فقه الصادق المجلد 28

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه على ما أولانا من التفقّه في الدِّين، والهداية إلى الحقّ ، والصراط المستقيم، والصّلاة والسّلام على أشرف النفوس القدسيّة، وأزكى الذّوات المطهرة الملكيّة، محمّد المصطفى وعترته المرضيّة، هُداة الخلق وأعلام الحقّ .

وبعدُ: فهذا هو الجزء الثامن والعشرون من كتابنا (فقه الصادق)، وقد وفّقنا إلى طبعه، وأرجو من اللّه تعالى التوفيق لنشر بقيّة المجلّدات، إنّه وليّ التوفيق.

ص: 5

ص: 6

كتاب الإجارة والوديعة وتوابعهما، وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في الإجارة.

كتاب الإجارة والوديعة وتوابعهما

(وفيه فصول:

الفصل الأوّل: في الإجارة):

وهي مصدر من (أجر) بمعنى أكرى، إذ أجر مجردّاً قد يستعمل بمعنى آخر كما عن بعض اللّغويين، فهي نظير الكتابة التي هي مصدر كَتَب، ففي خبر «تحف العقول»: «وأمّا تفسير الإجارة، فإجارة الإنسان نفسه أو ما يملك... الخ»(1).

وقد وقع الخلاف في مفهومها، بعد الاتّفاق على أنّه لا حقيقة شرعيّة لها ولا متشرعيّة، ومحلّ الخلاف جهات:

1 - هل الإجارة هي الإيجاب والقبول، الدالّان على انتقال المنفعة أو العمل بعوضٍ؟ أم هي تمليك المنفعة أو العمل بعوض ؟ أم انتقال ذلك، أو غير تلكم كلّها؟

2 - هل تستعمل الإجارة في نقل العين أيضاً أم لا؟

3 - هل هي إسمٌ لأحد طرفي العقد، وهو الإيجاب، أم للطرفين ؟

4 - أنّها تمليكٌ للمنفعة، أو العمل بعوض، أو أنّها بمعناها الاسمي إضافة خاصّة في العين المستأجرة بالإضافة إلى المستأجِر، مستتبعة لمِلْكه أو استحقاقه لمنفعتها أو عمله ؟

ص: 7


1- وسائل الشيعة: ج 19/101 ح 24242.

وبعبارة اُخرى : هل هي جعل العين بالاُجرة، وهي إضافة خاصّة في قبال إضافة الملكيّة ؟ أم هي تمليكٌ للعين في جهة خاصّة لمدّة معلومة في مقابل البيع الذي هو تمليكٌ للعين في جميع الجهات إلى الأبد؟

أقول: وقبل الدخول في البحث في الجهات الأربع، لابدّ وأن يُعلم أنّ في الإجارة وغيرها من المعاملات اُموراً أربعة:

إحداها: اعتبار المتعاقدين القائم بهما.

ثانيها: إبراز ذلك باللّفظ أو غيره.

ثالثها: إمضاء أهل العرف ذلك الاعتبار، واعتبارهم ما اعتبراه.

رابعها: إمضاء الشارع واعتباره.

وأمّا ما اشتهر من أنّ الإنشاء إيجادُ المعنى - كالملكيّة أو غيرها - باللّفظ، فلا واقع له، لأنّ الوجودات الحقيقيّة للمعاني لا يمكن إيجادها إلّابأسبابها الخارجيّة، واللّفظ ليس منها، كما أنّ الوجودات الاعتباريّة:

بعضها يكون متحقّقاً قبل الإنشاء، وهو اعتبار المُنشَأ نفسه، فلا يعقل تحقّقه به، أضف إليه أنّ اعتباره من أفعال النفس، وهي توجد بفاعليّتها، بلا احتياج إلى اللّفظ وغيره.

وبعضها - وهواعتبار العقلاء أو الشارع - وإنْ كان بعد الإنشاء، ومترتّباً عليه، إلّا أنّ الإنشاء موضوعٌ له، وأمّا سببه فهو نفس المعتبر.

نعم، تسمية الإنشاء إيجاداً، بمعنى أنّه بضميمة الاعتبارالنفساني موضوعٌلاعتبار العقلاء، والاعتبار الشرعي، حيث أنّ بناء العقلاء والشارع على عدم اعتبار الملكيّة

ص: 8

في الإجارة - مثلاً - إلّامع اعتبار المتعاقدين بقيد الإعلام به، لا بأس بها.

وعلى ما ذكرناه، يتبيّن أنّه لا سببيّة في باب العقود والإيقاعات رأساً.

وكيف كان، فللفقهاء في الجهة الأُولى من البحث أقوال، والمهمّ منها ثلاثة:

القول الأوّل: ما هو المشهور بينهم(1)، وهو أنّ الإجارة هي الإيجاب والقبول الدالّان على انتقال المنفعة أو العمل بعوض.

وفيه أوّلاً: أنّ الإجارة على ما يظهر من مشتقّاتها قائمة بالمؤجِّر، لا به وبالمستأجر معاً.

وثانياً: أنّ الإجارة تنشأ باللّفظ، ولا معنى لإنشاء الإيجاب والقبول به.

وبعبارة اُخرى : أنّها بحسب الفهم العرفي التمليك الخارجي لا الوجود اللّفظي للإنشاء، وإلّا لما كان معنى لإنشائه، بل كان إظهاره إخباراً لا إنشاءً .

القول الثاني: ما عن جمع، من أنّها تمليكُ منفعةٍ أو عملٍ بعوض.

وفيه: أنّه لا يمكن الالتزام بالتمليك في جملةٍ من الموارد، منها: استئجار محلّ من غِلّة العين الموقوفة، لتجتمع فيه الأموال الموقوفة وتكون محفوظة، فإنّه لا يملكه أحدٌ كما لا تُملك الغلّة نفسها.

القول الثالث: ما عن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله(2)، من أنّها انتقال منفعةٍ أو عملٍ من شخصٍ إلى غيره بعوض مقدّر.

وفيه: إنّ الإجارة بحسب معناها العرفي قائمة بالمؤجّر لا بالعوضين، والانتقال قائمٌ بهما، مع أنّ الانتقال أثر الإجارة لا عينها.7.

ص: 9


1- راجع مسالك الأفهام: ج 5/168، حاشية مجمع الفائدة: ص 477.
2- تحرير الأحكام: ج 3/67.

وهناك تعاريف اُخر ظاهرة الفساد.

فالحقّ أنْ يقال: إنّها إعطاء منفعة أو عمل بإزاء شيء، وهذا يختلف أثره بحسب الموارد، فقد يكون أثره ملكيّة المنفعة أو العمل كما في غالب مواردها، وقد يكون قيام المنفعة مقام عوضها فيما له من التعلّق والإضافة بجهة، كالمحلّ الذي استؤجر لغِلّة المسجد من الغِلّة.

وأمّا الجهة الثانية: فعن الشيخ الأعظم رحمه الله(1) أنّ لفظ (الإجارة) يُستعمل عرفاً في نقل بعض الأعيان - كالثمرة على الشجرة - وأيّده بعضهم بأنّه في بعض الأخبار اُسندت الإجارة إلى نفس الثمرة، كصحيح الحلبي، عن مولانا الصادق عليه السلام:

«تقبل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنةً وإنْ شئت أكثر، وإنْ لم تبين لك ثمرها فلا تستأجر»(2).

وفيه: أنّ المراد من (الثمرة على الشجرة):

إنْ كان هي الثمرة الموجودة فعلاً، فلاشبهة في أنّها لاتقع مورداً للإجارة، ولا تصحّ إجارة الشجرة لتلك الثمرة، لأنّه لم يحتمل أحدٌ صحّة استئجار عين لأجل عينٍ اُخرى موجودة، كاستئجار الشاة للبنها المحلوب.

وإنْ كان المراد بها شأنيّة ظهورها عليها، فاستئجار الشجرة لها وإن كان صحيحاً، وتنتقل هي إلى المستأجر، إلّاأنّ الإجارة لم تستعمل في نقل الأعيان بل في نقل المنافع.6.

ص: 10


1- كتاب المكاسب: ج 3/8.
2- التهذيب: ج 7/202 ح 36، وسائل الشيعة: ج 18/218 ح 23536.

وأمّا الصحيح: فالظاهر أنّ المراد بالاستئجار فيه الاشتراء، إذ من المعلوم أنّ ظهور الثمرة ليس شرطاً في استئجار الشجرة، وإنّما هو شرط في بيع الثمرة.

وعليه، فالمراد من لفظ (التقبّل) في صدر الخبر الشراء دون الاستئجار.

ولذلك فالأظهر عدم استعمالها في نقل الأعيان.

وأمّا الجهة الثالثة: فالظاهر - كما اعترف به غير واحدٍ - أنّ ألفاظ العقود برمّتها أسامٍ لأحد الطرفين، وهو الإيجاب، ويظهر ذلك من سائر مشتقّاتها، مثل:

(آجرتك)، و (بعتك)، و (وهبتك)، وما شاكل.

نعم، الإيجاب المجرّد عن القبول، لا يُطلق عليه شيءٌ من عناوين العقود حتّى في نظر الموجب، بل الإيجاب المشروط بتعقّب القبول يصدق عليه ذلك، وعليه فالقبول شرطٌ لا جزءٌ .

وأمّا الجهة الرابعة: فالمشهور بين الأصحاب(1) أنّها تمليك المنفعة أو العمل بعوضٍ .

أقول: قد أورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(2) وتبعه غيره، وهو أنّ الإجارة تتعلّق بالعين، ولا تتعلّق بالمنفعة والعمل، يقال: (آجرتك داري)، ولايقال: (آجرتك سُكنى داري ولا عملي)، فيستكشف من ذلك أنّ معناها لا تعلّق له بالمنفعة والعمل، ولهذا ذهب إلى أنّ مفهوم الإجارة جعل العين بالاُجرة، وهي إضافة خاصّة في قبال إضافة الملكيّة.

وفيه: إنّ مفهوم الإجارة على مسلك المشهور تمليك المنفعة، وهذا لابدّ وأن2.

ص: 11


1- راجع شرائع الإسلام: ج 2/413، تحرير الأحكام: ج 3/67، اللّمعة الدمشقيّة: ص 140.
2- حاشية المكاسب للآخوند: ص 32.

يتعلّق بالعين، إذ لا معنى لتمليك منفعة المنفعة.

وبعبارة اُخرى : المنفعة مأخوذة في مفهوم الإجارة، فعدم تعلّق الإجارة بالمنفعة لا ينافي كونها تمليكاً للمنفعة.

وأمّا ما ذكره في معناها، فسيأتي الكلام فيه إنْ شاء اللّه تعالى.

الإيراد الثاني: إنّ المنفعة معدومة حال الإجارة، فلايقع التمليك عليها، لأنّها من مقولة الأعراض، وهي لا تتقوّم إلّابالمحلّ الموجود، فلا يمكن أنْ تكون المنفعة موضوعة للملكيّة.

وفيه: إنّ للملكيّة مراتب:

المرتبة الأُولى: الملكيّة الحقيقيّة، وهي عبارة عن السلطنة التامّة، بنحوٍ يكون زمام أمر المملوك بيد المالك حدوثاً وبقاءً ، وهي مخصوصة باللّه تعالى، لكونه محيطاً بالموجودات إحاطة قيّوميّة.

المرتبة الثانية: الملكيّة الذاتيّة والسلطنة التكوينية، هي الحاصلة بين الشخص ونفسها و عمله أو ذمّته. والمراد بالذاتي ما لا يتوقّف تحقّقه على أمرٍ خارجي تكويني أو اعتباري، لا الذاتي في باب الكليّات الخمس وهو الجنس والفصل، ولا الذاتي في باب البرهان وهو ما يُنتزع من مقام الذات والنفس، والعمل والذمّة مملوكة للشخص بالملكيّة الذاتيّة.

المرتبة الثالثة: الملكيّة المقوليّة الخارجيّة، وهي عبارة عن الهيئة الحاصلة من إحاطة شيءٍ بشيء، كالهيئة الحاصلة من التعمّم والتقمّص وما شاكل.

المرتبة الرابعة: الملكيّة الاعتباريّة، وهي التي يعتبرها العقلاء أو الشارع

ص: 12

الأقدس من جهة المصلحة الداعية إلى ذلك.

أمّا المرتبتان الأوليتان: فهما غير مربوطتين بالمقام، وليستا من الأعراض.

وأمّا الثالثة: فهي من المقولات، وتُعرف بمقولة الجِدة، وتحقّقها بحاجة إلى محلّ موجودٍ خارجي تقوم به.

وأمّا الرابعة: فهي ليس من الأعراض كي لا تتحقّق إلّابالمحلّ الموجود، بل هي أمرٌ اعتباري، والاعتبار لا يحتاج إلّاإلى طرف في اُفق الاعتبار، وهو كما يكون عيناً خارجيّة، كذلك يكون كليّاً، بل ربما يكون المالك كليّاً، ككلّي الفقير والسيّد في باب الزكاة والخمس.

وعلى ذلك، فالمنافع وإنْ كانت معدومة، إلّاأنّه من جهة كونها مقدورة التسليم بتبع العين الخارجيّة، ويترتّب على اعتبار ملكيّتها الأثر، لا مانع من اعتبارها.

الإيراد الثالث: إنّ منفعة الدابّة مثلاً إنّما هي ركوبها، ومن الواضح أنّه من أعراض الراكب لا المركوب، وعرض الراكب لو كان مملوكاً، فإنّما هو مملوك له لا لصاحب المركب حتّى تصحّ إجارته.

وبالجملة: إنّ ما لا يملكه المؤجّر وهو مالك الدابّة كيف يملكه المستأجر، مع أنّ فاقد الشيء لا يكون معطياً له ؟!.

وفيه: إنّ المنافع من الركوب والسُّكنى وما شاكلّ من الاُمور التي تتقوّم بطرفين:

أحدهما المنتفع، والآخر ما ينتفع به، مثلاً الركوب قائمٌ بالراكب والمركب، فهو من الجهة الأولى ليس مملوكاً لصاحب الدابّة، لكنّه من الجهة الثانية - أي الإضافة

ص: 13

إلى الدابّة - يكون مملوكاً لصاحبها، فله تمليكه إيّاه.

فتحصّل: أنّه لا مانع من الالتزام بأنّ الإجارة عبارة عن تمليك المنفعة، إلّاأنّ الكلام في تعيّن ذلك، وسيأتي ما هو الحقّ .

أقول: قد عرفت أنّ هناك قولين آخرين:

أحدهما: ما عن بعض المدقّقين(1)، من أنّ الإجارة تمليكٌ للعين في جهة خاصّة في مدّة مخصوصة.

وأورد عليه المحقّق الاصفهاني رحمه الله(2): بأنّ معروض الملكيّة إنْ كان نفس تلك الجهة، عاد محذور تعلّق الملكيّة بالمنفعة، وإنْ كان هي العين المخصّصة بجهةٍ والعين المتحيّثة بحيثيّة مخصوصة بما هي مقيّدة بها، لزم اجتماع ملكين استقلاليين على عين واحدة.

وتقييدها بالجهة تارةً ، وإطلاقها اُخرى لا يوجبُ تعدّد الموضوع.

وفيه: إنّ عدم اجتماع ملكين استقلاليين في موردٍ واحد، ليس من جهة عدم اجتماع اعتبارين، فإنّ ذلك في نفسه أمر ممكن، بل عدم الاجتماع يكون بالعَرَض وبواسطة التنافي في الآثار، فإذا فرضنا كون المِلْكين نحوين، ولكلّ منهما أثرٌ لا ينافي الاخر، لا مانع من الالتزام باجتماعهما.

فالصحيح أن يورد عليه: بأنّ الإجارة ليست معاملة تأسيسيّة شرعيّة، بل هي معاملة عقلائيّة متداولة بين جميع العقلاء، أمضاها الشارع الأقدس من دون أن يتصرّف في مفهومها، ومن الواضح أنّ العقلاء والعرف في مقام الإجارة لايملكون العين.5.

ص: 14


1- مصباح الفقاهة: ج 2/19.
2- الإجارة للإصفهاني: ص 5.

مع أنّه لو تمّ ذلك في إجارة العين لا يتمّ في إجارة الحُرّ نفسه للعمل، فإنّه لايملك نفسه، وهذا واضحٌ جدّاً. وعليه فهذا القول ممّا لا يمكن الالتزام به.

ثانيهما: ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(1)، وهو أنّ الإجارة جَعل العين بالاُجرة، وهي إضافة خاصّة في قبال إضافة الملكيّة.

وبعبارة اُخرى : هي عبارة عن التسليط على العين للانتفاع بها بعوضٍ .

وفيه: أنّه للسلطنة على العين معان:

المعنى الأوّل: السلطنة التكليفيّة، أي الترخيص التكليفي في التصرّف فيها.

الثاني: السلطنة الوضعيّة، أي السلطنة على المعاملات ونفوذها.

الثالث: السلطنة الفعليّة الخارجيّة.

الرابع: السلطنة الاعتباريّة.

ولا إشكال في أنّ المراد بالسلطنة الإنشائيّة، ليس هي السلطنة التكليفيّة أو الوضعيّة أو الخارجيّة.

أمّا المعنى الأولى: فلأنّ جواز التصرّف أعمٌّ من مورد الإجارة، مع أنّ جواز التصرّف من آثار الملك وأحكامه، وللمالك أن يأذن في التصرّف، وليس بنفسه ممّا يقبل النقل والانتقال.

وأمّا المعنى الثانية: فلأنّه لا يجوز تصرّفات المستأجر المعامليّة لنفسه.

وأمّا المعنى الثالثة: فواضح.

فلا محالة يكون المراد السلطنة الاعتباريّة المعبّر عنها بالحقّ ، وهي دون مرتبة4.

ص: 15


1- حاشية المكاسب للآخوند: ص 32، ونسبه إليه الاصفهاني في الإجارة: ص 4.

الملكيّة، وحيث أنّه ليس لكلّ أحدٍ سلطنتان على ماله: سلطنة ملكيّة، وسلطنة حقيّة اعتبارية، إذ مع الأولى يكون اعتبار الثانية لغواً لا مورد لها، فلا تكون الإجارة التسليط على العين، لأنّ فاقد الشيء لا يكون معطياً، والسلطنة المترتّبة على الملكيّة المعبّر عنها بحقّ القبض على العين للانتفاع بها، إنّما هي السلطنة الوضعيّة والتكليفيّة لا الاعتباريّة.

اللّهمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ هذه السلطنة وإنْ لم تكن ثابتة للمالك، إلّاأنّ له إعطائها للغير، كما أنّ عمل الحُرّ ليس ملكاً للعامل ويملكه للمستأجر.

ولكن يرد عليه: أنّ ثبوت هذا الحقّ له بمعنى له أن يعتبر حقّاً في العين للمستأجر لم يدلّ عليه دليل، مع أنّ المعاملات العرفيّة - أي الإجارة التي يوقعها العرف والعقلاء - ليست كذلك، ولا يخطر ذلك ببالهم.

وبالجملة: فالأظهر أنّ الإجارة هي تمليك منفعة أو عملٍ بعوض، كما أفاده المشهور.

***

ص: 16

وشروطها ستّة: العقد، وهو الإيجاب والقبول الدالّان بالوضع على تمليك المنفعة مدّةً من الزمان، بعوضٍ معلوم

العقد وشرائطه

أقول: حيث أنّ للإجارة أركاناً، ولكلّ ركنٍ منها شرائط وأحكاماً، فلابدَّ من البحث في مقامين:

المقام الأوّل: في أركانها (وشروطها)، وأفاد المصنّف أنّها (ستّة)، ولكن ستعرف أنّها أكثر، والكلام في ذلك في مواضع:

الموضع الأوّل: يعتبر فيها (العقد)، وقد عدّه المصنّف في المقام من الشروط، ولكن عدّه في «القواعد»(1) ماهيّة الإجارة، والأمر سهلٌ ، قال الشهيد رحمه الله(2):

(والعقد جنسٌ والباقي المذكور بعده خاصّة مميّزة).

يقول المصنّف رحمه الله: (و) عقد الإجارة (هو الإيجاب والقبول الدالّان بالوضع) أو غيره ممّا يكون مبرزاً عرفاً (على تمليك المنفعة) أو العمل (مدّةً من الزمان، بعوضٍ معلوم).

وتفصيل ذلك بالبحث في فروع:

الفرع الأوّل: لاريب في احتياج الإجارة - التي كماعرفت هي تمليك المنفعة أو العمل بعوضٍ ، وذلك أمر اعتباري قائمٌ بالنفس - إلى الإبراز في الخارج، ويعبّر عن

ص: 17


1- قواعد الأحكام: ج 2/281.
2- شرح اللّمعة: ج 3/221.

مبرزها من المعتبِر بالإيجاب، وعن المبرِز من الطرف بالقبول، ووجه الحاجة، هو أنّبناءالعقلاء على عدم ترتيب آثارالمعاملات على الاعتبارات النفسانيّة المجرّدة.

الفرع الثاني: يكفي فيهما كلّ لفظٍ دالّ على المعنى المذكور، لأنّه لم يدلّ دليل على انحصار المبرز في العقود والإيقاعات بمبرزٍ معيّن إلّافي بعض الموارد، فمقتضى الإطلاقات والعمومات كفاية كلّ مبرز.

وعليه، فما في المتن - من التقييد بأن يكون ذلك بالوضع - لا دليل عليه.

وأمّا ما ذكرناه من اعتبار كونه دالّاً عليه عرفاً، فوجهه أنّ بناء العرف والعقلاء على عدم ترتيب آثار المعاملة على الاعتبار النفساني المبرز، بما لا يكون له شأنيّة ذلك عندهم، كما لو مشى بقصد إنشاء الزوجيّة، وإنْ شئت قلت جرياً على اصطلاح القوم، إنّه يعتبر كون الإنشاء بما يكون مصداقاً لعنوان المعاملة.

جريان المعاطاة في الإجارة

الفرع الثالث: هل تجري المعاطاة في الإجارة أم لا؟ فيه وجهان بل وجوه:

قال المحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(1): (واعلم أنّ في كلام بعضهم ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة، وكذا في الهبة ونحو ذلك، لأنّه إذا أمره بعملٍ على عوضٍ معيّن عمله واستحقّ الأجر، ولو كانت هذه إجارة فاسدة، لم يجز له العمل، ولا يستحقّ اُجرةً مع علمه بالفساد، وظاهرهم الجواز بذلك)، انتهى.

وقريبٌ منه ما عن «المسالك»(2).

ص: 18


1- جامع المقاصد: ج 4/59.
2- مسالك الأفهام: ج 3/151.

وفيه: إنّه يمكن أنْ يكون ذلك من باب استيفاء العمل بالأمر المعاملي الموجب للضمان، وكيف كان، ففي المسألة أقوال:

أحدها: جريانها فيها مطلقاً.

ثانيها: عدم الجريان كذلك.

ثالثها: التفصيل بين الإجارة على المنفعة فالأوّل، وبين الإجارة على العمل فالثاني.

أقول: والأظهر هو الأوّل، بناءً على ما هو الحقّ من صحّة إنشاء العقود والإيقاعات بكلّ ما يكون مبرزاً لها، بلا اعتبار اللّفظ في المبرز، كما حقّقناه في كتاب البيع وأوضحناه.

واستدلّ لعدم الجريان فيها:

تارةً : بأنّ المعاطاة إنّما التزمنا بجريانها في البيع من جهة الإجماع والسيرة، وهما غير ثابتين في المقام.

واُخرى : بأنّ الإجارة لازمة كما يأتي، والمعاطاة إمّا مفيدة للملكيّة الجائزة، أو الإباحة، فلا تجري فيها.

وثالثة: بأنّه ليس فعلٌ صالح لإنشاء الإجارة به، فإنّ إعطاء العين ودفعها يلائم مع تمليكها لا تمليك منافعها، ولا يعنون عند العرف بعنوان الإجارة.

أقول: والكلّ مردودٌ:

أمّاالأوّل: فلماتقدّم من أنّمقتضى القاعدة جريانها في جميع العقود والإيقاعات.

وأمّا الثاني: فلمامرّ في كتاب البيع(1) من أنّ المعاطاة تفيد الملكيّة اللّازمة، مع أنّه3.

ص: 19


1- فقه الصادق: ج 22/293.

لو دلّ الدليل على عدم لزومها في موردٍ خاص، يقيّد به إطلاق ما دلّ على لزومها.

وأمّا الثالث: فلأنّ محلّ البحث إنشاء الإجارة بالفعل، ولم يقع عنوان المعاطاة تحت الدليل كي يقتصر على مورد تحقّق التعاطي.

وعليه، فلو تمّ هذا الوجه، فحيث أنّه مختصٌّ بالإعطاء الخارجي ولا يجري في جميع الأفعال، حتّى في مثل الإشارة بالرأس - كما لو سأله سائلٌ : (هل تؤجّر دارك لزيد؟) فحرّك رأسه، وما شابه ذلك - فلا يعتمد عليه.

مع أنّه غير تامّ ، لأنّ إعطاء العين أعمٌّ من الهبة والصلح والقرض والبيع والإجارة، فكما يقال إنّه بالتساوم على البيع مثلاً، وقصد ذلك، يكون الإعطاء مصداقاً للبيع على المشهور، ومبرزاً له عرفاً على المختار، كذلك في المقام نقول إنّ تسليم العين في أوّل المدّة بقصد إجارتها في جميعها يكون مع التساوم قبله مصداقاً أو مبرزاً لها.

واستدلّ للثالث: بأنّه في إجارة الأعيان للمنافع يوجد فعلٌ مبرز لعنوان الإجارة، ولا يوجد ذلك في إجارة الحُرّ نفسه للعمل، فإنّ الفعل المبرَز ليس إلّا العمل الخارجي، وهذا ليس مصداقاً للإجارة المتعلّقة بالنفس، فلا تجري فيها.

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ هذا لو تمّ فإنّما هو في الإعطاء لا في كلّ فعلٍ ولو كان هو الإشارة - أنّه إذا فرضنا التساوم على الإجارة، يكون الشروع في العمل بقصد إجارة نفسه على كلّ ما تساوما عليه إيجاباً للإجارة.

وعليه، فالأظهر جريان المعاطاة في الإجارة مطلقاً.

ويجوز أنْ يكون الإيجابُ بالقول، والقبولُ بالفعل، لإطلاق الأدلّة وعمومها.

واستدلّ لعدم الجواز: بأنّه ليس عقداً ولا معاطاةً .

ص: 20

وفيه: إنّه لم يرد دليلٌ على لزوم كون الإنشاء بالعقد أو المعاطاة، بل الدليل دلّ على لزوم الإبراز بلا تعيين لخصوص مبرز، وعليه فالأظهر كفايته.

إنشاء الإجارة بصيغة البيع

الفرع الرابع: هل يصحّ إنشاء الإجارة بصيغة البيع أم لا؟

أقول: لاإشكال في عدم صحّته لوقال في الإيجاب: (بعتك الدّار) مثلاً، فإنّ لفظ (البيع) إذاتعلّق بالعين لاظهور له في الإجارة حتّى مع قصدها، وقد مرّ اعتبار ذلك.

إنّماالكلام فيما لو قال: (بعتك منفعة الدّار)، أو (سُكنى الدّار) مثلاً، وقصد به الإجارة:

فقد نُسب إلى المشهور(1) عدم الصحّة، وفي «المسالك»(2): (وظاهر «التذكرة»(2) أنّ ذلك إجماعي، لأنّه نسبه إلى علمائنا، ولكن المصنّف تردّد، وفي «التحرير»(3) جعل المنع أقرب)، انتهى.

وكيف كان، فقد استدلّ لعدم الصحّة بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن «الإيضاح»(4) و «المسالك»(6)، من أنّ كلّ عقدٍ مخصوص له صيغ مخصوصة شرعاً، فلابدّ من الاقتصار على القدر المتيقّن، والمراد من ذلك، هي الألفاظ الواردة في الأخبار في مقام بيان الأحكام الثابتة للمعاملة، وإلّا فليس في النصوص ما يدلّ على أنّ عقد كذا صيغته كذا.

ص: 21


1- راجع تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/291، كتاب الإجارة: ص 21. (2و6) مسالك الأفهام: ج 5/173.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/291.
3- تحرير الأحكام: ج 3/68.
4- إيضاح الفوائد: ج 2/243.

وفيه: إنّ ذلك يتمّ إذا لم يكن لدليل المعاملة عمومٌ أو إطلاق، وإلّا فمقتضاه كفاية كلّ مبرزٍ له كما مرّ.

الوجه الثاني: أنّ كلمة (البيع) موضوعة لنقل الأعيان، فاستعمالها في نقل المنفعة مجازٌ، وقد ادّعي الإجماع(1) على عدم جواز الإنشاء بالمجازات.

وفيه: أنّ الإنشاء بالمجاز إذا كان مع القرينة لامانع عنه، كمامرّ في كتاب البيع(2).

الوجه الثالث: ما في «الجواهر»(3)، من استهجان العقدبذلك في عُرف المتشرّعة.

وفيه: - مضافاً إلى منع الاستهجان - أنّه بمجرّده لا يمنع عن صحّة الإنشاء.

وبالجملة: فالأظهر صحّته، ويشهد له - مضافاً إلى ما قدّمناه - موثّق إسحاق ابن عمّار، عن العبد الصالح عليه السلام: «عن رجل في يده دار ليست له، ولم تزل في يده ويد آبائه من قبل، قد أعلمه من مضى من آبائه أنّها ليست لهم، ولا يدرون لمن هي، فيبيعها ويأخذ ثمنها؟

قال عليه السلام: ما أحبّ أن يبيع ما ليس له.

قلت: فإنّه ليس يعرف صاحبها، ولايدري لمَن هي، ولاأظنّه يجييءُ لهاربٌّ أبداً؟

قال عليه السلام: ما أحبّ أن يبيع ما ليس له.

قلت: فيبيع سكناها أو مكانها في يده، فيقول لصاحبه: أبيعك سُكناي وتكون في يدك كما هي في يدي ؟

قال عليه السلام: نعم، يبيعها على هذا»(4).

***6.

ص: 22


1- راجع نهج الفقاهة: ص 94.
2- فقه الصادق: ج 23/9.
3- جواهر الكلام: ج 27/205.
4- التهذيب: ج 7/130 ح 42، وسائل الشيعة: ج 17/335 ح 22696.

وأنْ يكون ممّن هو جائزُ التصرّف،

شرائط المتعاقدين

المقام الثاني: ويدور البحث فيه عمّا يعتبر في المتعاقدين:

قال المصنّف رحمه الله: (وأنْ يكون ممّن هو جائز التصرّف)، واعتبار ذلك متّفقٌ عليه، فيشترط فيهما: البلوغ، والعقل، والاختيار، وعدم الحَجْر لفلسٍ أو سفهٍ أو رقيّةٍ .

أمّا الشرط الأوّل: فيشهد له:

1 - ما دلّ على عدم نفوذ تصرّفات الصّبي المعامليّة، من قوله تعالى:

(وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ ) (1) .

2 - وحديث رفع القلم، الذي رواه في محكي «الخصال» عن ابن الظبيان، عن أميرالمؤمنين عليه السلام في سقوط الرَّجم عن الصّبي: أما عَلِمتَ أنّ القلم يرفع عن ثلاثة:

عن الصَّبي حتّى يحتلم، وعن المجنون حتّى يفيق، الحديث»(2).

ورواه أبو البُختري، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبيه، عن علي عليهم السلام: أنّه كان يقول: «في المجنون والصّبي رفع عنهما القلم»(3).

وفي موثّق عمّار عنه عليه السلام في حديثٍ : «فإن احتلم قبل ذلك، فقد وَجَب عليه

ص: 23


1- سورة النساء: الآية 6.
2- وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 81.
3- وسائل الشيعة: ج 29/90 ح 35225.

الصلاة، وجَرى عليه القلم»(1).

والنصوص الدالّة بالمفهوم والمنطوق على عدم جواز أمر الصّبي في البيع والشراء(2)، وقدأشبعنا الكلام في كتاب البيع(3) في ذلك، وبيّنا دلالتها على عدم نفوذ معاملات الصّبي مستقلّاً، ولا تدلّ على أنّه لا يكون لكلامه حكمٌ أصلاً - على ما ادّعاه الشيخ في «المبسوط»(4) على ما حَكى في مسألة الإقرار، قال: (إنّ مقتضي رفع القلم أن لا يكون لكلامه حكمٌ )، انتهى - ولا على أنّ قصده كلّا قصد، ولذلك بنينا على صحّة معاملة الصّبي بإذن الوليّ ، إذا كان بحيث يستندُ إلى الوليّ لا مثل الوكيل المفوّض، فراجع ما حقّقناه.

نعم، ما ذُكر من أنّ قصده كلّا قصد يتمُّ في الصّبي غير المميّز، ولذلك لا تصحّ معاملاته حتّى بهذا النحو المشار إليه.

وأمّا الشرط الثاني: وهو العقل، فيشهد له ما دلّ على رفع القلم عنه، منه ما تقدّم، ومنه النبويّ الذي رواه الوصيّ عليه السلام في حديثٍ رواه العامّة والخاصّة على ما أفاده الشيخ المفيد أنّه قال: «رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق»(5).

هذا مع القصد، وإلّا فالأمر أوضح.

وأمّا الشرط الثالث: وهو الاختيار:

فإنْ اُريد به القصد، فاعتباره من القضايا التي قياساتها معها.1.

ص: 24


1- التهذيب: ج 2/380 ح 5، وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 82.
2- وسائل الشيعة: ج 18/410 (باب حَدّ ارتفاع الحجر عن الصغير).
3- فقه الصادق: ج 23/72.
4- المبسوط: ج 4/51.
5- وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 81.

وإنْ اُريد به طيب النفس والرّضا، فيشهد لاعتباره ما دلّ على رفع ما استكره عليه(1) بناءً على ما تقدّم في كتاب البيع(2) من شموله لجميع الآثار والأحكام التكليفيّة والوضعيّة.

ولكن المشهور بين الأصحاب(3) صحّة إجارة المكرَه عليها، إذا تعقّبها الرّضا وأجازها بعد.

أقول: ويمكن أنْيُذكر للصحّة في مقابل ماقيل - من أنّ حديث الرفع يدلّ على رفع ما استكره عليه، تكليفيّاً كان أم وضعيّاً، فإثبات التأثير للعقد الصادر عن إكراه، ولو كان على سبيل جزء العلّة كما يقول القائل بصحّة عقد المكرَه إذا تعقّبه الرّضا، خلاف مقتضى الحديث - وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ أثر العقد هو الملكيّة المستمرّة من حين العقد، وإذا كان حديث الرفع مختصّاً بما في رفعه منّة، يرتفع مقدار من الملكيّة الذي يكون ثبوته منافياً للامتنان، وهي الملكيّة قبل الرّضا، وأمّا الملكيّة بعده التي هي أثر العقد - مع قطع النظر عن حديث الرفع - فحيث أنّه لا امتنان في رفعها، فهي لاترتفع بالحديث.

بالجملة: الحديث إنّما يرفع مقداراً من الملكيّة الّتي هي بأجمعها أثر العقد، ويكون في رفعه منّة، وأمّا المقدار الذي لا منّة في رفعه، وهي الملكيّة بعد الرّضا، فلايكون مرفوعاً بالحديث.

الوجه الثاني: أنّ الآثار إنّما تترتّب على المُنشَآت لا الانشائات، وهي اُمورٌ9.

ص: 25


1- وسائل الشيعة: ج 15/369 باب جملة ممّا عفي عنه.
2- فقه الصادق: ج 23/94.
3- مستمسك العروة: ج 12/9.

باقية اعتباراً، فلها حدوثٌ وبقاء، ومن الواضح أنّ المرفوع هو المكرَه عليه بهذا العنوان كماهو الشأن في جميع العناوين المأخوذة في الموضوعات، فمادام يكون الإكراه باقياً لا يترتّب عليه الأثر، وإذا تبدّل إلى الرّضا، فهو يكون مؤثّراً بقاءً .

ونظير ذلك ما لو اُكره الجُنُب على الجلوس في المسجد، فإنّه ما دام الإكراه باقياً تكون الحرمة مرتفعة، فإذا ارتفع الإكراه حرم عليه الجلوس بقاءً .

فتحصّل: أنّ الأظهر ما هو المشهور من صحّة عقد المكره إذا تعقّبه الرّضا.

نعم، الأحوط عدم الاكتفاء به، بل تجديد العقد بعد الرّضا.

وأمّا لو كان العقد مع الاضطرار، كماإذا طلب منه ظالمٌ مالاً، فاضطرّإلى إجارة دار سكناه لذلك، فالظاهر صحّته كما في البيع المضطرّ إليه، والوجه فيه عموم الأدلّة أو إطلاقها، وأمّا حديث الرفع، فهو لوروده مورد الامتنان، عاجز عن رفع أثر العقد المضطرّ إليه.

حكم إجارة المحجور

وأمّا الشرط الرابع: وهو عدم الحَجْر، فيعتبر في الإجارة على المنفعة مطلقاً، وفي الإجارة على عمل الحُرّ يفصّل بين المفلّس والسفيه.

توضيح ذلك: أنّه لا إشكال في عدم صحّة إجارة المفلّس بعدالحَجْر على داره وعقاره، لتعلّق حقّ الغرماء بهماالمانع عن ذلك، لكن لا مانع من صحّة إجارة نفسه لعملٍ وخدمة، لأنّ منافعه ليست موضوعة لحقّ الغرماء، وليست تصرّفاً في ماله كي يعمّها ما دلَّ على المنع.

ص: 26

وأمّا السفيه: فعدم جواز تصرّفه في ماله بالتصرّف المعاملي لا كلام فيه بينهم، إنّما الكلام في أنّه هل يصحّ إجارة نفسه للاكتساب ؟ وفيه وجهان، وقد ذُكر في منشَأ الوجهين:

1 - أنّهاتصرّفٌ مالي، فيشملها معقد الإجماع على عدم نفوذ تصرّفه المالي، وتقتضيه العلّة المستفادة من النصوص، وهي الاحتفاظ بمصلحة اليتيم من حيث المال.

2 - وأنّها ليست تصرّفاً في ماله الموجود، بل هي تحصيلٌ للمال، ولا تعدّ منافعه من أمواله، فلا يشملها دليل المنع.

وفيه: إنّ كان مدرك عدم الجواز ما اُشير إليه، فيرد عليه أنّ الإجماع ليس تعبّديّاً، والعلّة ليست منصوصة.

أقول: ولكن يمكن أنْ يستدلّ لعدم الجواز؛ بالنصوص(1) الدالّة منطوقاً أو مفهوماً على عدم جواز أمر السفيه، لأنّ إطلاقها يقتضي المنع حتّى من إجارة نفسه، وقد قال صاحب «الجواهر»(2) في كتاب الحَجْر:

(والظاهر دخول تزويجها نفسها في التصرّفات الماليّة، من جهة مقابلة البُضع بالمال، ووافق في ذلك غيره من الفقهاء كالمحقّق الثاني).

وفيه: إنّ البُضع لا يكون في النكاح مقابلاً للمال.

وبالجملة: فالأولى أن يستدلّ لفساد النكاح بالنصوص الخاصّة:

1 - موثّق موسى بن بكر، عن أبي جعفر عليه السلام: «إذا كانت المرأة مالكة أمرها6.

ص: 27


1- راجع وسائل الشيعة: ج 18/409 (باب ثبوت الحجر عن التصرّف في المال على الصغير والمجنون والسفيه حتّى تزول عنهم الموانع).
2- جواهر الكلام: ج 26/56.

تبيع وتشتري وتعتق وتشهد، وتعطي من مالها ما شائت، فإنّ أمرها جائز، تزوّج إنْ شاءت بغير إذن وليّها، وإنْ لم تكن كذلك، فلا يجوز تزويجها إلّابأمر وليّها»(1).

2 - صحيح الفضلاء، عنه عليه السلام: «المرأة التي ملكت نفسها غير السّفيهة، ولا المولّى عليها، تزويجها بغير وليّ جائز»(2).

***0.

ص: 28


1- التهذيب: ج 7/378 ح 6، وسائل الشيعة: ج 20/285 ح 25642.
2- الكافي: ج 5/391 ح 1، وسائل الشيعة: ج 20/100 ح 25140.

والعِلْمُ بالاُجرة كيلاً أو وزناً، ويكفي فيهما وفي غيرهما المشاهدة، وأنْ تكون المنفعة معلومة بالزّمان أو العمل، ومملوكة أو في حكمها، وضبط المدّة بما لا يزيد ولا ينقص،

شروط العوضين

المقام الثالث: في شروط العوضين:

ذكر المصنّف رحمه الله أربعة منها، وبضميمة ما تقدّم تصبح ستّة: قال:

(والعلم بالاُجرة كيلاً أو وزناً، ويكفي فيهما وفي غيرهما المشاهدة، وأنْ تكون المنفعة معلومة بالزّمان أو العمل و)، أنْ تكون (مملوكة أو في حكمها، وضبط المدّة بما لا يزيد ولا ينقص).

وتفصيل القول في المقام: إنّ الفقهاء ذكروا في شرائط العوضين اُموراً، وقالوا - أو قال بعضهم - إنّها معتبرة في العوضين:

الشرط الأوّل: المعلوميّة، وهي في كلّ شيء بحسبه، بحيث لا يكون هناك غررٌ، فلو آجره داراً أو حماراً من غير مشاهدة ولا وصفٍ رافعٍ للجهالة بطل، وكذا لو جعل العوض شيئاً مجهولاً، والشاهد لاعتبار العلم بالعين المستأجرة والاُجرة، النبويّ الذي رواه جماعة: «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله عن الغَرَر»(1).

أقول: وأُورد عليه بإيرادين:

ص: 29


1- صحيح مسلم: ج 3/1153.

أحدهما: ضعف السند.

الثاني: أنّ الغَرَر بمعني الخدعة، وحيث أنّها محرّمة، فالنهي عنه محمولٌ على الحرمة النفسيّة دون الإرشاد إلى الفساد، وحيث أنّه قد ثبت في محلّه عدم دلالة النهي على فساد المعاملة، فهذا لا يدلّ على الفساد.

ولكن يدفع الأوّل: أنّضعفه منجبرٌبعمل الأصحاب، كماصرّح به في «الجواهر»(1).

ويدفع الثاني: أنّه في اللّغة(2) وإنْ ذُكر للغَرر معانٍ كالخدعة، والغفلة، والخطر، إلّا أنّ الظاهر أنّ ما هو بالمعنى الأوّل، هو: (غَرّ يغُر بالضمّ ) ويكونُ متعدّياً، وما هو بالمعنى الثاني هو: (غَر يَغِرُ بالكسر) ويكون لازماً، وأمّا الغَرر الذي هو جامدٌ وغير مشتقّ ، فهو بمعنى الخَطَر، كما صرّح به في «الأساس»(3)، و «المصباح»(4)، و «المُغرب»(5)، و «الجُمل»(6)، و «المجمع»(7)، و «القاموس»(6).

فالمراد منه أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله نهى عن المعاملة الموجبة للخطر، وحيث أنّ النهي في باب المعاملات ظاهرٌ في الإرشاد إلى الفساد، فيدلّ النبويّ على الفساد مع الجهل بالعين المستأجرة أو الاُجرة.

أقول: ويشهد له في الثاني خاصّة:

1 - ما رواه المصنّف رحمه الله عن النبيّ صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «من استأجر أجيراً2.

ص: 30


1- جواهر الكلام: ج 26/218.
2- راجع لسان العرب: ج 5/11.
3- حكاه عنه الشيخ الأعظم في المكاسب المحرّمة: ج 2/197 (ط. ق).
4- المصباح المنير ج 6 باب الغين مع الراء وما يثلثهما: ص 496.
5- المغرب: ج 4/66 باب الغين مع الراء المهملة. (6و7) حكاه عنه الشيخ الأعظم في المكاسب المحرّمة: ج 2/197 (ط. ق).
6- القاموس الفقهي: ج 1/272.

فليُعلمه أجره»(1).

2 - وخبر أبي الربيع الشامي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن أرضٍ يريد رجلٌ أن يتقبّلها، فأيّ وجوه القبالة أحلّ؟

قال عليه السلام: يتقبّل الأرض من أربابها بشيءٍ معلوم إلى سنين مسمّاة، فيعمّر ويؤدّي الخراج»(2).

أقول: غاية ما يستفاد من النصوص إنّما هو اعتبار العلم ومانعيّة الجهل، وأمّا اعتبار الكيل في المكيل، والوزن في الموزون، والعدّ في المعدود على ما ذكره الأصحاب(3) فلا يستفاد منها، والأصل عدمه، فتكفي المشاهدة كما في المتن.

وعن الشيخ(4)، والسيّد(5)، والمحقّق(6)، وغيرهم من الأساطين الاعتبار. وعن جماعةٍ التردّد في المسألة.

واستدلّ للأولين: بأنّ الجهالة مانعة عن صحّة الإجارة نصّاً وإجماعاً، وارتفاعها في المكيل والموزون بالمشاهدة غير معلوم، لأنّ مرتبة منها وإنْ كانت مرتفعة بها، إلّاأنّها بتمام مراتبها لا ترتفع بها، ولا أقلّ من الشكّ ، وعليه فالمرجع أصالة الفساد.

وفيه: إنّ المقيّد لإطلاق الأدلّة عنوانان، وهما: الخطر، والجهل، فإذا سُلّم إجمال4.

ص: 31


1- المستدرك: ج 14/28 ح 16016.
2- التهذيب: ج 7/201 ح 33، وسائل الشيعة: ج 19/60 ح 24154.
3- مسالك الأفهام: ج 5/178.
4- المبسوط: ج 3/223.
5- الناصريّات: ص 253.
6- شرائع الإسلام: ج 2/414.

العنوانين، فلابدّ من الاقتصار في التقييد على المتيقّن، وعليه فيكون المرجع عند الشكّ إطلاقات أدلّة الإجارة وعموماتها.

اعتبار القدرة على التسليم في الإجارة

الشرط الثاني: أنْ يكون العوضان مقدوري التسليم، فلا تصحّ إجارة ما لايقدر المؤجّر على تسليمه، بلا خلافٍ فيه في الجملة، وعن غير واحد دعوى الإجماع عليه(1).

أقول: ومدرك اعتبار هذا الشرط اُمور:

الأمر الأوّل: إنّ بذل المال بإزاء ما لا يمكن تسلّمه سفهيٌ ، فلا تشمله أدلّة نفوذ المعاملات، فإنّها مسوقة لبيان إنفاذ المعاملات العقلائيّة.

وفيه أوّلاً: لا يعدّ بذل المال القليل بإزاء مالٍ كثيرٍ يُرجى حصوله سفهيّاً، بل ربما يعدّ عدم البذل سفهيّاً.

وثانياً: إنّ أدلّة نفوذ المعاملات تدلّ على نفوذ كلّ معاملة، والدليل إنّما دلّ على عدم نفوذ معاملة السَّفيه(2)، ولم يرد دليلٌ على بطلان المعاملة السفهيّة.

الأمر الثاني: إنّ لازم العقد لزوم التسليم المشروط بالقدرة، فمع عدم القدرة لا لزوم للتسليم، فيلزم عدم تأثير العقد، وإلّا لزم انفكاك اللّازم عن الملزوم.

وفيه: أنّه إنْ اُريد بذلك أنّ لزوم التسليم من مقتضيات المِلْك، فهو مسلّم،

ص: 32


1- رياض المسائل: ج 9/219.
2- وسائل الشيعة: ج 18/409 باب (ثبوت الحَجر عن التصرّف في المال على الصغير والمجنون والسفيه حتّى تزول عنهم الموانع).

لأنّه يجب رَدّ المال إلى صاحبه، إلّاأنّ هذا اللّازم ليس لازماً لا ينفكّ ، بل هو فرع التمكّن منه، ومع عدم التمكّن يكون مِلْكاً له لا يجب تسليمه، لعدم القدرة.

وإنْ اُريد به أنّه من مقتضيات إطلاق العقد نفسه.

فيرد عليه: أنّ العقد عبارة عن تمليك المنفعة مثلاً، لا هو مع اعتبار أمرٍ آخر أو تكليفٍ آخر.

وإنْ اُريد أنّ الملكيّة تكون مقيّدة بما يتمكّن من تسليمه.

فيرد عليه: أنّ التعليق في العقد موجبٌ للبطلان.

وإنْ اُريد أنّ لزوم التسليم من أحكام العقد، من جهة أنّ التسليم مصداقٌ للوفاء بالعقد الذي وجوبه من أحكام العقد.

فيرد عليه أوّلاً: إنّ (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) على ما حقّقناه في محلّه(2) يعدّ إرشاداً إلى لزوم العقد، وعلى فرض كونه تكليفيّاً يكون مفاده لزوم العمل بمفاد العقد بعدم فسخه، فعلى كلّ تقديرٍ لا ربط له بالتسليم.

وثانياً: أنّ التكليف بالوفاء قد تعلّق بالعقد الصحيح، فعدم لزوم الوفاء لعدم القدرة لا يكشف عن عدم الصحّة.

الأمر الثالث: إنّ بناء المتعاقدين كليّةً على تسليم العوض والمعوّض، فهو من الشروط المبنيّ عليها العقد، ويكون بحكم ذكره في ضمن العقد.

وفيه أوّلاً: إنّ لازم ذلك ثبوت الخيار لا عدم صحّة العقد، كما هو الشأن في جميع موارد تخلّف الشرط.5.

ص: 33


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- راجع فقه الصادق: ج 22/335.

وثانياً: إنّ هذا لا يجري مع علمهما بعدم القدرة.

الأمر الرابع: إنّ الغرض من المعاملة هو الانتفاع بالعوض، ومع عدم القدرة على التسليم لا مجال لتحقّق هذا الغرض.

وفيه أوّلاً: إنّ تخلّف الأغراض والدّواعي لا يوجبُ فساد المعاملة.

وثانياً: إنّ الغرض من المعاملة ليس هو الانتفاع المطلق، بل الانتفاع على فرض التسليم.

وثالثاً: نمنع توقّف مطلق الانتفاعات حتّى التصرّفات الاعتباريّة على التسليم، مثلاً يمكن أنْ يستأجر أرضاً هي في يد غير مالكها، وآجرها ذلك الغير لأشخاصٍ لكي يباح لهم التصرّف فيها.

الأمر الخامس: إنّ ما لا قدرة للبائع على تسليمه لا يعدّ مالاً عرفاً، فلا يصحّ جعله أحد العوضين.

وفيه: إنّ المال إنّما هو من العناوين المنطبقة على الأشياء بأنفسها، مع قطع النظر عن الأشخاص، وهو ينتزع من كون ذلك الشيء موضوعاً لغرضٍ موجبٍلحدوث رغبة النّاس فيه، وهي صفة للشيء، وإنْ لم يكن هناك مالكٌ .

مع أنّه لو سُلّم ذلك، فإنّما هو فيما لايحتمل التمكّن من التسليم كما لايخفى .

الأمر السادس: إنّ المعاملة على ما لا قدرة للبائع على تسليمه يعدّ أكلاً للمال بالباطل.

وفيه: إنّ المراد بالأكل بالباطل المنهيّ عنه - بقرينة المقابلة بالتجارة عن تراض - هو التملّك بالأسباب الباطلة كالقمار ونحوه، وإلّا فغاية ما هناك كون إعطاء المال

ص: 34

مجّانيّاً وبلا عوض، وليس هذا من قبيل أكل المال بالباطل.

الأمر السابع: النبويّ : «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله عن الغَرَر»(1).

وأُورد عليه تارةً : بأنّه مع معلوميّة العوضين ذاتاً ووصفاً، فإنّ عدم القدرة على التسليم لا يوجبُ صدق كون المعاملة غَرريّة، بل الغَرَر إنّما يكون من جهة الآثار والاُمور الخارجيّة.

اُخرى : بأنّه مع تعذّر التسليم، له خيار التعذّر، فله أن يفسخ ويسترجع العوض، فلا غَرر.

وثالثةً : بأنّه لو اشترط الخيار بردّ العوض، فإنّه مع عدم وصول المعوّض إليه، لا يكون هناك غَررٌ.

ورابعةً : بأنّه مع امتناع تسليم العين المستأجرة للمستأجر، فإنّ للمستأجر الامتناع من تسليم الاُجرة، فلا غَرر.

أقول: وفي الجميع نظر.

أمّا الأوّل: فلأنّ الملكيّة المجرّدة لا يترتّب عليها شيءٌ ، فتمليك شيء لا يقدر على تسليمه يكون خطريّاً.

وما أبعد ما بين هذه الدّعوى، وبين ما أفاده الشهيد رحمه الله(2) من تفسير الغَرَر بالجهل بالحصول، وإنْ كان هو أيضاً اشتباهاً، لعدم اختصاص الغَرَر بذلك.

وأمّاالثاني: فلأنّ الخيار إنّما يكون في العقدالصحيح، فلايمكن تصحيح العقد به.

وأمّا الثالث: فلأنّ نفوذ الشرط مشروطٌ بكونه في ضمن العقد الصحيح،7.

ص: 35


1- صحيح مسلم: ج 3/1153.
2- القواعد والفوائد: ج 2/137.

فكيف يُعقل تصحيح العقد به ؟!

وأمّا الرابع: فلأنّ الامتناع من تسليم الاُجرة، بعد فرض كونها مِلْكاً للمستأجر، لا يوجبُ تدارك ما ذهب من مِلكه.

فالمتحصّل: أنّ الحقّ دلالة النبويّ على فساد الإجارة مع عدم القدرة على التسليم، لكنّه مختصٌّ بصورة عدم إحراز الامتناع، لأنّ الخطر إنّما يُطلق فيما إذا احتمل الحصول ولو ضعيفاً، ولكن إذا ثبت الفساد مع الاحتمال، ثبت في صورة القطع والإحراز بالأولويّة القطعيّة.

ولا يخفى أنّ الاحتياج إلى إقامة الدليل على اعتبار القدرة على التسليم، إنّما هو في المنافع، حيث إنّ لوجودها مقاماً آخر، وأمّا في الأعمال التي يكون وجودها و تسليمها واحداً، فلا حاجة إلى إقامة الدليل، إذ ما لا يقدر على تسليمه يمتنع وجوده، وما امتنع وجوده لا يقبل الملكيّة، وقد رتّب على ذلك صاحب «العروة»(1)عدم جواز إجارة العبد الآبق، وهو متينٌ .

وأمّا الضميمة: فقد استشكل في كفاية ضَمّ الضميمة هنا كما في البيع، واختلفت كلمات القوم في المقام:

فعن جماعةٍ عدم الكفاية، وهو ظاهر «الجواهر»(2) في كتاب الإجارة.

وعن جماعةٍ ثانية الاكتفاء به، منهم السيّد في «الناصريّان»(3)، والشهيد(4)،2.

ص: 36


1- العروة الوثقى: ج 5/10.
2- جواهر الكلام: ج 27/220.
3- الناصريّات: ص 369.
4- شرح اللّمعة: ج 4/332.

والمحقّق الأردبيلي(1)، وصرّح به صاحب «الجواهر»(2) في كتاب البيع.

وتردّد فيه جماعة ثالثة، منهم المحقّق في «الشرائع»(3)، والمصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(4).

وقد استدلّ للأوّل بوجهين:

أحدهما: ما عن «الانتصار»(5)، من خروج المعاملة بالضميمة عن كونهاغَرريّة.

وفيه: إنّ كون بعض ما وقع عليه المعاملة معلوماً ذاتاً ووصفاً وحصولاً، لايوجبُ كون المجموع غير غَرري.

الثاني: أولويّة الإجارة من البيع، لاحتمالها من الغَرَر ما لا يحتمله البيع.

وفيه: إنّ المناط غير معلوم حتّى يُدّعى الأولويّة، بل بما أنّ في بيع العبد يمكن الانتفاع به ولو آبقاً بالعتق، ولا يمكن ذلك في الإجارة، فلا أولويّة قطعاً.

وبالجملة: فالأظهر عدم الكفاية، وقد خرجنا بذلك عمّا عليه بنائنا من عدم البحث في أحكام العبيد والإماء.

اعتبار مملوكيّة العوضين

الشرط الثالث: أن يكونا مملوكين، فلا تصحّ إجارة مال الغير، ولا الإجارة بمال الغير، إلّامع الإجازة من المالك.

أقول: يقع الكلام في مقامين:

ص: 37


1- مجمع الفائدة: ج 8/175.
2- جواهر الكلام: ج 22/430.
3- شرائع الإسلام: ج 2/416.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 11/76.
5- الانتصار: ص 435.

الأوّل: في اعتبار مملوكيّة العوضين.

الثاني: في إجارة مال الغير، والإجارة بمال الغير، وإجارة المباحات الأصليّة.

أمّا المقام الأوّل: ففي «الجواهر»(1) نفي الخلاف في اعتبار مملوكيّة المنفعة، بل جَعَله من الواضحات، وقد استدلّ لاعتبارها بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع.

وفيه: أنّه لو ثبت لم يثبت كونه تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم.

الوجه الثاني: إنّ بذل المال بإزاء ما لا يكون مملوكاً سفهٌ ، وأكلٌ للمال بالباطل.

وفيه: أنّه لو فرضنا تسلّطه على التصرّف فيه، مع عدم كونه مملوكاً له كالكلّي في الذمّة وعَمل الحُرّ بالإضافة إلى نفسه، لا تكون المعاملة سفهيّة، ولا أكلاً للمال بالباطل.

الوجه الثالث: ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) من عدم تحقّق المعاوضة في غير المملوكة.

وفيه: أنّ المراد بكون الإجارة معاوضة، كون كلّ من العوضين بإزاء الآخر، لا كون كلٍّ منهما مملوكاً قبلاً، لما عرفت من صحّة إيجار الحُرّ نفسه، والإجارة بالكلّي في الذمّة، مع أنّه يصحّ إجارة الموقوفات على المصالح العامّة ومنافعها ليست ملكاً لأحد.

وعليه، فالأظهر عدم اعتبارها.

وأمّا المقام الثاني: فيدلّ على عدم صحّة إجارة مال الغير، والإجارة بمال الغير، وإجارة المباحات الأصليّة، عدم تسلّط المؤجّر والمستأجر على التمليك في هذه7.

ص: 38


1- جواهر الكلام: ج 27/257.
2- جواهر الكلام: ج 27/257.

الموارد، وعدم سلطانهما على العين المستأجرة والإجارة، وعدم كونهما مالكين لأمرهما.

أمّا في الأولين: فواضح.

أمّا في الأخير: فلأنّ المباحات الأصليّة متساوية النسبة إلى المؤجّر و المتسأجر، وليست هي كالكلّي وعمل الحُرّ ليتعهّد بها في ذمّته، ولا كالعين الشخصيّة المضافة إليه بإضافة الملكيّة ليكون له السلطنة عليها، وعليه فعدم جواز الإجارة في هذه الموارد، إنّما هو لأجل عدم تسلّطه على المنفعة أو الاُجرة، وعدم كونه مالكاً لأمرها لا لعدم الملكيّة.

اعتبار بقاء العين باستيفاء المنفعة

الشرط الرابع: ما ذكره سيّد «العروة»(1) بقوله: (الرابع: أنْ تكون العين المستأجرة ممّا يمكن الانتفاع بها مع بقائها، فلا تصحّ إجارة الخبز للأكل، ولا الحَطَب للإشعال، وهكذا).

أقول: لم يتعرّض الفقهاء ولا النصوص لهذا الشرط، ولعلّ السّر فيه - مع أنّه لا كلام عندهم في بطلان الإجارة المفروضة - أنّ ذلك من مقوّمات الإجارة، فإنّها كما عرفت تمليكٌ للمنفعة، والمنفعة عبارة عن الحيثيّة والشأن للعين تستوفي منها تدريجاً، ولا يكون للخبز هذا الشأن والحيثيّة، لأنّ أكله إتلافه لا استيفاء شأنٍ من شؤونه.

ص: 39


1- العروة الوثقى: ج 5/11.

اعتبار إباحة المنفعة

الشرط الخامس: أنْ تكون المنفعة مباحة، فلا تصحّ إجارة المساكن لإحراز المحرّمات، أو الدكاكين لبيعها، أو الدواب لحملها، أو الجارية للغناء، أو العبد لكتابة الكفر، ونحو تلكم، وتحرم الاُجرة عليها كما هو المشهور(1).

وفي «الشرائع»(2): (وربما قيل بالتحريم وانعقاد الإجارة، لإمكان الانتفاع في غير المحرّم).

وقد استدلّ للفساد بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع، وهو كما ترى .

الوجه الثاني: النبويّ المشهور: «إنّ اللّه إذا حَرّم شيئاً حَرّم ثمنه»(3).

وفيه: إنّ هذا النبويّ لا أصل له في اُصول العامّة والخاصّة، بل الموجود في كتب العامّة هكذا: «إنّ اللّه إذا حَرّم على قومٍ أكل شيءٍ حَرّم عليهم ثمنه»(4) فهو لم يثبت كونه رواية، وما في اُصول العامّة لضعف سنده وعدم انجباره بشيء لا يُعتمد عليه.

مع أنّ عمومه على هذا لم يعمل به أحد، إذ كثير من الاُمور التي يحرم أكلها يجوز بيعها، بل الظاهر أنّ النبويّ لو كان بذلك النحو لما كان يعتمد عليه، لأنّ الشهرة الفتوائيّة وإنْ كانت على وفقه، إلّاأنّ الظاهر ولا أقلّ من المحتمل استناد

ص: 40


1- راجع المقنع: ص 362، إيضاح الفوائد: ج 1/405.
2- شرائع الإسلام: ج 2/421.
3- البحار: ج 100/55 ح 29.
4- المستدرك: ج 13/73 ح 14787.

القوم في فتياهم تلك إلى الوجوه الاُخر، من اعتبار الماليّة في العوضين، المتوقّفة على كون المنفعة محلّلة وغير ذلك، وإنّما يذكرون النبويّ تأييداً.

الوجه الثالث: الخبر الحسن الذي رواه صابر، عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يؤاجر بيته فيُباع فيه الخمر؟ قال عليه السلام: حرامٌ أجره»(1).

وفيه أوّلاً: أنّه لو كان الخبر لجابر فهو ضعيف السند.

وثانياً: أنّ ظاهره فساد الإجارة مع اتّفاق وقوع بيع الخمر فيه بلا شرطٍ وإلزام، وحيث أنّه معارض مع النصوص المستفيضة الاُخر، ولم يفتِ به أحدٌ، فلابدّ من طرحه لا حمله على إرادة معنى آخر.

ثمّ إنّه على فرض التنزّل، وتعيّن حمله على معنى آخر، لا يبعد دعوى أظهريّة إرادة الفساد في صورة العلم بوقوع بيع الخمر فيه، وفي تلك الصورة أيضاً وردت نصوص تدلّ على صحّة المعاملة(2) وهي تكون معمولاً بها.

الوجه الرابع: أنّ الإجارة في الفرض إعانة على الإثم المحرّمة كتاباً وسُنّةًو إجماعاً.

وفيه: - مضافاً إلى ما ذكرناه في محلّه من عدم حرمتها - أنّ المعاملة ليست إعانة عليه، بل الإقباض والتسليط الخارجي إعانة عليه، مع أنّ حرمة المعاملة لا تدلّ على الفساد، كما حقّقناه في الاُصول(3) وفي أوّل الجزء الرابع عشر من هذا الشرح(4).

الوجه الخامس: أنّ أدلّة النهي عن المنكر تدلّ على حرمتها، إذ لو وجب النهي1.

ص: 41


1- الكافي: ج 5/227 ح 8، وسائل الشيعة: ج 17/174 ح 22282.
2- وسائل الشيعة: ج 17/229 باب (جواز بيع العصير والعنب والتمر ممّن يعمل خمراً).
3- زبدة الأصول: ج 3/106.
4- فقه الصادق: ج 20/31.

للرفع، فالنهي عن المنكر لدفعه أولى بالوجوب.

وفيه أوّلاً: أنّ الحرمة لا تلازم الفساد.

وثانياً: أنّ الدفع ليس بواجب، كما حقّقناه في الجزء الرابع عشر من هذا الشرح.

وثالثاً: أنّ وجوب الدفع لا يلازم حرمة الإقباض والتسليط.

ورابعاً: أنّه لو حرم شيءٌ فهو التسليط لا المعاملة.

الوجه السادس: إنّ فعل المباح للتوصّل به إلى الحرام حرامٌ ، فالإجارة لأجل الانتفاع بالعين بما يكون حراماً حرامٌ .

وفيه أوّلاً: الحرمة أعمّ من الفساد.

وثانياً: أنّ مقدّمة الحرام لا تكون محرّمة إلّاما لا ينفكّ الحرام عنه.

الوجه السابع: ما في خبر «تحف العقول»: «كلُّ أمرٍ نُهي عنه من جهةٍ من الجهات، فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه(1) وهو وإنْ اختصّ بالعمل المحرّم، إلّا أنّه يثبت في المنفعة المحرّمة بعدم الفصل.

وفيه: أنّه ضعيف السند للارسال، ولم يثبت استناد الأصحاب إليه.

الوجه الثامن: يعتبر سلطنة من يعامل عليشيء عليه، ولا سلطنة على التصرّف شرعاً مع تحريمه شرعاً، فالحرمة توجبُ سَلب القدرة والسلطنة على التصرّف.

وفيه: إنّ السلطنة الوضعيّة تعتبر في نفوذ المعاملة، والسلطنة التكليفيّة لا دليل على اعتبارها، والحرمة توجبُ سلب الثانية دون الأُولى.2.

ص: 42


1- تحف العقول: ص 333، وسائل الشيعة: ج 19/101 ح 24242.

الوجه التاسع: أنّه قد مرّ اعتبار القدرة على التسليم في صحّة المعاملة، ومع الحرمة لا قدرة عليه، لأنّ الممنوع شرعاً كالممتنع عقلاً.

وفيه: إنّ مدرك اعتبارها قد عرفت أنّه لزوم الغَرَر مع عدمها، ومن الواضح أنّ هذا يختصّ بالقدرة العقليّة، إذ مع عدم القدرة شرعاً والقدرة خارجاً لا يصدق الغَرَر من حيث حصول مورد الإجارة.

الوجه العاشر: إنّ المنفعة المحرّمة والعمل المحرّم غير مملوكين، فلا ملك حتّى يملك بالإجارة.

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم من عدم اعتبار الملك في الإجارة، بل لا ملك في العمل مطلقاً - أنّ الحرمة لا توجبُ سَلب الملكيّة الاعتباريّة.

أقول: فالصحيح أن يستدلّ لاعتبار تلك بأنّ المنفعة المحرّمة والعمل المحرّم لا ماليّة لهما شرعاً، إذ الشارع المقدّس بالنهي عنهما أسقط ماليّتهما، فهما غير قابلان لوقوع المعاوضة عليهما.

وما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمه الله(1): بأنّ منفعة الدّار مثلاً هي الحيثيّة القائمة بالدار، وهي كونها مسكناً دون السُّكنى الذي هو من أعراض الساكن، وما هو قابل للتحريم هي الجهة الثانية، وما هو مورد المعاوضة هي الجهة الأُولى.

يرد عليه: أنّ ماليّة الحيثيّة الأولى إنّما تكون بلحاظ الجهة الثانية كما هو واضح، فالتحريم يوجبُ سَلب ماليّته أيضاً.5.

ص: 43


1- كتاب الإجارة للأصفهاني: ص 245.

وأيضاً: ما أفاده قدس سره(1) بأنّ الحرمة في فرض كون المنفعة أو العمل مالاً عند العقلاء، منعٌ عن إيجاد المال لا أنّها إسقاطٌ للماليّة.

غير صحيح، لأنّ اعتبار الماليّة إنّما يكون بلحاظ الآثار الراجع نفعها إلى الشخص، فإذا فرضنا حرمتها ومبغوضيّتها، وكونها مفسِدة ومضرّة لا أثر كذلك كي تعتبر فيه الماليّة.

فإنْ قلت: إنّ حَسن أبي اُذينة الوارد فيه: «كتبتُ إلى أبي عبد اللّه عليه السلام عن الرّجل يؤاجر سفينته أو دابّته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر والخنزير؟ قال عليه السلام:

لابأس»(2) يدلّ على الجواز.

قلت: إنّه يدلّ على جواز الإجارة ممّن يفعل ذلك، لا الإجارة لخصوص هذه المنفعة التي هي مورد البحث، مع أنّه لا دليل على حرمة الحمل.

اعتبار إمكان استيفاء المنفعة

الشرط السادس: أنْ تكون العين ممّا يمكن استيفاء المنفعة المقصودة منه، فلاتصحّ إجارة الأرض للزراعة إذا لم يمكن إيصال الماء إليها، مع عدم إمكان الزراعة بالمطر أو عدم كفايته.

أقول: استدلّ المحقّق الاصفهاني رحمه الله(3) لاعتبار ذلك بأنّ استيفاء المنفعة تابعٌ لإمكانه، وحيث لا تصلح الأرض للزراعة فعلاً فهي غير واجدة لهذه المنفعة، وما

ص: 44


1- كتاب الإجارة للأصفهاني: ص 246.
2- الكافي: ج 5/227 ح 6، وسائل الشيعة: ج 17/174 ح 22283.
3- كتاب الإجارة للأصفهاني: ص 46.

لا منفعة له لا تعقل في حقّه حقيقة الإجارة.

وفيه: أنّ المنفعة عبارة عن الحيثيّة القائمة بالعين، وهي موجودة بوجود العين على حَدّ وجود المقبول بوجود القابل، وهذه الجهة لا تنعدم بواسطة عدم إمكان إيصال الماء، الذي هو شرط استيفاء المنفعة، لا شرط وجودها وتحقّقها.

وعليه، فالأولى الاستدلال لاعتباره بأنّه مع عدم إمكان استيفاء المنفعة لا تعدّ مالاً عرفاً، فلا تصحّ المعاوضة عليه.

اعتبار تمكّن المستأجر من الانتفاع بالعين

الشرط السابع: أن يتمكّن المستأجر من الانتفاع بالعين المستأجرة، فلا تصحّ إجارة الحائض لكنس المسجد مثلاً، كذا في «العروة»(1).

أقول: يقع الكلام في موردين:

الأوّل: في الكبرى الكليّة.

الثاني: في المثال.

أمّا المورد الأوّل: فإنْ كان عدم إمكان الانتفاع لا لقصورٍ في العين، ولا لمنعٍ شرعي، بل لمانعٍ يمنعه عن ذلك، أو قصورٍ في المستأجر، فإنّه لا إشكال في صحّة الإجارة إذا كان المنع شخصيّاً، لعموم أدلّتها بعد عدم وجود ما يصلح مانعاً عن الصحّة، إذ الانتفاع الخارجي من الدواعي والأغراض التي لايضرّ تخلّفها.

وإنْ كان لمنعٍ شرعي، بطلت الإجارة، لما مرَّ من اعتبار إباحة المنفعة.

وإنْ كان لقصورٍ في العين بطلت أيضاً، من جهة عدم وجود المنفعة في الحقيقة

ص: 45


1- العروة الوثقى: ج 5/12-13.

كما لا يخفى .

وأمّا المورد الثاني: فقد استدلّ لبطلان الإجارة فيه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في حاشية المحقّق النائيني رحمه الله(1) من أنّه يشترط إباحة المنفعة ومملوكيتها، والمنفعة المفروضة محرّمة، فلا تصحّ إجارتها، ووافقه المحقّق الاصفهاني رحمه الله(2) على ذلك.

وفيه: إنّ المنفعة لا تكون محرّمة، بل هي تتوقّف على فعل محرم، وهو اللّبث في المسجد، فإنّ هذا محرّم على الحائض، وأمّا الكنس بما هو فلا يكون محرّماً.

الوجه الثاني: إنّ النهي عن الدخول واللّبث اللّذين هما مقدّمة للكنس، يكون معجزاًشرعيّاً عن فعل المستأجر عليه، وقدتقدّم اعتبار القدرة عليه في صحّة الإجارة.

وفيه: ما تقدّم من أنّ مدرك اعتبار القدرة على التسليم، هو لزوم الغَرَر والخطر مع عدمها غير اللّازمين في المقام.

الوجه الثالث: أنّ الإجارة في المثال ترغيبٌ إلى فعل المنكر، وهو حرام.

وفيه أوّلاً: إنّ الترغيب إلى فعل المنكر لم يدلّ دليلٌ على حرمته.

وثانياً: إنّ حرمة المعاملة أعمٌّ من فسادها.

أقول: وتمام الكلام في هذا المقام بالبحث في فروع:

***7.

ص: 46


1- شرح العروة الوثقى: ج 5/11.
2- كتاب الإجارة: ص 47.

اعتبار تعيين العين المستأجرة

الفرع الأوّل: لابدَّ من تعيين العين المستأجرة، بلا خلافٍ فيه في الجملة، فلو آجر أحد العبدين، أو إحدى هاتين الدّارين، لم يصحّ كما هو المشهور(1).

والتحقيق: إنّ إجارة أحد الشيئين تتصوّر على وجوه:

الوجه الأوّل: أنْ يكون ذلك على وجه الترديد.

الوجه الثاني: أنْ يكون على وجه الكلّي في المعيّن.

الوجه الثالث: أنْ يكون ذلك معيّناً في نفسه، مردّداً عندهما أو عند أحدهما.

أمّا الوجه الأوّل: ففساد الإجارة فيه واضحٌ ، إذ المردّد من حيث هو مردّدٌ لا وجود له في الخارج، إذ كلّ ما في الخارج لا محالة يكون معيّناً لمساوقة الوجود للتعين، فلا يصحّ إجارته.

وأمّا الوجهان الأخيران: فإنْ كان الشيئان مختلفين في الصفات التي تختلف بها الرغبات أو الماليّة، لم تصحّ الإجارة للغَرَر، وإلّا فلا وجه لبطلان الإجارة سوى الإجماع المنقول، وهو مع معلوميّة مدرك المجمعين، وذهاب جمعٍ من الأساطين إلى عدم مانعيّة الجهل من حيث هو كما تقدّم، لا يصلح لأن يستند إليه في المنع.

وممّا ذكرناه ظهر وجه اعتبار تعيين نوع المنفعة، إذا كانت للعين منافع متعدّدة.

وأيضاً: يأتي البحث عن أنّه هل تصحّ إجارة الشيء بجميع منافعه مع التعدّد، ليكون المستأجر مخيّراً بينها، أم لا؟ وجهان:

ص: 47


1- العروة الوثقى: ج 5/14.

قد استدلّ للثاني بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ مجموع المنافع مع عدم تعدادها أو معهوديّتها بينهما، بحيث يكون بمنزلة التفصيل، غَرَرٌ وجهالة واضحة، منهيّة عنها بالإجماع.

وفيه: إنّ عمدة وجه هذا الإيراد أنّ لكلّ شخصٍ أو عينٍ منافع خفيّة يتعذّر أو يتعسّر استقصائها.

ولكن يمكن دفعه: بأنّه إذا ذكر المنافع الظاهرة للشيء، أو كانت معهودة بينهما، جاز إدخال المنافع الخفيّة في عموم لفظ الجمع تبعاً، ولا يعدّ ذلك عند العرف من الغَرَر والجهل المانع.

الوجه الثاني: إنّ المنافع المتضادّة للشيء حيث أنّها ليست مقدورة بقدرة عرضيّة، لأنّ اجتماع الضدّين ممتنعٌ ، لا تكون مملوكة مِلْكيّة عرضيّة، إذ قد عرفت أنّ من شرائط ملكيّة المنفعة عند العقلاء هي القدرة عليها، وأنّه إذا لم تكن المنفعة مقدورة، لا تكون مملوكه، فالمنافع المتضادّة غير مملوكة بالملكيّة العرضيّة، بل هي مملوكة بالملكيّة البدليّة كما تكون مقدورة بالقدرة البدليّة، وعليه فلا يجوز تمليكها عرضاً ولا بدلاً للزوم الغَرَر.

أقول: وأجاب عنه جمعٌ منهم المحقّق النائيني رحمه الله(1) بأنّ المملوك هو القدر المشترك بين أنواعها المتضادّة، والجامع لمراتبها الطوليّة، فعقد الإجارة يتعلّق بذلك القدر المشترك بماله من الشمول لمراتب الانتفاع، ويملك المستأجر ذلك، ويتخيّر في استيفاء أيّ مرتبةٍ شاء في ضمن أي الأنواع.1.

ص: 48


1- العروة الوثقى: ج 5/81.

وفيه: إنّ خارجيّة الكلّي إنّما تكون بخارجيّة أفراده، وإذا كانت الأفراد الخارجيّة متعدّدة، لزم تعدّد وجود الكلّي، وعليه:

فإنّ تعلَّق الإجارة بجميع وجوداته عاد المحذور، إذ كما أنّ الأفراد متضادّة لاتقبل الملك، كذلك الوجودات من الكلّي المتّحد مع أفراده.

وإنْ تعلّقت بوجودٍ واحدٍ على البدل بنحو الترديد بطلت، إذ المردّد لا وجود له.

وإنْ تعلّقت بواحدٍ معيّن، كان ذلك خُلف الفرض.

وإنْ تعلّقت بالكلّي في المعيّن، بطلت للغَرَر.

والحقّ في الجواب أنْ يقال: إنّ المنفعة هي حيثيّة الشيء وشأنه القائم به بالقوّة، وهذه الشأنيّة والقابليّة لا تَضادّ بين أنواعها، ويمكن اجتماع الجميع، لا بمعنى اندراج جميع القوى تحت قوّة واحدة، فإنّ ذلك باطل، بل بمعنى أنّ تلك القوى المتعدّدة موجودة على تعدّدها، فلا مانع من ملك جميع تلك الوجودات.

وعلى الجملة: إنّ كلّ منفعةٍ مملوكة لأنّها مقدورة بنفسها، وإنْ لم تكن المجموع مقدورة، وعليه فالأظهر صحّة إجارة العين بجميع منافعها.

طريق معلوميّة المنفعة

الفرع الثاني: معلوميّة المنفعة:

1 - إمّا بتقدير المدّة والزمان، كما إذا كانت المنفعة غير العمل، كسكنى الدّار شهراً مثلاً، أو كانت هي الفعل في بعض الموارد كالخياطة المعلومة يوماً.

ص: 49

2 - وإمّا بتعيين المحلّ ، كما إذا كانت هي العمل في بعض الموارد، كخياطة ثوب معيّن.

3 - وإمّا أنْ تكون بهما.

4 - وإمّا أنْ تكون بالعدد، كما في ضراب الفحل.

أقول: ولا إشكال في شيء من هذه الصور، إنّما الإشكال والكلام فيما إذا قدّر المدّة والعمل فيما يصلح لكلّ منهما، مثل أن يستأجرها لخياطة ثوب معيّن، وتفصيل القول فيه هو أنّ في المقام مسألتين:

إحداهما: فيما إذا كانت المدّة مأخوذة ظرفاً.

ثانيتهما: فيما إذا كانت المدّة مأخوذة على نحو التطبيق.

أمّا المسألة الأُولى: ففيها عدّة فروض:

تارةً : يعلم سعة المدّة، فلا إشكال في الصحّة.

واُخرى : يعلم عدم السّعة:

فإنْ كان أخذ المدّة من قبيل الشرط، فسد الشرط لعدم القدرة، وبطلت الإجارة، بناءً على أنّ الشرط الفاسد مفسد، وإلّا صحّت، وبه يظهر ما في إطلاق كلمات القوم من الحكم بالبطلان في هذا الفرض، مع أنّ جمعاً منهم بنوا على عدم مفسديّة الشرط الفاسد.

وإنْ كانت مأخوذة عنواناً لموضوع الإجارة، بطلت لعدم القدرة.

وثالثة: يشكّ في السّعة، فقد حكم صاحب «الجواهر»(1) بالصحّة، وقيل تبطل1.

ص: 50


1- جواهر الكلام: ج 27/261.

الإجارة، وتردّد فيه المحقّق في «الشرائع»(1).

واستدلّ للبطلان: بأنّ استيفاء العمل في المدّة قد لا يتّفق، فلا يكون معلوم القدرة عليه.

واستدلّ في «الجواهر»(2) للصحّة: بأنّ الثابت خروجه من عموم الأدلّة معلوم العجز.

والحقّ أنْ يقال: إنّ أخذ الزمان:

إنْ كان على وجه الشرطيّة، فإنّ بطلان الشرط مبنيٌّ على بطلان الشرط الغَرَري، ثم بطلان الإجارة مبنيٌّ على القول بمفسديّة الشرط الفاسد.

وإنْ كان مأخوذاً عنواناً لموضوع الإجارة، بطلت للغَرَر.

وأمّا المسألة الثانية:

1 - فإنْ علم سعة المدّة وإمكان التطبيق، صحّت.

ودعوى: فساد الشرط لكونه سفهيّاً.

مندفعة: بأنّ محلّ الكلام ما لو تعلّق غرض عقلائي به، مع أنّ الشرط السفهي لا دليل على بطلانه.

2 - وإنْ علم عدم إمكان التطبيق، أو عدم سعة المدّة:

فإنْ كان على وجه الشرط، بطل الشرط بناءً على فساد الشرط الغَرَري، وبطلت الإجارة بناء على مفسديّة الشرط الفاسد.1.

ص: 51


1- شرائع الإسلام: ج 2/416.
2- جواهر الكلام: ج 27/261.

وإنْ كان على وجه العنوانيّة بطلت الإجارة.

3 - وإنْ شكّ في إمكان التطبيق، فعن «المبسوط»(1)، و «المهذّب»(2)، و «فقه القرآن»(3)، و «السرائر»(4) وغيرها البطلان، وعن المحقّق(3) التردّد فيه، وذهب في «الجواهر»(4) إلى الصحّة، ويأتي فيه التفصيل الذي ذكرناه في المسألة الأُولى.

استئجار الدابّة للحمل عليها

الفرع الثالث: إذا استأجر دابّة للحمل عليها، لابدَّ من تعيين ما يُحمل عليها بحسب الجنس والوزن، بلا خلافٍ فيه في الجملة، للغَرَر المنهيّ عنه.

واختلاف الفقهاء في جملةٍ من فروع المسألة - مثل كفاية المشاهدة، والتخمين، واعتبار ذكر الحركات والسّكنات للرّاكب، ونحو تلكم - إنّما يكون من جهة الخلاف في وجود الغَرَر وعدمه، أو في كونه قادحاً لكونه ممّا يتسامح فيه النّاس.

وحقّ القول في المقام أنْ يقال: إنّ الغَرَر - الذي هو بمعنى الخطر - موجبٌ لفساد الإجارة، ويجب المحافظة عليه، وحينئذٍ:

إنْ اُحرز ذلك، وأنّه من عدم تعيين المحمول وزناً وجنساً أو الحامل وصفاً يلزم الغَرَر، فإنّه لا ينبغي التوقّف في لزوم التعيين، من غير فرقٍ بين أن تختلف

ص: 52


1- المبسوط: ج 3/222.
2- المهذّب: ج 1/473. (3و4) السرائر: ج 2/460 و 457.
3- شرائع الإسلام: ج 2/416.
4- جواهر الكلام: ج 27/261.

القيمة باختلاف الوزن أو الجنس أم لا، لعدم دوران الغَرَر مداره، بل هو يدور مدار اختلاف الأغراض، مثلاً المحمول قد يكون حديداً وقد يكون قطناً، ولو كان وزنهما واحداً، فإنّه لابدّ من تعيين الوصف أيضاً، فإنّه من عدم تعيينه يلزم الغَرَر، لاختلاف الأغراض باختلاف الأوصاف، فإنّ الحديد يجتمع على موضع من الحيوان فربما عقره.

وإنْ اُحرز عدم الغَرَر، فإنّه لا إشكال في الصحّة.

ولو شكّ في ذلك، فالأظهر بحسب القواعد البطلان، لأنّ عمومات الإجارة خصّصت بالغرر، فمع الشكّفيه يعدّ التمسّك بالعمومات تمسّكاًبالعام في الشبهة المصداقيّة.

أقول: ولكن يمكن البناء على الصحّة في جملة من الموارد، لوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ البناء على عدم كفاية المشاهدة أو التخمين، واعتبار الوزن حَرجٌ عظيم وعُسر جسيم، ولأجل ذلك قامت السيرة القطعيّة على الاكتفاء بأحدهما، ولذا قال في محكي «التذكرة»(1): (إنّ المشاهدة من أقوى طرق العلم).

الوجه الثاني: أنّ الاختلاف إذا كان قليلاً، وكان لا يختلف به الأغراض بحسب النوع، يمكن دعوى انصراف الغَرَر عنه، فيتبع فيه العمومات.

الوجه الثالث: استصحاب عدم الغَرَر أزلاً.

وهذا لا يخلو عن إشكال، وتفصيل القول فيه يحتاج إلى بسطٍ في المقال لا يسعه المجال.

أقول: وبهذا يظهر حكم استئجار الدابّة للركوب، وأنّه لابدَّ من مشاهدة6.

ص: 53


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/306.

الراكب أو وصفه، كما لابدَّ من مشاهدة الدابّة أو وصفها، حتّى الذكوريّة والاُنوثيّة إنْ اختلفت الأغراض بحسبها.

ولو استأجر الدابّة لحرث جريبٍ معلوم، فلابدَّ من مشاهدة الأرض أو وصفها، كما عن جماعة(1).

وعن «التذكرة»(2): اعتبار المشاهدة خاصّة.

وعن «المسالك»(3): اعتبار الوصف خاصّة.

واستدلّ للثاني: بأنّ أجزاء الأرض مختلفةً صلابة ورخاوة، وحرث الصلب صعب مستصعب بخلاف الرخوة، ومثل هذا لا يعرف بالمشاهدة.

واستدلّ للثالث: بأنّ المشاهدة لا تحيط بباطن الأرض، وأمّا الوصف فقد يكون صاحبها عارفاً بما في الباطن.

والتحقيق: أنّ الأظهر هو الأوّل، لقيام السيرة القطيعة على اغتفار هذا المقدار من الجهالة الباقية بعد المشاهدة أو الوصف، إمّا لأجل ما تقدّم، أو لأنّ الاطّلاع على باطن الأرض هنا كالإطّلاع على صفات العبيد والإماء الباطنيّة في البيع، التي لا إشكال عندهم في اغتفار جهالتها فيه.

وإذا استأجر دابّة للسفر مسافةً ، لابدَّ من بيان زمان السّير من ليلٍ أو نهار، إلّا إذا كان هناك عادة متّبعة، فيُستغنى بها عن التعيين، هكذا ذكره جماعة(4).7.

ص: 54


1- العروة الوثقى: ج 5/17.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/306.
3- مسالك الأفهام: ج 5/199.
4- العروة الوثقى: ج 5/17.

وعن «المسالك»(1): أنّه لو لم يمكن التعيين - كطريق الحَجّ - يُشكل الحكم حينئذٍ، ومقتضى القاعدة الفساد.

وعن «التذكرة»(2)، و «القواعد»(3)، و «جامع المقاصد»(4) عدم لزوم التعيين بل يتّبع القافلة.

وعن ظاهر «الوسيلة»(5)، و «الكافي»(6) وغيرهما من القدماء، عدم اعتبار تعيين الوقت.

والحقّ أنْ يقال: إنّه لا اعتبار بمثل هذه التدقيقات في الإجارة، فإنْ كانت الأغراض مختلفة والاُجرة متفاوتة يعتبر التعيين دفعاً للغَرَر، وإلّا فلا.

ولعلّ نظر القدماء في حكمهم بعدم الاعتبار إلى الثاني، كما أنّ نظر المتأخّرين إلى الأوّل.

حكم ما لو قال: آجرتك كلّ شهرٍ بدرهم

الفرع الرابع: ما كان معلوميّته بتقدير المدّة، لابدَّ من تعيينها شهراً أو سنةً أو نحو ذلك، ولو قال: (آجرتُك كلّ شهرٍ بدرهم)، فهل تصحّ مطلقاً كما عن الشيخ(7)،

ص: 55


1- مسالك الأفهام: ج 5/201.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/317.
3- قواعد الأحكام: ج 2/297.
4- جامع المقاصد: ج 7/203.
5- الكافي في الفقه: ص 346-347.
6- الكافي في الفقه: ص 346.
7- المبسوط: ج 3/245.

وابن زُهرة(1)، وابن الجُنيد(2)؟

أم تبطل كذلك كما عن جماعةٍ ، وفي «الجواهر»(3): (بل لعلّه المشهور بين المتأخّرين)؟

أم تصحّ في شهرٍ وتبطل في الزيادة، كما عن «المقنعة»(4)، و «النهاية»(5)، وفي «الشرائع»(6)؟ وجوهٌ وأقوال:

وعن «مفتاح الكرامة»(7): إنّ هنا قولا رابعاً اختاره الحِلّي، وهو الفساد مع الإطلاق، والصحّة مع تعيين الابتداء.

ولكن الظاهر منه هو الحكم بالبطلان في المقام، والصحّة في المسألة الآتية، وهي ما لو قال: (آجرتُك شهراً بدرهم، فإن زدتَ فبحسابه).

تنقيح القول في المقام: إنّ الوجوه المتصوّرة في المراد من هذه العبارة متعدّدة:

الوجه الأوّل: أنْ يكون المراد تمليك المنفعة الأبديّة، فيكون قوله: (كلّ شهرٍ بدرهم)، ميزاناً للاُجرة.

الوجه الثاني: أنْ يكون المراد تمليك المنفعة في الشهر الأوّل بدرهم، وفيما زاد بحسابه.8.

ص: 56


1- غنية النزوع: ص 286.
2- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 27/235.
3- جواهر الكلام: ج 27/235.
4- المقنعة: ص 642.
5- النهاية: ص 406.
6- شرائع الإسلام: ج 2/415.
7- نسبه إليه في كتاب الإجارة: ص 68.

الوجه الثالث: أنْ يكون المراد تمليك طبيعي المنفعة القابلة للتطبيق على شهر أو أكثر.

الوجه الرابع: أنْ يكون المراد تمليك المقدار الذي يختاره المستأجر خارجاً.

أمّا الوجه الأوّل: فهو خلاف ظاهر هذه الجملة، وعلى فرض كونه مراداً منها تبطل الإجارة من جهة عدم المُبرز للمدّة، فإنّ قوله: (كلّ شهرٍ بدرهم)، إنّما هو لبيان ميزان الاُجرة، فلا كاشف عن المدّة التي اُوجر فيها، فتبطل لذلك، مع أنّ لازم صحّة تلك انتقال منفعة الدّار الأبديّة إلى المستأجر بنحوٍ لا خيار له ولا للمؤجّر، ولا أظنّ أن يلتزم بذلك أحدٌ في المثال.

وأمّا الوجه الثاني: فهو أيضاً خلاف الظاهر، لأنّ الظاهر منها إنشاء أمرٍ واحدٍ لا أمرين، وسيأتي الكلام في هذا الفرع.

وأمّا الوجه الثالث: فهو أيضاً خلاف الظاهر، لأنّ لازمه وحدة الاُجرة لا كلّ شهرٍ بدرهم كما هو المفروض.

وعليه، فالمتعيّن هو الوجه الرابع.

واستدلّ للبطلان مطلقاً بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «الشرائع»(1)، من أنّها باطلة لجهالة الاُجرة.

وأُورد عليه تارةً : بأنّه لا جهالة فيها، إذ منفعة الدّار معلومة كلّ شهر منها بكذا.

واُخرى : بأنّ هذه الجهالات لا تضرّ لا سيّما في الإجارة.5.

ص: 57


1- شرائع الإسلام: ج 2/415.

وفيه: إنّه يمكن دفعهما بأنّه بما أنّ الإجارة واحدة، ولا يعلم مدّة الإجارة، فلا محالة لا يعلم مقدار الاُجرة، وأنّه درهمٌ أو درهمان أو أكثر، ومن البيّن أنّ مثل هذا الجهل موجبٌ للغَرَر، وعليه فتبطل الإجارة لذلك.

الوجه الثاني: جهالة المنفعة.

وأُورد عليه: بأنّ المنفعة إنّما تكون مالاً بلحاظ بذل الاُجرة بإزائها، وعليه فلا أثر للعلم والجهل بها نفسها، بل لو أوجب الجهل بها البطلان، فإنّما هو بلحاظ الجهل بالماليّة الموجب للغَرَر، وهو إنّما يكون بالجهل بالاُجرة، فيتعيّن التعليل بالجهل بالاُجرة خاصّة، كما صنعه المحقّق في «الشرائع»(1).

وفيه: إنّ المنفعة كالعين إنّما تكون ماليّتها بلحاظ ما يترتّب عليها من الفوائد والآثار، فهي مالٌ مع قطع النظر عن جعل الاُجرة بإزائها وإيقاع العقد عليها.

أقول: الظاهر أنّ منشأ تعليل الشرايع بالجهل بالاُجرة خاصّة، إنّما هو مناسبة ذكر الفرع في أحكام الاُجرة، فيناسبه التعليل بلزوم الخلل في الاُجرة.

الوجه الثالث: إنّ المنفعة حيثيّة وجوديّة للعين، قائمة بها، وموجودة بوجودها، وحيث أنّها تدريجيّة الوجود، فهي محدودة بالزمان، فالمنفعة غير المتعيّنة بالزمان مفهومٌ لا مطابق لها.

وفيه: أنّ المفروض تعيّنها مع فرض الاستيفاء.

وعليه، فالأظهر في وجه البطلان لزوم الجهل بالمنفعة وبالاُجرة.

وقد استدلّ للصحّة: بالعمومات بعد إبطال أدلّة المانعين بما تقدّم، وقد عرفت5.

ص: 58


1- شرائع الإسلام: ج 2/415.

عدم تماميّته، فلا مورد للتمسّك بالعمومات.

واستدلّ للقول الثالث: أي الصحّة في الشهر الأوّل:

1 - بصدق المعلوميّة عرفاً بالنسبة إلى الشهر الأوّل، من جهة أنّ المراد من ذلك عرفاً هذا الشهر بدرهم، وكلّ شهر تسكنه كذلك.

2 - أو أنّ هذا مقتضى حمل الإطلاق في الإجارات المطلقة بحسب الزمان على الزمان المتّصل بالعقد.

3 - وبفحوى مصحّح أبي حمزة، عن الإمام الباقر عليه السلام الوارد في من اكترى دابّةً إلى مكان معيّن بشيء معيّن، ثمّ قال: فإنْ جاوزته فلكَ كذا وكذا زيادةً ويُسمّي ذلك ؟ قال عليه السلام: «لا بأس به كلّه»(1).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الشهر الأوّل هو المتيقّن، وهذا لا يوجب معلوميّة المنفعة والاُجرة بعد كون الإجارة إجارة واحدة لا تعدّد فيها.

وأمّا الثاني: فلأنّ الإطلاق يقتضي تعيّن الابتداء، وأنّه المتّصل بالعقد، وهذا أعمّ من المعلوميّة.

وأمّا الثالث: فلأنّ الظاهر من المصحّح تعيين المنفعة والاُجرة، وأنّ قوله: (فإن جاوزته)، شرطٌ أو مواعدة ومراضاة، وعلى كلّ حال أجنبيٌّ عن المقام.

فالأظهر هوالبطلان مطلقاً.0.

ص: 59


1- الكافي: ج 5/289 ح 289 ح 2، وسائل الشيعة ج 19/111 ح 24260.

تصحيح الإجارة المزبورة بعنوانٍ آخر

أقول: أفاد بعض الفقهاء(1) أنّه على القول ببطلان الإجارة المفروضة بعنوان الإجارة، يمكن تصحيحها بعنوان الجُعالة، أو بعنوان الإباحة بالعوض.

أمّا الأوّل: وهو تصحيحها بعنوان الجُعالة فقد ذُكر له تقاريب:

التقريب الأوّل: ما في «الجواهر»(2)، بأن يقول الساكن مثلاً: (جعلتُ لكَ على كلّ شهرٍ أسكنه درهماً).

وفيه: إنّ الجُعالة عبارة عن جَعل شيءٍ على نفسه لمن يعمل عملاً له، وأمّا جعل شيءٍ لغيره بإزاء عمل نفسه، فهو خارجٌ عن عنوان الجُعالة.

وبعبارة اُخرى : في الجُعالة يكون الجعل للعامل، وهنا يكون على العامل.

التقريب الثاني: ما ذكره بعض(3)، وهو أن يجعل المستأجر الاُجرة في قبال إسكان المالك.

وفيه: إنّ الإسكان لا ماليّة له، والاُجرة إنّما تكون بإزاء متعلّق الإسكان، وهو السُّكنى، كما هو واضح.

التقريب الثالث: أن يقول المؤجّر: (مَنْ استوفى منفعة داري عليه كذا).

وفيه: إنّ الجُعالة كما عرفت هي جعل شيء على نفسه للعامل، وهذا جعلُ شيءٍ له على من يستوفي منفعة مِلْكه.

التقريب الرابع: أن يجعل منفعة الدّار لمن أعطاه درهماً مثلاً.

ص: 60


1- تذكرة الفقهاء (ط. ج): ج 7/139.
2- جواهر الكلام: ج 27/235.
3- كتاب الإجارة: ص 79.

أقول: ولا أرى في ذلك محذوراً، سوى جهالة العوض، وفي مبطليّتها للجهالة كلام سيأتي.

أمّا الثاني: وهو تصحيحها بعنوان الإباحة بالعوض، فالكلام فيه يقع في جهات:

الأُولى: في الإباحة بالعوض موضوعاً وحكماً.

الثانية: في تطبيقها على المقام.

الثالثة: في كفاية هذه الجملة لإنشائها.

أمّا الجهة الأُولى: فالكلام فيها في موارد:

المورد الأوّل: في حقيقتها، وأنّها هل تكون بيعاً، أم إجارةً ، أم صُلحاً، أم معاملة مستقلّة ؟

المورد الثاني: في الدليل على صحّتها ونفوذها.

المورد الثالث: في أنّها على فرض الصحّة لازمة أم جائزة ؟

أمّا الأوّل: فلا ريب في أنّها ليست تمليكاً للعين، ولا للمنافع، ولا للانتفاع.

أمّا الأولان: فواضح.

وأمّا الأخير: فلأنّ الانتفاع قائمٌ بالمباح له ومن أفعاله، فكيف يملكه! وأيضاً ليست من قبيل إعطاء حقّ به، فإنّ جواز التصرّف من الأحكام التكليفيّة لا من الحقوق، ولذا ليس له إسقاطه ولا إعطائه ونقله إلى غيره.

وعلى هذا، فهي ليست إعطاءُ شيءٍ بالمباح له بإزاء شيءٍ ، فلا تكون بيعاً، ولا تكون نقلاً للمنافع، فلا تكون إجارة، وليست إنشاءً للتصالح والتسالم على أمرٍ - كما هو واضح - فلا تكون صلحاً.

ص: 61

وبعبارة اُخرى : إنّ الصلح ليس هو التسالم على أمرٍ، وإلّا لزم كون جميع المعاملات صُلحاً، بل الصلح المقابل لسائر العقود مسالمة عقدية وإنشاء للتسالم، ومن الواضح أنّها لا تنطبق على المقام، بل هي إباحة تكليفيّة للتصرّفات، ورفعٍ للمنع عنها، فهي معاملة مستقلّة.

وأمّا المورد الثاني: فيدلّ على صحّتها آية التجارة عن تراض (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1)، فإنّ (التجارة) عبارة عن التكسّب والاسترباح الشامل للمقام، ولا وجه لما قيل من إنّها عبارة عن التكسّب بالمال، فلا يشمل المقام.

والنبويّ : «النّاس مسلّطون على أموالهم»(2) فإنّ مقتضى عمومه الأنواعي أنّ للمالك التصرّف في ماله بجميع أنواعه، منها إباحته للغير بالعوض.

والسيرة العقلائيّة القائمة على الإباحة بالعوض المُسمّى، كما هو المتعارف في إجارة الدكاكين والفنادق وما شاكل، إذ الإنسان يستأجر الدكان من مالكه شهراً مثلاً بمبلغ، ثمّ يبنيان على أنّه كلّ ما بقي المستأجر عليه أن يدفع الاُجرة بتلك النسبة، بل التصرّف في الحمامات أيضاً من هذا القبيل.

وأمّا المورد الثالث: فيشهد للزومها قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3).

لا يقال: إنّه يعارضه في طرف الإباحة عموم دليل السلطنة.

فإنّه يتوجّه عليه أوّلاً: أنّ دليل السلطنة إنّما يدلّ على ثبوت السلطنة على المال،1.

ص: 62


1- سورة النساء: الآية 29.
2- البحار: ج 2/272 ح 7.
3- سورة المائدة: الآية 1.

ولا يدلّ على السلطنة على العقد، والإباحة اللّازمة في المقام إنّما هي إباحة عقديّة، لا إباحة مستندة إلى الإذن.

وثانياً: أنّ دلالة الآية الشريفة بالعموم، ودلالة دليل السلطنة بالإطلاق، ففي مورد الاجتماع يقدّم الأولى.

وثالثاً: أنّ الآية تقدّم، وعلى فرض التساقطفإنّ المرجع هو استصحاب الإباحة.

فالمتحصّل: أنّ الإباحة بالعوض معاوضة مستقلّة صحيحة لازمة.

وأمّا الجهة الثانية: فلا إشكال في صدق الإباحة بالعوض على المقام، فإنّ الفرض أنّ المالك يبيح لغيره التصرّف في ماله بالمبلغ المعيّن.

وأمّا الجهة الثالثة: فالأظهر عدم كفاية إنشاء الإباحة بالعوض بالصيغة المزبورة، أي: (آجرتك كلّ شهر بدرهم)، إذ لا يجوز إنشاء عقدٍ بما وضع لعقدٍ آخر، كما تقدّم الكلام في ذلك.

لو قال: آجرتُكَ شهراً بدرهمٍ ، فإنْ زِدتَ فبحسابه

الفرع الخامس: لو قال: (آجرتُكَ شهراً بدرهم، فإنْ زِدتَ فبحسابه)، هل يصحّ مطلقاً، أم يبطل كذلك، أم يفصّل بين الشهر الأوّل فيصحّ ، وغيره فيبطل ؟ وجوه.

أقول: وتفصيل القول في المقام أنّه لا إشكال في أنّ ذلك بالإضافة إلى الشهر الأوّل إجارةٌ ، وأمّا بالنسبة إلى سائر الشهور فيتصوّر وجوه:

1 - إجارة مازاد كلّ شهر بدرهم.

2 - كون مازاد من قبيل الشرط.

ص: 63

3 - أنْ يكون ما زاد بعنوان المواعدة والمراضاة.

أمّا الوجه الأوّل: فبالنسبة إلى مازاد حال هذه المسألة حال المسالة المتقدّمة، وأمّا بالنسبة إلى الشهر الأوّل المختصّ بإجارة خاصّة، فتصحّ ولا وجه لبطلانها.

وأمّا الوجه الثاني: فبالنسبة إلى ما زاد - بناءً على ظهوره في أنّ المشروط ما يختاره المستأجر - يكون شرطاً مجهولاً، فإنْ التزمنا بأنّ الشرط المجهول فاسدٌ، فسد وأفسد العقد، بناءً على أنّ الشرط الفاسد مفسدٌ، وإلّا فلا.

أقول: وقد استدلّ للصحّة بمصحّح أبي حمزة المتقدّم.

وفيه أوّلاً: كونه من قبيل الشرط غير ظاهر.

وثانياً: أنّ العوض في مورد الخبر معيّنٌ ، فلا ربط له بالمقام.

وأمّا الوجه الثالث: فبالنسبة إلى الشهر الأوّل يصحّ ، وبالنسبة إلى سائر الشهور ليس هناك ملكيّة ولا استحقاق بعقدٍ أو إيقاع.

الإجارة للخياطة المردّدة بين صنفين

الفرع السادس: إذا قال: (إنْ خطتَ هذا الثوب فارسيّاً - أي بدرز - فلك درهم، وإن خطّته روميّاً - أي بدرزين - فلك درهمان)، فقد يكون ذلك بعنوان الإجارة، وقد يكون بعنوان الجُعالة:

أمّا الأوّل: فإنْ كان ذلك بإجارته للخياطة بدرهمين، واشتراط نقص الإجارة لو كانت فارسيّة، أو بإجارته للخياطة بدرهم، واشتراط إعطاء درهم آخر لو وقعت رومية، صحّت الإجارة والشرط في الصورتين.

ص: 64

وإنْ كان المجموع بعنوان الإجارة:

فعن «المبسوط»(1)، و «الخلاف»(2)، و «التذكرة»(3)، و «اللّمعة»(4)، و «مجمع الفائدة والبرهان»(5)، و «الكفاية»(6) القول بالصحّة، واختارها المحقّق في «الشرائع»(7).

وعن «السرائر»(8)، و «المختلف»(9)، و «الإيضاح»(10)، و «حاشية «الإرشاد»(11)للفخر، و «جامع المقاصد»(12)، و «المسالك»(13)، و «الروضة»(14) وغيرها البطلان.

واستدلّ للثاني بوجهين:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمه الله(15)، وحاصله: أنّ كلّ هويّةٍ تعلّقية - حقيقيّة كانت أم اعتباريّة - لابدَّ وأن تتعلّق بشيء وطرفٍ مقوّم لها، ومشخّص6.

ص: 65


1- المبسوط: ج 3/249.
2- الخلاف: ج 3/510.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/294.
4- اللّمعة الدمشقيّة: ص 141.
5- مجمع الفائدة: ج 10/44.
6- كفاية الأحكام: ج 1/655.
7- شرائع الإسلام: ج 2/415.
8- السرائر: ج 2/478.
9- مختلف الشيعة: ج 6/168.
10- إيضاح الفوائد: ج 2/248.
11- إرشاد الأذهان: ج 1/423.
12- جامع المقاصد: ج 7/107.
13- مسالك الأفهام: ج 5/55.
14- شرح اللّمعة: ج 4/334.
15- كتاب الإجارة للاصفهاني: ص 76.

لوجودها، وذلك الطرف لا يُعقل أنْ يكون مبهماً، إذ المبهم المردّد بين الطرفين الملحوظين المتعيّنين بجميع أنحاء التعيّن الماهوي والوجودي لا تحقّق له ولا شيء.

وفي المقام حيث أنّ الإجارة لا تكون على كلّ منهما لتضادّهما، ولا على أحدهما المعيّن، لأنّه خلاف المفروض، فلابدَّ وأنْ تكون على أحدهما المردّد، فلا تصحّ لذلك.

وفيه: إنّه يمكن أنْ يقال إنّ المراد بهذه الجملة، الإجارة على ما يختاره العامل في ما بعد، أو ما يقع عليه سهم القرعة، وعليه فهو متعيّن واقعاً، فلامحذور فيه من هذه الجهة.

الوجه الثاني: ما ذكره جماعة - منهم سيِّد «العروة» -(1) وهو الجهالة.

أُورد عليه تارةً : بأنّ كلّاً من الفعلين معلومٌ ، واُجرته معلومة، والواقع لايخلو منهما.

واُخرى : بأنّ الإجارة تحتمل من الغَرَر ما لا يحتمله البيع، كما صرّحوا به في غير موضع.

ولكن يرد على الأوّل: - مضافاً إلى النقض بما لو قال: (إن سكنتَ في داري إلى كذا فعليك كذا، وإنْ سكنتها شهراً مثلاً فعليك كذا)، فهل يتوهّم فقيهٌ صحّة مثل ذلك، مع أنّ البرهان المزبور يقتضي صحّته - أنّ معلوميّة كلّ منهما في نفسه، لاتنافي الجهل بالمنفعة التي وقعت الإجارة عليها، المردّدة بين المعلومتين، ولا الجهل بالاُجرة.

وعلى الثاني: أنّه بعد لزوم الغَرَر والدليل على مبطليّته، لا أرى وجهاً9.

ص: 66


1- العروة الوثقى: ج 5/19.

للحكم بالاغتفار.

وعليه، فالحقّ تماميّة هذا الوجه.

وقد استدلّ للصحّة:

1 - بالعمومات.

2 - وبمصحّح أبي حمزة المتقدّم الوارد في استئجار الدابّة إلى مكان وما زاد.

3 - وبصحيح الحلبي الآتي في المسألة الآتية.

ولكن يرد على الأوّل: ما تقدّم من لزوم رفع اليد عن العمومات، بما دلّ على مانعيّة الجهل والغَرَر.

وعلى الثاني: أنّه يدلّ على صحّة الإجارة على شيء إلى مكان معيّن، مع اشتراط أن يزيد لو تجاوز عن ذلك الحَدّ كما مرّ.

وعلى الثالث: أنّه يدلّ على نفوذ اشتراط أن ينقص من الاُجرة إذا احتبسه عن ذلك الزمان كلّ يوم بكذا.

وبالجملة: تحصّل أنّ الأظهر هو البطلان بعنوان الإجارة.

وهل تصحّ لو اُريد بالعبارة المزبورة الجُعالة، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، أم لا تصحّ كما عن «المختلف»(2)؟

وجهان مبنيّان على اعتبار التعيين في الجُعَل دفعاً للغَرَر أم لا:

فعلى الأوّل لاتصحّ ، وعلى الثاني تصحّ ، وحيث أنّ الظاهر هوالأوّل - كما سيأتي..

ص: 67


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/293.
2- مختلف الشيعة: ج 6/168..

إنْشاءاللّه تعالى في كتاب الجُعالة(1) - فالأقوى عدم صحّتها بهذا العنوان أيضاً.

أقول: وقد ظهر ممّا ذكرناه حال مسألة اُخرى ، وهي ما لو قال: (إنْ عملت العمل الفلاني في هذا اليوم فلَكَ درهمان، وإنْ عملته في غد فَلكَ درهمٌ )، لاتّحاد المسألتين دليلاً للصحّة والفساد، وشقوقاً ومختاراً.

وعليه، فماعن «المبسوط»(2)، و «التحرير»(3)، و «الكفاية»(4) من التأمّل في الثانية، مع الجزم بالصحّة في الأولى، غير تامّ .

كما أنّ ما في «الشرائع»(5) من القول بالصحّة في الأوّل بلا تردّد، وفي الثانية بعد التردّد، لا وجه له.

قد ذكروا في توجيه ذلك وجوهاً ضعيفة لا حاجة لذكرها.

الإجارة على عملٍ معيّن في وقتٍ معيّن

الفرع السابع: إذا وقعت الإجارة على عملٍ معيّن في وقتٍ معيّن، ولم يأتِ به، كما لو استأجره أو دابّته ليحمله أو يحمل متاعه في شهر معيّن، ويوصله إلى بلدٍ معيّن، قبل مجيء الشهر القادم مثلاً، ولم يأت المستأجر بذلك في الوقت المعيّن، أو استأجره ليخيط ثوبه في هذا الاسبوع، ولم يخطه، أو ما شاكل، فهل تبطل الإجارة أم لا؟

وتحقيق القول في المقام: إنّ العمل في ذلك الزمان المعيّن قد يكون متعذّراً،

ص: 68


1- صفحة 288 وما بعدها من هذا المجلّد.
2- المبسوط: ج 3/249-250.
3- تحرير الأحكام: ج 3/83.
4- كفاية الأحكام: ج 1/655.
5- شرائع الإسلام: ج 2/416.

وقديكون ممكناً، ولكنّه سامح وقصّر حتّى فات الوقت، وعلى التقديرين قد يكون أخذ الزمان المعيّن بنحو الاشتراط، أي الالتزام في ضمن الإجارة، مع كون المستأجر عليه هو العمل الخاص، وقد يكون بنحو تقييد العمل المستأجر عليه، فيجعل العمل الخاص من حيث الزمان المخصوص بإزاء الاُجرة المعيّنة.

وما نُسب إلى المحقّق النائيني رحمه الله(1) من أنّ أخذ الزمان بنحو الشرطيّة يختصّ بما إذا كان المستأجر عليه المنفعة القائمة بعين شخصيّة، وبنحو القيديّة يختصّ بما إذا كان المستأجر عليه الكلّي الذمي، فمورد العنوانية غير مورد الشرطيّة، ولا ينطبق مورد واحد على أحدهما تارةً وعلى الآخر اُخرى .

يرد عليه: إنّ الكلّي كما يكون قابلاً لأن يقيّد، كذلك يصحّ إيقاع الإجارة عليه، مع الالتزام بخصوصيّة في مقام إيجاد العمل.

وأمّا منفعة العين الشخصيّة: فهي من جهة قابليّتها لأنْ تتطوّر بأطوار مختلفة - من حيث السرعة والبطؤ، وكثرة طيّ الطريق وقلّته، وما شابه ذلك - قابلة لأن تقيّد بطور خاص، فكما أنّ له أن يستأجر الدابّة مثلاً لإيصاله إلى كربلاء، ويشترط كون الإيصال في زمان خاص كقبل ليلة النصف من شعبان، كذلك له أن يستأجرها بهذه الخصوصيّة.

أمّا في صورتي الاشتراط: فالأظهر صحّة الإجارة من غير فرق بين تعذّر الشرط أو تخلّفه، غاية الأمر في صورة التعذّر يفسد الاشتراط لعدم القدرة، فعلى القول بأنّ الشرط الفاسد مفسدٌ بطلت الإجارة، وإلّا - كما هو الحقّ - فلا.9.

ص: 69


1- راجع كتاب الإجارة: ص 69.

وفي صورة التخلّف لا يفسد الشرط.

وعلى التقديرين، يثبت للمستأجر الخيار، فإنْ أمضاه كان عليه تمام الاُجرة، وإنْ فسخ العقد رجعت الاُجرة المسمّاة إلى المستأجر، ورجع العمل الخاص إلى المؤجّر، ويكون مستحقّاً لاُجرة مثل عمله المحترم، لفرض أنّه لم يقصد المجّانيّة.

فما في «العروة»(1) من الحكم بالفساد فيما إذا لم يسع الوقت مطلقاً، في غير محلّه.

وأمّا في صورتي العنوانيّة: فإنْ تعذّر العمل في ذلك الوقت، وكان التعذّر من الأوّل، بطلت الإجارة، لعدم تمكّنه من العمل الخاص، فلا يعقل تمليكه إيّاه.

وهل يستحقّ شيئاً بإزاء عمله ؟ وجهان:

أقواهما ذلك، لأنّه وإنْ تعذّر صيرورة المأتي به وفاءً بالإجارة، إلّاإنّه لم يأت به مجّاناً، فلا يسقط عمله عن الاحترام، فيكون المستأجر مشغولاً ذمّته باُجرة مثل عمله.

وإنْ كان التعذّر طارئاً، صحّت الإجارة، ولا وجه لبطلانها، بل يثبت خيار تعذّر التسليم، فللمستأجر إمضاء الإجارة، والاكتفاء بما أتى به المؤجّر من العمل، وفاءً عمّا له عليه، وفسخ العقد، فإنْ فسخ رجعت الاُجرة إليه، ولا ترجع ماليّة العمل المستأجر عليه إلى المؤجّر، لعدم ايصاله إلى المستأجر، وأمّا العمل المأتي به، فحكمه حكم ما تقدّم في الفرض الأوّل.

وإنْ لم يتعذّر العمل، بل سامح وقصّر حتّى فات وقت العمل، لا تنفسخ الإجارة لعدم الموجب له.0.

ص: 70


1- العروة الوثقى: ج 5/20.

وتوهّم الانفساخ من جهة تلف المستأجر عليه فاسدٌ، لاختصاص الدليل بالبيع، وبالتلف غير الشامل للإتلاف، وبالعين الشخصيّة، فلا يشمل الكلّي لأنّه لا تلف له، وعليه فالمؤجّر يستحقّ تمام الاُجرة، والمستأجر يستحقّ العمل الخاص، وحيث أنّه لا يمكن تسليمه فيستحقّ اُجرة مثله، وهي قد تساوي الاُجرة المسمّاة، وقد تنقص، وقد تزيد.

وأمّا العمل المأتي به، فحيث أنّه قد أتى به عامداً في غير وقته وهو ضدّ المستأجر عليه، فقد هتك العامل حُرمة عمله، فلا وجه لاُجرة مثله.

شرط عدم الاُجرة تماماً أو رأساً

الفرع الثامن: لو استأجره على عمل خاص في وقت معيّن، وقال: (إنْ لم تأتِ به في هذا الوقت، فلا اُجرة لك)، أو أنّ الاُجرة أقلّ ممّا عيّن له، كما لو استأجره على أن يخيط ثوبه في هذا الاسبوع، وقال: (إنْ لم تتمّ الخياطة فيه فلا اُجرة لك)، أو (أنّ اُجرتها نصف ما توافقنا عليه).

فالكلام في موردين:

الأوّل: في شرط عدم الاُجرة تماماً.

الثاني: في شرط عدمها رأساً.

أمّا المورد الأوّل: فهو على قسمين:

1 - تارةً يكون ذلك بحيث تكون كلتا الصورتين - أي الخياطة في هذا الاسبوع، والخياطة بعد ذلك - مورداً للإجارة.

ص: 71

2 - واُخرى يكون مورد الإجارة هو الخياطة في هذا الاسبوع، ويشترط عليه أن ينقص من الاُجرة كذا على فرض عدم تحقّق العمل في الوقت المعيّن.

أمّا القسم الأوّل: فالظاهر بطلان الإجارة إنْ كانت الإجارة بنحو التخيير، لما تقدّم في المسألة المتقدّمة من جهالة العمل والاُجرة.

وإنْ كانت بنحو الترتيب: بأنْ تكون الإجارة الثانية مرتّبة على عدم الوفاء بالإجارة الأُولى، أو عدم الوفاء بقيده، وهو الإتيان به في وقت خاص:

فتارةً : يملّك المؤجّر العمل الخاص للمستأجر، وفي ظرف عدم الوفاء به يملك المضادّ معه إيّاه.

واُخرى : يملّكه العمل الخاص، ويشترط عليه الإتيان به في الوقت المعيّن، وعلى فرض عدم الإتيان به في ذلك الوقت يملّكه العمل بإجارة اُخرى .

أقول: لا إشكال في الصورة الثانية في صحّة الإجارة الأُولى ، وبطلان الإجارة الثانية:

أمّا صحّة الأُولى : فلتماميّة أركانها.

وأمّا بطلان الثانية: فلأنّ المؤجّر بعد تمليكه العمل للمستأجر لا يملك شيئاً كي يملّكه ثانياً.

وأمّا في الصورة الأُولى: فالظاهر صحّة الإجارتين، وذلك لأنّ المؤجّر يملّك العملين الذين هما مورد الإجارتين بنحو الترتيب، فلا مانع من تمليكه المستأجر بهذا النحو.

وبعبارة اُخرى : العملان حصّتان من طبيعي العمل، ومتضادّتان في التحقّق،

ص: 72

فكما أنّه بالترتّب يرتفع محذور تضادّ التحقّقين، كذلك يرتفع به محذور الملكيّتين.

اللّهمَّ إلّاأنْ يقال: إنّه تبطل الثانية لكونها معلّقة على شرطٍ مشكوك الحصول، وقد اتّفقت كلماتهم على بطلان العقد المعلّق على مثل ذلك.

فالمتحصّل: أنّه إنْ كانتا بنحو التخيير بطلت الإجارتان، وإنْ كانتا بنحو الترتيب بطلت الثانية خاصّة.

وأمّا القسم الثاني: فالكلام فيه:

تارةً : فيما تقتضيه القواعد.

واُخرى : فيما يقتضيه النّص الخاص.

أمّا الأوّل:

1 - فإنْ كان شرط عدم الاُجرة تماماً من قبيل شرط سقوط الاُجرة على تقدير عدم الإتيان بالعمل في الوقت المعيّن، فقد يقال إنّه من قبيل إسقاط ما لم يجب، إذ ما لم يتمّ العقد، لا يستحقّ المؤجّر الاُجرة ولا تكون ثابتة له، فشرط سقوط بعضها شرط سقوط ما لم يثبت.

وأيضاً: شرط سقوطها على تقدير عدم الإتيان بالعمل في الوقت المضروب له، شرطٌ تعليقي لا تنجيزي، وقد ادُّعي(1) الاتّفاق على أنّه لا تعليق في العقود والإيقاعات ومنها الشرط.

ولكن يرد الوجه الأوّل: أنّ إسقاط ما لم يجب إنْ كان فعليّاً ومنجزاً، لم يصحّ لعدم الثبوت، إنْ كان مشروطاً بثبوته - بمعنى أنّه ينشأ السقوط بعد الثبوت - فلا محذور فيه عقلاً.0.

ص: 73


1- كتاب الإجارة للاصفهاني: ص 70.

والوجه الثاني: أنّه لا دليل على بطلان التعليق في خصوص الشرط، ولا اتّفاق منهم فيه، كما يظهر من نظائر المقام. وعليه فالأظهر الصحّة.

2 - وإنْ كان الشرط عدم استحقاق تمام الاُجرة، فحيث أنّ الإجارة الشخصيّة متقوّمة بطرفيها، ففرض عدم استحقاق تمام الاُجرة، فرض بطلان الإجارة:

فإمّا أنْ تكون الإجارة تعليقيّة، وعلى تقدير العمل في الوقت المعيّن، فتفسد الإجارة لذلك.

وإمّا تكون مطلقة، فيكون الشرط منافياً لمقتضى العقد، فيكون فاسداً، وإنْ قلنا بمفسديّة الشرط الفاسد أفسدت الإجارة أيضاً وإلّا فلا.

هذا ما تقتضيه القاعدة.

وأمّا النّص: فمقتضى خبر الحلبي الذي قال:

«كنتُ قاعداً عند قاضٍ من القضاة وعنده أبو جعفر عليه السلام جالس، فجاءه رجلان، فقال أحدهما: إنّي تكاريتُ إبل هذا الرّجل ليحمل لي متاعاً إلى بعض المعادن، واشترطتُ عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا لأنّها سوقٌ أخاف أن يفوتني، فإن احتبستُ عن ذلك حططتُ من الكِراء لكلّ يوم احتبسته كذا وكذا، وإنّه حبسني عن ذلك اليوم كذا وكذا يوماً.

فقال القاضي: هذا شرطٌ فاسدٌ وفّهِ كَراه.

فلمّا قام الرّجل أقبل إليَّ أبو جعفر عليه السلام فقال: هذا شرطٌ جائزٌ ما لم يحطّ بجميع كراه»(1)، هو صحّة الإجارة والشرط إنْ كان الشرط من قبيل شرط السقوط، إذ8.

ص: 74


1- الكافي: ج 5/290 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/116 ح 24268.

الحطّ من الكراء ظاهرٌ في شرط سقوط مقدارٍ منه لا عدم استحقاقه.

هذا كلّه في المورد الأوّل.

وأمّا المورد الثاني: وهو شرط عدم الاُجرة رأساً:

1 - فإنْ كان ذلك من قبيل شرط السقوط، فمقتضى القاعدة صحّة الشرط أيضاً، إذ لا وجه لفساده سوى الوجهين المتقدّمين، وقد عرفت ما فيهما.

وما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1): من أنّ شرط سقوط الاُجرة كلّاً منافٍ لمقتضى العقد الإجاري، المتقوّم حقيقته بالاُجرة.

يندفع: بأنّ شرط السقوط من جهة تفرّع السقوط على الثبوت، يؤكّد مقتضى العقد، لا أنّه منافٍ له، إلّاأنّ مقتضى صحيح الحلبي المتقدّم فساد الشرط كما هو واضح.

2 - وإنْ كان من قبيل شرط عدم الاستحقاق، فسد الشرط، لكونه منافياً لمقتضى عقد الإجارة، وحينئذٍ إنْ كان المراد جعل الاُجرة بإزاء العمل على تقدير الإتيان به في الوقت المعيّن، فسدت الإجارة أيضاً للتعليق.

3 - وأمّا إنْ كان شرط سقوط الاُجرة رأساً على وجه القيديّة:

فإنْ كان ذلك على وجه التخيير بطل العقد للجهالة.

وإنْ كان على نحو الترتّب بطلت الثانية خاصّة؛ لأنّ الإجارة بلا اُجرة باطلة، وصحّت الأُولى كما تقدّم.

***3.

ص: 75


1- جواهر الكلام: ج 27/232-233.

وهي لازمة،

الإجارة صحيحة ولازمة

المقام الثاني: ويدور البحث فيه عن أحكام الإجارة، والكلام فيه في طيّمسائل:

المسألة الأُولى: الإجارة ثابتة بالكتاب والسُنّة وإجماع علماء الخاصّة والعامّة.

أمّا الكتاب: فقد قال اللّه تعالى : (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (1).

وقال سبحانه: (لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (2).

وقال عزّ وجلّ (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ ) (3).

وقال: (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى اِبْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ) (4).

وأمّا السُنّة: فمستفيضة ستمرّ عليك جملة منها.

قال المصنّف رحمه الله: (وهي لازمة) بلا خلافٍ ، ويشهد به - مضافاً إلى عموم قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3) وغيره ممّا تقدّم في كتاب البيع(4) - جملة من النصوص:

منها: صحيح علي بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل يتكارى من الرّجل البيت أو السفينة، سنةً أو أكثر من ذلك أو أقلّ؟

ص: 76


1- سورة الطلاق: الآية 6.
2- سورة الكهف: الآية 77. (3و4) سورة القصص: الآية 26 و 27.
3- سورة المائدة: الآية 1.
4- فقه الصادق: ج 22/281.

لا تبطل إلّابالتراضي

قال عليه السلام: الكري لازمٌ له إلى الوقت الذي تكارى إليه»(1).

ونحوه خبر محمّد بن سهل(2)، وصحيحه الآخر عنه عليه السلام(3)، ونحوها غيرها(4).

وأفاد صاحب «الحدائق»(5): أنّ المشهور بين الأصحاب أنّه لمّا كانت الإجارة من العقود اللّازمة، وجب انحصار ألفاظها في الألفاظ المنقولة شرعاً، المعهودة لغةً ، وكذا يشترط فيها ما يشترط في غيرها من العقود اللّازمة من العربيّة ووقوع القبول على الفور وما شاكل.

أقول: ولكن قد عرفت في كتاب البيع(6) أنّه لا يعتبر شيءٌ من ذلك في البيع وغيره من العقود اللّازمة، وإنّما وقع الكلام بينهم في المقام في موردين:

الأوّل: في جريان الإقالة في عقدها.

الثاني: في جعل الخيار في عقدها.

إقالة الإجارة

أمّا المورد الأوّل: قال المصنّف رحمه الله في المتن متفرّعاً على القول بلزوم الإجارة بأنّه: (لا تبطل إلّابالتراضي)، والظاهر أنّ هذا - أي انفساخ الإجارة بالإقالة بأن

ص: 77


1- الكافي: ج 5/292 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/110 ح 24259.
2- الكافي: ج 5/266 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/49 ح 24127.
3- الكافي: ج 5/266 ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/49 ح 24128.
4- وسائل الشيعة: ج 19/49 باب (أنّه يجوز لصاحب الشجر أن يخرص على العامل والعامل بالخيار في القبول).
5- الحدائق الناضرة: ج 21/532.
6- فقه الصادق: ج 23/20 وما بعدها.

يتراضيا على فسخ عقدها - هو المشهور بين الأصحاب(1)، بل قيل: (بلا خلافٍ )(2).

أقول: ويمكن أنْ يستدلّ له بأنّ التقايل من العقود، فتشمله الأدلّة العامّة صحّةً ولزوماً.

توضيحه: إنّ موضوع تلك الأدلّة (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (3) و (العقد) و (التصرّف في ماله) وجميع هذه تصدق على الإقالة، لأنّ حَلّ العقد بالتراضي بعد كونه أمراً اعتباريّاً، وكلّ من الطرفين يلتزم بعود ما انتقل إليه إلى صاحبه، ويربط التزامه بالتزام الآخر، يصدق عليه العقد، ومجرّد التعبير ب (حَلّ العقد) لا ينافي ذلك.

وحيث أنّه يوجبُ صيرورة كلّ من العوضين مِلْكاً لمالكه الأوّل، فيصدق عليه عنوان التجارة، والمفروض أنّه عن تراضٍ .

وحيث إنّه قبل التصرّف مالٌ للمقيل، وقد حقّقنا في كتاب البيع(4) أنّ دليل السلطنة يدلّ على نفوذ التصرّفات المتعلّقة به كالبيع وغيره، فهو أيضاً دالٌّ على صحّة الإقالة.

أقول: وربما يستدلّ لها - مضافاً إلى ما ذكرناه - بوجوه اُخر:

منها: أنّحقيقة المعاقدة متقوّمة بالتزام الطرفين، فمع رفع اليدعنه لامعاقدة حقيقة.

وفيه: إنّ عقد المتعاقدين حدوثاً موضوعٌ لاعتبار العقلاء والشارع بقاءً ، وإن ارتفع التزامها، كما لا يخفى .

ومنها: النصوص الخاصّة.6.

ص: 78


1- راجع شرائع الإسلام: ج 2/413، إرشاد الأذهان: ج 1/425، شرح اللّمعة: ج 4/328.
2- مجمع الفائدة: ج 10/62.
3- سورة النساء: الآية 29.
4- فقه الصادق: ج 22/329 و ج 27/246.

وفيه: أنّها ما بين ما هو مختصٌّ بالبيع، كخبر ابن حمزة عن مولانا الصادق عليه السلام:

«أيّما عبدٍ أقالَ مسلماً في بيع أقاله اللّه عثرته يوم القيامة»(1).

ومرسل الصدوق، عنه عليه السلام: «أيّما مسلمٍ أقال مسلماً ندامةً في البيع(2).. الخ»، ونحوهما غيرهما(3).

وبين ما هو ضعيفُ السند، كمرسل الجعفري: «إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يأذن لحكيم بن حزام في التجارة حتّى ضمن له إقالة النّادم»(4).

فإنّه وإنْ كان شاملاً للإجارة أيضاً فإنّها تجارة، لكنّه ضعيف السند للإرسال.

وبين ما لا يكون له إطلاقٌ من هذه الجهة، كخبر سماعة بن مهران، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «أربعة ينظر اللّه إليهم يوم القيامة: مَن أقال نادماً.. الخ»(5)، فإنّه يدلّ على ترتّب ما تضمّنه من الأثر على الإقالة المشروعة، وليس في مقام بيان المشروعيّة كي يتمسّك بإطلاقه.

أقول: ولكن الإنصاف أنّه لا وجه لمنع إطلاقه، فإنّ ظاهره وروده في مقام بيان المشروعيّة بلسان ترتّب الثواب، كغيره من النصوص المتضمّنة للثواب على فعل.

ومنها: الإجماع.9.

ص: 79


1- الكافي: ج 5/153 ح 16، وسائل الشيعة: ج 17/386 ح 22806.
2- الفقيه: ج 3/196 ح 3738، وسائل الشيعة: ج 17/387 ح 22808.
3- وسائل الشيعة: ج 17/385 باب (إستحباب إقالة النادم وعدم وجوبها).
4- الخصال: ج 1/224 ح 55.
5- وسائل الشيعة: ج 17/387 ح 22809.

وفيه: أنّه لم يثبت كونه إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام.

فتحصّل: أنّ مقتضى العمومات، وخبر سماعة، مشروعيّة الإقالة في الإجارة.

وأمّا المورد الثاني: فالمشهور بين الأصحاب - بل لا يظهر فيه مخالفٌ - صحّة شرط الخيار لهما أو لأحدهما أو لأجنبي، وأنّه تنفسخ الإجارة إذا اختار الفسخ مَنْ جُعل له الخيار، وقد نفى الخلاف والإشكال عن ذلك الشيخ الأعظم رحمه الله.

أقول: الأصل في ذلك النصوص العامّة المسوّغة لاشتراط كلّ شرط إلّاما استثنى(1)، وليس هذا منه، هذا فضلاً عن أنّهم اتّفقوا على أنّه لا يدخلها خيار المجلس، لاختصاصه بالبيع، فلا يثبت فيه مع الإطلاق.

أمّا لو شرط، فالمشهور(2) عدم صحّته، وعن الشيخ رحمه الله في «المبسوط»(3)صحّة الشرط المذكور، لعموم دليل صحّة الشرط.

ولكن يرد عليه: أنّ المجلس حيث يختلف زيادةً ونقصاناً، فلا محالة يلزم كونه شرطاً مجهولاً، فيفسد لذلك.

***1.

ص: 80


1- المبسوط: ج 18/16 باب (ثبوت خيار الشرط بحسب ما يشترطانه).
2- الحدائق الناضرة: ج 21/546.
3- المبسوط: ج 2/81.

لا بالبيع

لا تنفسخ الإجارة ببيع العين المستأجرة

المسألة الثانية: (لا) تنفسخ الإجارة (بالبيع)، أي بيع العين المستأجرة قبل تمام مدّة الإجارة، بلا خلافٍ فيه.

أقول: وتنقيح القول في المقام يتحقّق بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: ما إذا باع العين المستأجرة من غير المستأجر، فإنّه لا خلاف في صحّة البيع، ولا في بقاء الإجارة الصحيحة اللّازمة عليحالها، ويشهد لهما العمومات، فإنّه لا منافاة بينهما، فإنّ الإجارة إنّما تتعلّق بالمنافع، والبيع يتعلّق بالأعيان.

وغاية ما قيل في المقام - في وجه انفساخ الإجارة -: إنّ مالك العين له تمليك منافعها ما دامت هي مملوكة له، ولذا لو تلفت العين بعد الإجارة تنفسخ الإجارة من حين التلف، وعليه فحيث أنّه إذا باع العين، وخرجت عن ملكه لما كانتِ المنافع باقية في ملكه، إذ بانتقالها تنتقل المنافع للتبعيّة، فتنفسخ الإجارة.

ولكن يرد عليه: أنّ مالك العين كما يكون مالكاً لها بالملكيّة المرسلة، كذلك يكون مالكاً لمنافعها مادام بقاء العين، فإذا ملكها إلى مدّة خرجت في تلك المدّة عن ملكه، وفي أثناء تلك المدّة إذا باع العين تنتقل هي مسلوبة المنفعة في تلك المدّة إلى المشتري، فإنّ تملّك المشتري المنافع إنّما يكون مع بقائها في ملك البائع وانتقالها إليه بالتبع، وهذا إنّما يكون مع عدم انتقالها قبل ذلك إلى الغير.

ص: 81

وقد يقال: - كما عن المحقّق الأردبيلي رحمه الله -(1) أنّه إنْ كانت المنافاة ثابتة، لبطل البيع العارض عليها دون الإجارة.

وفيه: أنّه إنْ كان المُدّعى تبعيّة ملك العين لملك المنافع، صَحّ ذلك، ولكن حيث يكون تبعيّة ملك المنافع لملك العين، فلا مانع من صحّة البيع، فتدبّر حتّى لا تبادر بالإشكال.

أقول: والمشهور بين الأصحاب(2) أنّ للمشتري الخيار مع جهله بالإجارة، واستدلّوا لذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «العروة»(3) - تبعاً للمشهور - من أنّ نقص المنفعة عيب.

وفيه: أنّه لو صَحّ ذلك، لزم البناء على التخيير بين الإمضاء بدون أخذ الأرش أو معه، وبين الفسخ كما هو الشأن في موارد خيار العيب، ولا يقولون بأنّ له أن يطالب الأرش.

وتأويل ذلك تارةً بأنّه عيبٌ لا كسائر العيوب، واُخرى بأنّه عيبٌ حُكمي، لا يفيد في رفع المحذور، لأنّه:

إنْ اُريد بذلك عدم كونه عيباً حقيقةً ، وإنّما هو بحكم العيب، فهو يحتاج إلى دليلٍ مفقود.

وإنْ كان المراد غير ذلك، فلابدَّ من البيان.

الوجه الثاني: ما عن المحقّق الثاني(4)، من أنّ ذلك ضررٌ، وهو يوجب الخيار.9.

ص: 82


1- مجمع الفائدة: ج 10/63.
2- العروة الوثقى: ج 5/26.
3- العروة الوثقى: ج 5/26.
4- جامع المقاصد: ج 7/89.

وفيه: أنّه إنْ كان المفروض بيعها على ما هي عليه من نقص المنفعة بأزيد من قيمتها السوقيّة، ثبت خيار الغبن، وإلّا فلا ضرر حتّى يثبت به الخيار، مع أنّ في ثبوت الخيار بحديث لا ضرر كلاماً تقدّم في كتاب البيع(1).

الوجه الثالث: ما ذكره جماعة(2)، من أنّه من قبيل خيار تخلّف الوصف، إذ المشتري إنّما اشتراها بعنوان أنّها ذات منفعة، فإذا انكشف كونها عيناً لا منفعة لها، ثبت هذا الخيار.

وفيه: أنّ تخلّف الوصف الذي لم يقع عليه العقد، لا يوجبُ الخيار.

الوجه الرابع: مافي «الجواهر»(3)، من اقتضاءإطلاق العقدتعجيل التسليم للانتفاع.

وفيه: إنّ تعجيل التسليم إنّما هو في صورة وجوبه، وفي الفرض لا وجوب للتسليم إلّابعد انقضاء مدّة الإجارة.

والحقّ في وجهه أنْ يقال: إنّ ثبوت الخيار إنّما يكون من جهة تخلّف الشرط الضمني، وذلك لأنّ بناء المتعاملين على كون العوضين على ما هما عليه من المنافع، فإنّ التبديل إنّما هو للانتفاع، فيكون التبديل منوطاً بوجود المنفعة، وحيث أنّ هذا البناء نوعي بحسب العرف والعادة، فيجري نفس اجراء العقد بين العوضين مجرى اشتراط وجود المنفعة، فمدرك هذا الخيار تباني المتعاقدين نوعاً على ذلك، ويكون ذلك بمنزلة التصريح به في ضمن العقد، وإنّما لم يصرّح به لمعلوميّته، فعند التخلّف يثبت خيار تخلّف الشرط، وقد مرّ في كتاب البيع في مبحث الخيارات(4) تمام الكلام في ذلك.ق.

ص: 83


1- فقه الصادق: ج 27/329.
2- كتاب الإجارة: ص 116.
3- جواهر الكلام: ج 27/206.
4- راجع المجلّد 27 من فقه الصادق.

فرع: ثمّ إنّه مع علم المشتري أو جهله وإمضاء العقد، لو فسخ المستأجر الإجارة، أو فسخها المؤجّر:

هل ترجع المنفعة في بقيّة المدّة إلى البائع كما لعلّه المشهور بين الأصحاب(1)؟

أم ترجع إلى المشتري كما عن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(2) احتماله ؟ وجهان:

وقد استدلّ للثاني: بأنّ ملك العين مقتضٍ لملك المنفعة، والإجارة الصحيحة من الموانع، وبعد فسخها وزوال المانع يؤثّر المقتضي أثره.

وقد استدلّ للأوّل: - المستدلّ هو المحقّق الاصفهاني رحمه الله(3) - بأنّ حقيقة الفسخ رَدّ المعاملة، وعود العوضين إلى ما كانا عليه، فيستحيل عود المنفعة إلى غير البائع المؤجّر.

ولكن يرد على الثاني: بأنّ الفسخ ليس حقيقته عود العوضين إلى ما كانا عليه، بل هو يوجبُ حَلّ العقد، ولازم ذلك عود العوضين إلى ما كانا عليه، وإنّما يكون ذلك مع عدم المقتضي لدخولهما أو أحدهما في مِلْك غير المالك الأوّل، فإذا فرضنا وجود المقتضي لذلك لما كان ذلك منافياً للفسخ.

ويرد على الأوّل: أنّ انتقال المنفعة كانتقال العين يحتاج إلى السبب، والبيع إنّما يكون سبباً لولا المانع، وحيث أنّه في الفرض لوجود المانع لم يصبح البيع سبباً لانتقال المنفعة، وبعد انفساخ الإجارة لا سببَ آخر، فلا محالة تعود إلى المالك البائع، ولا وجه لرجوعها إلى المشتري.7.

ص: 84


1- مسالك الأفهام: ج 5/174، الحدائق الناضرة: ج 21/538.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/328.
3- كتاب الإجارة: ص 16-17.

وأيضاً: لو اعتقد البائع والمشتري بقاء مدّة الإجارة، وأنّ العين مسلوبة المنفعة إلى زمان كذا، وتبيّن أنّ الإجارة منقضية، فهل منفعة تلك المدّة للبائع أو المشتري ؟ وجهان:

قد استدلّ للثاني في «العروة»(1): بأنّ المنفعة تابعة للعين، ما لم تفرز بالنقل إلى الغير أو بالاستثناء، والمفروض عدمهما.

وفيه: أنّ انتقال المنفعة بتبع انتقال العين، وإنْ لم يكن محتاجاً إلى قصد تفصيلي، إلّا أنّه مع قصد عدم الانتقال وإنشاء المعاملة كذلك لا دليل على انتقالها، ودليل التبعيّة قاصرٌ عن الشمول لهذا المورد.

وعليه، فالأظهر أنّها للبائع، وأولى وأوضح من ذلك ما لو شرط كونها مسلوبة المنفعة.

ثمّ إنّه على القول بأنّها للمشتري، الظاهر ثبوت الخيار للبائع:

أمّا إذا أوجب ذلك ثبوت الغبن فواضح.

وأمّا إنْلم يوجب ذلك، فلأنّه من قبيل خيارالرؤية المشترك بين البائع والمشتري.

بيع العين المستأجرة من المستأجر

المورد الثاني: ما إذا بيعت العين المستأجرة من المستأجر:

فالمعروف صحّة البيع والإجارة، فعلى المستأجر الاُجرة والثمن، ولم ينقل الخلاف إلّاعن المصنّف في «الإرشاد»(2)، ونَسب فخر المحقّقين ذلك إلى الشيخ

ص: 85


1- العروة الوثقى: ج 5/27.
2- إرشاد الأذهان: ج 1/426.

أيضاً(1)، إلّاأنّ بعض الأساطين(2) صرّح بأنّه غير موجودٍ في كتبه، وكيف كان، فحجّة المشهور العمومات.

أقول: استدلّ لما اختاره المصنّف رحمه الله بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن «مجمع الفائدة»(1)، من أنّ البيع كما يكون علّةً لنقل العين، كذلك يكون علّة لنقل المنفعة.

وبعبارة اُخرى : أنّه علّة لنقل العين، وهو علّة لنقل المنفعة، والإجارة أيضاً علّة لنقل المنفعة، فيلزم من صحّتهما معاً اجتماع علّتين على معلولٍ واحد.

وفيه أوّلاً: إنّ البيع وتمليك العين علّة لنقل المنفعة، إذا لم تكن المنفعة منتقلة عن البائع، وإلّا فليس علّة له.

وثانياً: إنّ لازم ذلك لو تمّ بطلان البيع لا الإجارة، فإنّه بعد وجود السبب الأوّل يستحيل وجود الثاني.

الوجه الثاني: ما عن «جامع المقاصد»(4)، من أنّ المنفعة نماء العين وتابعة لها، فإذا كانت الاُجرة في قبال المنفعة، لزم كون الاُجرة بإزاء نماء ملك المشتري، فتكون المعاوضة واردة على مال المالك بماله.

وفيه: أنّه يتمّ إذا كان ملك المنفعة لازماً لا ينفكّ لملك العين، ولكن ليس كذلك، إذ المفروض صحّة الإجارة وسلب المنفعة عن العين.

الوجه الثالث: ما عن «جامع المقاصد»(5) أيضاً، من أنّ ملكيّة المنفعة ليست4.

ص: 86


1- مجمع الفائدة: ج 10/91. (4و5) جامع المقاصد: ج 7/103 و 124.

ملكيّةً مغايرةً لملكيّة العين، وإلّا لزم أنْ يكون لمالك العين مالان وهو باطلٌ بالضرورة والإجماع، بل تختلف ملكيّة العين في الكمال والنقص باختلاف المنافع قلّةً وكثرة، فالعين المستأجرة ملكيّتها ناقصة باعتبار إفراز بعض منافعهابالإجارة، فإذا دخلت في ملك المستأجر، صارت ملكيّتها تامّة، فلا معنى لبقاء النقص على حاله.

ثمّ إنّه رحمه الله قارن المقام بما لو نكح الأمَة ثمّ اشتراها، فإنّه ينفسخ النكاح، من جهة أنّ النكاح يقتضي ملك البُضع خاصّة، فإذا ملك الرقبة لا يبقى ملكُ البضع، لعدم بقاء الناقص بعد الاستكمال.

وفيه: إنّ العين والمنفعة شيئان، والملكيّة تَعرض على كلّ منهما، فهما ملكان ومالان لا من باب النقص والكمال.

نعم، هذا الوجه يتمّ على مسلك من يرى أنّ الإجارة حقيقتها هي تمليك العين في جهة خاصّة، أو التسليط على العين للانتفاع بها بعوض، ولكن عرفت أنّ حقيقة الإجارة هي تمليك منفعة أو عملٍ بعوض.

وأمّا تنظيره رحمه الله المقام باشتراء الأمَة، ففي غير محلّه، لأنّ الزوجيّة والملكيّة متقابلتان، لا يمكن اجتماعهما في محلّ واحد بمقتضى الآية الكريمة(1).

الوجه الرابع: أنّ أثر الإجارة الانتفاع بمال الغير، وهذا لا يبقي بعد الشراء.

وفيه: إنّ هذا أوّل الدّعوى.

وبالجملة: فالأظهر عدم انفساخ الإجارة وصحّة البيع.6.

ص: 87


1- سورة المؤمنون: الآية 6.

حكم تقارن البيع والإجارة

المورد الثالث: ما إذا تقارن البيع والإجارة، كما لو باع العين مالكها من شخصٍ ، وآجرها وكيله من شخصٍ آخر، واتّفق وقوعهما في زمان واحد.

أقول: في هذه المسألة وجوهٌ وأقوال:

1 - بطلانهما معاً.

2 - صحّة البيع وبطلان الإجارة.

3 - بطلانهما معاً بالنسبة إلى تمليك المنفعة، وصحّة البيع بالنسبة إلى تمليك العين، فتنتقل العين مسلوبة المنفعة في تلك المدّة إلى المشتري، وتبقى المنفعة على ملك المالك.

4 - صحّتهما معاً، وانتقال العين مسلوبة المنفعة إلى المشتري، والمنفعة إلى المستأجر.

واستدلّ للقول الأوّل: بأنّه يقع التزاحم بين البيع والإجارة، من حيث أنّ كلّاً منهما تمليك للمنفعة من شخصٍ غير من يوجب الآخر ملكيّتها له، وحيث لا مرجّح لأحدهما على الآخر، فلا محالة يبطلان معاً.

وفيه: إنّ التزاحم بينهما لو كان، فإنّما هو بالإضافة إلى تمليك المنفعة، فإنْ كانت ملكيّة المنفعة من اللّوازم التي لا تنفك لملكيّة العين، كان ما ذُكر تامّاً، وحيث أنّه ليس كذلك، فلا مانع من البناء على بطلانهما معاً بالنسبة إلى تمليك المنفعة خاصّة، لولا ما سنذكره.

ص: 88

وبذلك يظهر مدرك القول الثالث.

وأمّا القول الثاني: فإنْ اُريد به صحّة البيع بالإضافة إلى تمليك العين خاصّة، رجع إلى الثالث، وإلّا فيرد عليه: أنّه ما المرجّح للبيع بالنسبة إلى تمليك المنفعة ؟!

وعليه، فالأولان ساقطان، ويدور الأمر بين الوجهين الأخيرين، وقد مرّ مدرك الأوّل منهما.

أقول: واستدلّ للثاني:

تارةً : بأنّ متعلّق كلّ منهما غير متعلّق الآخر، لأنّ متعلّق البيع العين، ومتعلّق الإجارة المنفعة، فلا تزاحم بينهما.

واُخرى : بما في «العروة»(1)، من أنّ البائع لا يملك المنفعة، وإنّما يملك العين، وملكيّة العين توجبُ ملكيّة المنفعة للتبعيّة، وهي متأخّرة عن الإجارة، فلا تزاحم بينهما.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ البيع كما يكون تمليكاً للعين، يكون كذلك تمليكاً للمنفعة، فبالنسبة إلى المنفعة يتزاحمان.

وعلى الثاني: أنّ مِلك المنفعة متأخّرٌ عن ملك العين بالبيع لا عن الإجارة، ومجرّد كون الإجارة في عرض البيع لا يقتضي ذلك، فإنّ ما في عرض المتقدّم على شيءٍ رتبةً لا يكون متقدّماً عليه، ما لم يكن فيه ملاك التقدّم الرّتبي، مع أنّ هذه الأحكام أحكامٌ للزمان لا للرّتبة، ومن المعلوم أنّ ملكيّة المنفعة بالبيع إنّما تكون في زمان ملكيّة العين بلا تقدّم ولا تأخّر بينهما.

وبالجملة: فالحقّ أن يستدلّ له بأنّ تبعية ملك المنفعة لملك العين إنّما تكون مع0.

ص: 89


1- العروة الوثقى: ج 5/30.

عدم المقتضى، لعدم التبعيّة مستقلّاً، إمّا بالاستثناء أو بتمليكها من شخص آخر، وإلّا فلاتكون هي متحقّقة، والإجارة المقارنة مقتضية لعدم التبعيّة، فلا تزاحم بينهما.

وعليه، فالأظهر صحّتهما معاً، وانتقال العين مسلوبة المنفعة في مدّة الإجارة إلى المشتري، وانتقال المنفعة في المدّة الخاصّة إلى المستأجر، والظاهر - كما مرّ - ثبوت الخيار للمشتري، فله أن يفسخ البيع وله إبقائه.

***

ص: 90

ولا بالموت

عدم بطلان الإجارة بالموت

المسألة الثالثة: (و) في بطلان الإجارة بموت المؤجّر أو المستأجر أقوال:

1 - أنّها (لا) تبطل (بالموت) مطلقاً، اختاره المصنّف(1)، وفي «المسالك»(2):

(وعليه المتأخّرون أجمع)، ونُسب إليجملةٍمن القدماء كالسيّد المرتضى(3) والقديمين(4).

2 - بطلانها بالموت مطلقاً، وهو المحكيّ عن الشيخين في «المقنعة»(5)، و «النهاية»(6)، و «الخلاف»(7)، والديلمي(8) وبني حمزة(9) وزهرة(10)، والبرّاج(11)، وفي «الشرائع»(12) نسبه إلى المشهور.

وعن «الغنية»(13) و «الخلاف»(14): الإجماع عليه.

ص: 91


1- إرشاد الأذهان: ج 1/425.
2- مسالك الأفهام: ج 5/175.
3- نسبه إليه في السرائر: ج 2/460.
4- راجع فتاوى ابن جنيد: ص 216.
5- المقنعة: ص 640.
6- النهاية: ص 444.
7- الخلاف: ج 3/491.
8- المراسم العلويّة: ص 199.
9- الوسيلة: ص 267.
10- غنية النزوع: ص 287.
11- المهذّب: ج 2/14.
12- شرائع الإسلام: ج 2/413.
13- غنية النزوع: ص 287.
14- الخلاف: ج 3/491.

3 - أنّها تبطل بموت المستأجر، ولا تبطل بموت المؤجّر، اختاره الشيخ الطوسي رحمه الله في بعض كتبه، وابن طاووس(1)، وفي محكي «المختلف»(2)، عن ابن البرّاج نسبته إلى أكثر أصحابنا.

4 - عكس القول الثالث، نسبه المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»(3) إلى بعض علمائنا.

والظاهر أنّ منشأ ذلك نصّ المرتضى(2) وابن الجنيد(3) على عدم البطلان بموت المستأجر، وحيث أنّه لا يدلّ على قولهما بالبطلان بموت المؤجّر، فما أفاده الشهيد من أنّ هذا القول غير موجود بين أصحابنا متينٌ .

أقول: وتنقيح القول في المقام يتحقّق بالبحث في موردين:

الأوّل: فيما تقتضيه القواعد.

الثاني: فيما يقتضيه النّص الخاص.

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ لبطلانها بموت المؤجّر بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ مالك العين له تمليك منافعها ما دامت هي مملوكة له، ولذا لو تلفت العين بعد الإجارة، تنفسخ الإجارة من حين تلف العين، فإذا خرجت العين من ملكه بالموت، وانتقلت إلى الورثة، لما كانت المنافع باقية على مِلْكه، إذ بانتقال العين تنتقل المنافع، وعليه فتنفسخ الإجارة.3.

ص: 92


1- ذكر في جواهر الكلام: ج 27/207 أنّ كاشف الرموز نسبه إليه. (2و3) مختلف الشيعة: ج 6/143.
2- نسبه إليه في السرائر: ج 2/460.
3- نسبه إليه في مختلف الشيعة: ج 6/143.

وفيه: ما مرّ من أنّ ذلك يتمّ مع عدم كون المالك مالكاً للمنافع مادام بقاء العين، وقد عرفت فساده، وأنّه مالكٌ لمنافعها المرسلة غير المحدودة بزمان، وحينئذٍ فحيث أنّه بنفسه ملّك المنافع، فينتقل العين مسلوبة المنفعة في تلك المدّة إلى الورثة، نظير ما لوباع المالك العين المستأجرة.

الوجه الثاني: إنّ مضيّ زمان الإجارة جزءٌ من المقتضى، أو شرطٌ لتأثير العقد، ولذا تبطل بتلف العين ولو بعد القبض، فإذا مات المؤجّر بطلت الإجارة، إذ مع مصادفة متمّم السبب للموت، لا معنى للتأثير، كالموت قبل القبض في الصرف.

وفيه: أنّه لا دليل على كون ذلك جزءً من المقتضى أو شرطاً لتأثيره، وبطلان الإجارة بالتلف إنّما هو لعدم المنفعة لا لنقصِ السبب، والعمومات والأصل يقتضيان عدم اعتبار ذلك.

الوجه الثالث: ما عن «الغنية»(1) و «الخلاف»(2)، من أنّ المتسأجر رضي على أن يستوفي المنفعة من ملك المؤجّر.

وفيه: أنّه إنْ اُريد به إيقاع الإجارة على ما هو مملوكٌ للمؤجّر، فهو مسلّم إلّا أنّ المؤجّر حين الإجارة مالك للمنفعة المرسلة.

وإنْ اُريد به إيقاعها على الانتفاع بالعين الّتي هي مملوكة للمؤجّر حين الاستيفاء، فهو غير تامّ ، إذ لا تعتبر ملكيّة المؤجّر للعين حين حدوثها، فضلاً عن ملكيّته إيّاها بقاءً ، ألا ترى أنّه تصحّ إجارة المستأجر من شخصٍ ثالث بلا شبهة ولا خلاف فيه في الجملة.2.

ص: 93


1- غنية النزوع: ص 287.
2- الخلاف: ج 3/492.

أقول: قد استدلّ للبطلان بموت المستأجر بوجهين:

أحدهما: الوجه الثاني من الوجوه التي استدلّ بها على البطلان بموت المؤجّر، وقد عرفت ما فيه.

ثانيهما: أنّ الاُجرة تتعذّر بموت المستأجر، لكونه المطالب بها.

وفيه: أنّها تثبت في ذمّته، فتخرج من تركته بعد موته كسائر ديونه.

وعليه، فالأظهر بحسب القواعد هي الصحّة في الصورتين.

المورد الثاني: وهو ملاحظة الحكم من حيث النّص الخاص، ففي المقام خبرٌ واحدٌ استدلّ به كلّ من القائلين بالصحّة والبطلان على ما ذهب إليه، وهو موثّق إبراهيم بن محمّد الهمداني قال:

«كتبتُ إلى أبي الحسن عليه السلام وسألته عن امرأةٍ آجرت ضيعتها عشر سنين، على أن تعطي الإجارة في كلّ سنةٍ عند انقضائها، لا يقدّم لها شيء من الإجارة ما لم يمض الوقت، فماتت قبل ثلاث سنين أو بعدها، هل يجب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت، أم تكون الإجارة منقضية بموت المرأة ؟

فكتب عليه السلام: إنْ كان لها وقتٌ مسمّى لم يبلغ فماتت، فلورثتها تلك الإجارة، فإنْ لم تبلغ ذلك الوقت، وبلغت ثلثه أو نصفه أو شيئاً منه، فتعطى ورثتها بقدر ما بلغت من ذلك الوقت إنْ شاء اللّه تعالى»(1).

فعن جماعةٍ منهم المجلسي رحمه الله، و سيّد «الرياض»(2)، و صاحب «مفتاح6.

ص: 94


1- الكافي: ج 5/270 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/136 ح 24311.
2- رياض المسائل: ج 9/196.

الكرامة»(1)، والشيخ الأعظم: أنّ الظاهر من الخبر بطلان الإجارة بموت المؤجّر.

وعن المحقّق الأردبيلي(2)، والعلّامة الطباطبائي(3): ظهوره في الصحّة، بل ادّعى الأوّل صراحته فيها.

أمّا الأولون: فقد ذكروا في تقريب دلالته على البطلان وجهين:

أحدهما: أنّ المراد ب (الوقت) في السؤال والجواب هو الأنجم المضروبة للإجارة.

وأنّ المراد ب: (لم تبلغ)، لم تبلغ الإجارة للمرأة، فالمعنى: أنّ المرأة إنْ ماتت بعد إدراك الأنجم المضروبة قبل أخذ الإجارة فلورثتها تلك الإجارة.

والمراد بالشرطيّة الثانية: (فإنْ لم تبلغ ذلك الوقت وبلغت.. إلخ)، أنّها ماتت في أثناء الأجل المضروب قبل أخذ الإجارة.

والمراد بقوله: (فتعطى ورثتها إلخ)، استحقاق الورثة بالماضي دون المستقبل، ولازم ذلك هو الفساد.

ثانيهما: أنّ المراد ب (الوقت) مدّة أصل الإجارة، بقرينة الإنفاذ والانقضاء، اوالانتقاض على اختلاف النسخ. والمراد بالشرطيّة الأُولى عدم بلوغ شيء من مدّة الإجارة، بأنْ يكون زمان العقد منفصلاً عن زمان المنفعة المملوكة بالعقد.

وبقوله: (فلورثتها تلك الإجارة)، أنّ أمرها بيد الورثة ردّاً وإمضاءً .

وبقوله في الثانية: (فتعطي ورثتها) أنّ الورثة يستحقّون من المرأة ما بلغت المرأة من النصف أو الثُّلث دون باقي مدّة الإجارة.6.

ص: 95


1- مفتاح الكرامة: ج 7/77.
2- مجمع الفائدة: ج 10/65.
3- حكاه عنه في جامع المدارك: ج 3/456.

أقول: وأمّا القائلون بدلالته على الصحّة، فلهم أيضاً تقريبان:

التقريب الأوّل: أنّ المراد ب (الوقت) مدّة الإجارة، وبالشرطيّتين عدم البلوغ رأساً، وعدم البلوغ بتمامه.

وبقوله: (فلورثتها تلك الإجارة) قيام الورثة مقام مورّثهم، بأنْ تكون اللّام للاختصاص.

وبقوله: (فتعطي ورثتها) هو دفع الإجارة بالنسبة إلى المنفعة الماضية، لا استحقاق هذا المقدار من الإجارة، بل استحقاق فعليّة الدفع بالمقدار المزبور.

وعليه، فالشرطيّة الأولى ظاهرة في الصحّة، والثانية غير منافية لها.

التقريب الثاني: حمل الشرطيّتين على الإجمال والتفصيل، لا عدم البلوغ تماماً أو رأساً.

والحقّ أنْ يقال: إنّه لا إشكال في أنّ المراد ب (الوقت) المدّة المضروبة لدفع الإجارة، فإنّ قوله عليه السلام في آخر السؤال: (هل يجب على ورثتها إنفاذ الإجارة إلى الوقت)، وإنْ كان قابلاً للحمل على ذلك، وللحمل على إرادة مدّة الإجارة، إلّاأنّ قوله عليه السلام في صدر الخبر: (ما لم يمض الوقت)، صريحٌ فيما ذكرناه، وهو قرينة عليه.

وحاصل السؤال حينئذٍ: أنّه إذا كانت مدّة الإجارة باقية، هل يجب على الورثه إنفاذ الإجارة بما لها من الخصوصيّة، وهي دفع الإجارة في الوقت المضروب، أو أنّها لا تكون لازمة مع هذه الخصوصيّة، ويسقط الوقت عن الوقتيّة، فكأنّه لا إجارة بهذه الخصوصيّة، بتوهّم حلول الدَّين بموت الدائن، كحلوله بموت المديون، فالمراد ب (الوقت) في الجواب أيضاً ذلك ليتطابق السؤال والجواب.

ص: 96

فيكون حاصل الشرطيّة الأُولى: أنّه إنْ لم تبلغ المرأة من الوقت، بأن ماتت في أوّل السنة، فلورثتها ذلك، أي تكون الورثة قائمة مقام المورث.

وحاصل الشرطيّة الثانية: أنّه إن بلغت المرأة ثلث الوقت أو نصفه أو شيئاً منه، يستحقّ الورثة الدفع بذلك المقدار، ولا ينافي ذلك بقاء الإجارة.

وبالتالي، فالخبر يدلّ على الصحّة، وإنْ أبيت عن ذلك، فلا أقلّ من الإجمال، وعلى التقديرين لا يكون منافياً ومخصّصاً للعمومات والقواعد.

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه: هو أنّ الأظهر أنّ الإجارة لا تبطل بموت المؤجّر، ولا بموت المستأجر.

أقول: ثمّ إنّ الشهيد الثاني رحمه الله(1) بعد اختياره عدم البطلان بالموت مطلقاً، قال في «المسالك»: (نعم، يستثنى منه مواضع تبطل فيها الإجارة بالموت:

أحدها: ما لو شرط على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه، فإنّها تبطل بموته.

وثانيها: أنْ يكون المؤجّر موقوفاً عليه، فيؤجّر ثمّ يموت قبل انتهاء المدّة، فإنّها تبطل بموته أيضاً، إلّاأنْ يكون ناظراً إلى الوقف فآجره لمصلحة العين بالنسبة إلى البطون، أو إلى الجميع، فلا تبطل بموته، لكن الصحّة حينئذٍ ليست من حيث أنّه موقوفٌ عليه، بل من حيث أنّه ناظر.

وثالثها: الموصي له بالمنفعة مدّة حياته، لو آجرها مدّة وماتَ في أثنائها، فإنّها تبطل أيضاً، لانتهاء استحقاقه)، انتهى .

وقد سبقه إلى ذلك غيره ولحقه جماعة.5.

ص: 97


1- مسالك الأفهام: ج 5/175.

أقول: ولكن الحقّ أنْ يقال في الموضع الأوّل، إنّه:

تارةً : تقع الإجارة على عمله المخصوص.

واُخرى : على العمل الكلّي في ذمّته، ويَشترط عليه أدائه بنفسه.

وما ذكروه يتمّ في الأوّل، ولا يتمّ في الثاني، لأنّ غايته تعذّر الشرط، وهو يوجب الخيار لا الانفساخ.

هذا في استئجار الشخص على عمل.

وكذا لو آجره داراً، وشرط استيفائه المنفعة بنفسه:

فإنْ كان متعلّق الإجارة المنفعة التي يستوفيها المستأجر انفسخت.

وإنْ كان متعلّق الإجارة مطلق المنفعة، غاية الأمر اشتراط عليه أن يستوفاها بنفسه، ثبت الخيار.

أقول: ثمّ إنّ الوجهين في الفرضين إنّما هما في موت أحدهما، وهو المؤجّر في الأوّل والمستأجر في الثاني.

وأمّا الطرف الآخر، ففي الفرض الثاني لا يثبتُ الخيار بموته، ولاتنفسخ الإجارة، وفي الأوّل الظاهر جريان الوجهين فيه أيضاً، لأنّه:

إنْ كانت الإجارة على العمل له انفسخت بموته.

وإنْ كانت على العمل نفسه، واشترط كونه له ثبت الخيار، فتدبّر حتّى لاتبادر بالإشكال.

نعم، ما ذكروه في الموضعين الآخرين تامّ .

أقول: وفي جريان الخيارات في الإجارة كلامٌذكرناه في مبحث الخيارات، وإجماله:

ص: 98

إنّ ما كان من الخيارات ثابتاً بدليلٍ خاص مختصّ بالبيع - كخيار المجلس - لايجري فيها.

وما كان ثابتاً فيه بمقتضى الشرط الضمني - كخيار الغبن والعيب وما شاكل - يثبت فيها أيضاً.

وفي تلك الخيارات الأحكام الخاصّة الثابتة في البيع للنصوص كجواز أخذ الأرض في خيار العيب أيضاً لا تثبت فيها كما لا يخفى .

***

ص: 99

والمستأجر أمينٌ يَضمنُ مع التعدّي

المستأجر أمين لا يضمن إلّامع التعدّي

المسألة الرابعة: (والمستأجرُ أمينٌ )، والعين المستأجرة أمانة في يده، لا (يضمنُ ) تلفها أو تعيّبها إلّا (مع التعدّي) أو التفريط، بلا خلافٍ أجده، بل عليه الإجماع في «الغنية»، كما في «الرياض»(1)، لأنّ :

1 - العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، والأصل في الأمين عدم الضمان إلّا مع التعدّي والتفريط، لانصراف دليل الضمان - وهو قاعدة على اليد(2) - عن مورد الأمانة.

2 - وللأصل المستفاد من السّنة في عدّة مقامات.

3 - والإجماع.

4 - أضف إلى تلكم النصوص المستفيضة، فإنّها دالّة على الضمان مع التفريط أو التعدّي، وعدم الضمان بدونهما:

منها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره فنفقت، ما عليه ؟

قال عليه السلام: إن شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامنٌ لها، وإنْ لم يُسمّ فليس

ص: 100


1- رياض المسائل: ج 9/199.
2- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.

عليه شيء»(1).

ومنها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ تكارى دابّته إلى مكان معلوم، فنفقت الدابّة ؟

قال عليه السلام: إنْ كان جاز الشرط فهو ضامنٌ ، وإن دخل وادياً لم يوثقها فهو ضامن، وإنْ سقطت في بئرٍ فهو ضامن، لأنّه لم يستوثق منها»(2).

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على الحكمين.

وصحيح الحلبي وإنْ لم يكن كصحيح عليّ بن جعفر عليه السلام دالّاً على الحكمين بالمنطوق، إلّاأنّه بالمفهوم المستفاد من الشرط، والتعليل يدلّ على عدم الضمان بدون التعدّي أو التفريط، وبالمنطوق يدلّ على الضمان مع أحدهما.

وأيضاً: يدلّ على الضمان مع التعدّي أو التفريط صحيح أبي ولّاد، عن أبي عبداللّه عليه السلام في المتعدّي في البغل الذي اكتراه، وفيه:

فقلت: أرأيتَ لو عَطَب البغل ونفق أليس كان يلزمني ؟

قال عليه السلام: نعم، قيمة بغلٍ يوم خالفته.

قلت: فإنْ أصاب البغل كسرٌ أو دَبرٌ أو عَقْر؟

فقال عليه السلام: عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه(3)، الحديث».

أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالبحث في جهات:

الجهة الأُولى: إذا كانت الإجارة فاسدة، فهل يضمن المتسأجر العين المستأجرة أم لا؟9.

ص: 101


1- الكافي: ج 5/291 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/118 ح 24271.
2- الكافي: ج 5/289 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/121 ح 24274.
3- التهذيب: ج 7/216 ح 215، وسائل الشيعة: ج 25 ص 390 ح 32199.

ربما يُنسب إلى المشهور(1) الضمان، ولذلك عُدّ هذا المورد من موارد النقض على قاعدة: (ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده)، لكن الأظهر هو عدم الضمان، وذلك لأنّه في الموارد التي لا يتوقّف استيفاء المنفعة على تسليط المستأجر على العين كالدابّة، حيث أنّه لا يتوقّف استيفاء المنفعة منها - وهي الركوب - على استيلائه، لإمكان كون المالك هو السائق، لاشبهة في عدم الضمان، إذا بعد ما لا ملزم بالتسليط يكون التسليط عن الرّضا، فتكون العين أمانة مالكيّة، إذ لا حقيقة للاستيمان المالكي إلّاالتسليط عن الرّضا.

وأمّا في الموارد التي يكون استيفاء المنفعة متوقّفاً على التسليط:

فإنْ كان رضا المالك بذلك الحادث قبل العقد باقياً إلى حين التسليم كما هو الغالب، فلا إشكال أيضاً في عدم الضمان من جهة الأمانة المالكيّة.

وإنْ لم يكن باقياً، فيمكن أن يوجّه عدم الضمان بأنّ المتعاملين حين العقد متبانيان على عدم ضمان العين، لكون الإجارة مبنيّة على عدم الضمان، ومع هذا التباني وإسقاط المالك احترام ماله، لا تكون العين مشمولة لحديث اليد، لأنّه منصرف عن هذه الموارد.

وبالجملة: لا دليل على الضمان والأصل عدمه، بل يمكن الاستدلال له ببناء العقلاء على ذلك.

وقد استدلّ للضمان بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ دفع المؤجّر للعين إنّما هو للبناء على استحقاق المستأجر لها3.

ص: 102


1- رياض المسائل: ج 9/213.

لحقّ الانتفاع فيه، والمفروض عدم الاستحقاق، فيده يد عدوانٍ موجبة للضمان.

وفيه: ما عرفت من أنّه في بعض الموارد تكون يده يد أمانيّة لا عدوانيّة، وفي بعضها الآخر لا تقتضي الضمان، لانصراف حديث اليد وبناء العقلاء.

أقول: وبذلك يظهر الجواب عن الوجه الثاني، وهو معارضة القاعدة هنا بقاعدة اليد.

وعليه، فالأظهر عدم الضمان إلّامع التعدّي أو التفريط، كمافي الإجارة الصحيحة.

الجهة الثانية: لا فرق في عدم الضمان في الإجارة بين مدّة الإجارة وبعدها، ما لم يقصّر في رَدّ المال إلى صاحبه، لبقاء الأمانة المقتضية لعدم الضمان.

وبالجملة: وجه عدم الضمان في الإجارة، ليس كون الإجارة مقتضية لذلك، بل هو الاستيمان، وفي ذلك لا فرق بين مدّة الإجارة وبعدها.

شرط الضمان في العين المستأجرة

الجهة الثالثة: لو شرط الضمان في عقد الإجارة من غير التعدّي والتفريط، فالمشهور بين الأصحاب(1) بطلان الشرط.

وفي «الجواهر»(2): (بل في «جامع المقاصد»(1) باطل قطعاً، بل لم أجد فيه خلافاً إلّاما يُحكى عن الأردبيلي(2) والخراساني(3) من الميل إلى الصحّة، وتبعهما في «الرياض»(4)، انتهى.

ص: 103


1- جامع المقاصد: ج 7/258.
2- مجمع الفائدة: ج 10/69.
3- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 27/216.
4- رياض المسائل: ج 9/200.

أقول: قد استدلّ لفساد الشرط في مقابل عموم: «المسلمون عند شروطهم»(1) بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه يعارض ذلك الأخبار الدالّة بالمنطوق أو المفهوم على عدم الضمان(2)، والنسبة عموم من وجه، وتقدّم تلك الأخبار لموافقتها للشهرة التي هي أوّل المرجّحات.

وفيه: ما حُقّق في محلّه من أنّ أدلّة العناوين الثانويّة مقدّمة على أدلّة العناوين الأوّليّة، إمّا بالحكومة، أو التوفيق العرفي، أو غيرهما.

الوجه الثاني: ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(3)، من أنّ الشرط لا يكون شارعاً، بل هو نظير النذر والعهد، يوجبُ وجوب ما هو مشروع في نفسه.

وفيه: إنّ الضمان وجوداً أو عدماً ممّا يكون قابلاً للتسبّب إليه، كما يظهر من التزام الفقهاء بشرط الضمان في العارية، فهو من قبيل الغايات التي لم يُعلم إناطتها بأسباب خاصّة، نظير الخيار، وملكيّة حمل الجارية، ومال العبد، التي اتّفقت النصوص والفتاوى على جواز اشتراطها.

وعلى الجملة: إنّ مقتضى عموم دليل الشرط، صحّة اشتراط الغايات التي لم يُعلم إناطتها بأسباب خاصّة، كاشتراط الخيار وسقوطه، وحمل الجارية، ومال العبد، وما شاكل، وقد استدلّ الإمام عليه السلام بهذا العموم في موارد كلّها من هذا القبيل.

وتمام الكلام في محلّه.7.

ص: 104


1- الكافي: ج 5/169 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/16 ح 23040.
2- وسائل الشيعة: ج 19/118 باب (أنّ من استأجر دابّة فشرط أن لا يركبها غيره ثمّ خالف الشرط).
3- جواهر الكلام: ج 27/217.

الوجه الثالث: ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) أيضاً، من أنّ الشرط منافٍ لمقتضى الأمانة الآبية عن التضمين.

وفيه: إنّ التأمين في المقام لايكون عقديّاً بل هو خارجيٌّ ، من جهة تسليط المالك للغير على ماله برضاه، ومن الواضح أنّ التسليط الخارجي يوجبُ التأمين إذا تجرّد عن التضمين، وإلّا فلا يكون تأميناً.

الوجه الرابع: أنّ الشرط مخالفٌ لمقتضى العقد.

وفيه: إنّ مدلول عقد الإجارة ومقتضاه تمليك المنفعة بالاُجرة، وهذا المعنى لا اقتضاء فيه بالنسبة إلى الضمان وعدمه.

الوجه الخامس: أنّه شرطٌ مخالف للكتاب والسُنّة، لما دلّ من النصوص على أنّه: «لا ضمان على الأمين»(2).

وفيه: أنّه لا شبهة في أنّ الشرط يغيّر الحكم، ويوجبُ تحقّق شيء لم يكن، اوعدم ما كان، ولو كان المراد بالمخالفة للكتاب والسُنّة هذا المعنى العام، لزم عدم صحّة الشرط مطلقاً، وعليه فالمراد بالمخالفة هو كون الشرط مخالفاً لحكمٍ غير قابل للتغيّر وهو الأحكام اللّزوميّة، وغير اللّزومي إذا كان عن اقتضاء، وأمّا غير اللّزومي لعدم الاقتضاء فمخالفة الشرط له لا توجبُ بطلانه.

وأمّا عدم الضمان في المقام:

إمّا أنْ يكون محرزاً عدم كونه اقتضائيّاً، من جهة أنّ المرتكز عند العقلاء أنّ خروج يد الأمين عن تحت عموم قاعدة على اليد من باب التخصيص، فيكون عدم).

ص: 105


1- جواهر الكلام: ج 27/217.
2- وسائل الشيعة: ج 19/79 باب (أنّ الوديعة لا يضمنها المستودع مع عدم التفريط وإن كانت ذهباً أو فضّة).

الضمان لعدم المقتضى.

أو يكون ذلك مشكوكاً فيه، فيرجع إلى استصحاب عدم المخالفة أزلاً، بناءً على ما هو الحقّ من جريان استصحاب العدم الأزلي، ويقال إنّ قبل جعل هذا الحكم لم يكن حكمٌ ولا شرطٌ ولامخالفة، وبعد انقلاب عدم الحكم إليه، وعدم الشرط إلى نقيضه، يُشكّ في تبدّل عنوان عدم المخالفة إليها، والأصل يقتضي العدم، وبذلك يُحرز خروجه عن تحت المُخصّص، وبقائه تحت عموم: «المسلمون عندشروطهم».

فتحصّل: أنّ الأظهر صحّة الشرط وثبوت الضمان معه.

***

ص: 106

لزوم التعجيل في التسليم

المسألة الخامسة: لا خلاف ولا إشكال في أنّ الأجير يملك الاُجرة بنفس العقد، لأنّ ذلك مقتضى صحّة المعاوضة، الموجبة لانتقال كلٍّ من العوضين إلى الآخر، بعد عدم اشتراطه شرعاً بشيء، كالقبض في بيع الصَّرف والسَّلم.

وما يُنسب إلى المصنّف رحمه الله من تفريقه في كتاب «القواعد»(1) بين شرط التأجيل وعدمه، لا منشأ له إلّاتعبيره باستقرار الاُجرة، ولا شهادة له على ذلك كما لا يخفى .

أقول: والمعروف بينهم أنّه لا يجب تسليم كلّ من العوضين إلّامع تسليم الآخر، والظاهر أنّ منشأ ذلك - مع أنّ مقتضى عموم تسلّط النّاس على أموالهم(2)لزوم تسليم كلّ منهما مال الآخر، وإنْ امتنع ذلك عن التسليم، فإنّ سلطان الغير على الامتناع مع مطالبة المالك منافٍ لسلطنة مالكه، وظلم أحدٍ ومعصيته لما يجب عليه، لا يوجبُ جوازظلم الآخر ومعصيته - الالتزام الضمني بالتسليم بإزاء التسليم الذي عليه بناء المتعاقدين بما هما من العقلاء، فيكون ذلك مشمولاً لدليل الشرط على ما حُرّر في محلّه، فجواز الامتناع عن التسليم مع امتناع الآخر عنه إنّما يكون من جهة الشرط الضمني، ويترتّب على ذلك أنّه لو اشترط التأجيل في أحدهما، حيث إنّه لا التزام ضمني بما ذكر، يجبُ على الآخر تسليم ما عنده، لعموم دليل السلطنة.

ص: 107


1- كما حكاه الاصفهاني في كتاب الإجارة: ص 48.
2- البحار: ج 2/272 ح 7.

وإطلاق العقد يقتضي تعجيل الاُجرة

ثمّ إنّ الظاهر أنّ تسليم العمل إنّما هو بإيجاده، وتسليم المنفعة بتسليم العين المستأجرة، فلا يجب تسليم الاُجرة إلّامع تسليم العين المستأجرة أو العمل، إلّاأنْ يكون هناك عادة أو انصراف يقتضي التعجيل، وإلى ذلك يشير ما ورد في الخبر في الجمّال والأجير «لا يجفّ عرقه حتّى تُعطيه اُجرته»(1) وقريب منه غيره، إذ فيه نوعُ إشعارٍ بعدم لزوم دفع الاُجرة قبل العمل.

أقول: وقد ظهر ممّا ذكرناه أنّه لو لم يشترط التأجيل في دفع الاُجرة، كان مقتضى إطلاق العقد تعجيلها، بمعنى استحقاق المؤجّر للاُجرة حالّاً، وهذا هو مراد المصنّف رحمه الله حيث قال: (وإطلاق العقد يقتضي تعجيل الاُجرة)، لا أنّه يجب تسليمها وإنْ لم يُسلّم الآخر المنفعة أو العمل، ولا أنّه يجب تسليمها وإنْ لم يطالب مالكها، فإنّه لا دليل على ذلك، لأنّ دليل وجوب التسليم، إمّا قاعدة السلطنة، أو الالتزام الضمني، وشيء منهما لا يقتضي وجوب التسليم بدون المطالبة:

أمّا القاعدة: فلأنّ مقتضى سلطنة الإنسان على ماله، عدم سلطان الغير على الامتناع مع المطالبة، فإنّه المنافي والمزاحم لسلطنته دون عدم التسليم بدون المطالبة.

وأمّا استحقاق التسليم بالالتزام الضمني: فهو لا يقتضي أداء الحقّ إلّا عند المطالبة.

أقول: ثمّ إنّه لا خلاف بينهم في صحّة شرط التأجيل ولزومه بشرط أنْ يكون الأجل معلوماً:0.

ص: 108


1- الكافي: ج 5/289 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/106 ح 24250.

ولو شَرَط دفعها نجوماً معيّنة أو بعد المدّة صَحّ

أمّا صحّة الشرط: فلأنّها مقتضى عموم: «المسلمون عند شروطهم»(1).

ودعوى:(2) أنّه شرطٌ مخالفٌللمشروع، لوجوب رَدّ المال إليصاحبه لو طالب.

مندفعة: بأنّ هذا وجوبٌ حقّي، كما يظهر من صحّة التأجيل في البيع، فلا مانع من اشتراطه.

وأمّا اعتبار كون الأجل معلوماً: فلأنّه يلزم من الجهل به الغَرَر، وقد مرّ أنّه موجبٌلبطلان العقود والإيقاعات ومنهاالشرط، وحيث أنّ المختارأنّ الشرطالفاسد لا يوجبُ فساد العقد، فلو شرط التأجيل بالأجل غير المعلوم لم يفسد الإجارة.

ودعوى:(3) أنّه تسري الجهالة من الشرط إلى العقد، فيكون العقد غرريّاً، فيفسد من ناحية غَرريّته.

مندفعة: بأنّ حقيقة الشرط هو الالتزام في ضمن الالتزام، لا تقييد متعلّق العقد، وورود العقد على المقيّد.

(و) بالجملة: ظهر ممّا ذكرناه أنّه لا فرق في صورة التأجيل بين ما (لو شَرَط دفعها نجوماً معيّنة، أو بعد المدّة) المعلومة، إذ ي (صَحّ ) الشرط في الموردين.

فروع التعجيل في التسليم:

بقي في المقام فروع:

الفرع الأوّل: قد عرفت أنّه يجب تسليم الاُجرة في الإجارة على العمل بعد

ص: 109


1- الكافي: ج 5/169 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/16 ح 23040.
2- أشار إليها في مصباح الفقاهة: ج 5/584.
3- كتاب الإجارة: ص 80.

تسليم العمل، وليس معنى ذلك أنّ للمستأجر أن يمتنع عن دفع الاُجرة قبل العمل، وليس للمؤجّر التعرّض له، لأنّ مدرك ذلك إنّما هو الالتزام الضمني كما عرفت، وهو كمايقتضي عدم تسليم الاُجرة قبل تسليم العمل، كذلك يقتضي عدم لزوم العمل قبل أن يطمئنّ تسليم الاُجرة بعد العمل، وعليه فإذا لم يطمئن بذلك، له الاستيثاق ولو بوضع الاُجرة على يد ثالثٍ كما لا يخفى .

الفرع الثاني: لا فرق في عدم استحقاق تسليم الاُجرة قبل تسليم العمل، بين عملٍ لايتوقّف على بذل المال، وبين ما يتوقّف عليه كالحجّ ، فإنّ مدرك كون التسليم معاوضيّاً فيهما واحدٌ، بل قيل إنّه لو فرض عدم تمكّن الأجير من إيجاد العمل إلّابأخذ الاُجرة - لفرض عدم مالٍ له، وعدم تمكّنه من تحصيله - كانت الإجارة باطلة، لأنّ العمل على الفرض غير مقدور له إلّابالخلف المحال، وهو استحقاق الاُجرة قبل العمل، مع أنّه لا يستحقّها قبله.

الفرع الثالث: هل يستحقّ الأجير بعض الاُجرة ببعض العمل المستأجر عليه إذا كان قابلاً لتقسيط الاُجرة عليه - كصلاة سنةٍ مثلاً - أم لا؟

الحقّ أنْ يقال: إنّه بعدما عرفت من أنّ مقتضى العقد هو مالكيّة كلّ من الطرفين لما انتقل إليه، ومقتضى تسلّط النّاس على أموالهم(1) أنّ له المطالبة بتسليمه، ولو امتنع عن تسليم ما عنده، وإنّما التزمنا بأنّ لكلّ منهما الامتناع عن التسليم ما لم يُسلّم الآخر، من جهة الالتزام الضمني الذي عليه بناء العقلاء.

وعليه، فدعوى(2) أنّ العقد لا يستقلّ بالتحصّل، بل متقوّمٌ بمتعلّقه، وهو كون0.

ص: 110


1- البحار: ج 2/272 ح 7.
2- كتاب الإجارة: ص 90.

شيء مِلْكاً بعوض، فمع تعدّد المتعلّق يستحيل وحدة العقد، أجنبيّة عن المقام، بل المدار في المقام على ملاحظه الالتزام الضمني، فإنّه يمكن أنْ يكون:

1 - بتسليم كلّ جزءٍ بإزاء تسليم ما يقابله من العوض.

2 - ويمكن أنْ يكون بتسليم الجميع بإزاء الجميع.

فعلى الأوّل يستحقّ الأجير بعض الاُجرة ببعض العمل.

وعلى الثاني لا يستحقّ .

فإن أُحرز أحدهما فلا كلام، وإلّا فمقتضى القاعدة البناء على الاستحقاق الذي هو مقتضى قاعدة السلطنة، ووجود المانع عنه والمقيّد له غير محرزٍ، والأصل عدمه.

الفرع الرابع: إذا كانت الاُجرة أيضاً عملاً:

فهل يكون الأجير غير مستحقّ لها إلّابعد عمل نفسه، نظراً إلى أنّ حكم الاُجرة بما هي استحقاق تسليمها بعد العمل ؟

أو يكون الأجير كالمستأجر، نظراً إلى أنّ لزوم البدأة به، من جهة كونه عملاً لا من جهة كونه اُجرة، وهذه الجهة مشتركة بينهما، وعليه فحيثُ لا مرجّح ولا مخصّص لأحد العَمَلين، ولا معنى للتخيير بين شيئين لشخصين، فالمرجع إلى القرعة أو يتساقطان، فيجبُ تسليمهما معاً على وجه المقارنة ؟

أو أنّ البدأة ليست لكونه اُجرةً ولا لكونه عملاً، بل إنّما هو مقتضى الالتزام الضمني، ومقتضاه في الفرض التقارن في العمل ؟

وجوهٌ وأقوال، أظهرها الأخير كما لا يخفى .

***

ص: 111

وللمستأجر أن يؤجّر بأكثر أو أقلّ إنْ لم يشترط عليه المباشرة.

الاستئجار من المستأجر

المسألة السادسة: ويدور البحث فيها عمّا ذكره بقوله: (وللمستأجر أن يؤجّر) العين المستأجرة (بأكثر) ممّا استأجر، او بالمساوي، (أو أقلّ ، إنْ لم يشترط عليه المباشرة).

أقول: وتمام الكلام في هذه المسألة يتحقّق بالبحث في جهات:

الجهة الاُولى: لا إشكال في جواز إجارة المستأجر من المؤجّر وغيره، فإنّه بالإجارة تُملك المنفعة، فله أن يملّكها بالغير، وليست الإجارة إلّاتمليك المنفعة كما مرّ، فيشمله عموم ما دلّ على صحّة الإجارة ولزومها، مضافاً إلى النصوص المستفيضة أو المتواترة الواردة في الأرض والدابّة والسفينة التي يأتي شطرٌ منها في مسألة الإجارة بالأكثر.

الجهة الثانية: أنّه هل للمستأجرالأوّل تسليم العين المستأجرة إلى المستأجرالثاني من دون إذنٍمن المالك كماعن «المختلف»(1)، و «غاية المراد»(2)، و «حاشية الإرشاد»(3)، و «المسالك»(4)، و «مجمع الفائدة والبرهان»(5)، و «المفاتيح»(6)، و «الرياض»(7)؟

ص: 112


1- مختلف الشيعة: ج 6/147.
2- غاية المراد: ج 2/324.
3- حاشية الإرشاد: ج 2/324.
4- مسالك الأفهام: ج 5/183.
5- مجمع الفائدة: ج 10/39.
6- مفاتيح الشرائع: ج 3/110.
7- رياض المسائل: ج 9/209.

أم ليس له ذلك كما عن «النهاية»(1)، و «السرائر»(2)، و «القواعد»(3) و «جامع المقاصد»(4)؟

أقول: الظاهر هو الأوّل، وذلك لأنّ ذلك لازم الإجارة، لفرض توقّف استيفاء المنفعة على التسليم.

وبعبارة اُخرى : أنّ مقتضى إطلاق الإجارة الأُولى من حيث الاستيفاءالذي هو مفروض في المورد، إطلاقها من حيث الاستيلاء المتوقّف عليه الاستيفاء، وإلى هذا يرجع ما قيل من أنّ الإذن في الشيء إذنٌ في لازمه.

وبه يندفع ما استدلّ به للقول الثاني، من أنّ : العين أمانة لم يأذن له المالك في تسليمها إلى الغير.

وجه الاندفاع: إنّ الإذن للأوّل في التصرّف فيها إنّما هو من مقتضيات الإجارة الأولى، وحيث أنّها مطلقة، فمقتضاه الإذن في تسليمها إلى من انتقلت إليه المنفعة ثانياً.

ويمكن أنْ يستدلّ له بالنصوص(5) الواردة في إجارة الأرض وغيرها بمساوي الاُجرة أو بالأقلّ ، المصرّحة بالجواز، من دون تعرّض فيها لشبهة عدم جواز التسليم.

وحملها على صورة عدم الحاجة في استيفاء المنفعة إلى التسليم، أو صورة إذن).

ص: 113


1- النهاية: ص 445.
2- السرائر: ج 2/462.
3- قواعد الأحكام: ج 2/286.
4- جامع المقاصد: ج 7/119.
5- وسائل الشيعة: ج 19/126 باب (أنّه يجوز لمن استأجر أرضاً أن يؤجّرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا كان بغيرجنس الأجرة).

المالك فيه، خلاف المقطوع.

وعليه، فلا إشكال في الجواز.

الجهة الثالث: عليفرض التسليم، هل يكون المستأجر الأوّل ضامناً للعين أم لا؟

فإنْ قلنا بأنّه لا يجوز له التسليم: كان الضمان بمقتضى القاعدة ظاهراً.

وأمّا على القول بجوازه: - كما اخترناه - فقد يتوهّم الضمان، من جهة أنّ جواز التسليم بل وجوبه لا يُنافي الضمان، إذ المنافي له هو الايتمان، ووجوب التسليم غير وجوب التأمين، فمقتضى عموم قاعدة على اليد(1) هو الضمان.

وفيه: إنّه فاسدٌ من جهة أنّ مدرك عدم ضمان العين في الإجارة الأولى، لم يكن خصوص الايتمان، بل ذلك بضميمة ما التزما به في ضمن عقد الإجارة بعدم الضمان، ولذلك بنينا على عدم الضمان حتّى في الإجارة الفاسدة، وإذا كانت الإجارة الأولى مطلقة كما هو المفروض، كان البناء على عدم الضمان وإسقاط المالك احترام ماله عاماً، فقاعدة على اليد لا تشمل المقام، لانصرافها عنه، كما هو واضح.

أقول: ويشهد لعدم الضمان - مضافاً إلى ذلك - صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«عن رجلٍ استأجر دابّة فأعطاها غيره، فنفقت ما عليه ؟

قال عليه السلام: إنْ كان شرط أن لا يركبها غيره فهو ضامنٌ لها، وإنْ لم يُسمّ فليس عليه شيء»(2).1.

ص: 114


1- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.
2- الكافي: ج 5/291 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/118 ح 24271.

وأُورد عليه: بأنّ الصحيح إنّما يدلّ على عدم الضمان من حيث الركوب، لاعدمه من حيث التسليم، بتقريب أنّ الشرطيّة الأولى متضمّنة لضمان المستأجر في صورة الاشتراط، من جهة مخالفة الشرط، فيده عادية، وإنْ لم يكن هناك تسليمٌ بل تمكّن من الركوب خاصّة، ومورد النفي في الثانية هو مورد الإثبات في الأولى.

وفيه: أنّ المفروض في السؤال إعطاء الدابّة، وظاهره تسليمها إليه، فالمثبت هو الضمان في ذلك الفرض، وكذلك المنفيّ ، وظاهر المنفي هو نفي الضمان مطلقاً، لا نفيه من حيثيّة خاصّة.

اشتراط استيفاء المستأجر المنفعة بنفسه

الجهة الرابعة: المشهور بين القائلين بصحّة الإجارة من الغير، تقييدها بما إذا لم يشترط المؤجّر عليه استيفائه بنفسه.

أقول: ونخبة القول في المقام هي أنّ هاهنا صوراً:

إحداها: ما إذا كانت المنفعة التي يملكها مقيّدة بالاستيفاء.

ثانيتها: ما لو كانت المنفعة المملّكة مطلقة، ولكن اشترط على المستأجر استيفاء المنفعة بنفسه على نحو شرط الفعل.

ثالثتها: الصورة، ولكن الشرط على نحو شرط النتيجة، وهو كونه محجوراً عن جميع التصرّفات إلّااستيفاء المنفعة بنفسه.

أمّا الصورة الأولى: فعلى فرض معقوليّتها، لا إشكال في أنّه ليس له أن يستأجرها للغير، إذ لا مملوك له حتّى يملّكه غيره.

ص: 115

ولكن قد يقال: بعدم معقوليّتها، نظراً إلى أنّ منفعة الشيء عبارة عن الحيثيّة القائمة به، لا ما هو قائمٌ بالشخص، مثلاً منفعة الدّار ليست سكنى الدّار بالمعنى القائم بالساكن، بل حيثيّة مسكونيّة الدّار، وقابليّتها لأن يُسكن فيها، وهذه الحيثيّة لها نحوان من الوجود:

أحدهما: بالقوّة، بنحو وجود المقبول بوجود القابل.

ثانيهما: بالفعل، بفعليّة مضايفه القائم بالساكن.

ومن الواضح أنّ المملوك بالإجارة ليس هو النحو الثاني، إذ مع عدم الاستيفاء رأساً لا مملوك، مع أنّ المنفعة تُملك بالإجارة وإنْ لم تستوف، فلا محالة يكون المملوك بالإجارة النحو الأوّل، وذلك جزئيٌ بجزئيّة ما بالفعل الذي يقوم به، وعليه فلا معنى لتضييقه.

ولكن يرد عليه: أنّ الموجود بالقوّة غير الموجود بالفعل، والثاني لا يُعقل فيه عدم التعيين، لكن يُعقل ذلك في الأوّل، فحيثيّة قابليّة الدّار لأن يُسكن فيها وإنْ كانت جزئيّة، إلّاأنّها بالقياس إلى سكنى زيد وسكنى عمرو وهكذا تكون غير متعينة، فتكون مسكونيّة الدّار بالقوّة بالنسبة إلى سُكنى زيدٍ غير مسكونيّتها بالقياس إلى سكنى عمرو، ولهذه الجهة تكون قابلة للتقييد.

وأمّا الصورة الثانية: فالمملوك فيهاكلّي لكن لا سلطان له إلّاعلى استيفائه بنفسه.

أقول: وقبل بيان حكم هذه الصورة، لابدَّ وأن يُعلم أنّ شرط الاستيفاء لا يراد به مباشرته بنفسه، بحيث يكون الاستيفاء واجباً، بل المراد به أن لا يؤجّر الدّار، وأن لا يتبرّع بمنفعتها للغير. وعليه فما في «العروة»(1) من المقابلة بين شرط عدم6.

ص: 116


1- العروة الوثقى: ج 5/76.

إجارتها من غيره، وشرط استيفاء المنفعة بنفسه لنفسه، كما ترى .

وكيف كان، فقد استدلّ للمنع عن استئجاره للغير بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الشرط يوجبُ حرمة الإجارة لوجوب الوفاء به، وحرمة الإجارة مستلزمة لفسادها.

وفيه: ما حقّقناه في محلّه من أنّ الحرمة التكليفيّة غير موجبة لفساد المعاملة.

الوجه الثاني: ما قاله صاحب «الجواهر»(1) بأنّه: (لا يجوز الإجارة حينئذٍ، عملاً بقاعدة المؤمنون التي يتعذّر الجمع بينها وبين الإجارة المفروضة، فيتعيّن بطلانها لسبق الخطاب بالأولى)، انتهى.

وفيه: أنّ الذي يتعذّر الجمع بينه وبين دليل الشرط، هو جواز إيجاد الإجارة الثانية تكليفاً لا جوازه وضعاً.

توضيح ذلك: أنّه لا إشكال في أنّ بطلان الإجارة لابدَّ وأنْ يكون من جهة فقد قيدٍ من قيودها الوجوديّة والعدميّة، والشرط لا يوجب ذلك، لعدم كونه موجباً لخللٍ في أحد أركانها فتقع صحيحة، وبعد وقوعها كذلك لا يبقى محلّ لوجوب الوفاء بالشرط فيسقط، وعليه فدليل الشرط لا يصلح أن يصبح مانعاً عن دليل صحّة الإجارة، ودليلها يوجب ارتفاع دليل الشرط، فلا يلزم المحذور المشار إليه.

وما نُسب إلى الشيخ الأعظم رحمه الله(2): من أنّ إطلاق دليل وجوب الوفاءبالشرط، يشمل حتّى بعد الإجارة الثانية، وهو يكشف عن عدم نفوذ الإجارة، وإلّا لم يكن4.

ص: 117


1- جواهر الكلام: ج 27/260.
2- كتاب الإجارة: ص 114.

مجالٌ للوفاء بالشرط.

يردّه: أنّ شمول إطلاق دليله فرع بطلان الإجارة، إذ مع صحّتها لا يبقى للعمل به مجالٌ ، وصحّتها مستكشفة من إطلاق الأدلّة وعمومها.

فإنْ قيل: إنّه يحتمل مانعيّة الشرط عن الصحّة، فلا علم بارتفاع المحلّ .

قلنا أوّلاً: أنّه على ذلك لا مجال للتمسّك بإطلاق دليل الشرط، للشكّ في بقاء موضوعه.

وثانياً: أنّه يرتفع الاحتمال بإطلاق الأدلّة وعمومها، والأصل.

الوجه الثالث: أنّ اشتراط الاستيفاء بنفسه، يوجبُ ثبوت حقّ للمؤجّر في ترك الإيجار، فالإجارة الثانية منافية لحق المؤجّر، فيكون باطلاً.

وفيه: أنّ الحقّ المتعلّق بفعل أو تركه - كحقّ البيع، والفسخ، وترك الإجارة، وما شاكل - لا يوجبُ عدم صحّة نقيضه، مثلاً من كان له حقّ ترك الفسخ، كان لمن له الخيار الفسخ وضعاً، وينفسخ العقد به وإنْ كان آثماً بذلك، إذ لا أثر لكونه حقّاً سوى أنّ له إسقاطه، وإلّا فحكمه حكم اللّزوم التكليفي.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ ثبوت حقّ للمؤجّر في ترك الإجارة، لا يستلزم سلب سلطنة المستأجر الوضعيّة عنها، ومعها تكون الإجارة الثانية صحيحة.

الوجه الرابع: إنّ شرط الاستيفاء بنفسه:

1 - إمّا أن يرجع إلى شرط ترك تسليم المنفعة إلى الغير.

2 - أو إلى شرط عدم إسكان الغير مثلاً.

فعلى الأوّل: تبطل الإجارة، لعدم القدرة على التسليم الذي قد عرفت اعتبارها

ص: 118

في الإجارة.

وعلى الثاني: تبطل لحرمة المنفعة، وقد مرّ أنّ إباحة المنفعة من شرائطها.

وفيه أوّلاً: أنّه قد لا يرجع إلى شيء منهما، بل الغالب ذلك.

وثانياً: أنّ حرمة التسليم غير عدم القدرة عليه تكويناً، وما اشتهر من أنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، إنّما هو فيما يترتّب على غير المقدور من حيث هو، وفي المقام ليس كذلك، فإنّه تعتبر القدرة دفعاً للغَرَر والخطر، ولذا لو كان التسليم غير مقدور، ولكن من انتقل إليه كان قادراً على تسلّمه، صَحّ العقد، وعليه فالحرمة حيث لا توجب عدم إمكان حصول المنفعة في يد المستأجر، فلا يلزم الغَرَر، فلا تكون مانعة عن الصحّة.

وأمّا حرمة الإسكان الذي هو فعل المؤجّر الثاني، فهي غير مستلزمة لحرمة سُكنى المستأجر الثاني، كما لا يخفى .

وبالجملة: فالمتحصّل ممّا ذكرناه صحّة الإجارة الثانية في هذه الصورة.

وأمّا الصورة الثالثة: وهي ما لو شرط محجوريّته عن التصرّفات سوى الانتفاع بها بنفسه، فالظاهر بطلان الشرط، لأنّ المحجوريّة ليست من الاُمورالاعتباريّة التي يتسبب إليها بأسبابها كالملكيّة كي يقال إنّ منها الشرط.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لو قيّد المنفعة باستيفائه بنفسه، بطلت الإجارة الثانية، ولو كانت المنفعة مطلقة، ولكن اشترط عليه ذلك، صَحّ الشرط ويجب ترك الإجارة، إلّاأنّه إنْ خالف وآجرها صحّت الإجارة.

وإنْ اشترط عليه المحجوريّة عن التصرّفات الاُخر، بطل الشرط.

ص: 119

أقول: ثمّ إنّه لا كلام في مورد بطلان الإجارة الثانية، وأمّا في مورد صحّتها، فلا إشكال في أنّ للمؤجّر الأوّل خيار تخلّف الشرط، فله أن يحلّ الإجارة الأولى، لكن السؤال حينئذٍ عن أنّه إذا فسخها فهل تنفسخ الإجارة الثانية ؟

الظاهر عدم الانفساخ، نظراً إلى أنّها وقعت صحيحة لازمة، والفسخ إنّما يوجب الحِلّ من حينه، فإذا انفسخت الأُولى، والمفروض انتقال المنفعة بناقلٍ لازمٍ إلى الثالث، فيرجع بدلها إلى المؤجّر الأوّل، كما في صورة التلف الحقيقي قبل الفسخ، فعلى المستأجر الأوّل أن يردّ اُجرة مثل تلك المنفعة إلى المؤجّر، سواءٌ كانت أقلّ من المسمّاة أو أكثر.

إيجار العين المستأجرة بأكثر من العوض

الجهة الخامسة: لا خلاف ولا إشكال في جواز أن يؤجّر العين المستأجرة فيما يجوز له ذلك بأقلّ من ما استأجر وبالمساوي له مطلقاً أيّ شيء كان، لإطلاق الأدلّة، وللنصوص الخاصّة.

كما لا كلام في أنّه يجوز الاستئجار بأكثر منه إذا أحدث فيها حدثاً، والنّص والفتوى متوافقان فيه، وسيأتي زيادة توضيح لذلك.

أقول: إنّما الكلام في إجارتها بأكثر منه من دون أن يُحدث فيه حدثاً:

فعن جماعةٍ من القدماء - كالسيّدين(1)، والشيخين(2)، والصدوقين(3) وغيرهم -

ص: 120


1- غنية النزوع: ص 199.
2- المقنعة: ص 636.
3- المقنع: ص 392.

المنع عنه، وفي «الحدائق»(1) نسبته إلى المشهور بين القدماء.

وعن جماعة(2) تخصيص المنع بالموارد التي تضمنتها النصوص، والجواز بلا كراهية في غيرها.

وعن جماعة(3) الحكم بالكراهة مطلقاً.

وتفصيل القول في المقام: إنّ الموارد التي ورد المنع فيها خمسة: الدّار، والحانوت، والرَّحي، والسفينة، والأرض.

أمّا الأوليتان: فقد ورد النّص عليحرمة فضل الاُجرة فيهما بلامعارض، لاحظ:

1 - حسن أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يتقبّل الأرض من الدهاقين، ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا تقبّلها به، ويقوم فيها بحظّ السلطان ؟

فقال عليه السلام: لا بأس به، إنْ الأرض ليست مثل الأجير، ولا مثل البيت، إنّ فضل الأجير والبيت حرام»(4).

2 - وبمضمونه خبر إبراهيم بن ميمون(5).

3 - ومصحّح الحلبي، عنه عليه السلام في الدّار: «ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها بها إلّا أن يُحدِث فيها شيئاً»(6).

4 - وحسن أبي المغرا عنه عليه السلام، قال في الجواب عن السؤال المذكور في خبر3.

ص: 121


1- الحدائق الناضرة: ج 21/292.
2- راجع كتاب الإجارة للاصفهاني: ص 63.
3- راجع المقنعة: ص 640، السرائر: ج 2/465، المراسم: ص 195.
4- الكافي: ج 5/271 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/125 ح 24281.
5- وسائل الشيعة: ج 19/126 ح 24284.
6- الكافي: ج 5/272 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/129 ح 24293.

أبي الربيع: «لا بأس إنْ هذا ليس كالحانوت ولا الأجير، إنّ فضل الحانوت والأجير حرامٌ »(1).

ولا موهم لمعارضة هذه النصوص إلّاالنصوص المجوّزة الواردة في غيرهما بالغاء خصوصيّة المورد.

5 - وحسن الحلبي، عنه عليه السلام: «في الرّجل يستأجر الدّار، ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به ؟

قال عليه السلام: لايصلح ذلك، إلّاأن يحدث فيهاشيئاً»(2)، بتقريب ظهور: (لا يصلح)، في الكراهة.

ولكن التعدّي ممنوعٌ ، سيّما مع التصريح في النصوص بالفرق، كما أنّ قوله عليه السلام:

(لا يصلح) غير ظاهرٍ في الكراهة، غايته عدم الظهور في الحرمة.

أمّا الرّحي: ففيها خبران:

أحدهما: موثّق أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إنّي لأكره أن أستأجر رحى وحدها، ثمّ أواجرها بأكثر ممّا استأجرتها به، إلّاأن يحدث فيها حدثاً أو يغرم فيها غرامة»(3).

ثانيهما: صحيح سليمان بن خالد(4) وهو قريبٌ من الأوّل.

والكراهة وإنْ لم تكن ظاهرة في الكراهة المصطلحة، لكنّها غير ظاهرة في0.

ص: 122


1- الإستبصار: ج 3/129 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/125 ح 24283.
2- الكافي: ج 5/273 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/130 ح 24294.
3- الكافي: ج 5/273 ح 9، وسائل الشيعة: ج 19/130 ح 24295.
4- وسائل الشيعة: ج 19/124 ح 24280.

الحرمة، فالمتيقّن مطلق المرجوحيّة المساوقة للكراهة المصطلحة.

وأمّا السفينة: ففيها رواية واحدة، وهي ما رواه إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام قال:

«لا بأس أن يستأجر الرّجل الدّار أو الأرض أو السفينة، ثمّ يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إذا أصلح فيها شيئاً»(1).

وهي بمفهوم الشرط تدلّ على ثبوت البأس في الثلاثة، وهو ظاهرٌ في الحرمة.

وحمله على الكراهة بالنسبة إلى الأرض - بقرينة روايات اُخرى - لا يوجب حمله عليها بالنسبة إلى السفينة الّتي لا معارض له فيها، وإلّا لزم البناء عليها في الدّار أيضاً، ويجعل هذه معارضة لما تقدّم من النصوص.

وعليه، فما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمه الله(2) من حملها على الكراهة بالنسبة إلى السفينة، لا يلائم مع ما ذكره في الدّار من أنّه لا معارض لنصوص حرمة فضل الاُجرة فيها.

وأمّا الأرض: ففيها طوائف من النصوص:

منها: ما يدلّ على الجواز مطلقاً، كحسني أبي الربيع، وأبي المغرا، وخبر ابن ميمون المتقدّمة.

ومنها: ما يدلّ على عدم جواز إجارتها، وجواز مزارعتها بالأكثر، كخبر الحلبي، قال:2.

ص: 123


1- التهذيب: ج 7/223 ح 61، وسائل الشيعة: ج 19/129 ح 24292.
2- كتاب الإجارة للاصفهاني: ص 62.

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أتقبّل الأرض بالثّلث أو الرّبع فأقبلها بالنصف ؟ قال عليه السلام: لا بأس به.

قلت: فأتقبّلها بألف درهم، وأقبلها بألفين ؟ قال عليه السلام: لا يجوز.

قلت: لِمَ؟ قال عليه السلام: لأنّ هذا مضمون، وذاك غير مضمون»(1).

وقريبٌ منه موثّق إسحاق بن عمّار(2).

أقول: لا يخفى أنّه لا خصوصيّة للدّراهم ولا للذّهب والفضّة الموجودين في الموثّق، سيّما وقد عُلّل فيهما بأنّ الذهب والفضّة مضمونان، أو «أنّ هذا مضمون» وإنْ لم نقف على العلّة.

ومنها: ما يدلّ على عدم جواز إجارتها ومزارعتها معاً، كخبر الهاشمي(3).

أقول: لا يصحّ حمل الطائفة الأُولى على ما إذا أحدث فيها شيئاً بقرينة الطائفة الثالثة، لما نبّه عليه في «الحدائق»(4) من أنّه على هذا لا يبقى فرقٌ بين الأرض وبين الدّار والحانوت، فإنّ حرمة الإجارة فيهما أيضاً مقيّدة بأن لا يحدث فيهما شيئاً، وصريح الطائفة الأُولى الفرق.

وبه يظهر أنّه لا يصحّ حملها على إرادة المزارعة منها، نظراً إلى أنّه يعبّر عنها بالإجارة كثيراً، ولا بتخصيص روايات المنع بما إذا كانت مضمونة في الذمّة أو بالدراهم والدنانير، بل الجمع العرفي يقتضي حمل الثانية على الكراهة بقرينة3.

ص: 124


1- الكافي: ج 5/272 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/126 ح 24285.
2- وسائل الشيعة: ج 19/127 ح 24286.
3- وسائل الشيعة: ج 19/127 ح 24287.
4- الحدائق الناضرة: ج 21/293.

الأولى، ثمّ الجمع بينها الصريحة في الجواز في المزارعة، وبين الثالثة الظاهرة في عدم الجواز فيها، يقتضي حمل المنع في الثالثة على مرتبة من الكراهة هي أخفّ من كراهة الإجارة.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: حرمة الإجارة بالأكثر، ما لم يُحدِث شيئاً في الدّار والدكان والسفينة، وكراهتها في الرَّحي والأرض.

إجارة بعض العين المستأجر بالأكثر

فرع: لو استأجر نصف العين المستأجرة بالأكثر أو المساوي، فهل يجوز أم لا، أم يفصّل بين الموردين ؟

أقول: الظاهرهوالثالث، لصحيح الحلبي أو حسنه - عن مولاناالصادق عليه السلام قال:

«لو أنّ رجلاً استأجر داراً بعشرة دراهم، فسكن ثلثيها وآجر ثلثها بعشرة، لم يكن به بأس، ولا يؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها به إلّاأن يُحدِث فيها شيئاً»(1).

ونحوه خبر أبي الربيع(2).

ومعها لا يصغى إلى ما قيل من إنّه لو استأجر بعضها بالمساوي، وإنْ لم يصدق الإجارة بالأكثر، لكن يصدق الفضل على الاُجرة، لأنّ انتفاعه بما عدا الحصّة المستأجرة فضل، والمأخوذ في جملة من نصوص المنع فضل الاُجرة.

ولا إلى ما قيل من إنّ اُجرة نصف العين المستأجرة نصف اُجرة تمامها، فلو

ص: 125


1- الكافي: ج 5/272 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/129 ح 24293.
2- وسائل الشيعة: ج 19/125 ح 24281.

آجر النصف بالمساوي لزم منه الإجارة بالأكثر. أضف إلى ذلك عدم تماميّتهما، فإنّ المأخوذ في بعض الأخبار عنوان (فضل الاُجرة) لا (الفضل على الاُجرة)، ومعلومٌ أنّ الانتفاع بما عدا الحصّة المستأجرة لايكون من فضل الاُجرة، بل هو فضلٌ عليها.

وأيضاً: ظاهر الأخبار ملاحظة الاُجرة بنحو الوحدة، كملاحظة الإجارة كذلك، لا تحليل الإجارة إلى إجارات وتقسيط الاُجرة على الحِصص.

فإنْ قيل: إنّ الضمير في قوله عليه السلام في الخبرين: «ولا يؤاجرها»، يرجع إلى الدّار لا إلى ثلثها، فلا يدلّ الخبران على حكم الإجارة بالأكثر.

قلنا أوّلاً: أنّ الظاهر دلالة صدرهما بالمفهوم عليه.

وثانياً: أنّه يثبت فيه ذلك بالأولويّة، ففحوى ما دلّ على حرمة إيجار الجميع بالأكثر، حرمة إيجار بعضه أيضاً به.

وعن الشيخ قدس سره(1) القول بالمنع في إجارة البعض بالمساوي، ومضمر سماعة(2)شاهدٌ به.

لكنّه محمولٌ على الكراهة، لأنّ ذلك مقتضى حمل النّص على الظاهر، سيّما وأنّ مورده الأرض التي قد مرّ كراهة الاستئجار فيها بالأكثر لا حرمته.

أقول: ثمّ إنّ ظاهر جماعة وصريح آخرين(3) اختصاص الحكم المزبور - أي حرمة استئجار العين المستأجرة بالأكثر أو كراهته - بما إذا كانت الاُجرة في الإجارة الثانية من جنس الاُجرة في الإجارة الأولى، وإلّا فمع الاختلاف لا مانع من ذلك.0.

ص: 126


1- النهاية: ص 445.
2- وسائل الشيعة: ج 19/130 ح 24296.
3- راجع: المختصر النافع ص 148، كشف الرموز: ج 2/19-20.

واستدلّوا لذلك: بأنّ الظاهر من الأكثر، الأكثر في الجنس، لا الأكثر في الماليّة والقيمة، فمع الاختلاف في الماليّة لا يقال إنّ إحدى الأُجرتين أكثر من الاُخرى .

وفيه أوّلاً: إنّه حيث يكون النظر في الثمن والاُجرة إلى الماليّة والقيمة، فمقام الاُجرة مقام النقدين في التمحّض في الماليّة، وعليه فيصدق الأكثريّة.

وثانياً: أنّه لا تنحصر الأخبار فيما كان المأخوذ فيه هذا العنوان، بل المأخوذ في بعض النصوص فضل البيت أو الحانوت أو الأجير:

1 - ففي خبر أبي الربيع، عن مولانا الصادق عليه السلام: «إنّ فضل الأجير والبيت حرام»(1).

2 - وفي خبر أبي المغرا عنه عليه السلام: «إنّ فضل الحانوت والأجير حرامٌ »(2).

ومن المعلوم أنّ إحدى الأجرتين إذا كانت ذات فضل وزيادة على الاُخرى في الماليّة، يصدق فضل تلكم.

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرنا أنّه لا فرق بين الصورتين.

حكم ما لو تقبل عملاً وقبله غيره بالنقيصة

الجهة السادسة: من تقبّل عملاً في ذمّته من غير اشتراط المباشرة، لم يجز أن يقبله غيره بنقيصة، كما عن «النهاية»(3)، و «السرائر»(4)، و «الإرشاد»(5)، وفي

ص: 127


1- الكافي: ج 5/271 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/125 ح 24281.
2- الكافي: ج 5/272 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/125 ح 24283.
3- النهاية: ص 446.
4- السرائر: ج 2/446.
5- إرشاد الأذهان: ج 1/422.

«المسالك»(1) نسبته إلى المشهور، إلّاأن يُحدث فيه ما يستبيح به الفضل.

أقول: والمستند جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: «أنّه سُئل عن الرّجل يتقبّل بالعمل، فلا يعمل فيه ويدفعه إلى آخر فيربح فيه ؟

قال عليه السلام: لا، إلّاأنْ يكون قد عمل فيه شيئاً»(2).

ومنها: خبره الآخر، عنه عليه السلام أيضاً: «عن الرّجل الخيّاط يتقبّل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ويستفضل ؟

قال عليه السلام: لا بأس، قد عمل فيه»(3).

ونحوه خبر أبي حمزة(4).

ومنها: خبر أبي محمّد الخيّاط، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: أتقبّل الثياب، أخيطها ثمّ أعطيها الغلمان بالثلثين ؟

قال عليه السلام: أليس تعمل فيها؟ فقلت: أقطعها وأشتري الخيوط، قال عليه السلام: لا بأس»(5).

ويعضدها ما تقدّم من النصوص المانعة عن فضل الأجير.

ولا ينافيها خبر علي الصائغ، عنه عليه السلام في تقبّله العمل ثمّ تقبيله من غِلمان يعملون معه، قال: «لا يصلح ذلك إلّاأن تعالج معهم فيه.4.

ص: 128


1- مسالك الأفهام: ج 5/222.
2- الكافي: ج 5/273 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/132 ح 24299.
3- التهذيب: ج 7/210 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/133 ح 24303.
4- وسائل الشيعة: ج 19/133 ح 24302.
5- الفقيه: ج 3/252 ح 3912، وسائل الشيعة: ج 19/133 ح 24304.

قال قلت: فإنّي اُذيبه لهم. فقال عليه السلام: ذلك عملٌ ، فلا بأس»(1).

لعدم ظهور (لا يصلح) في الكراهة.

كما لا ينافيها خبر الحكم الخيّاط الدالّ على جواز ذلك(2)، لأنّه مطلق يقيّد إطلاقه بما إذا أحدث فيه شيئاً.

وعن المصنّف في «التذكرة»(3)، و «القواعد»(4)، والمحقّق الثاني(5) والشهيدين(6)القول بالكراهة.

قال في «المسالك»(7): (ومستنده أخبارٌ حملها على الكراهة أولى جمعاً).

ومستندهم في ذلك: إمّا ما تقدّم الذي عرفت ما فيه، أو صحيح أبي حمزة، عن مولانا الباقر عليه السلام: «أنّه سأل عن الرّجل يتقبّل العمل فلا يعمل فيه ويدفعه إلى آخر يربح فيه ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(8).

هكذا رواه المصنّف رحمه الله(9)، وعن «السرائر»(10) روايته كذلك.

ويردّه: أنّ الموجود في كتب الحديث القديمة - على ما صرّح به أهله - أداة النفي6.

ص: 129


1- الفقيه: ج 3/251 ح 3911، وسائل الشيعة: ج 19/134 ح 24305.
2- وسائل الشيعة: ج 19/132 ح 24300.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/291.
4- قواعد الأحكام: ج 2/286.
5- جامع المقاصد: ج 7/120.
6- شرح اللّمعة: ج 4/355.
7- مسالك الأفهام: ج 5/222.
8- التهذيب: ج 7/210 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/133 ح 24302.
9- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/291.
10- السرائر: ج 2/466.

(لا) بدل (لا بأس) فهو أيضاً يدلّ عليه المنع.

اللّهمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ مجرّد ذلك لا يصلحُ دليلاً لردّ ما روياه بعد كونهما من أساطين الفنّ أيضاً، فالمقام داخلٌ في كبرى كليّة، وهي دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة، والأصل فيها البناء على وجود الزائد.

وعليه، فما روياه هو الصحيح، والجمع بينه وبين النصوص المانعة يقتضي البناء على الكراهة، وبالتالي فالأظهر ذلك.

أقول: ولا يخفى أنّ مورد النصوص المانعة هو العمل بالعين كخياطة الثوب وصياغته، وأمّا العمل الصرف كالصلاة وما شاكل فيبقى على أصل الجواز.

والكلام في جواز استئجار الغير بأكثر من الاُجرة أو بالمساوي، هو الكلام في استئجار العين المستأجرة بالأقلّ أو المساوي، والمدرك واحد.

كما أنّ الكلام في جواز تسليم العين التي هي متعلّق العمل إلى الأجير الثاني وضمانه وعدمه، هو الكلام في تلك المسألة.

***

ص: 130

حكم الأجير الخاصّ

المسألة السابعة: فيما يتعلّق بالأجير الخاص والعام.

أقول: والمراد بالأوّل من كانت منافعه الخاصّة أو العامّة أو ما تعهّده من عملٍ في الذمّة في مدّةٍ خاصّة، مملوكة للمستأجر.

وبالثاني من كان فاقداً لبعض ما يعتبر في الأجير الخاص أو لكلّه من تعيين المدّة الخاصّة والمباشرة.

وعليه، فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في الأجير الخاصّ ، ونخبة القول فيه بالبحث في جهات:

الجهة الاُولى: إذا كان أجيراً لعملٍ خاص في مدّة مخصوصة كالخياطة، ثمّ آجر نفسه لعملٍ آخر مضادّ معه كالكتابة في نفس تلك المدّة، فالظاهر فساد الإجارة الثانية، لأنّ الأظهر عندنا وإنْ كان أنّ المنافع المتضادّة قابلة للملكيّة في زمانٍ واحد كما تقدّم، والأمر بالوفاء بالإجارة الذي هو أمرٌ بإيجاد الخياطة لا يقتضي حرمة الكتابة، حتّى يقال إنّ المنفعة محرّمة، فلا تنفذ الإجارة المتعلّقة بها، لأنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه، وعلى فرضه يكون نهياً مقدّميّاً لا مولويّاً نفسيّاً، إلّا أنّه حيث ملك أحد الضدّين أوّلاً، فلا سلطنة له على تمليك الضدّ الآخر، لعدم القدرة له على التسليم.

اللّهمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ القدرة الشرعيّة على التسليم لا تكون معتبرة، والقدرة العقليّة موجودة، لأنّمدرك اعتبارها لزوم الغَرَر مع عدم القدرة، فراجع ماذكرناه(1)،

ص: 131


1- صفحة 32 من هذا المجلّد.

وعليه فتصحّ الإجارة الثانية.

أقول: ولكن الظاهر تسالمهم على بطلانها، وعلى البطلان فلا إشكال في أنّه ليس للمستأجر إجارتها، لأنّ مورد الإجارة الثانية ليس مِلْكاً له ولا مورداً لحقّه.

وعليه، فهل يمكن تصحيحها لو أبرئه المستأجر أو أقال الإجارة الأولى أم لا؟

أقول: الظاهر أنّ مدرك البطلان:

إنْ كان عدم مالكيّته للعمل الثاني، لأنّ المنافع المتضادّة لا تُملك، فيدخل المقام في مسألة من باع ثمّ ملك.

وإنْ كان مدركه أنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه، فالظاهر صحّتها، لأنّ الحرمة ترتفع، والعمل في ظرفه مباح، والمعتبر هو الإباحة في ظرف العمل لا في موقع العقد.

وإنْ كان مدركه عدم القدرة على تسليمه، فان علم حين الإجارة الثانية بأنّ المستأجر يبرئه أو يقيله، لا إشكال في الصحّة، وإلّا فيشكل من جهة أنّ القدرة على التسليم إنّما تكون معتبرة لرفع الغَرَر، ومع عدم العلم بإمكان الحصول في ظرفه تكون الإجارة غَرريّة وباطلة، والباطل لا ينقلبُ صحيحاً.

الجهة الثانية: إذا كان أجيراً لعملٍ خاص في مدّة خاصّة كالخياطة، فآجر نفسه للخياطة أيضاً في تلك المدّة، فلا إشكال في عدم وقوع الإجارة له، إذ المفروض أنّ هذه المنفعة الخاصّة ملك للمستأجر، فما آجره مملوكٌ للغير، فتكون الإجارة فضوليّة، فإنْ أجازها المستأجر صحّت، وإلّا فلا.

الجهة الثالثة: إذا كان أجيراً لجميع منافعه بالنحو المتقدّم، فآجر نفسه لعملٍ

ص: 132

خاصّ في تلك المدّة، كانت الإجارة الثانية واقعة على ما هو مملوك الغير، فتتوقّف صحّتها على إجازته.

أقول: ثمّ إنّ ما ذكرناه في هذه الصور الثلاث، يجري فيما لو آجر دابّته بلحاظ منفعتها الخاصّة، أو بلحاظ جميع منافعها.

الجهة الرابعة: إذا آجر نفسه لكلّي عمل خاص، بشرط أن يأتي به في مدّة معيّنة، ثمّ آجر نفسه لذلك العمل أو لضدّه من شخصٍ آخر في نفس تلك المدّة:

فإنْ كان إيجاره نفسه ثانياً بتمليك منفعته الخاصّة في تلك المدّة، فإنّه لا إشكال في الإجارة الثانية إلّامن ناحية منافاتها لحقّ الشرط، وقد مرّ أنّها لا توجب البطلان، فتصحّ إجارته، وبصحّتها يتخلّف الشرط لعدم تمكّنه بعد ذلك من الإتيان بالعمل للمستأجر الأوّل لصيرورة هذه الحصّة مملوكة للثاني، فلا محالة يكون مصاديق ما يكون أحدها مملوكاً للأوّل الحصص الاُخر غير هذه الحصّة.

وإنْ كان إيجاره نفسه ثانياً بالتعهّد بالعمل الخاص بشرط إتيانه في تلك المدّة، فإنّه لا إشكال في صحّة الإجارة الثانية، والظاهر بطلان الشرط، لكونه مخالفاً للسُنّة، إذ المفروض وجوب أن يأتي بالعمل للمستأجر الأوّل، فالشرط فاسد، فلابدَّ له من أن يأتي به للأوّل في تلك المدّة وبعدها للثاني.

نعم، لو تخلّف عن ذلك وأتى به للثاني، فقد وفى بالإجارة، لأنّ انطباق الكلّي على فرده قهري.

الجهة الخامسة: إذا عمل الأجير في تمام المدّة المعيّنة لنفسه أو لغير المستأجر بإجارةٍ أو جُعالة، مع عدم لحوق الإجازة، أو عدم كون المورد قابلاً لها، فلا إشكال

ص: 133

في الضمان للمستأجر، إنّما الخلاف في أنّه:

هل يضمن الاُجرة المسمّاة أو اُجرة المثل ؟

أم يتخيّر المستأجر بين مطالبة المسمّاة أو اُجرة المثل ؟

والحقّ أنْ يقال: إنّه حيث تعذّر تسليم مورد الإجارة، فللمستأجر الخيار في الفسخ والإبقاء:

فإن فسخ: له مطالبة الاُجرة المسمّاة لرجوعها بالفسخ إليه.

وإنْ أبقاها: فإنْ كان مورداً للإجارة الثانية، فله أن يجيزها، فيطالب الاُجرة المسمّاة في الإجارة الثانية.

وإنْ لم يكن مورداً لها، أو لم يجزها:

فإنْ كان المورد من الموارد التي تكون المنفعة الواقع عليها الإجارة الثانية مِلْكاً للمستأجر، له أن يطالب اُجرة مثل ما استوفاه المستأجر الثاني أو غيره، لأنّ المنفعة ملكٌ له على الفرض، فله مطالبة اُجرة مثلها، وإنْ كان من الموارد التي لا يُملك تلك المنفعة، فله أن يطالب اُجرة المثل للمنفعة الفائتة، لأنّ المؤجّر أتلفها عليه فهو ضامنٌ لها.

وبهذا يظهر ما في كلمات القوم في المقام.

فرع: ولو عمل للغير أو لنفسه في بعض المدّة، قبل أن يعمل للمستأجر الأوّل شيئاً، فحكم المنفعة التي أتلفها حكم تمام المنفعة التي أتلفها من ضمان اُجرة المثل، أو المسمّاة، أو التخيير المتقدّم في الجهة السابقة، إنّما الكلام في أنّه:

هل للمستأجر خيار الفسخ في الجميع ؟

ص: 134

أو أنّه يختصّ بما أتلفه الأجير على المستأجر؟

أو أنّه له الخيار في خصوص الباقي ؟.

أقول: الأظهر هو الأوّل، لأنّ الغرض تعلّق بالانتفاع بالمجموع، وبإتلاف البعض يلزم التبعّض، فله دفع تبعّض الانتفاع الذي هو منافٍ لغرضه بفسخ العقد رأساً.

ولايندفع المحذوربفسخ خصوص الماضي أوالباقي، لأنّه بنفسه مساوقٌ للتبعّض.

وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو سَلّم الأجير نفسه للمستأجر الأوّل، وعمل له في بعض المدّة المعيّنة، ثمّ آجر نفسه لغيره وعمل له باقي المدّة.

ولا يُصغى إلى ما قيل في هذه الصورة من أنّ الأجير بتسليمه نفسه للعمل للمستأجر قد سَلّم ما يجبُ عليه تسليمه، فتعذّر المنفعة بعد ذلك من قبيل التعذّر بعد التسليم الذي لا يوجبُ الخيار، لأنّ التسليم في باب الإجارة غير التسليم في باب البيع، فإنّه في باب البيع مورد العقد نفس العين التي هي موجودة قارّة، فتسليمها دفعي، وأمّا في باب الإجارة فموردها المنفعة، وهي تدريجي الوجود، فتسليمها أيضاً يكون تدريجيّاً، فتسلّم العين في كلّ زمانٍ تسليمٌ لمنفعتها في ذلك الزمان، ولا يكون تسليما لها إلى الابدَّ.

هذا في العمل المتقوّم بالمستأجر أيضاً، كحمل متاعه مثلاً.

وأمّا في العمل القائم بالأجير خاصّة، كالإجارة لنيابة الصلاة، فالأمر أوضح، لأنّ تسليمه إنّما يكون بإيجاده، فمع إيجاده في بقيّة المدّة للغير لا يكون إيجاداً للمستأجر فلا تسليم.

ص: 135

الجهة السادسة: فيما للمستأجر الأوّل مطالبة المسمّاة في الإجارة الثانية، وفيما له مطالبة اُجرة المثل، هل يتعيّن المطالبة من الأجير، أو من المستأجر الثاني، أم يتخيّر في مطالبة أيّهما شاء، أم هناك فرقٌ بين الموردين ؟ وجوه:

أقول: وتنقيح القول بالبحث في موردين:

المورد الأوّل: في مطالبة الاُجرة المسمّاة، وهي إنّما تكون فيما لو أجاز الإجارة الثانية:

فإنْ كانت الاُجرة عيناً شخصيّة:

فتارةً : تكون هي عند المستأجر.

واُخرى : أقبضها الأجير.

وعلى الثاني: فقد يجيز القبض وقد لا يجيزه.

لا إشكال فيما إذا أجاز القبض في أنّه ليس له الرجوع إلى المستأجر، لأنّ المال بيد الأجير والمستأجر لا مال عنده ولا عهدته عليه، لأنّ المفروض إجازته للقبض، فخرج عن ضمان المعاوضة، كما لا إشكال في أنّه يتعيّن الرجوع إلى المستأجر إذا لم يقبض الاُجرة.

وأمّا لو كانت الاُجرة مقبوضة، والمستأجر الأوّل لم يُجز القبض، فالظاهر أنّه مخيّر في مطالبة أيّهما شاء:

أمّا الأجير: فلكون المال عنده والنّاس مسلّطون على أموالهم(1).

وأمّا المستأجر الثاني: فلأنّ عهدة التسليم المعاوضي عليه، ولا يخرج عنها إلّا7.

ص: 136


1- البحار: ج 2/272 ح 7.

بالتسليم إلى المالك أو المأذون من قبله.

وإنْ كانت الاُجرة كليّة، وقد أقبض المستأجر الثاني فرداً منها:

فإنْ أجاز المستأجر الأوّل القبض، تعيّن الرجوع إلى الأجير، لأنّه باجازة القبض قد صار الفرد مِلْكاً له.

وإنْ لم يجزه، كانت الاُجرة باقية في ذمّة المستأجر، وما بيد الأجير ملك له دون المستأجر الأوّل، فله الرجوع إلى خصوص المستأجرالثاني.

المورد الثاني: في اُجرة المِثل:

فالظاهر أنّ له التخيير في مطالبتها من أيّهما شاء:

أمّاالأجير: فلأنّه بإيجادالعمل للمستأجرالثاني قدفوّت ذلك على المستأجرالأوّل.

لا يقال: إنّ الأجير أوجد العمل وسلّمه إلى المستأجر الثاني، فلا يصدق عليه أنّه أتلفه، إذ الإتلاف إنّما يكون بإبقاء عدم العمل لا بإيجاده.

فإنّه يتوجّه عليه: أنّه إيجاد للعمل بالإضافة إلى المستأجر الثاني، وإتلاف له بالإضافة إلى المستأجر الأوّل، لامتناع وجوده له، ولا ينحصرُ الإتلاف في الإعدام، كيف وقد صرّح في خبر عقبة بن خالد(1) الوارد في التلف قبل القبض بأنّ السرقة من الإتلاف، مع أنّه لا إعدام هناك.

وأمّا مطالبة المستأجر الثاني: فلأنّه تسلم مال الغير من دون إذنٍ من مالكه، لأنّ الأجير ليس مالكاً له، فلا يكفي تسليمه.

وإذا أدّى المستأجر الثاني اُجرة المثل:).

ص: 137


1- وسائل الشيعة: ج 18/23 باب (أنّ المبيع إذا تلف قبل القبض تلف من مال البائع).

فإنْ كانت مساوية للمسمّاة، فلا كلام.

وإنْ كانت أزيد:

فإنْ كان جاهلاً بالأمر، يرجع بالزائد إلى الأجير لقاعدة الغرور.

وإنْكان عالماً، فليس له ذلك، بل يكون قرار الضمان عليه كما في تعاقب الأيادي.

وبه يظهر حكم ما لو أدّاها الأجير.

الجهة السابعة: إذا عمل الأجير تبرّعاً للغير، فللمستأجر الأوّل الرجوع في اُجرة المثل إلى الأجير، لأنّه بالعمل التبرّعي أتلفه على المستأجر المالك له، فهو له ضامن، كما أنّ له الرجوع إلى المتبرّع له، لأنّه تسلّم مال الغير من دون تبرّع من ماله، لأنّ الأجير ليس مالكاً له، فلا يكفي تبرّعه.

ثمّ إنْ رجع إلى المتبرّع له وكان جاهلاً، يرجع هو إلى الأجير لقاعدة الغرور، وإنْ كان عالماً لا يرجع إليه لعدم الغرور.

وإنْ رجع إلى الأجير:

فإنْ كان المتبرّع له جاهلاً، فلا إشكال في أنّه ليس له الرجوع إليه.

وإنْ كان عالماً فالظاهر أنّ له ذلك، لعدم كون العمل مملوكاً له حتّى يكون تبرّعه هتكاً لحرمة عمله.

نعم، إنْ غرّه المتبرّع له - كما إذا أغفله عن أنّ هذا اليوم هو اليوم الخاص - له الرجوع إليه، لقاعدة الغرور.

حكم الأجير العام

المقام الثاني: في الأجير العام والمشترك:

أقول: قد مرَّ في أوّل المسألة ضابطة، وهو من كان فاقداً لبعض ما يعتبر في

ص: 138

الأجير الخاص أو لكلّه، من تعيين المدّة الخاصّة والمباشرة، وهذا هو المراد ممّا في بعض الأخبار من تفسير المشترك بأنّه: (الذي يعمل لي ولك)(1)، فإذا سقطت المباشرة، أو اُلغيت المدّة المخصوصة، أو هما معاً، كان الأجير عامّاً ومشتركاً.

وملخّص القول فيه: إنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة، جواز عمله للغير ولو على وجه الإجارة قبل الإتيان بالمستأجر عليه، إذا كانت المدّة مُلغاة، وجوازه بالمباشرة لأحدهما وبالتسبيب للآخر إذا كانت المباشرة خاصّة مُلغاةً ، وجوازهما معا مع الغاءالقيدين لعدم منافاته له، إذ المفروض عدم تعيين المدّة أو المباشرة أو هما معاً.

أقول: ولكن قد استدلّ للزوم التعجيل، ولو كانت المدّة ملغاة - أي لم يؤخذ الزمان الخاصّ للعمل - بوجهين منقولين عن الشهيد قدس سره(2):

الوجه الأوّل: إنّ الإطلاق في العقود يقتضي التعجيل.

وفيه أوّلاً: إنّ لنا أن نفرض الكلام فيما لو كانت قرينةً على عدم التعجيل.

وثانياً: أنّ الإطلاق المزبور يتمّ في مثل العوضين في البيع والاُجرة في المقام إذاكانت من الأعيان، ولا يتمّ في العمل المستأجر عليه، وذلك لأنّ العقد إذا وقع على الأعيان، حيث أنّ العين لا تقبل التقييد بالزمان، فلا محالة يصير من حين العقد تلك العين الشخصيّة مِلْكاً للطرف، وحينئذٍ فمقتضى قاعدة السلطنة على الأموال أنّ له أن يطالب بها، ويجب عليه تسليمه إيّاها، وأمّا الأعمال والمنافع فهي قابلة للتقييد بالزمان.

وعليه، فالعمل الذي وقع عليه الإجارة، بما أنّ المفروض عدم تحديده بزمانٍ 4.

ص: 139


1- وسائل الشيعة: ج 19/152 ح 24352.
2- شرح اللّمعة: ج 2/194.

خاص، فلامحالة يكون ما وقع عليه العقد طبيعي العمل غير المقيّد بإيقاعه في زمانٍ خاص، ومعه لا سلطنة لمالكه على مطالبته في زمان معيّن، بل اختيار ذلك بيد الأجير، ولا يكون امتناعه عن إيقاعه في زمانٍ خاص امتناعاً عن الحقّ حتّى يكون منافياً لقاعدة السلطنة، فتدبّر فإنّه حقيق به.

الوجه الثاني: إنّ الأمر بالوفاء بالإجارة يقتضي الفوريّة، ولذا قيل إنّه تجب المبادرة مع عدم المطالبة.

وفيه أوّلاً: ما حُقّق في محلّه من أنّ الأمر لا يقتضي الفوريّة.

وثانياً: أنّ الوفاء عبارة عن التمام أو ما يقاربه، والإيفاء عبارة عن الإنهاء والإتمام، وعليه فالوفاء بالإجارة عبارة عن إيجاد العمل الذي تعلّقت به على النحو الذي تعلّقت، فإذا كان المعقود عليه عملاً كليّاً موسّعاً، فالوفاء به كذلك، فلا معنى لدلالة الأمر به على الفور، كما لو تعلّق الأمر بالموسّع، بل مورد الفور ما لو تعلّق الأمر بعملٍ لم يُعلم حاله من حيث الفور والتراخي.

وبالجملة: فالحقّ عدم تماميّتهما، وعليه فدعوى التعجيل ممنوعة.

أقول: ثمّ إنّه على المختار لا كلام في صحّة الإجارة الثانية، وأمّا على القول الآخر فقال جماعة(1) ببطلانها، واستدلّوا له بوجوه:

منها: أنّ الأمر بإيجاد العمل المستأجر عليه أوّلاً، يقتضي النهي عن ضدّه، وهو يقتضي الفساد.

وفيه: ما حُقّق في محلّه من عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضدّه، مع أنّ 2.

ص: 140


1- العروة الوثقى: ج 4/479، كتاب الإجارة: ص 152.

النهي التبعي لا يدلّ على الفساد.

أضف إلى ذلك: أنّ ضدّ العمل المستأجر عليه أوّلاً هو العمل المستأجر عليه ثانياً، لا الإجارة نفسها، فلا نهي عنها قطعاً.

ومنها: أنّه بعد تحقّق الإجارة الأولى، يجب الوفاء بها فوراً، ومعه لا قدرة له على الوفاء بالإجارة الثانية فوراً، فلا يعقل الأمر به، فلا دليل على إمضاء الثانية.

وفيه: إنّ مدرك صحّة الإجارة الثانية لو كان خصوص ما تضمّن الأمر بالوفاء بها، كان لما ذكر وجه، ولكن الدليل لا ينحصر فيه، وتكفي بقيّة أدلّة الإمضاء في الاستناد للصحّة.

أضف إليه: أنّ القدرة المعتبرة، هي القدرة على إتيان المتعلّق خاصّة، ولا تعتبر القدرة حتّى مع الإتيان بمتعلّق الإجارة الأولى، كما هو الشأن في جميع موارد التزاحم.

نعم، يقع التزاحم حينئذٍ بين الأمر بالوفاء بالإجارتين، فيجري فيه ما يجري في سائر موارد التزاحم، فمن يرى سَبق الخطاب من المرجّحات، يحكم في المقام بوجوب الوفاء بالاُولى، ومن لا يرى ذلك يحكم بالتخيير بينهما.

ومنها: أنّه حيث يجب على الأجير العمل للمستأجر الأوّل، فهو غير قادرٍ شرعاً علي تسليم العمل للمستأجر الثاني، والقدرة على التسليم شرطٌ في صحّة الإجارة.

وفيه: ما تقدّم منّا من أنّ القدرة على التسليم ليست بعنوانها شرطاً حتّى يقال إنّ الممتنع شرعاً كالممتنع عقلاً، بل من جهة لزوم الغَرَر ودفعا له بنينا على اعتبارها، ولا يلزم ذلك مع عدم القدرة شرعاً، كما لا يخفى .

ومنها: أنّ الإجارة الأولى أحدثت حقّاً للمستأجر الأوّل على الأجير، ولازمه

ص: 141

عدم تأثير الإجارة الثانية.

وفيه: إنّ الإجارة الأولى لم توجب سوى مالكيّة المستأجر العمل الكلّي في ذمّة الأجير، ولا منافاة بين ذلك وبين التمليك الثاني، لعدم التضادّ بين العملين.

فالمتحصّل: أنّه لا تبطل الإجارة الثانية حتّى على القول بالتعجيل أيضاً.

***

ص: 142

ولو منعه المؤجّرُ من العين، أو هلكت قبل القبض بَطَلت، ولو منعه ظالمٌ بعد القبض صحّت، ورجع المستأجرُ على الظالم، ولو انهدم المسكن من غير تفريطٍ، فسخَ المستأجر، ورجع بنسبة المتخلّف من الاُجرة أو اُلزم المالك بالعمارة،

حكم منع المؤجّر من العين

المسألة الثامنة: قال المصنّف قدس سره: (ولو منعه المؤجّر من العين، أو هلكت قبل القبض بطلت، ولو منعه ظالمٌ بعد القبض، صحّت، ورجع المستأجر على الظالم، ولو انهدم المسكن من غير تفريطٍ، فسخ المستأجر، ورجع بنسبة المتخلّف من الاُجرة، أو اُلزم المالك بالعمارة).

أقول: وتحقيق القول في المقام يتحقّق بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: لو استأجر شيئاً فمنعه المؤجّر من تسلّمه، واستيفاء المنفعة منه، ففيه أقوال:

القول الأوّل: ما في المتن، وعن الشيخ رحمه الله(1)، و «التذكرة»(2) من انفساخ العقد، وسقوط الاُجرة.

القول الثاني: ما قوّاه صاحب «الجواهر» رحمه الله(3) - لو لم يكن إجماعٌ على خلافه -

ص: 143


1- النهاية: ص 440.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/326.
3- جواهر الكلام: ج 27/308.

واختاره المحقّق الاصفهاني(1)، من بقاء العقد، وأنّ للمؤجّر المسمّاة، وللمستأجر اُجرة المثل للمنفعة الفائتة.

القول الثالث: ما في «الشرائع»(2) وعن غيرها(3)، من الحكم بالتخيير بين سقوط الاُجرة وعدم دفعها إليه، وبين الدفع ومطالبة اُجرة المثل.

واستدلّ للأوّل: بأنّ التلف قبل القبض - كما يأتي في المورد الثاني - موجبٌ لانفساخ العقد، والتلف شاملٌ للقهري والاختياري، والاختياري عامٌ لما إذا استند إلى المؤجّر أو إلى الأجنبي.

وفيه: دعوى كون تلفها قبل القبض موجباً للانفساخ:

إنْ كانت بلحاظ القاعدة، لأجل عدم المنفعة، فهي غيرُ شاملةٍ للمقام.

وإنْ كانت بلحاظ ما ورد في البيع من أنّ : «كلّ مبيعٍ تلف قبل قبضه.. الخ»(4)بضميمة أنّهم ألحقوا الإجارة بالبيع، فهو منصرفٌ إلى التلف القهري أو ظاهرٌ فيه، ولا يشمل الاختياري المساوق للإتلاف.

واستدلّ للثاني: بعموم قاعدة الإتلاف(5) الشاملة لما قبل القبض أيضاً.

وهو متينٌ ، لكنّها لا تدلّ على تعيّن ذلك، كي تنافي مع ما يدلّ على التخيير.

والحقّ أنْ يقال: إنّ قاعدة الإتلاف تقتضي ضمان اُجرة المثل لو لم يفسخ العقد،0.

ص: 144


1- كتا الإجارة: ص 262.
2- شرائع الإسلام: ج 2/421.
3- قواعد الأحكام: ج 2/289.
4- المستدرك: ج 13/303 ح 15430.
5- هذه القاعدة مأخوذة من الروايات التي منها قوله عليه السلام: «من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن»، راجع التهذيب: ج 10/230 ح 38، وسائل الشيعة ج 29/241 ح 35540.

وله ذلك من جهة خيار تخلّف الشرط، والمراد به الشرط الضمني الذي عليه بناء العقلاء في المعاملات، وهو تسليم العوضين، وليس ذلك بمناط رفع الضرر حتّى يقال إنّه يندفع بالتدارك، وعليه فله أن يفسخ العقد فتسقط الاُجرة، وله أن يبقيه ويطالب باُجرة مثل المنفعة الفائتة لقاعدة الإتلاف.

وبالجملة: فالأظهر هو التخيير بين الأمرين.

فإنْ قيل: إنّه فرق بين إتلاف المنفعة وتفويتها، فلو استوفى المؤجّر المنفعة يصدق الإتلاف، وأمّا لو منع المستأجر عن الانتفاع بالعين بحبسه مثلاً، أو لم يُسلّم العين إليه لأن ينتفع بها، فلا إتلاف هنا بل هو تفويتٌ ، وعليه فليس له مطالبة اُجرة المثل.

ثمّ إنّه في صورة تسليم العين إليه ومنعه عن الانتفاع بها، حيث أنّه لم يخالف الشرط الضمني فلا خيار أيضاً.

قلنا: إنّ مفهوم الإتلاف مفهومٌ عرفيّ عام شاملٌ لكلّ موردٍ منع عن فعليّة المنفعة، سواءٌ كان ذلك باستيفائها أو بغير ذلك.

نعم، ما اُفيد في صورة المنع من الانتفاع من عدم ثبوت الخيار تامٌّ .

فرع: إذا منعه المؤجّر في بعض المدّة، ثمّ سلّمه العين:

فبالنسبة إلى المنفعة الفائتة يجري جميع ما ذُكر في تفويتها في تمام المدّة، ويمتاز عنه بثبوت خيار التبعّض.

فإنْ قيل: إنّ ثبوت خيار التبعّض على القول بالانفساخ لا إشكال فيه، وأمّا على الأقوال الاُخر، ففي ثبوته إشكالٌ ، لأنّ المستأجر عليه ملك المجموع، فلو قلنا

ص: 145

بثبوت اُجرة المثل والتغريم، كان العقد أثّر أثره، والتغريمُ مؤكّدٌ لبقاء أثر العقد في الفائت والباقي فلا تبعّض، وكذا لو قلنا بالخيار، لأنّ الخيار مؤكّدٌ لبقاء العقد، وإعماله إقدامٌ منه على التبعّض، ومثل ذلك لا يوجب الخيار.

قلنا: إنّ خيار التبعّض كما يثبت في التبعّض في المِلْك، كذلك يثبت في التبعّض في الغَرض المعاملي، والمدرك واحدٌ كما حُقّق في مبحث الخيارات.

وعليه يثبت الخيار في المقام، من جهة أنّه يلزم التبعّض في الغرض المعاملي، وهو الانتفاع بالمجموع.

أقول: وبما ذكرناه يظهر حكم ما لو سلّمه المؤجّر في بعض المدّة، ثمّ منعه في بعضها الآخر، فإنّه في المدّة الباقية يجري ما ذكرناه من التفويت في تمام المدّة، وبالنسبة إلى المجموع يثبت خيار التبعّض كما في عكس المسألة.

فإنْ قيل: إنّ من يقول بالانفساخ لقاعدة التلف قبل القبض، ليس له البناءعليه في الفرض، لفرض كونه بعد القبض.

قلنا: إنّ المنفعة حيث تكون تدريجي الوجود، فكما أنّ وجودها تدريجي كذلك قبضها تدريجي، فبالنسبة إلى المنفعة الباقية يكون من قبيل التلف قبل القبض.

حكم التلف قبل القبض

المورد الثاني: إذا استأجر شيئاً معيّناً فتلف قبل قبضه، انفسخت الإجارة بلا خلافٍ .

ويشهد له: - مضافاً إلى الإجماع على إلحاق الإجارة بالبيع الذي ورد فيه

ص: 146

النبويّ : «كلّ مبيع تلف قبضه فهو من مال بايعه»(1)، وخبر عقبة بن خالد(2)، كما ألحقوا في ذلك الباب الثمن بالمبيع - أنّ المملوك بالإجارة إنّما هو المنفعة وهي تدريجيّة، فمع تلف العين قبل المدّة المضروبة لا منفعة، فلا شيء حتّى يُملك بالإجارة.

هذا في التلف الحقيقي.

وأمّا التنزيلي منه، فالبطلان أو الانفساخ خلاف القاعدة، ينحصر مدركه بالإجماع على الإلحاق بالبيع، ثمّ إنّ مقتضى القاعدة هو بطلان الإجارة، ومقتضى الإلحاق بالبيع هو الانفساخ لا البطلان.

وأيضاً: لو تلفت العين المستأجرة بعد القبض بلا فصلٍ ، فالظاهر أنّ حكمه حكم التلف قبل القبض، لأنّ مرجع تلفها إلى عدم وجود المنفعة في وعائها، فلا منفعة ولا قبض، فهو في الحقيقة من التلف قبل القبض.

وما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(3) بأنّه بمجرّد قبض العين يستحقّ الاُجرة، وإنْ لم يخرج به عن ضمان المعاوضة.

غير تامّ ، لأنّ القبض الذي به يستحقّ الاُجرة في باب الإجارة، قبض المنفعة وقبض العين مقدّمة له، وحيث لا منفعة في ظرفها، فلا قبض.

وأيضاً: إذا تلفت العين بعد مدّة الإجارة وقبل قبضها، فقد يقال بانفساخ الإجارة، لأنّه من قبيل التلف قبل القبض.8.

ص: 147


1- المستدرك: ج 13/303 ح 15430.
2- وسائل الشيعة: ج 18/21 ح 23056.
3- جواهر الكلام: ج 27/278.

وفيه: أنّه إنْ كانت الإجارة على المنفعة الموقّتة بوقتٍ خاصّ ، وتلفت العين بعد ذلك الوقت، فلا وجه للانفساخ ولا البطلان:

أمّا الثاني: فلأنّه كان بملاك عدم المملوك، والفرض وجوده.

وأمّا الأوّل: فلأنّه بعد تلك المدّة لا يكون المستأجر مالكاً للمنفعة، حتّى يعود إلى المؤجّر بالانفساخ، ويعود ما بإزائه إلى المستأجر.

ودعوى:(1) أنّ مقتضى إطلاق الدليل الدالّ على حكم التلف قبل القبض الشامل للفرض، رجوع ما مضى من المنفعة غير المقبوضة.

مندفعة: بأنّ تلك المنفعة لم يعرضها التلف، وما عرض له التلف لا يكون مملوكاً، فلا موضوع لذلك الدليل.

وأيضاً: إنْ كانت الإجارة واقعة على منفعة العين الخارجيّة بنحو الكلّي في المعيّن - كمنفعة الدابّة في يومٍ من الاسبوع - وفُرض تلفها بعد مضيّ يومٍ واحد:

أقول: حيث إنّ الكلّي في المعيّن يتعيّن قهراً بتلف ما عدا فردٍ منه، فلا محالة يكون المملوك هو الفرد غيرالتالف، فيجري فيه ما ذكرناه في سابقه.

وأيضاً: إذا وقع عقدُ الإجارة على عينٍ كليّة، وتوافقا على تعيّنها في فردٍفتلف:

فهل يصدق التلف قبل القبض من حيث انفساخ الإجارة كما عن بعض، أو من حيث انفساخ الوفاء كما أفاده صاحب «الجواهر»(2).

أم لا يصدق ذلك ؟ وجهان:9.

ص: 148


1- كتاب الإجارة للاصفهاني: ص 175.
2- جواهر الكلام: ج 27/279.

الظاهر عدم الصدق، لأنّ الفرد التالف حيثُ لا يكون شيئاً، فلا مورد للانطباق، فينكشف بالتلف فساد التعيين.

حكم منع الظالم من العين

المورد الثالث: ولو منعه ظالمٌ عن العين:

فتارةً : يكون قبل القبض.

واُخرى : يكون بعد القبض.

أمّا الصورة الاُولى: فالظاهر هو الانفساخ، وذلك من جهة كونه من قبيل التلف قبل القبض، الثابت كونه في البيع موجباً للانفساخ بالنص(1)، وألحقوا به الإجارة، وأرسلوه إرسال المسلّمات، وذلك لأنّ التلف وإنْ كان ظاهراً في القهري كما قدّمناه، إلّا أنّه في الفرض قهري على المؤجّر والمستأجر، وإنْ كان اختياريّاً للظالم، فهو نظير السرقة التي جعلها في خبر عقبة بن خالد من قبيل التلف(2)، ومعه لا يبقى مجالٌ لدعوى ثبوت الخيار نظراً إلى تعذّر التسليم، فإنّ ذلك موجبٌ لانفساخ العقد، وانعدام موضوع الخيار، فدليله واردٌ على دليل الخيار.

أمّا الصورة الثانية: وهي فيما لو كان ذلك بعد القبض، فقد التزم المصنّف في المتن و «الشرائع»(3) صحّة الإجارة وأنّ له الرجوع إلى الظالم.

واستدلّ له: بأنّ المؤجّر أقبض مورد الإجارة، وخرج عن ضمانه، فغصب

ص: 149


1- المستدرك: ج 13/303 ح 15430.
2- وسائل الشيعة: ج 18/23 ح 23056.
3- شرائع الإسلام: ج 2/421.

الأجنبي العين المستأجرة كغصبه سائر أمواله، لا يوجب الضمان على أحدٍ غير الغاصب.

وأُورد عليه: بأنّ المعتبر في المقام إقباض المنفعة، وهي تدريجيّة، فلا يكون قبضها دفعيّاً، بل قبض العين في كلّ زمانٍ قبضٌ لمنفعتها في ذلك الزمان، فغصبُ الظالم للعين كمنع المؤجّر عنها تلف أو إتلافٌ قبل القبض للمنفعة الفائتة، والتلف قبل القبض موجب لانفساخ الإجارة أو بطلانها على اختلاف المسلكين.

وفيه: أنّ ما اُفيد يتمّ في منع المؤجّر عنها - كما قدّمناه - ولا يتمّ في المقام، وذلك لأنّ القبض المعتبر لو سلّمنا كونه عبارة عن تسليم العين خارجاً، ولا تكفي التخلية وتمكين المستأجر من قبضها واستيفاء المنفعة، وبالتالي فلا إشكال في أنّ ذلك في الابتداء والحدوث، وأمّا بقاءً واستدامةً ، فلا توقّف في كفاية عدم الاسترداد، وإدامة استيلائه في صدقه.

وعليه، ففي مورد منع المؤجّر نفسه باسترداده العين، يرتفع القبض بقاءً ، وأمّا في مورد منع الظالم فالقبض من المؤجّر باق، لأنّه لم يوجد ضدّ إدامة العين تحت يده، ولا يجبُ عليه التحفّظ على ما أقبضه بمنع الظالم للمستأجر. وبالتالي فالأظهر صحّة الإجارة.

حكم انهدام المَسكن

المورد الرابع: ويدور البحث فيه عن حكم انهدام المسكن المستأجر.

ونخبة القول فيه:

إنّه تارةً : تفوت بانهدامه المنفعة المقصودة منه بالكليّة، بحيث لا يمكن إعادته.

ص: 150

واُخرى : يمكن الإعادة.

وعلى الثاني:

تارةً : تكون الإعادة ممكنة بسرعة، بحيث لا يفوت شيء من المنفعة عرفاً.

واُخرى : يمكن الإعادة مع فوت مقدارٍ من المنفعة.

وعلى التقادير الأخيرة: قد يعيده المؤجّر، وقد لا يعيده.

أمّا مع عدم إمكان الإعادة: فهو من قبيل التلف قبل القبض في أثناء المدّة، وقد تقدّم حكمه، وأنّه يوجب بطلان الإجارة أو انفساخها على اختلاف المسلكين.

فإنْ قيل: إنّ مورد عقد الإجارة هي عَرَصة الدّار الباقية، وأمّا التركيب المقابل للانهدام، فهو وصفٌ للمعقود عليه، فلا يكون الانهدام موجباً للانفساخ.

قلنا: إنّ ذلك خلاف متفاهم العرف، فإنّ المعقود عليه عندهم هو الدّار بما هي دار.

وأمّا مع إمكان الإعادة بسرعة: وإعادة المالك إيّاه، فالظاهر أنّه لا خيار ولا انفساخ، لعدم فوات المنفعة في شيء من المدّة عرفاً، فلا تلف أيضاً.

وأمّا مع إمكان الإعادة لكنّه بمرور زمان يعتدّ به: فبالنسبة إلى الزمان الذي لابدَّ من مروره ينفسخ العقد بالنسبة إلى منفعة المسكن في ذلك الزمان، وبالنسبة إلى ما بعده لا ينفسخ.

والإيراد عليه: بأنّ الإجارة واحدة، كيف تنفسخ بالنسبة إلى بعض وتبقى بالنسبة إلى آخر، تقدّم الجواب عنه، وعرفت أنّها منحلّة إلى إجارات عديدة، وإنْ كانت في الصورة واحدة، وللمتسأجر الخيار لتبعّض الملك والغرض المعاملي.

ص: 151

وأمّا مع إمكان الإعادة وإهمال المؤجّر: فالظاهر أنّ له إلزامه بإعادة البناء بملاك وجوب التسليم عليه، فإن امتنع ثبتَ خيار الامتناع عن التسليم.

أقول: ولا يخفى أنّه من المناسب في المقام البحث في الأعذار العقليّة والشرعيّة المانعة من استيفاء المنافع، فنقول:

منها: ما لو استأجره لقلع الضِّرس، فزال الألم عقيب العقد، فالمشهور(1) بينهم سقوط الاُجرة.

وهو متينٌ ، لأنّه بزوال الألم ينكشف بطلان الإجارة من الأوّل، من جهة أنّ من شرائط صحّة الإجارة - على ما مرّ - كون المنفعة مباحة، وقلع الضِّرس بدون الألم حرامٌ على المشهور، فالمنفعة في ظرفها محرّمة، وإنْ كانت مباحة في ظرف عقد الإجارة، فتأمّل.

استئجار المرأة للإرضاع

ومنها: ما إذا استأجر المرأة للإرضاع، وصادف مطالبة الزوج للاستمتاع.

أقول: وقبل بيان حكمه لابدَّ من التعرّض لحكم هذا الاستئجار جوازاً ومنعاً في نفسه، فنقول:

قد اضطربت كلمات القوم فيه وفي نظائره، كإجارة الفَحل للضراب، والحمّام للاستحمام، وما شاكل، ومنشأ الإشكال فيها أنّ هذه الأعيان - أي اللّبن في المرضعة والشاة، والماء في الحمام، وما شاكل - إنْ لم تكن مملوكة بعقد الإجارة، فما المجوّز

ص: 152


1- راجع: المبسوط: ج 3/222، المهذّب: ج 1/472.

للانتفاع بها؟ وإنْ كانت مملوكة فما المملّك لها؟ إذ المفروض أنّه ليس غير الإجارة، وهي لا تقتضي إلّاملك المنفعة، ولا تقتضي ملك الأعيان.

وأجابوا عنه تارةً : بالإجماع على صحّة الإجارة في هذه الموارد.

واُخرى : بأنّ المنفعة أمر عرفي ربما تصدق على بعض الأعيان، ويراه العرف منفعة لعين اُخرى ، وإنْ كان لو لوحظ مستقلّاً كان من الأعيان، نظير اللّبن للمرأة والشاة، والثمرة للشجرة، والماء للحمّام.

وثالثةً : - كما أفاده المحقّق الاصفهاني(1) - بأنّ العمل والمنفعة في هذه الموارد على قسمين:

القسم الأوّل: أنّ الاستيفاء يستتبع تلف العين، كالاستحمام في ماء الحمام بالدخول والخروج، وكالإرضاع أو الرّضاع بدخول اللّبن في بطن الصّبي، وكالضراب بدخول النطفة في رحم الدابّة.

القسم الثاني: أنّ الاستيفاء يستتبع وجود عين، كالاستقاء من البئر، وحلب الشاة وإخراج لبنها، واقتطاف الثمرة من الشجرة.

أمّا القسم الأوّل: فما هو منافٍ لحقيقة الإجارة هو ملك العين لا اقتضائها تلف العين، ضرورة أنّ استيفاء المنفعة يلازمُ غالباً تلف العين، كما في استيفاء المنفعة من الدّار بسكناها، فإنّه يوجبُ تلف مقدارٍ منها، واستيفائها من الدابّة ربما يوجبُ هزالها أو جرح ظهرها، وهكذا، وهذه اللّوازم جائزة ومستحقّ عليها بنفس تشريع الإجارة، واستحقاق استيفاء المنفعة.9.

ص: 153


1- كتاب الإجارة للاصفهاني: ص 179.

وأمّا القسم الثاني: فيلتزم فيه بأنّ ملكيّة هذه الأعيان إنّما هي بتبع ملكيّة المنافع، وهذا لا محذور فيه، لأنّ المحذور في صيرورة هذه مملوكة بنفس عقد الإجارة، وإلّا فكما أنّ البيع لنقل الأعيان، ويستلزم تمليك العين تمليك المنافع، ولم يتوهّم أحدٌ الإشكال فيه، كذلك في المقام فإنّ الإجارة لنقل المنافع، ولكن ملكيّة المنافع ربما تستلزم ملكيّة الأعيان، ولا محذور في ذلك.

أقول: ويمكن المناقشة في الجميع:

أمّا الأوّل: فلأنّ الإجماع قائمٌ على الصحّة في هذه الموارد، لا على الصحّة بعنوان الإجارة، ولعلّها من جهة انطباق عنوان آخر - الذي سيمرّ عليك - وبه يظهر حال ما دلّ من الكتاب(1) والسُنّة(2) على جواز أخذ الأجر على الإرضاع، لعدم ظهوره في الإجارة.

وأمّا الثاني: فلأنّ لازمه جواز تمليك تلك الأعيان ابتداءً ، كما يجوز تمليك سكنى الدّار، ولا أظنّ أن يلتزم به أحدٌ.

اللّهمَّ إلّاأنْ يقال: أنّها إنّما تعدّ منفعة إذا لوحظت لعين اُخرى ، لا فيما إذا لوحظت مستقلّة.

وأمّا الثالث: فلأنّه يرد على ما اُفيد في القسم الأوّل بأنّ تلف العين إنْ كان من لوازم الانتفاع واستيفاء المنفعة التي وقعت الإجارة عليها جاز، وإلّا فلا يجوز، وفي الامثلة المشار إليها إنّما يتلف الماء في الحمّام، واللّبن في الإرضاع، والنطفة في).

ص: 154


1- سورة الطلاق: الآية 6.
2- وسائل الشيعة: ج 21/456 باب (أنّه لا يجب على الحُرّة إرضاع ولدها بغير أُجرة).

الضراب، للانتفاع بنفس تلك الأشياء واستيفائها، فماء الحمّام إنّما يتلف باستيفاء منفعة الماء لا منفعة الحمّام، والنطفة تتلف باستيفائها لا باستيفاء منفعة الفحل، واللّبن يتلف لا باستيفاء منفعة المرأة، وحينئذٍ:

فإنْ التزم بكون هذه الأشياء بأنفسها منافع، فيعود ذلك إلى الوجه الثاني، وإنْ التزم بوقوع الإجارة عليها فمنافعها تُملك بالإجارة.

فيرد عليه: ماتقدّم من أنّ إجارة ما يتلف باستيفاء المنفعة لا يجوز.

ويرد على ما اُفيد في القسم الثاني: أنّ التبعيّة في الملكيّة تحتاج إلى دليل من بناء العقلاء أو غيره، ولا دليل على تبعيّة ملكيّة تلك الأعيان لملكيّة منافع الأعيان الاُخرى، أي ملكيّة الماء واللّبن والثمرة لملكيّة منافع الشاة والبئر والشجرة.

أضف إليه: أنّه لا يتصوّر للشجرة منفعة تستتبع الثمرة، فان قابليّة الشجره للأثمار غير استيفائيّة، والاقتطاف فعلُ المقتطف لا منفعة الشجرة.

وأضف إلى جميع ما ذكرناه: أنّه في بعض تلك الموارد يكون بعض الشرائط الاُخر للإجارة مفقوداً، مثلاً في الاستحمام تكون مدّته ومقدار الماء الذي يتلف مجهولتين.

أقول: والحقّ أنّ الظاهر في جملةٍ من تلك الموارد كونها من قبيل الإباحة بالعوض، الّتي قد مرّ في بعض المباحث السابقة من هذا الكتاب الدليل على مشروعيّتها ولزومها، وبيّنا أنّها بنفسها معاملة مستقلّة، وبالالتزام بذلك يندفع الإشكال في كثيرٍ من الموارد، كالاستحمام وارضاع المرأة واقتطاف الثمرة من الشجرة، بل في جميع الموارد التي تقدّمت الإشارة إليها.

ص: 155

مطالبة الزوج بالاستمتاع في الزمان المعيّن للإجارة

والتحقيق: إذا عرفت ذلك، فيقع الكلام فيما لو استأجر المرأة للإرضاع - بناءً على صحّة الإجارة - أو أوقع المعاملة عليها بالنحو المشروع، ثمّ طالبها الزوج بالاستمتاع، فإنّه يجب عليها التمكين، وهو ينافي الإرضاع الواجب عليها، ومحلّ الكلام صور ثلاث:

الأُولى: أن يبني على جواز الإرضاع بلا إذن الزوج، في صورة عدم المنافاة لحقّ الاستمتاع الثابت عليها في أوقاتها، بنحو الكلّي في المعيّن.

الثانية: ما إذا كان الزوج في السفر أو مريضاً، فاتّفق عود الزوج وزوال المرض، وطالبها بالاستمتاع في الزمان المعيّن للإجارة.

الثالثة: ما إذا آجرت نفسها للإرضاع قبل النكاح.

أمّا الصورة الأُولى:

فإنْ قلنا: بأنّ للزوج حقّ الاستمتاع في جميع الأوقات بنحو الاستغراق، فلا إشكال في بطلان الإجارة المفروضة، لأنّ المرأة تكون حينئذٍ نظير الأجير الخاصّ .

ولكن الظاهر أنّه ليس كذلك، وعليه فحيث لا يمكن الالتزام بأنّ الاستمتاع الذي يملكه الزوج إنّما هو الاستمتاع في زمان معيّن لعدم المعيّن شرعاً، ولا في زمان مردّد، لأنّ المردّد من حيث هو مردّد لا حقيقة له ولا تحقّق فلا يملك، ولا معلّقاً على أيّ وقتٍ شاء الزوج، لأنّ هذا الحقّ ثابتٌ شاء الزوج أم لم يشاء، فلا محالة يكون بنحو الكلّي في المعيّن، غاية الأمر أنّ ولاية التعيين بيد الزوج:

ص: 156

فإنْ كان الإرضاع أيضاً بنحو الكلّي في المعيّن، وكانت ولاية التعيين بيد المرأة، فإنّه لا إشكال في أنّه لا يجوز لها الإرضاع مع مطالبة الزوج للاستمتاع.

وأمّا إنْ كان الإرضاع الذي هو مورد للمعاملة، الإرضاع في وقتٍ خاصّ ، فمن حيث صحّة العقد لا إشكال من جهة تماميّة أركانه وشرائطه، حتّى إباحة المنفعة، إذ لو فرضنا أنّ الإجابة واجبة عليها، لما كان الإرضاع محرّماً إلّاعلى القول باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه، وحتّى القدرة على التسليم كما مرّ مراراً.

فإذا صحّت الإجارة وجب الوفاء بها، وإذا وجب عليها الوفاء بالإجارة، وقع التزاحم بين ذلك وبين ما دلّ على وجوب الإجابة للزوج، فتتخير بينهما.

أقول: هذا هو حقّ القول في المقام، ولكن حيث أنّ المشهور بين الأصحاب(1)بطلان الإجارة - إمّا مطلقاً أو فيما ينافي - فالأحوط ترك الإجارة في المنافي إلّا بإذن الزوج.

وأمّا الصورة الثانية: ففيها أقوال:

القول الأوّل: انفساخ الإجارة، لمصادفتها في الواقع للمانع، فهي باطلة واقعاً، ولعلّه المشهور بينهم(2).

القول الثاني: بقاء الإجارة على صحّتها، ووجوب تقديم حقّ الزوج على حقّ المستأجر عليها، وحينئذٍ تفسخ المرأة الإجارة، وهذا هو الذي اختاره صاحب «الجواهر» رحمه الله(3).

القول الثالث: صحّة الإجارة، ووجوب تقديم حقّ الزوج، مع ثبوت حقّ 7.

ص: 157


1- قواعد الأحكام: ج 2/288. (2و3) جواهر الكلام: ج 27/297.

الفسخ للمستأجر، لتعذّر التسليم أو لعدم تحقّق التسليم خارجاً.

القول الرابع: صحّة الإجارة، وكونها مخيّرة في تقديم أيّ الحقّين شاءت.

أمّا صحّة الإجارة: فيظهر وجهها ممّا قدّمناه في الصورة السابقة، وكذلك تخييرها بين تقديم حقّ الزوج أو حقّ المستأجر، إلّاأنّ تقديم حقّ الزوج في كلماتهم من المسلّمات، وكفى به مرجّحاً في باب التزاحم.

وأمّا ثبوت الخيار للمستأجر: فالظاهر أنّه لا إشكال فيه إنْ قدّمت الزوجة حق الزوج، لعدم تسليم حقّه، فمقتضى الشرط الضمني أنّ له الخيار.

وأمّا ثبوت الخيار للزوجة: فلم يظهر لي وجهه، إذ لا موجب له حتّى من ناحية الضرر، لعدم الضرر عليها في بقاء الإجارة على حالها، ولذا ربما يقال إنّ عبارة «الجواهر» مصحّفة، والعبارة الصحيحة هي: (إنّه تنفسخ الإجارة)، لا أنّها تفسخ الإجارة.

وأمّا الصورة الثالثة: فلا إشكال في عدم بطلان الإجارة، لأنّ المرأة كانت مالكة لنفسها بالملكيّة المرسلة الأبديّة قبل النكاح، فآجرت نفسها، وخرجت هذه المنفعة عن ملكها، فبعدما زوّجت نفسها تكون بدون هذه المنفعة متعلّقة لحقّ الزوج، فالمرأة في المقام كالدّار التي استؤجرت ثم باعها من شخص ثالث.

وبعدما تزوّجت، إذا طالبها الزوج للاستمتاع في وقتٍ معيّن:

1 - فإنْ كان ذلك الوقت مختصّاً بالإرضاع، قُدّمت حقّ المستأجر بلا كلامٍ ، إذ ليس للزوج طلب الاستمتاع في ذلك الوقت لما مرّ.

2 - وأمّا إنْ كان غير مختصّ به، قُدّمت حقّ الزوج، لأنّه بالمطالبة يجب عليها

ص: 158

تعييناً الإجابة، والواجبُ بالإجارة موسع، ومن الواضح أنّ الواجب الموسّع لا يصلح للمزاحمة مع الواجب المضيّق.

وعليه، فما هو المشهور بين الأصحاب من تقديم حقّ المستأجر هنا إنّما هو في الفرض الأوّل لا الثاني.

3 - وإنْ كان غير مختصّ به، ولكن كان حقّ التعيين للمستأجر، فعيّن للإرضاع وقت مطالبة الزوج بالاستمتاع، فالظاهر هو التخيير لها في تقديم أيّهما شاءت.

استئجار المرأة لكنس المسجد

ومنها: ما إذا استأجر أحدٌ المرأة لكنس المسجد مباشرةً في وقت خاصّ ، فحاضت المرأة في تلك المدّة.

قالوا: إنّه يظهر من عروض الحيض، بطلان الإجارة نظراً إلى حرمة العمل، فإنّ الكنس حرامٌ على المرأة لا يصحّ تمليكه بالإجارة.

ولكن يرد على ذلك: إنّ الكنس بعنوانه لا يحرم، بل إنْ توقّف على اللّبث في المسجد حَرُمتْ مقدّمته عليها، وبالتالي فنفس ما وقع عليه الإجارة لا يكون محرّماً كي تبطل الإجارة، ولا تسري الحرمة من مقدّمته إليه.

فإنْ قيل: إنّه من جهة حرمة مقدّمته لا تقدر هي على تسليمه، فتبطل الإجارة لذلك.

قلنا: إنّه قد تقدّم مراراً أنّ غير المقدور الشرعي لا محذور في إجارته، مع أنّه

ص: 159

بنفسه ليس غير مقدور شرعاً بل مقدّمته تكون كذلك، وعليه فالأظهر صحّة الإجارة، ولذا لو فعلت محرّماً وكنست المسجد استحقّت الاُجرة.

ثمّ إنّه على فرض الصحّة، تقع المزاحمة بين حرمة المقدّمة، ووجوب الكنس عملاً بدليل الإجارة.

ولكن الظاهر تسالمهم على سقوط وجوب ذي المقدّمة، مع حرمة مقدّمتهما إذا لم يُحرز أهميّة الوجوب، وعلى أيّ حال الظاهر عدم الخلاف بينهم في تقديم حُرمة اللّبث في المقام.

ومنها: ما إذا استأجر الدابّة للسفر إلى الحَجّ ، فحدث مانعٌ عن السلوك:

فتارةً : يكون المانع عامّا.

واُخرى : يكون خاصّاً.

فعلى الأوّل: تبطل الإجارة، لامتناع استيفاء هذه المنفعة، فلا تكون مثل هذه المنفعة مالاً عرفاً كي تُملك بعوض.

وعلى الثاني: أي فيما لو كان المانع خاصّاً:

فإنْ كانت المنفعة المملوكة مقيّدة بالمباشرة بطلت أيضاً، لأنّ المفروض أنّ هذه الحصّة من المنفعة لا يمكن استيفائها، فلا يصحّ تمليكها بالإجارة.

وإنْ لم تكن مقيّدة بها، صحّت الإجارة ولا خيار، لأنّ له أن يؤجّرها بالغير، فلا موجب للبطلان ولا للخيار.

ومنها: ما إذا استأجر داراً في بلدٍ، فعرض خوفٌ يمنع عن السُّكنى:

فإنْ كان عامّاً بطلت الإجارة، لأنّ هذه المنفعة المحفوفة بالمانع لا ماليّة لها عند

ص: 160

العرف، فلايصحّ تمليكها بالإجارة.

وإنْ كان خاصّاً، صحّت الإجارة حتّى مع قيديّة المباشرة، لبقاء الماليّة، إلّاإذا كان الخوف موجباً لحرمة استيفاء المنفعة عليه، فإنّ مورد الإجارة حينئذٍ منفعة محرّمة، وقد اشترطنا إباحتها.

ودعوى المحقّق الاصفهاني رحمه الله:(1) من أنّ حرمة استيفاء المنفعة عليه لعارضٍ ، لا دخل لها بحرمة المنفعة حتّى مع قيديّة المباشرة، لأنّ غايته أنّ المملوك حصّة ملازمة لحصّةٍ محرّمة.

غريبة: لأنّ حرمة المنفعة لا معنى لها إلّاحرمة استيفائها، إذ الحرمة تتعلّق بالفعل لا بالموجود الخارجي، فمعنى اشتراط إباحة المنفعة إباحة استيفائها، والمفروض في المورد حرمته.

وعليه، فالأظهر هو البطلان في هذه الصورة.

نعم، مع عدم قيديّة المباشرة، فإنّ حرمة الاستيفاء عليه لا تلازم حرمة المنفعة بقول مطلق، فلا مانع من صحّة الإجارة.

أقول: ثمّ إنّ في المقام موارد اُخر، حيث أنّه يظهر الحكم فيها ممّا ذكرناه في هذه الموارد، فلا حاجة إلى ذكرها.

***8.

ص: 161


1- كتاب الإجارة: ص 268.

والقولُ قولُ منكر الإجارة، مع عدم بيّنة المُدّعي،

الاختلاف في الإجارة

المسألة التاسعة: في الاختلاف في الإجارة، (و) فيه فروع:

الفرع الأوّل: لو اختلفا في أنّه آجره داره أو غيرها إلى مدّة كذا، أو أعاره إيّاها:

فتارةً : يكون مُدّعي الإجارة هو المالك، وغرضه إلزامه بالاُجرة.

واُخرى : يكون المُدّعي لها هو القابض، وغرضه منع المالك من تملّك الاسترداد إلى آخر المدّة أو غير ذلك.

وعلى الأوّل:

1 - إمّا أنْ يكون النزاع في أثناء استيفاء المنفعة.

أو يكون قبل استيفائه شيئاً منها.

3 - أو يكون بعد انقضائها.

فإنْ كان المدّعي هو المالك، وكان قبل الاستيفاء، فلا إشكال في أنّ (القول قولُ منكر الإجارة، مع عدم بيّنة المُدّعي) بيمينه.

وإنْ كان النزاع بعد الاستيفاء، أو في أثناء ذلك:

فعن جماعةٍ (1) أنّ القول قول المنكر، وهو ظاهرُ المتن.

وعن المشهور(2): أنّ القول قول المالك.

وعن بعضهم: التحالف.

ص: 162


1- العروة الوثقى: ج 6/664.
2- العروة الوثقى: ج 6/664.

وعن الشيخ رحمه الله(1) استعمال القرعة في تعيين المنكر منهما، ليكون القول قوله بيمينه.

واستدلّ في ملحقات «العروة»(2) للأوّل: فيما إذا كان محطّ الدّعوى استحقاق الاُجرة وعدمه، أو كان الغرض منهما ذلك، وأمّا إنْ كان مصبّ الدّعوى أنّ الواقع أيّ العقدين، بأصالة عدم الإجارة، قال: (ولا يعارضها أصالة عدم الإعارة، لأنّها لا تثبت الضمان إلّابضميمة العلم الإجمالي، بخلاف أصالة عدم الإجارة، فإنّها موجبة لعدم الضمان بنفسها).

وفيه: أنّه في تعارض الاُصول في أطراف العلم الإجمالي وتساقطهما، لا يعتبرسوى ترتّب الأثر على كلّ من الأصلين، سواءً أكان الأثر غرضه أم لم يكن، فإذا فرضنا ترتّب الأثر على أصالة عدم الإعارة - على ما يعترف به - فيما لو كان الغرض في تشخيص الواقع، بملاحظة خصوصيّة تعارض أصالة عدم الإجارة مع أصالة عدم الإعارة، وتتساقطان.

وعليه، فالحقّ أن يستدلّ له بأصالة البراءة عن الضمان، فالقول قول منكر الضمان.

أقول: واستدلّ للمشهور:

تارةً : بأنّ مقتضى قاعدتي اليد(3) والإتلاف(4) هو الضمان، لأنّ المستفاد منهما كون الأصل هو الضمان في الأموال التالفة عند غير مالكها أعمّ من الأعيان والمنافع.0.

ص: 163


1- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 27/197.
2- العروة الوثقى: ج 6/665.
3- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.
4- هذه القاعدة متصيّدة من الروايات التي منها قوله عليه السلام: (من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن)، راجع التهذيب: ج 10/230 ح 38، وسائل الشيعة ج 29 ص 241 ح 35540.

واُخرى : بقاعدة الاحترام الثابتة بالأخبار(1).

وثالثة: بموثّق إسحاق، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ استودع رجلاً ألف درهم فضاعت، فقال الرّجل: كانت عندي وديعة، وقال الآخر: إنّما كانت لي عليك قرضاً؟

فقال عليه السلام: المال لازمٌ له، إلّاأن يقيم البيِّنة أنّها كانت وديعة»(2).

بتقريب أنّه من المعلوم كون تقديم قول مدّعي القرض، لأجل احترام مال المسلم، وهذه العلّة موجودة في المقام.

ولكن يرد على الأوّل أوّلاً: أنّ المتنازعين متوافقان على عدم ثبوت اُجرة المثل الّتي هي مفاد القاعدتين، أمّا القابض فلإدّعائه العارية، وأمّا المالك فلأنّه يدّعي ثبوت الاُجرة المسمّاة.

وثانياً: أنّه لو سُلّم كون مفادهما الضمان، فهو أعمٌّ من المسمّى أو المثل، حيث أنّه لا ريب في أنّ ذلك خُصّص بما إذا لم يكن عارية، فمع الشكّ فيها يُشكّ في صدق المخصّص، فالتمسّك بالقاعدتين يعدّ تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة وهو لا يجوز.

أقول: وبذلك يظهر ما في الوجه الثاني، مع أنّ في كونها مثبتة للضمان كلاماً تقدّم في كتاب البيع.

وأمّا الوجه الثالث فيرد عليه: أنّ العلّة المذكورة ليست منصوصة، بل هي مستنبطة ظنيّة، والظنّ لا يُغني من الحقّ شيئاً، مع أنّ النزاع في مورد الخبر في2.

ص: 164


1- وسائل الشيعة: ب 3 من أبواب مكان المصلّي، وباب 3 من أبواب القصاص في النفس ح 3، وباب 40 من أبواب كتاب الشهادات.
2- الكافي: ج 5/239 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/85 ح 24212.

عوض المثل، وفي المقام في العوض المسمّى، فقياس المقام عليه مع الفارق.

أقول: وبما ذكرناه يظهر مدرك القول الثالث، وهو تعارض الأصلين، وعليه فالمتّبع هوالتحالف، وقد اختاره السيّد رحمه الله(1) فيما لو كان الغرض تشخيص الواقع بملاحظة خصوصيّة، وهو يتمّ إذا لم تكن تلك الخصوصيّة مورداً لأصل العدم.

وأمّا الرابع: فلعلّ وجهه ما دلّ (2) على لزوم القرعة لتعيين المنكر، في ما إذا لم يتميّز المُدّعي عن المنكر.

ويردّه: - مضافاً إلى ما مرّ من التمييز في المقام - ما سيأتي في كتاب القضاء(3) من اختصاصه بموارد خاصّة.

وبالجملة: فالأظهر هو القول الأوّل.

هذا كله بالنسبة إلى الضمان وعدمه.

وأمّا بالنسبة إلى جواز استيفائه المنفعة: فالظاهر جوازه ما لم يستردّه المالك، لتوافقهما عليه.

وإنْ استرد فالمالك يعترف بأنّه ليس له ذلك، إذا بذل القابض العوض، والقابض يعترف بثبوته له، فليس للمالك الاسترداد لإقراره، كما ليس للقابض الانتفاع بمقتضى إقراره، إلّاأنّ للمالك التصرّف فيه واستيفاء منفعته إنْ لم يبذل القابض العوض مقاصّة، وللقابض ذلك مع بذله بهذا العنوان أيضاً.

وأمّا على الثاني: وهو ما لو كان مُدّعي الإجارة هو القابض، فيدّعي مالكيّته للمنفعة، ومُدّعي العارية المالك، فالظاهر تقديم قول المالك، لا لأصالة عدما.

ص: 165


1- العروة الوثقى: ج 6/665.
2- وسائل الشيعة:: ج 27/257 باب: (الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة).
3- فقه الصادق: ج 38/136 وما بعدها.

وقولُ المستأجر في قَدر الاُجرة

الإجارة - لما مرّ من تعارضها مع أصالة عدم العارية - بل لأصالة بقائها في ملكه، وعدم انتقالها إلى القابض.

نعم، إذا كانت العين بيد القابض، لا يبعدُ دعوى كون يده عليها الموجب لكون المنفعة تحت استيلائه، ويده أمارة الملكيّة، واليد تُقدّم على الأصل، فالقول قوله حينئذٍ.

اختلاف المؤجّر والمستأجر في مقدار الاُجرة

الفرع الثاني: إذا اختلفا في مقدار الاُجرة - كما لو ادّعى المؤجّر أنّها عشرة، وقال المستأجر إنّ الاُجرة خمسه - فمع عدم البيّنة لأحدهما فيه أقوال:

القول الأوّل: ما صرّح به المصنّف رحمه الله في المتن، قال: (وقول المستأجر في قدر الاُجرة)، وهو المشهور بين الأصحاب(1).

القول الثاني: ما اختاره صاحب «الجواهر» رحمه الله(2)، بقوله أنّ القول قول المستأجر لو كان مصبّ الدّعوى الزيادة والنقصان، والتحالف إذا كان مصبّ الدّعوى أنّ العقد وقع على الخمسة أو العشرة.

القول الثالث: ما عن الشيخ رحمه الله في «المبسوط»(3)، من التحالف مطلقاً، ثمّ

ص: 166


1- المختصر النافع: ص 153، شرائع الإسلام: ج 2/424، كشف الرموز: ج 2/33.
2- جواهر الكلام: ج 27/342.
3- المبسوط: ج 3/265.

الرجوع إلى اُجرة المثل.

القول الرابع: ما للشيخ أيضاً(1)، وتبعه صاحب «المستند»(2)، من الرجوع إلى القرعة.

القول الخامس: ماله أيضاً(3)، وهو التفصيل بين النزاع قبل انقضاء الأجل فالتحالف، أو بعده فالقرعة، أو تقديم قول المستأجر متردّداً بينهما.

أقول: والأظهر هو الأوّل، لأنّ وقوع العقد على الأقلّ معلومٌ - إمّا في ضمن الأكثر أو مستقلّاً - ووقوعه على الزائد مشكوكٌ فيه، ولذلك يجري فيه الأصل.

ودعوى:(4) أنّه يعارضه أصالة عدم وقوع العقد على الأقلّ بخصوصه.

مندفعة: بأنّ هذا الأصل لعدم ترتّب الأثر عليه لا يجري.

مع أنّه مع الإغماض عن ذلك، يمكن أنْ يقال:

إنّ مصبّ الدّعوى سواءً كان هو العقد، وأنّه وقع على الخمسة أو العشرة، أم كان هو استحقاق الزيادة، جرت أصالة عدم الزيادة، وعدم وقوع العقد على العشرة.

أمّا الأُولى فواضحة، وأمّا الثانية فلأنّه بها ينفى استحقاق الزيادة.

ولا يُعارضها أصالة عدم وقوع العقد على الخمسة، لأنّه لا يثبت بها استحقاق الزيادة، فإنّ ذلك من آثار وقوع العقد على العشرة، لا عدم الوقوع على الخمسة.4.

ص: 167


1- الخلاف: ج 3/521.
2- مستند الشيعة: ج 17/435.
3- المبسوط: ج 3/266.
4- العروة الوثقى: ج 6/654.

وعليه، فقول المستأجر موافق للأصل مطلقاً.

أقول: ثمّ إنّ الحكم بالتحالف في الموارد التي يكون كلّ من الطرفين مدّعياً ومنكراً، لم يظهر لنا وجهه، وسيأتي الكلام فيه في كتاب القضاء(1)، لكن إجمال ما يخطر بالبال هو أنّ مادلّ على أنّ الحلف على المُدّعى عليه(2) مختصٌّ بما إذا كان كذلك محضاً، على ما يظهرمن المقابلة بينه وبين ثبوت البيّنة على المدّعي.

ثمّ على تقدير القول بالتحالف، لا وجه للرجوع بعده إلى اُجرة المثل، لأنّ حلف كلّ منهما ينفي ظاهراً ما يدّعيه الآخر من وقوع العقد على الاُجرة الخاصّة، ولاينفي وقوع العقد على الاُجرة المسمّاة المعلوم الذي هو مورد توافقهما، بل لابدَّ وأنْ يقال بعد التحالف بأنّ انتقال المنفعة إلى المستأجر معلومٌ ، واشتغال ذمّته باُجرة معيّنة أيضاً معلومٌ ، لكنّه مردّدٌ بين الأقلّ والأكثر، فيقدّم قول مُدّعي الأقلّ بيمينه، لأنّ الاشتغال به معلوم والزائد مشكوك فيه يرتفع بالأصل، كما لو علما بوقوع العقد على أحد الوجهين بلا نزاع بينهما لجهلهما معاً بالتعيين.

وبعبارة اُخرى : إنّ الأصل الجاري في العقد من قبيل الأصل الجاري في السبب، وما يجري في اشتغال الذمّة من قبيل الأصل الجاري في المُسبّب، ومعلوم أنّه مع عدم جريان الأصل في السبب يجري في المسبّب.

فإنْ قيل: إنّ حلف كلّ منهما ينفي إحدى الخصوصيّتين، فبحلفهما تنفيان معاً، وحيث أنّ عدم خصوصيّة اُخرى معلومٌ ، فيحكم في ظاهر الشرع بعدم وقوع عقدٍ بينهما، فالمتّبع ما يدلّ على ثبوت اُجرة المثل.).

ص: 168


1- فقه الصادق: ج 38/129 وما بعدها.
2- وسائل الشيعة:: ج 27/233 باب: (أنّ البيّنة على المدّعي، واليمين على المُدّعى عليه في المال).

والتفريط وقيمة العين

قلنا: إنّ الحلف إنّما ينفي ما لم يُعلم ثبوته، ووقوع العقد على إحدى الأجرتين معلومٌ ، فلا ينفيه الحلف.

وإنْ شئتَ قلت: المحلوف عليه ليس عدم وقوع العقد، بل عدم تعلقه بخصوصيّة خاصّة، فلا وجه للحكم بعدمه بالحلف.

أقول: (و) بما ذكرناه يظهر حكم ما لو اختلفا في (التفريط)، فإنّه يقدّم قول المستأجر المُدّعي لعدمه.

الفرع الثالث: إذا قال: (آجرتُك نصف الدّار بعشرة دراهم) وقال الآخر: (بل آجرتني تمام الدّار بعشرة)، فهو عكس الفرع السابق، إذ المؤجّر هنا يدّعي الأقلّ ، والمستأجر يدّعي الأكثر، فينعكس الحكم، ويجري على كلّ منهما عكس ما جرى عليه في الفرع المتقدّم.

الفرع الرابع: لو تعدّى على العين المستأجرة فتلفت أو تعيّبت، فإنّه لا إشكال في أنّ المستأجر ضامن.

(و) لو اختلفا في (قيمة العين):

فعن الحِلّي(1) وأكثر المتأخّرين بل عامّتهم: أنّ القول قول الغارم مع يمينه، واستدلّ له:

1 - بأصالة عدم الزيادة.5.

ص: 169


1- السرائر: ج 2/465.

2 - وبأنّه منكرٌ فيكون القول قوله.

ولا يخفى رجوع الوجهين إلى وجهٍ واحد.

إنّما الإشكال في أنّه في ذيل صحيح أبي ولّاد المتقدّم ما يدلّ على أنّ القول قول المالك، وأنّ وظيفته الحلف إلّاأن يردّ الحلف على القابض:

«قال: قلت: فمن يعرف ذلك ؟ قال عليه السلام: أنتَ وهو، إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإنْ رَدّ اليمين عليك، فحلفت على القيمة، لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهودٍ يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكتُرِي كذا وكذا فيلزمك(1)، الحديث».

وقد عمل به الشيخ قدس سره في محكي «النهاية»(2)، والمفيد في محكي «المقنعة»(3)، ونسبه المصنّف رحمه الله إلى الأكثر، وإنّما لم يعمل به جماعة - بل في «الرياض»(4) عامّة المتأخّرين - من جهة مخالفته لموازين باب القضاء، فإنّ المالك يدّعي الزيادة فقوله مخالفٌ للأصل، فيكون هو مدّعياً ووظيفته إقامة البيّنة، والقابض منكراً ووظيفته الحلف أو رَدّ الحلف، وقد حكم في الخبر بأنّه يحلف صاحب المال، أو يردّ الحلف على الغاصب المتعدّي.

ثمّ إنّه على فرض كونه منكراً، فما معنى جعل إقامة البيّنة وظيفته، مع أنّ البيّنة على المُدّعي! واُجيب عن ذلك بأجوبة.

والحقّ أنْ يقال: إنّ الصحيح يُحمل على التعبّد، ويُخصّص به القاعدة العامّة،8.

ص: 170


1- الكافي: ج 5/290 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/119 ح 24272.
2- النهاية: ص 446.
3- المقنعة: ص 641.
4- رياض المسائل: ج 9/228.

وقولُ المالك في رَدّ العين وقدر المستأجر،

ولعلّ السرّ في ذلك أنّ المفروض في مورد الخبر غصب البغل، ومن شؤون أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال عدم قبول قوله ما لم يرد الحلف عليه، وأنْ لا يطلب منه بشيء من موازين القضاء، بل يوجّه الخطاب إلى المالك.

وعلى ذلك فالأظهر أنّ القول قول المالك مع يمينه.

الفرع الخامس: لو اختلفا في أنّ العين المستأجرة بعد انقضاء الأجل هل ردّت إلى المالك أم لا؟

فلا إشكال (و) لا خلاف في أنّ القول (قول المالك في) عدم (رَدّ العين)، لأنّه منكرٌ للرّد والأصل عدمه، (و) قد مرّ أيضاً أنّهما لو اختلفا في (قدر المستأجر) كان القول قول المالك، لاحظ ما ذكرناه في الفرع الرابع.

***

ص: 171

وكلّ موضعٍ تبطلُ فيه الإجارة، يثبتُ فيه اُجرة المثل،

الموضع الذي تبطل فيه الإجارة ويثبت فيه اُجرة المثل

المسألة العاشرة: (وكلّ موضعٍ تبطلُ فيه الإجارة، يثبت فيه اُجرة المثل) سواءٌ زادت عن المسمّاة أو نقصت عنها، بلا خلافٍ فيه.

وفي «الجواهر»(1): (بل قد يظهر من إرسالهم ذلك إرسال المسلّمات أنّه من القطعيّات).

أقول: والحقّ أنْ يقال:

إنّه تارةً : يستوفي المنفعة.

واُخرى : لا يستوفاها ولكن تتلف تحت يده.

وثالثة: لا يكون مستوفياً ولا المنفعة تالفة تحت يده.

أمّا الصورة الأُولى: فالظاهر ضمان المستوفي للمنافع:

1 - لعموم: «على اليد ما أخذت...»(2).

قد أورد على التمسّك به لضمان المنافع بإيرادين:

الإيراد الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم قدس سره(3)، من عدم صدق عنوان (الأخذ) بالإضافة إلى المنافع.

ص: 172


1- جواهر الكلام: ج 27/246.
2- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.
3- كتاب المكاسب: ج 3/204.

وفيه: إنّه ليس المراد ب (الأخذ) الأخذ بالجارحة الخاصّة، وإلّا لزم عدم شمول الخبر لجملةٍ من الأعيان - كالدار والعقار وما شاكل - بل كلمة (الأخذ) كناية عن الاستيلاء على الشيء، والأخذ بهذا المعنى يصدق بالإضافة إلى المنافع أيضاً، إذ الاستيلاء على المنفعة إنّما يتحقّق بالاستيلاء على العين، إذ المنفعة هي ما في العين من القابليّة، كقابليّة الدابّة للركوب، والدّار للسُّكنى، وهذه القابليّة من مراتب وجود العين، والاستيلاء على العين استيلاءٌ عليها بجميع شؤونها ومراتب وجودها، ومنها القابليّة للانتفاع.

الإيراد الثاني: ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمه الله(1)، من عدم صدق التأدية في المنافع، فإنّ ظاهر قوله عليه السلام: «حتّى تؤدّي»، كون عهدة المأخوذ مغيّاة بأداء نفس المأخوذ، والمنافع لتدرّجها في الوجود لا أداء لها بعد أخذها في حَدّ ذاتها.

وفيه: إنّ الغاية في الخبر ليست أداء شخص ما أخذ، وإلّا بقى الضمان في صورة التلف وأداء العوض، لعدم تحقّق أداء الشخص، بل المراد به أعمٌّ من أداء الشخص وأداء العوض، غاية الأمر يكون بنحو الطوليّة، والمنافع وإنْ لم يمكن ردّها إلّاأنّه يمكن رَدّ عوضها.

2 - وللرواية الشريفة الواردة في الأمَة المبتاعة إذا وُجدَتْ مسروقة، بعد أن أولدها المشتري، الدالّة على أنّه يأخذ الرّجل ولده بالقيمة(2)، فإنّ الخبر يدلّ على ضمان المنفعة المستوفاة، ومورده وإنْ كان هو البيع، إلّاأنّ ثبوت ضمان المنفعة في2.

ص: 173


1- حاشية المكاسب: ج 1/317.
2- وسائل الشيعة: ج 21/204 ح 26902.

البيع الفاسد الذي لا ضمان في صحيحه للمنفعة، مستلزم لضمانها في الإجارة الفاسدة بالأولويّة.

3 - ولصحيحة أبي ولّاد المتقدّمة الوارد فيها قوله عليه السلام:

«أرى له عليك مِثل كَراء البَغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل، وذاهباً من النيل إلى بغداد، ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه»(1) الحديث.

4 - ولقاعدة (من أتلف مال الغير...) المستفادة من النصوص الواردة في موارد خاصّة، وجملة منها موارد العقود الاستيمانيّة - كالوكالة والمضاربة والرّهن وغيرها - فإنّه حكم فيها بالضمان مع التعدّي والتفريط، وجملة منها في غيرها، مثل ما ورد في القصّار يخرق الثوب من قوله عليه السلام: «فهو ضامنٌ بما جنت به يده»(2) وغيره.

وأمّا الصورة الثانية: وهي عدم استيفاء المنفعة وفوتها تحت يده، فالظاهر هو ثبوت الضمان في هذه الصورة، لحديث على اليد - بالتقريب المتقدّم - ولقاعدة الإتلاف، لأنّ حبس العين ومنع مالكها عن الانتفاع بها، يعدّ إتلافاً لمنافعها عرفاً.

وعن المحقّق الخراساني رحمه الله(3) الاستدلال له بأنّ من آثار ضمان العين ضمان منافعها، فالدليل على ضمان العين دليلٌ على ضمان منافعها.

وفيه أوّلاً: ما عرفت من أنّ الأظهر عدم ضمان العين في المقام.

وثانياً: أنّه إن أراد بذلك أنّه يصدق الاستيلاء واليد على المنافع بالاستيلاء واليد على العين، فهو يرجع إلى ما ذكرناه من التمسّك بحديث اليد.1.

ص: 174


1- الكافي: ج 5/290 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/119 ح 24272.
2- الفقيه: ج 3/253 ح 3918، وسائل الشيعة: ج 19/144 ح 24324.
3- حاشية المكاسب: ص 31.

وإنْ أراد به ماذكره بعض المحقّقين من أنّ أداء العين المجعول غاية للضمان لا يكون إلّابأدائها بمنافعها وفروعها.

فيرد عليه: أنّه إنْ لم يصدق اليد على المنافع باليد على العين، لما كان يجدي شمول الحديث للعين في ضمانها، فإنّ الغاية أداء نفس ما يكون تحت اليد لا شيء آخر.

وإنْ أراد به غير ذلك فعليه البيان.

ويشهد للضمان في الصورتين، قاعدة: (ما يُضمن بصيححه يُضمن بفاسده)، فإنّ المنافع تضمن في الإجارة الصحيحة فتضمن في فاسدها أيضاً.

وأمّا الصورة الثالثة: فعدم الضمان فيها ظاهر.

أقول: ثمّ إنّ الشهيد قدس سره(1) استثنى من ذلك ما لو كان الفساد باشتراط عدم الاُجرة في العقد، أو عدم ذكرها فيه، لدخول العامل على ذلك.

وفي محكي «جامع المقاصد»(2) قال - بعدما حكاه -: (وهذا صحيحٌ في العمل، أمّا مثل سكنى الدّار التي يستوفيها المستأجر بنفسه، فإنّ اشتراط عدم العوض إنّما كان في العقد الفاسد الذي لا أثر لما تضمّنه من التراضي، فحقّه وجوب اُجرة المثل، ومثله ما لو باعه على أنّه لا ثمن له).

وأمّا لو كان مورد الإجارة منفعة الأجير، فيعمل بنفسه مع فسادها، فوجه عدم استحقاقه شيئاً ظاهرٌ، لأنّه متبرّعٌ بالعمل، وهو المباشر لإتلاف المنفعة.0.

ص: 175


1- نسبه إليه في مسالك الأفهام: ج 5/184.
2- جامع المقاصد: ج 7/120.

ووجّه في «المسالك»(1) عدم الضمان في المنفعة أيضاً بأنّه يرجع في مثل ذلك إلى العارية، وإنْ عبّر عنها بلفظ (الإجارة)، لأنّ التصريح بعدم الاُجرة أقوى من الظهورالمستفاد من لفظ الإجارة، والنّص مقدّم على الظاهر، فيحكم بأنّه عارية، إذ هي لا تنحصر في لفظٍ، بل يكفي فيها كلّ ما دلَّ على التبرّع بالمنفعة.

واستدلّ لعدم الضمان فيها في «الجواهر»:(2) بقاعدة: (ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده)، بناءً على إرادة أشخاص العقود منها لا أصنافها، إذ لا ريب في عدم الضمان في المقام، لو فرض صحّة العقد المزبور، فكذا لا يُضمن به على الفساد للقاعدة المزبورة.

أقول: ولكنّه يرد على ما أفاده في «الجواهر»:

أوّلاً: إنّ عموم العقود في القاعدة ليس أفراديّاً، لأنّ ظاهر قولهم: (لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده) وجود الفردين فيما هو الموضوع لهذا الحكم، ولو حُمل العام على الأفراد تعيّن حمل الصحيح فيها على الفرض والتقدير، فيقال إنّ هذه الإجارة الفاسدة لو كانت صحيحة كان يضمن بها، فكذلك في هذا الفرض، وهو خلاف الظاهر.

وثانياً: أنّ القاعدة وعكسهاإنّما همافي صورة التلف، ولاتشملان صورة الإتلاف.

أقول: وأمّا ما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله، فيرد عليه:

إنّ عقد العارية الذي هو موضوعٌ لأحكام خاصّة، يعتبر في إنشائه ما يعتبر7.

ص: 176


1- مسالك الأفهام: ج 5/184.
2- جواهر الكلام: ج 27/247.

في سائر العقود، فكما أنّه في غيره لا يصحّ إنشاء عقد بما وضع لعقد آخر فكذلك في المقام.

ولكن يمكن أنْ يُنتصر لما أفاده الشهيد رحمه الله - وبه يظهر ما في «جامع المقاصد»(1) - بوجهين:

أحدهما: أنّ ضمان المنافع لو كان فإنّما هو لقاعدة اليد، أو لقاعدة الإتلاف، أو لقاعدة (مايُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده) - بتقريب أنّ في صحيح الإجارة ضماناً بالنسبة إلى المنافع، فكذا في فاسدها - أو للخبرين المتقدّمين، وشيء من تلكم لا يشمل المقام:

أمّا الأولان: فلانصراف حديث اليد وكذا (من أتلف) عن اليد المستندة إلى التسليط المجّاني، والإتلاف المبنى عليه، ولعلّ وجهه أنّ القاعدتين إنّما تكونان من القواعد العقلائيّة الممضاة شرعاً لا من التعبّدية الصرفة، وهي إنّما تكون لأجل احترام المال، ولا ريب في سقوط الاحترام بتسليط المالك غيره مجّاناً.

وأمّا القاعدة الثالثة: فمدركها إمّا الإجماع، أو إقدام الآخذ على الضمان، أو قاعدة اليد.

أمّا الإجماع: فغيرُ ثابتٍ في المقام.

أمّا الإقدام: فالمفروض عدمه.

وأمّا قاعدة اليد: فقد عرفت حالها.

وأمّا الخبران: فهما مختصّان بصورة الشراء والإجارة مع العوض.0.

ص: 177


1- جامع المقاصد: ج 7/120.

فالمتحصّل: أنّ ما أفاده الشهيد رحمه الله متين، لكن لابدَّ وأن يقيّد ذلك بما إذا كان التسليط المشار إليه باقياً إلى حين التلف أو الإتلاف، فلو آجر داره بلا عوضٍ ، واعتقد صحّتها، ولم يكن راضياً ببقائها تحت يده، ولا يستردّها لاعتقاد لزومها، فإنّه لا إشكال في الضمان في صورة التلف والإتلاف، لعموم قاعدتي اليد والإتلاف، وعدم المخصّص.

***

ص: 178

ويصحّ إجارة المشاع،

إجارة المشاع

المسألة الحادية عشرة: (ويصحّ إجارة المشاع) مطلقاً، استأجره من شريكه أو غيره، وهو موضع وفاقٍ كما في «المسالك»(1)، وتشهد به عمومات الكتاب والسُنّة أعمّ ممّا دلّ على إمضاء العقود أو خصوص الإجارة، وعدم القسمة لا يكون مانعاً بعد إمكان استيفاء المنفعة بموافقة الشريك.

نعم، لا يُسلّم العين إلّابإذنه، ولو أبى رفع أمره إلى الحاكم.

ولو استأجره بظن كونه مقسوماً فتبيّن الإشاعة، كان للمستأجر الخيار نظير خيار تبعّض الصفقة.

وعلى الجملة: لا يعتبر في صحّة الإجارة وراء الاُمور التي قدّمناها شيء، ولو شكّ فيه يُنفى بالإطلاقات والأصل، ولذا اشتهر بينهم أنّ كلّ ما صَحّ إعارته شرعاً من الأعيان المنتفع بها مع بقائها، يصحّ إجارته، بل صرّح بعدم الخلاف في هذه الكليّة غير واحدٍ، وقد ادّعى صاحب «الجواهر»(2) قيام الإجماع عليها، ومدركها الإطلاقات والعمومات.

أقول: حيث أنّه قد مرَّ في تعريف الإجارة أنّها لنقل المنافع، والبيع لنقل الأعيان، وأنّه لا يصحّ استعمال أحدهما في مورد الآخر، فلا يصحّ إجارة ما لا يبقى

ص: 179


1- مسالك الأفهام: ج 5/176.
2- جواهر الكلام: ج 27/213.

بالانتفاع به، لأنّه ليس انتفاعاً بالعين بل هو إتلاف لها، ولذلك اتّفقت كلماتهم على أنّ كلّ ما لا يصحّ إعارته - وهو كلّ ما لا يُلازم الانتفاع به إتلافه - لا يصحّ إجارته.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ ما لا يبقى بالانتفاع به، وإنْ آجره وقصد بالإجارة نقله بنفسه، فهو بيعٌ لا إجارة، وإلّا فلا يجوز إتلافه، فلا منفعه له كي يملكها المؤجّر، فلايصحّ إجارته.

ولو تُكلّف في صدق مفهوم الإجارة، فإنّه لا ريب في انصراف الأدلّة عنه، وهو واضحٌ لا سترة عليه.

***

ص: 180

ويضمنُ الصانعُ ما يجنيه، وإنْ كان حاذقاً كالقصّار يخرق الثوب

الصنّاع ضامنون لما جَنَته أيديهم

المسألة الثانية عشرة: (ويضمنُ الصّانع ما يجنيه، وإنْ كان حاذقاً، كالقصّار يخرق الثوب) أو يتلفه ويحرقه، أو الحجّام يجني في حجامته، أو الختّان يختن فيسبق موساه إلى الحشفة، أو يتجاوز حَدّ الختان، وكذا الكحّال والبيطار، مثل أن يحيف على الحافر، أو يفصد فيقتل، أو يجني ما يضرّ بالدابّة، ولو احتاط واجتهد، من غير فرقٍ بين كون العمل في ملكه أو ملك المستأجر، وبين حضور ربّ المال أو غيبته، بلا خلافٍ أجده في شيء من ذلك بين المتقدّمين والمتأخّرين منَّا، كذا في «الجواهر»(1).

وفي «المسالك»(2): (أمّا الضمان فيما يتلف بيده، فهو موضع وفاق، ولا فرق في ذلك بين الحاذق وغيره، ولا بين المختصّ والمشترك، ولا بين المفرط وغيره).

أقول: وتنقيح القول في المقام إنّه يقع الكلام:

تارةً : فيما لو أفسده.

واُخرى : في ما لوتلف في يد الصانع لا بسببه من غير تفريطٍ ولا تعدّ.

أمّا المورد الأوّل: ويدور البحث فيه من جهتين:

فتارةً : يقع البحث فيما تقتضيه القواعد.

ص: 181


1- جواهر الكلام: ج 27/322.
2- مسالك الأفهام: ج 5/223.

واُخرى : فيما تقتضيه النصوص الخاصّة.

الجهة الاُولى: إنّ مقتضى القاعدة هو الضمان مع كون الخطأ من الصانع وسَبَق يده، وعدمه مع كون المحلّ غير قابل، كما لو كان الطفل ضعيف المزاج وغير محتمل للجرح، والثوب عتيقاً ينخرق بالقصارة.

أمّا الضمان في الأوّل: فلعموم من أتلف الشامل للإتلاف عن قصد وعن غيرقصد إليه، لعدم كونه من العناوين القصديّة الصادق:

1 - على ما لو أوجد المتلف الجزءالأخير من العلّة التامّة، ولو كان شرطاً من شروطه بل ومعدّاً من معدّاته، كما لو ألقاه في النار المتولّد منه الإحراق، فإنّ المُلقي لم يصدر منه فعلٌ سوى إيجاد الشرط، وهي الملاقاة للنار، ويصدق عليه المتلف.

2 - وعلى ما لو كان ذلك بغير اختياره، كالنائم يكسركوز الغير، والحمّال يعثر فينكسر حمله، فإنّه بعثرته عن غير اختيارٍ كَسَر الحَمل بغير اختيارٍ منه.

وأمّا عدم الضمان في الثاني: فليس من جهة عدم صدق الإتلاف كما توهم، بل هو صادق قطعاً، بل من جهة أنّ الإتلاف المفروض من حيث كونه من لوازم العمل الذي استؤجر عليه، يكون مأذوناً فيه بالإذن في ضمن الإجارة.

وبعبارة اُخرى : إنّ استئجار الخياط لقصارة الثوب العتيق الذي يَخرق بالقصارة عادة، إذنٌ له في الخرق، والإتلاف عن إذنٍ لا يوجبُ الضمان.

وأمّا الطبيب فإنْ لم يكن مباشراً، لا يكون ضامناً، لأنّه ليس بمتلف، وإنْ كان مباشراً، فحيث أنّه مأمورٌ من قِبل الشارع الأقدس بمعالجة المريض بما يراه علاجاً، لا بما هو علاجٌ واقعاً، وإلّا لانسدّ باب الطبابة، فإذن المريض أو وليّه في

ص: 182

العلاج إذنٌ في الإتلاف، فلا ضمان عليه.

الجهة الثانية: والبحث فيها عمّا يستفاد من النصوص، وهي كثيرة:

منها: صحيح الحلبي - أو حسنه - عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن القصّار يفسد؟

فقال عليه السلام: كلّ أجير يُعطى الاُجرة على أن يصلح فيفسد فهو ضامن»(1).

ونحوه في التضمّن للكبرى الكليّة نصوصٌ اُخر.

ومنها: خبر أبي الصباح، عنه عليه السلام: «الثوب أدفعه إلى القصّار فيخرقه ؟

قال عليه السلام: اغرمه، فإنّك إنّما دفعته إليه ليصلحه، ولم تدفعه إليه ليفسده»(2).

ومثله في التضمّن للعلّة أخبار اُخر.

ومنها: الخبر القوي الذي رواه السكوني عنه عليه السلام، عن أبيه عليه السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام ضمَّن ختّاناً قطع حَشَفة غلام»(3).

ومثله في التضمين في مورد خاص بعض أخبارٌ اُخر.

ومنها: قويّه الآخر، عنه عليه السلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: مَن تطبّب أو تبيطر فليأخذ البراءة من وليّه، وإلّا فهو له ضامن»(4).

ومنها: صحيح داود بن سرحان، عنه عليه السلام: «في رجلٍ حمل متاعاً على رأسه، فأصاب إنساناً فمات وانكسر منه ؟ فقال عليه السلام: هو ضامن»(5).0.

ص: 183


1- الكافي: ج 5/241 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/141 ح 24317.
2- التهذيب: ج 7/220 ح 42، وسائل الشيعة: ج 19/143 ح 24324.
3- التهذيب: ج 10/234 ح 61، وسائل الشيعة: ج 29/260 ح 35583.
4- الكافي: ج 7/364 ح 1، وسائل الشيعة: ج 29/260 ح 35582.
5- الكافي: ج 7/350 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/152 ح 24350.

ومنها: خبر زيد بن علي، عنه عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام في حديثٍ : «كلّ عامل مشترك إذا أفسد فهو ضامن»(1).

وفي المقام أخبار كثيرة اُخر دالّة على الضمان، سيأتي طرف منها في المورد الثاني.

وبالجملة: فالظاهر موافقته لما قدّمناه:

أمّا النصوص المتضمّنة للكبرى والتعليل: فلأنّها تدلّ على الضمان في مورد قابل للإصلاح والإفساد، وما لايصلح للإصلاح يكون خارجاً عن تحتها.

وأمّا خبر زيد: وما بمضمونه من النصوص المطلقة الآتية، فهي يقيّد إطلاقها لو لم تكن منصرفة إلى صورة القابليّة للإصلاح والإفساد معاً، بمفهوم التعليل الوارد في النصوص المتقدّمة: «ولم تدفعه إليه ليفسد»، فإنّه يدلّ على أنّه لو كان الدفع متمحّضاً بكونه للإفساد فلا ضمان.

وأمّا قول السكوني الأوّل: وما بمضمونه من الأخبار الواردة في الموارد الخاصّة، فهي دالّة على الضمان مع الإتلاف في مورد خطأ الصانع، وسبق يده وما شاكل.

وأمّا صحيح داود: فعلى فرض كونه ممّا نحن فيه بعود الضمير المجرور إلى المتاع، يدلّ على ما ذكرناه في الحمّال من شمول قاعدة الإتلاف لما إذا كان بغير اختيار.

وأمّا خبر السكوني الثاني: فالظاهر أنّ المراد بأخذ البراءة من وليّه ليس البراءة عن الضمان - وإلّا أُشكل بأنّه لا معنى لها قبل حدوث موجبه، والإذن2.

ص: 184


1- التهذيب: ج 7/222 ح 58، وسائل الشيعة: ج 19/152 ح 24352.

في الإتلاف نفسه أو طرفه غير جائز - بل المراد منها الإذن في العلاج على نحوٍ لا ضمان معه.

وعلى ذلك فالنصوص موافقة للقاعدة.

نعم، مقتضى إطلاق خبر السكوني، ثبوت الضمان على الطبيب في صورة عدم الإذن، ولو كانت الطبابة على النحو المتعارف، وهو كونها بنحو الأمر وتوصيف الدواء ولم يكن الطبيب مباشراً.

عدم ضمان المتاع التالف تحت يد الأجير

وأمّا المورد الثاني: وهو ما لو تلف المتاع تحت يد الأجير لا بسببه من غير تعدٍ ولا تفريط، فالمشهور بين الأصحاب(1) عدم الضمان، بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه، وما نقله الشهيد الثاني(2) بقوله: (وقيل إنّه كذلك في الضمان، بل ادّعى عليه المرتضى الإجماع)، خطأٌ في النقل، فإنّ الظاهر أنّ خلاف المرتضى وإجماعه إنّما هو في تصديق دعواه التلف، وهو غير مربوطٍ بما نحن فيه من معلوم التلف في يده بغير تعدٍّ ولا تفريط.

وكيف كان، فمقتضى القاعدة عدم الضمان، لكونه أميناً سلّطه المالك على ماله، وقد مرّ عدم الضمان في أمثال ذلك.

وأمّا الأخبار الخاصّة: فهي على طوائف:

ص: 185


1- راجع المبسوط: ج 3/241، شرائع الإسلام: ج 2/422، مسالك الأفهام: ج 5/223.
2- مسالك الأفهام: ج 5/224.

الطائفة الاُولى: مطلقة دالّة على ضمان الصائغ الذي أتلف المال أو تلف تحت يده:

1 - كصحيح الحلبي - أو حسنه - عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمن القصّار والصائغ احتياطاً على النّاس، وكان أبي عليه السلام يتطوّل عليه إذا كان مأموناً»(1).

2 - وخبر يونس، عن الإمام الرّضا عليه السلام: «عن القصّار والصائغ أيضمنون ؟ قال عليه السلام: لا يصلح إلّاأن يضمنوا»(2).

3 - وخبر السكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يضمن الصبّاغ والقصّار والصائغ احتياطاً على أمتعة النّاس»(3).

الطائفة الثانية: تدلّ على عدم الضمان كذلك:

1 - كصحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الصبّاغ والقصّار؟ فقال عليه السلام: ليس يضمنان»(4).

الطائفة الثالثة: تدلّ على الضمان مع الإتلاف، وعدمه مع التلف، كخبر بكر بن حبيب، عنه عليه السلام قال:

«لا يضمن القصّار إلّاما جَنَت يده، وإنْ اتّهمته أحلفته»(5).3.

ص: 186


1- الكافي: ج 5/242 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/142 ح 24320.
2- الكافي: ج 5/243 ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/144 ح 24325.
3- الفقيه: ج 3/256 ح 3927، وسائل الشيعة: ج 19/142 ح 24322.
4- التهذيب: ج 7/220 ح 46، وسائل الشيعة: ج 19/145 ح 24330.
5- التهذيب: ج 7/221 ح 49، وسائل الشيعة: ج 19/146 ح 24333.

الطائفة الرابعة: تدلّ على التضمين مع التهمة، وعدمه مع عدمها، وهي كثيرة كصحيح أبي بصير، عنه عليه السلام:

«لا يضمن الصائغ، ولا القصّار، ولا الحائك، إلّاأن يكونوا متّهمين(1)، الحديث». ونحوه غيره(2).

أقول: المستفاد من هذه النصوص - بعد رَدّ بعضها إلى بعض - أنّه في صورة الإتلاف يثبت الضمان، وفي صورة التلف لا ضمان مع كونه أميناً، وكذا لو كان متّهماً فأثبت التلف بالبيّنة أو الحلف، وأمّا لو كان متّهماً ولم يثبت التلف فهو ضامن.

وهذا كلّه على وفق القاعدة، سوى عدم قبول دعوى التلف من الأمين، والأصل الذي أسّسه أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الباب هو ذلك لا الضمان في صورة التلف، ولذا قال في ذيل خبر السكوني المتضمّن لذلك الأصل:

«وكان عليه السلام لا يضمّن من الغرق والحرق والشيء الغالب».

ولا مانع من العمل بهذه الأخبار على خلاف القاعدة، فلا يقبل قول الأمين في دعوى التلف مع كونه متّهماً.

ثمّ إنّ وظيفة مدّعي التلف بحسب موازين باب القضاء هو إقامة البيّنة، ولكن المستفاد من هذه النصوص جواز تحليفه والاكتفاء بحلفه عن البيّنة:

ففي خبر بكر المتقدّم: «وإنْ اتّهمته أحلفته».

وفي خبره الآخر: «إن اتّهمته فاستحلفه».).

ص: 187


1- الفقيه: ج 3/257 ح 3928، وسائل الشيعة: ج 19/144 ح 24327.
2- وسائل الشيعة: ج 19/141 باب (أنّ الصانع إذا أفسد متاعاً ضمن).

وفي صحيح أبي بصير المتقدّم: «لا يضمن الصايغ، ولا القصّار، ولا الحائك، إلّا أن يكونوا متّهمين في خوفٍ بالبيّنة ويستحلف، لعلّه يستخرج منه شيئاً».

فإنّ ظاهره جواز كلٍّ من مطالبة البيّنة والاستحلاف.

عدم ضمان صاحب الحَمّام

أقول: ثمّ إنّ في المقام فرعين مناسبين:

الفرع الأوّل: قالوا إنّ صاحب الحمّام لا يضمن الثياب إلّاإذا اُودع وفرّط أو تعدّى، والظاهر أنّه لا خلاف فيه، ويشهد له:

1 - خبر إسحاق بن عمّار، عن جعفر عليه السلام، عن أبيه عليه السلام:

«إنّ عليّاً عليه السلام كان يقول: لا ضمان على صاحب الحمّام فيما ذهب من الثياب، لأنّه إنّما أخذ الجَعل على الحمّام، ولم يأخذ على الثياب»(1).

ونحوه خبر أبي البُختري(2).

2 - وخبر غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أُتي بصاحب الحمّام وُضِعت عنده الثياب فضاعت، فلم يضمّنه، وقال عليه السلام: إنّما هو أمين»(3).

وأُورد على هذه النصوص: بأنّ مقتضى الخبر الأخير كون صاحب الحمّام أميناً دائماً، وجعل ذلك علّة لعدم الضمان، وعلّل ذلك في الخبرين الأولين بأنّه لم يأخذ الجَعل على الثياب، مع أنّ آخذ الجَعل أيضاً أمين لا يضمّن بدون التفريط؟.

ص: 188


1- التهذيب: ج 6/314 ح 76، وسائل الشيعة: ج 19/140 ح 24316.
2- وسائل الشيعة: ج 19/140 ح 24315.
3- الكافي: ج 5/242 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/139 ح 24314.

وفيه: إنّ الأمين قسمان، أمين عام، وأمين خاصّ ، إذ التأمين تارةً عقديٌ وهي الوديعة، واُخرى غير عقدي وهي الأمانة بالمعنى الأعمّ ، وهو مجرّد تسليط الغير على المال عن رضاه.

وفي الأوّل: يجب الحفظ، فلو تركه وتلف فقد فرّط، فيكون ضامناً.

وفي الثاني: لا يجبُ الحفظ، إذ مع عدم الاستيداع من المالك الراجع إلى الاستنابة في الحفظ، لا دليل على وجوب حفظ مال الغير، فبتركه لا يكون مفرّطاً، فلا ضمان.

وعليه، فالخبران الأولان يدلّان على أنّصاحب الحمّام لم يأخذالجعل على الثياب، فلايكون الحفظ واجباً عليه، فلو ترك الحفظ وتلف الثياب لا تفريط فلاضمان عليه.

والخبر الأخير يدلّ على أنّه أمينٌ ، والأمين سواءٌكان عامّاًأو خاصّاًلاضمان عليه.

وبذلك يظهر أنّه لو استؤجر مع ذلك على الحفظ، فتلفت الثياب بتركه التحفّظ ضَمِن.

وهل يصحّ شرط الضمان بدون الاستئجار، ليضمن مع التلف أم لا؟ وجهان تقدما، وعرفت أنّ الأظهر ذلك.

الفرع الثاني: في الاستئجار على حفظ الثياب مطلقاً، وقد ظهر ممّا أسلفناه أنّ مقتضى القاعدة هو الضمان مع ترك التحفّظ، وعدمه مع التلف السماوي، أو ما غلب عليه كالسرقة غيلةً مع كمال التحفّظ.

وأمّا الصحيح عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ استأجر أجيراً فأقعده على متاعه فَسُرق ؟ قال عليه السلام: هو مؤتمن»(1).

فمحمولٌ على ما هو الغالب من السرقة غيلةً ولو مع التحفّظ.

***9.

ص: 189


1- الكافي: ج 7/227 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/142 ح 24319.

استئجار الدراهم والدنانير

خاتمة: في بيان فروع باقية من الأحكام.

الفرع الأوّل: أنّه وقع الخلاف بين الأصحاب في استئجار أشياء ليس لها منفعة مقصودة للعقلاء، أو ما له منفعة مقصودة، ولكن استؤجر لغير تلك المنفعة - كاستئجارالدرهم والدينار للتزيين، واستئجار التفاح للشَّم، والطعام لتزيين المجلس وما شاكل - والمشهور بينهم(1) جواز ذلك، وخالف في ذلك صريحاً الحِلّي رحمه الله(2)، وتردّد فيه جماعة.

أقول: ومنشأ الإشكال - مع أنّ مقتضى الإطلاقات صحّة الإجارة - أمران:

الأمر الأوّل: من ناحية عدم المنفعة، نظراً إلى أنّ منافع الأشياء على قسمين:

1 - منافع مقصودة: وهي ما يُترقَّب من الأعيان، كسُكنى الدّار، وركوب الدابّة، وأكل التفاح، وصرف النقود في التكسّب.

2 - ومنافع غير مقصودة: كشمّ التفاح، والتزيين بالنقدين، وما شاكل.

ومناط صحّة الإجارة كون العين ذات منفعة عقلائيّة، وتعلّق الإجارة بها يكون لذلك، وإلّا فتكون الإجارة غير عقلائيّة وسفهيّة وباطلة.

وفيه: إنّه لا إشكال في أنّ الإجارة لتمليك المنفعة، ومع عدمها لا إجارة، ولكن اعتبار كون المنفعة من المنافع المقصودة العقلائيّة ممّا لا شاهد به.

ودعوى: أنّ الإجارة حينئذٍ سفهيّة.

يدفعها أوّلاً: إنّ تعلّق غرضٍ عقلائي بالمنفعة غير كونها مقصودة عند العقلاء،

ص: 190


1- مسالك الأفهام: ج 5/212.
2- قواعد الأحكام: ج 1/226.

إذ قد يتعلّق الغرض بالمنفعة غير المقصودة، والمخرج للإجارة عن السفهائيّة هو تعلّق غرض عقلائي بها، لا كون المنفعة مقصودة عند العقلاء.

وثانياً: أنّه لا دليل على بطلان المعاملة السفهائيّة، إذ الدليل دلّ على بطلان معاملة السفيه(1)، وأمّا معاملة الكامل السفهائيّة فهي باقية تحت الإطلاقات والعمومات.

الأمر الثاني: إنّ مناط ماليّة الأشياء هي منافعها المقصودة للعقلاء، فما لا منفعة مقصودة للعقلاء فيه، لا يكون مالاً عندهم، كما أنّ المنفعة غير المقصودة لهم ليست بنفسها مالاً، ويعتبر في البيع والإجارة وغيرهما من المعاوضات كون مورد المعاملة مالاً كما هو واضح، فمع كون المنفعة غير مقصودة للعقلاء، لا تكون مالاً، فلا يصحّ تمليكها بعوض.

وفيه: أنّه لم يدلّ دليلٌ على اعتبار كون ما يقع مورد الإجارة مالاً، إذ ربما يبذل الاُجرة بإزاء شيءٍ غير مال، لغرض عقلائي مترتّب على الانتفاع بالعين الذي لايحصل إلّاببذل العوض، مع أنّ للمنع عن كون المنفعة غير المقصودة للعقلاء غيرمال مجالاً واسعاً.

وبالتالي، فالأظهر هو صحّة الإجارة في هذه الموارد.

عدم لزوم اتّصال المدّة بالعقد

الفرع الثاني: المشهور بين الأصحاب(2) أنّه لا يشترط في الإجارة اتّصال مدّتها بالعقد، فيجوز أن يؤجّر داره شهراً متأخّراً عن العقد بشهرٍ أو سنة، سواءٌ

ص: 191


1- وسائل الشيعة: ج 18/409 باب (ثبوت الحجر عن التصرّف في المال على الصغير والمجنون والسفيه حتّى تزول عنهم الموانع).
2- الحدائق الناضرة: ج 14/274.

أكانت مستأجرة في ذلك الشهر الفاصل أم لا، وعن الشيخ(1) وأبي الصلاح(2)اعتبار ذلك.

أقول: واستدلّ لاعتباره:

1 - بمنافاة الانفصال للقدرة على التسليم، وهي كما مرّ شرطٌ في صحّة العقد، والمعتبر منها القدرة الفعليّة، كما هو مقتضى الأصل في الشرط، لأنّ مقتضاه مقارنة الشرط لمشروطه.

2 - وبأنّ العقود والإنشاءات عللٌ للأحكام، فيلزم الاتّصال، لئلّا يلزم تخلّف المعلول عن علّته.

3 - وبأنّ استحقاق التسليم من أحكام العقد ومقتضياته، وهو لا يجامع الانفصال، فالانفصال منافٍ لمقتضى العقد.

أمّا الأوّل: فمخدوشٌ لأنّ مدرك اعتبار القدرة على التسليم، هو لزوم الغَرَر مع عدمها، ولازم ذلك اعتبار القدرة عليه في ظرفه لا حين العقد.

وأمّا الثاني: فيندفع بأنّ المعلول هو الملكيّة لا المملوك، ولا محذور في الالتزام بفعليّة الملكيّة وتأخّر المملوك، مع أنّ المنفعة يقدر وجودها بوجود العين، فالمملوك أيضاً ليس متأخّراً.

أضف إليه أنّ المُنشَأ إذا كان أمراً على تقديرٍ لابدَّ وأن يتحقّق كذلك، وإلّا لزم تخلّف المُنشَأ عن إنشائه، وهو على حَدّ تخلّف المعلول عن علّته.

ويرد على الثالث: ما تقدّم من أنّ استحقاق التسليم من مقتضيات سلطنة9.

ص: 192


1- الخلاف: ج 3/496.
2- الكافي في الفقه: ص 349.

النّاس على أموالهم، لا من مقتضيات العقد، مع أنّه إنْ كان مقتضياته لا يكون العقد مقتضياً لاستحقاقه مطلقاً، بل على حسب حال الملك، فإنْ كان المملوك متأخّراً كان استحقاق التسليم أيضاً متأخّراً.

وبالجملة: فالأظهر عدم اعتبار ذلك.

وعليه فهل يصحّ إجارة الشيء في مقدار من الزمان على نحو الكلّي في المعيّن، بلحاظ قطعات الزمان - كإجارة الدّار شهراً من هذه السنة - أم لا تصحّ؟

والحقّ أنْ يقال: إنّه إنْ لم تكن قطعات الزمان مختلفة بلحاظ الماليّة، من حيث الصيف والشتاء، أو من جهات اُخر، صَحّ العقد، وإلّا بطل للزوم الغَرَر.

ثمّ إنّه لو آجر داره شهراً، انصرف الإطلاق إلى الاتّصال بالعقد، وإلّا بطل.

كراهة استعمال الأجير قبل مقاطعته على الاُجرة

الفرع الثالث: قالوا يُكره استعمال الأجير قبل أن يُقاطَع على الاُجرة.

وعن غير واحدٍ(1) أنّه لا خلاف في الجواز والكراهة.

أقول: وينبغي أولا تعيين مورد الحكم، ثمّ ذكر دليله:

أمّا الأوّل: فالظاهر أنّ مورده ليس هو الإجارة القوليّة أو المعاطاتيّة في الموارد التي ليس للعمل اُجرة عادية - لاستلزام عدم المقاطعة حينئذٍ جهالة الاُجرة، وهي توجب البطلان، فلا معنى للكراهة - ولا الإجارة في المورد الذي يكون له اُجرة عادية، فإنّه كالمذكور كما في الالتزامات الضمنيّة، بل الظاهر أنّ مورده العمل

ص: 193


1- جواهر الكلام: ج 27/253.

بعوض الذي هو معاملة مستقلّة قامت السيرة القطعيّة عليها، نظير الإباحة بالعوض التي تقدّم الكلام فيها، وفي الدليل على مشروعيّتها الجاري في العمل بعوض.

وأمّا الثاني: فيشهد به صحيح(1) سليمان بن جعفر الجعفري الذي تحدّث عن أنّ :

«الرّضا عليه السلام ضَرب غِلمانه وغَضِب غضباً شديداً، حيث استعانوا برجلٍ في عمل دون أن يعيّنوا له اُجرته.

فقال له سليمان: «جُعلِت فداك، لم تدخل على نفسك ؟ فقال عليه السلام: إنّي قد نهيتهم عن مثل هذا غير مرّة...

إلى أنْ قال: واعلم أنّه ما من أحدٍ يعمل لكَ شيئاً بغير مقاطعة، ثمّ زدته لذلك الشيء ثلاثة أضعاف على اُجرته، إلّاظنّ أنّك قد نقصته اُجرته، وإذا قاطعته ثمّ أعطيته اُجرته حَمدك على الوفاء، فإنْ زدته حبّة عرف ذلك لك، ورأى أنّك قد زدته»(2).

ونحوه غيره.

والصحيح بنفسه ظاهرٌ في الجواز، نظراً إلى ما ذكره عليه السلام تعليلاً للنهي، مضافاً إلى السيرة وعدم الخلاف.

الفرع الرابع: قد ذُكر في جملةٍ من الكلمات في أحكام الإجارة:

أنّه يُكره أن يضمن الأجير إلّامع التهمة.

أقول: وقد مرّ موارد ضمان الأجير وعدم ضمانه:7.

ص: 194


1- الكافي: ج 5/288 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/104 ح 24247.
2- وسائل الشيعة: ج 19/104 باب (كراهة استعمال الأجير قبل تعيين أجرته) ح 24247.

فإنْ كان المراد مورد عدم الضمان، فالتضمين حرام غير جائز.

وإنْ كان المراد مورد الضمان، فلا دليل عليه، لانهم استدلّوا له بالنصوص(1)الناهية عن التضمين مع عدم التهمة، وقد مرّ أنّ مفاد تلك النصوص عدم الضمان إلّا مع التهمة.

نعم، يمكن أنْ يقال: بأنّ الأولى عدم التضمين في موارد الإتلاف التي عرفت ثبوت الضمان فيها، لما روي عن «الفقيه» مرسلاً، قال:

«قال الإمام الصادق عليه السلام: كان أبي يضمن الصائغ والقصّار ما أفسدا، وكان عليّ بن الحسين عليهما السلام يتفضّل عليهم»(2) وقريبٌ منه غيره.

وظاهر التفضّل أنّ الضمان ثابت، ولكن كان بنائه عليه السلام على عدم التضمين والإبراء، ونفس التعبير بالتفضّل ظاهرٌ في استحبابه لا لزومه، وهو وإنْ لم يختصّ بصورة عدم التهمة، إلّاأنّه يمكن أنْ يكون التقييد به، لما ورد في خبرٍ آخر: «كان أبي يتطوّل عليه إذا كان مأموناً»(3). فتدبّر.

وعلى ما ذكرناه فالأولى التعبير باستحباب الإبراء، وعدم التضمين لا كراهته.

وجوب سَقي الدابّة المستأجرة وعلفها

الفرع الخامس: ذهب جماعةٌ إلى أنّه يجب على المستأجر سقي الدابّة وعلفها،

ص: 195


1- وسائل الشيعة: ج 19/148 باب (ثبوت الضمان على الجمّال والحمّال والمكاري والملّاح ونحوهم إذا فرّطواأو كانوا متّهمين ولم يحلفوا أو شرط عليهم الضمان).
2- الفقيه: ج 3/254 ح 3919، وسائل الشيعة: ج 19/147 ح 24336.
3- الكافي: ج 5/242 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/142 ح 24320.

وحينئذٍ فلو أهمل ضمن، وهو المحكيّ عن الشيخ في «النهاية»(1)، والحِلّي في «السرائر»(2)، والمصنّف في «الإرشاد»(3)، والمحقّق في «الشرائع»(4)، وغيرهم في غيرها.

وعن «التذكرة»(5)، و «التحرير»(6)، و «المختلف»(7)، و «اللّمعة»(8)، و «الحاشية»(9)، و «التنقيح»(10)، و «إيضاح النافع»(11)، و «جامع المقاصد»(12)، و «المسالك»(13) وغيرها وجوبها على المالك.

وقد يقال: إنّه لا تنافي بين القولين.

أقول: يقع الكلام في موردين:

الأوّل: في وجوب ذلك على المستأجر.

الثاني: في الرجوع بعوض ما بذله على المالك.7.

ص: 196


1- النهاية: ص 446.
2- السرائر: ج 2/465.
3- إرشاد الأذهان: ج 1/425.
4- شرائع الإسلام: ج 2/422.
5- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/318.
6- تحرير الأحكام: ج 3/130.
7- مختلف الشيعة: ج 5/408.
8- اللّمعة الدمشقيّة: ص 142.
9- حاشية شرائع الإسلام: ص 474.
10- التنقيح الرائع: ج 2/240.
11- إيضاح الفوائد: ج 2/245.
12- جامع المقاصد: ج 7/199.
13- مسالك الأفهام: ج 5/87.

أمّا المورد الأوّل: فلا إشكال في أنّ وجوبها عليه ليس من باب وجوب حفظ النفس والمال المحترم، لأنّ النفس غير المحترمة والمال المحترم للغير لا يجبُ حفظهما، ولذا لا يجب التقاط الحيوان ولو خاف عليه التلف، وإنّما يجب الحفظ على المالك من باب وجوب نفقة المملوك على مالكه، كما أنّه يجبُ حفظ الحيوان بعد الالتقاط من جهة كونه أمانة شرعيّة.

وأيضاً: ليس ذلك من جهة الأمانة، لما تقدّم من أنّها قسمان:

1 - أمانة ثابتة بالعقد كالوديعة.

2 - وأمانة ثابتة بالتسليط عن الرّضا.

وفي القسم الأوّل يجب الحفظ لأنّ حقيقتها الاستنابة في الحفظ، وليس كذلك في القسم الثاني.

فإنْ قيل: إنّه يجبُ الحفظ في القسم الثاني أيضاً، لأنّه لو لم يحفظ يصدق التفريط والتعدّي، ويكون ضامناً حينئذٍ.

قلنا: إنّ صدق التفريط متوقّفٌ على وجوب الحفظ، ولو كان وجوب الحفظ متوقّفاً عليه لدار، بل الظاهر أنّ مدركه الشرط الضمني، ولكنّه يختصّ بما إذا دفعه المالك إلى المستأجر من دون أنْ يكون هو أو عمّاله أو اكرته مع الدابّة.

وأمّا المورد الثاني: فالظاهر جواز الرجوع على المالك، لمفهوم التعليل في صحيح أبي ولّاد المتقدّم:

«قال: قلت: قد علفته بدراهم، فلي عليه علفه ؟ قال عليه السلام: لا، لأنّك غاصب»(1).2.

ص: 197


1- الكافي: ج 5/290 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/119 ح 24272.

فإنّ المفهوم منه أنّ غير الغاصب له الرجوع بما انفق على الدابّة.

ثمّ إنّه فيما يجب عليه البذل لو تركه فتلف، هل يكون ضامناً؟ الظاهر ذلك، لصدق التعدّي والتفريط، ويستفاد ذلك من النصوص الدالّة على الضمان مع تجاوز الشرط، لاحظ:

1 - صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل تكارى دابّة إلى مكان معلوم، فنفقت الدابّة ؟

قال عليه السلام: إنْ كان جاز الشرط فهو ضامن، وإنْ دخل وادياً لم يوثقها فهو ضامن، وإنْ سقطت في بئر فهو ضامن، لأنّه لم يستوثق منها»(1).

2 - وصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن رجل استأجر دابّة فأعطاها غيره، فنفقت، ما عليه ؟

قال عليه السلام: إنْ كان شرط أنْ لا يركبها غيره فهو ضامن لها، وإنْ لم يُسمّ ، فليس عليه شيء»(2).

ونحوهما غيرهما.

أقول: وهذه النصوص تدلّ على الضمان من وجهين:

أحدهما: تضمّنها أنّ التلف مع تخلّف الشرط موجبٌ للضمان.

ثانيهما: دلالتها على الضمان مع عدم الاستيثاق، الظاهر لزومه بمقتضى الشرط الضمني.1.

ص: 198


1- الكافي: ج 5/289 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/121 ح 24274.
2- الكافي: ج 5/291 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/118 ح 24271.

وعليه، فلا إشكال في الضمان.

حكم نفقة الأجير

الفرع السادس: المشهور - كما عن «اللُّمعة» -(1) أنّه من استأجر أجيراً ليعينه في تنفيذ حوائجه، كانت نفقته على المستأجر، إلّاأن يشترط كونها على الأجير.

وعن جماعةٍ (2): عدم الوجوب، بل المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»(3) نقل عن بعضهم عدم الخلاف فيه ساكتاً عليه.

أقول: مقتضى القاعدة عدم الوجوب، لأنّ الإجارة لا تقتضي سوى كون عمل الأجير للمستأجر بإزاء الاُجرة المعيّنة، إلّاإذا كان هناك عادة مستقرّة على كون نفقة الأجير على المستأجر، ويكون ذلك حينئذٍ من قبيل الشرط الضمني، فتجبُ لذلك، وإنْ كان فيه إشكالٌ من جهة جهالة الشرط، ولذا قال في «المسالك»(4) - بعد حكمه بوجوبها مع الشرط -: (وحيث يشترط على المستأجر، فلابدَّ من بيان قدرها ووصفها).

ولكن عن «التذكرة»(5) عدم الضرر في جهالة النفقة، لأنّها من التوابع حينئذٍ كاسّ الجدار.

ص: 199


1- اللّمعة الدمشقيّة: ص 142.
2- راجع كفاية الأحكام: ج 1/666.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/293.
4- مسالك الأفهام: ج 5/225.
5- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/293.

وكيف كان، فقد استدلّ للوجوب، بالصحيح إلى سليمان بن سالم، قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن رجل استأجر رجلاً بنفقة ودراهم مسمّاة على أن يبعثه إلى أرض، فلمّا أن قدم أقبل رجلٌ من أصحابه يدعوه إلى منزله الشهر والشهرين، فيصيب عنده ما يغنيه عن نفقة المستأجر، فنظر الأجير إلى ما كان ينفق عليه في الشهر إذا هو لم يدعه، فكافأه به الذي يدعوه، فمن مال من تلك المكافأة؛ أمن مال الأجير أومن مال المستأجر؟

قال عليه السلام: إنْ كان في مصلحة المستأجر فهو من ماله، وإلّا فهو على الأجير»(1)، الحديث».

بتقريب: أنّه يدلّ على أنّ البقاء عنده إنْ كان في الاشتغال بالعمل الذي فيه صلاح المستأجر، فهو مستحقّ للنفقة، فما دفعه عوضاً عنها محسوبٌ عليه، وإلّا فلا نفقة ممّا يقتضي أن يكون ما دفعه على نفسه.

وفيه أوّلاً: إنّ استحقاق النفقة مفروضٌ في السؤال، يكون:

إمّا بعنوان الجزئيّة، كما هو الظاهر منه، حيث جعلها في عرض الدراهم المسمّاة واقعاً عليهما عقد الإجارة.

وإمّا بعنوان الشرطيّة، كما هو المتعارف، وإنّما عبّر عنه في الخبر كذلك لتعارف أمثال هذه العبارة فيما كان مأخوذاً في العقد ولو بنحو الشرطيّة.

ولا يتوهّم: بطلان الإجارة حينئذٍ للجهالة.

لأنّه يندفع: بأنّه يمكن رفع الجهالة بالتوصيف والتقدير، ولو بالتقدير في2.

ص: 200


1- الكافي: ج 5/287 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/112 ح 24262.

الماليّة، كما إذا جعل نفقة بمقدار عشرة دراهم في كلّ يوم مثلاً.

فإنْ قيل: إنّه إذا كان وجوب النفقة مفروضاً، فما وجه السؤال ؟.

قلنا: إنّ وجهه السؤال عن أنّ ما يستحقّه على المستأجر هل هي النفقة الفعليّة، والتي لا يعمّ ما يُكافيء به، أم مقدار النفقة بحيث يكون ما كافئ به محسوباً على المستأجر، فأجاب عليه السلام بأنّ البقاء إنْ كان لمصلحة المستأجر وللعمل له، فهو مستحقّ للنفقة، ويحتسب ما كافئه على المستأجر، ويستكشف منه ان المستحقّ مقدار النفقة، وإنْ كان لا عمل للمستأجر في تلك المدّة، فلا يستحقّ النفقة حتّى يحتسب ما كافيء به على المستأجر.

وعليه، فالسؤال عن حكمٍ واحد، وفي الجواب زاد على بيان المسؤول عنه حكماً آخر.

وثانياً: أنّه من الجائز عدم كون الجواب مربوطاً بالنفقة، ويكون المراد به أنّ المكافأة المفروضة إنْ كانت مصلحةً للمستأجر، كانت من المال المصروف في مصالحه فتحتسب عليه، وإلّا كانت إحساناً من الأجير، بل ربما يقال إنّ هذا المعنى أقرب إلى المفهوم من العبارة.

أقول: وربما يستدلّ له بما في ذيل الخبر المتقدّم، قال:

«وعن رجلٍ استأجر رجلاً بنفقة مسمّاة، ولم يفسّر شيئاً على أن يبعثه إلى أرض اُخرى ، فما كان من نفقة الأجير من غسل الثياب أو الحمّام فعلى من ؟ قال عليه السلام:

على المستأجر».

وتقريب الاستدلال به: إنّه يدلّ على استحقاق مثل اُجرة غَسل الثياب والحمّام،

ص: 201

فالمآكل والملابس أولى بذلك.

وفيه: أنّ المفروض فيه أصل النفقة، وإنّما السؤال عن شمول النفقة المفروضة غير المفسّرة ولا المفصّلة للّوازم السفر، فأجاب عليه السلام عن الشمول ببيان اللّازم، وهو كونه على المستأجر.

نعم، يبقى حينئذٍ إشكالٌ على الخبر، وهو أنّ الظاهر من الخبر كون النفقة اُجرة أو جزءً منها، والمفروض فيه أيضاً أنّها مجملة غير مفسّرة بشيء، ومع ذلك حكم عليه السلام بصحّة الإجارة، مع أنّه يعتبر في صحّة الإجارة معلوميّة الاُجرة، فإن صَحّ سند الخبر ولم يعرض الأصحاب عنه، يتعيّن الجواب عنه بأنّ عدم مضريّة جهالة النفقة لعلّه من جهة كونها من التوابع كأُسّ الجدار وما شاكل.

وبالجملة: فالمتحصّل ممّا ذكرناه أنّه لايجب عليه نفقته.

إجارة الصغير زائداً على زمان صغره

الفرع السابع: إذا آجر الوصيّ أو الوليّ الصّبي المولّى عليه أو املاكه مدّة تزيد على زمان بلوغه ورشده، فالمشهور بينهم(1) بطلان الإجارة في المتيقّن بلوغه فيه، وإنّما الخلاف بينهم بالنسبة إلى المحتمل.

أقول: ونخبة القول في ذلك:

إنّه لا إشكال في أنّ المنافع المستقبلة للأملاك مملوكة بالفعل لأربابها، وإنّما المتأخّر ذات المملوك، لا أنّ الملكيّة متدرّجة كتدرّج المنفعة، ولذا يصحّ تمليكها

ص: 202


1- راجع: شرائع الإسلام: ج 2/423، جواهر الكلام: ج 27/323.

بالغير بإجارة ونحوها.

وعلى ذلك، فلو آجر الوليّ أو الوصيّ أموال الصّبي مدّة تزيد على زمان بلوغه، فقد آجر ما يملكه الصغير بالفعل، لا ما يملكه في زمان كبره حتّى يقال إنّه لا يكون وليّاً فيها، إلّاأنّ الكلام في ثبوت عموم أدلّة الولاية بنحوٍ يشمل مثل هذه التصرّفات.

والظاهر عدمه ولو بواسطة مناسبة الحكم والموضوع، فإنّه إنّما جُعل الوليّ للصبي لئلّا يفوت عليه ما يتعلّق به في زمان صغره، وعلى ذلك فتبطل الإجارة لقصور أدلّة الولاية.

أقول: وأولى بعدم الصحّة من ذلك إجارة نفسه، فإنّها تزيد عليه بعدم كون الحُرّ مالكاً لمنافع بدنه، بل له السلطنة على نفسه كما له السلطنة على تمليك كلّي في ذمّته، والوليّ يقوم مقام الصغير في هذه السلطنة، ولا دليل على سلطنته عليه بتمليك منافعه المصادفة لزمان كبره.

وبعبارة اُخرى : إنّ الثابت بالدليل - بعد عدم كون منافع بدنه مملوكاً له - أنّ للولي أو الوصيّ السلطنة على تمليك منافع الصغير، فالمنافع المصادفة لزمان الكبر خارجة عن تحت دليل السلطنة، لعدم كونها منافع الصغير، فعلى هذا إذا آجره أو املاكه مدّة تحتمل الزيادة عن زمان بلوغه، صَحّ ظاهراً لاستصحاب عدم البلوغ، ولو اتّفق البلوغ فيه، فالظاهر انكشاف بطلانها واقعاً، بمعنى عدم الصحّة بدون الإجازة.

وعن «الخلاف»: الحكم بالصحّة، معلّلاً بأنّ الإجارة وقعت من أهلها وفي محلّها في وقتٍ لم يعلم لها منافٍ ، فتستصحب.

ص: 203

ويرده: أنّه وإنْ كانت الإجارة حين الوقوع كان في وقتٍ لم يعلم لها منافٍ ، ولكنّه بانكشاف البلوغ ينكشف مصادفتها في المدّة المصادفة للبلوغ مقرونةً بالمانع، ومع إحراز ذلك لا معنى للاستصحاب.

ملك ما يحوزه الأجير للمستأجر

الفرع الثامن: لا إشكال في أنّه يجوز الاستئجار لحيازة المباحات، إنّما الكلام في أنّه لو استأجر لها، فهل يملك المستأجر ما حازه أم لا يملكه ؟

أقول: وملخّص القول فيه:

تارةً : يحوز الأجير للمستأجر، فالظاهر أنّه لا إشكال في صيرورته مِلْكاً له، لا من جهة الإجارة، بل من جهة أنّ المرتكز في أذهان العرف كون الحيازة من العناوين القابلة للنيابة والوكالة، وهو المعيار المائز بين ما تدخله النيابة والوكالة، ومالا تدخلاه، بل قد يقال إنّ التسالم على كون القبض ممّا تدخله النيابة في كلّ موردٍ كان موضوعاًلحكمٍ شرعي، يقتضي البناء عليه هنا لأنّها من أنواعه وأنحائه.

وعلى الجملة: لا ينبغي التوقّف في أنّ هذا العنوان كعناوين العقود والإيقاعات قابل للنيابة والوكالة، فحينئذٍ إنْ حاز الأجير للمستأجر ونيابة عنه، ملك المستأجر ما يحوزه.

واُخرى : يحوز الأجير لنفسه لا للمستأجر، فمقتضى ما دلّ على أنّ : (مَن حاز ملك) - وإنْ لم أظفر بما تضمّن هذه العبارة، إلّاأنّ بمضمونها رواية وهي ما تضمّن قول أمير المؤمنين عليه السلام من أنّ : «للعين ما رأت ولليد ما أخذت»(1)، وقريبٌ من هذا

ص: 204


1- الكافي: ج 6/223 ح 6، وسائل الشيعة: ج 23/391 ح 29824.

المضمون غيره - هو كونه مِلْكاً للأجير لا للمستأجر.

أقول: وقد استدلّ لصيرورته مِلْكاً للمستأجر بعقد الإجارة بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1)، من أنّ حيازة الأجير حيازة المستأجر، ويده على المباح يد المستأجر، من جهة أنّ حيازته على المفروض مملوكة له، فنيّة الخلاف من الأجير كنيّة التملّك من أحدٍ بالنسبة إلى ما حازه غيره.

وفيه: أنّ الإجارة إنّما توجب ملكيّة الحيازة، ولا توجبُ استناد الحيازة إليه، والدليل دلّ على أنّ ما يحوزه الحائز انمايكون لمن تستند إليه الحيازة لا لمن هو مالكٌ للحيازة، والفرق ظاهرٌ، بل لو كانت الحيازة مستندة إليه لم تكن كافية في الملكيّة، لأنّ الحيازة ليست سبباً قهريّاً للتملّك بحيث يملك الحائز ما حازه، وإنْ لم يكن ذلك عن قصد - كحيازة النائم وشبهه - وعليه فالأجير لا يملك ما حازه، لعدم كون الحيازة مستندة إليه، بل إلى المستأجر، والمستأجر لا يملكه لعدم قصد التملّك له.

الوجه الثاني: ما عن بعض الأجلّة، وهو كون الحيازة موجبة لملك مالك الحيازة قهراً، وهي من الأسباب الشرعيّة القهريّة، فالمستأجر يملك ما حازه الأجير لكون الحيازة له.

وفيه: إنّها لو كانت من الأسباب القهريّة، مع أنّه ممنوعٌ ، فهي سبب لملكيّة من انتسب إليه الحيازة وهو الأجير، وحينئذٍ إنْ لم نعتبر ملكيّة الحيازة يملكه الأجير، وإلّافلا يملكه المستأجر ولا الأجير:

أمّا الأوّل: فلعدم الاستناد.7.

ص: 205


1- جواهر الكلام: ج 27/267.

وأمّا الثاني: فلعدم الملكيّة.

الوجه الثالث: أنّ ملكيّة ما حازه من آثار ومنافع الحيازة، فتتبع ملكيّة الحيازة.

وفيه: إنّ ملكيّته من آثار نفس الحيازة المنتسبة إلى الحائز، لا من آثار ملكيّتها، كما يظهر من أدلّة مملكيّة الحيازة.

وبالجملة: فالأظهر عدم صيرورته مِلْكاً للمستأجر.

والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه عليسيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

***

ص: 206

الفصل الثانى في المزارعة والمساقاة

اشارة

ص: 207

ص: 208

الفصل الثاني: في المزارعة والمسّاقاة:

المزارعة و أحكامها

(الفصل الثاني: في المزارعة والمساقاة):

أمّا المزارعة: فهي لغة مفاعلة من الزَّرع، وقالوا: شرعاً هي معاملة على الأرض بحصّة من حاصلها، ولعلّ تحقّق المعنى اللّغوي فيها باعتبار مباشرة أحدهما وأمر الآخر، وكيف كان، فلا إشكال في أنّ هذا التعريف من قبيل شرح الاسم.

أقول: قد وقع الكلام في ماهيّتها، وأنّها:

هل تكون من سنخ المشاركات أو المعاوضات ؟

وعلى الثاني:

فهل هي تمليكُ تمام منفعة الأرض من الزّارع بحصّةٍ من الحاصل، فيما إذا كان البذر من الزّارع، وتمليك الزّارع تمام عمله من المالك بحصّةٍ منه، فيما كان البذر من المالك ؟

أم هي تمليكُ حصّة من منفعة الأرض من الزّارع بحصّة من عمله، مع اشتراط كون الحاصل بينهما بنسبة الحصّتين، فتكون من إجارة الأرض بالعمل مطلقاً على الأخير، ومن إجارة الأرض تارةً وإجارة النفس اُخرى على ما قبله ؟ وجوه:

الظاهر هو الأوّل، لأنّه لا ريب في أنّ هذه المعاملة معاملة عقلائيّة، وقد أمضاها الشارع الأقدس، واعتبر فيها اُموراً كما في سائر الإمضائيّات، وإذا راجعنا أهل العرف نراهم لا يخطر ببالهم إجارة الأرض أو النفس، ولذا تصحّ المزارعة مع

ص: 209

عدم كون الأرض مِلْكاً للمزارع، بل كان مالكاً للانتفاع بها كما سيمرّ عليك، ولعلّه يشير إلى ذلك:

1 - خبر يعقوب بن شعيب، عن مولانا الصادق عليه السلام، قال:

«وسألته عن المزارعة ؟

فقال عليه السلام: النفقة منك، والأرض لصاحبها، فما أخرج اللّه من شيء قسّم على الشطر(1)، الحديث».

2 - وخبر الكرخي، عنه عليه السلام، قال: «قلتُ له: اُشارك العِلْجَ (2) فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر، ويكون على العِلْج القيام والسقي والعمل في الزّرع حتّى يصير حنطةً أو شعيراً، وتكون القسمة، فيأخذ السلطان حقّه، ويبقى ما بقي، على أنّ للعلج منه الثّلث وليَ الباقي ؟

قال عليه السلام: لا بأس بذلك.

قلت: فلي عليه أن يردّ عَليَّ ممّا أخرجتِ الأرض البذر، ويقسّم ما بقى ؟

قال عليه السلام: إنّما شاركته على أنّ البذر من عندك، وعليه السقي والقيام»(3).

وقريب منهما غيرهما(4).

أقول: وأمّا الدليل على مشروعيّة هذه المعاملة فاُمور:

الأمر الأوّل: أنّها معاملة عقلائيّة، لم يردع الشارع الأقدس عنها، وذلك).

ص: 210


1- الكافي: ج 5/268 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/233 ح 23571.
2- العِلْج: الكافر من غير العرب.
3- الكافي: ج 5/267 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/44 ح 24120.
4- وسائل الشيعة: ج 19/44 باب (أنّ العمل على العامل والخراج على المالك إلّامع الشرط).

كاشفٌ عن إمضاءه إيّاها.

الأمر الثاني: العمومات الدالّة على إمضاء كلّ عقدٍ، مثل: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1)، وآية التجارة عن تراض(2)، ونحوهما، فإنّها بعمومها وإطلاقها تدلّ على إمضاء كلّ معاملة عقلائيّة، منها هذه المعاملة.

الأمر الثالث: جملة من النصوص الخاصّة الواردة فيها وفي المساقاة، البالغة حَدّ التواتر، وسيأتي طرفٌ منها خلال المباحث الآتية.

أقول: بل ادّعى بعض المحقّقين أنّها مستحبّة، واستدلّ له بما دلّ على استحباب الزراعة(3)، بدعوى كونها أعمّ من المباشرة والتسبيب.

ولكن يرد عليه: أنّ غاية ما يستفاد من هذه النصوص، كون الزراعة مستحبّة في نفسها، ولا تدلّ على استحباب التكسّب بها.

وأمّا ما رواه زيد بن ثابت من قوله: «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله عن المخابرة، قلت:

وما المخابرة ؟

قال صلى الله عليه و آله: أن تأخذ الأرض بنصفٍ أو بثلثٍ أو بربعٍ »(4).

فلابدَّ وأن يُحمل على ما لا ينافي النصوص المتقدّمة، مع الإغماض عن ضعف سنده، وإلّا فللإعراض عنه، ومعارضته لما تقدّم لابدَّ من طرحه، كيف وقد استفاضت النصوص بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لمّاافتتح خيبرتركهافي أيديهم على النصف(5).ة.

ص: 211


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- سورة النساء: الآية 29.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/337.
4- البحار: ج 100/171 ح 2.
5- وسائل الشيعة: ج 19 ب 8، 9، 10 من أبواب المزارعة والمساقاة.

قال الشهيدالثاني قدس سره في «المسالك»:(1)(إنّه لابدَّ من كون الأرض مِلْكاً لأحدهما عيناً أو منفعة، لأنّه المستفاد من حقيقة المزارعة وصيغتها، فلا تُشرع المزارعة في الأرض الخراجيّة بلا حيلةٍ من الحيل الشرعيّة)، ثمّ ذكر جملة من تلك الحيل.

أقول: وهذا بظاهره ظاهر الفساد، إذ - مضافاً إلى ما مرّ من أنّ المزارعة حقيقتها من المشاركات، وليست من قبيل إجارة الأرض كي تتوقّف على كونه مالكاً لها أو لمنفعتها، وبناء العقلاء وإطلاقات المزارعة ينفيان اعتبار ذلك - يشهد لعدم اعتباره جملة من الأخبار الخاصّة:

منها: صحيح يعقوب بن شعيب، عن الصادق عليه السلام:

«عن الرّجل يكون له الأرض من أرض الخراج، فيدفعها إلى الرّجل على أن يعمّرها ويصلحها ويؤدّي خراجها، وما كان من فضلٍ فهو بينهما؟ قال عليه السلام:

لا بأس»(2).

ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام في حديثٍ : «أنّه سُئل عن مزارعة أهل الخراج بالرّبع والثّلث والنصف ؟ قال عليه السلام: «نعم، لا بأس به»(3).

ونحوهما غيرهما(4).

ولذلك تصدّى جماعة لتوجيه كلامه، وحملوه على إرادة أنّه إذا لم يكن لأحدهما جهة اختصاص بالأرض، ولم يكن له فيها حقّ ، لا يجوز المزارعة، وهو واضح.).

ص: 212


1- مسالك الأفهام: ج 5/8-9.
2- الكافي: ج 5/268 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/45 ح 24121.
3- الفقيه: ج 3/250 ح 3906، وسائل الشيعة: ج 19/42 ح 24114.
4- وسائل الشيعة: ج 19/40 باب (أنّه يشترط في المزارعة كون النماء مشاعاً بينهما).

ومراده من (الأرض الخراجيّة) هي ما للمسلمين قاطبة، ولا يكون له فيها جهة اختصاص.

وكيف كان، فالأظهر صحّة المزارعة مع ثبوت حقّ للمزارع في الأرض، كانت مِلْكاً له، أو كان له منافعها، أو الانتفاع بها، أو حقّ الأولويّة فيها.

نعم، إذا لم يكن له حقٌّ فيها لا تصحّ المزارعة، فلا تجوز المزارعة في الموات، مع عدم تحجيرٍ أو سبقٍ ، أو نحو ذلك، لفقد تسلّط أحدهما على الأرض الذي هو ركن في المزارعة، وبدونه لا معنى للمشاركة.

نعم، تصحّ الشركة في زراعتها مع اشتراك البذر، أو بإجارة أحدهما للآخر في مقابل البذر أو نحو ذلك، لكنّه ليس من المزارعة المصطلحة.

وأمّا المساقاة: فهي معاملة على اُصولٍ ثابتة، بحصّة من ثمرها.

أقول: لا إشكال ولا خلاف في مشروعيّتها، ويشهد لها - مضافاً إلى الإجماع، وإلى أنّها معاملة عقلائيّة لم يردع عنها الشارع الأقدس - جملة من الأخبار الخاصّة:

منها: خبر يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجل يعطي الرّجل أرضه وفيها رمّان أو نخل أو فاكهة، ويقول: اسق هذا من الماء واعمره، ولك نصف ما أخرج ؟

قال عليه السلام: لا بأس»(1).

وطائفة من الأخبار الواردة في قضيّة فتح خيبر(2)، فإنّه وإنْ لم يكن تصريحٌ ة.

ص: 213


1- الكافي: ج 5/268 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/44 ح 24119.
2- وسائل الشيعة: ج 19 ب 8، 9، 10 من أبواب المزارعة.

وهما عقدان لازمان لا يبطلان إلّابالتفاسخ،

فيها بالمساقاة، إلّاأنّها دالّة عليها صريحاً وظاهراً.

أقول: بما أنّه ليس في الأدلّة لفظ المساقاة، فلا يهمّنا البحث في مفهوم هذا اللّفظ.

وأمّا المعاملة الخاصّة، فالظاهر كونها كالمزارعة من قبيل المشاركات، وما ذكرناه في المزارعة جارٍ فيها.

قال المصنّف رحمه الله: (وهما) أي المزارعة والمساقاة (عقدان لازمان لا يَبطلان إلّا بالتفاسخ) بلا خلاف.

أمّا كونهما من العقود اللّازمة: فلعموم ما دلّ على أنّ الأصل في العقود اللّزوم من الآية الكريمة (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1) وغيرها ممّا مرّ في كتاب البيع.

وأمّا مشروعيّة الإقالة فيهما، وانفساخهما بها: - وهي التفاسخ بالتّراضي - فلما مرّ في كتاب الإجارة(2) من مشروعيّة الإقالة في العقود، نظراً إلى كون التقايل بنفسه من العقود، فتشمله الأدلّة العامّة صحّةً ولزوماً، فراجعه.

أقول: المشهور بين الأصحاب - على ما قيل - إنّهما لما كانتا من العقود اللّازمة وجب انحصار الفاظهما في الألفاظ المنقولة شرعاً المعهودة لغة، وكذا يشترط فيهما ما يشترط في غيرهما من العقود اللّازمة من العربيّة، ووقوع القبول على الفور، وما شاكل.د.

ص: 214


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- صفحة 77 من هذا المجلّد.

لكن قد مرَّ في كتاب البيع(1) أنّه لا يعتبر شيءٌ من تلكم في شيء من العقود اللّازمة، وأيضاً قد ظهر ممّا ذكرناه في كتاب الإجارة جريان المعاطاة فيهما(2).

ثمّ إنّه حيث أنّ الأظهر عدم اعتبار الماضويّة في صيغ العقود اللّازمة كما مرّ، فلا يهمّنا النزاع في أنّه هل يكفي غيرالماضي من الصيغ في المزارعة أم لا، والاستدلال للكفاية بالنصوص الخاصّة فإنّها حينئذٍ تكون على القاعدة.

والكلام في هذا الفصل يقع في مقامين:

الأوّل: في المزارعة.

الثاني: في المساقاة.

***د.

ص: 215


1- فقه الصادق: ج 23/17 وما بعدها.
2- راجع: صفحة 209 وما بعدها، و صفحة 270 وما بعدها من هذا المجلّد.

أمّا المزارعة: فشروطها خمسة: العقد من أهله.

شروط المزارعة

قال المصنّف رحمه الله: (أمّا المزارعة) فالكلام فيها في موضعين:

الأوّل: في شروطها.

الثاني: في أحكامها.

أمّا الأوّل: (فشروطها خمسة):

الشرط الأوّل: (العقد من أهله) وهذا مركّبٌ من أمرين:

الأمر الأوّل: اعتبار العقد، وهو الإيجاب والقبول فيها، والمراد به:

إنْ كان هو الاعتبار النفساني، فاعتباره فيها من القضايا التي قياساتها معها.

وإنْ كان هو المبرز له وما ينشأ به من الألفاظ أو الأفعال، فالدليل على إعتباره ما دلّ على اعتباره في جميع العقود والإيقاعات، وهو أنّ بناء العقلاء والشارع الأقدس على عدم ترتيب الآثار على الالتزامات النفسانيّة، ما لم تبرز بما يكون مبرزاً لها نوعاً، ولذا لا يصحّ إنشاء عقدٍ بما وضع لآخر إلّامع القرينة الموجبة لظهوره فيه.

وأمّا الخصوصيّات المعتبرة فيهما، فقد مر الكلام فيها مفصّلاً في البيع، وكفاية المعاطاة والعقد المركّب من القول والفعل ظاهرة ممّا ذكرناه في كتاب الإجارة فلا نعيد.

ص: 216

وأنْ يكون النماء مشاعاً.

الأمر الثاني: صدور العقد من أهله، وهو كونه بالغاً عاقلاً مختاراً، غير محجورٍ عليه لسفهٍ أو فَلَس.

أقول: ومدرك اعتبار الأولين حديث رفع القلم عنهما(1)، ومدرك اعتبار الثالث هو حديث: «رفع ما استكرهوا عليه»(2)، ومدرك اعتبار الرابع تعلّق حقّ الغرماء بما له في الفَلَس، وما دلَّ على عدم جواز أمر السفيه في التصرّف المالي(3) على ما سيجيء.

وقد مرَّ تفصيل الكلام في جميع تلكم في كتاب الإجارة، وممّا قدّمناه فيه يظهر أنّه لا مانع من كون الزّارع مفلّساً إذا لم يكن منه مال، لعدم كونه تصرّفاً ماليّاً.

اعتبار كون النماء مشاعاً بينهما

(و) الشرط الثاني: (أنْ يكون النماء مشاعاً) بينهما، تساويا أو تفاضلا بلا خلافٍ فيه.

وظاهر «الحدائق»(4) - حيث قال: (والظاهر أنّ دليله الإجماع) - الإجماع عليه، وهو صريح «الغنية»(5).

ص: 217


1- المستدرك: ج 1/84 ح 39.
2- الكافي: ج 2/463 ح 2.
3- وسائل الشيعة: ج 18 باب (ثبوت الحجر عن التصرّف في المال على الصغير والمجنون والسفيه حتّى تزول عنهم الموانع).
4- الحدائق الناضرة: ج 21/284.
5- غنية النزوع: ص 290.

أقول: واستدلّ له:

تارةً : بالاقتصار على المتيقّن من النّص والفتوى في عقد المزارعة، المخالف لأصالة عدم الغَرَر، ذكره سيّد «الرياض»(1).

واُخرى : بما في «المسالك»(2) من منافاة عدم إشاعة النماء بينهما لوضع المزارعة.

وثالثةً : بجملةٍ من النصوص التي استدلّ بها صاحب «الحدائق»(3):

منها: حسن الحلبي، عن مولانا الصادق عليه السلام قال: «لا بأس بالمزارعة بالثّلث والرّبع والخُمس»(4).

ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان الآتي الوارد فيه قوله عليه السلام: «ولكن يقول ازرع فيها كذا وكذا، إنْ شئت نصفاً وإنْ شئت ثلثاً(5).

ونحوه خبر أبي الربيع(6).

ولكن يرد الأوّل: أنّه لا فرق في لزوم الغَرَر بين جعل النماء مشاعاً بينهما، أو تخصيص كلّ واحدٍ بنوعٍ من الزّرع دون صاحبه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ دليل مشروعيّة المزارعة أخصّ من ما دلّ على النهي عن الغَرَر(7) من هذه الجهة، وإطلاق المقيّد مقدّمٌ على إطلاق المطلق، كما حُقّق في محلّه.6.

ص: 218


1- رياض المسائل: ج 9/104.
2- مسالك الأفهام: ج 5/11.
3- الحدائق الناضرة: ج 21/284.
4- الكافي: ج 5/267 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/41 ح 24109.
5- الكافي: ج 5/267 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/41 ح 24111.
6- وسائل الشيعة: ج 19/43 ح 24116.
7- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/466.

والثاني: أنّ وضع المزارعة على كون بعض الحاصل لصاحب الأرض وبعضه للعامل، وأمّا كون ذلك بنحو الإشاعة، فلم يظهر منه ذلك.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ اعتبار ذلك أوّل الكلام، فكيف يفرض مفروغاً عنه!

والثالث: أنّ تلك الأخبار لا مفهوم لها:

أمّا الأوّل: فواضحٌ .

وأمّا الأخيران: فلأنّهما في مقابل تسمية شيء من الحاصل للبقر وشيء منه للبذر، لاحظ ما في أوّلهما، حيث قال عليه السلام: «لا يسمّى شيئاً من الحَبّ والبقر، ولكن يقول ازرع.. الخ».

وبالجملة: فالحقّ أن يستدلّ له بصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«لا تقبل الأرض بحنطة مسمّاة، ولكن بالنصف والثُّلث والرّبع والخُمس لا بأس به»(1).

بناءً على إرادة المزارعة من القبالة فيه أو ما يشملها، وظهوره في اعتبار كون النماء حصّة مشاعة لا يُنكر.

وعلى هذا، فلو اختصّ كلّ واحدٍ منهما بنوعٍ من الزّرع دون صاحبه، كان يشترط أحدهما الهرف(2) أي المتقدّم من الزّرع والآخر المتأخّر منه، أو ما يزرع على مكانٍ معيّن والآخر ما يزرع في غيره، أو نحو ذلك ممّا لا إشاعة في شيء منه بينهما، لا تصحّ المزارعة.

أقول: إنّما الكلام فيما لو كانت الإشاعة في الجملة محقّقة، ولكن بعد استثناءت.

ص: 219


1- الكافي: ج 5/267 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/41 ح 24109.
2- الهَرَفْ : ابتداء النبات.

شيء معيّن، كأن يشترط لأحدهما قدراً من الحاصل، وما زاد عليه بينهما:

1 - فالمنسوبُ إلى المشهور: عدم صحّتها أيضاً.

2 - وعن المصنّف رحمه الله(1): جواز استثناء شيء مطلقاً، ورجّحه فيما حكى «الكفاية»(2)، وفي «الجواهر»(3) وغيرهما.

3 - وعن الشيخ رحمه الله في «النهاية»(4) وجماعة: جواز استثناء البذر من جملة الحاصل.

واستدلّ للأوّل:

1 - بظهور النصوص في اعتبار الإشاعة في الحصّة، وينافيها استثناء شيء له، ذكره في «الحدائق»(5).

2 - وبجواز أنْ لا تحصل الزيادة، فيبقى الآخر بلا شيء، كما في «الشرائع»(6)، وعن «الغنية»(7) وغيرهما.

3 - وبما دلّ على النهي عن الغَرَر الخارج عنهما، لو كان النماء بتمامه مشتركاً بينهما بنحو الإشاعة وبقى الباقي، أفاده سيّد «الرياض»(8).

4 - وبمنافاته لوضع المزارعة، ذكره في «المسالك»(9).2.

ص: 220


1- تبصرة المتعلّمين: ص 134.
2- كفاية الأحكام: ج 1/636.
3- جواهر الأحكام: ج 27/9.
4- النهاية: ص 440.
5- الحدائق الناضرة: ج 21/286.
6- شرائع الإسلام: ج 2/391.
7- غنية النزوع: ص 291.
8- رياض المسائل: ج 9/104.
9- مسالك الأفهام: ج 5/12.

أقول: والجميع مردودة.

أمّا الأوّل: فلما مرّ من أنّ النصوص لا دلالة في شيء منها على اعتبار الإشاعة، سوى صحيح الحلبي، وهو إنّما تضمّن النهي عن المزارعة بالحصّة المعيّنة، وجواز المزارعة بالمشاعة، ولا تعرّض فيه لما إذا كانت المزارعة بهما معاً، وصدره لا يدلّ على النهي عنه كما هو واضح، وذيله لا مفهوم له، فتبقى هذه الصورة داخلة تحت عمومات صحّة المزارعة.

وأمّا الثاني: فلأنّه يمكن فرضه فيما يكون الغالب عادة حصولها، مع أنّه لا محذور في أنْ لا يبقى للآخر شيء، كما لو لم يحصل شيء من الأرض أصلاً.

وأمّا الثالث: فلما مرَّ من أنّ دليل الغَرَر مخصّصٌ في المقام من هذه الجهة.

وأمّا الرابع: فقد عرفت أنّ ذلك لا ينافي وضع المزارعة، بل ربما كان الظاهر منه خلاف ذلك، خصوصاً إذا كان الاستثناء لأجنبي.

وبالجملة: فالأظهر جواز الاستثناء مطلقاً، للعمومات والإطلاقات، ويشهد به - مضافاً إلى ذلك - جملة من النصوص:

منها: خبر إبراهيم الكرخي قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: اُشارك العِلْج فيكون من عندي الأرض والبذر والبقر، ويكون على العِلْج القيام والسّقي والعمل في الزّرع، حتّى يصير حنطة أو شعيراً، وتكون القسمة، فيأخذ السلطان حقّه، ويبقى ما بقي، على أنّ للعلج منه الثُّلث ولي الباقي ؟

قال عليه السلام: لا بأس بذلك.

قلت: فلي عليه أن يرد علي ممّا أخرجت الأرض البذر، ويقسّم ما بقى ؟

ص: 221

قال: إنّما شاركته على أنْ يكون البذر من عندك، وعليه السقي والقيام»(1).

فإنّ صدره صريحٌ في جعل مقدار من الحاصل للغير، وعدم إشاعة الحصّة في المجموع، وذيله ظاهرٌ في ذلك، لأنّه عليه السلام علّل عدم جواز أخذ مقدار البذر من الحاصل بأنّه عند عقد الشركة لم يصرّح بذلك، فيستكشف منه أنّه لو كان صرّح به لما كان فيه محذور.

ومنها: خبر يعقوب بن شعيب، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يكون له الأرض من أرض الخراج، فيدفعها إلى الرّجل على أن يعمرها ويصلحها ويؤدّي خراجها، وما كان من فضلٍ فهو بينهما؟

قال عليه السلام: لا بأس»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

أقول: وممّا ذكرناه يظهر حال مسألة اُخرى ، وهي:

ما لو شرط أحدهما على الآخر شيئاً يضمنه له من غير الحاصل، مضافاً إلى الحصّة، من ذهبٍ أو فضّةٍ أو غيرهما، فإنّه لا إشكال في الجواز، بل الوجوه المذكورة لعدم الجواز في المسألة المتقدّمة لا تجري هنا، ولذا ذهب المشهور إلى الصحّة هنا، بل ظاهر «المسالك»(4) عدم الخلاف فيها.

قال صاحب «الجواهر»(5): (بل في «المفاتيح»: في بعض الأخبار عليه دلالة،1.

ص: 222


1- الكافي: ج 5/267 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/44 ح 24120.
2- الكافي: ج 5/268 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/45 ح 24121.
3- وسائل الشيعة: ج 19/44 باب: (أنّ العمل على العامل والخراج على المالك إلّامع الشرط).
4- مسالك الأفهام: ج 5/55.
5- جواهر الكلام: ج 27/11.

والأجلُ معلوماً

قيل: ولعلّه ما أشار إليه في «الكفاية» من بعض المعتبرة عن الرّجل يزرع له الحراث الزعفران، ويضمن له أن يعطيه في كلّ جريب أرض يمسح عليه وزن كذا وكذا درهماً، فربما نقص وغرم، وربما استفضل وزاد؟ قال عليه السلام: لا بأس إذا تراضيا»)، انتهى.

أقول: ولكن فيه تأمّل.

وكيف كان، ففي «المسالك»(1): (إنّ قراره حينئذٍ مشروطٌ بالسّلامة، كاستثناء أرطالٍ معلومة من الثمرة في البيع، ولو تلف البعض منه، سقط منه بحسابه، لأنّه كالشريك وإنْ كان حصّته معيّنة)، انتهى .

وأورد عليه: بمنافاته لعموم ما دلّ على لزوم الشرط(2) بعد فرض كونه في الذمّة، وبذلك يفرّق بينه وبين استثناء الأرطال التي هي بعض المبيع.

أقول: ويمكن أنْ يوجّه كلام ثاني الشهيدين رحمه الله بأنّ الظاهر من الشرط ليس جعل شيء له مجّاناً، بل بإزاء ما يصل إلى الآخر، فيتمّ ما أفاده.

اعتبار تعيين المدّة في المزارعة

الشرط الثالث: (والأجل معلوماً)، بلا خلافٍ معتدّ به، بل لعلّ الإجماع عليه، كما في «الجواهر»(3).

ص: 223


1- مسالك الأفهام: ج 5/12.
2- وسائل الشيعة: ج 18/16 باب: (ثبوت خيار الشرط بحسب ما يشترطانه).
3- جواهر الكلام: ج 27/14.

وفي «الحدائق»(1): الفتوى صريحاً بعدم اعتباره.

أقول: والأوّل أظهر، لعموم ما دلّ على النهي عن الغَرَر(2) الشامل للمقام مع الجهل بالمدّة، كما في الإجارة، لأنّ المزارعة وإنْ لم تكن من المعاوضات، بل من قبيل المشاركات ولكنّها من العقود اللّازمة، ولم يقيّد الغَرَر المنهيّ عنه بما في المعاوضات.

ودعوى(3): أنّ المزارعة تحتمل من الغَرَر ما لا يحتمله غيرها.

مندفعة: بأنّ ذلك بالنسبة إلى الحصّة لا في غيرها.

لا يقال: إنّ النسبة بين مطلقات المزارعة، وما دلّ على النهي عن الغَرَر، عمومٌ من وجه، فلا وجه لتقديم النبويّ .

فإنّه يتوجّه عليه أوّلاً: أنّ النبويّ حاكم على أدلّة الباب، وهو ينفي المعاملة المشروعة في نفسها لولا الغَرَر إذا كانت غَرريّة.

وثانياً: أنّه لو سُلّم كون النسبة عموماً من وجه من دون حكومةٍ في البين، يقدم النبويّ للشهرة التي هي أوّل المرجّحات.

ودعوى(4): أنّ لكلّ زرعٍ أمداً معتاداً، فيبنى مع الإطلاق على العادة، ويكتفى به عن ذكر المدّة.

ممنوعة: لأنّه إن أوجب الاطمينان بالمدّة، فهو في حكم التعيين، وإلّا فلا يوجب رفع الغَرَر، فلا يكتفي به.8.

ص: 224


1- الحدائق الناضرة: ج 21/305.
2- وسائل الشيعة: ج 17/448 ح 22965.
3- جواهر الكلام: ج 27/14.
4- مستمسك العروة: ج 15/58.

أقول: قد استدلّ للمختار بروايات متعدّدة أكثرها لا تدلّ عليه. نعم، لو قيل بدلالة خبر أبي الربيع الشامي، عن مولانا الصادق عليه السلام:

«عن أرض يريد رجل أن يتقبّلها، فأيّ وجوه القبالة أحلّ؟

قال عليه السلام: يتقبّل الأرض من أربابها بشيءٍمعلوم إلى سنين مسمّاة، فيعمّر ويؤدّي الخراج، فإنْ كان فيها علوج فلا يدخل العلوج في قبالته، فإنّ ذلك لا يحلّ »(1) عليه، نظراً إلى أنّ المراد بالقبالة المزارعة أو ما يشملها، لم يكن عن الصواب بعيداً.

وقد ذهب جماعة إلى اعتبار كون المدّة ممّا يُعلم فيه إدراك الزّرع ولو من جهة العادة، لأنّ إدراك الزّرع هو الملحوظ في المزارعة، بل هو ركنها الأعظم.

وأيضاً: يمكن أنْ يستدلّ له في صورة إحراز القصور، بمنافاته لما هو المقصود من المزارعة، وفي صورة الشكّ بحديث النهي عن الغَرَر.

أقول: وتمام الكلام في المقام في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: لو شرط في العقد تأخيره إنْ بقى بعد المدّة المشترطة، ففي «الشرائع»(2) بطل العقد على القول باشتراط تقدير المدّة، ووجّهه في «المسالك»(3)و «الجواهر»(4) بأنّ المدّة تصير في الحقيقة هي المجموع من المذكور وما بعده إلى أن يدرك الزّرع وهي مجهولة.

وفيه أوّلاً: أنّ الشرط إنْ كان بقاء المزارعة كان لما ذكر وجه، وأمّا لو كان إبقاء8.

ص: 225


1- التهذيب: ج 7/201 ح 33، وسائل الشيعة: ج 19/60 ح 24154.
2- شرائع الإسلام: ج 2/392.
3- مسالك الأفهام: ج 5/17.
4- جواهر الكلام: ج 27/18.

الزّرع في أرضه، فلا محلّ لهذا الكلام، لأنّ مدّة المزارعة هي ما جُعل في متن العقد.

وثانياً: إنّ الشرط بما أنّه غرريٌ يكون فاسداً، والشرط الفاسد لا يفسد العقد.

وثالثاً: أنّ المدّة مضبوطة، وما تضمّنه الشرط إنّما هو إنشاء شيء آخر، وكون المجموع مجهولاً لا يوجبُ جهالة مدّة العقد.

وعليه، فالأظهر بطلان الشرط وصحّة العقد.

ولو اشترط استحقاق الإبقاء ولو بالاُجرة، بلا تعليقٍ ، صَحّ الشرط أيضاً، لعدم الغَرَر فيه، ولكن الظاهر خروج ذلك عن محلّ الكلام.

الفرع الثاني: لو ترك المزارعة حتّى انقضت المدّة، والأرض تحت يده:

ففي ضمانه اُجرة المثل للأرض ؟

أو عدم ضمانه أصلاً؟

أو التفصيل بين الترك اختياراً فالأوّل، أو معذوراً فالثاني ؟

أو ضمانه ما يعادل الحصّة المسمّاة بحسب التخمين ؟

أو ضمانه بمقدار تلك الحصّة من منفعة الأرض، ومن قيمة عمل الزّارع ؟

أو التفصيل بين صورة اطّلاع المالك على ترك الزّرع فلا ضمان، وبين عدم اطّلاعه فالضمان ؟ وجوه وأقوال:

أقول: حيث إنّه قد عرفت أنّ المزارعة من المشاركات لا من المعاوضات، فلا يملك على الزّارع عمله، ولا حصّة من الحاصل عليه، فلا وجه لضمانه اُجرة أحدهما، ولكن بما أنّه قد مرَّ في كتاب الإجارة والبيع أنّ المنافع غير المستوفاة يضمنها من يكون المال تحت يده، فيضمن اُجرة المثل للأرض التي هي قيمة منفعة

ص: 226

الأرض الفائتة، وبه يظهر أنّه لو لم تكن الأرض تحت يده لا ضمان عليه، وبذلك يظهر ما في كلمات القوم في المقام.

الفرع الثالث: ولو مضت المدّة والزّرع باقٍ :

فالمشهور(1) على أنّ للمالك إزالته.

وذهب بعضهم إلى أنّه ليس له تلك.

وعن «القواعد»(2): (الأقرب أنّ للمالك الإزالة مع الأرش، أو التبقية مع الاُجرة).

وجه الأوّل: عموم ما دلّ على تسلّط النّاس على أموالهم(3)، وعدم حَلّ مال المسلم إلّابطيب نفسه(4)، ضرورة عدم حقّ للزارع بعد المدّة التي ذلك فائدة جعلها غاية.

ووجه الثاني: إنّه قد حصل في الأرض بحقّ ، فلم يكن للمالك قلعه، وأنّ للزرع أمداً معيّناً غير دائم الثبات، فإذا اتّفق الخَلل لا يسقط حقّ الزّارع، كما لو استأجر مدّة للزرع فانقضت قبل إدراكه.

ووجه الثالث: كونه جمعا بين الحقّين.

هكذا ذكروا في توجيه هذه الأقوال.

أقول: وحقّ القول في المقام أنْ يقال:9.

ص: 227


1- راجع شرائع الإسلام: ج 2/392، مسالك الأفهام: ج 5/15.
2- قواعد الأحكام: ج 2/315.
3- البحار: ج 2/272 ح 7.
4- عوالي اللّئالي: ج 2/113 ح 309.

إنّه لا ينبغي التوقّف في سقوط حقّ الزّارع، لأنّ الحقّ كان إلى غايةٍ ، فلا حقّ له بعدها، وكون أمد معيّن للزرع لا يوجب ثبوت حقّ للزارع في الأرض، بعد عدم كون المعاملة واردة على الزّرع بماله من الأمد، بل إلى وقت معيّن.

وأمّا أنّه هل لمالك الأرض إزالته ؟

ففيه إشكالٌ ، نظراً إلى أنّ عموم: «النّاس مسلّطون على أموالهم» إنّما يدلّ على جواز التصرّف في ماله لا في مال الغير، ألا ترى إنّه لا يصحّ أنْ يقال إنّ مقتضى قاعدة السلطنة جواز أن يذبح حيواناً للغير بمديته، من جهة أنّه تصرّفٌ في المدية، وفي المقام غاية ما تدلّ عليه قاعدة السلطنة، جواز التصرّف في الأرض، أمّا جواز التصرّف في الزّرع بالإزالة فلا يستفاد منها.

وهل له الأمر بالإزالة، ليجب ذلك على الزّارع تلك، وإنْ لم يفعل يلزمه الحاكم عليها أم لا؟

الظاهر أنّ له تلك إلّافي صورة واحدة، وهي ممّا لو استلزم القلع والإزالة الضَّرر على الزّارع، وكان بقاء الزّرع في الأرض غير موجب لتضرّر المالك، ولا كان له نفع في قلعه، فإنّه في هذه الصورة يمكن أنْ يقال إنّ مقتضى حديث لا ضرر(1)عدم وجوب الإزالة، وإنّما لم نقل بذلك فيما إذا تضرّر المالك ببقاء الزّرع، أو كان له نفع في قلعه، فلما حُقّق في محلّه، وصرّح به جماعة بل المشهور من أنّه لا يجب تحمّل الضرر لدفعه عن الغير، لأنّ حبس المالك عن الانتفاع بملكه، وجعل الجواز تابعاً لتضرّر الغير حرجٌ عظيم، ولا يعارضه تضرّر الغير، وتمام الكلام في محلّه.1.

ص: 228


1- الكافي: ج 5/292 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32281.

ولذلك أفتوا بجواز أن يتصرّف الإنسان في ملكه بحفر بئرٍ وشبهه وإنْ تضرّر جاره بذلك، إنْ كان في ترك الحفر ضررٌ عليه، أو كان له فيه نفع، راجع كلمات القوم في كتاب إحياء الموات.

وعلى الجملة: في خصوص هذه الصورة، من جهة عموم حديث لا ضرر يُحكم بأنّه لا حقّ له في الإزالة، فليس له أن يأمر بها، ولا يجب على الزّارع الإزالة، ولكن ليس لازم ذلك أنّ له إبقاء الزّرع بلا اُجرة، بل من جهة أنّه يستوفي بذلك منفعة الأرض، فعليه اُجرة المثل للأرض.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه ليس له الإزالة بنفسه مطلقاً، وإنّما له أن يأمر بالإزالة بلا أرش، ولا حقّ للزارع في الإبقاء إلّافي صورة واحدة، وفي خصوص تلك الصورة له إبقاء الزّرع مع الاُجرة، فتدبّر فإنّه حقيق به.

ثمّ إنّه في موارد ثبوت حقّ الأمر بالإزالة للمالك، لا فرق بين أنْ يكون عدم إدراك الزّرع بسبب الزّارع كالتفريط بالتأخير، أو من قِبل اللّه تعالى كتغيير المناخ أو تأخير المياه.

وأمّا في مورد ثبوت حقّ الإبقاء للزارع، فلا يبعد القول بالاختصاص بما إذا كان ذلك من قبل اللّه تعالى، وإنْ كان من قبله، فإنّه لا حقّ له في الإبقاء من جهة أنّه بفعله أقدم على الضرر، وفي مثل ذلك لا يصلح حديث لا ضرر لتخصيص عموم قاعدة السلطنة وحكومته عليها، كما لا يخفى .

ولو اتّفقا على التبقية جاز بعوضٍ وبغيره، وفي التبقية بالعوض يمكن أنْ يكون ذلك بنحو الإجارة، أو الصلح، أو الإباحة بعوض.

ص: 229

وتعيين الحصّة بالجزء المُشاع، وكون الأرض ممّا ينتفعُ بها

الشرط الرابع: (وتعيين الحصّة بالجُزء المُشاع) من الثُّلث أو ما شاكل، فلو قال: (ازرع هذه الأرض على أنْيكون لي أو لك شيءٌمن حاصلها)، بطل بلا خلافٍ .

أقول: يظهر وجهه ممّا ذكرناه في الشرط السابق.

يعتبر كون الأرض ممّا ينتفع بها

الشرط الخامس: (و) هو اشتراط (كون الأرض ممّا ينتفع بها)، بأن تكون من أراضي الزراعة، وأنْ يكون لها ماء ولو تقديراً، إمّا من نهرٍ أو بئرٍ أو عينٍ أو ما شاكل، ومن تلكم الأرض التي تسقيها الغيوث والأمطار عادةً .

وإنْ لم يمكن الانتفاع بها بطلت المزارعة، بلا خلافٍ في ذلك في الجملة، إلّا ماعن المصنّف رحمه الله في «القواعد»(1) حيث قال - بعد ذكر الشرط المذكور -: (ولو زارعها اوآجرها له ولا ماء لها، تخيّر العامل مع الجهالة لا مع العلم، لكن في الاُجرة يثبت المسمّى)، انتهى.

وظهوره في صحّة المزارعة لا ينكر، ولكن الظاهر إرادته صورة عدم الماء فعلاً، وإنْ كان يمكن بحفر بئرٍ مثلاً، لا صورة عدم إمكان الانتفاع بها للزرع، الذي لا يطابق ما اعترف به قبيل هذه العبارة من الشرط المزبور، وعلى ذلك يُحمل ما عن إرشاده، حيث قال: (ولو زارع على ما لا ماء له بطل إلّامع علمه).

ص: 230


1- قواعد الأحكام: ج 2/312.

وبالجملة: فلا خلاف في المسألة، ومدرك اعتبار هذا الشرط:

1 - عدم صدق المزارعة، لعدم الغرض المطلوب فيها، فلا تشملها الإطلاقات والعمومات، ولا أقلّ من انصرافها عن ذلك.

2 - وعدم بناء العقلاء عليه، بل هي من المعاملات السُّفهائيّة عندهم، والمعاملة السفهائيّة وإنْ لم نلتزم ببطلانها، إلّاأنّه في ما كان هناك إطلاق أو عموم دالّ على الصحّة، لا في مثل المقام ممّا لا دليل عليها.

أقول: وتمام الكلام في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: أنّه لو لم يكن للأرض ماء بالفعل، ولكن يمكن تحصيله بعلاجٍ ، فلا إشكال في صحّة المزارعة، وهل للزارع الخيار مع الجهل بذلك أم لا؟

الظاهر ذلك، لا لقاعدة نفي الضرر حتّى يقال إنّها تختصّ بما إذا كان ضررٌ عليه، بل لتخلّف الشرط الضمني الذي عليه بناء العقلاء، والعقدُ مبنيّ عليه، وهو كون الأرض ذات ماءٍ بالفعل.

الفرع الثاني: إذا كانت الأرض ذاتُ ماءٍ بالفعل، ولم يعلم به المتعاقدان فأوقعا المزارعة، فظاهر «الجواهر»(1) ابتناء الصحّة والبطلان على القول باشتراط الإمكان، ومانعيّة عدم قابليّتها للانتفاع.

فعلى الأوّل تصحّ ، وعلى الثاني تبطل، وحيث أنّ المختار عنده اشتراط الإمكان، فلذا اختار البطلان.

وفيه أوّلاً: أنّ الفرق بين المبنيين غير ظاهر، إذ لو كان المانع أو الشرط هو9.

ص: 231


1- جواهر الكلام: ج 27/29.

الإمكان واقعاً، وعدم قابليّتها للانتفاع كذلك، لزم البناء على الصحّة، لوجود الشرط وانتفاء المانع، ولو كان العلم بأحدهما شرطاً أو مانعاً، ففي الفرضين لابدَّ من القول بالبطلان.

وثانياً: أنّ مقتضى الأدلّة التي أقامها للبطلان مع عدم قابليّة الأرض للانتفاع من كون المعاملة سفهائية، وإرادة غير الفرض من العمومات والمطلقات هو الصحّة، لأنّ المعاملة لا تكون سفهيّة واقعاً، والمفروض انكشاف ذلك لهما، وكان الفرض مشمولاً للأدلّة واقعاً وإنْ تخيّلا عدم كونه كذلك.

وعليه، فالأظهر هي الصحّة، إلّاأن يفرض عدم قصدهما لعنوان المزارعة جدّاً حين الإنشاء، وهو خلاف الفرض.

الفرع الثالث: إذا كانت الأرض لا ماء لها حين العقد، فاتّفق تجدّد قابليّتها في ظرف الاحتياج إلى الماء، كفى ذلك العقد، فإنّه ينكشف كونه واجداً للشرائط وفاقداً للموانع واقعاً وإنْ لم يعلما به، وعليه فما في «الجواهر» من الحكم بالبطلان، غير ظاهر.

نعم، إذا لم يقصد المزارعة جدّاً بطل لذلك.

الفرع الرابع: ولو انقطع الماء في أثناء المدّة:

فتارةً : ينقطع في جميع المدّة.

واُخرى : في الأثناء بعد الانتفاع بالأرض في الزراعة في مقدارٍ من المدّة.

وعلى التقديرين:

تارةً : يمكن تحصيله بعلاج.

ص: 232

واُخرى : لا يمكن ذلك.

1 - فإن انقطع في تمام المدّة، ولم يمكن تحصيله بطل العقد، لأنّ المعتبر هو قابليّة الأرض للزراعة في ظرف العمل، والفرض عدمها وإنْ توهّما تحقّقها، فبالانقطاع ينكشف عدم واجديّة العقد للشرائط.

2 - وإنْ انقطع في تمام المدّة، مع إمكان تحصيله بعلاجٍ ، فالظاهر ثبوت الخيار للزارع، لما ذكرناه في الفرع الأوّل.

3 - وإنْ انقطع في بعض المدّة، ولم يمكن تحصيله، بطل العقد بالنسبة إلى المدّة الباقية، وحينئذٍ للزارع خيار التبعّض بلحاظ التبعّض في الغرض المعاملي، وهو الانتفاع بالأرض في مجموع المدّة.

4 - وإنْ انقطع في الأثناء، وأمكن تحصيله بعلاج، تخيّر الزّارع بالنسبة إلى الباقي، فإنْ فسخ ثبت له خيار التبعّض.

لا يقال: إنّ التبعّض حَصل بفعله، فلا يثبت له خياره.

فإنّه يتوجّه عليه: أنّ منشأ التبعّض ليس من ناحيته، بل من جهة تخلّف الشرط الضمني.

أقول: وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات الأصحاب في المقام.

***

ص: 233

وله أن يزرع بنفسه، أو بغيره، أو بالشركة، ما لم يشترط المباشرة

حكم عقد المزارعة بين أزيد من اثنين

الموضع الثاني: في أحكام عقد المزارعة، (و) فيه مسائل:

المسألة الأُولى: (له) أي للزارع (أن يزرع بنفسه أو بغيره أو بالشركة، ما لم يشترط المباشرة) وإلّا تعيّن أن يزرع بنفسه عملاً بالشرط، وهذا لا كلام فيه لو كان المراد ظاهره.

كما لا كلام في أنّه يجوز كون الأرض من أحدهما، والعمل والبذر والعوامل من الآخر، أو العمل من أحدهما والبقيّة من الآخر، والنصوص المتقدّمة جملة منها شاهدة بذلك.

أقول: إنّما الكلام في موردين:

المورد الأوّل: في جواز عقد المزارعة بين أزيد من اثنين، ومثال ذلك أنْ تكون الأرض من واحدٍ والبذر من آخر، والعمل من ثالث، والعوامل من رابع:

ففي محكى «القواعد»(1) في صحّة كون البذر من ثالثٍ نظر، وكذا لو كان البذر من ثالثٍ والعوامل من رابع.

وفي «المسالك»(2) في مقام بيان منشأ الإشكال، قال: (من عموم الأمر بالوفاء

ص: 234


1- قواعد الأحكام: ج 2/314.
2- مسالك الأفهام: ج 5/28.

بالعقد، والكون مع الشرط، ومن توقّف المعاملة سيّما الّتي هي على خلاف الأصل على التوقيف من الشارع، ولم يثبت منه مثل ذلك، والأصل في المزارعة قصّة خيبر، ومزارعة النبيّ صلى الله عليه و آله اليهود عليها، على أن يزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها، وله صلى الله عليه و آله شطره الآخر، وليس فيها أنّ المعاملة مع أكثر من واحد، وكذلك باقي النصوص التي وردت من طرقنا، ولأنّ العقد يتمّ باثنين موجبٌ - وهو صاحب الأرض - وقابلٌ ، فدخول ما زاد يُخرج العقد عن وضعه، أو يحتاج إثباته إلى دليل، والأجود عدم الصحّة).

وأُورد عليه في «الحدائق»(1):

1 - بأنّ ما ذكره من توقّف هذه المعاملة على التوقيف من الشارع بمعنى دليل خاص، فهو خلاف ما يستندون إليه من التمسّك بعموم الأدلّة وإطلاقاتها.

2 - وأيضاً ان ذلك ينافي ما يفهم من قصّة خيبر، فإنّ اليهود كانوا كثيرين، وقد زارعهم النبيّ صلى الله عليه و آله.

3 - وأيضاً ينافيه ماهو معلومٌ جوازه في باقي العقودمن تعدّد الموجبين والقابلين.

ثمّ حكى عن الأردبيلي قدس سره(2) ما يؤيّد ما ذكره.

ولكن يرد على ما في «الحدائق»: من إنّ هاهنا مسألتين:

إحداهما: كون أحد طرفي عقد المزارعة متعدّداً، ككون الأرض مشتركة بين جماعة مثلاً.4.

ص: 235


1- الحدائق الناضرة: ج 21/324.
2- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 27/34.

ثانيتهما: كون طرف العقد متعدّداً، بأنْ تكون الأرض من واحد، والعمل من آخر، والبذر من ثالث.

وما أفاده صاحب «الحدائق» إنّما هو في المسألة الأُولى، ولا أظنّ أنْ يكون من يناقش في الصحّة فيها، ومورد كلام «المسالك» المسألة الثانية.

أقول: وأمّا ما أفاده في «المسالك» فممنوع:

إذ على ما أفاده:

أوّلاً: أنّ إطلاقات المزارعة وإن لم تشمل الفرض، إلّاأنّه تكفي العمومات العامّة بعد عدم الدليل على اعتبار عدم كون العقد بين اثنين، وكون ذلك خلاف المتعارف لا يوجب الانصراف، ومعها لا مجال للرجوع إلى الأصل.

ويرد على ما أفاده ثانياً: إنّ العقد عبارة عن ربط أحد الالتزامين أو الالتزامات بالآخر:

فإنْ كان مدّعاه عدم صدق العقد على ما لو كان العاقد أكثر من اثنين، فهو ظاهر الفساد.

وإنْ كان مراده انصراف العقد إلى ذلك، فيردّه أنّه لا منشأ له سوى التعارف، وهو لا يوجب الانصراف المقيّد للإطلاق.

وعليه، فالإنصاف أنّه لا مانع من شمول العمومات، سيّما على المختار من كون المزارعة من المشاركات، سوى النصوص الخاصّة:

منها: خبر أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يزرع أرض رجلٍ آخر، فيشترط عليه ثلثاً للبذر، وثلثاً للبقر؟

ص: 236

فقال عليه السلام: لا ينبغي أن يُسمّي بذراً ولا بقراً، ولكن يقول لصاحب الأرض:

ازرع في أرضك ولك منها كذا وكذا، نصفٌ أو ثلثٌ أو ما كان من شرط، ولا يسمّي بذراً ولا بقراً، فإنّما يحرم الكلام»(1).

ومنها: خبر عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام في حديثٍ ، قال:

«لا يسمّى شيئاً من الحَبّوالبقر، ولكن يقول: إزرع فيها كذاوكذا، الحديث»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

فإنّ المستفاد من هذه النصوص أنّه لا يجوز أن يجعل بإزاء البذر والبقر شيئاً من الحاصل، بل هو يجعل لصاحب الأرض والعامل، وليس معنى الفساد والبطلان إلّا ذلك.

وعن «المختلف»(4): حمل هذه النصوص على الكراهة، معلّلاً بأنّه لا ربا هنا، لأنّ الرّبا إنّما يثبت في البيع خاصّة.

وفيه أوّلاً: أنّه ليس النظر في النهي إلى الرّبا قطعاً، ولذا نهي عن جعله بإزاء البقر أيضاً.

وثانياً: أنّ الحمل على الكراهة - مضافاً إلى أنّه خلاف الظاهر بلاقرينة عليه - ينافيه التعليل بأنّه: «يحرم الكلام»، المراد منه بحسب الظاهر الحرمة والفساد مع هذه التسمية والتوزيع.2.

ص: 237


1- الكافي: ج 5/267 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/41 ح 24112.
2- الكافي: ج 5/267 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/41 ح 24111.
3- وسائل الشيعة: ج 19/40 باب: (أنّه يشترط في المزارعة كون النماء بينهما).
4- مختلف الشيعة: ج 6/192.

وعن المجلسي رحمه الله(1): (إنّ قوله: للبذر ثُلثاً، يحتمل وجهين:

أحدهما: أنّ اللّام للتمليك، فالنهي لكونهما غير قابلين للملك.

ثانيهما: أنْ يكون المعنى ثلثاً بإزاء البذر، وثلثاً بإزاء البقر، فالنهي لشائبة الرّبا في البذر (.

وهذا من غرائب الكلام.

وبالجملة: فالحقّ دلالة النصوص على المنع من التوزيع في المزارعة بهذا النحو، أي جعل مقدارٍ لمالك البذر، ومقدار لمالك البقر، بل المتعيّن جعل الحاصل لمالك الأرض والعامل، وهذا مستلزمٌ للفساد في محلّ الفرض.

المورد الثاني: في تشريك الغير في المزارعة:

فالمشهور(2) بينهم أنّه يجوز للعامل أن يشارك غيره في العمل بالحصّة المعلومة، وأن يزارع غيره، من غير توقّف على إذن المالك، إذا لم يكن شَرَط عليه العمل بنفسه.

أقول: وهذا لا إشكال فيه على فرض كون المزارعة من المعاوضات، كما مرَّ نظيره في الإجارة، وبيّنا هناك تفصيل القول في ذلك، وفي جوازتسليم العين إليه.

وأمّا على فرض كونها من المشاركات، فقد يُشكل المشاركة فيها بما أفاده الشهيد الثاني(3) حيث قال:

(وهو حسنٌ في مزارعة غيره، أمّا المشاركات فلا، لأنّ المراد بها أن يبيع بعض حصّته في الزّرع مشاعاً ببعض معلوم، وهذا لا مانع منه لملكه لها، فيتسلّط على3.

ص: 238


1- نسبه إليه في جواهر الكلام: ج 27/35.
2- راجع السرائر: ج 2/446، تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/341، إيضاح الفوائد: ج 2/287.
3- مسالك الأفهام: ج 5/33.

بيعها كيف شاء، بخلاف ابتداء المزارعة إذ لا حقّ له حينئذٍ إلّاالعمل، وبه يستحقّ الحصّة)، انتهى.

وتبع في ذلك المحقّق الثاني(1)، وأُورد عليهما بما يطول المقام بذكره.

والحقّ أنْ يقال: إنّ النقل إلى الغير يتصوّر على وجوه:

أحدها: نقل المزارعة أو نصفها مثلاً إلى الغير، بحيث يصير كأنّه هو الطرف للمالك بصلحٍ ونحوه، بعوضٍ ولو من خارج أو بلا عوض.

ثانيها: نقل حصّته أو بعضها إلى الغير، ولكن لا يصير الغير بهذا النقل زارعاً له، ولا لصاحب الأرض، بل الناقل هو العامل للمالك، وعليه القيام بأعمال الزراعة ولو بالتسبيب.

ثالثها: أن يُزارع غيره أو يشاركه كما زارعه المالك، فيكون من قبيل إجارة العين المستأجرة، فيكون الغير زارعاً.

أقول: والكلام في هذه الصور الثلاث يقع:

تارةً : فيما تقتضيه القاعدة.

واُخرى : في مقتضى النّص الخاص.

أمّا الأوّل: فالظاهر عدم جواز النقل بالوجه الأوّل، لأنّ صيرورة الزّارع زارعاً يستحقّ على المالك بذل منفعة الأرض وعليه العمل، مع كون الحاصل بينهما على الوجه الذي اشترطوه من آثار عقد المزارعة، وهذا غير قابل للنقل، بل هو نظير نقل الأجير صيرورته أجيراً إلى الغير، وعدم جواز نقل العقد الواقع بينهما وكونه طرفاً له إلى الغير أوضح.0.

ص: 239


1- جامع المقاصد: ج 7/330.

وأمّا النقل على الوجه الثاني:

فإنْ كان بعد خروج الزّرع، فلا إشكال فيه أصلاً، لعموم أدلّة العقود.

وأمّا قبل خروج الزّرع، ففيه إشكالٌ ، نظراً إلى الجهل بالوجود، إلّابناقل لا يضرّ به الجهل بالحصول.

وأمّا النقل على الوجه الثالث: فالظاهر جوازه، لأنّ الأرض تصير متعلّقة لحقّه، وقد مرَّ أنّه يجوز المزارعة على أرضٍ تكون تحت تسلّط الإنسان، وإنْ لم يكن مالكاً لها ولا لمنافعها.

أقول: ولا فرق في جميع هذه الحالات بين كون البذر من المالك أو منه، كما لا فرق بين ان يشترط المباشرة وعدمه، إذ لا منافاة بين الصحّة في مواردها وبين مباشرته للعمل، لعدم لزوم المباشرة للعمل في صحّة المزارعة كما مرّ، فيصحّ أن يزارع الغير أو يشاركه ويكون هو المباشر دون ذلك الغير.

وأمّا النّص: وهو موثّق سماعة، قال:

«سألته عن المزارعة، قلت: الرّجل يبذر في الأرض مائة جريب أو أقلّ أو أكثر طعاماً أو غيره، فيأتيه رجلٌ فيقول له: مني نصف هذا البذر الذي زرعته في الأرض ونصف نفقتك عليَّ واشركني فيه ؟

قال عليه السلام: لا بأس»(1).

فظاهره التشريك في حصّةٍ من الحاصل، وليس فيه ما يشهد بنقل المزارعة أو جعله شريكاً معه في كونه طرفاً للمالك، واللّه العالم.

***6.

ص: 240


1- الكافي: ج 5/268 ح 4، وسائل الشيعة: ج 19/48 ح 24126.

ويزرع ما شاء مع عدم التخصيص في العقد،

حكم إطلاق المزارعة

المسألة الثانية: فيما قاله المصنّف رحمه الله: (و) لو أطلق المزارعة (يزرع ما شاء)، ولا يتعيّن نوع خاص (مع عدم التخصيص في العقد).

أقول: وتنقيح القول يتحقّق بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: هل يصحّ الإطلاق ليختار الزّارع ما شاء، كما هو ظاهر المشهور(1)؟

أم يعتبرالتعيين كما عن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»؟(1) وجهان:

واستدلّ المصنّف لما اختاره: بتفاوت ضَرر الأرض باختلاف جنس المزروعات، فيلزم من تركه الغَرَر.

وأُورد عليه في «المسالك» (3) : بأنّ المالك دَخَل على أضرّ الأنواع من حيث دخوله في الإطلاق، فلا غَرر.

وفيه: أنّ المالك إنْ عيّن الأضرّ فلا غَرر، ولكن إن أطلق ولم يعيّن، وكان الخيار بيد الزّارع، ويكون له زرع الأضرّ وزرع غيره، فلا محالة يلزم الغَرَر، ودخول المالك لايوجب رفع حكم الغَرَر، وليس هو نظير الضرر كي يرتفع حكمه بالإقدام.

ص: 241


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/313.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّه بناءً على ما اخترناه في حقيقة المزارعة، من كونها من قبيل المشاركات لا من المعاوضات، وأنّ الأرض لا تنتقل من المالك، ولا منفعتها تنتقل عنه إلى الزّارع، بل ليس إلّاالإذن في الزّرع، فلا يكون غَرراً منهيّاً عنه، إذ لا إشكال في عدم جريان الغَرَر في الإذن.

وأمّا من ناحية مجهوليّة الحاصل، فالغرر الناشيء منها معفوٌّ في هذا الباب، لجهالته دائماً.

وعليه، فالأظهر صحّة الإطلاق.

المورد الثاني: قال في «المسالك»(1): (إنّه مع الإطلاق يتخيّر الزّارع إذا كان البذر من عنده، أمّا لو كان من عند صاحب الأرض، فالتخيير إليه بطريق أولى لا إلى الزّارع).

وفيه: إنّ ذلك فرع كيفيّة الإطلاق المأخوذ في العقد:

فإنْ كان بنحوٍ ظاهره تخيير الزّارع، لم يكن منافاة بينه وبين كون البذر من المالك، فيكون الاختيار في تعيين نوع البذر بيد الزّارع.

المورد الثالث: ولو عيّن رَبّ الأرض الزّرع على العامل تعيّناً نوعيّاً كالحنطة، أو شخصيّاً كهذه الحنطة، أو صنفيّاً كالحنطة الفلانيّة، لم يَجُز له التعدّي إلى الآخر، سواءٌ أكان ما عدل إليه أضرّ ممّا عيّن في العقد أو أقلّ ضرراً أو مساوياً، لعموم وجوب الوفاء بالعقد والشرط.

أقول: ولو خالف، ففيه أقوال:

أحدها: أنّ للمالك اُجرة المثل، وهو مختار الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(2)،2.

ص: 242


1- مسالك الأفهام: ج 5/19 و 22.
2- مسالك الأفهام: ج 5/19 و 22.

والمحقّق الأردبيلي رحمه الله(1).

ثانيها: التخيير، بمعنى أنّه يتخيّر المالك بين فسخ العقد وأخذ اُجرة المثل وعدمه، فيأخذ المسمّى مع الأرش، للنقص الحاصل في الأرض بسبب زرع الآخر فيها إن زرع الأضرّ، وهو مختار المصنّف رحمه الله(2).

ثالثها: التفصيل بين ما لو زرع الأقلُّ ضرراً فلا خيار له، وبين ما لو زرع الأضرّ فله الخيار، وهو ظاهر «الشرائع»(3).

والحقّ أنْ يقال: إنّ تعيين النوع أو الصنف أو الشخص قد يكون على وجه التقييد والعنوانيّة، وقد يكون على وجه الاشتراط:

فعلى الأوّل: فبالنسبة إلى ما وقع عليه العقد، يكون كما لو ترك الزّرع، وحكمه ضمان اُجرة المثل للأرض، لأنّه فاتت المنفعة والأرض تحت يده.

وأمّا بالنسبة إلى الزّرع الموجود:

فإنْ كان البذر للمالك، كان الزّرع له، ولا يستحقّ العامل اُجرة عمله، لعدم كونه بأمر المالك، فلا موجب لضمانه له.

وإنْ لم يكن عالماً بالتعيين، ولم يتعمّد الخلاف، ولكن حيث أنّه لا يضمن من العين إلّاواحدة من منافعها المتضادّة، والفرض استيفاء المالك منفعة من تلك المنافع، ومعه لا تكون المنفعة المضادّة لها مضمونة، فلا يستحقّ على الزّارع اُجرة المثل للأرض، مع عدم نقصان ما استوفاه من المنفعة.3.

ص: 243


1- مجمع الفائدة: ج 10/107.
2- إرشاد الأذهان: ج 1/427.
3- شرائع الإسلام: ج 2/393.

وعليه، فالأظهر حينئذٍ ملاحظة أزيدهما قيمةً ، فإنْ كان ما استوفاه أزيد، فلا شيء على الزّارع، وإنْ كان اُجرة المثل أزيد استحقّ الزيادة خاصّة عليه.

وعلى الثاني: للمالك الخيار في فسخ العقد وإبقائه، فإنْ أبقاه لا يستحقّ عليه شيئاً، وإنْ فسخه يجري فيه ما ذكرناه في الصورة السابقة.

ثمّ إنّه مع التعيين لا فرق فيما ذكرناه من الأحكام بين ما لو كان ما زرعه أقلّ ضرراً أم كان أكثر ضرراً.

ودعوى:(1) أنّ المراد من التعيين مقدار الإذن في الانتفاع بالأرض، فهو كالإجارة بالنسبة إلى ذلك فيجوز.

مندفعة: بما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله(2) من أنّ غرض المالك ليس منحصراً بمصلحة الأرض، بل المقصد الذاتي إنّما هو الانتفاع بالزّرع، ومصلحة الأرض تابعة، ولا شكّ أنّ الأغراض تختلف في أنواع المزروع، فربما كان غرضه بالأشدّ ضرراً من حيث نفعه والحاجة إليه، وإنْ حصل للأرض ضررٌ.

مع أنّه يدفعها: أنّ ما يُنشَأ بالعقد لا يختلف باختلاف الأغراض، ويكون ما وقع عليه العقد عنواناً لما يستحقّه أحدهما على الآخر، فإذا وقع العقد على الأشدّ ضرراً، لا يجوز الأقلّ ضرراً.

والحكم في الإجارة أيضاً كذلك.

***1.

ص: 244


1- جواهر الكلام: ج 27/26.
2- مسالك الأفهام: ج 5/21.

والخراج على المالك

حكم خراج الأرض ومؤونتها

المسألة الثالثة: (والخراج) ومؤونة الأرض - كاُجرتها إذا كانت مستأجرة - ونحوها (على المالك)، فإنّ العامل إنّما يجب عليه العمل، وما اشترط عليه من البذر والعوامل وأمر الأرض وما يتعلّق بها إلى ربّها.

بل في خبر سعيد الكندي، قال: «قلت لابي عبد اللّه عليه السلام: إنّي آجرتُ قوماً أرضاً فزاد السلطان عليهم ؟ قال عليه السلام: اعطهم فضل ما بينهما.

قلت: أنا لم أظلمهم ولم أزد عليهم ؟ قال عليه السلام: إنّهم زادوا على أرضك»(1).

أقول: وإنْ كان فيه قصورٌ من حيث السند، والظاهر ولا أقلّ من المحتمل كونه في الخراج الذي هو على مالك الأرض، باعتبار أنّه كأنّه عوض الأرض يأخذه السلطان وغير مقدّرٍ بقدر، فقد يزيد السلطان فيه وقد ينقص.

فلا يرد عليه: ما أفاده سيّد «الرياض»(2)، بقوله: (ويستفاد من التعليل انسحاب الحكم في كلّ موضعٍ يشابه مورده، كما يتّفق كثيراً في بلادنا من الظلم على سكنة الدّار بمالٍ يكتب عليها، فمقتضى الأصل والقاعدة براءة ذمّة أربابها، وصرف الغرامة إلى السكنة، فإنّ المظلوم من ظلم).

فإنّه على ما ذكرناه يكون الخبر موافقاً للقاعدة، بل وللأصل، وهو أصالة

ص: 245


1- التهذيب: ج 7/208 ح 61، وسائل الشيعة: ج 19/56 ح 24144.
2- رياض المسائل: ج 9/113.

ما لم يشترط عليه

البراءة عمّا زاد على ما وجب عليه بعقد المزارعة، والخبر وإنْ كان في الإجارة، إلّا أنّه يستفاد حكم المقام منه بعموم التعليل.

هذا كلّه (ما لم يشترط) على الزّارع، وإلّا لزم (عليه) عملاً بالشرط، والظاهرتسالمهم عليه مع كونه معلوماً.

وإنّما اعترض الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(1) في صورة الجهل، فقال: (ولو شرط عليه الخراح، فزاد السلطان فيه زيادة، فهي على صاحب الأرض، لأنّ الشرط لم يتناولها ولم تكن معلومة، فلا يمكن اشتراطها)، انتهى.

وأورد عليه صاحب «الحدائق»(2) رحمه الله: بأنّ المستفاد من الأخبار خلاف ما ذكره، لاحظ:

1 - صحيح داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه صلى الله عليه و آله: «في الرّجل تكون له الأرض عليها خراجٌ معلوم، وربما زاد وربما نقص، فيدفعها إلى رجلٍ على أن يكفيه خراجها، ويعطيه مائتي درهم في السنة ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(3).

ورواه الصدوق باسناده عن يعقوب بن شعيب، عنه عليه السلام.

2 - وصحيح ابن شعيب، عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن الرّجل تكون له الأرض من أرض الخراج، فيدفعها إلى الرّجل على أن يعمرها ويصلحها ويُؤدّي6.

ص: 246


1- مسالك الأفهام: ج 5/34.
2- الحدائق الناضرة: ج 21/337.
3- الكافي: ج 5/265 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/57 ح 24146.

خراجها، وما كان من فضلٍ فهو بينهما؟ قال عليه السلام: لا بأس»(1).

قال رحمه الله: (وهذه الأخبار ظاهرة في عدم ضرر جهالة الشرط المذكور).

وفيه أوّلاً: أنّه ليس في هذه النصوص ما يدلّ على أنّ ذلك هل هو بعنوان الجُعالة أو الصلح أو نحوهما المغتفر فيها الجهالة، أم بعنوان الإجارة وشبهها؟.

ثمّ إنّه هل الخراج مجعولٌ جزءً من العوض، أو يكون مجعولاً بعنوان الشرط؟ بل قد يقال إنّه ليس فيها ما يدلّ على كون ذلك بعنوان المعاملة، بل هي تلائم مع كون ذلك بحصول التراضي خاصّة، ونفي البأس لا يدلّ على أزيد من الجواز، ولو سُلّم الإطلاق يقيّد بما دلّ على مضريّة الجهالة للحكومة.

وثانياً: أنّه يمكن أنْ يقال إنّ هذه النصوص وما شابهها، متضمّنة لحكم معاملةٍ خاصّة نظير المصالحة، مفادها تمليك المنفعة للعامل، وتمليك مالك الأرض للعمل ونحوه، بلا معاوضة بين العمل والمنفعة، فتأمّل، وسيأتي لذلك زيادة توضيح في المسألة اللّاحقة.

وثالثاً: ما في «الجواهر»(2) من (أنّ شرط الخراج في النصوص، من اشتراط كون حقّ الخراج عليه، نحو اشتراط حقّ الزكاة على مشتري الثمرة مع عدم العلم بمقدارها، فلا يقدح جهالة ما يؤدّيه عن ذلك، إذ ليس هو اشتراط قدر، بل هو اشتراط حقّ ، وربما لا يؤدّي عنه شيئاً، ومرجعه إلى صيرورة الزّارع كالمالك في تعلّق هذا الحقّ به الذي لا إشكال في صحّة اشتراطه عليه ولو مؤكّداً، ومثل ذلك ليس من الجهالة في شيء).6.

ص: 247


1- الكافي: ج 5/268 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/45 ح 24121.
2- جواهر الكلام: ج 27/46.

وعلى الجملة: ما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله من أنّه مع اشتراط قدر الخراج لابدَّ وأنْ يكون معلوماً هو الصحيح، والمدرك النهي عن الغَرَر الشامل للشرط أيضاً على ما حُقّق في محلّه.

أقول: والظاهرأنّ المراد بمؤونة الأرض ماكان مثل الخراج من اُجرة الأرض ونحو تلك، ممّا هو سببٌ في الاستيلاء على كون الأرض بيده إجارة وزراعة وغيرهما.

وأمّا ما استظهره في «المسالك»(1) من أنّها ما يتوقّف عليه الزّرع، ولا يتعلّق بنفس عمله وتنميته، كإصلاح النهر والحائط، ونصب الأبواب إن اُحتيج إليها والدولاب، وما لا يتكرّر كلّ سنة، كما فصّلوه في المساقاة، فلابدّ فيها من تعيين كونها على المالك أو العامل، إلّاإذا كان هناك عادة ينصرف إليها الإطلاق.

***4.

ص: 248


1- مسالك الأفهام: ج 5/34.

والخُرص جائزٌ من الطرفين

حكم الخُرص

المسألة الرابعة: (والخرص جائزٌ من الطرفين)، أي يجوز لكلّ من المالك والزّارع أن يخرص على الآخر، كما هو المشهور بين الأصحاب(1).

أقول: والأصل في ذلك - مضافاً إلى إمكان دعوى أنّها معاملة مستقلّة، يشملها عموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالعقد(2)، بناءً على ما هو الحقّ من عدم اختصاصه بالعقود المتعارفة التي لها عناوين خاصّة، وإلى إمكان إرجاعه إلى الصلح غير المعاوضي، فكأنّهما يتسالمان على أنْ تكون حصّة أحدهما من المال المشترك كذا مقدار، أو البقيّة للآخر شبه القسمة أو نوع منها - جملة من النصوص الخاصّة الواردة هنا وفي الثمار:

منها: صحيح أبي الصباح الكناني، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه يقول: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا افتتح خيبر تركها في أيديهم على النصف، فلمّا أدركت الثمرة بعث عبد اللّه بن رواحة إليهم فخَرَص عليهم، فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله وقالوا: إنّه قد زاد علينا.

فأرسل إلى عبد اللّه بن رواحة، فقال: ما يقول هؤلاء؟ قال: خرصتُ عليهم بشيء، فإنْ شاؤا يأخذون بما خرصت، وإنْ شاؤا أخذنا»(3).

ومنها: مرسل محمّد بن عيسى ، قال: «قلتُ لأبي الحسن عليه السلام: إنّ لنا أكرة

ص: 249


1- راجع النهاية: ص 442، المهذّب: ج 2/14، السرائر: ج 2/450.
2- سورة المائدة: الآية 1.
3- الكافي: ج 5/267 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/232 ح 23569.

فنزارعهم فيجيئون فيقولون: إنّا قد حَرزنا هذا الزّرع بكذا وكذا، فاعطوناه ونحن نضمن لكم أن نعطيكم حصّتكم على هذا الحرز؟

قال: وقد بلغ ؟ قلت: نعم، قال عليه السلام: لا بأس بهذا.

قلت: إنّه يجيء بعد ذلك فيقول: إنّ الحرز لم يجيء كما حرزتُ ، قد نقص.

قال: فإذا زاد يردّ عليكم ؟ قلت: لا.

قال عليه السلام: فلكم أن تأخذوه بتمام الحِرز، كما أنّه إذا زاد كان له كذلك إذا نقص كان عليه»(1).

ونحوهما غيرهما(2) من النصوص الكثيرة.

وأُورد عليه تارةً : بأنّه من قبيل بيع المحاقلة والمزابنة، وهما أنْ يشتري حمل النخل بالتمر والزّرع بالحنطة، كما في صحيح البصري(3)، وقد نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عنهما كما في الصحيح وغيره.

واُخرى : بأنّها معاملة ربويّة وهي باطلة.

وثالثة: بأنّه باطل من جهة اتحاد العوض والمعوّض.

أقول: والجميع مردودة، لعدم كون هذه المعاملة بيعاً كما مرّ، وعلى فرضه يكون دليلها أخصّ من ما دلّ على بطلان بيع المحاقلة والمزابنة فيخصّص به.

وبه يندفع إشكال كونها ربويّة، مع أنّ حاصل الزّرع والشجر قبل الحصاد والجذاذ ليس من المكيل والموزون.7.

ص: 250


1- الكافي: ج 5/287 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/50 ح 24130.
2- وسائل الشيعة: ج 19/49 باب: (أنّه يجوز لصاحب الأرض والشجر أن يخرص على العامل والعامل بالخيار في القبول).
3- وسائل الشيعة: ج 18/239 ح 23587.

أضف إلى ذلك كلّه: أنّ في جريان الرّبا في مطلق المعاملات، حتّى ما كان راجعاً إلى التعاوض، كلاما محرّراً في محلّه.

وأمّا اتحاد العوض والمعوّض: فيدفعه - مضافاً إلى أنّه لا محذور فيه بعد دلالة الدليل على الصحّة في المقام - أنّه لا يكون هنا اتّحادٌ حقيقةً ، لكون المعوّض الحصّة المشاعة، والعوض المقدار المخصوص من مجموع الحصّتين.

وبالجملة: فلا إشكال في صحّة الخرص.

والتحقيق: أنّ تمام الكلام يتحقّق في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: هل هو لازم كما لعلّه المشهور بين الأصحاب(1)؟

أم يكون جائزاً كما عن «الميسيّة»، و «إيضاح النافع»(2)، و «التنقيح»(3)؟

وجهان، وعن «التذكرة»(4) الإشكال في لزومه.

أقول: يشهد للزومه العمومات الدالّة على لزوم كلّ عقدٍ، ومن العقود عقد الخرص، ومرسل محمّد المتقدّم وغيره من النصوص الصريح بعضها والظاهر آخر في ذلك.

الفرع الثاني: هل الزائد على تقدير الزيادة ملك للمتقبّل أم إباحة ؟

الظاهر هو الأوّل، كما هو صريح المرسل السابق وظاهر غيره، وعليه فما عن مزارعة «القواعد»(5) من (أنّ الزائد إباحةٌ على إشكال)، في غير محلّه.4.

ص: 251


1- رياض المسائل: ج 9/117.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/289.
3- قد يظهر ذلك من التنقيح الرائع: ج 2/112.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/340.
5- قواعد الأحكام: ج 2/314.

فإنْ اتّفقا كان مشروطاً بالسّلامة،

الفرع الثالث: أنّ مقتضى الأخبار الخاصّة ظهوراً أو انصرافاً أو متيقّناً، هو اختصاص هذه المعاملة بما إذا كان العوض من الثمرة المخروصة، فلا يجوز الخرص وجعل المقدار في الذمّة من جنس ذلك الحاصل.

والظاهر اختصاص المعاملة عند العقلاء أيضاً بذلك.

الفرع الرابع: إنّ هذه المعاملة كسائر المعاملات تحتاج إلى إنشاء، ولا يكفي فيها مجرّد الرّضا النفساني، لما مرَّ من أنّ بناء العقلاء على عدم ترتيب الآثار على شيء من المعاملات ما لم تبرز.

نعم، لا يعتبر فيها لفظ خاص، بل يصحّ إنشائها بكلّ ما هو مبرز لذلك، بل يصحّ بالفعل كما في سائر المعاملات.

الفرع الخامس: الظاهر كما أشرنا إليه كون هذه معاملة مستقلّة غير البيع والصلح والمعاوضي، ولتسمَّ بالتقبّل.

قرار الخُرص مشروط بالسلامة

الفرع السادس: لا إشكال في أنّ هذه المعاملة كسائر المعاملات متوقّفة صحّةً ولزوماً على التراضي، وفي الأخبار تصريحٌ بذلك.

وعليه (فإنْ ) لم يتّفقا لم تصحّ ، وإنْ (اتّفقا) وأوقعاها صحّت ولزمت كما مرَّ.

وهل (كان) قرارها (مشروطاً ب) شرطٍ آخر وهي (السلامة)، أي سلامة

ص: 252

الحاصل، فلو تلف بآفةٍ سماويّة أو أرضيّة كان عليهما كما هو المشهور، أم لا؟

قال في «المسالك»(1) - بعد نسبة الاشتراط إلى المشهور -: (ومستنده غير واضح، وحكمه لا يخلو عن إشكال إنْ لم يكن انعقد عليه الإجماع، وأنّى لهم به، وإنّما هو شيءٌ ذكره الشيخ في كتبه، وتبعه عليه الباقون، معترفين بعدم النّص ظاهراً على هذه اللّوازم)، انتهى .

وظاهر المحقّق الأردبيلي(2) التوقّف في ذلك، وحكى عن «التذكرة»(3) أيضاً التردّد فيه.

أقول: وتنقيح القول في المقام، أنّه:

تارةً : نقول في هذه المعاملة أنّ تعيين الحصّة في المقدار المعيّن، لا يجعل ما يستحقّه المتقبّل من قبيل الكلّي في المعيّن، بل هي باقية على إشاعتها، غاية الأمر تعيّنها في مقدارٍ معيّن، وعليه فكون التلف عليهما كما قبل التقبّل واضحٌ .

واُخرى : نقول بأنّ حقيقة هذه المعاملة تعهّد أحد الشريكين حصّة الآخر على المقدار الذي يراه الخارص، فتفيد - مضافاً إلى التعيين - خروج العين عن الإشاعة، واختصاصها بالمتقبّل كما أفاده بعض الأجلّة(4)، ولازمه كون ما يستحقّه من قبيل الكلّي في المعيّن، فلا يكون التلف عليهما.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ المالك وإنْ ملك بالتقبّل مقداراً معيّناً من الحاصل2.

ص: 253


1- مسالك الأفهام: ج 5/35.
2- مجمع الفائدة: ج 10/374.
3- الذي يظهر من العلّامة أنّه يشترط سلامة الخرص راجع تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/352.
4- العروة الوثقى: ج 5/332.

بنحو الكلّي في المعيّن، إلّاأنّ ما يستحقّه الزّارع أيضاً من قبيل الكلّي في المعيّن، وهو ما زاد على ذلك المقدار، وليس المقام نظير بيع صاع من صُبرة، لأنّ المبيع هناك كلّي في المعيّن، ومال المالك ليس ملحوظاً بعنوان كلّي، إذ لم يقع موضوع الحكم في البيع حتّى يُلحظ بعنوان كلّي، وهذا بخلاف المقام.

بل المقام نظير مالو باع الصبرة إلّاصاعاً منها، أو باع ثمرة شجرات إلّاأرطالاً معلومة، فكما أنّه في تلك المسألة لا إشكال ولا خلاف في أنّه لو خاست الثمرة وتلف من الصبرة مقداراً منها، سقط من المستثنى بحسابه، كذلك في المقام.

والسِّر في ذلك: أنّه حيث يملك كلّ منهما كليّاً في المعيّن، فالموجود مشترك بينهما، لأنّ نسبة كلّ جزءٍ منه إلى كلّ منهما على حَدّ سواء، فتخصيص أحدهما به ترجيحٌ من غير مرجّح، وكذا التالف نسبته إليهما على السَّواء، فيحسب عليهما.

وتمام الكلام في ذلك في كتاب البيع في مسألة بيع صاعٍ من الصُّبرة(1).

أقول: ومع الإغماض عن ذلك، يمكن توجيهه بالشرط الضمني بينهما، وإلى ذلك يرجع ما أفاده بعضهم بكون ذلك من أحكامها العقلائيّة.

وعلى ما ذكرناه فيلحق إتلاف متلفٍ من الإنسان أيضاً بالتلف، والمتلف ضامن لكلٍّ منهما.

***2.

ص: 254


1- فقه الصادق: ج 24/192.

وإذا بطلت المزارعة، أو لم يزرع العامل، يثبت اُجرة المثل،

ثبوت اُجرة المثل مع بطلان المزارعة

المسألة الخامسة: (وإذا بطلت المزارعة، أو لم يزرع العامل، يثبت اُجرة المثل) كما هو المشهور بين الأصحاب(1).

أقول: يقع المقام في موردين:

المورد الأوّل: في صورة بطلان المزارعة، وحينئذٍ:

تارةً : تكون الأرض بيد الزّارع.

واُخرى : تكون بيد المالك.

أمّا في الصورة الأُولى : فمدرك ضمانه اُجرة المثل للأرض، ما تقدّم منا في كتاب البيع(2) والإجارة(3)، من أنّ المنافع غير المستوفاة إذا تلفت تحت يد الشخص يكون ضامناً لها.

وأمّا قاعدة (ما يُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده) - المتوهّم شمولها للمقام، من جهة أنّ المزارعة الصحيحة بالنسبة إلى منفعة الأرض توجب الضمان، فكذا فاسدها - فشمولها لما نحن فيه يتوقّف على القول بكون المزارعة من قبيل المعاوضات، وأمّا على المختار من كونها من قبيل المشاركات، فلا وجه للتمسّك بها، لأنّ منفعة الأرض لا تنتقل إلى الزّارع حتّى تُضمن.

ص: 255


1- راجع: الوسيلة: ص 270، شرائع الإسلام: ج 2/375، الجامع للشرايع: ص 299.
2- صفحة 102 من هذا المجلّد.
3- فقه الصادق: ج 24/320.

وأمّا في الصورة الثانية: فالظاهر عدم الضمان، لعدم الموجب له من قاعدة اليد، أو الإتلاف، أو احترام المال، وما شاكل.

المورد الثاني: فيما لو ترك الزّارع الزّرع حتّى انقضت المدّة:

وفيه وجوهٌ وبعضها أقوال:

1 - كونه ضامناً لاُجرة المثل للأرض.

2 - عدم ضمانه أصلاً.

3 - التفصيل بين ما لو تركه اختياراً فالأوّل، أو معذوراً فالثاني.

4 - ضمانه ما يعادل الحصّة من منفعة الأرض من نصفٍ أو ثلثٍ أو غيرهما بحسب التخمين.

5 - ضمانه بمقدار تلك الحصّة من منفعة الأرض من نصفٍ أو ثلثٍ ، ومن قيمة عمل الزّارع.

أقول: والأظهر هو الأوّل في مفروض المسألة - وهو كون الأرض بيد الزّارع إلى انقضاء المدّة - والثاني مع كونها تحت يد المالك.

أمّا في الأوّل:

1 - فلقاعدة اليد، بالتقريب المتقدّم في كتاب البيع والإجارة(1)، لما بيّناه من شمولها للمنافع غير المستوفاة.

2 - ولقاعدة الإتلاف، لأنّ حبس العين ومنع مالكها عن الانتفاع بها إتلاف لمنافعها عرفاً.

وأمّا في الثاني: فلعدم الموجب له.د.

ص: 256


1- صفحة 163 من هذا المجلّد.

ثمّ إنّ هذا فيما إذا لم يترك الزّرع بسبب عُذرٍ عام، وإلّا فيكشف ذلك عن بطلان المزارعة.

ولو انعكس المطلب، بأن امتنع المالك من تسليم الأرض بعد العقد:

فقد يقال: بانفساخ العقد، لأنّ تلف المعوّض قبل القبض موجبٌ لانفساخ العقد، وهو شاملٌ للقهري والاختياري، والاختياري عامٌ لما إذا استند إلى المالك أو الأجنبي.

وفيه: أنّه لو سُلّم التعدّي عن مورد قاعدة التلف قبل القبض المختصّ بالبيع إلى غيره، حتّى مثل المزارعة التي ليس فيها تمليك، مع أنّ للمنع عنه مجالاً، فلا شبهة في أنّ التلف غير شامل للاختياري المساوق للإتلاف.

وقد يقال: إنّ للزارع اُجرة المثل لعمله، لأنّه ملّكه لمالك الأرض، وهو قد أتلفه عليه بعدم تسليم الأرض إليه.

وفيه: أنّه يتمّ لو كان العمل مِلْكاً لمالك الأرض، ولكن قد عرفت أنّ المزارعة من قبيل المشاركات لا المعاوضات.

وبالجملة: فالأظهر عدم الضمان، وأنّه ليس له سوى الفسخ.

***

ص: 257

ويُكره إجارة الأرض بالحنطة والشعير

إجارة الأرض للزّراعة بالحنطة والشعير

المسألة السادسة: المشهور بين الأصحاب(1) أنّه لا يجوز إجارة الأرض لزرع الحنطة أو الشعير بما يحصل منها، (و) لكن ظاهر إطلاق ما في المتن أنّه (يُكره إجارة الأرض بالحنطة و الشعير) المخالفة في المنع، وهي المحكية عن «النافع»(2)، و «المختلف»(3).

واستدلّ للأوّل في «الجواهر»(4): بعدم كون مال الإجارة موجوداً حينئذٍ، لا في الخارج ولا في الذمّة.

وأورد عليه سيّد «العروة»(5): بأنّهما في نظر العرف واعتبارهم بمنزلة الموجود كنفس المنفعة، وهذا المقدار كافٍ في الصحّة.

وفيه: إنّ المنفعة كما مرّ غير مرّةٍ عبارة عن الحيثيّة القائمة بالعين الموجودة بوجودها، علينحو وجود المقبول بوجودالقابل، والحاصل من الأرض ليس كذلك.

وعليه، فكما أفاده المستدلّ ، بما أنّ الاُجرة لابدَّ وأنْ تكون موجودة، ومعلوم الحصول ومملوكة أو بحكمها كالاعمال، والحاصل من الأرض غير معلوم الحصول،

ص: 258


1- راجع شرائع الإسلام: ج 2/392، تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/341، مجمع الفائدة: ج 10/100.
2- المختصر النافع: ص 148.
3- مختلف الشيعة: ج 6/187.
4- جواهر الكلام: ج 27/11.
5- العروة الوثقى: ج 5/95.

مضافاً إلى عدم وجوده حال الإجارة، تبطل الإجارة.

وبه يظهر عدم جواز إجارتها بما يحصل منها ولو من غير الحنطة والشعير، بل وعدم جوازها بما يحصل من أرضٍ اُخرى .

أقول: ويمكن أنْ يستدلّ للمنع في أصل المسألةٍ بجملة من النصوص الخاصّة:

منها: موثّق أبي بصير، عن مولانا الصادق عليه السلام: «لا تؤاجر الأرض بالحنطة، ولا بالشعير، ولا بالتمر، ولا بالأربعاء، ولا بالنطاف، ولكن بالذّهب والفضّة، لأنّ الذّهب والفضّة مضمون، وهذا ليس بمضمون»(1).

بناءً على اختصاص المنع بصورة إجارتها بالحاصل منها حتّى يصحّ التعليل.

ومنها: خبر أبي بُردة، عنه عليه السلام: «عن إجارة الأرض المحدودة بالدّراهم المعلومة ؟ قال عليه السلام: لا بأس(2).

قال: وسألته عن إجارتها بالطعام، فقال: إنْ كان من طعامها فلا خير فيه».

ومنها: خبر الفضيل بن يسار، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن إجارة الأرض بالطعام ؟ قال عليه السلام: إنْ كان من طعامها فلا خير فيه»(3).

أقول: والمناقشة في السند أو الدلالة في غير محلّها، بعد الانجبار بالشهرة العظيمة، مع أنّ الموثّق لا إشكال فيه سنداً ولا دلالةً كما مرّ، والتعبير بقوله:

«لا خير فيه» لا يصلح لصرف ظهور النهي عن ظاهره، بل ربما يقال إنّه بنفسه ظاهرٌ في المنع.9.

ص: 259


1- التهذيب: ج 7/195 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/54 ح 24136.
2- التهذيب: ج 7/209 ح 63، وسائل الشيعة: ج 19/56 ح 24143.
3- الكافي: ج 5/265 ح 6، وسائل الشيعة: ج 19/55 ح 24139.

وبما ذكرناه ظهر وجه عدم المنع والجواب عنه.

فرع: هل يجوز إجارة الأرض للزراعة حنطةً بالحنطة، أو شعيراً بالشعير، مع ضمان ذلك في الذمّة، أم لا؟

المشهور الأوّل على كراهة، كما في «الحدائق»(1).

وعن ابن البرّاج(2) المنع، ومال إليه الشهيد الثاني رحمه الله(3)، واستدلّ له بصحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا تستأجر الأرض بالحنطة ثمّ تزرعها حنطة»(3).

وأُورد عليه: بأنّه يعارضه مفهوم التعليل في الموثّق المتقدّم، ومفهوم الشرط فيغيّره.

وأجاب عنه الشهيد الثاني(5) رحمه الله: بأنّه لا منافاة بينه وبين تحريم شرطه من طعامها حتّى يجمع بحمله.

وأيّده بعض المعاصرين(4) بإمكان تعدّد وجوه المنع.

ويرد عليهما: أنّ ما أفاداه يتمّ إنْ لم يكن للنصوص المتقدّمة مفهوم، وكانت دالّة على المنع في مواردها، وأمّا مع ثبوت المفهوم ودلالتها به على الجواز في غير تلك الموارد، فلا يتمّ ما أفاداه.

والحقّ أنْ يقال: إنّ النسبة بينها وبين الصحيح عمومٌ من وجه، ومورد التعارض هو إجارة الأرض للحنطة بحنطة، من غير حاصلها مضمونة في الذمّة، فيرجع إلى7.

ص: 260


1- الحدائق الناضرة: ج 21/287.
2- المهذّب: ج 2/10. (3و5) مسالك الأفهام: ج 5/12 و 13.
3- الكافي: ج 5/265 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/54 ح 24137.
4- مستمسك العروة: ج 12/117.

ولو غرقت الأرض قبل القبض بطلت،

المرجّحات، والترجيح لها للشهرة التي هي أوّل المرجّحات.

نعم، يبقى حينئذٍ السؤال عن مدرك الكراهة، إذ لو قيد إطلاق الصحيح بتلك النصوص، فلا شيء يشهد لها، وإلّا فلابدّ من البناء على المنع.

أقول: والاستدلال لها بما تضمّن تعليل النهي عن إجارة الأرض بحنطة من حاصلها، بقوله عليه السلام: «لا يجوز إجارة حنطةٍ بحنطة، ولا شعير بشعير»(1)، لا يتمّ ، لأنّ حاله حال الصحيح في التعارض والتقديم.

وكيف كان، فالظاهر تسالمهم عليها.

وأيضاً: لو آجره بالحنطة والشعير في الذمّة، لكن بشرط الأداء منها، فالظاهر صحّة الإجارة والشرط إذا كان عالماً بالتمكّن من الأداء منها، وصحّة الإجارة وبطلان الشرط إذا لم يكن عالماً به.

أمّا صحّة الإجارة: فللعمومات وخصوص ما مرَّ.

وأمّا بطلان الشرط في صورة، وصحّته في صورة اُخرى : فبمناط لزوم الغَرَر وعدمه.

***

المسألة السابعة: (ولو غرقت الأرض قبل القبض)، ولم يمكن الانتفاع بها بعلاجٍ (بطلت).5.

ص: 261


1- وسائل الشيعة: ج 19/56 ح 24145.

ولو غرق بعضها تخيّر العامل في الفسخ والإمضاء، وكذا لو استأجرها.

(و) كذلك (لو غرق بعضها). فبالنسبة إلى التالف بطلت أيضاً، وأمّا بالنسبة إلى الباقي (تخيّر العامل في الفسخ والإمضاء، وكذا لو استأجرها) كما مرّ الكلام في الفرعين مفصّلاً، الأوّل في ذكر شرائط المزارعة، والثاني في كتاب الإجارة.

***

ص: 262

وأمّا المساقاة: فشروطها ستّة:

العقدُ من أهله، والمدّة المعلومة، وإمكان حصول الثَّمرة فيها، وتعيين الحصّة وشياعها،

الفصل الثالث: في المساقاة

اشارة

(وأمّا المساقاة) فقد مرّ بيان حقيقتها، ومشروعيّتها، ولزومها، وبقي الكلام فيها في جملة من شروطها وأحكامها،

(ف) الكلام عن هذه الاُمور يقع في موضعين:

الموضع الأوّل: في شروطها، وهي (ستّة):

الشرط الأوّل: (العقد من أهله)، وما ذكرناه في المزارعة جارٍ هنا، فلا نعيد.

(و) الشرط الثاني والثالث: (المدّة المعلومة، وإمكان حصول الثمرة فيها)، بلا خلافٍ يعتدّ به في اشتراط الأوّل، وعلى المشهور في الثاني، وقد مرّ الكلام فيهما أيضاً في كتاب المزارعة(1)، لأنّ المدرك والأقوال فيهما واحدٌ، فلا حاجة إلى الإعادة.

وما ذكرناه من الفروع المترتبة على هذين الشرطين هناك تأتي في المقام أيضاً.

(و) الشرط الرابع: هو (تعيين الحصّة)، وهو يظهر ممّا قدّمناه في المزارعة، فلا نعيده.

(و) أمّا الشرط الخامس: وهو (شياعها)، فقد استدلّوا لاعتباره:

تارةً : بقاعدة الاقتصار على المتيقّن من النّص والفتوى في عقد المساقاة،

ص: 263


1- صفحة 209 وما بعدها.

وأنْ يكون على أصلٍ ثابت له ثمرة ينتفع بها مع بقائه.

المخالف لأصالة عدم الغَرَر.

واُخرى : بمنافاة عدم إشاعة النماء بينهما لوضع المساقاة.

وثالثة: بأنّ جملة من نصوصها مختصّة بذلك.

أقول: وقد مرّ الكلام في هذه الوجوه في كتاب المزارعة، وعرفت فساد الجميع، وإنّما بنينا على اعتبار ذلك في المزارعة لنصٍّ خاصٍ مفقود في المقام، ولكن الإجماع على عدم الفصل بينهما، بل الإجماع على اعتبار ذلك في المقام نفسه، يكفي في الحكم باعتباره.

ثمّ إنّ هاهنا فروعاً مترتّبة على اعتبار هذا الشرط، قد ذكرناها في باب المزارعة فلا نعيد.

(و) الشرط السادس: ممّا قالوا بأنّه يعتبر فيما يُساقي عليه (أنْ يكون على أصلٍ ثابت، له ثمرة ينتفع بها مع بقائه).

أقول: وهذا ينحلّ إلى اُمور:

الأمر الأوّل: اعتبار كونه أصلاً ثابتاً، والمراد به ما كان كالنخل والشجر الذي له ساق، فلا تصحّ المساقاة على نحو البطيخ والباذنجان.

قال في «التذكرة»(1): (لا تثبت المساقاة عليها إجماعاً).

وفي «العروة»(2): (ولكن لا يبعد الجواز للعمومات، وإنْ لم يكن من المساقاة2.

ص: 264


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/342.
2- العروة الوثقى: ج 5/352.

المصطلحة، بل لا يبعد في مطلق الزّرع كذلك، فإنّ مقتضى العمومات الصحه بعدكونها من المعاملات العقلائيّة، ولا تكون من المعاملات الغَرَرية عندهم، غاية الأمر أنّها ليست من المساقاة المصطلحة).

ويرد عليه: أنّه حيث يكون مقدار الحاصل غير معلوم، فلا محالة يلزم الغَرَر، وعليه فلا وجه للتمسّك بالعمومات الدالّة على إمضاء كلّ عقدٍ عقلائي، لأنّها خصّصت بما دلّ على النهي عن الغَرَر.

أقول: وأمّا بناء العقلاء على هذه بالخصوص، فقد يقال إنّه بضميمة عدم ردع الشارع، كافٍ في البناء على المشروعيّة، وبه يقيّد إطلاق دليل الغَرَر.

ولكن يتوجّه عليه: أنّ ما دلّ على النهي عن الغَرَر يصلح للرادعيّة، فلا دليل على الإمضاء.

فإنْ قيل: إنّ رادعيّته دوريّة، لتوقّفها على عدم إمضاء ذلك البناء الخاص، وهو متوقّفٌ على رادعيّة النهي عن الغَرَر، وإلّا فلا رادع غيره، فيستكشف الإمضاء فهي غير معقولة.

قلنا: إنّ رادعيّته متوقّفة على ثبوت موضوعه، وصدقه على المورد، لا على شيء آخر، ولو أمضى الشارع الأقدس البناء الخاصّ ، لزم منه تقييد دليله، فلا تتوقّف رادعيّته على عدم إمضاء ذلك، بل الإمضاء متوقّفٌ على عدم رادعيّة النهي عن الغَرَر.

وعليه، فلا يبقى سوى النصوص الخاصّة، وهي أخبار خيبر(1) وخبران).

ص: 265


1- وسائل الشيعة: ج 19/40 باب (أنّه يشترط في المزارعة كون النماء مشاعاً بينهما).

آخران(1)، ومورد الجميع ماله ساقٌ ، فثبوت الحكم في غيره يحتاج إلى دليل مفقود.

الأمر الثاني: اعتبار كون ما يساقي عليه من الأشجار التي لها ثمرة، فما لا ثمرة له، وإن ما له ورقٌ ينتفع به، أو وردٌ أو نحو ذلك كالحنّاء لا تصحّ المساقاة عليه.

أقول: وهذا أيضاً مشهورٌ بينهم، وتردّد المحقّق(2) في الحكم، بل مال المصنّف رحمه الله في محكي «القواعد»(3)، والشهيد الثاني(4) في «المسالك» إلى الجواز.

وفي «الجواهر»(4): (ولو قيل بالتفصيل بين المساقاة على هذه تبعاً لغيرها من أشجار الفواكه فتجوز، ومستقلّة فلا تجوز، لكان وجيهاً).

واستدلّ للمنع: بأنّ هذه المعاملة باشتمالها على ضرب من الغَرَر بجهالة العوض على خلاف الأصل، فيقتصر فيها على محلّ الوفاق، وهو شجر الثمرة.

واستدلّ للجواز:

1 - بأنّ الورق المقصود كالثمرة في المعنى، فيكون مقصود المساقاة حاصلاً.

2 - وبما في «المسالك»(6): (وفي بعض الأخبار ما يقتضي دخوله).

أقول: أمّا وجه المنع فهو متينٌ ، لو لم يكن في الأخبار ما يشهد بالدخول، وإلّا فمعه لا وجه للاقتصار على المتيقّن.

وأمّا الوجه الأوّل للجواز: فيدفعه أنّ حصول المقصود لا يكفي في الصحّة، بعد كون مقتضى القاعدة عدمها، واحتياج الصحّة إلى دليل.1.

ص: 266


1- الوسائل ج 19/43 باب (أنّه يشترط في المساقاة كون النماء مشاعاً بينهما).
2- شرائع الإسلام: ج 2/396.
3- قواعد الأحكام: ج 2/317. (4و6) مسالك الأفهام: ج 5/42.
4- جواهر الكلام: ج 27/61.

وأمّا الوجه الثاني: فليس المراد بالخبر المقتضي للدخول، النَّص الخاص، بل المراد به:

1 - أمّا أخبار خيبر، لغلَبَة الظنّ بوجود هذه الأشجار في خيبر، بل عن «جامع المقاصد»(1): (كاد يكون معلوماً).

2 - وأمّا خصوص ما تضمّن منها: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من النخل والشجر»(2)، و (ما) من أدوات العموم.

3 - وأمّا ما تضمّن منها المساقاة على ما له ثمرة، والثمرة شاملة لها.

4 - وأمّا خبر يعقوب بن شعيب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يعطي الرّجل أرضه، وفيها رمانٌ أو نخل أو فاكهة، ويقول: اسق هذا من الماء واعمره، ولك نصف ما أخرج ؟

قال عليه السلام: لا بأس»(3) بدعوى عموم الفاكهة.

أقول: والجميع حسنة، وعليه فالأظهر جواز المساقاة على الأشجار التي ينتفع بورقها كالتُّوت والحَنّاء.

الأمر الثالث: أن ينتفع به مع بقائه، فلو انعدم بالانتفاع لا تصحّ المساقاة، ووجهه واضحٌ ممّا قدّمناه.

الأمر الرابع: يعتبر أنْ يكون ثابتاً مغروساً، فلا يصحّ في الودي - أي الفسيل قبل الغَرس - والظاهر أنّه لا خلاف يعتدّ به في اعتباره، ووجهه اختصاص النصوص بما هو ثابت.9.

ص: 267


1- جامع المقاصد: ج 7/349.
2- المستدرك: ج 13/465 ح 15910.
3- الكافي: ج 5/268 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/44 ح 24119.

وتصحّ قبل ظهور الثمرة وبعدها، مع الاستزادة بالعمل

والاستدلال للصحّة في غير الثابت بالعمومات، قد عرفت فساده من جهة تقييدها بما دلَّ على النهي عن الغَرَر.

أقول: ولا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (تصحّ ) المساقاة (قبل ظهور الثمرة)، كما لاخلاف (و) لا إشكال في عدم صحّتها بعد البلوغ والإدراك، بحيث لا تحتاج إلى عَملٍ غير الحفظ والاقتطاف، لأنّها والحال هذه قد ملكها ربّ البستان ولم تحصل بالمساقاة زيادة الثمار، فلا موضوع للمساقاة.

إنّما الخلاف في صحّتها إذا كان (بعد) ظهور (ها)، وقبل البلوغ، (مع الاستزادة بالعمل):

فالمشهور بين الأصحاب - على ما في «الحدائق»(1) - الصحّة، واستدلّ لها بأنّ الغرض من المساقاة تحصيل الثمرة أو جودتها، فتجوز في الفرض تحصيلاً لتلك الفائدة.

وأيّد ذلك في «المسالك»(2) بأنّ العقد حينئذٍ أبعد عن الغَرَر، للوثوق بالثمرة، فيكون أولى ممّا لو كانت معدومة.

أقول: ولكن الأوّل مردودٌ بأنّ الصحّة تتوقّف على دليل، ومجرّد وجود الغرض لا يكفي في ذلك.9.

ص: 268


1- الحدائق الناضرة: ج 21/354.
2- مسالك الأفهام: ج 5/39.

ويرد على الثاني: أنّ الأولويّة المزبورة غير قطعيّة.

وعليه، فالأظهر عدم الصحّة، لاختصاص خبر شُعيب المتقدّم، وقصّة خيبر بما قبل الخروج، فلا دليل عليها بعده، والأصل عدمها كما مرّ.

***

ص: 269

وإطلاق العقد يقتضي قيام العامل بكلّ ما يستزاد به الثمرة،

أحكام المساقاة

الموضع الثاني: في أحكام المساقاة، وفيه مسائل:

المسألة الأُولى: في العمل. لا إشكال في أنّه يعتبر كون عملٍ على العامل، ليتحقّق به عنوان هذه المعاملة.

وهل يعتبر السَّقي بالخصوص عليه، فلا تصحّ المساقاة على أشجار لا تحتاج إلى السقي، لاستغنائها بماء السّماء أو لمصّ اُصولها من المياه الجوفيّة في باطن الأرض، وإنْ احتاجت إلى أعمال اُخر، نظراً إلى اقتضاء عنوان المساقاة ذلك، واختصاص خبر شعيب بن يعقوب المتقدّم به ؟

أم لا يعتبر ذلك، لأنّ عنوان المساقاة لم يؤخذ في خبرٍ من الأخبار، وإنّما هي من اصطلاح العلماء من جهة الاحتياج إلى السقي غالباً، وجعله على العامل، وإلّا فأخبار خيبر الّتي هي العمدة في المقام خاليّة عن ذلك، وخبر شعيب لا مفهوم له كي يدلّ على عدم الصحّة بدونه، سيّما وأنّ السقي في كلام السائل ؟

وجهان، أوجههما الثاني.

أقول: وليعلم أنّه لا خلاف بينهم في أنّ بعض الأعمال يكون على المالك وبعضها على العامل، (و) قالوا: إنّ (إطلاق العقد يقتضي قيام العامل بكلّ ما) يتكرّر كلّ سنةٍ ، و (يستزاد به الثمرة) من ناحيتي الكمّ أو الكيف، كإصلاح الأرض بالحرث أو الحفر، حيث يحتاج إليها وما يتوقّف عليه من الآلات، وتنقية الآجام

ص: 270

وعلى المالك بناء الجدار، وعمل الناضح والخراج.

وكري الأنهار، والسقي ومقدّماته المتكرّرة كالدّلو والرَّشا، وإصلاح طريق الماء وتنقيتها من الحمأة، واستقاء الماء، وتهذيب جرائد النخل والكَرْم، والتلقيح واللقاط والتشميس، وإصلاح موضعه، وحفظ الثمرة إلى موقع التقسيم، وما شاكل.

(و) أنّ (على المالك) ما لا يتكرّر في كلّ سنةٍ ، أو لا يستزاد به الثمرة، ولا يؤثّر في جودتها، ك (بناء الجدران، وعمل الناضح والخراج) وما شاكل.

هذا، ولكن لا دليل على شيء من الضابطين، سوى أنّه في المساقاة بحسب طبيعة الأرض وما يتبعها على المالك، والعمل وما يرتبط به ممّا هو دخيلٌ في فعليّة وجود الثمرة على العامل، ولعلّه إلى هذا يشير التعليل في خبر الكندي المتقدّم في الخراج، المتضمّن أنّه على المالك: «بأنّه على أرضك».

وإنّما وقع الخلاف في بعض الاُمور أنّه على المالك أو العامل ؟ مثل البقر الذي يدير الدولاب، والكبش للتلقيح، وبناء الثلم، ووضع الشوك على الجدران، وغير ذلك.

أقول: والأقوى في الجميع أنّه إنْ كان هناك عادة موجبة لكونها على المالك أو العامل يجب اتّباعها، وإلّا فلابدَّ في العقد من التعيين على المالك أو العامل أو عليهما معاً، دفعاً للغَرَر.

ولا يعتبر في صحّة المساقاة كون جميع العمل على العامل، بل لو شرط كون بعضه على المالك صحّت، فإنْ كان المشروط هو ما عليه كان تأكيداً، وإنْ كان غيره، فإنّما تصحّ لو كان بعض ذلك وإلّا فتبطل، لأنّ الحصّة إنّما يستحقها العامل بالعمل،

ص: 271

فإذا دفعه عنه لم يستحقّ شيئاً.

نعم، لا فرق في ما يبقى على العامل بين الأقلّ والأكثر، بشرط أنْ يكون ما يستزاد به الثمرة كما مرّ.

وأيضاً: لا خلاف بينهم في أنّه لا يجبُ على العامل العمل بالمباشرة، ويجوز له أن يستأجر عاملاً آخر غيره للعمل، وعليه فيجوز أن يستأجر المالك له، فتكون الأرض والعمل منه، واُجرة العمل على العامل، والحاصل بينهما على ما شرطا، ولو شرطا ذلك في العقد صَحّ .

وأمّا لو شرط العامل على المالك اُجرة العمل:

1 - فإنْ كان مع عدم إبقاء شيء من العمل على العامل بطل، لمنافاته لوضع المساقاة.

2 - وإنْ كان مع إبقاء شيء منه ممّا يستزاد به الثمرة، صَحّ .

وما عن «المبسوط»(1): من البطلان، لمنافاته موضوع المساقاة الذي هو ليس إلّا دفع الاُصول من المالك.

يدفعه: أنّه لا دليل على اعتبار ذلك بنحوٍ ينافيه اشتراط خلافه.

3 - وإنْ كان مع بقاء ما لا يستزاد به الثمرة، ففي «المسالك»(2) ذكر فيه وجهان، ولكن قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ الأظهر هو البطلان.

المسألة الثانية: في بيان حكم ما لو بطلت المساقاة، وأنّه هل يستحقّ العامل شيئاً أم لا؟.2.

ص: 272


1- المبسوط: ج 3/218.
2- مسالك الأفهام: ج 5/52.

ومع بطلانها يثبت للعامل اُجرة المثل، والنِّماء لربّه. ولو شرط على العامل مع الحصّة ذهباً أو فضّة كره،

(و) المشهور بين الأصحاب أنّه (مع بطلانها يثبت للعامل اُجرة المثل)، وقد مرّ الكلام في نظير المسألة في باب المزارعة فيما إذا بطلت، وجميع ما ذكرناه في تلك المسألة جارية في المقام، فلا وجه للإعادة.

(و) ممّا ذكرناه هناك يظهر أنّ (النماء لربّه) في المقام.

كراهة اشتراط الذهب والفضّة

المسألة الثالثة: لا إشكال (و) لا خلاف في أنّه (لو شرط على العامل مع الحصّة ذهباً أو فضّةً ) جاز، لأنّه شرط ليس مخالفاً للكتاب والسُنّة، ولا لمقتضى العقد، فيشمله دليل وجوب الوفاء بالشرط(1).

أقول: إنّما الكلام في موردين:

أحدهما: فيما أفاده بقوله (كره)، وهذا وإنْ كان مشهوراً بينهم، بل عن غير واحدٍ نفي الخلاف فيه(2)، إلّاأنّه لا دليل عليه.

ولا وجه لما في «الجواهر»(3) حيث قال: (ولعلّ مثل ذلك كافٍ في ثبوتها للتسامح فيه).

ص: 273


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- راجع شرح اللّمعة: ج 4/315.
3- جواهر الكلام: ج 27/74.

ووجب الوفاء مع سلامة الثمرة

لأنّ التسامح إنّما هو في السنن والمستحبّات لا في المكروهات، مع أنّه ثابت فيما إذا ورد خبرٌ ضعيف ولا دليل على التسامح بدونه ولو مع فتوى المشهور.

ثانيهما: إنّ أكثر الأصحاب (و) بعدما قالوا في فرض الاشتراط بأنّه (وجب الوفاء) الذي يقتضيه عموم دليل الشرط، قيّدوه بقولهم: (مع سلامة الثمرة)، ففي المقام ثلاثة أقوال:

1 - و تلفت الثمرة أجمع بآفةٍ لم يلزم الوفاء به، وكذا إذا لم تخرج، كما هو المستفاد من قيد المصنّف.

2 - وعن جماعةٍ : وجوب الوفاء به، وعدم سقوط الضميمة.

3 - وفصّل بعضهم بين صورة عدم الخروج أصلاً فتسقط، وصورة التلف فلا.

واستدلّ للأوّل:

1 - بامتناع استحقاق أحد العوضين أو بعضه بدون ما يقابله من العوض الآخر، فإنّ الشرط جزء من العوض.

2 - وبأنّ الفائدة ركنٌ في المساقاة، فمع عدمها لا يكون شيء في مقابل العمل، والضميمة المشروطة لا تكفي في العوضية، فتكون المعاملة باطلة من الأوّل، ومعه لا يبقى وجوب الوفاء بالشرط.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ الشرطليس جزء من العوض، بل هو التزامٌ مستقلٌّ في ضمن التزام، ولذا يوجب تخلّفه الخيار لا فساد العقد، ولا سقوط شيء من العوض.

ص: 274

ويرد على الثاني: أنّ حقيقة المساقاة بحسب الارتكاز العرفي هي المشاركة في استخراج الأثمار، بضمّ العمل من أحدهما إلى الاُصول من الآخر، على أنْ تكون الفائدة بينهما، نظير المزارعة والمضاربة، ويستتبع العقد عليها تسليطٌ من المالك للعامل على الاُصول للاستنماء له وللمالك، فليست الفائدة ركناً في المساقاة بالمعنى المزبور، ولذا لا يستحقّ العامل اُجرة عمله إذا لم تخرج أو خرجت وتلفت في غير صورة ضمّ الضميمة، بدعوى الكشف عن بطلانها من الأوّل، واحترام عمل المسلم.

فإنْ قيل: فعلى هذا، يلزم صحّة المساقاة مع الاطمينان بعدم الفائدة.

قلنا: - مضافاً إلى أنّ المعاملة المفروضة سفهيّة - أنّه لا يتمشّى القصد الجدي إلى المعاملة مع الاطمينان بعدم الفائدة.

مع أنّه لو سُلّم كون المساقاة من المعاوضات لا المشاركات، فالمعاوضة إنّما هي بين العمل من العامل، وبين منفعة الأرض وتسلّط العامل على الاُصول، وأمّا الفائدة فهي خارجة عن طرفي المعاوضة.

أضف إلى ذلك كلّه أنّه لو تمّ ما ذُكر وجهاً للبطلان، فإنّما هو في صورة عدم الخروج، لا في صورة خروج الفائدة وتلفها، لأنّ العامل يملك حصّة من الثمرة بالظهور، فإذا تلف بعضها تلف في ملكه بعد استحقاقه إيّاه.

وعليه، فالأظهر هو لزوم الوفاء بالشرط وعدم السقوط.

أقول: وأولى من ذلك في عدم السقوط، ووجوب الوفاء، ما لو شَرط من العامل على المالك، وقال المحقّق الثاني رحمه الله(1) - بعد حكاية السقوط، وعدم وجوب الوفاء في0.

ص: 275


1- جامع المقاصد: ج 7/370.

هذه الصورة نقلاً عن «التذكرة» و «التحرير» -:

(وفيه نظر، لأنّ العوض من قبل العامل وهو العمل قد حصل، والشرط قد وجبَ بالعمل، فكيف يسقط بغير مسقطٍ، فإنّ تلف أحد العوضين لا يوجب سقوط البعض الآخر، مع سلامة العوض الآخر)، انتهى .

وتبعه في «المسالك»(1).

ويرد عليهما أوّلاً: أنّ المساقاة من المشاركات لا المعاوضات.

وثانياً: أنّها لوكانت من المعاوضات، فأحدالعوضين هوالعمل، والآخرالتسليط على الاُصول لا الفائدة.

وثالثاً: أنّ الشرط ليس جزءاً لأحد العوضين كما مرّ.

ورابعاً: أنّ تلف أحد العوضين أو عدم وجوده يوجبُ السقوط بحسابه من الآخر، فيلزم في الفرض استحقاق العامل زائداً على الشرط اُجرة بعض عمله، المقابل للفائدة على ما أفاداه.

وبالجملة: بما ذكرناه ظهر حكم ما لو كان التالف البعض خاصّة في الصورتين، فإنّه لا إشكال على ما ذكرناه في عدم سقوط الضميمة ووجوب الوفاء بالشرط، وكذا في صورة القصور في الخروج.

لكن جاء في محكيّ «القواعد»(2): (وفي تلف البعض الآخر أو قصور الخروج إشكالٌ ).0.

ص: 276


1- مسالك الأفهام: ج 5/55.
2- قواعد الأحكام: ج 2/320.

وأفاد المحقّق الثاني(1) رحمه الله في منشأ الإشكال بقوله: (من أنّ الشرط محسوبٌ من أحد العوضين، ولا ريب في أنّ مجموع أحد العوضين مقابلٌ بمجموع الآخر، فيقابل الأجزاء بالأجزاء، فإذا تلف بعض أحد العوضين، وجب أن يسقط مقابله من العوض الآخر....

إلى أنْ قال: ومن أنّ مقابلة الأجزاء بالأجزاء في عوض المساقاة منتفية، لأنّ الفائت والتالف عند حصول التلف أو نقصان الخروج غير معلوم، فلو تحقّقت المقابلة، لم يكن الساقط في مقابله معلوماً)، انتهى .

ويرد عليه: - مضافاً إلى ما تقدّم - أنّ عدم معلوميّة الساقط لا يوجبُ وجهاً لعدم مقابلة الأجزاء بالأجزاء، إذا كانت حقيقة المعاوضة مقتضية للمقابلة.

مع أنّه لو سُلّم، فإنّما هو في صورة نقصان الخروج، لا صورة التلف بعد الظهور.

أقول: ولا يخفى أنّ جميع ما ذكرناه إنّما هو في صورة عدم الشرط، وإلّا فإن أُخذ خروج الثمرة وسلامتها شرطاً لالتزامه، فلا إشكال في سقوط الضميمة، وعدم وجوب الوفاء بالشرط مع تلف الثمرة، أو عدم خروجها، ولذلك ربما يقال إنّه لا يبعد أنْ يكون خروج الثمرة وسلامتها عن التلف شرطاً ضمنيّاً لالتزامه، ولو تمّ فلا إشكال في السقوط لو انتفى أحد الأمرين، إلّاأنّ الظاهر عدم تماميّته.

اشتراط مساقاةٍ في ضمن مساقاةٍ اُخرى

المسألة الرابعة: إذا قال: (ساقيتُك على هذا البستان بكذا، على أن اُساقيك على

ص: 277


1- جامع المقاصد: ج 7/370.

الآخر بكذا):

فعن الشيخ رحمه الله(1) أنّه يبطل، لأنّه كالبيعين في بيع المنهيّ عنه، ولعدم لزوم هذا الشرط الذي هو بمنزلة الوعد، والفرض أنّه سببٌ في زيادة العوض أو نقصانه، ولم يُعرف مقدار ذلك، فيجهل ويبطل.

وفيه: إنّ مفروض المسألة لو كان نظير شيء، فإنّما هو نظير ما لو باع شيئاً بثمنٍ معيّن بشرط أن يبيعه شيئاً آخر بثمنٍ آخر، الذي ليس منهيّاً عنه، فإنّ المنهيّ عنه البيع حالّاً بكذا ومؤجّلاً بكذا، والبيع على تقديرٍ بثمنٍ وعلى تقديرٍ آخر بثمنٍ آخر(2)، ولا علاقة لذلك بما نحن فيه.

ودعواه: من عدم لزوم هذا الشرط.

فيرد عليها: أنّه لا وجه له، بعد عموم وجوب الوفاء بالشرط، وكونه شرطاً في ضمن عقد، لا كونه وعداً.

مع أنّ عدم وجوب الوفاء به لا يوجبُ بطلان العقد، وإنْ صار داعياً للزيادة أو النقصان، لأنّ تخلّف الدواعي والأغراض وإنْ كانت دخيلة في الزيادة والنقصان، لا توجب خللاً في العقد.

وعليه، فالأظهر هي الصحّة ولزوم الوفاء بالشرط.

فإنْ قيل: إنّ هذه المعاملة على خلاف القواعد كما مرّ، فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن، وهو فاقد الشرط.).

ص: 278


1- المبسوط: ج 3/212.
2- وسائل الشيعة: ج 18/36 باب: (حكم من باع سلعة بثمن حالاً وبأزيد منه مؤجّلاً).

قلنا: إنّه لو كان الشرط جزءاً لأحد العوضين، كان ما اُفيد تامّاً، وأمّا على ما هوالحقّ من كونه خارجاً عن العقد، والتزاماً مستقلّاً في ضمنه، فلا يتمّ ، لعدم قصورٍ في العقد، وعدم زيادة شيء فيه ولا نقصان منه، كي يتوهّم عدم شمول دليل الإمضاء له.

المسألة الخامسة: يدور البحث فيها عن جواز مساقاة العامل غيره إنْ لم يشترط المباشرة، وعدمها؟ ففيها أقوال:

ثالثها: عدم الجواز قبل ظهور الثمرة، والجواز بعده.

رابعها: الجواز مع إذن المالك وعدمه بدونه.

أقول: أقواها المنع مطلقاً.

لا لما أفاده في «المسالك»(1) من:

1 - أنّ الأصل في هذه المعاملة أن تقع على الاُصول المملوكة للمُساقي، والعامل لا يملك منها سوى الحصّة من الثمرة بعد ظهورها.

2 - وباختلاف النّاس في العمل وتفاوت الأغراض فيه.

لأنّ شيئاً من ذلك لا يصلح دليلاً للمنع:

إذ كون المعاملة على الاُصول، لا يقتضي عدم الجواز من المساقي، بعد معلوميّة إرادة سقيها ونحو ذلك من المعاملة عليها، فهي حينئذٍ كالأرض في المزارعة فكما لا تُعتبر هناك الملكيّة، كذلك في المقام.

وأيضاً اختلاف النّاس في العمل مشتركٌ فيها وفي المزارعة والإجارة.6.

ص: 279


1- مسالك الأفهام: ج 5/66.

بل لأنّ هذه المعاملة على خلاف القواعد، باعتبار الغَرَر والجهالة، ولا نصّ خاص في المقام، ومقتضى الاقتصار على المتيقّن هو ذلك.

أقول: وبه يظهر عدم الفرق بين إذن المالك وعده، ولا بين ظهور الثمرة وعدمه.

حكم المغارسة

تذييل: المغارسة عبارةٌ عن معاملة خاصّة على الأرض، والمراد منها قيام العامل بغرس الأرض على أنْ يكون الغرس بينهما - وهي مفاعلة منه - وهي باطلة عندنا، كما في «المسالك»(1)، وفي «الجواهر»(2): (الإجماع بقسميه عليه).

وعن المحقّق الأردبيلي(3)، وصاحب «الكفاية»(4): الإشكال فيه.

وفي «العروة»(5): (وهو في محلّه إنْ لم يتحقّق الإجماع)، وتبعه جمعٌ من المعلّقين عليها.

واستدلّ للأوّل: بأنّ عقود المعاوضات موقوفة على إذن الشارع وهو منفيٌّ هنا.

ولكن لو كان مدرك البطلان ذلك، أمكن الإشكال فيه، بأنّه وإنْ لم يرد نصٌّ خاص بمشروعيّتها - وما يظهر من بعض النصوص محمولٌ على وقوع ذلك بعقد صلح أو إجارة لا على مشروعيّة هذا العقد - إلّاأنّه يكفي في الحكم بالصحّة ما دلّ

ص: 280


1- مسالك الأفهام: ج 5/71.
2- جواهر الكلام: ج 27/93.
3- مجمع الفائدة: ج 10/143.
4- كفاية الأحكام: ج 1/645.
5- العروة الوثقى: ج 5/387.

على وجوب الوفاء بالعقد(1)، الشامل للعقود العقلائيّة، غير ما له عنوانٌ خاص في الأخبار.

أقول: فالصحيح أن يستدلّ له بأنّ ذلك العموم قد خُصّص بما تضمّن النهي عن الغَرَر الكافي في الرّدع، لو كان هذا عقداً خاصّاً ومعاملة مخصوصة، فصحّته تتوقّف على دليلٍ خاصٍ مفقود.

وعليه، فالأظهر هو البطلان.

أقول: على البطلان فلا كلام في أنّ الغرس يكون لصاحبه، لكن:

هل للآخر عليه اُجرة مثل عمله، لو كان لمالك الأرض، واُجرة المثل للأرض مدّة شغله بها لو كان للعامل ؟

أم ليس له ذلك ؟

أم يجب التفصيل بين صورة جهل الغارس فالأوّل، وعلمه فالثاني ؟

أقوالٌ أظهرها الأوّل، لا لقاعدة (ما يُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده) لما مرّ من أنّ عموم الموصول فيها أصنافي لا أفرادي، وهذه المعاملة ليس لها صنفان صحيحٌ وفاسد، فلا تشملها القاعدة.

بل لاستيفاء منفعة مال الآخر أو عمله، وقد مرّ أنّ مقتضى قاعدة على اليد وغيرها، ضمان المنافع المستوفاة، وما في ضمنها من الإذن ليس إذناً في الاستيفاء مجّاناً كي ينافي مع الضمان بل بعوض، فهو يؤكّد الضمان، ولا فرق في ذلك بين صورة العلم بالبطلان والجهل به.1.

ص: 281


1- سورة المائدة: الآية 1.

وأيضاً: هل للمالك قلع الغرس، أو أمره به، أم يجب عليه الإبقاء مع الأرش أو بدونه ؟

وجوهٌ ، وقد تقدّم تنقيح القول في ذلك في باب المزارعة في مسألة المزارعة الفاسدة، فإنّها نظير المقام، فلا نعيد ما ذكرناه.

***

ص: 282

الفصل الثالث: في الجُعالة

البحث عن الجُعالة

(الفصل الثالث: في الجُعالة): وهي بتثليث الجيم، وكسرها أشهر، كذا في «المسالك»(1)، وهي كما ذكروه لغةً اسمٌ لما يُجعل للإنسان على عمل شيء، ولا حقيقة شرعيّة لها ولا متشرّعيّة، بل في الشرع تستعمل فيما وضعت له، غاية الأمر أضاف الشارع الأقدس في موضوع الآثار قيوداً، وإلى هذا نظرهم حيث قالوا:

(وهي شرعاً التزامُ عوضِ عملٍ محلّل مقصودٍ).

وكيف كان، فلا خلاف بين المسلمين في مشروعيّتها، وعليه الإجماع في كثير من الكلمات.

أقول: والأصل في شرعيّتها:

1 - مضافاً إلى عمومات إمضاء المعاملات، كقوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (2)، وتخصيصها بالتجارات والعقود التي كانت متعارفة في زمان صدورها بلا وجه، بعد كونها متضمّنة لبيان الحكم الخالد الباقي في جميع الأعصار وكونها من قبيل القضايا الحقيقيّة، مع أنّ الجُعالة من التجارات التي كانت متداولة في ذلك الزمان.

2 - قوله سبحانه: (وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) (3) بناءً على ما هو الحقّ من حجيّة مثله ما لم يُعلم النسخ.

ص: 283


1- مسالك الأفهام: ج 11/149.
2- سورة النساء: الآية 29.
3- سورة يوسف: الآية 72.

ولابدَّ فيها من الإيجاب والقبول

3 - جملة من النصوص:

منها: خبر عبد اللّه بن سنان، قال: «سمعتُ أبي يسأل أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا أسمع، فقال: ربما آمر الرّجل فيشتري لنا الأرض والدّار والغلام والجارية، ونجعل له جَعلاً؟

قال عليه السلام: لا بأس»(1).

إلى غير ذلك من النصوص الآتي طرف منها في ضمن المباحث الآتية.

أقول: وتنقيح القول فيها يتحقّق بالبحث في موضعين:

الأوّل: في حقيقتها، وما يعتبر فيها، وفي الجاعل والعامل.

الثاني: في الأحكام.

أمّا الموضع الأوّل: فقد وقع الخلاف في أنّها من العقود أو من الإيقاعات ؟

صريح المتن حيث قال: (ولابدَّ فيها من الإيجاب والقبول) هو الأوّل.

وظاهر «الشرائع»(2) أنّها تتحقّق بكلٍّ من الوجهين، حيث أنّه صرّح أوّلاً بأنّها لا تفتقر إلى قبول، ثم ذكر بعد ذلك أنّها عقدٌ جائز، ممّا يعني أنّه لا يشترط في تحقّقها القبول، وإلّا فلو اُوقعت بنحو الإيجاب والقبول كانت عقداً.

أقول: والأظهر عدم اشتراط القبول، لأنّ العقد إنّما هو فيما يتوقّف تحقّقه على الالتزامين من الطرفين، وأمّا ما حقيقته وقوامه بجعلٍ واحدٍ والتزام فارد، فهو ليس6.

ص: 284


1- الكافي: ج 5/285 ح 2، وسائل الشيعة: ج 23/91 ح 29350.
2- شرائع الإسلام: ج 3/706.

من العقود، والمقام كذلك، فإنّ الجُعالة من قبيل التسبيب الصادر من الشارع نحو من فعل كذا فله كذا) المعلوم عدم كونه عقداً.

وبالجملة: الجُعالة بما لها من المفهوم العرفي الذي عليه بناء العقلاء، من الانشائات القائمة بشخصٍ واحد، فهي من الإيقاعات.

ويؤيّده اُمور:

الأمر الأوّل: ما ذكروه من أنّه لو أنشأها الجاعل، وعمل العامل بغير قصد إلى الجُعالة، بل ومع الغفلة عنها، وعن كون فعله قبولاً، صَحّ عمله واستحقّ الجَعل، ولو كانت من العقود، لزم عدم صحّته، وعدم استحقاقه الجعل، لعدم تماميّة الجُعالة.

وما عن بعضهم من كفاية الرّضا الباطني - ولو التقديري منه - في القبول وهو حاصل، لا وجه له، بل هذا في الحقيقة التزامٌ بعدم اشتراط القبول.

الأمر الثاني: أنّه لو كانت الجُعالة من العقود، لزم مقارنة القبول لإيجابها، كما هو الشأن في العقود على المشهور، مع أنّه تجوز الجُعالة وإنْ طال العمل المتوهّم كونه قبولاً، ووقع الفصل بينه وبين الإيجاب.

الإيراد الثالث: ترتّب أثرها على من لم يرد الفعل أوّلاً، ثمّ أراد وفعل حتّى لو تلبّس بالعمل، ثمّ رفع يده عنه، بل ردها ثم عاد إليه، إذ لو كان ذلك من العقود افتقر إلى إيجابٍ آخر بعد الرّد.

الأمر الرابع: صحّتها من غير مخاطبٍ خاص، وممّن لم يسمع عبارة الجَعل.

إلى غير تلك من الأحكام والآثار المنافية لكونها من العقود.

أقول: وأمّا ما عن «التذكرة»(1) من الإجماع على أنّها عقدٌ جائز، وعن «جامع5.

ص: 285


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/285.

كقوله: مَنْ رَدّ عبدي أو فعل كذا فله كذا

المقاصد»(1): (ظاهرهم أنّها من العقود الجائزة، فيكون القبول فيها فعليّاً)، فمحمولان على:

إرادة ما قدّمناه من أنّها تتحقّق بكلّ من الوجهين.

أو على إرادة العهد منه، لصدوره ممّن ظاهره أو صريحه الإيقاعيّة.

وأمّا خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن رجل قال لرجلٍ : أعطيك عشرة دراهم، وتعلّمني عِلْمك وتشاركني، وهل يحلّ ذلك له ؟

قال عليه السلام: إذا رضى فلا بأس(2).

فلا ينافي ذلك، لعدم ظهور الرّضا في القبول العقدي، ومن الجائز إرادة عدم البأس مع تراضيهما على ذلك.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّها ليست من العقود، وإنْ كان يمكن تحقّقها بكلّ من الوجهين.

ولا تتحقّق الجُعالة بالعلم بالرّضا الباطني، وإنْ كان فعليّاً، لما مرّ من أنّه يعتبر في العقود والإيقاعات إظهارها بمظهرٍ من قول أو فعل.

نعم، لا يعتبر لفظٌ مخصوص، بل تتحقّق بكلّ لفظ مبرزٍ لها، (كقوله: مَنْ رَدّ عبدي أو فعل كذا فله كذا)، أو نحوذلك.

وعن «التذكرة»(3): (الصيغة كلّ لفظٍ دالٍّ على الإذن في العمل، واستدعائه6.

ص: 286


1- جامع المقاصد: ج 6/189.
2- وسائل الشيعة: ج 23/193 ح 29352.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/286.

ولا يفتقر إلى القبول لفظاً

بعوضٍ يلزمه، كقوله: مَن رَدّ عبدي، أو خاط ثوبي، أو بنى لي حائطاً، أو ما أشبه ذلك من الأعمال المحلّلة المقصودة في نظر العقلاء).

وقريبٌ من هذه العبارة عبارات غيرها من الكتب الفقهيّة، المتّفقة على تحقّقها بكلّ لفظٍ من غير فرق بين أن يقول: (مَن رَدّ) و (إنْ رددت) وغيرهما.

والظاهر جريان المعاطاة فيها، بناءً على ما تقدّم في كتاب البيع من أنّ جريانها فيه على القاعدة، لا من جهة النّص الخاص أو الإجماع، ولذلك بنينا على جريانها في جميع العقود والإيقاعات إلّاما خرج بالدليل.

ودعوى:(1) أنّ المعاطاة من باب المفاعلة، فيعتبر في تحقّقها الفعل من الجانبين، فتختصّ بالعقود.

مندفعة: بأنّ لفظ (المعاطاة) ليس عنواناً لموضوع الحكم، بل المراد به الإنشاء الفعلي، فتشمل كلّ فعلٍ مبرزٍ للاعتبار النفساني، وعليه بنينا على عدم اعتبار العطاء فيها، وتحقّقها بكلّ فعلٍ مبرزٍ للاعتبار، حتّى ولو كان حركة الرأس في جواب من سأله هل لمن رَدّ عبدك أو فعل كذا كذا.

ثمّ على القول بأنّها من العقود، الظاهر في أنّه لا خلاف فيه (و) لا الإشكال، يجب القول بأنّه (لا يفتقر إلى القبول لفظاً)، وهو مقتضى القاعدة كما أسلفناه.5.

ص: 287


1- أشار إليها في الحدائق: ج 18/365.

ويجوزُ على كلّ عملٍ محلّل مقصود

الجُعالة على العمل المحرّم

قال المصنّف رحمه الله: (و) أمّا ما يصحّ الجُعالة فيه، فقد طفحت كلماتهم بأنّه (يجوز) الجُعالة (على كلّ عملٍ محلّلٍ مقصود) للعقلاء، وهو ممّا لا إشكال فيه في الجملة، لإطلاق الأدلّة.

إنّما الكلام في اُمور:

الأمر الأوّل: هل تصحّ الجُعالة على الواجب أم لا كما صرّح به جماعة(1) حتّى إنّهم قالوا: لو قال مَن دلّني على مالي فله كذا، فدلّه من كان المال في يده، لم يستحقّ الجعل، لأنّ ذلك واجبٌ عليه ؟

وجهان، مبنيّان على ما تقدّم في بحث المكاسب من جواز أخذ العوض على الواجب وعدمه، وحيث أنّ المختار كما مرّ جوازه، فالأظهر هو الأوّل.

الأمر الثاني: هل تصحّ الجُعالة على الحرام أم لا؟ وجهان.

قد استدلّ للثاني:

1 - بأنّ العمل المحرّم غير مملوكٍ ، فلا مِلْك حتّى يُملّك بعوض.

2 - وبأنّ المحرَّم لا ماليّة له، فلا يقبل المعاوضة عليه.

3 - وبأنّ العمل المحرّم لو سُلّم كونه مِلْكاً ومالاً، إلّاأنّ الشارع الأقدس

ص: 288


1- راجع تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/287، جامع المقاصد: ج 6/197، مجمع الفائدة: ج 10/147.

بتحريمه سَلَب احترامه، والمال غير المحترم لا يعوّض بشيء، لفرض أنّه هدرٌ عند الشارع.

4 - وبأنّ الحرمة سالبة للقدرة والسلطان على التصرّف، ومن المعلوم كون السلطنة من شرائط النفوذ.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ العمل المحرّم كيف لا يكون مملوكاً بعد أنْ لا تقابل بين الملكيّة والحرمة بأحد أنحاء التقابل، من التضادّ والتناقض والتضائف بين المتعاندين في الوجود، والتقابل بالعَرَض والتبع متفرّعٌ على شرطيّة الإباحة للتملّك، مع أنّه لا تعتبر الملكيّة في الجُعالة، بل العمل قبل الجُعالة ليس مِلْكاً للعامل.

ويرد على الثاني: أنّ العمل المحترم إنْ كان في نفسه مالاً عند العقلاء، فالنهي عنه لا يكون مزيلاً لماليّته، بل هو نهيٌ عن إيجاد المال، كما أنّ الأمر بإتلاف العبد الجاني أمرٌ باعدام المال.

ويرد على الثالث: أنّ هدر المال غير هدر الماليّة، فمال الكافر الحربي مسلوبُ الحرمة من حيث الماليّة، لجواز أخذه بلا عوض منه قهراً، ومع ذلك يصحّ إيقاع المعاوضة عليه، والاحترام من حيث الماليّة ليس من شرائط نفوذ المعاملة.

ويرد على الرابع: أنّ السلطنة الوضعيّة محفوظة مع الحرمة، والتكليفيّة ليست من شرائط نفوذ المعاملة.

أقول: الصحيح أن يستدلّ له بما ورد في الخبر الذي رواه صاحب «تحف العقول» المتلقّى بالقبول، من تعليل فساد بيع ما لا منفعة محلّلة له بحرمة التصرّف، وكذا في إجارة الإنسان نفسه في ما هو محرّم عليه(1)، حيث يستفاد منه أنّ ما تمحّض في7.

ص: 289


1- وسائل الشيعة: ج 17/83 ح 22047.

وإنْ كان مجهولاً

الجهة المحرّمة لا يجوز إيقاع أي عقدٍ أو إيقاعٍ عليه، فيفهم منه أنّ كونه محرّماً يوجب سقوطه عن الماليّة شرعاً فلا يعوض.

ويؤيّده النبويّ المشهور: «إنّ اللّه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»(1).

ووجه جعله مؤيّداً لا دليلاً، هو عدم وجوده في أصلٍ من اُصول العامّة والخاصّة، والموجود في اُصولهم هكذا:

«إنّ اللّه إذا حرّم على قومٍ أكل شيء محرّم حَرّم عليهم ثمنه»(2).

وكيف كان، فلا شبهة في اعتبار إباحة العمل بمعنى عدم حرمته.

حكم الجهل بالعمل أو العوض

الأمر الثالث: لا إشكال في أنّه يجوز الجعل على العمل (وإنْ كان مجهولاً)، لا لما في «الشرائع»(3) من أنّه عقدٌ جائز، بل لأنّ بناء مشروعيّتها على جهالة العمل، والغرض منها تحصيل الأعمال المجهولة، فيقيّد بدليلها إطلاق ما دلّ على النهي عن الغَرَر.

أقول: وهذا واضحٌ ، إنّما الكلام في أنّه هل يعتبر كون العوض معلوماً كما هو المشهور بين الأصحاب، أم لا كما عن بعض ؟

ص: 290


1- البحار: ج 100/55 ح 29.
2- مسند أحمد: ج 1/247.
3- شرائع الإسلام: ج 3/706.

وملخّص القول فيه: إنّ معلوميّة العوض:

تارةً : يراد بها التعيين المقابل للترديد.

واُخرى : يراد بها ما يقابل الجهل، الموجب للوقوع في الغَرَر والخطر.

وثالثةً : يراد بها ما يقابل الجهالة ولو لم توجب غَرراً.

أمّا اعتبار المعنى الأوّل: فواضحٌ ، لأنّ المردّد من حيث هو مردّد لا ماليّة له ولا وجود ولا تحقّق، فهو غير قابل للملكيّة والاستحقاق عقلاً.

وأمّا الثاني: فيشهد لاعتباره المرسل المرويّ في كتب الفقهاء المتلقّى بالقبول من أنّه: «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله عن الغَرَر»(1)، وقد مرّ في كتاب الإجارة المناقشة في الاستدلال به والجواب عنه، وبيّنا دلالته على بطلان كلّ معاملةٍ غَرريّة، ومنها الجُعالة.

وأمّا الثالث: فظاهر المشهور - حيث قالوا: (لابدَّ وأنْ يكون معلوماً بالكيل، أو الوزن، أو العدد إنْ كان ممّا جرت العادة بعده) - اعتباره، ولكن لا دليل عليه.

وعليه، فالأظهر عدمه كما مرَّ في الإجارة.

ولا فرق في اعتبار المعلوميّة الرافعة للغَرَر، بين كون الجهالة مانعة عن التسليم وعدمها، فما عن «القواعد»(2):

(لو قيل بجواز الجهالة إذا لم تمنع من التسليم كان حسناً، كقوله: مَن رَدّ عبدي فله نصفه)، وعن المحقّق الثاني(3) تقويته، وعن «الإيضاح»(4) أنّه أصَحّ ، ونَفى عنه3.

ص: 291


1- وسائل الشيعة: ج 17/448 ح 22965.
2- قواعد الأحكام: ج 2/216.
3- جامع المقاصد: ج 6/193.
4- إيضاح الفوائد: ج 2/163.

البُعد في محكي «الروضة»(1)، وفي «الجواهر»(2): (ولعلّه الأقوى ).

إنْ اُريد بها الجهالة بالحصول فهو قويّ ، لأنّها كما اُفيد لا تمنع عن التسليم في ظرف الاستحقاق، وهو بعد الرّد.

وإنْ اُريد بها الجهالة حتّى من ناحية أوصاف العبد الدخيلة في الماليّة، فلا يتمّ ، لعموم ما دلّ على النهي عن الغَرَر.

ورفع الغَرَر في زمان التسليم لا يكفي في البناء على الصحّة، كما في سائر العقود والإيقاعات.

أقول: ويعتبر في الجاعل أهليّة الاستئجار من البلوغ والعقل، وعدم الممنوعيّة من التصرّف في أمواله وغيرها، لأنّ ما دلّ على اعتبارها في الإجارة من حديث رفع القلم(3)، وحديث: «رفع ما استكرهوا عليه»(4) وما شابههما، يدلّ على اعتبارها في الجاعل.

وأمّا العامل: فلا يعتبر فيه سوى إمكان تحصيل العمل عقلاً وشرعاً، وذلك لتماميّة الجُعالة قبل العمل، بلا دخل للعامل فيها، وانطباق موضوع الحكم على فرده قهري، هكذا استدلّ في المقام.

ولكن مقتضى إطلاق حديث رفع القلم عن الصّبي والمجنون، رفع كلّ حكمٍ تكليفي أو وضعي عن الصّبي، سواءً كان سببه فعله القصدي أو غير القصدي،6.

ص: 292


1- شرح اللّمعة: ج 4/441.
2- جواهر الكلام: ج 35/195.
3- المستدرك: ج 1/84 ح 39.
4- المستدرك: ج 6/423 ح 7136.

وسواءٌ كان في رفعه منّةً على الاُمّة أم لم يكن، وسواءٌ كان ترتّب الأثر منوطاً بكمال العقل واستشعار الفاعل أم لم يكن.

وعلى ذلك، فيشكل القول باستحقاق الجعل بردّ الصّبي المميّز من غير إذن وليّه، كما عن «التذكرة»(1)، وفي «المسالك»(2) وغيرهما.

نعم، لو اُكره البالغ العاقل على العمل، أو كان محجوراً، استحقّ الجعل:

أمّا في الأوّل: فلورود حديث نفي الإكراه في مورد الامتنان، ولا منّة في رفع هذا الأثر.

وأمّا الثاني: فلعدم كونه تصرّفاً ماليّاً، كما أنّه لو إذن الوليّ يستحقّ غير المكلّف الجعل إن عَمل.

ولا يعتبر في العامل التعيين بلا خلافٍ ، لإطلاق الأدلّة.

وأخيراً: في صحّة الجَعل على عملٍ للغير، كما لو قال: (من رَدّ ضالّة زيدٍ فله كذا)، كلامٌ تقدّم في كتاب الإجارة، وقد عرفت أنّه يصحّ الاستئجار عليه فضلاً عن الجُعالة، بل تصحّ الجُعالة على عملٍ يعود نفعه إلى العامل نفسه إذا كان له غرضٌ عقلائي.

***4.

ص: 293


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/288.
2- مسالك الأفهام: ج 11/154.

فإنْ كان العوض معلوماً، لزم بالفعل،

الجُعالة عقدٌ جائزٌ من الطرفين

الموضع الثاني: في الأحكام.

أقول: والكلام فيه في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: لا خلاف بينهم في أنّ الجُعالة من الاُمور الجائزة من الطرفين، بمعنى تسلّط كلّ من العامل والمالك على فسخها، سواءٌ جعلناها عقدا أو إيقاعاً.

واستدلّ له في «المسالك»(1): بأنّها من حيث عدم اشتراط القبول فيها، بمنزلة امر الغير بعملٍ له اُجرة، فلا يجبُ المضيّ إليه من الجانبين.

أقول: أمّا جواز فسخ العامل فلا أرى له وجهاً، لأنّ الجُعالة عبارة عن الإيجاب والإذن في الفعل، وحكمه بعد الإذن بيده، ولا ربط لذلك بالعامل كي يكون له الفسخ، وكونه بحيث لو عمل استحقّ الجعل من آثار فعل الموجب، وليس ذلك تحت اختيار العامل وقدرته، ولذا قال في «الجواهر»(2): (فمعنى قولهم يجوز للعامل الفسخ أنّه لا يجبُ عليه الوفاء بالعمل).

وأمّا الجاعل: فكما أفاده يجوزُ له الفسخ، لما أفاده، وللإجماع والتسالم عليه.

وهل يجوز ذلك حتّيبعد التلبّس بالعمل ؟ كلامٌسيأتي عندتعرّض المصنّف رحمه الله له.

المسألة الثانية: إذا بذل جعلاً على رَدّ الضالّة مثلاً، (فإنْ كان العوض معلوماً، لزم) على الجاعل (بالفعل)، بلا خلافٍ ولا إشكال.

ص: 294


1- مسالك الأفهام: ج 11/156.
2- جواهر الكلام: ج 35/201.

وإلّا فاُجرة المِثْل،

(وإلّا) كما لو ذكر عوضاً ولم يعيّنه (ف) إنّه يجبُ عليه مع الفعل رَدّ (اُجرة المثل)، لاحترام العمل، والفرض أنّه لم يعمله مجّاناً.

ودعوى:(1) أنّه مع علم العامل ببطلان الجُعالة، يكون كالمتبرّع في عمله، فلا يستحقّ شيئاً.

مندفعة: بأنّه لا يكون متبرّعاً في عمله، بل يعمل لأخذ العوض، فكيف يكون بحكمه! هكذا استدلّوا له في المقام وغيره من نظائره.

أقول: قد مرّ في كتاب البيع والإجارة أنّ مدرك قاعدة الاحترام:

إمّا قوله عليه السلام: «لا يحلّ لمؤمن مال أخيه إلّاعن طيب نفس منه»(2).

أو قوله صلى الله عليه و آله: «حرمة ماله كحرمة دمه»(3).

أو قوله: «لا يصلح ذهابُ حقّ أحدٍ»(4).

وشيءٌ من تلكم لا يدلّ عليها:

إذ الأولان: ظاهران في الحرمة التكليفيّة، بمعنى أنّه لا يُجبر المسلم على العمل، ولا على أخذ ماله منه، ولايُقهر عليهما، ولا نظر لهما إلى الحكم الوضعي وهو الضمان.

والثالث: يدلّ على عدم ذهاب الحقّ ، والكلام إنّما هو في ثبوته، والحكم لايصلح لإثبات موضوعه.

وتمام الكلام في الجزء الرابع والعشرون من هذا الشرح.1.

ص: 295


1- مسالك الأفهام: ج 11/166.
2- وسائل الشيعة: ج 5/120 ح 6091.
3- الكافي: ج 2/359 ح 2، وسائل الشيعة: ج 12/281 ح 16311.
4- الكافي: ج 7/4 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/310 ح 24671.

وعلى هذا، فقد يتوهّم عدم الضمان في المقام، من جهة أنّ الضمان: إمّا بالعقد، أو باليد(1)، أو بالإتلاف(2)، وشيء من تلكم لا مورد له في المقام:

أمّا العقد: فلفساده.

وأمّا قاعدة اليد: فهي وإنْ كانت تشمل المنافع، لأنّ اليد على العين تستتبع اليد على المنافع، لكنّها لا تشمل عمل الحُرّ.

وأمّا قاعدة الإتلاف: فلأنّ سببيّة العامل فيه أقوى من الأمر، لأنّه المباشر، كما لو أمره بإتلاف مال الغير وأكل طعامه، فإنّ المتلف هو الضامن لا الآمر.

ودعوى: أنّ استيفاء العمل الذي له ماليّة، كاستيفاء المنفعة ذات الماليّة، موجبٌ للضمان كما عن الشهيد الثاني رحمه الله(3).

مندفعة: بأنّ ذلك محتاجٌ إلى دليل.

أقول: ولكن يمكن أنْ يستدلّ للضمان بقاعدة: (ما يُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده)، والجُعالة الصحيحة موجبةٌ للضمان، فكذلك الفاسدة منها.

وممّا ذكرناه يظهر أنّه لا ضمان لو استدعى الرّد، ولم يبذل الاُجرة ولا شيء للرّاد، كما في «الشرائع»(4)، وعن «القواعد»(5)، و «الإرشاد»(6)، و «التحرير»(7)، بل3.

ص: 296


1- كنز العمّال: ج 5/257.
2- هذه القاعدة مأخوذة من الروايات التي منها قوله عليه السلام: «من أضرّ بشيء من طريق المسلمين فهو له ضامن»، راجع التهذيب: ج 10/230 ح 38، وسائل الشيعة ج 29/241 ح 35540.
3- مسالك الأفهام: ج 5/220.
4- شرائع الإسلام: ج 3/707.
5- قواعد الأحكام: ج 2/217.
6- إرشاد الأذهان: ج 1/430.
7- تحرير الأحكام: ج 4/443.

إلّا في البعير والآبق يوجدان في المصر، فعن كلّ واحد دينار وفي غير المصر أربعة

قيل هو قضيّة كلام «اللّمعة»(1).

نعم، يمكن أنْ يقال باُجرة المثل لوجرت العادة باُجرةٍ لمثله، فإنّ ذلك حينئذٍ يكون نظير الجُعالة على عوضٍ مجهول، ولا أقلّ من أنّه حينئذٍ أمرٌ بالعمل بعوض الذي هو نظير الإباحة بعوض معاملة مستقلّة صحيحة، ويستحقّ فيه العامل الاُجرة المسمّاة مع معلوميّة العوض.

وعليه، فهو فاسدٌ ما في صحيحه الضمان فيضمن به.

أقول: وكيف كان، فالذي يستحقّه هو اُجرة المثل في جميع موارد الفساد (إلّا في البعير والآبق)، فان المشهور أنّه:

تارةً : (يوجدان في المصر: فعن كلّ واحدٍ دينار، و).

اُخرى : يوجدان (في غير المصر): فعن كلّ واحدٍ (أربعة) دنانير.

والمدرك هو الخبر الذي رواه مسمع بن عبد الملك كردين أبي سيّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله جعل في جعل الآبق ديناراً إذا أُخذ في مصره، وإنْ أُخذ في غير مصره فأربعة دنانير»(2).

وقد عمل به المشهور، كما اعترف به غير واحدٍ:

وعن «الرياض»(3): (أنّ الشهرة به عظيمة قديمة ومتأخّرة).0.

ص: 297


1- اللّمعة الدمشقيّة: ص 152.
2- التهذيب: ج 6/398 ح 43.
3- رياض المسائل: ج 12/430.

ولو تبرّع فلا اُجرة له سواءٌ جعل لغيره أو لا،

وعن «المختصر»(1): (أنّه مؤيّدٌ بعمل الأصحاب وشهرته حتّى صار العمل به قريباً من الإجماع).

وعن «الخلاف»(2): - بعدالفتوى بما تضمّنه - (دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم).

وعن «المقنعة»(3): (أنّه ثبتت السُنّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله بذلك).

وعليه، فضعفه منجبرٌ بالعمل وبأخبار اُخر، فلا وجه لإشكال المصنّف رحمه الله في «القواعد»(4) في إلحاق البعير بالعبد الآبق في هذا الحكم.

وأضعف منه إشكال الشهيد الثاني رحمه الله(5) في هذا الحكم في الموردين لضعف سند الخبر.

المسألة الثالثة: (ولو تبرّع) من لم يعيّن الجُعالة له، (فلا اُجرة له، سواءٌ جعل لغيره أو لا) بلا خلافٍ في عدم الاُجرة للعامل، لأنّه متبرّعٌ على الفرض، وقد مرّ حصر موجبات الضمان في عدّة اُمور لا ينطبق شيءٌ منها على المقام.

وأمّا عدم الجعل لمن جعله، فلأنّ الجعل إنّما هو بإزاء العمل الممتنع، لأنّ الحاصل لا يتحصّل، فيفسخ المعاملة.8.

ص: 298


1- المختصر: 358.
2- الخلاف: ج 3/590.
3- المقنعة: ص 649.
4- قواعد الأحكام: ج 2/217.
5- شرح اللّمعة: ج 4/448.

ولو تبرّع الأجنبي بالجعل، لزمه مع العمل، ويستحقّ الجعل بالتسليم

وفي «المسالك»(1): (هذا إذا شرط على المجعول له العمل بنفسه، أو قصد الرّاد العمل لنفسه، أو أطلق، أمّا لو رَدّه نيابةً عن المجعول له، حيث يتناول الأمر النيابة، فإنّه لا يضيع عمله، وكان الجَعلُ لمن جُعل له)، انتهى.

وفيه: إنّ مجرّد قصد النيابة مع عدم أمرٍ من المنوب عنه، ولا عملٍ في ذمّته، لا يجعله نائباً، ولا فعله فعله.

(ولو تبرّع الأجنبي بالجَعل، لزمه مع العمل)، وإنْ لم يعدّ نفعه إليه، ولا يلزم على المالك شيءٌ للعامل ولا للباذل، بلا خلافٍ ولا إشكال، لما مرَّ من أنّه لا يعتبر كون الجعل من المالك.

العامل يستحقّ الجعل بالتسليم

المسألة الرابعة: (ويستحقّ ) العامل (الجعل بالتسليم) بيد المالك، مع التصريح بالجعل على ذلك أو الإطلاق، بناءً على أنّ المتبادر من الرّد القبض، فلو جاء به إلى البلد أو المنزل ففرّ، لم يستحقّ الجَعلُ بلا خلافٍ ، لعدم تحقّق ما جُعل العوض بإزائه.

نعم، لو صَرّح بما لا يقتضي التسليم - كالإيصال إلى البلد - استحقّ الجعل بإيجاده، وهو واضح.

فرع: وهل الموت كالفرار في عدم استحقاق شيءٍ من الجعل، كما عن

ص: 299


1- مسالك الأفهام: ج 11/155.

ومع التلبّس بالعمل، ليس للجاعل الفسخ بدون اُجرة ما عمل

«التذكرة»(1)، و «المسالك»(2) وغيرهما؟ أم يستحقّ العامل في الموت بالنسبة كما عن «القواعد»(2) احتماله، وعن «الإيضاح»(3) اختياره ؟

وجهان، أظهرهما الأوّل، لأنّ الجعل إنّما هو على العمل الخاص المنتفي في الفرض، وعدم كون المانع من قبل العامل لا يصلحُ منشئاً للاستحقاق.

المسألة الخامسة: قد عرفت أنّه لا إشكال ولا خلاف في أنّ الجُعالة جائزة قبل التلبّس بالعمل، (و) أمّا (مع التلبّس بالعمل) ففيه قولان:

أحدهما: أنّه (ليس للجاعل الفسخ بدون اُجرة ما عَمِل) وإنْ كان للعامل ذلك، فتصير الجُعالة لازمة من طرفٍ ، وباقية على الجواز من الطرف الآخر، وهو مختار الماتن هنا، والمحقّق في «الشرائع»(4)، وعن «المبسوط»(5) و «الإرشاد»(6)، بل ظاهر المتن كالمبسوط توقّف فسخ الجاعل على دفع الاُجرة.

ثانيهما: أنّه لافرق بين قبل التلبّس وبعده، وهو المشهور، وفي «المسالك»(8)دعوى الإجماع عليه.0.

ص: 300


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/288. (2و8) مسالك الأفهام: ج 11/159 و 157.
2- قواعد الأحكام: ج 2/216.
3- إيضاح الفوائد: ج 2/163.
4- شرائع الإسلام: ج 3/707.
5- المبسوط: ج 3/332.
6- إرشاد الأذهان: ج 1/430.

ويعمل بالمتأخّر من الجعالتين،

أقول: الأظهر هو الثاني؛ لأنّه لم يطرأ ملزمٌ لها بالتلبّس، والاستصحاب يقتضي بقاء جواز الفسخ.

وعليه فلو فَسخ الجاعل، فحيثُ أنّه لا معنى لفسخ بعضٍ وإبقاء بعض، فلا محالة لا يستحقّ من الجعل بالنسبة، وإنّما يستحقّ اُجرة مثل عمله، كما لا يخفى .

المسألة السادسة: (و) لو عقّب الجُعالة على عملٍ معيّن بعوضٍ بجعالة اُخرى ، وزاد في العوض أو نقص (يعمل بالمتأخّر من الجعالتين) بلا خلافٍ ، مع سماع الجعالتين قبل التلبّس بالعمل، لأنّ الثانية تقتضي فسخ الأولى بعد أنْ لا وجه لصحّتهما معاً، إلّامع إرادة زيادة الجعل، ولكنّها خلاف الفرض.

أمّا إذا لم يسمع العامل إلّاإحدى الجُعالتين:

فعن المحقّق الكركي(1) والشهيد الثاني رحمهما الله(2) أنّ العبرة بما سمعه منهما، سواءٌ أكانت الأولى أو الثانية.

وعن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(3): أنّه إنْ كان المسموع هي الثانية فالعبرة بها، وإلّا فيرجع إلى اُجرة المثل.

والحقّ أنْ يقال: إنّه لا وجه لكون العبرة بما سمعه مطلقاً، لأنّ المسموع إنْ كان هو الأُولى فقد انفسخت بالثانية، فلا بقاء لها كي تقتضي استحقاق ما فيها من الجعل.

ولا غرور بعد أن أقدم على عقدٍ جائز للمالك فسخه في كلّ وقت، وكان له طريقٌ إلى إلزامه به بصلحٍ ونحوه.8.

ص: 301


1- جامع المقاصد: ج 6/196.
2- مسالك الأفهام: ج 11/160.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/288.

ولو جعل لفعلٍ يصدرُ عن كلّ واحدٍ بعضه، فللجميع الجعل،

وأمّا اُجرة المثل: فقد أُورد على البناء على استحقاقها، بأنّه أقدم على الجعل المسمّى، فيستحقّه دون اُجرة المثل، خصوصاً مع زيادتها عليه.

ويردّه: أنّ إقدامه على المسمّى ليس من المعيّنات له بعد سقوطه بالفسخ بالثانية.

وبالجملة: فالحقّ هو ثبوت اُجرة المثل في هذا الفرض.

نعم، إنْكانت الاُجرة المسمّاة في الثانية أزيد من المثل، لا يبعد القول باستحقاقها، لأنّه لا يعتبر سماع الجُعالة في استحقاق الجعل كما سمعته، وإنّما لا نلتزم به في صورة كونه أقلّ لصدق الغرور، فإنّه وإنْ لم يصدق على ما لو فسخ الأُولى لما ذكرناه، إلّا أنّه يصدق على ما لو عقّبها بجعالةٍ اُخرى ، وإلا لزم التوصّل بذلك إلى إلغاء ما جعله في جعالةٍ ، وتبديله بأقلّ ما يصحّ ، بفسخ الأولى وإيجاد جُعالةٍ اُخرى من دون أن يسمع غيره.

هذا كلّه مع التنافي بين الجعالتين، وإلّا - كما لو قيّد كلّ منهما بزمانٍ أو مكانٍ غير ما قيّد الاُخرى به، كما لو قال: (من رَدّ ضالّتي إليَّ آخر هذا الاسبوع فله كذا)، ثمّ قال: (من رَدّها إلى آخر الشهر فله نصف ذلك الجَعل) - تبقى الجعالتان على حالهما، وله الجعل المسمّى على كلٍّ من التقديرين.

لو جَعل على عملٍ معيّن جعلاً فشاركه غيره

المسألة السابعة: (ولو جعل لفعلٍ ، فصدر عن كلّ واحدٍ بعضه)، كما لو قال: (من رَدّ ضالّتي فله دينار)، فردها جماعة (فللجميع الجَعل) بلا إشكال، لأنّ المفروض

ص: 302

ولو صَدَر من كلّ واحدٍ فلكلّ واحدٍ جعلٌ . ولو جَعَل للرّد من المسافة، فردَّ من بعضها، فله النسبة،

انطباق موضع الحكم - وهو رَدّ الضالّة - على فعل الجميع، لأنّ ردّهم من مصاديق الرّد المأخوذ في الموضوع، وحينئذٍ إنْ لم يتفاوتوا في العمل يوزّع الجعل عليهم بالسويّة، ومع التفاوت يوزع عليهم على قدر العمل.

(ولو) جُعِل لفعلٍ (وصَدَر) ذلك الفعل (عن كلّ واحدٍ) مستقلّاً، ولم يكن الصادر عن الجميع فعلاً واحداً، كما لو قال: (من دخل داري فله دينار)، فدخله جماعة (فلكلّ واحدٍ جعلٌ )، لأنّ فعل كلّ واحدٍ منهم موضوعٌ مستقلّ وفرد ممّا أُخذ في الموضوع، وهذا بخلاف الصورة الأولى التي كان الفعل الصادر من الجميع فرداً من الموضوع، والصادر من كلّ واحدٍ منهم بعضه لا تمامه.

وعليه، فما عن «مختلف الشيعة»(1) من احتمال التساوي، فيستحقّون كلّهم ديناراً واحداً في الصورة الثانية، لأنّه المبذول، والعموم يقتضي التشريك لا الزيادة على المبذول، غيرتام، كما يظهر ممّا ذكرناه.

(ولو جُعل للرّد من مسافة)، كما لو قال: (من رَدّ ناقتي من الشام فله كذا)، (فردّه من بعضها، فله) من الجعل ب (النسبة) أي بنسبة المسافة، كماعن الشيخ(2)، وابن حمزة(3)، والمصنّف رحمهم الله(4) وغيرهم، بل في «المسالك»(5) نسبته إلى الأصحاب، وإنْ تنظّر فيه.0.

ص: 303


1- مختلف الشيعة: ج 6/115.
2- المبسوط: ج 3/332.
3- الوسيلة: ص 272.
4- قواعد الأحكام: ج 2/217.
5- مسالك الأفهام: ج 11/170.

والقولُ قولُ المالك في عدم الجعل،

أقول: والحقّ أنْ يقال:

1 - إنّ الجعل إنْ كان للرّد عن مسافةٍ ، فالرّد من بعضها ليس جزء من ذلك العمل، بل هو غيره، وعليه فالمتّجه حينئذٍ اُجرة مثل عمله على ما مرّ، فإنّ عمله محترمٌ لا يذهب هدراً، ولم يُجعل بإزائه شيء، فيتعيّن اُجرة المثل.

2 - وإن كان الجعل للرّد، وكان التقييد بالمسافة لتخيله كونها هناك، فالمستحقّ الاُجرة المسمّاة لإتيان ما جُعل له.

3 - وإنْ كان الجعل للرّد من مسافةٍ على نحو التوزيع، كان المستحقّ من الاُجرة المسمّاة بنسبة ما عَمل، وهو واضحٌ ، ولا يبعد ظهور الجملة المزبورة بلاقرينة في الأخير، وعليه فيتمّ ما أفاده الأساطين فلا يرد عليهم شيءٌ ممّا ذكر في المقام.

حكم ما لو اختلفا في الجعل

المسألة الثامنة: في فروع التنازع، وهي أربعة:

الفرع الأوّل: (و) لو تنازعا في الجعل وعدمه، فقال المالك: (لم أُشارطك وما أمرتُك)، وقال العامل: (شَرَطتني وأمرتني بالعمل، وجَعلت لي جعلاً معيّناً) أو (استحقّ به اُجرة المثل)، ف (القول قولُ المالك في عدم الجعل) بلا خلافٍ ، لأصالة عدم الاشتراط، وأصالة البراءة من العوض.

ومقتضى قول المشهور في نظائر المسألة - كالاختلاف في الإجارة والإعارة

ص: 304

وفي تعيين المجعول فيه، وفي القدر، فيثبت فيه الأقلّ من اُجرة المثل والمدّعى،

من تقديم قول مدّعي الضمان؛ لقاعدتي اليد والاحترام - هو الحكم بالضمان في المقام لقاعدة الاحترام.

أقول: ولكن قد عرفت في كتاب الإجارة فسادذلك، وعليه فالأظهرعدم الضمان.

الفرع الثاني: (و) لو اختلفا (في تعيين المجعول فيه)، كما لو اختلفا في عين ما شرط في ردّه العوض، فقال العامل: (شرطت لي العوض فيما رددته)، وقال الجاعل: (بل شرطتُ لك فيما لم تردّه)، فلا خلاف في أنّه يقدم قول الجاعل، لأنّ مرجع هذا الخلاف إلى دعوى العامل على المالك الشرط على هذا الذي رَدّه وهو ينكره، فالقول قوله، لأصالة عدم الشرط، وإنْ اتّفقا على أصل الشرط.

الفرع الثالث: (و) لو اختلفا (في القدر) أي قدر الجعل، ففيه أقوال:

أحدها: ما عن الشيخ في «الخلاف»(1) وجماعة، من أنّه تثبت حينئذٍ اُجرة المثل بعد يمين الجاعل.

ثانيها: ما في المتن و «الشرائع»(2)، وعن «اللّمعة»(3) وغيرها، من أنّ القول قول المالك، (فيثبتُ فيه الأقلّ من اُجرة المثل والمُدّعى) مع الحلف.

ثالثها: أنّ القول قول المالك، لكن يثبت مع يمينه أقلّ الأمرين من اُجرة المثل ومدّعى العامل، وأكثر الأمرين منها ومن مدّعى المالك.2.

ص: 305


1- الخلاف: ج 3/590.
2- شرائع الإسلام: ج 3/708.
3- اللّمعة الدمشقيّة: ص 152.

رابعها: تقديم قول المالك، إلّاأنّ الثابت بيمينه هو ما يدّعيه، لا اُجرة المثل ولا الأقلّ ، وهو قول الشيخ نجيب الدِّين(1) من مشايخ المحقّق والشهيدين رحمهم الله.

خامسها: أنّهما يتحالفان، لأنّ كلّ واحدٍ منهما مدّعٍ ومدّعى عليه، اختاره في محكى «القواعد»(2).

أقول: والأظهر هو الرابع، لأنّ استحقاق الأقلّ متيقّن ولو في ضمن الأكثر، ووقوعه على الأكثر غير معلوم، والأصل عدم وقوعه عليه، وعدم استحقاقه الزائد.

وبه يظهر دفع ما أورده المحقّق رحمه الله(3) على هذا القول بأنّ فائدة يمين المالك إسقاط دعوى العامل، لا ثبوت ما يدّعيه الحالف.

وما في «الجواهر»(4) من أنّ اختصاص الدّعوى بينهما في الأمرين، لا يقتضي الانحصار واقعاً كذلك، ضرورة احتمال كون الواقع خلافهما، فإنّ نفي استحقاق الزائد من الأُجرتين إنّما هو بالأصل لا باليمين.

وقد استدلّ للقول الأوّل: بأنّ القول قول المالك، لأنّ الفعل فعله فيقدّم قوله، فعليه اليمين، فإذا حلف يُنفى الزائد، وحيث لا يثبت ما يدّعيه بحلفه، فليس حينئذٍ الا اُجرة المثل بعد الاتّفاق على أنّ العمل بعوضٍ ، ولم يثبت فيه مقدّر.

ويردّه: أنّ الزائد يُنفى بالأصل، مع أنّه لو اُغمض عن ذلك فاللّازم هو ثبوت أقلّ الأمرين: من اُجرة المثل، وما يدّعيه العامل، لاعترافه بعدم استحقاق الزائد6.

ص: 306


1- الجامع للشرائع: ص 264.
2- قواعد الأحكام: ج 2/218.
3- شرائع الإسلام: ج 3/709.
4- جواهر الكلام: ج 35/216.

إن كانت اُجرة المثل أزيد من ما يدّعيه، بل وأكثر الأمرين منها ومن مدّعى المالك، لأنّ ما يدّعيه المالك إنْ كان أكثر من اُجرة المثل فهو يعترف بثبوته في ذمّته للعامل، فيؤخذ بإقراره.

وبالجملة: وبما ذكرناه ظهر مدرك القول الثاني والثالث وضعفه، كما ظهر قوّة القول الثالث بالنسبة إلى الأولين كما أفاده في «المسالك».

وأمّا التحالف: فقد استدلّ له:

1 - بأنّ كلّ واحد منهما مدّعٍ ومدّعى عليه، فلا ترجيح لأحدهما، فيحلف كلّ واحدٍ منهما على نفي ما يدّعيه الآخر.

2 - وبأنّ العقد الذي تشخّص بالعوض الذي يدّعيه المالك، غير العقد الذي تشخّص بما يدّعيه العامل.

ويرد على الأوّل: ما تقدّم من أنّ المالك منكر لا مدّع، لأنّهما متوافقان على استحقاق الأقلّ ، والنزاع إنّما هو بالنسبة إلى الزيادة.

وعلى الثاني: أنّ العقد متّفقٌ عليه، وإنّما الاختلاف في الزيادة والنقصان، فكان كالاختلاف في قدر الاُجرة في الإجارة، والقدر الذي يدّعيه المالك متّفقٌ عليه، وإنّما الاختلاف في الزائد، فيقدّم قول منكره.

أضف إلى ذلك كلّه، ما يأتي في كتاب القضاء(1) من أنّ التحالف في الموارد التي يكون كلّ من طرفي المنازعة مدّعياً ومنكراً لا دليل عليه، فإنّ ظاهر دليل الحلف هو الحلف فيما إذا كان منكراً محضاً، راجع ما ذكرناه.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه يقدّم قول المالك، ويثبتُ بيمينه ما يدّعيه، لا اُجرة المثل ولا الأقلّ .8.

ص: 307


1- فقه الصادق: ج 38/248.

وعدم السعي

(و) أخيراً: لو اختلفا في السّعي، بأن قال المالك: (حصل في يدك قبل الجعل فلا جعل لك)، وقال العامل: (قد حصل في يدي بعده)، قالوا القول قول المالك من (عدم السعي)، وهذا يتمّ على القول بوجوب رَدّ المال إلى صاحبه إذا وقع في يد الغير، وعدم جواز الجعل على الواجب، لأنّ المالك حينئذٍ يدّعي عدم الاستحقاق، والأصل معه، وحيث عرفت جواز الجعل على الواجب فيسقط ذلك، واللّه العالم.

***

ص: 308

الفصل الرابع: في السَّبق والرماية،

الفصل الرابع السَّبق والرِّماية

اشارة

والسَّبق - بسكون الباء - مصدرٌ لكلمة (سبقه إلى كذا)، أي تقدّمه وغلبه على كذا.

وعن «الصحاح»(1): أنّه مصدر سابق.

قال في «المسالك»(2): (وكلاهما صحيح، إلّاأنّ الثاني أوفق بالمطلوب، لأنّ الواقع في معاملته كون العمل بين اثنين فصاعداً، فباب المفاعلة به أولى ).

وأمّا السَبَق - بالتحريك - فهو العوض المبذول للسابق، وما في معناه، ويقال له الخَطر.

والمسابقة عرفاً هي اجراء الخيل وشبهها في حَلَبة السباق، ليعلم الأجود منهاوالأفرس من الرجال والمتسابقين.

والرماية عرفاً هي المناضلة بالسِّهام مثلاً، ليعلم حَذق الرّامي ومعرفته بمواقع الرّمي.

وفائدتهما بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال، وهي من أهمّ الفوائد الدينيّة في الجهاد مع الأعداء الذي هو من أعظم أركان الإسلام.

ص: 309


1- الصحاح: ج 4/1494.
2- مسالك الأفهام: ج 6/73.

أقول: ومستند شرعيّتهما - مضافاً إلى إجماع الاُمّة المحكي مستفيضا -:

من الكتاب:

1 - قوله تعالى : (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اَللّهِ وَ عَدُوَّكُمْ ) (1).

وفي المرفوع لعبد اللّه بن المُغيرة - الذي هو من أصحاب الإجماع - في تفسيره عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «أنّه الرّمي»(2).

2 - وقوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف: (قالُوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) (3) فإنّه ظاهرٌ في مشروعيّة السباق في الجملة، والأصل بقائها ما لم يُعلم النسخ، فتأمّل فإنّه ليس في شيء من الآيتين ما يشهد بكون المعاملة المزبورة مشروعةٌ .

ومن السُنّة: نصوص مستفيضة ستمرّ عليك جملة منها في طيّ المسائل الآتية.

أقول: وتحقيق هذا الفصل يستدعي البحث في موضعين:

الأوّل: في حكم المسابقة.

الثاني: في المعاملة عليها.

والمقصود الأصلي من البحث في هذا الفصل وإنْ كان هو الثاني، ولذا لم يتعرّض المصنّف رحمه الله لغيره، إلّاأنّه لا بأس مقدّمة له من بيان الحكم في الموضع الأوّل، نظراً إلى شيوع المباراة بأقسامها المختلفة في هذا العصر.7.

ص: 310


1- سورة الأنفال: الآية 60.
2- وسائل الشيعة: ج 19/250 ح 24523.
3- سورة يوسف: الآية 17.

الرياضة البدنيّة

أمّا الموضع الأوّل: فالكلام فيه في موردين:

المورد الأوّل: في الرياضة البدنيّة:

لا إشكال في أنّ ما كان منها مؤدّياً إلى الضرر على النفس بالهلاكة، أو هلاكة عضوٍ من الأعضاء تكون حراماً، لأنّ دفع الضرر واجبٌ عقلاً وشرعاً.

وما كان منها موجباً لقوّة الجسم أو الروح، أو قوّة الاُمّة الإسلاميّة حَسنٌ ومطلوب، فإنّ الشريعة المقدّسة تحثّ المسلمين على اكتساب أسباب القوّة، ولذلك عنيت بكلّ ما يكفل للإنسان قوّة الجسم وقوّة الروح وقوّة المجتمع، لاحظ الأخبار الواردة في بيان حكمة العبادات، والواردة في بيان حكمة حرمة جملةٍ من المحرّمات، وكراهة المكروهات، وما ورد في تفسير قوله تعالى : (وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ...) (1) الخ، إلى غير تلكم من الآثار.

وعلى الجملة: إنّ سعادة الإنسان وهي بلوغه منتهى كماله وغاية فعليّته بحسب نوعه معقودة بقوّة جسمه وروحه، ومن الواضح أنّ للرياضة البدنيّة والروحيّة أثراً عظيماً في ذلك.

وأمّا التمارين التي لا تترتّب عليها هذه الغايات، وفي نفس الوقت لا تكون مضرّة ففيها خلاف، والحقّ أنْ يقال: إنّ مثل هذه التمارين والألعاب الرياضيّة على أقسام:

القسم الأوّل: الفعل لغاية الالتذاذ بلا قصدِ غايةٍ اُخرى ، ويعبّر عنه باللّعب.

ص: 311


1- سورة الأنفال: الآية 60.

القسم الثاني: الفعل الخالي عن الغاية، ويعبّر عنه باللّغو.

القسم الثالث: الفعل الموجب لاشتغال النفس باللذائد الشهويّة، بلا قصد غاية، ويعبّر عنه باللّهو.

وقد مرَّ في المكاسب المحرّمة تفصيل القول في كلّ واحدٍ من هذه الثلاثة، وبيّنا هناك أنّ جميع المذكورات جائزة، وليس شيء منها محرّماً.

المباراة بغير رهان

المورد الثاني: في أنّه هل تجوز المباراة والسباق في الأفعال الجائزة - كرمي الحجارة أو قيادة السفن والسيّارات وما شاكل - بغير عوضٍ ، أم لا؟

وملخّص القول فيه: أنّه لا إشكال في جواز المسابقة في بعض الأفعال، إنّما الكلام في غير ما نصّ على الجواز فيه، كالمصارعة، وسباق القوارب، والمباراة على المراكب والسفن والبقر والكلاب والطيور، ورمي البنادق، والوقوف على رجل واحدة، وحفظ الأخبار والأشعار، أو العَدو والركض، ورفع الأثقال، وما شاكل، وقد استدلّ لعدم الجواز بوجوه:

الوجه الأوّل: خبر عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«لا سبق إلّافي خفٍّ أو حافرٍ أو نصلٍ »، يعني النضال(1)، بتقريب أنّ السبق - بسكون الباء - مصدر لكلمة سبقه إلى كذا، أي تقدّمه وغلبه على كذا، فالمراد من نفيه نفي المشروعيّة، ومقتضى إطلاقه عدم مشروعيّة المسابقة بغير رهان.

ص: 312


1- الكافي: ج 5/48 ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/493 ح 15352.

وفيه أوّلاً: أنّ الخبر ضعيفٌ لمعلّى بن محمّد، فتأمّل فإنّه من مشايخ الإجازة.

وثانياً: أنّه لم يثبت كون السَّبق بسكون الباء، ومن المحتمل أنْ يكون بفتحها، بل عن الشهيد رحمه الله(1) أنّه المشهور، والسبق بالفتح هو العوض، ونفيه ظاهرٌ في فساد المراهنة، لظهوره في نفي استحقاقه، فلا يصحّ الاستدلال به للإجمال.

الوجه الثاني: إطلاق أدلّة القمار، لأنّه مطلق المغالبة ولو بدون العوض.

وفيه: أنّ القمار لا يصدق بدون الرهان والعوض.

الوجه الثالث: ما دلّ على حرمة اللّهو.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ اللّهو بقول مطلق لا دليل على حرمته.

وثانياً: أنّ المسابقة إذا كانت لغرض عقلائي لا تكون لهواً.

فالمتحصّل: أنّه لا دليل على حرمتها، والأصل يقتضي الجواز، مع أنّه يدلّ على جوازها - مضافاً إلى الأصل - السيرة القطعية القائمة من المسلمين على المباراة في عدّة اُمور كالسباحة والمصارعة والمكاتبة والمشاعرة وغيرها، وما ورد من مصارعة الحسنين عليهما السلام بأمر النبيّ صلى الله عليه و آله، ومكاتبتهما والتقاطهما حبّ قلادة اُمّهما عليها السلام(2).

المباراة مع العوض

الموضع الثاني: في المعاملة على المسابقة، أي المباراة مع العوض بغير آلات القمار.

أقول: لابدّ أوّلاً من تأسيس الأصل حتّى يكون هو المرجع عند عدم الدليل

ص: 313


1- شرح اللّمعة: ج 4/427.
2- المستدرك: ج 14/81 باب: (نوادر ما يتعلّق بأبواب كتاب السبق والرماية).

الخاص. وقد يقال: إنّ الأصل هو الجواز، وصحّة المعاملة الواقعة عليها، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: الآية الشريفة حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام: (قالُوا يا أَبانا إِنّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا) (1)، بدعوى أنّها تدلّ على مشروعيّة السباق في شرعهم، ويشكّ في رفع المشروعيّة ونسخها، والأصل بقائها.

وفيه أوّلاً: أنّه يتوقّف على عدم ورود منع من الشارع الأقدس ولو بنحوالعموم، وإلّا فمع وجود الدليل لا مجال للرجوع إلى الأصل، وستعرف وجوده.

وثانياً: أنّه لا يعلم أنّهم كانوا بِمَ يستبقون، ولعلّه كان بما يجوز السباق عليه عندنا.

وثالثاً: أنّه ليس في الآية الكريمة ما يشعر بكون سباقهم كان مع العوض.

الوجه الثاني: إنّ مقتضى عموم قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2) هو صحّة العقد على السباق بكلّ شيء.

وفيه: أنّه يتوقّف الاستدلال به على عدم ورود المنع، وستعرف وجوده، وأنّه يصدق القمار عليه الخارج عن عموم قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3).

الوجه الثالث: أنّ الحكمة في مشروعيّة هذه المعاملة في الموارد المنصوصة، هي الاستعداد للجهاد، والتهيّأ له، وتحصيل القوّة، وعليه فتجوز المسابقة على المراكب وآلات الحرب الحديثة، للعلّة المشار إليها.

وفيه: - مضافاً إلى أخصيّته عن المدّعي -: إنّ حكمة الحكم إنْ كانت مذكورة1.

ص: 314


1- سورة يوسف: الآية 17. (2و3) سورة المائدة: الآية 1.

في الدليل بصورة العلّة جاز التعدّي عنها، فإنّها بحسب المتفاهم العرفي تمام الموضوع للحكم، فكأنّه جعل الحكم أوّلاً على ذلك العنوان العام، وإلّا فهي حكمة لا يتعدّى عنها، والعبرة حينئذٍ بالظهور، أي يكون المتبع ظهور الدليل، فإذا فرضنا اختصاص الدليل بالموارد الخاصّة، فلا وجه للتعدّي عنها.

الوجه الرابع: أنّه روي: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله سابقَ عايشة بالقَدَم مرّتين؛ سبق في أحدهما وسَبق في الاُخرى »(1) وأنّه صلى الله عليه و آله: «صارع يزيد بن ركابة ثلاث مرّات كلّ مرّةٍ على شاة، فصَرع خصمه في الثلاث، وأخذ منه ثلاث شياة»(2).

وفيه: إنّه لم يثبت شيءٌ من ذلك من طرقنا، ولم ترد رواية بذلك، بل الثابت خلافه.

فتحصّل: أنّه لا دليل على الجواز، بل يشهد لعدم الصحّة وجهان:

الوجه الأوّل: صدق مفهوم القمار عليه، فإنّه الرهن على اللّعب بأيّ شيءٍكان:

ففي «المجمع»(3): (أصل القمار الرهن على اللّعب بشيء).

وفي «القاموس»(4): (تقمره راهنه فغلبه)، ونحوه ما عن «لسان العرب»(5).

وفي «المنجد»(6): (القمار كلّ لعبٍ يُشترط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئاً كان بالورق أو غيره).3.

ص: 315


1- المغني لابن قدامة: ص 130.
2- المستدرك: ج 14/82 ح 16153.
3- مجمع البحرين: ج 3/463.
4- القاموس المحيط: ج 1/494.
5- لسان العرب: ج 5/115.
6- المنجد في اللّغة: ص 653.

وهذا المفهوم يصدق على المعاملة المفروضة في المقام، فتكون باطلة، وما يأخذه الغالب من المغلوب حرامٌ .

الوجه الثاني: النصوص الظاهرة في الفساد، وحرمة التصرّف في الرهن، وهي طوائف من الأخبار:

الطائفة الاُولى: ما دلّ على نفار الملائكة عند الرّهان، ولعن صاحبها، ما خلا الحافر والخفّ والريش والنصل، كخبر العلاء بن سيّابة(1)، ومرسل الصدوق(2)، وخبر أبي بصير(3).

أقول: لكنّها بأجمعها ضعيفة سنداً:

أمّا الأوّل: فلابن سيّابة.

وأمّا الثاني: فللإرسال.

وأمّا الثالث: فلسعدان بن مسلم.

الطائفة الثانية: خبر ياسر الخادم، عن الإمام الرّضا عليه السلام، قال:

«سألته عن الميسر؟ قال: الثقل من كلّ شيء، قال: والثقل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم»(4).

ولكنّه أيضاً ضعيفٌ لياسر.

الطائفة الثالثة: خبر جابر، عن الإمام الباقر عليه السلام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله:3.

ص: 316


1- وسائل الشيعة: ج 19/253 ح 24531.
2- الفقيه: ج 4/59 ح 5094.
3- الكافي: ج 5/49 ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/250 ح 24522.
4- وسائل الشيعة: ج 17/325 ح 22673.

«قيل له: ما الميسر؟ قال عليه السلام: كلّ ما تقومر به حتّى الكعاب والجوز»(1).

وهو أيضاً ضعيف السند لعمرو بن شمر.

الطائفة الرابعة: صحيح ابن خلّاد، عن أبي الحسن عليه السلام قوله: «النرد والشطرنج والاربعة عشرة بمنزلة واحدة، وكلّ ما قومر عليه فهو ميسر»(2).

الطائفة الخامسة: خبر إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون ؟ فقال: لا تأكلّ منه فإنّه حرام»(3).

أقول: فالمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ المراهنة والمباراة مع العوض فاسدة، وما يؤخذ حرامٌ لا يجوز التصرّف فيه.

هذا كلّه في الحكم الوضعي.

وأمّا حكمها التكليفي: فيدلّ على الحرمة أدلّة القمار، وأمّا سائر النصوص المتقدّمة فهي ظاهرة في الحكم الوضعي، ولا نظر لها إلى الحكم التكليفي.

وقد استدلّ صاحب «الجواهر» رحمه الله(4) لجوازها التكليفي بصحيح محمّدبن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أكل وأصحابٌ له شاة فقال: إن أكلتموها فهي لكم، وإنْ لم تأكلوها فعليكم كذا وكذا؟ فقضى فيه أنّ ذلك باطلٌ لا شيء في المؤاكلة من الطعام ما قلّ منه وما كثُر، ومنع عن الغرامة فيه»(5).1.

ص: 317


1- الكافي: ج 5/122 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/165 ح 22257.
2- الكافي: ج 6/435 ح 1، وسائل الشيعة: ج 17/167 ح 22264.
3- الكافي: ج 5/124 ح 10، وسائل الشيعة: ج 17/166 ح 22260.
4- راجع: المكاسب: ج 1/378.
5- الكافي: ج 7/428 ح 11، وسائل الشيعة: ج 23 ص 192 ح 29351.

بدعوى أنّه متضمّنٌ لفساد المراهنة في الطعام خاصّة، ولو كانت محرّمة لردع عنها أيضاً، فيستكشف من عدم الرّدع الجواز.

وفيه: أنّ الظاهر كون الخبر أجنبيّاً عن المراهنة بالأكل، وأنّها يكون مورداً لخبر الإباحة المالكيّة المشروطة بالالتزام بالإعطاء لا الإعطاء.

وبالجملة: فالقاعدة الأوّليّة تقتضي فساد المعاملة وحرمتها.

الألفاظ المستعملة في باب السبق و الرماية

وقد خرج عن هذه القاعدة المعاملة على السباق في موارد خاصّة كما مرَّ، وتنقيح القول فيه ببيان اُمور:

الأمر الأوّل: ويدور البحث فيه عن تحديد وبيان الألفاظ المستعملة في هذا الباب، وهي:

السابق، والكتد، والمصلّي، والسَّبق، والمخلل، والغاية، والمناضلة، والرَّشق، والحابي، والخاصر، والخازق، والخاسق، والخارق، والخارم، والمزدلف، والغرض، والهدف، والمبادرة، والمحاطة.

أمّا السابق: فهو الذي يتقدّم ولو بالعنق.

وأمّا الكتد: - بفتح التاء وكسرها - فهو الكاهل.

وأمّا المصلّي: فهو الذي يحاذي برأسه صلوى السابق فصاعداً، والصَلوان هما العظمان النابتان عن يمين الذنب وشماله، والتالي للمصلّي هو الثالث، ويليه البارع الرابع، ثمّ المرتاح وهو الخامس، ثمّ الخطى وهو السادس، ثمّ العاطف، ثمّ المؤمّل، ثمّ

ص: 318

اللّطيم، ثمّ السكيّت بالتصغير.

وأمّا السبق: فقد مرّ في أوّل الفصل بيانه.

وأمّا المخلل: فهو الذي يدخل بين المتراهنين، ولا يبذل معهما عوضاً، بل يجري فرسه بينهما أو في أحد الجانبين، على وجهٍ يتناوله العقد على أنّه إن سبق بنفسه أو مع غيره أخذ العوض أو بعضه على حسب الشرط، وإنْ لم يسبق لم يغرم شيئاً.

وأمّا الغاية: فهي منتهى السباق.

وأمّا المناضلة: فهي المسابقة والمراماة.

وأمّا الرشق: - بكسر الرّاء - فهو عدد ما يرمى به من السهام، وبالفتح فهو الرّمي الذي هو المصدر.

وأمّا الحابي: فهو - وما بعده من الألفاظ الخمسة - من أوصاف السَّهم المرامي به، وقد ذكر في «التحرير»(1) على المحكي من أوصافه ستّة عشر.

وأمّا اقتصارنا على الستة لعدم فائدة معتدّ بها في بيانها، بعد عدم كونها مأخوذة في موضوعات أحكام الباب.

وكيف كان، فالحابي ما زلق على الأرض ثمّ أصاب الغَرَض.

والخاصر: ما أصاب أحد جانبي الغَرض.

والخازق: ما خَدَش الغَرض.

والخاسق: ما فتحه وثبت فيه.

والخارق: ما يخرج من الغَرض نافذاً.5.

ص: 319


1- تحرير الأحكام: ج 3/165.

ولابدَّ فيهما من إيجاب وقبول

والخارم: هو الذي يخرم حاشية الغَرض.

والمزدلف: هو الذي يضرب الأرض ثمّ يثب إلى الغَرض، وظاهر «القواعد»(1) مرادفته مع الحابي، وعن «التذكرة»(2) الفرق بينهما باعتبار القوّة في المزدلف.

وأمّا الغرض: فهو ما يقصد إصابته.

والهدف: ما يجعل فيه الغرض من ترابٍ أو غيره.

وأمّا المبادرة: فهي أحد قسمي المراماة، وهي أن يبادر أحدهما إلى الإصابة مع التساوي في الرشق.

والقسم الثاني منها المحاطة، وهي إسقاط ما تساويا فيه من الإصابة.

عقد المسابقة والمراماة

(و) الأمر الثاني: أنّه (لابدَّ فيهما من إيجابٍ وقبول) كغيرهما من العقود على المشهور.

وعن الشيخ(3)، والمصنّف رحمه الله في «المختلف»(4): أنّ هذا العقد جُعالة، فلا يفتقر

ص: 320


1- قواعد الأحكام: ج 2/377.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/360.
3- الخلاف: ج 3/273.
4- مختلف الشيعة: ج 6/255.

إلى قبول.

أقول: ثمّ إنّهم اختلفوا في لزومه وجوازه، وبعضهم بنى الخلاف في لزومه وجوازه على أنّه عقدٌ أو إيقاع، فعلى الأوّل يكون لازماً، وعلى الثاني جائزاً.

وبعضهم عَكَس، فبنى كونه عقداً أو إيقاعاً على لزومه وجوازه.

ثمّ إنّ ظاهرهم ابتناء كونه عقداً أو إيقاعاً على أنّه إجارة أو جُعالة.

والحقّ أنْ يقال: إنّه عقدٌ أو إيقاع مستقلٌّ ، لا إجارة ولا جُعالة على حسب المتفاهم العرفي، سيّما وهو بنفسه من العقود العقلائيّة، ويعضده تخلّف بعض آثاره عن كلٍّ من الأمرين، وظاهر «النافع»(1)، و «المختلف»(2)، وغيرهما المفروغيّة من ذلك، وأنّ التردّد إنّما هو في اللّزوم والجواز.

ثمّ إنّ الظاهر كونه من العقود، ولا يكفي فيه الإيجاب خاصّة، لأنّ ثبوت الآثار على الطرف الآخر بدون القبول مخالفٌ لقاعدة السلطنة على النفس والمال(3).

وإنْ شئتَ قلت: إنّ أثر ذلك والمترتّب عليه، عملٌ قائمٌ بشخصين، ثمّ كلّ منهما قد يجبُ عليه العوض وقد يجب له، وثبوت جميع ذلك عليه بدون رضاه وإنشائه خلاف قاعدة السلطنة، والمعهود من الشرع.

ثمّ إنّه بعد ثبوت كونه من العقود، يكفي في لزومه عموم قوله تعالى :

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (4) .1.

ص: 321


1- المختصر النافع: ج 2/354.
2- مختلف الشيعة: ج 6/255.
3- البحار: ج 2/272 ح 7.
4- سورة المائدة: الآية 1.

وما عن «المختلف»(1): من أنّ المراد من الأمر بالوفاء بالعقد، هو العمل على مقتضاه وإنْ كان جائزاً، وليس المراد مطلق العقود، وإلّا لوجب الوفاء بالجائزة.

غير تامّ ، لأنّ (الوفاء) عبارةٌ عن التمام أو ما يقاربه، و (الإيفاء) عبارة عن الإتمام والإنهاء، فإذا كان العقد متعلّقاً بالنتيجة لا بالفعل، كان الوفاء به إتمامه، وعدم رفع اليد عنه بحَلّه ونقضه، وعليه فالأمر به:

إنْ كان إرشاديّاً - كما هو الظاهر - كان إرشاداً إلى اللّزوم.

وإنْ كان مولويّاً نفسيّاً، فحيث أنّ وجوب الوفاء عدم جواز الفسخ لو كان، فإنّما هو بمناط عدم ثبوت هذا الحقّ له، فيكون من قبيل حرمة الظلم، ولا يحتمل كونه محرّماً بالحرمة النفسيّة مع ثبوت هذا الحقّ ، فيستكشف من عدم الحقّ عدم تأثير الفسخ، وهذا معنى اللّزوم، مع أنّ الإجماع قائم، على أنّه لو كان حراماً كان غير مؤثّر.

وبالجملة: فدلالة الآية الكريمة على اللّزوم لا تُنكر، وخروج بعض العقود عن تحتها لدليلٍ خاص، لا يوجبُ خللاً في عمومها لغير ما عُلم بخروجه، إذ العام حجّة فيما بقى من الأفراد غير الفرد الخارج عن تحته.

أقول: ويمكن أنْ يستدلّ للزومه بالاستصحاب أيضاً بالتقريب المتقدّم في كتاب البيع.

فالمتحصّل: أنّه من العقوداللّازمة، وحينئذٍ فماذكرناه في كتاب البيع(2) والإجارة من القيودالمعتبرة في العقد والعاقد تجري هنا، كما أنّ ما أثبتنا عدم اعتباره من العربيّة والماضويّة والقول وما شاكل لا يكون معتبراً فيه، فلا نُطيل المقام بذكر تلك الاُمور.ا.

ص: 322


1- مختلف الشيعة: ج 6/255.
2- فقه الصادق: ج 23/17 وما بعدها.

وإنّما يصحّان في السّهام، والحراب، والسّيوف، والإبل، والفِيَلة، والخيل، والبِغال، والحَمير خاصّة

بيان ما يُسابق به

الأمر الثالث: ويدور البحث فيه عن بيان ما يُسابق به، قال قدس سره:

(وإنّما يصحّان في السِّهام، والحِراب، والسيوف، والإبل، والفيلة، والخيل، والبِغال، والحَمير خاصّة).

أقول: والصحّة في جملةٍ من ما أفاده متّفقٌ عليها، وفي جملةٍ منها الخلاف.

والتحقيق يقتضي أنْ يقال: إنّ النصوص تضمّنت جواز السباق والمعاملة عليه في النصل والخُفّ والحافر، لاحظ:

1 - خبر عبد اللّه بن سنان، عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال: «لا سبق إلّافي خُفٍّ أو حافرٍ أو نصل، يعني النضال»(1).

2 - وما دلّ على نفار الملائكة عند الرّهان، ولعن صاحبها، ما خلا الحافر والخُفّ والريش والنصل، كخبر العلاء بن سيّابة(2)، ومرسل الصدوق(3)، وخبر أبي بصير(4).

ص: 323


1- الكافي: ج 5/48 ح 6، وسائل الشيعة: ج 11/493 ح 15352.
2- الفقيه: ج 3/48 ح 3303، وسائل الشيعة: ج 19/253 ح 24531.
3- الفقيه: ج 4/59 ح 5094.
4- الكافي: ج 5/49 ح 10، وسائل الشيعة: ج 19/250 ح 24522.

3 - وما تضمّن أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله أجرى الخيل التي أضمرت من الحصى - وفي بعض النسخ من الحفى - إلى مسجد بني زُريق، وسبقها من ثلاث نخلات، فأعطى السابق عِذْقاً، وأعطى المصلّى عِذْقاً، وأعطى الثالث عِذْقاً(1).

4 - وما دلّ على أنّه أجرى الخيل وجَعل للسابق منها أواقي فضّة(2).

وقريب منها غيرها.

أقول: هذه النصوص على طوائف:

منها: ما تضمّن فعله صلى الله عليه و آله، وهو مختصٌّ بالخيل ولا إطلاق له، ومثله الصحيح المتضمّن أنّ مولانا أمير المؤمنين عليه السلام كان يحضر الرّمي والرهانة(3).

ومنها: ما تضمّن الحصر في الثلاثة، وهي وإنْ كانت جملة منها ضعيفة السند، إلّا أنّ فيها الصحيح وغيره، مضافاً إلى انجبار ضعف السند بالعمل.

ومنها: ما أضاف إليها الريش، وهي بأجمعها ضعيفة السند، مع أنّ الريش يحتمل أنْ يكون المراد منه السَّهم ذي الريش، وليس في عطفه على النصل في أحد الخبرين دلالة على التغاير بينهما، بعد احتمال كونه من قبيل عطف المرادف أو الخاص على العام.

أقول: وفي المقام أخبار اُخر استدلّ بها صاحب «الحدائق»(4) على إضافة الطيور إلى الثلاثة، لكنّها ضعيفة السند، غير منجبرة بالعمل، وقاصرة الدلالة4.

ص: 324


1- الكافي: ج 5/48 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/254 ح 24535.
2- الكافي: ج 5/49 ح 7، وسائل الشيعة: ج 11/494 ح 15354.
3- وسائل الشيعة: ج 19/252 ح 24528.
4- الحدائق: ج 22/354.

ويجوزُ أنْ يكون العوض ديناً وعيناً، أو يبذله أجنبيّ ،

من جهة احتمال إرادة اللّعب بها بلا مسابقة، مع أنّ فيها كلمة الحَمام، ومن المحتمل إرادة الخيل منه، بل قيل إنّه المتعارف في لسان أهل المدينة، ويعضده الاستدلال له في خبره بالنبوي المتضمّن لإجراء الخيل(1).

فالمتحصّل: أنّه لا يجوز ذلك إلّافي ثلاثة، وهي:

1 - النَّصل الشامل للسِّهام، والحِراب جمع حَربة وهي الآلة، والسيف، وربما زيد النشاب.

وهل يدخل فيه الدَّبوس والعصا والمرافق إذا جُعل في رأسها حديدة ؟ فيه إشكال.

2 - والخُفّ ، ويدخل تحته الإبل والفيلة.

3 - والحافر، ويدخل تحته الخيل والبِغال والحَمير.

العوض وما يعتبر فيه

الأمر الرابع: بيان العوض وما يعتبر فيه.

قال المصنّف رحمه الله: (ويجوز أنْ يكون العوض ديناً وعيناً) حالّاً أو مؤجّلاً بلا خلافٍ ، للأصل والعمومات.

(أو يبذله أجنبيّ ) إجماعاً(2) لذلك، وللعمومات والأصل، بل يثاب الأجنبيّ عليه مع نيّته، لأنّه بذلٌ في طاعة وقربة ومصلحة للمسلمين، فهو نظير ما لو اشترى لهم خيلاً وسلاحاً وغيرهما ممّا فيه إعانتهم على الجهاد.

ص: 325


1- وسائل الشيعة: ج 19/253 ح 24531.
2- راجع إرشاد الأذهان: ج 1/431، إيضاح الفوائد: ج 2/225، اللّمعة الدمشقيّة: ص 149.

أو أحدهما، أو من بيت المال، وجعله للسّابق منهما أو للمحلّل، وليس المحلّل شرطاً،

ودعوى:(1) أنّمقتضى المعاوضة خروج العوض عن كيس من هوطرف المعاوضة.

مندفعة: بعدم كونه من المعاوضات المصطلحة، مع أنّه قد عرفت في كتاب البيع(2) جواز كون العوض من غير كيس من دخل في كيسه المعوّض.

وبالجملة: فيجوز بذل الأجنبي، كما يجوز بذلهما (أو أحدهما، أو من بيت المال).

ودعوى:(3) أنّه مع بذل أحدهما بأن يقول لصاحبه: (إنْ سَبقتَ فلكَ عشرةٍ ، وإنْ سبقتُ أنا فلا شيء عليك)، يكون قماراً.

مندفعة: بأنّ كونه قماراً لا يختصّ بهذه الصورة، بل يعمّ جميع صور البذل، والمستند في جوازه النصوص الخاصّة، وبها يقيّد إطلاق أدلّة القمار.

(و) يجوز (جعله للسّابق منهماأو للمُحلّل) إنْسبق، بلاخلافٍ ، للعمومات والأصل.

وفي «الرياض»(4): (قيل لا لأجنبي، ولا للمسبوق منهما ومن المُحلّل، ولا جعل القسط الأوفر للمتأخّر أو المصلّى، والأقلّ للسّابق، لمنافاة ذلك كلّه للغرض الأقصى من شرعيّته، وهو الحَثّ على السبق والتمرّن عليه).

(وليس المحلّل شرطاً) عندنا، للأصل، والإجماع، وشمول ما دلّ على الجواز للعقد الخالي عنه.5.

ص: 326


1- مصباح الفقاهة: ج 3/72.
2- فقه الصادق: ج 22/252.
3- مسالك الأفهام: ج 6/91.
4- رياض المسائل: ج 9/415.

ولابدَّ في المسابقة من تقدير المسافة والعوض وتعيين الدابّة،

وعن ابن الجنيد(1): (لا يجوز إلّابالمحلّل)، ومستنده رواية(2) عاميّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله، وسندها ضعيف، فضلاً عن أنّ دلالتها قاصرة، والأصحاب أعرضوا عنها.

شرائط المسابقة

الأمر الخامس: ويدور البحث فيه عن شرائط المسابقة والمراماة:

أمّا الأُولى : فلا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (لابدَّ في المسابقة من) شروط، ذكر الماتن هنا جملةً منها، وأنهاها إلى اثني عشر في «التذكرة»(3).

الشرط الأوّل: (تقدير المسافة) التي يستبقان فيها، وتعيينها ابتداءً وانتهاءً ، لاختلاف الأغراض في ذلك اختلافاً بيّناً، فيلزم من عدم التقدير الغَرَر وقد نُهي عنه(4).

ودعوى: أنّها جُعالة فلا يعتبر فيها تعيين المسافة، كما لا يعتبر في الجُعالة.

مندفعة: بما مرّ من أنّها عقدٌ مستقلّ .

(و) الشرط الثاني: (تعيين العوض) للغَرَر في المجهول، وإثارة النزاع.

(و) الشرط الثالث: (تعيين الدابّة) التي يسابق عليها من فرسٍ وبعيرٍ وغيرهما

ص: 327


1- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 6/256، ونسبة إليه في مسالك الأفهام: ج 6/92.
2- نقلها العلّامة في تذكرة الفقهاء: ص 366 من (ط. ق) بقوله بعد ذكر المسألة ونقل قول الشافعي: (رواه العامّة عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: من أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار، وإن لم يأمن أن يسبق فليس بقمار»).
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/362.
4- وسائل الشيعة: ج 17/448 ح 22965.

وتساويهما في احتمال السّبق،

بالمشاهدة، فلا يكفي الإطلاق، ولا التعيين بالوصف، لاختلاف الغرض بذلك كثيراً، ولا يتمّ الغرض بالتوصيف، وإنّما يتمّ بالشخص، بخلاف نحو السَّلم لأنّ الغرض فيه متعلّق بالكلّي.

(و) الشرط الرابع: (تساويهما في احتمال السَّبق) بمعنى احتمال كلّ منهما أن يسبق الآخر، فلو علم قصور أحدهما بطل، لانتفاء الفائدة.

هذه هي الشروط التي ذكرها المصنّف رحمه الله هنا.

أقول: وأمّا ما أضافه في «التذكرة» فهي ثمانية:

الأوّل: جعل السبق لأحدهما أو للمحلّل، فلو جعله للأجنبي بطل، وقد مرّ الكلام فيه.

الثاني: تساوي الدابّتين في الجنس، فلا يجوز المسابقة بين الخيل والبغال.

الثالث: إرسال الدابّتين دفعةً ، فلو أرسل أحدهما دابّةً قبل الآخر ليعلم هل يدركه أم لا لم يصحّ .

الرابع: أنْ يستبقا على الدابّتين بالركوب، فلو شرطا إرسالهما ليجريا بأنفسهما لم يجز.

الخامس: أنْ يجعلا المسافة بحيث يحتمل الفرسان قطعها، ولا ينقطعان دونها.

السادس: أنْ يكون ما ورد عليه العقد عُدّة للقتال، فلا يجوز السّبق والرّمي من النساء.

السابع: العقدُ المشتمل على أركانه المعتبرة فيه.

ص: 328

ويفتقرُ الرَّمي إلى تقدير الرَّشق،

الثامن: عدم تضمّن العقد الشرط الفاسد.

أقول: أمّا اعتبار الأخير فهو متوقّفٌ على مبطليّة الشرط الفاسد، وقد مرَّ في محلّه عدم مبطليّته للعقد، وأمّا ما قبله فقد مرَّ الكلام فيه، وكذا في الأوّل منها، وأمّا الخمسة الباقية فدليل اعتبارها:

أمّا لزوم الغَرَر مع عدمها، كما في بعضها.

وأمّا المنافاة للغرض من هذه المعاملة.

وأمّا الإجماع.

شرائط المراماة

(و) أمّا الثانية: ففي شرائط المباراة:

المشهور بين الأصحاب أنّه (يفتقر الرَّمي إلى ) شروط:

الشرط الأوّل: (تقدير الرَّشق) أي عدد الرّمي.

واستدلّ له في «المسالك»(1): (بأنّه العمل المقصود المعقود عليه، ليكون غاية رميها معلومة منتهية إليه، فلو لم يعيّن أمكن أن يطلب المسبوق الرّمي بمقتضى العقد، فيلحق أو يسبق، ويمتنع الآخر، فيحصل التنازع).

أقول: والأولى أن يستدلّ له بلزوم الغَرَر من عدم تقديره.

والوجهان يختصّان بالمحاطة، وأمّا المبادرة فلا يجريان فيها، لأنّ الاستحقاق

ص: 329


1- مسالك الأفهام: ج 6/96.

وعدد الإصابة، وصفتها، وقَدر المسافة، والغرض، والعوض، وتماثل جنس الآلة،

فيها يتعلّق بالبدار إلى إصابة العدد المعتبر حيث اتّفق، ولا يجبُ إكمال العدد المشروط، فلا حاجة إلى تعيينه.

(و) الشرط الثاني: تقدير (عدد الإصابة)، كخمسٍ من عشرين رمية، واستدلّوا له بأنّ الاستحقاق إنّما يحصل بالإصابة، وبها يحصل معرفة جودة الرمية ومعرفة الناضل من المنضول.

وتأمّل فيه الفاضل الخراساني(1)، لجواز حصول معرفة الإصابة بكونه أكثر إصابة في العدد المشترط أو غير ذلك، وهو حسنٌ ، لولا لزوم الغَرَر، وإجماع الأصحاب على اعتباره.

(و) الشرط الثالث: تعيين (صفتها) من المارق والخاسق وما شاكل، للغَرَر مع عدمه.

(و) الشرط الرابع: تشيص (قدر المسافة) التي يرميان فيها بالمشاهدة أو ذكر المساحة، إلّاأنْ تكون هناك عادة ينصرف إليها الإطلاق، قيل لاختلاف الإصابة بالقُرب والبُعد.

(و) الشرط الخامس: تعيين (الغرض)، لاختلافه بالسِّعة والضيق.

(و) الشرط السادس: تعيين (العوض)، وقد مرّ الكلام فيه.

(و) الشرط السابع: (تماثل جنس الآلة) من كون القوس مثلاً عربيّاً أو فارسيّاً، والكلام فيه هو الكلام في تماثل حيوان السبق.2.

ص: 330


1- كفاية الأحكام: ج 1/722.

ولا يشترط تعيين السَّهم ولا القوس، ولو قالا مَن سَبَق منّا ومِنَ المُحلّل فله العوضان، فَمَن سبق من الثلاثة فهما له، فإنْ سبقا فلكلٍّ ماله،

قال المصنّف رحمه الله: (ولا يشترط تعيين) شخص (السَّهم ولا القوس)، لإطلاق الأدلّة، وعدم ما يوجب اشتراطه.

وعن «التذكرة»(1): (لو عيّنه لم يتعيّن، ويفسد العقد بذلك، كمافي كلّ شرطٍ فاسد).

وفيه أوّلاً: إنّ الشرط المزبور ليس مخالفاً للكتاب والسُنّة، ولا لمقتضى العقد، فيصحّ ويكون لازم الوفاء.

وثانياً: إنّ الشرط الفاسد لا يُفسد العقد.

حكم الاُجرة مع فساد العقد

الأمر السادس: في الأحكام.

(و) تفصيل القول فيها في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: (لو) كان المتراهنان اثنين، وأخرج كلّ واحدٍ منهما عوضاً وأدخلا محلّلاً، و (قالا مَن سَبَق منّا) أي من المتراهنين (ومن المُحلّل فله العوضان، فمن سبق من الثلاثة فهما له) بلا خلافٍ ولا إشكال، بناءً على ما قدّمناه من جواز جميع صور بذل العوض.

وحينئذٍ (فإنْ سبقا) أي سبق المستبقان (فلكلّ ) واحدٍ منهما (ماله)، لأنّه جعل العوض لمن سَبق، ولم يسبق أحدٌ في الفرض، وبه يندفع الإيراد عليه بأنّه

ص: 331


1- تذكرة الفقاء (ط. ق): ج 2/360.

وإنْ سبق أحدهما والمُحلّل، فللسابق ماله ونصف الآخر، والباقي للمحلّل. ولو فسد العقد فلا اُجرة،

- على ما ذكر سابقاً - يشتركان في المالين، لا أنّه يكون لكلّ واحد منهما مال نفسه.

(و) كذاالحال (إن سبق أحدهما والمُحلّل، فللسابق ماله)، لأنّه لم يسبقه أحد، (ونصف الآخر، و) النصف (الباقي للمحلّل)، لاشتراكهما في صفة السبق له.

المسألة الثانية: (ولو فسد العقد) وركض المتسابقان على فساده، وسبق الذي لو صحّت المسابقة لاستحقّ السبق المشروط:

(ف) عن الشيخ(1) وفي «الشرائع»(2)، والمتن أنّه (لا اُجرة) له، لا المسمّاة ولا اُجرة المثل.

أمّا عدم استحقاقه الأجر المُسمّى : فلفساد العقد.

وأمّا عدم استحقاقه اُجرة المثل: فلأنّه لم يعمل له، ولا استوفى منفعة عمله، لأنّ نفع سبقه راجعٌ إليه، فلا شيء يوجب الضمان.

هكذا استدلّوا لعدم الضمان.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ قاعدة (ما يُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده) مقتضي للضمان، ولذا حكي عن «القواعد»(3) و «التذكرة»(4) و «جامع المقاصد»(5) القول به.7.

ص: 332


1- المبسوط: ج 6/302.
2- شرائع الإسلام: ج 2/467.
3- قواعد الأحكام: ج 2/375.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/356.
5- جامع المقاصد: ج 8/337.

ولو كان العوض مستحقّاً، فعلى الباذل مثله أو قيمته

فإنْ قيل: إنّ القاعدة بكليتها لا مدرك لها، وحيث أنّ شيئاً من القواعد الموجبة للضمان لا تكون متحقّقة هنا، ولا إجماع، فلا ضمان كما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله(1).

قلنا: إنّ القاعدة بنفسها مُجمعٌ عليها، والإجماع عليها من قبيل الإجماع على القاعدة، فلا حاجة إلى ثبوت الإجماع في كلّ موردٍ شخصي، فتأمّل.

المسألة الثالثة: (ولو كان العوض مستحقّاً، فعلى الباذل مثله أو قيمته)، كما هوالمشهور بين الأصحاب(2)، بل ظاهرهم عدم الخلاف فيه.

واستدلّوا له: بأنّ العقد صحيحٌ ابتداء بالعوض المعيّن، وإنّما اتّفق تزلزله موقوفاً على إجازة المالك، فقد تشخّص العوض المعيّن للعقد، فإذا طرأ زوال ذلك العوض، لعدم إجازة المالك، وجب الرجوع إلى أقرب شيء إليه، وهو مثله إنْ كان مثليّاً، وقيمتها إن كان قيميّاً.

وفيه: إنّ العقد لم يقع صحيحاً ابتداءً ، بل كان يتخيل صحّته، فلم يتشخّص العوض المعيّن للعقد، لفرض أنّه مال الغير، فهو باطلٌ مع عدم إجازة المالك، فيلحقه حكم الفاسد المتقدّم.

ويمكن أنْ يقال: إنّه على القول بالضمان في الصورة السابقة، فإنّه في هذه الصورة:

إذا كانت اُجرة المثل أقلّ من المسمّاة، فقد التزم السابق في ضمن العقد بعدم0.

ص: 333


1- مسالك الأفهام: ج 6/109.
2- راجع تحرير الأحكام: ج 3/169، مسالك الأفهام: ج 6/110.

ويحصَلُ السَّبق بالتقدّم بالعنق والكتد، ولا يشترط ذكر المحاطة والمبادرة.

استحقاق الزائد عليها بالالتزام الضمني الارتكازي.

وإنْ كانت أكثر، فقد التزم ببراءة ذمّته من الزيادة، وعليه فيستحقّ المثل أو القيمة، واللّه العالم.

المسألة الرابعة: (ويحصل السَّبق بالتقدّم بالعنق والكتد(1)، كما هو المشهور(2)، وعن الإسكافي(3) حصوله باُذُنه.

واستدلّ للثاني: بقول النبيّ صلى الله عليه و آله: «بُعِثتُ والسَّاعة كفرسي رهان، كاد أحدهما أن يسبق الآخر باُذُنه»(4).

وفيه: أنّه لا إشكال في صدق السَّبق بالاُذُن على ما لو حصل السَّبق باُذُنه، إنّما الكلام في ما إذا أطلقا السَّبق، وأنّ السَّبق بقول مطلق هل يصدق على السَّبق بالاُذُن أم لا؟ وعليه، فالخبر أجنبيٌّ عن ذلك.

أقول: والحقّ عدم تماميّة شيء من القولين بإطلاقه، والمتعيّن إيكال ذلك إلى العرف، كما هو الشأن في كلّ مفهومٍ وقع في الدليل ولم يُفسّر، فإنْ كان وإلّا فلابدَّ من التقييد لرفع الغَرَر والنزاع.

(و) المسألة الخامسة: (لا يشترط ذكر) أحد قسمي المراماة وتعيينه، وهما (المحاطة والمبادرة) مع وجود القرينة من العرف أو العادة على تعيين أحدهما، كما7.

ص: 334


1- الكتد: الكتف.
2- راجع تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/360، شرح اللّمعة: ج 4/427.
3- نقل نسبته إليه في مجمع الفائدة: ج 10/183.
4- بحار الأنوار: ج 6/315 ح 27.

عن المصنّف رحمه الله في أكثر كتبه(1) والروضتين(2) وغيرها.

وأمّا مع عدم وجودها، فالأظهر لزوم التعيين، لمخالفة حكم كلّ منهما لحكم الآخر، وتفاوت الأغراض، فإنّ من الرّماة من يكثر إصابته في الابتداء، ويقلّ في الانتهاء، ومنهم من هو بالعكس، فدفعاً للغَرَر لابدَّ من التعيين.

ولعلّه يكون منشأ الاختلاف في المقام أنّه مع الإطلاق هل ينصرف إلى أحد القسمين أم لا؟

والقائلون بعدم لزوم التعيين نظرهم إلى الانصراف، والقائلون بلزومه - كالشيخ في «المبسوط»(3)، والمصنّف رحمه الله في «التذكرة»(4)، وغيرهما في غيرها - بنائهم على الثاني، وإلّا فلا أظنّ الخلاف في الحكم الكلّي، واللّه العالم.

***2.

ص: 335


1- راجع قواعد اأحكام: ج 2/380.
2- شرح اللّمعة: ج 4/431.
3- المبسوط: ج 6/297.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/362.

الفصل الخامس: في الشركة

الفصل الخامس في الشركة

اشارة

أقول: والنظر فيه يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: في حقيقة الشركة، وماهيّتها، وأقسامها.

والشركة قسمان:

أحدهما: ما فسّروه بكون شيء واحدٍ لاثنين أو أزيد، مِلْكاً أو حقّاً.

ثانيهما: العقد الذي ينشأ به التشريك في المال على سبيل الشياع فيه، ويقال لهذه الشركة الشركة العقديّة.

وقد يقال: إنّ الشركة العقديّة التي مفادها التشريك بين الشريكين في ماليهما لا معنى لها، لأنّ ظاهرهم الإجماع على اعتبار الامتزاج بين المالين قبل العقد أو حالها وبعده، فلا معنى لإنشاء التشريك بالعقد، لأنّ الامتزاج بنفسه يقتضي ذلك، فلذا أنكر بعضهم كون الشركة من العقود.

وقال في «المسالك»(1): (إنّها عقدٌ، ثمرته جواز تصرّف الملّاك لشيء واحدٍ على سبيل ا لشياع فيه).

وأجاب عنه صاحب «الجواهر» رحمه الله(2): بأنّ الشركة الحاصلة من الامتزاج شركة

ص: 336


1- مسالك الأفهام: ج 4/301.
2- جواهر الكلام: ج 26/287.

ظاهريّة، وإلّا ففي الواقع كلّ من الشريكين يملك جزئه المعيّن وإنْ لم يتميّز، والشركة المنشأة بالعقد شركة واقعيّة، فيملك به كلّ من الشريكين جزءاً مشاعاً في المجموع بلا تعيين أصلاً.

وفيه أوّلاً: إنّ الشركة الظاهريّة لا تتصوّر في بعض الموارد، كما لو امتزج المالان بنحوٍ تبدّلا إلى حقيقةٍ ثالثةٍ عرفاً.

وثانياً: أنّ لازم ما أفاده قدس سره اجتماع ملكيّتين في شيء واحد، أحدهما قائمة بالجزء المشاع، والاُخرى قائمة بالمعيّن، وهو غير معقول.

وثالثاً: أنّ ما أفاده خلاف ظاهر الإجماعات على تحقّق الشركة بالمزج على نحو تحقّقها بالعقد.

والحقّ أنْيقال: إنّ الامتزاج المعتبر إجماعاًفي الشركة العقديّة، ليس هو الامتزاج الموجب للشركة الواقعية، بل لو امتزج نوع من الحنطة بنوعٍ آخر، أو امتزج النقود كفى، ومن الواضح أنّ الامتزاج المزبور لا يوجبُ الشركة كما سيمرّ عليك.

وأيضاً: أنّهم لم يعتبروا الامتزاج السابق، بل قالوا بكفاية الامتزاج اللّاحق، فمع اللحوق يكون السبب هو العقد والامتزاج شرطاً.

أقول: ثمّ إنّ للقسم الأوّل أقساماً:

1 - إذ قد تكون الشركة واقعيّة قهريّة، كما في المال الموروث.

2 - وقد تكون واقعيّة اختياريّة، من غير استنادٍ إلى عقد، كما إذا أحيى شخصان أرضاً مواتاً بالاشتراك، أو حفرا بئراً أو ما شاكل.

وأضاف في «العروة»(1) إليهما قسمان آخران، وهما:1.

ص: 337


1- العروة الوثقى: ج 5/271.

3 - الظاهريّة القهريّة، كما إذا امتزج مالهما من دون اختيارهما ولو بفعل أجنبيٌّ ، بحيث لا يتميّز أحدهما من الآخر.

4 - والظاهريّة الاختياريّة كما إذا مزجا باختيارهما لا بقصد الشركة.

أقول: الشركة الظاهريّة لا دليل عليها، بل في موارد الامتزاج إنْ كان المالان بعد المزج يعدان بنطر العرف شيئاً واحداً - كما لو خلط الخَلّ بالدبس - كانت الشركة واقعيّة، وإلّا فلا شركة.

وأيضاً: للقسم الثاني - وهو الشركة المنشأة بالعقد - قسمان:

أحدهما: الشركة المنشأة بتشريك أحدهما الآخر في ماله، كما إذا اشترى شيئاً فطلب منه شخص أن يشركه فيه، ويسمّى عندهم بالتشريك.

الثاني: الشركة المنشأة بتشريك كلّ منهما الآخر في ماله، ويختصّ هذا باسم الشركة العقديّة، ومعدود من العقود.

أقول: ينقسم المال المشترك إلى أقسام:

1 - فقد يكون المال المشترك عيناً كما هو ظاهر.

2 - وقد يكون منفعة بالإجارة وشبهها أو بالإرث.

3 - وقد يكون حقّاً كحقّ الشفعة والخيار الموروثين.

ثمّ إنّ كيفيّة الشركة:

1 - قد تكون بنحو الإشاعة، كما هو ظاهر.

2 - وقد تكون بنحو الكلّي في المعيّن - كما لو باع ثمرات أشجار واستثنى أرطالاً حيث أنّ كلّاً منهما يملك حصّته بنحو الكلّي في المعيّن.

ص: 338

إنّما تصحّ في الأموال دون الأعمال

أقول: وأضاف في «العروة» إليهما بقوله:

(وقد تكون على وجهٍ يكون كلّ من الشريكين أو الشركاء مستقلّاً في التصرّف، كما في شركة الفقراء في الزكاة، والسادة في الخمس)(1) انتهى.

وفيه: إنّ هذا ليس من الشركة في المال، بل يكون المالك هو الكلّي، كما مرّ تفصيل القول في ذلك في كتاب الزكاة(2).

وأمّا الدليل على مشروعيّة العقد المُنشَأ به الشركة:

1 - بناء العقلاء، بضميمة عدم الرّدع.

2 - العمومات العامّة الدالّة على إمضاء كلّ عقد.

3 - نصوصٌ خاصّة ستمرّ عليك.

وأمّا الشركة في القسم الأوّل: فوجهها ظاهرٌ لا يحتاج إلى بيان.

مورد الشركة

الموضع الثاني: في مورد الشركة:

قال المصنّف رحمه الله: (إنّما تصحّ ) الشركة العقديّة (في الأموال) بل الأعيان، (دون) الديون و (الأعمال)، فلو كان لكلّ منهما دينٌ على شخصٍ ، فأوقعا العقد على كون كلّ منهمابينهما لم تصحّ ، لأنّ من شرائطالشركة العقديّة الامتزاج إجماعاً، وهو منتفٍ فيها.

ص: 339


1- العروة الوثقى: ج 5/275 (ط. ج).
2- فقه الصادق: ج 10/262 وما بعدها.

وبه يظهر مدرك عدم صحّة الشركة في المنافع، بأن كان لكلّ منهما دار مثلاً، وأوقعا العقد على أنْ تكون منفعة كلّ منهما بينهما بالنصف.

ولو أرادا الاشتراك في الموردين، صالح أحدهما الآخر نصف منفعة داره بدينارٍ مثلاً، وصالحه الآخر نصف منفعة داره بذلك الدينار، أو صالح أحدهما الآخر نصف منفعة داره بنصف منفعة دار الآخر، وكذا في الدين.

ولا تصحّ الشركة بالأعمال - كالخياطة والنساجة - بلا خلافٍ معتدّ به أجده فيه بيننا، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منهما مستفيض أو متواتر، كذا في «الجواهر»(1).

واستدلّله في «الجواهر»: بالأصل السالم عن معارضة قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2).

وفيه: إنّ المتيقّن من النصوص الخاصّة وإنْ كان هو الشركة في الأعيان، فلادليل خاص على جواز هذا العقد في الأعمال.

وما يُحكى من شركة سعد بن أبي وقّاص، وعبد اللّه بن مسعود، وعمّار بن ياسر فيما يغنمونه، فأتى سعدٌ بأسيرين ولم يأتيا بشيء، فأقرهما النبيّ صلى الله عليه و آله وشركهما جميعاً(3) غير ثابتٍ ، مع أنّه يمكن أن يكون ذلك في يوم بدرٍ، وغنائمه كانت للنبي صلى الله عليه و آله على ما صرّح به المصنّف، فيمكن أنْ يكون ذلك منه صلى الله عليه و آله هبةً لهم، إلّاأنّ عمومات أدلّة إمضاء المعاملات كافية في الحكم بالصحّة، ومعها لا تصل النوبة إلى الأصل.

أقول: فالمتعيّن الاستدلال له - مضافاً إلى الإجماع، إذ لم يُنقل الخلاف عن أحدٍ0.

ص: 340


1- جواهر الكلام: ج 26/296.
2- سورة المائدة: الآية 1.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/220.

فلكلّ اُجرة عمله، والوجوه،

سوى ابن الجنيد(1)، وقد يقال إنّه يمكن أنْ يكون مراده ما لا يخالف الأصحاب بإرادة باب المزارعة وشبهه، فلا يكون خلافٌ فيه، بل تتّفق كلمة أهل الحقّ على البطلان - بما مرّ من اعتبار الامتزاج المنتفي في الفرض.

(ف) لو عملا لشخصٍ كان (لكلّ ) منهما (اُجرة عمله).

نعم، لو عملا معاً لواحدٍ مثلاً باُجرة، ودفع إليهما شيئاًواحداًعوضاً عن اُجرتهما، تحقّقت الشركة فيه، ولكنّها ليست من شركة الأعمال، بل هي من شركة الأموال.

أقول: ويمكن تحقّق الشركة بنحوٍ آخر، بأن يُصالح أحدهما نصف منفعته المعيّنة بنصف منفعة الآخر، أو يصالحه نصف منفعته بعوض معيّن، ويصالحه الآخر أيضاً نصف منفعته بذلك العوض.

(و) لاتصحّ أيضاً الشركة ب (الوجوه)، باشتراك وجهين لا مال لهما بعقدٍ لفظي، على أنْ يبتاع كلّ منهما في ذمّته إلى أجل، ويكون ما يبتاعه بينهما فيبيعانه ويؤديان الثمن، ويكون ما حصل من الرّبح بينهما.

وقيل: هي أن يبتاع وجيه في الذمّة، يفوّض بيعه إلى خامل، ويشترط أنْ يكون الرّبح بينهما.

وقيل: أنْ يشترك وجيه لا مال له وخاملٌ ذو مال، ليكون العمل من الوجيه والمال من الخامل، ويكون المال في يده، ولا يسلّمه إلى الوجيه، والرّبح بينهما.9.

ص: 341


1- نسبه إليه في مسالك الأفهام: ج 4/309.

وقيل: أنْ يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح، ليكون بعض الرّبح له.

وفي «المسالك»(1): (والكلُّ باطلٌ عندنا خلافاً لابن الجنيد، فإنّه جوّزها بالمعنى الأوّل).

أقول: لا إشكال في بطلان العقد المزبور، للإجماع، ولما مرّ من فقد شرط الامتزاج، إنّما الكلام في أنّه هل يمكن القول بالشركة من جهة اُخرى أم لا؟

الظاهر هو ذلك في غير التفسير الثاني.

أمّا في التفسير الأوّل: فلأنّ كلّاً منهما يشتري متاعاً على أن يدخل نصفه في ملكه، ونصفه في مِلْك صاحبه بثمنٍ في ذمّة نفسه، وهذا البيع صحيحٌ على المختار من عدم اعتبار دخول المعوّض في كيس من خرج العوض عن كيسه، ويتبعه أنّ الرّبح بينهما.

وأمّا التفسير الثاني: فلا يحضرني الآن ما يمكن تصحيحه به.

وأمّا موثّق محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن الرّجل يشتري الدابّة وليس عنده نقدها، فأتى رجل من أصحابه فقال: يا فلان انقد عنّي ثمن هذه الدابّة، والرّبح بيني وبينك، فنَقَد عنه، فنفقتِ الدابّة ؟

قال عليه السلام: ثمنها عليهما، لأنّه لو كان ربحاً فيها لكان بينهما»(2)، ونحوه غيره(3)، فلا يدلّ على صحّة ذلك، بل الظاهرمن مفاد هذه النصوص تحقّق الشركة في مالٍ اشتُري بثمنٍ معيّن، مثلاً يقول: (شرّكتك فيه)، على معنى إرادة نقل نصفه مثلاً).

ص: 342


1- مسالك الأفهام: ج 4/309.
2- التهذيب: ج 7/43 ح 72، وسائل الشيعة: ج 19/5 ح 24032.
3- وسائل الشيعة: ج 19/5 باب: (إنه يستاوى الشريكان في الرّبح والخسران إن تساوى المالان).

والمفاوضة، وتتحقّق باستحقاق الشخصين فما زاد عيناً واحدة، وبمزج المتساويين بحيثُ يرتفع الامتياز بينهما

إليه بنصف الثمن، أو يقول: (الرّبح بيني وبينك فيه)، ونحو ذلك، كما نبّه عليه في «الجواهر»(1).

وأمّا التفسيران الأخيران: فيمكن أنْ يقال فيهما بتوكيل الخامل الوجيه في البيع والشراء بماله لهما، ولا محذور فيه كما مرّ.

(و) بالجملة: ظهر ممّا ذكرناه بطلان شركة (المفاوضة، و) هي أن يشترك اثنان أو أزيد على أنْ يكون كلّ ما يحصل لأحدهما - من ربحِ تجارةٍ أو زراعةٍ أو كسبٍ آخر، أو إرثاً و وصيّةً ، أو نحو تلكم - مشتركاً بينهما، وكذا كلّ غرامةٍ ترد على أحدهما تكون عليهما.

وفي «الجواهر»(2): (بل الإجماع بقسميه على فسادها).

وظاهر «المسالك»(1) وجود المخالف، قال: (وهي باطلة إلّاعند أبي حنيفة ومن شَذّ).

وعن المحقّق الأردبيلي(2) - بعدما نقل عن المصنّف رحمه الله أنّ شركة المفاوضة عندنا باطلة - قال: (وليس لها أصلٌ ).

وأيضا: ظهر أنّ الشركة (تتحقّق باستحقاق الشخصين فما زاد عيناً واحدة) بإرثٍ وما شاكل، (وبمزج المتساويين بحيث يرتفع الامتياز بينهما).

***3.

ص: 343


1- مسالك الأفهام: ج 4/309.
2- مجمع الفائدة: ج 10/193.

شرائط الشركة العقديّة

الموضع الثالث: في شرائط الشركة العقديّة.

أقول: ويشترط فيها اُمور:

1 - الإيجاب والقبول، والكلام فيهما وفيما يعتبر فيهما هو الكلام في العقد في سائر الأبواب - كالبيع والإجارة وما شاكل - فيعتبر أن يكونا مبرزين للشركة المنشأة، ولا تعتبر العربيّة ولا الماضويّة، بل ولا يعتبر اللّفظ أصلاً، إذ يمكن أن تتحقّق بالفعل أيضاً، وبالمركّب من القول والفعل.

2 - البلوغ.

3 - العقل.

ويشهد لاعتبارهما ما دلّ على رفع القلم عنهما(1)، وغيره ممّا دلّ على اعتبارهما في البائع والمشتري، والمؤجّر والمستأجر.

4 - الاختيار، إذ لا تصحّ الشركة مع إكراه أحدهما أو هما معاً، لقوله صلى الله عليه و آله: «رفع عن اُمّتي ما استكرهوا عليه»(2).

5 - عدم الحجر، لأدلّته(3).

6 - امتزاج المالين سابقاً على العقد أو لاحقاً، بحيث لا يتميّز أحدهما من الآخر - من النقود كانا أو من العروض - ولا دليل له سوى الإجماع والمتيقّن منه ذلك.

ص: 344


1- المستدرك: ج 1/84 ح 39.
2- الكافي: ج 2/463 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/370 ح 20771.
3- وسائل الشيعة: ج 15/369 باب (جملة ممّا عفي عنه).

ولكلّ منهما في الرّبح والخسران بقدر ماله، و

وأمّا اعتبار الاتّحاد في الجنس والوصف، فلا دليل عليه، لعدم الإجماع عليه، بل قد يقال بكفاية امتزاج الحنطة بالشعير، لأنّ المتيقّن من الإجماع غير هذه الصورة، فتكون داخلة تحت عمومات أدلّة الإمضاء، وهو متين.

أقول: بقي في المقام فرعان:

الفرع الأوّل: أنّه لا خلاف ولا إشكال في أنّه يتساوى الشريكان في الرّبح والخسران، (و) أنّ (لكلّ منهما في الرّبح والخسران بقدر ماله)، فلو تساويا في المال المشترك، تساويا في الرّبح والخسران، ولو كان لأحدهما زيادة، كان له من الرّبح بقدر رأس ماله، وكذا عليه من الخسارة، بلا خلافٍ في شيء من ذلك، مع اتفاقهما في العمل أو اختلافهما فيه، بل الإجماع بقسميه عليه، والسنة مستفيضة أو متواترة فيه، مضافاً إلى اقتضاء اُصول المذهب وقواعده في المشاع ذلك، بل هو مقتضى الاُصول العقليّة أيضاً، كما قاله صاحب «الجواهر»(1).

(و) إنّما الخلاف فيما لو اشترطا في العقد غير ذلك، وملخّص القول فيه:

إنّه تارةً : يشترطان التساوي مع اختلاف المالين.

واُخرى : يشترطان الاختلاف مع تساوي المالين.

وثالثة: يشترطان كون تمام الرّبح لأحدهما.

ورابعة: يشترطان كون تمام الخسران عليه.

وخامسة: يشترطان كون تمام الرّبح لأحدهما والخسران على الآخر، أو تمام الرّبح له والخسران عليه.0.

ص: 345


1- جواهر الكلام: ج 26/300.

لو اشترطا التساوي مع اختلاف المالين أو بالعكس جاز

ثمّ إنّه في جميع الصور:

تارةً : يكون الشرط للعامل منهما.

واُخرى : يكون لغيره.

1 - أمّا (لو اشترطا التساوي مع اختلاف المالين أو بالعكس) أي اشترطا الاختلاف مع تساويهما، وكان شرط الزيادة للعامل منهما أو لمن عمله أزيد، فلا خلاف ولا إشكال على الظاهر عندهم في أنّه (جاز)، كما اعترف به غير واحدٍ.

قال في محكي «التذكرة»(1): (لو اختصّ أحدهما بمزيد عملٍ وشرط مزيد ربحٍ له صَحّ عندنا).

وإلى ذلك يشير استدلالهم لعدم الصحّة في الفرض الآتي، بأنّ الفرض أنّها ليست في مقابلة عمل.

وعلى الجملة: فالظاهر أنّه لا خلاف في ذلك، بل ولا إشكال، كما ستعرف.

2 - أمّا لو اشترطا لغير العامل منهما، أو لغير من عمله أزيد، ففي صحّة الشرط والعقد، وبطلانهما، وصحّة العقد وبطلان الشرط ليكون كصورة الإطلاق، أقوال:

أوّلها: للمرتضى(2)، والمصنّف(3)، ووالده(4)، وولده(2)، بل عن المرتضى(6) الإجماع عليه.0.

ص: 346


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/225. (2و6) الإنتصار: ص 471. (3و4) مختلف الشيعة: ج 6/230.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/300.

ثانيها: للشيخ(1) والحِلّي(2) والمحقّق الثاني(3) وجماعة(4).

ثالثها: لأبي الصلاح(5).

واستدلّ للأوّل: بالأدلّة العامّة الدالّة على إمضاء العقود والشروط.

واستدلّ للثاني:

ألف - بأنّ شرط الزيادة مخالفٌ لمقتضى العقد، فيبطل ويبطل العقد، إذ لم يقع التراضي بالشركة والإذن في التصرّف إلّاعلى ذلك التقدير.

ب - وبأنّ جعل الزيادة لأحدهما من غير أنْ يكون له عملٌ في مقابلتها لايعدّ تجارةً عن تراض، بل هو أكلٌ للمال بالباطل.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ الشرط ليس مخالفاً لمقتضى العقد، لأنّ مقتضى العقد أي ما ينشأ به هو التشريك في المال، وهذا يلائم مع كون الرّبح لأحدهما أزيد من ما للآخر، مع أنّه لو تمّ لما كان هناك فرق بين مقابلة الزيادة بالعمل وعدمها.

أضف إلى ذلك أنّه لو تمّ هذا الوجه، لزم بطلان الشرط خاصّة دون العقد، لأنّ الشرط لا يوجب تقييد التراضي بالشركة، بعد كونه التزاماً في ضمن التزام، لا جزءٌ من الالتزام العقدي.

ويرد على الثاني: - مضافاً إلى ما مرّ من كون الشرط خارجاً عن التجارة، والتزاماً في ضمنها - منع عدم كونه معه من التجارة عن تراض.3.

ص: 347


1- المبسوط: ج 2/357.
2- تحرير الأحكام: ج 3/229.
3- جامع المقاصد: ج 8/24.
4- منهم ابن البرّاج في جواهر الفقه: ص 73 مسألة 274.
5- الكافي في الفقه: ص 343.

وعليه، فالأظهر هو الأوّل.

فإنْ قيل: إنّ العمل بالشرط غير لازم، لأنّه في عقد جائز.

قلنا أوّلاً: أنّه مشترك الورود، ولا فرق فيه بين ما لو كانت الزيادة بإزاء عمل، وبين ما لو لم تكن بإزائه.

وثانياً: أنّ الشرط في ضمن العقد الجائز لازم الوفاء، كما مرّ الكلام فيه في محلّه.

وثالثاً: ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) بأنّ عقد الشركة لازم لاجائز، وبطلانه بالقسمة لا يقتضي جوازه، كبطلان العقود اللّازمة بالفسخ.

3 - أمّا لو اشترط كون تمام الرّبح لأحدهما، ففي «العروة»(2): (بطل العقد، لأنّه خلاف مقتضاه).

وفيه أوّلاً: إنّ مقتضى العقد كما مرّ هو الاشتراك في المال، وأمّا كون الرّبح بينهما فهو من جهة القواعد الأوّليّة في المشاع، وتبعيّة الرّبح لملك الأصل، فلا محذور في اشتراط اختصاصه لأحدهما.

وثانياً: أنّ لازم ذلك بطلان الشرط دون العقد.

فإنْ قيل: إنّ اشتراط كون الرّبح لأحدهما مخالفٌ للشرع، لأنّ الملكيّة تحتاج إلى سبب ولا تثبت بالشرط.

قلنا: إنّ الظاهر كما بيّناه في محلّه من هذا الشرح، كون الملكيّة من الغايات التي يجوز اشتراطها، إذ لا يعتبر في تحقّقها سببٌ خاص، فدليل وجوب الوفاء بالشرط يصلح دليلاً على كون الشرط من أسبابها.9.

ص: 348


1- جواهر الكلام: ج 26/302.
2- العروة الوثقى: ج 5/279.

ولا يصحّ تصرّف أحدهما بدون إذن الآخر، ويقتصر على المأذون

أقول: وبما ذكرناه يظهر صحّة اشتراط كون تمام الخسران على أحدهما، أو كون تمام الخسران على أحدهما وتمام الرّبح للآخر، أو كون تمام الرّبح لأحدهما والخسران عليه أيضاً.

الفرع الثاني: يدور البحث فيه عن أنّه إذا اشترك المال بأحد أسبابه السابقة (لا يصحّ تصرّف أحدهما بدون إذن الآخر)، لعدم جواز التصرّف في مال الغير بغير إذنه، فإنْ حصل الإذن لأحدهما تصرّف هو دون الآخر، (و) لكن (يقتصر) من التصرّف (على المأذون).

ولو إذن كلّ واحدٍ من الشريكين لصاحبه، جاز لهما التصرّف، ولكلّ من الشركاء الرجوع من الإذن الذي هو كالتوكيل، لعدم الملزم للإذن، وليس هو من قبيل الإباحة بالعوض.

***

ص: 349

القِسمة

الموضع الرابع: ويدور البحث فيه عن القسمة، وهي تعيين الحقّ لكلّ شريكٍ ، والظاهر كونها معاملة مستقلّة ليست بيعاً ولا صُلحاً ولا غيرهما، سواء كان فيها رَدّاً أو لم يكن، بلا خلافٍ أجده فيه ولا إشكال، فلا يترتّب عليها آثار البيع من الشفعة، وخيار المجلس، واعتبار القبض في النقدين، بل هي ليست من قبيل المعاوضات أصلاً، فلا يلحقها الرّبا وإنْ تحقّق فيها التعاوض.

أقول: والأصل في شرعيّتها - مضافاً إلى أنّها معاملة عُقلائيّة لم يردع الشارع الأقدس عنها، وإجماع الاُمّة عليها -:

من الكتاب: قوله تعالى: (وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى ) .. الخ(1).

وقوله سبحانه: (وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ اَلْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) (2).

ومن السُنّة: نصوص مستفيضة ستمرّ عليك جملةٌ منها في طيّ المسائل الآتية:

وقد فعلها النبيّ صلى الله عليه و آله، فإنّه روى مجمع بن حارثة: «أنّه صلى الله عليه و آله قسّم خيبر على ثمانية عشر سَهماً»(3).

وروي: «أنّه صلى الله عليه و آله قسّمها على ستّة وثلاثين سهماً»(4)، وللجمع بين هذين الخبرين محلّ آخر.

وروي أنّه: «كان لأمير المؤمنين عليه السلام قاسمٌ يقال له عبد اللّه بن يحيى، وكان

ص: 350


1- سورة النساء: الآية 8.
2- سورة القمر: الآية 28. (3و4) المبسوط: ج 8/133.

ومع انتفاء الضرر بالقسمة يُجبر الممتنع عنها مع المطالبة

يرزقه من بيت المال»(1).

أقول: وتمام الكلام في المقام بالبحث في مسائل:

المسألة الأُولى: إذا طلب أحد الشريكين القسمة، وجب على الآخر إجابته مع عدم الضرر، (ومع) امتناعه و (انتفاء الضّرر بالقسمة يُجبر الممتنع عنها مع المطالبة) بلا خلاف، والدليل عليه:

1 - في «الرياض»(2): (بأنّ للإنسان ولاية الانتفاع بماله، والانفراد أكمل نفعاً).

2 - وفي «الحدائق»(3): (بأنّه يجب إيصال المال إليصاحبه، وهو هنا بالقسمة).

أقول: ثبوت الولاية على الانتفاع بالمال، لا يقتضي الولاية على تبديل ماله ومال شريكه، فإنّ الملكيّة المشاعة غير الملكيّة المفروزة، وتبديل الأولى بالثانية - الذي يعبّر عنه بالقِسمة، وعرفت أنّها معاملة مستقلّة - إنّما يكون بتبديل مال نفسه ومال شريكه، ودليل السلطنة لا يثبت الولاية على التصرّف الموجب للتصرّف في مال الغير أيضاً.

وأمّا وجوب إيصال المال إلى صاحبه، فهو أيضاً لا يقتضي وجوب الإجابة، لأنّ الإيصال الواجب إنّما هو عدم الممانعة من تصرّف المالك في ماله، وهذا غير وجوب تبديله إلى مالٍ آخر.9.

ص: 351


1- المبسوط: ج 8/133.
2- رياض المسائل: ج 13/157.
3- الحدائق الناضرة: ج 21/169.

3 - واستدلّ المحقّق القمّي رحمه الله في «جامع الشتات»(1) له بحديث: «لا ضرر ولا ضرار»(2)، قال: (وهو المدرك في هذه المسألة في أغلب المواضع).

وفيه: أنّه بعد تحقّق الشركة، وصيرورة الموجود مِلْكاً مشاعاً لشريكين، لا يترتّب ضررٌ على عدم القسمة، بل غايته فوت النفع، مع أنّ حديث لا ضرر لا يصلح لإثبات الوجوب، لأنّه نافٍ للحكم لا مثبت.

وبالجملة: ثبت أنّه لا دليل على وجوب الإجابة.

أقول: ثمّ على تقدير الوجوب، لو امتنع الشريك عنه، وقلنا بجواز إجباره لأنّه ممتنع، فإنّ تحقّق القسمة بدون رضاه يحتاج إلى دليل مفقود.

ولكن الظاهر تسالم الأصحاب على الحكمين، وتكرّر في كلماتهم دعوى الإجماع عليهما، وهو المستند فيهما.

القسمة الضرريّة: ثمّ إنّه إذا كانت القسمة موجبة للضرر:

فتارةً : يتضرّر الشريك بها ولا يتضرّرالطالب بتركها.

واُخرى : يتضرّران بها معاً.

وثالثة: يتضرّر الشريك بها والطالب بتركها.

ورابعة: يتضرّر الطالب بها خاصّة.

أمّا في الصورة الأُولى والثانية: فلا خلاف بينهم في عدم وجوب الإجابة، ووجهه قاعدة لا ضرر، مضافاً إلى الأصل كما مرّ.

وأمّا في الصورة الثالثة: ففي «الحدائق»(3): (فيتعارض الضرران، فينبغي أن0.

ص: 352


1- جامع الشتات: ج 3/277.
2- وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32281.
3- الحدائق الناضرة: ج 21/170.

يرجّح الأقلّ ضرراً، ومع التساوي يُشكل الأمر، فيحتمل الرجوع إلى القرعة).

وفيه: أنّه لا وجه لترجيح الأقلّ ضرراً، لأنّه لا يجبُ على الإنسان تحمّل الضرر ليدفع الضرر عن غيره، فوجوب الإجابة إذا كان ضرريّاً يرتفع بالحديث، حتّى وإنْ كان في ترك القسمة ضررٌ أعظم منه على الطالب.

وأمّا في الصورة الرابعة: فقد استدلّوا لعدم وجوب الإجابة بأنّ ارتكاب ذلك سفهٌ وتضييع لماله.

وفيه: أنّه إذا كان ذلك بنحوٍ يجوز لمالكه ذلك، كما لو كان التضرّر بنقص القيمة، فلا وجه لعدم وجوب الإجابة، لعدم المانع عنه.

أقول: ثمّ إنّه حيث عرفت أنّ منشأ عدم وجوب الإجابة في موارده هو حديث لا ضرر(1)، فاعلم أنّ المناط في الضرر نقص القيمة أو غيره ممّا يوجب صدق كون القسمة ضرريّة، ولايعتبر الخروج عن الانتفاع بالمرّة، ولا خصوص نقصان الانتفاع.

نعم، لو لم يكن في القسمة بما هي قسمة ضرر، وكان الضرر خارجيّاً متوجّهاً بسبب القسمة - كما إذا كان شريكه من لا يقدر أحد عليه، وإذا استقلّ هو بحصّةٍ يتمكّن الغاصب من غصب ماله مثلاً - قد يقال بعدم كفايته في رفع وجوب الإجابة، ولعلّ وجهه أنّ حديث لاضرر إنّما يرفع حكم الموضوع الضرري، ويكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، والموضوع في المقام ليس ضرريّاً، ولكن بما أنّ المختار عندنا - تبعاً للشيخ الأعظم رحمه الله(2) - أنّه ينفي كلّ حكمٍ نشأ منه الضرر، فالظاهر كفاية الضرر الخارجي أيضاً في رفع الوجوب.4.

ص: 353


1- وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32281.
2- راجع رسائل فقهيّة: ص 114.

وتكفي القرعة في تحقّق القسمة مع تعديل السِّهام،

ولا فرق فيما ذكرناه بين كون القسمة بنحو الإفراز - كما في المثليّات من الحبوب والأدهان من نوعٍ واحد - أو بالتعديل - كما في القيميّات من نوع واحد أو أنواع كالدور و الدكاكين وما شاكل - أو تكون بنحو الرّد بضمّ شيء إلى أحد الطرفين من الخارج.

وعليه، فما أفادوه من أنّه يُجبر عليها في الأوليين إنْ لم يكن ضررٌ، ولا يُجبر عليها في الثالثة معلّلاً بأنّها متضمّنة للمعاوضة المحتاجة إلى التراضي لا يتمّ ، لأنّ القسمة في الموارد الثلاثة متضمّنة للتعاوض، ولا تكون متضمّنة للمعاوضة في شيء من الموارد، وفي التعاوض الذي هو من المعاملات وإنْ كان يعتبر التراضي، إلّا أنّ المفروض في المقام سقوط اعتبار ذلك.

اللّهمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ عمدة مدرك وجوب الإجابة هو الإجماع، والمتيقّن من معقده القسمان الأولان، فلا تجب في الثالث للأصل.

اعتبار القرعة

المسألة الثانية: (و) يدور البحث فيها عن القرعة، فقد صرّح غير واحدٍ من الأصحاب(1) بأنّه (تكفي القرعة في تحقّق القسمة مع تعديل السِّهام) بالأجزاء، إنْ كانت في متساويها كيلاً أو وزناً، أو عدّاً بعدد الانصباء، أو بالقيمة ان اختلفت

ص: 354


1- راجع المختصر النافع: ص 276، كشف الرموز: ج 2/504.

كالأرض والحيوان، ولا حاجة إلى شيء آخر من رضا بعدها وغيره في قسمة الإجبار وغيرها، من غير فرقٍ بين كونها رديّة أو غيرها، ولا بين كون القاسم منصوباً من الإمام عليه السلام أو الحاكم أو غيره، ككونه منهما أو من وكيلهما، لأنّ القسمة إذا وقعت صحيحة، تكون كسائر المعاملات لا يعتبر فيها الرّضا بعد تماميّة المعاملة.

وعن المشهور(1) - على ما قيل - الاحتياج إلى الرّضا بعد القرعة، خصوصاً في قسمة الرّد، لاشتمالها على المعاوضة المتوقّفة على ما يدلّ على الرّضا بذلك.

أقول: فإنْ كان نظرهم إلى أنّ القسمة من المعاملات، فلا تتحقّق بدون الرّضا.

فيرد عليهم: أنّ المفروض وجود الرّضا المقارن، أو عدم اعتباره كما في قسمة الإجبار.

وإنْ كان إلى أنّ القرعة وحدها ليست مميّزة للحقّ ومشخّصة له وملزمة به.

فيرده: نصوص القرعة(2)، وكون القرعة عند العرف ممّا ينشأ به القسمة، فتشملها أدلّة القسمة.

وهل تعتبر القرعة في القسمة، أم لا؟ قولان:

فظاهر جماعة، بل قيل إنّه ظاهر الجميع اعتبارها.

وعن المحقّق الأردبيلي(3) والمحدّث البحراني(4) وغيرهما ممّن تأخّر عنهما عدم اعتبارها، والاكتفاء بالرّضا من كلّ من الشركاء بأخذ سهم.3.

ص: 355


1- تحرير الأحكام: ج 5/216، إيضاح الفوائد: ج 4/369.
2- وسائل الشيعة: ج 27/257 باب (الحكم بالقرعة في القضايا المشكلة).
3- مجمع الفائدة: ج 10/215.
4- الحدائق الناضرة: ج 21/173.

أقول: والثاني أظهر:

1 - لإطلاق ما دلّ على القسمة من الأدلّة المتقدّمة، ولو شكّ في اعتبارها يرتفع الشكّ بإطلاقها والأصل، كسائر ما يشكّ في اعتباره في المعاملة.

2 - وللنصوص الواردة في قسمة الدين:

منها: خبر غياث عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام: «في رجلين بينها مال، منه بأيديهما ومنه غائب عنهما، فاقتسما الذي بأيديهما، وأحال كلّ واحدٍ منهما من نصيبه الغائب، فاقتضى أحدهما ولم يقتض الآخر؟

قال عليه السلام: ما اقتضى أحدهما فهو بينهما، وما يذهب بينهما»(1).

ومثله خبر أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام(2)، وخبر محمّدبن مسلم عن أحدهما عليهما السلام(3)، وصحيح عبد اللّه بن سنان(1)، وخبر سليمان بن خالد(2).

فإنّ ظاهرها صحّة قسمة ما بأيديهما مع عدم القرعة، فتأمّل لورود النصوص سؤالاً وجواباً في مقام بيان حكمٍ آخر، فلا وجه للتمسّك بها.

وعليه، فالعمدة هو الإطلاق والأصل.

واستدلّ للأوّل: في «الجواهر»(3):

تارةً : بأنّ القرعة داخلة في حقيقة القسمة، بحيث لاتصدق بدونها.

واُخرى : بأنّ القرعة شُرّعت للتعيين، كما شُرّع قبض المستحقّ من المستحقّ عليه في الدين.3.

ص: 356


1- وسائل الشيعة: ج 19/12 ح 24046.
2- وسائل الشيعة: ج 18/371 ح 23872.
3- جواهر الكلام: ج 26/313.

والأحوط حضور قاسمٍ

وثالثةً : بأنّ مقتضى تعريف القسمة بأنّها تمييز الحقوق، كون حصّة الشريك كليّاً دائراً بين مصاديق متعدّدة، فتكون محلّاً للقرعة، إذ هي حينئذٍ لإخراج المشتبه، وتعيين ما لكلّ منهمامن المصداق واقعاً، فنكشف حينئذٍ عن كون حقّه في الواقع ذلك.

ورابعةً : باتّفاق الأصحاب على اعتبارها في القسمة شرعاً، مؤيّداً بتعارف ذلك بين عوام المتشرّعة فضلاً عن خواصّهم.

أقول: وفي الجميع نظر.

أمّا الأوّل: فلأنّ القسمة كما مرّ معاملة خاصّة تنشأ بالقول أو الفعل، ولا دخل للقرعة فيها، نعم، هي أحد الأفعال المنشأ بها القسمة.

وأمّا الثاني: فلأنّه لا كلام في أنّ القرعة تصلح للتعيين، وأنّها شُرِّعت له، ولكن لا يلازم ذلك عدم معيّن غيرها.

وأمّا الثالث: فلأنّه في موارد الشركة إنّما يكون المال بينهما بنحو الإشاعة لا الكلّي في المعيّن، مع أنّه لو كان من قبيل الكلّي في المعيّن، كان مقتضى إطلاق أدلّة القسمة تعيّن حقّ كلّ منهما بما ينشأ به القسمة.

وأمّا الرابع: فلعدم ثبوت كون الإجماع تعبّديّاً، مع أنّه قدس سره صرّح بأنّه قد يقال إنّ مراد الأصحاب اعتبار القرعة حال عدم التراضي لأنّها العدل بينهما.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه مع التراضي لا حاجة إلى القرعة.

المسألة الثالثة: (والأحوط حضور قاسمٍ ) من قبل الحاكم، أو من قبلهما، لأنّه

ص: 357

وليس شرطاً.

أبعد إلى التنازع، خصوصاً إذا كان هو الحاكم المنصوب من قبل الإمام عليه السلام، فإنّه يقطع النزاع بين المتخاصمين، (و) لكن ذلك (ليس شرطاً) في صحّة القسمة ولزومها بلا خلافٍ ، لعدم الدليل عليه، بل مقتضى إطلاق الأدلّة عدم شرطيّته.

***

ص: 358

والشريكُ أمينٌ ، ولا تصحّ مؤجّلةً

عدم صحّة الشركة المؤجّلة

الموضع الخامس: في جملةٍ من أحكام الشركة والقسمة، وهي تُذكر في طيّفروع:

الفرع الأوّل: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه لا يضمن (الشريك) ما تلف من مال الشركة الذي في يده بإذن الشريك، من غير تعدٍّ ولا تفريط، لأنّه (أمين)، وقد اتّفقت النصوص(1) والفتاوى على أنّه لا يضمن إلّامع التعدّي أو التفريط.

الفرع الثاني: (ولا تصحّ ) الشركة (مؤجّلة)، وقال عن ذلك صاحب «المسالك»(2): (المراد بصحّة التأجيل المنفيّة، ترتّب أثرها، بحيث لا تكون لازمة إلى الأجل، وأنّها لم تصحّ لأنّها عقد جائز، فلا يؤثّر شرط التأجيل فيها، بل لكلّ منهما فسخها قبل الأجل.

نعم، يترتّب على الشرط عدم جواز تصرفهما بعده إلّابإذنٍ مستأنفٍ ، لعدم تناول الإذن له، فلشرط الأجل أثرٌ في الجملة)، انتهى.

ونحوه ما قاله صاحب «الحدائق»(3).

ونُقل في محكي «المختلف»(4) عن الشيخين أنّهما قالا: الشركة بالتأجيل

ص: 359


1- راجع وسائل الشيعة: باب 4 من أبواب الوديعة: ج 19/79، وباب 1 من أبواب العارية من: ج 19/91، وباب 28، 29، 30 من أبواب الإجارة من ج 19 أيضاً، وهذه الأبواب من ص 139 إلى ص 148.
2- مسالك الأفهام: ج 4/316.
3- الحدائق الناضرة: ج 21/168.
4- مختلف الشيعة: ج 6/237.

وتبطل الشركة بالموت والجنون، ويُكره مشاركة الكفّار.

باطلة، قال: (وظاهرٌ أنّ مرادهما ليس البطلان من رأس، بل عدم اللّزوم، ولذا قال المفيد(1) عقيب ذلك: ولكلّ واحدٍ من الشريكين فراق صاحبه أيّ وقت شاء).

ثمّ نقل عن أبي الصّلاح أنّه قال: (ولا أثر للتأجيل في عقد الشركة، ولكلّ شريكٍ مفارقة شريكه أيّ وقتٍ شاء وإنْ كانت مؤجّلة).

ثمّ قال: (والعبارتان رديتان، والتحقيق أنّ للتأجيل أثراً، وهو منع كلّ منهما من التصرّف بعده إلّابإذن مستأنف، وإنْ لم يكن له مدخل في الامتناع من الشركة، إذ لكلّ منهما الفسخ قبل الأجل)، انتهى .

ولو اشترط عدم الرجوع قبل الأجل، فهل يجوز له الرجوع أم لا؟

الظاهر أنّه ليس له ذلك تكليفاً، لعموم ما دلّ على وجوب الوفاءبالشرط(2)، ولكن له الرجوع وضعاً كما لا يخفى .

الفرع الثالث: (وتبطل الشركة بالموت والجنون) والحَجْر، بمعنى أنّه لا يجوز للآخرالتصرّف، وأمّا الشركة فهي باقية، فالأولى في التعبير ما في «الشرائع»(3)حيث قال: (ويبطل الإذن بالجنون والموت).

الفرع الرابع: (ويكره مشاركة الكفّار) عند علمائنا كما عن «التذكرة»(4)،1.

ص: 360


1- المقنعة: ص 633.
2- وسائل الشيعة: ج 18/16 باب (ثبوت خيار الشرط بحسب ما يشترطانه).
3- شرائع الإسلام: ج 2/377.
4- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/221.

وليس لأحد الشريكين المطالبة بإقامة رأس المال، وإنّما تصحّ القسمة بالتراضي، ولا تصحّ قسمة الوقف، ويجوز قسمته مع الطلق.

ويشهد به خبرالسكوني(1)، وصحيح ابن رئاب(2)، وهما وإنْ اختصّا بالذّمي، إلّا أنّه يثبت الحكم في غيره بالأولويّة.

الفرع الخامس: (وليس لأحد الشريكين المطالبة بإقامة رأس المال)، بل يقتسمان العين الموجودة، ما لم يتّفقا على البيع، كما هو واضح.

الفرع السادس: (وإنّما تصحّ القسمة) في غير القِسمة الإجباريّة (بالتّراضي)، ووجهه ظاهرٌ ممّا قدّمناه.

قسمة الوقف

الفرع السابع: (و) قد صرّح الأصحاب(3) بأنّه (لا تصحّ قسمة الوقف، ويجوز قسمته مع الطلق)، ولكن خالفه في «التحرير»(4) فقال:

(ولو قيل بقسمة الوقف بعضه من بعضه مطلقاً أمكن، إذ القسمة ليست بيعاً، والأقرب عدم جوازها، إذ البطن الثاني يأخذ الوقف عن الواقف، ولا يلزمه ما فعل البطن الأوّل.

ولو تعدّد الواقف والموقوف عليه، فالأقرب جواز القسمة)، انتهى.

ص: 361


1- وسائل الشيعة: ج 19/8 ح 24040.
2- وسائل الشيعة: ج 19/8 ح 24039.
3- راجع إيضاح الفوائد: ج 2/406، جامع المقاصد: ج 9/113، مسالك الأفهام: ج 4/321.
4- تحرير الأحكام: ج 5/223.

وتبعه في «الحدائق»(1)، قال: (وأمّا لو تعدّد الواقف والموقوف عليه، بأنْ كانت الدّار مشتركة بين زيدٍ وعمرو نصفين مثلاً، فوقف زيد نصفه على ذرّيته، وعمر ونصفه عليذرّيته، فإنّه يجوز للموقوف عليهم من الطرفين قسمة هذا الوقف)، انتهى.

وكذا المحقّق القمّي رحمه الله(2)، بل يظهر منه جوازها مع تعدّد الوقف والموقوف عليه، كما إذا كان نصفٌ مشاعٌ من ملكٍ وقفاً على مسجد، والنصف الآخر على مشهدٍ.

أقول: والتحقيق يقتضي أنْ يقال:

إنّه إنْ لم تكن القسمة منافية لمقتضى الوقف بسبب اختلاف البطون قلّة وكثرةً - كما لو كان نصفٌ مشاع وقفاً عليمسجد، والنصف الآخر عليمشهدٍ، أو كان نصفه وقفاً على قبيلةٍ ، والنصف الآخر وقفا على قبيلة اُخرى - فالأظهر هو الجواز مطلقاً.

ودعوى(3): عدم انحصار الحقّ في الموجودين، فيما إذا كان الوقف على القبيلة.

مندفعة: بأنّه يمكن أنْ يتصدّى المتولّي أو الحاكم الشرعي ويتولّاه عن البطون اللّاحقة.

فإنْ قيل: إنّه إذا كان الوقف على نحو وقف المشاع، فالقسمة الموجبة للإفراز والتعيين خلاف وضع الوقف، وقد دلّت النصوص على أنّ الوقوف على ما وقفت.

قلنا: إنّ القسمة موجبة عند العرف للتمييز، لا لتغيير وضع الوقف، وعلى فرض تسليم كونه كذلك فلا إشكال في اغتفار مثل ذلك، ولذا اتّفقوا على أنّه يجوز قسمته مع الطلق.7.

ص: 362


1- الحدائق الناضرة: ج 21/177.
2- الجواهر: ج 26/316.
3- الحدائق الناضرة: ج 21/177.

وأمّا إنْ كانت منافية لمقتضى الوقف بسبب اختلاف البطون قلّةً وكثرة:

فإنْ اقتسم أهل كلّ طبقةٍ بالنسبة إلى انفسهم فقط، صحّت القسمة، لعدم المانع عنها، وإلّا فلا تصحّ ، لأنّ الحقّ يتغير بزيادة البطون ونقصانها، فربما استحقّ بعض بطون المتقاسمين أكثر ممّا ظهر بالقسمة لمورثهم وبالعكس.

ثمّ إنّ قسمة الوقف عن الطلق إذا اشتملت على الرّد من جانب الوقف، فلا مانع منها، ومقابل الرّد وقف إنْ كان من الوقف، وإنْ كان من مال الموقوف عليهم فهو لهم، وإنْ كان الرّد من جانب الطلق فلا تجوز، لاستلزام القسمة ملكيّة بعض الوقف. واللّه العالم.

***

ص: 363

الفصل السادس: في المضاربة.

وهي أن يدفع الإنسان مالاً إلى غيره ليعمل فيه بحصّة من ربحه

الفصل السادس في المضاربة

اشارة

وتسمّى قِراضاً عند أهل الحجاز، (وهي) عبارة عن (أن يدفع الإنسان مالاً إلى غيره ليعمل فيه بحصّة من ربحه).

وتوضيح ذلك: كما ورد في «المسالك»(1) تبعاً للتذكرة، قال:

(اعلم أنّ من دفع إلى غيره مالاً ليتّجر به، فلا يخلو إمّا أن يشترطا كون الرّبح بينهما، أو لأحدهما، أو لا يشترطا شيئاً:

فإنْ شرطاه بينهما فهو قراض، وإنْ شرطاه للعامل فهو قرضٌ ، وإنْ شرطاه للمالك فهو بضاعة، وإنْ لم يشترطا شيئاً فكذلك، إلّاأنّ للعامل اُجرة المثل).

وأُورد على ما أفاداه تارةً : بأنّ مجرّد شرط كون الرّبح للعامل لا يوجب تحقّق القرض الذي هو إنشاءُ تمليك المال بعوض في الذمّة.

واُخرى : بأنّ ظاهر ما ذكراه أنّه مع اشتراطهما كون تمام الرّبح للمالك، لا يكون للعامل اُجرة المثل.

وعن «الرياض»(2) نسبته إلى ظاهر الأصحاب، وهو منافٍ لقاعدة احترام

ص: 364


1- مسالك الأفهام: ج 4/343.
2- رياض المسائل: ج 9/71.

عمل المسلم المقتضية للضمان.

أقول: أمّا الإيراد الأوّل فيمكن دفعه:

بأنّ مرادهما بيان حال كلّ من القراض والقرض والبضاعة في حَدّ ذاته، لا أنّ المراد تحقّقه على الوجه المزبور.

مع أنّه إذا كان كون الرّبح للعامل من اللّوازم الشرعيّة لملك المال، فمجرّد قصد كون الرّبح له كافٍ في تحقّق القرض، بناءً على عدم اعتبار الصراحة في إنشاء العقود، وصحّة إنشائها بالكنايات وشبهها، كما حقّقناه في كتاب البيع(1).

ويؤيّد ما ذكرناه:

1 - ما ورد في الصحيح المرويّ عن أبي جعفر عليه السلام، عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال:

«من ضمن تاجراً فليس له إلّارأس ماله، وليس له من الرّبح شيء»(2).

2 - والموثّق عنه عليه السلام: «من ضمن مضاربةً فليس له إلّارأس المال، وليس له من الرّبح شيء»(3).

إذ كما أنّ التضمين من لوازم القرض، كذلك الاختصاص بالربح، فكما أنّ الأوّل يكفي في تحقّق القرض فكذلك الثاني.

وأمّا الإيراد الثاني: فهو واردٌ، إنْ لم يكن لاشتراط كون تمام الرّبح للمالك بدون ذكر اُجرةٍ للعامل، ظهورٌ عرفي في إرادة المجّانيّة، وليس هذا بالأمر البعيد.

أقول: وجه الورود ليس ما أفاده صاحب «الجواهر»(4) من اقتضاء قاعدة0.

ص: 365


1- فقه الصادق: ج 23/9.
2- الكافي: ج 5/240 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/22 ح 24070.
3- التهذيب: ج 7/188 ح 16، الإستبصار: ج 3/126 ح 3.
4- جواهر الكلام: ج 26/340.

احترام عمل المسلم ذلك - لما مرّ في كتاب الإجارة من عدم اقتضائها الضمان - بل هو أنّ الأمر بالعمل، أو الإذن في العمل، أو دفع السّلعة إلى الغير للعمل وأشباهها، كأكل مال الغير بالضمان والإباحة بالعوض، من الأسباب المعامليّة للضمان التي قامت السيرة عليها وبناء العقلاء، ولم يردع الشارع عنها، بل هذه كلّها من العقود، فتشملها أدلّة إمضاء المعاملات ولزومها، كما تقدّم الكلام عن ذلك في كتاب الإجارة.

وبالجملة: فالأظهر هو ثبوت اُجرة المثل في الموردين.

قال الشهيد رحمه الله في «المسالك»(1): (إنّ عقد القراض مركّبٌ من عقود كثيرة، لأنّ العامل مع صحّة العقد وعدم ظهور ربح وَدَعيٌ أمين، ومع ظهوره شريك، ومع التعدّي غاصب، وفي تصرّفه وكيل، ومع فساد العقد أجير)، انتهى.

أقول: وبديهي أن ليس مراده إنشاء هذه العقود بإنشاء عقد المضاربة، بل المراد أنّه يتبعها أحكام هذه العقود. وفي عدّه الغصب واُجرة المثل والشركة في الرّبح من العقود مسامحة واضحة، فالأولى ما أفاده غيره من أنّ عقد المضاربة يتبعها أحكام عقودٍ كالوكالة والوديعة والشركة، وغيرها كالغصب واُجرة المثل ونحوها.

عقد المضاربة

أقول: وتمام الكلام في هذا الفصل يستدعي بيان اُمور:

الأمر الأوّل: العقد، وقد جعله المصنّف في «التذكرة»(2) و «القواعد»(3) على

ص: 366


1- مسالك الأفهام: ج 4/344.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/229.
3- قواعد الأحكام: ج 2/331.

ما حكى من أركان هذه المعاملة، بل صرّح في «التذكرة»(1) بأنّه: (لابدَّ فيه من لفظٍ يدلّ على الرّضا)، وصريح ذلك عدم جريان ما يشبه المعاطاة من الإنشاء الفعلي فيه.

والحقّ أنْ يقال: إنّه لا إشكال في لزوم العقد واعتباره، بمعنى الإنشاء الملائم مع كونه إيقاعاً، لأنّ المضاربة وإنْ كانت من مقولة المعنى، ولكن قد عرفت غير مرّة أنّ بناء العقلاء والشارع الأقدس على عدم العبرة بالاعتبارات النفسانيّة غير المبرزة، وأنّه يعتبر الإبراز في جميع العقود والإيقاعات. وعليه فباعتبار كونها من العقود، تفتقر إلى إيجاب وقبول، لأنّها عقد تعاوضي قائمٌ بطرفين، فلا يكفي الإنشاء من جانبٍ واحد، ولا يشبه الوكالة التي هي إذن، وحيث عرفت في كتاب البيع(2) أنّ مقتضى القاعدة الأوّليّة عدم اعتبار اللّفظ في الإنشاء إيجاباً وقبولاً، فيكفي إنشاء هذه المعاملة بالفعل، بل يكفي أنْ يكون إيجابها بالقول والقبول بالفعل.

وهل يعتبر التواصل بين الإيجاب والقبول، كما صرّح به المصنّف رحمه الله أم لا؟

وجهان مبنيّان على اعتبار التوالي بينهما في العقود مطلقاً وعدمه، فعلى الأوّل يعتبر دون الثاني، وقد مرّ الكلام في المبنى مستوفى.

قال في محكي «التذكرة»(3): (يجب التنجيز في العقد، فلا يجوز تعليقه على شرطٍ أو صفةٍ ، مثل: إذا دخلت الدّار، وإذا جاء رأس الشهر فقد قارضتك، وكذا لايجوز تعليق البيع ونحوه، لأنّ الأصل عصمة مال الغير)، انتهى.9.

ص: 367


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/229.
2- فقه الصادق: ج 22/285 و ج 23/9.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/229.

ويرد عليه: أنّه لابدَّ من الخروج عن الأصل بعمومات أدلّة إمضاء المعاملات، وخصوص ما ورد في المضاربة بعد أن ليس فيها مايشير إلى اعتبار التنجيز.

أقول: أمّا الوجوه التي استدلّوا بها لمبطليّة التعليق في مطلق العقود، فقد ذكرناها في كتاب البيع، وبيّنا عدم تماميّة شيء منها سوى الإجماع في بعض العقود، وليس منه المضاربة، كيف وقد أفتى المحدّث البحراني(1) صريحاً بعدم اعتبار التنجيز!

وعليه، فالأظهر عدم اعتباره.

ويشترط في المتعاقدين البلوغ والعقل والاختيار، وفي المالك عدم الحَجر لفلسٍ ، بلا خلاف في شيء من تلكم، وقد مرّ الكلام في الجميع في كتاب الإجارة(2)والمزارعة(3)، وما ذكرناه في ذينك البابين يجري في المقام فلا وجه للإعادة.

اشتراط عدم الفسخ

أقول: وسوف نتحدّث لاحقاً عن أنّ عقد المضاربة جائزٌ من الطرفين، بحيث يجوز لكلّ منهما فسخه.

إنّما الكلام في أنّه لو اشترط فيه عدم الفسخ إلى زمان:

فعن المشهور(4) بطلان الشرطالمذكور، بل العقد أيضاً، لأنّه منافٍلمقتضى العقد.

والجواب: نخبة القول في المقام إنّه:

تارةً : يشترط عدم الفسخ في ضمن عقد المضاربة.

ص: 368


1- الحدائق الناضرة: ج 21/204.
2- صفحة 23 من هذا المجلّد.
3- صفحة 209 من هذا المجلّد.
4- راجع العروة الوثقى: ج 5/156.

واُخرى : يشترطه في ضمن عقدٍ جائزٍ أو لازمٍ آخر.

أمّا في المورد الأوّل:

1 - فإنْ كان الشرط لزوم العقد، وعدم انفساخه بالفسخ، صَحّ ما ذكره المشهور من كونه منافياً لمقتضى العقد، ويكون مخالفاً للمشروع، والظاهر أنّ نظرهم في المقام إلى ذلك.

قال صاحب «الشرائع»(1) - بعد ذكر أنّ عقد المضاربة جائزٌ من الطرفين -:

(فلو اشترط فيه الأجل لم يلزم، لكن لو قال: (إنْ مرّت بك سنةٌ مثلاً فلا تشتر بعدها وبع) صَحّ ، لأنّ ذلك من مقتضى العقد، وليس كذلك لو قال: (عَليَّ أن لا أملك فيها منعك)، لأنّ ذلك مناف لمقتضى العقد).

ومثله عبارة «القواعد»(2)، إلّاأنّه لم يتعرّض لتعليل عدم الصحّة، وعلّله في محكي «جامع المقاصد»(3) بذلك اعتماداً منه على ما ذكره من «القواعد» قبل ذلك.

وبالجملة: المتتبّع في كلمات الفقهاء يجد أنّ الشرط المنافي لمقتضى العقد عندهم، هو شرط لزوم عقد المضاربة، لا شرط عدم الفسخ.

وكيف كان، فالشرط باطلٌ لكنّه لا يبطل العقد، لما مرّ في محلّه من أنّ الشرط الفاسد لا يُفسد.

2 - وإنْ كان الشرط عدم الفسخ، بطل الشرط، لا لما نُسِب إلى المشهور، بل لأنّ حقيقة الشرط حيث تكون تعليق الالتزام بالعقد والوفاء به عليه، فلا يصحّ 8.

ص: 369


1- شرائع الإسلام: ج 2/381.
2- قواعد الأحكام: ج 2/345.
3- جامع المقاصد: ج 8/148.

شرط عدم الفسخ.

وأمّا في المورد الثاني:

1 - فإنْ كان الشرط لزوم العقد، بطل لما مرَّ.

2 - وإنْ كان عدم الفسخ:

فإنْ كان العقد جائزاً بطل أيضاً لما مرّ.

وإنْ كان لازماً، صَحّ ووجب الوفاء به، ولكن لو فسخه ينفسخ وإنْ عصى، وعلى جميع التقادير لا يبطل العقد.

فرع: ولو اشترط أحدهما على الآخر في ضمن عقد المضاربة مالاً أو عملاً، فالظاهر صحّته، ولزوم الوفاء به، لعموم دليل وجوب الوفاء بالشرط.

وما اشتهر من أنّ الشروط في ضمن العقود الجائزة غير لازمة الوفاء، يكون المراد به أنّه للمشروط عليه أن يفسخ العقد، ومعه لا يجب الوفاء به، لا أنّه لا يجب الوفاء به مع بقاء العقد وعدم فسخه.

وأمّا ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1): من أنّه لا يجب الوفاء بها مع بقائها، بدعوى أنّها تابعة للعقد لزوماً وجوازاً، بل مع جوازه هي أولى بالجواز وأنّها معه شبه الوعد، والمراد من قوله عليه السلام: «المسلمون عند شروطهم»(2) بيان صحّة أصل الشرط لا اللّزوم والجواز.

فيرد عليه: أنّ الشرط هو الالتزام في ضمن التزام، ومع تحقّق ذلك، فإنّ 0.

ص: 370


1- جواهر الكلام: ج 26/343.
2- الكافي: ج 5/169 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/16 ح 23040.

مقتضى ظهور قوله صلى الله عليه و آله: «المسلمون عند شروطهم» - الذي مضمونه عدم انفكاك المسلم عن شرطه - وجوب الوفاء به مادام بقاء الموضوع، فحينئذٍ:

إنْ كان ذلك في ضمن عقدٍ لازم فلا إشكال.

وإنْ كان في ضمن عقدٍ جائز، فإن ارتفع العقد بفسخٍ ، فقد انتفى الشرط، فينتفي الوجوب بتبعه، وإلّا فالموضوع باقٍ ، ولا يعقل تخلّف حكمه عنه.

وما أفاده من تبعيته للعقد لزوماً وجوازاً، لا دليل عليه أصلاً، بل إطلاق دليل وجوب الوفاء به يشهد بخلافه.

وأغرب من ذلك دعواه عدم دلالة «المسلمون عند شروطهم» على لزوم الوفاء به.

وأيضاً: يصحّ الشرط ويجبُ الوفاء به لو اشترط المالك على العامل، أو العكس، بيعاً أو قرضاً أو قراضاً أو بضاعةً أو نحو ذلك.

ودعوى:(1) أنّ القدر المتيقّن من أدلّة إمضاء المضاربة ومشروعيّتها ما إذا كان من المالك رأس المال خاصّة، ومن العامل التجارة، فمع إضافة آخر لا يعلم المشروعيّة والأصل عدمها.

مندفعة أوّلاً: بأنّ الشرط كما مرّ مراراً لايكون داخلاً في العقد، بل هو التزامٌ مستقلّ غير مرتبط بالالتزام العقدي، وإنّما يكون الالتزام بالعقد والوفاء به معلّقاً عليه، فهذا العقد الذي اشترط في ضمنه لا يكون فيه من المالك إلّارأس المال، ومن العامل التجارة.0.

ص: 371


1- أشار إليها في مستمسك العروة: ج 12/330.

وثانياً: أنّه مع إطلاق أدلّة الإمضاء العامّة، بل وبناء العقلاء، بل إطلاق ما دلّ من الأخبار على إمضاء المضاربة الشاملة للمضاربة مع الشرط أيضاً، يمنع عن الرجوع إلى الأخذ بالمتيقّن، والرجوع في غيره إلى الأصل.

وثالثاً: أنّ ما ذكر لو تمّ لكان من حيث متعلّق العقد، ويكفي في صحّة الشرط عموم أدلّة الشروط.

قال الشيخ رحمه الله(1): إذا اشترط المالكُ على العامل بضاعةً بطل الشرط دون العقد في أحد قوليه، وبطلانهما في قوله الآخر.

وقد ذكر في وجه بطلانهما: أنّ الشرط المزبور منافٍ لمقتضى العقد فيكون باطلاً، وحيث أنّه يلزم من بطلانه جهالة حصّة العامل، لأنّ للشرط قسطاً من الرّبح، وببطلان الشرط يسقط ذلك القسط وهو مجهولٌ ، فيبطل العقد لذلك.

وفيه أوّلاً: أنّ الشرط ليس منافياً لمقتضى العقد، لأنّ مقتضاه كون عمله في مال القراض بجزءٍ من الرّبح، والعمل الخارجي ليس عملاً في مال القراض.

وثانياً: أنّ الشرط ليس مقابلاً في شيء من الموارد بالعوض، فلا ينقص ببطلانه شيءٌ من الحصّة، فلا تصير مجهولة.

وذكر في وجه بطلان الشرط خاصّة - مضافاً إلى ما مرّ - بأنّ هذا الشرط لا أثر له، لعدم وجوب الوفاء به، لكونه في العقد الجائز، ولا يلزم من تخلّفه التسلّط على الفسخ، لجواز فسخه ولو مع عدم التخلّف.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ الشروط في ضمن العقود الجائزة لازمة الوفاء.0.

ص: 372


1- المبسوط: ج 3/170.

وثانياً: أنّ الفسخ الثابت بتخلّف الشرط غير الفسخ المتحقّق مع عدم التخلّف، فإنّ الأوّل حَلّ العقد من الأوّل، والثاني حَلّه من الأثناء، والثمرة ظاهرة.

وعليه، فالأظهر صحّة الشرط والعقد معاً.

***

ص: 373

وإنّما تصحّ بالأثمان الموجودة،

مال القِراض وشرائطه

الأمر الثاني: ويدور البحث فيه عن مال القراض.

قال المصنّف رحمه الله: (وإنّما تصحّ بالأثمان الموجودة)، وينحلّ ذلك إلى أنّه يعتبر فيه شروط:

الشرط الأوّل: أنْ يكون رأس المال عيناً، فلا تصحّ بالدين، فلو كان له على العامل دينٌ لا يصحّ جعله قِراضاً، وكذا لو كان له دينٌ على أحدٍ، لم يجز أن يجعله مضاربةً ، بلا خلافٍ في ذلك، ويشهد به:

الخبر الذي رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قال أمير المؤمنين عليه السلام: في رجلٍ له على رجلٍ مالٌ فتقاضاه ولا يكون عنده، فيقول: هو عندك مضاربةً؟

قال عليه السلام: لا يصلح حتّى يقبضه منه»(1).

ولا تصحّ بالمنفعة أيضاً، إجماعاً محقّقاً ومحكيّاً مستفيضاً، وهو العمدة فيه، كما صرّح به في «المسالك»(2)، وبه يخرج عن عمومات الصحّة.

الشرط الثاني: أنْ يكون من الأثمان؛ أي الذهب والفضّة المسكوكين بسكّة

ص: 374


1- التهذيب: ج 6/195 ح 53، وسائل الشيعة: ج 19/23 ح 24072.
2- مسالك الأفهام: ج 4/355.

المعاملة، بأن يكون درهماً أو ديناراً، فلا تصحّ بالنقود الورقيّة وما شاكل ولا بالعروض.

أقول: اعترف جملةٌ من الأصحاب بأنّهم لم يقفوا عليدليل على اعتبار ذلك غير الإجماع المُدّعى في المقام، وكفى به حجّة في مثل هذا الحكم المخالف للقواعد والاُصول، فإنّ مثل هذا الإجماع لا محالة يكون تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام، فلا وجه لتأمّل بعض متأخّري المتأخّرين(1) فيه لشمول العمومات، فإنّها تخصّص بالإجماع.

نعم، لا بأس بكونه من المغشوش الذي يُعامل به، أمّا لو كان خالصاً، ولم يكن بسكّة المعاملة، فلا تصحّ المضاربة به، لعدم كونه من الدرهم والدينار.

الشرط الثالث: أنْ يكون معلوماً قدراً ووصفاً، ولا تكفي المشاهدة، للنهي عن الغَرَر(2).

وعن الشيخ(3) و «المختلف»(4) أنّه يصحّ مع الجهالة، وتجوز المضاربة بالجزاف من غير تقييدٍ بالمشاهدة.

واحتجّ له في محكي «المختلف» بالأصل، وقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم»(5)ولا أثر لاقتضاء هذه الجهالة التنازع، بعد أن كان القول قول العامل شرعاً في قدر الواصل، لأنّ الأصل عدم وصول الزائد إليه.1.

ص: 375


1- العروة الوثقى: ج 5/147.
2- وسائل الشيعة: ج 17/448 ح 22965.
3- المبسوط: ج 3/171.
4- مختلف الشيعة: ج 6/253.
5- التهذيب: ج 7/371 ح 66، وسائل الشيعة: ج 21/276 ح 27081.

قال صاحب «الجواهر»(1): (والتحقيق: إنْ لم يكن ثمَّ إجماعٌ عدم قدح الجهالة التي تؤول إلى العلم، نحو أن يقع العقد على ما في الكيس مثلاً ثم يعد أنّه بعد ذلك، لإطلاق الأدلّة أو عمومها.

نعم، بناءً على عدم عموم أو إطلاق مستند إليه في مثل ذلك، فلا ريب في أنّ الأصل الفساد.

أمّا الجهالة التي لا تؤول إلى العلم، فالظاهر عدم جوازها، لعدم إمكان تحقّق الرّبح معها، وهو روح هذه المعاملة)، انتهى.

أقول: ولكن يرد على ما أفاده المصنّف رحمه الله - بعد تصحيحه بإرادة العمومات والإطلاقات من الأصل، والإغماض عن التمسّك بدليل الشرط - أنّه لابدَّ من تقييد الإطلاق، وتخصيص العام بما دلّ على النهي عن الغَرَر، المنجبر ضعفه بالعمل، والاستناد في كثيرٍ من الأبواب كالإجارة وغيرها.

ودعوى:(2) أنّ النسبة بينه وبين أدلّة المقام عمومٌ من وجه، فلا وجه لتقديمه.

مندفعة: بأنّه من قبيل الحاكم على الإطلاقات لا معارض.

مع أنّه لو سُلّم التعارض، فالترجيح للنَّص بفتوى المشهور التي هي أوّل المرجّحات.

وليس مدرك اعتبار العلم اداء الجهالة إلى التنازع، حتّى يقال لا أثر لاقتضاء هذه الجهالة التنازع، بل هو لزوم الغَرَر مع الجهالة.

ويرد على صاحب «الجواهر»: أنّه إنْ صَحّ التمسّك بدليل النهي عن الغَرَر، كان7.

ص: 376


1- جواهر الكلام: ج 26/357.
2- مستمسك العروة: ج 12/247.

مقتضاه البطلان وإنْ آلت إلى العلم، لأنّ الغَرَر أوجب البطلان، والعلم المتأخّر لا يوجب انقلاب العقد الباطل صحيحاً، وإلّا صَحّ العقد حتّى مع الجهالة التي لا تؤول إلى العلم، لإمكان تحقّق الرّبح بأن يتّجر كلّ مرّةٍ ببعض المال المعيّن حين التجارة أو بجميعه، بعد رفع الجهالة بالنسبة إلى العامل خاصّة.

الشرط الرابع: أنْ يكون معيّناً، فلو أحضر مالين وقال: (قارضتُك بأحدهما) أو (بأيّهما شئت)، لم ينعقد بذلك قراضٌ ، بلاخلافٍ ، بل عليه الإجماع(1) في بعض الكلمات.

أقول: والحقّ أنْ يقال:

1 - إنّ العقد إنْ وقع على المردّد ولو في الواقع لم يصحّ ، لأنّ المردّد من حيث هو مردّدٌ لا حقيقة له ولا تحقّق في الخارج.

2 - وإنْ وقع على المعيّن الواقعي المردّد عندهما:

فإنْ كان مع الاختلاف في الصفات بَطَل للغَرَر.

وإنْ كان مع التساوي فيها، فلا وجه للبطلان إلّاالإجماع إنْ ثبت.

3 - وإنْ وقع على أحد اُمورٍ بنحو الكلّي في المعيّن، صَحّ مع التساوي في الصفات لولا الإجماع، لإطلاق الأدلّة وعدم المانع.

وكذا إن وقع على أحد اُمور بنحوٍ التخيير.

4 - وإنْ وقع العقد على ما يختاره العامل مع التساوي في الصفات، فقد استدلّ في «الجواهر»(2) لبطلانه:

(بلزوم موقوفية العقد مع التخيير إلى حال وقوعه، وليس في الأدلّة حتّى 9.

ص: 377


1- جواهر الكلام: ج 26/359.
2- جواهر الكلام: ج 26/359.

الإطلاقات ما يدلّ على مشروعيّة ذلك، بل لعلّ الأدلّة قاضية بخلافه، ضرورة ظهورها في سببيّة العقد وعدم تأخّر آثارها عنها، وجعل الخيار كاشفاً عن مورد العقد من أوّل الأمر لا دليل عليه، لكونه مخالفاً للأصل)، انتهى .

وفيه: إنّ المضاربة المنشَأة:

إنْ كانت بنحو يكون المنشأ من حين العقد، فهو الدليل على كون الخيار كاشفاً عن مورد العقد من أوّل الأمر.

وإنْ كانت بنحوٍ يكون المنشَأ بعد الخيار، فالموقوفيّة المشار إليها لا تنافي سببيّة العقد، بل هي لازمها.

وعليه، فالعمدة في هذا الشرط أيضاً هو الإجماع إنْ كان.

عدم اعتبار كون رأس المال بيد العامل

أقول: قد ذكروا اشتراط أمرين آخرين في مال القِراض، وهما:

أحدهما: ما قاله المصنّف رحمه الله في «القواعد»(1):

(الرابع: أنْ يكون مسلّماً في يد العامل، فلو شرط المالك أنْ تكون يده عليه لم يصحّ ، أمّا لو شرط أنْ يكون مشاركاً في اليد أو يراجعه في التصرّف أو يراجع مُشْرِفه، فالأقرب الجواز)، انتهى.

وحاصله: اعتبار كون رأس المال بيد العامل.

واستدلّ له: بأنّ عدمه خلاف وضع المضاربة.

ص: 378


1- قواعد الأحكام: ج 2/334.

ويردّه: ما أفاده المحقّق الثاني رحمه الله(1) حيث قال: (إنْ اُريد أنّه خلاف مقتضى وضع المضاربة شرعاً فهو ممنوعٌ ، وإنْ اُريد عادةً فهو لا يقدح).

ولذا قال السيّد رحمه الله في «العروة»(2) - تبعاً للتذكره(3) -: (لكن لا دليل عليه، فلا مانع أن يتصدى العامل للمعاملة مع كون المال بيد المالك).

الثاني: أنْ لا يكون رأس المال بمقدارٍ يعجز العامل عن التجارة به مع اشتراط المباشرة، أو كان عاجزاً حتّى مع الاستعانة بالغير، وإلّا فلا يصحّ ، لأنّ المضاربة متقوّمة بالمال والعمل.

وقد يقال: إنْ كان المال كثيراً لا يقدر على التجارة بجميعه، ويتمكّن من التجارة ببعضه، تصحّ المضاربة بالنسبة إلى المقدور، ويستحقّ العامل حصّته من الرّبح كما في الإجارة.

وفيه: أنّه إذا لم يصحّ العقد بالنسبة إلى المجموع، لم يصحّ في البعض، لأنّ نسبة العقد إلى كلّ جزءٍ من المجموع كنسبته إلى الأجزاء الاُخر، وحيث لا ترجيح لبعضها على بعض، فلابدّ من البناء على البطلان في الجميع، ويترتّب عليه أنّ تمام الرّبح للمالك، وللعامل اُجرة عمله، سواءٌ علم بالبطلان أم لا:

1 - لقاعدة: (ما يُضمن بصحيحه يُضمن بفاسده).

2 - ولما مرّ من أنّ من أسباب الضمان الأمر بالعمل لا مجّاناً.

فرع: وهل يكون العامل ضامناً للمال إذا تلف مطلقاً؟2.

ص: 379


1- جامع المقاصد: ج 8/73.
2- العروة الوثقى: ج 5/150.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/232.

أم لا يكون ضامناً كذلك ؟

أم يفصّل بين ما لو أخذ الجميع دفعةً فالأوّل، وبين ما إذا أخذ أوّلاً بقدر مقدوره ثمّ أخذ الزائد ولم يمزجه بما أخذه أوّلاً فيضمن خصوص المقدار الزائد؟

وجوهٌ وأقوال، أظهرها الثاني، لقاعدة: (ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده)، وقد مرَّ نظير المسألة في كتاب الإجارة، فراجع ما ذكرناه فيه.

***

ص: 380

والشركة في الرّبح،

اعتبار الشركة في الرّبح

الأمر الثالث: ويدور البحث فيه عن حكم الرّبح الحصل في الشركة.

قال المصنّف رحمه الله: (و) المعروف بينهم أنّه يعتبر في صحّة المضاربة (الشركة في الرّبح)، فلو شرط أحدهما شيئاً معيّناً والباقي بينهما فَسَد.

واستدلّ له في «الشرائع»(1): بعدم الوثوق بحصول الزيادة، فلا تتحقّق الشركة.

وفي «الحدائق»(2): بأنّه مقتضى المضاربة كما تنادي به الأخبار الحاكمة بأنّ الرّبح بينهما، وما لم يكن مشتركاً فإنّه خارجٌ عن مقتضاها، فهذا الشرط داخلٌ في مفهوم المضاربة.

وفي «الجواهر»(3): بالشكّ في شمول الإطلاقات له، ولو لظهورها في اعتبار الشركة الإشاعيّة في جميع الرّبح.

أقول: أمّا ما أفاده المحقّق رحمه الله فيرد عليه:

أوّلاً: أنّه يتصوّر صورة يوثّق فيها بالزيادة.

وثانياً: أنّ عدم الوثوق بالزيادة كعدم الوثوق بأصل الرّبح لا يمنع عن الصحّة.

وأمّا ما أفاده العَلَمان: فإنْ كان نظرهما إلى الاستدلال بالنصوص الخاصّة،

ص: 381


1- شرائع الإسلام: ج 2/385.
2- الحدائق الناضرة: ج 21/230.
3- جواهر الكلام: ج 26/367.

كمصحّح إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام:

«عن مال المضاربة ؟ قال عليه السلام: الرّبح بينهما والوضيعة على المال»(1) ونحوه غيره(2)، الدالّة على أنّه في المضاربة الاشتراك في جميع الرّبح، تمّ الاستدلال.

لكن التعبير في كلام الأوّل بأنّ هذا الشرط داخلٌ في مفهوم المضاربة، وفي كلام الثاني بالشكّ في شمول الإطلاقات له، غير جيّد، وإلّا فالإشكال عليهما ظاهر.

أقول: ويتفرّع على ذلك البطلان في صور:

الصورة الاُولى: أن يجعل لأحدهما شيئاً معيّناً، فإنّه باطلٌ اتّفاقاً.

الصورة الثانية: أن يقول: (خُذها قراضاً والرّبح لي)، ووجه الفساد في هذه الصورة ظاهرٌ ممّا قدّمناه.

وهل يكون في هذه الصورة بضاعة، بمعنى أنّ العامل لا يستحقّ على عمله اُجرة كما هو المقرّر في البضاعة، أم يكون قراضاً باطلاً؟

المشهور بينهم هو الثاني، للتصريح به، ولأنّ البضاعة توكيلٌ في التجارة تبرّعاً، وهذا ليس ظاهراً فيه، فإنّه ظاهرٌ في كون الرّبح للمالك، لا أنّ عمله المحترم المستوفى بالأمر به هدرٌ ومجّاني، وعليه فيستحقّ اُجرة المثل لعمله، لعدم ظهور الكلام في المجّانيّة، بل قد مرّ أنّ الأمر بالعمل لا مجّاناً بنفسه موجبٌ للضمان.

وعليه، فما قاله المصنّف رحمه الله في «المختلف»(3) من أنّ : (الوجه عندي أنّه لا اُجرة للعامل، لأنّه دخل على ذلك، فكان متبرّعاً بالعمل)، غير وجيه.1.

ص: 382


1- التهذيب: ج 7/188 ح 15، وسائل الشيعة: ج 19/21 ح 24068.
2- وسائل الشيعة: ج 19/20 باب: (أنّه يثبت للعامل الحصّة المشترطة من الرّبح).
3- مختلف الشيعة: ج 6/251.

الصورة الثالثة: ما لو قال: (خذها قراضاً والرّبح كلّه لك)، وقد ظهر من ما ذكرناه بطلانه مضاربةً ، لكن هل يصحّ قرضاً؟

فيه كلامٌ قد مرّ في أوّل هذا الفصل.

أقول: ذكر الأصحاب شرطين آخرين في الرّبح:

الشرط الأوّل: تعيين حصّة كلّ منهما من نصفٍ أو ثلثٍ أو نحو ذلك، إنْ لم يكن هناك متعارفٌ ينصرف إليه الإطلاق، والظاهر عدم الخلاف في اعتباره.

ووجهه على تقدير الإبهام ظاهرٌ، فإنّ المبهم لا تحقّق له في الخارج.

وأمّا على تقدير التعيين ولو لاحقاً، بنحوٍ لا يعلمه العامل حين العقد أو ولا المالك، فلا وجه له سوى الإجماع والتسالم، ولا سبيل إلى التمسّك بما دلَّ على النهي عن الغَرَر(1)، لأنّ أصل الرّبح في المقام غير معلوم الحصول وكذا قدره، فالجهل بحصّة منه لا يضرّ.

أقول: وقد وقع الخلاف بينهم في موارد:

منها: ما لو قال: (خذه على النصف)، فحكم جمعٌ بصحّته، وتنظّر فيه في «المسالك»(2).

ولعلّ الأوّل أظهر، لظهور العبارة المذكورة في كون الرّبح بينهما نصفين، ومثله ما لو قال: (خذه على أنّ الرّبح بيننا).

ومنها: ما لو قال: (خذه على أنّ لك النصف)، والظاهر هو الصحّة فيه أيضاً، إذ6.

ص: 383


1- وسائل الشيعة: ج 17/448 ح 22965.
2- مسالك الأفهام: ج 4/366.

المالك لا يفتقر إلى تعيين حصّته للتبعيّة، وإنّما يفتقر إليه العامل، وقد ذكر له النصف.

ومنها: ما لو قال: (خذه على أنّ لي النصف)، فالظاهر هو البطلان، لأنّه لم يعيّن للعامل حصّة.

والفرق بينه وبين المورد السابق ظاهرٌ، فإنّه في المورد السابق عيّن حصّة العامل والباقي لا محالة يكون للمالك للتبعيّة، وأمّا في هذا المورد فقد عيّن حصّة المالك، ولم يعيّن حصّة العامل مع أنّها تفتقر إلى التعيين.

أقول: ويمكن أنْ يقال في الموردين بأنّ ظاهر هذه العبارة - أي تعيين حصّة لأحدهما - كون الباقي للآخر، وعليه فيصحّ في الموردين.

الشرط الثاني: كون الرّبح بين المالك والعامل، فلو شرطا جزءاً منه لأجنبي:

فإنْكان الأجنبي عن المعاملة - بمعنى من لم يفوّض إليه أمر التجارة - عاملاً، صَحّ الشرط، لأنّه حينئذٍ يكون بمنزلة العامل المتعدّد، وإنْ لم يصدق عليه العامل بحسب الاصطلاح، وهو من فوّض إليه أمر التجارة.

وإنْ لم يكن عاملاً فسد بلا خلافٍ .

هذا، ولكن لم يستبعد صاحب «العروة»(1) القول بالصحّة لعموم الأدلّة، وذكره وجهاً آخر في «الشرائع»(2) لذلك بعُد حكمه بالفساد.

وفي «المسالك»(3): (قيل إنّه إذا شرط للأجنبي يصحّ الشرط وإنْ لم يعمل،8.

ص: 384


1- العروة الوثقى: ج 5/149.
2- شرائع الإسلام: ج 2/368.
3- مسالك الأفهام: ج 4/368.

لعموم: «المؤمنون عند شروطهم»(1) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2)، وقيل إنّ المشروط يكون للمالك حيث لم يعمل، رجوعاً إلى أصله، لئلّا يخالف مقتضى العقد)، انتهى.

أقول: ولكن مقتضى النصوص الخاصّة المتقدّم بعضها أنّ من أحكام المضاربة كون الرّبح بينهما، وعليه فشرط كون بعضه لغيرهما شرطٌ مخالف للمشروع فيفسد، وحينئذٍ فلا يبعد القول بصحّة المضاربة، وكون المشروط للمالك وعدم بطلان العقد، إذ لا شيء يتوهّم كونه مدركاً للبطلان، سوى أنّه:

1 - مع بطلان الشرط يكون حصّة كلّ منهما غير معلومة.

2 - ودلالة النصوص الخاصّة عليه.

وهما غير تامّين:

أمّا الأوّل: فلأنّ حصّة العامل معلومة، وما شرط للأجنبي لفساد الشرط يرجع إلى أصله، فيكون للمالك، فلا جهل بها.

وأمّا الثاني: فلأنّها لا تدلّ على أنّه يعتبر في المضاربة جعل الرّبح لهما، بل تدلّ على أنّ من آثار المضاربة كون الرّبح بينهما، وفي المقام بعد بطلان الشرط يكون الرّبح بينهما.

وعليه، فالأظهر بطلان الشرط، وصحّة المضاربة.

قال في «التذكرة»(3) - على ما حَكى -: (إنّه يعتبر أنْ يكون الاسترباح بالتجارة، وأمّا إذا كان بغيرها، كان يدفع إليه ليصرفه في الزراعة ويكون الرّبح3.

ص: 385


1- التهذيب: ج 7/371 ح 66، وسائل الشيعة: ج 21/276 ح 27081.
2- سورة المائدة: الآية 1.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/233.

بينهما، لم يصحّ ).

وعلّله بأنّ هذه الأعمال مضبوطة، يمكن الاستئجار عليها، فاستغنى عن القراض فيها، وإنّما يسوغ القراض فيما لا يجوز الاستئجار عليه، وهو التجارة التي لا يمكن ضبطها، ولا معرفة قدر العمل فيها.

أقول: ولكنّه لا يصلح للمنع، لو كان لدليل المضاربة إطلاقٌ شاملٌ للفرض.

وعليه، فالعمدة في اعتبار ذلك، أنّه لا إطلاق لأدلّة المضاربة شامل للدفع لغير التجارة.

ودعوى(1): أنّ عمومات إمضاء العقود كافية في الحكم بالصحّة.

مندفعة: بأنّها مخصّصة بما دلّ على النهي عن الغَرَر، اللّازم حصوله في الفرض، للجهل بحصول الزّرع ومقداره، كما لا يخفى ، وعليه فالظاهر اعتبار ذلك.

***0.

ص: 386


1- العروة الوثقى: ج 5/150.

وللعامل ما شرط له،

الرّبح بين المالك والعامل

الأمر الرابع: في الأحكام، وفيه مسائل.

المسألة الأُولى: (وللعامل ما شُرط له) في هذه المعاملة، إنْ نصفاً فنصف، وإنْ ثلثاً فثلثٌ ، كما هو المشهور بين الأصحاب(1).

وعن المفيد(2)، والشيخ في «النهاية»(3)، وسلّار(4)، وابن البرّاج(5)؛ أنّ له اُجرة المثل، والرّبح بتمامه للمالك.

أقول: ومرجع هذا الخلاف إلى الخلاف في أنّ عقد المضاربة هل يكون مشروعاً أم لا؟

والقول المشهور مبنيٌّ على الأوّل، والثاني على الثاني.

والأوّل أظهر، للنصوص الخاصّة الدالّة على ذلك:

منها: صحيح محمّدبن قيس، عن مولاناالباقر عليه السلام، عن أميرالمؤمنين عليه السلام أنّه قال:

«من اتّجر مالاً واشترط نصف الرّبح، فليس عليه ضمان.

وقال: من ضمن تاجراً فليس له إلّارأس ماله، وليس له من الرّبح شيء»(4).

ص: 387


1- شرائع الإسلام: ج 2/236.
2- المقنعة: ص 633.
3- النهاية: ص 428. (4و5) نسبه إليه في الفوائد العلية: ج 2/289.
4- الكافي: ج 5/240 ح 3، وسائل الشيعة: ج 19/20 ح 24065.

ولو وقعت فاسدة، فله اُجرة المثل والرّبح لصاحب المال،

ومثله موثّقه(1).

ومنها: موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن مال المضاربة ؟ قال عليه السلام: الرّبح بينهما، والوضيعة على المال»(2).

ونحوه غيره من النصوص الكثيرة(3).

واستدلّ للثاني:

1 - بأنّ النماء تابعٌ للأصل بالأصالة، فيكون الرّبح للمالك.

2 - وبأنّ هذه المعاملة معاملة فاسدة، لجهالة العوض فتبطل، فيكون الرّبح لصاحب المال، وعليه اُجرة المثل للعامل.

وفيه: إنّ جميع ما ذكر وإنْ كانت موافقة للقواعد، ولكنّها مندفعة بالنصوص الخاصّة المعتبرة المعمول بها بين الأصحاب، وعليه فلا إشكال في الحكم أصلاً.

هذا على تقدير صحّة المعاملة.

(و) أمّا (لو وقعت فاسدة، فله اُجرة المثل، والرّبح لصاحب المال):

أمّا كون الرّبح لصاحب المال: فلتبعيّة النماء للأصل.

وأمّا كون اُجرة المثل للعامل: فلقاعدة ما يُضمن، ولما مرّ من أنّ الأمر بالعمل لا مجّاناً موجبٌ للضمان.

***).

ص: 388


1- وسائل الشيعة: ج 19/21.
2- التهذيب: ج 7/188 ح 15، وسائل الشيعة: ج 19/21 ح 24068.
3- وسائل الشيعة: ج 19/20 باب: (يثبت للعامل الحصّة المشترطة من الرّبح، ولا يلزمه ضمان إلّامع التفريط).

وليست لازمة،

المسألة الثانية: المضاربة جائزة من الطرفين (وليست لازمة) إجماعاً، وبه يخرج عن أصالة اللّزوم.

وفي «الحدائق»(1): (ويؤيّده أنّه وكالةٌ في الابتداء، ثمّ قد يصير شركةً بعد العمل، وكلٍّ من الوكالة والشركة من العقود الجائزة).

أقول: وكيف كان، فيجوز لكلّ منهما فسخها، سواءٌ كان قبل الشروع في العمل أو بعده، وسواءٌ قبل حصول الرّبح أو بعده، نض المال أو كان به عروض.

لكن ذكر واحدٌ أنّه إنْ كان الفاسخ هو العامل، ولم يظهر ربحٌ ، فلا شيء له، وإنْ كان هو المالك، ضمن للعامل اُجرة المثل إلى ذلك الوقت.

وقيل: إنّه لا شيء له وإنْ فسخ المالك، لإقدامه عليه مع معرفته جواز العقد وإمكان فسخه قبل ظهور الرّبح، بل وبعده، مع تحقّق الوضيعة المستغرقة له، لكونه وقاية لرأس المال.

وعن «التذكرة»(2): (إنّه يستحقّ اُجرة المثل، وإنْ فسخ العامل).

أقول: وهذا هو الأظهر، لما مرَّ من أنّ العمل لا مجّاناً محترمٌ لا يذهب هدراً، إذا كان بأمر المالك، والإقدام مع العلم بجواز العقد غير الإقدام على التبرّع، والنافي للضمان هو الثاني دون الأوّل، وقد تقدّم الكلام في اشتراط الأجل، وعدم الفسخ مفصّلاً في الأمر الأوّل فلا نعيد.8.

ص: 389


1- الحدائق الناضرة: ج 21/204.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/348.

ويقتصر على المأذون،

شرط المالك على العامل لازم

أقول: بقي في المقام فروع يقتضي التعرّض لها:

الفرع الأوّل: إذا اشترط المالك على العامل شراء الجنس الخاصّ ، أو الشراء من شخصٍ معيّن، أو أنْ لا يُسافر، وما شاكل، يجبُ عليه العمل بالشرط، (ويقتصر على المأذون):

1 - لعموم ما دلّ على وجوب الوفاء بالشَّرط(1).

2 - ولتقييد الإذن في التصرّف في ماله، فمقتضى قاعدة السلطنة عدم التصرّف غير المأذون.

ولكن لو خالف وربح، يكون الرّبح بينهما، وذلك لجملةٍ من النصوص الخاصّة:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام:

«عن الرّجل يعطى المال مضاربةً ، وينهى أن يخرج به فخرج ؟

قال عليه السلام: يضمن المال، والرّبح بينهما»(2).

ومنها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال:

«في الرّجل يعطي الرجل المال فيقول له: ائتِ أرض كذا وكذا ولا تجاوزها، واشتر منها؟

قال عليه السلام: فإنْ جاوزها وهَلَك المال فهو ضامنٌ ، وإنْ اشترى متاعاً فوضع فيه

ص: 390


1- الكافي: ج 5/169 ح 1، وسائل الشيعة: ج 18/16 ح 23040.
2- الكافي: ج 5/240 ح 2، وسائل الشيعة: ج 19/15 ح 24048.

فهو عليه، وإنْ ربح فهو بينهما»(1).

ومنها: خبر أبي بصير، عنه عليه السلام: «في الرّجل يعطي الرّجل المال مضاربةً ، وينهاه أن يخرج إلى أرضٍ اُخرى ؛ فعصاه ؟

فقال: هو له ضامنٌ ، والرّبح بينهما إذا خالف شرط هو عصاه»(2).

ومنها: موثّق جميل، عنه عليه السلام: «في رجلٍ دفع إلى رجلٍ مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربة، فذهب فاشترى به غير الذي أمره به ؟

قال عليه السلام: هو ضامنٌ ، والرّبح بينهما على ما شرط»(3).

قال المحقّق الأردبيلي رحمه الله(4): إنّ هذه الرواية أصَحّ الروايات التي في هذا الباب، مع أنّ في سندها معاوية بن حكيم، فيُستكشف من ذلك أنّ نظره موافقٌ مع ما قاله النجاشي(5) من إنّه ثقةٌ جليل.

إلى غير تلكم من النصوص الكثيرة.

أقول: ومقتضى إطلاق الضمان الوارد في هذه الأخبار، عدم الفرق بين أخذ الشرط قيداً، وبين كونه من قبيل الالتزام في الالتزام.

وعدم انطباقها حينئذٍ على القواعد، لأنّها في صورة القيديّة تقتضي كون تمام الرّبح للمالك، وكذا في صورة الالتزام في الالتزام، لو فَسَخ المالك العقد، وليس عليه اُجرة المثل للعامل حينئذٍ، لعدم كون العمل بأمره، بل المفروض كونه مع نهيه.2.

ص: 391


1- الكافي: ج 5/240 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/15 ح 24049.
2- التهذيب: ج 7/187 ح 13، وسائل الشيعة: ج 19/18 ح 24057.
3- التهذيب: ج 7/193 ح 39، وسائل الشيعة: ج 19/18 ح 24056.
4- مجمع الفائدة: ج 10/237.
5- رجال النجاشي: 412.

ولو أطلق تصرّفَ كيف شاء، مع اعتبار المصلحة، ويضمن لو خالف، وتبطل بالموت

لا يضرّ، بعد كون الروايات معتبرة، والأصحاب عملوا بها، وكم من قاعدة يقيّد إطلاقها بالنَّص الخاصّ .

ولا يصغى إلى ما ارتكبه المحقّق الأردبيلي رحمه الله(1) من الاحتمالات البعيدة، والتمحّلات غير السّديدة، ولا إلى ما ذكره بعض محشّي «العروة»(2) من إمكان تطبيقها على القواعد.

الفرع الثاني: (ولو أطلق) المالك ولم يشترط شيئاً، (تصرّف) العامل (كيف شاء مع اعتبار المصلحة):

أمّا تصرّفه كيف شاء: فهو للإذن المطلق في عقد المضاربة.

وأمّا اعتبار المصلحة: فلكونه من قبيل الشرط الضمني.

الفرع الثالث: (و) لو اشترطعليه (يضمن لوخالف) بلاخلافٍ ، للنصوص المتقدّمة.

الفرع الرابع: لا خلاف (و) لا كلام في أنّه (تبطل) معاملة المضاربة (بالموت)، من غير فرقٍ بين موت المالك أو العامل.

أمّا الأوّل: فقد استدلّ لبطلان العقد بموته، بانتقال المال بموته إلى وارثه، فابقائه يحتاجُ إلى عقدٍ جديد بشرائطه.

وفيه: أنّه إنْ اُريدبذلك أنّه ليس للمالك في حال حياته التصرّف في ماله بعد موته.9.

ص: 392


1- مجمع الفائدة: ج 10/237.
2- أشار إليها في مستمسك العروة: ج 12/279.

فيرد عليه أوّلاً: أنّه يختصّ بما زاد على الثُّلث.

وثانياً: الحقّ أنّ له أن يتصرّف في ماله بعد موته بأزيد من الثُّلث أيضاً بمثل البيع بثمن المثل.

وإنْ اُريد به أنّ مناط جواز تصرّف العامل هو الإذن، وينقطع بالموت.

ففيه: أنّ حدوث الإذن سيّما العقدي منه كافٍ فيه، ولذا لو وكّله ثمّ سهى عن توكيله بالمرّة، بحيث لم يبق في خزانة نفسه، نفذ تصرّفه عليه.

مع أنّ له أن يقول: (أنتَ مأذونٌ في التصرّف في مالي في حياتي وبعد ممّاتي)، غاية الأمر أن يدخل في عنوان الوصيّة بالنسبة إلى ما بعد الموت.

وعليه، فالعمدة في الحكم بالبطلان هو الاعتماد على الإجماع إنْ تمّ ، وما قيل من انصراف العقد إلى حال حياته في الغالب.

وأمّا الثاني: فقد استدلّ لبطلانه بموته باختصاص الإذن به.

ويمكن أنْ يقال: إنّ عقد المضاربة إذا أوجب حقّاً للعامل في التصرّف في المال، فما دلّ على أنّ : «ما تركه الميّت فلوارثه» يدلّ على انتقال هذا الحقّ كحقّ الشُفعة وغيره إلى الوارث.

اللّهمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ ذلك متوقّفٌ على ثبوت كونه من قبيل الحقّ القابل للانتقال، ولم يثبت.

أقول: والذي يُسهّل الخَطب أنّ المسألة إجماعيّة، كما أنّ ظاهر الأصحاب التسالم على بطلان العقود الجائزة مطلقاً بالموت أو الجنون أو الإغماء، أو نحو ذلك ممّا يوجب بطلان الإذن من المالك.

ص: 393

ويشترط العلم بمقدار المال،

الفرع الخامس: هل يجوز لوارث المالك إجازة العقد بعد موته أم لا؟

ربما يقال: بالثاني، نظراً إلى أنّ المال حال العقد غير مربوط بالوارث، فالعقد غير واقعٍ على ماله حتّى يأذن فيه ويجيزه.

وأُورد عليه: بأنّه يكفي في صحّة الإجازة، كون المال في معرض الانتقال إليه، وإنْ لم يكن له عُلقة به حال العقد، ومرجع إجازته حينئذٍ إلى إبقاء ما فعله المورث، وهذا بظاهره بيِّن الضعف.

ويمكن أنْ يقال: إنّ المقام من قبيل إجازة البيع الواقع من غير المالك، ثمّ ملك حال الإجازة، فكما أنّ هناك يقال إنّ للعقد بقاءٌ ، والمالك بإجازته إيّاه ينسبه إلى نفسه، كذلك يقال في المقام إنّ للعقد بقاءً ما دام بقاء المال، فيجيز الوارث المالك ذلك العقد، ومجرّد أنّه في هذه المسألة يكون العقد صحيحاً حدوثاً بخلافه في تلك المسألة، لا يصلحُ فارقاً بعد عدم كون المجاز هو حدوث العقد بل بقائه.

فإنْ قيل: لو تمّ ذلك لزم التقييد بما إذا كان المال نقداً، فإنّه بالإجازة يتحقّق فردٌ آخر من المضاربة، فيعتبر فيه ذلك.

قلنا: إنّ مدرك اعتبار كون مال القراض نقداً هو الإجماع، والمتيقّن منه غير الفرض.

الفرع السادس: (و) قد مرّ أنّه (يشترط العلم بمقدار المال).

***

ص: 394

ويملك العامل حصّته من النماء بالظهور.

يملك العامل حصّته من النماء بالظهور

المسألة الثالثة: (و) المشهور بين الأصحاب شهرةً عظيمة(1)، أنّه (يملك العامل حصّةً من النماء بالظهور) مِلْكاً متزلزلاً، ولا يتوقّف ذلك على وجوده ناضّاً.

ونقل فخر المحقّقين عن والده رحمه الله(2) أنّ في المسألة أقوالاً أربعة، ولكنّه لم يذكر القائل، واحتمل أنْ يكون من العامّة:

1 - ما هو المشهور.

2 - أنّه يملك بالانضاض.

3 - أنّه يملك بالقسمة.

4 - أنّ القسمة كاشفة عن الملك سابقاً.

أقول: والأوّل أظهر، لأنّه:

1 - جعل الرّبح لهما، فالرّبح من أوّل تحقّقه يكون مشتركاً بينهما.

2 - ولأنّه مملوكٌ وليس للمالك، فيكون للعامل.

3 - ولإطلاق النصوص بأنّ العامل يملك ما شَرَط من الرّبح، وهو متحقّقٌ قبل الانضاض وقبل القسمة.

4 - وللخبر الصحيح الذي رواه محمّد بن قيس، عن الإمام الصادق عليه السلام:

ص: 395


1- راجع المبسوط: ج 3/158، قواعد الأحكام: ج 2/342، جامع المقاصد: ج 7/319.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/321.

«عن رجلٍ دفع إلى رجلٍ ألف درهم مضاربةً ، فاشترى أباه وهو لا يعلم ؟

قال عليه السلام: يقوّم، فإنْ زاد درهماً واحداً اُعتق واستسعى في مال الرّجل»(1).

إذ لو لم يكن مالكاً لحصّة من الرّبح بمجرّد ظهوره، لم ينعتق عليه أبوه في الصورة المفروضة في الخبر.

واستدلّ للثاني: بأنّه قبل الانضاض لا يعدّ موجوداً خارجيّاً بل مقدّر موهوم، والمملوك لابدَّ وأنْ يكون محقّق الوجود.

وأُورد عليه تارةً : بما عن «جامع المقاصد»(2)، و «المسالك»(3) وغيرهما، بالنقض بملك الدين مع أنّه معدوم.

واُخرى : بمنع كونه أمراً وهميّاً كما في «العروة»(4).

ولكن الصحيح أنْ يقال: إنّ الرّبح لا يراد به الماليّة المحضة التي هي أمرٌ انتزاعي ناشٍ من الرغبة في العين، وإلّا لم يتمّ شيء من الإيرادين، بل المراد به مقدار من العين الموجودة على حسب الحصّة من الماليّة، وبه يندفع الإشكال رأساً.

وكون المراد من الرّبح ذلك، هو المرتكز في أذهان أهل العرف، كما يظهر لمن راجع، ويشهد به أنّ له مطالبة القسمة.

واستدلّ للثالث:

1 - بأنّه لو ملك قبل القسمة لاختصّ بربحه.5.

ص: 396


1- الكافي: ج 5/241 ح 8، وسائل الشيعة: ج 19/25 ح 24075.
2- جامع المقاصد: ج 8/107.
3- مسالك الأفهام: ج 4/381.
4- العروة الوثقى: ج 5/195.

2 - وبأنّه يلزم أنْ يكون النقصان الحادث بعد ذلك شائعاً في المال، كسائر الأموال المشتركة، والتالي باطلٌ لانحصاره في الرّبح.

ولكن يرد على الوجه الثاني: أنّه لا ملازمة بين المِلْك وضمان الحادث على الشياع، ويجوز أنْ يكون مالكاً بالملك المتزلزل، ويكون استقراره مشروطاً بالسلامة، فلا منافاة بين الملك وكون ما يملك وقايةً لرأس المال.

ويرد على الوجه الأوّل: أنّه لا منافاة بين ملك الحصّة، وعدم ملك ربحها بسبب تزلزل الملك.

وأيضاً: لو اختصّ بربح نصيبه، لزم استحقاقه من الرّبح أكثر ممّا شرط له، فكان هذا مشروطٌ في ضمن العقد.

واستدلّ للرابع: بأنّ القسمة ليست من الأسباب المملّكة، والمقتضى للملك إنّما هو العمل، وهي دالّة على تمام العمل الموجب للملك.

وممّا قدّمناه ظهر ضعف ذلك.

أقول: فالأظهر ما عليه المشهور، ويترتّب عليه جميع آثار الملكيّة، من جواز المطالبة بالقِسمة، وصحّة تصرّفاته فيه من البيع والصلح ونحوهما، وتعلّق الخمس والزكاة، وحصول الاستطاعة للحجّ ، وتعلّق حقّ الغرماء به، وغير تلكم من الآثار.

الرّبح وقاية لرأس المال

وكيف كان، فلا خلاف ولا إشكال في أنّ ملكيّة العامل حصّته بمجرّد الرّبح إنّما تكون متزلزلة، فلو عرض بعد ذلك خسرانٌ أو تلف يُجبر به إلى أن تستقر ملكيّته،

ص: 397

لأنّ معنى الرّبح هو الفاضل عن رأس المال في زمن ذلك العقد، فإذا لم يفضل شيء فلا شيء، وهو محلّ وفاق كما في «المسالك»(1).

وهذا واضحٌ بالنسبة إلى الخسارة الواردة على مال المضاربة.

أقول: وأمّا بالنسبة إلى التلف، فتفصيل القول فيه إنّه:

1 - إمّا أنْ يكون بعد الدوران في التجارة.

2 - أو بعد الشروع فيها.

3 - أو قبله.

ثمّ :

إمّا أنْ يكون بآفةٍ سماويّة.

أو بإتلافِ متلفٍ على وجه الضمان.

وأيضاً: قد يتلف البعض، وقد يتلف جميع المال.

الأوّل: إنْ كان التلف بعد الدّوران في التجارة، لا بإتلافِ متلفٍ ، فالظاهر جبره بالرّبح، كما هو المشهور بين الأصحاب(2) بل لا خلاف فيه، وعن السيّد العميدي(3)دعوى الإجماع عليه، ويقتضيه وضع المضاربة، فإنّه على أنّ الرّبح وقاية لرأس المال، فلا يستحقّ العامل ربحاً إلّابعد أن يبقى رأس المال بكماله لدخوله على ذلك، من غير فرقٍ بين تلف البعض أو الجميع.

وإنْ كان التلف بإتلافِ متلفٍ ، فقد ادُّعي الإجماع(4) على الجبر أيضاً، واستدلّ 1.

ص: 398


1- مسالك الأفهام: ج 4/373.
2- تحرير الأحكام: ج 3/265، مسالك الأفهام: ج 4/389، الحدائق الناضرة: ج 21/264.
3- نسبه إليه في مستمسك العروة: ج 12/347.
4- مسالك الإفهام: ج 4/371.

له بأنّ الرّبح وقايةٌ لرأس المال، فما دام المال لا يكون موجوداً بكماله فلا ربح.

ويمكن أنْ يقال: - كما قيل - إنّه إذا أتلفه متلفٌ يضمنه، ويكون المال في ذمّته، فهو حينئذٍ بمنزلة الموجود، فلا حاجة إلى جبره.

وأيضاً: فإنّه نقصانٌ لا يتعلّق بتصرّف العامل بتجارته.

وقال في محكي «جامع المقاصد»(1) بعد نقل ذلك: (وضعفه ظاهرٌ). وفي «الجواهر»(2): (لا ينبغي أن يُصغى إليه).

وعلى التقديرين: لا كلام في أنّه لو فرض حصول العوض من جملة المال.

الثاني: ما ذكرناه بالنسبة إلى التلف بعد الدوران في التجارة، يجري في التلف بعد الشروع في التجارة، وإنْ كان التالف الجميع، كما إذا اشترى في الذمّة بإذن المالك، ثُمّ تلف المال ونقد عنه الثمن، لأنّ المقتضى لكون المال مالُ قراضٍ هو العقد - كما نصّ عليه في «المسالك»(1) و «الجواهر»(4) تبعاً لجامع المقاصد(5) - فلا يُصغى إلى ما قيل من إنّ التلف قبل الدوران في التجارة، يُخرج التالف عن كونه مال قراضٍ ، فلا وجه لتردّد المحقّق رحمه الله في «الشرائع»(2) فيه.

وكذا إنْ كان التلف قبل الشروع في التجارة، مع كون البعض تالفاً.

الثالث: وأمّا إنْ كان التالف هو الجميع، فالظاهر انفساخ العقد، لعدم بقاء مال التجارة معه حتّى يُجبر.

نعم، إذا أتلفه أجنبيٌّ ، وأدّى عوضه أو أتلفه العامل تكون المضاربة باقية.8.

ص: 399


1- مسالك الإفهام: ج 4/390.
2- شرائع الإسلام: ج 2/388.

أقول: هذا كلّه في بيان حكم حصّة العامل ما لم تستقرّ الملكيّة.

وأمّا ما تستقرّ به الملكيّة، فلا إشكال في حصوله بعد الانضاض والفسخ والقسمة، لانتهاء العقد بجميع توابعه مع تراضيهما بذلك.

إنّما الكلام يدور في المقام في حكم الصور التالية:

1 - لو قسّم الرّبح مع عدم الفسخ.

2 - أو قسّم الجميع كذلك.

3 - أو فَسَخ العقد ولم يُقسّم.

4 - أو تحقّق الفسخ والقِسمة ولم يحصل الانضاض.

والتحقيق أنْ يقال:

إنّ القسمة حيث تكون خارجة عن عمل المضاربة، وتكون كسائر ما يميّز به المشتركات، ولا يجبُ الانضاض، فالظاهر استقرار الملكيّة بالفسخ فقط، وبه يخرج الرّبح عن كونه وقاية لرأس المال، وأولى منه ما لو انضمّ إليه الانضاض أو القسمة.

وبعبارة اُخرى : أنّه بالفسخ يرتفع العقد، وبه يرتفع حكم القراض، فلا موجب لبقائه على كونه وقاية.

أقول: واستدلّ لبقاء ذلك، وعدم الاستقرار مع عدم القسمة:

1 - بالاستصحاب.

2 - وبظاهر قوله: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1).

3 - وبصدق مال القراض، فتشمله الأدلّة الدالّة على أنّ وضيعته من الرّبح.4.

ص: 400


1- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.

4 - وبأنّ تسليم رأس المال إلى المالك من تتمّة المضاربة، وإلّا لزم عدم كون الخسران من الرّبح، فيما لو نضّ المال أجمع في بلدٍ عمل العامل الذي سافر إليه، وفسخ عقد المضاربة، ثمّ تلف بعض المال قبل الوصول إلى المالك، وهو منافٍ لظاهر الأدلّة.

الجواب: الجميع كما ترى :

إذ الاستصحاب لا يجري بعد ارتفاع العقد الموجب، لتبدّل عنوان المال من كونه مال قراضٍ إلى عنوان آخر، مع أنّه تقديري.

وعموم على اليد لا يشمل الأمانات، ومنها المال المفروض بعد خروجه عن كونه قراضاً.

وصدق مال القِراض ممنوعٌ بعد ارتفاع العقد بالفسخ.

والالتزام بكون الخسران من أصل المال لا من الرّبح في الفرض المذكور، لا مانع منه.

وعلى الجملة: بعد كون الفسخ رافع العقد القراض، لا وجه لبقاء أحكامها المخالفة للقواعد والأدلّة الأوّليّة.

أقول: وبما ذكرناه ظهر أنّه لو حصل الانضاض والقسمة، ولم يحصل الفسخ، فاللّازم اجراء أحكام المضاربة من جبر الخسران بالرّبح وغيره من أحكامها.

وعن الشهيد قدس سره(1): أنّ قسمة الرّبح موجبة لاستقراره، وعدم جبره للخسارة الحاصلة بعدها.

وعلّله صاحب «الجواهر»(2): (بأنّ ذلك من المالك فسخ المضاربة، فيما يخصّه0.

ص: 401


1- مسالك الأفهام: ج 4/373.
2- جواهر الكلام: ج 26/400.

من رأس المال، لأنّه برضاه أخرجه عن المضاربة، حتّى الذي قبضه العامل، فيستقرّ حينئذٍ ملكهما علىَ ما خَصّ ذلك من الرّبح لانفساخ المضاربة)، انتهى.

وفيه: إنّ ما يأخذه العامل من الرّبح لا من رأس المال، والعقدُ واقع على رأس المال، فلا حاصل لدعوى أنّه أخرجه المالك عن رأس المال.

فرع: لو ظهر الرّبح ونضّ تمامه أو بعضٌ منه، فطلب أحدهما قسمته:

فإن رضى الآخر، فلا مانع منها.

وإنْ لم يرض وامتنع عنها:

فعن «القواعد»(1)، و «جامع المقاصد»(2): لم يُجبر الآخر عليها.

وعن جماعةٍ (3): أنّه لا يُجبر الآخر إنْ كان هو المالك، وأمّا إنْ كان الممتنع هو العامل فيجبر عليها.

وظاهر «المسالك»(4) و «الجواهر»(5) وغيرهما: أنّ عدم جبر المالك الممتنع عن القسمة اتّفاقي.

وعلّلوا عدم الجبر في الموردين بلزوم الضرر، قالوا:

لو كان الممتنع هو المالك، لزم من جبره الضَّرر عليه، لاحتمال الخسران بعد ذلك، والحاجة إلى جبره به، وفيما كان الممتنع هو العامل، يلزم من جبره تضرّره، لأنّه لو حصل الخسران وجبَ عليه رَدّ ما أخذه، ولعلّه لا يقدر بعد ذلك عليه لفواته في يده وهو ضررٌ عليه.8.

ص: 402


1- قواعد الأحكام: ج 2/344.
2- جامع المقاصد: ج 8/145.
3- العروة الوثقى: ج 5/199.
4- مسالك الأفهام: ج 4/393.
5- جواهر الكلام: ج 26/398.

ويرد على ما أفادوه في الفرض الأوّل: أنّ احتمال الضّرر باحتمال الخسران غير مطّرد.

ويرد عليماأفاده في الفرض الثاني: أنّه لايعدّضرراً، كماأفاده صاحب «الجواهر»(1).

أقول: قد مرّ في الفصل المتقدّم في مبحث القسمة(2)، ما يظهر به حكم المقام، وأنّ ما ذكروه من عدم جبر الممتنع كان هو المالك أو العامل هو الصحيح.

***د.

ص: 403


1- جواهر الكلام: ج 26/398.
2- صفحة 395 من هذا المجلّد.

ولا خسران عليه بدون التفريط،

العامل أمين في تصرّفاته

المسألة الرابعة:

لا خلاف (و) لا إشكال في أنّ العامل أمينٌ ، ف (لا خسران عليه بدون التفريط) بترك الحفظ، أو التعدّي بأن خالف ما أمره به، أو نهاه عنه، كما لو سافر مع نهيه عنه، أو اشترى ما نَهى عن شرائه، أو الخيانة بأن أكل بعض مال المضاربة، أو اشترى شيئاً لنفسه، فأدّى الثمن من ذلك.

أقول:

الحكمان المذكوران إجماعيّان(1)، ويشهد بهما - مضافاً إلى ذلك، وإلى أنّهما من مقتضيات قواعد باب الضمان - النصوص الخاصّة:

منها:

صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في المال الذي يعمل به مضاربة، له من الرّبح، وليس عليه من الوضيعة شيء، إلّاأن يخالف أمر صاحب المال»(2).

ومنها:

موثّق جميل، عنه عليه السلام: «في رجلٍ دفع إلى رجلٍ مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربة، فذهب فاشترى به غير الذي أمره به ؟

ص: 404


1- جواهر الكلام: ج 26/378.
2- الكافي: ج 5/241 ح 7، وسائل الشيعة: ج 19/16 ح 24050.

قال عليه السلام: هو ضامن، والرّبح بينهما على ما شرط»(1).

ونحوهما غيرهما(2) من النصوص الكثيرة المتقدّمة جملة منها.

***).

ص: 405


1- التهذيب: ج 7/193 ح 39، وسائل الشيعة: ج 19/18 ح 24056.
2- وسائل الشيعة: ج 19/15 باب: (أنّ المالك إذا عين للعامل نوعاً من التصرّف أو وجّهه للسفر لم يجز مخالفته).

والقول قوله في عدمه، وفي قدر رأس المال، والتلف، والخسران، وقول المالك في عدم الرّد،

فروع التنازع

المسألة الخامسة: في جملةٍ من فروع التنازع:

1 - فقد يَدّعي شخصٌ على آخر أنّه أعطاه كذا مقداراً مضاربة، وينكر الآخر ذلك.

2 - وقد يتّفقان على إعطاء مقدار من المال مضاربةً ، ولكن يتنازعان في مقدار رأس المال.

3 - وقد يتّفقان في ذلك، ولكن العامل يدّعي التلف أو الخسران والمالك ينكره.

4 - وقد لا يكون النزاع بينهما إلّافي رَدّ رأس المال والعامل يدّعيه.

قال المصنّف رحمه الله: (والقول قوله في عدمه، وفي قدر رأس المال، والتلف، والخسران. وقول المالك في عدم الرّد).

أمّا لو تنازعا في أصل إعطاء المال مضاربةً وعدمه، فكون القول قول منكره واضحٌ ، لأصالة عدمه، وكذا لو تنازعا في مقدار رأس المال، إذ لو كان المال موجوداً تجري أصالة عدم اعطائه أزيد ممّا يقوله، ولو كان تالفاً مع ضمان العامل تجري أصالة براءة ذمّته.

ودعوى:(1) أنّ ذلك يتمّ إذا كان مصبّ الدّعوى زيادة مال القراض ونقصانه،

ص: 406


1- جواهر الكلام: ج 40/458.

وأمّا إذا كان مصبّ الدّعوى العقد، وادّعى المالك أنّه وقع على العشرة مثلاً، والعامل ادّعى أنّه وقع على الخمسة، فالمتّجه هو التحالف، لأنّ العقد المتشخّص بالخمسة غيرالمتشخّص بالعشرة، فكلّ منهما مدّعٍ ومُدّعى عليه فيتحالفان.

مندفعة: بأنّ الغرض من هذه الدّعوى، حيث لا يكون إلّاإثبات الزيادة أو عدمها، فالمالك الذي يدّعي الزيادة يعدّ في العرف مدّعياً، لأنّه لا غرض له إلّاإثبات كون مال القراض هو الأزيد، والعامل منكراً لأنّه لا غرض له سوى نفي الزيادة.

مع أنّه يمكن أنْ يقال: إنّ وقوع العقد على الأقلّ معلومٌ ولو في ضمن الأكثر، ووقوعه على الأكثر غير معلومٍ ، والأصل عدم وقوعه عليه، فيكون مدّعيه مدّعياً، والعاملُ منكراً، فيقدّم قوله بيمينه.

وأمّا لو ادّعى العامل التلف أو الخسران، وأنكره المالك، فوجه تقديم قوله بيمينه أنّه أمينٌ ، وعدم تصديقه في دعوى التلف يندرج تحت عنوان اتّهام المؤتمن، وقدورد أنّه: «ليس لك أن تتّهم من ائتمنته»(1).

ودعوى:(2) اختصاص الاتّهام الممنوع بالمؤتمن بالتأمين العقدي وهي الوديعة.

ممنوعة: لعدم الدليل مع صدق الايتمان، سيّما بعد قوله عليه السلام: «صاحب الوديعة والبضاعة مؤتمنان، وصاحب العارية مؤتمن»(3).

وأمّا لو ادّعى العامل رَدّ مال المضاربة، وأنكره المالك ؟ فالمشهور بين الأصحاب(4) أنّ القول قول المالك.0.

ص: 407


1- الكافي: ج 5/298 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/81 ح 24205.
2- كتاب الإجارة للاصفهاني: ص 306.
3- الكافي: ج 5/238 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/79 ح 24196.
4- راجع الحدائق الناضرة: ج 21/240.

وعن الشيخ في «المبسوط»(1): أنّه يقبل قول العامل.

أقول: قد مرّ الكلام في ذلك مفصّلاً في كتاب الإجارة، وممّا ذكرناه في التنازع في التلف يظهر حكم المقام.

وعليه، فالأظهر أنّ القول قول العامل.

ثمّ إنّ في المقام فروعاً اُخر للتنازع، حيث تقدّم نظائرها أو عينها في الإجارة، فلا نطيل الكلام بذكرها.9.

ص: 408


1- المبسوط: ج 3/209.

ولو اشترى العامل أباه عُتق نصيبه من الرّبح فيه، وسَعى الأب في الباقي،

المسألة السادسة: (ولو اشترى العامل أباه، عتق نصيبه من الرّبح فيه، وسعى الأب في الباقي) بلا خلافٍ ، ويشهد به الصحيح المتقدّم(1).

***م.

ص: 409


1- وهو صحيح محمّد بن قيس المتقدّم.

وينفق العامل من الأصل في السَّفر قدر كفايته.

نفقة العامل المسافر على رَبّ المال

المسألة السابعة: (وينفق العامل من الأصل في) حال (السفر) كمال نفقته من مأكلٍ ومشربٍ وملبس ومسكن، ونحو تلكم ممّا هو داخلٌ في النفقة (قدر كفايته)، كما هوالمشهور بين الأصحاب(1).

وعن «التذكرة»(2): نسبته إلى علمائنا.

وعن «الخلاف»(3): الإجماع عليه.

أقول: وفي المسألة قولان آخران، وإنْ لم يحضرني الآن القائل:

أحدهما: أنّه لا يخرج من أصل المال إلّاما زاد على نفقة الحضر.

الثاني: أنّ نفقة السفر كلّها على العامل كنفقة الحضر.

والأوّل أظهر، لصحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام:

«في المضارب ما أنفق في سفره، فهو من جميع المال، وإذا قَدِم بلده فما أنفق فمن نصيبه»(4).

ونحوه خبر السكوني(5).

واستدلّ للثاني:

ص: 410


1- راجع الوسيلة: ص 264، المختصر النافع: ص 145، كشف الرموز: ج 2/13.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/241.
3- الخلاف: ج 3/462. (4و5) الكافي: ج 5/241 ح 5، وسائل الشيعة: ج 19/24 ح 24073.

1 - بالإجماع(1) على أنّ نفقة الحَضَر على نفسه، فما ساواه في السفر يحتسب أيضاً عليه، والزائد على ذلك من مال القراض.

2 - وبأنّه إنّما حصل بالسفرالزيادة لا غير، أمّا غيرها فسواءٌ كان مسافراً أم حاضراً لابدَّ منه، فلا يكون من مال القراض.

واستدلّ للثالث: بأنّ الرّبح مال المالك، والأصل أنْ لا يتصرّف فيه إلّابما دلّ عليه الإذن، ولم يدلّ إلّاعلى الحصّة التي عينها للعامل، وهو لم يدخل في العمل إلّا على هذا الوجه، فلا يستحقّ سواه.

أقول: ولكن جميع ذلك من قبيل الاجتهاد في مقابل النّص، مع ما فيها من الإشكال، فالقول المشهور هو المنصور.

وتمام الكلام في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: المراد من السفر هو العرفي منه دون الشرعي الذي يجبُ فيه القصر، فيشمل السفر فرسخين أو ثلاثة، وما لو أقام في بلد عشرة أيّام، لأنّ ما دلّ عليتحديد السفر الموجب للقصر، لايدلّ على أنّ غيره ليس من السفر حتّى بالنسبة إلى سائر الأحكام، ومقتضى إطلاق الخبرين ثبوت الحكم في كلّ ما يعدّ سفراً.

الفرع الثاني: الظاهر من الخبرين - سيّما بضميمة مناسبة الحكم والموضوع - أنّ الواجب الاقتصار من السفر على ما يحتاج إليه في التجارة، أو ممّا يتعلّق بها، كما لو أقام زيادة عمّا يحتاج إليه فيها، لخوف طريقٍ مثلاً أو حبس ظالمٍ ، أو نحو ذلك ممّا يتعلّق بالتجارة، فلو أقام للرّاحة أو للتفرّج أو لتحصيل مال له أو لغير مال0.

ص: 411


1- الحدائق الناضرة: ج 21/210.

القراض، فإنّه لا يستحقّ عن تلك المدّة شيئاً من مال القراض للنفقة، كما صرّح بذلك كلّه المصنّف رحمه الله.

وما في «المسالك»(1) من التخصيص بما يحتاج إليه في التجارة، في غير محلّه.

الفرع الثالث: أنّ المراد بالنفقة، هو ما يحتاج إليه من مأكول وملبوس ومشروب وما شاكل - وسيجي ضابطها في كتاب النكاح في مبحث النفقات(2) - وليس منها جوائزه وعطاياه وضيافاته ومصانعاته، إلّاإذا كانت التجارة متوقّفة عليها، ويراعى فيها كغيرها من النفقات ما يليق بحاله.

وعليه، فلو أسرَف حُسب عليه، ولو قتَّر هل يُحتسب له أم لا؟

وجهان مبنيّان على أنّ المأخوذ في لسان الدليل النفقة أو مقدارها، فعلى الأوّل لا يُحسب، وعلى الثاني يُحسب له، وحيث أنّ ظاهر الخبرين هو الأوّل، فلا يُحسب له.

الفرع الرابع: لو اشترط كون النفقة على العامل، لا تخرج من المال قضاءً للشرط، ولواشترط كونها على المالك كان تأكيداً.

فعلى الأوّل لابدَّ من ضبطها على وجه يخرجُ الشَّرط عن الجهالة، ولا كذلك على الثاني، لأنّها ثابتة بأصل الشرع، فلا يزيد الاشتراط على الثابت بالأصل.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ غاية ما يلزم من جهالته بطلان الشرط، وهو لا يبطل العقد، والمفروض أنّه مع بطلان الشرط أيضاً تكون النفقة على المالك، فلا مانع من الجهالة فيه.

الفرع الخامس: الظاهر من النّص والفتوى أنّ النفقة من مال القراض، وإنْ لم2.

ص: 412


1- مسالك الأفهام: ج 4/348.
2- فقه الصادق: ج 33/392.

يحصل ربح، إنّما الكلام في أنّه لو حصل ربحٌ ، هل تؤخذ منه مقدّمة على حقّ العامل، أم تخرج من أصل المال ؟

قال في محكي «التذكرة»(1): (والقدر المأخوذ في النفقة يُحسب من الرّبح، وإنْ لم يكن هناك ربحٌ ، فهو خسرانٌ لحقّ لمال).

ونحوه ما في «المسالك»(2).

أقول: وهو الظاهر، فإنّ غاية ما يدلّ عليه الخبر أنّ كون نفقة السفر من المال، وإذا انضمّ إلى ذلك ما دلّ على أنّ حصّة المال إنّما هي من الرّبح، وهو إنّما يصدق على ما يبقى بعد جبر جميع ما حدث على المال من أوّل تسلّمه إلى انتهاء المضاربة، كانت النتيجة هو تقديمها على حصّة العامل.

الفرع السادس: استحقاق النفقة مختصٌّ بالسفر المأذون فيه، فلو سافر إلى غيره فلا نفقة، بل دلّت النصوص على أنّه يضمن المال، وتكون الخسارة الواردة عليه على المال، ومنها ما أنفقه على نفسه:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرّجل يعطى المال، فيقول:

له ائتِ أرض كذا وكذا ولا تجاوزها واشتر منها؟

قال عليه السلام: فإنْ جاوزها وهلك المال، فهو ضامن، وإنْ اشترى متاعاً فوضع فيه فهو عليه، وإنْ ربح فهو بينهما»(3).

ونحوه غيره(4).).

ص: 413


1- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/242.
2- مسالك الأفهام: ج 4/349.
3- الكافي: ج 5/240 ح 1، وسائل الشيعة: ج 19/15 ح 24049.
4- وسائل الشيعة: ج 19/15 باب (أنّ المالك إذا عيّن للعامل نوعاً من التصرّف أو جهة للسفر لم يجز مخالفته).

الفرع السابع: المشهور بين الأصحاب(1) أنّه لايجوز للعامل أن يسافر من دون إذن المالك، إلّاإذا كان هناك متعارفٌ .

وعن «جامع المقاصد»(2) نسبته إلى علمائنا، وعلّلوه بأنّ فيه تغريراً بالمال، وهو كما ترى .

الفرع الثامن: لو كان لنفسه مالٌ غير مال القراض، وكان السفر لهما، فالظاهر - كما صرّح به في «الشرائع»(2) وغيرها - هو التوزيع.

وهل هو على نسبة المالين أو العَمَلين ؟

وجهان، أجودهما الأوّل، لأنّ استحقاق النفقة في مال المضاربة منوطٌ بالمال لا العمل، كما في «المسالك»(3) تبعاً لجامع المقاصد(5).

الفرع التاسع: لو سافر بمال المضاربة، فاتّفق عزله في السفر، وانتزاع المال منه، كانت نفقة الرجوع عليه، لأنّه إنّما يستحقّ النفقة مادام كونه مضارباً، فبارتفاع العقد يرتفع سبب الاستحقاق.

ودعوى: (4) أنّه يرجع بما أنفقه على المالك لقاعدة الغرور.

مندفعة: بأنّه لا غرور بعد دخوله على العقد الجائز الذي هو معرض ذلك.

الفرع العاشر: إذا مرض في السَّفر، فإنْ كان لا عمل له في المال معه، تكون نفقته أيّام مرضه عليه، وإنْ كان لا يمنعه من العمل بالمال، فهي على المالك.3.

ص: 414


1- الخلاف: ج 3/264. (2و5) جامع المقاصد: ج 8/109 و 112.
2- شرائع الإسلام: ج 2/382.
3- مسالك الأفهام: ج 4/349.
4- أشار إليها في الحدائق الناضرة: ج 21/213.

ولا يطأ جارية القِراض من دون إذن،

حكم ثمن الدواء المستعمل

وجهان، يأتي ما هو الحقّ عندنا في مبحث النفقات(1).

قال المصنّف رحمه الله: (ولا يطأ جارية القِراض من دون إذن) وهو واضحٌ .

***

ص: 415


1- فقه الصادق: ج 33/384.

والإطلاق يقتضي الشراء بعين المال،

حكم الشراء في الذمّة

المسألة الثامنة:

قالوا: (والإطلاق يقتضي الشراء بعين المال) لا في الذمّة.

واستدلّوا له تارةً :

بأنّه المفهوم أو المتيقّن منه.

واُخرى :

بأنّه إذا اشترى بكلّي في الذمّة لا يصدق على الرّبح أنّه ربح مال المضاربة.

وثالثة:

بأنّ في الشراء في الذمّة تغريراً بمال المالك، وجعله في معرض التلف.

ورابعة:

بأنّ الشراء في الذمّة قد يؤدّي إلى وجوب دفع غيره، كما إذا تلف رأس المال قبل الوفاء، ولعلّ المالك غير راضٍ بذلك.

أقول: وهذه كلّها كما ترى :

والحقّ أنْ يقال:

إنّه بعد ما تعارف في المعاملات الشراء بالذّمة على وجه الحلول، لا ينبغي الإشكال في جوازه كذلك، والدفع من رأس المال.

ص: 416

وأمّا الشراء بها على وجه التأجيل:

فإنْ كان فيه الغِبطة والفائدة جاز، لأنّ الغرض الأقصى من القرض تحصيل الفائدة والرّبح، ولذا يجبُ أنْ يكون تصرّف العامل مقصوراً على ما يحصل به هذه الغاية الذاتيّة.

نعم، إذا لم يكن فيه الغِبطة والفائدة، لم يَجُز لما ذكرناه، ويمكن إرادة الأصحاب المنع عن هذا بالخصوص.

أقول: إنّ الشراء في الذمّة يتصوّر على وجوه:

1 - أن يشتري في ذمّة المالك.

2 - أن يشتري في ذمّة نفسه، لكن بما أنّه عاملٌ ، ومرجعه إلى الأوّل.

والحكمُ في الصورتين ظاهر.

3 - أن يقصد ذمّة نفسه، وكان قصده الشراء لنفسه، ولم يكن من نيّته الوفاء من مال القراض، ثمّ دَفَع منه، فإنّه لا إشكال في صحّة الشراء، وكون الرّبح لنفسه، والأداء من مال القراض إنْ كان بنيّة الاستقراض وكان مأذوناً في ذلك، فلا إشكال أيضاً، وإلّا فهو غاصب بالنسبة إليه.

4 - أن يقصد ذمّة نفسه مع قصده دفع الثمن من مال المضاربة.

فالظاهر أنّه على فرض صحّة الشراء، حكم هذه الصورة حكم ماقبلها، وأمّا الصحّة فقد مرَّ الكلام فيها تحت عنوان عام، - وهو ما لو اشترى في ذمّته مع قصد الأداء من المال الحرام - في كتاب البيع.

5 - أن يقصد الشراء في ذمّته من غير التفات إلى نفسه والمالك.

ص: 417

والظاهر - كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) وغيره - أنّه يتعلّق الثمن بذمّته ظاهراً وواقعاً، ويكون الرّبح له كما لو نوى نفسه.

فما عن «الرياض»(2) من الوقوع للمالك في هذه الصورة، ضعيفٌ .

***6.

ص: 418


1- جواهر الكلام: ج 26/384.
2- رياض االمسائل: ج 9/6.

وبثمن المثل،

المسألة التاسعة: (و) إطلاق العقد يقتضي الشراء (بثمن المثل) كما هو المشهور(1)، فلا يجوز له أن يبيع بأقلّ من ثمن المثل، كما لا يجوز له أن يشتري بأزيد من ثمن المثل.

ويظهر وجهه ممّا ذكرناه في المسألة السابقة.

أقول: وبه يظهر أنّ ما أفاده سيّد «الرياض»(2): (من جعل المدار على حصول المصلحة مع الإطلاق، وإنْ كان فرضها في نحو البيع بدون ثمن المثل نادراً)، متينٌ .

وقريبٌ منه في «الحدائق»(3).

وقيّده صاحب «الجواهر» رحمه الله(4) بما إذا كان متعارفاً، أمّا إذا كان نادراً، فلا يدخل في الإطلاق، لانصرافه إلى المتعارف.

وفيه: ما ذكرناه مراراً من أنّ الانصراف الناشيء عن التعارف وكثرة الوجود لا عبرة به.

***0.

ص: 419


1- راجع جامع المقاصد: ج 8/89.
2- رياض المسائل: ج 9/63.
3- كما هو الظاهر من الحدائق الناضرة: ج 21/213.
4- جواهر الكلام: ج 26/350.

ولو فسخ المالك المضاربة،

للعامل اُجرة المثل إذا فَسَخ المالك المضاربة

المسألة العاشرة:

(ولو فَسَخ المالكُ المضاربة):

1 - فإمّا أنْ يكون قبل الشروع في التجارة.

2 - أو في مقدّماتها.

3 - أو بعده قبل ظهور الرّبح.

4 - أو بعده في الأثناء.

5 - أو بعد إتمام التجارة قبل القسمة.

6 - أو بعدها.

وعليه، فالكلام في فروع:

الفرع الأوّل:

إنْ كان الفسخ قبل الشروع في العمل وفي مقدّماته، فلا إشكال ولا كلام في أنّه لا شيء له ولا عليه.

الفرع الثاني:

إنْ كان ذلك من إتمام العمل وبعد القسمة، فإذا كان حصل الرّبح يقتسمانه، وإلّا فلا شيء للعامل ولا عليه، حصلت خسارة أو لم يحصل الرّبح ولا الخسارة.

ص: 420

فما يظهر من إطلاق بعضهم ثبوت اُجرة المثل مع عدم الرّبح، غير تامّ ، لأنّ وضع المضاربة على عدم استحقاق العامل لشيء سوى الرّبح، فكان ذلك شرطٌ ضمني في عقدها، وبه يخرج عمّا دلّ على احترام عمل المسلم، وأنّه لا يذهب هدراً إنْ كان عن أمر.

***

ص: 421

فللعامل اُجرته إلى ذلك الوقت.

الفرع الثالث: إذا كان الفسخ في الأثناء قبل حصول الرّبح، (ف) قد صرّح المصنّف هنا بأنّ (للعامل اُجرته إلى ذلك الوقت)، ومقتضى إطلاقه - كإطلاق ما في «الشرائع»(1) - ثبوت اُجرة المثل لما عمل.

واستدلّ له: بأنّ عمله عمل محترمٌ صدر بإذن المالك، لا على وجه التبرّع، بل في مقابلة الحصّة، وقد فاتت بفسخ المالك قبل ظهور الرّبح، فيستحقّ اُجرة المثل إلى حين الفسخ.

وفيه: إنّ الأمر بالعمل إنّما هو على الحصّة من الرّبح على تقدير وجوده، ولو لم يوجد فلا شيء له، وحيث أنّ للمالك الفسخ متى شاء، فكان إقدامهما على أنْ لا يكون له شيء إلّامع بقاء العقد وحصول الرّبح وبدون ذلك لا شيء له، ومع الإقدام على ذلك لا وجه للضمان.

الفرع الرابع: إذا كان الفسخ بعد حصول الرّبح في الأثناء أخذ العامل حصّته منه وإنْ قَلّ ، كان ذلك بعد الانضاض أو قبله، اتّفاقاً في الأوّل كما في «المسالك»(2)، ووجهه ظاهر ممّا قدّمناه.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر حكم ما لو فسخ العامل، وأنّه إنّما يستحقّ من الرّبح حصّته إنْ ظهر، ولا يستحقّ اُجرة المثل في شيء من الموارد، كما يظهر حكم ما لو3.

ص: 422


1- شرائع الإسلام: ج 2/387.
2- مسالك الأفهام: ج 4/383.

حصل الانفساخ بموتٍ أو جنونٍ وما شاكل.

بحث: وقع الكلام في صورة الفسخ أو الانفساخ في أحكام، وهي:

1 - وجوب الإنضاض إذا كان بالمال عروضٌ .

2 - ووجوب الجباية عليه إذا كان به ديون على النّاس.

3 - ووجوب الرّد على المالك.

أمّا الأوّل: فغاية ما قيل في وجه وجوبه على العامل إذا طلبه المالك، أنّ قوله صلى الله عليه و آله: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1) يدلّ عليه، لأنّه أخذه نقداً فيجب ردّه إليه كذلك.

وأيضاً: أنّ التغيّر حدث في المال بفعله، فيجب ردّه إلى ما كان.

وفيه أوّلاً: إنّ الحديث متضمّنٌ للضمان الخارج منه المقام، فكان الأولى الاستدلال له بما دلّ على وجوب رَدّ الأمانة.

وثانياً: أنّ مال المالك حيث كان التغيّر حادثاً بإذنه حال الفسخ، هو العروض، وهو الذي يجبُ أدائه لا النقد الذي أخذه.

وأمّا ما في «المسالك»(2) - تبعاً لجامع المقاصد(3) - من الاستدلال له فيما إذا كان الفسخ بعد ظهور الرّبح، بأنّ استحقاقه الرّبح وإنْ كان ثابتاً بظهوره، إلّاأنّ استقراره مشروطٌ بالانضاض، فيحتمل عروض ما يقتضي سقوطه.3.

ص: 423


1- المستدرك: ج 14/8 ح 15944.
2- مسالك الأفهام: ج 4/371.
3- جامع المقاصد: ج 8/143.

فدفعه: ما تقدّم من عدم توقّف استقراره عليه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ توقّف الاستقرار على الانضاض فرع وجوبه، فإثبات الوجوب بالاستقرار دورٌ واضح.

وعليه، فالأظهر عدم وجوب الانضاض مطلقاً، ولا فرق في ذلك بين كون الطالب له هو المالك أو العامل.

وأمّا الثاني: ففي «المسالك»(1): (وقد أطلق المصنّف وجماعة وجوب جبايته على العامل، لاقتضاء المضاربة رَدّ رأس المال على صفته، والديون لا تجري مجرى المال، ولأنّ الدين ملكٌ ناقص، والذي أخذه كان مِلْكاً تامّاً، فليؤدّه كما أخذه، لظاهر: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»، انتهى.

أقول: ولكن الحديث قد عرفت اشكاله، والإدانة حيث تكون بإذن المالك توجبُ عدم كون رَدّ رأس المال على صفته واجباً، ومع الشكّ تكفي أصالة البراءة عن الوجوب، وعليه فالأظهر عدم وجوبه أيضاً.

وأمّا الثالث: فالكلام فيه سيأتي في الوديعة، فإنّ المال بعد الفسخ أمانة في يد العامل كما مرّ، فيلحقه حكم الأمانة، والتمسّك لوجوبه بحديث على اليد قد عرفت ما فيه.5.

ص: 424


1- مسالك الأفهام: ج 4/385.

***

والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه على سيّدنا محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

***

ص: 425

ص: 426

فهرس الموضوعات

كتاب الإجارة والوديعة وتوابعهما... 7

العقد وشرائطه... 17

جريان المعاطاة في الإجارة... 18

إنشاء الإجارة بصيغة البيع... 21

شرائط المتعاقدين... 23

حكم إجارة المحجور... 26

شروط العوضين... 29

اعتبار القدرة على التسليم في الإجارة... 32

اعتبار مملوكيّة العوضين... 37

اعتبار بقاء العين باستيفاء المنفعة... 39

اعتبار إباحة المنفعة... 40

اعتبار إمكان استيفاء المنفعة... 44

اعتبار تمكّن المستأجر من الانتفاع بالعين... 45

اعتبار تعيين العين المستأجرة... 47

طريق معلوميّة المنفعة... 49

استئجار الدابّة للحمل عليها... 52

حكم ما لو قال: آجرتك كلّ شهرٍ بدرهم... 55

تصحيح الإجارة المزبورة بعنوانٍ آخر... 60

ص: 427

لو قال: آجرتُكَ شهراً بدرهمٍ ، فإنْ زِدتَ فبحسابه... 63

الإجارة للخياطة المردّدة بين صنفين... 64

الإجارة على عملٍ معيّن في وقتٍ معيّن... 68

شرط عدم الاُجرة تماماً أو رأساً... 71

الإجارة صحيحة ولازمة... 76

إقالة الإجارة... 77

لا تنفسخ الإجارة ببيع العين المستأجرة... 81

بيع العين المستأجرة من المستأجر... 85

حكم تقارن البيع والإجارة... 88

عدم بطلان الإجارة بالموت... 91

المستأجر أمين لا يضمن إلّامع التعدّي... 100

شرط الضمان في العين المستأجرة... 103

لزوم التعجيل في التسليم... 107

فروع التعجيل في التسليم... 109

الاستئجار من المستأجر... 112

اشتراط استيفاء المستأجر المنفعة بنفسه... 115

إيجار العين المستأجرة بأكثر من العوض... 120

إجارة بعض العين المستأجر بالأكثر... 125

حكم ما لو تقبل عملاً وقبله غيره بالنقيصة... 127

حكم الأجير الخاصّ ... 131

حكم الأجير العام... 138

ص: 428

حكم منع المؤجّر من العين... 143

حكم التلف قبل القبض... 146

حكم منع الظالم من العين... 149

حكم انهدام المَسكن... 150

استئجار المرأة للإرضاع... 152

مطالبة الزوج بالاستمتاع في الزمان المعيّن للإجارة... 156

استئجار المرأة لكنس المسجد... 159

الاختلاف في الإجارة... 162

اختلاف المؤجّر والمستأجر في مقدار الاُجرة... 166

الموضع الذي تبطل فيه الإجارة ويثبت فيه اُجرة المثل... 172

إجارة المشاع... 179

الصنّاع ضامنون لما جَنَته أيديهم... 181

عدم ضمان المتاع التالف تحت يد الأجير... 185

عدم ضمان صاحب الحَمّام... 188

استئجار الدراهم والدنانير... 190

عدم لزوم اتّصال المدّة بالعقد... 191

كراهة استعمال الأجير قبل مقاطعته على الاُجرة... 193

وجوب سَقي الدابّة المستأجرة وعلفها... 195

حكم نفقة الأجير... 199

إجارة الصغير زائداً على زمان صغره... 202

ملك ما يحوزه الأجير للمستأجر... 204

ص: 429

المزارعة و أحكامها... 209

شروط المزارعة... 216

اعتبار كون النماء مشاعاً بينهما... 217

اعتبار تعيين المدّة في المزارعة... 223

يعتبر كون الأرض ممّا ينتفع بها... 230

حكم عقد المزارعة بين أزيد من اثنين... 234

حكم إطلاق المزارعة... 241

حكم خراج الأرض ومؤونتها... 245

حكم الخُرص... 249

قرار الخُرص مشروط بالسلامة... 252

ثبوت اُجرة المثل مع بطلان المزارعة... 255

إجارة الأرض للزّراعة بالحنطة والشعير... 258

الفصل الثالث / في المساقاة... 263

أحكام المساقاة... 270

كراهة اشتراط الذهب والفضّة... 273

اشتراط مساقاةٍ في ضمن مساقاةٍ اُخرى ... 277

حكم المغارسة... 280

الجُعالة على العمل المحرّم... 288

حكم الجهل بالعمل، أو العوض... 290

الجُعالة عقدٌ جائزٌ من الطرفين... 294

العامل يستحقّ الجعل بالتسليم... 299

ص: 430

لو جَعل على عملٍ معيّن جعلاً فشاركه غيره... 302

حكم ما لو اختلفا في الجعل... 304

الفصل الرابع / السَّبق والرِّماية... 309

الرياضة البدنيّة... 311

المباراة بغير رهان... 312

المباراة مع العوض... 313

الألفاظ المستعملة في باب السبق و الرماية... 318

عقد المسابقة والمراماة... 320

بيان ما يُسابق به... 323

العوض وما يعتبر فيه... 325

شرائط المسابقة... 327

شرائط المراماة... 329

حكم الاُجرة مع فساد العقد... 331

الفصل الخامس/ في الشركة... 336

مورد الشركة... 339

شرائط الشركة العقديّة... 344

القِسمة... 350

اعتبار القرعة... 354

عدم صحّة الشركة المؤجّلة... 359

قسمة الوقف... 361

الفصل السادس / في المضاربة... 364

ص: 431

عقد المضاربة... 366

اشتراط عدم الفسخ... 368

مال القِراض وشرائطه... 374

عدم اعتبار كون رأس المال بيد العامل... 378

اعتبار الشركة في الرّبح... 381

البحث عن الجُعالة... 283

الرّبح بين المالك والعامل... 387

شرط المالك على العامل لازم... 390

يملك العامل حصّته من النماء بالظهور... 395

الرّبح وقاية لرأس المال... 397

العامل أمين في تصرّفاته... 404

فروع التنازع... 406

نفقة العامل المسافر على رَبّ المال... 410

حكم ثمن الدواء المستعمل... 415

حكم الشراء في الذمّة... 416

للعامل اُجرة المثل إذا فَسَخ المالك المضاربة... 420

فهرس الموضوعات... 427

***

ص: 432

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.