فقه الصادق المجلد 29

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه على ما أولانا من التفقّه في الدِّين، والهداية إلى الحقّ ، والصراط المستقيم، والصّلاة والسّلام على أشرف النفوس القدسيّة، وأزكى الذّوات المطهرة الملكيّة، محمّد المصطفى وعترته المرضيّة، هُداة الخلق وأعلام الحقّ .

وبعدُ: فهذا هو الجزء التاسع والعشرون من كتابنا (فقه الصادق)، وقد وفّقنا إلى طبعه، وأرجو من اللّه تعالى التوفيق لنشر بقيّة المجلّدات، إنّه وليّ التوفيق.

ص: 5

ص: 6

الفصل السابع: في الوديعة: وهي عقد

(الفصل السابع: في الوديعة)

اشارة

وحقيقتها الاستنابة في الحفظ، وهي الأمانة بالمعنى الأخصّ .

وعرّفها في «التذكرة»(1): (بأنّها عقدٌ يفيد الاستنابة في الحفظ)، والظاهر أنّ مراده بالعقد اللّفظ أو الفعل الذي ينشأ به ذلك.

أقول: وحيث عرفت أنّ العقد بنفسه من مقولة المعنى، كما عرفت أنّ أسامي المعاملات كلّها أسامٍ للاعتبارات النفسانيّة على ما مرّ في كتاب البيع(2)، فما في «الشرائع» والمتن أولى ، فقد قال المحقّق رحمه الله في «الشرائع»(3): (العقد وهو استنابة في الحفظ)، وورد في المتن: (وهي عقد) وعلى أيّ حال فالأمر سهلٌ .

والأصل في شرعيّتها الكتاب، والسُنّة، والإجماع.

قال اللّه تعالى: (إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (4).

وقال عز شأنه: (فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ ) (5).

وأمّا السُنّة: فالاخبار بذلك بالغة حَدّ التواتر:

منها: خبر الحسين الشيباني، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

ص: 7


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/196.
2- فقه الصادق: ج 22/236.
3- شرائع الإسلام: ج 2/402.
4- سورة النساء: الآية 58.
5- سورة البقرة: الآية 283.

«قلتُ له: رجلٌ من مواليك يستحلّ مال بني اُميّة ودمائهم، وإنّه وقع لهم عنده وديعة ؟

فقال عليه السلام: أدّوا الأمانة إلى أهلها وإنْ كانوا مجوساً»(1).

ومنها: خبر محمّد بن مسلم، عنه عليه السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: أدّوا الأمانات ولو إلى قاتل ولد الأنبياء»(2).

ومنها: خبر عمر بن أبي حفص، عنه عليه السلام: «اتّقوا اللّه، وعليكم بأداء الأمانة إلى مَن ائتمنكم، فلو أنّ قاتل عليّ بن أبي طالب ائتمنني على أمانة لأدّيتها إليه»(3).

ومنها: خبر عمّار بن مروان، عنه عليه السلام: «اعلم أنّ ضارب عليّ عليه السلام بالسّيف وقاتله، لو ائتمنني على سيفٍ ، واستنصحني واستشارني، ثمّ قبلتُ ذلك منه، لأدّيت إليه الأمانة»(4).

إلى غير تلكم من الأخبار الآتي طرف منها في ضمن المباحث الآتية.

وأمّا الإجماع: فقد نقله جمعٌ من الأساطين، منهم المصنّف رحمه الله، قال في محكي «التذكرة»(5): (وقد أجمع المسلمون كافّة على جوازها، وتواترت الأخبار بذلك).

وفي «الحدائق»(6): (ويؤكّد ذلك دلالة العقل والنقل على قضاء حاجة المؤمن، وإدخال السرور عليه مع عدم المانع، كما لو لم يثق من نفسه بالحفظ لبعض7.

ص: 8


1- التهذيب: ج 6/351 ح 114، وسائل الشيعة: ج 19/73 ح 24180.
2- الكافي: ج 5/133 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/73 ح 24181.
3- الكافي: ج 5/133 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/72 ح 24177.
4- الكافي: ج 5/133 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/74 ح 24183.
5- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/196.
6- الحدائق الناضرة: ج 21/397.

الأسباب المتوقّف عليها ذلك)، انتهى .

أقول: وبذلك يظهر أنّ قبول الوديعة مستحبٌّ ، بل عن «التذكرة»(1) بعد التصريح بالاستحباب:

(ولو لم يكن هناك غيره، فالأقوى أنّه يجبُ عليه القبول، لأنّه من المصالح العامّة.

وبالجملة: فإنّ القبول واجبٌ على الكفاية).

ثمّ استثنى ما إذا تضمّن القبول ضرراً في نفسه أو ماله أو على أحدٍ من اخوانه المؤمنين، ونفى في «الحدائق»(2) البأس عمّا ذكره.

ولكن الوجوب الكفائي يتوقّف على توقّف حفظ المال على الاستيداع، ووجوب حفظ مال الغير عن التلف، ولا دليل على الثاني، بل ظاهر ما ذكروه في اللُّقطة عدم وجوب الحفظ، واللّه العالم.

ثمّ إنّه لا كلام في أنّها من العقود لا من الإيقاعات، وتحتاج إلى القبول، ويشير إليه خبر عمّار المتقدّم.

أقول: وممّا ذكرناه في البيع والإجارة وغيرهما، يظهر أنّها كسائر العقود تحتاج إلى الإنشاء، ولا يكتفي بمجرّد الاعتبار النفساني، ولكن ما ينشأ به لا يعتبر أنْ يكون لفظاً، بل يصحّ الإنشاء بالفعل، وبالقول والفعل معاً، بأنْ يكون الإيجاب بالقول والقبول بالفعل.

ولا يعتبر فيما ينشأ به العربيّة، ولا الماضويّة، ولا تقدّم الإيجاب على القبول، ولا الصراحة، ولا الحقيقة.7.

ص: 9


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 21/196.
2- الحدائق الناضرة: ج 21/397.

كما أنّه قد ظهر ممّا قدّمناه اعتبار كون المتعاقدين بالغين عاقلين مختارين.

بحث: في المقام فرعان:

الفرع الأوّل: قال المحقّق رحمه الله في «الشرائع»(1): (ولو طرح الوديعة عنده، لم يلزم حفظها إذا لم يقبلها).

وهو ظاهر، فإنّه مع عدم تحقّق القبول لا تتحقّق الوديعة، فلو تركها حينئذٍ وذهبت، لم يكن عليه ضمان.

وفي «المسالك»(2): (ولكن يأثم إنْ كان ذهابها بعدما غابَ المالك، لوجوب الحفظ من باب المعاونة على البِرّ، وإعانة المحتاج، فيكون واجباً على الكفاية).

وفيه: إنّ المعاونة على البِرّ حَسَنة، وليست بواجبة، وكذا إعانة المحتاج، مع أنّ ذلك ليس منها.

وتفصيل القول في المقام: إنّ طرح الوديعة:

تارةً : يكون بعنوان الاستنابة في الحفظ، ويكون فعله ذلك مقروناً بما يوجب ظهوره في كونه فعلاً ينشأ به تلك.

واُخرى : لا يكون بهذا العنوان.

فعلى الأوّل: إنْ قبلها من طُرِحت عنده قولاً أو فعلاً تحقّقت الوديعة، ويترتّب عليها أحكامها، من وجوب الحفظ وعدم الضمان بدون التقصير.

وإنْ لم يقبلها كان حكمها ما تقدّم.

وعلى الثاني: تكون تلك حينئذٍ أمانة مالكيّة.0.

ص: 10


1- شرائع الإسلام: ج 2/402.
2- مسالك الأفهام: ج 5/80.

توضيح ذلك: إنّ الأمانة مالكيّة وشرعيّة، والأمانة المالكيّة على قسمين:

الأمانة الحاصلة بالتأمين العقدي كالوديعة، والأمانة الحاصلة بالتأمين بالتسليط على ماله برضاه، وهي الأمانة بالمعنى الأعمّ ، وبهذا المعنى اُطلقت الأمانة على العين المستأجرة والمرهونة والمضارب بها، وما شاكل.

والأمانة الشرعيّة فيما كان التسليط على المال بحكم الشارع، كما في تسليط الوليّ على مال القاصر، وكالتسليط على مجهول المالك وما شاكل.

أقول: وليُعلم أنّ الأمانة المالكيّة بالمعنى الأعمّ ، إنّما تتحقّق بالتسليط على المال عن الرّضا، من دون توقّفٍ على شيء آخر، كما يستفاد ممّا ورد في الأبواب المتفرّقة من العارية والمضاربة والوديعة ونحوها، لاحظ ما ورد في الخبر الصحيح الذي رواه الحلبي عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان.

وقال: ليس على مستعير عارية ضمان، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن»(1).

ونحوه غيره(2) من النصوص الكثيرة.

فإنّه ليس في شيءٍ من هذه الموارد سوى التسليط على المال عن الرّضا، فيستكشف من ذلك أنّ كلّ تسليطٍ عن الرّضا ايتمان، ويترتّب عليه عدم الضمان، وغيره ممّا يكون مترتّباً على المؤتمن.

وعلى هذا، ففي المقام لو طرح المال عنده، فإنْ لم يضع يده عليه، فلا شيء عليه، وإنْ أثبت يده عليه فلا ضمان عليه، لو تلف عن غير تقصير.).

ص: 11


1- وسائل الشيعة: ج 19/93 ح 24228.
2- وسائل الشيعة: ج 19/92 باب (عدم ثبوت الضمان على المستعير في غير الذهب والفضّة إذا لم يفرّط).

وهل يجب عليه حفظه حينئذٍ كما في «المسالك»(1) حيث قال: (واليد توجبُ الحفظ إلى أن تردّه على مالكه، لعموم على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(2). أم لايجب عليه الحفظ؟

وجهان، أظهرهما الثاني، فإنّ الدليل إنّما دلّ على وجوب الحفظ في الأمانة بالمعنى الأخصّ ، وأمّا في الأمانة بالمعنى الأعمّ الحاصلة من التسليط عن رضاه التي ليس مقتضاها إلّاكون استيلائه عن رضا المالك، فلا دليل على وجوب الحفظ.

وأمّا الحفظ من حيث إنّه مالٌ محترمٌ فلا يجب أصلاً، ولذا لا يجب التقاطه بل يكره.

والتمسّك بحديث على اليد غريبٌ ، فإنّ الحديث في الضمان ولا يدلّ على وجوب الرّد تكليفاً، مع أنّ يد الأمين خارجة عن تحت الحديث.

وبالجملة: فالأظهر عدم وجوب الحفظ عليه، ويترتّب على ذلك أنّه لو ترك الحفظ وتلف، لا يكون ضامناً، إذ لو لم يكن الحفظ واجباً، لم يكن تركه تفريطاً، وإلى ما ذكرناه يشير الخبر الذي رواه إسحاق عن جعفر عن أبيه عليهما السلام:

«أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: لا ضمان على صاحب الحمّام فيما ذهب من الثياب، لأنّه إنّما أخذ الجَعل على الحمّام ولم يأخذ على الثياب»(3).

لأنّه مع استيلاءالحمّامي على الثياب يدلّ على أنّه لو كان أخذ الجَعل على الثوب كان مكلّفاً بحفظه، فترك التحفّظ عليه تفريطٌ، فيكون ضامناً، وحاله حينئذٍ6.

ص: 12


1- مسالك الأفهام: ج 5/87.
2- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.
3- الكافي: ج 6/314 ح 76، وسائل الشيعة: ج 19/140 ح 24316.

جائزٌ من الطرفين،

حال الوديعة، بخلاف ما إذا لم يكن حفظ الثوب بعهدته، فإنّه لا يجب عليه الحفظ، فتركه التحفّظ ليس تفريطاً، فلا يكون ضامناً.

الفرع الثاني: اُكره على قبضها لم تصر وديعةً ، لعموم حديث «رُفع ما استكرهوا عليه»(1) فلا يجب عليه حفظها.

وفي «المسالك»(2): (لكن يجب تقييده بما إذا لم يضع يده عليها بعد زوال الإكراه مختاراً، فإنّه حينئذٍ يجبُ عليه الحفظ باليد الجديدة، وإنْ لم يجب بالإكراه).

وفيه: إنّ وضع يده عليها بعد زوال الإكراه إنْ كان بعنوان قبول الوديعة، أو كان حين ما اُكره قبل الوديعة، وكان ذلك منه رضاً به، وكان المالك أنشأ الوديعة قولاً أو فعلاً، وجب عليه الحفظ وإلّا فلا، وإنْ كان المال عنده أمانةً مالكيّة كما مرّ.

الوديعة عقدٌ جائز

أقول: وكيف كان، فلا خلاف بينهم في أنّ الوديعة عقدٌ (جائزٌ من الطرفين).

وفي «الجواهر»(3): (بل الإجماع بقسميه عليه، وهو الحجّة في تخصيص الآية وغيرها من أدلّة اللّزوم).

ويترتّب عليه بطلانه بموت كلّ منهما أو بجنونه وإغمائه، ونحو ذلك ممّا يخرج به

ص: 13


1- المستدرك: ج 6/423 ح 7136.
2- مسالك الأفهام: ج 5/80.
3- جواهر الكلام: ج 27/106.

ماله عن ملكه أو ولايته عليه، كما هو الشأن في العقود الجائزة مطلقاً، على ما مرّ في باب المضاربة، وقد عرفت هناك أنّه لا يمكن إثبات ذلك بالدليل، ولكن لتسالم الأصحاب يُبنى عليه، فراجع ما ذكرناه(1).

ولو بطل العقد، فالمال يكون في يد الودعي أمانة شرعيّة، كما في «الشرائع»(2)، و «المسالك»(3)، و «الجواهر»(4) وغيرها.

واستدلّ له: بعدم إذن المالك الصوري، وحصول الإذن من المالك الحقيقي في الاستيلاء عليه للرّد حسبةً ، وحينئذٍ يلحقه حكمُ غيره من الأمانات الشرعيّة.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ الأمانة الشرعيّة ملاكها الترخيص في إثبات اليد على مال الغير لحفظه، أو لإيصال المال إلى مالكه، كما استفيد من أدلّة اللُّقطة ومجهول المالك وما شاكل، وليس مجرّد الترخيص الشرعي تأميناً شرعيّاً، كما لو أباح الشارع وضع اليد على العين المستأجرة لإباحة المالك إيّاه، فإنّه من باب إباحة ما أباحه المالك، لا تأمين من الشارع، بل الترخيص الابتدائي منه، كما في اللُّقطة تأمين من الشارع.

وعليه، ففي المقام غاية ما يثبت بالدليل، وجوب رَدّ المال إلى صاحبه، وهو وجوبٌ عَرَضي يتبع حرمة إمساكه، فلا ترخيص ابتداءً من الشارع في وضع اليد عليه، ولا إيجاب للإيصال ابتداءً حتّى يكون حاله كحال الترخيص الابتدائي، وعليه فليس هو أمانة شرعيّة، بل يجب الرّد من باب حرمة إمساك مال الغير،1.

ص: 14


1- فقه الصادق: ج 28/368.
2- شرائع الإسلام: ج 2/402.
3- مسالك الأفهام: ج 5/86.
4- جواهر الأحكام: ج 27/101.

وعلى هذا، فهل يكون ضامناً له لو تلف أم لا؟

يشهد للضمان: عموم قاعدة على اليد(1)، فإنّ الخارج عنها يد الأمين، وهو ليس أميناً على الفرض.

واستدلّ لعدم الضمان تارةً : بعدم شمول القاعدة للمقام، نظراً إلى ما عن المحقّق النائيني رحمه الله حيث قال إنّ الأخذ هو الاستعلاء على الشيء بالقهر والغلبة، كما تشهد به موارد استعماله:

منها: قوله تعالى : (وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ اَلْقُرى ) (2).

ومنها: قوله سبحانه: (لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ اَلْوَتِينَ ) (3).

ومنها: قوله تعالى : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ) (4).

وغير تلكم من موارد استعماله، وعليه فيختصّ الحديث بصورة الغصب، ولا يشمل أمثال المقام.

واُخرى : بأنّ قاعدة الإحسان تمنع عن الضمان، بدعوى أنّ وضع يده على المال بداعي الإيصال إلى مالكه إحسانٌ إليه، وقوله تعالى : (ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (5) يشمل كلّ سبيل دنيوي أو أخروي.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ الأخذ بحسب اللّغة معناه تناول الشيء، سواءٌ كان عن قهرٍ وغَلَبة أم لم يكن، واستعماله في غير موارد الأخذ بالغلبة والقهر كثير،1.

ص: 15


1- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.
2- سورة هود: الآية 102.
3- سورة الحاقة: الآية 45-46.
4- سورة القمر: الآية 42.
5- سورة التوبة: الآية 91.

لاحظ قوله تعالى: (خُذِ اَلْعَفْوَ) (1)، وقوله عزّ اسمه: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً ) (2)، وقوله عليه السلام: «خُذها فإنّي إليك معتذرٌ»(3)، وغير تلكم من الموارد، فالحديث يدلّ على الضمان في كلّ موردٍ كان مال الغير تحت اليد، ومن تلك الموارد المقام.

ويرد على الثاني: أنّ قاعدة اليد تُخصّص بقاعدة الإحسان كتخصيصها بقاعدة الايتمان، إلّاأنّها في موارد التمحّض في الإحسان، كما لو علم من حال المالك رضاه بوضع اليد على ماله لإيصاله إليه، فإنّه ليس هناك تسليطٌ ليكون أمانةً مالكيّة، لكنّه يجوز وضع اليد عليه، فوضع اليد للإيصال إحسانٌ محض منه، ومع تلفه قبل وصوله لا ضمان.

وأمّا في المقام، فإيصال المال إلى صاحبه واجبٌ من حيث حرمة إمساكه، فهو حينئذٍ ترك الإساءة لا من باب أنّه إحسانٌ محض.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه يكون ضامناً لو تلف قبل الإيصال، إلّاأن يثبت الإجماع على عدم الضمان.

***7.

ص: 16


1- سورة الأعراف: الآية 199.
2- سورة التوبة: الآية 103.
3- المستدرك: ج 7/237.

ويَجبُ حفظها بمجرى العادة

وجوب الحفظ على المستودع

أقول: وتمام الكلام في هذا الفصل يتحقّق في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: (ويجب حفظها) أي الوديعة في مكانٍ مناسب لها (بمجرى العادة)، كالثوب في الصندوق، والشّاة في المراح، والدابّة في الاصطبل، أو ما يجري مجرى تلكم في الحرز لمثلها في العادة، كما هو الشأن في كلّ ما لا حَدّ له شرعاً، فإنّه يرجع فيه إلى العرف والعادة، ومنه المقام، فإنّ الوديعة كما مرّ هي الاستنابة في الحفظ، وليس لها في الشرع حَدّ، فيتعيّن الرجوع فيها إلى العادة.

وعلى ذلك، فلا يهمّنا النزاع في المصاديق، مثل أنّه هل يجب أنْ يكون الصندوق محرزاً أم يكفي مطلقة، فإنّ الضابط ما ذكرناه، والميزان هو حفظها بما يحفظ به أمواله.

ولا فرق في ذلك بين علم المودع بأنّ المستودع ليس له ما يحفظ فيه الوديعة، أو عدم علمه بذلك.

والدليل على وجوب الحفظ:

1 - مضافاً إلى الإجماع(1) المحقَّق، وكون ذلك من مقتضيات عقد الوديعة، فإنّها كما مرّ استنابة في الحفظ.

ص: 17


1- جامع المدارك: ج 3/434.

ولو عيّن المالكُ حِرْزاً تعيّن، فلو خالف ضَمِن، إلّامع الخوف،

2 - الآيات والنصوص المتقدّمة الدالّة على وجوب رَدّ الأمانة، فإنّه لولا وجوب حفظها، لم يجب أدائها، ولو جاز له إهمالها وعدم حفظها، كيف يترتّب عليها وجوب الأداء؟!

3 - والأخبار الآتية الدالّة على الضمان مع ترك الحفظ، إذ لو لم يكن الحفظ واجباً، لم يكن وجه للضمان بتركه.

قال المصنّف رحمه الله: (ولو عيّن المالك حرزاً تعيّن)، لأصالة حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه، (فلو خالف ضَمِن) لأنّه عادٍ، وقد استثنوا من ذلك موردين:

المورد الأوّل: ما إذا كان النقل إلى الأحرز، فقد ادّعى الإجماع(1) على أنّها في هذا المورد لو تلفت لا تضمّن، وأضاف جمعٌ منهم إليه النقل إلى مثله.

والتحقيق أنْ يقال: إنّه إنْ فهم من التعيين أنّ الغرض المعاملي له الاحتفاظ، وإنّما عيّن المحلّ الخاص من باب المثال، فمع النقل إلى الأحرز أو المساوي لا ضمان، وإلّا فالمتّجه هو الضمان.

المورد الثاني: ما ذكره المصنّف رحمه الله بقوله (إلّا مع الخوف) لجواز النقل حينئذٍ حسبةً ، بل قالوا إنّه لو قال المودع: (لا تنقلها عن هذا المكان وإنْ تلفت فيه)، لعدم ثبوت هذه السلطنة له من السلطان الحقيقي، بل حَرُم عليه إضاعة المال وإتلافه في غير وجهه، ومن ذلك النهي عن التبذير، وعن تمكين السّفهاء من الأموال التي0.

ص: 18


1- راجع مسالك الأفهام: ج 5/90.

جعلها اللّه سبحانه لنا قواماً.

وعليه، فهل يجب النقل حينئذٍ كما في «المسالك»(1)، لأنّ الحفظ واجبٌ عليه، ولا يتمّ إلّابالنقل، وللنهي عن إضاعة المال، أم لا؟

الظاهر هو الثاني، لأنّ وجوب الحفظ:

إنْ كان بمناط وجوب حفظ المال المحترم، فقد مر أنّه لا وجه لوجوبه، ولذا لايجب التقاطه بل يكره.

وإنْ كان بمناط وجوب حفظ الوديعة، فالمفروض أنّه بالنقل يخرج عن الوديعة، فإنّه قيّد فيها عدم النقل.

وأمّا النهي عن إضاعة المال، فهو بالنسبة إلى المالك، ولّادليل على حرمتها على غير المالك، حتّى بترك الحفظ إيّاه عن التلف، بل لا يحرمُ ذلك قطعاً.

وبالجملة: فالأظهر عدم وجوبه، وعليه فحيثُ يجوز شرعاً النقل حِسْبةً ، فلا ضمان عليه لو نقلها وتلفت، لقاعدة الإحسان بالتقريب المتقدّم.

***1.

ص: 19


1- مسالك الأفهام: ج 5/91.

ويجبُ على الوَدَعيّ علف الدابّة وسقيها، ويرجعُ به على المالك

وجوب سقي الدابّة وعلفها على الودعي

المسألة الثانية: (ويجبُ على الوَدَعي علف الدابّة وسقيها، ويرجع به على المالك) على المشهور بين الأصحاب(1)، بل بلا خلافٍ في ذلك في الجملة.

أقول: وتفصيل القول في المقام هو أنّ هاهنا صوراً:

الصورة الأُولى: أن يأمره المالك بذلك، فإنّه لا إشكال في أنّه يجب عليه كما صرّحوا به، لأنّه من مقدّمات الحفظ المأمور به، ويرجع به على المالك، وذلك لأنّ حقيقة الوديعة هي الاستنابة في الحفظ، فهي وإنْ كانت بطبعها آبية عن التعويض - وإلّا لكانت إجارة على العمل لا وديعة - موجبة لتنزيل الوَدَعي منزلة المالك في حفظها الذي لا عوض لمالكها، ولكن ذلك بالنسبة إلى الحفظ نفسه، وأمّا ما يتوقّف عليه الحفظ من مالٍ أو عملٍ ، فالوديعة بنفسها لا اقتضاء بالنسبة إليه من حيث التعويض، وعليه فإذا كان المالك مستوفياً له بالأمر به، كان ذلك موجباً للضمان، فيرجع الودعي إليه.

وأمّا قاعدة احترام المال التي استدلّ بها بعضهم في المقام للضمان، فقد مر أنّها بنفسها ليست من موجبات الضمان، ولا توجبُ الرجوع إلى من وصل نفعه إليه.

الصورة الثانية: أن ينهاه عن ذلك:

ص: 20


1- راجع الحدائق الناضرة: ج 21/417.

ففي «الشرائع»(1) وغيرها: لم يجز القبول، بل يجب سقيها وعلفها.

واستدلّ له في «المسالك»(2) وغيرها:

1 - بأنّه حَقّ اللّه تعالى ، كما أنّه حَقّ المالك، فلا يسقط حَقّ اللّه تعالى بإسقاط المالك حقّه.

2 - وبأنّ إتلاف المال منهيٌّ عنه.

أقول: ولكن قد مرّ أنّ حفظ الحيوان من التلف لا يكون واجباً على غير المالك، ولذا لا يجبُ التقاط الحيوان إذا خاف عليه التلف، والحفظ بعد الالتقاط باعتبار كونه أمانة شرعيّة يجبُ حفظها من التلف، كما أنّ وجوب الحفظ على مالكه إنّما هو من جهة وجوب نفقة المملوك على مالكه، لا من حيث حفظ النفس المحترمة، والمفروض أنّه لا يجب الحفظ من جهة الوديعة لنهي المالك عنه.

وأمّا حرمة إتلاف المال، فقد عرفت أنّه مختصٌّ بالمالك، فحرمة الإتلاف غير المستلزم للتصرّف في ملك الغير غير ثابتة، والأصل عدمها.

فعلى هذا لا يجب عليه سقي الدابّة في هذه الصورة ولا علفها، بل لا يجوزُ من غير مراجعة الحاكم، لأنّه تصرّفٌ في مال الغير بلا رضاه.

ولو سقاها وأعلفها والحال هذه، ليس له الرجوع بقيمتهما على المالك، كما ظهر ممّا ذكرناه في الصورة الأُولى .

الصورة الثالثة: أن يُطلق المالك المودَع بأن لا يأمره ولا ينهاه.

والظاهر في هذه الصورة وجوب السَّقي والعلف، لأنّهما من مقدّمات الحفظ9.

ص: 21


1- شرائع الإسلام: ج 2/403.
2- مسالك الأفهام: ج 5/89.

المأمور به، بل قد يقال - كما عن «التذكرة»(1) وغيرها - إنّ مقتضى الشرط الضمني هو ذلك.

وهل يرجع بما بذله في مقام حفظه إلى المالك أم لا؟

الظاهر ذلك، لا لمجرّد وجوب الحفظ، لأنّه لا اقتضاء من حيث المجانية وعدمها، ولا لحرمة المال المبذول، لأنّها لا توجب الضمان ما لم يكن المالك مستوفياً له بالمباشرة، أو بوكيله، أو بأمر أحدهما، أو بأمر الحاكم، بل لمفهوم قوله عليه السلام في صحيح أبي ولّاد في جواب قول السائل - حيث قال: «جُعِلتُ فداك فقد علفته بدراهم فلي عليه علفه» -: لا، لأنّك غاصب»(2)، حيث يستفاد منه أنّ غير الغاصب له الرجوع بما أنفق على الدابّة.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه مع الإطلاق أو الأمر بهما، يجبُ السَّقي والعلف، ويرجع بما بذله على المالك.

أقول: بقي الكلام في الضمان مع الإهمال في حفظ الدابّة، بترك السقي والعلف، فالظاهر هو ذلك:

لا لوجوب الحفظ، فإنّه لا يوجب تركه إلّاالإثم.

ولا من جهة تخلف الشرط الضمني أو الصريح، فإنّ ترك الوفاء بالشرط ليس من موجبات الضمان.

بل لأنّ ترك الحفط داخلٌ في التعدّي أو التفريط، وسيجيء أنّ اليد معه مضمنة، والنصوص الخاصّة دالّة عليه أيضاً.2.

ص: 22


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/203.
2- الكافي: ج 5/290 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/119 ح 24272.

ثمّ إنّه لا يهمّنا البحث في جواز إخراج الدابّة من المنزل وعدمه، لما مرّ، وممّا ذكرناه يظهر حكم ما لو كانت الوديعة غير الحيوان - كشجرٍ وبناء ونحوهما - وأنّه مع الإطلاق، أو الأمر بإنفاق ما يتوقّف عليه حفظها، يجبُ ويرجع بما بذله على المالك.

***

ص: 23

ويضمنُ المستودعَ مع التفريط لا بدونه

ضمان المستودع مع التعدّي أو التفريط

المسألة الثالثة: (ويضمَنُ المستودع مع التفريط) بترك التحفّظ، أو التعدّي بالمخالفة في كيفيّة الحفظ، أو الخيانة بالتصرّف في المال.

أقول: والضابط هو التقصير، وإنْ حصره بعضهم في ستّة:

الانتفاع بها، والإيداع، والتقصير في دفع المُهلِكات، والمخالفة في كيفيّة الحفظ، والتضييع بأنْ يلقيها في مضيعة، والجحود.

و (لا) يضمنُ (بدونه)، بلاخلافٍ فيهما، بل عليهما الإجماع بقسميه في «الجواهر»(1).

ويشهد بهما: - مضافاً إلى دلالة قواعد باب الضمان كما مرّ في الإجارة والمضاربة وغيرهما - النصوص الخاصّة المعلّقة جملة منها لعدم الضمان على الايتمان، إمّا بجعله سبباً، أو عنواناً لعدم الضمان:

منها: ما رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح والحسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال:

«صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان»(2).

ومنها: صحيح زرارة - أو حسنه - عنه عليه السلام عن وديعة الذهب والفضّة، حيث قال عليه السلام: «كلّ ما كان وديعة ولم تكن مضمونة لا تلزم»(3).

ص: 24


1- جواهر الكلام: ج 27/102.
2- الكافي: ج 5/238 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/93 ح 24228.
3- الكافي: ج 5/239 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/79 ح 24199.

ومنها: موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجل استودع رجلاً ألف درهم فضاعت، فقال: الرّجل كانت عندي وديعة، وقال الآخر: إنّما كانت لي عليك قرضاً؟

فقال عليه السلام: المال لازمٌ له، إلّاأنْ يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة»(1).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن الرّجل يستبضع المال فيهلك أو يسرق، أعلى صاحبه ضمان ؟

فقال عليه السلام: ليس عليه غُرم، بعد أن يكون الرّجل أميناً»(2).

ونحوها غيرها(3).

أضف إلى ذلك النصوص الدالّة على الضمان بالتعدّي والاستهلاك في بابي المضاربة والرّهن، بعد معلوميّة اشتراك الجميع في الحكم المزبور باعتبار كونهاأمانة.

مع أنّه يدلّ على الضمان بالتعدّي مكاتبة محمّد بن الحسن إلى أبي محمّد عليه السلام:

«رجلٌ دفع إلى رجلٍ وديعة، فوضعها في منزل جاره فضاعت، هل يجب عليه إذا خالف أمره وأخرجها عن ملكه ؟

فوقّع عليه السلام: هو ضامنٌ له إنْ شاء اللّه»(4).

وعلى الجملة: فإنّ المستفاد من مجموع الأدلّة بعد ضَمّ بعضها إلى بعض، أنّ تلف المال عند الودعي لا يوجبُ الضمان إلّامع التقصير في الحفظ، الموجب لخروج6.

ص: 25


1- الكافي: ج 5/239 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/85 ح 24212.
2- الكافي: ج 5/238 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/21 ح 24066.
3- وسائل الشيعة: ج 19/79 باب: (أنّ الوديعة لا يضمنها المستودع مع عدم التفريط).
4- الكافي: ج 5/239 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/81 ح 24206.

اليد عن كونها يداً أمانيّة ومأذونة، وصيرورتها خيانة.

أقول: قد وقع الخلاف والكلام في جملةٍ من الموارد، كترك ما يحفظ به الوديعة مثل نشر الثوب وطيّه، وتعريضه للهواء، والمسافرة بها، وإخراج الوديعة من الحِرز لينتفع بها، والجحود، وما شاكل، وحيث أنّه لا نصّ في شيء من هذه الموارد يمكن الاعتماد عليه، فلابدَّ في كلّ مورد من عرضه على الميزان المتقدّم، ثمّ الحكم بالضمان وعدمه، فلا يهمّنا البحث في كلّ موردٍ بالخصوص.

نعم، لا بأس ببيان حكم ما لو ضيّع بالنسيان، فالمحكيّ عن جماعة - منهم المصنّف رحمه الله في «التحرير»(1)، وولده(2)، والمحقّق الثاني(3) - الضمان، واستدلّ له بأنّ الدليل دلّ على أنّ الأمين يضمن مع التعدّي أو التفريط.

وحديث رفع النسيان(4) لا يصلح رافعاً للضمان، لكونه في مقام الامتنان، ولا امتنان على الاُمّة في رفعه، ولذا في سائر موارد الضمان لا يرتفع الضمان مع تحقّق السبب نسياناً.

وأُورد عليه: بأنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على عدم ضمان الأمين العموم، وغاية ما خرج منه العامد الآثم دون غيره، فإطلاق ذلك يقتضي عدم الضمان، وبه يرفع اليد عن قاعدة على اليد(5).4.

ص: 26


1- تحرير الأحكام: ج 3/194.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/118.
3- جامع المقاصد: ج 6/36.
4- الكافي: ج 2/462 ح 1 / وسائل الشيعة: ج 15/369 ح 20770.
5- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.

ولا يزول

وفيه: أنّه وإنْ لم يكن دليلٌ لفظي يدلّ على أنّه في هذا الباب يكون المتعدّي أو المفرِّط ضامناً، ولكن لا ريب في استفادة ذلك من مجموع ما تقدّم، بل يمكن أنْ يقال إنّه يستفاد ذلك من نفس ما دلّ على أنّه لا ضمان على الأمين، لأنّ أخذ الأمانة عنواناً للموضوع مشعرٌ بذلك، والمضيّع وإنْ كان عن نسيانٍ لا تعدّ يده يداً أمانيّة.

وعليه، فالأظهر هو الضمان.

حكم الوديعة المعادة بعد التفريط

أقول: المعروف بين الأصحاب أنّه إذا أعاد الوديعة بعد التعدّي أو التفريط إلى الحِرز، لم يبرأ (ولا يزول) الضمان.

قال في محكى «التذكرة»(1): (إذا صارت الوديعة مضمونة على المستودع، إمّا بنقل الوديعة وإخراجها من الحِرز، أو استعمالها كركوب الدابّة، ولبس الثوب، أو بغيرها من أسباب الضمان، ثمّ إنّه ترك الخيانة وردّ الوديعة إلى مكانها، وخلع الثوب، لم يبرأ بذلك عند علمائنا أجمع، ولم يزل عنه الضمان، ولم تعدّ أمانةً )، انتهى .

والتحقيق يقتضي أنْ يقال: إنّ الدليل دلّ على عدم ضمان الوَدَعي، خرج عن ذلك ما لو كان متعدّياً أو مفرّطاً، وعليه فإذا فرّط أو تعدّى ثمّ عاد، يدخل المقام تحت كبرى كليّة مذكورة في الاُصول، وهي أنّه إذا فرض خروج بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن تحت العموم، فهل فيما بعد ذلك الزمان المُخرج بالنسبة إلى ذلك

ص: 27


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/198.

إلّا بالرّد إلى المالك أو الإبراء

الفرد يجري استصحاب حكم الخاص أو يتمسّك بالعموم ؟

وحيث أنّ المختار عندنا هو التمسّك بالعموم مطلقاً، وإنْ لم يكن لدليل ذلك العموم عمومٌ أزماني، ولا يصحّ الرجوع إلى الاستصحاب، فالمتعيّن في المقام البناء على ارتفاع الضمان، وعدم بقائه، لفرض أنّ الوديعة لا تنفسخ بالخيانة، بل تلك الوديعة في حال الخيانة خارجة عن تحت عموم ما دلّ على عدم الضمان، فإذا أعادها الوَدَعي فقد دخلت تحت العموم، ولا مجال لإجراء استصحاب بقاء الضمان.

وأولى بذلك ما لو جدّد المالك له الاستيمان، بأنْ فَسَخ العقد السابق ثمّ أودعه جديداً.

فإنْ قيل: إنّ المصنّف رحمه الله(1) ادّعى الإجماع على الضمان، فهو المقيّد للإطلاق.

قلنا: إنّه ليس إجماعاً تعبّديّاً، لاستدلالهم له بالاستصحاب.

وعلى تقدير ما بَنى عليه القوم من الضمان والخروج عن كونه وديعة، فالظاهر أنّه لا يزول الضمان (إلّا بالرّد إلى المالك).

وعود الحكم الأوّل إنّما هو بتجديد المالك له الوديعة (أو الإبراء)، بأنْ يبرأه المالك من الضمان.

والأوّل مورد الوفاق. إنّما الخلاف بينهم في أنّه لو لم يردّها، ولكن جدّد له المالك الإيداع:8.

ص: 28


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/198.

فظاهر الأكثر: أنّه كالأوّل، وعلّلوه بأنّ الضمان إنّما كان بحقّ المالك، وقد رضي بسقوطه بإحداثه ما يقتضي الأمانة.

وقيل: لا يزول الضمان، وهو ظاهر المتن، واستدلّ له بظاهر قوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت»(1).

وقال في «المسالك»(2): (ويمكن بناء ذلك على أنّ الغاصب إذا استودع، هل يزول الضمان عنه أم لا؟ فإنّ المستودع هنا قد صار بتعدّيه بمنزلته، والمسألة موضع إشكال، إذ لا منافاة بين الوديعة والضمان كما في المفروض المذكور، فلا يزول السابق بتجدّد ما لا ينافيه، مع عموم قوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»، ومن أنّه قد أقام يده مقام يده، وجعله وكيلاً في حفظها، وذلك يقتضي رفع الضمان.

إلى أنْ قال: والأقوى هنا زوال الضمان، لأنّ المستودع نائبٌ عن المالك في الحفظ، فكانت يده كيده، وقبضه لمصلحته، فكان المال في يده بمنزلة ما كان في يد المالك، بخلاف الرّهن) انتهى .

وفيه: أنّه إذا فسخ المالك الوديعة الأُولى، وجدّد العقد ولم يرجع المال إلى يده، وقلنا بصحّة الثاني، فلا إشكال في ارتفاع الضمان، ولا مورد للتمسّك بعموم على اليد، لأنّ يده بمقتضى الوديعة الثانية يد أمانيّة.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: - مبتنياً على الكبرى المتقدّمة - إنّ يده هذه كانت يد ضمان، فبعد ارتفاع العدوان والخيانة يشكّ في بقاء الضمان ودخولها تحت ما دلّ على عدم6.

ص: 29


1- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.
2- مسالك الأفهام: ج 5/116.

الضمان على الأمين وعدمه، فيستصحب الضمان، ولكن قد أشرنا إلى بطلانها.

أقول: إذا لم يفسخ المالك الوديعة الأُولى، وقال: (أذنتُ لكَ في حفظها) أو (أودعتكها) أو نحو ذلك، فلا كلام في عدم انفساخ الأُولى وعدم حدوث عقدٍ جديد، فحينئذ إنْ أراد بذلك البراءة، من الضمان فسيأتي حكمه، وإلّا فقد استدلّ في «المسالك»(1) لعدم الضمان:

تارةً : بأنّه لحقّ المالك، وقد رضى بسقوطه بإحداثه ما يقتضي الأمانة.

واُخرى : بأنّ المستودع نائبٌ عن المالك فكان يده كيَدِه.

وفيه: إنّه لم يُحدث ما يقتضي الأمانة، ومجرّد رضا المالك بسقوطه لا يكفي في السقوط، وكون يد المستودع كيد المالك أوّل الكلام.

وما أفاده من ابتناء ذلك على مسألة ضمان استيداع الغاصب وعدم ضمانه، غير تامّ ، لأنّ المفروض في المقام عدم فسخ العقد الأوّل، ومعه لا يؤثّر الثاني شيئاً قطعاً.

وأمّا الثاني: - وهو الإبراء - فقد جَزَم المصنّف رحمه الله(2) والمحقّق في «الشرائع»(3)بحصول البراءة من الضمان به، ووجهه أنّ الضمان كان لحقّه، فيسقط بإسقاطه.

وأورد عليه صاحب «الجواهر»(4): وقبله غيره بعدم دليلٍ صالحٍ لقطع أصالة الضمان، ضرورة عدم ثبوت مال في الذمّة يكون مورداً للإبراء، فإنّ المراد من الضمان اشتغال ذمّته لو تلفت بالمثل أو القيمة، فهو كما لو قال للغاصب: (أبرأتُك من3.

ص: 30


1- مسالك الأفهام: ج 5/116.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/199.
3- شرائع الإسلام: ج 2/406.
4- جواهر الكلام: ج 27/143.

ضمان المال المغصوب في يدك)، ونحوه ممّا هو إبراء عمّا لم يجب بعد.

وتأهّل الذمّة للاشتغال على تقدير التلف، لم يثبت قابليّته للسقوط، بل مقتضى الأصل وإطلاق ما دلّ على سببيّة الضمان الشامل لصورة الإسقاط، عدم سقوطه بالإسقاط.

وفيه أوّلاً: أنّ الإبراء إنْ كان إبراء على تقدير الثبوت لا تنجيزيّاً، لا يكون من قبيل إبراء ما لم يجب.

وثانياً: أنّ الضمان المسبّب عن التعدّي أو التفريط كالضمان في سائر الموارد غير العقود الصحيحة، عبارة عن كون العين في العهدة، وأثر ذلك لزوم دفع العين ما دام بقائها، والبدل على تقدير التلف، ففي جميع الموارد تكون العين في العهدة حتّى بعد التلف.

وعلى ذلك، فلا إشكال في الحكم بالإبراء أصلاً، بعد معلوميّة كون الضمان من الحقوق القابلة للإسقاط لا من قبيل الحكم.

حكم إتلاف الأجنبي الوديعة

أقول: بعدما ثبت من وجوب حفظ الوديعة، يجب الفحص عن حكم ما لو أراد ثالث أخذ المال الذي جُعل وديعة عنده قهراً، أو أراد إتلافه، فنقول:

إذا تمكّن من الدفع من دون أن يترتّب عليه ضرر أو مشقّة وَجَب، لأنّه مقدّمة للحفظ المأمور به على جهة الإطلاق.

ولو توقّف ذلك على بذل مال فهل يجب أم لا؟

ص: 31

ويحلفُ للظالم ويورّي،

وعلى تقدير البذل هل يرجع بما بذله على المالك أم لا؟

خلافٌ في الجهتين، وقد تقدّم ما عندنا عند بيان حكم علف الدابّة وسقيها(1)، وما ذكرناه في تلك المسألة ثابت في المقام.

ولو توقّف الدّفع على الكذب جاز، بل وجب، بل (و) عليه أن (يحلف للظالم) لو طولب باليمين - على ما سيأتي الكلام في ذلك مفصّلاً في كتاب الأيمان - والنصوص الخاصّة شاهدة بذلك.

(و) هل يجب عليه لدفع الظالم أن (يورّي) مع التمكّن من التورية ؟

الظاهر ذلك كما سيأتي في ذلك الكتاب.

ولو أدّى وظيفته، ومع ذلك أُخذ منه قهراً أو أتلف فلا ضمان عليه، بلا خلافٍ أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، كما في «الجواهر»(2)، كلّ ذلك بمقتضى دلالة قاعدة الايتمان.

ودعوى: اختصاصهابالتلف، وفي المقام إمّاإتلافٌ أو أخذٌ، وعلى التقديرين لاتلف:

مندفعة أوّلاً: بصدق التلف عليهما بكلّ من إتلاف الثالث وأخذه، كما يشهد به خبر عقبة بن خالد الوارد في تلف المبيع قبل قبضه من إطلاق التلف على سرقة المتاع(3).6.

ص: 32


1- تقدّم ذلك في الجزء 28 تحت عنوان (وجوب سقي الدابّة المستأجرة وعلفها).
2- جواهر الكلام: ج 27/102.
3- الكافي: ج 5/171 ح 12، وسائل الشيعة: ج 18/23 ح 23056.

وثانياً: أنّه لم يؤخذ في أدلّة عدم الضمان على الأمين خصوص التلف، بل صرّح في بعضها بالسرقة، كصحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن الرّجل يستبضع المال فيهلك أو يُسرق، أعلى صاحبه الضمان ؟

فقال عليه السلام: ليس عليه غُرم بعد أنْ يكون الرّجل أميناً»(1).

أقول: ثمّ الظاهر أنّه لا إشكال في الحكم المذكور، سواءٌ كان قد تولّى الظالم أخذها من يده، أو من مكانها الذي كانت فيه، أو قهره على الإتيان بها فدفعها إليه، لصدق عدم التفريط فيهما، ولا ضمان عليه فيهما، وإنّما الضمان على الظالم كما هو المشهور بين الأصحاب(2).

وعن أبي الصّلاح(3)، وأبي المكارم(4)، و المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(5)و «التحرير»(6): أنّه يجوز رجوع المالك عليه مع مباشرته الدفع بنفسه إلى من أمره الظالم، لأنّه باشره تسليم مال الغير بيده، فيشمله عموم على اليد، وإنْ كان قرار الضمان عليه.

وقوّاه في «الجواهر»(7)، بتقريب: أنّ التسليم إلى الظالم من أقسام الإتلاف، والمخصّص بقاعدة الايتمان قاعدة على اليد دون قاعدة الإتلاف.3.

ص: 33


1- الكافي: ج 5/238 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/21 ح 24066.
2- راجع مسالك الأفهام: ج 5/82، كفاية الأحكام: ج 1/692.
3- الكافي في الفقه: 230.
4- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 27/103.
5- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/205.
6- تحرير الأحكام: ج 3/193.
7- جواهر الكلام: ج 27/103.

ولو أقرّ له لم يَضمن،

ولكن يرد على الوجه الأوّل: أنّ التسليم إلى الظالم إنْ كان جائزاً له، فلا يكون به مفرّطاً ولا متعدّياً، ومعه يدخل في قاعدة الايتمان، وهي تخصّص قاعدة على اليد.

وأمّا ما أفاده في «الجواهر»، فيرد عليه: إنّ التسليم إلى الظالم لا يعدّ إتلافاً للمال، بل لو كان ذلك إتلافاً يكون فاعله هو الظالم الآخذ، فهو المتلف بأخذه دون الودعي المُسلّم إليه، لأنّ ما قام به كان مقدّمة للإتلاف لا أنّه إتلاف، فتدبّر.

وعليه، فالأظهر عدم الضمان عليه.

قال المصنّف رحمه الله: (ولو أقرَّ له لم يَضمن).

وفي «المسالك»(1): في شرح قول المحقّق: (ولا يلزم دركها):

(هذا إذا لم يكن سبباً في الأخذ القهري كما لو كان هو الساعي بها الي الظالم، ولم يقدر بعد ذلك على دفعه، فإنّه يضمن لأنّه فرّط في الحفظ، بخلاف ما لو كانت السعاية من غيره، أو علم الظالم بها من غير سعاية، ومثله ما لو أخبر اللّص بها فسرقها)، انتهى .

وتبعه على ذلك المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(2) والمحقّق الثاني(3).

أقول: وهو متينٌ ، فإنّ إخبار الظالم بها نظير جعلها في غير حرز، ينافي الحفظ المأمور به فيكون متعدّياً، فلا يرد عليه ما في «الجواهر» من الشكّ في تحقّق الضمان،5.

ص: 34


1- مسالك الأفهام: ج 5/82.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/205.
3- جامع المقاصد: ج 6/35.

ولو للشكّ في الاندراج تحت ما جعلوه عنواناً له من التعدّي والتفريط والتضييع ونحوها، لأنّ عموم على اليد ونحوه مخصوصٌ بقاعدة الايتمان، إذ لا شكّ في عدم صدق الحفظ، ومعه يصدق التعدّي أو التفريط لتركه ما وجبَ عليه، وقاعدة الايتمان مختصّة بغير المفرّط والمتعدّي والمضيّع.

نعم، لو تمّ ما ذكره من الشكّ في صدق العنوان الخارج، تمّ ما أفاده، من جهة أنّ التمسّك بعموم على اليد حينئذٍ من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، وهو لايجوز، فيتعيّن الرجوع إلى أصالة البراءة عن الضمان.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر فيما لو أقرّ له من غير أنْ يكون الإقرار لدفع الضرر أو الحرج أو ما شاكل من موانع التكليف يكون ضامناً، وإنْ كان قرار الضمان على الظالم.

***

ص: 35

ويجبُ ردّها عقلاً على المودع، أو إلى ورثته بعد موته،

وجوب رَدّ الوديعة على المودع

المسألة الرابعة: (ويجب ردّها) أي الوديعة (عقلاً على المودع، أو إلى ورثته بعد موته) مع المطالبة في أوّل أوقات الإمكان، بلا خلافٍ في الوجوب.

وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)(1)، وقد تقدّم ما عن «التذكرة» من قيام إجماع المسلمين كافّة عليه.

ويشهد به: ما دلّ من الكتاب والسُنّة على الأمر بأداء الأمانة إلى أهلها(2)المتقدّم في أوّل هذا الفصل، وما دلّ على عدم جواز وضع اليد على مال الغير بغير إذنه(3)، والفرض عدمه هنا لانقطاع الإذن بالمطالبة.

وأمّا كون الوجوب بحكم العقل أيضاً، فتقريبه ما مرّ في أوّل هذا الفصل.

أقول: ولا يخفى أنّه لا ريب في تقيّد هذا الحكم - كسائر الأحكام الشرعيّة - بالإمكان العقلي، إنّما البحث عن أنّه هل يعتبر الإمكان الشرعي كما صرّح به في «المسالك»(4) وغيرها، لأنّ المانع الشرعي كالمانع العقلي أم لا؟

الظاهر ذلك، إلّاأنّ كون حكم شرعي آخر مانعاً عن ذلك يتوقّف على وجود أحد المرجّحات لباب التزاحم.

ص: 36


1- جواهر الكلام: ج 27/122.
2- سورة النساء: آية 3، وسائل الشيعة: ج 19/71 باب: (وجوب أداء الوديعة إلى البِرّ والفاجر).
3- وسائل الشيعة: ج 5/120 باب: (حكم ما لو طابت نفس المالك بالصلاة في ثوبه).
4- مسالك الأفهام: ج 5/127.

وبعبارة اُخرى : بعد رعاية قواعد ذلك الباب، وتقديم ما يُزاحم ذلك، فإنّه لا ريب في سقوطه.

وفي «المسالك»(1): (المراد بالإمكان ما يعمّ الشّرعي والعقلي والعادي).

والظاهر أنّ مراده بالإمكان العادي، ما لو لم يكن في الرّد مشقّة، وعليه فدليل اعتباره ما دلّ على رفع العُسر والحرج.

أقول: ومنه يظهر الحكم في جملةٍ من الفروع المذكورة في المقام، مثل ما لو كان في الحمّام فطلب المالك منه الرّد، ولا يتمكّن منه إلّابخروجه من الحمّام، وأنّه يجوز له أن يكمل إستحمامه إذا كان في عدمه المشقّة، ونحو ذلك غيره من الفروع، فإنّ الضابط الكلّي هو اللّزوم إنْ لم يكن فيه حرج ومشقّة، وإلّا فيجوز التأخير.

وهل التأخير ليشهد عليه عذرٌ أم لا، أم يفصّل بين ما إذا كان لصاحب المال بيّنة على كون ماله عنده فله ذلك، وبين غيره فلا؟

أقوالٌ ، خيرها أوسطها، بعد فرض أنّ قوله في الرّد مقبولٌ ، فلا حاجة إلى البيّنة.

وهل يجبُ الرّد حتّى لو كان المالك ممّن يجوز تملّك ماله، كما لو كان للودعي عنده مالٌ هو غاصبٌ له، وأراد المقاصّة من الوديعة، أو كان ماله فيئاً للمسلمين، أو كالأموال المباحة كما إذا كان المودع كافراً حربيّاً؟

وجهان، صرّح جمعٌ من الأصحاب بالأوّل(2)، لكن قال صاحب «الجواهر» رحمه الله(3):5.

ص: 37


1- مسالك الأفهام: ج 5/97.
2- التحرير: ج 2/272.
3- جواهر الكلام: ج 27/125.

(إنْ لم يكن إجماعٌ على وجوب الرّد حتّى على الحربي، وحتّى على من عليه حَقّ المقاصّة وغيرهم، أمكن المناقشة فيه)، انتهى .

أمّا المقاصّة من الوديعة: ففيها روايتان:

إحداهما: دالّة على الجواز، وهي:

1 - صحيحة أبي العبّاس البقباق: «أنّ شهاباً ما رأه في رجلٍ ذهب له بألف درهم واستودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العبّاس فقلت له: خذها مكان الألف التي أخذ منك، فأبى شهاب.

قال: فدخل شهاب على أبي عبداللّه عليه السلام فذكر ذلك، له فقال عليه السلام: أمّا أنا فأحبّ أن تأخذ وتحلف»(1).

2 - وخبر علي بن سليمان، قال: «كتبتُ إليه: رجلٌ غصب مالاً أو جارية ثمّ وقع عنده مالٌ بسبب وديعة أو قرضٍ مثل ما خانه أو غصبه، أيحلّ له حبسه عليه أم لا؟

فكتب عليه السلام: نعم، يحلّ له ذلك إنْ كان بقدر حقّه، وإنْ كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه ويُسلّم الباقي إليه إنْ شاء اللّه»(2).

الرواية الثانية: ما يدلّ على المنع:

1 - صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قلت له: الرّجل يكون لي عليه حَقّ فيجحد منه، ثمّ يستودعني مالاً، ألي أن آخذ مالي عنده ؟ قال: لا،7.

ص: 38


1- التهذيب: ج 6/347 ح 100، وسائل الشيعة: ج 17/272 ح 22500.
2- التهذيب: ج 6/349 ح 106، وسائل الشيعة: ج 17/275 ح 22507.

هذه الخيانة»(1).

2 - وخبر ابن أخي الفضيل بن يسار، قال:

«كنتُ عند أبي عبد اللّه عليه السلام ودخلت امرأة، وكنت أقرب القوم إليها، فقالت لي:

اسأله، فقلت: عن ماذا؟ فقالت: إنّ ابني مات وترك مالاً كان في يد أخي فأتلفه، ثمّ أفاد مالاً فأودعنيه، فلي أن آخذ منه بقدر ما اتلفه من شيء؟

فقال عليه السلام: لا، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»(2).

والجمع بين الطائفتين يقتضي البناء على الكراهة، والمسألة محرّرة مستوفاة في أواخر كتاب القضاء فراجع(3)، ونُسب القول بالجواز هناك إلى أكثر المتأخّرين، وفي «ملحقات العروة»(4): (الظاهر أنّه المشهور).

وأمّا وجوب الرّد على الحربي: فهو الظاهر من النصوص المتقدّمة المتضمّنة للرّد: «وإنْ كان المودع مجوسيّاً، أو «كان قاتل ولد الأنبياء»، أو أنّه: «لو أئتمني قاتل عليّ عليه السلام على السّيف لأديت إليه الأمانة».

أقول: ولا منافاة بينها وبين ما دلّ على حليّة أمواله، كي يقال إنّ النسبة عمومٌ من وجه، فإنّه يمكن أنْ يكون الرّد واجباً من جهة كونه ردّاً للأمانة، وإنْ كان المال مع قطع النظر عن هذا العنوإنْ كان يحلّ أخذه، هذا على تقدير عدم القول بأنّ ماله فيءٌ للمسلمين، وإلّا فالوديعة باطلة كما لا يخفى .9.

ص: 39


1- الفقيه: ج 3/186 ح 3697، وسائل الشيعة: ج 17/275 ح 22509.
2- التهذيب: ج 6/348 ح 102، وسائل الشيعة: ج 17/273 ح 22501.
3- فقه الصادق: ج 38/296.
4- العروة الوثقى: ج 6/719.

إلّا أنْيكون غاصباً، فيردّها على مالكها، ومع الجهل لقطة، يتصدّق بها إنْ شاء،

وكيف كان، فلا إشكال في وجوب الرّد على من لم يكن كذلك (إلّا أنْ يكون) المودع (غاصباً) لها، فإنّه لا يجوز الرّد إليه، لعدم تحقّق عنوان الوديعة شرعاً، بل يمنع عنها، (فيردّها على مالكها) إنْ عرفه، (ومع الجهل) به تكون هي (لقطة)، لخبر حفص بن غياث - المنجبر ضعفه بعمل الأكثر - عن مولانا الصادق عليه السلام:

«عن رجلٍ من المسلمين أودعه رجلٌ من اللّصوص دراهم أو متاعاً، واللّص مسلم، هل يرد عليه ؟

فقال: عليه السلام: لا يردّه، فإنْ أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل، وإلّا كان في يده بمنزلة اللُّقطة يصيبها فيعرّفها حولاً، فإنْ أصاب صاحبها ردّها عليه وإلّا تصدّق بها، فإنْ جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغُرم، فإن اختار الأجر فله الأجر، وإنْ اختار الغُرم غَرم له وكان الأجر له»(1).

أقول: والأمر بالتصدّق بها وإنْ كان في نفسه ظاهراً في الوجوب، إلّاأنّه حيث رتّب ذلك على جعله بمنزلة اللُّقطة، فعلى القول في اللُّقطة بجواز التملّك، يُحمل الأمر فيه على إرادة بيان أحد الأفراد أو على الترخيص، ولذلك قال المصنّف رحمه الله: (يتصدّق بها إنْ شاء).

وعليه، فما عن «الإرشاد»(2) وتبعه الشهيد الثاني رحمه الله(3) من التخيير بين الصدقة بها مع الضمان، وإبقائها أمانة، لا ينافي ذلك.9.

ص: 40


1- الكافي: ج 5/308 ح 21، وسائل الشيعة: ج 25/463 ح 32361.
2- إرشاد الأذهان: ج 1/442.
3- مسالك الأفهام: ج 5/99.

إلّا أن تمتزج بمال الظالم فيردّها عليه

وكيف كان، فلا يصغى إلى ما عن الحلبي(1)، والحِلّي(2) من وجوب الرّد إلى إمام المسلمين، ومع التعذّر تبقى أمانة، ثمّ يوصى بها إلى عدل إلى حين التمكّن من المستحقّ .

وبالجملة: فبعد ما عرفت من انجبار ضعف الخبر بالعمل، لا ينبغي الترديد في أنّ له أن يتصدّق بها (إلّا أنْ تمتزج بمال الظالم، فيردّها عليه) إنْ لم يمكن للمستودع تمييز المالين ولو بالقسمة، عند الأصحاب على ما نُسب إليهم، وعن «الغُنية»(3)و «السرائر»(4) الإجماع عليه، تقديماً لاحترام المال المعلوم مالكه على غيره الذي لايمكن معرفته ليردّ على صاحبه.

ولكن يشكل ذلك: بأنّ المال المفروض مركّبٌ من ما يجب ردّه إلى صاحبه، وما يتعيّن التصدّق به عن مالكه، فتقديم أحدهما يحتاج إلى دليل.

وعليه، فما أفاده في «المسالك»(5) - وتبعه عليه غيره - من أنّ الأوفق بالقواعد ردّه على الحاكم مع إمكانه ليقسمه ويردّ على الغاصب ماله، هو المتّجه، ومع عدم إمكانه يقوم عدول المؤمنين مقامه كما هو الحال في سائر الاُمور الحسبيّة.

***0.

ص: 41


1- الكافي في الفقه: ص 231.
2- السرائر: ج 2/435.
3- غنية النزوع: ص 284.
4- السرائر: ج 2/436.
5- مسالك الأفهام: ج 5/100.

والقولُ قولُ الوَدَعي في التلف، وعدم التفريط، والرّد والقيمة مع يمينه، وقولُ المالك على أنّه دينٌ لا وديعة مع التلف،

فروع التنازع في الوديعة

المسألة الخامسة: في فروع التنازع، وملخّص القول فيها أنّه:

تارةً : يدَّعي الودعي تلف المال، والمودع ينكره.

واُخرى : يتوافقان على التلف، ولكن المودع يدّعي التفريط، والودعي ينكره.

وثالثة: يدّعي المستودع رَدّ المال، والمودع ينكر ذلك.

ورابعة: يتوافقان على الوديعة وعدم الرّد والتلف مع التفريط، ويختلفان في القيمة.

وخامسة: يتنازعان في أنّ المال التالف هل هو كان وديعةً فلا ضمان، أم كان قرضاً فعليه عوضه ؟

قال المصنّف رحمه الله: (والقولُ قولُ الوَدَعي في التلف، وعدم التفريط، والرّد والقيمة مع يمينه، وقولُ المالك على أنّه دينٌ لا وديعة مع التلف).

أقول: فهاهنا فروع خمسة:

الفرع الأوّل: إذا اعترفا بالوديعة، وادّعى الوَدعي التلف وأنكره المودع، فالقول قول الودعي على المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة(1)، سواء أسنده إلى سبب أو لا، وسواءٌ أكان ظاهراً كالغرق والحرق أو خفيّاً كالسرقة ونحوها، بل عن

ص: 42


1- رياض المسائل: ج 9/166.

«التذكرة»(1) نسبته إلى علمائنا أجمع، والوجه في ذلك أنّه أمينٌ .

وعدم تصديقه في دعوى التلف، يندرج تحت عنوان اتّهام المؤتمن، وقد ورد أنّه: «ليس لك أن تتّهم من ائتمنته»(2).

أضف إليه الخبر المرسل الذي رواه الشيخ الصدوق في «المقنع» عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن المودع إذاكان غير ثقة، هل يقبل قوله ؟ قال عليه السلام: نعم، ولايمين عليه»(3).

فما عن الشيخ في «المبسوط»(4) من أنّه: (لا يُقبل قوله إلّابالبيّنة في التلف بأمرٍ ظاهر لعموم البيّنة).

مردودٌ بالشذوذ، والعموم المزبور يجب تخصيصه بما مرّ كما أفاده بعضهم.

أقول: وهل يقبل قوله بلا يمين كما عن الصدوق(5)، والشيخ في «النهاية»(6)، وابن حمزة(7)، بل عن «الفقيه»(8): (قضى مشايخنا رضي اللّه عنهم على أنّ قول المودع مقبولٌ فإنّه مؤتمنٌ ولا يمين عليه).

أم يعتبر اليمين لقاعدة انحصار ثبوت الدعوى بالبيّنة واليمين كما في «الجواهر»(9)؟ وجهان:8.

ص: 43


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/198.
2- الكافي: ج 5/298 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/87 ح 24215.
3- المقنع: ص 386.
4- المبسوط: ج 2/376.
5- نسبه إليه في مختلف الشيعة: ج 6/61، علماً أنّ عبارته موجودة في بعض النسخ الخطيّة للمقنع.
6- النهاية: ص 436.
7- الوسيلة: ص 275.
8- الفقيه: ج 3/305.
9- جواهر الكلام: ج 27/148.

الظاهر أنّه لا حاجة إلى اليمين، إلّاعند التنازع عند الحاكم، ولعلّ القائلين بعد الحاجة إليه نظرهم إلى غير باب الخصومة عند الحاكم، كما أنّ نظر صاحب «الجواهر» رحمه الله إلى صورة النزاع عنده.

الفرع الثاني: إذا ادّعى الوَدَعي الرّد وأنكره المالك، فالمشهور أنّه يقبل قوله(1)، وعن جماعة(2) الإجماع عليه، بل أرسلوه في غير المقام إرسال المسلّمات، ووجهه ظاهر ممّا قدّمناه.

الفرع الثالث: لو اتّفقا على التلف، ولكن المالك ادّعى التفريط وأنكره الوَدَعي، فلا إشكال في تقدّم قول الوَدَعي، لما مرّ، ولأنّ ما دلّ على الضمان بالتعدّي والتفريط يُخصِّص ما دلّ على عدم ضمان الأمين، وبعد الجمع بينهما يكون الخارج عن تحت ما دلّ على الضمان مطلقاً، هو الأمين غير المفرّط وغير المتعدّي، فأصالة عدم التفريط والتعدّي تثبت عنوان الخاص، فيثبت حكمه وهو عدم الضمان.

الفرع الرابع: لو اختلفا في القيمة:

فعن الشيخ رحمه الله(3): أنّ القول قول المالك، محتجّاً بأنّه بالتفريط خرج عن الأمانة، فلا يكون قوله مسموعاً، وقيل إنّ به رواية.

وفي المتن، و «الشرائع»(4)، و «المسالك»(5)، و «الجواهر»(6): أنّ القول قولُ5.

ص: 44


1- راجع شرائع الإسلام: ج 2/406.
2- رياض المسائل: ج 9/166.
3- النهاية: ص 437.
4- شرائع الإسلام: ج 2/407.
5- مسالك الأفهام: ج 5/127.
6- جواهر الكلام: ج 27/155.

الغارم مع يمينه، ونسبه في «المسالك» إلى الأكثر، وهو الأظهر، لأصالة البراءة عن الزائد، وخروجه عن الأمانة لا يُخرجه عن حكم المنكِر، والخبر لم يصل إلينا.

الفرع الخامس: لو قال المالك: (أقرضتُك العين)، وقال القابض: (أودعتنيها)، والعينُ تالفة ؟

فالظاهر - كما أفاده المصنّف رحمه الله وغيره(1) - أنّ القول قول المالك، لموثّق إسحاق ابن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام:

«عن رجلٍ استودع رجلاً ألف درهم فضاعت، فقال الرّجل كانت عندي وديعة، وقال الآخر إنّما كانت لي عليك قرضاً؟

فقال عليه السلام: المال لازمٌ له، إلّاأنْ يقيم البيّنة أنّها كانت وديعة»(2).

وموثّقه الآخر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل قال لرجلٍ لي عليك ألف درهم، فقال الرّجل لا ولكنّها وديعة ؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: القول قول صاحب المال مع يمينه»(3).

ودلالتهما واضحة، فيخرج عن القاعدة بهما.

أقول: قد تقدّم الكلام في تطبيق ذلك على القاعدة في كتاب الإجارة، وثبت أنّ مقتضى القاعدة عدم الضمان، للشكّ فيه والأصل عدمه، والتمسّك بقاعدة على اليد لإثباته فيه محذوران:

1 - توافقهما على عدم الضمان الثابت بها، فإنّ المالك يدّعي ضمان القرض،7.

ص: 45


1- العروة الوثقى: ج 6/667.
2- الكافي: ج 5/239 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/85 ح 24212.
3- الكافي: ج 5/238 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/404 ح 23937.

والقابض ينكر الضمان رأساً.

2 - مع الإغماض عن ذلك، وتسليم كون ضمان القرض بعينه ضمان المثل أو القيمة، يكون التمسّك بالقاعدة تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة، لفرض خروج الوديعة عنها، والشكّ في كونه وديعة أو قرضاً، فالمتعيّن هو الرجوع إلى أصالة البراءة، فالقاعدة تقتضي تقديم قول القابض، ولكن يتعيّن تقييدها بالخبرين المتقدّمين.

وعليه، فالأظهر تقديم قول المالك.

***

ص: 46

الفصل الثامن: في العارية

(الفصل الثامن: في العارية)

اشارة

قال المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(1): (العارية - بتشديد الياء - عقدٌ شُرِّع لإباحة الانتفاع بعين من الأعيان على وجه التبرّع، وشدّدت الياء كأنّها منسوبة إلى العار، لأنّ طلبها عار، قاله صاحب «الصحاح». وقال غيره: منسوبةٌ إلى العارة وهي مصدر.

إلى أنْ قال: وقيل إنّها مأخوذة من عار يعير إذا جاء وذهب)، انتهى .

أقول: لا خلاف ولا ريب في أنّ العارية مشروعة، ويشهد بها:

- مضافاً إلى ذلك، وإلى أنّ عليها بناء العقلاء، وأنّ الشارع الأقدس لم ينه عنها، وإلى قاعدة السلطنة(2) وأدلّة الهبة(3) الشاملة لهبة المنافع:

من الكتاب: قوله تعالى (وَ يَمْنَعُونَ اَلْماعُونَ ) (4).

فعن «مجمع البحرين»(5): (الماعون اسمٌ جامعٌ لمنافع البيت، كالقِدْر والدَّلو والمِلْح والماء والسِّراج والخمرة، ونحوذلك ممّا جرت العادة بعاريته).

ص: 47


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/209.
2- البحار: ج 2/272 ح 7.
3- وسائل الشيعة: ج 19/230 باب: (أنّ من وهب ما في الذمّة لغيره من هو عليه ثمّ وهبه لمن هو عليه صحّت الهبة الثانية).
4- سورة الماعون: الآية 7.
5- مجمع البحرين: ج 6/316.

وفي حديث المناهي: «نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يمنع أحدٌ الماعون جاره، وقال:

من مَنَع الماعون جاره منعه اللّه خيره يوم القيمة، ووكّله إلى نفسه، ومن وكّله إلى نفسه فما أسوأ حاله»(1).

وروى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام في الآية الشريفة: «هو القرض يقرضه، والمعروف يصنعه، ومتاع البيت يعيره»(2).

ونحوه خبر سماعة(3).

ومن السُنّة: نصوص مستفيضة:

منها: ما تقدّم.

ومنها: النصوص المتضمّنة لاستعارة النبيّ صلى الله عليه و آله من صفوان بن اُميّة سبعين درعاً حطميّة، فقال: «أغصبٌ أم عارية ؟ قال صلى الله عليه و آله: بل عارية مؤدّاة»(4).

ومنها: غير تلكم من الأخبار، وسيأتي طرفٌ منها.

ثم الظاهر كما صرّح به غير واحدٍ(5) أنّها من العقود، وتفتقر إلى الإيجاب والقبول، والكلام فيما يعتبر في عقدها وما لا يعتبر هو الكلام في عقد الوديعة، فراجع ما ذكرناه فيه(6).

أقول: وتمام الكلام في هذا الفصل بالبحث في مقامات.د.

ص: 48


1- وسائل الشيعة: ج 9/51 ح 11497.
2- الكافي: ج 3/499 ح 9، وسائل الشيعة: ج 9/47 ح 11488.
3- وسائل الشيعة: ج 9/46 ح 11487.
4- الفقيه: ج 3/302 ح 4086، وسائل الشيعة: ج 19/95 ح 24234.
5- راجع تحرير الأحكام: ج 3/210.
6- صفحة 13 من هذا المجلّد.

كلّ عينٍ مملوكة يصحّ الانتفاع بها مع بقائها، صَحّ إعارتها

ضابط العين المستعارة

المقام الأوّل: في البحث عن العين المستعارة:

وقالوا في ضابطها: إنّ المستفاد من الفتاوى ومعقد الإجماع، ونفي الخلاف، والاقتصار على المتيقّن من إطلاق النّص عدا ما خرج ممّا يأتي، أنّها (كلّ عينٍ مملوكة يصحّ الانتفاع بها مع بقائها) منفعة معتدّاً بها عند العقلاء، كالثياب والدّراهم والدّار والدابّة وما شاكل، فإنْ اجتمعت الشرائط (صَحّ إعارتها).

وعليه، فما لا يصحّ الانتفاع به شرعاً - كأواني الذهب والفضّة للأكل والشرب، والجواري للاستمتاع - لا يجوز إعارته، وهو واضح.

كما أنّ ما يتلف بالانتفاع به كالأطعمة والأشربة ونحوها، لا يصحّ إعارته للانتفاع بها بالأكل والشرب، بلا خلافٍ ولا إشكال في ذلك.

وقد يقال: إنّه لا ثمرة في النزاع في ذلك، إذ يحلّ الانتفاع بالأعيان المشار إليها بما يوجب إتلافها، مع إحراز رضا المعير بإتلاف العين، بقوله: (أعرتكه) مع القرينة، فإنّ المعيار في جوازه هو رضاه به، وقد حصل في محلّ الفرض، وإنْ هو إلّاكالهبة وإنْ عبّر عنها بلفظ العارية.

وأجاب عنه صاحب «الرياض»(1): بأنّه حيثُ لا يعلم الرّضا بالإتلاف إلّابه

ص: 49


1- رياض المسائل: ج 9/184.

اتّجه ما ذكروه، لاشتراط استفادته منه بدلالته عليه ولو بالالتزام. ودلالة لفظ العارية بمجرّده على الإتلاف فاسدة، لعدم استنادها إلى عرفٍ أو لغة.

وأجاب عن الإيراد في «الجواهر»(1): بترتّب الضمان على الإتلاف المزبور، وإنْ كان بالإذن، إلّاأنّها بعنوان العارية، زعماً منه عموم موضوعها أو تشريعاً، ودعوى كونه حينئذٍ هبة أو إباحة وإنْ كان الدفع بهذا العنوان واضحة البطلان، إلّا أنْ ينصب قرينة على إرادتهما من اللّفظ المزبور.

ثمّ قال: (نعم قد يتوقّف في ضمانه من غير تعدٍّ ولا تفريط، من قاعدة ما لايُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده، ومن خروجه عن أصل موضوع العارية حتّى الفاسدة، ولعلّه الأقوى في النظر).

أقول: والتحقيق أنْ يقال:

إنّه لا إشكال في اعتبار كون العين تبقى مع الانتفاع بها في العارية على ما يشهد به العرف واللّغة في هذه اللفظة.

وأيضاً: لا إشكال في أنّه يجوز إتلاف الأعيان التي تتلف بالانتفاع بها، مع إحراز رضا أربابها من أي طريق أُحرز ذلك، وإنْ لم يكن المبرز كاشفاً نوعيّاً عنه، إذ ليست الإباحة من قبيل العقود والإيقاعات المعتبر فيها كون مبرزاتها كواشف عنها بحسب المتفاهم العرفي، بل المعيار في هذا المقام إحراز الرّضا النفساني، ولو لم يكن له كاشفٌ ، ولا ضمان إن أُحرز رضاه بالإتلاف مجّاناً.

وأيضاً: لا ضمان مع التلف في موارد الأمانة المالكيّة بالمعنى الأعمّ ، وهي0.

ص: 50


1- جواهر الكلام: ج 27/170.

التسليط عن الرّضا، كما مرّ في الوديعة.

فعلى هذا، فيرد على سيّد «الرياض» رحمه الله: أنّه وإنْ لم يكن لفظ العارية دالّاً على الرّضا بالإتلاف، إلّاأنّه لا تعتبر دلالته، لأنّ المعيار كشف الرّضا، ولو بسبب ما لا يكون دالّاً عليه عرفاً ولا لغةً .

ويرد على ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله أوّلاً: إنّ عدم الضمان مع الإتلاف الذي أُحرز رضا صاحب المال بإتلافه مجّاناً، لا يكون كعناوين العقود متوقّفاً على كون اللّفظ المبرز كاشفاً، مع أنّه إنْ استشكل في اللّفظ المزبور، لا مجال للإشكال في دفع العين بعده، فإنّه بقصد الإباحة على الفرض، ويكفي ذلك في عدم الضمان كما هو الشأن في جميع الاباحات لا بعوض.

ويرد على ما أفاده ثانياً: أنّه لو تلفت العين لا وجه للضمان بعد كونها أمانة مالكيّة بالمعنى الأعمّ .

والصحيح في الجواب عن الإيراد أنْ يقال: إنّه تظهر الثمرة فيما لو أعاره عيناً لها منفعة، لا يستلزم استيفائها تلف العين، ومنفعةً تستلزم ذلك، فإنّه على الضابط المذكور لا يجوز أن يستوفي المنفعة المستلزمة للتلف إنْ لم يحرز رضاه بذلك.

أقول: ثمّ إنّ تمام الكلام في هذا المقام بالبحث في فروع.

إعارة الغنم للانتفاع بلبنها

الفرع الأوّل: لا خلاف ظاهراً في أنّه يجوز استعارة الشّاة للحلب - وهي المسمّاة بالمِنْحة بالكسر وأصلها العطيّة - وعن بعض متأخّري المتأخّرين(1) الإجماع عليه.

ص: 51


1- جواهر الكلام: ج 27/172.

واستدلّ له في «التذكرة»(1): باقتضاء الحكمة إباحته، لأنّ الحاجة تدعو إلى ذلك، والضرورة تبيح مثل هذه الأعيان كما في استئجار الظئر، وقد روى العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «المنحة مردودة»(2) والمنحة هي الشّاة.

ومن طرق الخاصّة ما رواه الحلبي - في الحَسَن - عن مولانا الصادق عليه السلام: «في الرّجل يكون له الغنم يعطيها بضريبة سنة شيئاً معلوماً أو دراهم معلومة من كلّ شاة كذا وكذا في كلّ شهر؟

قال عليه السلام: لا بأس بالدراهم، ولستُ أحبّ أنْ يكون بالسّمن»(3).

ثمّ ذكر صحيح عبد اللّه بن سنان(4) وهو نحو حَسن الحلبي، وقال: «وإذا جاز ذلك مع العوض فبدونه أولى ».

وفي «المسالك»(5): (وجواز إعارة ذلك ثابتٌ بالنَّص على خلاف الأصل)، والظاهر أنّ نظره - كما يظهر من ذيل كلامه - إلى النبويّ المتقدّم.

وأضاف بعض متأخّري المتأخّرين(6) إلى الوجوه المشار إليها قاعدة السلطنة، وكونها كالوكالة في الانتفاع.

ولكن الحاجة لا تصلح لإثبات مشروعيّة هذه العارية المخالفة للضابط المتقدّم، مع ارتفاع الحاجة بإيقاع معاملة اُخرى أو إباحة بلا عوض.2.

ص: 52


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/210.
2- جمع الجوامع: ج 5/28.
3- الكافي: ج 5/223 ح 1، وسائل الشيعة: ج 17/350 ح 22724.
4- الكافي: ج 5/224 ح 4، وسائل الشيعة: ج 17/350 ح 22727.
5- مسالك الأفهام: ج 5/145.
6- جواهر الكلام: ج 27/172.

أقول: وفي جميع هذه الوجوه نظرٌ:

أمّا استيجار الظئر: فقد مرّ الكلام فيه في كتاب الإجارة.

وأمّا النبويّ : فغير حجّة.

وأمّا الخبران: فقد أفاد المصنّف(1) نفسه في كتاب البيع أنّهما متضمّنان لبيان مشروعيّة معاملة خاصّة، ليست ببيعٍ ولا إجارة، وقد تقدّم منّا أنّ تلك من قبيل الإباحة بالعوض، وهي معاملة مستقلّة مشروعة، فإنْ استفيد منهما شيءٌ فهو جواز الإباحة لا بالعوض بل مجّاناً، وهو ممّا لا كلام فيه، لكنّها ليست عارية.

وأمّا قاعدة السلطنة: فهي لا تقتضي مشروعيّة ما لا يكون مشروعاً، بل تدلّ على أنّ للمالك الإباحة مجّاناً، ولذا قيل إنّ الإنصاف أنّ المِنحة ليست من العارية في شيء، بل إنّما هي من قبيل الإباحة، وفتوى الأصحاب ليست إلّاجوازها، ولا تصريح في كلمات أكثرهم بكونها عارية.

وعليه، فلا مورد للتمسّك بالإجماع لمشروعيّة العارية في هذا المورد.

أقول: ولكن مع ذلك كلّه، يمكن توجيه الاستعارة في هذا المورد وجعله من قبيل العارية بوجهين:

أحدهما: أنّ المنفعة أمرٌ عرفي، وربما يعد عرفاً بعض الأعيان منفعة لعين اُخرى كاللّبن للشاة، وعليه فيجوز استعارة الشّاة للبنها وماشاكل، فإنّ العين المستعارة هي الشّاة وهي لا تتلف، وما يتلف إنّما هو من قبيل المنفعة وليست هي متعلّقة للعارية.

ثانيهما: أنّ العين المستعارة للانتفاع بها هي الشّاة، والاستيفاء يستتبع تلف5.

ص: 53


1- نهاية الإحكام: ج 2/535.

العين وهي اللّبن، ولا محذور في ذلك، فإنّه في أغلب موارد العارية يكون الاستيفاء مسلتزماً لتلف مقدارٍ من العين.

وعلى الجملة: أنّ الممنوع استعارة اللّبن، وأمّا استعارة الشّاة للانتفاع بلبنها فلا محذور فيها، ولا تكون منافية لما قدّمناه من الضابط.

فالإنصاف أنّه لا محذور في الالتزام بكون تلك من قبيل العارية، نعم يمكن تصحيحها بالإباحة أيضاً.

وبما ذكرناه يظهر حكم استعارة كلّ حيوان له منفعة كالفحل الضراب، المستلزم استيفائها إتلاف عين اُخرى .

ويتّجه التعدّي إلى غير الشّاة كما هو المتعارف في هذا الزمان في البقر، وإلى غير اللّبن كالصوف والشعر والوَبَر، واللّه العالم.

جواز استعارة الأرض للزرع

الفرع الثاني: لا كلام في جواز استعارة الأرض للزرع ولدفن الميّت، إنّما الكلام في موردين:

المورد الأوّل: في أنّه في إعارة الأرض للزرع هل يجوز للمعير الرجوع قبل إداركه أم لا؟

وعلى الأوّل: هل له أن يجبر المستعير بقلع الزّرع، أم ليست له ذلك ؟

وعلى الإجبار: هل عليه الأرش أم لا؟

فيه أقوال، وقد مرّ تنقيح القول في ذلك في باب المزارعة(1).

ص: 54


1- تقدّم البحث عن المزارعة في الجزء 28.

المورد الثاني: في إعارة الأرض لدفن الميّت، هل للمعير إجباره على إبعاد الميّت عن أرضه من خلال نبش القبر وإخراجه، أم ليس له ذلك ؟

المشهور بين الأصحاب(1) هو الثاني، بل في «الجواهر»(2): (بلا خلافٍ أجده فيه بل الإجماع بقسميه عليه)، وعلى ذلك حُمل كلام من ادّعى الإجماع على لزوم هذه العارية، لا أنّ المراد عدم جواز فسخها، قال فيها: (وتظهر الثمرة فيما لو اتّفق نبشه من نابش، فإنّ إعارته حينئذٍ تحتاج إلى إذن جديد، أو بالاُجرة، بناءً على استحقاقها في مثله وفي غير ذلك)، انتهى .

وكيف كان، فلا وجه لللزوم لولا الإجماع، لأنّ العارية جائزة، وعروض اللّزوم يتوقّف على دليل أو انطباق عنوانٍ آخر عليها، كاشتراط عدم فسخها في ضمن عقد لازم وما شاكل، ولا شيء منهما في المقام.

وأمّا عدم جواز النبش: فقد استدلّ له بأنّه مقتضى حرمة النبش المعلوم عدم صلاحيّة قاعدة السلطنة لمعارضتها.

أقول: لولا الإجماع أمكن أنْ يقال إنّ مدرك حرمة النبش مطلقاً هو الإجماع، والمتيقّن منه في ما لم يوجب النبش هتك حرمة الميّت غير المقام، كيف وقد جاز النبش لجملةٍ من الاُمور التي يكون الجواز في المقام أولى من الجواز فيها، والذي يُسّهل الخطب تسالم الأصحاب على عدم جوازه في خصوص المقام.

الفرع الثالث: لا يجوز إجارة العين المستعارة، لأنّ منافعها ليست مملوكة للمستعير، وإنّما له استيفائها، وقد مرّ أنّ حقيقة الإجارة تمليك المنفعة أو العمل.9.

ص: 55


1- راجع مسالك الأفهام: ج 5/134، رياض المسائل: ج 9/173.
2- جواهر الكلام: ج 27/179.

وهل يجوز للمستعير إعارتها؟

الظاهر ذلك مع إطلاق الإذن، إذ لم يدلّ دليلٌ على اعتبار مملوكيّة العين في صحّة العارية، وعليه فكون العارية الثانية من المستعير أو من المعير، تابعٌ لكيفيّة الإذن وكيفيّة الإعارة.

الفرع الرابع: إذا استعار أرضاً للغرس أو الزّرع أو البناء:

فهل للمستعير أن يستظلّ بشجرها في نومٍ أو يقظة ؟

أم لا يجوز، كما عن الشيخ في «المبسوط»(1)، ووافقه في الجملة في «التذكرة»(2)، و «القواعد»(3)، و «جامع المقاصد»(4)، و «المسالك»(5)، و «الروضة»(6) على المحكى ؟ وجهان:

وجه الأوّل: أنّ هذه الانتفاعات من توابع مثل هذه العارية عرفاً.

ووجه الثاني: أنّ الاستعارة وقعت لمنفعة معيّنة، فلا يتعدّاها.

أقول: لقد أطال البحث في ذلك في «المسالك» مع عدم الاحتياج إليه، فإنّ جواز ذلك وعدمه تابعان لكيفيّة العارية، ومقدار الإذن المستفاد منها، وعليه فلا يمكن جعل ضابط كلي لذلك، واللّه العالم.

***0.

ص: 56


1- المبسوط: ج 3/53.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 13/104.
3- قواعد الأحكام: ج 2/198.
4- جامع المقاصد: ج 6/69.
5- مسالك الأفهام: ج 5/149.
6- شرح اللّمعة: ج 4/260.

بشرط كون المُعير جائز التصرّف

المُعِير والمُستَعير

المقام الثاني: في المُعير والمستعير.

أمّا الأوّل: فلا خلاف في أنّه إنّما تصحّ العارية (بشرط كون المعير جائز التصرّف) أي بالغاً عاقلاً غير محجورٍ عليه، لرفع القلم عن الصبيّ والمجنون(1) وعدم جواز أمرهما(2).

نعم، يجوز للصبي أن يعير بإذن الوليّ ، لما مرّ في كتاب البيع(3) من عدم الدليل على سلب عبارته، وغاية ما يستفاد من الأدلّة عدم جواز استقلاله في التصرّف المعاملي، وأمّا مع إذن الوليّ فتصحّ معاملاته، وكذلك العارية.

فما عن «الإرشاد»(4)، و «التحرير»(5)، و «اللّمعة»(6) وغيرها من أنّه: لو أذن الوليّ للطفل صَحّ أن يُعير مع المصلحة، متين.

وعن «السرائر»(7) تقييده بالمميّز، إذ الإذن لا يجعل المسلوب غير المسلوب، وهو حَسنٌ إنْ لم تقم السيرة على عدم اعتبار التمييز في خصوص المقام، ولكنّها غير

ص: 57


1- المستدرك: ج 1/84 ح 39.
2- وسائل الشيعة: ج 17/360 باب (اشتراط البلوغ والعقل والرشد في جواز البيع والشراء).
3- فقه الصادق: ج 23/72.
4- إرشاد الأذهان: ج 1/439.
5- تحرير الأحكام: ج 3/210.
6- اللّمعة الدمشقيّة: ص 134.
7- السرائر: ج 2/430.

وينتفعُ المستعيرُ على العادة،

قائمة، وإنّما يتصرّف فيما أتاه الصبيّ غير المميّز من جهة أنّهم يرونه آلة، ومنه يستكشف رضا الوليّ بالتصرّف الكافي في جوازه.

وأمّا اعتبار عدم كونه محجوراً عليه فظاهر، ويعتبر أيضاً الاختيار، لرفع ما استُكره عليه(1).

وأمّا المستعير: فبالنسبة إلى تحقّق العارية يعتبر كونه مكلّفاً، لعين ما مرّ.

وأمّا في الإباحة: فلا يعتبر، فإنّ غير المكلّف غير ممنوع عن التصرّف.

وأمّا بالنسبة إلى الضمان: فالظاهر عدمه، فإنّ العارية وإنْ لم تتحقّق، إلّاأنّ التسليط المجّاني عن الرّضا المحقّق للأمانة المالكيّة بالمعنى الأعمّ كافٍ في خروج يده عن اليد الضمانيّة.

وهل يعتبر فيه التعيين ؟ الظاهر ذلك في التعيين المقابل للإبهام، لأنّ المبهم المردّد لا حقيقة له ولا تحقّق.

وعدمه في التعيين المقابل للعلم لعدم المورد، للغرر في المقام.

(و) كيف كان، ف (ينتفع المُستَعير على العادة) في الانتفاع بالعين المستعارة، فإنْ كان لها منفعة خاصّة انتفع بها، وإن تعدّدت المنفعة، فإن عيّنها أو كان هناك انصرافٌ تعيّن، وإلّا بأن عمّم، جاز الانتفاع بجميع الوجوه.

***).

ص: 58


1- وسائل الشيعة: ج 15/369 باب: (جملة ممّا عفي عنه).

ولا يضمنُ مع التلف، بدون التضمين، أو التعدّي، أو كون العين أثماناً.

عدم ضمان المستعير مع التلف

المقام الثالث: في الأحكام، وفيه مسائل.

المسألة الأُولى: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّ المستعير (لا يضمن مع التلف بدون التضمين) إلّابالتفريط (أو التعدّي)، أو باشتراط الضمان، (أو كون العين) المستعارة (أثماناً).

أمّا المستثنى منه: فيشهد به - مضافاً إلى الإجماع(1) المحكى، وإلى أنّ العين أمانة مالكيّة بالمعنى الأعمّ على ما مرّ - جملة من النصوص الخاصّة:

منها: صحيح الحلبي - أو حسنه - عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمنها، إلّاأنْ يكون قد اشترط عليه»(2).

ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان، وليس على المستعير عارية ضمان، وصاحب العارية والوديعة مؤتمن»(3).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الآتية جملة منها في المباحث اللّاحقة.

أقول: وقد استثنوا من ذلك موارد:

المورد الأوّل: التعدّي أو التفريط، فإنّه لا إشكال في الضمان معه، فإنّ عدم

ص: 59


1- غنية النزوع: ص 276.
2- الكافي: ج 5/238 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/91 ح 24223.
3- الفقيه: ج 3/304 ح 4087، وسائل الشيعة: ج 19/93 ح 24228.

الضمان علّق في النصوص على الايتمان، إمّا بجعله مسبّباً أو عنواناً لعدم الضمان.

وبعبارة اُخرى : التعدّي أو التفريط يوجبُ خروج اليد كونها يداً أمانيّة ومأذونة وصيرورتها خيانيّة، وقد علّق في جملةٍ من النصوص الضمان على كونه أميناً أو مأموناً.

أضف إليه: النصوص الدالّة على الضمان بالتعدّي والاستهلاك في باب المضاربة والرّهن، بعد معلوميّة اشتراك الجميع في الحكم المزبور باعتبار كونها أمانة.

وهل يضمن بتركه التحفّظ الموجب للتلف ؟

فيه وجهان تقدّما في كتاب المضاربة(1) مفصّلاً.

المورد الثاني: اشتراط الضمان، وهو متّفقٌ عليه نصّاً وفتوى، لاحظ:

1 - صحيح الحلبي المتقدّم.

2 - صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا تضمن العارية إلّاأنْ يكون قد اشترط فيها ضماناً، إلّاالدنانير فإنّها مضمونة وإنْلم يشترط فيها ضماناً»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

أقول: ومعها لا يُصغى إلى ما قيل:

من منافاة هذا الشرط لمقتضى العقد، لأنّ بنائه على التبرّع.

أو أنّه شرطٌ في عقد جائز، فلا يكون نافذاً.

أو أنّ الضمان من الاُمور المتوقّفة على أسبابها وليس الشرط منها.).

ص: 60


1- تقدّم الحديث عن المضاربة: ج 28/364.
2- الكافي: ج 5/238 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/96 ح 24236.
3- وسائل الشيعة: ج 19/96 باب: (ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضّة من غير تفريط).

إذ الجميع مردودة، بأنّها اجتهادات في مقابل النصوص، مع أنّ بناء العارية على التبرّع في الانتفاع بالعين لا في صورة التلف، والشرط في ضمن العقد الجائز نافذ كما مرّ، وعرفت في كتاب الإجارة أنّ الضمان من الغايات التي تقبل الاشتراط.

المورد الثالث: العارية من غير المالك، ويشهد به موثّق إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام والإمام الكاظم عليه السلام أنّهما قالا:

«إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت، فالمستعيرُ ضامن»(1).

الموردالرابع: عارية الذهب و الفضّة إذالم يشترط عدم الضمان، وسيأتي الكلام فيه.

المورد الخامس: عارية الصيد للمُحرِم، وقد مرّ الكلام فيه.

المورد السادس: عارية الحيوان، فإنّ ابن الجُنيد(2) حكم بكونه مضموناً، لخبر وهب، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: من استعار عبداً مملوكاً لقومٍ فعيب فهو ضامن»(3).

ولكن الخبر ضعيف السند لراويه، ومعرضٌ عنه عند الأصحاب، وأخصّ من المدّعى، ومعارضٌ مع صحيح محمّد بن قيس(4) فلا وجه لاستثنائه.

حكمُ عارية الذّهب والفضّة من حيث الضمان

أقول: لا خلاف ولا إشكال في استثناء عارية الذهب والفضّة في الجملة، وأنّه يضمن إذا كانت العين المستعارة ذهباً أو فضّة، وإنْ لم يشترط الضمان، والنصوص

ص: 61


1- الفقيه: ج 3/302 ح 4083.
2- نسبه إليه في مسالك الأفهام: ج 5/153.
3- الكافي: ج 5/302 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/94 ح 24233.
4- وسائل الشيعة: ج 19/93 ح 24231.

الكثيرة المتقدّم بعضها والآتي بعضها الآخر شاهدة به.

إنّما الكلام في اختصاص ذلك بالدّرهم والدينار، كما هو صريح الفخر(1)، والقطيفي، و «الكفاية»(2)، و «الرياض»(3)، وظاهر المتن و «الوسيلة»(4)، المعبّر فيهما بالثمن ؟

أم يعمّ غيرهما من المصوغ وغيره، كما هو صريح «اللّمعة»(5)، و «المهذّب»(6)، و «جامع المقاصد»(7)، و «المسالك»(8)، و «الروضة»(9)، و «مجمع البرهان»(10) على ما حكي عن بعضها، وظاهر «المقنع»(11)، و «النهاية»(12)، و «المبسوط»(13)، و «التحرير»(14)، و «القواعد»(15)، و «المختلف»(16) وغيرها ممّا عبّر فيه بالذهب والفضّة ؟1.

ص: 62


1- إيضاح الفوائد: ج 2/129.
2- كفاية الأحكام: ج 1/709.
3- رياض المسائل: ج 9/180.
4- الوسيلة: ص 276.
5- اللّمعة الدمشقيّة: ص 134.
6- المهذّب: ج 1/430.
7- جامع المقاصد: ج 6/78.
8- مسالك الأفهام: ج 5/155.
9- شرح اللّمعة: ج 4/258.
10- مجمع الفائدة: ج 10/373.
11- المقنع: ص 386.
12- النهاية: ص 438.
13- المبسوط: ج 3/49.
14- تحرير الأحكام: ج 3/217.
15- قواعد الأحكام: ج 2/193.
16- مختلف الشيعة: ج 6/71.

أقول: ومنشأ الاختلاف هو من اختلاف النصوص:

فإنّه في جملةٍ منها استثنى الدرهم والدينار، كصحيح عبد اللّه بن سنان المتقدّم، وخبر عبدالملك بن عمرو، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «ليس على صاحب العارية ضمان، إلّا أنْ يشترط صاحبها، إلّاالدّراهم فإنّها مضمونة اشترط صاحبها أو لم يشترط»(1).

وفي طائفة اُخرى منها استثني مطلق الذهب والفضّة، كموثّق إسحاق بن عمّار، عنه عليه السلام، وعن أبي إبراهيم عليه السلام، قالا:

«العارية ليس على مستعيرها ضمان، إلّاما كان من ذهبٍ أو فضّة، فإنّهما مضمونان اشترطا أو لم يشترطا»(2).

وصحيح زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قلتُ له: العارية مضمونة ؟ قال فقال عليه السلام: جميع ما استعرت فتوى(3) فلا يلزمك تواه إلّاالذهب والفضّة، فإنّهما يلزمان إلّاأنْ تشترط عليه أنّه متى توى لم يلزمك تواه، وكذلك جميع ما استعرت فاشتُرط عليك لزمك، والذهب والفضّة لازم لك وإنْ لم يُشترط عليك»(4).

ونحوهما غيرهما(5).

ولذلك توقّف فيه جماعة، منهم المصنّف في محكى «التذكرة»(6).

والتحقيق يقتضي أنْ يقال: إنّ النصوص المتعارضة الواردة في الباب ثلاث طوائف:0.

ص: 63


1- التهذيب: ج 7/184 ح 11، وسائل الشيعة: ج 19/96 ح 24238.
2- الفقيه: ج 3/302 ح 4083، وسائل الشيعة: ج 19/97 ح 24239.
3- أي هَلَك.
4- الكافي: ج 5/238 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/96 ح 24237.
5- وسائل الشيعة: ج 19/96 باب (ثبوت الذهب والفضّة من غير تفريط).
6- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/210.

الطائفة الأُولى: ما دلّ على عدم الضمان مطلقاً، كصحيحي الحلبي المتقدّمين في أوّل المسألة.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على الضمان في الدرهم والدينار، وعدم الضمان في غيرهما، كصحيح ابن سنان وحسن عبد الملك المتقدّمين.

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على الضمان في الذهب والفضّة، وعدم الضمان في غيرهما.

والنسبة بين الأُولى وكلٍّ من الأخيرتين عمومٌ مطلق، وبين المستثنى منه من الثانية والمستثنى من الثالثة عموم من وجه، وعلى القول بانقلاب النسبة، لو قيّد إطلاق الأُولى أوّلاً بالطائفة الثانية، انقلبت بين الأُولى والثالثة إلى العموم من وجه.

وقد يقال: إنّ نصوص الدرهم والدينار أيضاً متعارضة، لأنّ في بعضها تخصيص الضمان بالدرهم وفي آخر بالدينار.

والجواب: إنّ المستثنى منه فيهما لا تعارض بينهما، لأنّهما مثبتان وكذلك المستثنى، وإنّما التعارض بين المستثنى منه من كلّ منهما مع المستثنى من الآخر، والنسبة عموم مطلق، فيقيّد إطلاق كلّ منهما بالآخر، فتكون النتيجة هو استثناء الدرهم والدينار معاً.

وقد يقال: - في الجمع بين الطوائف الثلاث - كما عن الفخر(1) - بأنّ الثانية أخصّ مطلقاً من الثالثة، لاختصاصها بالدّرهم والدينار، وعموم الثالثة لغيرهما، فيقيّد إطلاق الثالثة بها، ثم يقيّد به إطلاق الأولى، فتكون النتيجة هي استثناء خصوص الدرهم والدينار.0.

ص: 64


1- إيضاح الفوائد: ج 2/130.

وفيه: إنّ المستثنى منه من الطائفتين لا تعارض بينهما، لكونهما مثبتين، بل التعارض بين المستثنى منه من الثالثة والمستثنى من الثانية، فتكون النسبة حينئذٍ هي العموم من وجه كما مرّ.

وحيث إنّا لا نقول بانقلاب النسبة، فيقيّد إطلاق الأُولى بكلّ من الأخيرتين، وأمّا هما فبالنسبة إلى الضمان في الدرهم والدينار، وعدمه في غير الذهب والفضّة متوافقتان، والتعارض إنّما هو في غير الدرهم والدينار من الذهب والفضّة، وحيث أنّ المختار عندنا في تعارض العامّين من وجه هو الرجوع إلى أخبار الترجيح، فإنّ الترجيح يكون للثالثة الدالّة على الضمان، لما عن «المختلف»(1) من نسبته إلى الشهرة بين الأصحاب.

فالمتحصّل من النصوص: بعد ضَمّ بعضها إلى بعض، وردّ بعضها على بعض، هو ثبوت الضمان في مطلق الذهب والفضّة.

وأمّا سيّد «الرياض» وصاحب الكفاية حيث أنّ مبناهما في تعارض العامّين من وجه هو التساقط، فقد حكما به في المقام والرجوع إلى دليل آخر، وهو ما دلّ على عدم الضمان في مطلق العارية، وبنيا على اختصاص الضمان بالدرهم والدينار، وهذا على مبناهما حسن، ولكن المبنى فاسد، وعليه فلا يتوجّه عليهما ما في «الجواهر»(2) بما حاصله:

إنّ المستثنى منه في نصوص الدرهم والدينار ليس غير الدرهم والدينار، وإلّا لما صَحّ الاستثناء بل مطلق العارية، فالنسبة بينه وبين نصوص الذهب والفضّة عمومٌ مطلق.7.

ص: 65


1- مختلف الشيعة: ج 6/71.
2- جواهر الكلام: ج 27/187.

ولو نَقَصت بالاستعمال المأذون فيه لم يضمن،

قال: وإنْ أراد بالمستثنى منه الحاصل من الجملة، فليس هو ضمان الدرهم والدينار دون غيرهما، وليس بين مجموع ذلك وبين الذهب والفضّة تعارض العموم من وجه، إذ لا اختصاص في خبري الذهب والفضّة بالدلالة على عدم ضمانها، حتّى يكون ذلك وجه افتراق لهما عن نصوص الدرهم والدينار.

فإنّه يرد عليه أوّلاً: أنّه لو تمّ ينقل الكلام إلى مفهوم الاستثناء لنصوص الدرهم والدينار، فإنّ النسبة بينه وبين منطوق أخبار الذهب والفضّة عموم من وجه.

وثانياً: أنّه لا يتمّ ، فإنّ المستثنى منه قبل ورود القيد غير مقيّد وأصلح لأن يرد عليه، وبعد التقييد يكون المتحصّل من المستثنى منه خاصّة عدم الضمان في غيرالدرهم والدينار، ومن الواضح معارضة ذلك مع ما دلّ على الضمان في الذهب والفضّة، وإنْ لم يكونا من الدرهم والدينار.

ثمّ إنّ ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضّة إنّما هو إذا لم يشترط عدمه، وإلّا فلا ضمان بلا خلافٍ ، لصحيح زرارة المتقدّم.

حكم النقصان الحاصل بالاستعمال

المسألة الثانية: (ولو نَقَصت) العين المستعارة (بالاستعمال المأذون فيه، لم يضمن)، وكذا لو تلفت، بلا إشكالٍ ، لأنّه من لوازم الانتفاع بالعين الذي أباحه المالك مجّاناً، فهو مأذونٌ فيه بعين الإذن في الانتفاع، وإلّا لم تكن العارية مشروعة،

ص: 66

ولايعقل ضمان ما إذن المالك في إتلافه مجّاناً وبلا عوض، لإسقاط المالك احترام ماله.

وجعل مثل ذلك من مقتضيات عقد العارية لا مانع منه، إذ ما ورد في صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام حيث سُئل عن العارية، فقال عليه السلام: «لا غرم على مستعير عارية إذا هلكت إذا كان مأموناً»(1) إشارة إليه.

قال صاحب «المسالك»:(2) - بعد نقل عدم الضمان والاستدلال له -:

(وفيه وجهٌ آخر، وهو ضمان المتعلّق في آخر حالات التقديم، لأنّ الظاهر عدم تناول الإذن للاستعمال المتلف، وإنْ كان داخلاً في الإطلاق)، انتهى .

وفيه: إنّ محلّ الكلام هو الاستعمال المأذون فيه، وما أفاده تشكيكٌ في الصغرى، حيث إنّه استشكل في شمول الإذن للاستعمال المتلف، ولذلك عنون المصنّف رحمه الله في محكى «القواعد»(3) مسألتين:

الأولى: ما لو إذن في التصرّف وأطلق، فاشكل في عدم الضمان بالاستعمال المتلف، نظراً إلى إمكان انصراف الإذن بحسب الغالب إلى الاستعمال غير المتلف.

الثانية: ما لو تلفت العين أو نقصت بالاستعمال المأذون فيه، فحَكَم جزماً بعدم الضمان.

أقول: وبذلك يظهر اندفاع إيراد المحقّق الثاني(4) عليه، بأنّ ما ذكره ثانياً ينافي أوّل كلامه، مع أنّه في المسألة الأُولى لم يدّع الانصراف جزماً، كي يورد عليه بأنّ3.

ص: 67


1- الكافي: ج 5/239 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/92 ح 24225.
2- مسالك الأفهام: ج 5/138.
3- قواعد الأحكام: ج 2/196.
4- جامع المقاصد: ج 6/83.

ولو استعارَ من الغاصب ضَمِن، فإنْ كان جاهلاً رجع على المعير بما يؤخذ منه،

لازمه الحكم بالضمان جزماً لا الإشكال فيه، بل ادّعى أنّه يمكن أنْ يقال به كما يمكن دعوى الإطلاق.

المسألة الثالثة: (ولو استعار من الغاصب ضمن) بلا إشكال، لأنّه وضع يده على مال الغير بغير رضاه، فيشمله حديث على اليد(1) وغيره من أدلّة الضمان.

أضف إليها موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه وأبي إبراهيم عليهما السلام: «إذا استعيرت عارية بغير إذن صاحبها فهلكت فالمستعير ضامن»(2).

وحينئذٍ (ف) تارةً يكون المستعير عالماً بالغصب، واُخرى يكون جاهلاً به، ومقتضى إطلاق الأدلّة المشار إليها، هو ضمان المستعير في الصورتين، غاية الأمر (إنْ كان جاهلاً، رجع على المعير بما يؤخذ منه) لقاعدة الغرور، كما هو المشهور بين الأصحاب(3).

وفي «الشرائع»(4) وعن المصنّف(5) في غير المتن، وبعضٍ آخر: أنّه ليس للمالك أن يرجع على المستعير في صورة جعله، واستدلّ له:

1 - بأنّ الرجوع عليه ظلمٌ محضٌ لفرض كونه جاهلاً.

2 - وبقاعدة: (ما لا يُضمن بصحيحة لا يُضمن بفاسده).8.

ص: 68


1- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.
2- الفقيه: ج 3/302 ح 4083، وسائل الشيعة: ج 19/97 ح 24240.
3- راجع تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/218، شرح اللّمعة: ج 4/262، الحدائق الناضرة: ج 21/502.
4- شرائع الإسلام: ج 2/409.
5- تحرير الأحكام: ج 3/218.

ويقتصرُ المستعيرُ على المأذون

ولكن يرد على الأوّل: أنّه لو كان ظلمٌ فإنّما هو في الحكم بعدم رجوعه إلى الغار، وإلّا فأصل الضمان الذي تقتضيه قاعدة على اليد والموثّق وغيرهما لا ظلم فيه، بل هو مقتضى العدل، لأنّه تلف مال الغير تحت يده.

وأمّا الثاني فيردّه: أنّ تلك القاعدة مختصّة بموارد تسليط المالك نفسه على ماله كما في البيع الفاسد والإجارة الفاسدة، ولاتشمل تسليط الغير كما لو وهب الغاصب مال المالك على ما حُقّق في كتاب البيع(1).

وعليه، فالأظهر ما هو المشهور بين الأصحاب من ضمانه، غاية الأمر يكون قرار الضمان على الغاصب، لقاعدة الغرور.

فرع: لو كانت العارية مضمونة، كما إذا كانت ذهباً أو فضّة، أو اشترط فيها الضمان، فهل يرجع المستعير الجاهل على المعير في ما يبذله بإزاء العين من جهة الغرور، أم لايرجع إليه، لأنّه أقدم المستعير على العارية مضمونةً فلا غرور حينئذٍ؟

وجهان، أظهرهما الثاني.

نعم، يرجع هو على المعير فيما يبذله بعوض المنافع التي استوفاها المستعير بعنوان العارية، لقاعدة الغرور.

وإنْ كان عالماً بالغصب، فقرار الضمان عليه، لأنّه غاصبٌ تلفت العين تحت يده، بل لو رجع المالك على المعير يرجع هو على المستعير، لما مرَّ في تعاقب الأيادي من أنّ الضمان يستقرّ على من تلف المال تحت يده.8.

ص: 69


1- فقه الصادق: ج 24/298.

يقتصر المستعير على المأذون

المسألة الرابعة: (ويقتَصِرُ المُستعير على المأذون) كما هو صريح المتن و «الشرائع»(1)، و «المسالك»(2)، و «الروضة»(3) وغيرها، وظاهر «القواعد»(4) و «اللّمعة»(5).

وعن الشيخ في «المبسوط»(6)، وابن زهرة في «الغُنية»(7) والحِلّي في «السرائر»(8)وغيرهم: أنّه يجوز أن يستبيح ما دونه في الضرر لا ما فوقه، كأن يستعير أرضاً للغرس فيزرع، بل عن الأوّل نفي الخلاف فيه.

وعن «التذكرة»(9) و «التحرير»(10): جواز المساوي أيضاً.

وعن «جامع المقاصد»(11): (ظاهر كلامهم أنّ الحكم بذلك إجماعيٌّ ).

أقول: والأوّل أظهر، لأنّ الأصل عدم جواز التصرّف في مال الغير إلّابإذنه، المفروض اختصاصه بنوعٍ خاص من التصرّف، فالنوع الآخر الباقي تحت الأصل المزبور لا يجوز.

ص: 70


1- شرائع الإسلام: ج 2/409.
2- مسالك الأفهام: ج 5/143.
3- اللّمعة الدمشقيّة: ص 255.
4- قواعد الأحكام: ج 2/197.
5- شرح اللّمعة: ج 4/260.
6- المبسوط: ج 3/53.
7- غنية النزوع: ص 276-277.
8- السرائر: ج 2/433.
9- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/212.
10- تحرير الأحكام: ج 3/212.
11- جامع المقاصد: ج 6/86.

ودعوى(1): أنّ الأدنى أولى بالإذن.

ممنوعة: لأنّ الإذن ليس من قبيل الحكم الشرعي الصادر عن مصلحة المكلّف كي تتمّ فيه دعوى الأولويّة، فلعلّه له غرضٌ خاص في التصرّف المخصوص، أو أنّه قيّد إذنه بلا غرض.

نعم، لا ننكر جواز ما دون أو المساوي بل الأضرّ، لو أُحرز رضاه بالتصرّف فيه مجّاناً، لكنّه خارجٌ عن محلّ الفرض.

وعليه، فلو أثم وفعل الأقلّ ضرراً، هل عليه الاُجرة أم لا؟ وجهان:

من أنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه، واستوفى منفعته فعليه الاُجرة.

ومن أنّه قد أباح له المنفعة الخاصّة التي عوضها إمّا أزيد من عوض ما استوفاه أو مساوٍ معه.

أقول: أظهرهما الأوّل، لأنّه لم يبرّأ ذمّته من العوض بالمقدار الخاص، بل إذن في استيفاء منفعة خاصّة بلا عوض، والفرض أنّه لم يستوفها وإنّما استوفى منفعة اُخريلها ماليّة، ولم يأذن فيهامالكها، ولم يسقط احترامها، فلابدّ من أنّ يغترم عوضها.

وبذلك يظهر أنّه لو عدل إلى الأضرّ مع النهي أو الإطلاق، لزمه اُجرة المجموع، لا خصوص ما يزيد عن مقدار المأذون فيه.

وما عن المصنّف(2) من الفرق بين صورة النهي والإطلاق، واختيار وجوب الاُجرة كملاً مع النهي، وسقوط التفاوت مع الإطلاق، غير ظاهر الوجه، لأنّ التخطّي في الصورتين لا يجوز، والنّص على المنع في إحداهما دون الاُخرى لا يصلح فارقاً في الضمان.8.

ص: 71


1- أشار إليها في رياض المسائل: ج 9/184.
2- قواعد الأحكام: ج 2/198.

والقولُ قولُ المستعير مع يمينه في عدم التفريط والقيمة معه، وقولُ المالك في الرّد.

ويصحُّ الإعارة في الرّهن، وله المطالبة بالافتكاك بعد المدّة.

المسألة الخامسة: (و) لو تنازعا في التفريط، أو القيمة، أو الرّد، كان (القول قول المستعير مع يمينه في عدم التفريط والقيمة معه، وقول المالك في الرّد) كما يظهر ممّا أسلفناه في الوديعة(1)، فلا حاجة إلى الإعادة.

المسألة السادسة: (ويصحّ الإعارة للرّهن) لما سيأتي في كتاب الرّهن(2) من جواز رهن مال الغير بإذنه، (وله المطالبة بالافتكاك بعد المدّة) كما سيأتي.

***د.

ص: 72


1- صفحة 42 من هذا المجلّد.
2- صفحة 345 من هذا المجلّد.

الفصل التاسع: في اللُّقطة.

(الفصل التاسع: في اللُّقطة)

اشارة

وهي - بضمّ اللّام وفتح القاف وسكونها - اسمٌ للمال الملقوط، على ما صرّح به جمعٌ من أهل اللّغة، كالأصمعي وابن الأعرابي والفرّاء وأبي عُبيدة(1).

وعن الخليل(2): (هي بالتسكين لا غير، وأمّا بفتح القاف فهي اسمٌ للملتقط، لأنّ ما جاء على فُعلة فهو اسمٌ للفاعل كهُمَزة ولُمَزة).

أقول: ولا اصطلاح جديد لها في الشرع، بل هي فيه مستعملة في معناها اللّغوي. نعم وقع الخلاف بين الفقهاء من جهة أنّ جمعاً منهم أطلقوها على ما يشمل الآدمي الحُرّ، وخصّها جماعة آخرون بغيره، وأفردوا للّقيط كتاباً آخر.

وكيف كان، فالكلام في هذا الفصل يقع في مواضع:

اللَّقيط

الموضع الأوّل: في اللّقيط.

ويقال له: الملقوط والمنبوذ أيضاً، وإنّما يقال له اللّقيط والملقوط - اللّذان هما بمعنى واحد - لأنّ فعيل كجريح بمعنى مفعول باعتبار الالتقاط، ويقال له المنبوذ باعتبار أنّه يُنبذ أوّلاً.

ص: 73


1- نسبه إليهم في تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/250.
2- كتاب العين: ج 5/100.

أقول: والكلام فيه يقع في موارد:

المورد الأوّل: اللّقيط كما في «التذكرة»(1)، و «القواعد»(2)، و «التحرير»(3): (كلّ صبي ضايعٍ لا كافل له حال الالتقاط.

وفي «الجواهر»(4): (بل لا أجد خلافاً في غير المميّز منه، بل الإجماع بقسميه عليه).

قال في «المسالك»(5): (احترز بالصبي عن البالغ، فإنّه مستغنٍ عن الحضانة والتعهّد، فلا معنى لالتقاطه، نعم لو وقع في معرض هلاكٍ وجب تخلّصه كفاية.

وبالضايع عن غيره المنبوذ، وإنْ لم يكن له كافل، لأنّه لا يصدق عليه اسم اللّقيط، وإنْ كانت كفالته واجبة كفايةً كالضايع، إلّاأنّه لا يُسمّى لقيطاً.

وبقوله: (لا كافل له) عن الضايع المعروف النسب، فإنّ أباه وجدّه ومن يجب عليه حزانته مختصّون بحكمه، ولا يلحقه حكم الالتقاط وإنْ كان ضايعاً)، انتهى .

أقول: وكيف كان، فلا إشكال في مشروعيّة الالتقاط، بل عن «التذكرة»(6)المفروغيّة عن وجوبه كفاية، وسيمرّ عليك ما هو الحقّ عند تعرّض المصنّف رحمه الله له.

إنّما الكلام في المقام في مشروعيّته، ويشهد بها جملة من النصوص:

منها: خبر زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «اللّقيط لا يُشترى ولا يُباع»(7).4.

ص: 74


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/270.
2- قواعد الأحكام: ج 2/200.
3- تحرير الأحكام: ج 4/447.
4- جواهر الكلام: ج 38/147-148.
5- مسالك الأفهام: ج 12/461.
6- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/251.
7- الكافي: ج 5/224 ح 1، وسائل الشيعة: ج 23/97 ح 29184.

ومنها: خبر إسماعيل المدائني، عنه عليه السلام: «المنبوذ حُرّ، فإنْ أحبّ أن يوالي غير الذي ربّاه والاه، فإن طلب منه الذي ربّاه النفقة، وكان موسراً، رَدّ عليه، وإنْ كان معسراً كان ما أنفق عليه صدقة»(1).

ومنها: خبر عبد الرحمن العزرمي، عنه، عن أبيه عليهما السلام قال:

«المنبوذ حُرّ، فإذا كبر فإنْ شاء توإلى إلى الذي التقطه، وإلّا فليردّ عليه النفقة، وليذهب فليوال من شاء»(2).

ومنها: صحيح محمّد بن أحمد، عنه عليه السلام: «عن اللّقيطة ؟ فقال عليه السلام: لا تُباع ولا تُشترى، ولكن استخدمها بما أنفقت عليها»(3).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم - أو حسنه - عن أبي جعفر عليه السلام: «عن اللّقيط؟ فقال عليه السلام: حُرٌّ لا يُباع ولا يُوهَب»(4).

إلى غير تلكم من النصوص.

أقول: ودلالة هذه النصوص على جواز الالتقاط، والتصرّف في الضبط وحفظه، ونحو تلكم ممّا هو مخالفٌ للأصل ظاهرة، والمأخوذ في النصوص موضوعاً لهذا الحكم اللّقيط، واللّقيطة، والمنبوذ، وفي بعضها التقييد بعدم الكبر، فإنّه ظاهر في بقائه على حكم الالتقاط حتّى يكبر فيوالي مَن شاء.

واختصاصها بمن لا كافل له، باعتبار ما فيها من حُكم الإنفاق عليه،0.

ص: 75


1- الكافي: ج 5/224 ح 2، وسائل الشيعة: ج 23/98 ح 29187.
2- الكافي: ج 5/225 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/467 ح 32368.
3- الكافي: ج 5/225 ح 4.
4- الكافي: ج 5/225 ح 5، وسائل الشيعة: ج 25/468 ح 32370.

والاستخدام، وأنّه لا يُباع ولا يُوهب، ظاهر.

وأمّا اعتبار كونه ضايعاً، فلا تشمل النصوص غير المنبوذ.

فيدفعه المتفاهم العرفي، ضرورة صدق الموضوع عندهم على الضايع من أهله وإنْ لم ينبذوه.

وأمّا الصبيّ : فهو على قسمين:

تارةً : يكون غير مميّز، فهو المتيقّن من النصوص.

واُخرى : يكون مميّزاً.

فعن المحقّق(1)، والمصنّف رحمه الله(2) والشهيدين(3) والكركي(4) وغيرهم جواز التقاطه، لصدق كونه لقيطاً، وعجزه عن دفع ضرورته.

وفي «الرياض»(5) - بعد الاعتراف بأنّ ذلك هو المشهور بين أصحابنا -: (ولا ريب فيه مع عدم بلوغ التمييز حَدّاً يحفظ نفسه عن الهلاك، ويشكل مع بلوغه ذلك الحَدّ وإنْ احتاج إليبعض الضروريّات، وبعدم الجواز فيه صرّح بعض الأصحاب، قال فيكون أمره إلى الحاكم كالبالغ، من باب الولاية العامّة كحفظ المجانين.

إلى أنْ قال: وهو حَسنٌ ).

واستدلّ له: بعدم صدق اللّقيط عليه، ولا أقلّ من الشكّ ، فيرجع بالنسبة إليه إلى أصالة عدم الجواز.6.

ص: 76


1- شرائع الإسلام: ج 4/799.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/270.
3- شرح اللّمعة: ج 7/67.
4- جامع المقاصد: ج 6/97.
5- رياض المسائل: ج 12/376.

يُشترطُ في مُلتَقطِ الصَّبي التكليف،

وفيه: ما عرفت من صدق (اللّقيط) على المميّز، ويشهد به إطلاق الالتقاط على يوسف عليه السلام في الكتاب العزيز(1)، ضرورة أنّه كان مميّزاً، كما تشهد به رؤياه التي قصّها على أبيه قبل أنْ يُرمى به في البئر، ويؤيّده ما في النصوص المتقدّمة من بقاء حكم الالتقاط ما لم يكبر، المعلوم إرادة البلوغ من الكبر ولو بقرينة المطالبة بالنفقة.

وعليه، فالأظهر شموله للمميّز.

فرع: ثمّ إنّه إذا لم يكن للصبي من هو كافلٌ له شرعاً، ولكن كان له العمّ أو الخال أو الخالة ونحوهم، فهل يجري عليه حكم اللّقيط على ما هو الظاهر من كلمات الفقهاء على ما فيها من الاختلاف ؟ أم لا فإنّ ذلك في العرف لا يُسمّى لقيطا؟

أقول: لعلّ الثاني أظهر، بل لو كان هناك متبرّعٌ بالكفالة والحضانة لا يسمّى لقيطاً في العرف.

شرائط ملتقط اللّقيط

المورد الثاني: في ما (يُشترط في ملتقط الصبيّ ).

قال المصنّف رحمه الله: لا خلاف ظاهراً في اشتراط (التكليف) بالبلوغ والعقل، فلايصحّ التقاط الصبيّ والمجنون، لقصورهما عن الولاية والحضانة والإنفاق وعدم أهليّتهما لشيء من تلكم، وهي من لوازم صحّة الالتقاط، وحنيئذٍ فيجوز الالتقاط

ص: 77


1- سورة يوسف: الآية 10.

والإسلام

من يدهما لمن له أهليّة وله ولاية لحفظه، لأنّ التقاطهما كالعدم كما استوجهه الشهيد الثاني رحمه الله(1).

وعليه، فما عن «التذكرة»(2) من أنّه يخرج بذلك عن حكم اللّقيط، وتكون الولاية للحاكم، في غير محلّه.

وظاهر إطلاق الماتن وكثير اشتراط التكليف خاصّة، وعدم اعتبار الرُّشد، واستدلّ له بأنّ السفيه محجورٌ عن التصرّف في ماله، وليست حضانته مالاً، ومجرّد كونه مولّى عليه لا يمنع عن ولايته.

وعن «الدروس»(3): اشتراط الرشد، محتجّاً بأنّ الشارع لم يأتمنه على ماله، فعلى الطفل وماله أولى بالمنع، وبأنّ الالتقاط ايتمان شرعيٌ والشرع لم يأتمنه.

وهو حسنٌ ، سيّما وأنّ التقاطه يستلزم وجوب إنفاقه، وهو لا يجوز من السفيه، لأنّه تصرّفٌ مالي، أضف إليه عدم وجود إطلاق دالّ على جواز التقاط كلّ أحد.

وعليه، فالأظهر اعتبار الرشد.

(و) ممّا قالوا باشتراطه (الإسلام) إذا كان اللّقيط محكوماً بالإسلام، بل الظاهر عدم الخلاف فيه، إلّاما في «مختصر النافع» من التردّد فيه، وهو الظاهر من «الشرائع»(4) أيضاً، وهو الأظهر، لأنّه تعدّ من أنواع السبيل الوارد فيه قوله تعالى :0.

ص: 78


1- مسالك الأفهام: ج 12/464.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/270.
3- الدروس: ج 3/76.
4- شرائع الإسلام: ج 4/799-800.

(وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (1) .

وأيضاً: إنّه لا يؤمن مخادعته عن الدين، وقد ورد في النصوص تعليل المنع عن تزويج العارفة من المخالف بأنّ «المرأة تأخذ من أدب زوجها»(2).

أقول: وبما ذكرناه يظهر اختصاص ذلك بما إذا كان اللّقيط محكوماً بالإسلام، وأمّا إذا كان محكوماً بالكفر، فلا دليل على اعتبار الإسلام في ملتقطِه، وهو المشهور بين الأصحاب(3)، وربما يستدلّ له - مضافاً إلى اختصاص وجوه المنع بغير الفرض - بقوله تعالى (وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) (4).

أمّا العدالة: ففي اعتبارها في الملتقط قولان:

1 - فعن الشيخ(5) في أحد قوليه، والمصنّف رحمه الله في «التحرير»(6)، و «الإرشاد»(7)، و «القواعد»(8) الاعتبار.

2 - وعن الأكثر عدمه(9).

3 - وعن المحقّق الثاني(10) التفصيل بين ما إذا كان له مالٌ فالأوّل، وما إذا لم يكن فالثاني.0.

ص: 79


1- سورة النساء: الآية 141.
2- المستدرك: ج 14/442 ح 17233.
3- راجع كفاية الأحكام: ج 2/552.
4- سورة الأنفال: الآية 73.
5- المبسوط: ج 3/340.
6- تحرير الأحكام: ج 4/449.
7- إرشاد الأذهان: ج 1/440.
8- قواعد الأحكام: ج 2/208.
9- شرح اللّمعة: ج 7/73.
10- جامع المقاصد: ج 6/150.

وإذن المولى في المملوك

وجه الأوّل: أنّ الالتقاط يفتقر إلى الحضانة، وهي استيمانٌ لا يليق بالفاسق، وأيضاً أنّه لا يؤمَن أنّ يسترقّه ويأخذ ماله.

وجه الثاني: الأصل، وأنّ المسلم محلّ الأمانة، مع أنّه ليس استيماناً حقيقيّاً، وفحوى جواز التقاط الكافر مثله.

ووجه الثالث: أنّ الخيانة في المال أمرٌ راجح الوقوع.

والأوّل أقوى للسيرة، وإطلاق الأدلّة، والأصل في المسلم الائتمان وعدم فعل المحرّم، ولذا ائتمنه الشارع في كثيرٍ من الاُمور كالطهارة والتذكية وغيرهما.

ولو كان له مالٌ يخاف عليه، يمكن الجمع بانتزاع الحاكم له منه.

هذا كلّه بلحاظ كونه فاسقاً.

ولو كان هناك جهة اُخرى في الملتقط، وعلم أو ظنّ من القرائن استعماله في الاُمور التي يُخشى منها التلف، أو كان يُخشى على عِرضه أو على دينه، فلا ينبغي التوقّف في عدم جواز التقاطه، ووجوب انتزاعه الحاكم من يده، ودفعه إلى من يؤمن منه من جميع ذلك.

(و) يعتبر أيضاً (إذن المولى في المملوك).

***

ص: 80

الأحكام

المورد الثالث: في الأحكام، وفيه مسائل:

المسألة الأُولى: إنّ اللّقيط على قسمين:

تارةً : يلتقط في دار الإسلام.

واُخرى : يلتقط في دار الكفر.

وقد أطنب الأصحاب في تفسير دار الإسلام ودار الكفر، وتقسيم كلّ واحدٍ إلى أقسام، وكلماتهم مع ما بينها من الاختلاف لا يثبت بها شيء بعد عدم تعليق الحكم على دار الإسلام ودار الكفر، فإنّ الحكم الذي يراد إثباته إمّا الحكم بإسلامه أو كفره، أو بحريّته أو رقيّته.

أمّا الأوّل: فقد مرّ في كتاب الطهارة(1) والجهاد(2) أنّ الصبيّ المميّز يبتني إسلامه أو كفره على اعتقاده ويكون مستقلّاً في ذلك، وأمّا غير المميّز:

فإنْ كان أحد أبويه مسلماً فهو تابعٌ له، وإلّا فإنْ كان السابي له مسلماً يكون تابعاً للسابي، وبدون ذلك لا يحكم بإسلامه ولا بكفره، وبيّنا في ذينك البابين أنّ حديث الفطرة(3) والحديث المشهور بأنّ : «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه»(4)، لا يدلّان على الحكم بالإسلام بمجرّد احتمال الإسلام، وطريقيّة دار الإسلام له ودار الكفر له ممّا لم يدلّ عليه دليل.

وأمّا الثاني: فمقتضى إطلاق الأخبار المتقدّمة، عدم الحكم بالرقّية مطلقاً.

ص: 81


1- فقه الصادق: ج 5/112.
2- فقه الصادق: ج 19/193.
3- الكافي: ج 2/12 ح 4، وسائل الشيعة: ج 9/352 ح 12213.
4- الفقيه: ج 4/334 ح 5719، وسائل الشيعة: ج 26/14 ح 32383.

فإنْ كان في دار الإسلام فهو حُرٌّ، وإلّا فرِقٌّ ، ووارث الأوّل الإمام مع عدم الوارث، وهو عاقلته، ولو بلغ رشيداً فأقرّ بالرقيَّة قُبل،

وعليه، فما ورد في المتن بقوله: (فإنْ كان في دار الإسلام فهو حُرٌّ، وإلّا فرقّ ) غير ظاهر الوجه.

ودعوى: أنّ الأخبار خطابات للمسلمين وفي بلادهم، كما في «الرياض»(1)، من الغرائب، فإنْ كان هناك إجماعٌ يقيّد به إطلاق النصوص، وإلّا فالمتّجه هو الحكم بالحريّة مطلقاً.

المسألة الثانية: (ووارث الأوّل) أي الحُرّ هو (الإمام مع عدم الوارث)، لأنّ الإمام وارث من لا وارث له، كما سيأتي (و) الوارث (هو عاقلته) عندنا كما في «المسالك»(2)، إذا لم يكن له نسبٌ ولم يكبر فيتوإلى أحداً، على وجه يكون ضامناً لجريرته، لأنّ ميراثه له.

المسألة الثالثة: (ولو بلغ رشيداً فأقرّ بالرقّية قُبل) لعموم قاعدة الإقرار.

حكم نفقة اللّقيط

المسألة الرابعة: في نفقته.

فالمعروف بين الأصحاب أنّ الواجب على الملتقط حضانته بالمعروف، وهو تعهّده والقيام بضرورة تربيته بنفسه أو بغيره.

ص: 82


1- رياض المسائل: ج 12/380.
2- مسالك الأفهام: ج 12/477.

وينفق عليه السلطان

أقول: ولا يجبُ عليه الإنفاق من ماله ابتداءً :

1 - للأصل.

2 - ولما دلّ من النصوص(1) على حَصر من يجب إنفاقه في أصنافٍ ليس اللّقيط منهم.

3 - وللإجماع الذي ادّعاه المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»(2).

فحينئذٍ إنْ كان للصبي مالٌ ، ينفق عليه منه بإذن الحاكم الشرعي، لأصالة عدم جواز التصرّف في ماله بغير إذنه أو إذن وليّه، ولأنّ ذلك من وظائف حكم الجور، وقد دلّت النصوص(3) على أنّ ما هو من وظائفهم ثابتة لحكام الشرع.

(و) إنْ لم يكن له مالٌ :

فإنْ وجد سلطانٌ يُستعان به على نفقته من بيت المال أو الزكاة (ينفق عليه السلطان) وجوباً، مع عدم متبرّعٍ بلا خلافٍ .

وعليه، فما عن «المقنعة»(4)، و «النهاية»(5) من التعبير بلفظ (ينبغي) يراد منه الوجوب، لأنّ بيت المال معدّ لمصالح المسلمين.2.

ص: 83


1- وسائل الشيعة: ج 21/525 باب: (وجوب نفقة الأبوين والولد دون باقي الأقارب).
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/273.
3- وسائل الشيعة: ج 27/136 باب: (وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة).
4- المقنعة: ص 648.
5- النهاية: ص 322.

فإنْ تعذّر فبعض المؤمنين، فإنْ تعذّر أنفق الملتقط ويرجع عليه مع نيّته لا بدونها.

فإنْ تعذّر السلطان، ولم يوجد من ينفق عليه من الزكاة، أو ما أُعدّ لمثله، أو ماكان يصحّ صرفه فيه، (ف) المعروف بينهم أنّه (إنْ تعذّر) ينفق عليه (بعض المؤمنين) الذين منهم الملتقط.

وفي «الجواهر»(1): (بلا خلافٍ أجده فيه)، واستدلّ له بأنّ بذل النفقة لمثله واجبٌ على الكفاية، لأنّه دفع ضرورة مع التمكّن.

قال المصنّف رحمه الله: (فإنْ تعذّر أنفق الملتقط، ويرجع عليه مع نيّته لا بدونها).

أقول: وما أفاده من هذا الترتيب ينافيه نصوص الباب، لاحظ:

1 - قوله عليه السلام في خبر المدائني المتقدّم: «فإنْ طلب منه الذي ربّاه النفقة، وكان موسراً رَدّ عليه، وإنْ كان مُعسراً كان ما أنفق عليه صدقة»(2).

2 - وقوله عليه السلام في صحيح محمّدبن أحمد: «ولكن تستخدمها بما أنفقت عليها»(3).

ونحوهما غيرهما(4)، فإنّ المستفاد منها جواز أن ينفق عليه الملتقط بنيّة الرجوع عليه بعد البلوغ واليسار، أو لأن يستخدمه، ومقتضى إطلاقها جواز ذلك حتّى مع وجود السلطان المنفق، وهذا ممّا تقتضيه القاعدة، إذ الوجوب على).

ص: 84


1- جواهر الكلام: ج 38/166.
2- الكافي: ج 5/224 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/467 ح 32367.
3- الكافي: ج 5/225 ح 4، وسائل الشيعة: ج 25/467 ح 32369.
4- وسائل الشيعة: ج 25/467 باب: (أنّ اللّقيط حُرّ وحكم النفقة عليه).

المسلمين من باب رفع حاجة المحتاج لا يوجبُ التبرّع.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ وجوب الإنفاق على المسلمين تبرّعاً، حكمٌ شرعي موقوفٌ على الدليل، ولا دليل عليه، وأصل البراءة يقتضي عدمه.

بل يمكن أنْ يقال: إنّه لا يجبُ على السطان الإنفاق عليه تبرّعاً بمقتضى القاعدة أيضاً، لأنّ كون بيت المال معدّاً لصالح المسلمين لا يقتضي الإنفاق تبرّعاً، بل له أنْ ينفق عليه قرضاً، ويرجع عليه بعد بلوغه ويساره.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الواجب هو الإنفاق عليه ولو بعنوان القرض، فإن وجد سلطانٌ فهو أحقّ بذلك، لأنّ بيت المال معدّ لذلك وأمثاله، وإلّا فالملتقط وغيره على حَدٍّ سواء.

نعم، إنْ وجد من ينفق عليه من الوجوه المنطبقة عليه أو تبرّعاً، ليس للملتقط الإنفاق عليه بقصد الرجوع عليه، لأنّ ذلك وإنْ كان منافياً للإطلاق في بادي النظر، لكن يظهر عدم المنافاة بعد ملاحظة فتوى الأصحاب والمنساق إلى الذهن من النصوص.

ولم يخالف في جواز الرجوع عليه بعد البلوغ سوى الحِلّي رحمه الله(1)، محتجّاً له بالأصل، وقاعدة (لا ضرر ولا ضِرار)(2).

ولكن الأصل يخرج عنه بالنصوص المتقدّمة، ومعها لا وجه للرجوع إلى قاعدة لا ضرر، أضف إليه أنّه لا ضرر في أخذ عوض ما أنفقه عليه.

ثمّ إنّ ظاهر خبر المدائني كون النفقة صدقة مع الإعسار، ولم يجد صاحب1.

ص: 85


1- السرائر: ج 3/335.
2- الكافي: ج 5/292 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32281.

ولو كان له أبٌ أو جدٌّ أو ملتقطٌ قبله أُجبر على أخذه. وأخذُ اللّقيطٌ واجب على الكفاية،

«الجواهر» رحمه الله(1) عاملاً به، ولذلك حمله بعضهم على إرادة جواز احتسابه زكاةً من سهم الفقراء أو الغارمين.

(ولو كان له) أي للّقيط (أبٌ أو جدٌّ أو ملتقطٌ قبله) لا يكون محكوماً بحكم اللّقيط، و (أُجبر على أخذه) كما مرَّ.

عدم وجوب أخذ اللّقيط

المسألة الخامسة: قال الشيخ(1) والمصنّف رحمه الله(2)(و) تبعهما غيرهما أنّ (أخذ اللّقيط واجبٌ على الكفاية).

وفي «المسالك»(3): نسبته إلى أكثر الأصحاب تارةً ، وإلى معظمهم اُخرى .

وفي «الشرائع»(4)، و «النافع»(5)، و «الجواهر»(7): البناء على الاستحباب.

وعن «اللّمعة»(6)، و «الدروس»(7): التفصيل بالوجوب مع الخوف عليه،

ص: 86


1- المبسوط: ج 3/336.
2- إرشاد الأحكام: ج 1/441.
3- مسالك الأفهام: ج 12/470.
4- شرائع الإسلام: ج 4/800.
5- المختصر النافع: ص 253.
6- شرح اللّمعة: ج 7/77.
7- الدروس: ج 3/74.

وهو مالكٌ لما يده عليه .

والاستحباب مع عدمه، واستوجهه في «المسالك»(1)، والظاهر أنّه يرجع إلى القول الثاني، لأنّ الكلام في الالتقاط من حيث هو، لا فيما إذا توقّف عليه حفظ النفس، وإلّا فلا يظنّ بأحدٍ أن يشكّ في الوجوب حينئذٍ، ولا يختصّ ذلك بالالتقاط، بل الحكم ذلك حتّى في الكبر، وعلى هذا، ففي المسألة قولان: الوجوب، والاستحباب.

والأظهر هو الثاني، لعدم الدليل على الوجوب، والأصل يقتضي عدمه.

والاستدلال للوجوب: بأنّه تعاونٌ على البِرّ، وبأنّه دفعٌ لضرورة المضطرّ.

غير تامّ ، إذ التعاون على البِرّ لا يكون واجباً بإطلاقه قطعاً، وإخراج الموارد الثابت فيها عدم الوجوب عن تحت الدليل، مستلزمٌ لإخراج الأكثر المستهجن.

وعليه، فالمتعيّن حمل دليله على الاستحباب.

وكونه دفع ضرورة المضطرّ، قد عرفت عدم ربطه بما هو محلّ البحث.

المسألة السادسة: (وهو) أي اللّقيط بعد الحكم بحريته (مالكٌ لما يده عليه) كما في الكبير، ويده كيد البالغ أمارة الملكيّة، لأنّ له أهليّة المِلك والتملّك، كما صرّح به الشيخ(2) والمحقّق(3) والمصنّف(4) والشهيدان(5) وغيرهم رحمهم الله.4.

ص: 87


1- مسالك الأفهام: ج 12/472.
2- المبسوط: ج 3/336.
3- شرائع الإسلام: ج 4/800.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/272.
5- شرح اللّمعة: ج 7/124.

وفي «الجواهر»(1): (بل لا أجد فيه خلافاً بين من تعرّض له، بل عن «المبسوط»(2) نفي الخلاف فيه).

***7.

ص: 88


1- جواهر الكلام: ج 38/175.
2- المبسوط: ج 3/337.

ويُكرَه أخذ الضَّوال

أحكام الضّوال

الموضع الثاني: في الضَّوال - جمع ضالّة - وهي كلّ حيوانٍ مملوكٍ ضائعٍ ولا يد محترمة عليه.

قال المصنّف رحمه الله: لا إشكال (و) لا خلاف في أنّه (يُكره أخذ الضَّوال) في صورة الجواز.

وفي «المسالك»: (وأخذه حيث يجوز مكروهٌ كراهة شديدة).

أقول: واستدلّ لها في «المسالك» و «الرياض»:

1 - بالنبويّ : «لا يؤوي الضالّة إلّاالضّال»(1).

2 - وبالخبرين: «لا يأكل من الضالّة إلّاالضّالون»(2).

وحيث أنّ الأوّل ضعيف السند عند سيّد «الرياض»، والخبرين لا يدلّان على حكم الآخذ، بل هما متضمنان لحكم الأكل، فلذا استشكل في «الرياض» أوّلاً في الحكم، ثمّ قال:

(وفي الفتاوى والخبر الأوّل كفاية لجواز التسامح في أمثال المقام)(3).

ويرده أوّلاً: ما تقدّم منّا مراراً من أنّ التسامح إنّما هو في أدلّة السنن والمستحبّات لا في المكروهات.

ص: 89


1- الفقيه: ج 4/380 ح 5816، وسائل الشيعة: ج 25/441 ح 32305.
2- الفقيه: ج 3/291 ح 4047، وسائل الشيعة: ج 25/440 ح 32300.
3- رياض المسائل: ج 12/391.

إلّا مع التلف

وثانياً: أنّ النبويّ لا ضعف في سنده، فقد رواه الصدوق رحمه الله(1)، بقوله: (ومن ألفاظ رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لا يؤوي...»، وقد أشرنا كراراً إلى أنّ المرسل إذا كان ثقة، ونَسب الخبر إلى المعصوم جزماً لا بنحو (رُوي) وشبهه، يكون ذلك الخبر حجّة، لأنّ نسبته جزماً إليه كاشفة عن ثبوت صدوره عنه عنده، فهو في حكم توثيق الواسطة أو الوسائط، وعلى هذا فهو قويّ السَّند وظاهر الدلالة.

ويشهد بها: - مضافاً إلى ذلك - النصوص الناهية عن أخذ اللُّقطة:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ عن اللُّقطة، قال:

«وكان عليّ بن الحسين عليه السلام يقول لأهله: لا تمسّوها»(2).

ونحوه غيره(3)، فإنّها وإنْ كانت في اللُّقطة - وهي تتحقّق في المال دون الحيوان كما يأتي - إلّاأنّها بالفحوى تدلّ على المقام.

ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الشّاة الضّالة في الفلاة، قال: «وما أحبّ أن أمسّها»(4).

ومثله صحيح هشام(5).

وعلى هذا فلا إشكال في الكراهة (إلّا مع التلف) إذا لم يلتقطه، فإنّه يجوز الأخذ7.

ص: 90


1- الفقيه: ج 4/380.
2- التهذيب: ج 6/389 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/439 ح 32296.
3- وسائل الشيعة: ج 25/439 باب (استحباب تركها وكراهة التقاطها وخصوصاً في الحرم).
4- الفقيه: ج 3/295 ح 4057، وسائل الشيعة: ج 25/459 ح 32351.
5- وسائل الشيعة: ج 25/457 ح 32347.

بلا كراهة، كما صرّح به المصنّف(1) وغيره، واستدلّ له:

1 - بأنّ نصوص الكراهة منصرفة عن هذه الصورة.

2 - وبالأخبار المتضمّنة لقوله عليه السلام: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»(2)، بدعوى أنّه ترغيب في أخذ الضّالة التي هي في معرض التلف، على معنى أنّك إن أخدتها ولم تعرف مالكها بعد التعريف تكون لك، وإنْ عرفته فقد حفظت مال أخيك المؤمن، وإنْ لم تأخذها أكلها الذئب، أو أخذها غير الأمين الذي هو بمنزلة الذئب.

ولعلّه لذا حكي عن «المبسوط»(3) استحباب أخذها إذا كان أميناً في مفازةٍ أو في خرابٍ أو في عمران.

وفيه: الانصراف ممنوعٌ ، وقوله عليه السلام متّصلاً بالقول المتقدّم في الأخبار: «وما أحبّ أن أمسّها»، يدفع التقريب المذكور، لدلالة الأخبار عليه.

أمّا وجوب حفظ المال عن التلف فقد مرّ ما فيه.

فإذاً مقتضى إطلاق النصوص هي الكراهة حتّى مع خوف التلف.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ حفظ مال الغير وإنْ لم يكن واجباً، لكن لا ريب في حسنه، لأنّه إحسان إليه، كيف وقد دلّت الأخبار(4) على جواز الحلف كاذباً لحفظ مال الغير، فإنّها وإنْ كانت فيما لو كان مال الغير تحت اليد، إلّاأنّه لا شبهة في استفادة مطلوبيّة حفظ مال الغير مطلقاً منها، هذا وإنْ لم يوجب الاستحباب، ولكن لا ريب في كونه موجباً لرفع الكراهة، فلا شبهة في عدم الكراهة في هذه الصورة.).

ص: 91


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/266.
2- الكافي: ج 5/140 ح 12، وسائل الشيعة: ج 25/457 ح 32347.
3- المبسوط: ج 3/321.
4- وسائل الشيعة: ج 23/224 باب: (جواز اليمين الكاذبة للتقيّة كدفع الظالم عن نفسه أو ماله أو نفس مؤمن أو ماله).

فلا يؤخذ البعير في كَلاً وماء

لا يُؤخذ البعير إذا وُجد في كَلاً وماء

أقول: تمام الكلام في هذا الموضع يتحقّق بالبحث في مسائل:

المسألة الأُولى: إنّ الحيوان الذي يُعثر عليه لا يخلو من كونه بعيراً، أو شاة، أو غيرهما، (ف) الكلام في فروع:

الفرع الأوّل: (لا يؤخذ البعير) إذا وجد (في كلاً وماء) يتمكّن من العيش والتناول منهما، بلا خلافٍ ، وعن صريح «غاية المراد»(1) وظاهر «الكفاية»(2)الإجماع عليه، والنصوص شاهدة به، لاحظ:

1 - صحيح هشام بن سالم - أو حسنه - عن الصادق عليه السلام: «جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه إنّي وجدتُ شاة ؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: هي لك، أو لأخيك، أو للذئب!

فقال: يا رسول اللّه إنّي وجدتُ بعيراً؟ فقال: معه حذائه وسقاؤه، حذائه خفّه، وسقاؤه كِرشه، فلا تهجه»(3).

2 - وصحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله سُئل عن البعير الضّال، فقال صلى الله عليه و آله: ما لكَ وله، خُفّه حذائه، وكرشه سقاؤه، خَلّ عنه»(4).

ص: 92


1- غاية المراد: ج 4/149.
2- كفاية الأحكام: ج 2/525.
3- الكافي: ج 5/140 ح 12، وسائل الشيعة: ج 25/457 ح 32347.
4- التهذيب: ج 6/394 ح 25، وسائل الشيعة: ج 25/459 ح 32351.

ونحوهما غيرهما(1).

أقول: ومع ذلك فهو مقتضى القاعدة أيضاً، لعدم جواز إثبات اليد على مال الغير بغير رضاه، أو بغير وجود السبب المرخّص فيه، المفقودين في المقام، لأنّ مالكه غير معلوم، والبعير مصونٌ عن السّباع بامتناعه، ومستغن بالرّعي، فلو أخذه والحال هذه ضمنه بلا خلافٍ ولا إشكال، لعموم على اليد.

قال الشهيد الثاني رحمه الله في محكي «الروضة»(2): (لا يجوز أخذه حينئذٍ بنيّة التملّك مطلقاً، وفي جوازه بنيّة الحفظ لمالكه قولان: من إطلاق الأخبار بالنهي، والإحسان، وعلى التقديرين يضمن بالأخذ).

وظاهره الضمان حتّى على القول بأنّ أخذه إحسانٌ وتجويزه.

ووجّهه في «الجواهر»(3) بالعموم المزبور الذي لا تنافيه قاعدة الإحسان، والمراد منها ما حصل فيه الإحسان لا ما قصد ولم يحصل.

وتنقيح القول: إنّ جواز أخذ ما يحرم التقاطه بعنوان الحفظ، قد اختاره في محكى «التذكرة»(4)، ولا وجه له بعد إطلاق النصوص المتقدّمة. ولا مورد لقاعدة الإحسان؛ لأنّها في موارد جواز وضع اليد حتّى يتمحّض في الإحسان، كما لو علم من حال صاحبه الرّضا بوضع اليد على ماله لإيصاله، لا في مثل الفرض الذي يحرم ذلك، كما هو مقتضى القاعدة وإطلاق الأخبار، بل مقتضى الإحسان ترك التعرّض7.

ص: 93


1- وسائل الشيعة: ج 25/357 باب (حكم التقاط الشّاة والدابّة والبعير وما علم من المالك إباحته).
2- شرح اللّمعة: ج 7/84.
3- جواهر الكلام: ج 38/221.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/267.

ويُؤخذ في غيره إذا تُرِك من جهدٍ، ويملكه الآخذ

له حتّى يجده صاحبه، فإنّ الغالب أنّ من فقدَ شيئاً يطلبه حيث يضعه، فإذا أخذه غيره ضاع عنه، فلا توقّف في عدم الجواز.

وأمّا الضمان مع القول بجوازه، فتنافيه قاعدة الإحسان المخصّصة لقاعدة على اليد.

ويرد على ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1): إنّ الفعل إذا صدر بقصد عنوانٍ حَسَن يُتّصف بالحُسن، وإنْ لم يتحقّق مبدأ ذلك العنوان في الخارج، مثلاً ضرب اليتيم بقصد التأديب حَسنٌ وإنْ لم يتأدّب، والكذب بقصد إنجاء المؤمن حَسنٌ وإنْ لم يترتّب عليه نجاته، بل تمام المناط لاتّصاف الفعل بالحُسن هو ذلك، لا الوجود الواقعي، فضرب اليتيم لا بداعي التأديب قبيحٌ وإنْ تأدّب.

وعليه، ففي المقام على فرض تسليم شمول قاعدة الإحسان، لابدّ من البناء على عدم الضمان إذا أخذه بقصد الحفظ لمالكه وإيصاله إليه، وإنْ تلف قبل الوصول إليه.

هذا كلّه فيما إذا وُجِد في كلاءٍ وماء، (و) إلّافيجوز أن (يُؤخذ في غيره إذا تُرِك من جهدٍ) وعَطَب، لمرضٍ أو كسرٍ أو غيرهما، (ويملكه الآخذ) حينئذٍ على الأظهر الأشهر، بل عليه عامّة من تأخّر، كما في «الرياض»(2).

ولكن صاحب «الجواهر» ينكر صحّة نسبة ذلك إلى الأصحاب، قال: (لا أظنّ بإرادة الأصحاب ذلك، حتّى يكون جابراً، لأنّ تعبير المعظم: لو تركه من جُهدٍ4.

ص: 94


1- جواهر الكلام: ج 38/224.
2- رياض المسائل: ج 12/394.

ونحوه، ممّا هو ظاهرٌ في غير اللُّقطة»(1).

وملخّص الكلام: أنّ البعير المزبور ربما يعرض صاحبه عنه ويتركه، وربما يفقده، ومحلّ الكلام هو الثاني، وحيث أنّ في المقام نصوصاً يمكن استفادة الحكم منها، فلابدّ من ملاحظتها:

1 - صحيح عبداللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من أصاب مالاً أو بعيراً في فلاةٍ من الأرض، قد كلّت وقامت وسيّبها صاحبها ممّا لم يتبعه، فأخذها غيره فأقام عليها، وأنفق نفقةً حتّى أحياها من الكلال ومن الموت، فهي له، ولا سبيل له عليها، وإنّما هو مثل الشيء المباح»(2).

وقد يقال: إنّه مختصٌّ بالصورة الأُولى، ولا يشمل ما نحن فيه، لقوله: «وسيّبها»، ولجعله كالمباح.

ولكن الموجود في بعض النسخ (نسيها) بدل (سيّبها) وهو أنسب، لما فيه من الظهور في أنّ إحياء الحيوان الذي هو في غير ماءٍ ولا كلاء وقد أصابه الجهد والكلال سببٌ لتملّك الحيوان المزبور، سواءٌ أكان أعرض عنه أم لا، مع أنّ الحمل على صورة الإعراض حملٌ على الفرد النادر جدّاً، فإنّ البعير الذي يوجد ولا يعرف صاحبه كيف يمكن إحراز الإعراض عنه، وعليه فالمتعيّن البناء على العموم.

وأمّا جعله كالمباح، فلو لم يدلّ على الاختصاص بمحلّ الكلام - نظراً إلى جعله كالمباح لا مباحاً، والمعروف صيرورته مباحاً بالإعراض - لما دلّ على الاختصاص بصورة الإعراض.8.

ص: 95


1- جواهر الكلام: ج 38/230.
2- الكافي: ج 5/140 ح 13، وسائل الشيعة: ج 25/458 ح 32348.

وعليه، فالإنصاف شمول الصحيح لما هو محلّ الكلام.

2 - وخبر مسمع، عن مولانا الصادق عليه السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول في الدابّة إذا سَرّحها أهلها أو عجزوا عن علفها أو نفقتها، فهي للّذي أحياها.

قال: وقضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجلٍ ترك دابّة بمضيعة، فقال عليه السلام: إنْ تركها في كلاءٍ و ماءٍ وأمنٍ ، فهي له يأخذها متى شاء، وإنْ كان تركها في غير كلاءٍ ولا ماءٍ فهي لمن أحياها»(1).

وأعميّته من الإعراض واضحة.

أقول: بضميمة أنّ إحراز أنّه هل تركها أو ضاع عنها غير ممكنٌ غالباً، وقوله:

«بمضيعة» وعدم القول بالفصل بين صورة إحراز الترك، واحتمال الضياع، يثبت الحكم في مورد الضياع أيضاً.

3 - وخبر السكوني، عنه عليه السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قضى في رجلٍ ترك دابّته من جُهدٍ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان تركها في كلأ وماء وأمنٍ فهي له يأخذها حيث أصابها، وإنْ تركها في خوفٍ وعلى غير ماء ولا كلأ فهي لمَن أصابها»(2).

وتقريب الاستدلال به كسابقه، وعليه فالحكم خالٍ عن الاشكال.

أقول: ولا يخفى أنّ الظاهر من النصوص - كما أفاده سيّد «الرياض»(3) - اعتبار الأمرين: من الترك من جُهدٍ، وفي غير ماءٍ ولا كلأ معاً. فلو انتفى أحدهما بأن ترك4.

ص: 96


1- الكافي: ج 5/141 ح 16، وسائل الشيعة: ج 25/458 ح 32349.
2- الكافي: ج 5/140 ح 14، وسائل الشيعة: ج 25/458 ح 32350.
3- رياض المسائل: ج 12/394.

من جُهدٍ في كلأ وماء، أو من غير جُهدٍ في غيرهما، أو انتفى كلّ منهما، لم يجز الأخذ، وعليه الإجماع في بعض الكتب، وعليه فما عن بعضٍ من كفاية أحدهما، ضعيف.

ثمّ لو كانت الفلاة مشتملة على أحد الأمرين من الماء والكلأ، فهل هي بحكم عادمتهما، أم بحكم مشتملتهما؟ وجهان:

مقتضى مفهوم صدر الخبرين الأوّل.

ومقتضى مفهوم ذيلهما الثاني.

ويؤيّد الأوّل عدم قوام الحيوان بدونهما، وعليه فما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله(1)من اختيار الأوّل أظهر.

والنسبة بين هذه النصوص وبين النصوص المانعة عن الأخذ عمومٌ مطلق، فيقيّد إطلاقها بها، فما عن ابن حمزة(2) من عدم جواز الأخذ في هذه الصورة، التفاتاً منه إلى المنع عنه في النصوص المتقدّمة، ضعيفٌ .

ثمّ إذا أخذها وتملّكها، فلا إشكال في عدم الضمان ولا خلاف، لظاهر النصوص المتقدّمة.

نعم، عن «القواعد»(3) في رَدّ العين مع طلب المالك إشكالٌ ، بل عن «الإيضاح»(4) أنّه الأقوى، ولعلّ وجهه إطلاق قول أبي جعفر عليه السلام في الخبر الذي رواه أبو بصير عنه: «من وجدَ شيئاً فهو له، فليتمتّع به حتّى يأتيه طالبه، فإذا جاء8.

ص: 97


1- شرح اللّمعة: ج 7/85.
2- الوسيلة: ص 278.
3- قواعد الأحكام: ج 2/206.
4- إيضاح الفوائد: ج 2/148.

وتؤخذ الشّاة في الفلاة

طالبه ردّه إليه»(1) بناءً على شموله لمثل المقام.

وأجاب عنه صاحب «الجواهر»:(2) بأنّ أقصاه كون التعارض بينهما من وجه، ولا ريب في أنّ الترجيح للأوّل من وجوه.

وأُورد عليه: بأنّه لا تعارض بينهما، لأنّ خبر أبي بصير أيضاً متضمّنٌ لكونه له، وليس مفاد النصوص المتقدّمة غير ذلك، فلا معارض للخبر بالنسبة إلى وجوب الرّد.

ولكن يمكن دفع ذلك: بأنّ التفصيل في خبري السكوني ومسمع بين تركها في كلاءٍ وماءٍ فله أخذها، وبين تركها في غير ذلك فهي لمن أصابها، ظاهرٌ في إرادة الملكيّة اللّازمة، وإلّا فله أخذها في المورد الثاني أيضاً، وإلغاءه التفصيل من هذه الجهة، بل قوله عليه السلام في الصحيح: «فهي له ولا سبيل له عليها»، ظاهرٌ في أنّه ليس له الفسخ والرّد.

وعليه، فما أفاده في «الجواهر» تامٌّ ، وتقدّم نصوص الباب للشهرة التي هي أوّل المرجّحات.

حكم الشّاة الملتقطة

الفرع الثاني: (وتؤخذ الشّاة) إنْ وجدت (في الفلاة) التي يخاف عليها من

ص: 98


1- الكافي: ج 5/139 ح 10، وسائل الشيعة: ج 25/447 ح 32323.
2- جواهر الكلام: ج 38/232.

مضمونةً

السّباع جوازاً، بلا خلافٍ ظاهر، بل عن «التذكرة»(1) عليه الإجماع.

ويشهد به:

1 - جملة من النصوص المتقدّم بعضها، المتضمّنة لقوله صلى الله عليه و آله: «هي لك أو لأخيك أو للذئب»(2).

2 - وما ذكروه من أنّها لاتمتنع من صغير السّباع، فهي معرّضة للتلف، فتكون بحكم التالفة.

ثمّ إنّه بعد أخذها يتخيّر:

بين أن يحفظها لمالكها ودفعها إلى الحاكم، ولا ضمان فيهما إجماعاً، لأنّه في الأوّل أمينٌ إذ الشارع رخَّص في الأخذ، وفي الثاني الحاكم وليّ الغائب، فالدفع إليه كالدفع إلى المالك.

وبين أن يتملّكها بلا خلافٍ ، والنصوص المتقدّمة شاهدة به، ولا يعارضها ما دلّ على أنّه يحبسها عنده ثلاثة أيّام، فإنْ جاء صاحبها وإلّا تصدّق بثمنها عن صاحبها، لما سيأتي.

وهل هي (مضمونة) عليتقديرالتملّك كماعن الأكثر - مطلقاً أو مع ظهور المالك - بل هو المشهور بينهم(3)، أم لا؟ قولان.

يشهد للأوّل: - مضافاً إلى إطلاق خبر أبي بصير المتقدّم: «من وَجَد شيئاً فهو له9.

ص: 99


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/267.
2- الكافي: ج 5/140 ح 12، وسائل الشيعة: ج 25/457 ح 32347.
3- راجع المهذّب البارع: ج 4/299.

فليتمتّع به حتّى يأتيه طالبه، فإذا جاء طالبه ردّه إليه» - صحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن رجلٍ أصاب شاة في الصحراء، هل تحلّ له ؟

قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: هي لك أو لأخيك أو للذئب، فخذها فعرّفها حيث أصبتها، فإن عرفتَ فردّها إلى صاحبها، وإنْ لم تعرف فكُلْها وأنتَ ضامنٌ لها إنْ جاء صاحبها يطلب ثمنها أن تردّها عليه»(1).

ولا ينافي ذلك ما دلّ على التملّك، فإنّ الجمع بينهما يقتضي البناء على التملّك بعوض.

وهل التملّك لها قبل تعريف السّنة، أم بعده ؟ قولان:

وجه الأوّل: إطلاق الصحاح المتقدّمة المتضمّنة لجواز التملّك من دون تقييد له.

ووجه الثاني: الأصل، وعموم الأمر بالتعريف في اللّقطات، وظاهر صحيح علي بن جعفر المتقدّم، وصحيحه الآخر عنه عليه السلام:

«عن الرّجل يصيب اللُّقطة دراهماً وثوباً أو دابّة، كيف يصنع ؟

قال عليه السلام: يعرّفها سنة، فإنْ لم يعرف صاحبها جعلها في عَرض ماله حتّى يجيء طالبها فيعطيها إيّاه، وإنْ ماتَ أوصى بها، فإنْ أصابها شيءٌ فهو ضامن»(2) فتأمّل.

أقول: والثاني أظهر، لأنّ أكثر ما ذكر في وجهه وإنْ كانت مخدوشة - إذ الأصل لا يرجع إليه مع الدليل، والأمر بالتعريف في اللّقطات إنّما هو في لقطة الأموال غير الضوالّ ، بحكم الانصراف والسياق، والصحيح الثاني لعليّ بن جعفر ظاهرٌ في عدم التملّك أصلاً، سيّما وفي نسخة الوسائل (حفظها) بدل (جعلها) - ولكن في الصحيح8.

ص: 100


1- وسائل الشيعة: ج 25/459 ح 32353.
2- التهذيب: ج 6/397 ح 38، وسائل الشيعة: ج 25/444 ح 32318.

الأوّل كفاية.

ولا يعارضه إطلاق الصّحاح المتقدّمة، فإنّه يقيّد به، كيف وقد جمع في الصحيح بين ما تضمّنته تلك النصوص، وبين الأمر بالأكل والتملّك بعد التعريف.

ويمكن أنْ يستدلّ له بصحيح صفوان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«من وجد ضالّة فلم يعرفها، ثمّ وجدت عنده فإنّها لربّها»(1).

فلا توقّف في أنّ التملّك إنّما هو بعد التعريف سنة، وفي الصحيحين وإنْ لم يصرّح بلزوم التعريف مدّة سنة واحدة، إلّاأنّه من المعلوم أنّ التعريف في هذا الباب هو التعريف سنة، وإطلاق التعريف فيهما منزل على ما هو المعلوم ثبوته بنصوص اُخر ولو في لقطة الأموال.

وأمّا خبر ابن أبي يعفور، عنه عليه السلام: «جاء رجلٌ من المدينة فسألني عن رجلٍ أصاب شاةً ، فأمرته أن يحبسها عنده ثلاثة أيّام، ويسأل عن صاحبها، فإن جاء صاحبها وإلّا باعها وتصدّق بثمنها»(2).

فقدحمله الأصحاب عليما إذا أُخذت من المناطق المعمورة أو المساكن المأهولة، وما هو قريب منها، بحيث لا يخاف عليها من السّباع، جمعاً.

وفي «الرياض»(3): (وظاهرهم الإطباق على العمل به حينئذٍ، فبه ينجبر ضعف سنده، ويختصّ الحكم بمورده وهو الشّاة).

وقد مرّ أنّ إطلاقه من حيث أخذه من العمران أو الفلاة يقيّد بالنصوص7.

ص: 101


1- الكافي: ج 5/141 ح 17، وسائل الشيعة: ج 25/460 ح 32354.
2- التهذيب: ج 6/397 ح 36، وسائل الشيعة: ج 25/459 ح 32352.
3- رياض المسائل: ج 12/397.

المتقدّمة، وليس في الخبر دلالة على جواز الأخذ، ففي ذلك يجب الرجوع إلى القواعد، وهي تقتضي عدم جواز الأخذ ما لم يخف التلف أو النهب كما مرَّ.

حكم الحيوان غير البعير والشّاة

الفرع الثالث: ويدور البحث فيه عمّا إذا وجد غير البعير والشّاة في الفلاة:

1 - فإنْ كان دابّة، فهي ملحقة بالبعير بلا خلافٍ ، وخبرا السكوني ومسمع شاهدان بالإلحاق.

وأمّا البقرة والحمار، فعن الشيخ(1)، والحِلّي(2)، والمحقّق(3)، وغيرهم الإلحاق، وهو الأظهر.

أمّا المنع لو وجدا في كلاءٍ وماء، فلأنّه مقتضى القاعدة، أضف إليه ما قاله صاحب «المسالك»(4) من: (مشاركتهما للدابّة في العدو والامتناع من صغير السّباع، وكون المفهوم من فحوى المنع من أخذ البعير وهو قدرته على الامتناع ممّا يملكه المساواة).

وأمّا الجواز فيما لو وجدا في غير ماءٍ ولا كلأ، فلإطلاق قوله عليه السلام في صحيح ابن سنان: «من أصاب مالاً أو بعيراً في فلاةٍ من الأرض... الخ».

2 - وإنْ كان الحيوان الموجود ما لا يمتنع من صغير السّباع - كأطفال الإبل

ص: 102


1- الخلاف: ج 3/579.
2- تحرير الأحكام: ج 4/458.
3- شرائع الإسلام: ج 4/804.
4- مسالك الأفهام: ج 12/494.

ويُنفق مع تعذّر السلطان،

والبقر والخيل والحمير والدجاج والأوزّ وما شاكل - فالمشهور(1) إلحاقه بالشاة في حكمها، وعن «التذكرة»(2) نسبته إلى علمائنا، وهو الحجّة فيه.

ويؤيّده: أنّ المستفاد من النصوص الواردة في البعير والشّاة، أنّ المدار على الامتناع والاستغناء حتّى يأتي صاحبه وعدمه.

أقول: وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو كان من قبيل الغِزلان واليحامير(3) وما شابههما إذا ملكت ثمّ ضلّت، وأنّها تلحق بالبعير، لأنّها تمتنع عن السّباع بسرعة العدو، وتستغني بالرّعي في الفلاة، فما ذكرناه في البقرة جارٍ فيها.

ثمّ إنّ هذا كلّه في الضالّة في الفلاة، وهي الأرض غير المأهولة.

وأمّا لو وجدت في العمران الذي هو المأهول، فلا يحلّ أخذها، ممتنعةً كانت أو غير ممتنعة، للأصل الدالّ على عدم جواز وضع اليد على مال الغير بغير رضاه.

وفي العلل المذكورة في النصوص إشارةٌ إليه، وصحيحا صفوان وعلي بن جعفر المتقدّمان المتضمّنان لبيان تعريف الضّالة، لا يدلّان على الجواز، لعدم كونهما في مقام البيان من هذه الجهة، وقد خرج عن ذلك الشّاة، وقد مرّ الكلام فيها.

حكم ما يُنفق على الضّالة

المسألة الثانية: (و) لو أخذ الضّالة، عليه أنْ (يُنفق) عليها (مع تعذّر السلطان)

ص: 103


1- راجع اللّمعة الدمشقيّة: ص 207، المهذّب البارع: ج 4/296، شرح اللّمعة: ج 7/86.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/267.
3- اليحامير جمع اليحمور، فقيل: إنّه حمار الوحش، وقيل: هو طائر، وقيل: هو دابّة تشبه العنز، راجع لسان العرب مادّة حمر.

ويرجع بها

بل ومع إمكانه، لأنّه:

إنْ لم يكن الأخذ جائزاً، فهو غاصبٌ ويجب عليه حفظها ليردّها على المالك، والإنفاق من مقدّمات الحفظ.

وإنْ كان جائزاً فهي أمانة شرعيّة في يده، ويجبُ حفظ الأمانة من التلف.

وإنْ أخذها وتملّكها في ما كان جائزاً فهي مملوكته، وإنفاق المملوك واجب.

(و) على التقادير، لا وجه للتقييد بصورة تعذّر السلطان.

ولو أنفق عليها، فهل (يرجع بها) على المالك أم لا؟

الظاهر هو الثاني في مورد عدم جواز الأخذ، لأنّ الإنفاق ليس بأمر المالك ولا إذنه، ولا إذن من الشارع الأقدس، ومجرّد عود نفعه إلى المالك لا يوجبُ ضمانه لها.

أضف إليه: أنّه مع عدم جواز الأخذ يكون غاصباً، وقد ورد التصريح في صحيح أبي ولّاد بأنّ الغاصب لا يرجع:

«قال: قلت له: جُعِلتُ فداك، فقد علفته بدراهم فلي عليه علفه ؟ قال عليه السلام: لا، لأنّك غاصب»(1).

والأوّل في مورد جوازه:

1 - لمفهوم الصحيح، فإنّ المستفاد منه أنّ غير الغاصب له الرجوع بما أنفق على الضالة.9.

ص: 104


1- الكافي: ج 5/290 ح 6، وسائل الشيعة: ج 25/390 ح 32199.

ولو انتفع تقاصّ .

2 - ولقوله عليه السلام في خبر عليّ بن جعفر: «إنّما يحلّ له بيعها بما أنفق عليها»(1).

وقريبٌ منه غيره، حيث إنّه يدلّ على جواز البيع لأخذ ما أنفق عليها.

فالمتحصّل: أنّه مع إذن الشارع في الأخذ، أو العلم برضا المالك به، يرجع فيما أنفق عليها، ولا يرجع بدون ذلك.

فرع: إذا كان للضالة نفعٌ ، كالظهر والركوب أو اللّبن:

فإنْ كان يجوز له أخذها، جاز له الانتفاع به في مقابلة الإنفاق، بلا خلافٍ ، ويعضده صحيح محمّد بن أحمد، عن الإمام الصادق عليه السلام عن اللّقيطة، قال:

«لا تُباع ولا تُشرى، ولكن تستخدمها بما أنفقت عليها»(2).

إنّما الخلاف في كيفيّة الاحتساب، ففي المتن (ولو انتفع تقاصّ ) ونحوه ما في «الشرائع»(3) و «النافع»(4)، بل في «الجواهر»(5): (هو خيرة جميع من تأخّر عن المصنّف).

وعن الشيخ في «النهاية»(6): (كان ذلك بإزاء ما أنفق).

أقول: وكلٌّ من القولين مخالفٌ للقاعدة:

أمّا الأوّل: فلأنّ المقاصّة مشروطة بشروط ذكرناهافي كتاب القضاء(7)، ولم يعتبر7.

ص: 105


1- التهذيب: ج 6/397 ح 38، وسائل الشيعة: ج 25/443 ح 32313.
2- الكافي: ج 5/225 ح 4، وسائل الشيعة: ج 25/467 ح 32369.
3- شرائع الإسلام: ج 4/805.
4- المختصر النافع: ص 253.
5- جواهر الكلام: ج 38/265.
6- النهاية: ص 324.
7- فقه الصادق: ج 38/287.

وإذا حال الحول على الضّالة، ونوى الاحتفاظ فلا ضمان، ولو نوى التملّك ضَمِن،

أحدٌ شيئاً منها في المقام.

وأمّا الثاني: فلأنّ وقوع المعاوضة بين مال المالك الغائب، وما ينفق عليه، خلاف القواعد.

ولكن الذي يُسهّل الخطب، معلوميّة أنّ له الانتفاع، ولا ثمرة للنزاع في أنّه هل هو بعنوان المعاوضة أو المقاصّة.

المسألة الثالثة: (وإذا حال الحول على الضّالة، ونوى الاحتفاظ، فلا ضمان) كما مرّ، بل عرفت أنّه لا ضمان مع نيّة الاحتفاظ في أثناء الحول أيضاً.

(ولو نوى التملّك؛ ضَمِن) كما تشهد به النصوص على ما مرَّ، فراجع(1).

***د.

ص: 106


1- صفحة 89 وما بعدها من هذا المجلّد.

حكم لُقطة المال الصامت

الموضع الثالث: في لقطة المال الصامت.

وهي لغةً وعرفاً عبارة عن كلّ مالٍ ضائع غير الحيوان، ولا يد لأحدٍ عليه، ولو كانت هي يد ملتقطٍ سابق.

وبالقيد الأخير يخرج المال الضائع الذي سبقت عليه يد الالتقاط، كما أنّه باعتبار الضياع يخرج غير اللُّقطة من أفراد المال المجهول مالكه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ المجهول مالكه الذي لا يد لأحدٍ عليه:

تارةً : يكون ضائعٌ عن مالكه مثل ما يوجد في الطريق وشبهه.

واُخرى : لا يكون ضائعاً منه، مثل ما يؤخذ من يد السارق والغاصب وما جُعل أمانةً ثمّ فقد مالكه، وما شاكل.

والأوّل هو اللُّقطة بالمعنى الأخصّ ، والثاني هو مجهول المالك، فالفرق بين العنوانين هو اعتبار صدق اسم الضياع ولو بشاهد الحال من المالك في اللُّقطة، دون مجهول المالك، بل قيل إنّ الأصل عدم ترتّب أحكام اللُّقطة مع عدم تحقّق اسم الضياع.

أمّا مجهول المالك: فقد أشبعنا الكلام فيه في المكاسب المحرّمة، وبيّنا هناك أنّ الأظهر فيه تعيّن الصدقة، وذكرنا عدم اعتبار إذن الحاكم، وأنّ مصرفها الفقراء، ويجوز إعطائها الهاشمي.

والكلام في المقام في خصوص اللُّقطة، وتمام البحث فيها في طيّ مسائل:

ص: 107

ويُكره أخذ اللُّقطة

كراهة أخذ اللُّقطة

المسألة الأُولى: (ويُكره أخذ اللُّقطة) مطلقاً في مورد جوازه، كما مرّ في الموضع الثاني، وتشهد به نصوص كثيرة:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن اللُّقطة ؟ قال عليه السلام: لا ترفعها، فإنْ ابتليتَ بها فعرّفها سنة»(1) الحديث.

ومنها: صحيح عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام في حديثٍ ، قال: «وكان عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول لأهله: لا تمسّوها»(2).

ومنها: مرسل الصدوق، قال الصادق عليه السلام: «أفضل ما يستعمله الإنسان في اللُّقطة إذا وجدها، أن لا يأخذها، ولا يعترض لها، فلو أنّ الناس تركوا بما يجدونه لجاء صاحبه فأخذه، وإنْ كانت اللُّقطة دون درهم، فهي لك»(3) الحديث.

ونحوها غيرها(4).

أقول: وما في جملةٍ من تلك النصوص من النهي عن الأخذ محمولٌ على الكراهة:

1 - للإجماع على عدم الحرمة، وفي «الجواهر»(5): (بل يمكن دعوى القطع

ص: 108


1- الكافي: ج 5/139 ح 11، وسائل الشيعة: ج 25/444 ح 32315.
2- التهذيب: ج 6/389 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/439 ح 32296.
3- الفقيه: ج 3/297 ح 4064، وسائل الشيعة: ج 25/443 ح 32314.
4- وسائل الشيعة: ج 25/441 باب (وجوب تعريف اللُّقطة إذا كانت أكثر من درهم).
5- جواهر الكلام: ج 38/288.

بفساد القول بالحرمة، أو الضرورة فضلاً عن الإجماع).

2 - ولمرسل الصدوق. وصحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «عن اللُّقطة، فأراني خاتماً في يده من فضّة، قال عليه السلام: إنّ هذا ممّا جاء به السيل، وأنا أُريد أن أتصدّق به»(1).

3 - ولما في جملةٍ منهامن القرائن، كالتعبير ب (لا يصلح) و (لا ينبغي) وغير ذلك.

حكم لقطة الحرم: اختلف في جواز أخذ لقطة الحرم وعدمه:

ففي «المسالك»(2): (اختلف الأصحاب في لقطة الحرم على أقوال منتشرة حتّى من الرّجل في كتاب واحد).

وعلى هذا، فلابدّ من ملاحظة الأدلّة بلا نظر إلى أقوال الفقهاء، فقد استدلّ للحرمة:

1 - بقوله تعالى (أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) (3)، بدعوى أنّ مقتضاه أنْ يكون الإنسان آمناً فيه على نفسه وماله، وهو ينافي جواز أخذه.

2 - وبجملةٍ من النصوص:

منها: حسن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يجد اللُّقطة في الحَرَم ؟ قال عليه السلام: لا يمسّها، وأمّا أنتَ فلا بأس لأنّك تعرّفها»(4).

ومنها: خبره الآخر، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن لقطة الحرم ؟ فقال عليه السلام: لا تمسّ أبداً حتّى يجيء صاحبها فيأخذها.6.

ص: 109


1- التهذيب: ج 6/391 ح 12، وسائل الشيعة: ج 25/451 ح 32333.
2- مسالك الأفهام: ج 12/510.
3- سورة العنكبوت: الآية 67.
4- الكافي: ج 4/239 ح 2، وسائل الشيعة: ج 13/261 ح 17696.

قلت: فإنْ كان مالاً كثيراً؟ قال: فإن لم يأخذها إلّامثلك فليعرّفها»(1).

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، عن العبد الصالح موسى بن جعفر عليهما السلام:

«عن رجلٍ وجد ديناراً في الحرم فأخذه ؟ قال عليه السلام: بئس ما صنع، ما كان ينبغي له أنْ يأخذه.

قلت: قد ابتلى بذلك ؟ قال: يعرّفه.

قلت: فإنّه قد عرّفه يجد له باغياً؟

فقال عليه السلام: يرجع إلى بلده فيتصدّق به على أهل بيتٍ من المسلمين، فإنْ جاء طالبه فهو له ضامن»(2).

ومنها: مرسل إبراهيم بن أبي البلاد، قال: «قال الماضي (أي العسكري عليه السلام): لقطة الحَرَم لا تُمسّ بيدٍ ولا برجلٍ ، ولو أنّ الناس تركوها لجاء صاحبها وأخذها»(3).

ومنها: خبر يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن اللُّقطة ونحن يومئذ بمنى ؟ فقال عليه السلام: أمّا بأرضنا فلا يصلح، وأمّا عندكم فإنّ صاحبها الذي يجدها يعرّفها سنة في كلّ مجمعٍ ثمّ هي كسبيل ماله»(4).

أقول: ولكن الآية الكريمة لا تدلّ على المنع من الأخذ، فإنّ المراد من كونه آمناً هو كونه آمناً في الدُّنيا أو الآخرة، وهذا لا ينافي جواز الالتقاط مع البناء على التعريف.2.

ص: 110


1- التهذيب: ج 5/421 ح 107، وسائل الشيعة: ج 13/260 ح 17693.
2- التهذيب: ج 5/421 ح 108، وسائل الشيعة: ج 25/463 ح 32360.
3- التهذيب: ج 6/390 ح 7، وسائل الشيعة: ج 25/439 ح 32298.
4- التهذيب: ج 5/421 ح 109، وسائل الشيعة: ج 13/259 ح 17692.

فإنْ أخذها وكانت دون الدّرهم مَلِكها

وأمّا النصوص: فإنّه وإنْ أتعب سيّد «الرياض»(1) نفسه الزكيّة لإثبات دلالتها على الحرمة، بعد ادّعاء جبر ضعف السند في جملةٍ منها بالشهرة، إلّاأنّ الإنصاف أنّ ملاحظة مجموعها توجب الاطمئنان بالكراهة، فإنّ فيها قرائن دالّة على ذلك:

منها: التصريح في حَسَن الفُضيل بعدم الباس، معلّلاً بأنّك تعرّفها.

ومنها: قوله في خبره الآخر: «فإنْ لم يأخذها إلّامثلك فليعرّفها»، فإنّ ذلك بعد النهي عن المسّ ، ظاهرٌ في جوازه لمثله، ومن المعلوم أنّه لو كان حراماً لساوى مع غيره.

ومنها: قوله: «لا يصلح»، في خبر ابن شُعيب.

ومنها: أنّ في جملةٍ من النصوص الآتية، المتضمّنة لحكمه بعد الأخذ من دون تعرّض فيها للنهي.

ومنها: غير تلكم من القرائن الموجبة للاطمينان بعدم الحرمة.

وعليه، فإذاً الأظهر هو الكراهة مطلقاً.

حكم اللُّقطة بعد الأخذ

المسألة الثانية: (فإنْ أخذها، وكانت دون الدِّرهم مَلِكها) بغير تعريفٍ ، بلاخلافٍ أجده فيه، كما في «الجواهر»(2)، بل عليه الإجماع عن «التذكرة»(3) وغيرها.

ص: 111


1- رياض المسائل: ج 12/403.
2- جواهر الكلام: ج 38/278.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/256.

ويشهد به:

1 - مرسل الصدوق المتقدّم: «وإنْ كانت اللُّقطة دون درهمٍ ، فهي لك فلا تعرّفها، فإنْ وَجدَتَ في الحرم ديناراً مطلساً(1) فهو لك لا تعرّفه»(2).

2 - وخبر أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام: «من وَجَد شيئاً فهو له، فليتمتّع حتّى يأتيه طالبه، فإذا جاء طالبه ردّه إليه»(3).

فإنّ إطلاقه يشمل ما دون الدرهم، ويدلّ على جواز التملّك بدون التعريف.

3 - وخبر محمّد بن أبي حمزة الصحيح بابن أبي عمير، عن بعض أصحابنا، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «سألته عن اللُّقطة ؟

قال عليه السلام: تُعرّف سنةً ، قليلاً كان أو كثيراً، قال: وما كان دون الدرهم فلا يعرّف»(4).

وظهور الأولين في المِلكيّة لا يُنكر.

أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالبحث في جهات:

الجهة الاُولى: هل يختصّ ذلك بلقطة غير الحرم، أم يعمّ لقطته ؟

قولان، بل ظاهر «الشرائع»(5) و «النافع»(6) عدم الخلاف في الثاني، بل عن «الخلاف»(7) الإجماع عليه، وهو الأظهر:5.

ص: 112


1- الدينار المطلّس: الذي لا نقش فيه.
2- الفقيه: ج 3/297 ح 4064، وسائل الشيعة: ج 25/443 ح 32314.
3- الكافي: ج 5/139 ح 10، وسائل الشيعة: ج 25/447 ح 32323.
4- الكافي: ج 5/137 ح 4، وسائل الشيعة: ج 25/446 ح 32322.
5- شرائع الإسلام: ج 4/806.
6- المختصر النافع: ص 253.
7- الخلاف: ج 3/585.

1 - لإطلاق النصوص المتقدّمة.

ولا يعارضها إطلاق ما دلّ على عدم تملّك لقطة الحرم، لأنّه بقرينة ما فيه من التفصيل بين لقطة الحرم ولقطة غيره، والحكم بالتصدّق في الأُولى وجواز التملّك في الثانية بعد التعريف حولاً، يختصّ بالأزيد من الدرهم.

ولو سُلّم إطلاق تلك النصوص أيضاً، فالنسبة بينها وبين هذه عموم من وجه.

2 - وتقدّم نصوص الباب، لما سمعته من دعوى عدم الخلاف.

الجهة الثانية: ظاهر المرسل، وخبر أبي بصير حصول الملكيّة بمجرّد الأخذ، ولو لم يقصد التملّك.

وعن «القواعد»(1) اعتبار نيّة التملّك. وقوّاه في «الجواهر»(2)، مستدلّاً له:

1 - بأنّ المرسل ضعيفُ السند، والمتيقّن من الإجماع حصول الملكيّة بعد النيّة.

2 - وبظهور الأدلّة في عدم الفرق بين القليل والكثير إلّابالتعريف، ومن المعلوم اعتبار النيّة في الثاني.

3 - وبأصالة عدم المِلْك حتّى ينويه.

ويرد الأوّل: ما مرّ من اعتباره، مضافاً إلى أنّ ضعفه لو كان منجبرٌ بالعمل.

والثاني: أنّه ليس في النصوص ما يتضمّن عدم الفرق بين القليل والكثير إلّا بذلك.

والثالث: أنّ الأصل لا يرجع إليه مع الدليل.

وبالجملة: فالأظهر عدم اعتبارها.0.

ص: 113


1- قواعد الأحكام: ج 2/211.
2- جواهر الكلام: ج 38/280.

الجهة الثالثة: ظاهر المتن و «الإرشاد»(1)، والمحكي عن الشيخين(2)، والديلمي(3)، وابن حمزة(4) أنّه لايضمن، فلو جاء لا يَغرم له قيمته مع التلف، ولا يردّ العين مع بقائها، بل عن «النهاية»(5) و «الغُنية»(6) التصريح بذلك، بل في محكي «المختلف»(6)أنّه المشهور. وعن «الغُنية»(8) الإجماع عليه، للأصل، وظاهر قوله عليه السلام «لك» في المرسل.

وعن «القواعد»(7)، و «الإيضاح»(8)، و «التنقيح»(9)، و «الرياض»(10): الضمان.

واستدلّ له في «الرياض»:

1 - بعدم صراحة النصوص في التملّك، بناءً على عدم صراحة اللّام فيه.

2 - وبأنّ نصوصها ما بين ضعيف السند كالمرسل، وغير متضمّنٍ عدا نفي وجوب التعريف في هذا المقدار، وهو لا يستلزمُ التملّك.

ويردّه: كفاية الظهور، ولا تعتبر الصّراحة في الدليل، وانكار ظهور اللّام في الملكيّة مكابرة.0.

ص: 114


1- إرشاد الأذهان: ج 1/443.
2- المبسوط: ج 3/327، المقنعة: ص 646.
3- المراسم العلويّة: ص 209.
4- الوسيلة: ص 278.
5- النهاية: ص 320. (6و8) غنية النزوع: ص 303.
6- مختلف الشيعة: ج 6/90.
7- قواعد الأحكام: ج 2/209.
8- إيضاح الفوائد: ج 2/155.
9- التنقيح الرائع: ج 4/115.
10- رياض المسائل: ج 12/400.

والمرسل قد عرفت اعتباره، مضافاً إلى انجبار ضعفه لو كان بالعمل.

فالحقّ أنْ يقال: إنّ مقتضى القاعدة عدم الضمان، بمعنى أنّه مع بقاء العين لايجب ردّها، ومع تلفها لا يجب رَدّ بدلها، إذ بعد ما صارت له لا موجب للضمان، لكن خبر أبي بصير المتقدّم دالٌّ على أنّه مع بقاء العين إذا جاء طالبها وجب الرّد، فيلتزم به في خصوص صورة البقاء.

وعليه، فما ورد في «الإيضاح»(1) و «التنقيح»(2) من أنّ الخبر بعد الإجماع على عدم وجوب رَدّ العين، يُحمل على إرادة رَدّ القيمة، غريبٌ ، إذ لا إجماع على عدم وجوبه، وعلى فرضه يطرح الخبر، أو يحمل على الرجحان، لا أنّه يُحمل على إرادة معنى آخر.

الجهة الرابعة: هل يختصّ هذا الحكم بما دون الدرهم، أم يعمّ الدرهم ؟

قولان، أقواهما الأوّل، فالدرهم كالزائد في التعريف، لاختصاص المرسل، وخبر ابن أبي حمزة بما دون الدرهم، بل حكم عليه السلام في الخبر أوّلاً بوجوب التعريف في القليل والكثير، ثمّ استثنى خصوص ما دون الدرهم.

واستدلّ له في «الرياض»(3) و «الجواهر»(4): (بالصحيح: «عن الرّجل يصيبُ درهماً أو ثوباً أو دابّة ؟ قال عليه السلام: يعرّفه سنة»).

والظاهر أنّ المراد به صحيح علي بن جعفر المتقدّم(5) والموجود في نسخة4.

ص: 115


1- إيضاح الفوائد: ج 2/155.
2- التنقيح الرائع: ص 116.
3- رياض المسائل: ج 12/400.
4- جواهر الكلام: ج 38/282.
5- الفقيه: ج 3/292 ح 4049، وسائل الشيعة: ج 25/466 ح 32364.

«الوسائل» الموجودة عندي (دراهم) بدل (درهماً)، وعليه فهو لا يدلّ على ذلك.

قال في «النافع»(1): (فيه روايتان).

لكن قال صاحبا «الرياض»(2) و «الجواهر»(3) أنّهما لم يقفا عليه.

الظاهر أنّ مراد المحقّق من رواية الإلحاق خبر أبي بصير المتقدّم، الدالّ على أنّ اللُّقطة لواجدها مطلقاً بدون التعريف(4) خرج عنه ما زاد عن الدرهم وبقى الباقي.

ولكن النسبة بينه وبين نصوص التعريف هي التباين من حيث المورد، والإطلاق والتقييد من حيث اعتبار التعريف، فيقيّد إطلاقه من هذه الجهة بها، ثم يقيّد إطلاق الجميع من حيث كونها أقلّ من الدرهم أو الأزيد بما تقدّم من الأخبار.

وبالجملة: فالمتحصّل من النصوص، بعد ضَمّ بعضها إلى بعض، إلحاق الدرهم بما زاد عليه.

***3.

ص: 116


1- المختصر النافع ص 253.
2- رياض المسائل: ج 12/401.
3- جواهر الكلام: ج 38/282.
4- الكافي: ج 5/139 ح 10، وسائل الشيعة: ج 25/447 ح 32323.

وإنْ كانت درهماً فما زاد عرَّفها حولاً

وجوب تعريف اللُّقطة حولاً

قال المصنّف رحمه الله: (وإنْ كانت) اللُّقطة (درهماً فما زاد، عرّفها حولاً) بلا خلافٍ ، بل عليه الإجماع في جملةٍ من الكلمات(1).

ويشهد به:

1 - صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث، قال:

«واللُّقطة يجدها الرّجل ويأخذها؟ قال عليه السلام: يعرّفها سنة، فإنْ جاء لها طالبٌ وإلّا فهي كسبيل ماله»(2).

2 - وخبر كثير، قال: «سأل رجلٌ أمير المؤمنين عليه السلام عن اللُّقطة ؟

فقال عليه السلام: يعرّفها، فإنْ جاء صاحبها دفعها إليه، وإلّا حبسها حولاً، فإنْ لم يجيء صاحبها أو من يطلبها تصدّق بها»(3).

ونحوهما غيرهما(4) من النصوص الكثيرة الآتية جملة منها.

ومقتضى إطلاق جملة منها، وصراحة اُخرى ، عدم الفرق في وجوب ذلك بين لقطة الحرم ولقطة غيره، وأيضاً عدم الفرق في لقطة غير الحرم بين صورة إرادة التملّك، وصورة إرادة التصدّق، أو الحفظ كما عليه الأكثر.

ص: 117


1- راجع جواهر الكلام: ج 38/294.
2- التهذيب: ج 6/389 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/441 ح 32306.
3- التهذيب: ج 6/389 ح 4، وسائل الشيعة: ج 25/441 ح 32307.
4- وسائل الشيعة: ج 25/441 باب: (وجوب تعريف اللُّقطة سنة إذا كانت أكثر من درهم).

فإنْ كانت في الحَرَم تصدّق بها بعده، ولا ضمان، أو استبقاها أمانة،

وعن «المبسوط»(1): اختصاص وجوب التعريف حولاً بالصورة الأُولى ، محتجّاً بأنّ التعريف إنّما وجب لتحقّق شرط التملّك، فإذا لم يقصده لم يجب ويكون مالاً مجهول المالك.

وفيه: أنّه منافٍ لصراحة جملةٍ من النصوص المتضمّنة للتعريف حولاً ثمّ يتصدّق به، وعليه فلا إشكال في وجوب التعريف حولاً مطلقاً.

(فإنْ كانت في الحرم، تصدّق بها بعده) أي بعد تعريف السَّنة (ولا ضمان، أو استبقاها أمانةً ) في يده، ولا يجوز له أنْ يتملّكها، بلا خلافٍ في شيء من تلكم، الافي عدم جواز التملّك فقد جوّزه الحَلبي(2).

أمّا التصدّق: فتشهد به نصوصٌ كثيرة:

منها: خبر علي بن أبي حمزة، عن الإمام الكاظم عليه السلام: «عن رجلٍ وجد ديناراً في الحرم فأخذه ؟

قال عليه السلام: بئس ماصنع، ما كان ينبغي له أنْ يأخذه.

قال: قلت: قد ابتلي بذلك ؟ قال عليه السلام: يعرّفه.

قلت: فإنّه قد عرّفه فلم يجد له باغياً؟

فقال عليه السلام: يرجع إلى بلده فيتصدّق به على أهل بيتٍ من المسلمين، فإنْ جاء طالبه فهو له ضامن»(3).0.

ص: 118


1- المبسوط: ج 3/320.
2- الكافي في الفقه: ص 350.
3- التهذيب: ج 6/395 ح 30، وسائل الشيعة: ج 25/463 ح 32360.

ومنها: خبر اليماني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «اللُّقطة لقطتان: لُقَطة الحرم وتعرّف سنةً ، فإنْ وجدت صاحبها وإلّا تصدّقت بها، ولقطة غيرها تعرّفه سنة فإنْ جاء صاحبها، وإلّا فهي كسبيل مالك»(1).

ونحوهما غيرهما(2) وظاهر الجميع تعيّن الصدقة.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ الأمر بالصدقة لوروده مورد توهّم الحظر بالنسبة إلى حفظ المال، لصاحبه الذي هو مقتضى القاعدة والأصل، لا يستفاد منه اللّزوم، فيتخيّر بين الصدقة واستبقائها أمانة.

وأمّا التملّك: فقد استدلّ له:

تارةً : بإطلاق ما دلّ على تملّك اللُّقطة بعد التعريف.

واُخرى : بخبر الفضيل بن غزوان، قال: «كنتُ عند أبي عبد اللّه عليه السلام فقال له الطيّار: إنّ ابن حمزة وجد ديناراً في الطواف قد انسحقت كتابته ؟ قال عليه السلام: هو له»(3).

وثالثة: بمرسل الصدوق، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «فإنْ وجدت في الحرم ديناراً مطلساً(4)، فهو لك لا تعرّفه»(5).

أقول: ولكن الإطلاق يقيّد بما مرّ، والخبرين لم يَعمل بهما أحدٌ سوى الصدوق، لأنّهما يدلّان على جواز التملّك بدون التعريف، بل في الثاني منهما النهي عن ذلك، فيتعيّن حملهما على صورة العلم باليأس عن معرفة المالك.4.

ص: 119


1- الكافي: ج 4/238 ح 1، وسائل الشيعة: ج 13/260 ح 17695.
2- وسائل الشيعة: ج 13/259 باب (أحكام لقطة الحرم).
3- الكافي: ج 4/239 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/448 ح 32327.
4- الدينار المطلّس: الذي لا نقش فيه.
5- الفقيه: ج 3/297 ح 4064، وسائل الشيعة: ج 25/443 ح 32314.

وإنْ كانت في غيره، فإنْ نوى التملّك جاز ويضمن، وكذا إنْ تصدّق بها، ولو نوى الحفظ فلا ضمان.

وأمّا الضمان: على فرض التصدّق، فيشهد به خبر علي بن أبي حمزة، وإطلاق ما ورد في مطلق اللُّقطة، كصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«عن الرّجل يصيب اللُّقطة فيعرّفها سنة، ثمّ يتصدّق بها، فيأتي صاحبها، ما حال الذي تصدّق بها، ولمن الأجر، هل عليه أنْ يردّ على صاحبها أو قيمتها؟

قال عليه السلام: هو ضامنٌلها والأجر له، إلّا أنْ يرضى صاحبهافيدعها والأجر له»(1).

ونحوه غيره(2)، ولا وجه لتخصيص هذه النصوص بلقطة الحرم.

وأمّا على فرض الاستبقاء، فالظاهر عدمه على المختار من عدم حرمة أخذ لقطة الحرم، لأنّ المال حينئذٍ أمانة شرعيّة عنده، فلا يكون عليه ضمان بتلفه.

فإنْ قيل: إنّ عموم على اليد قاضٍ به.

قلنا: إنّه خُصّص باليد الأمانيّة، شرعيّةً كانت أم مالكيّة.

نعم، يتمّ الاستدلال به له على القول بعدم جواز الأخذ، لأنّه حينئذٍ كالغاصب.

حكم لُقطة غير الحَرَم

(وإنْ كانت في غيره) أي في غير الحَرَم:

(فإنْ نوى التملّك) بعد التعريف (جاز ويضمن، وكذا إنْ تصدّق بها).

(ولو نوى الحفظ فلا ضمان).

ص: 120


1- وسائل الشيعة: ج 25/445 ح 32319.
2- وسائل الشيعة: ج 25/441 باب (وجوب تعريف اللُّقطة سنة إذا كانت أكثر من درهم).

أقول: ها هنا فرعان:

أحدهما: أنّه يتخيّر بين التملّك والتصدّق والحفظ.

ثانيهما: أنّ عليه الضمان على الأولين دون الأخير.

أمّا الفرع الأوّل: فهو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل عليه الإجماع عن «التذكرة»(1) وغيرها، واستشكل في جواز الإبقاء والحفظ في «الرياض»(2)، قال: (إنّ ظاهر الأخبار تعيّن أحد الأولين).

والنصوص الواردة في المقام على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يدلّ على الصدقة:

1 - صحيح عليّ بن جعفر المتقدّم.

2 - والخبر الذي رواه كثير عن أمير المؤمنين عليه السلام المتقدّم والوارد فيه قوله:

«فإنْ لم يجيء صاحبها ومن يطلبها تصدّق بها، فإنْ جاء صاحبها بعدما تصدّق بها، إنْ شاء اغترمها الذي كانت عنده وكان الأجر له، وإنْ كَره ذلك احتسبها والأجر له»(3).

3 - وخبر حفص بن غياث، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجل من المسلمين أودعه رجلٌ من اللّصوص دراهم أو متاعاً، واللّص مسلم، هل يرد عليه ؟

فقال عليه السلام: لا يردّه، فإنْ أمكنه أن يردّه على أصحابه فعل، وإلّا كان في يده بمنزلة اللُّقطة يصيبها، فيعرّفها حولاً، فإنْ أصاب صاحبها ردّها عليه، وإلّا تصدّق7.

ص: 121


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/251.
2- رياض المسائل: ج 12/401.
3- التهذيب: ج 6/389 ح 4، وسائل الشيعة: ج 25/441 ح 32307.

بها، فإنْ جاء طالبها بعد ذلك خيّره بين الأجر والغُرم»(1) الحديث.

ونحوها غيرها(2).

الطائفة الثانية: ما يدلّ على جواز التملّك:

منها: خبر داود بن سرحان - الذي ليس في سنده من يتوقّف فيه سوى سهل، والأمر فيه سهلٌ لأنّه يعتمد على خبره - عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّه قال في اللُّقطة: يعرّفها سنة، ثمّ هي كسائر ماله»(3).

ومنها: خبر حنّان، عنه عليه السلام: «عن اللُّقطة: تعرّفها سنة، فإنْ وجدتَ صاحبها وإلّا فأنت أحقّ بها، وقال: هي كسبيل مالك، وقال: خيّره إذا جاءك بعد سنة بين أجرها وبين أن تغرمها له إذا كنت أكلتها»(4).

وفي نقلٍ آخر: «فأنت أملك بها» بدل «أحقّ بها».

ومنها: صحيح عليّ بن مهزيار: «فالغنائم والفوائد - يرحمك اللّه - فهي الغنيمة يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، إلى أنْ قال: ومثل ما يؤخذ ولا يُعرف له صاحب»(5).

ومنها: صحيح أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام: «من وجدَ شيئاً فهو له، فليتمتّع به حتّى يأتيه طالبه»(6).3.

ص: 122


1- الكافي: ج 5/308 ح 21، وسائل الشيعة: ج 25/463 ح 32361.
2- وسائل الشيعة: ج 25/463 باب: (أنّ ما يؤخذ من اللّصوص يجب ردّه على صاحبه إن عرف وإلّا كان كاللّقطة).
3- الكافي: ج 5/137 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/444 ح 32316.
4- التهذيب: ج 6/396 ح 34، وسائل الشيعة: ج 25 / ص 442 ح 32310.
5- وسائل الشيعة: ج 9/501 ح 12583.
6- الكافي: ج 5/139 ح 10، وسائل الشيعة: ج 25/447 ح 32323.

ونحوها غيرها(1).

الطائفة الثالثة: ما يدلّ على جواز الحفظ:

منها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن الرّجل يصيب اللُّقطة دراهم أو ثوباً أو دابّة، كيف يصنع ؟

قال: يعرّفها سنة، فإنْ لم يعرف صاحبها حفظها في عَرض ماله حتّى يجيء طالبها فيعطيها إيّاه، وإنْ ماتَ أوصى بها، فإنْ أصابها شيء فهو ضامن»(2).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن اللُّقطة: لا ترفعها، فإنْ ابتليت بها فعرّفها سنةً ، فإنْ جاء طالبها وإلّا فاجعلها في عرض مالك يجري عليها ما يجري على مالك حتّى يجيء لها طالب، فإنْ لم يجيء لها طالب فأوص بها في وصيّتك»(3).

ونحوه صحيحه الآخر عن أحدهما عليهما السلام(4).

بناءً على أنّ المراد من قوله عليه السلام: (بجعلها في عرض المال) حفظها فيه من غير عزل لها عنه.

قال المحدِّث الكاشاني(5): (أي في جملته وفيما بينه من غير مبالاة بترك عزلها عنه)، انتهى .

الطائفة الرابعة: ما ظاهره أنّها للإمام عليه السلام، كخبر داود بن أبي يزيد، عن الإمام8.

ص: 123


1- وسائل الشيعة: ج 25/446 باب: (عدم وجوب تعريف اللُّقطة التي دون الدرهم).
2- الفقيه: ج 3/292 ح 4049، وسائل الشيعة: ج 25/466 ح 32364.
3- الكافي: ج 5/139 ح 11، وسائل الشيعة: ج 25/444 ح 32315.
4- وسائل الشيعة: ج 25/442 ح 32308.
5- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 38/298.

الصادق عليه السلام، قال:

«قال رجلٌ : إنّي قد أصبتُ مالاً وإنّي قد خفتُ فيه على نفسي، ولو أصبت صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه ؟

فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: واللّه، أن لو أصبته كنتَ تدفعه إليه ؟ قال: إي واللّه.

قال: فأنا واللّه، ما له صاحبٌ غيري.

قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، فقال: فاذهب فاقسمه في اخوانك ولك الأمن ممّا خفت منه، قال: فقسّمته بين إخواني»(1).

أقول: والجمع بين الطوائف الثلاث الأول يقتضي البناء على التخيير بين الثلاثة - أي التملّك، والحفظ، والتصدّق - فإنّ نصوص التملّك صريحة في الجواز، وعدم لزوم التصدّق أو الحفظ، فيحمل الأمر بكلّ منهما، مضافاً إلى عدم ظهوره في نفسه في التعيين على إرادة بيان أحد أفراد التخيير.

وأمّا الأخيرة: فالخبر ضعيفٌ لحجّال، مع أنّه يحتمل فيه وجوه:

الوجه الأوّل: ما هو أساس الاستدلال، وهو كونه لقطة غيره، لكنّه تكون له.

الوجه الثاني: كون ما أصابه لقطته عليه السلام، فأمر بالصّدقة على الاخوان تبرّعاً.

الوجه الثالث: كونه لقطةً من غيره، لكنّه عرف أنّه لا وارث له، فيكون المال له.

وغير ذلك من الوجوه، وعليه فلا يصحّ الاستدلال به للإجمال.

وأمّا الفرع الثاني: فيشهد لثبوت الضمان مع التملّك أو الصدقة النصوص المتقدّمة الواردة في كلّ منهما.

وأمّا ثبوته مع الحفظ، فيدلّ عليه أيضاً ما تقدّم من نصوصه وإنْ كان خلاف قاعدة الأمانة، إلّاأنّ الظاهر تسالمهم على عدم الضمان معه.1.

ص: 124


1- الكافى، ج 5، ص 138، ح 7؛ وسائل الشيعة: ج 25/450 ح 32331.

ولو كانت ممّا لا يبقى انتفع بها بعد التقويم، وضمن القيمة، أو يدفعها إلى الحاكم، فلا ضمان.

حكم ما لو كانت اللُّقطة ممّا لا يبقى

المسألة الثالثة: (و) يدور البحث فيها عن حكم ما (لو كانت ممّا لا يبقى) كالطعام، والرّطب الذي يفسد، والبقول ونحوها.

قال المصنّف رحمه الله: (انتفع بها بعد التقويم، وضمن القيمة، أو يدفعها إلى الحاكم فلا ضمان) بلا خلافٍ في شيء من تلكم.

أقول: ها هنا أحكام:

الحكم الأوّل: أنّ له الانتفاع بها بعد التقويم. ويشهد به:

1 - الخبر القويّ الذي رواه السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السلام سُئل عن سفرةٍ وجدت في الطريق مطروحة، كثير لحمها وخُبزها وجُبُنّها وبيضها وفيها سكّين ؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يقوّم ما فيها ثمّ يُؤكل، لأنّه يفسد، وليس له بقاء، فإنْ جاء طالبها غرموا له الثمن.

فقيل: يا أمير المؤمنين، لا يُدرى سفرة مسلمٍ أو سفرة مجوسيّ؟

فقال عليه السلام: هم في سعةٍ حتّى يعلموا»(1).

ص: 125


1- الكافي: ج 6/297 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/468 ح 32372.

2 - ومرسل الصدوق، عنه عليه السلام: «وإنْ وجدتَ طعاماً في مفازةٍ ، فقوّمه على نفسك لصاحبه ثمّ كُله»(1).

وهل له أنْ يبيعها من غيره كما عن المصنّف(2)، والكركي(3)، وثاني الشهيدين(4)وغيرهم، بل عن «التذكرة»(5) الإجماع عليه ؟

أم لا يجوز ذلك ؟

وجهان، مبنيّان على أنّ ما هو ظاهرالخبر الأوّل وصريح الثاني من أنّه يقوّم على نفسه، أُريد به المثال، وإلّا فمن المقطوع به عدم الفرق بين تقويمها على نفسه أو على الغير.

أو له خصوصيّة، فلا موجبَ لرفع اليد عن أصالة عدم جواز بيع مال الغير.

أقول: والأظهر هو الأوّل، لما مرّ، ولعموم التعليل، ويؤيّده ما دلّ على جواز بيع الجارية لمن التقطها بما ينفق عليها، وعلى هذا فلا يحتاج إلى إذن الحاكم.

الحكم الثاني: أنّ له أنْ يدفعها إلى الحاكم.

ووجهه: أنّ الحاكم وليّ الغائب، من جهة أنّ حفظ مال الغائب والتصرّف فيه بما فيه صلاحه من وظائف حكام الجور، وقد دلّ الدليل(6) على أنّ جميع ما هو من وظائفهم ثابتة للحاكم الشرعي، كما مرّ وسيأتي مفصّلاً.).

ص: 126


1- الفقيه: ج 3/297 ح 4064، وسائل الشيعة: ج 25/443 ح 32314.
2- تحرير الأحكام: ج 4/464.
3- جامع المقاصد: ج 6/165.
4- مسالك الأفهام: ج 12/519.
5- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/259.
6- وسائل الشيعة: ج 27/136 باب: (وجوب الرجوع في القضاء والفتوى إلى رواة الحديث من الشيعة فيما رووه عن الأئمة عليهم السلام).

ولا ينافيه الخبران، لأنّ الأمر فيهما لوروده مورد توهم الحظر لا يدلّ على أزيد من الجواز.

الحكم الثالث: أنّه لو قوّمها على نفسه ضمن قيمتها، ويشهد به - مضافاً إلى عدم الخلاف فيه - الخبران المتقدّمان.

الحكم الرابع: أنّه لو دفعها إلى الحاكم فلا ضمان.

ووجهه: أنّ الدفع إلى الحاكم من قبيل الدفع إلى المالك نفسه، لأنّه وليّه، فلا وجه للضمان بعد ذلك.

وهل يجبُ التعريف كما صرّح به المصنّف رحمه الله(1)، والشهيد الثاني(2)، وهو ظاهر الأصحاب، كما في «الجواهر»(3)؟

أم لا يجب، كما عن بعض الأجلّة ؟

وجهان، أظهرهما الأوّل، لإطلاق أدلّة التعريف، ولا ينافيه التصرّف المزبور فيه قبله، فيعرّفه حينئذٍ نفسه دون الثمن.

فرع: لو افتقر إبقاء اللُّقطة إلى علاجٍ كالرُّطب المفتقر إلى التجفيف:

فعن الشيخ(4)، والمصنّف رحمه الله(5)، والمحقّق(6) يرفع خبرها إلى الحاكم، يبيع بعضاً وينفقه في إصلاح الباقي، إنْ رأى الحاكم الحَطّ في بيعه أجمع جاز.7.

ص: 127


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/260.
2- مسالك الأفهام: ج 12/519.
3- جواهر الكلام: ج 38/301.
4- المبسوط: ج 3/318-319.
5- قواعد الأحكام: ج 2/211.
6- شرائع الإسلام: ج 4/807.

ويكره له أخذُ ما يقلّ قيمته ويكثر نفعه،

وعن «التحرير»(1)، و «التذكرة»(2)، و «الدروس»(3)، و «المسالك»(4): التخيير بين ذلك وبين فعله، وقوّاه صاحب «الجواهر»(5).

أمّا خبر السكوني ومرسل الصدوق المتقدّمان، فهما مختصّان بغير المورد، وفي الفرض لابدّ من ملاحظة القواعد.

فقد يقال: إنّ مقتضى أصالة عدم جواز بيع مال الغير أن لا يجوز للملتقط، وأمّا الحاكم فقد مرّ أنّه ولي الغائب.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّه بعد الالتقاط يكون المال أمانة شرعيّة عنده، فهو مأمور بحفظه، والفرض أنّ الحفظ متوقّفٌ على ذلك فيجوز، ويعضده ما دلَّ على جواز بيع اللّقيط فيما أنفق عليه(6).

فالأظهر هو التخيير.

المسألة الرابعة: (و) المشهور بين الأصحاب(7) أنّه (يكره له أخذ ما يقلّ قيمته ويكثر نفعه) كالعصا والشظاظ والوَتَد والحَبل والعِقال وأشباهها، وقد مرّ الكلام في ذلك، وعرفت أنّه يكره أخذ اللُّقطة مطلقاً.4.

ص: 128


1- تحرير الأحكام: ج 4/464.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/260.
3- الدروس: ج 3/87.
4- مسالك الأفهام: ج 12/519.
5- جواهر الكلام: ج 38/302.
6- وسائل الشيعة: ج 25/443 ح 32313.
7- راجع جواهر الكلام: ج 38/304.

وما يوجدُ في فلاةٍ أو خربةٍ فلواجده.

نعم، في هذه الأشياء لعلها آكد، من جهة ورود النّص بالنهي عنه في بعضها(1)، وإنْ دلّ آخر على عدم البأس به(2).

حكم ما يوجد في الخَربة

المسألة الخامسة: (وما يوجد في فلاةٍ أو خربةٍ فلواجده) بلا خلافٍ فيه في الجملة، وإنْ اضطربت كلماتهم في بيان موضوع الحكم بنحوٍ يكون جامعاً ومانعاً، لكن مستند الحكم المذكور هو الخبر الصحيح الذي رواه محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن الدار يوجد فيها الوَرِق ؟

فقال عليه السلام: إنْ كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، وإنْ كانت خربة قد جَلا عنها أهلها، فالذي وَجَد المال أحقّ به»(3).

ونحوه صحيحه الآخر عن أحدهما عليه السلام(4).

أقول: ما ورد في الخبرين من أنّه إنْ كانت الدار معمورة فما وجد فيه يكون لأهلها، إنّما هو من جهة قاعدة اليد، فإنّ اليد على الدار أمارة ملكيّتها وما فيها.

ثمّ إنّ الخبرين - مضافاً إلى أنّه ليس فيهما ما يشهد بأنّه لواجده، فإنّهما متضمّنان أنّ الواجد أحقّ به، ويلائم ذلك مع أنّ له التملّك بعد التعريف سنة، وأنّ له

ص: 129


1- الوسائل: ج 25/456 ح 32345.
2- وسائل الشيعة: ج 25/456 ح 32344.
3- الكافي: ج 5/138 ح 5، وسائل الشيعة: ج 25/447 ح 32324.
4- وسائل الشيعة: ج 25/447 ح 32323.

ولاية حفظه - يعارضهما موثّق محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«قضى عليٌّ عليه السلام في رجلٍ وجد وَرِقاً في خربةٍ أن يعرّفها، فإنْ وجد من يعرّفها وإلّا تمتّع بها»(1).

أقول: قد جمع الأصحاب بين النصوص:

تارةً : بحمل الموثّق على ما عليه أثر الإسلام، والصحيحين على ما لا أثر عليه.

واُخرى : بحمل الصحيحين على ما لا مالك معروف له، والموثّق على ما له مالكٌ معروف.

وثالثة: بحمل الصحيحين على ما يوجد في تلكم الأماكن ممّا هو معلوم أو ظاهرٌ في أنّه للعصور السالفة، والموثّق على الموجود فيها ممّا هو معلوم أو ظاهرٌ لأهل ذلك الزمان.

ولكن شيئاً منها ليس عرفيّاً.

وأورد صاحب «المسالك»:(2) على الموثّق، بأنّ محمّد بن قيس مشترك بين الثقة والضعيف.

وفيه: أنّه بقرينة رواية عاصم بن حميد عنه هو الثقة.

وبالجملة: فالحقّ هو الجمع بتقييد إطلاق الأولين بالموثّق، وحملهما على إرادة أنّ المال لواجده بعد التعريف، كما أنّه قد ورد نظير ذلك في مطلق اللُّقطة، لاحظ صحيح أبي بصير المتقدّم، حيث ورد فيه قوله عليه السلام: «من وجد شيئاً فهو له، فليتمتّع به»، فكما أنّه يُحمل على ما بعد التعريف، كذلك هذان الخبران.4.

ص: 130


1- التهذيب: ج 6/398 ح 39، وسائل الشيعة: ج 25/448 ح 32328.
2- مسالك الأفهام: ج 12/524.

ولو كان في مملوكة عَرّف المالك، فإنْ عرفه فهو له، وإلّا فللواجد،

فالمتحصّل: أنّه لا خصوصيّة للخربة. وعلى هذا، فالخربة إنْ كانت بحيث يدخلها أحدٌ ولو من جهة كونها في الطريق، فيمرّ منها، فحكمها حكم غيرها، وإلّا فحيث لا أثر للتعريف لا محالة يكون ساقطاً، فله أن يتملّك بمجرّد الالتقاط أو يتصدّق به، وكذا في كلّ موردٍ سقط التعريف، للعلم بعدم العثور على صاحب المال، أو أنّه لا يتمكّن صاحبه من إثبات أنّه له، أو لا يعرف هو أيضاً من جهة عدم العلّامة لما وجد، فإنّه في جميع هذه الموارد يسقط التعريف، فيرجع إلى إطلاق مثل صحيح أبي بصير وغيره الدالّ على التملّك أو الصدقة.

أقول: (و) ممّا ذكرناه ظهر أنّه (لو كان) ما وجد (في مملوكة عَرّف المالك، فإنْ عرفه فهو له)، لدلالة الصحيحين عليه، مضافاً إلى قاعدة اليد، وموثّق إسحاق(1)أيضاً شاهد به، وهذا لا إشكال فيه، إنّما الإشكال فيما أفاده بقوله: (وإلّا فللواجد)، إذ لا دليل عليه أصلاً، والتمسّك بفحوى ما في الصحيح الآتي الوارد في المأخوذ من جوف الدابّة غير صحيح، بل موثّق إسحاق بن عمّار عن أبي إبراهيم عليه السلام: «عن رجلٍ نزل في بعض بيوت مكّة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه ولم يذكرها حتّى قَدِم الكوفة، كيف يصنع ؟ قال عليه السلام: يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها، قلت: فإنْ لم يعرفوها؟ قال: يتصدّق بها»(2) يدلّ على الصدقة به.6.

ص: 131


1- وسائل الشيعة: ج 25/448 ح 32326.
2- التهذيب: ج 6/391 ح 11، وسائل الشيعة: ج 25/448 ح 32326.

وكذا ما يوجد في جوف الدابّة،

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ الموثّق في مجهول المالك لا اللُّقطة.

وعليه، فإنْ صدق على المال الموجود في المملوك اللُّقطة بصدق الضياع عن مالكه وافتقاد مالكه له، كما لو كان المملوك فندقاً وشبهه، تعيّن ترتيب آثار اللُّقطة، وإلّا فهو مجهول المالك ويلحقه حكمه، وهو التصدّق به بعد الفحص واليأس عن العثور على مالكه.

أقول: والمصنّف رحمه الله بعد ما حكم بأنّ ما وجد في مملوكٍ عرّف المالك به، فإنْ عرفه فهو له، وإلّا فللواجد، قال: (وكذا ما يوجد في جوف الدابّة) أي يعرّفه المالك أو البائع، فإنْ لم يعرفه فهو للواجد. وهذا هو المعروف بين الأصحاب(1)، وعن «التذكرة»(2) نسبته إلى علمائنا، والأصل في ذلك صحيح عبد اللّه بن جعفر، قال:

«كتبتُ إلى الرّجل عليه السلام أسأله عن رجلٍ اشترى جزوراً أو بقرةً للأضاحي، فلمّا ذبحها وجد في جوفها صُرّة فيها دراهم أو دنانير أو جوهرة، لمَن يكون ذلك ؟

فوقّع عليه السلام: عرّفها البائع، فإنْ لم يكن يعرفها فالشيء لك رَزَقك اللّه إيّاه»(3).

وإطلاقه كالعبارة يقتضي عدم الفرق بين ما عليه أثر الإسلام وغيره، وعليه فما عن «المختلف» و «الروضة» وغيرهما من أنّه في الأوّل لقطة، غير تامّ .5.

ص: 132


1- راجع جامع المقاصد: ج 6/177، شرح اللّمعة: ج 7/121، مسالك الأفهام: ج 12/525.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/265.
3- الكافي: ج 5/139 ح 9، وسائل الشيعة: ج 25/452 ح 32335.

من يصحّ التقاطه

المسألة السادسة: ويدور البحث فيها عن بيان الملتقط للمال، فالمشهور بين الأصحاب(1) أنّه من له أهليّة الاكتساب، فلو التقطه الصبيّ أو المجنون جاز.

وعن بعضهم: أنّه من له أهليّة الحفظ.

وفي «الشرائع»(2) اعتبر فيه أحد الأمرين.

وعن بعض: اعتبار الأمرين معاً.

توضيح ذلك: أنّ في اللُّقطة معنى الولاية والأمانة في الابتداء بالنسبة إلى حفظها وتعريفها، ومعنى الاكتساب في الانتهاء بالنسبة إلى تملّكها، وعليه:

1 - فمنهم من غلّب فيها معنى الاكتساب، فمنع من التقاط من ليس له أهليّة الاكتساب، وإنْ كان أهلاً للحفظ، وجوّز التقاط من له أهليّة الاكتساب، فجوّز التقاط الصبيّ والمجنون والكافر والفاسق، ولم يجوّز التقاط العبد.

2 - ومنهم من عَكَس، فجوّز التقاط العبد، ومَنَع من التقاط الصبيّ والمجنون.

3 - ومنهم من اكتفى بأحد الأمرين، فجوّز التقاط الصبيّ .

4 - ومنهم من اعتبر الأمرين، فلم يجوّز التقاط واحد منهم.

أقول: والحقّ أنْ يقال إنّ اعتبار الأمانة في الملتقط، وكونه أهلاً للائتمان لا وجه له أصلاً، إذا ليس في النصوص ما يشهد بذلك، وهو وإنْ كان أميناً شرعاً، بمعنى أنّ الشارع أذن له في الأخذ والحفظ، ولكن لا يكون ذلك مقيّداً بكونه محلّاً للأمانة، ولذلك فإنّه لا إشكال في التقاط الكافر الأهل للاكتساب.

ص: 133


1- راجع المختصر النافع: ص 245، كشف الرموز: ج 2/414، المهذّب البارع: ج 4/317.
2- شرائع الإسلام: ج 4/808.

ويتولّى الوليّ

وأمّا العبد: فلا يهمّنا التعرّض لحكمه.

وأمّا الصبيّ : فإنْ اُريد بجواز التقاطه، جواز أخذه فهو من الواضحات، ثمّ بعد الأخذ صدق عنوان اللُّقطة على ما أخذه قهريٌ ، فيبقى أحكامها منها جواز التملّك، فإنّ مقتضى حديث رفع القلم(1) وغيره عدم جوازه مستقلّاً، والجواز بإذن الوليّ ، وليس في نصوص اللُّقطة ما يشهد باعتبار الاستقلال في التملّك، وكذا الصدقة.

وأمّا التعريف: فله حكمان:

أحدهما: الوجوب، وهو مرفوعٌ عن الصبيّ .

والآخر شرطيّته للتملك أو الصدقة بعد السّنة، وهي غير متوقّفة على بلوغ الملتقط.

وأمّا الحفظ: فله أيضاً حكمان:

1 - الوجوب.

2 - وصيرورة تركه موجباً للضمان.

أمّا الأوّل: فهو مرفوع عن الصبيّ .

وأمّا الثاني: فقد مر في محلّه أنّ الضمان من الأحكام التي لا ترتفع بحديث الرفع.

وبه يظهر حال المجنون.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا ينبغي الإشكال في جواز التقاط الصبيّ والمجنون كالتقاط غيرهما من المكلّفين، غاية الأمر (يتولّى الوَليّ ) الصدقة أو التملّك بعد5.

ص: 134


1- وسائل الشيعة: ج 29/90 ح 35225.

التعريف إذا التقطه الطفل أو المجنون، ويكفي تعريف العبد في تملّك المولى،

(التعريف إذا التقطه الطفل أو المجنون)، أو يأذن لهما في ذلك إنْ كانا قابلين له بالتمييز.

فرع: هل يعتبر تولّي الوليّ التعريف كما هو صريح المتن و «الشرائع»(1)و «النافع»(2) وغيرها، أم لا؟

الظاهر هو الثاني، لأنّ التعريف وإنْ كان وجوبه مرفوعاً عن الصبيّ ، ولكن ليس ممّا يعتبر في وجوده التكليف، وهو نظير الغَسل الموجب لحصول الطهارة، وكذلك الحفظ.

قال المصنّف أخيراً: (ويكفي تعريف العبد في تملّك المولى).

كيفيّة التعريف

المسألة السابعة: في كيفيّة التعريف.

لا خلاف ولا إشكال في أنّه يعتبر التعريف سنةً كاملة، وقد مرّ ما يشهد به.

وأمّا خبر أبان الوارد فيه قوله: «أصبتُ يوماً ثلاثين ديناراً، فسألتُ أبا عبداللّه عليه السلام عن ذلك ؟ فقال: أينَ أصبته ؟

قال: قلت له: كنتُ منصرفاً إلى منزلي فأصبتها.

فقال: صِر إلى المكان الذي أصبتَ فيه فعرّفه، فإنْ جاء طالبه بعد ثلاثة أيّام

ص: 135


1- شرائع الإسلام: ج 4/808.
2- المختصر النافع: ص 452.

وله أنْ يعرّف بنفسه وأنْ يستنيب، ولا يشترط فيه التوالي

فاعطه إيّاه، وإلّا تصدّق به»(1).

فمطروحٌ ، أو محمولٌ على غير اللُّقطة، أو على حصول اليأس بذلك، أو غير ذلك من المحامل، وقد مرّ أنّه واجب وإنْ لم ينو التملّك.

(و) أيضاً: لا خلاف في أنّ (له أن يعرّف بنفسه وأنْ يَستنيب).

وفي «الجواهر»(2): (بل الإجماع بقسميه عليه).

وفي «المسالك»(3): (لما كان الغرض من التعريف إظهار اللُّقطة وإشاعة خبرها ليظهر مالكها، لم يتعلّق غرضُ الشارع فيه بمباشرٍ معيّن، فيجوز أن يتولّاه الملتقط، ومن ينوب عنه من غلامٍ وولدٍ، ومن يستعين به، ومن يستأجره عليه، وهو موضع وفاق).

وعليه، فالمستند في مقابل ظهور النصوص في اعتبار المباشرة - كما في سائر التكاليف - هو الإجماع، والسيرة، ومناسبة الحكم الموضوع التي هي قرينة على إرادة الأعمّ .

قال المصنّف رحمه الله: (ولا يشترط فيه التوالي)، وقريبٌ من هذه العبارة ما عن الشيخ(4) وفي «الشرائع»(5) وعن غيرهم.

أقول: والمراد به:9.

ص: 136


1- التهذيب: ج 6/397 ح 35، وسائل الشيعة: ج 25/443 ح 32312.
2- جواهر الكلام: ج 38/365.
3- مسالك الأفهام: ج 12/542.
4- المبسوط: ج 3/323.
5- شرائع الإسلام: ج 4/809.

1 - إنْ كان عدم اعتبار استيعاب الحول بالتعريف، فهو إجماعي، ويشهد به صدق التعريف سنةً بدونه.

2 - وإنْ كان المراد به ما صرّح به جماعة منهم الشهيد الثاني(1) من عدم اعتبار توالي الشهور، بأن يجوز له أن يعرّف شهرين ويترك شهرين، وهكذا حتّى يتمّ له اثنى عشر شهراً، وعن «التذكرة»(1) تشبيهه بما لو نذر صوم سنة، أنّه يجوز له التوالي والتفريق.

ففيه: أنّه إنْ لم يكن إجماعٌ يشكل ذلك، فإنّ المنساق من الأمر بالعمل المستمر في قطعةٍ من الزمان اعتبار التوالي فيه.

ولا بدَّ في الضابط في تعريف السنة من الرجوع إلى العُرف، كما هو الشان في كلّ عنوانٍ أُخذ في الموضوع ولم يبيّنه الشارع.

قال صاحب «المسالك» (3) : (وقد اعتبر العلماء فيه أن يقع على وجهٍ لا ينسى أنّ الثاني تكرارٌ لما مضى، ويتحقّق ذلك بالتعريف في الابتداء في كلّ يومٍ مرّة أو مرّتين، ثمّ في كلّ اسبوعٍ ، ثمّ في كلّ شهرٍ كذلك).

ونحوه عن «القواعد» وغيرها.

وأيضاً: لا بدَّ وأن يقع التعريف في وقت اجتماع الناس وبروزهم كالغدوات والعشيّات وما شاكل، وذلك مضافاً إلى وضوحه - حيث أنّ التعريف إنّما هو ليطّلع صاحبه، فلابدّ وأنْ يكون ذلك بمجمعٍ من الناس - تشهد به جملة من النصوص:

منها: خبرأبي خديجة حيث وردفيه قوله عليه السلام: «ينبغي أن يعرّفهاسنةً في مجمعٍ »(2).3.

ص: 137


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/258.
2- وسائل الشيعة: ج 25/465 ح 32363.

ولا يكفي الوصف، بل لا بدَّ من البيّنة.

ومنها: ما ورد في خبر سعيد بن عمرو الجُعفي: «اتّق اللّه عزّ وجلّ وعرّفه في المشاهد»(1).

ونحوهما غيرهما.

لا تدفع اللُّقطة بدون البيّنة

المسألة الثامنة: المشهور(2) أنّه لا تُدفع اللُّقطة إلى مدّعيها إلّابما يثبت دعواه، (ولا يكفي الوصف) إجماعاً إذا لم يورث ظنّاً، (بل لا بدَّ من البيّنة) على القول بعدم حجيّة خبر الواحد العادل في الموضوعات، لأنّ الملتقط مكلّفٌ بإيصاله إلى مالكه، ولا يثبت ذلك بدعواه المالكيّة.

أقول: وحقّ القول في المقام إنّه:

تارةً : نقول بأنّ الأصل سماع دعوى كلّ مدّعٍ لا معارض له، كما يشهد به حديث الكيس(3) وخبر الطير(4) وغيرهما ما سيأتي في كتاب القضاء(5)، من غير فرقٍ بين كون المال تحت يد من هو مأمور بإيصاله إلى مالكه وغيره، فلابدَّ في المقام من البناء على الرّد على مدّعيها، وإنْ لم يأتِ بالبيّنة ولم يكن له شاهدٌ، بل يرد إليه بمجرّد عدم كونه متّهماً.

ص: 138


1- وسائل الشيعة: ج 25/449 ح 32330.
2- راجع شرائع الإسلام: ج 4/810، كشف الرموز: ج 2/414، شرح اللّمعة: ج 7/113.
3- وسائل الشيعة: ج 27/273 ح 33758.
4- وسائل الشيعة: ج 27/271 ح 33752.
5- فقه الصادق: ج 38/275.

فإنْ قيل: إنّ الأصحاب مجمعون على أنّها لا تُدفع إليه بمجرّد دعواه.

قلنا: كلّا، فإنّ الأكثر صرّحوا بأنّ التوصيف المفيد للظنّ ، سيّما في الأموال الباطنة كالذهب والفضّة، يكون كافياً.

واُخرى : لا نقول بذلك:

فإنْ كان المدّعي الواصف له ثقة تُدفع إليه، لحجيّة خبر الواحد الثقة في الموضوعات، وإنّما لا يكون حجّة في خصوص باب الخصومات والقضاء.

وإنْ لم يكن ثقةً ، فإن أوجب توصيفه العلم أو الاطمينان تدفع إليه، والشاهد على ذلك خبري وخبر سعيد بن عمرو الجُعفي(1) الطويل المتضمّن لتقرير مولانا الصادق عليه السلام ملتقط الدنانير الدافع لها إلى مَن وصَفَها من دون بيّنة على ذلك، والنبويّ الذي أمر فيه صلى الله عليه و آله بحفظ عفاصها ووكاها وعددها(2).

وإنْ لم يوجب الاطمينان، فلا يجوز الدفع إليه وإنْ أوجب التوصيف الظنّ ، لأنّه لا يُغني من الحقّ شيئاً.

ودعوى: أنّ مناط أغلب الشرعيّات الظنّ فيُلحق المقام به إلحاقاً له بالأعمّ الأغلب، وأيضاً أنّه يتعذّر إقامة البيّنة في الأغلب، فلولاه لزم عدم وصولها إلى مالكها كما في «الرياض»(3).

مندفعة: بأنّ مناط أكثر الشرعيّات الظنون الخاصّة لا مطلق الظنّ ، ومجرّد تعذّر إقامة البيّنة لا يكفي في الحكم بحجيّة الظنّ الحاصل من التوصيف، ما لا تتمّ8.

ص: 139


1- وسائل الشيعة: ج 25/449 ح 32330.
2- المستدرك: ج 17/126 ح 20951.
3- رياض المسائل: ج 12/428.

والملتقط أمين

مقدّمات الانسداد التي منها العلم بأنّ الشارع الأقدس لا يرضى بعدم وصولها إلى مالكها، حتّى في حال عدم العلم بكونه مالكاً، وهو كما ترى .

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام.

المسألة التاسعة: (والملتقط أمينٌ ) لا يضمن في الحول وبعده لقطةً ولا لقيطاً ولا ضالّةً ، ما لم يفرّط أو يتعدّى، بلا خلافٍ في شيء من ذلك، وقد تقدّم مدرك الأحكام المذكورة في المباحث المتقدّمة.

المسألة العاشرة: ما وجده في داره أو في صندوقه:

فإنْ كان يشاركه في التصرّف فيهما غيره فهو لقطة، وإلّا فهو له بلا خلاف، ويشهد لهما صحيح جميل بن صالح، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجلٌ وجد في منزله ديناراً؟

قال عليه السلام: يدخل منزله غيره ؟ قلت: نعم كثير.

قال عليه السلام: هذه لقطة.

قلت: فرجلٌ وجد في صندوقه ديناراً؟

قال عليه السلام: يُدخل أحدٌ يده في صندوقه أو يضع فيه شيئاً؟

قلت: لا. قال عليه السلام: فهو له»(1).

وهذا الخبر يدلّ على ما اخترناه من أنّ يد الإنسان نفسه أمارة على الملكيّة، فإنّه مع مشاركة غيره لا يكون تحت يده مستقلّاً، ومع الانحصار يكون تحت يده كما هو واضح.

***1.

ص: 140


1- الفقيه: ج 3/293 ح 4050، وسائل الشيعة: ج 25/446 ح 32321.

الفصل العاشر: في الغصب: وهو حرامٌ عقلاً، ويتحقّق بالاستيلاء على مال الغير ظلماً وإنْ كان عقاراً.

(الفصل العاشر: في الغَصب)

اشارة

(وهو حرامٌ عقلاً) وشرعاً، لأنّ غصب مال الغير ظلمٌ :

1 - وقبح الظلم عقلي.

2 - وبالملازمة بين الحكم العقلي - بمعنى درك القبح - والحكم الشرعي يستفاد حرمته شرعاً، وهذا هو مراده من الحرمة العقلية، وإلّا فمن الواضح أنّ العقل ليس مشرّعاً كي يحكم بالحرمة، فإنّ شأن القوّة العاقلة الدرك لا التشريع.

3 - وللآيات الكريمة، والنصوص المتواترة الدالّة على حُرمة الظلم، والنصوص الكثيرة الدالّة على حرمة الغصب خاصّة وسيأتي طرف منها.

وعلى الجملة، فحرمة الغصب من الضروريّات لا تحتاج إلى إقامة الدليل عليها.

(ويتحقّق بالاستيلاء على مال الغير ظلماً وإنْ كان عقاراً) كما عن الأكثر، ويوافق ذلك ما صرّح به أهل اللّغة(1) من أنّ الغصب هو أخذ الشيء ظلماً، فإنّ المراد ب (الأخذ) ليس هو القبض بالجارحة، بل المراد به الاستيلاء على الشيء.

أقول: وحيث أنّ أكثر أحكام هذا الفصل غير معلّقة على عنوان الغصب، فلا يهمّ إطالة البحث في ذلك، والأولى صَرف عنان الكلام إلى تلكم الأحكام، وتنقيح القول فيها يتحقّق في طيّ مسائل.

***

ص: 141


1- راجع لسان العرب: ج 1/648.

حرمة التصرّف في مال الغير دون رضا صاحبه

المسألة الأُولى: لا إشكال في أنّه يحرم التصرّف في مال الغير من دون رضاه، ويشهد به:

1 - قوله عجّل اللّه فرجه في خبر «الاحتجاج»: «لا يحلّ لأحدٍ أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(1).

2 - وقول الإمام الصادق عليه السلام في موثّق سماعة: «فإنّه لا يحلّ دم إمريء مسلم، ولا ماله، إلّابطيبة نفسه»(2).

3 - وقوله صلى الله عليه و آله في خبر «تحف العقول»: «ولا يحلّ لمؤمنٍ مال أخيه إلّاعن طيب نفسٍ منه»(3).

4 - وقوله صلى الله عليه و آله في خبر «غوالي اللّئالي»: «المسلم أخو المسلم، لا يحلّ ماله إلّا عن طيب نفسٍ منه(4).

5 - وقول الإمام الرّضا عليه السلام في خبر محمّد بن زيد الطبري، في جواب السؤال عن الإذن في الخمس حيث كتب إليه: «لا يحلّ مالٌ إلّامن وجهٍ أحلّه اللّه تعالى »(5).

فإنّ الحِلّ هو الإطلاق والإرسال، وإذا اُسند ذلك إلى الأعيان الخارجيّة - كما في الروايات - يراد به الترخيص في الفعل، وحيث لا معنى لحلية تلكم إلّاباعتبار

ص: 142


1- الاحتجاج: ج 2/479، وسائل الشيعة: ج 9/540 ح 12670.
2- الكافي: ج 7/273 ح 12، وسائل الشيعة: ج 29/10 ح 35023.
3- تحف العقول: ص 30، وسائل الشيعة: ج 5/120 ح 6091.
4- عوالي اللّئالي: ج 3/473 ح 1، المستدرك: ج 3/331 ح 3711.
5- الكافي: ج 1/547 ح 25، وسائل الشيعة: ج 27/156 ح 33471.

ما يناسبها، وفي المقام المناسب هو التصرّف كما ورد التصريح به في التوقيع الشريف.

وعليه، فالمراد من الروايات هو أنّ الشارع الأقدس لم يرخّص في التصرّف في مال امريء إلّابطيب نفسه، فلا إشكال في حرمة التصرّف فيه من دون رضا صاحبه.

نعم، لا دليل على حرمة الانتفاع ما لم يعدّ تصرّفاً، بل الظاهر جوازه كما في الاستضاءة بنور الغير، والمُتّبع في صدق التصرّف هو العرف.

***

ص: 143

ويضمنُ بالاستقلال

الضمان وأسبابه

المسألة الثانية: (ويضمن ب) مجرّد (الاستقلال) بالعقار بإثبات اليد عليها، والاستيلاء عليها، وتسليم مفاتيحها، من دون أن يزعج المالك ويُخرجه منها، وذلك لما ورد من قوله صلى الله عليه و آله: «على اليد ما أخذَت حتّى تؤدّي»(1) وهو وإنْ كان ضعيف السند، إلّاأنّه لاعتماد الأصحاب عليه، واستدلالهم به، لا مجال للمناقشة في سنده.

أقول: المهمّ هو دفع ما أُورد على الاستدلال به، وهو أنّ كلمة (على ) ظاهرة في الحكم التكليفي، من جهة أنّ ظاهرها الاستعلاء، والاستعلاء المعقول الحاصل في التكليف أقربُ إلى المعنى الحقيقي ممّا يتصوّر بالنسبة إلى الوضع.

ويمكن الجواب عنه بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ حمله على إرادة التكليف منه، مستلزمٌ لجعل الظرف لغواً ويقدّر (يجب) ونحوه، بخلاف ما لو حُمل الحديث على الوضع كما لا يخفى ، وهو خلاف الظاهر.

الوجه الثاني: أنّه يستدعي تقدير فعلٍ من الأفعال من قبيل ردّه أو حفظه، وهذا التقدير أيضاً خلاف الظاهر.

الوجه الثالث: إنّ تقدير الرّد ليدلّ الحديث على وجوب رَدّ المال إلى صاحبه

ص: 144


1- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.

لايناسب الغاية، إذ يكون مفاده حينئذٍ أنّه يجبُ الرّد إلى أن يتحقّق الرّد، فتكون الغاية تحديداً للموضوع وهو بعيدٌ في الغاية.

ولا يناسب أيضاً إرادة دفع البدل، إذ مع إمكان الغاية، لا يجب دفع البدل، ومع عدم إمكانها لا غاية كي يفي بها.

وعليه، فالمتعيّن حمل الحديث على الوضع.

وهل المراد منه في الحديث هو الضمان بالقوّة، وهو كون دَرَكه عليه مع تلفه، كما هو المنسوب إلى المشهور؟

أم هو بمعنى دخول المأخوذ في العُهدة، وللعهدة آثار تكليفيّة ووضعيّة من لزوم حفظه وادائه مع التمكّن، وأداء بدله لو تلف، كما اختاره بعض مشايخنا العظام(1)؟ وجهان:

أقواهما الثاني، لأنّ ما قبل الغاية من جهة كونه مغيّاً بالأداء، لابدّ وأنْ يكون أمراً ثابتاً فعليّاً مستمرّاً إلى أن يتحقّق الأداء، وهذا ينطبق على الوجه الثاني، وأمّا على الأوّل فلا أمر مستمرّ إلى حال الأداء ما لم يتلف.

وقد يقال: إنّ الحديث مختصٌّ بالاستيلاء على الأعيان، ولا يشمل الاستيلاء على المنافع والأعمال.

أقول: حيث إنّه يترتّب على هذا الأمر آثارٌ مهمّة في المسائل اللّاحقة، فلابدّ من تنقيحه.

وقيل في وجه الاختصاص أمران:1.

ص: 145


1- حاشية المكاسب للأصفهاني: ج 1/301.

أحدهما: ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله(1)، من عدم صدق الأخذ بالإضافة إلى المنافع.

وفيه: أنّه ليس المراد بالأخذ الأخذ بالجارحة الخاصّة، بل إنّ كلمة (الأخذ) كناية عن الاستيلاء على الشيء، والتعبير عنه بالأخذ باليد من جهة كونه لازماً غالبيّاً له، والأخذ بهذا المعنى يصدق بالإضافة إلى المنافع، إذ الاستيلاء على المنفعة إنّما يتحقّق بالاستيلاء على العين، وإنْ لم يستوف المنفعة، ولم تكن العين مضمونة، فإنّ المنفعة عبارة عن الحيثيّة القائمة بالعين الموجودة بوجودها على نحو وجود المقبول بوجود القابل، فمنفعة الدابّة قابليّتها للركوب، ومنفعة الدار قابليّتها لأن يُسكن فيها، وهذه القابليّة من مراتب وجود العين، والاستيلاء على العين استيلاءٌ عليها بجميع شؤونها ومراتب وجودها، ومنها القابليّة للانتفاع.

ثانيهما: ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمه الله(2) من عدم صدق التأدية في المنافع، فإنّ ظاهر قوله صلى الله عليه و آله: «حتّى تؤدّي» كون عهدة المأخوذ مغيّاة بأداء نفس المأخوذ، والمنافع لتدرجها في الوجود لا أداء لها بعد أخذها في حَدّ ذاتها.

وفيه: أنّ الغاية في الخبر ليس أداء شخص ما أُخذ، وإلّا بقى الضمان في صورة التلف وأداء العوض، لعدم تحقّق أداء الشخص، بل المراد منها أعمّ من أداء الشخص وأداء العوض، غاية الأمر بنحو الطوليّة، فإذا كانت العين موجودة، لا يرتفع الضمان إلّابأداء شخصها، وفي صورة التلف يرتفع بأداء عوضها، والمنافع وإنْ لم يمكن ردّها إلّاأنّه يمكن رَدّ عوضها.7.

ص: 146


1- كتاب المكاسب: ج 3/204.
2- حاشية المكاسب: ج 1/317.

ولو سَكَن الدّار قهراً مع المالك ضَمن النصف.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّه يمكن أنْ يقال: إنّه وإنْ سُلّم اختصاص النبويّ بالأعيان وعدم شموله للمنافع، إلّاأنّ الاستيلاء على العين وأخذها له أحكامٌ منها ضمان منافعها.

فالمتحصّل: أنّ الحديث يدلّ على ثبوت الضمان بمجرّد الاستيلاء على مال الغير عيناً ومنفعة.

حكم ما لو سَكَن الدّار مع المالك

قال المصنّف رحمه الله: (ولو سَكَن الدّار قهراً مع المالك، ضَمن النصف) كما عن الشيخ(1) وجماعة، ونسبه في «المسالك»(2) إلى الأكثر.

وذهب المحقّق في «الشرائع»(3) إلى عدم ضمان الأصل، وإنْ قال - بعد نقل فتوى الشيخ -: (وفيه تردّدٌ).

وفي «النافع»(4): (ففي الضمان قولان).

قال في «الرياض»(5): (مبنيّان على الاختلاف في تعريف الغصب، بأنّ المعتبر فيه الاستقلال فلا يضمن، أو الاستيلاء فيضمن).

ص: 147


1- المبسوط: ج 3/73.
2- مسالك الأفهام: ج 12/152.
3- شرائع الإسلام: ج 4/761.
4- المختصر النافع: ص 247.
5- رياض المسائل: ج 12/257-258.

والتحقيق أنْ يقال: إنّ في المقام مسألتين:

إحداهما: ضمان الأصل.

الثانية: ضمان المنفعة المستوفاة.

أمّا المسألة الأُولى : فقد عرفت أنّ عمدة وجه الضمان في موارد الغصب إنّما هو النبويّ : «على اليد ما أخذت»، وعرفت أنّ اليد كناية عن الاستيلاء، وهو كما يكون بالاستيلاءعلى تمام الدار مستقلّاً، كذلك يكون بالاستيلاء على النصف، ولذلك لا شُبهة في أنّ يد الشخص على نصف الدار أمارة للملكيّة أي ملكيّة النصف، كما أنّ اليد على التمام أمارة ملكيّة الجميع.

وبالجملة: صدق اليد على النصف كصدقها على الجميع لا يُنكر، فهو يدلّ على الضمان، سواءٌ صَدَق عنوان الغصب أم لم يصدق.

مع أنّه قد عرفت أنّ حقيقة الغصب أيضاً هي الاستيلاء بلا اعتبار الاستقلال فيه، فعلى ذلك لا يبقى شكّ في ضمان الأصل.

وعلى تقدير الضمان، إنّما يضمن بمقدار ما تكون الدّار تحت يده، فلو كانت يده على النصف ضَمن النصف، ولو كانت على الثُّلث - كما لو كان المالك اثنين ساكنين في الدّار، وسكن الغاصب معهما قهراً - ضمن الثُّلث، وكذا لو كان على الربع - كما لو كان المالك ثلاثاً - ضمن الرّبع، وهكذا. وعليه فإطلاق المتن وعبائر الجماعة بأنّه يضمن النصف، منزّلٌ على ما هو المفروض في كلماتهم من كون المالك واحداً.

ضمان المنفعة المستوفاة

وأمّا المسألة الثانية: فالكلام فيها في موردين:

الأوّل: في الدليل على الضمان.

ص: 148

الثاني: فيما استدلّ به على عدم الضمان.

أمّا المورد الأوّل: فيمكن أن يستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: عموم على اليد، بناءً على ما تقدّم من أنّ اليد على المنافع إنّما تكون بتبع اليد على الأعيان، وأنّ الحديث يدلّ على الضمان.

الوجه الثاني: الرواية الشريفة الواردة في الأمَة المُبتاعة إذا وُجِدَتْ مسروقةً بعد أن أولدها المشتري، الدالّة على أنّه يأخذ الرّجل ولده بالقيمة، ويأخذ الجارية صاحبها(1).

بتقريب: أنّها تدلّ على ضمان المنفعة التي لم يستوفها المشتري، فتدلّ بالأولويّة على ضمان المنافع المستوفاة.

الوجه الثالث: صحيح أبي ولّاد الآتي، الدالّ على ضمان منفعة المغصوب المستوفاة، قال عليه السلام: «أرى له عليك مثل كِراء البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل، ومثل كِراء البغل من النيل إلى بغداد، ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة، وتوفّيه إيّاه»(2).

الوجه الرابع: قاعدة من أتلف المستفادة من النصوص الواردة في موارد خاصّة، فإنّ :

جملةً منها واردة في موارد العقود الاستيمانية كالوكالة والمضاربة والرّهن وغيرها، حيث حُكم فيها بالضمان مع التعدّي والتفريط.2.

ص: 149


1- وسائل الشيعة: ج 21/204 ح 26902.
2- الإستبصار: ج 3/134 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/119 ح 24272.

وجملة منها في غيرها، مثل ما ورد في القصّار يخرق الثوب، الدالّ على أنّه ضامن بما جَنَت به يده(1) وغيره.

ودعوى : عدم صدق المال على المنفعة.

مندفعة: بما مرّ من أنّ الماليّة لا تكون من المقولات الخارجيّة، بل هي متقوّمة برغبة الناس في الشيء رغبة عقلائيّة، ولذا يعدّ الكلّي في الذمّة مالاً، وعمل العبد مالاً، وكذا عمل الحُرّ بعد وقوع المعاوضة عليه.

وأمّا قاعده احترام مال المسلم، ونفي الضرر، فسيمرّ عليك في بعض المباحث الآتية أنّه لا يصحّ الاستدلال بهما على الضمان.

وأمّا المورد الثاني: فقد استدلّ لعدم الضمان بوجوه:

الوجه الأوّل: النبويّ المرسل: «الخَراجُ بالضمان»(2)، بتقريب أنّه يدلّ على أنّ من ضَمِن شيئاً وتقبله لنفسه، فخراجه - أي منافعه - له مجّاناً.

أقول: وتنقيح القول في النبويّ - على فرض تسليم قوّة سنده لعمل قدماء أصحابنا به، مع أنّه محلّ نظر، فإنّه وإنْ استدلّ به شيخ الطائفة رحمه الله في جملةٍ من الموارد في «المبسوط»(3)، والمصنّف رحمه الله في باب الغصب من «التذكرة»(4)، إلّاأنّ هذا المقدار لا يكفي في جبر ضعف السند، وبعد تسليم أنّ ما ذكره المصنّف من اختصاص النبويّ بالبيع، إنّما هو اجتهادٌ منه في تطبيقه على البيع - إنّ فيه احتمالات:3.

ص: 150


1- وسائل الشيعة: ج 141/19 باب (أنّ الصانع إذا أفسد متاعاً ضمنه كالغسّال والصبّاغ والقصّار والصائغ والبيطار).
2- سنن ابن ماجه: ج 2/754.
3- المبسوط: ج 2/125.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 10/113.

الاحتمال الأوّل: أنّ المراد بالضمان المعنى الاسم المصدري، وكونه بمعنى التعهّد المالي، فيكون مفاد الخبر أنّ المنافع لمن هو ضامنٌ للعين وإنْ كان ضمانه قهراً عليه، كما فهمه أبو حنيفة(1).

الاحتمال الثاني: أنّ المراد بالضمان هو المعنى المصدري، أي إحداث الضمان سواءٌ أمضاه الشارع أم لا، فيكون مفاده أنّ المنافع لمن أقدم على الضمان، فيشمل العقود المعاوضيّة، صحيحةً كانت أم فاسدة، ولا يشمل موارد عدم إقدام الشخص على الضمان كما في الغصب، وهو الذي فهمه أبو حمزة وجعله مدركاً لعدم ضمان المنافع في المقبوض بالعقد الفاسد.

الاحتمال الثالث: أنّ المراد بالضمان المعنى المصدري، مع إمضاء الشارع له، فيختصّ الخبر بالعقود المعاوضيّة الصحيحة، والظاهر أنّه الذي فهمه المشهور منه.

الاحتمال الرابع: أنّ المراد به كون تلف العين مملوكة للشخص، يعني أنّ المنافع تكون لمن كانت العين مملوكة له، بحيث لو تلفت تلفت من ملكه، وهو الذي فهمه شيخ الطائفة من الخبر، فيكون مفاده تبعيّة ملكيّة المنافع لملكيّة العين، فيكون أجنبيّاً عن المقام.

الاحتمال الخامس: أنّ المراد بالضمان أحد المعاني الثلاثة الأول، ولكن مع كون المراد به ضمان المنفعة لا العين، فيكون مفاده أنّ المنافع تملك بلا ملك للعين، فيدلّ على صحّة الإجارة.

الاحتمال السادس: أنّ المراد به ضمان الأرض، والمراد بالخراج الضريبة1.

ص: 151


1- راجع كتاب المكاسب والبيع: ج 1/271.

المعيّنة للأراضي الخراجيّة، فيكون مفاده أنّ الخراج يَثبتُ في عهدة ضامن الأرض ومتقبّلها.

الاحتمال السابع: أنّ المراد به ضمان التكفل، فيكون مفاد الخبر أنّ فائدة العين إنّما تكن بإزاء دخول العين في كفالة مالكها، بحيث لو كان حيواناً لكان عليه نفقته وحفظه وإصلاحه.

أمّا الاحتمال الأخير: فيدفعه أنّ ملكيّة المنفعة إنّما تكون تابعة لملك العين لا لكونها في كفالته، مع أنّه يختصّ الخبر حينئذٍ بالحيوان ولا يشمل غيره.

وأمّا الاحتمال السادس: فهو خلاف إطلاقه، فإنّ حذف المتعلّق يفيد العموم.

وأمّا الاحتمال الأوّل: فيدفعه صحيح أبي ولّاد، الدالّ على ضمان المنافع زيادةً على ضمان العين.

وأمّا الاحتمال الثاني: فيدفعه أنّه مع عدم إمضاء الشارع، لا تحقّق حقيقة لإحداث الضمان، مع أنّه يلزم منه حينئذٍ ضمان المالك للمنافع بعد العقد الفاسد قبل التسليم.

أضف إليه أنّ لازمه أنّه لو ضمن بشيء في ضمن عقدٍ صحيح كونه مالكاً لمنافعه.

وأمّا الاحتمال الرابع: فيدفعه أنّ المراد بالضمان هو ما يراد به في سائر موارد استعمالاته، بل سائر موارد استعمال مشتقّاته، وهو التعهّد المالي، ففي العقود الصحيحة يكون هذا المعنى - أي تعهّد كلّمنهما مال صاحبه - بتسبيبٍ من المتعاقدين مع إمضاء الشارع، وفي العقود الفاسدة يكون ذلك بجعلٍ من الشارع، وتمام الكلام في محلّه.

ص: 152

ولو غصب حاملاً، ضَمِن الحمل.

وعليه، فيدور الأمر بين الاحتمال الثالث والاحتمال الخامس، والأظهر هو الأوّل منهما، لأنّ ظاهر القضيّة أنّ المنفعة إنّما تترتّب على الضمان ترتّب العلّة الغائيّة لشيء عليه التي هي الداعية إليه، ومعلومٌ أنّ الداعي للإقدام على الضمان في العقود المعاوضيّة هي المنافع.

فالمتحصّل: أنّه لا يدلّ على عدم الضمان في ما هو محلّ البحث، ومع الإغماض عمّا ذكرناه، فإنّه لإجمال الخبر لا يستند إليه في الحكم بعدم الضمان، ممّا يعني أنّ المنفعة المستوفاة تكون مضمونة.

أقول: (و) بما ذكرناه ظهر أنّه (لو غَصب حاملاً ضَمِن الحَمل)، لليد عليه بتبع اليد على الحامل، وللخبر المتقدّم.

***

ص: 153

ولو منع المالك من إمساك الدابّة المرسلة، أو من القعود عليبساطه، لم يضمن.

منع المالك من أخذ ماله

المسألة الثالثة: (ولو منع المالك من إمساك الدابّة المُرسَلة، أو من القعود على بساطه، لم يضمِن) كما صرّح به جماعة(1).

أقول: وتنقيح القول في المقام يقتضي بيان اُمور:

الأمر الأوّل: إنّ عمل الحُرّ مالٌ ، إذ الماليّة من الاُمور الاعتباريّة، وتعتبر للشيء من جهة كونه ممّا يَرغب ويميل إليه النوع، أو أنّ نظام الاجتماع يتوقّف عليه، ومن المعلوم أنّ عمل الحُرّ مالٌ بهذا المعنى، غاية الأمر لا يكون مِلْكاً للعامل ولا لغيره إلّا بوقوع المعاوضة عليه، فحينئذ يصير مِلْكاً لمن جعل له.

الأمر الثاني: أنّ الضمان لابدّ وأنْ يكون لليد، أو الإتلاف، أو الاستيفاء، ومع عدم هذه الأسباب لا ضمان.

وأمّا قاعدة لا ضرر التي يستدلّ بها في هذه المقامات كثيراً للضمان، فهي لا تصلح لإثباته، لأنّ غاية ما يمكن أنْ يقال في تقريب الاستدلال بها، هي أنّ حكم الشارع بعدم الضمان ضرريٌ على المالك، أو على من منع من العمل، فينتفي بحديث نفي الضرر(2)، فيحكم بالضمان.

وفيه: بعد تسليم المبنيين اللّذين بنى عليهما الشيخ الأعظم في محلّه، وهما

ص: 154


1- راجع المختصر النافع: ص 247، كشف الرموز: ج 2/380، الدروس: ج 3/105.
2- الكافي: ج 5/292 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32281.

أساس الاستدلال في المقام:

أحدهما: أنّ المنفيّ بحديث لا ضرر ليس خصوص الأحكام الوجوديّة المجعولة، بل كلّ ما هو من الإسلام، وجوديّاً كان أو عدميّاً.

ثانيهما: أنّ مدلول الحديث نفي الحكم الناشيء من قبله الضرر، كان الضرر ناشئاً من متعلّقه أم كان ناشئاً من نفسه، كلزوم البيع الغبني.

أنّه لا يصحّ الاستدلال بالقاعدة في المقام، من جهة أنّ حديث نفي الضرر إنّما يدلّ على نفي الحكم الناشيء من قِبله الضرر، وأنّ الضرر يكون منفيّاً في عالم التشريع، ولا يدلّ على تدارك الضرر المتحقّق من غير جهة الحكم الشرعي، فلو تضرّر أحدٌ في تجارته مثلاً لا يجبُ على المسلمين تدارك ضرره، وهذا من الوضوح بمكان.

وفي المقام إذا حكم الشارع بالضمان، فإنّما يكون من جهة لزوم تدارك الضرر المفروض وجوده بالتلف، لا من جهة نفي الضرر، وعليه فالحديث لا يُثبت ذلك.

مع أنّ الحديث لو كان مثبتاً للّزوم التدارك، لما كان وجهٌ للّزوم التدارك على شخصٍ خاص لو لم ينتفع به ولا أتلفه، فليكن سدّ ضرره من بيت المال.

أقول: فالإنصاف أنّ قاعدة نفي الضرر لا تفي بإثبات المطلب.

قاعدة الاحترام

الأمر الثالث: أنّه قد يستدلّ على الضمان في هذا الباب بقاعدة احترام مال المسلم، الثابتة بما دلّ على أنّه:

ص: 155

1 - «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّابطيبة نفسه»(1).

2 - وقوله صلى الله عليه و آله: «حرمة ماله كحرمة دمه»(2).

3 - وقوله عليه السلام: «لا يصلح ذهاب حَقّ أحد»(3).

تقريب دلالة الأوّل على الضمان: أنّ الحلال هو ما لا تبعة له، فإذا نُسِب إلى الفعل كان معناه أنّه لا يُعاقب عليه، فيستفاد منه الحليّة التكليفيّة، وإذا نُسب إلى المالك - كما في المقام - كان معناه ما لا خسارة من قبله، فمعنى (لا يَحلّ ) في المقام أنّه مع عدم رضا المالك، يكون المال ممّا له تبعة وخسارة وعوض.

وفيه أوّلاً: إنّ ظاهر هذا التركيب في نفسه إرادة الحكم التكليفي، حيث يقدّر فيه التصرّف، كما مرّ في المسألة الأُولى .

وثانياً: إنّ حمل الحليّة على الوضعيّة، لا يلائم مع حرف المجاوزة في قوله: «إلّا عن طيبة نفسه»، فإنّ ظاهره صدور شيء عن الطيب، فيكون ظاهره حليّة التصرّف عن الرّضا.

مع أنّه لو تمّ دلالته على الضمان، يكون مختصّاً بالمنافع المستوفاة، ولا يدلّ على الضمان في المنافع غير المستوفاة والعمل.

أمّا الدليل الثاني: وهو حديث: «حرمة ماله كحرمة دمه»، فتقريب الاستدلال به أنّ الحرمة إنّما نُسبت إلى المال، وظاهر ذلك إرادة احترام المال من حيث أنّه مال، واحترامه كذلك إنّما يكون بالمعاملة معه معاملة ماله ماليّة يتداركها، فعدم تدارك1.

ص: 156


1- عوالي اللّئالي: ج 1/222 ح 98.
2- الكافي: ج 2/359 ح 2، وسائل الشيعة: ج 12/280 ح 16308.
3- الكافي: ج 7/4 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/310 ح 24671.

ماليّته معناه معاملة الهدر معه، فرعاية ماليّته تتحقّق بردّه أو رَدّ عوضه لو تلف.

وفيه أوّلاً: أنّ ظاهره - ولو بقرينة السياق - إرادة الحرمة التكليفيّة منه، فإنّ قبله هكذا: «سباب المؤمن فسوقٌ ، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية»، فيكون المراد من حرمة ماله بواسطة تنظيره بحرمة دمه، شدّة العقوبة المعبّر عنها بالكفر.

وثانياً: أنّه لا يشمل المنافع غير المستوفاة، والعمل غير العائد نفعه إليه.

وثالثاً: أنّ الظاهر منه - من جهة اضافة المال إلى المؤمن - إرادة رعاية مالكيّته، وهي لا تقتضي أزيد من عدم التصرّف فيه بلا رضاه، لا تدراكه لو تلف.

وأمّا حديث: «لا يصلحُ ذهاب حَقّ أحدٍ»، فلا يدلّ على الضمان، لأنّ الكلام إنّما هو عن ثبوت الحقّ في المقام، والحكم لا يصلحُ لإثبات موضوعه.

فالمتحصّل: أنّ قاعدة الاحترام أيضاً لا تُثبت الضمان.

الأمر الرابع: أنّ الإتلاف المضمّن أعمّ من اعدام الموجود والمنع من الوجود.

أقول: إذا عرفت هذه الاُمور، فاعلم أنّه في الفرع الأوّل يمكن القول بالضمان، أي ضمان الأصل لو تلفت الدابّة، وضمان منفعتها الفائتة:

أمّا الأوّل: فلأنّه يصدق أنّه بمنع المالك من إمساك الدابّة أتلفها عليه، فمقتضى قاعدة الإتلاف هو الضمان، وبه يظهر وجه ضمان منفعتها، فإنّ منع المالك من إمساك الدابّة كحبس العين ومنع مالكها عن الانتفاع بها إتلافٌ لمنافعها عرفاً.

وما قيل: في وجه عدم ضمان المنفعة غير المستوفاة، سيظهر في بعض المباحث الآتية عدم تماميّته، وأنّ الحقّ ضمانها.

وأمّا في الفرع الثاني: فكما أفاده يكون الأظهر عدم الضمان، لأنّ عمل الحُرّ

ص: 157

ليس ملكاً له كي تشمله قاعدة من أتلف مال الغير، والفرض أنّه ليس تحت اليد ولا استوفاه، وأمّا قاعدتا لا ضرر والاحترام، فهما لا تدلّان على الضمان.

وعليه، فلا موجب للضمان والأصل عدمه، وسيأتي تمام الكلام فيه لاحقاً.

***

ص: 158

ولو غضب من الغاصب تخيّر المالك في الاستيفاء ممّن شاء،

تعاقب الأيدي

المسألة الرابعة: (ولو غصب) غاصبٌ (من الغاصب، تخيّر المالك في الاستيفاء ممّن شاء)، لأنّ المال وقع تحت يد كلّ منهما، فموجب الضمان بالنسبة إلى كلّ منهما متحقّق، فيكون المال في عُهدة كلّ واحدٍ منهما، لا بمعنى أنّه لو تلف ثبت الضمان على كلّ منهما مستقلّاً.

توضيح ذلك: قد عرفت أنّ معنى الضمان هو التعهّد المالي، وأنّ المال في غير العقود الصحيحة من موارد الضمان يكون في عهدة من وضع يده عليه، فإذا فرض تعدّد الأيدي، تكون العين الواحدة في عهدة كلّ من أصحابها، ولكن حيث أنّ معنى كون شيء واحدٍ في عهدات متعدّدة، خروج كلّ منهم عن عهدته، ومن المعلوم أنّ الشيء الواحد ليس له إلّاتداركٌ واحد، كان لازم ذلك تسلّط المالك على مطالبة كلّ منهم الخروج عن عهدته، ومع التلف يستحقّ على واحدٍ منهم البدل على البدل، فإذا استوفى العين أو عوضها من أحدهم سقط عهدة الباقين، ثمّ إنّ قرار الضمان إنّما يكون على من تلف المال في يده.

وإجمال وجهه: أنّ الغاصب الأوّل وضع يده على مال الغير، فنفس العين تثبت في عهدته، والغاصب الثاني وضع يده على ما ثبت في عهدة الغير، فهو يضمن المال المتّصف بهذا الوصف، وتثبت العين بهذه الخصوصيّة في ذمّته، فإذا تلف المال وأدّى

ص: 159

الغاصب الأوّل عوضه، فله أن يرجع إلى الغاصب الثاني، لأنّ ذلك لازم ضمانه للمال الذي له بدل، الذي مرجعه إلى ضمان واحد من البدل والمُبدل على سبيل البدل، فعليه أن يدفع إلى الأوّل، ويكون مايدفعه إليه تداركاً لما استقرّ تداركه في ذمّة الأوّل.

أقول: وبه يظهر وجه عدم رجوع الثاني إلى الأوّل، لو أدّى العوض إلى المالك، وقد مرّ تفصيل القول فيه وفي الإشكالات الواردة ونقدها، والفروع المتفرّعة في كتاب البيع من هذا الشرح(1)، وإنّما الغرض في المقام الإشارة إلى ما هو الوجه في ذلك.

***0.

ص: 160


1- فقه الصادق: ج 23/340.

ولا يضمن الحُرّ إلّاأنْ يكون صغيراً،

عدم ثبوت الغصب فيما ليس بمال كالحُرّ

المسألة الخامسة: (و) لا يثبت الغصبُ في ما ليس بمال كالحُرّ، ف (لا يضمن الحُرّ) بالاستيلاء عليه عيناً أو منفعةً ، لعدم صدق الغصب، ولا ينطبق عليه شيءٌ من قواعد باب الضمان، من اليد والإتلاف والاستيفاء كما مرّ.

نعم، لو أصابه تلفٌ من قِبل الغاصب من نحو الجناية على نفسه أو طرفه، ضمنه إجماعاً، كما يأتي في كتاب الديات(1)، وأمّا في غير هذه الصورة فإنّ عدم الضمان إجماعيٌ في الكبير مطلقاً، والصغير إذا كان تلفه بالموت الطبيعي، وأمّا لو كان التلف لا بسبب الغاصب، ولا من قِبل اللّه تعالى - كالموت بلدغ الحيّة أو افتراس السّبع ونحو ذلك - ففيه قولان:

القول الأوّل: الضمان، وإليه أشار المصنّف رحمه الله بقوله: (إلّا أنْ يكون صغيراً)، وعن الشيخ في «المبسوط»(2)، والمصنّف في «المختلف»(3)، والشهيد في «الدروس»(4)وغيرهم في غيرها اختياره، واستدلّ له:

1 - بأنّه سبب التلف، لأنّ الصغير لا يستطيع دفع المهلكات عن نفسه وعروضها.

ص: 161


1- فقه الصادق: ج 40/98.
2- المبسوط: ج 3/105.
3- مختلف الشيعة: ج 6/72.
4- الدروس: ج 3/74.

واُجرة الصانع لو منعه عنها، ولو استعمله فعليه اُجرة عمله، و

2 - وبخبر وهب، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام: كان يقول: من استعار عبداً مملوكاً لقومٍ فعيب فهو ضامن، ومن استعار حُرّاً صغيراً فعيب ضمن»(1)، بناء على أنّ الاستعارة أهون من الغصب.

وأُورد على الأوّل: - في محكي «التذكرة»(2) - بقوله: (إنّ تعليلهم المشار إليه غير صالح للحجيّة وتخصيص أصالة البراءة القطعيّة).

على الثاني: وبأنّه ضعيفُ السّند، غير معمول به على إطلاقه، ولذا ذهب جماعة إلى عدم الضمان.

أقول: والحقّ أنّ هذه المسألة لابدّ وأنْ تعنون في كتاب الديات في مباحث الجنايات، وغير مرتبط بمسائل الغصب، لأنّ الحُرّ لا يتعلّق به الغصب، والحقّ فيها أنّه لو لم يكن بين أخذ الغاصب للحُرّ - كبيراً كان أو صغيراً - فعل فاعلٍ مختار فاصلة ضمن، وإلّا فلا، وتمام الكلام موكولٌ إلى محلّه.

(و) كذا لا يضمن (اُجرة الصانع لو منعه عنها) إنْ لم يكن أجيراً، وإلّا فيضمن، (و) كذا يضمن (لو استعمله، فعليه اُجرة عمله) كما مرّ الكلام في جميع تلكم مفصّلاً في كتاب الإجارة(3).

(و) ممّا ذكرناه في المسائل المتقدّمة، ظهر أنّه:ا.

ص: 162


1- الكافي: ج 5/302 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/94 ح 24233.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/376.
3- راجع المجلّد 28/7 وما بعدها.

لو أزال القيد عن العبد المجنون أو الفرس ضَمِن، ولو فتح باباً فسرق غيره المتاع ضَمِن السّارق،

1 - (لو أزال القيد عن العبد المجنون أو الفرس) ونحوه فهرب الحيوان (ضَمِن).

2 - وأمّا (لو فتح باباً فسرَق غيره المتاع) فلا إشكال في أنّه ي (ضمن السّارق).

إنّما الكلام في ضمان من فتح الباب وعدمه، فالمشهور بين الأصحاب(1) هو الثاني، وعن جماعة(2) ضمانه.

واستدلّ للأوّل: بأقوائيّة المباشر من السبب.

واستدلّ للثاني: في «الرياض» بحديث نفي الضرر(3).

ولكن القوّة لا تدفع الضمان عن ذي السبب إنْ وجد ما يقتضي ضمانه، وحديث نفي الضرر قد مرَّ عدم دلالته على الضمان.

والحقّ أنْ يقال: إنّه حيث لا يد هنا للسبب على المال ولا استيفاء، فلو كان هناك ضمان، فإنّما هو من جهة قاعدة الإتلاف، ولا إشكال في صدق التلف على السرقة، كما يشهد به خبر عقبة بن خالد في تلف المبيع قبل قبضه، حيث جعل فيه سرقة المتاع من التلف(4)، وعليه فحيث أنّ الموجب للسرقة والجزء الأخير لها هو فتح الباب، إذ لو لم يفتح لما تمكن من السرقة، فيصدق على فتح الباب أنّه إتلافٌ6.

ص: 163


1- راجع شرائع الإسلام: ج 4/764، كشف الرموز: ج 2/381.
2- إرشاد الأذهان: ج 1/444.
3- رياض المسائل: ج 12/266.
4- الكافي: ج 5/171 ح 12، وسائل الشيعة: ج 18/23 ح 23056.

للمال، فيشمله قاعدة من أتلف.

وبالجملة: فتح الباب يعدّ عرفاً إتلافاً للمال إنْ تعقّبه سرقة المتاع، فيوجب الضمان، هذا غاية ما يمكن أنْ يقال في وجه الضمان، ومع ذلك فإنّه لا زال في النفس منه شيءٌ ، سيّما وقد ادُّعي الإجماع(1) على عدم الضمان في المقام في كثير من الكلمات.

***8.

ص: 164


1- راجع جواهر الكلام: ج 37/68.

ويضمن الخمر والخنزير للذّمي وبقيمتهما عندهم مع الإستتار لا للمسلم،

ضمان الخمر والخنزير

المسألة السادسة: التزم المصنّف رحمه الله في المقام بأنّه: (ويَضمُن الخمر والخنزير للذّمي وبقيمتهما عندهم مع الاستتار لا للمسلم).

أقول: وتنقيح القول في المقام بالبحث في موردين:

الأوّل: في الخمر.

الثاني: في الخنزير.

أمّا المقام الأوّل: فيقع البحث عن حكم الخمر على مبنين:

تارةً : نقول إنّ الخمر مالٌ وتُملك كما هو الحقّ :

1 - لأنّ لها منفعة محلّلة وهي جعلها خَلّاً والانتفاع بها.

2 - ولأنّ جواز شُرب الذمّي إيّاها منفعة محلّلة توجبُ صيرورتها مالاً.

3 - ولموثّق ابن أبي عُمير، عن جميل، قال: «قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: يكون لي على الرّجل الدّراهم فيعطيني بها خمراً؟

فقال عليه السلام: خُذها ثمّ افسدها»(1).

ولا ينافيه ما دلّ من النصوص على عدم جواز بيعها، فإنّه يكون الإعطاء في الخبر بعنوان أداء الدين لا بعنوان البيع، فلا وجه لما في «مكاسب» الشيخ

ص: 165


1- التهذيب: ج 9/118 ح 243، وسائل الشيعة: ج 25/371 ح 32153.

الأعظم(1) من أنّ المراد بالخبر:

(إمّا أخذ الخمر مجّاناً ثمّ تخليلها، أو أخذها وتخليلها لصاحبها، ثمّ أخذ الخلّ وفاءاً للدَّين) بعد كون كلّ منهما خلاف الظاهر.

وعليه، فلا إشكال في أنّه لو أتلفها متلفٌ ، أو تلف تحت يده العادية يكون ضامناً، لعموم على اليد، وقاعدة من أتلف، بعد عدم ورود مخصّص عليهما بالنسبة إليها.

واُخرى : نقول بأنّها لا تُملك، وأنّ غاية ما يدلّ عليه الوجهان الأولان كونها مالاً لا مِلكاً، والخبر محمولٌ على ما أفاده الشيخ قدس سره أو غيره.

أقول: فإن بنينا على أنّها مالٌ - كما هو الصحيح - فحيث أنّ الأظهر ثبوت حَقّ الاختصاص بالنسبة إليها، لمن هي تحت يده، من جهة الحيازة أو كون أصلها له، لأنّ عليه بناء العرف والعقلاء، ولم يرد من الشارع الأقدس نهيٌ عن ذلك، بل لا يبعد دعوى قيام سيرة المتشرّعة عليه سيرةً مستمرّةً إلى زمان المعصوم عليه السلام، فثبوت الضمان لا كلام فيه، لعموم على اليد، وقاعدة الإتلاف، والإجماع.

ولعلّه إلى ذلك نظر الإسكافي(2) حيث قال: (إنّه يُحكم له بقيمتها خلّاً، لأنّ له حقّ اليد، فكان عليه الضمان).

وعلى التقديرين، فإنّه لا فرق بين كونها للمسلم أو للذّمي.

وثالثة: نقول إنّها ليست بمالٍ من جهة أنّه لا يجوز شرب الذمّي إيّاها، بل غاية ما ثبت بالدليل أنّه لو استتر بالشرب لا يُحَدّ، أو أنّه لا يكفي في انتزاع الماليّة ذلك،2.

ص: 166


1- كتاب المكاسب: ص 42.
2- نسبه إليه في مختلف الشيعة: ج 6/132.

ولا القابليّة لأن تصبح خلّاً، فالظاهر حينئذٍ عدم الضمان فإنّه بلحاظ الماليّة، من غير فرقٍ على هذا أيضاً بين كونها للذّمي أو المسلم.

وأمّا المقام الثاني: فقد مرَّ في الأجزاء السابقة من هذا الشرح(1) أنّ مقتضى الجمع بين النصوص(2) المختلفة الواردة في الخنزير، هو جواز بيعه للذّمي، وعدم جواز البيع من المسلم، وذلك - بضميمة ما مرّ من جواز أكل الذمّي لحمه، وأنّ له غير الأكل منافع محلّلة اُخرى ، مثل الانتفاع بجلده وشعره، بل بلحمه في غير الأكل - كافٍ في البناء على أنّه مالٌ وملك، سيّما وقد دلّ الدليل(3) على جواز بيع شعره مطلقاً.

وعليه، فلو أتلفه متلفٌ ، أو تلف تحت يده العادية، يكون ضامناً.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر هو الضمان، ولو كان الخمر والخنزير للمسلم.

نعم، لابدّ من تقويمهما على الغاء جهة أكل المسلم وشربه إيّاهما، أو إلغاء الجهتين مطلقاً، وبهذا الاعتبار ينقص قيمتها.

هذا ما تقتضيه القواعد، فإن ثبت إجماعٌ على خلافه فهو المتّبع.

***ه.

ص: 167


1- فقه الصادق: ج 20/103، تحت عنوان (حكم بيع الخنزير). (2و3) راجع وسائل الشيعة: ج 17 باب 57، 58، 60، 61 من أبواب ما يكتسب به.

ويجبُ رَدّ المغصوب

وجوب رَدّ المغصوب إلى مالكه

المسألة السابعة: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (يجبُ رَدّ المغصوب) على مالكه ما دامت العين باقية.

ويشهد به: - مضافاً إلى ما دلّ على وجوب رَدّ المال إلى صاحبه مطلقاً، كموثّق سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من كانت عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دم امريء مسلم ولا ماله إلّابطيب نفسه منه»(1)، فإنّ إطلاق التعليل، سيّما وهو مذكورٌ لوجوب رَدّ الأمانة، يشمل الإمساك على مال الغير، والنصوص المتقدّمة الدالّة على عدم جواز التصرّف في مال الغير ومنه الإمساك، والنصوص المتفرّقة الواردة في الأبواب المتفرّقة في موارد الأمانات المالكيّة والشرعيّة وغيرها - جملةٌ من النصوص الخاصّة:

منها: خبر حمّاد بن عيسى ، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح عليه السلام، وذكر ما يختصّ بالإمام إلى أنْ قال: «وله صوافي الملوك ما كان في أيديهم على غير وجه الغصب، لأنّ الغصب كلّه مردود»(2).

ومنها: ما ورد في «نهج البلاغة»: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: الحَجَر الغصب في الدّار رهنٌ على خرابها».

ص: 168


1- الكافي: ج 7/273 ح 12، وسائل الشيعة: ج 5/120 ح 6089.
2- الكافي: ج 1/539 ح 4، وسائل الشيعة: ج 9/524 ح 12628.

قال الرضي: (ويروى هذا الكلام للنبيّ صلى الله عليه و آله)(1).

ومنها: خبر عبد العزيز بن محمّد الدراوردي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عمّن أخذ أرضاً بغير حقّها وبنى فيها؟

قال عليه السلام: يرفع بنائه، ويُسلّم التربة إلى صاحبها، ليس لعرق ظالمٍ حقّ .

ثمّ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من أخذ أرضاً بغير حَقّ ، كُلّف أن يحمل ترابها إلى المحشر»(2).

ونحوها غيرها(3).

أقول: لا خلاف في أنّ المراد بالرّد في هذا الباب، هو الإقباض والتسليم إلى مالكه، ولا يكفي التخلية بين المال وصاحبه كما في باب الوديعة، إذ كما أنّ كون المال تحت سلطنة الغاصب واستيلائه في غير محلّه، فلابدَّ من إيصاله إلى محلّه، كذلك كونه عنده خارجاً يكون في غير محلّه، فلابدّ من إيصاله إليه بالإقباض، وخبر عبد العزيز أيضاً يشهد به، بل لعلّ الظاهر من الرّد والمفهوم عرفاً منه ذلك.

كما لا خلاف في أنّه يجب الرّد وإنْ تعسّر واستلزم ذهاب مال الغاصب - كالخشبة المستدخلة في البناء، واللّوح والسفينة والخيط في الثوب وما شاكل - بلا خلافٍ فيه، لإطلاق بعض ما مرّ، وصراحة آخر.

نعم، في خصوص ما لو كان المغصوب بحيث لو أُريد ردّه لزم منه عدم بقاء القيمة والماليّة له - كالصبغ إذا صبغ ثوبٌ به، والجِصّ في البناء، والخيط إذا خِيط به).

ص: 169


1- البحار: ج 101/258 ح 1.
2- التهذيب: ج 6/294 ح 26، وسائل الشيعة: ج 19/157 ح 24363.
3- وسائل الشيعة: ج 25/388 باب: (أنّ من غصب أرضاً وبنى فيها رفع بناؤه وسُلّمت الأرض إلى المالك).

الثوب، وما شاكل - إشكالٌ واختلاف بين الأصحاب، وفيه أقوال:

1 - وجوب الرّد مع رَدّ تمام القيمة، اختاره في «المسالك»(1) وغيرها.

2 - عدم وجوبه، بل يجبُرَدّ القيمة خاصّة، اختاره المصنّف رحمه الله(2)، ولعلّه المشهور.

3 - صيرورة ذلك الشيء مشتركاً بين الغاصب والمغصوب منه.

أقول: الأظهر عدم وجوب الرّد، والاكتفاء بردّ بدله، ولا يستحقّ المالك ذلك الشيء، وذلك لأنّ الصبغ أو الخيط أو الجِصّ يعد في هذه الموارد تالفاً، فيكون الغاصب ضامناً للمثل أو القيمة، ويصير ذلك ملكاً للمغصوب منه بدلاً عن ماله.

وأمّا المبدل منه: فهو يخرج عن ملكه لوجوه:

1 - إنّ الملكيّة من الاعتباريات، والاعتبار إنّما يكون بلحاظ الأثر وبدونه لغو، فلا يكون هناك اعتبار الملكيّة.

2 - إنّ أهل العرف يفهمون من الأمر بدفع البدل، حصول المعاوضة والمبادلة بين العينين، وصيرورة كلّ منهما ملكاً للآخر وبدلاً منه.

3 - إنّ مقتضى عنوان التدارك والغرامة ذلك، إذ مع حكم الشارع بتدارك ماليّته بتمامها، بعنوان تدارك ما في العهدة، وبعنوان أنّه أداءٌ للمتعذّر، لا مناص عن الالتزام بخروجه عن ملكه، وحيث أنّ كون المتعذّر من المباحات الأصليّة لم يقل به أحدٌ، فلابدّ من البناء على صيرورته ملكاً للضامن.

ومحصّل الكلام: أنّ المال المغصوب:

تارةً : لا يرد عليه نقص بردّه إلى مالكه.8.

ص: 170


1- مسالك الأفهام: ج 12/175.
2- تحرير الأحكام: ج 4/528.

فإنْ تعيّب ضَمِن الأرش،

واُخرى : يلزم منه تلف مقدارٍ من أوصافه موجبٌ لنقصٍ في ماليّته.

وثالثة: يوجب تلف العين عرفاً، بمعنى أنّه لا يبقى له ماليّة إذا أُريد ردّه.

أمّا القسم الأوّل: فيجب ردّه وإنْ تضرّر الغاصب به.

وأمّا في الثاني: فيجب الرّد مع ضمان النقص الحاصل، وإليه أشار المصنّف رحمه الله بقوله (فإن تعيّب ضَمن الأرش):

أمّا وجوب رَدّ العين: فلما مرّ.

وأمّا وجوب الأرش: فلحديث على اليد، وقاعدة الإتلاف.

وأمّا في القسم الثالث: فإنْ كان المال المغصوب بحيث لا يعدّ تالفاً كما لو امتزجه بمساويه، فسيأتي حكمه عند تعرّض المصنّف رحمه الله له.

وإنْ كان يعدّ تالفاً كما في الامثلة المتقدّمة، فيجب رَدّ القيمة دون العين، بل هي تصبح بردّ البدل ملكاً للغاصب.

وأمّا ما اشتهر من أنّ الغاصب يُؤخذ بأشقّ الأحوال، فلم أظفر بما يكون مأخذاً صحيحاً له، كي يقال إنّه يقتضي وجوب رَدّ العين مع رَدّ القيمة.

بدل الحيلولة

أقول: بقي في المقام فرعان:

الفرع الأوّل: ما إذا تعذّر إيصال المال إلى صاحبه، ولم يكن بحيث يصدق عليه

ص: 171

التالف، فهل يلزم على الغاصب دفع البدل وهو المسمّى عندهم ببدل الحيلولة، أم لايجب ذلك ؟

وتنقيح القول فيه في جهات:

الجهة الأُولى : في الدليل على الضمان، بمعنى لزوم دفع البدل، وقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: قاعدة نفي الضرر(1)، بدعوى أنّ صبر المالك إلى حين الوصول إليه ضررٌ عليه، فجاز له إلزام الغاصب بالبدل.

وفيه: إنّ قاعدة نفي الضرر قد مرَّ أنّها لا تصلح لإثبات الضمان.

الوجه الثاني: قاعدة على اليد(2) بدعوى أنّ أداء العين كما يكون بأداء بدلها عند تلفها، يكون بأداء بدل الحيلولة.

وفيه: إنّ مفاد حديث على اليد إنْ كان هو اشتغال الذمّة بالقيمة عند التلف، فعدم دلالته على الضمان ببدل الحيلولة واضح.

وإنْ كان مفاده بقاء العين في العُهدة إلى حين الخروج عنها، فهو إنّما يدلّ على لزوم أداء العين مادامت موجودة، وتدارك ماليّتها بأداء حصّة مماثلة لها بعد التلف.

وبعبارة اُخرى : ما دامت موجودة لا يكون أداء بدل الحيلولة أداءً لها، ولذا لا تخرج عن ملك مالكها، ولو كان ذلك أداءً لها، كان اللّازم خروجها عن ملكه.

الوجه الثالث: أنّ في أدائه جمعاً بين الحقّين، بعد فرض رجوع البدل إلى الضامن لو ارتفع التعذّر.4.

ص: 172


1- الكافي: ج 5/292 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32281.
2- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.

وفيه: الحقّ الثابت للمالك إنّما هو بالإضافة إلى العين نفسها، لا بدلها مع بقائها، مع أنّه على فرض التنزّل يمكن الجمع بين الحقّين بوجهٍ آخر، وهو إلزام الغاصب بالشراء، بل هذا الجمع أولى كما لا يخفى .

الوجه الرابع: قاعدة السلطنة(1):

1 - إمّا بدعوى السلطنة على مطالبة العين للتوصّل بها إلى مطالبة البدل وأخذه.

2 - أو بدعوى أنّ من شؤون السلطنة على العين، السّلطنة على ماليّتها، وبعبارة اُخرى للعين شؤون ثلاثة: من جهة الشخصيّة، ومن حيث الطبيعة النوعيّة، ومن حيث الماليّة، وتعذّر مطالبة الأولى، لا يمنعُ عن مطالبة غيرها.

3 - أو بدعوى السلطنة على مطالبة السلطنة على الانتفاعات بماله.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الدعوى الأُولى : فلأنّ السلطنة على مطالبة العين مع إمكان ردّها ثابتة، ولازمها السعي في ذلك بالسعي في مقدّماته، لا رَدّ البدل، ومع عدم إمكانه لا تكون ثابتة، لعدم القدرة، والامتناع بالاختيار وإنْ كان لا ينافي الاختيار، إلّاأنّه عقاباً لا خطاباً.

وأمّا الدعوى الثانية: فلأنّ ماليّة العين القائمة بها - أي تلك الحصّة الخاصّة من الماليّة - يتعذّر مطالبتها بتعذّر مطالبة العين، والماليّة القائمة ببدلها حصّة اُخرى من الماليّة، ولم يثبت السلطنة على مطالبتها.7.

ص: 173


1- البحار: ج 2/272 ح 7.

وأمّا الدعوى الثالثة: فلأنّ السلطنة على الانتفاعات بماله ساقطة، للتعذّر.

الوجه الخامس: أنّه فوت سلطنة المالك وأتلفها، فيجبُ عليه تدارك ذلك.

وفيه: إنّما للمالك هو الملك لا السلطنة، بل هي من الأحكام المترتّبة عليه، فلا يتعلّق بها الضمان.

الوجه السادس: إطلاق النصوص المتقدّمة.

وفيه: أنّها ظاهرة أو منصرفة إلى صورة صدق التلف عرفاً.

الوجه السابع: الإجماع، وهو كما ترى .

فالمتحصّل: أنّه لا دليل على بدل الحيلولة كما اعترف به جمعٌ من المحقّقين.

نعم، بما أنّ الغاصب فوّت منافع العين على المالك، يكون ضامناًللمنافع، وقد مرّ أنّ المنافع غير المستوفاة أيضاً تكون مضمونة، لحديث على اليد، وقاعدة الإتلاف.

مورد بدل الحيلولة

الجهة الثانية: في بيان مورد بدل الحيلولة:

فاعلم أنّه إذا تمكّن الغاصب من رَدّ العين، ولكنّه لم يردّها بل حال بين المال ومالكه، ليس هناك بدل الحيلولة، بل يكون الغاصب مكلّفاً بردّ العين، كما أنّه إذا تلفت العين، أو تلف جميع الانتفاعات في جميع الأزمنة خرجت بذلك عن الملكيّة، كما لو انكسرت المرآة، وليس مورد بدل الحيلولة، كما أنّه ليس مورده ما لو تلف بعض الانتفاعات في جميع الأزمنة، كما لو صار الحيوان الذي يطلب ظهره موطوئاً، فإنّه لم يتلف منه إلّاالانتفاع به دائماً في بلد الوطء لا في سائر البلاد، بل مورده ما إذا تلف جميع الانتفاعات في بعض الأزمنة، لعدم تمكّن الضامن من الرّد.

ص: 174

ثمّ إنّ مورده ما إذا كان التعذّر لعارضٍ خارجي، وأمّا إذا كان ذلك من جهة أنّ ردّ العين مستلزمٌ لخروجها عن الماليّة، كالخيط المغصوب الذي خيط به الثوب، إذ قد يكون إخراجه من الثوب موجباً لتلفه، فلا يكون مورداً له، وبذلك ظهر ما في استدلال صاحب «الجواهر»، لوجوب البدل في المثال بالحيلولة.

وعليه، فلا يعتبر فيه سوى ما ذُكر، وبالتالي فصوره أربع - سوى الصورة الملحق فيها المال بالتلف -:

1 - إذ ربما يُرجى فيها التمكّن من العين قريباً.

2 - وربما يُرجى بعد مضيّ مدّة طويلة.

وعلى التقديرين:

1 - إمّا أن يتعذّر على الغاصب إعادة العين وإنّما يُرجى أن تعود بنفسها كطائر اعتاد العود.

2 - وإمّا أن لا يتعذّر.

وعلى القول بثبوت بدل الحيلولة يثبت في جميع هذه الصور، ولا وجه لتخصيصه بما إذا كان يرجى التمكّن بعد مدّة طويلة.

نعم، إذا كان زمان التعذّر يسيراً جدّاً لا يكون مشمولاً لما تقدّم من الأدلّة.

في المراد من التعذّر

الجهة الثالثة: في بيان أنّ التعذّر الموضوع لهذا الحكم:

1 - هل هو التعذّر المسقط للتكليف بردّ العين ؟

2 - أو الأعمّ منه ومن التعذّر العرفي ؟ فيه وجهان:

ص: 175

قد استدلّ للأوّل:

1 - بأصالة عدم تسلّط المالك على أزيد من إلزامه بردّ العين الذي كان قبل التعذّر، خرج عن ذلك ما إذا تعذّر بالتعذّر المسقط للتكليف.

2 - وبأنّه مع عدم التعذّر المسقط يكون مكلّفاً بردّ العين، ولا يجتمع التكليف بردّ العين والبدل.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ مقتضى إطلاق الأدلّة التي أقاموها على ثبوت بدل الحيلولة، ثبوته في مورد التعذّر العرفي أيضاً، ومعه لا مورد للرجوع إلى الأصل.

وأمّا الثاني: فلأنّ مورد التكليف بالبدل زمان الاشتغال بالمقدّمات، ومورد التكليف بردّ العين هو زمان ما بعد المقدّمات.

أقول: ولكن الحقّ في المقام هو التفصيل بين كون زمان الاشتغال بالمقدّمات قصيراً جدّاً فلا يكون ثابتاً، وبين غيره فيثبت، ولا يخفى وجهه.

ثمّ إنّه في المقام جهاتٍ اُخر من البحث، مثل أنّه:

هل يُلزم المالك على أخذ البدل من الدافع ؟

وأنّه هل يصير البدل مِلْكاً له، أم يبقى مباحاً، له التصرّف فيه ؟

وأنّ العين هل تنتقل إلى الغاصب أم لا؟

وقد استوفينا البحث عن هذه الاُمور والجهات في كتاب البيع(1)، ولا يهمّنا البحث فيها بعد عدم ثبوت الأصل.

حق الأولويّة

الفرع الثاني: ويدور البحث فيه عمّا لو خرجت العين عن الملكيّة، كما لو صار الخَلّ المغصوب خمراً:

ص: 176


1- فقه الصادق: ج 24/387.

فقد استشكل المصنّف رحمه الله في محكي «القواعد»(1) في وجوب ردّها مع القيمة.

وعن الشهيدين(2) والمحقّق الثاني رحمهم الله(3) وجوب الرّد.

أقول: والكلام فيه أيضاً في جهات:

الجهة الأُولى : في بقاء حَقّ الأولويّة بعد زوال الملكيّة، والظاهر ذلك:

1 - لا لما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(4) من أنّ الحقّ ليس أمراً مغايراً للملك، بل هو من شؤونه ومراتبه الضعيفة، المندكّة تحت القوي، لأنّه عبارة عن إضافةٍ خاصّة بين المستحقّ والمستحقّ عليه، وهي حاصلة للمالك، ومحفوظة له في جميع الحالات الواردة على الملك.

فإنّه يرد عليه: أنّ الملكيّة والحقيّة من الاعتبارات الشرعيّة والعرفيّة لا من المقولات، والاعتبار لا اشتداد فيه ولا حركة، وكلّ من الملك والحقّ اعتباري غير الآخر.

2 - ولا لما قيل من أنّ حَقّ الأولويّة من آثار الملك، فمع زواله غاية الأمر يشكّ في ارتفاعه فيستصحب.

إذ يرد عليه: أنّ ما هو أثر الملك إنّما هو الحكم التكليفي، من قبيل جواز التصرّف فيه ونحوه، وهو غير حَقّ الأولويّة، مع أنّ لازم كونه أثراً له ارتفاعه بارتفاعه.

وعلى الجملة: حَقّ الأولويّة الذي هو اعتبارٌ خاص لا يعدّ من آثار المِلْك.3.

ص: 177


1- قواعد الأحكام: ج 2/233.
2- شرح اللّمعة: ج 7/29.
3- جامع المقاصد: ج 6/292.
4- منية الطالب: ج 1/333.

3 - ولا لما قيل من أنّ الدليل دلّ على أنّ المالك أحقّ بماله، فيستفاد من ذلك كون حق الأولويّة من مقارنات الملك، ولو شكّ في زواله بارتفاع الملك يستصحب ذلك.

إذ يرد عليه: أنّ ما دلّ عليه الدليل، هو أولويّة المالك بالتصرّف في ماله عن غيره، وهذا غيرثبوت حَقّ الأولويّة.

4 - بل لما مرّ من السيرة العقلائيّة وبناء العقلاء على ذلك، وحيث إنّه لم يردع الشارع الأقدس عنه، فيستكشف إمضائه لذلك، ويؤيّده الإجماع عليه.

الجهة الثانية: في أنّه هل يجب ردّه على القول بثبوته، وعدم انتقاله إلى الغاصب، أم لا؟

أقول: الظاهر ذلك، إذ كما يجب رَدّ المملوك إلى مالكه، كذلك يجب رَدّ ما هو متعلّق الحقّ إلى ذي الحقّ .

ولو شكّ في وجوب رَدّ متعلّق الحقّ :

فهل يجري استصحاب وجوبه، نظراً إلى كون المِلْكيّة من الجهات التعليليّة لوجوب الرّد لا التقييديّة، فالموضوع عند العرف يكون باقياً؟ أم لا يجري لكونه من الجهات التقييديّة ؟

وجهان، أظهرهما الأوّل.

الجهة الثالثة: في أنّه مع فرض ثبوت هذا الحقّ ، هل يكون ذلك للمالك أو الغاصب ؟

والأظهر هو الثاني، لاقتضاءالغرامة ذلك، ولبناءالعقلاء عليه، وعليه فالغاصب أحقّ به من غيره.

***

ص: 178

فإنْ تعذّر ضَمن مثله، فإنْ تعذّر فقيمة يوم المطالبة، ولو لم يكن مثليّاً ضمنه بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف على إشكال

المِثْلي والقيمي

المسألة الثامنة: (فإنْ تعذّر) رَدّ المغصوب، أو تَلِف (ضمن) الغاصبُ (مثله) إنْ كان المغصوب مثليّاً بلا خلافٍ .

(فإنْ تعذّر) رَدُّ المثل (فقيمة يوم المطالبة).

(ولو لم يكن) التالفُ (مِثْليّاً، ضمنه بأعلى القيم من حين الغصب إلى حين التلف على إشكال).

أقول: وتنقيح القول في المقام يتحقّق بالبحث في مواضع:

الموضع الأوّل: في تعريف المثلي والقيمي، وإنْ لم يقعا في شيء من الروايات، ولا في معقد إجماعٍ ، بحيث يكون من قبيل الإجماع على القاعدة.

فالمشهور(1) في تفسير المثليّات: ما يتساوى أجزائه من حيث القيمة.

والمرادُ بالأجزاء الجزئيّات والأفراد، والمراد بالتساوي التساوي من غير جهة الكمّ .

فمحصل المراد: أنّ المثلي ما له ممّاثلٌ في الصورة والصفات التي تختلف بها الرغبات، وتتفاوت به القيم.

ص: 179


1- راجع إيضاح الفوائد: ج 2/173، جامع المقاصد: ج 6/243، مسالك الأفهام: ج 3/477.

و أظنّ أنّ ما عن «التذكرة»(1) من تفسيره: (بما تماثلت أجزائه، وتقاربت صفاته).

وما عن «الدروس»(2)، و «الروضة»(3): من أنّه (المتساوي الأجزاء والمنفعة، المتقارب الصفات).

وما عن بعضهم(4) من أنّه: (من يجوز بيعه سَلَماً).

وما عن آخر(5) من أنّه: (ما يجوز بيع بعضه ببعض)، جميعها ترجع إلى هذا المعنى ، ولا اختلاف بينهم بحسب المراد.

أقول: وأُورد على ذلك بإيرادات، ذكرناها مع أجوبتها في كتاب البيع(6)، كما أنّه قد ذكرنا في ذلك الكتاب ما هو مقتضى الأصل عند الشكّ في المِثْليّة والقيميّة، وما تقتضيه الأدلّة الاجتهاديّة عند الشكّ فيهما، وهي مسائل مهمة وفيها تحقيقات نافعة، راجعها.

الموضع الثاني: لا خلاف بين الأصحاب في أنّ ضمان المثلي إنّما هو بالمثل، وكذلك القيمي بالقيمة، واستفادة ذلك من الأدلّة إنّما هي من وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ مقتضى إطلاقات أدلّة الضمان الواردة في المغصوبات والأمانات المفرّط فيها، وغيرهما، إيكال ما يجب ردّه إلى ما هو المتعارف عند الناس، ومن المعلوم أنّ المتعارف عندهم رَدّ العين مع بقائها، وردّ ما هو الأقرب7.

ص: 180


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/381.
2- الدروس: ج 3/113.
3- شرح اللّمعة: ج 7/36.
4- راجع: مغني المحتاج: ج 2/281.
5- راجع: المُحلّى: ج 8/491.
6- فقه الصادق: ج 24/327.

إليها بعد عدم إمكان ردّها، والأقرب هو المثل، لكونه تداركاً للماليّة وللخصوصيّات الفائتة التي تختلف بها الرغبات.

وفي صورة عدم إمكان ردّه أيضاً لعدم المماثل، يراعى ما هو الأقرب إلى التالف بعد المثل، وهو القيمة من الأثمان، لأنّ غيرها مشتمل على خصوصيّات غير متموّلة، مغايرة لخصوصيّات التالف، ومعلوم أنّ غير المشتمل على الخصوصيّات المغايرة أقرب من المشتمل عليها.

وفي المقام وجوه اُخر ذكرناها في كتاب البيع فراجع(1)، كما أنّه تعرّضنا هناك لجملة من الفروع، من قبيل أنّه إذا لم يوجد المثل إلّابأكثر من ثمن المثل، وعن حكم ما لو سقط المثل عن الماليّة، أو نقصت قيمتها، ونحوهما.

حكم ما لو تعذّر المِثْل في المثليّ

الموضع الثالث: لو تعذّر المثل في المثلي، فإنّه لا خلاف في وجوب رَدّ قيمته، لما بيّناه من أنّ الشيء إذا لم يكن مثله كثيراً مبذولاً فهو قيمي، من غير فرق بين التعذّر في جميع الأعصار أو في عصر واحد ومن باب الاتّفاق، وعليه:

1 - فالمثلي المتعذّر مثله قيميٌ ، فللمالك مطالبة القيمة لأنّه حقّه.

2 - ولأنّ للعين ثلاث جهات - وهي الخصوصيّة الشخصيّة، والخصوصيّة النوعيّة، والحيثيّة الماليّة - فمقتضى الأدلّة وجوب رَدّ جميعها على الآخذ، فكما أنّه إذا امتنع رَدّ الخصوصيّة الشخصيّة لم يسقط وجوب رَدّ الجهتين الأخيرتين، كذلك إذا امتنع رَدّ الخصوصيّة النوعيّة لم يكن وجه لسقوط الجهة الثالثة، فيجبُ رَدّ القيمة من هذه الجهة.

ص: 181


1- فقه الصادق: ج 24/327 وما بعدها.

ويعضدهما أنّ منع المالك ظلمٌ ، وإلزام الضامن بالمثل منفيٌّ بالتعذّر، فتجبُ القيمة جمعاً بين الحقّين، بدلالة قوله تعالى : (فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (1)، إذ الضامن إذا أُلزم بالقيمة مع تعذّر المثل، لم يعتد عليه أزيد ممّا اعتدى ، وتفصيل الكلام في ذلك كلّه موكولٌ إلى محلّه.

أقول: عرفت ممّا ذكرناه أنّه وقع الخلاف بينهم في أنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمة أيّ يومٍ ، والوجوه المحتملة التي بعضها أقوال خمسة عشر، إلّاأنّ ما أمكننا ذكر الوجه له عشرة، ومنشأ الخلاف هو الاختلاف في أمرين:

أحدهما: أنّ المدار في القيمي على قيمة يوم الغصب، أو قيمة يوم التلف، أو أعلى القيم من يوم الأخذ إلى يوم الدفع، أو الأعلى من يوم الأخذ إلى يوم التلف ؟

ثانيها: أنّه بناءً على الانتقال إلى القيمة، هل العين تصير قيميّة، أو القدرالمشترك بينهما يكون قيميّاً؟

وحيث أنّ المختار عندنا في القيميّات أنّ العبرة إنّما هي بقيمة يوم الدفع، وعرفت آنفاً أنّ العين المتعذّر مثلها تصير قيمية، وعرفت سابقاً أنّه في موارد الضمان مطلقاً تكون العين في العهدة إلى زمان الأداء، فلا محالة يكون المدار في المثل المتعذّر مثله على قيمة يوم الدفع.

وأمّا سائر الأقوال ومداركها، فمذكورة في كتاب البيع(2) مفصّلاً، وذكرنا هناك أنّه لا فرق بين التعذّر البدوي والطارئ، كما بيّنا الميزان في معرفة قيمة المثل، والمراد من الإعواز والتعذّر.2.

ص: 182


1- سورة البقرة: الآية 194.
2- فقه الصادق: ج 24/352.

فرع: إذا كانت قيمة المثل في بلد المطالبة مخالفة لقيمته في بلد التلف، فهل الاعتبار ببلد المطالبة كما في المتن، أو ببلد التلف، أو يتخيّر المالك في التعيين، أو يتخيّر الضامن فيه ؟

وجوهٌ ، والظاهر أنّ المسألة تابعة لمسألة مطالبة المثل مع عدم تعذّره، وقد بيّنا في محلّه أنّ الأظهر جواز المطالبة في كلّ مكانٍ شاء المالك، وعليه فالعبرة في المقام ببلد المطالبة.

ثمّ إنّه بعد ما عرفت من أنّ التالف إذا تعذّر مثله يصير قيميّاً، يظهر أنّه لودفع القيمة في المثل المتعذّر مثله، ثمّ تمكّن من المثل لا يعود المثل إلى ذمّته.

ضمان القيمي بالقيمة

الموضع الرابع: اتّفقت كلماتهم على أنّ القيمي يُضمن بالقيمة، وقد بيّنا سابقاً أنّ الظاهر من حديث على اليد بقاء العين في العهدة ولو بعد التلف، ويكون دفع المثل أو القيمة مسقطاً لها - كما اختاره جمعٌ من المحقّقين(1) - لكونه من مراتب رَدّ العين، ولا ينافيه النصوص الخاصّة الواردة في رَدّ القيمة، فإنّها طائفتان:

الطائفة الاُولى: ما يدلّ على أنّ لواجد المال الولاية على أن يبيعه عن صاحبه من نفسه، ويبقى الثمن في الذمّة، مثل ما ورد(2) في الحيوان الملتقط، ولقطة الطعام، وما شاكل.

الطائفة الثانية: ما(3) لا يستفاد منها أزيد من وجوب دفع القيمة حين الأداء،

ص: 183


1- راجع حاشية المكاسب للأصفهاني: ج 1/359.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 25 باب: 2، 13، 23، من أبواب اللُّقطة.
3- راجع وسائل الشيعة: ج 25 باب: 7 من أبواب الغصب.

وهذا يلائم مع كون العين في العهدة، والمدرك لمسقطيّة رَدّ القيمة هو الإطلاق المقامي والإجماع، كما مرّ في المثلي.

وإذا وجد المِثْل في القيمي، فالمعروف بينهم كفاية رَدّ القيمة.

وعن الإسكافي(1) والمحقّق(2) وجوب رَدّ المثل، وظنّي أنّهما غير مخالفين للمشهور، فإنّ مورد كلامهما القرض، ولا يبعد فيه دعوى أنّ المتعارف الشرط الضمني بردّ المثل ولو في بعض الصفات.

ويؤيّد ما ذكرناه تصريح المحقّق في الباب بقوله: (وفي المقبوض بالعقد الفاسد بضمان القيمة).

فمدّعي عدم الخلاف في كفاية رَدّ القيمة مع تعسّر المثل، غير مجازفٍ ، والإطلاق المقامي بالتقريب المتقدّم شاهدٌ به.

تعيين القيمة

أقول: اختلف الفقهاء في أنّ المدار في القيمة:

1 - هل على قيمة يوم القبض كما عن الأكثر(3).

2 - أم يوم التلف، كما عن الشيخين(4) وأتباعهما، بل عن «الدروس»(5) نسبته إلى الأكثر.

ص: 184


1- نسبه إليه في منية الطالب: ج 1/306.
2- شرائع الإسلام: ج 2/325.
3- شرائع الإسلام: ج 4/765.
4- راجع الخلاف: ج 3/393، أمّا المفيد فهو قائل أن يضمن قيمته يوم غصبه راجع المقنعة: ص 607.
5- الدروس: ج 3/113.

3 - أم يوم الدفع، كما عن جمعٍ من المحقّقين(1).

4 - أو أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف، كما في المتن.

5 - أو أعلى القيم من يوم القبض إلى يوم الدفع ؟

والتحقيق: ونخبة القول يتحقّق بالبحث في موردين:

الأوّل: فيما تقتضيه القاعدة.

الثاني: في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا المورد الأوّل: فمقتضى القاعدة هو الثالث، فإنّ معنى الضمان كما مرّ كون المال في عهدته إلى حين الأداء، ومعنى ذلك وجوب تداركه ببدله عند الأداء، حتّى يكون عند الأداء أداءً وتداركاً له.

ودعوى:(2) أنّ الغاصب وضع يده على ماله - مع قطع النظر عن الخصوصيّة الشخصيّة، والصفات النوعيّة - ماليّة خاصّة متقدّرة بقدرٍ مخصوص، فوجبَ عليه ردّه بماله من الحيثيّات إذا أمكن الرّد، وإنْ لم يمكن رَدّ الخصوصيّة والصفات النوعيّة للتالف، وجب عليه رَدّ تلك الماليّة المخصوصة الواقعة تحت اليد، ولا وجه لوجوب رَدّ المراتب الاُخر من الماليّات، فإنّها ماليّات واردة على ما هو تحت العهدة، لا أنّ العهدة واردة عليها، وقد استدلّ بها للقول الأوّل.

مندفعة: بأنّ الماليّة المنتزعة من رغبة الناس وميلهم لا تقعُ تحت اليد، ولا تكون مضمونةً كما مرّ، مع أنّه لو تمّ هذا الوجه لاقتضى كون المدار على أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف، لأنّ قاعدة على اليد لا تختصّ بحدوث اليد، بل4.

ص: 185


1- راجع كتاب المكاسب: ج 3/227، حاشية المكاسب للآخوند: ص 37، حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/97.
2- نسبه الشيخ الأنصاري إلى العلّامة في التحرير راجع كتاب المكاسب: ج 3/254.

تشمل بقائها، فكلّ زمانٍ من أزمنة كون العين تحت اليد قد اُزيلت فيه يد المالك، فوجب أن يغرم أكثرها.

وأمّا المورد الثاني: فقد يقال إنّ النصوص الخاصّة تدلّ على خلاف ذلك:

منها: صحيح أبي ولّاد، قال: «اكتريتُ بغلاً إلى قصر ابن هُبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا، وخرجتُ في طلب غريمٍ ، فلمّا صرتُ قرب قنطرة الكوفة خُبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهتُ نحو النيل، فلمّا أتيتُ النيل خُبّرت أنّه توجّه إلى بغداد، فأتبعته فظفرتُ به، ورجعتُ إلى الكوفة...

إلى أنْ قال: فأخبرتُ أبا عبد اللّه عليه السلام فقال: أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد، ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه.

قال: قلتُ : قد علِفته بدراهم، فلي عليه علفه ؟

قال عليه السلام: لا، لأنّك غاصب.

فقلت: أرأيتَ لو عَطَب البغل أو نفق، أليس كان يلزمني ؟

قال عليه السلام: نعم، قيمة بغلٍ يوم خالفته.

قلت: فإنْ أصاب البغل كسرٌ أو دبرٌ أو عقر؟

فقال عليه السلام: عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه.

قلت: فمن يعرف ذلك ؟

قال: أنتَ وهو، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإنْ رَدّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمك ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهودٍ يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتُري كذا وكذا فيلزمك(1). الحديث».9.

ص: 186


1- الكافي: ج 5/290 ح 6، وسائل الشيعة: ج 25/390 ح 32199.

أقول: ومحلّ الاستشهاد فيه جملاتٌ ثلاث:

الجملة الأُولى : قوله عليه السلام: «نعم، قيمة بغلٍ يوم خالفته».

وقد استدلّ بها على أنّ المدار على قيمة يوم الغصب:

إمّا باعتبار أنّ كلمة (اليوم) قيدٌ للقيمة، لإضافة القيمة المضافة إلى البغل إليه ثانياً، فيكون المعنى قيمة يوم المخالفة للبغل.

أو باعتبار كون (اليوم) قيداً للاختصاص الحاصل من إضافة القيمة إلى البغل.

ولكن يرد على الوجه الأوّل: أنّه إنْ اُريد بذلك اضافة المضاف نفسه إليه ثانياً.

ففيه: أنّه لا يصحّ إضافة الشيء الواحد إلى شيئين مرّتين، وبعبارة اُخرى المضاف إلى شيء لا يضاف إلى آخر ثانياً.

وإنْ اُريد به إضافة المجموع من المضاف والمضاف إليه.

ففيه: أنّ المجموع لتضمّنه النسبة الإضافيّة التي هي من الحروف لا يضاف، إذ المعنى الحرفي لا يقع ظرفاً.

وبعبارة اُخرى : الإضافة من خواص الاسم، والحرف لا يضاف.

وأمّا الوجه الثاني: فبعد تصحيحه بإرادة قيديّة (اليوم) للقيمة المضافة إلى البغل، التى هي مضافاً إلى كونها معنى حدثيّاً في نفسها، فإنّها ما يقوم بالشيء من الماليّة.

أنّه لو سُلّم كونها معنى جامداً بسبب الإضافة تتضمّن معنى اشتقاقيّاً، وإلّا فالاختصاص الحاصل من الإضافة معنى حرفي، والعامل لابدَّ وأن يكون فعلاً أو شبه فعل.

ص: 187

يردّه: أن لا معيّن لكون (اليوم) قيداً للقيمة، بل يحتمل:

1 - إمّا أن يكون (اليوم) قيداً لنعم الذي هو في قوّة قوله يلزمك.

2 - أو يكون لفظ (يلزمك) مقدّراً بعده، ليكون (اليوم) حينئذٍ وعاء توجّه التكليف، فيوم القيمة على هذا مسكوت عنه في الصحيح.

3 - أو يكون قيداً للبغل بإضافة البغل إليه، فيكون المقام من قبيل تتابع الإضافات، فيكون المراد أنّه حيث يكون للبغل بحسب الصفات والخصوصيّات المتفاوتة بحسب الأيّام قيم مختلفة، ولا كلام في أنّ هذا الاختلاف مضمونٌ في باب الضمان، إذ الخلاف إنّما هو في القيمة السوقيّة، فيكون يوم المخالفة في الخبر إشارة إلى قيمة يوم البغل حال كونه قويّاً - لعروض التعب والهزال على الحيوان فترة من صدور الحركات العنيفة منه - لا لخصوصيّة في ذلك اليوم، وهذا يجتمع مع كون المدار على قيمة يوم التلف، أو يوم الدفع، بأن يلاحظ البغل على ما هو عليه يوم المخالفة في وقت التلف، أو يوم الدفع، فيقوّم ذلك البغل في يوم الأداء، أو وقت التلف، ليصبح الصحيح أجنبيّاً عن المقام.

ومع تعدّد الاحتمال وحصول الإجمال لا يتمّ الاستدلال.

الجملة الثانية: قوله عليه السلام: «أو يأتي صاحبُ البغلِ بشهودٍ يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتُري كذا وكذا».

وتقريب الاستدلال بها على أنّ الميزان قيمة يوم المخالفة ما في «مكاسب» الشيخ الأعظم رحمه الله(1)، حيث قال:8.

ص: 188


1- كتاب المكاسب: ج 3/248.

(إنّ إثبات قيمة يوم الاكتراء من حيث هو يوم الاكتراء لا جدوى فيه، لعدم الاعتبار به، فلا محالة يكون الغرض منه إثبات قيمة يوم المخالفة، بناءً على أنّه يوم المخالفة، لأنّ الظاهر من الخبر مخالفته للمالك بمجرّد الخروج من الكوفة، ومن المعلوم أنّ اكتراء البغل لمثل تلك المسافة القليلة إنّمايكون يوم الخروج، ومعلومٌ أيضاً عدم اختلاف القيمة في هذه المدّة القليلة).

وفيه: إنّ نكتة التعبير بيوم الاكتراء بعد فرض عدم كونه من حيث هو ميزاناً في هذا الباب، إنّما هو وجود المكارين حينه دون سائر الأوقات، وهذا كما يلائم مع كون العبرة بقيمة يوم المخالفة، يلائم مع كون الميزان قيمة يوم التلف، أو يوم الأداء، من جهة عدم الاختلاف في مدّة خمسة عشر يوماً أيضاً، كما صرّح هو قدس سره به، ويؤكّد ذلك أنّ الظاهر من الجملة الواردة لبيان معرفة تفاوت قيمة الصحيح والمعيب، أنّ المقصود تعيين أصل قيمة البغل من جهة الجهل بها، بحيث لو علم قيمته في يوم ارتفع الاشتباه.

مع أنّه لو سلّمنا الاختلاف، لكن بما أنّ هذه الجملة غير واردة لبيان حكم شرعي، بل في مقام بيان موضوع عرفي - كما يشهد له قول السائل: «من يعرف ذلك» الكاشف عن علم السائل بما هو وظيفته الشرعيّة - فيمكن أنْ يقال إنّه لو كان الميزان قيمة يوم الأداء، كان بتعيين قيمة البغل يوم المخالفة، معرفة قيمته في يوم الأداء سهلة كما لا يخفى .

وعليه، فهذه الجملة أيضاً لا تدلّ على خلاف ما تقتضيه القاعدة.

الجملة الثالثة: قول عليه السلام في جواب السائل عن إصابة العيب: «عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه».

ص: 189

وملخّص القول فيها: إنّ كلمة (يوم):

إمّا أن ترجع إلى العيب، ليكون مفادها ضمان العيب الفعلي، وأن لا عبرة بحدوث العيب مع زواله عند ردّه، فيصبح الخبر أجنبيّاً عن المقام.

أو ترجع إلى قوله: (عليك) فلا تعرّض فيها ليوم هذه القيمة.

أو ترجع إلى القيمة، ويراد رَدّ الأرش من قوله: «يوم تردّه» فتدلّ على أنّ العبرة بقيمة يوم الرّد.

أو ترجع إليها، ويراد رَدّ البغل، فهي تدلّ على أنّ الميزان قيمة يوم الأداء.

وبالجملة: فهذه الجملة، إمّا تدلّ على مقتضى القواعد، أو لا تنافيه، وعلى أيّ حال فلا يستفاد من الصحيح ما يخالف القاعدة الأوّليّة.

ومنها: ما ورد(1) في باب الرّهن الدالّ على أنّه إذا تلف الرّهن بتفريط المرتهن سَقَط من دينه بحساب ذلك.

قيل: فلولا ضمان التالف بالقيمة يوم التلف، لم يكن وجهٌ لسقوط الدين بمجرّد ضمان التالف، ذكره الشيخ الأعظم رحمه الله(2).

وفيه: مضافاً إلى أنّه ليس في نصوص الرّهن عنوان السقوط، بل فيها أنّهما يترادّان الفضل، إذا كان لأحد الأمرين من الرّهن والدين عند تلفه فضلٌ ، وأنّه إذاكان يساوي ما رهنه فليس عليه شيءٌ ، مع أنّه أيضاً لا ينافي القاعدة بعد فرض أنّ أدائها بعد التلف إنّما يكون بدفع القيمة بدلاً أو وفاء، وأنّ ذلك إنّما يكون باستيلاء المالك على ذلك المقدار من المال للضامن، فيوم الأداء في ذلك يوم التلف.).

ص: 190


1- وسائل الشيعة: ج 18/390 باب: (أنّ الرّهن إذا تلف بتفريط المرتهن لزم ضمانه).
2- المكاسب المحرّمة: ج 3/243 (ط. ج).

ولو زاد للسّوق لم يضمنها مع الرّد، ولو زاد للصفة ضمنها.

ومنها: ما ورد في عبدٍ اُعتق بعضه، ففي خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن القوم ورثوا عبداً جميعاً، فأعتق بعضهم نصيبه منه، هل يؤخذ بما بقى ؟

فقال عليه السلام: نعم، يؤخذ بما بقى منه بقيمة يوم اُعتق»(1).

ونحوه غيره(2).

وفيه: أنّه من المحتمل كون قوله: «يوم اُعتق» قيداً ليؤخذ لا للقيمة، وعليه فيدلّ على أنّ زمان توجّه التكليف إنّما هو من حين اُعتق، وساكتٌ عن أنّه ما به الضمان هل هو قيمة يوم التلف أو يوم الأداء.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر بحسب الأدلّة، أنّ الميزان قيمة يوم الأداء والدفع مطلقاً.

حكم ارتفاع القيمة السُّوقيّة والزيادة العينيّة

أقول: بقي في المقام فروع:

الفرع الأوّل: المعروف بين الأصحاب(3) أنّ زيادة القيمة السوقيّة ليست مضمونة، بخلاف الزيادة العينيّة، (و) عليه ف (لو زاد للسوق لم يضمنها مع الرّد، ولو زاد للصفة ضمنها).

ص: 191


1- الكافي: ج 6/183 ح 6، وسائل الشيعة: ج 23/38 ح 29053.
2- وسائل الشيعة: ج 23/36 باب (أنّ من أعتق مملوكاً له فيه شريك كلّف أن يشتري باقيه ويعتقه).
3- راجع جواهر الكلام: ج 31/81.

ولو تجدّدت صفة لا قيمة لها لم يضمنها، ولو زادت القيمة لنقص بعضه كالجُبّ فعليه الأرش،

والوجه في ذلك: أنّ الصفة إذا زيدت تكون تابعة للمال، وحيث أنّها تحت يد الغاصب، فمقتضى أدلّة الضمان ضمانها أيضاً.

وأمّا القيمة السوقيّة فاصلها وارتفاعها ناشئان من كثرة الراغب وقلّة الوجود، كما أنّ عدمها وتنزّلها ينشئان من كثرة الوجود وقلّة الطالب، وهذا ليس شيئاً يُضمن، لعدم كونه وصفاً في العين كي يدخل تحت اليد.

أقول: قد استدلّ لضمانه:

تارةً : بحديث لا ضرر(1).

واُخرى : بأنّ دليل الضمان إنّما يدلّ على التضمين والتغريم، فلابدّ من رعاية الحيثيّة الماليّة.

ولكن يرد الأوّل: ما مرّ من أنّه لا يدلّ على الضمان.

والثاني: أنّه لا يستفاد من أدلّة الضمان سوى رَدّ العين بما لها من الخصوصيّات مع إمكانه، وفي الفرض حيث أنّ التالف هو رغبات الناس لا شيء من العين، فالعين تردّ بما لها من الخصوصيّات.

الفرع الثاني: (ولو تجدّدت صفة لا قيمة لها لم يضمنها) بلا خلافٍ ، إذ لا معنى للضمان مع عدم القيمة لها، وعدم كونها مثليّة، والفرض أنّ عينها لا يمكن ردّها.

الفرع الثالث: (ولو زادت القيمة لنقص بعضه كالجُب فعليه الأرش)، لعموم ما دلّ على ثبوت الأرش بالجناية.

***1.

ص: 192


1- الكافي: ج 5/292 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32281.

ولو زادت العين بأثرها

زيادة العين بفعل الغاصب

المسألة التاسعة: (ولو زادت) قيمة (العين بأثرها):

فتارةً : يكون ذلك أثراً محضاً لا عيناً، كتعليم الصنعة، وخياطة الثوب بخيوط المالك، ونسج الغزل، وطحن الطعام، وما شاكل.

واُخرى : يكون عيناً، كما لو خاط ثوبه بخيوطه، أو صبغه بصبغه، أو زرع في أرضه، وهكذا.

أمّا في الصورة الأُولى : فلا إشكال في أنّ المالك يأخذ ماله، ومع التلف مثل التالف أو قيمته مع ذاك الأثر، فإنّ الأثر أوجبَ زيادةً قيمة العين وهي تابعة للعين، ولا شيء للغاصب على المالك، فإنّ مجرّد عود نفع العمل إلى المالك لا يكون موجباً للضمان، بل الضمان إمّا أنْ يكون لليد، أو يكون للإتلاف، أو من جهة الأمر بالعمل، او من ناحية الاستيفاء بالإذن، وشيءٌ من تلكم لا يكون في المقام.

وأمّا في الصورة الثانية:

1 - فإنْ لم يمكن أخذ الزيادة، وكانت لا تعدّ عند العرف شيئاً في مقابل المغصوب منه، فهي تالفة عرفاً، فالحكم فيها ما تقدّم، من غير فرقٍ بين أنْ يكون عين ما زيد من الغاصب نفسه أم لم يكن.

وقال الشهيد رحمه الله في «المسالك»(1) في ما إذا كان العين للغاصب، وحصلت في

ص: 193


1- مسالك الأفهام: ج 12/212.

المغصوب منه ولم تنعدم، بحيث لا يكون هناك سوى الأثر، ولم يمكن فصله: (يصيرُ شريكاً للمغصوب منه، لأنّه عين مالٍ انضمّ إلى ملك، ثمّ يُنظر إنْ كان قيمته مغصوباً مثل قيمته وقيمة الصبغ، كما إذا كانت قيمة الثوب عشرة، وقيمة الصبغ عشرة وهو يساوي بعد الصبغ عشرين، ولم تتغيّر قيمتهما فهو بينهما بالسّوية.

إلى أنْ قال: وفي الأوّل وهو ما إذا أمكن فصله عن الثوب، فللغاصب إزالته مطلقاً مع ضمان الأرش ان نقص.

وقيل: إنّ أدّى فصله إلى استهلاكه، لم يجب الغاصب إليه، لاستلزامه التصرّف في مال الغير بغير فائدة، مع كونه متعدّياً في أصل الفعل.

والأشهر إجابته، لأنّه لولاه لزم منه عدوان آخر، وهو التصرّف في مال الغير بغير حقّ ، إذ لا سبيل إلى تملكه بعوض ولا بغيره قهراً، وبقاء الثوب في يد المالك ممنوعاً من التصرّف فيه لأجل الصبغ ضررٌ آخر، فكانت إجابته للغاصب أصلح، وفيهما جمعٌ بين الحقّين، فعلى هذا يُجاب إليه) انتهى .

ويرد عليه أوّلاً: النقض بما إذا كان فعله موجباً لثبوت أثرٍ محض، فإنّ لازم ما أفاده هو الشركة فيه أيضاً، فإنّ تلك الهيئة الحاصلة في العين المغصوبة لها ماليّة، فالثوب قيمته مخيطاً أزيد من قيمته غير مخيط والهيئة موجودة، فلابدّ من البناء على الشركة.

وثانياً: أنّ العين التي زيدت في المغصوب إنْ لم يمكن فصلها، أو أمكن مع استلزام الفصل خروجه عن الماليّة، تكون ساقطة عن الماليّة، وإنّما هي موجبة لازدياد قيمة المغصوب، لا أنّ المال المبذول يبذل مقدارٌ منه بإزاء المغصوب ومقدارٌ زائد بإزاء ما زيد، ومع سقوطها عن الماليّة لا يعتبرها العقلاء مِلْكاً ومالاً له،

ص: 194

رجع الغاصب بها، وعليه أرش النقصان،

فتخرج بذلك عن ملكه، فلا وجه للشركة.

نعم، فيما إذا لم يلزم من فصلها انتفاء قيمتها كلامٌ سيأتي إنْ شاء اللّه تعالى.

أقول: وبما ذكرناه يظهر أنّه لو كان الصبغ مغصوباً من غير مالك الثوب، لا يصيرالثوب المصبوغ مشتركاً بين المغصوب منهما، بل الصبغ يعدّ تالفاً عرفاً، فيكون الغاصب ضامناً له لمالكه، والثوب المصبوغ تمامه لمالك الثوب. وعليه فما في «المسالك» أيضاً من حصول الشركة بينهما، ضعيفٌ .

2 - وأمّا إنْ كانت الزيادة يمكن أخذها ولها ماليّة، فالمشهور بين الأصحاب(1)أنّه ي (رجع الغاصب بها) حتّى لو نقصت قيمة العين وردّ الأصل، جمعاً بين الحقّين، (وعليه أرش النقصان) إنْ نقص المغصوب بأخذ الزيادة منه.

وعن الإسكافي(2)، و «المختلف»(3)، و «التنقيح»(4)، والمجلسي: أنّه ليس للغاصب أخذ ما زاده بغير إذن المالك، فإنْ لم يرض ودفع قيمته وجب على الغاصب قبوله.

ولكن لا إشكال في بقاء الزيادة على ملك الغاصب، لأنّ عدوانه لا يقتضي إسقاط ماليّتها ولا الملكيّة، ولا إشكال أيضاً في أنّه لا يوجب العدوان سلب سلطنة المالك.3.

ص: 195


1- راجع رياض المسائل: ج 12/283.
2- نسبه إليه في مختلف الشيعة: ج 6/118.
3- مختلف الشيعة: ج 6/118.
4- التنقيح الرائع: ج 4/73.

وليس له الرجوع بأرش نقصان عينه.

وعليه، فما عن المشهور من أنّ له أخذ الزيادة وردّ الأصل، وظاهره ذلك مع عدم رضا المالك، غير تامّ .

نعم، للمالك المغصوب منه ذلك، للخبر الذي رواه عبد العزيز بن محمّد الدراوردي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عمّن أخذ أرضاً بغير حقّها وبنى فيها؟

قال عليه السلام: يرفع بناؤه، وتُسلّم التربة إلى صاحبها، ليس لعِرْق ظالمٍ حقّ »(1).

أقول: وأمّا ما أفاده جمعٌ من الأصحاب(2)، من أنّه إنْ لم يرض المالك ودفع قيمته، وجبَ على الغاصب قبوله.

فمضافاً إلى أنّه لا وجه له، والأصل عدم وجوب القبول عليه، يشهد لعدم وجوب القبول خبر عقبة بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن رجلٍ أتى أرض رجلٍ فزرعها بغير إذنه، حتّى إذا بلغ الزّرع جاء صاحب الأرض، فقال: زرعت بغير إذني، فزرعك لي وعليَّ ما أنفقت، له ذلك أم لا؟

فقال عليه السلام: للزارع زرعه، ولصاحب الأرض كراء أرضه»(3).

ولو أخذ الغاصب عين ماله بإذن المالك، ولزم منه نقصانه (ليس له الرجوع بأرش نقصان عينه) لأنّه جاء من قبله.2.

ص: 196


1- التهذيب: ج 6/294 ح 26، وسائل الشيعة: ج 25/388 ح 32194.
2- راجع مختلف الشيعة: ج 6/118، رياض المسائل: ج 12/282.
3- الكافي: ج 5/296 ح 1، وسائل الشيعة: ج 25/387 ح 32192.

ولو غصب عبداً وجَنى عليه بكمال قيمته، ردّه مع الأرش على قول.

ولو امتزج المغصوب بمساويه أو بأجود ردَّه.

(و) بالجملة ممّا مرّ ظهر أنّه (لو غصب عبداً وجَنى عليه بكمال قيمته، ردّه مع الأرش على قول).

حكم مزج المغصوب بغيره

(ولو امتزج المغصوب) بغيره:

فتارةً : يكون بجنسه.

واُخرى : بغير جنسه.

وعلى الأوّل: إمّا أنْ يكون (بمساويه) في الجودة والرداءة، (أو بأجود) منه، أو بأدنى .

ألف: فإنْ خَلَطه بمساويه:

1 - فإن أمكن التمييز كُلّف به، و (ردّه) أي رَدّ مال المغصوب منه إليه، وإنْ شقّ - كما لو خلط الحنطة بالشعير، أو الحمراء منها بالصفراء - بلا خلافٍ ، لوجوب رَدّ العين حيث يمكن.

2 - ولو لم يمكن التمييز، فقد جَزَم الأكثر على ما في «المسالك»(1) بأنّ الغاصب يكون شريكاً بنسبة المخلوط، واستدلّوا له:

ص: 197


1- مسالك الأفهام: ج 12/215.

بأنّ عين مال المالك موجودة في الجملة، وغايته أنّها ممتزجة بغيرها، وذلك لا يخرجها عن ملكه.

وبأنّه في ذلك إيصال المالك إلى بعض حقّه بعينه، وإلى بدل بعضه من غير زيادة فوتٍ على الغاصب، فكان أولى من إيصاله إلى بدل الجميع.

أقول: ويمكن أنْ يقال تأييداً لما أفادوه بأنّ الخلط على قسمين:

القسم الأوّل: ربما يكون بحيث يعدّ المالان بعد المزج شيئاً واحداً، فيلزم منه الشركة القهريّة بينهما، ولا وجه لصيرورة الجميع ملكاً للمالك، ولا للانتقال إلى المثل أو القيمة، لأنّهما فرع التلف غير المتحقّق.

وعليه، فما عن الحِلّي رحمه الله(1) من الحكم بالانتقال إلى المثل، لاستهلاك العين، إذ لا يقدر على ردّها لو طَلبه، غريبٌ ، فإنّ الاستهلاك غير تعذّر الرّد، مع أنّه لو تمّ دعوى الاستهلاك، فإنّه لا ريب في أنّ الموجود أقرب إلى التالف من المثل، وقد عرفت أنّه متعيّن في باب الضمان.

وأمّا ما في «الرياض»(2): من أنّ لزوم القبول على المالك مشكلٌ ، حيث يتعذّر لعدم قبوله بعذرٍ موجّه، ككون ماله حلالاً ومال الغاصب الممزوج به مشبوهاً أو نحوه، فإنّ إيجاب القبول حينئذٍ ضررٌ أي ضرر، ونقله عن «التنقيح»(3) أيضاً.

فيرد عليه: أنّ مال الغاصب الممزوج به على الفرض، محكومٌ شرعاً بأنّه ماله كسائر ما يوخذ من أيدي المكلّفين، مع أنّ حديث لا ضرر لا يصلح لإثبات الخيار للمالك كما مرّ.3.

ص: 198


1- السرائر: ج 2/482.
2- رياض المسائل: ج 12/280.
3- التنقيح الرائع: ج 4/73.

وعليه، فالحقّ ترتّب أحكام المشترك على الموجود المتقدّمة في كتاب الشركة(1).

القسم الثاني: ربما يكون الخلط بحيث لا يعدّ المالان شيئاً واحداً عرفاً، فالمال الموجود حينئذٍ مختلطٌ، والحكم فيه هو الصلح القهري أو القرعة على ما مرّ في محلّه.

ب: وإنْ خلطه بأجود منه:

فمع عدم حصول الشركة، فالحكم ما مرّ.

وأمّا مع حصولها بأنّ عُدّ المجموع شيئاً واحداً، ففيه قولان:

أحدهما: ما هو المشهور(2)، وهو حصول الشركة بينهما، وترتّب أحكامها المشار إليها في الصورة السابقة.

ثانيهما: ما عن الشيخ في «المبسوط»(3)، والحِلّي رحمه الله(4)، من أنّه يتخيّر الغاصب في دفع القدر من العين أو غيرها.

وجه الأوّل: وجود عين مال المالك المقتضي لتسلّطه على الموجود، وعدم الانتقال إلى المثل أو القيمة، أمّا الزيادة الحاصلة، فهي لا تقدح لأنّها زيادة صفة حاصلة بفعل الغاصب.

ووجه الثاني: استهلاك عين مال المالك، إذ لا يقدر على الرّد لو طلبه، والتخييرفي الحقيقة راجعٌ إلى ضمان المثل، لأنّه حينئذٍ لا ينحصر في العين، وهي أجود ممّا يلزمه، فإذا بذلها وجب قبولها بطريق أولى .

ولأنّ بعضها عين حقّه، وبعضها خيرٌ منه.2.

ص: 199


1- تقدّم الشركة في الفصل الخامس من الجزء 28 من هذه الطبعة.
2- راجع مسالك الأفهام: ج 12/216، جواهر الكلام: ج 37/161.
3- المبسوط: ج 3/79-80.
4- السرائر: ج 2/482.

ولو كان بأدون ضَمن المثل.

ولكن: يرد على الثاني أوّلاً: ما تقدّم من منع الاستهلاك.

وثانياً: أنّ الموجود لو كان بعضه عين حقّه وبعضه خيراً منه، فمضافاً إلى أنّه ينافي ما ذكراه أوّلاً من الاستهلاك، حيث إنّه أقرب إلى مال المالك، هو المتعيّن دفعه.

وثالثاً: أنّه لو سُلّم أنّ الموجود غير مال المالك ولا مثله، فلا وجه لإلزامه بقبوله، لأنّ له أن لا يقبل إلّاما هو حقّه لا ما يكون أجود منه.

وبالجملة: فما أفاده المشهور هو المنصور، إلّاأنّ لازم الشركة استحقاق الغاصب بمقدار أجوديّة ماله من مال المالك لا أزيد منه، فليست الزيادة حينئذٍ عائدة إلى المالك حتّى يُعلّل بما ذكر.

ج: (ولو كان) الخَلطُ (بأدون): ففيه أقوال:

1 - أنّه ي (ضَمن المثل) وهو مشهورٌ بينهم، وعن «التنقيح»(1) نفي الخلاف فيه.

2 - ما عن «الروضة»(2) وفي «المسالك»(3)، من أنّه مخيّرٌ بين أن يأخذ حقّه من العين مع الأرش وبين أخذ المثل.

3 - التخيير بين أخذ حقّه من العين بدون الأرش، وأخذ المثل، وهو ظاهرُ ما نقله في «الشرائع»(4).0.

ص: 200


1- التنقيح: ج 4/72-73.
2- شرح اللّمعة: ج 2/235.
3- مسالك الأفهام: ج 12/216.
4- شرائع الإسلام: ج 4/770.

وجه الأوّل: استهلاك مال المالك، وقد مرّ ما فيه.

وجه الثاني: أنّ حقّه في العين لم يسقط لبقائها، كما لو مزجها بالأجود، والنقص بالخلط يمكن جبره بالأرش.

وفيه: إنّ لازم الوجه المزبور حصول الشركة لا الانتقال إلى المثل، مع أنّه لا وجه للجبر بالأرش، بل يُجبر النقص بالزيادة من نفس العين على ما هو مقتضى الشركة، وبذلك يظهر مدرك القول الثالث.

وبالتالي، فالمتّجه حينئذٍ هو الوجه الرابع، وهو حصول الشركة.

د: وإنْ كان الخلط بغير جنسه: كما إذا اختلط الزيت بالشيرج:

قيل: إنّ المغصوب هالك، لبطلان فائدته وخاصيّته وباختلاط غير الجنس به، فيضمن بالمثل.

وفيه: أنّه لو كان في الفرض شيءٌ فهو الاستحالة دون الاستهلاك.

وبالجملة: فالأظهر فيه الشركة، كما قوّاه في محكي «التذكرة»(1)، لأنّ مال المالك موجودٌ فلا ينتقل إلى المثل أوالقيمة.

***5.

ص: 201


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/395.

وفوائد المغصوب للمالك.

فوائد المغصوب للمالك

المسألة العاشرة: (وفوائد المغصوب للمالك) له، بلا خلافٍ ، لأنّها نماء ملكه، فتكون مضمونة عند الغاصب كالأصل، سواء تجدّدت عنده أم لا، أعياناً منفصلة كانت كالولد، أو متّصلة كالصوف والسَّمن، أو منفعة كاُجرة سكنى الدار وركوب الدابّة.

أقول: والأصل في ذلك كلّه حديث: «على اليد ما أخذَت حتّى تؤدّي»(1)، فإنّ اليد كما تكون على العين، كذلك تكون على الفوائد حتّى المنفعة، ولا يختصّ الحديث بحدوث اليد، بل يشمل بقائها، فكلّ زمانٍ من أزمنة كون العين تحت اليد قد اُزيلت فيه يد المالك، فيجب أن يُغرم العين وما يتبعها.

والإيراد على ضمان المنفعة: بأنّ الحديث مختصٌّ بالأعيان، ولا يشمل المنافع، قد مرّ عند تقريب دلالة الحديث على الضمان ما ذكر، فيوجّه ذلك واندفاعه، وعرفتَ أنّ الأظهر شموله للمنافع، وأنّ النماء إنْ بقي إلى زمان رَدّ العين، وجب دفعه وإلّا فقيمته، وهو واضح.

وأمّا المنفعة:

فإنْ استوفاها الغاصب، وجب رَدّ عوضها، لما مرّ من ضمان المنفعة المستوفاة.

ص: 202


1- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.

وإنْ لم يستوفها أمكن أن يستدلّ لضمانها بوجهين:

أحدهما: حديث على اليد بالتقريب المتقدّم.

ثانيهما: قاعدة الإتلاف، لأنّ حبس العين ومنع مالكها عن الانتفاع بها يعدّ إتلافاً لمنافعها عرفاً.

وأمّا ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(1): من الاستدلال له بأنّ من آثار ضمان العين ضمان منافعها، فالدليل على ضمان العين دليلٌ لضمان المنافع:

1 - فإنْ اُريد به ما ذكرناه من صدق الاستيلاء واليد على المنافع بالاستيلاء واليد على العين، فهو يرجعُ إلى التمسّك بحديث على اليد.

2 - وإنْ اُريد به ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(2) من أنّ أداء العين المجعول غايةً للضمان، لا يكون إلّابأدائها بمنافعها وفروعها.

فيرد عليه: أنّه إنْ لم يصدق اليد على المنافع باليد على العين، لما كان يجدي شمول الحديث للعين في ضمانها، فإنّ الغاية هي أداء نفس ما يكون تحت اليد لا شيء آخر.

3 - وإن اُريد به غير ذلك، فعليه البيان.

فإنْ قيل: إنّ صحيح أبي ولّاد المتقدّم الدالّ على ضمان منفعة البغل المستوفاة دون غيرها، دالٌّ على عدم ضمان المنفعة غير المستوفاة.

قلنا: إنّه لا يتصوّر منفعةً للبغل تجتمع مع المنفعة المستوفاة، فإنّه وإنْ كان يتصوّر له منفعة اُخرى ، إلّاأنّها تضادّ مع ما استوفاه.9.

ص: 203


1- راجع حاشية المكاسب للآخوند: ص 31.
2- راجع: محصل الطالب في تعليقات المكاسب: ج 1/519.

وبعبارة اُخرى : كان للبغل منافع مختلفة على سبيل البدل، وحيث أنّه استوفى واحدة منها، ولم يكن هناك فائدة اُخرى يمكن استيفائها فائتة، كان عليه ضمان تلك المنفعة خاصّة، مع أنّه عليه السلام في الصحيح في مقام الرّد على أبي حنيفة، وبيان أنّ عليه كَري البغل، وليس في مقام بيان أحكام اُخر.

أقول: ربما يستدلّ لعدم ضمانها بقوله عليه السلام في الأمَة المبتاعة إذا وجدت مسروقة بعد أن أولدها المشتري:

«يأخذ الجارية صاحبها، ويأخذ الرّجل ولده بالقيمة»(1).

بتقريب: أنّه يدلّ على ضمان المنفعة المستوفاة، وساكتٌ عن ضمان غيرها في مقام البيان.

وفيه: إنّ الخبر واردٌ في مقام بيان منفعة واحدة، وأنّه يكون الولد حُراً وعليه قيمته، ولذا لم يتعرّض لبيان المنافع المستوفاة الاُخر من الطبخ والتنظيف وغيرهما، بل ولا لاشتغال ذمّة المشتري بالوطء، مع أنّه منفعة استوفاها.

أضف إلى ذلك: أنّ تلك المنفعة التي حكم بضمانها، منفعة لم يستوفهاالمشتري، بل أتلفها، كما لا يخفى .

وبالجملة: ممّا ذكرناه ظهر الجواب عن الاستدلال لعدم الضمان بصحيح محمّد ابن قيس الوارد فيمن باع وليدة أبيه بغير إذنه، حيث قال عليه السلام: «الحكم أن يأخذ وليدته وابنها»(2)، بتقريب أنّه ساكتٌ عن المنافع الفائتة. وعليه فالحقّ هو ضمان المنفعة ولو لم يستوفها.2.

ص: 204


1- الكافي: ج 5/215 ح 10، وسائل الشيعة: ج 21/204 ح 26902.
2- الكافي: ج 5/211 ح 12.

ولو اشتراه جاهلاً بالغصب، رجع بالثمن على الغاصب، وبما غَرم عوضاً عمّا لا نفع في مقابلته، أو كان على إشكالٍ .

ولو كان عالماً فلا رجوع بشيء. ولو زرع الغاصب، كان الزّرع له، وعليه الاُجرة،

أقول: وممّا ذكرناه ظهر:

1 - أنّه لو كانت للعين منافع مختلفة، إنّما يضمن الغاصب أكثرها قيمةً دون الجميع، فتقوّم إجارة تلك العين بجميع منافعها، فيضمنها الغاصب، كما هو واضح، وقد مرَّ مفصّلاً في كتاب البيع(1)(و) في بعض المسائل المتقدّمة في هذا الكتاب أنّه (لو اشتراه) أي المغصوب (جاهلاً بالغصب رجع بالثمن على الغاصب، و) كذا (بما غرم عوضاً عمّا لا نفع في مقابلته، أو كان على إشكال، ولو كان عالماً، فلا رجوع بشيء).

الزَّرعُ لمالك البذر

2 - (و) أيضاً قد ظهر ممّا قدّمناه أنّه (لو زرع الغاصب كان الزّرع له وعليه الاُجرة)، ويشهد به:

مضافاً إلى ما مرّ، وإلى أنّه نماء ملك الزارع وهو البذر، فيتبعه في الملك، وأنّ الأرض كالماء والهواء والشمس من المعدّات لصيرورة البذر زرعاً ثمّ حَبّاًبالتدريج.

خبر عقبة بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ أتى أرض رجلٍ فزرعها بغير إذنه، حتّى إذا بلغ الزّرع جاء صاحب الأرض، فقال: زرعتَ بغير إذني،

ص: 205


1- فقه الصادق: ج 24/275 وما بعدها.

فزرعك لي وعليَّ ما أنفقت، أله ذلك أم لا؟

فقال عليه السلام: للزارع زرعه، ولصاحب الأرض كراء أرضه»(1).

ونحوه غيره(2).

وعن ابن الجُنيد:(3): (أنّ لصاحب الأرض أن يردّ ما خسره الزارع، لقوله عليه السلام:

«مَنْ زَرَع في أرض قومٍ بغير إذنهم، ليس له من الزّرع شيء وعليه نفقته»(4).

وفيه: إنّ الخبر لم تثبت صحّته، كما ذكره الأصحاب، ولم يعمل به أحدٌ غيره، وهو مع ذلك معارضٌ بما تقدّم، وبموثّق محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «في رجلٍ اكترى داراً وفيها بستان، فَزَرع في البستان وغَرَس نخلاً وأشجاراً وفواكه وغير ذلك، ولم يستأمر صاحب الدار في ذلك ؟

قال عليه السلام: عليه الكراء، ويقوّم صاحب الدار الزَّرع والغَرس قيمة عدل ويعطيها الغارس إنْ كان استأمره في ذلك، وإنْ لم يكن استأمره في ذلك فعليه الكراء وله الزّرع والغرس ويقلعه ويذهب به حيث شاء»(5).

والترجيحُ للخبرين.

وأيضاً: قد مرّ أنّ لصاحب الأرض إزالة الزّرع والحرث ولو قبل أوان بلوغهما، ويشهد به ما مرّ، والخبر الذي رواه عبد العزيز بن محمّد الدراوردي - المتلقّى3.

ص: 206


1- الكافي: ج 5/296 ح 1، وسائل الشيعة: ج 25/387 ح 32192.
2- وسائل الشيعة: ج 25/387 باب: (أنّ من غرس أو زرع في أرض مغصوبة فله الزّرع والغرس وعليه أجرة الأرض).
3- نسبه إليه في رياض المسائل: ج 12/291.
4- سنن الترمذي: ج 3/648.
5- وسائل الشيعة: ج 25/387 ح 32193.

بالقبول - عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عمّن أخذ أرضاً بغير حقّها وبنى فيها؟

قال عليه السلام: يرفع بنائه، وتُسلّم التربة إلى صاحبها، ليس لعرق ظالمٍحقّ (1)، الحديث».

وله أنْ يلزمه بالإزالة، وطَمّ الحُفَر، والأرش إنْ نقصت بالقطع أو الزّرع، لأنّه نقصٌ أورده الغاصب ومنفعةٌ أتلفها.

وهل له الأرش لو تصدّى بنفسه بالإزالة أم لا؟

الظاهر ذلك إذا كان النقص حاصلاً بالزرع كما هو ظاهر، وأمّا إنْ كان حاصلاً بالقلع، ففيه وجهان:

من كونه الموجد للنقص.

ومن أنّ سببه الزّرع.

***4.

ص: 207


1- تهذيب الأحكام: ج 6/294 ح 26، وسائل الشيعة: ج 25/388 ح 32194.

والقول قولُ الغاصب في القيمة مع اليمين وتعذّر البيّنة

المسألة الحادي عشرة: (و) لو تلف المغصوب، واختلفا في القيمة:

فعن «المبسوط»(1)، و «الخلاف»(2)، والحِلّي(3)، والمحقّق(4)، والمصنّف رحمه الله(5)، والشهيدين(6)، وكثيرٌ من المتأخّرين(7) بل عامّتهم: أنّ (القول قول الغاصب في القيمة مع اليمين وتعذّر البيّنة).

وعن «النهاية»(8)، و «المقنعة»(9)، بل قيل عن الأكثر أنّ القول قول المغصوب منه.

واستدلّ للأوّل: بأنّ الغاصب منكِرٌ للزيادة، والمالك يدّعيها، والأصل عدمها.

وفيه: أنّ ذلك وإنْ تمّ بحسب موازين باب القضاء، إلّاأنّ الوارد في صحيح أبي ولّاد المتقدّم من قوله:

«قلتُ : فمن يعرف ذلك ؟ قال عليه السلام: أنتَ وهو إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإن رَدّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك، الحديث»(10).9.

ص: 208


1- المبسوط: ج 3/75.
2- الخلاف: ج 3/412.
3- السرائر: ج 2/490.
4- شرائع الإسلام: ج 4/775.
5- تحرير الأحكام: ج 4/550.
6- شرح اللّمعة: ج 7/58.
7- راجع: كفاية الأحكام: ج 2/657، جواهر الكلام: ج 37/225.
8- النهاية: ص 402.
9- المقنعة: ص 607.
10- الكافي: ج 5/290 ح 6، وسائل الشيعة: ج 25/390 ح 32199.

يدلّ على تقديم قول المالك مع الحلف، وتخصّص القاعدة العامّة به، وهذا التخصيص موافقٌ للاعتبار، إذ من شوون أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال، عدم قبول قوله ما لم يرد الحلف عليه، وأن لا يطالب منه شيءٌ من موازين القضاء، بل يوجّه الخطاب إلى المالك، ويكون الحلف وظيفته، وكذا رَدّ اليمين اللّذان هما وظيفة المنكر في غير باب الغصب، والبيّنة أيضاً وظيفته كما هي وظيفة المدّعي في كلّ باب، فيكون مع تعذّر البيّنة قوله مقدّماً مع الحلف.

بل الصحيح يدلّ على تقديم قوله مع اليمين وإنْ أمكنه إقامة البيّنة.

فإنْقيل: إنّ الصحيح في مقام بيان طريق معرفة القيمة من دون فرض مخاصمة، وقضيّة (البيّنة على المدّعي، واليمينُ على المدّعى عليه) إنّما هي في المخاصمات، وذلك من جهة ظهور السؤال والجواب في ذلك، حيث أنّ السؤال إنّما يكون عن العارف، وأجاب عليه السلام بأنّه: إمّا أن يحلف المالك لمعرفته بقيمة بغله، أو أن تحلف أنتَ من جهة كونه عندك في مدّةٍ ، أو يقيم المالك البيّنة لو لم تعرف أنتَ القيمة ولا هو.

وعليه، فالصحيح غير مرتبط بباب النزاع والخصومة، كما عن جمعٍ من المحقّقين كاليزدي(1) والاصفهاني(1) والايرواني(3).

قلنا: إنّه يوهن ذلك قوله: «فيلزمك»، وقوله: «لزمه» إذ الملزَم إنّما هو حلف من وظيفته بحسب الجعل الإلهي ذلك، لا حلف كلّ أحدٍ وإنْ توافق الطرفان عليه.

وبالجملة: فالأظهر أنّ القول قول المالك مع يمينه، ومع ذلك لو أقام البيّنة تسمع منه. واللّه العالم.

***6.

ص: 209


1- حاشية المكاسب للأصفهاني: ج 1/416.

الفصل الحادي عشر: في إحياء الموات:

لا يجوزُ التصرّف في مِلْك الغير بغير إذنه، ولا فيما فيه صلاحه كالطريق والنهر والمراح.

(الفصل الحادي عشر: في إحياء المَوات)

اشارة

المراد بالموات، هي الأراضي غير المنتفع بها، لعطلتها باستيجامها، أو انحسار الماء عنها، أو استيلاء الماء عليها بحيث تعدّ مواتاً عرفاً.

أقول: قد استوفينا البحث في أقسام الأراضي وما يُملك منها بالإحياء وما لا يملك، وحكم الموت العارض بعد كونها عامرة، وغير ذلك ممّا يرجع إلى الأراضي في كتاب البيع(1)، والمكاسب المحرّمة، وكتاب الخمس، وممّا ذكرناه هناك يظهر أنّ الإحياء لا يختصّ بالبناء، بل قد يكون به، وقد يكون بالزراعة والغَرس، وقد يكون بإحداث الطريق والنهر والمراح وما شاكل، وفي جميع هذه الموارد تصبح الأرض مِلْكاً للمُحيي مع الشرائط المذكورة في تلك الكتب.

وإنّما الكلام في المقام في مسائل:

المسألة الأُولى : (لا يجوز التصرّف في ملك الغير بغير إذنه) كما مرّ في كتاب الغصب(2)، (ولا فيما فيه صلاحه) أي صلاح المملوك، ويحتاج إليه من مرافقه وحريمه (كالطريق) المسلوك إليه، (والنهر، والمراح) أي مأوى الإبل والغنم، لاتّحاد الدليل.

ص: 210


1- فقه الصادق: ج 22/93، و ج 11/271.
2- صفحة 141 من هذا المجلّد.

وحَدّ الطريق المبتكر في المباحة مع المشاحّة سبعة أذرع،

بيان حَدّ الطريق

(و) في (حَدّ الطريق المُبتكر) والمراد به الملك المُحْدَث (في المباحة مع المشاحّة) خلافٌ :

فعن «النهاية»(1)، والحِلّي(2)، والمصنّف هنا وفي «المختلف»(3) و «التحرير»(4)، وفخر الإسلام(5)، والشهيدين(5)، وغيرهم، وفي «الرياض»(6): (بل لعلّه المشهور بين الطائفة): أنّ حَدّه (سبعة أذرع).

وفي «الشرائع»(7)، و «النافع»(8)، وعن «القواعد»(9)، وعن ولد الماتن(11) أنّه نقله عن كثير من الأصحاب: أنّه خمس أذرع.

أقول: منشأ الاختلاف اختلاف الأخبار:

ص: 211


1- النهاية: ص 418.
2- السرائر: ج 2/374.
3- مختلف الشيعة: ج 6/211.
4- تحرير الأحكام: ج 2/130. (5و11) إيضاح الفوائد: ج 2/232.
5- الدروس: ج 3/60، مسالك الأفهام: ج 12/409.
6- رياض السائل: ج 12/354.
7- شرائع الإسلام: ج 4/792.
8- المختصر النافع: ص 251.
9- قواعد الأحكام: ج 2/220.

فإنّ منها: ما يدلّ على الأوّل، كالخبر القويّ الذي رواه السكوني، عن أبي عبداللّه عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حديثٍ :

«والطريق يتشاحّ إليه أهله فحدّه سبع أذرع»(1).

ومثله خبر مسمع أخي عبد الملك عنه عليه السلام(2).

ومنها: ما يدلّ على الثاني، كموثّق أبي العبّاس البقباق، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«بل خمس أذرع»(3).

وهما متعارضان، والترجيح للطائفة الأُولى للشهرة الّتي هي أوّل المرجّحات.

والظاهر من النصوص عدم اختصاص هذا التحديد بالمبتكر، بل هو حَدٌّ للطريق مطلقاً، كما عن جماعةٍ من المحقّقين من المتأخّرين منهم المحقّق القمّي رحمه الله.

وحقّ القول في المقام: إنّ الطريق قد يكون مِلْكاً لشخصٍ كما لو أحدثه في أرضٍ مواتٍ ، وهو على قسمين:

1 - إذ قد يشتري من شخصٍ داره أو بستانه أو ما شاكل، ويجعله طريقاً إلى أملاكه، فإنّه لا إشكال في أنّ الحَدّ المذكور غير مربوط به، بل إنّما التحديد لغيره.

2 - وقد يحدثه في أرضٍ مواتٍ ، فحدّه ما ذكر، وإنْ كان فيه خلافٌ آخر، وهو أنّه هل يصير الطريق ملكاً له بتبع ملك ما جعل طريقا إليه أم لا؟ وقد مرّ الكلام فيه.

أقول: هذا الحكم الذي ذكرناه فيما إذا كان الطريق ملكاً لشخص، يجري فيما لو9.

ص: 212


1- وسائل الشيعة: ج 18/455 ح 24030.
2- الكافي: ج 5/295 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/426 ح 32273.
3- التهذيب: ج 7/130 ح 41، وسائل الشيعة: ج 18/455 ح 24029.

يكن ملكاً له ولكن كان ذلك حريماً لملكه.

وقد لا يكون ملكاً لشخص خاص، ولا حريماً لملكه، بل كان شارعاً عامّاً معدّاً لمصالح القاطنين، وهو أيضاً على قسمين:

تارةً : يختصّ بطائفةٍ خاصّة، والظاهر أنّ حدّه ما مرّ.

واُخرى : قد يكون غير مختصّ بشخصٍ ولا طائفة - كالشوارع العامّة في البلدان - فحدّه حينئذٍ ما يحتاجون إليه، فقد يكون في هذه الأزمنة يحتاجون إلى شارع يبلغ مائة ذراع.

وعلى الجملة: الميزان في ذلك رعاية مصلحة الاجتماع، وما يتوقّف عليه حفظ النظام.

والظاهر أنّ الحَدّ المذكور غير مربوط به، كما يشهد به موثّق البقباق الذي رواه عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قلت له: الطريق الواسع هل يُؤخذ منه شيء إذا لم يضرّ بالطريق ؟ قال عليه السلام: لا»(1).

ولا يجوز في هذه الطرق التصرّف المنافي للتطرّق، وأمّا غير المنافي له، كالوقوف في الطريق والجلوس، بل المعاملة والتظليل على موضع الوقوف، بل بناء الدّكة بحيث لا تضرّ المارّة، وإخراج الجناح والروشن وما شاكل، فلا محذور فيه، لعدم كونها ملك الشخص أو أشخاص كي لا يجوز مطلق التصرّف فيها، واللّه العالم.8.

ص: 213


1- التهذيب: ج 7/129 ح 37، وسائل الشيعة: ج 17/378 ح 22788.

وحريم بئر المعطن أربعون ذراعاً، والناضح ستّون ذراعاً.

بيانُ حَريم البئر

(وحريمُ بئر المَعْطَن) وهو والعطن واحدُ الإعطان والمعاطن، وهي مَبارِك الإبل(1) عند الماء لتشرب (أربعون ذراعاً) من الجوانب الأربعة.

(و) حريم بئر (الناضح ستّون ذراعاً) كذلك على المشهور بين الأصحاب(2).

وقيل: إنّ الحريم في البئر مطلقاً ما يحتاج إليه في السّقي، ومنها وقوف الناضح والدولاب، وتردّد البهائم، ومصبّ الماء، والموضع الذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزّرع من حوضٍ وغيره، والموضع الذي يطرح فيه ما يخرج منه بحسب العادة.

وأمّا النصوص: فهي مختلفة:

منها: ما يدلّ على القول الأوّل:

1 - خبر عبد اللّه بن معقل: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: من احتفر بئراً فله أربعون ذراعاً حولها لمعطن ماشيته»(3).

2 - وخبر مسمع بن عبد الملك، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«ما بين بئر المعطن إلى بئر المعطن أربعون ذراعاً، وما بين بئر الناضح إلى بئر الناضح ستّون ذراعاً، وما بين بئر العين إلى بئر العين خمسمائة ذراع(4) الحديث».

ص: 214


1- حكاه غير واحد عن الصحاح كما في ملاذ الأخيار: ج 11/229.
2- راجع النهاية: ص 418، غنية النزوع: ص 295، السرائر: ج 2/374.
3- سنن ابن ماجه: ج 2/831.
4- الكافي: ج 5/295 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/426 ح 32273.

ونحوه قوي السكوني، إلّاأنّه أضاف إليه بعد قوله العين: «يعني القناة»(1).

ومنها: ما يدلّ على أنّ حريم البئر أربعون ذراعاً مطلقاً:

1 - صحيح حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «حريم البئر العادية أربعون ذراعاً حولها»(2).

2 - وما رواه الشيخ الصدوق رحمه الله، قال: «قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّ البئر حريمها أربعون ذراعاً، لا يحفر إلى جانبها بئرٌ اُخرى لعطن أو غنم»(3).

ومنها: ما يدلّ على أنّه خمسون ذراعاً، كخبر وهب، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهم السلام: أنّ علي بن أبي طالب عليه السلام كان يقول: حريم البئر العادية خمسون ذراعاً، إلّا أنْ يكون إلى عطن أو إلى طريق فيكون أقلّ من ذلك إليخمسة و عشرين ذراعاً»(4).

ومنها: ما يدلّ على أنّ الحَدّ في الأرض الصُّلبة خمسمائة ذراع، وفي الرّخوة ألف ذراع، كخبر عُقبة بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«يكون بين البئرين إذا كانت أرضاً صلبة خمسمائة ذراع، وإنْ كانت أرضاً رخوة فألف ذراع»(5).

أقول: والحقّ في الجمع أنْ يقال:

أمّا الأخير: فهو يختصُّ ببئر العين، أي القناة.

وأمّا ما قبله، فضعيفُ السند.1.

ص: 215


1- الكافي: ج 5/296 ح 8، وسائل الشيعة: ج 25/426 ح 32273.
2- الكافي: ج 5/295 ح 5، وسائل الشيعة: ج 25/425 ح 32269.
3- وسائل الشيعة: ج 25/426 ح 32275.
4- الفقيه: ج 3/101 ح 3417، وسائل الشيعة: ج 25/426 ح 32276.
5- الكافي: ج 5/295 ح 6، وسائل الشيعة: ج 25/425 ح 32271.

والعين في الرَّخوة ألف، وفي الصُّلبة خمسمائة.

وأمّا صحيح حمّاد ومرسل الصدوق: فمطلقان يقيّد إطلاقهمابالنصوص المفصّلة.

وعليه، فما أفاده المشهور أظهر.

أقول: ثمّ إنّ ذلك يختصّ بالبئر في الأرض الموات، وأمّا في المملوكة فلا حَدّ لها، لورود النصوص في ذلك المورد.

قال في «المسالك»(1): (ونسبة البئر إلى العادية إشارةٌ إلى إحداث الموات، لأنّ ما كان في زمن عادٍ وما شابهه، فهو مواتٌ غالباً، وخصّ عاداً بالذِّكر لأنّها في الزمان الأوّل كان لها آبار في الأرض فنُسِب إليها كلّ قديمٍ )، انتهى .

ثمّ إنّ بعض النصوص والفتاوى وإنْ اختصّ بحفر بئرٍ اُخرى ، إلّاأنّ الظاهر أنّه لا يجوز لأحدٍ إحياء المقدار المزبور بغير حفر البئر أيضاً - كزرعٍ أو شجرٍ أو نحوهما - لإطلاق بقيّة النصوص.

بيان حريم العين

(و) حريم (العين) والقناة (في) الأرض (الرَّخوة ألف) ذراعٍ ، (وفي) الأرض (الصُّلْبة خمسمائة) على المشهور بين الأصحاب(2).

وعن الإسكافي(3): أنّ حَدّ ذلك أن لا يضرّ الثاني بالأوّل، ونفى عنه البأس في

ص: 216


1- مسالك الأفهام: ج 12/412.
2- راجع: غنية النزوع: ص 295، جامع الخلاف والوفاق: ص 364، تحرير الأحكام: ج 4/487.
3- نسبه إليه في مختلف الشيعة: ج 6/207.

محكي «المختلف»(1)، وجعله في «المسالك»(2) أظهر، واختاره صاحب «الكفاية»(3)، وقوّاه المحقّق القمّي رحمه الله.

يشهد للأوّل: خبر عُقبة بن خالد - المنجبر بما عرفت وبرواية المشايخ الثلاثة - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «يكون بين البئرين إذا كانت أرضاً صُلبة خمسمائة ذراع، وإنْ كانت أرضاً رخوة فألف ذراع»(4).

وبه يقيّد إطلاق خبري مسمع والسكوني المتقدّمين، الدالّين على أنّ حَدّه خمسمائة ذراع، كما أنّه يقيّد إطلاق مرسل محمّد بن حفص عن رجلٍ عن الإمام الصادق عليه السلام: «يكون بين العينين ألف ذراع»(5).

ويشهد للثاني:

1 - صحيح محمّد بن الحسين، قال:

«كتبَ إلى أبي محمّد عليه السلام رجلٌ كانت له قناة في قرية، فأراد رجلٌ أن يحفر قناة اُخرى إلى قرية له، كم يكون بينهما في البُعد حتّى لا تضرّ إحداهما بالاُخرى في الأرض إذا كانت صلبة أو رخوة ؟

فوقّع عليه السلام: على حَسَب أن لا تضرّ إحداهما بالاُخرى إنْ شاء اللّه تعالى »(6).

2 - ونحوه خبر محمّد بن علي بن محبوب، قال: «كتبَ رجلٌ إلى الفقيه...»5.

ص: 217


1- مختلف الشيعة: ج 6/207.
2- مسالك الأفهام: ج 12/414.
3- كفاية الأحكام: ج 2/553.
4- الكافي: ج 5/296 ح 6، وسائل الشيعة: ج 25/425 ح 32271.
5- الكافي: ج 5/293 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/430 ح 32284.
6- وسائل الشيعة: ج 25/430 ح 32285.

وذكر الحديث(1).

3 - وخبر عقبة بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل أتى جبلاً فشقَّ فيه قناة، فذهبت قناة الاُخرى بماء قناة الأُولى؟

فقال عليه السلام: يتقايسان بحقايب البئر ليلة ليلة، فينظر أيّتها أضرّت بصاحبتها، فإنْ رأيتَ الأخيرة أضرّت بالأُولى فلتعور»(2).

ورواه في «الوسائل» عن الصدوق، قال: وزاد:

«وقضى رسول اللّه بذاك، وقال: إنْ كانت الأُولى أخذتِ ماء الأخيرة، لم يكن لصاحب الأخيرة على الأوّل سبيلٌ »(3).

4 - وخبره الآخر عنه عليه السلام: «في رجلٍ احتفر قناةً وأتى لذلك سنة، ثمّ إنّ رجلاً احتفر إلى جانبها قناة، فقضى أن يقاس الماء بحقايب البئر، ليلةً هذه وليلةً هذه، فإنْ كانت الأخيرة أخذتْ ماء الأُولى عورت الأخيرة، وإنْ كانت الأُولى أخذت ماء الأخيرة لم يكن لصاحب الأخيرة على الأُولى شيء»(4).

ومورد هذه الأخبار الثلاثة الأخيرة وإنْ كان في القريتين، إلّاأنّها تدلّ على أنّ الميزان هو الضرر، وأنّه لا عبرة بالقدر المعيّن.

وأمّا خبر عقبة الذي هو مدرك القول الأوّل، فهو في البئر، وهو غير محلّ النزاع، وحمله على العين وإنْ كان ممكناً، إلّاأنّه يحتاج إلى دليل، وفهم المشهور لا9.

ص: 218


1- الفقيه: ج 3/238 ح 3870، وسائل الشيعة: ج 25/431 ح 32285.
2- الكافي: ج 5/294 ح 7، وسائل الشيعة: ج 25/432 ح 32287.
3- وسائل الشيعة: ج 25/433.
4- وسائل الشيعة: ج 25/433 ح 32289.

يصلح قرينةً عليه.

وعليه، فالقول الثاني أظهر.

ولو سُلّم شموله لما هو محلّ النزاع، وكذا النصوص المطلقة، فيمكن الجمع بين الطائفتين بحمل النصوص الأول على صورة عدم معرفة الضرر، وأنّ ما فيها مجعول طريقاً للضرر وعدمه، ويؤيّده مناسبة الحكم والموضوع.

أقول: ثمّ إنّ النصوص - سيّما ما اعتمدنا عليه في الحكم - مختصّة بالقناة في الأرض الموات، وأمّا القناة في المعمورة، فالظاهر أنّه لا خلاف في أنّ لصاحب الأرض المعمورة المملوكة أن يحفر قناةً في ملكه وإنْ تضرّر صاحب القناة الاُخرى ، وأنّه لا حَدّ لها، ولا يعتبر الفصل بينهما بمقدارٍ لا يضرّ الثانية بالأُولى ولا بالأذرع.

وعلى الجملة: المعروف بينهم أنّ التحريم مختصٌّ بالأراضي المباحة، وأمّا في الاملاك المتجاورة فلا حريم، لقاعدة السلطنة(1).

أقول: والتحقيق يقتضي أنْ يقال إنّه:

تارةً : نقول بأنّ من حفر قناةً كما يملك الأرض يملك ما فيها من المياه، إمّا لأنّ مَنْ مَلك أرضاً مَلك قرارها إلى تخوم الأرض، وفراغها إلى عنان السماء، أو لأنّ الاحتفار حيازة لما فيها من المياه.

فيحنئذٍ يتعيّن البناء على عدم جواز حفر قناة اُخرى في ملك الحافر إنْ أضرّت بالأُولى ، ولا تصلح قاعدة السلطنة لإثبات الجواز، فإنّها لا تدلّ على جواز التصرّف في ملك الغير.2.

ص: 219


1- البحار: ج 2/272.

وهل التمسّك بها في المقام إلّاكالتمسّك بها لإثبات جواز أن يذبح بمديته غنم الغير، بدعوى أنّه مسلّطٌ على مديته يتصرّف فيها ما شاء.

وأمّا لو أنكرنا ذلك، وقلنا بأنّ من ملك أرضاً وإنْ كان يملك مقداراً من الفراغ الذي يتوقّف عليه تصرّفاته في أرضه، ولمقدارٍ آخر منه بتبعيّة الأرض بمنزلة الحريم لها، ومقداراً من قرارها كذلك، ولا يملك ما تجاوز عن هذين الحَدّين كما هو الأظهر، وبنينا على أنّ الحيازة المملّكة لا تصدق على حفر القناة بالإضافة إلى المياه الموجودة في عروق الأرض - وإن ادّعاه المحقّق القمّي رحمه الله كما هو الصحيح - فالظاهر تماميّة الاستدلال بقاعدة السلطنة على المال والنفس والعمل لجوازه.

أقول: يبقى الكلام حينئذٍ في حديث لا ضرر(1) الحاكم على قاعدة السلطنة، كحكومته على جميع الأدلّة الأوّليّة، ونخبة القول فيه إنّه:

تارةً : يتضرّر المالك من عدم حفر القناة.

واُخرى : لا يتضرّر ولكن تفوت منه المنفعة.

وثالثة: لا يتضرّر بترك الحفر ولا تفوت منه المنفعة به.

أمّا في الصورة الأُولى : فلا توقّف في جواز الحفر، لأنّ إلزامه بتحمّل الضرر وحبسه عن ملكه لئلّا يتضرّر الغير، حكمٌ ضرريٌّ منفيّ ، ولا مورد حينئذٍ لملاحظة أقلّ الضررين.

وأمّا في الصورة الثالثة: فلا كلام في عدم جواز الحفر، لأنّ تجويز ذلك حكمٌ ضرري، ولا ضرر في منع المالك عن هذا التصرّف، ولا تصلح قاعدة السلطنة1.

ص: 220


1- الكافي: ج 5/292 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32281.

لمعارضة حديث لا ضرر، لمحكوميّتها بالنسبة إليه.

وما في الصورة الثانية: فالمشهور الجواز، ويشهد به أنّ حبس المالك عن الانتفاع بملكه وجعل الجواز تابعاً لتضرّر الجار حرجٌ عظيم، ولا يعارضه تضرّر الجار، لعدم وجوب تحمّل الحرج والضّرر لدفع الضرر عن الغير، كما يدلّ عليه تجويز الإضرار مع الإكراه.

وفائدة هذا الحريم منع الغير من إحداث عين اُخرى ، بخلاف حريم البئر المتقدّم، فإنّ فائدته كما مرّ منع الغير من إحياء ذلك المقدار مطلقاً، حتّى بالزرع والشجر، والفرق أنّ الحريم هناك للانتفاع بالبئر فيما اُعدّ له وما يحتاج إليه عادةً كما مرّ، وفي المقام عدم انتقال ماء العين الأُولى إلى الثانية.

***

ص: 221

ويُحبس النهر للأعلى إلى الكعب في النخل، وللزَّرع إلى الشراك، ثمّ كذلك لمن هو دونه.

حكم عدم وفاء النهر المباح بالأملاك المحاطة به

المسألة الثانية: إذا تشاحّ أهل الوادي في ماء النهر الجاري فيها وتنازعوا:

1 - فإنْ كان الماء ملكاً لهم فيقسّم الماء على قدر انصبائهم فيه.

2 - (و) إنْ لم يكن ملكاً لهم، بل كان مباحاً (يُحبس النهر للأعلى) الذي يلي فوّهة الأرض - بضمّ الفاء - وهو أصله (إلى الكعب في النخل، وللزّرع إلى الشراك) وهو أسفل منه بقليل (ثمّ كذلك لمن هو دونه) وهكذا، بلا خلافٍ في أصل الحكم مطلقاً، سواءٌ استضرّ الثاني بحبس الأوّل أم لا، كما في «الرياض»(1)، وفي «المسالك»(2) الإجماع عليه.

أقول: والمستندُ جملةٌ من النصوص:

منها: خبر غياث بن إبراهيم، عن الصادق عليه السلام، قال: «قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله في سيل وادي مهزور(3) للزّرع إلى الشراك، وللنخل إلى الكعب، ثم يرسل الماء إلى أسفل من ذلك».

قال ابن أبي عُمير: ومهزور موضع وادٍ(4).

ص: 222


1- رياض المسائل: ج 12/362.
2- مسالك الأفهام: ج 12/450.
3- وادي مهزور: أحد وديان المدينة المنوّرة، وهي لا زالت موجودة وتجري فيها مياه الأمطار الموسميّة.
4- الكافي: ج 5/278 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/420 ح 32259.

ومنها: خبره الآخر، عنه عليه السلام: «قضى رسول اللّه في سيل وادي مهزور أنْ يُحبس الأعلى على الأسفل، للنخل إلى الكعبين، وللزّرع إلى الشراكين»(1).

ومنها: خبر عُقبة بن خالد، عنه عليه السلام: «قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله في شُرب النخل بالسيل أنّ الأعلى يشرب قبل الأسفل، يترك من الماء إلى الكعبين، ثمّ يسرح الماء إلى الأسفل الذي يليه، وكذلك حتّى ينقضى الحوائط ويفنى الماء»(2).

ونحوها غيرها.

وأمّا ما عن «المبسوط»(3) و «السرائر»(4): (روى أصحابنا أنّ الأعلى يحبس إلى السّاق للنخل، وللشجر إلى القدم، وللزّرع إلى الشراك، وعليه أكثر الأصحاب)، فلا ينافي ما مرّ لأنّ الكعب هو المفصل بين القدم وعظم الساق، فيكون قوله: (إلى القدم) كناية عن منتهى الكعب، فموافق الطائفتان والقولان.

نعم، في القول الثاني والأخبار الثانية اُضيف (الشجر) ولم يُذكر في الأولى، ولاتنافي بينهمامن هذه الجهة أيضاً، وبالتالي فلاخلاف بين الأصحاب ولا بين الروايات.

ومقتضى إطلاق النصوص، عدم الفرق بين سبق الأعلى في إحياء الأرض التي يُراد سقيها وبين لحوقه.

وعن الشهيدين(5) وجماعة: اختصاص الحكم بما لو كان الأعلى سابقاً في إحياء الأرض، أو كان السابق مجهولاً، وأمّا إذا كان المتأخّر سابقاً في الإحياء فهو2.

ص: 223


1- الكافي: ج 5/278 ح 4، وسائل الشيعة: ج 25/421 ح 32261.
2- الكافي: ج 5/278 ح 6، وسائل الشيعة: ج 25/422 ح 32263.
3- المبسوط: ج 3/284.
4- السرائر: ج 2/373.
5- الدروس: ج 3/66، مسالك الأفهام: ج 12/452.

يقدم، لتقدّم حقّه في الماء بالإحياء.

واستوجهه الفاضل الخراساني رحمه الله(1) قائلاً: (إنّ الروايات الدالّة على تقديم الذي يلي فوّهة النهر لا عموم لها بحيث يشمل هذا القسم، ولكن ثبوت حقّه في الماء المباح الجاري من الأعلى بإحياء الأرض يحتاج إلى دليل، وعدم العموم لا يضرّ بعد وجود الإطلاق، وعليه فالأظهر عدم الاختصاص).

قال في «المسالك»(2): (إنّ إطلاق النَّص والفتوى لسقي الزّرع والشَّجر بذلك المقدار، محمولٌ على الغالب في أرض الحجاز من استوائها وإمكان سقي جميعها كذلك، فلو كانت مختلفة في الارتفاع والانخفاض، بحيث لو سُقيت أجمع كذلك، زاد الماء في المنخفضة عن الحَدّ المشروع، أفرد كلّ واحدٍ بالسقي بما هو طريقه، توصّلاً إليمتابعة النّص بحسب الإمكان، ولو كانت كلّها منحدرة، لم يقف الماء فيها كذلك، سقيت بما تقتضيه العادة، وسقط اعتبار التقدير الشرعي لتعذّره)، انتهى .

***3.

ص: 224


1- كفاية الأحكام: ج 2/570.
2- مسالك الأفهام: ج 12/453.

وللمالك أن يحمي المرعى في مِلْكه، وللإمام عليه السلام مطلقاً.

جواز حماية المَرعى للمالك

المسألة الثالثة: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه يجوز (للمالك أن يَحمي المرعى في مِلْكه) خاصّة، ولا يجوز أن يحمي بقعةً من الموات لمواشٍ بعينها، ويمنع سائر الناس من الرّعي فيها، وإنّما كان ذلك جائزاً لرسول اللّه صلى الله عليه و آله خاصّة، لأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ولكنّه لم يفعل.

(و) كذا يجوز عندنا الحَمى (للإمام عليه السلام مطلقاً) لأنّه بمنزلة النبيّ صلى الله عليه و آله، والموات له عليه السلام كما مرّ.

قالوا: والأصل في هذا الحكم أنّ الغريب من العرب كان إذا انتجع بلداً مخصباً، وافى بكلبٍ على جبلٍ إنْ كان به، أو على نشزٍ إنْ لم يكن به، ثمّ استعوى الكلب، ووقف له من كلّ ناحيةٍ يسمع صوته بالعويّ ، فحيثُ انتهى صوته حَماه من كلّ ناحيةٍ لنفسه، ويرعى مع العامّة فيما سَواه، فنهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن ذلك، وقال:

«لا حمى إلّاللّه ولرسوله»(1)، وزاد في آخر: «ولأئمّة المسلمين».

وعلى هذا، فلو بادر أحدٌ إلى الحِمى وأحياه لم يملكه:

1 - لتعلّق حَقّ المسلمين به.

2 - وللنبويّ .

ص: 225


1- السنن الكبرى: ج 6/146.

3 - وما دلّ على شركة المسلمين في الماء والكَلأ والنار(1).

4 - ومفهوم نصوص:

منها: خبر محمّد بن عبد اللّه - الذي هو قريبٌ من الصحيح بالبزنطي - عن الإمام الرّضا عليه السلام: «عن الرّجل تكون له الضيعة، وتكون لها حدود تبلغ حدودها عشرين ميلاً أو أقلّ أو أكثر، يأتيه الرّجل فيقول: أعطني من مراعي ضيعتك واعطيك كذا وكذا درهماً؟

فقال عليه السلام: إذا كانت الضيعة له فلا بأس»(2).

ومنها: حسن إدريس بن زيد، عن أبي الحسن عليه السلام، قال:

«قلتُ : جُعِلتُ فداك، إنّ لنا ضياعاً ولها حدود ولنا الدّواب فيها مراعي، وللرّجل منّا غنم وإبل ويحتاج إلى تلك المراعي لإبله وغَنمه، أيحلّ له أن يحمي المراعي لحاجته إليها؟

فقال عليه السلام: إذا كان الأرض أرضه فله أن يحمي ويصير ذلك إلى ما يحتاج إليه.

قال: وقلت له: الرّجل يبيع المراعي ؟

فقال عليه السلام: إذا كانت الأرض أرضه فلا بأس»(3).

وعليهما يُحمل إطلاق خبر موسى بن إبراهيم، عن أبي الحسن عليه السلام:

«عن بيع الكلأ والمرعى؟ فقال عليه السلام: لا بأس به، وقد حَمى رسول اللّه صلى الله عليه و آله النقيع لخيل المسلمين»(4).

***6.

ص: 226


1- وسائل الشيعة: ج 25/417 ح 32251.
2- وسائل الشيعة: ج 25/422 ح 32264.
3- الكافي: ج 5/276 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/371 ح 22774.
4- الكافي: ج 5/277 ح 5، وسائل الشيعة: ج 25 ح 423 ح 32266.

وليس لصاحب النهر تحويله إلّابإذن صاحب الرَّحى المنصوبة عليه.

حكم تحويل مجرى النهر

المسألة الرابعة: (وليس لصاحب النهر تحويله إلّابإذن صاحب الرَّحى المنصوبة عليه)، لصحيح محمّد بن الحسن، قال:

«كتبتُ إلى أبي محمّد عليه السلام: رجلٌ كانت له رَحى على نهر قريةٍ ، والقرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء وفي غير هذا النهر، ويبطل هذه الرَّحى، ألَهُ ذلك أم لا؟

فوقّع عليه السلام: يتّقي اللّه، ويعمل في ذلك بالمعروف، لا يضرّ أخاه المؤمن»(1).

ومقتضى إطلاق النّص؛ شمول الحكم لما إذا كان نصب الرَّحى عليه بسببٍ لازم من صلح أو غيره، أم كان بسبب جائز كالإذن، وبه أفتى المحقّق القمّي رحمه الله في «جامع الشتات»(2)، ولكن قيّده الحِلّي في محكي «السرائر»(3) بما إذا كان نصب الرَّحى على النهر بأمرٍ حَقّ واجبٍ على صاحبه.

وفي «الرياض»(4): (وهذا هو الأقوى )، بناءً على القول الآخر الذي ذهب إليه أصحابنا من ترجيح أدلّة السلطنة على أدلّة نفي الضرر.

وفيه: إنّه تقييد للإطلاق بلا مقيّد.

***

ص: 227


1- الكافي: ج 5/293 ح 5، وسائل الشيعة: ج 25/431 ح 32286.
2- جامع الشتات: ج 3/165.
3- السرائر: ج 2/374.
4- رياض المسائل: ج 12/366.

ويُكره بيع الماء في القنوات والأنهار.

حكمُ بيع الماء

المسألة الخامسة: قال قدس سره (ويُكره بيع الماء في القنوات والأنهار).

أقول: الكلام في هذه المسألة يقع في جهات.

الجهة الأُولى : في أنّ الماء هل يُملك أم لا؟

الظاهر هو ذلك، كما هو المعروف بين الأصحاب، وفي «الجواهر»(1): (بل الإجماع بقسميه عليه، بل لعلّه ضروري)، والشاهد به:

1 - ما دلّ عليتملّك المباحات بالحيازة، فإنّ الماء من جملة المشتركات بالإصالة.

2 - وللأصل.

3 - والإجماع بقسميه.

4 - والنبويّ : «الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلأ والنار»(2).

5 - والكاظميّ : «إنّ المسلمين شركاء في الماء والنار والكلأ»(3).

وعليه، فيملكه من حازه.

فإنْ قيل: إنّه بالحيازة تُملك المباحات لا المشتركات، والخبران يدلّان على اشتراك الناس أو المسلمين في الماء، فلا يُملك بالحيازة.

ص: 228


1- جواهر الكلام: ج 38/116.
2- المستدرك: ج 17/114 ح 20914.
3- التهذيب: ج 7/146 ح 33، وسائل الشيعة: ج 25/417 ح 32251.

قلنا: إنّه بعدما ليس المراد بالشركة هو كونه ملكاً للجميع، وإلّا لزم عدم جوازالتصرّف إلّابإذن الجميع، وهو بديهي البطلان، يصبح المراد الشركة في الانتفاع به، فهو من المباحات، والنّاس فيه شَرعٌ سَواء، فيشمله ما دلّ على أنّ :

«مَن سَبق إلى ما لم يَسبق إليه أحدٌ فهو له»(1).

مضافاً إلى تسالم الأصحاب عليه بنحوٍ لا يبقى مجالٌ للتشكيك.

الجهة الثانية: أنّه لا إشكال على ما تقدّم في ملكيّة الماء بالشّراء أو الحيازة، كما لو أحرز من المباح في آنيةٍ أو غيرها بقصد التملّك، إنّما البحث عن أنّه هل يملك الماء بحفر البئر وبلوغ الماء أم لا؟

نقول: أمّا بعد إخراجه من الأرض من بئرٍ وعينٍ بنيّة التملّك، فملكيّته مذهب الأصحاب - كما في «المسالك»(2) - كسائر المباحات التي يملّكها السابق.

وما عن الشيخ رحمه الله(3) من وجوب بذل الفاضل عن حاجته، سيأتي الكلام فيه.

وأمّا قبل الإخراج، فملكيّته منسوبة في غير واحدٍ من الكلمات إلى الأصحاب مشعراً بالإجماع عليها(4)، وفي «الجواهر»(5): (بل لعلّه كذلك، نظراً إلى السيرة المستمرّة)، ويمكن توجيهها بأنّ الماء نماءُ ملكه كلبن الدابّة، بل الظاهر أنّه حيازة للماء نفسه، وسبقٌ إليه ما لم يسبق إليه مسلمٌ ، فيكون له.

وربما يقال: إنّ ملك الأرض يقتضي ملك الماء الكامن فيها، وإنْ لم يكن من7.

ص: 229


1- المستدرك: ج 17/111 ح 20905.
2- مسالك الأفهام: ج 12/448.
3- المبسوط: ج 3/280-281. (4و5) جواهر الكلام: ج 38/117.

أجزائها. وأيضاًيشهد به فحوى ما سيجيء من الأخبار المتضمّنة لبيع الشرب.

الجهة الثالثة: والبحث فيها عن ما يقبضه النهر المملوك من الماء المباح.

قال الشيخ رحمه الله(1): (لا يملكه الحافركما إذا جرى السيل إلى أرضٍ مملوكة، لأنّه مباحٌ دخل في ملكه، فيبقى على أصل الإباحة، وإنّما يكون الحافر أولى به لأنّ يده عليه).

أقول: المشهور بين الأصحاب(2)، بل لم يُنقل الخلاف عن غير «مبسوط» الشيخ، أنّه يَملك الماء كما يَملك الماء الخارج بحفر البئر والعين، وهو الأظهر، لأنّ ذلك إنّما يكون من قبيل شبكة مثلاً لصيدٍ في أنّه يعدّ حيازة وسبقاً إلى ما لم يسبق إليه غيره، كما يشهد به خبر إسماعيل بن الفضل، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن بيع الكلأ إذا كان سيحاً، فيعمد الرّجل إلى مائه فيسوقه إلى الأرض، فيسقيه الحشيش، وهو الذي حفر النهر، وله الماء يزرع به ما شاء؟

فقال عليه السلام: إذا كان الماء له، فليزرع به ما شاء، وليبعه بما أحبّ »(3).

الجهة الرابعة: في بيع الماء.

أقول: لا خلاف ولا إشكال في جواز بيع الماء المملوك المخرَج، المعلوم كيله أو وزنه أو بالمشاهدة الرافعة للغرر.

وأمّا الماء المخرَج من الأرض من بئرٍ وعينٍ بنيّة التملّك، فالمعروف من مذهب5.

ص: 230


1- المبسوط: ج 3/281.
2- راجع مسالك الأفهام: ج 12/448.
3- الكافي: ج 5/276 ح 4، وسائل الشيعة: ج 25/423 ح 32265.

الأصحاب أنّه يجوز جميع التصرّفات فيه، ونقله إلى الغير بعوض، لكن عن الشيخ في «المبسوط»(1) أنّه أوجب على مالكه بذل الفاضل عن حاجته لشربه وشرب ماشيته وزرعه إلى غيره بغير عوض، إذا احتاج إليه لشربه وشرب ماشيته من السابلة وغيرهم، لا لسقي الزّرع والشجر.

ومنشأ الاختلاف اختلاف النصوص، وهي طوائف:

منها: ما تضمّن النهي عن بيع الماء:

1 - موثّق أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن النطاف والأربعاء، قال: والأربعاء أن يُسنّي مسناةً فيحمل الماء فيسقي به الأرض، ثمّ يستغني عنه، فقال عليه السلام: فلا تبعه ولكن أعره جارك.

والنطاف أنْ يكون له الشُّرب، فيستغني عنه، فيقول: لا تبعه أعره أخاك أو جارك»(2).

2 - موثّق البصري، عنه عليه السلام قال: «نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن المحاقلة.

إلى أنْ قال: والنطاف شُرب الماء ليس لك إذا استقيت عنه، أن تبيعه جارك، تدعه له، والأربعاء المُسَّناة تكون بين القوم، فيستغني عنها صاحبها، قال عليه السلام: يدعها لجاره ولا يبيعها إيّاه»(3).

3 - الخبر عنه صلى الله عليه و آله: «أنّه نهى عن بيع فضل الماء»(4).7.

ص: 231


1- المبسوط: ج 3/281.
2- الكافي: ج 5/277 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/374 ح 22779.
3- التهذيب: ج 7/143 ح 20، وسائل الشيعة: ج 17/357 ح 22781.
4- صحيح مسلم: ج 8/207.

4 - النبويّ : «من مَنَع فضل الماء ليمنع به الكَلأ، منعه اللّه فضل رحمته يوم القيامة»(1).

والمراد أنّ الماشية إنّما ترعى بقُرب الماء، فإذا امتنع من الماء فقد امتنع من الكَلأ وحازه لنفسه.

ونحوه خبر عقبة(2).

ومنها: ما يدلّ على جواز البيع:

1 - خبر إسماعيل بن الفضل المتقدّم.

2 - صحيح سعيد الأعرج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يكون له الشرب مع قوم في قناة فيها شركاء، فيستغني بعضهم عن شُربه، يبيع شربه ؟

قال عليه السلام: نعم، إنْ شاء باعه بوَرِقٍ ، وإنْ شاء بكيل حنطة»(3).

3 - حسن الكاهلي، عنه عليه السلام: «عن قناةٍ بين قومٍ لكلّ رجلٍ منهم شربٌ معلوم، فاستغنى رجلٌ منهم عن شربه، أيبيعه بحنطةٍ أو شعير؟

قال عليه السلام: يبيعه بما شاء، هذا ممّا ليس فيه شيء»(4).

ونحوه خبر عليّ بن جعفر(5).

والجمع بين الطائفتين يقتضي البناء على كراهة البيع، أو أفضليّة عدم أخذ العوض.5.

ص: 232


1- مسند أحمد: ج 13/473.
2- وسائل الشيعة: ج 25/420 ح 32257.
3- الكافي: ج 5/277 ح 1، وسائل الشيعة: ج 25/418 ح 32253.
4- التهذيب: ج 7/139 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/418 ح 32254.
5- وسائل الشيعة: ج 25/418 ح 32255.

أقول: ثمّ إنّه وقع الخلاف بين المجوّزين في أخذ العوض، في أنّه هل يصحّ بيعه، أم يتعيّن في نقله بعوضٍ من إيقاع معاملةٍ اُخرى عليه من صلحٍ وشبهه ؟

نسب المحقّق القمّي رحمه الله إلى المشهور عدم جواز البيع.

وعن الشهيد قدس سره(1): جواز بيعه دائماً، وعدم جوازه بدون ذلك.

والأظهر هو الجواز مع المعلوميّة بمقدارٍ يرتفع به الغرر.

ولا يضرّ الجهل بالكيل أو الوزن، لعدم كون الماء من المكيل والموزون، والنصوص المتقدّمة شاهدة به.

وحمل ما فيها من البيع على إرادة النقل بعوضٍ بغير البيع المصطلح - كما أفاده المحقّق القمّي رحمه الله - خلاف الظاهر، لا يصار إليه إلّامع القرينة، وكون بيعه غَرريّاً لا يصلح قرينةً عليه، لمنعه أوّلاً، وأخصيّة النصوص عن دليله لو سُلّم كونه غَرريّاً دائما ثانياً.

وعليه، فلا إشكال في جواز بيعه.

***7.

ص: 233


1- الدروس: ج 3/7.

ويجوزُ إخراج الرّواشن والأجنحة في الطرق النافذة، ما لم يضرّ بالمارّة، ومع الإذن في المرفوعة، وكذا فتح الأبواب.

حكم إخراج الرّواشن في الطرق

المسألة السادسة: (و) المعروف بين الأصحاب(1) أنّه (يجوز إخراج الرّواشن والأجنحة في الطرق النافذة، ما لم يضرّ بالمارّة، ومع الإذن في المرفوعة، وكذا فتح الأبواب).

أقول: وتمام الكلام يتحقّق ببيان اُمور.

الأمر الأوّل: قالوا: الجناح والرّوشن يشتركان في إخراج خشبٍ من الحائط إلى الطريق، بحيث لا يصل إلى الجدار المقابل ويبني عليه، ولو وصل فهو السّاباط.

وفي «المسالك»(2): (وربما فرّق بينهما بأنّ الأجنحة ينضمّ إليها مع ما ذكر أن يوضع لها أعمدة من الطريق).

الأمر الثاني: المدار في الضّرر بالمارّة هو العرف، ويعتبر في المارّة بما يليق بتلك الطرق عادةً ، فإنْ كانت ممّا يمرّ فيه الإبل، اعتبر فيه مروره محمِلاً ومركوباً وعلى ظهره مَحمِلاً، وإنْ كانت ممّا يمرّ عليه الفرسان، اعتبر ارتفاع ذلك بقدرٍ لا يصدم الرمح على وضعه ممّا لا عادة.

ص: 234


1- راجع كفاية الأحكام: ج 1/613، الحدائق الناضرة: ج 21/115.
2- مسالك الأفهام: ج 4/275.

الأمر الثالث: مدرك الجواز في الطرق النافذة - وهي الطرق التي تنتهي إلى طريقٍ أو مكانٍ مباح يجوز استطراقه - أنّها ليست ملكاً لأربابها، وإنّما هي من قبيل الحريم، والمتيقّن منه أنّ لهم ولغيرهم الاستطراق فيها، ولا يجوز مزاحمتهم في ذلك، وأمّا سائر التصرّفات فلا وجه للمنع عنها، فيجوز إخراج الرّواشن والأجنحة وفتح الباب وما شاكل، وإنْ تضرّر الجار بالإشراف عليه.

نعم، إذا تضرّر الجار بذلك، ولم يكن في منعه من الإخراج والفتح ضررٌ عليه، ولا فوات نفعٍ ، أُجبر عليه لقاعدة لا ضرر كما مرّ.

وأمّا الطرق المرفوعة: - وهي التي لا تنتهي إلى طريقٍ أو مكان مباح يجوز استطراقه، بل إمّا أنْ يكون رأسها مسدوداً بجدار ونحوه، أو تكون منتهية إلى سَدّ - فقالوا إنّه لا يجوز إخراج الرّواشن والأجنحة، وفتح الباب فيها، إلّابإذن أربابها، والمراد بأربابها كلّ من له إليها بابٌ يخرج منه إليها على وجهٍ شرعيّ .

واستدلّوا لذلك: بأنّ المرفوع ملكٌ لأربابه كسائر أملاكهم، فيكون كالمال المشترك لا يصحّ لأحدٍ من أربابه التصرّف فيه إلّابإذن الباقين، سواءٌ كان التصرّف بإحداث الباب أو الساباط أو الرّوشن أم غيرها، وسواءٌ أضرَّ بهم أم لم يضرّ.

وناقش فيه المحقّق الأردبيلي:(1) ومنع ذلك إلّاأنْ يثبت الملكيّة بوجهٍ شرعي، ولو بادّعائهم الملكيّة مع عدم العلم بفساد الدعوى، فإنّ الذي علم من التصرّف بالاستطراق استحقاقهم ذلك، وحيث أنّ أكثر الطرق والاستطراق يحصل في غيرالملك، فلا أمارة للملكيّة التي هي خلاف الأصل، إذ لا فرق بين المسلوك5.

ص: 235


1- مجمع الفائدة: ج 9/375.

والمرفوع في الحصول سوى أنّ المتردّدين في الأوّل أكثر.

ثمّ أيّد ذلك بعمل الناس من دخولهم في هذه السكك، ووقوفهم وجلوسهم بدون إذن أربابها من دون نكير، قال:

(وهو دليل عدم الملكيّة، بل لو كان مِلْكاً لم يجز لسائر الشركاء الدخول بدون إذن الباقين).

وفيه: يمكن توجيه ما أفاده المشهور بأنّ الطريق المرفوع تحت يد أربابه، واليد أمارة الملكيّة، ومع الإغماض عنه، يعدّ الطريق حريم أملاكهم، والمشهور بينهم ملكيّة الحريم، وإنْ كنّا ناقشنا فيه، ومع التنزّل فلا أقلّ من أنّهم أحقّ به من غيرهم، وكونه متعلّقاً لحقّهم، فعلى ذلك لا يجوز لأحدهم التصرّفات مطلقاً إلّامع إذن الباقين، عدا خصوص الاستطراق، إمّا:

لأنّ ذلك شرطٌ ضمني عند جعله طريقاً بينهم.

أو لأنّ بعض التصرّفات يجوز في الأملاك للسيرة أو غيرها - كالصلاة في الأراضي المتّسعة، والوضوء من الأنهار الكبار - فليكن المقام من هذا القبيل.

وبه يظهر وجه جواز التصرّفات المشار إليها لغير أربابه.

وعليه، فما أفاده المشهور أظهر.

هذا كلّه في التصرّف في الطريق.

أمّا تصرّف كلّ منهم في ملكه، بفتح الروازن والشبابيك، فلا إشكال في جوازه، لتسلّط الإنسان على التصرّف في ملكه بما شاء، وإنْ استلزم ذلك الإشراف على الجار، لأنّ المحرّم هو التطلّع لا التصرّف في الملك، فيستفيد بذلك الاستضاءة في بيته،

ص: 236

وليس للجار سَدّ ذلك، وإنْ كان له وضع حاجبٍ وحاجزٍ في ملكه يمنع إشراف جاره على داره.

نعم، استثنوا من ذلك فتح بابٍ فيه، كما لو كان له دارٌ حائطها إلى الطريق المرفوع، فأراد أن يفتح باباً إليه في ملكه، قالوا: لا يجوز ذلك، دفعاً لشبهة استحقاقه المرور منه بعد تطاول الزمان، فإنّه إذا اشتبه حاله يشعر باستحقاق المرور لأنّه وضع له.

وقد اعترض الشيخ رحمه الله(1) في مصالحة أحد أرباب الطريق الباقين على احداث روشن فيه، وعلّله بأنّه لا يجوز أفراد الهواء بالبيع، والصلح متفرّعٌ عليه في ذلك.

وقال صاحب «الشرائع»(2): (وفيه تردّد).

ولكن لو سُلّم الإشكال في البيع، فإنّه لا مجال للإشكال في الصلح بعد إطلاق أدلّته.

***0.

ص: 237


1- المبسوط: ج 2/292.
2- شرائع الإسلام: ج 2/370.

ويشترك المتقدّم والمتأخّر في المرفوعة إلى الباب الأوّل، وصدر الدرب، ويختصّ المتأخّر بما بين البابين، ولكلّ منهما تقديم بابه لا تأخيرها.

الطرق المرفوعة مشتركة بين أربابها

المسألة السابعة: (و) المشهور بين الأصحاب(1) أنّه (يشترك المتقدّم والمتأخّر في المرفوعة إلى الباب الأوّل، وصدر الدرب، ويختصّ المتأخّر بما بين البابين، ولكلّ منهما تقديم بابه لا تأخيرها).

وعن الشهيد في «الدروس»(2) تقوية اشتراك الجميع في الجميع، واختاره المحقّق الأردبيلي رحمه الله(3).

واستدلّ للأوّل: بأنّه في المرفوعة إلى الباب الأوّل وصدرها، هم متساوون في الارتفاق بها، ولا أولويّة لواحدٍ على غيره، بخلاف ما بين البابين، لأنّ أدخليّة الباب تقتضي الاستطراق، وهو مختصٌّ بالمستطرق، فيتحقّق الترجيح.

وأورد عليهم المحقّق الأردبيلي: (4) بأنّ دليل المشهور مدخول، والأصل دليلٌ قوي، وليس هنا ما يدلّ على اختصاص أحدٍ الاستطراق وعدم مرور الغير إليه.

وفيه: وهوليس بدليل:

1 - لما مرّ آنفاً.

ص: 238


1- راجع مجمع الفائدة: ج 9/374، الحدائق الناضرة: ج 21/124.
2- الدروس: ج 3/341. (3و4) مجمع الفائدة: ج 9/381 و 382.

2 - ولأنّه لو كان ذلك دليلُ الملك، لكان الفاضل في آخر المرفوعة مِلْكاً للأخير.

3 - ولأنّه قد يكون المرفوعة واسعة، ولا يمرّ الأدخل إلّافي بعضها.

4 - ولأنّه قد يكون في مقابله أيضاً بابٌ فيشكل الاختصاص.

أقول: ثمّ إنّه رحمه الله أخذ عليهم التناقض بين كلامهم هذا، وبين ما ذكروه من أنّ المرفوعة لكلّ من فيها أرضها وهوائها، لا يجوز لأحدٍ منهم إخراج الرّواشن والأجنحة والساباط والميزاب حتّى فتح الباب الجديد لغير الاستطراق بدون إذن الجميع، ويجوز مع إذنهم، فإنّ هذه الأحكام جميعها تدلّ على عدم الاختصاص لأحدٍ.

وأيضاً: حكمهم بجواز إخراج الأقدم ببابه في المشترك، يقتضي جواز إدخال الأدخل ببابه في الفاضل، لأنّه أيضاً مشتركٌ ، وهم منعوا عنه.

وفيه: يرد على ما مرّ منه ما تقدّم منّا.

ويرد على الوجه الثاني: ما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله(1): بأنّ ثبوت ملك شيء لايتوقّف على مسلك له، ومع ذلك فيمكن دخول الخارج إلى الفضلة بشاهد الحال، كسلوك غيره ممّن لا حَقّ له في تلك الطرق، فإذا انضمّ إلى ذلك اشتراكهم جميعاً في التصرّف في الفضلة حكم باشتراكها بينهم.

وعلى الثالث: أنّ أمارة الملكيّة ليست هي المرور، بل كون الشيء تحت استيلائه، والطريق الواسع كذلك وإنْ كان في المرور يمرّ على بعضه.

وعلى الرابع: أنّه لو كان في مقابله أيضاً بابٌ كانا مشتركين فيه.

أقول: وأمّا التناقض الأوّل الذي ذكره، فيمكن دفعه:2.

ص: 239


1- مسالك الأفهام: ج 4/282.

ولو أخرج الرّواشن في النافذة، فليس لمقابله منعه، وإنْ استوعب عرض الدرب، ولو سقط فبادر مقابله لم يكن للأوّل منعه،

بأنّ مراد الأصحاب من كون المرفوعة مِلْكاً لأربابها، ليس كونها مِلكاً لجميع الأرباب بنحو الإشاعة في الجميع، بل مرادهم أنّها ليست مثل النافذة التي ليست مِلكاً لأحد، ومرادهم بأربابها جنس الجميع لا العموم الأفرادي، فلا ينافي مع كون بعضها ملكاً لبعضهم خاصّة.

وأمّا قوله رحمه الله: (وأيضاً حكمهم بجواز إخراج الأقدم.. الخ).

فيردّه: منع الملازمة، ومنع كون العلّة في الأوّل هو مجرّد الاشتراك حتّى يتمّ في الفرع، بل لأنّه إسقاطٌ لحقّه السابق الثابت من دون تصرّف جديد في مال الشريك، فهو تصرّفُ بعضٍ في حقّه المشترك، بخلاف إدخال الباب في الفاضل، فإنّ الاستحقاق فيه ليس من جهة العبور، بل من جهة كونه من المرافق المحتاج إليها أحياناً لحطّ الأثقال ونحوه، والتصرّف على نهجٍ يوجب استحقاق العبور فيه من دون الشركاء، تصرّفٌ في المشترك بدون الإذن، وإسقاط لبعض حَقّ الشركاء.

نبّه على ذلك المحقّق القمّي رحمه الله(1).

يقول المصنّف رحمه الله: (و) ممّا ذكرناه في المسألة المتقدّمة، يظهر أنّه (لو أخرج الرّواشن في النافذة، فليس لمقابله منعه، وإنْ استوعب عرض الدّرب، و) أنّه (لو سقط فبادر مقابله لم يكن للأوّل منعه) لأنّ الأوّل لم يملك الموضع بوضع الروشن8.

ص: 240


1- جامع الشتات: ج 3/267-268.

فيه، وإنّما اكتسب أولويّة، فإذا زال زالت.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ الهواء يُملك مستقلّاً، فباخراج الروشن حازه المخرج وملكه ولا مزيل له، والمسألة محتاجة إلى التأمّل.

***

ص: 241

ويستحبّ للجار وضع خَشَب جاره على حائطه مع الحاجة. ولو أذن جاز الرجوع قبل الوضع، أمّا بعده فبالأرش.

وضع الجذوع على حائط الجار

المسألة الثامنة: إذا التمس وضع جذوعه على حائط جاره، لم يجب على الجار إجابته، بلا خلافٍ ، وفي «المسالك»(1): (هذا عندنا موضع وفاقٍ )، لما دلّ على أنّه لا يحلّ مال إمرئٍ مسلم إلّابطيب نفسه(2).

(و) لكن (يستحبّ للجار وضع خَشَب جاره على حائطه مع الحاجة)، لما روي عنه صلى الله عليه و آله:

«لا يمنعنّ أحدكم جاره أن يغرِز خشبه في حائطه»(3).

وفي خبرٍ آخر: «إنّ الجار يضع جذوعه في حائط جاره شاء أم أبى »(4).

المحمولين على الاستحباب، سيّما مع عدم ثبوت صحّتهما.

(و) إنّما الكلام فيما ذكره جماعة من أنّه (لو أذن جاز، الرجوع قبل الوضع، أمّا بعده فبالأرش).

أقول: ومورد الكلام اُمور:

ص: 242


1- مسالك الأفهام: ج 4/284.
2- وسائل الشيعة: ج 14/572.
3- مسند أحمد: ج 2/274.
4- السنن الكبرى: ج 6/154.

الأمر الأوّل: بعدما لا كلام في أنّه يجوز الرجوع قبل الوضع، اختلفوا في الرجوع بعد الوضع، وقد منع عنه الشيخ رحمه الله(1) ومن تبعه، واستدلّوا له:

1 - بأنّ الإذن في مثل ذلك، يقتضي الدوام، كالإذن في دفن الميّت في الأرض.

2 - بلزوم الضرر بالنقض، حيث يُفضي إلى خراب ملك المأذون.

ولكن يرد على الأوّل: إنّ كون الإذن مقتضياً للدوام، لا يستلزمُ عدم جوازالرجوع بعد كونه من قبيل العارية التي هي غير لازمة، والقياس بالإذن في دفن الميّت مع الفارق إنْ قلنا بحرمة النبش في هذا المورد، وإلّا فيجوز الرجوع في المقيس عليه أيضاً.

وعلى الثاني: أنّ الضّرر لا يصلحُ للّزوم الإذن، سيّما بعد كونه مُقْدِماً عليه، فإنّه مع العلم بالجواز أقدم عليه.

وعليه، فالأظهر هو جواز الرجوع.

الأمر الثاني: إنّه على تقدير الجواز، هل ينقض مجّاناً أو مع الأرش ؟ قولان:

اختار المصنّف رحمه الله هنا، والمحقّق في «الشرائع»(2)، والشهيد الثاني في «المسالك»(3) وغيرهم في غيرها الثاني، واستدلّ له:

1 - بأنّه بناءٌ محترم صدر بالإذن، فلا يجوز قلعه إلّابعد ضمان نقضه.

2 - وبأنّ فيه جمعاً بين الحقّين.

3 - وبأنّه سبب الإتلاف لإذنه والمباشر ضعيف.5.

ص: 243


1- المبسوط: ج 2/297.
2- شرائع الإسلام: ج 2/371.
3- مسالك الأفهام: ج 4/284-285.

أقول: كون البناء محترماً صادراً بالإذن الجائز، ليس من موجبات الضمان، لما مرّ من أنّه مجرّد كونه محترماً ما لم ينطبق عليه أحد العناوين المضمّنة من اليد والإتلاف والاستيفاء، ليس من موجبات الضمان.

وكونه جمعاً بين الحقّين فرعُ ثبوت حَقّ له في الإبقاء، والكلام الآن فيه.

وكونه سبب الإتلاف، بعد كون إذنه ممّا يجوز الرجوع فيه، ووساطة اختيار الفاعل المختار، ممنوعٌ .

وعليه، فالأظهر عدم الضمان.

الأمر الثالث: أنّه على تقدير ثبوت الأرش، فهل هو عوضُ ما نقصت آلات الواضع بالهدم، أو أنّه تفاوت ما بين العامر والخراب ؟

وجهان مبنيّان على أنّ مدرك ثبوت الضمان هو الوجه الأوّل والثاني، أو الثالث.

فعلى الأولين الأوّل، وعلى الثالث الثاني، كما لا يخفى .

***

ص: 244

ولو تداعيا جداراً مطلقاً، فهو للحالف مع نكول الآخر

فروع التنازع في الجدار

المسألة التاسعة: ويدور البحث فيها في جملة من فروع التنازع:

الفرع الأوّل: (ولو تداعيا جداراً) بين ملكيهما (مطلقاً)، والمراد بالإطلاق هنا أن لايكون مقيّداً بوجهٍ يوجب كونه لأحدهما شرعاً:

كاتّصاله باحدهما اتّصال ترصيفٍ بتداخل الأحجار.

أو كون اُسّ الجدار له.

أو كونه مبنيّاً على جذعٍ داخل في بنائه.

أو كون وجه الجدار إليه بزيادات فيه من طرفه، وما شاكل.

فإنْ كان الجدار في يديهما، أو لم يكن لأحدهما يدٌ عليه، (فهو للحالف مع نكول الآخر).

1 - إذا كان في يديهما، فإنّ مقتضى اليد هو الشركة، فعلى كلّ منهما الحلف على ما يدّعيه الآخر من كون مجموع الجدار له، فإنْ حلف أحدهما دون الآخر ثبت ما يدّعيه.

2 - وإنْ لم يكن في يديهما، فيحتمل الشركة من غير الحلف، ويحتمل كونه من باب التداعي، وعلى التقديرين حيث إنّه من المعلوم عدم خروجه عنهما، بل هو إمّا لهما أو لأحدهما، فلو حلف أحدهما مع نكول الآخر ثبت به حقّه.

ص: 245

ولو حلفا أو نكلا فلهما، ولو اتّصل ببناء أحدهما، أو كان له عليه طرح، فهو له مع اليمين،

(ولو حلفا أو نكلا، فلهما) لليد، أو العلم بعدم خروجه عنهما، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيحكم بالتنصيف.

هذا كلّه مع عدم البيّنة لأحدهما، وإلّا فيحكم بأنّه له للبيّنة.

(ولو اتّصل ببناء أحدهما) اتّصال ترصيف، (أو كان له عليه طرحٌ ) من قُبّةٍ أو غرفة أو نحو تلك، ممّا يكون لأحدهما اختصاص به (فهو له مع اليمين) إنْ لم يكن للآخر بيّنة، لصدق كون اليد له بذلك.

أقول: ويمكن أنْ يستدلّ له بصحيح منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «سألته عن خُصّ (1) بين دارين ؟ فزعم أنّ عليّاً عليه السلام قضى به لصاحب الدّار الذي من قِبله وجه القماط»(2) المعتضد بخبر عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليهم السلام: «أنّه قضي في رجلين اختصما إليه في خُصّ ، فقال عليه السلام: إنّ الخُصّ للذي إليه القماط»(3).

وقد عمل معظم الأصحاب بهما.

ودعوى: أنّهما قضيّة في واقعة - كما عن «النافع»(4) - بعد كون الإمام عليه السلام ينقلها في مقام بيان الحكم، كما ترى .2.

ص: 246


1- الخصّ : الحائط من القصب بين الدارين.
2- الكافي ج 5/295 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/454 ح 24027.
3- وسائل الشيعة: ج 18/454 ح 24028.
4- المختصر النافع: ص 252.

ولا يتصرّف الشريك في الحائط والدولاب والبئر والنهر بغير إذن شريكه، ولا يُجبر الشريك على العمارة،

قال المصنّف رحمه الله: لا إشكال (ولا) خلاف في أنّه لا يجوز أن (يتصرّف الشريك في الحائط) كما لا يجوز له التصرّف في سائر الأموال المشتركة من الدّار (والدولاب والبئر والنهر) وما شاكل (بغير إذن شريكه)، لعدم جواز التصرّف في مال الغير بغير إذنه.

نعم، قد مرَّ أنّه لا دليل على حرمة الانتفاع بمال الغير إنْ لم يعدّ تصرّفاً، كالإستضاءة بنور الغير.

وربما يشتبه الأمر في أنّه من التصرّف أم لا، كإسناد المتاع إلى الحائط مع انتفاء الضرر، ومقتضى أصالة البراءة هو الجواز في الموارد المشكوك فيها.

(و) لو انهدم الجدار (لا يُجبر الشريك على العمارة) إذ لا يجبُ على الإنسان عمّارة جداره المختصّ فضلاً عن المشترك، وهذا لا كلام فيه.

إنّما الكلام في أنّه:

هل تتوقّف العمارة على إذن الشريك، كما لعلّه المشهور(1)؟

أم يجوز له البناء وإنْ نهاه، كما عن الشيخ رحمه الله(2)؟

أم يفصّل بين إعادته بالآلة المشتركة فالثاني، وبين إعادته بآلةٍ من عنده فالأوّل ؟1.

ص: 247


1- راجع إرشاد الأذهان: ج 1/405، مجمع الفائدة: ج 6/361، الحدائق الناضرة: ج 21/132.
2- المبسوط: ج 2/301.

والقولُ قولُ صاحب السفل في جدران البيت، وقولُ صاحب العلوّ في السقف وجدران الغرفة والدرجة،

أقول: الأظهر هو الأوّل، لعدم جواز التصرّف في ملك الغير بغير إذنه.

واستدلّ للثاني: بأنّه نفعٌ وإحسان في حَقّ الشريك فلا يشترط رضاه، حيث إنّه يعمر حائطه ولا يغرمه في نفقته، ولا ضرر فيه عليه.

وفيه: أنّ إيصال النفع إلى الغير، والإحسان إليه بغير التصرّف في ماله حسنٌ ومطلوب، ومع التصرّف في ماله حيث ينطبق عليه عنوان قبيح فلا يكون حسناً.

واستدلّ للثالث: بأنّه على الأوّل يبقى شريكاً كالأوّل، بخلافه على الثاني. وقد ظهر ممّا مرّ ما فيه.

(و) الفرع الثاني: لو تنازع صاحب العلوّ والسِّفل في جدارهما، ف (القولُ قول صاحب السِّفل في جدران البيت، وقول صاحب العلوّ في السقف وجدران الغرفة والدرجة) كما هو المشهور بين الأصحاب(1).

وقيل: باشتراكهما في جدار السفل، واختصاص صاحب العلوّ بجداره.

عن الشيخ(2) والشهيد رحمهما الله(3) اشتراكهما في السقف.

أقول: هاهنا أحكام:

الحكم الأوّل: لو تنازعا في جدران البيت، فالظاهر تقديم قول صاحب السفل، لأنّ جدران البيت جزئه، فيحكم بها لصاحبه.0.

ص: 248


1- راجع شرائع الإسلام: ج 2/372، تحرير الأحكام: ج 4/510، إيضاح الفوائد: ج 2/112.
2- المبسوط: ج 2/300.
3- الدروس: ج 3/350.

وأمّا الخزانة تحتها فلهما،

الحكم الثاني: لو تنازعا في السقف - والمراد به الحامل للغرفة المتوسط بينها وبين البيت - فقد استدلّ لتقديم قول صاحب العلوّ:

1 - بأنّ الغرفة إنّما تتحقّق بالسقف الحامل لأنّه أرضها، والبيت قد يكون بغير سقفٍ ، وهما متصادقان على أنّ هنا غرفة، فلابدّ من تحقّقها.

2 - وبأنّ تصرّفه فيه أغلب من تصرّف صاحب السفل.

وبه يظهر اندفاع ما استدلّ به لما ذهب إليه الشيخ والشهيد من اشتراكهما فيه، بأنّه سقفٌ لصاحب البيت وأرضٌ لصاحب الغرفة، فكان كالجزء من كلّ منهما.

وأضعف من ذلك: ما في «الشرائع»(1) من الرجوع إلى القرعة، لأنّها لكلّ أمرٍ مشتبه.

إذ يرد عليه: - مضافاً إلى ما مرّ - أنّ غاية ما هناك، كونه تحت يديهما، فهما شريكان فيه.

الحكم الثالث: لو تنازعا في جدران الغرفة، فإنّه لا إشكال في تقديم قول صاحب العلوّ، لأنّها جزء من الغرفة، فيحكم بها لصاحبها.

الحكم الرابع: لو تنازعا في الدرجة، فالظاهر تقديم قول صاحب العلوّ، لاختصاصه بالتصرّف فيها بالسلوك، وإنْ كانت موضوعة في الأرض التي هي لصاحب السفل، لأنّ مجرّد ذلك لا يوجب صدق اليد.

(فأمّا الخزانة تحتها فلهما) لأنّ لكلّ منهما شاهداً بملّكها، إذ الظاهر كما مرّ2.

ص: 249


1- شرائع الإسلام: ج 2/372.

وطريق العلوّ في الصحن بينهما، والباقي للأسفل، وللجار عطف أغصان الشجرة، فإنْ تعذّر قَطَعها عن ملكه.

أنّ الدرجة لصاحب العلوّ، فيكون قرارها كالهواء له، وحيث أنّها متّصلة بما يملكه الأسفل، بل هي من جملة بيوتات السفلى ، فظاهره كونه لصاحب السفل، فيحكم بها لهما بعد التحالف.

(و) الفرع الثالث: ما لو تداعيا في الصحن:

قالوا: (طريق العلو في الصحن بينهما) (و) يكون (الباقي للأسفل)، وعلّلوه بأنّ صاحب العلوّ لما افتقر سلوكه إليه في التصرّف من الصحن في قدر الممرّ، كان له يدٌ عليه دون باقي الصحن، وصاحب السفل يشاركه في التصرّف في ذلك وينفرد بالباقي، فيكون قدر المسلك بينهما، لصدق كون يديهما عليه، بخلاف الباقي، فإنّ يد الأسفل عليه خاصّة.

الفرع الرابع: أنّه إذا خرج أغصان شجرةٍ إلى ملك الجار، فعلى مالكها عطفها أو قطعها تحرّزاً من إشغال ملك الغير بملكه.

(و) إنْ لم يفعل ف (للجار عطف أغصان الشجرة، فإنْ تعذّر قَطَعها عن ملكه) لأنّ بقائه عدوانٌ ، وقاعدة حرمة التصرّف في مال الغير لا تأتي في دفع الظلم والضّرر عنه، ولذا لم يشكّ أحدٌ في أنّه إذا دخل بهيمة الغير داره له أنْ يخرجها منها.

نعم، يجب عليه أوّلاً مراجعة المالك، ثمّ عطف الأغصان إنْ أمكن، وإلّا يقطعها.

بل قد يظهر من «التحرير» أنّ للمالك الإزالة من دون استيذانٍ من مالك الشجرة،

ص: 250

وراكب الدابّة أولى من قابض لجامها،

بل صرّح به المحقّق الثاني رحمه الله(1)، لأنّ إزالة العدوان أمرٌ ثابت له، وتوقّفها على إذن الغير ضررٌ عليه، ولا يخلو عن وجهٍ ، وإنْ كان الأوّل أحوط، وأحوط منه الاستيذان من الحاكم فراراً عن التصرّف في ملك الغير بغير إذنه، أو إذن من يقوم مقامه مع التمكّن، واللّه العالم.

(و) الفرع الخامس: أنّ (راكب الدابّة أولى من قابض لجامها) كما عن الشيخ رحمه الله(1)وغيره، لظهور يد الاختصاص له، ولكن الظاهر أنّهما سواء، كما عن «الخلاف»(2)، و «السرائر»(3)، والمحقّق الثاني(5)، والشهيد الثاني(4) في «المسالك» وغيرهم، لثبوت يد كلّ منهما عليها، ولا ترجيح لقوّة تصرّف الراكب وشدّته بالنسبة إلى القابض، ولا لزيادته، ولذلك ذهبوا إلى اشتراك الثوب بين شخصين لكلّ منهما يد عليه، وإنْ كان تصرّف أحدهما أزيد.

(و) الفرع السادس: أنّه لو تداعيا غرفةً على بيت أحدهما، وبابها إلى غرفة الآخر، كان الرّجحان لدعوى صاحب البيت، لكونها في ملكه الذي هو هواء بيته التابع لقراره، ومجرّد فتح الباب إلى الغير لايفيد يداً عرفاً، وهذا هو مرادالمصنّف رحمه الله7.

ص: 251


1- الخلاف: ج 3/296.
2- الخلاف: ج 3/296.
3- السرائر: ج 2/67.
4- مسالك الأفهام: ج 4/297.

وصاحب الأسفل أولى بالغرفة المفتوح بابها إلى غيره، مع التنازع واليمين وعدم البيّنة.

حيث قال: (وصاحب الأسفل أولى بالغرفة المفتوح بابها إلى غيره، مع التنازع واليمين وعدم البيّنة) واللّه العالم.

***

ص: 252

كتاب الدِّيون: وفيه فصول:

الفصل الأوّل:

(كتاب الدِّيون:

اشارة

وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في القرض)

اشارة

القرض: بكسر القاف وفتحها، عرّفه صاحب «الجواهر» بقوله:

(وهو معروفٌ أثبته الشارع متاعاً للمحتاجين، مع رَدّ عوضه في غير المجلس، وإنْ كان من النقدين رخصةً )(1)، ولا يخفى أنّه بيان لأثره.

وأمّا حقيقته: فقد أفاد الشيخ الأعظم في كتاب البيع بعدما عرّف البيع في مقام الفرق بينه وبين القرض: أنّ القرض حقيقته ليست هي المعاوضة، بل هي (تمليكٌ على وجه ضمان المثل أو القيمة)(2).

ويرد عليه: أنّ التمليك المزبور لا يخلو عن أحد وجهين:

إمّا أنْ يكون تمليكاً بإزاء بدله في الذمّة، فهو معاوضة حقيقة.

وإمّا أنْ يكون تمليكاً مجانيّاً، ويشترط في ضمنه أن تكون الذمّة مشغولة بالمثل أو القيمة، فهذا غير معقول، إذ مرجعه إلى اشتراط ضمان الإنسان لمال نفسه.

فالحقّ أنْ يقال: إنّ حقيقة القرض هي تمليكٌ للعين، أي لخصوصيّاتها مجّاناً وجَعْلٌ لماليّتها في الذمّة، ففي الحقيقة هو ينحلّ إلى إنشائين: تمليكٌ مجّاني بالنسبة إلى

ص: 253


1- جواهر الكلام: ج 25/1.
2- المكاسب: ج 3/15.

العين، وتضمينٌ لماليّة العين واستئمانٌ لها في ذمّة المقترض إلى أجلٍ معيّن.

وممّا يشهد لكون القرض ما ذكر، وليس من قبيل المعاوضات اُمور:

الأمر الأوّل: عدم جريان ربا المعاوضة فيه، فمن اقترض الريال الذي يساوي أربعة دراهم مثلاً، ويكون بحسب الوزن أكثر منها، له أنْ يؤدّي أربعة دراهم، وللمقرض اشتراط ذلك، ولم يقل أحدٌ بعدم جوازه، ولو كان من قبيل المعاوضات لزم عدم جوازه، كما لا يجوز في القرض بيع الريال بأربعة دراهم.

الأمر الثاني: عدم لزوم ذكر العوض فيه، فلو كان من المعاوضات، لكان اللّازم ملاحظة الطرفين في مقام إنشاء المعاوضة.

الأمر الثالث: عدم لزوم العلم بالعوض، مع أنّه في المعاوضات لابدّ من العلم به.

ودعوى: أنّ العين المقترضة إمّا أن تكون من المثليّات، أو تكون من القيميّات، وعلى كلّ حالٍ العوض معلومٌ ولا يحتاج إلى الذكر.

مندفعة أوّلاً: أنّ بعض الأشياء لا يُعلم حين القرض أنّه مثلي أو قيمي، فيقترض المال ويستعلم الحال قبل الأداء.

وثانياً: أنّه ربما يعلم أنّه قيمي ولكن لا يعلم مقدار القيمة.

الأمر الرابع: ما ذكره جماعة(1) من عدم جريان الغرر المنفيّ فيه.

ثمّ إنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّ القرض معدودٌ من العقود، ويحتاج إلى إيجاب وقبول، والكلام في قيود العقد والمتعاقدين ما مرّ في غير كتابٍ من الكتب المتقدّمة.

أقول: وتمام الكلام في هذا الفصل يتحقّق بالبحث في مواضع:

الموضع الأوّل: فيما يتعلّق بالقرض نفسه، وفيه مسائل:7.

ص: 254


1- حكاه السيّد الحكيم عن جماعة في نهج الفقاهة: ص 17.

يُكره الدّين مع القدرة، ولو استدان وجب نيّة القضاء

وجوب نيّة القضاء حين الاستدانة

المسألة الأُولى : (يُكره الدَّين مع القدرة) على المشهور بين الأصحاب.

وعن الحِلّي: (عدم جواز الاستدانة لغير الواجب من الحَجّ وغيره من الواجبات)(1).

أقول: وتشهد للجواز جملة من النصوص، منها خبر أبي موسى :

«قال: قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام: جُعِلتُ فداك يستقرض الرّجل ويحجّ؟ قال: نعم.

قلت: يستقرض ويتزوّج ؟ قال: نعم إنّه ينتظر رزق اللّه غدوة وعشية»(2).

ونحوه غيره، والشاهد بالكراهة جملة من الأخبار الآتية.

(ولو استدان وجبَ نيّة القضاء) كماهو المشهور بينهم، بل قال الشهيد الثاني رحمه الله: (وجوب نيّة القضاء ثابتٌ على كلّ من عليه حَقّ ، سواءٌ كان ذو الحقّ غائباً أم حاضراً، لأنّ ذلك من أحكام الإيمان)(3)، والأخبار تدلّ عليه:

منها: خبر عبدالغفّارالمجازي، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن رجلٍ مات وعليه دين ؟

قال عليه السلام: إنْ كان أتى على يديه من غير فسادٍ، لم يؤأخذه اللّه عزّ وجلّ إذا علم من نيّته، إلّامن كان لا يريد أن يؤدّي عن أمانته، فهو بمنزلة السارق. الحديث»(4).

ص: 255


1- السرائر، كتاب الدِّيون: ص 30.
2- من لايحضره الفقيه: ج 3/182 ح 3685، وسائل الشيعة: ج 18/323 ح 23770.
3- مسالك الأفهام: ج 3/457.
4- الكافي: ج 5/99 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/327 ح 23778.

وثوابُ القرض ضِعف ثواب الصدقة

ومنها: خبر أبي خديجة، عنه عليه السلام: «أيّما رجلٍ أتى رجلاً فاستقرض منه مالاً وفي نيّته أن لا يؤدّيه فذلك اللّص العادي»(1).

ومنها: مرسل ابن فضّال، عن بعض أصحابه، عنه عليه السلام: «من استدان ديناً فلم ينوِ قضائه، كان بمنزلة السارق»(2).

ونحوها غيرها.

ولا ينافيها خبر حمدان بن إبراهيم الهمداني، رفعه إلى بعض الصادقين عليهما السلام:

«إنّي لأحبّ للرجل يكون عليه دَينٌ ينوي قضاءه»(3). لعدم ظهوره في الاستحباب.

المسألة الثانية: لا خلاف ولا إشكال في أنّ في الإقراض ثواباً عظيماً، لأنّه من إعانة المحتاج تطوّعاً، وكشف كُربة المسلم، بل (وثواب القرض ضعف ثواب الصَّدقة)، ففي النبويّ المرويّ بطريق معتبر:

«الصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر»(4).

وفي موثّق ابن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «مكتوبٌ على باب الجنة:

الصدقة بعشرة والقرض بثمانية عشر»(5).

قال الشيخ رحمه الله: (وروي أنّه أفضل من الصدقة بمثله)(6).».

ص: 256


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/183 ح 3689، وسائل الشيعة: ج 18/329 ح 23782.
2- الكافي: ج 5/99 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/328 ح 23779.
3- الكافي: ج 5/93 ح 4، وسائل الشيعة: ج 18/321 ح 23761.
4- الكافي: ج 4/10 ح 3، وسائل الشيعة: ج 9/411 ح 12355.
5- الكافي: ج 4/33 ح 1، وسائل الشيعة: ج 16/318 ح 21651.
6- النهاية: ص 311-312 قوله: «وروي أنّه أفضل من الصّدقة بمثله في الثواب».

ويحرمُ له اشتراط زيادة في القدر أو الصِّفة،

والظاهر تعلّق الضمير في مثله بأفضل، فالمعنى: أنّ ثواب القرض ضعف ثواب الصدقة.

لا يقال: إنّ الخبر الأخير ينافي ماتقدّمه، فإنّ لازمه كون القرض مجزي بعشرين.

فإنّه يقال: إنّ المضائفة إنّما هي في الثواب، فإذا تصدّق بدرهم، فإنّه إنّما يصير عشرة باعتبار ضَمّ الدرهم للتصدّق به حيث إنّه لا يرجع، والحاصل من الثواب المكتسب في الحقيقة إنّما هو تسعة، فثواب القرض إذا كان ضعفه كان ثمانية عشر.

ولا يعارضها النبويّ الخاص: «ألف درهمٍ أقرضها مرّتين أحبّ إليّ من أن أتصدّق بها مرّة»(1) كي يجمع بينهما بالوجوه المذكورة في «المسالك»(2)، لعدم دلالة النبويّ على رجحان الصدقة عليه، إذ ظاهره أنّ المراد به كون وجه رجحان القرض على الصدقة، هو أنّ القرض يعود فيُقرَض لآخر مرّة اُخرى بخلاف الصَّدقة. واللّه العالم.

حكم اشتراط الزيادة فيه

المسألة الثالثة: (ويحرمُ له اشتراط زيادة في القدر أو الصِّفة) بلا خلافٍ فيه في الجملة، والنصوص الكثيرة شاهدة به:

منها: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن رجلٍ أعطى رجلاً مائة درهم

ص: 257


1- التهذيب: ج 6/192 ح 43، وسائل الشيعة: ج 18/334 ح 23793.
2- مسالك الأفهام: ج 3/442.

على أن يعطيه خمسة دراهم أو أقلّ أو أكثر؟

فقال عليه السلام: هذا الرِّبا المحض»(1).

ومنها: خبر خالد بن الحجّاج، قال: «سألته عن الرّجل كانت لي عليه مائة درهم عدداً فقضانيها مائةً وزناً؟

قال عليه السلام: لا بأس ما لم يشترط، قال: جاء الرّبا من قِبل الشروط، إنّما يفسده الشروط»(2).

ومنها: موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «عن الرّجل يكون له عند الرّجل المال قرضاً، فيطول مكثه عند الرّجل، لا يدخل على صاحبه منفعةً فينيله الرّجل الشيءبعد الشيءكراهية أن يأخذ ماله حيث لايصيب منه منفعةً ، أيحلّذلك ؟

قال عليه السلام: لا بأس إذا لم يكن بشرط»(3).

ومنها: حسن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يستقرض الدّراهم البيض عدداً، ثمّ يعطى سوداً وزناً، وقد عرفتُ أنّها أثقل ممّا أخذ، وتطيبُ به نفسه أن يحمل له فضلها؟

فقال عليه السلام: لا بأس به إذا لم يكن فيه شرط»(4).

ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «إذا أقرضتَ الدّراهم ثمّ أتاك بخيرٍ منها، فلا بأس إذا لم يكن بينكما شرط»(5).5.

ص: 258


1- قرب الإسناد: ص 114، وسائل الشيعة: ج 18/359 ح 23847.
2- الكافي: ج 5/244 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/190 ح 23463.
3- التهذيب: ج 6/205 ح 21، وسائل الشيعة: ج 18/357 ح 23842.
4- الكافي: ج 5/253 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/191 ح 23464.
5- الكافي: ج 5/254 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/191 ح 23465.

ومنها: صحيح محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام: «من أقرض رجلاً وَرِقاً فلا يشترط إلّامثلها، فإن جُوزيَ أجود منها فليقبل، ولا يأخذ أحدٌ منكم ركوب دابّةٍ أو عارية متاعٍ يشترط من أجل قرض وَرِقةٍ »(1).

إلى غير تلكم من النصوص الكثيرة.

أقول: وتنقيح القول في المقام يتحقّق بالبحث في جهات:

الجهة الأُولى: أنّ الزيادة المشترطة:

تارةً : تكون عينيّة من جنس العين المقترض أو غيرها.

واُخرى : تكون غير عينيّة ممّا له ماليّة، كسُكنى دارٍ، أو عملٍ له ماليّة كخياطة ثوب.

وثالثة: تكون غير عينيّة ممّا فيه منفعة، كاشتراط مصالحةٍ أو بيعٍ محاباتي، أو فيه غرضٌ عقلائي كاشتراط كنس المسجد، أو إتيان الصلاة أوّل الوقت.

فهل الموجب للرّبا مطلق الشرط من حيث إنّه التزامٌ بشيء فيكون زيادة ؟

أم يختصّ بما له فيه منفعة أو ماليّة ؟

أو مختصّ بخصوص الزيادة العينيّة ؟ وجوه:

استدلّ للأوّل:

1 - بالإجماع.

2 - وبإطلاق قوله عليه السلام في خبر خالد: «جاء الرّبا من قبل الشرط، وإنّما تفسده الشروط» فإنّ إطلاقه يشمل كلّ شرط زيادةٍ .40

ص: 259


1- التهذيب: ج 6/203 ح 11، وسائل الشيعة: ج 18/357 ح 23840

3 - وبالنهي عن الاشتراط إلّامثلها في صحيح محمّد بن قيس.

وفيه: أمّا الإجماع فغير ثابت، فإنّ المحكيّ عن الحِلّي(1) والمصنّف في «القواعد»(2)، والمحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(3): جواز اشتراط البيع بثمن المثل، بل محاباة أيضاً، وكذا جواز اشتراط الرّهن على القرض، بل على دَينٍ آخر.

وعن جماعةٍ : جواز اشتراط ضمانٍ أو كفالةٍ أو إشهادٍ.

وقد حَكى المحقّق الأردبيلي(4) عن جماعة: أنّه لابأس باشتراط الزيادة الحكميّة مطلقاً.

وعليه، فالاتّفاق غير ثابت، وعلى فرض الثبوت لعدم كونه تعبّديّاً، ولعلّه يكون إفتائهم به للوجوه الاُخر، فلا يعتمد عليه.

وأمّا خبر خالد فلضعف سنده(5)، وكونه في مقام بيان أنّ الزيادة المبطلة إنّما هي في صورة الاشتراط، وبدونه لا بأس به، فإطلاقه في مقام بيان غير هذا الحكم، ولذلك لا يصحّ الاستناد إليه.

وأمّا صحيح محمّد، فهو ظاهرٌ في المماثلة العينيّة.

وبالجملة: فالأظهر عدم البأس باشتراط الزيادة الحُكميّة، ولكن مخالفة الأساطين مشكلة، والاحتياط طريق النجاة.4.

ص: 260


1- كما حكاه السيّد اليزدي في تكملة العروة الوثقى: ج 1/4.
2- قواعد الأحكام: ج 2/103.
3- جامع المقاصد: ج 5/22.
4- مجمع الفائدة: ج 8/314-315.
5- خالد بن الحجّاج لم يوثّق، راجع رجال الطوسي: ص 198، ورجال النجاشي ترجمة يحيى بن الحجّاج: ص 1202 رقم 1204.

الجهة الثانية: حرمة الرّبا ثابتة بالكتاب(1)، والسُنّة المتواترة(2)، وإجماع المسلمين. بل ضرورة الدِّين، وقد مرَّ تفصيل القول فيه في كتاب البيع(3).

الجهة الثالثة: لا إشكال في فساد شرط الزيادة، وأنّه لا يمكلها، إنّما البحث:

عن أنّه هل يبطل القرض حتّى بالنسبة إلى ما عدا الزيادة ؟

أم هو صحيحٌ بالنسبة إلى غيرها - بمعنى أنّ العين المقترضة يملّكها المقترض ؟ - وجهان:

المشهور بين الأصحاب هو الأوّل، بل عن «المختلف»: (الإجماع على أنّه إذا أقرضه شيئاً وشرط عليه أنْ يردّ خيراً ممّا اقترض، كان حراماً، وبطل القرض)(4)، وهو الأظهر:

لا لما قيل من أنّ الرّبا المنهيّ عنه هو القرض المشتمل على الزيادة، فإنّ الرّبا هي الزيادة لغةً (5) وعرفاً.

ولا لأنّ الشرط الفاسد مفسدٌ، فإنّه يدفعه ما تقدّم في هذا الشرح(6) من عدم مفسديّته.

ولا للروايات الواردة في المقام، مثل:

1 - ما روي أنّه عليه السلام قال: «إنّ كلّ قرضٍ يجرّ منفعةً فهو فاسد»(7).3.

ص: 261


1- سورة البقرة: الآية 275 و 276 و 278. سورة آل عمران: الآية 131.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 18 كتاب التجارة أبواب الرّبا / ص 117-163.
3- فقه الصادق: ج 26/325.
4- مختلف الشيعة: ج 5/391.
5- النهاية في غريب الحديث: ج 2/191-192، لسان العرب: ج 14/304 مادّة (ربا).
6- فقه الصادق: ج 26/268.
7- الكافي: ج 5/255 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/354 ح 23833.

وما رواه «دعائم الإسلام» عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «كلّ قرضٍ يجرّ المنفعة فهو ربا»(1).

والنبويّ : «كلّ قرضٍ يجرّ المنفعة فهو حرام»(2).

وغيرها من الأخبار والنصوص الكثيرة التي دلّت على أنّ خير القرض ما جرَّ نفعاً»(3)، مثل خبر محمّد بن مسلم، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ من عندنا يروون أنّ كلّ قرض يجرّ منفعة فهو فاسد؟

فقال: عليه السلام أوليسَ خير القرض ما جَرّ منفعة»(4).

لكن لا اعتبار بجميعها لأنّ الأوّل والثالث من غير طرقنا، والثالث مرسل، فلا يعتمد على شيءٍ من تلكم الأخبار.

ولا لقوله عليه السلام في صحيح محمّد: «ولا يشترط إلّامثلها» فإنّ متعلّق النهي فيه هو الشرط لا الفرض.

بل لقوله عليه السلام في خبر عليّ بن جعفر مشيراً إلى القرض مع الزيادة: «هذا الرّبا المحض»، وأيضاً لقوله عليه السلام في خبر خالد بن الحجّاج المتقدّم: «جاء الرّبا من قبل الشروط، وإنّما تفسده الشروط»(5).3.

ص: 262


1- دعائم الإسلام: ج 2/53 ح 140، مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/409 ح 15745.
2- الجامع الصغير: ج 2/284 ح 6336، وفيه: «فهو ربا» بدل «فهو حرام».
3- الكافي: ج 5/255 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/355 ح 23834.
4- الكافي: ج 5/255 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/354 ح 23833.
5- الكافي: ج 5/244 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/190 ح 23463.

فتوقّف صاحب «الحدائق» رحمه الله(1) في بطلان القرض، وإفتاء سيّد العروة(2) بعدم البطلان في غير محلّهما.

الجهة الرابعة: بناءً على المختار من بطلان القرض، فهل يجب رَدّ المال إلى صاحبه، أم يجوز إمساكه، بل التصرّف فيه ؟

وعلى التقديرين، هل يكون ضامناً له لو تلف أم لا؟.

أمّا الأوّل: فإنْ كان المقرِض المسلِّط للمقترض على ماله راضياً بالفعل في التصرّف في ماله، حتّى مع فساد القرض - كما لو علم بالفساد وسلّطه عليه كذلك - فلا إشكال في جواز التصرّف.

وإنْ لم يكن راضياً بالرضا الفعلي، ولكن كان راضياً بالرضا التقديري - بمعنى أنّه لو كان عالماً بالفساد، وأنّ المال باقٍ في ملكه كان راضياً بالتصرّف فيه - جاز التصرّف، بناءً على كفاية الرّضا التقديري في حليّة التصرّف، وإلّا فلا يجوز، لما دلّ على عدم جواز التصرّف في مال الغير إلّاعن طيب نفسه(3).

ودعوى: أنّ فساد القرض لا يوجبُ زوال الرّضا بالتصرّف الذي كان في ضمن العقد، لأنّ الجنس لا يتقوّم بفصلٍ خاص.

مندفعة أوّلاً: بأنّ الرّضا من قبيل ما يكون ما به اشتراكه عين ما به امتيازه، فإذا لم يترتّب على الرّضا الموجود في ضمن المعاملة أثر، والمفروض أنّه ليس هناك رضا آخر، فلا مورد للقول بالجواز.9.

ص: 263


1- الحدائق الناضرة: ج 20/117-118.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 1/12.
3- من لايحضره الفقيه: ج 4/92 ح 5151، وسائل الشيعة: ج 5/120 ح 6089.

وثانياً: إنّ الرّضا معلّقٌ على الشرط، والمشروط ينتفي بانتفاء شرطه.

وأمّا الثاني: فالأظهر هو الضمان بالتلف، لقاعدة: (ما يُضمن بصحيحة يُضمن بفاسده) وأولى بذلك الضمان مع الإتلاف، ولا فرق بين علم المقرض بالفساد وعدمه.

فإنْ قيل: إنّ الدافع ماله العالم بفساد القرض، لا محالة يكون دفعه تسلّطاًمجانيّاً، وأمانة مالكيّة، ويكون مُقْدِماً على هتك حرمة ماله، فلا ضمان ثابت له حينئذٍ.

قلنا: إنّه يكون الدفع بعنوان الاستحقاق الذي بنى عليه تشريعاً، وبعبارة اُخرى بعد تصوير ذلك يكون هذا هو محلّ البحث.

وأمّا إذا سلّطه مجّاناً، فلا كلام في عدم الضمان، وتسليط الدافع العالم لا يجعلها أمانة مالكيّة، لأنّه دفعه على أنّه ملك المدفوع إليه، ولم يُقدم على هتك حرمة ماله، بل أقدم على التضمين، وكذا الآخذ.

وعليه، فالأظهر هو الضمان بالإتلاف والتلف بالنسبة إلى المال والزيادة.

هذا، ولكن المنسوب(1) إلى المشهور إطلاق القول بكفاية رَدّ الزائد، من غير فرقٍ بين صورة وجود المال وبين تلفه، بل نفى بعضهم(2) عنه الخلاف فيه، بل عن المقداد(3)، والكركي(4)، الإجماع عليه، واستدلّ له:

1 - بالإجماع.

2 - وبالآية الكريمة: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ4.

ص: 264


1- راجع تكملة العروة الوثقى: ج 1 12.
2- حكى نفي الخلاف عن البعض السيّد اليزدي في تكملة العروة: ج 1 12.
3- كما حكاه السيّد اليزدي في تكملة العروة: ج 1 12.
4- راجع جامع المقاصد: ج 7 264.

ويجوز قبولها من غير شرط

أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ) (1) .

وقد مرّ الكلام فيه في كتاب البيع(2)، وعرفت عدم تماميّته.

هذا كلّه مع اشتراط الزيادة.

تبرّع المقترض بالزيادة

قال المصنّف رحمه الله: (و) أمّا بدون اشتراط الزيادة، فالزيادة التي يحرم اشتراطها في القرض (يجوز قبولها من غير شرط) بلا خلافٍ أجده كما في «الجواهر»(3).

أقول: يشهد به: - مضافاً إلى النصوص المتقدّمة - نصوص اُخرى :

منها: خبر إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «يكون له مع الرّجل مال قرضاً، فيعطيه الشيء من ربحه مخافة أن يقطع ذلك عنه، فيأخذ ماله من غير أنْ يكون شرط عليه ؟

قال عليه السلام: لا بأس بذلك ما لم يكن شَرَط»(4).

ومنها: خبر أبي الربيع، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجل أقرض رجلاً دراهم، فردَّ عليه أجود منها بطيبة نفسه، وقد علم المستقرض والقارض أنّه إنّما أقرضه ليعطيه أجود منها؟

ص: 265


1- سورة البقرة: الآية 278-279.
2- فقه الصادق: ج 24/285.
3- جواهر الكلام: ج 25/7.
4- الكافي: ج 5/103 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/354 ح 23832.

قال عليه السلام: لا بأس إذا طابت نفس المستقرض»(1).

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن الرّجل يقترض من الرّجل الدّراهم فيردّ عليه المثقال، ويستقرض المثقال فيردّ عليه الدّراهم ؟

فقال عليه السلام: إذا لم يكن شَرَط فلا بأس، ذلك هو الفضل، إنّ أبي عليه السلام كان يستقرض الدّراهم الفسولة(2) فيدخل عليه الدّراهم الجياد الجلال فيقول: يابُنيّ ردّها على الذي استقرضتها منه، فأقول: يا أبة إنّ دراهمه كانت فسولة، وهذه خيرٌ منها، فيقول: يا بُنيّ هذا هو الفضل فاعطه إيّاها»(3).

وفي «الجواهر»: (وكأنّه أشار إلى قوله تعالى : (وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) (4) فيكون هو أيضاً دليلاً آخر على المطلوب»(5).

إلى غير تلكم من النصوص.

أقول: وربما يتوهّم معارضة جملة من النصوص لها:

منها: صحيح يعقوب بن شعيب، عن مولانا الصادق عليه السلام، في حديث:

«عن الرّجل يأتي حريفه وخليطه فيستقرض منه الدنانير فيقرضه، ولولا أن يخالطه ويحارفه ويصيب عليه لم يقرضه ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان معروفاً بينهما فلا بأس، وإنْ كان إنّما يقرضه من أجل أنّه8.

ص: 266


1- الكافي: ج 5/253 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/192 ح 23466.
2- الفسولة: الرديئة.
3- الكافي: ج 5/254 ح 6، وسائل الشيعة: ج 18/193 ح 23469.
4- سورة البقرة: الآية 237.
5- جواهر الكلام: ج 25/8.

يصيب عليه فلا يصلح»(1).

فقد حَمَله الشيخ رحمه الله تارةً على الكراهة، واُخرى على الشرط.

وفي «الحدائق»: (والأقربُ عندي حمله على التقيّة)(2).

أقول: الحقّ أنّه لا ظهور له في عدم الجواز، فالمتيقّن منه هو الكراهة، سيّما بعد ملاحظة النصوص المتقدّمة، ومع إمكان الجمع العرفي لا مجال لحمله على التقيّة، وحمله على صورة الاشتراط خلاف ظاهرة.

ومنها: خبر غياث، عنه عليه السلام: «إنّ رجلاً أتى عليّاً عليه السلام فقال: إنّ لي على رجلٍ دَيناً، فأهدى إليّ هديّة ؟

قال عليه السلام: احسبه من دينك عليه»(3).

فحمله الشيخ(4) رحمه الله على الهديّة غير المعتادة أو المشترطة، والأولى حمله على الأولويّة جمعاً، وموثّق إسحاق(5) شاهدٌ على الجمع المذكور.

ومنها: خبر هذيل بن أبي حيّان أخي جعفر بن حيّان الصيرفي، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي دفعتُ إلى أخي جعفر مالاً، فهو يعطيني ما أنفقه وأحجّ به وأتصدّق، وقد سألتُ من قبلنا فذكروا أنّ ذلك فاسدٌ لا يحلّ ، وأنا أحبّ أن أنتهي إلى قولك ؟2.

ص: 267


1- التهذيب: ج 6/204 ح 16، وسائل الشيعة: ج 18/356 ح 23838.
2- الحدائق الناضرة: ج 20/114.
3- الكافي: ج 5/103 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/352 ح 23830.
4- الاستبصار: ج 3/9 ذيل حديث 3.
5- الكافي: ج 5/103 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/354 ح 23832.

فقال عليه السلام لي: أكانَ يصلك قبل أنْ تدفع إليه مالك ؟ قلت: نعم.

قال عليه السلام: خُذ ما يعطيك، فكُل منه واشرب، وحجّ وتصدّق، فإذا قَدِمت العراق فقُل جعفر بن محمّد أفتاني بهذا»(1).

فإنّ ظاهره تخصيص الجواز بما إذا كان يصله سابقاً قبل دفع ماله إليه، ومفهومه عدم الجواز لو كان بعد دفع المال، وليس ذاك إلّامن حيث ترتّب النفع على دفع المال، ولكنّه لو تمّ له المفهوم يحمل على الكراهة.

وقد يقال: إنّ البناء على الكراهة يُنافي مع جملةٍ من النصوص الظاهرة في الاستحباب، مثل:

1 - قولهم عليهم السلام: «خير القرض ما جرَّ المنفعة»(2).

2 - وما روي أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله: «اقترض بكراً فردَّ جملاً جبّاراً رباعيّاً، وقال: إنّ خير الناس أحسنهم قضاءً »(3).

3 - وصحيح عبد الرحمن بن الحجّاج المتقدّم.

ولذلك صرّح الشهيد الثاني رحمه الله(4) بعدم الكراهة.

وقد يُجمع بين النصوص بحمل ما دلّ على عدم الكراهة، على ما إذا لم يكن من نيتهما ذلك، أو لم يكن من نيّة المقترض خاصّة - وهو المحكيّ عن الشهيد رحمه الله في «الدروس»(5) - ولعلّه خير ما ذكر في مقام الجمع، واللّه العالم.9.

ص: 268


1- الكافي: ج 5/103 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/353 ح 23831.
2- وسائل الشيعة: ج 18 باب 19 من أبواب الدَّين والقرض / ص 356 ح 23837.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/104 (ط. ق).
4- مسالك الأفهام: ج 3/444.
5- الدروس: ج 3/319.

ولو شرط موضع التسليم لزم،

اشتراط موضع التسليم

أقول: صرّح جماعة منهم المصنّف رحمه الله هنا (و) في كتابه «القواعد»(1)، بأنّه (لو شرط موضع التسليم) صَحّ الشرط و (لزم):

1 - لخبر يعقوب بن شعيب، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: يسلف الرّجل الوَرِق على أن ينقدها إيّاه بأرضٍ اُخرى ، ويشترط عليه ذلك ؟ قال عليه السلام: لابأس»(2).

2 - وخبر إسماعيل بن جابر، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: يدفع إليّ الرّجل الدّراهم، فأشترط عليه أنْ يدفعها بأرضٍ اُخرى سوداً بوزنها، واشترط ذلك عليه ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(3).

3 - وخبر الكناني، عن الصادق عليه السلام: «في الرّجل يبعث بمالٍ إلى أرضٍ ، فقال للّذي يريد أن يبعث به: اقرضنيه وأنا اُوفيك إذا قَدِمتُ الأرض ؟ قال عليه السلام: لابأس»(4).

ونحوها غيرها.

ولكن قد يقال: إنّ خبر الكناني لا ظهور له في اشتراط ذلك في ضمن القرض، فغايته الإطلاق.

ص: 269


1- قواعد الأحكام: ج 2/105.
2- الكافي: ج 5/255 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/196 ح 23475.
3- تهذيب الأحكام: ج 7/110 ح 79، وسائل الشيعة: ج 18/197 ح 23479.
4- تهذيب الأحكام: ج 6/203 ح 12، وسائل الشيعة: ج 18/196 ح 23476.

وأمّا الأوّلان فلا ظهور لهما في خصوص القرض، فهما أيضاً بإطلاقهما شاملان للقرض.

فحينئذٍ، إنْ كان الشرط لمصلحة المقرض، يقع التعارض بينها وبين ما تقدّم من بطلان القرض مع الشرط، والنسبة عموم من وجه.

أقول: الظاهرهو تقديم هذه النصوص، لفتوى من تعرّض للمسألة من الأصحاب.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ المرجّح هو الشهرة لا فتوى خصوص من تعرّض لها من الأصحاب، فإنْ لم يحرز الشهرة يكون المرجع الثاني، وهو صفات الراوي، وهي تقتضي تقديم أدلّة البطلان، وعليه فالمسألة مشكلة.

فما عن «جامع المقاصد» من: (احتمال الفساد، مع كون المصلحة للمقرض لجرّ النفع، ناسباً له إلى تصريح الشهيد به في بعض فوائده)(1)، متينٌ ، وإنْ كان ما ذكره في مقام ردّه بأنّ (الممنوع منه الزيادة في مال القرض عيناً أو صفةً ، وليس هذا واحداً منهما)، قد عرفت في أوّل هذه المسألة فساده.

اشتراط الزيادة للمقترض

المسألة الرابعة: لو كان الشرط نفعاً للمستقرض دون المقرض، كما إذا اشترط إعطاء الدّراهم المكسورة عوض الصحاح، أو اشترط عليه أنْ يقرضه شيئاً آخر، أو نحو ذلك، جاز كما هو المشهور بين الأصحاب، بل لم ينقل الخلاف إلّاما عن الشهيد في «الدروس»(2) من احتمال المنع في الثاني، مع فرض النفع له، كما إذا كان

ص: 270


1- جامع المقاصد: ج 5/33.
2- الدروس: ج 3/319.

الزمان زمان نهب أو غرق.

ومستند الحكم إطلاقات أدلّة القرض، ودليل وجوب الوفاء بالشرط، بعد اختصاص دليل الرّبا بالشرط للمقرض.

وأمّا ما احتمله الشهيد رحمه الله فتدفعه إطلاقات الأدلّة بعد الشكّ في شمول أدلّة المنع له، كما لا يخفى .

أقول: بقي في المقام أمران:

الأمر الأوّل: إذا رَدَّ المقترض المال مع الزيادة تبرّعاً، إمّا زيادة حكميّة أو عينيّة:

فهل يجب القبول، كما عن المصنّف رحمه الله(1) في الزيادة الحكميّة، وتبعه المحقّق الأردبيلي رحمه الله(2)، لأصالة براءة ذمّة المقترض، ولأنّه يندرج تحت مثل المال وإنْ تضمّن زيادة، ولظهور النصوص في أنّ ذلك وفاء وكان هو أحسن أفراده ؟

أم لا يجب القبول، لأنّه ليس في النصوص إلّاجواز القبول، وهو أعمّ من الوجوب، ولكراهة أخذ الزيادة للمقترض و إنْكانت صفيّة، وهي لاتجامع الوجوب ؟

وجهان، أظهرهما الثاني.

الأمر الثاني: إذا كانت الزيادة عينيّة، كما لو دفع اثني عشر مَن عليه عشرة:

فهل المجموع وفاءٌ بناءً على أنّه معاوضة عمّا في الذمّة، غايته كونه متفاضلاً وهو جائزٌ بالشرط، وهو عدم الشرط؟

أو يكون الزائد بمنزلة الهبة، فيلزمه حكمها من جواز الرجوع فيه على بعض7.

ص: 271


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/4 الطبع القديم.
2- مجمع الفائدة: ج 9/67.

الوجوه ؟ احتمالان:

اعترف الشهيد الثاني(1) بعدم الوقوف فيه على شيء، ولكنّه استوجّه الثاني، خصوصاً مع حصول الشكّ في انتقال الملك، نظراً إلى أنّ الثابت إنّما هو مقدار الحقّ ، فالزائد تبرّع خالص وإحسانٌ محض، وعطيّة منفردة.

قال صاحب «الجواهر»: (لكن يُشكل مع عدم تعيين الوفاء منها، كما أنّه يُشكل جعله من المعاوضة عمّا في الذمّة، بناءً على عموم الرّبا، فلا ريب أنّ الأحوط والأقوى في الرّبا تعيين الوفاء، ثمّ هبة الزائد)(2). انتهى .

وفيه: الظاهر عدم اختصاص ربا المعاملة بالبيع، وشموله لمطلق المعاوضة، ولكن وفاء الدين ليس من المعاوضات، بل هو من قبيل التعارض، إذا لم يكن بعنوان المعاوضة من صلحٍ أو غيره، بل كان بعنوان الوفاء بالمجموع.

وشمول أخبار الرّبا للتعارض ممنوعٌ ، بل قد يقال:

إنّ قوله عليه السلام: «خير القرض ما جَرَّ نفعاً» الشامل للزيادة العينيّة، يدلّ على الجواز.

وكذلك حَسَن الحلبي المتقدّم:

«فيمن يستقرض الدّراهم البيض عدداً، ثمّ يعطى سوداً، وقد عرف أنّها أثقل ممّا أخذ.

قال عليه السلام: لا بأس إذا لم يكن شرط، ولو وهبها كملاً كان أصلح».

وخبر خالد المتقدّم.4.

ص: 272


1- مسالك الأفهام: ج 3/445.
2- جواهر الكلام: ج 25/14.

أقول: ولكنّه مع ذلك كلّه في النفس شيءٌ ، لدلالة بعض النصوص على كونه رباً:

منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «وسُئل عن الرّجل يشتري الحنطة، ولا يجد عند صاحبها إلّاشعيراً، أيصلح له أنْ يأخذ اثنين بواحد؟

قال عليه السلام: لا، إنّما أصلهما واحد»(1).

ومنها: صحيح هشام، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يبيع الرّجل الطعام الأكرار فلا يكون عنده ما يتمّ له ما باعه، فيقول له: خُذ منّي مكان كلّ قفيز حنطةٍ قفيزين من شعير حتّى تستوفي ما نقص من الكيل ؟

قال عليه السلام: لا يصلح»(2).

ونحوهما غيرهما.

اللّهُمَّ إلّاأن يُحمل هذه النصوص على المعاوضة والمبادلة لا الوفاء خاصّة.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا مانع من أخذ المجموع وفاءً ، وإنْ كان الأحوط إعطاء الزائد هبة.

***6.

ص: 273


1- الكافي: ج 5/187 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/138 ح 23329.
2- الكافي: ج 5/187 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/137 ح 23326.

وكلّ ما ينضبط وصفه وقدره صَحّ قرضه،

ضابط ما يصلح اقراضه

الموضع الثاني: فيما يصحّ اقرضه.

ففي المتن وعن المحقّق(1): (وكلّ ما ينضبط وصفه وقدره صَحّ قرضه). وهذا بالنسبة إلى الإثبات، أي صحّة قرض مضبوط الوصف والقدر ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف، لإطلاق الأدلّة.

إنّما الكلام في طرف النفي، وهو أنّ كلّ ما لا يضبط وصفه ولا قدره لا يجوز قرضه، فقد استدلّ لذلك:

تارةً : بالإجماع.

واُخرى : بأنّ المعلوم من مذاق الشارع أنّه لم يُشرّع معاملة موقوفة على التراضى مؤدّية إلى التنازع، ضرورة أنّ الأصل في مشروعيّة العقود قطع النزاع.

وثالثة: بعموم النهي عن الغرر(2).

أمّا الأوّل: فغير ثابتٍ ، كيف ولم يتعرّض جمعٌ من الأصحاب كبني زُهرة وحمزة وإدريس وغيرهم له، وظاهر جماعة(3) عدم اعتبار ذلك.

وأمّا الثاني: فيرده أنّ ما ذكر ليس موجباً للقطع بالحكم الشرعي، والظنّ لايُغني من الحقّ شيئاً.

ص: 274


1- شرائع الإسلام: ج 2/324.
2- تذكرة الفقهاء: ج 1/466 الطبع القديم.
3- كابن إدريس في السرائر: ج 2/60.

وذو المثل يثبتُ في الذمّة مثله، وغيره قيمته

وأمّا الثالث: ففيه أنّه لاغرر فيه بعد كون الثابت في الذمّة مثله أو قيمته بلا زيادة ونقيصة.

وعليه، فالأقوى عدم اعتبار ذلك، فيجوز اقتراض المجهول وصفاً وقدراً، ثمّ تعيينه مقدّمةً للوفاء.

ويؤيّده ما ذكرنا من النصوص(1) الدالّة على جواز اقتراض الخُبز والجوز عدداً مع عدم العلم بوزنه.

ثمّ إنّه لا خلاف ولا إشكال في أنّه يجوز اقتراض المثلي، بل عليه الإجماع(2)، ونصوص اقتراض الخُبز والجوز(3) شاهدة، وقد مرّ في كتاب الغصب(4) ضابط المثلي والقيمي.

(و) إذا تحقّق القرض، ف (ذو المثل يثبتُ في الذمّة مثله) بلا خلافٍ ، (و) أمّا (غيره) فالمشهور على أنّه يثبت في الذمّة (قيمته).

وفي «الشرائع»: (ولو قيل يثبت مثله أيضاً كان حسناً)(5)، وظاهر كلامه اختياره.

واعترف الشهيد الثاني رحمه الله بأنّه: (لا قائل به من أصحابنا)(6).8.

ص: 275


1- وسائل الشيعة: ج 18 باب 21 من أبواب الدين والقرض / ص 361.
2- الدروس: ج 3/321.
3- وسائل الشيعة: ج 18 باب 21 من أبواب الدين والقرض / ص 361.
4- تقدّم ذلك في الصفحة 141 في الفصل العاشر من هذا الجزء.
5- شرائع الإسلام: ج 2/324.
6- مسالك الأفهام: ج 3/448.

وفي «التذكرة» اختيار قولٍ ثالث(1) وهو: (أنّ ما يصحّ السّلف فيه كالحيوان والثياب ضمانه يكون بالمثل، وضمان ما ليس كذلك بالقيمة).

أقول: الظاهر أنّه لا ريب في أنّ القرض من المعاملات العقلائيّة المعروفة المعلومة، والشارع الأقدس لم يتصرّف فيه، وإنّما اعتبر فيه قيوداً، وعليه فاذا راجعنا أهل العرف نراهم يرون القرض قسماً من الضمانات، وإنْ توقّف على التراضي، وعليه فجميع ما ذكرناه في كتاب الغصب في ضمان المغصوب(2) جارٍ هنا طابق النعل بالنعل، وإنّما الفرق بينه وبين سائر الضمانات تمليك الخصوصيّات الشخصيّة في باب القرض مجّاناً، وهذا لا يوجب الفرق بينه وبين سائر الضمانات في أحكامها، وإنّما يوجب الفرق في أنّه في المثل.

وعليه، فما أفاده المحقّق رحمه الله من كون المثل في العهدة مطلقاً هو الأظهر، ولكن الخروج عن عهدة ذلك في القيميّات بالقيمة، وفي المثليّات بالمثل كسائر الموارد.

أقول: وأمّا رواية عائشة: «ما رأيتُ صانعاً مثل حفصة، صَنَعت طعاماً فبعثت به إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فأخذ في الأكل فكُسرت الإناء.

فقلت: يا رسول اللّه ما كفّارة ما صنعتَ؟ فقال: إناء مثل الإناء، وطعامٌ مثل الطعام»(3).

وخبر أنس: «إنّ امرأة كسرتْ قصعةً اُخرى ، فدفع النبيّ صلى الله عليه و آله قصعة الكاسرة إلى صاحبه المكسورة»(4).).

ص: 276


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/383 ط حجريّة.
2- تقدّم ذلك في الصفحة 141 في الفصل العاشر من هذا الجزء. (3و4) نقلها العلّامة في تذكرة الفقهاء: ج 2/383، (ط. ق).

وقت التسليم

فهما ضعيفان سنداً، وواردان في مطلق الضمان دون خصوص القرض، فضلاً عن أنّهما متضمّنان لقضيّتين شخصيّتين، فلعلّه كان الغريم راضياً بذلك.

كما أنّ ما استدلّ به المصنّف في «التذكرة»:

من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله استقرض بِكراً ورَدّ بازلاً.

وأنّه صلى الله عليه و آله استقرضَ بِكراً فأمر بردّ مثله(1).

لعدم روايتهما من طرقنا، ولا من طريقٍ موثّق لا يعتني به، أضف إليه أنّهما أيضاً حكاية فعل.

فإذاً ليس في المقام رواية تشهد بخلاف ما تقتضيه قواعدباب الضمان، واللّه العالم.

وبالجملة: ممّا ذكرناه يظهر أنّ الميزان في القيمي هو القيمة (وقت التسليم) كما في سائر الموارد.

***).

ص: 277


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/5، (ط. ق).

القرض يُملك بالقبض

الموضع الثالث: في الأحكام:

أقول: وفيه مسائل:

المسألة الأُولى: المشهور بين الأصحاب: أنّ المستقرض يملك القرض بالقبض، وظاهر «التذكرة»(1) الإجماع عليه، ولم يُنقل الخلاف إلّاما نقله الشهيد رحمه الله(2) في بعض حواشيه عن الشيخ رحمه الله من أنّه قال: (يُملك بالتصرّف).

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ التصرّف فرع الملك وتابعٌ له، فيمتنع كونه شرطاً فيه وإلّا لزم الدور.

وبتعبير آخر: إنّ التصرّف فيه لا يجوز حتّى يصير ملكاً، لقُبح التصرّف في ملك الغير، فلو لم يملك إلّابالتصرّف، لزم أن لا يصير ملكاً له حتّى يتصرّف فيه، فيلزم توقّف التصرّف على الملك، والملك على التصرّف.

2 - وبأنّه يجوز جميع التصرّفات فيه حتّى المتوقّفة على الملك.

وأجاب عنهما في «المسالك»: (بمنع تبعيّة التصرّف للملك مطلقاً وتوقفه عليه، بل يكفي في جواز التصرّف إذن المالك فيه كسائر المأذونات، ولا شكّ أنّ الإذن للمقترض حاصلٌ من المالك للإيجاب بالقبول، فيكون ذلك سبباً تامّاً في جواز التصرّف، وناقصاً في إفادة الملك، وبالتصرّف يحصل تمام سبب الملك، ثم إنْ كان التصرّف غير ناقلٍ للملك فاكتفينا به، فالأمر واضح، وإنْ كان ناقلاً أفاد الضمني

ص: 278


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/6 الطبع القديم.
2- راجع البيان للشهيد الأوّل: ص 325.

قبل التصرّف بلحظةٍ يسيرة، بل نقل في «الدروس»(1) أنّ هذا القائل يجعل التصرّف كاشفاً عن سبق الملك مطلقاً)(2) انتهى .

وأورد عليه من تأخّر عنه: (بأنّ الإذن إنّما حصل من المالك بأن يكون مالكاً ويكون عليه العوض لا مطلقاً)(3).

أقول: تنقيح القول في القام يقتضي البحث في موردين:

الأوّل: في الدليل على أحد القولين.

الثاني: في المحذور العقلي الذي ذكروه.

أمّا المورد الأوّل: فلم يذكروا للقول الثاني وجهاً سوى أصالة عدم الملك إلى حال التصرّف، وهي تامة إذا لم يكن دليلٌ على حصول الملك بالعقد وبالقبض، وإلّا فلا محلّ لها.

ولكن مقتضى أدلّة إمضاء القرض، ومشروعيّة حصول الملك بالعقد كسائر المعاملات، فإنّ المُنشَأ به الملكيّة من حين العقد، والشارع الأقدس أمضى ذلك، فتوقّف الملكيّة على شيء آخر يحتاج إلى دليل، وقد ادّعوا الإجماع على اشتراط القبض فيه، فتقيّد به الأدلّة، فيبقى إطلاقها - بالإضافة إلى الاُمور الاُخر منها التصرّف - على حاله.

وتشهد به النصوص(4) الدالّة على أنّه يجب الزكاة على المقترض إنْ لم يتصرّف فيما اقترضه، معلّلة بأنّ المال في يده.2.

ص: 279


1- الدروس: ج 3/322.
2- مسالك الأفهام: ج 3/451.
3- مجمع الفائدة: ج 9/74.
4- وسائل الشيعة: ج 9 باب 7 من أبواب من تجب عليه الزكاة / ص 100-102.

ولا يجبُ إعادة العين بدون اختيار المقترض

وعليه، فالأظهر بحسب الأدلّة حصول الملك بالعقد والقبض، وعدم توقّفه على التصرّف.

وأمّا المورد الثاني: فالمحذور المذكور لتوقّف الملك على التصرّف، يندفع بوجهين:

أحدهما: أنّ مقتضى الجمع بين دليل توقّف بعض التصرّفات على الملك، ودليل جواز التصرّف المطلق - وهو الإجماع والضرورة، واستصحاب بقاء الملك إلى آن قبل التصرّف - هو حصول الملك بعد إرادة التصرّف، ويكون كتصرّف ذي الخيار والواهب فيما انتقل عنهما بالتصرّف المتوقّف على الملك.

ثانيهما: أنّ لهذا القائل أن يلتزم بأنّ السبب للملكيّة هو العقد، وإنّما يكون التصرّف شرطا للملكيّة، نظير القبض الذي هو شرطٌ لحصولها في الصرف، فيكون العقد سبباً تامّاً لجواز التصرّف وناقصا للملك.

فإنْ قيل: إنّه يلزم من ذلك عدم تبعيّة العقود للمقصود، إذ المقصود حصول الملك، والواقع جواز التصرّف ؟!

قلنا: إنّ ما قُصد يقع غايته مشروطاً بشرطٍ، كما في غير المقام ممّا يكون حصول الملك مشروطا بشرط من القبض وغيره، وأمّا وقوع ما لم يُقصد - أي حكم الشارع بجواز التصرّف - فلا محذور فيه، ولا يكون منافياً لشيءٍ من القواعد.

عدم جواز رجوع المُقرِض في العين المقترضة

المسألة الثانية: (و) المشهور بين الأصحاب أنّه (لا يجبُ ) على المقترض إعادة العين إذا طالبها بعد القرض وحصول الملك، بل له الامتناع عنها، ولا تعاد العين (بدون اختيار المقترض).

ص: 280

قال الشيخ قدس سره: (وأمّا المقرض فعندنا أنّ له الرجوع فيه)(1) وإنْ كره المُقترض.

يشهد للأوّل: ما دلّ على اللّزوم في كلّ عقدٍ من الأصل والكتاب(2).

أقول: واستدلّ للثاني:

1 - بالإجماع على كون القرض من العقود الجائزة.

2 - وبأنّ المثل أو القيمة إنّما وجبا بدلاً عن العين لغلبة خروجها عن يد المقترض.

3 - وبأنّه إذا استحقّ المطالبة بالمثل أو القيمة، فبالعين بطريق أولى .

4 - وبأنّه لا يزد على الهبة.

وفيه: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لم يثبت الإجماع التعبّدي، مع أنّ كونه من قبيل الإجماع على القاعدة، ويكون الإجماع كاشفاً عن صدور الحكم عن المعصوم عليه السلام متعلّقاً بالعقد من حيث هو، فيجبُ متابعة هذا اللّفظ - أي كون عقد القرض جائزاً - فيكون لازمه ما أفاده صاحب «الحدائق»(3) رحمه الله تبعاً لغيره مصرّاً عليه، بأنّ معنى جواز العقد لا يلائم مع البناء على عدم جواز ارتجاع العين ممنوعٌ ، لإمكان أنْ يكون من قبيل الإجماع على الحكم في الموارد الخاصّة، يجمعها تفسير المجمعين لها بذلك العنوان.

وعلى هذا فيتمّ ما أفاده في «المسالك» و «الجواهر» من: (أنّ معنى جواز العقد أنّ لكلّ منهما فسخ المقصد المهمّ من القرض، وهو الإنظار الذي هو مبنى القرض7.

ص: 281


1- الخلاف: ج 3/177 مسألة 292.
2- سورة المائدة: الآية 1.
3- الحدائق: ج 20/127.

عرفاً غالباً»(1).

وأمّا الثاني: فلأنّ المثل أو القيمة إنّما وجبا بمقتضى العقد، وبعنوان البدليّة العقديّة عن العين، كوجوب العوض في البيع، وغيره لا بعنوان الغرامة.

وأمّا الثالث: فيظهر حكمه ممّا ذكر في الثاني، فإنّ استحقاق المطالبة بالمثل أو القيمة إنّما هو من جهة كونه بدلاً عن ماله، فلوكان مستحقّاً لمطالبة العين لزم الجمع بين العوض والمعوّض.

وأمّا الرابع: فلأنّ ثبوت الجواز في الهبة بدليل خاص لايقتضي ثبوته في القرض.

وبالجملة: الحقّ عدم ارتجاع العين المقترضة بدون رضا المقترض.

وأمّا الجواز بالمعنى المشار إليه - وهو جواز مطالبة المُقرِض البدل، وجواز أداء المقترض كلّ ما شاء - فالظاهر أنّه المشهور بين الأصحاب، وملخّص القول فيه إنّ محلّ الكلام ما لو شرط التأجيل في عقد القرض، أو كان الأجل مدلولاً عليه بنفس العقد ضمناً، وإلّا فالجواز من الواضحات.

أقول: ويشهد لعدم الجواز في الموردين عموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقد والشرط(2)، ولذا ذهب المحدّث الكاشاني(3) إلى اللّزوم مع شرط التأجيل، واحتمله في «المسالك»(4)، وقوّاه جمع من متأخّري المتأخّرين(5) وشدّدوا النكير على كون القرض من العقود الجائزة.4.

ص: 282


1- مسالك الأفهام: ج 3/453، جواهر الكلام: ج 25/28، والعبارة للأخير.
2- سورة المائدة: الآية 1، وسائل الشيعة: ج 18 باب 6 من أبواب الخيار ص 16-17.
3- مفاتيح الشرائع: ج 3/126 المفتاح 997.
4- مسالك الأفهام: ج 3/455.
5- كالمحقّق السبزواري في كفاية الأحكام: ص 103-104.

أقول: استدلّ للجواز بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «الجواهر»، قال: (والنصوص واضحة الدلالة عليه، ضرورة ظهورها في رجحان التأخير والإمهال والإنظار والترغيب في ذلك على وجهٍ صريح أو ظاهرٍ في الندب خصوصاً، مثل:

قوله صلى الله عليه و آله: «من أقرض أخاه المسلم كان له بكلّ درهمٍ وزن جبل أُحد من جبال رضوى وطور سَيناء من حسنات، وإنْ أرفق به في طلبه تعدّى به على الصراط كالبرق اللّامع بغير حسابٍ ولا عذاب»(1).

وقوله صلى الله عليه و آله: «من أقرض مؤمناً قرضاً حسناً ينظر ميسوره، كان ماله في زكاة، وكان هو في صلاةٍ من الملائكة حتّى يؤدّيه»(2).

وغيرهما ممّا هو كالصريح في جواز رجوعه ومطالبته أيّ وقتٍ شاء)(3).

وفيه: إنّ هذه الأخبار تتضمّن استحباب الإقراض مع المهلة، واستحباب الإرفاق في طلبه، ومطلوبيّة الإنظار إلى الميسور، وشيء من تلكم لا ينافي مع عدم جواز الرجوع قبل الأجل:

أمّا الأوّل: فلأنّ الاستحباب المزبور متعلّق بإيجاد القرض، وهذا لا ينافي لزومه بعد وجوده، وهل هو إلّاكاستحباب التجارة مع وجوب العمل بمقتضاها بعد تحقّقها.

وأمّا الثاني: فلأنّ الإرفاق إنّما هو عدم المطالبة في حالٍ يجوز له تلك، وأمّا1.

ص: 283


1- ثواب الأعمال: ص 288، وسائل الشيعة: ج 18/331 ح 23787.
2- ثواب الأعمال: ص 138، وسائل الشيعة: ج 18/330 ح 23785.
3- جواهر الكلام: ج 25/31.

عدمه مع عدم ثبوت حَقّ له فيها، فليس من الإرفاق، والكلام إنّما هو في ثبوت هذا الحقّ .

وأمّا الثالث: - فمضافاً إلى عدم ظهوره في الاستحباب - يجري فيه ما ذكرناه في الإرفاق، من أنّه يستحبّ الإنظار في المطالبة، أضف إلى ذلك أنّه ليس في شيء من النصوص سوى ترتّب الثواب على عدم المطالبة والإمهال، وهذا في نفسه وإنْ لم يستفد منه الوجوب، ولكن لا يكون ظاهراً في الاستحباب حتّى يعارض مع ما دلّ على اللّزوم، أضف إليه أنّه لو سُلّم دلالة النصوص على الاستحباب، فالنسبة بينها وبين أدلّة وجوب العقد والشرط عمومٌ من وجه، كما اعترف به قدس سره، ويتعيّن حينئذٍ تقديم دليل العقد والشرط لتقدّم الأدلّة الثانويّة على الأوّليّة، إمّا حكومةً ، أو من جهة التوفيق العرفي، أو لغير ذلك ممّا ذكر في محلّه، فلا مورد لما أفاده رحمه الله من تقديم هذه النصوص للشهرة وغيرها.

الوجه الثاني: ما في «الجواهر» أيضاً، من: «أنّه محسنٌ لا سبيل عليه»(1).

وفيه: إنّ الإحسان حكمه الأوّلي ما ذكر، ولكن لو انطبق عليه عنوانٌ آخر ملزمٍ يحكم به، وفي المقام مقتضى أدلّة لزوم العقد والشرط ذلك كما لا يخفى .

الوجه الثالث: ما في «الجواهر» أيضاً، قال: (وجوازه بهذا المعنى مسلّمٌ لا يكاد ينكره أحدٌ من الشيعة)(2).

وفيه: إنّ المسلّم هو الجواز مع عدم اشتراط التأجيل، وعدم بناء العقد على أجل معلوم، وسرّه حينئذٍ واضح، فإنّ ما في ذمّة المقترض مال المقرض، وليس ما1.

ص: 284


1- جواهر الكلام: ج 25/31.
2- جواهر الكلام: ج 25/31.

يقتضي التأخير، فله مطالبته كما للمقترض دفعه متى شاء، وأمّا في صورة اشتراط التأجيل وعدم حلول الأجل، فالإجماع غير ثابت.

وعليه، فالأظهر اللّزوم قبل حلول الأجل.

وأولى من ذلك ما لو اشتراط التأجيل له في عقدٍ لازمٍ آخر، وقال صاحب «المسالك»: (وقيل: لا يجبُ الوفاء به، بل يقلب العقد اللّازم جائزاً، بمعنى أنّ المشروط عليه لو أخلَّ بالشرط، تسلّط الآخر على فسخ العقد المشروط فيه، وجعلوا ذلك قاعدة كلّية، هي أنّ شرط الجائز في اللّازم يقلب اللّازم جائزاً، ومثله شرط اللّازم في اللّازم)(1) انتهى .

وعن «الدورس»: (الشرطفي اللّازم يجعله جائزاً، فكيف ينعكس الأمر؟!)(2) انتهى .

أقول: إنّ الشرط في ضمن العقد يجبُ الوفاء به بمقتضى أدلّة الشرط(3)، ومعنى وجوب الوفاء به في المقام، عدم جواز مطالبة القرض، وهو المراد من اللّزوم في المقام، وهذا لا ينافي مع أنّه لو أخلّ المشروط عليه بالشرط عصياناً، يثبت الخيار للمشروط له بالنسبة إلى العقد المشروط فيه، فأيّ محذورٍ في جعل الشرط عقد الجائز لازماً، وصيرورة تخلّفه سبباً لجواز لازمٍ آخر؟

وأيضاً: قد يستدلّ على اللّزوم في أصل المسألة بخبر الحسين بن سعيد:

«عن رجلٍ أقرض رجلاً دراهم إلى أجلٍ مسمّى، ثمّ مات المستقرض، أيحلّ مال القارض عند موت المستقرض منه، أو للورثة من الأجل ما للمستقرض في حياته ؟7.

ص: 285


1- مسالك الأفهام: ج 3/455-456.
2- الدروس: ج 3/324.
3- وسائل الشيعة: ج 18 باب 6 من أبواب الخيار ص 16-17.

ولا يتأجّل الحالّ

فقال عليه السلام: إذا مات فقد حَلّ مال القارض»(1).

بدعوى أنّه يدلّ على لزوم التأجيل في القرض من حيث التقرير والمفهوم.

ولكن يردّه: أنّ السؤال ليس عن الوجوب، بل عن الحلول بالموت وعدمه.

وربما يقال: إنّه يمكن أنْ يريد بالقرض الدين، أو القرض المشترط أجَله بعقدٍ لازم أو غير ذلك.

وعليه، فالعمدة ما قدّمناه.

تأجيل الدَّين الحالّ

المسألة الثالثة: (ولا يتأجّل الحالّ ) بلا خلافٍ فيه في الجملة.

أقول: وملخّص القول فيه أنّه:

تارةً : يشترط تأجيل الحالّ في ضمن عقد لازم، فالكلام فيه ما مرّ.

واُخرى : يؤجّله ابتداءً وبلا عوض، فهو لا يتأجّل لعدم ما يوجبه، فإنّ غايته كونه من الوعد غير لازم الوفاء.

وثالثة: يؤجَّل الحالّ أزيد منه، فالمشهور عدم جوازه، وعن «الحدائق»(2) نفي الخلاف فيه.

أقول: وتنقيح القول فيه يقتضى البحث في مقامين:

ص: 286


1- تهذيب الأحكام: ج 6/190 ح 34، وسائل الشيعة: ج 18/344 ح 23811.
2- لحدائق الناضرة: ج 20/134.

الأوّل: فيما تقتضيه القواعد.

الثاني: في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا المقام الأوّل: فإنّه يقع البحث في عدّة صور:

تارةً : يجعل الأجل في مقابل الزيادة باشتراطه بدواً أو في ضمن عقدٍ، أو المصالحة عليه، أو بيعه به.

واُخرى : يجعل المجموع المؤجّل في مقابل المجموع الحال، بحيث تكون المعاوضة بين المبلغ الذي يكون مديوناً به، وبين مجموع ما جعل مؤجّلاً.

وثالثة: يوقع الصلح على إبراء الحال ممّا في ذمّته بإزاء أزيد منه مؤجّلاً، فيكون المعوّض هو الإبراء.

أمّا الصورة الأُولى : فالظاهر أنّها بجيمع فروضها من الرّبا في القرض، لأنّ حقيقة الرّبا فيه راجعة إلى جعل الزيادة في مقابل إمهال المقرض وتأخيره المطالبة، من غير فرقٍ بين أنْ يكون ذلك في ابتداء القرض أو بعد مضيّ زمانٍ ، ومن غير فرق بين أنْ يكون ذلك بنحو الشرط وغيره.

وأمّا الصورة الثانية: فإنْ كان في ذمّته عروضاً كالحنطة، بطل ما يوقع عليه من البيع المزبور، أي بيعه بأزيد منه مؤجّلاً للرّبا في البيع.

وإنْ كان من النقدين بطل أيضاً، لأنّه لا يجوز بيع الصرف إلّايداً بيد.

وإنْكان من العروض غير الربوي، أو الأثمان غير النقدين، كالأوراق النقديّة، فبيعه بأزيد منه وإنْ كان لا إشكال فيه من حيث الرّبا - لعدم كون المبيع ربويّاً ولا قرض كي يجري الرِّبا فيه - إلّاأنّ ذلك من جهة كونه من بيع الدَّين بالدَّين لا يجوز.

ص: 287

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ ظاهر بيع الدين بالدين كون العوضين ديناً قبل العقد، ولا يشمل ما لو صار أحدهما - أو هما - ديناً بالعقد، كما في المقام، فإنّ الثمن يصير ديناً بالعقد، وتمام الكلام في ذلك في كتاب البيع(1).

وأمّا الصورة الثالثة: فالظاهر فيها الصحّة كما لا يخفى .

وأمّا المقام الثاني: فقد استدلّ الشيخ الأعظم رحمه الله(2) للبطلان بأُمور:

الأمر الأوّل: ما نقله عن «مجمع البيان» من الخبر الوارد لبيان مورد نزول الآية الشريفة، أي آية حرمة الرّبا(3)، بتقريب أنّه يدلّ على أنّ سبب نزولها في حرمة الرّبا الزيادة المفروضة، وهي ما جُعل في قبال تأجيل الدَّين الحالّ .

وفيه: أنّ ظاهره الصورة الأُولى ، ولا يشمل الصورتين الأخيرتين، سيّما الثانية منهما.

الأمر الثاني: صحيح الحلبي وابن مسلم، عن الإمامين الصادقين عليهما السلام أنّهما قالا: «في الرّجل يكون عليه الدَّين إلى أجل مسمّى ، فيأتيه غريمه، فيقول: أنقدني من الذي لي كذا وكذا وأضع لك بقيّته، أو يقول: أنقد لي بعضاً وأمدّ لك في الأجل فيما بقي عليك ؟

قال عليه السلام: لا أرى به بأساً ما لم يزدد على رأس ماله شيئاً، يقول اللّه تعالى :

(فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ) (4) »(3).

بدعوى أنّه علّل جواز التراضي على تأخير أجل البعض بنقد البعض، بعدم9.

ص: 288


1- راجع: المجلّد الحادى و العشرون من هذه المجموعة.
2- المكاسب: ج 6/221-223. (3و4) سورة البقرة: الآية 279.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/207 ح 6، وسائل الشيعة: ج 18/448 ح 24019.

الازدياد على رأس ماله، فيدلّ على أنّه لو زاد على رأس ماله لم يجز التراضي على التأخير.

وفيه: أنّ الظاهر من الحديث هو المعاملة على التأجيل نفسه، ولا يكون له نظرٌ إلى بيع الحالّ بالمؤجّل، أو إيقاع الصلح على إبراء الحال بأزيد منه مؤجّلاً.

الأمر الثالث: النصوص الواردة لتعليم طرق التحايل لجواز تأخير الدَّين بزيادةٍ ، باشتراط التأخير في ضمن معاوضة غير مقصودة للفرار من الحرام، فلو جاز التراضي على التأجيل بزيادةٍ ، لم يكن داعٍ إلى التوصّل بأمثال تلك الحيل، ومراده من النصوص موثّق محمّد بن إسحاق بن عمّار:

«قلت لأبي الحسن عليه السلام: يكون لي على الرّجل دراهم، فيقول: أخّرني وأنا اُربحك، فأبيعه جبّةً تقوّم عليَّ بألف درهم بعشرة الآف درهم - أو قال بعشرين ألفاً - وأؤخّره بالمال ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(1).

وموثّقة الآخر، عن الإمام الرّضا عليه السلام: «قلت له: الرّجل يكون له المال فدخل على صاحبه يبيعه لؤلؤة تسوى مائة درهم بألف درهم، ويؤخّر عنه المال إلى وقت ؟ قال عليه السلام: لا بأس، قد أمرني أبي ففعلت ذلك».

وزعم أنّه سأل أبا الحسن عليه السلام عنها، فقال عليه السلام مثل ذلك(2). نحوهما غيرهما.

وفيه: أنّه بعدما لا كلام في عدم جواز التأجيل بالزيادة، فإنّ الرّواة في هذه النصوص ذكروا وجوهاً للفرار من الحرام، والمعصوم عليه السلام نفي عنه البأس، وهذا لا يدلّ على أنّه لا طريق آخر ولو بنحو الصلح على إبراء الحال بأزيد منه مؤجّلاً.0.

ص: 289


1- تهذيب الأحكام: ج 7/52 ح 27، وسائل الشيعة: ج 18/55 ح 23128.
2- تهذيب الأحكام: ج 7/53 ح 28، وسائل الشيعة: ج 18/55 ح 23130.

ويصحّ تعجيل المؤجّل بإسقاط بعضه

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ أخذ الزيادة بإزاء التأجيل حرامٌ ، ولكن يمكن التخلّص عن الوقوع في الحرام بالطرق التالية:

1 - أن يصالح على إبراء الحال ممّا في ذمّته بإزاء أزيد منه مؤجّلاً، ليكون المعوّض هو الإبراء.

2 - أن يبيعه المجموع الحال بمجموع ما جُعل معوّضاً على إشكال فيه، من ناحية كونه بيع الدين بالدين.

3 - أن يبيعه المديون شيئاً بأضعاف قيمته ويشترط عليه أنْ يؤخّره المال إلى أجلٍ معيّن، وهو الذي تضمّنته النصوص.

4 - أن يهبه المدين مبلغاً ويشترط عليه أنْ لا يطالبه بالدين الحال إلى أجل معيّن، أو يشترط عليه تأجيل ذلك الدين بنحو شرط النتيجة، أو يشترط أن يؤجّله الدائن بنحو شرط السبب.

تعجيل الدين المؤجل

المسألة الرابعة: (ويصحّ تعجيل) الدين (المؤجّل بإسقاط بعضه) مع التراضي، بلا خلافٍ ولا إشكال، وقد مرّ الكلام فيه في النقد والنسيئة من كتاب البيع(1).

بل قيل: (إنّه يستظهر من النصوص الاكتفاء بالتراضي من غير حاجة إلى

ص: 290


1- فقه الصادق: ج 26/129.

الإبراء أو الصلح)(1):

منها: مرسل أبان، عمّن حدّثه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يكون له على الرّجل الدَّين، فيقول له قبل أنْ يحلّ الأجل: عجِّل لي النصف من حقّي على أن أضع عنك النصف، أيحلّ ذلك لواحد منهما؟ قال: نعم»(2).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن الرّجل يكون عليه دين إلى أجلٍ مسمّى، فيأتيه غريمه، فيقول له: انقدني كذا وكذا وأضع عنك بقيّته، أو يقول: انقدني بعضاً وأمدّ لك في الأجل فيما بقي ؟

قال عليه السلام: لا أرى بأساً ما لم يزد على رأس ماله شيئاً، الحديث»(3).

وفيه: كلامٌ قد مرَّ مستوفى.

قال صاحب «المسالك»: (كما يعتبر التراضي في إسقاط البعض، يعتبر في تعجيله بغير إسقاط، لأنّ الأجل أيضاً حَقّ لهما، لتعلّق غرض كلّ منهما به، فإنّ التعجيل قد لا يرضى به صاحب الحقّ ، لحصول ضرر الخوف ونحوه، وبالنسبة إلى الآخر واضح، لكن إسقاط الأجل يكفي فيه مجرّد الرّضا، أمّا إسقاط بعض الحقّ ، فيحتمل كونه كذلك، كما يقتضيه ظاهر إطلاقهم، ويكون الرّضا بالبعض قائماً مقام الإبراء، كما يظهر من تضاعيف كلامهم أنّه لا يختصّ بلفظ، وفي كتاب الجنايات يقع بلفظ العفو ونحوه، فيكون هذا منه، ويحتمل قويّاً توقّف البراءة على لفظٍ يدلّ عليه صريحاً كالبراءة والإسقاط والعفو والصلح لا مطلق الرّضا، لأصالة بقاء9.

ص: 291


1- جواهر الكلام: ج 25/36.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/206 ح 5، وسائل الشيعة: ج 18/449 ح 24020.
3- التهذيب: ج 6/207 ح 6، وسائل الشيعة: ج 18/448 ح 24019.

ولو غابَ المدين وانقطع خبره، وجبَ على المستدين نيّة القضاء، والوصيّة به عند الوفاة، فإنْ جهل خبره ومضت مدّة لا يعيش مثله إليها غالباً، سُلّم إلى ورثته، ومع فقدهم يتصدّق به عنه، والأولى أنّه للإمام.

الملك إلى أن يتحقّق المزيل شرعاً)(1).

وفيه: أنّ ما ذكره في إسقاط بعض الحقّ جار في إسقاط الأجل، ثمّ إنّ المتّجه هو الوجه الثاني لا للأصل خاصّة، بل لأنّ بناء العقلاء والشارع على أنْ لا عبرة بالرضا والاعتبار النفساني في العقود والإيقاعات مطلقاً ومنها ذلك، ولا ينافي ذلك ما أفادوه من عدم اختصاصه بلفظ ووقوعه بلفظ العفو ونحوه، فإنّ المعيار كون ما به يُنشَأ مبرزاً للمُنشَأ كما مرّ تفصيل القول في ذلك في كتاب البيع(2).

بيان الحكم عند غيبوبة صاحب الدين

المسألة الخامسة: (و) قد صرّح جملة من الأصحاب(3): بأنّه (لو غابَ المدين وانقطع خبره، وجبَ على المستدين نيّة القضاء، والوصيّة به عند الوفاة، فإنْ جَهل خبره ومضت مدّة لا يعيش مثله إليها غالباً، سُلّم إلى ورثته، ومع فقدهم يتصدّق به عنه، و) في المتن: (والأولى أنّه للإمام).

أقول: هاهنا فروع:

الفرع الأوّل: المشهور وجوب نيّة القضاء، وقد عرفت أنّها تجب، سواء كان

ص: 292


1- مسالك الأفهام: ج 3/456-457.
2- فقه الصادق: ج 22/236.
3- كالشهيد الأوّل في الدروس: ج 3/311-312.

ذو الحقّ غائباً أم كان حاضراً، ويدلّ عليه في خصوص الغائب، صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام:

«عن الرّجل يكون عليه الدين، لا يقدر على صاحبه، ولا على وليّ له، ولا يدري بأيّ أرضٍ هو؟

قال عليه السلام: لا جُناح عليه بعد أن يعلم اللّه منه أن نيّته الأداء»(1).

الفرع الثاني: أنّه يجبُ على المديون الوصيّة به عند الوفاة، والظاهر أنّه لاخلاف فيه، بل عن «النهاية»: (أوصى إلى من يثق به)(2)، وعن «الروضة»: (يجبُ الوصاية به إلى ثقةٍ ، لأنّه تسليطٌ على مال الغير، وإنْ قلنا بجواز الوصاية إلى غيره في الجملة)(3).

ويشهد به: - مضافاً إلى ما سمعت، وإلى وجوب رَدّ المال إلى صاحبه المنحصر طريقه في الوصيّة - خبر هشام بن سالم، قال:

«سأل خطّاب الأعور أبا إبراهيم عليه السلام وأنا جالس، فقال: إنّه كان عند أبي أجير يعمل عنده بالاُجرة ففقدناه، وبقي من أجره شيءٌ ، ولا يعرف له وارث ؟

قال عليه السلام: فاطلبوه، قال: قد طلبناه فلم نجده.

فقال: مساكين، وحرّك يده.

قال: فأعاد عليه، قال عليه السلام: اطلب واجهد، فإنْ قدرت عليه وإلّا فهو كسبيل مالك حتّى يجيء له طالبٌ ، فإنْ حَدَث بك حَدَثٌ فأوص به إنْ جاء لها طالب أن8.

ص: 293


1- تهذيب الأحكام: ج 6/188 ح 20، وسائل الشيعة: ج 18/362 ح 23853.
2- النهاية: ص 307.
3- الروضة البهيّة: ج 4/18.

يُدفع إليه»(1).

ونحوه غيره.

وقد صرّح جماعة منهم الشيخ(2) رحمه الله: بأنّه يجب أن يَعزل ماله عند أمارة الموت، قال الحِلّي رحمه الله: (وهذا غير واجبٍ - أعني عزل المال - بغير خلافٍ بين المسلمين، فضلاً عن طائفتنا)(3) انتهى .

ولكن قال صاحب «المسالك»: (وأمّا العزل عند الوفاة، فظاهر كلامهم، خصوصاً على ما يظهر من «المختلف»(4) أنّه لا خلاف فيه، وإلّا لأمكن تطرّق القول بعدم الوجوب لأصالة البراءة مع عدم النّص)(5) انتهى .

أقول: الأظهر عدم وجوبه للأصل.

وغاية ما قيل في وجه الوجوب: إنّه غاية ما يمكن، وأنّه أقرب إلى الوفاء، وأبعد عن تصرّف الغير.

ولكن كما أفاده المحقّق الأردبيلي رحمه الله: (تمسّك الأصحاب بمثل هذا مشكلٌ )(6)، والإجماع قد عرفت حاله، وعليه فالأظهر عدم الوجوب.

الفرع الثالث: المعروف أنّه مع اليأس عن الظفر بصاحبه يتصدّق به.6.

ص: 294


1- الكافي: ج 7/153 ح 1، وسائل الشيعة: ج 26/296 ح 33030.
2- النهاية: ص 307 قوله: (ومَنْ وجب عليه دين وغاب عنه صاحبه... وجبَ عليه أنْ ينوي قضاءه، ويعزل ماله من ملكه، فإن حضرته الوفاة أوصى..).
3- السرائر: ج 2/37.
4- مختلف الشيعة: ج 5/378.
5- مسالك الأفهام: ج 3/457.
6- مجمع الفائدة: ج 9/86.

ولو اقتسم الشريكان الدين لم يصحّ ،

أقول: والحقّ أنْ يقال إنّه:

تارةً : لا يعلم بموت صاحبه، ولكن يحصل له اليأس من الوصول إليه، فهو حينئذٍ من قبيل المال المجهول مالكه، وحكمه الصدقة تعيّناً، وقد مرّ في محلّه وجهه، كما مرّ أنّ ما يشهد بكونه للإمام ضعيف السند، وما استدلّ به لجواز التملّك مختصٌّ باللُّقطة، وما استدلّ به على الحفظ والإيصاء به، ما بين ضعيف السند وقاصر الدلالة.

واُخرى : يطمئن بموته، وحينئذٍ:

إن علم بوجود الوارث له، فإنْ عرفه يدفعه إليه، وإلّا فهو مجهول المالك.

وإنْ لم يعلم به، يستصحب عدم وجود الوارث، لا بهذا العنوان، بل بعنوان من هو قريبٌ منه، فيتحقّق موضوع «من مات ولا وارث له فماله للإمام» عليه السلام.

وبذلك ظهر ما في كلمات القوم في المقام.

قسمة الدين

المسألة السادسة: (ولو) كان لاثنين فصاعداً مالٌ في ذممٍ غيرهم، و (اقتسم الشريكان الدَّين، لم يصحّ ) عند المشهور نقلاً وتحصيلاً، بل عن الشيخ(1) وابن حمزة(2) الإجماع عليه.

ص: 295


1- الخلاف: ج 3/336-337 كتاب الشركة، مسألة 15.
2- راجع: الوسيلة ص 263، والغنية: ص 265.

وعن الحِلّي(1) والأردبيلي(2) الحكم بالصحّة.

أقول: الأقوى هو الأوّل، لأنّه بعدما مرّ من أنّ القسمة بنفسها معاملة مستقلّة عقلائيّة أمضاها الشارع الأقدس، فإنّ مقتضى القاعدة وإنْكان صحّة هذه القسمة، ولكن جملة من النصوص الخاصّة تدلّ على عدم الصحّة:

منها: صحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن رجلين كان لهما مالٌ بأيديهما، ومنه متفرّقٌ عنهما، فاقتسما بالسَّويّة ما كان في أيديهما، وما كان غائباً عنهما، فهلك نصيب أحدهما ممّا كان غائباً، واستوفى الآخر، عليه أن يردّ على صاحبه ؟

قال عليه السلام: نعم، ما يذهب بماله»(3).

ومنها: موثّق ابن سنان، عنه عليه السلام: «عن رجلين بينهما مالٌ منه دينٌ ومنه عين، فاقتسما العين والدين، فنوى الذي كان لأحدهما من الدين أو بعضه وخرج الذي للآخر، أيردّ على صاحبه ؟

قال عليه السلام: نعم، ما يذهب بما له»(4).

ومنها: خبر أبي حمزة، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجلين بينهما مالٌ منه بأيديهما، ومنه غائبٌ ، فاقتسما الذي بأيديهما، وأحال كلّ واحدٍ منهما من نصيبه الغائب، فاقتضى أحدهما ولم يقتض الآخر؟6.

ص: 296


1- السرائر: ج 2/263.
2- مجمع الفائدة: ج 9/93.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/207 ح 8، وسائل الشيعة: ج 18/370 ح 23872.
4- تهذيب الأحكام: ج 7/186 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/12 ح 24046.

قال عليه السلام: ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ما يذهب بماله»(1).

ونحوها غيرها.

أقول: ومن الغريب أنّ المحقّق الأردبيلي(2) قال: (الحكم مشهورٌ بين الأصحاب، ولا مستند لهم غير رواية غياث)(3)، ثمّ أخذ في تضعيفها، والاستدلال للصحّة بأنّها مقتضى القواعد، لتسلّط الناس على أموالهم، وأدلّة لزوم الشرط، وجواز الأكل مع التراضي، ونحو ذلك. وبعض ما أفاده في مقام الاستدل للصحّة وإنْ كان تامّاً في نفسه، إلّاأنّ بعضها الآخر لا يتمّ ، ولا يهمّنا البحث فيه بعد ورود النّص بالبطلان.

وأمّا ما أفاده: من أنّه (لا مستند لهم سوى خبر غياث، وهو ضعيف).

فيرده أوّلاً: ما عرفت من وجود روايات معتبرة اُخر.

وثانياً: أنّه مع الاعتراف بالشهرة، تكون هي جابرة لضعف السند، فلا ينبغي التوقّف في الحكم.

قال صاحب «المسالك»: (والحيلة في تصحيح ذلك أن يحيل كلّ منهما صاحبه بحصّته التي يريد إعطائها صاحبه، ويقبل الآخر بناءً على صحّة الحوالة ممّن ليس في ذمّته دين، فلو فُرض سُبقُ دينٍ له عليه، فلا إشكال في الصحّة، ولو اصطلحا على ما في الذّمم بعضها ببعض، فقد قرّب في «الدروس»(4) صحّته، وهو حسنٌ بناءً على4.

ص: 297


1- تهذيب الأحكام: ج 7/185 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/12 ح 24045.
2- مجمع الفائدة: ج 9/93.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/195 ح 55، وسائل الشيعة: ج 19/12 ح 24045.
4- الدروس: ج 3/314.

أصالته)(1) انتهى .

وفيه: يشهد لعدم جواز ما ذكره من الحيلة بالحوالة، خبر أبي حمزة(2)، ومثله خبرٌ آخر(3).

ويمكن أنْ يقال: إنّ الخبر ين شاهدان بما أشار إليه من عدم صحّة الحوالة ممّن ليس في ذمّته دين، وأمّا الحيلة بالصلح فلا إشكال فيها أصلاً، لأنّ النصوص مختصّة بالقسمة والحوالة ولا تشمل الصلح، بل ولا الهبة - معوّضةً كانت أم غير معوضة - ولا البيع - أي يبيع كلّ منهما ماله في ذمّة أحد المديونين بالشريك الآخر بما له في ذمّة المدين الآخر مع رعاية الشرائط.

نعم، في بيع الدين بالدين إشكالٌ على ما مرّ في المسألة السابقة.

فالمتحصّل: أنّ القسمة لا تصحّ ، ولكن يمكن التخلّص من المحذور بطرق.

وأمّا خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن رجلين اشتركا في السَّلَم أيصلح لهما أن يقتسما قبل أنْ يقبضا؟ قال عليه السلام: لا بأس»(4)، فقد حمله صاحب «الحدائق» على الجواز(5)، وقال عنه صاحب «الجواهر»: (ومن هنا حملوا خبر عليّ بن جعفر على إرادة بيان الجواز)(6).

ولكن ظاهر فتوى الأصحاب - بل صريحها - بطلان القسمة، وهذا لا يلائم8.

ص: 298


1- مسالك الأفهام: ج 3/461.
2- تهذيب الأحكام: ج 7/185 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/12 ح 24045.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/195 ح 55، وسائل الشيعة: ج 19/12 ح 24045.
4- قرب الاسناد: ص 113، وسائل الشيعة: ج 18/371 ح 23873.
5- الحدائق الناضرة: ج 20/172.
6- جواهر الكلام: ج 25/58.

مع الحمل على الجواز إنْ اُريد الجواز الوضعي.

وعليه، فالصحيح أنّه يطرح لمعارضته مع النصوص المتقدّمة و فتوى الأصحاب.

أقول: لا يخفى أنّ في المقام مسألة اُخرى خَلَطت بهذه المسألة في بعض الكلمات، وهي: أنّ الدين إذا كان لشخصين في ذمّة شخصٍ :

1 - فهل لكلّ واحدٍ منهما أخذ حقّه مستقلّاً بدون رضا الآخر، أو مع إذنه نظراً إلى أنّ كلّاً منهما دائنٌ مستقلّ؟

2 - أم لا يجوز لأنّ الدين ما لم يُقبض يكون مشتركاً بينهما، فكلّ جزءٍ ممّا يأخذه مشتركٌ بينه وبين صاحبه، فما لم يوكّله في أخذ حقّه أيضاً لا يتعيّن الحقّ في المأخوذ، لأنّه فرع قبض المالك أو وكليه ؟

مقتضى النصوص المتقدّمة هو الأوّل، من جهة أنّها تدلّ على أنّ ما يأخذه كلّ من الدائنين يكون بينهما، فلو لم يكن له أخذ حَقّ صاحبه كان المال الخارجي المأخوذ باقياً في ملك المديون.

ودعوى: أنّ الإذن في القسمة كافٍ في هذا المقام.

تندفع: بأنّ الإذن في القسمة لبطلانها لغو، وهو غير الإذن في القبض.

ويمكن أنْ يقال: إنّ رضا الشريك بقبض شريكه كافٍ في تعيين الحقّ الكلّي في المأخوذ، وهو موجودٌ محرزٌ بالإذن في القسمة، وليس هذا هو الرّضا بكونه بتمامه له حتّى يقال إنّه لغى ببطلان القسمة، وعليه فتكون الروايات على القاعدة.

وقد أصرّ صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) على أنّ الحِلّي رحمه الله إنّما بني على الصحّة في هذه المسألة دون المسألة السابقة، ولكن الأمر سهل بعد وضوح الحكم.6.

ص: 299


1- جواهر الكلام: ج 25/56.

ويصحّ بيع الدين بالحاضر، وإنْ كان أقلّ منه، إذا كان من غير جنسه، أو لم يكن ربويّاً، ولا يصحّ بدينٍ مثله.

بيع الدين بالدين

المسألة السابعة: (ويصحّ بيع الدين بالحاضر، وإنْ كان أقلّ منه، إذا كان من غير جنسه، أو لم يكن ربويّاً، ولا يصحّ بدينٍ مثله).

أقول: ها هنا فروع:

الفرع الأوّل: لا إشكال في جواز بيع الدين بعد حلول الأجل على المدين أو على غيره، ولا خلاف فيه إلّاعن الحِلّي رحمه الله(1)، لكن إطلاق أدلّة البيع وعمومها يدفعه، وإنْ أطال الحِلّي في ترجيح ما ذهب إليه من المنع بما لا طائل تحته، سيّما وأنّ المسألة إجماعيّة.

وأمّا بيعه قبل حلول الأجل، فقد جوّزه جماعة، منهم المصنّف والشهيدان رحمهما الله(2).

ويشهد للصحّة: عموم أدلّة البيع بعد كون الدين قبل حلول الأجل مملوكاً للدائن.

أقول: واستدلّ للبطلان:

تارةً : بعدم إمكان قبض المبيع، الذي هو شرطٌ في صحّة البيع.

واُخرى : بالإجماع.

وثالثة: بعدم الملكيّة للبائع قبل الأجل في نحو القرض المؤجّل، ومهر الزوجة ونحوهما من أفراد الدين.

ص: 300


1- السرائر: ج 2/55، باب بيع الدِّيون والأرزاق.
2- الروضة البهيّة: ج 4/19.

وكلٌّ مردود:

أمّا الأوّل: فلأنّ الشرط ليس إمكان القبض حين العقد، بل إمكانه حين الاستحقاق، أي استحقاق المطالبة.

وأمّا الثاني: فلأنّ الإجماع المدّعى إنّما هو في السَلَم خاصّة، ودعوى عدم الفرق واضحة المنع.

وأمّا الثالث: فلأنّ الدين قبل الأجل في الموارد المشار إليها يكون مِلْكاًللبائع، غايه الأمر لا يستحقّ المطالبة، وللمدين التأخير.

وبالجملة: فالأظهر هي الصحّة، وعليه فماعن «الدروس»(1) وظاهر «الإرشاد»(2)و «النافع»(3) من المنع ضعيف.

الفرع الثاني: لا إشكال ولاخلاف في جواز بيع الدين بالحاضر المشخّص، نعم إنْ كان ما في الذمّة ربويّاً، وبيع بجنسه، يعتبر أن لا يكون الحاضر أقلّ أو أكثر، وإلّا لزم الرّبا، وكذا يعتبر عدم كونه من الذهب والفضّة لإشتراط القبض في المجلس في بيعهما، وأمّا في غير ذلك، فلا مانع منه، سواءٌ كان أقلّ أو أكثر أو مساوياً.

الفرع الثالث: أطلق جماعة(4) أنّه لا يجوز بيع الدين بالدين مطلقاً، وفصّل آخرون بين موارده، ونخبة القول فيه:

1 - إنّه قد يكون الثمن ديناً سابقاً، كماإذا باع ماله في ذمّة زيد بما لزيدٍ في ذمّة عمرو.1.

ص: 301


1- الدروس: ج 3/313
2- إرشاد الأذهان: ج 1/391.
3- المختصر النافع: ص 134.
4- كابن حمزة في الوسيلة: ص 251، وابن سعيد في الجامع للشرايع: ص 251، والعلّامة في إرشاد الأذهان: ج 391/1.

2 - وقد يكون بدين مضمونٍ بالعقد، كما لو باع ماله في ذمّة بكرٍ بمبلغٍ في ذمّة زيد المجعول في ذمّته بنفس العقد.

وعلى كلّ من التقديرين:

تارةً : يكون الدَّين حالّاً.

واُخرى : يكون الدَّين مؤجّلاً.

فإنْ باعه بدينٍ سابقٍ مؤجّل بَطَل، لأنّه لا يباع الدين بالدين كما في الخبر الذي رواه طلحة بن زيد عن الإمام الصادق عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله(1).

وأمّا البيع بدينٍ سابق حالٍّ حين العقد ففيه احتمالان، ينشئان:

من صدق الدين على الحال، ولذا أطلق الأصحاب عليه لفظ الدين بعد حلول الأجل إطلاقاً حقيقيّاً، وهو المنساق إلى الذهن عند إطلاقه، وعدم صحّة السّلب عنه.

وما صرّح به جمعٌ من أهل اللّغة(2) من أنّ الدَّين ما يضرب فيه الأجل، وكذا جمعٌ من الفقهاء(3) يراد به اعتباره حين ثبوته، فالمراد أنّ الدين ما يُضرب فيه الأجل أوّل مرّة.

ومن عدم صدق الدين عليه، لما ذُكر من تصريح اللّغويين والفقهاء، بل قيل أنّه المتفاهم عرفاً منه.

أقول: ولعلّ الأوّل أظهر.

وأمّا ما قيل:(4) بعد قبول صدق الدين عليه، بأنّه يجبُ الاقتصار في المنع عن).

ص: 302


1- الكافي: ج 5/100 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/347 ح 23818.
2- كما حكاه في جواهر الكلام: ج 4/345.
3- كالسيّد الطباطبائي في رياض المسائل: ج 8/454 الطبع الجديد.
4- رياض المسائل: ج 8/454 (ط. ج).

بيع الدين بالدين المخالف للأصل والعمومات على محلّ الوفاق، وليس الفرض منه، لأنّ الخبر المانع قاصرٌ سنداً(1) يشكل الاعتماد عليه فيما عدا مورد الإجماع.

فيردّه: أنّ ضعف السند ينجبرُ بالإجماع، فيتمسّك بإطلاق الخبر في محلّ الفرض.

وإنْ باعه بمضمونٍ في العقد:

فإنْ كان حالّاً غير مضمونٍ قبل العقد، فإنّه لا إشكال في الصحّة، لعدم صدق الدين عليه قطعاً، إذ قد مرَّ اعتبار الأجل في صدقة.

وإنْ كان مؤجّلاً:

فعن المشهور: بطلان البيع، لأنّه بيعُ دينٍ بدين، فيشمله النّص والإجماع.

وفي «الشرائع»(2) وعن جماعةٍ (3): صحّته، وعلّلها في «المسالك»: (بأنّ مراد القائلين بالمنع من جهة أنّه بيعُ دينٍ بدين:

إنْ كان إطلاق اسم الدين عليه قبل العقد، وحالّته، فظاهر منعه، لأنّه لا يعدّ دَيناً حتّى يثبت في الذمّة، ولا يثبت إلّابعد العقد، فلم يتحقّق بيع الدين بالدين.

وإنْ أرادوا أنّه دينٌ بعد ذلك، فهو لا يكفي في صدق بيع الدين بالدين، لاقتضاء الباء كون الدين بنفسه عوضاً، والمضمون الذي لم يكن ثابتاً في الذمّة، لا يعدّ جعله عوضا بيع بدين)(4).

وأورد عليه بعض من تأخّر: (بمنع كون المراد من النَّص ذلك، إذ يمكن كون المراد3.

ص: 303


1- لأجل طلحة بن زيد، راجع النجاشي: ص 207 رقم 550، ورجال الطوسي: ص 138.
2- شرائع الإسلام: ج 2/323.
3- كابن فهد في المهذّب البارع: ج 2/476، والشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 3/433، والمحقّق السبزواري في كفاية الأحكام: ص 104.
4- مسالك الأفهام: ج 3/433.

وللمُسلم قبض دينه من الذّمي من ثمن ما باعه من المحرّمات.

المنع من بيع الدين بالدين، المقابل للعين والحالّ ، أي لا تبع الدين بهذا الصنف من البيع، فيكون التفريق إشارة إلى هذا القسم من البيع المعهود في الذهن، فحينئذ فأظهر الفردين المؤجّل في العقد لا العكس)(1).

أقول: وهو تامٌّ ويعضده أنّ المضمون بالعقد إنّما يصير ديناً مقارناً لإيقاع العقد، وإلّا يلزم جعل العوض ما ليس عيناً ولا ديناً، والباء لا تقتضي أزيد من كون العوض حين جعله عوضاً ديناً، ولا يلزم في هذا الإطلاق كونه ديناً سابقاً.

وعليه، فالأظهر هو البطلان في هذه الصورة.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: صحّة البيع في صورة واحدة من الصور الأربع المتقدّمة، وهي صورة بيعه بمضمون في العقد حال.

أقول: وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو كان المثمن غير دين سابق، بل كان مضموناً بالعقد.

نعم، فيما كان سابقاً سَلَماً لم يجز بيعه قبل حلوله مطلقاً، وإنْ جاز بيعه بعده إذا كان الثمن حالّاً كما مرّ في باب السَلَم.

حكم سداد الدَّين من البيع الحرام

المسألة الثامنة: (و) صرّح الأصحاب(2) بأنّ (للمُسلم قبض دينه من الذّمي من ثمن ما باعه من المحرّمات) بشرط كون الذّمي مستتراً، وعند بعضهم كون المشتري

ص: 304


1- جواهر الكلام: ج 24/347.
2- كابن إدريس في السرائر: ج 2/42، والكركي في جامع المقاصد: ج 10/38.

لها غير مُسلم، والمستند جملة من النصوص:

منها: صحيح داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجل كانت له على رجل دراهم، فباع خنازير أو خمراً وهو ينظر فقضاه ؟

قال عليه السلام: لا بأس به، أمّا للمقضيّ فحلالٌ ، وأمّا للبائع فحرام»(1).

ومنها: صحيح زرارة، عنه عليه السلام: «في الرّجل يكون لي عليه الدّراهم، فيبيع بها خمراً أو خنزيراً ثمّ يقضي منها؟ قال عليه السلام: لا بأس، أو قال: خذها»(2).

ومنها: خبر منصور بن حازم، عنه عليه السلام: «قال: قلت له: لي على رجل ذمّي دراهم، فيبيع الخمر والخنزير وأنا حاضر، فهل لي أن آخذها؟

فقال عليه السلام: إنّما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك»(3).

ونحوها غيرها.

أقول: وتمام الكلام فيما يستفاد من هذه النصوص يتحقّق بالبحث في اُمور:

الأمر الأوّل: المشهور اختصاص الحكم بالذمي، فلو كان البائع مسلماً لم يجز.

قال صاحب «الكفاية»: (وهو منافٍ لإطلاق أخبارٍ كثيرة، فالحكم به مشكلٌ ، إلّا أنْ يكون المقصود المنع بالنسبة إلى البائع)(4).

وأجاب عنه في «الجواهر»(5):

1 - بأنّ خبر منصور مختصٌّ بالذّمي، فتقيّد به الأخبار الاُخر.2.

ص: 305


1- التهذيب: ج 6/195 ح 54، وسائل الشيعة: ج 18/370 ح 23871.
2- الكافي: ج 5/232 ح 11، وسائل الشيعة: ج 17/233 ح 22410.
3- الكافي: ج 5/232 ح 10، وسائل الشيعة: ج 17/232 ح 22408.
4- كفاية الأحكام: ص 104.
5- جواهر الكلام: ج 25/51-52.

2 - وبأنّه من التعليل في خبر منصور، يظهر عدم إرادة الفرض من ما دلّ على المنع من أكل ثمن الخمر والخنزير.

ويتوجّه على الجواب الأوّل: أنّه لا يحلّ المطلق على المقيّد في المثبتين، سيّما وأنّ التقييد في كلام السائل.

وعلى الثاني: أنّه لا يدلّ على عدم خروج ما إذا كان البائع مسلماً عن تحت تلك الأدلّة.

وقد يقال: في وجه ماهو المشهور، أنّ هذه النصوص تعارض الأخبار(1) الدالّة على عدم جواز بيع الخمر والخنزير وأنّ ثمنهما سحت، فإنّها تدلّ على كون الثمن لغير البائع، وعدم براءة الذمّة من الدين بأدائه منه، وعدم جواز أخذ الدائن ذلك مع العلم به، وخبر منصور أخصّ مطلق منها يقيّد إطلاقها به، والنصوص الاُخر لاتصلح للمعارضة معها، فتقدّم تلك الأخبار، وتكون النتيجة هي ما أفادوه.

وفيه: إنّ الجمع العرفي بين الطائفتين يقتضي البناء على أنّ المراد بنصوص الباب: أنّ من اشترى الخمر والخنزير وأدّى ثمنهما، لا محالة يكون راضياً بأن يؤدّي البائع دينه منه، أو أنّه وإنْ لم يحرز ذلك، يجوز أداء الدين من مال الغير في هذه الصورة، فلا تعارض بين الطائفتين.

والحقّ في المقام أنْ يقال: إنّ إطلاق هذه النصوص وإنْ كان يقتضي عدم الفرق بين كون البائع مسلماً أو ذميّاً، ولكن يتعيّن تقييده بمرسل ابن أبي نجران الصحيح إليه، عن الإمام الرّضا عليه السلام:

«عن نصرانيّ أسلم وعنده خمرٌ وخنازير، وعليه دينٌ ، هل يبيع خمرهه.

ص: 306


1- وسائل الشيعة: ج 17 باب 55 و 57 من أبواب مايكتسب به.

وخنازيره، ويقضي دينه ؟ قال عليه السلام: لا»(1).

الدالّ على حكم المسلم الأصلي بطريق أولى ، وعليه فلا إشكال في الاختصاص.

الأمر الثاني: ليس في النصوص المتقدّمة تقييد الذّمي بكونه مستتراً، ولعلّ التقييد به من جهة أنّ التستّر من شرائط الذمّة، فبالتظاهر يخرج عن كونه ذميّاً.

ولا ينافي ذلك ما في هذه النصوص من اطّلاع المُسلم عليه، إذ يمكن فرضه على وجهٍ لا ينافي الشرط المذكور، فتوقّف صاحب «الحدائق» رحمه الله(2) في اعتباره في غير محلّه.

الأمر الثالث: هل يعتبر أنْ يكون المشتري لها غير مسلم، كما في محكي «التذكرة»(3)، وفي «الجواهر»: (ولعلّه مراد من أطلق)(4)، أم لا يعتبر ذلك ؟

أقول: مقتضى إطلاق الأخبار هو الثاني، ولا ينافي ذلك بطلان البيع، إذ هو باطلٌ حتّى في البيع من مثله، ولذا قال عليه السلام: «هو للمقضيّ حلالٌ وعليه حرام»، وإنّما يجوز أخذه منه وفاءً للدين، كما يجوز أخذه جزيةً ، للنصوص(5) المصرح فيها بأنّ وزر ذلك عليهم، وثمنه للمسلمين حلال، ويأخذونه في جزيتهم.

وبهذا البيان اندفع إشكال المحقّق الأردبيلي القائل بأنّه: (إنْ حُملت هذه النصوص على كون البائع مسلماً فظاهر الأصحاب، وبعض الأخبار عدم جواز أخذه، وإنْ حملت على الذمّي، فقوله: «للبائع حرامٌ » محلّ تأمّل)(6).1.

ص: 307


1- الكافي: ج 5/232 ح 14، وسائل الشيعة: ج 17/226 ح 22392.
2- الحدائق الناضرة: ج 20/169-170.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/4 الطبع القديم.
4- جواهر الكلام: ج 25/53.
5- وسائل الشيعة: ج 15 باب 70 من أبواب جهاد العدوّ وما يناسبه / ص 154-155.
6- مجمع الفائدة: ج 9/91.

ولو أسلم الذّمي بعد البيع، استحقّ المطالبة، وليس للعبد الاستدانة بدون إذن المولى، فإنْ فعل تبع به إنْ انعتق وإلّا سقط. ولو أذن له لزمه دون المملوك وإنْ عتق.

وغريم المملوك كغرماء المولى.

ولو أذن في التجارة، فاستدان لها، لزم المولى، وإنْ كان لغيرها تبع به بعد العتق.

الأمر الرابع: (ولو) باع ذمّيٌ من ذمّي خمراً أو خنزيراً، و (أسلم الذّمي) البائع (بعد البيع، استحقّ المطالبة) أي مطالبة الثمن، لخبر يونس:

«في مجوسيّ باع خمراً أو خنزيراً إلى أجل مسمّى، ثمّ أسلم قبل أنْ يحلّ المال ؟ قال عليه السلام: له دراهمه»(1).

ولكن الخبر مقطوع، وفي سنده جهالة(2)، فلا ترفع به اليد عمّا تقتضيه القواعد، من عدم جواز أخذ الدّراهم، لأنّ ثمنهما سحتٌ .

المسألة التاسعة: (وليس للعبد الاستدانة بدون إذن المولى، فإنْ فَعَل تبع به إن انعتقَ وإلّا سقط، ولو أذن له لزمه دون المملوك وإنْ عتق، وغَريم المملوك كغُرماء المولى، ولو أذن في التجارة فاستدان لها، لزم المولى، وإنْ كان لغيرها، تبع به بعد العتق).

حكم الدراهم الساقطة عن الماليّة بعد الاستقراض

المسألة العاشرة: ويدور البحث فيها عن حكم الدراهم الساقطة عن الاعتبار بعد الاستقراض.

ص: 308


1- الكافي: ج 5/232 ح 13، وسائل الشيعة: ج 17/227 ح 22393.
2- لوجود إسماعيل بن مرار.

قال الشيخ في محكي «النهاية»: (من أقرض غيره الدّراهم، ثمّ سقطت تلك الدّراهم، وجازت غيرها، لم يكن له عليه إلّاالدّراهم التي أقرضها إيّاه، أو سعّرها بقيمة الوقت الذي أقرضها فيه)(1).

وقد حُكي مثله عن القاضي(2) والحِلّي(3).

وظاهر ذلك أنّه مع بقاء العين، يكفي ردّها، وإلّا فقيمتها، والظاهر أنّ عليه الأكثر.

وعن «المقنع»: (وإنْ استقرضتَ من رجلٍ دراهم، ثم سقطت تلك الدّراهم وتغيّرت، فلا يباع بها شيءٌ ، فلصاحب الدّراهم الدّراهم التي تجوز بين الناس)(4)، وظاهره لزوم رَدّ الماليّة مطلقاً.

واختار جمعٌ ؛ منهم صاحب «الجواهر» رحمه الله(5)، واحتمله في «القواعد»(6) عدم لزوم رَدّ تدارك الماليّة مطلقاً.

أقول: والأخيرُ أظهر، لأنّ الماليه الاعتباريّة المنتزعة من اعتبار من بيده الاعتبار لا تكون مضمونة.

وإنْ شئتَ قلتَ : إنّ العين بما لها من الصفات النوعيّة تكون في العهدة إلى حين الأداء، وهي في الفرض حين الأداء لا قيمة لها، فلا وجه لتدارك القيمة، والفائت إنّما7.

ص: 309


1- النهاية: ص 384.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/394.
3- السرائر: ج 2/273.
4- المقنع: ص 370.
5- جواهر الكلام: ج 25/66، المسألة التاسعة.
6- قواعد الأحكام: ج 2/107.

هو اعتبار المعتبر لا شيء من المأخوذ.

نعم، لوكان الورق النقدي معبّراً عن النقدين، وكانت المعاملة واقعة على ما يعبّر عنه الورق من النقدين، كان الصحيح في المقام اشتغال الذمّة بالماليّة، فإنّ الاقتراض في الحقيقة عن النقدين دون الورق، ولكن المبنى فاسدٌ كما حقّقناه في رسالتنا العمليّة حول المسائل المستحدثة.

ويشهد لما اخترناه: - مضافاً إلى ما مرّ - صحيح معاوية بن سعيد:

«عن رجلٍ استقرض دراهم من رجل، وسقطت تلك الدّراهم أو تغيّرت، ولا يباع بها شيءٌ ، ألصاحب الدّراهم الدّراهم الأُولى، أو الجائزة التي تجوز بين الناس ؟

فقال عليه السلام: لصاحب الدّراهم الأُولى »(1).

ونحوه مكاتبة يونس(2).

وتعارضهما مكاتبة اُخرى ليونس، عن الإمام الرّضا عليه السلام(3) في المورد المفروض فيها أنّ «لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس، كما أعطيته ما ينفق بين الناس».

ولكن الترجيح للأولين.

أقول: قد استدلّ للّزوم تدارك الماليّة مطلقاً، مضافاً إلى المكاتبة التي عرفت حالها:

1 - بأنّ الزمان والمكان من خصوصيّات العين الدخيلة في ماليّتها، إذ الماء مثلاً في مفازة الحجاز غير الماء على الشاطيء، والثلج في الشتاء غير الثلج في3.

ص: 310


1- التهذيب: ج 7/117 ح 114، وسائل الشيعة: ج 18/207 ح 23506.
2- التهذيب: ج 7/117 ح 113، وسائل الشيعة: ج 18/206 ح 23504.
3- الكافي: ج 5/252 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/206 ح 23503.

الصيف، فإذا استقرض الرّجل الدّراهم في زمانٍ كانت لها الماليّة، تكون خصوصيّة ذلك الزمان في عهدة المقترض، ولا يكون أداء الدّراهم بعد السقوط عن الماليّة أداء للمأخوذ، وعليه فلا مناص من رَدّ القيمة أداءً للخصوصيّات.

2 - وبحديث لا ضرر(1)، بتقريب أنّ المأخوذ حين أخذه كانت له ماليّة، فإذا رَدّ مثله أو عينه مع عدم الماليّة من دون تداركها، كان ذلك ضرراً على المالك، والحدث ينفيه.

ولكن يرد على الأوّل: - مضافاً إلى النقض بما إذا نقصت القيمة، فإنّ لازم هذا الوجه ضمان المقدار من الماليّة التالف، مع أنّه لم يلتزم أحدٌ به - أنّ الزمان والمكان ليسا دخيلين في الماليّة، وإنّما هما أمران منتزعان من اعتبار المعتبر وعدمه، أو من كثرة الراغب وقلّة الوجود.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ سقوط الماليّة:

تارةً : يكون من جهة نقصٍ في العين.

واُخرى : يكون من جهة عدم اعتبار المعتبر، أو عدم احتياج الناس إليها، مع بقائها على ما هي عليه من الخصوصيّات.

ففي الأوّل يُحكم بالضمان لعموم أدلّته، ولا يحكم به في الثاني.

ويرد على الثاني: ما تقدّم في كتاب الغصب(2) من أنّ حديث لا ضرر لا يصلح لإثبات الضمان.ء.

ص: 311


1- وسائل الشيعة: ج 25 باب 12 من أبواب إحياء الموات / ص 427-429.
2- تقدّم ذلك في الصفحة 141 في الفصل العاشر من هذا الجزء.

واستدلّ المحقّق الاصفهاني: لضمان الماليّة مع تلف العين، بأنّ دليل وجوب رَدّ المثل في باب الضمان مطلقاً ومنه القرض، إنّما يكون دليلاً على التضمين والتغريم، فلابدَّ من رعاية حيثيّة الماليّة، إذ المال التالف لا يُتدارك إلّابالمال.

ثمّ قال رحمه الله: (ومنه تبيّن الفرق بين سقوط العين عن الماليّة، وسقوط المِثْل عنها، إذ رَدّ الملك بلحاظ ملكيّتها لا بلحاظ ماليّتها، لكن التضمين والتغريم بلحاظ ماليّتها، فيجبُ حفظ الماليّة في الثاني دون الأوّل)(1).

وفيه: أنّ أدلّة الضمان إنّما تدلّ على رَدّ العين مع وجودها في غير باب القرض، والمثل بعد تلفها إنْ كانت مثلية وفي باب القرض، والمماثلة المعتبرة - على ما حُقّق في محلّه - هي المماثلة من حيث الحقيقة، وحيث أنّ الماليّة ليست صفةً في العين أو المِثْل فلا وجه لضمانها.

وإنْ شئتَ قلتَ : إنّ الثابت في العهدة إمّا العين أو المثل، وهي على الفرض لا ماليّة لها حينه، فلا وجه لأدائها، مع أنّه لا وجه للفرق بين العين والمثل، وقد ثبت وجوب رَدّ كلٍّ منهما بعموم على اليد، وهو بالنسبة إليهما على حَدٍّ سواء، فلو قلنا بلزوم الغرامة الماليّة في المثل، فلا مناص عن القول به في العين. واللّه العالم.

***7.

ص: 312


1- حاشية المكاسب: ج 1/367.

الفصل الثاني: في الرّهن:

(الفصل الثاني: في الرّهن)

اشارة

عرّف أهل اللّغة الرّهن بأنّه: الثبوت والدّوام، ومنه نعمة اللّه راهنة(1).

وفي «المسالك»: (ويطلق على الحبس بأيّ سببٍ كان، قال اللّه تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (2)) )(3).

وفي «المنجد»: (الرّهن حبسُ الشيء مطلقاً)(4).

وفي عرف الفقهاء واصطلاحهم(5): أنّه وثيقة لدين المرتهن، ومرادهم بما طفحت به عباراتهم من أنّه شرعاً وثيقة لدين المرتهن ذلك، وإلّا فمن المعلوم أنّه ليس له حقيقة شرعيّة.

أقول: الغرض من الفحص عن معناه ليس إلّاالإشارة الإجماليّة إلى ما هو موضوع الحكم في المسائل القادمة لا التعريف الحقيقي الجامع المانع.

وعليه، فالإيراد عليه بأنّه يرد على عكسه الرّهن على الدرك، وعلى الأعيان المضمونة كالمغصوب، في غير محلّه.

ص: 313


1- الصحاح: ج 5/2128 مادّة (رهن).
2- سورة المدثّر: الآية 38.
3- مسالك الأفهام: ج 4/7.
4- حكى ما يقرب من هذا المعنى عن اللّغة الشهيد في المسالك: ج 4/7.
5- كما ذكره غير واحد من الأعلام كالمحقّق في المختصر: ص 137، والشرائع: ج 2/329، تذكرة الفقهاء: ج 209/13 (ط. ج)، وغيرهم.

مع أنّه يمكن أن يكون نظر المعرّفين له بذلك إلى عدم جواز الرّهن على المذكورات، بل في تخصيص جماعةٍ (1) منهم الجواز بالدّين الثابت، إشعارٌ بعدم صحّة الرّهن عليها، مع أنّه قد يتكلّف الجواب على تقدير الجواز بأنّ الرّهن عليها إنّما هو لإستيفاء الدين على تقدير ظهور الخَلَل بالاستحقاق أو تعذّر العين.

وربما أورد عليه بإيرادات لفظيّة، والأمر سهل.

أقول: وكيف كان، فتمام النظر يستدعي البحث في مقامات:

***8.

ص: 314


1- كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 4/8.

ولابدَّ فيه من الإيجاب والقبول.

المقام الأوّل: في عقده والمتعاقدين، وفيه مسائل:

المسألة الأُولى: لا إشكال ولا خلاف في ثبوت الرّهن في الجملة، بل الإجماع بقسميه عليه، بل لعلّه من ضروريّات الدِّين أو المذهب، كما في «الجواهر»(1)، والنصوص المستفيضة شاهدة به، ستمرّ عليك جملة منها.

المسألة الثانية: لا شبهة (و) لا خلاف في أنّه من العقود، و (لابدّ فيه من الإيجاب والقبول) كسائر العقود، إنّما الكلام في أنّه:

هل يعتبر أن يكون الإيجاب والقبول باللّفظ كما استظهره صاحب «الجواهر»(2) ممّن عبّر بهذه العبارة ؟

أم تجري المعاطاة فيه ؟

المعاطاة في الرّهن

أقول: استدلّ لعدم جريان المعاطاة في الرّهن بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن «جامع المقاصد» قال ردّاً على ما أفاده المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»(1) بأنّ الخلاف فيها فيه كالخلاف في البيع، قال: (إنّ البيع ثبت فيه حكم المعاطاة بالإجماع بخلاف ماهنا)(2).

وفيه: مامرّ في كتاب البيع(3) مفصّلاً من أنّ جريان المعاطاة فيه إنّما يكون على

ص: 315


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/12 الطبع القديم.
2- جامع المقاصد: ج 5/45.
3- فقه الصادق: ج 23/131.

طبق القاعدة، وعمومات البيع، وإطلاقاته مقتضية لذلك، فكذلك في المقام، أضف إليه ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله من أنّه: (يمكن دعوى السيرة عليه هنا أيضاً كالبيع)(1).

الوجه الثاني: أنّ المعاطاة ثبت جوازها بالإجماع، والجواز غير متصوّر في الرّهن، لأنّه ينافي الوثوق الذي به قوام مفهوم الرّهن، وإنْ جعلناها مفيدة للّزوم كان مخالفاً للإجماع.

وفيه أوّلاً: أنّه قد تقدّم أنّ الأصل في المعاطاة هو اللّزوم.

وثانياً: أنّه يمكن أن يقال إنّ الإجماع على جواز المعاطاة مختصٌّ بالمعاملة التي تجتمع الصحّة فيها مع الجواز، ولا يشمل ما لا تجتمع معه.

وبعبارة اُخرى : المجمع عليه عدم اللّزوم مع الصحّة، وأمّا عدم اللّزوم غير المجتمع معها فلا يكون مشمولاً له.

وثالثاً: أنّه يمكن أن يجعل ذلك بنفسه دليل اللّزوم فيه، فيقال إنّ المعاطاة تفيد أصل الرّهن، وأمّا اللّزوم فهو ثابتٌ بمقتضى الدليل الخاص الدالّ على أنّ كلّ رهنٍ صحيح لازم.

الوجه الثالث: إنّ القبض شرطٌ في باب الرّهن، والعقد مقتضٍ ، فيلزم من إنشاء الرّهن بالقبض اتّحاد المقتضى مع الشرط، وهو محالٌ كما حُقّق في محلّه.

واُجيب عنه: بأنّ الشرط هو القبض، والمقتضي هو الإقباض، لأنّه به ينشأ الرّهن، فلا يلزم الاتّحاد المزبور.

وفيه: إنّ المقتضي هو الإقباض والقبض معاً، لأنّ الرّهن من العقود ومتقوّمٌ5.

ص: 316


1- جواهر الكلام: ج 25/95.

من أهله

بالإيجاب والقبول، فالقبض جزءُ المقتضي، فيلزم الاتّحاد.

الحقّ في الجواب عنه: - على فرض تسليم شرطيّة القبض والذي سيأتي الكلام فيه - أنْ يقال: - مضافاً إلى ما تقدّم في غير واحدٍ من الكتب من عدم انحصار الفعل المُنشَأ به الرّهن بالقبض - أنّه ليس في النصوص ما يدلّ على أنّ القبض شرط في الرّهن، بل هذا اصطلاحٌ من الفقهاء، والموجود في الأخبار اعتبار القبض فيه الملائم ذلك مع كونه بنحو الاقتضاء.

أضف إلى ذلك أنّه ليس هناك تأثيرات صادرة من الأفعال الخارجيّة في حقّ التشريعيّات والاعتباريّات حتّى يكون شيء مقتضياً والآخر شرطاً، بل إنّما هي موضوعاتٌ للمجعولات الشرعيّة، وتكون موضوعيّتها بتبع جعل الشارع. وتمام الكلام في محلّه.

وعليه، فالأظهر جريان المعاطاة فيه.

والكلام في اعتبار العربيّة والماضويّة، وتقدّم الإيجاب على القبول والصراحة، وما شاكل، هو الكلام في اعتبارها في سائر العقود، فقد مرَّ عدم اعتبار شيء من هذه الاُمور ولا من غيرها ممّا قالوا باعتباره، سوى أنّه يعتبر أن يكون ما يُنشأ به المعاملة مبرزاً لها عرفاً، وإلّا فلو مشى بقصد إنشاء الرّهن لا يكون مشيه محقّقاً للرّهن.

كما أنّ اعتبار صدور (من أهله) وهو البالغ العاقل المختار، يظهر ممّا أسلفناه في الكتب المتقدّمة، فإنّ المدرك في الجميع واحد.

ص: 317

وأيضاً: لا يعتبر أنْ يكون في السفر بالخصوص، بل يجوز الإرتهان سفراً وحضراً بلا خلافٍ فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، كما في «الجواهر»(1)، لشمول النصوص بإطلاقها لكلتا الحالتين.

والشرط في الآية الكريمة (وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (2)، مبنيٌّ على الغالب، إذ عدم الكتاب عادةً لا يكون إلّافي السفر، فهي نظير آية التيمم (وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ... فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا) (3)، فإنّ عدم الماء يكون في السفر غالباً، وفي التمسّك بها إشكالات اُخر ستمرّ عليك.

اشتراط القبض في الرّهن

المسألة الثالثة: في اشتراط الإقباض، وفيه وجوهٌ وأقوال:

القول الأوّل: ما عن الشيخ(4) في أحد قوليه، والحِلّي(5)، والمصنّف(6) في جملةٍ من كتبه، وولده(7)، والمحقّق، والشهيد الثانيين(8) وغيرهم، من أنّه لا يشترط في صحّة الرّهن وترتّب آثاره ولزومه، بل عن «السرائر» نسبته إلى أكثر المحصّلين، وعن «كنز العرفان»(9) حكايته عن المحقّقين.

ص: 318


1- جواهر الكلام: ج 25/98.
2- سورة البقرة: الآية 283.
3- سورة النساء: الآية 43.
4- الخلاف: ج 3/223 كتاب الرّهن، مسألة 5.
5- السرائر: ج 2/417.
6- قواعد الأحكام: ج 2/116، مختلف الشيعة: ج 5/399.
7- إيضاح الفوائد: ج 2/25.
8- جامع المقاصد: ج 5/94، مسالك الأفهام: ج 4/11-12.
9- كنز العرفان: ج 2/60.

وفي اشتراط الإقباض إشكال

بل عن «الغُنية»(1)، و «السرائر»(2)، و «التذكرة»(3)، و «التحرير»(4)، و «التنقيح»(5)، و «المسالك»(6)، و «الروضة»(7) وغيرها: أنّه لا خلاف في عدم اشتراطه في الصحّة، وجعلوا الخلاف في اعتباره في اللّزوم. وبذلك يظهر القول الثاني.

القول الثاني: ما عن المفيد(8) والشيخ(9) في قوله الآخر، وابن الجنيد(10) وابن حمزة(11) وابن البرّاج(12): اشتراطه في صحّته.

واختاره في «الشرائع»(13)، وظاهر الماتن هنا، حيث قال (وفي اشتراط الإقباض إشكالٌ ) هو التوقّف في الحكم.9.

ص: 319


1- الغنية: ص 243.
2- السرائر: ج 2/417.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/48، الطبع القديم.
4- تحرير الأحكام: ج 2/464، الطبع الجديد.
5- التنقيح الرائع: ج 2/166.
6- مسالك الأفهام: ج 4/11.
7- الروضة البهيّة: ج 4/56-57.
8- المقنعة: ص 622.
9- النهاية: ص 431.
10- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/399.
11- الوسيلة: ص 265.
12- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/399. راجع المهذّب: ج 2/46.
13- شرائع الإسلام: ج 2/329.

أقول: استدلّ لشرطيّته في الصحّة بوجوه:

الوجه الأوّل: الآية الكريمة: (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1) بتقريب أنّه سبحانه أمر بالرهن المقبوض، فلا يتحقّق المطلوب شرعاً بدونه، كما اشترط التراضي في التجارة، والعدالة في الشهادة حيث قرنا بهما.

وفيه: أنّها لو دلّت فإنّما هو بمفهوم الوصف، ولا نقول بحجيّته.

مع أن في دلالتها إشكالاً من وجوه:

منها: عدم كونها في مقام بيان مشروعيّة الرّهن، بل في مقام بيان الأمر بأخذ الرّهن، فإنْ حُمل على الإرشاد إلى حفظ المال، فعدم دلالتها على المقام واضحة، وإلّا فلم يعلم بها أحد، إذ لا قائل بوجوب أخذ الرّهن.

ومنها: غير ذلك.

الوجه الثاني: موثّق محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام - كما عن كتب الاُصول وكثيرٍ من كتب الفروع - وعن أبي عبد اللّه عليه السلام - كما في قليل من الكتب الأخيرة -، أنّه قال: «لا رهن إلّامقبوضاً»(2).

أقول: وأورد على الاستدلال به:

تارةً : بما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله(3) من أنّه ضعيف السند، لاشتراك قيس بين الثقة والضعيف، وفي طريقه ابن سماعة.

واُخرى : بأنّه موافق لجمهور العامّة، فيحمل على التقيّة.1.

ص: 320


1- سورة البقرة: الآية 283.
2- التهذيب: ج 7/176 ح 36، وسائل الشيعة: ج 18/383 ح 23893.
3- مسالك الأفهام: ج 4/11.

وثالثة: بما عن «المختلف»(1) من أنّه مشتملٌ على الإضمار، فلا يبقى حجّة.

وإليه يرجع ما قيل أنّه كما يحتمل إرادة نفي الصحّة بدون القبض، كذلك يحتمل إرادة بيان نفي الاعتداد به في الاستيثاق والطمأنينة لا الشرطيّة، أو نفي اللّزوم.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر - بقرينة رواية عاصم بن حميد عن ابن قيس - أنّ المراد به البَجَليّ الثقة، وأنّ ابن سماعة فيه هو الحسن بن محمّد بن سماعة، وطريق الشيخ إليه قوي.

وأمّا الثاني: فلأنّ مخالفة العامّة من مرجّحات إحدى الروايتين على الاُخرى عند فقد جملةٍ من المرجّحات، لا من مميّزات الحجّة عن اللّاحجّة.

وأمّا الثالث: فلأنّ الرّهن المنفيّ يكون المراد به العين المرتهنة، فظاهره أنّ العين لا تتّصف بأنّها رهن، ولا يتحقّق هذا العنوان إلّاإذا كانت مقبوضة، فظهوره في نفي الصحّة لا ينكر.

وبه يظهر ما قاله صاحب «الجواهر» حيث أنّه قدس سره بعد إبداء الاحتمال المذكور في الإيراد الثالث قال: (بل لعلّ الظاهر منه ذلك)(2)، أي كونه في مقام بيان عدم الاعتداد به في الاستيثاق، بعد إنْ كان المنفيّ فيه العين المرهونة، لا العقد الذي يوصف بالصحّة والبطلان.

فإنْ قيل: كما في «الجواهر»: (إنّ الظاهر منه استدامة القبض للعين المرهونة4.

ص: 321


1- مختلف الشيعة: ج 5/400.
2- جواهر الكلام: ج 25/104.

باعتبار نفي الرّهن بدونها منها، الظاهر في لزوم اتّصافها بذلك لصفة الرّهن، والإجماع بقسميه، كما ستعرف على عدم اعتبار الاستدامة، فيكون الخبر إرشاداً إلى حفظ المال، فيدلّ على مشروعيّة الرّهن بغير قبض)(1).

قلنا: إنّ الظاهر منه اعتبار مسمّى القبض في تحقّق الرّهن، لإبقائه في بقاء الرّهن نظير: «لا بيع إلّافي ملك»، و «لا عتق إلّافي ملك»، وما شاكل.

وبالجملة: بما ذكرناه ظهر أن لا حاجة إلى الإضمار، حتّى يقول المصنّف رحمه الله: إنّ إضمار الصحّة غير معلوم، ويُجاب عنه كما عن الشهيد: بأنّ إضمار الصحّة أولى .

الوجه الثالث: خبر محمّدبن عيسى ، عن أبي جعفر عليه السلام: «لا رهن إلّامقبوض»(2).

وتقريب الاستدلال به كما في سابقه، وبهما يقيّد إطلاق ما دلّ على لزوم العقد، ويخرج به عن الأصل.

أقول: استقصاء الكلام يتحقّق بالتعرّض لفروع:

الفرع الأوّل: هل يجب الإقباض أم لا؟

الظاهر عدمه على المختار؛ لعدم الدليل عليه.

الفرع الثاني: هل شرطيّة القبض على نحو الشرط المتأخّر، أو المقارن ؟

ظاهر الخبرين هو الثاني، لأنّهما يدلّان على توقّف صدق الرّهن على القبض، وعليه فلا رهن قبله، فلا وجه للحكم بترتيب آثاره من قبل.

الفرع الثالث: لو قبض المرتهن العين المرتهنة من غير إذن الرّاهن، قالوا لم ينعقد عقد الرّهن، ولم يصحّ بناءً على اعتباره في الصحّة.4.

ص: 322


1- جواهر الكلام: ج 25/104.
2- تفسير العيّاشي: ج 1/156 ح 525، وسائل الشيعة: ج 18/383 ح 23894.

وفي «الجواهر»: (بلا خلافٍ أجده فيه)(1)، واستدلّ له:

1 - بأنّه قبضٌ غير مأذونٍ فيه، فيكون كلّا قبض.

2 - وبأنّه قبضٌ منهيٌّ عنه.

3 - وبأنّه لا يجب الإقباض عليه بالعقد، فلا يسقط حَقّ الرجوع المستصحب بقائه، بل لا يقطعه إلّاحصول المقطوع به من الشرط، وهو القبض المأذون فيه.

4 - وبانصراف خبر اعتبار القبض إلى المأذون فيه، سيّما بعد معارضته مع قاعدة عدم سقوط حَقّ الغير إلّابرضاه.

5 - وبأنّه لا إقباض في الفرض، وهو معتبرٌ في الصحّة دون القبض.

أمّا الأوّل: فمصادرة إذ كونه كلا قبض فرع اعتبار الإذن، والكلام الآن فيه.

والثاني: مندفعٌ بأنّ النهي في المعاملات وما يتعلّق ويلحق بها، لا يدلّ على الفساد، كما حُقّق في محلّه، فلا ينافي الشرطيّة.

والاستصحاب لا يرجع إليه مع إطلاق الدليل، والانصراف ممنوعٌ .

وقاعدة عدم سقوط حَقّ الغير إلّابرضاه، إن أُريد بها الاستصحاب، فيرد عليه ما مرّ، وإلّا فلا دليل عليها بهذه الكليّة.

والشرط على ما في الخبر هو القبض دون الإقباض.

وبالجملة: فالأظهر أنّ مقتضى إطلاق الخبرين كفاية القبض بلا إذن، بل مع النهي عنه، إلّاأن يتحقّق إجماعٌ على عدم الاكتفاء بالقبض غير المأذون فيه.

ولو اشترط الرّهن في عقدٍ لازمٍ آخر، يجب الرّهن والقبض، ويصير القبض5.

ص: 323


1- جواهر الكلام: ج 25/105.

مستحقّاً عليه للمرتهن بالشرط، فيجوز حينئذٍ وإنْ لم يأذن الرّاهن في القبض، فلا إشكال في صحّة الرّهن حينئذٍ وتحقّق شرطه.

الفرع الرابع: ولو نطق بالعقد ثمّ جُنّ أو اُغمي عليه قبل القبض، فهل يبطل الرّهن ؟

وجهان، مبنيّان على القول باشتراط القبض في الصحّة - كما هو المختار - أو اللّزوم، والقول بعدم اشتراطه فيهما:

إذ على الأوّل: يكون العقد غير لازم، وقد ادّعوا الإجماع على بطلان العقود الجائزة بالجنون والاغماء والموت وما شاكل.

إلّا أن يقال: إنّ الإجماع على بطلان ما هو جائزٌ في نفسه، لا على بطلان ما يكون غير لازم، لعدم تحقّق شرط من شرائطه.

وعلى الثاني: لا يبطل قطعاً.

فالمتحصّل: أنّ الأقوى عدم البطلان.

الفرع الخامس: لو رهن ما في يد المرتهن:

فإنْ كان في يده على وجهٍ شرعي من وديعةٍ أو عاريةٍ أو إجارةٍ أو نحو تلكم، فالظاهر أنّه لا خلاف في الصحّة، لأنّ المعتبر القبض الذي هو استيلائه عليه لا الأخذ بالجارحة، وهو حاصلٌ لأنّ استدامة القبض قبضٌ .

واعتبار كون القبض واقعاً ابتداءً لا دليل عليه، والأصل والإطلاق ينفيانه.

وإنْ كان قبضاً غير مأذونٍ فيه شرعاً، كقبض الغاصب، فقد أطلق الأكثر الإكتفاء به أيضاً، لما تقدّم من الدليل كما في «الحدائق»(1).0.

ص: 324


1- الحدائق الناضرة: ج 20/230.

ودعوى: أنّه منهيٌّ عنه شرعاً يكفي في تحقّق الشرط.

مندفعة: بما مرّ من أنّ النهي عنه لا يدلّ على الفساد.

مع أنّه يمكن أن يقال: إنّه برضا الرّاهن باستدامة القبض، تخرج يده عن العدوانيّة إلى الأمانة المالكيّة التي حقيقتها التسليط عن الرّضا، فيدخل في القسم الأوّل.

أقول: ويمكن أن يستدلّ للصحّة في هذا الفرع بوجهٍ آخر، وهو:

أنّ دليل الشرط ظاهرٌ أو منصرفٌ إلى شرط القبض في الرّهن، إنْ لم تكن العين المرتهنة مقبوضة، فمع فرض كونها مقبوضة - ولو بالقبض غير المأذون فيه - لا يكون القبض شرطاً، فتكون إطلاقات الرّهن قاضية بالصحّة.

وممّا ذكرناه يظهر حال جملةٍ من الفروع المذكورة في المقام.

***

ص: 325

ويُشترط فيه أنْ يكون عيناً،

حكم رهن الدين والمنفعة

المقام الثاني: في شرائط المرهون صحّةً ولزوماً، (و) فيه مسائل:

المسألة الأُولى: المشهور(1) بين الأصحاب أنّه (يشترط فيه أنْ يكون عيناً) بل قيل إنّه لا خلاف ظاهر فيه، ورتّبوا عليه أنّه لا يصحّ رهن الدين، ولا رهن المنفعة.

وعليه، فالكلام في موردين:

المورد الأوّل: في رهن الدِّين

فعن «السرائر»(2)، و «الغُنية»(3): دعوى الإجماع على عدم صحّته، واستدلّ له:

تارةً : بظهور الأدلّة في اعتبار العينيّة بهذا المعنى في صحّة عقده أو مفهومه.

واُخرى : بأنّ القبض معتبرٌ في الرّهن، وهو غير ممكن في الدين الذي هو أمرٌ كلّي لا وجود له في الخارج يمكن قبضه، وما يدفعه المديون ليس هو عين الدين، بل هو أحد أفراده.

وثالثةً : بأنّ الرّهن ليس إلّامن حيث عدم الوثوق باستيفاء ما في الذمّة، فكيف يستوثق في استيفائه بمثله.

ورابعةً : بالشكّ في حصول القبض الذي هو شرطٌ في الرّهن بذلك، بدعوى

ص: 326


1- كما عن الحدائق الناضرة: ج 20/246.
2- السرائر: ج 2/416-417.
3- الغنية: ص 242-243.

ظهور النصوص في كون الرّهن نفسه الذي جرى عليه العقد لا فرده، وصدق القبض عرفاً لا يستلزمُ تحقّق القبض المتبادر من الأدلّة، بل هو قبضٌ لا يتناول كونه عليه في الذمّة.

وخامسةً : بالإجماع عليه.

أقول: وجميع هذه الأدلّة مردودة:

أمّا الأوّل: فلأنّه إنْ اُريد به ظهور الأدلّة في كون المقبوض الرّهن نفسه، فيرجع إلى الرابع، وستعرف ما فيه.

وإنْ أُريد به ظهور الأدلّة في ذلك بلا ربطٍ له بالقبض فممنوعٌ .

وأمّا الثاني: فلأنّه إذا عيّن المديون الكلّي في الفرد، يصدق بقبضه قبض الدين نفسه، لأنّ الفرد عين الكلّي، ولذا بنوا على الاكتفاء به في الصرف والهبة وغيرهما ممّا يعتبر فيه القبض.

أضف إليه: أنّه لا يتمّ لو كان الدين المرهون على المرتهن نفسه، فإنّه مقبوض له، ولذا قالوا: يصحّ التصارف بما في الذّمم وأنّ ذلك تقابضٌ منهما قبل التفرّق.

وأمّا الثالث: فلأنّه لو تمّ ، فإنّما هو في غير مالو كان الدين على المرتهن، وفيما لم يقبضه، مع أنّه لا يتمّ ، لوضوح اختلاف الناس في سهولة القضاء وعسره.

وأمّا الرابع: فلأنّ الدين إذا كان على المرتهن، يكون المقبوض هو المرهون نفسه، وإن كان على غيره، فحيث أنّ انطباق الكلّي على الفرد قهري، والفرد في الخارج كما يكون وجوداً لنفسه كذلك يكون وجوداً للكلّي، فيصدق على قبض الرّهن.

وأمّا الخامس: فلعدم ثبوته لذهاب جمعٍ من المحقّقين، منهم المحقّق الأردبيلي(1)،2.

ص: 327


1- مجمع الفائدة: ج 9/142.

والفاضل الخراساني(1)، والشهيد الثاني(2)، والبحراني(2)، وصاحب «الجواهر»(3) إلى الصحّة.

وقد صرّح المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(4) ببناء المنع على اشتراط القبض، وقد مرّ أنّ عدم الاشتراط مختارُ جماعةٍ .

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه يجوز رهن الدين للأصل والعمومات.

وأمّا المورد الثاني: أي رهن المنفعة كسُكنى الدار:

ففي «المسالك»: (المنع من رهنها موضع وفاق)(6)، واستدلّ له:

1 - بأنّ المنفعة لا يصحّ إقباضها إلّابإتلافها.

2 - وبأنّ المطلوب بالرهن - وهو التوثيق على المال - لا يحصل بها، لأنّها تستوفي شيئاً فشيئاً، وكلّ ما حصل منه شيءٌ عَدُم ما قبله، والمطلوب من الرّهن أنّه متى تعذّر استيفاء الدين استوفي من الرّهن.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ المنفعة حيث تكون، عبارةٌ عن الحيثيّة القائمة بالعين الموجودة بوجودها على نحو وجود المقبول بوجود القابل، فمنفعة الدابّة مثلاً ليست ما هو فعل الراكب الذي هو من أعراضه، لا من أعراض الدابّة، بل المضايف لفعل الراكب. والقبضُ عبارة عن الاستيلاء على الشيء، فبقبض العين يصدقُ قبض المنفعة، ولذلك اكتفينا به في الإجارة وغيرها.م.

ص: 328


1- كفاية الأحكام: ص 108. (2و6) مسالك الأفهام: ج 4/20 و 21.
2- الحدائق الناضرة: ج 20/246.
3- جواهر الكلام: ج 25/117-119.
4- تذكرة الفقهاء: ج 2/16 الطبع القديم.

مملوكةً

ويرد على الثاني: ما نبّه عليه هو قدس سره في «حاشيته على الروضة» على ما حكي، حيث قال: (إنّ استيفاء الدين من غير الرّهن ليس بشرطٍ، بل منه أو عوضه، ولو ببيعه قبل الاستيفاء، كما لو رهن ما يتسارع إليه الفساد قبله، والمنفعة يمكن ذلك فيها بأن يؤجّر العين ويجعل الاُجرة رهناً)(1).

ودعوى: أنّ الرّهن حينئذٍ هو الاُجرة دون المنفعة.

مندفعة: بأنّ الرّهن هي المنفعة، والاستيفاء إنّمايكون من الاُجرة، والفرق واضحٌ .

فإذاً لا دليل على المنع من ذلك أيضاً سوى الإجماع.

المسألة الثانية: لا خلاف في اعتبار كون العين المرهونة (مملوكة)، فلو رهن مالا يملك كالحشرات وما شاكل بطل الرّهن، لعدم إمكان استيفاء الدين منه.

كما لا خلاف في اعتبار كون المرهون مملوكاً للراهن، أو مأذوناً فيه لعدم التمكّن من استيفاء الدين بدونه.

نعم، لو رهن ما لا يملك وقف على إجازة المالك، فإنْ أجاز صَحّ بناءً على ما تقدّم في كتاب البيع(2) من كون صحّة عقد الفضولي مع الإجازة على القاعدة، لا للإجماع ولا للنّص المختصّ بالبيع.

فرع: هل يصحّ رهن الخمر أم لا؟ وجهان.

أقول: والحقّ أنّه:1.

ص: 329


1- الروضة البهيّة: ج 4/66.
2- فقه الصادق: ج 23/131.

يُمكن قبضها

إن بنينا على أنّ الممنوع خصوص بيع الخمر، وإلّا فإيقاع الصلح وغيره من المعاملات عليها لا إشكال فيه، فالظاهر صحّة رهنها لإمكان استيفاء الدين حينئذٍ، ولا يعتبر في الرّهن أزيد من ذلك.

وإن قلنا بأنّه لا يجوز أخذ العوض بإزائها بأيّ عنوان كان، فالظاهر عدم جواز ذلك لعدم إمكان استيفاء الدين منها.

وعن «المبسوط» و «الخلاف» الجواز لو وضعها على يد ذمّي، قال: (إذا استقرض ذميٌ من مسلمٍ مالاً ورهن بذلك خمراً على يد ذمّي آخر، يبيعها عند محلّ الحقّ ، فباعها وأتى بثمنها، جاز له أخذه، ولا يُجبر عليه)(1).

وفيه: أنّ الخمر لا يتعلّق بها حَقّ للمسلم بعد النهي عن التقرّب إليها في الأخبار، وعليه فالأظهر عدم الصحّة.

يعتبر إمكان قبض المرهون

المسألة الثالثة: بناءً على ما مرّ من شرطيّة القبض، فإنّه لا إشكال في أنّه يعتبر أن (يمكن قبضها)، فلو رهن ما لايمكن قبضه كالطير في الهواء غير المعتاد للعود، والسَّمك في غير المحصور من الماء بحيث يتعذّر قبضه عادةً لم يصحّ .

وأمّا بناءً على عدم شرطيّة القبض في صحّة الرّهن، فقد يقال:

ص: 330


1- الخلاف: ج 3/248 مسألة 52، المبسوط: ج 2/223.

بأنّه يعتبر إمكانه، لعدم الاستيثاق بمثل ذلك.

وفي «المسالك»: (ولو لم يشترط القبض، أمكن القول بالصحّة مطلقاً لعدم المانع، وتخيّل تعذّر استيفاءالحقّ من ثمنه، لعدم صحّة بيعه، يندفع بإمكان الصلح عليه، وكليّة ما صَحّ بيعه صَحّ رهنه ليست منعكسة كليّاً عكساً لغوياً)(1)، وهو حسن.

ثمّ إنّه هل المعتبر إمكان القبض حين العقد، أم حين التسليم ؟ فلو رهن ما لايمكن إقباضه حين العقد، فاتّفق القدرة عليه فأقبضه، صَحّ على الثاني دون الأوّل، وأمّا لو رهن ممكن الإقباض عند العقد، فاتّفق تعذّره بعده، صَحّ الرّهن على الأوّل دون الثاني.

أقول: الظاهر هو الثاني، إذا الشرط حقيقة هو القبض كما مرّ، فمع عدم إمكانه حينه، فلا قبض، ولا شرط ولا مشروط.

وأمّا اعتباره حين العقد، فلا دليل عليه حتّى لو قلنا باعتباره في البيع، لأنّ مدرك اعتباره في البيع لو قلنا به إنّما هو ما دلّ على النهي عن الغَرر، وهذا الوجه لا يجري في الرّهن.

فرع: في رهن المصحف عند الكافر خلافٌ .

فعن الشيخ في «المبسوط»(2)، والمحقّق(3)، والمصنّف(4)، والشهيدين(5)وغيرهم(6): صحّته، غاية الأمر يوضع على يد مسلم.8.

ص: 331


1- مسالك الأفهام: ج 4/24.
2- المبسوط: ج 2/232.
3- شرائع الإسلام: ج 2/331.
4- قواعد الأحكام: ج 2/110.
5- الروضة البهيّة: ج 4/70.
6- كالمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 5/51، والمحقّق السبزواري في كفاية الأحكام: ص 108.

ويصحّ بيعه

وقيل: لا يجوز.

ومنشأ الخلاف، الاختلاف في صدق السبيل على كونه متعلّقاً لحقّ رهانة الكافر وعدمه.

وعليه، فالأظهر هو الأوّل، لأنّه إذا كان البيع عن المالك المسلم، والبائعُ مسلماً لا يصدق ذلك، بل يمكن أنْ يقال بعدم اعتبار الوضع على يد مسلم، لأنّ بيع الكافر إيّاه عن المسلم لا يعدّ سبيلاً عليه، واللّه العالم.

اعتبار إمكان البيع

(و) المسألة الرابعة: المشهور بين الأصحاب أنّه يشترط في صحّة الرّهن أن (يصحّ بيعه)، أي بيع المرهون، لأنّ ما لا يصحّ بيعه لا يمكن استيفاء الدين منه، وفرّعوا عليه عدم صحّة رهن الوقف، لعدم جواز بيعه وإنْ كان مملوكاً للموقوف عليه، وعلى تقدير جوازه على بعض الوجوه، يجبُ أن يشتري بثمنه مِلْكاً يكون وقفاً، فلا يتّجه الاستيفاء منه مطلقاً.

وفيه: أنّه وإنْ لم يصحّ بيع الوقف، لكن يصحّ إجارته في بعض الموارد، ومال الإجارة إنّما هو للموقوف عليه، وفي مثل ذلك يصحّ الرّهن لإمكان الاستيفاء، ولا دليل على اعبتار الاستيفاء بالبيع.

وأيضاً: قد يجوز بيع الوقف، ولا يجبُ أن يشتري بثمنه مِلْكاً يكون وقفاً كما مرّ

ص: 332

في كتاب البيع.

وعلى الجملة: المعتبر هو إمكان استيفاء الدين، ففي كلّ موردٍ أمكن ذلك صَحّ الرّهن، سواءٌ كان بإجارة المرهون أو بيعه أو غيرهما، وفيما لم يمكن لا يصحّ .

وبذلك يظهر حال رهن منذور الصدقة وما شاكل.

فرع: هل يصحّ الرّهن في زمن الخيار للبائع أو للمشتري أو لهما؟

فيه خلافٌ ، وقد مرّ تنقيح القول فيه في الخيارات(1) من كتاب البيع مفصّلاً.

أقول: وممّا فرعوه على اعتبار إمكان الاستيفاء:

أنّه لو رهن ما يَسرعُ إليه الفساد، ولا يمكن إصلاحه بتجفيفٍ وغيره، وقد شرط الرّاهن عدم البيع قبل الأجل، لم يصحّ .

وفي «الجواهر»: (بل لا أجدُ فيه خلافاً، لمنافاته مقصود الرّهن حينئذٍ)(2).

وفي «المسالك»: (احتمال الصحّة بدعوى أنّ شرط عدم البيع لا يمنع صحّة الرّهن، لأنّ الشارع يحكم به عليه بعد ذلك صيانةً للمال)(3).

وأُورد عليه: بأنّه على القول بوجوب صيانة المال حذراً من التبذير والإسراف، وصحّة الشرط ووجوب الوفاء به، يقع التزاحم بين التكليفين.

ويضعّف: بأنّ الشرط حينئذٍ يبطل، لأنّه شرطٌ خلاف المشروع، فيصحّ الرّهن بناءً على المختار من عدم مفسديّة الشرط الفاسد.

أقول: ويمكن أن يُذكر لبطلان الشرط وجهٌ آخر، وهو:

منافاته لمقتضى عقد الرّهن، فيبطل لذلك، فإنّ صحّة الرّهن متوقّفة على بيعه6.

ص: 333


1- راجع المجلّد 25 من هذه المجموعة الفقهية.
2- جواهر الكلام: ج 25/137.
3- مسالك الأفهام: ج 4/26.

وجعل ثمنه رهناً.

وعليه، فالحقّ أنّ ما احتمله الشهيد الثاني رحمه الله من أنّ حكم شرط عدم البيع حكم ما لو أطلق قويٌّ .

وأمّا في صورة الإطلاق: فالأظهر تبعاً للمصنّف(1)، والشهيدين(1)، والمحقّق الثاني(2) وغيرهم(3)، صحّة الرّهن، فيبيعه المالك عند خوف الفساد، ويجعل ثمنه رهناً، فإنْ امتنع أجبره الحاكم، جمعاً بين الحقّين.

وعن الشيخ(4)، وظاهر ابني زُهرة(5) وإدريس(6) البطلان، نظراً إلى عدم اقتضاء عقد الرّهن بيع المرهون قبل الأجل، فلا يُجبر عليه الرّاهن، وحينئذٍ فلا يملك المرتهن استيفاء الدين منه عند حلول الأجل، بل يكون كرهن المقطوع بعدم بقائه إلى الأجل.

وفيه: ما مرّ.

ثمّ إنّ ظاهر الماتن هنا وغيره عدم اشتراط شيء آخر في صحّة الرّهن، لكن صرّح غير واحدٍ - منهم الماتن(8) في غير هذا الكتاب - بأنّه لا يصحّ رهن المجهول.

وعن «الخلاف»(7): نفي الخلاف عن عدم صحّة الرّهن فيما في الحقّ ، بل قيل5.

ص: 334


1- الروضة البهيّة: ج 4/72.
2- جامع المقاصد: ج 5/59.
3- كفخر المحقّقين في إيضاح الفوائد: ج 2/14.
4- الخلاف: ج 3/241، مسألة 38.
5- الغنية: ص 245.
6- السرائر: ج 2/419.
7- الخلاف: ج 3/255، مسألة 65.

ظاهره نفي الخلاف بين المسلمين.

وفي «التذكرة»: (لو كان ما في الحقّ مجهولاً، لم يصحّ الرّهن قطعاً في المظروف خاصّة، للجهالة على إشكال، ويصحّ الرّهن في الحقّ عندنا وإنْ تفرقت الصفقة إذا كان له قيمة مقصودة)(1).

وملخّص القول فيه: أنّه إنْ كان المجهول غير معيّن، بطل من جهة أنّه لا حقيقة ولا ماهيّة للمردّد من حيث هو مردّد، وإلّا فإنْ لم يعلم المرتهن أنّه يمكن استيفاء تمام دينه منه بطل أيضاً للغرر.

وأمّا إنْ علم بذلك، فالظاهر هو الصحّة، إذ لا يلزم من الجهل به الغرر، والجهل من حيث هو لم يدلّ دليلٌ على مانعيّته، والأصل عدمه، والإجماع عليفرض ثبوته، المتيقّن منه غير الفرض.

***م.

ص: 335


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/14 الطبع القديم.

على حَقّ ثابتٍ في الذمّة، عيناً كان أو منفعة،

الحقّ الذي يجوز أخذ الرَّهن عليه

المقام الثالث: ويدور البحث فيه عن الحقّ الذي يجوز أخذ الرّهن عليه.

المشهور بين الأصحاب: أنّه الدين الثابت في الذمّة، وظاهر اشتراط كونه ديناً عدم جواز الرّهن على العين مطلقاً، مضمونة كانت أم غير مضمونة.

وفي «التذكرة»: (الأقوى جواز الرّهن على الأعيان المضمونة)(1).

وفي المتن: جوازه (على ) كلّ (حقٍّ ثابتٍ في الذمّة، عيناً كان أو منفعةً ).

أقول: وتفصيل القول في المقام يتحقّق بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: لا إشكال ولا كلام في أنّه يصحّ الرّهن على الدين الثابت في الذمّة، والكتاب(2) والسُنّة(3) أيضاً يشهدان به، لكن البحث عن أنّه:

هل يعتبر ثبوته قبل الرّهن ؟

أم يكفي ثبوته مقارناً معه أو متأخّراً عنه ؟

أم يفصّل بين المقارن والمتأخّر، فيكفي التقارن خاصّة ؟

وجوهٌ وأقوال:

أمّا مع التقارن: بأن شَرَك بين السبب والرّهن في عقدٍ، كما لو قال المشتري:

ص: 336


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/23، الطبع القديم.
2- سورة البقرة: الآية 283.
3- وسائل الشيعة: ج 18 باب 1 من أبواب كتاب الرّهن / ص 379-381.

(صالحتُك عن هذا الفرس بمائة، ورهنتُ الدّار بها، فقال: قبلت):

فعن صريح الكركي(1) وظاهر غيره(2): أنّه لا يصحّ ، بل عن «الرياض»(3)حكايته عن الأكثر، بل قيل إنّه المشهور بين الأصحاب.

واستدلّ له: بأنّه يعتبر في الرّهن كونه على حَقٍّ ثابت، كما يأتي في المتأخّر، وعليه فحيث أنّ الشرط للسبب شرطٌ لأجزائه، ففي الأجزاء من الرّهن غير الجزء الأخير من القبول تكون هذه ولا دين، والمفروض اعتباره.

وفيه: أنّه على فرض تسليم المبنى، إنّ الرّهن يكون كسائر المعاملات من الاعتباريّات ومن سنخ الوجود، فلا تركّب له ولا أجزاء، وعليه فإذا فرضنا التقارن بين الرّهن والدين لا بين المبرزين، ففي زمات ثبوت الرّهن يكون الدين ثابتاً، فيصدق الرّهن على الدين الثابت، فتدبّر حتّى لا تبادر بالإشكال.

وأمّا مع التأخّر: كما لو قال: (هذا الدار رهنٌ على ما أستدينُ منك غداً)، فإنْ كان المُنشَأ هو الرّهن بعد الدين، فلا إشكال في الصحّة، وأمّا إذا كان المُنشَأ هو الرّهن فعلاً، فقد استدلّ لبطلانه:

تارةً : بأنّه لا يتصوّر الرّهن حقيقةً بدونه.

واُخرى : بظهور الآية والنصوص في تعقّب الرّهن للحقّ حتّى يصدق أنّه استوثق على ماله.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ حقيقة الرّهن جعل العين وثيقةً للحقّ ، ومعنى ذلكد.

ص: 337


1- جامع المقاصد: ج 5/90.
2- بل أفتى فخر المحقّقين في إيضاح الفوائد: ج 2/23 بعدم الصحّة.
3- رياض المسائل: ج 8/520-521، الطبع الجديد.

أنّه لا ينقله الرّاهن عن ملكه، وللمرتهن استيفاء حقّه منه عند حلول الأجل المضروب لأداء الحقّ ، إنْ لم يؤدّه مَنْ عليه الحقّ ، بل حقيقته هو الثاني خاصّة، وهو يستلزم عدم إتلاف المرهون، وعدم نقله عن ملكه على إشكالٍ فيه، وهذا المعنى يتصوّر قبل ثبوت الحقّ ، وكون العين المرهونة متعلّقةً لحقّ الرهانة لا معنى له إلّا ذلك، كما أنّ حَقّ الرهانة ليس إلّاذلك.

فعلى هذا لا محذور عقلي في الرّهن قبل ثبوت الحقّ .

ويرد على الثاني: أنّ الآية وجملة من النصوص وإنْ اختصّت بصورة سبق الحقّ ، لكنّها لا تدلّ على الاختصاص بذلك المورد كي يقيّد بها إطلاق بقيّة النصوص، وعموم ما دلّ على نفوذ المعاملات وصحّتها.

وبالجملة: لا دليل على المنع من الصحّة، سوى الإجماع، وتسالم الأصحاب عليه.

المورد الثاني: الأكثر(1) على عدم صحّة أخذ الرّهن على الأعيان المضمونة، كالمغصوبة، والعارية المضمونة، والمقبوض بالسّوم ونحوها، واستدلّ له:

1 - بالأصل بعد عدم دليلٍ للصحّة لعدم الإجماع، واختصاص الآية، وجملةٌ من النصوص بالدين، وعدم انصراف إطلاق باقيها بحكم التبادر إلى محلّ الفرض - والمراد بالعقود المأمور بالوفاء بها، هي المتداولة في زمان الشارع، وفي كون محلّ الفرض منها نوعُ شكٍّ وغموضٍ وإنْ علم تناول جنس الرّهن، وتسميته رهناً حقيقة في اللّغة والعرف غير معلومة، ذكر ذلك كلّه سيّد «الرياض»(2) -.د.

ص: 338


1- كما عن رياض المسائل: ج 8/518، الطبع الجديد.
2- رياض المسائل: ج 8/518-519، الطبع الجديد.

2 - وبأنّ مقتضى الرّهن استيفاء المرهون به من الرّهن، وفي الأعيان يمتنع ذلك، لامتناع استيفاء العين الموجودة من شيء آخر.

أقول: أمّا الأصل فلا مورد له بعد إطلاق بعض نصوص الرّهن، وعموم أدلّة إمضاء المعاملات اللّذين لا ينافيهما اختصاص مورد بعضها بالدين.

وعدم تداول هذا العقد في زمان الشارع، لعدم حمل المطلق على المقيّد في المثبتين.

وعدم صلاحيّة عدم التعارف، للانصراف المقيّد للإطلاق، فضلاً عن تخصيص العام، وعدم صدق الرّهن عليه، مكابرة واضحة.

وأمّا امتناع استيفاء العين من المرهون: فيندفع بأنّه لا يعتبر إمكان استيفاء نفس الحقّ منه، بل يكفي إمكان استيفاء بدله، فلو أمكن أخذ العوض عند الحيلولة، أو التلف الذي هو محلّ الحاجة، كفى ذلك في صحّة الرّهن، لعدم أخذ ما ذكر في مفهومه، ولم يدلّ على اعتباره دليل.

وإلى ذلك يرجع ما عن «التذكرة»(1) من الجواب عن هذا الوجه بأنّه يمكن التوثّق بالرهن لأجل أخذ عوضها عند تلفها.

وعليه، فالأظهر هي الصحّة، كما في المتن وعن غيره(2)، ويشهد بها - مضافاً إلى ما مرّ - ما دلّ من النصوص على نفي البأس عن الاستيثاق بالمال، كصحيح محمّد ابن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام:

«عن السَّلم في الحيوان وفي الطعام، ويرتهن الرّجل بماله رهناً؟9.

ص: 339


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/23، الطبع القديم.
2- كالدروس: ج 3/401، وجامع المقاصد: ج 5/89.

فقال عليه السلام: نعم استوثق من مالك»(1).

ونحوه غيره الشاملة لمحلّ الفرض.

المورد الثالث: المعروف عدم جواز أخذ الرّهن على الأعيان غير المضمونة، كما إذا كانت أمانةً في يده كالوديعة والعارية غير المضمونة.

وفي «المسالك»: (عدم جواز الرّهن على الأوّل - أي العين غير المضمونة - موضع وفاق)(2).

أقول: وهو الحجّة فيه، وإلّا ففيما استدلّ به له من عدم كونها وقت الرّهن مضمونة - وإنْ احتمل تجدّد سبب الضمان بالتعدّي أو التفريط أو الإتلاف، والرّهن إنّما يصحّ عند وجود سبب الضمان - نظرٌ، لما مرّ من أنّ عدم اعتبار ثبوت الحقّ حين الرّهن إنّما يصحّ عند وجود سبب الضمان المطلق لا أثر له، إذ نفس العين لا يؤخذ عليها الرّهن، وما يؤخذ عليه هو بدلها عند التلف، وعليه فلا فرق بين الرّهن على الأعيان المضمونة وغيرها.

المورد الرابع: هل يؤخذ الرَّهن على المضمون بحكم العقد كالثمن والمبيع ونحوهما - لاحتمال فساد العقد باستحقاق العوض، أو نقصان قدره، أو ما شاكل، كما عن الشهيد رحمه الله(3) وجماعة(4) لتحقّق الفائدة، وهي التوثّق والإرتفاق ؟

أم لا يصحّ ، أخذه لعدم علم الاستحقاق في عهدة الثمن والمبيع، واحتماله غير9.

ص: 340


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/259 ح 3936، وسائل الشيعة: ج 18/379 ح 23883.
2- مسالك الأفهام: ج 4/28.
3- الدروس: ج 3/400.
4- كالقاضي في المهذّب: ج 2/45، والعلّامة في تحرير الأحكام: ج 2/476 (ط. ج)، والمحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 5/89.

كافٍ في صحّة الرّهن، وإنْ كان لو تحقّق لظهر انكشافه من أوّل الأمر؟

وجهان: أظهرهما الأوّل على القول بصحّة الرّهن على الأعيان غير المضمونة، من غير جهة الإجماع، كما لا يخفى .

المورد الخامس: في أخذ الرّهن على مال الجعالة قبل تمام العمل أقوال:

ثالثها: ما عن «التذكرة»(1) من الجواز لو شرع في العمل وإنْ لم يتمّه، وعدمه مع عدم الشروع.

أقول: بناءً على ما تقدّم من عدم قيام الدليل على اعتبار ثبوت الحقّ في صحّة الرّهن سوى الإجماع إنْ ثبت، فالظاهر هو القول الأوّل، فإنّ المتيقّن من معقد الإجماع ما إذا لم يتحقّق المقتضي للاستحقاق، وهو في المقام ثابتٌ ، لتحقّق عقد الجعالة.

وأمّا بناءً على اعتبار ثبوت الحقّ في صحّته بمقتضى الأدلّة، فالأظهر هو القول الثاني، لما مرّ من عدم استحقاق الجعل قبل العمل، ولا يقاس بالإجارة، فإنّ فيها يستحقّ الاُجرة بمجرّد العقد كما تقدّم، ولا فرق في ذلك بين الشروع في العمل وعدمه.

***م.

ص: 341


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/24، الطبع القديم.

ويقفُ رهن غير المملوك على الإجازة، ولو ضمّهما لزم في ملكه، ويلزم من جهة الرّاهن، ورهن الحامل ليس رهناً للحمل وإنْ تجدّد

رهن الحامل ليس رهناً للحمل

المقام الرابع: ويدور البحث فيه عن عمّا يتعلّق بالرّهن من أحكام، وفيه مسائل:

المسألة الأوّل: (ويقف رهن غير المملوك على الإجازة) لما مرّ من أنّ الفضولي في العقود إنّما هو على القاعدة، فلا يختصّ بالبيع، (ولو ضمّهما) أي ضمّ رهن ما يملكه إلى رهن ما لا يملكه (لزم في ملكه) وتوقّف في ملك شريكه على الإجازة، وللمرتهن خيار التبعّض إنْ لم يجز.

المسألة الثانية: (ويلزم) الرّهن (من جهة الرّاهن) لعموم ما دلّ على لزوم العقد(1)، ولا يلزم من جهة المرتهن، لأنّ الحقّ له، فله إسقاطه كغيره من الحقوق.

المسألة الثالثة: (ورهن الحامل ليس رهناً للحمل وإنْ تجدّد) كما عن «المبسوط»(2)، و «الخلاف»(3)، و «نكت النهاية»(4) للمحقّق، و «التحرير»(5)و «التذكرة»(6) و «القواعد»(7) و «المختلف»(8) للعلّامة، وفي «الإيضاح»(9)،

ص: 342


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- المبسوط: ج 2/237.
3- الخلاف: ج 3/251، مسألة 58.
4- نكت النهاية: ج 2/251-252.
5- تحرير الأحكام: ج 2/480، الطبع الجديد.
6- تذكرة الفقهاء: ج 2/14، الطبع القديم.
7- قواعد الأحكام: ج 2/124.
8- مختلف الشيعة: ج 5/406-406.
9- إيضاح الفوائد: ج 2/36.

وفوائد الرّهن

و «التنقيح» وغيرها(1)، بل في «التذكرة» دعوى قيام الإجماع عليه.

وعن الأكثر بل المشهور(2): أنّه رهنٌ له.

وعن «الانتصار»: (إنّه ممّا انفردت به الإماميّة)(3).

وعن «الغُنية»(4): الإجماع عليه.

وعن «السرائر»: (إنّه مذهبُ أهل البيت عليهم السلام وأنّ عدم الدخول مذهب المخالفين)(5).

أقول: وكيف كان، فحمل المرهون:

إنْ كان قبل الرّهن، فلعلّ ظاهر جعل الحامل رهناً، جعله كذلك بما له من التوابع ومنها الحمل.

وأمّا الحمل المتحقّق بعده:

فإنْ كان بنظر أهل العرف معدوداً من صفات الرّهن، كحمل الشجرة، والفوائد المتّصلة كالسَّمن وما شاكل كان رهناً قطعاً.

بل قيل: إنّه لا يصحّ اشتراط خروجها.

وإنْ كان يعدّ مستقلّاً كحمل الدابّة، فالظاهر عدم كونه رهناً، إذ التبعيّة في الملكيّة غير مستلزمة للتبعيّة في الرهنيّة، كما لا يخفى .

(و) على أيّ حالٍ ، لا شبهة ولا خلاف في تبعيّة (فوائد الرّهن) في الملكيّة له،4.

ص: 343


1- كجامع المقاصد: ج 12/132.
2- كما عن الحدائق الناضرة: ج 20/240.
3- الانتصار: ص 474، مسألة 267.
4- الغنية: ص 244.
5- السرائر: ج 2/423-424.

للراهن. ورهن أحد الدينين ليس رهناً على الآخر.

ولو استدان آخر، وجعل الرّهن على الأوّل رهناً عليهما، صَحّ .

وللوليّ الرَّهن مع مصلحة المولّى عليه.

وتكون (للراهن).

وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسيمه عليه، بل المحكيّ منهما مستفيضٌ كالنصوص، بل يمكن دعوى ضرورة المذهب بل الدين عليه)(1). انتهى .

وتشهد به: - مضافاً إلى وضوحه - النصوص(2) الدالّة على أنّه إنْ كان الرّهن غلة وفوائد، وتصرّف فيها المرتهن، وجبَ عليه أنْ يحتسبها من دينه، وما دلّ على أنّه إنْ ركب الدابّة أو انتفع بلبنها، يجب عليه أنْ ينفق عليها بإزاء ذلك.

المسألة الرابعة: (ورهن أحد الدينين ليس رهناً على الآخر) بلا إشكال، لأنّ تحقّق الرّهن يتوقّف على الإنشاء والتراضي.

(و) كذا لا إشكال ولا خلاف في أنّه (لو استدان آخر وجعل الرّهن على الأوّل رهناً عليهما صَحّ )، إذ مشغوليّته بالدَّين الأوّل غير قادحة، بعد عدم التنافي بينهما، كما لو رهنه عليهما من الأوّل، فإنْ أنشأ الرّهن عليه أيضاً فلا كلام، وإنْ أراد إدخاله في الرّهن الأوّل، فلابدَّ وأن يبطل الرهانة الأُولى ثمّ يجدّد لهما.

المسألة الخامسة: (وللولي الرّهن مع مصلحة المولّى عليه) وقد تقدّم الكلام في ذلك تحت عنوان عامٍ في كتاب البيع(3)، وبيّنا هناك شروط تصرّف الوليّ وما يرجع إليذلك من الفروع والأحكام، وليس للرّهن خصوصيّة تستدعي تكرار ماذكرناه.4.

ص: 344


1- جواهر الكلام: ج 25/229.
2- وسائل الشيعة: ج 18 باب 10 من أبواب كتاب الرّهن / ص 394-396.
3- فقه الصادق: ج 23/364.

وكلٍّ من الرّاهن والمرتهن ممنوعٌ من التصرّف بغير إذن صاحبه.

الرّاهن والمرتهن ممنوعان من التصرّف

المسألة السادسة: قال المصنّف رحمه الله: (وكلّ من الرّاهن والمرتهن ممنوعٌ من التصرّف بغير إذن صاحبه):

أمّا المرتهن: فظاهرٌ، لأنّه غير مالكٍ ، ومجرّد الرّهن لا يستلزم جواز التصرّف.

وأمّا ما دلّ على المنع عن بيعه إذا لم يقدر على الرّاهن(1)، فهو غير ما هو محلّ الكلام، مضافاً إلى معارضته بما دلّ على الجواز(2).

وبالجملة: الكلام إنّما هو في غير البيع بعد حلول الأجل، وعدم جواز التصرّف حينئذٍ من الواضحات.

نعم، في خصوص ما إذا كان عنده دابّة أو حيوان رهناً، فأنفق عليها، دلّت النصوص(1) على جواز الانتفاع بها بالركوب وشرب اللّبن وما شاكل، وأفتى به الشيخ في محكي «النهاية»(2)، وهو الظاهر من الصدوق رحمه الله(3)، ومال إليه الفاضل الخراساني(4) وجماعة(5)، وقوّاه المحدِّث البحراني(6) وبعضٌ آخر.

ص: 345


1- وسائل الشيعة: ج 18 باب 12 من أبواب كتاب الرّهن / ص 397-398.
2- النهاية: ص 435.
3- من لايحضره الفقيه: ج 3/306 باب الرّهن ح 4095.
4- كفاية الأحكام: ص 108.
5- كالشهيد الأوّل في الدروس: ج 3/394.
6- الحدائق الناضرة: ج 20/262.

والأصحاب حملوا هذه الأخبار على ما إذا أذن له الرّاهن، وهو بلا شاهد، بل يمكن تطبيقها على القاعدة من جهة أنّ نفقة الرّهن حيث تكون على الرّاهن، لأنّه ماله وله نمائه فعليه نفقته، فإذا سلّمه إلى المرتهن، ولم ينفق عليه، ولا وكّله في ذلك، يكون ظاهر حاله أنّ للمرتهن الانتفاع بظهره ولبنه بإزاء نفقته، ولعلّه يكون ذلك من قبيل الشروط الضمنيّة في رهن أمثال ذلك.

وكيف كان، فالحكم ظاهرٌ بعد ورود النّص المعتبر الذي عمل به جمعٌ من الأصحاب.

وأمّا الرّاهن: فبالنسبة إلى التصرّفات الناقلة له عن ملكه؛ من البيع وما شابهه فقد أشبعنا الكلام فيه في كتاب البيع(1)، فلا نعيد.

وأمّا التصرّفات الاُخر، فما كان منها منافياً لإستيفاء حَقّ المرتهن من الإتلاف وشبهه، فعدم جوازه ظاهر، لأنّه تفويتٌ لمتعلّق حَقّ الغير، فلا يجوز، كما لا يجوز إتلاف ماله.

وأمّا التصرّفات غير المنافي لذلك؛ فالمشهور بين الأصحاب عدم جوازه أيضاً، واستدلّوا له:

1 - بالإجماع.

2 - وبالنبويّ المذكور في كتب الفروع: «الرّاهن والمرتهن ممنوعان من التصرّف في الرّهن»(2)، وعن «الإيضاح»(3): أنّه مشهور النقل.9.

ص: 346


1- فقه الصادق: ج 24/148.
2- المستدرك: ج 13/426 ح 15804.
3- إيضاح الفوائد: ج 2/40، وراجع ص 9.

3 - وبأنّه لما كان الرّهن وثيقةً لدين المرتهن أمّا في عينه أو بدله، ولم يتمّ الوثيقة إلّابالحَجر على الرّاهن، وقطع سلطنته ليتحرّك إلى الأداء، فلا يجوز له التصرّف، ذكره في «المسالك»(1)، ومحكي «التذكرة»(2)، وإليه يرجع ما عن «الدروس» من تعليله المنع بأنّ :

(الغرض من الرّهن الوثيقة، ولا وثيقة مع تسلّط المالك على البيع والوطء أو غيره من المنافع الموجبة للنقص أو الإتلاف)(3).

أمّا الإجماع: فلم يثبت كونه تعبّديّاً.

وأمّا النبويّ : فلم يثبت استناد الأصحاب إليه، ولذلك تراهم يستدلّون على المنع بوجوهٍ اعتباريّة، ولو كان النبويّ حجّة لديهم لكانوا يستدلّون به.

وأمّا الوجه الأخير: فيرد على جميع تقاريبه التي مآلها إلى شيء واحد، وهو أنّه يتمّ بالنسبة إلى التصرّف المانع عن استيفاء المرتهن حقّه، وأمّا غير المانع فلا يصلح هذا الوجه شاهداً على المنع عنه.

وعليه، فما عن ظاهر الصدوق(4)، وصريح المحقّق الأردبيلي(5)، والفاضل الخراساني(6)، والمحدِّث البحراني(7) من جواز التصرّفات غير المنافية هو الأظهر، إذ6.

ص: 347


1- مسالك الأفهام: ج 4/47.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/27، الطبع القديم.
3- الدروس: ج 3/398.
4- من لايحضره الفقيه: ج 3/313 ح 4120.
5- مجمع الفائدة: ج 9/164.
6- كفاية الأحكام: ص 109.
7- الحدائق الناضرة: ج 20/266.

لا دليل على المنع عنها، والأصل يقتضي الجواز، وفي جملةٍ من النصوص(1) تجويز وطء الأمَة التي أُرهنت للرّاهن، وهي شاهدة بذلك أيضاً، واللّه العالم.

وعلى فرض التنزّل وتسليم المنع، لا إشكال في جواز التصرّف مع إذن المرتهن، كما أنّه يجوز للمرتهن مع إذن الرّاهن، وعليه تسالم الأصحاب.

أقول: ويمكن أنْ يُجعل ذلك قرينةً على عدم شمول النبويّ للتصرّفات غير المنافية، بتقريب أنّه من هذا التسالم والإجماع يستكشف أنّ المنع عن التصرّف ليس تعبّديّاً محضاً، بل إنّما هو لرعاية حَقّ المرتهن، فيختصّ بما ينافي حقّه، فلا يعمّ مطلق التصرّف ولو لم يكن منافياً له.

اشتراط وكالة المرتهن في البيع

المسألة السابعة: إذا حَلَّ الأجل وتعذّر الأداء:

فإنْ كان المرتهن وكيلاً في البيع، فلا إشكال في جواز بيعه واستيفاء حقّه.

وإنْ لم يكن وكيلاً، فليس له البيع، لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه، ولما ورد في ما إذا كان الرّاهن غائباً من المنع عن بيعه حتّى يجيء صاحبه(2).

نعم، له أنْ يراجع الرّاهن ويلزمه بالبيع، وإنْ امتنع رفع الأمر إلى الحاكم الشرعي، فيلزمه الحاكم بالبيع، فإنْ أبى باعه عليه، كما يفعل ذلك في سائر الحقوق، ففي خبر عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:

ص: 348


1- وسائل الشيعة: ج 18 باب 11 من أبواب كتاب الرهن / ص 396-397.
2- الكافي: ج 5/234 ح 5، وسائل الشيعة: ج 18/384 ح 23895، التهذيب: ج 7/169 ح 5، وسائل الشيعة: ج 18/385 ح 23897.

ولو شرط وكالة المرتهن لم ينعزل ما دام حيّاً

«كان أمير المؤمنين عليه السلام يجلس الرّجل إذا التوى على غرمائه، ثمّ يأمر به فيقسّم ماله بالحِصص، فإنْ أبى باعه فقسّم فيهم يعني ماله»(1).

وعلى الجملة: إنّ ذلك وظيفة الحاكم والقاضي كما نشاهد خارجاً، فيثبت لحكّام العدل بمقتضى ما دلّ على أنّه عجّل اللّه فرجه جعل المجتهد حاكماً وقاضياً(2).

وحيث أنّ إطلاق العقد لا يقتضي كون المرتهن وكيلاً في البيع، فقد وقع الخلاف (و) الكلام في أنّه (لو شرط) في ضمن عقد الرّهن (وكالة المرتهن) في البيع، فهل ينعزل بالعزل أم لا؟

المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون إجماعاً أنّه (لم ينعزل ما دام حيّاً).

وعن الشهيد رحمه الله في «اللّمعة»(3): أنّها كسائر الوكالات جائزة، فينعزل بالعزل.

وفي «الشرائع» بعد الحكم بأنّه ليس للرّاهن فسخ الوكالة قال: (على تردّدٍ)(4).

مقتضى إطلاق ما دلَّ على وجوب الوفاء بالشرط ولزومه(5) أنْ لا يكون له عزله لو شرط الوكالة بنحو شرط النتيجة.

أقول: وقد استدلّ للجواز:

1 - بأنّ الوكالة من العقود الجائزة، ومن شأنها تسلّط كلّ منهما على الفسخ.7.

ص: 349


1- التهذيب: ج 6/191 ح 37، وسائل الشيعة: ج 18/416 ح 23958.
2- الكافي: ج 1/54 ح 10، وسائل الشيعة: ج 27/136 ح 33416، التهذيب: ج 6/303 ح 53، وسائل الشيعة: ج 27/139 ح 33421.
3- اللّمعة الدمشقيّة: ص 119، الروضة البهيّة: ج 4/78.
4- شرائع الإسلام: ج 2/334.
5- وسائل الشيعة: ج 18 باب 6 من أبواب الخيار كتاب التجارة / ص 16-17.

ولو أوصى إليه لزم، والرّهانة موروثة

2 - وبأنّ الشروط لا يجبُ الوفاء بها وإنْ كانت في ضمن عقدٍ لازم، بل غايتها تسلّط المشروط له على فسخ العقد المشروط فيه.

3 - وبأنّ لزوم الشرط إنّما هو مع ذكره في ضمن عقدٍ لازم كالبيع، والرّهن ليس كذلك، فإنّ ترجيح أحد طرفيه على الآخر ترجيحٌ من غير مرجّح، إذ قد مرّ أنّه لازم من طرف الرّاهن، وجائزٌ من طرف المرتهن.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ جواز الوكالة الثابتة بالتوكيل غير ملازمٍ لجواز الوكالة الثابتة بالاشتراط، والفرض دلالة دليل الشرط على اللّزوم.

وأمّا الثاني: فلما مرّ من لزوم الشرط.

وأمّا الثالث: فلأنّ الشرط في ضمن العقد الجائز أيضاً لازم الوفاء ما دام العقد باقياً كما مرّ، مع أنّه حيث يكون الرّهن لازماً من طرف الرّاهن، كان مايلتزمه على الرّاهن على نفسه لازماً من جهته، عملاً بمقتضى اللّزوم، والشرط وقع من الرّاهن على نفسه.

وعليه، فالأظهر أنّه لا ينعزل ما دام حيّاً.

نعم، تبطل الوكالة المشروطة بموت المشروط له، وكذا بموت الشارط، لأنّ الوكالة إذنٌ في التصرّف، فيقتصر فيها على من إذن له، فإذا ماتَ أحدهما بطلت من هذه الجهة، إلّا أن يشترط أنْ يكون وارثه وكيلاً بعد موته، (و) كذا (لو أوصى إليه)، فإنّه ي (لزم) في هذين الموردين، ولا تبطل الوكالة.

ثمّ إنّه لما كان الرّهن وثيقةً على الدِّين، فما دام الدين باقياً يبقى الرّهن، (و) عليه ف (الرهانة مورثة) لو مات المرتهن.

ص: 350

والمرتهن أمينٌ لا يضمن بدون التعدّي، فيضمن به

المرتهن أمينٌ لا يضمن

المسألة الثامنة: (والمرتهن أمينٌ لا يضمن بدون التعدّي، فيضمن به).

أمّا عدم الضمان بدون التعدّي، فهو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل عن «الخلاف»(1)، و «الغُنية»(2)، و «السرائر»(3)، و «التذكرة»(4)، و «المفاتيح»(5):

الإجماع عليه.

أقول: والكلام فيه في موردين:

الأوّل: فيما تقتضيه القاعدة.

الثاني: في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا المورد الأوّل: فقد مرّ غير مرّة أنّ مقتضى القاعدة كون اليد من موجبات الضمان، إلّااليد الأمانيّة، من غير فرقٍ بين المالكيّة منها والشرعيّة، ومن غير فرق في المالكيّة بين العقديّة منها وغيرها، وعليه فلا ضمان عليه في المقام لأنّ يده أمانيّة.

أقول: وقد يستدلّ على عدم الضمان:

1 - بالنبويّ : «الخراج بالضمان»(6) بدعوى أنّ خراج الرّهن للراهن فضمانه

ص: 351


1- الخلاف: ج 3/256، مسألة 66.
2- الغنية: ص 245.
3- السرائر: ج 2/419.
4- تذكرة الفقهاء: ج 2/32، الطبع القديم.
5- مفاتيح الشرائع: ج 3/139 مفتاح 1020.
6- صحيح الترمذي: ج 2/377 ح 1304، سنن أبي داود: ج 2/145 ح 3508.

عليه، وقد مرّ الكلام فيه في كتاب الغصب(1).

2 - وبالنبويّ الآخر الذي استدلّ به هنا غير واحدٍ من الأصحاب، أنّه صلى الله عليه و آله قال:(2) «لا يغلق الرّهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه، وعليه غرمه، أي لا يملكه المرتهن بالارتهان»(3).

وأمّا المورد الثاني: ففي المقام طوائف من النصوص:

الطائفة الأُولى : ما تدلّ على عدم الضمان:

منها: صحيح إسحاق بن عمّار الصيرفي الثقة، قال: «قلتُ لأبي إبراهيم عليه السلام:

الرّجل يرتهن العبد، فيصبيه عور، أو ينقص من جسده شيء، على من يكون نقصان ذلك ؟ قال: على مولاه.

قلت: إنّ الناس يقولون: إنْ رهنتَ العبد فمرض أو انفقأت عينه، فأصابه نقصان من جسده، ينقص من مال الرّجل بقدر ما ينقص من العبد؟

قال: أرأيتَ لو أنّ العبد قَتَل قتيلاً على من تكون جنايته ؟ قال: جنايته في عنقه»(4).

ومنها: خبره الآخر، عنه عليه السلام: «قال: قلت: الرّجل يرهن الغلام والدّار فيصيبه الآفة، على من يكون ؟ قال عليه السلام: على مولاه»(5).

ومنها: صحيح جميل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل رهن عند رجلٍ رهناً فضاع الرّهن ؟3.

ص: 352


1- تقدّم ذلك في الصفحة 141 في الفصل العاشر من هذا الجزء.
2- كابن زهرة في الغنية: ص 245، والحِلّي في السرائر: ج 2/419.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/11 الطبع القديم، السنن الكبرى للبيهقي: ج 6/39.
4- من لايحضره الفقيه: ج 3/306 ح 4096، وسائل الشيعة: ج 18/386 ح 23901.
5- الكافي: ج 5/234 ح 10، وسائل الشيعة: ج 18/387 ح 23903.

قال عليه السلام: فهو من مال الرّاهن، ويرجع المرتهن عليه بماله»(1).

ونحوها غيرها.

الطائفة الثانية: ما تدلّ على الضمان:

منها: خبر محمّد بن قيس، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في الرّهن إذا كان أكثر من مال المرتهن فهلك، أن يؤدّي الفضل إلى صاحب الرّهن، وإن كان الرّهن أقلّ من ماله فهلك أدّى إلى صاحبه فضل ماله، وإنْ كان الرّهن يَسوى ما رهنه فليس عليه شيء»(2).

ومثله موثّق ابن بكير(3)، وأخبار أبي حمزة(4)، وعبد اللّه بن الحكم(5)، وإسحاق بن عمّار(6) وغيرها.

الطائفة الثالثة: ما تدلّ على عدم الضمان إلّامع التعدّي أو التفريط: كمرسل أبان، عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال في الرّهن: «إذا ضاع من عند المرتهن من غير أن يستهلكه، رجع بحقّه على الرّاهن فأخذه، وإنْ استهلكه ترادّ الفضل بينهما»(7).

أقول: الجمع بين النصوص يقتضي تقييد إطلاق الأوليتين بالثالثة، وتكون النتيجة عدم ضمان المرتهن إلّامع التعدّي أو التفريط، كما هو مقتضى القاعدة.4.

ص: 353


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/305 ح 4094، وسائل الشيعة: ج 18/385 ح 23898.
2- من لايحضره الفقيه: ج 3/312 ح 4115، وسائل الشيعة: ج 18/392 ح 23912.
3- الكافي: ج 5/234 ح 6، وسائل الشيعة: ج 18/391 ح 23911.
4- الكافي: ج 5/234 ح 7، وسائل الشيعة: ج 18/390 ح 23909.
5- من لايحضره الفقيه: ج 3/308 ح 4101، وسائل الشيعة: ج 18/392 ح 23913.
6- الكافي: ج 5/324 ح 9، وسائل الشيعة: ج 18/391 ح 23910.
7- الكافي: ج 5/234 ح 8، وسائل الشيعة: ج 18/387 ح 23904.

مثله إنْ كان مثليّاً، وإلّا قيمته يوم القبض،

وأمّا خبر عبيد بن زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجلٍ رهن عند رجلٍ مملوكة فجذم، أو رهن عنده متاعاً، فلم ينشر ذلك المتاع، ولم يتعاهده، ولم يحرّكه فتآكل، هل ينقص ماله بقدر ذلك ؟ قال عليه السلام: لا»(1)، الظاهر في عدم الضمان مع التفريط بترك الحفظ، فلعدم عمل الأصحاب به وإرساله لا يُعتمد عليه.

كما أنّ ما دلّ على عدم سماع دعوى المرتهن تلف الرّهن(2)، المخالف لما عليه قاعدة الائتمان من سماع دعوى التلف منه، لأنّ عدمه ينافي الائتمان، لعدم عمل الأصحاب به - غير ابن الجنيد(3) - يتعيّن طرحه.

أقول: وحيث ثبت أنّ الجمع بين الأخبار يقتضي الضمان في صورة التعدّي والتفريط، فاعلم أنّه يضمن ب (مثله إنْ كان مثليّاً وإلّا قيمته) كما هو الميزان في باب الضمان، كما مرّ في كتاب الغصب(4).

والكلام في أنّ المدار في القيمة على يوم الضمان، أو يوم الدفع أو غيرهما هو الكلام في ذلك في سائر الموارد، وقد مرّ تنقيح القول فيه، ولكن لا وجه لقيمة (يوم القبض) هنا أصلاً، ولو كان أبدل يوم القبض بيوم التعدّي الذي هو يوم خروج اليد عن كونها أمانيّة، كان أولى ، كما لا يخفى .ء.

ص: 354


1- من لايحضره الفيه: ج 3/309 ح 4109، وسائل الشيعة: ج 18/388 ح 23906.
2- التهذيب: ج 7/175 ح 30، وسائل الشيعة: ج 18/393 ح 23915.
3- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/428.
4- تقدّم ذلك في الصفحة 141، في الفصل العاشر من هذا الجزء.

والقول قوله مع يمينه في قيمته، وعدم التفريط،

حكم الاختلاف في القيمة

المسألة التاسعة: (و) لو اختلفا في القيمة بعد التلف بالتفريط أو التعدّي:

فعن الأكثر(1): أنّ القول قول الرّاهن.

وعن الحِلّي رحمه الله(2) والمصنّف هنا، والشهيدين(3)، وكثيرٌ من المتأخّرين(4): أنّ (القول قوله) أي قول المرتهن (مع يمينه في قيمته).

واستدلّ للأوّل: بأنّ المرتهن خائنٌ بتفريطه، فلا يقبل قوله.

وفيه: إنّ عدم قبول قوله من جهة أنّه خائنٌ لا ينافي قبوله من حيث أنّه منكر، لأصالة البراءة عن الزائد، وعليه فالأظهر هو الثاني.

نعم، إنْ كان الرّاهن مدّعياً للنقص، كما لو كان هو المتلف للرّهن، وأراد المرتهن القيمة منه ليجعلها رهناً، فادّعى الزيادة، كان القول قول الرّاهن للأصل الموجب لكونه منكراً حينئذٍ.

(و) لو اختلفا في التفريط وعدمه، فادّعاه الرّاهن وأنكره المرتهن، فالقول قول المرتهن في (عدم التفريط) لما مرّ من أنّه أمينٌ يقبل قوله للنهي عن اتّهام من ائتمن.

ص: 355


1- كما عن مسالك الأفهام: ج 4/74.
2- السرائر: ج 2/420-421.
3- الروضة البهيّة: ج 4/92.
4- كالمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 9/177، والمحقّق البحراني في الحدائق الناضرة: ج 20/282 وذكر أنّه قول المتأخّرين.

لا قَدَر الدَّين. وهو أحقّ به من باقي الغرماء.

ولو اختلفا في قدر الدين، فادّعى الرّاهن القلّة، والمرتهن الزيادة، فالقول قول الرّاهن، وإليه أشار المصنّف رحمه الله بقوله: (لا قَدَر الدَّين)، يعني أنّه لا يقدّم قول المرتهن في قَدَر الدَّين، لأصالة البراءة عن الزيادة الموجبة لصيرورة الرّاهن منكراً.

المسألة العاشر: إذا قصر مال الرّاهن عن ديونه:

1 - فقد يكون حيّاً.

2 - وقد يموتُ قبل أداء شيء منها.

فعلى الأوّل: إنْلم يُحجر عليه، فلا إشكال ولا خلاف في أنّ المرتهن أحقّ باستيفاء دينه من الرّهن، بل التعبير بالأحقيّة مسامحة، فإنّ له حقّاً متعلّقاً به دون غيره.

(و) أمّا إنْ حُجِر عليه ف (هو أحقّ به من باقي الغرماء)، كما هو المشهور شهرةً عظيمة، ولم ينقل الخلاف عن أحدٍ، وظاهر «المسالك»(1) الإجماع عليه، والوجه فيه - أنّ حقّه متعلّقٌ بالعين، فبمقدار حَقّه من العين لا يتعلّق حقّ الغرماء بها.

وبعبارة اُخرى : إنّه استحقّ الاستيفاء من الرّهن قبل تعلّق سائر الدِّيون بالأموال، فلا يشاركه أحدٌ، فإنّ حَقّ الغرماء يتعلّق بالمِلك الطلق.

وعلى الثاني: فالمشهور بينهم ذلك لما مرّ.

وعن ظاهر الصدوق(2) وجمعٍ من المحدِّثين: أنّه يشترك مع سائر الغرماء، واستندوا في ذلك إلى خبر عبد اللّه بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ أفلس وعليه دَينٌ لقومٍ ، وعند بعضهم رهون وليس عند بعضهم فمات، ولا يحيط0.

ص: 356


1- مسالك الأفهام: ج 4/39، قوله: (والخلاف في تقديم المرتهن على غرماء الميّت..).
2- من لايحضره الفقيه: ج 3/307 ح 4100.

ولو فضل من الدين شيء، شارك في الفاضل المرتهن ولو فضل من الرّهن وله دينٌ بغير رهن ساوى الغرماء فيه.

ماله بما عليه من الدَّين ؟

قال عليه السلام: يقسّم جميع ما خلّف من الرهون و غيرهاعلى أرباب الدَّين بالحِصص»(1).

ونحوه مكاتبة سليمان بن حفص(2).

أقول: كِلا الخبرين ضعيفان:

أمّا الأوّل: فلعبد اللّه(3) الضعيف المرتفع القول.

وأمّا الثاني: فلأنّ علماء الرجال لم ينصّوا على توثيق سليمان، ولا على مدحه.

أضف إلى ذلك إعراض المشهور عنهما، وعليه فالأظهر في هذا المورد أيضاً أنّه أحقّ به من باقي الغُرماء.

(و) حينئذٍ (لو فضل من الدين شيءٌ ) بأن قصّر الرّهن عن الوفاء بجميع الدَّين، (شارك) المرتهن مع الغرماء (في الفاضل) بلا خلافٍ ولا إشكال، لأنّ دينه في الذمّة، ولا يكون منحصراً في الرّهن.

(ولو فضل من الرّهن، و) كان (له دينٌ ) آخر (بغير رهن)، ولم يفِ الفاضل بما على الرّاهن من الدِّيون الثابتة عليه من المرتهن وغيره، (ساوى ) المرتهن مع (الغُرماء فيه).

المسألة الحادي عشرة: قد مرّ أنّ المرتهن ممنوعٌ من التصرّف في الرّهن، إلّامع7.

ص: 357


1- من لايحضره الفقيه: ج 3/307 ح 4100، وسائل الشيعة: ج 18/405 ح 23938.
2- التهذيب: ج 7/178 ح 41، وسائل الشيعة: ج 18/405 ح 23939.
3- رجال النجاشي: ص 225 رقم 591، الفهرست: ص 167.

ولو تصرّف المرتهن بدون إذن الرّاهن ضمن، وعليه الاُجرة.

ولو إذن الرّاهن في البيع قبل الأجل فباع، لم يتصرّف في الثمن

إذن الرّاهن، وعليه (لو تصرّف المرتهن بدون إذن الرّاهن) أثم و (ضمن) العين لو تلفت، (وعليه الاُجرة) بلا خلافٍ ولا إشكال:

1 - لأنّه استوفى منفعة مال الغير، فعليه ضمانها واُجرتها.

2 - وللخبر الحسن المرويّ عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال في الأرض البور يرتهنها الرّجل ليس فيها ثمرة، فزرعها وأنفق عليها ماله: أنّه يحتسب له نفقته وعمله خالصاً، ثمّينظر نصيب الأرض فيحسبه من ماله الذي ارتهن به الأرض حتّى يستوفى ماله، فإذا استوفى ماله فليدفع الأرض إلى صاحبها»(1).

حكم ما لو باع المرتهن الرَّهن

المسألة الثاني عشرة: سبق في كتاب البيع(2) حكم بيع الرّاهن مع إذن المرتهن أو بدون إذنه، (و) بقي البحث عن بيع المرتهن، فنقول:

إنْ كان بعد حلول الأجل، واشترط وكالته، صَحّ وسقط حقّ الرهانة.

وأمّا (لو أذن الرّاهن) للمرتهن (في البيع قبل الأجل، فباع) فالمشهور بل لم ينقل الخلاف إلّاعن بعض متأخّري المتأخّرين(3) أنّه (لم) يجز للمرتهن أن (يتصرّف في الثمن) على معنى كونه رهناً عنده عوض المبيع، كما صرّح به في «الجواهر»(4)،

ص: 358


1- الكافي: ج 5/235 ح 14، وسائل الشيعة: ج 18/395 ح 23917.
2- فقه الصادق: ج 24/148.
3- تهذيب الأحكام: ج 7/169 ح 8، وسائل الشيعة: ج 18/395 ح 23917.
4- جواهر الكلام: ج 25/214.

ومحكي «الروضة»(1).

بل قيل إنّه: (لا خلاف فيه سوى ما حكاه في «الجامع»(2) بلفظ القيل من أنّه لا يكون رهناً)(3).

ولكن الظاهر من صاحب «الحدائق» رحمه الله حيث قال: (ولم يحضرني الآن تصريح أحدٍ منهم بالحكم المذكور)(3)، أنّه لم يستظهر من كلام الأصحاب من المنع عن التصرّف فيه كونه رهناً.

أقول: وكيف كان، فإنْ كان مراد الأصحاب كون الثمن رهناً، فيشكل تطبيقه على القاعدة، إذ حَقّ الرهانة متعلّق بالمبيع بشخصه، وثبوته في عوضه يحتاج إلى دليل، وهم غير ملتزمين بذلك في عكس المسألة، وهو ما لو أذن المرتهن للراهن في البيع، فانهم قالوا بسقوط حَقّ الرهانة رأساً، وعدم تعلّقه بالثمن.

ودعوى: الفرق بينهما من جهة ظهور إذن المرتهن في البيع في إسقاط حقّه كما في «الجواهر»(5).

ممنوعة: لأنّه لو لم يكن البيع بنفسه مسقطاً فكيف يكون الإذن فيه إسقاطاً.

وعلى الجملة: تعلّق حَقّ الرهانة بالثمن يحتاج إلى دليل مفقودٍ.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ مراد الأصحاب بذلك، أنّه كما لو باع المرتهن بعد حلول الأجل بإذن الرّاهن، يسقط حَقّ الرهانة عن المبيع والثمن، غاية الأمر يبقى أثره،6.

ص: 359


1- الروضة البهيّة: ج 4/83.
2- الجامع للشرائع: ص 289. (3و5) جواهر الكلام: ج 25/214 و 215.
3- الحدائق الناضرة: ج 20/276.

إلّا بعده

وهو استيفاء الدَّين من الثمن، كذلك لو باعه قبل حلول الأجل، يسقط حَقّ الرهانة، ولكن أثره - وهو استيفاء الدّين من الثمن، لو لم يؤدّ الرّاهن - يكون باقياً، إلّا أنّه حيث لم يحلّ الأجل، ليس له التصرّف فيه باستيفاء الدَّين، حتّى مع الشرائط التي يجوز له التصرّف، لو كان بعد حلول الأجل، وعليه فيتمّ ما ذكروه.

كما يتمّ ماذكره المصنّف رحمه الله من قوله: (إلّا بعده).

ولا يرد عليه ما في «الجواهر»(1) من أنّ جواز التصرّف بعد حلول الأجل أيضاً واضح البطلان.

وبما ذكرناه يُجمع بين كلمات الأصحاب، ويظهر أنّ مراد من أنكر تعلّق حقّ الرهانة بالثمن، أنّه ليس بدلاً عن المبيع في كونه متعلّقاً لحقّ الرهانة، ومراد من أثبته أنّ له استيفاء الدّين منه بعد حلول الأجل على شرائطه بإذن الرّاهن أو امتناعه، وإذن الحاكم أو بدون إذنه، ويعضد ذلك تعبير الفقهاء عنه بعدم جواز التصرّف قبل حلول الأجل، وجوازه بعده لا بكونه رهناً، فتدبّر فإنّه دقيق لطيف.

نعم، يبقى الإشكال في عكس المسألة، ويمكن توجيه ما أفادوه هناك: بأنّ ظاهر إذن المرتهن في بيع الرّاهن لنفسه، أنّه يسقط حقّه من استيفاء الدَّين من الثمن.

وعليه، فلابدّ من التفصيل بين ما لوكان لكلامه المتضمّن للإذن هذا الظهور وعدمه، ولعلّه عليه قرينة نوعيّة. واللّه العالم.6.

ص: 360


1- جواهر الكلام: ج 25/216.

ولو خاف جحود الوارث ولا بيّنة، جاز أن يستوفي من الرّهن من ما في تحت يده،

لو خاف جحود الوارث للدين

المسألة الثالث عشرة: (ولو) كان له دينٌ على شخصٍ ومات، وعنده رهن منه:

فتارةً : لا يجحد الورثة الدَّين.

واُخرى : يجحدونه، أو يخاف المرتهن من جحودهم.

وعلى التقديرين:

1 - قد يتمكّن من إقامة البيّنة.

2 - وقد لا يكون عنده بيّنة مقبولة.

الصورة الاُولى: إن عَلم أو ظنّ ، بل (خاف جحود الوارث، ولا بيّنة) له، فالمعروف بين الأصحاب أنّه (جاز أن يستوفي من الرّهن من ما في تحت يده).

وعن شرح «الإرشاد» و «مجمع البرهان»(1): الإجماع عليه.

أقول: والأصل في ذلك - مضافاً إلى الإجماع، وإلى حديث نفي الضَّرر(2)، وما دلّ على جواز المقاصّة في بعض الموارد(3) -: مكاتبة المروزيّ لأبي الحسن عليه السلام:

ص: 361


1- مجمع الفائدة: ج 9/161.
2- وسائل الشيعة: ج 18 باب 17 من أبواب الخيار / ص 31-32.
3- سورة البقرة: الآية 194، سورة النحل: الآية 126، من لايحضره الفقيه: ج 3/186 ح 3699 و 3700 و 3701، وسائل الشيعة: ج 17/273-274 ح 22502 و 22503 و 22504.

«في رجلٍ مات وله ورثة، فجاء رجلٌ فادّعى عليه مالاً وأنّ عنده رهناً؟

فكتب عليه السلام: إنْ كان له على الميّت مالٌ ولا بيّنة له، فليأخذ ماله بما في يده، وليردّ الباقي على ورثته، ومتى أقرَّ بما عنده أخذ به وطولب بالبيّنة على دعواه، وأوفي حقّه بعد اليمين، ومتى لم يقم البيّنة، والورثة ينكرون، فله عليهم يمين علم، يحلفون باللّه يعلمون أنّ له على ميّتهم حقّاً»(1).

وضعف سنده منجبر بما سمعت.

وبه يظهر أنّ ذلك في صورة عدم الاعتراف بالرَّهن، وإلّا فلو اعترف به، وادّعى ديناً، لم يحكم له، وكُلّف البيّنة، وله إحلاف الوارث.

الصورة الثانية: لو لم يخف الجحود، ففيه قولان:

أحدهما: أنّ له أنْ يستوفي دينه، لإطلاق الخبر.

ثانيهما: المنع، لوجوب الاقتصار على المتيقّن فيما خالف أصل عدم جواز التصرّف في مال الغير إذنه.

أقول: والأوّل أظهر.

الصورة الثالثة: لو أقرَّ بما عنده، يؤخذ به، ويُطالب بالبيّنة، وإنْ تمكّن من إقامة البيّنة، ليس له استيفاء حقّه ممّا في يده، لإختصاص الخبر بما إذا لم يكن له بيّنة.

ودعوى صاحب «مجمع البرهان»:(2) من أنّ الرواية غير صريحة بالاشتراط - أي اشتراط عدم البيّنة - وإنّما فيها إشعارٌ يمكن أنْ يكون قد خَرج مخرج الغالب.

يدفعها: أنّ حمل القيد على الغالب بلا قرينة عليه غير صحيح، وعدم صراحة2.

ص: 362


1- التهذيب: ج 7/178 ح 41، وسائل الشيعة: ج 18/406 ح 23940.
2- مجمع الفائدة: ج 9/162.

والقولُ قولُ المالك مع ادّعاء الوديعة، وادّعاء الآخر الرّهن

الخبر بالاشتراط لا يضرّ بعد كون الحكم على خلاف القاعدة، لابدّ من الاقتصار فيه على المتيقّن من مورد الخبر.

وبالجملة: عدم جواز الاستيفاء لا يحتاج إلى دليل، فإنّ القواعد العامّة مقتضية له، وإنّما يتوقّف جوازه عليه، فعدم الصراحة يكفي في الحكم بالعدم.

التنازع في أنّ الشيء رهنٌ أو وديعة

المسألة الرابع عشرة: (و) إذا تنازعا في عين أنّها رهنٌ أو وديعة، ففيه أقوال:

القول الأوّل: ما هو المشهور من (القول قول المالك مع ادّعاء الوديعة، وادّعاء الآخر) القابض (الرّهن)، بل ربما استظهر من «النافع»(1) الإجماع عليه.

القول الثاني: ما عن «المقنع»(2) و «الاستبصار»(3)، من أنّ القول قول القابض.

القول الثالث: تقديم قول القابض إنْ اعترف المالك بالدين، وإلّا فقول المالك، نُسب ذلك إلى ابن حمزة(4).

القول الرابع: تقديم قول المالك إنْ كانت أمانة عند القابض، ثمّ ادّعى رهانتها، وقول القابض إنْ ادّعى الرهانة ابتداءً ، ذهب إليه ابن الجنيد(5).

ص: 363


1- المختصر النافع: ص 139.
2- المقنع، باب الرّهن والوديعة والعارية: ص 384-385.
3- الاستبصار: ج 3/123 ذيل حديث 3.
4- الوسيلة: ص 266.
5- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/404.

أقول: ثمّ إنّ محلّ النزاع أعمّ من صورة تحقّق الدَّين وعدمه، كما يشهد به نقل قول ابن حمزة في عداد الأقوال، وما أفاده ابن حمزة رحمه الله أظهر:

أمّا في صورة تحقّق الدّين:

1 - فلأنّ اليد كما تكون أمارة على الملكيّة، تكون أمارة على الحقّ ، واليد مقدّمة على أصالة عدم الرهانة، فيكون القابض منكراً.

2 - ولخبر عبّاد بن صُهيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن متاعٍ في يد رجلين أحدهما يقول استودعتكه، والآخر يقول هو رهن ؟

فقال عليه السلام: القول قول الذي يقول هو إنّه رهن، إلّاأن يأتي الذي ادّعى أنّه أودعه بشهود»(1).

3 - وموثّق ابن أبي يعفور، عن مولانا الصادق عليه السلام:

«في الاختلاف في مقدار الدين الذي عليه الرّهن ؟

قال: فإنْ كان الرّهن أقلّ ممّا رَهَن به أو أكثر واختلفا، فقال أحدهما: هو رهن، وقال الآخر: هو وديعة ؟

قال عليه السلام: على صاحب الوديعة البيّنة، فإنْ لم يكن بيّنة حَلَف صاحب الرّهن»(2).

ونحوه صحيح أبان(3)، بناءً على أنّه خبرٌ آخر.

ودعوى: أنّ هذه النصوص مُعرَضٌ عنها عند الأصحاب، فلا يستند إليها.

مندفعة: بأنّه يمكن أنْ يكون محلّ كلام جماعة منهم صورة عدم تحقّق الدين،1.

ص: 364


1- الكافي: ج 5/238 ح 4، وسائل الشيعة: ج 18/401 ح 23932.
2- التهذيب: ج 7/174 ح 28، وسائل الشيعة: ج 18/401 ح 23931.
3- من لايحضره الفقيه: ج 3/312 ح 4116، وسائل الشيعة: ج 18/401 ح 23931.

مع أنّه يمكن أنْ يكون عدم إفتائهم بما تضمّنته هذه النصوص، لتخيّل معارضتها مع النصوص الآتية، وعليه فالإعراض المسقط عن الحجيّة غير ثابت.

وأمّا في صورة عدم تحقّق الدّين: فلصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام:

«في رجلٍ رهن عند صاحبه رهناً، فقال الذي عنده الرّهن: ارتهنته عندي بكذا وكذا، وقال الآخر: إنّما هو عندك وديعة ؟

فقال عليه السلام: البيّنة على الذي عنده الرّهن أنّه بكذا وكذا، فإنْ لم يكن له بيّنة فعلى الذي له الرّهن اليمين»(1).

واختصاصه بصورة عدم تحقّق الدين ظاهرٌ، فبه يقيّد إطلاق النصوص المتقدّمة.

أقول: وأوضح من ذلك اختصاصاً بهذه الصورة مكاتبة المروزيّ المتقدّمة في المسألة المتقدّمة، فالجمع بين النصوص يقتضي البناء على التفصيل بين صورة تحقّق الدين وعدمه.

وقد استدلّ في «الجواهر»(2) للقول المشهور:

1 - بموثّق إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام في الاختلاف في الوديعة والقرض: «أنّ القول قول صاحب المال مع يمينه»(3)، بدعوى أنّ خصوص المورد لا يخصّص الوارد، فيستفاد منه حينئذٍ أصالة عدم الحكم بمال الإنسان بغير قوله، وإنْ كان مدّعياً، فضلاً عمّا نحن فيه ممّا هو مُدّعى عليه.

2 - وصحيح ابن مسلم المتقدّم آنفاً.7.

ص: 365


1- التهذيب: ج 7/174 ح 26، وسائل الشيعة: ج 18/400 ح 23930.
2- جواهر الكلام: ج 25/262-263.
3- الكافي: ج 5/238 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/404 ح 23937.

3 - مكاتبة المروزي المتقدّمة آنفاً.

أقول: لكن الموثّق متضمّنٌ لحكمٍ خاص في مورد مخصوص، لا يتعدّى عنه، وعدم مخصّصيّة المورد للوارد إنّما هو فيما لو كان الوارد عامّاً وارداً، لا ما إذا كان خاصّاً كما في الموثّق، فإنّه لا شبهة في الاختصاص حينئذٍ.

وأمّا الصحيح والمكاتبة، فقد عرفت حالهما.

واستدلّ للثاني: بإطلاق النصوص المتقدّمة، ولكن قد عرفت أنّه لابدّ من تقييدها بالصحيح والمكاتبة.

وأمّا ما عن ابن الجنيد، فالظاهر رجوعه إلى القول الثاني، لأنّ محلّ الخلاف بحسب الظاهر إنّما هو صورة ادّعاء الرهانة ابتداءً .

وأمّا في صورة اعتراف القابض بكون ما في يده أمانة، وادّعى أنّه صار رهناً، فهي خارجة عن مورد النزاع، والحكم فيها ما أفاده من تقديم قول المالك لانصراف النصوص عن هذا الفرض.

وقاعدة اليد المتقدّمة لا مورد لها بعد استصحاب بقاء يده على ما كانت من كونها على وجه الأمانة، الذي هو أصلٌ موضوعي مبيّن لحال اليد، فلا تكون حينئذٍ أمارة على حقّه. واللّه العالم.

***

ص: 366

الفصل الثالث: في الحَجْر، وأسبابه ستّة:

(الفصل الثالث: في الحَجْر)

اشارة

كلمة الحَجر تقرأ مثلّثاً، وهو في اللّغة(1) بمعنى المنع والتضييق، ومنه سُمّي الحرام حِجراً لما فيه من المنع، قال اللّه تعالى (وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) (2) أي حراماً محرّماً، وسُمّي العقل حِجراً لأنّه يمنع صاحبه من ارتكاب القبيح، وما تضرّ عاقبته.

والمحجور عليه شرعاً، هو الممنوع عن التصرّف في ماله شرعاً.

وفي «المسالك»: (المراد مطلق التصرّف، أعمّ من كونه في جميع المال وبعضه، فيشمل الصبي، ونحوه الممنوع من التصرّف في جميع المال، والمريض الممنوع من التصرّف في بعض المال)(3).

(و) كيف كان، فتنقيح القول يتحقّق بالبحث في مواضع:

الموضع الأوّل: في (أسبابه):

وهي كثيرة، إلّاأنّ عادة الفقهاء جارية على ذكر (ستّة) منها في هذا الباب، وأمّا ما سواها - كالرَّهن، والإرتداد، وما شاكل - فهي مذكورة في تضاعيف الفقه.

ثمّ إنّ الستّة المذكورة هنا مرجعها إلى قسمين:

أحدهما: ما يوجبُ المنع لمصلحة الَمحجور عليه ولحقّه.

ص: 367


1- الصحاح: ج 2/624، لسان العرب: ج 4/167 مادّة حجر.
2- سورة الفرقان: الآية 22.
3- مسالك الأفهام: ج 4/139.

الأوّل: الصغير، فالصغير ممنوعٌ عن التصرّف، إلّامع البلوغ والرُّشد،

والثاني: ما يوجبُ الحَجر لحقّ غيره.

فالأوّل: الصغر والجنون، والسفه والثاني الباقي.

الصغير ممنوعٌ عن التصرّف في ماله

السبب (الأوّل): من الستّة المذكورة في هذا الباب، هو (الصِّغر)، ويقع البحث عنه في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: لا خلاف في الجملة في أنّ الصّغر من أسباب الحجر (فالصغير ممنوعٌ عن التصرّف، إلّامع البلوغ والرشد).

أمّا منع الصغير غير البالغ عن التصرّف فإجماعيٌّ في الجملة، قال في «التذكرة»: (وهو محجورٌ عليه بالنَّص والإجماع، سواء كان مميّزاً أو لا في جميع التصرّفات، إلّاما يستثنى كعباداته وإسلامه وإحرامه...)(1) إلى آخره.

وظاهر «الشرائع»(2) وغيرها(3): أنّ الحَجر إنّما هو باعتبار التصرّف المالي.

أقول: وما أفاده المصنّف أظهر، لأنّ بعض أدلّة المنع وإنْ اختصّت بالتصرّف المالي، إلّاأنّ جملة منها عامّة لجميع التصرّفات الاعتباريّة، وقد ذكرنا هذا الحكم في كتاب البيع(4).

ص: 368


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/73، الطبع القديم.
2- شرائع الإسلام: ج 2/351-353.
3- كما في الجامع للشرائع: ص 359.
4- فقه الصادق: ج 23/58.

واستدلّ له بوجوه، واستوفينا البحث فيها - وإنّما نشير في المقام إلى أدلّة المنع:

منها: الآية الكريمة (وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (1).

وتقريب الاستدلال بها على المنع: أنّ الظاهر منها من جهة جعل البلوغ غاية الابتلاء والامتحان وغير ذلك من القرائن، كون جواز الدفع مشروطاً بشرطين؛ هما البلوغ والرّشد، فمفهومها عدم جواز الدفع مع السّفاهة أو الصباوة، وليس ذلك إلّا من جهة حجره في تصرّفاته، بل المراد من عدم الدفع ذلك.

ثمّ إنّ الآية الكريمة إنّما تدلّ على المنع عن تصرّفات الصبيّ مع كونه مستقلّاً فيها، أو كون المعاملة مستندة إليه، وإنْ كان أذِن له الوليّ ، ويكون الصبيّ من قبيل الوكيل المفوّض، بل الظاهر منها هو المنع عن القسم الثاني من جهة توجيه الخطاب فيها إلى الوليّ وتضمّنها المنع عن الدفع قبل البلوغ.

فالمتحصّل منها عدم استقلال الصبيّ في المعاملات، وإنْ أذِنَ له الوليّ ، ولكنّها لا تدلّ على جعل إنشائه كلّا إنشاء، مع عدم كون التصرّف تصرّفاً له، بل من تصرّفات وليّه، وكون البيع بيعه مثلاً، وهي وإنْ اختصّت بأمواله، إلّاأنّه يكفي في منعه عن التصرّفات في مال غيره وسائر التصرّفات غير الماليّة عدم القول بالفصل.

ومنها: حديث رفع القلم عن الصبيّ :

1 - ما رواه الصدوق رحمه الله في «الخصال» عن ابن الظبيان، عن أمير المؤمنين عليه السلام في سقوط الرَّجم عن الصبيّ :6.

ص: 369


1- سورة النساء: الآية 6.

«أما علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبيّ حتّى يحتلم، وعن المجنون حتّى يفيق، الحديث»(1).

2 - وروي عن «قُرب الإسناد» عن عليّ عليه السلام في سقوط القصاص والدّية في ماله: «وقد رُفع عنهما القلم»(2).

3 - وفي موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الغلام متى يجبُ عليه الصلاة ؟

قال عليه السلام: إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة، فإنْ احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، وجرى عليه القلم»(3).

ونحوها غيرها.

وتقريب الاستدلال بها: أنّ مقتضى إطلاق القلم المرفوع هو قلم التكليف والوضع، ولازم ذلك بطلان عقده مستقلّاً أو مع إذن الوليّ ، بشرط كونه كالوكيل المفوّض.

وأمّا العقد الصادر من الصبيّ بإذن الوليّ على نحو كونه آلةٌ محضة، الذي له نسبتان: نسبةٌ إلى الصبيّ ، ونسبةٌ إلى الوليّ ، غاية الأمر نسبته إليه إنّما تكون بالتسبيب، فلا يدلّ الحديث على بطلانه حتّى من الجهة الثانية.

ولا منافاة بين عدم نفوذ ما هو عقد الصبيّ بالمباشرة، ونفوذ ما هو عقد الوليّ ، إذ القلم رفع عن الصبيّ لا عن الوليّ ، هذا على فرض تسليم صدق كون العقد والبيع2.

ص: 370


1- الخصال: ج 1/93 ح 40، وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 81.
2- قرب الإسناد: ص 72، وسائل الشيعة: ج 29/90 ح 35225.
3- التهذيب: ج 2/380 ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 82.

عقد الصبيّ ، مع كونه مُجري الصيغة خاصّة وكون طرف المعاملة عند العرف هو الوليّ ، وإلّا فعدم دلالته على سلب عبارته أوضح.

وعليه، فما عن «المبسوط»(1) في مسألة الإقرار من أنّ مقتضى رفع القلم أن لا يكون لكلامه حكمٌ وتبعه غيره(2) وقالوا إنّه يدلّ على أنّ إنشائه كلّا إنشاء غير تامّ .

وفي المقام إشكالات خمسة واردة على الاستدلال بالحديث، ذكرناها مع أجوبتها في كتاب البيع(3) ن.

ومنها: النصوص(4) الدالّة بالمنطوق والمفهوم على عدم جواز أمر الصبيّ في البيع والشراء، ومقتضى إطلاقها بطلان ذلك بالمعنيين الأولين، وأمّا بالمعنى الثالث - وهو مالو كان الصبيّ آلة محضة - فلا تدلّ عليه، لعدم صدق كون البيع والشراء له، وعلى هذا التزموا بعدم ثبوت خيار المجلس لمجري الصيغة، لعدم صدق البيع عليه، فالبيع مثلاً إنّما يكون بيع الوليّ أو الموكّل والأمر أمره، ومجرّد الصيغة لا يكون موضوع النفوذ.

ولو تنزّلنا عن ذلك، فلا أقلّ من أنّ مثل هذا البيع له نسبتان: نسبةٌ إلى الصبيّ ، ونسبةٌ إلى الوليّ أو الموكّل، فلا مانع من نفوذه ومضيّه بالاعتبار الثاني كما تقدّم، ويشهد لما ذكرناه استثناء السفيه في بعض تلك الأخبار، حيث أنّ السفيه ليس مسلوب العبارة، فمن استثنائه يُعلم أنّ المراد عدم الاستقلال في التصرّف.1.

ص: 371


1- المبسوط: ج 3/3.
2- كالعلّامة في تذكرة الفقهاء: ج 2/145، الطبع القديم.
3- فقه الصادق: ج 23/62.
4- وسائل الشيعة: ج 18 باب 2 من أبواب كتاب الحجر / ص 410-412، و ج 17 باب 14 من أبواب عقد البيع وشروطه: ص 360-361.

وقد يستدلّ لذلك: بالنصوص المتضمّنة لكون عمد الصبيّ وخطائه واحد(1)، وقد استوفينا البحث فيها في كتاب البيع(2)، وأثبتنا اختصاصها بباب الجنايات، وأنّها لا تشمل المعاملات.

أقول: قد استدلّ لجواز تصرّفات الصبيّ :

تارةً : بالآية المتقدّمة، إمّا بتقريب أنّه جُعل فيها المدار على الرشد، وأنّه مع استئناس الرشد لا يتوقّف في دفع المال، ولا ينتظر البلوغ، وأنّ اعتبار البلوغ طريقي اعتبر أماريّة إلى الرشد بلا موضوعيّة له، وذلك بجعل الجملة الأخيرة استدراكاً عن صدر الآية.

أو بتقريب أنّ ظاهر الآية كون الابتلاء قبل البلوغ، بقرينة التعبير بقوله:

(اَلْيَتامى ) ، وقوله: (حَتّى) سواءٌ كانت للغاية أم للابتداء، والظاهر من قوله تعالى : (اِبْتَلُوا) الابتلاء بالمعاملات على الأموال، بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحّة تصرّفاتهم.

واُخرى : بمرسل «المبسوط»(3): «وروي أنّه إذا بلغ عشر سنين، وكان رشيداً، كان جائز التصرّف».

وثالثةً : بالنصوص الدالّة على جواز وصيّته وصدقته وعتقه(4)، فإنّه لو التزم بخروجها عن حديث رفع القلم، يرد عليه إباء سياقه عن التخصيص.1.

ص: 372


1- وسائل الشيعة: ج 29 باب 11 من أبواب العاقلة من كتاب الديات / ص 400-401.
2- فقه الصادق: ج 23/66.
3- المبسوط: ج 2/163.
4- وسائل الشيعة: ج 19 باب 44 من أبواب كتاب الوصايا / ص 360-365، وباب 15 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات: ص 211-212، وج 23 باب 56 من أبواب كتاب العتق / ص 91.

ورابعةً : بالسّيرة التي ادّعاها سيّد «الرياض»(1).

وخامسةً : بخبر السكوني، عن مولانا الصادق عليه السلام، في حديثٍ :

«نهي رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة بيده، فإنّه إنْ لم يجد سَرَق»(2).

فإنّ حصر الكراهة فيما اكتسبه الغلام بما إذا لم يحسن صناعة بيده، واحتمل سرقته، أقوى شاهد على نفوذ معاملاته.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا التقريب الأوّل للآية: فلأنّه لو لم يكن الأمر بدفع المال متفرّعاً على الرشد بعد البلوغ لا مطلق الرشد، لم يكن وجهٌ لجعل غاية الابتلاء هو البلوغ، وكان ذكر (حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ ) زائداً، وحمله على الطريقيّة إلى الرشد خلاف الظاهر.

وأمّا التقريب الثاني لها: فلأنّه لا إشكال كما مرّ في دلالة الآية على عدم كون الصبيّ مسلوب العبارة، إلّاأنّها لا تدلّ على كونه مستقلّاً في التصرّف، لحصول الابتلاء مع إذن الوليّ أو إجازته، وحيث أنّ ظاهر الآية كما مرّ عدم صحّة تصرّفاته استقلالاً، فلابدّ من البناء على ذلك.

وأمّا المرسل: فلإرساله وعدم العمل حتّى من مرسله به لا يعتمد عليه.

وأمّا النصوص: المجوّزة لوصيّته وعتقه وصدقته، فعلى فرض تسليم القول بجوازها، لا مانع من الالتزام بالتخصيص، وإباء حديث الرفع عنه ممنوعٌ .1.

ص: 373


1- رياض المسائل: ج 9/377 الطبع الجديد.
2- الكافي: ج 5/128 ح 8، وسائل الشيعة: ج 17/163 ح 22251.

وأمّا السيرة: فهي غير قابلة للتشكيك فيها، إلّاأنّ المتيقّن منها المعاملة بإذن الأولياء، بل سيّد «الرياض» ادعاها في هذا المورد.

وأمّا خبر السكوني:

فإنْ كان الاستدلال به من جهة التخصيص بمن لا يحسن الصناعة بيده.

فيردّه: أنّ القيد لا مفهوم له، وإنْ كان من جهة العلّة فهي عامّة لجميع الموارد، مع أنّها من قبيل الحكمة.

وإنْ كان من جهة ظهوره في الكراهة.

فيرد عليه: أنّ النهي ظاهر في الحرمة لا الكراهة.

وتفصيل القول فيه في كتاب البيع(1).

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأدلّة تدلّ على عدم نفوذ تصرّفات الصبيّ الاعتباريّة إنْ كان مستقلّاً فيها، وأمّا لو كان آلة محضة، فلا دليل على المنع، فلا يكون الصبيّ مسلوب العبارة.

وذكروا موارد استثنوها من أدلّة المنع، ذكرناها في كتاب البيع، فراجع(2).

المسألة الثانية: إذا بلغ الصبيّ وكان رشيداً تجوز تصرّفاته إجماعاً وكتاباً وسُنّةً .

***1.

ص: 374


1- فقه الصادق: ج 23/74.
2- فقه الصادق: ج 23/81.

ويُعلم الأوّل بالإنبات أو الاحتلام، أو بلوغ خمس عشرة سنة في الذكور، وتسع في الاُنثى .

علامات البلوغ

المسألة الثالثة: (ويُعلم الأوّل) أي البلوغ:

1 - (بالإنبات) للشعر الخَشن على العانة الّتي حول الذكر والقُبُل، من غير فرقٍ في ذلك بين الذكر والاُنثى .

2 - (أو الاحتلام).

3 - (أو بلوغ خمس عشرة سنة في الذكور، وتسع في الاُنثى ) على المشهور.

أقول: ونخبة القول يتحقّق بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: في الإنبات.

لا خلاف في ثبوت البلوغ بإنبات الشعر الخشن، وإنّما قيّدوا الشعر بالخَشن تحرّزاً عن الشعر الضعيف الذي قد يوجد في الصغير، ويعبّر عنه بالزعب.

وعن «التذكرة»: (نبات هذا الشعر دليلُ البلوغ في حَقّ المسلمين والكفّار عند علمائنا أجمع)(1) انتهى .

وذِكْر تسوية المسلم والكافر للتنبيه على خلاف بعض العامّة، حيث خصّه بالكافر، وربما نُسب إلى الشيخ(2) رحمه الله، لكنّه في محكي «الخلاف»(3) ادّعى الإجماع

ص: 375


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/73 الطبع القديم.
2- ذكر النسبة الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: ج 4/142.
3- الخلاف: ج 3/281، كتاب الحجر مسألة 1.

على أنّه علامة البلوغ في حَقّ المسلمين والمشركين.

وكيف كان، فيشهد لكونه علامة البلوغ مطلقاً:

1 - الإجماع المحكيّ مستفيضاً.

2 - وحسن يزيد الكناسي، عن الإمام الباقر عليه السلام وهو طويلٌ ، قال عليه السلام في آخره:

«إنّ الغلام إذا زوّجه أبوه ولم يدرك، كان له الخيار إذا أدرك وبلغ خمس عشرة سنة، أو يشعر في وجهه، أو ينبت في عانته قبل ذلك»(1).

والمراد بالشَّعر في الوجه هو اللّحية والشارب، واستقرب في محكي «التحرير»(2) كون نبات اللّحية دليلاً دون غيره من الشعور، والعادة قاضية به.

3 - وخبر حمزة بن حمران، عنه عليه السلام: «الغلام لا يجوزُ أمره في الشراء والبيع، ولا يخرج عن اليُتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنةً أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك»(3).

4 - وخبر أبي البُختري، عن جعفرٍ، عن أبيه عليهما السلام، قال:

«إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عرضهم - أي المراهقين - يومئذٍ على العانات، فمن وجده أنبت قتله، ومن لم يجده أنبت ألحقه بالذراري»(4).

وفي النصوص وإنْ لم يقيّد الشَّعر بالخَشن، إلّاأنّه من جهة أنّ الخشن هو المعهود في اختيار البلوغ، يحمل عليه الإطلاق صرفاً له إلى المعهود.

وهل يختصّ هذه العلّامة بالذكور، أم تعمّ الإناث ؟2.

ص: 376


1- التهذيب: ج 7/382 ح 20، وسائل الشيعة: ج 20/278 ح 25626.
2- تحرير الأحكام: ج 2/535 الطبع الجديد.
3- الكافي: ج 7/197 ح 1، وسائل الشيعة: ج 17/360 ح 22751.
4- التهذيب: ج 6/173 ح 17، وسائل الشيعة: ج 15/147 ح 20182.

وجهان، أقواهما الثاني، لأنّه وإن اختصّت النصوص بالذُّكور، إلّاأنّ الإجماع قائمٌ على كونه علامة في الاُنثى أيضاً، والظاهر أنّ عدم التعرّض فيها للنساء من جهة تأخّر إنبات هذا الشعر عن تسع سنين بكثير، فلا يحتاج إليه فيهنّ .

أقول: صرّح غير واحدٍ من الأصحاب(1) بأنّ خروج اللّحية أيضاً من علامات البلوغ، والخبران الأولان شاهدان به، فلا مانع من الالتزام بذلك، وإنّما لم يتعرّض أكثر الأصحاب له من جهة تأخّر خروجها عن العلامات الاُخر، فيقلّ الاحتياج إليه.

وهل الإنبات بلوغٌ بنفسه، أو دليلٌ على سبق البلوغ ؟ قولان:

قال في «المسالك»: (والمشهور الثاني)(2).

وظاهر الماتن، والمحقّق في «الشرائع»(3) و «النافع»(4): هو الأوّل.

بل عن «مفتاح الكرامة»(5): نسبته إلى صلاة «التهذيب»، وصوم «المبسوط» وحدوده، ووصايا «النهاية» و «المهذّب»، وخُمس «الوسيلة»، وصوم «السرائر» ووصاياها، و «كشف الرموز»، وصوم «الجامع» وحجره، وحجر «الإرشاد» وغير تلكم من الكتب.

ومع ذلك قال العلّامة الطباطبائي(6): (لم أجد بهذا القول مصرّحاً من الأصحاب).9.

ص: 377


1- كما في الحدائق الناضرة: ج 20/347، وجواهر الكلام: ج 26/8.
2- مسالك الأفهام: ج 4/141.
3- شرائع الإسلام: ج 2/351.
4- المختصر النافع: ص 140.
5- مفتاح الكرامة: ج 5/235.
6- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 26/9.

واستدلّ لكونه دليلاً على سبق البلوغ في «المسالك»:

1 - (بتعليق الأحكام في الكتاب والسُنّة على الحلم والاحتلام، فلو كان الإنبات بلوغاً بنفسه لم يخصّ غيره بذلك.

2 - وبأنّ البلوغ غير مكتسب، والإنبات قد يكتسب بالدّواء.

3 - وبحصوله على التدريج، والبلوغ لا يكون كذلك)(1).

ولكن يرد الأوّل: أنّه في الخبرين المتقدّمين ذُكر الإنبات رديفاً للعلامتين الاُخرتين، وظاهرهما كونه علامة البلوغ مثلهما، وما علّق فيه الأحكام على الحلم والاحتلام كما يتصرّف فيه بما دلّ على كون السن علامةً ، كذلك يتصرّف فيه بالخبرين.

وما أفاده قدس سره من أنّه لا دليل على القول الآخر، سوى ترتّب أحكام البلوغ عليه، وهو أعمّ من المدّعى، فكأنّه نظر إلى الخبر الثالث، وغفل عن الأولين.

ويرد الثاني: أنّ الإشكال مشتركُ الورود، كونه علامة للبلوغ أو على سبقه، بل على الثاني أظهر.

والحلّ : أنّ العلامة هي الإنبات الحاصل من اللّه سبحانه بمقتضى العادة والطبيعة.

ويرد الثالث: أنّ العلامة تحصل بمجرّد خروج الشعر، وصدق هذا العنوان، ولا تتوقّف على تزايده وكماله.

وعليه، فالأظهر كونه علامة البلوغ لا دليلاً على سبقه.

وتظهر ثمرة النزاع في قضاء ما يجب قضائه من العبادات، وفي نفوذ إقراره1.

ص: 378


1- مسالك الأفهام: ج 4/141.

وتصرّفاته المتقدّمة على الاختبار بزمانٍ يعلم عدم تأخّر بلوغه عنه.

المورد الثاني: في الاحتلام.

والمراد به خروج المنيّ من الموضع المعتاد، والمنيّ هو الماء الدافق الذي يخلق منه الولد، والظاهر أنّ هذا هو مراد المحقّق في «الشرائع»(1) حيث قيّده ب (الذي يكون منه الولد)، فما فهمه جماعة(2) منه أنّ المنيّ ينقسم قسمين: ما يكون منه الولد، وما لا يكون منه الولد، وأنّ البلوغ لا يتحقّق إلّابالأوّل، في غير محلّه.

وكيف كان، فهو علامة البلوغ في الذكر والانثي، ولا خلاف في كونه علامةً له، بل الإجماع بقسميه عليه، ويشهد به من الكتاب:

1 - قوله تعالى : (وَ إِذا بَلَغَ اَلْأَطْفالُ مِنْكُمُ اَلْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) (3).

قال في «التذكرة»: (الحُلُم هو خروج المنيّ من الذكر أو قُبُل المرأة مطلقاً، سواءًكان بشهوة أو بغيرشهوة، كان بجماعٍ أوغير جماع، وسواء كان في نومٍ أو يقظة)(4).

2 - وقوله تعالى : (وَ اَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا اَلْحُلُمَ ) (5).

3 - وقوله تعالى : (وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ ...) (6).

والمراد ببلوغ النكاح: شهوة النكاح والوطء والقدرة على الإنزال.

4 - وقوله عزّ وجلّ : (وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (7).2.

ص: 379


1- شرائع الإسلام: ج 2/351.
2- كما عن مسالك الأفهام: ج 4/142.
3- سورة النور: الآية 59.
4- تذكرة الفقهاء: ج 2/74 الطبع القديم.
5- سورة النور: الآية 58.
6- سورة النساء: الآية 6.
7- سورة الأنعام: الآية 152.

ومن السُنّة، روايات عديدة:

1 - خبر هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام: «انقطاع يُتم اليتيم بالاحتلام، وهو أشدّه»(1).

2 - وموثّق عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «عن قول اللّه عزّ وجلّ : (حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ ) ؟ قال عليه السلام: الاحتلام»(2).

3 - وحديث رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم المتقدّم، الذي رواه الفريقان، وعن الحِلّي(3) أنّه مجمعٌ على روايته.

4 - والنبويّ المشهور المتلقى بالقبول في وصيّته صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: «يا عليّ لا يُتم بعد احتلام»(4).

5 - وخبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّ أولاد المسلمين موسومون عند اللّه شافعٌ مشفّع، فإذا بلغوا اثنتي عشرة سنة كُتبت لهم الحسنات، فإذا بلغوا الحُلُم كتبت عليهم السيّئات»(5).

6 - وخبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن اليتيم متى ينقطع يُتمه ؟ قال عليه السلام:

إذا احتلم وعرف الأخذ والإعطاء»(6).

ومنها غير تلكم من النصوص الكثيرة.6.

ص: 380


1- الكافي: ج 7/68 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/409 ح 23942.
2- التهذيب: ج 9/182 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/363 ح 24768.
3- السرائر: ج 3/324.
4- من لايحضره الفقيه: ج 4/352 ح 5762، وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 79.
5- الكافي: ج 6/3 ح 8، وسائل الشيعة: ج 1/42 ح 71.
6- قرب الإسناد: ص 119، وسائل الشيعة: ج 1/44 ح 76.

أقول: ومفاد هذه الأدلّة وإنْ كان مختلفاً - ففي بعضها جعل الاحتلام علامة وهو الرؤية في المنام، وفي بعضها جُعل الحُلُم علامةً ، وهو كما مرّ خروج المنيّ ، وفي الآية الثالثة جُعل المدار على بلوغ النكاح - إلّاأنّه لا تنافي بينها، فإنّ المتحصّل منها أنّ البلوغ عبارة عن حدوث حالةٍ في الإنسان يخرجُ بها عن حالة الطفوليّة إلى غيرها، وأنّه ينبعث عنها خروج المني بالوطء أو الاستمناء أو الرؤية في المنام، غاية الأمر علامة هذه الحالة لغير البالغ إنّما تكون بخروج المني، فإنّه لا يُعرف تحقّق تلك الحالة إلّابذلك، وهذا هو السِّر في تعبير الفقهاء عن هذه العلّامة بخروج المني.

ولكن مع ذلك كلّه، الالتزام بترتّب أحكام البلوغ على البالغ نفسه من الصلاة والصيام وما شاكل بمجرّد بلوغ النكاح، وإنْ لم تتحقّق إحدى العلامات الاُخر من الإنبات والسِّن وخروج المني، لا يخلو عن إشكال، لعدم إفتاء الفقهاء، والاحتياط طريق النجاة.

ومقتضى إطلاق النصوص عدم الفرق في هذه العلّامة أيضاً بين الذكر والاُنثى كماهو المشهور، بل عن «التذكرة»(1): الإجماع عليه، وفي «المسالك»: (هذا عندنا وعند الأكثر موضع وفاق)(2).

المورد الثالث: في السِّن.

المشهور(3) بين الأصحاب أنّه في الذكور بلوغ خمس عشرة سنة، وفي الاُنثى بلوغ تسع سنين.4.

ص: 381


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/74، الطبع القديم.
2- مسالك الأفهام: ج 4/143.
3- كما عن الروضة البهيّة: ج 2/144.

وعن غير واحدٍ(1): دعوى الإجماع عليه.

وعن «مفتاح الكرامة»(2): كادت تبلغ إجماعات المسألة اثني عشر، من صريحٍ ، وظاهرٍ، ومشعرٍ به.

وفي «الجواهر»: (بل هو معلومٌ ، وربما يشهد له التتبّع، بل ربما يزيد عليذلك)(3).

وعن ابن الجُنيد(4): أنّه في الذكر أربع عشرة سنة.

وفي «الحدائق»: (وعن الشيخ في كتابي الأخبار، وأكثر محقّقي المتأخّرين أنّهم قالوا بحصول البلوغ بالدخول في الرابعة عشرة، قال في «المفاتيح»: ولا يخلو من قوّة)(5).

أقول: وتنقيح القول يتحقّق بالبحث في موردين:

الأوّل: في الذَّكر.

الثاني: في الاُنثى .

أمّا المورد الأوّل: فيمكن أن يستدلّ للمشهور بوجوه:

الوجه الأوّل: الاستصحاب، وتقريبه من وجوه، إذ يمكن أنْ يُستصحب بقاء الصغر، وعدم حصول البلوغ، وعدم رفع الحَجر عنه، وعدم توجّه التكليف إليه، وكلّتلكم استصحاب حكمٍ أو عدم حكم، وعليفرض تسليم كون بعضها موضوعيّاً لا مانع من جريانه، وليس شيءٌ من ذلك من الاستصحاب في الاُمور غير القارّة،9.

ص: 382


1- كما في الغنية: ص 251، والسرائر: ج 1/367.
2- مفتاح الكرامة: ج 5/240 (ط. ق).
3- جواهر الكلام: ج 28/16.
4- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/431.
5- الحدائق الناضرة: ج 20/349.

وإنْ كان المختار جريان الاستصحاب فيها أيضاً.

الوجه الثاني: أصالة البراءة عن التكليف قبل أنْ يبلغ خمس عشرة سنة.

الوجه الثالث: ما دلّ من الآيات والنصوص على عدم البلوغ مالم يبلغ الحُلُم، فإنّه خرج عنها بعد بلوغ خمس عشرة وبقي الباقي.

الوجه الرابع: جملة من النصوص الخاصّة:

1 - كالنبويّ المرسل: «إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه»(1).

2 - عن عبد اللّه بن عمر، قال: «عُرضتُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله في جيش يوم بدر وأنا ابنُ ثلاث عشرة سنة فردّني، وعُرضت عليه يوم أُحدٍ وأنا ابن أربع عشرة سنة فردّني ولم يرني بالغاً، وعُرضتُ عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة فقبلني وأخذني في المقاتلة»(2).

بل قيل(3): إنّ الثاني منهما مشهورٌ رواه جماعة من أرباب المغازي والسِّير ممّن يُوثق بنقلهم.

3 - وخبر حمران، عن مولانا الباقر عليه السلام، في حديثٍ :

«والغلام لا يجوز أمره في الشراء والبيع، ولا يخرج من اليتم حتّى يبلغ خمس عشرة سنة، أو يحتلم، أو يشعر أو ينبت قبل ذلك»(4).6.

ص: 383


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/74، الطبع القديم. عوالي اللآلي: ج 2/118 ح 328.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/74، الطبع القديم. سنن ابن ماجة: ج 2/850 ح 2543.
3- كما عن جواهر الكلام: ج 26/24-25.
4- الكافي: ج 7/197 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/410 ح 23946.

أقول: وليس في سنده من يتوقّف فيه سوى حمزة وعبد العزيز:

أمّا حمزة: - فمضافاً إلى أنّه من آل أعين، المعلوم جلالتهم، وعظم منزلتهم - فهو في نفسه سديد الحديث، كثير الرواية، قد روى عنه الأجلّاء كعبد اللّه بن مسكان، وابن بكير، وابن أبي عمير، والحسن بن محبوب، بل في بعض طرق كتابه صفوان بن يحيى، وهم من أصحاب الإجماع، وعن ظاهر النجاشي(1) أنّه من خاصّة أصحاب الصادق عليه السلام.

أضف إلى ذلك كلّه أنّ هذا الخبر رواه الحسن بن محبوب عن عبد العزيز عنه، وهو من أصحاب الإجماع.

وبه يظهر أنّ عبد العزيز وإنْ لم يُنصّ عليه بمدحٍ ولا ذَمّ ، لكن رواية الحسن بن محبوب عنه كافية في الاعتماد على روايته هنا.

4 - وحسن الكناسي - أو صحيحه - عن الإمام الباقر عليه السلام:

«الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليُتم، وزوّجت، واُقيم عليها الحدود التامّة لها وعليها.

قال: قلت: الغلام إذا زوّجه أبوه، ودخل بأهله، وهو غير مدرك، أتُقام عليه الحدود على تلك الحالة ؟

قال: أمّا الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجال فلا، ولكن يُجلد في الحدود كلّها على مبلغ سِنّه، فيؤخذ بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة، الحديث»(2).6.

ص: 384


1- رجال النجاشي: ص 140 رقم 365.
2- الكافي: ج 7/198 ح 2، وسائل الشيعة: ج 28/20 ح 34116.

5 - وحسنه الآخر - أو صحيحه - عنه عليه السلام في حديث:

«يا أبا خالد، إنّ الغلام إذا زوّجه أبوه ولم يدرك، كان بالخيار إذا أدرك وبلغ خمس عشرة سنة، أو يشعر في وجهه، أو ينبت في عانته قبل ذلك.

إلى أنْ قال: أمّا الحدود الكاملة التي يؤخذ بها الرجال فلا، ولكن يُجلد في الحدود كلّها على قدر مبلغ سنّه، فيُؤخذ بذلك ما بينه وبين خمس عشرة سنة، الحديث»(1).

6 - وصحيح ابن وهب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في كم يؤخذ الصبيّبالصيام ؟ قال: ما بينه وبين خمس عشرة سنة وأربع عشرة سنة، فإنْهو صام قبل ذلك فدعه»(2).

بناءً على إرادة معنى (أو) من كلمة (و او) لإستحالة الجمع، وحيث أنّ مقتضى السياق والترديد كون ما تقدّم عليهما وقتاً للتمرين، فيكون البلوغ بالأكثر، وإلّا لم يكن الزمان المتوسّط بينه وبين الأقلّ تمرينيّاً، ولعلّ الفرق بين المتوسّط بينهما وبين ما قبلهما في التضييق في التمرين وعدمه، فإنّ الصبيّ يضيّق عليه فيما بينهما، دون ما تقدّمهما من الزمان، وهذا هو السِّر في الترديد.

7 - وصحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «في كم يُؤخذ الصَّبي بالصيام ؟ قال عليه السلام: ما بين خمس عشرة وأربع عشرة، فإنْ هو صام قبل ذلك فدعه»(3). بالتقريب المتقدّم.

ونحوها غيرها.

والمنساق إلى الذهن من هذه النصوص هو إكمال الخمس عشرة لا الدخول7.

ص: 385


1- التهذيب: ج 7/382 ح 20، وسائل الشيعة: ج 20/278 ح 25626.
2- الكافي: ج 4/125 ح 2، وسائل الشيعة: ج 10/233 ح 13297.
3- التهذيب: ج 4/326 ح 80، وسائل الشيعة: ج 10/233 ح 13297.

فيها، بل جملة منها كالصريحة في ذلك، فلا يُصغى إلى ما قيل من حملها على إرادة الدخول فيها.

أقول: وبإزاء جميع ذلك طوائف من النصوص:

منها: مايدلّ على حصوله بالأربع عشرة كخبر أبي حمزة، عن مولاناالباقر عليه السلام:

«قلت له: جُعِلتُ فداك في كم تجرى الأحكام على الصبيان ؟

قال عليه السلام: في ثلاث عشرة وأربع عشرة.

قلت: فإنّه لم يحتلم فيها، قال عليه السلام: وإنْكان لم يحتلم، فإنّ الأحكام تُجرى عليه»(1).

وحيث أنّ نصوص الخمس عشرة قابلة للحمل على إرادة الدخول فيها، وهذا الخبر نصٌّ في حصوله بالأربع عشرة، فتُحمل تلك النصوص على ذلك، وأيّد هذا القول بصحّة توجّه الخطاب إلى المميّز عقلاً للعلم والقدرة، خرج الأقلّ بالإجماع والنّص، وبقي ذو الأربع عشرة.

وبأنّ أحوال البدن في الإنسان مرتّبة على الأسابيع، فيجب أنْ يكون بلوغه كذلك، وليس في الاسبوع الأوّل والثالث قطعاً، فيكون في الثاني.

أقول: ولكن الخبر ضعيفُ السند لجهالة السِّندي بن ربيع، ويحيى بن المبارك، وقاصر الدلالة، لاشتماله على الترديد الذي يصلح قرينة على الحمل على إرادة التمرين، ونصوص الخمس عشرة قد عرفت صراحة بعضها، وظهور آخر في إرادة الإكمال.

وصحّة توجّه الخطاب إلى المميّزين لا تصلحُ دليلاً للحكم، بعد كون البلوغ شرطاً آخر للتكليف غير العلم والقدرة.5.

ص: 386


1- التهذيب: ج 6/310 ح 63، وسائل الشيعة: ج 19/367 ح 24775.

وكون أحوال البدن مرتّبة على الأسابيع، وجهٌ استحساني محض، لا سبيل إلى الاستناد إليه في الأحكام الشرعيّة.

ومنها: النصوص الدالّة على حصول البلوغ بالثلاث عشرة:

1 - موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الغلام متى تجبُ عليه الصلاة ؟

قال عليه السلام: إذا أتى عليه ثلاث عشرة سنة، فإنْ احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة، وجرى عليه القلم، الجارية مثل ذلك. الحديث»(1).

2 - وخبر عبد اللّه بن سنان - المرويّ بعدّة طرق بعضها صحيح أو حسن وبعضها موثّق مع اختلاف يسير في المتن - عنه عليه السلام، قال:

«الاحتلام... إذا أتت عليه ثلاث عشرة سنة كتبت له الحسنات، وكتبت عليه السيّئات، وجاز أمره، إلّاأنْ يكون سفيهاً أو ضعيفاً»(2).

أمّا الأوّل: فلا يدلّ على البلوغ، بل على خصوص وجوب الصلاة، ويؤيّده ذكر جريان القلم في الاحتلام دون السِّن.

وأمّا الثاني: وإنْ كان لا ينبغي المناقشة في سنده ولا في دلالته، إلّاأنّه معارض بالنصوص المتقدّمة، ولموافقتها للشهرة التي هي أوّل المرجّحات تقدّم، هي ومعها لا تصل النوبة إلى الترجيح بمخالفة العامّة.

ومنها: نصوص عشر سنين المتفرّقة في الأبواب الدالّة على جواز وصيّته وعتقه وصدقته كما في جملةٍ (3) منها، وقبول شهادته وجواز أمره كما في أُخر(4)،0.

ص: 387


1- التهذيب: ج 2/380 ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 82.
2- التهذيب: ج 9/182 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/363 ح 24768.
3- وسائل الشيعة: ج 19 باب 44 من أبواب الوصايا / ص 360-365.
4- الكافي: ج 7/388 ح 1، وسائل الشيعة: ج 27/344 ح 33890.

وصحّة وقفه كما في ثالث(1).

أقول: ولكنّها بأجمعها لا تصلح لمعارضة ما تقدّم، سيّما وقد دلّت النصوص الاُخر(2) الواردة في الجَلد والتزويج والطلاق المصرّحة بعدم البلوغ ببلوغ عشر سنين، مع أنّ جواز وصيّته وعتقه ووقفه وصدقته أعمّ من البلوغ، وما دلّ على جواز أمره مقطوع السند، غير مرويّ عن المعصوم عليه السلام، وفي طريقه العُبيدي عن يونس، وفيه كلام(3).

ومنها: ما دلّ على حصوله بثمان سنين، كموثّق(4) الحسن بن راشد، عن العسكري عليه السلام، قال: «إذا بلغ الغلام ثماني سنين فجائزٌ أمره فيما له، وقد وجب عليه الفرائض والحدود، الحديث».

ونحوه غيره، وقد ظهر حالها ممّا مر.

فتحصّل: أنّ الأظهر حصول البلوغ في الذَكَر بإكمال الخمس عشرة.

المورد الثاني: في الاُنثى .

المشهور بين الأصحاب حصول البلوغ لها ببلوغ تسع سنين، أي إكمالها.2.

ص: 388


1- وسائل الشيعة: ج 19 باب 15 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات / ص 211-212.
2- وسائل الشيعة: ج 28 باب 9 من أبواب حَدّ الزنا / ص 81-83، و ج 26 باب 11 من أبواب ميراث الأزواج: ص 219-220.
3- النجاشي: ص 333-334 رقم 896 قوله: (ثقةٌ عين... وذكر أبو جعفر بن بابويه عن ابن الوليد أنّه قال: ما تفرّد به محمّد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يُعتمد عليه...)، ورجال الكشّي: ج 1/269 قوله: (قال السيّد المكرّم جمال الدين أحمد بن طاووس - عن حديثٍ في طريقه محمّد بن يونس العبيدي -: طريق هذا الحديث ضعيف بمحمّد بن عيسى العبيدي...) ثمّ يقول: (والأصحّ عندي أنّ محمّد بن عيسى العبيدي اليقطيني ثقة صحيح الحديث فقد وثّقه أبو عمرو الكشّي وأبو العبّاس النجاشي وغيرهما...).
4- التهذيب: ج 9/183 ح 11، وسائل الشيعة: ج 19/212 ح 24452.

وفي «الجواهر»: (بل هو الذي استقرّ عليه المذهب، خلافاً للشيخ في صوم «المبسوط»(1)، وابن حمزة في خُمس «الوسيلة»(2) فبالعشر، إلّاأنّ الشيخ قد رجع عنه في كتاب الحَجر(3)، ووافق المشهور، وكذا الثاني في كتاب النكاح منها(4)(5).

وتشهد به: نصوصٌ كثيرة:

1 - صحيح الكناسي - أو حسنه - عن الإمام الباقر عليه السلام: «الجارية إذا بلغت تسع سنين ذهب عنها اليُتم وزوّجت. الحديث»(6).

2 - ونحوه حسنه الآخر أو صحيحه(7)، وموثّقا ابن سنان، والحسن بن راشد المتقدّمان، ونحوها غيرها.

وليس بإزائها خبرٌ سوى خبر غياث، المتضمّن ل «أنّها لا تُوطأ لأقلّ من عشر سنين»(8) وهو - مضافاً إلى ضعف سنده، ومعارضته بالنصوص الكثيرة الدالّة على أنّها تُوطأ لتسع سنين(9) - لا يكون نصّاً ولا ظاهراً في عدم البلوغ قبله، فلا إشكال في الحكم.

أقول: لا خلاف في أنّ المعتبر من السنين هي القمريّة دون الشمسيّة، لأنّ هذا4.

ص: 389


1- المبسوط: ج 1/266.
2- الوسيلة: ص 137.
3- المبسوط: ج 2/283.
4- الوسيلة: ص 301.
5- جواهر الكلام: ج 26/38-39.
6- الكافي: ج 7/198 ح 2، وسائل الشيعة: ج 28/20 ح 34116.
7- التهذيب: ج 7/382 ح 20، وسائل الشيعة: ج 20/278 ح 25626.
8- التهذيب: ج 7/410 ح 12، وسائل الشيعة: ج 20/103 ح 25148.
9- وسائل الشيعة: ج 20 باب 45 من أبواب مقدّمات النكاح / ص 101-104.

هو المعهود من شرعنا، والمعروف عند العرب، وقد قال اللّه تعالى : (إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّهِ اِثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اَللّهِ يَوْمَ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ ) (1).

وقال سبحانه: (يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ اَلْحَجِّ ) (2).

وقال عزّ مِنْ قائل: (هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِياءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ ) (3).

كما لا خلاف في أنّ الحمل والحيض ليسا بلوغاً في حَقّ النساء:

أمّا الحيض: فقد مرّ في محلّه من أنّه لا يكون قبل بلوغ تسع سنين.

وأمّا الحمل: فلا دليل عليه.

نعم، يكون هو دليلاً على سبق البلوغ، باعتبار سبق الإنزال الذي قد عرفت سببيّته للبلوغ.

***5.

ص: 390


1- سورة التوبة: الآية 36.
2- سورة البقرة: الآية 189.
3- سورة يونس: الآية 5.

والثاني: بإصلاح ماله عند اختباره، بحيث يَسلم من المغابنات، وتقع أفعاله على الوجه الملائم.

اعتبار الرّشد في رفع الحجر

المسألة الرابعة: (و) قد عرفت أنّ الوصف (الثاني) الذي يتوقّف عليه رفع الحجر، هو الرّشد في المال، وأنّ الكتاب والسُنّة والإجماع تشهد بذلك. وهذا متّفقٌ عليه، إنّما الكلام فيما يُعلم به الرّشد.

قال المصنّف رحمه الله في المتن: أنّه يُعلم (بإصلاح ماله عند اختباره، بحيث يسلم من المغابنات، وتقع أفعاله على الوجه الملائم).

وقال صاحب «المسالك»: (ليس مطلق الإصلاح موجباً للرّشد، بل الحقّ أنّ الرشد مَلَكة نفسانيّة تقتضي إصلاح المال، وتمنع من إفساده وصرفه في الوجوه اللّائقة بأفعال العقلاء)(1).

أقول: ولقد أطالوا البحث في ذلك، مع أنّه من المفاهيم العرفيّة الواضحة عندهم، والذي يراه أهل العرف رشداً هو كونه بحيث إذا أراد أن يعامل يكون حافظاً لماله، ولا يصرفه في الأغراض الفاسدة، ولا يكون مبذّراً وغير مبالٍ به، وهذا هو مراد المصنّف رحمه الله وغيره ممّن عبّر بإصلاح ماله، وليس معنى الملكة إلّا ذلك، وعليه فإيراد الشهيد الثاني في غير محلّه.

ص: 391


1- مسالك الأفهام: ج 4/148.

ولا يزول الحَجْرُ مع فقد أحدهما، وإنْ طعن في السِّن، ويثبتُ في الرّجال بشهادة أمثالهم، وفي النساء بشهادتهن، أو بشهادة الرّجال.

وكيف كان، فالأمر أوضح من أن يطال الكلام فيه، كما أنّ عدم اعتبار العدالة فيه من الواضحات.

قال صاحب «الجواهر»: (بل يمكن دعوى كونه ضروريّاً يشكّ في إسلام منكره)(1).

(و) قد ظهر ممّا قدّمناه: أنّه (لا يزول الحَجر مع فقد أحدهما) أي أحد الوصفين: البلوغ والرشد، فغير الرشيد لا يدفع إليه ماله (وإنْ طعن في السن).

المسألة الخامسة: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (يثبت) الرُّشد (في الرِّجال بشهادة أمثالهم، وفي النساء بشهادتهنّ ، أو بشهادة الرّجال).

أمّا الثبوت بشهادة الرجال: فلإطلاق الأدلّة.

وأمّا ثبوته في النساء بشهادتهن: فللإجماع المدّعى في المقام، وسيأتي في كتاب الشهادات(2) أنّ ذلك مقتضى الأدلّة أيضاً.

***2.

ص: 392


1- جواهر الكلام: ج 26/50.
2- فقه الصادق: ج 38/442.

الثاني: الجنون، ولا يصحّ تصرّف المجنون إلّافي أوقات إفاقته.

الثالث: السفه، ويُحجَر عليه في ماله خاصّة.

في سائر أسباب الحَجر

السبب الثاني: من أسباب الحَجر: (الجنون، ولا يصحّ تصرّف المجنون إلّافي أوقات إفاقته).

وفي «الحدائق»: (ودليل الحَجر على المجنون ظاهرٌ من العقل، والنقل)(1). انتهى .

وحديث رفع القلم شاهدٌ به، وكذا نصوص اُخر تقدّم بعضها.

السبب الثالث: (السَّفه، ويُحجَر عليه في ماله خاصّة).

قال صاحب «الجواهر»: (الضابط المنع من التصرّفات الماليّة، بلا خلافٍ أجده فيه، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه، بل عن «مجمع البرهان»(2) دعواه.

و وجه المنع: الآية المتقدّمة، وجملة من النصوص)(3).

ووجه عدم المنع في غيرها: إطلاق أدلّة تلك التصرّفات، بعد اختصاص دليل المنع بالتصرّف المالي.

أقول: والكلام في بعض التصرّفات كالخُلع أنّه تصرّفٌ ممنوع عنه لكونه ماليّاً، أو غير ممنوع عنه، موكولٌ إلى محلّه.

ص: 393


1- الحدائق الناضرة: ج 20/353.
2- مجمع الفائدة: ج 9/209-210.
3- جواهر الكلام: ج 26/56.

الرابع: المِلْك، فلا ينفذ تصرّف المملوك بدون إذن مولاه، ولو ملّكه شيئاً لم يملكه على الأصحّ .

الخامس: المريض، وتُمضى وصيّته في الثُّلث خاصّة، ومنجزاته المتبرّع بها كذلك.

السبب الرابع: من أسباب الحَجر: (الملك، فلا ينفذ تصرّف المملوك بدون إذن مولاه، ولو مَلّكه شيئاً لم يملكه على الأصحّ ).

السبب (الخامس: المرض، وتُمضى وصيّته) أي المريض كالصحيح (في الثُّلث خاصّة) إجماعاً(1)، وسيأتي الكلام فيه في كتاب الوصيّة(2).

في حكم منجزات المريض

أقول: (و) بدور البحث في المقام حول (منجزاته) أي المريض (المتبرّع بها كذلك) في أنّها من الأصل أو الثُّلث ؟

ومحلّ النزاع التبرّعات، فالمعاوضات حتّى ما كان منها من قبيل البيع بأقلّ من ثمن المثل، خارجة عن محلّ الكلام.

والمراد بالمنجّزة؛ المعجّلة في حال الحياة كالهبة والعتق وما شاكل، وفيه قولان:

القول الأوّل: أنّها من الأصل، ذهب إليه جماعةٌ من المتقدّمين كالكليني(3)،

ص: 394


1- شرائع الإسلام: ج 2/488، القسم الثاني: في تصرّفات المريض.
2- فقه الصادق: ج 30/314.
3- الكافي: ج 7/7 باب (أنّ صاحب المال أحقّ بماله ما دام حيّاً).

والصدوق(1)، والشيخين(2)، والسيّدين(3)، والقاضي(4)، وبني إدريس(5) والبرّاج(6)، وسعيد(7)، وغيرهم، وجماعة من المتأخّرين(8).

وعن «كشف الرموز»(9): نسبته إلى الأكثر.

وفي «الرياض»: أنّه (المشهور بين القدماء ظاهراً، بل لعلّه لا شبهة فيه، بل ادّعى السيّدان(10) في بحث الهبة أنّ عليه إجماع الإماميّة، وجعله في «السرائر» الأظهر في المذهب، مشعراً بالشهرة عليه لا أقلّ )(11).

القول الثاني: ما عن الإسكافي(12)، والصدوق(13) في أحد قوليه، وأبي علي، والشيخ في «المبسوط»(14)، والمصنّف(15) رحمه الله، والشهيدين(16) والكركي(17): أنّه كما4.

ص: 395


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/201، باب (في أنّ الإنسان أحقّ بماله مادام فيه شيء من الروح ح 5465).
2- المقنعة: ص 671، النهاية: ص 617-618.
3- الانتصار: ص 465 مسألة 262، الغنية: ص 301.
4- المهذّب: ج 1/419.
5- السرائر: ج 3/14-15.
6- المهذّب: ج 1/419.
7- الجامع للشرائع: ص 497.
8- كالمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 9/214.
9- كشف الرموز: ج 2/91-92.
10- الانتصار: ص 465 مسألة 262، الغنية: ص 301.
11- رياض المسائل: ج 9/545 الطبع الجديد.
12- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/413.
13- المقنع: ص 482، قوله: (وإذا أقرّ الرّجل وهو مريض لوارثٍ بدين، فإنّه يجوز إذا كان دون الثُّلث).
14- المبسوط: ج 4/44.
15- مختلف الشيعة: ج 6/413.
16- الروضة البهيّة: ج 4/106.
17- جامع المقاصد: ج 5/214.

تخرج الوصيّة من الثُّلث، وكذلك التبرّعات المنجزة.

وفي «المسالك»: (واختاره عامّة المتأخّرين، ومنهم المصنّف)(1).

ومنشأ الاختلاف: اختلاف النصوص، ومعها لا يُصغى إلى ما استدلّ به للأوّل:

1 - بأنّه مالكٌ تصرّف في ماله فكان ماضياً.

2 - وباستصحاب الصحّة، وأصالة الجواز.

3 - وبأنّه لولا صحّتها لما لزمته بالبرة، والتالي باطلٌ ، فكذا المقدّم.

ولا إلى ما استدلّ به للثاني من الوجوه الاستحسانيّة.

وعليه، فالمتعيّن هو ملاحظة النصوص، ولابدّ أوّلاً من نقل ما استدلّ به لكلّ من القولين، فإنْ تمّ دلالة كلّ من الطائفتين على ما استدلّ بها له وسندها، ولم يمكن الجمع العرفي بينهما بحمل المطلق على المقيّد، أو الظاهر على النّص، يلاحظ ما تقتضيه أخبار الترجيح.

النصوص الدالّة على أنّها من الأصل، وهي نصوصٌ كثيرة:

منها: حسن أبي شعيب المحامل - أو صحيحه - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «الإنسان أحقّ بماله ما دامت الروح في بدنه»(2).

وما قاله صاحب «الجواهر» من أنّه (ليس صريحاً في شمول الأحقيّة للتنجيز، فيمكن على غيره، بل محتملٌ لإرادة الثُّلث، خصوصاً إذا قُرأ بفتح اللّام)(3)، ويندفع بظهوره في ذلك.2.

ص: 396


1- مسالك الأفهام: ج 4/156.
2- الكافي: ج 7/8 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/299 ح 24642.
3- جواهر الكلام: ج 26/72.

ومنها: موثّق الساباطي، عنه عليه السلام: «الميّت أحقّ بماله ما دام فيه الروح يبين به، فإنْ قال بعدي، فليس له إلّاالثُّلث»(1).

ومنها: موثّقه الآخر: «الرّجل أحقّ بماله مادام فيه الروح إنْ أوصى به كلّه فهو جائز»(2).

ومنها: خبره الثالث، عنه عليه السلام: «صاحب المال أحقّ بماله مادام فيه شيءٌ من الروح، يضعه حيث شاء»(3).

ومنها: موثّقه الرابع، عنه عليه السلام أيضاً: «الميّت أحقّ بماله مادام فيه الروح يبين به.

قال عليه السلام: نعم فإنْ أوصى به فليس له إلّاالثُّلث»(4).

ومنها: موثّقه الخامس، عنه عليه السلام: «في الرّجل يجعل بعض ماله لرجلٍ في مرضه ؟ فقال عليه السلام: إذا أبانه جاز»(5).

والإيراد عليها: بأنّ عمّار فاسد الرأي، في غير محلّه، بعد كونه ثقة.

كما أنّ الإيراد عليها: بأنّه يمكن أنْ يكون اللّام مفتوحة، فلا تدلّ على أنّ أي مقدار من المال له، فبقرينة غيرها يقال إنّه الثُّلث.

غير تامّ : - إذ مضافاً إلى أنّه خلاف الظاهر، وإلى أنّه تكون هذه الأخبار حينئذٍ مجملة، لعدم بيان ماله حينئذٍ، وهو ينافي مع كونه في مقام البيان - يدفعه4.

ص: 397


1- التهذيب: ج 9/188 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/278 ح 24591.
2- الكافي: ج 7/7 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/281 ح 24598.
3- الكافي: ج 7/7 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/297 ح 24638.
4- الكافي: ج 7/8 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/299 ح 24641.
5- التهذيب: ج 9/190 ح 17، وسائل الشيعة: ج 19/300 ح 24644.

قوله: «إذا أبانه جاز»، وفي آخر بعد الحكم بجواز الإبانة: «فإنْ أوصى به فليس له إلّا الثُّلث»، فإنّه بقرينة التفصيل القاطع للشركة كالصريح في أنّ له بالنسبة إلى الإبانة أزيد من الثُّلث، مع أنّه لا شبهة في أنّ تمام المال له مادام حيّاً.

أقول: إنّما الكلام في المقام بعد وضوح الأخبار في نفوذ تصرّفاته التبرعيّة:

فعلى تقدير فتح اللّام أيضاً تدلّ على المطلوب، وأمّا عدم العمل بإطلاق موثّقه الثاني، فلا يضرّ بالعمل به في غير ما خرج، وهو الوصيّة بالثّلث، ولا بغيره من الأخبار، وعليه فلا يضرّ ما ورد في بعض نسخ الأول منها: «فإنْ تعدّى فليس له إلّاالثُّلث»، مع أنّه على هذه النسخة لم تتمّ نظام الكلام، فإنّه على القول الآخر ليس له إلّاالثُّلث تعدّى أم لم يتعدّ.

ومنها: خبر سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يكون له الولد، أيسعه أن يجعل ماله لقرابته ؟

قال عليه السلام: هو ماله يصنع ما شاء به إلى أن يأتيه الموت»(1).

ومنها: خبر أبي بصير، وهو نحو الخبر السابق إلّاأنّ فيه زيادة وهي:

«أنّ لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء مادام حيّاً، إنْ شاء وهبه، وإنْ شاء تصدّق به، وإنْ شاء تركه إلى أن يأتيه الموت، فإنْ أوصى به فليس له إلّاالثُّلث، إلّا أنّ الفضل في أن لا يضيّع من يعول به، ولا يضرّ بورثته»(2).

وهما من حيث السند والدلالة لا كلام فيهما.6.

ص: 398


1- الكافي: ج 7/8 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/296 ح 24635.
2- الكافي: ج 7/8 ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/297 ح 24636.

ومنها: مرسل مرازم، عنه عليه السلام: «في الرّجل يعطى الشيء من ماله في مرضه ؟

قال عليه السلام: إنْ أبان به فهو جائز، وإنْ أوصى به فهو من الثُّلث»(1).

وهو بقرينة التفصيل صريحٌ في المطلوب.

ومنها: مرسل الكليني، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه عابَ رجلاً من الأنصار أعتق مماليكه لم يكن له غيرهم، وقال: «ترك صِبيةً صغاراً يتكفّفون النّاس»(2).

بل رواه الصدوق مسنداً إلى جعفر بن محمّد عليهما السلام(3).

أقول: المتحصّل من هذه النصوص المعتبرة، أنّ التبرّعات المنجزة تُخرج من الأصل، وجملة منها كالصريحة في ذلك.

وبذلك ظهر ما قاله صاحب «المسالك» من أنّ : (عليه شواهد من الأخبار، إلّا أنّ في طريقها عمّار أو سماعة، وهما فاسدا الرأي، ولكنّهما ثقتان»(4).

إذ مضافاً إلى عدم كونهما في طريق جميع الروايات، أنّه مع الاعتراف بكونهما ثقتين، لا يبقى مجالٌ للمناقشة.

النصوص التي استدلّ بها على الخروج من الثُّلث، فهي أيضاً كثيرة:

منها: صحيح يعقوب بن شعيب، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يموت ما له من ماله ؟

فقال عليه السلام: له ثُلث ماله وللمرأة أيضاً»(5).1.

ص: 399


1- الكافي: ج 7/8 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/273 ح 24573.
2- الكافي: ج 7/8 ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/299 ح 24643.
3- من لايحضره الفقيه: ج 4/186 ح 5427.
4- مسالك الأفهام: ج 4/156.
5- الكافي: ج 7/11 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/272 ح 24571.

ونحوه خبر أبي بصير(1).

ومنها: خبر عبد اللّه بن سنان، عن مولانا الصادق عليه السلام: «للرّجل عند موته ثلث ماله، وإنْ لم يوص فليس على الورثة إمضاؤه»(2).

ومنها: صحيح علي بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام: «ما للرّجل من ماله عند موته ؟ قال عليه السلام: الثُّلث، والثُّلث كثيرة»(3).

ومنها: خبر العلاء المروي عن الصادق عليه السلام الوارد في المرأة التي استودعت مالاً، فقال الصادق عليه السلام:

«فإنّما لها من مالها ثلثه»(4). وبهذا المضمون روايات اُخر.

والجواب عن الجميع: أنّها مختصّة بالوصيّة، وذلك لأنّ المسؤول عنه في الأخبار هو عن ما يملكه الإنسان حين الموت، ومعنى ذلك أن يتصرّف فيه من ذلك الوقت، وليس هو إلّاالوصيّة، ويعضد ذلك أنّه لا خلاف ولا إشكال في أنّ المال جميعه له إلى حين الموت، وإنّما الخلاف في منعه عن التصرّف وعدمه، ومن ما بعد الموت ليس له إلّاثلث ماله، وهذا من الوضوح بمكان، ومع الإغماض عنه، فدلالتها إنّما هي بالإطلاق، فيقيد بالنصوص المتقدّمة، فتختصّ بالوصيّة.

ومنها: خبر علي بن عقبة، عن مولانا الصادق عليه السلام: «في رجل حضره الموت فأعتق مملوكاً له، ليس له غيره، فأبى الورثة أن يجيزوا ذلك، كيف القضاء فيه ؟2.

ص: 400


1- من لايحضره الفقيه: ج 4/185 ح 5422، وسائل الشيعة: ج 19/272 ح 24571.
2- التهذيب: ج 9/242 ح 32، وسائل الشيعة: ج 19/273 ح 24576.
3- التهذيب: ج 9/242 ح 33، وسائل الشيعة: ج 19/274 ح 24577.
4- الكافي: ج 7/42 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/291 ح 24622.

قال عليه السلام: ما يعتق منه إلّاثلثه، وسائر ذلك الورثة أحقّ بذلك، ولهم ما بقي»(1).

ونحوه خبر عقبة بن خالد(2).

أقول: ويرد على الاستدلال بهما، أنّهما ليسا في العتق منجزاً في حال المرض، وليس المسؤول عنه صحّة عتقه في جميع العبد، بل المفروض فيهما عدم صحّته إلّافي الثُّلث، وإنّما السؤال عن حكم الثلثين الآخرين من جهة أنّ المعتق لبعض العبد إذا لم يكن ميّتاً وكان موسراً، يكلّف بأن يعتق الباقي، وإنْ كان مُعسراً يستسعى العبد في الباقي، وعليه فلا ربط لهذين الخبرين بما هو محلّ الكلام.

ومنها: خبر أبي بصير، عنه عليه السلام: «إنْ أعتق رجلٌ عند موته خادماً له، ثمّ أوصى بوصيّة اُخرى ، اُلغيت الوصيّة، واُعتق الخادم من ثلثه، إلّاأنْ يفضلُ من ثلثه ما يبلغ الوصيّة»(3).

وفيه: أنّ المسؤول عنه تعاقب الوصيّتين إحداهما بالعتق، كما يشير إليه قوله:

«بوصيّةٍ اُخرى » فلا ربط له بمحلّ الكلام.

ومنها: خبر أبي ولّاد، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يكون لامرأته عليه الدَّين، فتبرئه منه في مرضها؟

قال عليه السلام: بل تهبه له، فتجوز هبتها، ويُحتسب ذلك من ثلثها إنْ كانت تركت شيئاً»(4).0.

ص: 401


1- التهذيب: ج 9/194 ح 13، وسائل الشيعة: ج 19/276 ح 24583.
2- التهذيب: ج 9/219 ح 12، وسائل الشيعة: ج 19/301 ح 24647.
3- الكافي: ج 7/17 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/400 ح 24842.
4- التهذيب: ج 9/195 ح 15، وسائل الشيعة: ج 19/278 ح 24590.

وقريبٌ منه خبر سماعة(1).

وفيه: - مضافاً إلى ضعف السند - أنّ مضمونهما لم يقل به أحدٌ، لأنّ الإبراء ممّا في الذمّة صحيحٌ بالإجماع دون هبته، والحكم فيهما بالعكس، فكيف يستند إلى هذين الخبرين المقلوبي الحكم، والضعيفي السند؟!

ومنها: خبر جرّاح المدائني، عنه عليه السلام قال: «سألته عن عطيّة الوالد لولده يبيّنه ؟

قال عليه السلام: إذا أعطاه في صحّته جاز»(2).

ونحوه خبر سماعة(3).

وقريبٌ منهما صحيح الحلبي في إبراء المرأة من الصداق(4)، ولكنّها تدلّ على اعتبار الصحّة في هبة الوالد لولده، وإبراء المرأة من الصداق، ولا تختصّ بمرض الموت، ولا بما زاد على الثُّلث، فهي غير مربوطة بالمقام.

ومنها: صحيح محمّدبن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ حضره الموت، فأعتق غلامه، وأوصى بوصيّةٍ ، فكان أكثر من الثُّلث ؟

قال عليه السلام: يمضي عتق الغلام، ويكون النقصان فيما بقي»(5).

بدعوى أنّ الظاهر إرادة كون مجموع التنجيز والوصيّة أكثر من الثُّلث، فأجابه عليه السلام بمضيّ العتق، وأنّ النقصان الذي في الثُّلث يكون في الوصيّة.

ويردّه: أنّه ليس فيه ما يشهد بإرادة كون المجموع أكثر أفراد فعل (كان)، بل0.

ص: 402


1- التهذيب: ج 9/201 ح 13، وسائل الشيعة: ج 19/301 ح 24650.
2- التهذيب: ج 9/201 ح 11، وسائل الشيعة: ج 19/301 ح 24648.
3- التهذيب: ج 9/156 ح 19، وسائل الشيعة: ج 19/300 ح 24645.
4- التهذيب: ج 9/201 ح 12، وسائل الشيعة: ج 19/301 ح 24649.
5- من لايحضره الفقيه: ج 4/212 ح 5494، وسائل الشيعة: ج 19/399 ح 24840.

الظاهر منه إرادة كون ما أوصى به أكثر من الثُّلث.

وبه يظهر الحال في حسنه الآخر(1) قريب من هذا المضمون، وقد استدلّ بعضهم بهما للقول الأوّل، حتّى ادّعى صراحةً الثاني منهما، وقال: إنّه غير قابل للتأويل.

ومنها: موثّق الحسن بن الجهم، عن أبي الحسن عليه السلام: «في رجل اعتق مملوكاً وقد حضره الموت، وأشهد له بذلك، وقيمته ستّمائة، وعليه دَينٌ ثلاثمائة درهم، ولم يترك شيئاً غيره ؟

قال عليه السلام: يعتق منه سدسه، لأنّه إنّما له منه ثلاثمائة درهم، وتقضى عنه ثلاثمائة درهم، وله من الثلاثمائة درهم ثلثها وهو السدس من الجميع»(2).

وفيه أوّلاً: أنّه ظاهرٌ في الوصيّة لا التنجيز بقرينة التعليل، إذ لو كان المراد منه التنجيز، كان المتعيّن التعليل بأنّه وإنْ كان جميع العبد له، إلّاأنّه ممنوعٌ من التصرّف في غير سدسه، لا التعليل بأنّه ليس له إلّاالسدس. والتعبير عن الوصيّة بالعتق، لكون سببه القوى بواسطة الوصيّة.

وثانياً: ما قاله صاحب «المسالك»، من: (أنّ الرواية واردة في العتق، فلا يلزم تعدّي الحكم منه إلى غيره)(3).

ودعوى أولويّة غيره ممنوعة، بل هو قياسٌ ، وبنائه على التغليب لا يدلّ على المطلوب، وعدم القائل باختصاصه بالحكم على تقدير تسليمه لا يجوّز قياس غيره عليه.

وثالثاً: أنّه لم يفرض فيه المرض.9.

ص: 403


1- الكافي: ج 7/16 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/400 ح 24843.
2- التهذيب: ج 9/169 ح 36، وسائل الشيعة: ج 19/354 ح 24752.
3- مسالك الأفهام: ج 6/309.

إذا ماتَ في مرضه

أقول: وبما ذكرناه في هذا الموثّق، يظهر الجواب عن صحيح ابن الحجّاج(1)الطويل، وصحيح جميل المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل أعتق مملوكه عند موته، وعليه دين ؟

فقال: إنْ كان قيمته مثل الذي عليه ومثله جاز عتقه وإلّا لم يجز»(2).

وظاهر الخبر أنّه إنْ كان قيمة العبد مثلي الدين جاز، وإلّا لم يجز، ولا يظهر لي وجه دلالته على أنّ العتق المنجز قبل الموت يصحّ في الثُّلث دون الزائد عليه.

وهناك روايات اُخر قريبة من ماذكره.

فتحصّل: أنّه لا دليل على القول بأنّ المنجّزات تُخرج من الثُّلث، وعلى فرض التنزّل وتسليم دلالة بعض ما مرّ عليه بالإطلاق، يقيّد إطلاقه بما مرّ، ويختصّ بالوصيّة، وعلى فرض تسليم دلالة ما مرّ على كونها من الثُّلث، وعدم قابليّة حمله على الوصيّة، يقع التعارض بين النصوص، والترجيح للأخبار الأُولى للشهرة بين القدماء التي هي أوّل المرجّحات.

وعليه، فالأظهر أنّها من الأصل، سواء كان ذلك في مرض الموت أو غيره.

وعلى فرض التنزّل وتسليم كونها من الثُّلث، لا إشكال في اختصاص ذلك بما (إذا ماتَ في مرضه)، فلو تبرّع منجزاً في حال المرض بما يزيد على الثُّلث، ثمّ برأ من مرضه، صَحّ تبرّعه، ولا يتوقّف على إذن الورثة، وإنْ مات بعد بمرضٍ آخر، أو بغير4.

ص: 404


1- الكافي: ج 7/26 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/354 ح 24753.
2- من لايحضره الفقيه: ج 4/224 ح 5528، وسائل الشيعة: ج 19/356 ح 24754.

مرض، بلا خلافٍ فيه، بل عليه الإجماع، لأصالة عدم الخروج من الأصل إلّاما دلّ عليه الدليل.

أقول: وبه يظهر أنّ الميزان في المرض، هو الذي يصدق عليه عرفاً أنّه حضره الموت وأتاه ونحو ذلك، وإن بقي أيّاماً كما أفاده صاحب «الجواهر»(1)، لاختصاص نصوصه بذلك، وليس المدار على المرض المخوف كي يبحث في الطريق إلى معرفة المخوف، لعدم أخذه في شيء من الأخبار.

ولو شكّ في موردٍ أنّه هل يصدق العنوان المأخوذ موضوعاً أم لا؟ يحكم بكونه من الأصل، لأنّه الأصل الثابت بما دلّ على تسلّط الإنسان على ماله(2)، خرج عنه عنوانٌ نشكّ في صدقه من جهة عدم تمييز مفهومه، وفي مثله الواجب هو التمسّك بعموم العام.

ولا يخفى أنّ المأخوذ في الروايات هو العطيّة والإبراء والعتق، وإنّما يتعدّى عنها إلى غيرها من المنجّزات بعدم القول بالفصل.

وعليه، فيتعيّن الاقتصار على المتّفق عليه، وهو ما جعله ضابطاً له في «المسالك»، بقوله: (ما استلزمت تفويت المال على الوارث بغير عوضٍ )، ولكن مع ذلك تبقى موارد مشكوك فيها، كالصدقة المندوبة المراد بها السلامة، وأمّا تزويج المرأة نفسها بأقلّ من مهر المثل، فليس منها قطعاً، وكذا الإجارة بأقلّ من ثمن المثل.

***ث.

ص: 405


1- جواهر الكلام: ج 26/74.
2- بحار الأنوار: ج 2/272، الطبع الحديث.

السادس: الفَلَس، ويُحجر عليه بشروطٍ أربعة: ثبوت ديونه عند الحاكم وحلولها، وقصور أمواله عنها،

الفلس من أسباب الحجر

السبب (السادس) من أسباب الحجر والمنع عن التصرّف: هو (الفَلَس) وهو قصور المال عن الوفاء بالدَّين.

وفي محكي «القواعد»: (المفلّس: من عليه ديونٌ ولا مال له يفي بها، وهو شاملٌ لمن قصر ماله ومن لا مال له)(1)، بناءً على عدم استدعاء السالبة وجود الموضوع.

وقد نسب صاحب «المسالك»(2) هذا التعريف إلى أكثر الفقهاء، وعليه فيكون المفلّس ذلك وإنْ لم يُحجَر عليه، وإنّما يطلق التفليس على حَجْر الحاكم على المفلّس، من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب، فيجتمع الفَلَس والصغر.

(و) كيف كان، فإنّما (يُحجَر عليه) أي على المفلّس (بشروط أربعة)، وعن «القواعد»(3) و «التذكرة»(4): بشروط خمسة، بزيادة المديونيّة، لكنّها ترجع إلى الأوّل، وهي:

الشرط الأوّل: (ثبوت ديونه عند الحاكم) الذي يريد أن يحجره:

ص: 406


1- قواعد الأحكام: ج 2/142، الفصل الخامس: في المفلس.
2- مسالك الأفهام: ج 4/86.
3- قواعد الأحكام: ج 2/142.
4- تذكرة الفقهاء: ج 2/50، الطبع القديم.

1 - لأصالة بقاء سلطنته مع عدم الثبوت.

2 - ولأنّ الحجر إنّما يقع من الحاكم، فمع عدم ثبوت الموضوع عنده ليس له الحَجر.

(و) الشرط الثاني: هو (حلولها) أي حلول الدِّيون، لأنّه لا يستحقّ الديّان المطالبة مع عدم الحلول، فلعلّ اللّه يُحدث بعد ذلك أمرا، ويسهّل له الوفاء عند استحقاق المطالبة.

(و) الشرط الثالث: (قصور أمواله) من عروضٍ ومنافع وديون غير المستثنيات في الدين (عنها) أي عن الدِّيون، وإنْ لم تكن قاصرة، فلا حجر إجماعاً، كما عن «جامع المقاصد»(1)، و (عند علمائنا أجمع) كما في «المسالك»(2)، بل يطالب بالديون، فإنْ قضاها وإلّا أجبره الحاكم بالقضاء، وإنْ لم يقض تخيّر الحاكم مع طلب أربابها بين أن يحبسه إلى أن يقضي المال، وبين أن يبيع متاعه ويقضي به الدِّيون - كما مرّ في المتنع عن أداء الدين - ولا يمنع في هذه الحال من التصرّف في أمواله، فلو تصرّف فيها قبل وفاء الحاكم نفذ تصرّفه، وإنْ كان بإخراجه عن ملكه، وينتقل حكمه حينئذٍ إلى حكم من ليس عنده مال.

والمراد بأمواله القاصرة؛ ما يشمل الأموال التي مَلكها بعوضٍ ثابتٍ في ذمّته، لأنّها ملكه الآن، وإنْ كان لأربابها الرجوع فيها، كما لهم المطالبة بالعوض، وكما يحتسب تلك من أمواله، كذلك يحتسب أعواضها من ديونه.6.

ص: 407


1- جامع المقاصد: ج 5/223.
2- مسالك الأفهام: ج 4/86.

ومطالبة أربابها الحجر، وإذا حَجَر عليه الحاكم، بطل تصرّفه في ماله ما دام الحَجرُ باقياً.

(و) الشرط الرابع: (مطالبة أربابها الحَجر) إذ لهم الحقّ ، فلا يُحجر عليه مع عدم طلبهم ذلك، إلّاأنْ تكون الدِّيون لمن له الولاية عليه كاليتيم والمجنون وما شاكل، ولو طالب الحجر هو دون أرباب الدين: فعن «التذكرة»(1) أنّه يُحجر عليه:

1 - لأنّ فيه مصلحة له ببراءة ذمّته، فكما يجاب الغرماء في ملتمسهم حفظاً لحقوقهم، يجاب هو أيضاً ليسلم من حَقّ الغرماء، ومن الإثم بترك وفاء الدَّين.

2 - ولما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه حَجَر على معاذ بالتماسه خاصّة(2).

ولكن الأوّل وجهٌ اعتباري لا يصلحُ مستنداً للّحكم الشرعي، والثاني ضعيف السند.

وعليه، فالأظهر أنّه لا يُحجر عليه للأصل السّالم عن المعارض.

منع المفلّس المحجور عليه من التصرّف في ماله

(وإذا) اجتمعت الشروط، و (وحجر عليه الحاكم، بطل تصرّفه في ماله مادام الحَجرُ باقياً)، بلا خلافٍ يعتدّ به في ذلك.

أقول: ونخبة القول فيه تقتضي البحث في اُمور:

الأمر الأوّل: مع اجتماع الشروط، هل للحاكم الشرعي حَجره من التصرّف في

ص: 408


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/52 الطبع القديم.
2- تذكرة الفقهاء: ج 2/52 الطبع القديم.

ماله ليبطل تصرّفه فيه حينئذٍ، أم ليس له ذلك ؟

المشهور بين الأصحاب هو الأوّل، بل لم ينقل الخلاف عن أحدٍ سوى صاحب «الحدائق»(1) رحمه الله، فإنّه استشكل فيه، بل حكم بأنّه ليس للحاكم أن يحجره.

ويمكن أنْ يستدلّ للمشهور بوجوه:

منها: الإجماع عليه قديماً وحديثاً، فإنْ تمّ ما أفاده المحدِّث البحراني من عدم ظهور شيء من الروايات في ذلك، كان الإجماع المذكور حجّة قطعاً.

ومنها: أنّه لا ريب في أنّ ذلك من وظائف قضاة الجور وحكّامهم، لما نرى ونسمع أنّهم يحجرون المفلّس عن التصرّف في ماله، وقد دلّت النصوص(2)المتضمّنة لجعله عليه السلام حاكم الشرع حاكماً وقاضياً على أنّ له جميع ما لحكّام الجور من الوظائف والمناصب، ومنها هذه الوظيفة وهذا المنصب.

ومنها: النصوص الخاصّة، كالخبر الذي رواه غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يفلّس الرّجل إذا التوى على غرمائه، ثمّ يأمر به فيقسّم ماله. الحديث»(3).

أقول: وتقريب الاستدلال به من وجهين:

أحدهما: قوله «يفلّس الرّجل» إذ لا معنى معقول له إلّاالحَجر عليه.

ثانيهما: قوله: «ثم يأمر به فيقسّم ماله» ظاهرٌ في رفع اختياره لو أراد التصرّف في ماله على وجهٍ يخرجه عن ملكه، بل لعلّه المراد من الحبس في الخبر الذي رواه8.

ص: 409


1- الحدائق الناضرة: ج 20/385.
2- وسائل الشيعة: ج 27/136-153 باب 11 من أبواب صفات القاضي من كتاب القضاء.
3- التهذيب: ج 6/299 ح 40، وسائل الشيعة: ج 18/416 ح 23958.

الأصبغ بن نُباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام:

«أنّه قضي عليه السلام في الرّجل يلتوي على غرمائه أنّه يُحبس، ثمّ يؤمر به فيقسّم ماله بين غرمائه بالحصص، فإنْ أبى باعه فقسّمه بينهم»(1).

فإنّ قوله: «بالحِصص» قرينة على كونه مفلّساً، وأمره بتقسيمه بنفسه قرينة على إرادة المنع من التصرّف من قوله: «أنّه يُحبس».

ومثله موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام(2).

وبالجملة: فلا ينبغي التوقّف في أنّ للحاكم ذلك.

الأمر الثاني: إذا حَجَر عليه الحاكم، مُنع من التصرّف في المال الموجود في حال الحَجر، سواءٌ أكان بعوضٍ أو غيره على المشهور.

وعن ظاهر «الخلاف»(3) و «الغُنية»(4): الإجماع على منعه من التصرّف بما يوجب بطلان حَقّ الغرماء.

والوجه فيه: أنّ الحَجر إنّما هو لحفظ المال للغرماء، فحقّ الغرماء متعلّق به، فليس له التصرّف فيه بوجه، مع أنّه إذا كان له تسلّط على المال بوجهٍخيف عليه منه.

نعم، لا وجه لمنعه من التصرّف الذي لا يكون تصرّفاً في المال كالنكاح والطلاق والقصاص والعفو عنه وما شاكل ممّا ليس تصرّفاً في المال، ولا التصرّف المحصّل للمال كالإحتطاب والاصطياد.7.

ص: 410


1- التهذيب: ج 6/232 ح 19، وسائل الشيعة: ج 27/247 ح 33693.
2- الكافي: ج 5/102 ح 1، التهذيب: ج 6/191 ح 37.
3- الخلاف: ج 3/261، كتاب التفليس مسألة 1.
4- الغنية: ص 247.

فلو اقترض بعده، أو اشترى في الذمّة، لم يشارك المُقرِض والبائع الغرماء،

وأولى منهما الاتّهاب والشراء بثمن في الذمّة والقرض ونحوها.

وهل تصرّفه الممنوع عنه حينئذٍ كتصرّف الرّاهن موقوفٌ على إجازة الغرماء، ليصحّ مع الإجازة، أم يكون باطلاً رأساً؟

وجهان بل قولان، أظهر هما الأوّل، للعمومات السليمة عن المخصّص، لأنّ المتيقّن من ما يستفاد من أدلّة المنع من التصرّف، هو الاستقلال، مع أنّه يمكن أنْ يقال باستفادة الصحّة مع الإجازة من عموم التعليل الوارد في النصوص(1) المبيّنة لحكم نكاح العبد بدون إذن سيّده بأنّه: «لم يعصِ اللّه وإنّما عصى سيّده، فإذا أجاز جاز»، إذ المستفاد منها أنّ كلّ عقدٍ كان النهي عنه لحقّ الآدمي يصحّ بحصول الرّضا وإجازة صاحب الحقّ .

وعلى الجملة: فالمنع حيث يكون لحقّ الغرماء، ولهم الإذن في التصرّف، فلهم أن يجيزوا العقد الذي أوقعه، بناءً على ما هو الحقّ من كون صحّة الفضولي على القاعدة.

الأمر الثالث: (فلو اقترض بعده) أي بعد الحجر (أو اشترى في الذمّة، لم يشارك المقرض والبائع الغرماء) إذا كان عالماً بحاله اتّفاقاً - كما في «المسالك»(2) - له ولإقدامه على دينه، حيث علم إعساره وتعلّق حَقّ الغرماء بأمواله.

وأمّا إنْ كان جاهلاً:6.

ص: 411


1- وسائل الشيعة: ج 21/117-118 باب 26 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
2- مسالك الأفهام: ج 4/96.

فعن المصنّف(1)، والمحقّق(2)، والشهيدين(3) والكركي(4) أنّه كذلك.

وقيل: إنّه يجوز له فسخه، واختصاصه بعين ماله.

وقيل: إنّه يُضرب مع الغرماء.

وجه الأوّل: تعلّق حَقّ الغرماء الموجودين عند الحجر بأمواله وإنْ كانت متجدّدة بناءً على تعلّق الحجر بالمتجدّد من ماله.

ووجه الثاني: عموم قوله عليه السلام كما في الخبر الآتي: «صاحب المتاع أحقّ بمتاعه إذا وجده بعينه».

ووجه الثالث: أنّ له حقّاً ثابتاً في الذمّة، فهو غريمٌ ، فيضرب به كسائر الغرماء، وأنّه قد أدخل في مقابل الثمن مالاً فليضرب بالثمن، إذ ليس فيه إضاعة على الغرماء.

أقول: لكن تعلّق حَقّ الغرماء بالمال المتجدّد بدون تجديد الحَجْر عليه، ففي غاية الإشكال، للأصل، بعد عدم إطلاقٍ أو عمومٍ شامل له، بل المتّجه عدم التعلّق كما عن فخر المحقّقين(5)، كما أنّ المتّجه عدم تعلّق حَقّ الغريم الجديد بالمال المحجور عليه، لأنّه بعد الحكم بتعيّن صرفه في قضاء ديون الموجودين، تبدّل الحكم بشركة الجديد معهم المستلزم للضرر عليهم خلاف الأصل، يحتاج إلى دليل، وعلى ذلك فيتّجه القول الثاني لا للعموم المذكور، فإنّه في المال المحجور عليه، بل لأنّه إذا كان عوضه حالّاً، ولم يُسلّم المشتري، يكون البائع له بالخيار، وبه يظهر أنّه لو كان مؤجّلاً أو كان قرضاً لاحق له أيضاً فيه قبل حلول الأجل.8.

ص: 412


1- قواعد الأحكام: ج 2/145 قوله: (ويحتمل في الجاهل بالحجر: الضرب، والاختصاص بعين ماله، والصبر).
2- شرائع الإسلام: ج 2/344.
3- مسالك الأفهام: ج 4/96.
4- جامع المقاصد: ج 5/238-239.
5- إيضاح الفوائد: ج 2/68.

ولو أتلف مال غيره شاركَ صاحبه،

وبما ذكرناه يظهر ما في وجهي الثالث.

الأمر الرابع: (ولو أتلف مال غيره شارك صاحبه) مع الغرماء، كما في المتن، وعن «القواعد»(1) و «جامع المقاصد»(2) و «المسالك»(3).

واستدلّوا له: بعموم الخبر الدالّ على الضرب، وبأنّ الثابت هنا من المال بغير رضا صاحبه.

أقول: لم أعثر على خبرٍ يدلّ على عموم الضرب الشامل للفرض، وثبوت مالٍ في الذمّة بغير رضا صاحبه، لا يقتضي مشاركته مع الغرماء. وعليه فالأظهر ما عن الأردبيلي(4) من عدم المشاركة، وقوّاه صاحب «الجواهر»(5) رحمه الله، فيكون حاله حال من أتلف مال الغير ولا مال له.

مشاركة المقرّ له بالدَّين السابق مع الغرماء

الأمر الخامس: ولو أقرَّ بدينٍ سابق صَحّ ، لما دلّ على جواز إقرار العقلاء على أنفسهم(6).

ص: 413


1- قواعد الأحكام: ج 2/94.
2- جامع المقاصد: ج 5/254.
3- مسالك الأفهام: ج 4/97.
4- مجمع الفائدة: ج 9/247.
5- جواهر الكلام: ج 25/293-294.
6- وسائل الشيعة: ج 23/184 باب 3 من أبواب كتاب الإقرار.

وكذا لو أقرَّ بدينٍ سابق.

وهل يشارك المقر له مع الغرماء كما في المتن، حيث قال: (وكذا لو أقرَّ بدينٍ سابق) بعد حكمه بمشاركة من أتلف ماله معهم، وهو المحكي عن الشيخ في «المبسوط»(1)، والمحقّق في «الشرائع»(2) والمصنّف في «التذكرة»(3) و «التحرير»(4)؟

أم لا يشاركهم كما عن «الإرشاد»(5)، وقوّاه الشهيد الثاني(6)، واختاره المحقّق الأردبيلي(7) رحمه الله ؟ وجهان.

وقد استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ الإقرار كالبيّنة، فكما أنّه مع قيامها لا إشكال في المشاركة كذلك مع الإقرار.

2 - وبأنّه عاقلٌ فينفذ إقراره للخبر، وعموم الخبر في قسمة ماله بين الغرماء والمقرّ له أحدهم.

3 - وبانتفاء التّهمة على الغرماء، لأنّ ضرر الإقرار في حقّه أكثر منه في حَقّ الغرماء.

4 - وبأنّ الظاهر من مال الإنسان أنّه لا يقرّ بدينٍ عليه مع عدمه.4.

ص: 414


1- المبسوط: ج 2/272.
2- شرائع الإسلام: ج 2/344.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/53، الطبع القديم.
4- تحرير الأحكام: ج 2/509، الطبع الجديد.
5- إرشاد الأذهان: ج 1/396.
6- مسالك الأفهام: ج 4/91.
7- مجمع الفائدة: ج 9/243-244.

وأورد عليها صاحب «المسالك» بقوله:

(ويشكل بمنع دلالة الخبر على المُدّعى، لأنّا قبلناه على نفسه، ومن ثمّ ألزمناه بالمال بعد زوال الحَجر، ولم يدلّ على أنّه جائزٌ على غيره، ولو شارك المقرّ له للغرماء لنفذ عليهم، لتعلّق حقّهم بجميع ماله، ولا معنى لمنعه من التصرّف إلّاعدم نفوذه في ماله الموجود، والمشاركة تستلزم ذلك، ونمنع مساواة الإقرار للبيّنة في جميع الأحكام، ويظهر أثره فيمن لا يقبل إقراره إذا اُقيمت عليه البيّنة، وإذا لم تكن القاعدة كليّة لم تصلح كبرى للشكل الأوّل، ولا ينتج المطلوب، والتّهمة موجودة في حَقّ الغرماء، لأنّه يريد إسقاط حقّهم بإقراره، وتحقّق الضرر عليه لا يمنع من إيجابه الضرر عليهم، ولإمكان المواطاة بينه وبين المقرّ له، فلا يتحقّق الضرر إلّا عليهم)(1) انتهى .

وفيه: إنّ إخبار المقرّ بدينٍ سابق إنْ كان واجداً لشرائط الحجيّة، بأن كان المقرّ ثقة - بناءً على حجيّة خبر الواحد في الموضوعات - ثبت به الدين السابق، فيشمله ما دلّ على شركة جيمع الغرماء ومنهم المقرّ له على نفسه لا على الغير.

فإنْ قيل: إنّه قد اشتهر بينهم حجيّة الأمارة في مثبتاتها ومنها الإقرار، فإذا صار حجّة ولو على نفسه، يكون حجّة في لازمه، وهو ثبوت الدين واقعاً، وكون المقرّ له من الغرماء حين الحجر، ويترتّب عليه مشاركته معهم.

قلنا: إنّه لم يدلّ دليلٌ على حجيّة الأمارة في مثبتاتها مطلقاً، وإنّما بنينا عليها مع اجتماع القيدين:2.

ص: 415


1- مسالك الأفهام: ج 4/91-92.

ولو أقرّ بعينٍ قيل تُدفع إلى المقرّ له.

أحدهما: كون الأمارة حاكية عن اللّوازم الملزومات كما في الخبر.

ثانيهما: إطلاق دليل الحجيّة، ومع فقد أحد القيدين لا تكون الأمارة حجّة في مثبتاتها.

وفي المقام القيد الأوّل وإنْ كان موجوداً، إلّاأنّ الثاني مفقود، فإنّ دليل حجيّة الإقرار مختصٌّ بما يكون عليه، ولا نظر له إلى الجهات الاُخر، وعليه فلا يثبت به كون المقرّ له من الغرماء حين الحجر كي يشمله ما دلّ على مشاركة الغرماء في المال، وظهور حال الإنسان في عدم الإقرار بدينٍ مع عدمه ممنوعٌ في المقام، وعلى فرضه لا دليل عليحجيّة هذا الظهور مالم يفد الاطمئنان، كما أنّ مجرّد انتفاء التّهمة لايكفي، مع أنّه ممنوع.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لو كان المقرّ ثقةً ، يشترك المقرّ له مع الغرماء، وإلّا فلا.

أقول: (و) بما ذكرناه يظهر حكم ما (لو أقرّ بعينٍ ) فإنّه (قيل) إنْ كان إخبار المُقرّ واجداً لشرائط الحجيّة، بأن كان المقرّ ثقة، (تدفع) العين (إلى المُقرّ له) وإلّا فلا.

وفي «المسالك»: (واعلم أنّ جملة الأقوال في المسألة اتّفقت على قدر الاحتمالات الممكنة، وهي أربعة:

نفي نفوده فيهما، واختاره العلّامة في «الإرشاد»(1)، والشهيد(2) وجماعة(3).5.

ص: 416


1- إرشاد الأذهان: ج 1/398.
2- غاية المرام: ص 112.
3- منهم المحقّق الكركي في جامع المقاصد: ج 5/234-235.

وله إجازة بيع الخيار وفسخه.

ومَنْ وَجد عين ماله كان له أخذها دون نمائها، وإن لم يكن سواها.

وإثباته فيهما، وهو خيرة «التذكرة»(1).

وثبوته في العين دون الدين، ذهب إليه ابن إدريس(2).

وبالعكس، وهو ظاهر المصنّف في الكتاب(3) وإنْ كان بعد ذلك تردّد)(4).

وقد عرفت أنّ ما اخترناه وقوّيناه قولٌ خامس في المسألة.

(و) ممّا قدّمناه يظهر أنّ (له إجازة بيع الخيار وفسخه) لأنّ هذا التصرّف أثرُ أمرٍ سابق على الحجر، فلا يمنع منه، كما أنّه ظهر أنّ ما اشترطه المصنّف رحمه الله من اعتبار الغبطة في الرّد بالعيب السابق في غير محلّه.

اختصاص الغريم بعين ماله

(و) المعروف بين الأصحاب أنّ (مَنْ وَجد) من الغرماء (عين ماله، كان له أخذها دون نمائها، وإنْ لم يكن سواها) إنْ كان المديون حيّاً، بل لم ينقل الخلاف إلّا عن الشيخ رحمه الله في «التهذيب»(5)، و «الاستبصار»(6)، و «النهاية»(7)، و «المبسوط»(8)،

ص: 417


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/53، الطبع القديم.
2- السرائر: ج 2/499، قوله: (والأولى عندي أنّه لايقبل إقراره في أعيان أمواله بعد الحجر عليه، فأمّا إنْ أقرّ بشيء في ذمّته لا في أعيان أمواله فإنّ إقراره يصحّ ) وهو عكس ما نسبه الشهيد الثاني إليه.
3- شرائع الإسلام: ج 2/344.
4- مسالك الأفهام: ج 4/92-93.
5- التهذيب: ج 6/193، باب في الدِّيون وأحكامها ح 46.
6- الاستبصار: ج 3/8، باب (من يركبه الدين فيوجد متاع رجل عنده بعينه) ذيل ح 1.
7- النهاية: ص 310.
8- المبسوط: ج 2/250، كتاب المفلس.

فخصّ الاختصاص بما إذا كان وفاءً بتجدّد مالٍ آخر للمفلّس بإرثٍ أو اكتسابٍ أو تكون الدِّيون إنّما تزيد على أمواله مع ضميمة الدين المتعلّق بمتاع واجده، فإذا خرج الدين من بين ديونه، والمتاع من بين أمواله، صارت وافية بالديون، أو بغير ذلك ممّا يتصوّر فيه ذلك بحيث لا ينافي القصور الذي هو شرط الفلس.

ويشهد للمشهور: مضافاً إلى النبويّ المروي في كتب الفروع: «إذا أفلس الرّجل ووجد سلعته، فهو أحقّ بها» ونحوه غيره.

1 - إطلاق صحيح عمر بن يزيد، عن أبي الحسن عليه السلام: «لا يحاصّه الغرماء»(1).

2 - وصحيح جميل، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«في رجلٍ باع متاعاً من رجل، فقبضَ المشتريُ المتاع ولم يدفع الثمن، ثمّ مات المشتري والمتاع قائمٌ بعينه ؟

فقال عليه السلام: إذا كان المتاع قائماً بعينه رَدّ إلى صاحب المتاع، وقال: ليس للغرماء أن يحاصّوه»(2).

فتأمّل فإنّ هذا الخبر غير ما نحن فيه، إذ هو في الميّت، وسيأتي الكلام فيه، وعليه فالعمدة هو الصحيح الأوّل.

واستدلّ لما ذَهب إليه الشيخ رحمه الله بصحيح أبي ولّاد، عنه عليه السلام:

«عن رجلٍ باع من رجلٍ متاعاً إلى سنةٍ ، فمات المشتري قبل أنْ يحلّ ماله، وأصاب البائع متاعه بعينه، له أنْ يأخذه إذا خفي له ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان عليه دين وترك نحواً ممّا عليه، فليأخذه إن أخفي له، فإنّ ذلك4.

ص: 418


1- التهذيب: ج 6/193 ح 45، وسائل الشيعة: ج 18/415 ح 23955.
2- الكافي: ج 7/24 ح 4، وسائل الشيعة: ج 18/414 ح 23954.

حلالٌ له، ولو لم يترك نحواً من دينه، فإنّ صاحب المتاع كواحد ممّن له عليه شيء، يأخذ حصّته، ولا سبيل له على المتاع»(1).

والمراد بالنحو هنا المثل، بمعنى أنّ تكون تركته قدر ما عليه فصاعداً، بحيث لايحصل على باقي الغرماء قصورٌ، ولكنّه مختصٌّ بالميّت، وعدم الفصل بينه وبين الحيّ غير ثابت، بل خلافه يناسب، إذ مضافاً إلى فتوى الأصحاب يمكن أنْ يقال:

إنّ الميّت لا تبقى له ذمّة، فلا يناسب الاختصاص إلّامع ذلك باكتساب مال ونحوه، وعليه فما عن المشهور أظهر.

أقول: ثمّ إنّ تمام الكلام يتحقّق بالبحث في جهات:

الجهة الأُولى: أنّه ليس في النصوص سوى أحقيّته بماله، وردّه إليه، وأنّه ليس للغرماء أن يحاصّوه، ولا يدلّ ذلك على أنّ له الفسخ.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال بقرينة فهم الأصحاب أنّ المتفاهم عرفاً من أخذ عين ماله أنّ له الفسخ.

الجهة الثانية: أنّه لا اختصاص له بنماء ماله، فإنّه للمديون، لكونه نماء ماله، والنّص دلّ على اختصاصه بعين ماله، فالنماء حكمه حكم سائر أمواله.

الجهة الثالثة: أنّ المعروف بين الأصحاب أنّ له أنْ لا يأخذ عين ماله، فيضرب مع الغرماء، والنّص دالٌّ على خلاف ذلك، لأنّه يدلّ على اختصاصه بعين ماله، وأنّه ليس له غيرها، فلا وجه لضربه مع الغرماء.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ قوله عليه السلام: «رَدّ إلى صاحب المتاع» نظير الأمر الوارد مورد6.

ص: 419


1- التهذيب: ج 6/193 ح 46، وسائل الشيعة: ج 18/415 ح 23956.

توهم الحظر، لا يستفاد منه أزيد من أنّ له ذلك، فيبقى إطلاق أدلّة الضرب مع الغرماء سليماً عن المقيّد، وعليه فإيراد صاحب «الحدائق»(1) رحمه الله على الأصحاب في غير محلّه.

الجهة الرابعة: اختلفوا في أنّ الخيارالثابت له، هل هو على الفور أو على التراخي ؟

قال صاحب «المسالك»: (منشأهما إطلاق النّص بثبوته، فيستصحب إلى أن يثبت المزيل، ووجوب الوفاء بالعقد، وبناء البيع على اللّزوم، فيقتصر في الخروج عن ذلك على موضع الضرورة جمعاً)(2).

وربما يقال: على القول بثبوت خيار الفسخ لصاحب المتاع - كما هو المشهور - يدخل المقام في كبرى كليّة مذكورة في الخيارات وغيرها من المباحث المتقدّمة، وهي أنّه إذا ورد عامٌ له عمومٌ أفرادي وعموم أزماني أو إطلاق كذلك، وخرج عنه بعض أفراده في بعض الأزمنة، وشكّ بعد مضيّ الزمان المتيقّن خروج الفرد عن العام فيه، أنّه هل الحكم الخاص باقٍ ، أم الثابت هو الحكم الثابت بالعموم ؟ وحيث أنّ المختار في تلك المسألة هو الرجوع إلى العام مطلقاً، أي سواءٌ كان له عمومٌ أزماني أو إطلاق كذلك، ولا يرجع إلى الاستصحاب في ذلك المورد، فمقتضى القاعدة هو البناء على أنّ الخيار للفور، وليس بإزاء ذلك ما يدلّ على ثبوت الخيار بنحو الإطلاق، لما مرّ من أنّه لو بنى عليه فهو المستفاد ممّا ورد من: «أنّ له أخذ عين ماله»، الملائم مع كون الأخذ وفاء.0.

ص: 420


1- الحدائق الناضرة: ج 20/396.
2- مسالك الأفهام: ج 4/100.

ولو خَلَطها بالمساوي أو الأدون فله عين ماله، وإلّا فالضَّرب مع الغُرماء.

ولا اختصاص في مال الميّت مع قصور التركة.

ولكن يرد عليه: أنّه مع تسليم دلالة الأمر بالرّد على الخيار - حيث أنّ مقتضى إطلاقه أنّ له الأخذ في أي وقتٍ شاء - فلازمه ثبوت الخيار بنحو الإطلاق، وبه ترفع اليد عن عموم ما دلّ على لزوم العقد، لأنّ إطلاق المقيّد مقدّمٌ على إطلاق المطلق.

وعليه، فالأظهر أنّه على نحو التراخي، واللّه اعلم.

الجهة الخامسة: (ولو خَلَطها بالمساوي) كما لو اشترى زيتاً فخلطه بمثله، (أو الأدون، فله عين ماله) فيقسّم حينئذٍ بينه وبين المفلّس، (وإلّا) بأن خَلَطها بما هو أجود منها، فعن الشيخ رحمه الله (و) في المتن: (فالضَّرب مع الغرماء).

واستدلّ له: بأنّها حينئذٍ كالتالفة بالاختلاط، وعدم التمكّن من القسمة للإضرار بالمفلّس.

ويردّه: أنّ عين ماله موجودة على الفرض، فله فسخ عقده بمقتضى إطلاق النّص، فيشترك مع المفلّس، فتجري حينئذٍ قاعدة الشركة، وبعد تشخيص حقّه عيناً أو قيمةً يأخذ ماله.

الجهة السادسة: (ولا اختصاص في مال الميّت مع قصور التركة) وإنّما له الاختصاص إذا ترك الميّت نحواً ممّا عليه، فيجوز حينئذٍ لصاحب العين أخذها، لما مرّ من أنّ ذلك مقتضى الجمع بين صحيح أبي ولّاد ومرسل جميل.

ص: 421

ويخرج الحَبّ والبيض بالزّرع والاستفراخ عن الاختصاص.

وللشفيع أخذ الشّقص ويضرب البائع مع الغرماء.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاقهما عدم الفرق في هذا الحكم بين أن يموت المديون محجوراً عليه أم لا، لأنّ الموت بمنزلة الحجر.

الجهة السابعة: (ويخرج الحَبُّ والبيضُ بالزَّرع والاستفراخ عن الاختصاص) لاستحالة ماله في ملك المشتري، فلا تكون عين ماله قائمة.

الجهة الثامنة: (و) لو باع شقصاً وفلس المشتري، كان (للشفيع أخذ الشقص، ويضرب البائع مع الغرماء).

أقول: ها هنا فرعان:

أحدهما: أنّه يقدم حَقّ الشفيع على البائع، ووجهه أسبقيّة حقّه من حقّ البائع، لأنّ حقّه ثبت بالبيع، وحقّ البائع يثبت بالحجر.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ غاية ما يدلّ عليه النّص أنّه ليس للغرماء محاصّة البائع مع بقاء العين، ودليل الشفعة يدلّ على أنّ للشفيع عدم إبقاء العين، فيكون دليلها صالحاً لرفع موضوع هذه النصوص فيقدّم.

الفرع الثاني: أنّه لا اختصاص للبائع بالثمن، بل يكون فيه اُسوةً مع الغرماء، ووجهه ظاهر؛ لأنّ الثمن ليس عين ماله.

***

ص: 422

مسائل: الأُولى: لو أفلس بثمن أُمّ الولد، بيعت أو أخذها البائع.

الثانية: لا تحلّ مطالبة المُعسِر،

عدم جواز مطالبة المُعسِر

أقول: بقي البحث عن (مسائل):

المسألة (الأُولى: لو أفلس بثمن اُمّ الولد، بيعت أو أخذها البائع).

المسألة (الثانية: لا تحلّ مطالبة المُعسِر) بل يُنظر إلى ميسرة، بلا خلافٍ في الجملة، ويشهد به:

من الكتاب: قوله تعالى : (وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (1).

ومن السُنّة: نصوصٌ كثيرة:

منها: الخبر المتضمّن لوصيّة الإمام الصادق عليه السلام الطويلة الوارد فيها: «إيّاكم وإعسار أحدٍ من اخوانكم المسلمين، إن تعسروه بشيء يكون لكم قبله وهو معسرٌ، فإنّ أبانا رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يقول: ليس لمسلمٍ أن يُعسر مسلماً، ومَنْ أنظر مُعسِراً أظلّه اللّه يوم القيمة بظله يوم لا ظِلّ إلّاظله»(2).

ومنها: مرسل ابن سنان، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «لا يحلّ لغريمك أن يمطلك وهو موسر، فكذلك لا يحلّ لك أن تعسره إذا علمت أنّه مُعسر»(3).

ونحوهما غيرهما.

ص: 423


1- سورة البقرة: الآية 280.
2- الكافي: ج 8/2 ح 9، وسائل الشيعة: ج 18/366 ح 23860.
3- التهذيب: ج 6/192 ح 43، وسائل الشيعة: ج 18/366 ح 23861.

ولا إلزامه بالتكسّب.

أقول: إنّما الكلام (و) الخلاف في أنّه:

إنْ كان قادراً على كسب المال، فهل (لا) يكون له (إلزامه بالتكسّب) كما هو المشهور(1) بين الأصحاب، بل أرسله بعضهم إرسال المسلّمات، وعلّلوا به عدم وجوب قبول الهبة ونحوها؟

أم يجوز إلزامه به، كما عن جماعة من المتأخّرين ؟

أم يجوز مؤاجرته خاصّة، كما عن ابن حمزة(2)، ومال إليه في محكي «المختلف»(3)، واختاره الشهيد رحمه الله(4).

قال صاحب «الجواهر»: (فالإنصاف أنّ كلمات الأصحاب لا يمكن جمعها على معنى واحد، بل لعلّ الحاصل ممّا ذكرناه منها أربعة أقوال أو خمسة)(5).

وقد استدلّ لما هو المشهور: من عدم وجوب التكسّب حتّى بالتقاط مباحٍ لايحتاج إلى تكلّف:

1 - بالأصل.

2 - وظاهر الآية الشريفة.

3 - والأخبار وهي ما مرّ، ومنها خبر غياث، عن مولانا الصادق عليه السلام: «أنّ7.

ص: 424


1- كما عن مسالك الأفهام: ج 4/119.
2- الوسيلة: ص 274.
3- مختلف الشيعة: ج 5/386.
4- الدروس: ج 2/113-114.
5- جواهر الكلام: ج 25/326-327.

علّياً عليه السلام كان يحبس في الدَّين، فإذا تبيّن له حاجةٌ وإفلاسٌ خَلّى سبله حتّى يستفيد مالاً»(1).

وأمّا الأصل: فلا مجال للرجوع إليه بعد الأمر بقضاء الدين، فإنّه إنْ وجب وجبت مقدّمته.

وأمّا الآية الكريمة: فهي تدلّ على وجوب الإنظار إلى الميسرة، وأمّا أنّ تحصيلها واجبٌ أو غير واجب، فهي ساكتة عنه.

وبه يظهر حال الأخبار، بل لو قيل بظهور ها في في وجوب التكسّب بجعل (حتّى ) فيها تعليليّة لم يكن بعيداً.

أقول: والأظهر وجوب التكسّب عليه، ويشهد به - مضافاً إلى أنّه مع تمكّنه من الاكتساب، يكون قادراً على أداء الدين، فيجب عليه مقدّمةً له - خبر السكوني المروي عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«إنّ عليّاً عليه السلام كان يحبس في الدين ثمّ ينظر، فإنْ كان له مالٌ أعطى الغرماء، وإنْ لم يكن له مالٌ دفعه إلى الغرماء، فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم وآجروه، وإنْ شئتم استعملوه»(2).

وبرغم ما يرد على هذا الخبر من جهة ما عن الحِلّي رحمه الله من أنّه «مخالفٌ لاُصول مذهبنا ومحكم التنزيل»(3)، ولعلّ نظره الشريف إلى أنّ الأمر في الآية بالإنظار، وكذا في الخبر ينافي استعماله في الدين ومؤاجرته، وكذا تخلية السبيل التي في خبر غياث.6.

ص: 425


1- التهذيب: ج 6/196 ح 58، وسائل الشيعة: ج 18/418 ح 23960.
2- التهذيب: ج 6/300 ح 45، وسائل الشيعة: ج 18/418 ح 23962.
3- السرائر: ج 2/196.

ولا بيع دار سكناه ولا عبد خدمته.

نعم، لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (لا) يلزم (بيع دار سكناه، ولا عبد خدمته)، وعن «المبسوط»(1)، و «الغُنية»(2)، و «التذكرة»(3): الإجماع عليه، لحسن الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا تُباع الدار ولا الجارية في الدين، لأنّه لابدَّ للرّجل من ظِلٍّ يسكنه، وخادمٍ يخدمه»(4).

وصحيح المحاربي، عنه عليه السلام: «لا يخرج الرّجل من مسقط رأسه بالدَّين»(5).

وخبر عثمان بن زياد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ لي على رجلٍ ديناً وقد أراد أن يبيع داره فيقضيني ؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: أعيذك باللّه أن تُخرجه من ظِلّ رأسه»(6).

فما يظهر من خبر سَلَمة بن كهيل من لزوم بيعها(7) لابدّ من حمله على الموسر المماطل، أو على الزائد عن قدر الحاجة، أو التقيّة، أو نحوها.

والظاهر من التعليل في الحسن نظر إلى أنّه يعمّم ويخصّص ثبوت الحكم في كلّ ما يحتاج إليه في المعيشة، وأيضاً عدم استثناء الدار إذا كانت الحاجة إليها من9.

ص: 426


1- المبسوط: ج 2/276.
2- الغنية: ص 249.
3- تذكرة الفقهاء: ج 2/3، الطبع القديم.
4- الكافي: ج 5/96 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/339 ح 23801.
5- الاستبصار: ج 3/6 ح 3، وسائل الشيعة: ج 18/343 ح 23808.
6- الكافي: ج 5/97 ح 8، وسائل الشيعة: ج 18/340 ح 23803.
7- التهذيب: ج 6/225 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/343 ح 23809.

الثالثة: لا يحلُّ بالحَجر المؤجّل، ولو مات من عليه حَلّ ،

حيث الشرف، لا من حيث الاضطرار، كما لو كان له دار قد وقفت عليه ترتفع ضرورته بسكناه فيها، فعليه أن يبيع داره المملوكة، نعم إذا كان ذلك حَرَجاً ومشقّة لا يبيع لأدلّة نفي العُسر والحَرج.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: استثناء كلّ ما يحتاج إليه في المعيشة، وما في بيعه حرجٌ ومشقّة وعُسر.

المسألة (الثالثة: لا يحِلُّ بالحَجْر المؤجّل) بلا خلافٍ ، إلّاعن الإسكافي(1)، لعدم الموجب للحلول، إلّاالقياس على الموت حيث قال المصنّف رحمه الله: (ولو مات من عليه حَلّ ) بلا خلافٍ ولا إشكال، وتشهد به نصوص:

منها: خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «إذا كان على الرّجل دَينٌ إلى أجل ومات حَلّ الدَّين»(2).

ومنها: الصحيح المضمر: «إذا مات فقد حَلّ مال القارض»(3).

ونحوهما غيرهما.

ومقتضى إطلاقها، عدم الفرق بين السَّلَم وغيره، وعليه فما عن «إيضاح» الفخر(4)، وحواشي الشهيد(5) من عدم حلول السَّلَم بالموت، ضعيفٌ .

وأضعف منه الاستدلال له بأنّ للأجل قسطاً من الثمن.5.

ص: 427


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 5/453.
2- التهذيب: ج 6/190 ح 33، وسائل الشيعة: ج 18/344 ح 23812.
3- التهذيب: ج 6/190 ح 34، وسائل الشيعة: ج 18/344 ح 23811.
4- إيضاح الفوائد: ج 2/62.
5- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 25/295.

ولا يحِلُّ بموت صاحبه.

الرابعة: ينفق عليه من ماله إلى يوم القسمة، وعلى عياله،

(ولا يحلّ ) الدَّين (بموت صاحبه) أي من له الدَّين، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل عن «الخلاف»: لا خلاف فيه بين المسلمين، لعدم الموجب.

وأمّا خبر أبي بصير، عن الصادق عليه السلام: «إذا مات الرّجل حَلّ ماله وما عليه من الدَّين»(1). فلاعراض الأصحاب عنه لا يُعتمد عليه.

يُنفق على المفلس من ماله إلى يوم القسمة

المسألة (الرابعة): قيل إنّه يجب أن (يُنفق عليه) أي على المفلس (من ماله إلى يوم القِسْمة، وعلى عياله)، وهو المشهور بينهم، وعن غير واحدٍ(2) نفي الخلاف فيه.

أقول: وقد استدلّ له:

تارةً : بفحوى ما دلّ على استثناء الدار والخادم، فإنّه إذا كان الخادم مستثنى من جهة الاحتياج، فالنفقة أولى بالاستثناء.

واُخرى : بمادلّ على استثناءالكفن، فإنّبالأولويّة يدلّ على استثناء الكسوة، لأنّ الحَيّ أعظم حرمةً من الميّت، وبعدم القول بالفصل يثبت في سائر النفقات الواجبة.

وثالثة: بأدلّة وجوب النفقة، وتقريب الاستدلال بها كما في «الجواهر»: (أنّها

ص: 428


1- الكافي: ج 5/99 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/344 ح 23810.
2- كما في المبسوط: ج 2/275، وجواهر الكلام: ج 25/340.

ولو مات قُدّم الكفن

ترجّح على ما دلّ على وفاء الغريم بوجوه، منها فتوى الأصحاب)(1).

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّه لا يدلّ على جواز اشتراء الدار والخادم من المال المحجور عليه، كي يثبت في النفقة بتنقيح المناط.

وعلى الثاني: أنّ الكفن يتعلّق بعين المال بخلاف الكسوة والنفقة.

وعلى الثالث: أنّه يتمّ مع عدم الحجر، وأمّا معه وتعلّق حَقّ الغُرماء بالمال الباقي، يصبح المحجور عليه كمن لا مال له، ويسقط عنه وجوب الإنفاق أو يتعلّق بذمّته.

فإذاً لا دليل عليه سوى تسالم الأصحاب عليه، وكفى به مدركاً.

(ولو مات قُدّم الكفن) بلا خلافٍ يوجد، واستدلّ له:

1 - بصحيح زرارة: «عن رجلٍ مات وعليه دينٌ بقدر كفنه ؟

قال عليه السلام: يجعل ماترك في ثمن كفنه، إلّاأنْ يتّجر عليه بعض الناس فيكفّنوه، ويقضى عليه ممّا ترك»(2).

2 - وخبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «أوّل ما يبدأ به من المال الكفن، ثمّ الدَّين، ثمّ الوصيّة، ثمّ الميراث»(3).8.

ص: 429


1- جواهر الكلام: ج 25/341.
2- الكافي: ج 7/23 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/328 ح 24706.
3- الكافي: ج 7/23 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/329 ح 24708.

الخامسة: يقسّم المال على الدِّيون الحالّة بالتقسيط

3 - وبما دلّ على أنّ الكفن من أصل المال(1).

أقول: وفي كلٍّ نظرٌ:

أمّا الخبران: فلأنّهما في المال الذي لم يتعلّق به حَقّ الغرماء، فإذا حجر عليه ثمّ مات، لا يدلّ الخبران على تقديم الكفن على الدين.

وبعبارة اُخرى: إنّه تارةً لم يتعلّق حَقّ الديّان بالمال، وبالموت يتعلّق به، واُخرى يكون الحقّ متعلّقاً به قبله، والخبران في الصورة الأُولى دون الثانية.

وأمّا ما دلّ على أنّ الكفن من أصل المال: فإنّما هو ما لا يكون متعلّقاً لحقّ الغير، ولا يحضرني وجه وجيه لتقديمه على ذلك الحقّ ، بل مقتضى القاعدة كونه حينئذٍ من قبيل من مات ولا مال له، إلّاأنّ تسالم الأصحاب عليه يُغنينا عن تكلّف الاستدلال، وحيث انحصر المدرك في الإجماع، فيتعيّن الاقتصار على المتيقّن، وهو الواجب منه كما لا يخفى .

يقسّم المال على الدِّيون الحالّة

المسألة (الخامسة: يقسّم المال على الدِّيون الحالّة بالتقسيط) فلو كان عليه ديون حالة وديون مؤجّلة، وقد فلس لقصور ما عنده عن الحالّة، قسّمت أمواله على الحالّة خاصّة، ولا يُدّخر منها شيءٌ للمؤجّلة بلا خلافٍ ، إذ الدائن لا يستحقّ

ص: 430


1- الكافي: ج 7/23 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/328 ح 24705.

ولو ظهر دينٌ حالٌّ بعد القسمة، نقضت وشاركهم، ومع القسمة يطلق ويزول الحَجر بالأداء.

شيئاً قبل الأجل، ولا يفلّس لأجله كما مرّ في أوّل هذا الفصل، ولو حَلّت قبل القسمة فعن «التذكرة» و «الروضة»(1) أصبح مشاركاً، واستدلّ له:

1 - بأنّه أولى من المتجدّد، كأرش الجناية، وعوض الإتلاف.

2 - وبأنّ المقتضي للمشاركة موجودٌ، وهو كونه ديناً سابقاً على الحجر، وكان الأجل مانعاً، فإذا ارتفع عمل المقتضى عمله.

ولكن يرد على الأوّل: ما تقدّم من عدم المشاركة فيه لولا الإجماع.

وعلى الثاني أوّلاً: أنّ المقتضي غير معلوم في الأحكام الشرعيّة، ولعلّه يكون الحلول دخيلاً في المقتضي.

وثانياً: أنّه في زمان إمكان تأثير المقتضي لا موضوع كي يؤثّر فيه، لأنّ المال قد تعلّق به حَقّ الغير قبل ذلك، فلا وجه للمشاركة.

(ولو ظهر دينٌ حالٌّ بعد القسمة، نقضت وشاركهم، ومع القسمة يُطلق) لأنّ المقتضي للمشاركة موجود، والمانع مفقود، إذ الجهل به لا يصلح للمانعيّة، فهل يبطل القسمة بنفسها أو أنّه ينقضها، لكن نترك البحث عن الحكم، إذ لا ثمرة مهمّة في البحث عن ذلك.

ص: 431


1- تذكرة الفقهاء: ج 2/72، الطبع القديم. الروضة البهيّة: ج 4/37-38.

السادسة: الولاية في مال الطفل والمجنون للأب والجَدّ له، فإنْ فقدا فللوصي، فإنْ فقد فالحاكم، وفي مال السفيه والمفلّس للحاكم خاصّة.

(و) هل (يزول الحَجْر بالأداء) كما في المتن، و «الشرائع»(1)، و «المسالك»(2)، و «الجواهر»(3) وغيرها(4)؟

أم يفتقر إلى حكم الحاكم ؟ وجهان:

وجه الأوّل:

أنّ الحَجر عليه إنّما كان لحقّ الغرماء ليقسموا أمواله الموجودة وقد حصل.

ووجه الثاني:

إنّه لم يثبت إلّابإثبات الحاكم، فلا يرتفع إلّابرفعه.

أقول:

الأظهر هو الأوّل، لأنّ حجره إنّما كان في خصوص الأموال الموجودة كما مرّ، فلا موضوع له كي يكون الحجر باقياً.

المسألة (السادسة: الولاية في مال الطفل والمجنون للأب والجَدّ له، فإنْ فقدا فللوصيّ ، فإنْ فقد فالحاكم، وفي مال السَّفيه والمفلّس للحاكم خاصّة) وقد مرّ الكلام في جميع هذه الموارد مستوفى في كتاب البيع في مبحث الولايات(5)، فلا نعيد.

ص: 432


1- شرائع الإسلام: ج 2/350.
2- مسالك الأفهام: ج 4/134-135.
3- جواهر الكلام: ج 25/361.
4- كمجمع الفائدة: ج 9/223، والحدائق الناضرة: ج 20/359-360.
5- فقه الصادق: ج 24/9، و ج 30/344.

***

الحمد للّه أوّلاً وآخراً وصلّى اللّه على سيّدنا محمّدٍ وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

***

ص: 433

ص: 434

فهرس الموضوعات

الفصل السابع: في الوديعة 7

الوديعة عقدٌ جائز 13

وجوب الحفظ على المستودع 17

وجوب سقي الدابّة وعلفها على الودعي 20

ضمان المستودع مع التعدّي أو التفريط 24

حكم الوديعة المعادة بعد التفريط 27

حكم إتلاف الأجنبي الوديعة 31

وجوب رَدّ الوديعة على المودع 36

فروع التنازع في الوديعة 42

الفصل الثامن: في العارية 47

ضابط العين المستعارة 49

إعارة الغنم للانتفاع بلبنها 51

جواز استعارة الأرض للزرع 54

المُعِير والمُستَعير 57

عدم ضمان المستعير مع التلف 59

حكمُ عارية الذّهب والفضّة من حيث الضمان 61

حكم النقصان الحاصل بالاستعمال 66

يقتصر المستعير على المأذون 70

الفصل التاسع: في اللُّقطة 73

اللَّقيط 73

ص: 435

شرائط ملتقط اللّقيط 77

الأحكام 81

حكم نفقة اللّقيط 82

عدم وجوب أخذ اللّقيط 86

أحكام الضّوال 89

لا يُؤخذ البعير إذا وُجد في كَلاً وماء 92

حكم الشّاة الملتقطة 98

حكم الحيوان غير البعير والشّاة 102

حكم ما يُنفق على الضّالة 103

حكم لُقطة المال الصامت 107

كراهة أخذ اللُّقطة 108

حكم اللُّقطة بعد الأخذ 111

وجوب تعريف اللُّقطة حولاً 117

حكم لُقطة غير الحَرَم 120

حكم ما لو كانت اللُّقطة ممّا لا يبقى 125

حكم ما يوجد في الخَربة 129

من يصحّ التقاطه 133

كيفيّة التعريف 135

لا تدفع اللُّقطة بدون البيّنة 138

الفصل العاشر: في الغَصب 141

حرمة التصرّف في مال الغير دون رضا صاحبه 142

الضمان وأسبابه 144

حكم ما لو سَكَن الدّار مع المالك 147

ضمان المنفعة المستوفاة 148

ص: 436

منع المالك من أخذ ماله 154

قاعدة الاحترام 155

تعاقب الأيدي 159

عدم ثبوت الغصب فيما ليس بمال كالحُرّ 161

ضمان الخمر والخنزير 165

وجوب رَدّ المغصوب إلى مالكه 168

بدل الحيلولة 171

مورد بدل الحيلولة 174

في المراد من التعذّر 175

حق الأولويّة 176

المِثْلي والقيمي 179

حكم ما لو تعذّر المِثْل في المثليّ 181

ضمان القيمي بالقيمة 183

تعيين القيمة 184

حكم ارتفاع القيمة السُّوقيّة والزيادة العينيّة 191

زيادة العين بفعل الغاصب 193

حكم مزج المغصوب بغيره 197

فوائد المغصوب للمالك 202

الزَّرعُ لمالك البذر 205

الفصل الحادي عشر: في إحياء المَوات 210

بيان حَدّ الطريق 211

بيانُ حَريم البئر 214

بيان حريم العين 216

حكم عدم وفاء النهر المباح بالأملاك المحاطة به 222

ص: 437

جواز حماية المَرعى للمالك 225

حكم تحويل مجرى النهر 227

حكمُ بيع الماء 228

حكم إخراج الرّواشن في الطرق 234

الطرق المرفوعة مشتركة بين أربابها 238

وضع الجذوع على حائط الجار 242

فروع التنازع في الجدار 245

كتاب الدِّيون: الفصل الأوّل: في القرض 253

وجوب نيّة القضاء حين الاستدانة 255

حكم اشتراط الزيادة فيه 257

تبرّع المقترض بالزيادة 265

اشتراط موضع التسليم 269

اشتراط الزيادة للمقترض 270

ضابط ما يصلح اقراضه 274

القرض يملك بالقبض 278

عدم جواز رجوع المُقرِض في العين المقترضة 280

تأجيل الدَّين الحالّ 286

تعجيل الدين المؤجل 290

بيان الحكم عند غيبوبة صاحب الدين 292

قسمة الدين 295

بيع الدين بالدين 300

حكم سداد الدَّين من البيع الحرام 304

حكم الدراهم الساقطة عن الماليّة بعد الاستقراض 308

الفصل الثاني: في الرّهن 313

ص: 438

المعاطاة في الرّهن 315

اشتراط القبض في الرّهن 318

حكم رهن الدين والمنفعة 326

يعتبر إمكان قبض المرهون 330

اعتبار إمكان البيع 332

الحقّ الذي يجوز أخذ الرَّهن عليه 336

رهن الحامل ليس رهناً للحمل 342

الرّاهن والمرتهن ممنوعان من التصرّف 345

اشتراط وكالة المرتهن في البيع 348

المرتهن أمينٌ لا يضمن 351

حكم الاختلاف في القيمة 355

حكم ما لو باع المرتهن الرَّهن 358

لو خاف جحود الوارث للدين 361

التنازع في أنّ الشيء رهنٌ أو وديعة 363

الفصل الثالث: في الحَجْر 367

الصغير ممنوعٌ عن التصرّف في ماله 368

علامات البلوغ 375

اعتبار الرّشد في رفع الحجر 391

في سائر أسباب الحَجر 393

في حكم منجزات المريض 394

الفلس من أسباب الحجر 406

منع المفلّس المحجور عليه من التصرّف في ماله 408

مشاركة المقرّ له بالدَّين السابق مع الغرماء 413

اختصاص الغريم بعين ماله 417

ص: 439

عدم جواز مطالبة المُعسِر 423

يُنفق على المفلس من ماله إلى يوم القسمة 428

يقسّم المال على الدِّيون الحالّة 430

فهرس الموضوعات 435

ص: 440

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.