فقه الصادق المجلد 27

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه على ما أولانا من التفقّه في الدِّين، والهداية إلى الحقّ ، والصراط المستقيم، والصّلاة والسّلام على أشرف النفوس القدسيّة، وأزكى الذّوات المطهرة الملكيّة، محمّد المصطفى وعترته المرضيّة، هُداة الخلق وأعلام الحقّ .

وبعدُ: فهذا هو الجزء السابع والعشرون من كتابنا (فقه الصادق)، وقد وفّقنا إلى طبعه، وأرجو من اللّه تعالى التوفيق لنشر بقيّة المجلّدات، إنّه وليّ التوفيق.

ص: 5

ص: 6

واللّحوم تختلفُ باختلاف الحيوان.

[تتمة فصل التاسع]

اللّحوم تختلف باختلاف الحيوان

يظهر ممّا بيّناه تبعاً للقوم من أنّ كلّ شيء وما تفرّغ منه جنسٌ واحد، (و) أنّ كلّ ما اشترك في الدخول تحت حقيقة من الحقائق فهو جنسٌ واحد.

وأمّا (اللّحوم) فهي (تختلفُ باختلاف الحيوان) كما هو المشهور، بل عن «التذكرة»(1) دعوى الإجماع عليه، لكن الإشتراك في اسم اللّحم لا يقتضي الاتّحاد كالاشتراك في اسم الحيوان.

نعم، لحم الضأن والمَعز جنسٌ واحد، لدخولهما تحت عنوان (الغنم)، وعليه الإجماع في «الغنية»(2) و «التذكرة»(3).

وأمّا لحم البقر والجاموس فجنسٌ واحد إجماعاً في المحكيّ عن «الغنية»(4)و «التذكرة»(5)، لدخولهما تحت عنوان (البقر)، واختصاص كلّ منهما باسمٍ لا تضرّ كما مرّ.

ولحم الإبل جنسٌ واحدٌ، من غير فرقٍ بين عرابها وبخاتيها إجماعاً في محكي الكتابين(1)، والعرف واللّغة مساعدان لجميع ما ذُكر.

وما أفاده سيّد «الرياض» (2) : من المناقشة في الثاني بقوله: (لتغيّر جنسهما عرفاً،

ص: 7


1- الغنية: ص 225، تذكرة الفقهاء: ج 10/151.
2- رياض المسائل: ج 8/423 (ط. ج).

وإنْ تجانسا لغةً كما حكي).

يردّه: أنّ الاختلاف في العرف اختلافُ أصنافٍ لا اختلاف حقيقة.

وأمّا الطيور: فالظاهر أنّها أجناس مختلفة لغةً وعرفاً؛ لإختصاص كلّ منها باسمٍ معيّن، وفي «الجواهر»(1): (بلا خلاف أجده في شيء من ذلك).

نعم، في خصوص الحمام خلافٌ :

فعن المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(2) وغيرها، والشهيد في «الدروس»(3)، والمحقّق الثاني(4): أنّها جنسٌ واحدٌ؛ للاشتراك في الاسم، ولأنّه أقرب إلى الاحتياط.

وفي «الشرائع»(5)، وعن «التحرير»(6): أنّ كلّ ما يختصّ باسمٍ منه، فهو جنسٌ على انفراده كالفخاتي والورشان.

ومنشأ الخلاف: أنّ صدق الحَمام على ما تحته من قبيل صدق النوع على أصنافه، أو من قبيل صدق الجنس على الأنواع، فعلى الأوّل هو جنسٌ واحد، وعلى الثاني أجناس، والظاهر بحسب المتفاهم العرفي هو الثاني، سيّما والمعروف عند معظم الفقهاء أنّ الحمام كلّ طائرٍ يعبّ الماء، أو يهدر، فيدخل فيه المقاري والدباسي والفواخت، سواءٌ أكانت مطوّقة أو لا، أليفة أو وحشيّة، بل عن المحقّق(7): أنّه عرف عند أهل اللّغة أيضاً.

ولو تنزّلنا عن ذلك، فلا أقلّ من الشكّ ، وقد عرفت أنّه مع الشكّ بنحو6.

ص: 8


1- جواهر الكلام: ج 23/356.
2- تذكرة القفهاء: ج 10/153.
3- الدروس: ج 3/293.
4- جامع المقاصد: ج 4/268.
5- شرائع الإسلام: ج 2/39. (6و7) حكاه عنه في الجواهر: ج 23/356.

وكذا الأدهان،

الشبهة المفهوميّة لا المصداقيّة، فإنّ الإطلاقات تقتضي الجواز مع التفاضل، مضافاً إلى أصالة عدم الاتّحاد الأزلي.

وأمّا السَّمك: ففي «الشرائع»(1)، وعن «التحرير»(2): أنّه أيضاً أجناسٌمتعدّدة بتعدّد اسم كلّ واحد.

وعن بعض مشايخ صاحب «الجواهر» رحمه الله(3): أنّ المعروف كونه جنساً واحداً؛ لشمول الاسم للجميع، والاختلاف بالعوارض لا يوجب الاختلاف في الحقيقة، وقوّاه صاحب «الجواهر» رحمه الله، وهو حسنٌ وأحوط.

وأمّا جريان الرِّبا في الطير، فإنّما هو فيما إذا كان المتعارف بيعه وزناً، وأمّا لو تعارف بيعه مجازفةً وبالمشاهدة أو عدداً، كما هو الغالب، فلا يثبت فيه الرّبا.

وأمّا الألبان: فالمعروف بين أصحابنا أنّها تتبع اللّحوم في التجانس والاختلاف.

وفي «الجواهر»(2): (بلا خلافٍ أجده فيه)، بل في «التذكرة»(3) الإجماع عليه.

فلبن الإبل جنسٌ ، ولبن البقر جنسٌ آخر كذي اللّبن، وقد يُحتمل اتّحاد الجنس في بعضها، وعن العامّة أنّها جميعاً جنسٌ واحد.

أقول: ومقتضى ما ذكرناه من تبعيّة كلّ فرعٍ لأصله، وأنّه وأصله جنسٌ واحد، هو القول الأوّل.

(وكذا الأدهان): تتبعُ ما تُستخرج منه، فدهنُ السِّمسم جنسٌ ، ودهن البزر9.

ص: 9


1- شرائع الإسلام: ج 2/39. (2و3) حكاه عنه في الجواهر: ج 23/357.
2- جواهر الكلام: ج 23/357.
3- تذكرة الفقهاء: ج 10/158-159.

ولو كان الشيء جزافاً في بلدة، وموزوناً في اُخرى ، فلكلّ بلدٍ حكم نفسه، ولا يُباع الرُّطب بالتمر وإن تساويا.

جنسٌ آخر؛ إذ الاختلاف في الحقيقة لا ينافي الاشتراك في الدُّهنية.

(و) أيضاً قد ظهر ممّا اخترناه - فيما هو مناط كون الشيء مكيلاً أو موزوناً، حتّى يجري فيه الرّبا، وأنّ الميزان فعليّة أحد هذين العنوانين، وإن كان في عهد النبيّ صلى الله عليه و آله على خلاف ذلك - أنّه (لو كان الشيء جزافاً في بلدةٍ ، وموزوناً في اُخرى ، فلكلّ بلدٍ حكم نفسه)، فراجع ما حقّقناه(1).

حكم بيع الرُّطب باليابس

المسألة الرابعة: المشهور بين الأصحاب كما عن «التذكرة»(2)، (و) عن «التنقيح»(3) و «إيضاح النافع»(4): (أنّ عليه الفتوى)، أنّه (لا يُباع الرُّطب بالتمر وإن تساويا) وكذا كلّ رطبٍ بيابس من جنسه، كاللّحم الطري بالمقدّد، والحنطه الرطبة بالجافة منها، والفواكه الرطبة من الخوخ والمشمش ونحوهما باليابسة منها.

وعن الشيخ في «الاستبصار»(5)، وموضعٍ من «المبسوط»(6)، والحِلّي(7)،

ص: 10


1- فقه الصادق: ج 26/354.
2- تذكرة الفقهاء: ج 10/189.
3- التنقيح الرائع: ج 2/92.
4- إيضاح النافع: ج 1/477.
5- الاستبصار: ج 3/93.
6- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 23/369.
7- حكاه عنه في رياض المسائل: ج 1/545 (ط. ق).

وصاحبي «الكفاية»(1) و «الحدائق»(2)، وفي «ملحقات العروة»(3): الجواز عليكراهة.

وفي «الشرائع»(4) وعن غيرها: اختصاص الرُّطب والتمر بالمنع، والجواز في غيرهما، وهو ظاهر المصنّف هنا.

وعن موضعٍ من «المبسوط»(5) التفصيل فيما عدا الرُّطب والتمر بين كون الرطوبة ذاتيّة فيجوز، كبيع العنب بالزبيب، وبين ما إذا كانت عَرَضيّة كالحنطة الرطبة بالجافّة، فلا يجوز.

أقول: يقع الكلام في مقامين:

تارةً : فيما تقتضيه القاعدة.

واُخرى : في مقتضى النصوص الخاصّة.

أمّا المقام الأوّل: فقد استدلّ للمنع مطلقاً، بتحقّق النقصان عند الجفاف، وبإضافة أجزاء مائيّة مجهولة، فمقابله أزيد منه بالنسبة إلى أجزائه فعلاً فلا مساواة.

واستدلّ للقول بالجواز مطلقاً: بأنّ المعتبر في المساواة هو حال البيع، وبها تتحقّق المماثلة، فيخرج عمّا دلَّ على حرمة الرّبا، ويدخل فيما دلَّ على الجواز، فلا عبرة بالنقصان بعد ذلك.

واستدلّ للرابع: بأنّ الوجه الثاني الذي ذُكر للمنع يتمّ في ذي البلل العارضي كالحنطة الرطبة، لا في مثل العنب ونحوه ممّا كان الماء يعدّ أحد أجزائه.3.

ص: 11


1- كفاية الأحكام: ج 1/500.
2- الحدائق الناضرة: ج 19/245-246.
3- تكملة العروة الوثقى: ج 1/40.
4- شرائع الإسلام: ج 2/40.
5- المبسوط: ج 2/93.

وأمّا المقام الثاني: ففي المسألة طائفتان من النصوص:

الطائفة الأُولى: ما دلَّ على المنع:

منها: النبويّ (1): سئل صلى الله عليه و آله عن بيع الرُّطب بالتمر، فقال عليه السلام: أينقص إذا جف ؟ فقيل له: نعم. فقال عليه السلام: لا إذن».

ومنها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام(2): «لا يصلح التمر اليابس بالرطب من أجل أنّ التمر يابسٌ والرُّطب رطب، فإذا يبس نقص».

ونحوه خبر داود بن سرحان(3).

ومنها: خبر داود الابزاري، عنه عليه السلام(4): «لا يصلح التمر بالرطب، إنّ التمرُ يابسٌ ، والرُّطب رَطِب».

ومنها: خبر محمّد بن قيس، عن الإمام الباقر عليه السلام(5): «أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كره أن يُباع التمر بالرطب عاجلاً بمثل كيله إلى آجل، من أجل أنّ التمر يبيس فينقص من كيله».

أقول: وقد استدلّ بها للقول الأوّل، بدعوى أنّها وإن اختصّت بالتمر والرُّطب، إلّا أنّه من جهة ما فيها من التعليل الشامل لجميع الموارد، يثبت الحكم في الجميع؛ لأنّ العلّة تعمّم.4.

ص: 12


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/342 ح 15549، عوالي اللآلي: ج 2/254 ح 28.
2- وسائل الشيعة: ج 18/148 ح 23354، الكافي: ج 5/189 ح 12.
3- وسائل الشيعة: ج 18/150 ح 23359، تهذيب الأحكام: ج 7/90 ح 27.
4- وسائل الشيعة: ج 18/150 ح 23360، تهذيب الأحكام: ج 7/90 ح 28.
5- وسائل الشيعة: ج 18/149 ح 23355، تهذيب الأحكام: ج 7/95 ح 14.

وأورد على الاستدلال بها: بأنّ عدم الصلاحيّة ظاهرٌ في الكراهة، كذلك لفظ (كره) ظاهرٌ في الكراهة الاصطلاحيّة.

وفيه: إنّ عدم الصلاحيّة والكراهة في الأخبار، خصوصاً في أخبار الرّبا، سيّما بواسطة ما ورد في نحو ذلك من: «لم يكن علىّ عليه السلام يَكره الحلال»(1)، وما في صحيح الحلبي من الشاهد بإرادتها من لا يصلح، ظاهران في الحرمة.

والإيراد عليه: بأنّ العلّة غير حجّة في غير موردها، كما عن الحِلّي رحمه الله حيث قال(2): (إنّ مذهبنا ترك التعليل، والقياسُ واهٍ كما حُرّر في الأُصول).

الطائفة الثانية: ما دلّ على الجواز:

منها: موثّق سماعة: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام(3) عن العنب بالزبيب، قال عليه السلام: لا يصلح إلّامثلاً بمثل».

قال: والتمر بالرطب مثلاً بمثل.

ومنها: خبر أبي الربيع، عن الإمام الصادق عليه السلام(4): «قال: قلتُ له عليه السلام: ما ترى في التمر والبُسر الأحمر مِثْلاً بمثل ؟ قال عليه السلام: لا بأس.

قلت: فالبُخْتَج والعصير مِثْلاً بمثل ؟ قال عليه السلام: لا بأس».

وفي «ملحقات العروة»(5): (مقتضى الجمع بين النصوص المتقدّمة، وبين هذين الخبرين حملها على الكراهة، لو سُلّم ظهورها في الحرمة).2.

ص: 13


1- وسائل الشيعة: ج 18/151 ح 23361، الكافي: ج 5/188 ح 7.
2- السرائر: ج 2/259.
3- وسائل الشيعة: ج 18/149 ح 23356، الكافي: ج 5/190 ح 16.
4- وسائل الشيعة: ج 18/150 ح 23358، الكافي: ج 5/190 ح 18.
5- تكملة العروة الوثقى: ج 1/41-42.

قال: (والجمع الدّلالي مقدّم على الترجيح السندي).

أقول: وبما ذكرناه يظهر وجه الأقوال الأُخر:

أمّا موثّق سماعة: فقد احتمل صاحب «الوسائل» رحمه الله فيه أن يكون المراد بالمماثلة بيع العنب بالعنب، والزبيب بالزبيب، والتمر بالتمر، والرُّطب بالرطب.

وقد يُحتمل فيه - بل قيل إنّه الظاهر - إرادة المماثلة بوصفي الرطوبة واليبوسة، فيكون مشعراً بالمنع مع المخالفة.

وربما احتمل فيه حمله على عنبٍ يابس، أو زبيبٍ رطب، والتفاوت اليسير غير قادحٍ كبيع العسل بالعسل قبل التصفية.

وفي «الكافي»: «قلت: والتمر والزبيب ؟ قال: مِثْلاً بمثل»، فيكون خارجاً عمّا نحن فيه.

أضف إلى ذلك: أنّه يُحتمل أن يكون قوله: (والتمر بالرطب مِثْلاً بمثل) معطوفاً على مدخول (لا يصلح) فيدلّ على المنع.

وأمّا خبر أبي الربيع: فليس فيه بيع الرُّطب بالتمر، وقد يحتمل فيه إرادة الرُّطب من التمر، فيكون حينئذٍ من قبيل بيع ذي الحالين مع التساوي فيهما.

والبُختَج هو: العصير المطبوخ بالنار، وأصله بالفارسيّة (مى پُخته)، والعصيرُ ذلك قبل أن تمسّه النار، ومعلومٌ أنّ العصير بنفسه لا ينقص.

وعليه، فالإنصاف كونه أجنبيّاً عن المقام، مع أنّه لو تمّ دلالته، كان منفيّاً لتعبديّة العلّة ومخصّصاً لها.

ثمّ على فرض تسليم دلالة الموثّق على الجواز، فإنّ ما أفاده السيّد(1) من2.

ص: 14


1- تكملة العروة الوثقى: ج 1/41-42.

الجمع الدلالي، غير تامّ ، إذ ضابط الجمع العرفي هو فرض المتنافيين في كلام واحد، فإن رأى العرف أحدهما قرينةً على الآخر فهو جمعٌ عرفي، وفي المقام إذا جمعنا مفهوم ما في الموثّق من قوله عليه السلام: «وهو يصلح مِثْلاً بمثل»، مع ما في النصوص المتقدّمة من «لا يصلح» يراهما العرف متنافيين، ولا قرينيّة لأحدهما على الآخر، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، والترجيح لتلكم النصوص.

وبالجملة: فالقول الأوّل أظهر.

***

ص: 15

بيع اللّحم بالحيوان

المسألة الخامسة: اختلفت كلمات القوم في بيع اللّحم بالحيوان، من ناحية الحكم، ومن ناحية محلّ النزاع:

أمّا من الناحية الأُولى: فالمشهور بين الأصحاب عدم الجواز، وعن «الخلاف»(1) و «الغنية»(2) الإجماعُ عليه.

وعن ابن إدريس(3): الجواز، ووافقه جماعةٌ ممّن تأخّر عنه، كالشهيد(4)، والآبي(5)، والخراساني، والكاشاني(6).

أمّا المحقّق رحمه الله في «الشرائع»(7) فقد اختار المنع.

وفي «النافع»(8) ذهب إلى الجواز.

وكذا المنصف رحمه الله ذهب إلى المنع في «المختلف»(9)، ثمّ قال بعد نقل المنع: (ولم نقف فيه على مخالفٍ منّا غير إبن إدريس فجوّز، وقوله مُحدَثٌ لا يعوّل عليه، ولا يثلم في الإجماع).

ص: 16


1- الخلاف: ج 3/77.
2- الغنية: ص 225.
3- السرائر: ج 2/257-258.
4- اللّمعة الدمشقيّة: ص 107.
5- كشف الرموز: ج 1/496-497.
6- راجع الوافي: ج 18/594.
7- شرائع الإسلام: ج 2/301.
8- المختصر النافع: ص 128.
9- مختلف الشيعة: ج 5/93.

ويُكره اللّحم بالحيوان

وقال في «التذكرة»(1) بعد أن ذكر أنّ المشهور على المنع: (والأقربُ عندي الجواز على كراهية).

وقال المصنّف في المتن: (ويُكره اللّحم بالحيوان)، لكنّه ذهب إلى الجواز في «التحرير»(2) و «الإرشاد»(3).

وأمّا من الناحية الثانية: فالمشهور بين الأصحاب اختصاص المنع، بما إذا كان اللّحم من جنس ذلك الحيوان، كلحم الغنم بالغنم، وأنّه لامانع إذا كان من غير جنسه.

وعن جماعةٍ كالمفيد(4)، والشيخ في «النهاية»(5)، وسلّار(6)، والقاضي(7)، الإطلاق في المنع.

وأيضاً: ظاهر المحقّق الأردبيلي رحمه الله(8) أنّ محلّ النزاع خصوص المذبوح، لكن ظاهر الحِلّي(9)، والمصنّف في «التذكرة»(10)، والشهيد الثاني في «المسالك»(11)9.

ص: 17


1- تذكرة الفقهاء: ج 10/155-156 (ط. ج).
2- تحرير الأحكام: ج 2/306 (ط. ج).
3- إرشاد الأذهان: ج 1/379.
4- المقنعة: ص 604.
5- النهاية: ص 377-378.
6- المراسم العلويّة: ص 180.
7- المهذّب البارع: ج 1/373.
8- مجمع الفائدة: ج 8/470.
9- السرائر: ج 2/258.
10- تذكرة الفقهاء: ج 10/155-156.
11- مسالك الأفهام: ج 3/329.

وغيرهم أنّ محلّ الكلام الحَيّ .

ومقتضى ما عن جماعةٍ من التفصيل بين الحَيّ والمذبوح، والمنع في الثاني دون الأوّل كونه أعمّ ، وصريحُ «المختلف»(1) أيضاً ذلك.

أقول: يقع الكلام في مقامين:

تارةً : فيما يقتضيه القواعد.

واُخرى : في النصوص الخاصّة.

أمّا المقام الأوّل: فإنْ كان الحيوان حيّاً، لا يدخله الرّبا، لأنّ شرط جريان الرّبا كون ما يقع عليه المعاملة مكيلاً أو موزوناً، والحيوان الحَيّ لا يُباع بالوزن، وعليه فيصحّ بيعه باللّحم، لكن بشرط أن يكون اللّحم حاضراً؛ لعدم جواز السَّلف في اللّحم.

وأمّا إذا كان مذبوحاً، فكذلك قبل السَّلخ؛ لعدم كونه مكيلاً ولا موزوناً قبل السلخ، بل تعارف في زماننا بيعه جزافاً بعد السّلخ إذا كان جملة، بل من المعلوم أنّ الرأس لا يُباع إلّاجزافاً.

وأمّا المقام الثاني: فقد استدلّ للمنع:

1 - بالنبويّ : «نهى النبيّ صلى الله عليه و آله(2) عن بيع اللّحم بالحيوان».

2 - وبخبر غياث، عن الإمام الصادق عليه السلام(3): «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كره بيع اللّحم بالحيوان».7.

ص: 18


1- مختلف الشيعة: ج 5/93-94.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/340 ح 15542، لكن الرواية عن أبي عبد اللّه عليه السلام وليس عن النبيّ صلى الله عليه و آله، دعائم الإسلام: ج 2/34 ح 73.
3- وسائل الشيعة: ج 18/143 ح 23341، الكافي: ج 5/191 ح 7.

أمّا النبويّ : فهو عامّيٌ غير منجبر بالاستناد، فالمدرك خصوص خبر غياث.

واُورد عليه تارةً : بضعف السند، ففي «ملحقات العروة»(1): (ولم يثبت كون غياث موثّقاً وهو بُتري).

واُخرى : بعدم ظهوره في الحرمة، بل ظهوره في الكراهة.

وثالثة: بما قاله في «ملحقات العروة»(2) من أنّه (يحتمل أن يكون المراد النهي عن بيع اللّحم بالحيوان سلفاً، أو بيع الحيوان باللّحم نسيئةً ، ويكون وجه المنع هو الجهالة؛ لعدم إمكان ضبط اللّحم المختلف باختلاف الحيوان زماناً، ومن حيث السمن والهزال، ونحو ذلك، ولذا يقولون: لا يجوز بيع اللّحم سلفاً ونسيئةً ، فالنظر في الخبرين إلى ما هو المتعارف من دفع الغنم إلى القصّاب بمقدارٍ من اللّحم يؤخذ منه تدريجاً؛ فإنّه لا يجوز).

أقول: ولكن الخبر معتبر مسنداً؛ لأنّ غياثاً وثّقه النجاشي والعلّامة وغيرهما، ولم يغمز فيه أحدٌ، وكونه بُتريّاً غير ثابت، وعلى فرضه غير مضرّ.

أضف إلى ذلك كلّه استناد الأصحاب إليه، فلا إشكال فيه سنداً، وقد مرّ غير مرّة أن الكراهة في الأخبار، سيّما في هذا الباب ظاهرة في إرادة التحريم.

أضف إلى ذلك أنّ الخبر مرويٌّ عن أمير المؤمنين عليه السلام(1) وقد دلَّ النّص المعتبر على أنّ عليّاً عليه السلام كان لا يكره الحلال.

ووجه المنع غير معلوم، ومجرّد الاحتمال المذكور لا يصلحُ لرفع اليد عن ظاهر، وعليه فالأظهر هو المنع.7.

ص: 19


1- وسائل الشيعة: ج 18/151 ح 23361، الكافي: ج 5/188 ح 7.

ولو باع درهماً ومُدّ تمرٍ بدرهمين أو مُدين صَحّ

أقول: الظاهر اختصاص المنع بالحَيّ لظهور الحيوان فيه، ولا يشمل بعد الذبح، كما أنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين بيعه بجنسه أو بغير جنسه، ولا بيعه به جزافاً أو وزناً، وأيضاً أنّه مختصّ بالبيع، ولا يشمل غيره من المعاوضات.

وعليه، فما في «الرياض»(1) من أنّ مقتضى الرواية المنع عن مطلق المعاوضة، ولا كذلك عبائر الجماعة المحكيّة؛ فإنّها في البيع خاصّة، وإرجاع كلّ منها إلى الآخر ممكنٌ ، إنّما هو من جهة أنّ خبر غياث روي في «الكافي»(2) و «التهذيب»(3) مع إلغاء لفظ (بيع)، وحيث إنّ الخبر مرويٌّ في «الفقيه»(4) على ما ذكرناه، وقد حُقّق في الاُصول أنّه لو دار الأمر بين الزيادة والنقيصة في خبرٍ يُبنى على وجود ذلك اللّفظ، فالعبرة بنقل الصدوق وهو مختصٌ بالبيع.

بيع درهم ومُدّ تمر بدرهمين أو مُدّين

المسألة الخامسة: المشهور بين الأصحاب(5) أنّه لو زاد أحد المتجانسين على الآخر، (و) ضمّ إلى الطرف الناقص ضميمة من جنسٍ آخر، كما إذا (باع درهماً ومدّ تمرٍ بدرهمين أو مُدين)، أو ضمّ إلى كلٍّ من الطرفين جنس آخر، كما لو باع مُداً ودرهماً بمُدين ودرهمين (صَحّ ) البيع، وتكون الزيادة في الصورة الأولى في مقابل

ص: 20


1- رياض المسائل: ج 8/438 (ط. ج).
2- الكافي: ج 5/191 ح 7.
3- تهذيب الأحكام: ج 7/45 ح 82.
4- من لايحضره الفقيه: ج 3/278 ح 4004.
5- تبصرة المتعلّمين: ص 100.

الجنس المخالف في أحدهما، وفي الصورة الثانية يُصرف كلّ واحدٍ منهما إلى غير جنسه، وإنْ لم يقصدا ذلك، بل الظاهر أنّه لا خلاف بيننا في الجميع.

وفي «الجواهر»(1): (بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منه مستفيض جدّاً إنْ لم يكن متواتراً).

ويشهد به: - مضافاً إلى الإجماع، والعمومات، بعد اختصاص أدلّة الرّبا بحكم التبادر والسياق بغير مفروض المسألة - النصوص الكثيرة:

منها: صحيح البجلي، عن الإمام الصادق عليه السلام(2)، في حديث:

«فقلت له: أشتري ألف درهم وديناراً بألفي درهم ؟ فقال عليه السلام: لا بأس بذلك، إنّ أبي كان أجرأ على أهل المدينة منّي، فكان يقول هذا، فيقولون: إنّما هذا الفرار، لو جاء رجل بدينار لم يعط ألف درهم، ولو جاء بألف درهم لم يعط ألف دينار، وكان يقول لهم: نِعْمَ الشيء الفرار من الحرام إلى الحلال».

ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام، قال(3): «كان محمّد بن المنكدر يقول لأبي جعفر عليه السلام: يا أبا جعفر رحمك اللّه، واللّه إنّا لنعلم إنّك لو أخذت ديناراً والصَّرف ثمانية عشر فدرت المدينة على أن تجد من يعطيك عشرين ما وجدته، وما هذا إلّافرار، وكان أبي يقول: صدقت واللّه، ولكنّه فرارٌ من الباطل إلى الحَقّ ».

ومنها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام(4): «لا بأس بألف درهم ودرهمٍ2.

ص: 21


1- جواهر الكلام: ج 23/391.
2- وسائل الشيعة: ج 18/178 ح 23431، الكافي: ج 5/246 ح 9.
3- وسائل الشيعة: ج 18/179 ح 23432، الكافي: ج 5/247 ح 10.
4- وسائل الشيعة: ج 18/180 ح 23434، تهذيب الأحكام: ج 7/106 ح 62.

بألف درهم ودينارين إذا دخل فيها ديناران أو أقلّ أو أكثر فلا بأس به».

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على المطلوب.

وعليه، فأصل الحكم لا إشكال فيه، إنّما الكلام في أنّه هل يكون ذلك على القاعدة، وأنّ الشارع نبّه عليه تنبيهاً؟ أو أنّ انصراف كلّ جنسٍ إلى مخالفة فيما إذا كانت الزيادة في الطرفين، وانصراف الزيادة إلى الجنس المخالف في الطرف الآخر، فيما إذا كانت الزيادة في أحدهما تعبّدي بالنسبة إلى خصوص الرّبا، والفرار منه لا بالنسبة إلى سائر الأحكام، فإذا كانا لمالكين لا يكون لكلّ منهما ما يخالفُ جنسه، بل على حسب الحكم العرفي ؟

فيه قولان:

ربما يقال: بالأوّل، وذكر في وجه أُمور:

أحدهما: إنّ المجموع في مقابل المجموع، فكأنّهما جنسان، فلا يكون التفاضل في جنسٍ واحد.

ثانيها: أنّ أجزاء الثمن تقابل أجزاء المثمن على الإشاعة، فلا تفاضل في الجنس الواحد؛ لانضمام جزءٍ آخر معه.

ثالثها: ظهور الروايات في الصَّرف المذكور بالنسبة إلى جميع الأحكام، وإن كان مقتضى القاعدة - لولا التنزيل التعبّدي - عدم الانصراف.

لكن يردّ الأوّل: أنّ المجموع بما هو ليس عنواناً للمبيع، بل المبيع هو الجميع، وعليه ففي ضمن المجموع يلزم التفاضل في جنسٍ واحد، مثلاً لو باع درهماًومُداً بدرهمين ومدين، يكون في مقابل كلّ من الدرهم والمُدّ أزيد من مقداره من جنسه.

ص: 22

ويردّ الثاني: أنّه يلزم منه أن لو باع درهماً بدرهمٍ ومُدين، أنْ لا يكون رباً، ويختصّ الرّبا بما إذا كانت الزيادة من جنس العوضين، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به.

ويردّ الثالث: أنّ الثابت من الأخبار الانصراف على الوجه المزبور بالنسبة إلى حكم الرّبا.

وبالجملة: ثبت أنّ القول الثاني هو الأظهر.

ويترتّب عليه أنّه لو كانا لمالكين، لم يختصّ كلّ منهما بما يخالفه؛ لعدم كونه مقابلاً لما له، بل على حَسب الحكم العرفي، وكذا بالنسبة إلى حكم الصَّرف، فلو باع فضّة ونحاساً بفضّة ونحاس، لا يخرج عن حكم الصَّرف، من حيث لزوم القبض في المجلس.

أقول: بقي الكلام فيما ذكره الشهيد الثاني رحمه الله(1) بقوله:

(ويشكل الحكم لو احتيج إلى التقسيط شرعاً، كما لو تلف الدرهم المعيّن قبل القبض، أو ظهر مستحقّاً مطلقاً، وكان في مقابلة ما يوجبُ الزيادة المفضية إلى الرّبا؛ فإنّه حينئذٍ يحتمل بطلان البيع من رأس؛ للزوم التفاوت في الجنس الواحد، كما لو باع مُداً ودرهماً بمُدين أو درهمين مثلاً، فإنّ الدرهم التالف إذا كان نصف المبيع، بأن كانت قيمة المُدّ درهماً، يبطل البيع في نصف الثمن، فيبقى النصف الآخر، وحيث كان منزّلاً على الإشاعة، كان النصف في كلّ من الجنسين، فيكون نصف المُدّين ونصف الدرهمين في مقابلة المُدّ، فيلزم الزيادة الموجبة للبطلان) انتهى .

وفيه أوّلاً: إنّه لو تمّ لا يكون إيراداً على الحكم في أصل المسألة؛ لخروجها بهذا الفرض عمّا هي عليه أوّلاً، فهي مسألة اُخرى يرجع فيها إلى القواعد.0.

ص: 23


1- مسالك الأفهام: ج 3/330.

ومَنْ ارتكب الرّبا بجهالةٍ فلا أثم عليه

وثانياً: أنّه يمكن الحكم بالصحّة نظراً إلى عدم تحقّق الرّبا بهذه الزيادة الحاصلة بالتقسيط التي لم يبن العقد عليها.

وبعبارة اُخرى : أنّ المعلوم من أدلّة الرّبا حرمة الزيادة في نفس العقد، لا ما إذا كانت بمقتضى التقسيط الذي ا حتيج إليه؛ لمكان التلف، وإلّا فالعقد لا زيادة فيه.

وبالجملة: بهذا الوجه يظهر أنّه يحكم بالصحّة حتّى فيما لو انكشفت استحقاق بعض الثمن.

حكمُ مَن ارتكب الرّبا بجهالة

المسألة السادسة: (ومن ارتكب الرّبا بجهالة) في الحكم أو الموضوع غير مقصّر فيهما (فلا إثم عليه)، وكذلك إن كان الجهل بالحكم عن تقصير وتاب، بلا خلافٍ ولا إشكال(1).

ويشهد به: - مضافاً إلى أنّ ذلك مقتضى القواعد العامّة - خصوص روايات:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام(2): «عن الرجل يأكل الرّبا وهو يرى أنّه له حلال ؟ فقال عليه السلام: لا يضرّه حتّى يصيبه متعمّداً، فإذا أصابه متعمّداً فهو بمنزلة الذي قال اللّه عزّ وجلّ ».

ص: 24


1- مفتاح الكرامة: ج 4/533.
2- وسائل الشيعة: ج 18/130 ح 23306، تهذيب الأحكام: ج 7/15 ح 66.

ومثله صحيح هشام عنه عليه السلام(1).

ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام(2): «كلّ رباً أكله الناس بجهالةٍ ثمّ تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عُرف منهم التوبة. الحديث».

وعلى ذلك تدلّ الآية الكريمة: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) (3) إذ المراد من (مجيء الموعظة) هو بلوغ حكم اللّه، ومن (الانتهاء) ترك الفعل المنهيّ عنه عن نهيه، وهو عبارة اُخرى عن التوبة، ومن كون (ما سلف لهم) انتفاعهم فيما سلف بالتخلّص من هذه المهلكة.

وبهذا البيان يظهر عدم اختصاص الآية بالرّبا، بل هي شاملة لجميع الكبائر الموبقة كما هو ظاهرها.

أقول: الخلاف إنّما هو في وجوب ردّ ما أخذه حال الجهالة بالتحريم، إذا علم بعد ذلك:

فعن الصدوق في «المقنع»(4)، والشيخ في «النهاية»(5)، والمحقّق في «النافع»(6)، والآبي(7) والقطيفي، والشهيد في «الدروس»(8)، والمحقّق الأردبيلي(9)، وصاحب4.

ص: 25


1- وسائل الشيعة: ج 18/128 ح 23301، تهذيب الأحكام: ج 7/15 ح 66.
2- وسائل الشيعة: ج 18/128 ح 23302، تهذيب الأحكام: ج 7/16 ح 69.
3- سورة البقرة: الآية 275.
4- حكاه عنه في الحدائق الناضرة: ج 19/216.
5- النهاية: ص 376.
6- المختصر النافع: ص 127.
7- كشف الرموز: ج 1/484.
8- الدروس: ج 3/299.
9- زبدة البيان للأردبيلي: ص 434.

ويعيد ما أخذ منه على مالكه إنْ وجده، أو ورثته، ولو جهل تصدّق به عنه

«الحدائق»(1)، وسيّد «الرياض»(2): أنّه له حلالٌ ولا يجب ردّه؛ إمّا لصحّة المعاملة مع الجهل على ما اختاره صاحب «الحدائق»(3)، أو تعبّداً من جهة كونه معذوراً على بعد.

وعن ابن إدريس في «السرائر»(4)، والمصنّف في «المختلف»(5) وهنا، وجماعة من المتأخّرين(6)، بل عن «المبسوط»(7) نسبته إليهم: أنّ الجاهل كالعالم في وجوب الرّد (و) أنّه (يعيدُ ما أخذ منه على مالكه إن وجده، أو ورثته، ولو جهل تصدق به عنه).

وعن ابن الجُنيد(8) الفرق:

بين كونه موجوداً معروفاً فيجب ردّه.

وبين كونه تالفاً أو موجوداً مختلطاً بماله بأنّه غير معروفٍ فلا يجب.

وهناك احتمالاتٌ اُخر.

وكيف كان، فقد استدلّ للقول الأوّل:

1 - بأنّ المتبادر من أدلّة حرمة الرّبا وبطلانه هو صورة العلم.9.

ص: 26


1- الحدائق الناضرة: ج 19/220-221.
2- رياض المسائل: ج 8/286 (ط. ج).
3- الحدائق الناضرة: ج 19/120-121.
4- السرائر: ج 2/252.
5- مختلف الشيعة ج 5/78-79.
6- جامع المدارك: ج 3/234-235.
7- حكاه عنه في تكملة العروة الوثقى: ج 1/14.
8- مختلف الشيعة: ج 5/78-79.

2 - وباستصحاب حال الجهل إلى ما بعد المعرفة.

3 - وبالأصل.

4 - وبالآية الشريفة: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) (1) الظاهرة في صورة الجهل، وفي أنّ له ما أكل، وليس عليه ردّ ما سلف، ولا وجه لاختصاصها بما كان في الجاهليّة من الرّبا بعد كونه خلاف ظاهر العموم.

5 - وبجملةٍ من النصوص الخاصّة التي جملة منها صحاح:

منها: صحيح هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام(2): «عن الرجل يأكل الرّبا وهو يرى أنّه له حلال ؟ قال: لا يضرّه حتّى يصيبه متعمّداً، فإذا أصابه متعمّداً فهو بالمنزل الذي قال اللّه عزّ وجلّ ».

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، قال: «دخل رجلٌ على أبي جعفر عليه السلام(3) من أهل خراسان قد عمل بالرّبا حتّى كثر ماله، ثمّ إنّه سأل الفقهاء، فقالوا: ليس يُقبل منك شيء إلّاأن تردّه إلى أصحابه، فجاء إلى أبي جعفر عليه السلام فقصَّ عليه قصّته ؟

فقال له أبو جعفر عليه السلام: مخرجك من كتاب اللّه: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ ) (4) والموعظة: التوبة».

ومنها: ما رواه أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره، عن أبيه، قال: «إنّ رجلاً أربى دهراً من الدّهر، فخرج قاصداً أبا جعفر الجواد عليه السلام(5)، فقال له: مخرجك من4.

ص: 27


1- سورة البقرة: الآية 275.
2- وسائل الشيعة: ج 18/128 ح 23301، الكافي: ج 5/144 ح 3.
3- وسائل الشيعة: ج 18/130 ح 23307، تهذيب الأحكام: ج 7/15 ح 68.
4- سورة البقرة: 275.
5- وسائل الشيعة: ج 18/131 ح 23310، بحار الأنوار: ج 100/117 ح 14.

كتاب اللّه، يقول اللّه: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) (1)، والموعظة هي التوبة؛ فجهله بتحريمه، ثمّمعرفته به، فمامضى فحلالٌ ، ومابقي فليتحفّظ».

ومنها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(2): «كلّ رباً أكله الناس بجهالةٍ ثمّ تابوا، فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة.

وقال عليه السلام: لو أنّ رجلاً ورث من أبيه مالاً، وقد عرف أنّ في ذلك المال رباً، ولكن قد اختلط في التجارة بغيره حلالٍ ، كان حلالاً طيّباً فليأكله، وإن عرف منه شيئاً أنّه رباً فليأخذ رأس ماله وليردّ الرّبا، وأيّما رجل أفاد مالاً كثيراً قد أكثر فيه من الرّبا فجهل ذلك، ثمّ عرفه بعد، فأراد أن ينزعه، فما مضى فله، ويدعه فيما يستأنف».

ومنها: صحيحه الآخر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال(3):

«أتى رجلٌ أبي عليه السلام فقال: إنّي ورثتُ مالاً وقد علمت أنّ صاحبه الذي ورثته منه قد كان يربى، وقد أعرف أنّ فيه رباً وأستيقن ذلك، وليس يطيبُ لي حلاله لحال علمي فيه، وقد سألتُ فقهاء العراق وأهل الحجاز، فقالوا: لا يحلّ أكله ؟

فقال أبو جعفر عليه السلام: إنْ كنتَ تعلم أنّ فيه مالاً معروفاً رباً، وتعرف أهله فخُذ رأس مالك، ورُدّ ما سوى ذلك، وإنْ كان مختلطاً فكله هنيئاً فإنّ المال مالك، واجتنب ما كان يصنع صاحبه؛ فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد وضع ما مضى من الرّبا، وحرّم عليهم ما بقي، فمن جهل وسّع له جهله حتّى يعرفه، فإذا عَرف تحريمه حَرُم عليه، ووجب عليه فيه العقوبة إذا ركبه، كما يجب على من يأكل الرّبا».5.

ص: 28


1- سورة البقرة: 275.
2- وسائل الشيعة: ج 18/128 ح 23302، الكافي: ج 5/145 ح 4.
3- وسائل الشيعة: ج 18/129 ح 23303، الكافي: ج 5/145 ح 5.

ومنها: خبر أبي الرّبيع الشامي، عنه عليه السلام(1): «عن رجل أربى بجهالة ثمّ أراد أن يتركه، فقال عليه السلام: أمّا ما مضى فله وليتركه فيما يستقبل، ثمّ قال: إنّ رجلاً أتى أبا جعفر عليه السلام فقال: إنّي ورثت مالاً وقد علمت...» إلى آخر ما في الخبر السابق بتفاوت يسير.

ومنها: ما رواه الراوندي، عن أبي جعفر عليه السلام(2): «من أدرك الإسلام وتابَ عمّا كان عَمِله في الجاهليّة، وضع اللّه عنه ما سلف، فمن ارتكب الرّبا بجهالةٍ ولم يعلم أنّ ذلك محظورٌ، فليستغفر اللّه في المستقبل، وليس عليه فيما مضى شيءٌ ، ومتى علم أنّ ذلك حرامٌ أو تمكّن من علمه، فكلّ ما يحصل له من ذلك محرّم عليه، ويجبُ عليه ردّه إلى صاحبه».

والطبرسي قدس سره(3) روى الخبر في تفسيره إلى قوله: «ما سلف». وكذا الشيخ في «التبيان».

ولكن يردّ الأوّل: منع التبادر بعد كون المأخوذ موضوعاً في تلك الأدلّة العنوان الواقعي غير المقيّد بالعلم، وإلّا لزم الالتزام به في جميع الأدلّة.

أمّاالاستصحاب: فلاموردله بعدفرض العلم بالحرمة، والأصل مقطوعٌ بالعمومات.

وأمّا الآية الشريفة: فظهورها في نفسها في نفي العقاب والإثم لا يَقبل الإنكار، كما مرّ عند تقريب الاستدلال بها على عدم العقاب.

وما أفاده الحِلّي فيها بقوله(4): (فالمراد - واللّه أعلم - فله ما سلف من الوِزر،1.

ص: 29


1- وسائل الشيعة: ج 18/130 ح 23304، الكافي: ج 5/146 ح 9.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/338 ح 15531.
3- مجمع البيان: ج 2/207.
4- السرائر: ج 2/251.

وغُفران الذنب، وحقّ القديم سبحانه بعد انتهائه وتوبته، لأنّ إسقاط الذَنب عند التوبة تفضّل عندنا) انتهى . متينٌ جدّاً.

أقول: ويؤيّد ما ذكرناه في معنى الآية: قوله تعالى: (وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ ) فإنّه كما أفاده بعض الأعاظم(1) من المفسّرين أنّ المعنى: أنّ من انتهى عن موعظةٍ جاءته، فالذي تقدّم منه من المعصية، سواءٌ أكان في حقوقه تعالى، أو في حقوق الناس؛ فإنّه لا يؤاخذ بعينها، لكنّه لا يوجبُ تخلّصه من تبعاته أيضاً، كما تخلّص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى اللّه إنْ شاء وَضَع فيها تبعة كقضاء الصلاة الفائتة، وموارد الحدود، وردّ المال المحفوظ المأخوذ غصباً أو رباً، وغير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة والانتهاء، وإن شاء عفا عن الذنب، ولم يضع عليه تبعة بعد التوبة، كالمُشرك إذا تاب عن شركه، ومن عصى بنحو شُرب الخمر واللّهو فيما بينه وبين اللّه ونحو ذلك.

وأمّا صحيحا هشام ومحمّد: فليس فيهما التعرّض للحكم الوضعي، بل ظاهرهما السؤال عن الحكم التكليفي وتبعاته أي العقاب، والجواب بكون المسؤول عنه من ضمير الخطاب إلى ضمير الغائب.

وأمّا صحيح الحلبي: فصدره متضمّنٌ لبيان الحكم التكليفي وتبعته وهو العقاب، وما بعده متضمّنٌ لبيان حكم مالٍ ورثه الإنسان مع علمه بأنّ فيه رباً، وليس فيه تعرّض لحكم من أكل الرّبا بجهالةٍ ثمّ صار عالماً، وعليه فيُحمل على العلم بأنّ الميّت كان يربي وإنْ لم يعلم في خصوص المال منه شيئاً، وعلى أنّه مجهولُ7.

ص: 30


1- تفسير الميزان للطباطبائي: ج 2/417.

المالك قد أباحه الإمام له، أو نحو ذلك.

وأمّا قوله: «فأيما رجل... إلى آخره» فسبيله سبيل الآية الكريمة، فتدبّر فيه.

وأمّا صحيحه الآخر: فأجنبيّة صدره عن المقام، وكونه في مسألة اُخرى واضحة على ما بيّناه، وذيله مربوطٌ بالحكم التكليفي والعقوبة، فتدبّر فيه.

وبه يظهر حال خبر أبي الربيع الشامي.

وأمّا ما رواه الراوندي، ويؤيّده الشيخ والطبرسي حيث رويا الخبر إلى قوله:

(ما سَلَفَ ) (1) ، فالمتحصّل أنّه لا دليل على حلية ما أخذه بعنوان الرّبا جهلاً، فلابدّ من الرجوع إلى القواعد، وهي تقتضي وجوب ردّ ما أخذ على مالكه أو ورثته، ولو جهله لحقه حكم المال المجهول مالكه، ويؤيّده الأمر بالرّد مع التميّز.

واستدلّ الحِلّي(2) لوجوب الرّد بقوله تعالى : (وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ) (3)، لكن فيه كلام وهو اختصاصها بصورة العلم.

وبالجملة: فالأظهر هو القول الثاني، وأيّده صاحب «الجواهر»(4) بعد الميل إليه بقوله: (على أنّ النصوص المزبورة ظاهرة في معذوريّة من تناول الرّبا جهلاً، وهو شاملٌ لما إذا كان الطرف الآخر عالماً، مع أنّ المعاملة حينئذٍ فاسدة قطعاً؛ لحرمة الرّبا وفساد المعاملة بالنسبة إلى العالم، وذلك يقتضي فسادها بالنسبة إلى الجاهل، فلابدّ من التزام اُمور عظيمة حينئذٍ بالنسبة إلى حِلّ مال الغير في يد الآخر، وعدم جواز أخذه لمالكه مع وجود عينه، وغير ذلك ممّا يصعب التزامه).

***4.

ص: 31


1- سورة البقرة: الآية 275.
2- السرائر: ج 2/251.
3- سورة البقرة: الآية 279.
4- جواهر الكلام: ج 23/404.

ولا ربا بين الوالد وولده

لا ربا بين الوالد وولده

المسألة السابعة: المشهور بين الأصحاب(1) شهرة عظيمة، بل (و) حكي الإجماع عليه مستفيضاً إنْ لم يكن متواتراً، أنّه (لا ربا بين الوالد وولده)، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه كما في «الجواهر»(2)؛ إذ لم يُنقل الخلاف إلّاعن السيّد المرتضى رحمه الله في «الموصليّات»(3)، لكنّه في «الانتصار»(4) بعد نقله ما ذهب إليه في الموصليّات، والاستدلال له بظاهر القرآن، قال:

(ثمّ لمّا تأمّلت ذلك رجعتُ عن هذا المذهب؛ لأنّي وجدتُ أصحابنا مجمعين على نفي الرّبا بين من ذكرنا، وغير مختلفين فيه في وقتٍ من الأوقات، وإجماع هذه الطائفة قد ثبت أنّه حجّة، ويخصّ بها ظاهر القرآن).

أقول: وكيف كان، فيشهد به:

1 - خبر عمرو بن جميع، الذي رواه المشايخ الثلاثة، عن الإمام الصادق عليه السلام(5):

«قال أمير المؤمنين عليه السلام: ليس بين الرجل وولده ربا، وليس بين السيّد وعبده ربا».

2 - وصحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام(6): «ليس بين الرجل وولده، وبينه وبين

ص: 32


1- الحدائق الناضرة: ج 19/257.
2- جواهر الكلام: ج 23/378.
3- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 23/378.
4- الانتصار: ص 442.
5- وسائل الشيعة: ج 18/135 ح 23319، تهذيب الأحكام: ج 7/18 ح 76.
6- وسائل الشيعة: ج 18/135 ح 23321، الكافي: ج 5/147 ح 3.

عبده، ولا بين أهله ربا، إنّما الرّبا فيما بينك وبين ما لا تملك.

قلت: فالمشركون بيني وبينهم ربا؟ قال عليه السلام: نعم.

قلت: فإنّهم مماليك ؟ فقال: إنّك لستَ تملكهم، إنّما تملكهم مع غيرك، أنت وغيرك فيهم سواء، فالذي بينك وبينهم ليس من ذلك، لأنّ عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك».

3 - ومثله صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام(1)، إلّاأنّه قال:

«إنّ عبدك ليس عبد غيرك».

وفي «الجواهر»(2): (فمن الغريب دغدغة بعض المتأخّرين في الحكم المزبور، وكأنّه ناشئ من اختلال الطريقة)، وهذا إشارة منه إلى استشكال المحقّق الأردبيلي رحمه الله(2) وصاحب «الكفاية»(3)، نظراً إلى عدم بلوغ الروايات حَدّ الصحّة، وهو كما ترى فلا إشكال في الحكم.

أقول: مقتضى إطلاق الأخبار وكلمات علمائنا الأبرار، أنّه يجوز كلّ منهما الفضل من صاحبه، كما صرّح به الأساطين(5) من المتأخّرين، بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه إلّامن الإسكافي، قال(4): (لا ربا بين الوالد وولده إذا أخذ الوالد الفضل، إلّا أن يكون له وارثٌ أو عليه دين)، وهو كما صرّح به غير واحدٍ اجتهادٌ في مقابل النّص.0.

ص: 33


1- وسائل الشيعة: ج 18/136 ح 23322، الكافي: ج 5/147 ح 3. (2و5) جواهر الكلام: ج 23/379 و 378.
2- مجمع الفائدة: ج 8/489.
3- كفاية الأحكام: ج 1/501.
4- مختلف الشيعة: ج 5/79-80.

ولا بين السيّد وعبده، ولا بين الرّجل وزوجته

ولا يتعدّى الحكم المذكور إلى الاُمّ ؛ لاختصاص الدليل بالأب، وليس من مذهبنا القياس، كما أنّ الظاهر اختصاص الحكم بالولد النَسَبي دون الرّضاعي؛ لعدم الإطلاق لدليل المنزلة، والمتبادر من النّص الولد النَسَبي.

وهل يشمل الحكم ولد الولد كما عن «الدروس»(1)، أم لا كما عن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله والمحقّق الثاني(2)؟

وجهان، أظهرهما الأوّل للإطلاق، وأحوطهما الثاني.

وأيضاً: الأظهر عدم الفرق في الولد بين الذكر والاُنثى والخنثى؛ لإطلاق الدليل، وقد يُتوقّف في ولد الزنا من صدق الولد، من انصرافه إلى غيره، لكن الانصراف ممنوعٌ ، فعموم الجواز قوي.

(و) كذا (لا) ربا (بين السيّد وعبده) إجماعاً بقسميه، والنصوص شاهدة به.

(ولا بين الرّجل وزوجته) إجماعاًبقسميه أيضاً، كما في «الجواهر»(3)، ويشهد به:

صحيح محمّد وزرارة المتقدّم؛ لأنّ الظاهر من (الأهل) المضاف إلى (الرجل) إرادة زوجته.

ومرسل الصدوق: «قال الصادق عليه السلام(4): ليس بين المسلم وبين الذّمي رباً،2.

ص: 34


1- الدروس: ج 3/299.
2- جامع المقاصد: ج 4/280.
3- جواهر الكلام: ج 23/379.
4- وسائل الشيعة: ج 18/136 ح 23323، من لايحضره الفقيه: ج 3/278 ح 4002.

ولا بين المرأة وزوجها ربا».

وهو مضافاً إلى معاقد الإجماعات، قرنية على إرادة الزوجة من الأهل في الصحيح المتقدّم، والمُرسَل من جهة إسناد المُرسِل الخبرَ إلى المعصوم جزماً يكون من قسم الحجّة.

والمشهور كما عن «الكفاية»(1) أنّه لا فرق بين الزوجة الدائمة والمتمتّع بها؛ لصدق الأهل والزوجة.

والمناقشة فيه: بعدم صدق الزوجة والأهل على المتمتّع بها، خصوصاً إذا كانت المدّة قليلة، ولم يكن متّخذاً لها اتّخاذ الزوجة، بل اتّخذها اتّخاذ المستأجرة، وبالانصراف عنها - على فرض تسليم الصدق - في غير محلّها؛ فإنّها زوجة ما دامت في حبالته.

وما عن «التذكرة»(2): من منع عموم النّص؛ لأنّ التفويض في مال الرجل إنّما يثبت في حقّ العقد الدائم، فإنّ للزوجة أن تأخذ من مال الرّجل المأدوم ونحوه.

مندفع: بأنّ اختصاص ذلك الحكم للدليل على التقييد، لا يوجبُ اختصاص هذا الحكم المطلق.

وما في «الجواهر»(3): (من أنّه ينبغي الاقتصار في رفع اليد عن عموم حرمة الرّبا، على المتيقّن وهي الدائمة).

يردّه: ما حُرّر في الأصول(4) من أنّ إطلاق المقيّد مقدّمٌ على إطلاق المطلق.7.

ص: 35


1- كفاية الأحكام: ج 1/502.
2- تذكرة الفقهاء: ج 10/209 (ط. ج).
3- جواهر الكلام: ج 23/381.
4- زبدة الأصول: ج 3/367.

ولا بين المسلم والحربي

وبذلك يظهر عدم ثبوت الرّبا بين الرجل وزوجته المطلّقة رجعيّةً ؛ إذ هي زوجة، وعدم صدق (الأهل) عليها لا يضرّ بعد أن لا مفهوم لما تضمن الأهل؛ كي يدلّ على ثبوته مع عدم صدق الأهل.

ومنه يظهر اندفاع ما في «الجواهر»(1) من أنّ الجمع بين خبري الزوجة والأهل يقتضي اعتبار كلّ منهما؛ إذ بعد أن لا مفهوم لهما، الجمع بينهما يقتضي الاكتفاء في ثبوت الحكم بصدق أحدهما.

لا ربا بين المسلم والكافر

(و) كذا (لا) ربا (بين المُسلم والحَربي) إجماعاً بقسميه؛ إذا أخذ المسلمُ الفضلَ ، كذا في «الجواهر»(2)، ويشهد به ما رواه الكليني مسنداً، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله(1): ليس بيننا وبين أهل حربنا رباً نأخذ منهم ألف درهم بدرهم ولا نعطيهم».

وضعف سنده منجبرٌ بالعمل.

وأورد عليه: بمعارضته بصحيح زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّم، الدالّ على ثبوت الرّبا بينهما.

ص: 36


1- وسائل الشيعة: ج 18/135 ح 23320، الكافي: ج 5/147 ح 2.

ويثبت بينه وبين الذّمي

والمحقّق الأردبيلي رحمه الله(1) جمع بينهما بحمل الصحيح على المعاهد، وحمل هذا الخبر على غيره، ولكنّه جمعٌ تبرّعي، والمتعيّن الرجوع إلى أخبار الترجيح، وهي تقضي تقديم الخبر؛ للشهرة التي هي أوّل المرجّحات، مضافاً إلى ما في الصحيح من الإشكالات، ولذا لم يتعرّض الأصحاب لنقله في المقام كما صرّح به صاحب «الحدائق» رحمه الله(2).

(و) هل (يثبت) الرّبا (بينه) أي بين المسلم (وبين الذّمي) كما هو المشهور بين الأصحاب(3)؟ أم لاربا بينهما إذا كان الآخذ هو المُسلم كما عن السيّد المرتضى(4)وابني بابويه(5) والمفيد(6) والقطيفي(7) وجماعة(6)؟ وجهان:

استدلّ للأوّل بالعمومات.

ولكن يشهد للثاني مرسل الصدوق: «قال الصادق عليه السلام(7): ليس بين المسلم وبين الذّمي رباً».

وأُورد عليه: بضعف السند، وباحتمال إرادة الحرمة من النفي كقوله تعالى :2.

ص: 37


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 8/490.
2- الحدائق الناضرة: ج 19/262.
3- الحدائق الناضرة: ج 19/264.
4- رسائل المرتضى: ج 1/184.
5- المقنع: ص 374. (6و7) حكاه عنه في الجواهر: ج 23/383.
6- السرائر: ج 2/252.
7- وسائل الشيعة: ج 18/136 ح 23323، من لايحضره الفقيه: ج 3/278 ح 4002.

(فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ ) (1) .

ولكن ضعف السند يندفع بما تقدّم من أنّ المُرسِل إذا أسند الخبر إلى المعصوم جزماً، يكون المُرسَل حجّة كما حُقّق في محلّه.

ويندفع الثاني: بأنّ إرادة النهي من النفي وإن كانت ممكنة، إلّاأنّه خلاف الظاهر، بل الظاهر من هذا التعبير - كما في نظائره في المقام وغير المقام - إرادة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع.

وبالجملة: الأظهر عدم حرمة الرّبا بين المسلم والذّمي، ومقتضى إطلاقه عدم الحرمة من الطرفين، إلّاأنّه للإجماع على الحرمة إذا كان الآخذ هو الذّمي يقيّد الإطلاق.

وعلى القول بثبوت الرّبا بين المسلم والذّمي يمكن أن يقال بأنّه بعد وقوع المعاملة يجوز أخذ الرّبا منه من جهة قاعدة الإلزام، كما أفتى به فقيه العصر في «منهاج الصالحين».

وتستفاد القاعدة من الأخبار:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام(2) عن الأحكام، قال عليه السلام:

«تجوزُ على أهل كلّ ذوي دين ما يستحلّون».

ومنها: خبر محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن الإمام الرضا عليه السلام(3):

«عن ميّتٍ ترك أُمّه وإخوةً وأخوات، فقسّم هؤلاء ميراثه، فأعطوا الأُمّ7.

ص: 38


1- سورة البقرة: الآية 197.
2- وسائل الشيعة: ج 26/158 ح 32711.
3- وسائل الشيعة: ج 26/159 ح 32713، تهذيب الأحكام: ج 9/323 ح 17.

السدس، وأعطوا الإخوة والأخوات ما بقي، فمات الأخوات فأصابني من ميراثها فأحببتُ أن أسألك هل يجوز لي أن آخذ ما أصابني من ميراثها على هذه القسمة أم لا؟ فقال عليه السلام: بلى.

فقلت: إنّ امّ الميّت فيما بلغني قد دخلتْ في هذا الأمر أعني الدين ؟

فسكت قليلاً، ثمّ قال: خذه».

ومنها: خبر أيّوب بن نوح، قال: «كتبتُ إلى أبي الحسن عليه السلام(1) أسأله هل نأخذ في أحكام المخالفين ما يأخذون منّا في أحكامهم أم لا؟

فكتب عليه السلام: يجوزُ لكم ذلك إذا كان مذهبكم فيه التقيّة منهم والمداراة».

ومنها: صحيح ابن أبي عمير، عن ابن اُذينة، عن عبد اللّه بن محرز، قال:

«قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام(2): رجلٌ ترك ابنة وأُخته لأبيه واُمّه ؟ فقال عليه السلام: المال كلّه لإبنته، وليس للأُخت من الأب والأُمّ شيء.

فقلت: فإنّا قد احتجنا إلى هذا، والميّت رجلٌ من هؤلاء النّاس، وأُخته مؤمنة عارفة ؟

قال عليه السلام: فخُذ لها النصف، خذوا منهم كما يأخذون منكم في سنتهم وقضاياهم».

قال ابن اُذينة: فذكرتُ ذلك لزرارة، فقال: إنّ عليّ ما جاء به ابن محرز لنوراً».

ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن عليه السلام(3): «ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم».2.

ص: 39


1- وسائل الشيعة: ج 26/158 ح 32710، تهذيب الأحكام: ج 9/322 ح 10.
2- وسائل الشيعة: ج 26/157 ح 32708، الكافي: ج 7/100 ح 2.
3- وسائل الشيعة: ج 26/319 ح 33078، تهذيب الأحكام: ج 9/322 ح 12.

ومنها: ما رواه الشيخ في «التهذيب»، قال: «قد رُوي أيضاً أنّه عليه السلام(1) قال: «إنّ كلّ قومٍ دانوا بشيء يلزمهم حكمهم».

ونحوها غيرها، ولتمام الكلام في خصوصيّات هذه القاعدة محلٌّ آخر.

***3.

ص: 40


1- وسائل الشيعة: ج 26/318 ح 33074، تهذيب الأحكام: ج 9/365 ح 3.

وأمّا الصَّرف: فشرطه التقابض في المجلس

بيع الصّرف

ومن لواحق بحث الرِّبا، بيع الصّرف، وهو لغةً الصوت، وشرعاً أو متشرعيّةً بيع الأثمان وهي الذّهب والفضّة مطلقاً، مسكوكين كانا أم لا بالأثمان، وإنّما سُمّي بالصَّرف لما يشمل عليه من الصوت عن تقليبها في البيع والشراء، وبه يظهر أنّ إطلاقه على ما هو محلّ الكلام من باب إطلاق اللّفظ الموضوع على الكلّي على بعض مصاديقه.

والنسبة بين الرّبا والصَّرف عموم من وجه، ويختصّ الصَّرف ببيع أحد الأثمان بالآخر، ولذلك ذكره المصنّف في آخر كلامه عن الرّبا، قال: (وأمّا الصَّرف فشرطه) أي الشرط المختصّ به زائداً على الربويات: (التقابض) من كلّ منهما (في المجلس).

والمراد ب (المجلس) حال المتبايعين قبل الافتراق؛ إذ ليس في النصوص لفظ (المجلس)، ولا مكان المتبايعين؛ كي يُفسّر (المجلس) بمطلق مكان المتبايعين كما عن بعض الأساطين(1).

بل ذكر في الأخبار التقابض شرطاً لصحّته في تلك الحال، فلو لم يكن بينهما اجتماعٌ حال البيع، كما لو أوقعا العقد بجهاز الهاتف مع كون كلّ منهما في بلدٍ غير بلد

ص: 41


1- وهو المحقّق الايرواني في حاشية المكاسب: ج 2/6 في خيار المجلس، قوله في تعليقه على أنّ المراد بالمجلس مطلق مكان المتبايعينى: (بل المراد به هيئتهما، ونسبتهما المكانيّة الحاصلة لهما حين البيع، فلو فارقا المجلس بهيئتهما وعلى نسبة بعدهما الذي كانا عليه حين العقد بلا زيادة و إنْ نقص، لم يزل الخيار باقياً.. الخ).

الآخر لم يصحّ البيع.

نعم، حيث يكون المراد الاجتماع بالأبدان، فيكون المراد الاجتماع من حيث المكان، وحيث إنّ الغالب من مكان الاجتماع كونه محلّاً للجلوس، فلذا عبّر عنه في كلمات الفقهاء ب (اشتراط التقابض في المجلس).

أقول: وتنقيح القول يتحقّق بالبحث في مسائل:

المسألة الأُولى: التقابض في المجلس بالمعنى المشار إليه، شرطٌ في صحّته، كما هو المشهور بين الأصحاب(1).

وفي «الرياض»(2): (بل لعلّه عليه عامّة من تقدّم وتأخّر عدا من شَذّ وندر).

وفي «الغنية»(3)، و «السرائر»(4)، و «المسالك»(5) وغيرها الإجماع عليه نصّاً في الأولين، ظاهراً في الباقي.

ويشهد به: طائفة من الأخبار:

منها: صحيح منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(6): «إذا اشتريت ذهباً بفضّة أو فضّة بذهب، فلا تفارقه حتّى تأخذ منه، وإن نزى حائطاً فانز معه».

ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، قال(7): «سألته عن الرجل يشتري1.

ص: 42


1- الجواهر: ج 24/4.
2- رياض المسائل: ج 8/334 (ط. ج).
3- حكاه عنه في رياض المسائل: ج 8/443 (ط. ج)، الغنية (الجوامع الفقهيّة): ص 587.
4- السرائر: ج 2/265.
5- مسالك الأفهام: ج 3/333.
6- وسائل الشيعة: ج 18/169 ح 23408، تهذيب الأحكام: ج 7/99 ح 33.
7- وسائل الشيعة: ج 18/167 ح 23401.

من الرجل الدرهم بالدنانير، فيزنها وينقدها ويحسب ثمنها كم هو ديناراً، ثمّ يقول: أرسل غلامك معي حتّى أعطيه الدنانير. فقال: ما أحبّ أن يُفارقه حتّى يأخذ الدنانير.

فقلت: إنّماهم في دارواحدة، وأمكنتهم قريبة بعضها من بعض، وهذايشقّ عليهم ؟

فقال عليه السلام: إذا فرغ من وزنها وانتقادها فليأمر الغلام الذي يرسله أن يكون هو الذي يبايعه، ويدفع إليه الوَرِق ويقبض منه الدنانير حيث يدفع إليه الوَرِق».

والمناقشة فيها: كماعن الأردبيلي(1) بعدظهورقوله عليه السلام: (ما أحبّ ) في عدم الجواز.

مندفعة: بماتكرّر منّا من ظهوره فيه، وذيل الخبر بواسطة أنّه بعد فرض السائل أنّ التقابض (يشقّ عليهم) يعلّمه ما يُسهّل عليهم الأمر من رعاية شرطيّة التقابض.

وأيضاً: يمكن أن يُستدلّ له:

1 - بصحيح محمّد بن قيس، عن أبي جعفر عليه السلام، قال(2): «قال أمير المؤمنين عليه السلام:

لا يبتاع رجلٌ فضّةً بذهب إلّايداً بيد، ولا يبتاع ذهباً بفضّة إلّايداً بيد».

2 - وخبر محمّد بن مسلم(3): «عن الرّجل يبتاع الذّهب بالفضّة مثلاً بمثل ؟ قال: لا بأس به يداً بيد».

وأورد عليهما المحقّق الأردبيلي رحمه الله(4)، بقوله: (إنّ يداً بيد كناية عن النقد لا النسيئة، فلا يدلّ على اشتراط القبض).3.

ص: 43


1- مجمع الفائدة: ج 8/303-304.
2- وسائل الشيعة: ج 18/168 ح 23403، الكافي: ج 5/251 ح 31.
3- وسائل الشيعة: ج 18/169 ح 23407، تهذيب الأحكام: ج 7/98 ح 30.
4- مجمع الفائدة: ج 8/303.

والجواب عنه: ما أفاده صاحب «الحدائق» رحمه الله(1) من أنّ حقيقة هذا اللّفظالمتبادر من حاق النظر فيه، إنّما هو التقابض في المحلّ ، والمعنى الذي ذكره إنّما هو معنى مجازي، وحمل اللّفظ على خلاف حقيقته لا يصار إليه إلّابدليل يمنع من إرادة حقيقية، والأمر إنّما هو بالعكس.

ويشهد به أيضاً: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(2)، قال:

«سألتُ عن رجل ابتاع من رجلٍ بدينار وأخذ بنصفه بيعاً، وبنصفه وَرِقاً؟ قال: لا بأس.

وسألته هل يصلح أن يأخذ بنصفه وَرِقاً أو بيعاً ويترك نصفه حتّى يأتي بعد فيأخذ به وَرِقاً أو بيعاً؟

فقال: ما أحبّ أن أترك منه شيئاً حتّى آخذه جميعاً، فلا تفعله».

ولو نوقش في ظهور (ما أحبّ ) في الحرمة، فإنّه لا مجال للمناقشة هنا بقرينة قوله عليه السلام في ذيله: «فلا تفعله».

أقول: وبإزاء هذه الأخبار طائفة من النصوص، ظاهرة في عدم الاشتراط، كأخبار السّاباطي الأربعة عن الإمام الصادق عليه السلام(3)، المتضمّنة لنفي البأس عن بيع الدّراهم بالدنانير نسيئةً ، وعن سلف الدنانير بالدراهم.

وخبر زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام(4): «لا بأس أن يبيع الرجل الدنانير نسيئةً3.

ص: 44


1- الحدائق الناضرة: ج 19/279.
2- وسائل الشيعة: ج 18/169 ح 23409، الكافي: ج 5/247 ح 13.
3- وسائل الشيعة: ج 18/169 ح 23410، تهذيب الأحكام: ج 7/100 ح 37.
4- وسائل الشيعة: ج 18/170 ح 23413.

بمائة أو أقلّ أو أكثر».

ومكاتبة محمّد بن عمر، إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام(1): «أنّ امرأةً من أهلنا أوصت أن يدفع إليك ثلاثين ديناراً، وكان لها عندي، فلم يحضرني فذهبتُ إلى بعض الصيارفة، فقلت: أسلفني دنانير على أن أعطيك ثمن كلّ دينار ستّة وعشرين درهماً، فأخذتُ منه عشرة دنانير بمائتين وستّين درهماً، وقد بعثتها إليك. فكتب إليَّ : وصلت الدنانير».

قال الشيخ رحمه الله(2): بعد نقله أخبار عمّار:

(والأصل فيها عمّار، فلا تعارض الأخبار الكثيرة السالفة.

ثمّ قال: ويحتمل أنّ قوله: (نسيئةً ) صفة لدنانير، ولا يكون حالاً للبيع، بمعنى أنّ من كان له على غيره دنانير نسيئةً ، جاز أن يبيعها عليه في الحال بدراهم، ويأخذ الثمن عاجلاً). انتهى .

وأورد عليها جماعة: بضعف الإسناد، ولكن لو سُلّم المناقشة في سند بعضها، في لا تتمّ في الجميع، وروايات عمّار موثّقات، ولم يظهر لي مراد الشيخ ممّا قاله: (الأصل فيها عمّار)، فلا تعارض الأخبار السالفة، وما ذكره من الاحتمال خلاف الظاهر جدّاً، مع أنّه لا يأتي في سائر الأخبار، وصاحب «الحدائق» رحمه الله(3) حَمَلها على التقيّة، ولكن الموافقة للعامّة من مرجّحات أحد المتعارضين على الآخر بعد فقد جملةٍ من المرجّحات، فهي لا تصلح لحمل الخبر غير المعارض على التقيّة، فضلاً عمّا إذا لم2.

ص: 45


1- وسائل الشيعة: ج 18/171 ح 23415، تهذيب الأحكام: ج 7/101 ح 42.
2- الاستبصار: ج 3/95.
3- الحدائق الناضرة: ج 19/282.

يكن الخبر موافقاً لمذهب العامّة.

والحقّ أن يقال: إنّ هذه النصوص معارضة لما تقدّم، والترجيح مع ما تقدّم، فلابدّ من طرح هذه كما عن «الدروس»، أو حملها على بعض المحامل غير المنافي لتلك النصوص.

فإن قيل: إنّ الجمع بينهما يقتضي حمل تلك النصوص على الكراهة.

أجبنا عنه: إنّه ليس جمعاًعرفيّاً، وعليفرضه فهذه مُعرضٌ عنها عند الأصحاب.

فالمتحصّل: أنّه لا إشكال في عدم الجواز.

أقول: وعن جماعة من الأساطين منهم المصنّف رحمه الله في «التذكرة»(1)، والشهيد في «الدروس»(2): التقابض قبل الافتراق زائداً على كونه شرطاً للصحّة واجبٌ ، ويأثمان بتركه كما يأثمان بالربا، فإن أرادا التفرّق قبله لتعذّر التقابض، يفسخان العقد، ثمّ يفترقان.

والظاهر أنّ منشأ النهي عن الافتراق قبل التقابض الظاهر في الحرمة، أو إثبات البأس على ما لو لم يتقابضا، وظاهره تبعيّة التكليف، وأظنّ أنّ نظر الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(3) إلى الثاني، حيث قال: (وفي الأخبار ما ينبّه على التحريم).

ولكن النهي في غير باب المعاملات والموانع وإن كان ظاهراً في المولويّة النفسيّة، ولكن في هذين البابين يكون ظاهراً في الإرشاد إلى البطلان، أو المانعيّة، ألا ترى أنّه لم يتوهّم أحدٌ ممّا تضمّن النهي عن بيع الغرر كونه بصدد إثبات حرمته دون الفساد،4.

ص: 46


1- تذكرة الفقاء: ج 10/413 (ط. ج).
2- الدروس: ج 3/299.
3- مسالك الأفهام: ج 3/334.

أو أنّه لم يقل أحدٌ أن لبس غير المأكول حرامٌ في الصلاة، لا موجب للبطلان.

وبالجملة: هذا النهي كسائر ما ورد في أمثال المقام ظاهرٌ في كونه إرشاداً، وأمّا البأس فهو بمعنى المنع والشدّة، وما يقرب من ذلك، فهو أيضاً ظاهر في إفادة الحكم الوضعي دون التكليفي.

فالمتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة الافتراق قبل التقابض، فما عن الأكثر من كونه شرطاً للصحّة لا واجباً، بحيث يأثم بتركه هو الأظهر.

ولا يخفى أنّ الظاهر من دليل الاشتراط، كونه من قبيل الشرط المقارن لا المتأخّر؛ إذ الشرط المتأخّر لو تعقّلناه لا ريب في كونه خلاف الظاهر، كما أنّ الظاهر من الأدلّة كون التقابض قبيل الافتراق شرطاً للصحّة، فقبله لا صحّة فلا إنتقال.

وعليه، فالقول بكشفه عن حصول الملك من أوّل العقد مبنيٌّ على قاعدة اقتضاء العقد الملك، وغاية ما ثبت بالدليل أنّه شرط، أمّا أنّه هل هو بنحو الشرط المقارن أو المتأخّر فهو ساكتٌ عنه، والقاعدة تقتضي الثاني، أو أنّ المتيقّن من دليل التقابض أن الافتراق قبل التقابض يُبطل العقد، فهو نظير الفسخ بالخيار أو الإقالة. غير تامّ .

حكم بيع الوكيل وقبضه

أقول: وتمام الكلام في المقام يتحقّق بالبحث في فروع:

الفرع الأوّل: لو وكّل أحدهما غيره في القبض عنه، فقبض الوكيل قبل تفرّق المتعاقدين صَحّ ، ولو قبض بعده بطل، وكذا لو وكّلا معاً على القبض عنهما، ولا

ص: 47

اعتبار هنا في مفارقة الوكيل لهما أو لأحدهما، وهذا كلّه واضح.

إنّما الكلام فيما لو وكّلا أو أحدهما على الصَّرف خاصّة، أو مع القبض، فهل العبرة حينئذٍ:

بالمفارقة من وقع العقد معه، كما في «المسالك»(1) و «جامع المقاصد»(2)، وعن «الروض»(3)، و «الروضة»(4)؛ لأنّ الضابط التقابض قبل تفرّق المتعاقدين، سواءٌ كانا مالكين أو وكيلين ؟

أم بتفرّق من له العقد وهو المالك الموكّل ؟

أم يعتبر تفرّقها؟

أقول: المستفاد من النصوص - سيّما خبر البجلي - أنّ الشرط هو تقابض من له ذلك وهو المالك ووكيله المفوض أو في القبض قبل تفرّق المتبائعين، وعليه فلا عبرة بتفرّق المالكين الموكّلين مع عدم تفرّق الوكيلين في العقد.

وهل تبطل بتفرّق الوكيلين مع عدم تفرّق الموكلين ؟

الظاهر عدم البطلان؛ لأنّ الشرط هو التقابض قبل تفرّق المتبائعين، والبائع كما يصدق على الوكيل يصدق على المصدّق، إذ البائع كما يصدق على المُنشيء وموجد البيع، صادقٌ على من كان حصول البيع باختياره واستقلاله وسلطانه، ولو كان غير مباشرٍ له فيقال: (فلانٌ باع داره)، وإن كان البيع صادراً عن وكيله.8.

ص: 48


1- مسالك الأفهام: ج 3/334.
2- جامع المقاصد: ج 4/181.
3- حكاه عنه في الجواهر: ج 24/9.
4- الروضة البهيّة: ج 1/308.

وإنْ أبيت إلّابظهور البائع في العاقد، فبما أنّ العقد كما ينسب إلى الوكيل بالمباشرة، ينسب إلى الموكّل بالتسبيب، لا سيّما إذا كان وكيلاً في إجراء الصيغة خاصّة، فلا إشكال في أنّ التقابض قبل تفرّق الوكلين كافٍ وإن افترق الوكيلان.

فالمتحصّل: إنّ الشرط أعمٌّ من قبض الموكلين أو الوكيلين قبل تفرّق الموكّلين أو الوكيلين، فتدبّر فإنّه حقيق به.

الفرع الثاني: لو كان العقد صادراً من الفضوليين، فالعبرة بتقابض المالكين حين الإجازة، فلو كانا في ذلك مجتمعين شملهما، ما دلَّ على اعتبار تقابضهما والاكتفاء به، وما أفاده بعض الأساطين(1) من أنّه يحتمل دخل خصوصيّة الاجتماع حال العقد والتقابض في تلك الحالة الاجتماعيّة، غير تامٍّ ؛ لأنّه خلاف الإطلاق.

الفرع الثالث: لو كان العاقد واحداً لنفسه، أو غيره عن نفسه، أو غيره ولايةً أو وكالةً ؛ فقد يقال ببطلان البيع؛ لعدم إمكان وجود شرط الصحّة، وهو التقابض قبل الافتراق، وذلك لوجهين:

أحدهما: إنّ الموضوع هو تقابض المتبايعين، وهذا اللّفظ ظاهرٌ في التعدّد، ولا يشمل ما إذا كان البائع والمشتري واحداً.

ثانيهما: إنّ الافتراق المجعول غاية، ومقابله الذي هو قيد للموضوع من قبيل العدم والملكة، والشخص الواحد غير قابلٍ لعروض الافتراق عليه، فيكون خارجاً عن مورد الحكم.

وبعبارة اُخرى : إنّ الافتراق قيدٌ للمتعلّق، فالشرط هو التقابض قبل الافتراق،2.

ص: 49


1- مصباح الفقاهة: ج 6/92.

أي التقابض الملحوق به، فإذا لم يكن الافتراق لم يكن تحقّق شرط الصحّة.

ولكن يردّ الأوّل: أنّ التثنية في المقام باعتبار العنوان، أي البائع والمشتري، لا الأفراد، والعنوان في المقام متعدّدٌ.

ويردّ الثاني: أنّ الافتراق ليس عبارة عن عدم الاجتماع، بل الافتراق أمرٌ وجودي وهو عدمه من قبيل السلب والإيجاب لا يعقل ارتفاعها، والافتراق لم يُجعل قيداً للمتعلّق بالنحو المشار إليه، بل هو غاية بمعنى ما ينتهي عنده المتعلّق.

وعليه، فالأظهر كفاية التقابض.

فعلى القول بصحّة البيع، وكفاية تقابض الشخص الواحد وكالةً عن شخصين، أو ولايةً عليهما، أو وكالة عن شخص أو ولاية عليه وأصالة من طرف نفسه، فالظاهر عدم بطلان البيع وإنْ طال التقابض.

وقد يقال: إنّه يعتبر إلى مقدار طول مجلس نوع المتعاقدين، بمعنى مقدار أطول المجالس أو أوسطها.

وفيه: إنّ الافتراق لم يُجعل غايةً من جهة كونه طريقاً إلى مقدارٍ من الزمان كي يجري فيه ذلك، بل الظاهر من النّص دخله فيه من حيث هو.

وبالتالي، فالأظهر كفاية التقابض ولو بعد مدّة مديدة.

لو كان عليه دنانير فاشترى بها دراهم

الفرع الرابع: لو كان لشخصٍ على آخر دنانير أو دراهم، فاشترى بها منه دراهم أو دنانير، صَحّ البيع؛ وإنْ لم يقبض النقود المبتاعة:

1 - لأنّ ما في الذمّة بمنزلة المقبوض.

ص: 50

2 - ولصحيح إسحاق بن عمّار، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام(1): تكون للرّجل عندي الدّراهم الوضح فيلقاني فيقول: كيف سعر الوضع اليوم ؟ فأقول له: كذا وكذا، فيقول: أليس لي عندك كذا وكذا ألف درهم وضحاً؟ فأقول: بلى.

فيقول لي: حوّلها دنانير بهذا السعر، وأثبتها لي عندك، فما ترى في هذا؟

فقال عليه السلام لي: إذا كانت قد استقصيت له السعر يومئذٍ، فلا بأس بذلك.

فقلت: إنّي لم أوازنه ولم اُناقده، إنّما كان كلامٌ منّي ومنه.

فقال: أليس الدّراهم من عندك و الدنانير من عندك ؟ قلت: بلى . قال: فلابأس بذلك».

وموثّق عبيد بن زرارة، عنه عليه السلام(2): «عن الرجل يكون لي عنده دراهم فآتيه فأقول حوّلها دنانير من غير أن أقبض شيئاً؟ قال عليه السلام: لا بأس».

وظاهر الخبرين هو وقوع المعاملة منهما بذلك، لا حصول التحويل بمجرّد الأمر بالتحويل.

أقول: وبعد ورود النّص الصحيح، وعمل القوم به، لا مورد لما في كلمات الأصحاب من تنزيل النّص على إرادة التوكيل في القبض، أو فيه وفي البيع، وأنّ ما في الذمّة له وعليه مقبوضٌ ، فإنّ ذلك كلّه اجتهادٌ في مقابل النّص.

كما أنّه لا وجه لما أفاده الشهيدالثاني رحمه الله(3): (وربما بنوا حكمهم على مقدّمات، يلزم من صحّتها صحّة الحكم:

المقدّمة الأُولى: إنّ الأمر بالتحويل توكيلٌ في تولّي طرفي العقد.

المقدّمة الثانية: أنّه يصحّ تولّي طرفي العقد من الواحد.6.

ص: 51


1- وسائل الشيعة: ج 18/174 ح 23423، الكافي: ج 5/245 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 18/175 ح 23424، الكافي: ج 5/247 ح 12.
3- مسالك الأفهام: ج 3/336.

المقدّمة الثالثة أنّه يصحّ أيضاً تولية طرفي القبض.

المقدّمة الرابعة: أنّ ما في الذمّة مقبوض.

المقدّمة الخامسة: أن يبيع ما في الذمّة للغير من الدَّين الحالّ بثمنٍ في ذمّته، ليس بيع دين بدين.

المقدّمة السادسة: إنّ الوكيل في البيع إذا توقّفت صحّته على القبض، يكون وكيلاً فيه، وإلّا فإنّ مطلق التوكيل في البيع لا يقتضي التوكيل في القبض.

فإذا سلّمت هذه المقدّمات، صحّت المسألة)، انتهى .

فإنّ ذلك متينٌ إنْ لم يكن في المسألة نصٌ معمول به، ومعه لا وجه لبنائه عليها، ولذا أفتى بالخبرين من لا يقول ببعض تلك المقدّمات.

هذا كلّه فيما لو كان عليه دراهم.

وأمّا لو اشترى منه دراهم بعقد الصّرف، ثمّ ابتاع بها منه دنانير قبل قبض الدّراهم، لم يصحّ البيع الثاني مطلقاً، وكذا الأوّل إنْ تفرّقا قبل التقابض:

أمّا البطلان في البيع الثاني: فلأنّه باع ما لا يملك.

وأمّا في البيع الأوّل: فلعدم التقابض الذي هو شرط الصحّة.

أقول: واستدلّ له المصنّف رحمه الله في محكي «المختلف»(1) بصحيح إسحاق بن عمّار(2)، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يجيء بالورِق يبيعها، يريدُ بها ورِقاً عندي فهو اليقين أنّه ليس يريد الدنانير ليس يريد إلّاالورق، ولا يقوم حتّى يأخذ4.

ص: 52


1- مختلف الشيعة: ج 5/110.
2- وسائل الشيعة: ج 18/176 ح 23428، الكافي: ج 5/248 ح 14.

ورقي فاشتري منه الدّراهم بالدنانير، فلا تكون دنانيره عندي كاملة، فاستقرض له جاري فأعطيه كمال دنانيره، ولعلّي لا أحرر وزنها، فقال: أليس يأخذ وفاء الذي له ؟ قلت: بلى قال عليه السلام: ليس به بأس».

وفي «الجواهر»(1): (وكأنّه لم يفهم منه البأس إذا لم يقبض الدنانير؛ إذ المراد أنّي أستقرض به الدنانير، ثمّ أشتريها منه بالورق الذي يريده، كما يومئ إليه في صدر الخبر، ويمكن أن يكون مراد السائل التوقّف من جهة عدم إحراز الوزن، فيخرج حينئذٍ عن الاستدلال) انتهى .

أقول: وكيف كان، فالحكم مشهورٌ بين الأصحاب، وخالف القوم جماعة:

منهم: الشهيد الثاني(1) مع التقابض قبل التفرّق، وألحقاه بالفضولي، وفي «الرياض»، ومختارهما لا يخلو من قوّة، لعموم دليل الفضولي، بل فحواه.

والصحيح أنّ القول بالصحّة هنا يتوقّف على القول بالصحّة فيما لو باع شيئاً ثمّ ملك، لا بالقول بالصحّة في الفضولي مطلقاً.

ومنهم: ابن إدريس رحمه الله(2) فإنّه فصّل بين ما إذا كان النقد المبتاع معيّناً، وحصل التقابض في المجلس فالصحّة، وإلّا بأن كان النقد المبتاع في الذمّة، أو لم يحصل التقابض فيه فضدّها لوجود موجبه في الثاني، ولزوم بيع الدين بالدين في الأوّل.

ويرد عليه: ما أورده جماعة(4) عليه من أنّ الممنوع بيع الدين قبل البيع به كذلك، لا ما كانا أو أحدهما بعقد البيع.8.

ص: 53


1- مسالك الأفهام: ج 3/335.
2- السرائر: ج 2/267-268.

فإنْ تساوى الجنس، وَجَب تساوي المقدار،

ومنهم: صاحب «التنقيح» قال(1): (لنا أن نقول إنّ بطلان البيع بالتفرّق قبل التقابض لا يستلزم عدم تملّك المشتري؛ لجواز تملّكه مِلكاً متزلزلاً كالبيع في زمان الخيار، فإنْ قبض لزم، وإلّا بطل، وإذا مَلك صَحّ البيع الثاني؛ لأنّه اشترى بثمن مملوك، وصَحّ البيع الأوّل أيضاً؛ لأنّه وإنْ لم يقبض الدّراهم، لكن قبض عوضها وهو الدنانير، وقبض العوض كقبض المعوّض).

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ القبض شرطٌ مقارن.

وثانياً: أنّه لم يدلّ دليل على أنّ قبض العوض كقبض المعوّض.

وعليه، فالصحيح ما ذكرناه.

التفاضل في الجنس الواحد

قد عرفت أنّ النسبة بين الرّبا وبيع الصّرف عمومٌ من وجه، والمجمع هو بيع أحد النقدين بجنسه، والمصنّف رحمه الله بعد بيان شرطيّة التقابض نبّه على أنّ لبيع الصّرف قسمين:

القسم الأوّل: صرفٌ فقط.

القسم الآخر: صرفٌ وربا.

(فإنْ تساوى الجنس) أي بيع أحد النقدين بالآخر (وجبَ تساوي المقدار)

ص: 54


1- التنقيح: ج 2/98-99.

وإلّا فلا.

وأن لا يتفاضل أحدهما على الآخر، (وإلّا) كما لو باع أحد النقدين بالآخر (فلا) يجب التساوي، بل يجوز التفاضل من غير فرقٍ في الموردين بين الاختلاف في الجودة والرداءة والصفة.

أقول: هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل عليه الإجماع في كثيرٍ من الكلمات.

أمّا وجوب التساوي مع الاتّحاد: فيشهد به - مضافاً إلى عمومات الرّبا، إنّ النقدين من الموزونات حتّى المسكوك منها، والاكتفاء بالعدّ في بعض الأزمنة أو الأحوال إنّما هو لمعلوميّة وزن الأصل، وهو الذّهب والفضّة، فيكون عدم الوزن اعتماداً عليها، وإلّا فلا يكتفي به.

ففي خبر عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قلت له: أشتري الشيء بالدراهم فأعطى الناقص الحبّة والحبّتين ؟ قال عليه السلام: لا حتّى تبيّنه، ثمّ قال: إلّا أن يكون نحو هذه الدّراهم الأوضاحية التي يكون عندنا عدداً»(1).

وفي خبره الآخر(2): «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل يشتري المبيع بدرهم، وهو ينقص الحبّة ونحو ذلك، أيعطيه الذي يشتريه منه ولا يُعلمه أنّه يُنقص ؟

قال عليه السلام: لا، إلّاأن يكون مثل هذه الأوضاحية يجوز كما يجوز عندنا عدداً».

جملة من النصوص:0.

ص: 55


1- وسائل الشيعة: ج 18/187 ح 23454، تهذيب الأحكام: ج 7/110 ح 82.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 3/223 ح 3830.

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام(1): «الفضّة بالفضّة مِثْلاً بمثل، ليس فيه زيادة ولا نقصان، الزائد والمستزيد في النار».

ومنها: خبر وليد بن صبيح، عنه عليه السلام(2): «الذّهب بالذّهب والفضّة بالفضّة، الفضل بينهما هو الرّبا المنكر».

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام(3): «الورِق بالورِق وزناً بوزن، والذّهب بالذهب وزناً بوزن».

ونحوها غيرها.

وأمّا جواز البيع مع الاتّحاد وإن اختلفا في الجودة والرداء: فلما مرّ من أنّ جيّد كلّ جنسٍ مع رديئه واحد، ويشهد به في المقام:

1 - صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام(4): «عن الرجل يستبدل الكوفيّة بالشاميّة وزناً بوزن، فيقول الصيرفي: لا أبدّل لك حتّى تبدل لي يوسفيّة بغلة وزناً بوزن ؟ فقال عليه السلام: لا بأس.

فقلت: إنّ الصيرفي إنّما طلب فضل اليوسفيّة على الغلّة ؟ فقال عليه السلام: لا بأس به».

وخبر أبي بصير، عنه عليه السلام(5): «عن رجلٍ يستبدل الشاميّة بالكوفيّة وزناً بوزن ؟ فقال عليه السلام لا بأس».3.

ص: 56


1- وسائل الشيعة: ج 18/165 ح 23395، تهذيب الأحكام: ج 7/98 ح 25.
2- وسائل الشيعة: ج 18/165 ح 23396، تهذيب الأحكام: ج 7/98 ح 27.
3- وسائل الشيعة: ج 18/166 ح 23397، تهذيب الأحكام: ج 7/98 ح 29.
4- وسائل الشيعة: ج 18/181 ح 23438، الكافي: ج 5/247 ح 11.
5- وسائل الشيعة: ج 18/182 ح 23440، تهذيب الأحكام: ج 7/104 ح 53.

ولو قبض البعض صَحّ فيه خاصّة.

وأمّاجواز البيع مع الاختلاف: فلوجود المقتضي، واستكمال الشروط، وعدم المانع.

(ولو قبض البعض) خاصّة قبل التفرّق فهناك أحكام:

منها: أنّه ي (صحّ ) البيع (فيه خاصّة)، ولا يصحّ في غيره، والظاهر أنّه لا خلاف فيها.

ويشهد للأوّل: وجود المقتضي، والشرائط، فالعموماتُ مقتضية للصحّة.

وللثاني: انتقاء الشرط الموجب للفساد.

وأمّا صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام(1): «عن الرجل يبتاع من رجل بدينار فيؤخذ بنصفه بيعاً وبنصفه ورِقاً؟ قال: لا بأس.

فسألته هل يصحّ أن يأخذ بنصفه ورِقاً أو بيعاً ويترك نصفه حتّى يأتي بعدُ فيأخذ منه ورقاً أو بيعاً؟

قال عليه السلام: ما أحبّ أن أترك شيئاً حتّى آخذه جميعاً، فلا تفعله».

فالظاهر إلى صحّة المجموع من حيث المجموع.

ومنها: أنّه إنْ لم يكن تأخير القبض بتفريطٍ من أحدهما، تخيّرا معاً في الفسخ والإمضاء؛ لتبعّض الصفقة الموجب للخيار على ما تقدّم في مبحث الخيارات(2).

ومنها: أنّه إذا كان ذلك بتفريطهما فلا خيار لهما، والمستند هو أصالة اللّزوم، والعمومات بعدعدم الموجب للخيار؛ لأنّ الضَّرر إنّماجاء من إقدامها، فلاموجب للخيار.ن.

ص: 57


1- وسائل الشيعة: ج 18/169 ح 23409، الكافي: ج 5/247 ح 13.
2- راجع المجلّد الخامس و العشرون.

ولو فارقا المجلس مصطحبين، ثُمّ تقابضا صَحّ .

ومعدن الذّهب يُباع بالفضّة وبالعكس.

ويمكن أن يقال: إنّ عدم إقباض كلّ منهما موجبٌ لخيار صاحبه، وهو لايكون مقدماً عليه.

نعم، ما ذكروه من أنّ عدم القبض لو كان بتفريطٍ من أحدهما سقط خياره خاصّة؛ متينٌ .

الفرع الخامس: (ولو فارقا المجلس مصطحبين، ثُمّ تقابضا صَحّ ) الصَّرف بلا خلاف، وقد أشبعنا الكلام فيه عند بيان شرطيّة التقابض في المجلس، وبيَّنا أنّ المراد هو التقابض قبل التفرّق.

بيع معدن الذّهب والفضّة

المسألة الثانية: في حكم بيع معدن الذّهب والفضّة، المشتمل على التراب والذّهب والفضّة.

(و) المشهور بين الأصحاب(1) أنّ (معدن الذّهب يُباع بالفضّة وبالعكس) سواءٌ علم المساواة أو عدمها، أو لم يعلم شيءٌ منهما، وذلك لعدم الرّبا؛ لإختلاف الجنس، فتشمله العمومات المقتضية للصحّة.

وهل يجري عليه حكم الصَّرف ؟ وجهان.

ص: 58


1- الخلاف: ج 3/83.

ففي «الجواهر»(1): (وإنْ تحقّق الصَّرف باعتبار وجود الأجزاء الذهبيّة والفضيّة في التراب، لأنّه مستحيلٌ بالعمل).

والظاهر أنّ نظرة إلى رَدّ صاحب «الحدائق»(1) حيث قال: (والظاهر أنّ مثل هذا لا يدخل في باب الصَّرف، فيشترط في صحّته التقابض في المجلس أو قبل التفرّق؛ لأنّه لا يصدق عليه بيع الأثمان بالأثمان، وعدم صدق الذّهب والفضّة، وإنّما هو تراب الذّهب وتراب الفضّة).

وما أفاده صاحب «الجواهر»(3) أظهر؛ لأنّ الذّهب والفضّة موجودان في المعدن، لا أنّهما يوجدان بالعمل.

وهل يجوز بيع معدن الذّهب بالذهب، ومعدن الفضّة بالفضّة، مع عدم العلم بالمساواة ؟

قالوا: لا يجوز احتياطاً وتحرّزاً عن الوقوع في الرّبا.

فإن قيل: إنّ معدن الذّهب غير الذّهب، وكذا معدن الفضّة غير الفضّة.

أجبنا عنه: بأنّه قد تقدّم أنّ الأصل والنوع جنسٌ واحد، بل حيث تقع المعاملة على خصوص الذّهب والفضّة إذ لا قيمة لترابها، فالجنس واحد.

ومع ذلك ففي النفس شيء؛ إذ شرط جريان الرّبا هو كون العوضين من قسم المكيل أو الموزون، والذّهب والفضّة وإن كانا كذلك، إلّاأنّ معدن الذّهب والفضّة لايُباع بالوزن، بل بالمشاهدة، وعليه فالظاهر عدم جريان الرّبا فيه، فيصحّ البيع ولو علم بعدم المساواة.

***3.

ص: 59


1- الحدائق الناظرة: ج 19/293.

والدّراهم المغشوشة إذا كانت معلومة الصَّرف، جاز إنفاقها

بيع الدّراهم المغشوشة

المسألة الثالثة: (والدّراهم المغشوشة إذا كانت معلومة الصَّرف) بين النّاس، وكانت رائجة بينهم مع العلم بالغِشّ (جاز إنفاقها) والمعاوضة عليها وضعاً وتكليفاً بلا خلافٍ (1)؛ لأنّ الجواز:

1 - تابعٌ للرواج، وهو تابع لاعتبار من بيده أزمّة الاُمور من غير فرقٍ بين كون المادّة مغشوشة وغير مغشوشة.

2 - ولجملةٍ من النصوص:

منها: صيح محمّدبن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام(2): «جاء رجلٌ من سِجستان، فقال له: إنّ عندنا دراهم يقال لها الشاميّة تُحمل على الدّراهم دانقين ؟

فقال عليه السلام: لا بأس به إذا كانت تجوز».

ومنها: خبر حريز بن عبد اللّه، قال(3): «كنتُ عند أبي عبد اللّه عليه السلام فدخل عليه قومٌ من أهل سِجستان فسألوه عن الدّراهم المحمول عليها؟ فقال عليه السلام لا بأس إذا كانت جواز المَصر».

ومنها: معتبر البقباق، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام(4) عن الدّراهم المحمول

ص: 60


1- مسالك الأفهام: ج 3/388، رياض المسائل: ج 8/455 (ط. ج). وغيرهم.
2- وسائل الشيعة: ج 18/187 ح 23453، من لا يحضره الفقيه: ج 3/289 ح 4040.
3- وسائل الشيعة: ج 18/188 ح 23457، الكافي: ج 5/253 ح 3.
4- وسائل الشيعة: ج 18/188 ح 23456، الكافي: ج 5/253 ح 4.

وإلّا

عليها؟ فقال: إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس، وإن أنفقت ما لا يجوز بين أهل البلد فلا».

(وإلّا) أي وإن كانت مجهولة الصَّرف، فالكلام فيه في موضعين:

الأوّل: في صورة العلم بالغِشّ .

الثاني: في صورة الجهل.

أمّا الموضع الأوّل: فالكلام فيه يقع:

تارةً : في جواز الانتفاع بها في التزيّين ونحوه.

واُخرى : في جواز المعاوضة عليها وعدمه.

ويشهد للجواز: جملة من النصوص:

منها: خبر ابن رئاب، قال: «لا أعلمه إلّاعن محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام(1): الرجل يعمل الدّراهم ويحمل عليها النحاس أو غيره ثمّ يبيعها؟ فقال عليه السلام: إذا كان بين ذلك فلا بأس». ونحوه غيره.

واستدلّ للمنع:

1 - بما دلَّ على حرمة الغِشّ .

2 - وبقوله عليه السلام(2) في خبر المفضّل بن عُمر الجُعفي مشيراً إلى درهمٍ مغشوش:

«اكسره؛ فإنّه لا يحلّ بيع هذا ولا إنفاقه».2.

ص: 61


1- وسائل الشيعة: ج 18/185 ح 23449، الكافي: ج 5/253 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 18/186 ح 23452، تهذيب الأحكام: ج 7/109 ح 72.

فلا، إلّاأن يبيِّن حالها

3 - وبخبر موسى بن بكر، قال(1): «كنّا عند أبي الحسن عليه السلام فإذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينارٍ فأخذه بيده ثمّ قطّعه بنصفين، ثمّ قال لي: ألقه في البالوعة حتّى لا يباع شيءٌ فيه غِش».

4 - وبقول الإمام الصادق عليه السلام(2) في خبر «دعائم الإسلام»: «في الستوق يقطع ولا يحلّ أن يُنفق».

أقول: وفي الجميع نظر.

أمّا نصوص الغِشّ : فلعدم شمولها لما نحن فيه؛ لتوقّف صدق الغِشّ على علم الغاش وجهل المغشوش، فلا يصدق في فرض علم المغرور.

وأمّا الأخبار الأُخر: فضعيفة السند، لأنّ في طريق خبر الجُعفي، علي بن الحسين الصيرفي، والثاني مرسلٌ ، وخبر دعائم الإسلام قد عرفت حاله في هذا الكتاب من أنّ أخبارها غير منجبرة بعمل الأصحاب، مع أنّه لو تمّ سندها فإنّ نسبتها مع النصوص المشار إليها عمومٌ مطلق، (ف) الجمع بين الطائفتين يقتضي البناء على أنّه (لا) يجوز إنفاقها (إلّا أن يبيِّن حالها).

وأمّا الثاني: فالأظهر جواز المعاوضة عليها وضعاً وتكليفاً؛ إذ مضافاً إلى أنّ ذلك ممّا تقتضيه القاعدة، بعد فرض جواز الانتفاع بها - يشهد له: صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم، ونحوه غيره، ونصوص الغِشّ والأخبار الخاصّة قد عرفت حالها.9.

ص: 62


1- وسائل الشيعة: ج 17/280 ح 22523، الكافي: ج 5/160 ح 3.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/350 ح 15576، دعائم الإسلام: ج 2/29 ح 59.

وبالجملة: بما ذكرناه يظهر ضعف أفتاه المحقّق النائيني رحمه الله(1) بالفساد، لأجل عدم وجود المنفعة لها، المستفاد ذلك من خبر موسى بن بكر، ولا فرق في ذلك كلّه بين علم البائع وجهله.

وأمّا الموضع الثاني:

فتارةً : يكونان جاهلين معاً.

واُخرى : يكون المشتري جاهلاً والبائع عالماً.

أمّا إذا كانا جاهلين: فلا دليل على الحرمة التكليفيّة ولا وجه لها.

وأمّا إذا كان المشتري عالماً: فهو يحرم لكون ذلك غِشّاً في المعاملة.

هذا بالنسبة إلى الحكم التكليفي.

وأمّا من حيث الحكم الوضعي أي صحّة المعاملة وفسادها، فمحصّل القول فيه: إنّ صور المسألة أربع:

الأُولى: أن يوقع المعاملة على الكلّي.

الثانية: أن يبيع مثلاً الدرهم المسكوك بسكّة المعاملة بهذا العنوان، أي الدرهم الخارجي المعنون بهذا العنوان.

الثالثة: أن يبيع مثلاً الدرهم الخارجي معتقداً أنّه فضّة مسكوكة بسكّة السلطان.

الرابعة: أن يبيع المادّة بلا هيئة.

أمّا الصورة الأُولى : فلا إشكال في عدم فساد البيع فيها، وعدم ثبوت الخيار، وإنّما عليه التبديل.2.

ص: 63


1- المكاسب والبيع للنائيني: ج 1/22.

وأمّا الصورة الثانية:

1 - فإمّا أن يظهر عدم كونه مسكوكاً بسكّة المعاملة الرائجة.

2 - أو يظهر عدم كونه فضّة بل نحاساً بتمامه.

3 - أو يظهر كون المادّة مغشوشة، بأن كانت فضّةً ونحاساً.

فقد استدلّ للبطلان في جميع الفروض: بأنّ المبيع هو العنوان غير المنطبق على ما في الخارج، كما إذا باع هذا الحمار فانكشف أنّه فرس.

ولكن هذا الوجه يتمّ في الفرض الثاني، من جهة أنّ الفضّة والنحاس عنوانان مختلفان حقيقةً ، ولا يتمّ في الفرض الأوّل والأخير.

أمّا في الأوّل: فلأنّ كون الفضّة مسكوكة بسكّة المعاملة، ليس إلّاوصفاً لها، فتخلّفه تخلّفٌ للوصف، ولا يوجب ذلك إلّاالخيار، لأنّ الميزان في هذا الباب هو نظر العرف.

وأمّا في الأخير: فلأنّ الغِشّ في المادّة يوجبُ ثبوت خيار العيب؛ لأنّ المغشوش معيبٌ غيره، نظير شوب اللّبن بالماء، لا أنّه عنوان مغايرٌ.

واستدلّ لفساد البيع في الفرض الأوّل: بأنّ العقد وقع على الموجود الخارجي المتشكل بهذا الشكل الذي لا يصحّ بيعه، فيكون فاسداً؛ لما دلَّ عليه، فإنّه غير جائز البيع بذاته، لا بما أنّه معلوم.

وفيه: أنّ الهيئة التي تنحصر فائدتها في المحرّم، الموجب ذلك لفساد البيع، ليست ملحوظة في المبيع، ولم تقع المعاملة عليها، وما لوحظ إنّما هي الخصوصيّة المفقودة التي عرفت أنّ فقدها لا يوجبُ البطلان.

وعليه، فالأظهر هي الصحّة في الفرض الأوّل والأخير.

ص: 64

نعم، في الفرض الأوّل يثبت خيار التدليس، أو خيار تخلّف الوصف، وفي الأخير خيار العيب.

وأمّا الصورة الثالثة: فقد استدلّ للبطلان في جميع فروضها - من ظهور عدم كون الدرهم مسكوكاً، أو عدم كونه فضّةً ، أو مركّباً من الفضّة وغيرها - بأنّ بيع ذات الشيءالمردّد بين كونه درهماً وغيره على تقدير كونه درهماً صحيحاً أم معيباً باطلٌ ؛ للجهل والغرر.

وفيه: أنّهما يرتفعان بالعلم ولو كان جهلاً مركّباً، وبالشرط والمفروض تحقّق أحدهما.

أقول: وقد يستدلّ على الفساد في الفرض الأوّل؛ بأن البيع على هذا الوجه يكون واقعاً على ما هو واقع المبيع، وحيث إنّ واقعه ممّا لا يصحّ بيعه فيكون البيع فاسداً، كما لو باع المردّد بين كونه حُرّاً أو عبداً، فإنّه لو انكشف كونه حُرّاً بطل البيع.

وفيه: إنّه مع العلم بكونه درهماً مسكوكاً لا يكون الواقع على ما هو عليه مورداً للبيع، كي لا يصحّ ؛ فإنّ هيئته لا تقع المعاملة عليها على ذلك.

وبالجملة: فالأظهر هي الصحّة في الفرض الأوّل، مع ثبوت خيار التدليس، أو تخلّف الوصف، والصحّة في الأخير مع خيار العيب، والبطلان في الثاني؛ لأنّ ما قُصد لم يقع وما وقَع لم يُقصد؛ إذ المقصود هو بيع الفضّة والموجود نحاس.

وممّا ذكرناه يظهر حكم الصورة الرابعة، وهو صحّة البيع لو انكشف كون المادّة فضّة مشوبة، مع ثبوت الخيار، والفساد لو انكشف كونها غير الفضّة، وأمّا الهيئة فوجودها كالعدم؛ لعدم لحاظ هيئةٍ من الهيئات في البيع.

***

ص: 65

والمصاغ من الجواهر إن أمكن تخليصه، لم يبع بأحدهما قبله، وإلّا بيع بالناقص، ومع التساوي يُباع بهما

المصاغ من الجوهرين

المسألة الرابعة: (و) قد طفحت كلماتهم بأنّ (المُصاغ من الجوهرين) أي الذّهب والفضّة كالأواني المصوغة منهما، إنْ كان كلّ واحد منهما معلوماً، جاز بيعه بجنسه من غير زيادة، وبغير الجنس وإن زاد، وإنْ لم يُعلم ف (إن أمكن تخليصه لم يبع بأحدهما) أي بالذهب ولا بالفضّة (قبله)، وبيع بهما أو بغيرهما (وإلّا) أي وإنْ لم يمكن التخليص، وكان أحدهما هو الغالب (بيع بالناقص، ومع التساوي يُباع بهما).

قيل: إنّ أصل هذا الكلام للشيخ في «النهاية»(1)، وتبعه جماعة في جملةٍ من الكتب ك «الوسيلة»(2)، و «الشرائع»(3)، و «النافع»(4)، و «القواعد»(5)، و «التذكرة»(6)، والإرشاد(7)، و «التحرير»(8) وغيرها(9)، وأورد عليهم جماعةٌ من المتأخّرين عنهم بمخالفة ذلك كلّه للقواعد.

ص: 66


1- النهاية: ص 383-384.
2- الوسيلة: ص 244.
3- شرائع الإسلام: ج 2/305.
4- المختصر النافع: ج 1/129.
5- قواعد الأحكام: ج 2/38.
6- تذكرة الفقهاء: ج 10/146.
7- إرشاد الأذهان: ج 1/368.
8- تحرير الأحكام: ج 1/172.
9- الدروس: ج 3/301.

وقد ذكر الشهيد رحمه الله جملةً من المواضع المخالفة في «المسالك»(1)، وكذا المحدِّث البحراني(2) في «الحدائق» وغيرهما في غيرهما، ونشير إلى تلكم المواضع.

منها: أنّ الشيخ(3) ذكر أنّه إن كان أحدهما معلوماً جاز بيعه بجنسه من غير زيادة، وبغير الجنس وإنْ زاد.

ويرد عليه:

أنّه إنْ أراد بيع المجموع بجنسه - أي الجنسين معاً - فلا وجه لا شتراط عدم الزيادة؛ إذ كلٍّ من الجنسين ينصرف إلى مخالفه، وقد مرّ الكلام فيه في مبحث الرّبا(4)، فلا تضرّ الزيادة هنا ولا النقصان.

وإنْ أراد بيع المجموع بجنس أحدهما، اشترط فيه زيادة الثمن على جنسه، لتكون تلك الزيادة في مقابلة الآخر، ولا فرق في هذين القسمين بين أن يعلم قدر كلّ واحدٍ منهما أو يجهل كما مرّ، فلا وجه للتقييد بالعلم بهما.

وإنْ أراد من بيعه بيع ذلك الجنس خاصّة دون المجموع، فهذا لا وجه له؛ لأنّ فرض المسألة هو بيع المركّب من الذّهب والفضّة لا أحدهما، وحينئذٍ فما ذُكر خارج عن محلّ البحث.

ومنها: إنّهم قالوا وإنْ لم يعلم، وأمكن تخليصهما، لم يبع بأحدهما، وبيع بهما أو بغيرهما.

فإنّه يرد عليهم: أنّه لا وجه للمنع من بيعه بوزنه ذهباً أو فضّة، بل هو جائزٌ1.

ص: 67


1- راجع مسالك الأفهام: ج 3/332 وما بعدها في بيع الصَّرف.
2- الحدائق الناضرة: ج 19/308-309.
3- حكاه عنه في الجواهر: ج 24/36.
4- فقه الصادق: ج 26/341.

مطلقاً؛ لحصول المماثلة في الجنسين، والمخالفة بالنسبة إلى الجنس الآخر، فلا يجري فيه الرّبا، وكذا مع الزيادة على قَدر المركّب، وكذا مع نقصانه إذا علم زيادة الثمن على مجانسه بما يتموّل، فيجوز بيعه بهما وبأحدهم وبغيرهما والأقلّ ، سواءٌ أمكن التخليص أم لا.

ومنها: قوله: (وإنْ لم يمكن، وكان أحدهما أغلب، بيع بالأقلّ ).

وفيه: إنّه بمقتضى القواعدالمتقدّمة يجوز بيعه بهما وبغيرهما، وبالأقلّ وبالأكثر، إذا علم زيادة الثمن على جنسه، فالتقييد بالناقص غير ظاهر الوجه.

واعتذار الشهيد رحمه الله(1) عن ذلك بأنّ ذكر الأقلّ محافظة على طلب الزيادة، في غير محلّه؛ إذ الزيادة المعتبرة في الثمن عن جنسه يمكن تحقّقها مع الأقلّ والأكثر، ومع ذلك فالإرشاد إلى الزيادة غير كافٍ في التخصيص الموجب لتوهّم المنع من غيره.

ومنها: ما ذكره من أنّه مع التساوي بيع بهما.

وفيه: أنّه مع التساوي يجوزُ بيعه بهما وبأحدهما مع الزيادة وبغيرهما، فلا وجه للتخصيص بهما، ولا فرق في ذلك أيضاً بين إمكان التخليص وعدمه، ولا بين العلم بقَدر كلّ واحدٍ منهما وعدمه، بل المعتبر العلم بالجملة.

ويمكن فرض العلم بتساويهما مع جهالة قدر كلّ واحدٍ منهما، بأن يكون معهما ثالث من نحاسٍ وغيره، بحيث يوجبُ الجهل بقدرهما مع العلم بتساويهما.

فإن قيل: إنّه يشهد بالتفصيل بين إمكان التخليص وعدمه الخبر الذي رواه إبراهيم بن هلال، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام(2): جامٌ فيه ذهب وفضّة اشتريته6.

ص: 68


1- الدروس: ج 3/301.
2- وسائل الشيعة: ج 18/200 ح 23486، الكافي: ج 5/250 ح 26.

بذهب أو فضّة ؟ فقال: إنْ كان تقدر على تخليصه فلا، وإنْ لم تقدر على تخليصه فلا بأس».

أجبنا عنه: بأنّ الخبر ضعيف السند؛ لأنّ إبراهيم مجهول، وفي الطريق وإن كان ابن فضّال، إلّاأنّه لا يوجب اعتبار الخبر؛ إذ ما ورد من الأمر بأخذ ما رووه بنو فضّال إنّما يدلّ على أنّ رواياتهم معتبرة من ناحيتهم، لا من جميع النواحي.

نعم، الروايات التي في كتبهم معتبرة، لما دلَّ على العمل بما ورد في كتبهم من الروايات، ولكن الخبر لا يكون من جملتها، مع أنّه أيضاً لا يدلّ على بقيّة ما ذكروه.

وعلى الجملة: إنّه بعدما عرفت من أنّ المجتمع من جنسين يجوز بيعه بغير جنسهما مطلقاً، وبهما معاً، سواءٌ علم قدر كلّ منهما أم لا إذا علم قدر المجموع، وسواء أمكن تخليصهما أم لا.

ويجوز أيضاً بكلّ واحدٍ إذا علم زيادته عن جنسه، بحيث تصلح ثمناً للآخر وإن قلّ ، من غير فرقٍ بين إمكان التخليص وعدمه، وبين العلم بقدر كلّ واحد أم لا، وهذه المسألة من جزئيّات تلك الكليّة، وليس فيها نصٌّ خاص دالّ على جمبع ما ذكروه، فلا وجه للبناء على ما أفادوه، واللّه العالم.

***

ص: 69

وتراب الصياغة يتصدّق به

حكم تراب الصياغة

المسألة الخامسة: (و) يعلم حكم بيع (تراب الصياغة) المجتمع فيه غالباً من الذّهب والفضّة والرصاص وغيرها، ممّا ذكرناه في معدن الذّهب والفضّة، والأواني، ومن القاعدة المشار إليها آنفاً؛ فإنّه أيضاً من جزئيّات تلك الكليّة، ولذا لم يتعرّض له المصنّف.

وإنّما الكلام في المقام في حكمه، باعتبار أنّه مجتمعٌ من مال الناس غالباً، فظاهر المتن وغيره: أنّه يلحقه حكم مجهول المالك ف (يتصدّق به) بل قيل إنّه لا خلاف فيه.

أقول: وملخّص القول في المقام بالبحث في موضعين:

الأوّل: في مقتضى القواعد.

الثاني: في النصوص الخاصّة الواردة في المقام.

أمّا الموضع الأوّل:

فتارةً : يعلم أنّ ملّاكه أعرضوا عنه.

واُخرى : لا يُحرز ذلك.

فإن أُحرز الإعراض، فالظاهر جواز تصرّفه فيه بأنواع التصرّفات، لا لأنّ الإعراض موجبٌ للزوم الملك، فإنّ ذلك باطلٌ قد أشبعنا الكلام فيه في كتاب الأطعمة والأشربة، بل للعلم بأنّ المالك يكون راضياً بالتصرّفات حتّى بالتملّك.

وإنْلم يُحرز ذلك، فإن عرف ملاكه ولو في ضمن عددٍ محصور كما هو الغالب،

ص: 70

فاللّازم ردّه عليهم، أو الاستحلال منهم بأيّ كيفيّة أمكنت.

وإنْ لم يعرفهم، ويأس عن معرفتهم، فهو مجهول المالك، وحكمه حينئذٍالتصدّق به، كما مرّ الكلام فيه في أوّل كتاب التجارة(1).

وأمّا الموضع الثاني: ففي المقام خبران:

أحدهما: خبر علي بن ميمون الصائغ(2)، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عمّا يكنس من التراب فأبيعه فما أصنع به ؟ قال: تصدّق به فإمّا لكَ وإمّا لأهله.

فقلت له: فإن كان فيه ذهب وفضّة وحديد، فبأيّ شيء أبيعه ؟

قال: عليه السلام: بعه بطعام.

قلت: فإن كان لي قرابة محتاج أعطيه فيه ؟ قال: عليه السلام: نعم».

وخبره الآخر(3): «سألته عن تراب الصوّاغين وإنّا نبيعه ؟

قال: أما تستطيع أن تستحلّه من صاحبه ؟ قلت: لا، إذا أخبرته اتّهمني.

قال: بعه. قلت: فبأيّ شيء نبيعه ؟ قال: بطعام.

قلت: فأيّ شيء أصنع به ؟ قال عليه السلام: تصدّق به إمّا لكَ وإمّا لأهله.

قلت: إن كان ذا قرابة محتاجاً فأصِلَه ؟ قال عليه السلام: نعم».

أقول: ولكن الخبرين ضيعفا السند:

أمّا الأوّل: فلأنّ الراوي عن الصائغ علي بن حديد المضعف، كما صرّح به الشيخ في «التهذيب»(4).

وأمّا الثاني: فلأنّ في طريقة عمران وهو مجهول مردّدٌ بين جماعة، مع أنّ1.

ص: 71


1- فقه الصادق: ج 22/162.
2- وسائل الشيعة: ج 18/202 ح 23493، الكافي: ج 5/250 ح 24.
3- وسائل الشيعة: ج 18/202 ح 23494، تهذيب الأحكام: ج 6/383 ح 252.
4- تهذيب الأحكام: ج 7/101.

الأصحاب - على ما ذكره صاحب «الجواهر» رحمه الله(1) - صرّحوا من غير خلافٍيُعرف بينهم من أنّه إن علم صاحبه ولو في محصورٍ، وجب التخلّص منه، والخبران سيّما الأخير منهما منافيان لذلك، وخوف التهمة لا يبح التصرّف في مال الغير، مع إمكان إيصال حقّه إليه أو الاستحلال منه، فالخبران لم يعمل بهما الأصحاب، فلابدّ من طرحهما، أو حملهما على ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(2) من أنّ السيرة المستقيمة المعلوم كشفها عن إعراض المالك عن ذلك في الصياغة والخياطة والحدادة وغيرها، وإلّا فلا ينكر أنّ الغالب معرفة الصاحب جميعهم أو كثير منهم، ولا أقلّ عند الفراغ من العمل، فيتّجه وجوب الاستحلال منه عنده، مع أنّه لم يعرف من أحدٍ منهم ذلك، وليس في الخبرين إشارة إلى ذلك، فيمكن بناء ذلك على ظهور الإعراض، إلّاأنّه لما كان يمكن أن لا يكون معرضاً سأل الإمام عليه السلام عن ذلك لإرادة كمال الاحتياط، وحيث إنّ السائل أجابه بخوف التهمة، رجّح الأخذ بالظاهر المزبور، والإعراض عن الإحتياط المستحبّ ، بل لعلّ قوله عليه السلام فيهما: «وإمّا لك أو لأهله» يوميء إلى ذلك، بناءً على أنّ المراد به هو إنْ كان ظهور الإعراض كذلك وإلّا فهو لأهله؛ لعدم الإعراض في الواقع، وإن كان هو الظاهر من حال المالك.

فالمتحصّل: أنّه مع إحراز الاعراض ولو بحسب ظاهر الحال، المقدّم على الاستصحاب، يتملّك ويتصرّف فيه كيف ما شاء، وإلّا فلابدّ من الاستحلال من مالكه إنْ عرفه ولو في محصور، وإلّا فيتصدّق به.

فرع: لو تصدّق به وجاء صاحبه وطالبه، فهل هو ضامنٌ أم لا؟

فيه كلام قد أشبعناه في أوائل كتاب التجارة عند بيان حكم مجهول المالك، فراجع(1).

***0.

ص: 72


1- فقه الصادق: ج 22/190.

ويجوز أن يقرضه، ويشترط الإقباض بأرضٍ اُخرى .

القرض واشتراط الإقباض بأرض اُخرى

المسألة السادسة: (ويجوز أن يقرضه) الدّراهم والدنانير (ويشترط الإقباض بأرضٍ اُخرى ) كما عن جماعةٍ منهم المصنّف في هذا الكتاب، وكتاب القرض، وفي «القواعد»(1)، والشهيد قدس سره في «الدروس»(2) في باب القرض.

وإنّما ذكروه في المقام مع أنّه بحسب الظاهر ذكره ثمّ أنسب، لعلّه من جهة التنبيه على أنّ ما ذكرناه من اعتبار التقابض في بيع الصَّرف لا يجري في القبض، ولا يعتبر في قرض الدّراهم والدنانير التقابض، وقد مرّ وجهه.

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ له في «الرياض»(3):

1 - بالأصل.

2 - والعمومات مع فقد المانع من نصٍ أو إجماع؛ لإختصاصهما بالمنع عن القرض بشرط النفع، وليس الإنقياد في بلدٍ آخر منه.

3 - وبصحيح يعقوب بن شعيب(4): «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: يسلف الرجل الورِق على أن ينقدها إيّاه بأرض اُخرى ، ويشترط عليه ذلك ؟ قال عليه السلام: لا بأس».

ص: 73


1- قواعد الاحكام: ج 2/407.
2- الدروس: ج 3/305.
3- رياض المسائل: ج 8/461 (ط. ج).
4- وسائل الشيعة: ج 18/196 ح 23475، الكافي: ج 5/255 ح 1.

بدعوى أنّ المراد من الإسلاف فيه القرض؛ لكثرة استعماله فيه.

وأيضاً: ربما يستدلّ له بخبرين آخرين:

أحدهما: خبر إسماعيل بن جابر(1): «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: يدفع إليَّ الرجل الدّراهم، فأشترط عليه أن يدفعها بأرض اُخرى سودا بوزنها، واشترط ذلك عليه ؟ قال عليه السلام: لا بأس».

ثانيهما: خبر الكناني، عنه عليه السلام(2): «في الرجل يبعث بمالٍ إلى أرض فقال الذي يريد أن يبعثه به: أقرضنيه وأنا أوفيك إذا قدمتُ الأرض ؟ فقال عليه السلام: لا بأس».

أقول: أمّا الأصل فلا يرجع إليه مع الدليل، والعمومات خُصّصت بالقرض مع الزيادة ولو حُكميّة، كما حُرّر في محلّه، من أنّ من الزيادة الحكميّة الإنقاد بأرض اُخرى مع كون المصلحة للمقرض، والصحيح إنّما هو في بيع السَّلف لا في القرض.

وأمّا خبر إسماعيل، فمطلق من حيث الاشتراط في ضمن القرض، وأيضاً مطلق من حيث كون المعاملة بعنوان القرض.

فإنْ قيل: إنّه مع تسليم الإطلاق في الخبرين، لِمَ لا يعمل بهما في المقام ؟

قلنا: إنّ النسبة بينهما وبين أدلّة بطلان القرض مع الشرط للمقرض عمومٌ من وجه، فالمرجع إلى المرجّحات، وحيث إنّ الأصحاب لم يتعرّضوا لهذه المسألة، فالشهرة المرجحة غير متحقّقة، فالمرجع إلى موافقة الكتاب، وهي تقضي تقديم أدلّة المنع، فتدبّر.3.

ص: 74


1- وسائل الشيعة: ج 18/197 ح 23479، تهذيب الأحكام: ج 7/110 ح 79.
2- وسائل الشيعة: ج 18/196 ح 23476، الكافي: ج 5/256 ح 3.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ خبر الكناني بقرينة قوله: (أقرضنيه وأنا أوفيك).

الظاهر في كونه شرطاً في ضمن القرض، وهو المنشأ للسؤال عن حكمه، ظاهرٌ في الاشتراط، وهو بضميمة عدم دليل قطعي على مبطليّة اشتراط الزيادة الحكميّة مطلقاً، مدركُ على الجواز، ومع ذلك فالمسألة مشكلة، والاحتياط طريق النجاة.

***

ص: 75

ويجوز أن يشتري درهماً بدرهم، ويشترط صياغة خاتم على أشكال، ولا ينسحبُ على غيره

اشتراء درهم بدرهم مع اشتراط الصياغة

المسألة السابعة: قال الشيخ(1)(و) تبعه جماعة(2)، بل عن «كشف الرموز»(3)نسبته إلى المشايخ.

وأمّا المخالف فمنحصرٌ في ابن حمزة(4)، وكذا عن «إيضاح النافع»(5) أنّه (يجوز أن يشتري درهماً بدرهم، ويشترط صياغة خاتم) وظاهر المصنّف رحمه الله في المقام، حيث قال: (على إشكالٍ ) التوقّف في الحكم.

أقول: ثمّ إنّ جماعة من القائلين به ذهبوا إلى تعدية الحكم من بيع الدرهم إلى غيره، ومن شرط الصياغة إلى غيرها، والآخرون منهم: الشهيدان(6)، والمصنّف(7)، والمحقّق لثاني(8)، والصيمري(9) قالوا: (ولا ينسحبُ على غيره). والحكم إنْ كان على

ص: 76


1- النهاية: ص 381.
2- شرائع الإسلام: ج 2/305.
3- كشف الرموز: ج 1/499.
4- حكاه عنه في مفتاح الكرامة: ج 4/423.
5- المختصر النافع: ص 129.
6- الدروس: ج 3/303، مسالك الأفهام: ج 3/345.
7- تذكرة الفقهاء: ج 10/444-445.
8- جامع المقاصد: ج 4/201.
9- غاية المرام: ج 2/88.

وفق القاعدة لابدّ من التعدّي.

وقد ذكر ابن إدريس رحمه الله(1) في وجه الفتوى: (أنّ الرّبا هو الزيادة في العين إذا كان الجنس واحداً)، وهنا لا زيادة في العين.

وفيه: ما مرّ من أنّ الزيادة ولو كانت لا في العين، مع كونها ممّا يكون مالاً يكون رباً، وتبطل المعاملة بذلك، ومن الواضح أن شرط صياغة الخاتم من هذا القبيل، وقد يستدلّ له:

بخبر أبي الصباح الكناني، عن الإمام الصادق عليه السلام(2): «عن الرجل يقول للصائغ: صغ لي هذاالخاتم، وأبدل لك درهماً طازجاً بدرهم غلّة ؟ قال عليه السلام: لابأس».

ولكن الخبر ضعيف السند؛ لأنّ الراوي عن الكناني محمّد بن الفضيل، وهو مردّد بين ابن غزوان الثقة، وابن كثير الأزدي الضعيف، ولا دليل على كونه ابن غزوان.

وما في «الجواهر»(3) من (أنّه قوي إنْ لم يكن صحيحاً) لعلّه من جهة أنّ صاحب «الجواهر» موافق مع المجلسي الأوّل وصاحب «الوجيزة»، حيث اختار أنّ ابن الفضيل الراوي عن الكناني هو ابن غزوان، مع أنّه لا شاهد له، هذا فضلاً عن أنّه يعارضه ما عن «المعتبر» من اختيار المحقّق كونه ابن كثير الأزدي، وما عن المحقّق الأردبيلي من أنّه محمّد بن القاسم بن الفضيل.

أقول: والحقّ أنّه لا شاهد على شيء من هذه الأقوال، مع أنّه أجنبي عن6.

ص: 77


1- السرائر: ج 2/267.
2- وسائل الشيعة: ج 18/195 ح 23474، الكافي: ج 5/249 ح 20.
3- جواهر الكلام: ج 24/32-36.

المقام، ولا يدلّ على حكم المسألة، فإنّه جعل إبدال الدرهم بالدرهم شرطاً في الصياغة لا بيعهما بشرط الصياغة الذي هو محلّ العمل.

أضف إليه أنّه في خصوص تبديل درهمٍ الطازج - والطازج هو الخالص كما صرّح به جماعة من أهل اللّغة - بدرهم غلّة، والغلّة هو المغشوش، وعليه فالزيادة إنّما هي بأزاء الغِشّ ، وهذا الإشكال فيه لا في هذه المسألة ولا في غيرها.

وما أفاده الحقّق الأردبيلي(1) دفعاً للإشكال الأخير، من أنّ ظاهر قوانينهم أنّه ليس الجيادة زيادة تُجبر بشيء، ولهذا لا يتحقّق الرّبا بين الجيّد في غاية الجيادة والرديء في غاية الردائة، مع التساوي في المقدار، ويتحقّق مع التفاوت، وإن كان في جانب الرديء.

غريب منه قدس سره إذ فرقٌ بين الجيّد والرديء، والخالص والمغشوش، وما أفادوه إنّما هو في الأوّل، ومورد الرواية من قبيل الثاني.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ بيع الدرهم بالدرهم مع شرط صياغة الخاتم ربا ومحرّم وباطل.

قال صاحب «الجواهر» رحمه الله(2): - بعد أن منع من جواز اشتراط صياغة خاتم في بيع درهم بدرهم - (نعم لو كان الشرط مثلاً بيعه بفضّة مصوغة خاتماً، أمكن عدم تحقّق الرّبا؛ لعدم اشتراط العمل، فهو كبيعه الفضّة بالفضّة من الدّراهم مثلاً، أو بفضة من جنس المصوغ على وجه خاص، ونحو ذلك ممّا هو أفراد للمبيع بالوصف3.

ص: 78


1- مجمع البرهان: ج 8/316.
2- جواهر الكلام: ج 24/33.

والشرط، يتعيّن بعض أفرادها، ومثله لا يتحقّق به الرّبا قطعاً؛ إذ ليس مطلقاً الاشتراط في أحد العوضين يتحقّق به ذلك)، انتهى .

وفيه: أنّه يتمّ إذا لم تكن لهيئة الخاتميّة ماليّة وقيمة، وإلّا فهي زيادة في أحد العوضين لها ماليّة، ويتحقّق الرّبا في ذلك قطعاً.

***

ص: 79

لا يجوزُ بيع الثَّمرة قبل ظهورها

الفصل العاشر: في بيع الثمار

اشارة

يدور البحث في هذا الفصل عن بيع الثمار بأنواعها من النخل والفواكه والخضر وما يلحق بذلك من الأحكام، وتنقيح القول عن ذلك يتحقّق بالبحث في مقامات أربعة:

المقام الأوّل: في ثمرة النخل، وتمام الكلام فيها في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: (لا يجوز بيع الثمرة قبل ظهورها) عاماً واحداً من غير ضميمة، كما هو المشهور بين الأصحاب(1)، بل عن المصنّف في «التذكرة»(2)، والشهيد في «الدروس»(3) الإجماع عليه، وفي «الجواهر»(4): (إجماعاً بقسميه). بل المحكيّ منها متواتر كالنصوص.

وعن الشيخ في كتابي الأخبار(5)، والمحقّق الأردبيلي(6)، والفاضل الخراساني(7)

ص: 80


1- جامع المقاصد: ج 4/160-161.
2- تذكرة القهاء: ج 10/345 (ط. ج).
3- الدروس: ج 3/234.
4- جواهر الكلام: ج 24/56.
5- تهذيب الأحكام: ج 7/88، الاستبصار: ج 3/88.
6- مجمع الفائدة: ج 8/197-198.
7- حكاه عنه في الجواهر: ج 24/56.

القول بالكراهة.

وصاحب «الحدائق» رحمه الله(1) جزم بالصحّة.

وصاحب «الجواهر»(2) حمل كلام الشيخ رحمه الله على خلاف ظاهره من أنّه مجرّد جمعٍ لا فتوى، واعتذر عن غيره بأنّ ذلك منهم من اختلال الطريقة.

وكيف كان، ففي المقام طائفتان من الأخبار:

الطائفة الأُولى : ما ظاهره المنع:

منها: خبر سماعة(2): «سألته عن بيع الثمرة هل يصلح شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟

فقال عليه السلام: لا، إلّاأن يشتري معها شيئاً من غيرها رطبة أو بقلاً، فيقول:

(أشتري منك هذه الرطبة وهذا النخل وهذا الشجر بكذا وكذا)، فإن لم تخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقل».

ومنها: صحيح سليمان بن خالد: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام(3): لا تشتر النخل حولاً واحداً حتّى يطعم، وإنْ شئت أن تبتاعه سنين فافعل».

ومثله موثّق أبي بصير(4)، ونحوها غيرها الآتي طرف منها.

وقد ادّعى صاحب «الجواهر»(6) تواترها، ولذا نَسب القول بالمنع بعضهم إلى الضرورة.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على الجواز والصحّة:8.

ص: 81


1- الحدائق الناضرة: ج 19/333. (2و6) جواهر الكلام: ج 24/56.
2- وسائل الشيعة: ج 18/219 ح 23538، الكافي: ج 5/176 ح 7.
3- وسائل الشيعة: ج 18/214 ح 23520، الاستبصار: ج 3/85 ح 1.
4- وسائل الشيعة: ج 18/213 ح 23519، تهذيب الأحكام: ج 7/88 ح 18.

منها: صحيح ربعي(1)، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ لي نخلاً بالبصرة فأبيعه وأُسمّي الثمن، وأستثني الكُرّ من التمر أو أكثر، أو العدد من النخل ؟ فقال: لا بأس».

قلت: جُعلت فداك إنّ ذا عندنا عظيم ؟!

قال عليه السلام: أما إنّك إن قلت ذاك لقد كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله أحلّ ذلك فتظالموا، فقال:

لا تباع الثمرة حتّى يبدوا صلاحها».

وادّعى صاحب «الحدائق»(2) صراحته في الحلّ وعدم الحرمة.

ومنها: صحيح الحلبي(3): «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن شراء النخل والكَرْم والثمار ثلاث سنين أو أربع سنين ؟ فقال: لا بأس، يقول إنْ لم يخرج في هذه السنة أخرج في قابل، وإن اشتريته في سنة واحدة فلا تشتره حتّى تبلغ، وإن اشتريته ثلاث سنين قبل أن يبلغ فلا بأس.

وسُئل عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرضٍفهلك ثمرة تلك الأرض كلّها؟

فقال: قد اختصموا في ذلك إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فكانوا يذكرون ذلك، فلمّا رآهم لا يَدَعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتّى تبلغ الثمرة ولم يحرّمه، ولكن فعل ذلك من أجل خصومتهم».

وصراحته في الجواز لا تنكر.

ومنها: صحيح بريد، عن أبي جعفر عليه السلام(4): «عن الرطبة تباع قطعتين أو ثلاث1.

ص: 82


1- وسائل الشيعة: ج 18/211 ح 23514، الكافي: ج 5/175 ح 4.
2- الحدائق الناضرة: ج 19/328-330.
3- وسائل الشيعة: ج 18/210 ح 23512، الكافي: ج 5/175 ح 2.
4- وسائل الشيعة: ج 18/209 ح 23511، الكافي: ج 5/174 ح 1.

قطعات ؟ فقال عليه السلام: لا بأس.

قال: وأكثرتُ السؤال عن أشباه هذا، فجعل يقول: لا بأس به.

فقلت: أصلحكَ اللّه استحياءً من كثرة ما سألته، وقوله: لا بأس به إنّ من يلينا يفسدون هذا كلّه ؟

فقال: أظنّهم سمعوا حديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله في النخل، ثمّ حالَ بيني وبينه رجلٌ فسكتُّ ، فأمرتُ محمّد بن مسلم أن يسأل أبا جعفر عن قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله في النخل، فقال أبو جعفر عليه السلام: خرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله فسمع ضوضاء، فقال: ما هذا؟ فقيل له: تبايع النّاس بالنخل، فقعد النخل العام؛ فقال عليه السلام: أمّا إذا فعلوا فلا تشتروا النخل العام حتّى يطلع فيه الشيء، ولم يحرّمه».

وقد جمع الشيخ رحمه الله(1) بين الطائفتين بحمل الأُولى على الكراهة.

وصاحب «الحدائق» قال(2): (إنّه من جهة صراحة الطائفة الثانية في الحِلّ وعدم الحرمة، لابدّ من حمل الأُولى على الكراهة أو التقيّة).

وقوّى الشهيد الثاني رحمه الله(3) الحمل على الكراهة لولا الإجماع.

أقول: والقائلون بالمنع أوردوا على هذا الجمع، بأنّ صحيحي ربعي والحلبي لا صراحة فيهما في الجواز في محلّ الكلام؛ لاحتمال إرادة بيع السنين بعد الظهور قبل البدوّ، وصحيح بُريد لابدّ من تأويله بإرادة البدوّ من الطلوع فيه، أو بحمل العام فيه على ما كان في ضمن العامين.4.

ص: 83


1- تهذيب الأحكام: ج 7/88.
2- الحدائق الناضرة: ج 19/328-330.
3- مسالك الأفهام: ج 3/354.

هذا، والظاهر أنّ صحيح ربعي يدلّ على الجواز قبل بدوّ الصلاح، فقابلٌ للحمل على التخصيص بما بعد الظهور قبل البدوّ، وصحيح الحلبي يدلّ على الجواز قبل بلوغ الثمرة، وهو أيضاً أعمٌّ ممّا بعد الظهور قبل البلوغ وما قبله، فالجمع بينهما وبين أدلّة المنع يقتضي ذلك؛ لأنّ الجمع الموضوعي مقدّمٌ على الجمع الحكمي، فلا مورد لحمل أخبار المنع على الكراهة.

وأمّا صحيح بريد: فهو يدلّ على الجواز قبل طلوع الشيء فيه، وهو عبارة اُخرى عن الظهور، فإنّ ظهور الثمرة - كما صرّح به الشهيد الثاني -(1) عبارة عن خروجها إلى الوجود، وإن كانت في طلعها، فلا يصحّ الجمع الموضوعي فيه، فتصل النوبة إلى الجمع الحكمي، وهو ما أفادوه من أنّه يقتضي حمل نصوص المنع على الكراهة، فلولا فتوى أساطين القول والمشايخ بالمنع، لكان القول بالجواز مع الكراهة قويّاً.

فرع: في جواز بيع الثمرة قبل ظهورها بلا ضميمة عامين فصاعداً خلافٌ ، فالمشهور نقلاً وبين المتأخّرين تحصيلاً العدم أيضاً. كذا في «الجواهر»(2).

ولكن قال الشهيد رحمه الله في محكي «غاية المراد»(3): (إنّ الأصحاب لم يذكروه صريحاً ولا تعرّض للمنع إلّاجماعة منهم)، ونحو ذلك عن «المختلف».

وعن «مفتاح الكرامة»(4): (ليس في «المقنعة» و «النهاية» و «المبسوط»1.

ص: 84


1- مسالك الأفهام: ج 3/354.
2- جواهر الكلام: ج 24/56.
3- غاية المراد: ج 2/43.
4- مفتاح الكرامة: ج 4/370-371.

و «المراسم» و «الوسيلة» و «الغنية» و «كشف الرموز» ذكرٌ ولا تصريحٌ بجوازٍ ولا منع، ولم يَنقلُ أحدٌ عن الحسن وأبي علي والقاضي والتقي، بل لم أجد من صرّح بالمنع قبل الفاضل).

وكيف كان، فيشهد للجواز:

1 - صحيحا ربعي والحلبي المتقدّمان.

2 - وصحيح يعقوب بن شُعيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1): «عن شراء النخل ؟ فقال: كان أبي يكره شراء النخل قبل أن يطلع ثمرة السنة، ولكن السنتين والثلاث كان يقول إنْ لم يحمل في هذه السنة حمل في السنة الأخرى.

قال يعقوب: وسألته عن الرجل يبتاع النخل والفاكهة قبل أن يطلع سنتين أو ثلاث سنين أو أربعاً؟

قال عليه السلام: لا بأس، إنّما يكره شراء سنة واحدة قبل أن يطلع، مخافة الآفة حتّى يستبين».

3 - وصحيح سليمان، وخبر أبي بصير المتقدّمان.

4 - وخبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام(2): «عن شراء النخل سنتين أيحلّ؟

قال: لا بأس أن يقول: (إنْ لم يخرج العام شيئاً أخرج القابل إنْ شاء اللّه تعالى )».

إلى غير ذلك من الأخبار، وبها يرفع اليد عن ظهور ما دلّ على المنع:

كقوله عليه السلام(3) في خبر أبي الربيع: «وإذا بيع سنتين أو ثلاثاً فلا بأس ببيعه، بعد أن5.

ص: 85


1- وسائل الشيعة: ج 18/213 ح 23518، تهذيب الأحكام: ج 7/87 ح 16.
2- وسائل الشيعة: ج 18/216 ح 23531، بحار الأنوار: ج 10/277.
3- وسائل الشيعة: ج 18/212 ح 23517، تهذيب الأحكام: ج 7/87 ح 15.

يكون فيه شيء من الخضرة».

وقوله عليه السلام(1) في صحيح الحلبي: «تقبل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنة، وإن شئت أكثر، وإنْ لم يتبيّن لك ثمرها فلا تستأجر».

ونحوهما غيرهما.

كما أنّ الاستدلال للمنع بالغرر والجهالة والإجماع كما ترى .

أقول: وبعدما عرفت من أنّ الأظهر جواز بيع الثمرة قبل ظهورها بلا ضميمة، فإنّ جوازه معها واضح.

وأمّا على القول بالمنع، فالظاهر جوازه مع الضميمة؛ لموثّق سماعة(2): «سألته عن بيع الثمرة هل يصحّ شراؤها قبل أن يخرج طلعها؟

قال عليه السلام: لا، إلّاأن يشتري معها شيئاً غيرها رطبة أو بقلاً، فيقول: (أشتري هذه الرطبة، وهذا النخل، وهذا الشجر بكذا وكذا) فإن لم يخرج الثمرة كان رأس مال المشتري في الرطبة والبقلة».

والإيراد عليه: بالقطع، ومعارضته بإطلاق الأدلّة ومعاقد الإجماعات كما في «الجواهر»(3)، غريبٌ ؛ إذ من الواضح أنّ سماعة لا ينقل من غير الإمام عليه السلام، والإطلاقات تقيّد به.

والإجماع غير متحقّق، وعلى فرضه معلوم المدرك.

نعم، ما عن «التذكرة»(4) من حمل الموثّق على ما إذا كانت الضميمة مقصودة7.

ص: 86


1- وسائل الشيعة: ج 18/218 ح 23536، تهذيب الأحكام: ج 7/202 ح 36.
2- وسائل الشيعة: ج 18/219 ح 23538، الكافي: ج 5/176 ح 7.
3- جواهر الكلام: ج 24/59.
4- تذكرة الفقهاء: ج 10/345-347.

غير بعيد؛ لإشعار ذيله من التعليل به، بناءً على الغالب من عدم دفع الثمن في مثل هذه الصورة، إلّابعد أن تكون الضميمة مقصودة، والمراد بعد كونها ممّا يجوز بيعها منفردة.

***

ص: 87

ويجوزُ بعده، وإنْ لم يُبدَ صلاحها، أو مع الضميمة، بشرط القطع أو عامين، ولو فُقِد الجميع

بيع الثمرة بعد ظهورها

المسألة الثانية: (ويجوز) بيع الثمرة (بعده) أي بعد ظهورها (وإنْ لم يَبدُ صلاحها) بلا خلافٍ فيه في الجملة.

إنّما الكلام في أنّه هل يكون الجواز مشروطاً (بشرط القطع، أو عامين) فصاعداً (أو مع الضميمة، ولو) بيعت مع (فقد الجميع) يكون باطلاً، كما عن الإسكافي(1) والصّدوق في «المقنع»(2)، والتقي(3)، والمفيد على ما عن بعض نسخ «المقعنة»(4)، والطوسي(5)، وابن حمزة(6)، والمصنّف رحمه الله(7) في جملةٍ من كتبه، بل عن «المبسوط»(8)، و «الخلاف»(9)، و «الغنية»(10): الإجماع عليه ؟

ص: 88


1- مختلف الشيعة: ج 5/195.
2- المقنع: ص 366.
3- الكافي: ص 356.
4- المقنعة: ص 602.
5- النهاية: ص 414.
6- الوسيلة: ص 250.
7- كتحرير الأحكام: ج 1/179.
8- المبسوط: ج 2/113.
9- الخلاف: ج 3/84-85.
10- غنية النزوع: ص 212.

فقولان:

أم يكون جائزاً على كراهةٍ عن الشيخ في التهذيبين(1)، وابن إدريس(2)، والآبي(3)، والمصنّف(4) في جملةٍ من كتبه، والفخر(5)، والشهيدين(6)، والكركي(7)، والقطيفي(8) والميسي(9)؟

(فقولان):

وما عن المفيد(8) وسلّار(9) من أنّه: (يُراعى في الصحّة وعدمها السّلامة وعدمها) فالظاهر أنّه يرجع إلى القول الثاني، وإنّما حكما بالبطلان مع عدم السلامة من جهة أنّ كلّ مبيع تلف قبل قبضة فهو من مال صاحبه، ولذا ذكرها المصنّف في محكي «المختلف»(10) ممّن قال بالجواز، وصرّح في المقام بأنّ في المسألة قولين.

وقد استدلّ للمنع:6.

ص: 89


1- تهذيب الأحكام: ج 7/88، الاستبصار: ج 3/88.
2- السرائر: ج 2/358.
3- كشف الرموز: ج 1/502-504.
4- تذكرة الفقهاء: ج 10/348-349.
5- إيضاح الفوائد: ج 1/445.
6- الدروس: ج 3/234، مسالك الأفهام: ج 3/353-354.
7- جامع المقاصد: ج 4/160-163. (8و9) حكاه عنه في الجواهر: ج 24/59.
8- المقنعة: ص 602-603.
9- المراسم العلويّة: ص 178-179.
10- مختلف الشيعة: ج 5/195-196.

1 - بحسن الوشّاء(1): «سألتُ الرضا عليه السلام هل يجوز بيع النخل إذا حمل ؟ قال عليه السلام:

لا يجوز بيعه حتّى يزهو.

قلت: وما الزهو جُعلت فداك ؟ قال عليه السلام يحمرّ ويصفرّ وشبه ذلك».

2 - وخبر علي بن أبي حمزة(2): «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل اشترى بستاناً فيه نخل ليس فيه غيره بُسر أخضر؟

فقال عليه السلام: لا، حتّى يزهو. قلت: وما الزهو؟ قال عليه السلام: حتّى يتلوّن».

3 - وموثّق أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام(3): «سُئل عن النخل والتمر يبتاعهما الرجل عاماً واحداً قبل أن يثمر؟

قال عليه السلام: لا، حتّى تثمر وتأمن ثمرها من الآفة، فإذا أثمرت فابتعها أربعة أعوام مع ذلك العام أو أكثر من ذلك أو أقلّ ».

4 - وخبر علي بن جعفر: «سأل أخاه عن شراء النخل سنة واحدة أيصلح ؟ قال عليه السلام: لا يشتري حتّى يبلغ.

قال(4): سألته عن شراء النخل سنتين أيحلّ؟ قال عليه السلام: لا بأس إنْ لم يخرج العام خَرَج القابل».

5 - وخبر المناهي(5): «نهى عليه السلام أن تُباع الثمار حتّى تزهو، يعني تصفرّ أو تحمرّ».

إلى غير ذلك من النصوص الظاهرة في المنع مع عدم القيود الثلاثة المشار إليها4.

ص: 90


1- وسائل الشيعة: ج 18/211 ح 23513، الكافي: ج 5/175 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 18/212 ح 23515، الكافي: ج 5/176 ح 8.
3- وسائل الشيعة: ج 18/214 ح 23522، تهذيب الأحكام: ج 7/91 ح 30.
4- وسائل الشيعة: ج 18/216 ح 23531، بحار الأنوار: ج 10/277.
5- وسائل الشيعة: ج 18/215 ح 23524.

منطوقاً أو مفهوماً، ولكن يتعيّن حمل هذه النصوص أيضاً على الكراهة؛ للنصوص المتقدّمة الدالّة على الجواز قبل الظهور بالكليّة، فبعده قبل بدوّ الصلاح بطريق أولى .

أقول: استظهر صاحب «الحدائق» رحمه الله(1) حمل الأخبار المانعة على التقيّة؛ لما عن «السرائر» من أنّ المنع مذهب المخالفين.

وفيه: إنّ مخالفة العامّة من مرجّحات إحدى الروايتين المتعارضتين بعد فقد جملةٍ من المرجّحات، فمع إمكان الجمع العرفي، لا تصل النوبة إلى الحمل على التقيّة، والظاهر أنّه لا كراهة لو بيعت عامين فصاعداً مع الضميمة.

أمّا الأوّل: فلصحاح ربعي والحلبي ويعقوب وسليمان، وغيرها المتقدّمة.

وأمّا الثاني: فلموثّق سماعة المتقدّم.

كما أنّه على القول بالمنع يجوز البيع في الموردين؛ لما أشرنا إليه، إنّما الكلام في الجواز بشرط القطع، وقد حُكي الإجماع عليه مستفيضاً أو متواتراً، مع أنّه لا أثر له في النصوص.

أضف إليه: أنّ صاحب «الحدائق» رحمه الله قال(2): (أمّا في اشتراط القطع فهو لا يخلو عن نوع غموض؛ لأنّ الظاهر أنّ الاشتراء إنّما يكون بشيء يمكن الانتفاع به، ومجرّد ظهور الثمرة قبل بدوّ الصلاح لا يترتّب عليها بعد القطع منفعة يعتدّ بها بين العقلاء). انتهى .

ولكن يمكن أن يقال: إنّ فتوى القوم بالجواز إنّما هو من جهة إنصراف النصوص إلى شراء الثمرة بشرط التبيعة إلى أن تصير قابلة للأكل، وتصير ثمرة بالغة، فبيع المقطوع بما أنّه موجودٌ له منفعة محلّلة جائزٌ بلا دليل على كراهته،4.

ص: 91


1- الحدائق الناضرة: ج 19/334.
2- الحدائق الناضرة: ج 19/334.

وبذلك يظهر أنّه لو كان المبيع هذا الموجود على الشجرة بشرط التبيعة، لا إرادة الثمرة منه، يكون جائزاً للأصل والعمومات، وهو خارج عن محلّ البحث.

وعليه، فما عن «التذكرة»(1) من الاستدلال على الجواز فيما هو محلّ الكلام، بأنّه يجوز بيعه بشرط القطع إجماعاً، فجاز بشرط التبقية:

إن أراد الاستدلال لجواز فيما ذكرناه، فهو متينٌ .

وإن أراد الاستدلال له فيما هو محلّ النزاع، فلا ربط له به.

وأمّا ما أفاد صاحب «الحدائق»، فينفع لأنّ المفروض في محلّ البحث واجديّة البيع لسائر ما يشترط فيه.

أقول: المراد من بدوّ الصلاح الذي هو شرط للصحّة أو الكراهة، أن تصفرّ البُسر أو تحمرّ على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً شهرة عظيمة، بل في محكي «السرائر»(2) نسبته إلى أصحابنا، و «المبسوط»(3) إلى رواياتهم.

وفي «الشرائع»(4)، عن «إرشاد» المصنّف: (إنّ بدوّ الصلاح يكون بما ذُكر، أو أن يبلغ مبلغاً يؤمَن عليها العاهة).

وعن بعض العلماء(5): إنّ حدّه طلوع الثريا.

وفي «المنهاج»: (بدوّ الصلاح في الثمر، هو كونه قابلاً للأكل).).

ص: 92


1- تذكرة الفقهاء: ج 10/347 (ط. ج).
2- السرائر: ج 2/361.
3- المبسوط: ج 2/114.
4- شرائع الإسلام: ج 2/46.
5- بداية المجتهد: ج 2/151 حكاه عنه في التذكرة: ج 10/359 (ط. ج).

يشهد الأوّل: حسن ابن الوشّاء(1) وخبر علي ابن حمزة(2) المتقدّمان، ففي الأوّل بعد النهي عن بيع النخل حتّى يزهو، فسّر الزَّهو بأن يحمرّ ويصفرّ وشبه ذلك، وفي الثاني فسّر الزّهو بأن يتلوّن.

ويعضدهما خبر المناهي(3)، فإنّه أيضاً فسّر الزهو بذلك، وإن كان يحتمل كون التفسير من الصدوق رحمه الله.

واستدلّ للثاني: بأنّه مقتضى الجمع بين الروايات المتقدّمة، وبين الخبر الذي رواه أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(4):

«سُئل عن النخل والثمر يبتاعها الرجل عاماً واحداً قبل أن يثمر؟

قال عليه السلام: لا، حتّى تثمر وتأمن ثمرها من الآفة».

وخبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام(5): «بيع النخل إذا استبان البُسر من الشيص حَلّ بيعه وشراؤه».

والنبويّ (6): «لا تبتاعوا الَّثمرة حتّى يبدو صلاحها، قيل ما بدوّ الصلاح ؟ قال:

تذهب عاهتها ويخلص رطبها».

والآخر(7): «نهى عن بيع الثمار حتّى تذهب العاهة».1.

ص: 93


1- وسائل الشيعة: ج 18/211 ح 23513، الكافي: ج 5/175 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 18/212 ح 23515، الكافي: ج 5/176 ح 8.
3- وسائل الشيعة: ج 18/215 ح 23524، من لايحضره الفقيه: ج 4/3 ح 4968.
4- وسائل الشيعة: ج 18/214 ح 23522، تهذيب الأحكام: ج 7/91 ح 30.
5- وسائل الشيعة: ج 18/216 ح 23527، بحار الأنوار: ج 100/125 ح 3.
6- سنن البيهقي: ج 5/300، صحيح البخاري: ج 2/134.
7- سنن البيهقي: ج 5/300، كنز العمّال: ج 4/71.

ولكن يرده: ما قيل من إنّه بالاحمرار والإصفرار يحصل الأمان، وعليه فإمّا أن يرجع الثانية إلى الأُولى ، أو تكون مجملة يُبيّن إجمالها بالأخبار الدالّة على العلامة الأُولى .

واستدلّ للثالث: بالنبويّ الذي رُوي عن ابن عمر: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله(1) نهى عن بيع الثمار حتّى تذهب العاهة.

فقال له عثمان بن عبد اللّه: متى ذلك ؟ قال: إذا طلع الثريا».

ولكنّه ضعيف السند، مضافاً إلى أنّ التفسير من ابن عمر.

واستدلّ للرابع: بصحيح سليمان بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام(2): «لا تشتر النخل حولاً واحداً حتّى يطعم».

ونحوه خبر أبي بصير(3).

ولكن الظاهر رجوع هذه العلامة إلى العلامة الأولى، مع كونها بعدها يقيّد إطلاقها بنصوص تلك العلامة.

فالمتحصّل: أنّ ما أفاد المشهور أظهر.

***6.

ص: 94


1- سنن البيهقي: ج 5/300، مسند أحمد: ج 2/42.
2- وسائل الشيعة: ج 18/213 ح 23519، تهذيب الأحكام: ج 7/88 ح 17.
3- وسائل الشيعة: ج 18/217 ح 23534، الكافي: ج 5/175 ح 6.

ولو أدرك بعض البستان، جاز بيع الجميع

إدراك بعض ثمرة البستان

المسألة الثالثة: قالوا (ولو أدرك بعض) ثمرة (البستان) المتّحدة وبدا صلاحه، ولم يدرك الآخر (جاء ربيع الجميع) بناءاً على اعتبار الإدراك في الجواز، بلا خلافٍ أجده فيه، بل عليه الإجماع منقولاً مستفيضاً إنْ لم يكن محصّلاً، سواءٌ كان متّحد النوع أو مختلفه، كذا في «الجواهر»(1).

والشاهد عليه: مضافاً إلى أنّ بيع ما لا يدرك جائز مع الضميمة، وما أدرك ضميمة ما لم يدرك:

1 - صحيح يعقوب بن شعيب، عن الإمام الصادق عليه السلام(2): «إذا كان الحائط فيه ثمار مختلفة فأدرك بعضها، فلا بأس ببيعها أجمع».

2 - وصحيح الحلبي، عنه عليه السلام(3): «تقبل الثمار إذا تبيّن لك بعض حملها سنة، وإن شئت أكثر، وإنْ لم يتبيّن لك حملها فلا تستأجره».

3 - وخبر البطائني، عنه عليه السلام(4): «عن رجل اشترى بستاناً فيه نخلٌ وشجر منه ما قد أطعم ومنه ما لم يطعم ؟ قال عليه السلام: لا بأس إذ كان فيه ما قد أطعم».

ونحوها غيرها.

ص: 95


1- جواهر الكلام: ج 24/70.
2- وسائل الشيعة: ج 18/217 ح 23533، الكافي: ج 5/175 ح 5.
3- وسائل الشيعة: ج 18/218 ح 23536، تهذيب الأحكام: ج 7/202 ح 36.
4- وسائل الشيعة: ج 18/218 ح 23535، الكافي: ج 5/176 ح 8.

وكذا يجوز بيع البساتين إذا أدرك أحدهما

(وكذا) قالوا: (يجوزُ بيع البساتين إذا أدرك أحدهما).

وفي «الرياض»(1): (الجواز أشهر بين المتأخّرين).

وفي «الحدائق»(2): (هو المشهور).

وعن الشيخ في «الخلاف»(3) و «المبسوط»(4): المنع عنه، بل عن الأوّل الإجماع عليه.

الظاهر بناءاً على ما قوّيناه من جواز بيع الثمر قبل ظهورها، يكون الجواز خالٍ عن الإشكال، وأمّا على القول بالمنع فكذلك؛ لتحقّق الضميمة المسوغة للبيع.

ولخبر إسماعيل بن الفضل الهاشمي - المنجبر إرساله بعمل الأصحاب الذي عبّر عنه صاحب «الحدائق» بالصحيح(5) - عن أبي عبد اللّه عليه السلام(6): «عن بيع الثمرة قبل أن تدرك ؟

فقال عليه السلام: إذا كان له في تلك الأرض بيع له غلّة قد أدركت فبيعُذلك كلّه حلال».

وقوله عليه السلام: «بيع» بمعنى مبيع، وهذا الإطلاق شائع في الأخبار.

وقوله عليه السلام: «له غلّة» أي ثمرة.6.

ص: 96


1- رياض المسائل: ج 9/23-24 (ط. ج).
2- الحدائق الناضرة: ج 19/337.
3- الخلاف: ج 3/89-90.
4- المبسوط: ج 2/114.
5- الحدائق الناضرة: ج 19/336.
6- وسائل الشيعة: ج 18/217 ح 23534، الكافي: ج 5/175 ح 6.

كما أنّ ظاهر إطلاق (الأرض) فيه، إرادة الأعمّ من أرض ذلك البستان الذي أدرك بعضه وأرض بستانٍ آخر.

واستدلّ للمنع:

1 - بعدم تناول الضميمة لمثل ذلك، وعدم تناول نصوص الصحّة المتقدّمة آنفاً له، فيبقى مندرجاً في إطلاق دليل المنع.

2 - وبموثّق عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1): «عن الفاكهة متى يحلّ بيعها؟

قال عليه السلام: إذا كانت فاكهة كثيرة في موضعٍ واحد، فأطعم بعضها، فقد حَلّ بيع الفاكهة كلّها، فإذا كان نوعاً واحداً فلا يحلّ بيعه حتّى يطعم، فإن كان أنواعاً متفرِّقة فلا يباع منها واحدة شيء حتّى يطعم كلّ نوعٍ منها، ثمّ يباع تلك الأنواع».

أقول: لكن مُنع تناول الضميمة، وكذا منع تناول نصوص الصحّة، وقد تقدّم ما فيهما، أضف إليه أنّ النصوص الخاصّة دلّت على الصحّة.

وأمّا الموثّق: فهو أجنبيٌ عن المقام، لأنّ ظاهره التفصيل في الفواكه الموجودة في موضع واحد، بين كونها نوعاً واحداً وأنواعاً، وأنّه يكفي إدراك البعض في الأوّل دون الثاني، وهذا ممّا لم يقُل به أحد.

والحقّ أنّ ما أفاده المحدِّث الكاشاني(2) وغيره من أنّ أخبار عمّار مشتملة على الغرائب، متينٌ ، والظاهر أنّ منشأه قلّة حفظه، واللّه العالم.

فالمتحصّل: أنّ الأظهر هو الجواز.

***7.

ص: 97


1- وسائل الشيعة: ج 18/218 ح 23537، تهذيب الأحكام: ج 7/92 ح 34.
2- الوافي: ج 6/237.

وبيع الثمرة في كمامها، والزَّرع قائماً وحصيداً وقصيلاً، وعلى المشتري قطعه،

بيع الزرع قائماً وقصيلاً وحصيداً

المسألة الرابعة: (و) المشهور بين الأصحاب(1) أنّه يجوز (بيع الثمرة في كمامها) والمراد من كمام غلاف الطلع، والطلع ما يطلع من النخل، ثمّ يصير بُسراً وثمراً إنْ كانت اُنثى ، وإنْ كانت ذكراً لم يصر تمراً بل يترك على النخلة أيّاماً معلومة حتّى يصير فيه شيء أبيض مثل الدقيق، وله رائحة زكيّة فيلقح به الاُنثى ، وقد تقدّم في بحث بيع الثمرة قبل بدوّ الصلاح، أنّه لو كان المبيع هذا الموجود، بحيث يستحقّ عليه القطع، كان المتّجه الجواز وإنْ لم يشترطه.

(و) كذا يجوز بيع (الزَّرع قائماً) على اُصوله، سواءٌ بلغ الحصاد أم لا، أو قصد قصيله أم لا لكونه عيناً مملوكة قابلة للنقل، لكن المنقول عن الصدوق قدس سره(2) المنع، إلّا أن يكون سنبلاً أو قَصَد قطعه.

(و) كذا يجوز بيعه (حصيداً) وإنْ لم يُعلم قَدر ما فيه، لأنّه غير مكيل ولا موزون، فيكفي فيه المشاهدة.

(و) كذا يجوز بيعه (قصيلاً) أي يُباع بشرط القطع لعلف الدّواب ونحوه، (و) حينئذٍ فإذا باعه كذلك، وجبَ (على المشتري قطعه) حَسَب الشرط،

ص: 98


1- كما في جامع المقاصد: ج 4/164، الدروس: ج 3/236.
2- المقنع: ص 392.

فإنْ تركه طالبه البائع بأُجرة الأرض مدّة التبقية، وللبائع قطعه

(فإنْ تركه طالبه البائع بأُجرة الأرض مدّة التبقية) التي تراضيا عليها مع التعيين، أو المدّة التي بقي فيها بعد إمكان قصله مع الإطلاق.

ولو وقع الشراء لأجل القصل قبل أوان قصله، وجب على البائع الصبر إلى أوانه مع الإطلاق، أو إلى المدّة التي تراضيا عليها مع التعيين، (وللبايع قطعه) وتفريغ أرضه منه، لأنّه «لا عِرقْ لظالمٍ » كما في الحديث، مع امتناع المشتري ووجوبه عليه.

أقول: وظاهر المتن وغيره عدم التوقّف على إذن الحاكم، واشترط بعضهم إذن الحاكم إن أمكن.

أمّا أصل جواز البيع، فيشهد له: - مضافاً إلى ما مرّ - جملة من النصوص:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام(1): «لا بأس بأن تشتري زرعاً أخضر ثمّ تتركه حتّى تحصده إنْ شئتَ أن تعلفه من قبل أن يسنبل هو حشيش».

ومنها: صحيح بكير بن أعين، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام(2): أيحلّ شراء الزرع الأخضر؟ قال عليه السلام: نعم لا بأس به».

ومثله صحيح زرارة، وقال(3): «لا بأس أن تشتري الزرع والقصيل أخضر، ثمّ تتركه إنْ شئت حتّى يسنبل، ثمّ تحصده، وإن شئت أن تعلف دابّتك قصيلاً فلا بأس به قبل أن يُسنبل، فأمّا إذا استنبل فلا تعلفه رأساً رأساً فإنّه فساد».3.

ص: 99


1- وسائل الشيعة: ج 18/234 ح 23572، الكافي: ج 5/274 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 18/234 ح 23573، تهذيب الأحكام: ج 7/142 ح 15.
3- وسائل الشيعة: ج 18/235 ح 23574، الكافي: ج 5/274 ح 3.

قوله عليه السلام: «رأساً» يعني حيواناً.

ومنها: خبر سليمان بن خالد، عنه عليه السلام(1): «لا بأس بأن تشتري زرعاً أخضر، فإنْ شئت تركته حتّى تحصده، وإنْ شئت فبعه حشيشاً».

ومنها: صحيح إسماعيل بن الفضل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(2): «عن بيع حصائد الحنطة والشعير وسائر الحصائد؟ قال عليه السلام: حلال فليبعه ما شاء».

ومنها: موثّق سماعة(3): «سألته عن شراء القصيل يشتريه الرّجل فلا يقصله، ويبدو له في تركه حتّى يخرج سنبله شعيراً أو حنطة، وقد اشتراه من أصله، وما كان على أربابه من خراج، فهو على العلج ؟

قال عليه السلام: إنْ كان اشترط حين اشتراه إن شاء قطعه وإنْ شاء تركه كما هو حتّى يكون سنبلاً وإلّا فلا ينبغي له أن يتركه حتّى يكون سنبلاً».

ونحوه موثّقه الآخر عن الإمام الصادق عليه السلام(4) وزاد فيه: «فإنْ فعل فإنّ عليه طسقه ونفقته وله ما خرج منه».

و (العلج) هو الكافر من العجم، حيث أنّ الزّراع والأكرة كانوا يومئذ من كفّار العجم، فالمراد أنّه اشتراه على أنْ يكون الخراج على البائع دون المشتري.

ونحوها غيرها من الأخبار.

أقول: وبإزائها خبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام(5):6.

ص: 100


1- وسائل الشيعة: ج 18/235 ح 23577، تهذيب الأحكام: ج 7/144 ح 24.
2- الكافي: ج 5/276 ح 4، تهذيب الأحكام: ج 7/205 ح 50.
3- وسائل الشيعة: ج 18/236 ح 23578، الكافي: ج 5/275 ح 6.
4- وسائل الشيعة: ج 18/236 ح 23579، الكافي: ج 5/275 ح 7.
5- وسائل الشيعة: ج 18/237 ح 23581، من لا يحضره الفقيه: ج 3/236 ح 3866.

«عن الحنطة والشعير اشتري زرعه قبل أن يسنبل وهو حشيش ؟

قال عليه السلام: لا، إلّاأن تشتريه لقصيل يعلفه الدواب، ثمّ يتركه إن شاء حتّى يسنبل».

وقد استدلّ به لما ذهب إليه الصدوق رحمه الله(1)، ولكن لمعارضته مع النصوص المتقدّمة الصريحة في الجواز، تُحمل هذا على الكراهة.

هذا، ويمكن أنْ يقال إنّه أجنبيّ عن المقام.

ويدلّ على المنع قبل ظهور الثمرة، من أخبار المسألة المتقدّمة، وبه يظهر الجواب عن الاستدلال له بموثّق معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(2): «لا تشتر الزرع ما لم يُسنبل».

وهذه الأخبار كما تدلّ على جواز البيع، تدلّ على أنّه ليس له الإبقاء، إلّاأن يشترط، وأنّه لو ابقيت، كان عليه اُجرة الأرض، وأمّا أنّ للبائع قطعه، فلأنّ إبقاءه بلا حقّ ظلمٌ ، وقد ورد في الحديث أنّه «ليس لعرقِ ظالمٍ حقّ »(3)، واعتبار إذن الحاكم لا دليل عليه، والأصل عدمه.

***6.

ص: 101


1- المقنع: ص 392.
2- وسائل الشيعة: ج 18/235 ح 23576، تهذيب الأحكام: ج 7/144 ح 22.
3- وسائل الشيعة: ج 25/388 ح 32194، تهذيب الأحكام: ج 6/311 ح 66.

اتّحاد حكم الأشجار مع حكم النخل

المقام الثاني: في حكم التعامل على أثمار سائر الأشجار.

ظاهر المتن كالنصوص والفتاوى، اتّحاد حكمها مع ثمرة النخل بالنسبة إلى البيع قبل الظهور وبعده، ولذا جعل المصنّف رحمه الله موضوع الحكم الثمرة لا ثمرة النخل.

وصرّح الشهيد الثاني في «المسالك»(1) بأنّ الخلاف هنا على حسب الخلاف في ثمرة النخل، وكذلك المصنّف قال في محكي «التذكرة»(2): (في جميع مسائل ثمرة الشجر الخلاف هنا كالخلاف في ثمرة النخل).

وأورد عليه المحقّق الأردبيلي(3): بأنّه اختار في ثمر النخل جواز بيعه بعد الظهور قبل البدوّ عامين، وفي ثمر الشجر قال لا يجوز.

وكيف كان، فيشهد لاتّحاد حكمها مع حكم النخل بالنسبة إلى جواز البيع قبل الظهور، صحيح الحلبي المتقدّم هناك، وعليه فيُحمل ما دلَّ على المنع من النصوص على الكراهة، ومنه - بضميمة اشتمال جملةٍ من النصوص المانعة والمجوّزة على غير النخل، كموثّق عمّار وصحيح يعقوب وخبر محمّد بن شريح المتقدّمة - يظهر اتّحاد حكم الجميع.

نعم، في خصوص بدوّ الصلاح الذي جُعل غايةً للمنع أو الكراهة في المقام كلامٌ ، وهو: أنّ الشيخ رحمه الله قال في «المبسوط»(4):

ص: 102


1- مسالك الأفهام: ج 3/358.
2- تذكرة الفقهاء: ج 10/360.
3- مجمع الفائدة: ج 8/208-209.
4- المبسوط: ج 2/114.

(بدوّ الصلاح يختلف - إلى أن قال - وقد روى أصحابنا أنّ التلوّن يعتبر في ثمرة النخل خاصّة، فأمّا ما يتورّد فبدوّ صلاحه أن ينتثر الورد وينعقد، وفي الكَرْم أن ينعقد الحصرم، وإنْ كان مثل القثّاء والخيار الذي لا يتغيّر طعمه ولا لونه، فإنّ ذلك يؤكل صغاراً، فبدوّ صلاحه أن يتناهى عظم بعضه).

وفي موثّق عمّار: «سألته عن الكَرْم متى يحلّ بيعه ؟ قال عليه السلام(1): إذا عقد وصار عقوداً والعقود اسم الحصرم بالنبطيّة».

وفي خبر محمّد بن شريح، عن الإمام الصادق عليه السلام، وبلغني أنّه قال(2): «في ثمر الشجر لا بأس بشرائه إذا صلحت ثمرته. فقيل له: وما صلاح ثمرته ؟ فقال: إذا عقد بعد سقوط ورده».

والظاهر أيضاً رجوع الجميع إلى شيء واحد، وهو ما أفاده الشيخ رحمه الله الذي هو المختار.

***1.

ص: 103


1- وسائل الشيعة: ج 18/212 ح 23516، الكافي: ج 5/178 ح 18.
2- وسائل الشيعة: ج 18/214 ح 23523، تهذيب الأحكام: ج 7/91 ح 31.

ويجوز بيع الخضر بعد انعقادها لقطةً ولقطات. وما يُجزّ أو يُخرط، جَزّةً وجزّات، وخَرطةً وخرطات

بيع الخضروات

المقام الثالث: قالوا: (ويجوزُ بيع الخضر) كالقثّاء والحنّاء والبطيخ والخيار (بعد انعقادها) وظهورها، وإنْلم يتناهي عظمها، (لقطةً ولقطات) معيّنة معلومة العدد.

والمرجع في اللّقطة العرف، فما دلَّ على صلاحيّته للقطع يُقطع، وما دلَّ على عدمه لصغره أو شُكَّ فيه لا يقطع.

أمّا الأوّل: فواضح.

وأمّا الثاني: فلأصالة بقائه على ملك مالكه.

(و) كذا يجوز بيع (ما يُجزّ) أي ما يقطع فيستخلف كالبقول (أو يُخرط) أي يؤخذ الورق وتُترك الأغصان كالحنّاء والتُوت - بالتاءين من فوق - (جزّة وجَزّات، وخَرطةً وخرطات) على سبيل اللّف والنشر.

والمراد ب (الخرطة) أن يؤخذ على أعلى الغصن ثمّ يُمرّ اليد إلى أسلفه، وفي المَثَل:

(دونه خرط القتاد)، وهو شجرٌ له شوكٌ لا يتيسّر خرطه لذلك.

أقول: والدليل على الجواز في الكلّ ، بعد الاتّفاق من الكلّ على الكلّ :

1 - العمومات.

2 - موثّق سماعة(1)، قال: «سألته عن ورق الشجر، هل يصلح شراء ثلاث خرطات أو أربع خرطات ؟

ص: 104


1- وسائل الشيعة: ج 18/221 ح 23542، تهذيب الأحكام: ج 7/86 ح 10.

فقال عليه السلام: إذا رأيت الورق في شجرةٍ فاشتر منه ما شئت منه من خرطة».

3 - وخبر معاوية بن ميسرة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال(1): «سألته عن بيع النخل سنتين ؟ قال عليه السلام: لا بأس به.

قلت: فالرطبة يبيعها هذه الجزّة وكذا وكذا جزّة بعدها؟ قال عليه السلام: لا بأس به. ثمّ قال: كان أبي يبيع الحنّاء كذا وكذا خرطة».

4 - وصحيح بريد، عن أبي جعفر عليه السلام(2) المتقدّم: «عن الرطبة تباع قطعةً أو قطعتين أو ثلاث قطعات ؟ فقال عليه السلام: لا بأس».

والرطبة بفتح الراء وسكون الطاء نبتٌ خاصّة، وقيل له أوراق صغار ذو وبسط في الجملة، يقال له بالفارسيّة: اسبست، كما عن «الصحاح» و «المُغرِب»(3).

فرع: وهل يجوز بيعها قبل الظهور أم لا؟

المشهور بين الأصحاب عدم الجواز، وفي «الحدائق»(4): (والظاهر أنّه لا خلاف فيه).

ويشهد له: - مضافاً إلى أنّها معدومة، والجهالة والغَرر - موثّق سماعة فإنّه بمفهوم الشرط يدلّ على عدم الجواز، مع عدم الظهور، وبه يقيّد إطلاق الخبرين.

وعليه، فما عن ابن حمزة(5) في نحو الجزّة الثانية والثالثة فجوّز بيعها منفردة قبل الظهور، ضعيفٌ محجوجٌ بما عرفت.

***3.

ص: 105


1- وسائل الشيعة: ج 18/214 ح 23521، الكافي: ج 5/177 ح 11.
2- وسائل الشيعة: ج 18/209 ح 23511، الكافي: ج 5/174 ح 1.
3- الصحاح: ج 1/203، المغرب: ج 1/210، لسان العرب: ج 6/164، تاج العروس: ج 4/208.
4- الحدائق الناضرة: ج 19/342.
5- الوسيلة: ص 253.

ويجوز استثناء حصّة مشاعة أو نخلاً أو شجراً معيّناً أو أرطالاً معلومة

جواز استثناء البائع ثمرة شجرات

المقام الرابع: في اللّواحق (و) هي تتضمّن البحث عن عدّة مسائل:

المسألة الأُولى : (يجوز) لبائع الثمرة (استثناء حصّة مشاعة) كالثّلث أو الربع بلا خلافٍ ، بل الإجماع بقسميه عليه، كما في «الجواهر»(1).

(أو نخلاً أو شجراً معيّناً) أي يجوز له استثناء ثمرة نخلٍ أو شجر بعينه أو شجرات أو نخلات بعينها، بلا خلافٍ ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه.

(أو أرطالاً معلومة) بلا خلافٍ ، إلّاعن الحلبي(2)، فمنعه للجهالة، ورَدّه الشهيد الثاني في «المسالك»(3) بمنع الجهالة بعد تعيين مقدار الثمرة المبيعة بالمشاهدة.

وكيف كان، فيشهد بالجواز في الجميع: - مضافاًإلى العمومات، وعدم المخصّص - صحيح ربعي، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال(4):

«قلت له: إنّ لي نخلاً بالبصرة فأبيعه واُسمّي الثمن، وأستثني الكُرّ من التمر أو أكثر، أو العدد من النخل ؟ فقال عليه السلام: لا بأس».

وصحيحه الآخر عنه عليه السلام(5): «في الرجل يبيع الثمرة ثمّ يستثني كيلاً وتمراً؟

ص: 106


1- جواهر الكلام: ج 24/84.
2- حكاه عنه في رياض المسائل: ج 9/29.
3- مسالك الأفهام: ج 3/360-361.
4- وسائل الشيعة: ج 18/211 ح 23514، الكافي: ج 5/175 ح 4.
5- وسائل الشيعة: ج 18/242 ح 23593، من لا يحضره الفقيه: ج 3/211 ح 3788.

فإنْ خاسَتْ سَقَط من الثنيا بحسابه

قال عليه السلام: لا بأس به.

قال: وكان مولىً له عنده جالساً، فقال المولى: إنّه ليبيع ويستثني أوساقاً، يعني أبا عبد اللّه عليه السلام.

قال: فنظر إليه ولم يُنكر ذلك من قوله».

(فإنْ خاست) الّثمرة (سقط من الثنيا) وهو المستثنى، إذا كانت حصّة مشاعة أو أرطالاً معلومة (بحسابه) ونسبته إلى الأصل، بلا خلافٍ فيه بينهم.

وعلّلوه بأنّ استثناء حصّة مشاعة لازمه اشتراكهما في الجميع، فهو مال مشترك تَلِف بعضه، فلا محالة يكون التلف عليهما بالنسبة، وأمّا استثناء الأرطال فمرجعه إلى حصّة مشاعة نسبتها إلى المجموع نسبة الأرطال المعلومة إليه فيلحقه حكمه.

أقول: بقي في المقام إشكال، وهو:

أنّ لازم فتوى الأصحاب في مسألة استثناء الأرطال، الحمل على الإشاعة، كما عرفت، وفي مسألة بيع صاع من صُبرة التزموا بأنّه لو تلف بعض الجملة، وبقي مصداق الطبيعة انحصر حقّ المشتري فيه، ولازمه الحمل على الكلّي في المعيّن، فيقع الإشكال في الفرق بين المسألتين أيضاً، فإنّ لهم في مسألة الأرطال فتويين لا تلائمان مع الإشاعة:

إحداهما: أنّه لو تلف البعض بتفريط المشتري، كان حصّة البائع في الباقي.

ثانيتهما: استقلال المشتري في التصرّف.

ص: 107

قد ذكروا في مقام الفرق وجوهاً عمدتها ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله(1) وحاصله إنّ المستثنى كما يكون كليّاً، كذلك يكون عنوان المستثنى منه الذي انتقل إلى المشتري كليّاً أيضاً، بمعنى أنّه ملحوظ بعنوان كلّي يقع عليه البيع، فكلّ منهما مالك للكلّي، ونسبة الموجود إلى كلّ منهما على حَدٍّ سواء فتخصيص أحدهما به ترجيحٌ بلا مرجّح، فيكون نسبة التالف إليهما على حَدٍّ سواء، فيُحسب عليهما، وأمّا في البيع فإنّ المبيع وإن كان كليّاً إلّاأنّ مال البائع لم يُلاخط بعنوان كلّي.

وفيه أوّلاً: إنّ الخصوصيّات في مسألة الاستثناء:

1 - إمّا أن تكون باقية على ملك البائع.

2 - أو تكون داخلة في ملك المشتري.

فعلى الأوّل: حكم المشتري في بيع صاعٍ من صُبرة، حكمه في مسألة استثناء الأرطال، فلا وجه لحساب التالف عليه.

وعلى الثاني: كان حكم المشتري في مسألة الأرطال، حكم البائع في بيع الصّاع، فلا وجه لحساب التالف على البائع.

وثانياً: إنّ ظاهر بيع المجموع إلّامقداراً منها، بيع الموجود الخارجي لا الكلّي.

وثالثاً: أنّه لا يرتفع به إشكال أنّه لو تلف بتفريط المشتري كان حصّة البائع في الباقي، كما لا يخفى .

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2) من أنّ المبيع في بيع الصّاع كلّي،2.

ص: 108


1- كتاب المكاسب: ج 4/266 (ط. ج).
2- منية الطالب: ج 2/392.

ولا يملك المشتري من الخصوصيّات شيئاً، فما دام يكون صاع من الصبرة موجوداً، لا وجه لحساب التالف عليه، والمبيع في مسألة الاستثناء أيضاً وإنْ كان كليّاً، إلّاأنّ البائع يملك الكلّي مع الخصوصيّة، فاحتساب التالف على المشتري لا وجه له، بل يحسب عليهما، ومقتضى استحقاقه الكلّي أن يستحقّ الباقي لو أتلف المشتري مقداراً من الثمرة، لأنّ حقّه لم يكن مشاعاً في مال المشتري، حتّى يستحقّ القيمة، وعلى هذا يرتفع إشكال جواز تصرّف المشتري في الثمرة بلا رضا من البائع، لأنّه لم يكن شريكاً معه بعنوان الإشاعة.

وفيه: إنّ البائع إنْ كان مالكاً لجميع الخصوصيّات، كان المشتري كالمشتري في مسألة شراء الصّاع، لا وجه لحساب التالف عليه، وإن ملك بعض الخصوصيّات بنحو الإشاعة، عاد سؤال الفرق، وإنْ ملك بعضها بنحو الفرد المنتشر، بطل البيع كما مرّ في محلّه.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمه الله(1)، وحاصله:

إنّ ظهور الصّاع في بيع الصّاع من الصبرة في الكلّي في المعيّن لا يزاحم له، وظهوره فيه في مسألة الاستثناء مزاحمٌ مع ظهور الاستثناء في كونه متّصلاً لا منقطعاً وهو أقوى ، فلا محالة يكون المستثنى جزئيّاً أخرج من الجزئيّات، وحيث إنّ الجزئي المفروض إمّا مجهول أو مردّدٌ، والأوّل باطلٌ والثاني محال، فلابدّ من حمله على الجزئي بجزئيّة منشأ انتزاعه، وهو الكسر المشاع.

وفيه: - مضافاً إلى أنّه بهذا لا يرتفع إشكال استقلال المشتري في التصرّف، وأنّه لو تلف البعض بتفريطٍ من المشتري كان حصّة البائع في الباقي - أنّ استثناء3.

ص: 109


1- حاشية المكاسب: ج 3/342-343.

والمحاقلة حرامٌ

الكلّي من المجموع ليس استثناءً منقطعاً، بل يكون متّصلاً؛ لأنّ الاستثناء المتّصل هو ما لو أخرج شيءٌ لو لم يكن استثناء كان داخلاً في المستثنى منه، وفي المقام كذلك.

فالحقّ أن يقال: إنّ المستثنى في بيع مسألة الأرطال أيضاً كلّي، ولذا يكون المشتري مستقلّاً في التصرّف، ولكن حيث إنّه لا إشكال عند العرف في أنّه لو تلف المجموع إلّامقدار المستثنى، ليس ذلك للبائع خاصّة، يستكشف من ذلك أنّ المستثنى هو الكلّي ذو مراتب، ويكون الاستثناء في قوّة استثنائات عديدة متنازلة شيئاً فشيئاً، فمجموع الأرطال تكون مستثناة مع بقاء مجموع الثمرة، وشيءٌ منها نسبته إلى الباقي نسبة المجموع إلى المجموع، مع تلف شيء منه، وعدم الاستثناء مع تلف الجميع.

وبعبارة اُخرى : أنّ المستثنى هو الكلّي المقدّر بالكسر المشاع كعنوان العُشر مثلاً، فكلّما تلف يُحسب عليهما لا محالة، ومع ذلك يستقلّ المشتري بالتصرّف، ولا يلزم من ذلك غرر، لأنّ المستثنى متعيّن، وهو عُشر المجموع مثلاً.

وأمّا وجه أنّه لو تلف البعض بتفريط المشتري، كان حصّة البائع في الباقي، فالظاهر أنّه يكون هو الشرط الضمني، لبناء المتعاملين على ذلك، كما لا يخفى .

فتدبّر فإنّه دقيق.

حرمة المحاقلة

المسألة الثانية: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّ (المحاقلة حرامٌ )، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(1)، ويشهد له نصوص:

ص: 110


1- كما في الجواهر: ج 24/95 / الوسيلة ص 250.

منها: صحيح عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال(1):

«نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن المحاقلة والمزابنة.

قلت: وما هو؟ قال: أن يشتري حمل النخل بالتّمر والزرع بالحنطة».

ومنها: موثّقه الآخر، عنه عليه السلام(2): «نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن المحاقلة والمزابنة، فقال: المحاقلة النخل بالتمر، والمزابنة بيع السُّنبل بالحنطة».

ومنها: خبر الحسين بن زيد، عنه عليه السلام(3)، عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث مناهي النبيّ صلى الله عليه و آله: «ونهى عن المحاقلة، يعني بيع التمر بالزبيب، وما أشبه ذلك».

ومنها: خبر أبي عبيد القاسم بن سلام، بأسانيد متّصلة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله(4) أنّه:

«نهى عن بيع المحاقلة والمزابنة، فالمحاقلة بيع الزرع وهو في سنبله بالبُرّ، والمزابنة بيع التمر في رؤوس النخل بالتمر».

وبالجملة: فأصل الحكم لا إشكال فيه، وتمام الكلام يتحقّق بالبحث في أُمور:

الأمر الأوّل: المحاقلة مفاعلة من الحقل، وهي الساحة التي يُزرع فيها، سُمِّيت هذه المعاملة بذلك لتعلّقها بزرع في حقل، واُطلق اسم الحقل على الزرع مجازاً من باب إطلاق اسم المحلّ على الحال، أو المجاور على مجاوره، فكأنّه باع حقلاً بحقل.

أقول: قد اختلفوا فيها في موردين:

أحدهما: أنّ المستفاد من كلمات أكثر الأصحاب، والمحكيّ عن جملةٍ من أهل2.

ص: 111


1- وسائل الشيعة: ج 18/239 ح 23586، الكافي: ج 5/275 ح 5.
2- وسائل الشيعة: ج 18/239 ح 23587، تهذيب الأحكام: ج 7/143 ح 20.
3- وسائل الشيعة: ج 18/240 ح 23589، بحار الأنوار: ج 100/124 ح 1.
4- وسائل الشيعة: ج 18/240 ح 23590، بحار الأنوار: ج 73/341 ح 12.

اللّغة: أنّها بيع الزرع بالحنطة من تلك الأرض، وخبر ابن سلام أيضاً يشهد به، إلّا أنّ موثّق البصري الثاني بل الأوّل - بناءً على ما هو ظاهره من كونه بنحو اللّف والنشر المرتّب - بخلاف ذلك، وأنّ المحاقلة هو بيع النخل بالتمر، وأمّا بيع الزرع فهو المزابنة.

قد ذهب إليه جمع من الفقهاء وهو الأصحّ ، إذ بعد تصريح الإمام عليه السلام بذلك لا معنى للمراجعة إلى كلمات غيره.

وأمّا خبر ابن سلام فيمكن أن يكون التفسير منه لا من الإمام.

ويؤيّده: تصديره بالفاء.

أضف إليه ضعف سنده لأنّ رجاله من العامّة.

وعلى أيّ تقدير، لا يترتّب على ذلك ثمرة، فإنّه كما تكون المحاقلة محرّمة، كذلك المزابنة على ما سيمرّ عليك.

الأمر الثاني: هل يجوز بيع ثمرة النخل بتمر من غيرها؟ فيه قولان:

فعن الشيخ(1) في أحد قوليه، والقاضي(2)، والمفيد(3)، وابني زُهرة(4)، وحمزة(4)، والديلمي(5)، والحِلّي(6)، بل ظاهر «الغنية»(8) كالروضة(7) الإجماع عليه، هو المنع.3.

ص: 112


1- المبسوط: ج 2/117.
2- المهذّب: ج 1/383.
3- المقنعة: ص 603. (4و8) الغنية: ص 226.
4- الوسيلة: ص 245/255.
5- المراسم العلويّة: ص 179.
6- السرائر: ج 2/367.
7- الروضة البهيّة: ج 3/362-363.

وعن الشيخ في «النهاية»(1) وجماعةٍ (2) هو الجواز.

وفي «الحدائق»(3): (والظاهر أنّه المشهور).

ويُشهد للمنع إطلاق خبري البصري.

وأُورد عليه: باحتمال العهديّة في اللّام، ورجوعها إلى تمر نفس النخلة المذكورة سابقاً.

وفيه: إنّه لم يتقدّم للتمر ذكرٌ في الخبرين سابقاً، والحمل في الأوّل والنخل في الثاني أعمٌّ من التمر، فلا يمكن جعل اللّام للعهد وللإشارة إليهما.

واستدلّ له في «الرياض»(4): بما ورد في العرية، وهو خبر السكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام(5): «رخّص رسول اللّه صلى الله عليه و آله في العرايا أن تُشترى بخرصها تمراً.

قال: والعرايا جمع عرية، وهي النخلة يكون للرجل في دار رجل آخر، فيجوز أن يبيعها بخرصها تمراً، ولا يجوز ذلك في غيره».

قال: (ودلالته ظاهرة إن جوّزنا بيع ثمرة العرية بتمرٍ من نفسها، وإلّا فهي صريحة، لاختصاص الرخصة حينئذٍ ببيعها بتمر من غيرها، ومقتضاه رجوع الإشارة في لفظة (ذلك) إليه، وهو صريحٌ في المنع هنا، كما لا يخفى .

ثمّ قال: وبه يضعف احتمال العهديّة في اللّام في النصوص، ورجوعها إلى تمر نفس النخلة المذكور سابقاً، فإنّ أخبارهم يكشف بعضها عن بعض). وهو حسنٌ .9.

ص: 113


1- النهاية: ص 416.
2- كابن البرّاج، حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 5/206.
3- الحدائق الناضرة: ج 19/352.
4- رياض المسائل: ج 9/37-38.
5- وسائل الشيعة: ج 18/241 ح 23591، الكافي: ج 5/275 ح 9.

واستدلّ للجواز:

1 - بما مرّ الذي عرفت ما فيه.

2 - وبصحيح الحلبي، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام(1): في رجلٍ قال للآخر بعني ثمرتك في نخلك هذه التي فيها بقفيزين من تمر أو أقلّ أو أكثر يسمّى ما شاءفباعه ؟ قال عليه السلام: لا بأس به.

وقال: البسر والتمر من نخلة واحدة لا بأس به، فأمّا أن يخلط التمر العتيق والبُسر، فلا يصلح، والزبيب والعنب مثل ذلك».

3 - وموثّق الكناني، قال(2): «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إنّ رجلاً كان له على رجلٍ خمسة عشر وسقاً من تمر، وكان له نخلٌ ، فقال له: خُذ ما في نخلي بتمرك. فأبي أن يقبل، فأتى النبيّ صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه لفلانٍ عليَّ خمسة عشر وسقاً من تمر، فكلِّمه يأخذ ما في نخلي بتمره، فبعث النبيّ صلى الله عليه و آله إليه فقال: يا فلان خُذ ما في نخله بتمرك.

فقال: يا رسول اللّه لا يفي، وأبى أن يفعل.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله لصاحب النخل: اُجذذ نخلك فجذّه، فكان خمسة عشر وسقاً.

فأخبرني بعض أصحابنا عن ابن رباط، ولا أعلم إلّاأنّي قد سمعته منه أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام قال(3): إنّ ربيعة الرأي لمّا بلغه هذا عن النبيّ صلى الله عليه و آله، قال: هذا ربا! قلت:

أشهد باللّه إنّه لمن الكاذبين. قال صدقت».3.

ص: 114


1- وسائل الشيعة: ج 18/223 ح 23546، الكافي: ج 5/176 ح 10.
2- وسائل الشيعة: ج 18/224 ح 23548، تهذيب الأحكام: ج 7/91 ح 33.
3- وسائل الشيعة: ج 18/224 ح 23548، تهذيب الأحكام: ج 7/91 ح 33.

4 - وخبر يعقوب بن شعيب عنه عليه السلام(1): «عن الرجلين يكون بينهما النخل، فيقول أحدهما لصاحبه: اختر إمّا أنْ تأخذ هذا النخل بكذا وكذا كيلاً مسمّى، وتعطيني نصف هذا الكيل زاد أو نقص، وإمّا أن آخذه أنا بذلك وأورده عليك ؟ قال عليه السلام: لا بأس بذلك».

5 - وخبره الآخر عنه عليه السلام(2): «عن رجل يكون له على آخر مائة كُرّ من تمر، وله نخلٌ فيأتيه فيقول: أعطني نخلك هذا بما عليك ؟ فكأنّه كرهه».

أقول: ولكن صحيح الحلبي لعدم اختصاصه بييع الثمرة بتمر من غيرها، وكونه مطلقاً يكون معارضاً لخبري البصري المعمول بهما، ولا شكّ في تقديمهما عليه، والجمع بحمله على ما إذا بيعت بتمر غيرها، وحملهما على ما إذا بيعت بتمرٍ منها، تبرّعيٌ لا شاهد له، مع إمكان حمله على العرية.

وأمّا موثّق الكناني: فلا يدلّ على أنّه كان بيعاً، بل يمكن كونه وفاءً ، ويحتمل إرادة إرضائه بذلك، ثمّ إيقاع المعاملة بنحوٍ يسلم معها من المحاقلة من الصلح وغيره.

وأمّا الخبران الأخيران: فهما في تقبيل أحد الشريكين بحصّة الآخر بشيءٍ معلوم، الذي هو معاملة مستقلّة، كما صرّح به الشهيد الثاني رحمه الله(3) وغيره.

فالمتحصّل: أنّ الأظهر هو المنع، نعم، الظاهر عدم شمول المنع لما إذا بيعت الثمرة بغير التمر، حتّى مثل الطَّلع ونحوه.

الأمر الثالث: هل يختصّ المنع بما إذا كان التمر ثمناً أم يعمّ ما إذا كان مثمناً؟0.

ص: 115


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/225 ح 3834، تهذيب الأحكام: ج 7/91 ح 32.
2- وسائل الشيعة: ج 18/223 ح 23547، الكافي: ج 5/193 ح 2.
3- مسالك الأفهام: ج 3/369-370.

الجمود على ظاهر الخبرين يقتضي الأوّل.

نعم، لو جُعل الثمن ثمرة النخل، والمثمن التمر من تلك النخلة، بطل لعدم جواز اتّحاد الثمن والمثمن.

الأمر الرابع: هل يختصّ الحكم بثمرة النخل، أم يعمّ غيرها من شجر الفواكه ؟

قولان، نُسب القول بالتعميم في محكي «الروضة»(1) إلى المشهور والظاهر هو الاختصاص، لإختصاص دليل المحاقلة - كما عرفت - بالنخل، فيبقى غيره على القواعد، فحينئذٍ إنْ اُريد بيع فاكهة شجر بمقدار منها بطل، لعدم جواز اتّحاد الثمن والمثمن، وإن بيعت بغيرها، فالظاهر هو الصحّة.

واستدلّ للمنع: بأنّ الثمن والمثمن حينئذٍ ربويّان، فيطرق احتمال الزيادة إلى كلّ واحدٍ، والمساواة المحتملة نادرة وعلى تقدير اتّفاقها يشترط الصحّة العلم بالتساوي.

وفيه: إنّه يعتبر في جريان الرّبا كون ما يقع عليه البيع مكيلاً أو موزوناً بالفعل، والثمرة على الشجرة تُباع بالمشاهدة، وليست بمكيلة ولا موزونة، مع أنّه يختصّ بالبيع بالمجانس.

وفي «المسالك»(2): (ويمكن تعليله بالعلّة المنصوصة في المنع من بيع الرُّطب بالتمر، وهي نقصانه عند الجفاف، فإنّها قائمة هنا، وقد تقدّم ترجيح التعدية، فيثبت الحكم هنا، وهو الأقوى ) انتهى .

وفيه: إنّ دليله ظاهر في الرّبا بين المقدّرين بالكيل والوزن، ولا يشمل ما يباع جزافاً، مع أنّ العلّة لا تعمّ جميع أفراد المقام، منها بيع اليابس باليابس، وعليه فالأظهر هو الاختصاص.4.

ص: 116


1- الروضة البهيّة: ج 3/361-362.
2- مسالك الأفهام: ج 3/364.

وكذا المزابنة

نعم، الظاهر هو المنع لو بيعت بمقدارٍ منها لإتّحاد الثمن والمثمن حينئذٍ، فما في «الرياض» من: «أنّ الأصل يقتضي الجواز ولو بالمجانس منها، أو من غيرها) غير تامّ

حرمة المزابنة

أقول: قد ظهر ممّا قدّمناه، أنّه كما يحرم المحاقلة إجماعاً (و) نصّاً، (كذا) يحرم (المزابنة)، وهي مفاعلة من الزبن، وهو الدفع، ومنه الزبانية لأنّهم يدفعون الناس إلى النار.

وأيضاً: قد ظهر ممّا قدّمناه أنّ المزابنة هي بيع السُّنبل بالحنطة، ويدلّ عليه النّص.

إنّما الكلام في المقام في أُمور:

الأمر الأوّل: اختلفوا في اسم المبيع فيها، فبعضهم عبّر بالزَّرع، ومنهم من عبّر بالسُّنبل.

وفي «الرياض»(1): (الموجود في أكثر النصوص والفتاوى السُّنبل).

وفي «المسالك»(2): (ويظهر من كلامهم الاتّفاق على أنّ المراد به السُّنبل وإن عبّروا بالأعمّ ).

وقد عبّر عنه في صحيح البصري بالزَّرع، وفي موثّقه بالسنبل، وفي خبر ابن سلام بالزَّرع وهو في سنبله، ولعلّه يكون شاهداً للجمع على أنّ إطلاق صحيح

ص: 117


1- رياض المسائل: ج 9/31-32، وحكاه عنه في الجواهر: ج 24/99.
2- مسالك الأفهام: ج 3/365.

البصري يقيّد بموثّقه، بعد كون كلّ منهما في مقام التحديد، فيكون لهما المفهوم.

الأمر الثاني: هل تختصّ المزابنة ببيع سنبل الحنطة، أو هي أعمّ منه ومن سنبل الشعير، أو الأعمّ من ذلك أيضاً ويعمّ كلّ زرع ؟ وجوهٌ وأقوال:

ظاهر ما في «التذكرة»(1) أنّ أكثر الأصحاب عبّروا بالأوّل. قال في أكثر تفاسيرها: (أنّها بيع الحنطة في السُّنبل بحنطة، ثمّ احتمل فيها دخول الشعير في جنس الحنطة).

أمّا صريح خبري البصري وإنْ كان هو الأوّل، ولكن بقرينة ما أفاده صاحب «الجواهر»(2) من (أنّ الذي يظهر مِنْ تتبّع النصوص في المقام وغيره، أنّ إطلاق الزرع والسُّنبل فيها منصرفٌ إلى الشعير والحنطة، ولعلّه لأنّ المتعارف في ذلك الزمان والمكان، وبقرينة اتّحاد الجنس في الرّبا، سيّما وقد علّل بعضهم المنع في المقام بالرّبا) يكون القول الثاني أظهر.

وبه يظهر شمول المزابنة لبيع السُّنبل بالشعير أيضاً، وعليه فما في «الجواهر»(3)من أنّه تتمّ دلالة الخبرين على الصور الأربع متينٌ .

كما أنّه على القول بعدم الفرق هنا بين جعل الحنطة ثمناً أو مثمناً، على ما تقدّم في المحاقلة، تكون صور المنع ثمانية.

أقول: وأمّا غير الحنطة والشعير، فلا مزابنة فيه.

الأمر الثالث: هل يجوز بيع السُّنبل بحبّ مِن غيره أم لا؟

فيه قولان كما مرّ في المحاقلة، ويظهر ممّا ذكرناه في تلك المسألة أنّ الأظهر هو المنع، لإطلاق خبري البصري.0.

ص: 118


1- تذكرة الفقهاء: ج 10/398 (ط. ج). (2و3) جواهر الكلام: ج 24/100.

والإيراد عليهما: باحتمال كون اللّام للعهد، مرّ الجواب عنه.

استدلّ للجواز هنا:

1 - بصحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ (1): «لا بأس أيضاً أن يشتري زرعاً قد سنبل وبلغ بحنطة».

2 - وبصحيح إسماعيل بن الفضل الهاشمي، عنه عليه السلام(2) عن بيع حصائد الحنطة والشعير وسائر الحصائد، قال: «حلالٌ فليبعه بما شاء».

3 - وحسن الوشّاء، عن أبي الحسن عليه السلام(3): «عن رجل اشترى من رجل ارضاً جرباناً معلومة بمائة كُرّ على أن يعطيه من الأرض ؟ قال عليه السلام حرام.

فقلت: جُعلت فداك، فإنّي أشتري منه الأرض بكيل معلوم حنطة من غيرها؟ قال عليه السلام: لا بأس بذلك».

أقول: ولكن صحيح الحلبي معارضٌ لخبري البصري المتقدّمين، المجمع على العمل بهما، فلا محالة يُقدّمان، وحمله على البيع بحَبٍّ من غيره وحملهما على البيع بحبٍّ منه، قد عرفت أنّه جمعٌ تبرّعي لا شاهد له.

وصحيح إسماعيل في الحصائد، وهو غير ما نحن فيه، مع أنّه عامٌ شامل للحبّ منه من غيره وغير الحبّ ، فيقيّد إطلاقه بالخبرين، وقد حُقّق في محلّه أنّ إطلاق المقيّد مقدّم على إطلاق المطلق.

أضف إليه أنّ الخبر مرويٌّ في «التهذيب» «إن شاء» بدل «ما شاء» فلا عموم فيه حينئذٍ.8.

ص: 119


1- وسائل الشيعة: ج 18/237 ح 23582، الكافي: ج 5/274 ح 1.
2- الكافي: ج 5/276 ح 4، تهذيب الأحكام: ج 7/141 ح 7.
3- وسائل الشيعة: ج 18/237 ح 23583، من لا يحضره الفقيه: ج 3/240 ح 3878.

إلّا العَريّة

وحسن الوشاء في بيع الأرض بحاصلها وغيره، أو في إجارتها بذلك، ولا ربط له بمسألتنا وهي بيع السُّنبل.

وعليه، فالأظهر هو المنع.

جواز بيع العرية بخُرصها تمراً

المسألة الثالثة: لا خلاف ولا إشكال في جواز بيع العرية بخرصها.

وفي «الرياض»(1): إجماعاً كما في «الغنية»(2) و «الخلاف»(3) و «المسالك»(4)وشرح «الشرائع» للصيمري(4) وغيرها من كتب الجماعة)(5).

وفي «الجواهر»(6): (بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منه في أعلى مراتب الاستفاضة إنْ لم يكن متواتراً).

وفي «المسالك»(8): (أنّه أجمع أهل العلم عدا أبي حنيفة على أنّه مستثنى من حرمة المزابنة).

أقول: والمصنّف رحمه الله كغيره من الأصحاب، لما فسّر المزابنة في كتبه ببيع ثمرة بالتمر، قال في المقام: (إلّا العَرية)، وأمّا على ما فسّرنا المحاقلة والمزابنة، يكون ذلك استثناء من المحاقلة لا المزابنة.

ص: 120


1- رياض المسائل: ج 9/37 (ط. ج).
2- الغنية: ص 226.
3- الخلاف: ج 3/95. (4و8) مسالك الأفهام: ج 3/365.
4- غاية المرام: ج 2/95.
5- المهذّب: ج 2/439.
6- جواهر الكلام: ج 24/101.

ثمّ على ما اخترناه من عدم جواز بيع ثمرة النخل بتمرٍ منها، أو من غيرها، يكون الاستثناء متّصلاً. وأمّا على القول باختصاصها ببيع ثمرة النخل بثمرها، يكون الاستثناء منقطعاً، ويكون سبيل ما دلَّ على الجواز فيها، سبيل ما دلَّ على الجواز في بيع ثمرة النخل بثمرة من غيرها.

أقول: وكيف كان، فيشهد للجواز:

1 - معتبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1): «رخّص رسول اللّه صلى الله عليه و آله في العرايا بأن تُشترى بخرصها تمراً.

قال: والعرايا جمع عرية، وهي النخلة تكون للرجل في دار رجلٍ آخر، فيجوز له أن يبيعها بخرصها تمراً، ولا يجوز ذلك في غيره».

2 - وخبر القاسم بن سلام، بإسنادٍ تتّصل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله(2): «أنّه رخّص في العرايا.

واحدتها عرية، وهي النخلة التي يعريها صاحبها رجلاً محتاجاً، والاعراء أن يبتاع تلك النخلة من المعرى بتمرٍ لموضع حاجته.

قال: وكان النبيّ صلى الله عليه و آله إذا بعث الخرّاص، قال: خفّفوا الخرص فإنّ في المال العرية والوصيّة».

أقول: وتنقيح القول في المقام يتحقّق بالبحث في موارد، وقبل البحث في تلكم الموارد، لابدّ وأن يعلم أنّه في الحكم بالجواز لابدّ من إحراز شمول دليل الجواز له، وإلّا فمقتضى إطلاق خبري البصري وغيرهما عدم الجواز، وقد حُقّق في محلّه أنّ2.

ص: 121


1- وسائل الشيعة: ج 18/241 ح 23591، الكافي: ج 5/275 ح 9.
2- وسائل الشيعة: ج 18/241 ح 23592، بحار الأنوار: ج 73/341 ح 12.

المخصّص إذا كان مجملاً ومنفصلاً يكون المرجع هو عموم العام في الموارد المشكوك فيها.

المورد الأوّل: المشهور بين الأصحاب(1) أنّ العرية هي النخلة تكون في دار الإنسان، وعن جماعة من أهل اللّغة(2) أو بستانه، واختاره جماعة من الفقهاء(3)، بل ظاهر السيّد في «الغنية»(4) الإجماع عليه.

وعن «المهذّب البارع»(5): (وفي «الرياض»(6): تعدية الحكم إلى الخان ونحوه).

ونُسب إلى الشيخ في «المبسوط»(7) وابن البرّاج(8) أنّها هي النخلة لرجل في بستان غيره، والظاهر رجوعه إلى القول الثاني، لتصريح الأوّل في خلافه(9)بالبستان وغيره، والثاني في كامله بالدار.

وجه الأوّل: الاقتصار على المتيقّن، وما في ذيل خبر السكوني من التصريح به.

وجه الثاني: أنّ العرية بحسب المتفاهم العرفي وتصريح أهل اللّغة، تشمل ما في البستان أيضاً.

وما ورد في ذيل خبر السكوني لم يُحرز كونه للإمام، ولعلّة تفسير للكلمة من السكوني نفسه.5.

ص: 122


1- تذكرة الفقهاء: ج 10/401.
2- حكاه في الدروس: ج 3/238.
3- جامع المقاصد: ج 4/171، الروضة البهيّة: ج 3/363.
4- الغنية: ص 226.
5- المهذّب البارع: ج 2/438-439.
6- رياض المسائل: ج 9/38.
7- المبسوط: ج 2/118.
8- المهذّب لابن البرّاج: ج 384/1.
9- الخلاف: ج 3/95.

ووجه الثالث: ما قاله صاحب «الرياض»(1): (ظاهر إطلاق خبر ابن سلام، مضافاً إلى التعليل فيه، ينادي بالعموم للبستان وغيره أيضاً كان الخان ونحوه، والسند وإنْ قصر إلّاأنّه بالشهرة منجبر) انتهى .

أقول: الأظهر هو الأوّل، أمّا لو كان التفسير للإمام فواضح، ولو كان للسكوني فهو يوجب الشكّ في صدق العرية على ما في غير الدار، وتصريح جمع من اللّغويين لايُحدي، وقد عرفت أنّه لابدّ من الاقتصار على المتيقّن.

وأمّا ما أفاده سيّد «الرياض»، فيردّه:

أوّلاً: ضعف سند الخبر.

ودعواه: أنّه بالشهرة منجبر:

إن أراد الشهرة على أصل الحكم، فيردّه أنّه لم يُعلم استناد الأصحاب إليه، ولعلّهم استندوا إلى خبر السكوني، بل الظاهر، ذلك لتخصيصهم الحكم بالدار.

وإنْ أراد الشهرة على التعميم، فيردّه ما في «الجواهر»(2) من أنّه لا شهرة على التعميم، بل هي على العكس متحقّقة.

وثانياً: أنّ المذكور فيه ليس علّة حقيقة يدور الحكم مدارها، وإلّا لزم عدم الجواز مع عدم الحاجة، ويجوز معها وإنْ كانت في داره ومن الضروري خلافه.

وعليه، فالأقوى هو الاختصاص بالدار.

المورد الثاني: صرّح جماعة منهم المصنّف(3) والشهيدان(4): بأنّ المراد من الدار3.

ص: 123


1- رياض المسائل: ج 9/39.
2- جواهر الكلام: ج 24/102.
3- تحرير الأحكام: ج 1/190.
4- الدروس: ج 3/238، الروضة البهيّة: ج 3/363.

ما هو أعمّ من المملوك والمستأجر والمستعار، وقد أسنده صاحب «الحدائق»(1) إلى الأصحاب، واستدلّ له بالصدق بأدنى ملابسة.

وزادفي «المسالك»(2): (اشتراك الجميع في العلّة، وهي مشقّة دخول الغير عليهم).

ولكن ظاهر الإضافة هي الملكيّة، والإضافة بأدنى ملابسة من المجاز، لا يصار إليه إلّابالقرينة، والتعليل قد عرفت حاله، وعليه فالمتيقّن هو المملوك.

المورد الثالث: المشهور بين الأصحاب أنّه يعتبر كون البيع من صاحب الدار، وفي «الرياض»(3): (نعم يستفاد منه الاختصاص بالبيع من صاحب الدار دون غيره، ولا كلام فيه وفاقاً لظاهر الأصحاب).

المورد الرابع: صرّح غير واحدٍ باشتراط كونها واحدة في كلّ دارٍ، فلو كان لمالك اثنتان لم يجز بيع ثمرتهما، ولا ثمرة إحداهما، لانتفاء العرية فيهما.

ولو تعدّد الدار جاز تعدّدها من الواحد.

وقال بعضهم: (إنّي لم أجد مخالفاً منّا في هذين الحكمين).

وفي «الجواهر»(4): (وبه صرّح في «المبسوط»، و «السرائر»، و «التذكرة»، و «شرح الإرشاد» للفخر، و «المهذّب البارع»، و «التنقيح»، و «جامع المقاصد»، و «تعليق الإرشاد»، و «المسالك» وهو قضيّة كلام الباقين حيث يقيّدون النخلة بكونها واحدة، ويطلقون البستان والدّار، وهو مقتضى الأصل والمتبادر من النّص). انتهى .6.

ص: 124


1- الحدائق الناضرة: ج 19/360.
2- مسالك الأفهام: ج 3/366.
3- رياض المسائل: ج 9/38.
4- جواهر الكلام: ج 24/106.

وملخّص القول في المقام:

1 - إمّا أنْ نقول - كما صرّح به الشهيد الثاني رحمه الله(1) وغيره - إنّ الوحدة في الدار أو البستان مأخوذة في مفهوم العرية، فمتى تعدّدت فيه لا عرية في شيءمنها، فالحكم ظاهر، وكذلك لو شُكّ في ذلك، لما عرفت من لزوم الاقتصار على المتيقّن حينئذٍ.

2 - وإمّا أنْ نلتزم بعدم أخذها في مفهومها قطعاً، فالمتبادر من خبر السكوني هو ذلك، كما صرّح به جمعٌ من الفقهاء(2) ولا أقلّ من الشكّ ، فالحكم واضح أيضاً.

3 - وإمّا أنْ ننكر ذلك، فإطباق الفقهاء يصلح مقيّداً للإطلاق.

فعلى أيّ تقدير لا إشكال في الحكمين.

المورد الخامس: هل يجوز بيعها بخرصها تمراً أم لا، كما هو المشهور بين الأصحاب ؟ وجهان:

أظهرهما الثاني للدليل العقلي على اعتبار مغايرة الثمن للمثمن، وبه يقيّد إطلاق الرخصة.

المورد السادس: لا عرية في غير النخل، لا ختصاص الدليل المرخّص به، فالمرجع في غير النخل دليل المنع.

المورد السابع: هل يعتبر عدم التفاضل والمماثلة بين ما عليها رطباً، وبين الثمن تمراً، ليكون بيع رطب بتمر متساوياً كما في محكي «التذكرة»(3) من جعله هذا مستثنى من بيع الرُّطب بالتمر متساوياً؟3.

ص: 125


1- مسالك الأفهام: ج 3/365-366.
2- منهم الشيخ العراقي في شرح التبصرة: ج 5/298.
3- تذكرة الفقهاء: ج 10/402-403.

ولا يجوز أن يتقبّل أحد الشريكين بحصّة صاحبه بوزنٍ معلوم

أم يعتبر المماثلة بين ثمرة النخل جافّة لثمنها من التمر، فلو زادت عند الجفاف أو نقصت تبيّن بطلان البيع.

أم لا يعتبر شيءٌ منهما، بل المعتبر في الجواز بيعها بما يقتضيه ظنّ الخارص لها تمراً بقدره، بمعنى أنّها تقدّر رطباً أو بُسراً أو نحوهما كم يبلغ تمراً إذا جفّت، فيباع تمرها بهذا المقدار تمراً؟

وجوه أقواها الأخير لإطلاق خبر السكوني، وكون ذلك ظاهرة.

والاستدلال للأوّل بلزوم الرّبا مع التفاضل، قد مرّ جوابه من أنّ الثمرة على النخل ليست بمكيلة ولا موزونة، فلا يجري فيها الرّبا.

جواز التقبّل بحصّة صاحبه بوزنٍ معلوم

المسألة الرابعة: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (يجوز أن يتقبّل أحد الشريكين) إذا كان بين اثنين - مثلاً - نخلٌ أو شجرٌ أو زرع (بحصّة صاحبه) بعد خرص المجموع (بوزنٍ معلوم) على حسب الخرص المزبور.

أقول: والأصل في ذلك - مضافاً إلى إمكان دعوى أنّ هذه معاملة خاصّة تُسمّى بالقبالة، كما صرّح به غير واحد، فيشملها ما دلَّ عليوجوب الوفاء بالعقد(1)بناءً على ما هو الحقّ من عدم اختصاصه بالعقود المتعارفة التي لها عناوين خاصّة،

ص: 126


1- سورة المائدة: آية 2.

وإلى إمكان إرجاعها إلى الصلح غير المعاوضي، كما مال إليه صاحب «الحدائق» رحمه الله(1)، فكأنّهما يتسالمان على أنْ يكون حصّة أحدهما من المال المشترك كذا مقدار، أو البقيّة للآخر شبه القسمة أو نوع منها - جملة من النصوص:

منها: صحيح أبي الصباح الكناني(2)، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لمّا افتتح خيبر تركها في أيديهم على النصف، فلمّا أدركت الثمرة بعث عبداللّه بن رواحة إليهم، فخرصها عليهم، فجاءوا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله قالوا: إنّه قد زاد علينا، فأرسل إلى عبد اللّه بن رواحة، فقال: ما يقول هؤلاء؟ قال: خرصت عليهم بشيء، فإن شاءوا يأخذون بما خرصتُ ، وإن شاءوا أخذنا.

فقال له رجلٌ من اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض».

ومنها: صحيح يعقوب بن شعيب، عنه عليه السلام(3): «عن الرجلين يكون بينهما النخل، فيقول أحدهما لصاحبه: اختر إمّا أنْ تأخذ هذا النخل بكذا وكذا كيلاً مسمّى، وتعطيني نصف هذا الكيل زاد أو نقص، وإمّا أنْ آخذه أنا بذلك. قال عليه السلام:

لا بأس بذلك».

ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام(4) أيضاً في حديثٍ : «فلمّا بلغ الثمر أمر عبداللّه ابن رواحة فخرص عليهم النخل، فلمّا فرغ منه خيّرهم، فقال: قد خرصنا هذا النخل بكذا صاعاً، فإنْ شئتم فخذوه وردّوا علينا نصف ذلك، وإنْ شئتم أخذناه2.

ص: 127


1- الحدائق الناضرة: ج 19/363.
2- وسائل الشيعة: ج 18/232 ح 23568، بحار الأنوار: ج 21/31 ح 33.
3- وسائل الشيعة: ج 18/231 ح 23567، الكافي: ج 5/193 ح 2.
4- وسائل الشيعة: ج 18/233 ح 23571، تهذيب الأحكام: ج 7/193 ح 2.

أعطيناكم نصف ذلك، فقالت اليهود: بهذا قامت السماوات والأرض».

وقريبٌ من مضمونه صحيح الحلبي(1).

ومنها: مرسل محمّد بن عيسى ، قال: قلت لأبي الحسن عليه السلام(2): «إنّ لنا أكرة فنزارعهم، فيجيئون فيقولون: إنّا قد حرزنا هذا الزرع بكذا وكذا فأعطوناه ونحن نضمن لكم أن نعطيكم حصّتكم على هذا الحزر. قال: وقد بلغ ؟ قلت: نعم. قال:

لا بأس بهذا.

قلت: إنّه يجيء بعد ذلك، فيقول إنّ الحِرز لم يجيء كما حززتَ قد نقص ؟

قال: فإذا زاد يردّ عليكم ؟ قلت: لا.

قال: فلكم أن تأخذوه بتمام الحزر، كما أنّه إن زاد كان له، كذلك إذا نقص كان عليه».

ومنها: خبر عبد اللّه بن بُكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(3)، قال: «سألته عن الرجل يزرع له الزعفران فيضمن له الحرّاث على أن يدفع له من كلّ أربعين منّاً زعفراناً رطباً منّا، ويصالحه على اليابس، واليابس إذا جفّف ينقص ثلاثة أرباع، ويبقى ربعه، وقد جرّب ؟ قال عليه السلام: لا يصلح.

قلت: وإن كان عليه أمينٌ يحفظه لم يستطع حفظه، لأنّه يعالج باللّيل و لا يطاق حفظه ؟

قال: يقبله الأرض أوّلاً على أنّه له في كلّ أربعين منّاً منّاً».

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة المعمول بها في النخل والثمار والزرع.0.

ص: 128


1- وسائل الشيعة: ج 18/232 ح 23568، الكافي: ج 5/266 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 18/233 ح 23570، تهذيب الأحكام: ج 7/208 ح 62.
3- وسائل الشيعة: ج 19/49 ح 24128، الكافي: ج 5/266 ح 10.

وفي «الجواهر»(1): (لا أجد خلافاً بين الأصحاب في العمل بمضمونها في النخل والثمار والزرع).

وأُورد على الاستدلال بها:

1 - بأنّه حينئذٍ من قبيل بيع المحاقلة والمزابنة.

2 - وبأنّها معاملة ربويّة باطلة.

3 - وأنّ الثمن والمثمن متّحدان، ودلّ العقل على لزوم تعدّدهما.

ولكن يرد الأوّل أوّلاً: ما تقدّم من إمكان كونها معاملة مستقلّة.

وثانياً: أنّه لو كان بيعاً يكون مستثنى من المحاقلة والمزابنة.

ويردّ الثاني: ما تقدّم مراراً من أنّ الثمرة على الشجرة ليست ربويّة، لعدم كونها مكيلة ولا موزونة، بل تُباع جزافاً، مع أنّه لأخصيّة دليل ذلك عن أدلّة حرمة الرّبا تُخصّص به.

أضف إليه: ما تقدّم من أنّ الأظهر وإنْ كان عدم اختصاص الرّبا بالبيع، لكن يختصّ بالمعاوضات، ولا يشمل التعاوض كالوفاء والقسمة ونحوهما.

ويردّ الثالث: أنّ المعوّض هي الحصّة المشاعة، والعوض المقدار المخصوص من مجموع الحصّتين.

أضف إليه: أنّ محذور اتّحاد الثمن والمثمن إنّما هو في البيع، ولا ربط له بهذه المعاملة الخاصّة حتّى وإنْ كانت صلحاً، وقد صرّح الأصحاب(2) بجواز الصلح عن المال ببعضه وإن انحلّ إلى الهبة.6.

ص: 129


1- جواهر الكلام: ج 24/122.
2- كما في غاية الآمال: ج 2/226.

أقول: وتمام الكلام في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: إنّ هذه المعاملة لازمة كما هو المشهور بين الأصحاب:

لعموم ما دلَّ على لزوم كلّ عقدٍ، ومن العقود عقد القبالة.

ومرسل محمّد وغيره من النصوص صريحٌ بعضها وظاهرٌ آخر في ذلك، فما عن «الميسيّة» و «إيضاح النافع» و «التنقيح» من كونها جائزة، غير تامّ ، كما لا مورد لإشكال المصنّف في محكيّ «التذكرة» في لزومها.

الفرع الثاني: صريح المرسل وظاهر غيره: أنّ الزائد على تقدير الزيادة ملك للمتقبّل، فما عن مزارعة «القواعد» من أنّه: (إباحة على إشكالٍ ) في غير محلّه.

الفرع الثالث: مقتضى الأخبار الخاصّة ظهوراً أو انصرافاً أو متيقّناً، اختصاص هذه المعاملة بما إذا كان العوض من الثمرة المخروصة، فلا يجوز الخرص، وجعل المقدار في الذّمة من جنس ذلك الحاصل، والظاهر اختصاص المعاملة عند العقلاء أيضاً بذلك.

الفرع الرابع: هذه المعاملة كسائر المعاملات تحتاج إلى إنشاء، ولا يكفي فيها مجرّد الرضا النفساني، لأنّ بناء العقلاء على عدم ترتيب الآثار على شيء من المعاملات ما لم تُبرز.

نعم، لا يعتبر فيها لفظ خاص، بل يصحّ إنشاؤها بكلّ ما هو مبرز لذلك، بل تصحّ بالفعل كما في سائر المعاملات.

ثمّ إنّ الظاهر كما أشرناإليه كون هذه معاملة مستقلّة غيرالبيع و الصلح المعاوضي، وإنْ شئت سمّها بالقبالة.

ص: 130

الفرع الخامس: قد عرفت أنّ هذه المعاملة لو وقعت تكون صحيحة ولازمة، والسؤال حينئذٍ عن أنّه هل يكون قرارها مشروطاً بالسلامة، أي سلامة الحاصل، فلو تلف بآفة سماويّة أو أرضيّة كان عليهما كما هو المشهور أم لا؟

قال في «المسالك»(1) بعد الاشتراط إلى المشهور: (ومستنده غير واضح، وحكمه لا يخلو عن إشكال، إنْ لم يكن انعقد عليه الإجماع، وأنّى لهم به، إنّما هو شيءٌ ذكره الشيخ في كتبه وتبعه عليه الباقون معترفين بعدم النّص ظاهراً على هذه اللّوازم) انتهى .

وظاهر المحقّق الأردبيلي(2) التوقّف في ذلك، وحكي عن «التذكرة»(3) أيضاً التردّد فيه.

وحقّ القول في المقام إنّه:

تارةً نقول: إنّ تعيين الحصّة في المقدار المعيّن لا يجعل ما يستحقّه المتقبّل من قبيل الكلّي في المعيّن، بل هي باقية على إشاعتها، غاية الأمر تعيّنها في مقدار معيّن، وعليه فكون التلف عليهما كما قبل التقبل واضح.

واُخرى نقول: بأنّ حقيقة هذه المعاملة تعهّد أحد الشريكين حصّة الآخر على المقدار الذي يراه الخارص، فتفيد - مضافاً إلى التعيّن - خروج العين عن الإشاعة، واختصاصها بالمتقبّل، كما أفاده بعض الأجلّة، ولازمه كون ما يستحقّه من قبيل الكلّي في المعيّن، فيمكن أنْ يقال إنّ المالك وإنْ ملك بالتقبّل مقداراً معيّناً من9.

ص: 131


1- مسالك الأفهام: ج 5/35.
2- مجمع الفائدة: ج 8/220-222.
3- تذكرة الفقهاء: ج 10/408-409.

الحاصل بنحو الكلّي في المعيّن، إلّاأنّ ما يستحقّه الآخر أيضاً من قبيل الكلّي في المعيّن، وهو ما زاد على ذلك المقدار، وليس المقام نظير بيع صاع من صبرة، فإنّ المبيع هناك كلّي في المعيّن، ومال البائع ليس ملحوظاً بعنوان كلّي، إذ لم يقع موضوع الحكم في البيع حتّى يلحظ بعنوان كلّي، وهذا بخلاف المقام، بل المقام نظير ما لو باع الصبرة إلّاصاعاً منها أو باع ثمرات شجرات إلّاأرطالاً معلومة، فكما أنّه في تلك المسألة لا إشكال ولا كلام في أنّه لو خاست الثمرة تلف من الصبرة مقدار منها سقط من المستثنى بحسابه، كذلك في المقام.

والسّر في ذلك: أنّه حيث يملك كلّ منهما كليّاً في المعيّن، فالموجود مشترك بينهما، لأنّ نسبة كلّ جزءٍ منه إلى كلّ منهما على حَدٍّ سواء، فتخصيص أحدهما به ترجيحٌ بلا مرجّح، وكذا التالف نسبته إليهما على السواء فيحسب عليهما.

وتمام الكلام في ذلك في مسألة بيع صاع من صبرة وقد تقدّم.

ومع الإغماض عن ذلك يمكن توجيهه بالشرط الضمني، وإلى ذلك يرجع ما أفاده بعضهم بكون ذلك من أحكامها العقلائيّة.

أقول: وعلى ما ذكرناه فيلحق إتلاف متلفٍ من الإنسان أيضاً بالتلف، والمتلف ضامنٌ لكلّ منهما.

***

ص: 132

ومَنْ مَرّ بثمرة نخلٍ لا قصداً، جاز أن يأكلّ من غير استصحابٍ ولا إضرار

حقّ المارّة

المسألة الخامسة: (ومن مرّ بثمرة نخلٍ ) أو شجر الفواكه، أو الزرع، أو قريب منها، بحيث (لا) يعدّ (قصداً) عرفاً بل كان ذلك منه اتّفاقاً (جاز أن يأكل، من غير استصحاب ولا إضرار) مع عدم العلم والظنّ بالكراهة، على المشهور بين الأصحاب نقلاً وتحصيلاً، كما في «الجواهر»(1).

وعن «السرائر»(2): (إذا مرَّ الإنسان بالثمرة جاز له أن يأكل منها قدر كفايته، ولا يحمل منها شيئاً على حالٍ ، من غير قصد إلى المضيّ إلى الثمرة للأكل، بل كان الإنسان مجتازاً في حاجةٍ ثمّ مرَّ بالثمار، سواءٌ كان أكله منها لأجل الضرورة أو غير ذلك على ما رواه أصحابنا، وأجمعوا عليه لأنّ الأخبار في ذلك متواترة، والإجماع منعقد منهم، ولا يعتدّ بخبر شاذٍ أو خلاف من يعرف باسمه ونسبه).

وعن «الخلاف»(3): (الإجماع أيضاً في النخل والفواكه).

وفي «الرياض»(4): (لم نقف على مخالفٍ فيه من قدمائهم إلّاما يُحكى عن المرتضى في بعض كتبه).

ص: 133


1- جواهر الكلام: ج 24/127.
2- السرائر: ج 2/226.
3- الخلاف: ج 6/98.
4- رياض المسائل: ج 9/45 (ط. ج).

وعن السيّد المرتضى(1) في «المسائل الصيداويّة»، والمصنّف في مكاسب «المختلف»(2) و «الإرشاد»(3)، والمحقّق الثاني(4)، والاُستاذ الأكبر(5) وغيرهم من المتأخّرين(6) ومتأخّري المتأخّرين(7) عدم جواز الأكل إلّامع العلم بالرضا.

واستدلّ للأوّل: بجملةٍ من النصوص:

منها: مرسل ابن أبي عمير، عن الإمام الصادق عليه السلام(8): «عن الرجل يمرّ بالنخل والسُّنبل والثمرة، فيجوز له أن يأكل منها من غير إذن صاحبها من ضرورة أو غير ضرورة ؟ قال عليه السلام: لا بأس».

ومنها: خبر عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام(9): «لا بأس بالرّجل يمرّ على الثمرة ويأكل منها ولا يفسد، قد نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن تُبنى الحيطان بالمدينة لمكان المارّة.

قال: وكان إذا بلغ نخلة أمر بالحيطان فخربت لمكان المارّة».

ونحوه خبر أبي الربيع الشامي عنه عليه السلام(10) وزاد فيه: «لا يُفسد ولا يَحمل».

ومنها: مرسل يونس، عنه عليه السلام(11): «عن الرّجل يمرّ بالبستان وقد حيط عليه أو6.

ص: 134


1- حكاه عنه في مسالك الأفهام: ج 3/372.
2- مختلف الشيعة: ج 5/25-26.
3- إرشاد الأذهان: ج 1/364.
4- جامع المقاصد: ج 4/47.
5- موسوعة الإمام الخوئي: ج 5/333 (ط. ج).
6- مجمع الفائدة: ج 8/222.
7- حاشية الإرشاد: ج 2/52.
8- وسائل الشيعة: ج 18/226 ح 23554، تهذيب الأحكام: ج 7/93 ح 36.
9- وسائل الشيعة: ج 18/229 ح 23563، الكافي: ج 3/569 ح 1.
10- وسائل الشيعة: ج 9/204 ح 11845، الكافي: ج 3/569 ح 1
11- وسائل الشيعة: ج 18/227 ح 23556، تهذيب الأحكام: ج 6/383 ح 256.

لم يحط عليه، هل يجوز له أن يأكلّ من ثمره، وليس يحمله على الأكلّ من ثمرة إلّا الشهوة، وله ما يُغنيه عن الأكلّ من ثمره ؟ وهل له أن يأكلّ من جوع ؟

قال عليه السلام: لا بأس أن يأكل ولا يَحمله ولا يفسده».

ومنها: مرسل «الفقيه»: «قال الصادق عليه السلام(1): مَن مرّ ببساتين فلا بأس أن يأكلّ من ثمارها ولا يحمل منها شيئاً».

ومنها: خبر محمّد بن مروان: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام(2): أمرّ بالثمرة فآكل منها؟ قال عليه السلام: كُلْ ولا تحمل».

والخبر مرويٌّ بطرق ثلاثة، وزاد في أحد طرقه:

«قلتُ : جُعلت فداك إنّ التّجار قد اشتروها ونقدوا أموالهم ؟

قال عليه السلام: اشتروا ما ليس لهم».

وما رواه الحِلّي عن كتاب مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن علي ابن محمّد عليهما السلام(3) من مسائل داود الصَّرمي، قال:

«سألته عن رجل دخل بستاناً أيأكلّ من الثمرة من غير علم صاحب البستان ؟ قال عليه السلام: نعم».

ومنها: خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام(4): «عن رجلٍ يمرّ على ثمرة فيأكل منها؟ قال: نعم قد نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن تستر الحيطان برفع بنائها».8.

ص: 135


1- وسائل الشيعة: ج 18/228 ح 23559، من لا يحضره الفقيه: ج 3/180 ح 3678.
2- وسائل الشيعة: ج 18/227 ح 23555، تهذيب الأحكام: ج 7/89 ح 23.
3- وسائل الشيعة: ج 18/229 ح 23562، بحار الأنوار: ج 100/76 ح 7.
4- وسائل الشيعة: ج 18/226 ح 23553، مسائل علي ص 148.

ومنها: معتبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1): «قال النبيّ صلى الله عليه و آله فيمن سرق الثمار في مكّة فما أكل منه فلا إثمّ عليه، وما حمل فيعزّر، ويُغرم قيمته مرّتين».

إلى غير ذلك من النصوص التي تكون جملة منها معتبرة في أنفسها كخبر السكوني ومرسل يونس لكونه من أصحاب الإجماع، ومرسل ابن أبي عُمير لأنّه لا يُرسل إلّاعن ثقة، وخبر أبي الربيع الشامي، ومرسل الصدوق لإسناد الخبر جزماً إلى المعصوم، ومع ذلك يدور البحث عن أنّ هذه الأخبار هل هي معمولٌ بها بين الأصحاب أم لا؟

أضف إلى ذلك كلّه أنّه لا يبعد تواترها كما ادّعاه الحِلّي، ولذا عمل هو بها كغيره ممّا لا يعمل إلّابالقطعيّات.

أقول: وربما يورد عليها:

1 - بأنّها مخالفة لقاعدة قبح التصرّف في مال الغير بغير إذنه المعلومة بالعقل والنقل، كمعلوميّة حرمة الجور والظلم والخيانة والسرقة، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل.

2 - وباستقرارالسيرة عليبناءالجدران ووضع الأبواب و منع النّاس و امتناعهم.

3 - وبأنّه لو كان مثل ذلك جائزاًلشاع حتّيبلغ التعارف، لا أنّه تعارف خلافه.

4 - وبأنّ فتح هذا الباب يقتضي بأن تضمحلّ أموال الناس، سيّما مع كثرة الثمار على الطرق المملوكة، بل يبعث على الحرام، حتّى أنّ كلّ من يجيء يقول: لم أكن قاصداً، ومن كان له عداوة مع أحد يتقصّد إضراره وله عذر واضح، بل يلزم منه3.

ص: 136


1- وسائل الشيعة: ج 18/226 ح 23552، الكافي: ج 7/230 ح 3.

أيضاًاستباحة الأغنياءزكاة الفقراء غير السادات وخمس السادات مع التعلّق بالعين.

أقول: وفي كلّ نظرٌ:

أمّا الأوّل: فلأنّه مع إذن الشارع الذي هو أقوى من إذن المالك - لأنّه المالك الحقيقي - يندفع الإشكال بحذافيره.

وأمّا الثاني: فلأنّ بناء الجدران ووضع الأبواب لا ينافي ذلك، والامتناع بعد ذلك من جهة استلزام الأكل التصرّف الزائد وخروجه عن كونه مارّاً ودخوله فيمن يمشي بقصد الأكل الذي ستعرف عدم جوازه.

وأمّا الثالث: فلأنّه شاع، وقد أفتى به جُلّ المتقدّمين، وعَمل الناس عليه.

وأمّا الرابع: فلأنّ الثمار التي تكون في البساتين والمزارع التي تكون على غير الطرق المملوكة خارجة عن الموضوع، والتي تكون على الطرق المملوكة ما كان منها على بُعد من الطرق يكون خارجاً أيضاً، لأنّه إنْ قصده للأكل خَرج عن كونه مارّاً بالثمرة اتّفاقاً، ويعتبر في الجواز ذلك كما سيجيء، فما يبقى مشمولاً للحكم قليلٌ لا يلزم منه شيء ممّا ذكر في هذا الإيراد.

واستدلّ للقول الآخر: مضافاً إلى ما مرّ الذي عرفت ما فيه:

1 - بصحيح علي بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام(1): «عن الرجل يمرّ بالثمرة من الزرع والنخل والكَرْم والشجر والمباطخ(2) وغير ذلك من الثمر، أيحلّ له أن يتناول منه شيئاً ويأكل بغير إذن صاحبه ؟ وكيف حاله إن نهاه صاحبه، أو أمره القيّم فليسخ.

ص: 137


1- وسائل الشيعة: ج 18/228 ح 23558، تهذيب الأحكام: ج 7/92 ح 35.
2- المباطخ: جمع مبطخة، وهي مزرعة البطيخ.

له، وكم الحَدّ الذي يسعه أن يتناوله منه ؟ قال عليه السلام: لا يحلّ له أن يأخذ منه شيئاً».

2 - وخبر مروك بن عبيد، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال(1):

«قلت له: رجلٌ يمرّ على قراح(2) الزرع يأخذ منه السنبلة ؟ قال عليه السلام: لا.

قلت: أيّ شيء سنبلة ؟ قال: لو كان كلّ من يمرّ به يأخذ منه سنبلة كان لا يبقى شيء!».

3 - وخبر مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمّد عليه السلام(3): «أنّه سُئل عمّا يأكل الناس من الفاكهة والرُّطب ممّا هو لهم حلال ؟

قال عليه السلام: لا يأكل أحدٌ إلّامن ضرورة، ولا يفسد إذا كان عليها فناء محاط، ومن أجل الضرورة نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يُبنى على حدائق النخل والثمار بناء لكي يأكل منها كلّ أحد».

4 - خبر محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام(4): «ليس للرجل أن يتناول من ثمرة بستان أو أرض إلّابإذن صاحبه، إلّاأنْ يكون مضطرّاً.

قلت: إنّه يكون في البستان الأجير والمملوك ؟

قال: ليس له أن يتناوله إلّابإذن صاحبه».

وقريب منه صحيح الحلبي.

وفيه: أمّا صحيح ابن يقطين، فالمراد من الأخذ المحكوم عليه بعدم الحلّية فيه:6.

ص: 138


1- وسائل الشيعة: ج 18/227 ح 23557، تهذيب الأحكام: ج 6/385 ح 261.
2- القراح: المزرعة التي ليس عليها بناء ولا فيها شجر.
3- وسائل الشيعة: ج 18/229 ح 23561، بحار الأنوار: ج 100/75 ح 2.
4- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/359 ح 15600، بحار الأنوار: ج 100/170 ح 26.

إمّا هو الحمل، بأن يكون جواباً عن السؤال الأخير، وهو قوله: «وكم الحَدّ الذي يسعه أن يتناوله ؟»، ويؤيّده عدوله عليه السلام عن لفظ الأكل الواقع في السؤال الأوّل، إلى الأخذ، فعدم دلالته على المقام واضحٌ ، فإنّ محلّ الكلام ومورد أخبار الجواز هو الأكل خاصّة، وقد نهي فيه أيضاً عن الحمل.

وإمّا هو الأخذ للحمل وللأكل ولإعطاء الغير، وما شاكل، فهو أعمّ من اخبار الجواز يقيّد إطلاقه بها.

والظاهر أنّه إلى ذلك نظر الشيخ وأتباعه من حمل نصوص المنع على غير الأكل، والجواز على الأكل.

أقول: وبذلك ظهر الجواب عن مرسل مروان، بل كون مورده الأخذ للحمل أوضح، فإنّ السنبلة الواحدة لم يتعارف أكلها، فلا محالة يكون ظاهره الأخذ للحمل، ولا خلاف في عدم جوازه، فلا ربط له بما هو محلّ الكلام.

وأمّا خبر مسعده فهو أعمٌّ من جهة الشمول للمارّة وغيرهم، فيقيّد إطلاقه بما مرّ، وبه يظهر ما في صحيح الحلبي في تناول المالك من بستانه الذي آجره: «ما أحبّ أن يأخذ منه شيئاً».

وعليه، فلا إشكال في الجواز.

أقول: ذكر جماعة(1) أنّه يعتبر في جواز أكل المارّة أُمور، وهي:

الأمر الأوّل: كون المرور بالثمرة اتّفاقيّاً، بمعنى أن لا يقصدها للأكل ابتداءاً، فلو قصدها كذلك لم يجز الأكل.5.

ص: 139


1- كما في رياض المسائل: ج 9/45.

وفي «المستند»(1): (ولعلّه إجماعي)، وظاهر «الرياض»(2) كونه إجماعيّاً، ونسب صاحب «الحدائق»(3) ذلك إلى الأصحاب.

ويشهد به: أنّ المأخوذ في نصوص الجواز، عنوان المرور، ومن الضروري أنّه لا يصدق على من قصد الثمرة للأكل ابتداءاً.

وبعبارة اُخرى : إنّ المارّ على ثمرة الشجرة:

تارةً : يقصد المرور عليها للأكل.

واُخرى : يقع مروره عليها من دون قصد إلى ذلك.

وثالثة: لا يكون قصده الثمرة ابتداءاً، ولكن قصد المرور عليها تبعاً في مسيره إلى محلٍّ له شغلٌ به مثلاً، كما لو كان لمقصده طريقان، والثمرة واقعة في أحدهما، فيختار ذلك الطريق للمرور على الثمرة.

لا خلاف في عدم الجواز في الصورة الأُولى ، والجواز في الثانية، والظاهر هو الجواز في الصورة الثالثة، لإطلاق النصوص، ومعه لا وجه للاقتصار على المتيقّن، وعلى هذا فخبرا ابن سنان وأبي الربيع لا ينافيان هذا الاشتراط، فلاحظهما وتدبّر.

ثمّ المراد بالمرور بها ليس هو العبور ملاصقاً بها، بحيث لا يحتاج في أخذها إلى التخطّي إليها، ولو بخطواتٍ قلائل، بل الظاهر من المرور هو العبور عمّا يقرب منها عرفاً وعادةً كما لا يخفى .

الأمر الثاني: أن لا يحمل منها شيئاً، والظاهر عدم الخلاف في شرطيّة ذلك،3.

ص: 140


1- مستند الشيعة: ج 15/53.
2- رياض المسائل: ج 9/45.
3- الحدائق الناضرة: ج 18/292-293.

ويشهد له - مضافاً إلى أدلّة المنع من الأدلّة العامّة، والنصوص الخاصّة، بعد اختصاص نصوص الجواز بالأكل الظاهر في الأكل في محلّها - النهي عن الحمل في النصوص المتقدّمة المجوّزة للأكل، الظاهر في الإرشاد إلى الشرطيّة في أمثال المقام.

وبذلك يظهر ما في كلمات سيّد «الرياض»(1) حيث قال: (إنّ إثبات الشرطيّة بالأخبار مشكلٌ ، إذ غايته النهي عن الحمل، الظاهرفي الحرمة و هي أعمّمن الشرطيّة).

الأمر الثالث: عدم الإكثار من الأكل بحيث يظهر عليه أثره أثراً بيِّناً، واستدلّ له:

1 - بحديث نفي الضَّرر(2).

2 - وبالنهي عن الإفساد في النصوص، بدعوى أنّ المراد الأكل كثيراً.

3 - وبالإجماع، بل الضرورة القطعيّة في بعض الموارد، كما لو كانت شجرة واحده على الطريق لفقيرٍ لا يملك غيرها، فلو جاز الأكل لكلّ مارٍّ عليها حتّى من عسكر كثير مرّت بها، لزم عدم بقاء له، وهذا ممّا يُعلم عدم جوازه من الشرع.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ هذا الحكم في نفسه ضرري على المالك، وجواز الأكل في جميع الحالات مستلزمٌ للضرر، فدليله أخصّ من دليل الضَّرر فيقدّم عليه.

ويرد على الثاني: أنّ الظاهر من الإفساد، هدم الحائط، أو كسر الغصن، أو نحو ذلك.

ويرد على الثالث: أنّه لا ضرورة ولا إجماع على عدم الجواز حتّى في الفرض المذكور، فأيّ مانع في أن يجوّز الشارع الأكل منها بحيث لا يبقى منها شيء؟2.

ص: 141


1- رياض المسائل: ج 9/48، الفصل السادس في بيع الثمار (ط. ق).
2- وسائل الشيعة: ج 18/32 ح 23073، الكافي: ج 5/292 ح 2.

وأيّ فرقٍ بين ذلك وبين أن تصبح الشجرة غير مثمرة في نفسها، فهل يتوهّم أحدٌ القول بأنّه يجب على اللّه تعالى أن يجعل الشجرة المفروضة مثمرة ؟ وعليه فالأظهر عدم اعتبار ذلك.

الأمر الرابع: عدم العلم بل ولا الظنّ بكراهة المالك، ذكره جماعة(1)، وإطلاق الأدلّة ينفي اعتبار ذلك، كما أنّه ينفي الشرط الخامس الذي ذكروه في المقام، وهو كون الثمرة على الشجرة لا مقطوعة مجزوزة.

الأمر الخامس: أن لا تكون الثمرة محاطاً عليها بسور مبوّبة بباب.

أقول: لا ريب ولا كلام في أنّها لو كانت كذلك، لم يجز صعود السور أو خرقه ولا فتح الباب أو كسره، لكونه تصرّفاً في ملك الغير بغير إذنه، والأكلّ من الثمرة غير ملازمٍ لذلك، فلا يصحّ أنْ يقال: إنّ تجويز الأكل مستلزمٌ لتجويز ذلك.

وأمّا نهي رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن الحيطان أو حيطان نخلة، كما في خبر ابن سنان، لا يستلزم جواز التصرّف لو كان محاطاً غير مخروق.

مع أنّه ليس للتحريم اتّفاقاً، ولكون نخلهِ محاطاً عليه كان يخرقه إذا بلغه، وخرقه صلى الله عليه و آله حيطان نخل نفسه، لا يكشف عن وجوب ذلك عليه فضلاً عن غيره، كما أنّه لا يجوز الدخول في ملك الغير لأكل الثمرة لعين ما تقدّم.

ولكن لو فعل حراماً فدخل، أو خرق الحيطان، أو كسر الباب، أو فرضنا أنّه خرج غصنٌ من الشجرة عن السور، يجوز أكل الثمرة لعدم الدليل على اعتبار هذا الشرط.8.

ص: 142


1- منهم صاحب منهاج المؤمنين: ج 2/18.

نعم، من يرى اعتبار عدم العلم بالكراهة، له أن يشترط هذا الشرط، فإنّ بناء الحيطان وإغلاق الباب أمارة عدم الرضا بالأكل، فتأمّل.

ولكن قد عرفت أنّه لا دليل على اعتباره أيضاً، مع أنّ مرسل يونس يصرّح بجواز الأكلّ من البستان الذي حيط عليه.

الأمر السادس: أنّ المذكور في أخبار الجواز هو النخل والسُّنبل والثمرة، فلايجوز التعدّي إلى غير الثلاثة اقتصاراً فيما خالف الأصل على مورد النّص، وعليه فهل يجوز أكل الخضروات أم لا؟

وجهان مبنيّان على صدق الثمرة عليها وعدمه، والظاهر عدم صدقها عليها، لإختصاصها بما يحصل من الشجر من الفواكه وغيرها.

وإنْ أبيت عن ذلك، فلا أقلّ من الشكّ في ذلك، فالمرجع حينئذٍ إلى أدلّة المنع.

فإن قيل: إنّه كيف يتمسّك بالعام مع الشكّ في صدق الخاص ؟

قلنا: إنّ الذي لا يجوز هو التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة، وأمّا التمسّك به في الشبهة المفهوميّة، مع كون المخصّص غير متّصل بالعام، فلا إشكال فيه، والمقام من هذا القبيل.

أقول: وقد يستدلّ لجواز أكلها بوجوه:

منها: صدق الثمرة عليها بشهادة صحيح ابن يقطين.

ومنها: تناول لفظ (البستان) الموجود في جملةٍ من النصوص لها، فإنّ المراد منه ما فيه.

ومنها: الإجماع المحكيّ .

ص: 143

ولكن الأوّل يندفع: بأنّ الصحيح لا يدلّ على صدق الثمرة على الخضروات، نعم هو يدلّ على صدقها على ما على الزروع أعمٌّ من السنبلة وغيرها، اللّهُمَّ إلّاأن يثبت جواز الخضروات بعدم القول بالفصل.

ويردّ الثاني: بأنّ المأخوذ موضوعاً للجواز في تلك الأخبار ثمار البساتين لا كلّ ما فيها.

والإجماع المنقول، سيّما مع معلوميّة المدرك، ليس بحجّة.

وعليه، فالعمدة حينئذٍ عدم الفصل بين الخضروات وسائر الزروع التي ليس لها سنبل.

والمستفاد من صحيح ابن يقطين، صدق الثمرة على مثل البطيخ أيضاً، فيجوز أكله، فتخصيص بعضهم الجواز بغيره لا وجه له.

والظاهر شمول الثمرة لغير الفواكه ممّا على الشجرة كالجوز واللّوز وأمثالهما كما يشعر به صحيح ابن يقطين، وعليه فتأمّل بعضهم فيه لا وجه له.

فرع: هل يعتبر البلوغ في الثمرة، كما يشعر به خبر ابن سنان المتقدّم، المتضمّن أنّه كان إذا بلغ نخلة أمر صلى الله عليه و آله بالحيطان فخرقت لمكان المارّة، وفي خبر الجعفري عن أبيه(1): «كان النبيّ صلى الله عليه و آله إذا بلغت الثمار أمرَ بالحائط فثلمت»؟

أم لا يعتبر ذلك لإطلاق النصوص، وخبر ابن سنان والجعفري لا يدلّان على عدم جواز الأكل قبل ذلك ؟

وجهان، أظهرهما الثاني.

***3.

ص: 144


1- وسائل الشيعة: ج 25/148 ح 31474، الكافي: ج 3/569 ح 3.

الفصل الحادي عشر: في بيع الحيوان

الفصل الحادي عشر: بيع الحيوان

اشارة

(الفصل الحادي عشر: في) البحث عن (بيع الحيوان)، ومسائل هذا الفصل على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما يتعلّق ببيع الاناسي من الحيوان، وحيث إنّه لا موضوع له في هذا العصر، فإلغاء تلك المباحث، والتعرّض للمسائل المبتلى بها أولى .

الطائفة الثانية: ما يتعلّق ببيع غير الاناسي من الحيوان، وقد تقدّم البحث فيه، مثل ثبوت خيار الحيوان، وأنّه لو تلف قبل زمان الخيار فهو من مال بائعه، وأنّه يجوز بيعه بلا وزن، وأنّه يجوز بيعه باللّحم، ولا يكون ذلك من الرّبا، وأنّه إذا حدث في الحيوان عيبٌ بعد العقد وقبل القبض كان المشتري بالخيار بين ردّه وإمساكه، وفي الأرش تردّد، وفيه قولان وأنّه لو قبضه ثمّ تلف أو أحدث فيه حدث في الثلاثة، كان من مال البائع، ما لم يحدث فيه المشتري حدثاً، وحكم ما لو حَدَث فيه عيب من غير جهة المشتري، إلى غير تلكم من المباحث الكثيرة المتقدّمة في كتاب البيع وفصل الخيارات وفصل الرّبا(1).

الطائفة الثالثة: ما يتعلّق ببيع غير الاناسي من الحيوان، وبما أنّه لم يتقدّم ذكر تلك المباحث، فنتعرّض لذكرها في طيّ مسائل:

ص: 145


1- راجع: فقه الصادق: مجلّد 22 و 25 و 26.

بيع الحيوان الحامل

المسألة الاُولى: في جواز بيع حمل الحيوان وعدمه، فنقول:

إنّ بائع الحيوان حينما يقدم على إنشاء البيع:

تارةً : يطلق ولا يتعرّض للحمل.

واُخرى : يشترطه للمشتري.

وثالثة: يشترطه للبائع.

أمّا في صورة الإطلاق: فالمشهور بين الأصحاب(1) أنّ الولد للبائع، بل عن «السرائر»(2) الإجماع عليه، قال:

(إنّ إجماع أصحابنا بغير خلاف منعقدٌ على أنّه بمجرّد العقد يكون الحمل للبائع، إلّاأن يشترطه المبتاع) انتهى .

وعن ابن حمزة(3): (أنّ الولد للمبتاع، إلّاإذا شرط البائع) ونسبه إلى الشيخ في «المبسوط».

بل عن «المبسوط»(4) و «الجواهر»(5): التصريح بأنّه لا يجوز له أن يشترط الحمل، لأنّه كعضوٍ من أعضاء الحامل.

ص: 146


1- كفاية الأحكام: ج 1/515.
2- السرائر: ج 2/344.
3- الوسيلة: ص 248.
4- المبسوط: ج 2/156.
5- جواهر الكلام: ج 24/156.

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ الشيخ(1) للثاني بأنّ الحمل جزء من الحامل، يجري مجرى عضوٍ من أعضائها، ولا يصحّ استثناءه.

وأجاب المصنّف رحمه الله(2): - في محكي «المختلف» - بالمنع من المساواة بين الحمل وعضوٍ من أعضائها، فإنّه تصحّ الوصيّة للحمل، ويرث، وتلحقه أحكام كثيرة لا تتعلق بالأعضاء.

وفيه: لكن يشهد لما اختاره الشيخ - مضافاً إلى شهادة العرف بالتبعيّة - الخبر القويّ الذي رواه السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام(3):

«في رجلٍ أعتق أمةً وهي حبلى، فاستثنى ما في بطنها؟ قال عليه السلام: الأمَة حرّة وما في بطنها حُرّ، لأنّ ما في بطنها منها».

ومحلّ الاستشهاد هو عموم العلّة.

أقول: وأورد على الاستدلال به بإيرادين:

أحدهما: ما عن المحقّق الأردبيلي(4)، وسيّد «الرياض»(5)، وصاحب «الجواهر»(6) من أنّه ضعيف السند.

ويردّه: ما تقدّم في هذا الشرح مراراً من أنّ النوفلي والسكوني يعتمد على أخبارهما، وقد ادّعى الشيخ في «العُدّة»(7) إجماع الأصحاب على العمل بروايات0.

ص: 147


1- المبسوط: ج 2/156.
2- مختلف الشيعة: ج 5/215.
3- وسائل الشيعة: ج 23/106 ح 29205، تهذيب الأحكام: ج 8/236 ح 84.
4- مجمع الفائدة: ج 8/244-245.
5- رياض المسائل: ج 8/352-353.
6- جواهر الكلام: ج 24/154.
7- عدّة الاُصول: ج 1/379-380.

جماعةٍ منهم السكوني.

فإن قيل: إنّه ضعيفٌ لإعراض المشهور عنه.

أجبنا عنه: بأنّ الإعراض غير ثابت، إذ لعلّ عدم عملهم به إنّما هو لما سيأتي من معارضته بما هو أصحّ منه.

الإيراد الثاني: إنّه معارض بغيره كالموثّق المرويّ عن أبي الحسن الأوّل عليه السلام(1):

«عن امرأة دبرت جاريةً لها فولدت الجارية جارية نفيسة، فلم تدر المرأة حال المولودة هي مدبرة أم غير مدبرة ؟

فقال عليه السلام: متى كان الحمل بالمدبرة، أقبل ما دَبَرت أم بعدما دَبَرت ؟

فقلت: لست أدري ولكن أجبني فيهما جميعاً.

فقال عليه السلام: إن كانت المرأة دبرت وبها حَبلٌ ، ولم تذكر ما في بطنها، فالجارية مدبرة، والولد رقّ ، وإنْ كان إنّما حدث الحمل بعد التدبير، فالولد مدبر في تدبير اُمّه».

ورواه الصدوق مرسلاًوزاد(2): «لأنّ الحمل إنّماحدث بعد التدبير». ونحوه غيره.

وفيه: إنّه إن احتمل خصوصيّة التدبير، فالمعتمد عموم العلّة في خبرالسكوني، وإلّا فلا ريب في تقديم المعارض لجملةٍ من المرجّحات.

هذا مع عدم كون عرف بلدٍ أو طائفةٍ على التبعيّة، وإلّا فيلحقه حكم الصورة الثانية، فإنّه حينئذٍ من قبيل الشروط المبنيّ عليها التي هي بحكم المذكورة في متن العقد، كما مرّ في مبحث الشروط(3).7.

ص: 148


1- وسائل الشيعة: ج 23/122 ح 29233، الكافي: ج 6/184 ح 5.
2- وسائل الشيعة: ج 23/122 ح 29233، من لا يحضره الفقيه: ج 3/120 ح 3459.
3- فقه الصادق: ج 26/227.

وأمّا صورة اشتراط كونه للمشتري: فالظاهر عدم الخلاف في صحّة الشرط ودخوله في المبيع، لعموم أدلّة الشروط، واختصاص الموثّق وغيره بغير هذه الصورة.

وجهالة الشرط لا تضرّ، لما عرفت في مبحث الشروط من أنّ جهالته لا توجب فساده ولا فساد العقد، خصوصاً مع كون الشرط من قبيل التابع لأحد العوضين.

ولو ضُمّ الحمل إلى الحامل في جعله مبيعاً، وجعله جزءً منه، فهل يصحّ البيع كما عن جماعةٍ ، منهم الشهيد في «الدورس»(1) حيث قال: (لو جعل الحمل جزءً من المبيع، فالأقوى الصحّة، لأنّه بمنزلة الاشتراط، ولا تضرّ الجهالة لأنّه تابع).

وقوّاه كاشف الغطاء، وصاحب «الجواهر»(2)، وسيّد «الرياض» وغيرهم ؟

أم لا كما عن تذكرة المصنّف ؟ وجهان:

استدلّ للثاني: في محكي «التذكرة»(3) بأنّه مجهول.

ويردّه: إنّ مجهوليّة الضميمة، خصوصاً إذا كانت تابعة لا تضرّ بصحّة المعاملة، كما مرّ تفصيل ذلك في مبحث شرطيّة العلم بالعوضين.

أقول: ويشهد للصحّة مضافاً إلى سيرة المتشرّعة:

1 - صحيح ابن محبوب، عن الكرخي، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام(4): ما تقول في رجلٍ اشترى من رجل أصواف مائة نعجة وما في بطونها من حمل بكذا وكذا درهماً؟8.

ص: 149


1- الدروس: ج 3/216.
2- جواهر الكلام: ج 24/156.
3- تذكرة الفقهاء: ج 10/66.
4- وسائل الشيعة: ج 17/351 ح 22730، الكافي: ج 5/194 ح 8.

فقال عليه السلام: لا بأس إنْ لم يكن في بطونها حمل كان رأس ماله في الصوف».

2 - وموثّق سماعة: «عن اللّبن يُشترى وهو في الضَّرع ؟

فقال عليه السلام(1): لا، إلّاأن يحلب لك منه اسكرجة، فيقول: اشتر منّي هذا اللّبن الذي في السكرجة وما في ضروعها بثمن مسمّى، فإنْ لم يكن في الضّرع شيءٌ كان ما في السكرجة».

3 - ومرسل البزنطي، عن الإمام الصادق عليه السلام(2): «إذا كانت أجمةً ليس فيها قصبٌ ، أخرجَ شيءٌ من سمك فيباع وما في الأجمة».

4 - وخبر أبي بصير، عنه عليه السلام(3): «في شراء الأجمة ليس فيها قصب إنّما هو ماء؟ قال عليه السلام: تصيد كفّاً من سمك، تقول: أشتري منك هذا السمك وما في هذه الأجمة بكذا وكذا».

ودلالتها على صحّة بيع المجهول من حيث المقدار، بضمّه إلى المعلوم بنحو الجزئيّة، غير قابلة للإنكار.

وأورد عليها الشيخ الأعظم(4): بأنّها متضمّنة لجواز بيع المجهول مع ضمّه إلى مجهولٍ آخر، إذ الأصواف على ظهر مائة نعجة - في رواية الكرخي - مجهولةً بنفسها، ولا يصحّ بيعها منفردة، والمستخرج والمتصيّد من السمك اللّذان تضمّنهما مرسل البزنطي وخبر أبي بصير غير معيّنين، وما في الأسكرجة من اللّبن غير معلوم8.

ص: 150


1- وسائل الشيعة: ج 17/349 ح 22723، الكافي: ج 5/194 ح 6.
2- وسائل الشيعة: ج 17/354 ح 22736، الكافي: ج 5/194 ح 11.
3- وسائل الشيعة: ج 17/355 ح 22740، تهذيب الأحكام: ج 7/126 ح 22.
4- كتاب المكاسب: ج 2/267-268.

الوزن، وعلى هذا فلم يفتِ أحدٌ بمضمونها، فلابدّ من ردّ علمها إلى أهلها.

وفيه: إنّ إطلاقات النصوص واردة في مقام بيان شيء آخر، وهو تصحيح بيع المجهول، لا تصحيح بيع الضميمة، فلا مورد للتمسّك بإطلاقها من هذه الجهة.

وبعبارة اُخرى : إنّ النصوص إنّما سيقت لبيان أنّه يمكن تصحيح بيع المجهول بالضميمة، وليست في مقام بيان ما يعتبر في الضميمة، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقها من هذه الجهة.

وعليه، فالحقّ أنّها تدلّ على صحّة بيع المجهول بالضميمة.

وأمّا في صورة الاستثناء، واشتراط كونه للبائع، فهل يصحّ الشرط كما هو المشهور، بل عن «السرائر» دعوى الإجماع(1) عليه ؟

أم لا كما عن «المبسوط»(2) و «جواهر» ابن البرّاج(3)؟

وجهان أظهرهما الأوّل، لعموم الأدلّة الدالّة على إمضاء البيع، والتبعيّة لو سُلّمت فإنّما هي مع عدم التصريح بالخلاف.

وكونه كعضوٍ من أعضاء الحامل فلا يجوز استثناؤه، ممنوعٌ كما أشار إليه المصنّف في «المختلف»(4) كما مرّ.

نعم، يشهد بعدم صحّة الاستثناء خبر السكوني المتقدّم، ولا يعارضه الموثّق المتقدّم، فإنّه في صورة الإطلاق، والمسألة محتاجة إلى تأمّل أزيد لا يسعه المجال.5.

ص: 151


1- السرائر: ج 2/336.
2- المبسوط: ج 2/156.
3- جواهر الفقه: ص 60.
4- مختلف الشيعة: ج 5/215.

أقول: بقي التنبيه على أُمور:

الأمر الأوّل: إنّه على القول بأنّه في صورة الإطلاق يكون الحمل للبائع، أو في صورة الاستثناء لو شكّ في زمان حدوث الحمل، هل هو قبل العقد ليكون للبائع، أم يكون بعد العقد ليكون للمشتري لأنّه نماء ملكه ؟ ففيه وجوه:

1 - كونه للمشتري.

2 - الرجوع إلى القرعة.

3 - القسمة بينهما.

ومحلّ الكلام ما لو ادّعى المشتري حدوثه بعده، وإلّا فهو ذو اليد يقدّم قوله بلا كلام.

واستدلّ للأوّل:

1 - بأصالة تأخّر حدوث الحمل في صورة العلم بتأريخه، والجهل بتاريخ العقد.

2 - وبأنّ الظاهر كونه للمشتري، لكونه نماء ملكه في الظاهر، فلا يخرج عنه إلّا بسبقه على مِلْك المشتري.

3 - وبما ورد من الحكم بملكيّة ما يوجد في الصندوق(1) مثلاً إذا لم يكن يد غيره عليه، وما يوجد في داره(2) ونحو ذلك وإنْ لم يكن صاحب الدار والصندوق عالما أنّه له.

وبعبارة اُخرى : ما دلَّ على حجيّة يد الإنسان نفسه على ما تحت يده(3).9.

ص: 152


1- وسائل الشيعة: ج 25/446 ح 32321، الكافي: ج 5/137 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 25/447 ح 32324، الكافي: ج 5/138 ح 5.
3- وسائل الشيعة: ج 26/216 ح 32857، تهذيب الأحكام: ج 9/302 ح 39.

ويندفع الأوّل: بما حقّقناه في محلّه من أنّه كما يجري الأصل في معلوم التاريخ، كذلك يجري في مجهوله، فأصالة عدم حدوث الحمل إلى ما بعد دخول الحامل في ملك المشتري، تُعارض أصالة عدم دخوله في ملكه إلى ما بعد حدوث الحمل.

ويندفع الثاني: بعدم الدليل على حجيّة الظهور المذكور.

نعم، الوجه الثالث لا بأس به، ولو لم يتمّ الرجوع إلى قاعدة العدل والإنصاف المقتضية للقسمة.

الأمر الثاني: هل يجوز بيع الحمل منفرداً مع اجتماع الشرائط المعتبرة في البيع المستقلّ كما في «الجواهر»(1) أم لا؟ وجهان.

والأظهر أنّه لا يجوز بيعه في حال كونه جنيناً:

للجهالة، أي جهالة أوصافه وجهالة صحّته وعيبه، وجهالة الحصول في الخارج وتسلّمه.

ولما رواه الصدوق في «معاني الأخبار» بسندٍ متّصل عن النبيّ صلى الله عليه و آله(2):

«أنّه نهى عن المجر، وهو أن يباع البعير أو غيره بما في بطن الناقة.

ونهى صلى الله عليه و آله عن الملاقيح والمضامين، فالملاقيح ما في البطون وهي الأجنّة، والمضامين ما في أصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين الذي في بطن الناقة وما يضرب الفحل في عامه وفي أعوام».

والظاهر أنّ نظر المصنّف رحمه الله(3) إلى هذه الرواية، حيث قال: (نهى النبيّ صلى الله عليه و آله عن).

ص: 153


1- جواهر الكلام: ج 24/156.
2- وسائل الشيعة: ج 17/352 ح 22731، بحار الأنوار: ج 100/81 ح 2.
3- تذكرة الفقهاء: ج 10/66 (ط. ج).

بيع الملاقيح والمضامين).

الأمر الثالث: لو بيعت الحامل مع الحمل، ثمّ انكشف عدمه أو موته حين العقد:

فإنْكان ضَمّ الحمل بنحو الشرطيّة، كان للمبتاع الخيار بين الرّد والإمساك مجّاناً.

وإنْ كان بنحو الجزئيّة، يضاف إلى ذلك استرداد ما قابل الحمل من الثمن مع الإبقاء.

***

ص: 154

ويجوزُ ابتياع أبعاض الحيوان المشاعة،

جواز ابتياع بعض الحيوان مشاعاً

المسألة الثانية: (ويجوزُ ابتياع أبعاض الحيوان) الحَيّ المأكول اللّحم أو غيره (المشاعة) إذا علم النسبة كالنصف والرّبع ونحوهما، بلا خلافٍ ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه، كذا في «الجواهر»(1).

وفي غير واحدٍ من الكتب كمفتاح الكرامة(2) و «التذكرة»(3)، و «مجمع الفائدة والبرهان»(4) وغيرها دعوى الإجماع عليه.

والشاهد به: - مضافاً إلى الإجماع - العمومات(5) مع عدم المانع.

وكذلك لا ينبغي الإشكال في جواز بيع البعض المشاع المعيّن من المذبوح أو المسلوخ، على فرض عدم اعتبار الوزن في بيع التمام.

أقول: نعم، على القول بعدم الجواز، يقع فيه وفي المبنى بحثٌ ، وفيه وجهان:

وأمّا بيع الجزء المعيّن من الحَيّ ، كيده ورجله أو نصفه الذي فيه الرأس، أو نصفه الآخر:

فقد ادّعى جماعة الإجماع على عدم الجواز، وعن ظاهر «المختلف»(6) أنّه من المسلّمات.

ص: 155


1- جواهر الكلام: ج 24/157.
2- مفتاح الكرامة: ج 13/301.
3- تذكرة الفقهاء: ج 10/310.
4- مجمع الفائدة والبرهان: ج 8/228.
5- الكافي: ج 5/304 ح 1، تهذيب الأحكام: ج 7/81 ح 64.
6- مختلف الشيعه: ج 5/238.

وقد أفاد بعض الأساطين(1) أنّ عدم الجواز فيما لا يؤكل لحمه، أو إذا لم يكن المراد منه اللّحم، بل الركوب والحمل ونحوهما، من الواضحات التي لا تحتاج إلى شاهد.

واستدلّ له: بالإجماع، وعدم إمكان الانتفاع به، والجهالة لأنّ مقدار المبيع لا يعلم أين ينتهي، لعدم تعيّن موضع القطع، وعدم القدرة على التسليم، ولزوم التشاجر إذا اختلفا في إرادة بقاء الحيوان وذبحه، المترتّب على كلّ منهما تعطيل مال شخصٍ وضرر آخر.

أقول: جميع المحاذير المشار إليها تلزم من بيع الحيوان واستثناء الرأس والجلد، وقد أفتى الأصحاب بجوازه، ودلّ عليه النّص، ولذلك قيل إنّ المدرك منحصر بالإجماع، وهو مع معلوميّة المدرك أو محتمله لا يُعتنى به.

بل صحيح الغنوي، عن الإمام الصادق عليه السلام(2): «في رجلٍ شهد بعيراً مريضاً وهو يباع، فاشتراه رجلٌ بعشرة دراهم، وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد، فقضى أنّ البعير بريءٌ فبلغ ثمانية دنانير؟

قال: فقال عليه السلام: لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ، فإن قال: اُريد الرأس والجلد فليس له ذلك، هذا الضّرار، وقد أعطى حقّه إذا أعطى الخُمس»(3) يدلّ على جواز بيع الرأس والجلد.

واحتمال اختصاصهما بالحكم المذكور، ينافيه تصريح بعضهم بعدم الفرق بينهما5.

ص: 156


1- جواهر الكلام: ج 24/157.
2- وسائل الشيعة: ج 18/275 ح 23659، الكافي: ج 5/293 ح 4.
3- الكافي: ج 5/293 ح 4، تهذيب الأحكام: ج 7/79 ح 55.

وبين غيرهما من الأعضاء، مع أنّ المحاذير المذكورة قابلة للدفع، لأنّ الجهالة تندفع بتعيّن موضع القطع.

وأمّا عدم القدرة على التسليم فإنّه يندفع بقدرته على الذبح وتسليم المبيع، وبه يندفع عدم إمكان الانتفاع.

وعلى هذا إذا وقعت المعاملة على ذلك، فإن ذُبح الحيوان كان للمشتري ما اشتراه، وإلّا فإنّه يستفاد من صحيح الغنوي حصول الشركة في الحيوان بنسبة ما اشتراه.

ومع ذلك كلّه ففي النفس شيءٌ من جهة عدم إفتاء الأصحاب بذلك، مع أنّ الحكم بحسب الدليل واضح لا لُبس فيه، والاحتياط طريق النجاة.

***

ص: 157

بيع الحيوان واستثناء الرأس والجلد

المسألة الثالثة: لو باع حيواناً مأكول اللّحم - كما عن «التحرير»(1) وظاهر «النهاية»(2) - أو ما تقع عليه التذكية - كما عن «حواشي الشهيد»(3) - وكان يُراد ذَبحه - كمافي «الجواهر»(4) - لا مايُراد بقاؤه، وسيمرّ عليك اختصاص الأخبار بما يُراد ذَبحه، وبمأكول اللّحم، فمحل النزاع والكلام هو الحيوان المأكول اللّحم المراد ذبحه.

وكيف كان، لو باعه واستثنى الرأس والجلد، ففيه أقوال:

1 - صحّة البيع، وكونه شريكاً بقدر ما ثنياه به، قاله الشيخ في «النهاية»(5)وادّعى عليه الإجماع في «المبسوط»(6)، و «الخلاف»(7)، وابن البرّاج(8) وسائر تابعيه، وعن «الإيضاح»(9) نسبته إلى كثيرٍ من الأصحاب.

2 - صحّة البيع والاستثناء، وأنّه يكون له ما استثنى، وهو قول الشيخ المفيد(10)، والسيّد المرتضى(11)، وأبي الصلاح(12)، وابن الجنيد(13)، وابن إدريس(14).

ص: 158


1- تحرير الأحكام: ج 2/398.
2- النهاية: ص 413.
3- حكاه عنه في الجواهر: ج 24/158.
4- جواهر الكلام: ج 24/158.
5- النهاية: ص 413.
6- المبسوط: ج 2/116.
7- الخلاف: ج 3/92.
8- المهذّب: ج 1/382.
9- إيضاح الفوائد: ج 1/437.
10- المقنعة: ص 608.
11- الانتصار: ص 212.
12- الكافي في الفقه: ص 354.
13- عن المختلف: ج 5/237.
14- السرائر: ج 2/355.

3 - بطلان البيع، نقله سيّد «الرياض»(1) وابن فهد(2) في محكي «المهذّب» ولم يُعرف قائله.

4 - التفصيل بين حَيّ الحيوان فالبطلان، ومذبوحه فالصّحة، وهو المحكيّ عن «القواعد»(3)، واختاره سيّد «الرياض»(4)، وعن «المختلف»(5) و «المسالك»(6).

وفي «الحدائق»(7) اختيار هذا القول، مع إضافة: (الذي يشترى للذبح بالمذبوح).

أقول: مقتضى القواعد الكليّة هو القول الثاني، للعمومات(8) المصحّحة للبيع بعد كون المستثنى معلوماً والغرر منتفياً، وتفاوت الجلد في الثخن والرّقة لايوجبُ جهالة المبيع، والضَّرر في ذلك معارض باستثناء الجزء المشاع، فإنّه جائزٌ اتّفاقاً، مع أنّ الضَّرر المُدّعى حاصلٌ فيه.

والتحقيق: في المقام روايتين تدلّان على القول الأوّل:

أحدهما: الخبرالقويّ الذي رواه السكوني، بل موثّقه عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«اختصم إلى أميرالمؤمنين عليه السلام رجلان اشترى أحدهما من الآخر بعيراً واستثنى1.

ص: 159


1- رياض المسائل: ج 1/559.
2- المهذّب البارع: ج 2/448.
3- قواعد الأحكام: ج 2/30.
4- رياض المسائل: ج 1/559.
5- مختلف الشيعة: ج 5/237.
6- مسالك الأفهام: ج 3/380.
7- الحدائق الناضرة: ج 19/409.
8- وسائل الشيعة: ج 18/275 ح 23660، الكافي: ج 5/305 ح 1، تهذيب الأحكام: ج 7/81.

البيع الرأس والجلد، ثمّ بدا للمشتري أن يبيعه ؟

فقال عليه السلام للمشتري: هو شريكك في البعير على قدر الرأس والجلد»(1).

وفي «الحدائق»(2): (والمراد بلفظ المشتري الثاني هو المشتري الثاني).

أقول: ويمكن أنْ يكون المراد المشتري الأوّل، ويكون المراد من الشركة في البعير، هو الشركة في ثمنه بقرينة قوله عليه السلام: «على قدر الرأس والجلد».

وظاهر الخبر - كما في «مجمع البرهان»(3) - من أنّه كان المقصود الذبح ثمّ حصل العدول عن ذلك، فيكون البيع صحيحاً، ويكون شريكاً للمشتري بمقدار قيمة ما استثنى.

فالمتحصّل ممّا يدلّ عليه الخبر: أنّه لو باع حيواناً واستثنى الرأس والجلد، واشتراه آخر للذبح، صحّ البيع والاستثناء، فإنْ حصل الذّبح كان للمشتري غيرهما، وللبائع ما استثناه، وإنْ بدا لهما أو للمشتري خاصّة بيعه مثلاً وعدم الذبح، فحيث إنّ الحيوان جملةً مملوكٌ لمالكين، فزيادة القيمة الحاصلة للحيوان بالبقاء تلحقهما أيضاً، فإنّها حاصلة من الاجتماع، فلا محالة يشترك البائع مع المشتري في الثمن الواحد المجعول للحيوان جملةً بمقدار ماله، وهذا هو المراد من الشركة في الحيوان بمقدار قيمة الرأس والجلد.

وبهذا يندفع ما أورده غير واحدٍ على الشيخ المفتي بما تضمّنه الخبر، بأنّ ما اختاره منافٍ لتبعيّة العقد للقصد في حقّ كلا المتبايعين، وقاعدة تسلّط الناس على9.

ص: 160


1- وسائل الشيعة: ج 18/276-277 ح 23660، الكافي: ج 5/304 ح 1.
2- الحدائق الناضرة: ج 19/408.
3- مجمع الفائدة والبرهان: ج 8/229.

أموالهم، وعدم حليّة مال إمرىء مسلم إلّابطيب نفسه(1)، وتوقّف الأكل حلالاً على التجارة بالتراضي(2).

وأمّا تعجّب الشهيد رحمه الله(3) عن الشيخ في حواشيه، حيث إنّه منع من بيع الحامل مستثنى حملها لأنّه كالجزء وجوّز استثناء الرأس والجلد مع أنّه جزءٌ حقيقة.

فلا مورد له، لأنّه يمكن أن يَدّعي الشيخ خصوصيّة المورد للنص الفارق بين المقامين.

وأمّا الإيراد عليه: بأنّ الخبر ضعيفُ السند لا يعتمد عليه.

فيندفع: بأنّه لا موهم للضعف سوى وجود النوفلي والسكوني في الطريق، والحال أنّ النوفلي ثقة على الأظهر لتوثيق ابن قولويه إيّاه، وكذلك السكوني، مع أنّه ادّعى شيخ الطائفة عمل الأصحاب بما رواه السكوني.

وعليه، فالمسألة بحمد اللّه خالية عن الإشكال.

وبما ذكرناه يظهر دلالة ما رواه الصدوق في المحكيّ عن «العيون» بسنده إلى الإمام الرضا، عن آبائه، عن الحسين بن علي عليهم السلام:

«اختصم إلى علي عليه السلام رجلان أحدهما باع الآخر بعيراً فاستثنى الرأس والجلد، ثمّ بدا له أن ينحره ؟

قال عليه السلام: هو شريكك في البعير على قدر الرأس والجلد»(4)، بناءً على أنّ المراد1.

ص: 161


1- وسائل الشيعة: ج 5/120 ح 6089، الكافي: ج 7/274 ح 5.
2- سورة النساء: الآية 29.
3- حكاه عن الشهيد صاحب الجواهر في: ج 24/159.
4- عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 2/43 ح 153، الكافي: ج 5/304 ح 1.

البداء له في أن لا ينحره، بقرينة الخبر السابق، إذ الظاهر وحدة القضيّة، ويؤيّدهما صحيح الغنوي الآتي، الدالّ على الشركة فيما لو اشترى بعيراً وأشرك فيه رجلاً بالرأس والجلد. فراجع(1).

وبما ذكرناه ظهر مدارك سائر الأقوال وضعفها.

***ة.

ص: 162


1- في الصفحة اللاحقة.

ولو شرط أحد الشريكين الرأس والجلد بماله، كان له بنسبة ماله لا ما شرط،

شرط أحد الشريكين الرأس والجلد بماله

المسألة الرابعة: (ولو) اشترك اثنان أو جماعة حيواناً، و (شَرط أحد الشريكين) أو الشركاء لنفسه (الرأس والجلد بماله، كان له بنسبة ماله لا ما شَرط) كما هو المشهور بين الأصحاب، بل عن ظاهر «جامع المقاصد»(1) الإجماع عليه.

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - صحيح الغنوي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في رجلٍ شهد بعيراً مريضاً وهو يباع، فاشتراه رجلٌ بعشرة دراهم، وأشرك فيه رجلاً بدرهمين بالرأس والجلد، فقضى أنّ البعير بريء فبلغ ثمنه دنانير؟

قال: فقال: لصاحب الدرهمين خُمس ما بلغ، فإنْ قال اُريد الرأس والجلد، فليس له ذلك، هذا الضِّرار، وقد أعطى حقّه إذا اُعطي الخمس»(2).

وظهوره في أنّ شراء البعير كان لإرادة الذبح، ولكن لمّا اتّفق البُرء لم يذبح، وزادت قيمته، لا ينكر، وقد حكم عليه السلام بالشركة من جهة أنّ زيادة القيمة الحاصلة للبعير بالبقاء إنّما تكون من جهة اجتماع مال كلّ من الشريكين، لتوقّف بقاء الحيوان على بقاء ما لكلّ منهما، وحينئذٍ:

إنْ توافقا على البيع، فالثمن لهما بنسبة مالهما.

ص: 163


1- جامع المقاصد: ج 4/137.
2- وسائل الشيعة: ج 18/275 ح 23659، الكافي: ج 5/293 ح 4.

وإنْ أصرَّ مالك الرأس والجلد على تسلّمهما، كان هو الضِّرار المنهيّ عنه.

وعليه، فالحكم بالشركة تكون على القاعدة، كما مرّ في خبر السكوني.

***

ص: 164

ولو أمره بشراء حيوانٍ أو غيره بشركته، صَحّ ولزمه نصف الثمن

لو قال اشتر حيواناً بشركتي

المسألة الخامسة: (ولو أمره) أي أمر أحد شخصين الآخر (بشراء حيوانٍ أو غيره بشركته)، وقال: اشتر حيواناً مثلاً بشركتي أو بيننا (صَحّ ) البيع لهما، فإنّ الأمر بالشراء توكيلٌ فيه (ولزمه نصف الثمن) لا غير، بلا خلافٍ ولا إشكالٍ ، كما في «الجواهر»(1)، لأنّ المنساق إلى الذهن من الشركة هي الشركة في كلّ جزءٍ جزءٍ منه، فالأمر بالشراء بالشركة بينه وبين المأمور، ظاهرٌ في التساوي في الحصّة، ما لم يصرّح بإرادة الأقلّ أو الأكثر، ومع التصريح يكون هو المتّبع.

وعليه، فلو تنازعا في القدر، يقدّم قول الآمر، ولو فوض الأمر إلى الوكيل وتنازعا في القدر حينئذٍ:

فإنْ كان مدّعى الوكيل أقلّ كما لو ادّعى شراء الثلث للموكّل، وهو يدّعي النصف، قُدِّم قول الوكيل مع يمينه، وكذلك لو انعكس الأمر، لقاعدة تصديق الوكيل، ولقاعدة حجيّة قول من ادّعى شيئاً لا يعلم إلّامن قِبله.

فما عن «الدروس»(2) من احتمال تقديم قول الموكّل، لأنّ الوكيل يدّعي الزيادة، والأصل عدمها، غير تامّ .

ص: 165


1- جواهر الكلام: ج 24/165.
2- الدروس: ج 3/223.

وحينئذٍ لو أذن له في أداء الثمن عنه، وأدّى عنه، رجع به عليه، كان الإذن فيه صريحاً أو بالفحوى ، مثل أن يأمره بشراء حيوانٍ من مكان يعلم الآمر أنّه لا يدفع المبيع حتّى يدفع الثمن.

ولو أدّى عنه بلا إذن منه، فهل يرجع عليه بما نقد، كما عن ابن إدريس(1)، أم لا كما صرّح به جماعة ؟(2) وجهان:

استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ قضيّة الأمر الإذن في النقد، وإلّا لم تتحقّق الشركة، لو قال: (اشتر حيواناً بشركتي).

2 - وبموثّق إسحاق، قال: «قلتُ لأبي إبراهيم عليه السلام: الرّجل يدلّ الرجل على السلعة، فيقول اشترها ولي نصفها، فيشتريها الرجل وينقد من ماله ؟ قال عليه السلام: له نصف الربح.

قلت: فإن وضع يلحقه من الوضيعة شيءٌ؟ قال عليه السلام: نعم عليه من الوضيعة كما أخذ من الربح»(3).

ولكن يندفع الأوّل: بأنّ الشركة تتحقّق بالعقد لا بدفع الثمن.

ويندفع الثاني: بأنّه ليس في مقام بيان حكم الثمن، بل هو في مقام بيان حكم الخسران، ولعلّه قامت قرينةً حاليّة تدلّ على الإذن في النقد، وعليه فلا مورد للتمسّك بإطلاقه.0.

ص: 166


1- السرائر: ج 2/349.
2- مختلف الشيعة: ج 5/227 و 228.
3- وسائل الشيعة: ج 19/6 ح 24034، تهذيب الأحكام: ج 7/187 ح 10.

أضف إليه: إنّه لم يذكر فيه الرجوع عليه بما نَقَد.

واستدلّ للثاني: بأنّه متبرّعٌ في أداء دينه، هكذا أفاد في «الحدائق»(1).

وهو محلّ إشكال، لأنّه لو أدّى عنه وكالةً فضوليّاً فأجازه الآمر، فهو كما لو أدّى عنه مع الإذن، ولو لم يجزه والمال باقٍ ، له الرجوع على البائع وأخذه منه، ومع التلف بإتلاف البائع فكذلك، لأنّه لم يتصرّف فيه بعنوان أنّه مالٌ مجّاني، بل مع العوض.

نعم، مع التلف بآفةٍ سماويّة، وجهل البائع بذلك لا ضمان عليه.

وعلى أيّ تقدير، للمأمور الرجوع به على الآمر فيما نقد عنه، ما لم يسترجعه من البائع، لعدم حصول مايقتضي التبرّع كما أفاده الشهيدالثاني رحمه الله في محكي «المسالك»(2).

ولو تلف الحيوان المشترك بعد قبضه بإذن الآخر ولو فحوىً ، من غير تفريطٍ من المأمور، فالتلف بينهما جميعاً، لأنّ يد المشتري عليه حينئذٍ يد أمانة، فلا يرجع الآخر عليه، ويرجع المشتري على الآمر بما نقد عنه بإذنه.

***0.

ص: 167


1- الحدائق الناضرة: ج 19/412.
2- مسالك الأفهام: ج 3/380.

ولو شرط رأس المال لم يلزمه

اشتراط رأس المال في المشتري شراكةً

المسألة السادسة: (ولو) قال شخصٌ لآخر: اشتر حيواناً بالشركة، و (شَرَط رأس المال) في صورة الخسران، بأن قال: الربح بيننا ولاخسران عليك، بل لك حينئذٍ رأس المال، لم (يلزمه) كماعن ابن إدريس(1)، وفي المتن، وعن جماعة المتأخّرين(2).

وعن شيخ الطائفة(3)، وابن البرّاج(4)، والمصنّف في «المختلف»(5)، والشهيد في «الدروس»(6)، وسيّد «الرياض»(7) وغيرهم، جواز الشرط وصحّته، وظاهر «الشرائع»(8) الميل إليه.

أقول: استدلّ المصنّف للثاني - في «المختلف» في الرّد على الحِلّي المعترض على الشيخ بأنّ ما اختاره الشيخ مخالفٌ لاُصول المذهب(9)، لكون هذا الشرط مخالفاً للكتاب والسُنّة - بقوله: (لأنّ الشيخ رحمه الله عوّل في ذلك على الكتاب والسُنّة والعقل.

أمّا الكتاب: فقوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (10)، والتراضي

ص: 168


1- السرائر: ج 2/349.
2- جامع المقاصد: ج 4/138، المسالك: ج 3/381.
3- النهاية: ص 411.
4- نقل عنه العلّامة في المختلف: ج 5/225.
5- المختلف: ج 5/227.
6- الدروس: ج 3/223.
7- رياض المسائل: ج 8/384 و 385 (ط. ج).
8- شرائع الإسلام: ج 2/313.
9- السرائر: ج 2/349.
10- سورة النساء: الآية 29.

إنّما وقع على ما اتّفقا عليه، فلا يجوز لهما المخالفة.

وقوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1)، والعقد إنّما وقع على هذا، فيجبُ الوفاء به.

وأمّا السُنّة: فقوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم»(2).

وما رواه رفاعة - في الصحيح - قال: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن رجلٍ شارك في جارية له، وقال: إنْ ربحنا فيها فَلَكَ نصف الربح، وإنْ كان وضيعةً فليس عليك شيء؟

فقال عليه السلام: لا أرى بهذا بأساً إذا طابت نفس صاحب الجارية»(3) ولو شرط رأس المال في الشرط.

وأمّا العقل: فلأنّ الأصل الجواز.

وقوله: (إنّ الخسران على قدر رأس المال). قلنا متى ؟ مع الشرط لغيره أو بدونه ؟

وبالجملة: فقول الشيخ معتمدٌ)(4) انتهى .

وفي «الحدائق»: (وهو جيّد)(5).

أقول: وممّا يدلّ على ذلك زيادة على الصحيحة المذكورة، ما رواه الشيخ رحمه الله عن أبي الربيع، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل شارك رجلاً في جارية، فقال له: إنْ ربحتُ فَلَك، وإنْ وضعت فليس عليك شيء؟5.

ص: 169


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- وسائل الشيعة: ج 21/276 ح 27081، الكافي: ج 5/404 ح 8.
3- الكافي: ج 5/212 ح 16، وسائل الشيعة: ج 19/7 ح 24038.
4- النهاية: ص 411.
5- الحدائق الناضرة: ج 19/415.

فقال: لا بأس بذلك إذا كانت الجارية للقائل»(1) انتهى .

والتحقيق: في جميع ما اُفيد نظر: أمّا الآيتان فأجنبيّتان عن مسألتنا هذه، وهي صحّة الشرط المذكور في ضمن العقد والتجارة عن تراض.

وأمّا دليل إمضاء الشرط: فقد قيّد إطلاقه بالشرط المخالف للكتاب والسُنّة، والحِلّي(2) يدّعي مخالفة هذا الشرط للسنّة، وهي ما دلّ على تبعيّة الربح والخسران لرأس المال، قال: (إنّ الخسران على رؤوس الأموال بغير خلاف، فإذا اشترطه أحدهما على الآخر كان مخالفاً للكتاب والسُنّة)(3).

وأمّا الأصل: فلا يرجع إليه مع الدليل.

وأمّا صحيح رفاعة: - فمضافاً إلى أنّ مورده الجارية، وكون المشارك هو المالك - يرد على الاستدلال به ما عن «التنقيح» وفي «الجواهر»(4) من احتمال أن يكون طيب النفس بعد ظهور الخسران من باب الإحسان، قال في محكي «التنقيح»:

(إنّا نقول بموجب الأوّل منهما، إذ معناه أنّه إذا شرط عدم الخسران عليه، جاز أن يفي بقوله، وهو صحيح، إذا النّاس مسلّطون على أموالهم، فإذا ترك ماله فلا حرج عليه(5)، وأمّا لزوم الشرط، فلا دلالة للرواية عليه، ولذلك أردف نفي البأس بقوله: إذا طاب نفس صاحب الجارية) انتهى .

وأمّا خبر أبي الربيع: - فمضافاً إلى اختصاص مورده بالجارية، والتعدّي يحتاج إلى إحراز عدم الخصوصيّة، وهو غير مُحرزٍ - أنّ قوله في ذيله: «إذا كانت الجارية» للقائل، ولذلك قال صاحب «الجواهر»:(2) (ويقوى في النفس أنّ ذلك كان مقاولةً8.

ص: 170


1- وسائل الشيعة: ج 18/266 ح 23643، تهذيب الأحكام: ج 7/81 ح 61. (2و3) السرائر: ج 2/349. (4و5) جواهر الكلام: ج 24/167.
2- جواهر الكلام: ج 24/168.

بين المالك وغيره، ليساعده على البيع أو نحو ذلك، لا أنّها شركة حقيقة).

فالمتحصّل: أنّ الشرط المذكو غير صحيح ولا ملزم، أضف إليه احتمال اختصاصه بالجارية، فلا وجه للتعدّي إلى غير الجارية من المبيعات، وقد ادّعى في محكي «التنقيح» الإجماع على عدم اطّراد الحكم في غير الجارية.

وعليه، فما عن «الدروس»(1): (الأقرب تعدّي الحكم إلى غير الجارية من المبيعات) بدعوى أنّ الخبرين مؤكّدان لمقتضى العموم، غير تامّ ، كما يظهر ممّا ذكرناه.

وحيث إنّ الشرط الفاسد لا يُفسد العقد - كما مرّ في محلّه - ففي المسألة يكون العقد صحيحاً، فالخسران إنْ حصل يكون عليها.

***4.

ص: 171


1- الدروس: ج 3/224.

الفصل الثاني عشر: في السَّلف:

الفصل الثاني عشر: في السَّلف

اشارة

أقول: السَّلف بفتح السين واللّام، وهو مرادفٌ للفظ (السَّلم):

فعن «مختصر النهاية»: السَّلف السَّلم، وعن «المجمل» بالعكس.

وهو نوعٌ من البيع له أحكامٌ خاصّة، وشروطٌ مخصوصة، ولذلك لا يتعرّض المصنّف في المقام للأحكام والشروط لمطلق البيع، كما أنّ النزاع في أنّه اسمٌ للعقد المركّب من الإيجاب والقبول أو للنقل - أو الانتقال الحاصل منهما - وأنّه اسمٌ لعمل البائع، أو له ولعمل المشتري، وأنّه اسمٌ للصحيح أو الأعمّ ، وغير ذلك من المباحث قد أشبعنا الكلام فيها في بحث البيع من هذا الشرح، كما أنّ اعتبار اللّفظ فيه وعدمه، هو الكلام فيه في مطلق البيع.

وبالجملة: كيف كان، فحقيقته على ما ذكره الأصحاب، هو أنّه بيعٌ مضمون في الذمّة، مضبوطٌ بمال معلوم مقبوض في المجلس إلى أجَلٍ معلوم، وقد أجمع المسلمون على جوازه، والسُنّة المتواترة الآتي طرفٌ منها، فضلاً عن عمومات الكتاب والسُنّة(1) شاهدة به.

ص: 172


1- وسائل الشيعة: ج 18/290 ح 23693، الكافي: ج 5/199 ح 2، تهذيب الأحكام: ج 7/41 ح 64 (باب السَّلف في المتاع).

وشروطه: ذكر الجنس والوصف الرافع للجهالة

شرائط السَّلم

(و) البحث عنه في مقامين:

1 - في (شروطه).

2 - في أحكامه.

المقام الأوّل: في الشرط المصحّحة، وهي خمسة:

الشرط الأوّل:

1 - (ذِكر الجنس)، والمراد به الحقيقة النوعيّة، على ما مرَّ في مبحث الرّبا(1).

2 - (و) ذكر (الوصف الرافع للجهالة)، الفارق بين أصناف ذلك النوع، بعباراتٍ معلومة عند المتعاقدين، وليس المراد بالوصف مطلقه، بل الذي يختلف لأجله الثمن اختلافاً لا يُتسامح بمثله في السَّلم عادة.

وفي «الرياض»:(2) (والمرجع في الأوصاف إلى العرف، وربما كان العامي أعرف بها من الفقيه، وحظّه منها الإجمال)، وقريب منه في «المسالك»(3).

3 - أيضاً ذكر ما يحصل الجهالة بترك التعرّض له، إذ كثيرٌ من الأوصاف تختلف الثمن بها اختلافاً لا يتسامح فيه، لكن لا جهالة في عدم التعرّض لها، وإنّما

ص: 173


1- فقه الصادق: ج 26/341.
2- رياض المسائل: ج 8/437 (ط. ج).
3- مسالك الأفهام: ج 3/407.

ينصّ عليها من له غرضٌ خاص فيها، وإلّا فلا، ولذلك صرّح الفقهاء بأنّه لا يجبُ الاستقصاء في الوصف بل يجوز، ولكن إنْ استقصى كذلك، ووجد الموضوع، صَحّ السَّلم، وإنْ استلزم تعذّر الوجود، لم يجز.

قال المصنّف رحمه الله في محكي «القواعد»:(1) (ولا يجبُ في الأوصاف الاستقصاء، لعُسر الوجود).

وعن «التذكرة»:(2) (قد بيّنا أنّ الاستقصاء في ذكر الأوصاف المُخرج إلى عزّة الوجود وعُسر التحصيل مبطلٌ للسَّلم، لما فيه تعذّر التسليم الذي هو مانعٌ من صحّة البيع - إلى أنْقال - والضابط عزّة الوجود، وتعذّره يبطل معه، ويصحّ بدونه).

والكلام في ذلك في اشتراط غلبة الوجود أو إمكانه، فانتظر.

وكيف كان، فدليل هذاالشرطبعد الإجماع، هو: أدلّة نفي الغرر، والنصوص الآتية.

أقول: تتمّة الكلام في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: لو استقصى في الوصف، واستلزم ذلك عزّة الوجود وامتناعه، بطل السّلم، لاشتراط القدرة على التسليم. ولصحيح عبد الرحمن عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث في السَّلم: «إنّ أبي كان يقول: لا بأس ببيع كلّ متاعٍ كنت تجده في الوقت الذي بعته فيه»(3).

وفي «الرياض»(4): (قيل: لأنّ عقد السَّلف مبنيٌ على الغرر، لأنّه بيع ما ليس).

ص: 174


1- قواعد الأحكام: ج 2/45.
2- تذكرة الفقهاء: ج 1/550 (ط. ق).
3- وسائل الشيعة: ج 18/47 ح 23108، الكافي: ج 5/200 ح 4.
4- رياض المسائل: ج 8/437 (ط. ج).

بمرئي، فإذا كان عزيز الوجود، كان مع الغرر مؤدِّياً إلى التنازع والفسخ، فكان منافياً للمطلوب من السَّلف).

وعن «الإيضاح»:(1) (إنّه لمّا جَلّ جناب الخالق شأنه عن التكليف بما لا يُطاق، واقتضت حكمته البالغة عدم خرق العادات غالباً بمجرّد ما يرد على العبد من متناقض الإرادات، أبطل السَّلم فيما يؤدّي إلى أحدهما قطعاً، وما تجدّد أدائه تجدّد بطلانه.

ثمّ قال: فظهر من ذلك أنّ ما يعزّ وجوده لا يصحّ السَّلم فيه، وبقي ما لا يعزّ، لكن وجوده أقلّ في الأغلب، لاستقصاء الصفات.

والأقربُ فيه الصحّة، لعدم استلزامه المحال، مع إمكانه في نفسه، وجواز ثبوته في الذمّة، ولوجود المقتضي، وهو عقد البيع، وانتفاء المانع، وهو عزّة الوجود) انتهى .

وإنْ لم يستلزم ذلك وإنْ حصلت المشقّة معها، صَحّ كما نصّ عليه في «القواعد»(2) و «الدروس»(3) وغيرهما، ويظهر وجهه ممّا أسلفناه.

الفرع الثاني: لابدّ وأن تكون العبارة الدالّة على الوصف معلومة بين المتعاقدين، ظاهرة في العرف واللّغة، حتّى يمكن استعلامها عند اختلافهما، ولا يكفي الإحالة على العرف واللّغة في المراد، لعدم ارتفاع الجهالة بذلك، كما لا يكفي المعلوميّة عندهما من دون أن يكون ظاهراً في العرف واللّغة، لأنّه لا يحصل بها قطع النزاع لو حصل.8.

ص: 175


1- إيضاح الفوائد: ج 1/460.
2- قواعد الأحكام: ج 2/45.
3- الدروس: ج 3/248.

وفي «المسالك»:(1) (المراد بظهورها في اللّغة، كونها على وجه يمكن الرجوع إليها عند اختلافهما، وإنّما يتمّ ذلك إذا كان مستفاضاً أو يشهد به عدلان).

وعن «القواعد»(2): (الصفات إن تكن مشهورة عند الناس لقلّة معرفتها كالأدوية والعقاقير، أو لغرابة لفظها، فلابدّ أن يعرفها المتعاقدان وغيرهما، وهل تعتبر الاستفاضة أم يكفي معرفة عدلين ؟ الأقرب الثاني) انتهى .

الفرع الثالث: لا يجوز السَّلم فيما لا يضبطه الوصف، على وجهٍ يرتفع جهالته ولايؤدّي إلى عزّة الوجود، ولذلك قالوا لايصحّ السَّلم في اللّحم نيّه ومشويّه، والخبز.

وفي «الرياض»(3) نفي الخلاف فيهما، بل عن «الغنية»(4) الإجماع عليه.

أضف إليه: المنع عن الأوّل في الخبر، ففي خبر جابر، قال:

«سألتُ الباقر عليه السلام عن السَّلف في اللّحم، فقال: لا تقربنّه، فإنّه يعطيك مرّة السمين ومرّة التاوي، ومرّة المهزول، اشتره معاينةً يداً بيد(5).

قال: وسألته عن السَّلف في روايا الماء؟ فقال: لا تقربنّها، فإنّه يعطيك مرّة ناقصة ومرّة كاملة»(6).

ولكن الخبر ضعيف السند، للإرسال ولعمرو بن شمر وغيره، واستنادالأصحاب إليه غير معلوم بل معلوم العدم، فإنّهم علّلوا المنع بغير ما في الخبر من العلّة.2.

ص: 176


1- مسالك الأفهام: ج 3/409.
2- قواعد الأحكام: ج 2/49.
3- رياض المسائل: ج 8/438.
4- الغنية: ص 227.
5- وسائل الشيعة: ج 18/287 ح 23684، الكافي: ج 5/222 ح 12.
6- وسائل الشيعة: ج 18/287 ح 23684، الكافي: ج 5/222 ح 12.

أضف إليه: ما استظهره صاحب «الحدائق» رحمه الله(1) من كونه إرشاداً إلى عدم الوفاء، ولذلك حمله على الكراهة.

وقد يقال: إنّه لا فرق بين الحيوان ولحمه، وقد دلّت النصوص(2) على جواز السَّلم فيه كما سيأتي، وأمّا الخبز فقد دلّت النصوص(3) على جواز قرضه، ولو كان ممّا يضبط وصفه، لم يجز قرضه مضموناً بمثله.

وعليه، فالأظهر جواز السَّلم فيهما.

أقول: المشهور بينهم - كما في «الرياض»(4) - أنّه لا يجوز السَّلم في الجلود، قالوا للجهالة، واختلاف الخلقة، وتعذّر الضبط حتّيبالوزن، لأنّ القيمة لا ترتبط به.

وعن الشيخ(5) جوازه مع المشاهدة، لارتفاع الجهالة معها.

وأورد عليه المحقّق:(6) بأنّه خروجٌ عن السَّلم.

وفي «المسالك»:(7) (يمكن الجواب: بأنّه إنّما يخرج عن السَّلم مع التعيّن، وكلام الشيخ أعمٌّ منه، فيمكن حمله على مشاهدة جملةٍ كثيرة يكون المسلّم فيه داخلاً في ضمنها، وهذا القدر لا يُخرج عن السَّلم، كما لو شرط السَّلم من بلدٍ معيّن، أو الغلّة من قرية معيّنة لايحبس عادةً . والأجودالمنع مطلقاً، للاختلاف وعدم الانضباط) انتهى .9.

ص: 177


1- الحدائق الناضرة: ج 20/12.
2- وسائل الشيعة: ج 18/285 ح 23679، الكافي: ج 5/220 ح 1.
3- وسائل الشيعة: ج 17/445 ح 22958، الكافي: ج 5/315 ح 47.
4- رياض المسائل: ج 8/26 (ط. ج).
5- النهاية: ص 397، الخلاف: ج 3/210.
6- شرائع الإسلام: ج 2/318.
7- مسالك الأفهام: ج 3/409.

ولكن يرد على الشيخ: أنّه إن كان المبيع داخلاً في المشاهد، خرج عن السَّلم، إذ السَّلم إنّما هو في الكلّي المضمون في الذمّة، وإن كان كليّاً واشترط أداءه من المشاهد، فالاشتراط لا يرفع الجهالة عن المبيع الكلّي، إذ هو ليس من أوصافه.

أقول: وقد يستدلّ للشيخ:

1 - بخبر حديد بن حكيم، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه(1) عليه السلام: رجلٌ اشترى الجلود من القصّاب، فيعطيه كلّ يوم شيئاً معلوماً؟ فقال لا بأس به».

2 - وخبر أبي مخلد السرّاج، قال:(2) «كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السلام فدخل معتب، فقال: بالباب رجلان، فقال: أدخلهما. فدخلا فقال أحدهما: إنّي رجلٌ قصّاب، وإنّي أبيع المسوك(3) قبل أن يذبح الغنم، قال عليه السلام: ليس به بأس، ولكن أنسبها غنم أرض كذا وكذا».

وفيه: الخبرين ضعيفان، والأصحاب لم يعملا بهما، مع أنّ الثاني منهما غير دالّ على المطلوب، ومع ذلك كلّه أنّه يمكن المعلوميّة بمشاهدة نموذجٍ منه يرفع الجهالة، ولا يؤدّي إلى عزّة الوجود، ومعه يبني على الصحّة. وطريق الاحتياط معلوم.

أقول: طفحت كلمات الفقهاء على أنّه لا يصحّ السَّلم لو شرط الأجود.

وعن «التذكرة»(4) و «الروضة»:(5) دعوى الإجماع عليه، وعلّلوه بعدم تناهي مراتبه.).

ص: 178


1- وسائل الشيعة: ج 18/290 ح 23692، الكافي: ج 5/221 ح 10.
2- وسائل الشيعة: ج 17/354 ح 22737، الكافي: ج 5/201 ح 9.
3- المسك: الجلد.
4- تذكرة الفقهاء: ج 1/554 (ط. ق).
5- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 4/444 (ط. ق).

وعن «التذكرة»:(1) (فيه إشكال، لإمكان ضبطه في بعض الأمتعة كالطعام، فإنّه قد يتناهى جودته).

وفي «الجواهر»:(2) (بل ينبغي الجواز أيضاً مع إرادة ما يصدق عليه أنّه من الأجود عرفاً، لا المرتبة التي ليس فوقها أجود منها، ولا بأس بهما).

ومنه يظهر ما في اشتراط الأردأ فإنّه يأتي فيه ما ذكر في الأجود.

نعم، قال المحقّق(3) رحمه الله: (ولو قيل بالجواز لكان حسناً، لإمكان التخليص بدفع الرديء).

وحاصله: أنّه لو شرط الأردأ، لكن دفع له الرديء، فإن كان هو الأردأ فهو عين الحقّ ، وإلّا فقد أدّى ما يستحقّه مع زيادة.

ولكن يردّه: أنّ ذلك لا يجعل المبيع مضبوطاً، لأنّه ليس من أفراده.

الفرع الرابع: يجوز السَّلم في كلّ ما يمكن ضبطه بالوصف المعلوم بين المتعاقدين وغيرهم من غير أن يؤدّي إلى عزّة الوجود، فيجوز السَّلم في الأمتعة والحيوان والحبوب والفواكه والصب والخضر والفواكه والبيض والجوز واللّوز، وغيرهما ممّا هو كذلك، وقد دلّت النصوص على كثير منها، وسيمرّ عليك طرف منها في ضمن المباحث الآتية.

ولكن ذكر الشهيد قدس سره في محكي «الدروس»(4) أوصاف جملة من المبيعات سَلَماً،9.

ص: 179


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/554 (ط. ق).
2- جواهر الكلام: ج 24/277.
3- شرائع الإسلام: ج 2/318.
4- لدروس: ج 3/248 و 249.

وقبض الثمن قبل التفرّق

ولا يهمّنا التعرّض لها بعد معرفة الضابط في الجواز والعدم، وعدم كون المناقشة في الأمثلة دأب المحصّلين.

قبض الثمن قبل التفرّق

(و) الشرط الثاني من شرائط السَّلم: هو (قبض الثمن قبل التفرّق)، إجماعاً حكاه غير واحد، وهو كذلك إذ لم ينقل الخلاف عن أحدٍ إلّاالإسكافي(1)، فيجوز التأخير إلى ثلاثة أيّام، ولا مدرك للقوم سوى الإجماع، وقد أشرنا غير مرّة أنّ الإجماع الذي يكون حجّة هو مثل هذا الإجماع الذي على خلاف العمومات، وليس على وفقه نصٌ ، وأنّه يكشف عن رأي المعصوم قطعيّاً، بعدما نعلم من حال علمائنا أنّهم لا يفتون بغير دليل. وعليه، فتوقّف صاحب «الحدائق»(2) معلّلاً له بعدم النّص، في غير محلّه.

أقول: والظاهر من معقد الإجماع، كونه شرطاً في حصول الملك، وأنّه مع فقده يبطل.

وتمام الكلام في هذا الشرط إنّما هو بالبحث في فروع:

الفرع الأوّل: ولو باع سَلَماً:

ص: 180


1- مختلف الشيعة: ج 5/135.
2- الحدائق الناضرة: ج 20/16.

ولو قبض البعض، صَحَّ فيه، وبَطَل الباقي

فإنْ لم يقبض من الثمن شيئاً بطل رأساً.

(ولو قبض البعض) ثمّ افترقا (صَحّ فيه) أي في المقبوض، و (بطل في الباقي) الذي لم يقبض.

أمّا الصحّة في المقبوض: فلوجود المقتضي للصحّة، وهو العقد والشرط وهو القبض.

وأمّا البطلان في الباقي: فلفقد الشرط.

وحينئذٍ قد يكون عدم القبض:

1 - بتقصيرٍ من البائع.

2 - وقد يكون التقصير من المشتري.

3 - وقد لا يكون بتقصير واحدٍ منهما.

ففي الفرض الأوّل: يثبت الخيار للمشتري، لتبعّض الصفقة عليه، ولا خيار للبائع، لأنّ التقصير منه، فلا يشمله دليل خيار التبعيض.

وفي الثاني: الخيار للبائع دون المشتري.

وفي الثالث: الخيار لهما.

ولكن الأصحاب تعرّضوا لخيار البائع، واعتذر صاحب «الجواهر» بقوله:(1)

(بأنّ الغالب كون التقصير في عدم القبض من المشتري).

فإذا كان التقصير من البائع، أو لم يكن بتقصير منهما، هل للمشتري الامتناع من قبض البعض، من غير أن يفسخ العقد؟1.

ص: 181


1- جواهر الكلام: ج 24/291.

أم ليس له ذلك، كما في عوض المتلفات ونحوها من الديون ؟ وقد استدلّ الأوّل في «جامع المقاصد» ومحكيّ «التذكرة» بالتعيّب بالتبعيض.

قال المحقّق في «جامع المقاصد»:(1) (يجب تقييد ذلك بما إذا لم يكن الدين مبيعاً، أمّا إذا كان مبيعاً جاز للمشتري الامتناع من قبض البعض إلى تسليم الجميع، للتعيّب بالتبعيض.

إلى أن قال: إنّ التبعيض وحده كافٍ في ثبوت العيب).

ولكن يرد عليه: أنّه مع فرض ثبوت الخيار للمشتري، لا يصدق على التبعيض العيب.

وأيضاً: قد يستدلّ له بتطرق الانفساخ في الباقي المتفرّق قبل قبضه.

ويردّه: أنّه وحده لا يصلح شاهداً على جواز الامتناع من قبض البعض، سيّما وأنّ الانفساخ يكون من فسخه.

وبالتالي، فالأظهر أنّه ليس له الامتناع من القبض، مع قصد إيقاء العقد، وعدم فسخه، واللّه العالم.

حكم السَّلف في الدين

الفرع الثاني: ولو كان الثمن ديناً على البائع فبيع المسلّم فيه به، فهل يصحّ ولا يحتاج إلى القبض، كما في «الشرائع»(2)، وعن «النافع»(3)، والآبي(4)، والمصنّف في «التحرير»(5)، والمقداد، والقطيفي(6)؟

ص: 182


1- جامع المقاصد: ج 4/227.
2- شرائع الإسلام: ج 2/321.
3- المختصر النافع: ص 134.
4- كشف الرموز: ج 1/523.
5- تحرير الأحكام: ج 1/195 (ط. ق).
6- حكاه عنهما السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 5/29 (ط. ق).

أم يبطل، كما عن الأكثر على ما في «المسالك»(1)، أو الأشهر كما في «الرياض»(2)، أو المشهور كما في «الحدائق»(3)؟ وجهان.

استدلّ للبطلان بوجهين:

أحدهما: أنّه بيعُ دينٍ بمثله، وهو منهيٌّ عنه:

أمّا كون المسلّم فيه دينا فواضح، وأمّا الثمن الذي في الذمّة، فلأنّه دينٌ في ذمّة المسلّم إليه، فإذا جُعل عوضاً للمسلّم فيه، صدق عليه حينئذٍ بيع الدين بالدين.

ثانيهما(4): صحيح منصور بن حازم، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يكون له على الرجل طعام أو بقر أو غنم أو غير ذلك، فأتى المطلوبُ الطالبَ ليبتاع منه شيئاً؟ فال عليه السلام: لا يبيعه نسيّاً، فأمّا نقداً فليبعه بما شاء».

فليس النسيّ هنا إلّاالسَّلم، وعلى فرض كون المراد إتيان المطلوب الطالب ليشتري من الطالب، فيدلّ على حكم المقام بالفحوى.

وأُورد على الأوّل: بأنّ النهي عن بيع الدين بالدين لا يشمل ما صار ديناً بالعقد، بل المراد منه ما كان ديناً قبله، كبيع ماله في ذمّة زيد بمالٍ آخر في ذمّة عمرو، ونحوه ممّا كان ديناً قبل العقد، والمسلّم فيه من الأوّل.

وفيه: أنّ الأظهر شمول ما دلَّ على أنّه (لا يُباع الدين بالدين) لما يصير ديناً بالعقد، إذ غاية ما قيل في وجه عدم الشمول ما في كتاب الدين من «المسالك»،7.

ص: 183


1- مسالك الأفهام: ج 3/412.
2- رياض المسائل: ج 8/445.
3- الحدائق الناضرة: ج 20/16.
4- وسائل الشيعة: ج 18/45 ح 23104، التهذيب: ج 7/48 ح 7.

وحاصله: أنّ جهة المنع وشمول الخبر له:

إن كان لإطلاق اسم الدين عليه قبل العقد وحالته، فمنعه ظاهر، لأنّه لا يعدّ دَيناً حتّى يثبت في الذمّة، ولا يثبت إلّابعد العقد، فلم يتحقّق بيع الدين بالدين.

وإن كان لأجل أنّه دينٌ بعد ذلك، فهو لا يكفي في صدق بيع الدين بالدين، لاقتضاء الباء كون الدين بنفسه عوضاً، والمضمون الذي لم يكن ثابتاً في الذمّة لا يعدّ جعله عوضاً بيع دينٍ بدين.

ولكن يرد عليه: أنّ المراد من النّص، هو المنع من بيع الدين بالدين المقابل للعين، وللحال أي لا تبع الدين بهذا الصنف من البيع، فيكون التعريف إشارة إلى هذا القسم من البيع المعهود في الذهن، فحينئذٍ يكون أظهر الفردين هو المؤجّل في العقد لا العكس.

ويعضد ذلك: أنّ المضمون بالعقد إنّما يصير ديناً مقارناً لإيقاع العقد، وإلّا لزم جعل العوض ما ليس عيناً ولا ديناً، والباء لا تقتضي أزيد من كون العوض حين جعله عوضاً ديناً، ولا يلزم في هذا الإطلاق كونه ديناً سابقاً.

وعليه، فالأظهر هو البطلان، وتماميّة الوجه المذكور.

وأمّا الصحيح فأُورد عليه: بأنّه ظاهرٌ في عكس المسألة، والتمسّك بالفحوى فرع ثبوت الحكم في الأصل، وهو ممنوعٌ .

وقد يستدلّ للصحّة في المقام:

1 - بخبر إسماعيل بن عمر(1): «أنّه كان له على رجل دراهم، فعرض عليه4.

ص: 184


1- وسائل الشيعة: ج 18/298 ح 23708، التهذيب: ج 7/43 ح 74.

الرجل أن يبيعه بها طعاماً إلى أجل، فأمر إسماعيل يسأله، فقال: لا بأس بذلك.

فعاد إليه إسماعيل، فسأله عن ذلك، وقال: إنّي كنتُ أمرتُ فلاناً فسألك عنها، فقلتَ لا بأس، فقال: ما يقول فيها من عندكم ؟ قلت: يقولون: فاسدٌ. فقال: لا تفعله فإنّي أوهمتُ ».

وعلّق صاحب «الوسائل» بعد نقل الخبر بقوله: (النهي عن ذلك هنا، والاعتذار بالوهم وجهه التقيّة).

2 - وبخبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام، قال: «سألته عن السَّلم في الدين ؟ قال عليه السلام:(1) إذا قال: اشتريتُ منك كذا وكذا بكذا وكذا فلا بأس».

بناءً على أنّ المراد (بكذا وكذا) ممّا له حكم السَّلف في الدين في ذمّته، لا أنّ المراد كلّي، ثمّ يحاسبه بعد ذلك على ما في ذمّته.

أقول: لكن خبر إسماعيل ضعيف السند، لأنّه لم يوثّقه أحدٌ، بل ورد في حقّه التضعيف.

مع أنّه من الممكن أن يكون وجه الصحّة: أنّ الدّراهم التي كانت في الذمّة، كانت حالّة، والبيع إنّما وقع بعد حلولها، فلا يكون من قبيل بيع الدين بالدين، لاعتبار الأجل في صدقه.

وأمّا خبر علي بن جعفر، فمضافاً إلى ما في سنده، لأنّ عبد اللّه بن الحسن لم يوثّق، فهو ظاهر في كون الثمن كليّاً في الذمّة لا عينُ ما في الذمّة، فهو في الفرع الآتي.

فالمتحصّل: أنّ الأظهر هو المنع.).

ص: 185


1- وسائل الشيعة: ج 18/299 ح 23710، بحار الأنوار: ج 100/112 ح 1 (باب بيع السَّلف والنسيئة).

الفرع الثالث: إذا جعل الثمن كليّاً حالّاً، وبعد تماميّة العقد حاسبه بماله في ذمّته قبل التفرّق، فالظاهر صحّته، لأنّه لم يرد العقد على الدين، فلا يقصر عمّا لو أطلق الثمن ثمّ أحضره قبل التفرّق، فهو حينئذٍ استيفاءٌ لا ثمن سلم.

وفي «المسالك»:(1) (قيل بالبطلان، لأنّ الثمن قد شخّص بما في الذمّة، فيكون بيع دينٍ بدين، ولأنّ هذه المعاوضة على ثمن السَّلم قبل قبضه.

وهما ضعيفان، لأنّ الثمن هنا كلّي، وتعيّنه في شخصٍ لا يقتضي كونه هو الثمن الذي جرى عليه العقد، ومثل هذا التقاصّ والتحاسب استيفاءٌ لا معاوضة، وحيث يكون الجنس والوصف واحداً، فالتقابض قهري، والا توقّف على التراضي) انتهى .

فإن قيل: إنّه يصدق عدم قبض الثمن، وقد مرّ اشتراطه.

أجبنا عنه: بأنّ ما في الذمّة مقبوض، فبعد التقاصّ والتحاسب يكون مقبوضاً، ولم يدلّ دليلٌ على اعتبار أزيد من ذلك، لأنّ دليله الإجماع، والمتيقّن منه غير المقام.

ثمّ إنّ صريح «المسالك»(2) و «الدروس»(3) وغيرهما: أنّ الاحتياج إلى المحاسبة إنّما هو فيما إذا اختلفا في الجنس أو الوصف، وإلّا وقع التقاصّ قهراً.

الفرع الرابع: لو شرط تأجيل الثمن بطل بلا خلاف أجده، كذا في «الجواهر»(4)لا لاعتبار القبض قبل التفرّق، إذ يمكن فرضه فيما لا ينافيه لقصر الأجل ونحوه، بل لأنّه من قبيل بيع الدين بالدين، وهذه الفتوى من القوم تؤيّد ما بنينا عليه من5.

ص: 186


1- مسالك الأفهام: ج 3/413.
2- مسالك الأفهام: ج 2/312 و 313.
3- الدروس: ج 3/256.
4- جواهر الكلام: ج 24/295.

صدقه على ما لو كان ديناً في العقد.

وأيضاً: لو شرط التأجيل في البعض بَطَل فيه قطعاً، لكن هل يبطل في الجميع كما عن «القواعد»(1)، و «التذكرة»(2)، و «الدروس»(3) وغيرها، وفي «الجواهر»(4)، أم لا؟ وجهان:

استدلّ للأوّل:

1 - بجهالة ما يوازي المقبوض، إذ الأجل ليس له قيمة معلومة.

2 - وبما في «الجواهر»:(5) (من أنّ الشرط في السَّلم استحقاق القبض في جميع الثمن في المجلس، من حين العقد، مع فعليّة القبض، والأوّل لا تبعيض فيه، بخلاف الثاني، فيبطل حينئذٍ ولو في البعض، لفوات الشرط الأوّل) انتهى .

ولكن يرد الأوّل: أنّ أهل العرف إذا علموا التفاوت فيما بين الحالّ والمؤجّل لا محالة يعلمون مقدار التفاوت، وعليه فإذا ظهر لهم أنّ الحالّ يقابل الثلثين، والمؤجّل ثلثاً، بطل في الثلث، وصحَّ في الثلثين.

ويردّ الثاني: أنّ دليل هذا الشرط هو الإجماع، فلو سُلّم شرطيّة الاستحقاق، فالمتيقّن منه ما في الفعليّة، فهو أيضاً قابل للتبعيض.

وبالجملة: فالأظهر هو الصحّة في الحالّ والبطلان في المؤجّل.

***6.

ص: 187


1- قواعد الأحكام: ج 1/414.
2- تذكرة الفقهاء: ج 11/264 (ط. ج).
3- الدروس: ج 3/256. (4و5) جواهر الكلام: ج 24/296.

وتقدير المبيع ذي الكيل والوزن بمقداره

تقدير المُسلّم فيه

(و) الشرط الثالث: (تقدير المبيع) المسلّم فيه (ذي الكيل والوزن)، وما لايضبط بيعه سلفاً إلّابأحدهما، وإنْ جاز بيعه جزافاً كالحطب والحجارة (بمقداره) أي بالكيل والوزن المعلومين بلا خلاف في اعتبار تقدير المسلّم فيه.

ويشهد لاعتبار أحدهما في الموردين: ما دلَّ من النّص على بطلان بيع الغرر، وهذا من أفراده، لأنّ الغرر لا يندفع هنا إلّابأحدهما، وإنْ اندفع فيما يُباع جزافاً بالمشاهدة في غير السَّلف، لعدم إمكان المشاهدة فيه بالضرورة.

فإن قيل: إنّه بمكن مشاهدة جملةٍ يدخل المسلّم فيه في ضمنها من غير تعيّن.

قلنا: إنّ هذا وإن كان إيراداً على الشيخ وتابعيه، الذين اكتفوا بها في المسألة السابقة، ولم ينقل عن أحدٍ منهم الاكتفاء بها في المقام، إلّاأنّا قد بنينا في تلك المسألة عدم الاكتفاء بها هناك، فضلاً عن المقام.

ويشهد لاعتبار أحدهما في المكيل والموزون: عموم ما دلَّ على اعتباره فيما يُكال أو يُوزن في مطلق البيع، المؤيّد بنصوص كثيرة في المقام:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام(1): «عن السَّلم في الطعام بكيلٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم ؟ قال عليه السلام: لا بأس به».

ص: 188


1- وسائل الشيعة: ج 18/295 ح 23702، الكافي: ج 5/185 ح 2.

ومنها: موثّق غياث، عنه عليه السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام:(1) لا بأس بالسَّلم كيلاً معلوماً إلى أجلٍ معلوم، ولا تسلّمه إلى دياس»، ولا إلى حصاد، والدياس دَقّ السُّنبل فيخرج منه الحب.

ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان:(2) «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يُسلّم في غير زرعٍ ولا نخل ؟ قال عليه السلام: يسمّى كيلاً معلوماً إلى أجلٍ معلوم».

ونحوها غيرها.

هذا فيما يُكال ويُوزن ويُباع بالمشاهدة.

وأمّا ما يباع بالعدّ في مطلق البيع: فهل لا يكفي التقدير بالعدد في السَّلم كما عن الشيخ في «المبسوط»(3)، وابني زهرة(4) وإدريس(5) والمصنّف رحمه الله في «التذكرة»(6)والمحقّق في «الشرائع»(7)؟

أم يكتفي به كما عن الإسكافي(8)؟

أم يفصّل بين ما يكثر التفاوت فيه كالرّمان فالأوّل، وما لا يكثر فيه التفاوت، بل كان التفاوت ممّا يُتسامح فيه بالعادة ولو بضبط صنف منه، بالوصف الذي لا يؤدّي إلى عزّة الوجود، فالثاني ؟2.

ص: 189


1- وسائل الشيعة: ج 18/289 ح 23690، الكافي: ج 5/184 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 18/290 ح 23691، من لايحضره الفقيه: ج 3/260 ح 3936.
3- المبسوط: ج 2/189.
4- غنية النزوع: ص 227.
5- السرائر: ج 2/260.
6- تذكرة الفقهاء: ج 1/551.
7- شرائع الإسلام: ج 2/230.
8- مختلف الشيعة: ج 5/152.

وجوهٌ ، أقواها الأخير، إذ الضابط هو رفع الغرر.

وأمّا ما يُباع بالذرع: أو يمكن ضبطه بأذرع، فإنّه وإن جاز بيعه بدونه مع المشاهدة، فلابدّ من ضبطه بالذّرع هنا، لما مرّ.

أقول: وكما يعتبر تقدير المسلّم فيه بالأنحاء التي تقدّم، كذلك يشترط تقدير الثمن، لكن بما يقدّر في مطلق البيع، ولم يخالف في ذلك أحدٌ إلّاالسيّد المرتضى رحمه الله(1)، فجوّز الاكتفاء بالمشاهدة مطلقاً حتّى فيما يقدّر بالكيل أو الوزن.

ويشهد للمشهور: - مضافاً إلى ما دلَّ على اعتبار العلم بالثمن في مطلق البيع ومن أفراده المقام - صحيح أبي مريم الأنصاري، عن أبى عبداللّه عليه السلام(2): «إنّ أباه لم يكن يرى بأساً في السَّلم في الحيوان بشيء معلوم إلى أجلٍ معلوم».

إذا المعلوميّة في المكيل لا يتحقّق إلّابكيله، والموزون إلّابوزنه، وهكذا في المعدود.

والمصنّف في محكي «المختلف»(3) نقل عن المرتضى أنّه احتجّ بما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه و آله(4) أنّه قال:

«من أسلم فليسلّم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجلٍ معلوم».

حيث أذِن النبيّ صلى الله عليه و آله في السَّلم على هذه الصفات، ولم يشترط سواها.

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده - أنّ غاية الأمر كونه مطلقاً، فيقيّد إطلاقه بما مرّ، مع أنّه يمكن منع إطلاقه، لعدم كونه في المقام البيان من هذه الجهة.

***1.

ص: 190


1- الناصريّات: ص 369.
2- وسائل الشيعة: ج 18/288 ح 23687، الكافي: ج 5/220 ح 5.
3- مختلف الشيعة: ج 5/138.
4- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/381 ح 15661، نهج الحقّ : ص 487 ح 91.

وتعيين أجلٍ مضبوط

اشتراط تعيين الأجل المضبوط

(و) الشرط الرابع: (تعيين أجلٍ مضبوط) لا يحتمل الزيادة والنقصان، فلو ذكر أجلاً مجهولاً كأن يقول: (متى أردتُ )، أو أجلاً يحتمل الزيادة والنقصان، كقدوم الحاجّ ، أو إلى الدياس، أو الحصاد، كان باطلاً بلا خلاف، بل عليه الإجماع في «نهج الحقّ »(1)، و «الغنية»(2)، وعن «الخلاف»(3) و «التذكرة»(4)، كذا في «الرياض»(5).

ويشهد به: مضافاً إلى ما دلَّ على النهي عن بيع الغرر المتقدّم إليه الإشارة، نصوصٌ خاصّة، الواردة في موارد مخصوصة، المتمّمة بعدم القول بالفصل:

منها: موثّق سماعة: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام(6) عن السَّلم وهو السَّلف في الحرير والمتاع الذي يصنع في البلد الذي أنت به ؟ قال عليه السلام: نعم إذا كان إلى أجلٍ معلوم».

ومنها: موثّق غياث، عنه عليه السلام: «قال أمير المؤمنين:(7) لا بأس بالسَّلم كيلاً معلوماً إلى أجلٍ معلوم، ولا تسلّمه إلى دياس، ولا إلى حصاد».

ص: 191


1- نهج الحقّ : ص 487 المسألة 23.
2- غنية النزوع: ص 227.
3- الخلاف: ج 3/201 و 202.
4- تذكرة الفقهاء: ج 1/548 (ط. ق).
5- رياض المسائل: ج 8/445 (ط. ج).
6- وسائل الشيعة: ج 18/289 ح 23689، الكافي: ج 5/199 ح 2.
7- وسائل الشيعة: ج 18/289 ح 23690، الكافي: ج 5/184 ح 1.

ومنها: صحيح الأنصاري، عنه عليه السلام:(1) «أنّ أباه لم يكن يرى بأساً بالسَّلم في الحيوان بشيء معلومٍ إلى أجلٍ معلوم».

ونحوها غيرها.

وعلى الجملة على فرض ذكر الأجل لا إشكال في اعتبار كونه معلوماً.

إنّما الكلام في أنّه هل يعتبر التأجيل في السَّلم، فلو اشتراه حالّاً لا يصحّ؟ أم لا يعتبر ذلك، فيصحّ مع قصد الحلول ؟

وعلى الثاني: فهل يصحّ سلماً؟ أم يكون بيعاً بلفظ السَّلم ؟ وجوهٌ وأقوال:

صريح المصنّف رحمه الله في محكي «المختلف»:(2) أنّ محلّ النزاع ما إذا لم يَقصد السَّلم.

وظاهر «الشرائع»(3)، و «الدروس»(4)، وصريح «المسالك»:(5) أنّ محلّ الكلام ما إذا قصد السَّلم.

أقول: وكيف كان، فالكلام في موضعين:

الموضع الأوّل: في اشتراط الأجل في السَّلم وعدمه، وقد صرّح جماعة منهم المصنّف في «التحرير»(6)، و «القواعد»(7)، والشهيد في «اللّمعة»(8)، و «الدروس»(9)،4.

ص: 192


1- وسائل الشيعة: ج 18/288 ح 23687، الكافي: ج 5/220 ح 5.
2- مختلف الشيعة: ج 5/134.
3- شرائع الإسلام: ج 2/58 (الشرط الخامس: تعيين الأجل).
4- الدروس: ج 3/254.
5- مسالك الأفهام: ج 3/415.
6- تحريرالاحكام: ج 2/425 (ط. ج).
7- قواعد الأحكام: ج 2/52.
8- اللّمعة الدمشقيّة: ص 105.
9- الدروس: ج 3/254.

وغيرهما عدم الاشتراط، فيصحّ السَّلم في الحالّ .

وعن ظاهر «التذكرة»(1)، و «مجمع البرهان»(2)، و «الكفاية»(3)، ومعقد إجماع «الغنية»(4)، و «نهج الحقّ »: الاشتراط، فلا يصحّ السَّلم في الحال.

واستدلّ للاشتراط:

1 - بالإجماع الذي حكاه السيّد في «الغنية»(5) وفي «نهج الحقّ ».

2 - وبالنبويّ المتقدّم آنفاً: «من أسلف فليسلف في كيلٍمعلوم إلى أجلٍ معلوم».

3 - وبانسباق التأخير فيه منه، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ مشروعيّته للإرفاق بالمحتاجين، فيكون حقيقة في المؤجّل، مجازاً في غيره.

4 - وبموثّق سماعة المتقدّم في السَّلف في الحرير والمتاع، حيث قال عليه السلام: «نعم، إذا كان إلى أجلٍ معلوم». بل قد اشتملت أكثر النصوص على ذكر الأجل.

أقول: لكن الإجماع على اشتراط المعلوميّة، على فرض ذكر الأجل، لا على ذكر الأجل، فضلاً عن أنّه معلوم المدرك.

والنبويّ قد عرفت أنّه ضعيف السند.

والانسباق لا يكون تبادراً موجباً لمجازيّة غيره، بل من قبيل الانصراف البدوي للغلبة، ولذا يكون المنسبق التأخير لا إلى أجل قصير، كنصف يوم، مع أنّه سلمٌ حقيقة قطعاً.

والاستناد إلى الإرفاق الذي هو حِكمة لا علّة، مع غلبة الأجل في السَّلف، كماترى .

ص: 193


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/548 (ط. ق).
2- مجمع الفائدة: ج 8/352.
3- راجع كفاية الأحكام: ج 1/521.
4- غنية النزوع: ص 227.
5- غنية النزوع: ص 227.

وأمّا الموثّق وكذا ما بمضمونه، فالإنصاف أنّه يدلّ على ذلك بمفهوم الشرط، لما حُقّق في محلّه من أنّه إذا تعدّد الشرط في قضيّة واحدة، كان لكلّ منهما، مثلاً إذا قال: (إنْ جاء زيدٌ متعمّماً فأكرمه) يكون مفهومه: إنْ لم يجيء، أو جاء ولم يكن متعمّماً لا يجب إكرامه، فمفهوم الموثّق: إنْ لم يكن إلى أجلٍ ، أو كان إلى أجلٍ غير معلوم، فلا يجوز.

ويؤيّده بقية النصوص المشتملة على ذكر الأجل، وأيضاً يؤيّده صحيح ابن الحجّاج الآتي.

وبالجملة: فالأظهر اعتبار الأجل في السَّلف.

الموضع الثاني: بناءً على عدم صحّته سلماً، هل يبطل رأساً؟ أم تكون المعاملة صحيحة ؟

قد يستدلّ للصحّة: بصحيح ابن الحجّاج، قال:(1) «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يشتري الطعام من الرّجل ليس عنده، فيشتري منه حالّاً؟ قال عليه السلام: ليس به بأس، قلت: انهم يفسدونه عندنا.

قال: فأيّ شيء يقولون في السَّلم ؟ قلت: لا يرون به بأساً، يقولون هذا إلى أجل، فإذا كان إلى غير أجل، وليس عند صاحبه فلا يصلح. فقال: فإذا لم يكن إلى أجل كان أجود.

ثمّ قال: لا بأس بأن يشتري الطعام وليس هو عند صاحبه إلى أجل لا يسمّي له أجلاً إلّاأن يكون بيعاً لا يوجد مثل العنب والبطيخ وشبهه في غير زمانه،1.

ص: 194


1- وسائل الشيعة: ج 18/46 ح 23106، تهذيب الأحكام: ج 7/49 ح 11.

فلا ينبغي شراء ذلك حالّاً».

وظهور الخبر في جواز بيع الكلّي في الذمّة حالّاً حتّى فيما ليس من عنده لا يُنكر، كما أنّ ظهوره في كون الشرط في السَّلم ذكر الأجل لا ينبغي إنكاره.

وإرجاع قوله عليه السلام: «إذا لم يكن أجل... إلى آخره» إلى السَّلم خلاف الظاهر جدّاً.

ولكن محلّ الكلام: أنّه إذا قصد السَّلم، أو كان المراد غيره، وأوجب العقد بلفظ السَّلم، والظاهر أنّه أجنبي عن ذلك، وإنّما هو بصدد بيان أنّه لا مانع فيه من ناحية كونه ليس عنده، فيندرج فيما دلَّ على المنع عنه.

فالمتحصّل: أنّه لا يدلّ على الجواز فيما هو محلّ الكلام، فيرجع فيه إلى ما تقتضيه القواعد، وهي تقتضي البطلان لو قصد السَّلم، بناءً على أنّه صنف خاص من البيع له شرائط وأحكام خاصّة، لأنّه يلزم من صحّته وقوع ما لم يقصد، وعدم وقوع ما قَصد، وإن قصد غيره وأدّاه بلفظ السَّلم، فهو حينئذٍ من قبيل إنشاء عقدٍ بلفظٍ ظاهر في غيره، وقد مرّ في محلّه بطلانه.

والنتيجة: أنّ الأظهر هو البطلان مطلقاً، واللّه العالم.

***

ص: 195

وإمكان وجوده وقت الحلول

اعتبار إمكان وجود المسلّم فيه

الشرط الخامس: أن يكون وجود المسلّم فيه غالباً بحسب العادة وقت الحلول.

أقول: لا كلام ولا خلاف بين الأصحاب في اعتبار هذا الشرط، إنّما الاختلاف في التعبير عنه:

ففي جملةٍ من الكتب (و) منهم المصنّف في المتن: (إمكان وجوده وقت الحلول)، وفي «التذكرة»(1) عبّر عنه بإمكان التسليم.

وعن «القواعد»(1) مثل ما هنا، وعن «الدروس»(2) تبديله بالقدرة على التسليم في اعتبار إمكان وجود المسلّم فيه.

وعن «مفتاح الكرامة»:(3) (أنّ «الخلاف»(4) و «السرائر»(5) و «المبسوط»(6)و «التذكرة»(8) في موضع منه، و «التحرير»(7) و «نهج الحقّ »(8) عبّروا عنه بكونه مأمون الانقطاع، وزيد فيما عدا الأولين كونه عام

ص: 196


1- قواعد الأحكام: ج 2/52.
2- الدروس: ج 3/256.
3- مفتاح الكرامة: ج 13/745.
4- الخلاف: ج 3/195.
5- السرائر: ج 2/317.
6- المبسوط: ج 2/172.
7- تحرير الأحكام: ج 2/428 (ط. ج).
8- نهج الحقّ وكشف الصدق: في السَّلف: ص 487 (نقله عنه صاحب مفتاح الكرامة: ج 13/745).

الوجود، وفي «الخلاف»:(1) الإجماع على ذلك، وفي «التحرير»(2) نفي الخلاف عن الأولين، وفي «نهج الحقّ »(3) أنّ ذلك مذهب الإماميّة).

وقد أتعب بعض الأساطين نفسه الزكيّة في إرجاع الكلمات بعضها إلى بعض، وأنّ مراد الجميع شيء واحد.

والحقّ أن يقال: إنّه يعتبر القدرة وقت البيع، إذ مع الشكّ يصبح البيع غرريّاً وباطلاً، ولا يعتبر شيء زائد على ذلك، وقوله عليه السلام في صحيح ابن الحجّاج في حديثٍ في السَّلم:(4) «لابأس ببيع كلّ متاع كنتَ تجده في الوقت الذي بعته فيه» لا يدلّ على اعتبار شيء أزيد من القدرة على التسليم. والظاهر أنّ نظر الأصحاب أيضاً إلى ذلك.

أمّا من عبّر بغلبة الوجود بحسب العادة وقت الحلول، فلأنّ ذلك موجبٌ للاطمئنان بالقدرة على التسلم، بخلاف ما يعيّن وجوده، فإنّه من الممكن أن لا يقدر عليه، وكذا من عبّر بإمكان وجوده، فإنّ الظاهر منه إرادة إمكان وجوده عادةً ، الملازم ذلك لعموم الوجود، كما يظهر من ملاحظة مجموع كلماتهم هنا وفي مسألة الاستقصاء في الصفات وفي مسألة ما لو طرأ الانقطاع فيما لو أسلم فيما يعمّ وجوده.

وكذلك من عبّر بمأمون الانقطاع، لأنّه الذي يعتاد وجوده، وقد أردفه بعضهم بعموم الوجود.

وكيف كان، فالظاهر أنّه ليس شرطاً في خصوص السَّلم زائداً عمّا يعتبر في مطلق البيع.

أقول: وهل يعتبر العلم أو الاطمئنان بالقدرة على التسليم ؟ أم يكفي الظنّ به ؟4.

ص: 197


1- الخلاف: ج 3/195.
2- تحرير الأحكام: ج 2/228 (ط. ج).
3- تحرير الأحكام: ج 2/228 (ط. ج).
4- وسائل الشيعة: ج 18/47 ح 23108، الكافي: ج 5/200 ح 4.

الظاهر هو الثاني:

1 - لصحيح(1) زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجل اشترى طعام قرية بعينها؟ قال عليه السلام: لا بأس إن خرج فهو له، وإنْ لم يخرج كان ديناً عليه.»

2 - وخبر خالد بن الحجّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرجل يشتري طعام قرية بعينها، وإنْ لم يسلّم قرية بعينها أعطاه من حيث شاء».

حيث إنّهما يدلّان على كفاية ظنّ الوجود، وإمكانه حين الأجل.

قال المحقّق الأردبيلي رحمه الله:(2)(ولا شكّ في حصول الظنّ بحصول غِلّة قرية وإن كانت صغيرة، بل ولو أرضاً معيّنة قليلة، ولهذا يتّكل صاحبها على غِلّة تلك الأرض، ولا يزرع غيرها ظنّاً بأنّه يحصل له منها غلّة ويبيع ويشتري رجاءً للوفاء) انتهى .

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ المسلّم هو مالو حصل الاطمئنان، والاحتياط طريق النجاة.

فالمتحصّل: أنّه يعتبر القدرة على التسليم، والعلم أو الظنّ الاطميناني بتمكّنه من التسليم حال الحلول، ولا أظنّ أنّ أحداً من الأصحاب يعتبر زائداً على ذلك شيئاً، وعليه فإيراد المحقّق الأردبيلي - وإن استجوده صاحب «الحدائق» رحمه الله(3) - في غير محلّه.

***1.

ص: 198


1- وسائل الشيعة: ج 18/313 ح 23745، تهذيب الأحكام: ج 7/39 ح 50.
2- مجمع الفائدة: ج 8/353.
3- الحدائق الناضرة: ج 20/30 و 31.

فإنْ تعذّر تخير المشتري بين الفسخ والصَبر

حكم ما إذا تعذّر المسلّم فيه

المقام الثاني: في الأحكام، وفيه مسائل:

المسألة الأُولى: إذا وقع السَّلم صحيحاً واجداً لشروطه المعتبرة ومنه إمكان وجوده بعد الحلول، (فإن تعذّر) عند الحلول، أو انقطع حيث يكون مؤجّلاً ممكن الحصول بعد الأجل عادةً ، فاتّفق عدمه ابتداءً أو بعد وجوده، لم ينفسخ العقد بلا خلافٍ ، و (تخيّر المشتري بين الفسخ) واسترداد الثمن أو مثله، و (بين الصبر) إلى وجوده على الأشهر.

وفي «الرياض»:(1) (بل عليه عامّة من تأخّر).

وربما أشعرت عبارة «المختلف»(2) و «الدروس»(3) بالإجماع عليه، ولم يُنسب الخلاف إلّاإلى الحِلّي رحمه الله(4).

وكيف ما كان، فيشهد للمشهور: - مضافاً إلى ما مرّ في مبحث الخيارات(5) من أنّ تعذّر تسليم المثمن أو الثمن موجبٌ للخيار، قضاءً للشرط الضمني الذي عليه بناء المتعاملين - نصوصٌ خاصّة:

ص: 199


1- رياض المسائل: ج 8/458 (ط. ج).
2- مختلف الشيعة: ج 5/146 و 147.
3- راجع الدروس: ج 3/256-257.
4- السرائر: ج 2/317.
5- فقه الصادق: ج 25/248.

منها: موثّق عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1): «عن رجل أسلف في شيء يسلّف الناس فيه من الثمار، فذهب زمانها ولم يستوف سلفه ؟ قال عليه السلام:

فليأخذ رأس ماله أو لينظره».

ونحوه غيره.

ومنها يظهر أنّ له أن لا يفسخ ولا يصبر، بل يأخذ قيمته، ويشهد به:

صحيح أبان(2)، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرجل يسلف الدّراهم في الطعام إلى أجل فيحلّ الطعام فيقول: ليس عندي طعام، ولكن انظر ما قيمته فخذ منّي ثمنه ؟ قال عليه السلام: لا بأس بذلك».

ونحوه غيره، وبها يُصرف ظاهر موثّق ابن بكير في تعيّن أخذ الأمرين.

ومع ذلك كلّه فلا يصغى إلى ما استدلّ به للحِلّي(3) من أنّ العقد ثابتٌ بالإجماع، وبقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وأنّه لا دليل على فسخه.

كما أنّ ما أفاده صاحب «الحدائق» رحمه الله(4) - من أنّ أخذ القيمة وإن كان موافقاً للقواعد، ويؤيّده الأخبار، إلّاأنّه ينافيه موثّق ابن بكير - غير تامّ .

أقول: ثمّ إنّ هذا الخيار ليس على الفور، كما هو المشهور بين الأصحاب، لإطلاق دليله، فتوقّف الشهيد رحمه الله(5) في محكي «الدروس» فيه في غير محلّه.

فرع: ولو قبض البعض وتأخّر الباقي، تخيّر المشتري بين الصبر والفسخ في الجميع، والفسخ في الباقي:7.

ص: 200


1- وسائل الشيعة: ج 18/309 ح 23734.
2- وسائل الشيعة: ج 18/305 ح 23725، تهذيب الأحكام: ج 7/30 ح 15.
3- السرائر: ج 2/317.
4- الحدائق الناضرة: ج 20/45 و 46.
5- الدروس: ج 3/257.

ولو دفع من غير الجنس برضاه صَحّ

أمّا الفسخ في الجميع: فدفعاً لضرر تبعّض الصفقة.

وأمّا الفسخ في الباقي: فللنصوص الخاصّة.

منها: صحيح عبد اللّه بن سنان(1)، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرجل يسلم في الطعام - إلى أن قال - أرأيتَ إن أوفاني بعضاً وعجز عن بعض، أيصلح لي أن آخذ بالباقي رأس مالي ؟ قال عليه السلام: نعم ما أحسن ذلك».

ومنها: صحيح الحلبي(2)، عنه عليه السلام: «عن الرجل يسلم في الغنم ثنيان وجذعان وغير ذلك إلى أجلٍ مسمّى ؟

قال عليه السلام: لا بأس إنْلم يقدر الذي عليه الغنم على جميع ما عليه أن يأخذ صاحب الغنم نصفها أو ثلثها أو ثلثيها، ويأخذ رأس مال ما بقي من الغنم دراهم، الحديث».

ولو فسخ في البعض، فهل يثبت لصاحبه خيار التبعّض ؟ الظاهر ذلك إنْ لم يكن ذلك بتقصير منه.

حكم ما إذا دفع من غير الجنس

المسألة الثانية: (ولو دفع) المسلّم المديون إلى المدين (من غير الجنس) الذي أسلفه فيه، فإن كان ذلك (برضاه صَحّ ) وبرأ المسلّم إليه ممّا كانت ذمّته مشغولاً به

ص: 201


1- وسائل الشيعة: ج 18/304 ح 23722، الكافي: ج 5/185 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 18/303 ح 23721، الكافي: ج 5/221 ح 8.

ويُحتسب القيمة يوم الإقباض،

بلا خلافٍ ، بل عن «الكفاية»(1) و «المسالك»(2) دعوى الوفاق عليه.

ويشهد به: - مضافاً إلى أنّ وفاء ما عليه من غير الجنس معاوضة يشملها ما دلَّ على وجوب الوفاء بالعقد، وإلى ما دلَّ على أنّ للمديون أن يدفع إلى المدين من غير الجنس الذي استدانه منه مطلقاً، الشامل لما إذا كان الدين سلفاً - خبر القاسم ابن العيص(3)، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«عن رجل أسلف رجلاً دراهم بحنطة حتّى إذا حضر الأجل لم يكن عنده طعام، ووجد عنده دواب ومتاعاً ورقيقاً، يحلّ له أن يأخذ من عروضة تلك بطعامه ؟

قال عليه السلام: نعم يسمّي كذا وكذا بكذا وكذا صاعاً» ونحوه غيره.

قال المصنّف رحمه الله: (ويحتسب القيمة يوم الإقباض) بلا خلافٍ .

ويشهد به: - مضافاً إلى أنّ يوم الإقباض يوم تبديل ما عليه، فلابدّ وأن يُراعى ذلك اليوم - جملة من النصوص:

منها: مكاتبة الصفار(4) الصحيحة إلى أبي محمّد عليه السلام: «في رجل كان له على رجلٍ مالٌ ، فلمّا حلَّ عليه المال أعطاه به طعاماً أو قطناً أو زعفراناً، ولم يقاطعه على السّعر، فلمّا كان بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع الطعام والزّعفران والقطن أو نقص، بأيّ السعرين يحسبه ؟7.

ص: 202


1- كفاية الأحكام: ص 102.
2- مسالك الأفهام: ج 3/432.
3- وسائل الشيعة: ج 18/305 ح 23726، الكافي: ج 5/186 ح 7.
4- وسائل الشيعة: ج 18/85 ح 23208، تهذيب الأحكام: ج 6/196 ح 57.

ولو دفع دون الصفة أو أكثر أو قبل الأجل

فوقّع عليه السلام: ليس له إلّاعلى حسب سعر وقت ما دفع إليه الطعام إن شاء اللّه تعالى » الحديث.

ومثله مكاتبته الاُخرى ، ونحوهما غيرهما.

حكم ما لو دفع دون الصّفة

المسألة الثالثة: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه (لو دفع) المسلّم إليه المسلّم فيه (دون الصفة)، أو دون المقدار المشترطين فيه (أو أكثر) قدراً يمكن فصله من المقدار المطلوب منه (أو قبل الأجل):

1 - فإن رضي المسلّم به صَحّ وبرأ، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه، ويشهد به نصوص كثيرة:

منها: صحيح الحلبي(1)، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرجل يسلّم في وصف أسنان معلومة ولون معلوم، ثمّ يعطي دون شرطه أو فوقه ؟

فقال عليه السلام: إذا كان عن طيبة نفس منك ومنه فلا بأس».

ومنها: خبر أبي بصير، عنه عليه السلام: «عن السَلَم في الحيوان ؟ قال: ليس به بأس.

قلت: أرأيت إن أسلم في أسنان معلومة، أو شيء معلوم من الرقيق فأعطاه دون شرطه وفوقه بطيبة نفسٍ منهم ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(2).

ص: 203


1- وسائل الشيعة: ج 18/299 ح 23711، الكافي: ج 5/221 ح 9.
2- وسائل الشيعة: ج 18/299 ح 23712.

لم يَجب القبول

ومنها: صحيح يعقوب بن شعيب(1)، عن أبي جعفر أو أبي عبد اللّه عليهما السلام:

«عن الرجل يكون لي عليه جلّة(2) من بُسر فآخذ منه جلّة من رطب مكانها وهي أقلّ منها؟ قال عليه السلام: لا بأس.

قال: قلت: فيكون لي عليه جلّة من بُسر فآخذ مكانها جلّة من تمر، وهي أكثر منها؟

قال عليه السلام: لا بأس إذا كان معروفاً بينكما».

ونحوها غيرها من النصوص الكثيرة المؤيّدة بأنّ له إسقاط حقّه من الوصف ومن المقدار وغيرهما مع التراضي، كما إنّ له قبول الزيادة التي هي عطيّة.

2 - وإنْ لم يرض بذلك فله، و (لم يجب القبول) بلا كلامٍ :

أمّا في صورة دفع دون الصفة أو المقدار: فواضحٌ .

وأمّا في صورة دفع الأكثر، فلأنّ الزائد عطيّة جديدة، لا يجبُ قبولها، ويشهد به بعض النصوص الخاصّة.

وأمّا في صورة الدفع قبل الأجل: فقد استدلّ له:

تارةً : بما عن «التذكرة»(3)، من أنّ التعجيل كالتبرّع بالزيادة، فلا يكلّف تقلّد المنَّة.).

ص: 204


1- وسائل الشيعة: ج 18/301 ح 23717، الكافي: ج 5/254 ح 7.
2- الجلّة: وعاء التمر.
3- تذكرة الفقهاء: ج 1/559 (ط. ق).

بخلاف ما لو دفعه

واُخرى : بما أفاده المحقّق الخراساني(1)، من أنّ المملوك شيء مؤجّل وهو لا ينطبق على المدفوع بالحال.

وثالثة: بما أفاده الشيخ الأعظم(2) رحمه الله بأنّ التأجيل كما يكون حقّاً للمشتري، فكذلك يكون حقّاً للبائع، من جهة أنّ المشتري التزم بحفظ ماله في ذمّته، والمشتري إنّما مسلّطاً على حقّه دون حقّ البائع.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ الزائد لا يكون مِلكاً، وصيرورته كذلك تتوقّف على القبول، وهذا بخلاف التعجيل الذي هو خصوصيّته في أداء ما هو ملك له.

وعلى الثاني: أنّ المؤجّل ليس إلّاالدَّين الحالي مع جواز التأخير في الأداء.

ويرد على الثالث: أنّه لا كلام في أنّ إلزام الشخص والتزامه بحفظ مال غيره مشروع، وإذا وقع في ضمن العقد كان لازماً.

إنّما الكلام في الشروط الخارجيّة المتعارفة بين النّاس، المتعلّقة بتأجيل الثمن، فإنّ الظاهر منهم اعتبار الأجل حقّاً للمشتري فقط، وعليه فلولا الإجماع كان وجوب القبول قويّاً.

فالمتحصّل: أنّه لو دفع دون الصفة أو أكثر، لم يجب القبول (بخلاف ما لو دفعه) قبل الأجل، فإنّ القول بوجوب القبول قويٌّ .2.

ص: 205


1- حاشية المكاسب: ص 268.
2- كتاب المكاسب: ج 6/212.

في وقته بصفته

حكم دفع المسلّم فيه في وقته بصفته

المسألة الرابعة: ولو دفع المسلَّم إليه المسلّم فيه (في وقته)، أي بعد الحلول (بصفته) التي اشترطت، وجب على المسلّم مع عدم العذر القبول، أو إبراء المسلّم إليه على المشهور بين الأصحاب، بل الظاهر أنّ الحكم موضع وفاق، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه.

واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ في امتناع المسلّم إضراراً بالمسلّم إليه.

وفيه: إنّ بقاء المال في ذمّته الذي هو أمر اعتباري ليس ضرراً عليه، نعم ربما يكون لزوماً الأداء بعد ذلك ضرراً عليه، فلو كان، يرفع ذلك بالحديث لا هذا.

الوجه الثاني: أنّ الامتناع ظلمٌ على المسلّم إليه، لا يستحقّ المسلّم إبقاء ماله في ذمّته، بل هو مستحقّ لتفريغ ذمّته، حيث إنّ الناس مسلّطون على إنفسهم، فلايجوز.

وفيه: إنّ سلطنة المسلّم إليه على تفريغ ذمّته لا تنكر، إلّاأنّها لا تقتضي رفع سلطنة المسلّم على ذمّة المسلّم على نفسه التي مقتضاها أنّ له عدم القبول ما لم يثبت وجوبه الشرعي، وإبقاء المال في ذمّة المسلّم إليه ليس إيذاءً وظلماً، فلو كان فإنّما هو رفعٌ للإيذاء، ولا دليل على وجوب دفع الأذيّة عن الغير.

الوجه الثالث: ما في «الجواهر»(1) من أنّ مقتضى آية الوفاء بالعقد(2) ذلك، فإنّ

ص: 206


1- جواهر الكلام: ج 23/116.
2- سورة المائدة: الآية 1.

وجوب الوفاء يتبع وجوب الدفع والقبول.

وفيه: ما تقدّم منّا في هذا الشرح مكرّراً من أنّ العقد هو ارتباط اعتباري كلٍّ من المتعاقدين بالآخر، والوفاء عبارة عن التمام أو ما يقاربه، فمفاد الآية الكريمة عدم رفع اليد عن العقد بحلّه ونقضه، ولا تدلّ الآية على الوجوب التسليم ووجوب القبول.

وعليه، فالصحيح أن يستدلّ عليه بما دلَّ من النّص والإجماع على وجوب الدفع على المديون بعد الحلول، وحيث إنّ الدفع والأداء مستلزمٌ للقبول، فمدلوله الالتزامي وجوب القبول.

وكيف كان، فالحكم مسلّم عند الكلّ لا مورد للمناقشة فيه.

فرع: لو امتنع المسلّم من القبض، فإنْ رضى المسلّم إليه فلا كلام، وإنْ لم يرض ففيه وجوهٌ وأقوال:

1 - ما عن الشيخين(1)، والمحقّق(2)، وابن حمزة(3)، وغيرهم(4)، من تعيّن العزل، وكون الضمان على صاحب الدَّين، وإن أمكن دفعه إلى الحاكم.

2 - ما عن المشهور، من تعيّن الدفع إلى الحاكم.

3 - ما اختاره الشيخ الأعظم(5) رحمه الله وهو تعيّن الإجبار أوّلاً، فإنْ لم يمكن فالدفع إلى الحاكم، ومع تعذّره فالعزل.7.

ص: 207


1- المبسوط: ج 2/190.
2- شرائع الإسلام: ج 2/321.
3- حكاه عنه اليزدي في حاشية المكاسب: ج 2/179.
4- السرائر: ج 2/319.
5- كتاب المكاسب: ج 6/217.

4 - تعيّن الإجبار أوّلاً، ومع عدم إمكانه فالتخيير بين العزل والدفع إلى الحاكم.

5 - التخيير بين الوجوه.

أقول: والحقّ أنّه إنْ قلنا بأنّ أداء الدين مطلقاً إنّما يكون بالتخلية بين المال والدائن، وأنّه لا يعتبر في تعيين الكلّي في الفرد قبض الدائن، لا كلام في كفاية التخلية في المقام.

ولكن الظاهر اعتبار قبضه، وعدم كفاية التخلية فيه، وبذلك يظهر وجه القول الأوّل ونقده.

واستدلّ للثاني:

1 - بأنّ السلطان وليُّ الممتنع، فالحاكم يتولّى القبض عنه.

2 - وبأنّ فراغ ذمّة المسلّم إليه من الأُمور الحسبيّة، فيتصدّاه الحاكم.

ولكن يرد على الأوّل: أنّ ذلك مختصٌّ بالممتنع عن حقّ مالي، كما هو مورده، وفي المقام امتناع المسلّم ليس امتناعاً عن الحقّ ، إذا المسلّم إليه لايستحقّ على المسلّم قبضه منه.

وعلى الثاني: أنّ ذلك ليس من الاُمور المهمّة التي لا يجوز تعطيلها.

واستدلّ لتعين الإجبار: بأنّ اعتبار رضا المسلّم بالقبض يسقط لحديث نفي الضَّرر، فيجبره الحاكم على القبض.

وفيه أوّلاً: أنّه لا دليل على اعتبار الرضا وطيب النفس في القبض.

وثانياً: أنّ الضَّرر إنّما يأتي من ناحية انحصار تعيّن الحقّ شرعاً بقبض المسلّم،

ص: 208

أو أزيد منها

فيرفع ذلك بالحديث، وإذ ثبت به تعيّنه بقبض غيره، فالمتعيّن هو الحاكم، وبذلك يظهر أظهرية ما هو المشهور.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الضَّرر إنّما ينشأ من إناطة تفرّغ ذمّته بقبول الدائن، فيرتفع ذلك، ونتيجته أنّه بالعزل يتعيّن ملك المسلّم إليه، فالقول الأوّل أرجح.

حكم دفع المسلّم فيه فوق الصفة

أقول: ما ذكره المصنّف رحمه الله في المقام بقوله: (أو أزيد منها) - أي يجبُ القبول لو دفع المسلّم إليه فوق الصفة، بمعنى الجامع للأوصاف المشترطة عليه مع زيادةٍ ، أو الفرد الأعلى من مصداق الصفة - هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة، بل لم يُنقل الخلاف إلّاعن الإسكافي(1)، حيث ذهب إلى عدم وجوب القبول، وقوّاه سيّد «الرياض»(2) وصاحب «الحدائق»(3).

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ زيادة الصفة لا تنافي عين الحقّ ، بل يؤكّده إذ المفروض كونه مساوياً للحقّ في النوع وغيره وتزيد الصفة.

2 - وبأنّ الزيادة خيرٌ وإحسان، فالامتناع عنه عناد.

3 - وبأنّ الجودة صفة لا يمكن فصلها فهي تابعة.

ص: 209


1- مختلف الشيعة: ج 5/153.
2- رياض المسائل: ج 8/457 (ط. ج).
3- الحدائق الناضرة: ج 20/49.

ويجوزُ اشتراط

ويرد على الأوّل: بأنّ الحقّ الثابت له موصوفٌ بصفة خاصّة، وما يدفع إليه موصوفٌ بصفة اُخرى ، وبه يحصل التغاير.

ويرد على الثاني: أنّه لا دليل على وجوب قبول الإحسان، بل الدليل على خلافة، وإلّا لزم وجوب قبول كلّ عطيّة، وليس الامتناع عنه عناداً، بل هو مطالبه لحقّه الذي اشترطه، مع أنّه قد يتعلّق الغرض بخصوص المشترط دون الزائد.

ويرد الثالث: أنّ عدم إمكان الفصل وتابعيّة الوصف لا يكون سبباً لوجوب القبول على المسلّم، مع إمكان العدول إلى المشترط خاصّة.

وبالجملة: فالحقّ أنّه لا دليل على الوجوب، والأصل يقتضي العدم.

ويشهد به أيضاً: صحيح سليمان بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام(1):

«عن رجل يسلم في وصف أسنان معلومة، ولون معلوم، ثمّ يعطي فوق شرطه ؟ فقال عليه السلام: إذا كان على طيبة نفس منك ومنه فلا بأس به».

فإنّه بمفهومه يدلّ على ثبوت البأس مع عدم التراضي، وعليه فالأظهر عدم وجوب القبول.

جواز إشتراط شيءٍ مع السَّلف

المسألة الخامسة: لا خلاف (و) لا إشكال في أنّه إذا أسلف في شيء (يجوز اشتراط) شيء معلوم، كأن يقول: (أسلمتُ إليك هذه العشرة الدّراهم في خمسين منّاً

ص: 210


1- وسائل الشيعة: ج 18/302 ح 23718، تهذيب الأحكام: ج 7/41 ح 61.

ما هو سائغ، ولا يجوزُ أن يشترط من زرع أرضٍ بعينها، أو غزل امرأةٍ بعينها، أو ثمرة نخلٍ بعينها،

من تمرٍ إلى مدّة كذا، بشرط أن تبيع منّي أو توهب لي هذا الكتاب مثلاً، أو تعلّمني الصنعة الفلانيّة)، ونحو ذلك من (ما هو سائغٌ ) لعموم ما دلَّ على جواز الاشتراط في ضمن البيع، وقد تقدّم في محلّه تنقيح القول فيه.

أقول: وقد توهّم عدم جوازه في المقام، لخبر سليمان بن صالح، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن سلفٍ وبيع، وعن بيعين في بيع»(1) الحديث.

وفي «الرياض»:(2) (أنّه قاصر السند)، وتبعه في ذلك صاحب «الجواهر»(3).

ولكن الظاهر اعتبار سنده، إذ ليس في طريقه من يتوقّف فيه، إذ رواه الشيخ بإسناده عن أحمد بن محمّد بن الحسين - الظاهر أنّه الجصّاص الثقة - عن علي بن أسباط، عن سليمان بن صالح، وكلّهم ثقات.

نعم، إيرادهما عليه بالإجمال وارد، كيف وقد استدلّ به جماعةٌ على بطلان بيع شيءٍ بثمن حال، وبأزيد منه مؤجّلاً، وبالتالي فالأظهر هي الصحّة.

نعم، لا يجوز أن يشترط بما لا يعلم حصوله، ولا بما يكون منافياً لمقتضى العقد، ويترتّب عليها أنّه (لا يجوز أن يشترط) أن تكون الغلّة (من زرع أرض بعينها، أو) أن يكون الثوب من (غزل امرأة بعينها، أو) أن تكون الثمرة من (ثمرة نخلٍ بعينها).5.

ص: 211


1- وسائل الشيعة: ج 18/37 ح 23085، تهذيب الأحكام: ج 7/230 ح 25.
2- رياض المسائل: ج 1/529 (ط. ق).
3- جواهر الكلام: ج 23/105.

واستدلّ له صاحب «الرياض»:(1) بأنّ السَّلف عبارة عن ابتياع مضمون كلّي في الذمّة غير مشخّص إلّابقبض المشتري، فتشخيص المسلّم فيه بأحد الاُمور المزبورة خروجٌ عن حقيقة السَّلف.

وفيه: أنّه لو كانت الاُمور المزبورة متحقّقة في الخارج، وكان المبيع بنحو الكلّي في المعيّن، لا بنحو الكلّي في الذمّة، واشتراط أدائه من الموجود الخارجي تمَّ ما أفاده، إلّاأنّ المفروض أنّ الاُمور المزبورة غير متحقّقة، ومع فرض عدم وجود الغلّة وتحقّقها لاحقاً وكذا في إخوتيها، لا محالة يكون المبيع كليّاً في الذمّة، غاية الأمر كليّاً غير موسّعٍ ، فلا ينافي في ذلك حقيقة السَّلف.

وعلّله الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(2) بقوله: (لإمكان أن لا يتّفق ذلك للمرأة بأن تمرض أو تموت أو تترك العمل إمكاناً مساوياً لنقيضه، وكذا القراح يمكن أن يخيس، ولا يظهر منه ما يطابق الوصف، والضابط اعتبار ما لا يتخلّف عنه المسلّم فيه عادةً كالبلد الكبير بالنسبة إلى الأرض والأهل) انتهى .

وهو جيّدٌ؛ إلّاأنّه فيما لو لم يكن الشرط المذكور من قبيل الالتزام في ضمن التزام الذي هو شرطٌ مصطلح، وإلّا فيبطل الشرط خاصّة.

أقول: وأمّا صحيح زرارة(3)، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن رجلٍ اشترى طعام قرية بعينها؟ فقال: لا بأس إن خرج فهو له، وإنْ لم يخرج كان دَيناً عليه». ونحوه خبر خالد بن الحجّاج، فقد حملها الأصحاب على إرادة قرية معيّنة لا يخيس عادةً .0.

ص: 212


1- رياض المسائل: ج 8/463 (ط. ج).
2- مسالك الأفهام: ج 3/435.
3- وسائل الشيعة: ج 18/313 ح 23745، تهذيب الأحكام: ج 7/39 ح 50.

واُجرة الكيّال، ووزَّان المتاع، وبائع الأمتعة على البائع، واُجرة الناقد، ووزّان الثمن، ومشتري الأمتعة على المشتري،

فهو جيّد، لعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، بل في مقام بيان أنّه بعد صحّة السَّلف إنْ لم يخرج يكون ديناً عليه، وقد مرّ الكلام فيها.

اُجرة الكيّال على البائع

المسألة السادسة: (و) قد صرّح الأصحاب - من غير خلافٍ يُعرف - بأنّ (اُجرة الكيّال ووزّان المتاع وبائع الأمتعة) إذا كان بائعها دلّالاً ناصباً نفسه لذلك تكون (على البائع).

أمّا الأوّل: فالوجه فيه واضحٌ ؛ لأنّه يجب على البائع توفية المبيع للمشتري، وتسليمه بعد معلوميّته بالكيل والوزن، وحينئذٍ فأُجرة هذا العمل عليه لو لم يفعله بنفسه، لأنّها من مصلحته، فيتعلّق الاُجرة به.

وأمّا الثاني: فلأنّ الدلّال بمنزلة الأجير، فإنّ فعلُ ما على البائع اُجرةٌ لا محالة، يستحقّ ذلك، وإنْ لم يتشارطا عليه، إذ بعد كون العمل محترماً له ماليّة، ونَصَب الدلّال نفسه لذلك، فهو قرينة على عدم التبرّع بالضرورة، فلا محالة يكون الأمر به موجبٌ للضمان.

وبعبارة اُخرى : سيأتي في كتاب الإجارة أنّ استيفاء العمل بالأمر المعاملي موجبٌ للضمان.

(و) بذلك يظهر أنّ (اُجرة الناقد، ووزّان الثمن، ومشتري الأمتعة) إذا كان دلّالاً ناصباً نفسه لذلك مأمورٌ به من جهته تكون (على المشتري).

ص: 213

ولو تبرّع الواسطة فلا اُجرة

(ولو تبرّع الواسطة) بكلٍّ من الاُمور المذكورة، من دون أمرٍ من البائع أو المشتري له بذلك، ولا ما يقوم مقامه من الدلالة (فلا اُجرة) له، إذ الضمان لابدّ وأن يكون من سببٍ ، والفرض في المورد عدم الموجب.

أقول: لا يخفى أنّ جملة من الروايات تدلّ على استحقاق الدلّال للاُجرة:

منها: صحيح ابن شعيب الآتي.

ومنها: معتبر أبي ولّاد(1)، عن أبي عبداللّه عليه السلام وغيره عن أبي جعفر عليه السلام: «لا بأس بأجر السمسار، إنّمايشتري للناس يوماًبعد يوم بشيءٍ مسمّى، إنّماهو بمنزلة الاُجراء».

ومنها: خبر الحسين بن يسار، عن أبي الحسن عليه السلام(2): «في الرجل يدلّ على الدور والضياع ويأخذ عليه الأجر؟ قال: هذه اُجرة لا بأس بها».

ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان(3)، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال سأله أبي وأنا حاضر، فقال: ربما أمرنا الرجل يشتري لنا الأرض أو الدواب أو الغلام أو الخادم، ويُجعل له جُعلاً؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: لا بأس به».

ومنها: صحيح ابن أبي عمير(4)، عن بعض أصحابنا من أصحاب الرقيق، قال:

«اشتريتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام جاريةً ، فناولني أربعة دنانير فأبيتُ . فقال: لتأخذنّ فأخذتها، وقال: لا تأخذ من البائع».3.

ص: 214


1- وسائل الشيعة: ج 18/74 ح 23182، الكافي: ج 5/196 ح 4. وفي نسخة: مثل الأجير.
2- وسائل الشيعة: ج 18/75 ح 23184.
3- وسائل الشيعة: ج 18/76 ح 23187، تهذيب الأحكام: ج 6/381 ح 245.
4- وسائل الشيعة: ج 18/72 ح 23178، الكافي: ج 5/285 ح 3.

ولا ضمان على الدلّال في الجودة، ولا التلف في يده، إذا لم يفرّط،

والوجه في نهيه عن الأخذ من البائع كونه مأموراً من قِبل المشتري، والبائع لم يأمره بالبيع له، فلا يستحقّ عليه شيئاً.

ونحوها وغيرها.

أقول: وعن جماعةٍ من الأصحاب، منهم الشيخ في «النهاية»(1)، والمصنّف في «المختلف»(2) وغيرهما: أنّه إذا جمع الواسطة بين الابتياع والبيع، ونَصَب نفسه لذلك - والذي يعبّر عنه بالسمسار - فباع متاعاً لشخص واشتراه لشخص آخر، يستحقّ اُجرتان: على البائع اُجرة، وعلى المشتري اُخرى .

وأُورد عليه: بأنّ البيع مبنيٌّ على المكاسبة والمغالبة، ولا يكون الشخص الواحد غالباً ومغلوباً، والعمل بالحالة الوسطى خارجٌ عن مطلوبهما غالباً، فيتوقّف على رضاهما بذلك، وحينئذٍ فمن كايس له استحقّ عليه الاُجرة خاصّة.

وفيه: إنّ المطلوب من الدلّال والواسطة إنّما هو الفحص عن البائع والمشتري، وتهيئة مقدّمات المعاملة، وقد يكون أيضاً المطلوب منه التقليل من القيمة أو الازدياد فيها للمشتري وللبائع، وعلى هذا فله عملان أو جهتان لعمل، فيستحقّ لهما الاُجرة، ولعلّ صحيح أبي ولّاد يشهد أو يُشعر بذلك.

قال المصنّف رحمه الله: (ولا ضمان على الدلّال في الجودة، ولا التلف في يده إذا لم يفرّط) أو يتعدّى، بلا خلافٍ ، لأنّه أمين، ومع ذلك يشهد به نصوص:3.

ص: 215


1- النهاية: ص 406.
2- مختلف الشيعة: ج 5/313.

والقول قوله في التفريط مع اليمين وعدم البيّنة، وفي القيمة لو ثبت التفريط

منها: مكاتبة القاساني(1) إلى أبي الحسن عليه السلام كتبَ إليه رجلٌ : «رجلٌ أمرَ رجلاً أن يشتري له متاعاً أو غير ذلك، فاشتراه فسرق منه، أو قطع عليه الطريق، من مال ذهب المتاع ؟ من مال الآمر أو من مال المأمور؟ فكتب عليه السلام: من مال الآمر».

وأمّا صحيح ابن شعيب(2)، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرجل يبيع للقوم بالأجر، عليه ضمان مالهم ؟ قال عليه السلام: إذا طابت نفسه بذلك، إنّما أخاف أن يغرموه أكثر ممّا يصيب عليهم، فإذا طابت نفسه فلا بأس».

فهو في الأمانة المضمونة.

وأمّا مع التفريط أو التعدّي، فلا إشكال في الضمان، كما هو الشأن في جميع موارد الأمانات الشرعيّة والمالكيّة.

(والقول قوله) أي قول الدلّال لو اختلفا (في التفريط) أو التعدّي (مع اليمين وعدم البيّنة) لأنّه منكر، لموافقة قوله للأصل، وهو كونه أميناً، مضافاً إلى أصالة عدم التفريط والتعدّي، ولا خلاف في أنّ البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر.

(و) كذا لو اختلفا (في القيمة) أي قيمة التالف (لو ثبت التفريط) لأصالة عدم الزيادة.

وأورد عليه: بأنّ أصالة عدم الزيادة لا تصلح لإثبات كون القيمة هو الناقص.6.

ص: 216


1- وسائل الشيعة: ج 18/73 ح 23180، الكافي: ج 5/314 ح 44.
2- وسائل الشيعة: ج 18/73 ح 23181، تهذيب الأحكام: ج 7/157 ح 6.

وفيه: إنّا لا نحتاج إلى ذلك، بل بما أنّ ذمّته مشغولة إمّا بالناقص أو الزائد، فبالنسبة إلى القدر الأقلّ مسلّم، وفي الزائد عليه مشكوك فيه، والأصل عدمه، إنّما الإشكال في أنّه ورد في ذيل صحيح أبي ولّاد(1) ما يدلّ على أنّ القول قول المالك، وأنّ عليه الحلف، إلّاأن يردّ الحلف على القابض:

«قال: قلت: فمن يعرف ذلك ؟

قال عليه السلام: أنتَ وهو، إمّا يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإنْ ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهودٍ يشهدون أن قيمة البغل حين اكتري كذا وكذا» الحديث.

وقد عمل به الشيخ رحمه الله في محكي «النهاية»(2)، والمفيد في محكي «المقعنة»(3)، ونسبه المصنّف رحمه الله إلى الأكثر، وإنّما لم يعمل به جماعة، بل في «الرياض»:(4) (عامّة المتأخّرين) من جهة مخالفته لموازين باب القضاء، واُجيب عنه بأجوبة.

والحقّ أن يقال: إنّ الصحيح يُحمل على التعبّد، ويخصّص به القاعدة العامّة، ولعلّ السرّ في ذلك أنّ المفروض في الخبر التعدّي وغصب البغل، ومن شؤون أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال، عدم قبول قوله ما لم يرد الحلف عليه، وأن لا يطلب منه بشيء من موازين القضاء، بل يوجّه الخطاب إلى المالك، والخبر وإن كان في مورد).

ص: 217


1- وسائل الشيعة: ج 19/119 ح 24272، الكافي: ج 5/290 ح 6.
2- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 6/244 (ط. ق).
3- راجع حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/105 حكايته عن الشيخين.
4- رياض المسائل: ج 10/48، وأيضاً تعرّض لذلك في: ج 14/52 من (ط. ق) بقوله: (ولولا إطباق متأخّري الأصحاب على العمل بالأصل العام، وإطراح الرواية، لكان المصير إليها في غاية القوّة).

الإجارة وغصب البغل، إلّاأنّه مع إلغاء الخصوصيّة يتعدّى منه إلى كلّ موردٍ فرّط فيه الأمين أو تعدّى، ومنه المقام.

وعليه، فالأظهر تقديم قول المالك، فتأمّل.

***

ص: 218

أقسام البيع بلحاظ الإخبار بالثمن

خاتمة: في بيان أمرين لم يتعرّض لهما المصنّف رحمه الله:

الأمر الأوّل: في أقسام البيع بالنسبة إلى الإخبار عن الثمن وعدمه، وهي أربعة، لأنّه:

إمّا أن يخبر برأس المال أو لا، والثاني مساومة.

والأوّل: إمّا أن يبيع معه برأس المال، أو بزيادةٍ عليه، أو نقصانٍ عنه.

فالأوّل التولية، والثاني المرابحة، والثالث المواضعة.

وفي «المسالك»:(1) (وقد يجتمع في عقدٍ واحد الأقسام الأربعة، بأن يكون العين مِلْكاً لأربعة، اشترى أحدهم ربعه بعشرين، والآخر بخمسة عشر، والثالث بعشرة، وأخبروا بذلك، والرابع لم يعيّن الحال، وباعوها بستّين، فإنّ الثمن يقسّط على أجزائها لا على ثمنها، فالبيع بالنسبة إلى الأوّل مواضعة، وإلى الثاني تولية، وإلى الثالث مرابحة، وإلى الرابع مساومة) انتهى .

أقول: وزاد بعضهم قسماً خامساً، وهو إعطاء بعض المبيع برأس ماله.

ذكر الشهيد في محكي «الدروس»(2) و «اللّمعة»(3)، قال: (والتشريك جائزٌ وهو أن يجعل له نصيباً بما يخصّه من الثمن).

قال الشهيد الثاني رحمه الله: وفي بعض الاخبار دلالة عليه، والمعروف أنّ أفضل

ص: 219


1- مسالك الأفهام: ج 3/306.
2- الدروس: ج 3/221.
3- اللّمعة الدمشقيّة: ص 107.

الأقسام المساومة، وأنّ المرابحة مكروهة، والشاهد به نصوص:

كصحيح الحلبي(1)، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال: قُدّم لأبي متاعٌ من مصر فصنع طعاماً ودعا له التّجار، فقالوا: نأخذه منك (بده دوازده).

قال لهم أبي: وكم يكون ذلك ؟ قالوا: في عشرة آلاف ألفين.

فقال لهم أبي: فإنّي أبيعكم هذا المتاع باثني عشر ألفاً، فباعهم مساومةً ».

وخبر جرّاح المدائني، عنه عليه السلام: «إنّي أكره البيع بده يازده ودوازده، ولكن أبيعه بكذا وكذا».

ونحوهما غيرهما.

وعَلّل استحباب المساومة زيادةً عليذلك: بأنّفيه سلامة عن الإخبار بالكذب.

وفي الأخبار الآتية في طيّ المباحث ما تضمّن ترتّب مفاسد على المرابحة.

وكيف كان، فالكلام في مواضع ثلاثة:

المرابحة

الموضع الأوّل: في المرابحة، وتنقيح القول فيها في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى : المرابحة، وإن كرهها الإمام عليه السلام إلّاأنّها جائزة، ويشهد به:

1 - صحيح العلاء(2)، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يبيع البيع، فيقول:

أبيعك بده دوازده أو يازده ؟

فقال: لا بأس، إنّما هذه المراوضة، فإذا جَمَع البيع جعله جملة واحدة».

ص: 220


1- وسائل الشيعة: ج 18/61 ح 23146، الكافي: ج 5/197 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 18/63 ح 23150، تهذيب الأحكام: ج 7/54 ح 35.

ورواه الحميري، عن محمّد بن خالد الطيالسي، عن العلاء مثله، إلّاأنّه قال:

«لا بأس، إنّما هو البيع يجعله جملة واحدة».

2 - وخبر علي بن سعيد، قال: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ يبتاع ثوباً فيطلب منّي مرابحة، ترى ببيع المرابحة بأساً إذا صدق في المرابحة، وسمّي ربحاً دانقين أو نصف دراهم ؟

فقال عليه السلام: لا بأس»(1).

ونحوهما غيرهما من النصوص الكثيرة.

المسألة الثانية: لابدّ وأن يكون رأس ماله معلوماً، وقدر الربح معلوماً عندهما حال البيع، كما هو المشهور شهرة عظيمة.

وعن «التذكرة»(2): (لو كان المشتري جاهلاً برأس المال، بطل البيع إجماعاً، وكذا لو كان البائع جاهلاً به، والمشتري عالمٌ به، أو كانا جاهلين).

وعن «المبسوط»:(3) (لو علما قدر رأس المال وجهلا الربح، مثل أن يقول:

رأس المال كذا، والربح ما تتّفق عليه، بطل).

وفي «المسالك»:(4) (ولا يكفي علم أحدهما ولا تجدّد علمهما بعد العَدّ، وإن اقتضاه الحساب المنضبط، كما لو علما بالثمن وجعلا ربح كلّ عشرة درهماً، ولا يعلمان ما يتحصّل به المجموع حال العقد).6.

ص: 221


1- وسائل الشيعة: ج 18/60 ح 23142، تهذيب الأحكام: ج 7/55 ح 38.
2- حكاه عن التذكرة صاحب الجواهر: ج 23/306.
3- المبسوط: ج 2/141.
4- مسالك الأفهام: ج 3/306.

والمستند: ما دلَّ على لزوم معلوميّة المثمن والثمن حال العقد، وعدم كفاية العلم بعده، وقد مرّ الكلام في المدرك.

وعليه، فما ورد في «المختلف» للمصنّف رحمه الله من قوله:(1) (ولو أخبره برأس المال، وزاد في كلّ عشرة درهماً، ولم يعلما وقت العقد كميّة الثمن، احتُمل البطلان للجهالة، والصحّة لإمكان العلم، فإنّه يستخرج بالحساب من احتمال كفاية الاستخراج بالعلم) في غير محلّه.

أقول: وأضعف من ذلك ما في «الجواهر»(2) من تقوية الصحّة متمسّكاً بإطلاق النصوص، خصوصاً المتضمّن منها جواز بيع ده بدوازده، إذ النصوص ليست في مقام بيان جميع ما يعتبر في هذا لقسم، بل في مقام بيان خصوص ما يختصّ به، ففي الشرائط العامّة يرجع إلى أدلّتها، وهي تقتضي اعتبار العلم.

مع أنّه لو سُلّم إطلاق أدلّة اعتبار العلم بالثمن والمثمن كما توجب تقييد إطلاق سائر أقسام البيع، كذلك تقيّد إطلاق هذه النصوص.

وأمّا تعبير الفقهاء بأنّه: (لابدَّ من الإخبار برأس المال) بما ذكروه من العبارات، فإنّما هو لأن يعلم المشتري به، فلو فرضنا العلم به، كفى الاعتماد على علمه، كما صرّح به المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»(3).

واحتمال وجوب الذكر تعبّداً ليكون قائماً مقام ذكره في العقد، بعيدٌ.

وإنْ لم يُحدث البائع في المبيع حدثاً ولا غيره، بل كان المبيع على الحالة التي).

ص: 222


1- مختلف الشيعة: ج 5/158.
2- جواهر الكلام: ج 23/307.
3- تذكرة الفقهاء: ج 1/341 (ط. ق).

انتقل إليها فيها، فالعبارة عن الثمن أن يقول: (اشتريته بكذا) أو (رأس ماله كذا)، أو (هو على كذا)، أو نحو ذلك من العبارات المفيدة للمطلوب.

وإنْكان قد عمل فيه ما يقتضي الزيادة في قيمته، قال: (رأس ماله كذا وعملتُ فيه بكذا)، وليس له تقويم عمله وضمّه إلى رأس المال، للزوم الكذب.

نعم، إذا كان عمل فيه غيره بأُجرة مسمّاة، صحّ أن يضمّ الاُجرة إلى رأس المال، ويقول: (تقوّم عَليّ ) أو (هو عَليَّ ).

وهل يجوز أن يضمّها إلى رأس المال ويقول: (رأس مالي كذا) كما عن «الدروس»(1) و «المختلف»(2)؟ أم لا يجوز، كما عن «المبسوط»(3) و «التذكرة»(4)و «جامع المقاصد»؟(5).

فالظاهر كما نبه عليه صاحب «الجواهر»(6) اختلاف ذلك باختلاف الأمكنة والأزمنة، ففي بعضها لا ينساق منه إلى الثمن، وفي آخر يراد منه ما غرمه عليه.

وفي حكم اُجرة العمل، جميع المؤن التي قصد بالتزامها عرفاً الاسترباح؛ من الدِلالة واُجرة البيت والكيّال والحارس والحمّال والقصّار والصبّاغ.

ولو اشترى بثمن معيباً، ورجع بأرش عيبه، أسقط قدر الأرش، وأخبر بالباقي بنحوٍ لا يكون كذباً، فلا يقول: (اشتريتُ به) أي الباقي، بل يقول: (رأس مالي فيه كذا).0.

ص: 223


1- الدروس: ج 3/219.
2- مختلف الشيعة: ج 5/163 و 164.
3- المبسوط: ج 2/141.
4- تذكرة الفهاء: ج 1/542 (ط. ق).
5- جامع المقاصد: ج 4/253.
6- جواهر الكلام: ج 23/310.

حكم نسبة الربح إلى السّلعة

المسألة الثالثة: المشهور بين الأصحاب كراهة نسبة الربح إلى المال، وهو كما ذكره الأصحاب: أن يقول: (بعتُك بمائة وربح المائة عشر). بل عن «التذكرة»(1)نسبته إلى علمائنا، وعن «الخلاف»(2) دعوى الإجماع عليه.

وعن «المقعنة»(3)، و «النهاية»(4)، و «المراسم»(5)، والتقي(6)، والقاضي:(7)

(لا يجوز) كما عن الأولين، أو (لا يصحّ ) كما عن الثالث، قالوا: فلينسب الربح إلى السّلعة، بأن يقول: (بعتك هذه السلعة بكذا، وربح كذا).

وذهب جماعة، منهم صاحب «الحدائق»(8) إلى عدم الفرق بين التعبيرين، وأنّه يجوز كلّ منهما بلا فرق بينهما.

أقول: ومنشأ الاختلاف، هو اختلاف النصوص الآتية، فقد استدلّ القائلون بعدم الجواز بصحيح العلاء(9)، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«الرجل يبيع البيع فيقول: أبيعك بده دوازده، أو ده يازده ؟

ص: 224


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/541.
2- الخلاف: ج 3/134.
3- المقنعة: ص 605.
4- النهاية: ص 389.
5- المراسم العلويّة: ص 177.
6- الكافي للحلبي: ص 359.
7- ذكره سيّد الرياض: ج 8/224 وقال: (لم نعثر عليه في كتبه، بل نقله عنه العلّامة في المختلف): ج 5/156.
8- الحدائق الناضرة: ج 19/205.
9- وسائل الشيعة: ج 18/63 ح 23150، تهذيب الأحكام: ج 7/54 ح 35.

فقال عليه السلام: لابأس به، إنّما هذه المراوضة، فإذا جَمَع البيع جَعله جملة واحدة».

بدعوى ظهوره في وجوب الجمع المزبور، بأن يقول: (بعتُك هذه السلعة بدوازده أو يازده) نحو ما فعله الإمام الباقر عليه السلام.

وعليه، فما رواه عن الإمام الصادق عليه السلام في الصحيح(1) المتقدّم، حيث قال فيه:

«إنّي أبيعكم هذا المتاع بإثني عشر ألفاً»، بل عدوله عليه السلام عن إجراء الصيغة بنحو ما ذكروه إلى ما ذكره، ظاهرٌ في المنع.

أمّا القائلون بالكراهة: فقد أوردوا على هذا الاستدلال بأنّ الصحيح يُحمل لإرادة التخلّص عن الكراهة على أنّ الخصم لا يقول بوجوب الجمع جملة واحدة، فإنّه لا بأس، كما عرفت بإفراز رأس المال عن الربح من دون ملاحظة النسبة، فلابدّ حينئذٍ من إرادة الرجحان منه، وفعل الإمام الباقر عليه السلام يمكن أن يكون للفرار عن الكراهة.

أقول: ولكن قد عرفت في المسألة الأُولى أنّ الظاهر من هذه النصوص كراهة المرابحة مطلقاً، وذيل الصحيح: «فباعهم مساومة»، أقوى شاهد على ذلك، كما أنّ صحيح محمّد الوارد فيه:(2)

«قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إنّي لأكره بيع عشرة بإحدى عشرة، وعشرة باثني عشرة، ونحو ذلك من البيع، ولكن أبيعك بكذا وكذا مساومةً ، قال: وأتاني متاع من مصر فكرهتُ أن أبيعه كذلك، وعَظم عليَّ فبعته مساومةً ».4.

ص: 225


1- وسائل الشيعة: ج 18/61 ح 23146، الكافي: ج 5/197 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 18/63 ح 23149، الكافي: ج 5/197 ح 4.

كالصريح في مرجوحيّة المرابحة مطلقاً، وبضميمة ما دلَّ على جواز المرابحة، يُحمل على الكراهة.

وفي «الرياض»:(1) (وقد ذكر بعض الأجلّة أنّ الظاهر من المعتبرة هنا كراهة المرابحة،. وأولويّة المساومة، لا الكراهة في موضع المسألة)، وهو كذلك لولا المخالفة لفهم الطائفة.

وقد اختار صاحب «الحدائق»(2) ذلك، وقوّاه في «الجواهر»(3).

وبالجملة: الأظهر عدم الكراهة في موضع المسألة.

حكم ما لو باع سلعة ثمّ اشتراها منه بزيادة

المسألة الرابعة: لو باع سلعة من شخصٍ ، ثمّ اشتراها منه بزيادة ليخبر بالثمن الثاني، ففيه أقوال ووجوه:

الوجه الأوّل: أنّ له أن يخبر بالثمن الثاني، ويبيعه من ثالث مرابحةً .

الوجه الثاني: أنْ ليس له ذلك، ذهب إليه جماعة، منهم الشهيدان(4) والعليّان(5).

الوجه الثالث: التفصيل بين ما لو شرط إعادته فلا يجوز، وما لو لم يمكن شرط إعادته فيجوز، ولعلّه المشهور بين الأصحاب.

ص: 226


1- رياض المسائل: ج 8/225 (ط. ج).
2- الحدائق الناضرة: ج 19/200.
3- جواهر الكلام: ج 23/314.
4- مسالك الأفهام: ج 3/309، الدروس: ج 3/218.
5- جامع المقاصد: ج 4/262. والعلي الآخر هو علي بن هلال الجزائري أو الميسي وكتابه غير موجود.

أقول: فالكلام في موردين:

الأوّل: في فرض الاشتراط.

الثاني: في صورة عدمه.

أمّا المورد الأوّل: فعلى ما تقدّم منّا في مبحث النقد والنسيئة(1)، من بطلان بيع العين الشخصية من بائعها في صورة الاشتراط، فالحكم ظاهرٌ، فإنّ الإخبار برأس المال باعتبار البيع الثاني الباطل غير جائز، إذ لا ثمن حتّى يُخبر عنه، ومعه لا حاجة إلى الاستدلال له بما في «الشرائع»(2) وغيرها من أنّه خيانة عرفاً، وإن كان هو أيضاً تامّاً كما سيمرّ عليك.

وأمّا المورد الثاني: فإن كان قصده من البيع والشراء منه بزيادة، الإخبار بالثمن الثاني، ليبيعه مرابحةً من ثالث، فالظاهر عدم جوازه، لكونه خيانة عرفاً، إذ المشتري إنّما يترك المماكسة اعتماداً على ممّاكسة البائع لنفسه وثوقاً باستقصائه في النقيصة لنفسه، فيعدّ مثل ذلك خيانة، كما صرّح به في «المسالك»(3)، وإنْ لم يكن قصده من البيع ذلك، فإنّه لا إشكال فيه، ويجوز أن يخبر بالثمن الثاني.

ولو حَطّ البائع بعض الثمن:

1 - فقد يكون ذلك لدعوى عيبٍ أو نحوها.

2 - واُخرى يكون تفضّلاً منه.

فعلى الأوّل: لا يجوز للمشتري أن يخبر بالأصل، لعين ما ذكر في الفرع السابق.9.

ص: 227


1- فقه الصادق: ج 26/129.
2- شرئع الإسلام: ج 2/295.
3- مسالك الأفهام: ج 3/309.

وعلى الثاني: يجوز من غير فرق في ذلك بين كونه زمن الخيار وعدمه، لأنّ الخبر صادق، ولا خيانة.

وعليه، فما عن «المبسوط»(1) و «الغنية»(2) من أنّه: (إذا كان الحَطّ قبل لزوم العقد، صحّت الحطيطة واُلحق بالثمن، وأخبر بما بقي، وإن كان بعد لزومه كانت هبة مجدّدة، وجاز الإخبار بأصل الثمن) غير ظاهر الوجه.

فإن قيل: لعلّ وجهه أنّ الشيخ يرى أنّ المبيع لا ينقل إلّابانقضاء مدّة الخيار، فإن كان الحطّ قبل الانقضاء يكون الثمن الباقي، وإن كان بعده كان هبة جديدة.

أجبنا عنه: بأنّ الإخبار برأس المال عبارة عن الإخبار بالثمن الذي وقع عليه العقد، ومن الواضح أنّه لا فرق بين الموردين في ذلك.

نعم، ليس له أن يقول: أدّيت أو نحوه.

لو باع مرابحةً فبانَ رأس ماله أقلّ

المسألة الخامسة: لو باع مرابحةً فبانَ رأس ماله أقلّ بالإقرار أو البيّنة أو غيرهما، صَحّ البيع، وكان المشتري بالخيار بين ردّه وأخذ ثمنه، كما هو المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة.

أقول: وفي المقام وجوه، بل أقوال اُخر:

أحدها: بطلان العقد. احتمله المحقّق الأردبيلي(3)، لكنّه توقّف في الصحّة.

ص: 228


1- المبسوط: ج 2/144.
2- غنية النزوع: ص 230 و 236.
3- مجمع الفائدة: ج 8/373.

ثانيها: لزومه، وعدم ثبوت الخيار.

ثالثها: ما عن أبي علي(1) والشيخ(2)، من أنّ المشتري يأخذ المبيع بإسقاط الزيادة من الثمن مع ربحها.

وعليه، فالكلام في موارد:

المورد الأوّل: في صحّة العقد وفساده.

أمّا الصحّة: فهي مقتضى العمومات والإطلاقات.

وأمّا الفساد: فقد استدلّ للبطلان بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ المبيع هو الموجود الخارجي المعنون بأنّه اشترى بكذا، وهذا لا تحقّق له في الخارج، وما هو متحقّقٌ وهو الذي اشترى بأقلّ منه لم يقع العقد عليه، فيقع باطلاً.

وفيه أوّلاً: أنّ العنوان المشار إليه ليس من العناوين الواقعة عليها العقد، بل هو من قبيل الداعي.

وثانياً: أنّه لو سُلّم كونه عنواناً للمبيع، إلّاأن غايته كونه من قبيل الوصف الذي تخلّفه لا يوجب البطلان.

الوجه الثاني: قوله تعالى: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (1)، إذ البيع المفروض الواقع على وجه الخديعة والكذب من خلال الإخبار، يكون الأكل به أكلاً للمال بالباطل.8.

ص: 229


1- سورة البقرة: الآية 188.

وفيه: أنّ الكذب في الإخبار أوجد الدّاعي للمشتري ليوقع المعاملة على هذا الموجود بهذا المبلغ، ولا يكون مصنّفاً أو مفرّداً للبيع.

الوجه الثالث: قوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1)، بتقريب أنّه معلومٌ أنّ المشتري لو عرف الحال لم يرضَ بذلك.

وبعبارة اُخرى : إنّ الرضا متعلّق بشراء الموجود بالمبلغ المعيّن بما أنّه اشتراه بمبلغ خاص، فلا رضا بشرائه بما وقع العقد عليه، والآية بمفهوم الحصر تدلّ على بطلانه.

وفيه أوّلاً: ما ذكرناه خلال المباحث المتقدّمة من أنّه لا مفهوم لهذه الآية الشريفة، وأنّ العقد الملحوق بالرّضا صحيحٌ .

وثانياً: أنّ العنوان المشار إليه من قبيل تخلّف الداعي الذي لا يوجب البطلان.

وعليه، فالأظهر هي القيمة.

المورد الثاني: في ثبوت الخيار وعدمه.

والحقّ ثبوت ذلك لا لحديث لا ضرر(2) - لما مرّ في مبحث الخيارات(3) من أنّه لا يدلّ على ثبوت الخيار - ولا للإجماع - لعدم تعبّديّته - ولا لقاعدة الغرور - لأنّها في الضمان - بل لتخلّف الشرط الضمني، فإنّ بناء المتعاملين في المرابحة على اشتراط البيع بشراء البائع بما يخبر به، والعقد يقع مبنيّاً عليه، وتخلّف مثل هذا الشرط يوجب الخيار، ويكون نظير الشرط المذكر صريحاً.5.

ص: 230


1- سورة النساء: الآية 29.
2- وسائل الشيعة: ج 18/32 ح 23074، من لايحضره الفقه: ج 3/233 ح 2859.
3- فقه الصادق: ج 25/225.

وبعبارة اُخرى : إنّ بناء العقلاء وإنْ كان على عدم ترتيب الآثار على الالتزامات النفسانيّة ما لم تُبرز ولم تُنشأ، إلّاأنّ ذلك في غير الشروط المبنيّ عليها العقد، وفي تلك بناؤهم على الترتيب، بل يرون ذلك بحكم الذكر، وعليه فتخلّفه موجبٌ للخيار من باب تخلّف الشرط، فدليل هذا الخيار هو الالتزام الضمني.

المورد الثالث: فيما أفاده أبو عليّ والشيخ:

ففي «الجواهر»:(1) (لا دليل عليه، إذ البيع إنّما هو برأس المال الذي أخبر به لا بما هو في نفس الأمر).

أقول: ولكن يمكن أن يكون نظر العَلَمين إلى أنّ الثمن هو المقدار الواقعي الذي اشترى به مع زيادة، والمعاملة وقعت عليه، وقد طبّقه البائع على ما أخبر به، فهذا التطبيق كالعدم، فالثمن هو ما في نفس الأمر، ولكن الثمن الذي وقع عليه العقد، ليس هو العنوان المذكور، بل المقدار الذي طبق البائع ذلك العنوان عليه، فالثمن هو رأس المال الذي أخبر به، لا ما هو في نفس الأمر، فتدبّر فإنّه دقيق.

وعن «المبسوط»:(2) (سقوط هذا الخيار بالتلف)، وحكاه الشهيد رحمه الله(3) عن ابن المتوّج.

وعن «القواعد»:(4) (هل يسقط الخيار بالتلف ؟ فيه نظر).

وعن جماعةٍ منهم المحقّق الثاني(5)، والشهيد الثاني(6) عدم السقوط.0.

ص: 231


1- جواهر الكلام: ج 23/318.
2- المبسوط: ج 2/143.
3- حكاه في مفتاح الكرامة: ج 13/850 حيث قال: (لم نعثر عليه في مظانّه).
4- قواعد الأحكام: ج 2/59.
5- جامع المقاصد: ج 4/263.
6- مسالك الأفهام: ج 3/310.

واستدلّ للأوّل: بأنّ الرّد إنّما يتحقّق مع بقاء العين.

وللثاني: بأنّ التلف لا يصلح عن بقاء الخيار، إذ مع الفسخ يثبت المِثْل أو القيمة، وبعموم (المغرور يرجع على من غَرّه).

ولكن الأوّل يردّه: أنّه لو قلنا بأنّ هذا الخيار متعلّق بالعوضين، كان ما اُفيد تامّاً، وحيث إنّه متعلّقٌ بالعقد وهو يكون باقياً مع تلف العين أيضاً، فلا وجه لسقوط الخيار بالتلف، ولعلّه إلى ذلك نظر من استدلّ للقول الثاني، وإلّا فهو بظاهره فاسدٌ، لأنّ المدّعي يدّعي عدم المقتضي له، وعليه فما ذُكر أجنبيٌ عمّا ذكره.

ولو قلنا بشمول قاعدة (التلف في زمان الخيار ممّن لا خيار له) لخيار الشرط، يكون التلف موجباً لكون تلف ما عند المشتري من البائع، وانفساخ العقد، ولكن المبني فاسدٌ كما تقدّم.

ولو قال البائع بعد البيع: (اشتريته بأكثر)، فإن علم صدقة فلا كلام، وإلّا فلو أقام ببيّنة عليه، ففيه وجهان:

استدلّ لعدم القبول: بأنّ قوله الثاني منافٍ للأوّل، فيلغى ولا يُقبل بيّنة على ذلك؛ لأنّه كذّبها بإقراره الأوّل.

وأورد عليه الشهيد الثاني(1): بجواز الغلط، والاستناد إلى أمر كإخبار الوكيل، ثمّ يظهر خلافه، فيتّجه القبول إن أظهر لإنكاره تأويلاً محتملاً.

أقول: وهو جيّد، ولكن لابدَّ وأن يضاف إليه أنّ الظاهر سماع الدعوى وقبول البيّنة بمجرّد احتمال الغلط احتمالاً عقلائيّاً، وإنْ لم يذكر التأويل، لعموم دليل البيّنة،1.

ص: 232


1- مسالك الأفهام: ج 3/311.

ولا يعارضه الإقرار السابق.

وبذلك يظهر أنّ ما أفاده جماعة، منهم المصنّف في جملةٍ من كتبه، والمحقّق الثاني وغيرهما من سماع الدعوى وقبول البيّنة مع ذكر التأويل، وإن كان متيناً، إلّاأنّه كان الأولى إضافة ما ذكرناه.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الغالب في مورد الاحتمال هو الذكر، وأنّ ما عن «المبسوط»(1) من قوّة عدم سماع البيّنة مطلقاً ضعيف.

ثمّ إنّه على فرض ثبوت الشراء بأكثر، وأنّ البائع أخطا فيما أخبر به، فالظاهر ثبوت الخيار للبائع، لعين ما ذكرناه في الفرع السابق بالنسبة إلى المشتري.

من اشترى أمتعةً صفقة لم يجز بيع بعضها مرابحةً

المسألة السادسة: من اشترى أمتعةً صفقة، وفي عقدٍ واحد، لم يجز له بيع بعضها مرابحةً ، سواء قوّمها أو بسط الثمن عليها وباع خيارها بالأقلّ أو لا، بلا خلافٍ فيما إذا كانت متفاضلة، وعلى المشهور فيما إذا كانت متماثلة.

أقول: والمستند لهذا الحكم - مضافاً إلى أنّ المثمن المقابل بالثمن هو المجموع لا الأفراد، وأنّ الوضيعة للثمن خرص وتخمينٌ يتطرّق إليه الخطأ غالباً حتّى في المتماثلة، لتفاوت القيم والأغراض في بيع المجموع، وكلّ فرد مستقلّاً، ألا ترى أنّه لو كان لشخصٍ مائة ثوب وأراد بيعها، لا محالة يتفاوت القيمة باشتراء واحد منها أو مجموعها - صحيح محمّد بن مسلم(2)، عن أحدهما عليهما السلام: «في الرجل يشتري المتاع

ص: 233


1- المبسوط: ج 2/143.
2- وسائل الشيعة: ج 18/77 ح 23189، تهذيب الأحكام: ج 7/55 ح 39.

جميعاً بثمنٍ ، ثمّ يقوّم كلّ ثوبٍ بما يسوي حتّى يقع على رأس ماله، يبيعه مرابحةً ثوباً ثوباً؟

قال عليه السلام: لا حتّى يبين له أنّه إنّما قوّمه».

ومثله خبر أبي حمزة، عن الإمام الباقر عليه السلام.

وعليه، فتجويز الإسكافي(1) في صورة التماثل ضعيفٌ .

نعم، مقتضى الاستثناء في الخبرين، أنّه لو أخبر بذلك - أي بيعه الأوّل وتقويمه المبيع بما يقابله من الثمن - جوازه مطلقاً، كما هو المشهور، بل الظاهر عدم الخلاف، ولا يهمّنا بعد تصريح الإمام بالصحّة، وبكونه مرابحةً ، في أنّ إطلاق المرابحة عليه حينئذٍ على وجه الحقيقة أو المجازية وإن كان الظاهر كونه على وجه الحقيقة، لمنع حصر المرابحة فيما لا يدخل فيه التقويم، ضرورة صدق اسم رأس المال والقيام عليه به ونحوهما، وقد مرّ صحّة المرابحة فيما لو عمل فيه عملاً قد ذكره بكذا.

وأيضاً: من الواضح صحّتها فيما لو تلف بعض الصفقة قبل القبض، ورجع بحصّته من الثمن، ورضى بالبيع في الباقي، وفيما إذا ظهر مستحقّاً للغير.

وعليه، فاعتراض الحِلّي(2) - بأنّه ليس بيع المرابحة، لأنّ وضعه في الشرع أن يخبر بالثمن الذي اشترى، وهذا ليس كذلك - في غير محلّه.

كما أنّ ما في «جامع المقاصد» و «المسالك» من أنّ إطلاق المرابحة عليها مجازٌ، للمشاكلة في الصورة، غير تامّ أيضاً.2.

ص: 234


1- مختلف الشيعة: ج 5/158.
2- السرائر: ج 2/292.

حكم ما لو اشترى نسيئة ثمّ باعه مرابحة

المسألة السابعة: إذا اشترى نسيئةً ثمّ باعه مرابحةً :

فتارةً : يخبر بالأجل أي يبيعه مؤجّلاً، فلا كلام.

واُخرى : يخبر برأس المال خاصّة، ولا يذكر الأجل، بل مقتضى إطلاق كلامه أنّه اشتراه نقداً، ففيه أقوال:

1 - ما عن ابن الجُنيد(1)، وابن البرّاج(2)، وابن حمزة(3)، والشيخ(4) في «النهاية»، من أنّ للمبتاع من الأجل ماله.

2 - ما عن الشيخ في «الخلاف»(5)، و «المبسوط»(6)، وابن إدريس(7)، وهو المشهور في كلام المتأخّرين عن المصنّف رحمه الله(8) من أنّ المشتري بالخيار بين أن يقبضه بالثمن حالاً أو يردّه بالعيب، لأنّه تدليس.

3 - ما عن المصنّف رحمه الله في «المختلف»(9)، من أنّه إن ذُكر الحلول واشتراط النقد، فالحكم ما ذكره المتأخّرون عنه، وهو ثبوت الخيار، وإلّا فله من الأجل ماله، وإليه مالَ المحقّق الأردبيلي رحمه الله(8).

ص: 235


1- مختلف الشيعة: ج 5/159.
2- نقله عنه العلّامة الحِلّي في مختلف الشيعة: ج 5/159.
3- الوسيلة: ص 243.
4- النهاية: ص 389.
5- الخلاف: ج 3/135.
6- المبسوط: ج 2/142.
7- السرائر: ج 2/290. (8و9) مختلف الشيعة: ج 5/159 و 161.
8- مجمع الفائدة: ج 8/376.

واستدلّ للأوّل: بصحيح هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق(1) عليه السلام: «في الرجل يشتري المتاع إلى أجل ؟ قال عليه السلام: ليس له أن يبيعه مرابحة إلّاإلى الأجل الذي اشتراه إليه، وإن باعه مرابحةً ولم يخبره، كان للذي اشتراه من الأجل مثل ذلك».

وخبر ميسر بيّاع الزّطي، قال:(2) «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّا نشتري المتاع بنظرة فيجيء الرجل فيقول: بكم تقوّم عليك ؟ فأقول: بكذا وكذا، فأبيعه بربح.

فقال عليه السلام: إذا بعته مرابحةً ، كان له من النظر مثل ما لك» الحديث.

ونحوهما خبر أبي محمّد الوابشي(3) المجهول.

وعن «المختلف»:(4) (والجواب: أنّها محمولة على ما إذا باعه بمثل ما اشتراه، وأخفى عنه النسيئة، ولم يشترط النقد، فإنّه والحال هذه يكون له من الأجل مثل ما كان للبائع، على إشكال) انتهى .

وبه بضميمة ما استدلّ به للقول الثاني يظهر مدرك القول الثالث.

ولكن يرد عليه: - مضافاً إلى أنّه على ما هو المسلّم عند الكلّ أنّ إطلاق العقد ينصرف إلى الحلول والنقد، ويكون الإطلاق بحكم الاشتراط، فلا وجه للتفصيل - أنّ مقتضى إطلاق الأخبار عدم الفرق بين الفرضين، وعليه فالقول الأوّل أظهر.

إذا قوّم على الدلّال متاعاً لا يجوز بيعه مرابحةً

المسألة الثامنة: إذا قوّم التاجر على الدلّال متاعاً بقيمة، ولم يواجبه البيع بإجراء الصيغة، وجعل له الزائد عليها، أو شاركه فيه، أو جعل لنفسه منه قسطاً،

ص: 236


1- وسائل الشيعة: ج 18/83 ح 23202، الكافي: ج 5/208 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 18/82 ح 23201، الكافي: ج 5/198 ح 7.
3- وسائل الشيعة: ج 18/83 ح 23203.
4- مختلف الشيعة: ج 5/161.

وللدلّال الزائد عليه، لم يجز للدلّال بيع ذلك المتاع مرابحةً على ما قوّم عليه، بلا خلافٍ :

1 - لأنّه كاذبٌ في إخباره، فإنّ مجرّد التقويم لا يوجبه.

2 - ولمعتبر سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1): «عن الرجل يحمل المتاع لأهل السوق وقد قوّموا عليه قيمته، ويقولون بع فما ازددت فلك ؟

فقال عليه السلام: لا بأس بذلك، ولكن لا يبيعهم مرابحة».

نعم، لو أخبر بالصورة جاز بيعه، ولكنّه ليس بيع مرابحةٍ ، وهو واضح وعلى كلّ حال، فلو باعه مرابحة فالبيع صحيح، وللمشتري الخيار، لما مرّ في ما لو أخبر برأس المال فانكشف كونه أقلّ .

أقول: إنّما الكلام في أنّه هل يستحقّ الدلّال شيئاً على التاجر أم لا؟ وعلى فرض الاستحقاق ما هو الذي يستحقّه ؟

أمّا الاستحقاق: فالظاهر أنّه لا إشكال فيه، لأنّ عمله محترم لا يذهب هدراً، ولم يفعله تبرّعاً، بل فعله بأمره.

وأمّا ما يستحقّه: فالمعروف أنّه لا يستحقّ الزائد من القيمة التي عيّنها التاجر، بل الزيادة أيضاً له، ضرورة فساد كونه إجارة وجُعالة للجهالة، مع أنّ الزيادة ببيع الدلّال انتقلت إلى التاجر باعتبار كونها عِوض ملكه، ولا مقتضى للانتقال عنه إلّاالقول الأوّل، وليس هو إلّاوعداً، ولا يجبُ الوفاء به، فلا يكون ناقلاً، بل يستحقّ اُجرة المثل.3.

ص: 237


1- وسائل الشيعة: ج 18/57 ح 23134، الكافي: ج 5/195 ح 3.

وفيه أوّلاً: أنّه يمكن أن يقال بأنّه جعالة، ودعوى بطلانها للجهالة - أي جهالة العوض - مندفعة: بأنّ الجهالة في المقام حيث لا تؤدّي إلى التنازع، إذا الواسطة إنْ زاد في الثمن كانت له مهما كانت الزيادة، وإلّا فلا شيء له، لأنّهما إنّما تراضيا على ذلك، فتأمّل.

وثانياً: أنّه حينئذٍ أمر بالعمل بعوض الذي هو نظير الإباحة بعوض معاملة عقلائيّة متداولة مستقلّة، ويستحقّ فيها العامل الاُجرة المسمّاة.

وثالثاً: أنّ الروايات تدلّ على ذلك:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام(1): «أنّه قال في رجل قال لرجل: بع ثوبي هذا بعشرة دراهم، فما فضل فهو لك ؟ قال عليه السلام: ليس به بأس».

ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام(2): «عن الرجل يعطى المتاع فيقال له: ما ازددتَ على كذا وكذا فهو لك ؟ قال عليه السلام: لا بأس به».

ونحوهما غيرهما.

أقول: ومن الغريب إيراد الحِلّي رحمه الله(3) على الاستدلال بهذه النصوص، بأنّه لا يستقيم على أُصول مذهبنا، إذ ليس بيع مرابحةٍ ولا إجارةٍ ولا جُعالةٍ محقّقة!

فإنّه يردّه أوّلاً: ما أفاده المصنّف في محكي «المختلف»(4) من أنّه تُحمل النصوص على الجعالة، وعدم مضريّة جهالة العوض فيها بمثل هذه الجهالة غير3.

ص: 238


1- وسائل الشيعة: ج 18/56 ح 23132، الكافي: ج 5/195 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 18/57 ح 23133، تهذيب الأحكام: ج 7/54 ح 32.
3- السرائر: ج 2/294.
4- مختلف الشيعة: ج 5/162 و 163.

المؤدّية إلى التنازع.

وثانياً: أنّ القواعد المشار إليها ليست بنحوٍ لا يقبل التخصيص، كي يردّ الأخبار الصحيحة لذلك. ولا يخفى أنّ النصوص وإن اختصّت بما لو قال التاجر للدلّال بذلك، إلّاأنّه يثبت فيما لو بدأ الدلّال بطلب التقويم أيضاً، لعدم الفرق بينهما.

ودعوى: أنّه في الصورة الأُولى جُعالة، وفي الثانية ليست كذلك، تتوقّف على مضريّة الإيجاب المتأخّر، قد مرّ الكلام فيه في أوّل كتاب البيع(1).

وعليه، فالأظهر عدم الفرق بين الصورتين، فماعن «المختلف»(2)، و «الدروس»(3)، و «جامع المقاصد»(4) من الفرق بينهما، وأنّ الزيادة في الصورة الأولى للدلّال، وفي الثانية للتاجر، وإنّما يستحقّ الدلّال اُجرة المثل لعمله - ضعيفٌ ، كما أنّ ما في «الشرائع»(5) وغيرها من استحقاقه اُجرة المثل لعمله مطلقاً، في غير محلّه.

ولو لم يتمّ ما ذكرناه، فالظاهر عدم استحقاق اُجرة المثل، إذ لم يذكروا له وجهاً سوى قاعدة الاحترام، وهي لا تصلح لإثبات الضمان، إذ مدركها:

إمّا قوله عليه السلام:(6) «لا يحلّ مال امريء مسلم إلّاعن طيبة نفسه».

أو قوله صلى الله عليه و آله:(7) «حرمة ماله كحرمة دمه».

أو قوله عليه السلام:(8) «لا يصلح ذهاب حقّ أحدٍ».2.

ص: 239


1- فقه الصادق: ج 23/26.
2- مختلف الشيعة: ج 5/162 و 163.
3- الدروس: ج 3/220.
4- جامع المقاصد: ج 4/259.
5- شرائع الإسلام: ج 2/296.
6- وسائل الشيعة: ج 5/120 ح 6091، تحف العقول: ص 30.
7- وسائل الشيعة: ج 12/297 ح 16349، من لا يحضره الفقيه: ج 4/418 ح 5913.
8- وسائل الشيعة: ج 19/309 ح 24669، الكافي: ج 7/4 ح 2.

وشيءٌ من ذلك لا يدلّ عليها، إذ الأوّلان ظاهران في الحكم التكليفي، بمعنى أنّه لا يُجبر المسلم على العمل، ولا على أخذ ماله منه، ولا يُقهر عليهما، ولا نظر لهما إلى الحكم الوضعي وهو الضمان.

والثالث يدلّ على عدم ذهاب الحقّ ، والكلام إنّما هو في ثبوته، والحكم لا يصلح لإثبات موضوعه، وتمام الكلام في ذلك في كتاب البيع.

ثمّ إنّه على ما اخترناه لو باعه بالقيمة المعيّنة لا يستحقّ الدلّال شيئاً، بخلافه على المسلك الآخر، فإنّه يستحقّ اُجرة المثل.

***

ص: 240

بيع التولية

الموضع الثاني: في بيع التولية، وهي على ما يستفاد من الأخبار، وصرّح به كثير من الأصحاب، عبارة عن أن يعطيه المتاع برأس ماله من غير زيادة، فيقول:

(ولّيتك أو بعتك)، أو ما شاكله من الألفاظ الدالّة على النقل الذي هو بيع، غاية الأمر إن وقع (بعتك) ونحوه من الألفاظ المعتبرة في مطلق البيع، أكمله بذكر الثمن، أو بما قام مقامه، وإن وقع بلفظ (ولّيتك)، جعل مفعوله العقد، واقتصر عليه كما في «المسالك»(1).

والدليل على مشروعيّته: - مضافاً إلى عمومات إمضاء البيع، وهي من مصاديقه، وصنفٌ خاصٌ من البيع - روايات خاصّة:

منها: صحيح منصور بن حازم، عن الإمام الصادق عليه السلام:(2) «إذا اشتريت متاعاً فيه كيل أو وزن فلا تبعه حتّى تقبضه إلّاأن توليه» الحديث.

ومنها: خبر معاوية، عنه عليه السلام(3): «عن الرجل يبيع البيع قبل أن يقبضه ؟

فقال: ما لم يكن كيل أو وزن فلا تبعه حتّى تكيله أو تزنه، إلّاأن توليه الذي قام عليه».

ونحوهما غيرهما من النصوص الكثيرة.

أقول: إنّما الكلام في مقام وجهات:

ص: 241


1- مسالك الأفهام: ج 3/313.
2- وسائل الشيعة: ج 18/65 ح 23153، تهذيب الأحكام: ج 7/35 ح 35.
3- وسائل الشيعة: ج 18/68 ح 23163، تهذيب الأحكام: ج 7/35 ح 34.

الجهة الاُولى: لا إشكال في وقوع العقد بلفظ (التولية) التي من مشتقّاتها (الولي)، بمعنى المالك المتصرّف، وهي ليست إلّاالبيع برأس المال، فهذا اللّفظ مبرز عرفاً للمعاملة الخاصّة، فيصحّ الإنشاء به.

وبهذا التقريب يندفع النقص بالمرابحة، حيث ذكروا أنّه لا يصحّ إنشاء العقد به وإن كان قد مرّ ما فيه.

الجهة الثانية: إذا أنشأ البائع عقده بلفظ (التولية) من دون ذكر مفعولٍ لها، فقد عرفت صحّتها كما نصّ عليه المصنّف رحمه الله(1) في جملةٍ من كتبه، غاية الأمر لابدّ وأن يعلما بالثمن، كما أنّه لو جعل مفعولها العقد صحت بلا كلام، فلو جعل مفعولها السلعة، فقد احتمل صاحب «المسالك»(2) الإجزاء.

أقول: والحقّ هو البناء على الصحّة، كما نصّ عليه في «الجواهر»(3)، قال:

(بل في كثير من نصوصها وقعت مفعولاً للتولية، وإنْ لم تكن في صورة العقد، بل لا إشعار في شيء من النصوص بجعل المفعول العقد، فجعل المفعول السلعة إنْ لم يكن أولى من كون المفعول العقد في الاستغناء عن الثمن، فلا ريب في مساواته له، بل لا يبعد الاستغناء عنه لو قال: بعتك السلعة تولية) انتهى .

الجهة الثالثة: عن «القواعد» و «التذكرة» الاجتزاء بلفظ (بعتك) مع قصد التولية، وإنْ لم يذكر لفظها، وهو جيّد إذا أخبر قبل البيع برأس المال، وبنيا على المعاملة كذلك، إذ ليست التولية إلّاذلك.8.

ص: 242


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/545 (ط. ق).
2- مسالك الأفهام: ج 3/314.
3- جواهر الكلام: ج 23/328.

الجهة الرابعة: قال صاحب «الجواهر»:(1) (وكيف كان، فهي بيع يلحقها أحكامه من الشُّفعة، والقدرة على التسليم، وغيرهما، كما أنّه يلحقها الخيار المزبور في المرابحة لو كذب برأس المال، على ما صرّح به في «التذكرة» لاتّحاد الطريق، والزوائد المتّصلة قبل التولية للمولي، وبعدها للمولى بالفتح) انتهى .

والحاصل: أنّها بيعٌ فيلحقها ما لمطلق البيع من الأحكام والقيود، ونظير المرابحة في الاحكام المختصة بها، لاتّحاد الطريق.

الجهة الخامسة: الظاهر أنّه ليس للتولية حكماً يختصّ بها، سوى ما ذكروه من حرمة بيع المكيل والموزون قبل قبضه إلّاتوليةً ، فإنّها لا تحرم، والمدرك هي النصوص الخاصّة:

منها: صحيح منصور المتقدّم، وقد مرّ الكلام فيه في آخر أحكام القبض.

***9.

ص: 243


1- جواهر الكلام: ج 23/329.

المواضعة

الموضع الثالث: في المواضعة، وهي مفاعلة من الوضع بمعنى الحَطّ، ولا ريب في جوازها.

ففي «الحدائق»:(1) (وهي كالمرابحة في الإخبار بالثمن ونحوه ممّا زاد أو نقص حسبما تقدّم، إلّاأنّها بنقيصة معلومة، فيقول: بعتك بما اشتريته، أو تقوّم عليَّ ووضيعةً كذا) انتهى .

ولا ريب في جوازها ومشروعيّتها، واتّفاق الأصحاب عليه، والعمومات كافية للدلالة على ذلك ولا حاجة إلى النّص خاص، لكن قال صاحب «الجواهر»(2):

(إلّا أنّه قيل بكراهة النسبة إلى رأس المال نحو ما سمعته في المرابحة، والتسامح فيها يقتضي بالتسامح في البحث عنها) انتهى .

أقول: أمّا كراهة المرابحة، فهي كما عرفت يشهد بها النصوص الخاصّة، وليست هي في المواضعة، كما أنّ ما دلَّ على أفضلية المساومة لا يدلّ على كراهتها بالضرورة، وما ذكروه في المرابحة من تعليل الكراهة بعدم السلامة من الإخبار بالكذب، إنّما هو حِكمة للحكم، والا فلا يصلح جعله مدركاً للحكم الشرعي.

وأمّا قاعدة التسامح: فهي مختصّة بالمستحبّات، ولا تعمّ المكروهات، وعلى فرض الشمول مختصّة بما إذا ورد خبرٌ ضعيفٌ دالّ على الحكم غير الإلزامي، ولا ربط لها بمثل المقام.

ص: 244


1- الحدائق الناضرة: ج 19/202.
2- جواهر الكلام: ج 23/330.

وعليه، فالأظهر عدم الكراهة.

نعم، أفضليّة المساومة لا كلام فيها، وقد مرّ ما يدلّ عليها.

ولا يهمّنا البحث في أنّه لو قال: (بعتك بمائة ووضيعةً درهمٌ من كلّ عشرة)، فهل الثمن:

تسعون، لأنّ الوضع من نفس العشرة يقتضي ذلك حملا ل (من) على الظاهر من التبعيض.

أو الثمن واحداً وتسعين إلّاجزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم حملا ل (من) على ابتداء الغاية، فيكون التقدير من كلّ عشرة يُسلّم لي ؟

بعد كون الميزان في هذا الباب قصد المتعاملين، مع الإتيان بمبرزٍ عرفي لما قصداه، وعليه فإعمال هذه التدقيقات في غير محلّه.

***

ص: 245

الإقالة

الأمر الثاني: في الإقالة، وقد اشتهر في كلمات المتأخّرين مِنْ ذكرها من مقاصد السَّلف، ولنعم ما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله(1) حيث قال:

(جَعْل الإقالة من مقاصد السَّلف غير حسنٍ ، فإنّها لا تختصّ به بل ولا بباب البيع، لجريانها في سائر العقود المتقوّمة من الجانبين بالمال، فكان الأولى جعلها قسماً برأسه بعنوانٍ خاص، كالتتمة لباب البيع، حيث إنّه الركن الأعظم لمتعلّقها) انتهى .

وكيف كان، فيمكن أن يستدلّ لمشروعيّتها بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ التقايل من العقود، فتشمله الأدلّة العامّة والخاصّة.

توضيحه: أنّ موضع تلك الأدلّة هو (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (2) و (العقد)، و (التصرّف في ماله) وجميع هذه تصدق على الإقالة، فإنّ حَلّ العقد بالتراضي بعد كونه أمراً اعتباريّاً، وكلٍّ من الطرفين يلتزم بعود ما انتقل إليه إلى صاحبه، ويربط التزامه بالتزام الآخر، يصدق عليه العقد، ومجرّد التعبير ب (حَلّ العقد) لا ينافي ذلك، وحيث إنّه يوجبُ صيرورة كلّ من العوضين مِلكاً لمالكه الأوّل، فيصدق عليه التجارة، والمفروض أنّه يدلّ دليل السلطنة على نفوذ التصرّفات المتعلّقة به كالبيع وغيره، فهو أيضاً دالّ على صحّة الإقالة.

الوجه الثاني: أنّ حقيقة المعاقدة متقوّمة بالتزام الطرفين، فمع رفع اليد عنه لا معاهدة، فتأمّل.

ص: 246


1- مسالك الأفهام: ج 3/436.
2- سورة النساء: الآية 29.

الوجه الثالث: النصوص الخاصّة:

منها: خبر ابن حمزة، عن الإمام الصادق عليه السلام(1): «أيّما عبدٍ أقال مسلماً في بيعٍ ، أقاله اللّه عثرته يوم القيامة».

ومنها: مرسل الصدوق، عنه عليه السلام(2): «أيّما مسلمٍ أقال مسلماً ندامةً في البيع، أقاله اللّه عزّ وجلّ عثرته يوم القيامة».

ومنها: معتبر سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(3): «أربعة ينظر اللّه إليهم يوم القيامة:

مَن أقال نادماً، أو أغاث لهفان، أو أعتق نسمة، أو زوّج عزباً».

ومنها: مرسل الجعفري، عن بعض أهل بيته(4): «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لم يأذن لحكيم بن حزام في تجارته حتّى ضمن له إقالة النادم، وإنظار المُعسر، وأخذ الحقّ وافياً أو غير وافٍ ».

ونحوها غيرها.

وبعض هذه النصوص وإنْ كان ضعيف السند، إلّاأنّ في غيره كفاية، كما أنّ بعضها وإن اختصّ بالبيع، إلّاأنّ معتبر سماعة وغيره من الأخبار مطلقة شاملة لغيره، وحيث إنّه في المثبتين لا يُحمل المطلق على المقيّد، فلا مورد لتوهّم الاختصاص بالبيع.

فإنْ قيل: إن ما يكون من النصوص غير مختصّ بباب البيع، لا يكون في مقام4.

ص: 247


1- وسائل الشيعة: ج 17/386 ح 22806، تهذيب الأحكام: ج 7/8 ح 26.
2- وسائل الشيعة: ج 17/386 ح 22806، من لا يحضره الفقيه: ج 3/196 ح 3738.
3- وسائل الشيعة: ج 17/387 ح 22809، الخصال: ج 1/224 ح 55.
4- وسائل الشيعة: ج 17/385 ح 22805، الكافي: ج 5/151 ح 4.

بيان المشروعيّة، بل متضمّنٌ لترتّب الثواب على الإقالة المشروعة، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقه.

أجنبنا عنه: بأنّ بيان الحكم ربما يكون ببيانه بالمطابقة، وربما يكون ببيان لازمه، وهو ترتّب الثواب أو العقاب، وفي المقام إنّما يكون بالنحو الثاني، وعليه فمنع إطلاقه في غير محلّه.

ثمّ إنّ الظاهر جريان المعاطاة فيها، لما ذكرناه في ذلك المبحث.

ثمّ إنّ الإقالة إنّما تكون فسخاً في حقّ المتعاقدين أو ورثتهم - بناءاً على قيامهم مقامهما في ذلك، كما صرّح به في محكي «التذكرة»(1) وغيرهما كالشفيع - لا بيعٌ كما عن بعض العامّة(2)، حيث زعم أنّها بيع، ويشير إلى ذلك خبر الطحّان.

ويصحّ إنشائها بكلّ لفظٍ ظاهر فيها، ولو مع القرينة كما في البيع، وبالفعل.

أقول: وتمام الكلام في طيّ فروع:

الإقالة بشرط الزيادة أو النقصان

الفرع الأوّل: لا تجوز الإقالة بزيادةٍ عن الثمن ولا نقصان، بلا خلافٍ ، إلّاما حكاه الشهيد رحمه الله(3) عن الإسكافي، قال: (ولو اصطلح المتبايعان بزيادةٍ أو نقيصةٍ صَحّ عند ابن الجنيد، والأصحاب على خلافه).

أقول: وملخّص القول فيه:

ص: 248


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/579 (ط. ق).
2- كما قاله بعض الشافعيّة (نقلاً عن التذكرة: ج 1/579 (ط. ق).
3- الدروس: ج 3/332.

إنّه تارةً : تكون الإقالة بزيادة أو نقصان بحيث يُنشئ ردّ الثمن مع الزيادة أو النقصان بإزاء ردّ المثمن.

واُخرى : يذكر الزيادة أو النقصان بصورة الشرط الذي هو مملّك بنفسه.

أمّا الأوّل: فالظاهر بطلانها، لما عرفت من أنّ الإقالة فسخ للعقد وحَلّ له لا بيعٌ ولا غيره من المعاوضات، ولازم حَلّ العقد رجوع المبيع إلى البائع، والثمن إلى المشتري، وعلى ذلك فالزيادة المفروضة لا مملّك لها، كما أنّه في صورة الإقالة بالنقصان يعود تمام الثمن إلى المشتري، فلا مملّك لما بقي من الثمن بالنسبة إلى المالك، وإلى ذلك يشير صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام(1):

«عن رجل اشترى ثوباً ولم يشترط على صاحبه شيئاً فكرهه، ثمّ رَدّه على صاحبه، فأبى أن يقيله إلّابوضيعة ؟

قال عليه السلام: لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإنْ جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه رَدّ على صاحبه الأوّل ما زاد».

فإنّه يدلّ على فساد الإقالة، وبقاء الثوب على ملك المشتري.

أمّا الثاني: وهو ما إذا كان بصورة الاشتراط، فالمعروف بينهم بطلان الشرط والإقالة، وعليه فالكلام في موردين:

المورد الأوّل: في بطلان الشرط.

أقول: قد استدلّ له في «المسالك»(2) وغيرها(3) بأنّه: (إذا شرط فيها زيادةٌ أو6.

ص: 249


1- وسائل الشيعة: ج 18/71 ح 23177، الكافي: ج 5/195 ح 1.
2- مسالك الأفهام: ج 3/437.
3- المبسوط: ج 2/186.

نقصان في أحد العوضين، فقد شرط فيها ما يخالف مقتضاها، فيفسد الشرط).

وفيه: أنّ مقتضي الإقالة رجوع كلّ من العوضين إلى مالكه الأوّل، لا بقائه في ملكه إلى الأبد، والشرط إنّما يكون مملّكاً للمقدار الناقص مثلاً من مالكه الأوّل إلى المالك الثاني، فهو لو لم يؤكّد مقتضى الإقالة نظراً إلى أنّ لازمه رجوع الثمن بتمامه إلى مالكه، ومنه إلى المالك الثاني، لا يكون مخالفاً له.

وربما يستدلّ : بأنّ فائدة الشرط التسلّط على فسخ العقد الذي قد اشترط فيه إنْ لم يوفّ بالشرط، ولذا قيل إنّ الشرائط في العقود اللّازمة إنّما هي للزومها، بل قيل إنّ فائدتها قلب اللّازم جائزاً من أوّل الأمر، وعلى كلّ حالٍ فهو غير صحيح في الإقالة، لعدم معهوديّة تزلزل الفسخ.

وفيه أوّلاً: أنّ ذلك لو تمّ فإنّما هو في شرط الفعل دون شرط النتيجة، كما هو المفروض في المقام.

وثانياً: بعد ما عرفت من أنّ الإقالة أيضاً التزام بحلّ العقد الأوّل، ولذا بنينا على شمول العقد لها، فما المانع من كونها فسخاً متزلزلاً؟ بمعنى أنّه لو يعمل بالشرط يكون لمن له الشرط فسخ الإقالة، فتصير كأن لم تكن من الأوّل.

وثالثاً: نمنع انحصار فائدة الشرط في ذلك، إذ لا مانع من كونه حينئذٍ كالشرط في الوقف ونحوه ممّا لا يتسلّط المشترط له على الفسخ.

وعليه فالحقّ أنّه لولا الإجماع التعبّدي كان الأظهر صحّة الشرط.

المورد الثاني: في بطلان الإقالة.

أقول: قد استدلّ له في «المسالك»(1) - بعد البناء على بطلان الشرط - بقوله:7.

ص: 250


1- مسالك الأفهام: ج 3/437.

(ويترتّب عليه فسادها، كما في كلّ شرطٍ فاسد، لأنّهما لم يتراضيا على الفسخ إلّا على ذلك الوجه، ولم يحصل).

ولعلّه إلى ذلك نظر المحقّق في «الشرائع»(1) حيث قال: (وتبطل الإقالة بذلك، لفوات الشرط).

وفيه: ما حُقّق في مبحث الشروط(2) من أنّ الشرط لكونه خارجاً عن العقد الذي في ضمنه، لا يكون فساده موجباً لفساد العقد.

فإنْ قيل: لعلّ نظر العَلَمين الى أنّ هذا الشرط لكونه مخالفاً لمقتضى العقد، لا محالة يكون فساده موجباً لفساد العقد، لعوده عليه بالنقض.

أجبنا عنه: بأنّ هذا الشرط غير منافٍ لمقتضى العقد.

أقول: وربما يستدلّ له بالصحيح المتقدّم المتمّم بعدم القول بالفصل.

وفيه: أنّ الظاهر من الصحيح بقرينة لفظ (الباء) الاختصاص بالصورة الأُولى، وعدم الشمول لما إذا كانت الزيادة أو النقصان بصورة الشرط الخارج عن الإقالة.

فالأظهر صحّة الإقالة أيضاً، وبماذكرناه يظهرصحّة شرط الخيار في الإقالة أيضاً.

الإقالة في بعض العقد

الفرع الثاني: المشهور بين الأصحاب أنّه تصحّ الإقالة في بعض العقد، سَلَماً كان أو غيره، بل لم يُنقل الخلاف إلّاعن ابن المتوّج(3).

استدلّ للصحّة: بإطلاق أدلّة الإقالة من العمومات والروايات الخاصّة.

ص: 251


1- شرائع الإسلام: ج 2/323.
2- فقه الصادق: ج 26/268.
3- حكاه صاحب الجواهر عن حواشي الشهيد: ج 24/356.

واستدلّ للعدم:

1 - بأنّ عمدة مدرك مشروعيّة الإقالة هي الإجماع والنصوص التي لا إطلاق لها، لكونها في مقام بيان أُمور أُخر، والمتيقّن منهما الفسخ في الجميع.

2 - وبانصراف النصوص إلى الفسخ في الجميع.

3 - وبأنّ الالتزام العقدي بسيط غير قابل للتبعيض، فإمّا أن ينحلّ أو يبقى.

أقول: وفي الجميع نظر.

أمّا الأوّل: فلما مرّ من أنّ مدرك مشروعيّة الإقالة هي العمومات والأخبار التي فيها ما هو قويّ السند ومطلق.

وأمّا الثاني: وهو ممنوع.

وأمّا الثالث: فلأنّ بقاء الالتزام العقدي اعتباري، والاعتبار خفيف المؤونة، فيمكن اعتبار بقاء البعض دون البعض.

وعليه، فالأظهر جواز الإقالة في البعض.

وإنْ شئت فقل: إنّها معاملة مستقلّة، فيمكن أن تتعلّق بالبعض بمثل ما تتعلّق بالكلّ .

أقول: واستدلّ لعدم جواز الإقالة في بعض السَّلم، بما تضمّن نهي النبيّ صلى الله عليه و آله(1)عن البيع والسَّلف في بيعٍ واحد، ولو أقال في بعض السَّلم، يصير حينئذٍ بيعاً وسَلَماً.

وفيه: ما تقدّم من إجمال النّص، مع أنّه عرفت أنّ الإقالة ليست بيعاً، وعليه فالأظهر جواز الإقالة في بعض السَّلَم أيضاً.5.

ص: 252


1- وسائل الشيعة: ج 18/38 ح 23085، تهذيب الأحكام: ج 7/230 ح 25.

الفرع الثالث: بعدما عرفت من أنّ الإقالة ليست بيعاً، فلا يجري عليها أحكام البيع، فلا يثبت الشُّفعة بالإقالة، ولا خيار مجلس، ولا غيره.

الفرع الرابع: إذا تقايلا رَجَع كلّ عوضٍ إلى مالكه، لإنفساخ العقد، فإنْ كان موجوداً، وإلّا ضمن بمثله أو قيمته على التفصيل المتقدّم في الخيار.

والكلام في النماءات، وفي أنّ المدار على فرض التلف على قيمة أي يوم، هو الكلام في الخيار، فلا حاجة إلى الإعادة.

***

ص: 253

الفصل الثالث عشر: في الشُّفعة

إذا باع أحد الشريكين حصّته في مِلْكه، كان للآخر الشُّفعة بشروط:

الفصل الثالث عشر: في الشّفعة

اشارة

وهي عبارة عن استحقاق أحد الشريكين حصّة شريكه بسبب انتقالها بالبيع.

أقول: والأصل في شرعيّتها - بعد الإجماع الُمحقَّق والمحكيّ مستفيضاً النصوص المتواترة التي ستمرّ عليك جملة منها في ضمن المسائل الآتية، وعليه فلا إشكال في أنّه (إذا باع أحد الشريكين حصّته في مِلكه، كان للآخر الشُّفعة) غاية الأمر (بشروط).

وتنقيح القول فيه في مقامات:

ما تثبت فيه الشُّفعة

المقام الأوّل: فيما تثبت فيه الشُّفعة.

لا خلاف بين الأصحاب - كما نقله غير واحدٍ - في ثبوتها في العقار الثابت القابل للقسمة، كالأراضي والبساتين والمساكن والدور والحوانيت والعمارات.

وفي «الشرائع»(1)، و «النافع»(2)، و «المسالك»(3) وغيرها الإجماع عليه.

ص: 254


1- شرائع الإسلام: ج 4/776.
2- المختصر النافع: ص 249.
3- مسالك الأفهام: ج 12/261.

أنْ يكون المِلْك ممّا يصحّ قسمته

وفي «الجواهر»:(1) (عليه الإجماع بقسميه، بل المحكيّ منهما مستفيض أو متواتر، كالنصوص من الطرفين).

وإنّما الخلاف في غير ذلك من الأموال، وفيه أقوال كثيرة، ذهب أكثر المتقدّمين وجماعة من المتأخّرين؛ منهم الشيخان(2) وابن الجنيد(3)، وأبو الصلاح(4)، وابن إدريس(5) إلى ثبوتها في كلّ مبيعٍ منقولاً كان أم لا، قابلاً للقسمة أم لا، وقيّده آخرون ب (أن يكون المِلْك ممّا يصحّ قسمته).

وعن جماعةٍ وهم أكثر المتأخّرين(6): اختصاصها بغير المنقول عادةً ، ممّا يقبل القسمة.

أقول: ومنشأ الاختلاف اختلاف النصوص، وتنقيح القول عنه يتحقّق بالبحث في موردين:

أحدهما: في اختصاصها بغير المنقول وعدمه.

الثاني: في أنّه هل تختصّ الشُّفعة بما يصحّ قسمته، أم تعمّ غيره ؟

أمّا المورد الأوّل: فيشهد لثبوتها في كلّ مبيعٍ ، منقولاً كان أو غير منقول، الخبر3.

ص: 255


1- جواهر الكلام: ج 37/241.
2- النهاية: ص 423، المقنعة: ص 617.
3- مختلف الشيعة: ج 5/326.
4- الكافي للحلبي: ص 362.
5- السرائر: ج 2/388.
6- جامع المقاصد: ج 6/353.

المرسل الذي رواه يونس عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1):

«عن الشُّفعة لمَن هي، وفي أيّ شيء هي، ولمن تصلح، وهل تكون في الحيوان شفعة، وكيف هي ؟

فقال عليه السلام: الشُّفعة جائزة في كلّ شيء؛ من حيوانٍ أو أرضٍ أو متاعٍ ، إذا كان الشيء بين شريكين لا غيرهما، فباع أحدهما نصيبه، فشريكه أحقّ به من غيره، وإن زاد على الاثنين فلا شفعة لأحدٍ منهم».

ورواه الصدوق مرسلاً، إلّاأنّه قال: «الشُّفعة واجبة».

وهذا الخبر دلالته واضحة، وسنده قويّ على الأظهر، إذ لا موهم لعدم اعتباره سوى إرساله، ووجود محمّد بن عيسى بن عبيد في طريقه، وشيءٌ منهما لا يوجب وهناً فيه.

أمّا إرساله، فلأنّ المُرسِل ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه.

وأمّا محمّد، فلأنّه وإن ضعّفه جماعة، إلّاأنّ الظاهر أنّ منشأ تضعيف هؤلاء تضعيف الصدوق، وهو حكم عليه بالضعف تبعاً لتضعيف ابن الوليد إيّاه، كما صرّح به مراراً، وتضعيف ابن الوليد إنّما هو لكون اعتقاده أنّه يعتبر في الإجازة أن يقرأ على الشيخ أو يقرأ الشيخ عليه، ويكون السامع فاهماً لما يرويه، وكان لا يرى في الإجازة المشهورة بأن يقول: (أجزتُ لك أن تروي عنّي) اعتباراً، وكان محمّد بن عيسى صغير السّن، ولا يعتمدون على فهمه عند القراءة، ولا على إجازة يونس له، ولكنّه كما ترى ، ولذا قال النجاشي: (وذكر أبو جعفر ابن بابويه عن ابن الوليد أنّه8.

ص: 256


1- وسائل الشيعة: ج 25/402 ح 32223، الكافي: ج 5/281 ح 8.

قال: ما تفرّد به محمّد بن عيسى من كتب يونس وحديثه لا يُعتمد عليه، ورأيتُ أصحابنا ينكرون هذا، ويقولون: من مثل أبي جعفر محمّد بن عيسى سَكَن بغداد، مع أنّ جماعة من أئمّة الفنّ وثّقوه، فلا إشكال في سند الخبر).

أضف إلى ذلك كلّه: أنّ العمل به مشهورٌ بين القدماء، والشهرة بين متقدِّمي أصحابنا توجبُ جَبر وهن الخبر لو كان، وعليه فالخبر من حيث السند معتبر، ومن حيث الدلالة صريحٌ في المطلوب، فلا توقّف في الحكم، ويعضده النصوص الدالّة على ثبوت الشُّفعة في المملوك:

منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1): «أنّه قال: في المملوك يكون بين شركاء فيبيع أحدهم نصيبه، فيقول صاحبه: أنا أحقّ به ألَهُ ذلك ؟ قال عليه السلام: نعم إذا كان واحداً».

ومثله صحيح ابن سنان عنه عليه السلام.

أقول: وأمّا ما ورد في ذيل الصحيح الأوّل: «قيل له في الحيوان شفعة ؟ قال عليه السلام:

لا»، ومثله خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(2): «ليس في الحيوان شفعة».

فمحمولان على عدم ثبوت الشُّفعة في الحيوان، مع تعدّد الشركاء، بقرينة ما رواه الصدوق، بإسناده عن البزنطي، عن ابن سنان عنه عليه السلام(1) في حديثٍ ، أنّه قال:

«لا شفعة في الحيوان إلّاأن يكون الشريك فيه واحداً».

ولعدم قول أحد من الأصحاب بالتفصيل بين المملوك الإنسيّ والحيوان في ذلك، إلّاما عن مختلف المصنّف رحمه الله.8.

ص: 257


1- وسائل الشيعة: ج 25/404 ح 32228، من لا يحضره الفقيه: ج 3/80 ح 3378.

وأيضاً يعضده: حسن هارون بن حمزة الغَنَوي، عن أبي عبداللّه عليه السلام(1): «عن الشُّفعة في الدور أشيءٌ واجبٌ للشريك، ويعرض على الجار فهو أحقّ بها من غيره ؟

فقال عليه السلام: الشُّفعة في البيوع إذا كان شريكاً فهو أحقّ بها بالثمن».

بناءً على كون العبارة كما ذكر، ولكن قد ذكر في بعض النسخ (في البيوت) بدل (في البيوع).

أقول: قد استدلّ لاختصاصها بغير المنقول:

1 - بأصالة عدم التسلّط على مال الغير إلّابطيبة نفسه، خرج منها المجمع عليه، وبقي الباقي.

2 - وبما دلَّ على نفيها عن الحيوان والسفينة والطريق.

3 - وبخبر جابر عن النبيّ صلى الله عليه و آله:(2) «لا شفعة إلّافي رِبع أو حائط».

4 - وبالنصوص الآتية الدالّة على اختصاص الشُّفعة بما لم يُقسّم، بدعوى ظهورها في كون مورد الشُّفعة هو القابل للقسمة، بخلاف الحيوان ونحوه، بل ذكر كلمة (الأرف) التي هي علامة الحدود في بعضها في قسمة الأراضي، مشعرٌ بأنّ موردها خصوص الأراضي.

5 - وبمرسل الكليني(3)، قال: «ورُوي أيضاً أنّ الشُّفعة لا تكون إلّافي الأرضين والدور فقط».

6 - وبخبر عقبة بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(4): «قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله4.

ص: 258


1- وسائل الشيعة: ج 25/395 ح 32205، الكافي: ج 5/281 ح 5.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/101 ح 20865، عوالي اللآلئ: ج 3/476 ح 4.
3- وسائل الشيعة: ج 25/405 ح 32230، الكافي: ج 5/281 ح 8.
4- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32217، الكافي: ج 5/280 ح 4.

بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار. وقال: إذا أرّفت الأُرف، وحدّت الحدود فلا شفعة».

قال المصنّف في محكي «المختلف» بعد نقل الخبر(1): (وهو يدلّ بمفهومه على انتفاء الشُّفعة في غير الأرضين والمساكن، أمّا أوّلاً فلتعليق الحكم عليهما، وأمّا ثانياً:

فلقوله عليه السلام(2): لا ضرر ولا ضرار).

أقول: ولكن الجميع كما ترى:

أمّا الأوّل: فلأنّه يجبُ الخروج عن الأصل بالدليل، وقد تقدّم.

وأمّا الثاني: فلما عرفت من عدم نفيها عن الحيوان، وأمّا نفيها عن السفينة والطريق فسيأتي الكلام فيه.

وأمّا الثالث: فلأنّه مرسلٌ لا يُعتمد عليه.

وأمّا الرابع: فمضافاً إلى ما سيأتي من عدم الاختصاص بما لا ينقسم، أنّ قابليّة القسمة أعمٌّ من وجه من المنقول.

وأمّا الخامس: فلضعفه بالإرسال.

وأمّا السادس: - فمضافاً إلى ضعفه بمحمد بن عبد اللّه بن هلال المهمل - أنّه لايدلّ على الاختصاص، لأنّ تعليق الحكم عليهما لا يدلّ على نفيه عن غيرهما، إلّا على القول بمفهوم الوصف، وأمّا التعليل، فالظاهر أنّه للحكم بثبوت الشُّفعة فيهما، لا لنفيه عمّا عداهما.

وعليه، فالمراد بالضرر هو الضَّرر الذي انيط به وجه الحِكمة في ثبوت الشُّفعة، لا ضرر نفي سلطنة المالك عمّا مَلِكه، كما فسّره المصنّف رحمه الله.4.

ص: 259


1- مختلف الشيعة: ج 5/328.
2- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32217، الكافي: ج 5/280 ح 4.

وبالجملة: فالرواية حجّة بعمومها المستفاد من التعليل فيها، لما عليه أكثر القدماء، كما أفاده سيّد «الرياض»(1).

وبذلك يثبت أنّ الأظهر ثبوت الشُّفعة في كلّ مبيع.

ثبوت الشُّفعة فيما لا ينقسم

وأمّا المورد الثاني: فعن جماعةٍ من قدماء الطائفة ثبوت الشُّفعة فيما لا يقبل القسمة أيضاً، كالعضايد والدكاكين والحمّامات المضيقة والنهر والطريق الضيّق وما شاكل، ومال إليه الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(1)، وجَمعٌ ممّن تبعه، وقوّاه سيّد «الرياض»(3).

وعن الشيخ(2)، وسلّار(3)، وابني حمزة(4)، والبرّاج(5)، والمصنّف رحمه الله(6)، والمحقّق(7)، والفخر(8) والشهيد(9): أنّها لا تثبتُ فيه، وفي «المسالك»:(10) (أنّه المشهور، خصوصاً بين المتأخّرين)، وعن «التذكرة»(11) نسبته إلى أكثر علمائنا، وإن

ص: 260


1- مسالك الأفهام: ج 12/265 و 266.
2- النهاية: ص 423.
3- المراسم العلويّة: ص 183 و 184.
4- الوسيلة: ص 258.
5- المهذّب: ج 1/458.
6- قواعد الأحكام: ج 2/242.
7- شرائع الإسلام: ج 4/776.
8- إيضاح الفوائد: ج 2/198.
9- الدروس: ج 3/356 و 357.
10- مسالك الأفهام: ج 12/256.
11- تذكرة الفقهاء: ج 1/589 (ط. ق).

قال صاحب «الحدائق»(1): (إنّ الشهرة إنّما وقعت بعد العلّامة».

وجه الأوّل: إطلاق الأدلّة.

واستدلّ للثاني:

1 - بخبر السكوني، عن أبي عبداللّه عليه السلام(2) قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لا شفعة في سفينةٍ ولا في نهرٍ ولا في طريقٍ ».

وليس المراد الواسعين اتّفاقاً، فيكون المراد الضيقين.

وخبره الآخر نحوه، وزاد: «ولا في رحَي ولا في حمام».

2 - وبخبر طلحة بن زيد، عن مولانا الصادق عليه السلام(3)، عن أبيه عليه السلام:

«أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قضى بالشفعة ما لم تؤرّف، يعني تقسّم».

ومثله خبر جابر(4): «إنّما جَعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله الشُّفعة في كلّ ما لم تُقسّم».

باعتبار أنّ حرف (لم) لا تدخل إلّاعلى ما يمكن قسمته، ويصحّ اتّصافه بها ولو وقتاً، ولذا لا يصحّ أن يقال: (السيف لم تقسّم)، وإن صَحّ : (لا يقسّم) فالنفيّ بها حينئذٍ بمعنى عدم الملكة، لا بمعنى السلب.

3 - وبالأخبار الدالّة على اختصاص الشُّفعة بما لم يقسّم:

منها: مرسل جميل، عن أحدهما عليهما السلام(5): «الشُّفعة لكلّ شريكٍ لم يقاسم».

ونحوه غيره، باعتبار ظهور (يقاسمه) و (لا يقاسمه) في ذلك.1.

ص: 261


1- الحدائق الناضرة: ج 20/306.
2- وسائل الشيعة: ج 25/404 ح 32229، الكافي: ج 5/282 ح 11.
3- وسائل الشيعة: ج 25/398 ح 32213، من لا يحضره الفقيه: ج 3/76 ح 3367.
4- عوالي اللآلي: ج 1/58 ح 87 ولم نعثر عليه في غيره.
5- وسائل الشيعة: ج 25/396 ح 32208، الكافي: ج 5/280 ح 1.

4 - وبأنّ غرض الشارع من الشُّفعة إزالة ضرر المالك بالقسمة لو أرادها المشتري، وهذا الضَّرر منتفٍ فيما لا يُقسّم، فلا حاجة لوضع الشُّفعة.

5 - وبأصالة بقاء الملك على مالكه، وإثبات الشُّفعة مخالفٌ له، فيفتقر إلى دليل.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّه يعارضهما حسن منصور بن حازم(1)، قال:

«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: دارٌ بين قوم اقتسموها، فأخذ كلّ واحدٍ منهم قطعة وبناها وتركوا بينهم مساحة فيها ممرّهم، فجاء رجلٌ فاشترى نصيب بعضهم، ألَهُ ذلك ؟

قال عليه السلام: نعم، ولكن يسدّ بابه، ويفتح باباً إلى الطريق، أو ينزل من فوق البيت ويسدّ بابه، فإن أراد صاحب الطريق بيعه فإنّهم أحقّ به، وإلّا فهو طريقه يجيء حتّى يجلس ذلك الباب».

ونحوه الموثّق الآتي.

فإنْ قيل: إنّه مختصٌّ بالطريق.

قلنا: لا يضرّ ذلك بعد الإجماع المركّب على العموم، وبناء الاستدلال بالخبرين على ذلك.

ويرد على الثاني أوّلاً: بمنع ظهور (لم تقسّم) في عدم الملكة.

وثانياً: أنّ ما يدلّ على الاختصاص بذلك هو النبويّ الضعيف، وخبر طلحة لا يدلّ على الاختصاص، إلّاعلى القول بمفهوم الوصف، مضافاً إلى ضعف سنده.

وعلى الثالث: أنّه لا إشكال في ظهور (يقاسمه) في ذلك، إلّاأنّ الكلام في اختصاص الشُّفعة بما يقبل القسمة، فلو كانت أدلّة الشُّفعة مختصّة بهذه النصوص9.

ص: 262


1- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32215، الكافي: ج 5/281 ح 9.

وأمثالها لقلنا بالاختصاص، وكذا لو كان لها مفهوم تدلّ به على الاختصاص، ولكن الإطلاقات موجودة، وهذه الأخبار لا مفهوم لها.

وعلى الرابع: أنّه لم يُذكر الضّرر علّة لهذا الحكم في شيء من الأخبار، نعم خبر علي بن عقبة مشعرٌ بذلك، مع أنّ متعلّق الضَّرر فيه غير معلوم، ومن المتحمل أن يكون هو سوء الشريك، أو نفس الشركة الجديدة، بل قد يقال إنّ هذا أظهر ممّا ذكر في الاستدلال، ولذا استدلّ السيّد المرتضى قدس سره(1) وتبعه غيره، بهذا الوجه لثبوت الشُّفعة في المسألة، قائلين بأنّ المقتضي لثبوت الشُّفعة - وهو إزالة الضَّرر عن الشريك - قائمٌ في غير المقسوم، بل هو أقوى، لأنّ المقسوم يمكن التخلّص من ضرر الشريك بالقسمة، بخلاف غيره.

وعلى الخامس: أنّ الأصل لا يرجع إليه مع الدليل.

وبالجملة: فالمتحصّل ممّا ذكرناه هو ثبوت الشُّفعة فيما لا يقبل القسمة.

***9.

ص: 263


1- الانتصار: ص 448 و 449.

وأن ينتقل الحصّة بالبيع

اعتبار انتقال الحصّة بالبيع

المقام الثاني: في الشرائط المعتبرة في ثبوتها (و) هي أُمور:

الأمر الأوّل: (أن ينتقل الحصّة بالبيع) فلا تثبت لو انتقلت بهبةٍ أو صلحٍ أو صداقٍ أو صدقةٍ أو إقرارٍ، كما هو المشهور، وعن غير واحدٍ الإجماع عليه.

وفي «الجواهر»:(1) (ولعلّه كذلك، لأنّ خلاف ابن الجنيد في ذلك حيث أثبتها في الهبة بعوض وغيره، غير قادحٍ في محصّل الإجماع، فضلاً عن محكيه).

قال صاحب «المسالك»:(2) - بعد الاعتراف بأنّ هذا هو المشهور بين الأصحاب، بل كاد يكون إجماعاً -: (وليس عليه دليلٌ صريح، وإنّما تضمّنت الروايات ذكر البيع، وهو لا ينافي ثبوتها بغيره، ومن ثمّ خالف ابن الجُنيد، فأثبتها بمطلق النقل حتّى بالهبة بعوض وغيره، لما أشرنا إليه من عدم دليل يقتضي التخصيص، ولاشتراك الجميع في الحكمة الباعثة على إثبات الشُّفعة، وهو دفع الضّرر عن الشريك، ولو خصّها بعقود المعاوضات كان أبعد، وتبعه غيره).

أقول: محصّل ما يستفاد من عبارته في وجه ثبوت الشُّفعة في غير البيع، أمران:

أحدهما: عدم دليل يقتضي التخصيص.

ثانيهما: اشتراك الجميع في الحكمة.

ص: 264


1- جواهر الكلام: ج 37/266.
2- مسالك الأفهام: ج 12/273.

ولكن الأوّل يضعّف: بأن عدم الدليل على التخصيص لا يكفي في الحكم بالعموم، بعد اعترافه باختصاص النصوص بالبيع، إذا التعدّي عنه يحتاج إلى دليلٍ من خارج، أو إطلاقٍ وعموم في الأخبار يشمل غير البيع، والمفروض عدمهما، وبدون ذلك يكون المرجع أصالة عدم السلطنة.

ويضعّف الثاني أوّلاً: أنّ الحكمة لا تصلح وجهاً للتعدّي، فإنّ ذلك شأن العلّة المنصوصة لا الحكمة، فمع الاعتراف بكون ما ذكر حكمة كيف يتعدّى عن موردها؟

وثانياً: ما تقدّم من عدم معلوميّة الحكمة، فكما يحتمل أن تكون ما ذكر كذلك، يحتمل أن تكون ما نقلناه عن السيّد المرتضى رحمه الله.

أضف إلى ذلك: ضعف سند ما تضمّنها، كما مرّ، وعليه فهذا القول ضعيف.

أقول: ويشهد لعدم ثبوتها في غير البيع: مضافاً إلى ما مرّ - ما رواه يونس، عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:(1) «الشُّفعة جائزة في كلّ شيء من حيوانٍ أو أرضٍ أو متاعٍ إذا كان الشيء بين شريكين لا غيرهما، فباع أحدهما نصيبه، فشريكه أحقّ به من غيره».

فإنّه بمفهوم الشرط يدلّ على عدم ثبوت الشُّفعة في غير البيع، بناءً على ما هو الحقّ من أنّه لا فرق في ثبوت المفهوم للشرط بين الشرط الواحد والمتعدّد.

وما أفاده سيّد «الرياض»(2) من أنّ هذا المفهوم محتملٌ للورود مورد الغلبة.

يدفعه: أنّ الظاهر من أخذ كلّ قيدٍ في الموضوع دخله في الحكم، والحمل على الغلبة يحتاج إلى قرينةٍ مفقودةٍ في المقام، ويؤيّد ذلك مفهوم قوله عليه السلام في حَسَن).

ص: 265


1- وسائل الشيعة: ج 25/402 ح 32223، الكافي: ج 5/281 ح 8.
2- رياض المسائل: ج 14/65 (ط. ج)، و: ج 2/311 (ط. ق).

وأنْ يكون المبيع مشاعاً مع الشفيع حال البيع، أو يكون شريكاً في الطريق أو النهر أو الساقية،

الغنوي: «الشُّفعة في البيوع» وإنّما لم نستدلّ به لاختلاف النسخ في لفظ (البيوع) حيث ورد في بعضها: (البيوت).

ويؤيّده أيضاً: ما استدلّ به لهذا القول المصنّف رحمه الله في محكي «المختلف»(1)، والشهيد الثاني قدس سره في «المسالك»(2) لعدم ثبوت الشُّفعة في غير المعاوضات، وهو صحيح أبي بصير، عن مولانا الباقر عليه السلام(3):

«عن رجلٍ تزوّج أمرأةً على بيت في دارٍ له، وله في تلك الدار الشركاء؟ قال عليه السلام: جائز له ولها، ولا شفعة لأحدٍ من الشركاء عليها».

وجه التأييد: إشعاره بأنّ نفيها من جهة كونها صداقاً لا من جهة تعدّد الشركاء، وعليه فالمتّجه اختصاص الشُّفعة بالبيع، فلا تثبت مع انتقال الحصّة بغير البيع.

اعتبار إشاعة المبيع

(و) الشرط الثاني: (أن يكون المبيع مشاعاً مع الشفيع حال البيع، أو يكون شريكاً في الطريق أو النهر أو الساقية) على المشهور شهرة عظيمة.

ص: 266


1- مختلف الشيعة: ج 5/339.
2- مسالك الأفهام: ج 12/274.
3- وسائل الشيعة: ج 25/407 ح 32234، تهذيب الأحكام: ج 7/167 ح 19.

وعن غير واحدٍ من الأساطين نسبته إلى مذهب الأصحاب إلّاالعُمّاني.

أقول: ولم يستثنه بعضهم إمّا لعدم الاعتناء بمخالفته، أو لأنّ كلامه قابلٌ للحمل على ثبوت الشُّفعة في غير المشاع إذا كان شريكاً في الطريق.

وكيف كان، فيشهد لاعتبار الإشاعة، وعدم ثبوتها مع التمييز والقسمة نصوصٌ كثيرة:

منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن مولانا الصادق عليه السلام(1): «لا تكون الشُّفعة إلّا لشريكين ما لم يتقاسما».

ومنها: قويّ السّكوني، عنه عليه السلام في حديثٍ :(2) «لا شفعة إلّالشريكٍ غير مقاسم».

ومنها: خبر محمّد بن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام:(3) «إذا وقعت السِّهام ارتفعت الشُّفعة».

ونحوها غيرها.

بل يشهد به: ما دلَّ على عدم ثبوت الشُّفعة للجار، واختصاصها بالشريك، كحسن الغنوي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(4):

«عن الشُّفعة في الدور أشيء واجبٌ على الشريك، ويعرض على الجار فهو أحقّ بها من غيره ؟

فقال عليه السلام: الشُّفعة في البيوع إذا كان شريكاً فهو أحقّ بها بالثمن».5.

ص: 267


1- وسائل الشيعة: ج 25/401 ح 32222، الكافي: ج 5/281 ح 7.
2- وسائل الشيعة: ج 25/396 ح 32207، الكافي: ج 5/281 ح 6.
3- وسائل الشيعة: ج 25/397 ح 32209، الكافي: ج 5/280 ح 3.
4- وسائل الشيعة: ج 25/395 ح 32205، الكافي: ج 5/281 ح 5.

وخبر البقباق، عنه عليه السلام:(1) «الشّفعة لا تكون إلّالشريكٍ ».

ونحوهما غيرهما.

وأمّا النبويّ المرويّ من طرق العامّة: «أنّ الجار أحقّ بالشفعة»، أو «بشفعةٍ » فلضعفه، وإعراض الأصحاب عنه لا يُعتمد عليه.

وأمّا ثبوتها مع عدم الإشاعة: إذا كان شريكاً في الطريق، أو النهر، أو الساقية، فقد استدلّ له بأخبار:

منها: صحيح منصور أو حسنه، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن دار فيها دور وطريقهم واحد في عرصة الدار، فباع بعضهم منزله من رجل، هل لشركائه في الطريق أن يأخذوا بالشفعة ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان باع الدار وحوّل بابها إلى طريقٍ غير ذلك فلا شفعة لهم، وإنْ باع الطريق مع الدار، فلهم الشُّفعة».

قالوا: وبه يقيّد إطلاق ما دلَّ على عدم ثبوت الشُّفعة مع عدم الشركة.

وفيه: أنّه يدلّ على ثبوت الشُّفعة مع تعدّد الشركاء، ولم يعمل به الأصحاب، وليس الخبر متضمّناً لحكمين: أحدهما ثبوت الشُّفعة مع تعدّد الشركاء، ثانيهما ثبوت الشُّفعة مع الاشتراك في الطريق، كي يقال إنّ عدم العمل ببعض الخبر لمعارضٍ أقوى، لا يوجبُ طرحه بالنسبة إلى ما لا معارض له، بل هو متضمّنٌ لحكمٍ واحد، وهو ثبوت الشُّفعة مع تعدّد الشركاء في ما كانت الشركة في الطريق.

ومنها: حسن منصور، عنه عليه السلام(2): «عن دارٍ بين قومٍ اقتسموها، فأخذ كلّ9.

ص: 268


1- وسائل الشيعة: ج 25/395 ح 32203، تهذيب الأحكام: ج 7/164 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32215، الكافي: ج 5/281 ح 9.

واحد منهم قطعة وبناها، وتركوا بينهم ساحة فيها ممرّهم، فجاء رجلٌ فاشترى نصيب بعضهم، ألهُ ذلك ؟

قال عليه السلام: نعم، ولكن يسدّ بابه ويفتح باباً إلى الطريق، أو ينزل من فوق البيت ويسدّ بابه، فإنْ أراد صاحب الطريق بيعه، فإنّهم أحقّ به، وإلّا فهو طريقه يجيء حتّى يجلس ذلك الباب».

وقريب منه الموثّق، وقد استدلّ بهما المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»(1).

ويرد عليه: ما أورده غير واحدٍ من أنّ ظاهرهما ثبوت الشُّفعة في بيع الطريق خاصّة، ولا تعرّض فيهما لبيع الدار مع الممرّ، فإذاً لا دليل له سوى الإجماع، وهو الحجّة في ثبوتها مع الاشتراك في الشرب، وإلّا فالأخبار غير متعرّضة له.

وهل يختصّ الحكم بصورة شركة سابقة على القسمة في ذات الطريق، كما عن ظاهر جماعةٍ ، أم يعمّ غيرها، كما هو ظاهر الأكثر، لاستدلالهم للثبوت بالنص غير المختصّ بها؟

وجهان، أظهرهما الأوّل على ما قوّيناه من أنّه لا مدرك لهذا الحكم سوى الإجماع، فإنّ المتيقّن من معقده ذلك.

***).

ص: 269


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/590 (ط. ق).

وأن لا يزيد الشركاء على اثنين

اعتبار أن لا يزيد الشركاء على اثنين

(و) الشرط الثالث: (أن لا يزيد الشّركاء على اثنين) كما هو المشهور شهرة عظيمة، كادت تكون إجماعاً، بل هي كذلك، كما في «الجواهر»(1)، بل عليه الإجماع في «الاستبصار»(2)، و «السرائر»(3)، و «التنقيح»(4) كما في «الرياض»(5).

وعن ابن الجنيد:(6) ثبوتها مع الكثرة مطلقاً، وقوّاه المصنّف رحمه الله في محكي «المختلف»(7) بعد ذهابه إلى المشهور، وخطّأ ابن إدريس في دعواه الإجماع.

وعن «الفقيه»(8): ثبوتها مع الكثرة في غير الحيوان.

وفي «الشرائع»(9) نقل المحقّق قولاً آخر، وهو: (ثبوتها في الأرض مع الكثرة، وعدم الثبوت في العبد إلّاللواحد)، ولم يذكر قائله، ولا ظفر به غيره.

أقول: ومنشأ الاختلاف اختلاف الأخبار:

ص: 270


1- جواهر الكلام: ج 37/272.
2- الاستبصار: ج 3/116.
3- السرائر: ج 2/393.
4- نقله عنه صاحب الرياض: ج 2/312.
5- رياض المسائل: ج 2/312.
6- مختلف الشيعة: ج 5/336.
7- مختلف الشيعة: ج 5/336.
8- من لا يحضره الفقيه: ج 3/80.
9- شرائع الإسلام: ج 4/778.

منها: ما يدلّ على عدم الثبوت، مع كون الشفيع أزيد من واحد:

1 - صحيح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام(1): «لا تكون الشُّفعة إلّا لشريكين ما لم يتقاسما، فإذا صاروا ثلاثة فليس لواحدٍ منهم شفعة».

2 - مرسل يونس المتقدّم عنه عليه السلام:(2) «إذا كان الشيء بين شريكين لا غيرهما، فباع أحدهما نصيبه، فشريكه أحقّ به من غيره، فإن زاد على الاثنين فلا شفعة لأحدٍ منهم».

ونحوهما غيرهما.

ومنها: ما يدلّ على ثبوتها مع تعدّد الشفعاء:

1 - خبر السكوني، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام: «الشُّفعة على عدد الرجال»(3).

ومثله خبر طلحة بن زيد.

2 - وصحيح منصور بن حازم(4)، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن دارٍ فيها دور وطريقهم واحد في عرصة الدار، فباع بعضهم منزله من رجل، هل لشركائه في الطريق أن يأخذوا بالشفعة ؟

فقال عليه السلام: إن كان باع الدار وحوّل بابها إلى طريقٍ غير ذلك، فلا شفعة لهم، وإن باع الطريق مع الدار فلهم الشُّفعة».2.

ص: 271


1- وسائل الشيعة: ج 25/401 ح 32222، الكافي: ج 5/281 ح 7.
2- وسائل الشيعة: ج 25/402 ح 32223، الكافي: ج 5/281 ح 8.
3- وسائل الشيعة: ج 25/403 ح 32226، من لا يحضره الفقيه: ج 3/77 ح 3371.
4- وسائل الشيعة: ج 25/398 ح 32214، الكافي: ج 5/280 ح 2.

ونحوه في ذلك حسنه وموثّقه.

3 - خبر عقبة بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:(1) «قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالشفعة بين الشركاء» وأقلّ الجمع ثلاثة.

ومنها: ما دلَّ على اختصاص المنع عن الثبوت مع تعدّد الشركاء بالحيوان، وهو خبر عبد اللّه بن سنان(2): «عن مملوكٍ بين شركاء أراد أحدهم أن يبيع نصيبه ؟ قال عليه السلام: يبيعه.

قلت: فإنّهما كانا اثنين، فأراد أحدهما بيع نصيبه، فلمّا أقدم على البيع قال له شريكه: أعطني ؟ قال عليه السلام: هو أحقّ به.

ثمّ قال: لا شفعة في الحيوان إلّاأن يكون الشريك فيه واحداً».

قال الصدوق: (ومفهوم هذه الرواية ثبوتها في غيره إذا كان أكثر)(3).

أقول: والحقّ في المقام أن يقال:

أمّا خبر ابن سنان، فلا يدلّ على التفصيل الذي ذكره الصدوق، إذ لا مفهوم له كي يدلّ على ثبوت الشُّفعة في غيره إذا كان أكثر، إلّاعلى تقدير القول بمفهوم اللقب.

وأمّا الطائفتان الأوليتان، فقد جمع بينهما في «المسالك»(4) بقوله: (إنّ رواية ابن سنان الّتي هي عمدة روايات الباب لا صراحة فيها، حيث إنّه أثبت الشُّفعة للشريكين باللّام المفيدة للاستحقاق، أو ما في معناه، والمطلوب لا يتمّ إلّاإذا اريد ثبوتها بين الشريكين لا لهما.2.

ص: 272


1- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32217، الكافي: ج 5/280 ح 4.
2- وسائل الشيعة: ج 25/404 ح 32228، من لا يحضره الفقيه: ج 3/80 ح 3.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 3/80 حيث قال: فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ فَالشُّفْعَةُ وَاجِبَةٌ لِلشُّرَكَاءِ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنِ اثْنَيْنِ وَتَصْدِيقُ ذَلِكَ مَا رَوَاه.. الخ، ثمّ ذكر الرواية. وحكاه الشهيد الثاني في المسالك: ج 12/82 وناقشه.
4- مسالك الأفهام: ج 12/282.

ثمّ قال: ولا ينافيه قوله: (ولا تثبت لثلاثة)، إذ لا قائل بالفرق بين الاثنين والثلاثة، لجواز إرادة عدم استحقاق كلّ واحدٍ من الثلاثة بخصوصه دون الآخر، وهذا وإن كان خلاف الظاهر، إلّاأن فيه طريق الجمع).

وفيه: إنّ قوله عليه السلام في صحيح ابن سنان: «ما لم يتقاسما» كالصريح في إرادة ثبوت الشُّفعة بين الشريكين. وقوله: «لشريكين» إنّما هو باعتبار فرض بيع كلّ واحدٍ من الشريكين حصّته. ثمّ قوله عليه السلام في تلو ذلك: «فإذا صاروا ثلاثة... إلى آخره»، صريحٌ في عدم ثبوتها مع التعدّد، والمحمل المذكور في كلامه له ممّا لا مورد له عند العرف.

وأمّا الجمع بين الطائفين: بحمل الجمع في نصوص الثانية على الاثنين، فهو وإن تمّ في جملةٍ منها، إلّاأنّه لا يتمّ في أخبار منصور، لأنّ الجمع فيها بالإضافة إلى من يأخذ بالشفعة، فكون أقلّ الجمع اثنين لا يغني شيئاً، فإنّها حينئذٍ تدلّ على ثبوت الشُّفعة للشريكين إذا باع ثالثهما حصّته.

وبالجملة: الإنصاف تعارض الطائفتين، وتعيّن الرجوع إلى المرجّحات، والترجيح للنصوص الأُولى، لأنّها أشهر بين الأصحاب، والشهرة أوّل المرجّحات.

وأمّا ما في «المسالك»(1) من أنّ الترجيح للثانية، لأنّ خبر منصور أصحّ طريقاً.

ففيه: أنّ أصحيّة السند إنّما تكون في المرتبة المتأخّرة عن الشهرة، ومع الشهرة لا توجبُ هي تقديم أحد المتعارضين على الآخر، مع أنّ أصحيّة طريق خبر منصور من خبر عبد اللّه بن سنان غير معلومة، فمع الإغماض عن الشهرة، تكون النصوص الأُولى مقدّمة، لمخالفتها للعامّة.

وعليه، فالأظهر عدم ثبوتها مع زيادة الشركاء على اثنين.2.

ص: 273


1- مسالك الأفهام: ج 12/282.

وأن يكون الشريك قادراً على الثمن.

اعتبار قدرة الشريك على دفع الثمن

(و) الشرط الرابع: (أن يكون الشريك قادراً على الثمن) بلا خلافٍ ، وظاهر «المسالك»(1) بل صريحها الاتّفاق عليه.

قال الشهيد رحمه الله في شرح قول المحقّق: (الشفيع كلّ شريكٍ بحصّة مشاعة قادر على الثمن، هذا تعريف للشفيع باعتبار قيوده المتفق عليها) انتهى .

وفي محكي «مجمع البرهان»(2): (دليل اشتراط القدرة في الشُّفعة على الثمن...

يمكن أن يكون إجماعاً).

أقول: وكيف كان، فيمكن الاستدلال له بحديث نفي الضّرر والضِّرار، حيث إنّ أخذ الشفيع بالشفعة - وهو عاجزٌ عن دفع الثمن - ضررٌ على البائع، وهو يرفع الأحكام الوضعيّة كالتكليفيّة، سيّما هذا الحكم الذي حكمته دفع الضَّرر.

وقد يستدلّ له: بحسن علي بن مهزيار، قال(3):

«سألتُ أبا جعفر الثاني عليه السلام: عن رجلٍ طلب شفعةٍ أرض، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ (4)، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها، أيبيعها أو

ص: 274


1- مسالك الأفهام: ج 12/277.
2- مجمع الفائدة والبرهان: ج 9/19.
3- وسائل الشيعة: ج 25/406 ح 32232، تهذيب الأحكام: ج 7/167 ح 16.
4- نضّ الدَّين: تيسّر.

ينتظر مجيء شريكه صاحب الشُّفعة ؟

قال عليه السلام إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام، فإنْ أتاه بالمال، وإلّا فليبع، وبطلت شفعته في الأرض، وإنْ طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلدٍ إلى آخر، فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف، وزيادة ثلاثة أيّام، إذا قدم، فإن وافاه، وإلّا فلا شفعة له».

وأُورد عليه: بأنّ مورده الشُّفعة قبل البيع، وأنّ الذي ينتظر به هو الشريك الذي يريد أن يبيع لا المشتري، وهو خارجٌ عن محلّ البحث وهو الشُّفعة بعد البيع.

وفيه: أنّ اساس هذا الإيراد على كون المراد بصاحب الأرض هو المالك الأوّل دون المشتري، وهو غير ظاهر، بل من المحتمل أن يكون المراد به صاحبها بعد البيع وهو المشتري، ويؤيّد هذا الاحتمال، بل يعيّنه إطلاق لفظ (الشُّفعة) الّتي حقيقتها - كما مرّ - الاستحقاق بعد البيع.

وعليه، فيمكن أن يكون المراد من طلب الشُّفعة الأخذ بها، كمايشعر به قوله عليه السلام:

«وبطلت شفعته»، وإن كان لو اُبقي على معناه الحقيقي لما كان قادحاً في الاستدلال.

أضف إلى ذلك: ما أفاده سيّد «الرياض»(1)، قال: (مع احتمال أن يكون الإلحاق على تقدير صحّة ما ذكره من باب تنقيح المناط القطعي لا القياس الخفيّ ).

وعلى الجملة: فالمستفاد من الحسن، هو أنّ الشفيع إذا كان غير قادرٍ على دفع الثمن بعد ثلاثة أيّام، فلا شفعة له، ففي الحقيقيّة يكون التحديد بثلاثة أيّام، تحديداً لعدم القدرة القادح في الأخذ بالشفعة.

***).

ص: 275


1- رياض المسائل: ج 2/313 (ط. ق).

وأن يطالب على الفور مع المكنة،

فوريّة المطالبة مع المكنة

المقام الثالث: في الأحكام المترتّبة على حقّ الشُّفعة، وفيه مسائل:

المسألة الاُولى: (و) يجب (أن يطالب على الفور مع المُكنة) كما عن الشيخ(1) في كتبه الثلاثة، والقاضي(2)، وابن حمزة(3)، والطبرسي(4)، والمصنّف(5) في كتبه، والشهيدين(6)، وعامّة المتأخّرين(7)، وعن «التذكرة»(8) أنّه المشهور، وعن الشيخ(9) الإجماع عليه.

وذهب المرتضى(10)، والإسكافي(11)، ووالدالصدوق(12)، والحلبي(13)، والحِلّي(14)

ص: 276


1- المبسوط: ج 3/108، الخلاف: ج 3/429.
2- المهذّب: ج 1/458-459.
3- الوسيلة: ص 258.
4- المختلف: ج 5/341.
5- تحرير الأحكام: ج 2/147.
6- الدروس: ج 3/360، مسالك الأفهام: ج 12/284-285.
7- تبصرة المتعلّمين: ص 131، الوسيلة: ص 258.
8- تذكرة الفقهاء: ج 1/604.
9- الخلاف: ج 3/431.
10- الانتصار: ص 454.
11- مختلف الشيعة: ج 5/341.
12- فقه الرضا: ص 264.
13- الكافي للحلبي: ص 361-362.
14- السرائر: ج 2/388.

إلى أنّها على التراخي لا تسقط إلّابالإسقاط.

استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ الأصل عدم ثبوت الشُّفعة، وعدم التسلّط على ملك الغير بغير رضاه، فيقتصر فيها على موضع الوفاق.

2 - وبأنّ التراخي فيها لا ينفكّ عن ضررٍ على المشتري، فإنّه لا يرغب في عمارة مِلْكه مع علمه بتزلزله و انتقاله عنه، فيؤدّي إلى تعطليل مِلْكه، وذلك ضررٌ عظيم.

3 - وبحسن عليّ بن مهزيار(1) المتقدّم، وتقريب الاستدلال به - كما في محكي «المختلف»(2) - أنّه عليه السلام حكم ببطلان الشُّفعة بعد مضيّ ثلاثة أيّام، ولو كان حقّ الشُّفعة ثابتاً على التراخي، لم تبطل شفعته، بل كانت تثبت له متى حصل الثمن، لأنّها ثبتت كذلك وإنْ لم يطالب، فلا تؤثّر المطالبة بها التي هي أحد أسباب وجودها من عدمها.

4 - وبالنبويّ :(3) «الشُّفعة كنشط العقال» أي إذا لم يبتدر فات كالبعير يُحَلّ عِقاله(4).

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الشُّفعة - أي إطلاقها الزماني - ثبوتها على نحو التراخي، ومعه لا مجال للرجوع إلى الأصل.4.

ص: 277


1- وسائل الشيعة: ج 25/406 ح 32232، تهذيب الأحكام: ج 7/167 ح 16.
2- مختلف الشيعة: ج 5/342.
3- تذكرة الفقهاء: ج 1/604.
4- التذكرة: ص 604.

وعلى الثاني: أنّه إن كان المراد بالضرر:

الضَّرر المالي، فهو مجبورٌ بالأرش، إذا زرع أو بنى إن قلنا به.

وإن كان المراد بالضرر عدم رغبة المشتري في التعمير مثلاً، لاحتمال الأخذ منه، فهو مردودٌ بما عن «الانتصار»(1) من أنّه يمكن أن يتحرّز المشتري من هذا الضَّرر، بأن يعرض المبيع على الشفيع، ويبذل التسليم إليه، فهو بين أمرين: إمّا أن يتسلّم، أو يترك الشُّفعة فيزول الضَّرر، وإذا فرّط في ذلك فهو المقدّم على الضَّرر، مع أنّ ذلك لا يعدّ ضرراً عرفاً.

أضف إليه: أنّه مع علمه بالشفعة لشريكه يكون مُقدماً على ذلك.

وعلى الثالث: أنّه إنّما يدلّ على أنّ الشريك إذا أخذ بالشفعة، ولم ينضّ الثمن، ينتظر ثلاثة أيّام، لما عرفت من ظهور طلب الشُّفعة في أخذها، ولا أقلّ من احتمال ذلك، وهذا غير مربوط بمسألتنا هذه من فوريّة الأخذ وعدمها.

وعلى الأخيرين: أنّهما عاميّان ضعيفان، غير منجبرين بالاستناد.

أقول: وبما ذكرناه يظهر مدرك القول بالتراخي، واستدلّ له - مضافاً إليذلك -:

1 - بأصالة عدم الفوريّة.

2 - وبأنّ البيع سبب في استحقاق الشُّفعة، والأصل ثبوت الشيء على ما كان إلى أن يثبت المزيل.

3 - وبأنّها حقّ من الحقوق الماليّة، والأصل فيها أن لا تُبطل بالإمساك عن طلبها.0.

ص: 278


1- الانتصار: ص 449-450.

ولكن يضعف الأوّل: أنّه إنْ اُريد بالأصل الاستصحاب، فيؤول إلى الثاني، وإنْ اُريد به غيره، فلا أصل له، بل الأصل يقتضي الفوريّة كما مرّ.

والثاني: بأنّ الصحيح عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة.

وإن شئت قلت: إنّ المقام على فرض عدم الإطلاق لدليل ثبوت الشُّفعة من مصاديق المسألة المعروفة، وهي أنّه إذا دلَّ دليلٌ عامٌ على ثبوت حكمٍ لجميع الأفراد، نظير ما إذا ورد تحريمُ فعلٍ بعنوان العموم، وخرج منه فردٌ خاص من ذلك، لكن وقع الشكّ في أنّ ارتفاع الحرمة عن ذلك الفرد مختصٌّ ببعض الأزمنة أو عام لجميعها، فإنّ الحقّ في هذه المسألة هو الرجوع بعد مضيّ زمان اليقين إلى عموم العام، لا إلى استصحاب حكم الخاص، ففي المقام دلَّ الدليل بعمومه على عدم التسلّط على مال الغير، خرج عنه أوّل أزمنة العلم ببيع الشريك، فبعد مضيّ زمان اليقين، يُشكّ في بقاء التسلّط وعدمه، فالمرجع إلى عموم العام لا إلى استصحاب حكم الخاص.

وأمّا الثالث فيرد: بأنّ المدّعى إنّما هو كون ثبوت الحقّ في زمان قصير، وأنّه بانقضائه يسقط، لأنّها أمده، لا أن ترك المطالبة من مسقطات الحقّ الثابت في نفسه.

فتحصّل: أنّ القول بكونها على الفور أو التراخي يبتني على وجود إطلاق لأدلّة ثبوتها وعدمه، فعلى الأوّل تكون على نحو التراخي، وعلى الثاني تكون على نحو الفور.

أقول: ثمّ إنّه على القول بالفور، لا إشكال في أنّ ذلك في صورة عدم كون

ص: 279

التأخير لعذرٍ، وإلّا كما لو كان في السفر ولم يطّلع على بيع الشريك حصّته، أو اطّلع ولم يتمكّن من الأخذ بالشفعة مباشرةً أو بالتوكيل فيه وما شاكل، لم تبطل شفعته بلا خلافٍ ، ويشهد به مرسل ابن محبوب(1) الدالّ على ثبوت الشُّفعة على الغائب بعد حضوره.

وقد اختلفت كلماتهم في بيان الضابط لما لا يخلّ بالفوريّة، وأيضاً اختلفوا في بعض المصاديق، ولعلّه أحسن ما قيل في المقام هو:

أنّه كلّما كان التأخير لغرضٍ صحيح أو عُذرٍ معتبر، لا يخلّ بالفوريّة.

والوجه في ذلك: أنّ إطلاق ما دلَّ على كونه أحقّ من غيره، يقتضي عدم الفوريّة مطلقاً، ولا إطلاق لما استدلّ به على الفوريّة، والمتيقّن منه صورة الإهمال في الأخذ بالشفعة دون الأعذار التي يتعلّق بها غرض العقلاء، كما أنّ وجوب المبادرة - على القول به - ليس هو وجوبها بكلّ وجهٍ ممكن، بل المرجع فيها العادة والعرف، فيكفي مشيه إلى المشتري للأخذ بها بالمعتاد، وإن قدر على الزيادة وانتظار الصبح لو علم ليلاً، ولا يمنع من ذلك أيضاً الصلاة إذا حضر وقتها، وكذا مقدّماتها ومتعلّقاتها الواجبة والمندوبة التي يعتادها، وانتظار الجماعة، وتحرّي الرفقة حيث يكون الطريق مخوفاً، ليصحبهم هو أو وكيله ونحو ذلك، بل المستفاد من الخبر الحسن الذي رواه علي بن حمزة أنّ الأمر أوسع من ذلك، فإنّه وإن كان فيما لو أخذ بالشفعة ولم ينضّ الثمن، لكن لمّا كان الغرض الأصلي هو أخذ الثمن - وإلّا فمجرّد قوله:

(أخذتُ بالشفعة)، ليس موضوع الأثر - فبتنقيح المناط يستفاد جواز التأخير إلى ثلاثة أيّام.6.

ص: 280


1- وسائل الشيعة: ج 25/405 ح 32231، تهذيب الأحكام: ج 7/192 ح 36.

ولو باع صاحب الشقص الطلق نصيبه جاز لصاحب الوقف الأخذ بالشفعة

وبالجملة: بما ذكرناه يظهر ما في كلام الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(1)، فإنّه بعد بيان جملةٍ من الأعذار، قال:

(هذا كلّه إذا كان غائباً، أمّا مع حضور المشتري فلا يعدّ شيئاً من هذه عذراً، لأنّ قوله: (أخذتُ بالشفعة)، لا ينافي شيئاً من ذلك).

فإنّ محلّ الكلام ومورد فتوى الفقهاء بجواز التأخير وعدمه، إنّما هو القول المزبور مع دفع الثمن، لابدّونه، فلا عبرة بالتمكّن منه مع عدم التمكن من دفع الثمن، وعليه فالمدار على الدفع لا على القول المزبور.

ثبوت الشُّفعة في الوقف

المسألة الثانية: (ولو) كان الوقف مشاعاً مع طلق، فباع الموقوف عليه الوقف على وجه يصحّ ، ثبت حقّ الشُّفعة لصاحب الطلق بلا خلافٍ ولا إشكال، لوجود المقتضي وانتفاء المانع، هكذا قالوا، وسيأتي الكلام فيه.

وإن انعكس الأمر، بأن (باع صاحب الشقص الطلق نصيبه)، ففيه أقوال:

أحدها: ما اختاره الماتن هنا، وهو أنّه (جاز لصاحب الوقف الأخذ بالشفعة)، وظاهره جواز الأخذ بها للموقوف عليه، ولعلّه يكون نظره إلى ما عن أكثر المتأخّرين من ثبوت حقّ الشُّفعة للموقوف عليه مع وحدته، وأمّا لو كان الوقف على الجهات، أو على الأصناف فلا شفعة فيه.

ص: 281


1- مسالك الأفهام: ج 12/319.

ثانيها: ما عن جماعةٍ ، بل نسبه الحِلّي(1) إلى الأكثر، من عدم ثبوتها مطلقاً.

ثالثها: ما عن السيّد المرتضى رحمه الله(2) من ثبوتها مطلقاً، وجوّز للإمام وخلفائه المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على المساكين أو على المساجد ومصالح المسلمين، وكذلك كلّ ناظرٍ بحقّ في وقفٍ عن وصيٍّ أو وليّ ، واستند فيه إلى الإجماع.

أقول: والحقّ أن يقال:

إن قلنا: بعدم انتقال الوقف إلى الموقوف عليه، فلا ينبغي التوقّف في عدم ثبوت الشُّفعة، لفقد الشركة المشترطة في ثبوتها اتّفاقاً، فتوىً ونصّاً، ولازم ذلك عدم ثبوتها في عكس المسألة، وقد اتّفقوا على ثبوتها فيه.

وإنْ بنينا على انتقاله إليه:

فإنْ كان الموقوف عليه متعدّداً، فلا شفعة، لفقد شرط عدم تعدّد الشركاء.

وإنْ كان واحداً، ففي الوقف على الجهة على القول بمالكية الجهة لا شفعة، لانصراف النصوص إلى مالٍ مشتركٍ بين فردين.

وأمّا في الوقف على الشخص أو الصنف مع انحصاره في فرد، فالظاهر ثبوتها، لإطلاق الأدلّة.

ودعوى: أنّه ملكٌ ناقص بالحَجْر على المالك في التصرّف.

ممنوعة: لأنّ نقص الملك لم يدلّ دليلٌ على منعه عن ثبوتها، ومن ثمّ يثبت لغيره ممّن يُحجَر عليه، وحيث إنّ الأظهر عدم انتقال الوقف إلى الموقوف عليه.

وعليه، فالأوجه عدم ثبوت الشُّفعة أصلاً وعكساً.7.

ص: 282


1- السرائر: ج 2/397.
2- الانتصار: ص 457.

ولا يثبتُ للذّمي على مسلم، ويثبتُ للمسلم عليه، ويأخذ الشفيع بما وقع عليه العقد وإنْ أبرأه من بعضه،

المسألة الثالثة: (ولا يثبت للذّمي) شفعةٌ (على مسلم، ويثبتُ للمسلم عليه) بلا خلافٍ ، بل عليه الإجماع عن «الاستبصار»، و «المبسوط»(1)، و «السرائر»(2)، و «المسالك»(3)، وغيرها(3)، ويشهد به قول السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«ليس لليهودي والنصراني شفعة»(4).

ومثله خبر طلحة بن زيد(5).

والمراد عدم ثبوتها لهما على المسلم، للإجماع على ثبوتها لهما على غيره، كما في «المسالك»(7).

المسألة الرابعة: (ويأخذ الشفيع بما وقع عليه العقد) أي بما يماثله، (وإن أبرأه) البائع (من بعضه) لإطلاق النّص، والإبراء من بعضُ بعد البيع كالهبة إيّاه، لا دخل له بالمعاملة التي يأخذ فيها الشُّفعة، كما أنّه لو كان قيمة الشقص أزيد أو أقلّ ، يأخذ بالثمن الذي وقع العقد عليه، ولا يلزمه ما يغرمه المشتري بسببه من دلالة واُجرة ناقدٍ ووزّان وغيرها، إذ ليست من الثمن.2.

ص: 283


1- المبسوط: ج 3/139.
2- السرائر: ج 2/387-388. (3و7) مسالك الأفهام: ج 12/287.
3- مجمع الفائدة: ج 9/26.
4- وسائل الشيعة: ج 25/401 ح 32221، الكافي: ج 5/281 ح 6.
5- وسائل الشيعة: ج 25/400 ح 32220، من لا يحضره الفقيه: ج 3/78 ح 3372.

ولو لم يكن مثليّاً أخذ بقيمته.

ثبوت الشُّفعة مع كون الثمن قيميّاً

قال المصنّف رحمه الله: (ولو لم يكن) الثمن الواقع عليه العقد (مثليّاً) بل قيميّاً، كالجواهر والثياب والمنفعة والحقّ ، وما شاكل (أخذ بقيمته) على الأظهر الأشهر، بل لعلّه عليه عامّة من تأخّر، إلّامن ندر ممّن تأخّر عمّن تأخّر، وفاقاً للمفيد(1)، و «المبسوط»(2)، والحِلّي(3)، كذا في «الرياض»(4).

و عن «الخلاف»(5)، و ابن حمزة(6)، و الطبرسي(7)، و «المختلف»(8): أنّه تسقط الشُّفعة.

وجه الأوّل: إطلاق الأدلّة وعمومها.

واستدلّ للثاني: بروايات عديدة:

منها: صحيح أبي بصير(9)، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجلٍ تزوّج امرأة على بيتٍ في دار له، وله في تلك الدار شركاء؟ قال: جائزٌ له ولها، ولا شفعة لأحدٍ من الشركاء عليها».

ص: 284


1- المقنعة: ص 619.
2- المبسوط: ج 2/124.
3- السرائر: ج 2/385.
4- رياض المسائل: ج 14/81 (ط. ج)، وفي القديمة: ج 2/313.
5- الخلاف: ج 3/432.
6- الوسيلة: ص 258.
7- حكاه العلّامة في المختلف: ج 5/337.
8- مختلف الشيعة: ج 5/337.
9- وسائل الشيعة: ج 25/407 ح 32234، تهذيب الأحكام: ج 7/483 ح 151.

وفيه: أنّه يمكن أن يكون وجه عدم ثبوت الشُّفعة عليها، كون ما انتقل إليها بغير البيع، أو تعدّد الشركاء، وقد مرّ اعتبار وحدة الشفيع، وكذا اعتبار كون الانتقال بالبيع.

ومنها: حسن الغنوي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1): «الشُّفعة في البيوع، إذا كان شريكاً فهو أحقّ بها بالثمن».

استدلّ به المصنّف رحمه الله بتقريب(2): أنّ الأحقيّة بالثمن إنّما تتحقّق في المثلي، لأنّ الحقيقة غير مرادة إجماعاً، فيحمل على أقرب المجازات إلى الحقيقة، وهو المثل.

وفيه: أنّ المراد بالثمن ليس ما جُعل عوضاً في البيع، بل الظاهر أنّ المراد به العوض الذي يعطيه الشفيع، فالمراد به أنّه أحقّ بها ولكن لا مجاناً بل بعوض، والتعبير عنه بالثمن بلحاظ ما هو المعروف من التعبير عمّا يعطيه المشتري في البيع بالثمن، بإزاء المبيع المعبّر عنه المثمن.

مع أنّه لو سُلّم أنّ المراد به ما جُعل عوضاً في البيع، يكون المراد جنس الثمن الشامل لمثله أو قيمته، ولعلّه إليه أشار الشهيد الثاني رحمه الله، حيث قال(3): (إنّ أقرب المجازات إلى الحقيقة بحسب الحقيقة، فإن كان مثليّاً فالأقرب مثله، وإنْ كان قيميّاً فالأقرب إليه قيمته).

ومنها: صحيح علي بن رئاب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل اشترى داراً برقيقٍ ومتاعٍ وبزّ وجوهر؟ قال عليه السلام: ليس لأحدٍ فيها شفعة»(4).7.

ص: 285


1- وسائل الشيعة: ج 25/395 ح 32205، الكافي: ج 5/281 ح 5.
2- مختلف الشيعة: ج 5/338-339.
3- مسالك الأفهام: ج 12/315.
4- وسائل الشيعة: ج 25/406 ح 32233، تهذيب الأحكام: ج 7/167 ح 17.

وأُورد عليه تارةً : بضعف السند، لأنّ في طريقه الحسن بن سماعة، وهو واقفي.

واُخرى : بأنّه مرويٌّ عن «كشف الرموز» هكذا(1): «رجلٌ اشترى دراهم برقيق أو متاعٍ » ممّا يدلّ على عدم ثبوت الشُّفعة في غير الأراضي، فلا ربط له بالمقام.

وثالثةً : بأنّ نفي الشُّفعة أعمٌّ من كونه بسبب كون الثمن قيميّاً أو غيره، إذ لم يذكر أنّّ في الدار شريكاً، فجاز نفي الشُّفعة لذلك عن الجار وغيره، أو لكونها غير قابلة للقسمة أو لغير ذلك.

وبالجملة: المانع عن الشُّفعة غير مذكور، وأسباب المنع كثيرة، فلا وجه لحمله على المتنازع أصلاً.

ولكن يتوجّه على الأوّل أوّلاً: أنّه مرويٌّ عن «قرب الإسناد» بسندٍ صحيح، ولذا عبّرنا عنه بالصحيح.

وثانياً: أنّ المحقَّق في محلّه حجيّة الخبر الموثّق، ولا يعتبر في الحجيّة كون الخبر صحيحاً.

وعلى الثاني: أنّ ما في «كشف الرموز» لا يصلح أن يقاوم لما في الجوامع المعتبرة المشهورة، وكتب الفروع.

وعلى الثالث: أنّ أسباب المنع وإنْ كانت كثيرة، إلّاأنّ مقتضى قاعدة التطابق بين السؤال والجواب، هو أنّ المنع لخصوص ما ذكر في السؤال، وليس هو إلّاكون الثمن قيميّاً، اللّهُمَّ إلّاأن يقال إنّ المذكور في السؤال أمران:

أحدهما: ما ذكر.4.

ص: 286


1- كشف الرموز: ج 2/394.

ثانيهما: كون المبيع داراً، الظاهرة في إرادة المجموع لا بعضها المشاع، ولم يذكر في الجواب أنّ المنع للأوّل أو الثاني، غاية الأمر أنّه لو لم يكن دليلٌ آخر لقلنا باختصاص المنع بما إذا اجتمع العنوانان، ولكن لوجوده يُبنى على أن المنع للثاني دون الأوّل.

أقول: وما في «الجواهر»(1) من ظهور الخبر في أنّ المسقط للشفعة كون الثمن المذكور قيميّاً، وحينئذٍ يكون دالّاً على المطلوب الذي هو نفي الشُّفعة لو حصل سببها بالشركة في الطريق أو البئر أو البعض أو الجوار أو غير ذلك، لأنّ المراد ولو بقرينة الجواب، أنّ السائل لمّا سأل عن الشُّفعة في الدار المشتراة بالثمن المزبور، أجاب الإمام عليه السلام: أن لا شفعة لأحدٍ فيها على كلّ حال من حيث إنّ ثمنها ما ذكره السائل.

يضعف: بأنّه لو كان ذلك مذكوراً في الجواب، كان ما أُفيد تامّاً، ولكنّه لم يذكر فيه، وإنّما هو مذكورٌ في السؤال عن قضيّة شخصيّة فيها عنوانان، والإمام عليه السلام اكتفى في مقام الجواب ببيان نفي الشُّفعة، ولا يعلم دخل كون الثمن قيميّاً في نفيها أصلاً.

وعليه فالإنصاف أنّ الخبر غير ظاهر في المنع، فضلاً عمّا أفاده المحقّق الثاني رحمه الله(1)، وصاحب «الجواهر» رحمه الله(3) من كونه نصّاً في الباب.

وبالجملة: فالمتّجه ثبوتها مع كون الثمن قيميّاً.

فرع: هل العبرة بالقيمة حال العقد، كما هو المعروف بينهم، أو حال الأخذ، أو أعلى القيم من حال العقد إلى حال الأخذ، أو الأعلى من يوم العقد إلى وقت الدفع، كما في «الإيضاح»(2)؟ وجوه.0.

ص: 287


1- حكاه عن جامع المقاصد صاحب الجواهر: ج 37/337.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/210.

ولو ذكر غيبة الثمن، اُجّل ثلاثة أيّام، وينظر لو كان في بلدٍ آخر بما يمكن وصوله إليه مع ثلاثة أيّام، ما لم يستضرّ المشتري

وجه الأوّل: أنّه وقت استحقاق الثمن، والعين متعذّره، فوجب الانتقال إلى القيمة.

ووجه الثاني: أنّه يجبُ على الشفيع في ذلك الحين، فيعتبر قيمته وقت الوجوب حيث يتعذّر العين.

ووجه الثالث: أنّه أخذٌ قهري كالغصب.

ويتوجّه على الأوّل: أنّ حال العقد وإن كان وقت استحقاق الثمن، بمعنى أنّه إنْ أخذ بالشفعة وجب عليه رَدّ الثمن، ولكنّه ما لم يفسخ لا يستحقّ الثمن، فوقت استحقاق الثمن حين الأخذ بالشفعة، وكذا وقت الوجوب.

وعليه، فالقول الثاني أظهر.

ويتوجّه على الثالث: أنّه وإن كان أخذاً قهريّاً، لكنّه بإذن مَنْ له الولاية على الجميع، فقياسه بالغصب مع الفارق، مضافاً إلى ما مرّ في كتاب الغصب(1) من منع ذلك فيه أيضاً، ولذا جعل هذا القول في محكي «غاية المراد» ممّا لا وجه له.

حكم ما لو ادّعى الشفيع غيبة الثمن

المسألة الخامسة: (ولو ذَكر) الشفيع (غيبة الثمن)، فالمعروف بينهم أنّه (اُجّل ثلاثة أيّام، وينظر لو كان في بلدٍ آخر بما يمكن وصوله إليه مع ثلاثة أيّام ما لم يستضرّ المشتري) بل لا أجدُ خلافاً بينهم في ذلك.

ص: 288


1- فقه الصادق: ج 29/141.

أقول: أمّا التأجيل، المزبور فيشهد به حسن علي بن مهزيار النهدي، قال:

«سألتُ أبا جعفر الثاني عليه السلام عن رجل طلب شفعة أرض، فذهب على أن يحضر المال فلم ينضّ ، فكيف يصنع صاحب الأرض إن أراد بيعها، أيبيعها أو ينتظر مجيء شريكه صاحب الشُّفعة ؟

قال عليه السلام: إن كان معه بالمصر فلينتظر به ثلاثة أيّام، فإنْ أتاه بالمال، وإلّا فليبع، وبطلت شفعته في الأرض، وإنْ طلب الأجل إلى أن يحمل المال من بلدٍ إلى آخر، فلينتظر به مقدار ما يسافر الرجل إلى تلك البلدة وينصرف، وزيادة ثلاثة أيّام إذا قدم، فإن وافاه وإلّا فلا شفعة له»(1).

والإيراد: عليه: بأنّه ظاهرٌ في الشُّفعة قبل البيع، كما في «الحدائق»(2)، قد مرّ جوابه عند ذكر شرطيّة القدرة على الثمن، فالمستفاد من هذا الخبر أنّه ينظر الشفيع إنْ لم يكن له مال، أو كان وماطل في دفعه ثلاثة أيّام.

وإن ادّعى كونه في بلدٍ آخر، يضاف إلى ثلاثة أيّام مقداراً من الزمان يمكن وصوله إليه ورجوعه، فإنْ دفع الثمن، وإلّا بطلت شفعته، وليس في الخبر ماباختصاصه بصورة العجز، بل إطلاق قوله: «لم ينضّ الثمن» شاملٌ لصورة المماطلة أيضاً.

أقول: ثمّ إنّ ظاهره - كما مرّ - الاختصاص بما لو أخذ بالشفعة، وكان التأخير في دفع الثمن، ومع عدم الأخذ بها قد مرّ أنّه لا وقت للأخذ، بل يجوز له التراخي.

وأمّا تقييد الحكم بما إذا لم يتضرّر المشتري، فهو وإن كان مشهوراً، وفي «الرياض»(3): (ظاهرهم الإطباق عليه)، لكن لم أجد ما يمكن أن يستدلّ به له في3.

ص: 289


1- وسائل الشيعة: ج 25/406 ح 32232، تهذيب الأحكام: ج 7/167 ح 16.
2- الحدائق الناضرة: ج 20/307-308.
3- رياض المسائل: ج 2/313.

وتثبت للغائب، ويُطالب مع حضوره

مقابل إطلاق النّص، إذ لم يذكروا سوى ما دلَّ على نفي الضَّرر والضِّرار مؤيّداً بإناطة ثبوت الشُّفعة بنفي الضَّرر، فينبغي أن يكون حيث لا يلزم من وجهٍ آخر، لأنّه مع التعارض ينبغي الرجوع إلى حكم الأصل وعدم الشُّفعة.

إلّا أنّه يمكن أن يوجّه عليه: بأنّ الضَّرر المالي غير متوجّه، والضَّرر في تأخير دفع الثمن ملازمٌ لجواز التأخير.

وعليه، فالخبر أخصّ مطلق من دليل نفي الضَّرر، فيقدّم عليه، فتأمّل.

ثبوت الشُّفعة للغائب والقاصر

المسألة السادسة: (وتثبت) الشُّفعة (للغائب) وإن طالت غيبته، (ويُطالبَ ) بها (مع حضوره) إنْ لم يتمكّن من الأخذ في الغيبة بنفسه أو بوكيله، بلا خلافٍ فيه.

ويشهد له: مضافاً إلى إطلاق الأدلّة، غير المعارض بما دلَّ على الفور على القول به، إذ قد مرّ أنّه على القول بالفور في الأخذ يكون ذلك فيما ليس للشفيع عذر في التأخير، فلا يشمل المقام:

قول السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1): «ليس لليهودي والنصراني شفعة، وقال: لا شفعة إلّالشريكٍ غير مقاسم.

وقال: قال أمير المؤمنين عليه السلام(2): وصيّ اليتيم بمنزلة أبيه، يأخذ له الشُّفعة إذا كان له رغبة.

وقال عليه السلام: للغائب شفعة».

ص: 290


1- وسائل الشيعة: ج 25/401 ح 32221، الكافي: ج 5/281 ح 6.
2- وسائل الشيعة: ج 25/401 ح 32221، من لا يحضره الفقيه: ج 3/79 ح 3375.

وللسفيه والصبي و المجنون المطالبة، يُطالبون مع زوال الأوصاف، أو الولي عنهم

(و) كذا تثبت الشُّفعة (للسّفيه والصبي والمجنون) بلا خلافٍ ، لإطلاق الأدلّة، ولهم وللولي عنهم (المطالبة):

فإمّا أن (يطالبون مع زوال الأوصاف، أو) يطالب (الولي عنهم) قبل زوالها.

أمّا مطالبتهم بعد زوال الأوصاف: فلأنّ تأخير الأخذ إنّما يكون عن عذرٍ، فلا تسقط الشُّفعة.

فإنْ قيل: على القول بجواز الأخذ بها للولي، لو قصر الولي لزم سقوطها بناء على المعروف من سقوط حقّ الشُّفعة بالتقصير في الأخذ.

قلنا: إنّ تقصير الولي لا يوجبُ سقوط حقّ المولّى عليه.

فإنْ قيل: إنّ ظاهر الأدلّة ثبوت الحقّ عند العقد، وثبوته بعد الكمال يحتاج إلى دليلٍ آخر.

قلنا: إنّ الحقّ ثابتٌ للقاصر من حين العقد، غاية الأمر ما دام قاصراً يكون الأخذ جائزاً للولي، وبعد الكمال يأخذ بنفسه، فليس الحقّ متجدّداً عند الكمال، بل هو مستمرٌّ من حين العقد، وإنّما المتجدّد أهليّة الأخذ، ودليله حينئذٍ ما دلَّ على رفع المنع بالكمال.

وأمّا جواز مطالبة الولي قبل زوال الوصف والأخذ بها: فلأنّ ذلك كسائر التصرّفات من بيع ماله، وإيقاع الصلح عليه، وما شاكل، يدلّ عليه ما دلَّ عليها، مضافاً إلى خبر السكوني المتقدّم في خصوص الصبي المُلحق به المجنون، لعدم القول بالفصل، ولاشتراكه مع الصبي في الأحكام بحسب الغالب، كما يشهد به الاستقراء.

ص: 291

والشفيع يأخذ من المشتري ودركه عليه

حكم ما لو أورد المشتري نقصاً على مورد الشُّفعة

المسألة السابعة: (والشفيع يأخذ) الشِّقص المبيع (من المشتري)، لأنّ المال انتقل إليه، وهو يتملّك عنه، فلا تسلّط له على أخذه من البائع، هكذا استدلّوا له.

ويردّه: أنّه بعد الأخذ بالشفعة، يكون الشقص المبيع مِلْكاً للشفيع، فله أخذه من كلّ من وجد ماله عنده، ويجبُ عليه تسليمه.

وعليه، فالأظهر أنّ له أخذه من كلّ منهما. نعم، إذا سلّم البائع المبيع إلى المشتري الأوّل، فحينئذٍ ليس للشفيع مطالبته من البائع، لما مرّ.

والظاهر أنّ مراد المشهور من أنّه ليس له الرجوع على البائع، هو هذه الصورة، فلا إيراد عليهم.

(و) متى كان كذلك ف (دَرَكه عليه)، أي على المشتري لو ظهر استحقاق الشقص، فيرجع عليه بالثمن وغيره ممّا يغرمه على ما فُصّل، ولا فرق في ذلك بين كونه في يد المشتري أو يد البائع بأن لم يكن أقبضه.

فرع: إذا أورد المشتري نقصاً على المبيع، من تلف بعض الأجزاء، أو وصفٍ من الأوصاف، ونقصت قيمته بذلك، فلا إشكال في أن الشفيع يأخذه بالثمن، كما هو مقتضى ظاهر أخبار الأخذ بالشفعة، مضافاً إلى المرسل الآتي، إنّما الكلام في أنّه:

1 - هل يكون المشتري ضامناً للشفيع بالمقدار التالف، كما هو المشهور لو كان التلف بعد المطالبة ؟

ص: 292

2 - أم يكون ضامناً إذا تلف من الشقص شيءٌ يقابَل بشيءٍ من الثمن ؟

3 - أم لا يكون ضامناً لشيء، بل الشفيع مخيّرٌ بين أخذه بالثمن، أو تركه، كما اختاره جمعٌ ، منهم الشيخ في «المبسوط»(1) وسيّد «الرياض»(2)؟ وجوه:

وجه الأوّل: أنّ الشفيع استحق بالمطالبة أخذ المبيع كاملاً، وتعلّق حقّه به، فإذا انتقص بفعل المشتري ضمنه له.

ووجه الثاني: أنّ إيجاب دفع الثمن في مقابلة بعض المبيع ظلمٌ .

أقول: لكن الأوّل يبتني على القول بتملّك الشفيع الشقص بالمطالبة دون الأخذ، وهو غير ظاهر، بل الظاهر أنّه يملكه بالأخذ، لظهور الأدلّة والأصل.

ويردّ الثاني: أنّه لا يجبُ دفع الثمن في مقابل بعض المبيع، بل هو مخيّر بين ذلك وبين تركه رأساً، فلا ظُلم.

وعليه، فالأظهر عدم الضمان، لأنّ المشتري تصرّف في ملكه تصرّفاً جائزاً، فلا يكون مضموناً عليه.

أقول: وأولى بذلك ما لو كان النقص بآفةٍ سماويّة، فإنّه يدلّ على الأخذ بتمام الثمن، وعدم الضمان المرسل المنجبر بعمل الأكثر(3)، وهو:

«كتبتُ إلى الفقيه عليه السلام: في رجل اشترى من رجلٍ نصف دار مشاعٍ غير مقسوم، وكان شريكه الذي له النصف الآخر غائباً، فلمّا قبضها وتحوّل عنها تهدّمت الدار، وجاء سيلٌ خارق فهدمها، وذهب بها، فجاء شريكه الغائب فطلب1.

ص: 293


1- المبسوط: ج 3/316-317.
2- رياض المسائل: ج 2/315.
3- وسائل الشيعة: ج 25/405 ح 32231.

ولو كان الثمن مؤجّلاً، أخذ الشفيع في الحال،

الشُّفعة من هذا، فأعطاه الشُّفعة على أن يعطيه ماله كملاً الذي نقد في ثمنها، فقال له:

ضِع عنّي قيمة البناء، فإنّ البناء قد تهدّم، وذهب به السيل، ما الذي يجبُ في ذلك ؟

فوقّع عليه السلام: ليس له إلّاالشراء، والبيع الأوّل إنشاء».

حكم اشتراء ما فيه الشُّفعة بثمن مؤجّل

المسألة الثامنة: (ولو كان الثمن) الذي اشترى به ما فيه الشُّفعة (مؤجّلاً)؛ ففيه قولان:

أحدهما: ما عن «الخلاف»(1)، و «المبسوط»(2)، والإسكافي(3)، والطبرسي(4)، وهو أنّ الشفيع بالخيار بين الأخذ بالثمن عاجلاً، وبين التأخير إلى الحلول وأخذه بالثمن وقت حلوله.

ثانيهما: ما عن المفيد(5)، والشيخ في «النهاية»(6)، والقاضي(7)، والحِلّي(8)، والمصنّف(9) وأكثر المتأخّرين(10)، بل عامّتهم، من أنّه ي (أخذ الشفيع في الحا ل،

ص: 294


1- الخلاف: ج 3/433.
2- المبسوط: ج 3/112.
3- مختلف الشيعة: ج 5/345.
4- حكاه عنه في المختلف: ج 5/345.
5- المقنعة: ص 620.
6- النهاية: ص 424.
7- المهذّب: ج 1/458.
8- السرائر: ج 2/388.
9- تذكرة الفقهاء: ج 1/597 (ط. ق).
10- رياض المسائل: ج 2/316 (ط. ق)، مجمع الفائدة: ج 9/38.

وألزم بكفيلٍ إذا لم يكن مليّاً على إيفاء الثمن عند الأجل.

واُلزم بكفيل إذا) أراده المشتري، و (لم يكن) وفياً (مليّاً على إيفاء الثمن عند الأجل).

واستدلّ للأوّل: - في محكي «الخلاف» و «المبسوط» - بأنّ الشُّفعة قد وجبت بنفس الشراء، والذّمم لا تتساوى، فوجبَ عليه الثمن حالاً، أو يصبر إلى وقت الحلول، فيطالب بالشفعة مع الثمن.

واُجيب عنه:

1 - بأنّه لا يلزم من عدم تساوي الذِّمم ثبوت أحد الأمرين المذكورين، لإمكان التخلّص بالكفيل: إمّا مطلقاً أو مع الملاءة.

2 - وبأنّه يستلزم أحد محذورين:

إمّا إسقاط الشُّفعة بعد ثبوتها إنْ أخّر إلى حلول الأجل، للإخلال بالفوريّة المستلزم لبطلانها.

أو إلزام الشفيع بزيادة وصفٍ في الثمن إن أخذ بالشفعة، وعجّل الثمن، لأنّ تعجيله زيادة وصف فيه من غير موجب.

واستدلّ للثاني: بما مرّ من الجواب الثاني عن الدليل للقول الأوّل.

ولكن يتوجّه عليه: أنّ الفوريّة لا دليل على اعتبارها، كما مرّ، فتأخير الأخذ بالشفعة لا يستلزمُ بطلانها.

ومع التسليم، قد مرّ أنّه فيما إذا لم يكن التأخير لغرض عقلائي ولعُذرٍ، وإلّا فلا يوجب سقوطها حتّى على القول بالفوريّة، والتأخير في المقام إنّما هو لمراعاة حال المشتري وثمنه عن الذهاب، فتأخير الأخذ بالشفعة لا محذور فيه.

ص: 295

والقول قول المشتري مع يمنيه في كميّة الثمن إذا لم يكن للشفيع بيّنة.

وأمّا تعجيله بثمن حال، فإنْ اُلزم بذلك لزم زيادة وصفٍ في الثمن، وإنْ جُعل الخيار له، فلا يلزم المحذور المذكور، مع أنّ تعجيل الثمن لا يوجبُ عدم صدق الأخذ بالثمن الذي هو المأخوذ في الأخبار، فإن زيادته حُكميّة لا تنافي صدق العنوان.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر هو كونه بالخيار بين الأخذ بالثمن عاجلا وبين التأخير إلى الحلول، وبين الأخذ بها في الحال، وتأخير الثمن إلى الأجل مع الكفيل.

ودعوى: أنّه إحداثُ قولٍ ثالث مردودة، لأنّه لا محذور فيه في أمثال هذه المسألة المبتنية على القواعد، ولم يرد فيها نصٌّ خاص.

حكم الاختلاف في قدر الثمن

المسألة التاسعة: (و) لو اختلف المشتري والشفيع في الثمن الذي وقع عليه العقد، بعد اتّفاقهما على وقوع الشراء، فادّعى الأوّل أنّه ألفٍ مثلاً، والثاني أنّه خمسمائة، فالمشهور بين الأصحاب أنّ (القول قولُ المشتري مع يمينه في كمية الثمن، إذا لم يكن للشفيع بيّنة)، واستدلّ له:

1 - بأنّه الذي يُنتزع الشيء من يده.

2 - وبأنّه أعرف بعقده.

3 - وبأنّه ذو اليد.

ص: 296

4 - وبأنّ الذي يُترك لو تَرك هو الشفيع، إذ لا يطلبه المشتري للأخذ بالشفعة فيما يدّعيه.

5 - وبأنّ المشتري لا دعوى له على الشفيع، إذ لا يدّعي شيئاً في ذمّته، ولا تحت يده، وإنّما الشفيع يدّعي استحقاق مِلْكه بالشفعة بالقدر الذي يعترف به، والمشتري ينكره، ولا يلزم من قوله: (اشتريتُ بالأكثر) بأنْ يكون مدّعى عليه، وإن كان خلاف الأصل، لأنّه لا يدّعي استحقاقه إيّاه عليه، ولا يطلب تغريمه إيّاه.

أمّا الوجه الأوّل: فقد استدلّ به الفقهاء في موارد عديدة، منها ما لو شاهد عيناً في زمانٍ سابق على العقد عليها، فأوقعا العقد، ثمّ ادّعى المشتري تغيّرها، حيث قالوا يقدّم قول المشتري، لأنّه الذي يُنتزع منه الثمن، ولا يُنتزع منه إلّاببيّنة تقوم عليه أو بإقراره.

ولكن يضعف ذلك في المقام: باعتبار ثبوت حقّ الانتزاع للشفيع قطعاً، وإنّما الخلاف فيما يجب دفعه، فلو تمّ هذا الوجه، لزم تقديم قول الشفيع، لأنّه الذي ينتزع منه الثمن.

وأمّا الوجه الثاني: فيضعف بأنّه لا خلاف في العقد، بل وقوعه متّفقٌ عليه، وإنّما الخلاف فيما وقع عليه العقد. وأمّا كونه أعرفُ به، فممنوعٌ مطلقاً، وعلى فرضه لا يوجبُ هذه إلّاعرفية تقديم قوله.

ويتوجّه على الثالث: أنّ حجيّة قول ذي اليد حتّى بالنسبة إلى الاُمور السابقة على اليد غير ثابتة، كما أنّ حجيّة قوله فيما خرج عن تحت يده غيره ثابتة، فلا دليل على حجيّة قوله بالنسبة إلى الثمن، ولا بالنسبة إلى ثمن ما بيده.

ص: 297

والشُّفعة تورث كالأموال

وعلى الوجه الرابع: أنّ الشفيع لا يُترك لو تَرك فيما هو محلّ الدعوى، وهو قدر الثمن، إذ ليس النزاع في الأخذ بالشفعة.

وأمّا الوجه الخامس: فيردّه أنّ ما يدّعيه الشفيع من استحقاق ملكه بالشفعة لا نزاع فيه، وبالنسبة إلى القدر الذي محلّ النزاع تكون الدعوى للمشتري على الشفيع، لأنّه يدّعي الزيادة.

وظاهر «المسالك»(1): اختيار أنّ القول قول الشفيع، لأنّ الأصل معه في ما هو مورد النزاع، وهو قدر الثمن، لأصالة عدم الزيادة، فيكون الشفيع منكراً، والمشتري مدّعياً، فيدخل في عموم ما دلَّ على أنّ : «اليمين على من أنكر».

وأُورد عليه: بأنّ أصالة عدم الزيادة لا تصلح لإثبات كون الثمن هو الناقص.

وفيه: أنّه بعدما لا يلزم من الأخذ بالشفعة دفع الثمن أوّلاً، لو أخذ بالشفعة إنشاءً فقد انتقل إليه المبيع على كلّ تقدير، وثبت الثمن في ذمّته، فأصالة عدم الزيادة تصلح لإثبات عدم اشتغال ذمّته بأزيد ممّا يدَّعيه الشفيع، وعليه فهذا القول أظهر.

لا تورث الشُّفعة

المسألة العاشر: (و) قد وقع الخلاف بينهم في أنّ (الشُّفعة) هل (تورث كالأموال) أم لا تورث ؟

ص: 298


1- مسالك الأفهام: ج 12/373.

1 - ذهب المفيد(1)، والمرتضى(2)، وأبو علي(3)، والشيخ في بيع «الخلاف»(4)، والحِلّي(5)، والمصنّف(6)، والشهيدان(7)، وغيرهم(8) - على ما حكي عن بعضهم - إلى الأوّل، وفي «المسالك»(9) نسبته إلى الأكثر.

2 - وعن الشيخ في «النهاية»(10)، وموضعٍ من «الخلاف»(11)، والقاضي(12)، والطبرسي(13): أنّها لا تُورث، بل تبطل بموت الشفيع. وعن «المبسوط»(14) نسبته إلى أكثر الأصحاب.

واستدلّ للأوّل: بأنّها حقٌّ للميّت فتورث، لظاهر القرآن والسُنّة وللنبويّ : «ما تركه الميّت من حقّ فلوارثه»(15).2.

ص: 299


1- المقنعة: ص 619.
2- الانتصار: ص 451.
3- كما حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 6/403 (ط. ق).
4- الخلاف: ج 3/27.
5- السرائر: ج 2/392.
6- في تبصرة المتعلّمين: ص 132 وغيرها.
7- اللّمعة الدمشقيّة: ص 148، مسالك الأفهام: ج 12/340.
8- جامع المقاصد: ج 6/447.
9- مسالك الأفهام: ج 12/340.
10- النهاية: ص 425-426.
11- الخلاف: ص 436-437.
12- المهذّب: ص 459.
13- حكاه عنه في المختلف: ج 5/348.
14- المبسوط: ج 3/113.
15- لم أعثر على هذا الخبر في كتب الأحاديث من العامّة والخاصّة وإنْ استدلّ الفقهاء به في الكتب الفقهيّة، كمفتاح الكرامة والرياض: ج 2/317، والجواهر: ج 37/391-392، والمسالك: ج 12/340، وغيرها كالحدائق الناضرة: ج 20/292.

وفيه: - مضافاً إلى عدم العثور على النبويّ - أنّ الاستدلال بالكتاب والسُنّة لهذا الحكم يتوقّف على ثبوت أمرين:

أحدهما: كونه حقّاً قابلاً للانتقال، لا حكماً شرعيّاً، كجواز الرجوع في الهبة وسائر العقود الجائزة، إذ الحكم الشرعي لا يورث.

ثانيهما: كونه حقّاً لا يكون وجود الشخص ولا حياته مقوّماً له، وإلّا فلا يصدق عليه أنّه حقٌّ متروك.

وشيءٌ من الأمرين لم يثبت، إذ لم يدلّ دليلٌ على أنّه من الحقوق، وقد مرّ ضابط الحقّ والحكم في كتاب الوصيّة(1)، وعرفت أنّه حتّى لو أطلق الحقّ على شيءٍ في الأخبار، لا يكون ذلك دالّاً على أنّه حقٌّ مصطلح، فضلاً عمّا إذا لم يطلق عليه، كما أنّه لا دليل على بقائه بعد الموت، والاستصحاب لا يجري، لعدم جريانه في المجعول الشرعي الكلّي.

أضف إلى جميع ذلك: ورود نصّ خاصٍ دالّ على أنّها لا تُورث، وهو: خبر طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام في حديثٍ :

«أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال(2): لا تورث الشُّفعة».

فإنْ قيل: إنّه ضعيفُ السند لطلحة.

قلنا أوّلاً: أنّه وإن قال جماعة إنّه عامّيٌ ، وقال آخرون إنّه بُتْريّ ، إلّاأنّه في محكي «الفهرست»(3) إنّ كتابه معتمد، وعن المجلسي الثاني أنّه كالموثّق.9.

ص: 300


1- فقه الصادق: ج 30/314 و راجع: أيضاً ج 22/263.
2- وسائل الشيعة: ج 25/407 ح 32235، تهذيب الأحكام: ج 7/167 ح 18.
3- الفهرست: ص 149.

ولو أسقط الشُّفعة قبل البيع لم تبطل،

وإذا انضمّ إليذلك رواية صفوان بن يحيى عنه - وعمل أكثر المتقدّمين بخبره، كما عن «المبسوط» - لا يبقى شكٌّ في الاعتماد عليه.

وبالجملة: فالأظهر أنّها لا تُورث.

ثمّ إنّه على القول بأنّها تورث، وقع الكلام في كيفيّة إرثها، وما ذكرناه في كيفيّة إرث الخيار جارٍ في المقام، فلا حاجة إلى الإعادة.

مسقطات الشُّفعة

المسألة الحادية عشرة: اختلفت كلمات الأصحاب في أُمورٍ أنّها هل تُسقط الشُّفعة أم لا؟ بعد اتّفاقهم على أنّها تسقط بالإسقاط بعد البيع.

(و) المسقط الأوّل: هو (لو أسقط الشُّفعة قبل البيع)، فالإسكافي(1) والشيخ(2)، والمحقّق في «النافع»(3)، والمصنّف(4) هنا وفي جملةٍ من كتبه، وولده(5)، والمقداد(6)، والكَركي(7)، والشهيد الثاني(8)، والفاضل الخراساني(9) - على ما حكي عن بعضهم - على أنّه (لم تبطل).

ص: 301


1- مختلف الشيعة: ج 5/341.
2- المبسوط: ج 3/141-142.
3- المختصر النافع: ص 250.
4- تبصرة المتعلّمين: ص 132.
5- إيضاح الفوائد: ج 2/218.
6- كما حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 37/427.
7- جامع المقاصد: ج 6/440.
8- مسالك الأفهام: ج 12/361.
9- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 37/427.

بخلاف ما لو بارك

وعن «الإرشاد»(1): البناء على السقوط وإنْ قال: (على رأي)، وهو ظاهر «غاية المراد»(2)، و «مجمع البرهان»(3)، وفي «الشرائع»(4): (فيه تردّد).

وجه السقوط: أنّ الحقّ له، فإذا أسقطه سقط، كما لو أسقطه بعد البيع(5).

واستدلّ للأوّل: بعموم الأدلّة.

وأنّه إنّما يستحقّق المطالبة بعد البيع، ولا حقّ له قبله، فإذا أسقط قبله فقد أسقط ما ليس له، ومجرّد الرضا بالبيع لا يكفي في سقوط الحقّ ، فلا سبيل إلى القول بأنّه لبقاء الرضاء به بعد البيع يكون مسقطاً لها.

وفيه: أنّه لو أسقط حقّه منجّزاً، كان ذلك إسقاطاً لما لم يجب، وأمّا لو أسقطه معلّقاً فلا محذور فيه، إلّاالتعليق، وعدم الجزم الممنوع عنه في العقود، فضلاً عن الإيقاعات، وهو هنا لا يضرّ، إذ المتيقّن من دليل المنع - كما مرّ في كتاب البيع - التعليق على ما لا يتوقّف تحقّق مفهوم الإنشاء عليه، أمّا في المقام وأمثاله كإبراء ما احتمل اشتغال ذمّته به، وطلاق مشكوك الزوجيّة، وما شاكل، فلا مانع منه، لأنّ مفهوم العقد أو الإيقاع معلق عليه في الواقع من دون تعليق المتكلّم.

وعليه، فالأظهر هو السقوط.

المسقط الثاني: ما أشار إليه المصنّف رحمه الله(6) بقوله: (بخلاف ما لو بارك)2.

ص: 302


1- إرشاد الأذهان: ج 1/387.
2- حكاه في جواهر الكلام: ج 37/428.
3- مجمع الفائدة: ج 9/44-45.
4- شرائع الإسلام: ج 4/788.
5- فقه الصادق: ج 23/38.
6- تبصرة المتعلّمين: ص 132.

أو شهد على إشكالٍ .

للمشتري أو للبائع، فقال: (بارك اللّه تعالى لكما في البيع) أو (هو مباركٌ لكما) أو نحو ذلك، فإنّ فيه أيضاً قولين.

وادّعى سيّد «الرياض»(1): (أنّ كلّ من قال بالبطلان والسقوط في الموضع الأوّل قال به هنا، وكذا من قال بعدم البطلان قال به في هذا الموضع)، إلّاالمحقّق في «النافع»(2) والمصنّف رحمه الله هنا، ومحكي «الإرشاد»(3).

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ لسقوط الحقّ هنا:

1 - بتضمّنه الرّضا بالبيع.

2 - وبمنافاته الفوريّة.

ولكن يتوجّه على الأوّل: أنّ الرضا بالبيع ليس مسقطاً، ولعلّه يرضى به ليأخذ بالشفعة.

وعلى الثاني: ما مرّ من عدم اعتبار الفوريّة، مع أنّ القول المزبور لا ينافيها.

وعليه، فالأظهر عدم السقوط هنا.

أقول: وبما ذكرناه يظهر الحال في الموضع الثالث، وهو ما لو شهد على البيع، إذ لادليل على سقوطالشُّفعة سويدلالته على الرضا بالبيع، وقدعرفت عدم كونه مسقطاً.

فتحصّل: أنّ الأظهر أنّه لو بارك (أو شهد) لا يسقط الحقّ ، فلا وجه لما في المتن من البناء على السقوط مع أحدهما، وإن قال (على إشكال).

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بمباحث الشُّفعة، والحمد للّه أوّلاً وآخراً.

***7.

ص: 303


1- رياض المسائل: ج 2/317 (ط. ق)
2- المختصر النافع: ص 250.
3- إرشاد الأذهان: ج 1/387.

ص: 304

بحثٌ

حول قاعدة لا ضرر

ص: 305

ص: 306

الحمد للّه ربّ العالمين، وأفضل الصَّلوات، وأكمل التحيّات على أشرف الخلائق، محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

وبعدُ، فلمّا كانت قاعدة (لا ضرر) من أهمّ القواعد الفقهيّة، لابتناء كثيرٍ من الأحكام الشرعيّة عليها، فلهذا صنّف فيها جمعٌ من الفحول، منهم الشيخ الأعظم رسالة مستقلّة، وقد حرّرتُ في سالف الزمان فيها رسالة، بعد إلقاء ما يتعلّق بها إلى فريقٍ من أرباب العلم والفضل، فأحببتُ إلحاقها بهذا الكتاب، واللّه الموفّق للصواب.

أقول: وتنقيح القول في هذه القاعدة يتحقّق بالبحث في مقامات.

1 - في مدركها.

2 - في مفادها، ومعنى العبارات الواردة في النصوص، وبعبارة اُخرى في فقه الحديث.

3 - في دفع ما أُورد عليها من الإيرادات.

4 - في التنبيهات المبنيّة لحدود هذه القاعدة، والمشتملة على بعض ما يتفرّع عليها ممّا عنونه الفقهاء، مستدلّين عليها بها.

5 - في بيان حالها مع الأدلّة الاُخر المعارضة لها.

6 - في حكم الإضرار بالنفس.

***

ص: 307

بيان مدرك القاعدة

أمّا المقام الأوّل: فقد ورد فيها روايات كثيرة، ففي «الرسائل»: (قد ادّعى فخرالدِّين في «الإيضاح» في باب الرهن، تواتر الأخبار على نفي الضّرر والضِّرار)، ولكنّه رحمه الله في الرسالة المستقلّة التي كتبها عن هذه القاعدة بعد نقل ذلك عن الفخر، قال إنّه لم يعثر عليه.

وكيف كان، فالروايات الواردة في القاعدة كثيرة:

منها: موثّق ابن بكير، الذي رواه المشايخ الثلاثة - أسنانيد بعضها صحيحة - عن زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام(1):

«أنّ سَمُرة بن جُنْدَب كان له عِذْق في حائطٍ لرجلٍ من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذنه، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء، فأبى سَمُرة، فلما تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فشكا إليه وخبّره الخبر، فأرسل إليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله وخبّره بقول الأنصاري وما شكا، وقال:

إذا أردتَ الدّخول فاستاذن، فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء اللّه، فأبى أن يبيع، فقال صلى الله عليه و آله: لك بها عِذقٌ يمدّ لك في الجنّة، فأبى أن يقبل، فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله للأنصاري: اذهب فاقلعها وأرمِ بها إليه، فإنّه لا ضَرر ولا ضِرار».

ومنها: ما رواه ابن مسكان، عن أبي جعفر عليه السلام(2) المتضمّن لقضيّة سَمُرة، وهو

ص: 308


1- وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32281، الكافي: ج 5/292 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 25/429 ح 32282، الكافي: ج 5/294 ح 8.

نحو ما تقدّم، إلّاأنّه قال:

«فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّك رجلٌ مضار، ولا ضَرر ولا ضرار على مؤمن.

قال: ثمّ أمرَ بها فقُلِعت ورُمي بها إليه، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: انطلق فاغرسها حيثُ شئت».

ومنها: ما رواه الصدوق بإسناده عن الحسن الصيقل، عن أبي عبيدة الحذّاء، قال: «قال أبو جعفر عليه السلام(1).... ثمّ نقل القصّة نحو ما تقدّم، إلّاأنّه قال صلى الله عليه و آله بعد الامتناع: «ما أراك يا سَمُرة إلّامضارّاً، اذهب يا فلان، فاقطعها واضرب بها وجهه».

وهذا الخبر وإنْ لم يشتمل على جملة (لا ضرر ولا ضرار) إلّاأنّه يتضمّن لصغرى القاعدة، واستنتج منها الأمر بقلع الشجرة.

أقول: ثمّ إنّه لا كلام في أنّ هذه الأخبار الثلاثة تحكي عن قصّة واحدة، والظاهر منها أنّه كان لسَمُرة حقّ العبور إلى نخلته من البستان، وكان استيفاء حقّه بلا إذن من الأنصاري إضراراً به، ولم يرض سَمُرة بالجمع بين الحقّين.

ومنها: ما رواه المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن عقبة بن خالد، عن أبي عبداللّه عليه السلام(2): «قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن، وقال: لا ضرر ولا ضرار، وقال: إذا اُرفت الأُرف وحدّت الحدود فلا شفعة».

ومنها: ما رواه في «الكافي» بإسناده عن عقبة بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام(3): «قضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع6.

ص: 309


1- وسائل الشيعة: ج 25/427 ح 32279، من لا يحضره الفقيه: ج 3/103 ح 3423.
2- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32217، الكافي: ج 5/280 ح 4.
3- وسائل الشيعة: ج 25/420 ح 32257، الكافي: ج 5/293 ح 6.

نقع الشيء، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يُمنع فضل ماء ليُمنع فضل كلاء، فقال:

لا ضرر ولا ضرار».

ومنها: خبر هارون بن حمزة الآتي في بيان معنى الضِّرار.

ومنها: ما رواه الصدوق في «الفقيه»، قال: «قال النبيّ صلى الله عليه و آله(1): لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، فالإسلام يزيد المسلم خيراً، ولا يزيده شرّاً».

ومنها: خبر «دعائم الإسلام» عن الإمام الصادق، عن أبيه، عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: لا ضرر ولا ضرار».

ومنها: خبر «الدعائم» عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّه سُئل عن جدار الرجل وهو سُترة بينه وبين جاره سقط عنه، فامتنع من بنائه ؟

قال عليه السلام: ليس يُجبر على ذلك - إلى أن قال - قيل له: وإن كان الجدار لم يسقط، ولكنّه هدّمه أو أراد هدمه إضراراً بجاره لغير حاجة منه ؟

قال عليه السلام: لا يُترك، وذلك أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: لا ضرر ولا ضرار، وإنْ هَدّمه كُلّف أن يبنيه».

منها(2): مرسل العلّامة، أنّه صلى الله عليه و آله قال: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

منها(3): ما رواه شيخ الطائفة، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا ضرر ولا ضرار».

ومنها: ما رواه السيّد ابن زُهرة في «الاحتجاج» على حُكم الأرش، قال(4):3.

ص: 310


1- وسائل الشيعة: ج 26/14 ح 32382، من لا يحضره الفقيه: ج 4/334 ح 5717.
2- تذكرة الفقهاء: ج 1/522.
3- الخلاف: ج 3/42.
4- غنية النزوع: ص 223.

(ويحتجُّ على المخالف بقوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار»).

هذه هي الروايات الواصلة إلينا من طرق الشيعة، وفي المقام روايات من طرق العامّة أيضاً:

منها: ما رواه أحمد بن حنبل(1) من طريق ابن عبّاس، ومن طريق عبادة بن صامت، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا ضرر ولا ضرار».

ورواه النوويّ (2) في «الأربعين» عن أبي سعيد سعد بن مالك الخزرجي، وذكر أنّ ابن ماجة(3)، والدارقطني(4) رويا الحديث مُسنداً.

ورواه مالك(5) في «الموطّأ» عن عمرو بن يحيى ، عن النبيّ صلى الله عليه و آله مرسلاً، ثمّ قال:

(وله طرقٌ يقوّي بعضه بعضاً)، راجع «المجالس السنيّة في شرح الأربعين»(6).

وما رواه ابن الأثير في «النهاية» أنّه صلى الله عليه و آله قال(7): «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام».

أقول: هذه جميع ما وصلنا من النصوص، وهناك نصوصٌ متضمّنة للنهي عن الإضرار بالغير، كجملةٍ من الآيات، نتعرّض لها في آخر الرسالة، وإنّما المهمّ في المقام تنقيح القول في الجملة المذكورة في هذه النصوص.

وتمام الكلام في هذا المقام في جهات:1.

ص: 311


1- مسند أحمد: ج 5/326-327.
2- زبدة الاُصول: ج 3/435، ومن الطبعة الجديدة في ج 5.
3- سنن ابن ماجة: ج 2/784.
4- سنن الدارقطني: ج 3/64.
5- كتاب الموطأ: ج 2/805.
6- النوويّة: ص 98 مجلس 32.
7- النهاية في غريب الحديث: ج 3/81.

البحث عن سند الحديث

الجهة الأُولى: لا ينبغي التوقّف في أنّ نصّ الجملة المذكورة في هذه الأخبار صادرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: صحّة بعض طرق الحديث، كالخبر الثاني، فإنّ رجال سنده كلّهم عدول ثقات إماميّون بالاتّفاق، عدا ابن بُكير، الذي هو من الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، فهو بمنزلة الصحيح أو أعلى منه، وبعض آخر منها ستقف عليه.

الوجه الثاني: اشتهار الحديث بين الفريقين، حتّى ادّعى بعض أصحابنا تواتره.

الوجه الثالث: استناد الأصحاب إليه، ونقله في كتبهم على وجه الاعتماد عليه.

البحث عن متن الحديث

الجهة الثانية: في تشخيص متن الحديث، المرويّفي أكثرالنصوص، وهو قوله صلى الله عليه و آله:

«لا ضَرر ولا ضرار، بلا زيادة كلمتي (في الإسلام) و (على مؤمن). أمّا جملة (على مؤمن) فقد اُضيف في الخبر الأوّل، وحيث إنّه ضعيفٌ ، لأنّه رواه محمّد بن خالد عن بعض أصحابنا عن ابن مسكان عن زراة، فهو مرسلٌ ، فلا يعتمد عليه.

وأمّا كلمة (في الإسلام) فقد أصرّ شيخ الشريعة الإصفهاني قدس سره(1) على عدم وجودها في شيءٍ من طرق الخاصّة والعامّة، وفي مقابله ادّعى بعض معاصريه

ص: 312


1- راجع: رسالة قاعدة لا ضرر ولا ضرار، لشيخ الشريعة الإصفهاني.

استفاضة الحديث مع هذا القيد، وأسند إلى المحقّقين دعوى تواتر هذا الحديث مع هذه الزيادة.

أقول: والحقّ أنّ القولين إفراط وتفريط، لوجودها في جملةٍ من الأخبار، منها مرسل الصدوق(1) الذي هو حجّة، لأنّ الإرسال على نحوين:

أحدهما: ما إذا كان التعبير بلفظ (رُوي) ونحوه.

ثانيهما: ما إذا كان بلفظ (قال) وما شاكل.

وبعبارة اُخرى : يُسنِد المرسل الخبرَ جزماً إلى من رَوى عنه الواسطة.

والأوّل لا يكون حجّة، والثاني حجّة، لأنّ المرسل إذا كان ثقة، فإنّ إسناده إلى من روى عنه الواسطة، كاشفٌ عن ثبوت الرواية عنده، إذ لا يجوز الإسناد بغير ذلك، والمقام من قبيل الثاني كما لا يخفى .

ودعوى: أنّ التعبير بلفظ (قال) إنّما يصحّ مع ثبوت صدور الرواية عند المُرسِل ولو من جهة القرائن، وحيث يحتمل أن تكون تلك القرائن غير موجبة للإطمينان عندنا، فلا يعتمد عليه.

مندفعة: بأنّه إذا فرضنا أنّ الخبر الذي يراه المُرسِل حجّة نراه حجّة، ولا اختلاف بيننا وبينه في المبنى، وحيث إنّ تشخيص موضوع ذلك ليس متوقّفاً على مقدمات بعيدة، كي يحتمل أن يكون التشخيص غلطاً، فلا محالة نكتفي بثبوت الصدور عنده.

لا يقال: إنّه يحتمل أن يكون ما رواه الصدوق رحمه الله إشارة إلى ما أفاده النبيّ صلى الله عليه و آله في3.

ص: 313


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/103 ح 3423.

ذيل قضيّة سَمُرة، والمرويّ هناك يكون مجرّداً عن هذه الكلمة.

فإنّه يجاب عنه أوّلاً: بأنّ مجرّد الاحتمال لا يصلح دليلاً لرفع اليد لما يكون الخبر متضمّناً له، فلعلّه صدر هذه الجملة عن النبيّ صلى الله عليه و آله مرّتين، تارةً مع الزيادة، واُخرى بدونها.

وثانياً: لو دار الأمر بين الزيادة والنقيصة، يكون الترجيح لما تضمّن الزيادة، فإن احتمال الغفلة في الزيادة، أبعدُ من احتمال الغفلة في النقيصة.

وما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1): من أنّ تقدّم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة لا يكون تعبديّا صرفاً، بل هو من باب بناء العقلاء، وأبعديّة الغفلة بالنسبة إلى الزيادة عن الغفلة بالنسبة إلى النقيصة، وهذا إنّما يتمّ في الزيادات البعيدة عن الأذهان دون المعاني المأنوسة، كما في المقام، فإنّ نفي الضَّرر حيث إنّه من المجعولات الشرعيّة، فيتوهّم الراوي اقترانه بهذه الكلمة، سيّما مع ثبوتها في أغلب أقضيته صلى الله عليه و آله.

غير تامّ : لأنّ الرواي إذا كان ثقة معتمداً في النقل، لا يضيف إلى ما يرويه شيئاً من عنده، فينحصر وجه الزيادة في الغفلة، فيجري فيه الوجه المذكور.

ولا يتوهّم: أنّ وجود هذه الكلمة وعدمه سيّان، لعدم الفرق في معنى لا ضرر ولا ضرار بزيادتها ونقصها، إذ لو لم تكن في ذيل الحديث المبارك، لكان المنفيّ أيضاً هو الحكم المجعول في الإسلام، كما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2)؛ لأنّه إذا ثبت أنّ مفاد (لا ضرر) نفي الحكم الضَّرري، كان ما أفاده تامّاً، ولكن سيأتي أنّ جماعةً ذهبوا إلى أنّ مفاده النهي عن الإضرار بالغير، ووجود كلمة (في الإسلام) يصلح رادّاً عليهم، كما سيمرّ عليك في محلّه.5.

ص: 314


1- مينة الطالب: ج 3/365.
2- مينة الطالب: ج 3/365.

فالمتحصّل: أنّ الصادر عن النبيّ صلى الله عليه و آله جملة: «لا ضرر ولا ضرار» تارةً مجرّداً، واُخرى مع زيادة كلمة (في الإسلام).

موقع صدور الحديث

الجهة الثالثة: البحث عن موقع صدور الحديث.

أقول: المتيقّن وروده في ذيل قضيّة سَمُرة، ويحتمل وروده مستقلّاً، وظاهر الأخبار المتقدّمة وروده في ثلاثة مواضع أُخر:

أحدهما: ذيل قضائه في الشُّفعة.

ثانيها: ذيل قضائه صلى الله عليه و آله في منع فضل الماء.

ثالثها: ذيل ما تضمّن حكم جدار الرجل الذي هو سُترة بينه وبين جاره، وقد سقط فامتنع من إعادة بنائه.

أمّا في الموضع الثالث: فحيث إنّ الخبر المتضمّن له هو خبر «دعائم الإسلام»(1)، وهو ضعيف للإرسال، ولعدم ثبوت وثاقة صاحب الكتاب، فلا وجه للتعرّض له.

وأمّا الموضعان الأولان: فلقد أصرَّ شيخ الشريعة رحمه الله(2) على عدم كون حديث الشُّفعة والناهي عن منع الفضل حال صدورهما من النبيّ صلى الله عليه و آله مذيّلين بحديث الضَّرر، وأنّ الجمع بينهما وبينه جمعٌ من الراوي بين روايتين صادرتين عنه صلى الله عليه و آله في وقتين مختلفين، وتبعه في ذلك جماعة، منهم المحقّق النائيني رحمه الله(3)، وقد ذكروا في مقابل ظهور

ص: 315


1- دعائم الإسلام: ج 2/449.
2- حكاه عنه في كتاب منية الطالب: ج 3/369.
3- منية الطالب: ج 3/369.

السياق في كون الجمع من الجمع في المرويّ لا من الجمع في الرواية، وجوهاً:

الوجه الأوّل: ما أفاده شيخ الشريعة، وحاصلة(1): أنّ أقضيّة النبيّ صلى الله عليه و آله مرويّة من طرق أهل السُنّة برواية عُبادة بن الصّامت مجتمعة، وهي بعينها مرويّة من طرقنا برواية عُقبة متفرّقةً على حسب تفرّق الأبواب، وحديث الشُّفعة والنهي عن منع فضل الماء ليسا مذيّلين بحديث الضَّرر في نقل عبادة، بل هو مذكور مستقلّاً، وفي نقل عُقبة لم يذكر مستقلّاً، بل في ذيلهما، وبعد كون عُبادة من أجلّاء الشيعة، مع ما علم من استقراء رواياته من إتقانه وضبطه، وأنّ المروي عن عُقبة قد تمَّ تقطيعه، وذُكر كلّ قطعةٍ منه في باب، يقطع الإنسان أنّ حديث الضَّرر مستقلّ .

وبعبارة اُخرى : أنّه من توافق النقلين حتّى في العبارات يحدس الإنسان قطعيّاً أنّ الأقضيّة كما كانت مجتمعة في رواية عبادة، وكان من قبيل الجمع في الرواية لا في المرويّ كما هو واضح، كانت مجتمعة في خبر عُقبة بن خالد أيضاً، لا سيّما أنّ الراوي عن عُقبة في جميع الأبواب المتضمّنة لتلك الأقضيّة المتشتّتة، هو محمّد بن عبد اللّه بن هلال، والراوي عنه محمّد بن الحسين، والراوي عنه محمّد بن يحيى، وهذا كلّه يوجب الإطمينان بعدم وجود الذيل في حديث الشُّفعة والمنع من فضل الماء في خبر عُقبة، بل كان قضاء مستقلّاً منه صلى الله عليه و آله، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ إلغاء هذا الذيل من الحديثين لا يجرّ نفعاً، ولا يدفع ضرراً عن عبادة.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2)، من أنّه لو كان من تتمّة قضيّة اُخرى في رواية عُقبة، لزم خلوّ رواياته الواردة في الأقضية عن هذا القضاء الذي0.

ص: 316


1- حكاه عنه في كتاب منية الطالب: ج 3/369.
2- منية الطالب: ج 3/370.

هو من أشهر قضاياه صلى الله عليه و آله.

الثالث: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً(1)، من أنّ (لا ضرار) على ما ستعرف معناها لا يناسب حديث الشُّفعة ومنع فضل الماء.

الوجه الرابع: أن بيع الشريك ليس علّة للضرر، بل ولا مقتضياً له، وهكذا منع فضل الماء لا يوجب الضَّرر، نعم لا ينتفع الممنوع، وليس عدم النفع ضرراً.

الوجه الخامس: أنّ تضرّر الشريك ببيع شريكه حصّته من غيره لا يكون ضرريّاً إلّافي بعض الموارد، فبين مورد ثبوت الخيار وتضرّر الشريك بالبيع عموم من وجه.

الوجه السادس: أنّ الضَّرر لو كان في بيع الشريك، فإنّما هو آتٍ من قبل البيع نفسه، فلو كان ذلك مورداً للقاعدة، لزم الحكم بالبطلان، فإنّ ثبوت الخيار جابرٌ للضرر على تقدير وجوده.

الوجه السابع: أنّ النهي عن المنع من فضل الماء إنّما يكون تنزيهيّاً، فلا يندرج تحت كبرى (لا ضرر).

أقول: والجميع قابلة للخدشة:

أمّا الأوّل: - فمضافاً إلى أنّ عبادة، وإن كان من أجلّاء الشيعة، إلّاأنّ الرواة عنه عاميّون لم يثبت وثاقتهم - أنّ عبادة لم يذكر جميع أقضية النبيّ صلى الله عليه و آله، كيف وهو لم ينقل قضاءه في قضيّة سَمُرة، وما ذكره من لا ضرر ولا ضرار مستقلّاً، الظاهر أنّه قام بتقطيع قضيّة سَمُرة ونقل ما في ذيلها، فلعلّه لم يذيّل حديث الشُّفعة والمنع من فضل الماء بهذه الجملة لبنائه على التقطيع، واتّكاءاً على ذكرها مستقلّاً.0.

ص: 317


1- منية الطالب: ج 3/370.

وأمّا الثاني: فلأنّه لا محذور في الالتزام بأنّ عُقبة لم ينقل هذه القضيّة المشهورة، كما لم ينقل قضيّة سَمُرة.

وأمّا الثالث: فلأنّه ستعرف أنّ (ضرار) بمعنى التعمّد في الضَّرر، وهذا يلائم مع قضائه صلى الله عليه و آله في الموردين، مع أنّ الاستشهاد بالكبرى الكليّة لا يجبُ أن يكون جميع تلك الكبرى منطبقة على ما استشهد بها له، مثلاً(1) نرى أنّه عليه السلام في خبر البزنطي وصفوان استشهد برجل اُكره على اليمين فحلف بالطلاق والعتاق وصَدَقة ما يملك، بقوله صلى الله عليه و آله: «وضع عن امّتى ما اُكرهوا عليه، وما لم يطيقوه، وما أخطأوا» مع أنّ المنطبق على المورد خصوص ما اُكرهوا.

ونرى أيضاً صحّة أن يجاب عمّن سئلنا عن من ترك صلاته وهو نائم، بأنّه رُفع القلم عن الصبي والمجنون والنائم، فليكن المقام من هذا القبيل.

وأمّا سائر الوجوه: فلأنّه يمكن أن يلتزم بأنّ (لا ضرر ولا ضرار) في الخبرين من قبيل حكمة التشريع لا العلّة، والوجه في الالتزام بذلك مع أنّ الظاهر من القضيّة كونها علّة، لزوم المحاذير المذكورة.

ودعوى: أنّه كيف يمكن أن يكون شيءٌ واحدٌ مجعولاً ضابطاً كليّاً في موردٍ، وحِكمةً للتشريع في مورد آخر؟!

تندفع: بأنّه لا محذور في ذلك، ألا ترى أنّ نفي الحَرج جُعل ضابطاً كليّاً، ويرفع كلّ حكم لزم منه الحرج، ومع ذلك جُعل حكمة لتشريع طهارة الحديد.

فإنْ قيل: إنّه يلزم أن تكون الحكمة غالبية، والضَّرر في بيع الشريك ليس غالبيّاً بل هو اتّفاقي.0.

ص: 318


1- وسائل الشيعة: ج 23/226 ح 29436، بحار الأنوار: ج 101/154 ح 60.

أجبنا عنه: بأنّ ذلك أيضاً غير لازم.

ويمكن دفع الوجه الأخير: بأنّه لا محذور في الالتزام بكون النهي لزوميّاً، كما التزم به شيخ الطائفة رحمه الله(1).

توضيحه: أنّ المعروف في تفسير حديث المنع من فضل الماء، أنّه يراد منه ما إذا كان حول البئر كلاء، وليس هناك ماءٌ غيره، ولا يتمكّن أصحاب المواشي من الرّعي إلّاإذا تمكّنوا من سقي دوابهم من تلك البئر، لئلّا يتضرّروا بالعطش بعد الرّعي، فيستلزم منعهم من الماء منعهم من الرّعي، وفي هذا المورد قال الشيخ في «المبسوط»(2):

(كلّ موضعٍ قلنا إنّه يملك البئر، فإنّه أحقّ بمائها بقدر حاجته لشُربه وشرب ماشيته من السابلة وغيرهم، وليس له منع الفاضل من حاجته حتّى لا يتمكّن غيره من رعي الكلاء الذي يقرب ذلك الماء، وإنّما يجب عليه ذلك لشرب المحتاج إليه وشرب ماشيته، فأما لسقي زرعه فلا يجب عليه ذلك، لكنّه يستحب) انتهى .

ولتمام الكلام في هذه المسألة محلٌّ آخر.

فالمتحصّل: أنّه لا محدور في كون هذه الجملة من تتمّة الروايتين، فلا دافع لظهورهما في ذلك.

ولكن الذي يرد عليهما: أنّ الراوي فيهما عن عُقبة، هو محمّد بن عبد اللّه بن هلال وهو مهملٌ ، فعلى هذا، المتيقّن هو ورود هذه الجملة في ذيل قضيّة سَمُرة، ويحتمل ورودها مستقلّة أيضاً.

***8.

ص: 319


1- المبسوط: ج 3/328.
2- المبسوط: ج 3/328.

مفاد الحديث ومعنى مفرداته

المقام الثاني: الكلام فيه في موردين:

1 - في مفردات الحديث، أعني كلمتي (الضَّرر) و (الضِّرار).

2 - في معنى الجملة، من جهة دخول أداة (لا) على الكلمتين.

أمّا المورد الأوّل: فالضرر من الألفاظ التي لها معان ظاهرة عند أهل العرف، ويعرفها كلّ من مارس اللّغة العربيّة، لاحظ موارد استعمال هذا اللّفظ، وهو خلاف النفع، ويوافقه اللّغة، ففي «معجم مقاييس اللّغة»(1): (الضرّ ضدّ النفع، ويُقال: ضَرّه يضرّه ضرّاً)، ونحوه في «الصحاح»(2)، و «النهاية»(3) لابن الأثير، و «القاموس»(4)، وإليه يرجع ما عن «المصباح»(5): (ضرّه يضرّه من باب قَتل إذا فُعل به مكروهاً).

وأضرّ به يتعدّى بنفسه ثلاثيّاً، والياء رباعيّاً، والاسم الضّرر، وجَعْل الكراهة أعمّ من المعنى المذكور خلاف ظاهر كلامه.

كما أنّه يمكن إرجاع ما عن «القاموس»(6) من قوله بعد تفسير الضَّرر بما مرّ:

(الضَّرر سوءُ الحال)، إلى ذلك.

وأمّا ما عن «المصباح»، من أنّه قد يطلق على نقصٍ في الأعيان، فهو على

ص: 320


1- معجم مقاييس اللّغة: مادّة ضرر.
2- الصحاح: ج 2/219-220.
3- النهاية في غريب الحديث: ج 3/81.
4- القاموس المحيط: ج 2/75.
5- المصباح المنير: مادّة ضرر.
6- القاموس المحيط: ج 2/75.

خلاف وضعه، كما أنّ ما في «معجم مقاييس اللّغة»، من إطلاقه على اجتماع الشيء، وعلى القوّة، خلاف وضعه ذلك، كما صرّح به.

وكيف كان، فبما أنّ للضرر معنى مبيّناً عند العرف، ويتبادر إلى الذهن عند إطلاقه، لا وجه للرجوع إلى تفسير اللّغويين، فإنّه مع قطع النظر عن عدم حجيّة قول اللّغوي، أنّه لو سُلّم حجيّته، فإنّما هي بملاك رجوع الجاهل إلى العالم، والرجوع إلى أهل الخبرة، فمع فرض كون المعنى معلوماً، لا مورد للرجوع كما لايخفى.

أقول: والذي يظهر من تتبّع موارد استعمال هذا اللّفظ، أنّه عبارة عن النقص في النفس أو العِرض أو المال، وما شاكلّ من مواهب الحياة، بل لا يبعد دعوى صدقه في موارد اجتماع الأسباب، وحصول المقتضي لبعض تلك المواهب إذا منع عنه مانع.

ثمّ إنّ ظاهر جماعة من اللّغويين: أنّ تقابل الضَّرر والنفع تقابل التضاد، وصريح المحقّق الخراساني في «الكفاية»(1) أنّ تقابلهما تقابل العدم والملكة. ولا يتمّ شيء منهما.

أمّا الأوّل: فلأنّ الضَّرر - كما عرفت - هو النقص في المال أو النفس أو العِرض، وهو ليس أمراً وجوديّاً حتّى يكون ضدّ النفع.

وأمّا الثاني: فلأنّ النفع ليس عبارة عن التماميّة، كي يكون التقابل بينه وبين النقص الذي هو عبارة عن عدم ما من شأنه التماميّة، تقابل العدم والملكة، بل هو عبارة عن الزيادة العائدة إلى من له علاقة بما فيه الفائدة العائدة إليه، فبين النفع1.

ص: 321


1- كفاية الاُصول: ص 381.

والضَّرر واسطة، مثلاً لو اتّجر شخصٌ ولم يربح، ولم ينقص من ماله شيء، لا يكون هناك نفع ولا ضرر.

وأمّا الضِّرار: فالظاهر أنّه مصدرُ باب المفاعلة من ضارّه يُضارّه، وقد ذكر في معناه أُمور:

1 - أنّه المجازاة على الضَّرر، ففي «المجمع»: (الضّرار فعالٌ من الضَّرر، أي لا يجازيه على إضراره).

2 - أنّه فعلُ الاثنين، والضَّرر فعل الواحد، واحتمل الشيخ رجوعه إلى المعنى الأوّل.

3 - أنّه بمعنى الضَّرر جيء به للتأكيد، كما صرّح به جمعٌ من اللّغويين، لاحظ «القاموس».

4 - أنّه الإضرار بالغير من دون أن ينتفع به، والضَّرر ما تُضرّ به صاحبك وتنتفع أنت به.

5 - أنّه بمعنى الضيق، وأطلقه عليه في «الصحاح»(1) بعد إطلاق الضَّرر على سوء الحال.

6 - أنّه التصدّي للإضرار، ذكره المحقّق الإصفهاني(2)، وإليه يرجع ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2) من أنّه: (الإضرار العَمدي، والتعمّد على الضَّرر والقصد إليه).

أقول: الظاهر إرادة المعنى الأخير منه، لا لما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله(4) من أنّ ما اشتهر بين القوم من أنّ الأصل في باب المفاعلة أنّه فعل الاثنين، وأنّ الفرق بينه9.

ص: 322


1- مختار الصحاح: ص 200-201. (2و4) حاشية المكاسب: ج 1/10-11.
2- منية الطالب: ج 3/379.

وبين باب التفاعل بعد اشتراكهما في أنّهما فعل الاثنين، أنّ باب المفاعلة هو فعل الاثنين، مع الأصالة من طرفٍ ، والتبعيّة من طرفٍ آخر، وباب التفاعل هو فعل الاثنين مع الأصالة والصراحة من الطرفين، فإنّ هذا ممّا لا أصل له، كما يشهد به الاستعمالات الصحيحة القرآنيّة وغيرها، فإنّ فيها ما لا يصحّ ذلك فيه، وفيها ما لا يراد منه ذلك، كقوله تعالى: (يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ ) (1) فإنّ الغرض نسبة الخديعة منهم إلى اللّه تعالى وإلى المؤمنين لا منهما إليهم، وقوله تعالى: (وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) (2) وأيضاً كلمات (يراؤن)، و (ناديناه)، و (نافقوا)، و (شاقّوا)، و (لا تؤاخذني)، إلى غير ذلك، وأنّ مفاد هيئة المفاعلة غير مفاد هيئة التفاعل، وأنّه لا يتقوّم بطرفين، بل هئية المفاعلة وضعت لإفادة أنّ التعدية إلى الآخر ملحوظة في مقام إفادة النسبة، بخلاف هيئة المجرّد، فإنّ تلك الحيثيّة ولو كانت داخلة في مفادها، كما في الفعل المجرّد الثلاثي، كخدع غير ملحوظة، فإذا فعل فعلاً كان أثره خداع الغير، صدق عليه أنّه خدعه، لا أنّه خادعه، إلّاإذا تصدّى لخديعته، وعليه فالضرار هو التصدّي للإضرار، فإنّ هذه الاُمور ليست برهانيّة، بل لابدّ فيها من الرجوع إلى أهلها، وقد صرّح أهل الفنّ بأنّ الأصل في باب المفاعلة أنْ يكون فعل الاثنين، واستعمال تلك الهيئة في غير ذلك إنّما يكون مع القرينة، كما في الأمثلة المشار إليها.

بل الوجه في إرادة المعنى الأخير في الحديث، هو أنّ فعل الاثنين لا ينطبق على مورده، للتصريح فيه بأنّ سَمُرة مضارّ، ولم يقع المضارّة بين الأنصاري وسَمُرة، كما أنّ إرادة المجازاة لا تنطبق عليه، مضافاً إلى عدم تعاهدها من هذه الهيئة، والتأكيد0.

ص: 323


1- سورة البقرة: الآية 9.
2- سورة النساء: الآية 100.

المحض خلاف الظاهر، والضيق ليس معناه قطعاً كما هو واضح.

وعليه، فيتعيّن ما أفاداه، وهو الذي يظهر بالتتبع في موارد استعماله مع القرينة على عدم إرادة فعل الاثنين، لاحظ الموارد التالية:

1 - قوله تعالى: (وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (1) فإنّ قوله:

(لِتَعْتَدُوا) شاهد كون الضِّرار هو التعمّد للإضرار بقصد الاعتداء.

2 - وقوله تعالى: (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) (2) فإنّ المراد به النهي عن إضرار الاُمّ بالولد بترك الإرضاع نكايةً بأبيه، وعن إضرار الأب بولده بانتزاعه من اُمّه طلباً للإضرار بها.

3 - وقوله تعالى: (وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ ) (3) وكونه بمعنى التعمّد في الإضرار بالسِّحر ممّا لا يخفى .

4 - وقوله تعالى: (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ) (4)فإنّ المراد هو النهي عن الإضرار بالورثة، بالإقرار بدينٍ ليس عليه.

5 - وقوله عزّوجلّ : (وَ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً) (5)، حيث أخبر اللّه تعالى عن أنّ المنافقين بنوا المسجد الذي بنوه ضراراً، وقصدوا به المضارّة، ولذلك كان فعلهم قبيحاً ومعصية.7.

ص: 324


1- سورة البقرة: الآية 231.
2- سورة البقرة: الآية 233.
3- سورة البقرة: الآية 102.
4- سورة النساء: الآية 12.
5- سورة التوبة: الآية 107.

وفي «التبيان»(1): (الآية تدلّ على أنّ الفعل يقع بالإرادة على وجه القبح دون الحُسن، أو الحُسن دون القبح).

6 - وقوله عزّ وجلّ : (وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) (2).

في «التبيان»(3): (معناه لا تُدخلوا الضَّرر عليهن بالتقصير في النفقة والسُكنى والكسوة وحُسن العشرة، لتضيّقوا في السكنى والنفقة، وأمر بالسعة، والمضارّة المعاملة بما يطلب به إيقاع الضَّرر بصاحبه).

7 - وقول الإمام الصادق عليه السلام(4) في خبر هارون بن حمزه الغَنَوي:

«في بعير مريض اشتراه رجلٌ بعشرة دراهم، وشاركه الآخر بدرهمين بالرأس والجلد، فقضى إنْ برئ البعير وبلغ ثمنه ثمانية دنانير، لصاحب الدرهمين خُمس ما بلغ، فإنْ قال: اُريد الرأس والجلد، فليس له ذلك، هذا الضِّرار».

فإنّ طلب الرأس والجلد في الفرض ليس إلّابقصد الإضرار بالشريك، وقد أطلق عليه السلام عليه كلمة (الضِّرار).

8 - وقول النبيّ صلى الله عليه و آله(5) في الحديث مخاطباً سَمُرة: «إنّك رجلٌ مضارّ»، فإنّ المراد به إنّك متعمّدٌ في الإضرار بالأنصاري.

وبالجملة: التتبّع في موارد استعمال هذه المادّة المتهيّئة بهيئة باب المفاعلة مع8.

ص: 325


1- التبيان: ج 5/297.
2- سورة الطلاق: الآية 6.
3- التبيان: ج 10/36.
4- وسائل الشيعة: ج 18/275 ح 23659، الكافي: ج 5/293 ح 4.
5- وسائل الشيعة: ج 25/429 ح 32282، الكافي: ج 5/294 ح 8.

القرينة على عدم إرادة فعل الاثنين، والتأمّل في الخبر، يوجبان الإطمينان بأنّ المراد بكلمة (ضرار) في الحديث ما أفاده العَلَمان، فيكون حاصل قوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار»، نفي أصل الضَّرر ولو مع عدم التصدّي للإضرار، ونفي التصدّي للإضرار.

مفاد الجملة بلحاظ تصدرها بكلمة لا

وأمّا المورد الثاني: وهو مفاد الجملة بلحاظ كونها متصدّرة بأداة (لا)، ودخولها على الكلمتين، فقد ذكروا فيه وجوهاً:

الوجه الأوّل: ما يظهر من اللّغويّين وشرّاح الحديث، واختاره صاحب «العناوين»(1)، وشيخ الشريعة الإصفهاني رحمه الله(2)، وهو إرادة النهي من النفي، ومرجعه إلى تحريم الإضرار.

الوجه الثاني: ما نسبه الشيخ الأعظم رحمه الله(3) إلى بعض الفحول، وهو أنّ المنفيّ الضَّرر المجرّد غير المتدارك، ولازمه ثبوت التدارك في موارد الضَّرر.

الوجه الثالث: ما اختاره المحقّق الخراساني، وهو(4) كونه من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، كما في قوله: «لا رهبانيّة في الإسلام»، و «لا ربا بين الوالد والولد»، وما شاكل، فمفاد الحديث نفي الأحكام إذا كانت موضوعاتها ضرريّة.

الوجه الرابع: ما اختاره الشيخ الأعظم، وتبعه جمعٌ من الأساطين، منهم المحقّق

ص: 326


1- العناوين الفقهيّة: ج 1/311.
2- حاشية المكاسب: ج 4/241-242.
3- رسائل فقهيّة: ص 113-114.
4- حاشية المكاسب: ص 189.

النائيني(1)، وهو أنّ المنفيّ كلّ حكمٍ ينشأ منه الضَّرر، سواءٌ أكان الضَّرر ناشئاً من نفس الحكم كما في لزوم العقد الغبني، أم من متعلّقه كما هو الغالب:

إمّا بأن يكون مجازاً من باب ذكر المسبّب وإرادة السبب كما يظهر من الشيخ رحمه الله.

أو من باب الإطلاق الحقيقي، نظراً إلى كون النفي تشريعيّاً لا تكوينيّاً كما أفاده المحقّق النائيني.

وإمّا بأن يكون إطلاق الضَّرر على الحكم الموجب له من باب الحقيقة الادّعائيّة.

الوجه الخامس: أن المنفيّ كلّ حكمٍ نشأ منه الضَّرر، أو كان موضوعه ضرريّاً، وهو المختار.

الوجه السادس: ما عن بعض الأعاظم من أنّ الحكم أمرٌ سلطاني، وسيمرّ عليك توضيحه.

أمّا الوجه الأوّل: فغاية ما قيل في توجيهه إنّه كما يصحّ الإخبار عن وجود الشيء في مقام الأمر به، كذلك يصحّ الإخبار عن عدم شيء في مقام النهي عنه، وقد شاع استعمال النفي، وإرادة النهي، كما في:

1 - قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ ) (2).

2 - وقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله(3): «لا سبق إلّافي خُفٍ أو حافر».

3 - وقوله صلى الله عليه و آله(4): «لا هجرة فوق ثلاث».2.

ص: 327


1- منية الطالب: ج 3/111.
2- سورة البقرة: الآية 197.
3- وسائل الشيعة: ج 19/253 ح 24532، الكافي: ج 5/50 ح 14.
4- وسائل الشيعة: ج 12/260 ح 16251، الكافي: ج 2/344 ح 2.

4 - وقوله صلى الله عليه و آله(1): «لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام».

5 - وقوله صلى الله عليه و آله(2): «لا منع ولا إسراف ولا بخل ولا إتلاف».

ونحوها غيرها من الجملات الناهية بلسان النفي، وهي كثيرة.

أقول: وهذا الوجه وإنْ كان يكفي في رَدّ المحقّق الخراساني رحمه الله(3)، حيث قال:

(وإرادة النهي من النفي لم يعهد من مثل هذا التركيب)، إلّاأنّه لا يفي بإثبات المطلوب؛ وذلك لأنّ إرادة النهي من النفي إنّما يكون بأحد وجهين:

أحدهما: استعمال الجملة في مقام الإخبار عن عدم تحقّق ما تصدّر بأداة (لا) في الخارج، كنايةً عن مبغوضيّته وحرمته، نظير الإخبار عن ثبوت الشيء في الخارج كناية عن محبوبيّته.

وفي هذا التعبير الكنائي لطفٌ ، ويفيد المراد بوجه آكد، ألا ترى أنّه لو كان الأب في مقام بيان زجر ابنه عن الكذب، وقال: (لا كَذِب في بيتي)، كان ذلك آكد في إفادة المراد بحسب المتفاهم العرفي.

ثانيهما: أن يكون ما صدّره (لا) النافية محكوماً بالجواز في الشرائع السابقة، أو عند العقلاء، واُريد نفي ذلك الحكم في الشريعة المقدّسة الإسلاميّة، كما في: «لا شغار في الإسلام»، و «لا رهبانيّة في الإسلام»، و «لا رأي في الدِّين».

فإنّ الأوّل وهو أن يقول الرجل للرجل: (زوّجني ابنتك حتّى اُزوّجك ابنتي على أن لا مهر بينهما)، حيث كان ذلك أمراً متعارفاً عند العقلاء، وكذلك القياس2.

ص: 328


1- وسائل الشيعة: ج 20/303 ح 25680، الكافي: ج 5/361 ح 2.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 15/266 ح 18202، عوالي اللآلي: ج 1/296 ح 1.
3- كفاية الاُصول: ص 282.

والرأي، وقد نفاهما الشارع، والرهبانيّة كانت مشروعة في الشريعة السابقة، وقد نفي شرعيّتها في الإسلام.

وشيءٌ منهما لا مورد له في الحديث:

أمّا الأوّل: فلأنّ حمل اللّفظ أو الهيئة والجملة على إرادة المعنى الكنائي، خلاف الظاهر، لا يلتزم به إلّامع عدم إمكان إرادة المعنى الحقيقي، أو قيام القرينة على عدم إرادته، كما في قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ ) .

وأمّا الثاني: فلأنّ الإضرار بالغير لم يكن جائزاً في شريعةٍ من الشرائع السابقة، ولا عند العقلاء، فلا تصحّ فرض إرادة النهي من النفي في الحديث.

أضف إلى ذلك كلّه: أنّه في بعض الروايات كلمة (في الإسلام) موجودة في ذيل قوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار»، وهي ظرف لغو متعلّق بفعل عام مقدّر، وهو موجودٌ، وهذا لا يلائم مع إرادة النهي من أداة (لا)، بأن يكون معنى الحديث: حرمة الإضرار في الإسلام، إذ الإسلام لا يكون ظرفاً لإضرار الناس بعضهم ببعض، إلّا على تكلّف بعيد.

مع أنّ إرادة النهي من الحديث لا يلائم مع قضيّة سَمُرة، إذ حرمة الإضرار، لا تنطبق على ما أمر صلى الله عليه و آله به من قلع الشجرة، والرّمي بها في وجهه.

وعليه، فهذا الوجه ضعيفٌ لا يمكن الركون إليه.

وأمّا الوجه الثاني: فقد أفاد جمعٌ من الأساطين رحمه الله، في توجيهه(1):

أنّ الأصحاب ذكروا في باب الضمان أنّه لو تلف العين المضمونة، وجب على4.

ص: 329


1- جواهر الكلام: ج 25/144.

الضامن تداركها إمّا بالمثل أو القيمة، وذكروا أنّ ذلك بمنزلة أداء نفس العين التي يجب أداؤها، بمقتضى حديث: «على اليد»، وعليه فإذا حكم الشارع الأقدس بلزوم تدارك الضَّرر، صَحّ تنزيل الضَّرر الموجود منزلة المعدوم، وأن يقال: «لا ضرر».

وأورد عليه الشيخ الأعظم رحمه الله(1): بأنّ الضَّرر الخارجي لا ينزّل منزلة العدم بمجرّد حكم الشارع بلزوم تداركه، وإنّما المنزّل منزلته الضَّرر المتدارك فعلاً.

وفيه: إنّ المدّعي يدّعي أنّ الشارع يحكم باشتغال الذمّة بالبدل، فكأنّه يكون البدل موجوداً في الخارج فعلاً، لا أنّه حَكم بوجوب التدارك تكليفاً محضاً.

أقول: والصحيح أن يورد عليه بأنّ اشتغال الذمّة وإنْ صَحّ جعله منشئاً للتنزيل، لكنّه نفيٌ تنزيلي لا حقيقي، وهو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلّامع القرينة، مع أنّه يلزم من الالتزام بذلك تأسيس فقه جديد، فإنّ مجرّد الإضرار بالغير من دون إتلاف مال منه، لا يوجبُ الضمان، ألا ترى أنّه لو تضرّر تاجرٌ باستيراد تاجرٍ آخر أموالاً كثيرة، لم يجب تداركه لا تكليفاً ولا وضعاً.

وأمّا الوجه الثالث: فقد أفاد المحقّق الخراساني(2) في توجيه كونه الظاهر من الحديث، بأنّ الظاهر أنْ يكون (لا) لنفي الحقيقة، كما هو الأصل في هذا التركيب حقيقةً أو ادّعاءاً، كناية عن نفى الآثار، كما هو الظاهر من مثل قوله عليه السلام: «لا صلاة لجار المسجد إلّافي المسجد» و (يا أشباه الرجال ولا رجال)، فإنّ قضيّة البلاغة في الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادّعاءاً لا نفي الحكم أو الصفة، والمنفىّ في الحديث هو1.

ص: 330


1- رسائل فقهيّة: ص 114-115.
2- كفاية الاُصول: ص 381.

الضَّرر، وحيث لا يمكن إرادة نفي الحقيقة حقيقةً ، فليكن من قبيل نفي الحقيقة ادّعاءاً بلحاظ نفي الحكم والآثار، فمفاد الحديث نفي الموضوع الضَّرري بلحاظ نفي حكمه.

أقول: أورد المتأخّرون عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما أفاده جماعة، وحاصله(1):

أنّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع إنّما يصحّ في موارد ثلاثة:

الأوّل: كون الموضوع المنفيّ بنفسه ذا حكمٍ شرعيّ بحسب عموم دليل أو إطلاق شامل له، كما في قول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام(2): «ليس بين الرجل وولده ربا، وليس بين السيّد وعبده ربا»، فإنّ الرّبا محكوم بالحرمة بحسب الأدلّة، فيكون حينئذٍ دليل النفي ناظراً إلى نفي شموله له بنفي انطباق موضوعه عليه.

الثاني: كون العنوان المنفيّ علّة للفعل الذي هو موضوع للحكم بحسب عموم دليل أو إطلاق، كما في قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله(3): «رُفع عن اُمّتي تسعة أشياء: الخطأ والنسيان. الحديث»، فيكون النفي نفياً للمعلول بلسان نفي علّته، فيدلّ على أنّ الفعل الصادر في حال الخطأ أو النسيان، كأنّه لم يصدر في الخارج، فيرتفع عنه الحكم.

الثالث: ما إذا كان العنوان المنفيّ عنواناً ثانويّاً للموضوع ذي الحكم، كعنوان الطاعة في قوله عليه السلام(4): «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»...

ص: 331


1- منية الطالب: ج 3/388.
2- وسائل الشيعة: ج 18/135 ح 23319، الكافي: ج 5/147 ح 1.
3- وسائل الشيعة: ج 15/369 ح 20769، تحف العقول: ص 50.
4- وسائل الشيعة: ج 16/154 ح 21226، من لا يحضره الفقيه: ج 4/381 ح 5832..

والمقام لا يكون من قبيل شيءٍ من هذه الموارد.

أمّا الأوّل: فلأنّه إنْ اُريد نفي الحكم المترتّب على الضَّرر بنفسه، لأدّى ذلك إلى خلاف المقصود، ويستلزم جواز الإضرار بالغير، لعدم كونه حينئذٍ ضرراً شرعاً.

أضف إليه: أنّ موضوع الحكم يمتنع أن يكون رافعاً له، لكونه مقتضياً له.

وإنْ اُريد منه نفي الحكم المترتّب على الفعل المعنون بعنوان الضَّرر، فيردّه أنّ الضَّرر ليس عنواناً للفعل، بل هو مسبّبٌ عنه ومترتّبٌ عليه.

وأمّا الثاني: فلأنّ الضَّرر ليس علّة للفعل، بل هو معلول له ومسبّبٌ عنه.

وأمّا الثالث: فلما اُشير إليه من أنّ الضَّرر لا يحمل على الفعل الخارجي كالوضوء والصوم، وما شاكل، بل هو مسبّبٌ عنه، ومترتّب عليه.

وعلى الجملة: ما هو موضوع الحكم، هو العنوان المنطبق على الفعل الخارجي لم يرد عليه النفي، وما ورد عليه النفي لم يرفع حكمه قطعاً.

ويتوجّه عليه: أنّ نفي العنوان الثانوي تشريعاً، وإخراجه عن عالم التشريع تارةً يكون حقيقيّاً، واُخرى يكون من قبيل نفي المسبّب بلسان نفي السبب، والمقام من قبيل الثاني، لأنّ هذا المقدار من خلاف الظاهر ممّا لابدّ من الإلتزام به، حتّى على مسلك المستشكلين الذي اختاروه تبعاً للشيخ رحمه الله(1) من أنّ المنفيّ هو الحكم الضَّرري، إذ الحكم أيضاً سببٌ للضرر، فلو اُريد نفي الحكم الضَّرري، لا محالة يكون نفياً للمسبّب بلسان نفي سببه.

ودعوى: أنّ الحكم سببٌ توليدي وعلّة للضرر، والمسبّب التوليدي من9.

ص: 332


1- رسائل فقهيّة: ص 119.

العناوين المنطبقة على السبب، مثلاً الإحراق الذي هو مسبّبٌ توليدي ينطبق على سببه وهو الإلقاء، فإذا كان الحكم سبباً للضرر، ينطبق عنوان الضَّرر على الحكم، فعلى هذا المسلك لا يلزم الالتزام بخلاف الظاهر، بخلافه على المسلك الآخر، كما عن المحقّق النائيني رحمه الله(1).

غريبة: لأنّ المسبّب التوليدي في المثال ليس هو الإحراق، لأنّه وصف منتزع من ترتّب الحرقة عليه، بل المسبّب هو الحرقة، وهي لا تنطبق على الإلقاء.

وبالجملة: السبب والمسبّب موجودان منحازان لا يعقل انطباقهما على شيء واحد، فالضرر ينشأ من الحكم ولا ينطبق عليه، وإنّما المنطبق على الحكم عنوان المضرّ والضارّ، بل إرادة نفي الموضوع الضَّرري أظهر من إرادة نفي الحكم الضَّرري، فإنّ الموضوع سبب للضرر، ونفي المسبّب بنفي سببه شائعٌ ، وأمّا الحكم فقد يكون سبباً، كما في لزوم العقد في المعاملة الغبنيّة، وقد يكون من قبيل المُعدّ له لوساطة إرادة المكلّف واختياره، كإيجاب الوضوء على من يتضرّر به، فإنّ الحكم ليس سبباً للضرر لوساطة إرادة المكلّف، فإنّ له أن لا يتوضّأ فلا يقع في الضَّرر.

ودعوى: أنّ إرادة المكلّف حيث تكون مقهورة في عالم التشريع لهذا البعث، فبالأخرة ينتهى الضَّرر إلى البعث والجعل، كانتهاء المعلول الأخير إلى العلّة الأُولى ، لا كانتهائه إلى المُعدّ كما عن المحقّق النائيني(2).

مندفعة: بأنّ الإرادة ليست معلولة للحكم، بل هي ناشئة عن مبادئها، والحكم إنّما يكون جعلاً لما يمكن أن يكون داعياً لها، فهو من قبيل المُعدّ للإرادة لا العلّة.5.

ص: 333


1- منية الطالب: ج 1/118.
2- منية الطالب: ج 3/395.

وعليه، فلو اُريد من الحديث نفي الحكم الضَّرري، بنحو يلتزم به هؤلاء الأعلام، لابدّ من الالتزام بكونه نفياً للجامع بين السبب والمُعدّ بلسان نفي المسبّب، ولا أظنّ كون هذا الاستعمال متعارفاً، أو له ممّاثل.

الإيراد الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني، وحاصله(1): أنّ نفي الحكم بلسان نفي الموضوع:

تارةًً : يكون نفياً بسيطاً وارداً لسلب ذات الشيء.

واُخرى : يكون نفياً تركيبيّاً وارداً لسلب شيء عن شيء.

فإن كان من قبيل الأوّل: اعتبر في صحّته قيود ثلاثة:

الأوّل: كون الموضوع ذا حكم إمّا في الجاهليّة أو في الشرائع السابقة، أو في هذه الشريعة بحسب عموم دليل، أو إطلاقٍ شامل له، وإلّا فلا معنى لنفي الحكم بلسان نفي موضوعه.

الثاني: كونه عنواناً اختياريّاً، كالرهبانيّة، حتّى يكون نفيه التشريعي موجباً لنفيه التكويني.

الثالث: كون الحكم المنفيّ هو الحكم الجائز، وإلّا أنتج نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ضدّ المقصود في بعض المقامات، كما في مورد إتلاف مال الغير، فإنّه لو ورد في هذا المقام، قوله: «لا ضرر» يكون مفاده أنّ هذا الفرد الصادر خارجاً من المُتلف لا حكم له، كما هو مفاد قوله عليه السلام(2): «لا سهو في سهو».

وإن كان من قبيل الثاني: أي كان النفي تركيبيّاً، وارداً لسلب شيء عن شيء،9.

ص: 334


1- منية الطالب: ج 3/385.
2- وسائل الشيعة: ج 8/243 ح 10544، الكافي: ج 3/359 ح 9.

فهو يكون تخصيصاً بلسان الحكومة.

وبعبارة اُخرى : النفي تحديدٌ لما أُخذ موضوعاً لذلك الحكم المنفيّ بما عدا مورد النفي، فمثل قوله عليه السلام(1): «لا شكّ لكثير الشكّ »، يدلّ على اختصاص البناءعلى الأكثر بغير كثير الشكّ .

أقول: ولا يمكن الالتزام بشيء منهما في (لا ضرر):

أمّا الثاني: فلعدم كون السلب سلباً تركيبيّاً. نعم، لو كان الخبر بلسان: لا موضوع ضرريّاً، لكان من قبيل: «لا شكّ لكثير الشكّ ».

وأمّا الأوّل: فلأنّ الضَّرر وإنْ كان اختياريّاً، إلّاأنّ حكمه السابق حيث لا يكون بالنسبة إلى الإضرار بالغير إباحة، بل هو إمّا تحريم، أو قبح، فإرادة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ينتج ضدّ المقصود في الموارد المشار إليها، كما في مورد إتلاف مال الغير.

وفيه: أنّه بعد فرض كون الحديث نفياً للسبب بلسان نفي المسبّب، كما هو أساس هذا الوجه، فقوله صلى الله عليه و آله(2): «لا ضرر» في قوّة لا وضوء ضرريّاً، ولا عقداً ضرريّاً، وهكذا سائر الموضوعات الضَّرريّة، فيكون سلبه تركيبيّاً، ولا محذور فيه.

الإيراد الثالث: أنّ كلمة (في الإسلام) الموجودة في بعض النصوص المعتبرة، تدلّ على أنّ المنفيّ هو الحكم الضَّرري، إذ لا معنى لكون الموضوع ضرريّاً في الإسلام.

وفيه: أنّ هذه الكلمة تنفي احتمال كون أداة (لا) نهياً كما مرّ مفصّلاً، ولا تصلح قرينةً لتعيّن كون المنفيّ هو الحكم، بل هي قرينة على كون النفي تشريعيّاً لا حقيقيّاً،4.

ص: 335


1- وسائل الشيعة: ج 8/227 ب 16 (باب عدم وجوب الاحتياط على مَن كثر سهوه بل يمضي في صلاته... الخ).
2- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32217، الكافي: ج 5/280 ح 4.

والنفي التشريعي كما يتعلّق بالحكم حقيقة، يتعلّق بالموضوع كذلك، ويخرج الموضوع عن عالم التشريع، فهذه الكلمة تلائم مع كون المنفيّ كلاً من الحكم أو الموضوع.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ شيئاً ممّا اُورد على ما اختاره المحقّق الخراساني لا يرد عليه.

أقول: نعم يرد عليه أنّ هذا الاستعمال وإن كان صحيحاً وشائعاً، إلّاأنّه لا وجه لتخصيص المنفيّ بخصوص الموضوع الضَّرري، بل مقتضى إطلاقه البناء على ارتفاع كلّ ما هو ضرري، سواءٌ كان هو الحكم أو الموضوع.

ودعوى: أنّ إسناد النفي إلى الحكم حقيقي، وإسناده إلى الموضوع مجازي، حيث إنّ المنفيّ في الحقيقة حكمه، فلو كان المراد من الحديث هو الأعمّ ، لزم اجتماع إسنادين: مجازي، وحقيقي في إسناد واحد، وهو غير معقول.

مندفعة: بأنّ المراد بالنفيّ ؛ النفي التشريعي، وهو كما يستند حقيقةً إلى الحكم يستندُ حقيقة إلى الموضوع بإخراجه عن عالم التشريع.

وأمّا الوجه الرابع: الذي اختاره الشيخ والمحقّق النائيني رحمهما الله، فإنّه يظهر الحكم فيه ممّا ذكرناه في الوجه السابق، إذ لا وجه لجعل المنفيّ خصوص الحكم الضَّرري.

استدلال المحقّق النائيني رحمه الله(1): فقد استدلّ لهذا القول - أي كون المنفيّ هو كلّ حكم أوجب الضَّرر - بما يتّضح ببيان أُمور:

الأمر الأوّل: أنّ النفي إذا تعلّق بشيء:

فإنْ كان ذلك حكماً شرعيّاً، كان النفي نفياً بسيطاً، لأنّ الأحكام الشرعيّة من5.

ص: 336


1- منية الطالب: ج 3/385.

الاُمور الاعتباريّة النفس الأمريّة، ووجودها التكويني عين تشريعها، فإثباتها أو نفيها راجعٌ إلى إفاضة حقيقتها وإيجاد هويّتها، أو إعدامها عن قابليّة التحقّق، فعلى هذا يكون نفيها من السلب البسيط.

وإن كان من الاُمور الاختراعيّة، أو الاُمور الدائرة بين العقلاء، المتعلّق بها الإمضاء، فحيثُ إنّ قابليّتها للجعل اختراعاً أو تأسيساً أو إمضاءاً أو تقريراً، عبارة عن تركيب أنفسها أو محصّلاتها، دون إفاضة هويّتها وإيجاد حقائقها، فلا محالة يكون النفي الوارد عليها من السلب التركيبي، فالمجعول فيها نفس النفي دون المنفيّ .

ثمّ إنّ السلب التركيبي على قسمين:

1 - قسمٌ يُنفى فيه هذه المهيّات عن شيء، كقوله عليه السلام(1): «لا صلاة إلّابطهور».

2 - وقسمٌ عكس ذلك، أي ينفي فيه شيءٌ عن هذه المهيّات، كما في: «لا شكّ في المغرب»، و (فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ ) (2)، وما شاكل.

وفي القسم الأوّل يفيد النفي الجزئيّة أو الشرطيّة، وفي القسم الثاني المانعيّة، فإنّ نفي الماهيّة عن شيء معناه عدم تحقّق الماهيّة بدون ذلك، وأمّا نفي شيء عن الماهيّة، فمعناه ضديّة وجود هذا الشيء فيها، أي الماهيّة قيّدت به.

وكيف كان، فينتج النفي في القسمين:

1 - الفساد من غير استعمال النفي في نفي الصحّة، وفي نفي الكمال، في مثل(3): «لا صلاة لجار المسجد إلّافي المسجد».3.

ص: 337


1- وسائل الشيعة: ج 1/366 ح 965، تهذيب الأحكام: ج 2/140 ح 3.
2- سورة البقرة: 197.
3- وسائل الشيعة: ج 5/194 ح 6310، تهذيب الأحكام: ج 1/92 ح 93.

هذا فيما يكون قابلاً لأنْ يتعلّق به الجعل من حيث النفي أو المنفيّ .

وأمّا ما لا يقبل ذلك، كالاُمور الخارجيّة، فلابدّ وأن يكون ذا حكم لولا هذا النفي، ليكون النفي بلحاظه، وهو إنّما يكون بأحد وجهين:

1 - إمّا بأن يكون بنفس عنوانه موضوعاً لحكم عند العرف والعقلاء، أو في الشرائع السابقة، والنفي وارداً لا لغاية، كقوله عليه السلام(1): «لا رهبانيّة في الإسلام»، وما شاكل ممّا ورد لنسخ الأحكام السابقة وإلغائها عن الاعتبار.

2 - وإمّا بأن يكون مندرجاً لولا هذا النفي في عمومٍ أو إطلاق، وكان النفي وارداً لإخراج ذلك الفرد عن موضوع العام أو المطلق، كقوله عليه السلام: «لا شكّ لكثير الشكّ »(2)، و «لا شكّ في نافلة».

والقسم الأوّل من النفي البسيط، والثاني من النفي التركيبي.

الأمر الثاني: أن الضَّرر من العناوين الثانويّة للحكم، لأنّه من المسبّبات التوليديّة، والمسبّب التوليدي ينطبق على السبب.

فإنْ قيل: إنّ ما ذكر يتمّ في مثل لزوم العقد الذي هو السبب للضرر، و لا يتمّ في مثل وجوب الوضوء على من يتضرّر به، فإنّ السبب هو الوضوء، ووجوبه من قبيل المُعدّ.

قلنا: إنّ إرادة المكلّف حيث كانت مقهورة في عالم التشريع لهذا البعث والجعل، وقد اشتهر أنّ الممتنع الشرعي كالممتنع العقلي، واللّابديّة الشرعيّة كاللّابديّة العقليّة،».

ص: 338


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 14/155 ح 16356، دعائم الإسلام: ج 2/193 ح 701.
2- لم ترد هذه العبارة في الرواية، وإنّما أُخذت من عدّة روايات؛ راجع وسائل الشيعة: ج 8/228 ح 10496 قوله: «قُلْنَا فَإِنَّهُ يَكْثُرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ كُلَّمَا أَعَادَ شَكَّ قَالَ يَمْضِي فِي شَكِّه».

فبالأخرة ينتهي الضَّرر إلى البعث والجعل، كانتهاء المعلول الأخير إلى العلّه الأُولى ، لا كانتهائه إلى المُعدّ، فالعلّة التامّة لوقوع المكلّف في الضَّرر هي الجعل الشرعي.

الأمر الثالث: إنّ إسناد النفي إلى الحكم حقيقيٌ ، ويكون النفي مستعملاً في معناه الحقيقي بلا رعاية عناية، بخلاف إسناده إلى الموضوع، فإنّه يحتاج إلى رعاية عناية.

أقول: نتيجة هذه الاُمور، ظهور قوله صلى الله عليه و آله(1): «لا ضرر ولا ضرار» في إرادة نفي الحكم الضَّرري، فإنّه بذلك يتحفّظ على ظهور (لا) النافية في ما هو معناه الحقيقي، من دون أن يلتزم بخلاف الظاهر في مدخولها، بأن يكون من قبيل استعمال المسبّب وإرادة سببه، كي يرد عليه ما أفاده المحقّق الخراساني(2)، بأنّه ليس من الشائع المتعارف في المحاورات التعبير عن نفي السبب بنفي مسبّبه، لما ذكرناه من أنّ الضَّرر عنوانٌ ثانوي للحكم، ونفي العنوان الثانوي وإرادة العنوان الأوّلي ليس من باب المجاز، لأنّ إطلاق المسبّب التوليدي على سببه شائعٌ متعارف في المحاورات العرفيّة، ولا يخفى ما في كلامه من مواقع للنظر، وهي:

1 - أفاده من انطباق المسبّب التوليدي على سببه الذي قد مثّل له: بإنطباق الإيلام على الضرب، والإحراق على الإلقاء في النار.

فإنّه يرد عليه: من أنّهما موجودان بوجودين، وليسا من قبيل العنوانين المنطبقين على المعنون الواحد، والإيلام والإحراق ليسا مسبّبين، بل المسبّب هو الألم والحُرقة، وبديهي عدم انطباقهما على الضرب والإلقاء.6.

ص: 339


1- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32217، الكافي: ج 5/280 ح 4.
2- حكاه عنه منية الطالب: ج 3/396.

2 - ما ذكره من أنّه من جهة مقهوريّة العبد في الإرادة، يكون وساطتها كوساطة الأمر غير الاختياري، غير مانعٍ من استناد المعلول إلى علّته الأُولى .

فإنّه يرد عليه: ما تقدّم من أنّ الحكم إنّما يكون داعياً إلى الإرادة، واختياريّتها محفوظة، فهو من قبيل المُعدّ.

3 - ما أفاده من ظهور النفي في إرادة نفي الحكم، فإنّه بعد فرض كون النفي تشريعيّاً لا تكوينيّاً، يكون نسبته إلى الحكم والموضوع على حَدٍّ سواء، وسيأتي زيادة توضيح لذلك.

وبالجملة: لا وجه لجعل المنفيّ في هذا الحديث خصوص الحكم.

وأمّا الوجه الخامس: وممّا ذكرناه ظهر أنّ مفاد الحديث هو نفي مطلق الأمر الضَّرري، موضوعاً كان أم حكماً، وهو الوجه الخامس، ونزيده ظهوراً ببيان أمرين:

الأمر الأوّل: أنّ المنفيّ في المقام هو ما يوجب الضَّرر، وهذا المقدار من العناية ممّا لابدّ منه، سواءٌ أكان المنفيّ هو الحكم الضَّرري، أو الموضوع الضَّرري، وقد مرّ توضيحه، وعرفت أنّ ما أفاده المحقّق النائيني(1) من أنّ الضَّرر من العناوين الثانويّة للحكم، غير تامّ .

الأمر الثاني: إنّ وجود الضَّرر في الخارج غير ملازمٍ لاستعمال النفي في غير معناه الحقيقي، أو ظهوره في نفي الحكم، بل النفي متعلّق بالضرر في عالم التشريع، فاستعمل في معناه، واُريد بالمنفيّ إمّا الحكم أو الموضوع.

أمّا على الأوّل: فواضحٌ .2.

ص: 340


1- منية الطالب: ج 3/370-372.

وأمّا على الثاني: فلأنّ المراد من النفي هو إخراج الموضوع عن عالم التشريع.

توضيحه: إنّ الصفات التعلّقيّة كالشوق والحُبّ ، وكذلك الاعتباريّات لا يعقل أن تتحقّق إلّامضافةً إلى الماهيّات، وتلك الماهيّات تتحقّق بنفس تحقّق هذه الاُمور، نظير تحقّق الماهيّة بالوجود الخارجي والذهني، فوجودها إنّما يكون بوجود هذه، وإعدامها في الحقيقة إنّما يكون بإعدام هذه، نظير إعدام الماهيّة في الخارج، فإنّه يكون بإعدام الوجود.

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه: أنّ الحديث ظاهرٌ في إرادة نفي الأمر الضَّرري، سواءٌ أكان موضوعاً أم حكماً.

أمّا الوجه السادس: وحاصل ما أُفيد في وجهه: أنّ هذا الحكم ليس حكماً تشريعيّاً، بل هو حكم سلطاني، حكم به صلى الله عليه و آله لمقام سلطنته الممضاة من قبل اللّه تعالى، بمنع إضرار الناس بعضهم بعضاً.

توضيحه: أنّ للنبيّ صلى الله عليه و آله مقامات ثلاثة:

1 - مقام النبوّة وتبليغ الرسالة، وهو من هذه الجهة أمينٌ للمعارف، وحاكٍ للأحكام الشرعيّة.

2 - مقام القضاء، وهو إنّما يكون عند وقوع النزاع بين الناس في الحقوق و الأموال.

3 - مقام السلطنة والرئاسة، كنصب اُمراء الجيوش والقضاة وأشباه ذلك.

ومن المعلوم أنّ حكمه صلى الله عليه و آله في قضيّة سَمُرة بنفي الضَّرر، ليس من الأوّل، ولا الثاني، إذ لم يكن لسَمُرة ولا للأنصاري شكٌّ في الحكم التكليفي أو الوضعي، كما لم يتنازعا في حقٍّ اختلفا فيه من جهة اشتباههما في المصاديق أو الحكم، وإنّما شكى

ص: 341

الأنصاري و تظلّم وانتصر منه صلى الله عليه و آله بما أنّه سلطان على الاُمّة، فأمر صلى الله عليه و آله بقلع النخلة حَسماً لمادّة الفساد، وعقّبه بقوله: «لا ضرر ولا ضرار»، فهذا حكمٌ سلطاني عام بعد الحكم الخاص، ومفاده أنّه لا يحقّ لأحدٍ أن يضرّ غيره في حوزة رعيّتي والتابعين لي، لا بما أنّه حكمٌ من الأحكام الشرعيّة، بل بما أنّه حكمٌ من قِبل السلطان.

أقول: ويرد عليه أُمور:

الإيراد الأوّل: إنّ مآل هذا الوجه إلى الوجه الأوّل، وهو إرادة النهي من النفي، وكونه في مقام بيان تحريم الإضرار.

فيرد عليه: جميع ما أوردناه على الوجه الأوّل.

الإيراد الثاني: أنّ هذا الموضوع الكلّي الذي حكم عليه بحكم سلطاني، هل له حكم شرعي، أم لا حكم له ؟

لا سبيل إلى الثاني، لما ثبت بالضرورة أنّه صلى الله عليه و آله لم يَدَع موضوعاً إلّاتطرّق إليه وبيَّن حكمه.

وعلى الأوّل كان حكمه الجواز أو المنع، لا وجه لتوهّم الأوّل، فيتعيّن الثاني، ومعه لا يبقى موردٌ للحكم السلطاني.

الإيراد الثالث: أنّ إعمال السلطنة إنّما يكون في الموارد الخاصّة التي ترتبط بمصالح الاُمّة، ممّا لا يندرج تحت ضابطة كليّة، كنصب القضاة، واُمراء الجيوش، وما شاكل، فإنّ تعيين ذلك وتطبيقها على مواردها الجزئيّة، التي لا ضابطة لها بيده صلى الله عليه و آله، على ما يراه مصلحة للعباد، ولا سبيل إلى جريان ذلك في الموضوعات الكليّة.

الإيراد الرابع: أنّ الظاهر من قضيّة سَمُرة أنّ النزاع بينه وبين الأنصاري كان من

ص: 342

ناحية الاختلاف في الحكم، فإنّ سَمُرة كان يرى الاستيذان من الأنصاري منافياً لسلطنته فيما كان له من حقّ العبور إلى نخلته، ولذا قال مستنكراً: (أستاذنُ في طريقي إلى عذقي ؟!)، والأنصاري كان يرى أنّ له إلزامه بذلك، فرجعا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله، فحكمه الصادر كان من باب القضاء، والظاهر أنّ الأصحاب أيضاً فهموا منه ذلك، ولذلك ذكروا هذه القضيّة في أقضية النبيّ صلى الله عليه و آله.

***

ص: 343

تطبيق حديث لا ضرر على قضيّة سَمُرة

المقام الثالث: وهو في دفع ما أُورد على الاستدلال بالحديث من الإيردات، وهي متعدّدة، جملةٌ منها واضحة الدفع، لا حاجة إلى التعرّض لها، وإنّما المهمّ منها اثنان:

الإيراد الأوّل: أنّ حديث لا ضرر لا ينطبق على ما ذُكر من مورده، وهو نزاع سَمُرة مع الأنصاري.

وبعبارة اُخرى : أنّ الميزان الكلّي المبيّن بقوله صلى الله عليه و آله(1): «لا ضرر ولا ضرار» لا ينطبق على مورده، فلابدّ إمّا من رفع اليد عن ظاهره، أو إخراج المورد، وعلى التقديرين لا يصحّ الاستدلال به.

والوجه في ذلك: ما أفاده الشيخ رحمه الله(2) في رسالته المعمولة في هذه القاعدة، وحاصله: أنّ الضَّرر في تلك القضيّة إنّما كان في دخول سَمُرة بغير استيذانٍ من الأنصاري، ولم يكن في بقاء عِذق سُمُرة في البستان ضررٌ، ولذا أمره صلى الله عليه و آله أوّلاً بالاستيذان من الأنصاري، ثمّ بعد ذلك أمر صلى الله عليه و آله بقلع العِذق، فالكبرى الكليّة المذكورة في الحديث لا تنطبق على مورده، فكيف يُستدلّ بها في غيره ؟!

وأجابوا عنه بأجوبة:

الجواب الأوّل: ما عن الشيخ رحمه الله(3) من أنّ عدم انطباق التعليل على الحكم المعلّل لا يخلّ بالاستدلال.

ص: 344


1- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32217، الكافي: ج 5/280 ح 4. (2و3) رسائل فقهيّة: ص 110-111.

وفيه: أنّ عدم انطباق الكبرى على ما ذكر مورداً لها، يكشف عن عدم إرادة ما يكون الكبرى ظاهرة فيه، وإلّا لزم خروج المورد، فلا محالة تصير مجملة، ومعه لا يصحّ الاستدلال بها.

الجواب الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1) من أنّ جواز دخول سَمُرة على الأنصاري بغير إذنٍ منه معلولٌ لكون سَمُرة مستحقّاً لإبقاء عِذقه في البستان، فإذا كان المعلول ضرريّاً، فكما يرتفع هو بنفي الضَّرر كذلك يرتفع علته بنفيه، ونظير ذلك ما إذا كانت المقدّمة ضرريّة، فإنّه كما يرتفع ويُنفى به وجوب المقدّمة، كذلك ينتفي به وجوب ذي المقدّمة، فحقّ سَمُرة يسقط لكون معلوله ضرريّاً.

وفيه أوّلاً: بالنقض بما إذا كانت إطاعة الزوج ضرريّة للزوجة، فإنّ لازم ما أفاده نفي الزوجيّة التي هي العلّة لوجوب الإطاعة، أو إذا اضطرّ إلى شرب النجس، فإنّ لازم ما أفاده نفي النجاسة به، وغير ذلك من الموارد.

وثانياً: بالحَلّ ، وهو أنّه لا يستلزم ضرريّة المعلول ضرريّة العلّة كي يرتفع بنفي الضَّرر، فلا وجه لنفيها، وهذا بخلاف المقدّمة الضَّرريّة، فإنّ ضرريّتها تستلزم ضرريّة ذي المقدّمة، فيرتفع وجوبه ابتداءً ، لكونه ضرريّاً.

الجواب الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2) أيضاً، وتبعه غيره، وهو أنّ المستفاد من الرواية أمران:

الأوّل: عدم جواز دخول سَمُرة على الأنصاري بغير استيذانه.

الثاني: حكمه صلى الله عليه و آله بقلع العِذْق، والمستند إلى الضَّرر.9.

ص: 345


1- منية الطالب: ج 3/398.
2- منية الطالب: ج 3/398-399.

والصغرى لهذه الكبرى إنّما هو الحكم الأوّل خاصّة، والحكم الثاني إنّما هو من جهة ولايته صلى الله عليه و آله على أموال الاُمّة وأنفسهم دفعاً لمادّة الفساد، أو تأديباً له لقيامه مقام العناد واللّجاج.

وفيه: أنّ الظاهر من الحديث كون المستند إلى الضَّرر هو الحكم الثاني، كما يظهر لمن راجعه.

فالحقّ في الجواب أن يقال: إنّه بعدما لم يرض سَمُرة بالاستيذان، وكان حفظ عِرض الأنصاري متوقّفاً على قلع العِذْق، وكان حفظ العِرْض أهمّ في نظر الشارع من حفظ المال، طبّق صلى الله عليه و آله نفي الضَّرر على حفظ سلطنة الأنصاري لعِرضه، المقتضي ذلك لقلع العِذق، فما هو المستند إلى الضَّرر حفظ الأنصاري لعِرضه، لا نفي سلطنة سَمُرة على عذقه.

وإنْ شئتَ فقل: إنّه بعدما لم يرض سَمُرة بالاستيذان، ولا بالتعامل على عِذْقه، كان الموجب للضرر هو بقاء عذقه، وعدم جواز قلعه، فعموم نفي الضَّرر طبق عليه، ولأجله جاز، مع أنّ إجمال ما تضمّن قضيّة سَمُرة من النصوص غير مضرّ بالاستدلال بالنصوص المتضمّنة لهذه الجملة خاصّة، كمرسل الصدوق(1) المتقدّم الذي عرفت اعتباره.

هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات

الإيراد الثاني: ما ذكره الشيخ رحمه الله في «الرسائل»، بقوله(2): (إنّ الذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها، بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي - إلى أن قال -

ص: 346


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/103 ح 3423.
2- فرائد الاُصول: ج 2/465.

بل لو بُني على العمل بعموم هذه القاعدة حصل منه فقه جديد).

أقول: والظاهر أنّ نظره في الموارد الخارجة، إلى أبواب الحدود والديات والقصاص والتعزيرات والضمانات والخمس والزكاة والحج والجهاد وما شاكل.

واُجيب عنه بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ استقرار سيرة الفريقين على العمل بها في مقابل العمومات المثبتة للأحكام، وعدم رفع اليد عنها إلّابمخصّصٍ قويّ ، يوجبُ جبر وهنها.

وأُورد عليه: بأنّ كثرة التخصيص كاشفة عن عدم إرادة المعنى الذي استظهرناه من أدلّتها، وعملهم يكشف عن فهمهم معنىً شاملاً للموارد التي عملوا بها فيها، وحيث إنّ ذلك المعنى ليس ظاهراً، وفهم الأصحاب ليس حجّة لنا، فلا يصلح ذلك لجبر وهنها.

أقول: ولكن بعد فرض أنّه نحتمل أن يكون عمل الأصحاب كاشفاً عن وجود قرينة واصلة إليهم غير واصلة إلينا، وأنّ الصادر عن المعصوم عليه السلام هو الذي بأيدينا، فإنّ جعل كثرة التخصيص كاشفة عن عدم إرادة المعنى الظاهر غريب، لأنّ إرادة معنى غير ما هو الظاهر بلا قرينة عليها، غير محتملة بالنسبة إلى المتكلّم الحكيم الذي هو في مقام بيان الحكم الشرعي، فكثرة التخصيص لمعنى إن كانت مستهجنة لا ريب في أنّ ذلك أشدّ استهجاناً.

نعم، ما ذكر من عدم حجيّة فهم الأصحاب، متين.

الوجه الثاني: ما ذكره الشيخ الأعظم(1) من أنّ الموارد الكثيرة الخارجة عن5.

ص: 347


1- فرائد الاُصول: ج 2/465.

العام، إنّما خرجت بعنوان واحد جامع لها، وإنْ لم نعرفه تفصيلاً، وقد تقرّر في محلّه أنّ تخصيص الأكثر لا استهجان فيه إذا كان بعنوان واحد.

وأورد عليه المحقّق الخراساني رحمه الله(1): بأنّ عدم الاستهجان فيما إذا كان الخارج بعنوان واحد، إنّما هو فيما إذا كان أفراد العام أنواعاً، والسِّر فيه حينئذٍ أن خروج عنوان واحد من تحت الأنواع الكثيرة ليس تخصيصاً للأكثر، وإن كانت أفراده أكثر من أفراد سائر الأنواع، لأنّ الملحوظ على الفرض هو الأنواع دون الأفراد.

وأمّا إذا كان أفراده أشخاصاً، فحينئذٍ بما أنّ الملحوظ استقلالاً والمجعول موضوعاً هو الأشخاص، والنظر إلى الأنواع آليّ ، فلا يتفاوت في الاستهجان بين كون الخارج بعنوان واحدٍ أو بعناوين عديدة، وفي القاعدة بما أنّ أفراد (لا ضرر) أشخاص، فكثرة الخارج مستهجنة وإن كان بعنوان واحد.

والصحيح أن يقال: إنّ دليل العام إذا كان من قبيل القضيّة الخارجيّة، وكان الحكم مترتّباً ووارداً على كلّ شخصٍ من الأفراد، بلا جامع بينها بحسب الملاك، مثل: قُتل من في العسكر. ونُهب ما في الدار. تمَّ ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله.

وأمّا إذا كان من قبيل القضيّة الحقيقيّة، غير الناظرة إلى الأفراد الخارجيّة المتضمّنة لورود الحكم على الطبيعة، وبلحاظ انطباقها على الأفراد، الشامل حكمه للأفراد، فلا يتمّ ، لأنّه لا نظر في القضيّة الحقيقيّة إلى الأفراد، فلا استهجان في كثرة أفراد المخصّص، إذ لم يلاحظ الخارج إلّاعلى نحو الفرض والتقدير، ويزيد عدم الاستهجان وضوحاً إذا كان المخصّص متّصلاً، أو متحقّقاً حين صدور العام، كما في المقام.4.

ص: 348


1- درر الفوائد: ص 284.

فهل المقام من قبيل الأوّل، أو الثاني ؟

قد يقال: إنّه من قبيل القضيّة الخارجيّة، من جهة أنّ المنفيّ هو الضَّرر الناشيء من الأحكام المجعولة في الخارج، كما عن المحقّق النائيني(1).

وفيه: إنّ المنفيّ كلّ حكمٍ ضرري، ولا يكون الحديث ناظراً إلى خصوص الأحكام التي كانت مجعولة حين صدور الحديث، كما هو واضح، فهو إنّما يكون من قبيل القضيّة الحقيقيّة، وعليه فيتمّ ما أفاده الشيخ رحمه الله.

ويؤيّد عدم الاستهجان: أنّ تلك الأحكام المشار إليها كانت صادرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله حين وقوع قضيّة سَمُرة، ومع ذلك لم يعترض عليه أحدٌ من الصحابة بجعلها في الشريعة.

أقول: ويمكن أن يجاب عن الإشكال بوجوه أُخر:

الوجه الأوّل: ظهور «لا ضرر ولا ضرار» في نفسه في نفي الأحكام التي لم تقتض بطبعها ضرراً، فهذه الموارد خارجة عن القاعدة بالتخصّص لا بالتخصيص.

الوجه الثاني: أنّ الحكم في جملة من تلك الموارد ليس ضرريّاً، كأبواب الغرامات والجنايات والزكاة والخمس، فإنّ وجوب تدارك ما أتلفه، ووجوب الدية على من جَنى أو قَتل نفساً، ووجوب إخراج حقّ الإمام عليه السلام والسادات والفقراء من جهة كونهم شركاء إنّما يكون من قبيل أداء الدَّين، ولا يصدق عليها الضَّرر الذي هو عبارة عن النقص في المال.

الوجه الثالث: أنّ الحكم المبيّن بحديث لاضررمن الأحكام الاجتماعيّة الإسلاميّة،1.

ص: 349


1- منية الطالب: ج 3/401.

وتلك الأحكام إنّما تكون بلحاظ نوع المسلمين وعامّتهم، لا بلحاظ الأفراد.

وبالجملة: فأكثر الأحكام التي توهم كونها ضرريّة وخارجة عن تحت عموم الحديث، لا تكون ضرريّة بحسب النوع الذي هو الميزان في المقام، فلا إشكال في التمسّك بعموم الحديث.

***

ص: 350

الميزان هو الضَّرر الشخصي

المقام الرابع: وملخَّص القول فيه في ضمن تنبيهات:

التنبيه الأوّل: أنّ الميزان هل هو الضَّرر الشخصي، فلو كان فعل واحد ضرريّاً على عامّة المكلّفين، ولم يكن ضرريّاً على شخصٍ واحد، ولم يكن من الأحكام الاجتماعيّة، لا يحكم بارتفاعه بالنسبة إليه خاصّة ؟

أم أنّ العبرة بالضرر النوعي، فالحكم في الفرض يكون مرتفعاً بالنسبة إلى غير المتضرّر أيضاً؟

الأظهر هو الأوّل، فإنّ الظاهر من أخذ عنوانٍ في الموضوع، دوران فعليّة الحكم مدار فعليّة ذلك العنوان، ولا يكفي لفعليّة الحكم بالنسبة إلى شخصٍ ، فعليّة الموضوع بالإضافة إلى أشخاصٍ اُخر، كما هو الشأن في جميع العناوين الكليّة المأخوذة في الموضوعات.

ألا ترى أنّ وجوب الحج رتّب على الاستطاعة، فلو فرضنا أنّ أكثر أهل البلد صاروا مستطيعين في سنة عدا واحدٌ منهم، فهل يتوهّم البناء على وجوبه عليه أيضاً؟! وهذا من الوضوح بمكان.

أقول: قد استدلّ للثاني بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الأصحاب استدلّوا بها على خيار الغبن، مع أنّ المعاملة الغبنيّة لا تكون ضرريّة دائماً، بل ربما تكون المصلحة في بيع المتاع بأقلّ من ثمن المثل، كما إذا كان في معرض السّرقة أو الحرقة، أو لم يقدر مالكه على حفظه ولا على بيعه

ص: 351

بأكثر من ذلك، فإنّ هذه المعاملة غبنية وليست بضرريّة، ومقتضى إطلاق كلمات الأصحاب ثبوت الخيار فيها أيضاً، فيستكشف من ذلك أنّ الميزان هو الضَّرر النوعي لا الشخصي.

وفيه أوّلاً: أنّ منشأ ثبوت خيار الغبن ليس هو قاعدة لا ضرر كما حُقّق في محلّه.

وثانياً: أنّ الظاهر صدق الضَّرر في الفرض، فإنّ هذه المعاملة بملاحظة الجهات الخارجيّة، وإن كانت أقلّ ضرراً من حفظ المتاع، إلّاأنّها من حيث إنّها معاملة تكون ضرريّة، إذ لا يتصوّر الغبن من دون الضَّرر.

وثالثاً: أنّ التزام الفقهاء في المورد المفروص بالخيار، مع قطع النظر عن الأدلّة الاُخر، غير ثابت.

ورابعاً: الظاهر من الحديث، نفي الحكم الموجب للضرر إمّا في النفس أو المال، والضَّرر المالي قد يكون موجباً للضرر الحالي، وقد لا يكون كذلك، فشخصيّة الضَّرر إنّما هي بلحاظ المال، لا بلحاظ الشخص.

الوجه الثاني: أنّه لا ريب في أن الضَّرر في موارد ثبوت حقّ الشُّفعة إنّما يكون غالباً، ومع ذلك أفتى الأصحاب بثبوته مطلقاً، بل الإمام عليه السلام(1) طبّق حديث لا ضرر عليه، كما تقدّم، فيُعلم من ذلك أنّ العبرة بالضرر النوعي لا الشخصي.

وفيه: إنّ دليل ثبوت ذلك الحقّ ليس هو قاعدة لا ضرر، بل النصوص الخاصّة الدالّة عليه، وقد تقدّم أنّ النّص الذي في ذيله: «لا ضرر ولا ضرار»، ضعيفُ السند.9.

ص: 352


1- وسائل الشيعة: ج 18/32 ح 23074، من لايحضره الفقه: ج 3/233 ح 2859.

مع أنّه لو سُلّم تذيّل تلك النصوص بهذا الذيل، فإنّ ثبوت الخيار في غير مورد الضَّرر، لازمة فرض الضَّرر حينئذٍ حكمة للتشريع، وهذا أمرٌ يمكن الالتزام به في تلك النصوص، بخلاف الأحكام التي يلتزم بنفيها من جهة كونها ضرريّة، لما دلَّ على نفي الضَّرر، فتدبّر فإنّه دقيق.

العبادات الضَّرريّة مشمولة للحديث

التنبيه الثاني: هل الحديث يشمل العبادات الضَّرريّة، أم لا؟ وجهان.

قد استدلّ للثاني: بوجهين:

الوجه الأوّل: وردت في بعض النصوص(1) كلمة «على مؤمن» ذيل جملة «لا ضرر ولا ضرار»، والظاهر منها حينئذٍ أنّ المنفيّ هو الحكم الذي يتضرّر به الغير، وأمّا ما يتضرّر به الإنسان نفسه - كما في العبادات الضَّرريّة - فخارجٌ عن تحت تلك الجملة.

وفيه: أنّه قد عرفت عدم وجود كلمة (على مؤمن) في شيء من الأخبار، إلّا في مرسلٍ ضعيف غير حجّة، فالقيد الموجب لخروج العبادات الضَّرريّة غير ثابتٍ .

مع أنّه لو سُلّم وجودها في نصٍّ معتبر، بما أن هناك ما يكون مطلقاً، ولا يُحمل المطلق على المقيّد في المثبتين، ففي العبادات الضَّرريّة يتمسّك بالنص المطلق لنفي أحكامها.

الوجه الثاني: أنّ الضَّرر هو النقص في المال أو النفس، أو ما يتعلّق به مع عدم

ص: 353


1- وسائل الشيعة: ج 18/32 ح 23075، الكافي: ج 5/294 ح 8.

حصول نفعٍ في مقابله، وأمّا ما يحصل في مقابله نفعٌ ، فلا يكون ضرراً، ومعلومٌ أنّ الأمر بالشيء في حال الضَّرر الثابت بعموم الدليل أو إطلاقه يدلّ على العوض، فلا يكون ضرراً.

وأُجيب عنه: بأنّ الأمر متعلّق بنفس تلك الماهيّة كالصلاة، ولازمة تحقّق الأجر في مقابل تلك الماهيّة، وأمّا حصول عوضٍ في مقابل الضَّرر وأجرٍ له فلا دليل عليه.

وأورد عليه الشيخ الأعظم(1): بأنّه لو سُلّم وجود النفع في ماهيّة الفعل أو في مقدّماته، كان الأمر بذلك الفعل أمراً بالتضرّر والأجر بإزائه.

والحقّ في الجواب: أنّ الضَّرر هو النقص الدنيوي غير المتدارك بنفع كذلك، وأمّا النفع الأُخروي فهو الموجب للأمر بالتضرّر، ولا يكون مخرجاً له عن كونه ضرراً، وعليه فالأظهر شموله لها.

مع أنّ المراد بالعوض: إمّا الأجر الأُخروي، أو المصلحة الكامنة في فعل العبادة.

أمّا الأجر: فثبوته تابعٌ للأمر، وبعد تقييد إطلاق دليل الأمر بالعبادة بحديث لا ضرر، يكون الأمر تابعاً ومتوقّفاً على عدم كون العبادة ضرريّة، فلو توقّف ذلك على الأجر، كان ذلك دوراً واضحاً.

وأمّا المصلحة: فحيث إنّ الدليل ليس في مقام بيانها، بل في مقام بيان الأمر، وإنّما تستكشف هي من ثبوت الأمر بناءً على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام1.

ص: 354


1- رسائل فقهيّة: ص 121.

للمصالح والمفاسد في المتعلّقات، فثبوت المصلحة إنّما يتوقّف على ثبوت الأمر، وهو يتوقّف على عدم الضَّرر، فلو كان ذلك متوقّفاً على ثبوت المصلحة لزم الدور، وعليه فالعوض الاُخروي والمصلحة، لا يصلحان لجبر الضَّرر، فتدبّر فإنّه دقيق.

الإقدام لا يمنع عن شمول الحديث

التنبيه الثالث: لا إشكال في شمول الحديث لما إذا كان الحكم الشرعي هو السبب للتضرّر، بلا دخلٍ لما هو فعلٌ اختياري للمكلّف فيه، إنّما الكلام فيما إذا كان للفعل الاختياري دخلٌ فيه، فإنّه قد اختلفت كلمات القوم في موارد، ويتوهّم التنافي بين فتاوي القوم فيها، وقد صرّح غير واحدٍ في جملةٍ من التكليفات بأنّ الإقدام على الضَّرر لا يوجب عدم حكومة القاعدة عليها، قالوا:

إنّ من أجنب نفسه متعمّداً، مع كون الغسل مضرّاً له، فإنّ إقدامه لا يوجب عدم جريان قاعدة لا ضرر، وأنّه إذا صار المكلّف باختياره سبباً لمرضٍ أو عدوّ يتضرّر به، سقط وجوب الصوم والحجّ .

وأنّه لو أحَدَثَ المتوضّئ مع كون الوضوء ضرريّاً، لا يجب عليه الوضوء.

وأيضاً: صرّح غير واحدٍ في الوضعيّات، وفي غير موردٍ من التكليفيّات بأنّ الإقدام يمنع عن حكومة القاعدة، لاحظ:

1 - مسألة ما لو أقدم إنسان ونصب اللّوح المغصوب في سفينته، فإنّهم قالوا(1)إنّه يجوز لمالك اللّوح نزع لوحه وإنْ تضرّر مالك السفينة بنزعه بلغ ما بلغ، وإنّه

ص: 355


1- منية الطالب: ج 3/414.

يجب على مالك السفينة ردّ اللّوح، وإن تضرّر، وعلّلوه بأنّه أقدمَ على الضَّرر.

2 - وكذلك في مسألة العلم بالغبن، فإنّهم يفتون بثبوت اللّزوم، ويعلّلون عدم شمول القاعدة له بأنّه أقدم على الضَّرر.

3 - وكذلك في مسألة ما لو استأجر شخصٌ أرضاً إلى مدّة، وبنى فيها بناءً ، أو غرس فيها شجراً يبقى بعد انقضاء زمان الإجارة، فإنّهم قالوا(1) إنّ لمالك الأرض هدم البناء وقلع الشجر، وإن تضرّر به المستأجر.

وكذا لو غَرَسَ أو بنى من عليه الخيار في الملك الذي تعلّق به حقّ الخيار، فإنّهم أفتوا بأنّه لذي الخيار هدمه أو قلعه إذا فسخ العقد الخياري، وإن تضرّر به من عليه الخيار.

إلى غير ذلك من الفروع، وكيف كان ففي المقام أقوال:

القول الأوّل: ما ذهب إليه جمعٌ من متأخّري المتأخّرين، وهو(2) أنّ الإقدام يمنع عن شمول القاعدة مطلقاً.

القول الثاني: ما اختاره جماعة من عدم المانعيّة كذلك.

القول الثالث: التفصيل بين الإقدام بفعلٍ محرّم، والإقدام بفعل جائز، وأنّ الأوّل مانعٌ عن الشمول دون الثاني.

القول الرابع: التفصيل بين التكليفات والوضعيّات، وهو مانعٌ في خصوص الأُولى دون الثانية.2.

ص: 356


1- منية الطالب: ج 3/414.
2- حاشية المكاسب: ص 252.

القول الخامس: التفصيل الذي اختاره المحقّق النائيني رحمه الله(1).

وقد استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ الحديث إنّما يرفع الحكم الذي يكون سبباً للضرر، وفي الفرض السبب هو الإقدام، لأنّه الجزء الأخير للعلّة، دون الحكم.

2 - وبأنّ جماعة(2) من الأصحاب أفتوا بلزوم الغُسل على مَن أجنب نفسه مع العلم بكون الغُسل ضرريّاً.

3 - وبتسالم الأصحاب على أنّ خياري العيب والغبن يسقطان في صورة علم المغبون بغبنه، وما لو علم المشتري بالعيب، ولا وجه لذلك سوى الإقدام.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: - فمضافاً إلى كونه أخصّ من المدّعي، لما سيمرّ عليك عند بيان ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله - يرد عليه أنّه قد عرفت أنّ المنفي بحديث لا ضرر، كلّ ما أوجب الضَّرر، سواءً كان هو الحكم أو الموضوع، فعدم استناد الضَّرر إلى الحكم مع كون المتعلّق أو الموضوع ضرريّاً، لا يوجبُ عدم شمول الحديث.

وأمّا الثاني: فلأنّ من أفتى بوجوب الغُسل في الفرض، إنّما استند إلى النّص الخاصّ ، فلا يقاس سائر الموارد به.

وأمّا الثالث: فلأنّ مدرك ثبوت خياري العيب والغبن، ليس هو قاعدة (لا ضرر)، بل المدرك فيهما الشرط الضمني الذي عليه بناء العقلاء في معاملاتهم من6.

ص: 357


1- منية الطالب: ج 3/402.
2- الخلاف: ج 1/156.

سلامة المبيع، وتساوي المالين في الماليّة مع التبدّل في الأشخاص، والأخبار الخاصّة في خيار العيب، واختصاص الوجهين بصورة الجهل واضحٌ .

مع أنّه لو سُلّم كون المدرك هو قاعدة لا ضرر، فبما أنّ القاعدة إنّما تنفي الحكم الذي في رفعه منة، ومع العلم بالغبن والعيب لا يكون رفع اللّزوم امتنانيّاً، فلاتشمله القاعدة.

واستدلّ للثالث: وهو أنّ الإقدام بفعلٍ حرام مانعٌ عن شمول القاعدة:

1 - بخبر عبد العزيز الآتي، عن الإمام الصادق عليه السلام(1):

«عمّن أخذ أرضاً بغير حقّها وبنى فيها؟ قال: يرفع بنائها، وتُسلّم التربة إلى صاحبها ليس لعرق ظالمٍ حقّ ».

بدعوى أنّ الجملة الأخيرة كناية عن كلّ ما وضع بغير حقّ ، فكلّ موضوعٍ بغير حقّ وعلى وجهٍ محرّم لا احترام له، فلا تشمله القاعدة لخروج هذا المال عنه تخصّصاً، إذ القاعدة تنفى الضَّرر على المال المحترم.

2 - وبقول أمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة» الآتي(2): «الحَجَر الغصب في الدّار رهنٌ على خرابها».

أقول: لكنّهما أخصّان من المُدّعى، لاختصاصهما بالأموال، وعدم شمولهما لما إذا تضرّر الغاصب بغير ما وضع على المغصوب.

واستدلّ للرابع: بأنّ القاعدة امتنانيّة، ولا امتنان في رفع الصحّة واللّزوم مع0.

ص: 358


1- وسائل الشيعة: ج 25/388 ح 32194، تهذيب الأحكام: ج 6/311 ح 66.
2- وسائل الشيعة: ج 25/386 ح 32191، نهج البلاغة: ص 240.

العلم بالضرر، بخلاف باب التكليفيّات.

وقد ظهر ما فيه ممّا قد مرّ.

وأمّا القول الخامس: الذي اختاره المحقّق النائيني، فملخّصه(1): أنّه للإقدام صورٌ ثلاث:

الصورة الأُولى: الإقدام على موضوعٍ يتعقّبه حكمٌ ضرريّ ، كما لو أجنب نفسه مع العلم بأنّ الغُسل يضرّه، أو شَرِب دواءً يعلم بأنّه يصير سبباً لمضريّة الصوم.

الصورة الثانية: أن يكون الإقدام على نفس الضَّرر، كالإقدام على البيع الغبني.

الصورة الثالثة: أن يكون إقدامه على أمرٍ، ويكون مستلزماً لتوجّه الحكم الضَّرري إليه، سواء كان الحكم قبل الإقدام فعليّاً، كما لو غصب لوحاً واستعمله في سفينته، أو لم يكن كذلك، ولكنّه يعلم بتحقّقه بعد ذلك، كما لو بنى في الأرض المستأجرة سنةً مثلاً، أو غَرَس فيها شجراً، يبقى فيها بعد انقضاء مدّة الإجارة.

واختار رحمه الله مانعيّة الإقدام في الصورة الأُولى ، دون الأخيرتين.

وذكر في وجه المانعيّة في الصورة الأُولى : أنّ السبب للضرر فيها هو الحكم الشرعي، والإقدام إنّما هو من قبيل المُعدّ وفي المرتبة السابقة على الحكم، ولا يكون واسطة بين الحكم والضَّرر، مثلاً في المثالين لولا حكم الشارع بوجوب الغُسل والصوم لم يكن الشخص متضرّراً بالإجناب، وشُرب الدواء.

وذكر في وجه عدم المانعيّة في الصورة الثانية: بأنّ منشأ الضَّرر إذا كان حكم الشارع، يكون منفيّاً بالحديث، وإن كان فعل المكلّف، لا يكون حكمه6.

ص: 359


1- منية الطالب: ج 3/415-416.

مشمولاً له، ومع العلم بالضرر وإقدامه عليه يكون منشأ الضَّرر فعل المكلّف، فلا يشمله الحديث.

وبعبارة اُخرى : أنّ الحكم في هذه الصورة ليس إلّامقدّمة إعداديّة، والمكلّف بنفسه أقدم على الضَّرر، سواءٌ كان العقد لازماً أم جائزاً، فالضرر لم ينشأ من لزوم العقد، بل لا يصحّ نسبة الضَّرر إليه، لأنّ الضَّرر الذي أقدمَ عليه في رتبة الموضوع للزوم، فلا يعقل أن يكون موضوعاً له.

وأفاد في وجه عدم المانعيّة في الصورة الثالثة: بأنّ اختيار المكلّف وإقدامه ليس واقعاً في طريق امتثال الحكم، حتّى ينتهي الضَّرر بالأخرة إلى الحكم، بل الضَّرر مستندٌ إلى اختياره وإقدامه، مثلاً في المثالين الضَّرر إنّما ينشأ من إقدام المكلّف على البناء أو الزرع، لا من وجوب رَدّ المغصوب إلى مالكه فارغاً، ووجوب رَدّ الأرض المستأجرة فارغة مع العلم بانقضاءزمان الاستحقاق، قبل كمال الزرع و الشجر في نفسه.

هذا ملخّص ما أفاده بتوضيحٍ منّا.

أقول: ويرد عليه أُمور:

1 - ما تقدّم من أنّ النفي ليس خصوص الحكم الضَّرري، بل لو كان موضوع الحكم ضرريّاً يرفع حكمه بالحديث.

2 - أنّه في الإقدام على المعاملة الغبنيّة، لو تمّ ما أفاده، فإنّما هو بالنسبة إلى الصحّة، وأمّا لزومها فهو يكون منشئاً لبقاء الضَّرر، إذ لو كانت المعاملة جائزة، وتمكّن المكلّف من التخلّص عن الضَّرر بالفسخ، لا يكون الضَّرر باقياً، فحكم الشارع باللّزوم ضرريٌ يكون مشمولاً للحديث.

ص: 360

3 - أنّه في الصورة الثالثة يكون المُقْدِم عليه هو الموضوع، لوجوب تخليص الأرض الذي هو ضرري، ومن المعلوم أنّ وجوب التخليص غير وجوب رَدّ المال إلى صاحبه، وهو إنّما يتوجّه بعد الإقدام، فالإقدام من قبيل المُعدّ لا من قبيل الجزء الأخير للعلّة.

وعليه، فلابدّ من الالتزام بشمول الحديث له حتّى على مسلكه رحمه الله.

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه: أظهريّة القول الثاني، وأنّ الإقدام من حيث هو لا يكون مانعاً عن شمول الحديث.

ويمكن أن يستدلّ له: - مضافاً إلى ما مرّ - بأنّ المنفيّ في الحديث عنوانان: الضَّرر والضِّرار، وقد مرّ أنّ الضِّرار، هو التعمّد إلى الضَّرر والقصد إليه، فيمكن أن يقال إنّ قوله صلى الله عليه و آله(1): «لا ضرار» بإطلاقه يدلّ على نفي الحكم الضَّرري مع الإقدام، فتأمّل.

ردّ المغصوب مع تضرّر الغاصب

فرع: ثمّ إنّه لا بأس بالتعرّض لفرعٍ مناسب للمقام، وهو:

أنّه ذهب جماعة(2) من الأصحاب إلى وجوب رَدّ اللّوح المغصوب إذا نصبه الغاصب في السفينة وإن تضرّر منه الغاصب، واستدلّوا له بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق النائيني(3) من أنّ الهيئة الحاصلة من نصب اللّوح، لاتكون مملوكة للغاصب، لأنّه لا يكون مالكاً للسفينة المركّبة مع غصبيّة اللّوح،

ص: 361


1- وسائل الشيعة: ج 25/399 ح 32217، الكافي: ج 5/280 ح 4.
2- مسالك الأفهام: ج 12/175، شرائع الإسلام: ج 4/764.
3- منية الطالب: ج 3/416.

فرفعه لا يكون ضرريّاً، لأنّ الضَّرر عبارة عن نقص ما كان واجداً له.

وفيه: إنّه وإنْ لم يصدق الضَّرر من هذه الجهة، إلّاأنّه ربما يوجبه من نواحٍ أُخر، كما إذا حصل من رفع الهيئة النقص في سائر أجزائها، أو الخلل في محمولاتها، ومقتضى إطلاق كلمات الأصحاب جواز الرفع حتّى في تلك الموارد.

الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ الأعظم(1) من أنّه كما يكون إحداث الغصب حراماً وإنْ تضرّر الغاصب بتركه، ولا يصحّ أن يقال إنّ الغاصب يتضرّر بتركه، فحرمة الغصب منفيّة بالحديث، كذلك يكون إبقاؤه حراماً، لأنّ دليل حرمة الإبقاء هو دليل حرمة الإحداث، فلا يصحّ الحكم بجواز الإبقاء من جهة تضرّر الغاصب بتركه، فيجب الرّد لذلك.

الوجه الثالث: خبر عبد العزيز محمّد الدراوردي، عن الإمام الصادق عليه السلام(2):

«عمّن أخذ أرضاً بغير حقّها، وبنى فيها؟ قال عليه السلام: يرفع بناؤه، وتسلّم التربة إلى صاحبها، ليس لعرق ظالمٍ حقّ .

ثمّ قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله(3): من أخذ أرضاً بغير حقّ ، كُلِّف أن يحمل ترابها إلى المحشر».

وما عن «نهج البلاغة»: «قال أمير المؤمنين عليه السلام(4) الحَجَر الغصب في الدار رهنٌ على خرابها».0.

ص: 362


1- رسائل فقهيّة: ص 123-124.
2- وسائل الشيعة: ج 25/388 ح 32194، تهذيب الأحكام: ج 6/311 ح 66.
3- وسائل الشيعة: ج 25/388 ح 32195، تهذيب الأحكام: ج 6/294 ح 26.
4- وسائل الشيعة: ج 25/386 ح 32191، نهج البلاغة: ص 240.

الضَّرر يمنع عن صحّة العبادة، أم العلم

التنبيه الرابع: هل المنفيّ بقاعدة لا ضرر هو الضَّرر الواقعي، وإنْ لم يعلم به، فلو توضّأ باعتقاد عدم الضَّرر، أو صام كذلك، وكان مضرّاً واقعاً لم يصحّ وضوؤه ولا صومه ؟

أم يكون المنفيّ هو الضَّرر المعلوم، فلو اعتقد عدم تضرّره بالوضوء فتوضّأ، ثمّ انكشف أنّه تضرّر به صَحّ وضوؤه ؟

أم يكون المنفيّ هو الضَّرر المعلوم، بأن يكون العلم جزء الموضوع، كما هو ظاهر الشيخ الأعظم رحمه الله(1) في «الرسالة» حيث قال بعد كلامٍ له متعلّق بالمقام:

(فتحصّل أنّ القاعدة لا تنفي إلّاالوجوب الفعلي على المتضرّر العالم بتضرّره ؟ وجوهٌ وأقول:

أقواها الأوّل، لأنّ المنفيّ في الحديث هو الضَّرر، والظاهر منه هو الضَّرر الواقعي، كما هو الشأن في جميع العناوين المأخوذة في الموضوعات، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني النفس الأمريّة، من غير دخل للعلم فيها، فالعبرة في رفع الحكم كونه أو موضوعه ضرريّاً في الواقع وإنْ لم يعلم به المكلّف.

أقول: استدلّ الشيخ رحمه الله لدخل العلم بالضرر في النفي(2):

بأنّه مع اعتقاد عدم الضَّرر في الحكم الواقعي، فإنّه لم يوقع المكلّف في الضَّرر، ولذا لو فرضنا انتفاء هذا الوجوب واقعاً على هذا المتضرّر، كما لو توضّأ باعتقاد عدم تضرّره لوقع في الضَّرر، فلم يستند تضرّره إلى جعل هذا الحكم،

ص: 363


1- رسائل فقهيّة: ص 118.
2- رسائل فقهيّة: ص 118.

والحديث إنّما يرفع الحكم الذي يكون سبباً وعلّة للضرر، فالحديث لا يشمله.

وفيه: أنّ الحديث كما يرفع الحكم الذي ينشأ منه الضَّرر، كذلك ينفي كلّ حكمٍ كان موضوعه ضرريّاً، ومن الواضح أنّ الوضوء في الفرض ضرري.

مع أنّه يرد عليه: أنّه لو سُلّم كون المرفوع هو الحكم الذي ينشأ منه الضَّرر، يكون العبرة في الرفع بكون الحكم بنفسه، أو بامتثاله ضرريّاً، ولا ينظر إلى ما في الخارج من الضَّرر، وأنّه من أيّ سببٍ تحقّق، ومعلومٌ أنّ الحكم المزبور ضرري بامتثاله.

أضف إليه: أنّ هذا الوجه لو تمّ لدلّ على مانعيّة اعتقاد الضَّرر عن شمول القاعدة، ولا يدلّ على شرطيّة العلم بالضرر.

أقول: ويظهر من كلمات الشيخ رحمه الله وجهٌ آخر لذلك، قال في «الرسالة» بعد ذكر الوجه المتقدّم(1): (فنفيه ليس امتناناً على المكلّف، وتخليصاً له من الضَّرر، بل لا يثمر إلّاتكليفاً له بالإعادة بعد العمل والتضرّر) انتهى .

وحاصله: أنّ حديث نفي الضَّرر لوروده في مقام الامتنان، يختصّ بما في رفعه تسهيلٌ وإرفاق، ومن المعلوم أنّ رفع الحكم في الفرض يستلزم التكليف بالإعادة بعد العمل والتضرّر، فلا يشمله الحديث.

ولكن يرد عليه: - مضافاً إلى أنّه مختصٌّ بما يكون له البدل، وما يستلزم الإعادة، كما في الوضوء، فإنّه لو شمله الحديث وانكشف الضَّرر لابدّ من التيمّم وإعادة الصلاة التي صلّاها مع ذلك الوضوء، وكما في الصوم، فإنّه لو صام وانكشف8.

ص: 364


1- رسائل فقهيّة: ص 118.

الضَّرر، لابدّ من قضائه على فرض شمول الحديث، ولا يتمّ في غيرهما، وفيهما دلَّ الدليل على أنّ العبرة باعتقاد الضَّرر، فإنّ موضوع جواز الإفطار المأخوذ في الأخبار(1) هو خوف الضَّرر، الشامل للاعتقاد بالأولويّة، كما أنّ الروايات الخاصّة(2) الواردة في موارد خاصّة كالمجروح والمقروح، ومن يخاف العطش، تدلّ على كون الموضوع للتيمم هو اعتقاد الضَّرر أو خوفه - إنّ هذا الوجه، كالنصوص المشار إليها لا يدلّ على أنّ الضَّرر الواقعي ليس موضوعاً، بل يدلّ على تخصيص موضوع الحديث، كما أنّ الجمع بين الاخبار المشار إليها، وحديث لا ضرر، يقتضي البناء على كون كلّ من الضَّرر والعلم به موضوعاً مستقلّاً، وعليه فلو اعتقد عدم الضَّرر فتيمّم، ثمّ تبيّن وجوده، صَحّ تيمّمه على المختار، وبطل على المسلك الآخر، كما أنّه لو اعتقد عدم مضريّة الصوم ولم يصم، فإنّه على المختار لم يفعل محرّماً ولم يترك واجباً وإنْ تجرى، بخلافه على المسلك الآخر.

فالمتحصّل: أنّ القاعدة إنّما تنفي الحكم الضَّرري، وحكم الفعل الضَّرري، غاية الأمر في بعض الموارد يقيّد بأن لا يكون معتقداً لعدم الضَّرر.

الحكم بنفي الضَّرر من باب الرخصة أو العزيمة

التنبيه الخامس: ويدور البحث فيه عن الحكم بنفي الضَّرر هل من باب العزيمة، فلا يجوز الإتيان بما هو ضرري، ولو كان عبادة لا يصحّ ، فلو تحمّل الضَّرر وتوضّأ بطل وضوؤه ؟

أم يكون من باب الرخصة، فيجوز الإتيان به، فلو توضّأ في الفرض صحّ؟

ص: 365


1- وسائل الشيعة: ج 10/214 ح 13252، من لايحضره الفقيه: ج 2/133 ح 1948.
2- وسائل الشيعة: ج 10/214 ح 13252، من لايحضره الفقيه: ج 2/133 ح 1948.

وجهان، بل وجوه:

أقول: قد استدلّ لكونه من باب العزيمة، بوجوه؛ بعضها يدلّ على حرمة ذلك الفعل، وبعضها استشهد به لعدم الأمر به، فلو كان عبادة لا تصحّ ، ولا يكون الفعل الضَّرري حراماً، إلّامن باب التشريع، وبعضها يختصّ بخصوص الوضوء:

الوجه الأوّل: ما في «الجواهر»، من أنّ الإضرار بالنفس حرامٌ ، فالمأمور به إذا كان ضرريّاً يكون محرّماً، فلا محالة يرتفع أمره، لامتناع اجتماع الأمر والنهي، وقد استدلّ بذلك لبطلان الوضوء في مفروض المثال.

وأُورد عليه: بأنّ المحرّم هو الضَّرر المترتّب على الوضوء، فالوضوء محرّم بالحرمة المقدميّة غير الموجبة للبُعد، فلا مانع من التقرّب بالوضوء.

وفيه: أنّ الحرمة لابدّ وأن تتعلّق بما هو داخلٌ تحت الاختيار وفعل المكلّف، وهو الإضرار لا الضَّرر، والإضرار منطبقٌ على الوضوء لا مترتّب عليه.

وبالجملة: فالصحيح أن يورد عليه بما سيأتي من عدم الدليل على حرمة الإضرار بالنفس، فانتظر.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني(1) من أنّه لا ريب في صحّة التيمّم في الفرض، ولا ريب أيضاً في أنّ التيمّم في طول الوضوء، لأنّه معلّق على عدم وجدان الماء، والوضوء معلّق على الوجدان، فلو كان الوضوء أيضاً مشروعاً، لزم كون ما في طول الشيء في عرضه، وكون المكلّف واجداً وغير واجدٍ في زمان واحد، وهو محال.2.

ص: 366


1- منية الطالب: ج 3/412.

وفيه: أنّ مشروعيّة التيمّم عُلّقت على عدم وجدان الماء، أو كون الماء مضرّاً، فمع مشروعيّتها معاً لا يلزم شيءٌ من المحذورين.

الوجه الثالث: إنّ حديث النافي للضّرر إنّما يوجب تقييد متعلّقات الأحكام، ويدلّ على أنّ كلّ حكمٍ ضرري منفيّ في الإسلام، فلو كان الفعل الضَّرري أمراً عباديا كالوضوء، لا يكون مأموراً به، ومع عدم الأمر لا محالة لا يصحّ ، فالوضوء الضَّرري باطل.

وأُورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّ دليل حكم ذلك الفعل كدليل وجوب الوضوء، إنّما يدلّ بإطلاقه بالدلالة المطابقيّة على أنّه واجبٌ حتّى في حال الضَّرر، وبالدلالة الالتزاميّة يدلّ على أنّه ذو ملاكٍ في تلك الحال، وحديث لا ضرر إنّما يوجبُ تقييد ذلك الدليل من الناحية الأُولى، أي من حيث دلالته على الوجوب، وأمّا دلالته على كونه واجداً للملاك فلا مقيّد له، إذ لو كان للكلام دلالات وظهورات سقط بعضهاعن الحجيّة، لا أنّه موجبٌ لسقوط غيره، فلو أتى بالوضوء بداع الملاك صَحّ .

وفيه: أنّ التمسّك بالإطلاق فرع كون الكلام مسوقاً للبيان، وأدلّة الأحكام سيقت لبيان الأحكام لا الملاكات، غاية الأمر بالبرهان العقلي يُستكشف من وجود الحكم وجود الملاك، فإذا قيد الحكم لا كاشف عن وجود الملاك أيضاً.

الإيراد الثاني: إنّ حديث لا ضرر إنّما ينفي اللّزوم لا الجواز.

وإن شئت قلت: إنّه بناءً على كون الاختلاف بين الوجوب والاستحباب من ناحية الترخيص في الترك وعدمه، فإنّ دليل نفي الضَّرر يرفع الوجوب ويقتضي

ص: 367

الترخيص، كما أنّه بناءً على كون الوجوب مركّباً من طلب الفعل مع المنع من الترك، فإنّ الحديث إنّما يرفع القيد الثاني، فالوضوء حينئذٍ مطلوب ويصحّ لذلك.

وفيه: أنّ الوجوب - كما حُقّق في محلّه - ليس مركّباً، بل هو بسيط، كما أنّه قد تقدّم أنّ الحديث لا يثبت الحكم، فإنّه نافٍ لا مثبت، وأيضاً هو ينفي الحكم الشرعي دون الأحكام العقليّة، وعليه فلا معنى لنفي اللّزوم وبقاء الجواز، بمعنى نفي أحد الضدّين وبقاء الآخر، أو نفي الحكم العقلي.

الإيراد الثالث: وهو يختصّ بالمستحبّ ، وما هو من قبيل الوضوء، فإنّ حديث لا ضرر بما أنّه واردٌ في مقام الامتنان، فلا يصلح أن يكون رافعاً للاستحباب، إذا لا كُلفة في وضعه كي يرفعه، وإنّما يرفع الحديث التكاليف اللّزوميّة، وعليه فبما أنّ الوضوء مع قطع النظر عن وجوبه الغيري، مستحبٌّ نفسي - على الأظهر، ومستحبٌّ غيري على المسلك المشهور بين الأصحاب - أي أنّ المطلوب النفسي هو الكون على الطهارة وهو حاصلٌ من الوضوء، فالأمر اللّزومي المتعلّق به وإن كان منفيّاً بالحديث، إلّاأنّ أمره الاستحبابي يكون باقياً، فيصحّ الوضوء الذي أتي به بداعي ذلك الأمر النفسي.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ حديث نفي الضَّرر، بالنسبة إلى الواجبات من قبيل العزيمة، لا بمعنى الحرمة، الذي هو بمعنى عدم الأمر بالفعل الضَّرري، وحيثُ لا يشمل المستحبّات، فالمستحبات الضَّرريّة وما يكون فيه ملاكان للوجوب والاستحباب كالوضوء، يكون الأمر الاستحبابي فيه باقياً، فيصحّ الإتيان به بداعي ذلك الأمر لو كان عبادة، فلو تحمّل الضَّرر وتوضّأ صحّ وضوؤه.

ص: 368

في أنّ حديث لا ضرر مثبتٌ للحكم أم ناف

التنبيه السادس: بعد ما لا إشكال في أنّ الحديث يشمل الأحكام الوجوديّة وينفيها، وقع الكلام في أنّه هل يشمل عدم الحكم لو كان ضرريّاً، أم لا يشمله ؟

أقول: وفيه وجهان بل قولان، أظهرهما الثاني، لأنّ ظاهر الحديث هو نفي ما يوجب الضَّرر، ومن الواضح أنّ النفي لا يرد على العدم، بل لابدّ وأن يكون مورده وجوديّاً، وإلى ذلك نظر المحقّق النائيني رحمه الله حيث قال(1):

(إن حديث نفي الضَّرر ناظرٌ إلى الأحكام المجعولة في الشريعة، وعدم الحكم بشيء وإنْكان تحت قدرة الحاكم، إلّاأنّه ليس حكماً مجعولاً، فلا يشمله الحديث).

وعليه، فلا يرد عليه ما أفاده بعض المحقّقين(2) من أنّ عدم جعل الحكم في موضعٍ قابلٍ للجعل بمنزلة جعل العدم، لا سيّما مع ورود قوله عليه السلام(3): «ما حَجَب اللّه علمه عن العباد فهو موضوعٌ عنهم»، فإنّه بمنزلة التصريح بجعل عدم التكليف، فإنّ العدم حتّى مع التصريح به ليس شيئاً قابلاً لورود النفي والعدم عليه.

مع أنّ المنفيّ - كما مرّ - إمّا هو الحكم الموجب للضرر، أو الأعمّ منه ومن الحكم الذي يكون متعلّقه ضرريّاً، وعلى التقديرين لا يشمل عدم الحكم، لأنّ العدم لا يكون سبباً ومؤثّراً في أمر وجودي - وهو الضَّرر في المقام - ولا شيء كي يكون له موضوع أو متعلّق.

ص: 369


1- منية الطالب: ج 3/401.
2- الأستاذ الأعظم السيّد الخوئي في دراسات في علم الأُصول: ج 3/528.
3- وسائل الشيعة: ج 27/163 ح 33496، بحار الأنوار: ج 2/280 ح 48.

وقد استدلّ للأوّل بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن الشيخ الأعظم رحمه الله وتبعه غيره، وحاصله(1):

أنّ المنفيّ إنّما هو كلّ ما يكون من الإسلام، ويُعامل عليه في الشريعة وجوديّاً كان أو عدميّاً، فكما أنّه يجب في حكمة الشارع نفي الأحكام الضَّرريّة، كذلك يجبُ جعل الأحكام التي يلزم من عدمها الضَّرر.

ويرد عليه: أنّ هذا الوجه إنّما يصلح وجهاً لبيان إمكان ذلك، ولا يصلح وجهاً لبيان شمول حديث لا ضرر لعدم الحكم، إذ الظاهر تعلّق النفي بما هو مجعولٌ ، ولا يكون العدم شيئاً قابلاً لأن يكون متعلّقاً للنفي إلّابالعناية.

وإنْ شئت قلت: إن عدم العدم ونفيه لا يكون مجعولاً إلّابعناية جعل الوجود.

الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله أيضاً، وهو(2) أنّ الأحكام العدميّة تستلزمُ أحكاماً وجوديّة، فإنّ عدم ضمان ما يفوته من المنافع، يستلزمُ حرمة مطالبته ومقاصّته، والتعرّض له، وجواز دفعه عند التعرّض له.

وفيه: إنّ الحديث إنّما يرفع ما هو ضرري، وأمّا ما هو ملازمٌ لأمرٍ يكون ذلك ضرريّاً، فالحديث لا يكون متكفّلاً لنفيه.

الوجه الثالث: أنّ العدم وإنْ لم يستند بحسب بدوه ومفهومه إلى الشارع، إلّا أنّه بحسب البقاء مستندٌ إلى الشارع، لأنّه بقاءً قابلٌ لأن تناله يد الجعل بأن يرفعه الشارع أو يُبقيه، ولذا تجري الاستصحابات العدميّة، وعليه فالعدم بقاءً مستندٌ إلى الشارع، وإذا كان مستنداً إليه وكان ضرريّاً يشمله حديث لا ضرر.

وفيه: أنّ كون العدم بقاءً بيد الشارع، غير كونه مستنداً إليه بالفعل، والذي4.

ص: 370


1- كتاب الطهارة: ج 2/454.
2- كتاب الطهارة: ج 2/454.

لابدّ منه في شمول الحديث هو الثاني.

وبالجملة: فالأظهر عدم شمول الحديث للعدميّات.

أقول: رتّبوا على شمول الحديث للعدميّات أُموراً:

منها: أنّه لو حَبس أحدٌ حُرّاً حتّى فات عمله، أو حَبسه حتّى أبق عبده، فإنّ حكم الشارع بعدم ضمان الحابس ضرريٌ على المحبوس، فينتفي ويَثبتُ الضمان.

وفيه: إنّ ترخيص الحابس وإن كان ضرريّاً مرفوعاً بالحديث، ويثبت به حرمته، بناءاً على ما سيأتي من دلالة الحديث على حرمة الإضرار بالغير، إلّاأنّه لو عصى الحابس وحبسه وتضرّر المحبوس، لا يدلّ الحديث على الضمان، لما مرّ من أنّه لا يشمل العدميّات، وعرفت أيضاً أنّ الإضرار ليس من موجبات الضمان.

نعم، لو كان مفاد الحديث نفي الضَّرر غير المتدارك، كان دالّاً على الضمان، لأنّه يتدارك به الضَّرر المتوجّه إلى المحبوس، لكنّك عرفت فساد المبنى .

ومنها: أنّه لو امتنع الزوج عن الإنفاق على زوجته، قالوا إنّه بناءاً على شمول الحديث للعدميّات، يكون عدم جواز طلاقها بغير إذن الزوج ضرريّاً يشمله الحديث، فيحكم بجواز أن يطلّقها الحاكم أو غيره بإذنه.

وقد تمسّك الفقيه الطباطبائي(1) في «ملحقات العروة»، بقاعدة نفي الضَّرر لجواز طلاق الحاكم الشرعي كلّ أمرأة تتضرّر ببقائها على الزوجيّة.

والجواب: إنّ المسألة وردت فيها نصوص خاصّة، فلا يبقى موردٌ للنزاع فيما تقتضيه قاعدة نفي الضَّرر، مع أنّه على فرض شمول حديث لا ضرر، لعدم الحكم،1.

ص: 371


1- ملحقات العروة: ج 2/75 حكاه عنه في منية الطالب: ج 3/421.

يمكن أن يقال إنّ زوال سلطنة الزوج ضررٌ عليه، فهو أيضاً مشمولٌ للحديث، ولا مرجّح لأحد الضَّررين على الآخر.

أضف إلى ذلك: أنّ امتناع الزوج عن الإنفاق ضرريٌ ، وأمّا نفس الزوجيّة، وكون أمر الطلاق بيد الزوج، فهما ليسا ضرريّين.

نعم، الحكم بجواز الطلاق يوجبُ تدارك الضَّرر الناشيء من عدم الإنفاق، ولو كان المنفيّ هو الضَّرر غير المتدارك، دلَّ الحديث على جوازه، ولكن قد مرّ أنّ الحديث لا يختصّ به، ولا يدلّ على لزوم التدارك.

وبما ذكرناه يظهر ما في سائر ما رتبوا عليه.

حكم الشكّ في الضَّرر

التنبيه السابع: إذا شكّ في موردٍ أنّ الحكم أو المتعلّق ضرري أم لا، كما لو شكّ في مضريّة الصوم أو الوضوء وما شاكل، ففيه وجوهٌ وأقوال:

القول الأوّل: أنّه لو ظنّ بالضرر بالظنّ غير المعتبر، يكون المورد مشمولاً لحديث (لا ضرر)، ذهب إليه الشيخ الأعظم(1) والمحقّق الخراساني حيث قال في «الكفاية» في مبحث الانسداد(2):

(نعم ربما يجري نظير مقدّمات الانسداد في الأحكام في بعض الموضوعات الخارجيّة من انسداد باب العلم به غالباً، واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم الرِّضا

ص: 372


1- فرائد الاُصول: ج 1/378.
2- كفاية الاُصول: ص 329.

به بمخالفة الواقع بإجراء الاُصول فيه مهما أمكن، وعدم وجوب الاحتياط شرعاً أو عدم إمكانه عقلاً كما في موارد الضَّرر) انتهى .

وقال الشيخ في «الرسائل»(1): (نعم، قد يوجد في الاُمور الخارجيّة ما لا يبعد إجراء نظير دليل الانسداد فيه، كما في موضوع الضَّرر الذي اُنيط به أحكام كثيرة، من جواز التيمّم والإفطار وغيرهما) انتهى .

وبذلك صرّح في كتاب الصوم أيضاً.

ولكن يرد على هذا الوجه: أنّه يتمّ إنْ لم يكن باب العلمي مفتوحاً، وحيث إنّ قول أهل الخبرة وهم الأطبّاء حجّة، فلا يتمّ ذلك.

القول الثاني: أنّه حيث يشكّ في صدق الضَّرر، فالحديثُ لا يشمل، فالمرجع إلى عموم دليل ذلك الحكم، كدليل وجوب الوضوء والصوم، وهو الظاهر من السيّد في «العروة»، ولكنّه لا يتمّ على ما هو الحقّ من عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة.

القول الثالث: ما أفاده المحقّق العراقي رحمه الله، وهو(2) أنّ الحديث لا يشمل، والتمسّك بدليل الحكم لا يجوز، فيشكّ في الحكم، والمرجع فيه حينئذٍ هو أصالة الاحتياط دون البراءة، بدعوى أنّ مرجع هذا المانع إلى عدم قدرة الحاكم لتوسعة حكمه مع تماميّة مقتضية، فيكون نظير عدم قدرة المحكوم له على الامتثال، حيث إنّ العقل حاكمٌ بالأخذ باحتمال الحكم، ولا يرى مجرى البراءة إلّامورد الشكّ في أصل الاقتضاء.

وفيه: أنّه لو تمّ ذلك بالإضافة إلى البراءة العقليّة، لا يتمّ بالإضافة إلى البراءة6.

ص: 373


1- فرائد الاُصول: ج 1/551.
2- نهاية الأفكار: ج 3/266.

الشرعيّة، لأنّ مقتضى إطلاق أدلّتها هو ارتفاع الحكم في كلّ موردٍ شكّ فيه، ومع الشكّ في الضَّرر حيث إنّه يشكّ في الحكم، فلا محالة تجري البراءة، ولا مورد لأصالة الاحتياط.

فالصحيح أن يقال: إنّه إذا كان الواجب ممّا له بدلٌ كالوضوء، فإنّه لو سقط وجوبه، ينتقل الفرض إلى التيمّم، أو كان الواجب ممّا يجب قضاؤه لو سقط وجوبه كالصوم، لا يجري الحديث قطعاً، لأنّه لو بنينا على أنّ الميزان هو الضَّرر الواقعي، ففي هذه الموارد بما أنّ لازم جريانه هو الجمع بين المبدل والبدل، وفعل الشيء وقضاؤه، ولا تصل النوبة إلى جريان البراءة عن البدل وفعل الشيء، للعلم الإجمالي بوجوب أحدهما وهو خلاف الامتنان، فلا يجري.

نعم، من لا يرى منجّزيّة العلم الإجمالي في التدريجيّات، خصوصاً فيما إذا كان المعلوم بالإجمالي على تقديرٍ غير فعلي وبلا ملاك، كما في قضاء الصوم، لا محالة يشكّ في الوجوب، ويجري أصالة البراءة عنه، وعلى ما ذكرناه فمقتضى إطلاق دليل الواجب وجوبه، ولعلّه إلى هذا نظر صاحب «العروة».

أقول: ويمكن أن يذكر وجهٌ آخر لكون المورد من موارد التمسّك بإطلاق دليل الواجب لا البراءة، حتّى مع كون المنفيّ في الحديث هو الضَّرر الواقعي، وذلك لأنّه يجري فيه استصحاب عدم حصول الضَّرر بفعله، بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الاُمور الاستقباليّة، عليماأشبعنا الكلام فيه في مبحث الاستصحاب(1).

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه في موارد الشكّ في الضَّرر، يُبنى على عدمه، فيرجع إلى إطلاق أو عموم دليل ذلك الحكم؛ كدليل وجوب الوضوء والصوم ونحوهما.ب.

ص: 374


1- راجع: زبدة الأصول: ج 5/275، مبحث الاستصحاب.

نعم، في خصوص باب الصوم بنينا على جواز الإفطار مع الظنّ بالضرر، كما هو المشهور، بل ومع احتماله، من جهة أنّ المأخوذ في جملةٍ من النصوص موضوعاً لجواز الإفطار، هو الخوف من الضَّرر، وهو يصدق مع الظنّ بالضرر، بل ومع الاحتمال المتساوي الطرفين، وقد ذكرنا في كتابنا «فقه الصادق» وجهاً آخر لجواز الإفطار مع الظنّ بالضّرر(1).

***0.

ص: 375


1- فقه الصادق: ج 12/330.

بيان وجه تقديم القاعدة على أدلّة الأحكام

المقام لخامس: وهو بيان حال القاعدة مع ما يعارضها، والكلام فيه يقع في موارد:

1 - في بيان نسبتها مع الأدلّة المثبتة للأحكام الثابتة للأفعال بعناوينها الأوّليّة.

2 - في بيان نسبتهامع سائرالأدلّة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانويّة.

3 - في تعارض الضَّررين.

أمّا المورد الأوّل: فبعد ما لا كلام في تقديم القاعدة على جميع العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضَّرري، كأدلّة وجوب الوضوء على واجد الماء، وحرمة الترافع إلى حكّام الجور، وسلطنة الناس على أموالهم وما شاكل، وقع الكلام في وجه ذلك، مع أنّ النسبة بين دليل القاعدة، وبين كلّ واحدٍ من تلك الأدلّة عمومٌ من وجه، وقد ذكروا في وجه تقديمه أُموراً:

الأمر الأوّل: ما نقله الشيخ رحمه الله عن غير واحدٍ من عدّهما من المتعارضين، وإنّما يقدم القاعدة إمّا بعمل الأصحاب، أو بالاُصول، كالبراءة في مقام التكليف، وغيرها في غيره.

وفيه أوّلاً: ما ستعرف من حكومة دليل القاعدة على جميع تلكم الأدلّة، ولا تعارض بينهما، والترجيح إنّما هو في غير موارد الجمع العرفي كما حُقّق في محلّه.

وثانياً: إنّه على فرض تسليم التعارض، فإنّ الاُصول ليست من مرجّحات أحد الخبرين على الآخر، وأمّا عمل الأصحاب - أي الشهرة الفتوائيّة - فهو إنّما

ص: 376

يكون من المرجّحات إذا كانت النسبة بينهما هو التباين أو العموم من وجه، مع كون دلالة كلّ منهما على حكم المجمع بالعموم، وإن كانت دلالة أحدهما بالإطلاق والآخر بالعموم، أو كانت دلالة كلّ منهما بالإطلاق، فالمشهور هو التساقط في الثاني، وتقديم العام في الأوّل، فتأمّل فإنّ المختار خلافه.

الأمر الثاني: إنّ دليل القاعدة أخصٌّ من مجموع أدلّة الأحكام، وحيث أنّ المنفيّ هو الحكم أو الموضوع الضَّرري في الإسلام، فطرف المعارضة مجموع تلك الأدلّة، لا كلّ واحدٍ منها، وعليه فلابدّ من لحاظ النسبة بين دليلها، ومجموع تلك الأدلّة، ومن الواضح أنّ النسبة هي العموم والخصوص المطلق، فيقدّم دليل القاعدة.

وفيه: إنّ جميع الأحكام ليس لها دليلٌ واحد كي يلاحظ النسبة بين ذلك الدليل ودليل القاعدة، بل لكلّ واحدٍ من الأحكام دليلٌ مستقلّ غير مربوط بغيره، والنسبة لابدّ وأن تلاحظ بين الأدلّة، وعليه فلا محيص عن ملاحظة النسبة بين دليل القاعدة وكلّ واحدٍ من تلك الأدلّة، والنسبة حينئذٍ هي العموم من وجه.

الأمر الثالث: أنّه يدور الأمر لعلاج التعارض بين اُمور ثلاثة:

أحدها: تقديم دليل (لا ضرر) على بعض تلك الأدلّة، وتقديم بعضها عليه.

ثانيها: تقديم تلك الأدلّة بأجمعها على دليل نفي الضرر.

ثالثها: تقديم دليله على جميع تلك الأدلّة.

لا سبيل إلى الأولين، إذ الأوّل مستلزمٌ للترجيح بلا مرجّح، والثاني يستلزم عدم بقاء المورد له، فيتعيّن الثالث.

ويرد عليه: أنّه لا محذور في الثاني لولا الحكومة، فإنّ طرح الدليل عند

ص: 377

التعارض غير عزيز.

الأمر الرابع: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله(1)، وحاصله: أنّه إذا ورد دليلٌ مثبت لحكمٍ لعنوانٍ أوّلي، وورد دليلٌ لبيان حكمٍ لعنوانٍ ثانوي، وكانت النسبة بينهما عموماً من وجه، يوفّق العرف بينهما بحمل الأوّل على بيان الحكم الاقتضائي، والثاني على بيان الحكم الفعلي.

وبعبارة اُخرى : يجمع بينهما بحمل العنوان الأوّلي على كونه مقتضياً، والعنوان الثانوي على كونه مانعاً، وحيث إنّ دليل نفي الضَّرر متضمّنٌ لتشريع حكمٍ لعنوان ثانوي، فيُحمل لأجله الأدلّة المثبتة للأحكام للعناوين الأوّليّة على بيان الأحكام الاقتضائيّة، فيكون المتحصّل عدم وجود تلك الأحكام في موارد الضَّرر.

وفيه: أنّ المراد بالحكم الاقتضائي:

إن كان الحكم المجعول غير الفعلي من جهة دخل شيءٍ في فعليّته، فهو غير معقول، إذ الحكم لا يُعقل عدم فعليّته بعد فعليّة موضوعه، وصيرورة الضَّرر مانعاً عنها بمعنى أخذ عدمه في الموضوع، وإن كانت ممكنة إلّاأنّه مع عدم الدليل عليه لا وجه له، ودليليّة حديث لا ضرر أوّل الكلام.

وإنْ كان المراد هو الملاك، فيرد عليه أنّ حمل الجملة الإنشائيّة على الإخبار ممّا لا يساعده الجمع العرفي.

الأمر الخامس: ما أفاده الشيخ(2) والمحقّق الخراساني رحمهما الله(3)، وهو أنّ حديث3.

ص: 378


1- كفاية الأُصول: ص 383.
2- فرائد الاُصول: ج 2/462.
3- كفاية الاُصول: ص 433.

لا ضرر لوروده في مقام الامتنان يقدّم على العمومات.

ويمكن تقريبه: بأنّه إذا لم يكن للحكم مقتضى الثبوت في مورد الضَّرر، فهو منفيّ لعدم المقتضي، فلا معنى لنفيه امتناناً، فورود الحديث في مقام الامتنان يقتضي وجود المقتضي له، كما أنّه إذا لم يكن له مقتضى الإثبات من إطلاق دليلٍ أو عموم، لا محالة يكون منفيّاً، لعدم الحجّة من دون حاجةٍ إلى نفيه امتناناً، فمن ورود الحديث في مقام الامتنان يُستكشف وروده لتحديد مقتضى الإثبات بقصره على غير مورد الضَّرر.

الأمر السادس: ما أفاده الشيخ الأعظم(1) بقوله: (إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضَّرري، كأدلّة لزوم العقد، وسلطنة النّاس على أموالهم، ووجوب الوضوء وغير ذلك). انتهى .

وأورد عليه المحقّق الخراساني(2): بأنّ حكومتها تتوقّف على أن تكون بصدد التعرّض لبيان حال أدلّة الأحكام المورثة للضرر بإطلاقها أو عمومها، وحديث (لا ضرر) ليس كذلك، بل هو لمجرّد بيان ما هو الواقع من نفي الضَّرر، فلا حكومة له، بل حاله كسائر أدلّة الأحكام.

أقول: ما أفاده الشيخ رحمه الله هو الأظهر وذلك، لعدم انحصار الحكومة بما إذا كان دليل الحاكم متعرّضاً لبيان ما اُريد من المحكوم بالمطابقة، كما في قول الإمام الصادق عليه السلام في خبر عُبيد بن زرارة في جواب سؤاله، أليس يقال: لا يعيدُ الصلاةَ2.

ص: 379


1- فرائد الاُصول: ج 2/462.
2- درر الفوائد للآخوند (الجديدة): ص 282.

فقيه: «إنّما ذلك في الثلاث والأربع»(1)، بل لو كان صالحاً لذلك بأن يبيّن شيئاً لازمه بيان حال المحكوم، كان ذلك من قبيل الحكومة، والمقام كذلك.

توضيح ذلك: يقتضي البحث في موارد ثلاثة:

1 - بيان ضابط الحكومة.

2 - بيان وجه تقديم الحاكم.

3 - تطبيق ضابط الحكومة على المقام، وبيان كون دليل القاعدة حاكماً على الأدلّة المثبتة للأحكام للعناوين الأوّليّة.

البحث عن ضابط الحكومة

أمّا الأوّل: فضابطالحكومة، كون أحد الدليلين ناظراً إلى الآخر، أو صالحاً لذلك:

1 - إمّا بالتصرّف في موضوعه سعةً - كقوله عليه السلام(2): «هي (الفقّاع) خمرة استصغرها الناس»، بالنسبة إلى أدلّة حرمة شرب الخمر - أو ضيقاً، كقوله عليه السلام(3):

«لاشكّ لكثير الشكّ » بالنسبة إلى أدلّة الشكوك.

2 - أو بالتصرّف في متعلّقه ضيقاً، كما لو ورد (الضيافة ليست بإكرام)، بعد ورود ما دلَّ على وجوب إكرام العلماء. أو سعةً ، كما في قوله عليه السلام: «الطواف في البيت صلاة» بالنسبة إلى ما دلَّ على شرطيّة الطهارة للصلاة.

3 - أو بالتصرّف في محموله، بأن يلّونه بلون، ويدلّ على عدم ثبوت ذلك

ص: 380


1- وسائل الشيعة: ج 8/215 ح 10459، تهذيب الأحكام: ج 2/193 ح 61.
2- وسائل الشيعة: ج 25/365 ح 32136، الكافي: ج 6/423 ح 9.
3- وسائل الشيعة: ج 8/227 ب 16 باب (عدم وجوب الاحتياط على من كثر سهوه بل يمضي في صلاته).

الحكم في بعض الحالات والموارد.

وأمّا الثاني: فوجه التقدّم إذا كان دليل الحاكم ناظراً إلى موضوع دليل المحكوم أو متعلّقه واضحٌ ، إذ كلّ من الدليلين متكفّل لبيان شيء غير ما يكون الآخر متكفّلاً لبيانه، لأنّ دليل المحكوم لا نظر له إلى بيان الموضوع أو المتعلّق، بل إنّما يثبت الحكم على فرض تحقّق الموضوع، وأمّا إذا كان ناظراً إلى المحمول، فلأنّ التمسّك بأصالة الظهور - أي الإطلاق أو العموم في دليل المحكوم - فرع تحقّق الشكّ في المراد، ودليل الحاكم يرفع الشكّ ويخصّص الحكم بمورد خاص، فلا يبقى موردٌ للتمسّك بأصالة الإطلاق أو العموم.

وأمّا الثالث: فيدور البحث فيه عن سبب حكومة القاعدة على سائر الأحكام، وهو:

إن قلنا: إنّ حديث لا ضرر إنّما يكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع، ويكون مفاد الحديث نفي الحكم إذا كان الموضوع ضرريّاً، فحكومة الحديث على أدلّة الأحكام واضحة، لأنّه حينئذٍ يكون مضيّقاً لدائرة موضوعات أدلّة الأحكام.

وإن قلنا: إنّه إنّما يكون نافياً لخصوص الحكم الضَّرري، فالحديث يوجب تلوّن ما تضمّنه أدلّة الأحكام الأوّليّة بلونٍ مخصوص، فعلى أيّ تقدير يكون حديث «لا ضرر» حاكماً على أدلّة الأحكام.

تعارض قاعدة لا ضرر مع قاعدة نفي الحرج

وأمّا المورد الثاني: فهو في بيان نسبة قاعدة لا ضرر مع الأدلّة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانويّة:

ص: 381

قال صاحب «الكفاية»(1): (يعامل معهما معاملة المتعارضين، لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين، وإلّا فيقدّم ما كان مقتضيه أقوى ، وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى ، ولا يبعد أنّ الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذلك الباب بثبوت المقتضي فيهما مع تواردهما، لا من باب التعارض، لعدم ثبوته إلّافي أحدهما) انتهى .

وفيه: - مضافاً إلى ما حقّقناه في أوّل التعادل والترجيح من أنّ باب تزاحم المقتضيين، غير باب تزاحم الحكمين، وأنّه لولا حكومة أحد الدليلين على الآخر، لابدّ من إجراء ما يقتضيه قواعد باب التعارض - أنّ ما أفاده يتمّ بناءاً على ما أفاده في وجه تقدّم قاعدة نفي الضَّرر على أدلّة الأحكام الأوّليّة من التوفيق العرفي، ولا يتمّ على مسلك الحكومة، لأنّ الوجه المتقدّم لحكومة دليلها على أدلّة الأحكام الأوّليّة بعينه يقتضي تقديم دليلها على الأدلّة المثبتة للأحكام للعناوين الثانويّة، مثل دليل الشرط والنذر وما شاكل، ممّا دلَّ على ثبوت حكمٍ في مقابل حكم العنوان الأوّلي كما لا يخفى ، فلابدّ من ملاحظة نسبة دليل القاعدة مع الأدلّة النافية للحكم بالعنوان الثانوي، مثل دليل نفي الحرج، والإكراه ونحوهما، والعمدة هي قاعدة نفي الحرج فلو تعارض دليل قاعدة نفي الضَّرر مع دليل قاعدة نفي الحرج، كما لو فرضنا أنّ عدم تصرّف المالك في ماله وإنْ لم يوجب تضرّره، إلّاأنّه حيث يكون تصرّفه لجلب منفعةٍ وتعلّق غرضٍ عقلائي به، يكون ذلك حرجاً، وبعبارة اُخرى حجر المالك عن الانتفاع بماله حرجٌ ، وكان تصرّفه في ملكه موجباً لتضرّر جاره، ففيه وجوهٌ وأقوال:3.

ص: 382


1- كفاية الاُصول: ص 383.

القول الأوّل: تقديم قاعدة نفي الحرج، لحكومة نفي الحرج على نفي الضَّرر، اختاره الشيخ الأعظم في «الرسائل»(1).

القول الثاني: تقديم قاعدة لا ضرر، نظراً إليموافقة قاعدة نفي الحرج لها في أكثر مواردها، فلو قدّم قاعدة نفي الحرج في مورد التعارض، لزم كون تأسيسها كاللّغو.

القول الثالث: يعامل معهما معاملة المتعارضين الذين تكون النسبة بينهماعموماً من وجه، فيقدّم قاعدة نفي الحرج للشهرة، لأنّ المشهور بين الأصحاب جواز التصرّف في الفرض، ولموافقة الكتاب، أو يحكم بتساقطهما، فيرجع إلى قاعدة السلطنة، على الخلاف بين المسلكين في التعارض بالعموم من وجه.

القول الرابع: المعاملة معهما معاملة المتزاحمين، فيقدّم الأقوى منهما لو كان، وإلّا فيحكم بالتخيير، اختاره المحقّق الخراساني(2).

وهناك وجوهٌ أُخر ستقف عليه.

وتنقيح القول في المقام: إنّ حكومة قاعدة نفي الحرج باطلة، لوجهين:

أحدهما: أنّ كلّاً من القاعدتين حاكمة على عمومات الأحكام المجعولة في الشريعة، ومبيّنة للمراد منها، من غير أن يكون فيها جعل وتشريع، فجعل إحداهما ناظرة إلى الاُخرى وشارحة لها، والحال هذه لا معنى له كما لا يخفى .

ثانيهما: أنّ كلّاً منهما ناظرة إلى نفي الأحكام في مرتبة واحدة، وليست قاعدة نفي الحرج ناظرة إلى قاعدة نفي الضَّرر، لا بنحو التصرّف في موضوعها أو محمولها.3.

ص: 383


1- فرائد الاُصول: ج 2/467-471.
2- كفاية الأُصول: ص 383.

وأمّا الوجه الثاني: وهو تقديم قاعدة لا ضرر لأقلّية موردها، فيردّه أنّه ليس مورد الضَّرر أقلّ ، إذ المراد بالحرج المشقّة التي لا تتحمّل عادةً ، وبديهي أنّ الوقوع في الضَّرر لا يستلزم ذلك مطلقاً.

أضف إليه: أنّ أقليّة المورد إنّما توجبُ التقديم لو كانا متضادّين، بحيث يلزم من تقديم الأكثر مورداً؛ عدم بقاء المورد للأقلّ ، لا في مثل المقام ممّا لو قدّمنا قاعدة نفي الحرج لا يلزم طرح قاعدة لا ضرر، بل يبقى لها مورد وهو مورد توافقهما.

وأمّا الوجه الرابع: و هو المعاملة معهما معاملة المتزاحمين الذي اختاره المحقّق الخراساني(1).

فيرد عليه: أنّ التزاحم إنّما هو بين الحكمين، والقاعدتان نافيتان للأحكام، ولا يثبت بشيء منهما حكمٌ أصلاً، فلا معنى للتزاحم.

وإنْ اُريد به التزاحم بين المقتضيين، فيردّه أنّ باب تزاحم المقتضيين غير مربوط بباب تزاحم الأحكام.

أقول: وعلى هذا، فإنْ تمّ ما يخطر بالبال عاجلاً من أنّه من جهة أنّ القاعدتين لهما الحكومة على الأحكام المجعولة، ولا حكومة لهما على عدم الحكم، أنّه في موارد الدوران بينهما، كما في المثال لا يخلو الأمر من أنّ التصرّف المذكور:

إمّا أن يكون مباحاً غير محرّم، مع قطع النظر عن القاعدتين، وهو ما إذا لم يكن تصرّفاً في مال الجار، ولا متلفاً لماله، كما إذا حفر بئراً في داره قريباً من بئر الجار، وصار ذلك سبباً لنقص ماء بئر الجار.3.

ص: 384


1- كفاية الأُصول: ص 383.

أو يكون محرّماً غير مباحٍ ، كما لو استلزم تصرّفاً في مال الغير.

وعلى التقديرين لا مورد إلّالإحدى القاعدتين، إذ ليس إلّاحكم واحد، والآخر عدم الحكم، ففي الفرض الأوّل هو السلطنة على المال، وفي الثاني حرمة الإضرار بالغير.

فإذا كان حكمٌ كسلطنة المالك على ماله حرجيّاً أو ضرريّاً، يشمله ما دلَّ على نفي الحرج أو دليل نفي الضَّرر، ويرفع ذلك، ولو فرضنا أنّ عدم ذلك الحكم كان كذلك كما في المثال، لا يكون ذلك مشمولاً لشيء منهما، ولا يثبت به ذلك الحكم، لأنّ عدم الحكم وعدم السلطنة ليس مجعولاً حتّى يرتفع بإحدى القاعدتين، فالقاعدتان لا تجتمعان في مورد.

وعلى فرض التنزّل، وتسليم تواردهما على موردٍ واحد، واجتماعهما في محلّ واحد، بالبناء على أنّه كما يرتفع بكلٍّ من القاعدتين الأحكام المجعولة، كذلك يرتفع به عدم الحكم أيضاً، فالأظهر عدم شمول شيء منهما لذلك المورد المجمع، من جهة أنّهما إنّما وردتا في مقام الامتنان على الاُمّة، فإذا كان تصرّف المالك في ماله ضرريّاً على الجار، وتركه حرجيّاً على نفسه، لا يكون رفع السلطنة منّةً على الاُمّة، لكونه خلاف الامتنان على المالك، كما أنّ رفع حَجر المالك عن التصرّف في ماله ليس فيه منّة على الاُمّة، لكونه خلاف الامتنان على الجار، و لعلّه إلى أحد هذين الأمرين نظر من قال: (إنّهما لا يتواردان على موردٍ واحد، ولا يجتمعان في محلٍّ فارد).

وإنْ لم يتمّ شيء منهما، فالظاهر أن يعامل معهما معاملة المتعارضين، ولا مورد لإعمال قواعد باب التزاحم، لأنّ التزاحم إنّما هو بين الحكمين الوجوديّين، ولا معنى

ص: 385

له في الأعدام، والمفروض أنّ كلّاً من القاعدتين نافية للحكم لا مثبتة، فلا يثبت بهما الحكم، كي يعامل معهما معاملة المتزاحمين.

وعليه، فحيث إنّ النسبة بينهما عمومٌ من وجه، والمختار في تعارض العامين من وجه هو الرجوع إلى أخبار الترجيح والتخيير، ففي المثال بما أنّ المشهور بين الأصحاب جواز تصرّف المالك في ماله وإن تضرّر الجار به، يقدّم قاعدة لا حرج، لأنّ الشهرة أوّل المرجّحات، ومع الإغماض عنه، فهي موافقة للكتاب فتقدّم، فيحكم بجواز التصرّف.

وأمّا على المسلك الآخر من عدم الرجوع إلى أخبار الترجيح، فعلى المختار من أنّ الأصل في تعارض الأمارتين هو التخيير يحكم بالتخيير، فله أن يختار قاعدة لا حرج، ويقدّمها، ويبني على جواز التصرّف في المثال.

وأمّا على القول بالتساقط فيحكم به، فيرجع إلى قاعدة السلطنة وغيرها من القواعد المبيحة، وإن وصلت النوبة إلى الأصل، فإنّه البراءة في المقام.

فالمتحصّل: أنّه يحكم بجواز التصرّف في مفروض المسألة على جميع المسالك، ولعلّه إلى بعض ما ذكرناه نظر الأصحاب، فإنّهم أفتوا بالجواز، فتدبّر جيّداً.

حكم تصرّف المالك في ماله بدون الحاجة مع تضرّر الغير به

أقول: ينبغي التعرّض لفرع يناسب المقام، وهو أنّه إذا كان تصرّف المالك في ماله مستلزماً لتضرّر جاره، ولم يكن التصرّف لدفع ضررٍ متوجّه إليه، ولا لجلب منفعةٍ ، ولم يكن له فيه غرضٌ عقلائي، بل يكون عبثاً ولغواً، فهل يجوز هذا

ص: 386

التصرّف، لعموم دليل السلطنة ؟

أم لا يجوز، لقاعدة نفي الضَّرر، لأنّها تنفي سلطنة المالك وإباحة تصرّفه في ماله ؟

أم يجوز مع الضمان ؟ وجوهٌ :

ظاهر كلمات الأصحاب هو الثاني، فإنّ جماعة منهم كالعلّامة في «التذكرة»(1)، والشهيد في «الدروس»(1)، قيّدوا جواز تصرّف المالك في ماله بما يتضرّر به جاره، بما جرت به العادة.

وجماعة آخرين كالمحقّق الثاني(2) بصورة دعاء الحاجة، بل استدلّ العلّامة في «التذكرة»(4) للجواز في المسألة المشار إليها: بأنّ منعه عن عموم التصرّف ضررٌ منفيّ ، ولا شكّ أنّ منعه عن هذا التصرّف ليس ضرراً.

أقول: وهذا هو الحقّ ، لأنّ قاعدة السلطنة وإنْ اقتضت جواز تصرّف المالك في ماله كيف شاء، وإن تضرّر الغير به، إلّاأنّ حديث لا ضرر حاكمٌ عليها، كحكومته على سائر أدلّة الأحكام.

وقد استدلّ بعضٌ - تبعاً لسيّد «الرياض» للجواز(5) - بعموم ما دلَّ على تسلّط النّاس على أموالهم(3)، وأجاب عن ما في «الكفاية» من إشكال معارضته مع قاعدة (لا ضرر)(7): بأنّ النسبة بينهما عموم من وجه، والترجيح مع الأوّل للشهرة، وأنّه لو سُلّم التكافؤ فالمرجع أصالة الإباحة.9.

ص: 387


1- الدروس: ج 3/60.
2- جامع المقاصد: ج 6/218. (5و7) رياض المسائل: ج 2/320 (ط. ق).
3- بحار الأنوار: ج 2/272 ح 7، عوالي اللآلي: ج 1/222 ح 99.

ولكن قد عرفت أنّ أدلّة نفي الضَّرر حاكمة على دليل السلطنة، فلا معنى للرجوع إلى ما دلَّ على الترجيح، ولا للتساقط والرجوع إلى الأصل.

أقول: ومن غريب ما أفاد(1) أنّ : (ما دلَّ على أنّ الناس مسلّطون على أموالهم) من الخبر المتواتر، مع أنّه خبرٌ واحدٌ مرويّ عن طرق العامّة، ولكنّه معمولٌ به، فضعفه منجبر بالعمل.

ثمّ إنّ الظاهر أنّه لو تصرّف فيه وتضرّر الجار، من دون أن يتلف منه مال، فإنّه لا وجه للحكم بضمانه، ولا يثبت بقاعدة نفي الضَّرر الضمان، كما مرّ مفصّلاً.

وأمّا معارضة القاعدة مع دليل نفي الإكراه فسيجيءُ الكلام فيها.

***).

ص: 388


1- رياض المسائل: ج 2/320 (ط. ق).

لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين بالنسبة إلى شخص واحد

المورد الثالث: وهو ما لو تعارض حكمان ضرريّان، فمسائله ثلاث:

الأُولى: لو دار أمر شخصٍ واحدٍ بين ضررين، بحيث لابدّ من تحمّل أحدهما، أو إيراد أحدهما، كما لو اُكره على الإضرار بشخصٍ إمّا بهذا الضَّرر أو بذلك.

الثانية: ما لو دار الأمر بين الإضرار بأحد الشخصين، كما لو اُكره على ذلك.

الثالثة: ما لو دار الأمر بين تحمّل الضَّرر، أو ايراد الضَّرر على الغير.

أمّا المسألة الأُولى : فكلمات الأصحاب في فروع هذه المسألة التي تعرّضوا لها في كتاب الغصب، وإحياء الموات، وغير هما مضطربة، ولكن الشيخ رحمه الله(1) جزم في «الرسالة» بلزوم الترجيح بالأقليّة، ومع التساوي فالتخيير، قال: (فإن كان ذلك بالنسبة إلى شخص واحدٍ، فلا إشكال في تقديم الحكم الذي يستلزم ضرراً أقلّ ممّا يستلزمه الحكم الآخر، لأنّ هذا هو مقتضى نفي الحكم الضَّرري عن العباد، فإنّ من لا يرضى بتضرّر عبده، لا يختار له إلّاأقلّ الضَّررين عند عدم المناص عنهما)، انتهى .

وقد جزم بذلك صاحب «الكفاية» رحمه الله(2).

أقول: وملخَّص القول في المقام:

1 - إنّه إن كان الضَّرران مباحين، تخيّر في اختيار أيّهما شاء، وهو واضح.

2 - وإن كان أحدهما محرّماً، والآخر مباحاً، اختار المباح، إذ لا وجه لسقوط

ص: 389


1- رسائل فقهيّة: ص 125.
2- كفاية الأُصول: ص 383.

الحرمة كما لا يخفى .

3 - وإن كانا محرّمين، يختار ما حرمته أضعف، ويجتنب عمّا حرمته أقوى وأهمّ ، كما هو الشأن في جميع موارد التزاحم، ومع التساوي لابدّ من تقديم الحكم الذي يستلزم ضرراً أقلّ ممّا يستلزمه الحكم الآخر، لما أفاده الشيخ رحمه الله(1)، ومع التساوي فالتخيير.

وبما ذكرناه يظهر ما في إطلاق كلام العَلَمين.

لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين بالنسبة إلى شخصين

وأمّا المسألة الثانية: فقد جَزم المحقّق الخراساني رحمه الله(1) بلزوم الترجيح بالأقليّة، ومع التساوي فالتخيير، وقال الشيخ في «الرسالة»(3):

(وإنْ كان بالنسبة إلى شخصين فيمكن أن يقال أيضاً بترجيح الأقلّ ضرراً، إذ مقتضى نفي الضَّرر عن العباد في مقام الامتنان، عدم الرّضا بحكمٍ يكون ضرره أكثر من ضرر الحكم الآخر، لأنّ العباد كلّهم متساوون في نظر الشارع، بل بمنزلة عبدٍ واحد، فإلقاء الشارع أحد الشخصين في الضَّرر بتشريع الحكم الضَّرري فيما نحن فيه، نظير لزوم الإضرار بأحد الشخصين لمصلحته، فكما يؤخذ فيه بالأقلّ كذلك فيما نحن فيه، ومع التساوي فالرجوع إلى العمومات الاخر، ومع عدمها فالقرعة.

لكن مقتضيهذا ملاحظة الشخصين المختلفين باختلاف الخصوصيّات الموجودة في كلّ منهما من حيث المقدار، ومن حيث الشخص، فقد يدور الأمر بين ضرر

ص: 390


1- كفاية الأُصول: ص 383.

درهم وضرر دينار، مع كون ضرر الدرهم أعظم بالنسبة إلى صاحبه من ضرر الدينار بالنسبة إلى صاحبه، وقد يعكس حال الشخصين في وقتٍ آخر، وما عثرنا عليه من كلمات الفقهاء في هذا المقام لا يخلو عن اضطراب) انتهى .

وأُورد على البناء على التخيير مع التساوي(1): بأنّ حديث (لا ضرر) لوروده في مقام الامتنان على الاُمّة لا يشمل المقام، إذ لا معنى للمنّة على العباد برفع الضَّرر فيما كان نفيه عن أحدٍ مستلزماً لثبوته على آخر، فيستكشف بذلك عن عدم إرادتهما، فيجب الرجوع إلى سائر القواعد.

وعلى البناء على الترجيح، بأقوائيّة الضَّرر أو أكثريّته، بأنّ ذلك يوجبُ الترجيح في الضَّررين بالنسبة إلى شخصٍ واحد لا شخصين، إذ لا منّة في نفي الضَّرر الأقوى على من استلزم ذلك في حقّه ثبوت الضَّرر، بل إنّما يكون منّةً على خصوص من نُفي الضَّرر عنه، وكون العباد بالنسبة إلى اللّه تعالى بمنزلة عبدٍ واحد، لا يُصحّح المنّة على جميعهم في نفي الضَّرر الأكثر والأقوى ، ولو على من استلزم ذلك بالنسبة إليه الضَّرر.

أقول: وتنقيح القول في المسألة أنّ فروعها ثلاثة:

1 - ما لو دار الأمر بين الإضرار بأحد الشخصين، كما لو أكرهه المكره بذلك.

2 - ما إذا كان الضَّرر متوجّهاً إلى أحد الشخصين، مع قطع النظر عن الحكم الشرعي، كما إذا وقع دينار شخص في محبرة الغير، وكان ذلك بفعل شخصٍ ثالث.

3 - ما إذا كان الضَّرر متوجّهاً إلى أحدهما بآفة سماويّة.5.

ص: 391


1- رسائل فقهيّة: ص 125.

أمّا الفرع الأوّل: فلا إشكال في أنّه يجوز أحدهما ولا يجوز الآخر، وارتفاع عدم الجواز عن أحدهما حيث يكون لأجل عدم تمكّن المكلّف، فلا محالة يقع التزاحم بينهما، فلابدَّ من إعمال مرجّحات ذلك الباب، ومن جملتها الأهميّة، وحيث إنّها ربما تكون بالأكثريّة، فما أفاده الشيخ من الترجيح بالأقليّة يتمّ في هذا الفرع، وليجعل ما استدلّ به الشيخ الذي هو وجه اعتباري استحساني من مؤيّدات ذلك.

وأمّا الفرع الثاني: فيتخيّر في إتلاف أيّهما شاء، ويضمن الشخص الثالث الذي هو السبب لتوجّه الضَّرر إلى أحد الشخصين بضمان المثل أو القيمة لصاحبه، ولا يخفى وجهه.

وأمّا الفرع الثالث: فالمشهور أنّه يلزم اختيار أقلّ الضَّررين، وأنّ ضمان ذلك على مالك الآخر.

واستدلّ له: بأنّ نسبة جميع النّاس إلى اللّه سبحانه نسبة واحدة، فالكلّ بمنزلة عبدٍ واحد، فالضّرر المتوجّه إلى أحد شخصين كأحد الضَّررين المتوجّه إليشخصٍ واحد، فيلزم اختيار أقلّ الضَّررين.

ثمّ إنّه حيث تكون الخسارة المتوجّهة إلى من أُورد الضَّرر عليه لمصلحة الآخر، فهو يكون ضامناً لها، ولكن مجرّد كون الخسارة لمصلحته، لا يوجبُ استقرار تمام الخسارة عليه.

وعليه، فالصحيح أنّه حيث يكون الضَّرر المتوجّه متوجّهاً إليهما، ونسبته إليهما على حَدٍّ سواء، فمقتضى قاعدة العدل والإنصاف المصطادة من النصوص، وعليها بناء العقلاء، هو تقسيط الخسارة عليهما بنسبة المالين.

ص: 392

ويؤيّده الخبر القويّ الذي رواه السكوني، عن الإمام الصادق(1)، عن أبيه عليهما السلام:

«في رجلٍ استودع رجلاًدينارين، فاستودعه آخر ديناراً، فضاع دينار منها؟ قال عليه السلام:

يعطى صاحب الدينار ديناراً ويقسّم الآخر بينهما نصفين».

لو دار الأمر بين ضرر نفسه وضرر غيره

وأمّا المسألة الثالثة: وهي ما لو دار الأمر بين ضرر نفسه وضرر غيره، ففروعها أربعة:

1 - ما إذا كان الضَّرر متوجّهاً إليه ابتداءً ، وأمكن توجيهه إلى الغير.

2 - ما إذا كان الضَّرر متوجّهاً إلى غيره، وأمكن تحمّله.

3 - ما إذا كان متوجّهاً ولم يكن متوجّهاً إلى أحدهما بالخصوص، فهما في عرض واحد.

4 - ما إذا تردّد الضَّرر بين الشخصين، نفسه وغيره، من جهة الحكم الشرعي، كما لو فرضنا أنّ المالك يتضرّر بعدم حفر البئر في داره، وأنّ جاره يتضرّر بحفرها.

إذا كان الضَّرر متوجّهاً إلى نفسه

أمّا الفرع الأوّل: وهو ما لو كان الضَّرر متوجّهاً إليه ابتداءً ، كما لو أكرهه الجائر على دفع مبلغ معيّن، أو كان السيل متوجّهاً إلى داره، فلا ينبغي التوقّف في عدم جواز توجيهه إلى الغير، بأخذ المبلغ من الغير وإعطائه إيّاه في المثال الأوّل، وصَرف

ص: 393


1- وسائل الشيعة: ج 18/452 ح 24025، تهذيب الأحكام: ج 6/208 ح 14.

السيل إلى دار غيره في الثاني، إذ الجواز حكمٌ ضرري منفيّ في الشريعة.

لا يقال: إنّ ترك الإضرار بالغير أيضاً ضرريٌ ، فلزومه منفيّ بالشريعة.

فإنّه يقال أوّلاً: إنّ عدم جواز الإضرار غير مشمول للحديث، لما تقدّم من عدم كون الحديث حاكماً على العدميّات.

وثانياً: أنّ ترك الإضرار ليس ضرريّاً، فإنّ المفروض توجّه الضَّرر إليه بأسبابه، وإنّما يراد دفعه عن نفسه بإيجاد المانع.

لو كان الضَّرر متوجّهاً إلى الغير

وأمّا الفرع الثاني: وهو ما لو كان الضَّرر متوجّهاً إلى الغير ابتداءً ، ومثّلوا له بما إذا أكرهه الجائر على نهب مال الغير، وإلّا فيحمل أموال نفسه إليه، ففيه وجوهٌ وأقوال:

الوجه الأوّل: ما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله وهو(1) ارتفاع حرمة الإضرار بالغير مطلقاً، ولو كان الضَّرر المتوعّد به على ترك المكرَه عليه أقلّ بمراتب من الضَّرر المكرَه عليه.

الوجه الثاني: عدم ارتفاع حرمته كذلك، أي ولو كان الضَّرر المتوعّد به أكثر من الضَّرر المكرَه عليه.

الوجه الثالث: التفصيل بين ما إذا كان الضَّرر الذي توعّد به أعظم، أو مساوياً فترتفع الحرمة، وبين ما إذا كان أقلّ فلا ترتفع.

ص: 394


1- رسائل فقهيّة: ص 122، فرائد الأُصول: ص 539.

الوجه الرابع: ما اختاره الاُستاذ الأعظم(1) من التفصيل:

بين ما إذا كان الضَّرر المتوعّد به أمراً مباحاً في نفسه، كما إذا أكرهه الجائر على نهب مال الغير وجلبه إليه، وإلّا فيَحمل أموال نفسه إليه، فلا ترتفع الحرمة.

وبين ما إذا كان ذلك الضَّرر أمراً محرّماً، كما إذا أكرهه على أن يُلجيء شخصاً آخر إلى فعل محرم كالزنا، وإلّا أجبره على ارتكابه بنفسه، فتقع المزاحمة، ويرجع إلى قواعد باب التزاحم.

أقول: قد استدلّ للأوّل بوجوه:

1 - أنّ عموم حديث رفع الإكراه(2) شاملٌ لجميع المحرّمات حتّى الإضرار بالغير ما لم يبلغ الدم.

وفيه: أنّ الحديث لوروده مورد الامتنان على الاُمّة، والحكم بارتفاع الحرمة منافٍ للامتنان بالإضافة إلى ذلك الغير، وإن كان موافقاً للامتنان بالإضافة إلى المكرَه، فلا يكون مشمولاً للحديث.

2 - أنّ عموم نفي الحرج(3) يدلّ عليه، فإنّ إلزام الغير بتحمّل الضَّرر وترك ما اُكره عليه حرجيٌّ .

وفيه: أنّ الحرج المنفيّ في الشريعة، هي المشقّة التي لا تُتحمّل عادةً ، وبديهي أنّ الوقوع في الضَّرر لا يستلزم ذلك مطلقاً، فلا يصحّ التمسّك لجواز الإضرار مطلقاً بدليل نفي الحرج.8.

ص: 395


1- مصباح الفقاهة: ج 1/680-681.
2- وسائل الشيعة: ج 15/369 ح 20769، الكافي: ج 2/462 ح 1.
3- سورة الحجّ : الآية 78.

أضف إليه: أنّه أيضاً وارد في مقام الامتنان على الاُمّة، فيجري فيه ما في سابقه.

3 - أنّ الضَّرر متوجّهٌ إلى الغير بحسب إرادة المكرِه (بالكسر) والمكرَه (بالفتح) وإنْ كان مباشراً، إلّاأنّه ضعيفٌ لا ينسب إليه توجيه الضَّرر إلى الغير.

نعم، لو تحمّل الضَّرر ولم يضرّ بالغير، فقد صرف الضَّرر عن الغير إلى نفسه عرفاً، والمستفاد من أدلّة تشريع نفي الإكراه إنّما هو لدفع الضَّرر، فلا يجبُ تحمّل الضَّرر لدفعه عن الغير.

وفيه: إنّ هذا وإن كان تامّاً في بعض الفروض كما ستعرف، إلّاأنّه لا يتمّ في مورد وساطة إرادة المكرَه (بالفتح)، فإنّ الإكراه لا يوجب سلب اختيار المكرَه (بالفتح) وصيرورته كالآلة، بل هو بعد على كونه مختاراً فيه، وعليه فهو يضرّ بالغير اختياراً دفعاً للضرر عن نفسه.

واستدلّ للثاني: بإطلاق أدلّة حرمة الإضرار بالغير الآتية، بعد عدم شمول أدلّة نفي الإكراه والحرج والضَّرر للمقام، كما تقدّم.

وفيه: أنّ هذا الوجه وإنْ كان تامّاً في نفسه، إلّاأنّه ربما يزاحم حرمة الإضرار محرّمٌ آخر، وهو ما إذا كان الضَّرر المتوعّد به أمراً محرّماً، وحينئذٍ فلابدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التزاحم.

وعليه، فالأظهر هو القول الرابع في مفروض المثال.

واستدلّ للثالث(1): بأنّ نسبة جميع الناس إلى اللّه سبحانه نسبة واحدة، فالكلّ بمنزلة عبدٍ واحد، فالضّرر المتوجّه إلى أحد الشخصين كأحد الضَّررين المتوجّه إلى5.

ص: 396


1- رسائل فقهيّة: ص 125.

شخصٍ واحد، فلابدّ من ملاحظة أقلّ الضَّررين، وعند التساوي يحكم بالتخيير.

وفيه: أنّه إذا كان الضَّرر المتوعّد به أمراً مباحاً في نفسه، كيف يُحكم بالتخيير بين ذلك وبين الأمر المحرّم وهو الإضرار بالغير، مع أنّه وجه اعتباريّ استحساني لا يُعتمد عليه ؟!

والحقّ في المقام أن يقال: إنّه إذا كان الضَّرر بحسب طبعه متوجّهاً إلى الغير، كما إذا توجّه السيل إلى دار الجار، لا إشكال في عدم وجوب تحمّل الضَّرر لدفعه عنه، فإنّ الضَّرر في الفرض ليس من فعله، كي يشمله دليل حرمة الإضرار.

ولكن مسألة الإكراه ليست من هذا الباب، لأنّ الإكراه إنّما يوجب تخيير المكره بين الإضرار بالغير، وبين تحمّل الضَّرر على فرض العدم، فلا يكون مِنْ توجّه الضَّرر إلى الغير ابتداءً .

وأمّا في مسألة الإكراه فقد ظهر ممّا حقّقناه قوّة الوجه الرابع.

حكم ما لو توجّه الضَّرر من غير ناحية الحكم

وأمّا الفرع الثالث: وهو ما إذا كان الضَّرر متوجّهاً إلى أحد شخصين، وكان ذلك مع قطع النظر عن الحكم الشرعي، كما إذا دخلت دابّة في دارٍ لا تخرج منها إلّا بهدم الجدار، ولم يكن حصولها من أحدهما ولا بتفريط منه، أو أدخلت دابّة رأسها في قدرٍ، وتوقّف إخراجها إلى كسر القدر، ولم يكن من أحدهما تفريط، فهو خارجٌ عمّا نحن فيه، ولا يشمله حديث «لا ضرر ولا ضرار»، لأنّه إنّما ينفى الحكم الناشيء منه الضَّرر، أو الموضوع الضَّرري، ولا يشمل ما إذا كان الضَّرر متوجّهاً

ص: 397

مع قطع النظر عن الحكم.

وعليه، فما في «الجواهر»(1) في الفرع الأوّل من (أنّه يُهدم الدار ويُخرج الدابّة، ويضمن صاحب الدابّة الهَدم، لأنّ صاحب الدابّة مكلّفٌ بأخذها من دار الغير، وتخليص ملكه منها، فكلّ ضررٍ حَصل على صاحب الدار بالنسبة إلى ذلك وَجَب جبره على صاحب الدابّة، لقاعدة لا ضرر ولا ضرر) انتهى .

ضعيفٌ لما مرّ، ولأنّ قاعدة لا ضرر نافية للحكم لا مثبتة، فلا يثبت بها الضمان، وليس مفادها نفي الضَّرر غير المتدارك، كما مرّ.

وكيف كان، المشهور بين الأصحاب(2) أنّه يُهدم الدار ويخرج الدابّة في الفرع الأوّل، ويُكسر القدر في الثاني، ويضمن صاحب الدابّة الهدم والكسر، وعلّلوه بأنّه لمصلحته.

وأورد عليهم الشهيد الثاني رحمه الله في محكي «المسالك»(3): بأنّ المصلحة قد تكون مشتركة بينهما، بل هو الأغلب، وقد تكون مختصّة بصاحب الدار أو القِدْر، وأيضاً قد تكون الدابّة مأكولة اللّحم، فلا يفوت عليه بذبحها ما يقابل الهدم والكسر.

واحتمل الشهيد رحمه الله في «الدروس»(4): - في الفرع الثاني على ما حُكي - ذبح الدابّة مع كون كسر القِدر أكثر ضرراً من قيمة الدابّة أو أرشها، ترجيحاً لأخفّ الضَّررين.0.

ص: 398


1- جواهر الكلام: ج 37/207-208.
2- شرائع الإسلام: ج 4/774، قواعد الاحكام: ج 2/236 وغيرهم.
3- مسالك الأفهام: ج 12/242.
4- الدروس: ج 3/110.

وفي «رسائل» الشيخ الأعظم(1): (أنّه يُحمل إطلاق كلامهم على الغالب من أنّ ما يدخل من الضَّرر على مالك الدابّة إذا حكم عليه بتلف الدابّة وأخذ قيمتها أكثر ممّا يدخل على صاحب القِدْر بتلفه وأخذ قيمته.

وبعبارة اُخرى : تلف إحدى العينين، وتبدّلها بالقيمة أهونُ من تلف الاُخرى )، انتهى .

أقول: وحقّ القول في المقام بعدما عرفت من أنّه لا مورد لإعمال قاعدة (لا ضرر) في المقام، حتّى يراعى الترجيح بقلّة الضَّرر - أنّه حيث يجب على صاحب الدابّة الإنفاق عليها بالمأكول والمشروب والمسكن، ولو امتنع يَجبره الحاكم على الإتفاق أو البيع أو الذبح إن كان مأكول اللّحم، فيجبُ عليه إخراج الدابّة من الدار، ورأسها من القِدْر، إنْ لم يمكن ذلك بدون الإخراج، أو لم يأذن صاحب الدار في ذلك، بل إيقاء الدابّة في الدار تصرّفٌ غير جائزٍ في مال الغير، فإذا توقّف الإخراج على هدم الدار أو كسر القِدْر وجب ذلك، وحيث إنّ التصرّف في مال الغير بلا عوض لا وجه له، فمقتضى الجمع بين الحقّين، هو الهدم أو الكسر والضمان.

وأظنّ أنّ مراد المشهور من التعليل لذلك(2) بأنّه لمصلحته هو ذلك، أي أنّه لا يتمكّن من العمل بوظيفته الشرعيّة إلّابذلك.

وعليه، فلا مورد للاعتراض عليهم - بما في «المسالك» - من أنّه قد تكون المصلحة لصاحب القِدْر أو الدار فقط، وقد تكون المصلحة مشتركة بينهما.م.

ص: 399


1- فرائد الاُصول: ج 2/471-472.
2- شرائع الإسلام: ج 4/774، قواعد الأحكام: ج 2/236 وغيرهم.

أقول: ولصاحب «الجواهر»(1) في الفرع الثاني كلامٌ لا بأس به مع الإغماض عمّا ذكرناه، قال: (ولعلّ إطلاق الأصحاب أنّ المصلحة لصاحب القِدْر مبنيٌّ على اقتضاء بقاء القِدْر هلاكها، فالضرر عليه حينئذٍ بالبقاء دون صاحب القِدر الذي يأخذ قِدْره بعد الموت تامّاً، ومن هذه الجهة خصّوا صاحب الدابّة بالضمان) انتهى .

لو كان الضَّرر متوجّهاً إلى أحد شخصين نفسه أو غيره من ناحية الحكم

وأمّا الفرع الرابع:

وهو ما لو كان الضَّرر متوجّهاً إلى نفسه أو غيره من ناحية الحكم الشرعي، كما إذا كان تصرف المالك في ماله فيما تضرّر جاره به، لدفع ضرر يتوجّه إليه بحيث يكون ترك التصرّف موجباً لتضرّره بفوت الحاجة.

فالمشهور بين الأصحاب(2) هو جواز التصرّف، وإن كان ضرر الجار اللّازم منه أكثر، بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه.

وفي «رسالة» الشيخ(3): (والظاهر عدم الضمان أيضاً عندهم كما صرّح به جماعة منهم الشهيد)، وعليه فيقع الكلام في موردين:

1 - في الحكم التكليفي.

2 - في الضمان.

ص: 400


1- جواهر الكلام: ج 37/212.
2- مجمع الفائدة: ج 14/280، كتاب الطهرة: ج 2/456.
3- رسائل فقهيّة: ص 128.

أمّا المورد الأوّل:

فقد استدلّ للجواز بوجهين:

الوجه الأوّل:

أن إباحة التصرّف توجبُ تضرّر الجار، فتشملها قاعدة (لا ضرر) وحرمته موجبة لتضرّره، فهي أيضاًفي نفسها مشمولة للقاعدة، فيقع التعارض بينهما، فلا يمكن شمولها لهما معاً، وشمولها لأحدهما دون الآخر ترجيحٌ بلا مرحّج، فلا تشمل شيئاً منهما، فيكون المرجع إلى قاعدة السلطنة المقتضية للجواز.

وأورد عليه المحقّق النائيني(1):

بأنّ منشأ تضرّر المالك هو حرمة التصرّف الثابتة من شمول حديث لا ضرر، لإباحة التصرّف وسلطنة المالك على ماله، ومعلومٌ أنّ الضَّرر الناشيء من شمول الحديث المتأخّر عنه رتبةً لا يكون مشمولاً له، وإلّا فيلزم تقدّم ما هو متأخّر، وعليه فحديث لا ضرر في المثال يشمل خصوص جواز التصرّف الناشيء منه تضرّر الجار.

ويتوجّه عليه أوّلاً:

أنّ حرمة التصرّف الموجب لتضرّر الجار إنْ لم تكن ثابتة مع قطع النظر عن قاعدة لا ضرر، لا تثبت بها، لأنّها قاعدة نافية للحكم لا مثبتة.

وثانياً:

أنّها لو ثبتت بها لا مانع من شمول القاعدة لها في نفسها، لأنّ القاعدة من قبيل6.

ص: 401


1- منية الطالب: ج 3/4 ص 9، زبدة الاُصول: ج 3/498، وفي الطبعة الجديدة: ج 5/296.

القضيّة الحقيقيّة، وتنحلّ إلى قضايا عديدة بحسب ما للتضرّر من الأفراد، وعليه فإذا شملت القاعدة لجواز التصرّف، وثبتت بها حرمة التصرّف، وكانت الحرمة موجبة لتضرّر الجار، يتولّد منه مصداقٌ آخر للقاعدة، فتشملها القاعدة، ولا يلزم تقدّم ما هو متأخّر، فإن المتأخّر غير ما هو متقدّم، وهو واضح.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال:

إنّ حديث لا ضرر بحسب المتفاهم العرفي لا ينفي الحكم الذي اثبته الحديث.

وعليه، فالعمدة هو الإيراد الأوّل.

ولكن يرد على هذا الوجه:

أنّ حيث تكون القاعدة في مقام الامتنان على الاُمّة، ولا منّة على العباد في الحكم بتحمّل الضَّرر لدفع الضَّرر عن الغير، ولو كان ضرره أعظم من ضرر نفسه، فالحديث لا يشمل سلطنة المالك على التصرّف في ماله، ولا يقتضي حَجره عنه.

أضف إليه: أنّه لو سُلّم تعارض الضَّررين، وسقوط القاعدة بالنسبة إليهما، يكون مقتضى قاعدة نفي الحرج هو عدم حجر المالك عن التصرّف في ماله.

أقول:

ومن هذين الإيرادين يظهر وجهان آخران لجواز التصرّف، وهما:

الرابع:

الإجماع، ولكنّه لمعلوميّة مدرك المجمعين لا يُعتمد عليه.

الخامس:

ص: 402

ما ذكره بعض المحقّقين(1) تبعاً لسيّد «الرياض»، بأنّ عموم التسلّط يعارض عموم نفي الضَّرر، والترجيح للأوّل للأصل والإجماع.

ويردّه: أنّ قاعدة لا ضرر حاكمة على قاعدة السلطنة، كما مرّ مفصّلاً.

أقول: ويمكن أن يستدلّ للجواز مضافاً إلى الوجهين المتقدّمين، ما أفاده الشيخ في «الرسالة»(2) من أنّ تجويز الإضرار بالغير مع الإكراه، وعدم لزوم تحمّل الضَّرر، يشهد بعدم لزوم تحمّل الضَّرر لدفع الضَّرر عن الغير.

وبما ذكرناه ظهر أنّ ما ذكره بعض المتأخّرين(3) من وجوب ملاحظة مراتب ضرر المالك والجار، وتقديم الجار على المالك فيما كان أعظم وأكثر من ضرر المالك، غير تامّ .

نعم، إذا كان ضرر الجار من قبيل هلاك النفس المحترمة التي يجب على المالك أيضاً حفظها، فإنّه لا إشكال في تقديم ضرر الجار، لكنّه خارج عن محلّ الكلام.

كما أنّه ظهر أنّ ما أفاده المحقّق السبزواري(4) إيراداً على الأصحاب من أنّه يعارض قاعدة السلطنة قاعدة نفي الضَّرر، فيشكل الجواز، غير صحيح.

أقول:1.

ص: 403


1- فرائد الاُصول: ج 2/467، زبدة الاُصول: ج 3/498.
2- رسائل فقهيّة: ص 122.
3- في إشارة إلى صاحب «مفتاح الكرامة» كما عبَّر عن ذلك الشيخ الأنصاري في رسائل فقهيّة ص 129 بقوله: (يظهر من بعض من عاصرناه وجوب ملاحظة ضرر المالك وضرر الغير)، مفتاح الكرامة: ج 7/22.
4- كفاية الأحكام: ص 241.

ولكن التحقيق الذي يقتضيه النظر الدقيق، هو أنّ جميع هذه الكلمات منحرفة عن طريق السداد والصواب، فإنّ تصرّف المالك في ملكه إن كان موجباً لتضرّر الجار، وكان ذلك علّة له - والمراد بالضرر هو النقص في المال أو العِرض أو النفس - لا محالة يكون ذلك التصرّف حراماً محضاً، ولا يكون متّصفاً بحكمين الحرمة والإباحة.

ولا سبيل إلى دعوى: أنّ قاعدة السلطنة تدلّ على الجواز؛ لأنّها لا تدلّ على جواز التصرّف في ملك الغير، وهل التمسّك بها في المقام إلّاكالتمسّك بها لإثبات جواز أن يذبح بمديته غنم الغير، بدعوى أنّه مسلّط على مديته يتصرّف فيها ما شاء، وذلك كما في حفر بئر قريباً من بئر الجار في الأرض المعمورة، بناءً على أنّ من ملك أرضاً ملك قرارها إلى تخوم الأرض، وفراغها إلى عنان السماء، كما عن جماعةٍ ، أو أنّ الاحتفار حيازة لما في تخوم الأرض من المياه، كما عن المحقّق القمّي، فإنّ ذلك إنْ أوجب قلّة ماء بئر الجار، لا يجوز قطعاً.

وأمّا إنْ لم يكن ما يتوجّه إلى الجار ضرراً، بل كان مجرّد عدم النفع كما في المثال، بناءً على إنكار المبنيّين كما حقّقناه في محلّه، واخترنا أنّ الحفر لا يعدّ حيازة للمياه الموجودة في عروق الأرض، وبيّنا أنّ مَنْ مَلَك أرضاً وإنْ كان يملك مقداراً من الفراغ الذي يتوقّف عليه تصرّفاته في أرضه، ولمقدارٍ آخر منه بتبعيّة الأرض بمنزلة الحريم، ومقداراً من قرارها كذلك، ولا يملك ما تجاوز عن ذينك الحدّين، فلا يكون حراماً، بل هو مباحٌ محض.

وعلى التقديرين ليس إلّاحكم واحد، وحيث أنّ المختار - كما مرّ - أن قاعدة لا

ص: 404

ضرر لا تشمل عدم الحكم، ولا تكون مثبتة للحكم، فليس في الأمثلة المذكورة في كتب القوم لتعارض الضَّررين موردٌ يتمّ فيه ما أفادوه، ويتعارض قاعدة (لا ضرر) الجارية في أحد الطرفين مع الجارية في الطرف الآخر.

وعليك تطبيق الضابط الذي ذكرناه على الأمثلة المذكورة في الكلمات، مثلاً:

في حفر بئر قريب من بئر الجار، الموجب لعدم جذب بئر الجار ما في عروق الأرض من المياه، يكون ذلك جائزاً غير محرّم، كما هو المشهور بين الأصحاب(1).

وفي حفر بئر كنيفٍ أو بالوعةٍ بقرب بئر ماء الجار، إنْ لم يوجب ذلك تغيّر ماء البئر، ولكن كان الجار يستقذر ماء بئره لقُربه من الكنيف أو البالوعة، أو أوجب تغيير الماء ولكن كان من قبيل المُعدّ لا العلّة التامّة، بأن تمكّن الجار من إحكام جدار الماء بنحوٍ لا يتغيّر ماء بئره، جاز الحفر ولم يكن حراماً.

وأمّا إذا كان بنحو العلّة التامّة، أي الجزء الأخير منها لم يكن الحفر جائزاً، ولم يكن ذلك مباحاً، وهكذا سائر الأمثلة.

وعلى الجملة:

ليس المقام من باب التعارض بين فردين من القاعدة في شيء، بل بما ذكرناه يظهر أنّه لا يتعارض قاعدة السلطنة مع قاعدة لا ضرر في مورد، فإنّه إذا أوجب التصرّف تضرّر الغير لم يجز، ولم يكن مورداً لقاعدة السلطنة، وعليه فلا مورد للبحث فيما يقتضيه قواعد باب التعارض، وقد خرجنا بما ذكرناه عمّا يقتضيه الأدب بالنسبة إلى علماء الإسلام، واللّه تعالى مقيل العثرات.).

ص: 405


1- كفاية الأحكام: ص 241، رياض المسائل: ج 2/320 (ط. ق).

أقول:

وبما ذكرناه يظهر الحال في المورد الثاني، أي الضمان، فإنّه إذا أوجب تصرّف المالك في ماله إتلاف مال الغير، واستند الإتلاف إليه، كان ضامناً قطعاً، ولا مورد لإعمال قاعدة لا ضرر، لأنّ الضمان حكمٌ مبنيٌّ على الضَّرر، فهو خارجٌ عن مورد الحديث، ولا يشمله حديث لا ضرر كما مرّ، وإلّا كما في حفر البئر قريباً من بئره أعمق منها، الموجب لجذب المياه الموجودة في عروق الأرض، فلا ضمان، لما حُقّق في محلّه من انحصار سبب ضمان الغرامة بالإتلاف واليد والاستيفاء.

***

ص: 406

حكم الإضرار بالغير

خاتمة:

في حكم الإضرار بالغير وبالنفس، فالكلام يقع في مسألتين:

الأولى:

في الإضرار بالغير.

الثانية:

في الإضرار بالنفس.

أمّا المسألة الأُولى :

فلا ينبغي التوقّف في حرمة الإضرار بالغير، ويشهد به - مضافاً إلى عدم الخلاف فيه - جملة من الآيات القرآنيّة، وكثير من النصوص:

أمّا الآيات:

فهي في موارد خاصّة:

منها:

قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ) (1) وقد نهى اللّه تعالى في هذه الآية الشريفة أن تضرّ الوالدة بالولد، بترك الإرضاع تعنّتاً أو غيظاً على أبيه، ونهى أيضاً عن أن يضرّ الأب بولده، بأن ينزعه من اُمّه ويمنعها من إرضاعه، وقد

ص: 407


1- سورة البقرة: الآية 233.

مرّ أنّ المضارّة بمعنى الإضرار عن عمد.

وقد قيل: في معنى الآية وجه آخر، وهو أنّ المنهيّ عنه هو إضرار الأب بالوالدة بترك جماعها خوفاً من الحمل، وإضرار الوالدة بالامتناع من الجماع خوفاً من الحمل أيضاً.

وقال صاحب «كنز العرفان»(1) بعد نقل هذا الاحتمال: (وروي عن الباقر والصادق عليه السلام).

ومنها:

قوله تعالى : (وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ) (2) نهى اللّه تعالى عن الإضرار والتضييق على المطلقات.

ومنها:

قوله عزّ وجلّ : (وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) (3) نهى اللّه تعالى عن الرجوع لا للرغبة، بل للإضرار.

ومنها:

قوله تعالى : (وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ) (4) نهى اللّه عزّ وجلّ عن الاضرار بالكتاب والشهود إذا أدّوا حقّ الشهادة والكتابة، أو نهى إضرار الكاتب والشاهد غيرهما، على الاختلاف في كون الفعل مبنيّاً للفاعل أو للمفعول.4.

ص: 408


1- كنز العرفان في فقه القرآن: ج 2/233.
2- سورة الطلاق: الآية 7. (3و4) سورة البقرة: الآية 230 و 284.

وأمّا النصوص: فكثيرة:

منها:

ما رواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن زياد، عن الإمام الصادق عليه السلام(1): «لا ينبغي للرّجل أن يُطّلق إمرأته ثمّ يُراجعها، وليس به فيها حاجة ثمّ يطلّقها، فهذا الضِّرار الذي نهى اللّه عزّ وجلّ عنه».

وقوله: «هذا الضَّرر الذي نهى اللّه عنه» بيانٌ للكبرى الكليّة، ويدلّ على حرمة الإضرار مطلقاً.

ومنها:

ما عن «عقاب الأعمال» للصدوق، بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه و آله في حديثٍ (2):

«مَنْ أضرَّ بامرأةٍ حتّى تفتدي منه نفسها، لم يرض اللّه له بعقوبة دون النار - إلى أن قال - مَن ضارّ مسلماً فليس منّا، ولسنا منه في الدُّنيا والآخرة».

ومنها:

ما عن «الكافي» بإسناده عن الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ (3):

«إنّه نهي أن يضارّ بالصبيّ أو تضارّ اُمّه في رضاعه».

ومنها:

خبر طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام(4): «إنّ الجار كالنفس غير مضارّ1.

ص: 409


1- وسائل الشيعة: ج 22/171 ح 28309، من لا يحضره الفقيه: ج 3/501 ح 4762.
2- وسائل الشيعة: ج 22/282 ح 28597، ثواب الأعمال: ص 285.
3- وسائل الشيعة: ج 21/454 ح 27565، الكافي ج 6/103 ح 3.
4- وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32280، الكافي: ج 5/292 ح 1.

ولا آثمّ »، وسيأتي الكلام في فقه الحديث منه.

ومنها:

ما في «الكافي» عن طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبيه عليه السلام(1):

«قرأتُ في كتابٍ لعليّ عليه السلام أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كتب كتاباً بين المهاجرين والأنصار ومَن لحق بهم من أهل يثرب، أنّ كلّ غازية غزت بما يعقب بعضها بعضاً بالمعروف والقسط بين المسلمين، فإنّه لا تجاز حرمةٌ إلّابإذن أهلها، وأنّ الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم. الحديث».

والمراد بالجار: مَن أُعطي الأمان لا المجاور للبيت، كما يظهر من صدر الخبر.

ثمّ إنّ قوله عليه السلام: «غير مضارّ»، إمّا حال من المجير على صيغة الفاعل، أي يجب أن يكون المجير غير مضارّ ولا آثم في حقّ المجار، أو حالٍ عن المجار، ويحتمل بناء المفعول أيضاً.

ومنها:

ما رواه الكليني رحمه الله بإسناده عن محمّد بن الحسين، قال:

«كتبتُ إلى أبي محمّد عليه السلام(2): رجلٌ كانت له رَحى على نهر قريةٍ ، والقرية لرجلٍ ، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر، ويعطّل هذا الرَّحى، ألَهُ ذلك أم لا؟5.

ص: 410


1- وسائل الشيعة: ج 15/68 ح 20001، الكافي: ج 5/31 ح 5.
2- وسائل الشيعة: ج 25/431 ح 32286، الكافي: ج 5/293 ح 5.

فوقّع عليه السلام: يتّقي اللّه، ويعمل في ذلك بالمعروف، ولا يضرّ أخاه المؤمن».

وغير ذلك من النصوص الواردة في الأبواب المختلفة، ومنها ما ورد في باب حريم العين والقناة والنهر في كتاب إحياء الموات، ومنها غير ذلك.

أضف إلى ذلك كلّه، أنّ الإضرار بالغير ظلمٌ في حقّه، فتدلّ على حرمته الأدلّة الأربعة الدالّة على حرمة الظلم، فضلاً عن أنّه إيذاء له، فيدلّ على حرمته ما دلَّ على حرمة الإيذاء.

أقول: ويمكن أن يستدلّ لعدم جوازه بحديث «لا ضرر ولا ضرار» فإنّ الحكم بإباحته حكمٌ ضرري، فيكون منفيّاً في الشريعة.

وبالجملة: فلا ريب في حرمة الإضرار بالغير.

ص: 411

حكم الإضرار بالنفس

وأمّا المسألة الثانية:

ففي «رسالة» الشيخ الأعظم(1): (قد استفيد من الأدلّة العقليّة والنقليّة تحريم الإضرار بالنفس).

أقول: لا كلام عندنا في حرمة الإضرار بالنفس إذا أدّى ذلك إلى الوقوع في التهلكة، أو تحقّق ما علم مبغوضيّته في الشريعة، كقطع الأعضاء ونحوه، أو كان يصدق عليه التبذير والإسراف إذا كان الضَّرر ماليّاً.

إنّما الكلام في الإضرار بالنفس في غير هذه الموارد، وقد استدلّ لحرمته بوجوه:

1 - أنّ العقل مستقلٌّ بذلك.

وفيه: أنّ العقل لا يأبى من تحمّل الضَّرر، إذا ترتّب عليه غرضٌ عقلائي، كما في سَفَر التجارة أو الزيارة وما شاكل.

2 - أدلّة نفي الضَّرر، إمّا بدعوى إرادة النهي من النفي، أو بدعوى أنّ جوازه ضرريٌّ منفي في الشريعة.

وفيه: أنّ تلك الأدلّة إنّما تنفي الأحكام الضَّرريّة، ولا يكون المراد من النفي النهي كما تقدّم تفصيل ذلك.

وجواز الإضرار بالنفس غير مشمول لها، لما تقدّم من عدم شمول حديث (لا ضرر) للأحكام غير اللّزوميّة المتعلّقة بالشخص نفسه.

ص: 412


1- رسائل فقهيّة: ص 116.

مع أنّ رفع جواز الإضرار بالنفس إذا ترتّب عليه غرض عقلائي مخالفٌ للامتنان، فلا يشمله الحديث.

أضف إليذلك: أنّ الضَّرر الذي يترتّب عليه غرضٌ عقلائي لايعدّ ضرراً عرفاً.

3 - خبر مفضّل بن عمر، قال: «قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام(1): لِمَ حرّم اللّه الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير؟

قال: إنّ اللّه تبارك وتعالى لم يحرّم ذلك على عباده وأحلَّ لهم ما سواه من رغبةً منه فيما حَرّم عليهم، ولا زَهد فيما أحلَّ لهم، ولكنّه خَلَق الخلق، فعَلِم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحهم، فأحلّه لهم وأباحه تفضّلا عليهم لمصلحتهم، وعَلِم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم.

إلى أن قال: أمّا الميتة فإنّه لا يُدمنها أحدٌ إلّاضعف بدنه، ونحل جسمه، وذهبت قوّته، وانقطع نسله. الحديث».

بتقريب: أنّ قوله عليه السلام: «وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه وحرّمه عليهم» يدلّ على أنّ علّة تحريم الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير إنّما هي كونها مضرّة، ومقتضى عموم العلّة حرمة كلّ ما يوجب الضَّرر على النفس.

وفيه: أنّ قوله عليه السلام: «وعلم ما يضرّهم فنهاهم عنه» من قبيل حكمة التشريع، لا من قبيل العلّة التي يتعدّي عنها، وذلك لأنّ السؤال إنّما يكون عن وجه تحريم اللّه تعالى تلك الاُمور، فالسؤال إنّما يكون عن حكمة التشريع، ولا يكون سؤالاً عن انطباق عنوان عام محرّم عليها وعدمه كما هو واضح، فالجواب أيضاً يكون ناظراً1.

ص: 413


1- وسائل الشيعة: ج 24/99 ح 30083، الكافي: ج 6/242 ح 1.

إلى ذلك، ولعلّ ما ذكرناه ظاهر لا سُترة عليه.

أضف إلى ذلك: أنّه لو كان ذلك علّة يدور الحكم مدارها، لزم منه عدم حرمة المذكورات، إذا لم يترتّب على استعمالها الضَّرر، كما في استعمال القليل منها، أو جواز استعمال ما يقطع من الميتة بعدم الضَّرر فيها كما لو ذبح إلى غير القبلة، ولا يلتزم بذلك فقيهٌ .

مع أنّ ما ذكر في وجه حرمة الميتة رتّب على إدمانها، فلو كان ذلك علّة، لزم منه عدم حرمة أكل الميتة مع عدم الإدمان.

ومنها: ما رواه الصدوق بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الأربعمائة(1):

«ولا تأكلوا الطّحال فإنّه بيتُ الدّم الفاسد».

والاستدلال به إنّما يكون بعموم العلّة.

والجواب عنه: إنّما هو بكون ذلك من قبيل الحكمة لا العلّة، لوروده في مقام بيان حكمة تحريم اللّه تعالى الطّحال، لا في مقام بيان تحريم عنوان عام شامل للطّحال.

ومنها: خبر محمّد بن سنان، عن الإمام الرضا عليه السلام، فيما كتب إليه من جواب مسائله(2): «وحَرّم الخنزير لأنّه مشوّه - إلى أن قال - وحرّمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان والآفة - إلى أن قال - وحَرّم اللّه الدّم كتحريم الميتة لما فيه من فساد الأبدان، وأنّه يورث الماء الأصفر، ويبخر الفم، وينتن الريح، ويُسيء الخُلُق، ويورث قساوة القلب، وقلّة الرأفة والرحمة حتّى لا يؤمَن أن يقتل ولده ووالده وصاحبه».4.

ص: 414


1- وسائل الشيعة: ج 24/116 ح 30119. الخصال: ج 2/614.
2- وسائل الشيعة: ج 24/102 ح 30085، علل الشرائع: ج 2/484 ح 4.

أقول: وتقريب الاستدلال به، والجواب عنه ما في سابقيه.

ويضاف إليه: أنّ ما ذكر في مقام الحكمة ليس هو الإضرار بالبدن خاصّة، كما هو واضح.

ومنها: خبر الحسن بن عليّ بن شُعبة في كتاب «تحف العقول» عن الإمام الصادق عليه السلام(1): «وأمّا ما يحلّ للإنسان أكله ممّا أخرجت الأرض فثلاثة صنوف من الأغذية - إلى أن قال - وكلّ شيء يكون فيه المضرّة في بدنه وقوته فحرامٌ أكله، إلّا في حال الضرورة. الحديث».

وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند للإرسال، واستناد الأصحاب إليه غير ثابت، فلا يكون حجّة.

وثانياً: أنّه يدلّ على حرمة الأطعمة والأغذية المضرّة كالسموم وما شاكل، لا حرمة الإضرار بالنفس مطلقاً، ولو كان باستعمال الأطعمة غير المضرّة في أنفسها، لاحظ قوله عليه السلام قبل الجملة التي هي محلّ الاستشهاد: «صنفٌ منها جميع الحَبّ كلّه من الحنطة والشعير والأُرزّ والحُمّص وغير ذلك من صنوف الحَبّ ، وصنوف السماسم وغيرهما، كلّ شيء من الحَبّ ممّا يكون فيه غذاء الإنسان في بدنه وقوته فحلالٌ أكله، وكلّ شيء يكون فيه المضرّة... إلى آخره».

ومنها: خبر «دعائم الإسلام» عن جعفر بن محمّد صلى الله عليه و آله أنّه قال في حديث(2):

«وما كان منها أي من صنوف الثمار والبقول فيه المضرّة فحرامٌ أكله إلّافي حال8.

ص: 415


1- وسائل الشيعة: ج 25/84 ح 31258، بحار الأنوار: ج 62/151 ح 20.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 16/207 ح 19610، دعائم الإسلام: ج 2/122 ح 418.

التداوي به. الخبر».

ويرد عليه: أنّه ضعيف السند، للإرسال، ولعدم ثبوت وثاقة مؤلّف ذلك الكتاب، وهو أبو حنيفة نعمان بن محمّد بن منصور، والاستناد إليه غير ثابت، أضف إليه اختصاصه بالأطعمة المضرّة، كما في خبر «تحف العقول».

ومنها: ما عن كتاب «فقه الرضا»(1): «اعلم يرحمك اللّه أنّ اللّه تبارك وتعالى لم يُبح أكلاً ولا شرباً إلّالما فيه المنفعة والصلاح، ولم يحرّم إلّاما فيه الضَّرر والتلف والفساد، فكلّ نافع مقوّ للجسم فيه قوّة للبدن فحلالٌ ، وكلّ مضرٍّ يذهب بالقوّة أو قاتل فحرامٌ مثل السموم والميتة والدم ولحم الخنزير... إلى آخره».

والجواب عنه كما في سابقيه، مضافاً إلى عدم ثبوت أنّه كتاب رواية، ولعلّه تأليف فقيهٍ من فقهاء أهل البيت عليهم السلام.

ومنها: خبر طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام(2): «الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم».

وفيه: أنّه يدلّ على أنّ الجار - أي مَن أُعطي له الأمان كما مرّ - بمنزلة النفس، فكما أنّ الإنسان بطبعه لا يُقدم على الضَّرر، ولا يظهر عيوب نفسه، فليكن كذلك بالنسبة إلى الجاز، ولا يدلّ على حرمة الإضرار على النفس.

أقول: وفي المقام روايات كثيرة أُخر مذكورة في «الوسائل» و «مستدرك الوسائل»، يظهر الجواب عنها ممّا تقدّم، مضافاً إلى ضعف إسناد جملةٍ منها، فإذاً1.

ص: 416


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 16/333 ح 20061، فقه الرضا عليه السلام: ص 254.
2- وسائل الشيعة: ج 25/428 ح 32280، الكافي: ج 5/292 ح 1.

لا دليل على الحرمة، ومقتضى الأصل الجواز، ويشهد به توافق النّص والفتوى، والعمل على جواز عدّة أُمور مع كونها مضرّة، كإدمان أكل السمك، وشُرب الماء بعد الطعام، وأكل التفاح الحامض، وشرب التتن والتنباك، والجماع على الامتلاء من الطعام، ودخول الحمّام مع الجوع وعلى البطنة، والإضرار بالنفس بسفر التجارة، وما شاكل ذلك، فيجوز الإضرار بالنفس بغير ما يوجب التهلكة، أو قطع عضوٍ من الأعضاء، إلّاما استثني بلا كلام.

هذا آخر ماأوردنا في قاعدة (لا ضرر) والحمد للّه أوّلاًوآخراً، وظاهراًوباطناً.

***

ص: 417

ص: 418

فهرس الموضوعات

اللّحوم تختلف باختلاف الحيوان 7

حكم بيع الرُّطب باليابس 10

بيع اللّحم بالحيوان 16

بيع درهم ومُدّ تمر بدرهمين أو مُدّين 20

حكمُ مَن ارتكب الرّبا بجهالة 24

لا ربا بين الوالد وولده 32

لا ربا بين المسلم والكافر 36

بيع الصّرف 41

حكم بيع الوكيل وقبضه 47

لو كان عليه دنانير فاشترى بها دراهم 50

التفاضل في الجنس الواحد 54

بيع معدن الذّهب والفضّة 58

بيع الدّراهم المغشوشة 60

المصاغ من الجوهرين 66

حكم تراب الصياغة 70

القرض واشتراط الإقباض بأرض اُخرى 73

اشتراء درهم بدرهم مع اشتراط الصياغة 76

الفصل العاشر / في بيع الثمار 80

ص: 419

بيع الثمرة بعد ظهورها 88

إدراك بعض ثمرة البستان 95

بيع الزرع قائماً وقصيلاً وحصيداً 98

اتّحاد حكم الأشجار مع حكم النخل 102

بيع الخضروات 104

جواز استثناء البائع ثمرة شجرات 106

حرمة المحاقلة 110

حرمة المزابنة 117

جواز بيع العرية بخُرصها تمراً 120

جواز التقبّل بحصّة صاحبه بوزنٍ معلوم 126

حق المارّة 133

الفصل الحادي عشر / بيع الحيوان 145

بيع الحيوان الحامل 146

جواز ابتياع بعض الحيوان مشاعاً 155

بيع الحيوان واستثناء الرأس والجلد 158

شرط أحد الشريكين الرأس والجلد بماله 163

لو قال اشتر حيواناً بشركتي 165

اشتراط رأس المال في المشتري شراكةً 168

الفصل الثاني عشر / في السَّلف 172

شرائط السَّلم 173

قبض الثمن قبل التفرّق 180

ص: 420

حكم السَّلف في الدين 182

تقدير المُسلّم فيه 188

اشتراط تعيين الأجل المضبوط 191

اعتبار إمكان وجود المسلّم فيه 196

حكم ما إذا تعذّر المسلّم فيه 199

حكم ما إذا دفع من غير الجنس 201

حكم ما لو دفع دون الصّفة 203

حكم دفع المسلّم فيه في وقته بصفته 206

حكم دفع المسلّم فيه فوق الصفة 209

جواز إشتراط شيءٍ مع السَّلف 210

اُجرة الكيّال على البائع 213

أقسام البيع بلحاظ الإخبار بالثمن 219

المرابحة 220

حكم نسبة الربح إلى السّلعة 224

حكم ما لو باع سلعة ثمّ اشتراها منه بزيادة 226

لو باع مرابحةً فبانَ رأس ماله أقلّ 228

من اشترى أمتعةً صفقة لم يجز بيع بعضها مرابحةً 233

حكم ما لو اشترى نسيئة ثمّ باعه مرابحة 235

إذا قوّم على الدلّال متاعاً لا يجوز بيعه مرابحةً 236

بيع التولية 241

المواضعة 244

ص: 421

الإقالة 246

الإقالة بشرط الزيادة أو النقصان 248

الإقالة في بعض العقد 251

الفصل الثالث عشر / في الشّفعة 254

ما تثبت فيه الشُّفعة 254

ثبوت الشُّفعة فيما لا ينقسم 260

اعتبار انتقال الحصّة بالبيع 264

اعتبار إشاعة المبيع 266

اعتبار أن لا يزيد الشركاء على اثنين 270

اعتبار قدرة الشريك على دفع الثمن 274

فوريّة المطالبة مع المكنة 276

ثبوت الشُّفعة في الوقف 281

ثبوت الشُّفعة مع كون الثمن قيميّاً 284

حكم ما لو ادّعى الشفيع غيبة الثمن 288

ثبوت الشُّفعة للغائب والقاصر 290

حكم ما لو أورد المشتري نقصاً على مورد الشُّفعة 292

حكم اشتراء ما فيه الشُّفعة بثمن مؤجّل 294

حكم الاختلاف في قدر الثمن 296

لا تورث الشُّفعة 298

مسقطات الشُّفعة 301

بحث حول قاعدة لاضرر 305

ص: 422

بيان مدرك القاعدة 308

البحث عن سند الحديث 312

البحث عن متن الحديث 312

موقع صدور الحديث 315

مفاد الحديث ومعنى مفرداته 320

مفاد الجملة بلحاظ تصدرها بكلمة لا 326

تطبيق حديث لا ضرر على قضيّة سَمُرة 344

هل القاعدة موهونة بكثرة التخصيصات 346

الميزان هو الضَّرر الشخصي 351

العبادات الضَّرريّة مشمولة للحديث 353

الإقدام لا يمنع عن شمول الحديث 355

ردّ المغصوب مع تضرّر الغاصب 361

الضَّرر يمنع عن صحّة العبادة، أم العلم 363

الحكم بنفي الضَّرر من باب الرخصة أو العزيمة 365

في أنّ حديث لا ضرر مثبتٌ للحكم أم ناف 369

حكم الشكّ في الضَّرر 372

بيان وجه تقديم القاعدة على أدلّة الأحكام 376

البحث عن ضابط الحكومة 380

تعارض قاعدة لا ضرر مع قاعدة نفي الحرج 381

حكم تصرّف المالك في ماله بدون الحاجة مع تضرّر الغير به 386

لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين بالنسبة إلى شخص واحد 389

ص: 423

لو دار الأمر بين حكمين ضرريّين بالنسبة إلى شخصين 390

لو دار الأمر بين ضرر نفسه وضرر غيره 393

إذا كان الضَّرر متوجّهاً إلى نفسه 393

لو كان الضَّرر متوجّهاً إلى الغير 394

حكم ما لو توجّه الضَّرر من غير ناحية الحكم 397

لو كان الضَّرر متوجّهاً إلى أحد شخصين نفسه أو غيره من ناحية الحكم 400

حكم الإضرار بالغير 407

حكم الإضرار بالنفس 412

فهرس الموضوعات 419

***

ص: 424

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.