجهه ظاهر.

وإنّما الخلاف فيما إذا أطلق الموصي، فلم يأذن ولم يمنع.

فعن المفيد(4)، والتقيّ (5)، وابن زُهرة(6)، والحِلّي(7)، وأكثر المتأخّرين بل

ص: 403


1- النهاية: ص 362.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/35.
3- مختلف الشيعة: ج 5/35.
4- المقنعة: ص 675.
5- الكافي في الفقه: ص 366.
6- الغنية: ص 306.
7- السرائر: ج 3/185.

عامّتهم(1): أنّه لا تصحّ الوصيّة.

وعن الإسكافي(2)، و «النهاية»(3)، والقاضي(4): الجواز.

أقول: يقع الكلام في مقامين:

تارةً : مع قطع النظر عن النَّص الخاص.

وأُخرى : بلحاظه.

أمّا المقام الأوّل: فقد استدلّ للجواز:

1 - بأنّ الموصي أقام الوصي مقام نفسه، فيثبت له من الولاية ما ثبت له، ومن ذلك الاستنابة بعد الموت.

2 - وبأنّ الاستنابة من جملة التصرّفات التي يمكلها حَيّاً بالعموم، كما يملكها بالخصوص لورود النّص به.

ويضعف الأوّل: أنّ الموصي أقامه مقام نفسه في فعله ما دام حَيّاً، ولم يقمه مقامه في جعل القائم مقام نفسه بعد موته.

والثاني: أنّ الاستنابة في حال الحياة، الموجبة لكون الفعل فعل الوصي، غير الاستنابة بعد الموت غير المستندة إليه.

وأيضاً: الاستنابة في حال الحياة تكون جائزة للوصي الرجوع فيها، بخلاف الاستنابة بعد الموت.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الوجهين لا يخلوان عن المصادرة، بل الأظهر بحسب القاعدة7.

ص: 404


1- كما عن رياض المسائل: ج 9/505.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/397.
3- النهاية: ص 607.
4- المهذّب: ج 2/117.

عدم الجواز، لعدم ثبوت ولايةٍ له بعد الموت على ذلك، والأصل يقتضي عدمها.

بل قيل: إنّ المتبادر من استنابته مباشرته بنفسه أو بوكيله الذي هو بمنزلته، ومجبور عمله بنظره، ومندرجٌ في وصايته، دون الايصاء إلى الغير المشتمل على الولاية بعد موته.

وأمّا المقام الثاني: ففي المقام رواية استدلّ بها كلّ من الطرفين، وهي الرواية الصحيحة التي رواها الصفّار، قال:

«كتبتُ إلى أبي محمّد عليه السلام: رجلٌ كان وصيّ رجلٍ ، فمات وأوصى إلى رجلٍ ، هل يلزم الوصيّ وصيّة الرّجل الذي كان هذا وصيّه ؟

فكتب عليه السلام: يلزمه بحقّه إنْ كان له قِبله حقٌّ إنْ شاء اللّه»(1).

استدلّ بها للقول بالجواز، بتقريب: أنّ المراد بالحقّ هنا حقّ الإيمان، فكأنّه قال: (يلزمه إنْ كان مؤمناً وفائه لحقّه بسبب الإيمان)، فإنّه يقتضي معونة المؤمن، وقصاء حوائجه التي أهمّها إنفاذ وصيّته.

وفيه: أنّه من المحتمل أنْ يكون المراد بقوله: (بحقّه) الوصيّة إليه، بأنْ يوصي، وضمير (حقّه) يرجع إلى الموصي الأوّل، والمعنى حينئذٍ: أنّ الوصيّة تلزم الوصيّ الثاني بحقّ الأوّل إن كان له قِبل الوصيّ الأوّل حقٌّ ، بأن يكون قد أوصى إليه وأذِنَ له أن يوصي، فقد صار له قبله حقّ الوصيّة، فإذا أوصى بها لزمت الوصي الثاني، ومع هذا الاحتمال يصير الخبرُ مجملاً لايصحّ الاستدلال به.

أقول: وربما يستدلّ بها لعدم الجواز بما مرّ، وهو أيضاً غير ظاهر، قال في «الرياض»: (وأمّا على ما يظهر منها بعد تعمّق النظر فيها، من أنّ المراد بالسؤال أنّ7.

ص: 405


1- التهذيب: ج 9/215 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/402 ح 24847.

ولا يتعدّى المأذون، ويتولّى الحاكم من لا وصيّ له.

الوصيّ أوصى إلى الغير فيما يتعلّق به، وجعله وصيّاً لنفسه، فهل يدخل في هذه الوصيّة وصيّة الموصي الأوّل، فيلزم الوصي الثاني العمل بها أيضاً أم لا؟ فكتب الجواب بما مضى ، فلا وجه أيضاً للاستدلال به لكونه على هذا التقدير أيضاً مجملاً، ومقتضاه حينئذٍ: إنْ كان للوصيّ الأوّل قبله - أي قبل الوصي الثاني - حقّ من جهة وصيّة الموصي الأوّل لزمه الوفاء به وإلّا فلا، ويكون المراد بالحقّ حينئذٍ حقّ التوصيّة إلى الوصي الثاني، بأنْ صرّح له بالوصيّة.

فيرجع حاصل الجواب إلى أن وصيّة الأوّل لا تدخل في إطلاق وصيّة الموصى الثاني، إلّاأن يصرّح به، وهو كما ترى غير مورد النزاع، وإطلاقه وإن شمله، إلّا أنّه لاعبرة به بناء على ظهور وروده لبيان حكم غيره، فيكون الخبر بالنسبة إلى مورد النزاع من جواز وصيّة الوصي إلى الغير فيما أوصى به إليه الموصي وعدمه مجملاً محتملاً، لاختصاص الحكم فيه بالجواز مع الشرط بالموضع، المتّفق المجمع عليه، وهو صورة الإذن فيها لا مطلقاً). انتهى (1).

أقول: وإنّما نقلنا كلامه رحمه الله بطوله من جهة أنّه أوّل ما نظرت في الرواية قبل مراجعة كلمات القوم فيها، خطر ذلك ببالي، فرأيتُ أنّه قدس سره تعرّض له وبيّنه بأحسن بيان، ولذلك اكتفيتُ بما ذكره.

وبالجملة: (و) كيف كان، ف (لا يتعدّى) الوصيُّ (المأذونَ ).

قال المصنّف رحمه الله: (ويتولّى الحاكم من لا وصيّ له) لو كان له أطفال، ولم يكن).

ص: 406


1- رياض المسائل: ج 9/508 (ط. ج).

وتمضي الوصيّة بالثّلث فما دون، ولو زادت وقف الزائد على إجازة الورثة.

عليهم وليّ من الأجداد، أو كان له وصايا أو حقوق أو ديون بلا خلافٍ ، لأنّ ذلك من شؤون القضاة، وقد جعله الشارع الأقدس وكيلاً وقاضياً(1)، فيثبت له جميع ما للقضاة من الوظائف منها ذلك، ولأنّه من الاُمور الحسبيّة التي يريد الشارع الأقدس وجودها، وقد مرّ في مبحث الولايات(2) أنّه يتعيّن تصدّي الحاكم لهذه الاُمور، وبه يظهر أنّه مع فقده يتولّاه عدول المؤمنين.

حكم الوصيّة الزائدة على الثُّلث

المسألة الثالثة عشرة: (وتمضي الوصيّة بالثُّلث فما دون، ولو زادت) لاتكون ماضية في الزائد، و (وقف الزائد على إجازة الورثة) بلا خلافٍ في شيء من ذلك، إلّا عن عليّ بن بابويه(3) من نفوذها مطلقاً، وحيث أنّ كلامه غير ظاهر في ذلك، فدعوى نفي الخلاف فيه، بل الإجماع عليه في محلّها.

وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)(4).

وفي «الرياض»: (بل عليه إجماع العلماء، كما صرّح به في «الغنية»(5)، و «التنقيح»(6)، و «التذكرة»(7)(8).

ص: 407


1- وسائل الشيعة: ج 27/137 باب 11 من أبواب صفات القاضي ح 33416-33421.
2- فقه الصادق: ج 24/25.
3- فقه الرضا: ص 298.
4- جواهر الكلام: ج 28/281.
5- الغنية: ص 306.
6- التنقيح الرائع: ج 2/399.
7- تذكرة الفقهاء: ج 2/481 (ط. ق).
8- رياض المسائل: ج 9/510 (ط. ج).

وتشهد به: أخبار معتبرة متظافرة:

منها: خبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «في رجل أوصى بأكثر من الثُّلث، وأعتق مماليكه في مرضه ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان أكثر من الثُّلث رَدّ إلى الثُّلث، وجاز العتق»(1).

ومنها: خبر حمران، عنه عليه السلام: «في رجل أوصى عند موته وقال: اعتق فلاناً وفلاناً، حتّى ذكر خمسة، فنظر في ثلثه، فلم يبلغ ثلثه أثمان قيمة المماليك الخمسة الذين أمر بعتقهم ؟

قال عليه السلام: ينظر إلى الذين سمّاهم وبدأ بعتقهم فيقومون وينظر إلى ثلثه فيعتق منه أوّل شيء ذكر، ثمّ الثاني والثالث ثمّ الرابع ثمّ الخامس، فإنْ عجز الثُّلث كان في الذين سمّى أخيراً، لأنّه اعتق بعد مبلغ الثُّلث ما لا يملك، فلا يجوز له ذلك»(2).

ونحوهما غيرهما من النصوص المستفيضة أو المتواترة الآتية جملة منها في ضمن الفروع الآتية.

أقول: وبازائها نصوصٌ معارضة لها:

منها: موثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الرّجل أحقّ بماله مادام فيه الروح إذا أوصى به كلّه فهو جائز»(3).

ومنها: موثّق محمّد بن عبدوس، قال: «أوصى رجلٌ بتركته متاع وغير ذلك لأبي محمّدٍ عليه السلام، فكتبتُ إليه: رجل أوصى إليّ بجميع ما خلّف لك، وخلّف ابنتي8.

ص: 408


1- الكافي: ج 7/16 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/400 ح 24843.
2- من لايحضره الفقيه: ج 4/212 ح 5493، وسائل الشيعة: ج 19/398 ح 24839.
3- التهذيب: ج 9/187 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/281 ح 24598.

اُخت له، فرأيك في ذلك ؟

فكتب إليَّ : بع ما خلّف وابعث به إليّ ، فبعتُ وبعثتُ به إليه، فكتب عليه السلام إليّ :

قد وصل»(1).

ونحوهما غيرهما.

لكنّها لإعراض الأصحاب عنها، ومعارضتها مع النصوص السابقة المشهورة بين الأصحاب، والّتي هي أكثر عدداً وأصَحّ سنداً، يتعيّن طرحها، ولا مورد لما ذكره الأصحاب في مقام الجمع بين الطائفتين من حمل هذه على محامل بعيدة، لما حُقّق في محلّه من أنّ ما اشتهر من أنّ (الجمع مهما أمكن أولى من الطرح) لا أصل له في غير الجمع العرفي.

إجازة الوارث الوصيّة بما زاد على الثُّلث

أقول: وتمام الكلام في هذه المسألة يتحقّق ببيان اُمور:

الأمر الأوّل: في إجازة الورثة للوصيّة، فهي على قسمين:

تارةً : يجيزون الوصيّة بعد وفاة الموصي، فإنّه لا إشكال في صحّة الوصيّة بما زاد لو أجاز الورثة بعد وفاة الموصي، وفي «الجواهر»: (أنّه إجماعٌ بقسميه)(2).

ويشهد به: صحيح أحمد بن محمّد، قال:

«كتبَ أحمد بن إسحاق إلى أبي الحسن عليه السلام: أنّ درّة بنت مقاتل توفّيت، وتركت ضيعة أشقاصاً في مواضع، وأوصت لسيّدنا في أشقاصها بما يبلغ أكثر من الثُّلث،

ص: 409


1- التهذيب: ج 9/195 ح 17، وسائل الشيعة: ج 19/280 ح 24595.
2- جواهر الكلام: ج 28/284.

ونحن أوصيائها، وأحببنا إنهاء ذلك إلى سيّدنا، فإنْ أمرنا بإمضاء الوصيّة على وجهها أمضيناها، وإنْ أمرنا بغير ذلك انتهينا إلى أمره في جميع ما يأمر به إنْ شاء اللّه ؟

قال: فكتب عليه السلام بخطّه: ليس يجب لها في تركتها إلّاالثُّلث، وإنْ تفضّلتم وكنتم الورثة كان جائزاً لكم إنْ شاء اللّه»(1).

وليس لهم الرجوع في إجازتهم، لأنّ الوصيّة بالإجازة نفذت، فبطلانها بالرجوع يحتاج إلى دليل.

واُخرى : يُجيز الوارث الوصيّة في حياة الموصي، ففي نفوذها قولان:

الأوّل: ما هو المشهور(2)، وهو النفوذ.

الثاني: ما عن «المقنعة»(3)، و «المراسم»(4)، و «السرائر»(5)، و «الوسيلة»(6)، و «الجامع»(7)، و «الإيضاح»(8)، و «شرح الإرشاد»(9)، وهو: أنّه لا عبرة بالإجازة حال الحياة.

أقول: وقد نقل قولان آخران في هذه المسألة لم أظفر بقائلهما:

أحدهما: التفصيل بين كون الإجازة حال مرض الموصي فتصحّ ، وحال9.

ص: 410


1- الكافي: ج 7/10 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/275 ح 24580.
2- كما عن رياض المسائل: ج 9/514 (ط. ج).
3- المقنعة: ص 670.
4- المراسم: ص 206.
5- السرائر: ج 3/194.
6- الوسيلة: ص 375.
7- الجامع للشرائع: ص 499.
8- إيضاح الفوائد: ج 2/507-508.
9- إرشاد الأذهان: ج 1/459.

صحّته فلا تصحّ (1).

الثاني: التفصيل بين غنى الوارث فتصحّ إجازته بلا استدعاء، وبين فقره أو باستدعاء من الموصى فلا تصحّ (2).

والكلام تارةً : فيما يستفاد من الأدلّة مع قطع النظر عن النصوص الخاصّة.

واُخرى : بملاحظة النصوص الخاصّة.

أمّا الأوّل: فقد استدلّ المصنّف رحمه الله(1) للنفوذ بوجوه، وتبعه غيره:

الوجه الأوّل: عموم قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ ) (2)، بتقريب أنّ مقتضى عمومه صحّة الوصيّة مطلقاً، خرج عنه ما لو زادت على الثُّلث، ولم يجزه الوارث، وبقي الباقي.

وأُورد عليه: بأنّ المرجع مع الشكّ إلى عموم ما دلّ على عدم صحّة الوصيّة بما زاد على الثُّلث، الذي هو أخصّ من عموم صحّة الوصيّة.

ولكنّه يضعف: بأنّ نصوص عدم صحّة الوصيّة بما زاد على الثُّلث، قيّد إطلاقها بما دلّ على صحّتها مع إجازة الوارث، فالتمسّك بعمومها في صورة الشكّ تمسّكٌ بالعام في الشبهة المصداقيّة.

الوجه الثاني: أنّ الرّد حقٌّ للورثة، فإذا رضوا بالوصيّة، سقط حقّهم كما لو رضى المشتري بالعيب.

وأُورد عليه: بأنّه لم يثبت الحقّ للورثة حال الحياة، فلا معنى لإسقاطه، وإذا2.

ص: 411


1- مختلف الشيعة: ج 6/342.
2- سورة النساء: الآية 12.

أُريد ثبوته بعد الموت، فإسقاطه حال الحياة من قبيل إسقاط مالم يجب.

وفيه: أنّ إسقاط ما لم يجب إنْ كان بنحو الإسقاط على تقدير الثبوت، لا محذور فيه.

الوجه الثالث: أنّ الأصل عدم اعتبار إجازة الوارث، لأنّه تصرّف من المالك في ملكه، لكن منع من الزيادة على الثُّلث إرفاقاً بالورثة، فإذا رضى الوارث زال المانع.

وأُورد عليه: بأنّ زوال المانع إنّما يتمّ على تقدير استمرار رضا الوارث، أمّا إذا ردّ بعد ذلك، فالإرفاق به يقتضي عدم صحّة الإجازة السابقة، والعملُ على رَدّه.

وفيه: إنّ محلّ الكلام فعلاً كفاية الإجازة في حال الحياة، وأمّا أنّه لو ردّ بعد ذلك هل يؤثّر الرّد أم لا، فهي مسألة أُخرى سيأتي الكلام فيها.

الوجه الرابع: أنّ المال الموصى به لا يخرجُ عن ملك الموصي والورثة، لأنّه إنْ برأ كان المال له، وإنْ مات كان للورثة، فإنْ كان للموصي فقد أوصى به، وإنْ كان للورثة فقد أجازوه.

وأُورد عليه: بأنّ موضوع الكلام صورة الموت، فالمِلْك يكون للورثة، لكنّه بعد الموت لا قبله، فالإجازة قبله إجازةٌ من غير المالك.

وفيه: أنّ إجازة غير المالك التصرّف على تقدير ملكه لا مانع من تأثيرها.

وأمّا النّص الخاص: فمنه صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «وفي رجل أوصى بوصيّةٍ وورثته شهود، فأجازوا ذلك، فلمّا مات الرّجل نقضوا الوصيّة، هل لهم أن يردّوا ما أقرّوا به ؟

ص: 412

فقال عليه السلام: ليس لهم ذلك، والوصيّة جائزة عليهم إذا أقرّوا بها في حياته»(1).

ونحوه صحيح منصور بن حازم(2)، وغيره.

ودلالتها على نفوذ الوصيّة ظاهرة، ومع ذلك كلّه فلا يصغى إلى ما عن «السرائر» من الاستدلال لعدم النفوذ (بأنّها إجازة في غير ما يستحقّونه بعد، فلا يلزمهم بحال)(3).

إجازه الوارث تنفيذٌ لعمل الموصي

الأمر الثاني: ويدور البحث فيه عن أنّه هل تكون إجازة الوارث تنفيذاً لعمل الموصى، بحيث لا يعتبر فيها شيءٌ ممّا يعتبر في الهبة، وينتقل المال من الموصي إلى الموصى له ؟

أو ابتداءً تعدّ عطيّة من الوارث، فتفتقر صحّتها إلى القبض، بل القبول أيضاً، وينتقل المال من الوارث إلى الموصى له ؟ وجهان.

المشهور هو الأوّل، وفي «المسالك»: (هو مذهب الأصحاب، لايتحقّق فيه خلافٌ بينهم، وإنّما يذكر الآخر وجهاً أو احتمالاً وإنّما هو قول العامّة، والمرجّح عندهم ما اخترناه أيضاً). انتهى (4).

أقول: قد استدلّ لكلّ من القولين بوجوه استحسانيّة، والحقّ أنْ يقال إنّه:

تارةً : يبحث في مقام الثبوت.

ص: 413


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/200 ح 5461، وسائل الشيعة: ج 19/283 ح 24601.
2- التهذيب: ج 9/193 ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/284 ح 24602.
3- السرائر: ج 3/185.
4- مسالك الأفهام: ج 6/151.

ولو أجاز البعض مضى في قدر حصّته.

واُخرى : في مقام الإثبات.

أمّا في مقام الثبوت: فلا مانع من الالتزام بنفوذ وصيّة الموصي، وانتقال المال منه إلى الموصى له:

إمّا لأنّ المال له حتّى ما بعد موته، غاية الأمر بالنسبة إلى ثلثه يكون مشروطاً بالوصيّة، وبالنسبة إلى مازاد عليه يكون مشروطاً بها مع إجازة الوارث.

وإمّا لأنّه وإنْ كان المال للورثة، لكن كما يجوز تمليك مال الغير بإذنه بعدما صار ملكاً له، كذلك يجوز تمليكه من أوّل مايكون المقتضي لدخوله في ملكه موجوداً.

فعلى التقديرين، لا مانع من الالتزام بانتقال المال من الموصي إلى الموصى له.

وأمّا في مقام الإثبات: فالموصي إنّما ينشأ التمليك، وليس من الوارث إنشاء تمليك، وإنّما كان منه إجازة ذلك الإنشاء، فهي تكون تنفيذاً لذلك لا ابتداء تمليك، والنصوص أيضاً ظاهرة في ذلك، لاحظ قوله عليه السلام: «والوصيّة جائزة عليهم إذا أقرّوا بها في حياته»، فإنّه كالصريح في أنّ المملّك هي الوصيّة التي أقرّوا بها لا الإقرار.

وعليه، فلا إشكال في أنّها تنفيذ للوصيّة لا ابتداء عطيّة.

الأمر الثالث: (ولو) كانت الوصيّة زائدة عن الثُّلث، و (أجاز) ها (بعض) الورثة (مضى في قَدر حصّته) ولا يضرّ التبعيض بلا خلافٍ ، وظاهر كلماتهم المفروغيّة عن جواز ذلك، وهي كذلك للعمومات.

وعليه، فيتمّ ما أفاده صاحب «الجواهر»، بقوله: (وكذا لو أجاز الجميع البعض أو البعض، لاتّحاد الجميع في المدرك). انتهى (1).4.

ص: 414


1- جواهر الكلام: ج 28/284.

ولو أجازوا قبل الموت صحّ ، ويملك الموصي به بعد الموت والقبول. ويقدّم الواجب من الأصل.

وذكروا مثالاً للتوزيع في ما لو أجاز بعض الورثة، وهو أنّه:

نفرض التركة ستّة، وكان الموصى به ثلاثة، فتزيد الوصيّة على الثُّلث بسدس المجموع، فإذا كان للميّت ابنٌ وبنتٌ كان هذا السدس مشتركاًبينهما أثلاثاً، ولو أجاز الابن فقط صحّت الوصيّة في ثلثي السدس، وبطلت في ثلثه، فتصحّ الوصيّة في اثنين وثلثين من الثالث، وإنْ أجازت البنت صحت الوصيّة في اثنين وثلثٍ من الثالث.

(و) كما تصحّ الوصيّة (لو) زادت الوصيّة عن الثُّلث إنْ (أجازوا قبل الموت) كما مرّ، كذلك (صَحّ ) لو أجاز البعض دون البعض.

الأمر الرابع: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (يملك) الموصى له (الموصى به بعد الموت) من غير فرقٍ بين ما لو زادت الوصيّة على الثُّلث وأجاز الوارث، أو كانت بقدره فما دون.

(و) أمّا توقّف الملكيّة على (القبول) وعدمه، فقد مر الكلام فيهما مفصّلاً عند القول في شرطيّة القبول(1). فراجع.

حكم الايصاء بالواجب وغيره

الأمر الخامس: (و) لو أوصى بواجب وغيره (يقدّم الواجب) فيخرج (من الأصل)، سواءٌ كان الواجب ماليّاً كالدين والحجّ ، أم بدنياً كالصوم والصَّلاة، كما تقدّم

ص: 415


1- صفحة 318 من هذا المجلّد.

والباقي من الثّلث، ويبدأ بالأوّل فالأوّل في غير الواجب،

في كتاب الحجّ مفصّلاً(1) وعرفت أنّ الواجب يخرجُ من الأصل مطلقاً، لإطلاق الدين عليه في الأخبار، ودلالة النصوص على أنّ كلّ دينٍ يخرج من الأصل، والإيصاء به لا يوجبُ صرفه إلى الثُّلث، بلا خلافٍ في ذلك.

ويشهد به: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في رجلٍ توفّى وأوصى أن يُحجّ عنه ؟

قال عليه السلام: إنْ كان صرورةً فمن جميع المال، إنّه بمنزلة الدين الواجب، وإنْ كان قد حَجّ فمن ثلثه(2)، الحديث».

ونحوه الموثّق(3).

وهما كما ترى صريحان في أنّ الوصيّة للحجّ لا توجبُ إخراجه من الثُّلث، بل يخرج من الأصل مطلقاً، وما فيهما من التعليل ظاهرٌ في العموم لكلّ ما هو بمنزلة الدين، فيشملان جميع الواجبات.

(و) يخرج (الباقي من الثُّلث، ويبدأ بالأوّل فالأوّل في غير الواجب) حتّى يستوفى الثُّلث، ويبطل فيما زاد عليه إنْ لم يجز الورثة، بلا خلافٍ فيه.

ويشهد به: خبر حمران، عن أبي جعفر عليه السلام:

«في رجلٍ أوصى عند موته وقال: اعتق فلاناً وفلاناً، حتّى ذكر خمسة، فنظر0.

ص: 416


1- فقه الصادق: ج 13/314.
2- الكافي: ج 4/305 ح 1، وسائل الشيعة: ج 11/66 ح 14255.
3- من لايحضره الفقيه: ج 4/214 ح 5499، وسائل الشيعة: ج 11/67 ح 14260.

ولو جمع تساووا في الثُّلث.

في ثُلثه فلم يبلغ ثلثه أثمان قيمة المماليك الخمسة الذين أمر بعتقهم ؟

قال عليه السلام: ينظر إلى الذين سمّاهم وبدأ بعتقهم فيقوّمون، وينظر إلى ثلثه فيعتق منه أوّل شيء ذُكر ثمّ الثاني والثالث ثمّ الرابع ثمّ الخامس، فإنْ عجز الثُّلث كان في الذين سمّى أخيراً لأنّه أعتق بعد مبلغ الثُّلث ما لا يملك، فلا يجوز له ذلك»(1).

وضعفه منجبرٌ بالشهرة، وبرواية ابن أبي محبوب المُجمع على تصحيح ما يصحّ عنه عن موجبه، ومورده وإنْ كان خاصّاً إلّاأنّ التعليل ظاهر في العموم.

(ولو جمع) ما أوصى به من الواجب وغيره في الثُّلث، بأنْ صرّح بإخراجه منه، (تساووا في الثُّلث) عملاً بمقتضى الوصيّة، وحينئذٍ إنْ كان الثُّلث وافياًبالجميع، فلا كلام، وإلّا فيبدأ بالواجب، وإنْ تأخّر في الذكر، بلا خلافٍ ظاهر، والتعليل في الصحيح:

«إنّ امرأةً من أهلي ماتت وأوصت إليّ بثلث مالها، وأمرت أن يعتق عنها ويتصدّق ويحجّ عنها، فنظرتُ فيه فلم يبلغ ؟

فقال عليه السلام: ابدأ بالحجّ ، فإنّه فريضة من فرائض اللّه عزّ وجلّ ، واجعل ما بقي طائفة في العتق، وطائفة في الصدقة. الحديث»(2).

ظاهرٌ في ذلك، مضافاً إلى أولويّة الواجب عن غيره، مع حصول تيقّن براءة الوصي بصرفه فيه، بخلاف ما لو صرفه في غيره.5.

ص: 417


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/212 ح 5493، وسائل الشيعة: ج 19/398 ح 24839.
2- من لايحضره الفقيه: ج 4/211 ح 5491، وسائل الشيعة: ج 19/396 ح 24835.

ولو أوصى بالأزيد أو بتمام تركته، ولم يعلم كونها في واجبٍ حَيّ ، تنفذ أوّلاً حتّى يتوقّف الزائد على إجازة الورثة، فقد يقال كما عن سيّد «الرياض»(1) بالأوّل حيث إنّه وجّه كلام والد الصدوق(2) - الظاهر في كون جميع الوصايا من الأصل - بأنّ مراده ما إذا لم يعلم كون الموصى به واجباً أوّلاً.

واختار جماعة من المحقّقين منهم صاحب «الجواهر» رحمه الله(3) وسيّد «العروة»(4)وغيرهما الثاني.

واستدلّ للأوّل:

1 - بحمل ما دلّ من الأخبار على أنّه إذا أوصى بماله فهو جائز، وأنّه أحقّ بماله ما دام فيه الروح على ذلك.

2 - وبأنّ مقتضى عمومات وجوب العمل بالوصيّة، خروجها عن الأصل، خرج عنها صورة العلم بكونها ندبيّة.

3 - وبأنّه إذا كانت الحالة السابقة هو الوجوب، كما إذا علم وجوب الحجّ عليه سابقاً، ولم يعلم أنّه أتى به أم لا، يجري الاستصحاب، ويحكم بالخروج من الأصل.

4 - وبأصالة الصحّة في الوصيّة.

أقول: ولكنّها جميعاً ضعيفة:).

ص: 418


1- رياض المسائل: ج 9/513 (ط. ج).
2- فقه الرضا: ص 298.
3- جواهر الكلام: ج 28/283.
4- العروة الوثقى: ج 5/669-670 (ط. ج).

أمّا الأوّل: فلما مرّ من أنّ تلك النصوص لابدّ من طرحها، لا حملها على خلاف ظاهرها.

وأمّا الثاني: فلأنّ الخارج عن عمومات وجوب العمل بالوصيّة، الوصيّة بغير الواجب فيما زاد على الثُّلث، فالتمسّك بالعمومات حينئذٍ تمسّكٌ بالعام في الشبهة المصداقيّة، وهو لا يجوز.

وأمّا الثالث: فلأنّ استصحاب بقاء تكليف الميّت لاينفع في تكليف الوارث، لأنّ تكليفه بالإخراج فرعُ تكليف الميّت حتّى يتعلّق الحقّ بأصل التركة، وثبوت تكليف الميّت فرع شكّه وإجرائه الاستصحاب، لا شكّ الوارث، وحال الميّت غير معلوم أنّه متيقّنٌ بأحد الطرفين أو شاكّ .

ولايقاس المقام بما لو شكّ في نجاسة يد شخصٍ وهو نائم، مع العلم بنجاسته سابقاً، الذي لا إشكال في جريان الاستصحاب في يده، مع أنّ حال النائم غير معلومة، إذ في المقيس عليه لا يتوقّف الحكم بنجاسته بالنسبة إلى هذا الشخص على ثبوت نجاسته عنده.

وأمّا في المقام فوجوب الإخراج من الأصل فرعُ ثبوت تكليف الميّت واشتغال ذمّته بالنسبة إليه من حيث هو.

وأمّا الرابع: فلأنّ المراد من أصالة الصحّة:

إنْ كان أصالة صحّة الوصيّة وضعاً، فلا أساس لهذا الأصل.

وإنْ كان المراد أنّ الأصل عدم تصرّف الإنسان في مال غيره.

فيردّه: أنّهذا الأصل لايجري في المقام بعد عدم كون الإيصاءبما للوارث معصية.

ص: 419

فالمتحصّل: عدم تماميّة شيء ممّا ذكروه في وجه الخروج من الأصل.

وقد استدلّ للثاني: - أي عدم النفوذ ما لم يثبت كونها بالواجب - بظهور النصوص في ذلك، لأنّ الظاهر منها أنّه يقف نفوذ الوصيّة على إجازة الورثة بمجرّد اشتمال الوصيّة على الأزيد من الثُّلث، وإنّما خرج عن ذلك ما لو علم كون ما أوصى به واجباً.

وبعبارة أُخرى : أنّ المستفاد منها الحكم بعدم نفوذ الوصيّة حتّى يعلم أنّ صدورها منه بسببٍ من الأسباب التي توجب الخروج من الأصل عملاً بظاهر مادلّ على تعلّق حقّ الوارث بالزائد من الثُّلث حتّى يعلم خلافه، وأصالة النفوذ في الوصيّة - على تقدير تسليمها - إنّما هي حيث لا تعارض حقّ الغير، ذكره صاحب «الجواهر» رحمه الله(1).

وفيه: إنّ ما دلّ على توقّف نفوذ الوصيّة بالأزيد من الثُّلث على إجازة الورثة، إنّما هو في مقام بيان الحكم الواقعي، خرج عنه الوصيّة بالواجب، وهو في المقام مشكوكٌ فيه، فالتمسّك بذلك الدليل العام يعدّ تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة، وهو غير جائز.

وأشكل منه: استدلاله بظاهر ما دلّ على تعلّق حقّ الوارث بالزائد من الثُّلث حتّى يعلم خلافه، إذ لم نقف على ذلك الدليل المغيّا بالغاية المشار إليها.

وأضعف من الجميع: دعواه في ذيل كلامه أنّ أدلّة صحّة الوصيّة بما زاد على الثُّلث، مع وجود السبب المقتضي، تعارض أدلّة رَدّ الوصيّة فيما زاد على الثُّلث، والنسبة عمومٌ من وجه، وتُقدّم الثانية، إذ الطائفة الثانية أخصّ مطلق من الأُولى، فتقدّم عليها لذلك.3.

ص: 420


1- جواهر الكلام: ج 28/283.

ولكنّه لايصحّ الاستدلال بها في المقام لما مرّ.

فالحقّ أنْ يقال: إنّ كون ما أوصى به واجباً غير معلوم، والأصل عدمه، وبهذا الأصل الموصوعي يدخل في الأخبار الدالّة على عدم صحّتها إذا كانت أزيد من الثُّلث، إذ الخارج منها كونها بالواجب.

إذا أجاز الورثة ثمّ ادّعوا الظنّ بقلّة المال

الأمر السادس: لو أوصى بما يزيد على الثُّلث، فأجاز الورثة أوّلاً، ثمّ قالوا: ظننّا أنّه قليل، ففيه أقوال:

القول الأوّل: أنّه إن كانت الوصيّة بمقدارٍ من المال، مشاعٍ في التركة، كنصف ماله مثلاً، قضى عليهم بما ظنّوه، وعليهم الحلف على الزائد، فلو قالوا: (ظننا أنّه ألف درهمٍ فبان ألف دينار)، قُضي عليهم بثلث الألف دينار بالوصيّة، وسدس الألف درهم بالإجازة.

وإنْ كانت بعين معيّنة كدارٍ مثلاً، لم يلتفت إلى دعواهم، ذكره جماعة من الأصحاب(1)، وفي «الجواهر»: (لا أجد فيه خلافاً صريحاً)(2).

القول الثاني: التسوية بين المسألتين في القبول، حكى في «الجواهر»(3) الميل إليه من «الدروس»(4)، وجعله في محكي «التحرير»(5) وجهاً، وعن «القواعد»(6) احتمالاً،

ص: 421


1- العروة الوثقى: ج 2/891 (ط. ق)، والسيّد الخوئي في موسوعته: ج 33/364 م 3914.
2- جواهر الكلام: ج 28/312.
3- جواهر الكلام: ج 28/313-314.
4- الدروس: ج 2/305.
5- تحرير الأحكام: ج 3/322 (ط. ج).
6- قواعد الأحكام: ج 2/458.

وفي «المسالك»: (لعلّه الأوجه)(1).

القول الثالث: التسوية بينهما في عدم القبول، اختاره صاحب «الجواهر»(2)وتبعه سيّد «العروة»(3)، وجمعٌ من محشيها.

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّه إنّما يقبل قولهم في المسألة الأُولى لأصالة عدم العلم بالزائد، مضافاً إلى أنّ المال ممّا يخفى غالباً.

2 - ولأنّ دعواهم يمكن أنْ تكون صادقة، ولا يمكن الإطّلاع على صدق ظنّهم إلّامن قبلهم، لأنّ الظنّ من الاُمور النفسانيّة، فلو لم يكتف فيه باليمين، لزم الضرر، لتعذّر إقامة البيّنة على دعواهم.

3 - ولأصالة عدم الإجازة، وإنّما لايقبل في الثانية، لأنّ الإجازة هنا تضمّنت معلوماً وهو الدار مثلاً.

واستدلّ للثاني: بالنسبة إلى عدم القبول في الأوّل بما مرّ، ولعدمه في الثانية بأنّ الإجازة وإنْ وقعت على معلوم وهو الدار في المثال، لكن كونه مقدار الثُّلث أو ماقاربه ممّا تسامحوا فيه مجهولاً، ولا يعرف إلّابمعرفة مجموع التركة، والأصل عدمه، ولكن الاُصول المشار إليها لا أثر لها في المقام أصلا، وذلك لأنّ الخلاف في المقام ليس في ما تعلّقت الإجازة به، لأنّه معلومٌ في كلتا المسألتين، وإنّما المجيز يدّعي أنّه تخيّل قلّة ما يجيزه.).

ص: 422


1- مسالك الأفهام: ج 6/171.
2- جواهر الكلام: ج 28/314.
3- العروة الوثقى: ج 5/671-673 (ط. ج).

وعليه فالحقّ أنْ يقال: إنّه لابدّ من البناء على عدم الاعتناء بما يدّعيه، وذلك لأنّه قد تكرّر منّا في هذا الشرح أنّ الآثار الوضعيّة لا تتبع ما في النفس من الترجّحات، ولا تأثير فيها على الإنشاء، فلو اشترى شيئاً لغرضٍ من الأغراض، ولم يتحقّق ذلك في الخارج، لا يبطل الشراء ولايثبت له الخيار، وهذا هو الفارق بين الآثار الوضعيّة والتكليفيّة، فإنّ الآثار التكليفيّة تتبع الترجّحات النفسانيّة.

وعلى ذلك، ففي المقام بما أنّ الوارث أجاز الوصيّة الواقعة في الخارج، وكونه ظانّاً بقلّة الموصى به من قبيل الأغراض والدّواعي، فتخلّفه لا يؤثّر شيئاً.

فإنْ قيل: أنّه يكفي في رفع أثر الإجازة حديث لاضرر.

قلنا: إنّه بناءً على ما تقدّم منّا من أنّ المال الموصى به وإنْ زاد على الثُّلث ينتقل من الموصى إلى الموصى له لو أجاز الوارث، يكون ذلك من قبيل عدم النفع لا الضرر، فلا مورد لحديث لا ضرر.

فالمتحصّل: أنّ الأظهر هو عدم القبول في كلتا المسألتين، واللّه العالم.

المدار في استحقاق الثُّلث على حال الوفاة

الأمر السابع: لاخلاف بين الأصحاب في أنّ المدار على استحقاق الثُّلث بحال وفاة الموصي لا حال الوصيّة، وقد ادّعى الشيخ الطوسي في «الخلاف»(1): الإجماع عليه، ويقتضيه ظهور الأدلّة، بل صراحة بعضها.

أقول: لا يخفى أنّ في المقام مسألة أُخرى خلطت بما هو عنوان هذه المسألة، وهي:

ص: 423


1- الخلاف: ج 4/166 كتاب الوصايا مسألة 50.

أنّه لو قال الموصي: (اعطوا ثلث مالي لزيدٍ أو نصفه أو ربعه أو ما شاكل)، أو قال: (ملّكت هذا المقدار زيداً)، وفرضنا أنّ ماله زاد بعد الوصيّة وقبل الوفاة، فإنّ هذا المفروض يباين مسألتنا، وهي ما لو أوصى بشيء ثمّ مات وكان ذلك الشيء أزيد من ثلث ماله حين الوصيّة وبقدره، أو أقلّ حين الوفاة، والحكم في ما هو معنونٌ في المقام ما ذُكر، وأمّا في هذه المسألة:

فإنْ كانت الزيادة متوقّعاً حصولها فظاهر إيصاء الموصي قصده لها أيضاً، وإلّا فظاهرٌ أنّه غير قاصدٍ لها، بل ظاهر الحمل إرادة حال الوصيّة، كما في سائر الموارد التي يحمل فيها العنوان على ما يكون حال الخطاب، مثلاً إذا قال: (للّه عليَّ أن أتصدّق بنصف مالي)، فالمراد هي الأموال الموجودة حال النذر لا ما يتجدّد بعد، وإلى هذا نظر المحقّق الثاني قدس سره، حيث قال بعد ذكر ما هو محلّ الكلام، وأنّ المدار على الثُّلث حال الوفاة:

(هذا يستقيم فيما إذا أوصى بقدرٍ معلوم، أمّا إذا أوصى بثلث تركته، وكان في وقت الوصيّة قليلاً، فتجدّد له مالٌ كثير بالإرث أو الوصيّة أو بالاكتساب، ففي تعلّق الوصيّة بثلث المتجدّد مع عدم العلم بارادة الموصي للموجود وقت الوصيّة والمتجدّد نظرٌ، ظاهر منشأه قرائن الأحوال على أنّ الموصي لم يرد ثلث المجدّد حيث لايكون تجدّده متوقّعاً، وقد تقدّم الإشكال فيما لو أوصى لأقرب الناس إليه، وله ابنٌ وابن ابنٍ فمات الابن، فإنّ استحقاق ابن الابن لها لايخلو من تردّد). انتهى (1).

ومحصّل الفرق بين المسألتين: أنّه فيما هو عنوان البحث يكون النفوذ بمقدار6.

ص: 424


1- جامع المقاصد: ج 10/116.

الثُّلث حكماً شرعيّاً غير مُنشأ للموصي، فالمتّبع فيه الدليل، وقد مرّ ظهوره في الثُّلث حين الوفاة.

وأمّا في هذه المسألة، فالثلث هو موردٍ إنشاء الموصي، وفيه لابدّ من رعاية إنشائه، ولا ريب أنّه يكون منشئاً لثلث ما يتجدّد إذا لم يكن متوقّعاً حصوله.

نعم، لو احتمل حصوله أو أُنشأت ثلث ما هو داخلٌ في ملكه حين الوفاة، فإنّه لا إشكال حينئذٍ في أنّ المدار عليه أيضاً، إلّاأنّه غير ما هو معنونٌ في المسألة الثانية.

وعليه، فلا يرد على المحقّق الثاني ما أفاده سيّد «العروة» بقوله: (إنّه يلزم العمل بإطلاق الوصيّة، إلّاإذا كان هناك قرينة قطعيّة على عدم إرادته الزيادة المتجدّدة)(1).

إذ يضعف ما أورده أوّلاً: ماعرفت من أنّه في مفروض «جامع المقاصد» القرينة القطعيّة على عدم إرادة الزيادة المتجدّد موجودة.

وثانياً: يكفي في رفع اليد عن الإطلاق، وجود ما يصلح للقرينيّة، ولا تعتبر القرينة القطعيّة، هذا ما يقتضيه القاعدة.

أقول: ولكن في المقام نصوصاً خاصّة، تدلّ على أنّ المال المتجدّد أيضاً يلاحظ في مثل هذه الوصيّة:

منها: صحيح محمّد بن قيس، قال: «قلت له: رجلٌ أوصى لرجلٍ بوصيّةٍ من ماله ثلثٌ أو ربعٌ ، فيُقتل الرّجل خطئاً - يعني الموصى -؟).

ص: 425


1- العروة الوثقى: ج 5/674-675 (ط. ج).

فقال عليه السلام: يجاز لهذه الوصيّة من ماله ومن ديته»(1).

ومنها: خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: من أوصى بثلثه ثمّ قُتل خَطئاً، فإنّ ثلث ديته داخلٌ في وصيّته»(2).

ونحوهما غيرهما.

فإنّ الظاهر أنّ الحكم بجواز الوصيّة من ديته التي هي مالٌ لم يكن يتوقّعه، من جهة كونها مالاً له لا لخصوصيّةٍ في الدّية، وعليه فالبناء على أنّ المدار في هذه المسألة أيضاً على القدر المشاع في مجموع المال الموجود حال الوفاة أوجه.

أقول: وبما ذكرناه يظهر أنّه لا فرق في احتساب الدّية من التركة، وخروج الثُّلث منها، بين ما إذا كان القتل خطئاً، أو كان عمداً وصالح أوليائه قاتله على الدّية، للنصوص الدالّة على أنّ تلك الدّية أيضاً بحكم مال الميّت:

منها: خبر عبد الحميد، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام: «عن رجلٍ قُتل وعليه دَين، ولم يترك مالاً، واتّخذ أهله الدّية من قاتله، عليهم أن يقضوا دينه ؟ قال عليه السلام: نعم.

قلت: وهو لم يترك شيئاً؟ قال عليه السلام: إنّما أخذوا الدّية فعليهم أن يقضوا دينه»(3).

نحوه خبر يحيى الأزرق، عن أبي الحسن عليه السلام(4)، فإنّ إطلاقهما شاملٌ للعمد.

ومنها: خبر أبي بصير، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، قال:

«قلتُ : فإنْ هو قُتل عمداً وصالح أوليائه قاتله على الدّية، فعلى من الدَّين، على أوليائه أم من الدّية، أو إمام المسلمين ؟8.

ص: 426


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/227 ح 5536، وسائل الشيعة: ج 19/285 ح 24603.
2- الكافي: ج 7/11 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/285 ح 24604.
3- الكافي: ج 7/25 ح 6، وسائل الشيعة: ج 18/364 ح 23858.
4- التهذيب: ج 6/312 ح 69، وسائل الشيعة: ج 18/364 ح 23858.

ولو أوصى بجزء ماله، السُبع.

فقال عليه السلام: بل يؤدّوا دينه من ديته التي صالح عليها أوليائه، فإنّه أحقّ بدَينه من غيره»(1).

حكم الوصيّة المبهمة

المسألة الرابعة عشرة: في الوصايا المبهة (و):

1 - كما (لو أوصى بجزء ماله)، ولم تكن هناك قرينة من عرفٍ أو عادةٍ على تعيينه، (ف) فيه قولان:

أحدهما: ما عن المفيد(2)، والإسكافي(3)، والديلمي(4)، والقاضي(5)، وابن زُهرة(6)، والمصنّف رحمه الله هنا، وجماعة(7)، وهو أنّه سيكون للموصى به (السُّبع)، وهو المنسوب إلى الأكثر(8)، بل عن ابن زُهرة الإجماع عليه.

ثانيهما: كونه العُشر، ذهب إليه الصدوقان(9) والطوسي في كتابي الأخبار(10)،

ص: 427


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/112 ح 5220.
2- المقنعة: ص 673.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/348.
4- المراسم: ص 207.
5- جواهر الفقه: ص 150 مسألة 525.
6- الغنية: ص 308.
7- كابن حمزة في الوسيلة: ص 378.
8- كما عن رياض المسائل: ج 9/525 (ط. ج).
9- فقه الرضا: ص 299، المقنع: ص 478.
10- الخلاف: ج 9/209 ذيل حديث 8، الاستبصار: ج 4/133 ذيل حديث 8.

والمصنّف رحمه الله في «المختلف»(1)، وولده(2)، والشهيد في «الدروس»(3) و «اللّمعة»(4)، والمحقّق الثاني(5).

أقول: ومنشأ الاختلاف هو النصوص، فتدلّ على الأوّل نصوصٌ :

منها: الخبر الصحيح الذي رواه البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام: «السّهم واحدٌ من ثمانية، ثمّ قرأ «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ ...»(6) الخ»(7).

ومثله صحيح إسماعيل بن همّام(8)، ونحوهما غيرهما.

وتشهد للثاني: روايات كثيرة مستفيضة كادت تبلغ التواتر:

منها: الخبر المرويّ عن عبد اللّه بن سنان، عن عبد الرحمن بن سيابة، قال: «إنّ امرأة أوصت إليّ وقالت: ثلثي يُقضى به دَيني، وجزءٌ منه لفلانة، فسألت ابن أبي ليلى فقال: ما أرى لها شيئاً، ما أدري ما الجُزء. فسألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن ذلك، فقال:

كذب ابن أبي ليلى، لها عُشر الثُّلث، إنّ اللّه تعالى أمر إبراهيم عليه السلام فقال (اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) (9) وكانت الجبال يومئذٍ عشرة، فالجزء هو العُشر من الشيء»(10).

وفي معناه خبر معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام(11)، ومثله حَسَن أبان بن تغلب عن أبي5.

ص: 428


1- مختلف الشيعة: ج 6/348-349.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/533.
3- الدروس: ج 2/312.
4- اللّمعة الدمشقيّة: ص 154.
5- جامع المقاصد: ج 10/211.
6- سورة التوبة: الآية 60.
7- التهذيب: ج 9/209 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/385 ح 24816.
8- التهذيب: ج 9/209 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/384 ح 24814.
9- سورة البقرة: الآية 260.
10- الكافي: ج 7/39 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/380 ح 24804.
11- الكافي: ج 7/40 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/381 ح 24805.

والسَّهم الثُّمن،

جعفر عليه السلام(1)، وخبر أبي بصير عن أبي عبداللّه عليه السلام(2)، وغير هذه المجموعة من الأخبار.

أقول: وهذه الأخبار وإنْ كانت أكثرها ضعيفة السند، إلّاأنّ فيها الحسن، بل والصحيح، فإنّ المصنّف رحمه الله في محكي «المختلف»(3) ذكر أنّ حديث ابن سنان صحيحٌ ، ولم يذكر في سنده ابن سيّابة، بل جعل الراوي عن الإمام عبد اللّه بن سنان بلا واسطة، وقد رواه الشيخ كذلك في «الاستبصار»، فيكون هذا الخبر صحيحاً، وكذلك الشهيد رحمه الله في محكي «الدروس» جعله صحيحاً، فالطائفتان متعارضتان، وحيث أنّ كلّاً من القولين مشهورٌ بين الأصحاب فلا مورد للمرجّح الأوّل من مرجّحات باب التعارض، فيتعيّن الرجوع إلى ثاني المرجّحات، وهي صفات الراوي، وهي تقتضي تقديم النصوص الاُولى لأصحيّة إسنادها، وعليه فالمتّجه أنّه السُّبع.

2 - (و) لو أوصى ب (السَّهم) كان الموصى به هو (الثُّمن) على الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر كما في «الرياض»(4)، والنصوص(5) دالّة عليه، كصحيح البزنطي المتقدّم وغيره.ا.

ص: 429


1- الكافي: ج 7/40 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/380 ح 24803.
2- بحار الأنوار: ج 100/213 ح 20 من باب 3 الوصايا المبهمة عن تفسير العياشي.
3- مختلف الشيعة: ج 6/349.
4- رياض المسائل: ج 9/526 (ط. ج).
5- وسائل الشيعة: ج 19/385-388 باب 55 من أبواب كتاب الوصايا.

والشيء السُّدس. ولو أوصى بمثل نصيب أحد الورثة صحّت من الثّلث، فإنْ لم يزد أو أجازوا كان الموصى له كأحدهم، فلو أوصى بمثل نصيب ابنه، وليس له سواه، اُعطي النصف مع الإجازة، والثّلث بدونها، ولو كان له ابنان فالثُّلث، ولو اختلفوا اُعطي الأقلّ ، إلّاأن يعيّن الأكثر.

وعن الصدوق(1) والشيخ وابن زُهرة(2): أنّه السُّدس، للرضوي(3)، والعامي(4)، وقول أياس بن معاوية، وكلٌّ كما ترى .

3 - (و) لو أوصى ب (الشيء) من ماله، كان هو (السُّدس) بلا خلافٍ ، والنصوص(5) هنا متّفقة.

4 - (ولو أوصى بمثل نصيب أحد الورثة، صحّت من الثُّلث، فإنْ لم يزد أو أجازوا كان الموصى له كأحدهم) غاية الأمر هم يرثون المال بالإرث، وهذا بالوصيّة.

5 - (فلو أوصى بمثل نصيب ابنه، وليس له سواه، اُعطي النصف مع الإجازة، والثُّلث بدونها، ولوكان له ابنان فالثلث).

(ولو اختلفوا) كما لو كان له ابنٌ وبنت، وقال: (اعطوا زيداً كأحد ولدي) (اُعطي الأقلّ ، إلّاأن يعيّن الأكثر) لأنّ ذلك هو المتيقّن، والزائد مشكوك فيه، هذا هو1.

ص: 430


1- المقنع: ص 478.
2- الغنية: ص 308.
3- فقه الرضا: ص 299، المستدرك: ج 14/131 ح 16289.
4- كما عن تذكرة الفقهاء: ج 2/496 (ط. ق)، وأيضاً حكى قول أياس.
5- الكافي: ج 7/40 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/388 ح 24823، وفقه الرضا: ص 299، المستدرك: ج 14 / ص 131 ح 16291.

المشهور بين الأصحاب.

ومحصّله: أنّ الموصى له يكون بمنزلة وارثٍ آخر، فيضاف إلى الورثة، ويتساوى الموصى له والورثة إنْ تساووا، وإنْ تفاضلوا جُعِل كأقلّهم نصيباً.

وعن جماعةٍمن العامّة(1): أنّه يُعطى مثل نصيب المعيّن، أو مثل نصيب أحدهم إذا كانوا متساويين من أصل المال، ويقسّم الباقي، بين الورثة إن تعدّدوا، لأنّ نصيب الوارث قبل الوصيّة من أصل المال، فإذا أوصى له بمثل نصيب ابنه، وله ابنٌ واحد، فالوصيّة بجميع المال، وإنْ كان له اثنان فبنصفه، وإنْ كانوا ثلثة فبثُلثه.

أقول: ومالَ إليه المصنّف رحمه الله في محكي «التحرير»(2)، وجعله قريباً من الصواب، ثمّ رجّح مذهب الأصحاب، وأجاب عن حجّتهم: (بأنّ التماثل يقتضي شيئين، والوارث لايستحقّ شيئاً إلّابعد الوصيّة النافذة بالوارث الموصى له بمثل نصيبه، ولانصيب له إلّابعد الوصيّة، فحينئذٍ يجبُ أنْ يكون مال الموصى له مماثلاً لنصيبه بعد الوصيّة.

وعلى ما ذكروه من أنّ الوصيّة مع الواحد بالجميع، ومع الاثنين بالنصف، ومع الثلاثة بالثّلث، لا يكون هناك نصيبٌ للوارث مماثل لنصيب الموصى له، وهو خلاف مدلول الوصيّة، فيكون تبديلاً لها، والضابط عندها أن يعتبر نصيب الموصى له بعد الوصيّة، فتقام فريضة الميراث، ويزاد عليها مثل سهم الموصى بنصيبه، وعند اُولئك الباقين يعتبر نصيب الموصى له بنصيبه لو لم يكن وصيّة). انتهى .).

ص: 431


1- انظر: المغني لإبن قدامة: ج 6/449.
2- تحرير الأحكام: ج 3/334 (ط. ج).

ولو نسي الوصي وجهاً رجع ميراثاً.

حكم نسيان مورد الوصيّة

المسألة الخامسة عشرة: (ولو) أوصى بوجوه، ف (نسي الوصيّ وجهاً) منها أو أكثر، صرف المنسي في وجوه البِرّ، وكذا لو نسى جميع الوجوه، أو كان وجهاً واحداً فنسيه، أو لم يعلم به من الأوّل، أو غير ذلك ممّا تعذّر الصرف في مصرفها، كما هو المشهور بين الأصحاب.

وعن الشيخ قدس سره(1) في بعض فتاويه والحِلّي(2) والمصنّف هنا، أنّه ي (رجع ميراثاً).

يشهد للأوّل:

1 - خبر محمّد بن الرّيان، قال: «كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام أسأله عن إنسان أوصى بوصيّة فلم يحفظ الوصيّ إلّاباباً واحداً، كيف يصنع في الباقي ؟

فوقّع عليه السلام: الأبواب الباقية اجعلها في البِرّ»(3).

2 - وخبر ابن أبي عُمير، عن زيد النرسي، عن عليّ بن زيد صاحب السابري، قال:

«أوصى إليَّ رجلٌ بتركته، فأمرني أن أحجّ بها عنه، فنظرتُ في ذلك فإذا هي شيء يسير لا يكفي للحجّ ، فسألت أبا حنيفة وفقهاء أهل الكوفة، فقالوا:

ص: 432


1- الرسائل العشر: ص 297.
2- السرائر: ج 3/208-209.
3- التهذيب: ج 9/214 ح 21، وسائل الشيعة: ج 19/393 ح 24830.

تصدّق بها عنه...

إلى أنْ قال: فلقيتُ جعفر بن محمّد عليهما السلام في الحِجْر - إلى أنْ قال - فقال: ما صنعتَ؟ قلت: تصدّقت بها.

قال عليه السلام: ضمنت إلّاأن لا يكون يبلغ ما يحجّ به من مكّة، فإنْ كان لا يبلغ ما يحجّ به من مكّة، فليس عليك ضمان، وإنْ كان يبلغ ما يحجّ به من مكّة فأنت ضامن»(1).

وتعضدهما النصوص الكثيرة الواردة في نظائر المسألة، لاحظ ماورد في المنذور للكعبة(2)، وماورد في الوصيّة بألف درهمٍ لها(3).

قال الصدوق: (رُوي عن الأئمّة عليهم السلام: أنّ الكعبة لا تأكل ولا تشرب، وما جُعل هَدياً لها فهو لزوّارها)(4).

وقريبٌ منه غيره ونحوه ماورد في غير هذين الموردين.

وعليه، فإنّ المستفاد من هذه النصوص أنّ كلّ ما أوصى به لوجهٍ فنسي ذلك بالكليّة أو تعذّر صرفه فيه، يُصرف في وجوه البِرّ، فعلى هذا لا يُصغى إلى ما استدلّ به للقول الآخر ببطلان الوصيّة بامتناع القيام بها، مع أنّ الملازمة ممنوعة، هذا فضلاً عن أنّ المال خرج عن ملك الموصي، فلا موجب لرجوعه ميراثاً.

هذا كلّه فيما لو أوصى لجهةٍ من الجهات، أو لطائفةٍ من الطوائف غير المعلوم، أو لشخصٍ مردّد بين أشخاص غير محصورين.7.

ص: 433


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/207، وسائل الشيعة: ج 19/349 ح 24742.
2- وسائل الشيعة: ج 13/247-254 باب 22 من أبواب مقدّمات الطواف كتاب الحجّ .
3- .
4- علل الشرائع: ج 2/410 ح 5 من باب 147.

ويعمل بالأخير من المتضادّين، فإن لم يتضادّا عُمل بهما، ولو قصّر الثُّلث بدأ بالأوّل فالأوّل.

وأمّا لو أوصى لشخصٍ وتردّد بين شخصين، أو أشخاص محصورين، فالنصوص المتقدّمة غير شاملة له:

أمّا غير الأوّل منها: فواضحٌ .

وأمّا الأوّل: فلأنّ مورده عدم حفظ الوصي بقول مطلق، فلا يشمل ما لو حفظ في الجملة، وفي مثل ذلك لابدّ من الرجوع إلى القاعدة في المال المردّد بين شخصين أو أشخاص، وهي تقتضي التوزيع بالسوية كما مرّ الكلام في ذلك غير مرّة.

حكم الوصايا المضادّة

المسألة السادسة عشرة: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (يعمل بالأخير من المتضادّين، فإنْ لم يتضادّا عَمل بهما) إنْ لم يزدا على الثُّلث، (ولو قصّر الثُّلث بدأ بالأوّل فالأوّل).

أقول: وتحقيق القول ببيان اُمور:

الأمر الأوّل: أنّه يتحقّق التضادّ باتّحاد الموصى به، واختلاف الموصى له، كما لو أوصى بدارٍ معيّنةٍ لزيد، ثمّ أوصى بها لعمرو، أو أوصى بمبلغٍ معيّن لزيدٍ، ثمّ قال: (ما أوصيتُ به لزيدٍ فهو لعمرو).

الظاهر أنّه لا إشكال في أنّه يعمل بالأخيرة من الوصيّتين، لأنّ الثانية حينئذٍ تكون رجوعاً عن الأُولى ، ولكنّه يتمّ مع عدم نسيان الأولى، وأمّا مع نسيانها والذهول عنها، فلايكون هذه رجوعاً عن الأُولى .

ص: 434

الأمر الثاني: أنّه لو كانت كلّ من الوصيّتين مطلقة، كما إذا أوصى لزيدٍ بمائة، ثمّ أوصى لعمرو بمائة، أو أوصى لزيدٍ بدار، ثمّ أوصى بدارٍ آخر لعمرو، وزادتا على الثُّلث، صحّت الأُولى ، وتوقّفت الثانية على الإجازة كما مرّ الكلام فيه، وعرفت أنّ ما ورد من النّص في العتق بواسطة ما فيه من التعليل يدلّ على ذلك.

الأمر الثالث: أنّه لو أوصى بثلثه لواحدٍ، وبثلثه لآخر، فهل هي وصايا متضادّة فيعمل بالأخيرة، أم لا فبالأُولى ؟

قال الشهيد في «المسالك»: (إنّ كلام الأصحاب قد اختلف فيها اختلافاً كثيراً، وكذلك الفتوى حتّى من الرّجل الواحد في الكتب المتعدّدة بل الكتاب الواحد) انتهى (1).

وملخّص القول فيه: إنّه قد يقال - كما عن الحِلّي، والمحقّق الكركي(2) - إنّ الأصل في الوصيّة أنْ تكون نافذة، فيجب حملها على ما يقتضي النفوذ بحسب الإمكان، وإنّما تكون الثانية نافذة إذا كان متعلّقها هو الثُّلث الذي يجوز للمريض الوصيّة به، فيجب حملها عليه، كما يجب حمل إطلاق بيع الشريك النصف على استحقاقه، حملاً للبيع على معناه الحقيقي، وحينئذٍ التضادّ في مثل ما لو قال: (أوصيتُ بثلثٍ لزيدٍ، وبثلثٍ لعمرو)، فيكون الثاني ناسخاً للأوّل فيقدّم، وأوليمنه ما لو قال: (ثلثُ مالي).

ولكن يتوجّه عليهما: ما أفاده في «المسالك»، بقوله: (إنّ الإطلاق في الوصيّة وغيرها من العقود إنّما يُحمل على الصحيح، وأمّا النافذة بحيث لايترتّب عليه فسخٌ بوجهٍ فلا اعتبار به قطعاً، ألا ترى أنّ الوصيّة بجميع المال توصف بالصحّة، ووقوف مازاد على الثُّلث على الإجازة، ولا يقول أحدٌ أنّها ليست صحيحةٍ .2.

ص: 435


1- مسالك الأفهام: ج 6/163.
2- جامع المقاصد: ج 10/122.

وتثبت الوصيّة بالمال بشاهدين، وبشاهدٍ وامرأتين، وبشاهدٍ ويمين وأربع نساء، وتُقبل الواحدة في الربع، والاثنتان في النصف،

إلى أنْ قال: لأنّ جميع التركة مستحقّة للموصي حال حياته إجماعاً، فقد أوصى بما يستحقّه، ومن ثمَّ حكموا بصحّة وصيّته بما زاد على الثُّلث، وصحّة هبته له وإنْ توقّف على إجازة الورثة). انتهى (1).

وإنْ شئتَ قلت: إنّ إطلاق الوصيّة إنّما يقتضي إرادة معنى ما تعلّقت به، وأمّا الصحّة والفساد شرعاً - بمعنى النفوذ لعدم المانع أو عدمه لمانعٍ ، أو لفقد شرط - فخارجتان عن مدلول الوصيّة، فحيث أنّ الوصيّة الثانية تعلّقت بما أخرجه قبل ذلك عن ملكه، فهي مقرونة بالمانع، فلا تصحّ إلّامع الإجازة، وإلى ذلك أشار الإمام عليه السلام في الصحيح المتقدّم: «لأنّه أعتق بعدمبلغ الثُّلث مالا يملك، فلايجوز له ذلك».

نعم، لو قال: (لزيدٍ ثُلثي)، ثمّ قال: (ثلثي لعمرو)، كان الثاني فسخاً للأوّل ومضادّاً معه، إذ ظاهرهما أنّه أوصى بشيء واحدٍ مرّتين، فتدبّر حتّى لا يشتبه عليك الأمر.

ما يثبت به الوصيّة

المسألة السابعة عشرة: (وتثبت الوصيّة بالمال بشاهدين) عدلين، (وبشاهدٍ وامرأتين، وبشاهدٍ ويمين وأربع نساء، وتُقبل الواحدة في الربع، والاثنتان في النصف) والثُّلث في الثلاثة أرباع.

ص: 436


1- مسالك الأفهام: ج 6/165.

ولاتثبت الولاية إلّابرجلين، وتصرّفات المريض من الثّلث وإن كانت منجزة.

أمّا الإقرار فإن كان متّهماً فكذلك، وإلّا فمن الأصل.

(ولا تثبت الولاية إلّابرجلين) بلا خلافٍ في شيء من هذه الاُمور، وقد أشبعنا الكلام في الجميع، بل وفي شهادة أهل الذمّة بها وفروعها في كتاب الشهادات(1)، وسيمرّ عليك فلا أرى وجهاً لإعادة ماذكرناه.

المسألة الثامنة عشرة: (وتصرّفات المريض من الثُّلث وإنْ كانت منجّزة) عند المصنّف رحمه الله وجماعة، وقد مرّ في كتاب الحَجر(2) تفصيل الكلام في ذلك، وعرفت أنّ الأظهر كون منجزات المريض من الأصل لا من الثُّلث.

حكم إقرار المريض بالدين

(أمّا الإقرار) في حال المرض الذي يموت فيه، (ف) فيه أقوال:

أحدها: أنّه ينفذ من الأصل مطلقاً، وهو مذهب الديلمي(3)، والحِلّي(4) مدّعياً عليه الإجماع.

ثانيها: أنّه (إنْ كان متّهماً) فمن الثُّلث، وإليه أشار المصنّف رحمه الله بقوله (فكذلك) (وإلّا) أي وإنْلم يكن متّهماً (فمن الأصل) وهو مذهب الشيخين(5)، والمصنّف رحمه الله(6)،

ص: 437


1- فقه الصادق: ج 38/362 وما بعدها و ص 452.
2- فقه الصادق: ج 29/394.
3- المراسم: ص 204.
4- السرائر: ج 3/217.
5- المقنعة: ص 662، النهاية: ص 617-618.
6- مختلف الشيعة: ج 6/415-416.

والمحقّق(1) والأكثر(2)، وأضاف جمعٌ منهم قيداً آخر لخروجه من الأصل، وهو كونه عادلاً.

ثالثها: أنّه إنْ كان الإقرار لأجنبي، فالتفصيل بين كونه متّهماً فمن الثُّلث، وغير متّهمٍ فمن الأصل، وإنْ كان للوارث فمن الثُّلث مطلقاً، وهو مذهب المحقّق في «النافع».

رابعها: تعميم الحكم للأجنبي بكونه من الأصل، وتقييد ذلك في الوارث بعدم التهمة، نقله في «الحدائق»(3) ولم يذكر قائله.

وهناك أقوالٌ اُخر، وقد أنهاها بعضهم إلى سبعة.

أقول: يقع الكلام في هذا المقام:

تارةً : فيما تقتضيه القواعد.

واُخرى : فيما تقتضيه النصوص الخاصّة.

أمّا القواعد: فهي تقتضي خروجه من الأصل مطلقاً:

1 - لعموم ما دلّ على: (أنّ إقرار العقلاء على أنفسهم جائز)(4).

2 - ولما قيل من أنّه بإقراره يريد إبراء ذمّته من حقٍّ عليه، ولا يمكن التوصّل إليه إلّابالإقرار، فلو لم يُقبل إقراره بقيت ذمّته مشغولة، وبقي المقرّ له ممنوعاً من حقّه، وكلاهما مفسدة، واقتضت الحكمة قبول قوله.

والإيراد على الثاني: كما في «الحدائق» و «الرياض» بأنّه: (كما يحتمل أنْ2.

ص: 438


1- المختصر النافع: ص 168.
2- كما عن مسالك الأفهام: ج 11/95.
3- الحدائق الناضرة: ج 22/617.
4- عوالي اللآلي: ج 1/223 ح 104، وسائل الشيعة: ج 23/184 ح 29342.

يكون الإقرار لما ذكره، يحتمل أنْ يكون لمجرّد حرمان الوارث ومنعه وإنْ ذمّته غير مشغولة)(1).

يندفع: بما اخترناه من كون منجّزات المريض من الأصل، فلو كان قصده ذلك كان له التوصّل إليه بالهبة وغيرها.

وأمّا النصوص الخاصّة: فهي طوائف:

منها: ما يدلّ على أنّ الإقرار إنْ كان للوارث يفصل بين كونه متّهماً فمن الثُّلث، وغير متّهمٍ فمن الأصل، كصحيح منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن رجلٍ أوصى لبعض ورثته أنّ له عليه دَيناً؟

فقال عليه السلام: إنْ كان الميّت مرضيّاً فاعطه الذي أوصي له»(2).

ومثله غيره.

والمراد بالمرضيّ ليس هو كونه عدلاً، بل ظاهره ما يقابل كونه متّهماً.

ومنها: ما يدلّ على هذا التفصيل بالنسبة إلى الإقرار للأجنبي، كصحيح ابن مسكان، عن العلاء بيّاع السابري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن امرأة استودعت رجلاً مالاً، فلمّا حضرها الموت، قالت له: إنّ المال الذي دفعته إليك لفلانة، وماتت المرأة، فأتى أولياؤها الرّجل فقالوا له: إنّه كان لصاحبتنا مالٌ ولا نراه إلّاعندك، فاحلف لنا ما لها قِبلك شيءٌ ، أفيحلف لهم ؟

فقال عليه السلام: إنْ كانت مأمونة فيحلف لهم، وإنْ كانت متّهمة فلا يحلف، ويضع الأمر على ما كان، فإنّما لها من مالها ثلثه»(3).2.

ص: 439


1- الحدائق الناضرة: ج 22/614، رياض المسائل: ج 9/549 (ط. ج).
2- الكافي: ج 7/41 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/291 ح 24621.
3- الكافي: ج 7/42 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/291 ح 24622.

وهاتان الطائفتان لا تعارض بنهما.

ومنها: ما يدلّ على أنّ المقرّ به للوارث مطلقاً يخرج من الثُّلث، كصحيح إسماعيل بن جابر، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ أقرَّ لوارثٍ له وهو مريض بدينٍ له عليه ؟ قال عليه السلام: يجوز عليه إذا أقرّ به دون الثُّلث»(1).

وفي «المسالك»: (إنّ ظاهره غير مرادٍ، لأنّه اعتبر نقصان المقرّ به عن الثُّلث، وليس ذلك شرطاً إجماعاً)(2).

وفيه: أنّ الظاهر منه إرادة الثُّلث فما دون، فقد وقع التعبير بمثل هذه العبارة في جملةٍ من موارد الأحكام، وعليه حُمل قوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ ) (3) أي اثنتين فما فوق، فلا إشكال من هذه الجهة، لكنّه أعمٌّ مطلقاً من الطائفة الأُولى فيقيّد إطلاقه بها.

ومنها: ما ظاهره الإخراج من الأصل في الإقرار للوارث، كصحيح أبي ولّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ مريض أقرَّ عند الموت لوارثٍ بدين له عليه ؟ قال:

يجوز له ذلك. الحديث»(4).

وهذه الطائفة أيضاً أعمٌّ مطلقاً من الأُولى ، فيقيّد إطلاقها بها.

ومنها: ما يدلّ على رَدّ الإقرار مطلقاً، كخبر السكوني، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أنّه كان يردّ النِحلة في الوصيّة، وما أقرَّ به عند موته، بلا ثبتٍ4.

ص: 440


1- الكافي: ج 7/42 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/292 ح 24623.
2- مسالك الأفهام: ج 11/96.
3- سورة النساء: الآية 11.
4- الكافي: ج 7/42 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/292 ح 24624.

ولا بيّنة ردّه»(1).

فإنّ الظاهر أنّ المراد من قوله: «يردّ النحلة في الوصيّة» أنّه يجعلها من قبيلها، فيكون الجار والمجرور متعلّقاً ب (يردّ)، وقوله: «وما أقرَّ به.. إلخ» جملة أُخرى ودالّة على رَدّ الإقرار مطلقاً، ولكنّه حيث لم يعمل بظاهره أحدٌ، فلذا حَمله الشيخ(2) على إرادة رَدّه من الأصل، وإنْ أُخرج من الثُّلث، فيقيّد حينئذٍ إطلاقه بالطائفتين الأوليتين.

ومنها: ما تضمّن التفصيل بين كونه مليّاً وغيره، كصحيح الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن رجلٍ أقرَّ لوارثٍ بدين في مرضه، أيجوز ذلك ؟ قال عليه السلام: نعم إذا كان مليّاً»(3).

ونحوه صحيحه الآخر عنه عليه السلام(4).

والضمير الذي يكون اسم كان يحتمل رجوعه إلى الوارث، والغرض من ذكر ملائته كون ذلك قرينةً على صدق المقرّ له، ويحتمل رجوعه إلى المقرّ، ويجعل ذلك كنايةً عن صدقه وأمانته، وعلى التقديرين يتّحد مفادهما مع مفاد الأُولى ، وإنّما يجعل الملائة كنايةً عمّا ذكر من جهة عدم القائل بظاهرها.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ المستفاد من مجموع النصوص - بعد رَدّ بعضها إلى بعض - أنّه إنْ كان المقرّ متّهماً، فيخرج من الثُّلث، وإلّا فمن الأصل.5.

ص: 441


1- التهذيب: ج 9/161 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/295 ح 24632.
2- راجع تهذيب الأحكام: ج 9/161 في حاشيته على الحديث 9.
3- التهذيب: ج 6/190 ح 30، وسائل الشيعة: ج 19/293 ح 24627.
4- الكافي: ج 7/41 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/292 ح 24625.

هذا بحكمٍ يتعلّق بمطلق المرض الذي يحصل به الموت، وإنْ لم يكن مخوفاً،

أقول: ولا يهمّنا البحث في أنّ العدالة وعدم الاتّهام متساويان بحسب المصاديق، وأنّ العادل غير متّهمٍ والفاسق متّهم كما عن «التذكرة»(1).

أم تكون النسبة بينهما عموماً من وجه.

فرُبَّ عادلٍ بحسب الموازين الظاهريّة متّهمٌ ، وربَّ فاسقٍ موثوقٌ به من هذه الجهة كما هو الأظهر، بعد كون المدار على الاتّهام وعدمه، وأنّ الظاهر من كونه مرضيّاً كونه غير متّهم لا عادلاً.

ولايخفى أنّ المأخوذ في بعض النصوص الإقرار عند حضور الموت، وفي بعضها الإقرار في مرض الموت بشرط كونه قريباً منه عرفاً.

(و) أمّا ما قاله المصنّف رحمه الله من أنّ (هذا بحكم يتعلّق بمطلق المرض الذي يحصل به الموت، وإنْ لم يكن مخوفاً) فمراده الإطلاق من حيث كون المرض مخوفاً أو غير مخوفٍ ، لا من حيث ما يتطاول مدّته بعد الإقرار به وغيره.

فعلى هذا، لو أقرَّ في ابتداء السِّل وطال مرضه إلى أن مات، لا يكون إقراره مشمولاً لهذا الحكم، وإلى هذا نظر المصنّف رحمه الله في محكيّ «التذكرة»(2) حيث نقل في السِّل أقوالاً:

منها: أنّه ليس بمخوفٍ في ابتدائه، وإنْ كان مخوفاً في آخر، لأنّ مدّته تتطاول، فابتدائه لا يخاف منه الموت عاجلاً، فإذا انتهى خيفَ .).

ص: 442


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/148 (ط. ق).
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/523 (ط. ق).

ويُحتسب من التركة أرش الجناية والدّية.

احتساب أرش الجناية والدية من التركة

المسألة التاسعة عشرة: (ويُحتسب من التركة أرش الجناية والدّية) فتتعلّق بهما الديون والوصايا وسائر ما يتعلّق بالتركة، من غير فرقٍ في الدّية بين دية الخطاء ودية العمد.

ويشهد بذلك: النصوص(1) الكثيرة الواردة في الأبواب المتفرّقة، وقد مرّ الكلام في الدية في آخر المسألة الثالثة عشرة، وبه يظهر حال أرش الجناية مع أنّ النّص الخاص دالٌّ عليه.

وربما يقال: إنّ الحكم فيهما موافق للاعتبار، لأنّ الميّت أحقّ بنفسه من غيره، ووجّهه بعض الأساطين(2): بأنّه لمّا كان المقتول عمداً أو من أُورد عليه الجناية هو الذي ملك نفس قاتله عوضاً عنه، أو ملك إيراد الجناية بمثل ما أُورد عليه، وكانت الولاية على ما ملكه عفواً أو استيفاءً أو إبدالاً بالمال لوليه، فلو صالح القاتل بالدية، والجاني بالأرش، تدخل هي في ملكه لا في ملك الوليّ ، فيكون سبيلهما سبيل سائر أمواله.

وكيف كان، فإنّ النصوص الخاصّة تُغنينا عن هذه الوجوه الاعتباريّة.

ص: 443


1- وسائل الشيعة: ج 18 باب 24 من أبواب الدين والقرض ص 364-365، وج 19 باب 14 و 31 من أبواب الوصايا ص 285-286 و ص 336، وج 29 باب 59 من أبواب القصاص في النفس ص 122-123 و باب 23 من أبواب ديات النفس ص 231.
2- العروة الوثقى (المحشّى) للسيّد اليزدي الطباطبائي: ج 5/685 مسألة 8 (إذا حصل للموصى بعد الموت).

وتصحّ الوصيّة على كلّ من للموصي عليه ولاية التصرّف كالأب، ولو انتفت صحّت في إخراج الحقوق عنه.

المسألة العشرون: (وتصحّ الوصيّة على كلّ من للموصى عليه ولاية التصرّف كالأب، ولو انتفت، صحت في إخراج الحقوق عنه) وقد مرّ الكلام في هذه المسألة في ذيل المطلب الثاني في شرائط الموصي، وعرفت أنّه إنّما تصحّ وصيّة الأب والجدّ بالولاية على الصغار، ولا تصحّ وصيّة الحاكم والوصي بها، وعرفت حكم وصيّة الأب أو الجد بها مع وجود الآخر، كما عرفت حكم الوصيّة بإخراج الحقوق وما شاكل.

أقول: بقي الكلام في ما يتعلّق بخصوص هذه العبارة، فإنّ قوله: (تصحّ الوصيّة على كلٍّ من للموصى... الخ) تدخل فيه وصيّة الأب مع وجود الجَدّ، لأنّه يصدق أنّ الموصى له عليه ولاية، مع أنّ المشهور المنصور أنّه ليس له جعل الولاية للغير مع وجود الجَدّ.

ولو أوصى في إخراج الحقوق إلى غير الورثة، وكانوا كباراً، ليس للوصي التصرّف في التركة لأجل ذلك إلّابإذنهم، إمّا لأنّهم شركاء في المال، أو لأنّ تمام المال لهم، على القولين في انتقال التركة إليهم بالموت مطلقاً، أو بمقدارٍ لايُقابل الموصى به والدين، فإنْ أذنوا فلا كلام، وإلّا أجبرهم على الأداء من المال أو من أموالهم الاُخر، فإنْ لم يمكن ذلك رفع أمره إلى الحاكم ليلزمهم بأحد الأمرين، وإنْ لم يمكن ذلك أيضاً جاز له أنْ يبيع من التركة ما يقضي به الوصيّة ويوفي به الدين.

ص: 444

ولو أوصى بإخراج بعض ولده من الميراث لم تصحّ .

حكم الوصيّة باخراج الولد من الميراث

المسألة الحادية والعشرون: (ولو أوصى بإخراج بعض ولده من الميراث لم تصحّ ) بلا خلافٍ فيه في الجملة، بل عليه الإجماع، إذ لم يخالف في المسألة بكليتها غير الصدوقين(1)، والشيخ(2)، والأولان التزما بالصحّة في الولد الذي قد أحدث الحَدَث المذكور في الخبر الآتي، والشيخ التزم بها فيه في الجملة، حملاً للخبر الآتي على أنّه قضيّة في واقعة.

وعلى ذلك، فالإجماع على عدم الصحّة في الجملة ثابتٌ .

أقول: وكيف كان، فيشهد للبطلان:

- مضافاً إلى ذلك، وإلى أنّها مخالفة للكتاب والسنّة فتلغو، وإلى أنّها من الحيث في الوصيّة الذي ورد فيه أنّه من الكبائر(3) -:

1 - خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليهم السلام «ما اُبالي أضررت بولدي أو سرقتهم ذلك المال»(4).

2 - وخبر مسعدة، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهم السلام: «من عَدل في وصيّته، كان

ص: 445


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/219 ح 5515.
2- الاستبصار: ج 4/139-140 ذيل ح 2.
3- وسائل الشيعة: ج 15/318-332 باب 46 من أبواب جهاد النفس.
4- التهذيب: ج 9/174 ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/264 ح 24555.

كمَن تصدّق بها في حياته، ومَن جار في وصيّته لقي اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة وهو عنه معرضٌ »(1).

3 - وصحيح سعد بن سعد، عن الإمام الرضا عليه السلام: «في رجل كان له ابنٌ يدّعيه فنفاه وأخرجه من الميراث، وأنا وصيّه، فكيف أصنع ؟

فقال عليه السلام: لزمه الولد لإقراره بالمشهد، لا يدفعه الوصيّ عن شيء قد علمه»(2).

أقول: وبإزاء هذه المجموعة من الأخبار ما رواه الصدوق والشيخ عن وصيّ عليّ بن السِّري، قال:

«قلتُ لأبي الحسن موسى عليه السلام: إنّ عليّ بن السِّري توفّي وأوصى إليّ .

فقال: رحمه اللّه.

فقلت: وإنّ ابنه جعفر وقع على اُمّ ولدٍ له، فأمرني أن أُخرجه من الميراث ؟

فقال عليه السلام لي: أخرجه إن كنتَ صادقاً فسيصيبه خَبل.

قال: فرجعتُ فقدّمني إلى أبي يوسف القاضي، فقال له: أصلحك اللّه أنا جعفر ابن علي السِّري، وهذا وصيّ أبي فمُره فليدفع إليّ ميراثي من أبي.

فقال لي: ما تقول ؟ فقلت له: نعم، هذا جعفرُ بن علي السِّري وأنا وصيّ علي ابن السِّري.

قال: فادفع إليه ماله.

قلت: أصلحك اللّه أُريد أن اُكلِّمك، قال: فادنُ ، فدنوتُ حتّى لايسمع أحدٌ كلامي، فقلت له: هذا وقع على اُمّ ولد لأبيه، فأمرني أبوه وأوصى إليّ أن أخرجه من2.

ص: 446


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/184 ح 5419، وسائل الشيعة: ج 19/267 ح 24562.
2- الكافي: ج 7/64 ح 26، وسائل الشيعة: ج 19/424 ح 24882.

الميراث ولا اُورثه شيئاً، فأتيت موسى بن جعفر عليه السلام بالمدينة فأخبرته وسألته فأمرني أن أُخرجه من الميراث ولا اُورّثه شيئاً.

فقال: اللّه! إنّ أبا الحسن أمرك ؟ فقلت: نعم، فاستحلفني ثلاثاً، ثمّ قال: انفذ ما أمرك، فالقول قوله.

قال الوصيّ : فأصابه الخَبل بعد ذلك»(1).

ولكن وصيّ السِّري الرّاوي للخبر مجهولُ الاسم والوثاقة، ولا يُعمل بخبره، وأيضاً في طريقه المعلّى وهو مشتركٌ بين الثقة والضعيف، مع أنّ الأصحاب أعرضوا عنه، وهو معارضٌ بما مرّ، فلا سبيل إلى العمل به.

ثمّ إنّه على القول بعدم الصحّة، وقع الخلاف في أنّها:

تبطل رأسا كما عن الأكثر؟

أم تكون هذه الوصيّة جارية مجرى الوصيّة بجميع ماله لمن عدا الولد، فتمضي في الثُّلث خاصّة، وإنْ لم يجز الولد، ويكون للمُخرج نصيبه من الباقي بموجب الفريضة، وهو مختار المصنّف رحمه الله في محكي «المختلف»(2)؟

وعن الخراساني(3): أنّه استظهره.

وجه الأوّل: أنّ إخراجه من الميراث أعمٌّ من الوصيّة، فالمال يكون لباقي الورثة، وإنْ لزم رجوع الحصّة إليهم، إلّاأنّ ذلك ليس للوصيّة، بل لاستحقاقهم التركة حيث لا توارث، وربما لا يُعلم حين الوصيّة من يرثه ولا يخطر بباله، فلا7.

ص: 447


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/219 ح 5515، وسائل الشيعة: ج 19/424 ح 24883.
2- مختلف الشيعة: ج 6/376.
3- كما حكاه عنه في الجواهر: ج 28/327.

دلالة في اللّفظ مطابقةً ولا تضمّناً ولا التزاماً.

ولكن يرد عليه: أنّه كما لا إشكال في الصحّة لو أوصى بإخراجه من الثُّلث، ويكون ذلك وصيّة بصرف الثُّلث في غيره، فكذلك في المقام، فإنّه لايعتبر في الوصيّة سوى العهد بما أراده، ولا يعتبر فيها قصد عنوان الوصيّة، وعلى ذلك فالإيصاء بإخراجه من الميراث إيصاءٌ بصَرف المال كلّه في باقي الورثة، فيترتّب عليها حكمها.

وبالتالي، فما أفاده المصنّف رحمه الله هو الأوجه، واللّه العالم.

***

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بمباحث الوصايا، وقد تمّ الجزء الثلاثون، ويتلوه الجزء الحادي والثلاثون من أوّل مباحث النكاح، والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

***

ص: 448

فهرس الموضوعات

(الفصل الرابع: في الضمان) 7

اعتبار رضا المضمون له 11

التعليق في الضمان 15

لا يعتبر العلم بمقدار الدين 17

انتقال المال إلى ذمّة الضامن 20

ضمان الحالّ والمؤجّل 23

رجوع الضامن على المضمون عنه 28

عدم اشتراط العلم بقَدر المضمون عنه 32

ضمان الأعيان 33

الضمان المُستَحدث 36

ضمان العُهدة 38

الحوالة 40

الحوالة من العقود 44

الحوالة لازمة 46

إذا أحال المشتري بالثمن رَدّ البيع 51

حكم الحوالة المستحدثة 54

الكفالة 57

شرائط الكفالة 58

ص: 449

الكفيل مخيَّر بين دفع المكفول أو ما عليه 63

إطلاق الغريم من يد صاحب الحقّ 65

(الفصل الخامس: في الصُّلح) 70

حكم الصُّلح مع الإنكار 72

حكم الصُّلح المحلّل للحرام أو العكس 75

عدم اعتبار العلم بالمقدار 78

وقوع الصُّلح من الشريكين على كون الربح والخسران لأحدهما 80

لو ادّعى أحدهما درهمين في يدهما والآخر في أحدهما 83

حكم من أودعه إنسانٌ درهمين وآخر درهماً 85

حكم اشتباه الثوبين 87

(الفصل السادس: في الإقرار) 90

إقرار العاقل على نفسه جائز 90

بيان ما به يتحقّق الإقرار 91

حكم تعلّق الإقرار بالشرط 96

حكم مالو قال: (إنْ شهد فلانٌ فهو صادق) 97

ما يعتبر في المُقرّ 100

بيان ما يعتبر في المُقرّ له 102

المقرّ به وما يشترط فيه 105

تعقيب الإقرار بما ينافيه 110

الاستثناء المتعقّب للإقرار 114

جملة من فروع الإقرار 119

ص: 450

الإقرار بالولد 124

(الفصل السابع: في الوكالة) 133

الوكالة من العقود 134

اعتبار التنجيز في الوكالة 136

اعتبار العلم في الوكالة 139

الوكالة جائزة من الطرفين 140

اشتراط الوكالة في عقد لازم 144

موارد بطلان الوكالة 146

ما تصحّ فيه الوكالة 151

عدم جواز تعدّي الوكيل المأذون 153

اعتبار أهليّة التصرّف في الموكّل والوكيل 160

حكم اكراه الوكيل والموكّل 162

وكالة الكافر عن المسلم 167

اختلاف الموكّل والوكيل 170

بيان ما تثبت به الوكالة 177

(كتابُ الهبات وتوابعها) 179

تعريف الهبة وبيان حقيقتها 179

الهبة من العقود 187

القبض شرط في صحّة الهبة 190

حكم الهبة من حيث اللّزوم والجواز 197

لزوم الهبة لذي الرحم وهبة أحد الزوجين للآخر 200

ص: 451

لزوم الهبة بالتلف 203

التصرّف من ملزمات الهبة 206

لزوم الهبة المعوّضة 211

الصدقة 212

(الفصل الثاني في الوقف) 217

جريان المعاطاة في الوقف 218

اشتراط القبول في الوقف 220

شرائط الوقف 223

يعتبر في الوقف الإقباض 225

بطلان الوقف بموت الواقف قبل القبض 227

اشتراط القبض في الوقف على الجهات العامّة 230

عدم اعتبار التنجيز في الوقف 233

عدم اعتبار الدوام في الوقف 234

الوقف على النفس 237

حكم ما لو شرط الواقف شرطاً لنفسه 240

بيان صور إمكان انتفاع الواقف 242

شرط عود الوقف مِلْكاً 243

الوقف على من ينقرض غالباً 248

شرائط الموقوف 251

شرائط الواقف 257

شرائط الموقوف عليه 259

ص: 452

اشتراط تعيين الموقوف عليه 264

جعل الواقف النظر لنفسه 267

الوقف على الكافر 275

فيما يتعلّق بألفاظ الوقف 277

إذا بطلت المصلحة الموقوف عليها 285

حكم تغيير الوقف عن هيئته 289

مصارف تعمير الأملاك الموقوفة 295

حكم استيجار الأرض لتُجعل مسجداً 298

الشكّ في اعتبار قيدٍ في الموقوف عليه 299

السُّكنى والعُمري والرُّقبي 301

الحبس 311

(الفصل الثالث في الوصايا) 314

حكم القبول في الوصيّة 318

الوصيّة بالفعل والكتابة 326

حكم الوصيّة بأمرين وقبول الموصى له أحدهما 331

لزوم الوصيّة بالأمر السائغ 333

جواز رجوع الموصي في الوصيّة 335

البحث عن شرائط الموصي 339

الوصيّة بالولاية على الأطفال 344

في المُوصى له 347

اعتبار التكليف في الوصي 351

ص: 453

اعتبار العقل في الوصيّ 355

اعتبار العدالة في الوصي 357

الموصى به وما يعتبر فيه 362

حكم وصيّة القاتل نفسه 364

الوصيّة للحمل 366

الوصيّة للكافر 368

حكم ما لو مات الموصى له قبل الموصي 373

الوصيّة بالحمل 380

حكم ما لو أوصى إلى اثنين 381

حكم رَدّ الوصيّة 387

الوصيّة تبطل بخيانة الوصي 392

استيفاء الوصيّ دَينه من مال الميّت 395

أخذ الوصيّ اُجرة عمله 398

حكم إيصاء الوصي 403

حكم الوصيّة الزائدة على الثُّلث 407

إجازة الوارث الوصيّة بما زاد على الثُّلث 409

إجازه الوارث تنفيذٌ لعمل الموصي 413

حكم الايصاء بالواجب وغيره 415

إذا أجاز الورثة ثمّ ادّعوا الظنّ بقلّة المال 421

المدار في استحقاق الثُّلث على حال الوفاة 423

حكم الوصيّة المبهمة 427

ص: 454

حكم نسيان مورد الوصيّة 432

حكم الوصايا المضادّة 434

ما يثبت به الوصيّة 436

حكم إقرار المريض بالدين 437

احتساب أرش الجناية والدية من التركة 443

حكم الوصيّة باخراج الولد من الميراث 445

فهرس الموضوعات 449

ص: 455

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.