فقه الصادق المجلد 23

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه على ما أولانا من التفقّه في الدِّين، والهداية إلى الحقّ ، والصراط المستقيم، والصّلاة والسّلام على أشرف النفوس القدسيّة، وأزكى الذّوات المطهرة الملكيّة، محمّد المصطفى وعترته المرضيّة، هُداة الخلق وأعلام الحقّ .

وبعدُ: فهذا هو الجزء الثالث والعشرون من كتابنا (فقه الصادق)، وقد وفّقنا إلى طبعه، وأرجو من اللّه تعالى التوفيق لنشر بقيّة المجلّدات، إنّه وليّ التوفيق.

ص: 5

ص: 6

ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

(يَا مَعشَرَ التُّجَّارِ الفِقهَ ثُمَّ المَتجَرَ، الفِقهَ ثُمَّ المَتجَرَ، الفِقهَ ثُمَّ المَتجَرَ، وَاللَّه لَلرِّبا في هَذه الاُمَّة أَخفَى مِن دَبيب النَّملَ عَلَى الصَّفَا، شُوبُوا أيمَانَكُم بالصَّدقِ ، اَلتَّاجِرُ فَاجِرٌ، وَالفَاجِرُ فِي النَّارِ، إلَّامَن أخَذَ الحَقَّ وَأعطَى الحَق).

ص: 7

ص: 8

المقصد الثالث ألفاظ عقد البيع

اشارة

يدور البحث في هذا المقصد حول خصوص ألفاظ عقد البيع، ويقع الكلام عنها في موردين:

الأوّل: في من يعتبر في حقّه استعمال اللّفظ في معاملاته.

الثاني: في الخصوصيّات المعتبرة في اللّفظ الذي يُنشأ به البيع.

أمّا المورد الأوّل: فقد يقال إنّه على فرض اعتبار اللّفظ، فإنّه يختصّ ذلك بغير العاجز عن التكلّم، وأمّا العاجز عنه كالأخرس فلا يعتبر في معاملاته استعمال اللّفظ.

أقول: وحقّ القول في الأخرس يقتضي التكلّم في مواضع:

الأوّل: في معاطاته، وأنّه هل تكون هي كمعاطاة غيره التي لا تفيد الملكيّة أو اللّزوم، أو لا تكون مثلها.

الثاني: في حكم إشارة الأخرس.

الثالث: في حكم كتابة الأخرس.

أمّا الموضع الأوّل: فإنْ قلنا باعتبار اللّفظ ومدخليّته في تحقّق المِلكيّة أو اللّزوم - من جهة أنّ التعاطي الخارجي غير قابل لأن تُنشأ به الملكيّة، وأنّه قاصرٌ عن إفادة الملكيّة أو اللّزوم - فالحقّ عدم إفادة معاطاة الأخرس أيضاً ذلك، إذ معاطاته كمعاطاة غيره غير صالحة لذلك، فمع عدم الإنشاء كيف يمكن الحكم بتحقّق المُنشَأ، وإنْ قلنا باعتباره فيها للإجماع، وإلّا فالمعاطاة في نفسها مشمولة للعمومات، وغير قاصرة عن إفادة ذلك:

ص: 9

فتارةً يقال: إنّ التقييد باللّفظ في كلماتهم لخصوصيّة فيه.

وأُخرى يقال: بأنّ التقييد به من جهة أنّه الغالب، وإلّا فالمعتبر هو كلّ ما هو قادرٌ عليه ممّا يكون كاللّفظ، ولا يكون ذا وجوه أو يتطرّق فيه إليه الاحتمال.

وعلى الثاني: فحيث أنّه لا كلام في أنّ الأخرس ليس ممّن لا يقدر على البيع، فالمتيقّن من الإجماع غيره، فلابدّ من البناء على صحّة معاطاته.

وأمّا على الأوّل: فيُبنى على أنّ معاطاته كمعاطاة غيره، ولو شكّ في أنّه من قبيل الأوّل أو الثاني، فلا محالة يشكّ في تخصيص العمومات بالإضافة إليه، والأصل عدمه وصحّة معاطاته.

وأمّا الموضع الثاني: فلا ينبغي الريب في أنّ إنشاء المعاملات كما يتحقّق من خلال اللّفظ كذلك يمكن تحقّقه بالإشارة، لما نرى بالوجدان أنّ العقلاء في مقام تفهيم مراداتهم من الأمر والنهي وغيرهما، يبرزونها بالإشارة، وليس الإنشاء إلّا إبراز أمر نفساني بداعي تنفيذ ما يراه العقلاء والشارع مبرزاً لذلك الأمر، وليست هي كالإعطاء التي تحتمل الوجوه، كي يقال إنّها قاصرة عن إفادة الملكيّة.

وعليه، فمقتضى العمومات قيامها مقام اللّفظ، وصحّة المعاملة بالإشارة، حتّى على القول بعدم صحّة المعاطاة، وعدم إفادتها الملكيّة، لقصور الفعل عن إنشاء الملكيّة به.

وهذا من غير فرق بين القدرة على التوكيل وعدمها، إلّاأن يُدّعى الإجماع على عدم صحّة إنشاء المعاملة بها، ولكنّه على فرض ثبوته حتّى مع العجز عن التكلّم، لا ريب في اختصاصه بصورة القدرة على التوكيل، إذ مع العجز عنه، والقطع

ص: 10

بأنّ الشارع لا يرضى بعدم التعامل مع الأخرس أصلاً، لا مناص عن البناء على صحّة معاملاته بالإشارة.

أقول: قد استدلّ لقيام إشارة الأخرس مقام اللّفظ مع القدرة على التوكيل بوجهين آخرين:

الوجه الأوّل: أصالة عدم وجوب التوكيل(1).

وأورد عليه الشيخ رحمه الله(2): بأنّ الأصل في المعاملات الاشتراط.

أقول: مراد المستدلّ أنّه بعد شمول العمومات للإشارة، فإنّ القدر المتيقّن خروجه هو صورة القدرة على التكلّم، وأمّا في صورة العجز، حتّى وإنْ كان قادراً على التوكيل، فلا إجماع على عدم الصحّة، فمقتضى العمومات الصحّة، كما أنّه لو شكّ في الاشتراط وعدمه يكون الأصل عدمه، وعليه فلا يرد عليه ما ذكره الشيخ رحمه الله.

الوجه الثاني: فحوى ما ورد من النَّص(3) على جوازها في الطلاق. وفيه تأمّل.

وأمّا الموضع الثالث: فعن المحقّق النائيني رحمه الله(4) عدم كفاية الكتابة، واستدلّ له:

1 - بالإجماع على عدم تأثيرها في غير الوصيّة.

2 - وبأنّها ليست مصداقاً في العرف والعادة لعنوان عقدٍ أو إيقاع، أي لا تعدّ آلة لإيجاد عنوان بها.

ويرد على الأوّل: إنّه إجماعٌ منقول، مع أنّ المتيقّن منه صورة القدرة على التكلّم لا مطلقاً.6.

ص: 11


1- مفتاح الكرامة: ج 4/164.
2- المكاسب: ج 3/117 ت 118.
3- وسائل الشيعة: ج 22/47 ب 19 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ح 1 رقم 27988، التهذيب: ج 8/74 ح 166.
4- منية الطالب: ج 1/236.

ويرد على الثاني: إنّ عناوين العقود والإيقاعات أسامٍ للأُمور الاعتباريّة النفسانيّة، واللّفظ، وكذا ما يقوم مقامه مبرزٌ لذلك، وعليه فكما أنّه يصحّ الإخبار بالكتابة، كذلك يصحّ الإنشاء بها، لعدم الفرق بينهما من هذه الجهة كما حُقّق في محلّه.

مع أنّه قد ورد في بعض(1) أخبار الطلاق أنّه يصحّ الطلاق بالكتابة، بل تقدّمه على الطلاق بالإشارة، فلو لم يكن إنشاء الطلاق بها ممكناً، لما كان وجه للحكم بوقوعه.

ثمّ إنّه بعد ما عرفت من أنّ كفاية الإشارة والكتابة إنّما تكون على القاعدة، فلا معنى للنزاع في تقدّم الكتابة أو الإشارة - نعم، في خصوص الطلاق بحثٌ موكول إلى محلّه - كما أنّ مقتضى ذلك شمول ما ذكرناه لكلّ عاجزٍ عن التكلّم، ولو لم يصدق عليه عنوان الأخرس.

***6.

ص: 12


1- وسائل الشيعة: ج 22/47 ب 19 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه ح 1 رقم 27988، التهذيب: ج 8/74 ح 166.

خصوصيّات ألفاظ العقد

المورد الثاني: في الخصوصيّات المعتبرة في اللّفظ، وهي قسمان:

أحدهما: ما يعرض الألفاظ أنفسها.

ثانيهما: ما يكون خارجاً عنها.

أمّا القسم الأوّل: فملخّص القول فيه:

إنّه بعدما لا ريب في صحّة الإنشاء بالحقيقة الدالّة على المعنى بلا عناية وقرينة ولو صارفة، وبالمجاز المشهور الذي يحتاج إرادة المعنى الحقيقي منه إلى قيام القرينة، يقتضي الأمر التكلّم في مواضع:

الأوّل: في إنشاء المعاملة بالكنايات.

الثاني: في المجازات.

الثالث: في المشترك اللّفظي.

الرابع: في المشترك المعنوي.

أمّا الموضع الأوّل: فالمشهور بين الأصحاب(1) - على ما نُسب إليهم(2) - عدم وقوع العقد بالكنايات، والمراد بالكناية في المقام ليس ما هو من أقسام المجاز - وهو استعمال اللّفظ الموضوع للازم المعاملة في معنى تلك المعاملة الذي هو الملزوم مجازاً - بل المراد بها استعمال اللّفظ في معناه الحقيقي، وهو اللّازم للانتقال إلى الملزوم، والشاهد على ذلك أنّ بعض المانعين عن الانعقاد بالكناية ذهب إلى انعقاد

ص: 13


1- تذكرة الفقهاء: ج 10/9، مسالك الأفهام: ج 7/95-96، الحدائق الناضرة: ج 22/129.
2- المكاسب: ج 3/119.

المعاملة بألفاظٍ تكون موضوعة لمعنى هو لازم المعاملة، وعليه فما هو ظاهرُ الشيخ رحمه الله من حملها على المعنى الأوّل غير صحيح.

أقول: وكيف كان، فقد اختار المحقّق النائيني رحمه الله(1) عدم الانعقاد بها، واسشهد لذلك بأنّ إنشاء اللّازم وإيجاده في الإنشاء القولي لا يعدّ إيجاداً للملزوم عرفاً، وكون الملزوم مقصوداً وداعياً من إيجاد اللّازم لا أثر له، لأنّ الدّواعي لا أثر لها في باب العقود والإيقاعات.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّ الملزوم وإنْ لم يُنشأ أصالة إلّاأنّه مُنشَأٌ تبعاً، وفي المرتبة الثانية.

وأجاب عنه: بأنّ الإيجاد بهذا النحو في كمال الضعف من الوجود، فينصرف الإطلاق عنه، ولا تشمله العمومات أيضاً، لخروجه عن الأسباب المتعارفة.

ويرد عليه أوّلاً: إنّه قدس سره صرّح بأنّه لو قصد البيع بالفعل انعقد به مصداق لازمه وهو التسليط، ولم يظهر الفرق بين الفعل والقول في ذلك.

وثانياً: لا فرق بين الإخبار والإنشاء إلّافي الدّاعي، كما أشرنا إليه غير مرّة، فكما يصحّ الإخبار بالكناية، كذلك يصحّ الإنشاء بها.

مع أنّه لو سُلّم كون الإنشاء إيجاداً لأمرٍ لا إظهاراً.

يرد عليه: أنّه بعد فرض الملازمة بين اللّازم والملزوم، إذا وجد اللّازم في أيّ وعاء كان، لا محالة يوجد الملزوم في تلك الوعاء أيضاً.

وبالجملة: لا يعتبر في الإنشاء سوى كون اللّفظ ممّا له ظهورٌ عرفي في المراد، ولا1.

ص: 14


1- منية الطالب: ج 1/241.

إشكال في أنّ إظهار اللّازم عرفاً إظهار للملزوم بالضرورة.

ودعوى انصراف الإطلاق عنه غير مسموعة.

وعليه، فالأظهر انعقاد البيع وغيره من المعاملات بالكنايات.

وأمّا الموضع الثاني: فقد فصّل الشيخ رحمه الله(1) بين كون القرينة حاليّة أو مقاليّة، واختار الانعقاد في الثاني دون الأوّل، وبه جمع بين كلمات القوم ونسبه إليهم.

واستدلّ له: بأنّه إذا كانت القرينة لفظيّة، فترجع الإفادة بالآخرة إلى الوضع، ولا يعقل الفرق في الوضوح الذي هو مناط الصراحة بين إفادة اللّفظ للمطلب بحكم الوضع، أو إفادته له بضميمة لفظٍ آخر يدلّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك اللّفظ، وهذا بخلاف ما إذا كانت القرينة حاليّة، فإنّ الإفادة حينئذٍ لا تكون باللّفظ، والمفروض عدم العبرة بغير الأقوال في إنشاء المعاملات.

وفيه: إنّ الدالّ على المعنى في الاستعمال المجازي إنّما هو اللّفظ وذو القرينة، والقرينة إنّما تدلّ على ذلك - أي إرادة المعنى من ذي القرينة - لا أنّ جزءاً من المعنى يستفاد من ذي القرينة، وجزءاً آخر منه من القرينة، مثلاً في قولنا: (رأيتُ أسداً يرمي)، يكون (يرمي) قرينة على إرادة الرجل الشجاع من الأسد، وعليه ففي جميع المجازات يكون الدالّ على المعاملة هو اللّفظ.

وعليه، فالأظهر صحّة الإنشاء بالمجاز وإنْ كان بعيداً.

أقول: وبما ذكرناه ظهر الحال في المشترك اللّفظي، إذا كانت إفادة اللّفظ فيه للمعنى المراد مع القرينة.6.

ص: 15


1- المكاسب: ج 3/126.

وأمّا الموضع الرابع: - أيّ المشترك المعنوي - فقد اختار المحقّق النائيني رحمه الله(1)عدم صحّة الإنشاء به إذا كان مشتركاً بين العقود التمليكيّة وغيرها من النقل الخارجي كلفظ (نقلتُ ).

واستدلّ له: بأنّ امتياز النقل الخارجي عن النقل الاعتباري، ليس بعين ما به اشتراكهما، فلا محالة ينشأ الجنس العالي أوّلاً ثمّ يميّز بالفصل، فيلزم التدريجيّة في الوجود.

وفيه: إنّه وإنْ كان اللّفظ مركّباً، إلّاأنّه لا يكون ذلك الاعتبار النفساني البسيط تدريجيّاً من حيث الإظهار والإبراز، بل يكون مبرزاً بالمجموع، ممّا لا يضرّ بصحّة الدلالة والإبراز.

وعليه، فالأظهر صحّة الإنشاء بالمشترك المعنوي أيضاً.

***3.

ص: 16


1- منية الطالب: ج 1/243.

ألفاظ الإيجاب والقبول

أقول: بعدما ثبت آنفاً صحّة الإنشاء بالكنايات، والمجازات، والمشترك اللّفظي والمعنوي، يظهر أنّه يصحّ الإنشاء بجميع الألفاظ التي وقع الخلاف في صحّة الإنشاء بها، والتي ستمرّ عليك.

وأمّا على القول الآخر: فقد وقع الكلام في إنشاء البيع بطائفةٍ من الألفاظ من ناحية الصغرى ، وأنّها داخلة في ما يصحّ الإنشاء به، أو فيما لا يصحّ ، وهي متعدّدة:

منها: لفظ (بعتُ ).

والكلام فيه من جهة أنّه من الأضداد - كما اختاره الشيخ رحمه الله(1) - أو مشتركٌ معنوي، بمعنى التمليك بعوض، أعمٌّ من أنْ يكون صريحاً أو ضمنيّاً.

أقول: المتفاهم منه عرفاً كونه موضوعاً للبيع المقابل للشراء، كما يظهر لمن راجع المرتكز في ذهنه، فلو سُلّم كونه في اللّغة موضوعاً لكلّ منهما أو للجامع بينهما، لا ينبغي التأمّل في أنّ المتفاهم منه عرفاً هو البيع، وهذا يكفي في صحّة إنشاء البيع به، فلا حاجة إلى تطويل الكلام في ذلك.

ومنها: لفظ (شَريتُ ).

أشكل الشيخ رحمه الله(2) - بعد تسليمه كونه من الأضداد - في إنشاء البيع به بقلّة استعماله فيه عرفاً، وكونه محتاجاً إلى القرينة المعيّنة، وعدم نقل الإيجاب به في الأخبار وكلمات العلماء.

ص: 17


1- المكاسب: ج 3/130.
2- المكاسب: ج 3/130-131.

ويردّ عليه: - مضافاً إلى ما تقدّم من أنّه لا إشكال في صحّة الإنشاء وإنْ كانت القرينة المعيّنة حاليّة - أنّ القرينة المعيّنة دائماً تكون لفظيّة، لأنّ كلمة (الشراء) إذا استعمل في البيع، يكون مفعوله الأوّل مال نفسه، وغير مصدّر بالباء، واذا استعمل في الشراء يكون مفعوله الأوّل مال الطرف الآخر ومال نفسه يصدّر بالباء، فالقرينة المعيّنة دائماً تكون هي الهيئة.

ومنها: لفظ (ملِكْتُ ).

والكلام فيه ليس في صحّة إنشاء البيع به لما ذكره الشيخ(1) من أنّ حقيقة البيع هي التمليك بعوض، بل الكلام فيه إنّما هو فيما ذكره الشيخ رحمه الله(2) بأنّ صحّة العقد به بإرادة الهبة المعوضة أو المصالحة منه مبنيّة على صحّة عقد بلفظ غيره مع النيّة، حيث أورد عليه السيّد(3) والمحقّق النائيني رحمهما الله(4) بأنّ ما ذكره يتمّ في الصلح ولا يتمّ في الهبة المعوضة، فإنّ الهبة المجانيّة والمعوضة تعدّان من أفراد التمليك حقيقة.

وفيه: إنّ الهبة المعوضة من التمليك المجّاني لا التمليك بعوض، إذ العوض فيها ليس في مقابل المال الموهوب، والشيخ رحمه الله يدّعي أنّ الهبة المعوّضة ليست من التمليك بعوض، ولم يدّع عدم كونها من التمليك. فتدبّر في كلماته.

ومنها: لفظ (اشتريتُ ).

قال الشيخ رحمه الله(5): إنّ الإشكال المتقدّم في (شريتُ ) أولى بالجريان هنا، لأنّ (شريتُ ) استعمل في القرآن الكريم(6) في البيع، بل لم يستعمل فيه إلّافيه1.

ص: 18


1- المكاسب: ج 3/131 و 133.
2- المكاسب: ج 3/131-132.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/91.
4- منية الطالب: ج 1/244.
5- المكاسب: ج 3/131 و 133.
6- سورة البقرة: الآية 102، وسورة يوسف: الآية 21.

بخلاف (اشتريتُ ).

ورفع الإشكال في تعيين المراد منه بقرينة تقديمه الدالّ على كونه إيجاباً، غير صحيح، لأنّ الاعتماد على القرينة غير اللّفظية في تعيين المراد من ألفاظ العقود قد عرفت ما فيه.

ويرد عليه: ما ذكرناه من الوجهين في (شريتُ )، إنّما الإشكال فيه يكون من جهة أُخرى ، وهي أنّ هيئة الافتعال إنّما وضعت لمعنيين:

أحدهما: قبول المادّة كالاكتساب والاحتطاب والاقتراب.

ثانيهما: قبول المادّة من الغير كالانتقاض وشبهه.

وفي كلّ موردٍ لابدّ من الرجوع إلى أهله، في أنّه استعمل في أيّ المعنيين، وليس لنا التصرّف بمفردنا، وعليه فحيث أنّ (اشتريتُ ) في الكلمات إنّما استعمل في قبول المادّة من الغير، لا في قبول المادّة، فاستعماله في الإيجاب لا يكون صحيحاً.

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرناه وقوع القبول بلفظ (قبلتُ )، و (رضيتُ )، و (شريتُ )، و (اشتريت)، إنّما الكلام فيه في ألفاظ اُخرى مثل: أمضيتُ ، أجزتُ ، أنفذتُ وأشباهها، ومنشأ الإشكال أنّ الإنفاذ والإمضاء والإجازة إنّما تتعلّق بما له مضيّ وجوازٌ ونفوذ، وما يترقب منه ذلك هو السبب التامّ ، وهو العقد لا الإيجاب خاصّة.

ولكن يمكن دفعه: بأنّ هذه العناوين بما أنّها من لوازم تحقّق العقد بلحوق القبول للإيجاب، ويكون القبول ملزوماً لها، فإنشاء القبول بها من قبيل الاستعمال الكنائي، وقد عرفت صحّة الإنشاء بالكنايات.

***

ص: 19

اعتبار العربيّة

وأمّا القسم الثاني: فالكلام في ما قيل باعتباره في العقد يتحقّق في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى: المحكيّ عن جماعة منهم السيّد عميدالدين(1)، والفاضل المقداد(2)، والمحقّق(3)، والشهيد(3) الثانيان، اعتبار العربيّة في العقد، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل (5) : التأسّي، فإنّ معاملات النبي صلى الله عليه و آله والأئمّة عليهم السلام كانت تتمّ باللّغة العربيّة.

وفيه: إنّه لم يدلّ على لزوم التأسّي أو محبوبيّته في كلّ ما كانوا عليهم السلام يفعلونه، ألا ترى أنّهم كانوا يتكلّمون بالعربي ولم يتوهم أحد لزومه أو استحبابه، ولعلّ إنشاء معاملاتهم بها من هذا القبيل.

مع أنّ مطلوبيّتها لا تستلزم فساد الإنشاء بغيرها، بعد شمول العمومات والإطلاقات له.

مضافاً إلى أنّ التأسّي لا يفيد اللّزوم غايته الاستحباب.

الوجه الثاني (4) : إنّ اعتبار الماضويّة في العقد يستلزم اعتبار العربيّة بالأولويّة.

وفيه: إنّ الماضويّة ليست من خصوصيّات اللّغة العربيّة، حتّى يقال إنّ اعتبارها

ص: 20


1- وهو السيّد عميد الدين عبد المطّلب الحلّي، وكان اُستاذاً للشهيد الأوّل، وقد أثنى عليه العلماء كثيراً عندالتعرّض له، وله كتابٌ في شرح قواعد الأحكام يسمّى (كنز الفوائد في حلّ مشكلات القواعد)، نقل قوله الشهيد الأوّل في حواشيه، على ما في مفتاح الكرامة: ج 12/523، وحكاه أيضاً الشيخ في المكاسب: ج 3/135.
2- التنقيح الرائع: ج 2/184، كنز العرفان: ج 2/72. (3و5) جامع المقاصد: ج 4/59 و 60.
3- الروضة البهيّة: ج 3/225.
4- المكاسب: ج 3/135.

يستلزم اعتبار العربيّة، بل هي خصوصيّة في كلّ لغةٍ ، وعليه فهما خصوصيّتان في عرض واحد.

الوجه الثالث: إنّ مقتضى أصالة الفساد، عدم ترتّب الأثر على شيء من العقود، والمتيقّن ممّا خرج عن هذا الأصل هو العقد بالعربيّة، فلابدّ من رعايتها.

وفيه: إنّه يتوقّف على عدم جواز التمسّك بالعمومات والمطلقات في دفع احتمال اعتبار شيء في الأسباب، وقد عرفت في أوّل هذا الجزء صحّته.

الوجه الرابع: عدم صدق العقد على غير العربي، مع التمكّن من العربي.

وفيه أوّلاً: إنّه يكفي في نفوذ العقد صدق التجارة والبيع عليه.

وثانياً: إنّ العقد من مقولة المعنى، فلا مجال لفرض عدم صدقه على غير العربي وصدقه على العربي.

وأضعف من ذلك دعوى عدم صدقه عليه مع التمكّن من العربي.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم اعتبار العربيّة، ويشهد له - مضافاً إلى ذلك - أنّه لو كان ذلك معتبراً لاشتهر، وكان يجبُ على كلّ مكلّف تعلّم صيغ العقود، لكثرة ابتلاء الناس بالمعاملات، فنفس عدم اشتهار ذلك، وعدم نقل ورود رواية دالّة على ذلك، دليلٌ قطعي على عدم الاعتبار، مع قيام السيرة عليه.

نعم، في خصوص النكاح ادُّعي الإجماع على اعتبار العربيّة مع التمكّن، فإنْ ثبت، وإلّا فالعمومات تقتضي عدم اعتبارها فيه أيضاً، وعليه فالأظهر صحّته بغير العربي.

أقول: ثمّ إنّه على القول باعتبار العربيّة وقع الكلام في أُمور:

ص: 21

الأمر الأوّل: أنّه هل يعتبر عدم اللّحن من حيث المادّة والهيئة كما اختاره الشيخ(1) أم لا؟

أقول: الظاهر أنّ اللّحن فيهما:

إنْ كان بنحوٍ لا يضرّ بظهور الكلام عرفاً في إرادة المعاملة الخاصّة، كما لو قلنا:

(بَعتُك) بالفتح صَحَّ العقد، ولا يعتبر عدمه للعمومات.

نعم، على القول بلزوم الاقتصار على المتيقّن من الأسباب، لابدّ من العقد مع عدم اللّحن، لكن عرفت أنّه بمراحل عن الواقع.

وإنْ كان بنحوٍ يضرّ به، كما لو قال (جوّزتك) بدل (زوّجتك) اعتبر عدمه، لما عرفت من لزوم كون الإنشاء بما يكون مظهرا لتلك المعاملة عرفاً، ولعلّه إلى هذا نظر من فصّل بين المثالين، لا ما ذكره الشيخ رحمه الله، إذ لازم ما ذكره صحّة العقد ب (جوّزتك)، إذ لا معنى صحيح له سوى التزويج، مع أنّه لا تأمّل في فساده.

وعليه، فالمعيار في الصحّة والفساد ما ذكرناه.

الأمر الثاني: هل يعتبر عربيّة جميع أجزاء الإيجاب والقبول كالثمن والمثمن، أم يكفي عربيّة الصيغة خاصّة ؟

يقع الكلام في موردين:

الأوّل: في اعتبار ذكر العوضين في عقد البيع وعدمه ؟

الثاني: أنّه على الفرض اللّزوم هل يعتبر أنْ يكون بالعربيّة أم لا؟

أمّا المورد الأوّل: فالظاهر لزوم ذكرهما، إذ العوضان في البيع نظير الزوجين في5.

ص: 22


1- المكاسب: ج 3/135.

النكاح، لأنّ المبادلة إنّما تكون بين المالين، ولابدّ من إنشاء هذا المعنى، فإذا لم يذكر العوضين لم ينشأ البيع، ولو كان من قصده تبديل هذا المال بذلك لعدم العبره بالقصد المجرّد في إنشاء المعاملات.

وأمّا المورد الثاني: فجميع ما ذكر في وجه اعتبار العربيّة في الصيغة، تدلّ على اعتبارها في أجزاء الإيجاب والقبول سوى الأولويّة، ولكن قد عرفت فساد الجميع.

وعليه، فالأظهر عدم اعتبارها فيها.

الأمر الثالث: هل يعتبر كون المتكلّم عالماً تفصيلاً بمعنى اللّفظ أم لا؟

أقول: اعتبار كونه عالماً بمعنى اللّفظ في الجملة ممّا لا يُنكر، لأنّ استعمال اللّفظ في المعنى يتوقّف على لحاظ اللّفظ والمعنى معاً، وإلّا فلا يعقل ذلك، ويكون التلفظ مجرّد لقلقة اللّسان وليس تكلّماً بالعربي مثلاً، ولكن ذلك لا يقتضي اعتبار العلم التفصيلي.

***

ص: 23

عدم اعتبار الماضويّة

المسألة الثانية: المشهور(1) كما عن غير واحدٍ اشتراط الماضويّة، وقد استدلّ لاعتبارها بوجوه:

الوجه الأوّل(2): الإجماع، وهو كما ترى .

الوجه الثاني: ما في «المكاسب»(3) من أنّ الماضي صريحٌ في الإنشاء، والمستقبل أشبه بالوعد، والأمر استدعاءٌ لا إيجاب.

وفيه: أنّه إنْ أُريد من صراحة الماضي في الإنشاء، عدم حاجة ظهوره في الإنشاء إلى قرينة حاليّة أو مقاليّة.

فيرد عليه: إنّ تلك الهيئة مشتركة بين الإنشاء والأخبار، بمعنى أنّ الموضوع له والمستعمل فيه في هيئة الصيغة المشتركة بين الإنشاء والإخبار، مثل (بعتُ ) شيءٌ واحد، وهي النسبة المتحقّقة بين المسند - وهو الاعتبار النفساني - والمسند إليه - وهو المتكلّم -، وانما يفترقان في الدّاعي، كما حُقّق في محلّه، فلابدّ في إفادتها الإنشاء إلى القرينة.

وإنْ أُريد من صراحته، عدم كون الماضي المستعمل في الإنشاء، من قبيل الكناية أو المجاز، فهو وإنْ كان متيناً، إلّاأنّ الفعل المضارع المستعمل في الإنشاء أيضاً كذلك، فإنّ هيئة المضارع وضِعتْ للدلالة على تلبّس الذّات بالمبدأ في حال التكلّم أو بعده، فإذا استُعملت في مقام الإنشاء، فقد استُعملت في ما وضعت له.

ص: 24


1- الوسيلة: ص 237، شرائع الإسلام: ج 2/267، الجامع للشرائع: ص 246، كشف الرموز: ج 2/98.
2- كشف الرموز: ج 2/98، تذكرة الفقهاء: ج 10/8.
3- المكاسب: ج 3/138.

ودعوى المحقّق النائيني رحمه الله(1): من أنّها تدلّ على تلبّس الفاعل بالمبدأ، وهذا ملازمٌ للتحقّق لا أنّه صريح فيه بل لازمه.

يرد عليها: إنّ التلبّس عين التحقّق لا أنّه لازمه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّها موضوعة للتحقّق أيضاً. وتمام الكلام في محلّه.

أقول: وبما ذكرناه يظهر صحّة استعمال الجملة الاسميّة نحو (أنا بائعٌ ) في مقام الإنشاء، فإنّ هذه الهيئة وضعت للدلالة على انتساب البيع إلى البائع، فيصحّ استعمالها في مقام إنشاء البيع، فظهر أنّ الحكم في باب الطلاق بوقوعه ب (أنتِ طالق) ليس على خلاف القاعدة.

وأمّا الأمر: فهو موضوع للدلالة على أنّ صدور المادّة من المخاطب متعلّقٌ لشوق المتكلّم، وعليه فصحّة الإنشاء به تتوقّف على صحّة الإنشاء بالكناية، لأنّ إنشاء المعاملة بإظهار كون وقوعه متعلّقاً للشوق من قبيل الاستعمال الكنائي، وقد عرفت صحّة الإنشاء بالكناية، وسيأتي تمام الكلام عن ذلك في المسألة الآتية.

الوجه الثالث: إنّ قصد الإنشاء في المستقبل خلاف ما هو المتعارف.

وفيه: إنّ التعارف لا يوجبُ تقييد إطلاق الأدلّة كما لا يخفى .

وعليه، فالأظهر صحّة الإنشاء بغير الماضي للعمومات والإطلاقات، وتشهد له - مضافاً إليه - النصوص الواردة في بيع العبد الآبق، والجارية الآبقة، وبيع المُصحف، وبيع اللَّبن في الضرع، والنكاح من الوقوع بفعل المضارع والأمر(2)، وحمل جميعها على إرادة المقاولة والوعد والاستدعاء خلاف الظاهر جدّاً.

***ه.

ص: 25


1- منية الطالب: ج 1/246.
2- وسائل الشيعة: ج 17/348-349 ب 8 من أبواب عقد البيع، وص 353 ب 11 من أبواب عقد البيع، و ج 17/157-161 ب 31 من أبواب ما يكتسب به.

تقديم القبول على الإيجاب

المسألة الثالثة: الأشهر كما قيل لزوم تقديم الإيجاب على القبول(1)، والأقوال في المسألة ثلاثة:

القول الأوّل: وهو الأشهر كما قيل، لزوم تقديم الإيجاب على القبول مطلقاً(2).

القول الثاني: ما عن الشيخ في كتاب النكاح من «المبسوط»(3)، والمحقّق في «الشرائع»(4)، والمصنّف في «التحرير»(5)، والشهيدين في بعض كتبهما(6)، وغيرهم في غيرها(7)، من جواز التقديم مطلقاً.

القول الثالث: التفصيل بين الصيغ التي يُنشأ بها القبول، وهو الذي اختاره الشيخ(8) - وسيمرّ عليك -، وربما يُنسب إلى بعض التفصيل بين البيع والنكاح بجواز التقديم في النكاح بلفظ الأمر دون البيع(9)، لكن الظاهر عدم صحّة النسبة.

أقول: إنّ القبول:

ص: 26


1- المكاسب: ج 3/140.
2- قاله في مختلف الشيعة: ج 5/52.
3- المبسوط: ج 4/194.
4- شرائع الإسلام: ج 2/267.
5- تحرير الأحكام: ج 3/408.
6- اللّمعة الدمشقيّة: ص 93، مسالك الأفهام: ج 3/153-154.
7- مجمع الفائدة: ج 8/145، كفاية الأحكام: ص 89، الحدائق الناضرة: ج 18/349.
8- المكاسب: ج 3/143.
9- نسبه في المكاسب: ج 3/143 إلى الشيخ في المبسوط: ج 2/87 و ج 4/194، وراجع حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/89.

تارةً : يكون بلفظ (قبلتُ ) و (رضيتُ ).

وأُخرى : يكون بلفظ الأمر.

وثالثة: يكون بلفظ (اشتريتُ ) وما شابهه.

القسم الأوّل: فيما إذا كان القبول بلفظ (قبلتُ ) و (رضيتُ ) فقد استدلّ لعدم جواز تقديمه على الإيجاب بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع، وهو كما ترى .

الوجه الثاني: ما في «المكاسب»(1)، وحاصله أنّ القبول في المعاوضات إنّما يتضمّن أمرين:

أحدهما: الرضا بالإيجاب.

الثاني: نقلُ ماله من حين القبول.

وهذان الأمران متحقّقان في القبول المتأخّر بأيّ لفظ كان، فإنّه لا حالة منتظرة للنقل سوى لحوقه، وكذلك حاصلان مع القبول المتقدّم إذا كان بلفظ (اشتريتُ )، فإنّه إنشاءٌ لنقل ماله الذي هو العوض.

وأمّا إذا كان القبول بلفظ (قبلتُ ) وقُدّم ذلك، فالأوّل موجودٌ، إلّاأنّ الثاني غير متحقّق، لأنّ القبول بهذا اللّفظ انما يتضمّن نقل ماله بالالتزام، من جهة أنّ ذلك لازم رضاه بإنشاء البائع تمليك ماله بإزاء مال القابل، فهو يكون نقلاً من حين تحقّق الإيجاب من الموجب لا من حين القبول.

وبعبارة أُخرى: إنّ النقل الحاصل بهذا اللّفظ إنّما يكون بعنوان الرضا بنقل4.

ص: 27


1- المكاسب: ج 3/143-144.

الموجب، ولازم ذلك عدم تحقّقه إلّاحين تحقّقه من ذلك الغير.

وفيه أوّلاً: إنّه لا يعتبر في القبول نقل ماله إلى الغير، بل يكفي رضاه بنقل الغير ماله إليه في مقابل تملّك ماله، بل وظيفة القابل ليست إلّاذلك، فإنّ البائع إنّما يعتبر ملكيّة ماله للمشتري بإزاء ملكيّة ماله لنفسه، وهذا الاعتبار النفساني المظهر بالإيجاب، لا يصير وحده موضوعاً لاعتبار العقلاء والشارع، إلّامع رضا المشتري بذلك، فالمعتبر هو رضاه المُظهِر باللّفظ لا غير.

وثانياً: إنّه لو سُلّم اعتبار النقل فيه أيضاً، لكن لم يدلّ دليلٌ على اعتبار النقل في الحال.

وثالثاً: أنّ المراد من النقل في الحال:

إنْ كان هو النقل في اعتباره فهو ممكن من حين القبول، وإنْ قُدّم، لأنّه فعله الاختياري.

وإنْ كان هو النقل في اعتبار العقلاء والشارع، فهو ممّا لا يتصوّر في الإيجاب المتقدّم أيضاً، لفرض عدم النقل عندهم إلّابعد تماميّة العقد.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1)، من أنّ هذا اللّفظ - أي (قبلتُ ) - ظاهرٌ في مطاوعة شيءٍ ، وإنفاذ أمرٍ أوجده، وهذا المعنى يتفرّع على وقوع إيجادٍ من الآخر كتفرّع الانكسار على الكسر، فإنّ مطاوعة الأمر المتأخّر والانفعال والتأثّر من الإيجاب فعلاً يمتنع عقلاً.

وفيه: إنّ المطاوعة المأخوذة في القبول إنّما هي مطاوعة إنشائيّة لا حقيقيّة،9.

ص: 28


1- منية الطالب: ج 1/249.

فلا مانع عن تقدّم (قبلتُ ) على الإيجاب.

القسم الثاني: فيما إذا كان القبول بلفظ الأمر، فقد استدلّ لعدم جواز تقديمه على الإيجاب بأُمور:

الأمر الأوّل: ما أفاده الشيخ رحمه الله(1) في (قبلتُ ) بتقريب أنّه إنّما يدلّ على الرضا بالمعاملة، ولا يكون متضمّناً لنقل المال في الحال، لكن قد عرفت ما فيه.

الأمر الثاني: ما ذكره المحقّق النائيني رحمه الله في الصورة الثالثة، وستعرف تقريبه وما يرد عليه.

الأمر الثالث: إنّه يعتبرالماضويّة في صيغ العقود، لكن قد عرفت من عدم اعتبارها.

القسم الثالث: فيما إذا كان القبول المقدّم بلفظ (اشتريتُ ) و (ابتعتُ ) ونحوهما، فقد اختارالشيخ رحمه الله(2) جوازالتقديم، واستدلّ له بأنّ المعتبر في القبول أمران: الرضا بالإيجاب، ونقل الثمن في الحال إلى البائع، وهما متحقّقان في (اشتريتُ ) وشبهه.

أمّا الأوّل: فواضح.

وأمّا الثاني: فلأنّه إنشاء لملكيّته للمبيع بإزاء ماله عوضاً، ولا يعتبر فيه شيءٌ زائداً على ذلك.

وأُورد عليه بأُمور:

الأمر الأوّل: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1)، من أنّه يعتبر في القبول بأيّ لفظ كان، مطاوعة الإيجاب والانفعال والتأثّر منه، وإلّا كان غير مرتبط بالإيجاب، بل كان إيجاباً مستقلّاً، وتضمّنه للمطاوعة يستدعي تأخّره عن الإيجاب.9.

ص: 29


1- منية الطالب: ج 1/249.

وفيه أوّلاً: إنّه لا يعتبر في القبول سوى الرضا بالإيجاب، وهذا لا يمنع عن جواز التقديم كما تقدّم، ولا يلزم منه عدم الارتباط بالإيجاب كما هو واضح.

وثانياً: ماتقدّم من أنّ المطاوعة الإنشائيّة قابلة للتقدّم، وليست كالمطاوعة الحقيقيّة.

الأمر الثاني: الإجماع على اعتبار القبول في العقد، وهو متضمّنٌ لمعنى المطاوعة.

وفيه: إنّ المتيقّن من الإجماع اعتبار القبول الشامل للرضا بالإيجاب.

الأمر الثالث: إنّ الاشتراء أو الابتياع بمفهومه متضمّنٌ لاتّخاذ المبدأ، فإنْ كان بعنوان اتّخاذ المبدأ من الغير فهو مطاوعة قصديّة، وإنْ كان بعنوان اتّخاذ المبدأ ابتداءاً، فيكون من إنشاء بيع مال الغير فضولاً لا إنشاء الملكيّة قبولاً.

وفيه أوّلاً: إنّ المطاوعة الإنشائيّة لا تمنع من التقديم كما تقدّم.

وثانياً: إنّ صيغة الافتعال ليست كصيغة الانفعال متضمّنة للمطاوعة دائماً.

الأمر الرابع: ما أوجب تردّد الشيخ رحمه الله(1)، هو كون تقديم القبول خلاف المتعارف المعهود من الصيغة.

وفيه: إنّ التعارف لا يوجبُ تقييد المطلقات وانصرافها.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز تقديم القبول مطلقاً لإطلاق أدلّة إمضاء البيع والتجارة والعقود، المؤيّد بالنصوص الخاصّة الواردة في موارد مخصوصة والتي تقدّمت الإشارة إليها.

أقول: وبما ذكرناه ظهر الحال في بقيّة العقود المعاوضيّة، نعم في خصوص المصالحة المشتملة على المعاوضة كلامٌ سيأتي، كما أنّه ظهر الحال في العقود3.

ص: 30


1- المكاسب: ج 3/153.

غير المعاوضيّة.

ولكن الشيخ لما فرغ من بيان حكم القبول من حيث التقديم والتأخير في العقود المعاوضيّة - المستلزمة لكون القابل فيها باذلاً لشيء من عملٍ أو منفعةٍ أو عينٍ أو تسليط - أراد بيان حكمه في العقود غير المعاوضيّة، وحاصل ما ذكره فيها أنّها على قسمين(1):

القسم الأوّل: ما لا يعتبر في قبوله سوى الرضا بالإيجاب، وهي العقود الاذنيّة كالوكالة والعارية وشبههما، ممّا ليس فيها إعطاءٌ وأخذ أصلاً، بل تفيد مجرّد الإباحة أو السلطنة على التصرّف أو الحفظ.

القسم الثاني: ما يعتبر في قبوله عنوان المطاوعة، كالرهن والهبة والقرض وشبهها، ممّا يتضمّن إعطاءٌ من طرف وأخذٌ من الطرف الآخر، والوجه في اعتباره في قبولها لزوم تحقّق عنوان المرتهن والمتّهب والمقترض ليترتّب عليها أحكامها، وتلك العناوين تتحقّق بالقبول، فيعتبر في قبولها عنوان المطاوعة.

وفي القسم الأوّل: لا مانع من تقديم القبول، لأنّ الرضا يتعلّق بالأمر المتأخّر.

وفي القسم الثاني: لا يجوز التقديم، إذ المطاوعة والانفعال بما يوجبه الموجب لا تتحقّق قبل الفعل والإيجاب.

أقول: ويرد عليه قدس سره عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ التفريق بين القسمين بلا فارق، إذ كما أنّه رتّب الأحكام في القسم الثاني على المرتهن مثلاً، كذلك رتّبت في القسم الأوّل على العناوين الخاصّة6.

ص: 31


1- المكاسب: ج 3/156.

من المستعير والوكيل وشبههما، وهذه العناوين لا تتحقّق قبل القبول، والمحقّق لها هو القبول.

الأمر الثاني: إنّ العناوين المشار إليها في القسمين ليست عناوين قصديّة، وإنّما هي عناوين صادقة على القابل بعد تحقّق العقد، وإنْ لم يكن القابل ملتفتاً إليها كعنوان البائع والمشتري.

الأمر الثالث: إنّ الممتنع تحقّق عنوان المطاوعة في الوعاء المناسب له قبل الإيجاب، وأمّا إنشاء ذلك العنوان المتحقّق بعد الإيجاب، فلا مانع فيه، ولم يدلّ دليلٌ على اعتبار تحقّق عنوان المطاوعة في حال القبول.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز تقديم القبول في القسمين.

قال الشيخ الأعظم:(1) إنّ في المصالحة المشتملة على المعاوضة خصوصيّة يجب التنبيه عليها، وهي:

أنّ القبول فيها منحصرٌ بلفظ (قبلتُ ) من جهه أنّ الالتزامين من المتسالمين متساويان، ولذا كان ابتداء الالتزام بها جائزاً من الطرفين، فنسبتها إليهما على حَدٍّ سواء، فإنْ أنشأ القبول بلفظ (قبلتُ ) كان الإيجاب معه عقداً، وإلّا كانا إيجابين غير مرتبطين، فإنْ كان قبولها بلفظ (قبلتُ ) لزم تأخيره، لما عرفت من أنّ (قبلتُ ) إذا قدّم لا يدلّ على النقل في الحال.

ويرد عليه: - مضافاً إلى ما تقدّم من أنّه لا يعتبر في القبول سوى الرضا بما أنشأه الموجب، وأنّه لا يعتبر النقل في الحال في القبول - أنّه في تحقّق عنوان5.

ص: 32


1- المكاسب: ج 3/155.

المصالحة كعنوان البيع لا يعتبر أزيد من صدور ووقوع إنشاء التسالم من أحدهما، وقبول ذلك من الآخر، سواءٌ كان بلفظ (قبلتُ ) أو (صالحتُ ) أو غيرهما.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز تقديم القبول في جميع العقود.

***

ص: 33

اعتبار الموالاة

المسألة الرابعة: المحكيّ عن الشيخ في «المبسوط» في باب الخُلع(1)، والمصنّف(2)، والشهيدين(3)، والمحقّق الثاني(4)، والشيخ المقداد(5) اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن الشهيد رحمه الله(6)، وحاصله أنّ كلّ أمرين أو أُمور يجمعها عنوان واحد كالصلاة والأذان ونحوهما، يعتبر في تحقّق ذلك العنوان، وانطباقه عليها، عدم الفصل بينها بنحو يوجبُ عدم تحقّق الصورة الاتّصاليّة، وصيرورة كلّ واحدٍ عنواناً مستقلّاً، ومن هذا القبيل العقد، فإنّه عبارة عن ربط إنشاء أحدهما بإنشاء الآخر، فلو انفصل القبول عن الإيجاب بزمانٍ معتدّ به عرفاً، لما صدق عليهما عنوان العقد، فلا يترتّب عليهما الأثر المترقّب منه.

وأجاب الشيخ رحمه الله(7) عن هذا الوجه: بأنّ حكم المِلْك واللّزوم في المعاملة لو كان منوطاً بصدق العقد، كان ما ذكر تامّاً، وأمّا إذا كان منوطاً بصدق عنواني البيع أو التجارة عن تراض، فلا يضرّه عدم صدق العقد.

ص: 34


1- المبسوط: ج 4/362.
2- قواعد الأحكام: ج 2/157.
3- الدروس: ج 3/191، مسالك الأفهام: ج 6/9 و: ج 9/370.
4- جامع المقاصد: ج 4/59.
5- التنقيح الرائع: ج 2/24.
6- القواعد والفوائد: ج 1/234، قاعدة 73.
7- المكاسب: ج 3/159.

أقول: أورد المحقّق النائيني رحمه الله(1) تأييداً للشهيد رحمه الله على هذا الجواب بإيرادات:

منها: إنّه ليس البيع والتجارة والصلح والنكاح إلّاالعقود المتعارفة.

وفيه: إنّ التعارف لا يوجب الانصراف الذي يعتمد عليه في تقييد إطلاق الأدلّة كما حُقّق في محلّه، وإنْ أُريد به عدم صدق البيع كما لا يصدق العقد عليه، فهو بديهي الفساد.

ومنها: أنّه لا سبيل إلى التمسّك بإطلاق أدلّة إمضاء البيع والتجارة عن تراضٍ من جهة عدم ورودها في مقام البيان من جميع الجهات.

وفيه: إنّه قد عرفت أنّها مطلقة من هذه الجهات، ولذا بنينا على التمسّك بإطلاقها لإمضاء الأسباب، مع كفاية التمسّك بالإطلاق بمجرّد الشكّ في كونها في مقام البيان وعدمه.

ومنها: إنّه لا يمكن التفكيك بين الصحّة واللّزوم إلّابدليل خارجي من الإجماع ونحوه، من جعل الشارع الخيار للمتعاقدين، أو جعلهما لأنفسهما، أو لأجنبي، وعليه فحيث إنّ هذه المعاملة - أي الإيجاب والقبول الذي تخلّل الفصل بينهما - لا تكون مشمولة لدليل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2) الذي هو دليل اللّزوم - ولأجل ذلك لا يُحكم بلزومها - فلابدّ من البناء على فسادها أيضاً.

وفيه أوّلاً: قد عرفت أنّ دليل لزوم البيع لا ينحصر به.

وثانياً: إنّه لم يدلّ على عدم التفكيك بين الصحّة واللّزوم.

وثالثاً: لو سُلّم ذلك، فليكن دليل الصحّة - بضميمة عدم الفصل بين الصحّة1.

ص: 35


1- منية الطالب: ج 1/252.
2- سورة المائدة: الآية 1.

واللّزوم - كافياً في الحكم باللّزوم. وعدم شمول دليل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1) لا يدلّ على عدم لزومه، كي يُحكم بضميمة عدم الفصل بالفساد، فإنّه يقتضي لزوم كلّ عقدٍ لا عدم لزوم غير العقد، فلا يصلح لمعارضة دليل الصحّة، إذ الاقتضاء لا يُعارض المقتضي لشيء.

أقول: ويمكن الجواب عن ما ذكره الشهيد رحمه الله(2) بوجه آخر - وهو إيراد على الشيخ رحمه الله(3) أيضاً، حيث سَلّم عدم صدق العقد عليه - وهو:

إنّ العقد من مقولة المعنى دون اللّفظ، وهو عبارة عن ربط أحد الالتزامين بالآخر باعتبار ورودهما على أمر واحد، وهو كون أحد المالين بإزاء الآخر، وهذا لا يقتضي إلّابقاء الالتزام بالأوّل على حاله وإنْ تخلّل زمان طويل.

نعم، إذا لم يكن الالتزام الأوّل باقياً في نفس الموجب، بأن أعرض عنه مثلاً، لم يرتبط الالتزام الثاني به، وهذا أيضاً لا فرق فيه بين تخلّل زمان قصير أو طويل، وعليه فالأظهر عدم تماميّة هذا الوجه.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(4)، من أنّ في العقود المعاوضيّة سواءٌ أكان خَلعاً ولبساً أو إيجاداً للعلقة، فلابدّ من أن يكون اللَّبس مقارناً للخلع، وكذلك يجب أن يكون القبول مقارناً لإيجاد العلقة، وإلّا تقع الإضافة أو العلقة بلا محلّ ومضاف إليه، وهو ممنوع.

وفيه أوّلاً: النقض بالزمان القصير الفاصل بين الإيجاب والقبول قهراً في جميع1.

ص: 36


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- القواعد والفوائد: ج 1/234، قاعدة 73.
3- المكاسب: ج 3/159.
4- منية الطالب: ج 1/251.

الموارد، فإنّه لا فرق في هذا المحذور بين الزمان القصير والطويل.

وثانياً: إنّ الخلع في اعتبار الموجب وإنْ تحقّق من حين الإيجاب، إلّاأنّ اللّبس في اعتباره أيضاً كذلك، وأمّا في اعتبار العقلاء والشارع فكما ليس لبسٌ إلّابعد القبول، كذلك ليس خلع. فتدبّر فإنّه دقيق.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(1)، من أنّه يلزم من الفصل المُخلّ بالموالاة، عدم تطابق الإيجاب والقبول، لأنّ الإيجاب نقلٌ من حينه، فإذا تأخّر القبول:

فإمّا أنْ يكون قبولاً لتمام مضمون الإيجاب، فيلزم حصول النقل قبل حصول تمام العقد وذلك باطلٌ .

أو يكون قبولاً لبعض مضمونه - أعني النقل من حين تحقّق القبول - فيلزم عدم المطابقة بين الإيجاب والقبول.

وفيه: إنّه ستعرف عدم اعتبار التطابق بينهما بنحوٍ يشمل مثل هذا التطابق، مع أنّ النقل في اعتبار العقلاء والشارع لا يقع إلّابعد تماميّة العقد في جميع الموارد.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم اعتبار الموالاة بين الإيجاب والقبول.

***0.

ص: 37


1- حاشية المكاسب (للايرواني): ج 1/90.

اشتراط التنجيز في العقد

المسألة الخامسة: صرّح جماعةٌ منهم الشيخ(1)، والحِلّي(2)، والمصنّف(3)، وجميع من تأخّر عنه كالشهيدين(4)، والمحقّق الثاني(5)، وغيرهم(6) بأنّه يعتبر في العقد التنجيز، والمراد منه أن لا يكون معلّقاً على شيء بأداة الشرط، بأن يقصد المتعاقدان انعقاد المعاملة في صورة وجود ذلك الشيء لا في غيرها.

وفي «المكاسب»(7): (والظاهر عدم الخلاف فيه، كما اعترف به غير واحد)، وعن جماعة دعوى الإجماع عليه(8).

وتنقيح القول في المقام: إنّ المعلّق بحسب التصوير العقلي أحد أُمور ثلاثة:

الأوّل: الإنشاء.

الثاني: المُنشَأ كالملكيّة مثلاً.

الثالث: متعلّق المنشأ، كما لو آجر داراً فعلاً ليسكن فيها بعد سنة، فإنّ المُنشَأ كالإنشاء ليس معلّقاً، بل المعلّق هو متعلّق المُنشَأ أي سكنى الدار، وإلّا فالمستأجر يملك فعلاً على المؤجر منفعة الدار بعد سنة.

ص: 38


1- المبسوط: ج 2/399.
2- السرائر: ج 2/430.
3- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/114 وص 415، قواعد الأحكام: ج 2/155 وج 3/10.
4- الدروس: ج 2/264، مسالك الأفهام: ج 4/360.
5- جامع المقاصد: ج 8/181 وج 9/14-15 وج 12/77.
6- شرائع الإسلام: ج 2/457، كفاية الأحكام: ص 119.
7- المكاسب: ج 2/163.
8- تحرير الأحكام: ج 3/274، إيضاح الفوائد: ج 3/310، كفاية الأحكام: ص 140، كشف اللّثام: ج 7/48.

أمّا الأوّل: فالتعليق فيه أمرٌ غير معقول، من غير فرق بين أنْ يكون المراد به آلة الإنشاء كاللّفظ أم نفس الاعتبار النفساني.

أمّا الأوّل: فلأنّ الإنشاء وجه من وجوه استعمال اللّفظ في المعنى - سواءٌ أكان عبارة عن إيجاد المعنى باللّفظ، أم كان عبارة عن إبراز الاعتبار النفساني باللّفظ بداعي تنفيذه - فلا يُعقل فيه التعليق.

وأمّا الثاني: فلأنّ الاعتبار فعل تكويني، فكما لا يعقل التعليق في وقوع الضرب على أحدٍ، وكذا غيره من الأفعال التكوينيّة، كذلك لا يعقل التعليق في الاعتبار، والظاهر أنّ هذا ليس محلّ الكلام في المقام.

وأمّا الثالث: - أي التعليق في متعلّق المُنشَأ - فهو انما يصحّ فيما إذا كان من الأعراض والأفعال من جهة تصوير التعدّد فيها بلحاظ التقييد بالزمان أو الزماني، مثلاً منفعة الدار في هذه السنة غير منفعتها في السنة اللّاحقة، فالتعليق فيها أمرٌ ممكن وواقع لا محذور فيه، وأمّا الجواهر كالدار فلا يتصوّر فيها التعليق، من جهة أنّ الوجود الجوهري لا يتعدّد بتعدّد الزمان والزماني، مثلاً الدار في هذه السنة ليست غير الدار في السنة القادمة، فإذا كان متعلّق المُنشَأ جوهراً خارجيّاً لا يعقل التعليق فيه، فإنْ كان هناك تعليقٌ وشرطٌ فلابدّ وأن يرجع إلى المُنشَأ، ولعلّ هذا هو وجه الفرق بين الإجارة والبيع، حيث لم يقع الخلاف في صحّة التعليق فيها على بعض الوجوه المتقدّم، مع اتّفاقهم على بطلان التعليق في البيع، وعدم إمكان تصحيحه بوجه.

وعليه، فمحلّ الكلام إنّما هو التعليق في المُنشَأ.

ص: 39

أقول: قبل الشروع في البحث فيه، وبيان وجوه المنع، لابدّ من التنبيه على أمر وهو أنّ ما صرّح به الشيخ رحمه الله(1) في المقام في بيان صحّة التعليق في المُنشَأ بقوله:

(فلا ريب في أنّه متصوّرٌ وواقع في العرف والشرع كثيراً في الأوامر والمعاملات من العقود والإيقاعات)، ينافي ما نُسب إليه في التقريرات في مبحث الواجب المشروط من امتناعه(1).

وكيف كان، فصور التعليق في المنشأ على ما ذكره الشيخ رحمه الله(3) ثمان، إلّاأنّ الظاهر أنّها اثنتا عشرة، وذلك لأنّ المعلّق عليه:

1 - إنْ كان أمراً حاليّاً:

فتارةً : يكون معلوم التحقّق.

وأُخرى : يكون مشكوك التحقّق.

وعلى التقديرين:

فتارةً : يكون ممّا له دخلٌ في صحّة العقد.

وأُخرى : لا يكون دخيلاً فيه.

2 - وإنْ كان أمراً استقباليّاً، فهذه التقادير الأربعة تتصوّر فيه، بإضافة أنّه على أيّ تقدير ربما يكون القيد مأخوذاً فيه على نحو الشرط المتأخّر، بمعنى أنّه ينشأ الملكيّة الفعليّة على فرض تحقّق ذلك الأمر في المستقبل، وربما يكون بنحو الشرط المقارن، بمعنى أنّه ينشأ الملكيّة على تقديرٍ بعد تحقّقه.

فإنْ كان المعلّق عليه أمراً استقباليّاً مشكوك الحصول، ولم تكن صحّة العقد2.

ص: 40


1- راجع كتاب المكاسب والبيع: ج 1/292.

متوقّفة عليه، وكان التعليق بنحو الشرط المقارن، فالظاهر أنّه مورد اتّفاق الأصحاب القائلين بمبطليّة التعليق، فلو كان الإجماع تعبّديّاً كان هو الحجّة في المقام، ولا دليل عليه سوى ذلك.

أقول: قد استدلّ للبطلان - بغير الإجماع - بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن جماعةٍ (1) من اعتبار الجزم في العقد، وهو منافٍ للتعليق.

وفيه: إنّه إنْ أُريد به الجزم بالإنشاء، فهو حاصلٌ كما هو واضح، وإنْ أُريد به الجزم بالمنشأ في نظره - أي تحقّق الملكيّة الاعتباريّة جزماً - فهو محلّ الكلام، وإنْ تمسّك بالإجماع على اعتباره، فسيأتي الكلام فيه.

الوجه الثاني: إنّ الأسباب الشرعيّة توقيفيّة، لابدّ فيها من الاقتصار على المتيقّن، وهو العقد الخالي عن التعليق.

وفيه: إنّ هذا يتمّ إذا لم تكن هناك عمومات ومطلقات من قبيل «أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ » (2) و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (3) والمفروض وجودها.

الوجه الثالث: إنّه يلزم تخلّف المُنشَأ عن الإنشاء، وهو غير معقول.

وفيه: إنّ هذه شبهة أوردوها على الواجب المشروط، وقد أجبنا عنها في حاشيتنا على «الكفاية»(4) مفصّلاً، ونقتصر في المقام على الإشارة إلى وقوع ذلك الذي هو أدلّ دليل على إمكانه، لاحظ الوصيّة والنذر والتدبير والواجب المشروط.

الوجه الرابع: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(5) من دعوى انصراف العقودإلى العقود غير3.

ص: 41


1- الروضة البهيّة: ج 6/380، جامع المقاصد: ج 8/54.
2- سورة البقرة: الآية 275.
3- سورة المائدة: الآية 1.
4- هذا الكتاب لم يطبع للمؤلّف ولا زال مخطوطاً.
5- منية الطالب: ج 1/253.

المعلّقة المتعارفة بين عامّة الناس، فلا تشمل أدلّة العقود والعناوين العقد المعلّق.

وفيه: - مضافاً إلى أنّ التعارف لا يوجبُ الانصراف المقيّد للإطلاق - أنّ التعليق في العقد واقعٌ كثيراً كما تقدّم.

الوجه الخامس: إنّ ظاهر خطاب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1)، كظاهر سائر الخطابات أنّ الحكم فيه مطلق غير مشروط بشيء، فيكون ظاهره ترتّب الأثر على العقد، وعليه:

فإنْ التزم بترتّب الأثر فعلاً قبل تحقّق ما عُلّق عليه، كان ذلك منافياً للإنشاء المعلّق، ولا سبيل إليه.

وإنْ التزم بعدم ترتّب الأثر فعلاً، لزم عدم كونه مشمولاً لهذا الخطاب، فلا دليل على لزوم الوفاء به وترتيب الأثر عليه.

وفيه أوّلاً: إنّ العقد ليس هو اللّفظ كما تقدّم، بل هو ربط أحد الالتزامين الواردين على موردٍ واحد بالآخر، والوفاء به عبارة عن إتمامه، ومعنى ذلك فيما إذا كان متعلّقه النتيجة، هو عدم حَلّه ونقضه لا ترتيب الآثار عليه، ومن الواضح أنّه في هذا الذي ذكرناه لا فرق بين العقد المعلّق والمنجّز.

وثانياً: إنّ دليل الصحّة لا ينحصر بقوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ، بل هناك أدلّة أُخرى من قبيل «أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ » (2) التي لا يجري فيها هذا الوجه، ولا فرق في ذلك بين المعلّق والمنجّز.

ولا يخفى أنّ هذاالإيراد إنّمايرد على المستدلّ لو كان مفاد «أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ » الحليّة الوضعيّة، ولا يرد عليه لوكان مفاده الحليّة التكليفيّة، فإنّ ما ذُكر في وجه5.

ص: 42


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- سورة البقرة: الآية 275.

اختصاص «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» يجري فيه طابق النعل بالنعل.

أقول: وبذلك ظهر أنّ الشيخ رحمه الله(1) حيث التزم في مبحث المعاطاة بأنّ مفاده الحليّة التكليفيّة، ليس له هذا الإيراد، كما أنّ إيراده عليه(2) بقوله: (مع أنّ تخلّف المِلْك عن العقد كثيرٌ جدّاً) ليس في محلّه، إذ التخلّف مع دليلٍ لا يوجب سلب الظهور المُدّعى في الاستدلال.

اللَّهُمَّ إلّاأنْ يكون مراده أنّ التخلّف كثيرٌ، ولو بنى على الظهور المزبور لزم تخصيص الأكثر المستهجن.

فتحصّل ممّا ذكرناه: إنّه ليس في مقابل العمومات والمطلقات الدالّة على الصحّة ما يدلّ على بطلان العقد المعلّق سوى الإجماع.

أقول: وفي مقابل هذه الصورة صورتان:

إحداهما: ما إذا كان المعلّق عليه أمراً حاليّاً معلوم الحصول مع كونه ممّا تتوقّف صحّة العقد عليه.

ثانيتهما: ما إذا كان المعلّق عليه أمراً استقباليّاً كذلك، مع كون القيد مأخوذاً على نحو الشرط المتأخّر، فإنّه لا يجري فيهما شيءٌ من المحاذير المتقدّمة حتّى الإجماع، بل لعلّ الإجماع(1) قائمٌ على عدم بطلان العقد المعلّق فيهما.

وأمّا إنْ كان المعلّق عليه أمراً حاليّاً معلوم الحصول، مع كونه ممّا لا يتوقّف عليه صحّة العقد، أو كان أمراً استقباليّاً كذلك، مع كون الشرط بنحو الشرط المتأخّر، فلا يجري فيهما شيءٌ من الوجوه المتقدّمة سوى ما أفاده المحقّق النائيني(2)3.

ص: 43


1- راجع منية الطالب: ج 1/254-255، ومصباح الفقاهة: ج 2/330-331.
2- منية الطالب: ج 1/253.

من دعوى الانصراف التي عرفت ما فيها، والظاهر أنّهما غير داخلين في معقد الإجماع، فلا ينبغي التوقّف في عدم البطلان فيهما.

وأمّا إنْ كان المعلّق عليه أمراً استقباليّاً، معلوم الحصول، مع كون الشرط على نحو الشرط المقارن، فمقتضى الوجه الثاني والثالث والخامس بطلانه، وكذلك مقتضى الوجه الرابع هو ذلك، لو كان المعلّق عليه ممّا لا تتوقّف صحّة العقد عليه، وقد عرفت عدم تماميّة شيء منها، وأمّا الإجماع فالمتيقّن منه غيرهما، فلا وجه للحكم بالبطلان.

أقول: وما ذكره الشهيد رحمه الله في محكي «القواعد»(1) من الحكم بالبطلان في الصورتين، معلّلاً بأنّ الجزم ينافي التعليق، لأنّه بعرضة عدم الحصول، ولو قُدّر العلم بحصوله، فهو كالتعليق على الوصف، لأنّ الاعتبار بجنس الشرطدون أنواعه، فاعتبر المعنى العام دون خصوصيّات الأفراد.

يرد عليه: إنّه يتمّ لو كان بطلان العقد المعلّق مفاد آيةٍ أو رواية، ولم يُحرز كون الجهل بحصول الشرط هو العلّة لذلك، لا فيما إذا كان البطلان من جهة الوجوه المتقدّمة. فراجع.

وأمّا إنْ كان المعلّق عليه أمراً حاليّاً مشكوك الحصول، أو كان استقباليّاً كذلك، مع كونه بنحو الشرط المقارن أو المتأخّر، فإنّه سواءٌ أكان المعلّق عليه ممّا تتوقّف صحّة العقد عليه أم لا، فالظاهر شمول معقد الإجماع لهما، فلاحظ.

تنبيهات:

أقول: وينبغي التنبيه على أُمور:

التنبيه الأوّل: هل يكون هذا الشرط من شرائط الصيغة كالعربيّة، كما يظهر من

ص: 44


1- القواعد والفوائد: ج 1/65، قاعدة 35.

بعض كلماتهم، وإليه يُشعر ما ورد في «المكاسب»(1) في آخر المسألة من قول الشيخ رحمه الله: (فإذا مسّت الحاجة إلى شيء من ذلك للاحتياط، وقلنا بعدم جواز تعليق الإنشاء على ما هو شرطٌ فيه، فلابدّ من إبرازه بصورة التنجيز)؟

أم يرجع هذا الشرط إلى المعنى المقصود، بأن يعتبر في المعاملة أن لا يكون القصد إليها معلّقاً على أمر، كما هو صريح المحقّق النائيني رحمه الله(1) حيث قال: (لا ينحصر التعليق في أداة الشرط، بل كلّ ما كان في معنى التعليق ولو بغير الأداة)؟

وجهان: أقواهما الثاني، إذ الظاهر من كلماتهم، ومعاقد إجماعاتهم هو ذلك، كما هو مقتضى الوجوه الخمسة المشار إليها المذكورة لبطلان التعليق.

التنبيه الثاني: القادح انما هو التعليق في العقد، فلو كان متردّداً في ترتّب الأثر على العقد الذي ينشأه شرعاً، وأنّه صحيح أو فاسد، فلا كلام في صحّته، إذ لا يكون هذا الترديد مورّثاً للتعليق في ما ينشأه، لأنّ العلم بالفساد يجتمع مع القصد إلى المعاملة فضلاً عن الترديد فيه.

هذا فيما إذا كان متردّداً في تأثيره شرعاً.

أمّا لو كان متردّداً في تأثيره عرفاً، فإنْ كان ما يحتمل دخله في ترتّب الأثر عرفاً مقوّماً لعنوان المعاملة وتحقّقها كالزوجيّة بالإضافة إلى الطلاق، لا محالة يكون ذلك منافياً للتنجيز، وإلّا فلا.

أقول: ظهر بما ذكرناه أنّ ما أفاده الشيخ رحمه الله(3) بقوله: (وأمّا إذا أنشأ من غير تعليق، صحّ العقد، وإنْ كان المُنشئ متردّداً في ترتّب الأثر عليه شرعاً أو عرفاً) تامٌّ ، وأنّ مراده ما ذكرناه، لا أنّ مراده كون التنجيز من شرائط الصيغة، وعليه فلا يرد4.

ص: 45


1- منية الطالب: ج 1/254.

عليه ما أفاده السيّد في الحاشية(1) بقوله: (مقتضى ما ذكره العلّامة والشهيد من كون الوجه اعتبار الجزم البطلان في هذه الصوره أيضاً).

التنبيه الثالث: ويدور البحث فيه عن أنّه:

هل هناك فرقٌ بين الأُمور التي تتوقّف صحّة العقد عليها فلا مانع من تعليق العقد عليها.

وبين ما لا تتوقّف صحّة العقد عليه، فالتعليق عليه مبطلٌ أم لا؟ وجهان:

استدلّ للأوّل: الشيخ الأكبر في محكي «المبسوط»(2): بأنّ التعليق على ما تتوقّف صحّة العقد عليه، ليس إلّاشرطاً لما يقتضيه إطلاق العقد، فإذا اقتضاه الإطلاق لم يضرّ إظهاره وشرطه.

واستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله له بالانصراف(3).

أقول: وهذان الوجهان وإنْ كانا فاسدين:

أمّا الثاني: فلما تقدّم.

وأمّا الأوّل: فلأنّ المعلّق على ذلك الشرط في الواقع، هو ترتّب الأثر الشرعي على العقد دون إنشاء مدلول الكلام، فالمعلّق في كلام المتكلّم غير معلّقٍ في الواقع على شيء كما ذكره الشيخ رحمه الله.

إلّا أنّه حيث عرفت انحصار المدرك لهذا الشرط بالإجماع، فمثل هذه الكلمات توجبُ الترديد في شمول معقد الإجماع للتعليق على ما تتوقّف صحّة العقد عليه، وبالتالي فيتعيّن الرجوع إلى المطلقات والعمومات الدالّة على الصحّة.

***3.

ص: 46


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/92.
2- المبسوط: ج 2/385.
3- منية الطالب: ج 1/253.

اعتبار المطابقة بين الإيجاب والقبول

المسألة السادسة: ذكر غير واحدٍ(1) أنّه من جملة شروط العقد، التطابق بين الإيجاب والقبول.

أقول: إنّ اعتبار التطابق بين الإيجاب والقبول من القضايا التي قياساتها معها، فإنّه مع عدم التطابق - كما لو أنشأ أحدهما بعنوان البيع وقَبل الآخر بعنوان الهبة - لا يتحقّق العقد، فإنّه مع عدم ورود الالتزامين على مورد واحد، لا يكونان مرتبطين، ومع عدم الربط لا يصدق عليهما عنوان العقد.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ القبول قوامه بالرضا بالإيجاب، بل هو حقيقته، فمع عدم كونه قبولاً لما أنشأه الموجب، لما عُدّ قبولاً، فلا يتحقّق العقد، بل كانا إيقاعين غير مرتبطين.

وبالجملة: اعتبار التطابق بينهما من الاُمور الواضحة، ولا نقاش فيه، إنّما الكلام في تطبيق هذه الكبرى الكليّة على مواردها:

فإنّ عدم التطابق في بعض الموارد واضح لا يحتاج إلى بيان، كما لو اختلفا في عنوان المعاملة، أو في أركانها وهي المبيع والثمن في البيع، مثل ما لو باع العبد بمائة دينار وقَبل المشتري بيع الجارية.

كما أنّ تحقّق التطابق في بعض الموارد الأُخرى أيضاً واضح، كما لو اختلفا من حيث اللّفظ مع اتّحاد المعنى، كأن يقول البائع: بعتُك، فقال المشتري: قبلتُ الشراء.

ص: 47


1- قواعد الأحكام: ج 2/17، الدروس: ج 3/191، جامع المقاصد: ج 4/60.

وأمّا محلّ الخلاف فموارد:

منها: ما إذا أوجب البائع مشروطاً بشرطٍ، وقَبِل القابلُ البيع بلا شرط.

ومنها: ما إذا أوجب البائعُ البيعَ لشخصين، فقَبِل أحدهمانصف المبيع بنصف الثمن.

ومنها: ما لو باع البائع شيئين بثمن معيّن، فقبل القابل أحدهما بنصف الثمن.

أمّا الأوّل: فصريح الشيخ رحمه الله(1)، والمحقّق النائيني رحمه الله(2) بطلان البيع من جهة عدم المطابقة.

أقول: لكن الظاهر هو تحقّق التطابق الذي دلَّ الدليل على اعتباره، وذلك لأنّه لا خلاف بينهم في أنّ تخلّف الشرط أو تعذّره أو فساده لا يوجب بطلان العقد، بل يقع صحيحاً، غاية الأمر غير لازم، فينكشف من ذلك أنّ المعاقدة واقعة على الفاقد للشرط، وعليه فالقبول بلا شرط مطابقٌ للإيجاب.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الشرط لو كان قيداً للمعاملة، لزم بطلانها عند تخلّفه، فالقول بأنّ تخلّفه لا يوجبُ البطلان، يكون مبتنياً على كونه التزاماً في ضمن التزام، بالمعنى الذي سيأتي تحقيقه في محلّه، وعليه فالالتزام البيعي غير معلّق على شيء، فالقبول بلا شرط مطابقٌ للإيجاب، ولعلّه إلى هذا يرجع ما ذكره بعضهم(3) من أنّ فساد الشرط إذا لم يخلّ بصحّة العقد، فعدم قبول المشتري للشرط الذي تضمّنه الإيجاب أولى بعدم الانحلال.

وأمّا الثاني: فصريح المحقّقين(4) المتقدّم ذكرهما أيضاً البطلان لعدم التطابق،7.

ص: 48


1- المكاسب: ج 3/175.
2- منية الطالب: ج 1/257.
3- تعليقات على المكاسب: ج 1/423.
4- المكاسب: ج 3/175-176، منية الطالب: ج 1/257.

ولكن الظاهر الصحّة والتطابق، وذلك لأنّ البيع لشخصين ينحلّ إلى بيعين حقيقة، كما يدلّ عليه إفتاء الفقهاء بالصحّة وعدم البطلان، فيما لو قبلا وفَسَخ أحدهما البيع في المجلس بالقياس إلى غير الفاسخ، فإذا كان هناك بيعان، فالمطابقة بين أحد البيعين والقبول متحقّقة، فلا وجه للبطلان، بل غاية ما هناك ثبوت الخيار للبائع كما لا يخفى .

أقول: وبما ذكرناه ظهر الحال في الثالث، فإنّ الأظهر الصحّة لعين ما ذكرناه في سابقه.

وما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1) في المقام: من أنّه لا يفيد لصحّة العقد المختَلف فيه من حيث الإنشاء ثبوت خيار تبعّض الصفقة الذي هو أثر العقد الصحيح، لأنّه لابدّ أوّلاً من صحّة العقد باتّحاد المُنشَأ، ثمّ إثبات الخيار فيه، فما يترتّب على الصحّة لا يمكن أنْ يكون منشأ الصحّة.

يرد عليه: أنّ المُثبِت للصحّة هو الاتّحاد بالتقريب المتقدّم، لا ثبوت الخيار.

فلاحظ وتدبّر.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ اعتبار المطابقة بين الإيجاب والقبول ممّا لا ينبغي إنكاره، إلّاأنّ جملة من الموارد التي ذكرها الشيخ، رحمه الله من موارد عدم المطابقة ليست منها، بل التطابق فيها متحقّق، وعليك بالتأمّل في كلّ موردٍ ثُمّ الحكم بالصحّة أو الفساد من جهة وجود التطابق وعدمه.

***7.

ص: 49


1- منية الطالب: ج 1/257.

أهليّة العاقد

المسألة السابعة: ويدور البحث فيها عن أنّ من جملة الشروط في العقد أن يقع كلّ من إيجاب العاقد وقبول المشتري في حالٍ يجوز لكلّ منهما الإنشاء، بلا خلافٍ فيه في الجملة، بل الظاهر أنّه متّفق عليه.

أقول: وتنقيح القول فيه يتحقّق بالبحث في موضعين:

الأوّل: في عدم الأهليّة المانع عن تحقّق التعاهد والتعاقد.

الثاني: في عدم الأهليّة الموجب لعدم كون العقد صادراً عن رضا معتبر.

أمّا الموضع الأوّل: ففيه أقوال:

القول الأوّل: ما اختاره الشيخ رحمه الله(1)، والمحقّق النائيني رحمه الله(2)، من اعتبار امتلاك كلّ منهما لجميع القيود المعتبرة في تحقّقه حال إنشاء الآخر.

القول الثاني: عدم اعتبارها فيهما، وهو الذي اختاره المحقّق الايرواني رحمه الله(3).

القول الثالث: اعتبار واجديّة القابل لها في حال الإيجاب، وعدم اعتبارها بالنسبة إلى الموجب، ذهب إليه السيّد رحمه الله(4) في بعض الفروض.

القول الرابع: عكس ذلك.

أقول: تنقيح القول في المقام يقتضي البحث في موارد:

ص: 50


1- المكاسب: ج 3/177.
2- منية الطالب: ج 1/257.
3- تعليقات على المكاسب: ج 1/426.
4- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/92.

الأوّل: في الإيجاب.

الثاني: في القبول.

الثالث: فيما بينهما.

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ لاعتبار امتلاك القابل لتلك القيود بأنّ المعاقدة والمعاهدة لا تتحقّق بدونها، هذا ما أفاده الشيخ رحمه الله في «المكاسب»(1)، وأيّده المحقّق الاصفهاني رحمه الله(2) بقوله إنّ مناط المعاهدة مع الغير يقتضي كونهما معاً كذلك في حال الإيجاب والقبول، إذ معيّة المتعاقدين إنّما هي معيّة شاعر ملتفت إلى ما يلتزم للغير ويلتزم الغير له، وإلّا فلا ينقدح القصد الجدّي في نفس العاقل إلى المعاهدة، مع من هو كالجدار أو كالحمار، وعلمه بالتفاته فيما بعد لا يصحّح المعاهدة معه فعلاً.

وفيه أوّلاً: إنّ عنوان العقد إنّما ينطبق على الالتزامين الواردين على مورد واحد، وليس منطبقاً على الإيجاب خاصّة، وإنّما شأن الموجب هو الالتزام النفساني وإبرازه، وهو إنّما يكون باقياً ما لم يرفع اليد عنه، فإذا كان باقياً إلى حين القبول، والتزم القابل الأهل لذلك حين القبول، فقد ارتبط الالتزامان لا محالة، وتحقّق عنوان العقد.

ودعوى : عدم تحقّق الالتزام في نفس الموجب بالنسبة إلى من هو كالجدار.

ممنوعة: لأنّ العاقل الملتفت إلى مالكيّة من يفرض كالجدار، كيف لا ينقدح في نفسه القصد الجدّي.

وثانياً: إنّه لا ينحصر دليل النفوذ ب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» .3.

ص: 51


1- المكاسب: ج 3/177.
2- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/293.

أقول: فالأولى أن يُستدلّ له بأنّه بعدما لاريب في أنّه يعتبر في ترتيب العقلاء والشارع الأثر على الالتزام النفساني، أن يظهره لمن هو طرفه في المعاملة، فإذا كان الطرف غير قابل للتخاطب عُدّ الإظهار له كلّا إظهار، فلأجل ذلك تعتبر قابليّة القابل للتخاطب حال الإيجاب. فتدبّر فإنّه دقيق.

وأمّا المورد الثاني: فيشهد لاعتبار واجديّة الموجب لتلك القيود حال القبول الوجه المشار إليه، ويمكن أنْ يقال في هذا المورد بأنّه بما أنّه في حال القبول يتمّ العقد، ويخرج المال عن ملك كلّ منهما، فلابدّ وأنْ يكون الموجب أيضاً ممّن يكون أهلاً لذلك، كي يترتّب الأثر على التزامه النفساني.

ودعواه: في بيان وجه عدم تحقّق المعاقدة والمعاهدة، من جهة انتفاء الالتزام النفساني بالإغماء والجنون مثلاً، فليس هناك التزام من الموجب كي يرتبطبالتزام القابل.

فيرد عليها: أنّ الالتزامات النفسانيّة لا تزول بذلك، ولذا لا شكّ لأحدٍ في أنّ العهود والالتزامات لا تبطل بالموت، فضلاً عن النوم والإغماء، ولا فرق بين الموت قبل لحوق القبول وبعده، إذ ضمّ التزامٍ آخر إليها لا يوجبُ بقائها إنْ كانت تزول بالموت.

أقول: وبما ذكرناه ظهر الحال في المورد الثالث، وأنّه لا يعتبر الأهليّة بينهما كما لا يخفى .

وأمّا الموضع الثاني: ففيه أيضاً أقوال، وملخّص القول فيه:

إنّه قد استدلّ الشيخ رحمه الله(1) لاعتبار واجديّة كلّ منهما لتلك القيود في حال إنشاء3.

ص: 52


1- المكاسب: ج 3/183.

الآخر، بعدم تحقّق معنى المعاقدة والمعاهدة حينئذٍ، ولعلّ نظره الشريف إلى ما أفاده بعض المحقّقين(1) بأنّ رضاهما بعد إنْ كان في نظر الشارع الأقدس كلّا رضا، والمفروض أنّ رضاهما ممّا يعتبر في تحقّق مفهوم التعاهد، لا جرم كان تعاهدهما في نظره كالعدم، فلا يكون عقدهما عقداً معتبراً شرعيّاً.

وفيه: إنّ حقيقة العقد هي ربط الالتزامين الواردين على مورد واحد - سواءٌ أكان ذلك مع رضاهما بذلك أو بدونه - فالرضا بالعقد لا يعتبر في تحقّقه، وعدمه لا يخلّ به، من غير فرق بين عدم الرضا أصلاً أو عدم الاعتبار به شرعاً، وإنّما هو شرطٌ في تأثير إنشاء كلّ منهما نفسه، فاعتبار رضا كلّ منهما حال إنشاء الآخر ممّا لا أصل له، ولأجل ذلك نلتزم بأنّ صحّة عقد المكره إذا لحقه الرضا إنّما تكون على القاعدة، مع أنّه لو سُلّم توقّف تحقّق العقد على الرضا، إلّاأنّ دليل الصحّة لا ينحصر ب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» كما تقدّم.

اختلاف المتعاقدين في شروط الصيغة

فرع: لو اختلف المتعاقدان اجتهاداً أو تقليداً في شروط الصيغة:

فهل يجوز لكلّ واحدٍ منهما أن يكتفي بما يقتضيه مذهبه، أم لا؟

أم يجوز ذلك إلّافي صورة كون العقد المركّب منهما ممّا لا قائل بكونه سبباً للنقل ؟ كما لو فرضنا أنّه لا قائل بصحّة العقد بالفارسي، مع تقديم القبول على الإيجاب، وكان العقد بالفارسي صحيحاً عند أحدهما، وتقديم القبول جائزاً عند

ص: 53


1- منهاج الفقاهة: ج 3/248.

الآخر، فأوقعا العقد كذلك ؟ وجوهٌ :

أقول: تنقيح القول في المقام يقتضي البحث في موارد:

الأوّل: في القيود التي ينحصر دليلها بالإجماع.

الثاني: في ما لدليل اعتباره إطلاق، مع عدم سراية إحدى الصفات إلى فعل الآخر.

الثالث: في ما لدليل اعتباره إطلاقٌ مع السراية.

أمّا المورد الأوّل: فالظاهر صحّة العقد، كما هو مقتضى العمومات والمطلقات، والمتيقّن من الإجماع على اعتبار ذلك القيد - كالعربيّة مثلاً - هو غير المقام الصادر فيه الإيجاب والقبول عن اعتقاد كلّ منهما صحّة ما أنشأه، والمرجع فيه إلى العمومات المقتضية للصحّة.

وأمّا المورد الثاني: ففيه أقوال:

القول الأوّل: الصحّة مطلقاً.

القول الثاني: عدم الصحّة كذلك.

القول الثالث: التفصيل بين كون العقد فاسداً في نظر الجميع، بحيث لا قائل بصحّته، كما لو فرضنا أنّه لا قائل بنفوذ العقد الفارسي المقدّم إيجابه على قبوله فعدم الصحّة، وبين غيره فالصحّة.

أقول: ابتنى الشيخ الأعظم رحمه الله(1) الأولين على:

أنّ الأحكام الظاهريّة المجتهد فيها بمنزلة الواقعيّة الاضطراريّة، فالإيجاب8.

ص: 54


1- المكاسب: ج 3/178.

بالفارسي من المجتهد القائل بصحّته عند من يراه باطلاً، بمنزلة إشارة الأخرس ؟

أم هي أحكام ظاهريّة لا يُعذر فيها إلّامن اجتهد او قلّد فيها؟

وأورد عليه بوجهين:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله(1) من أنّ مجرّد كونه حكماً واقعيّاً وبمنزلته لا يكفي في الحكم بالصحّة، بل لابدّ وأن يقيّد بما إذا كان كذلك حتّى في حقّ الغير الذي له مساسٌ بالعقد، فلو كان حكماً واقعيّاً في حقّ المُنشئ خاصّة، لم يكن ذلك مجدياً في الحكم بالصحّة بالإضافة إلى غيره.

وفيه: بما أنّ الملكيّة من الأحكام المجعولة الوضعيّة، ومن الاعتباريّات لا من الأُمور الواقعيّة، فإذا فرضنا أنّ الإيجاب بالفارسي وإنْ كان عند القابل ممّا لا مصلحة في نفسه في جعل الملكيّة بعده، إلّا أنّه من جهة قيام الأمارة عند الموجب تحدث فيه مصلحة بهذا العنوان مقتضية لذلك، فلا محالة للآخر القابل ترتيب الأثر، لعدم كشفه عمّا يخالفه، كما لا معنى للقول بأنّ المصلحة إنّما هي في حقّ الموجب خاصّة، وعليه فالملكيّة المجعولة إنّما تكون له خاصّة. فتدبّر فإنّه دقيق.

الوجه الثاني: ما أفاده السيّد في الحاشية(2) وتبعه بعض مشايخنا المحقّقين رحمه الله، من أنّ ما ذُكر على القول بكون الأحكام الظاهريّة بمنزلة الواقعيّة إنّما يتمّ بالنسبة إلى ما لو كان الحكم المجتهد فيه مع متعلّقه موضوعاً لحكم الآخر، كما لو كان رأيه جواز النكاح بالفارسي فزوّج امرأة بالعقد الفارسي، فإنّه يكون العقد صحيحاً عنده، فلا يجوز لغيره الذي يرى اعتبار العربيّة تزويج تلك المرأة، ولا ينفع بالنسبة3.

ص: 55


1- ظاهر حاشية المكاسب للآخوند: ص 29، راجع حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/295.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/93.

إلى ما إذا كان المتعلّق معروضاً لحكمه ولحكم غيره في عرض واحد، كما لو ذكّى الذَّبح بغير الحديد، فإنّه لا يجوز لمَن يرى اعتبار وقوعها بالحديد الأكل من تلك الذبيحة، والسرّ فيه أنّ ذلك بعنوانه المجتهد فيه ليس موضوعاً لحكم غيره، فلا يجوز لغيره المخالف له في الرأي الأكل منه.

وما نحن فيه من قبيل الثاني، لأنّ البيع فعلٌ واحد يشارك فيه طرفي العقد، بمعنى أنّه قائمٌ بطرفين، ويجب على كلٍّ من المتبايعين إيجاد عقد البيع، ولا يجوز لواحدٍ منهما التصرّف في الثمن والمثمن إلّابعد ذلك.

وبالجملة: الصحّة لأحد الطرفين ليست موضوعة لحكم الطرف الآخر، بل لابدّ من إحراز كلّ منهما صحّة مجموع السبب.

وفيه: إنّ هذا ثابتٌ في الصحّة الفعليّة، وأمّا الصحّة التأهليّة فهي إنّما تكون لكلّ من الإيجاب والقبول مستقلّاً، وهي في الإيجاب مثلاً تكون موضوعة لحكم القابل.

فتدبّر، وعليه فما أفاده الشيخ رحمه الله متين لا غبار عليه.

وأمّا المورد الثالث: فقد أفاد الشيخ رحمه الله(1) بأنّ العقد باطلٌ حتّى على القول بكون الأحكام الظاهريّة بمنزلة الواقعيّة الاضطراريّة.

أقول: والفرق بينه وبين المورد الثاني أنّه في ذلك المورد لا يوجب سراية تلك الصفة إلى فعل الآخر، والمفروض صحّته من المعتقد في نظر الاخر، وهذا بخلاف هذا المورد، فإنّ تلك الصفة تسري إلى فعل الآخر إذا أنشأ الموجب العقد معلّقاً، والقابل إن قبل مطلقاً لزم عدم التطابق بين الإيجاب والقبول، وإنْ قبل معلّقاً كان9.

ص: 56


1- المكاسب: ج 3/179.

فعله في نظره فاقداً للوصف المعتبر في العقد، فيوجب ذلك الفساد من هذه الجهة لا من جهة فساد فعل طرفه.

وملخَّص القول: إنّ فساد أحد الجزئين لا يسري إلى الآخر على هذا المسلك، ولكن منشأ الفساد يسري إليه ويوجب ذلك فساده.

***

ص: 57

وإنّما يصحّ العقدُ إذا صَدَر عن مكلّف.

المقصد الرابع شرائط المتعاقدين

اشارة

أقول: الشروط التي يجب توفّرها في المتعاقدين هي البلوغ، والعقل، والقصد، والاختيار، (و) قول المصنّف رحمه الله (إنّما يصحّ العقد إذا صَدَر عن مكلّف) إشارة إلى جميع ذلك، وتنقيح القول عنها يتحقّق بالبحث في مسائل:

المسألة الأُولى: المشهوركماعن «الدروس»(1)، و «الكفاية»(2) بطلان عقدالصبي.

أقول: معاملة الصبي تتصوّر على وجوه:

الوجه الأوّل: كونه مستقلّاً فيها سواءٌ أكان ذلك في أمواله أو في أموال غيره، وسواءٌ أذن له الولي أم لم يأذن.

الوجه الثاني: ما إذا إذن الولي مع كون المعاملة مستندة إليه، ويكون الصَّبي من قبيل الوكيل المفوض.

الوجه الثالث: كونه آلة محضة، بمعنى كون المعاملة معاملة الولي إن كانت في أمواله، ومعاملة الموكّل إنْ كانت في أموال غيره، ويكون الصبي مُنشئاً فقط.

ومرجع منعه عن التصرّف على النحو الأخير إلى كون قصده للإنشاء كلّا قصد، ومن قبيل بيع الهازل والنائم.

ص: 58


1- الدروس: ج 3/192.
2- كفاية الأحكام: ص 89.

بيان محلّ البحث: إنّ محلّ الكلام هو الصبي المميّز، وأمّا غير المميّز فلا إشكال في بطلان معاملاته حتّى بالنحو الأخير، لعدم قصده لمدلول العقد، والشيخ الأعظم رحمه الله(1) استظهر من عبارة «التذكرة»(2) دعوى الإجماع على بطلان عقده بالنحو الأخير أيضاً، ومورد استظهاره منها استثنائه إيصال الهديّة، وإذنه في دخول الدار من التصرّفات التي ادّعى الإجماع على محجوريّته فيها، مع أنّهما ليسا من التصرّفات القوليّة أو الفعليّة، فاستكشف من ذلك شمول المستثنى منه لمطلق أفعاله.

ويرد عليه قدس سره: إنّ عدم حجيّة فعله في الأوّل، وقوله في الثاني في حكايتهما بالتصرّف في مال الغير بأخذ الهديّة والدخول في الدار، لا يقتضي عدم العبرة بقصده للإنشاء، لرجوع ذلك إلى عدم تصديق قول الصبي كالفاسق، فاستثنائهما لا يكشف عن شمول المستثنى منه لمطلق أفعاله.

وبعبارة أُخرى: استثنائه إيّاهما من كون الصبي محجوراً عليه شرعاً، يقتضي حمل كلامه؛ على إرادة الإيصال والإذن - اللّذين هما من التصرّفات الشرعيّة - لا الآليّة المحضة، فلا مناص عن حملهما على إرادة كونهما فعل الوكيل أو قوله الكاشفين عن إهداء المالك وإذنه في الدخول، ولا كلام في أنّ هذا التصرّف تصرّفٌ استقلالي للصبي، وليسا من قبيل إجراء الصيغة، وعلى هذا فثبوت الشهرة والإجماع على بطلان عقده بالمعنى الأخير محلّ نظر، بل منع.

أقول: وكيف كان، فلابدّ من التكلّم في الأدلّة، والكلام فيها يقع في مقامين.

الأوّل: في أدلّة المنع.3.

ص: 59


1- المكاسب: ج 3/275.
2- تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 2/73.

الثاني: في أدلّة الجواز.

أمّا الأوّل: فقد استدلّ له بأُمور:

الأمر الأوّل: قوله تعالى : «وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » (1).

وتقريب الاستدلال بها على المنع: أنّ الظاهر من الآية الشريفة من جهة جعل البلوغ غاية الابتلاء والامتحان، وغير ذلك من القرائن، كون جواز الدفع مشروطاً بشرطين، هما البلوغ والرشد، فمفهومها عدم جواز الدفع مع السفاهة أو الصباوة، وليس ذلك إلّامن جهة حجره في تصرّفاته، بل المراد من عدم الدفع هو ذلك.

فإنْ قلت: إنّ ظاهر الآية الشريفة من جهة الأمر بالدفع تدلّ على وجوب الدفع بعد البلوغ والرشد، فمفهومها عدم الوجوب قبل ذلك، وهذا يلائم مع الجواز، فلا تدلّ الآية على عدم الجواز.

قلت أوّلاً: إنّه لو جاز الدفع لوجب، لعدم جواز إمساك مال الغير، فمفهومها عدم جواز الدفع قبل ذلك، ووجوب حفظ أمواله، وعدم ردّه إليه.

وثانياً: إنّ هذا الأمر لوروده مورد الحظر والمنع، لا يستفاد منه الوجوب.

وبالجملة: فدلالة الآية الشريفة على محجوريّة الصبي في الجملة لا كلام فيها، إنّما الإشكال في أنّها:

1 - هل تدلّ على المنع عن التصرّفات مستقلّاً بالمعنى الأوّل خاصّة ؟

2 - أم تدلّ على المنع عنها بالمعنى الثاني ؟6.

ص: 60


1- سورة النساء: الآية 6.

3 - أم تدلّ على إلغاء تصرّفه بالمرّة ؟

الظاهر هو الوسط، فإنّ الآية من جهة توجيه الخطاب فيها إلى الولي، وتضمّنها المنع عن الدفع قبل البلوغ، تدلّ على عدم استقلال الصبي في معاملاته في أمواله، وإن أذن له الولي، ولكنّها لا تدلّ على جعل إنشائه كلّا إنشاء، مع عدم كون التصرّف تصرّفاً له، بل من تصرّفات وليّه، وكون البيع بيعه مثلاً، وعليه فالآية تدلّ على عدم نفوذ ما يعدّ تصرّفاً له ولو مع إذن الولي، وهي وإنْ اختصّت بأمواله، إلّا أنّه يكفي في منعه عن التصرّفات في مال غيره عدم القول بالفصل.

الأمر الثاني: حديث رفع القلم عن الصبي، الذي رواه الشيخ الصدوق في «الخصال» عن ابن الضبيان، عن أمير المؤمنين عليه السلام في سقوط الرجم عن الصبي:

«أما علمت أنّ القلم يرفع عن ثلاثة: عن الصبي حتّى يحتلم... الحديث»(1).

وأيضاً: روي عن «قرب الإسناد» عن علي عليه السلام في سقوط القصاص والدية في ماله: «وقد رُفع عنهما القلم»(2).

وأيضاً: في موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الغلام متى يجب عليه الصلاة ؟ قال عليه السلام: إذا أتى عليه ثلاث عشر سنة، فإنْ احتلم قبل ذلك فقد وجبت عليه الصلاة وجرى عليه القلم... الحديث»(3).

ونحوها غيرها.2.

ص: 61


1- وسائل الشيعة: ج 1/45 ب 4 من أبواب مقدّمة العبادات ح 11 رقم 81، وراجع الخصال: ص 93-94 ح 40.
2- وسائل الشيعة: ج 29/90 ب 36 من أبواب القصاص في النفس ح 2 رقم 35225، قرب الاسناد: ص 155 ح 569.
3- وسائل الشيعة: ج 1/45 ب 4 من أبواب مقدّمة العبادات ح 12 رقم 82، الاستبصار: ج 1/408 ب 247 ح 2.

وأيضاً: قول الشيخ رحمه الله في «المبسوط» في مسألة الإقرار(1): (إنّ مقتضى رفع القلم أنْ لا يكون لكلامه حكم).

أقول: وأورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما في «المكاسب»(2) من أنّ الظاهر منه قلم المؤاخذة لا قلم جعل الأحكام.

وفيه أوّلاً: إنّه لا شاهد لهذا الحمل، بل الظاهر منه قلم جعل الأحكام، ولا أقلّ من الإطلاق.

وثانياً: إنّ مورد بعض هذه النصوص القصاص وثبوت الدية، وهما ليسا من قبيل المؤاخذة على مخالفة التكليف، بل من قبيل الحكم الوضعي.

وثالثاً: إنّ المراد لو كان رفع فعليّة المؤاخذة مع ثبوت الاستحقاق، ليكون مقتضاه العفو، كان ذلك ممّا يقطع بخلافه، وإنْ كان المراد رفع الاستحقاق، فهو لا يصحّ إلّامع رفع الحكم الذي هو منشأ هذا الحكم العقلي.

الإيراد الثاني: ما في «المكاسب»(3) أيضاً، من أنّ المشهور على الألسنة أنّ الأحكام الوضعيّة ليست مختصّة بالبالغين، فلا مانع من كون عَقده سبباً فعليّاً للوجوب التعليقي - أي وجوب الوفاء بعد البلوغ - ويكون هذا الوجوب منشأ انتزاع الوضع، لعدم اختصاص منشأه بالوجوب الفعلي المنجّز.

وفيه: المشهور إنّما هو ثبوت الوضع في حقّه في الجملة، في قبال عدم ثبوت التكليف اللّزومي بقول مطلق، لا ثبوت الأحكام الوضعيّة في حقّه مطلقاً، كيف8.

ص: 62


1- المبسوط: ج 3/3. (2و3) المكاسب: ج 3/278.

وقد اشتهر بينهم بطلان عقد الصبي.

الإيراد الثالث: ما في «المكاسب»(1) أيضاً، من أنّه لو سَلّمنا اختصاص الأحكام الوضعيّة أيضاً بالبالغين، لكن لا مانع من كونه جزء السبب للملكيّة بعد البلوغ، بأن يكون الجزء الآخر البلوغ، ومع ذلك ليس للطرف الآخر نقض العقد، لكون العقد موضوعاً لوجوب الوفاء، وإنْ لم يؤثّر في الملكيّة، كما في معاملة الفضولي مع الأصيل، وبالتالي فإنّه يجب على الثاني الوفاء بالعقد مع عدم حصول الملكيّة.

أقول: وبهذا البيان اندفع ما أورده المحقّق النائيني رحمه الله(2) عليه بأنّه لا يمكن التفكيك في الآثار بين البالغ وغيره، إذ لو أفاد عقد الصبي الملكيّة فلا يمكن أن لا يؤثّر فعلاً ويصير ذا أثرٍ بعد البلوغ.

وفيه: إنّه بعد الالتزام باختصاص الأحكام الوضعيّة بالبالغين، لا سبيل إلى الالتزام بكون عقده جزء المؤثّر.

الإيراد الرابع: ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(3)، من أنّ المراد بالقلم لو كان قلم التكليف، كان المراد خصوص التكاليف الإلزاميّة، وذلك بقرينة الرفع، فإنّ المناسب لمادّة الرفع، هو رفع مافي حمله كُلفة وثقل ومشقّة، وليس ذلك إلّا في الأحكام اللّزوميّة.

وفيه: إنّه يصحّ إسناد الرفع إلى كلّ ما يصحّ إسناد الوضع إليه، لأنّهما متقابلان، فلا وجه للاختصاص ببعض الأحكام.

الإيراد الخامس: ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(4) أيضاً، من أنّ تأثير الإنشاء في حصول عنوانه المُنشَأ كالبيع تأثيرٌ تكويني في أمر اعتباري، فيكون كتأثير سيفه7.

ص: 63


1- المكاسب: ج 3/278.
2- منية الطالب: ج 1/360. (3و4) تعليقات على المكاسب: ج 2/16 و 17.

في القطع، وهذا لا يرفعه حديث الرفع، وأمّا رفع الآثار الشرعيّة المترتّبة شرعاً على ذلك العنوان المتولّد على أن لا يكون البيع الحاصل بإنشائه محكوماً بأحكام البيع، فذلك من البشاعة يساوق القول بعدم ترتّب آثار الموت على من مات بسيفه، ومعلومٌ بالقطع أنّ حديث الرفع لا يرفع إلّاأحكاماً مترتّبة بلا واسطة على فعل الصغير، لا أحكاماً مترتّبة عليه حتّى مع الواسطة.

وفيه: إنّ تأثير الإنشاء في حصول العنوان ليس تكوينيّاً، بل هو جعلي، غاية الأمر حصوله في نظر الشارع متوقّف على القيود الشرعيّة، وإنْ كان حصوله في نظر العاقد غير متوقّف عليه.

وبالجملة: قد مرّ في أوّل مباحث كتاب البيع(1)، أنّ في البيع مثلاً يعتبر في البائع والمشتري إثباتهما الملكيّة، ويتحقّق ذلك في اعتبارهما، ثمّ إنْ كانت المعاملة واجدة للقيود المعتبرة عند العقلاء فيه، اعتبر العقلاء ذلك أيضاً، وإلّا فلا، وكذلك بالإضافة إلى الشارع، فلو كان البلوغ من تلك القيود بنظره الأقدس لا تعتبر الملكيّة، ولا يكون العنوان متحقّقاً في اعتباره، وهذا لا يستلزم شيئاً من المحاذير المتقدّمة.

أمّا المحقّق النائيني رحمه الله(2): فقد اختار دلالته على بطلان عقد الصبي حتّى بالمعنى الثالث، بدعوى أنّه يدلّ على كون الصبي مسلوب العبارة، فإنّ الظاهر من قوله عليه السلام: «رفع القلم عنه» ما هو المتعارف بين الناس، والدائر على ألسنتهم من أنّ فلاناً رفع القلم عنه، وأنّه لا حَرَج عليه، وأنّ أعماله وتصرّفاته كأعمال المجانين وتصرّفاتهم، فهذه الكلمة كناية عن أنّ لعمله اعتبار وقيمة وأنّه كالعدم، ورفع عنه ما جرى عليه القلم، فلا ينفذ فعله، ولا يمضي قوله، ولا يمكن نسبة ما صدر عنه إليه.9.

ص: 64


1- فقه الصادق: ج 22/236 وما بعدها.
2- منية الطالب: ج 1/359.

أقول: إنّه يدلّ على رفع قلم الوضع والتكليف عن الصبي، ولازم ذلك بطلان عقده بالمعنيين الأولين دون الثالث، فإنّ العقد الصادر من الصبي بإذن الولي له نسبتان: نسبة إلى الصبي، ونسبة إلى الولي، غاية الأمر نسبته إليه إنّما تكون بالتسبيب، ولا منافاة بين عدم نفوذ ما هو عقد الصبي بالمباشرة، ونفوذ ما هو عقد الولي، إذ القلم رفع عن الصبي لا عن الولي.

هذا على فرض تسليم صدق كون العقد والبيع عقد الصبي مع كونه مجري الصيغة خاصّة، وكون طرف المعاملة عند العرف هو الولي، وإلّا فعدم دلالته على سلب عبارته أوضح.

الأمر الثالث: النصوص الدالّة بالمنطوق والمفهوم على عدم جواز أمر الصبي في البيع والشراء(1).

وتقريب الاستدلال بها: أنّها بالإطلاق تدلّ على عدم نفوذ بيعه وشرائه حتّى مع إذن الولي، فتدلّ على البطلان حتّى بالمعنى الأخير.

وأورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله(2): بأنّها في مقام بيان أنّ الاحتلام شرط في نفوذ أمر الصبي، وليست في مقام بيان عدم نفوذ أمره قبله، ولو مع إذن الولي.

وفيه: إنّ منطوق بعض تلك النصوص يدلّ على عدم نفوذ أمره قبله، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين إذن الولي وعدمه.

والحقّ أنْ يقال: إنّ دلالتها على بطلان عقد الصبي بالمعنيين الأولين لا تُنكر، إلّا9.

ص: 65


1- وسائل الشيعة: ج 17/360-361 ب 14 من أبواب عقد البيع وشروطه، وج 18/410-412 ب 2 من أبواب كتاب الحجر.
2- منية الطالب: ج 1/359.

أنّها لا تدلّ على البطلان بالمعنى الأخير، إذ لو كان الصبي مجري الصيغة خاصّة، لم يكن يستند البيع والشراء إليه، وعلى هذا بنوا عدم ثبوت خيار المجلس لمُجري الصيغة ومنشئها، لعدم صدق البيع عليه، فالبيع إنّما يكون بيع الولي أو الموكّل، والأمر أمره، ومجرّد الصيغة لا تكون موضوع النفوذ وعدمه.

ولو تنزّلنا عن ذلك، فلا أقلّ من أنّ مثل هذا البيع له نسبتان: نسبةٌ إلى الصبي، ونسبةٌ إلى الوليّ أو الموكل، فلا مانع من نفوذه ومضيّه بالاعتبار الثاني كما تقدّم.

وقد يقال: إنّ قوله عليه السلام في بعض تلك الأخبار: «إلّا أنْ يكون سفيهاً» يشهد بعدم إرادة كون الصبي مسلوب العبارة من تلك النصوص.

وجه الشهادة: أنّ السفيه ليس مسلوب العبارة، فمن استثنائه يعلم أنّ المراد عدم استقلاله في التصرّف.

وفيه: إنّه لو كان مفاد هذه الأخبار - بحسب ظواهرها - عدم نفوذ أمر الصبي ولو في إجراء الصيغة خاصّة، لم يكن هذا الاستثناء ينافيه، بل غاية ما هناك كنّا نقول إنّ هذه الأخبار تدلّ بالإطلاق على كونه أيضاً مسلوب العبارة، إلّاأنّ الدليل دلَّ على خلاف ذلك، فلا يحكم بكونه مسلوب العبارة لدليل آخر لو كان، وإلّا فلا مانع من الالتزام بكونه مسلوب العبارة أيضاً.

الأمر الرابع: النصوص المتضمّنة على أنّ عمد الصبي خطأ، كصحيح محمّد بن مسلم، عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال: «عمد الصبي وخطأه واحد»(1).3.

ص: 66


1- وسائل الشيعة: ج 29/400 ب 11 من أبواب العاقلة من كتاب الديات ح 2 رقم 35859، التهذيب: ج 10/233 ح 53.

وتقريب الاستدلال بها: أنّها تدلّ على أنّ الأحكام المترتّبة على الأفعال مع القصد والعمد، لا تترتّب على أفعال الصبي، وأنّ أعماله عن قصدٍ كالأعمال الصادرة عن غيره بلا قصد، فعقده كعقد الهازل والنائم.

أقول: يقع الكلام في جهتين:

الجهة الأُولى : في أنّه مدلول الأخبار هل هي أنّ قصدالصبي كلّا قصد، أم تدلّ على أنّ عمده - أي الفعل الصادر عن عمد - خطأ، أي حكمه حكم الفعل الصادر خطاءً؟

ظاهر الأخبار بل صريحها هو الثاني، فضلاً عن أنّ حملها على الأوّل مستلزمٌ لتخصيص الأكثر، إذ لازمه صحّة صلاته لو تعمّد التكلّم، وإيجاد غيره من الموانع، وصحّة صومه لو أكل من الصبح إلى الغروب، وأنّه لو حاز شيئاً لا يملكه وجاز أخذه منه، وغير ذلك من الأحكام التى لا مناص عن الالتزام بخروجها عنها بناءً على هذا المعنى.

الجهة الثانية: في أنّه على المعنى المختار هل تعمّ النصوص باب المعاملات، أم تختصّ بباب الجنايات ؟

وجهان أقواهما الثاني، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ العمد والخطأ إنّما يتصوّران في الأُمور التي لها واقع محفوظ، وذلك الأمر تارةً يترتّب على سببه قهراً، وأُخرى عن قصد، والاُمور المتوقّف تحقّقها على القصد كالعقود والإيقاعات حيث أنّها لا تتحقّق بدون القصد، فلا يتصوّر فيها الخطأ، إذ لو قصدها تقع وإلّا فلا لا أنّها تقع خطأ.

الوجه الثاني: إنّ تنزيل شيءٍ منزله آخر إنّما يصحّ إذا كان للمنزّل عليه أثرٌ

ص: 67

ليكون التنزيل بلحاظه، كما في القتل، فإنّ أثر الخطأ منه كون الدية على العاقلة، وأمّا ما لا حكم لخطأه - كباب المعاملات على فرض تسليم وقوع الخطأ فيها - فلا يصحّ فيه هذا التنزيل.

وبعبارة أُخرى: إنّها تدلّ على وحدة حكم عمد الصبي وخطأه، وهذا إنّما يصحّ فيما كان لكلّ منهما حكمٌ يخصّه، فاُريد بهذه العبارة إفادة الاتّحاد في خصوص الصبي، ومعلوم أنّ تعدّد حكم العمد والخطأ واختلافهما في الحكم إنّما يكون في خصوص باب الجنايات.

أقول: ذكر السيّد قدس سره في الحاشية(1) وجهين آخرين لاختصاص النصوص بباب الجنايات، وهما:

الوجه الثالث: المذكور في ذيل بعض(2) تلك النصوص قوله عليه السلام: «تحمله العاقلة»، أو «جُعل الدية على قومه» ولا ريب في أنّ مثل هذه النصوص مختصّة بباب الجنايات، وهي تكون قرينة على غيرها.

وفيه: إنّه لا وجه لحمل المطلق في المقام على المقيّد، لكونهما مثبتين.

الوجه الرابع: إنّ النصوص غير المذيّلة بما ذُكر، إنّما تكون مطلقة لا عامّة، والقدر المتيقّن منها باب الجنايات.

وفيه: إنّ المتيقّن لايمنع عن التمسّك بالإطلاق، فالصحيح ما ذكرناه.

أقول: ثمّ إنّ الشيخ رحمه الله بعدما أشكل على دلالة حديث رفع القلم على بطلان4.

ص: 68


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/114.
2- وسائل الشيعة: ج 29/400-401 ب 11 من أبواب العاقلة ح 3 و 5 رقم 35860 و 35862، وج 29/90 ب 36 من أبواب القصاص في النفس، التهذيب: ج 10/232 ح 49، و ص 233 ح 54.

عقد الصبي، قال(1):

(بل يمكن بملاحظة بعض ما ورد من هذه الأخبار في قتل المجنون والصبي، استظهار المطلب من حديث رفع القلم، وهو ما عن «قُرب الإسناد» بسنده عن أبي البُختري، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ عليهم السلام أنّه كان يقول:

«في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق، والصبي الذي لم يبلغ، عمدهما خطأ تحمله العاقلة، وقد رُفع عنهما القلم»(2).

تقريب استظهار المطلب منه: إنّ قوله عليه السلام: «وقد رُفع عنهما القلم» لا توجيه لذكره إلّاكونه علّة للحكم - وهو ثبوت الدية على العاقلة - أو معلولاً لقوله عليه السلام:

«عمدهما خطأ»، وعلى أي تقديرٍ يدلّ على أنّ قصد الصبي كلّا قصد، فإنّه يدلّ حينئذٍ على عدم اختصاص الرفع بالمؤاخذة، وأنّه عام لكلّ ما التزم على نفسه من المال بإقرار أو معاوضة، ويدلّ أنّه لا أثر له في إلزامه بالمال ومؤاخذته به بعد البلوغ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين إذن الولي وعدمه، وعدم ترتّب الأثر على التزامه حتّى مع إذن الولي لا يكون إلّالسلب قصده، وعدم العبرة بإنشائه.

ويرد عليه: - مضافاً إلى ما عرفت من ظهور حديث رفع القلم في رفع جميع الأحكام في نفسه، ومع ذلك لا يدلّ على سلب قصده، فراجع(3) - إنّه ليس علّة للحكم، ولا معلولاً لقوله عليه السلام: «عمدهما خطأ»:

أمّا الأوّل: فلخلوّه عن اللّام والفاء الدالّتين على ذلك، مضافاً إلى أنّه:

1 - إمّا أن تؤخذ العلّة رفع القلم مطلقاً.د.

ص: 69


1- المكاسب: ج 3/282.
2- وسائل الشيعة: ج 90/29 ب 36 من أبواب القصاص في النفس ح 2 رقم 35225، قرب الإسناد: ص 155 ح 569.
3- صفحة 64 من هذا المجلّد.

2 - أو رفع القلم في باب الجنايات.

فإنْ كان الأوّل: فأجنبيّة العلّة عن الحكم المعلّل واضحة، إذ لا علاقة بين رفع قلم التكليف عن الصوم والصلاة وثبوت الدية على العاقلة.

وإنْ كان الثاني: فغاية ما يمكن أنْ يقال في توجيه الارتباط هو أنّ دم المسلم لابدَّ وأن يتدارك، ولا يكون ذلك من بيت المال، فلابدّ وأنْ يكون من مال الصبي أو من العاقلة، فحيث إنّ القلم مرفوعٌ عن الصبي فيكون على ذمّة العاقلة.

وهذا مضافاً إلى مخدوشيّته في نفسه، إذ لا دليل على لزوم التدارك، فضلاً عن أنّه لا دليل على عدم كونه من بيت المال، وأيضاً لا دليل على الدوران المزبور، فإنّ لازم ذلك تعليل ثبوت أحد الضدّين بنفي الضدّ الآخر، وهو كما ترى .

وأمّا الثاني: أي عدم كونه معلولاً، فلمخالفته في كيفيّة التعبير من حيث الاشتمال عليكلمة (قد) الدالّة على تحقّق مدخولها، وخلوّ جملة (تحمله العاقلة) عنها، مضافاً إلى أنّه من المعلوم أنّ هذه الجملة - أي جملة «عمدهما خطأ») ليست في مقام بيان أمر تكويني، بل متضمّنة لبيان أمر تشريعي، وعليه فيتّحد مفادها مع مفاد رفع القلم، فلا وجه لجعل أحدهما علّة للآخر.

والحقّ في المقام أنْ يقال: إنّ قوله عليه السلام: «عمدهما خطأ» متكفّلٌ في نفسه لبيان حكمين بنحو الإجمال، وقد بيّنهما الإمام عليه السلام بجملتين اُخريين:

أحدهما: ثبوت الدية على العاقلة.

والآخر: عدم ثبوت شيء على الصبي.

فقد بيّن عليه السلام الأوّل بقوله: «تحمله العاقلة»، والثاني بقوله: «وقد رفع»، فهاتان

ص: 70

الجملتان تفسيران للجملة الأُولى من دون أنْ يكون هناك علّية أو معلوليّة.

فتحصّل من مجموع ما ذكرناه: أنّ المستفاد من الأدلّة بطلان عقد الصبي إذا كان مستقلّاً، وصحّته إذا كان بإذن الولي أو إجازته.

***

ص: 71

أدلّة القول بصحّة عقد الصبي

وأمّا المقام الثاني: فقد استدلّ لجواز عقد الصبي بوجوه:

الوجه الأوّل: الآية الشريفة: «وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » (1).

أقول: تقريب الاستدلال بها يتحقّق من وجهين:

أحدهما: ما أفاده أبو حنيفة(2)، ووافقه بعض المعاصرين(3)، من أنّ ظاهر الآية كون الابتلاء قبل البلوغ بقرينة التعبير باليتامى ، وقوله تعالى: «حَتّى» سواءٌ كانت للغاية أم للابتلاء، والظاهر من الابتلاء هو الابتلاء بالمعاملات على الأموال، بأن يأذنوا لهم في البيع والشراء قبل البلوغ، وذلك يقتضي صحّة تصرّفاتهم.

وفيه: إنّه لا إشكال في دلالتها على عدم كون الصبي مسلوب العبارة، إلّاأنّها لا تدلّ على كونه مستقلّاً في التصرّف، لحصول الابتلاء بالبيع مع إذن الولي أو إجازته، وحيث أنّ ظاهر ذيل الآية الشريفة - كما مرّ - عدم صحّة تصرّفاته استقلالاً، فلابدَّ من البناء على ذلك.

ثانيهما: ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(4)، من أنّ المستفاد من الآية الشريفة أنّ المدار في صحّة معاملات الصبي على الرشد، بأنْ تكون الجملة الأخيرة

ص: 72


1- سورة النساء: الآية 6.
2- حكاه في منية الطالب: ج 1/354.
3- راجع نهج الفقاهة: ص 183.
4- تعليقات على المكاسب: ج 2/27.

استدراكاً عن صدر الآية، وأنّه مع استئناس الرشد من اليتامى لا يجوز التوقّف عن دفع المال ولا انتظار البلوغ، وأنّ اعتبار البلوغ طريقي اعتبر أمارة إلى الرشد بلا موضوعيّة له.

وفيه: إنّه لو لم يكن الأمر بدفع المال متفرّعاً على الرشد بعد البلوغ لا مطلق الرشد، لم يكن وجهٌ لجعل غاية الابتلاء هو البلوغ، وكان قوله تعالى : «حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ » (1) زائداً.

وأمّا حمله على الطريقيّة إلى الرشد، فخلاف الظاهر.

الوجه الثاني: الخبر المرسل الذي رواه الشيخ في «المبسوط» بقوله: «ورُوي(2)انه إذا بلغ عشر سنين وكان رشيداً كان جائز التصرّف».

وفيه: إنّه لإرساله، وعدم العمل حتّى من مُرسِله به، لا يعتمد عليه.

الوجه الثالث: النصوص(3) الدالّة على جواز وصيّته وصدقته وعتقه، فإنّه لو التزم بخروجها عن حديث رفع القلم، يرد عليه إباء سياقه عن التخصيص.

وفيه أوّلاً: إنّ الدليل لم يكن مختصّاً بحديث رفع القلم.

وثانياً: إنّه غير آبٍ عن التخصيص، هذا على فرض جواز تلك التصرّفات، وإلّا فالأمر أسهل.

الوجه الرابع: السيرة التي ادّعاها سيّد «الرياض»(4) على مانقل عنه الشيخ رحمه الله(5).8.

ص: 73


1- سورة النساء: الآية 6.
2- المبسوط: ج 2/163.
3- وسائل الشيعة: ج 19/211-212 ب 15 من أبواب كتاب الوقوف والصدقات، وج 23/90-91 ب 56 من أبواب كتاب العتق، وج 19/360-365 ب 44 من أبواب كتاب الوصايا.
4- رياض المسائل: ج 8/116.
5- المكاسب: ج 3/287-288.

أقول: الإنصاف أنّه لا ينبغي التشكيك فيها، إلّاأنّ المتيقّن منها المعاملة بإذن الأولياء، بل سيّد «الرياض» ادّعاها في هذا المورد.

كما أنّه لا مورد للإيراد عليه بأنّها ناشئة عن عدم المبالاة بالدِّين.

الوجه الخامس: خبر السكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن كسب الإماء، فإنّها إنْ لم تجد زنت، إلّاأمَة قد عرفت بصنعة يد، ونهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يُحسن صناعةً بيده، فإنّه إنْ لم يجد سرق»(1).

فإنّ حصر كراهة التصرّف فيما اكتسبه الغلام، بما إذا لم يُحسن صناعةً بيده، واحتمل سرقته، أقوى شاهد على نفوذ معاملاته.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله(2): بأنّه محمولٌ على موارد عدم معاملة نافذة من الصبي:

إمّا بأنْ لا تكون هناك معاملة أصلاً، كالالتقاط المترتّب عليه المِلْكيّة.

أو مع كون المعاملة من الولي، كالإجارة التي أوقعها الولي.

أو مع كونها عن الصبي على نحو يجامع فساد المعاملة، كاستحقاق أُجرة المثل في الإجارة التي أوقعها الصبي بغير إذن الولي.

أو عَمِل عملاً بأمر آمر.

ومن الواضح أنّ جواز التصرّف في المكسوب في هذه الموارد لا يكشف عن نفوذ معاملات الصبي بما هو صبي.

وفيه: إنّ قبض الصبي المال في هذه الموارد - كما اعترف به قدس سره قُبيل ذلك - لا أثر7.

ص: 74


1- وسائل الشيعة: ج 17/163 ب 33 من أبواب ما يكتسب به من كتاب التجارة ح 1 رقم 22251، الكافي: ج 5/128 ح 8.
2- المكاسب: ج 3/287.

له، لفرض كون اُجرة المثل كليّة، وكذلك الأُجرة المسمّاة بحسب الغالب، وهو لا يتعيّن بقبض الصبي.

وبالجملة: غاية ما يثبت بما ذكره استحقاق الصبي للأُجرة، ولكن لا يتعيّن ذلك فيما أقبضه من عليه، بل هو باقٍ على مِلْكه، فيحرم للولي وغيره التصرّف فيه، وبه يظهر حال الالتقاط، فإنّه إذا كان فعل الصبي كالعدم كان التقاطه عديم الفائدة والأثر.

فالحقّ في المقام أنْ يقال: إنّ المنهيّ عنه:

إمّا أنْ يكون هو الكسب، أي المعنى المصدري.

أو يكون هو المكسوب.

فإنْ كان الأوّل: فلا محالة يكون الموجّه إليه الخطاب هو الولي، فيكون مفاده مرجوحيّة نصب الولي لهم لتصدّي المعاملات إلّافي الصناعة، وعليه:

فإنْ كان النهي تحريميّاً لا يدلّ على نفوذ معاملاته بوجهٍ .

وإنْ كان تنزيهيّاً، وإن كان يشعر بذلك، إلّاأنّه لا دليل على حمل النهي عليه.

وإنْ كان الثاني: - كما لعلّه الظاهر لعدم مناسبة العلّة مع الأوّل - فتقريب الاستدلال به على نفوذ معاملات الصبي، إنّما يكون من وجوه:

الوجه الأوّل: من جهة التعليل، إذ لو لم تكن المعاملة نافذة، كان المتعيّن التعليل بذلك - لأنّ تصرّفه حينئذٍ فيه يصبح حراماً، لكونه مِلك الغير، وإنْ علم بعدم السرقة - لا التعليل بأنّه: «إنْ لم يجد سرق».

الوجه الثاني: من جهة التقييد، إذ لو كانت معاملة الصبي غير نافذة من أصلها، لم يكن هناك فرقٌ بين من يحسن صناعةً بيده ومن لا يَحسن.

ص: 75

الوجه الثالث: من جهة الحكم، إذ المشهور بين الأصحاب(1) حَمل هذا النهي على الكراهة، فهذه آية نفوذ المعاملة وإلّا كان التصرّف حراماً.

أقول: وفي الجميع مناقشة:

أمّا الأوّل: فلأنّ هذا النهي إنّما هو بلحاظ هذا الاحتمال، أي احتمال السرقة، ولا نظر في ذلك إلى نفوذ المعاملة وعدمه كي يدلّ على نفوذها مع عدم ذلك، مع أنّ المنهيّ عن التصرّف فيه ليس خصوص ما اكتسب بالمعاملة، بل مطلق ما اكتسبه الصبي سواءٌ أكان بتلك أم بغيرها، فلا يدلّ على نفوذ معاملته مع عدم ذلك.

وأمّا الثاني: فلأنّ الفرق بين من يحسن صناعةً بيده وغيره واضحٌ ، فإنّه في الأوّل يكون احتمال السرقة أضعف من غيره، فيكون ذكر القيد لتحقّق الموضوع، مع أنّ القيد لا مفهوم له.

وأمّا الثالث: فلعدم القرينة لحمل النهي على الكراهة، مع أنّ هذا النهي إنّما هو بلحاظ احتمال السرقة خاصّة، ولا نظر فيه إلى جهات أُخر.

فتحصّل: أنّ المستفاد من مجموع الأدلّة بطلان عقد الصبي، إذا كان مستقلّاً في المعاملة، ونفوذه إذا كان بإذن الولي.

مستثنيات قانون رفع القلم عن الصَّبي

أقول: قد استثني من رفع القلم عن الصَّبي مواضع:

منها: إتلافه.

فإنّ المشهور بين الأصحاب(2) كونه موجباً لضمانه، وقد استدلّوا على ذلك بوجوه:

ص: 76


1- الجامع للشرائع: ص 259، تحرير الأحكام: ج 2/266، الدروس: ج 3/180.
2- المبسوط: ج 4/146، السرائر: ج 2/441، تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 1/562.

الوجه الأوّل: ما يستفاد من كلمات الشيخ رحمه الله(1)، من أنّ المستفاد من أدلّة الباب بعد ضَمّ بعضها ببعض، عدم الاعتبار بما يصدر من الصبي من الأفعال المعتبر فيها القصد إلى مقتضاها كأنشاء العقود، فيخرج مثل الإتلاف.

وفيه: إنّ مقتضى عموم حديث رفع القلم رفع كلّ تكليفٍ ، أو وضع ذلك عن الصبي فيما إذا كان سببه فعله القصدي أو غير القصدي.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق الاصفهاني(2)، من أنّ مقتضى مناسبة الحكم والموضوع، هو أنّ ترتّب كلّ أثر وفعل منوط بالعقل وكماله، واستشعار الفاعل، ولذلك فهو مرفوع عن الصبي، فمثل الضمان المترتّب على مجرّد الإتلاف غير المنوط بشيء خارج عن عموم الآثار المرفوعة.

وفيه: إنّ كمال العقل إنّما هو من باب الحكمة لا العلّة، وإلّا فربّ غير بالغٍ أعقل من البالغ.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(3)، من أنّه قد جمع في بعض النصوص(4) بين عمد الصبي خطأ ورفع القلم عنه، وهو يصلح قرينةً لقصر المرفوع بقلم العمد، وأنّ المرفوع أحكامٌ أُخذ في موضوعها العمد، ومعه لا يبقى لرفع القلم عمومٌ ، وذلك الحديث يوجبُ سقوط سائر النصوص المشتملة على رفع الحكم عن الصبي، فمثل الإتلاف غير مشمول لها.9.

ص: 77


1- المكاسب: ج 3/284.
2- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 2/23.
3- تعليقات على المكاسب: ج 2/38.
4- وسائل الشيعة: ج 29/90 ب 36 من أبواب القصاص في النفس ح 2 رقم 35225، قرب الإسناد: ص 155 ح 569.

وفيه أوّلاً: إنّ عموم رفع القلم في ذلك الحديث لا محذور فيه، ومجرّد تطبيقه على موردٍ خاص، لا يصلح قرينةً لعدم إرادة العموم منه.

وثانياً: إنّه لا وجه لصيرورته مسقطاً لعموم سائر الروايات.

الوجه الرابع: ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمه الله(1) من أنّ حديث رفع القلم لوروده مورد الامتنان، يختصّ بما في رفعه منّة، ولا منّة على الاُمّة في رفع الضمان، لكونه خلاف الامتنان بالنسبة إلى الكبير.

وفيه: إنّه لا قرينة لكونه وارداً مورد الامتنان، بل لازم ذلك عدم شموله لبيعه، إذ ليس في رفع حليّته منّة على الصبي، فالعمدة في استثنائه الإجماع إنْ ثبت وكان تعبّديّاً.

ومنها: التعزير.

وقد أفاد الشيخ رحمه الله(2) في وجه خروجه بأنّ المرفوع هو قلم المؤاخذة الموضوع على البالغين، فلا ينافي ثبوت بعض العقوبات للصبي كالتعزير.

وفيه أوّلاً: إنّه لا شاهد لهذا التخصيص، بل مقتضى عمومه شموله لكلّ من الأمرين.

وثانياً: أنّ هناك شاهداً على خلاف ذلك، فإنّ مجرّد الفرق بين الصبي والبالغ في المؤاخذة، واختلاف حكمهما، لا يُصحّح إسناد رفع القلم إليه كما لا يخفى .

وبالجملة: فالصحيح في وجه خروجه، هو قيام الدليل الخاص عليه المخصّص لعموم رفع القلم.4.

ص: 78


1- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 2/23.
2- المكاسب: ج 3/284.

ومنها: أنّه إذا لاقى جزء من بدنه مع النجاسة ينجس، ولو تحقّق في حقّه سبب الجنابة يصبح جُنباً، كما هو المشهور بين الأصحاب(1)، والوجه في ذلك عدم شمول حديث رفع القلم لهما في نفسه، وذلك لأنّه يعتبر أنْ يكون الحكم المرفوع به مترتّباً على فعل الصغير بما هو، فلا يعمّ مثل النجاسة المترتّبة على الملاقاة، والجنابة المترتّبة على سببها، بلا دخلٍ لفعل الصبي فيه.

وأمّا عدم شمول ما دلَّ على أنّه لا يجوز أمر الصبي لهما، فواضح.

ومنها: القبض.

وملخّص القول فيه: إنّ القبض قد يكون معيّناً للكلّي، وقد يكون قبضاً لمالٍ معيّن.

وعلى التقديرين:

ربما يكون جزء السبب المملّك، كما في بيع الصرف والهبة.

وربما لا يكون كذلك.

وعلى التقدير:

ربما يكون بإذن الولي، وقد يكون بغير إذنه، وقد يقال بترتّب الأثر على قبضه مطلقاً.

واستدلّ له السيّد رحمه الله(2):

1 - بقيام السيرة عليه في الصدقات.5.

ص: 79


1- المعتبر: ج 1/181، المهذّب البارع: ج 1/148، مسالك الأفهام: ج 1/51.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/115.

2 - وبإطلاق نصوص الكفّارة، الدالّ على جواز إعطائها بيد الصغير(1).

3 - وبما في الزكاة الدالّ على جواز إعطائها بالصغير(2).

أقول: ولكن المتيقّن من السيرة إعطائها بإذن الولي، ونصوص الكفّارة والزكاة واردة في مقام بيان حكمٍ آخر لا يصحّ الاستدلال بها في المقام، قال صاحب «الجواهر»(3): (ثمّ لا يخفى أنّ المراد من إعطاء الأطفال في النَّص والفتوى، الإيصال إليهم على الوجه الشرعي، بأن يُسلّم بيد وليّهم).

والحقّ في المقام أنْ يقال:

1 - إنّ المقبوض إنْ كان شخصيّاً:

فإنْ لم يكن مال الصبي، ولم يأذن المالك في القبض، فإنّه لا كلام في عدم كونه مبرءاً للذمّة.

وإنْ أذن مالكه في القبض، كان ذلك مبرءاً للذمّة، لأنّ ذلك قبض منه واستيلاء على المال، إذ القبض الذي يترتّب عليه الأثر ليس هو الأخذ باليد خاصّة، بل هو الاستيلاء على المقبوض المتحقّق في الفرض.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ المُبرء للذمّة أداء مال الغير فتبرأ الذمّة وإنْ أمره بإلقاء ماله في البحر فألقاه.

2 - وإنْ كان المال مال الصبي:

فإنْ أذن له الوليّ في إقباضه، أو أذن الصبي في قبضه، برئت ذمّته، لأنّه قبض الوليّ .4.

ص: 80


1- وسائل الشيعة: ج 22/387 ب 17 من أبواب الكفّارات من كتاب الايلاء والكفّارات.
2- وسائل الشيعة: ج 9/226-227 ب 6 من أبواب المستحقّين للزكاة ووقت التسليم والنيّة.
3- جواهر الكلام: ج 15/384.

وما أفاده العلّامة رحمه الله(1) من أنّ ذلك تضييعٌ لمال الصبي، فلا يجوز ذلك وإنْ أذن الولي.

غير تامّ ، لعدم كونه تضيّيعاً، بل إقباض للولي.

وإنْ كان بدون إذنه، لا يجوز، لعدم العبرة بقبضه مستقلّاً.

3 - وإنْ كان كليّاً:

فإنْ كان بدون إذن الولي - إنْ كان ماله أو مال الصبي - أو بدون إذن مالكه - إنْ كان لغيرهما - لم تبرأ ذمّته، وبقى المقبوض على ملكه.

وإنْ كان مع إذنه، كان ذلك قبضاً معيّناً للكلّي، ولا أقلّ من كونه توكيلاً منه في قبض حقّه وتعيّينه فيما بيده، ثمّ دفعه إلى الصبي. فافهم واغتنم.

معاملة الصبي في الأشياء اليسيرة

ومنها: معاملة الصبي في الأشياء اليسيرة، وقد استدلّ لنفوذها بوجوه:

الوجه الأوّل(2): أنّ الآية والنصوص المتقدّمة مختصّة بالمعاملة في الأشياء الخطيرة، بقرينة مناسبة الحكم والموضوع، بتقريب أنّها بمناسبة الحكم والموضوع تدلّ على عدم نفوذ أمر الصبي فيما له شأن يتفاوت فيه كامل العقل وغيره، وهو إنّما يكون في الأشياء الخطيرة دون المحقّرات التي لها ثمنٌ معيّن لا يتفاوت حاله في الصغير والكبير.

ص: 81


1- نهاية الأحكام: ج 2/455.
2- راجع حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 2/25.

وفيه: ما تقدّم من أنّ كمال العقل إنّما هو من قبيل الحكمة لا العلّة، وإلّا فرب غير بالغٍ أكمل عقلاً من البالغ.

الوجه الثاني(1): لزوم الحرج من تصدّي البالغين لجميع المعاملات، حتّى المعاملة على المحقّرات.

وفيه: إنّ لزوم الحرج من كونهم مستقلّين في المعاملة ممنوعٌ ، نعم لا ننكر لزومه من منعهم عن المعاملة مطلقاً، ولكن قد مرّ أنّ الأظهر جواز معاملاتهم في صورة إذن الأولياء حتّى في الاُمور الخطيرة والمهمّة.

الوجه الثالث(2): قيام سيرة أهل العرف من كلّ ملّةٍ ونحلة على إيكال المعاملات في المحقّرات إلى الصبيان.

وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمه الله(3): بأنّ السيرة مختلفة باختلاف الأشياء، فإنّهم يوكلون إلى من بلغ أربع سنين معاملة البقول، وإلى من بلغ ثمانية بيع اللّحوم، وهكذا، وثبوت السيرة من عصرالأئمّة عليهم السلام من المتديّنين بهذا التفصيل مشكلٌ ، بل المعلوم عدمها، فلا يمكن الالتزام بكون هذه السيرة مخصّصة للأدلّة العامّة المانعة.

ويرد عليه قدس سره: أنّ المستدلّ استدلّ بالسيرة العقلائيّة، وما ذكره رحمه الله إنّما يصلح جواباً عن سيرة المتشرّعة، وبينهما فرقٌ واضح كما لا يخفى .

فالحقّ أنْ يقال:

إنّ الاستدلال إنْ كان بالسيرة العقلائيّة، فالأدلّة الدالّة على عدم نفوذ4.

ص: 82


1- مفاتيح الشرائع: ج 3/46.
2- مقابس الأنوار: ص 113.
3- منية الطالب: ج 1/364.

معاملات الصبيان تصلحُ رادعة عنها، فلا كاشف عن إمضائها.

وإنْ كان استدلالاً بسيرة المتشرّعة، فيرد عليه أنّ ثبوتها في صورة عدم إذن الأولياء ممنوعٌ .

أقول: ثمّ إنْ كاشف الغطاء رحمه الله(1) بعد المنع عن صحّة عقد الصبي حتّى على نحو الوكالة، التزم بصحّة المعاملة في الموارد التي يكون الصبي بمنزلة الآلة والواسطة في الإيصال، من جهة أنّ المعاملة واقعة حقيقة بين الولي والطرف الآخر.

الجواب: مرّ تنقيح القول في ذلك في التنبيه الثاني من تنبيهات المعاطاة(2)، وعرفت أنّه غير تامّ . فراجع ما ذكرناه ولا نعيده.

***ا.

ص: 83


1- كشف الغطاء: ج 1/49-50.
2- فقه الصادق: ج 22/348 وما بعدها.

اعتبار القصد

المسألة الثانية: من جملة شرائط المتعاقدين قصدهما لمدلول العقد.

أقول: وتنقيح القول في هذه المسألة إنّما يكون بالبحث في مباحث:

المبحث الأوّل: أنّ للعاقد بحسب قصد اللّفظ وقصد معناه أحوالاً أربعة:

الحال الأوّل: أنْ يكون اللّفظ صادراً عنه عن غير قصد، كاللّفظ الصادر من النائم أو الغالط.

الحال الثاني: أنْ يكون اللّفظ مقصوداً له دون معناه، كما إذا قال: (بعتُ ) على وزن (خفتُ ).

الحال الثالث: أنْ يكون المعنى مقصوداً له بالإرادة الاستعماليّة دون الإرادة الجديّة، كما إذا أنشأ البيع بمعنى استعمل الصيغة في معناها من دون أنْ يكون هناك اعتبارٌ نفساني، ونظيره في الأخبار ما إذا أخبر عن شيء وحكى عنه بداعي الهزل دون الجدّ.

الحال الرابع: أنْ يكون المعنى مقصوداً بالإرادة الجديّة، ولكنّه لم يكن عن طيب النفس.

أقول: إنّ اعتبار القصد بالمعاني الثلاثة الأول في صحّة العقود، من القضايا التي قياساتها معها، فإنّ عناوين المعاملات أُمورٌ قصديّة، ومع عدم هذه القصود لا تتحقّق تلك.

وأمّا القصد بالمعنى الرابع، فاعتباره إنّما يكون شرعيّاً، وسيأتي الكلام فيه في محلّه.

ص: 84

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرناه عدّة أُمور:

الأمر الأوّل: أنّ ما أفاده الشيخ رحمه الله(1) في المقام من قياس الأمر الصوري بالكذب في الإخبار، وتشبيههما بعدم القصد بالمعنى الثالث في الإنشاء كلام متين.

ولا يرد عليه: ما أورده المحقّق النائيني رحمه الله(2) من أنّ شبيه الكذب في الإخبار منحصرٌ في الإنشاء في عدم وقوع المُنشَأ في عالم الاعتبار - أي اعتبار الشارع - وأمّا مع عدم قصد عنوان المعاملة الذي يكون الأمر الصوري شبيهاً به، فلا يكون ذلك، مثل الكذب في الإخبار. فتدبّر حتّى لا تبادر بالإشكال.

الأمر الثاني: إنّ جعل اعتبار هذا القصد بالمعنى الثالث - الذي هو مورد كلام الشيخ رحمه الله(3) - من شرائط المتعاقدين أولى من جعله من شرائط العقد، فإنّه ليس من شؤون الصيغة، بل ممّا يعتبر في البائع بالحمل الشائع.

ودعوى المحقّق النائيني رحمه الله (4) : في وجه أولويّة جعله من شرائط العقد، من أنّه لا يتحقّق العقد بدونه.

يرد عليه: أنّه مع فقد سائر شرائط المتعاقدين أو العوضين، لا يتحقّق العقد أيضاً، فالمراد من شرائط المتعاقدين في مقابل شرائط العقد هي الأُمور التي تكون معتبرة في ترتّب الأثر على العقد، مع كون مركزها المتعاقدين، وإلّا فمقتضى هذا البرهان عدم كون شيء من الشروط شرطاً للمتعاقدين حتّى مثل البلوغ، إذ العقد لا يتحقّق مع عدمه.

الأمر الثالث: أنّ ما أفاده الشهيد رحمه الله(1) من أنّ الفضولي والمكرَه غير قاصدين6.

ص: 85


1- مسالك الأفهام: ج 3/156.

لمدلول العقد، يعدّ خلط قصدٍ بقصد، إذ المكرَه لا طيب نفس له بمضمون العقد، لا أنّه غير قاصدٍ لمدلوله. وتمام الكلام في محلّه.

لابدَّ من تمييز البائع من المشتري

المبحث الثاني: صرّح صاحب «المقابيس»(1) بأنّه: (يجبُ أن يميّز البائع من المشتري، إذا أمكن الوصفان في كلّ منهما).

أقول: لا ينبغي التشكيك في لزوم تمييز البائع من المشتري، بمعنى تعدّدهما لتقوم حقيقة البيع بذلك. وأمّا إذا كان متعدّداً، ولكن لم يميّز أحدهما من الآخر، كما إذا قال: (بعتُ منّاً من حنطة أحد هذين بدينارٍ في ذمّة صاحبه) فستعرف حكمه في المبحث القادم.

عدم وجوب تعيين من يشتري له ومن يبيع له

المبحث الثالث: ويدور البحث فيه عمّاطرحه صاحب «المقابيس»(2) من أنّه:

1 - هل يجب تعيين من يشتري له المشتري، أو من يبيع له البائع مطلقاً، فلو باع أو اشترى للكلّي - كما إذا اشترى لموكّله الذي لا يعيّنه بالاسم مع تعدّده - أو الفرد المبهم - كما إذا اشترى لأحد موكّليه مبهماً إبهاماً واقعيّاً - بطل العقد؟

2 - أم يجب التعيين إذا كان العوضان كليّين، أو كان أحدهما كذلك، كما هو مختار الشيخ رحمه الله(1)؟

3 - أم لا يجب التعيين مطلقاً؟

ص: 86


1- المكاسب: ج 3/299-300.

أقول: استدلّ للأوّل بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه لو صحَّ ذلك، لزم بقاء المملوك بلا مالك معيّن في نفس الأمر.

وفيه: إنّه لا محذور في بقاء المملوك بلا مالك معيّن، ونظيره في الشرع مالكيّة الفقراءللزكاة، والعناوين الكليّة للأوقاف لها، ومالكيّة أحدرجلين للمال المنذور لأحدهما.

هذا فضلاً عن أنّه يمكن الالتزام بصحّته وصيرورة من يعيّن بعد ذلك أو يستخرج بالقرعة مالكاً إمّا من حين العقد أو بعد التعيين، على الخلاف في كونه كاشفاً أو ناقلاً.

الوجه الثاني: إنّه إن صَحَّ لزم أنْ لا يحصل الجزم بشيءٍ من العقود التي لم يتعيّن فيها العوضان، ولا بشيءٍ من الأحكام والآثار المترتّبة على ذلك.

وفيه: إنّ الجزم بالعقد، وبما يترتّب عليه من الآثار والأحكام متحقّقٌ ، وإنّما المفقود هو الجزم بوقوعه لشخص معيّن، هذا ممّا لا دليل على اعتباره.

مع أنّه يمكن أنْ يقال بأنّ الجزم بذلك أيضاً متحقّق، وهو وقوعه لمن يعيّن بعد ذلك. فتأمّل.

الوجه الثالث: إنّ الأدلّة لا تشمل العقد المبهم، لانصرافها إلى ما هو الشائع المعروف من الشريعة والعادة.

وفيه: إنّ الانصراف الناشئ عن شيوع فردٍ، ونُدرة فردٍ آخر لا يصلح لتقييد الإطلاق.

الوجه الرابع: إنّه لا دليل على تأثير التعيين المتعقّب.

وفيه: أنّه إنْ كان هناك ما يمكن أن يُستشهد به للتعيّين - ولو مع الاحتياج إلى إذن الحاكم الشرعي -، فهو وإلّا فالمرجع إلى أدلّة القرعة التي هي المرجع في

ص: 87

هذه الموارد.

وعليه، لا دليل على اعتبار التعيين.

وأمّا القول الثاني: فقد استدلّ له الشيخ رحمه الله(1) بأنّ الكلّي ما لم يضف إلى ذمّة شخصٍ معيّن، لا يكون مالاً، فتعيّن الشخص في الكلّي إنّما يحتاج إليه لتوقّف اعتبار ملكيّة ما في الذمم على تعيين صاحب الذمّة.

وفيه: إنّ المفهوم الكلّي ما لم يُضف إلى الذمّة لا تعتبر له الماليّة، ولكن كما له الماليّة إذا اُضيف إلى ذمّة شخصٍ معيّن، كذلك له الماليّة إذا اُضيف إلى ذمّة الكلّي أو أحد الشخصين، مع صيرورة من في ذمّته معيّناً بعد ذلك إمّا بالقرعة أو بالتعيين.

وبالجملة: فالحقّ أنّه لادليل على اعتبار التعيين مطلقاً.

أقول: ثمّ إنّ هناك نزاعاً آخر وهو:

أنّه في البيع الشخصي أو الكلّي المضاف إلى ذمّة شخص معيّن، لو قصد البائع البيع، أي أوقعه لغير المالك ولغير من في ذمّته، فهل يبطل البيع كما يظهر من «المقابيس»(2)؟.

أم يصحّ ويلغو قصد كونه عن غير المالك، كما ذهب إليه الشيخ رحمه الله ؟

أم يصحّ ويقع عنه ؟ وجوه:

وحقّ القول في المقام: إنّه إنْ بنينا على أنّ حقيقة البيع هو الإعطاء لا مجّاناً - كما1.

ص: 88


1- المكاسب: ج 3/299.
2- نقله عن مقابس الأنوار: الشيخ الأنصاري في المكاسب: ج 3/301.

هو الحقّ - ففي الصور المفروضة المذكورة في «المكاسب»(1) - من بيع مال نفسه عن غيره، وبيع مال غيره عن نفسه، وبيع مال غيره عن غيره - إنْ كان ذلك مع إذن المالك، ومن يشتري له، أو إجازته صَحَّ على ما أوقعه، وإلّا بطل لذلك.

وأمّا بناءً على ما بَنى عليه الشيخ رحمه الله(2) وفاقاً لجمعٍ ، من أنّ حقيقة البيع متقوّمة بالمعاوضة، ويلزم فيه دخول العوض في كيس من خرج عن كيسه المعوّض.

فإنْ لم يقصد المعاوضة بطل العقد.

وإنْ قصدها:

فإنْ كان مراده من قصده وقوع البيع لغير المالك، رجوع نفعه إليه، بمعنى أنْ يهبه بعد المعاملة، فلا كلام.

وإنْ كان مراده منه دخول العوض في كيسه، فيمكن تصحيحه والالتزام بلغوية القصد المزبور بالتقريب الذي سيأتي في مبحث الفضولي(3).

وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم في المقام.

وجوب تعيين الموجب لخصوص المشتري، والقابل لخصوص البائع

المبحث الرابع: في تعيّين الموجب لخصوص المشتري، والقابل لخصوص البائع.

أقول: وملخَّص القول فيه أنّ الكلام يقع في موارد:

المورد الأوّل: في أنّه هل تصحّ المعاملة مع عدم علم البائع مثلاً بأنّ مخاطبه هو

ص: 89


1- المكاسب: ج 3/301.
2- المكاسب: ج 3/15.
3- صفحة 131 وما بعدها.

المشتري بالأصالة، أو أنّه وكيلٌ عنه، أو وليٌّ عليه ؟

وبعبارة أُخرى : هل يجب أنْ يكون البائع عالماً بمن ينتقل إليه ماله، وينتقل الثمن منه إليه، أم يجب التفصيل بين العقود؟

والحقّ في هذا المقام: هو التفصيل بين البيع ونحوه، والنكاح وشبهه، فإنّه في النكاح تختلف الرغبات باختلاف الطرفين، كما أنّه في الوقف تختلف الأغراض باختلاف الموقوف عليهم، فيلزم التعيين.

وأمّا في البيع فلا يختلف الغرض باختلاف المالك، بل الركن فيه هو العوضان، وعليه فلا يجب فيه التعيين.

نعم، لا يبعد القول بوجوب التعيين في صورة كون العوض هو الكلّي في الذمّة، فإنّه تختلف الأغراض باختلاف من يستقرّ في ذمّته ذلك، مع أنّه من جهة اعتبار معلوميّة العوض، لابدّ من تعيين من يستقرّ في ذمّته الكلّي لاختلاف ما في الذّمم باختلافها.

المورد الثاني: في أنّه هل يكون للكلام ظهورٌ في كون المخاطب هو طرف المعاملة بالأصالة، فليس له أن يقبل عن غيره، أو لا ظهور له في ذلك ذاتاً، أو لقرينة نوعيّة صارفة عن ظهوره الذاتي، أم هناك فرقٌ بين المعاملات ؟

أقول: الأظهر هو الأخير، والصحيح في وجهه ما أفاده الشيخ رحمه الله(1)، بما حاصله أنّ في البيع ونحوه قرينة نوعيّة صارفة عن ظهور الكلام في كون المخاطب به هو طرف المعاملة بالأصالة، وتلك القرينة هي أنّ الغرض فيه متعلّقٌ بالمبادلة،3.

ص: 90


1- المكاسب: ج 3/303.

ووصول كلّ منهما إلى عوض ماله، إذ هذا الغرض يكشف عن طور القصد العقدي، ولا يبقى معه ظهور في ذلك، وأمّا في النكاح وشبهه فلا صارف عن الظهور الذاتي للكلام، بل اختلاف الرغبات باختلاف طرفي العقد يؤكّد ذلك الظهور.

المورد الثالث: في أنّه مع العلم بكون الطرف وكيلاً أو نائباً، هل يصحّ في مقام إجراء الصيغة أن يجعله طرفاً في المعاملة، أم لابدّ من ذكر الموكّل أو المولى عليه، أم يفصّل بين المعاملات ؟

أقول: الأظهر هو الأخير، فإنّه فرقٌ بين النكاح ونحوه والبيع وشبهه، لا من جهة أنّ معنى (أنكحتُكِ ) جعلتُكِ زوجاً، ومعنى (بعتُكَ ) جعلتُكَ طرفاً للبيع، وهو صادقٌ على الولي والوكيل، ولا يصدق الزوج عليهما، لأنّه يمكن أن ينتقض عليه بما إذا أنشأ البيع بلفظ (ملكتك) فإنّ معناه جعلتُك مالكاً، والمالك لا يصدق على الوكيل والولي.

بل من جهة أنّه على القول باعتبار الصراحة في ما تُنشَأ به المعاملة، بما أنّه تعارف في البيع توجيهه إلى المخاطب بعنوانه الأعمّ ، ولم يتعارف ذلك في النكاح، فيجوز في الأوّل دون الثاني، من جهة وجود الصراحة، بمعنى أنّ أهل العرف يفهمون منه المراد في الأوّل دون الثاني.

***

ص: 91

اشتراط الاختيار

المسألة الثالثة: ويدور البحث فيها عن أنّ من شرائط المتعاقدين لزوم الاختيار، والمراد به القصد إلى وقوع مضمون العقد عن طيب النفس، في مقابل الكراهة لا الاختيار في مقابل الجبر.

أقول: الكلام في هذه المسألة إنّما هو في اعتبار أمر آخر وراء القصد المقوّم للعقد الذي انعقدت له المسألة السابقة، وهو أنّه هل يعتبر صدور العقد عن طيب النفس والرضا، فلا يجوز إن وقع عن كره، أم لا يعتبر ذلك ؟

فما يظهر من جماعة - منهم الشهيدان(1) - حيث قالوا: إنّ المكره قاصدٌ إلى اللّفظ غير قاصد إلى مدلوله - من إرجاع هذا البحث إلى البحث السابق، وجعل المكرَه من مصاديق غير القاصد - في غير محلّه.

وما ذكره الشيخ رحمه الله(2): في توجيهه بأنّ مرادهم أنّ المكرَه غير قاصد لوقوع مضمون العقد في الخارج.

ممنوع: لأنّهم صرّحوا بكونه غير قاصد إلى مدلوله، ووقوع مضمون العقد في الخارج ليس مدلولاً له، كما هو واضح.

أقسام المعاملات: إنّ المعاملات الرائجة المتعارفة بين الناس إنّما تكون على أقسام أربعة:

الأوّل: أن تكون لأجل جلب المنفعة.

ص: 92


1- الدروس: ج 3/192، مسالك الأفهام: ج 3/156.
2- المكاسب: ج 3/309.

الثاني: أن تكون لا لجلب النفع ولا لدفع الضرر.

الثالث: أن تكون لأجل دفع الضرر المترتّب على شيء آخر، كما لو باع ثوبه ليشتري بثمنه طعاماً ويطعم أهله، فإنّ البيع إنّما يكون لدفع ضرر الجوع.

وبعبارة أُخرى : تكون المعاملة للتخلّص عن الضرر المتوجّه إليه المترتّب على أمر آخر.

الرابع: أن تكون لأجل ترتّب الضرر المترتّب على ترك المعاملة، كما لو أُكره عليها.

أقول: لا إشكال في صحّة المعاملة في القسمين الأولين، وأمّا المعاملة من القسم الثالث فهي مشمولة للعمومات بلا كلام، ومايتوهم أنْيكون دليلاً علي بطلانها أمران:

أحدهما: ما دلَّ على اعتبار طيب النفس الذي سيمرّ عليك.

الثاني: حديث الرفع الآتي.

وشيءٌ منهما لا يصلح لذلك:

أمّا الأوّل: فلوجود الرضا وطيب النفس بها بأيّ معنى كان.

وأمّا الثاني: فلأنّ حديث الرفع لوروده مورد الامتنان يختصّ بما إذا كان في رفع الحكم منّةً على العباد، وحيثُ لا منّة في رفع أثر مثل هذه المعاملة، فلا تكون مشمولة للحديث.

أقول: وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1) في وجه عدم الشمول، من أنّ الاضطرار إلى المعاملة عبارة عمّا تكون نفس المعاملة اضطراريّة، وأمّا إذا كانت3.

ص: 93


1- منية الطالب: ج 1/383.

المعاملة ممّا يدفع به الاضطرار، فلا يدلّ الحديث على رفعها، كما أنّه لو كان الخطأ أو النيسان متعلّقاً بأمرٍ آخر غير نفس المعاملة، وصدرت المعاملة عن عمدٍ والتفات، فمثلها لا ترتفع بالحديث.

فيرد عليه أوّلاً: النقض بما إذا كانت المعاملة غير جائزة في نفسها، كما لو أنذر أن لا يبيع داره، فإنّ لازم ذلك عدم ارتفاع حرمة البيع، مع أنّه لا أظنّ أن يلتزم به.

وثانياً: إنّ الاضطرار إذا تعلّق بشيء، وكانت المعاملة دافعة له، فلا محالة يتعلّق الاضطرار بها أيضاً، فالصحيح ما ذكرناه.

أدلّة بطلان عقد المُكرَه

وأمّا القسم الرابع: وهو الذي انعقدت له هذه المسألة، وهو عقد المكرَه، فقد استدلّ على بطلانه - في مقابل العمومات المقتضية لصحّته فيما إذا كان واجداً لجميع ما يعتبر في الصحّة، من قصد اللّفظ والمعنى وغير ذلك من القيود - بوجوه:

الوجه الأوّل: ما دلَّ على اعتبار الرضا وطيب النفس، وهو قوله تعالى : «عَنْ تَراضٍ » (1) في آية التجارة.

وأحاديث عدم حليّة مال إمرء مسلمٍ إلّابطيب نفسه(2).

أقول: والكلام فيهما يقع في موردين:

الأوّل: في أنّ عقد المكرَه فاقدٌ للرضا أم لا؟

ص: 94


1- سورة النساء: الآية 29.
2- وسائل الشيعة: ج 5/120-121 ب 3 من أبواب مكان المصلّي، الاحتجاج: ص 267، الكافي: ج 1/426، المستدرك: ج 1/212.

الثاني: في دلالة ما ذكر على اعتبار الرضا في صحّة العقد وعدمها.

أمّا المورد الأوّل: فقد ذهب جمعٌ من المحقّقين منهم السيّد الفقيه(1)، والمحقّق الاصفهاني(2)، والمحقّق الايرواني رحمهم الله(2) إلى أنّه غير فاقد للرضا، وأنّ الرضا ملازمٌ للارادة.

وقد أفاد المحقّق الاصفهاني رحمه الله(4) في وجه ذلك بأنّ الإرادة المحرّكة للعضلات نحو الفعل لا تتعلّق بشيء، إلّاإذا كان فيه جهة ملائمة لقوّة من القوى ، وإلّا فلا ينقدح بسببها الشوق في النفس، كي يتأكّد ويصير علّة لحركة العضلات، وهذه الملائمة ربما تكون بالإضافة إلى القوى الطبيعيّة كالباصرة وغيرها، وربما تكون بالإضافة إلى القوّة العاقلة كما في شُرب المريض الدواء، وربما تجتمعان، فما من فعلٍ إرادي إلّاوهو يصدر إمّا عن شوق طبيعي، أو عن شوق عقلي، فليس الرضا وراء الإرادة ومبادئها، فالفعل الصادر عن إكراه كالصادر عن اضطرار إنّما يكون عن طيب عقلي غالب على الكراهة الطبيعية، وإلّا لما صدر.

وفيه: إنّ الرضا بحسب المتفاهم العرفي يلازم ابتهاج النفس في مقابل انقباضها، وذلك ربما يكون مع إرادة الفعل، وآخر لا يكون معها كما في المكرَه، وأمّا في المضطرّ فهو موجودٌ دائماً، وإنْ شئت فاختبر ذلك من حال العرف، فهل يتوهّم أحدٌ أنْ يكون قول القائل: (إنّي فعلتُ ذلك باختياري عن غير رضاً منّي) إذا كان مكرهاً عليه، متهافتاً في كلامه هذا!

وبالجملة: لاينبغي التأمّل في أنّ الرضا بحسب المتفاهم العرفي غيرالإرادة ومبادئها.5.

ص: 95


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/119. (2و4) حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/40 و 39.
2- تعليقات على المكاسب: ج 2/105.

وأمّا المورد الثاني: فالأظهر عدم دلالة الآية والرواية على اعتبار الرضا:

أمّاالآية: فلأنّه إذا كان الاستدلال بالمستثنيمنه، وهو «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ » (1) بدعوى أنّ عقد المكرَه - أي الصادر عن غير الرضا - من مصاديق الباطل.

فيرد عليه: أنّه مع إذن المالك الحقيقي - الموجب لخروجه عن كونه باطلاً، والمستَكشف في المقام من العمومات - لا مجال للاستدلال به.

وإنْ كان الاستدلال بالمستثنى ، وهو: «إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ » (2).

فيرد عليه: أنّ الاستثناء منقطعٌ غير مفرّغ، ومثله لا يفيد الحصر.

وأمّا الرواية: فلأنّ ظاهر الحليّة من جهة استنادها إلى المال لا إلى المعاملات هو الحليّة التكليفيّة، وقد تقدّم في هذا الشرح أنّ الحرمة التكليفيّة لا تستلزم الفساد.

وعليه، فهذه الرواية إمّا لا تشمل عقد المكرَه، لعدم حرمته تكليفاً، أو تشمله ولا تدلّ على عدم نفوذه.

الوجه الثاني: حديث الرفع(1)، ودلالته على بطلان عقد المكرَه، بناءً على ما حقّقناه في حاشيتنا على «الكفاية»(2) من عموم الحديث لجميع الآثار والأحكام التكليفيّة والوضعيّة واضحة، فإنّه يدلّ على عدم نفوذ عقد المكرَه.

وأمّا ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله(3): من أنّه يدلّ على ذلك حتّى بناءً على كونه9.

ص: 96


1- وسائل الشيعة: ج 17/138 ب 56 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، وج 23/224-228 ب 12 من أبواب كتاب الايمان، وص 235-238 ب 16 من أبواب كتاب الايمان.
2- حواشي المصنّف على الكفاية لم تطبع لحَدّ الآن.
3- المكاسب: ج 3/309.

ظاهراً في رفع المؤاخذة، من جهة أنّ استشهاد الإمام عليه السلام به في رفع بعض الأحكام الوضعيّة كما في صحيح البزنطي(1) - حيث استدلّ عليه السلام به على عدم وقوع آثار ما حَلف به من الطلاق والعتاق - يدلّ على أنّ المراد بالنبوي ليس خصوص المؤاخذة.

فيرد عليه: أنّه بعد فرض كون الحلف بالطلاق والعتاق غير صحيح عندنا من دون الإكراه أيضاً، لا محالة يكون الاستدلال به غَير جارٍ على الحقّ ، ولا يكون الحديث منطبقاً على المورد، وعليه فلا وجه لصرف النبوي عن ظاهره، إذ لا منشأ له سوى دلالة الاقتضاء وتصحيح التعليل، ومع فرض كون التطبيق جارياً على وفق التقيّة، لا يبقي لذلك محلّ فافهم واغتنم.

وعليه، فالصحيح ما ذكرناه.

الوجه الثالث: النصوص الواردة في طلاق المكرَه وعتقه، كالخبر الحسن الذي رواه زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام:

«عن طلاق المكره وعتقه ؟ فقال عليه السلام: ليس طلاقه بطلاق ولا عتقه بعتق»(2).

ونحوه غيره، بضميمة عدم الفرق.

***2.

ص: 97


1- وسائل الشيعة: ج 23/226 ب 12 من أبواب كتاب الايمان ح 12 رقم 29346.
2- وسائل الشيعة: ج 22/86 ب 37 من أبواب مقدّمات الطلاق وشروطه ح 1 رقم 28091، الكافي: ج 127/6 ح 2.

حقيقة الإكراه

بعدما ثبت أنّ الميزان في صحّة المعاملة وفسادها، هو صدق كونها مكرهاً عليها وعدمه، وأنّ وجود طيب النفس والرضا وعدمه أجنبيّان عن هذا المقام، لابدَّ من بيان حقيقة الإكراه وبيان ما يعتبر فيها.

فأقول: حقيقة الإكراه هي حمل الغير على ما يكرهه، ويعتبر في صدقه أُمور:

الأمر الأوّل: أنْ يكون بحمل الغير على الفعل، وأمّا إذا لم يكن ذلك بل فعله لترضية خاطره، فلا يصدق عليه المكرَه عليه، كما أنّه لو لم يكن حملٌ من إنسان، بل الذي حمله على ذلك إمّا الضرورة أو الخوف من حيوانٍ مثلاً فإنّه لا يصدق عليه الإكراه.

الأمر الثاني: أنْ يكون حمل الغير مقترناً بوعيدٍ منه على تركه بالمطابقة أو بالالتزام، كما هو الغالب في حمل السلطان الجائر، فلو حمله على فعلٍ مع وعده بالنفع - كما لو وَعَده بأن ينصبه والياً إذا باع داره - فإنّه لا يعدّ مكرهاً عليه.

الأمر الثالث: أنْ يكون الضرر المتوعّد به ممّا لم يكن مستحقّاً عليه، فلو قال:

(بع دارك وإلّا قتلتك قصاصاً) وكان مستحقّاً له، أو (وإلّا لأطالبنّكَ بالدَّين الذي لي عليك) لا يصدق الإكراه.

الأمر الرابع: أنْ يكون حمل الغير متعلّقاً بنفس المعاملة، فلو حمله على إعطاء مال، وتوقّف ذلك على بيع داره، لا يصدق على البيع أنّه مكرهٌ عليه.

وإنْ أبيتَ عن ذلك، فلا أقلّ من عدم شمول حديث الرفع له، فإنّ رفعه تضييق

ص: 98

لا توسعة، وقد مرّ أنّه يعتبر في شموله كون رفعه منّة وتوسعة.

الأمر الخامس: أن يحتمل ترتّب الضرر المتوعّد به، ولا يعتبر العلم به ولا الظنّ ، ولا فرق بين أنْ يكون الضرر المترتّب وارداً من ناحية الأمر أو من غيره، فلو أمره آمرٌ بفعلٍ وخاف من ترتّب الضرر على تركه من ناحية أخيه مثلاً، صدق عليه أنّه مكرهٌ عليه.

اعتبار العجز عن التفصّي بما لا ضرر فيه

أقول: وهل يعتبر في موضوع الإكراه أو حكمه عدم إمكان التفصّي والفرار عن الضرر المتوعّد به أم لا؟ فيه أقوال خمسة(1):

القول الأوّل: اعتبار العجز عن التفصّي بالتورية أو غيرها في صدقه.

القول الثاني: عدم اعتباره.

القول الثالث: التفصيل بين التورية وغيرها، فيعتبر العجز عن التفصّي بها.

القول الرابع: التفصيل بينهما حكماً لا موضوعاً.

القول الخامس: إنّه يعتبر في الإكراه الرافع للحكم التكليفي العجز عن التفصّي بالتورية وغيرها، وأمّا في الإكراه الرافع لأثر المعاملة، فلا يعتبر ذلك، بل يكفي العجز الفعلي المتحقّق مع إمكان التفصّي، وستعرف تقريب ذلك.

أقول: يقع الكلام في المقام في جهتين:

الأُولى : في بيان المختار ووجهه.

ص: 99


1- راجع منية الطالب: ج 1/390.

الثانية: في بيان وجه سائر الأقوال.

وقبل البحث في الجهتين، لا بأس ببيان حقيقة التورية:

التورية: هي أن يلقي المتكلّم كلاماً له ظهورٌ في معنى، وهو يريد منه غير ذلك المعنى، ويكون المعنى المراد مطابقاً للواقع دون المعنى الظاهر، كما إذا استأذن رجلٌ بالباب وقال الخادم له: (ما هو هاهنا) مشيراً إلى موضعٍ خالٍ من البيت.

أقول: ويعتبر في صدق التورية وتحقّقها أمران آخران:

أحدهما: أنْ يكون اللّفظ بحسب المتفاهم العرفي ظاهراً في غير ما أفاده المتكلّم، فلو كان ظاهراً فيه، ولكن المخاطب لقصور فهمه لم يتنبّه له، لم يكن ذلك من التورية.

ثانيهما: أنْ تكون إرادة ذلك المعنى من ذلك اللّفظ صحيحة، بأنْ تكون بينهما علاقة، فلو كان استعماله فيه غير صحيح، لما كان من التورية، مثلاً لو قال: (أعطيتُ زيداً خمسين درهماً) وأراد به درهماً واحداً، وقد أعطاه في الواقع درهماً لم يكن ذلك من التورية.

وعلى هذا فالتورية خارجة عن الكَذِب الذي هو عبارةٌ عن عدم مطابقة المعنى المراد للواقع موضوعاً.

والتحقيق: إنّ الأقوى هو القول الأوّل، وذلك لأنّه يعتبر في صدق المكرَه عليه على الفعل كونه صادراً علينحو الإلجاء والضرورة، فمع إمكان التفصّي لايصدق ذلك.

وبعبارة أُخرى: إنّ من يتمكّن من التفصّي عن الفعل المكرَه عليه يكون مجبولاً على الجامع بينه وبين ما اُكره عليه، فاختيار ذلك الفعل لا محالة يكون لخصوصيّة

ص: 100

أُخرى غير الجهة المشتركة بينه وبين التفصّي، فيستند ذلك الفعل لا محالة إلى غير الإكراه.

وأمّاالجهة الثانية: قداستدلّ للقول الثاني وهوعدم اعتبارالتفصّي مطلقاً بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الإكراه إنّما هو على الفعل، وهو مكرهٌ عليه بدواً، والتفصّي إنّما يكون تخلّصاً عن الإكراه بعد تحقّق موضوعه، وعليه فالإكراه متحقّقٌ ولو لم يتفصّ .

الوجه الثاني: إنّ حمل النصوص ومعاقد الإجماعات على صورة عدم إمكان التفصّي حملٌ بعيد، بل غير صحيح، إذ في كلّ موردٍ فرض الإكراه، لا محالة يتمكّن الشخص من الفرار عنه بالتورية، أو عدم القصد، أو غير ذلك.

الوجه الثالث: الخبر الذي رواه ابن سنان، عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال:

«لا يمين في غضبٍ ، ولا في قطيعة رحم، ولا في إكراه.

قلت: أصلحك اللّه فما الفرق بين الجبر والإكراه ؟

فقال عليه السلام: الجبر من السلطان، ويكون الإكراه من الزوجة والاُمّ والأب، وليس ذلك بشيء»(1).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الوجه الأوّل: فلأنّه مع التمكّن من الفرار عمّا اُكره عليه، لا يصدق أنّه مكره عليه، لما عرفت من أنّه يعتبر في صدقه ترتّب الضرر المتوعّد به على تركه، فمع إمكان التفصّي لا يترتّب ذلك على تركه، فلا يصدق عليه الإكراه.

وأمّا الوجه الثاني: فلأنّ الغالب أنّ المكرَه حين الإكراه لا يلتفت إلى عدم كونه مكرهاً على القصد، ولأجله يرى نفسه مكرهاً على القصد أيضاً، مع أنّه لو سُلّم5.

ص: 101


1- وسائل الشيعة: ج 23/221 ب 16 من أبواب كتاب الايمان ح 11 رقم 29416، التهذيب: ج 8/286 ح 45.

كون ذلك فرداً نادراً فإنّه لا محذور فيه، إذ حمل المطلق على الفرد النادر مستهجنٌ ، وأمّا إذا أُخذ في الموضوع عنوانٌ له أفراد نادرة في نفسه، فلا محذور فيه، والمقام من قبيل الثاني كما هو واضح.

وأمّا الوجه الثالث: فلأنّه أجنبيٌ عن المقام، إذ:

إمّا نلتزم بأنّ الاُمّ أو الزوجة أو الأب قادرون على إلحاق الضرر به لو تَرك ما اُكره عليه، فهو يدلّ على أنّه لا فرق في الضرر المترتّب بين كونه قويّاً أو ضعيفاً.

وإمّا نلتزم بالعدم، فهو يدلّ على عدم اعتبار ترتّب الضرر على ترك الفعل المكرَه عليه، فيكون حينئذٍ خلاف المتّفق عليه.

واستدلّ للقول الثالث: بأنّه يعتبر في صدق الإكراه، أن يعلم المكرَه أو يظنّ بأنّه لو امتنع عن الفعل واطّلع عليه المكرِه (بالكسر) أضرّ به، ومن المعلوم أنّ هذا يصدق مع إمكان التفصّي بالتورية، ولا يصدق مع التمكّن من التفصّي بغيرها، إذ المفروض تمكّنه من الامتناع مع علم المكرِه وعدم وقوع الضرر عليه.

وفيه: المعتبر في صدقه أنّه لو امتنع يحتمل أو يظنّ وقوع الضرر عليه، فمع العلم بعدم التفات المكرِه (بالكسر) إلى التورية، يعلم بعدم وقوعه عليه، فلا يصدق عليه الإكراه، ألا ترى أنّه لو فرض إرسال الجائر الخمر إلى بيت أحدٍ ليشربها، وهو يقبل قوله لو أخبره بأنّه شربها، ويتمكّن من عدم الشرب وإظهار الشرب، أنّه لا يجوز له الشرب من جهة أنّه لو اطلع المكرِه على الامتناع لأوقعه في الضرر.

واستدلّ للقول الرابع:

1 - بالأخبار(1) التي تجيز الحلف كاذباً عند الخوف والإكراه.ن.

ص: 102


1- وسائل الشيعة: ج 23/224-228 ب 12 من أبواب كتاب الايمان.

2 - وبما ورد(1) في قضيّة عمّار وأبويه، حيث اُكرهوا على الكفر، فأبى أبواه فقُتلا، وأظهر لهم عمّار ما أرادوا، فجاء إلى النبي صلى الله عليه و آله فنزلت الآية «مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ » (2) فقال له صلى الله عليه و آله: «إنْ عادوا فعُد»، ولم ينبّهه على التورية.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ عدم الإشارة إلى التورية، إنّما هو لأجل أنّ طبع المتكلّم في بيان مراداته بالألفاظ، إنّما هو بإلقاء الألفاظ الظاهرة فيها، ولا يمكن له التورية إلّا بالتروي، وهو في مقام الخوف والإكراه عسر جدّاً، وحرجٌ شديد.

وأمّا الثاني: فلأنّ السَّب والتبرّي حرامٌ حتّى مع عدم قصد المعنى وقصد معنى آخر، لأنّ مناط حرمة السَّب هو انتهاك المسبوب عند الغير، وهذا المناط موجودٌ مع عدم القصد أيضاً.

قال المحقّق النائيني رحمه الله(3): في معرض جوابه عن الوجه الأوّل بأنّ التورية أيضاً من الكذب المحرّم، ولأجله لم ينبّه عليها.

وفيه: ما عرفت من خروج التورية عن الكذب موضوعاً.

وأمّا القول الخامس - الذي اختاره الشيخ رحمه الله(4) - فحاصله:

الفرق بين الإكراه الرافع لأثر المعاملات، فيكفي فيه العجز عن التفصّي فعلاً، وإنْ كان قادراً على أن يقدر نفسه عليه، وأمّا الإكراه المسوّغ للمحرّمات فيعتبر فيه العجز المطلق، فمن كان قادراً على التفصّي، ليس له ارتكاب المكره عليه.

واستند(5) في ذلك إلى أنّ المناط في الإكراه الرافع لأثر المعاملات، هو عدم7.

ص: 103


1- وسائل الشيعة: ج 16/225-233 ب 29 من أبواب الأمر والنهي وما يناسبهما من كتاب الأمر بالمعروف.
2- سورة النحل: الآية 106.
3- منية الطالب: ج 1/389. (4و5) المكاسب: ج 3/316 و 317.

طيب النفس بالمعاملة، وهو يتحقّق مع العجز الفعلي، وإنْ أمكن التفصّي، ومثَّل لذلك بمن كان قاعداً في محلّ فارغ للعبادة، فجاءه من يُكرهه على بيع داره، وهو في هذه الحال لا يقدر على دفع ضرره، وله خَدَمٌ في الخارج لو خرج إليهم يكفونه شَرّ المكرِه، ولكن يكره الخروج.

وعليه، فالظاهر صدق الإكراه الرافع لأثر المعاملة.

وأمّا الإكراه المسوّغ للمحرّمات: فقد فسّره رحمه الله بأنّه عبارة عن الجبر غير الصادق في المثال المتقدّم الذي إليه يتبادر منه لفظ الإكراه، وعليه يُحمل حديث الرفع وغيره.

ويرد عليه أوّلاً: قد عرفت أنّه لا دليل على اعتبار الرضا وطيب النفس في صحّة المعاملات، بل الرافع هو الإكراه، وعليه فلا فرق بين المعاملات والتكليفيّات في أنّ الرافع والمسوّغ هو الإكراه.

وثانياً: لو سُلّم اعتبار الرضا وطيب النفس، فالظاهر أنّ الرضا ليس إلّاما يقابل الكره، ففي كلّ موردٍ لم يكن الرضا موجوداً، لا محالة يصدق الإكراه، مثلاً في المثال المتقدّم إذ لم يكن الخروج من ذلك المكان حرجيّاً ولا ضرريّاً، فإنّه كما لا يصدق الإكراه كذلك لا يصدق عدم الرضا وطيب النفس، وأمّا إنْ كان حرجيّاً أو ضرريّاً، فكما يصدق عليه عدم الرضا يصدق الإكراه أيضاً.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو اعتبار عدم إمكان التفصّي مطلقاً.

***

ص: 104

في حكم من أُكره على أحد أمرين

أقول: يقتضي المقام البحث عن عدّة أُمور تتعلّق بالإكراه:

الأمر الأوّل: لو اُكره الشخص على أحد الأمرين المحرّمين لا بعينه:

فتارةً : يكون الإكراه على الأفراد الطوليّة.

وأُخرى : يكون على الأفراد العرضيّة.

أمّا الصورة الاُولى : فقد أفاد المحقّق النائيني رحمه الله(1) في حكمها بالفرق بين الأفعال المحرّمة شرعاً والمعاملات، فلو كان مكرهاً على شُرب الخمر موسّعاً لا يجوز له المبادرة إليه في أوّل الوقت، إذ لابدّ في ارتكاب المحرّم من المسوّع له حين الارتكاب، فإذا لم يكن حين الشرب ملزماً، فاختياره فعلاً لا مجوّز له، وأمّا لو كان مكرهاً على بيع داره موسّعاً، فإنّ إقدامه على البيع في أوّل الوقت لا يُخرجه عن الإكراه.

وفيه: إنّه بعدما عرفت من أنّ الرافع لأثر المعاملات بعينه هو المسوّغ للمحرّمات لوحدة الدليل، لم يظهر لنا الفرق بين البابين.

أقول: فالحقّ في المقام أنْ يقال إنّ الإكراه:

تارةً : يكون على الجامع.

وأُخرى : على الفردين على البدل.

1 - فإنْ كان على الجامع الذي هو موضوع الأثر، فحيث أنّ وجود الجامع في

ص: 105


1- منية الطالب: ج 1/395.

الخارج لابدّ وأنْ يكون مع خصوصيّة من الخصوصيّات، والمفروض أنّ موضوع الأثر هو الجامع دون الخصوصيّات، فكلّ ما وجد في الخارج يقع مكرهاً عليه، والخصوصيّة الملازمة وإنْ لم تكن مكرهاً عليها، إلّاأنّه لا أثر لها حتّى ترتفع بالإكراه كي يقال إنّه لا إكراه عليها.

وأمّا إنْ كان الإكراه على الجامع بين ما هو موضوع الأثر وغيره - كالإكراه على بيع داره صحيحاً أو فاسداً - فحيثُ أنّ الجامع المكره عليه لا أثر له، وما له الأثر وهو الخصوصيّة لا إكراه عليها - وإنْ كانت هي أو مقابلها ممّا لابدّ منه - فلا يرتفع شيءٌ بالإكراه، وسيأتي لذلك زيادة توضيح في القسم الثاني.

2 - وأمّا إنْ كان على الفردين على البدل.

فقد يقال: كماعن المحقّق الاصفهاني رحمه الله(1) بالفرق بين باب المعاملات والمحرّمات:

ففي الأوّل: لو اختار أحدهما - وإنْ كان هو موضوع الأثر دون مقابله - يقع مكرهاً عليه، ولا يترتّب عليه الأثر، إذ المفروض أنّه ومقابله كليهما مكرهٌ عليهما على البدل، فكلٌّ منهما يقعُ في الخارج يتّصف بكونه مكرهاً عليه، واختيار كلّ منهما اختيار البدل الإكراهي.

وفي الثاني: لا يجوز اختيار ما هو موضوع الحكم إنْ لم يكن مقابله كذلك، كما في الإكراه على شُرب الخمر أو الماء، إذ المسوّغ في المحرّمات هو الاضطرار، ومع وجود البدل المباح لا اضطرار إلى الحرام.

ولكن يرد عليه أوّلاً: إنّ المسوّغ للمحرّمات - مع قطع النظر عن الاضطرار -7.

ص: 106


1- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 2/47.

هو الإكراه، فمع صدق المكرَه عليه على المحرّم، ترتفع حرمته به، وإنْ لم يصدق عليه المضطرّ إليه، وعليه فلا وجه للفرق بين البابين.

وثانياً: إنّ الإكراه على البدل لا يزيد على الإكراه التعييني، فقد مرّ أنّ الإكراه غير صادق مع إمكان التفصّي في الإكراه التعييني، ولا يرتفع الأثر به، فكذلك في الإكراه على البدل، فإذا كان أحدهما موضوع الأثر دون الآخر، فيمكن التفصّي عمّا هو موضوع الأثر، وبالتالي فلا وجه لتطبيق أدلّة الإكراه عليه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّه في الإكراه على البدل بين ما هو موضوع الأثر وما لا أثر له، يصرّح المكرَه بإتيان موضوع الحكم أو التفصّي عنه، فلا مورد لأدلّة الإكراه.

فتحصّل: أنّه لو اُكره على فردين أحدهما مباحٌ والآخر حرام، أو أحدهما صحيح والآخر فاسد، فحيث إنّه يمكن التخلّص عن الحرام والصحيح فلا يكون مكرهاً عليه.

أقول: ومنه يظهر حكم ما لو كان حكم أحدهما أشدّ دون الآخر، كما لو اُكره على شرب النجس أو النجس المغصوب، فإنّه لا يجوز ارتكاب الثاني، لقدرته على التفصّي بالنسبة إلى المغصوب.

حكم إكراه أحد الشخصين على فعلٍ واحد

الأمر الثاني: لو اُكره أحد الشخصين على فعلٍ واحد، بمعنى إلزامه عليهما كفاية، وإيعادهما على تركه، ففيه وجوه وأقوال:

القول الأوّل: ما اختاره الشيخ الأعظم(1)، من أنّ فعل كلّ منهما يقع مكرهاً

ص: 107


1- المكاسب: ج 3/321.

عليه، وإنْ علم أنّ صاحبه يفعله.

القول الثاني: ما اختاره المحقّق النائيني رحمه الله(1)، من أنّه لو علم أنّ صاحبه يصدر عنه الفعل لغير داع الإكراه، لا يقع فعله مكرهاً عليه، وإلّا لوقع كذلك وإنْ علم أنّ صاحبه يفعله لدفع الإكراه.

القول الثالث: ما اختاره السيّد الفقيه(2)، من أنّه إنْ علم بأنّ صاحبه يفعله حتّى لو قام بفعله، فإنّه لا يقع فعله مكرهاً عليه، وإلّا فيقع كذلك وإنْ علم أنّه يفعله إنْ لم يبادر هذا إلى الفعل.

القول الرابع: ما اختاره المحقّق الايرواني رحمه الله(3)، من أنّ إكراه كلّ مختصٌّ بصورة عدم إتيان الآخر، فإذا احتمل كلٌّ إتيان صاحبه لم يكن فعله عن إكراه.

القول الخامس: ما هو الحقّ في المقام وستعرفه.

أقول: وقبل بيان ما هو الحقّ ، ينبغي التنبيه على مقدّمة، وهي:

إنّ إكراه أحد الشخصين على فعلٍ واحد، كإيجابه عليهما على نحو الكفاية، فكما أنّ كُلّاً منهما في الفرض الثاني مكلّفٌ ؛ غاية الأمر بالتكليف المشروط بعدم إتيان الآخر، ولهذا بنينا في الواجب الكفائي على أنّ كُلّاً منهما لو بادر إلى الفعل كان فعله مصداقاً للواجب، ويُثاب عليه، ولو صدر الفعل عن الجميع في عرض واحد، وقع كلّ منهما مصداقاً له، ويُثاب عليه، كذلك كلّ منهما مكرهٌ على الفعل في المقام في فرض عدم مبادرة صاحبه إلى الفعل.

نعم بين البابين فرقٌ من ناحية أُخرى ، وهي أنّه يعتبر في صدق الإكراه عدم6.

ص: 108


1- منية الطالب: ج 1/399.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/123.
3- تعليقات على المكاسب: ج 2/136.

إمكان التفصّي والتخلّص عن المكره عليه كما عرفت.

إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ المكرَه عليه:

إنْ كان فعلاً واحداً، ولم يكن ترتّب الأثر أو الحكم بلحاظ حيثيّة الصدور، كما لو أُكره أحد الوليّين على بيع مال الصبي فإنّ فعل كلّ منهما يقع فعله مكرهاً عليه، وإنْ علم صاحبه يفعله فإنّ ما هو موضوع الأثر - وهو البيع على مال الصبي - لا يمكن التفصّي عنه، والمفروض وقوع الإكراه عليه.

وإنْ كان المكره عليه فعلاً واحداً، وكانت حيثيّة الصدور دخيلة في الحكم، كما لو اُكره أحد الشخصين على شرب إناء معيّن من الخمر على نحو الكفاية، فإنْ علم أنّ صاحبه يشربه، لا يجوز له الشرب، ولو شرب لا يكون مكرهاً عليه، لفرض إمكان التفصّي والتخلّص، بمعنى أنّه لو لم يفعل لما وقع في الضرر، ولو علم أنّ صاحبه لا يفعله، جاز له الشرب، ويقع فعله مصداقاً للمكره عليه.

ولو احتمل ذلك، فهل يجوز له الفعل أم لا؟

وجهان مبنيّان على أنّه هل يعتبر في صدق الإكراه العلم بترتّب الضرر على فرض الترك، أم يكفي احتمال ترتّبه ؟

إذ على الأوّل لا يجوز الفعل لعدم العلم بترتّبه، وعلى الثاني يجوز.

وبالجملة: حيثُ عرفت أنّ الأظهر هو الثاني، فالأقوى هو الجواز، إلّاإذا علم بأنّ صاحبه يفعله.

صور تعلّق الإكراه

الأمر الثالث: يدور البحث فيه عن صور تعلّق الإكراه، فقد:

1 - يتعلّق الإكراه بالعاقد والمالك.

2 - وقد يتعلّق بالمالك دون العاقد.

ص: 109

3 - وقد يتعلّق بالعاقد دون المالك.

أقول: وقد تقدّم حكم تعلّق الإكراه بالمالك العاقد، والكلام في المقام إنّما هو في صورتين:

الأُولى : ما لو تعلّق الإكراه بالمالك دون العاقد، كما لو اُكره على التوكيل في بيع ماله.

الثانية: ما لو انعكس الأمر، وهي ما لو اُكره العاقد دون المالك.

أمّا الصورة الأُولى : فلا إشكال في فساد التوكيل، فالعاقد يكون فضوليّاً في بيعه، فلو تعقبه الإجازة صحَّ وإلّا فلا، وهذا ممّا لا كلام فيه، إنّما الكلام في أنّه إذا كان مورد الوكالة إيقاعاً دون العقد، كما لو اُكره على التوكيل في طلاق امرأته ولم يجز الطلاق، بل أجاز الوكالة، فإنّه إن أجاز الطلاق لا يصحّ للإجماع(1) على عدم صحّة الفضولي في الإيقاعات، وإنْ تعقّبه الإجازة، وبنينا على الكشف دون النقل، إذ على النقل لا يصحّ في المقام كما هو واضح.

أقول: والحقّ أنْ يقال:

إنّه إنْ كان معقد الإجماع عدم صحّة الإيقاع الذي تعلّق به الإجازة، ففي المقام بما أنّ الإجازة تتعلّق بالوكالة دون الطلاق يصحّ الطلاق.

وإنْ كان المعقد أنّ الإيقاع لا يصحّ أنْ يكون معلّقاً على الإجازة، كما هو الظاهر منه، فلا يصحّ في المقام، فإنّ صحّة الطلاق موقوفة على صحّة الوكالة، المتوقّفة صحّتها على الإجازة، والمتوقّف على المتوقّف على شيءٍ عليه متوقّف عليه، فتكون5.

ص: 110


1- المبسوط: ج 5/14، جواهر الفقه: ص 182، تحرير الأحكام (ط ق): ج 2/54، القواعد والفوائد: ج 1/368، مسالك الأفهام: ج 9/15.

صحّة الطلاق موقوفة على الإجازة فلا يصحّ .

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم الصحّة، سواءٌ تعلّقت الإجازة بالإيقاع أو بالتوكيل.

وأمّا الصوره الثانية - وهي ما لو تعلّق الإكراه بالعاقد دون المالك -:

1 - فقد يكون المكرِه هو المالك، كما لو قال المالك للعاقد: (بع داري أو طلّق زوجتي).

2 - وقد يكون الإكراه من الأجنبي، كما لو أكره الوكيل على بيع دار موكّله أو طلاق زوجته.

وإلى هاتين الصورتين نظر صاحب «المسالك»(1)، وتكون الصورة هي الفرع الأوّل المذكور فيها، والصورة الثانية هي الفرع الثاني. وقد ذكرهما الشيخ رحمه الله في «المكاسب»(2).

أقول: في المقام أقوال:

أحدها: الصحّة في الفرعين، ذهب إليه الشيخ رحمه الله(3) وغيره(2).

ثانيها: البطلان فيهما.

ثالثها: ما التزم به المحقّق النائيني رحمه الله(3) من التفصيل بين الفرعين، بالبناء على الصحّة في الفرع الأوّل، والبطلان في الثاني.

وأيضاً: قد استدلّ للبطلان في الموردين بوجوه، عمدتها وجهان:

الوجه الأوّل: أنّ مقتضى حديث رفع الإكراه رفع أثر العقد.1.

ص: 111


1- مسالك الأفهام: ج 9/23. (2و3) المكاسب: ج 3/322.
2- حاشية المكاسب للآخوند: ص 49.
3- منية الطالب: ج 1/401.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله(1) بقوله: إنّ الحديث إنّما يرفع حكماً ثابتاً على المكرَه لولا الإكراه، ولا أثر للعقد هنا بالنسبة إلى المتكلّم به لولا الإكراه.

وليس مراده: أنّ حديث الرفع إنّما يرفع الحكم الذي على المكره لا الذي له، من جهة أنّ ذلك هو المناسب للامتنان الذي احتمله السيّد الفقيه(2).

فإنّه يرد عليه: أنّ لازمه صحّة قبول الهبة إكراهاً، مع أنّه لا يعتبر في شمول الحديث كون الحكم ضرراً عليه، بل يكفي كونه منافياً لغرضه.

كما أنّه ليس مراده: أنّ حديث الرفع إنّما يرفع الأثر المتعلّق به، وأثر العقد في الفرض ليس متعلّقاً به كما احتمله السيّد أيضاً(3).

فإنّه يرد عليه: إنّه لا دليل على هذا التقييد، بل الظاهر أنّ مراده أنّ لفعل الوكيل جهتين:

إحداهما: جهة العقديّة.

ثانيتهما: جهة قيامه بالوكيل.

والإكراه لا يؤثّر في فقد عقد الوكيل لشيءٍ من الأُمور المعتبرة فيه من الجهة الأُولى ، من العربيّة ونحوها، بعد كونه مستجمعة لها، والجهة الثانية غير دخيلة في ترتّب الأثر وحصول النقل والانتقال، لكون الوكيل أجنبيّاً عن المال، بل عقده إنّما يؤثّر من حيث انتسابه إلى المالك الموكل، والمفروض عدم كونه مكرهاً.

وعليه، فما هو موضوع الأثر لم يتعلّق الإكراه به، وما تعلّق الإكراه به لا أثر له، وهو حَسَنٌ .4.

ص: 112


1- المكاسب: ج 3/323. (2و3) حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/124.

الوجه الثاني: إنّ القصد إلى المعنى شرطٌ في صحّة العقد، ومع الشكّ في ذلك لا أصل يُحرز به كون المكره قاصداً له، إذ أصالة القصد الجارية في أفعال العقلاء إنّما هي في الأفعال الاختياريّة دون المكرَه عليها.

وفيه أوّلاً: إنّ الكلام إنّما هو بعد إحراز القصد.

وثانياً: إنّ أصالة القصد إنّما هي في مطلق الأفعال الاختياريّة في مقابل الاضطراريّة كحركة يد المرتعش.

واستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله(1) للبطلان في الفرع الثاني: بأنّ المكرِه إذا كان غير المالك، فغاية ما هناك رضا المالك بالعقد، ومجرّد الرضا لا يصحّح الاستناد، كما أنّ الكراهة الباطنيّة ليست ردّاً.

وفيه: إنّ محلّ الكلام هو كون العاقد وكيلاً مفوّضاً، وفعل الوكيل يستند إلى الموكل من جهة الوكالة.

وعليه، فالأظهر هي الصحّة في الفرعين.

الإكراه على بيع عبدٍ من عبدين

الأمر الرابع: لو اُكره على بيع واحد غير معيّن من عبدين، فباعهما أو باع نصف أحدهما، ففي محكي «التذكرة»(2): إشكال.

أقول: في المسألة صور:

الصورة الأُولى : فيما لو كان المكره عليه بيعاً واحداً غير معيّن فباعهما تدريجاً، فقد

ص: 113


1- منية الطالب: ج 1/402.
2- تذكرة الفقهاء: ج 10/14.

اعتبر الشيخ(1) وقوع الأوّل مكرهاً عليه دون الثاني هو الظاهر، واحتمل الرجوع إليه في التعيين.

وأورد جُلّ من تأخّر عنه عليه(2): بأنّه لا وجه لهذا الاحتمال، إذ بعد انطباق عنوان (أحدهما) على بيع الأوّل قهراً، ورضا المكرِه بفعله، واندفاع ضرره لحصول مقصوده، فإنّه لا وجه لوقوع الثاني مكرهاً عليه.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ نظر الشيخ رحمه الله إلى أنّه لو باع العبد الأوّل بالبيع الخياري، ثمّ باع الثاني، فله أن يفسخ البيع الأوّل، ليقع الثاني مصداقاً للمكرَه عليه، كما له أن يبقيه على حاله، ليكون الأوّل مصداقاً له، وعليه فيصبح البائع هو المرجع في التعيين بهذا المعنى، وأمّا في الصورة يتحقّق لزوم العقد الأوّل، فلا يحتمل في حق الشيخ رحمه الله احتمال وقوع الثاني مكرهاً عليه.

الصورة الثانية: فيما لو كان المكره عليه بيعاً واحداً غير معيّن، فباعهما دفعة، ففي المسألة أقوال:

القول الأوّل: صحّة الجميع، ذهب إليها الشيخ(3)، وجُلّ الأساطين(4) ممّن تأخّر عنه.

القول الثاني: بطلان الجميع(5).

القول الثالث(6): بطلان أحدهما وصحّة الآخر، ويرجع في التعيين إلى القرعة.0.

ص: 114


1- المكاسب: ج 3/324.
2- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 2/53، تعليقات على المكاسب: ج 2/146.
3- المكاسب: ج 3/324.
4- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/125، منية الطالب: ج 1/405.
5- نهج الفقاهة: ص 199.
6- مصباح الفقاهة: ج 2/600.

أقول: استدلّ للأوّل بوجهين:

الوجه الأوّل: ما في «المكاسب»(1)، واختاره المحقّق النائيني رحمه الله(1)، من أنّ ما صدر عنه خارجاً غير ما اُكره عليه، وما اُكره عليه لم يكن هو الصادر عنه، ومجرّد اشتمال المجموع على أحدهما، لايوجبُ صدق الإكراه على أحدهما، فضلاً عن كليهما.

وفيه: إنّ المكره عليه ليس بيع أحدهما بشرط لا، كي لا يصدق على بيع أحدهما في المقام، بل بيع أحدهما لا بشرط الحاصل في ضمن بيعهما، لأنّ لا بشرط يجتمع مع ألف شرط، فضمّ بيعٍ آخر إليه لا يُخرجه عمّا اُكره عليه.

الوجه الثاني: ما أفاده السيّد الفقيه(2) - وتبعه المحقّق الايرواني رحمه الله(3)، ويمكن استظهاره من كلمات الشيخ رحمه الله(5) - من أنّ بيعهما معاً دفعة مع كون الإكراه على أحدهما يكشف عن كون البائع راضياً ببيع أحدهما، ومعه لا يؤثّر الإكراه شيئاً، لأنّ المفروض أنّ ما ألزمه المكره - وهو بيع أحدهما غير المعيّن - نفس ما هو راض به، فلا يكون إكراهاً على ما لا يرضاه.

وفيه: إنّ بيع المجموع لا يكشف عن كون البائع راضياً ببيع أحدهما في مفروض المسألة، وهو كونه كارهاً لبيع كلّ منهما لولا الإكراه، بل يمكن أنْ يكون ناشئاً عن غرضٍ آخر من أنّه يشقّ عليه التفرقة بينهما، لكونهما والداً وولداً مثلاً، أو أنّه لا يوجد من يشتري أحدهما منفرداً، أو نحو ذلك، فحينئذٍ يكون بيع كلّ منهما مكروهاً، ولكن لما عرفت من اعتبار ترتّب الضرر على ترك المكره عليه في9.

ص: 115


1- منية الطالب: ج 1/405.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/125.
3- تعليقات على المكاسب: ج 2/149.

صدق الإكراه، وهذا المعنى لا ينطبق على كلّ منهما إلّاعلى البدل، فلا محالة يقع أحدهما مكرهاً عليه دون الآخر، وحيث أنّ انطباقه على واحد معيّن ترجيحٌ بلا مرجّح، والقرعة لا مورد لها في المقام، إذ الظاهر من أدلّتها(1) كونها معيّنة لما له التعيّن واقعاً - لاحظ قوله عليه السلام: «القرعة سهمٌ من سهام اللّه، وسهمُ اللّه لايُخطئ» - فإنّه إذا لم يكن له واقع معيّن، لا معنى لخطأهم وعدمه، فيتعيّن البناء على بطلانهما معاً.

الصورة الثالثة: فيما لو كان المكره عليه واحداً معيّناً فباعهما دفعة، فإنّه لا ينبغي التوقّف في صحّة بيع ما لم يُكره على بيعه، وإنْ كان لولا الإكراه على المعيّن لما باعه، لأنّه لا يترتّب الضرر على تركه، فلا يكون مكرهاً عليه، كما لا ينبغي التوقّف في بطلانه بالنسبة إلى المكره عليه لصدق الإكراه بالإضافة إليه.

الصورة الرابعة: ما لو اُكره على بيع واحدٍ معيّن فباع نصفه:

فتارةً : يشمل إكراه المكره لبيعه دفعتين.

وأُخرى : لا يشمله.

ففي الحالة الاُولى لو باع النصف بقصد أن يبيع النصف الآخر أيضاً، فلا كلام في كونه مكرهاً عليه.

وإنْ باعه لرجاء أن يقنع المكره بالنصف، فقد اختار الشيخ رحمه الله(2) كونه أيضاً مكرهاً عليه، وخالفه المحقّق النائيني رحمه الله(3) بدعوى أنّ البيع كذلك غير ما تعلّق الإكراه به، فإنّ رجاء قناعته بالنصف يوجبُ تحقّق الطيب والرضا ببيع النصف.5.

ص: 116


1- وسائل الشيعة: ج 27/257-263 ب 13 من أبواب كيفيّة الحكم.
2- المكاسب: ج 3/325.
3- منية الطالب: ج 1/405.

أقول: الحقّ ما أفاده الشيخ رحمه الله، فإنّ من يدفع النصف إلى المكرِه وداعيه إلى الدفع هو الإكراه - حيث يدفعه لرجاء أن يقنع المكرِه - يكون ذلك استدعاءً منه لأن يتبدّل الإكراه التعييني بدفع التمام إلى الإكراه التخييري بين دفع التمام ودفع النصف، فكما أنّه في صورة التخيير ابتداءً يقع كلّ من فردي التخيير مكرهاً عليه، كذلك في التخيير بعد الاستدعاء.

وبالجملة: لا ينبغي التوقّف في أنّ من يدفع إلى المكره النصف ممّا اُكره عليه لدفع شرّه، ورضي المكرِه بذلك، صدق عليه أنّه مكرهٌ عليه، ألا ترى أنّه لو أجبر ظالمٌ شخصاً بإعطاء ألف تومان فأعطاه نصفه، واستدعى منه قبوله ذلك، وعدم إضراره، صدق عليه أنّه مكره عليه، ولا سبيل إلى دعوى أنّه هبة صحيحة، لأنّه غير ما اُكره عليه، والسِّر فيه ما ذكرناه.

أقول: وبهذا البيان ظهر أنّه لو اُكره على دفع شيء، وأعطى شيئاً آخر لرجاء أن يقنع المكرِه بذلك، صدق عليه أنّه مكرهٌ عليه، لأنّه بفعله هذا يستدعي منه تبديل إكراهه التعييني إلى الإكراه التخييري، فيصير هذا أحد فردي التخيير، فيصدق عليه أنّه مكره عليه.

وبهذا ظهر حكم ما إذا لم يشمل الإكراه لبيعه دفعتين، فإنّه إن باع نصفه لرجاء أن يقنع المكره بذلك، صدق عليه أنّه مكره عليه.

حكم الإكراه على الطلاق

الأمر الخامس: قال العلّامة في «التحرير»(1): (لو اُكره على الطلاق فطلّق ناوياً، فالأقرب وقوع الطلاق).

ص: 117


1- تحرير الأحكام (ط. ق): ج 2/51.

أقول: قبل الشروع في بيان محتملات الفرع المذكور، وما هو الحقّ فيه، لابدّ من التنبيه على مقدّمةٍ ، وهي:

إنّ الشيخ رحمه الله(1) تعرّض لأمرٍ في المقام كان المناسب ذكره في المحلّ الذي ذكر فيه مفهوم الإكراه، ونحن أيضاً غفلنا عن ذكره هناك، وهو أنّه إذا كان الضرر المتوعّد به على ترك المكرَه عليه هو ضررٌ يترتّب على المكرِه (بالكسر) دون المكرَه - كما لو قال: (طلّق زوجتك وإلّا قتلتُ نفسي) - فهل يصدق عليه الإكراه أم لا؟

أمّا الشيخ رحمه الله فقد استشكل في صدق الإكراه عليه.

أقول: والحقّ هو التفصيل، لأنّه:

ربما يعدّ ضرر المكرِه ضرراً للمكرَه (بالفتح)، كما لو كان المكرِه (بالكسر) هو العبد أو الابن، والمكرَه (بالفتح) هو المولى أو الأب، فإنّ إيراد الضرر على العبد أو الابن بالقتل يعدّ ضرراً على المولى والأب بالتبع، وفي هذا المورد يصدق الإكراه، إذ لا فرق في ترتّب الضرر المعتبر في صدقه بين كونه ضرراً مع الواسطة أو بلا واسطة، ولذا لو قال الأجنبي: (بع دارك وإلّا قتلتُ ابنكَ ) عُدَّ ذلك إكراهاً.

وربما لا يعدّ تضرّره ضرراً عليه، كما لو كان المكرِه (بالكسر) هو الأجنبي، وقال: (طلّق زوجتك وإلّا قتلتُ نفسي) فإنّه لا يعدّ ضرراً عليه، فلا يصدق الإكراه حينئذٍ. ومن هذا القبيل ما لو كان الدّاعي على الفعل شفقةً دينيّة على المكرِه (بالكسر) كما لو قال الأجنبي: (طلّق زوجتك وإلّا زنيتُ بامرأة أجنبيّة)، فإنّ طلاق زوجته لئلّا يقع فعل محرّم في الخارج، ليس طلاقاً ناشئاً عن خوف ترتّب الضرر7.

ص: 118


1- المكاسب: ج 3/327.

على نفسه، ولذا لا يصدق عليه أنّه مكرهٌ عليه.

والتحقيق: إذا عرفت هذا فاعلم أنّه يقع الكلام في موردين:

الأوّل: في بيان وجه فتوى العلّامة رحمه الله بالصحّة.

الثاني: في بيان محتملات هذا الفرع في نفسه وأحكامها.

أمّا المورد الأوّل: فالظاهر أنّ نظر المصنّف رحمه الله إلى أنّه لو اُكره على الطلاق وإنْ لم يقصد المعنى الذي يكون عند العامّة طلاقاً شرعيّاً مع النطق الصريح، لكنّه طلّق ناوياً، فالأقرب وقوع الطلاق، لأنّه غير مكره عليه.

وإيراد الشيخ رحمه الله(1) عليه: بأنّه يبتني على القول باعتبار عدم إمكان التفصّي بالتورية في صدق الإكراه، إذ لا فرق بين التخلّص بالتورية، وبين تجريد اللّفظ عن قصد المعنى ، وقد مرّ عدم اعتباره.

مندفع أوّلاً: بما تقدّم من اعتبار العجز عن التورية في صدقه.

وثانياً: بالفرق بينهما بعد كون المكرِه راضياً بالنطق بالصريح حتّى وإن لم يكن قاصداً، لاحظ وتأمّل في الوجه المتقدّم - لعدم اعتبار العجز عن التورية - ترى عدم جريانه في المقام.

وأمّا المورد الثاني: فالاحتمالات المتصوّرة فيه خمسة:

الاحتمال الأوّل: أن لا يكون للإكراه دخلٌ في الطلاق، بل يوقعه عن طيب نفسه ورضاه، والمكرِه لجهله بحاله أكرهه عليه، فإنّه لا إشكال ولا كلام في صحّة هذا الطلاق.4.

ص: 119


1- المكاسب: ج 3/314.

الاحتمال الثاني: أنْ يكون كلٌّ من الإكراه والرضا سبباً مستقلّاً، بحيث حتّى لولا الإكراه لكان يوقعه، ولولا الرضا لأوقعه للإكراه:

فعن المحقّق النائيني رحمه الله(1) الحكم بالبطلان، بدعوى أنّ كلّ علّتين مستقلّتين إذا وردتا على معلولٍ واحد، وكان بينهما تدافع، لا يكون كلّ واحدٍ منهما مؤثّراً، كاجتماع الرياء وقصد الأمر في العبادات، فهذه المعاملة وإنْ صدرت عن الرضا، إلّا أنّها تكون عن إكراه أيضاً، أو أنّها لم تكن عن إكراه إلّاأنّها لا تكون مصداق «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ » (2).

وفيه أوّلاً: إنّ المكرَه إذا كان راضياً، لا يصدق على ما صدر عنه عنوان المكرَه عليه، بل يصدق هذا العنوان مشروطاً، بمعنى أنّه لو لم يكن راضياً كان مكرهاًعليه.

وبالجملة: مع وجود الرضا لا يصدق الإكراه، ولا يقاس المقام بالرياء في العبادات الذي هو متحقّقٌ في الفرض، ويكون مبطلاً للصلاة، بل الصحيح تنظير المقام بما لو فَرَضنا العادل الوَرع التقي شَرع في الصلاة أمام الناس، فإنّ هناك سببين مستقلّين لعدم إبطاله صلاته: الخوف من اللّه تعالى ، وحفظ مقامه عند الناس، فهل يتوهّم فقيه من القول ببطلان صلاته، لأنّ مابقي من صلاته يقع عن سببين مستقلّين ؟!

وثانياً: إنّه لو فرض استناد الطلاق إلى الرّضا والإكراه، فمن حيث استناده إلى الإكراه لايترتّب عليه الأثر، إلّاأنّه يترتّب عليه الأثر من حيث استناده إلى الرضا.

وبعبارة أُخرى: الاستناد إلى الإكراه لا يؤثّر في البطلان - كما هو الحال في الرياء بل يوجب عدم تأثير العقد المستند إليه، فلا يمنع عن صحّته من حيث استناده إلى الرضا.9.

ص: 120


1- منية الطالب: ج 1/406.
2- سورة النساء: الآية 29.

وثالثاً: إنّ حديث الرفع من حيث وروده في مقام الامتنان، لا يشمل مثل هذا الطلاق لأنّ رفع أثره خلاف الامتنان.

وعليه، فالأظهر هي الصحّة في هذه الصورة.

الاحتمال الثالث: أنْ يكون كلٍّ من الإكراه والرضا جزء السبب، بحيث أنّه لولا اجتماعهما لما أثّر كلّ واحدٍ منهما.

أمّا الشيخ رحمه الله(1) فقد حكم بالصحّة في هذه الصورة، وتبعه السيّد رحمه الله(2) واستدلّ له بصدق كون الفعل صادراً عن الرضا، وإنْ كان تحقّقه بعد وجود أمرٍ آخر من إلزام الغير.

وأُورد عليه بإيرادين:

أحدهما: ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(3)، من أنّه كما يصدق كون الفعل صادراً عن الرضا، فيشمله دليل جواز الأكل ب «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ » ، كذلك يصدق كون الفعل عن الإكراه، فيشمله دليل «رفع ما استكرهوا عليه».

وفيه أوّلاً: إنّ الإكراه لا يقتضي الفساد، كي يعارض ما يقتضي الصحّة كما تقدّم.

وثانياً: إنّهما لو تعارضا تساقطا، ويكون المرجع إطلاقات أدلّة إمضاء تلك المعاملة أو الإيقاع.

ثانيهما: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(4)، من أنّ الرضا والإكراه إن وردا دفعةً على7.

ص: 121


1- المكاسب: ج 3/327.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/125.
3- تعليقات على المكاسب: ج 3/160.
4- منية الطالب: ج 1/407.

المسبّب، كان الفعل مستنداً إليهما، والإكراه وإنْ لم يقتض الفساد، إلّاأنّ المقتضي للصحّة أيضاً لم يتحقّق، لعدم صدق «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ » .

وفيه: ما عرفت من أنّه لا دليل على اعتبار الرضا في صحّة العقد، وأنّ الدليل منحصرٌ بما دلَّ على رفع أثر المكره عليه، وعليه فلا يحكم بالفساد من هذه الجهة.

أقول: والحقّ في المقام أنْ يقال:

إنّه إنْ لم يصدق صدور العقد عن الإكراه، فلا ينبغي التأمّل في الصحّة لعدم المانع، وإنْ صدق فيمكن دعوى أنّ منصرف دليل «رفع ما استكرهوا عليه» هو ما لو كان الإكراه سبباً تامّاً لصدوره، فلا يشمل المقام، وعليه فالأظهر هي الصحّة.

الاحتمال الرابع: أنْ يكون أحدهما سبباً مستقلّاً والآخر ضميمة، فلا كلام في أنّه يلحقه حكمه، فإنْ كان السبب هو الرضا حكم بالصحّة، وإنْ كان هو الإكراه حكم بالبطلان.

الاحتمال الخامس: أنْ يكون الإكراه داعياً على الدّاعي على الطلاق:

إمّا لاعتقاد أنّ الحذر لا يتحقّق إلّابإيقاع الطلاق حقيقةً ، فيوطّن نفسه على رفع اليد عن الزوجة، فيوقع الطلاق قاصداً.

أو لجهله بالحكم فزعم أنّ الطلاق يقع مع الإكراه، فيرضي نفسه بذلك ويوطّنها عليه.

حكم الشيخ رحمه الله(1) في هذه الحالة بتحقّق الإكراه، واستدلّ للصحّة بأنّه طلّق ناوياً ومريداً للطلاق، ثمّ احتمل البطلان من جهة أنّ الإكراه صار علّة لإرادة اسم8.

ص: 122


1- المكاسب: ج 3/327-328.

المصدر، فالفعل بالآخرة يستند إليه وإنْ كان الدّاعي الثانوي اختياريّاً.

وردّه المحقّق النائيني رحمه الله(1): بأنّ لازمه بطلان أغلب المعاملات، فإنّها بالآخرة تنتهي إلى غير الاختيار.

أقول: الحقّ ما أفاده الشيخ رحمه الله، فإنّ توطين النفس وإرادة الفعل واسم المصدر، لا ينافي مع الإكراه، بل هذا المعنى ربما يستند إلى الرضا تارةً وآخر إلى الإكراه، وإلّا فمع عدم الإرادة لا يصدق أنّه صدر عنه الطلاق عن إكراه، بل لم يصدر عنه، وحديث رفع الإكراه إنّما يرفع أثر الطلاق الواجد لجميع ما يعتبر فيه سوى أنّه صدر عن إكراه.

ودعوى: أنّه لو حُكم ببطلان ذلك لزم الحكم ببطلان أغلب المعاملات.

غريبة: فإنّه إنّما يُحكم بالبطلان هنا لحديث رفع الإكراه، ولا ربط لذلك بمسألة الإختيار وعدمه.

وعليه، فالأظهر هو البطلان في هذه الصورة.

ثمّ إنّه لا يهمّنا التعرّض لما قيل في بيان مراد المصنّف رحمه الله(2) وما يمكن أن يورد عليه.

لو تعقّب الرِّضا عقد المكره

الأمر السادس: المشهور بين المتأخّرين(3) أنّه لو رضي المكرَه بما فعله صحَّ العقد.

ص: 123


1- منية الطالب: ج 1/408.
2- تحرير الأحكام (ط ق): ج 2/51.
3- شرائع الإسلام: ج 2/268، إيضاح الفوائد: ج 1/413، مسالك الأفهام: ج 3/155-156.

أقول: قد مرَّ في أوّل هذا المبحث أنّ محلّ الكلام، هو العقد الجامع لجميع ما يعتبر فيه من قصد اللّفظ والمعنى والجِدّ وغير ذلك، وعليه فالاستدلال للبطلان، بعدم قصد المكره للّفظ، أو عدم قصده المعنى ، أو عدم قصده وقوع مضمون العقد في الخارج، في غير محلّه.

بل عمدة ما يمكن أن يستدلّ به على البطلان في مقابل الإطلاقات والعمومات الدالّة على صحّة معاملة المكرِه وجهان:

الوجه الأوّل: قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ » (1).

بتقريب: أنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على انحصار التجارة الممضاة بما إذا كانت ناشئة عن الرضا، ومن المعلوم أنّ عقد المكرَه وإنْ لحقه الرضا، ليس عقداً عن الرضا، بل هو عقدٌ ورضا.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله(2): بأنّ الاستدلال إنْ كان بمفهوم الحصر، فيردّه أنّ الاستثناء منقطعٌ غير مفرّغ.

وأُورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّ المنقطع لا ينقسم إلى قسمين من المفرّغ وغير المفرّغ، لأنّه إذا كان مفرغاً يكون متّصلاً لا منقطعاً، مثلاً إذا قال: (ما جاءني إلّاحمار) يقدّر المستثنى منه ما يشمل الحمار أيضاً، إذ لا داعي إلى تقدير لفظ (القوم) حينئذٍ.1.

ص: 124


1- سورة النساء: الآية 29.
2- المكاسب: ج 3/331.

وفيه: إنّه يمكن أنْ يكون المستثنى منه المقدّر منقطعاً، كما إذا قيل: (هل جاءك القوم ؟ فقال: ما جاءني إلّاالحمار)، إذ المقدّر في الجواب هو المسؤول عنه، والظاهر أنّ غرض الشيخ رحمه الله أنّ الاستثناء منقطعٌ مذكور، فلا يحتمل فيه الاتّصال.

الإيراد الثاني: أنّ مرجع الاستثناء المنقطع إلى المتّصل في اللّب والواقع، إذ لابدّ من أنْ يكون المراد من المستثنى منه ما يشمل المستثنى، وإلّا فلا يصحّ الاستثناء، مثلاً يكون المراد من قول القائل: (ما جاءني القوم) هم القوم ومن يرتبط بهم، والشاهد على ذلك أنّه لا يصحّ أنْ يقال: (ما جاءني زيدٌ إلّاعمرو)، وأيضاً لا يصحّ أنْ يقال: (ما جاءني القوم إلّاالحمار) إذا لم يكن الحمار متعلّقاً بهم، وعلى ذلك فجميع الاستثنائات المنقطعة ترجع أخيراً إلى المتّصل فتدلّ على الحصر.

وفيه أوّلاً: إنّ الاستثناء لا يقتضي في واقعه الدخول، بل ربما يكون المصحّح توهم الدخول كما في قوله تعالى: «فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاّ إِبْلِيسَ » (1)فإنّه حيثُ كان بينهم - وإنْ لم يكن منهم - يتوهّم الدخول في الحكم، فلذا أخرجه، وعليه فكون (إلّا) بمعنى الإخراج لا يقتضي رجوع المنقطع إلى المتّصل.

وثانياً: إنّ إرجاع المنقطع إلى المتّصل لا وجه له سوى التحفّظ على ظهور كلمة (إلّا) في الإخراج، وإنّ حملها على (لكن) خلاف الظاهر، وللمنع عن ظهورها في ذلك بنحو تصلح قرينة للتصرّف في المستثنى منه، بحمله على خلاف ظاهره بإرادة الأعمّ مجالٌ واسع، ولا أقلّ من الإجمال.

الإيراد الثالث: أنّ المراد ب «بِالْباطِلِ » في الآية الشريفة، هو الباطل الشرعي،4.

ص: 125


1- سورة ص: آية 73-74.

والغرض بيان أنّ كلّ أكلٍ باطلٌ عدا التجارة عن تراض، فيكون المعنى: لا تأكلوا أموالكم بينكم بوجهٍ من الوجوه فإنّ كلّ وجهٍ باطلٌ إلّاالتجارة عن تراض، فذكر (الباطل) لبيان علّة الحكم، وعليه فالاستثناء في الآية الشريفة يكون متّصلاً.

وفيه: إنّه خلاف الظاهر، إذ الظاهر منه كون الباطل موضوعاً لا علّة للحكم، وأيضاً الظاهر منه إرادة الباطل العرفي.

وبالجملة: فالحقّ تماميّة جواب الشيخ رحمه الله.

ويرد عليه: - مضافاً إلى ذلك - أنّ المراد من (التجارة) ليس هو العقد كي يعتبر أنْ يكون صادراً عن الرضا، بل المراد بها الكسب والاكتساب، وهو لا يحصل شرعاً إلّابعد الرضا، فيكون تجارة عن تراض.

الوجه الثاني: حديث الرفع(1).

بتقريب: إنّه يدلّ على رفع أثر ما استكرهوا عليه، تكليفاً كان أم وضعاً، فإثبات التأثير للعقد الصادر عن إكراه - ولو كان على سبيل جزء العلّة، كما يقوله القائل بصحّة عقد المكره إذا تعقّبه الرضا - خلاف مقتضى الحديث.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله بأجوبة:

الجواب الأوّل(2): ما ظاهره أنّ حديث الرفع بمقتضى وروده في مقام الامتنان يختصّ بالآثار التي تكون على المكرَه، ولا يشمل الأثر الذي له، ولا الأثر المتوجّه إلى غيره، وعليه فحيث أنّ الحكم بوقوف عقد المكرَه على الرضا، وأنّ له أن يرضى1.

ص: 126


1- وسائل الشيعة: ج 15/369-370 ب 56 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ح 1 و 2 و 3 رقم 20769 و 20770 و 20771، الكافي: ج 2/462-463 باب ما رفع عن الاُمّة ح 1 و 2.
2- المكاسب: ج 3/331.

وله أن لا يرضى، حكمٌ له لا عليه، وإلزام الطرف الآخر بعدم الفسخ حتّى يرضى المكره أو يفسخ إلزامٌ لغيره، ومعنى صحّة عقده إن رضى هو ذلك، فلا تكون الصحّة بهذا المعنى مشمولة للحديث.

أقول: وأُورد عليه بإيرادين:

الإيراد الأوّل: ما عن السيّد الفقيه(1)، والمحقّقين النائيني رحمه الله(2) والاصفهاني(3)، من أنّ الحديث لو سُلّم أنّه لا يرفع الأثر الذي للمكرَه، فإنّما يختصّ بالأثر الثابت للعقد لولا حديث رفع الإكراه، وأمّا الأثر الثابت له بعد وروده، فلا يصلح الحديث لرفعه. وأمّا الصحّة بمعنى وقوفه على الرضا، فحكمٌ يثبت بعد ورود حديث الرفع، إذ مع قطع النظر عن أثر العقد الذي هو فعليّة التأثير لا وقوعه على الرضا، فلا يصلح حديث الرفع لرفعه ولا نظر له إليه.

وفيه: إنّه يمكن توجيه كلامه بنحوٍ لا يردّ عليه هذا الإيراد، وحاصله أنّ أثر العقد هو الملكيّة من حين العقد إلى الأبد، وإذا كان حديث الرفع مختصّاً بما في رفعه منّة يرتفع مقدارٌ من الملكيّة الذي يكون ثبوته منافياً للامتنان، وهو الملكيّة قبل الرضا، وأمّا الملكيّة بعد الرضا - التي هي أثر العقد مع قطع النظر عن حديث الرفع - فحيث إنّه لا امتنان في رفعها فهي لا ترتفع بالحديث.

وبالجملة: المرفوع بالحديث إنّما هو مقدار من الملكيّة التي هي بأجمعها أثر العقد، ويكون في رفعه منّة، وأمّا المقدار الذي لا منّة في رفعه - وهي الملكيّة بعد1.

ص: 127


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/124.
2- منية الطالب: ج 1/414.
3- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 2/61.

الرضا - فلا يكون مرفوعاً بالحديث.

الإيراد الثاني: ما أورده السيّد الفقيه رحمه الله(1)، المحقّق النائيني رحمه الله(2)، وخلاصته أنّ المرفوع لا يختصّ بالآثار المتعلّقة بالمكرَه، بل المرفوض مطلق الآثار.

وفيه: إنّ الآثار المتعلّقة بغير المكره على قسمين:

قسمٌ منها: مترتّبٌ على الآثار المتعلّقة بالمكرَه، نظير ما لو اُكره على النكاح فأوقع النكاح عن كره، فإنّ ثبوت عدم جواز تزويج تلك المرأة، وكون الزنا معها زنا بذات البعل، ونحو ذلك، مترتّبة على زوجيّة تلك المرأة للمكرَه.

وقسمٌ منها: يكون مترتّباً على ذلك الفعل مستقلّاً، نظير وجوب وفاء الطرف بالعقد الواقع بينه وبين المكرَه، حيث أنّه مترتّبٌ على العقد مستقلّاً.

وما ذكراه يتمّ في القسم الأوّل دون الثاني، فتدبّر. وهكذا ظهر أنّ هذا الجواب متين.

الجواب الثاني(3): إنّ الحديث إنّما يرفع الأثر المترتّب على المكره عليه لولا الإكراه، وأمّا الأثر الثابت له بوصف الإكراه، فلا يدلّ الحديث على رفعه، وهو واضح، والأثر الثابت للعقد - مع قطع النظر عن الإكراه - هي السببيّة المستقلّة، والمدّعى ثبوته له هو وقوفه على رضا المالك، وهذا غير مرتفع بالإكراه.

ثمّ أورد الشيخ رحمه الله على نفسه (4) : بأنّ أثر العقد الثابت له بمقتضى الإطلاقات، هو السببيّة التامّة المرفوعة بالحديث، وثبوت السببيّة الناقصه بحاجة إلى دليلٍ آخر3.

ص: 128


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/127.
2- منية الطالب: ج 1/413-414. (3و4) المكاسب: ج 3/332 و 333.

مفقود، فالمرجع إلى أصالة الفساد.

وأجاب عنه(1): بأنّ المطلقات قيّدت بمقيّدٍ آخر - غير حديث الرفع - وهو بالرضا في مرتبةٍ سابقة على الحديث، فيكون المستفاد منها - بعد الجمع - أنّ العقد المرضيّ به بالرضا السابق أو اللّاحق يكون مؤثّراً، ولا حكومة للحديث على ذلك، إذ البيع المرضيّ به بالرضا السابق لا يُعقل عروض الإكراه عليه، وأمّا المرضيّ به بالرضا اللّاحق فهو من هذا القيد لا يعرضه الإكراه، وبدونه وإنْ كان يعرضه إلّا أنّه لا أثر له، إذ كونه جزء المؤثّر عقلي قهري يحصل بعد حكم الشارع بتأثير العقد المرضيّ به، وعلى هذا فالمطلقات المقيّدة بالرضا الأعمّ من السابق أو اللّاحق دليلٌ على صحّة هذا العقد.

أقول: يرد عليه أُمور:

أحدها: ما تقدّم من أنّه لولا دليل رفع ما استكرهوا عليه لما كان دليلٌ على اعتبار الرضا في العقد.

ثانيها: أنّ الجزئيّة للمؤثّر وإنْ كانت غير مجعولة، إلّاأنّها مجعولة بتبع جعله جزء المؤثّر، وهو قابل للرفع.

ثالثها: إنّه على هذا لا يكون حديث الرفع من الأدلّة في هذا المبحث.

وعليه، فالحقّ عدم تماميّة هذا الجواب، وأمّا جوابه الأوّل فتامٌّ لا غبار عليه.

أقول: ويمكن أن يُجاب عن هذا الوجه بجواب آخر، وهو:

إنّ الآثار إنّما تترتّب على المنشآت لا الإنشائات، وهي أُمور باقية اعتباراً،4.

ص: 129


1- المكاسب: ج 3/333-334.

فلها حدوثٌ وبقاء، ومن الواضح أنّ المرفوع إنّما هو المكرَه عليه بهذا العنوان، كما هو الشأن في جميع العناوين المأخوذة في الموضوعات، فما دام يكون الإكراه باقياً لا يترتّب عليه الأثر، وإذا تبدّل إلى الرضا فهو يكون مؤثّراً بقاءً .

ونظير ذلك ما لو أُكره الجُنُب على الجلوس في المسجد، فإنّه ما دام الإكراه باقياً تكون الحرمة مرتفعة، فإذا تبدّل إلى الرضا حرم جلوسه بقاءً .

فتحصّل: أنّ الأظهر ما هو المشهور من صحّة عقد المكره إذا تعقّبه الرضا.

***

ص: 130

مالكٍ أو بحكمه كالأب والجَدّ والحاكم وأمينه، والوصيّ ، والوكيل. ويقف عقد غيرهم على الإجازة.

بيع الفضولي

المسألة الرابعة: ويدور البحث فيها عن أنّ من شروط المتعاقدين صدور الإيجاب من ال (مالك) للمبيع، والقبول من المالك للثمن.

وبعبارة أُخرى : يجب صدور العقد عن المالك، (أو) ممّن يكون (بحكمه)، أي من له أن يبيع عن المالك (كالأب والجَدّ والحاكم وأمينه والوصي) له أو لأحد الأبوين المذكورين، (والوكيل) للمالك، والقائم مقامه، أو المأذون عنهم، بلا خلافٍ (1) أجده في شيء من ذلك، بل الإجماع بقسميه عليه(2).

(و) لو باع غير المذكورين (يقف عقد غيرهم على الإجازة) عندنا كما عن «التذكرة»(3).

أقول: وتنقيح القول عن هذا الأمر يقتضي البحث عن مواضع، لكن قبل الشروع فيها لابدّ من التنبيه على جهات:

الجهة الأُولى: إنّ الكلام في المقام ليس في ترتّب اللّزوم على عقد الفضولي وعدمه، بل في صحّته الفعليّة وعدمها، وأنّه هل يترتّب عليه الأثر أم لا؟

ص: 131


1- المراسم العلويّة: ص 174، الكافي في الفقه: ص 352، المهذّب البارع: ج 1/350، شرائع الإسلام: ج 2/268.
2- جواهر الكلام: ج 22/272.
3- تذكرة الفقهاء: ج 10/215.

فما في «المكاسب»(1) من تفسير عدم صحّته بعدم ترتّب اللّزوم على عقده كأنّه سهوٌ من قلمه الشريف.

الجهة الثانية: إنّ كلمة (الفضول) جمع (الفضل)، وهو يعني قيام الإنسان بالفعل الذي لا يعنيه ولا يهمّه، والفضول من الجموع التي جاءت بمعنى المفرد إذا استندت إلى الشخص، فهو يُطلق على من يعمل عملاً لا يهمّه وغير مرتبط به، وليس له في الاصطلاح معنى خاص، بل هو عبارة عمّن يعامل معاملة لا يكون مالكاً لها، إمّا لعدم مالكيّته للعين التي هي مورد المعاملة كبيع مال الغير، أو لتعلّق حقّ الغير بالعين كالمرهون، أو لمنع الشارع عنها إلّابإذن شخصٍ خاص كنكاح بنت الأخ، حيث إنّه يعتبر في صحّته إذن عمّته لو كانت زوجته.

أقول: ويترتّب على ما ذكرناه أمران:

أحدهما: أنّ الأولى التعبير ببيع الفضولي بنحو الإضافة، لا البيع الفضولي بنحو التوصيف.

ثانيهما: أنّ مراد الشيخ رحمه الله(2) بقوله: (أن يكونا مالكين):

إنْ كانت مالكيّتهما للتصرّف، أغنى عن ذكر قسيمه.

وإنْ كانت مالكيّتهما للعين، فيرد عليه أنّ مجرّد ذلك لا يكفي مع عدم مالكيّتهما للتصرّف، لتعلّق حقّ الغير مثلاً بما هو مورد المعاملة.

الجهة الثالثة: أرسل الشيخ رحمه الله(3) عدم جريان الفضولي في الإيقاعات إرسال المسلّمات، ونقل دعوى الإجماع عليه من «غاية المراد»، ولكن الحقّ أنْ يقال:

إنْ بنينا على بطلان الفضولي على القاعدة في العقود، وخرجنا عنها لدليل6.

ص: 132


1- المكاسب: ج 3/345 و 346.
2- المكاسب: ج 3/345 و 346.
3- المكاسب: ج 3/345 و 346.

خاص، فلا يصحّ إيقاع الفضولي لعدم الدليل.

وأمّا بناءً على صحّته مع الإجازة على القاعدة، فلا وجه لما أفاده، وذلك لأنّه لم يذكر دليلاً على بطلان إيقاعه عموماً سوى الإجماع.

ويرد عليه أوّلاً: إنّه غير ثابت، بل المتتبّع يقف على شواهد يطمئن بعدمه، فإنّ ظاهر جمعٍ منهم، وصريح آخرين البناء على صحّته مع الإجازة في جملة من الموارد كالوصيّة بما زاد على الثّلث، بناءً على أنّها إيقاع، وعتق الراهن العبد المرهون، وعتق المرتهن إيّاه، وغير ذلك من الموارد، ولذا قال صاحب «الجواهر»(1): (بل عرفت ممّا قدّمناه جريانه في العقود وغيرها من الأفعال كالقبض ونحوه، والأقوال التي رتّب الشارع عليها الأحكام إلّاما خرج بالدليل) كما أومأ إليه في شرح الأستاد.

وثانياً: إنّه لو ثبت فليس إجماعاًتعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم، فلايستند إليه.

الجهة الرابعة: في أنّه هل يشمل عقد الفضولي العقد المقرون برضا المالك من دون إذن منه صريحاً أو فحوى، كما هو المنسوب إلى ظاهر الأصحاب(2)؟

أم لايشمله، بل يكفي مجرّدرضاه في صحّة العقد، وترتّب أثره كمااختاره الشيخ رحمه الله(3).

أم يجب التفصيل بين ما إذا كانت الإجازة لتحقّق استناد العقد إلى من يملك التصرّف، حتّى يكون العقد عقده فلا يكفي، وبين ما إذا كانت لجهةٍ أُخرى كالعين المرهونة إذا باعها مالكها، فإنّ إجازة المرتهن ليست لأجل تحقّق استناد العقد إليه، بل لأنّ العين وثيقته كما اختاره السيّد الفقيه(4)، وجوه:6.

ص: 133


1- جواهر الكلام: ج 22/280.
2- نسبه إليهم الشيخ الأعظم في المكاسب: ج 3/347.
3- المكاسب: ج 3/347.
4- يبدو أنّ المقصود هو المحقّق الاصفهاني، راجع حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 2/76.

أمّا الثاني: فقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: عموم وجوب الوفاء بالعقود(1).

وأورد عليه: جمعٌ منهم المحقّق النائيني رحمه الله(2) بأنّ مقابلة الجمع بالجمع تقتضي التوزيع، أي كلّ مكلّفٍ يجبُ عليه الوفاء بعقده، وعقد الفضولي لا يكون عقد المالك بمجرّد رضاه، لأنّ كونه عقداً له يتوقّف على مباشرته أو نيابة الغير عنه بالإذن أو الإجازة، بعد صدور العقد من الفضولي.

وفيه أوّلاً: إنّ هذا لو تمّ لاقتضى البناء على القول الثالث دون الأوّل.

وثانياً: إنّه لا يتمّ ، لأنّ المراد من الاستناد ليس هو بنحو يصدق عليه إنّه أوجد العقد، لأنّه لا يصدق مع الإجازة، بل مع الإذن الذي حقيقته الترخيص، وإظهار الرضا به، لتوقّف صدقه على كون الفعل صادراً عنه بالمباشرة أو بالتسبيب، وشيءٌ منهما ليس في مورد الإذن، فضلاً عن الإجازة، بل المراد منه هو الاستناد، بمعنى أنّه عقده وبيعه، كما هو الظاهر من الآية الشريفة، فإنّ ظاهر قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (3) هو عقودكم لا ما عقدتم، وعليه فهذا المعنى من الاستناد كما يتحقّق بالإجازة - التي حقيقتها إظهار الرضا بما وقع - يتحقّق بالرضا به.

وبالجملة: المعنى المصدري لا يستند إلى المجيز ولا إلى الراضي، بل ولا إلى الآذن، والمعنى الاسم المصدري ينسب إليه بمجرّد الرضا.

ودعوى: أنّ الإجازة التزامٌ بالعقد، ولذا لا يصحّ من غير المالك بخلاف الرضا، ولذا يصحّ رضا الأجنبي بالعقد.1.

ص: 134


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- منية الطالب: ج 2/4.
3- سورة المائدة: الآية 1.

مردودة: لأنّ الالتزام بالعقد لا أتصوّر له معنى سوى الرضا به.

أقول: وبما ذكرناه ظهر صحّة الاستدلال ب «أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ » (1)، ولا يرد عليه ما أورده جمعٌ (2) من أنّ البيع - لا سيّما المعنى المصدري منه - لا ينتسب إلى المالك بمجرّد الرضا.

الوجه الثاني: ممّا استدلّ به الشيخ رحمه الله(3)، قوله تعالى: «تِجارَةً عَنْ تَراضٍ » (4).

أقول: وأُورد عليه بما أُورده على سابقيه، والجواب الجواب.

الوجه الثالث: ما دلَّ على أنّه لا يحلّ مال إمرىء مسلم إلّابطيب نفسه(5).

وفيه: ما تقدّم من أنّه في مقام بيان شرط الحلّية التكليفيّة، ولا كلام في أنّه يشمل الرضا النفساني، مع أنّه إنّما يدلّ على اعتبار الرضا لا على كفايته، والفرق واضحٌ .

الوجه الرابع: ما دلَّ على أنّ علم المولى بنكاح العبد وسكوته إقرارٌ منه(6).

وأُورد عليه جمعٌ من الأساطين(7): بأنّ السكوت عن مثل النكاح له خصوصيّة، وهي كاشفيّته النوعيّة عن الرضا.

وفيه: إنّ هذه الخصوصيّة لا تُنكر، إلّاأنّها لا توجبُ الفرق بين هذا الرضا1.

ص: 135


1- سورة البقرة: الآية 275.
2- كما في منية الطالب: ج 2/4.
3- المكاسب: ج 3/347.
4- سورة النساء: الآية 29.
5- وسائل الشيعة: ج 5/120-121 ب 3 من أبواب مكان المصلّي، والمستدرك: ج 1/212، الكافي: ج 426/1، الاحتجاج: ص 267.
6- وسائل الشيعة: ج 21/117-118 ب 26 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
7- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/134، تعليقات على المكاسب: ج 2/251.

المستكشف بالقرينة النوعيّة، والرضا المستَكشف من قرينة خاصّة.

وبالجملة: غاية ما هناك كاشفيّة السكوت عن الرضا، فلو لم يكن الرضا كافياً لم يكن ذلك مُجدياً، وبذلك يظهر صحّة الاستدلال بما دلَّ على كفاية سكوت الباكرة.

الوجه الخامس: رواية عروة البارقي(1)، وسيأتي الكلام فيها مفصّلاً، ويمكن الاستدلال له - مضافاً إلى ذلك كلّه - بصحيح الحميري الآتي الوارد فيه قوله عليه السلام:

«الضيعة لا يجوز ابتياعها الا عن مالكها أو بأمره أو رضاً منه»(2).

فتحصّل: أنّ الأظهر هو ما ذهب إليه الشيخ رحمه الله، كما أنّه ظهر بما ذكرناه مدرك القول الأوّل والجواب عنه.

ودعوى: أنّ الحالات النفسانيّة غير البارزة ساقطة عن درجة الاعتبار في باب العقود والإيقاعات.

مندفعة: بأنّ ذلك إنّما هو في المؤثّر، وهو العقد دون الشروط، ولا ريب في أنّ الرضا الباطني شرط كما عرفت.

كما أنّه ظهر مدرك القول الأخير، فإنّه استدلّ لعدم الاكتفاء به في معاملة غير المالك بما تقدّم، ولكفايته في معاملة المالك بأنّ اعتبار إجازة ذي الحقّ ليس لأجل تحقّق الاستناد، بل لاعتبار رضاه، وقد عرفت الجواب عنه.

أقول: إذا عرفت هذا، فاعلم أنّ ما يقوم به الفضولي:

1 - قد يبيع للمالك.

2 - وقد يبيع لنفسه.

وعلى الأوّل: فقد لا يسبقه منعٌ من المالك، وقد يسبقه المنع، فهاهنا ثلاثة صور:9.

ص: 136


1- المستدرك: ج 13/245 ب 18 من أبواب عقد البيع وشروطه رقم 15260.
2- وسائل الشيعة: ج 17/337 ب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 8 رقم 22699.

الصورة الاُولى بيع الفضولي للمالك مع عدم سبق المنع

الصورة الأُولى: أن يبيع للمالك مع عدم سبق منع من المالك، وهذا هو المتيقّن من عقد الفضولي.

أقول: والمشهور الصحّة(1)، بل عن «التذكرة» نسبته إلى علمائنا تارةً صريحاً.

أقول: وأُخرى ظاهراً بقوله: عندنا، إلّاأنّه ذكر عقيب ذلك: (إنّ لنا فيه قولاً بالبطلان)(2).

وفي «المكاسب»(3): (واستقرّ عليه رأي من تأخّر، عدا فخر الدِّين وبعض متأخّري المتأخّرين كالأردبيلي والسيّد الداماد، وبعض متأخّري المحدّثين)، ومراده صاحب «الحدائق».

وحيث إنّ القائلين بالصحّة، منهم من استند إلى القاعدة، ومنهم من استند إلى النَّص، فالأقوال في المسألة ثلاثة:

القول الأوّل: الصحّة على القاعدة.

القول الثاني: الصحّة لقيام النَّص.

القول الثالث: البطلان.

ذهب إلى كلٍّ جمعٌ .

ص: 137


1- المقنعة: ص 606، النهاية: ص 385، الوسيلة: ص 249، السرائر: ج 2/274.
2- تذكرة الفقهاء: ج 10/17-18 وص 42 وص 251.
3- المكاسب: ج 3/349-350.

استدلّ الشيخ رحمه الله للأوّل(1): بأنّ مقتضى العمومات مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ » وغيرهما، ترتّب الأثر على كلّ عقد، وقد قيّد ذلك بما دلَّ على اشتراط ترتّب الأثر بالرضا وتوقّفه عليه، والمتيقّن من ذلك الجامع بين الرضا السابق واللّاحق، فالعقد الملحوق بالرضا يشكّ في ترتّب الأثر عليه، فالمرجع إلى العمومات المقتضية لذلك.

وفيه أوّلاً: إنّه بناءً على ما أسّسه في الأُصول(2) - من أنّه إذا فرض خروج بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن العموم، ولم يكن لدليل ذلك العموم عمومٌ أزماني بعد ذلك الزمان المُخرَج بالنسبة إلى ذلك الفرد، فإنّه لا يصحّ التمسّك بالعموم، بل لابدّ من الرجوع إلى الاستصحاب - لا وجه لتمسّكه بالعمومات في المقام، لخروج العقد عنها قبل لحوق الإجازة، وعدم التزام أحدٍ بوجوب الوفاء عليه بأن يجيزه، فبعد الإجازة يشكّ في أنّه هل يجب الوفاء به ليترتّب عليه الأثر أم لا، فحيث إنّه ليس لها عموم أزماني، فلا مورد للتمسّك بها، بل يتعيّن الرجوع إلى الاستصحاب المقتضي لعدم ترتّب الأثر.

وثانياً: المستفاد من الأدلّة - بحسب المتفاهم العرفي كما تقدّم - هو لزوم انتساب العقد والمعاملة إلى المالك، وليس مفادها لزوم الوفاء بكلّ عقد.

وبالجملة: المستفاد منها وجوب وفاء كلّ شخصٍ بعقد نفسه، فليس الموضوع كلّ عقدٍ كي يصحّ التمسّك بالعموم مع عدم الانتساب، وقد اعترف قدس سره بذلك في4.

ص: 138


1- المكاسب: ج 3/350.
2- فرائد الأُصول: ج 3/274.

مبحث الإجازة(1) بأنّ دليل وجوب الوفاء بالعقد تكليف موجّهٌ إلى العاقدين، ومن المعلوم أنّ المالك لا يصبح عاقداً أو بمنزلته إلّابعد الإجازة، فلابدّ من تنقيح ذلك، وأنّه هل ينسب العقد والمعاملة إلى المالك بمجرّد الإجازة أم لا، وقد تقدّم تقريب إضافته إليه بالإجازة في الحاشية السابقة، وحاصله أنّ المعتبر إنّما هو استناد المسبّبات دون الأسباب التي تستند إليه بالإجازة.

أقول: وعلى هذا البيان لا يرد ما أوردناه أوّلاً على الشيخ الأعظم، لأنّ العقد قبل الإجازة لايكون مشمولاً للعمومات، لا أنّه مشمولٌ لها وخارجٌ عنها للمخرج.

وأورد السيّد الفقيه رحمه الله(2) على هذا الوجه: بأنّ الإجازة لا تغيّر ما وقع عليه بحيث تنقلب النسبة، ألا ترى إنّه لو أمر المولى عبده بضرب أحدٍ فضربه فإنّه يصدق أنّه ضربه، ولكن لو ضربه أحدٌ واطّلع المولى عليه بعد ذلك فرضي به، فإنّه لا يصدق أنّه ضربه.

وفيه: إنّ ما ذكره رحمه الله يتمّ في الموجودات التكوينيّة الخارجيّة كالضرب والأسباب في باب العقود والإيقاعات، ولذا ذكرنا أنّها لا تستند إليه بالإجازة، وهذا بخلاف الموجودات الاعتباريّة وهي المسبّبات في المقام، فإنّها تستند إليه بالإجازة فتشملها العمومات.

فتحصّل: أنّ مقتضى العمومات صحّة الفضولي، ويمكن أن يستدلّ لها بالسيرة العقلائيّة بضميمة عدم ردع الشارع الأقدس عنها.4.

ص: 139


1- المكاسب: ج 3/405.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/134.

وأمّا ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(1): في وجه الصحّة، بأنّ الإجازة بنفسها إنشاءٌ من قِبل المجيز، فمع إنشاء الأصيل أصبح عقداً يشمله العمومات.

فيرد عليه: إنّه على هذا عقدٌ فاقد للتوالي بين الإيجاب والقبول، ومقدّم قبوله على إيجابه فيما إذا كان الأصيل مشترياً.

وعليه، فالحقّ ما ذكرناه.

أقول: استدلّ الفقهاء لصحّة الفضولي بمجموعة من الأدلّة الخاصّة:

الدليل الأوّل(2)

ما تضمّن قضيّة عروة البارقي، حيث إنّه دفع إليه النبي صلى الله عليه و آله ديناراً ليشتري به شاة للأُضحية، فاشترى به شاتين، ثمّ باع أحدهما في الطريق بدينارٍ، فأتى النبي صلى الله عليه و آله بالشاة الثانية والدينار، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «بارك اللّه لك في صفقة يمينك»(2).

ومن الواضح أنّ شراءه وبيعه وقعا فضوليين، وبرغم ذلك بارك له النبيّ صلى الله عليه و آله.

وقد أفاد الشيخ رحمه الله(4): إنّه يمكن توجيه شراءه بنحوٍ يخرج عن الفضوليّة، ولم يذكر التوجيه.

أقول: تحدّث الفقهاء عن هذه الرواية بأُمور:

منها: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(3) من أنّه مسبوقٌ بإذن الفحوى، حيث إنّ إذنه بشراء شاةٍ بدينار، يقتضي إذنه ورضاه بشراء شاتين بهذا المبلغ بطريق أولى .

وفيه: إنّه إنْ كان النبي صلى الله عليه و آله أعدَّ ديناراً لصرفه في شراء الشاة كان هذا متيناً،1.

ص: 140


1- تعليقات على المكاسب: ج 2/258. (2و4) المكاسب: ج 3/351.
2- المستدرك: ج 13/245 ب 18 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 1 رقم 15260.
3- منية الطالب: ج 2/11.

ولكنّه صلى الله عليه و آله إنّما أراد شاة واحدة للاُضحية، ومعه لا سبيل إلى دعوى إذن الفحوى كما لا يخفى .

ومنها: ما أفاده السيّد الفقيه(1)، من أنّ المراد جنس الشاة الصادق على الواحد والمتعدّد.

وفيه: مضافاً إلى أنّه خلاف الظاهر في نفسه، يأباه بيع عروة إحدى الشاتين.

ومنها: غير ذلك ممّا هو واضح الدفع.

أقول: ولكن يرد على الاستدلال بهذا الخبر أمران:

الأمر الأوّل: إنّه ضعيف السند، لأنّه مرويّ من طرق العامّة، وعروة لم يوثّق عندنا، مضافاً إلى نقل الشيخ رحمه الله(2)، والعلّامة(3) إيّاه من عَرَفة، والقدماء من الأصحاب لو لم يكونوا مُعرِضين عنه لا سبيل إلى دعوى عملهم به كي ينجبر به ضعف السند.

الأمر الثاني: إنّه يحتمل أنّ عروة من حيث كونه معدّاً لخدمة النبي صلى الله عليه و آله، كان وكيلاً مفوّضاً في أمر البيع والشراء، فلم يكن بيعه ولا شراءه فضوليّاً، وحيث إنّه قضيّة في واقعة، ولا إطلاق لها، فالاحتمال يسقطه عن الاستدلال.

وقد أورد على الاستدلال به الشيخ رحمه الله(4) بإيرادين:

الإيراد الأوّل: إنّه حيث كان عروة قَبَض الثمن وأقبض الشاة، ولا سبيل:2.

ص: 141


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/135.
2- رجال الطوسي: ص 70 رقم 647.
3- خلاصة الأقوال: ص 327 رقم 15.
4- المكاسب: ج 3/351-352.

إلى دعوى أنّه فعل حراماً لمنافاته لتقرير النبيّ صلى الله عليه و آله.

ولا إلى جواز التصرّف في المبيع ببيع الفضولي قبل الإجازة، بناءً على كونها كاشفة لا ناقلة، لما سيجيء من ضعفه.

ولا إلى دعوى علم عروة برضا النبي صلى الله عليه و آله بإقباض ماله للمشتري حتّى يستاذن، وعلم المشتري بكون البيع فضوليّاً حتّى يكون دفعه للثمن بيد البائع على وجه الأمانة.

فيتعيّن البناء على خروج المعاملة المقرونة برضا المالك عن معاملة الفضولي.

وفيه أوّلاً: لا وجه لاستظهار فساد الاحتمال الثالث، إذ لا سبيل له سوى دعوى كون المشتري جاهلاً، وهو غير ثابت، مع أنّه لو كان جاهلاً يمكن أنْ يكون دفع الثمن على وجه الاستئمان، بأن يدفعه على وجه الرضا المطلق، أي على جميع التقادير، على أنّه إنْ كان مالكاً، فبما أنّه مالك، وإلّا فبما أنّه أمين، نعم الشيخ رحمه الله لايحتاج إلى إثبات فساده، بل مجرّد الاحتمال الرابع يُسقطه عن الاستدلال.

وثانياً: إنّ المعاملة المقرونة برضا المالك الفعلي خارجة عن الفضوليّة لا المقرونة بالرضا التقديري، والمقام من قبيل الثاني.

الإيراد الثاني(1): الظاهر وقوع المعاملة في مورد الرواية بنحو المعاطاة بين رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومشتري الشاة، ويكون عروة آلة محضة في إيصال العوضين، ومن المعلوم كفاية وصول العوضين إلى المالكين مع رضاهما في الحكم بصحّة المعاطاة، وإنْ كان الموصل غير ذي شعور.2.

ص: 142


1- المكاسب: ج 3/352.

وفيه أوّلاً: إنّ ظاهر قوله صلى الله عليه و آله: «باركَ اللّه في صفقة يمينك»، هو التبريك في المعاملة الصادرة منه، لا على كونه آلة في إيصال الثمن والمثمن.

وثانياً: إنّ الكافي على فرض القول به، هو القصد إلى إنشاء البيع بإيصال العوض بأيّ وجهٍ اتّفق، وما هو موجود في المقام هو الرضا بالبيع الصادر من الغير.

وعليه، فالصحيح ما ذكرناه.

الدليل الثاني(1)

هو الخبر الصحيح المروي عن محمّد بن قيس، عن سيّدنا الباقر عليه السلام قال:

«قضى أمير المؤمنين عليه السلام في وليدة باعها ابن سيّدها وأبوه غائب، فاستولدها الذي اشتراها، فولدت منه، فجاء سيّدها فخاصم سيّدها الآخر، فقال: وليدتي باعها ابني بغير إذني ؟

فقال عليه السلام: الحكم أن يأخذ وليدته وابنها.

فناشده الذي اشتراها، فقال له: خُذ ابنه الذي باعك الوليدة، حتّى ينفّذ لك البيع. فلمّا رآه أبوه قال له: أرسِل إبني، قال: لا واللّه لا أرسلُ ابنك حتّى تُرسل ابني، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه»(2).

قال الشهيد رحمه الله في «الدروس»(3): (إنّ فيه دلالة على صحّة الفضولي).

أقول: الكلام فيه يقع في جهتين:

الأُولى : في فقه الحديث.3.

ص: 143


1- المكاسب: ج 3/353.
2- وسائل الشيعة: ج 203/21 ب 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 1 رقم 26900، التهذيب: ج 488/7 ح 168.
3- الدروس: ج 3/233.

الثانية: في دلالته على صحّة الفضولي.

أمّا الجهة الأُولى(1): فقد يقال إنّه مشتملٌ على أحكامٍ لا يمكن الالتزام بها، ولأجل ذلك يُردّ علمه إلى أهله:

منها: حكمه عليه السلام بأخذ الوليدة وابنها، قبل أن يسمع من المشتري دعواه، ولعلّه كان يدّعي إذن السيّد أو رضاه، فكان يتعيّن تكليفه بإقامة البيّنة، ومع عدمها أن يكلّف السيّد بالحلف أو رَدّ الحلف كما هو الشأن في سائر موارد المخاصمات.

وفيه: إنّه حيث كان نقل أبي جعفر عليه السلام هذه القضيّة لبيان أنّ البيع قابلٌ للإجازة، لم تكن وظيفته عليه السلام بيان جميع الخصوصيّات، فلعلّه لم يكن المشتري مدّعياً الإذن أو الوكالة أو الرضا، أو أنّه إنّما حكم عليه السلام بذلك بعد تكليفه بإقامة البيّنة.

ومنها: حكمه عليه السلام بأخذ الولد مع أنّه حُرٌّ، إذ الظاهر أنّ الوطء كان قد تحقّق بالشبهة.

وفيه: إنّه يمكن أنْ يكون الأخذ لأجل تعلّق حقّه به، من جهة أنّ الولد نماء أمته، وإنْ أبيت عن استحقاق القيمة إلّاعلى تقدير عدم الإجازة، فقد حكم عليه السلام بذلك قبل الإجازة.

ومنها: حكمه بأخذ ابن السيّد، مع أنّ غاية الأمر كونه غاصباً.

وفيه: إنّه لأجل صيرورته سبباً لتلك الخسارة، وغاصباً للثمن، لا مانع من ذلك للتوصّل به إلى حقّه.

ومنها: تعليمه عليه السلام إيّاه الحيلة، مع أنّ ذلك بعيدٌ عن وظيفة الحاكم.5.

ص: 144


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/135.

وفيه أوّلاً: إنّه لم يثبت كون ذلك قضاءً ، بل لعلّه كان جواباً عن المسألة وبياناً للحكم الشرعي.

وثانياً: لم يدلّ دليلٌ على عدم جواز تعليم القاضي والحاكم الحيلة.

ومنها: حكمه عليه السلام بأخذ الوليدة وابنها من دون تقييد بعدم الإجازة.

وفيه: إنّه بيان للحكم في فرض عدم الإجازة.

ومنها: إنّه يدلّ على نفوذ الإجازة بعد الرّد، والإجماع(1) قام على عدم نفوذها، وسيأتي الجواب عن ذلك.

وأمّا الجهة الثانية(2): فقد أُورد على الاستدلال به على صحّة بيع الفضولي، بأنّه ظاهرٌ في تأثير الإجازة المسبوقة بالرّد، وهو خلاف الإجماع.

أقول: يقع الكلام في ذلك في موردين:

الأوّل: في ظهوره في ذلك.

الثاني: في أنّه على فرض الظهور، هل هناك ما يمنع عن الاستدلال به على صحّة الفضولي أم لا؟

أمّا المورد الأوّل: فقد استدلّ الشيخ رحمه الله(3) في دعواه تلك إلى أُمور:

الأمر الأوّل: إطلاق حكمه عليه السلام بتعيّن أخذ الجارية وابنها من المالك، إذ لو لم يكن رادّاً للبيع، وجب تقييد الأخذ بصورة اختيار الرّد.

وفيه: إنّه مع عدم الإجازة، يكون الحكم ذلك أيضاً، فلعلّه كان مردّداً في الرّد4.

ص: 145


1- الوسيلة: ص 249، مختلف الشيعة: ج 5/315، تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 2/120، الروضة البهيّة: ج 4/68.
2- راجع جواهر الكلام: ج 22/278، المكاسب: ج 3/354.
3- المكاسب: ج 3/354.

والإجازة، فحَكَم عليه السلام بأخذهما ما لم يجز.

الأمر الثاني: ظهور المخاصمة في ذلك.

وفيه: إنّها ظاهرة في كراهة البيع، لا في الرّد الذي هو حَلّ للعقد ورفع له، ومجرّد إظهار الكراهة الباطنيّة ليس ردّاً، بل يمكن منع ظهورها في ذلك أيضاً، إذ لعلّها كانت لأجل استحصال ثمن الجارية الذي أخذه أبوه.

الأمر الثالث: مناشدة المشتري للإمام عليه السلام، وإلحاحه له في علاج فكاك ولده.

وفيه: إنّه حيث لم يجز البيع واستردّ ماله ونماءه إلى أن ينفكّ بأداء قيمته، طلب منه عليه السلام علاجاً ليجيز البيع.

الأمر الرابع: قوله: «حتّى تُرسل ابني» الظاهر في أنّه حَبَس الولد، ولو على قيمة يوم الولادة.

وفيه: إنّه ظاهرٌ في عدم الإجازة دون الرّد، إذ للمالك التصرّف في ماله قبل الإجازة حتّى على الكشف.

فتحصّل: أنّه لا ظهور للرواية في كون الإجازة بعد الرّد، وعليه فالاستدلال به على صحّة الفضولي لا إشكال فيه.

وأمّا المورد الثاني: فقد ذهب السيّد الفقيه رحمه الله(1) إلى أنّ الرواية تعدّ دليلاً على صحّة الإجازة حتّى بعد الرّد، ولا مانع من العمل بها.

وفيه: إنّه خلاف الإجماع(2)، ولذلك لا يمكن المصير إليه.8.

ص: 146


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/135.
2- الوسيلة: ص 249، مختلف الشيعة: ج 5/315، تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 2/120، الروضة البهيّة: ج 4/68.

أقول: أفاد الشيخ رحمه الله(1) في وجه صحّة الاستدلال به في المقام، بأنّ هذا الخبر المتضمّن لقوله عليه السلام: «حتّى ينفذ لك البيع»، وقوله: «أجاز بيع ابنه» ظاهرٌ في أنّ حكم الفضولي ذلك، وعليه فيتصرّف في ظهور صدره في الإجازة بعد الرّد، ويؤل بإرادة عدم الجزم بالإجازة والرّد أو غير ذلك.

وفيه: الظاهر من قول أمير المؤمنين عليه السلام البيع، إرادة البيع الخاص الذي أوقعه الابن، وصريح قول الإمام الباقر عليه السلام ذلك، فهو ظاهرٌ في القضيّة الشخصيّة، وحيث إنّه على هذا لا يعمل بالخبر فيما تضمّنه بحسب ظاهره، فلابدّ من تأويله، ومعه يصبح الخبر مجملاً فلا يمكن الاستدلال به.

ودعوى: أنّه بالدلالة المطابقيّة يدلّ على صحّة الفضولي في المورد، وبالدلالة الالتزاميّة يدلّ على قابليّة كلّ فضولي للنفوذ بالإجازة، والإجماع المشار إليه يوجبُ سقوط الأُولى لا الثانية.

مندفعة: بتبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة وجوداً وحجيّة. فتدبّر، وعليه فالحقّ ما ذكرناه.

الدليل الثالث

النصوص(2) الواردة في النكاح الدالّة على نفوذه بالإجازة.

أقول: وتقريب الاستدلال بها من وجوه:د.

ص: 147


1- المكاسب: ج 3/355.
2- وسائل الشيعة: ج 21/114-118 ب 24 و 25 و 26 و 27 من أبواب نكاح العبيد والإماء، وص 190 ب 70 من أبواب نكاح العبيد والإماء، و ج 20/275-281 ب 6 و 7 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، وص 292-293 ب 13 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

الوجه الأوّل: بعموم التعليل الوارد في صحّة نكاح العبد بإجازة المولى - حيث علّله عليه السلام بأنّ نكاحه مشروعٌ ذاتاً، وليس معصية للّه تعالى ، بل إنّما يكون عدم نفوذه من باب كونه عصياناً للسيّد، فإذا أجاز جاز - فإنّه يدلّ على أنّ كلّ معاملة لا تكون غير مشروعة بذاتها كبيع الخمر والخنزير، بل إنّما لا تكون نافذة لرعاية حقّ الغير، تصحّ بإجازة من اعتبر رضاه، فإنّ كونها معصية لذلك الغير قابلة للزوال بسبب تبدّل كراهته بالرضا.

الوجه الثاني: ما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(1)، من أنّ ما ورد في نكاح الفضولي الدالّ على صحّته بالإجازة، بإطلاقه يشمل ما إذا تضمّن الصداق بيعاً، كما إذا باع شخصٌ مال زيد من عمرو فضولاً بمائة دينار وتزوّج له هنداً بتلك الدنانير، فاطلاق تلك الأخبار يقتضي صحّة هذا النكاح، ولازمه صحّة البيع أيضاً، ويتمّ في غير هذه الصورة بالإجماع المركّب.

وفيه أوّلاً: إنّ الأخبار المذكورة مسوقة لبيان حكم النكاح من هذه الجهة خاصّة، ولا نظر لها إلى الجهات الاُخر، فلا وجه للتمسّك بإطلاقها.

وثانياً: إنّ النكاح لعدم توقّفه على المهر - لأنّ بطلان المهر لايستلزم بطلان النكاح - لا يلازم إمضاؤه في الفرض إمضاء البيع وإنفاذه.

الوجه الثالث: ان جملة من النصوص تدلّ على أنّ النكاح يصحّ بالإجازة، فإذا صحَّ تمليك البُضع بالإجازة، صحَّ تمليك ماله بها بالأولويّة، إمّا لأنّ الأوّل لا عوض له بخلاف الثاني، أو لأنّ النكاح مبنيّ على الاحتياط وأحرى بشدّة الاهتمام، لأنّه يكون منه الولد.7.

ص: 148


1- جواهر الكلام: ج 22/277.

أقول: الكلام فيه يقع في جهات:

الأولى: في ثبوت هذا الحكم في مطلق النكاح.

الثانية: في التعدّي عنه إلى سائر العقود بحسب القواعد.

الثالثة: في أنّ الرواية التي أشار إليها الشيخ(1) هل تمنع عن هذه الأولويّة أم لا؟

أمّا الجهة الأُولى : فعن الشيخ في «المبسوط»(2) و «الخلاف»(3)، إنكاره فيه من الأصل، وتبعه فخر المحقّقين(4) على ذلك أيضاً، وعن ابن حمزة(5) اختصاصه بتسعة مواضع، لوجود النَّص فيها دون غيرها، واستشكل السيّد الفقيه(6) في التعدّي عن تلك الموارد المخصوصة، والمشهور بين الأصحاب التعدّي(7)، بل نَقَل الإجماع عليه غير واحد(8).

أقول: صحّة نكاح الفضولي في الجملة ممّا لا ينبغي التوقّف فيه، لورود جملةٍ من الأخبار(9) في نكاح الأب لابنه، والأخ لأخيه، والعمّ لابن أخيه، والاُمّ لابنها، ونكاح الوصيّ ، وغير ذلك من الموارد، وفيها الصحاح والموثّقات.د.

ص: 149


1- المكاسب: ج 3/356-357.
2- المبسوط: ج 4/163.
3- الخلاف: ج 4/257.
4- إيضاح الفوائد: ج 3/27.
5- الوسيلة: ص 300.
6- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/136.
7- المقنعة: ص 507 وص 511، الغنية: ص 343، السرائر: ج 2/562، شرائع الإسلام: ج 2/504.
8- الناصريّات: ص 330، السرائر: ج 2/562.
9- وسائل الشيعة: ج 20/275-283 ب 6 و 7 و 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، وص 292-293 ب 13 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

وأمّا التعدّي عن تلك الموارد إلى مطلق النكاح، فالظاهر ذلك، لأنّ غاية ما ذكر في وجه عدم التعدّي، هي أنّ موارد النصوص الواردة في المقام ما بين ما يكون العاقد عاقداً لنفسه، إلّاأنّه منوط برضا الغير، وما بين ما يكون العاقد وليّاً شرعيّاً أو عرفيّاً، فالتعدّي عنها إلى ما إذا كان العاقد عاقداً لغيره ولم يكن وليّاً يحتاج إلى دليل.

ولكنّه فاسدٌ، وذلك لوجهين:

أحدهما: أنّ من جملة تلك النصوص ما ورد في نكاح الأخ والعمّ (1)، وهما ليسا عاقدين لأنفسهما، ولا ولاية لهما عرفاً أيضاً.

ثانيهما: أنّ من جملتها ما ورد في عبد مملوك بين رجلين زوّجه أحدهما والآخر لا يعلم، وعلم به بعد ذلك، حيث قال عليه السلام للذي لم يَعلم ولم يأذن: «أن يفرّق بينهما، وإنْ شاء تركه على نكاحه»(2)، ونحوه ما ورد في جارية مملوكة بين رجلين(3)، فإنّهما يدلّان على توقّف نكاح أحد الشريكين على إجازة الآخر، من حيث أنّه تصرّفٌ ورد على ماله، ومعلوم أنّه ليس عاقداً لنفسه، ولا ولاية له عرفاً ولا شرعاً، فإذاً ثبوت ذلك في مطلق نكاح الفضولي ممّا لا ينبغي التوقّف فيه.

وأمّا الجهة الثانية: فالحقّ عدم صحّة التعدّي إلى سائر العقود، لعدم تماميّة الوجهين المتقدّمين.0.

ص: 150


1- وسائل الشيعة: ج 20/275-283 ب 6 و 7 و 8 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد، وص 292-293 ب 13 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.
2- وسائل الشيعة: ج 21/116 ب 25 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 1 رقم 26670، التهذيب: ج 8/207 ح 38.
3- وسائل الشيعة: ج 21/190 ب 70 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 1 رقم 26871، قرب الإسناد: ص 250.

أمّا الأوّل: فلأنّ في النكاح لا يُملك البضع، بل هناك تسلّط محض، مع أنّه لايجري في الهبة والصلح في موردها، مضافاً إلى أنّ هذه الأولويّة ظنيّة، لخفاء المصالح المقتضية لجعل الأحكام.

وأمّا الثاني: فلأنّ الشارع الأقدس وإنْ اهتمّبالنكاح - وهو أحرى بالاحتياط - إلّا أنّ ذلك في مقام عمل المكلّفين برعاية ما جعل الشارع سبباً له، وفي موارد الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، ولا ربط لذلك بجعل الشارع، فتوسعة الشارع في أسباب النكاح، لا تستلزم توسعته في أسباب البيع بالضرورة، بل الشارع الأقدس اعتبر في سائر العقود ما لم يعتبر في هذا العقد - كالتقابض في الصَّرف والسَّلم - ووسّع في أسباب النكاح بتشريع عقد التمتّع، ومِلْك اليمين، وجواز تقديم القبول على الإيجاب، وجواز الاقتصار على السكوت في مقام الإذن والرضا.

وبالجملة: أهميّة النكاح ربما تستدعي التوسعة في أسبابه لئلّا يقع الناس في الزنا، ومثل هذه الحكمة مفقودة في غيره.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم التعدّي إلى سائر العقود.

وأمّا الجهة الثالثة: فقد أفاد الشيخ رحمه الله(1) أنّها ربما توهن بالنص الوارد في الرّد على العامّة، الفارقين بين تزويج الوكيل المعزول... إلى آخره، والنَّص المشار إليه هو صحيح العلاء بن سيّابة عن مولانا الصادق عليه السلام وفيه:

«ما أجور هذا الحكم وأفسده، إنّ النكاح أحرى وأحرى أن يُحتاط فيه، وهو فَرْجٌ ومنه يكون الولد»(2).5.

ص: 151


1- المكاسب: ج 3/356.
2- وسائل الشيعة: ج 19/163 ب 2 من أبواب كتاب الوكالة ح 2 رقم 24369، و: ج 20/259 ب 157 من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ح 3 رقم 25574، التهذيب: ج 6/214-215 ح 5.

وذكر الشيخ رحمه الله(1) ما حاصله أنّ مقتضى الاحتياط كون النكاح الواقع أولى بالصحّة من البيع من حيث الاحتياط، فدلّ على أنّ صحّة البيع تستلزم صحّة النكاح بطريق أولى ، خلافاً للعامّة، وعليه فلا يجوز التعدّي عمّا دلَّ على صحّة نكاح الفضولي إلى صحّة البيع.

أقول: بعد التنبيه على أمرين:

الأوّل: أنّ الحكم الواقعي عدم الفرق بين النكاح وغيره في مسألة العزل، مع عدم بلوغ الخبر إلى الوكيل.

الثاني: إنّ العامّة لم يقدموا على تعليل الفرق بين النكاح والبيع بالاحتياط، بل إنّما علّلوه بوجه استحساني، حيث إنّه عليه السلام لما سأل الراوي عمّا تقوله العامّة، قال:

ويقولون المال منه عوض لصاحبه، والفرج ليس منه عوض إذا خرج منه الولد، وبما أنّ الإمام عليه السلام لم يتمكّن من بيان الحكم من دون وجه، ولا من بيان بطلان ما ركنوا إليه، راعى جانب الاحتياط وأجاب بأنّ النكاح بما أنّه مهمّ في نظر الشارع، وأحرى بأن يُحتاط فيه من غيره من العقود، فيتعيّن فيه الاستناد إلى حجّة شرعيّة، دون الاعتماد على القياس والاستحسان وما شابههما من الوجوه العليلة، وقد عقبه عليه السلام بقضاء أمير المؤمنين عليه السلام الذي يكون متّبعاً عندهم لقوله صلى الله عليه و آله: «أقضاكُم عليّ عليه السلام»، وعليه فهو لا يدلّ على ما ذكره الشيخ رحمه الله.

وبالجملة: ظهر بما ذكرناه عدم تماميّة ما أفاده السيّد الفقيه رحمه الله(2) في المقام في الرّد على الشيخ رحمه الله، وحاصله: إنّه عليه السلام كان بصدد الرّد على العامّة الجاعلين حكمة الحكم6.

ص: 152


1- المكاسب: ج 3/357.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/136.

الاحتياط، وأنّه ليس كذلك، وإلّا كان النكاح أولى بأن يُحتاط فيه، وأنّ الاحتياط لو كان مقتضياً للصحّة في البيع، فهو يقتضي ذلك في النكاح بالأولويّة.

فإنّه يرد عليه: ما عرفت من أنّ العامّة لم يجعلوا حكمة الحكم الاحتياط.

أقول: وربما يؤيّد صحّة الفضولي، بل يستدلّ عليها بروايات وردت في مقامات خاصّة، كموثّق جميل، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في رجلٍ دفع إلى رجل مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربة، فذهب فاشترى به غير الذي أمره ؟

قال عليه السلام: هو ضامنٌ ، والربح بينهما على ما شرط»(1).

ونحوه غيره ممّا ورد في المضاربة.

وحاصل ما أفاده الشيخ رحمه الله في هذه الأخبار(2):

1 - إن التزمنا بعدم لزوم الإجازة في صحّة المعاملة المزبورة، كانت هي ممّا يستأنس به للحكم في المقام، لاشتراكهما في عدم لزوم الإذن السابق.

2 - وإنْ التزمنا بلزومها في صحّتها، كانت دليلاً على جريان الفضولي في العقد السابق وصحّته في المورد الخاص، وإنْ احتمل كونها للنص الخاص، إلّاأنّها لا تخلو عن تأييد للمطلب.

أقول: وفي كلا شقي كلامه نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه إذا دلَّ الدليل على عدم اعتبار الرضا في موردٍ خاص، كيف يستأنس منه لحكم ما يعتبر فيه ذلك قطعاً، وإنّما الكلام في اعتبار سبقه.0.

ص: 153


1- وسائل الشيعة: ج 19/18 ب 1 من أبواب كتاب المضاربة ح 9 رقم 24056، التهذيب: ج 7/193 ح 39.
2- المكاسب: ج 3/359-360.

وأمّا الثاني: فلأنّه إنْ بنينا على صحّة ما صدر بالإجازة، لزم منه كون تمام الربح للمالك، إذ تقسيم الربح إنّما يكون من آثار المضاربة المفروض بطلانها، والبائع إمّا أن يستحقّ أُجرة لأنّ عمل المسلم محترم، أو لا يستحقّها لأنّه عمل من دون أمر.

والحقّ أنْ يقال: إنّ نصوص الباب محمولة على صورة الاشتراط لا التقييد، أي اشتراط المالك على العامل أن لا يشتري إلّاالجنس الفلاني، وعليه فإذا تخلّف الشرط، واشترى غير الذي أمر به:

فإنْ خَسر فيه، كان عليه الضمان، لمخالفته للمالك، ولأنّه لا محالة يرد العقد.

وإنْ ربح فيه، فلا محالة لا يفسخ المالك المضاربة، فيكون الربح بينهما.

وبهذا يظهر أنّ النصوص موافقة للقاعدة، وأجنبيّة عن المقام.

وإنْ أبيت عن كون ذلك ممّا تقتضيه القاعدة، فلا مانع من الالتزام به، للنصوص الخاصّة الواردة في المقام.

ومن هذا القبيل الأخبار الواردة في اتجار غير الولي في مال اليتيم، وأنّ الربح لليتيم.

وأفاد الشيخ رحمه الله(1) في وجه إدخال المسألة في الفضولي أمران:

الأوّل: أنّها تُحمل على صورة إجازة الولي.

الثاني: أنّ الحكم بالمضيّ إجازة إلهيّة لاحقة للمعاملة.

ويرد على الأوّل: أنّه ليس في النصوص ما يستفاد منه إرادة معاملة غير الولي، بل ظاهر بعضها وصريح آخر معاملة الولي، مع أنّه ليس فيها ما يشهد بإجازة الولي.0.

ص: 154


1- المكاسب: ج 3/360.

ويرد على الثاني: أنّ التاجر إنْ كان مأذوناً من قبل اللّه تعالى لا تكون معاملته فضوليّة.

أقول: الحقّ اختصاصها بصورة معاملة الولي، وتكون أجنبيّة عن مسألة الفضولي، وربما يؤيّد المطلب برواية ابن أشيم عن الإمام الباقر عليه السلام الواردة في العبد المأذون الذي دفع إليه مالاً ليشتري به نسمة ويعتقها ويحجّه عن أبيه، فاشترى أباه وأعتقه، ثمّ تنازع مولى المأذون ومولى الأب وورثة الدافع، وادّعى كلّ منهم أنّه اشتراه بماله، فقال أبو جعفر عليه السلام:

«وأمّا المعتَق فهو ردٌّ في الرّق لموالي أبيه، وأيّ الفريقين بعد أقاموا البيّنة على أنّه اشترى أباه من أموالهم كان رقّاً»(1).

أقول: إنّ ما يتوهّم أنْ يكون مؤيّداً للمطلب، هو حكمه عليه السلام بكون العبد لورثة الميّت إذا أقاموا البيّنة، وأمّا بالنسبة إلى مولى العبد، فالظاهر أنّه كان مأذوناً من قبله، وأمّا بالنسبة إلى مولى الأب فالمعاملة باطلة بلا كلام، والظاهر من الرواية رضا الورثة بالمعاملة وإذنهم إيّاه فيها، وعليه فتخرج عن محلّ الكلام.

وأيضاً: ممّا قيل بأنّه يؤيّد المطلب، صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن رجل اشترى ثوباً، ولم يشترط على صاحبه شيئاً، فكرهه ثمّ ردّه على صاحبه، فأبى أن يقبله إلّابوضيعة ؟

قال عليه السلام: لا يصلح له أن يأخذه بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه، ردّ على صاحبه الأوّل ما زاد»(2).2.

ص: 155


1- وسائل الشيعة: ج 18/280-281 ب 25 من أبواب بيع الحيوان من كتاب التجارة ح 1 رقم 23670، التهذيب: ج 8/249 ح 136.
2- وسائل الشيعة: ج 18/71-72 ب 17 من أبواب أحكام العقود من كتاب التجارة ح 1 رقم 23177، التهذيب: ج 7/56 ح 42.

فإنّ الحكم بردّ ما زاد لا ينطبق بظاهره إلّاعلى صحّة بيع الفضولي.

وفيه: إنّه لا ينطبق عليها، إذ الحكم بفساد الإقالة في الفرض، المستلزم لكون المعاملة الثانية فضوليّة، لازمه الاستجازة من المشتري الأوّل لا الحكم بردّ ما زاد، وعدم الفرق بين البيع بالأزيد وبالمساوي وبالأنقص، ولا يبعد دعوى أنّ الرواية ظاهرة في كراهة الإقالة بالوضعيّة كما ذهب إليه ابن الجُنيد(1)، واستحباب رَدّ ما زاد، لتكون أجنبيّة عن المقام.

قيل: ويمكن التأييد بالخبر الموثّق الذي رواه البصري عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن السمسار أيشتري بالأجر، فيدفع إليه الوَرِق، ويشترط عليه أنّك تأتي بما نشتري، فما شئتُ أخذته، وما شئتُ تركته، فيذهب فيشتري ثمّ يأتي بالمتاع، فيقول: خُذ ما رضيتَ ودَع ما كرهت ؟ قال عليه السلام لا بأس»(2).

بناءً على أنّ الاشتراء من السمسار يكون فضوليّاً عن صاحب الورق، فيتخيّر ما يردّ، ويردّ ما يكره.

ولكن الظاهر من الخبر كون الاشتراء لصاحب الوَرِق، مع جعل خيارٍ له على بائع الأمتعة، فيلتزم بالبيع فيما رضي وبفسخه فيما كره.

***3.

ص: 156


1- حكاه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 6/219، فتاوى ابن الجُنيد: ص 226.
2- وسائل الشيعة: ج 18/74-75 ب 20 من أبواب أحكام العقود ح 2 رقم 23183، والراوي: عبدالرحمن بن أبي عبداللّه، لا عبداللّه، التهذيب: ج 7/56 ح 43.

أدلّة بطلان بيع الفضولي والجواب عنها

أقول: قد استدلّ للبطلان بالأدلّة الأربعة:

أمّا الكتاب: فبقوله تعالى : «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ » (1).

بدعوى أنّه دلَّ بمفهوم الحصر أو سياق التحديد على أنّ غير التجارة، والتجارة لا عن تراض غير مبيحة لأكل مال الغير وإنْ لحقها الرضا، ومن المعلوم أنّ الفضولي غير داخل في المستثنى.

وقد أجابوا عن الاستدلال به بأجوبة(2):

الجواب الأوّل: أنّه لا مفهوم له، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في أوّل مبحث الإكراه والمعاطاة(3)، وعرفت أنّه لا يدلّ على الحصر.

الجواب الثاني(4): أنّ التجارة التي هي اسمٌ للمسبّب لا السبب، إنّما تكون تجارة للمالك بعد الإجازة، فتكون عن تراضٍ ، وقد مرّ في أوّل مبحث الفضولي تماميّة ذلك أيضاً.

الجواب الثالث(5): إنّه يحتمل أنْ يكون «عَنْ تَراضٍ » (6) خبراً بعد خبر، لتكون على قراءه نصب (التجارة) لا قيداً لها، وحاصله أنّه يحتمل أنْ يكون اسم كان

ص: 157


1- سورة النساء: الآية 29.
2- راجع بلغة الفقيه: ج 2/220-222.
3- فقه الصادق: ج 22/332.
4- المكاسب: ج 3/365.
5- المكاسب: ج 3/364-365.
6- سورة النساء: الآية 29.

مقدّراً، وهو سبب الأكل، ويكون له خبران: الأوّل «تِجارَةً » ، الثاني «عَنْ تَراضٍ » ، ولكن لا بنحو الاستقلال بل بنحو الاشتراك، كما في قولنا: (الرمّان حلو حامض) فيكون مفاده سببيّة التجارة والتراضي، وهي متحقّقة في بيع الفضولي.

وفيه: إنّه لا يحتمل ذلك مع التعبير بحرف المجاوزة، إذ السبب لو كان هو المجموع، لما كان منبعثاً عن التراضي وإنْ كان خصوص التجارة لزم قيديّة التجارة بصدورها عن التراضي، وإنْ كان غيرهما لزم عدم كون السبب هو التجارة والتراضي، وهو خلف.

مع أنّه على فرض قراءة التجارة بالرفع يتعيّن التقييد، إذ احتمال كونه خبراً والاسم هو التجارة، يدفعه أنّ لازمه تعريف التجارة، وعليه فالصحيح هو الأولان.

وأمّا السُنّة: فهي أخبار:

منها: النبويّ المستفيض، وهوقوله صلى الله عليه و آله لحكيم بن حزام: «لاتبع ماليس عندك»(1).

أقول: ينبغي البحث عن هذا الخبر سنداً ودلالة:

أمّا من ناحية السند: فإنّه لا يخفى أنّ أقضية النبيّ صلى الله عليه و آله المذكورة في كتب العامّة مجتمعة على جملة بعينها مرويّة من طرقنا برواية عقبة، ومتفرّقة على حسب تفرّق الأبواب، وعليه فهذا النبوي مرويّ عن طرقنا وعن طرق العامّة، فلا سبيل إلى الخدشة في سنده هذا بحسب السند.

هذا فضلاً عن أنّ المضمون واردٌ في جملةٍ من الأخبار، كخبر سليمان بن صالح،5.

ص: 158


1- راجع سنن الترمذي: ج 3/534 باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، وراجع وسائل الشيعة: ج 18/47 ب 7 من أبواب أحكام العقود رقم 23107، التهذيب: ج 7/230 ح 25.

عن مولانا الصادق عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه و آله(1)، وخبر الحسن بن زيد عنه عليه السلام عن آبائه في مناهي النبيّ صلى الله عليه و آله(2).

وأمّا من حيث الدلالة: فما قيل أو يمكن أنْ يقال في الجواب عن الاستدلال به - وما يساوقه من النبويّ الآخر: «لا بيع إلّافيما يملك»(3)، والتوقيع: «لا يجوز بيع ما ليس يملك»(4) - للبطلان أُمور:

الأمر الأوّل: أنّها لمعارضتها مع النصوص الكثيرة الدالّة على جواز بيع ما ليس عنده - لاحظ صحيحي عبد الرحمان بن الحجّاج، عن مولانا الصادق عليه السلام:

ففي الأوّل منهما: «عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ليس عنده، فيشتري منه حالاً؟ قال عليه السلام: ليس به بأس.

قلت: إنّهم يفسدون عندنا! قال عليه السلام: وأيّ شيء يقولون في السَّلم ؟

قلت: لا يرون به بأساً، يقولون: هذا إلى أجل، فإذا كان إلى غير أجل، وليس عند صاحبه فلا يصلح.

فقال عليه السلام: فإذا لم يكن إلى أجل كان أجود.

ثمّ قال: لا بأس بأن يشتري الطعام وليس هو عند صاحبه حالاً وإلى أجل، الحديث»(5).1.

ص: 159


1- وسائل الشيعة: ج 18/46-48 ب 7 من أبواب أحكام العقود من كتاب التجارة ح 2 و 5 و 1 و 3 رقم 23107 و 23110 و 23106 و 23108، التهذيب: ج 7/230 ح 25، الفقيه: ج 4/3-8 ح 4968.
2- وسائل الشيعة: ج 18/48 ب 7 من أبواب أحكام العقود ح 5 رقم 23110، الفقيه: ج 4/3-8 ح 4968.
3- المستدرك: ج 13/230 ب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 3 رقم 15209.
4- وسائل الشيعة: ج 17/339 ب 2 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 1 رقم 22704، التهذيب: ج 7/150-151 ح 16.
5- وسائل الشيعة: ج 18/46 ب 7 من أبواب أحكام العقود ح 1 رقم 23106، التهذيب: ج 7/49 ح 11.

وقريب منه الآخر(1).

تُحمل هذه على التقيّة، لتكذيبه عليه السلام فيهما للعامّة القائلين ببطلان بيع ما ليس عنده.

وفيه: إنّ الجمع بينهما يقتضي تخصيص هذه النصوص ببيع العين الشخصيّة من جهة اختصاص تلك النصوص ببيع الكلّي، أو حملها على بيع كلّ ما خرج عن السلطنة، وإنْ كان المبيع كليّاً، كما لو باع الكلّي في ذمّة الغير.

أقول: ولعلّ الثاني أظهر، وتكذيبه عليه السلام للعامّة يمكن أنْ يكون في تطبيق بيع ما ليس عنده على بيع الكلّي في ذمّة نفسه، لا في أصل الحديث.

الأمر الثاني: ما أفاده الشيخ رحمه الله(2) بقوله: (وثانياً: سلّمنا دلالة النبوي على المنع، لكنّها بالعموم، فيجبُ تخصيصه بما تقدّم من الأدلّة الدالّة على تصحيح بيع ما ليس عند العاقد لمالكله إذا أجاز).

وفيه: إنّه بناءً على ما استظهره الشيخ رحمه الله(3) من أنّ المراد من البيع، هو البيع لنفسه لا عن مالك العين، تكون النسبة عموماً من وجه، لأخصيّة النبويّ من هذه الجهة، فلا وجه لتقدّم تلك.

الأمر الثالث: الظاهر البدوي من النبويّ هو النهي عن بيع ما ليس حاضراً عنده، سواءٌ أكان مملوكاً له أم لا، قدر على تسليمه أم لا، كليّاً أم شخصيّاً، وحيث إنّه لا يمكن الالتزام به، تعيّن حمله إمّا على النهي عن بيع ما ليس مملوكاً له، أو على النهي عن بيع ما لا يقدر على تسليمه، وإنْ لم يكن الثاني أقرب فإنّه لا كلام في عدم7.

ص: 160


1- وسائل الشيعة: ج 18/47-48 ب 7 من أبواب أحكام العقود ح 3 رقم 23108، الكافي: ج 5/200 ح 4. (2و3) المكاسب: ج 3/368 و 367.

أقربيّة الأوّل.

وأمّا النبويّ الآخر والتوقيع: فيحتمل أنْ تكون كلمة (يملك) فيهما مبنيّاً على المفعول، فلا ربط لهما بما نحن فيه.

الأمر الرابع: أنّ المنفي البيع لغير المالك، فتختصّ هذه النصوص بالمسألة الآتية، وهي ما لو باع الغاصب لنفسه، ولا ربط لها بمسألتنا وهي البيع للمالك.

الأمر الخامس: أنّ النهي في هذه النصوص لم يتعلّق بإنشاء البيع، إذ البيع اسمٌ للمُنشَأ والمسبّب دون الإنشاء كما تقدّم، مع أنّه لا يعتبر صدور الإنشاء من المالك قطعاً، بل المتعلّق هو حقيقة البيع، وهي بالإجازة تنتسب إلى المالك، فيكون بيع ما عنده.

وبعبارة أُخرى: إنّ الروايات على فرض دلالتها على عدم صحّة بيع الفضولي، تدلّ على عدم وقوع البيع للفضولي، ولا نظر لها إلى وقوعه للمالك إذا أجاز، إذ المنفيّ فيها وقوع البيع لنفسه، فينتفي هذا، وهو لا يلازم عدم وقوع البيع ولو للمالك، إذ سلب الأخصّ لا يستلزم سلب الأعمّ ، فإذا كان وقوع البيع للمالك مع إجازته مسكوتاً عنه في هذه الأخبار، فالمرجع إلى الأدلّة المتقدّمة الدالّة على الوقوع.

ومنها: روايتايحييوخالد الآتيتان(1)، ويظهر الجواب عنهما ممّاذكرناه في النبوي.

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن رجل من أهل النيل عن أرض اشتراها بفم النيل، وأهل الأرض يقولون هي أرضهم، وأهل الاستان يقولون هي من أرضنا؟ فقال عليه السلام: لا تشترها إلّابرضا أهلها»(2).4.

ص: 161


1- وسائل الشيعة: ج 49/18 وص 52 ب 8 من أبواب أحكام العقود رقم 23114 و 23123، التهذيب: ج 50/7 ح 16.
2- وسائل الشيعة: ج 17/334 ب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 3 رقم 22694، الكافي: ج 5/283 ح 4.

ومنها: التوقيع الوارد فيه قوله عليه السلام: «الضيعة لا يجوز ابتياعها إلّامن مالكها أو بأمره أو رضاً منه»(1).

أقول: أجاب الشيخ الأعظم رحمه الله(2) عنهما بما توضيحه أنّه لا يستفاد من الخبرين إلّاالنهي عن الشراء الفاقد للرضا رأساً، وهذا لا يدلّ على فساد عقد الفضولي غير الفاقد له بلحاظ الإجازة، كما لا يدلّ على صحّته أيضاً، فالنهي فيها لا يدلّ إلّاعلى بطلان العقد الفاقد للرضا، بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود، وهذا ما نقول به نحن أيضاً.

وأمّا في البيع الملحوق بالرضا، فالمرجع إلى العمومات الدالّة على الصحّة.

وبهذاالبيان يظهر أنّما أفاده في التوضيح ليس جواباً آخركما أفاده السيّدالفقيه(3).

قال المحقّق النائيني رحمه الله(4): إنّ دلالة خبرالحميري(5) عليصحّة الفضولي أظهر، فإنّ مقابلة الرضا بالأمر ظاهرة في كفاية الإجازة اللّاحقة، فإنّ الرضا المقابل للشراء عن المالك أو بأمره هو الرضا اللّاحق لا المقارن، فإنّه متحقّقٌ حين الأمر.

وفيه: إنّه يمكن أنْيكون المراد من الرضا ما هو ظاهره، وهي الصفة النفسانيّة غير المبرزة التي عرفت كفايتها في الخروج عن الفضوليّة، فراجع(6).

فالحقّ أنْ يقال: إنّ مقتضى إطلاق الخبرين، هو النهي عن الاشتراء إلّابالرضا، تقدّم أو تأخّر، فيدلّان على صحّة الفضولي لكونه داخلاً في المستثنى، مع أنّ المراد من الاشتراء حقيقته، وهو إنّما يكون اشتراء للمالك بعد الإجازة، فيشمله الخبر إنْ د.

ص: 162


1- وسائل الشيعة: ج 17/337 ب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 8 رقم 22699، الاحتجاج: ج 2/309.
2- المكاسب: ج 3/367-368.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/140.
4- منية الطالب: ج 2/28.
5- وسائل الشيعة: ج 17/337 ب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 8 رقم 22699، الاحتجاج: ج 2/309.
6- صفحة 136 من هذا المجلّد.

كان المراد بالرضا فيهما المقارن.

الدليل الثالث: الإجماع(1)، وقد ادّعاه غير واحدٍ من الأساطين.

والجواب عنه: - مضافاً إلى معارضته بما ادّعي من الإجماع على الصحّة - أنّه لمعلوميّة مدرك المُجمِعين لا يعتمد عليه.

الدليل الرابع: حكم العقل بعدم جواز التصرّف في مال الغير إلّابإذنه(2).

أقول: قد أجاب الشيخ رحمه الله عن هذا الدليل بوجوه:

الوجه الأوّل(3): أنّ العقد على مال الغير متوقّعاً إجازته، من دون قصد لترتيب الآثار عليه لا يعدّ تصرّفاً فيه.

وأُورد عليه بإيرادين:

أحدهما: ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(4)، من أنّه وإنْ فرض كون العقد علّة تامّة لحصول الآثار عرفاً، إلّاأنّ مجرّد العقد لا يعدّ تصرّفاً في العين وقبيحاً، فلا وجه للتقييد في كلامه، ومرجعه إلى عدم كون التصرّف الاعتباري غير المماس بالعين تصرّفاً عرفاً في العين بل هو تصرّف في لسان العاقد.

وفيه: إنّه لو فرضنا كون الإنشاء مُخرِجاً للمال عن ملك صاحبه قهراً عليه كان ذلك تصرّفاً فيه وقبيحاً لكونه ظلماً، بل من أقبح أفراده، نعم مجرّد العقد غير المؤثّر في حصول النقل والانتقال عرفاً وشرعاً لا يعد تصرّفاً فيه لا خارجاً ولا اعتباراً.6.

ص: 163


1- الخلاف: ج 3/168، الغنية: ص 207، السرائر: ج 2/415.
2- وسائل الشيعة: ج 5/120-121 ب 3 من أبواب مكان المصلّي.
3- المكاسب: ج 3/371.
4- تعليقات على المكاسب: ج 2/346.

ثانيهما: ما أفاده السيّد الفقيه في تعليقته(1)، من أنّ الفضولي إنّما يقصد النقل والانتقال جدّاً مطلقاً لا هزلاً معلّقاًعلى الإجازة، وهذا مايصدق عليه التصرّف عرفاً.

وفيه: إنّ العقد غير المؤثّر عرفاً وشرعاً وإنْ قصد به الجِدّ، لا يعدّ تصرّفاً، لا خارجاً ولا اعتباراً:

أمّا الأوّل: فواضح.

وأمّا الثاني: فلفرض عدم التأثير، ومجرّد تأثيره في اعتباره لا يكفي في صدق التصرّف عرفاً أو شرعاً.

وعليه، فما أفاده الشيخ رحمه الله تامّ لا غبار عليه.

الوجه الثاني(2): أنّه لو فرض كونه تصرّفاً، فهو ممّا استقلّ العقل بجوازه مثل الاستضاءة والاصطلاء بنور الغير وناره.

وفيه: إنّ الجواز في المثالين إنّما يكون من جهة عدم صدق التصرّف عليهما، أو لقيام السيرة على الجواز، وإلّا فمع صدق التصرّف لا سبيل إلى دعوى استقلال العقل بجواز التصرّف.

الوجه الثالث (3) : إنّه قديفرض الكلام فيما لو علم الإذن في هذا المقال أو الحال.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من خروجه بذلك عن الفضوليّة.

وثانياً: إنّ المستدلّ يمكن أنْ يكون ملتزماً بالصحّة في خصوص هذا المورد، والفساد في سائر الموارد.

الوجه الرابع (4) : عدم دلالة تحريمه على الفساد.

أقول: هذا الجواب أيضاً متينٌ ، وقد مرّ في أوّل الجزء الرابع عشر من هذا1.

ص: 164


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/140. (2و3و4) المكاسب: ج 3/371.

الشرح تحقيق القول في ذلك.

الوجه الخامس(1): إنّه لو دلَّ على الفساد، لدلّ على بطلان البيع، بمعنى عدم ترتّب الأثر عليه، وعدم استقلاله في ذلك، والقائل بالصحّة لا ينكر ذلك.

وفيه: إنّ البناء على الفساد - سواءٌ كان من جهة كون السبب تصرّفاً ومبغوضاً للشارع فلا سببيّة له، أم كان من جهة كون المسبّب منهيّاً عنه ومبغوضاً ينافي مع هذا الجواب، إذ لو ألغى الشارع سببيّة عقد الفضولي، وجعله كالعدم، كيف أمكن توجيه حكمه بالصحّة مع إجازة المالك، كما أنّه إذا ألغى الشارع المسبّب من جهة مبغوضيّته، فلا شيء حتّى يجيزه المالك.

فتحصّل: أنّ الحقّ في الجواب هو الأوّل والثالث.

***1.

ص: 165


1- المكاسب: ج 3/371.

بيع الفضولي للمالك مع سبق المنع

المسألة الثانية: أن يسبق قيام الفضولي بالمعاملة منع المالك.

أقول: المشهور أيضاً صحّته، إلّاأنّ فخر المحقّقين(1) قال إنّ بعض المجوّزين للفضولي اعتبر عدم سبق نهي المالك، وهو الظاهر من المحقّق الثاني(2).

وملخّص القول في المقام: إنّ صحّة بيع الفضولي:

1 - إمّا أنْ تكون على القاعدة.

2 - أو تكون للأخبار الخاصّة.

أمّا على الأوّل: فلا تتوقّف الصحّة إلّاعلى العقد، واستناده إلى المالك الموجود في المقام، ولا يضرّ النهي السابق، وذلك لأنّ ما قيل في وجه إضراره أُمور:

أحدها (3) : أنّ العقد إذا كان منهيّاً عنه، فالمنع الموجود بعد العقد ولو آناً مّا كافٍ في الرّد، فلا ينفع الإجازة اللّاحقة.

وفيه: إنّ الكراهة النفسانيّة وإنْ اُبرزت لا تعدّ ردّاً، بل هي عبارة عن حلّ العقد وفسخه، كما أنّ النهي - الذي هو تسبيب إلى اعدام الشيء بعدم إيجاده - يباين الرّد.

ثانيها (2) : إنّ الكراهة المتخلّلة بين أركان العقد كالإيجاب والقبول مانعة عن تحقّق المعاهدة والمعاقدة، وحيث أنّ منها الإجازة، فالكراهة المتخلّلة بينها وبين

ص: 166


1- إيضاح الفوائد: ج 1/417. (2و3) المكاسب: ج 3/374.
2- تعليقات على المكاسب: ج 2/354.

العقد مانعة عن تحقّقها، والمفروض في المقام وجودها.

وفيه: إنّ الكراهة المتخلّلة لا تمنع عن ذلك، ولذا بيننا على صحّة عقد المكره إذا لحقه الرضا.

ثالثها(1): إنّ المالك إذا نهى عن إيقاع المعاملة على ماله نهياً عامّاً شاملاً لزمان العقد، كان ذلك في قوّة أن يقول: (لا أرضى أن توقع العقد على مالي، ولو أوقعته كان مردوداً وباطلاً)، فيكون ذلك إنشاءاً للرّد، غاية الأمر الإنشاء متقدّمٌ على العقد، والمُنشَأ متأخّرٌ عنه، فلا تنفع الإجازة بعد ذلك.

وفيه أوّلاً: إنّ النهي ليس إلّاالتسبيب إلى عدم إيجاد العقد، وأمّا إنشاء الرّد بعد وجوده، فليس ذلك مربوطاً بالنهي.

وثانياً: إنّ ذلك من قبيل إيجاب ما لم يجب، وسيأتي عدم العبرة به.

وثالثاً: إنّ وجه عدم نافعيّة الإجازة بعد الرّد هو الإجماع، والمتيقّن منه ما إذا كان إنشاؤه بعد العقد.

فتحصّل: أنّ الأظهر هي الصحّة على القول بصحّة الفضولي على القاعدة.

وأمّا على الثاني: فالنصوص التي سلّمنا دلالتها على صحّة الفضولي، إنّما هي صحيحة محمّد بن قيس(2)، ونصوص نكاح العبد والتي علّل الصحّة فيها «بأنّه لم يعص اللّه وإنّما عصى سيّده»(3).ء.

ص: 167


1- تعليقات على المكاسب: ج 2/354.
2- وسائل الشيعة: ج 21/203 ب 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 1 رقم 26900، التهذيب: ج 7/488 ح 168.
3- وسائل الشيعة: ج 21/114-116 ب 24 ح 26666 من أبواب نكاح العبيد والإماء.

أمّا صحيح قيس: فقد أفاد الشيخ رحمه الله(1) في وجه شموله للمقام بأنّه يشمل لترك الإمام عليه السلام الاستفصال.

وفيه: إنّ ظهور قوله في مقام المخاصمة: «وليدتي باعها ابني بغير إذني» في صورة عدم النهي لا ينكر، وإلّا كان عليه أن يقول: (باعها برغم النهي عنه) فهو لا يشمل المقام.

وأمّا نصوص النكاح: ففي «المكاسب»(2) رواية إجازته صريحة في عدم قدح معصية السيّد.

وفيه: إنّ عصيان العبد لا يتوقّف على العمل مع النهي عنه، بل بما أنّ العبد لابدّ وأنْ تكون أعماله عن إذن مولاه، فإذا فعل بلا إذن منه، كان خارجاً عن رسم العبوديّة ويعدّ عاصياً بذلك، فالمراد من معصية السيّد إيجاد العقد بلا إذن منه، كما هو صريح الرواية.

ودعوى: أنّ إطلاقها يشمل المقام.

مندفعة: بأنّها إنّما وردت لبيان أنّ عصيان السيّد من حيث هو لا يمنع عن صحّة العقد بالإجازة، وأمّا أن نهيه هل يمنع عن تلك أم لا، فالنصوص ساكتة عنه.

وعليه، فالأظهر أنّه على القول بالصحّة في المسألة السابقة بواسطة الأخبار الخاصّة، لا سبيل إلى البناء عليها في المقام.

***4.

ص: 168


1- المكاسب: ج 3/374.
2- المكاسب: ج 3/374.

بيع الفضولي لنفسه

المسألة الثالثة: أن يبيع الفضولي لنفسه، وهذا غالباً يكون في بيع الغاصب، وكثيراً ما يتّفق في غيره، كما في البيوع المبنيّة على الأمارات والأُصول الظاهريّة من اليد وأصالة الصحّة ونحوهما، وكيف كان ففي المسألة أقوال:

أحدها: الصحّة وهو المشهور(1).

ثانيها: التفصيل بين الغاصب وغيره، كما عن ابن إدريس(2).

ثالثها: التفصيل في الغاصب بين علم المشتري وجهله، كما عن المصنّف(3)وغيره(4).

أقول: ينبغي في المقام ملاحظة المستند:

1 - فإنْ بنينا على صحّة بيع الفضولي بواسطة الأخبار الخاصّة، فلا وجه للبناء على الصحّة في المقام، فإنّ عمدة المستند على هذا صحيح ابن قيس، ونصوص نكاح العبد، وشيء منهما لا يشمل المقام.

أمّا الأوّل: فلأنّه لو كان الابن بائعاً للوليدة لنفسه كان التنبيه عليه أولى لأنّه أبلغ في الإنكار.

وأمّا الثانية: فلأنّ موردها وإنْ كان النكاح لنفسه، لكن الإجازة فيها لنفسه لا لمولاه.

ص: 169


1- المبسوط: ج 2/386، تحرير الأحكام: ج 2/142، جامع المقاصد: ج 8/251.
2- حكاه عنه المامقاني في غاية الآمال: ج 3/367.
3- قواعد الأحكام: ج 2/19.
4- إيضاح الفوائد: ج 1/417-418.

2 - وأمّا إنْ بنينا على الصحّة بواسطة العمومات، فهي تقتضي الصحّة في المقام أيضاً بلا فرق، وقد ذكروا في وجه الفرق وأنّه لايمكن الحكم بالصحّة في المقام أُموراً:

الأمر الأوّل(1): نصوص بيع ما ليس عنده(2)، بناءً على أنّ موردها بيع الفضولي لنفسه، وقد مرّ الجواب عنها(3).

الأمر الثاني(4): إنّه غالباً يكون منع المالك من البيع موجوداً في المغصوب، ويعتبر عدم سبق المنع.

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من عدم اعتباره - أنّ المنع غير موجود في غير المغصوب، بل وفيه أيضاً يعدّ الغصب أمارة عدم الرضا بالبيع للغاصب لا مطلقاً.

الأمر الثالث (5) : إنّ الفضولي إذا قصد البيع لنفسه، فهو غير قاصدٍ لحقيقة المعاوضة التي هي عبارة عن دخول العوض في كيس من خرج المعوّض عن كيسه، فقصد هذا المعنى لايلائم مع قصدوقوع البيع لنفسه، فمايقصده هذا الفضولي ليس بيعاً.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله (4) : بأنّ البائع في هذا المورد يجعل نفسه مالكاً حقيقيّاً، وهذا الجعل وإنْ كان لا حقيقة له، لكن المعاوضة المبنيّة على هذا الأمر الادّعائي تكون حقيقيّة، نظير المجاز الادّعائي في الأُصول.

أقول: وأُورد عليه بإيرادين:7.

ص: 170


1- المكاسب: ج 3/375-376.
2- وسائل الشيعة: ج 17/333-338 ب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه، وج 18/46-48 ب 7 من أبواب أحكام العقود.
3- صفحة 158 من هذا المجلّد. (4و5) المكاسب: ج 3/376.
4- المكاسب: ج 3/376-377.

الإيراد الأوّل: ما أفاده السيّد في التعليقة(1)، من أنّه لو كان الملاك ذلك لزم منه البناء على الصحّة فيما إذا أُحرز هذا البناء، إذ مع عدمه لا وجه له، ولم ينقل التفصيل عن أحد.

وفيه: إنّ الشيخ رحمه الله لا يدّعي أنّ المصحّح هو التنزيل حال العقد، بل دعواه أنّ الغاصب يجعل نفسه مالكاً عدواناً، وإنّما يبني بالسرقة والغصب على أنّ الإضافة الملكيّة منسوبة إليه، سواءٌ باعها أم لم يبعها، فإذا باع فهو يبيع ما يراه مِلْكاً له بعد سرقة الإضافة، وأمّا غير الغاصب فبنائه على مالكيّة نفسه واضح.

الإيراد الثاني: ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(2):

من أنّه إن ادّعى أنّ الغاصب يقصد المعاملة للمالك الواقعي، ثمّ يدّعي أنّه هو هو لأجل أن يمتلك العوض أصبح له قصدان:

قصد كبروي، وهو قصد وقوع المعاملة للمالك الواقعي.

وقصد صغروي، وهو قصد أنّه المالك الواقعي.

فيرد عليه: أنّ الوجدان يكذّب أنْ يكون للغاصب قصدان، وإنّما له قصد واحد للمعاملة في حقّ نفسه كالمالك.

وإنْ ادّعى أنّه يقصد وقوع المعاوضة لنفسه، وكان مصحّحه دعواه الملكيّة.

فيرد عليه: أنّ ادّعاه كونه مالكاً، لا يصحّح القصد إلى المعاوضة الحقيقيّة، فإنّ المعاوضة المبنيّة على الادّعاء لا تكون حقيقيّة، وكيف يكون حقيقيّاً ما أساسه الادّعاء.

أقول: الظاهر أنّ مراده الثاني، ويمكن دفع هذا الإيراد بأنّ المراد بالمعاوضة7.

ص: 171


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/141.
2- تعليقات على المكاسب: ج 2/377.

الحقيقيّة، هو اعتبار البائع نفسه ملكيّة المشتري للمعوّض بإزاء ملكيّته للثمن، فطرفاها أمران اعتباريان، وعليه فلا مانع من ابتناء هذه المعاوضة على الادّعاء، وبناء البائع على كونه مالكاً.

وقد أجاب عن الإشكال السيّد الفقيه رحمه الله(1): بأنّ حقيقة البيع ليست الا مبادلة مال بمال، من غير نظر إلى كونه لنفسه أو لغيره، وهذا المعنى موجودٌ في بيع الغاصب، وقصد كونه لنفسه خارجٌ عن حقيقته ولا ينافيه أيضاً.

وفيه: - مضافاً إلى تصريحه رحمه الله في أوّل كتاب البيع(2) بأنّ البيع ليس مبادلةٌ بل تمليك وتملّك بعوض - إنّ حقيقة المبادلة لا تتمّ إلّابلحاظ شيء آخر، وهو في المقام الملكيّة، وقصد المبادلة في الملكيّة التي هي صفة إضافيّة قائمة بالمال، وصاحبه يستدعي قصد انتقال المال عن ملك مالكه، ودخول عوضه في ملك صاحب هذا المال، وهذا ينافي مع قصد وقوع البيع لنفسه.

أقول: والحقّ ما تقدّم في أوّل هذا الجزء من أنّ البيع ليس من المعاوضة بالمعنى المتقدّم كي يرد الإشكال المزبور، بل حقيقته إعطاء شيء لا مجّاناً - فراجع ماحقّقناه(1) - وعليه فلا يرد هذا المحذور.

الأمر الرابع (2) : إنّ الفضولي إذا قصد البيع لنفسه:

فإنْ تعلّقت إجازة المالك بهذا الذي قَصَده البائع، كان منافياً لصحّة العقد، لأنّ معناها صيرورة الثمن لمالك المثمن بإجازته.

وإنْ تعلّقت بغير المقصود، كانت عقداً مستأنفاً، فيكون النقل من المنشيء غير8.

ص: 172


1- فقه الصادق: ج 22/236 وما بعدها.
2- المكاسب: ج 3/378.

مجاز والمجاز غير منشيء.

أقول: أجابوا عنه بأجوبة:

منها: ما عن المحقّق القمّي رحمه الله(1)، وما نقل عنه أمران:

أحدهما: إنّ مرجع الإجازة في المقام إلى تبديل رضا الغاصب بالبيع لنفسه برضا المالك بالبيع لنفسه، وظاهره التصرّف في الإيجاب فقط.

وأُورد عليه:(2) بعدم تطابقه حينئذٍ لقبول المشتري، لأنّ قبوله إنّما تعلّق بإيجاب البائع لا بمضمون الإجازة، ولكن للتأمّل في ذلك من جهة عدم الدليل على اعتبار التطابق في هذه الموارد مجالاً واسعاً.

ثانيهما: إنّ مرجع الإجازة في المقام إلى التصرّف في طرفي العقد معاً، ومفادها أنّ العقد الذي قصد إلى كونه واقعاً على المال المعين لنفس البائع الغاصب، والمشتري العالم، قد بدّلته بكونه على هذا الملك بعينه لنفسي، فيكون عقداً جديداً.

وأورد عليه الشيخ رحمه الله(3): بأنّ هذا مخالفٌ للإجماع والعقل، لكن لم يذكر وجه مخالفته للعقل.

أقول: ذكروا(4) في سبب مخالفته وجوهاً:

الوجه الأوّل: إنّ تبديل قصد وقوعه لنفسه ورضاه به بقصد وقوعه لغيره، مستلزمٌ لانقلاب ما وقع عليه عمّا وقع، وهو محال.0.

ص: 173


1- ذكره في نهج الفقاهة: ص 222.
2- نهج الفقاهة: ص 222.
3- المكاسب: ج 3/379.
4- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 2/120.

وفيه: المراد أنّ العقد الواقع المضاف إلى الغاصب يوجب إلغاء هذه الخصوصيّة منه، بمعنى أنّها لا تؤثّر، وبالإجازة يضاف إلى المالك ويكون بذلك مؤثّراً، فلايلزم الانقلاب.

الوجه الثاني: إنّ المالك لا سلطنة له على المشتري، فكيف يبدّل قبوله ؟

وفيه: إنّ عدم سلطنة المالك على المشتري شرعيٌ لا عقلي، مع أنّ تبديل قبوله ليس من شؤون سلطنته عليه، بل على ماله، فإنّ المشتري إنّما ملك ماله للبائع لا مجّاناً، بل بإزاء مال المالك، فللمالك من حيث سلطنته على ماله أن يجيز بدليّة ماله لمال المشتري، بأن يسقط خصوصيّة البائع في طرفيّته لمال المشتري بإزاء ماله. فتدبّر.

الوجه الثالث: إنّ لازم ما ذكر هو اتّحاد الإيجاب والقبول، مع أنّه غير معقول.

وفيه: إنّ المحقّق لايدّعي أنّ الإجازة عقد، وإنّما ادّعى كونها بمنزلة العقد الجديد، أي تكون تصرّفاً في الإيجاب والقبول بإسقاطالخصوصيّتين غير القابلتين للإجازة.

وبالجملة: فالإنصاف أنّ ما أفاده المحقّق القمّي رحمه الله غير منافٍ للعقل.

ومنها: ما أفاده الشيخ رحمه الله(1)، من أنّ إيجاب البائع الغاصب يتضمّن أمرين:

أحدهما: تمليك المشتري المال بعوض.

الثاني: دخول العوض في ملكه.

والثاني خارجٌ عن مضمون الإيجاب، نعم مقتضى طبع المعاوضة دخوله في ملك مالك المبيع، وحيث أنّ المبيع ملك للمجيز واقعاً، فيدخل العوض في ملكه1.

ص: 174


1- المكاسب: ج 3/381.

كذلك في فرض الإجازة، وحيث أنّه مالك ادّعاءً واعتقاداً، فيكون بانياً على تملّكه العوض، وعليه فلا مانع من تعلّق الإجازة بما هو مضمون الإيجاب.

ثمّ أورد على نفسه(1): بأنّه لا يتمّ فيما لو كان الفضولي مشترياً لنفسه بمال الغير، وقال للبائع: (تملّكت منك) أو (ملّكت هذا الثوب بهذه الدراهم) إذ مفهومه شيء واحد، وهو تملّك الفضولي للثوب، ولا يكون ذلك منحلّاً إلى شيئين كي تتعلّق الإجازة بأحدهما دون الآخر.

ثُمّ تفصّى عن الإشكال:(2) بأنّ نسبة الملك إلى الفضولي ليست بما هو هو، بل بما هو مالك، فحيثيّة المالكيّة مأخوذة فيه، ومن المعلوم أنّ كلّ محمولٍ مترتّبٌ على المتحيّث بحيثيّة في الحقيقة مترتّبٌ على تلك الحيثيّة، فيكون المنسوب إليه الملك هو المالك، والإجازة تتعلّق بهذا المضمون، غاية الأمر أنّ الفضولي لما بنى على أنّه المالك أسند ملك العوض إلى نفسه.

وفيه أوّلاً: كون هذه الحيثيّة حيثيّة تقييديّة غير ثابت، بل الظاهر كونها حيثيّة تعليليّة، إذ المالك إنّما يبيع أو يشتري لنفسه لا للمالك.

وثانياً: إنّ الحيثيّة التقييديّة المفروضة هي كونه مالكاً ادّعاءً لا حقيقة، وإيقاع العقد للمالك الادّعائي غير قابل للتأثير بالإجازة، ووقوعه للمالك الحقيقي بالإجازة موجبٌ لكون المُجاز غير مُنشَأ، والمُنشَأ غير مجاز.

أقول: والحقّ في المقام يقتضي أنْ يقال إنّ بيع الفضولي لنفسه على أقسام:

القسم الأوّل: أنْ يكون داعيه من البيع التصرّف في الثمن وألّا يوقعه لمالكه، وفي هذا القسم لا كلام في أنّه لو أجازه المالك صحَّ ووقع له، ويكون المُنشَأ مجازاً. ؟

ص: 175


1- المكاسب: ج 3/381 و 383.
2- ؟

القسم الثاني: أن يبيع لنفسه من غير بناء على مالكيّته للمبيع، ويقصد خروج المعوّض عن ملك مالكه، ودخول عوضه في ملكه، وهذا القسم على مسلك الشيخ رحمه الله ومن وافقه على أنّ البيع هو المعاوضة يكون باطلاً، وغير قابل للتأثير بالإجازة، ولكن على المسلك الحقّ من كون البيع هو الإعطاء لا مجّاناً قابلٌ للتصحيح بالإجازة، فإنْ أجازه على ما وقع وقع للبائع، وإنْ أجازه لنفسه صحَّ ، ويكون قصد وقوعه لنفسه لاغياً ولغواً.

القسم الثالث: أنْ يكون البيع لنفسه بعد البناء على مالكيّة نفسه، وهذا القسم هو الذي يكون مورداً لكلام الشيخ، وقد عرفت ما في تصحيحه ووقوعه للمالك مع الإجازة، ولكن يمكن تصحيح ذلك بوجه آخر، وهو:

إنّ إنشاء الغاصب على هذا النحو بالمطابقة يدلّ على تملّكه للعوض، وبالدلالة الالتزاميّة يدلّ على المبادلة بالمعنى المذكور، أي دخول العوض في كيس من خرج من كيسه المعوّض، فيصحّ للمالك إجازة هذا المدلول الالتزامي فيقع له، كما له إجازة المدلول المطابقي فيقع للغاصب.

القسم الرابع: أنْ يكون البيع لنفسه مع قصده إنشاء التملّك بنفس إنشاء البيع، بمعنى أنّه بإنشاء البيع يُنشأ أمرين مترتّبين:

أحدهما: التملّك.

ثانيهما: إنشاء البيع لنفسه.

وبعبارة أُخرى : ينشأ البيع لنفسه مترتّباً عليه.

وفي هذا القسم لو أجاز المالك التملّك يقع البيع لا للمالك، كما لو إذن المالك للبيع

ص: 176

لنفسه بهذا النحو، ولعلّ هذا هو مراد كاشف الغطاء رحمه الله(1)، ممّا نقله عنه الشيخ رحمه الله(2).

وعليه فلا يرد عليه ما أفاده الشيخ رحمه الله(3) بأنّ الإجازة لا دليل على تأثيرها في تأثير بناء الغاصب على الملكيّة في تحقّق متعلّقه شرعاً، بل الدليل على عدمه، لأنّ هذا ممّا لا يؤثّر فيه الإذن، إذ الإذن في التملّك لا يؤثّر التملّك فيكف إجازته، لأنّ إيراده مبتنٍ على أنْ يكون التملّك بالبناء المجرّد على الملكيّة من دون إنشاء للتمليك، وقد عرفت أنّه يمكن أنْ يكون مراده التملّك بنفس البيع، ولحوق الإجازة له لا بأس به. فتدبّر.

أقول: وفي صحّة بيع الفضولي لنفسه إشكال آخر، وهو إنّما يكون من جهتين:

الجهة الأُولى: أنّ المشتري العالم بكون البائع غاصباً، كيف يملكه الثمن بإزاء تمليكه مال الغير.

الجهة الثانية: أنّه لو سلّط المشتري العالم الفضولي على الثمن، فإنّه ليس له الرجوع على البائع بالثمن، لورد المالك البيع على ما حكم به الأصحاب(2)، وهذا يكشف عن اختصاص الغاصب بالثمن، فلا يكون البيع المزبور قابلاً للإجازة لكونه بيعاً بلا ثمن، إذ لو كان هذا ثمنه كان اللّازم أن يرد إلى المشتري برد البيع.

أمّا الإشكال من الجهة الأُولى : فالجواب عنه هو الجواب عن الإشكال، بأنّ الغاصب كيف يقصد المعاوضة، وقد مرَّ آنفاً، وبه يظهر أنّ ما ذكره الشيخ رحمه الله(3) من أنّه بما ذكرناه اندفع هذا الإشكال متينٌ .8.

ص: 177


1- شرح القواعد (مخطوط): ص 60. (2و3) المكاسب: ج 3/384 و 386.
2- نسب الحكم الى الأصحاب في إيضاح الفوائد: ج 1/417.
3- المكاسب: ج 3/388.

ولا يرد عليه ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(1) بقوله: (لم أعرف وجه ارتباط لما ذكره بهذا الإشكال)، كي يحصل به الجواب عنه.

وأمّا الإشكال من الجهة الثانية: فيمكن الجواب عنه بأنّ هذا الحكم لم يفت الأصحاب جميعاً به، بل في المسألة قولان آخران:

أحدهما: الضمان مطلقاً، كما أفتوا به جميعاً في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد(2).

ثانيهما: الضمان مع بقاء العين.

أقول: وأجاب عنه الشيخ رحمه الله بجوابين آخرين:

أحدهما(3): أنّ التسليط المذكور إنّما يكون تسليطاً مجانيّاً في صورة الرّد خاصّة لا مطلقاً.

وفيه: إنّ هذا يكون تمليكاً معلّقاً، وهو غير نافذ.

ثانيهما(4): إنّ هذا الإشكال لو تمّ ، فإنّما هو على القول بالنقل، ولايتمّ على القول بالكشف، لأنّ على هذا المسلك تكشف الإجارة عن كونه تسليطاً على مال الغير.

وفيه: إنّ الكشف الذي يمكن الالتزام به هو الكشف الحكمي دون الحقيقي، فقبل الإجازة لا يكون المال منتقلاً به.

***9.

ص: 178


1- تعليقات على المكاسب: ج 3/402.
2- المبسوط: ج 3/64، المهذّب البارع: ج 1/439، السرائر: ج 2/488.
3- المكاسب: ج 3/388.
4- المكاسب: ج 3/388-389.

لو كان مال الغير دون العين في ذمّته

أقول: هنا أمران ينبغي التنبيه عليهما:

التنبيه الأوّل: أنّه بعد ما لا كلام في عدم الفرق في الفضولي بين كون مال الغير عيناً أو في ذمّة الغير في الجملة، وقع الكلام في جهات:

الجهة الأُولى : فيما به يتشخّص ما في الذمّة، حيث أفاد الشيخ رحمه الله(1) أنّ تشخّصه إنّما يكون بإضافة الذمّة إلى الغير، ومقتضى إطلاق كلامه، كصريح المحقّق النائيني رحمه الله(2) عدم الفرق بين الإضافة إليه لفظاً أو قصداً، أو بقصد العقد له لفظاً أو قصداً، وذكر في وجه كفاية الثاني أنّ تعيين من يقع له العقد بعد استحالة دخول أحد العوضين في كيس من خرج عنه الآخر، يكون تعييناً لمن في ذمّته الثمن.

ولكن يرد عليه: أنّه بما أنّ الكلّي ما لم يضف إلى ذمّة شخص لا يقبل اعتبار الملكيّة له عند العقلاء، فمجرّد قصد من يقع له العقد مع عدم قصد من في ذمّته الثمن، لا يكفي ولا يُغني عن إضافة الكلّي إليه، فلابدّ من الإضافة المزبورة، وعليه فيكون التشخيص بالإضافة خاصّة.

الجهة الثانية: أنّه لو لم يصدّق الطرف الآخر قصد الفضولي البيع أو الشراء لغيره، ففي المسألة أقوال:

القول الأوّل: ما عن جمعٍ من الأساطين(3)، من الحكم بوقوع العقد للفضولي ظاهراً.

ص: 179


1- المكاسب: ج 3/390.
2- منية الطالب: ج 2/34.
3- شرائع الإسلام: ج 2/440، إيضاح الفوائد: ج 2/347، جامع المقاصد: ج 8/251-252، مسالك الأفهام: ج 4/379 وج: 5/300.

القول الثاني: الحكم بوقوعه له واقعاً(1).

القول الثالث: الحكم بعدم الوقوع.

ومجمل القول في المقام:

إنّه تارةً : يكذّب كلّ منهما الآخر، كما لو ادّعى البائع أنّ المشتري قصد الشراء لنفسه في ذمّته، وهو أيضاً قصد ذلك، وادّعى المشتري أنّه قصد الشراء لغيره والبائع أيضاً قصد ذلك.

وأُخرى : يدّعي مدّعي الفضوليّة أنّه قصد غير ما قصده طرفه، وتخيّل أنّه أيضاً قاصد لذلك، والأصيل ينكر ذلك، ويدّعي أنّه قصد عين ما قصده وهو الشراء مثلاً لنفسه.

أمّا الصورة الأُولى : فهي من قبيل التداعي، فلابدّ من إعمال قواعد ذلك الباب.

وأمّا الصورة الثانية: فحيث أنّ المدّعي هو من يدّعي الفضوليّة لمخالفة قوله لظاهر العقد وأصالة الصحّة، إذ على ما يدّعيه يكون العقد باطلاً، وعلى قول طرفه يكون صحيحاً، فمقتضى القاعدة هو إقامة البيّنة وإذا لم يتمكّن منها يحلف المنكِر، فإن حلف برأ وحُكم ببطلان العقد، وإنْ لم يحلف ورَدّ الحلف، فإنْ تمكّن المدّعي من الحلف على العلم بالقصد، وحَلف فيحكم له، وإنْ لم يتمكّن من الحلف على العلم، حُكم له أيضاً. وتمام الكلام في كتاب القضاء(2).

الجهة الثالثة: لو جمع بين المتنافيين، بأن قال: (اشتريتُ هذا لفلان بدرهم في ذمّتي) أو (اشتريت هذا لنفسي بدرهم في ذمّة فلان) وأجاز من أُضيف إليه:ا.

ص: 180


1- ظاهر المبسوط: ج 2/386.
2- فقه الصادق: ج 38/162 وما بعدها.

ففي الأوّل: احتمل الشيخ رحمه الله(1) البطلان، لأنّه في حكم شراء شيء للغير بعين ماله، واحتمل إلغاء أحد القيدين.

وجزم المحقّق النائيني رحمه الله(2) بالصحّة وإلغاء قيد لفلان، لأنّ وقوع العقد للغير إنّما يكون لو أضاف إليه، ولم يلحقه بما ينافيه، وإلّا فيقع لنفسه، كما هو مقتضى إطلاق العقد، وجزم السيّد رحمه الله(3) بالبطلان على مسلك الشيخ رحمه الله من كون البيع هو المعاوضة.

أقول: وحقّ القول فيه بنحوٍ يظهر الحقّ وما في سائر الأقوال، هو:

أنّه بناءً على المختار من كون البيع هو الإعطاء لا مجّاناً، يصحّ البيع المذكور، ويقع للغير، وتشتغل ذمّة نفسه بالدرهم، نعم تعتبر إجازة ذلك الغير، إذ دخول شيء في ملكه بلا رضاه، منافٍ لتسلّط الناس على أنفسهم.

وأمّا بناءً على كونه هو المعاوضة - كما اختاره الشيخ رحمه الله(4) وغيره - فيمكن تصحيحه بالنحو الذي صحّح البيع لنفسه بمال الغير، بدعوى البناء على مالكيّته له، فإذا أجاز المالك وقع له، فإنّه يقال في المقام إنّه يشتري لغيره بدرهمٍ في ذمّة نفسه، بعد البناء على مالكيّته لما في ذمّته وتسلّطه عليه، ففي الحقيقة يشتري لمن هو مسلط على ما في ذمّته وهو نفسه، فيصحّ البيع، ويلغى قيد وقوع البيع للغير.

وبذلك يظهر ما في كلمات الأساطين، هذا كلّه في الأوّل.

أقول: وبه يظهر الحال في الثاني، إذ على المختار يقع لنفسه إذا أجاز ذلك الغير1.

ص: 181


1- المكاسب: ج 3/392.
2- منية الطالب: ج 2/46.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/146.
4- المكاسب: ج 3/11.

البيع على ما وقع، وإنْ أجازه لنفسه صحَّ له، ويلغى قيد وقوعه لنفسه، وعلى مسلك الشيخ رحمه الله يقع للمجيز بالتقريب المتقدّم، ولا وجه لما احتمله من الصحّة بإلغاء قيد ذمّة الغير، فإنّه يلزم منه وقوع ما لم يقصد كما هو واضح.

الجهة الرابعة: لو جمع بين المتنافيين، ورَدّ العقد من أُضيف إليه، بطل العقد، وعن العلّامة رحمه الله في «التذكرة»(1): (وإنْ كان في الذمّة لغيره)، وأطلق اللّفظ إلى آخر ما نقله الشيخ رحمه الله(2).

أقول: وهذا الكلام حيث أنّه بظاهره لا ينطبق على القواعد، تصدّى القوم لتصحيحه، وقد ذكر المحقّق النائيني رحمه الله له توجيهين(3):

أحدهما: أنْ يكون مراده شراء العاقد لنفسه، مع كون المال في ذمّته، ويكون قصده للغير من باب جعل تولية العقد للغير، وحينئذٍ فإنْ أجاز الغير التولية يكون العقد له، وتكون إجازته من قبيل القبول، وإنْ رَدّ وقع للعاقد.

وفيه: إنّ ظاهر كلامه أنّه لو أجاز ينتقل المال من مالكه إلى المجيز، لا منه إلى العاقد ومنه إلى المجيز.

ثانيهما: أنْ يكون مراده وقوع البيع للغير في ذمّته، ويكون جعل المال في ذمّته نظير الضمان عن الغير، بناءً على مذهب الجمهور، من عدم انتقال الضمان من ذمّة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن، فيكون كلّ منهما ضامناً بنحو الطوليّة، ففي المقام يكون المباشر هو المتعهّد للمال، وهو الملزم به أوّلاً، ولكن إذا أجاز من قصد العقد7.

ص: 182


1- تذكرة الفقهاء: ج 10/15.
2- المكاسب: ج 3/392-393.
3- منية الطالب: ج 2/47.

له، ينصرف عن المباشر إليه، وإذا رَدّ يبقى في ذمّته.

وفيه أوّلاً: إنّ الغير إذا لم يجز، لا معنى لكون الضامن ملزماً، ولا لوقوع البيع له.

وثانياً: يلزم أنّه لو لم يؤدّ الغير المال بعد إجازة البيع، أن يجب على العاقد أن يؤدّيه، وهو كما ترى .

أقول: فالصحيح في توجيه كلام العلّامة رحمه الله أنْ يقال:

إنّ مراده أن يشتري شيئاً بمنّ من الحنطة مثلاً، ويلتزم هو بأدائه، إمّا من مال زيد ليكون الشراء له، أو من ماله ليكون الشراء لنفسه، وينحلّ هذا الشراء إلى شرائين طوليّين، فإنْ أجاز الغير وقع له، وإنْ رَدّ وقع للعاقد.

ومثل هذا التعليق لا يوجبُ البطلان، لأنّ المتيقّن من معقد الإجماع غير هذا المورد الذي ينشأ شراءان.

الفضولي في المعاطاة

التنبيه الثاني: قال الشيخ رحمه الله(1): (الظاهر أنّه لا فرق فيما ذكرنا من أقسام البيع الفضولي بين البيع العقدي والمعاطاة... إلى آخره).

أقول: في المسألة وجوه، وبعضها أقوال:

ثالثها: التفصيل بين القول بالإباحة، فلا يجري الفضولي في المعاطاة، والقول بالملك فيجري.

رابعها: التفصيل بين كون الفضولي على خلاف القاعدة، فلا يجري مطلقاً، وكونه على طبقها فيجري.

ص: 183


1- المكاسب: ج 3/394.

خامسها: التفصيل بين كون المعاطاة على خلاف القاعدة، فلا يجري، وبين كونها على طبقها فيجري.

أقول: وحقّ القول في المقام يقتضي البحث في مقامين:

المقام الأوّل: بناءً على القول بإفادة المعاطاة الملك.

المقام الثاني: بناءً على القول بإفادتها الإباحة.

أمّا المقام الأوّل: فالكلام فيه يقع في موردين:

المورد الأوّل: بناءً على كون الفضولي على طبق القاعدة.

المورد الثاني: بناءً على استفادته من النصوص الخاصّة.

أمّا المورد الأوّل:

فإنْ قلنا بأنّ إفادة المعاطاة الملك إنّما تكون على خلاف القاعدة، يتعيّن البناء على عدم جريان الفضولي فيها، إذ المتيقّن منه تعاطي المالكين.

وإنْ قلنا بأنّ إفادتها الملك إنّما تكون على القاعدة، فمقتضى العمومات هو البناء على الجريان.

أقول: وقد استدلّ لعدم الجريان بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الإقباض الذي يحصل به التمليك محرّمٌ ، لكونه تصرّفاً في مال الغير، فلا يترتّب عليه أثر.

وفيه أوّلاً: إنّ النهي النفسي عن المعاملة لا يدلّ على فسادها، كما حقّقناه في أوّل الجزء العشرين من هذا الشرح(1).

وثانياً: إنّه قد لايحتاج إلى إقباض مال الغير، لما تقدّم في مبحث المعاطاة(2) من5.

ص: 184


1- فقه الصادق: ج 20/29.
2- فقه الصادق: ج 22/285.

كفاية العطاء من جانبٍ واحد والأخذ من الآخر.

وأجاب عنه الشيخ بجوابين آخرين(1):

الجواب الأوّل: إنّه قد يقع الإقباض مقروناً برضا المالك.

وفيه: ما تقدّم منّا - تبعاً له قدس سره - من خروج المعاملة بذلك عن الفضوليّة.

اللَّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ جواز التصرّف منوطٌ برضا المالك بالتصرّف بالقبض والإقباض، والرضا المُخرِج للمعاملة عن الفضوليّة، هو الرضا بانتقال ماله عن ملكه، وأحدهما غير الآخر.

الجواب الثاني: أنّه لو دلَّ النهي على الفساد، لدلّ على عدم ترتّب الأثر المقصود، وهو استقلال الإقباض في السببيّة، فلا ينافي كونه جزء السبب.

وفيه: إنّه لو دلَّ النهي على الفساد، لزم منه إلغاء المنهيّ عنه في نظر الشارع الأقدس، وكأنّه لم يتحقّق، فلا محالة لا يصلح لكونه جزء السبب.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ تأثير إعطاء مال الغير وإقباضه، إنّما يكون على سبيل جزء المؤثّر لا العليّة التامّة، فلو دلَّ النهي على الفساد لاقتضى إلغاء هذا الأثر، لا ما ليس له في نفسه.

وعليه، فالصحيح هو الوجهان الأولان.

الوجه الثاني: ما أفاده صاحب «المقابيس»(2)، من أنّ المعاطاة منوطة بالتراضي مع قصد التمليك أو الإباحة، وهما من وظائف المالك.ف.

ص: 185


1- المكاسب: ج 3/395.
2- مقابس الأنوار: ص 113 بتصرّف.

وفيه أوّلاً: إنّ هذا الوجه لو تمّ لاقتضى عدم جريان الفضولي في غيرها أيضاً، والكلام في المقام بعد جريانه فيه.

وثانياً: إنّ التمليك الانشائي ليس من وظائف المالك خاصّة، والأثر وإنْ كان مترتّباً على رضا المالك، إلّاأنّ المفروض في المقام تحقّقه بالإجازة.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1)، وحاصله:

إنّ الإجازة لابدّ وأن تتعلّق بأمرٍ مستمرّ باقٍ ، كي ينتسب بها إلى المالك، وهذا في العقد القولي موجود، إذ حاصل المصدر ينفك عن الإنشاء القولي، ويستمرّ بعده، فيستند بالإجازة إلى المالك، وأمّا في العقد الفعلي - أي الإعطاء - فليس حاصل مصدره أمراً مستمرّاً باقياً، بل هو العطاء، وهو لا ينفكّ عن الإعطاء، وبإجازة المالك لا ينقلب الفعل عمّا وقع عليه.

وفيه: ما تقدّم في مبحث المعاطاة من أنّ الفعل كالقول مصداق للبيع حقيقة، بلا فرق بينهما، وعليه فينفكّ حاصل المصدر فيه عن المصدر كما في الإنشاء القولي، وتتعلّق الإجازة به. فالأظهر جريان الفضولي فيها.

وأمّا المورد الثاني: فإنْ كان مدرك صحّة الفضولي عموم التعليل في نصوص النكاح، فهو يقتضي جريانه في المعاطاة لعموم العلّة، وإنْ كان غيره فهو مختصّ بغير المعاطاة، لعدم الإطلاق له، وترك الاستفصال في صحيح محمّد بن قيس(2) لا يفيد بعد عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، وقوله عليه السلام: «باركَ اللّه في صفقة يمينك» في رواية البارقي(3) لا ظهور له في وقوع المعاملة معاطاة، فإنّ صفقة اليمين كناية عن0.

ص: 186


1- منية الطالب: ج 2/51-52.
2- وسائل الشيعة: ج 203/21 ب 88 من أبواب نكاح العبيد والإماء ح 1 رقم 26900، التهذيب: ج 488/7 ح 168.
3- المستدرك: ج 13/245 ب 18 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 1 رقم 15260.

البيع من دون رعاية أنْ يكون الإنشاء بصفقة اليمين.

وأمّا المقام الثاني: فقد استدلّ الشيخ رحمه الله(1) لعدم جريان الفضولي فيها على القول بالإباحة بوجهين:

أحدهما: أنّ إفادة المعاطاة المقصود بها الملك للإباحة خلاف القاعدة، فيقتصر فيها على صورة تعاطي المالكين.

الثاني: أنّ حصول الإباحة قبل الإجازة غير ممكن.

أقول: إنّه لو قلنا بالإباحة من باب أنّ المعاطاة مفيدة للملك، غاية الأمر يشترط فيه التصرّف، أو التلف، وقبله يحكم بالإباحة الشرعيّة لدليل خاص، فالفضولي يجري في المعاطاة لما تقدّم، نعم لا يحكم بالإباحة ما لم يجز.

وأمّا لو قلنا بأنّها مفيدة للإباحة، وتكون الإباحة شرعيّة، فدليله الأوّل متين ولا يتمّ الثاني، إذ نسبة الإباحة إلى ما قبل الإجازة وما بعدها على حَدٍّ سواء، بعد فرض أنّ المالك قاصدٌ للملك، فحصولها قبلها لا مانع منه.

وأمّا إذ قلنا بالإباحة المالكيّة المُنشَأة بالفعل، فيمكن الاستدلال بأدلّة نفوذ المعاطاة من قبيل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لجريان الفضولي فيها، لاستناد العقد إلى المالك بعد الإجازة.

***7.

ص: 187


1- المكاسب: ج 3/397.

القول في الإجازة

أمّا الكلام في الإجازة، فيقع:

تارةً : في حكمها وشروطها.

وأُخرى : في المجيز.

وثالثة: في المجاز.

أمّا حكمها: فالمنسوب إلى المشهور(1) هو القول بالكشف، بل قيل إنّه لم ينقل القول بالنقل عن أحدٍ إلى زمان المحقّق آقا جمال قدس سره، وأمّا المتأخّرون عنه فالمشهور بينهم هو النقل، وعن جماعة التوقّف في المسألة(2).

أقول: إنّ الكشف يتصوّر له معان:

أحدها: الكشف الحقيقي الصرف، وهو الظاهرمن «جامع المقاصد»(3) و «الجواهر»(4).

ثانيها: الكشف عن أمر مقارن للعقد، وهو:

إمّا الرضا التقديري كما عن المحقّق الرشتي رحمه الله(5).

أو تعقّب العقد بالرضا، بحيث يعدّ وصفاً مقارناً للعقد كما عن جماعة من الأعلام(6).

ص: 188


1- نسبه إلى المشهور الشيخ الأنصاري في المكاسب: ج 3/399.
2- منهم الشهيد الثاني في حاشية الإرشاد (مخطوط): 116، والسبزواري في الكفاية: ج 1/449.
3- جامع المقاصد: ج 4/74-75.
4- جواهر الكلام: ج 22/288.
5- كتاب الإجارة للمحقّق الرشتي: 184.
6- الفصول الغروية: 80، منية الطالب: ج 1/238.

وأمّا أمر مجهول عندنا، بأن يكون الشرط لتأثير العقد أمراً واقعيّاً مقارناً له لا نعرفه، إلّاأنّه يكون ذلك الأمر ملازماً للإجازة الإستقباليّة.

ثالثها: الكشف عن الأثر، لكون الإجازة من قبيل الشرط المتأخّر، وهو الظاهر من كلّ من يقول بالشرط المتأخّر، ونُسب ذلك إلى المشهور(1).

رابعها: الكشف الإنقلابي، بأنْتكون الإجازة المتأخّرة موجبة لحدوث التأثير في العقد، وجاعلة إيّاه سبباً تامّاً، وهو الذي احتمله الشيخ رحمه الله في آخر كلامه(2).

خامسها: الكشف الحُكمي، بمعنى ترتيب آثار الملكيّة من حين وقوع العقد لا حصول نفس الملكيّة، وهي المنسوب إلى المحقّق شريف العلماء(3) اُستاذ الشيخ رحمه الله.

سادسها: الكشف بأنْ تكون الإجازة بوجودها الدهري المجتمع مع شروطها في وعاء الدهر، إذ الطوليّات الزمانيّة عرضيّات في عالم الدهر شرطاً.

وفي المقام قولٌ آخر اختاره المحقّق الإيرواني رحمه الله(4) والاُستاذ الأعظم(5)، ونُسب إلى المحقّق الخراساني(6)، وهو النقل في الملكيّة والكشف في المملوك، بأن يكون اعتبار الملكيّة بعد الإجازة، والمعتبر قبلها، وستعرف توضيحه.

هذه هي الأقوال في المسألة.8.

ص: 189


1- المحقّق اليزدي في حاشيته على المكاسب: ج 1/148، وحكاه المحقّق الأصفهاني قدس سره عن بعض أجلّة عصره، حاشية كتب الأصفهاني: ج 2/131.
2- المكاسب: ج 3/415، عند قوله: (وأمّا على المشهور في معنى الكشف...).
3- نسبه له الشيخ في المكاسب: ج 3/407.
4- حاشية المكاسب للأيرواني (ط. ق): ج 1/126-127.
5- كما يظهر من مصباح الفقاهة للسيّد الخوئي قدس سره: ج 2/774-775.
6- كما هو الظاهر من حاشية كتاب المكاسب للآخوند ص 58.

أدلّة كاشفيّة الإجازة

أدلّة كاشفيّة الإجازة

وأمّا الأدلّة: فقد استدلّوا للكشف بوجوه، وكلّ واحدٍ منها استدلّ به للقول بنحو من الكشف.

الوجه الأوّل: ما عن فخر الدين في «الإيضاح»، من أنّه إذا لم تكن الإجازة كاشفة، لزم تأثير المعدوم في الموجود، إذ العقد حالها عدمٌ (1).

أقول: بما أنّ هذا الوجه بظاهره بيِّن الفساد، من جهة أنّ القائل بالنقل يرى أنّ العقد جزء العلّة لا تمامها، ومعلوم أنّ بعض أجزاء العلّة كثيراً ما تقدّم على المعلول زماناً كما في التدريجيّات - أي الأجزاء المتدرّجة في الوجود - فقد تصدّى المحقّق النائيني رحمه الله لتوجيهه ووجهه بأنّ مراده أنّ المُنشَأ لا يتخلّف عن الإنشاء، واسم المصدر لا يعقل انفكاكه عن المصدر(2).

ولكن يرد عليه: أنّ المُنشَأ هو الملكيّة في اعتبار المبتاعين، والذي يكون محلّ الكلام هو الملكيّة في اعتبار الشارع الأقدس.

الوجه الثاني: ما عن «جامع المقاصد»(3)، من أنّ العقد سببٌ تامٌّ ، إذ المأخوذ موضوعاً لوجوب الوفاء هو العقد، قال اللّه تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (4)، ولا يكون شيءٌ آخر دخيلاًفيه، وإلّا لأُخذ في الموضوع. غاية الأمر خرج عن هذا العموم العقد الصادر من غير المالك إذا لم يجزه المالك، فالعقد الذي أجازه المالك يكون باقياً تحت

ص: 190


1- إيضاح الفوائد: ج 1/419.
2- منية الطالب: ج 1/203.
3- جامع المقاصد: ج 4/74-75.
4- سورة المائدة: الآية 1.

العموم، فلا مناص عن الإلتزام بتأثيره خاصّة من دون توقّفٍ على شيء آخر.

نعم، الكاشف عن ثبوت الموضوع هو الإجازة، إذ ما لم يجز حيث يمكن عدم الإجازة، فيحتمل عدم تحقّق الموضوع.

هذا هو مدرك المعنى الأوّل من الكشف.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ خطاب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» متوجّه إلى المالكين، ومفاده وجوب وفاء كلّ مالكٍ بعقده، والعقد الصادر من الفضولي إنّما يكون عقداً للمالك بالإجازة، فالموضوع يتحقّق من حين الإجازة.

وثانياً: إنّه قد دلَّ الدليل من الإجماع والنَّص على اعتبار رضا المالك ودخله في ترتّب الأثر، وهو يقيّد العموم، فتأمّل.

الوجه الثالث: ما عن المحقّق الرشتي رحمه الله(1)، من أنّ الشرط لتأثير العقد هو الرضا التقديري من المالك، والإجازة تكشف عنه بمثل كاشفيّة شاهد الحال.

هذا هو مدرك الوجه الأوّل من المعنى الثاني له.

وفيه أوّلاً: إنّ الرضا التقديري لا يكفي في تأثير العقد، لعدم انتسابه إليه بذلك.

وثانياً: إنّ الإجازة لا تكشف عن ذلك، كيف والحالات الموجبة لإختلاف المالك من حيث الرضا والكراهة مختلفة، فيمكن أن لا يكون حين العقد راضياً، ويصير كذلك بعده.

الوجه الرابع: ما عن صاحب «الفصول»(2) وأخيه المحقّق(3)، من أنّه حيث4.

ص: 191


1- الإجارة للرشتي: 184.
2- الفصول الغرويّة: 144.
3- نسبه إليه المحقّق النائيني في منية الطالب: ج 1/234.

لا يمكن أن تكون الإجازة المتأخّرة شرطاً؛ لإمتناع تأخّر الشرط الذي هو من أجزاء العلّة التامّة التي يمتنع تأخّرها عن المعلول، فلا مناص عن الالتزام بأنّ الشرط عبارة عن الوصف الإنتزاعي منه كالتعقّب.

هذا هو مدرك الوجه الثاني من المعنى الثاني.

وفيه أوّلاً: إنّ لازم الوجه المذكور لو تمّ ، ليس هو البناء على كون الشرط هو الوصف الإنتزاعي، بل تحقّق المعلول بعد الإجازة، كما هو ظاهر الأدلّة.

وثانياً: إنّه لا يكون العقد بذاته منشأً لإنتزاع هذا الوصف، بل المُنشَأ هو الإجازة، والأمر الإنتزاعي لا يتحقّق قبل تحقّق منشَأ انتزاعه.

وإنْ أبيتَ عن ذلك، وقلت بأنّ عنوان التعقّب كعنواني السابق والملحوق ينتزع من نفس العقد - كما أنّهما ينتزعان منه - لكن لا كلام في أنّ هذا العنوان مع عنوان لاحقية الإجازة متضائفان، والمتضائفان متكافئان في القوّة والفعليّة، فمع عدم فعليّة الثاني لعدم تحقّق منشأه، لا يصير الأوّل فعليّاً.

أقول: وأمّا الوجه الثالث من المعنى الثاني، فلم أرَ ما استدلّ به عليه.

ويرده: أنّه خلاف ظاهر الأدلّة ورجمٌ بالغيب، مع أنّ ذلك الأمر حيث أنّه ليس من الأُمور المتأصّلة، إذ الصادر من الفضولي ليس إلّاالعقد، فلا مناص عن الالتزام بكونه أمراً انتزاعيّاً.

وعليه، فإنْ كان منشأه نفس العقد، لزم ترتيب آثاره، ولو لم تتحقّق الإجازة، وإنْ كان المُنشَأ هو الإجازة، عاد المحذور المتقدّم في سابقه.

الوجه الخامس: ما استدلّ به على الكشف الإنقلابي، وهو كون الإجازة من

ص: 192

المالك محدثة للتأثير في العقد وجاعلة إيّاه سبباً تامّاً.

وحاصله: أنّه فرقٌ بين الإجازة وغيرها من الشروط كالقبض، فإنّ الإجازة إنّما تكون إنفاذاً للعقد السابق، ولذلك لا تكون دخيلةً في حصول الملكيّة، بل متمّمة للعقد الذي هو السبب للملكيّة، نظير إنفاذ الحاكم حكم مجتهدٍ آخر، فالعقد إلى حين الإجازة لم يكن سبباً وبها ينقلب ويصبح سبباً تامّاً، ولازمه تأثيره في المِلْك - بعدما لم يكن - بنحو الإنقلاب.

وفيه أوّلاً: إنّه لا يعقل انقلاب الشيء عمّا وقع عليه.

وثانياً: إنّ الإجازة بهذا المعنى لم يدلّ دليل على نفوذها شرعاً، إذ اعتبار الإجازة في سببيّة العقد:

إمّا أنْ يكون لأجل اعتبار إسناد العقد إلى المالك.

أو يكون لأجل اعتبار رضا المالك في نقل ماله عن ملكه.

وعلى الأوّل: لا يُستند العقد إلى المالك إلى حين الإجازة، لا أنّها توجب استناد ما وقع من أوّل وقوعه إليه، بل من حين الإجازة كما تقدّم، فمن حين الإجازة يتمّ السبب للملكيّة، فكيف يحكم بحصول الملك قبل تماميّة السبب.

وعلى الثاني: فالأمر أيضاً كذلك، إذ الرضا إنّما يوجد حين الإجازة لا قبلها، فلا حلّية للتصرّف قبلها ولا ملك.

الوجه السادس: ما استدلّ به على الكشف الحكمي، وهو وجهان:

أحدهما: ما استدلّ به على الانقلاب، بضميمة أنّه حيثُ لا يعقل الإنقلاب، فبدلالة الاقتضاء يبني على إرادة معاملة العقد الملحوق بالإجازة معاملة العقد

ص: 193

الواقع مؤثّراً من حيث ترتّب الآثار الممكنة، فإذا أجاز المالك، حكمنا بانتقال نماء المبيع بعد العقد إلى المشتري، وإنْ كان أصل الملك قبل الإجازة للمالك، ووقع النماء في ملكه.

ويرد عليه ما تقدّم.

ثانيهما: أنّ الكشف الحكمي سارٍ في أغلب أبواب الفقه، كباب الخمس والزكاة ونحوهما.

وحاصله: أنّ كلّ ما يكون موضوعاً لحكمٍ بواسطة الآمر المتأخّر - بحيث كان الأمر السابق بمنزلة المادّة، وذلك الأمر بمنزلة الصورة - فمقتضى القاعدة ترتيب آثار الموضوع من أوّل تحقّقه، لأنّه ينكشف تحقّق الموضوع من أوّل الأمر، مثلاً عنوان (فاضل المؤونة) موضوعٌ لوجوب الخمس، وذاته يتحقّق أوّل زمان ظهور الربح، ولكن اتّصافه بهذا العنوان إنّما يكون بعد انقضاء السنة، فبعد انقضاء السنة ينكشف تعلّق الخمس من أوّل السنة، وهكذا في المقام فإنّ العقد إنّما يكون موضوعاً لوجوب الوفاء بواسطة الإجازة المتأخّرة، فلابدّ من البناء على ترتيب الآثار مهما أمكن.

وفيه: إنّه إذا كان الأمر المتأخّر بمنزلة الصورة، فلابدّ من الالتزام بالنقل، إذ حقيقة الشيء إنّما تكون بصورته.

وأمّا كون الإجازة شرطٌ بوجودها الدهري، فهو مندفعٌ بأنّ شرط الزماني لابدَّ وأنْ يكون زمانيّاً.

وبالجملة: فلم يبق من معاني الكشف إلّاالمعنى الثالث، وهو الكشف عن

ص: 194

الأثر، فقد استدلّ له:

بأنّ الإجازة متعلّقة بالعقد، وهي رضا بمضمونه، وليس إلّاالنقل من حينه، وهذا الوجه قد استدلّ به للقول الأخير الذي هو برزخٌ بين النقل والكشف.

أقول: وتنقيح القول عن هذا الأمر يقتضي البحث في موارد:

الأوّل: في إمكان كلّ من القولين.

الثاني: في تماميّة هذا الوجه.

الثالث: في أنّه على فرض التماميّة، هل يثبت به الأوّل أو الثاني ؟

أمّا المورد الأوّل: فغاية ما قيل في وجه امتناع الأوّل أنّه مستلزمٌ للقول بالشرط المتأخّر، والشرط لا يتأخّر، وإلّا لزم تأثير المعدوم في الموجود أو عدم التأثير، والأوّل محالٌ ، والثاني خلف.

والجواب عن ذلك في الأُصول، وقد أشبعنا الكلام فيه في حاشيتنا على «الكفاية»(1)، وخلاصته:

إنّ الشرط بنفسه ليس دخيلاً في المصلحة والحكم، بل التقيّد به دخيلٌ فيهما، وهو بوجوده الخارجي طرف لما يكون دخيلاً في الموضوع وهو التقيّد به، والتقيّد عبارة عن إضافة خاصّة حاصلة للشيء إذا لوحظ مع غيره، وتلك الإضافة تحصل إذا لوحظ مع المتأخّر، كما تحصل إذا لوحظ مع المقارن، وعلى التقديرين هو مقارن له، مثلاً في الاُمور العرفيّة فإنّ الحمّامي إنّما يرضى بالتصرّف في الحمّام، وصرف الماء لمن يعطيه الفلوس فيما بعد خروجه، فمن علم من حاله أنّه يعطيه بعد الخروج - بمان.

ص: 195


1- هذه الحاشية للمصنّف لم تطبع لحدّ الآن.

أنّه بالفعل مقيّدٌ بهذا، ويتّصف به - يجوز له التصرّف فيه.

وبالجملة: حصول أمر اعتباري إضافي من جهة تحقّق المتأخّر في ظرفه واضح، ودخل العناوين الاعتباريّة الإضافيّة في المصالح والأحكام في غاية الوضوح، فلا محذور في الشرط المتأخّر أصلاً.

وأمّا القول الثاني: وهو كون اعتبار الملكيّة بعد الإجازة، والمعتبر سابقاً.

توضيحه: إنّ اعتبار الملكيّة وحصول الملكيّة، كما يمكن اجتماعهمابحسب الزمان، كذلك يمكن افتراقهما بأن يكون الإعتبار فعلاً والمعتبر في زمان لاحق، أو في زمان سابق، إذ الاعتبار خفيف المؤونة، ويكون نظير التصوّر واللّحاظ، ويصحّ تعلّقه بأمر متأخّر أو متقدّم إذا كان هناك مصحّح له، ولم يترتّب عليه محذور، ولذا بنينا على صحّة اعتبار ملك المعدوم والملك للمعدوم، ولا يتوقّف الاعتبار إلّاعلى أثر مصحّح له، ففي المقام تعتبر الملكيّة بعد تحقّق الإجازة، لكن المملوك شيءٌ سابق عليها واقعٌ بعد العقد، فتكون ملكيّة العين ومنافعها قبل الإجازة لمن انتقلت عنه، وبعد الإجازة لمن انتقلت إليه.

أقول: قيل في وجه عدم إمكانه أُمور:

الأمر الأوّل: أنّه يلزم كون المال مِلْكاً لمالكين في زمان واحد، وهذا غير معقول.

وفيه: إنّه حيث يكون زمان الإعتبار متعدّداً، فلا محذور في اجتماع ملكيّتين في زمان واحد.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الاعتبار خفيف المؤونة، فيمكن اعتبار شيء واحد

ص: 196

لشخصين مع تعدّد زمان الاعتبار.

الأمر الثاني: إنّه بناءً على مسلك العدليّة من تبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد، فإنّ اعتبار كون العين لمن انتقلت عنه إلى حين الإجازة لا محالة يكون لمصلحةٍ داعية إلى ذلك، ومعه كيف يمكن اعتبار ملكيّتها لمن انتقلت إليه في ذلك الزمان، بعد كون المصلحة من الأُمور الواقعيّة.

وفيه: إنّ الأحكام الوضعيّة تابعة لمصالح في الاعتبارات لا في المعتبر، فلا يلزم الاجتماع.

الأمر الثالث: إنّه يلزم التعارض بين الآثار، مثلاً إذا كان للعين منافع واستوفاها الغير، فإنّ مقتضى الاعتبار الأوّل كون عوضها لمن انتقلت عنه فيكون ضامناً له، ومقتضى الاعتبار الثاني كونه لمن انتقلت إليه، وكونه ضامناً له، وهكذا.

وفيه: إنّ الآثار غير الباقية لا كلام فيها، والباقية مترتّبة على الاعتبار الثاني وهو الميزان، وفي المثال يحكم بكونه ضامناً للثاني.

فتحصّل: أنّ الأظهر معقوليّتهما معاً.

وأمّا المورد الثاني: فمحصّل الدليل المشار إليه هو أنّ العاقد الفضولي كغيره من العاقدين يقصد النقل من زمان العقد، وينشأ ذلك، والإجازة من المالك تتعلّق بتمام ما أنشأه الفضولي لا بعضه، ودليل صحّة بيع الفضولي إنّما يدلّ على صحّة عقد الفضولي الذي أجازه المالك ووقوعه، فتكون النتيجة هو الكشف.

أقول: أورد عليه الشيخ رحمه الله بإيرادات(1):4.

ص: 197


1- المكاسب: ج 3/403-404.

الإيراد الأوّل: إنّ مضمون العقد ليس هو النقل من حينه، بل أصل النقل، وإنّما يحكم بوقوعه من ذلك الحين، فيما إذا كان العاقد هو المالك من جهة وقوع الإنشاء الذي هو العلّة في ذلك الحين، والمعلول لا يتخلّف عن علّته.

وبعبارة أُخرى : مضمون العقد هو النقل غير المقيّد بالزمان، وإنّما الزمان ظرف له لا قيد، واستشهد لذلك بأمرين:

أحدهما: إنّ القبول حاله حال الإجازة في كونه رضاً بمضمون الإيجاب، مع أنّه لم يقل أحدٌ بالكشف فيه.

ثانيهما: إنّ الفسخ للعقد إنّما يكون نظير الإجازة متعلّقاً بمضمون العقد، فلو كان زمان وقوع العقد مأخوذاً في العقد على وجه القيديّة لكان فسخه موجباً للحكم بعدم ترتّب الآثار من حين العقد، مع أنّه لم يقل به أحد.

ولكن يرد عليه قدس سره: إنّ العاقد الملتفت بحسب الطبع إذا لم ينشأ النقل في زمان متأخّر، لا محالة يكون قاصداً إلى النقل من حين العقد، وإنّما لا يذكره في الإنشاء اعتماداً على ما يقتضيه إطلاق العقد، كيف ولو كان قاصداً لمجرّد النقل المهمل من حيث الزمان، لم يكن لوجه لوقوعه من حين العقد، ومجرّد وقوع الإنشاء في زمانٍ لا يكفي في وقوع المُنشَأ من ذلك الحين، فإنّ الإنشاء سببٌ لوقوع مضمونه، والمفروض أنّه النقل على سبيل الإهمال لا من حينه، فيتوقّف وقوعه من حينه على مرجّحٍ يقتضيه، مع أنّه يفرض الكلام فيما إذا أنشأ النقل من حين العقد.

أقول: وأمّا ما ذكره من الشاهدين:

فيرد على الأوّل منهما: أنّه إنْ قلنا بأنّ القبول إنشاء للتملّك، فالفرق بينه وبين

ص: 198

الإجازة واضح، وإنْ قلنا إنّه رضا بمضمون الإيجاب، فلا محذور في الالتزام بحصول النقل من حين الإيجاب، إلّاأنّه بناءً على اعتبار الموالات بين الإيجاب والقبول قليل الفائدة، أي لا فرق بين وقوعه من حين الإيجاب أو من حين القبول غالباً.

وأمّا الشاهد الثاني، فيرد عليه: أنّ الفسخ هو حَلّ العقد بقاءً ، لا من حين تحقّق العقد.

قال الشيخ رحمه الله في ذيل هذا: (والحاصل أنّه لا إشكال في حصول الإجازة بقول المالك... الخ)(1).

أقول: هذا ليس حاصلاً لما تقدّم، بل هو جوابٌ آخر، ومحصّله:

أنّه لو سُلّم كون إنشاء الفضولي متعلّقاً بالنقل من حينه، إلّاأنّ الإجازة ليست متعرّضة لإنشاء الفضولي وإنّما هي عبارة عن الرضا بالنقل والمبادلة، فتكون مؤثّرة في النقل من حينها.

وفيه: إنّ الرضا بالمبادلة ما لم يكن رضاً بما أنشأه الفضولي لا يكون كافياً، وإنّما يبني على كفاية الكاشف عن الرضا، من قبيل: (رضيتُ بكون مالي لزيد بإزاء ماله) من جهة كونه رضاً بما أنشأه الفضول بالإلتزام، وإلّا لم يكن كافياً.

الإيراد الثاني: إنّه لو سُلّم كون العقد إنشاءً للنقل من حينه، والإجازة متعلّقة بهذا، إلّاأنّه دليل على صحّة هذا العقد المجاز بهذا النحو، فإنّ الخطابات الإمضائيّة من قبيل: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2) و «أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ » (3) إنّما يجعله عاقداً من حين5.

ص: 199


1- المكاسب: ج 3/404.
2- سورة المائدة: الآية 1.
3- سورة البقرة: الآية 275.

الإجازة، فتلك الخطابات تتوجّه إليه من حين الإجازة، فالأحكام التكليفيّة إنّما تكون ثابتة من حينها، وقبلها لا يجب الوفاء بالعقد، ولا يحلّ التصرّف له، والملكيّة إنّما تكون منتزعة منها، فكيف يمكن الحكم بتحقّقها من قبل الإجازة، والأمر الانتزاعي لا يتقدّم على منشأ انتزاعه.

وفيه: إنّ هذا الوجه يصلح ردّاً للكشف عن الأثر، ولا يصلح جواباً عمّن يلتزم بكون اعتبار الملكيّة إنّما يكون من حين الإجازة، إلّاأنّ المعتبر هو أمر من حين العقد، إلّاعلى مسلكه قدس سره من انتزاعيّة الأحكام الوضعيّة عن الأحكام التكليفيّة.

وأمّا بناءً على كونها مجعولات بالاستقلال - كما حقّقناه في محلّه - فلا يتمّ هذا الجواب، فإنّ الحكم التكليفي وإنْ كان من حين الإجازة، إلّاأنّه لا مانع من الالتزام بثبوت الحكم الوضعي بالنحو المتقدّم من حين العقد، فتدبّر.

الإيراد الثالث: إنّه لو سُلّم جميع الأُمور المشار إليها - من كون العقد إنشاءً للنقل من حينه، ومن أنّ الإجازة إنفاذ لذلك، والأدلّة تدلّ على صحّة هذا العقد المجاز، إلّا أنّه لعدم معقوليّة ذلك فإنّه يستلزم انقلاب العقد عمّا وقع عليه من عدم التأثير إلى التأثير وهو محال - فلابدَّ من صرف الدليل عن ظاهره وحمله على الكشف الحكمي.

وفيه: إنّ انقلاب العقد عن كونه غير مؤثّر إلى صيرورته مؤثّراً أمر لابدّ منه، حتّى على القول بالنقل، فإنّ ذلك من لوازم دخل الإجازة في تأثيره، وإنّما الخلاف في أنّ أثر هذا العقد المجاز هل هو النقل من حين الإجازة - كما يقول به القائل بالنقل - أو من حين العقد على نحو كون الاعتبار لاحقاً، والمعتبر سابقاً.

وبالجملة: فتحصّل ممّا ذكرناه تماميّة هذا الوجه.

ص: 200

المورد الثالث: ظهر ممّا ذكرناه الكلام في المورد الثالث، وأنّه إنّما يدلّ على الكشف بالمعنى الذي اختاره المحقّق الخراساني(1) وتبعه جمعٌ من الأساطين(2)، وخلاصة الكلام:

أنّ أدلّة الإمضاء إنّما تدلّ على إمضاء العقد المجاز بما له من المدلول، وهو ما ذكرناه.

هذا كلّه فيما تقتضيه القواعد.

وأمّا الأخبار الخاصّة:

فيدلّ على الكشف صحيح محمّد بن قيس(3) المتقدّم من جهة الحكم بعدم ضمان قيمة الولد في صورة الإجازة، مع أنّه على القول بالنقل كان اللّازم الحكم بالضمان.

قال الشيخ رحمه الله: في تعليقته على هذا الخبر: (لكن لا ظهور له في الكشف الحقيقي، فيحتمل الكشف الحكمى)(4).

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّه بضميمة قاعدة «من أتلف...» ظاهرٌ في الكشف الحقيقي، فإنّه لو كانت الوليدة إلى حين الإجازة باقية على ملك مالكها كان الحكم بالضمان منافياً لتلك القاعدة، فبعين البرهان الذي ذكره لاستفادة الكشف من خبر أبى عُبيدة(5) يستفاد الكشف الحقيقي من هذا الصحيح، وحيث عرفت أنّ المعقول من الكشف هو الكشف في المعتبر، والصحيح قابلٌ للحمل عليه، فيُحمل عليه.3.

ص: 201


1- كفايه الأُصول: ص 118-119، حاشية المكاسب للمحقّق الخراساني: ص 59-60.
2- كما عن الفصول ص 80، ومنية الطالب: ج 1/234.
3- الكافي: ج 5/211 ح 12، وسائل الشيعة: ج 21/203 أبواب نكاح العبيد ب 88 ح 1 (26900).
4- المكاسب: ج 3/409، بتفاوت.
5- الكافي: ج 5/401 ح 4، وسائل الشيعة: ج 21/326 ب 58 ح 27203.

ويشهد له أيضاً: خبر أبي عُبيدة(1) الوارد في تزويج الصغيرين فضولاً، الآمر بعزل الميراث من الزوج المُدرِك الذي أجاز فمات للزوجة غير المُدرِكة حتّى تحلف بعد الإدراك، فقد أفاد الشيخ رحمه الله في وجه دلالته على الكشف، بأنّ مال الميّت لو كان قبل الإجازة باقياً على ملك سائر الورثة، كان العزل مخالفاً لقاعدة تسلّط الناس على أموالهم، فهو بضميمة قاعدة السلطنة يدلّ على الكشف(2).

وأورد عليه السيّد، وتبعه المحقّق الإيرواني رحمه الله: بأنّه لا محيص عن مخالفة إحدى القاعدتين، إمّا قاعدة السلطنة إنْ قلنا بالنقل، أو عموم دليل الاستصحاب إنْ قلنا بالكشف، فترجيح إحدى القاعدتين على لأُخرى بلا مرجّح(3).

وفيه: إنّ مخالفة عموم دليل الاستصحاب لا محيص عنها على القولين، إذ لو قلنا بالنقل وأنّها ترث بعد الإجازة، كان العزل منافياً لأصالة عدم الإجازة.

أقول: ويمكن أن يُذكر وجهٌ آخر لدلالته على الكشف، وهو: إنّه لو قلنابالنقل:

فإن بنينا على انتقال المال كلّاً إلى الوراثة، وأنّ الزوجة تتلقّى نصيبها من سائر الورثة، لزم مخالفة قاعدة الإرث المقتضية لتلقي النصيب من الميّت.

وإنْ بنينا على بقاء مقدار نصيبها على ملك الميّت، لزم مخالفة قاعدة «ما تركه الميّت فلوارثه»، وهذا بخلاف مالو بنينا على الكشف، كما هو واضح.

فتحصّل: أنّ القول بالكشف في المعتبر هو الذي تقتضيه القواعدوالأدلّة الخاصّة، فعليه الفتوى.

***9.

ص: 202


1- الكافي: ج 5/401 ح 4، وسائل الشيعة: ج 21/326 ب 58 ح 27203.
2- المكاسب: ج 3/409-410.
3- حاشية المكاسب للسيّد اليزدي (ط. ق): ج 1/152، حاشيه المكاسب للأيرواني: ج 1/129.

ثمرة القول بالكشف والنقل

أقول: بقي الكلام في بيان الثمرة بين الكشف باحتمالاته والنقل. وتنقيح القول في المقام يتحقّق بالبحث في مقامات:

الأوّل: في تصرّف كلّ منهما في ما انتقل إليه.

الثاني: في تصرّف كلّ منهما فيما انتقل عنه.

الثالث: في سائر الآثار من النماء وغيره.

أمّا المقام الأوّل: فالكلام فيه يقع في موارد:

1 - في الحكم التكليفي.

2 - في الحكم الوضعي.

3 - في الآثار الاخر المترتّبة على الملك.

وليُعلم أنّ الكلام في المقام يقع في تصرف الأصيل، وأمّا تصرّف المالك الذي وقع العقد على ماله فضولاً، فسيأتي الكلام فيه إنْ شاء اللّه تعالى .

أمّا المورد الأوّل: فعلى القول بالكشف الحقيقي باحتمالاته - من شرطيّة التعقّب، أو شرطيّة اللّحاظ، أو شرطيّة الإجازة نفسها بنحو الشرط المتأخّر، أو الكشف المحض - يجوز التصرّف إن أجاز المالك لفرض وقوعه في ملكه.

أقول: ما أفاده الشيخ الأعظم رحمه الله من الفرق في جواز التصرّف بين كون نفس الإجازة شرطاً، وكون الشرط تعقّب العقد بها، والحكم بجواز التصرّف على الثاني دون الأوّل(1):

ص: 203


1- المكاسب: ج 3/410.

إنْ أراد شرطيّتها على سبيل الانقلاب، فهو حقٌّ كماستعرف، إلّا أنّه لايلائم مع ما أفاده بعد سطرين من جواز الوطء واقعاً على الكشف الحقيقي مطلقاً كما لايخفى .

وإنْ أراد شرطيّتها على نحو الشرط المتأخّر، فهو غير صحيح، إذ جواز التصرّف من آثار المِلْك، والمفروض حصوله من حين العقد على هذا المسلك أيضاً، وعلى القول بالنقل والكشف الانقلابي والكشف الذي اخترناه والكشف الحكمي، لا يجوز لفرض عدم حصول الملك قبل الإجازة، وتحقّق الملك بعد الإجازة ولو من حين العقد، بنحو الانقلاب أو النحو المعقول، لا يوجب انقلاب التصرّف الذي وقع غير جائز عن ما وقع عليه، هذا في الحكم الواقعي.

وأمّا في الظاهر فإنْ علم بالإجازة جاز التصرّف ظاهراً - على فرض جوازه واقعاً - وإنْ لم يعلم به لم يجز لأصالة عدم تحقّق الإجازة، بناءً على ما هو الحقّ من جريان الاستصحاب في الأُمور الاستقباليّة.

وأمّا المورد الثاني:

فعلى القول بالكشف: بالنحو الذي اخترناه، فبيعه يكون من قبيل من باع شيئاً ثمّ ملك، وكذلك ما شابهه، وأمّا الطلاق فلا ينبغي الإشكال في فساده، لعدم تحقّق علقة الزوجيّة حينه، وكذلك الكلام على الكشف بمعنى الانقلاب.

وأمّا على الكشف الحكمي: فلابدَّ من البناء على نفوذ تصرّفاته بعد الإجازة، وإنْ وقعت غير نافذة حين وقوعها، وأمّا على سائر وجوه الكشف، فلا ريب في نفوذها، كما لا ريب في عدم النفوذ على القول بالنقل.

وأمّا المورد الثالث: فلو أولد المشتري الجارية قبل إجازة مالكها:

ص: 204

فعلى القول بالكشف الحقيقي: سواءٌ بنحو الكشف المحض، أو الكشف عن مقارنة الشرط، أو الكشف عن الأثر، تصبح الجارية أُمّ ولد، لوقوع الوطء في ملكه، وعلى القول بالنقل لا يتحقّق الإستيلاد بلا كلام.

وأمّا على الكشف الانقلابي: والكشف الذي اخترناه، فالأظهر عدم تحقّق الاستيلاد، إذ الإجازة على القولين توجب الملكيّة حقيقة في الزمان الذي لم يكن الملك موجوداً، وهذا لا يوجبُ انقلاب الوطء، وعليه فلا يتحقّق الاستيلاد.

وأمّا على الكشف الحكمي: فالظاهر هو البناء على تحقّق الاستيلاد، فإنّ الوطء وإنْ وقع في ملك الغير، إلّاأنّه حيث دلَّ الدليل على ترتيب جميع آثار الملك ومن جملتها الآثار المترتّبة على وقوع الوطء في الملك من عدم جواز بيع الاُمّ وحرمة الولد، فيجب ترتيبها، وعلى هذا فلا وجه لاحتمال عدم تحقّق الاستيلاد على الكشف الحكمي كما في المتن.

وأوضح إشكالاً من ذلك، البناء على تحقّق الاستيلاد على الكشف الحقيقي بوجوهه لما عرفت.

وأمّا المقام الثاني: وهو تصرّف كلّ منهما فيما انتقل عنه، فالكلام فيه يقع في موردين:

الأوّل: في تصرّف المجيز.

الثاني: في تصرّف الأصيل.

أقول: ومحلّ الكلام هو في التصرّف المُخرِج عن الملك.

أمّا المورد الأوّل:

ص: 205

فمن حيث الحكم التكليفي: لا كلام في الجواز عليجميع الأقوال، وستعرف وجهه.

وأمّا من حيث الحكم الوضعي: فالأقوال فيه أربعة:

القول الأوّل: النفوذ مطلقاً، اختاره جمعٌ منهم السيّد والمحقّق النائيني رحمه الله(1).

القول الثاني: عدم النفوذ على الكشف مطلقاً، ذهب إليه جمعٌ منهم المحقّق الايرواني رحمه الله(2).

القول الثالث: النفوذ مع بقاء قابليّة العقد الفضولي للحوق الإجازة به، فيجمع بينهما بأنّ على المجيز دفع القيمة.

القول الرابع: ما في «المكاسب»، من بطلان النقل على الكشف الحقيقي، وصحّته على الكشف الحكمي، مع البناء على عدم قابليّته للإجازة إذا كان التصرّف من قبيل إتلاف العين عقلاً أو شرعاً كالعتق، وبقاء القابليّة والحكم بصحّة الإجازة إنْ كان بنحوٍ لا ينافيها كإتلاف النماء ونقله(3).

أقول: وقد أفاد في وجه بطلان النقل على الكشف الحقيقي بأنّه بالإجازة ينكشف وقوع النقل في مِلْك الغير.

وفي وجه صحّته على الكشف الحكمي، ونفوذ الإجازة مع رجوع المشتري إلى المجيز بالقيمة، إنْ لم يكن التصرّف بالإتلاف، بأنّه مقتضى الجمع بين جعل العقد ماضياً من حين وقوعه، وصحّة النقل الواقع قبل حكم الشارع بهذا الجعل.

وفي وجه عدم صحّة الإجازة على الكشف الحكمي، إنْ كان التصرّف1.

ص: 206


1- حاشية المكاسب لليزدي (ط. ق): ج 1/153، منية الطالب: ج 1/261.
2- حاشية المكاسب للأيرواني: ج 1/129.
3- المكاسب: ج 3/411.

بالإتلاف بأنّه يفوّت محلّ الإجازة(1).

أقول: في كلامه قدس سره مواقع للنظر:

أمّا ما أفاده أوّلاً: فلأنّ العقد الصادر من الفضولي لا يكون مؤثّراً وحده في لزوم التزام المالك بمفاده، فهو بعدُ في سعةٍ من ذلك، فلو نقله بعقدٍ لازم شمله أدلّة ذلك العقد، ويجب الوفاء به، وبعده لا يبقى مورد للإجازة، لخروجه عن ملكه، وتلك الإجازة الواقعة في غير ملكه لا تصلح أن تؤثّر في نقل المال قبل ذلك النقل عن ملكه كي يصير نقلاً لمال الغير.

وبالجملة: الإجازة المؤثّرة هي ماتكون صادرة ممّن بيده زمام المال، فإذا فرض خروجه عن ملكه بعقدٍ لازم قبلها، فلا يبقى لها محلّ ، ومعه تكون فاقدة للتأثير.

وأمّا ما أفاده ثانياً: فلأنّه إذا فرضنا صحّة الإجازة، كان اللّازم ترتيب جميع آثار ملك الأصيل من حين العقد، ومن جملتها فساد العقد الواقع عليه من المجيز قبل الإجازة، فالفرق حينئذٍ بين الكشف الحقيقي والحكمي في غير محلّه.

وأمّا ما أفاده ثالثاً: فلأنّه لم يظهر لنا الفرق بين العتق الذي هو إتلافٌ للمال شرعاً، وبين النقل وإخراجه عن ملكه، حيث حَكم في الأوّل بفوات محلّ الإجازة دون الثاني.

وبالجملة: فوات محلّ الإجازة إنّما يدور مدار الخروج عن الملك المشترك بين الموردين، وخروجه عن الماليّة غير دخيل في ذلك.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو نفوذ النقل مع فوات محلّ الإجازة، ثمّ عدم النفوذ على1.

ص: 207


1- المكاسب: ج 3/411.

القول بالكشف الحقيقى والحكمي.

وأمّا المورد الثاني: فالكلام فيه يقع من جهتين:

الأُولى : في أنّ العقد من قبله هل يكون لازماً أم لا؟.

الثانية: في حكم تصرّفاته على كلّ من القولين.

أمّا الجهة الأُولى : ففيها أقوال:

القول الأوّل: اللّزوم مطلقاً.

القول الثاني: عدمه كذلك، ذهب إليه جمعٌ من الأساطين(1).

القول الثالث: ما في «المكاسب» من اللّزوم على القول بالكشف، وعدمه على القول بالنقل(2).

أقول: وليعلم أنّ كلامه في هذه المسألة مبتنٍ على الكشف الإنقلابي، وملخّص ما أفاده في مقام الفرق بينهما:

أنّه على القول بالنقل: الإجازة دخيلة شرطاً أو شطراً في تأثير العقد، ويكون الموضوع لوجوب الوفاء العقد المقيّد بالإجازة، فقبل الإجازة لا يكون موضوع وجوب الوفاء متحقّقاً لعدم تحقّق شرطه وقيده.

وأمّا على القول بالكشف: فالإجازة وإنْ كانت مؤثّرة في الملكيّة، وتكون سبباً لصيرورة العقد سبباً تامّاً للملك بنفسه، إلّاأنّ موضوع وجوب الوفاء هو العقد بلا ضمّ شيء آخر إليه.

وبعبارة أُخرى : تكون الإجازة على هذا المسلك دخيلة في حصول الملك، إلّا2.

ص: 208


1- منهم المحقّق الرشتي في الإجارة: ص 190، والمحقّق الأصفهاني في حاشيته: ج 2/156.
2- المكاسب: ج 3/412.

أنّه حيث تكون هي بعنوان الإمضاء والإنفاذ، فلا تكون دخيلة في موضوعيّته لوجوب الوفاء، وعلى هذا بني التفكيك بين الآثار المترتّبة على الملك ووجوب الوفاء بالعقد - بمعنى لزومه عليه - وبهذا البيان يظهر اندفاع ما أورده السيّد قدس سره(1)وتبعه غيره(2).

ولكن يرد عليه قدس سره: أنّ الإجازة - حتّى على الإنقلاب - إنّما توجبُ انتساب العقد إلى المالك، وقبلها لا يكون هناك التزام من المالك بل من الفضولي، وعلى ذلك فبما أنّ حقيقة العقد ربط أحد الإلتزامين بالآخر، ومن المعلوم أنّ الأصيل إنّما يربط التزامه بالتزام المالك لا الفضولي، فقبل الإجازة لا يكون هناك عقدٌ كي يجب الوفاء به على الأصيل.

وبعبارة أُخرى: الفضولي إنْ اشترى للمالك، فالبائع الأصيل يربط التزامه بالتزام المالك، فمع عدم الإجازة، وعدم تحقّق الإلتزام منه لا يكون العقد متحقّقاً، وإنْ اشترى لنفسه، فالبائع وإنْ ربط التزامه بالتزامه، إلّاأنّه يربط بما أنّه مالك، ففي الحقيقة يربط التزامه بالتزام المالك، فما لم يلتزم المالك، لا يكون العقد متحقّقاً، ومعه لا معنى لوجوب الوفاء به.

مع أنّه لو تنزّلنا عن ذلك وسَلّمنا صدق العقد على التزام كلّ منهما وإنْ لم يكن مرتبطاً بالآخر، إلّاأنّ التزام الأصيل بكون ماله لغيره ليس مطلقاً، بل يكون على تقدير خاص، وهو التزام طرفه بكون ماله له، فالإلتزام فعليّ إلّاأنّ الملتَزم به معلّق، وعليه فإذا علم بعدم الإجازة أو شكّ فيها، وأجرى استصحاب العدم6.

ص: 209


1- حاشية المكاسب للسيّد اليزدي: ج 1/153.
2- تبعه في الإيراد المحقّق الأصفهاني في حاشيته: ج 2/156.

لا يجب عليه الوفاء بالتزامه.

وبالجملة: فما نقله الشيخ رحمه الله من بعض معاصريه من التفصيل بين صورة العلم بالإجازة وغيرها، هو الصحيح على هذا المسلك(1)، ولا يرد عليه ما أفاده الشيخ رحمه الله، مضافاً إلى أنّه لو اُغمض عن ذلك كلّه وسُلّم ما أفاده لما كان وجهٌ للفرق بين النقل والكشف، إذ الإجازة على النقل حينئذٍ دخيلة في حصول الملك لا في وجوب الوفاء، كما لا يخفى .

أقول: وبما ذكرناه ظهر أنّ ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من وجوب الوفاء مطلقاً - من جهة أنّ وجوب الوفاء متفرّعٌ على العقد لا الملك، والمفروض في باب الفضولي أنّ العقد تامٌّ ولو لم يكن مؤثّراً، ولا ينافي وجوب الإلتزام على شخص عدم وجوبه على الآخر، فإنّ التزام أحدهما غير منوط بالتزام الآخر، لأنّ مقتضى مقابلة الجمع بالجمع في الآية الشريفة هو التوزيع، فكلّ واحدٍ ملتزمٌ بالوفاء بالعقد من طرفه(2) - غير تامٍّ للإيرادين الأولين اللّذين أوردناهما على الشيخ رحمه الله.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم لزوم العقد على الأصيل، وأنّ له فسخ العقدقبل الإجازة.

أقول: المنسوب إلى بعض الأعلام من تلامذة الشيخ رحمه الله الإيراد عليه بأنّ تمسّكه بعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (3) في المقام تمسّكٌ بالعام في الشبهة المصداقيّة(4).

ويمكن توجيهه: بأنّه لو سُلّم عموم العقد لإلتزام الأصيل، لكن لا يجب الوفاء0.

ص: 210


1- المكاسب: ج 3/414، ولعلّه صاحب كشف اللّثام.
2- منية الطالب: ج 1/248.
3- سورة المائدة: الآية 1.
4- حاشية الإشكوري: ص 89، ونسبه إلى بعض تلامذة الشيخ المحقّق الأصفهاني في حاشيته: ج 2/160.

به لو فرضنا عدم الإجازة إلى الأبد إجماعاً، فهو خارج عن العموم، فلو شكّ في الإجازة وعدمها، يكون التمسّك به تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة، فلا يرد عليه ما أفاده المحقّق الإصفهاني كما يظهر لمن راجعه(1).

وأمّا الجهة الثانية: فعلى القول باللّزوم لا تكون تصرّفاته المخرجة للمال عن مِلْكه نافذة، لأنّه مقتضى لزوم العقد عليه، وأمّا التصرّفات غير المُخرِجة، فحكمها حكم التصرّفات المُخرِجة على المختار، أمّا بناءً على المختار من عدم اللّزوم عليه، فعلى القول بالنقل والكشف الإنقلابي، والكشف الذي اخترناه، تكون تصرّفاته بأجمعها جائزة تكليفاً ووضعاً لكونها واقعة في ملكه، والمفروض عدم المنع عنها من قبل لزوم العقد، والإجازة المتأخّرة حتّى على الكشف الصحيح لا توجب وقوعها في غير ملكه، لورود الإعتبار عليها.

وهذا لا إشكال فيه، فلا يبقى محلّ للإجازة في التصرّفات المخرجة عن الملك.

وأمّا على سائر وجوه الكشف، فجواز التصرّف واقعاً وعدمه يدوران مدار الإجازة وعدمها، إذ على فرض الإجازة يكشف ذلك عن وقوعها في ملك الغير، فلايكون جائزاً تكليفاً ووضعاً، وعلى فرض عدمها يجوز، هذا في الحكم الواقعي.

وأمّا الظاهري، فالجواز وعدمه يدوران مدار العلم بالإجازة وعدمه، إذ على الأوّل لا يجوز، وعلى الثاني يجوز، لأصالة عدمها.

وأمّا المقام الثالث: فمحلّ الكلام أمران:

الأوّل: النماء.0.

ص: 211


1- حاشية المحقّق الأصفهاني: ج 2/160.

الثاني: فسخ الأصيل.

أمّا الأمر الأوّل: قال الشيخ رحمه الله في «المكاسب»: (فإنّه على الكشف بقول مطلق لمن انتقلت إليه العين، وعلى النقل لمن انتقلت عنه)(1).

أقول: ما أفاده يتمّ على النقل، لأنّ النماء تَجدّد في ملك من انتقلت عنه، وكذا يتمّ على الكشف غير الكشف الإنقلابي، والكشف الذي بنينا عليه لتجدّده في ملك من انتقلت إليه، ولا يتمّ على هذين المسلكين، لأنّ العين باقية على ملك من انتقلت عنه إلى حين الإجازة، فالنماء تجدّد في ملكه، والإجازة توجبُ انقلاب العقد الموجب لإنقلاب الملكيّة أو اعتبار الملكيّة السابقة، وهذا لا يوجب انقلاب وقوع النماء، لأنّ اعتبار الملكيّة واردٌ على وقوع النماء، لا النماء وارد عليه.

قال الشهيد الثاني رحمه الله في «الروضة»: (وتظهر الفائدة في النماء، فإنْ جعلناها كاشفة، فالنماء المنفصل المتخلّل بين العقد والإجازة الحاصل من البيع للمشتري ونماء الثمن المعيّن للبائع، ولو جعلناها ناقلة فهما للمالك المجيز)(2).

وقد وجّه مراده بعضٌ : بأنّ مفروض كلامه الفضولي من الطرفين، ومراده من المالك المجيز هو الجنس(3).

ووجّه آخر: حكمه بكون النمائين للمالك المجيز، بأنّ نماء ماله له لتجدّده في ملكه، ونماء المال الذي انتقل إليه إنّما يكون له، لأنّ صاحبه سلّطه عليه(4).0.

ص: 212


1- المكاسب: ج 3/411.
2- الروضه البهيّة: ج 3/229-230.
3- هو المحقّق جمال الدين في حاشيته على الروضة: ص 358.
4- السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 4/190.

أقول: استحسن الشيخ رحمه الله التوجيه الأوّل(1).

وأمّا الفسخ: فقد يقال بأنّ فسخ الأصيل قبل الإجازة مبطلٌ له على القول بالنقل دون الكشف.

واستدلّ له: بأنّ الفسخ على الأوّل يكون كفسخ الموجب قبل قبول القابل في كونه ملغيا لإنشائه، وعلى الثاني يكون فسخاً بعد تماميّة العقد من ناحيته.

وأُورد عليه بإيرادين:

الإيراد الأوّل: ما نقله الشيخ رحمه الله عن بعضٍ (2)، وتبعه جمعٌ من المحشّين(3)، وهو أنّه لا دليل على جواز الرجوع عن الإنشاء قبل استكمال أجزاء ما هو مؤثّرٌ في حصول النقل، وإنّما الدليل - وهو الإجماع - مختصٌّ بالرجوع المتخلّل بين أجزاء العقد التي هي الإيجاب والقبول.

وفيه: إنّه يمكن أن يستدلّ له بدليل السلطنة بعد فرض كونه باقياً على ملكه.

ودعوى: أنّه تصرّف في العقد لا المال، فلا يشمله دليل السلطنة.

مندفعة: بأنّ نتيجة عدم ثبوت هذا الحقّ له بما أنّها خروج المال عن ملكه مع عدم رضاه، فهو ينافي السلطنة المطلقة الثابتة للمالك.

وبالجملة: مقتضى عموم دليل السلطنة كما يكون جواز نقله عن ملكه، كذلك يكون جواز رفع اليد عن التزامه، ما دام لم يخرج عن ملكه.4.

ص: 213


1- المكاسب: ج 3/412.
2- المحقّق القمّي في غنائم الأيّام: ص 543، ونقله الشيخ في المكاسب: ج 3/412.
3- منهم المحقّق النائيني في منية الطالب: ج 1/246، وظاهر المحقّق الخراساني في حاشيته: ص 63، والسيّد اليزدي في حاشيته: ج 1/154.

أقول: إنّ هذا البيان يجري على القول بالكشف الإنقلابي، والكشف المختار كما هو واضح، ولا يجري على سائر وجوه الكشف.

الإيراد الثاني: إنّ مقتضى عموم دليل وجوب الوفاء بالعقود، عدم جواز رفع اليد عنه، ولذلك قال الشيخ رحمه الله: (ولا يخلو عن إشكال)(1)، والظاهر أنّ منشأ إشكاله ما يذكره بعد أسطر من عدم تماميّة موضوع وجوب الوفاء على القول بالنقل قبل الإجازة.

خلاصة الكلام: الحقّ أنّه على القول بشمول أدلّة لزوم العقد لإنشاء الأصيل ليس له فسخه، وعلى القول بعدم الشمول - كما اخترنا - فعلى القول بالنقل والكشف الإنقلابي والكشف المختار يكون فسخه نافذاً، لعموم دليل السلطنة، وعلى سائر وجوه الكشف لا يكون كذلك، لعدم الموضوع لدليل السلطنة، وعدم الدليل على جواز الفسخ، ومقتضى الإستصحاب بقاء ما التزم به بعد الفسخ.

***3.

ص: 214


1- كتاب المكاسب: ج 3/413.

ثمرات أُخرى بين النقل و الكشف

ذكر بعض متأخّري المتأخّرين(1) ثمرات أُخر لا بأس بذكرها للتنبّه بها، وبما يمكن أنْ يقال عليها:

منها: ما لو انسلخت قابليّة الملك عن أحد المتعاملين بموته قبل إجازة الآخر وما شاكل، فيصحّ حينئذٍ على الكشف دون النقل. وكذا لو انسلخت قابليّة المنقول بتلفٍ مثلاً، وفي مقابله ما لو تجدّدت القابليّة قبل الإجازة.

أقول: إنّ شرائط المعاملة على أقسام:

القسم الأوّل: شرائط معروضها المتعاملان كالحياة والإسلام في بعض الموارد.

القسم الثاني: شرائط معروضها العوضان، كالملكيّة.

القسم الثالث: شرائط العقد.

وعليه، فالكلام يقع في مواضع:

الأوّل: فيما لو انسلخت قابليّة الملك عن أحد المتبايعين، أو تجدّدت بعد العقد قبل الإجازة.

الثاني: فيما لو انسلخت قابليّة المنقول بتلفٍ ونحوه أو تجدّدت.

الثالث: فيما لو ارتفعت شرائط العقد قبل الإجازة أو تجدّدت.

أمّا الموضع الأوّل: فالكلام فيه يقع في موردين:

المورد الأوّل: في الإنسلاخ، فقد يقال إنّه على الكشف يصحّ العقد، لعدم المانع

ص: 215


1- كاشف الغطاء في شرحه على القواعد: ص 62.

ولشمول العمومات له، وعلى النقل لا يصحّ لامتناع ترتّب الأثر.

واعترض عليه بإيرادين:

الإيراد الأوّل: ما أفاده صاحب «الجواهر» من أنّه على الكشف أيضاً يمكن أنْ يقال بالبطلان، نظراً إلى اعتبار استمرار القابليّة(1)، ولم يذكر هو في وجه هذا الإعتبار شيئاً، ولذا ردّه الشيخ رحمه الله بعدم الدليل عليه(2).

وقد ذكر السيّد في وجهه: (أنّ أدلّة صحّة عقد الفضولي قاصرة عن الشمول لهذه الصورة)(3).

أقول: ما أفاده يتمّ على القول بكون صحّة الفضولي على خلاف القاعدة، ولا يتمّ على القول بكونها على القاعدة، كما هو المختار، إذ الدليل حينئذٍ هو العمومات.

الإيراد الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من أنّه على النقل أيضاً يصحّ ، إذ المال ينتقل إلى الوارث على نحو كان للمورث، فسواءٌ مات الأصيل أو من له الإجازة يبقى العقد على حاله(4).

وفيه: إنّه بناءً على النقل يكون المال لورثة الأصيل، وانتقاله منهم إلى المالك المجيز يحتاج إليدليلٍ ، وبقاء التزام المورث الذي هو سبب النقل ممّا لم يدلّ عليه دليل.

وأمّا على الكشف، فالإجازة تكشف عن النقل في حال حياته، ولا محذور فيه.

هذا في الموت، وأمّا في الكفر فثبوت الثمرة أوضح، فإنّه إذا فرضنا المبيع مصحفاً1.

ص: 216


1- جواهر الكلام: ج 22/291.
2- المكاسب: ج 3/419.
3- حاشية السيّد اليزدي (ط. ق): ج 1/157.
4- منية الطالب: ج 1/250-251.

والمشتري كان مسلماً فكفر، فإنّه لايصحّ ذلك على النقل، لأنّه يلزم انتقال المصحف إلى الكافر، وأمّا على الكشف فيصبح مالكاً له حين ما كان مسلماً ولا محذور فيه.

المورد الثاني: في تجدّد القابليّة بعد العقد، وهذا ينحصر مورده بالكفر، كما لو كان المشتري للمصحف حين العقد كافراً فأسلم، وأجاز مالك المصحف بيعه:

فعلى الكشف لا يصحّ ، لعدم قابليّته للمالكيّة له في ذلك الزمان.

وعلى النقل من جهة الأثر - أي الملكيّة - لا مانع من صحّة العقد، وسيأتي تمام الكلام فيه عند تعرّض المصنّف رحمه الله للمسألة بنحو الكليّة، وهي أنّه هل يعتبر واجديّة العقد لجميع شروط الصحّة أم لا؟.

الموضع الثاني: في ما لو انسلخت قابليّة المنقول أو تجدّدت، فالكلام فيه أيضاً يقع في موردين.

المورد الأوّل: في الانسلاخ، فقد يقال إنّه على الكشف يصحّ ، وعلى النقل لا يصحّ ، إذ على الكشف يكون الانتقال في زمانٍ قابل له، وعلى النقل في زمانٍ لا يكون قابلاً لذلك.

وأورد عليه صاحب «الجواهر» رحمه الله: بأنّه على الكشف أيضاً يعتبر رضا المالك، والفرض انتفاء مالكيّته بانتفاء قابليّة العين لها(1).

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله بأجوبة(2):

الجواب الأوّل: أنّه لا وجه لاستمرار التملّك المكشوف عنه بالإجازة إلى9.

ص: 217


1- الجواهر: ج 22/291.
2- المكاسب: ج 3/419.

حينها، كما لو وقعت بيوع متعدّدة على ماله، فإنّهم صرّحوا بأنّ إجازة الأوّل توجب صحّة الجميع مع عدم بقاء مالكيّة الأوّل مستمرّاً.

وفيه: إنّ صاحب «الجواهر» يمكن له أن يدّعي بالفرق بين المقام والمثال، إذ عدم بقاء التملّك للبدل في المثال إنّما يكون للتصرّف، وهو يؤكّد القابليّة، وهذا بخلاف المقام.

أقول: ولا يخفى أنّ جواب الشيخ رحمه الله إنّما يكون بالنظر إلى إيراده من حيث عدم استمرار تملّكه للبدل، لا بالنظر إلى عدم استمرار ملكيّته لماله لولا الإجازة، وعليه فالقياس مع الفارق، وغير مربوط بكلام الشيخ رحمه الله كما هو واضح، فتدبّر فإنّه دقيق.

الجواب الثاني: فحوى خبر تزويج الصغيرين(1)، فإنّ موت أحد الزوجين كتلف أحد العوضين في فوات أحد ركني العقد.

وفيه: إنّ المفروض موت الزوج، فليس هناك وطءٌ ولا ولد، بل غاية ما هناك انتقال المال بعنوان الإرث، فلا أولويّة.

الجواب الثالث: إطلاق رواية عروة(2)، حيث لم يستفصل عليه السلام عن موت الشاة أو ذبحها وإتلافها.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من عدم تماميّته سنداً.

وثانياً: إنّ عدم الاستفصال يمكن أنْ يكون لعلمه صلى الله عليه و آله ببقاء الشاة.

أقول: بل الحقّفي الجواب عن «الجواهر» هودفع احتمال اعتبار الاستمرار بالعمومات.).

ص: 218


1- الكافي: ج 5/401 ح 4، وسائل الشيعة: ج 17/527 أبواب ميراث الزوج ب 11 ح 1.
2- سنن البيهقي: ج 6/112، عوالي اللألي: ج 3/305 ح 36، المستدرك: ج 13/245 أبواب عقد البيع وشروطه ب 18 ح 1 (15260).

قال المحقّق النائيني رحمه الله: في الإيراد على هذه الثمرة بأنّه على الكشف أيضاً بما أنّه يكون من تلف المبيع قبل القبض، وهو من مال بائعه، يكون العقد منفسخاً(1).

وفيه أوّلاً: إنّ هذه القاعدة إنّما تختصّ بالبيع، وفيه أيضاً يختصّ بالمبيع، لايجري هذا الكلام في الفضولي في غير البيع، وفي البيع إذا كان التالف هو الثمن.

وثانياً: إنّه يمكن فرض القبض بأن يكون المشتري عالماً برضا المالك بقبض ماله فأقبضه الفضولي، فعلى الكشف يكون القبض قبض المالك، فلا يكون التلف قبل القبض.

وأمّا الكلام في تجدّد القابليّة، كما لو صار الخمر خلّاً فسيأتي عند تعرّض الشيخ رحمه الله له.

الموضع الثالث: في شرائط العقد.

وحيث أنّ المدار على ثبوتها حال الإنشاء خاصّة - بل لا معنى لبقائها بعده - فلا فرق بين القول بالنقل أو الكشف.

***0.

ص: 219


1- منية الطالب: ج 1/250.

ثمرات ذكرها بعض

وربما يقال:(1) بظهور الثمرة في تعلّق الخيارات، وحقّ الشفعة، واحتساب مبدأ الخيارات.

أقول: تنقيح القول عن هذه الثمرات يتحقّق بالبحث في مواضع:

الموضع الأوّل: في تعلّق الخيارات، كما إذا كان المبيع صحيحاً حين العقد وصار معيباً حين الإجازة أو العكس، وكذا إذا اختلفت القيمة بحسب الزمانين، وكذا بالنسبة إلى خيار المجلس.

وملخّص القول فيه: إنّ الخيارات على قسمين:

أحدهما: ما يكون ثابتاً بدليل خاص.

ثانيهما: ما يكون ثابتاً على القاعدة، ومن باب الشرط الضمني.

أمّا القسم الأوّل: فلابدَّ من ملاحظة الدليل:

فإنْ كان المأخوذ فيه تحقّق النقل والانتقال، كان على الكشف ثابتاً من حين العقد، وعلى النقل من حين الإجازة.

وإنْ كان موضوعه البيع والعقد، فحيث إنّه يتمّ العقد بالإجازة، فلا يكون ثابتاً من حين العقد على القولين.

وإنْ كان موضوعه إنشاء البيع، كان ثابتاً من حين العقد على المسلكين.

وأمّا القسم الثاني: فالظاهر ثبوت الثمرة، وإنّه على الكشف يكون الميزان هو

ص: 220


1- القائل هو كاشف الغطاء في شرح القواعد: ص 62.

لحاظ العقد، وعلى النقل يكون المدار على زمان الإجازة، وذلك كما في خيار الغبن، إذ ثبوته إنّما يكون من باب الشرط الضمني، وهو التساوي بين البدلين من حيث القيمة، ولا ريب في أنّ ما عليه بناء العقلاء إنّما هو التساوي في زمان حصول النقل والانتقال لا قبله ولا بعده كما لا يخفى . وتمام الكلام في ذلك في مبحث الخيارات(1).

الموضع الثاني: في حق الشفعة، كما إذا باع الفضولي حصّة أحد الشريكين، ثمّ باع الشريك الآخر حصّته بنفسه، ثمّ بعد ذلك أجاز الشريك بيع الفضولي.

أقول: الحقّ في المقام ثبوت الثمرة، إذ موضوع هذا الحقّ إنّما هو الشريك، فعلى القول بالكشف يكون هذا الحقّ ثابتاً للأصيل الذي باع حصّته، لأنّه حين البيع كان هو المالك، وعلى النقل يكون ثابتاً للمشتري من الأصيل، لأنّه حين النقل مالك وشريك.

الموضع الثالث: في احتساب مبدأ الخيار الذي يكون موضوعه النقل والانتقال كخيار الحيوان:

فإنّه على النقل يكون مبدأ الإحتساب من حين الإجازة.

وعلى الكشف يكون المبدأ العقد. ولكن فيه كلاماً سيأتي في الخيارات.

الموضع الرابع: في معرفة مجلس الصَّرف والسَّلم الذي يعتبر أنْيكون القبض فيه:

فقد يقال: إنّه على الكشف يكون مجلس البيع حال صدور العقد، وعلى النقل يكون حال الإجازة لتماميّة البيع حالها دون الأوّل.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ الميزان هوالعقد مطلقاً، إذمتعلّق هذاالحكم هوالقبض قبل التفرّق - أي قبل زوال الاجتماع على المعاملة - ومعلومٌ أنّ الاجتماع على5.

ص: 221


1- فقه الصادق: ج 25.

المعاملة إنّما هو حال العقد، سواءً كان العاقدان اصيلين أو فضوليين، أو أحدهما فضوليّاً والآخر أصيلاً، وعلى كلّ حال تلك الحال هي المناط، سواءٌ قلنا بالنقل أو الكشف، لا ربط للنقل والإنتقال فيه كي يختلف على المسلكين. وتمام الكلام في محلّه.

الموضع الخامس: في اليمين والنذر، كما لو نذر التصدّق بدراهم إنْ كان مالكاً يوم الجمعة لكذا، وثبوت الثمرة حينئذٍ واضحٌ لا يحتاج إلى بيان.

ثمّ إنّه تظهر الثمرة في باب الخمس والزكاة، كما لو اشترى شيئاً عن غير مالكه قبل انتهاء السنة، فأجاز مالكه بعده، إذ على النقل يكون الربح من السنة الثانية، وعلى الكشف يكون من الأولى .

أو اشترى زرعاً قبل انعقاد الحَبّ ، فأجاز مالكه بعده، إذ على النقل تجب الزكاة على مالكه المجيز، وعلى الكشف تجب على المشتري.

***

ص: 222

تنبيهات الإجازة

أقول: تتضمّن الإجازة بعض الاُمور التي ينبغي التنبيه عليها، وهي:

التنبيه الأوّل: قال الشيخ: (إنّ الخلاف في كون الإجازة كاشفة أو ناقلة ليس في مفهوم الإجازة ومعناها وضعاً أو انصرافاً، بل في حكمها الشرعي)(1).

أقول: إنْ كان النزاع في مفهومها اللّغوي، بأن ادّعى جمعٌ أنّ الإجازة بمعنى الإنفاذ، ومقتضاه نفوذ العقد من حينه، وادّعى آخرون أنّها بمعنى الرضا بمضمون العقد، ومقتضاه حصول النقل من حينها، كان لازم الإجازة على خلاف مقتضاها بطلان العقد وعدم صحّته، لأنّه حينئذٍ لم يقصد معنى الإجازة وحقيقته، بل قصد شيئاً آخر.

وإنْ كان في معنى الإجازة إطلاقاً أو انصرافاً، بأن ادّعى جمعٌ أنّ إطلاقها أو انصرافها يقتضي أحد الأمرين، كان اللّازم صحّة العقد على نحو ما قصد، إذ اقتضاء إطلاق الإجازة أو انصرافه شيئاً كاقتضاء إطلاق العقد شيئاً لا ينافي تقييدها بما ينافي مقتضى إرسالها أو انصرافها.

وإنْ كان النزاع في حكمها الشرعي، بحسب ملاحظة الأدلّة، فإن قصد الإلتزام بمضمون العقد من حين الإجازة على القول بالكشف، أو قَصَد الإلتزام به من حين العقد على القول بالنقل، فهل تصحّ أم لا؟.

لا إشكال في عدم صحّتها على نحو ما قصد، إذ اقتضائها لأحد الأمرين

ص: 223


1- المكاسب: ج 3/421، بتفاوت يسير.

حسب الفرض، إنّما يكون بحسب الجعل الشرعي، وعليه فلا وجه للقول بالصحّة على نحو ما قصد، لأنّ قصد المكلّف لا يغيّر الحكم الشرعي.

إنّما الكلام في صحّتها، وعدم افتقار العقد إلى إجازة أُخرى على طبق ما اعتقده المجيز من أحد القولين.

أقول: وملخّص القول فيها إنّه:

تارةً : يجيز العقد على ما هو عليه، ولكن يعتقد أنّ الحكم الشرعي هو الكشف، بحيث يكون الدّاعي والمحرّك له هو هذا الإعتقاد، ولولاه لما كان يُجيز، وكان في الواقع هو النقل أو بالعكس، فإنّه لا إشكال في الصحّة في هذا الفرض، لأنّه من باب تخلّف الدّاعي.

وأُخرى : يجيز بهذا النحو، وهو على قسمين:

القسم الأوّل: يجيز العقد ويشترط النقل من حين الإجازة على القول بالكشف، ومن حين العقد على القول بالنقل.

القسم الثاني: أن يجيز العقد هكذا، لا أن يجيزه على ما هو عليه ويشترط ذلك.

أمّا في القسم الأوّل: فالصحّة والفساد مبنيّان على إفساد الشرط الفاسد للعقد وعدمه، فعلى الأوّل تبطل، وعلى الثاني تصحّ .

وأمّا في القسم الثاني: فقد يتوهم الصحّة من جهة أنّ المجاز مضمون العقد لا حكمه، والمفروض إجازته، ويكون قصد ترتّب حكم آخر على العقد غير ما رتّب عليه شرعاً لغواً لا أثر له، ويكون نظير ما لو تزوّج وقصد عدم الإنفاق عليها، فإنّه تتحقّق الزوجيّة ويترتّب عليها وجوب الإنفاق.

ص: 224

لكنّه فاسد، فإنّ حكم العقد إنْ كان غير ما هو مضمونه كما في المثال تمّ ما ذكر، فلأنّ مضمون العقد لا يختلف من ناحية حكمه، فقصد ترتّب حكمٍ آخر يكون لغواً، وإنْ كان من أنحاء تعيّن مضمون العقد كما في المقام، فلا محالة يكون قصد الخلاف موجباً لعدم تحقّقه.

وبالجملة: الأظهر هو البطلان، لأنّ ما يمكن تحقّقه لم يُقصَد ولم يُنشَأ، وما أنشأ وقُصد لايمكن أن يتحقّق.

كفاية الرضا الباطني في الإجازة

التنبيه الثاني: في أنّه هل يكفي الرضا الباطني في الإجازة، أم يعتبر الإنشاء، أم يعتبر كون الإنشاء باللّفظ الصريح ؟ وجوه وأقوال.

أقول: وتنقيح القول في المقام يقتضي البحث في جهات:

الأُولى : في أنّه هل يكفي في الإجازة مجرّد الرضا الباطني أم لا؟.

الثانية: في أنّه على فرض عدم الكفاية، هل يكفي الإنشاء القلبي كما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(1) أم لا؟

الثالثة: في أنّه على فرض عدم كفاية ذلك، هل يكفي الفعل، أم يعتبر القول ؟.

الرابعة: في أنّه على فرض اعتبار القول، هل يكفي الكناية أم يعتبر أنْ يكون على وجه الصراحة ؟

أمّا الجهة الأُولى : فقد استدلّ الشيخ رحمه الله لكفاية الرضا الباطني بوجوه(2):

ص: 225


1- حاشية المكاسب للآخوند: ص 66.
2- المكاسب: ج 3/424-425.

الوجه الأوّل: العمومات المتقدّمة المتمسّك بها لصحّة عقد الفضولي، السالمة عن ورود مخصّص عليها، عدا ما دلَّ على اعتبار رضا المالك في حِلّ ماله وانتقاله إلى الغير ورفع سلطنته عنه.

وأورد عليه جمعٌ من المحقّقين(1): بأنّ العمومات إنّما تدلّ على وجوب وفاء كلّ مكلّفٍ بعقده، وعقد الفضولي لا يكون عقداً للمالك بمجرّد رضاه، بل يحتاج إلى إنشاء الإجازة.

وفيه: قد عرفت في أوّل مبحث الفضولي(2) أنّ الإستناد المعتبر إنّما هو الإستناد بمعنى أنّه عقده وبيعه، وهذا المعنى كما يتحقّق بالإمضاء والإنفاذ وإظهار الرضا، كذلك يتحقّق بالرضا به، فراجع ما ذكرناه.

الوجه الثاني: ما ورد في عدّة من الأخبار من أنّ سكوت المولى بعد علمه بتزويج عبده إقرارٌ منه عليه(3).

والجواب عن ذلك: بأنّ السكوت في أمثال المقام إمضاءٌ عرفي قد تقدّم ما فيه، نعم، الإيراد عليه بأنّ في نكاح العبد خصوصيّة - حيث أنّ العقد لنفسه وإنّما المفقود إذن المولى ورضاه، فيكفي مجرّد الرضا بخلاف سائر أقسام عقد الفضولي - تامٌّ .

الوجه الثالث: بما ذكرناه في الرّد على الوجه الثاني يظهر الجواب عن الوجه الثالث، وهو ما دلَّ على أنّ قول المولى لعبده (طلّق) يدلّ على الرضا بالنكاح(4)).

ص: 226


1- منهم السيّد اليزدي في حاشيته: ج 1/158، والايرواني في حاشيته: ج 1/131-132، والنائيني في منية الطالب: ج 1/253.
2- فقه الصادق: ج 23/133.
3- الكافي: ج 5/478 ح 4، وسائل الشيعة: ج 21/117 أبواب نكاح العبيد ب 26 ح 1 (26671).
4- التهذيب: ج 7/352 ح 64، وسائل الشيعة: ج 21/118 أبواب نكاح العبيد ب 27 ح 1 (26674).

فيصير إجازة، وكذلك ما دلَّ على أنّ المانع من لزوم نكاح العبد معصية السيّد(1)التي ترتفع بالرضا.

الوجه الرابع: ما دلَّ على أنّ التصرّف من ذي الخيار رضاً منه(2).

وفيه: إنّ ذلك قابلٌ للحمل على التعبّد، أو على أنّ هذا الفعل كاشف عن الرضا وإسقاط الحقّ ، وعلى كلّ حالٍ يكون أجنبيّاً عن المقام.

وبالجملة: فالعمدة هي العمومات.

وأمّا الجهة الثانية: فعلى القول بعدم كفاية الرضا الباطني، يكون الأظهر ما تبنّاه المحقّق الخراساني رحمه الله من كفاية الإنشاء القلبي(3)، إذ به يحصل الإستناد والإنتساب، وما دلَّ على أنّ الحالات النفسانيّة غير البارزة ساقطة عن درجة الإعتبار في باب العقود والإيقاعات إنّما هو في المؤثّر وهو العقد دون الشروط، ولا ريب في أنّ الرضا الباطني شرط كما عرفت.

وأمّا الجهة الثالثة: فالأظهر كفاية الفعل في الإنشاء، إذ لو سُلّم أنّه يتوقّف الإستناد على الإنشاء وإبرازه، فإنّه لا دليل على اعتبار اللّفظ فيه.

ودعوى: أنّ الإستقراء في النواقل الإختياريّة اللّازمة كالبيع، يقتضي اعتبار اللّفظ، والإجازة منها.

مندفعة: بأنّه في تلك النواقل أيضاً بنينا عليكفاية الفعل، راجع مبحث المعاطاة.

وأمّا الجهة الرابعة: فلو أغمضنا عن جميع ذلك، فالأظهر كفاية الكناية، ولا6.

ص: 227


1- وسائل الشيعة: ج 21/114-115 أبواب نكاح العبيد ب 24 ح 1 (26666) و ح 2 (26667).
2- الكافي: ج 5/169 ح 2، وسائل الشيعة: ج 18/13 أبواب الخيار ب 4 ح 1 (23032).
3- حاشية الكفاية للآخوند: ص 66.

يعتبر أنْ يكون باللّفظ الصريح.

ودعوى: أنّ إنشاء اللّازم وإيجاده في الإنشاء القولي ليس إيجاداً للملزوم عرفاً، وكون الملزوم مقصوداً وداعياً من إيجاد اللّازم لا أثر له، لأنّ الدّواعي لا أثر لها في باب المعاملات، التي استند إليها المحقّق النائيني رحمه الله في عدم وقوع العقد بالكنايات(1).

مدفوعة: وقد عرفت ما فيها في مبحث خصوصيّات ألفاظ العقد، فراجع ما ذكرناه هناك(2).

اعتبار عدم سبق الرَّد

التنبيه الثالث: المشهور بين الأصحاب أنّ من شروط نفوذ الإجازة أن لا يسبقها الرّد، وقد استدلّ لإعتبار هذا الشرط بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع.

وفيه أوّلاً: إنّ الإجماع المنقول - سيّمامع معلوميّة مدرك المُجمعِين - ليس بحجّة.

وثانياً: إنّه لا وجه لدعواه بعد إفتاء جمع من الفقهاء ببطلان عقد الفضولي رأساً.

الوجه الثاني: أنّ الإجازة إنّما تجعل المجيز أحد طرفي العقد، وبها يصير مكلّفاً بوجوب الوفاء بالعقد، فالرّد المتخلّل بينها وبين العقد الصادر من الأصيل والفضولي يكون ردّاً متخلّلاً بين أجزاء العقد، وقد تقرّر في محلّه أنّه يعتبر أن لا يحصل بين طرفي العقد ما يسقطهما عن صدق العقد.

وفيه أوّلاً: إنّ ما هو المسلّم في تلك المسألة إنّما هو مضرّية رَدّ من صدر منه

ص: 228


1- منية الطالب: ج 1/106.
2- صفحة 13 من هذا المجلّد.

الإلتزام والتعهد قبل تحقّق الإلتزام من صاحبه، كما لو رَدّ الموجب بعد الإيجاب وقبل قبول القابل، وأمّا لو ردَّ صاحبه ذلك، كما لو رَدّ القابل قبل أن يقبل، ثمّ قبل، فليس الحكم مُسلّماً بينهم، والمقام من قبيل الثاني لا الأوّل، فإنّ المجيز إنّما يرد قبل أن يصدر الإلتزام منه، والملتزم إنّما هو غيره كما هو واضح.

وثانياً: إنّه فرق بين الرّد المتخلّل بين الإيجاب والقبول، والرّد المتخلّل بين العقد والإجازة.

وبعبارة أُخرى: ليست الإجازة في جميع الأحكام كالقبول أو الإيجاب، ولذا ترى أنّ الفصل الطويل بين الإيجاب والقبول يضرّ، والفصل بينهما وبين الإجازة لا يضرّ كما هو واضح.

الوجه الثالث: إنّ مقتضى ما دلَّ على سلطنة الناس على أموالهم، تأثير الرّد في قطع علاقة الطرف الآخر عن ملكه، فلا يبقى ما تلحقه الإجازة.

وفيه: إنّ العلاقة المتصوّرة بالإضافة إلى المال لا تخلو من الملكيّة والحقيّة، وشيءٌ منهما لا يكون في المقام:

أمّا الأُولى : فواضح.

وأمّا الثانية: فلأنّ العقد قبل الإجازة لا يوجب كون الأصيل ذي حقّ ، ولذا بنينا على عدم حرمة بيع الفضولي.

وبالجملة: لا يحدث بواسطة عقد الفضولي أدنى مرتبة من الملك والحقّ ، وعليه فلا وجه للتمسّك بقاعدة السلطنة.

وقول المحقّق النائيني رحمه الله: من أنّه وإنْ لم تحصل العلاقة شرعاً لكنّها تحصل له

ص: 229

عرفاً، فالرّد يُبطل هذه العلقة(1).

ممنوع: بأنّ العلقة التي عرفت أنّها إمّا الملكيّة أو الحقيّة لا تحصل ولو عرفاً.

أقول: وأجاب السيّد الفقيه قدس سره عن هذا الوجه بجوابين آخرين(2):

أحدهما: إنّ قاعدة السلطنة متعارضة، لأنّ مقتضاها جواز أن يجيز بعد الرّد، لأنّه مقتضى سلطنته على ماله.

وفيه: إنّه بعد تسليم تأثير الرّد في حَلّ العقد، لا يبقى موضوع للإجازة كي تؤثّر فيه.

ثانيهما: إنّه قد مرّ من الشيخ رحمه الله أنّ قاعدة السلطنة إنّما تثبت نفوذ التصرّفات الثابتة بالشرع كالبيع والهبة ونحوهما لا جميع ما أراده المالك، إذ ليست مشرّعة، فلا تصلح لإثبات مؤثّرية الرّد في حلّ العقد.

وفيه: إنّه لو سُلّم حصول العلقة للأصيل بالإضافة إلى المال، لا إشكال في صلاحيّة قاعدة السلطنة للدلالة على جواز رفعها، فإنّ ذلك من مصاديق تسلّط الإنسان على رفع مزاحمة الغير، ولا يحتاج إلى دليل آخر، فتدبّر.

وعليه، فالصحيح ما ذكرناه، وتبيّن أنّ الأظهر صحّة الإجازة بعد الرّد.

الإجازة لا تورث

التنبيه الرابع: قال الشيخ رحمه الله: (الإجازة أثرٌ من آثار سلطنة المالك على ماله، فموضوعها المالك، فقولنا: له أن يجيز، مثل قولنا: له أن يبيع، والكلّ راجعٌ إلى أنّه له

ص: 230


1- منية الطالب: ج 1/256.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/159.

أن يتصرّف، فلو مات المالك لم يورث الإجازة، وإنّما يورث المال الذي عقد عليه الفضولي، فله الإجازة)(1)، انتهى .

أقول: يقع الكلام في موردين:

الأوّل: في أصل المطلب.

الثاني: في الفرق بين إرث الإجازة وإرث المال.

أمّا المورد الأوّل: فما أفاده الذي حاصله: (أنّ ثبوت الإجازة للمالك وتأثيرها منه ليس من قبيل الحقوق القابله للنقل والإسقاط كحقّ الخيار، بل هو من قبيل الحكم الشرعي) تامٌّ ، لأنّ الإجازة من التصرّفات التي ثبت جوازها للمالك، وهو من الأحكام الشرعيّة، ويترتّب على ذلك أنّه لا تورث الإجازة لعدم كونها ممّا تركه الميّت.

نعم، لمن انتقل إليه المال إجازة بيع الفضولي، بناءً على جواز المغايرة بين المالك حال العقد والمالك حال الإجازة، إلّاأنّ ما ذكره من أنّها من آثار سلطنة المالك لا يخلو عن مسامحة، فإنّها من آثار الملك.

وأمّا السلطنة التي هي عبارة عن القدرة على التصرّفات، فهي متقوّمة بجواز التصرّفات لا أنّه من آثارها.

وأمّا المورد الثاني: فالفرق بين إرث الإجازة وإرث المال يظهر في موارد:

منها: ما إذا كان المبيع ممّا يُحرَم منه الزوجة كالعقار على أشهر القولين، فإنّه على القول بإرث الإجازة ترثها الزوجة، وعلى القول بالعدم لا ترث، وليس لها7.

ص: 231


1- المكاسب: ج 3/427.

الإجازة، والمفروض عدم كونها مالكة للمبيع، فلا حقّ لها فيه.

ومنها: إنّه على القول بأنّها ممّا ترثه الورثة، يأتي فيها النزاع الموجود في حقّ الخيار الموروث مع تعداد الورثة، من أنّه هل يرث كلّ من الورثة الإجازة في مقدار ماله من العين، أو يرث كلّ منهم الإجازة في تمام العين بنحو العام الإستغراقي - بمعنى نفوذ إجازة كلّ واحدٍ منهم - أو يرث المجموع الإجازة - بمعنى أنّها شيءٌ واحد يرثه الجميع - فلابدَّ في الصحّة من إمضاء الجميع.

ومنها: ما لو أوصى بمالٍ معيّن للفقراء مثلاً بنحوٍ يكون مِلكاً لهم بالموت، ثمّ وقع عقد الفضولي على هذا المال، ومات المالك قبل الإجازة، فعلى القول بإرث الإجازة ينتقل هذا الحقّ فلهم الإجازة، بخلافه على القول بالعدم. فتأمّل.

إجازة البيع ليست إجازة لقبض الثمن

التنبيه الخامس: يدور البحث في هذا التنبيه عن أنّ إجازة البيع هل تكون إجازة لقبض الثمن ولإقباض المبيع، أم لا؟، وجهان.

أقول: الكلام في هذا التنبيه يقع في جهات:

الجهة الأُولى : في قابليّة القبض والإقباض للإجازة وعدمها، وفيه وجوهٌ وأقوال:

القول الثالث: ما في «المكاسب»، من جريان الفضوليّة في قبض الثمن المعيّن دون الكلّي(1).

القول الرابع: عكس ذلك، وهو مختار السيّد رحمه الله(2).

ص: 232


1- المكاسب: ج 3/428.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/160.

أقول: قد استُدلّ لعدم الجريان مطلقاً بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ حقيقة الإجازة إنفاذ الشيء، ولا مورد للنفوذ إلّاالتصرّفات المعامليّة، فالأفعال والأقوال الاُخر لا تكون مورداً لها، ومنها القبض والإقباض.

وفيه: إنّ حقيقة الإجازة إظهار الرضا بما وقع، وهي توجب انتسابه إلى المجيز، وهذا لا فرق فيه بين المعاملات وغيرها.

الوجه الثاني: ما نُسب إلى المحقّق الخراساني رحمه الله، وأوضحه المحقّق الإصفهاني رحمه الله، من أنّ الإجازة لابدَّ وأن تتعلّق بما له بقاء واستمرار كالأُمور الاعتباريّة الإنتزاعية من أسباب خاصّة، وأمّا الأفعال الخارجيّة فليس لها بقاء كي تنتسب بالإجازة إلى المالك، وهي لا تصلح لأن توجب انتسابها في زمانها إلى المجيز، لعدم معقوليّة الإنتساب مع عدم ما به الإنتساب، وصيرورتها منتسبة من حين الإجازة بعدما لم تكن كذلك، يستلزم انقلاب الشيء عمّا وقع عليه(1).

وفيه: إنّ الإجازة كما عرفت عبارة عن إظهار الرضا بما صدر، والرضا كما يتعلّق بالأمر الإعتباري، كذلك يتعلّق بالفعل الخارجي، وكما يتعلّق بالأمر المقارن والمتأخّر، كذلك يتعلّق بالأمر المتقدّم، وهي توجب صيرورة الفعل المتقدّم مرضيّاً به من حين الإجازة، وهذا غير انقلاب الشيء عمّا وقع عليه، مع أنّ المراد بالقبض ليس هو إلّاكون الشيء تحت الإستيلاء والسلطنة، وهذا أمرٌ له بقاء واستمرار.

أقول: وبما ذكرنا ظهر مدرك القول الثاني.

استدلال الشيخ رحمه الله في وجه ما اختاره وأوضحه: يقول رحمه الله إنّ قبض الثمن9.

ص: 233


1- حاشية الكفاية للآخوند: ص 68، ونسبه له وأوضحه المحقّق الأصفهاني في حاشيته: ج 2/189.

الشخصي قابل للإجازة، من جهة أنّ مرجع إجازته إلى إسقاط ضمان الثمن عن المشتري، ففي الحقيقة لا يكون القبض عنده قابلاً للإجازة، وإنّما تكون الإجازة والرضا به رضا بأثره، وهو إسقاط الضمان، وكذلك الإقباض، فإنّ مرجع إجازته إلى حصول المبيع في يد المشتري برضا البائع. وأمّا قبض الثمن الكلّي وتشخّصه به، فهو لا يكون قابلاً للإجازة، فإنّه حيث لم يتعيّن الكلّي في المقبوض بيد الفضولي فليس هناك ضمانُ المعاوضة على المشتري، بل الثمن باقٍ على كليّته، والمفروض أنّ القبض من حيث هو غير قابل لتعلّق الإجازة به، فلا وجه لجريان الفضوليّة فيه وتصحيحه بالإجازة(1).

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من ضعف المبني - يرد على ما أفاده في قبض الثمن الشخصي بأنّ ضمان المشتري للثمن قبل القبض إنّما يكون حكماً شرعيّاً ثابتاً على خلاف القاعدة، وهو الحكم بانفساخ المعاملة بالتلف، لا حقّاً ماليّاً كي يكون قابلاً للإسقاط، وما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ ذلك إنّما يكون من جهة الشرط الضمني، إذ كلّ من البائع والمشتري يشترط على صاحبه بالإرتكاز قبض الثمن أو المثمن، وليس مقصودهم مجرّد التبديل(2)، لو تمّ وإن لزم منه كون ذلك من الحقوق، إلّا أنّه لا يتمّ ، فإنّ لازم ذلك ثبوت الخيار لا انفساخ العقد، كما هو ظاهر الخبر.

استدلال السيّد رحمه الله لما ذهب إليه: بأنّ الفضوليّة إنّما تجري في التصرّفات المعامليّة، لا في الأفعال الخارجيّة، والقبض في المعيّن من الأفعال الخارجيّة وفي الكلّي من التصرّفات المعامليّة، فإنّ ذلك يكون من باب الوفاء، وهو في اللّب7.

ص: 234


1- المكاسب: ج 3/428.
2- المكاسب والبيع للنائيني: ج 2/137، منية الطالب: ج 1/257.

مبادلة بين الكلّي والفرد المتشخّص(1). وقد عرفت ما فيه.

وعليه، فالأظهر قابليّتهما للإجازة.

الجهة الثانية: في أنّه هل يأتي في القبض نزاع الكشف والنقل أم لا؟.

أقول: فيه وجهان، أظهرهما الثاني؛ لأنّ ذلك النزاع في العقد إنّما يكون من جهة أنّ وراء العقد شيءٌ وهو الملكيّة، ويمكن البناء على تحقّقها من الأوّل، وهذا بخلاف القبض، إذ ليس ورائه شيء، فالقبض كالعقد نفسه، فكما أنّه يصير عقد المالك من حين الإجازة على المسكلين، كذلك القبض، فآثار قبض المالك عليه من حين الإجازة، فلو تلف بعدها لا يكون من تلف المبيع قبل القبض، فلا يكون البائع ضامناً، بخلاف ما لو كان تالفاً قبلها، فإنّه حينئذٍ لا موضوع للإجازة، إذ بالتلف ينفسخ العقد، فلا يكون شيءٌ باقياً كي تلحقه الإجازة.

الجهة الثالثة: لو كانت إجازة العقد دون القبض لغواً، كما في الصَّرف والسَّلم بعد قبض الفضولي والتفرّق، فقد التزم الشيخ رحمه الله في «المكاسب»: بأنّها تصبح إجازة للقبض صوناً للإجازة عن اللّغويّة(2).

أقول: وأورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما عن جمع من المحشّين، منهم السيّد رحمه الله، من أنّ ذلك - أي الذي ذكره - راجعٌ إلى مقام الإثبات، وثبوت الدلالة على إجازة القبض، وهذا إنّما يكون بعد الفراغ عن مقام الثبوت، وقابليّة القبض للفضوليّة، وإنْ صحَّ بالإجازة،8.

ص: 235


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/160.
2- المكاسب: ج 3/428.

والشيخ رحمه الله يرى عدم قابليّته لها في الكلّي(1).

وفيه أوّلاً: إنّ الشيخ رحمه الله لم يلتزم بعدم قابليّته لها، وإنّما لم يقم عنده دليل على صحّة القبض بنفسه بالإجازة، وعليه فالدليل الدالّ على صحّة عقد بيع الصرف المشروط بالقبض، يكفي في صحّة مثل هذا القبض بالإجازة، بخلاف القبض الذي لا تكون صحّة العقد منوطة به.

وثانياً: إنّ عدم قابليّة القبض للإجازة:

1 - إمّا أنْ يكون من جهة أنّه لا يكون من التصرّفات المعامليّة، كما أفاده السيّد قدس سره.

2 - أويكون من جهة عدم قابليّته للإنتساب إلى المجيز، كماعن المحقّق الخراساني رحمه الله.

وشيءٌ منهما لا مورد له في هذا القبض.

أمّا الأوّل: فلأنّه دخيلٌ في صحّة العقد، وفي ترتّب الآثار الوضعيّة والأمر الإعتباري، فهو من التصرّفات المعامليّة.

وأمّا الثاني: فلعدم اعتبار الإنتساب فيه، إذ الشرط إنّما هو قبض المتعاملين بالمعاملة الصحيحة، فإذا صحّت المعاملة بالإجازة، كفي قبض الفضولي في الصحّة، ولا يخفى أنّ مرجع هذا إلى عدم الاحتياج إلى إجازة القبض، وأنّ الإجازة محقّقة لموضوع القبض لا موجبة لصحّته ونفوذه.

الإيراد الثاني: أنّ إجازة القبض إنّما توجب انتساب القبض إلى المجيز من حين الإجازة بعد التفرّق، وهو لا يكفي في صحّة المعاملة، فإنّ الشرط هو القبض قبل التفرّق.2.

ص: 236


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/160، حاشية الايرواني: ج 1/133، حاشية الاصفهاني: ج 2/192.

والجواب عنه: هو الجواب الثاني عن الإيراد الأوّل.

الإيراد الثالث: ما أفاده جمعٌ منهم السيّد والمحقّق النائيني رحمهما الله، من أنّه إنّما يتمّ إذا كان المجيز عالماً بأنّ البيع بدون القبض باطلٌ ، وإلّا فلا يحمل على كونه إجازة للقبض(1).

وفيه: إنّه إذا كان بصدد إجازة العقد بجميع ما تتوقّف صحّة العقد عليه، كفي في كونه إجازة له، مضافاً إلى ماعرفت من كفاية إجازة العقد في صحّة القبض، فراجع(2).

فتحصّل: أنّ الأظهر الاكتفاء بإجازة العقد في مثل هذه العقود المتوقّفة صحّتها على القبض.

الجهة الرابعة: لو قال: (أجزتُ العقد دون القبض)، ففي «المكاسب»: (ففي بطلان العقد أو بطلان ردّ القبض وجهان)(3).

أقول: الحقّ أنْ يقال إنّه بناءً على أنّ العبرة بقبض المتبايعين، وأنّه لا يلزم انتسابه إلى المالكين، يتعيّن البناء على الصحّة، لفرض إجازة العقد وعدم كون قبضه موضوع الأثر، كي يلزم إجازته ويضرّ ردّه، وأمّا بناءً على لزوم إجازة القبض، فالظاهر أنّ إجازة العقد إجازة للقبض للغوية إجازته دونه، وردّ القبض ردّ للعقد، إذ لا ينفكّ الشرط عن المشروط، وعليه فإذا تقدّمت الإجازة لغى الرّد، لكونه ردّاً بعد الإجازة، وإذا تقدّم الرّد لم يفد الإجازة بناءً على اعتبار أن لا تكون مسبوقة9.

ص: 237


1- حاشية اليزدي: ج 1/160، منية الطالب للنائيني: ج 1/258، وكذلك الايرواني في حاشيته: ج 1/133.
2- صفحة 195 من هذا المجلّد.
3- المكاسب: ج 3/429.

بالرّد، وإلّا صحّت.

الإجازة ليست على الفور

التنبيه السادس: هل الإجازة على الفور بحيث تسقط مع التأخير، أم لا؟

أقول: فيه وجهان، أقواهما الثاني: لإطلاق الأدلّة، و صحيح محمّد بن قيس المتقدّم(1).

وعليه، فلو لم يجز المالك ولا رَدّ، فهل:

1 - يتعيّن إجبار المالك بأحد الأمرين، كما اختاره السيّد قدس سره(2)؟

2 - أم يتعيّن ثبوت الخيار، كما ذهب إليه جمعٌ (3)؟

3 - أم يثبت الأمران بنحو التخيير، كما اختاره الشيخ رحمه الله(4)؟ وجوه.

وليعلم أنّ محلّ الكلام إنّما هو فيما إذا لم يجز للأصيل التصرّف فيما انتقل عنه، وفيما انتقل إليه، وأمّا إذا جاز له التصرّف فيما انتقل عنه إمّا لعدم لزوم العقد عليه أو لجوازه، حتّى بناءً على لزوم العقد، لا مورد لشيء من هذه الوجوه، إذ لا يلزم ضررٌ عليه من عدم الإجازة والرّد.

وأيضاً: الظاهر أنّ محلّ الكلام ما لو لم يكن الأصيل عالماً بكون طرفه فضوليّاً، او كان مطمئنّاً بأنّه يجيز المالك أو يرد، وأمّا إذا كان عالماً به ولم يكن مطمئنّاً بشيء

ص: 238


1- الكافي: ج 5/211 ح 12؛ تهذيب الاحكام، ج 7/74 ح 33.
2- حاشية المكاسب لليزدي (ط. ق): ج 1/160.
3- منهم المحقّق الخراساني في حاشيته: ص 77، والمحقّق الأيرواني في حاشيته.
4- المكاسب: ج 3/429.

منهما، فمن حيث إنّه مُقْدِمٌ على الضرر لا يجري شيءٌ من الوجوه. فتدبّر.

وبالجملة: وكيف كان، فالأظهر من تلك الوجوه هو الثاني، إذ الإجبار إنّما يكون لأحد أمرين:

إمّا الإمتناع عن الحقّ ، من جهة أنّ السلطان وليّ الممتنع.

أو للإمتناع عن امتثال التكليف اللّزومي، من جهة لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا دليل عليه في غير الموردين.

ومن الواضح أنّ عقد الفضولي لا يوجبُ حدوث حقّ للأصيل على المالك - كما تقدّم - ولا وجوب الإجازة أو الرّد عليه، فالإجبار لا مورد له، وقاعدة نفي الضرر لا تصلح لإثبات جوازه، لكونها نافية للحكم لا مثبتة، فهي توجبُ نفي لزوم العقد على الأصيل، فالمتعيّن هو ثبوت الخيار للأصيل.

اعتبار مطابقة الإجازة للعقد

التنبيه السابع: يدور البحث في هذا التنبيه عن أنّه هل يعتبر في صحّة الإجازة:

مطابقتها للعقد الواقع عموماً أو خصوصاً، أم لا؟

أم يفصّل بين المطابقة من حيث الجزء، والمطابقة من حيث الشرط؟

وجوه وأقوال. وتنقيح القول عنهما يتحقّق بالبحث في مقامين:

الأوّل: في عدم المطابقة من حيث الجزء، بأن يكون الشيء المحذوف أوالمضاف جزءً .

الثاني: في عدم المطابقة من حيث الشرط، وأمّا في صورة الاختلاف من حيث المباينة، كما لو وقع العقد على فرسٍ فأجاز في الحمار، فلا إشكال في عدم الصحّة.

ص: 239

أمّا المقام الأوّل: فالكلام فيه يقع في موردين:

المورد الأوّل: فيما إذا كان محذوفاً.

وملخّص القول فيه: إنّ المعقود عليه على قسمين:

تارةً : يكون مركّباً من أجزاء، يكون كلّ جزءٍ منه موضوعاً مستقلّاً بنظر أهل العرف في البيع والشراء - بنحوٍ لا يرون المعاملة على المجموع إلّامعاملة على كلّ واحدٍ مستقلّاً، كما لو عقد على عشرة دواب فأجاز بيع بعضها - فإنّه لاينبغي التأمّل في الصحّة، لأنّ المجاز ممّا عقد عليه، ولا سبيل إلى إجراء خيار تبعّض الصفقة هنا - لأنّ مورده ما إذا كان بيع كلّ جزءٍ مشروطاً بانضمام الجزء الآخر ضمناً وارتكازاً، كي يوجب التبعّض تخلّف الشرط، فيثبت خياره - لعدم الدليل عليه بالخصوص.

واُخرى : لم يكن كلّ جزءٍ موضوعاً مستقلّاً، كما إذا وقع العقد على حيوان خاص فأجاز نصفه، فعن المحقّق النائيني صحّة المُجاز(1)، مستدلّاً بأنّ حكم الإجازة حكم البيع ابتداءً ، فكما يجوز للمالك بيع بعض ماله ابتداء، فكذلك يجوز له إجازة بعضه.

وفيه: إنّ الفرق بين الإجازة والبيع واضح، فإنّ الإجازة إنّما تحتاج إلى عقد واقع والتزام معاملي قبلها، بخلاف البيع، وعليه فإنْ كان الإلتزام العقدي منحلّاً إلى التزامات عديدة حسب تعدّد أجزاء المبيع، صَحَّ البيع فيما أُجيز لكون المجاز معقوداً عليه، وإلّا فلا، فالميزان هو ذلك.

أقول: وبه يظهر أنّ قياس المقام بمسألة التبعيض في باب الخيارات كما عن0.

ص: 240


1- منية الطالب: ج 1/259-260.

السيّد رحمه الله(1) في غير محلّه، ولكن الظاهر هو الإنحلال في جميع الموارد، غاية الأمر إلى التزامات ضمنيّة لا استقلاليّة، وعليه فيصحّ البيع فيما أُجيز، نعم يثبت للأصيل خيار تبعّض الصفقة.

المورد الثاني: ما إذا كان الجزء مضافاً، والضابطة فيه أنّه إن انحلّت الإجازة إلى إجازات متعدّدة والتزامات عديدة، وكان أحد الإلتزامين متعلّقاً بالعقد والآخر بالزائد، صحَّ العقد المجاز لكونه عقداً قد تعلّقت به الإجازة، وإلّا فلا؛ فإنّ المجاز حينئذٍ غير معقودٍ عليه، وما عقد عليه لم تتعلّق به الإجازة.

أقول: الظاهر هو الإنحلال في جميع الموارد، إلّاإذا كانت من قبيل إجازة الحصّة الخاصّة، كأن يجيز العقد الواقع على المجموع خاصّة بهذا القيد، فإنّه حينئذٍ ما تعلّقت الإجازة به لا يكون معقوداً عليه كما لا يخفى .

وأمّا المقام الثاني: فالكلام فيه:

تارةً : في الشرط المحذوف.

وأُخرى : في المضاف.

أمّا الجهة الأُولى : فلا ينبغي الإشكال في الصحّة بناءً على ما هو الثابت في محلّه من أنّ الشرط إنّما هو التزامٌ في التزام، لا أنّ الإلتزام العقدي معلّق عليه، بحيث لا التزام بدونه، فإنّ الإجازة حينئذٍ تكون متعلّقة بالإلتزام العقدي، فما أفاده الشيخ رحمه الله(2) في وجه عدم الصحّة من عدم قابليّة العقد للتبعيض من حيث الشرط،0.

ص: 241


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/160.
2- المكاسب: ج 3/430.

ضعيفٌ ، لما عرفت من أنّ الشرط التزامٌ مستقلّ في ضمن الإلتزام العقدي.

وأضعف منه تفصيله رحمه الله بين الشرط والجزء، بالإلتزام بالتبعيض من حيث الجزء دون الشرط، لما عرفت من أنّ قبول العقد للتبعيض من حيث الشرط أولى من قبوله التبعيض من حيث الجزء، مضافاً إلى أنّ كلّ جزءٍ شرطٌ لاعتبار وصف الاجتماع فيه.

وهل يثبت الخيار للأصيل أم لا؟ وجهان.

والحقّ أنْ يقال: إنّ الشرط إنْ كان للمالك على الأصيل - كما لو أوقع الفضولي العقد مع اشتراط أن يخيط الأصيل ثوب المالك، فأجاز المالك العقد بدون الشرط - فلا خيار له، لأنّ مرجع ذلك إلى إسقاط المالك حقّه، ولا إشكال في ذلك، وكذلك إنْ كان للأصيل على المالك مع رضا الأصيل بذلك بعد الإجازة، وأمّا إنْ كان للأصيل على المالك، ولم يرض الأصيل بذلك، فالظاهر ثبوت خيار تخلّف الشرط له، وهو واضح.

وأمّا الجهة الثانية: فالكلام في المضاف في موردين:

1 - تارةً في الشرط المضاف، فإنّه لا يجب الوفاء به؛ لكونه من قبيل الشرط الإبتدائي، وكون الإجازة بمنزلة الإيجاب أو القبول لا يوجب إسراء أحكامهما إليها، مضافاً إلى أنّ الشرط المذكور في ضمن أحدهما وحده لا يفيد.

2 - وأُخرى في المشروط:

فإنْ كانت الإجازة مع الشرط التزاماً بالعقد منضمّاً إلى الإلتزام الشرطي صحَّ ، لكون العقد مجازاً، وضمّ اللّغو إليها لا يمنع عن تأثيرها في صحّة العقد.

ص: 242

وإنْ كانت التزاماً واحداً متعلّقاً بالمشروط لم يصحّ .

أقول: والظاهر هو الأوّل؛ لأنّ الواقع إنّما هو العقدالمجرّد، والمجيزيريدضَمّ الشرط إليه، فلا محالة يجيز المالك ذلك الواقع بضم الشرط إليه، فالتقييد إنّما يكون للإجازة بالشرط، وحيث أنّ الشرط - كما تقدّم - إنّما يكون هو الإلتزام في ضمن الإلتزام، وفي المقام يكون هو الإلتزام المقرون بالإجازة، فلغويّته لا تلازم لغويّة الإجازة.

وبالتالي فما في «المكاسب»(1) من تقوية البطلان في غير محلّه.

***0.

ص: 243


1- المكاسب: ج 3/430.

البحث عن المجيز اعتبار كون المجيز جائز التصرّف حال الإجازة

أقول: وأمّا القول في المجيز، فاستقصائه يتمّ ببيان أُمور:

الأمر الأوّل: يشترط في المجيز أنْ يكون حين الإجازة جائز التصرّف بالبلوغ والعقل والرشد بلا إشكال، فإنّ الإجازة تصرّف معاملي في المال، فإذا كان المجيز غير جائز التصرّف، لم يجز له ذلك، من غير فرق بين القول بالنقل أو الكشف، إذ على الكشف إنّما يكون الأثر من قبل، وإلّا فالإجازة هي التي تؤثّر في ذلك.

ودعوى: أنّه على القول بأنّ المؤثّر في النقل ليس هو وجود الإجازة، بل العنوان المنتزع من وجودها المقارن مع العقد، كعنوان التعقّب، يُشكل اعتبار ما عدا ما يوجب سلب العبارة فيها لعدم كونها تصرّفاً ماليّاً حينئذٍ.

مندفعة: بأنّه على هذا المسلك أيضاً لا يكون التعقّب بمطلق الإجازة شرطاً، بل الشرط هو التعقّب بالإجازة المستجمعة لسائر شرائط تأثير العقد، لأنّه المتيقّن من نفوذ عقد الفضولي الملحوق بالإجازة.

قال الشيخ رحمه الله: (ولو أجاز المريض بنى نفوذها علينفوذ منجّزات المريض... الخ)(1).

وربما يورد عليه: بأنّ منجزات المريض مختصّة بالتصرّفات المعامليّة دون شرائط تأثيرها، فلو كان عقد الصرف في حال الصحّة، وكان القبض في حال المرض، لا تكون هذه المعاملة من المنجزات، والإجازة شرط لتأثير عقد الفضولي،

ص: 244


1- المكاسب: ج 3/431.

فلا يضرّ وقوعها في حال المرض ولا يوجب دخولها في المنجزات.

أقول: ولكن يدفعه أنّ للإجازة حيثيّتين:

إحداهما: حيثيّة الرضا.

الثانية: حيثيّة الإنتساب إلى المالك.

وهي من الحيثيّة الثانية وتعدّ بنفسها تصرّفاً معامليّاً وموجبة لصيرورة التصرّف تصرّف المالك.

وبالجملة: فالحقّ أنّ الإجازة في حال المرض من المنجزات لا من قبيل شرائط تأثير العقد.

اشتراط وجود المجيز حال العقد وعدمه

الأمر الثاني: اختلفوا في أنّه هل يشترط في صحّة عقد الفضولي وجود مجيزٍ حين العقد أم لا؟.

أقول: وما يحتمل أنْ يكون محلّ الكلام بين الأعلام في بادئ النظر أُمورٌ:

الأمر الأوّل: هل يعتبر وجود ذات المجيز حين العقد أم لا يعتبر ذلك ؟، وإلى هذا نظر البيضاوي في إيراده على المصنّف رحمه الله: (بأنّه لا يتمّ على مذهب الخاصّة من وجود الإمام عليه السلام في كلّ عصر)(1).

وفيه: يمكن دفع إيراده:

أوّلاً: بالنقض بأنّه لا يتمّ على مذهبهم أيضاً من وجود خليفة المسلمين في كلّ عصر.

ص: 245


1- حكاه الشيخ الأنصاري عنه في المكاسب: ج 3/432-433.

وثانياً: إنّه في نكاح الصغار يكون الولي منحصراً بالأب والجدّ والوصي على خلاف فيه، كما قيل.

الأمر الثاني: هل يعتبر وجود مجيزٍ فعلي حين العقد، بأن يكون متمكِّناً من الإجازة، أم لا يعتبر؟.

الأمر الثالث: هل يعتبر أنْ يكون المجيز جائز التصرّف حين العقد شرعاً، أم لا يعتبر ذلك ؟، فلو فرضنا أنّ بيع مال الصغير لم تكن فيه مصلحة حين البيع، ثمّ حدثت المصلحة فيه لاحقاً، هل للولي أن يجيزه من جهة أنّه وإنْ لم يكن التصرّف جائزاً له حين البيع لعدم المصلحة، إلّاأنّه يجوز له حين الإجازة، أم لا؟.

أقول: الظاهر أنّ محلّ النزاع هو الأخير دون الأولين.

أمّا الثاني منهما: فلوضوح عدم اعتبار وجود مجيز فعلي، ولذا لو كان المالك نائماً أو غائباً لم يتوهم من القائلين بصحّة الفضولي فساده، وعدم جواز الإجازة بعد الحضور واليقظة.

وأمّا الأوّل: فلعدم ملائمته مع ما مثّلوا له ببيع مال اليتيم، فمورد النزاع هو الثالث.

وكيف كان، فقد استدلّ لإعتباره بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّصحّة العقد والحال هذه ممتنعة، فإذا امتنعت في زمانٍ امتنعت دائماً.

أقول: قد ذكروا في توضيح هذا الوجه أمرين:

أحدهما: ما أفاده المحقّق الإيرواني رحمه الله، من أنّ بناء هذا على شيئين:

أحدهما: القول بالكشف في الإجازة.

والثاني: إنّ العام إذا خُصّص بخروج فردٍ منه في زمان، لم يرجع إليه في ذلك

ص: 246

الفرد فيما عدا ذلك الزمان، فيقال حينئذٍ إنّ العقد إذا لم يكن له من يصحّ بإجازته حال العقد، امتنع دخوله تحت خطاب «أَوْفُوا» ، فإذا امتنع شمول «أَوْفُوا» له في هذه الحال، لم يؤثّر من مبدأ وقوعه، فإذا لم يؤثّر من مبدأ وقوعه لم يؤثّر أبداً، لأنّ الفرد إذا خرج عن العام في زمانٍ خرج عنه رأساً، ولم يرجع إليه ثانياً بعد خروجه عنه أوّلاً(1).

وفيه: إنّ الكبرى الكليّة المشار إليها إنّما هو فيما إذا خرج فردٌ عن تحت العام في الأثناء، لا فيما إذا خرج عنه من الأوّل كما في المقام. وتمام الكلام في محلّه.

الثاني: ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله، وحاصله: إنّ عقد الفضولي إنّما يفترق عن العقود الفاسدة بكونه قابلاً للتأثير بالأجازة، فلابدَّ وأنْ يكون جامعاً لجميع مراتب الإمكان الإستعدادي، بحيث لا يستند عدم فعليّة التأثير إلّاإلى عدم الإجازة، فإذا لم يمكن الإجازة حال العقد، يكون العقد غير واجدٍ لجميع مراتب الإمكان الإستعدادي، لأنّ منها الإمكان من ناحية إمكان الإجازة، فإذا امتنعت الإجازة فعلاً، امتنعت الصحّة التأهليّة فعلاً، وإذا امتنعت الصحّة التأهليّة في زمانٍ امتنعت دائماً، لأنّ ما به يتفاوت حاله بتفاوت الزمان، هي الصحّة الفعليّة التابعة لوجود شرط الصحّة الفعليّة دون الصحّة التأهليّة(2).

وفيه: إنّ المراد من الإمتناع إنْ كان هو الإمتناع الذاتي، فالصغرى ممنوعة، وإنْ كان المراد الإمتناع العرضي، أي الإمتناع لعدم وجود جميع أجزاء المؤثّر، فالكبرى ممنوعة، فإنّ الإمتناع حينئذٍ يدور مدار فقد بعض ما يعتبر فيه.1.

ص: 247


1- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/134.
2- حاشية الأصفهاني: ج 2/201.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ عقد الفضولي الذي تمتنع إجازته حين العقد ويمكن تلك فيما بعد، يكون صحيحاً بالصحّة التأهليّة، لأنّه يمكن تأثيره فيما بعد بلحوق الإجازة، وليس معنى الصحّة التأهليّة إلّاذلك.

الوجه الثاني: لزوم الضرر على المشتري، لإمتناع تصرّفه في العين لإمكان عدم الإجازة، هذا على الكشف، ولعدم تحقّق المقتضي على النقل، ولا في الثمن لإمكان تحقّق الإجازة فيكون قد خرج عن ملكه.

وفيه: - مضافاً إلى النقض بجميع موارد عقد الفضولي كما تقدّم - ما مرّ تقريبه في التنبيه السادس من تنبيهات الإجازة، والجواب عنه هو ما ذكرناه في ذلك التنبيه، من أنّ تدارك الضرر يتحقّق بعدم لزوم الوفاء على الأصيل.

وعليه، فالحقّ عدم اعتبار هذا الشرط.

عدم اشتراط كون المجيز جائز التصرّف حين العقد

الأمر الثالث: هل يشترط في المجيز كون المجيز الفعلي نافذ التصرّف حين العقد، أم لا يعتبر ذلك، أم هناك تفصيلٌ؟ وجوه.

أقول: وقبل الشروع في المطلب ينبغي تقديم أُمور:

الأمر الأوّل: بناءً على كون البحث في الأمر السابق عن اعتبار وجود المجيز، فإنّ الفرق بينه وبين هذا يصبح واضحاً، وأمّا بناء على كون البحث فيه عن أنّه هل يعتبر وجود مجيزٍ جائز التصرّف شرعاً حين العقد أم لا، فالفرق بين الأمرين يكون في أنّ البحث هناك في اعتبار وجود مجيزٍ جائز التصرّف حين العقد وعدمه، وفي

ص: 248

المقام في أنّه هل يعتبر كون المجيز الفعلي نافد التصرّف حال العقد أم لا.

وبعبارة أُخرى: لو فرضنا اعتبار وجود مجيز جائز التصرّف حال العقد، وكان موجوداً حينه ولم يجز، وكان المجيز الفعلي غيره، كما لو بيع مال الصغير مع وجود المصلحة، وأهمل الولي ولم يجز حتّى بلغ فأجازه المالك بنفسه، فإنّ المجيز الفعلي لا يكون نافذ التصرّف حين العقد، وإنْ كان مجيز نافذ التصرّف موجوداً حينه، والسؤال حينئذٍ عن أنّ وجود مثله كافٍ أم لا؟.

الأمر الثاني: ربما يورد على الشيخ رحمه الله حيث جعل الصغر والسَّفه والجنون من باب عدم المقتضى، مع أنّها إمّا موانع، أو أنّ البلوغ والرشد والعقل شرائط التأثير، فإنّ المقتضى للسلطنة على التصرّف في المال إضافته إلى المتصرّف أو إذن من له الإضافة، فهذه الأُمور أجنبيّة عن المقتضي.

أقول: ولكن يمكن دفعه بأنّ نظره إلى أنّ عدم نفوذ التصرّف:

تارةً : يكون لقصور من ناحية المتصرّف.

وأُخرى : يكون من جهة سلطنة الغير أيضاً على المال.

وعبّر عن الأوّل بعدم المقتضى، وعن الثاني بوجود المانع، وعليه فيصحّ أنْ يقال إنّ عدم المقتضى إمّا لعدم الملك أو لجنون المالك أو سفاهته أو صغره، وبه يظهر الفرق بين هذه الأُمور وبين حقّ الرهن المتعلّق بالمال.

الأمر الثالث: أورد السيّد رحمه الله(1) وغيره(2) على الشيخ رحمه الله في جعله المسألة الثالثة - وهي ما لو باع معتقداً لكونه غير جائز التصرّف فبان كونه كذلك - من مسائل8.

ص: 249


1- حاشية اليزدي: ج 1/161.
2- كالمحقّق الأيرواني في حاشيته: ج 1/138.

هذا العنوان، مع أنّها أجنبيّة عنه.

ويمكن دفعه: بأنّ المراد من عدم الجواز في العنوان، عدم الجواز الفعلي، لا عدم الجواز الواقعي، فالمجيز ربما لا يكون جائز التصرّف واقعاً كما في الأولى والثانية، وأُخرى لا يكون جائز التصرّف فعلاً كما في الثالثة.

الأمر الرابع: جعل الشيخ رحمه الله المسألة الأولى أعمّ ممّا كان عدم الجواز لمانعٍ كالرهن، او لعدم المقتضي بالتفسير الثاني من جهة وحدة ملاك البحث، كما أنّه جعل المسألة الثانية - وهي عدم المِلْك حال العقد - مسألتين، لتعدّد الجهة من حيث الإجازة وعدمها.

أقول: إذا عرفت هذه الأُمور، تعرف أنّ ما سلكه الشيخ رحمه الله في عنوان هذا البحث وتشقيقه الشقوق المذكورة هو الصحيح.

وكيف كان، فالكلام يقع في مسائل:

***

ص: 250

لو كان المالك حين العقد غير جائز التصرّف

المسألة الأُولى: أنْ يكون المالك حال العقد هو المالك حال الإجازة، لكن المجيز لم يكن حال العقد جائز التصرّف لحَجْرٍ ونحوه، فهل يمكن تصحيح البيع بالإجازة أم لا؟.

أقول: الكلام في هذه المسألة يقع في جهات:

الأُولى : في صحّة بيع ما هو متعلّق حقّ الغير.

الثانية: في عتقه.

الثالثة: في احتياج صحّة البيع إلى الإجازة بعد ارتفاع الحَجْر وعدمه.

الرابعة: في جريان نزاع الكشف والنقل في رافع الحجر وعدمه.

الخامسة: في بيع الصبي والمجنون والسفيه.

أمّا الجهة الأُولى : فقد استدلّ على فساد البيع، بأنّ البيع يعدّ تصرّفاً في ما هو متعلّق حق الغير فلا يجوز، والنهي عن المعاملة يدلّ على الفساد.

وفيه: إنّ البيع ليس تصرّفاً في العين، مع أنّه لو كان حراماً لم يكن وجه لفساده، إذ النهي عن المعاملة لا يدلّ على الفساد، وقد تقدّم تقريب كلا الجوابين.

وأمّا الجهة الثانية: التزم المحقّق النائيني رحمه الله(1) بأنّه ملزمٌ على العتق، فلابدَّ إمّا من لزوم أداء الدَّين وفكّ الرهانة على الراهن، وإمّا أن يسعى العبد في فكاك رقبته بفكّ الرهانة.

ص: 251


1- منية الطالب: ج 1/262.

واستدلّ له:

1 - بأنّ الإجازة إنّما تؤثّر فيما يؤثّر الرّد فيه، ورَدّ الحُرّ إلى الرق غير ممكن.

2 - وبأنّ تأثير العتق من الراهن - حيث إنّه مالك للعين - لا إشكال فيه، خصوصاً مع كون العتق مبنيّاً على التغليب.

ويرد على الأوّل: أنّ الرّد المقابل للإجازة رَدّ العقد لا رَدّ نتيجته، فعدم إمكان ردّ الحُرّ إلى الرق غير عدم إمكان ردّ العتق نفسه.

وبعبارة أُخرى: إذا كان العتق مراعى بالإجازة، فلو أجازه يتحقّق وتترتّب عليه الحريّة، ولو رَدّه لا يصير حُرّاً كي يلزم منه رجوعه إلى الرقيّة والعبوديّة.

ويرد على الوجه الثاني: أنّ كون العتق مبنيّاً على التغليب، معناه أنّه لو انعتق مقدارٌ من العبد يتعيّن عتق الباقي، لا أنّه لو تعلّق العتق المراعي به يكون ملزماً عليه، فتدبّر.

وعليه، فالأظهر عدم الفرق بين العتق والبيع في ذلك.

أمّا الجهة الثالثة: فالأظهر عدم الإحتياج إلى الإجازة، إذ الإحتياج إليها إنّما هو لتحقيق الإستناد المتحقّق في المقام بدونها.

وأمّا الجهة الرابعة: فقد يقال إنّه لا يجري نزاع الكشف والنقل في مثل فكّ الرهانة وإسقاط المرتهن ونحوهما، من جهة أنّ حقّ المرتهن إذا كان مانعاً عن تأثير العقد، فحكم الفكّ والإسقاط حكم القبض في باب الصَّرف والسَّلم، لأنّ عدم المانع من أجزاء العلّة، فملكيّة المشتري كما تتوقّف على القبض في البابين، كذلك تتوقّف ملكيّة مشتري العين المرهونة على خروج العين عن كونها مخرجاً للدين، فلا تتحقّق الملكيّة قبل ذلك.

ص: 252

وفيه: إنّ الكشف بالمعنى الذي ذكرنا في الإجازة أنّه غير معقول لا يكون في الفكّ والإسقاط لما ذكرناه، مضافاً إلى أنّ لازمه خروج العين عن كونها وثيقة، وأمّا بالمعنى المعقول في الإجازة، فيمكن البناء عليه في المقام أيضاً، والدليل عليه حينئذٍ هو العمومات بالتقريب المتقدّم هناك.

ويؤيّد ذلك: بل يدلّ عليه، أنّه لو باع العين المرهونة غير المالك، ثمّ بعد فكّ الرهن أجاز المالك ذلك العقد، فإنّه لا شبهة في أنّه يلتزم بالكشف فيها من يلتزم بالكشف في الإجازة مطلقاً.

وأمّا الجهة الخامسة: لا كلام في الصحّة أنّه لو باع غير المالك فأجازه الولي، وأمّا لو صار بنفسه جائز التصرّف فأجاز، فإنّه يكون من صغريات ما تقدّم في الأمر الأوّل.

أقول: والكلام في المقام إنّما هو فيما لو باع بنفسه:

فإنْ بنينا على أنّه مسلوب العبارة، لا كلام في البطلان، وإلّا فلو صار كذلك فأجاز، صحَّ البيع، لكونه عقداً أجازه المالك.

ولا يتوهّم في المقام عدم الاحتياج إلى الإجازة - كما ذكرناه في بيع المرهون - فإنّه يدفعه أنّ العقد في حال الإنشاء وإنْ كان مستنداً إلى المالك تكويناً، إلّاأنّ الشارع الأقدس ألغى هذا الاستناد، فيحتاج إلى الإجازة تحقيقاً للإستناد.

***

ص: 253

من باع شيئاً ثمّ مَلَك

المسألة الثانية: ويدور البحث فيها عن حكم ما لو تجدّد الملك بعد العقد، وأجاز المالك الجديد سواءٌ كان هو البايع أو غيره.

لكن المعنون في كلمات الأصحاب هو الأوّل، وهو ما لو باع شيئاً ثمّ ملكه، وهذه تتصوّر على صور، إلّاأنّ المهمّ منها اثنتان.

إحداهما: ما لو باع لنفسه ثمّ اشتراه وأجاز، والأقوال فيها ثلاثة:

القول الأوّل: البطلان، اختاره صاحب «المقابيس» رحمه الله(1).

القول الثاني: الصحّة مع الإجازة، اختاره المحقّق(2) والشيخ رحمه الله(3) وجمعٌ آخر(4).

القول الثالث: الصحّة بدون التوقّف على الإجازة، نُسب ذلك إلى الشيخ رحمه الله(5)، وفي النسبة ما لا يخفى، فإنّ منشأها إفتاؤه بصحّة بيع النصاب في الزكاة أيضاً إن اغترم حصّة الفقراء، مع أنّه يمكن أنْ يكون ذلك من جهة ذهابه قدس سره إلى أنّ تعلّق الزكاة بالعين من قبيل حقّ الرهانة أو الجناية، ويمكن أيضاً أنْ يكون للنص الخاص.

وكيف كان، فقد استدلّ الشيخ للصحّة - مضافاً إلى العمومات - بالأصل.

وفيه: أنّه إن أراد بالأصل أصالة الصحّة.

فيرد عليه: أنّ الأصل في المعاملات هو الفساد.

ص: 254


1- مقابس الأنوار: ص 134.
2- المعتبر: ج 2/563.
3- المبسوط: ج 1/208.
4- منهم الشهيد في الدروس: ج 3/193، وحكي عن الصيمري في مقابس الأنوار: ص 134.
5- نسبه الشيخ الأنصاري في المكاسب: ج 3/436.

وإنْ أراد به أصالة البراءة.

فيرد عليه: إنّه رحمه الله بنى على عدم الرجوع إليها عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للأسباب في باب المعاملات - كما تقدّم منه في مقدّمة الكتاب - فلا محالة يكون مراده به القاعدة المستفادة من العمومات، ولكن على المختار لا بأس بالاستدلال به أيضاً، فمقتضى العمومات والأصل هي الصحّة.

وقد استدلّ للبطلان بأُمور:

الأمر الأوّل: إنّه قد باع مال الغير لنفسه.

أقول: قد مرّ الإشكال فيه(1)، وربما لا يجري فيه بعض ما ذكر هناك من الأجوبة عن ذلك الإشكال.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله: بأنّ الأقوى صحّته، وربما يَسلم هنا عن بعض الإشكالات الجارية هناك، مثل مخالفة الإجازة لما قصده المتعاوضان(2).

توضيح المقام: إنّ عمدة الإشكال في تلك المسألة في أمرين:

أحدهما: إنّه بناءً على اعتبار دخول العوض في كيس من خرج عن كيسه المعوّض وبالعكس، فإنّ الفضولي البائغ مال الغير لنفسه غير قاصد لحقيقة المعاوضة والبيع.

الثاني: مخالفة الإجازة لما قصده المتعاقدان.

أمّا الإشكال الأوّل: فلو تمّ ما ذكروه جواباً عنه في تلك المسألة - من أنّ 7.

ص: 255


1- نقله الشيخ الأنصاري في المكاسب: ج 3/437، والظاهر أنّه منقول عن صاحب مقابس الأنوار.
2- المكاسب: ج 3/437.

الفضولي إنّما يبيع للمالك ويبني على أنّه هو المالك - جرى ذلك في المقام أيضاً.

وما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله في المقام من: أنّ مبنى هذا الجواب على أنّ الغاصب سارق الإضافة، ويرى نفسه المالك، وهذا لا يجري في المقام، لأنّه لم يسرق الإضافة، ولم يغصب المال، وعليه فليس له قصد المعاوضة، ثمّ قال: (إلّا أن يقال: إنّ قصد البيع لنفسه حيثُ يقع ممّن يطمئن بتملّك المبيع، فكأنّه يرى نفسه صاحب المال بالمشارفة، فيبيع ما يملكه فعلاً بلحاظ ملكه فيما بعد)(1).

يرد عليه أوّلاً: إنّ الجواب المذكور لا يختصّ ببيع الغاصب، بل هو جار في كلّ من يبيع مال الغير لنفسه، ولا فرق عليه بين أن يملكه فيما بعد وعدمه.

وثانياً: إنّه لو لم يكن قاصداً لذلك، لم يفد ما أفاده أخيراً، فإنّ من يطمئن بأنّه سيملك، لا يرى نفسه مالكاً بالفعل، فلا يقدر على قصد المعاوضة إلّابالبناء على المالكيّة، فيرجع إلى ما تقدّم.

وأمّا الإشكال الثاني: فقد أجابوا عنه هناك:

بأنّه بعد فرض كون البائع قاصداً البيع للمالك، وبانياً على أنّه هو المالك، فإنّ الإجازة الصادرة من المالك تتعلّق بالأوّل دون الثاني، فلا يلزم مخالفة الإجازة لما قصده المتعاقدان، وهذا الجواب لا يجري في المقام، فإنّ البائع إنّما يبيعه للمالك، وحين الإجازة يجيز وقوع العقد لنفسه غير المالك حين العقد، فمن وقع له العقد غير من يجيز المجيز وقوع العقد له.

فتحصّل: أنّ ما أفاده المحقّق صاحب «المقابيس» هو الصحيح على هذا المسلك،5.

ص: 256


1- منية الطالب: ج 1/264-265.

ولكن ما ذكرناه هناك في وجه التصحيح، ودفع هذا الإشكال - من أنّه لو باع لنفسه، مع عدم البناء على المالكيّة، فأجازه المالك صَحَّ ، ووقع للغاصب، ولو باع لنفسه مع البناء عليها، فحيث أنّ إنشاءه بالمطابقة يدلّ على تملّك المعوّض، وبالإلتزام يدلّ على المبادلة المذكورة، فيصحّ للمالك إجازة هذا المدلول الإلتزامي فيقع له، كماله إجازة المدلول المطابقي فيقع للغاصب - يجري في المقام كما لا يخفى .

وعليه، فالأظهر عدم تماميّة هذا الوجه.

الأمر الثاني: إنّ بيع الفضولي لابدّ وأنْ يكون واجداً لجميع ما يعتبر في صحّة البيع سوى الإجازة، بحيث لو لحقته الإجازة صَحَّ فعلاً، وحيث أنّ من جملة شرائط صحّة البيع التي باجتماعها يصير البيع صحيحاً بالصحّة التأهليّة - ولا ينتظر في ترتّب الأثر عليه سوى الإجازة - كون من يراد وقوع البيع له قادراً على التسليم، وإمكان الرضا منه - كما في عقد الفضولي في سائر المقامات - والمقام ليس كذلك فإنّ من يراد وقوع البيع له هو الفضولي، وهو حين العقد غير واجدٍ للقدرة المؤثّرة في النقل - أي قدرة من بيده أمر المال وكذلك رضاه - فهذا البيع الفضولي غير صحيح بالصحّة التأهليّة، فلا يمكن تصحيحه بالإجازة، وهذا غاية ما يمكن أنْ يقال في توجيه هذا الأمر.

الجواب: إنّ المراد من اعتبار الرضا في المالك:

1 - إنْ كان هو اعتبار رضا من يلتزم بالمعاملة، ويصير مخاطبابخطاب «أَوْفُوا» ففي المقام موجودٌ، فإنّ حال الإجازة هو حال إنفاذ المعاملة.

2 - وإنْ كان المراد منه اعتبار رضا المالك في حال العقد.

ص: 257

فيرد عليه: إنّه غير معتبر قطعاً، لأنّه في أغلب موارد بيع الفضولي لا يكون ذلك موجوداً إمّا للكراهة أو للغفلة أو لغيرهما، ولم يتوهّم أحدٌ فساد المعاملة من هذه الناحية، وعلى أيّ تقدير لا دليل عليه.

3 - وإنْ كان المراد منه اعتبار رضا من هو مالكٌ حال العقد، فهو أوّل الدعوى، ولا دليل عليه.

وأمّا القدرة على التسليم: فظاهر كلام الشيخ رحمه الله تسليم اعتبار قدرة المالك حال العقد(1)، وهو أيضاً لا دليل عليه، بل الدليل من القاعدة وغيرها إنّما يقتضي اعتبار قدرة من هو ملتزمٌبالمعاملة، وتنتسب هي إليه، وحيث أنّ حال الإجازة حال الإلتزام بها وإنفاذها، والمفروض وجودها حينها، فلا حالة منتظرة لصحّة البيع.

ولو سُلّم اعتبار قدرة المالك حال العقد، فيردّه الشيخ رحمه الله بأنّ الكلام بعد فرض استجماع العقد لجميع الشرائط(2).

الأمر الثالث: أنّ الإجازة كاشفةٌ في موارد صحّتها، لكن الإلتزام به في المقام مستلزمٌ لخروج المال عن ملك بائعه قبل الدخول في ملكه.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله بما حاصله: إنّا نلتزم في المقام بخروج المال عن ملك المجيز من أوّل أزمنة قابليّته، لأنّه لا مانع عقلاً ولا شرعاً من كون الإجازة كاشفة من زمان قابليّة تأثيرها، وعليه فإذا صدر العقد ورضي المالك الفعلي به وأجازه وقع البيع له، ولازمه خروج المال عن ملكه من أوّل أزمنة قابليّته للتأثير(3).

أقول: إنّ الذي يلوح من صدر كلامه، ويصرّح به في آخره أنّه رحمه الله ظنّ أنّ صاحب «المقابيس» مسلّم بوجود المقتضي للصحّة، وإنّما كلامه ومناقشته في8.

ص: 258


1- المكاسب: ج 3/437 و 438.
2- المكاسب: ج 3/437 و 438.
3- المكاسب: ج 3/437 و 438.

وجود المانع، ولذلك أجاب عنه بأنّ المانع إنّما يمنع عن التأثير في الملكيّة من حين العقد، ولا يمنع عن التأثير في الملكيّة بعد حصول الملك للبائع.

هذا، ولكن الظاهر من كلامه رحمه الله أنّه يرى عدم وجود المقتضي للصحّة.

وحاصل ما أفاده: أنّ دليل صحّة بيع الفضولي والقول بالكشف دليلٌ واحد، وهو أنّ العقد إنّما هو نقل من حينه، والإجازة تتعلّق بهذا، والإمضاء الشرعي متعلّق بذلك أيضاً، وحينئذٍ ففي المقام لا يمكن شمول العمومات وأدلّة الإمضاء للعقد، فلا مقتضى للصحّة؛ لأنّه:

إنْ التزمنا بشمولها له، وصيرورته مِلْكاً للمشتري من حين العقد، لزم منه خروج الملك عن ملكه قبل دخوله فيه.

وإنْ التزمنا بشمولها له والإنتقال إليه من بعد صيرورته مالكاً، لزم منه الإلتزام بالتبعيض في مضمون العقد، مع أنّه أمرٌ واحد، والتزام فارد، متعلّقٌ بنقل المال من حينه إلى الأبد، ولا يتعدّد بتعدّد الزمان، كي يقال بتعلّق الإمضاء ببعضه دون بعض، بل هو أمرٌ واحد إمّا يمضيه الشارع من الأوّل أو لا يمضيه، فلا يقع إلى الأبد.

نعم، في باب الصَّرف والسَّلم قام الدليل الخاص على حصول النقل والانتقال من بعد القبض، ومثل هذا الدليل مفقود في المقام، فعلى هذا المسلك في الكشف لا مناص عن البناء على البطلان في المقام.

نعم، بناءً على ما سلكه الشيخ رحمه الله من أنّ العقد لا يكون مفاده سوى التمليك، والإجازة متعلّقة بذلك، والإمضاء متعلّق به أيضاً، ولم يؤخذ الزمان فيه أبداً، وإنّما

ص: 259

يبنى على الكشف للنصوص الخاصّة، صَحَّ البناء على الصحّة في المقام للعمومات.

كما أنّه بناءً على ما اخترناه في الكشف، من الإلتزام بالكشف الإنقلابي بالنحو المعقول كما تقدّم لا يلزم ذلك، إذ المال من حين العقد إلى شراء البائع وانتقاله إليه مِلْكٌ لمالكه الأوّل، ومن ذاك الوقت إلى زمان الإجازة مِلْكٌ للمجيز، وبعد الإجازة يعتبر ملكيّة المشتري الأوّل من حين العقد، فالخروج إنّما يكون من حين الإجازة، فلا يلزم الخروج قبل الدخول، وأمّا الخارج فهو القطعة ما بعد الدخول، لأنّه مقتضى شمول العمومات وخطاب «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» .

الأمر الرابع: إنّ صحّة العقد الأوّل تتوقّف على صحّة العقد الثاني كي يصبح المال ملكاً للمجيز فيجيز، وصحّة العقد الثاني تستلزم ملكيّة المالك الأصلي، قبل العقد الثاني، فعلى الكشف يلزم اجتماع المالكين - أي المشتري الأوّل والمالك الأصلي - قبل العقد الثاني وبعد الأوّل على مالٍ واحد في زمان واحد، وهو من اجتماع الضدّين، ويلزمه اجتماع النقيضين، إذ لازم وجود أحد الضدّين عدم الآخر.

أقول: والجوابُ عن ذلك بعد الإلتزام بالكشف من حين العقد الثاني واضح، إنّما الكلام في المقام في الإشكال العام الذي أوردوه على القول بالكشف - ونذكره في المقام لمناسبة غير خفية - وهو:

إنّ صحّة الإجازة تتوقّف على كون المجيز مالكاً، لأنّ إجازة غير المالك كالعدم، والمفروض أنّها توجب ملكيّة المشتري قبلها، فيلزم بعد العقد وقبل الإجازة اجتماع مالكين على مالٍ واحد.

والشيخ رحمه الله يُسلّم الإشكال على القول بالكشف بنحو الشرط المتأخّر.

ص: 260

أقول: الحقّ أنْ يقال في الجواب عن ذلك إنّه لم يدلّ دليلٌ على لزوم اتّصال ملك المجيز بزمان الإجازة بما هي إجازة، بل اللّازم هو اتّصال الملك بزمان التصرّف الناقل، مع كون زمام ذلك بيد المجيزُّكي يكون النقل عن ملكه بإجازته وإمضائه، وعليه ففي المقام بما أنّ زمان التصرّف الناقل هو زمان العقد على الكشف، فالمعتبر اعتبار اتّصال ملكيّته بذلك الزمان، وهو متحقّقٌ على الفرض.

هذا على الكشف بالمعنى المشهور.

وأمّا على الكشف المختار: فالإشكال غير وارد أصلاً لفرض اتّصال ملكيّته بالإجازة، كما لا يخفى ، مع أنّه يمكن أنْ يقال بكفاية كونه مِلْكاً له إنْ لم يجز، وإنْ لزم من الإجازة كونه ملكاً لغيره، ونظيرها في ذلك الإقرار على ما في اليد بأنّه للغير، فإنّه لولا الإقرار على أنّ ما في يده للغير يكون له، وإنْ كان بالإقرار يكون لغيره.

أقول: والظاهر أنّ هذا مراد صاحب «المقابيس» من قوله: (يكفي في الإجازة ملك المالك ظاهراً)(1)، ولذلك لا يرد عليه ما أفاده الشيخ رحمه الله بأنّ المالك الظاهري إنّما تجدي إجازته إذا لم ينكشف كون غيره مالكاً حين الإجازة(2).

الأمر الخامس: أنّ الإجازة لما كشفت عن صحّة العقد الأوّل، لزم منه كون المال حين العقد الثاني مِلْكاً للمشتري الأوّل، فصحّة الثاني تتوقّف على إجازته، وهي تتوقّف على صحّة الأوّل المتوقّفة على إجازة المشتري الثاني، وحيث أنّ إجازته تتوقّف على صحّة الثاني المتوقّفة على إجازة المشتري الأوّل، يلزم منه توقّف إجازة كلٍّ من الشخصين على إجازة الآخر، وأيضاً يلزم توقّف صحّة كلٍّ من2.

ص: 261


1- مقابس الأنوار: ص 134.
2- المكاسب: ج 3/442.

العقدين على إجازة المشتري غير الفضولي، وهو محالٌ ، لأنّ لازمه عدم تملّك المالك الأصيل شيئاً من الثمن والمثمن، وتملّك المشتري الأوّل المبيع بلا عوض!

أمّا عدم تملّكه المثمن: فلفرض انتقاله عنه بالبيع.

وأمّا عدم تملّكه الثمن: فلأنّ العقد الأوّل ينتقل ثمنه إلى المالك الثاني، والثمن في العقد الثاني ينتقل إلى المشتري الأوّل لوقوعه في ملكه، فيلزم انتقال المثمن والثمن في العقد الثاني إلى المشتري الأوّل.

أمّا كون اللّازم الأوّل محالاً: فلأنّ حقيقة البيع هي المعاوضة، ومقتضاها تملّك الثمن على تقدير البيع، وتملّك المثمن على تقدير عدم البيع، فعدم تملّك شيء منهما مستلزمٌ لإرتفاع النقيضين.

وأمّا كون الثاني محالاً: فلأنّ مقتضى المعاوضة أن يتملّك المشتري بعوضٍ بعينه، ولا يعقل تحقّقهما وتخلّف مقتضاها عنها.

وأجاب الشيخ رحمه الله عن هذا الإيراد: بأنّه يرد على القول بالكشف من حين العقد، ولو التزمنا بالكشف من حين العقد الثاني، فلا يلزم محذور أصلاً(1).

وأجاب السيّد المحشّي رحمه الله: عن لزوم توقّف كلّ من الإجازتين على الأُخرى ، وصحّة العقد الثاني على إجازة المشتري الأوّل: بأنّ بيع مال الغير إنّما يكون موقوفاً على إجازته إذا كان ذلك المال ماله، مع قطع النظر عن هذا البيع، وفي المقام إنّما تحدث الملكيّة من الأوّل بشرط هذا البيع والإجازة، ومثل هذا لا يعقل أنْ يكون موقوفاً على الإجازة، فصحّة العقد الثاني، وإجازة المشتري الثاني، لا تتوقّفان على4.

ص: 262


1- المكاسب: ج 3/444.

إجازة المشتري الأوّل(1).

وفيه: إنّ جميع ما ذكر دليلاً على توقّف صحّة البيع الواقع على مال الغير على إجازته يدلّ على توقّفها عليها في المقام.

فالحقّ أنْ يقال: إنّ هذا المحذور إنّما يلزم على القول بالكشف المشهور، وأمّا على الكشف المختار:

فإنْ بنينا على الكشف من حين العقد الثاني - كما مرّ - فالأمر واضح.

وأمّا إنْ قلنا بكشفها عن الملكيّة من حين العقد الأوّل، فحيث أنّ العقد الثاني واقعٌ في ملك الأصلي، فيصحّ بلا توقّفٍ على شيء وينتقل ثمنه إليه، فإذا أجاز المشتري العقد الأوّل الذي أوقعه فضولاً، لزم منه اعتبار الملكيّة من حين العقد الأوّل بنحو النقل في الملكيّة، والكشف في المملوك، وهذا لا يلازم الكشف عن وقوع العقد الثاني في ملك المالك بالفعل، فإنّ هذا الإعتبار وارد على العقد، فتدبّر فإنّه دقيق.

الأمر السادس: أنّ العقد الأوّل إنّما يصحّ بالإجازة، ومن شرائطها عدم مسبوقيّتها بالرّد، والعقد الثاني يستلزمُ الرّد، فإنّه لا يجامع العقد الثاني صحّة الأوّل المقتضية لتملّك المالك الثمن الأوّل، فلا محالة يكون الثاني فسخاً للأوّل، وإنْ لم يعلم بوقوعه، وعليه فلا تجدي الإجازة المتأخّرة.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله: بأنّ الرّد والفسخ:

تارةً : يكون بإنشائه قولاً أو فعلاً.4.

ص: 263


1- حاشية اليزدي: ج 1/164.

وأُخرى : يكون بفعل ما يفوت محلّ الإجازة، وهذا على قسمين:

أحدهما: ما يفوّت محلّها، فيترتّب عليه انحلال العقد رأساً.

ثانيهما: ما يفوّت محلّها بالنسبة إلى الفاعل، ممّا لا يمنع من بقاء العقد بالإضافة إلى غيره.

وفي المقام بما أنّه لم ينشأ الرّد - كما هو المفروض - والبيع ليس كالعتق موجباً لعدم بقاء المحلّ رأساً كي ينحلّ العقد رأساً، بل هو موجبٌ لفوت محلّها بالإضافة إلى المالك لخروج المال عن ملكه، وأمّا الفضولي الذي اشتراه فمحلّ الإجازة بالإضافة إليه باقٍ ، فلا مانع من شمول أدلّة النفوذ له، ولا يقاس ذلك بتصرّف ذي الخيار من جهة أنّه ينحلّ هناك العقد بمجرّد فعل ما ينافيه، فإنّه هناك لو لم ينحلّ العقد لم يجز التصرّف، لعدم كونه ملكه، وهذا بخلاف المقام كما هو واضح(1).

وما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله: من أنّه إذا كان فعل مفوّتاً لمحلّ الإجازة بالإضافة إلى المتصرّف، كان مفوّتاً لمحلّها بالإضافة إلى غيره أيضاً، إذ البيع عبارة عن تبديل طرفي الإضافة مع اعتبار تعلّق الإضافة بشخص خاص، فمن كان مالكاً حين العقد من جهة فوت محلّ الإجازة بالإضافة إليه ليس له الإجازة، والفضولي الذي اشترى المال لم يكن أحد طرفي الإجازة، فليس له ذلك أيضاً كما ليس له الرّد(2).

يرد عليه: أنّ مآل هذا إلى أنّه لا تطابق بين ما وقع عليه العقد وما تعلّقت به الإجازة.8.

ص: 264


1- المكاسب: ج 3/444-446.
2- منية الطالب: ج 1/268.

أقول: هذا هو الإشكال الثاني، والجواب عنه قد تقدّم، والكلام في المقام في هذا المحذور المذكور من حيث هو.

وما أورده المحقّق الإيرواني رحمه الله عليه: بأنّ البيع لشيء إنشاءٌ لردّ كلّ عقدٍ وقع عليه على سبيل الإجمال، وإنْ لم يلتفت إلى العقد ولم يعلم به، فكلّ فعلٍ للمنافي، فهو إنشاءٌ للرّد، فلا وجه للتفصيل بين إنشاء الرّد وفعل ما ينافيه(1).

يمكن دفعه: بأنّ إنشاء الرّد إنّما هو كسائر الإنشائات متقوّمٌ بالقصد وبدونه لا يتحقّق، وعليه فما أفاده الشيخ رحمه الله متين.

نعم، ما ذكره أخيراً في وجه كون الفعل المنافي موجباً لإنفساخ العقد في البيع الخياري، يمكن أن يورد عليه بأنّه إذا لم يكن الفعل في نفسه مستلزماً لإنشاء الرّد، لم يرد إلّابذلك، لأنّه لا محذور في الإلتزام بوقوعه في ملك الغير، وأصالة الصحّة في الفعل لا تصلح لإثبات تحقّق قصد الرّد، فتدبّر.

مضافاً إلى أنّه قد تقدّم عدم قدح الرّد في تأثير الإجازة.

الأمر السابع: النصوص الخاصّة، وهي طائفتان:

الطائفة الأُولى: الأخبار المستفيضة الحاكية لنهي النبي صلى الله عليه و آله عن بيع ما ليس عندك(2)، وقد تقدّم في أوائل بيع الفضولي أنّها بحسب السند لا كلام فيها.

وتقريب دلالتها: أنّها تدلّ على فساد البيع المذكور مطلقاً بالنسبة إلى المالك والمخاطب، أو بالنسبة إلى خصوص المخاطب. كما أنّها بإطلاقها تدلّ على عدم وقوع البيع للبائع ولو صار ملكاً له لاحقاً وأجاز، بل الظاهر منها إرادة حكم8.

ص: 265


1- حاشية الأيرواني: ج 1/137.
2- لاحظ وسائل الشيعة: ج 12/374-375، أبواب أحكام العقود ب 7 و ب 8.

خصوص صورة تملّكه بعد البيع، وإلّا فعدم وقوعه له قبل تملّكه لا يحتاج إلى البيان.

وأجاب عنها الشيخ رحمه الله: بأنّها تدلّ على عدم ترتّب الأثر المقصود من البيع على هذا البيع، وهذا لا ينافي ترتّب الأثر عليه إذا لحقه الإجازة(1).

وفيه: إنّ مقتضى إطلاقها عدم ترتّب الأثر عليه حتّى وإنْ أجاز.

أقول: أجابوا عنها بأجوبة أُخرى أحسنها جوابان، وقد تقدّما في أدلّة بطلان بيع الفضولي من هذا الجزء:

أحدهما: أنّ الظاهر البدوي من النبويّ ، هو النهي عن بيع ما ليس حاضراً عنده، سواءً كان مملوكاً له أم لا، وسواءٌ قدر على تسليمه أم لا، كليّاً كان أو شخصيّاً، وحيث أنّه لا يمكن الإلتزام به تعيّن حمله:

إمّا على النهي عن بيع ما ليس مملوكاً له.

أو على النهي عن بيع ما لا يقدر على تسلميه.

وإنْ لم يكن الثاني أقرب، فإنّه لا كلام في عدم أقربيّة الأوّل.

الطائفة الثانية: النصوص الخاصّة:

منها: صحيح يحيى بن الحجّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب وهذه الدابّة وبعنيها اُربحك فيها كذا وكذا؟

قال عليه السلام: لابأس بذلك، اشترها ولاتواجبه البيع قبل أن تستوجبها أوتشتريها»(2).

ومنها: خبر خالد بن الحجّاج، عنه عليه السلام: «عن الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا).

ص: 266


1- المكاسب: ج 3/449.
2- الكافي: ج 5/198 ح 6، وسائل الشيعة: ج 18/52 أبواب أحكام العقود ب 8 ح 13 (23123).

الثوب واُربحك كذا وكذا؟

قال عليه السلام: أليس إنْ شاء ترك وإنْ شاء أخذ؟ قلت: بلى .

قال عليه السلام: لا بأس به إنّما يُحلّل الكلام ويحرّم الكلام»(1).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجل أتاه رجل فقال:

ابتع لي متاعاً لعلّي أشتريه منك بنقدٍ أو نسيئة، فابتاعه الرجل من أجله ؟

قال عليه السلام: ليس به بأس، إنّما يشتريه منه بعدما يملكه»(2).

ومنها: صحيح منصور، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في رجل أمر رجلاً يشتري له متاعاً فيشتريه منه ؟

قال عليه السلام: لا بأس بذلك إنّما البيع بعدما يشتريه»(3).

ومنها: صحيح معاوية: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: يجيئني الرجل يطلب منّي بيع الحرير، وليس عندي منه شيء، فيقاولني عليه واُقاوله في الربح والأجل حتّى نجتمع على شيءٍ ، ثمّ أذهب فأشتري له الحرير فادعوه ؟

فقال عليه السلام: أرأيتَ إن وجد بيعاً هو أحبّ إليه ممّا عندك يستطيع أن ينصرف إليه ويدعك، أو وجدتَ أنتَ ذلك أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه ؟ قلت: نعم، قال:

فلا بأس»(4).

أقول: والشيخ رحمه الله أجاب عنها أوّلاً بما حاصله:).

ص: 267


1- الكافي: ج 5/201 ح 6.
2- التهذيب: ج 7/51 ح 20، وسائل الشيعة: ج 18/51 أبواب أحكام العقود ب 8 ح 8 (23118).
3- التهذيب: ج 7/50 ح 18، وسائل الشيعة: ج 18/50 أبواب أحكام العقود ب 8 ح 6 (23116).
4- الكافي: ج 5/200 ح 5، وسائل الشيعة: ج 12/377 أبواب أحكام العقود ب 8 ح 7 (23117).

إنّها تدلّ على المنع عن الإلزام والإلتزام من المتبايعين بآثار البيع قبل الإشتراء، فكذا بعده من دون حاجة إلى الإجازة، وهذا لا ينافي الصحّة مع الإجازة(1).

ثمّ رجع عن ذلك، والتزم بدلالتها على الفساد، من جهة أنّ عدم ترتّب الأثر المقصود على عقد إلّامع انضمام بعض الأُمور اللّاحقة كالقبض والإجازة لا يقتضي النهي عنه بقول مطلق، بل لابدّ من النهي عنه مقيّداً بتجرّده عن ذلك القيد، فإطلاق النهي يقتضي الفساد حتّى مع الإجازة(2).

والحقّ في المقام أنْ يقال: إنّ الصحاح الثلاثة الأخيرة ظاهرة في إرادة بيع الكلّي، وتدلّ على أنّه لا يجوز بيع الكلّي في الذمّة ثمّ اشتراء بعض أفراده وتسليمه إلى المشتري الأوّل، وقد اتّفق النَّص والفتوى - خلافاً للعامّة - على جواز ذلك، فيتعيّن حملها على التقيّة - كما يظهر من بعض النصوص المجوّزة - أو الكراهة.

وما ذكره الشيخ رحمه الله: من أنّ الحكم في موردها وإنْ كان يحمل على التقيّة، إلّا أنّ ذلك لا ينافي الأخذ بمقتضى عموم مفهوم التعليل، وهو يقتضي البطلان في بيع الشخصي(3).

يرد عليه: أنّ عموم التعليل لا يقبل التبعيض، بأن يُحمل على التقيّة أو الكراهة في بعض موارده وهو الكلّي، والأخذ بظاهره في مورده الآخر، لا سيّما وأنّ مورد وروده الكلّي، إذ بقاءه في غير مورد الأخبار وإلقائه في موردها بعيدٌ جدّاً.

وبالجملة: فهذه النصوص ساقطة.

وأمّا خبر خالد بن الحجّاج: فقد مرّ الكلام فيه في مبحث المعاطاة(1)، وعرفت أنّه قاصرٌ سنداً ودلالة.3.

ص: 268


1- فقه الصادق: ج 22/343.

أمّا الأوّل: فلدوران الراوي بين ابن بختج وابن الحجّاج، والأوّل مجهول.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر منه ثبوت البأس في صورة إلزام المواعد بقبول السلعة، ووجهه عدم تحقّق البيع في مفروض السؤال، ويكون قوله عليه السلام: «إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام» بياناً لذلك، لأنّ المراد بالكلام الإلتزام البيعي، والمراد بالمحلّليّة والمحرّميّة المنسوبة إليه، محلّليّة الإيجاب للمبيع على المشتري، والثمن على البائع، ومحرّميّة المبيع على البائع والثمن على المشتري، وتمام الكلام في محلّه.

وأمّا صحيح يحيى : فالظاهر منه عدم لزوم البيع قبل الإشتراء.

توضيح ذلك: إنّ إيجاب البيع عبارة عن إقراره وإثباته على الوجه الذي لايبقى مجال لحَلّه وفسخه من الطرفين، بنحوٍ يكون الإشتراء مقدّمة للوفاء لا لتتميم المعاملة قبل استيجابها - أي جعل البيع لازماً على نفسه - أو الإشتراء - أي التملّك المجامع من الخيار - والنهي عنه إرشادٌ إلى عدم تحقّقه، فيدلّ على عدم لزوم البيع قبل أن يملك، وهذا ممّا لا كلام فيه.

فتحصّل: أنّ شيئاً ممّا استدلّ به على الفساد لا يدلّ عليه.

***

ص: 269

صور بيع من باع شيئاً ثمّ مَلَك

قال المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»: (لا يجوز أن يبيع عيناً لا يملكها ويمضي ليشتريها ويسلّمها، وبه قال الشافعي وأحمد ولا نعلم فيه خلافاً؛ لقول النبي صلى الله عليه و آله:

«لا تبع ما ليس عندك»، ولإشتمالها على الغَرر، فإنّ صاحبها قد لا يبيعها، وهو غير مالك لها، ولا قادرٍ على تسليمها)(1)، انتهى .

قال الشيخ رحمه الله: (إنّ الواجب على كلّ تقدير هو الإقتصار على مورد الروايات، وهو مالو باع البائع لنفسه واشترى المشتري غير مترقّبٍ لإجازة المالك، ولا لإجازة البائع إذا صار مالكاً، وهذا هو الذي ذكره العلّامة رحمه الله في «التذكرة» نافياً للخلاف في فساده)(2)، انتهى .

أقول: وتنقيح القول في المقام: أنّ البائع:

تارةً : قد يبيع لنفسه.

واُخرى : قد يبيع لمالكه.

وثالثة: قد يبيع للأجنبي.

أمّا الصورة الأُولى :

فتارةً : يبيع منجزاً، بحيث يرى نفسه ملزَماً في ذلك، فيشتري المبيع من مالكه مقدّمةً للوفاء بعقدة.

ص: 270


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/455.
2- المكاسب: ج 3/454.

وأُخرى : يبيع على أنْ يكون العقد موقوفاً على الإجازة.

وثالثة: يبيع على أنْ يكون اللّزوم موقوفاً على التملّك.

دعوى الشيخ رحمه الله: أنّ المتيقّن من النصوص هو الفرض الأوّل، وأنّ الأخيرين باقيان تحت العمومات المقتضية للصحّة، واستظهر من تعليل العلّامة رحمه الله للفساد - بالغرر، وعدم القدرة على التسليم - أنّ ما هو مفتى به عند الأصحاب هو هذا الفرض(1).

وأورد عليه المحقّق النائيني رحمه الله: بما حاصله يرجع إلى أمرين:

أحدهما: أنّ الأخبار مطلقة، والمراد من التعليق:

إنْ كان هو التعليق البنائي، فقد تقدّم أنّ البناء القلبي لا يؤثّر في الصحّة والفساد في باب المعاملات.

وإنْ كان هو التعليق في المُنشَأ فقد أجمعوا على بطلانه.

ثانيهما: أنّه ليس لتعليق اللّزوم على التملّك معنى محصّل في المقام، لأنّه عبارة عن جعل الخيار، وهو إنّما يكون مقابلاً للإلتزام العقدي من المالك، وليس العقد منسوباً إلى البائع في المقام، والإسم المصدري غير الحاصل لا معنى لجعل الخيار فيه(2).

أقول: ولكن ظاهر الشيخ رحمه الله اختيار الشقّ الأوّل، ويدّعي أنّ مقتضى العمومات هي الصحّة مع الإجازة في جميع الفروض، غاية الأمر في الفرض الأوّل - وهو البيع المنجّز والملزَم عرفاً - ورد النهي عنه بالخصوص، وحيث أنّه إرشادٌ إلى الفساد فيدلّ على فساده.1.

ص: 271


1- المكاسب: ج 3/455-456.
2- منية الطالب: ج 1/270-271.

وجه استظهاره: أنّ متعلّق النهي في بعضها مواجبة البيع وإقراره المساوق لكونه منجّزاً، وقوله عليه السلام: «إنّما البيع بعدما يملكه» في بعضها الآخر ظاهرٌ في ذلك؛ فإنّ البيع ظاهرٌ في التمليك بالحمل الشائع المساوق للمنجز، إذ مع عدم الملكيّة لا تمليك بالفعل لإتّحاد الوجود والإيجاد.

أقول: وبهذا يندفع كلا الإيرادين:

أمّا الأوّل: فواضح.

وأمّا الثاني: فلأنّ المراد باللّزوم المعلّق على التمليك، ليس هو لزوم العقد شرعاً، بل لزومه عرفاً، وله قدس سره اختيار الشقّ الثاني.

ودعوى: الإجماع على مبطليّة التعليق.

مندفعة: بأنّها تتمّ في غير القيود التي تكون صحّة العقد متوقّفة عليها، فراجع ما ذكرناه(1).

وأيضاً: أورد المحقّق الإيرواني رحمه الله على ما استظهره من تعليل العلّامة رحمه الله، بأنّ :

(الشراء مترقّباً أو غير مترقّب لا أثر له في رفع الغرر وحصوله، ولا في القدرة وعدمها؛ فإنّ توطين النفس على رفع اليد عن البيع عند عدم الإجازة، كتوطين النفس على الإلتزام بالمبيع المجهول على أيّ وجهٍ كان في عدم رفعه للغرر)(2).

وفيه: إنّ البيع مترقّباً للإجازة يوجبُ القطع بعدم الإنتقال عن ملكه ما لم يدخل بدله في ملكه، بخلاف ما إذا كان البيع منجّزاً، فلا غرر في الأوّل، كما أنّ البائع بعد تملّكه يكون شرعاً قادراً على تسليمه.8.

ص: 272


1- في الصفحة السابقة.
2- حاشية الإيرواني: ج 1/138.

فتحصّل: أنّ ما ذكره الشيخ رحمه الله تامّ ، وإنْ كان ما أفاده من الفساد في الفرض الأوّل حتّى مع الإجازة بعد التملّك غير تامٍّ ، كما تقدّم.

وأمّا الصورة الثانية: فقد ذهب الشيخ رحمه الله إلى أنّها غير مشمولة لنصوص المنع، وهو كذلك، ثمّ أورد على الحكم بالصحّة فيها من جهة أنّ الإجازة لا متعلّق لها، لأنّ العقد كان إنشاءً للبيع عن المالك الأصلي، ولا معنى لإجازة هذا بعد خروجه عن ملكه.

فأجاب عنه: بأنّه يمكن دفعه بما اندفع به سابقاً الإشكال في عكس المسألة، بأن يكون البيع للمالك بما أنّه مالك بنحوٍ تكون الحيثيّة تقييديّة لا تعليليّة(1).

أقول: لكن يمكن أن يورد عليه بأنّه في عكس المسألة على مبنى الشيخ رحمه الله - من أنّ حقيقة البيع هي المعاوضة - لا يتصوّر بيع الغاصب لنفسه إلّابإيقاع البيع للمالك بما أنّه مالك، وادّعاء أنّه المالك، فلذا التزموا بذلك، وأمّا في المسألة فيمكن قصد كلّ من شخص المالك وذاته وعنوان المالك، وكلّ منهما يجتمع مع قصد المبادلة، فوقوع البيع للمالك بعد الشراء وإجازته يتوقّف على إثبات كون البيع لعنوان المالك، وحيثُ لا سبيل إليه، فلا وجه للحكم بالصحّة.

وأمّا بناءً على ما ذكرناه من أنّ البيع ليس معاوضة، بل حقيقته الإعطاء لا مجّاناً، فيمكن تصحيح هذه المعاملة للمالك الأوّل بإجازة المالك الثاني، وتصحيحها للثاني بالتقريب الذي ذكرناه في عكسها، فراجع(2).

وأمّا الصورة الثالثة: ففيها فرضان:ة.

ص: 273


1- المكاسب: ج 3/456.
2- الصفحة السابقة.

الأوّل: أنْ يكون ذلك الغير موكّلاً إيّاه في هذا البيع أو تحت ولايته.

الثاني: أنْ يكون أجنبيّاً عنه.

أمّا الفرض الأوّل: فالظاهر - كما قيل - اتّحاده مع الصورة الأُولى من حيث الحكم والمدرك، إذ البيع للنفس ثمّ الإشتراء أعمٌّ من البيع بالمباشرة أو بالتسبيب.

أقول: ولكن الإنصاف أنّ دعوى اختصاص نصوص المنع بالأولى، وعدم شمولها لهذا المورد قريبة جدّاً، فحكم الفرضين واحد، وهو أنّه لو باع له بانياً على مالكيّته على تقدير كون البيع معاوضة حقيقة أو بدونه - على تقدير عدمه - فإنْ أجاز المالك صحَّ للمالك على الأوّل، ولذلك الغير على الثاني، وإنْ ملكه الثالث فأجاز صحَّ له، وإنْ ملكه البائع فأجازه صحَّ له على التقدير الأوّل، وللبائع على الثاني.

حكم ما إذا لم يجز البائع بعد تملّكه

الثانية: ويدور البحث فيها عمّا لو لم يجز المالك على تقدير تملّكه.

قال الشيخ رحمه الله: (الظاهر بطلان البيع الأوّل)(1)، وقد استدلّ له:

1 - بالأخبار المتقدّمة، بدعوى شمولها لهذه المسألة يقيناً.

2 - وبما دلَّ على اعتبار طيب النفس في صحّة التجارة، وترتّب آثارهما، إذ المفروض أنّ المالك بعدما صار مالكاً لم يرض بكون ماله للمشتري الأوّل، والتزامه القبلي لم يكن إلّاالتزاماً بكون مال غيره له.

ولكن يرد عليه: أنّ ما ذكره من شمول الأخبار لهذه المسألة يقيناً، من غير أن يفصّل بين كون البيع منجّزاً أم معلّقاً على تملّك البائع أو إجازته، ينافي ما ذكره قبل

ص: 274


1- المكاسب: ج 3/457.

أسطر من دعوى اختصاصها بالفرض الأوّل.

اللَّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ مفروض كلامه في المقام هو البيع منجزاً.

أقول: والصحيح أن يستدلّ له بأنّه مع عدم الإجازة لا دليل على صحّته، لأنّ العمومات مختصّة بالبيع المستند إلى المالك، وفي المقام لا يكون مستنداً إليه، إذ المراد من الإستناد إلى المالك ليس قيام الإنشاء به، بل المراد إضافة البيع إلى المالك بما هو مالك، وهذا العقد قبل التملّك لم يكن مضافاً إليه لعدم التملّك، وبعده لا يستندُ إليه لعدم الإجازة.

وبعبارة أُخرى: الإضافة إلى المالك أمرٌ قصدي لا قهري، فكيف يلتزم بها بمجرّد التملّك.

أقول: قد استدلّ لعدم الحاجة إلى الإجازة:

1 - بما دلَّ على وجوب الوفاء بالعقود(1).

2 - وما دلَّ على وجوب الوفاء بالشرط(2).

بتقريب: أنّ العقد صادرٌ من هذا الشخص، والمانع عن لزوم الوفاء به قبل التملّك هو كون المبيع مال الغير، إذ لا معنى للوفاء بالإلتزام بمال الغير، وبعد زوال المانع وصيرورته مِلْكاً له، لا مانع من توجّه الأمر بالوفاء إليه.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله بجوابين:

الجواب الأوّل: إنّ دليل الوفاء قبل الملك لم يكن شاملاً له، فيستصحب ذلك).

ص: 275


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- الكافي: ج 5/404 ح 8، وسائل الشيعة: ج 15/30 كتاب النكاح أبواب المهور ب 20 ح 4 (27081).

بعده، والمقام مقام استصحاب حكم الخاص لا مقام الرجوع إلى حكم العام(1).

وفيه: إنّ عدم شمول العام له بالتقريب الذي ذكرناه، لم يكن من جهة خروج بعض الأفراد في بعض الأزمان بدليلٍ مخصّص كي يقال إنّه من موارد استصحاب حكم الخاص بعد ذلك الزمان، بل كان من جهة عدم تماميّة موضوع العام في نفسه، إذ لا وفاء للإلتزام بمال الغير، فالبائع قبل التملّك غير داخلٍ في موضوع العام، فيكون نظير من لم يكن مشمولاً لدليل وجوب إكرام العالم لعدم كونه عالماً، ثمّ صار كذلك، فهل يتوهّم فيه كونه مورداً لإستصحاب عدم وجوب الإكرام ؟! مع أنّه لو سُلّم كونه مشمولاً لدليل العام في نفسه، وخروجه بدليل مخصّص، بما أنّه يكون خارجاً عنه من الأوّل لا من الوسط، لا يكون مورداً لإستصحاب حكم الخاص، هذا مضافاً إلى ذلك كلّه ما حقّقناه في محلّه(2) من كون المرجع عموم العام في جميع الموارد، لا استصحاب حكم الخاص، وتمام الكلام في محلّه.

الجواب الثاني: معارضة العموم المذكور بعموم ما دلَّ على سلطنة الناس على أموالهم، وعدم حِلّها لغيرهم إلّاعن طيب النفس.

وقد يورد عليه: بأنّ هذا يتمّ لو قلنا بدخوله في ملكه وخروجه عن ملكه من دون رضاه، وأمّا إذا قلنا بدخوله في مِلْك المشتري الأوّل بمجرّد اشتراء البائع - من جهة أنّ البيع الأوّل مقتض لدخول المال في مِلْك المشتري، وكونه مِلْكاً للغير مانعٌ ، فإذا زال المانع أثر المقتضي أثره - فلا يدخل في ملكه بخروجه عن مِلْك مالكه الأصلي، فتأمّل.1.

ص: 276


1- المكاسب: ج 3/458.
2- زبدة الأُصول (ط. ق): ج 4/151.

فالصحيح أن يُجاب عنه: بأنّ العقد قبل التملّك غير مستندٍ إلى المالك الفعلي، وبعده لا إجازة منه كي يستند إليه، ومع عدم الإستناد لايكون مشمولاً للعمومات، وعليه فالأظهر عدم الصحّة ما لم يجز.

***

ص: 277

لو باع معتقداً كونه غير جائز التصرّف

المسألة الثالثة: ويدور البحث فيها عمّا لو باع معتقداً كونه غير جائز التصرّف، فبانَ أنّه جائز التصرّف.

أقول: إنّ عدم جواز التصرّف المنكشَف خلافه:

إمّا لعدم الولاية، أو لعدم الملك.

وعلى كلّ منهما: إمّا أن يبيع عن المالك، أو عن نفسه، فالصور أربع:

لو باع عن المالك فانكشف كونه وليّاً

الصورة الأُولى: أن يبيع عن المالك ثمّ ينكشف أنّه كان وليّاً.

أقول: اختار الشيخ رحمه الله في هذه الصورة صحّة البيع، وعدم توقّفها على الإجازة(1)، وتبعه غيره(2)، والوجه في ذلك أنّ المفروض كونه وليّاً، فلا يكون فضوليّاً، وسائر الشرائط من قبيل المصلحة موجودة، وعليه فالعقد يكون حينئذٍ صادراً من أهله وواقعاً في محلّه، فيشمله أدلّة النفوذ وإنْ لم يكن البائع عالماً به.

ودعوى: أنّ العلم بالولاية جزء الموضوع.

مندفعة: بكون ذلك خلاف ظاهر الأدلّة، من جهة أنّ الأحكام تدور مدار موضوعاتها واقعاً، وإناطتها بالعلم تحتاج إلى دليل مفقود.

ص: 278


1- المكاسب: ج 3/459.
2- كالإيرواني في حاشيته: ج 1/139، والهمداني في حاشيته: ص 236، والإصفهاني في حاشيته: ج 2/240، والنائيني في منية الطالب: ج 1/272-273.

وأورد السيّد قدس سره عليه: بأنّ العقد وإنْ صدر عمّن كان نافذ التصرّف، إلّاأنّ المفروض عدم علمه بذلك، فلعلّه لو كان عالماً بأنّه وليٌّ ما كان راضياً بهذا البيع الخاص، ومجرّد موافقته للمصلحة لا يوجب لزومه على الولي، إذ يمكن أنْ يكون هناك فردٌ آخر من البيع مثله في الصلاح، فيكون الإختيار في التعيين إليه، فلا فرق بين هذه الصورة وبين ما لو بانَ كونه مالكاً(1).

وبالجملة: يعتبر القصد إلى النقل والرضا به بعنوان أنّه مالُ المولّى عليه، والمفروض عدمه في الفرض.

وفيه: إنّ الدليل إنّما دلَّ على نفوذ تصرّفات الولي في مال المولّى عليه بما فيه صلاحه، ولم يدلّ دليلٌ على لزوم قصد عنوان المولّى عليه بهذا العنوان، والقطع بعدم رضاه بالمعاملة لو التفت إلى الولاية لا يضرّ إذا كان راضياً بالفعل - فضلاً عن احتماله - فإنّه من قبيل تخلّف الدّاعي.

وعليه، فالأظهر هي الصحّة، وعدم التوقّف على الإجازة لو باع لنفسه وانكشف كونه وليّاً.

لو باع لنفسه فانكشف كونه وليّاً

الصورة الثانية: أن يبيع لنفسه وينكشف كونه وليّاً.

وملخّص القول فيها: إنّه بناءً على ما أفاده الشيخ رحمه الله في بيع الغاصب لنفسه(2)

ص: 279


1- حاشية اليزدي: ج 1/168.
2- لاحظ المكاسب: ج 3/377.

- من أنّه إنّما يبيع للمالك بما هو مالكٌ تحقيقاً للمعاوضة - لابدّ من البناء على الصحّة، وعدم الوقوف على الإجازة.

أمّا الصحّة: فلأنّ البيع واقعٌ للمالك.

وأمّا عدم الوقوف على الإجازة: فلصدوره عن رضا من له الولاية على مثل هذا البيع، فلا حاجة إلى الإجازة.

أقول: وأمّا ما ذكره رحمه الله في وجه الإحتياج إليها من عدم الوقوع على الوجه المأذون فيه، فيرد عليه:

1 - أنّ غرضه إنْ كان عدم كونه مأذوناً فيه تكليفاً.

فيردّه: ما تقدّم من عدم كون بيع الفضولي لنفسه أو لغيره حراماً.

2 - وإنْ كان غرضه عدم كونه مأذوناً فيه وصفاً.

فيردّه: أنّ المفروض كونه وليّاً، ولعلّه إلى هذا أشار بقوله: (فتأمّل)(1).

وأمّا بناءً على ما ذكرناه من أنّ التنزيل لا يصحّح قصد المعاوضة، فلا يمكن تصحيح البيع في المقام، لأنّ الولي لا يتمكّن من تملّك مال المولّى عليه مجّاناً.

لو باع عن المالك فانكشف كونه مالكاً

الصورة الثالثة: أن يبيع عن المالك ثمّ ينكشف كونه مالكاً.

أقول: الكلام فيها يقع في جهتين:

الأُولى : في أنّه هل يصحّ أم لا؟.

ص: 280


1- المكاسب: ج 3/460.

الثانية: في أنّه على فرض الصحّة، هل يتوقّف على الإجازة أم لا؟.

أمّا الجهة الأُولى : فعن العلّامة(1) وولده(2) والشهيد(3) وغيرهم(4) القول بالبطلان فيما لو باع مال أبيه بظنّ حياته فبانَ ميّتاً، واستدلّ له بأمرين:

الأمر الأوّل: ما توضيحه أنّ البيع للأب بظنّ حياته بحسب الطبع، إنّما يكون بيعاً للأب، وحيثيّة الملكيّة تكون تعليليّة لا تقييديّة، فمن قَصَد البيع له لم يكن مالكاً ليقع له ولو بإجازته.

وبهذا البيان يظهر أنّ ما أورده الشيخ رحمه الله عليه بأنّ بيعه عن الأب إنّما يكون عنه من حيث أنّه مالك باعتقاده، وفي الحقيقة إنّما قَصَد البيع عن المالك، كما ذكروه فيما لو باع ملك غيره باعتقاد أنّه ملكه(5)، غير واردٍ.

إيراد المحقّق النائيني رحمه الله: أورد رحمه الله على الشيخ رحمه الله بأنّ (الحيثيّة التقييديّة لا يمكن الإلتزام بها في الموضوعات الشخصيّة؛ لأنّ الفرد الخارجي غيرقابل للتعدّد، فتقييده ممتنعٌ ، فالأب إذا كان هو الذي بيع عنه، فهو ملحوظ بخصوصيّته، وتوصيفه بأنّه المالك حيثيّة تعليليّة، والحيثيّة التعليليّة لاأثرلها لاتّحاد المُنشَأوالمجاز)(6).

وفيه: إنّ الأفعال الخارجيّة المتعلّقة بالموضوعات الشخصيّة على قسمين:

القسم الأوّل: الأفعال الحقيقيّة غير المتقوّمة بالقصد كالأكل.4.

ص: 281


1- نهاية الإحكام: ج 2/477.
2- إيضاح الفوائد: ج 1/420.
3- القواعد والفوائد: ج 2/238، ضمن القاعدة 238.
4- منهم المحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 4/76، وصاحب الجواهر فيها: ج 22/300، وغيرهم.
5- المكاسب: ج 3/460-461.
6- منية الطالب: ج 1/274.

القسم الثاني: الأفعال الاعتباريّة المتقوّمة به كالبيع والإئتمام.

والقسم الأوّل يتمّ فيه ما ذكره، من جهة أنّ تلك الأفعال لا تتعلّق بالعناوين، مثلاً الضرب لا يتعلّق بالعنوان، فهو إمّا أن يقع وإمّا لا يقع، ولا يعقل وقوعه على تقدير دون تقدير، وهذا لا يتمّ في القسم الثاني؛ لأنّ الأفعال التي تكون من هذا القبيل تتعلّق بالعناوين الكليّة.

وفي المقام يتصوّر وقوع البيع عن الأب على وجهين:

الأوّل: وقوعه عن المالك، بحيث تكون الحيثيّة تقييديّة.

الثاني: وقوعه عنه بنحو تكون الحيثيّة تعليليّة.

فما أفاده الشيخ رحمه الله لا يرد عليه ذلك، بل الصحيح أن يورد عليه بما ذكرناه.

نعم، هذا الإيراد واردٌ عليه على مسلكه رحمه الله، حيث أنّه في كتاب الصلاة في مبحث الجماعة، في مسألة من اقتدى بشخص فبانَ غيره ذهب إلى هذا المبنى(1)، ونحن أوردنا عليه بعين هذا الإيراد - راجع الجزء السادس من هذا الشرح -(2).

الأمر الثاني: أنّه لو تنزّلنا عن ذلك، وسلّمنا أنّ البيع يكون عن المالك بما هو مالك بحيث يعمّ نفسه، فحيث أنّه يعتقد إنطباقه على أبيه فَقَصَدَ الإطلاق، فهو في حكم التعليق، أي: (عن والدي) أو (عنّي إنْ كان ميّتاً)، وحيث أنّه يعتقد حياته فَقَصدُ الإطلاق في عقده يعدّ عبثاً ومنافياً للقَصد الجدّي المشترط وجوده في المعاملة.

أقول: وبهذا البيان ظهر اندفاع ماذكره الشيخ رحمه الله(3) وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله(4)3.

ص: 282


1- كتاب الصلاة للشيخ الأنصاري: ج 2/325.
2- فقه الصادق: ج 8/520 (إذا نوى الاقتداء بشخص..).
3- المكاسب: ج 3/461.
4- منية الطالب: ج 1/273.

وغيره(1)، من أنّ هذا الدليل لا يجتمع مع الدليل الأوّل من جهة أنّ أساس الأوّل وقوع البيع عن الأب، وأساس هذا وقوعه عن نفسه.

والحقّ في الجواب عن هذا الوجه: أنّ هذا النحو من التعليق - أي المعنويّ منه - لايضرّ بصحّة العقد، كما أنّ عدم القصد الجدّي بهذه الكيفيّة غير مضرّ بصحّة المعاملة - كماتقدّم في أوّل مسألة بيع الفضولي(2)، وعليه فالصحيح هو الوجه الأوّل.

فالمتحصّل: أنّه إنْ كان البيع عن المالك - أي عن الأب بما أنّه مالكٌ بحيث يكون المقصود هو المالك بحيث يعمّ نفسه - صحَّ البيع، وإنْ كان عن الأب كما هو كذلك بحسب الطبع، فالبيع باطلٌ لا يمكن تصحيحه.

وأمّا الجهة الثانية: فالمحكيّ عن غير واحدٍ لزوم العقد، وعدم الحاجة إلى إجازة مستأنفة(3)، لكن عن المحقّق والشهيد الثانييّن(4) وقوفه على الإجازة.

أقول: استدلّ للتوقّف على الإجازة بوجهين:

الوجه الأوّل: ما عن «جامع المقاصد» من: (أنّه لم يقصد إلى البيع الناقل للملك الآن، بل مع إجازة المالك)(5).

توضيحه: إنّ العاقل الملتفت إلى كون المال للغير، وأنّه لا ينتقل عن مِلكه قهراً، لامحالة يكون قصده للنقل مقيّداً بالإجازة، وحيث أنّ العقود تابعة للقصود، فلابدَّ وأن تقع الإجازة حتّى يقع النقل على الوجه المقصود.6.

ص: 283


1- كالسيّد اليزدي في حاشيته: ج 1/169، والمامقاني في غاية الآمال: ج 3/394.
2- تقدّم بيع الفضولي في أوّل هذا الجزء.
3- حكاه المحقّق التستري في المقابس ص 136 عن المحقّق في الشرائع، وظاهر الشهيد في الدروس.
4- جامع المقاصد: ج 4/76، المسالك: ج 6/51.
5- جامع المقاصد: ج 4/76.

وفيه أوّلاً: إنّ محلّ الكلام هو قصد البيع مع المالك لا عن شخص الغير، وإلّا بطل البيع كماتقدّم، وعليه وإنْسُلّم كون النقل موقوفاًعلى الإجازة، إلّاأنّه من جهة انطباق عنوان المالك علينفسه واقعاً، يقع النقل عنه بقصده، فلاحاجة إلى إجازته.

وبعبارة أُخرى : بما أنّه يبيع عن المالك عن قصدٍ إليه، والمفروض أنّه هو المالك، فلا حاجة إلى الإجازة، ولعلّه إليه يرجع ما ذكره المحقّق الثاني بقوله: (إلّا أن يقال: إنّ قصده إلى أصل البيع كافٍ )(1).

وثانياً: إنّ حقيقة البيع هي النقل في نظر الناقل، لا النقل في نظر الشارع، فالإلتفات إلى أنّه لا يمكن أن ينتقل إليه مال الغير قهراً، غير منافٍ لقصد النقل الذي به قوام البيع.

وبالجملة: الإنتقال شرعاً من آثار البيع، ولا يلزم قصده حتّى يقال إنّه موقوف على الإجازة، وإلى هذا نظر الشيخ رحمه الله فيما ذكره في مقام الجواب(2).

أقول: وأمّا ما ذكره الشيخ رحمه الله بقوله: (مع أنّ عدم القصد المذكور لا يقدح بناء على الكشف)(3).

بيان مراده: إنّ عدم إمكان قصد النقل فعلاً يناسب القول بالنقل، فإنّ الإنتقال إنّما يكون من حين الإجازة، بخلاف القول بالكشف، فإنّ الإنتقال فيه فعلي، فيمكن قصده حال النقل.

فيرد عليه: أنّ المدّعى هو وقوف النقل على الإجازة لا تأخّره عنها، وهذا لا3.

ص: 284


1- جامع المقاصد: ج 4/76.
2- المكاسب: ج 3/462.
3- المكاسب: ج 3/462-463.

فرق فيه بين القول بالنقل والكشف، فإنّه على الكشف أيضاً يكون النقل موقوفاً على الإجازة.

الوجه الثاني: ما أفاده الشيخ رحمه الله، من أنّ أكثر أدلّة اشتراط الإجازة في بيع الفضولي جارية هنا(1)، ومراده بها أدلّة اعتبار التراضي وطيب النفس كما يصرّح به بعد ذلك(2).

تقريب ما أفاده: إنّها تدلّ على اعتبار رضا المالك فى التصرّف فى ماله بما هو ماله لا ذات ما هو ماله، ولذا لو قدّم إلى غيره طعاماً بتخيّل أنّه لغيره، لم يجز له التصرّف فيه لو علم بأنّه له، وفي المقام بما أنّ البائع إنّما رضي بنقل مالٍ معيّن اتّفق كونه مِلْكاً له في الواقع، ولم يرض بنقله بما هو ماله، فيحتاج إلى الإجازة لذلك.

وفيه: أنّه إنْ كان البيع عن شخص مَنْ يتخيّل كونه مالكاً، لزم بطلان البيع، وعدم إمكان تصحيحه ولو بالإجازة، وإنْ كان عن المالك بنحوٍ يعمّ نفسه، فالرضا بنقل ماله بعنوان أنّه ماله موجود، فإمّا يكون باطلاً، أو يكون لازماً غير متوقّفٍ على الإجازة.

وبعبارة أُخرى: لا ريب في كونه راضياً ببيع مال نفسه:

فإنْ كان البيع بيعاً عن الأب بشخصه، بطل البيع لعدم المورد للإجازة.

وإنْ كان بيعاً عن المالك بما هو مالك، بنحوٍ يعمّ نفسه، كان الرضا متعلّقاً بنقل مال المالك الواقعي، وإنْ كان منطبقاً على نفسه، ومعه لا حاجة إلى الإجازة لصدور العقد عنه مباشرة وعن الرضا، وهو أولى من إذنه وإجازته.3.

ص: 285


1- المكاسب: ج 4/463.
2- المكاسب: ج 4/463.

أقول: ولعلّه إلى هذا يرجع ما استدلّ به لعدم الإحتياج إلى الإجازة، بما نقله الشيخ رحمه الله بقوله: (ولأنّ قصده إلى نقل مال نفسه إنْ حصل هنا بمجرّد القصد...

الخ)(1)، فلا يرد عليه ما ذكره الشيخ.

قد يقال: إنّ هذا الحقّ ثابتٌ للمالك من باب خيار الفسخ، فعقده متزلزلٌ من حيث البقاء لا من باب الإجازة، فيكون متزلزلاً من حيث الحدوث معلّلاً بقاعدة نفي الضرر(1).

والجواب: هو الذي أجاب به الشيخ الأعظم رحمه الله بما حاصله يرجع إلى أمرين:

أحدهما: إنّه لا يصحّ الرجوع إلى قاعدة نفي الضرر التي هي من الأدلّة الثانويّة، بعد كون اعتبار الرضا وطيب النفس ممّا تقتضيه الأدلّة الأوليّة.

وبعبارة أُخرى: إنّ مقتضى الأدلّة الأولية توقّف الإنتقال على الرضا، فمع فقده لا يتحقّق الإنتقال، ومع عدمه كيف يحكم بثبوت الخيار الذي هو فرع الإنتقال.

الثاني: إنّ الضرر المترتّب على المعاملة:

تارةً : يكون ضرراً ماليّاً كما في موارد خياري العيب والغبن.

وأُخرى : يكون ضرراً سلطانيّاً، أي يكون موجباً للنقص في سلطانه عليماله.

وفي الأوّل يتدارك الضرر بالخيار، وأمّا في الثاني فالتحفّظ عليه إنّما يكون بالتحفّظ على سلطانه على ماله، وسدّ بابه إنّما هو بالإلتزام بعدم خروجه عن مِلْكه بلا رضاه، لا خروجه عند وتداركه بالخيار، إذ أصل الإنتقال ولو متزلزلاً ضررٌ عليسلطنة المالك في كلّ الأحوال، ومثل هذا الضرر يوجب رفع الصحّة لااللّزوم(3).

أقول: وبهذا البيان يظهر أنّ ما أورده المحقّق النائيني رحمه الله على الشيخ بقوله:8.

ص: 286


1- قاله المحقّق التستري في مقابس الأنوار ص 137، وتبعه صاحب الجواهر في الجواهر: ج 22/298.

(إنّ الصحّة ليست أمراً مجعولاً حتّى ترتفع بها، بل هي منتزعة من تحقّق الشرائط، فلو دلَّ دليلٌ على اعتبار قيدٍ في ناحية الأسباب أو المسبّبات، فنفس هذا الدليل كاف لإثبات هذا القيد، وإلّا فلا يمكن إثبات قيدٍ بقاعدة الضرر ونحوها؛ لأنّها حاكمة على الأحكام الثابتة، ولا يمكن إثبات حكمٍ بها لولا جعله لزم منه الضرر)(1).

في غير محلّه؛ لأنّ دليل نفي الضرر يرفع إمضاء الشارع للعقد الذي يلزم منه هذا الضرر، ولا محذور في ذلك.

قال الشيخ رحمه الله: (ثمّ إنّ الحكم بالصحّة في هذه الصورة غير متوقّفة على القول بصحّة عقد الفضولي... الخ)(2).

محصّل ما ذكره: أنّ الأدلّة الأربعة التي أقاموها على بطلان بيع الفضولي من الكتاب والسُنّة والإجماع والعقل - غير الأخير منها - لا تشمل هذا العقد، لأنّه صدر ممّن بيده أمر المال.

نعم، لو قلنا بفساد عقد الفضولي من باب حكم العقل بقبح التصرّف في مال الغير، يتّجه البطلان في المقام.

وأورد عليه المحقّق النائيني: بأنّ حكم العقل بقبح التصرّف فيما هو مال الغير واقعاًبمناط واقعي، وحكمه بقبح التصرّف فيما علم أنّه مالُ الغير طريقي، فالحكم الشرعي المستكشف من الأوّل من باب الملازمة حكمٌ واقعي، والحكم الشرعي6.

ص: 287


1- منية الطالب: ج 1/276.
2- المكاسب: ج 3/465-466.

المستفادمن الثاني طريقي، فإذا انكشف مخالفة الإعتقادللواقع لايكون إلّا تجرّياً(1).

وفيه: إنّ مورد استثناء الشيخ رحمه الله هو حكم العقل بقبح التصرّف، حيث يقول:

(لو كان المدرك هو هذا الحكم من العقل، اتّجه الحكم بالفساد هنا، لأنّ موضوع حكم العقل بالقبح ليس هو الواقع، بل ما اعتقد أنّه مال الغير)، وعليه فكون الحكم المستفاد من هذا الحكم في بعض الموارد واقعيّاً وفي آخر طريقيّاً، أجنبيٌ عن ما هو محلّ استثناء الشيخ.

لو باع لنفسه فانكشف أنّه له

الصورة الرابعة: أن يبيع لنفسه باعتقاد أنّه لغيره فانكشف أنّه له:

فتارهً : يبني على أنّه ماله، وكان في اعتبار العقلاء أيضاً كذلك كما في ثمن الخمر، أم لم يكن كما في المال الحاصل من القمار.

وأُخرى: لا يبني على ذلك، بل يبيع بأن يُخرج المثمن عن ملك ذلك الغير، ويُدخل ثمنه في ملكه.

أمّا في الصورة الأُولى : فالأظهر الصحّة، وعدم الوقوف على الإجازة، لأنّه باعه عن الرضا بعنوان أنّه ماله، فالعقد تامٌّ من حيث الأركان حتّى من ناحية الرضا بالإنتقال بعنوان أنّه ماله.

وعليه، فما أفاده الشيخ رحمه الله بقوله: (وفي عدم الوقوف هنا وجهٌ لا يجري في الثالثة)(2) متينٌ ، بل هو وجهٌ وجيه.

ص: 288


1- منية الطالب: ج 1/276.
2- المكاسب: ج 3/466.

وأمّا في الصورة الثانية: فدعوى اعتبار الإجازة بناءً على اعتبار رضا البائع بانتقال ماله بعنوان أنّه ماله في البيع، في محلّها، لأنّه إنّما رضي بانتقال ما يعتقد أنّه مال الغير، ولم يرض بانتقال ماله بهذا العنوان.

***

ص: 289

القول في المجاز

أقول: يدور البحث في المقام عن المجاز، وتمام الكلام فيه يتحقّق ببيان أُمور:

الأمر الأوّل: قال الشيخ رحمه الله: (يشترط فيه كونه جامعاً لجميع الشروط المعتبرة في تأثيره عدا رضا المالك)(1).

أقول: لا كلام في لزوم وجود الشروط المعتبرة في إنشاء العقد، وأمّا غيرها من الشروط من شرائط المتعاقدين والعوضين، فهي على أقسام:

القسم الأوّل: ما يعتبر وجوده حال العقد، ككون العاقد ممّن يصحّ منه المعاقدة والمعاهدة، إمّا عقلاً ككونه حيّاً، أو شرعاً ككونه عاقلاً.

القسم الثاني: ما يعتبر وجوده في من زمام أمر العقد بيده، سواء كان هو المالك أو وليّ التصرّف، كالقدرة على التسليم، فإنّ دليل اعتبارها إنّما يدلّ على ذلك، ولذا لو كان مجري الصيغة غير قادر على التسليم، وكان البيع للصبي غير القادر، ولكن كان وليّه قادراً صحَّ البيع.

القسم الثالث: ما يعتبر في المالك، ككون المالك للمصحف مسلماً.

أمّا القسم الأوّل: فهو يعتبر وجوده حين العقد، ولا يخفى وجهه.

وأمّا القسم الثاني: فلايعتبر، بل يعتبر وجوده حين الإجازة حتّى على الكشف، فإنّه إنّما يكون في الملكيّة لا في انتساب العقد إلى المجيز - وهو يعتبر وجوده حين صيرورة العقد عقد من بيده زمام العقد - وهو إنّما يكون من حين الإجازة.

ص: 290


1- المكاسب: ج 3/467.

وأمّا القسم الثالث: فعلى القول بالكشف يعتبر وجوده حين العقد، لأنّه أوّل زمان حصول الملكيّة، وأمّا على القول بالنقل فلا يعتبر ذلك.

أقول: استدلّ الشيخ قدس سره لإعتبار الشروط فيه بما محصّله:

إنّ العقد الإنشائي إمّا تمام المسبّب أو جزءه، وعلى كلّ تقدير ما ثبت اعتباره في العقد يعتبر فيه لنفس دليل الإعتبار، بل ما دلَّ دليله على اعتباره في العقد التامّ دون جزئه يعتبر فيه أيضاً، لأنّ الإجازة ليست جزء العقد، بل هي شرط تأثيره، وتمام العقد إنّما هو ما وقع بين الفضولي والأصيل. ولو سُلّم كونها جزء فإنّما هي جزء السبب المملّك لا جزء البيع الإنشائي، وظاهر الأدلّة اعتبار ذلك في البيع الإنشائي دون السبب المملّك(1).

ولكن يرد عليه: - مضافاً إلى ما تقدّم عند بيان ما هو الحقّ عندنا - أنّ غاية ما يثبت بذلك اعتبار العلم بالعوضين حين العقد، أمّا أنّه هل يعتبر كون المجري للصيغة كذلك، أم يعتبر كون المجيز كذلك فلا يثبت بذلك، فلابدَّ من الرجوع في ذلك إلى وجه آخر، والظاهر هو الأوّل، فإنّ المجيز إنّما ينفذ العقد الواقع الصحيح وينسبه إلى نفسه، فلابدَّ وأنْ يكون العقد مع قطع النظر عن ذلك صحيحاً، ومن جملة ما يعتبر في الصحّة العلم بالعوضين.

أقول: وبهذا يظهر الفرق بين الإذن والإجازة، فإنّ العقد في الأوّل من حين تحقّقه يستند إلى الآذن، فيكفي كونه عالماً بالعوضين، بخلاف صورة الإجازة.

فرع: هل يشترط بقاء الشرائط المعتبرة حين العقد إلى زمان الإجازة،7.

ص: 291


1- المكاسب: ج 3/467.

أم لا؟ وجهان:

يقع الكلام في موردين:

المورد الأوّل: في أنّه هل يعتبر وجود الشرائط حين الإجازة أم لا؟

الحقّ أنّ شروط العقد لا معنى لإعتبارها حين الإجازة إلّاعلى القول بأنّها بيعٌ مستأنف - أي إيجابٌ متأخّر - أو قبولٌ ، وأمّا غيرها من الشروط:

فما كان منها معتبراً فيمن بيده زمام العقد، فإنّه يعتبر وجودها حينها، لأنّه حين الإجازة يستند العقد إلى المجيز، ويصير العقد عقده.

وما كان منها معتبراً في حال العقد، فإنّه لا يعتبر وجودها حين الإجازة.

وما كان منها معتبراً في المالك، فإنّه يفصّل فيها بين القول بالكشف والنقل، وعلى الأوّل لا يعتبر وعلى الثاني يعتبر كما تقدّم.

المورد الثاني: في أنّه هل يعتبر استمرار وجود الشرائط من حين العقد إلى حين الإجازة، أم لا؟

الأظهر عدم الإعتبار، ويظهر وجهه ممّا قدّمناه.

اعتبار كون المجاز معلوماً تفصيلاً

الأمر الثاني: هل يشترط في المجاز كونه معلوماً للمجيز بالتفصيل أم لا؟

وجهان، وتنقيح القول عنه يتحقّق بالبحث في مقامين:

الأوّل: في أنّه هل يعتبر العلم التفصيلي بالمُجاز من حيث العوضين ونوع العقد من البيع والهبة وغيرهما، أم لا يعتبر ذلك ؟.

ص: 292

الثاني: في أنّه هل يعتبر العلم بوقوع العقد، أم يكفي احتمال وقوعه ؟.

أمّا المقام الأوّل: فقد استدلّ لإعتبار العلم بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «المكاسب» من أنّ الإجازة أحد ركني العقد، إذ المعاهدة الحقيقيّة إنّما تحصل وتتحقّق من المالكين بعد الإجازة، فيشبه القبول مع عدم تعيين الإيجاب عند القابل(1).

وفيه: إنّ دليل اعتبار العلم بالعوضين ونوع العقد لو دلَّ على اعتباره في البيع والعقد، وقلنا إنّ ظاهره اعتبار ذلك في البيع والعقد الإنشائي - الذي هو السبب للمعاقدة الحقيقيّة - فلا وجه لإعتباره في الإجازة، لأن مجرّد وجود الشبه مع القبول لا يوجب الإلحاق في الحكم، وإلّا فالإذن السابق أيضاً كذلك، مع أنّه لا يعتبر فيه ذلك.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله، من: (أنّ الإجازة لا معنى لتعلّقها بالعقد على نحو الإطلاق، لوقوع عقد الفضولي على شيء خاص، وهو لو كان مجهولاً عند المجيز، فلا تشملها الأدلّة الدالّة على نفوذ الإجازة، بل حكمها حكم تعلّق الوكالة بالأمر المبهم التي لا اعتبار بها عند العقلاء)(2).

وفيه أوّلاً: أنّه يمكن الإطلاق في الإجازة، بمعنى تعلّقها بما وقع أيّاً ما كان، وليس ذلك من قبيل الأمر المبهم الذي لا واقع له.

وثانياً: أنّه لو سُلّم عدم كون تعلّقها بالعقد على نحو الإطلاق، غاية الأمر كونها من قبيل إجازة المجهول، وهي كالإذن في المجهول لا إشكال فيها.8.

ص: 293


1- المكاسب: ج 3/468.
2- منية الطالب: ج 1/278.

وبالجملة: لاتأثير لتوجّه الإذن إلى المبهم، لأنّ المبهم ممّا لاواقعٌ ، وكذلك إجازته، وأمّا الإذن في المجهول فالأظهر عدم المحذور فيه، وكذلك الإجازة المتعلّقة به.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله أيضاً، من أنّ الإجازة مع عدم العلم بالمجاز (تندرج في عموم نهي النبيّ صلى الله عليه و آله عن الغَرر)(1).

وفيه أوّلاً: إنّ الغرر المنفيّ مختصٌّ بالبيع.

وثانياً: على فرض العموم، لا إشكال في عدم كون التوكيل والإذن مشمولين للمنفيّ ، إذ لا ريب في عدم وجوب ذكر جميع الخصوصيّات والتعيين من جميع الجهات فيهما، وكذلك الإجازة.

الوجه الرابع: أنّ البيع إنّما ينتسب إلى المجيز من حين الإجازة، ففي الحقيقة هي تكون معاملة وبيعاً، فيعتبر أن لا تكون غرريّة.

وفيه: إنّ المنفي هو البيع الغرري، وهو ظاهرٌ في الإنشائي منه كما تقدّم.

وعليه، فالأظهر أنّه لا يعتبر العلم بالمجاز.

وأمّا المقام الثاني: فقد استدلّ لإعتبار العلم بوجهين:

الوجه الأوّل: ما في «المكاسب» من أنّ الإجازة أحد ركني العقد، فلا يصحّ التعليق فيها(2).

وبعبارة أُخرى: إنّها في معناه، فالتعليق مبطلٌ لها.

وفيه: إنّ مدرك مبطليّة التعليق هو الإجماع، والمتيقّن منه التعليق في البيع الإنشائي، ولا يشمل البيع الحقيقى وما في معنى البيع.8.

ص: 294


1- منية الطالب: ج 1/278.
2- المكاسب: ج 3/468.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله، من (أنّ بها يتحقّق الإستناد، وهي من الإيقاعات، والإيقاع لا يقبل التعليق)(1).

وفيه: إنّ الإيقاع كالعقد قابلٌ للتعليق بأن يكون المعلّق هو المُنشَأ لا الإنشاء، ولا دليل على بطلانه به.

مع أنّه لو سُلّم ذلك، فإنّما هو في التعليق على غير القيود التي يتوقّف عليها، وإلّا فلا دليل على البطلان، والمقام من هذا القبيل لتوقّف الإجازة على صدور العقد.

وبالجملة: فالأظهر عدم اعتبار العلم به، فيكفي مجرّد احتماله، فيجيزه على تقدير وقوعه.

***8.

ص: 295


1- منية الطالب: ج 1/278.

حكم العقود المترتّبة

الأمر الثالث: المجاز على قسمين:

1 - إمّا العقد الواقع على نفس مال الغير.

2 - وإمّا العقد الواقع على عوضه.

والأصحاب حكموا بأنّ إجازة العقد الواقع على مال الغير توجب صحّته وصحّة ما بعده من العقود، وإجازة العقد الواقع على بدله توجب صحّته وصحّة ما قبله، ومحلّ كلامهم إنّما هو العقود الطوليّة من حيث الترتّب الإنتقالي لا الزماني، فلو باع العين شخص واحد من متعدّد فضولاً، كانت العقود عرضيّة من حيث الصحّة لا طوليّة وخارجة عمّا هو محلّ الكلام.

وتعاقبها إمّا أنْ يكون بوقوعها من أشخاص متعدّدة، وإمّا بتعاقبها على أثمان عديدة.

ثمّ إنّ المراد من العوض في كلماتهم - على ما صرّح به الشيخ رحمه الله(1) - هو الثمن الكلّي.

وبعبارة أُخرى: إنّ محلّ البحث هي صورة ترامي الأثمان لا ورود العقود على العوض الشخصي.

أقول: ثمّ إنّ العقود المتعدّدة:

1 - إمّا واقعة على مال الغير.

ص: 296


1- المكاسب: ج 3/471.

2 - أو أنّها واقعة على عوضه، بأن يكون العوض في كلّ عقدٍمعوّضاً في الآخر.

وعلى كلّ تقدير، ربما يكون العاقد هو المشتري في كلّ طبقة، أو غيره.

ولا كلام في أنّ للمالك إجازة أيّ منها شاء، إنّما الكلام في أنّه إذا أجاز عقداً هل يوجب ذلك صحّة غيره أم لا؟.

وتنقيح القول فيه: إنّ المجاز:

1 - إمّا أوّل عقدٍ واقع على مال المالك.

2 - أو آخر عقدٍ واقع عليه.

3 - أو وسطٌ واقع بين سابقٍ ولاحق واقعين على مورد عقد الوسط.

والمراد من (المورد) أعمّ من الثمن والمثمن في العقد الوسط.

وأيضاً: المراد من (الوقوع على المورد):

أعمّ من كون المورد في ذلك العقد ثمناً أو مثمناً.

أو واردين على بدل مورده.

أو كون السابق وارداً علي مورده واللّاحق وارداً عليبدل مورده، أو بالعكس.

فهذه ست صور للعقود الواردة على المعوّض.

وأمّا العقود الواقعة على العوض: فهي أيضاً كذلك، لأنّ المجاز:

إمّا أنْ يكون أوّل عقدٍ واقع عليه، أو آخر عقد، أو وسطٌ بين سابق ولاحق واردين على مورده، أو بدل مورده، أو يكون السابق على المورد واللّاحق على بدله، أو بالعكس.

وعليه، فمجموع الصور اثنتا عشرة، ستٌللفرض الأوّل، وستٌللفرض الثاني.

ص: 297

وجمع الشيخ رحمه الله(1) الجميع فيما إذا باع عبدُ المالك بفرسٍ ، ثمّ باعه المشتري بكتابٍ ، ثمّ باعه الثالث بدينارٍ، وباع البائع الفرسَ بدرهم، وباع الثالثُ الدينار بجاريةٍ ، وباع بائعُ الفرس الدّرهم برغيفٍ ، ثمّ بيع الدرهم بحمارٍ، وبيع الرغيف بعسل، وجامعيّة هذا المثال لجميع الصور يظهر من التصوير التالي، تأمّل تعرف.

صور العقود الواقعة على المعوّض

بيع العبد بفرس.

بيع الفرس بدرهم.

بيع العبد بكتاب.

بيع العبد بدينار.

بيع الدينار بجارية.

1 - أوّل عقد واقعٍ على المعوّض: بيع العبد بفرس.

2 - آخر عقد واقعٍ عليه: بيع العبد بدينار.

3 - الوسط الواقع عليه - الواقع بين الواقعين على مورده -: بيع العبد بكتابٍ الواقع بين بيعه بفرس وبيعه بدينار.

4 - الوسط الواقع بين واقعين على بدل مورده: بيع العبد بكتابٍ ، الواقع بين بيع الفرس الذي هو بدلٌ للعبد في العقد الأوّل بدرهم، وبين بيع الدينار الذي هو البدل للعبد في العقد الآخر بجارية.

5 و 6 - وبذلك ظهر الواقع بين المختلفين.

ص: 298


1- المكاسب: ج 3/469.

صور العقود الواقعة على العوض

بيع الفرس بدرهم.

بيع العبد بفرس.

بيع الرغيف بعسل.

1 - أوّل عقدٍ واقعٍ على العوض: بيع الفرس بدرهم.

2 - آخر عقدٍ واقعٍ عليه: بيع الرغيف بعسل.

3 - الوسط الواقع بين واقعين على مورده: بيع الدرهم برغيفٍ الواقع بين بيع الفرس بدرهم، وبيع الدرهم بحمار.

4 - الوسطالواقع بين سابق واقع على بدل مورده، ولاحقٍ واقعٍ على مورده:

بيع الدرهم برغيفٍ ، الواقع بين بيع العبد بفرس، وبيع الدرهم بحمار.

5 - الوسط الواقع بين واقعين على بدل مورده: بيع الدرهم بحمار الواقع بين بيع العبد بفرس، وبيع الرغيف بعسل.

6 - الوسط الواقع بين سابقٍ واقعٍ على مورده وهو بيع الدرهم برغيف، ولاحقٍواقعٍ عليبدل مورده، وهو بيع الرغيف بعسل، وهو أيضاًبيع الدرهم بحمار.

هذا كلّه في تطبيق المثال الذي ذكره الشيخ رحمه الله على جميع الصور.

أقول: ثمّ إنّه يقع الكلام في بيان حكم العقود المترتّبة، وضابطها أنّ الإجازة كما توجب صحّة المجاز، كذلك توجب صحّة ما قبله ممّا يتوقّف عليه، وما بعده ممّا يكون من أحكامه.

ص: 299

وبعبارة أُخرى : توجب صحّة ما يكون في سلسلة علله ومعلوله.

توضيح ذلك بنحوٍ يظهر حكم جميع الصور، يقتضي البحث في مواضع:

الموضع الأوّل: في العقود الواقعة على شخص مال المالك، وما سبقه ولحقه من العقود الواقعة على العوض، وبيان أنّه لو أجاز المالك العقد الواقع على ماله - أي عقد - يصحّ بهذه الإجازة، ومثال الجامع لذلك:

بيع العبد بفرس، ثمّ بيع الفرس بدرهم، ثمّ بيع العبد بكتاب، ثمّ بيع الكتاب بالحنطة، ثمّ بيع العبد بدينار، ثمّ بيع الدينار بجارية.

الموضع الثاني: في العقود الواقعة على الثمن الشخصى، وهوالثمن الواقع عوضاًفي البيع الأوّل، وهو الفرس وما سبقه ولحقه من العقودالواقعة على عوضه، ومثال ذلك:

بيع الفرس بدرهم، ثمّ بيع الدرهم بعَسل، ثمّ بيع الفَرس بحمار، ثمّ بيع الحمار بجارية، ثمّ بيع الفَرس بالدّار، ثمّ بيع الدار بالكتاب.

الموضع الثالث: في العقود الواقعة على الثمن الكلّي، وما سبقه ولحقه من العقود، ومثال ذلك:

بيع العبد بفرس، ثمّ بيع صاحب الفرس العبدَ بكتاب، ثمّ بيع الفرس بدرهم، ثمّ بيع صاحب الدّرهم الفرسَ بدينار، ثمّ بيع الدّرهم برغيف، ثمّ بيع صاحبِ الرّغيف الدرهمَ بحمار، ثمّ بيع الرغيف بعَسل.

أقول: ثمّ في جميع هذه المواضع:

تارةً : يُجيز المالك أوّل العقود.

وأُخرى : يجيز المالك آخرها.

ص: 300

وثالثة: يجيز المالك الوسط منها.

فإذا بيّنا حكم إجازة الوسط، وتبيّن حكمه وما سبقه ولحقه يظهر حكم إجازة العقد الأوّل والآخر، فاقول مستعيناً باللّه تعالى :

في الموضع الأوّل: لو أجاز العقد الوسط منها، وهو بيع العبد بكتاب، يكون ذلك فسخاً بالنسبة إلى ما قبله، سواءٌ أكان واقعاً على نفس مال المالك وهو بيع العبد بفرس، أو واقعاً على عوضه في ذلك العقد وهو بيع الفرس بدرهم، بمعنى أنّه يفوّت بذلك محلّ الإجازة بالنسبة إلى المالك، للخروج عن تحت سلطنته وعدم توقّف صحّة المجاز عليهما.

نعم، لمن انتقل إليه العبد إجازة بيع العبد بفرس، بناءً على عدم اعتبار كون المجيز حال العقد مالكاً على القول بالنقل، ومطلقاً بناءً على القول بالكشف، وله إجازة بيع الفرس بدرهم بعد ذلك لإنتقال الفرس إليه.

ولو أجاز أوّلاً بيع الفرس يلزم بيع العبد بلزومه لتوقفه عليه، ولو لم يجز من انتقل إليه المال بيعه، ولا بيع عوضه، فلمالك الفرس حينئذٍ إجازة بيعه بدرهم.

وأمّا بالقياس إلى ما بعده من العقود، سواءٌ أكان واقعاً على نفس هذا المال - وهوبيع العبد بدينار - أو على عوضه في العقداللّاحق - وهو بيع الدينار بجارية -:

فعلى القول بالكشف: تلزم تلك العقود بهذه الإجازة، لوقوعهافي ملك ملّاكها.

وأمّا بناءً على القول بالنقل: فيبتني على المسألة المتقدّمة، وهي عدم اشتراط الملكيّة حين العقد.

وأمّا الواقع على عوض هذاالمجاز - وهو بيع الكتاب بحنطة - فلا يلزم بلزوم

ص: 301

هذا العقد، لأنّ لزوم هذا يصير سبباً لدخول الكتاب في مِلْكه، فله إجازة العقد الواقع على كتابه.

وبالجملة: فالقول بأنّ العقود اللّاحقة تلزم بلزوم هذا العقد بإطلاقه غير تامّ .

وأمّا الموضع الثاني: فالحكم فيه هو الحكم في الموضع الأوّل، إلّافي مورد واحد.

توضيح ذلك: إنّه إذا تعلّقت الإجازه بالعقد الوسط - وهو بيع الفرس بحمار - فبالنسبة إلى العقود السابقة الواقعة على نفس الثمن - وهو بيع الفرس بدرهم - وعلى بدله - وهو بيع الدرهم بالعَسل - يكون فسخاً بالتقريب المتقدّم، وأمّا العقود اللّاحقة الواقعة على نفس الثمن - وهو بيع الفَرس بالدّار - وعلى عوضه في العقد اللّاحق - وهو بيع الدار بكتاب - فتصحّ بصحّة هذا العقد على القول بالكشف، أو على القول بعدم اشتراط الملكيّة بناءً على النقل.

وأمّا ما وقع على عوضه في المجاز - وهو بيع الحمار بجارية - فلا يصحّ بإجازة ذلك لما تقدّم.

هذا فيما يشترك فيه الموضعان.

وأمّا ما يختصّ به هذا الموضع، وهو أنّ الإجازة في هذا توجبُ صحّة ما تقدّمه الواقع على نفس مال المالك أوّلاً وهو بيع العبد بفرس، وإلّا لم يصبح الفرس مِلْكاً له حتّى يجيز العقد الواقع عليه.

وعليه، فظهر أنّه لا وجه للقول بأنّها توجب فسخ العقود اللّاحقة.

وأمّا الموضع الثالث: فلو أجاز العقد الوسط - وهو بيع الدرهم برغيف - فبالنسبة إلى ما بعده من العقود يجب التفصيل بين ما وقع على ما انتقل عنه، وما

ص: 302

وقع على ما انتقل إليه، فالبيع الواقع على ما انتقل إليه - وهو بيع الرغيف بعسل - لا يصحّ بهذه الإجازة، لأنّه يوجب دخول المعوّض في مِلْكه، فله إجازة العقد الواقع عليه أيضاً.

وأمّا الواقع على ماانتقل عنه - وهوبيع الدرهم بحمار - فيلزم بلزوم هذا العقد على القول بالكشف، أو عدم اعتبار مالكيّة المجيز حين العقد على القول بالنقل.

وأمّا بالنسبة إلى ما قبله من العقود: فهي توجب صحّة جميعها، أعمّ من الواقع على المعوّض، أو الثمن الكلّي، أو الشخصي على القول بالكشف، أو عدم اشتراط الملكيّة على النقل.

أمّا الأوّل: فلأنّه إذا صحَّ بيع العبد بفرسٍ ، صحّ بيع صاحب الفرس الذي باع ماله بكتابٍ .

وأمّا الثاني: فلأنّ صحّة العقد المجاز تتوقّف على صيرورة المبيع مِلْكاً له، إذ لو لم يصر الدّرهم مِلْكاً له، كيف يجيز بيعه برغيف، وصحّة بيع الفرس بدرهم أيضاً تتوقّف على صحّة بيع العبد بفرس.

وأمّا الثالث: فلأنّه إذا صحَّ بيع الفرس بدرهم كما عرفت، فصاحب الدرهم يصبح مالكاً للفرس ممّا يوجب وقوع بيعه الفرس بدينار في ملكه.

أقول: ثمّ إنّه من جميع ما ذكرناه ظهر:

1 - حكم جميع الفروض حتّى المختلفة، مثل ما لوفرض وقوع العقد على الثمن الشخصي مرّات، ثمّوقوع العقد على الثمن الكلّي أو العكس، أوغيرذلك من الفروض.

2 - كما أنّه ظهر ما في إطلاق كلام الشهيد قدس سره القائل بأنّ العقود الواقعة على

ص: 303

المبيع لو أجاز المالك الوسط منها صحَّ وما بعده، وفي الثمن ينعكس الأمر(1).

3 - كما أنّه ظهر ما في إطلاق كلام الشيخ رحمه الله القائل بأنّه لو وقعت العقود من أشخاص متعدّدة كانت إجازة الوسط فسخاً لما قبله، وإجازةً لما بعده، وإنْ وقعت من شخصٍ واحد انعكس الأمر(2).

إذ يرد عليه: أنّه لو فرضنا العقود المترتّبة على المبيع من شخص واحد، مع ذلك تكون إجازة الوسط فسخاً لما قبله كما عرفت، وكذلك لو فرضنا ترتّب العقود في الثمن الكلّي من أشخاص متعدّدة تكون إجازة لما قبله.

وبالجملة: فالأولى في بيان الضابط ما ذكرناه، فافهم واغتنم.

حكم تتابع العقود في صورة علم المشتري بالغصب

أقول: بقي في المقام إشكالٌ أشار إليه المصنّف رحمه الله في «القواعد»(3) وهو عن شمول الحكم بجواز تتبع العقود لصورة علم المشتري بالغصب، وأوضحه قطب الدِّين على المنقول عنه:

(بأنّ المشتري مع العلم يكون مسلِّطاً للبائع الغاصب على الثمن، ولهذا لو تلف لم يكن له الرجوع عليه، ولو بقي ففيه الوجهان، فلا تنفذ فيه إجازة الغير بعد تلفه بفعل المسلّط بدفع ثمنه عن مبيعٍ اشتراه، ومن أنّ الثمن عوض عن العين المملوكة، ولم يمنع من نفوذ الملك فيه إلّاعدم صدوره عن المالك، فإذا أجاز جرى مجرى الصادر عنه)(4)، انتهى .

ص: 304


1- الدروس: ج 3/193.
2- المكاسب: ج 3/470.
3- قواعد الأحكام: ج 1/124.
4- نقله عنه الشهيد في الحواشي النجارية (مخطوط) ص 57، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 12/613.

ونحوه ماعن الشهيد رحمه الله في حواشيه(1)، وعن «الإيضاح»(2) وجهٌ آخرستقف عليه.

وحيث أنّ منشأ الإشكال هو فتوى الأصحاب بأنّه إذا تلف الثمن عند البائع الغاصب، لا يجوز للمشتري مع علمه بالغصب الرجوع إليه ومطالبته بالمثل أو القيمة فينبغي البحث في مقامين:

الأوّل: في المنشأ.

الثاني: فيما نشأ عنه.

أمّا المقام الأوّل، ففيه مسائل:

المسألة الأُولى : في أنّ التسليم إليه هل مملّك له إيّاه، أو أنّه مجرّد مبيح للتصرّفات، أم لا؟، فقد استدلّ للأوّل بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ الأصحاب حكموا بأنّه إذا رجع المالك إلى المشتري بالمبيع، فإنّه ليس له الرجوع إلى البائع باسترداد الثمن، ولولا كونه مِلْكاً له كان ذلك منافياً لتسلّط الناس على أموالهم.

وفيه: - مضافاً إلى عدم تسالم الأصحاب على ذلك، بل هناك قولان آخران:

أحدهما: الضمان مطلقاً.

ثانيهما: الضمان مع بقاء العين.

أنّ الأسباب المملّكة مضبوطة، وليس التسليط بعنوان العوضيّة منها، وأمّا إباحة التصرّفات، فلابدَّ وأنْ تكون إمّا بفعل المالك أو بحكم الشارع، وشيءٌ منهما ليس في المقام.8.

ص: 305


1- الحواشي النجاريّة (مخطوط) ص 57، ونقله عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 12/613.
2- الإيضاح 1 ص 417-418.

الوجه الثاني: إنّهم حكموا بعدم الضمان في صورة الإتلاف، فلو لم يكن مِلْكاً له كان ضامناً، لأنّ إتلاف مال الغير موجب للضمان.

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم - إنّ عدم الضمان لازم أعمّ للملك ولما إذن مالكه في الإتلاف.

المسألة الثانية: في أنّه هل يجوز الرجوع في ما دفع مع بقائه أم لا؟.

أقول: الأظهر هو الأوّل:

أمّا بناءً على ما عرفت في المسألة الأُولى فواضح.

وأمّا بناءً على القول الآخر فكذلك، بناءً على كون التسليط مبيحاًللتصرّفات.

وأمّا على القول بكونه مملّكاً، فلأنّه لو سُلّم ذلك، كان هبةً ، ويجوز الرجوع في الموهوب مع بقائه.

المسألة الثالثة: في أنّه هل يجوز الرجوع إلى البدل إذا أتلفه الغاصب، أم لا؟.

قد استدلّ للثاني بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع.

وفيه: - مضافاً إلى عدم ثبوته كما تقدّم - إنّه لم يثبت كونه إجماعاً تعبّديّاً.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله من أنّ الضمان إمّا معاوضي أو يدي، وشيءٌ منهما لا مورد له في المقام:

أمّا الأوّل: فلعلمه بأنّه ليس المثمن له.

وأمّا الثاني: فلعلم المشتري بكونه غاصباً، ولازمه التسليط المجّاني، فيكون من صغريات قاعدة «ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده»(1).2.

ص: 306


1- منية الطالب: ج 1/282.

وفيه: إنّه إنّما يدفعه عِوضاً عن المبيع لا مجّاناً، فيكون من صغريات عكس القاعدة المذكورة أي «ما يضمن بصحيحهُ يضمن بفاسده».

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الإصفهاني رحمه الله، من أنّ إقباضه الثمن إيّاه ليس إقباضاً وفائيّاً، إذ لازم نفوذ المعاملة بإجازة المالك إقباضه للمالك، فهذا الإقباض الخارجي تسليطٌ منه للغاصب على ماله برضاه واختياره، فوضع يده عليه يكون بإذن المالك، وكذا تصرّفاته، وبالتالي لا يكون ضامناً بإتلافه الثمن(1).

وفيه: إنّ الإقباض إذا كان بعنوان أنّه مالكٌ أو ليوصله إليمالكه، لايكون إذناً له في التصرّف والإتلاف مطلقاً، وعليه فالأظهر جواز الرجوع إليه في صورة الإتلاف.

وبما ذكرناه ظهر الحكم فيما نشأ من هذا المنشأ.

وأمّا المقام الثاني: فالكلام فيه إنّما هو على فرض التنزّل وتسليم المنشأ، وملخّص القول فيه - بعد التنبيه على أمرٍ وهو أنّ مورد الإشكال إنّما هو الثمن الشخصي لا الكلّي، إذ غاية ما يلزم على الثاني صيرورة ما يأخذ مِلْكاً للغاصب، ولكن الثمن يكون باقياً - إنّه وقع الإشكال من جهات:

الجهة الأُولى : من جهة البيع الأوّل الواقع على مال المالك.

أقول: وتقريب الإشكال من هذه الجهة وجهان:

الأوّل: أنّ المشتري العالم بغاصبيّة البائع، يكون مرجع اشترائه منه إلى هبة وتملّك للمبيع مجّاناً، أو إلى هبة واستنقاذ للمبيع، لعدم إمكان قصد المعاوضة الحقيقيّة، ولازم ذلك عدم صحّة البيع الأوّل.8.

ص: 307


1- حاشية الاصفهاني: ج 2/268.

والجواب عنه: ما ذكرناه مفصّلاً في بيع الغاصب لنفسه.

الثاني: أنّ المشتري مع العلم بالغصبية إذا أقبض الثمن إيّاه، عُدّ ذلك مملّكاً وتسليطاً مجانيّاً، فيبقى المبيع بلا ثمن.

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من فساد المبنى - أنّه لو تمّ فإنّما يتمّ على القول بالنقل، ولا يتمّ على القول بالكشف، إذ عليه يكون التسليط تسليطاً على مال الغير، وهو لا يكون مملّكاً.

مع أنّه لا يتمّ ، لأنّه لو سُلّم كونه تسليطاً مجانيّاً، فحيث إنّه على خلاف القاعدة، فيقتصر على المتيقّن، وهو كونه مملّكاً في فرض عدم الإجازة.

الجهة الثانية: من جهة تتابع العقود.

وحاصله: أنّ ما دفعه إلى الغاصب كالمأذون له في إتلافه، فإذا أجاز ذلك فباع الثمن الغاصب أو اشترى به شيئاً، فقد خرج عن ملك مالكه، ودخل بدله في ملك الغاصب، على ما يقتضيه الإذن في التصرّفات حتّى الناقلة، إمّا بدخوله في مِلْكه قبل التصرّف الناقل وخروجه عن مِلكه، أو بخروج الثمن عن ملك المشتري ودخول بدله في ملك الغاصب على اختلاف المسلكين في حقيقة البيع، فالبيع الثاني وكذا ما بعده من البيوع، ليس للمالك إجازته، لأنّه لا معنى لإجازة العقد الواردة على ما ملكه عاقده، ولازم ذلك عدم جواز إجازة العقد الأوّل في صورة التتابع، لأنّه يكون البيع بقاءً بلا ثمن.

وبعبارة أُخرى : يكون من قبيل تلف الثمن قبل الإجازه، وترد عليه الإشكالات الثلاث التي أوردناها على الإشكال من الجهة الأُولى .

ص: 308

الجهة الثالثة: من جهة إجازة غير العقد الأوّل.

وحاصله: - على ما ذكره الشيخ رحمه الله في ذيل شرح عبارة «الإيضاح» -:

أنّ إجازة المالك البيع الثاني الواقع على عوض ماله، وتأثيرها في صحّة ذلك العقد من الفضولي، تتوقّف على أنْ يكون المبيع مِلْكاً له، وإلّا فإجازته إيّاه إجازة الأجنبي، وكون ذلك المبيع مِلْكاً له يتوقّف على إجازته، المستلزمة لإجازة العقد الأوّل، الموجبة لدخول المبيع في ملكه، وهذا دورٌ واضح(1).

وفيه أوّلاً: إنّ هذا ليس إشكالاً مختصّاً بصورة علم المشتري بالغصب.

وثانياً: إنّه لا يختصّ تتابع العقود بما إذا أجاز الجميع بإجازة واحدة، فله أن يجيز مترتّباً.

وثالثاً: لو أجاز العقد الثاني، انحلّت إجازته إلى إجازتين:

إحداهما: متعلّقة بالعقد الثاني مطابقةً .

والأُخرى : متعلّقة بالأوّل التزاماً.

وهما متحقّقتان فعلاً، ومؤثّرتان بالترتيب.

وبالجملة: فإجازة العقد الثاني توجب أوّلاً دخول الثمن في مِلْك المجيز، ثمّ خروجه عن ملكه، ودخوله في ملك المشتري في العقد الثاني، ولامحذور في ذلك.

***5.

ص: 309


1- المكاسب: ج 3/474-475.

أحكام الرَّد

مسألة: في أحكام الرّد.

أقول: والكلام فيها يقع في موضعين:

الأوّل: في الرّد الموجب لحَلّ العقد.

الثاني: في تصرّفات المالك قبل الإجازة.

أمّا الموضع الأوّل: فبعد ما عرفت من تأثير الإجازة بعد الرّد، وأنّ الرّد لا يوجبُ حَلّ العقد، وليس مفاده إلّاعدم الإمضاء، لا مورد للبحث عن تحقّقه بأيّ شيء، وأمّا على المسلك الآخر، فلا ينبغي التوقّف في عدم تحقّقه بالبناء القلبي من غير أن يظهر لكونه من الإنشائيّات، كما لا توقّف في تحقّقه بالقول - في الجملة - وبالفعل الذي يكون مصداقاً للرّد، إنّما الكلام في أنّه هل يتحقّق باللّفظ غير الصريح أم لا؟

اختار الشيخ رحمه الله عدم التحقّق، لأصالة بقاء اللّزوم من طرف الأصيل، وقابليّته من طرف المجيز(1).

أقول: مدرك عدم تأثير الإجازة بعد الرّد:

إنْ كان هو الإجماع، وحيث أنّه دليلٌ لبّي لا إطلاق له، فيتعيّن الإقتصار على المتيقّن، وهو عدم تأثير الإجازة بعد الرّد بالقول الصريح.

وأمّا لوكان المدرك قاعدة السلطنة، فبناءً على كونهاناظرة إلى الأسباب، كان

ص: 310


1- المكاسب: ج 3/477.

المتعيّن البناء على تحقّقه بكلّ لفظٍ دالٍّ عليه، صريحاً كان أم لم يكن كذلك.

وأمّا الموضع الثاني: فالكلام فيه يقع في مقامين:

الأوّل: في التصرّفات المُخرِجة عن المِلْك.

الثاني: في التصرّفات غير المُخرِجة عن المِلك.

أمّا المقام الأوّل: فعلى النقل لا كلام في أنّها توجب فوت محلّ الإجازة بالنسبة إلى المالك، فإنّ المال باق على ملكه، وتصرّف المالك في ماله نافذ شرعاً، فيسقط العقد عن قابليّة التأثير بالنسبة إلى المتصرّف، وكذلك على الكشف الإنقلابي والحكمي.

وأمّا على الكشف الحقيقي بنحو الشرط المتأخّر: فقد يتوهّم أنّ الإجازة تكشف عن ملكيّة الغيرمن حين العقد، فيكون التصرّف الُمخرِج واقعاً عليملك الغير.

قال المحقّق الإصفهاني رحمه الله في مقام توضيحه: بأنّ صحّة العقدين معاً مستحيلة، فلابدَّ من رفع اليد عن أحد البيعين، وحيث أنّه تؤثّر الإجازة في الملكيّة من حين العقد، فلا يعقل اعتبار اتّصال الملكيّة بزمان الإجازة، فلا محالة تكون الملكيّة إلى حال العقد كافية في تأثير الإجازة.

وعليه، فالإجازة في المقام صالحة للتأثير، ويترتّب عليه عدم نفوذ العقد الثاني، لوقوعه في مِلْك الغير، وهذا بخلاف العقدالثاني فإنّه غيرصالح للتأثير، لأنّ تأثيره دوري، لتوقّفه على بقاء المال على مِلْك مالكه حال البيع، وهو متوقّفٌ على عدم صحّة العقدالمجاز، وهومتوقّفٌ على عدم كون المال مِلْكاً له، مع أنّه لامُخرِج له عن

ص: 311

ملكه إلّاالعقد الثاني؛ فيدور(1).

ولكن يرد عليه: أنّه يعتبر في تأثير الإجازة - حتّى على الكشف - كون زمام أمر البيع بيد المجيز، وأنّه إذا لم يُجز يكون المال مِلْكاً له، وهذا مع وقوع العقد الثاني مفقودٌ، لأنّه بعد وقوعه وخروج المال عن ملكه، لم يكن زمام أمر المال بيده حتّى يجيز، فالتصرّفات المُخرِجة عن الملك أعمّ من الناقلة والمتلفة، وتوجبُ تفويت محلّ الإجازة بالإضافة إلى المتصرّف مطلقاً.

وأمّا المقام الثاني: فالكلام فيه يقع في موردين:

الأوّل: في التصرّف المُخرِج للملك عن قابليّة وقوع الإجازة من زمان العقد.

وبعبارة أُخرى: التصرّف المنافي لملك المشتري من حين العقد.

الثاني: في التصرّف غير المُخرِج عن المِلك.

أمّا المورد الأوّل: فقد مثّل له الشيخ رحمه الله باستيلاد الجارية، وإجارة الدابّة، وتزويج الأمَة(2)، وزاد بعضهم: جعل حقٍّ للغير في المال كالرّهن(3).

أمّا استيلاد الجارية: فالحقّ أنّه مانع عن تأثير الإجازة، من غير فرق بين القول بالنقل أو الكشف:

أمّا على الأوّل: فواضح، لأنّ الإنتقال إنّما يكون في حال كونها أُمّ ولد.

وأمّا على الثاني: فلأنّه وإنْ كان زمان الملكيّة من حين العقد وقبل الإستيلاد، إلّا أنّ البيع إنّما يصير بيعه من حين الإجازة، وإنْ كان أثره من قبل فيشمله ما دلَّ 6.

ص: 312


1- حاشية المكاسب: ج 2/274.
2- المكاسب: ج 3/477.
3- النائيني في منية الطالب: ج 1/286.

عدم جواز بيع الأَمَة المستولدة.

وأمّا إجارة الدابّة: فالأقوال فيها ثلاثة:

الأوّل: ما في «المكاسب» من الحكم بصحّة الإجارة وبطلان البيع(1).

الثاني: هو الحكم بصحتهما معاً والرجوع إلى البدل، بالإضافة إلى المنفعة المستوفاة بالإجارة.

الثالث: الحكم بوقوعهما صحيحاً، مع ثبوت الخيار للمشتري.

والحقّ في المقام أنْ يقال: إنّه بناءً على القول بالنقل، يتعيّن اختيار الثالث؛ أمّا صحّة الإجارة فلوقوعها من المالك الفعلي، وأمّا صحّة البيع فلأنّ مورده العين، وهي لم تخرج عن ملك المجيز، فإجازته إجازةٌ صادرة من أهلها، واقعة في محلّها.

وأمّا ثبوت الخيار مع بقاء مدّة الإجارة وجهل المشتري، فلأنّه لم يرد إتلافٌ على ملكه، وإنّما انتقل إليه الملك مسلوب المنفعة، ولازم ذلك ثبوت الخيار.

وأمّا بناءً على الكشف الإنقلابي: فلابدَّ من اختيار الثاني؛ أمّا صحّة البيع والإجارة فلما تقدّم، وأمّا الرجوع إلى البدل فلأنّه إذا انقلبت العين وصارت ملكاً للمشتري بالإجازة، انقلبت بتبعه المنافع أيضاً، وحيث أنّ المالك أتلفها من حين الإجارة بعقدٍ صحيح، لزم الرجوع إلى البدل.

وأمّا على الكشف الحقيقي: فالمتعيّن صحّة البيع وبطلان الإجارة:

أمّا صحّة البيع: فلأنّ الإجازة صادرة من أهلها.

وأمّا بطلان الإجارة: فلكشف الإجازة عن وقوع الإجارة على مال الغير.8.

ص: 313


1- المكاسب: ج 3/477-478.

فتحصّل: أنّ القول الأوّل لا دليل عليه.

وأمّا تزويج الأمَة: فعلى الكشف الحقيقي باطلٌ ، إلّاإذا أجاز مالكها؛ لأنّه تزويجٌ لأمة الغير المستكشف ذلك من الإجازة، وأمّا على النقل فالإجازة تكون كبيعها بعد التزويج، وبه يظهر حكمها على الكشف الإنقلابي.

وأمّا مسألة الرّهن: فعلى القول بالنقل يكون الرهن صحيحاً، وليس للمالك إجازة البيع كما هو ظاهر، وكذلك على القول بالكشف الإنقلابي، وأمّا على الكشف الحقيقي فيمكن البناء على تأثير الإجازة وانكشاف بطلان الرّهن، لكونه رهناً لمال الغير. فتأمّل.

حكم التصرّفات غير المنافية لملك المشتري

وأمّا المورد الثاني: فالكلام فيه يقع في جهتين:

الجهة الأُولى : في أنّه هل يكون فعلٌ مصداقاً للرّد، كي يصحّ إنشاء الرّد به أم لا؟، ذهب المحقّق النائيني رحمه الله إلى الثاني(1).

وفيه: الثابت عند عامّة النّاس تفسير تحريك الرأس بعد سؤال السائل عن إرادته البيع وعدمه، على أنّه فعل يقصد به الرّد بالحمل الشائع، وكذلك الكتابة، وعليه فهما مصداقان للرّد الفعلي.

الجهة الثانية: في أنّ الأفعال غير المنافية لملك المشتري، هل يتحقّق بها الرّد أم لا؟، وتلك الأفعال على قسمين:

ص: 314


1- منية الطالب: ج 1/287.

الأوّل: ما يقع حال التفات المالك إلى وقوع العقد من الفضولي على ماله.

الثاني: ما يقع في حال عدم الإلتفات إلى ذلك.

أمّا القسم الأوّل: فقد ذهب الشيخ الأعظم رحمه الله إلى تحقّق الرّد به(1)، واستدلّ له:

1 - بصدق الرّد عليه، فيشمله ما دلَّ على أنّ للمالك الرّد، مثل ما ورد في نكاح العبد والأمة بغير إذن مولاه:

منها: الخبر الموثّق الذي روي عن زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن مملوك تزوّج بغير إذن سيّده ؟ فقال: ذاك إلى سيّده إنْ شاء أجازه، وإنْ شاء فرّق بينهما»(2)، ونحوه غيره.

ومنها: ما ورد فيمن زوّجته اُمّه وهو غائب، كخبر محمّد بن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام: «عن رجلٍ زوّجته اُمّه هو غائب ؟

قال عليه السلام: النكاح جائز، إنْ شاء المتزوّج قبل وإنْ شاء ترك، فإنْ ترك المتزوّج تزويجه، فالمهر لازم لاُمّه»(3).

2 - وبأنّ المانع عن صحّة الإجازة بعد الرّد القولي موجودٌ في الرّد الفعلي، وهو خروج المجيز بعد الرّد عن كونه بمنزلة أحد طرفي العقد.

3 - وبفحوى الإجماع المُدّعى على حصول فسخ ذي الخيار بالفعل، فإنّ الوجه في تحقّق الفسخ، هو دلالته على قصد فسخ البيع، فإذا صلح الفسخ الفعلي لرفع أثر العقدالثابت المؤثّر فعلاً، صَلُح لرفع أثر العقد المتزلزل من حيث الحدوث).

ص: 315


1- المكاسب: ج 3/479.
2- الكافي: ج 5/478 ح 3، وسائل الشيعة: ج 21/114 أبواب نكاح العبيد والإماء ب 24 ح 1 (26666).
3- التهذيب: ج 7/376 ح 86، وسائل الشيعة: ج 20/280 أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ب 7 ح 3 (25629).

القابل للتأثير بطريق أولى .

أقول: في الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الأدلّة، إنّما هي عدم صحّة العقد مع الترك والتفريق، ولا تدلّ على حصول الرّد الموجب لحَلّ العقد المانع عن تأثير الإجازة بعده الذي هو محلّ الكلام.

مع أنّه لو سُلّم دلالتها على أنّ له الرّد، يرد عليه ما ذكره رحمه الله بقوله: (إلّا أنْ يقال إنّ الإطلاق مسوقٌ ... الخ»(1).

وحاصله: أنّه لا إطلاق لها من جهة ما يتحقّق به الرّد، ولعلّه يختصّ بالقول.

وأمّا الثاني: فلعدم تسليم خروج المجيز بمجرّد الرّد عن كونه أحد الطرفين، بنحوٍ لا تؤثّر إجازته في انتساب العقد إليه، وصيرورته طرفاً للعقد.

وأمّا الثالث: فلأنّه يمكن أنْ يكون نظر المُجمِعين أو بعضهم في هذا الحكم إلى توقّف التصرّفات المفروضة على الملك، لا دلالتها على الفسخ، وهذا وإنْ كان خلاف التحقيق - كما نبّه رحمه الله عليه(2) - إلّاأنّ مجرّد احتمال كون نظرهم إلى ذلك، يمنع عن التمسّك به في الأصل، فضلاً عن الفرع.

مع أنّ الأولويّة ممنوعة، إذ الدفع وإنْ كان أهون من الرفع، إلّاأنّ الرّد في المقام دفعٌ من حيث عدم الإلتزام بالعقد، لا من حيث قطع سلطنة المالك، فمن تلك الجهة بما أنّ فسخ ذي الخيار إرجاعٌ للسلطنة، والرّد في المقام اعدامٌ لها، لا مورد للتشبّث بالأولويّة.0.

ص: 316


1- المكاسب: ج 3/479-480.
2- المكاسب: ج 3/480.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ تلك الأفعال المفروضة في حال الإلتفات لا تلازم إنشاء الرّد بها، بل تلائم مع عدم الرّد، مثلاً التعريض للبيع يمكن أنْ يكون للتحرّي عن مشترٍ يدفع ثمناً أكثر ممّا دفعه المشتري الأوّل، فإنْ حصل دفع إليه، وإلّا أجاز بيع الفضولي، وعليه فلا تكون كاشفة عن إنشاء الرّد.

فالحقّ أنْ يقال: إنّ منشأ عدم تأثير الإجازة بعد الرّد:

إنْ كان هو الإجماع، فالمتيقّن منه غير الرّد الفعلي، بل ادّعى الإجماع على اعتبار اللّفظ في الرّد، فالإجازة بعده تؤثّر.

وإنْ كان مدركه دليل السلطنة، وقلنا إنّ له إطلاقاً من حيث الأسباب، وأحرزنا من الخارج إنشاء الرّد بهذه الأفعال، كان الرّد المانع عن تأثير الإجازة متحقّقاً بالأفعال المفروضة، وإلّا فلا.

وأمّا القسم الثاني: فالظاهر أنّه لا يتحقّق به الرّد، لأنّه من الإنشائيّات المتقوّمة بالقصد المفقود مع عدم الإلتفات، وما أفتوا به من أنّ إنكار الطلاق رجوعٌ ، فإنّما هو للنَّص الخاص(1)، مع أنّه يمكن تطبيقه على القاعدة، بأنْ يقال إنّ الزوجيّة بعد الطلاق إلى انقضاء العدّة ثابتة، والتشتب بها رجوع، وإنكار الطلاق تشبّث بها، وعلى كلّ تقدير لا يكون مربوطاً بالمقام.

***ق.

ص: 317


1- أنظر وسائل الشيعة: باب 14 من أبواب أقسام الطلاق.

حكم رجوع المالك إلى المشتري لو لم يجز

مسألة: ولو لم يجز المالك، فإنْ كان المال في يده فهو، وإلّا:

فتارةً : تكون العين باقية.

وأُخرى : تكون تالفة.

فإنْ كانت باقية: ينتزعها ممّن وجدها في يده، وله الرجوع إلى غيره ممّن دخلت تحت يده، وأمّا حكم منافعها فقد تقدّم في البيع الفاسد.

وإنْ كانت تالفة: فله الرجوع إليكلّمن دخل المال تحت يده، وقرارالضمان إنّما يكون عليمن تلفت تحت يده، فإنْرجع إلى الفضولي يأتي فيه المباني الخمسة المتقدّمة:

قيمة يوم الغصب، أو يوم التلفت، أو يوم الدفع، أو أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم الدفع، أو أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف.

وإن رجع إلى المشتري، لا يبقى موردٌ لإحتمال الرجوع إليه بقيمة يوم الغصب أو أعلى القيم منه، لو كانت القيمة يوم الغصب أعلى من سائر الأيّام، لأنّ العين يوم زيادة قيمتها لم تكن تحت يد المشتري كي يكون ضامناً لتلك القيمة.

وبما ذكرناه يظهر حكم الزيادة العينيّة.

هذا كلّه حكم المالك مع المشتري.

حكم رجوع المشتري إلى الغاصب

وأمّا حكم المشتري مع الفضولي، سواءٌ أكان باقياً أم تالفاً، فالكلام فيه:

تارةً : في الثمن.

ص: 318

وأُخرى : فيما يغرمه زائداً على الثمن.

فالكلام يقع في مسألتين:

المسألة الأُولى : في حكم المشتري مع الفضولي في الثمن، والكلام فيها في موردين:

الأوّل: فيما إذا كان جاهلاً بكونه فضوليّاً.

الثاني: فيما إذا كان عالماً به.

أمّا في المورد الأوّل:

فتارةً : ينكشف عند المشتري كذب البائع وأنّه فضولي.

واُخرى : ينكشف كذب الآخر، ويعلم أنّه مالك.

وثالثة: لا ينكشف شيءٌ منهما.

أقول: لا إشكال في جواز الرجوع في الصورة الأُولى ، وعدم جوازه في الصورة الثانية، وأمّا في الصورة الثالثة فإنْ أقام المالك البيّنة على ملكيّته له، جاز الرجوع إليه، لأنّه يصير البيع باطلاً بحكم الشارع.

وبعبارة أُخرى : تكون البيّنة حجّة في مثبتاتها، فيثبت بها كون البيع بيعاً لمال الغير، وعدم كون البائع مالكاً وكونه فضوليّاً، ويترتّب عليه جواز الرجوع، وكذلك لو أقرّ البايع بذلك.

وأمّا إنْ كان أخذ المالك المبيع مستنداً إلى الحلف المردود من البائع، فغاية ما يثبت به أخذ المبيع، ولا يثبت به كون البيع واقعاً على مال الغير.

وبعبارة أُخرى: لا يكون الحلف طريقاً شرعيّاً إلى كون المال مِلْكاً للمدّعي، وعليه فلا وجه لرجوعه إلى البائع.

ص: 319

وأمّا المورد الثاني:

1 - فإنْ كان الثمن باقياً: استردّه - لما تقدّم من عدم صيرورة ما دفع إلى الفضولي والغاصب بعنوان العوضيّة مِلْكاً له - وعلى فرض الملكيّة فغايته كونه هبة، ويجوز الرجوع في الموهوب.

أقول: ذكر الشيخ رحمه الله وجهين آخرين لجواز الاسترداد(1):

أحدهما: أنّه لو كان التسليط مملّكاً، لزم البناء عليه في التسليط الواقع عقيب البيع الفاسد، وهذا ما لا يقولون به.

وفيه: إنّه يمكن الفرق بين البابين، فإنّ الدفع في البيع الفاسد إنّما يكون بعنوان الوفاء بالمعاملة، فلا يكون مملّكاً، وفي المقام ليس كذلك، فإنّه ليس بعنوان الوفاء؛ لأنّ الوفاء بالمعاملة يقتضي الدفع إلى المالك لا إلى الفضولي.

ثانيهما: أنّه لو كان التسليط مملّكاً، لزم عدم صحّة الإجازة من مالك المبيع حتّى على النقل كما تقدّم، مع أنّه لم يشكّ أحدٌ في الصحّة.

وفيه: إنّه يمكن الجواب عنه بما ذكره قدس سره من أنّه يمكن أنْ يكون الدفع تمليكاً على تقدير عدم الإجازة(2).

2 - وإنْ كان الثمن تالفاً: فالمعروف أنّه لا يجوز الرجوع، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(3).4.

ص: 320


1- المكاسب: ج 3/484-485.
2- المكاسب: ج 3/484.
3- ادّعاه العلّامة في التذكرة: ج 1/463، والمختلف: ج 5/55-56، وولده فخر المحقّقين في الإيضاح: ج 1/421، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 4/77، والشهيد الثاني في المسالك: ج 3/160، والروضة: ج 3/235، والمحدِّث البحراني في الحدائق: ج 18/392، وكاشف الغطاء في شرح القواعد (المخطوط) ص 64.

وقد استدلّ لجواز الرجوع وللضمان بوجوه:

الوجه الأوّل: ما استند إليه الشيخ رحمه الله، من أنّ إطلاق قولهم: (إنّ كلّ عقدٍ يُضمن بصحيحة يُضمن بفاسده) يقتضي الضمان، نظراً إلى أنّ البيع الصحيح يقتضي الضمان، ففاسده كذلك(1).

وفيه أوّلاً: إنّ هذه ليست قاعدة مستقلّة تعبديّة في قبال سائر مقتضيات الضمان، بل مدركها عموم قاعدة «على اليد»(2)، فلابدَّ من ملاحظة تلك القاعدة، والشيخ رحمه الله حيث منع من دلالة اليد على الضمان في المقام، فلا مورد لتأمّله، وميله إلى الضمان بل إفتائه به مستنداً إليها.

وثانياً: إنّ هذه القاعدة غاية ما تدلّ عليه هو الضمان، وأمّا أنّ الضامن هو الغاصب البائع أو المالك، فلا تدلّ عليها إنْ لم تدلّ على أنّ الضامن هو المالك لا المجري للصيغة، والعلم بعدم ضمانه في المقام من جهة التخصّص أو التخصيص نظراً إلي عدم كون العقد عقدالمالك في المقام، لايوجبُ صرف الضمان إلى البائع الغاصب.

وثالثاً: إنّ الفساد لا يصدق على عقد الفضولى، بل هو صحيحٌ فاقد لشرط قابل للحوقة.

الوجه الثاني: قاعدة الإقدام.8.

ص: 321


1- الشيخ الطوسي في المبسوط: ج 3/85.
2- عوالي اللآلي: ج 1/244 ح 106، سنن ابن ماجة: ج 2/802 ح 2400، والترمذي: ج 3/566 ح 1266، ورواه الشيخ عن سمرة عن النبيّ صلى الله عليه و آله في المبسوط: ج 3/59، والخلاف: ج 3/228.

أقول: قد تقدّم في مسألة المقبوض بالعقد الفاسد(1) أنّها وغيرها من القواعد التي عدّوها من مقتضيات الضمان لا تكون كذلك، وأنّ موجب الضمان منحصرٌ باليد والإتلاف، وهما في المقام يقتضيان الضمان.

أورد الشيخ رحمه الله: على الاستدلال باليد في المقام:

بأنّها وإنْ كانت تقتضى الضمان، إلّاأنّ (فحوى ما دلّ على عدم ضمان من استأمنه المالك ودفعه إليه لحفظه - كمافي الوديعة - أوالانتفاع به - كما في العارية - أو استيفاء المنفعة منه - كما في العين المستأجرة - عدمه؛ إذ الدفع على هذا الوجه إذا لم يوجب الضمان، فالتسليطعلى التصرّف فيه وإتلافه ممّا لايوجب ذلك بطريق أولى )(2).

ثمّ أورد على نفسه: بأنّ التسليط إنّما يكون في مقابل العوض.

ثمّ أجاب عنه: بأنّه سلّطه بإزاء مال غيره، فلم يُضمّنه في الحقيقة شيئاً من كيسه.

ثُمّ أورد على نفسه ثانياً بما حاصله: أنّه إنّما سلّطه بإزاء مال الغير بعد البناء - ولو عدواناً - على كونه مِلكاً له، وعليه بنينا تحقّق مفهوم المعاوضة، فهو يسلّطه على وجه يضمّنه بماله، إلّاأنّ كلّاً منهما لما قطع النظر عن حكم الشارع، بل بنى المشتري على كون المثمن ملكاً للبائع، فالتسليط إنّما يكون في مقابل ماله حقيقة، إلّا أنّ كون المثمن مالاً له بالادّعاء(3).

وأجاب عنه: بأنّ المعاملة والتضمين لم يكونا بدواً بين الشخصين، لأنّ حقيقة المعاملة تضمين كلّ منهما للآخربماله الواقعي، ويكون تعلّقها بالمالين اعتباراً ثانويّاً، بل8.

ص: 322


1- راجع: فقه الصادق: ج 24/278.
2- المكاسب: ج 3/486.
3- المكاسب: ج 3/487-488.

تكون المعاملة ابتداءً بين المالين، فيجعل أحد المالين بإزاء الآخر وضمانه به، ولازم ذلك ضمان المالك الواقعي، والغاصب إنّما طبق عنوان المالك الواقعي على نفسه ادّعاءً ، ولذلك رأى نفسه هو الضامن في المعاملة، وحيث إنّه ليس بمالك فلا يكون ضامناً(1).

أقول: يرد عليه قدس سره أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ لازم ما ذكره رحمه الله - من كون التسليط مجانيّاً - هو جواز تصرّفه تكليفاً، وقد صرّح قدس سره قبل ذلك بأسطر بعدم جوازه، حيث قال: (وهل يجوز للبائع التصرّف فيه ؟ وجهان، بل قولان، أقواهما العدم؛ لأنّه أكلٌ للمال بالباطل)(2).

الأمر الثاني: أنّ ما ذكره لو تمّ ، فإنّما هو في صورة التلف، ولا يتمّ في صورة الإتلاف، إذا الحكم الثابت في الأصل إنّما هو في صورة التلف دون الإتلاف.

الأمر الثالث: أنّ ما أفاده يتمّ في التضمين المعاملي، وأمّا في الضمان الثابت باليد، المختصّ بما إذا كان وضع اليد على المال لا بإذنٍ من المالك في التصرّف فيه مجّاناً وبلا عوض فلا يتمّ ، فإنّ الغاصب هو من تحت يده المال، والتسليط الخارجي لا يكون مجانيّاً بل إنّما يكون بمقتضى المعاوضة الواقعة بينهما، فما يدفعه إلى الغاصب إنّما يدفعه إليه بعنوان كونه مال المدفوع إليه لا بعنوان كونه مال الدافع كما هو كذلك في موارد الإستئمان، فالفرق بين المقامين واضح.

لا يقال: إنّ التسليط الخارجي بما أنّه من الأفعال الخارجيّة المتعلّقة بالموضوعات الخاصّة، ليس قابلاً للتقيد بالعنوان المذكور، فمن ضرب شخصاً5.

ص: 323


1- المكاسب: ج 3/488 و 485.
2- المكاسب: ج 3/488 و 485.

باعتقاد أنّه عدوّ له، فانكشف كونه صديقه، وقع ضربه على الصديق دون العدوّ، ففي المقام التسليط وإنْ كان بعنوان أنّه مال المدفوع إليه، إلّاأنّه حيث يكون في الواقع للدافع، فهو تسليط لمال الدافع.

فإنّه يقال: إنّ المؤثّر في رفع الضمان ليس هو التسليط الخارجي بما هو كذلك، بل بما أنّه مبرزٌ للإذن في التصرّف فيه، وإتلافه الذي هو من المعاني الإيقاعيّة المتعلّقة بالصور الذهنيّة، وتلك المعاني قابلة للتقييد.

فإنْ قلت: إنّه لا يمكن الإلتزام بضمان الغاصب بعد فرض كون الضمان المعاوضي مع المالك، إذ لازمه جعل ضمانين لمال واحد.

قلت: إنّه لا محذور فيه بعد فرض كونهما طوليين.

فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه: أنّه لا مخصّص لقاعدة اليد والإتلاف، وعليه فالأظهر هو الضمان - كما اختاره بعض الأساطين، ومال إليه جمعٌ من المحقّقين(1) - وحرمة التصرّف فيه، وإنّ حكم ذلك حكم المقبوض بالبيع الفاسد.

ثمّ إنّ هذا كلّه في صورة الرّد.

وأمّا في صورة إجازة العقد: فلا كلام مع عدم قبض الثمن.

وأمّا في صورة القبض:

فقد يكون الثمن كليّاً، وقد يكون شخصيّاً، وعلى التقديرين:

تارةً : يكون المقبوض باقياً.

وأُخرى : يكون تالفاً.3.

ص: 324


1- كالسيّد اليزدي في حاشيته: ج 1/177، والأصفهاني في حاشيته: ج 2/297، والسيّد الخوئي في مصباح الفقاهة: ج 347/4، ومال إليه المحقّق الأيرواني في حاشيته: ج 1/146، والمامقاني في غاية الآمال: ج 402/3.

1 - فإنْ كان الثمن كليّاً وكان المقبوض باقياً:

فإنْ لم يُجز الإقباض أو أجازه وبنينا على عدم قابليّته للإجازة، فإنّه ليس للمالك - أي مالك المبيع - إلّاالرجوع إلى المشتري، لأنّ المقبوض لامساس له به.

وإنْ أجاز الإقباض، وبنينا على تأثير الإجازة فيه، فله الرجوع إلى البائع دون المشتري؛ لأنّ ذمّة المشتري بريئة من الضمان، وماله داخلٌ تحت يد البائع فيراجعه، ولا فرق في هذه الصورة بين القول بالنقل أو بالكشف.

2 - وإنْ كان الثمن كليّاً وكان المقبوض تالفاً:

فإنْ لم يجز الإقباض، أو أجازه وبنينا على عدم تأثيرها فيه، فله الرجوع إلى المشتري خاصّة كما تقدّم، من غير فرقٍ بين القول بالنقل أو بالكشف.

وإنْ أجاز الإقباض، وبنينا على تأثيرها فيه:

فعلى القول بأنّ إجازة الإقباض كاشفة عن كون الإقباض من الأوّل كان إقباضاً للمالك، كماأنّ إجازة العقدكاشفة، للمالك في هذه الحالة الرجوع إلى البائع في صورة الإتلاف دون التلف، إذ ليس على الأمين شيءٌ إلّافي صورة الإتلاف.

وعلى القول بأنّ إجازته ناقلة - إمّا للبناء على النقل مطلقاً، أو في خصوص إجازة الإقباض وشبهها - فإنّه لا أثر لهذه الإجازة، لعدم بقاء المقبوض حتّى تصحّ إجازته، فلابدَّ وأن يرجع إلى المشتري خاصّة.

3 - وإنْ كان الثمن شخصيّاً وباقياً، وأجاز الإقباض:

فإنْ بنينا على تأثيرها، له الرجوع إلى البائع خاصّة - من غير فرقٍ بين القول بالنقل أو بالكشف.

ص: 325

وإنْ لم يجز الإقباض، أو أجازه وبنينا على عدم تأثيرها، فله الرجوع إلى كلّ منهما، أي البايع والمشتري على المسلكين:

أمّا رجوعه إلى البائع: فلكون ماله تحت يده.

وأمّا رجوعه إلى المشتري: فللزوم التسليم عليه.

4 - وإنْ كان الثمن شخصيّاً وتالفاً:

فبناءً على النقل مطلقاً، أو في خصوص إجازة الإقباض، لايبقى مورد لإجازة الإقباض، فينفسخ العقد، لأنّ كلّ مبيعٍ تلف قبل قبضه فهو من مال صاحبه، فتأمّل.

وأمّا بناءً على القول بالكشف حتّى في الإجازة، وأجاز الإقباض، فليس للمالك الرجوع إلى البائع ولا إلى المشتري:

أمّا عدم الرجوع إلى الأوّل: فلأنّه أمين.

وأمّا عدم رجوعه إلى الثاني: فلتسلّمه الثمن.

نعم في فرض الإتلاف يرجع إلى البائع.

فتحصّل: أنّه في بعض الفروض يرجع إلى أيّ منهما شاء، وفي بعضها لا يرجع إليهما، وفي بعضها يرجع إلى المشتري فقط، وفي بعضها إلى البائع، وفي بعضها يبطل العقد.

***

ص: 326

الغرامة التي غرمها المشتري

المسألة الثانية: فيما يغرمه المشتري للمالك غير الثمن، إمّا في مقابل العين، أو في مقابل ما استوفاه المشتري كسُكنى الدار، أو ما يصرف في إصلاح ملكه، أو لدفع النوائب عنه.

وعليه فهو على أقسام:

القسم الأوّل: ما يكون في مقابل العين، كزيادة القيمة على الثمن الذي اشترى به إذا رجع بها المالك على المشتري، كما لو اشترى المبيع بعشرة، وأخذ منه المالك عشرين بعد تلف العين في يده.

القسم الثاني: قيمة المنافع المستوفاة.

القسم الثالث: ما يغرمه في مقابل المنافع غير المستوفاة.

القسم الرابع: ما يغرمه من جهة حفرٍ أو نفقةٍ أو قيمة ولد ونحو ذلك.

أقول: إنّ محلّ الكلام في المقام ليس إلّارجوع المشتري إلى البائع بعد رجوع المالك إليه، وأمّا رجوع المالك إلى المشتري فهو مفروغ عنه في هذا البحث، كما أنّ محلّ الكلام صورة الرّد دون الإجازة، وعليه فيقع الكلام:

تارةً : في صورة العلم بالفضوليّة.

وأُخرى : في صورة الجهل بها.

أمّا في الصورة الأُولى : فالظاهر أنّه لا خلاف بينهم في عدم رجوع المشتري إلى البائع، لعدم الدليل عليه.

ص: 327

وقد يقال: إنّه يستثنى من ذلك موردان:

الأوّل: ما إذا ادّعى البائع الإذن من المالك.

الثاني: ما إذا التزم بالخروج عن عُهدة الغرامات إذا لم يجز المالك.

أقول: أمّا في المورد الأوّل فمجرّد دعوى الإذن لا يوجبُ الإستناد إليه، كي تصحّ دعوى الغرور، وأمّا في المورد الثاني فإنْ كان الإلتزام على الوجه الشرعي فهو الموجب للرجوع، وإلّا فلا موجب له.

وأمّا في الصورة الثانية: فقبل بيان حكم الأقسام، لابدَّ من بيان القواعد التي استندوا إليها في الحكم في المقام:

منها: قاعدة نفي الضرر، حيث أنّ الحكم بعدم رجوع المشتري إلى البائع ضررٌ عليه، فتنفيه القاعدة.

وفيه أوّلاً: ما حُقّق في محلّه(1) من أنّ قاعدة نفي الضرر نافية للأحكام، ولا تصلح لإثبات الحكم، فلا يمكن إثبات الضمان بها.

وثانياً: إنّ الحكم بضمان البائع ضررٌ عليه، فيتعارض الضرران.

وعليه، فالأظهر أنّه لا مورد لها في المقام.

ومنها: قاعدة التسبيب، أي قوّة السبب على المباشر، واستدلّوا لهابالإجماع المحكيّ في «الإيضاح»(2) عليتقديم السبب على المباشر إذاكان أقوى ، وبقاعدة الإتلاف.

وفيه: إنّ المتيقّن من معقد الإجماع، وما يستفاد من القاعدة، إنّما هو فيما إذا لم يتوسّط بين فعل الفاعل والأثر المترتّب عليه فعلُ فاعلٍ مختار.5.

ص: 328


1- زبدة الأُصول (ط. ق): ج 5/257.
2- الإيضاح: ج 4/75.

توضيح ذلك: إنّ السبب على أقسام ثلاثة:

القسم الأوّل: ما إذا كان الفعل مستنداً إلى السبب دون المباشر، ويكون المباشر غير مختار، ولم يصدر عنه الفعل باختياره، وفي هذا القسم يتمّ ما ذكر، والدليلان يدلّان على الضمان على السبب.

وعَدّ المحقّق النائيني رحمه الله من هذاالقسم حكم الحاكم بشهادة شهود الزور، وفعل المكرَه بإكراه الجائر؛ نظراًإلى أنّ الفعل لايستندإلى المباشر شرعاًلكونه واجباًعليه(1).

وفيه: إنّ الوجوب الشرعي لا يوجبُ رفع الضمان، ألا ترى أنّه لو اضطرّ إلى أكل مال الغير ووجب عليه ذلك حفظاً للنفس، لا يحكم عليه بعدم الضمان، بل هو ضامنٌ ، ففي مسألة المكرَه للمالك الرجوع إلى المكرَه (بالفتح). نعم في مسألة حكم الحاكم ليس له الرجوع إليه للنصوص الخاصّة.

القسم الثاني: ما إذا كان السبب أحدث الدّاعي للمباشر من دون أن يستند الفعل إلى السبب، كمن علَّم غيرَه طريق سرقة الأموال، وفي هذا القسم لا وجه للضمان على السبب، والوجهان لا يدلّان عليه.

القسم الثالث: ما إذا كان الفعل مستنداً إلى المباشر، والضمان المترتّب عليه مستنداً إلى السبب، كمن قدّم إلى غيره طعاماً ليأكله مجّاناًفتبيّن عدم كون الطعام له.

وفي هذا القسم وإنْ كان المتَّجه الضمان، ولكن لا لما تقدّم من الإجماع وقاعدة الإتلاف، فإنّه بعد فرض استناد الفعل إلى المباشر لا يكون السبب متلفاً، ولا يكون الإجماع عليه تعبّديّاً، بل لقواعدٍ أُخرى .4.

ص: 329


1- منية الطالب: ج 1/294.

وبالجملة: فاتّضح ممّاذكرنا أنّ قاعدة التسبيب من حيث هي لاموضوعيّة لها.

ومنها: قاعدة الغرور، واستندوا فيها إلى أُمور:

أحدها: الإجماع.

ثانيها: قاعدة نفي الضرر، نُسب ذلك إلى «الرياض»(1).

ثالثها: قاعدة الإتلاف من باب قوّة السبب على المباشر.

رابعها: قاعدة الإتلاف، بالإضافة إلى الخسارة الواردة على المغرور.

أقول: شيءٌ من هذه الوجوه لا يتمّ :

أمّا الثلاثة الأُولى: فلما تقدّم.

وأمّا الأخير: فلأنّ خسارة المالك مستندة إلى حكم الشارع بالضمان من جهة الإتلاف الذي قام به المشتري بإرادته واختياره، غير المستند إلى البائع كما تقدّم.

أقول: فالصحيح أن يستدلّ لها بوجهين آخرين:

أحدهما: النبويّ المعروف: «المغرور يَرجع على من غَرّه»(2) المعمول به بين الفريقين.

ثانيهما: استنباطها من النصوص الخاصّة الواردة في الموارد الجزئيّة، مع اشتمال بعضها على التعليل:

1 - كخبر رفاعة: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام: في امرأة زوّجها وليّها وهي9.

ص: 330


1- الرياض: ج 2/307.
2- لم تذكر في المجامع الروائية، ونسبها المحقّق الثاني في حاشيته على الإرشاد إلى النبيّ صلى الله عليه و آله كما حكاه عنه النراقي في المستند: ج 14/296، ونسبها المحقّق الثاني أيضاً للمعصوم عليه السلام في جامع المقاصد: ج 13/295، وبتفاوت في سنن البيهقي: ج 7/219.

بَرْصاء: أنّ لها المهر بما استحلّ من فرجها، وأنّ المهر على الذي زوّجها، وإنّما صار المهر عليه لأنّه دلّسها»(1).

2 - وفي خبر إسماعيل بن جابر: «في الرجل أعجبته امرأة، فأتي أباها فزوّجه غيرها، فولدت منه، ثمّ علم أنّها غير ابنته وأنّها أمة ؟

قال عليه السلام: ترد الوليدة على مواليها، والولد للرجل، وعلى الذي زوّجه قيمة ثمن الولد يعطيه موالي الوليدة كما غَرّ الرجل وخدعه»(2).

ونحوهما غيرهما، وهي وإنْ وردت في النكاح، إلّاأنّه لما فيها من عموم العلّة تتعدّى عن النكاح إلى غيره، فالحقّ ثبوت هذه القاعدة.

نعم، تختصّ بناءً على ذلك بما إذا كان الغارّ عالماً، وأمّا إذا كان جاهلاً فلا تكون هذه القاعدة ثابتة؛ وذلك لأنّ الغرور ليس بمعنى الجهل؛ إذ بهذا المعنى يصبح لازماً لا يكون له اسم الفاعل والمفعول، بل هو بمعنى الخدعة والتدليس، ولا إشكال في أنّ البائع أو غيره الموجب للخسارة إذا كان جاهلاً لا يعدّ مدلّساً، ولا يكون فعله خدعة، فلا يشمله النبويّ ولا النصوص الخاصّة.

أقول: وبما ذكرناه ظهر عدم تماميّة ما أفاده السيّد الفقيه رحمه الله بقوله:

(ولا فرق على الظاهر بين كون الغارّ عالماً أو جاهلاً، وما يحتمل أو يقال من عدم صدق الغرور مع الجهل كما ترى )(3).

وأيضاً: ربما يستدلّ لهذه القاعدة بالنصوص الواردة في شاهد الزور(4) الدالّة1.

ص: 331


1- الكافي: ج 5/407 ح 9، وسائل الشيعة: ج 21/250 أبواب ما يحرم بالمصاهرة ب 16 ح 6 (26920).
2- الكافي: ج 5/408 ح 13، وسائل الشيعة: ج 21/220 أبواب العيوب والتدليس ب 7 ح 1 (26938).
3- حاشية السيّد اليزدي (ط. ق): ج 1/179.
4- لاحظ وسائل الشيعة: ج 27/327 كتاب الشهادات ب 11.

على أنّه يرجع إليه إذا رجع من شهادته.

ولكنّه فاسدٌ، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّها تدلّ على الرجوع ابتداءً إلى شاهد الزور، لا أنّه يرجع إلى الحاكم وهو إلى الشاهد، فلا ربط لها بهذه القاعدة.

الوجه الثاني: أنّ في ذلك الباب خصوصيّة، وهي أنّ المباشر - وهو الحاكم - يجب عليه الحكم على طبق الشهادة، ومع احتمال دخلها لا سبيل إلى دعوى التعدّي وإلغاء الخصوصيّة.

أقول: اذاعرفت هذافاعلم أنّ المعروف بين الأصحاب رجوع المشتري إلى البائع في الغرامة التي لم يحصل له في مقابلهانفع، وعن غيرواحدٍ دعوى الإجماع عليه(1).

واستدلّ له: بالإجماع، وبقاعدة نفي الضرر، وقد مرّ ما فيهما.

وبالجملة: فالصحيح أن يستدلّ له:

1 - بقاعدة الغرور.

2 - وبصحيح جميل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها، ثمّ يجيء مستحقّ الجارية ؟

قال عليه السلام: يأخذ الجارية المستحقّ ، ويدفع إليه المبتاع قيمة الولد، ويرجع على من باعه بثمن الجارية، وقيمة الولد التي أُخذت منه»(2).

لأنّ حريّة الولد إمّا أن تُعدّ نفعاً عائداً إلى الأب أو لا، وعلى التقديرين).

ص: 332


1- كالحلّي في السرائر: ج 2/493، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 5/340، والشهيد الثاني في المسالك: ج 4/205، وحكاه عن فخر الإسلام السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 4/199.
2- التهذيب: ج 7/82 ح 67، وسائل الشيعة: ج 21/205 أبواب نكاح العبيد والإماء ب 88 ح 5 (26904).

يثبت المطلوب:

أمّا على الأوّل: فبالفحوى ، إذ لو ضمن الغار في صورة عود النفع إلى المغرور فبالأولى في صورة عدمه.

وأمّا على الثاني: فواضح.

وعن صاحب «الحدائق»: عدم الرجوع إليه(1)، واستدلّ له، بخبري زرارة(2)وزريق(3) الساكتين عن حكم رجوع المشتري إلى البائع، مع كونهما في مقام البيان، فإنّ ذلك آية عدم الرجوع.

وفيه أوّلاً: إنّ خبر زرارة ساكتٌ عن الرجوع في ما غرمه في مقابل المنافع المستوفاة، فلا مساس له بمسألتنا، وماورد في ذيل خبر زريق - المتضمّن لرجوع المشتري في الغرامة التي غَرمها في إصلاح المعيشة من قيمة غرسٍ أو بناءٍ أو نفقةٍ في مصلحة المعيشة ودفع النوائب عنها إلى المالك - يدلّ على خلاف المقصود.

وثانياً: إنّ السكوت في مقام البيان يكون دليلاً لا مطلقه، وفي المقام الخبران في مقام بيان حكم المشتري مع المالك، لا في مقام البيان من جميع الجهات حتّى من جهة رجوع المشتري إلى البائع.

وثالثاً: إنّ السكوت في مقام البيان غايته الظهور في عدم الرجوع، وهو لا يصلح لأن يقاوم صحيح جميل الصريح في الرجوع.).

ص: 333


1- الحدائق: ج 19/456.
2- التهذيب: ج 7/83 ح 71، وسائل الشيعة: ج 21/204 ابواب نكاح العبيد والإماء ب 88 ح 4 (26903).
3- أمالي الشيخ الطوسي ص 698 مجلس 39، وسائل الشيعة: 17 ص 340 أبواب عقد البيع وشروطه ب 3 ح 1 (22705).

ورابعاً: إنّه لو سُلّم التعارض، يتعيّن تقديم الصحيح لوجوهٍ لا تخفى .

أقول: وأمّا الغرامة التي غرمها في مقابل المنافع الواصلة إليه، ففيها قولان، وقد استدلّ الشيخ رحمه الله(1) وغيره للرجوع بوجوه:

منها: قاعدة لا ضرر.

وفيه: - مضافاًإليماتقدّم - إنّ الغرامة المقابلة للنفع الواصلة إليه لاتكون ضرراً.

وبعبارة أُخرى: إنّ الضرر هو النقص المالي أو البدني أو العِرْضي، والنقص المالي الذي يقوم مقامه ما يسدّ مسدّه ليس بنقصٍ مالي عند العرف، وفي المقام بما أنّ الغرامة إنّما تكون في مقابل ما وصل إليه من النفع لا تعدّ ضرراً.

ومنها: قاعدة التسبيب.

أقول: قد مرّ عدم كونها قاعدة مستقلّة، إلّاإذا كان السبب بحيث يستند التلف إليه عرفاً، والمتّجه في مثل ذلك عدم الرجوع إلى المباشر أصلاً.

ومنها: النصوص الواردة في شاهد الزور، وقد مرّ أنّها أجنبيّة عن المقام.

أقول: الأولى أن يستدلّ له:

1 - بقاعدة الغرور، فإنّ الميزان فيها هو التعزير، سواءٌ استوفى المغرور نفعاً كأكله الطعام أو لم يستوف أصلاً.

2 - وبصحيح جميل المتقدّم، بناءً على أنّ مورده الغرامة التي تكون بإزاء المنفعة كما تقدّم، إمّا لأن الحريّة نفعٌ عائد إلى الأب، أو لأنّ الولد نفسه منفعة له وإنْ لم تكن منفعة ماليّة.9.

ص: 334


1- المكاسب: ج 3/499.

ثمّ إنّ قاعدة الغرور وإنْ اختصّت بصورة علم البائع، إلّاأنّ مقتضى إطلاق الصحيح عدم الفرق بين صورة العلم والجهل.

وبما ذكرناه ظهر حكم ما يغرمه في مقابل المنافع غير المستوفاة.

وأمّا الغرامة التي يغرمها في مقابل العين: فبالنسبة إلى المقدار الذي جُعل ثمناً إذا لم يكن دفع الثمن إلى الفضولي، لا يرجع فيه إلى البائع، لأنّ هذه الغرامة لم تنشأ من تغريرالبائع، لأنّه لوفرض صدق البائع في دعواه لكانت هذه الغرامة ثابتة.

وما ذكره السيّد الفقيه قدس سره: في وجه الرجوع بقوله: (إنّه لم يُقدْم على هذه الغرامة، وإنّما أقدم على دفع الثمن، والمفروض عدم إمضاء الشارع له)(1).

يرد عليه: أنّ الرّد إلى المالك أو البائع، لا يوجبُ الفرق في عدم صدق الغرور، بعد التزامه بكون هذا المقدار من المال يكون عوضاً عن المال التالف.

وأمّا في المقدار الزائد - كما لو باع ما يسوى عشرين بعشرة، فتلف فأخذ منه المالك عشرين - فقد ذهب الشيخ الأعظم(2) - تبعاً لغيره من الأساطين - إلى أنّه يرجع إلى البائع في المقدار الزائد، لقاعدة الغرور.

وأُوردعليه(3): بأنّ الإقدام و الغرور لايجتمعان، ولذا لايرجع على البائع بالمسمّي .

وعليه، فإذا بنينا على أنّ مقتضى إقدام المشتري ضمانه بتمام القيمة الواقعيّة للمالك - كما هوالمدرك للضمان في كلّ عقدٍ فاسدٍ يُضمن بصحيحه - لا وجه للرجوع إلى البائع، حيث لا تغرير، وإن قيل إنّه لايكون مُقْدِماً على الضمان بتمام القيمة، لما كان9.

ص: 335


1- حاشية السيّد اليزدي (ط. ق): ج 1/182.
2- المكاسب: ج 3/502.
3- حاصل الإيراد للشهيد الثاني في المسالك: ج 12/225، وذكره صاحب الجواهر في الجواهر: ج 37/179.

وجهٌ لضمانها للمالك.

وبعبارة أُخرى: إنْ كان مُقْدِماً على الضمان بالقيمة الواقعيّة، لا مورد لقاعدة الغرور، وإلّا فلا وجه لأصل الضمان.

أقول: وأجاب عنه الشيخ رحمه الله بجوابين(1):

الجواب الأوّل: الإقدام إنّما يكون على المسمّى ، ولا إقدام على غيره، فبالنسبة إلى ما لا إقدام عليه، تكون قاعدة الغرور جارية بلا مانع، ولكن الإقدام على المسمّى سببٌ شرعاً لضمان تمام القيمة، فضمان التمام ليس مُقْدِماً عليه لينافي الغرور، بل أثر الإقدام على المُسمّى ، هو ضمان تمام القيمة. وتبعه في هذا الجواب غيره من الأساطين(2).

وفيه: إنّه إذا كان مدرك الضمان هو الإقدام - كما هو مبنى الإشكال - فإنّه لا وجه للقول بالضمان بالنسبة إلى تمام القيمة، مع كون الإقدام على المسمّى ، إلّاإذا ورد دليل على أنّ الإقدام على شيء سبب لضمان شيء آخر، والمفروض عدمه، فعلى هذا المبنى لا مدفع لهذا الإيراد.

الجواب الثاني: وهو الحقّ ، من منع المبنى، لأنّ مدرك الضمان في المقام وغيره من المقبوض بالعقد الفاسد إنّما هو قاعدة اليد، وهي تقتضي الضمان بتمام القيمة، والغرور يوجب رجوع المغرور إلى الغارّ في المقدار الذي غُرّر فيه، فبالنسبة إلى المقدار الزائد وإنْ كان مقتضى اليد هو الضمان للمالك، إلّاأنّ مقتضى قاعدة الغرر هو الرجوع فيها إلى البائع.8.

ص: 336


1- المكاسب: ج 3/502.
2- كالسيّد اليزدي في حاشيته: ج 1/182، والأيرواني في حاشيته: ج 1/148.

أقول: ثمّ إنّه ممّا ذكرناه ظهر أنّه إنّما يرجع إليه في صورة علم البائع، وأمّا في صورة جهله فلا مجال للرجوع إليه لعدم صدق الغرور، هذا إذا كانت الزيادة موجودة وقت العقد.

ولو تجدّدت بعده، فقد التزم الشيخ رحمه الله في «المكاسب» بأنّ : (الحكم بالرجوع فيه أولى )(1).

والظاهر أنّ وجه الأولويّة هناك، من جهة احتمال أنّ الإقدام على الضمان بالمسمّى إقدامٌ على الضمان بالقيمة الواقعيّة، وهذا غير محتملٍ في المقام، لأنّ ما يتجدّد له من القيمة لا يحتمل كونه مُقْدِماً على ضمانه.

غرامة الأوصاف: وأمّا ما يغرمه بإزاء أوصافه، فقد فصّل الشيخ رحمه الله(2) بين وصف الصحّة وغيره من الأوصاف، والتزم بعدم الرجوع في وصف الصحّة - نظراً إلى مقابلته بجزء من الثمن - والرجوع في غيره من الأوصاف، كما لو كان عبدٌ كاتباً فنسي الكتابة عند المشتري، فرجع المالك عليه بالتفاوت؛ لأنّه لم يُقْدِم على ضمان ذلك، وتمام الكلام يتحقّق بالبحث في مقامين:

الأوّل: في الفرق بين وصف الصحّة وغيره من الأوصاف.

الثاني: من أنّه هل يرجع إلى البائع فيما يغرمه بإزاء الأوصاف أم لا؟.

أمّا المقام الأوّل: فالأظهر عدم الفرق بينهما، وأنّ شيئاً منها لا يقسّط عليه الثمن، وإنْ كان يعدّ موجباً لزيادة قيمة الموصوف، ولافرق في ذلك بين وصف الصحّة وغيره، والشاهد عليه ثبوت الخيار في تخلّف الوصف، وثبوت الأرش في خيار العيب، لا يدلّ على مقابلته بالثمن، وإلّا لزم أن يردّ البائع جزء من الثمن.4.

ص: 337


1- المكاسب: ج 3/503 و 504.
2- المكاسب: ج 3/503 و 504.

وأمّا المقام الثاني: فالأظهر - خلافاً للسيّد الفقيه رحمه الله(1) وغيره(2) - عدم الرجوع؛ لعدم تغرير البائع إيّاه، وقد أقدم المشتري على أنّ الخسارة المتوجّهة إليه من ناحية الوصف تكون عليه، وهذا يمنع عن صدق الغرور.

نعم، الأوصاف التي توجد فيما بعد وتتلف - حيث إنّه لم يُقْدِم على ضمانها - له الرجوع فيها إليه.

قال الشيخ قدس سره: (ثمّ إنّ ما ذكرنا كلّه إنّما هو إذا كان البيع المذكور صحيحاً من غير جهة كون البائع غير مالك، أمّا لو كان فاسداً من جهة أُخرى ، فلا رجوع على البائع؛ لأنّ الغرامة لم تجيء من تغرير البائع في دعوى الملكيّة، وإنّما جاءت من جهة فساد البيع)(3).

أمّا المحقّق النائيني رحمه الله: فقد استدلّ لإختصاص قاعدة الغرور بالعقد الذي يكون قابلاً للصحّة بإجازة المالك، بأنّ العقد الفاسد من جهة أُخرى لايكون الضمان الحاصل فيه مستنداً إلى التغرير، فإنّ الفساد من جهة أُخرى هوأسبق العلل، فلا يكون البائع غير المالك هو منشأ الفساد، ولا المجموع بالتشريك، لأنّ العقد الفاسد من جهة كون البائع غير مالكٍ بمنزلة وجود المانع، والفاسد من جهة أُخرى بمنزلة فقدالمقتضي، فلامحالة يستند الفساد إلي عدم المقتضي لا إليوجود المانع(4).

وفيه: إنّ سبب الضمان - بعد عدم العقد الصحيح - هو قاعدة اليد، سواءٌ أكان8.

ص: 338


1- حاشية اليزدي: ج 1/183.
2- كالأيرواني في حاشيته: ج 1/149.
3- المكاسب: ج 3/504.
4- منية الطالب: ج 1/298.

عدم الصحّة لإختلال شرطٍ من شروط العقد، أو كان لإختلال سائر الشروط، والتغرير سببٌ للرجوع لا للضمان، فلا يكون التغرير وسبب الضمان مقتضاهما متّحداً حتّى يشتركا في التأثير أو يكون التأثير للأسبق منهما.

أقول: فالأولى أن يستدلّ له فيما إذا كان المشتري عالماً بالفساد من ناحية أُخرى ، وهي أنّ التغرير المساوق للتدليس والتخديع متقوّمٌ صدقه بجهل المغرور بالضمان، فمع علمه بذلك، وأنّه يكون ضامناً على كلّ حال - سواءٌ أكان البائع مالكاً أم لا - لا يصدق هذا العنوان، وعليه فلا وجه للرجوع.

***

ص: 339

تعاقب الأيدي

مسألة: يدور البحث فيها عن أنّه إذا باع الغاصب ما غَصبه، ثمّ باعه المشتري لشخصٍ ثالثٍ ، ثمّ تلف المال في يد المشتري الثاني، فإنّه لا خلاف في أنّه للمالك مع رَدّ البيع الأوّل الرجوع إلى كلٍّ من الغاصب والمشتريين، مع أنّ الشيء الواحد ليس له إلّابدلٌ واحد، فكيف يحكم بضمان كلّ من الثلاثة ؟!

أقول: تنقيح القول في المسألة إنّما هو بالبحث في مقامين:

الأوّل: حكم المالك بالإضافة إلى كلّ واحد منهم.

الثاني: حكم كلّ واحدٍ منهم بالإضافة إلى الآخر.

أمّا المقام الأوّل: فقدأُورد عليضمان كلّمن دخل المال تحت يده بماحاصله:

أنّه إن اعتبر شيءٌ واحد في الذّمم، لزم استقرار الواحد في محال متعدّده:

وإن التزم بتعدّد ما في الذمم، لزم أنْ يكون لشيء واحدٍ أبدال متعدّدة، مع أنّ الشيء الواحد ليس له إلّابدل واحد.

أقول: الحقّ في الجواب عن هذا الشبهة أنْ يقال: إنّ الكلام:

تارةً : في الحكم الوضعي.

وأُخرى : في الحكم التكليفي.

أمّا من حيث الحكم الوضعي:

فإنْ قلنا: بأنّ معنى ضمان العين كونها في عهدة الضامن - كما قوّيناه - فإنّه لا محذور في تعدّد الضامن، لأنّ الشيء الواحدفي المحال المتعدّدة اعتباراً، ككونه في

ص: 340

الأذهان المتعدّدة بتعدّد صوره لا محذور فيه، والعهدة ليست إلّامحلّاً اعتباريّاً، وحيث إنّه واحدٌ، فلا محالة يسقط عن جميع الذّمم بأداء واحدٍ منهم.

وإنْ قلنا: بأنّ ضمان العين إنّما هو ثبوت بدلها في الذمّة:

فإنْ التزمنا بأنّ في ذمّة كلّ واحدٍ حصّة من الطبيعي، غير ما في ذمّة الآخر، لزم ثبوت أبدال عديدة لشيء واحد.

وأمّا إنْ التزمنا بأنّ الطبيعي بنفسه في ذمّة كلّ واحدٍ من دون أن يصير حصّة، أو التزمنا بأنّ حصّة منه في ذمّة كلّ واحد من جهة أنّه وجود اعتباري، فإنّه لا محذور في الإلتزام بشيء من ذلك، فلا يلزم هذا المحذور أيضاً.

وأمّا من حيث الحكم التكليفي: فالكلام فيه هو الكلام في الوجوب الكفائي؛ لأنّه أحد مصاديق ذلك، وقدحقّقنافي الأصول إمكانه(1)، وعليه فلامحذورفيه أصلاً.

أقول: وأمّا ما أفاده الشيخ رحمه الله في الجواب عن هذه الشبهة بما حاصله:

أنّ الذّمم المتعدّدة تشتغل بواحدٍعلى البدل، نظيرالواجب الكفائي فى العبادات(2).

فيرد عليه: أنّه في الواجب الكفائي لايكون الوجوب متوجّهاً إلى أحد الأفراد على البدل، فإنّ ذلك غيرمعقول، بل الوجه المعقول هناك توجّه التكليف إلى الجميع، لكن مشروطاً بعدم إتيان الآخرين، وهذا لا يمكن الإلتزام به في المقام، فإنّه:

1 - إمّا أن يلتزم بتقييد اشتغال كلّ ذمّة بعدم اشتغال لأُخرى .

2 - أو يلتزم بتقييد اشتغالها بعدم المطالبة من الآخر.

3 - أو يلتزم بتقييده بعدم أداء الآخر.8.

ص: 341


1- راجع بحث الواجب الكفائي في ج 2 (ط. ق) من زبدة الأُصول.
2- المكاسب: ج 3/506-508.

ولازم الأوّل انتفاء الإشتغال رأساً، لو كان الشرط عدم الآخر مقارناً له، وثبوت الاشتغالين معاً لو كان الشرط عدم الآخر بالعدم السابق، وهما كما ترى .

ولازم الثاني ثبوت الاشتغالين وبدلين عند عدم مطالبتهما.

ولازم الثالث استحقاق المالك لأبدال متعدّدة، لو أدّى الجميع ما في ذممهم، كما يحصل الإمتثال بفعل الجميع لو اتّفق الجميع على الإمتثال في الواجب الكفائي، مع أنّ المالك لا يستحقّ في شيء من الحالات إلّابدلاً واحداً.

ودعوى : أنّ الإلتزام بأنّ الخطاب بالنسبة إلى غير من بيده التلف تكليفيٌ ، لا وضعي، كما عن بعض الأعاظم(1).

مردودة: بأنّه لا وجه له بعد كون نسبة (على اليد) إليهما على حَدٍّ سواء.

المقام الثاني: في حكم كلّ واحدٍ منهم بالإضافة إلى الآخر.

ومحصّل الإشكال في المقام: أنّ الأصحاب حكموا في صورة توارد الأيدي أنّه لو تلفت العين، يكون قرار الضمان على من تلفت العين في يده، ولو رجع المالك إلى السابق، يرجع هو إلى اللّاحق، ولا يرجع اللّاحق إلى السابق إلّاإذا كان هناك غرور، لأنّ (المغرور يرجع إلى من غرّه)، مع اشتراكهما في سبب الضمان ووحدة نسبة (على اليد) إليهما.

وأجابوا عن ذلك بأجوبة:

الجواب الأوّل: ما أفاده الشيخ رحمه الله(2)، وحاصله:8.

ص: 342


1- نسبه المحقّق العراقي لبعض الأعاظم في (رسالة في تعاقب الأيدي): ص 221.
2- المكاسب: ج 3/508.

إنّ السابق بمجرّد وضع يده على المال يصبح ضامناً، بحيث يكون بدل العين على تقدير التلف على ذي اليد، فتصير العين بذلك مضمونة بالقوّة، ومتحيّثة بهذه الحيثيّة، فيَد اللّاحق واردة على عينٍ لها بدل، فضمانها ضمان عين لها بدل، ومرجع ذلك إلى ضمان العين وبدلها على سبيل البدل، إذ لو كان الضمان لخصوص العين خرج البدل عن كونه بدلاً.

أقول: وبهذاالتقريب تندفع جملة من الإشكالات التي أوردهابعض المحشّين(1).

منها: أنّه ما الوجه في ضمان البدل بعدما لم يدلّ دليلٌ عليه ؟! إذ قد عرفت أنّ ضمانه مقتضي البدليّة.

ومنها: أنّ لازمه جواز رجوع السابق إلى اللّاحق قبل دفع البدل، وقد ثبت أنّ البدل طولي لا عرضي.

أقول: وبرغم ذلك ترد عليه أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ الضمان عبارة عن كون العين في العهدة حتّى بعد التلف - كما تقدّم تحقيقه(2) - فلا يكون لها بدل.

الأمر الثاني: إنّ الإنتقال إلى البدل على القول به ليس قبل التلف، بل من حينه، وفي ذلك الحين تشتغل جميع الذمم بالبدل في عرضٍ واحد بلاسبقٍ ولحوق.

الأمر الثالث: إنّ لازم ما ذكره رحمه الله أنّه لو دفع العين من اللّاحق إلى السابق بعد أخذه منه، وتلفت عنده، جاز له الرجوع إلى اللّاحق، إذ اللّاحق اشتغلت ذمّته بماله).

ص: 343


1- الإصفهاني في حاشيته: ج 2/317-318.
2- تعرّض المؤلِّف لهذا التعريف للضمان في المجلّد 22/190، تحت عنوان: (التصدّق بمجهول المالك لا يوجب الضمان).

بدلٌ ، وبعد عود المال إلى السابق لا يصبح ضامناً لشيء لضمانه قبله.

الجواب الثاني: ما عن صاحب «الجواهر» رحمه الله، القائل بأنّ من تلفت العين تحت يده تصبح ذمّته مشغولة للمالك بالبدل، وإنْ جاز له إلزام غيره باعتبار الغصب بأداء ما اشتغلت ذمّته به، فيملك حينئذٍ من أدّى بأدائه ما للمالك في ذمّته بالمعاوضة القهريّة الشرعيّة(1).

وفيه: إنّ هذا يبتني على ما اختاره من عدم معقوليّة اشتغال ذمّتين بمالٍ واحد، وقد عرفت ضعف المبنى.

الجواب الثالث: ما عن السيّد الفقيه رحمه الله(2)، من أنّ العين التالفة تكون باقية على مِلك مالكها، ولذا يصحّ الصلح عليها واحتسابها خُمساً أو زكاة، ومايدفعه السابق إلى المالك يكون عوضاً عنها، ومقتضى العوضيّة خروج العين التالفة عن ملك مالكها، وصيرورتها مِلكاًللدافع، فيكون حاله حال المالك في جواز الرجوع إلى اللّاحقين.

ثمّ أورد على نفسه: بأنّ لازم ذلك جواز رجوع اللّاحق إلى السابق أيضاً، لأنّ المفروض أنّه قام مقام المالك.

وأجاب عنه: بأنّ الوجه في عدم جواز رجوعه إليه، أنّه السبب في ضمان السابق، بمعنى استقرار العوض في ذمّته.

وفيه: ماتقدّم من أنّ السببيّة بهذا المعنى ليست أحد موجبات الضمان، وعليه فلا فرق بين السابق واللّاحق، من أنّ ما يدفعه الدافع إلى المالك إنّما يكون غرامةً وبدلاًعن ماله، من جهة أنّماليّة العين تلفت، فمقتضي التغريم أن يحفظ ماليّتها بدفع6.

ص: 344


1- الجواهر: ج 37/34.
2- حاشية اليزدي (ط. ق): ج 1/186.

مالٍ ، ولا يكون بدل ملكٍ عن ملك.

وبعبارة أُخرى: لا يكون بدلاً عن العين في الملكيّة كي يتوقّف على تبديل إضافة الملكيّة من الطرفين.

الجواب الرابع: ما استند إليه جماعة منهم المحقّق الخراساني رحمه الله(1) - وعلى اختلافٍ بينهم في التعبير - وحاصله أنّ المتّبع في باب التغريمات هو الطريقة العرفيّة الممضاة شرعاً، ومن المعلوم لمن راجع العرف والعقلاء أنّهم يفرّقون بين دخول العين في العهدة ابتداءً ، ودخولها في العهدة بعدما كانت داخلة في عهدة أُخرى ، ويرون أنّه يلزم على الأوّل أداء بدل العين، وعلى الثاني أداء بدل العين للمالك، وبدل ما يؤدّيه السابق له على البدل، فمقتضى الأوّل الخروج عن عهدة العين، ومقتضى الثاني الخروج عن عهدة العين، وعن عهدة عهدتها.

أقول: والظاهر أنّ هذا أحسن ما يمكن أنْ يقال في وجه جواز الرجوع.

نعم، لابدَّ من تقييده بما إذا لم تكن يد اللّاحق مجانيّة، وغير معاوضيّة، وإلّا فليس بناءٌ من العقلاء على الرجوع، مثلاً لو غصب زيدٌ من عمرو شيئاً، فوهبه لبكر، ثمّ تلف في يده، فإذا رجع المالك إلى الغاصب، لم يكن له الرجوع بعده إلى بكر، وهو واضح.

***2.

ص: 345


1- حاشية الآخوند: ص 82.

ولو جَمَع بين مِلْكه وغيره، مضى في مِلْكه وتخيّر المالك في الإجازة.

بيع الفضولي مال نفسه مع مال غيره

مسألةٌ : (ولو جَمَع بين مِلْكه وغيره) وباعهما معاً بعقدٍ واحدٍ، وثمن فارد، (مضى) بيعه (في مِلْكه)، وكان فيما لا يملك موقوفاً على الإجازة، (و) هو مراد المصنّف بقوله: (تخيّر المالك في الإجازة).

وقال الشيخ رحمه الله: (لا ريب في الصحّة على القول بصحّة بيع الفضولي، والظاهر الصحّة على القول ببطلانه)(1).

أقول: وهو قابلٌ للمناقشة، لأنّ جميع ما ذكر وجهاً للبطلان يجري على القول بصحّة بيع الفضولي.

نعم، على القول بصحّته، وكون الإجازة كاشفة بنحو الشرط المتأخّر وتحقّقها، لا يجري شيءٌ من تلك الوجوه كما ستعرف.

وكيف كان، فيشهد للصحّة في المملوك عليجميع التقادير - مضافاً إلى الإجماع صحيح الصفّار المروي عن أبي محمّد العسكري عليه السلام:

«لا يجوز بيع ما ليس يملك، وقد وجَبَ الشراء من البائع على ما يملك»(2).

بل العمومات الدالّة على صحّة العقود كالآية الشريفة(3) تدلّ على الصحّة فيه أيضاً.

ص: 346


1- المكاسب: ج 3/512-513.
2- الفقيه: ج 3/242 ح 3886، وسائل الشيعة: ج 17/339 أبواب عقد البيع وشروطه ب 2 ح 1 (22704).
3- سورة المائدة: الآية 1.

أقول: وقد ذكروا لوجه عدم الشمول أُموراً(1):

منها: أنّ البيع أمرٌ واحد بسيط:

فإمّا أنْ يكون هذا الواحد مشمولاً للعمومات، فلازمه الصحّة في جميع أجزاء المبيع.

أو لا يكون مشمولاً لها، فلازمه البطلان في الجميع.

وعلى التقديرين، لا وجه للتفكيك بين الأجزاء صحّةً وفساداً.

وحيث أنّه لا يمكن الإلتزام بالأوّل؛ وإلّا لزم خروج المال عن مِلْك مالكه بلا رضاه، فيتعيّن البناء على البطلان في الجميع.

وفيه: إنّ البيع - أي الإنشاء - وإنْ كان واحداً، إلّاأنّ ما تضمّنه من التمليك يكون متعدّداً حقيقة، لتعدّد الملكيّة بتعدّد المملوك، فإذا تعدّدت الملكيّة يتعدّد التمليك لا محالة، لأنّ الإيجاد والوجود متّحدان حقيقة، وأحد التمليكين يكون مشمولاً للعمومات، وهو ما تعلّق بماله دون الآخر، فيصحّ هو دون صاحبه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الإنشاء واحدٌ صورة، ومنحلٌّ إلى إنشاءات متعدّدة حسب ما للمُنشَأ من الإفراد.

وممّا يشهد للإنحلال: - مضافاً إلى ظهوره على ما عرفت - أنّه لو انضمّ إلى ما يصحّبيعه بعض ما نهى الشارع عن بيعه، وباعهما بإنشاءٍ واحد، لم يتوهّم أحدٌ صحّة هذا البيع مستنداً إلى أنّ دليل النهي لا يشمل مثل هذا البيع، لعدم كونه متعلّقاً به استقلالاً، فإنّ المتعلّق هوالمجموع من حيث المجموع، مع أنّ لازم هذاالوجه ذلك.1.

ص: 347


1- ذكرها المحقّق الأيرواني في عداد ما يتوهّم كونه مانعاً، لاحظ حاشية الأيرواني: ج 1/151.

ومنها: أنّ البائع لم يرض بانتقال ماله منفرداً، فإنّه رضي بانتقاله منضمّاً إلى مال غيره، وقد خُصّصت العمومات بما دلَّ على اعتبار الرضا في صحّة البيع.

وفيه: إنّ البائع قد رضي بانتقال ماله وانتقال مال غيره، فكلٌّ منهما متعلّق للرضا، فانتقال ماله يكون عن رضا، وغاية ما هناك عدم انتقال مال غيره برضاه، لا انتقال ماله بلا رضاه.

مع أنّه أخصّ من المدّعى، إذ ربما يكون راضياً بانتقاله منفرداً أيضاً.

ومنها: أنّه يلزم من الصحّة عدم تبعيّة العقد للقصد، إذ ما قُصد هو المجموع، وما وقع غيره.

أقول: قد ظهر جوابه ممّا ذكرناه في سابقه، فإنّ البائع قاصدٌ لإنتقال ماله في ضمن قصده انتقال المجموع.

ومنها: إنّ الثمن الواقع بإزاء الجزء المملوك مجهولٌ ، فلاتصحّ المعاملة الواقعة عليه.

وفيه: المتيقّن من دليل اعتبار العلم بالعوضين، اعتبار العلم بما يجعل عوضاً أو معوّضاً في الإنشاء، لا اعتبار العلم بما ينفذ فيه البيع شرعاً.

طريق معرفة حصّة كلّ منهما: فلا إشكال فيما لو عيّن حصّة كلّ منهما، كما لو لاحظ البائع والمشتري وقوع حصّة معيّنة من الثمن بإزاء كلّ جزءٍ من المثمن، إنّما الكلام فيما لو لم يلاحظا ذلك، وأوقعا العقد على المجموع، من ناحية معرفة الحصّة والتسقيط، ولهم في معرفة ذلك وتحديده مسالك:

المسلك الأوّل: ما عن المشهور، من أنّه يقوّم مجموع المالين، ثمّيقوّم مال غيره، ثمّ تُنسب قيمته إلى قيمة المجموع، فيؤخذ بتلك النسبة، فإذا كانت قيمة مصراعي

ص: 348

الباب عشرة، وكانت قيمة أحدهما اثنتين، يرجع المشتري بخُمس الثمن.

المسلك الثاني: ما اختاره الشيخ رحمه الله(1) وفاقاً لغيره(2)، من أنّه يقوّم كلّ واحدٍ منهما منفرداً، فيؤخذ لكلّ واحدٍ جزءٌ من الثمن نسبته إليه كنسبة قيمتة إلى مجموع القيمتين، فإذا كان الثمن عشرة، وكانت قيمة مال نفسه أربعة، وقيمة مال غيره اثنتين، يرجع المشتري بثُلث الثمن، إذ نسبة قيمة مال غيره إلى مجموع القيمتين هي ذلك.

المسلك الثالث: ما اختاره جمعٌ من الأساطين(3)، من أنّه يقوّم كلّ واحدٍ منفرداً، لكن بملاحظة حال الإنضمام، فيؤخذ لكلّ واحدٍ جزء من الثمن نسبته إليه كنسبة قيمته إلى مجموع القيمتين.

أقول: والأظهر هو الثالث، وذلك يظهر ببيان أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ الهيئة الإجتماعيّة:

1 - ربما لا تكون موجبة لازدياد القيمة ولا لنقصانها.

2 - وربما تكون موجبة لأحدهما.

وعلى الثاني:

تارةً : تكون موجبة للازدياد من الطرفين بالسَّوية، كما في مصراعي الباب.

وأُخرى : تكون موجبة له بالإختلاف، كما لو كان قيمة أحدهما مع الإنضمام خمسة ولا معه أربعة، وكان قيمة الآخر معه ستّة ولا معه ثلاثة.9.

ص: 349


1- المكاسب: ج 3/515.
2- كالعلّامة في الإرشاد: ج 1/360.
3- منهم السيّد اليزدي في حاشيته: ج 1/189.

وثالثة: تكون موجبة للنقصان من الطرفين بالسَّوية.

ورابعة: تكون موجبة له بالإختلاف.

وخامسة: تكون موجبة للزيادة في أحدهما، والنقيصة في الآخر، كما لو باع جارية مع ابنتها الصغيرة، وفرضنا أنّ قيمة الاُمّ تنقص في صورة ضَمّ ابنتها إليها من جهة قيامها بتربيتها، وقيمة الصغيرة تزيد بذلك.

الأمر الثاني: أنّ كلّ جزءٍ إنّما قوبل بجزءٍ من الثمن في حال الإنضمام لا مطلقاً.

الأمر الثالث: أنّ الأوصاف لا تُقابل بالمال، وتخلّفها يوجب الخيار لا رَدّ جزءٍ من الثمن.

أقول: وبهذه الأُمور يظهر أنّ الأظهر هو الثالث، إذ:

يرد على الأوّل: ما ذكره الشيخ رحمه الله من أنّه (لا يستقيم فيما إذا كان لإجتماع الملكين دخلٌ في زيادة القيمة، كما في مصراعي الباب، وزوج خُف، إذا فُرض تقويم المجموع بعشرة، وتقويم أحدهما بدرهمين، وكان الثمن خمسة)(1)، فإنّ لازم هذا القول رجوع المشتري بخُمس الثمن، فيبقى للبائع أربعة في مقابل مصراع واحد، مع أنّه لم يجعل في المعاملة في مقابله إلّانصف الثمن.

ويرد على الثاني: هذا المحذور بعينه في صور الإختلاف، فإنّه في مثال الجارية وابنتها إذا باعهما بعشرة، وكانت قيمة الجارية في حال الإنفراد ستّة، وفي حال الإنضمام أربعة، وقيمة ابنتها بالعكس، فإذا كانت البنت لغير البائع، فإنّ لازم ما اختاره الشيخ رحمه الله هو رجوع المشتري إلى البائع بخُمسين من الثمن، مع أنّه إنّما جُعل من الثمن بإزائها ثلاثة أخماس.7.

ص: 350


1- المكاسب: ج 3/516-517.

وللمشتري مع فسخ المالك الخيار.

وعليه، فالمتعيّن هو القول الثالث.

(و) كيف كان، ف (للمشتري مع فسخ المالك) ورَدّه العقد (الخيار)، فله حينئذٍ رَدّ الجميع بلا خلاف. وعن «التذكرة»(1) نسبته إلى علمائنا لتبعّض الصّفقة، ووجوب البيع في خبر الصفّار(2) إنّما هو بالنسبة إلى البائع.

وصرّح بعضهم(3) باعتبار الجهل فيه، فلو كان عالماً أنّ بعضه للغير، ويحتمل أن لا يجيز العقد، لم يكن له خيار لإقدامه على ذلك، وتمام الكلام في هذا الخيار ومورده في فصل الخيارات(4).

***ق.

ص: 351


1- تذكرة الفقهاء: ج 1/566.
2- المتقدّمة في هذا الجزء، صفحة 346 في مبحث (بيع الفضولي مال نفسه مع مال غيره).
3- منهم الشيخ في المبسوط: ج 2/145.
4- راجع مبحث الخيارات في الجزء 25 من فقه الصادق.

بيع نصف الدار

بقي الكلام عن حكم مسألتين:

المسألة الاُولى : ما لو باع من له نصف الدار نصف تلك الدار.

أقول: وقبل الشروع في البحث فيها، لابدَّ من تقديم مقدّمتين:

المقدّمة الأُولى : في بيان الكسر المشاع، وأنّ الشركة الحاصلة في المبيع على أي كيفيّة، والعمدة فيه مسلكان:

أحدهما: ما هو المنسوب إلى المشهور(1)، من أنّ معنى الشركة على الإشاعة، هو أنّ كلّ جزءٍ يُفرض في الجسم، فكلّ واحدٍ من الشريكين المساويين مالكٌ لنصف هذا الجزء.

ثانيهما: أنّ كلّ واحدٍ منهما مالكٌ لتمام المملوك، وإنّما الملكيّة تكون ضعيفة وناقصة، فالأخوان الوارثان لأبيهما هما معاً بالإضافة إلى المال كأبيهما، وطرف إضافة الملكيّة هما مجتمعاً، وكلّ منهما مالك لجميع المال، ولكن بالملكيّة الناقصة لا التامّة.

وقد استدلّ للأوّل: بأنّ المشهور بين المتكلّمين وبعض الحكماء قبل الإسلام وإنْ كان، أنّ مادّة الجسم المطلق هي الأجزاء التي لا تقبل القسمة لا خارجاً ولا ذهناً، ويُسمّى كلّ جزءٍ من هذه الإجزاء بالجوهر الفرد والجزء الذي لا يُتجزّأ.

ولكن بطلان هذه المقالة - كبطلان مقالة النظَّام، حيثُ ذهب إلى أنّ الجسم مؤلّفٌ من أجزاء غير متناهية - في عصرنا من أوضح البديهيّات، لأنّ كلّ ما يشار

ص: 352


1- لم نقف على من نسبه صريحاً، لاحظ منية الطالب: ج 1/397-398.

إليه بالإشارة الحسيَّة، لابدَّ أنْ يكون ما يحاذي منه جهة الفوق غير ما يحاذي منه جهة الأسفل، وكذا باقي الجهات، فلا محيص من أنْ يكون منقسماً، وإنْ نفتقد آلة لتقسيمه، مضافاً إلى ما برهنوا عليه من لزوم تفكّك الرّحى ونفي الدائرة.

وعليه، فكلّ جزءٍ يُفرض في الجسم، يكون كلّ واحدٍ من الشريكين مالكاً لنصف ذلك الجزء(1).

وفيه: إنّ هذا البرهان لو تمّ لاقتضى إمكان ذلك، لا كون ما في الخارج كذلك.

أقول: والأرجح في النظر هو الثاني، وذلك لأنّه مضافاً إلى أنّه المناسب للفهم والوجدان، ويلائم مع الطبع، يشهد له وجهان:

أحدهما: أنّه لا إشكال في أنّ الشيء الخارجي الذي يكون مِلْكاً ومالاً، لو قُسّم وانتصف ربما يصل إلى حَدٍّ يسقط عن الماليّة والملكيّة، فعلى هذا لو خلّف الميّت شيئاً له الماليّة، وكان ورثته متعدّدين، وقُسّم ذلك بحسب عددهم، لا يكون كلّ جزءٍ منه ملكاً، ممّا يلزم البناء على عدم كونه مِلْكاً لأحد، وهو كما ترى .

الثاني: إنّ المملوك المشترك ربما يكون من الأعراض والأفعال والأعمال غير القابلة للقسمة لبساطتها، كالصلاة، ورفع الحَجر من الأرض ونحو ذلك، ولا معنى للإلتزام بالملكيّة بالمعنى الأوّل في هذه الموارد، وعليه فلا مناص من البناء على ما اخترناه، وهذه آية قطعيّة عليه.

أضف إلى ذلك كلّه، عدم معقوليّة المعنى الأوّل، فإنّ كلّ ما في الخارج يكون معيّناً، ولا معنى لوجود شيء في الخارج غير معيّن في الواقع، وحيثُ أنّ الكسر8.

ص: 353


1- منية الطالب: ج 1 / ص 397-398.

المشاع بذلك المعنى غير معيّن خارجاً فلا يمكن الإلتزام به.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ معنى المِلْكيّة المشاعة، هو مالكيّة الشركاء، كلّ منهم لجميع المال بالملكيّة الضعيفة، ونظيره في التكوينيّات رفع جماعة حَجَراً واحداً، حيث أنّ الرفع يستند إلى مجموعهم، فعلى هذا يكون معنى بيع نصف الدار بيعه بتمامه وذلك من خلال إعطاء الملكيّة الناقصة، وهذه مسامحة في التعبير، لكنّه شائع عند العرف.

المقدّمة الثانية: في تعيين محلّ النزاع والبحث.

أقول: لا خلاف ولا إشكال فيما لو عُلم بأنّه أراد من النصف شيئاً معيّناً من نصفه المختصّبه، أو نصف غيره، أو المشاع في الحصّتين، وإنّماالكلام في موردين:

الأوّل: ما لو عُلم أنّه قصد شيئاً معيّناً، وكان ذلك مشتبهاً وغير معلوم عندنا.

الثاني: ما لو عُلم بأنّه لم يقصد بقوله: (بعتك نصف الدار) إلّامفهوم هذا اللّفظ.

ظاهر الشيخ رحمه الله(1) اختصاص النزاع بالمورد الثاني، وصريح السيّد رحمه الله(2)اختصاصه بالمورد الأوّل، وذهب المحقّق النائيني رحمه الله(3) إلى التعميم.

أقول: لا ينبغي التوقّف في كون الأوّل مورد النزاع، ولم يُذكر وجهٌ لعدم النزاع فيه، وأمّا ماذُكر في وجه عدم جريان النزاع في المورد الثاني، و حاصله: أنّ (الظهورات إنّما تكون لتشخيص المرادات، والمفروض أنّه لم يقصد المتكلّم خصوصيّة ملكه أو ملك غيره، وإنّما قَصد مفهوم النصف الذي مقتضاه ليس إلّاالإشاعة)(4).0.

ص: 354


1- المكاسب: ج 3/520.
2- حاشية المكاسب: ج 1/190.
3- منية الطالب: ج 1/310.
4- حاشية السيّد اليزدي: ج 1/190.

فيرد عليه: أنّ المراد من أنّه لم يَقصد إلّامفهوم هذا اللّفظ، ليس خلوّ الكلام عن المراد الجدّي، بل المراد أنّه إنّما قصد مفهوم هذا اللّفظ، وتعلّقت إرادته الجديّة به هكذا، أي بما يقتضيه ظهور هذا الكلام، ولو بلحاظ المقام، مع خلوّه عن الإرادة التفصيليّة.

وعلى هذا فيقع الكلام في موردين:

الأوّل: فيما إذا لم يقصد إلّامفهوم هذا اللّفظ.

الثاني: فيما إذا قصد معيّناً غير معلوم عندنا.

وحيث أنّ المدرك وكذلك المختار في الموردين واحدٌ، فلا حاجة إلى البحث في كلّ من الموردين مستقلّاً.

وكيف كان، فقد ذُكر في وجه ظهور الكلام في النصف المشاع بينه وبين الأجنبي، أنّ النصف ظاهرٌ في الحصّة المشاعة في مجموع الحصّتين.

وأورد عليه الشيخ رحمه الله: بأنّ هذا الظهور يعارض مع ظهورين آخرين:

أحدهما: ظهور مقام التصرّف في إرادة حصّته المختصّة.

ثانيهما: ظهور إنشاء البيع في البيع لنفسه، لأنّ بيع مال الغير يتوقّف على نيّة الغير، أو اعتقاد كونه له، أو البناء عليه عداوناً، والكلّ خلاف المفروض، ولذلك توقّف قدس سره من جهة هذا التعارض في حكم المسألة(1).

وفيه: إنّه لو سُلّم ظهور النصف في المشاع بين الحصّتين، ولم نلتزم بما أفاده الشيخ رحمه الله في أثناء كلامه من أنّه ظاهرٌ في نفس المشاع دون المشاع بين الحصّتين، فإنّه2.

ص: 355


1- المكاسب: ج 3/521-522.

لا ريب في أنّه ظهورٌ إطلاقي ناشٍ عن انتفاء ما يوجب التعيين، لكن ينفيه ظهور مقام التصرّف في إرادة الحصّة المختصّة، ممّا يمنع عن انعقاده.

وعليه، فالأظهر الحمل على نصفه المختص.

قال الشيخ قدس سره: (ولعلّه لما ذكرنا ذَكر جماعةٌ كالفاضلين والشهيدين وغيرهم:

أنّه لو أصدق المرأة عيناً، فوهبت نصفها المشاع قبل الطلاق، استحقّ الزوج بالطلاق النصف الباقي، لا نصف الباقي وقيمة نصف الموهوب)(1).

أقول: إنْ بنينا على أنّ المرأة تملك بالعقد نصف المهر، وبالدخول تملك نصفه الآخر، تكون هذه المسألة بعينهامسألتنا، لأنّمحلّ البحث في المقام لايكون خصوص البيع، فالوجه في حكمهم استحقاق الزوج بالطلاق النصف الباقي هو ما ذكرناه.

وأمّا إنْ التزمنا بأنّها تملك تمام المهر، وبالطلاق قبل الدخول عليها أن تعيد نصفه إلى الزوج، فهي أجنبيّة عن المقام، فإنّ المرأة حين ما وهبت النصف كانت مالكة لجميع المال، والطلاق ليس إنشاءً لردّ النصف كي يجري فيه هذا النزاع.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ ما ذكره الشيخ رحمه الله - الذي أشار إليه هنا - هو عدم التنافي بين ظهور النصف في الإشاعة، وحمله على نصفه المختصّ من باب أنّه (مَنْ مَلِك كليّاً مَلِك مصداقه)، فما ذكروه في صداق المرأة نظير للمقام من هذه الجهة، فإنّ حكم الشارع الأقدس بردّ نصف المهر في قوّة تمليك الزوجة نصفه للزوج، فيكون من باب أنّه (مَنْ مَلِك كليّاً مَلِك مصداقه)، إذ المرأة مالكة لمصداق النصف، فيكون نظيراً للمقام.3.

ص: 356


1- المكاسب: ج 3/523.

بيع ما يقبل التملّك وما لا يقبله

المسألة الثانية: لو باع ما يقبل التملّك وما لا يقبله كالخمر صفقةً بثمنٍ واحد، فإنّه لا خلاف في صحّة البيع في المملوك، وعن غيرواحدٍ(1) دعوى الإجماع عليه.

ويشهد لهم: - مضافاً إلى ذلك، وإلى العمومات التي عرفت في مسألة بيع المِلْك وغير الملك تقريب دلالتها على الصحّة في أمثال المقام، وأنّ ما ذكر في وجه عدم شمولها لها تارةً لعدم المقتضي، وأُخرى لعدم المانع غير تامّ ، فراجع ما حقّقناه - إطلاق مكاتبة الصفّارالمتقدّمة(2) والوارد فيها قوله عليه السلام: «لا يجوز بيعُ ما ليس يُملَك، وقد وَجَب الشراء من البائع على ما يُملك»، فإنّها بإطلاقها تشمل ما إذا كان بعض القرية وقفاً عامّاً غير مملوكٍ لأحد.

أقول: أمّا طريق تقسيط الثمن على المملوك وغيره، فيُعرف ممّا تقدّم في مسألة (ما لو باع ماله مع مال الغير)(3) من أنّه يقوّم كلّ واحدٍ منفرداً، لكن بملاحظة حال الإنضمام، فيؤخذ لكلّ واحدٍ جزء من الثمن نسبته إليه كنسبة قيمته إليمجموع القيمتين.

لكن الإشكال هنا في طريق معرفة قيمة غيرالمملوك، لفرض أنّه لا قيمة له.

وأيضاً: لا إشكال فيما إذا باع غير المملوك بعنوانه، كما لو ضَمّ الخمر إلى الخَلّ فباعهما بصفقة واحدة، فإنّه يعرف قيمة الخمر بالرجوع إلى من يراها مِلْكاً ومالاً،

إنّما الإشكال فيما إذا باعه بعنوان ما يملك، كما لو باع شاة وخنزيراً بعنوان أنّهما

ص: 357


1- كالمحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 4/432، وابن زهرة في الغنية: ص 209. (2و3) تقدّم في هذا الجزء صفحة 346، في مبحث (بيع الفضولي مال نفسه مع مال غيره).

شاتان، والأظهر أنّه يقوّم قيمة المملوك - أي الشاة - لأنّ بذل المال إنّما يكون بإزاء الصورة النوعيّة، وإلّا فالأجسام من حيث هي لا ماليّة لها، ولا يُبذل بإزائها المال.

والمراد بها هي الصورة النوعيّة العرفيّة، ففي المقام بذل جزء من الثمن بإزاء الشاة دون الخنزير، فلابدَّ من لحاظ ذلك في مقام التقويم.

هذا إذا كان غير المملوك مالاً عرفاً.

وأمّا إنْ لم يكن مالاً، فقد اختار السيّد الفقيه(1) بطلان البيع في هذه الصورة، من جهة أنّه لا يمكن تعيين ما بإزاء غير المملوك، لأنّه لا قيمة له، ولا يمكن البناء على الصحّة بالنسبة إلى المملوك في تمام الثمن، لأنّه جُعل بإزاء غير المملوك في المعاملة بعضه، فيتعيّن البناء على البطلان.

وفيه: إنّ هذا يتمّ في صورة الجهل، بأن يجعل بإزاء ما لا يملك جزءً من الثمن، ولا يتمّ في صورة العلم، من جهة أنّه في تلك الصورة لا يجعل بإزائه شيء من الثمن، ويكون ذلك نظير ضميمة الأوساخ، فلامحالة يصحّ البيع في تمام الثمن.

وبذلك يظهر تماميّة ما أفاده الشيخ الكبير رحمه الله(2) من التفصيل بين صورة العلم والجهل.

***1.

ص: 358


1- حاشية السيّد اليزدي: ج 1/197.
2- نقل عبارته السيّد اليزدي في حاشيته: ج 1/198، وانظر الجواهر: ج 22/321.

ولاية الأب والجَدّ

مسألة: يجوز للأب والجدّأن يتصرّفا في مال الطفل بالبيع والشراء بلا خلاف.

وفي «الجواهر»: دعوى الإجماع بقسميه عليه(1)، كما ادّعاه غير واحدٍ من الكتب(2)، واستدلّ له الشيخ الأعظم قدس سره:

1 - بالأخبار المستفيضة المصرّحة في موارد كثيرة.

2 - وبفحوى سلطنتهما على بُضع البنت في باب النكاح(3).

وفيه: إنّ النصوص المستفيضة المشار إليها طوائف:

الأُولى : ما تضمّنت الأخذ من مال الولد(4).

الثانية: ما وردت في تقويم الأب جارية ولده الصغار، ثمّ يصنع بها ما شاء(5).

الثالثة: ما وردت في جواز اتّجار الوصي بمال الطفل إذا كان قد أوصى أبوه بذلك(6).

أقول: لا يصحّ الإستدلال بشيءٍ منها.

أمّا الأُولى : فلأنّها واردة في تصرّف الأب لنفسه استقلالاً، لاتصرّفه لإبنه، مع

ص: 359


1- الجواهر: ج 22/322.
2- كما هو في المبسوط: ج 2/200، والسرائر: ج 1/441، والشرائع: ج 2/78-79، والقواعد: ج 1/125، واللّمعة: ص 138، والمسالك: ج 3/166، وجامع المقاصد: ج 4/87.
3- المكاسب: ج 3/535، وانظر وسائل الشيعة: ج 20/275 و 289 أبواب عقد النكاح وأولياءالعقد ب 6 ب 11.
4- انظر وسائل الشيعة: ج 17/262، أبواب ما يكتسب به ب 78 ح 1 (22476)-2(22477)-4(22479)-9(22484).
5- أنظر وسائل الشيعة: ج 17/267 أبواب ما يكتسب به ب 78.
6- الاستبصار: ج 30/2 ح 6، وسائل الشيعة: ج 9/89 أبواب من تجب عليه الزكاة ومن لاتجب ب 2 ح 6 (11592).

أنّها واردة في الولد مطلقاً، صغيراً كان أم كبيراً، بل مورد أكثرها البالغ، وفي بعضها التقييد بصورة الحاجة والإضطرار، وفي بعضها المنع عن الأخذ إذا كان الولد ينفق عليه بأحسن النفقة، مع أنّها مختصّة بالأب غير متعرّضة للجدّ.

وأمّا الثانية: فلأنّه من الممكن اختصاص ذلك بالجارية؛ من جهة أنّ الشارع الأقدس قد وسّع في أسباب حلية الوطء بما لم يوسّع في سائر المعاملات، كما تقدّم في مبحث الفضولي(1).

مع أنّ فيها ما ورد في الكبير كصحيح ابن محبوب(2) الوارد في تقويم جارية البنت التي قد أهداها إليها أبوها حين زوّجها، مع أنّها من جملة أدلّة جواز تصرّفاته الراجعة إلى نفسه، وسبيلها سبيل تلك الأدلّة.

وأمّا الثالثة: فعدم دلالتها على الولاية في حال الحياة واضح.

وأمّا الفحوى : فقد تقدّم(3) في مبحث الفضولي المناقشة في فحوى نفوذ النكاح بالإضافة إلى سائر المعاملات، فراجع، وبرغم ذلك، فإنّ أصل الحكم ممّا لا ينبغي التوقّف فيه؛ لبناء العقلاء عليه، وعدم ردع الشارع عنه، وقيام إجماع الاُمّة عليه، وجملة كثيرة من النصوص الدالّ بعضها، كنصوص الاتّجار بماله الوارد في باب الزكاة(4)، والمؤيّد غيره كالنصوص المتقدّمة.

أقول: بقي الكلام في المراد من الجملة المذكورة في جملةٍ من الأخبار وهي).

ص: 360


1- راجع صفحة 131، مبحث بيع الفضولي من هذا الجزء.
2- الكافي: ج 5/471 ح 5، وسائل الشيعة: ج 17/267 أبواب ما يكتسب به ب 78 ح 1 (22489).
3- تقدّم في الصفحة 147، بدايات مبحث الفضولي من هذا الجزء.
4- أنظر وسائل الشيعة: ج 9/89 أبواب من تجب عليه الزكاة ومن لاتجب باب 2 ح 6 (11592).

قوله عليه السلام: «أنتَ ومالكَ لأبيك»(1)، فإنّه لا إشكال:

1 - في عدم كون اللّام للملك لعدم مملوكيّة رقبة الولد لأحدٍ، وماله المفروض كونه مِلْكاً له لا يعقل كونه ملكاً لأبيه.

2 - وكذا لا ينبغي التوقّف في عدم كونها للإختصاص بعنوان كونه وماله تحت ولايته؛ لأنّها وردت في الكبير أيضاً، ولا كلام في عدم ولايته على ولده الكبير، بل الأمر يدور بين أمرين:

الأوّل: أنْ تكون اللّام للإختصاص بنحو السلطنة على الإنتفاع به وبماله، فسبيلها حينئذٍ سبيل النصوص المتقدّمة الدالّة على ذلك.

الثاني: أنْ تكون لإفادة كون الولد موهوباً تكويناً للأب وانتسابه إليه بكونه ولده.

أقول: ويؤيّد الثاني المكاتبة الواردة عن الإمام الرضا عليه السلام، حيث قال: «وعلّة تحليل مال الولد لوالده بغير إذنه، وليس ذلك للولد، لأنّه الولد موهوبٌ للوالد في قوله عزّ وجلّ ... الخ»(2)، وعليه فهي حكمة التشريع.

وبعبارة أُخرى: أنّها علّة التحليل في مقام الثبوت لا الإثبات، وتدلّ على أنّ منشأ جعل تلك الآثارذلك، ولاتكون هي متكفّلة لحكم جعلي، فلايتمسّك بإطلاقها.

أقول: بعد معلوميّة ما ذكرنا يقع البحث في جهات:).

ص: 361


1- مثل ما رواه محمّد بن مسلم في التهذيب: ج 6/343 ح 82، وسائل الشيعة: ج 17/262 أبواب ما يكتسب به ح 1 (22479)، وما رواه أبو حمزة الثمالي في التهذيب: ج 6/343 ح 83، وسائل الشيعة: ج 17/263 أبواب ما يكتسب به ب 78 ح 2 (22480)، وغيرهما.
2- علل الشرائع: ج 2/524 ب 302، وسائل الشيعة: ج 17/266 أبواب ما يكتسب به ب 78 ح 9 (22487).

اعتبار العدالة

الجهة الأُولى : في أنّه هل يعتبر في ولاية الأب والجَدّ العدالة كما عن «الوسيلة»(1) و «الإيضاح»(2)، أم لاتعتبر كما هوالمشهور بين الأصحاب ؟، وجهان:

قد استدلّ لعدم الإعتبار بوجوه:

الوجه الأوّل: الأصل، تمسّك به الشيخ قدس سره(3) في مقابل الإطلاق، وعليه فليس المراد به القاعدة المستفاد منه، بل المراد به هوالأصل العملي، ولذا أوردعليه جمعٌ ممّن تأخّر عنه، منهم المحقّق النائيني رحمه الله: (بأنّ الأصل بالعكس؛ لأنّنفوذ تصرّف شخصٍفي مال غيره يتوقّف على الدليل، ومع عدمه، الأصل يقتضي عدم نفوذه)(3).

ولكن الظاهر أنّ مراده بالأصل هو استصحاب عدم الردع، بعد ثبوت عدم اعتبارها عند العقلاء، وعدم ثبوت ردعٍ من الشارع الأقدس، وعليه فلا إيراد عليه.

الوجه الثاني: الإطلاقات، تمسّك بها الشيخ رحمه الله(5)، وتبعه غيره(4)، ولا بأس به إنْ كان هناك إطلاقٌ ، وقد تقدّم(5) الكلام فيه.

الوجه الثالث: الإجماع المحكيّ في «التذكرة»(6) على ولاية الفاسق على التزويج، وهو كما ترى .

ص: 362


1- نسبها إليه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 5/257، وظاهر الوسيلة: ص 279.
2- إيضاح الفوائد: ج 2/628. (3و5) المكاسب: ج 3/535.
3- منية الطالب: ج 1/322.
4- منهم الأصفهاني في حاشيته: ج 2/370.
5- راجع بحث ولاية الأب والجدّ قبل قليل.
6- التذكرة: ج 2/599.

وقد استدلّ لإعتبار العدالة بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه (ولايةٌ على من لا يَدفع عن نفسه ولا يعرب عن حاله، ويستحيل من حكمة الصانع جعل الفاسق أميناًتقبل إقراراته وإخباراته عن غيره)(1).

وفيه أوّلاً: إنّ المنافي للحِكمة، هو جعل من لا يبالي بالخيانة وليّاً، فإذا فرضنا تحديد الولاية بالتصرّفات التي لا مفسدة فيها - لا سيّما إذا كان مأموناً من هذه الجهة، خصوصاًبملاحظة شفقة الاُبوّة ورأفته - لم يكن فسقه مانعاً عن جعله وليّاً.

وثانياً: ما ذكره الشيخ رحمه الله بقوله: (إنّ الحاكم متى ظهر عنده اختلافُ حال الطفل - أي رؤية آثار ضيق المعاش عليه - أو اختلاف حاله في ثروته، منعه من التصرّف في ماله... الخ)(2).

الوجه الثاني: نصّ القرآن، وقد استظهر الشيخ رحمه الله(3) أنّ المراد به آية الركون إلى الظالم(2)، واستظهر بعض مشايخنا(3) أنّ المراد به آية النبأ(4).

أقول: تقريب الإستدلال بالأولى أحد وجهين:

أحدهما: إنّ جعله تعالى الفاسق أميناً ووليّاً يعدّ ركوناً منه إلى الظالم، مع أنّه نهى عنه.

ثانيهما: إنّ المعاملة مع الأب بعنوان أنّه وليّ الطفل ركونٌ إليه، وهو منهيٌّ عنه.

وفي كليهما نظر:6.

ص: 363


1- الإيضاح: ج 2/628. (2و3) المكاسب: ج 3/536، عن جامع المقاصد: ج 11/275.
2- سورة هود: الآية 113.
3- هو المحقّق الأصفهاني في حاشيته: ج 2/371.
4- سورة الحجرات: الآية 6.

أمّا الأوّل: - فمضافاً إلى أنّه استدلالٌ بفحوى الآية لا بنصّها، من جهة أنّ الناهي عن شيءٍ كيف يفعله - أنّه غير تامّ ، إذ مجرّد جعله أميناً ووليّاً كجعل شخصٍ وكيلاً لا يعدّ ركوناً إليه، مع أنّ الملاك غير معلوم، ولعلّه لركون العبد مفسدة ليست في ركون المولى.

وأمّا الثاني: فلأنّ المعاملة مع الأب بعنوان أنّ اللّه تعالى جعله أميناً ووليّاً ليست ركوناً من العبد إليه، فإنّها كالمعاملة معه بما أنّه مالك أو وكيل.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ الظالم أخصّ من الفاسق، أضف إلى ذلك ما قيل(1) من ورودها في حقّ سلاطين الجور، وأنّ المراد ب (الركون) الدّعاء لهم بالبقاء.

وأمّا الآية الثانية: فيرد على الإستدلال بها:

إنّ قبول أخبار الفاسق وإقراره حينئذٍ إنّما يكون من جهة كون وليّاً، حيث إنّه (مَن مَلك شيئاً ملك الإقرار به)، ولا ينافي مع عدم قبوله منه عن غيره من حيث هو، والآية متضمّنة للثاني.

مع أنّ عدم قبول إخباره وإقراره لا ينافي ثبوت الولاية له.

مضافاً إلى أنّ قبول إخباره وإقراره بعد ثبوت الولاية، بما أنّه بلسان (أنّه وماله لأبيه) غير قبول إخباره عن غيره، بل هو في حكم قبول إقراره على نفسه.

وبالجملة: فالأظهر عدم اعتبار العدالة.

اعتبار المصلحة في التصرّف

الجهة الثانية: هل يشترط في تصرفهما المصلحة، أو يكفي عدم المفسدة، أم لا يعتبر شيء؟، وجوهٌ .

ص: 364


1- منية الطالب: ج 1/323، وأنظر الكافي: ج 5/108 ح 12.

والكلام فيها في موردين:

الأوّل: في اعتبار عدم المفسدة.

الثاني: في اعتبار المصلحة.

أمّا المورد الأوّل: فعن غير واحدٍ(1) دعوى الإجماع على اعتباره.

واستدلّ لعدم الإعتبار: بإطلاق النبوي(2)، وغيره من النصوص(3).

وأورد عليه الشيخ رحمه الله: بأنّه لابدّ من تقييده:

1 - بما يقيّد من الأخبار الواردة حول جواز تصرّف الأب في مال الإبن بصورة الحاجة، كخبر الحسين بن أبي العلاء(4).

2 - أو بأن لا يكون فيه سرف كصحيح ابن مسلم(5).

3 - أوكونه ممّالابدّمنه، معلّلاًبأنّ «اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ» (6) كصحيح الثمالي(7).

4 - وبالآية: «وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (8)، بتقريب أنّها تشمل الجدّ، ويتمّ في الأب بعدم الفصل، وبالإجماع.

أقول: وجميعها لا تدلّ على المطلوب:

أمّا الأخبار: فهي تدلّ على جواز أخذ الأب لنفسه مع الحاجة، وهذا غير2.

ص: 365


1- كالحِلّي في السرائر: ج 1/441، والمحقّق في الشرائع: ج 2/78-79، والعلّامة في القواعد: ج 1/125، والشهيد في اللّمعة ص 138، والشهيد الثاني في المسالك: ج 3/166، والكركي في جامع المقاصد: ج 4/87، وغيرهم.
2- الآنف الذِّكر، «أنت ومالك لأبيك».
3- تقدّم في العنوان السابق جملة منها.
4- الكافي: ج 5/136 ح 6، وسائل الشيعة: ج 17/265 أبواب ما يكتسب به ب 78 ح 8 (22486).
5- لتهذيب: ج 6/343 ح 82، وسائل الشيعة: ج 17/262 أبواب ما يكتسب به ح 1 (22479).
6- سورة البقرة: الآية 205.
7- لتهذيب: ج 6/343 ح 83، وسائل الشيعة: ج 17/263 أبواب ما يكتسب به ب 78 ح 2 (22480).
8- سورة الأنعام: الآية 152.

مربوط بتصرّفه فيه بعنوان الولاية، الذي هو محلّ الكلام في المقام.

وأمّا الآية الشريفة: ففي شمولها للجَدّ تأمّل؛ لأنّ من له الجَدّ لا يصدق عليه اليتيم، فتأمّل، مع أنّ عدم الفصل غير ثابت.

وأمّا الإجماع: فليس تعبّديّاً يكشف عن رأي المعصوم عليه السلام.

أقول: وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات المحقّق النائيني رحمه الله(1)، فإنّه بعد الإيراد على الشيخ رحمه الله قال: يستفاد من الأخبار ولايته على الإبن، وأنّ ولايته غير ولاية الولاة، والحكمة في جعلها له الشفقة والمحبّة، وعليه فكما يجوز تصرّفه مع الضرر في ماله يجوز تصرّفه في مال المولّى عليه.

ثمّ قال: (إلّا أن ينعقد إجماعٌ على خلافه، أو يتمسّك بالآية الشريفة).

والحقّ في الجواب عن هذا الوجه: هو منع الإطلاق كما تقدّم، ومحصّله أنّ قوله عليه السلام: «أنتَ ومالك لأبيك» ليس في مقام جعل الحكم والولاية، وإنّما هو في مقام بيان حكمة التشريع.

وأمّا ما رتّب عليه من جواز الإنتفاع بماله؛ فهو أجنبيٌ عن المقام، ومقيّد بصورة الحاجة وبغير سرف، وبما إذا لم ينفق عليه بأحسن نفقة، وجواز الإقتراض، مضافاً إلى كونه غير مربوط بالمقام لا مفسدة فيه.

وجواز بيعه من نفسه مقيّدٌ بقيمة عادلة.

أمّا جواز نكاح الأب والجدّ للبنت مثلاً، فقد عرفت ما فيه، مضافاً إلى أنّه قيّد في بعض النصوص بعدم كونه مضارّاً، فلا إطلاق للنصوص من هذه الجهة.

وبالجملة: فالمرجع أصالة عدم الولاية، وهي تقتضي اعتبار عدم المفسدة.

وأمّا المورد الثاني: فالمشهور بين الأصحاب اعتبار وجود المصلحة، واختار4.

ص: 366


1- منية الطالب: ج 1/324.

الشيخ رحمه الله(1) وفاقاً لغير واحدٍ من الأساطين الذين عاصرهم(2) عدم اعتباره، وتبعهم جمعٌ من المحقّقين(3)، وقد استدلّ على اعتباره بوجوه:

الوجه الأوّل: الآية الشريفة: «وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (4)، بدعوى أنّ الأحسن ما فيه المصلحة، وهي تشمل الجَدّ، ويتمّ في الأب بعدم القول بالفصل.

وفيه أوّلاً: إنّ صدق اليتيم على الطفل الذي لا أب له وله جَدٌّ غير مُسلّم.

وثانياً: أنّ المراد ب (أحسن) الحَسنُ دون التفضيل - كما سيأتي - والفعل الذي لا مفسدة فيه حَسنٌ .

وثالثاً: إنّ الآية منصرفة إلى الإجانب، ولا تشمل الجَدّ.

ورابعاً: إنّ عدم الفصل غير مُحرزٍ.

الوجه الثاني: الأصل.

بعد أن لم يكن في أدلّة الولاية ما له إطلاق، لابدّ من الإقتصار فيها على المتيقّن، وهو الولاية على التصرّف الذي فيه المصلحة، والرجوع في غير ذلك إلى أصالة عدم ثبوت الولاية، أو عدم نفوذ التصرّف.

وفيه: إنّ هذا الوجه حَسنٌ إنْ لم يكن بناء العقلاء على ثبوت الولاية على التصرّف الذي لا مفسدة فيه، والظاهر وجوده، وحيث إنّه لم يردع عنه الشارع، أو لم يثبت الردع، فإنّ مقتضى الإستصحاب عدمه، فيبنى على عدم اعتباره، ولا مورد2.

ص: 367


1- المكاسب: ج 3/540.
2- منهم الشيخ الكبير كاشف الغطاء في كشف الغطاء: ج 1/210، وفي شرحه على القواعد (مخطوط) ص 71، وصاحب الجواهر في الجواهر: ج 22/332.
3- منهم السيّد اليزدي في العروة الوثقى: ج 5/543 المسألة السادسة من المحرّمات بالمصاهرة، والمحقّق الأصفهاني في حاشيته: ج 2/372-375، وظاهر السيّد الحكيم في المستمسك: ج 14/194.
4- سورة الأنعام: الآية 152.

لجريان الأصل حينئذٍ.

الوجه الثالث: الإجماع.

وفيه: إنّه ليس إجماعاً تعبّديّاً فلا يعتمد عليه.

وقد استدلّ الشيخ رحمه الله(1) لعدم الإعتبار بالمطلقات - وقد عرفت ما فيها - وبما ورد في نكاح الجَدّ(2)، الظاهر في سلطنته على ذلك مع عدم المصلحة، ووجه ظهوره فيه هو التعليل بأنّ البنت وأباها للجَدّ، وقد تقدّم ما فيه أيضاً.

وعليه، فالصحيح ما ذكرناه.

مشاركة الجَدّ للأب

الجهة الثالثة: لا خلاف ظاهراً - كما ادّعى(3) - في أنّ الجَدّ وإن علا يُشارك الأب، وقد استدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: ما في «المكاسب»(4) من الاستدلال بما دلّ على أنّ الشخص وماله - الذي منه مال ابنه - لأبيه(5).

وفيه: ما تقدّم من عدم دلالة هذه الجملة على الولاية.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(6) من أنّ رواية النكاح شاملة

ص: 368


1- المكاسب: ج 3/540-541.
2- قرب الإسناد: ج 2/119، وسائل الشيعة: ج 20/291 أبواب عقد النكاح وأولياء العقد باب 11 ح 8 (25656).
3- الجواهر: ج 26/102.
4- المكاسب: ج 3/542.
5- تقدّم تخريجها آنفاً.
6- منية الطالب: ج 1/324.

للجَدّ العالي.

وفيه: إنّ روايات النكاح كلّها مختصّة بالأب، إلّاما ورد في مزاحمة الأب للجَدّ، وأكثر تلك النصوص صريحة أو ظاهرة في الجَدّ الأدنى أو عدم الأدنى .

نعم، بعضها(1) بعنوان الأب والجَدّ، وهو أيضاً يمكن دعوى انصرافه إلى الأدنى، أو عدم الإطلاق الشامل للأعلى بملاحظة الأخبار الأولى.

وبالجملة: حيث أنّ بناء العقلاء غير مُحرَزٍ على ولايته، فولاية غير الجَدّ الأدنى لا تخلو عن تأمّل.

حكم فقدان الأب وبقاء الجَدّ

الجهة الرابعة: لو فُقِد الأب وبقي الجَدّ، ففيه موردان للبحث:

المورد الأوّل: أنّ ولاية الجَدّ هل تكون مشروطة بحياة الأب أم لا؟، المنسوب إلى المشهور بين القدماء هو الأوّل، وإلى المشهور بين المتأخّرين(2) هو الثاني.

واستدلّ للأوّل: بخبر الفضل بن عبد الملك، عن مولانا عليه السلام:

«إنّ الجَدّ إذا زوّج ابنة ابنه، وكان أبوها حيّاً، وكان الجَدّ مرضيّاً جاز»(3)، حيث أنّ مفهومه عدم الجواز مع عدم حياة أبيها.

وفيه: إنّه من قبيل مفهوم الوصف، ولا نقول به، ولعلّ فائدة ذكر الوصف الرّد على العامّة القائلين باشتراط ولاية الجَدّ بموت الأب.

وما في «الجواهر»(4): من كونها من مفهوم الشرط.

ص: 369


1- الفقيه: ج 3/395 ح 4393، وسائل الشيعة: ج 20/289 أبواب عقد النكاح وأولياءالعقد ب 11 ح 3 (25651).
2- لم نقف على الناسب من المتقدّمين، لكن النسبتين حكاهما كذلك المحقّق الاصفهاني في حاشيته: ج 2/377.
3- الكافي: ج 5/396 ح 5، وسائل الشيعة: ج 20/290 أبواب عقد النكاح ب 11 ح 4 (25652).
4- الجواهر: ج 29/171.

ضعيفٌ ، إذ الشرط فيه مسوقٌ لبيان تحقّق الموضوع، كما لا يخفى .

المورد الثاني: إنّه مع فقد الأب هل الولاية مختصّة بالجَدّ الأدنى، أم تكون ثابتة لأبيه أيضاً؟، قولان.

استدلّ للأوّل: في «المكاسب»(1) بآية: «أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ » (2).

بتقريب: أنّها تدلّ على أنّ القريب أولى بقريبه من البعيد، فنفت ولاية البعيد، وخرج منها الجَدّ مع الأب وبقي الباقي.

وفيه أوّلاً: إنّ هذه الآية مختصّة بباب الإرث.

وثانياً: إنّها تدلّ على أولويّة بعض الأرحام من بعض، ولا تدلّ على تعيين البعض الأولى، ولعلّه البعض البعيد، بل احتمال كونه أولى أرجح من جهة التعليلات الواردة في النصوص.

واستدلّ للثاني: بإطلاق الأدلّة، وبالإستصحاب.

ويرد على الأوّل: بما تقدّم من عدم الدليل على ولاية الجَدّ الأعلى .

وعلى الثاني: بما تكرّر منّا من عدم جريان الإستصحاب في الأحكام الكليّة.

والحمدُ للّه ربّ العالمين، وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين المعصومين.

***

ص: 370


1- المكاسب: ج 3/542.
2- سورة الأنفال: الآية 75، سورة الأحزاب: الآية 6.

فهرس الموضوعات

المقصد الثالث / ألفاظ عقد البيع... 9

خصوصيّات ألفاظ العقد... 13

ألفاظ الإيجاب والقبول... 17

اعتبار العربيّة... 20

عدم اعتبار الماضويّة... 24

تقديم القبول على الإيجاب... 26

اعتبار الموالاة... 34

اشتراط التنجيز في العقد... 38

تنبيهات... 44

اعتبار المطابقة بين الإيجاب والقبول... 47

أهليّة العاقد... 50

اختلاف المتعاقدين في شروط الصيغة... 53

المقصد الرابع / شرائط المتعاقدين... 58

أدلّة القول بصحّة عقد الصبي... 72

مستثنيات قانون رفع القلم عن الصَّبي... 76

معاملة الصبي في الأشياء اليسيرة... 81

اعتبار القصد... 84

لابدَّ من تمييز البائع من المشتري... 86

ص: 371

عدم وجوب تعيين من يشتري له ومن يبيع له... 86

وجوب تعيين الموجب لخصوص المشتري،... 89

والقابل لخصوص البائع... 89

اشتراط الاختيار... 92

أدلّة بطلان عقد المُكرَه... 94

حقيقة الإكراه... 98

اعتبار العجز عن التفصّي بما لا ضرر فيه... 99

في حكم من أُكره على أحد أمرين... 105

حكم إكراه أحد الشخصين على فعلٍ واحد... 107

صور تعلّق الإكراه... 109

الإكراه على بيع عبدٍ من عبدين... 113

حكم الإكراه على الطلاق... 117

لو تعقب الرضا عقد المكره... 123

بيع الفضولي... 131

الصورة الاُولى / بيع الفضولي للمالك مع عدم سبق المنع... 137

أدلّة بطلان بيع الفضولي والجواب عنها... 157

بيع الفضولي للمالك مع سبق المنع... 166

بيع الفضولي لنفسه... 169

لو كان مال الغير دون العين في ذمّته... 179

الفضولي في المعاطاة... 183

القول في الإجازة... 188

ص: 372

أدلّة كاشفيّة الإجازة... 190

ثمرة القول بالكشف والنقل... 203

ثمرات أُخرى بين النقل و الكشف... 215

ثمرات ذكرها بعض... 220

تنبيهات الإجازة... 223

كفاية الرضا الباطني في الإجازة... 225

اعتبار عدم سبق الرَّد... 228

الإجازة لا تورث... 230

إجازة البيع ليست إجازة لقبض الثمن... 232

الإجازة ليست على الفور... 238

اعتبار مطابقة الإجازة للعقد... 239

البحث عن المجيز... 244

اعتبار كون المجيز جائز التصرّف حال الإجازة... 244

اشتراط وجود المجيز حال العقد وعدمه... 245

عدم اشتراط كون المجيز جائز التصرّف حين العقد... 248

لو كان المالك حين العقد غير جائز التصرّف... 251

من باع شيئاً ثمّ مَلَك... 254

صور بيع من باع شيئاً ثمّ مَلَك... 270

حكم ما إذا لم يجز البائع بعد تملّكه... 274

لو باع معتقداً كونه غير جائز التصرّف... 278

لو باع عن المالك فانكشف كونه وليّاً... 278

ص: 373

لو باع لنفسه فانكشف كونه وليّاً... 279

لو باع عن المالك فانكشف كونه مالكاً... 280

لو باع لنفسه فانكشف أنّه له... 288

القول في المجاز... 290

اعتبار كون المجاز معلوماً تفصيلاً... 292

حكم العقود المترتّبة... 296

صور العقود الواقعة على المعوّض... 298

صور العقود الواقعة على العوض... 299

حكم تتابع العقود في صورة علم المشتري بالغصب... 304

أحكام الرَّد... 310

حكم التصرّفات غير المنافية لملك المشتري... 314

حكم رجوع المالك إلى المشتري لو لم يجز... 318

حكم رجوع المشتري إلى الغاصب... 318

الغرامة التي غرمها المشتري... 327

تعاقب الأيدي... 340

بيع الفضولي مال نفسه مع مال غيره... 346

بيع نصف الدار... 352

بيع ما يقبل التملّك وما لا يقبله... 357

ولاية الأب والجَدّ... 359

اعتبار العدالة... 362

اعتبار المصلحة في التصرّف... 364

ص: 374

مشاركة الجَدّ للأب... 368

حكم فقدان الأب وبقاء الجَدّ... 369

فهرس الموضوعات... 371

***

ص: 375

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.