فقه الصادق المجلد 22

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه على ما أولانا من التفقّه في الدِّين، والهداية إلى الحقّ ، والصراط المستقيم، والصّلاة والسّلام على أشرف النفوس القدسيّة، وأزكى الذّوات المطهرة الملكيّة، محمّد المصطفى وعترته المرضيّة، هُداة الخلق وأعلام الحقّ .

وبعدُ: فهذا هو الجزء الثاني والعشرون من كتابنا (فقه الصادق)، وقد وفّقنا إلى طبعه، وأرجو من اللّه تعالى التوفيق لنشر بقيّة المجلّدات، إنّه وليّ التوفيق.

ص: 5

ص: 6

السادس: ما يجبُ فِعله يَحرُم التكسّب به، كأُجرة تَغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم.

[تتمة كتاب المتاجر]

أخذ الأُجرة على الواجبات

(السادس: ما يجبُ ) على الإنسان (فعله) عيناً كان كالصلاة والصوم، أو كفائيّاً، تعبّداً أو توصّلاً (يَحرُم التكسّب به) على المشهور، وعليه الفتوى ، كما عن «المسالك»(1)، والمحكي عن «مجمع البرهان» أنّ عليه الإجماع(1).

أقول: لكن في المسألة أقوال:

القول الأول: المنع مطلقاً، نسبه الشهيد رحمه الله إلى المشهور(3).

القول الثاني: ما نُسب إلى السيّد المرتضى رحمه الله(2) من الجواز في الواجب الكفائي (كأُجرة تَغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم) برغم أنّه عمل تعبّدي.

القول الثالث: ما نقله صاحب «المصابيح»(3) عن فخر المحقّقين من التفصيل بين التعبّدي فلا يجوز، والتوصّلي فيجوز.

القول الرابع: ما عن فخر المحقّقين رحمه الله في «الإيضاح»(4) من الجواز في الكفائي التوصّلي، وعدم الجواز في غيره.

ص: 7


1- حكاه في الجواهر: ج 22/116.
2- نسبه الشهيد في الدروس: ج 3/172 مجممع الفائدة والبرهان: ج 8/89-91.
3- المصابيح: ص 59 (مخطوط)، وحكاه الشيخ في المكاسب: ج 2/132.
4- إيضاح الفوائد: ج 2/264.

القول الخامس: ما عن «الرياض»(1) من الجواز في الواجبات الكفائيّة التي تكون واجبة كفايةً لانتظام المعاش، وعدم الجواز في غيرها.

القول السادس: ما عن «مفتاح الكرامة»(2) من التفصيل بين ما كان الغرض الأهمّ منه الدُّنيا فيجوز، وبين ما كان الغرض الأهمّ منه الآخرة فلا يجوز.

القول السابع: ما عن «المصابيح»(3) من الجواز في الواجب التوصّلي الكفائي والعيني الذي كان وجوبه للضرورة، وعدم الجواز في غيرهما.

القول الثامن: ما يظهر من الشيخ رحمه الله(2) من التفصيل بين العيني التعييني والكفائي التعبّدي فلا يجوز، والكفائي التوصّلي والتخيّيري التوصّلي فيجوز، والتخييري التعبّدي فالتردّد.

القول التاسع: ما اختاره جمعٌ من المحقّقين(3) وهو الجواز مطلقاً.

أقول: وليعلم أنّه لا سبيل في هذه المسألة إلى دعوى الإجماع، والاستدلال به، - إذ مضافاً إلى معلوميّة مدرك المُجمِعين أنّه لا مجال لدعوى الإجماع في المقام مع هذا الاختلاف الكبير بين الفقهاء.

بيان موضوع هذه المسألة:

أقول: وقبل الدخول في البحث، وبيان المختار، لا بدَّ من بيان محلّ الكلام، إذ لا بدَّ في كلّ مسألةٍ من تحديد موضوعها والبحث في خصوص الحيثيّة التي يبحث0.

ص: 8


1- رياض المسائل: ج 8/83. (2و3) حكاه في بلغة الفقيه: ج 2/11 و 12.
2- المكاسب: ج 2/135-136.
3- مستمسك العروة الوثقى: ج 12/223، مصباح الفقاهة: ج 1/460.

عنها في تلك المسألة، وجعل الجهات الاُخر مفروغةً عنها كي لا تختلط تلك الجهة بغيرها، وعليه فإنّ موضوع البحث في المقام يدور في ثلاث جهات:

الأُولى : منافاة عباديّة العمل لأخذ الأُجرة.

الثانية: منافاة الوجوب بما هو له.

الثالثة: منافاة الوجوب التعبّدي النيابي لأخذ الأُجرة، نظراً إلى عدم وقوعه قريباً عن المنوب عنه، بعد الفراغ عن سائر الجهات المعتبرة في صحّة عقد الإجارة، كأن لا يكون العمل الذي وقعت الإجارة عليه ممّا اعتبر الشارع فيه المجانيّة، حيث تكون الإجارة حينئذٍ باطلة لذلك، وإنْ كان ذلك العمل مستحبّاً كالأذان، أو مباحاً أو مكروهاً.

ولمّا كان اتّجاه بحث الشيخ رحمه الله في «المكاسب» إلى خصوص الجهة الثانية، ذكر مبنيّاً على ذلك أمرين:

الأمر الأول(1): إنّ موضوع هذه المسألة ما إذا كان الواجبُ على العامل منفعةً تعود إلى من يبذل بإزائه المال، كما لو كان كفائيّاً وأراد سقوطه عن ذمّته، فمثل فعل الشخص صلاة الظهر عن نفسه لا يجوز أخذ الأُجرة عليه، لا لوجوبها، بل لعدم وصول عوض المال إلى باذله.

أقول: لا بأس بالإشارة الإجماليّة إلى هذه الكبرى الكليّة مقدّمةً للبحث، حيث استدلّ لاعتبار هذا الشرط بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ الإجارة بدونه سفهيّة وأكلٌ للمال بالباطل.6.

ص: 9


1- المكاسب: ج 2/126.

الوجه الثاني: إن المبادلة في الإجارة إنّما تكون بين منفعة معيّنة والعوض المعلوم، فلابدّ من عود المنفعة إلى باذل العوض، وإلّا انتفت المبادلة والإجارة، إذ قوامها بدخول كلٍّ من العوضين في المكان الذي خرج منه الآخر.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لا دليل على بطلان كلّ معاملةٍ سفهيّة كما سيأتي تنقيح القول في ذلك في الجزء السادس عشر من هذا الشرح، مع أنّ المؤجّر ربما ينتفع بمنفعةٍ عائدة إلى غيره، كما إذا انتفع من تعلّم أحكام الصلاة مثلاً من فعل المستأجر صلاة الظهر عن نفسه.

بل يمكن أن يقال إنّ التسبيب إلى تحقّق الخير، والإعانة على البِرّ والتقوى ، ممّا يترتّب عليه الثواب - أي الفائدة الأخرويّة - فالإستئجار المزبور لترتّب هذه الفائدة عليه لا يكون سفهيّاً.

اللّهم إلّاأن يقال: إنّ هذه فائدة فعل المؤجّر نفسه، وأمّا الذي يعتبر في خروج الإجارة عن السفهيّة، وكونها أكلاً للمال بالباطل، كون العمل المستأجر عليه ممّا له فائدة عائدة إلى المؤجّر، إذ هو المقابَل بالمال، مضافاً إلى أنّ كون اللّه مطاعاً لو كان هو المقصود من الإجارة، لما كانت الإجارة سفهيّة كما لا يخفى .

وأمّا الثاني: فلأنّ حقيقة الإجارة لا تقتضي أزيد من قابليّة العمل لصيرورته مملوكاً للمستأجر، وأمّا كون المنفعة راجعة إليه، فهو ممّا لم يدلّ عليه دليل.

الأمر الثاني(1): إنّ الاستدلال على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب،7.

ص: 10


1- المكاسب: ج 2/127.

بمنافاة ذلك للاخلاص في العمل، غير تامّ ، لأنّ العجز عن العمل لأجل عدم تمشّي القُربة موجودٌ في العبادات غير الواجبة، والقدرة عليه لأجل عدم اعتبار القُربة في التوصّلي من الواجب ثابتة، فهذا الوجه غير مربوط بمورد النقض والإبرام، ولا ملازم له كي يصحّ الاستدلال المزبور.

وعليه، فلا يرد عليه ما أورده السيّد الفقيه(1)، بقوله: (الانتقاض الطردي لا يضرّ بالاستدلال، إذ لا مانع من كون الدليل أعمّ من المُدّعى في الجملة، وأمّا الانتقاض العكسي فهو مضرٌّ إنْ كان الغرض إثبات تمام المدّعي كما هو الظاهر في المقام).

أقول: لكن لايخفى أنّ هذا الوجه لم يظهر ممّا ذكره في قوله: (واعلم... إلى آخره).

عدم منافاة التعبّديّة لأخذ الأُجرة

وكيف كان، فقد عرفت أنّ البحث هنا يقع في مقامات:

المقام الأوّل: في أنّ التعبّديّة هل تنافي أخذ الأُجرة أم لا؟

وحيث أنّ المانع المتنازع فيه هي التعبّديّة، فلا فرق في هذا المقام بين الواجب والمستحبّ .

أقول: وقد استدلّ لعدم جواز أخذ الأُجرة على التعبّديّات بوجوه:

الوجه الأول(2): إنّه يعتبر في صحّة العبادات، أن يؤتى بها بقصد القُربة، وأخذ الأُجرة عليها ينافي القُربة والإخلاص، إذ قصد ذلك يوجبُ انقلاب داعي

ص: 11


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/24.
2- المكاسب: ج 2/127.

الإخلاص في العبادة المستأجر عليها إلى داعي أخذ الأُجرة، فيكون عقد الإجارة رافعاً للتمكّن من العمل المستأجر عليه، ويوجبُ ذلك بطلان الإجارة لا محالة، إذ التمكّن منه شرط في صحّة الإجارة، وما يلزم من صحّته فساده باطل.

أقول: بعد إصلاح ذلك بأنّ المراد من شريك العلّة وما اُدّعي كونه في عرض قصد القُربة، ليس هو قصد تملّك الأُجرة، لأنّه إنّما يكون بنفس الإيجار لا بالعمل الخارجي، ولا تُسلّم الأُجرة خارجاً، لأنّه يمكن للأجير تسلّمها قبل العمل أو بعد العمل الخالي عن قصد القُربة، أو إخباره كذباً بالعمل، بل المراد استحقاق مطالبة الأُجرة.

يرد عليه: - مضافاً إلى منع اقتضاء عقد الإجارة انقلاب الدّاعي دائماً، إذ يمكن أن يلاحظ العامل في إتيان العمل استحقاق ذلك، ويأتي به خالصاً لوجه اللّه تعالى، وإنْ علم بترتّب ذلك عليه، فيكون ذلك عنده من المقارنات - أنّ العامل لمّا علم أنّه لا يستحقّ مطالبة الأُجرة شرعاً إلّابإتيان العمل المستأجر عليه، المتوقّف على قصد القُربة، لا محالة يقصد ذلك، ويكون استحقاق المطالبة من قبيل الدّاعي إلى الدّاعي لا شريك الدّاعي.

فإنْ قلت: إنّه إذا فرضا عدم كون الامتثال بذاته داعياً، بل من حيث كونه مقتضياً لاستحقاق الأُجرة، فلا محالة يكون الامتثال علّة ناقصة ومتمّمها حيثيّة استحقاق الأُجرة، فلا تكون العلّة التامّة هي قصد القُربة.

قلت: إنّ استحقاق الأُجرة بما أنّه غاية للفعل المغيّى بالامتثال، لكون ذلك هو مورد الإجارة، لا للفعل وحده، ولا لغايته كذلك، فهو إنّما يكون علّة لعلّة الفعل، لا

ص: 12

علّة له ولا شريكاً لعلّته، ويكون الفعل منبعثاً عن قصد الامتثال، وقصد الامتثال منبعثاً عن استحقاق الأُجرة، والانبعاث الثاني لا يضرّ بالانبعاث الأوّل، ولا يوجبُ نقصاً فيه.

فإنْ قلت: إنّ تحقّق عنوان المستأجر عليه - أعني العبادة - يتوقّف على أمرين:

أحدهما: ذات العبادة، وهو فعل الصلاة مثلاً.

الثاني: عنوان الامتثال.

فالقاصد للعبادة يقصد تحقّق العنوان المستأجر عليه بكلّ من جزئيه، فيكون الدّاعي بالإضافة إلى نفس الفعل أمرين:

الأول: تحقّق هذا الجزء من المستأجر عليه.

الثاني: قصد الامتثال.

فيكون من قبيل التشريك في الدّاعي، لا من قبيل الدّاعي للدّاعي، وإنّما يكون من هذا القبيل ما إذا كان المستأجر عليه نفس الامتثال، ومن البديهي أنّ المستأجر عليه هو العمل العبادي لا التعبّد بالعمل، وإلى هذا الوجه استند المحقّق التقي رحمه الله(1)لإثبات أنّ قصد استحقاق الأُجرة في عرض قصد الامتثال لا في طوله.

قلت: إنّ مورد الإجارة إنّما هو المقيّد بما هو مقيّد، أي العبادة المقيّدة بهذا القيد، لا ذات المقيّد والقيد بما هما ملحوظان بنحو المعنى الإسمي، فيكون قصد تحقّق العنوان المستأجر عليه كقصد استحقاق الأُجرة في طول قصد الامتثال لا في عرضه، مع أنّ قصد تحقّق العنوان المستأجر عليه غير معتبرٍ في سقوط الأمر3.

ص: 13


1- تعليقة الشيخ محمّد تقي الشيرازي على المكاسب المحرّمة، بحث: (ممّا يحرم التكسّب به)، و (ما يجب على الإنسان فعله) ص 143.

بالإجارة كما ستعرف.

الوجه الثاني: ما استند إليه جماعة منهم المحقّق النائيني رحمه الله(1) من أنّه يعتبر في تحقّق العبادة الإخلاص طولاً كما يعتبر عرضاً، وإلّا لما وقعت العبادة ممحّضة على وجه الإخلاص، لأنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمات، فإذا لم تنته سلسلة العلل والدّواعي بجميع حلقاتها إلى اللّه تعالى ، فهي غير خالصة لوجه اللّه تعالى، فيعود المحذور المتقدّم، وهو أنّ عقد الإجارة يوجبُ رفع التمكّن من العمل المستأجر عليه.

أقول: وأُجيب عنه:

تارةً : بالنقض بعبادة أكثر النّاس، حيث أنّها تكون لأجل الخوف من عذابه أو الطمع في ثوابه، ولا كلام لأحدٍ في صحّة هذه العبادات، وقد دلّت عليها النصوص، مثل حسن هارون، عن الإمام الصادق عليه السلام: «العباد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه عزّ وجلّ خوفاً فتلك عبادة العبيد، وقومٌ عبدوا اللّه تبارك وتعالى طلباً للثواب فتلك عبادة الأُجراء، وقومٌ عبدوا اللّه عزّ وجلّ حُبّاً له فتلك عبادة الأحرار، وهي أفضل العبادة»(2).

وما عن جماعة(3) من بطلان العبادة إذا قصد بفعلها الثواب أو الخلاص من العقاب، بل عن بعضهم دعوى الإجماع عليه(4)، يكون المراد به ما كان هذا القصد هو الدّاعي إلى العمل، لا من قبيل الدّاعي إلى الدّاعي.ة.

ص: 14


1- منية الطالب: ج 1/50.
2- وسائل الشيعة: ج 1/62 باب 9 من أبواب مقدّمة العبادات ح 1 رقم 134، الكافي: ج 2/84 ح 5.
3- حكاه في الحدائق: ج 2/178.
4- القواعد والفوائد: ج 1/77 نقلاً عن المسائل المهنائيّة للعلّامة.

نعم، الدرجة العالية من العبادة، هي ما كانت الغاية القصوى منها لأجل حُبّه تعالى دون ما سواه، ويكون الخلوص طولاً أيضاً، وهي مختصّة بالمعصومين عليهم السلام، وإليه أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله:

«ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، لكن وجدتُك أهلاً للعبادة فعبدتك»(1).

وأُخرى : بالنقض بالصلاة لسِعة الرزق، ولأداء الدَّين، ولقضاء الحاجة.

وأورد عليه الشيخ رحمه الله:(2) - وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله(3) - وهو إيراد على الأوّل أيضاً، بأنّه فرق بين الغرض الدنيوي المطلوب من الخالق الذي يتقرّب إليه بالعمل، وبين الغرض الحاصل من غيره، وهو استحقاق الأُجرة، فإنّ طلب الحاجة من اللّه تعالى ولو كانت دنيويّة محبوبٌ عند اللّه، فلا يقدح في العبادة، بل ربما يؤكّدها.

وفيه: إنّ كون سبب وصول النفع هو اللّه سبحانه وتعالى لا يوجب اتّصاف الفعل بعنوان حسن مضافٍ إلى المولى، لأنّ كلّ نفع وضرر منه تعالى، ولذا قطع الأصحاب ببطلان العبادة إذا أتى بها بداعي الثواب، أو دفع العقاب، كما صرّح به الشهيد رحمه الله(4)، ومعه لا يعقل تأكّد الإخلاص والعباديّة بذلك.

أقول: ويمكن الجواب عن هذا الوجه - مضافاً إلى ما مرّ - بجوابٍ حَلّي أفاده7.

ص: 15


1- مرآة العقول: ج 1/101 باب النيّة، البحار: ج 41/14 ح 4.
2- المكاسب: ج 2/129.
3- منية الطالب: ج 1/51.
4- القواعد والفوائد: ج 1/77.

بعض المحقّقين(1) وهو أنّ الفعل المنبعث عن دعوة الأمر يعدّ عِدلاً في العبوديّة، وإحساناً إلى المولى، وهو من العناوين الممدوح فاعلها بالذّات، ولا يعقل تخلّف هذا العنوان الحَسَن بالذّات عن الفعل المأتي به بداعي الأمر، كما لا يُعقل تخلّف كونه ممدوحاً على فاعله عن هذا العنوان الحسن بالذّات، ومن الواضح أنّ ترتّب فائدة دنيويّة على هذا الفعل الممدوح فاعله لا يَخرجه عن كونه ممدوحاً فاعله على فعله، فلا يعقل مانعيّته عن وقوعه ممدوحاً فاعله على فعله مع فرض ترتّبه عليه، فإنّ ما يتفرّع على الشيء لا يعقل أن يكون مانعاً عنه، مع أنّه قد عرفت أنّ تملّك الأُجرة إنّما يكون من خلال الإجارة، وتسلّمها لا يتوقّف على إتيان العبادة مع قصد القُربة، فالدّاعي إلى الإتيان بالعمل المستأجر عليه صحيحاً وعن قصد القُربة الذي لا يطّلع عليه إلّاعلّام الغيوب ليس إلّاالاستحقاق شرعاً.

وبعبارة أُخرى: أمر المولى بالإتيان بما اشتغلت ذمّته به من العبادة، وقيامه بأدائه خوفاً من اللّه تعالى أيضاً غرضٌ مطلوب من الخالق. فتدبّر فإنّه دقيق.

الوجه الثالث: إنّ دليل صحّة الإجارة إنّما هو عموم قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2) وهو لا يعقل أن يشمل المقام، إذ اللّازم من شموله أخذ داعي الأمر الذي هو قيدٌ في متعلّق الإجارة، قيداً في متعلّق الأمر بالوفاء، وهو باطلٌ لما حُقّق في محلّه من عدم معقوليّة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر، فإذا ذهب الأمر بالوفاء لم يبق ما يكون دليلاً على صحّة الإجارة، والأصل في المعاملات هو الفساد.

وفيه أوّلاً: إنّه قد حُقّق في محلّه إمكان أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر الأوّل،1.

ص: 16


1- الإجارة للاصفهاني: ص 221.
2- سورة المائدة: الآية 1.

وعلى فرض عدم إمكانه يمكن أخذه في متعلّق الأمر الثاني.

وثانياً: إنّ دليل صحّة الإجارة لا ينحصر بالأمر بالوفاء بالعقود، بل في قوله تعالى : (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1) غنى وكفاية.

الوجه الرابع: إنّ دليل صحّة الإجارة عموم قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2) وهو لا يمكن فرض شموله للمقام، إذ الوفاء عبارة عن إتيان العمل المستأجَر عليه أداءاً لحقّ المستأجر، وهذا لا يجتمع مع الإتيان به أداءاً لحقّ اللّه سبحانه، وامتثالاً لأمره، وعليه:

فإنْ قَصَد الوفاء فقد ذهب الخلوص، وفسدت العبادة، وهو مع ذلك لا يكون وفاءاً.

وإنْ قَصَد الإخلاص، فلم يقصد الوفاء بعقد الإجارة، فلابدّ وأن ترفع اليد عن الأمر بالوفاء لعدم التمكّن من امتثاله على كلّ تقدير، فإذا ذهب الأمر بالوفاء لم يبق ما يكون دليلاً على صحّة الإجارة.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من عدم انحصار دليل صحّة الإجارة بعموم آية الوفاء بالعقود(3).

وثانياً: إنّ الوفاء بالعقد الذي أمر به ليس عبارة عن إتيان العمل المستأجر عليه بقصد أنّه مخصوصٌ بالمستأجر ومملوكٌ له، بل هو عبارة عن إتيان ما يكون وفاءاً بالحمل الشائع، أي مصداق هذا العنوان غير المتوقّف تحقّقه على قصد كونه للمستأجر، فلا يعتبر في امتثال الأمر بالوفاء بالعقد قصد هذا العنوان كي يكون ذلك منافياً لقصد الخلوص.1.

ص: 17


1- سورة النساء: الآية 29. (2و3) سورة المائدة: آية 1.

الوجه الخامس: إنّ الأمر العبادي المتعلّق بالعبادة تعبّدي، والأمر الإجاري المتعلّق بالعمل المستأجر عليه توصّلي، فيلزم من صحّة الإجارة المتعلّقة بها اجتماع أمرين متخالفين في شيء واحد، وهو محال.

وفيه: الفرق بين التوصّلي والتعبّدي إنّما هو من ناحية المتعلّق، بناءً على ما حقّقناه في محلّه من أنّ قصد الأمر مأخوذٌ في متعلّق الأمر، إذ ربما يعتبر فيه قصد القُربة لعدم حصول الغرض إلّابه فيصبح الواجب تعبّديّاً، وربما لا يعتبر فيه ذلك فيصبح الواجب توصّليّاً، والأمر في الموردين واحدٌ ولا تعدّد فيه.

وعليه، فالأمر الإجاري المتعلّق بالعبادة، إنّما يكون مثل الأمر المتعلّق بها نفسها، بلا تفاوت بينهما، والمتعلّق لكلّ منهما إنّما هو ذات العمل مع قصد القُربة، فيندكّ أحدهما في الآخر ويكون أمراً مؤكّداً كما في غير المقام.

فتحصّل: أنّ شيئاً ممّا استدلّ به على منافاة صفة العباديّة للإجارة لا يتمّ ، ومقتضى القاعدة جواز أخذ الأُجرة على العبادات، وكذلك الأخذ بعنوان الجُعالة إذا تمّت سائر الشروط المعتبرة لعمومات صحّة المعاملات، وتؤيّدها النصوص المتضمّنة للترغيب على العبادات، بذكر فوائدها من سِعة الرزق، وأداء الدَّين وغيرهما، والمثوبة على فعلها والترهيب على تركها بذكر ما يستتبعها من الهَلَكة والعقوبة، إذ هذه النصوص تدلّ على أنّه لا تنافي بين العبادة والإتيان بها لجلب المنافع ودفع المضرّات. فتدبّر.

أقول: وللقوم مسالك طرق أُخر في تصحيح العبادة التي تعلّقت الإجارة بها، وعدم منافاة صفة العباديّة للإجارة:

ص: 18

الطريق الأوّل(1): إنّ الوفاء بالعقد أمرٌ محبوب عقلاً وشرعاً، وهو من صفات المؤمنين، فغاية العمل العبادي أيضاً محبوبة، فلا تنتهي سلسلة العلل إلى غير اللّه تعالى.

وفيه: إنّ هذا في نفسه وإنْ كان تامّاً، إلّاأنّ محلّ الكلام هو الأعمال الذي يقوم بها المستأجر في الخارج، والتي يؤتى بها بداعي استحقاق الأُجرة، لا من حيث أنّ الوفاء بالعقد محبوب شرعي.

الطريق الثاني: ما أفاده المحقّقان كاشف الغطاء(2) وصاحب «الجواهر»(3) من أنّ المصحّح لعباديّة العمل هو الأمر المتعلّق بالعبادة، والأمر الإجاري المتعلّق بها لا ينافيها بل يؤكّد الإخلاص.

أقول: ولا يبعد أن يكون مرادهما ما ذكرناه آنفاً من بقاء الإخلاص طولاً، إذ الدّاعي الأوّل هو امتثال الأمر المتعلّق بالعبادة، والدّاعي إلى هذا الدّاعي هو امتثال الأمر الإجاري، أي استحقاق الأُجرة شرعاً الذي مرّ أنّه عبارة أُخرى عن كون الدّاعي إليه الأمر الإلهي، والخوف منه سبحانه، وبالتالي فسلسلة العلل تكون منتهية إليه تعالى بالضرورة، وعليه فهو متين غايته.

وبالجملة: لا يرد عليه شيءٌ ممّا أورده الشيخ رحمه الله(4) من الإيرادات الثلاثة:

الإيراد الأوّل: إنّ مقتضى ذلك الفرق بين الإجارة والجعالة، حيث أنّ الجعالة7.

ص: 19


1- راجع الإجارة للاصفهاني: ص 222.
2- كشف الغطاء (ط. ق) وقد تعرّض لذلك في موردين: ج 1/265 في المبحث الثاني عشر، وفي: ج 2/330 في بيان ما يقضى ويتدارك من الصيام وأحكام القضاء.
3- جواهر الكلام: ج 22/117.
4- المكاسب: ج 2/127.

لا توجب العمل على العامل.

وفيه: إنّ صاحب «الجواهر»(1) ادّعى أنّ الإجارة من جهة تسبيبها الوجوب، يؤكّد الإخلاص أيضاً ولم يدع أنّه المصحّح للعباديّة حتّى يرد عليه ما ذكر، فلازم ما ذكره عدم تأكّد الخلوص في الجعالة لا عدم تحقّق الإخلاص.

الإيراد الثاني: أنّه إنْ أُريد أنّ تضاعف الوجوب يؤكّد اشتراط الإخلاص، فلا ريب أنّ الوجوب الحاصل بالإجارة توصّلي.

وإنْ أُريد أنّه يؤكّد الإخلاص من العامل، فهو مخالفٌ للواقع قطعاً، لأنّ ما لا يترتّب عليه أجرٌ دنيوي أخلص ممّا يترتّب عليه ذلك وجداناً.

وفيه: ما عرفت من أنّ الدّاعي إلى إتيان العبادة بقصد الأمر ليس إلّا الاستحقاق شرعاً للاُجرة، والوفاء بالأمر الإجاري بالإتيان بما اشتغلت ذمّته به من العمل، لا تملّك الأُجرة ولا تسلّمها.

الإيراد الثالث: إنّ تأكّد الإخلاص إنّما يكون بالتعبّد بالأمرين، والتعبّد بالأمر الإجاري لا يتحقّق إلّاأن يؤتى بمتعلّقه بقصد حصول الوفاء وإتيان الفعل من حيث استحقاق المستأجر له، وهذا المعنى ينافي وجوب إتيان الفعل لأجل استحقاقه تعالى إيّاه.

وفيه: ما تقدّم من أنّ المأمور به بالأمر الإجاري، ليس مجرّد إتيان العمل المستأجر عليه بقصد أنّه وفاء، بل المأمور به ذات ما هو وفاء، أي ما يصدق عليه الوفاء بالحمل الشائع، فلا يعتبر في امتثاله الإتيان بالعمل من حيث استحقاق7.

ص: 20


1- جواهر الكلام: ج 22/117.

المستأجر له كي ينافي ذلك الإخلاص. فراجع وتدبّر(1).

الطريق الثالث: ما أفاده السيّد الفقيه في حاشيته(2) وغيره(3) أنّ إلغاء الأمر بالصّلاة عن الوساطة، وتصحيح العبادة بنفس امتثال الأمر الإجاري، ولهم في ذلك تقريبان:

التقريب الأوّل: أنّ الأمر الإجاري وإنْ كان توصّليّاً، إلّاأنّ التوصّلي يعني ما لا يعتبر في سقوطه قصد الأمر، لا أنّه لا يمكن التقرّب به، وعليه فلو أتى بالعبادة المستأجر عليها بداعي امتثال الأمر الإجاري، صحّت ووقعت عبادة.

وفيه: إنّ مورد الإجارة لا يخلو:

إمّا ذات تلك العبادة من غير قصد القُربة، فلازم صحّة الإجارة سقوط أمرها بإتيانها، وإنْ لم يقصد القُربة، لكون هذا الأمر توصّليّاً وهو خلفٌ .

وإنْ كان هو العمل المقيّد بقصد الأمر المتعلّق به نفسه، فالمفروض في هذا الوجه عدم كفايته في الخلوص.

وإنْ كان هو العمل المقيّد بداعي امتثال الأمر الإجاري، فهو يرجع إلى التقريب الثاني، وستعرف ما فيه.

التقريب الثاني: إنّ الأمر الإجاري ليس توصّليّاً مطلقاً، بل هو تابعٌ للغرض المترتّب على متعلّقه:

فإنْ كان مترتّباً على العمل مع عدم قصد القُربة، فالأمر حينئذٍ توصّلي.

وإنْ كان مترتّباً عليه معه، فهو تعبّدي:3.

ص: 21


1- صفحة 17 من هذا المجلّد.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/24.
3- الإجارة للشيخ الاصفهاني: ص 223.

فإنْ كان مورده مثل الصلاة والصيام، كان مرجع الأمر الإجاري إلى إيجاب الصلاة والصوم وهما تعبّديّان.

وإنْ كان مورده مثل الكتابة والخياطة كان مرجعه إلى الأمر بالخياطة والكتابة، وهما توصليّتان.

والدليل على كون الأمر الإجاري في المورد الأوّل تعبّديّاً، هو الدليل على كون الأمر بالصلاة والصيام تعبّديّاً، إذ لا فرق في الصوم الذي سنخه سنخ التعبّدي بين أنحاء الأمر به.

وفيه: إنّ المحذور لم يكن عدم قابليّة الأمر المتعلّق بتلك العبادة المستأجر عليها، لأن يكون قصده موجباً للعباديّة، كي يدفع المحذور بذلك، بل المحذور هو أنّ الإتيان بداعي استحقاق الأُجرة ينافي الخلوص، وفي هذا المحذور لا فرق بين قصد الأمر المتعلّق بتلك العبادة وبين قصد الأمر الإجاري.

وبالجملة: فالصحيح ما ذكرناه من أنّ قصد استحقاق الأُجرة إنّما يكون في طول قصد الأمر، فلا يضرّ بالعبادة، مع أنّه لو سُلّم كونه في عرضه، أو اعتبرنا الإخلاص طولاً أيضاً، فقصد استحقاق الأُجرة لا ينافيها، بل هو قصد عبادي أيضاً.

ولو تنزّلنا عن جميع ما ذكرناه، وسلّمنا أنّ قصده غير قُربي، ويكون في عرض قصد القُربة، يدخل المقام في الكبرى الكليّة - المذكورة في كتاب الصلاة في مبحث النيّة(1) - من أنّ الضمائم غير المحرّمة هل تضرّ بصحّة العبادة أم لا؟ وقد ذكروا أنّ هناك صوراً(2):0.

ص: 22


1- فقه الصادق: ج 7/8.
2- راجع كتاب الصلاة للسيّد الخوئي: ج 3/50.

الصورة الأُولى: أن يكون كلّ من الداعين ضعيفاً، بحيث لو كان وحده لما أثّر في صدور الفعل.

الصورة الثانية: أن يكون الدّاعي القُربي مستقلّاً في الداعوية، وغيره تبعيّاً.

الصورة الثالثة: عكس ذلك.

الصورة الرابعة: أن يكون كلّ منهما مستقلّاً في الداعويّة، إلّاأنّه إنّما يستند الفعل إليهما من باب عدم معقوليّة اجتماع علّتين تامّتين على معلول واحد.

أقول: لا كلام في الصحّة في الصورة الثانية، والفساد في الصورة الأولى والثالثة، وقد وقع الخلاف في الصورة الرابعة، واختار جمعٌ من الأساطين الصحّة فيها(1)، فعلى هذا لا وجه للحكم بالبطلان مطلقاً في المقام، وتمام الكلام في هذه الكبرى الكليّة موكولٌ إلى محلّه، وقد أشبعنا الكلام فيها في الجزء الرابع من هذا الشرح.

***1.

ص: 23


1- كتاب الصلاة للسيّد الخوئي: ج 3/50-51.

عدم منافاة الوجوب مع الأُجرة

المقام الثاني: في بيان أنّ الوجوب بما هو هل ينافي أخذ الأُجرة أم لا ينافيه ؟

أقول: وتنقيح القول في هذا المقام بالبحث في موارد:

الأوّل: في الواجب العيني التعييني غير النظامي.

الثاني: في الواجب الكفائي.

الثالث: في الواجب التخييري.

الرابع: في الواجبات النظاميّة.

أمّا المورد الأوّل: فمقتضى العمومات هو صحّة الإجارة، وعدم مانعيّته عنها، وقد ذكر في وجه المنافاة وجوه:

الوجه الأوّل(1): أنّ عمل الحُرّ ليس بمال بنفسه، وإنّما يقابل بالمال لما دلَّ على أنّه محترم، فإذا وجب فقد سقط احترامه.

وفيه: إنّ الماليّة من الاعتبارات العقلائيّة، وإنّما يعتبرها العقلاء لكلّ ما يرغبون إليه، لما فيه من الأغراض والفوائد العقلائيّة، ومن البديهي أنّ عمل الحُرّ من تلك الأُمور ولذلك فهو مالٌ .

ولو تنزّلنا عن ذلك، فلا ريب أنّه يصبح مالاً بمجرّد وقوع المعاملة عليه، نظير الكلّي في الذمّة، ولذا لا كلام في أنّه لو فوّت أحدٌ عمل الحُرّ يكون ضامناً له، وهذا المقدار يكفي في صحّة المعاملة، كما سيأتي التعرّض له في كتاب البيع(2).

ص: 24


1- مصباح الفقاهة: ج 1/469.
2- صفحة 259 من هذا المجلّد.

مع أنّه لو فرض عدم ماليّته، فإنّه لا وجه للحكم بأنّه يقابل بالمال لاحترامه، إذ الدليل إنّما دلَّ على ثبوت الحرمة لمال المسلم، فإنْ كان للعمل حرمة فهي لكونه مالاً، ومع فرض عدمه فلا حرمة له.

الوجه الثاني: ما استند إليه الشيخ رحمه الله(1) من أنّ عمل الحُرّ وإنْ كان مالاً في نفسه، لكنّه إذا وجب سقط احترامه، لأنّ الوجوب الثابت عليه رافعٌ لاختياره وتسلّطه على الترك، فهو مقهورٌ على إيجاده، ويستوفى العمل منه من دون دخل لرضاه وإذنه المقوّمين لإحترام المال في ذلك.

واستشهد لذلك: بأنّه لو فرض أنّ المولى أمر بعض عبيده بعملٍ ، وكان يرجع نفعه إلى غيره، فأخذَ العبد العِوض من ذلك الغير على ذلك العمل، عُدَّ أخذه أكلاً للمال مجّاناً وبلا عوض.

أقول: والجواب عنه:

1 - إنْ كان المُدّعى أنّ الوجوب الشرعي يوجب سلب الماليّة عن العمل.

فيرد عليه: أنّ الوجوب يوجبُ سلب الاحترام بالخصوص، بمعنى أنّه لا يجوز التصرّف فيه لأحدٍ إلّامع إذنه ورضاه، وله السلطان عليه، وليس لأحدٍ مزاحمته في ما ينتفع منه، ولا يوجب سلب الاحترام من حيث ماليّته المقتضية أن لا يذهب هدراً وبلا تدارك، ونظير المقام ترخيص الشارع المارّة في الأكل من الثمرة، وترخيص الأكل من بيوت الأقارب، فإنّ هذا الترخيص يوجب سلب الاحترام بالمعنى الأوّل، ولا يوجب سلب الماليّة كي لا يصحّ أخذ العِوض عليه في5.

ص: 25


1- المكاسب: ج 2/135.

هذين الموردين.

2 - وإنْ كان المدّعى أنّ العمل الواجب على المكلّف لا يعقل أن يصبح واجباً ثانياً بالوجوب الإجاري.

فيرد عليه: أنّه يلتزم بالتأكّد، فيكون لازمه الامتثال من جهتين.

3 - وإنْ كان المُدّعى أنّه يعتبر في صحّة الإجارة أن يكون للمستأجر إجبارُ الأجير على ذلك العمل، فإذا كان الفعل واجباً عليه، فهذا الحقّ ثابتٌ له قبل الإجارة من باب الأمر بالمعروف، فلا تترتّب عليها ثمرة، فلا تصحّ .

فيرد عليه: أنّه بالإجارة يثبت هذا الحقّ ، فيكون ثابتاً من ناحيتين، وتظهر الثمرة في موضعين:

الموضع الأوّل: ما إذا لم يمكن إجباره على الفعل من باب الأمر بالمعروف، وأمكن إجباره من باب كونه مملوكاً له، ولو بالرجوع إلى المحاكم العرفيّة.

الموضع الثاني: ما إذا كان من وجب عليه جاهلاً بالوجوب.

وبالجملة: مجرّد الوجوب الشرعي لا يوجبُ سلب الماليّة عن الشيء، ومعه لا وجه لمنافاته مع صحّة الإجارة.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1) من أنّه يعتبر في صحّة المعاملة - مضافاً إلى كون كلّ من المتعاملين مالكاً لما يبذله أو بحكمه، وإيجادها بسببٍ خاص وآلة مخصوصة - أن لا يكون محجوراً عن التصرّف فيه، من جهة تعلّق حقّ الغير به، أو غير ذلك من أسباب الحَجر، لتكون له السلطنة الفعليّة على التصرّف فيه،5.

ص: 26


1- منية الطالب: ج 1/45.

والإيجاب يوجبُ سقوط ملك التصرّف، وسلب الاختيار، ودفع السلطنة، فلا محالة تفسد المعاملة.

وفيه: إنّ توقّف نفوذ المعاملة على السلطنة الوضعيّة المستتبعة، لكون مورد المعاملة مِلْكاً طلقاً، ولم يتعلّق به حقّ الغير، والمتعاملين بالغين عاقلين مختارين غير محجورين بأحد أسباب الحَجر بديهيٌ ، وأمّا كون الإيجاب موجباً لسلب هذه السلطنة، فهو أوّل الكلام.

نعم، الإيجاب يوجبُ رفع السلطنة التكليفيّة المنتزعة من جواز الفعل والترك، ونفوذ المعاملة غير متوقّف عليها.

فإنْ قلت: إنّه يعتبر في صحّة المعاملة القدرة على التسليم، ومع الوجوب لا قدرة له على الفعل والترك، إذ القدرة متقوّمة بالطرفين من الفعل والترك.

قلت: إنّه لم ترد آيةٌ ولا رواية دالّة على اعتبار القدرة على التسليم، وإنّما نقول به لأنّه:

إمّا مقتضى وجوب الوفاء بالعقد.

أو لانعقاد الإجماع عليه.

أو للنبوي المشهور(1) من أنّه صلى الله عليه و آله نهى عن بيع الغَرر.

ووجوب العمل لا ينافي مع ما تقتضيه هذه الأدلّة:

أمّا الأوّل: فلأنّه يتأكّد وجوب العمل بوجوب التسليم.

وأمّا الثاني: فلأنّ المتيقّن منه إمكان وصول العمل إلى المستأجر، والمفروض في المقام تحقّقه.4.

ص: 27


1- دعائم الإسلام: ج 2/21 ح 34.

وأمّا الثالث: فلأنّه لا غرر مع إمكان الوصول كما لا يخفى .

الوجه الرابع: ما نُسب إلى الشيخ الكبير كاشف الغطاء قدس سره(1) من أنّ إيجاب العمل يوجبُ صيرورته مملوكاً للّه تعالى ومستحقّاً له، وفيما كان راجعاً إلى حقوق الغير يوجبُ صيرورة الغير مستحقّاً لذلك العمل من هذا العامل، ومن المعلوم أنّه لا يجوزُ تمليك المملوك ثانياً.

وفيه: أنّه لو كان المدّعى أنّ الإيجاب يقتضي كون العمل مملوكاً للّه بالملكيّة الاعتباريّة، نظير ملكيّة العمل لأحد المخلوقين.

فيرد عليه: أنّ الإيجاب ليس إلّاإبراز شوق المولى بالفعل، وهذا غير الملكيّة.

وإنْ كان المدّعى أنّه يوجبُ خروج العمل عن تحت سلطنة العبد، ودخوله في سلطان المولى ، وما هو داخلٌ في سلطان الغير لا يجوز تمليكه.

فيرد عليه: أنّ جميع أفعال العباد تحت سلطان المولى تشريعاً لا تكويناً، من غير فرق بين ما إذا أوجبها وما إذا لم يوجبها، فإنّ السلطنة التشريعيّة عبارة أُخرى عن أنّ زمام هذا العمل بيد الشارع، وله جَعلٌ أي حكم وضعه المولى له، وهذا المعنى ثابتٌ قبل الإيجاب، فالإيجاب لا يوجب حدوث سلطنة أُخرى مانعة عن التمليك.

نعم، هو يوجب سلب سلطنة المكلّف تشريعاً عن هذا العمل، وهو لا ينافي التمليك كما تقدّم.

وبالجملة: المراد من الملكيّة للّه تعالى :

إنْ كان هي الملكيّة الاعتباريّة، فالإيجاب لا يقتضي تلك.0.

ص: 28


1- نسبه في المكاسب: ج 2/130.

وإنْ كان ثبوت سلطنة تكوينيّة، وسلب سلطنة العبد تكويناً، فهو خلاف الواقع وجداناً.

وإنْ كان بمعنى السلطنة التشريعيّة، فهي ثابتة قبل الإيجاب، وكونه موجباً لسلب سلطنة العبد تشريعاً لا ينافي التمليك.

هذا فيما إذا لم يكن الإيجاب للغير.

وأمّا في ما كان العمل واجباً له، فهذا لا يوجبُ مالكيّة ذلك الغير له، ولذا يجوز استيجار الأجير لخياطة ثوب الغير، حيث يصبح العمل مملوكاً للمستأجر لا لذلك الغير، فتدبّر حتّى لا يشتبه عليك جعل العمل للغير بإيجابه له.

أقول: هذا هو الحقّ في الجواب، لا الجوابين التاليين:

1 - ما ذكره الأستاذ الأعظم(1) - وفاقاً لغيره من الأساطين - من أنّ ملكيّة المستأجر إنّما هي في طول ملكيّته تعالى ، واجتماع الملكيّتين الطوليّتين أمرٌ ممكن لا محذور فيه.

2 - ما ذكره بعضٌ آخر(2) من أنّ ملكيّته تعالى ليست من سنخ ملك العباد، فإنّها بمعنى الإحاطة الوجوديّة بالأملاك وملّاكها.

إذ يرد على الأوّل: أنّه لم يظهر لنا الفرق بين الملكيّتين العرضيّتين والطوليّتين، بل الظاهر استحالة اجتماعهما مطلقاً.

ويرد على الثاني: أنّ المُدّعي يدّعي أنّ الإيجاب ثبوت ملكيّة اعتباريّة له تعالى غير تلك الملكيّة.5.

ص: 29


1- مصباح الفقاهة: ج 1/471.
2- مستمسك العروة الوثقى: ج 14/305.

الوجه الخامس: ما نُسب إلى الشيخ الكبير أيضاً(1) من أنّ الإجارة لو صحّت كان لازمها مالكيّة المستأجر لذلك العمل، ومن لوازم الملكيّة التي لا تنفكّ عنها جواز الإبراء والإقالة والتأجيل، وحيث أنّ هذه الآثار لا تثبت للواجب المستأجر عليه، فيكشف ذلك عن عدم الملك، وهو يكشف عن بطلان الإجارة.

وفيه: إنّ هذه الآثار إنّما تثبت للمستأجر عليه من حيث الأمر الإجاري، وعدم ثبوتها له من حيث وجوبه من قبل اللّه تعالى ، لا ينافي صحّة الإجارة، وعليه فالإبراء في المورد يوجب عدم استحقاق المستأجر للعمل، والتأجيل يوجبُ عدم لزوم التعجيل من حيث استحقاقه، والإقالة توجب انتفاء الوجوب الإجاري.

الوجه السادس: ما نُسب إلى المحقّق النائيني رحمه الله(2) من أنّه يعتبر في صحّة الإجارة كون الأجير مالكاً لعمله، كي يملكه المستأجر بالإجارة، والوجوب يوجبُ نفي ملكيّته له.

وبعبارة أُخرى : يعتبر أن يكون العمل ممكن الحصول للمستأجر، فلو لم يكن كذلك كما إذا تعلّق تكليف عليه مباشرة، لم تصحّ الإجارة.

وفيه: إنّ الوجوب الذي حقيقته إبراز المولى لا يوجبُ سلب المالكيّة عن العمل كما تقدّم، واعتبار كونه ممكن الحصول، إنّما هو يرجع إلى اعتبار القدرة على التسليم الذي عرفت أنّه لا ينافي مع الوجوب.

الوجه السابع: ما نُسب احتماله إلى المحقّق الخراساني رحمه الله(3) من أنّ بذل العوض على ما يتعيّن على الأجير لغو.7.

ص: 30


1- راجع الإجارة للشيخ الاصفهاني: ص 197، ومصباح الفقاهة: ج 1/722.
2- منية الطالب: ج 1/45.
3- حكاه عنه تلميذه المحقّق الاصفهاني في كتاب الإجارة: ص 197.

وفيه: أنّ لا لغويّة فيه مع عدم العلم بصدوره منه، أو لأن يكون له إجباره على الفعل، مع أنّ الموجب لفساد الإجارة مع لغويّة بذل العوض ليس إلّاكون المعاملة سفهيّة، وهو لا يوجبُ البطلان كما تقدّمت الإشارة إليه.

الوجه الثامن(1): أنّ الإيجاب إنّما يكون ناشئاً عن مصلحة موجودة في الفعل عائدة إلى من يجب عليه، فأخذ العوض على ما تعود فائدته إليه أكلٌ للمال بالباطل.

وفيه: إنّ الموجب لكون أخذ العوض أكلاً للمال بالباطل، إنّما هو عدم كونه ذا فائدة عائدة إلى المستأجر، وعدم ترتّب غرض عقلائي له عليه، ولو لأجل كون اللّه تعالى مطاعاً لا كونه ذا فائدة عائدة إلى الأجير.

الوجه التاسع: ما نُسب إلى المحقّقين النراقيّين والمحقّق القمّي(2) رحمه الله من أنّه لا يجوز توقيف الواجب على شرط، وصحّة الإجارة تستلزم ذلك، لأنّها توجب توقيف الواجب على أخذ الأُجرة.

وفيه: إنّه لا يعتبر في صحّة الإجارة كون الشخص غير بانٍ على الفعل، فلا مانع من استئجاره على عمل لو لم يستأجره أيضاً كأن يأتي به، فتصحّ الإجارة الواقعة، ولا يلزم منه توقيف الواجب على شرط.

فتحصّل: أنّ شيئاً ممّا استُدلّ به على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب لا يدلّ عليه، فالأظهر جوازه، فعلى هذا لا يبقى مورد للبحث في المورد الثلاثة الاُخر، فإنّ الجواز في تلك الموارد أولى من الجواز في هذا المورد، ولكن لا بأس بالبحث فيها بناءً على عدم الجواز هنا.

***0.

ص: 31


1- راجع كتاب الإجارة للاصفهاني: ص 197.
2- نسبه في تكملة العروة الوثقى: ج 2/20.

أخذ الإجارة على الواجب الكفائي

أمّا المورد الثاني: فقد اختار الشيخ رحمه الله(1) جواز أخذ الأُجرة على الواجب الكفائي التوصّلي.

واستدلّ له الأستاذ الأعظم(2): بأنّ من يجب عليه الفعل في الواجب الكفائي إنّما هو عنوان أحد المكلّفين، ومن الواضح أنّ إيقاع الإجارة على مباشرة شخص معيّن، وأخذ الأُجرة علي تلك الخصوصيّة، ليس من قبيل أخذ الأُجرة على الواجب، لأنّ ما أُخذت عليه الأُجرة ليس بواجبٍ ، وما هو واجبٌ لم تؤخذ عليه الأُجرة.

ويرد عليه أوّلاً: إنّ المكلّف في الواجب الكفائي إنّما هو جميع آحاد المكلّفين، غاية الأمر يكون التكليف المتوجّه إلى كلّ أحدٍ تكليفاً مشروطاً بعدم قيام الآخرين به، وعلى هذا إذا وقعت الإجارة على مباشرة شخص معيّن مع ترك الآخرين فقد وقعت على الواجب.

وثانياً: أنّه لو سُلّم كون المكلّف هو عنوان أحد المكلّفين، ولكن لا كلام في أنّ الفعل الصادر من أحدهم إنّما يكون مصداقاً للواجب لصدق عنوان أحد المكلّفين عليه، وإذا كان العمل من أحد المكلّفين مملوكاً للّه تعالي ومسلوب الاحترام والقدرة، فعمل الأجير يعدّ مصداقاً لما هو مملوكٌ له ومسلوب الاحترام والقدرة، فلا يجوز أخذ الأُجرة عليه.

ص: 32


1- المكاسب: ج 2/136.
2- مصباح الفقاهة: ج 1/468.

وبالجملة: فالأظهر أنّه تجري عمدة الوجوه المتقدّمة في الواجب الكفائي أيضاً، لا سيّما إذا تعيّن على الأجير، لعدم إقدام أحد على العمل، أو لامتناع الكلّ عن العمل مجّاناً كما لا يخفى .

أقول: ثمّ إنّه قد استدلّ سيّدنا الاُستاذ على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب الكفائي بكلام الشيخ رحمه الله(1) حيث قال: (إنّ الفعل متعيّنٌ له، فلا يدخل في مِلكٍ آخر، وبعدم نفع المستأجر فيما يملكه... إلى آخره).

توضيح هذا الوجه: إنّ الواجب الكفائي إنّما يعود نفعه من المصلحة المقتضية لإيجابه والثواب المترتّب عليه إلى الأجير نفسه، ممّا يقتضي أن يتعيّن به ويختصّ له، لاختصاص فوائده به، وما يكون كذلك لا يمكن أن يدخل في ملكٍ آخر، إذ دخول العمل في مِلك الغير إنّما هو فيما يعود نفعه إليه، وبهذا ظهر أمران:

الأمر الأوّل: إنّ قوله: (وبعدم نفع المستأجر... إلى آخره) تفسيرٌ لقوله: (بأنّ الفعل متعيّن له) لا دليل آخر، ويشهد لذلك - مضافاً إلى ما تقدّم - اقتصار الشيخ على جواب واحد.

الأمر الثاني: إنّ ما ذكره السيّد الفقيه(2) في تعليقته من أنّ هذا الوجه يرجع إلى الوجه السابق، وهو التنافي بين الوجوب والتملّك غير تامّ ، والظاهر أنّ هذا الإيراد نشأ من الخلط بين كلمتي (متعيّنٌ له) و (متعيّن عليه) فتدبّر حتّى لا يشتبه عليك الأمر.7.

ص: 33


1- المكاسب: ج 2/131 نقلاً عن شرح القواعد.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/27.

والجواب عن ذلك: هو ما أشار إليه الشيخ رحمه الله(1) في صدر المبحث من أنّ في جميع الواجبات الكفائيّة هناك فائدة تعود إلى المستأجر، وهو سقوط التكليف عن المستأجر بمباشرة الأجير.

وأمّا ما ذكره في المقام بما حاصله(2): إنّ الثواب المترتّب على الواجب الكفائي يرجع إلى المستأجر.

فيرد عليه: أنّ ثواب الفعل لو قصد الأجير به القُربة لا يعود إلى المستأجر، وإنّما الذي يحصله المستأجر هو ثواب التسبيب إلى فعل الخير الذي هو مترتّبٌ على فعل نفسه.

***1.

ص: 34


1- المكاسب: ج 2/131.
2- المكاسب: ج 2/131.

أخذ الأُجرة على الواجب التخييري

وأمّا المورد الثالث: وهو أخذ الأُجرة على أحد فردي الواجب التخييري بالخصوص، فقد استدلّ الأستاذ الأعظم(1) على جوازه:

بأنّ الواجب إنّما هو عنوان أحد الفردين، ومتعلّق الإجارة إنّما هو الإتيان بفرد خاص، فما هو واجبٌ غير ما يؤخذ الأُجرة عليه.

وفيه: إنّ مورد الإجارة إنْ كان تخصيص الواجب بخصوصيّةٍ خارجة عن حريم متعلّق الوجوب، قابلة للانفكاك عن الواجب، أو غير قابلة له، كما إذا استأجره لان يمتثل الأمر بالدفن الواجب عليه بتخصيصه بأرض صلبة، أو أن يستأجر الخيّاط الذي وَجَب عليه خياطة ثوب زيد، وكان مخيّراً في موضع الخياطة - بأن يخيط ذلك الثوب في منزله، لتعلّق غرض عقلائي به - صحّ ما ذكر، فإنّ تخصيص الواجب بهذه الخصوصيّة ليس بواجب.

وأمّا إنْ كان مورد الإجارة هو الحصّة الخاصّة والفرد الخاص، وبعبارة أُخرى الواجب المتخصّص بالخصوصيّة، فلا تتمّ دعواه، إذ العمل المستأجر عليه حين وقوعه يقع مصداقاً لما هو مملوك للّه تعالى ، ومسلوبُ الاحترام والقدرة، وما يجوز أن يقهر عليه، وبالتالي فعلى فرض كون هذه الأُمور مانعة عن صحّة الإجارة، لم تصحّ في المقام.

أقول: وبما ذكرناه ظهر ما في استدلال الشيخ رحمه الله(2) للجواز بأنّه محترم لا يقهر

ص: 35


1- مصباح الفقاهة: ج 1/468.
2- المكاسب: ج 2/136.

المكلّف عليه، فجاز أخذ الأُجرة بإزائه، نعم لو كان مراده الفرض الأوّل - كما لعلّه الظاهر من عبارة «المكاسب» - تمّ ما ذكره.

وقد يقال: إنّه يستفاد من أدلّة وجوب بعض الأشياء كونه حقّاً لمخلوقٍ يستحقّه على المكلّفين، فكلّ من أقدم عليه فقد أدّى حقّ ذلك المخلوق، فلا يجوز أخذ الأُجرة عليه.

أقول: بناءً على عدم مانعيّة الوجوب عن صحّة الإجارة - كما هو المختار - أو عدم مانعيّة الوجوب الكفائي عن صحّة الإجارة - كما اختاره الشيخ رحمه الله - فإنّ مجرّد كونه حقّاً لا يكفي في عدم جواز الأخذ ما لم يثبت كونه حقّاً مجانيّاً، ومع ثبوته لا فرق بين كونه حقّاً للمخلوق، وما لم يكن كذلك.

وبالجملة: المدار على المجانيّة لا على حقيّته للمخلوق.

أمّا عدم جواز أخذ الأُجرة في الفرض الأوّل، فواضح.

وأمّا جوازه فيما كان حقّاً للمخلوق، فلما تقدّم في المورد الأوّل في جواب الوجه الرابع من أنّ إيجاب العمل للغير غير جعل العمل له، وهو لا يوجبُ مالكيّة ذلك الغير، فلا يمنع عن أخذ الأُجرة. فراجع ما ذكرناه(1).

لا يقال: إنّ مرجع هذا الجواب إلى منع ثبوت حقٍّ للمخلوق في العمل، وأنّ الثابت إنّما هو حكم ينتفع به ذلك الغير.

فإنّه يقال: إنّ ذلك تامّ ، ولكن ندّعي أنّه في الموارد التي ادّعوا(2) ثبوت حقّ للمخلوق - كتجهيز الميّت، وتعليم الجاهل - فإنّه لا يستفاد من الأدلّة أزيد من ما3.

ص: 36


1- صفحة 24 من هذا المجلّد.
2- راجع المكاسب: ج 2/143.

ذكرناه، ولا يمكن استفادة كون العمل مملوكاً ومستحقّاً له، ولذا أحالوا استفادة ذلك فيها إلى لطف القريحة.

نعم، لو ثبت في موردٍ أنّ الشارع الأقدس جعل الاستحقاق معتبراً، فإنّه لا يبعد دعوى ظهوره في كونه بنحو المجانيّة.

وعليه، فما ذكره بعض المحقّقين(1) من أنّه إذا كان اعتبار الاستحقاق تارةً بنحو المجانيّة وأُخرى بنحو العوضيّة، فمجرّد دلالة الدليل على الاستحقاق للعمل لا يُجدي في سقوط الاحترام، ما لم يدلّ على أنّ استحقاق العمل بنحو المجانيّة، وحيث أنّه عملٌ محترم لا دليل على إسقاط احترامه، فللعامل مطالبة أُجرة مثل عمله، خلاف الظهور، ولكن منه يظهر وجه آخر لعدم مانعيّة ثبوت الحقّ عن أخذ العوض، وهو حَسَنٌ فتدبّر.

***8.

ص: 37


1- الإجارة للاصفهاني: ص 218.

أخذ الأُجرة على الواجبات النظاميّة

وأمّا المورد الرابع: فالظاهر أنّه لا خلاف بينهم في جواز أخذ الأُجرة على الواجبات النظاميّة، والمراد منها ما وَجَب لحفظ النظام كالحِرَف والصّناعات المتوقّف عليها الحياة الاجتماعيّة، وحيثُ أنّ المنسوب إلى أكثر الأصحاب عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب، عُدّ حكمهم بجواز أخذ الاُجرة على مثل هذه الواجبات نقضاً عليهم، وقد أجابوا عنه بأجوبة، ولكن بناءً على ما عرفت من جواز أخذ الأُجرة على الواجب مطلقاً، فإنّه لا مورد لهذا الإيراد أصلاً.

وكيف كان، فقد أجابوا عنه بأُمور:

الأمر الأوّل(1): خروج ذلك بالإجماع والسيرة القطعيين.

وفيه: إنّ مستند المنع لم يكن عدم الدليل في مقام الإثبات على الجواز، أو الدليل على عدمه، كي يخرج عنه بذلك، بل كان المانع مانعاً ثبوتيّاً، باعتبار أنّه لا يعقل صحّة الإجارة مع كون موردها واجباً، فلو قام الدليل على الجواز في موردٍ، فإنّه لابدَّ من الالتزام بأحد أمرين على سبيل منع الخلو:

إمّا كشف ذلك الدليل عن بطلان تلك القاعدة.

وإمّا رَدّ ذلك الدليل وعدم العمل به.

الأمر الثاني: ما عن المحقّق الثاني(2) من اختصاص جواز الأخذ بصورة قيام مَنْ به الكفاية، فلا يكون حينئذٍ واجباً.

ص: 38


1- الإجارة للاصفهاني: ص 209.
2- جامع المقاصد: ج 7/182.

وفيه: أنّه إنْ أُريد بذلك وجود من يقوم به، فمرجع ذلك إلى جواز أخذ الأُجرة على الواجب الكفائي مطلقاً، وقد أنكر ذلك المحقّق(1).

وإنْ كان المراد قيام الغير به.

فيرد عليه: أنّه لا خلاف بينهم في جواز أخذ أوّل من يقوم بالفعل الأُجرة على عمله.

الأمر الثالث: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2) من أنّ الواجب على الأجير هو بذل عمله، أي تعلّق التكليف أو الوضع بالمعنى المصدري، لا بنتيجة عمله التي هي المعنى لاسم المصدر، فإنّ الطبيب وإنْ وجب عليه الطبابة عيناً إلّاأنّه مالكٌ لعمله، والأُجرة تقع بإزاء العمل الذي هو مناط ماليّة المال، لا بإزاء قوله من حيث الإصدار.

وبالجملة: متعلّق الوجوب في الواجبات النظاميّة، هو العمل بالمعنى المصدري، وعليه فلا مانع من أخذ الأُجرة على نتيجة العمل.

وفيه: إنّ الفعل من حيث المعنى المصدري عين الفعل من حيث اسم المصدر، والفرق بينهما اعتباريٌ كما حُقّق في محلّه، وعليه فالواجب بعينه هو العمل المستأجر عليه ونتيجته.

الأمر الرابع: ما عن «مفتاح الكرامة»(3) و «الرياض»(4) من أنّ المنع مختصٌّ بالواجبات النفسيّة التي وجبت لذاتها، كدفن الميّت، دون الواجبات الغيريّة3.

ص: 39


1- جامع المقاصد: ج 7/181.
2- منية الطالب: ج 1/46.
3- راجع مفتاح الكرامة (ط. ج): ج 12/302 (حكم أخذ الأُجرة على الواجبات).
4- رياض المسائل: ج 8/82-83.

كالصناعات التي هي مقدّمة لحفظ النظام الواجب.

وفيه أوّلاً: إنّ المانع المتوهّم إنّما هو الوجوب من حيث هو وجوب، ولا فرق في ذلك بين النفسي والغيري.

وثانياً: إنّه قد حُقّق في محلّه أنّ السبب التوليدي واجبٌ بعين الوجوب المتعلّق بالمسبّب لا بوجوبٍ آخر، وفعل الصنائع والحِرَف بالنسبة إلى ما يترتّب عليها من حفظ النظام من هذا القبيل، إذ لا واسطة بين هذه الأفعال وحفظ النظام، إذ بها يحفظ النظام.

الأمر الخامس(1): إنّ حفظ النظام إنّما يتوقّف على تلك الصناعات والحِرَف، وهي وإنْ لم تتوقّف على أخذ الأُجرة وتجويزه، ولكن بما أنّ أكثر النّاس إنّما يتصدّون للصناعات الشاقّة طمعاً في الأُجرة أو زيادتها، فإذا حكم بعدم جواز دفع الاُجرة إليهم تركوها أو توجّهوا إلى الأعمال السهلة دون الشاقّة، فلا ينحفظ النظام لأجل العصيان، وعليه فقاعدة اللّطف تقتضي تسويغ أخذ الأُجرة تقريباً للعباد إلى امتثال التكاليف النظاميّة.

وبهذا ظهر مقابلة هذا الوجه للوجه السابع المذكور في «المكاسب»(2)، وعليه فما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(2) من أنّ مآل هذا الوجه إلى الوجه السابع، غير تامّ ، وأمّا الشيخ رحمه الله(4) فقد دفعه بأنّ المشاهد بالوجدان أنّ اختيار النّاس للصنائع الشاقّة ليس ناشئاً عن زيادة الأُجرة بل عن دواعٍ أُخر، وظاهره تسليم هذا الوجه على هذا التقدير.).

ص: 40


1- راجع المكاسب: ج 2/138-139. (2و4) المكاسب: ج 2/140 و 139.
2- راجع حاشية كتاب المكاسب للايرواني: ج 1/290 (الإشكال على أخذ الأُجرة على الصناعات التي يتوقّف عليها النظام).

أقول: إنّ ما اقتضته قاعدة اللّطف في جميع التكاليف مِنْ جعل الثواب على الموافقة، والعقاب على المخالفة، كافٍ في التقريب إلى الامتثال هنا، ولا حاجة إلى شيء آخر.

الأمر السادس(1): إنّ هذه الصناعات إنّما تجبُ لحفظ النظام، وهو إنّما يتوقّف على التكسّب بها، فإيجابها تبرّعاً نقض للغرض.

وفيه: إنّ من المشاهد بالوجدان استقامة النظام لو أتى بها تبرّعاً، فالصغرى ممنوعة.

الأمر السابع: ما عن كاشف الغطاء قدس سره(2) من أنّ وجوب تلك الصناعات ليس مطلقاً، بل هو مشروط بالعوض، فلا يُعقل أن يكون أخذ العوض منافياً له.

وفيه: إنّه إنْ أُريد بذلك كون أخذ العوض شرطاً للوجوب، بمعنى أنّه لا وجوب لها قبل الإيجار.

فيرد عليه: أنّ لازمه عدم الوجوب قبل الإيجار، وقبل أن يبذل الباذل العوض، ولازم ذلك عدم حفظ النظام.

وإنْ أُريد به كونه شرطا لواجب، كما يظهر من تمثيله ببذل الطعام والشراب للمضطرّ.

فيرد عليه أوّلاً: أنّه لا ريب في عدم وجوب أخذ العوض، إذ لا كلام في أنّه يجوز العمل مجّاناً.

وثانياً: يصبح العمل حينئذٍ واجباً، غاية الأمر بالوجوب الضمني، ولم يفرّق المشهور بين الواجب الضمني والاستقلالي في عدم جواز أخذ الأُجرة عليه.7.

ص: 41


1- راجع الإجارة للاصفهاني: ص 211، الفوائد العلّية: ج 2/436.
2- شرح القواعد (مخطوط): ص 27.

الأمر الثامن(1): إنّ وجوب تلك الصناعات ليس لأجل ذاتها، بل لأجل إقامة النظام، وهي لا تتوقّف على العمل تبرّعاً، بل تحصل به وبالعمل بالاُجرة، فالواجب هو العمل لا بشرط من المجانيّة وأخذ العوض.

وفيه: إنّ مقتضى هذا الوجه جواز أخذ الأُجرة على جميع الواجبات سوى ما وجب مجّاناً.

وبعبارة أُخرى: إنّ المانع المتوهّم لم يكن ظهور الأدلّة في المجانيّة، بل هو في التنافي بين صفة الوجوب وأخذ العوض، فلا يعقل على هذا جعل الوجوب على شيء مشروطاً بالعوض، ولا مطلقاً بالنسبة إليه.

أقول: ولمّا كانت هذه الوجوه غير تامّة عند الشيخ الأعظم(2)، فقد قيّد عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب النظامي بما إذا كان وجوبه عينيّاً تعينيّاً، لكنّه حيث لاحظ أنّ الأصحاب ملتزمون بجواز أخذها حتّى في هذه الصورة - كما إذا تعيّنت الطبابة على طبيب - حاول الجواب عنه(3) بأنّ أخذ العوض إنّما يكون لمقدّمة هذا الواجب التي هي واجبة بالوجوب الكفائي، إذ الطبابة مثلاً إنّما تتوقّف على الجمع بين الطبيب والمريض، وهو كما يكون بحضور الطبيب عند المريض، كذلك يكون بإحضار الأولياء المريضَ عند الطبيب.

ويرد عليه: أنّ الطبابة بمعنى تجويز استعمال دواء معيّن واجبة على الطبيب، ومقدّمة هذا الواجب التي يعقل أن تصير واجبة بالوجوب المقدّمي إنّما هي ما2.

ص: 42


1- راجع المكاسب: ج 2/140.
2- المكاسب: ج 2/141-142.
3- المكاسب: ج 2/142.

يكون فعل الطبيب نفسه، ولا يُعقل أن يجب الإحضار بالوجوب المقدّمي المترشّح من وجوب الطبابة المتوجّه إلى الطبيب، كما لا يخفى ، فالحضور أيضاً واجبٌ عيني، لا يجوز أخذ العوض عليه، مع أنّ لازم هذا الوجه هو عدم جواز أخذ العوض في صورة الإحضار، وبناء المشهور على الجواز في هذه الصورة أيضاً.

أقول: ثمّ إنّ الشيخ رحمه الله(1) بعد بنائه على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب العيني التعييني، أورد على نفسه بنقوض ثلاثة:

النقض الأوّل: جواز أخذ الوصي الأُجرة على عمله، حتّى مع وجوب العمل عليه عيناً.

وأجاب عنه بوجهين:

أحدهما: ما أفاده سابقاً، من أنّ هذا حكمٌ شرعي، لا من باب المعارضة.

ثانيهما: ما أفاده في المقام، من أنّه من جهة الإجماع والنصوص المستفيضة الدالّة على أنّ للوصي أن يأخذ شيئاً، المحمول على أُجرة المثل فتوىً ونصّاً، بملاحظة احترام عمله.

أقول: وفي كلا الوجهين نظر:

أمّا الأوّل: - فمضافاً إلى مناقضته للوجه الثاني، إذ لو لم يكن عوضاً بل كان حكماً تعبّديّاً، لما كان العمل محترماً في نظر الشارع، كي يُحمل ذلك على أُجرة المثل - أنّه يُنافي مع ما ورد في صحيح هشام بن الحكم، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عمّن تولّى مال اليتيم ماله أن يأكل منه ؟2.

ص: 43


1- المكاسب: ج 2/141-142.

فقال عليه السلام: ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم، فليأكل بقدر ذلك»(1).

فإنّ ظاهره أنّ ما يأخذه الوصي يعدّ عوضاً عن عمله.

وأمّا الثاني: فلأنّه إذا كان أخذ العوض على الواجب مناقضاً لوجوبه عقلاً، ولا يجتمعان، فلابدَّ من توجيه تلك النصوص والفتاوى.

فالصحيح أنْ يقال: إنّه بناءً على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب - كما هو المفروض في هذه النقوض - تُحمل النصوص على أنّ الشارع الأقدس من باب ولايته المطلقة اعتبر كون الصغير مستحقّاً لعمل الوصي بعوض، فكأنّه عامل الطرفان على ذلك، فلا يكون من قبيل أخذ العوض على الواجب، بل إيجاب العمل نشأ من استحقاق الصغير له، فهو من قبيل وجوب اداء ما يستحقّه الغير.

النقض الثاني: أنّه يجبُ بذل المال للمضطرّ، مع أنّه لا كلام في لزوم العوض عليه.

وأجاب عنه(2): بأنّ العوض إنّما هو للمبذول، والواجبُ هو البذل، فما هو الواجب غير ما جُعل العوض له.

وأورد عليه السيّد الفقيه(3): بأنّه في المقام أيضاً يرجع بعوض المبذول الذي هو العمل، والواجبُ إنّما هو بذل العمل، فما هو الواجب شيءٌ ، وما يؤخذ عوضه شيء آخر.

أقول: يرد على السيّد قدس سره: أنّ بذل العمل ليس إلّاإيجاده، وقد حُقّق في محلّه أنّ 8.

ص: 44


1- وسائل الشيعة: ج 17/251 ب 72 من أبواب ما يكتسب به ح 5 رقم 22452، التهذيب: ج 6/343 ح 81.
2- المكاسب: ج 2/142.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/28.

الإيجاد والوجود متّحدان ذاتاً ومتغايران بالاعتبار، فالعمل عينُ بذله وإيجاده لا شيءٌ في مقابله، وهذا بخلاف بذل الأعيان فإنّه غير المبذول.

ويرد على الشيخ رحمه الله: أنّ ملاك عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب عند الشيخ رحمه الله هو سقوط احترامه(1)، وأنّ استيفائه منه لا يتوقّف على طيب نفسه، وهذا الملاك بعينه موجودٌ في المبذول أيضاً، إذ الواجب وإنْ كان بذله، إلّاأنّ لازمه عدم دخل طيب نفسه في التصرّف في المبذول، وإتلافه الذي هو الملاك في سلب الاحترام عنده، والمفروض أنّ المال الذي لا احترام له، لا يجوز أخذ العوض عليه، فلا مناص عن الالتزام بعدم جواز أخذ العوض، إذا وجَبَ البذل عيناً على هذا المسلك، لكنّك عرفت فساد المبنى.

والنقض الثالث (2) : أنّه يجبُ على الاُمّ المرضعة إرضاع اللَّبن، بناءً على توقّف حياة الطفل عليه، مع أنّه يجوز أخذ العوض عليه.

أقول: أجاب عنه بجوابين:

أحدهما: ما ذكره في الجواب عن النقض الأوّل.

الثاني: ما أجاب به عن النقض الثاني، وقد عرفت ما في كليهما.

***2.

ص: 45


1- المكاسب: ج 2/135 و 142.
2- المكاسب: ج 2/135 و 142.

أخذ الأُجرة على المستحبّ

هذا تمام الكلام في أخذ الأُجرة على الواجب، وبه يظهر حال أخذ الأُجرة على المستحبّ ، وأنّه لا إشكال فيه بوجه.

أقول: لكن الشيخ الأعظم رحمه الله(1) فصّل في أخذ الأُجرة عليه:

1 - بين أن تكون فائدة ذلك العمل - التي هي ملاك صحّة الإجارة - مترتّبة عليه إذا أتى به مع قصد الإخلاص، كالصلاة المعادة التي نفعها جواز الإقتداء به، المتوقّف على تحقّق الإخلاص، فاختار عدم جواز أخذ الأُجرة.

2 - وبين ما لم تكن الفائدة كذلك، بل كانت مترتّبة على العمل، وإنْ لم يتحقّق الإخلاص، كبناء المساجد ونحوه، فاختار الجواز.

وحيث أنّ مبنى هذا التفصيل منافاة صفة العباديّة للإجارة، وقد أشبعنا الكلام في ذلك، وعرفت أنّ الإتيان بقصد استحقاق الأُجرة لا ينافي الإخلاص، فلا مورد لهذا التفصيل.

وبالجملة: فالأظهر هو جواز أخذ الأُجرة على المستحبّ مطلقاً، كما هو المشهور بين الأصحاب(2).

***

ص: 46


1- المكاسب: ج 2/143-144.
2- قواعد الأحكام: ج 2/10، إيضاح الفوائد: ج 1/408، الحدائق الناضرة: ج 18/213.

حقيقة النيابة في العبادات

المقام الثالث: فيما يتعلّق بالنيابة في العبادات، وما أُورد عليها من الإشكال الذي عُدّ مانعاً عن أخذ الأُجرة على العمل العبادي النيابي، وهذه الإيرادات ثلاثة:

الإيراد الأوّل(1): ما تقدّم من الإشكال في أخذ الأُجرة على التعبّديّات غير النيابيّة من منافاة أخذ الأُجرة للاخلاص المعتبر في العبادة.

الإيراد الثاني(2): أنّ النائب لا أمر له الا بالنيابة، وهو مضافاً إلى كونه توصّليّاً لو قصد به التقرّب كان ذلك تقرّباً له بالنسبة إلى أمر نفسه لا بالأمر المتوجّه إلى المنوب عنه المتعلّق بالعبادة.

الإيراد الثالث(3): ما نُسب إلى المحقّق الخراساني رحمه الله من أنّ تقرّب النائب يوجبُ حصول القرب لنفسه لا للمنوب عنه، إذ القرب المعنوي كالقُرب الحِسي، فالتقرب المعتبر في العمل العبادي النيابي غير قابل للنيابة.

أمّا الإيراد الأوّل: فقد أجابوا عنه بأجوبة، كلّها مبتنية على تسليم منافاة أخذ الأُجرة للاخلاص، وحيثُ عرفت عدم منافاته له، فلا مورد لهذا الإيراد أصلاً.

أحدها: ما فهمه الأستاذ الأعظم(4) وغيره(5) من كلام الشيخ رحمه الله في المقام، من أنّ للنائب فعلان:

ص: 47


1- المكاسب: ج 2/127.
2- راجع الإجارة للاصفهاني: ص 224.
3- حكاه الاصفهاني ففي كتاب الإجارة: ص 233 في الجهة الثالثة.
4- مصباح الفقاهة: ج 1/726.
5- بلغة الفقيه: ج 2/33.

الأوّل: فعلٌ جانحي قلبي، وهو جعلُ نفسه بدلاً عن المنوب عنه في الإتيان بتكاليفه، وتنزيل نفسه منزلته، وهذه هي حقيقة النيابة والأمر المتعلّق بها أمرٌ غير عبادي، والأُجرة إنّما تعيّن في مقابل هذا الفعل.

الثاني: ما هو فعلٌ جارحي، وهو ذات العمل كالصلاة والحج، والأمر المتعلّق به أمرٌ تعبّدي، ولم تجعل الأُجرة بإزائه، ولكلّ من الفعلين غاية مترتّبة عليه، فلا تنافي بين كون النيابة بقصد أخذ الأُجرة وذات العبادة بداعي الإخلاص، وهذا الوجه هو الذي ذكره الشيخ رحمه الله في «كتاب القضاء»(1).

وفيه: أنّه إذا كانت الأُجرة بإزاء النيابة نفسها، لزم استحقاقها بمجرّد ذلك التنزيل القلبي، وإنْ لم يأتِ بالمنوب فيه، وهو بديهي البطلان، وإنْ كانت بإزاء نفس العمل عاد المحذور.

ثانيها: ما هو المستفاد من عبارة «المكاسب»(2) في المقام، وعبارة «الفرائد»(3)في مبحث أصالة الصحّة، وحاصله:

أنّ العبادة النيابيّة كالصلاة إذا تحقّقت في الخارج، كان لها اعتباران، فباعتبار هي فعل النائب، ولذا يجبُ عليه مراعاة الأجزاء والشرائط، فباعتبار هي فعل المنوب عنه، ولذا يُراعى فيها القصر والإتمام، وهي بالاعتبار الأوّل لا يجبُ التقرّب فيها كي يمنع عن أخذ الأُجرة، وبالاعتبار الثاني عبادة لا يؤخذ عليها الأُجرة، فلا مانع من وقوعها قُربيّاً محضاً عن المنوب عنه.9.

ص: 48


1- راجع الرسائل الفقهيّة: ص 247.
2- المكاسب: ج 2/146.
3- فرائد الأُصول: ج 3/369.

وبالجملة: العبادة النيابيّة فعلٌ لشخصين اعتباراً، وهي بأحد الاعتبارين قُربيّة، وبالاعتبار الآخر غير قُربيّة، والأُجرة إنّما تكون بإزائها بالاعتبار الثاني.

وفيه: إنّه بما أنّ الفعل الخارجي واحدٌ حقيقة، هو منسوبٌ إلى النائب بالذّات، والى المنوب عنه بالعَرَض، والمحرّك والدّاعي نحو هذا الفعل أمران على الفرض:

امتثال الأمر المتعلّق به، واستحقاق الأُجرة، فعلى فرض كون ذلك مانعاً عن الخلوص لم يتمحّض الفعل في الإخلاص.

وبعبارة أُخرى : ما هو منسوبٌ إلى النائب بالذّات، هو بعينه منسوب إلى المنوب عنه بالعَرَض، فلا يُعقل أن يكون الدّاعي لكلّ منهما غير الدّاعي إلى الآخر.

وبالجملة: الموجود الخارجي واحد، والدّاعي إنّما يدعو إلى ذلك، فإذا كان الدّاعي متعدّداً لزم عدم تمحّضه في الإخلاص.

ثالثها: ما حكاه الشيخ رحمه الله(1) في «كتاب القضاء» عن غيره، وحاصله: أنّ النيّة مشتملة على قيدين:

القيد الأوّل: كون الفعل خالصاً للّه.

القيد الثاني: كونه عن الغير بأُجرة أو بغيرها.

وما يؤخذ عليه الأجر إنّما هو القيد الثاني، أعني النيابة عن المنوب عنه، بمعنى أنّه مستأجرٌ على النيابة، وقيد القُربة على حاله لا تعلّق للإجارة به إلّامن حيث كونه قيداً للعمل المستأجر عليه.

وبالجملة: ما يؤخذ عليه الأجر إنّما هو القيد الثاني دون المقيّد بقصد القُربة أو نفس امتثال الأمر.6.

ص: 49


1- راجع الرسائل الفقهيّة: ص 246.

وفيه: إنّ هذا الوجه مع دقّته يوجبُ رفع الإشكال من حيث التشريك في الدّاعي خاصّة، وأمّا محذور عدم تمحّض الخلوص طولاً فهو يبقى على حاله، إذ الصلاة عن قصد القُربة إنّما يؤتى بها لأجل الأُجرة، فلا إخلاص طولاً، والمفروض في هذا المقام لزومه.

رابعها(1): إنّ عنوان النيابة يلحق الفعل المنوب فيه، وبه يصير متعلّقاً للإجارة، وهو كون العمل عن فلان، فالعمل من حيث ذاته عبادة، ومن حيث وصفه - أي تقيّده بكونه عن الغير - معاملة محضة، يصحّ أخذ الأُجرة عليه.

وفيه: إنّه من حيث كون الفعل واحداً حقيقةً وخارجاً، فالداعيان المفروضان:

إمّا أن يكونا محرّكين نحوه في عَرض واحد، فيلزم عدم الخلوص عرضاً.

أو يكون أخذ الأُجرة فى طول الدّاعى القُربي، فيلزم عدم تمحّض الخلوص طولاً.

فتحصّل: أنّه على فرض منافاة أخذ الأُجرة للعباديّة، لا يمكن تصحيح العبادات النيابيّة بوجه.

وأمّا الإيراد الثاني: فقد أجاب عنه المحقّق اليزدي في كتابه «درر الأُصول»(2)بما حاصله إنّ مباشرة الفاعل:

تارةً : تكون دخيلة في حصول الغرض المترتّب على الفعل، فلا يسقط الأمر بفعل الغير، وإنْ لم يكن العمل عباديّاً.

وأُخرى: لا تكون دخيلة فيه، فلا مانع من صيرورة الأمر المتعلّق به محرّكاً5.

ص: 50


1- راجع الإجارة للاصفهاني: ص 226.
2- درر الفوائد للحائري اليزدي: ج 1/55.

للغير لإيجاد ذلك الفعل مراعاة لصديقه، واستخلاصه من المحذورات المترتّبة على ذلك الأمر، من العقاب والبُعد عن ساحة المولى .

والظاهر أنّ إلى هذا نظر المحقّق النائيني قدس سره(1)، حيث قال: إنّ الأمر الإجاري تعلّق بإتيان العبادة بداعي الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه.

أقول: ويرد عليه:

إنّه إذا كان الغرض مترتّباً على فعل كلّ واحدٍ منهما بما هو، لزم كون الأمر متوجّهاً إليهما، غاية الأمر بما أنّ الغرض واحد، ويحصل بفعل كلّ منهما، يكون الوجوب كفائيّاً، فيخرج عمّا هو محلّ الكلام.

وإنْ كان مترتّباً على فعل المنوب عنه خاصّة، غاية الأمر أعمّ من المباشري والتسبيبي، وما بالذّات وما بالعرض، فمثله لا يصلح إلّالتوجّه الأمر إلى المنوب عنه المحرّك نحو الفعل، أعمّ من المباشرة والتسبيب، ولكن هذا الأمر لا يُعقل أن يكون محرِّكاً للنائب نحو الفعل، إذ لا يُعقل أن يتحرّك بتكليفٍ غير متوجّه إليه.

نعم، إذا كان الغرض يحصل بفعله، وكان الواجب توصّليّاً، لزم سقوط التكليف بفعله، لكن من جهة حصول الغرض دون الامتثال.

وبالجملة: الأمر المتعلّق به لايعقل محركيّته نحو عمل غيره الصادر باختياره وإرادته.

أقول: وربما يجابُ عنه - كما عن بعض المحقّقين رحمه الله(2) - بأنّ النيابة من الاعتبارات العقلائيّة، ولها آثار عند العقلاء، فإذا أمضاها الشارع الأقدس لزم ترتّب تلك الآثار عليها، فإذا كان المنوب فيه من العبادات، كان مقتضى إمضاء9.

ص: 51


1- منية الطالب: ج 1/55.
2- الإجارة للاصفهاني: ص 229.

النيابة توجّه التكليف المتوجّه إلى المنوب عنه إلى النائب أيضاً.

وفيه: أنّه إنْ أُريد بذلك توجّه ذلك التكليف إليه، فهو غير معقول، إذ الفرد المشخص كيف يمكن توسعته ؟

وإنْ أُريد انتسابه إليه بالعَرَض، فيرد عليه أنّ البعث العَرَضي لا يُجدي في الانبعاث الحقيقي.

وإنْ أُريد توجّه تكليف آخر إلى النائب، فهو يحتاج إلى دليل.

والصحيح في الجواب عن هذا الإيراد أنْ يقال:

إنّه دلّت النصوص المستفيضة على توجّه أمر استحبابي إلى جميع النّاس في النيابة عن الميّت والحيّ في بعض الموارد، وهو أمرٌ عبادي نظير الأمر المتوجّه إلى المنوب عنه، وهو متعلّقٌ بالفعل المعنون بعنوان النيابة عن الغير، وعليه فالنائب إنّما يأتي بالعبادة بداعي الأمر المتوجّه إلى نفسه، لا بالأمر العبادي المتوجّه إلى المنوب عنه.

وأمّا الإيراد الثالث: وحاصله(1) أنّ التقرّب المعنوي كالتقرّب الحسي لا يقبل النيابة، إذ لا يعقل تقرّب النائب وحصول القرب للمنوب عنه، وما لم ينتسب إلى المنوب عنه عملٌ قربي، لم تفرغ ذمّته عن العمل القُربي المكلّف به، ولهذا الإيراد التزم بعضٌ بأنّ باب النيابة باب إهداء الثواب.

أقول: والتزم المحقّق الخراساني رحمه الله(2) - على ما نُسب إليه - بعدم لزوم قصد التقرّب على النائب، وأنّ رضا المنوب عنه بما نُسب إليه كافٍ في مقربيّة العمل له.3.

ص: 52


1- راجع الإجارة للاصفهاني: ص 233.
2- حكاه عنه تلميذه المحقّق الأصفهاني في كتاب الإجارة: ص 233.

وفيه: بما أنّ باب النيابة ممتازٌ عن باب إهداء الثواب، وحديث كفاية رضا المنوب عنه في مقربية العمل له لا يجدي بالنسبة إلى الميّت، فلا بدَّ من جواب آخر.

والحقّ في هذا المقام أنْ يقال: إنّ سقوط التكليف عن المنوب عنه إنّما هو لحصول الغرض من إتيان النائب بذلك العمل نيابةً عنه، الذي عرفت أنّه مأمورٌ به بالأمر الاستحبابي، وقصد النائب التقرّب إنّما يكون لأجل الأمر المتوجّه إلى النائب نفسه، وحصول القُرب المعنوي - بالمعنى الملازم لفراغ الذمّة عن التكاليف - إنّما يكون لأجل فراغ ذمّة المنوب عنه عنها، وبالمعنى الآخر لا نتعقّله، وإعطاء الثواب إنّما هو باختيار اللّه تعالى ، حيث وعد على إعطائه المنوب عنه لو أتى النائب بالعمل نيابةً عنه.

قال الشيخ رحمه الله(1): (ثمّ اعلم أنّه كما لا يستحقّ الغير بالإجارة ما وجب على وجه العبادة، كذلك لا يؤتى على وجه العبادة لنفسه ما استحقّه الغير منه).

أقول: الظاهر تماميّة ما أفاده رحمه الله، بناءً على منافاة أخذ الأُجرة للعباديّة، إذ كما أنّ لازم تلك عدم صحّة الإجارة على العبادة كما تقدّم، كذلك لازمها عدم وقوع ما يؤتى به لاستحقاق الغير بالإجارة على وجه العبادة لنفسه، لفرض عدم اجتماع الخلوص مع الإتيان بداعي الاستحقاق الغير بالإجارة، وعليه فلا يرد عليه ما أورده السيّد الفقيه رحمه الله(2) من أنّ عمدة المنع في المسألة السابقة إنّما هي عدم إمكان الخلوص في التعبّديّات، ولزوم كون الأكل بالباطل واللّغوية والسفهيّة في غيرها، وفي المقام لا يجري شيءٌ من الوجهين.9.

ص: 53


1- المكاسب: ج 2/147.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/29.

وأضعف من ذلك استدلال المحقّق التقي(1) لما أفاده الشيخ رحمه الله بأنّ أكل المال بإزاء هذا الفرد الواجب أكلٌ له بالباطل، إذ المدّعى ليس عدم استحقاق الأُجرة، بل عدم وقوعه عبادة عن نفسه.

الطواف المستأجر عليه لا يُحتسب عن نفسه

قال المصنّف رحمه الله: في محكي «المختلف»(2): (لو استؤجر لإطافة صبي أو مُغمى عليه، فلا يجوز الاحتساب في طواف نفسه).

محصّل القول في هذا الفرع:

إنْ قلنا بأنّ في إطافة الصبي غير المميّز والمُغمى عليه، يكون الطائف هو المحمول والحامل ليس الا كالدابة، فحكم هذا الفرع حكم الفرع القادم، وستعرف تنقيح القول فيه.

وإنْ قلنا بأنّ الطواف من فعل الحامل، وهو الطائف حقيقة، فقد يقال بأنّ المورد داخلٌ في الكبرى الكليّة المتقدّمة، لأنّ هذا الطواف الشخصي وقع مصبّ الإجارة، فلا يصحّ أن يؤتى به على وجه العباديّة لنفسه.

أقول: ولعلّه إلى هذا نظر المصنّف رحمه الله حيث بنى عدم وقوعه عبادة عن نفسه في هذا الفرع على ما ذكره في المسألة السابقة، ثمّ عنون الفرع الآتي واستدلّ له بوجه آخر.

ولكن يرد عليه: أنّ طواف كلّ شخص هي الحركة القائمة به حول البيت، وإنّما

ص: 54


1- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/159.
2- حكاه في المكاسب: ج 2/147.

يقال بأنّ الحامل طائفٌ من جهة أنّ تلك الحركة توجد بفعله، ويعتبرُ في صحّته ما يعتبر في طواف نفسه، وعليه فحيثُ أنّه في الإطافة تكون حركتان قائمتان بالحامل والمحمول، فلا محالة يكون لهما إيجادان، لإتّحاد الإيجاد والوجود ذاتاً، فلا مانع من كون أحدهما مورد الإجارة، والآخر مأموراً به بالأمر العبادي الإيجابي، ولا يلزم اتّحاد مورد الإجارة مع مورد ذلك الأمر كي يلزم المحذور المتقدّم.

حكم المستأجر لحمل غيره في الطواف

وأيضاً: صرّح جماعةٌ (1) بأنّه لو استؤجر لحمل غيره في الطواف، لا يجوز له الاحتساب لطواف نفسه.

وملخَّص القول: إنّه في المسألة أقوال:

القول الأوّل: جواز الاحتساب مطلقاً، وقد استظهره الشيخ رحمه الله(2) من كلام المحقّق في «الشرايع»(3).

القول الثاني: ما عن «المسالك»(4) من أنّه يُحتسب لكلّ من الحامل والمحمول، في صورة كون الحامل متبرّعاً، أو حاملاً بجُعالة، أو كان مستأجراً للحمل في طوافه لنفسه، أمّا لو استؤجر للحمل مطلقاً لم يُحتسب للحامل.

القول الثالث: ما عن جماعةٍ منهم الإسكافي(5) من أنّه لا يجوز الاحتساب عن

ص: 55


1- راجع مختلف الشيعة: ج 4/185، ومسالك الأفهام: ج 2/177، ورياض المسائل: ج 6/110.
2- المكاسب: ج 2/148.
3- شرائع الإسلام: ج 1/170.
4- مسالك الأفهام: ج 2/177.
5- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 4/185، والشيخ الأعظم في المكاسب: ج 2/147.

نفسه فيما إذا استؤجر للإطافة بغيره، أو لحمله في الطواف، ولو كان الحمل في طواف نفسه، وبه يفترق عمّا في «المسالك».

القول الرابع: ما عن «المختلف»(1) من أنّه يجوز الاحتساب عن نفسه لو استؤجر للحمل في الطواف، ولا يجوز ذلك لو استؤجر للطواف.

أقول: أمّا ما عن «الدروس»(2) من أنّه يُحتسب لهما، إلّاأن يستأجره على حمله لا في طوافه:

فإنْ اُريد به استثناء الاستئجار لا في طوافه، أي المقيّد بعدم حمله في طواف نفسه، فهو يرجع إلى القول بالجواز مطلقاً، لأنّ القائل بالجواز كذلك لا يقول به في هذه الصورة.

وإنْ أُريد به استثناء الاستئجار على الحمل مطلقاً الا على الحمل في طواف نفسه من جواز الاحتساب، فهو يرجع إلى ما عن «المسالك» ولا يصبح قولاً خامساً على كلّ تقدير.

والتحقيق: هو القول الأوّل، إذ ما يستحقّه المستأجر إنّما هو الحمل فقط، فلا ينافي مع طواف نفسه.

ودعوى: أنّه إذا آجره على الحمل في الطواف تكون حركته حول البيت مملوكة للمستأجر، فكيف يَسُوغ له أن يحسبها من طواف نفسه، كما عن المحقّق الايراوني(3).

مندفعة: بما تقدّم من أنّ المملوك هي حركة المحمول لا الحامل، وإنْ كانتا متلازمتين، مع أنّه قد مرّ في مبحث أخذ الأُجرة على الواجب(4)، عدم التنافي بيند.

ص: 56


1- مختلف الشيعة: ج 4/186.
2- الدروس: ج 3/322.
3- حاشية كتاب المكاسب: ج 1/297-298: (عدم جواز إتيان ما وجب بالإجارة عن نفسه).
4- صفحة 7 و مابعدها من هذا المجلّد.

المملوكية والوجوب.

نعم، لو كان نائباً عن الغير في الطواف لم يصحّ أن يحتسب به عن نفسه، إذ الفعل الواحد لايُعقل وقوعه عن شخصين، وامتثالاً للأمرين المتوجّهين إلى النائب، المقتضي كلّ منهما للإتيان بفردٍ غير ما يقتضيه الآخر، فهو نظير ما لو كان عليه قضاء صلاة ظهرٍ وكان في وقت ظهر اليوم، فكما أنّه لا يجوزُ أن يأتي بصلاةٍ واحدة امتثالاً للأمرين القضائي والأدائي، فكذلك في المقام بلا تفاوت أصلاً.

أقول: وممّا يدلّ على ما اخترناه من الجواز في صورة الحمل والإطافة:

1 - الخبر الحسن الذي رواه حفص ابن البُختري، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في المرأة تطوف بالصبي وتَسعى به، هل يجزي ذلك عنها وعن الصبي ؟ فقال عليه السلام: نعم»(1).

2 - وحسن الهيثم التميمي، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ كانت معه صاحبة لا تستطيع القيام على رجلها، فحملها زوجها في مَحملٍ فطاف بها طواف الفريضة بالبيت، وبالصّفا والمروة، أيُجزيه ذلك الطواف عن نفسه طوافه بها؟ فقال: إيهاً اللّه إذاً»(2).

فإنّهما يدلّان على أنّ حمل الغير في الطواف وإطافة الصبي، لا يتنافيان مع قصد الحامل والمطوف الطواف عن نفسه، لكون كلّ منهما ممّا لا مساس له بالآخر، فكذلك إذا وقع الحمل أو الإطافة مصبّ الإجارة، مع أنّ مقتضى إطلاقهما الجواز في فرض الإجارة، وقد عرفت أنّ هذا هو مقتضى القاعدة أيضاً، واللّه العالم.

***و.

ص: 57


1- وسائل الشيعة: ج 13/395 ب 50 من أبواب الطواف ح 3 رقم 18052، التهذيب: ج 5/125 ح 83.
2- وسائل الشيعة: ج 13/396 ب 50 من أبواب الطواف ح 4 رقم 18053، الفقيه: ج 2/409 ح 2836، وفيها: (واللّه إذاً) بزيادة الواو.

والأُجرة على الحكم، والرِّشا فيه، ويجوز أخذ الرِّزق من بيت المال، وكذا الأذان.

حكم أخذ الأُجرة على بعض الأُمور

أقول: إنّه لا إشكال في عدم جواز أخذ الأُجرة على بعض الواجبات والمستحبّات لدليل خاص:

المورد الأوّل: (و) هو أخذ (الأُجرة على الحكم و) يعبّر عنها ب (الرِّشا)، وقد تقدّم الكلام فيه في مبحث (الارتزاق من بيت المال)(1)(و) عرفت هناك أنّه (يجوز أخذ الرزق من بيت المال).

حكم أخذ الأُجرة على الأذان

المورد الثاني: ما أشار إليه المصنّف رحمه الله بقوله: (وكذا الأذان)، فالمشهور بين الأصحاب(2) هو عدم جواز أخذ الأُجرة على الأذان.

وتشهد به نصوص كثيرة:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «لا تُصلِّ خلف من يبغي على الأذان والصلاة بالنّاس أجراً، ولا تُقبل شهادته»(3).

ص: 58


1- فقه الصادق: ج 21/44.
2- الخلاف: ج 1/290، السرائر: ج 2/217، شرائع الإسلام: ج 2/265.
3- وسائل الشيعة: ج 27/378 ب 32 من أبواب الشهادات ح 6 رقم 33998، الفقيه: ج 3/43 ح 3290.

فإنّه يدلّ على أنّ الآخذ يصبح بأخذه فاسقاً، فلا يجوز الصلاة خلفه، ولا تُقبل شهادته.

ومنها: حسن حمران، عن الإمام الصادق عليه السلام الوارد في فساد الدُّنيا واضمحلال الدِّين: «ورأيتَ الأذان بالأجر والصلاة بالأجر»(1).

ويؤيّده خبر زيد بن علي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أنّه أتاه رجلٌ فقال له: واللّه إنّي أحبّك.

فقال له: ولكنّي أبغَضُك للّه! قال: لِمَ؟ قال: لأنّك تبغي في الأذان أجراً، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً»(2).

وهو ضعيف السند لحسين بن علوان وغيره.

ومنها: خبر السكوني، قال: قال النبي صلى الله عليه و آله لعليّ عليه السلام: «ولا تتّخذن مؤذناً يأخذ على أذانه أجراً»(3).

أقول: ثمّ إنّ مقتضى إطلاق النصوص، عدم الفرق بين الأذان للصّلاة، والأذان الإعلامي - إن ثبت مشروعيّته، أي كونه غير أذان الصلاة - ومن غير فرقٍ بين اعتبار قصد القُربة في الأذان الإعلامي وعدمه، ومن غير فرق بين كون الأذان ممّا ينتفع به وإنْ لم يتقرّب به وعدمه.

وبذلك يظهر ما في ترديد الشيخ رحمه الله(4) في الحكم بعدم الجواز في الأذان1.

ص: 59


1- وسائل الشيعة: ج 16/275 ب 41 من أبواب الأمر والنهي من كتاب الأمر بالمعروف ح 6 رقم 21554 والحديث طويل، الكافي: ج 8/36 ح 7.
2- وسائل الشيعة: ج 17/157 ب 30 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22234، الاستبصار: ج 3/65 ح 2.
3- وسائل الشيعة: ج 5/447 باب 38 من أبواب الأذان والإقامة ح 1 (7050)، التهذيب: ج 2/283 ح 31.
4- المكاسب: ج 2/151.

الإعلامي، وأضعف منه إفتاء جمعٍ بالكراهة(1).

وكذا ظاهر كلام الشيخ في «المكاسب»(2) حيث قال: (ولو اتَّضحت دلالة الروايات)، بل الصحيح عدم وضوح دلالتها.

أمّا عدم ظهور الأُولى: فلعدم الملازمة بين المبغوضيّة وكونه فاعلاً للمحرّم، لإمكان كون بعض مراتب المبغوضيّة على ارتكاب المكروه، ويؤيّده اقترانه بأخذ الأُجرة على تعليم القرآن الذي دلّت النصوص على جوازه.

وأمّا عدم ظهور الثانية: فلأنّه لا ريب في أنّ المراد باضمحلال الدين تعطيل أحكامه، وعليه فيمكن أن يكون المراد به في الخبر شيوع ارتكاب المكروه، وهو أخذ الأجر للأذان، لا ارتكاب المحرّم.

ولكن الإنصاف أنّ هذا خلاف ظاهر الخبر الحسن، مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ الصحيح كالنص في عدم الجواز، فإذا لا ترديد في الحكم.

أخذ الأُجرة على الإمامة

المورد الثالث: هو أخذ الأُجرة على الإمامة، حيث قال الشيخ رحمه الله(3): (ومن هنا يظهر وجه ما ذكروه في هذا المقام من حرمة أخذ الأُجرة على الإمامة... الخ).

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من أنّ مقتضى القاعدة جواز أخذ الأُجرة على الواجب والعبادة - أنّه بناءً على عدم جواز أخذها عليهما، يجوز أخذ الأُجرة على الإمامة على القاعدة، إذ الإمامة لا يعتبر في تحقّقها قصد الإمام لها، فضلاً عن اعتبار

ص: 60


1- السيّد المرتضى في المصباح، نقله في مختلف الشيعة: ج 2/134. (2و3) المكاسب: ج 2/151.

قصد القُربة، ولذا لو صَلّى واقتدى به جماعة من غير أن يلتفت إلى اقتداءهم به صحّت الجماعة، وعليه فلو أخذ الأُجرة على الخصوصيّة لا على أصل الصلاة، صحّت الصلاة، وتحقّقت الإمامة، فأخذ الأُجرة على الإمامة لا مانع منه حتّى على هذا المسلك.

نعم، يدلّ على عدم جوازه صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم، بل وكذلك حسن حمران، بناءً على دلالته على عدم الجواز، وإرادة الصلاة بالناس من قوله:

«والصلاة بالأجر».

أمّا المبنى الأوّل: فقد مرّ ما فيه.

وأمّا الثاني: فالإنصاف عدم ظهوره في ذلك، وبالتالي فالعمدة هو الصحيح.

***

ص: 61

وأمّا المكروه: فالصَّرف، وبيع الأكفان، والطَّعام، والرَّقيق، والذِّباحة والصياغة.

بيان ما يَكرَهُ التكسُّب به

أقول: (وأمّا الكسب المكروه ف) كثيرٌ، قد ذكر المصنّف رحمه الله ثلاثة منها:

المكروه الأوّل: ما يكره لأنّه يفضي إلى محرّم أو مكروه غالباً:

1 - معاملة (الصَّرف) الذي لا يسلم صاحبه من الرِّبا عادةً .

2 - (وبيع الأكفان) الذي يتمنّى بائعها كثرة الموت عادةً ، وقد جاء في الخبر:

«يَسرّهُ الوباء إذا كان».

3 - (و) بيع (الطعام) الذي يؤدّي إلى الاحتكار، وسلب الرحمة من القلب.

4 - (و) بيع (الرقيق) لأنّ شَرّ النّاس من باع النّاس.

5 - (والذّباحة) فإنّها تؤثّر في قساوة القلب.

6 - (والصياغة).

قال صاحب «الجواهر»(1): (واعتبار الاتّخاذ صنعةً وحِرفةً على وجهٍ يكون صيرفيّاً وبيّاع أكفان وحنّاطاً ونخّاساً وجزّاراً معتبرٌ في الجميع).

وكيف كان، فالظاهر أنّه لاخلاف فى شيء من ذلك، وتشهد به نصوص مستفيضة:

منها: خبر إسحاق بن عمّار، قال: «دخلتُ على أبي عبد اللّه عليه السلام فخبرته أنّه وُلد لي غلام.

ص: 62


1- جواهر الكلام: ج 22/129.

قال عليه السلام: ألا سمّيته محمّدا؟ قلت: قد فعلت.

قال: فلا تضرب محمّداً ولا تشتمه، جعله اللّه قُرّة عين لك في حياتك، وخَلَف صدقٍ بعدك.

قلت: جُعِلت فداك، في أيّ الأعمال أضعه ؟

قال عليه السلام: إذا عزلته عن خمسة أشياء، فضعه حيثُ شئت: لا تُسلّمه صيرفيّاً فإنّ الصيرفي لا يَسْلَم من الرِّبا، ولا تُسلّمه بيّاع أكفانٍ فإنّ صاحب الأكفان يَسُرّه الوباء إذا كان، ولا تُسلّمه بيّاع طعام، فإنّه لا يَسلم من الإحتكار، ولا تُسلّمه جزّاراً فإنّ الجزّار تُسلب منه الرحمة، ولا تُسلّمه نخّاساً فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: شَرّ النّاس من باع النّاس»(1).

ومنها: خبر إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، قال:

«جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه و آله، قال: يا رسول اللّه قد علّمتُ ابني هذا الكتابة ففي أيّ أسلمه ؟

فقال: أسلمه للّه أبوك، ولا تُسلّمه في خمس: لا تُسلّمه سباء(2)، ولا صائغاً، ولا قصّاباً، ولا حنّاطاً ولا نخّاساً.

إلى أنْ قال: وأمّا الصائغ فإنّه يعالج زين أمتي» الحديث(3).

وقوله عليه السلام: (يعالج زين أمتي) إمّا بالزاء المعجمة، وهو ما يتزيّنون به ممّا يُلههم عن الآخرة، أو بالراء المهملة، أي ما يختم به على قلوبهم. ونحوهما غيرهما.2.

ص: 63


1- وسائل الشيعة: ج 17/135 ب 21 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22186، الاستبصار: ج 3/62 ب 37 ح 1.
2- أي الذي يبيع الأكفان.
3- وسائل الشيعة: ج 17/137 ب 21 من أبواب مايكتسب به ح 4 رقم 22189، الاستبصار: ج 3/63 ب 37 ح 2.

والحِجامة مع الشرط. والحياكة، وأُجرة الضراب،

(و) أمّا (الحجامة) فقيّدها المصنّف رحمه الله وجماعة(1) بما إذا كان (مع الشرط):

فعن «المنتهى»(2): (كسب الحَجّام إذا لم يشترط حلالٌ طلق، وأمّا إذا شَرَط فإنّه يكون مكروهاً، وليس بمحظورٍ عملاً بالأصل).

أقول: ولعلّه مقتضى الجمع بين:

صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ رجلاً سأل رسول اللّه عن كسب الحَجّام، فقال: لك ناضحٌ؟ فقال: نعم. فقال: اعلفه إيّاه ولا تأكله»(3). ونحوه غيره.

وبين خبر أبي بصير، عنه عليه السلام: «عن كسب الحَجّام ؟ فقال: لا بأس به إذا لم يشارط»(4).

وخبر سماعة، عنه عليه السلام: «السُّحت أنواعٌكثيرة، منهاكسب الحَجّام إذا شارط»(5).

وموثّق زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن كسب الحَجّام ؟ فقال: مكروه له أن يشارط، ولا بأس عليك أن تشارطه وتماسكه، وإنّما يكره له ولا بأس عليك»(6).

(و) المكروه الثاني: ما يُكره لصنعته ك (الحياكة)، للنصوص المشتملة على ذَمّ هذه الصنعة، والنهي عنها، المحمولة على الكراهة لفتوى الأصحاب(7).

(و) أمّا (أُجرة الضّراب) أي التكسّب بضراب الفحل، بأن يأجره لذلك مع3.

ص: 64


1- قواعد الأحكام: ج 2/5، إيضاح الفوائد: ج 1/400.
2- منتهى المطلب: ج 2/1019.
3- وسائل الشيعة: ج 17/104 ب 9 من أبواب ما يكتسب به ح 2 رقم 22094، التهذيب: ج 6/356 ح 135.
4- وسائل الشيعة: ج 17/104 ب 9 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22093، التهذيب: ج 6/354 ح 129.
5- وسائل الشيعة: ج 17/92 ب 5 من أبواب ما يكتسب به ح 2 رقم 22058، الكافي: ج 5/127 ح 3.
6- وسائل الشيعة: ج 17/106 و 190 حديث رقم: 22101 و 29347.
7- منتهى المطلب: ج 2/1019، الدروس: ج 3/180، مسالك الأفهام: ج 3/133.

وأُجرة تعليم القرآن ونسخه، وكسب القابلة مع الشرط.

ضبطه بالمرّة والمرّات المعيّنة، أو بالمدّة أو بغير الإجارة، فلا خلاف في كراهة كسبه بين من تعرّض له، وقد مَرّ الكلام فيه في مبحث بيع المني(1).

(و) أمّا (أُجرة تعليم القرآن) فلا إشكال فيها، لأنّه عملٌ محترم لا مانع من أخذ الأجر عليه.

(و) أمّا (نسخه) فستعرف الكلام فيه في مبحث بيع المصحف(2).

(و) أمّا (كسب القابلة) فتمام الكلام فيه في كتاب النكاح(3)، وستعرف أنّه على الكراهة ولكن (مع الشرط).

***ن.

ص: 65


1- فقه الصادق: ج 20/96.
2- صفحة 66 من هذا المجلّد.
3- المجلّد الحادى و الثلاثون.

حُرمة بيع المصحف

خاتمة: في بيان مسائل:

المسألة الأُولى : صرّح جماعة بحرمة بيع المصحف(1)، وقبل التعرّض لحكم المسألة، لابدَّ من تقديم أمرين:

الأمر الأوّل: إنّ المصحف عبارة عن الأوراق المتضمّنة للخطوط على حَدّ سائر الكتب، دون خصوص الخط، كما عن «الدروس»(2) وارتضاه المصنّف رحمه الله(3)، والشاهد على ذلك هو الفهم العرفي، ألا ترى أنّ أحداً لا يحتمل أن يكون المراد بكتاب «الجواهر» عند إطلاقها خصوص الخطوط المنقوشة والمطبوعة على صفحات أوراق ذلك الكتاب.

وبالجملة: لا أظنُّ الترديد في ذلك بحسب المتفاهم العرفي.

الأمر الثاني: إنّ الخطوط المنقوشة، سواءٌ أكانت من قبيل الجواهر كالخطوط المنقوشة بالحبر، أو كانت من قبيل الأعراض أو هيئات الأموال، إنّما تقابل بالمال، لأنّها يرغب إليها، ويُبذل بإزائها العوض، بل ربما تكون عمدة النظر إليها، ولا نظر إلى الأوراق أصلاً، كما أنّه ربما يكون كلّ منهما منظوراً إليها، ويجعل العوض بإزائهما معاً.

وبالجملة: لا يُعتبر في صدق مفهوم البيع كون المبيع من «الجواهر»، مضافاً إلى

ص: 66


1- منتهى المطلب: ج 2/1014، الجامع للشرائع: ص 252، إيضاح الفوائد: ج 1/407، جامع المقاصد: 33.
2- الدروس: ج 3/165.
3- المكاسب: ج 2/155.

ما تقدّم من أنّها ربما تكون من قبيل «الجواهر»، وعليه فما أورده الأستاذ الأعظم(1) على الشيخ بأنّ الخط بما هو خطٌ غير قابل للبيع، غير وارد إذا عرفت هذين الأمرين.

أقول: النصوص الواردة في المقام على طائفتين:

الطائفة الأُولى : ما دلَّ على المنع، وهي قسمان:

القسم الأوّل: ما يكون ظاهراً في المنع عن بيع الأوراق المشتملة على الخطوط المقيّدة بها، والّتي عليها يُحمل عنوان المصحف على إطلاقه:

منها: خبر سماعة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا تبيعوا المصاحف، فإنّبيعهاحرام.

قلت: فما تقول في شرائها؟

قال: اشتر منه الدفتين والحديد والغلاف، وإيّاك أن تشتري منه الورق وفيه القرآن مكتوب، فيكون عليك حراماً، وعلى من باعه حراماً»(2).

والظاهر من قوله عليه السلام: «وإيّاك أن تشتري منه الورق وفيه القرآن مكتوبٌ » بيع الورق المقيّد بالخطوط المنقوشة، فينطبق على ما في صدره من النهي عن بيع المصاحف.

ولكن الخبر ضعيف السند، لأنّ في طريقه الحسن بن علي بن أبي حمزة الذي هو ضعيف، والغريب تعبير الشيخ رحمه الله(3) عن هذا الخبر بالموثّق.

ومنها: ما رواه صاحب «الوسائل» عن عبد الرحمن بن سليمان، عن عبدالرحمن5.

ص: 67


1- مصباح الفقاهة: ج 1/740.
2- وسائل الشيعة: ج 160/17 ب 31 من أبواب مايكتسب به ح 11 رقم 22245، التهذيب: ج 231/7 ح 27.
3- المكاسب: ج 2/155.

ابن سيابة - وتبعه الشيخ - عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّ المصاحف لن تُشترى فإذا اشتريت فقل إنّما أشتري منك الورق، وما فيه من الأديم وحُليته وما فيه من عمل يدك بكذا وكذا»(1).

أقول: هذا الخبر مجهولٌ لعبد الرحمن.

ومنها: خبر جرّاح المدائني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في بيع المصاحف ؟ قال:

لا تبع الكتاب ولا تشتره، وبع الأديم والورق والحديد»(2).

وهذا الخبر أيضاً ضعيف لقاسم بن سليمان وجرّاح.

القسم الثاني: ما يكون ظاهراً في المنع عن بيع الخطوط المنقوشة: كموثّق سماعة، عنه عليه السلام: «عن بيع المصاحف وشرائها؟ فقال: لا تشتر كتاب اللّه عزّ وجلّ ، ولكن اشتر الحديد والورق والدفتين، وقل أشتري منك هذا بكذا وكذا»(3).

وظاهره حرمة جعل الخطوط مبيعاً، سواءٌ جعلت كذلك مستقلّة أو في ضمن بيع المجموع.

ورواه الشيخ(4) في «التهذيب» وفيه: «لا تشتر كلام اللّه...» إلى آخره.

أقول: ثمّ إنّه قد يتوهم التنافي بين الأخبار الثلاثة الأخيرة، والخبر الأوّل، بدعوى أنّها تدلّ على جواز بيع الورق، والخبر الأوّل يدلّ على عدم جوازه، وقد دفع التنافي صاحب «الجواهر» رحمه الله(5) بحمل الأخبار المجوّزة على إرادة شراء الورق6.

ص: 68


1- وسائل الشيعة: ج 17/158 ب 31 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22235، الكافي: ج 5/121 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 17/159 ب 31 من أبواب ما يكتسب به ح 7 رقم 22241، التهذيب: ج 6/366 ح 172.
3- وسائل الشيعة: ج 17/158 ب 31 من أبواب ما يكتسب به ح 2 رقم 22236، الكافي: ج 5/121 ح 2.
4- المكاسب: ج 2/156.
5- جواهر الكلام: ج 22/126.

قبل أن يُكتب بها على أن يكتبها، فيكون العقد في الحقيقة متضمّناً لمورد البيع ومورد الإجارة، بقرينة قوله عليه السلام: «وما عَمِلته يدك بكذا» ضرورة عدم صلاحيّة العمل لكونه مورداً للبيع، فلابدّ من تنزيله على الإجارة.

وفيه: ظاهر قوله عليه السلام: «وما عملته... إلى آخره» أنّ المراد به هو مثل التصحيف، وخياطة الكراريس دون الكتابة.

وأيضاً: الظاهر أنّ المراد به هو الأثر الحاصل من هذه الأعمال، لا نفس الفعل، وإلّا فلا وجه لجعل العمل بعد وقوعه مورداً للإجارة.

وعليه، فالمتعيّن في دفع المنافات أنْ يقال إنّ المراد من الخبر الأوّل الورق المشتمل على الخطوط، كما تقدّم، ومن الأخبار المجوّزة الورق المجرّد.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على الجواز:

منها: صحيح أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن بيع المصاحف وشرائها؟ فقال عليه السلام: إنّما كان يوضع عند القامة والمنبر - إلى أنْ قال - أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه»(1).

ونحوه خبر روح بن عبد الرحيم(2).

ومنها: خبر عنبسة الورّاق - المهمل المجهول - عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«فقلت له: أنا رجلٌ أبيع المصاحف، فإن نهيتني لم أبعها.

فقال: ألستَ تشترى ورقاً وتكتب فيه ؟ قلت: بلي وأعالجها، قال: لابأس به»(3).4.

ص: 69


1- وسائل الشيعة: ج 17/160 ب 31 من أبواب ما يكتسب به ح 8 رقم 22242، التهذيب: ج 6/366 ح 173.
2- وسائل الشيعة: ج 17/160 ب 31 من أبواب ما يكتسب به ح 9 رقم 22243، التهذيب: ج 6/366 ح 174.
3- وسائل الشيعة: ج 17/159 ب 31 من أبواب ما يكتسب به ح 5 رقم 22239، الكافي: ج 5/122 ح 4.

وقد جمع الشيخ رحمه الله(1) بين الطائفتين بحمل الأخبار المانعة على المنع عن بيع الخط، والأخبار المجوّزة على جواز بيع ما عدا الخط، لعدم التعرّض فيها للكيفيّة، بدعوى أنّ نصوص الجواز واردة في مقام بيان أنّ النّاس قَصُرت هممهم عن تحصيل المصاحف إلّابالمال، وأمّا أنّ كيفيّة شرائها وأنّه هل كانت المعاملة على ما عدا الكتابة أو معها، فهي غير متعرّضة لذلك، ففي ذلك المرجع هي النصوص المانعة.

وفيه: إنّ مورد نصوص الجواز بيع المصاحف والمصحف:

إنْ كان عبارة عن خصوص الخط - كما عليه بنائه(2) قدس سره تبعاً للدروس(3) - فهي صريحة في جواز بيع ما تضمّنت نصوص المنع، المنع عن بيعه.

وإنْ كان عبارة عن الأوراق المشتملة على الخطوط، فحيثُ أنّ الكتابة مقوّمة لمصحفيّة المصحف، لعدم صدق المصحف على ما عدا الكتابة بالبداهة، تصبح كالصريحة في جواز إيقاع المعاملة على ما يشمل الكتابة.

فعلى كلّ تقدير هذا حملٌ تبرّعي لا شاهد له.

وأيضاً: أضعف منه ما ذكره بعض مشايخنا المحقّقين من حمل المانعة على المنع عن إيقاع المعاملة على القرآن وكلام اللّه، أي جعل هذا عنواناً للمبيع، وحمل نصوص الجواز على إرادة بيع ما ينطبق عليه القرآن، من دون أن يقصد في البيع هذا العنوان المنطبق عليه، فيكون محصّل الكلام أنّه إذا أردت البيع فعبّر بالجلد والحديد وأثر عمل اللّه، ولا تُعبّر بالقرآن والمصحف.5.

ص: 70


1- المكاسب: ج 2/158-159.
2- المكاسب: ج 2/155.
3- الدروس: ج 3/165.

وبالجملة: فالصحيح في مقام الجمع، هو حمل نصوص المنع على الكراهة لصراحة قوله عليه السلام في صحيح أبي بصير: «أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه» في الجواز، وعلى فرض إبقاء ظهور الأخبار المانعة على حاله، فإنّه لا يستفاد منها إلّاالحرمة التكليفيّة، وهي لا تلازم الفساد، كما تقدّم في أوّل الكتاب مفصّلاً.

أقول: ثمّ إنّ متعلّق الحكم سواءٌ كان كراهة أو حرمة تكليفيّة أم وضعيّة فإنّه خصوص البيع، واستفادة ثبوت هذا الحكم لجميع أنحاء النقل والانتقال، متوقّفة على فهم المناط، أو ثبوت أنّ الخطوط لا تكون كسائر الأموال، ولا تكون مملوكة لأحد، وهما كما ترى ، لا سيّما الأخير، كيف وقد دلّت الروايات على أنّ المصحف من أفراد الحبوة، ويكون مختصّاً بالولد الأكبر، ومع عدمه ينتقل إلى سائر الورثة.

وعليه، فما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(1) من أنّه يمكن عدّ الأخبار المانعة إشارةً إلى عدم قبول المصحف للنقل ولو بالأسباب غير الاختياريّة كالإرث، ضعيفٌ .

والظاهر أنّ النصوص المانعة لا تشمل مبادلة المصحف بالمصحف، إذ الظاهر منها أنّ النهي عن بيعه إنّما هو لأجل تعظيم القرآن، وأنّه أجلّ من أن يُجعل بإزائه ثمن بخس، وهذا المحذور لا يترتّب على المبادلة المزبورة، ومقتضى القاعدة جواز أخذ الأُجرة على كتابة القرآن لكونها عملاً محترماً، ولم يثبت التلازم في الحكم بين أخذ الأُجرة على الكتابة والبيع، مع أنّه تدلّ على جوازه جملة من النصوص، كصحيح علي بن جعفر عليه السلام، قال: «وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يكتب المصحف بالأجر؟ قال: لا بأس»(2). ونحوه غيره(3).6.

ص: 71


1- حاشية كتاب المكاسب: ج 1/305 (المراد من حرمة بيع المصحف) فقرة رقم 604.
2- وسائل الشيعة: ج 17/161 ب 31 من أبواب مايكتسب به ح 13 رقم 22247، قرب الإسناد: ص 268 ح 1068.
3- نفس المصدر: ح 12 رقم 22246.

المراد من حرمة بيع المصحف

قال الشيخ رحمه الله(1): (بقي الكلام في المراد من حرمة البيع والشراء...).

محصّل ما ذكره رحمه الله: أنّه لا ريب في أنّ الكاتب للمصحف في الأوراق المملوكة له، مالكٌ للأوراق مع ما فيها من الخطوط والنقوش، وعلى ذلك:

فإمّا أن تكون النقوش من الأعيان المملوكة أو لا تكون ؟

وعلى الثاني: فلا حاجة إلى النهي عن بيع الخط، فإنّه لا يقع بإزائه جزءٌ من الثمن حتّى يقع في حيّز البيع.

وعلى الأوّل:

1 - فإمّا أن يبقى الخط في ملك البائع، فإنّه يلزم حينئذٍ كون المصحف مشتركاً بين البائع والمشتري، وهو بديهي البطلان ومخالف للاتّفاق.

2 - وإمّا أن ينتقل إلى المشتري في مقابل جزءٍ من الثمن، فهو البيع المنهيّ عنه.

وإن انتقل إليه تبعاً لغيره، فهو خلاف مقصود المتبايعين، لفرض بنائهما على إيقاع المعاوضة على غير الخط، ويعتبر في ما يدخل في الملك تبعاً لغيره، عدم بناء المتعاملين على عدم الدخول، كما لا يخفى ، مع أنّ هذا مجرّد تكليف صوري.

وبالجملة: بهذا البيان يظهر عدم فائدة الالتزام بكون المبيع هو الورق المقيّد بوجود هذه النقوش عليه على نحو دخول التقيّد وخروج القيد.

أقول: هذا محصّل كلامه، وبه يندفع بعض ما أُورد عليه، الناشئ عن عدم

ص: 72


1- المكاسب: ج 2/160.

التأمّل في ما الالتزام به وبين الالتزام بالاحتمال الثالث، ففي الحقيقة يدور الأمر لمن أراد الفرار من إيقاع المعاملة المرجوحة بين احتمالين:

الاحتمال الأوّل: أن يكون المبيع هو الجلد والورق والغلاف والحديد، مشروطاً بأن يملك البائع الخطوط والنقوش مجّاناً، ولا يعتبر التصريح بذلك، لقيام القرينة القطعيّة على أنّ عليه بناء المتعاملين في العقد، إذ من المعلوم أنّ غرض المشتري هو تملّك المصحف.

الاحتمال الثاني: أن يكون المبيع بالأصالة هو ما عدا الخط، وإنّما تنتقل الخطوط إلى المشتري تبعاً وقهراً بحكم من الشارع الأقدس.

فإنْ قلت: لازم كلّ من الاحتمالين عدم ثبوت الخيار لو ظهر عيب في الخطوط، والظاهر أنّه خلاف الاتّفاق.

قلت: إنّه يمكن أن يكون وجه ثبوت الخيار حينئذٍ هو تخلّف الشرط المبنيّ عليه العقد، وهي صحّة الخطوط، فيكون الثابت حينئذٍ خيار تخلّف الشرط.

حكم بيع المصحف من الكافر

ثمّ إنّ المشهور بين المصنّف رحمه الله(1) ومن تأخّر عنه(2) عدم جواز بيع المصحف من الكافر.

وقد استدلّ لعدم جواز بيعه من الكافر - على تقدير القول بجواز بيعه من المسلم - بوجوهٍ غير مختصّة بالبيع، بل هي على فرض الدلالة، جملة منها تدلّ على

ص: 73


1- المكاسب: ج 2/161-162.
2- منية الطالب: ج 2/31.

عدم تملّك الكافر للمصحف، وبعضها يدلّ على عدم جواز تمليكه إيّاه، فها هنا قسمان من الوجوه:

القسم الأوّل: ما استدلّ به على عدم تملّك الكافر للمصحف، وهو دليلان:

الدليل الأوّل: النبويّ المعروف «الإسلام يَعلُو ولا يُعلى عليه»(1).

بدعوى أنّ ملك الكافر للمصحف، المتضمّن لجميع المعارف الإسلاميّة، علوّ للكافر على الإسلام.

وفيه أوّلاً: إنّ النبوي ضعيفُ السند، وغير منجبر بشيء.

وثانياً: إنّ المصحف لا يكون متضمّناً للمعارف الإسلاميّة، بل هو متضمّن لنقوش وخطوط كاشفة عن تلك المعارف، والاستعلاء على الخطوط ليس استعلاءاً على الإسلام ومعارفه بالضرورة.

وثالثاً: ما ذكره السيّد الفقيه(2) بقوله: (إنّ هذا الخبر يحتمل معانٍ خمسة:

أحدها: بيان كون الإسلام أشرف المذاهب، وهو خلاف الظاهر جدّاً.

الثاني: بيان أنّه يعلو من حيث الحُجّة والبرهان.

الثالث: أنّه يعلُو بمعنى يغلب على سائر الأديان.

الرابع: أنّه لا يُنسخ.

الخامس: ما أراده الفقهاء من إرادة بيان الحكم الشرعي الجعلي بعدم علوّ غيره عليه.

وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال).1.

ص: 74


1- وسائل الشيعة: ج 26/14 ب 1 من أبواب موانع الإرث ح 11 رقم 32383، الفقيه: ج 4/334 ح 5719.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/31.

أقول: بل الظاهر منه عدا الأخير، إذ إرادة الإنشاء من مثل هذه الجملة الخبريّة خلاف الظاهر.

الدليل الثاني: فحوى ما دلَّ على عدم تملّك الكافر للمسلم(1)، إذ العبد إنْ لم يتملّكه الكافر بمجرّد اتّصافه بالإيمان، فالقرآن الذي هو حقيقة الأحكام الشرعيّة والمعارف الإلهيّة أولى بعدم التملّك.

وفيه أوّلاً: إنّه لا دليل على عدم تملّكه إيّاه، بل بالعكس من ذلك فإنّ مقتضى ما دلَّ على أنّه يُجبر على البيع، وأنّه يجب عليه ذلك، هو تملّكه له.

وثانياً: إنّ في تملّك الكافر للمسلم، وتسلّطه عليه ذلّاً عليه وإهانة، بخلاف تملّك المصحف فإنّه ليس في ذلك ذلّ .

وثالثاً: إنّ الأولويّة ممنوعة، لما تقدّم آنفاً من أنّ المصحف إنّما هو خطوط ونقوش كاشفة عن تلك الأحكام والمعارف، وأفضليّتها من المؤمن ممنوعة، ألا ترى أنّه لو دار الأمر بين إتلافه وقتل النفس المحترمة، فإنّه لا ريب في تقديمه عليه.

وأمّا القسم الثاني: فهو أمران:

الأمر الأوّل: أنّ تمليك المصحف للكافر هتكٌ له، وهو حرام.

وفيه: إنّ مجرّد تمليكه إيّاه لا يكون هتكاً مطلقاً، نعم ربما يوجبُ التسليط له هتكاً كما أنّه ربما يلازم تسليط المسلم عليه هتكاً.

وبعبارة أُخرى: النسبة بين تسليطه الكافر على المصحف، وبين هتكه عمومٌ من وجه، مع أنّ ذلك من صغريات الإعانة على الإثم، إذ إعطاء المصحف له لاه.

ص: 75


1- وسائل الشيعة: ج 17/380 ب 28 من أبواب عقد البيع وشروطه.

يكون هتكاً، بل هو إعانة عليه كما لا يخفى ، وقد تقدّم في مسألة بيع العنب ممّن يجعله خمراً أنّه لا دليل على حرمة الإعانة على الإثم، مع أنّ هذا الوجه لو تمّ على الحرمة، وهي لا تستلزم الفساد.

الأمر الثاني: أنّ تمليكه للكافر يستلزمُ تنجيسه، للعلم العادي بأنّ الكافر يمسّه مع الرطوبة.

وفيه أوّلاً: إنّه لا علم بالملازمة، بل الظاهر أنّ النسبة بين العنوانين عموم من وجه.

وثانياً: أنّه لو سُلّمت الملازمة، فإنّما هي بين الإعطاء الخارجي والتنجيس، لا بين التمليك والتنجيس.

وثالثاً: إنّ هذا أيضاً من صغريات الإعانة على الإثم.

ورابعاً: إنّ الحرمة لا تستلزم الفساد.

فتحصّل: أنّ الأقوى إمكان تملّك الكافر للمصحف وجواز بيعه له، على القول بجواز بيعه من المسلم.

***

ص: 76

وما يأخذه السّلطان باسم المقاسمة أو الزّكاة حلال.

الحقوق الثابتة في الأموال

(و) المسألة الثانية: طفحت كلماتهم(1) بأنّ (ما يأخذه السلطان) الجائر (باسم المقاسمة) والخراج (أو الزكاة) من الأراضي والأنعام يكون الأخذ منه مجّاناً، أو بالمعاوضة (حلالٌ )، وإنْ لم يكن مستحقّاً له.

أقول: وقبل الشروع في البحث، لابدّ من التنبّه على أمرٍ وهو أنّ الحقوق الثابتة في الأموال متعدّدة:

منها: الخمس.

ومنها: الزكاة.

ومنها: الخراج والمقاسمة، وهما المجعولان على الأراضي الخراجيّة.

قال المقدّس الأردبيلي(2): (الخراج على ما فهم من كلامهم كالاُجرة المضروبة على الأرض التي فُتحت عنوة، وكانت عامرة حين الفتح، وفي معناه المقاسمة سواءٌ كانت عين حاصل الأرض كالثلث أو من النقد بل غيره أيضاً).

وقيل(3): إنّه مختصٌّ بالقسم الثاني، والمقاسمة بالأوّل.

وعليه، فالأولى جعل الأخيرين قسماً واحداً.

ص: 77


1- المهذّب: ج 1/348، السرائر: ج 2/325، شرائع الإسلام: ج 2/266، مسالك الأفهام: ج 3/142.
2- رسالتان في الخراج: ص 17.
3- راجع منية الطالب: ج 1/79 وهامشها.

والظاهر أنّ الخراج هو الأعمّ ممّا يؤخذ من حاصل الأرض، وممّا يؤخذ ضريبة عليها والمعروفة في إيران ب (الماليّات) كما صرّح به المحقّق النائيني رحمه الله(1).

ومنها(2): ما يُجعل على أرض الجزية، وهي الأرض التي صولح عليها على أن تكون الأرض لأصحابها وعليهم كذا وكذا من المال أو الثُّلث أو الربع أو نحوهما من حاصل الأرض، من غير فرقٍ بين جعل الجزية على الرؤوس، أو أن تكون الجزية من باب حقّ في الأرض.

ومنها: ما إذا كانت الأرض أسلم أهلها طوعاً إذا تركوا عمارتها، فإنّ للإمام تقبيلها ممّن يُعمّرها، ويؤدّي طِسْقها على ما ذكره المشهور(3)، ولا بأس بتعميم الخراج بنحوٍ يشمل هذين الحقّين الأخيرين، وعلى ذلك فالحقوق ثلاثة.

أقول: إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الكلام يقع في جهات:

الجهة الأُولى: إذا أخذ السلطان الجائر الحقوق المذكورة من المسلمين، فهل تبرأ ذممهم عنها، كما هو المشهور(4)، بل في «الجواهر»(5) نفي الخلاف عن ذلك ؟

أم لا كما هو الظاهر من الشيخ رحمه الله(6) حيث قال: (وكيف كان فما يأخذه الجائر باقٍ على ملك المأخوذ منه).

أقول: مقتضى القاعدة وإنْ كان هو الثاني، لفرض عدم صرف المال في محلّه،1.

ص: 78


1- منية الطالب: ج 1/79.
2- راجع النهاية: ص 195.
3- المقنعة: ص 274، المبسوط: ج 1/234-235، السرائر: ج 1/476.
4- التذكرة: ج 1/583، ونقل المحقّق الكركي الإجماع عليه، رسائل الكركي: ج 1/269.
5- جواهر الكلام: ج 22/170.
6- المكاسب: ج 2/201.

وعدم إعطائه لأهله، ولكن يدلّ على الأوّل: - مضافاً إلى إمكان استفادة براءة الذمّة من النصوص الآتية، الدالّة على جواز أخذ تلك الأموال من الجائر، إذ لو لم تكن ذمّة المعطي بريئة، وكان المال باقياً على ملكه وجب الرّد إليه، ولم يجز أخذه والتصرّف فيه - جملة من النصوص:

منها: صحيح يعقوب بن شعيب، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن العشور التي تؤخذ من الرجل أيحتسب بها من زكاته ؟ قال عليه السلام: نعم إنْ شاء»(1).

ومنها: صحيح عيص بن القاسم، عنه عليه السلام في الزكاة: «ما أخذ منكم بنو اُميّة فاحتسبوا به، ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم، فإنّ المال لا يبقى على هذا أن يزكّيه مرّتين»(2).

ونحوهما غيرهما ممّا ورد في الزكاة والخمس.

بل الظاهر من بعض النصوص جواز احتساب ما يأخذه الجائر بعنوان الخراج زكاة كصحيح رفاعة، قال:

«سألت الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل له الضيعة، فيؤدّي خراجها، هل عليه فيها عشرٌ؟ قال عليه السلام: لا»(3).

وقريب منه غيره، ولكن لم يعمل بها أحدٌ كما في «الجواهر»(4).

وأمّا ما ظاهره عدم جواز الاحتساب كصحيح أبي أُسامة، قال:7.

ص: 79


1- وسائل الشيعة: ج 9/252 ب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة ح 1 رقم 11952، الفقيه: ج 2/29 ح 1612.
2- وسائل الشيعة: ج 9/252 ب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة ح 3 رقم 11954، الاستبصار: ج 2/27 ح 7.
3- وسائل الشيعة: ج 9/193 ب 10 من أبواب زكاة الغلّات ح 2 رقم 11814، التهذيب: ج 4/37 ح 6.
4- جواهر الكلام: ج 15/227.

«قلتُ لأبي عبداللّه عليه السلام: جُعِلت فداك إنّ هؤلاء المصدّقين يأتونا ويأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها، أتُجزي عنّا؟

قال عليه السلام: لا، إنّما هؤلاء قومٌ غصبوكم، أو قال: ظلموكم أموالكم، وإنّما الصدقة لأهلها»(1).

فمحمولٌ على صورة التمكّن من عدم الدفع، أو على استحباب الإعادة كما عن الشيخ في «التهذيب»(2).

لا يجوز للجائر أخذ تلك الحقوق

الجهة الثانية: هل يجوز للجائر أخذ الحقوق المذكورة من النّاس أم لا؟.

قد يقال: بأنّ الولاية وإنْ كانت حقيقة للسلطان العادل، وتصدّي الجائر وتقمّصه بذلك القميص غصبٌ وحرامٌ وإثم، إلّاأنّه بعد تصدّيه لذلك المقام، له التصرّف في تلك الحقوق، وصرفها في مصالح المسلمين، فإنّ موضوع تلك الأحكام هو والي المسلمين، ومَنْ كان مقدّمهم، وحاملاً راية الإسلام ولو عن غير حقّ ، واستدلّ لذلك بإطلاق لفظ (الوالي) و (الإمام) في الأخبار الدالّة على أنّ أمر أراضي الخراج مفوّض إليه، لعدم تقييدهما الوالي بالولاية الحقّة.

وفيه: إنّ الغاصب لمنصب الولاية إنّما يكون والياً بنظره وبنائه لا في اعتبار الشارع، فقول الشارع: (فذلك إلى الإمام)، أو (إلى الوالي)، يراد به الوالي عن حقّ .

وبعبارة أُخرى : من غصب الولاية لايكون والياً إلّافي اعتباره واعتبار تابعيه،

ص: 80


1- وسائل الشيعة: ج 9/253 ب 20 من أبواب المستحقّين للزكاة ح 6 رقم 11957، الاستبصار: ج 2/27 ح 9.
2- تهذيب الأحكام: ج 4/40 في تعليقه على ح 13 وحكاه عنه في المعتبر: ج 2/561.

لا في اعتبار الشارع، وهذا نظير من تملّك مال الغير غصباً، فإنّ أحكام الملكيّة لا تترتّب عليه، ولم يتوهم أحدٌ القول بأنّ ما دلَّ على عدم جواز التصرّف إلّابإذن المالك يشمل الغاصب أيضاً، فإذاً لا دليل على هذا المُدّعى، فلا ينبغي التوقّف في عدم الجواز.

فرع: لو عصى وأخذ، هل تبرأ ذمّته إذا صرف تلك الأموال في مصالح المسلمين أم لا؟

صريح الشيخ رحمه الله الضمان(1)، وذهب السيّد الفقيه(2) إلى براءة ذمّته منها، واستدلّ له:

بأنّ الأئمّة عليهم السلام أذنوا لشيعتهم شراء الصدقة والخراج من الجائر وقبولهما منه مجّاناً، وهم الولاة الشرعيّون، فيكون تصرّف الجائر كتصرّف الغاصب إذا انضمّ إليه إذن المالك، ومعه لا يمكن بقاء ضمانه، إذ لا يعقل تصحيح المعاملة من أحد الطرفين دون الآخر، فلا يمكن التفكيك بين البيع والشراء بحسب الواقع، كما هو واضح.

وأورد عليه الأستاذ الأعظم(3): بأنّ إذن الشارع للمؤمنين بأخذ تلك الحقوق من الجائر إنّما هو لتسهيل الأمر عليهم لئلّا يقعوا في المضيقة والشدّة، فلا إشعار فيه ببراءة ذمّة الجائر، فضلاً عن الدلالة عليها، فمقتضى قاعدة اليد هو الضمان.

وفيه: إنّ ما ذكره إنّما هو حكمة الإذن، والسيّد قدس سره يدّعي أنّه بعد الإذن في0.

ص: 81


1- المكاسب: ج 2/201.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/44.
3- مصباح الفقاهة: ج 1/820.

الشراء، لا يُعقل بقاء ضمان الجائر بالنسبة إلى عين الصدقة، إذ لا يخلو الأمر من صحّة بيع الجائر، وفساده:

وعلى الأوّل لا معنى لضمانه.

وعلى الثاني لزم فساد الشراء، والمفروض الحكم بصحّته.

وبعين هذا البرهان يُبنى على عدم الضمان في الهبة أيضاً في موارد إذنهم في قبولها.

واحتمال كون الهبة حينئذٍ نظير الإتلاف موجبة لانتقال البدل إلى ذمّة الجائر، وإنْ كان ممكناً في مقام الثبوت، إلّاأنّه خلاف ظاهر الأدلّة بحسب المتفاهم العرفي.

وبالجملة: فالأظهر أنّه اذا صرف الجائر تلك الحقوق في المصارف المأذون فيها برئت ذمّته منها.

أخذ الصدقات والخراج من الجائر

الجهة الثالثة: هل يجوز أخذ الحقوق الشرعيّة من الزّكوات والمقاسمات وأشباههما من الجائر المستحلّ لذلك ويملكها الآخذ، أم لا؟

المشهور بين الأصحاب هو الأوّل(1)، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(2).

وعن «الرياض»(3): «أنّه استفاض نقل الإجماع عليه».

وعن الفاضل القطيفي(4)، والمحقّق الأردبيلي رحمهما الله(5) عدم الجواز.

ص: 82


1- شرائع الإسلام: ج 2/266، قواعد الأحكام: ج 2/12، إيضاح الفوائد: ج 1/410.
2- رسائل الكركي: ج 1/269، مسالك الأفهام: ج 3/142.
3- رياض المسائل: ج 8/104.
4- السراج الوهّاج: ص 31 و 32.
5- رسالتان في الخراج: ص 19.

أقول: الأظهر هو الأوّل، وتشهد له طوائف من النصوص:

منها: ما دلَّ على إباحة جوائز السلطان، سيأتى في البحث عن جوائز السلطان فراجع(1).

ومنها: النصوص الواردة في خصوص المقام، وهي متعدّدة:

1 - صحيح الحذّاء، عن الإمام الباقر عليه السلام: «قال: سألته عن الرّجل منّا يشتري من عمّال السلطان من إبل الصّدقة وغَنَم الصّدقة، وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم أكثر من الحَقّ الذي يجبُ عليهم ؟

قال: فقال: ما الإبل إلّامثل الحنطة والشعير وغير ذلك، لا بأس به حتّى تعرف الحرام بعينه.

قيل له: فما تقول في مصدّقٍ يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا، فنقول بعناها فيبيعناها فما تقول في شرائها منه ؟

فقال: إنْ كان قد أخذها وعَزَلها فلا بأس.

قيل له: فما ترى في الحنطة والشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظّنا، ويأخذ حظّه فيعزله بكيل، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه ؟

فقال: إنْ كان قبضه بكيل وأنتم حضور ذلك، فلا بأس بشرائه منه من غير كيل»(2).

أقول: مورد الاستدلال به جملات ثلاث:

الجملة الأُولى : قوله عليه السلام: «لا بأس حتّى تعرف...» فإنّ المراد منه أنّ السائل من0.

ص: 83


1- صفحة 125 من هذا المجلّد.
2- وسائل الشيعة: ج 17/219 ب 52 من أبواب ما يكتسب به ح 5 رقم 22376، التهذيب: ج 7/132 ح 50.

جهة عدوله عن السؤال عن أصل الجواز إلى السؤال عن الشبهة الناشئة من أخذهم أزيد من المجعول غصباً، جعل جواز أخذ الصدقات من الجائر مفروغاً عنه، والإمام عليه السلام أجابه بذلك وقرّره عليه، وهو كالصريح في مفروغيّة جواز ما يأخذونه من الحقّ ، وأنّ الحرام هو خصوص الزائد منه.

وأورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل(1): أنّ من الجائز كون المراد من (السلطان) هو الحاكم العادل، فتكون الرواية أجنبيّة عن المقام.

وفيه: - مضافاً إلى بُعد أخذ عمّال سلطان العادل أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم، ففرض ذلك يوجبُ ظهورها في إرادة الجائر - أنّ السائل إنّما يسأل عن الواقعة التي كانت محلّاً للابتلاء، ومعلوم أنّ في ذلك الزمان لم يكن سلطانٌ عادل مبسوط اليد كى يصحّ حمل الرواية عليه، مع أنّه يكفى ترك الاستفصال فى الحكم بالعموم.

الإيراد الثاني (2) : أنّ المراد من الشراء في الخبر الإستنقاذ.

وفيه: - مضافاً إلى بعده في نفسه - إنّ هذا لو تمّ فإنّما هو فيما لو كان المشتري هو المأخوذ منه، وظاهر هذه الجملة بقرينة قوله: «وهو يعلم أنّهم يأخذون منهم» كون المشتري غير المأخوذ منه.

الإيراد الثالث: ما ذكره المقدّس الأردبيلي(1) في محكي كلامه بقوله: (إنّ قوله عليه السلام: «لا بأس به حتّى يعرف الحرام منه» لا يدلّ إلّاعلى جواز شراء ما كان حلالاً بل مشتبهاً، وعدم جواز ما كان معروفاً أنّه حرام بعينه، ولا يدلّ على جواز2.

ص: 84


1- مجمع الفائدة: ج 8/102.

شراء الزكاة بعينها صريحاً، نعم ظاهرها ذلك لكن لا ينبغي الحمل عليه، لمنافاته العقل والنقل، ويمكن أن يكون سبب الإجمال فيه التقيّة).

ويرد عليه أوّلاً: أنّ الرواية إذا كانت مخالفة للنقل والعقل، فإنْ كانت بنحوٍ لا يمكن الأخذ بها، والجمع بين الدليلين، وتعيّن طرح تلك الرواية، لما كان هناك فرق بين كونها ظاهرة أو صريحة.

وثانياً: أنّها صريحة في المطلوب، إذ الضمير في قوله عليه السلام: «لا بأس به» يرجع إلى شراء إبل الصدقة وغنمها.

وثالثاً: إنّه رحمه الله اعترف أوّلاً بالظهور، ثمّ عاد إلى دعوى الإجمال.

ورابعاً: إنّ ما دلَّ من النقل والعقل على عدم جواز التصرّف في ملك الغير من دون رضا صاحبه، قابلٌ للتخصيص، وقد خُصّص في بعض الموارد كالتصرّف في الأراضي الشاسعة والأنهار الكبيرة وغيرها.

وخامساً: إنّ عدم جواز التصرّف في المال المأخوذ من الجائر - بعدما عرفت من خروجه عن ملك المأخوذ منه وتعيّنه في العنوان الذي أُخذ بذلك العنوان من الخراج أو غيره - إنّما يكون لأجل اعتبار إذن الولي الشرعي، وهذه النصوص إنّما تتضمّن إذن الولاة الشرعيّين.

وبالجملة: فلا يلزم من الحكم بالجواز مخالفة لأيّ دليل من الأدلّة المفروضة، فتدبّر.

الجملة الثانية: قوله عليه السلام: «إنْ كان قد أخذها وعَزَلها فلا بأس» الوارد في جواب السؤال عن شراء الإنسان صدقات نفسه من الجائر.

ص: 85

وأورد عليه بعض مشايخنا المحقّقين(1): بأنّه لا ظهور في كون المصدِّق من قِبل السلطان وعمّاله، فلعلّه من قِبل الإمام أو من قِبل الفقراء.

وفيه: إنّ الإمام عليه السلام في زمان هذا السؤال لم يكن مبسوط اليد، ولم يكن عليه السلام يرسل عمّاله لجباية الصّدقات، وكان المتعارف أخذ عمّال السلطان للصدقات لا الفقراء بأنفسهم.

وبالجملة: الظاهر من كلمة (المصدّق)، هو من كانت حرفته وشغله جباية الصدقات، وحيث لم يكن السلطان العادل حين السؤال مبسوط اليد، ولا يكون السؤال إلّاعن حكم الواقعة المُبتلى بها لا قضيّة فرضيّة، فلا مناص من البناء على كون المصدق هو عامل الجائر.

الجملة الثالثة: ما تضمّن حكمه عليه السلام بكفاية الكيل السابق في الشراء، وهذه الفقرة ظاهرة في جواز شراء المقاسمات.

أقول: وأُورد عليه:

تارةً : بما عن «المستند»(2) من منع إرادة المقاسمة المصطلحة من هذه الجملة، لأنّ لفظ (القاسم) يُستعمل في صدقات الغلّات أيضاً.

وأُخرى : بما ذكره بعض مشايخنا المحقّقين(3) تبعاً للفاضل القطيفي(4) والمقدّس الأردبيلي(5) من أنّه لعلّ المراد هو مالك الأرض أو وكيله.ش.

ص: 86


1- قد يظهر ذلك من مصباح الفقاهة: ج 1/823، فراجع.
2- مستند الشيعة: ج 14/207.
3- راجع مصباح الفقاهة: ج 1/824.
4- السراج الوهّاج: ص 109.
5- مجمع الفائدة: ج 8/102 في الهامش.

أمّا الإيراد الأوّل: فالجواب عنه أنّه إذا ثبت الحكم في الزكاة ثبت في المقاسمة بضميمة عدم القول بالفصل، مع أنّ مقابلة القاسم بالمصدّق في الخبر ظاهرة في إرادة كلّ من المقاسمة المصطلحة والصدقة.

وأمّا الإيراد الثاني: فيمكن الجواب عنه بأنّه لا يصحّ إطلاق لفظ (القاسم) من دون تقييد على غير مَنْ حرفته القسمة، لأنّه بنفسه ظاهرٌ في إرادة العامل الموظف لذلك، مع أنّ اتّحاد السياق يقتضي أن يراد من القاسم هو العامل.

وقد أُورد على الاستدلال بالخبر(1): بأنّه مختصٌّ بالشراء، فلابدّ من الاقتصار في مخالفة القواعد عليه.

أقول: والجواب عن ذلك بما في «المكاسب»(2) من أنّ العدول من التعبير بالجواز إلى التعبير بالحلال مشعرٌ بمناط جواز الشراء، وهو كون المال حلالاً بالنسبة إلى الآخذ، ومقتضى ذلك حليّة كلّ تصرّف له بإذن السلطان.

قابلٌ للمناقشة كما لا يخفى ، ولكن الذي يُسهّل الخَطب، دلالة جملةٍ من الروايات الاُخر على حليّة سائر التصرّفات:

منها: موثّق إسحاق بن عمّار، قال: «سألته عن الرّجل يشتري من العامل وهو يظلم ؟ قال عليه السلام: يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً»(2).

وقد استدلّ به الشيخ رحمه الله(4) بتقريب أنّ الظاهر من الشراء من العامل، شراء ما هو عاملٌ فيه، وهو الذي يأخذ من الحقوق من قِبل السلطان، وعلّق عليه السيّد3.

ص: 87


1- مجمع الفائدة: ج 8/103. (2و4) المكاسب: ج 2/204 و 206.
2- وسائل الشيعة: ج 17/221 ب 53 من أبواب ما يكتسب به ح 2 رقم 22379، الكافي: ج 5/228 ح 3.

الفقيه(1) بقوله: (مع أنّ ترك الاستفصال يكفي في العموم).

أقول: إنّ كلمة (العامل) الواردة في هذه الرواية وسائر ما ورد بمضمونها التي ذكرها السيّد في «الحاشية»، يمكن أن يكون المراد بها مطلق من يعمل للسلطان، ولو بأن يكون عاملاً في تولّي الحكومات، ولا يكون صريحاً ولا ظاهراً في إرادة العامل في جباية الصدقات، وعلى ذلك فغاية ما تدلّ عليه هذه النصوص، جواز الاشتراء من العامل ما لم يعلم بأنّ المبيع حرامٌ ، ولا تكون في مقام بيان تعيّين الحلال وتمييزه عن الحرام، وبالتالي فلا تدلّ على حليّة ما يأخذه من الحقوق للمشتري.

وبهذا البيان يظهر أنّه إذا لم يكن الشراء من العامل ظاهراً في شراء ما هو عاملٌ فيه، لا يجدي ترك الاستفصال في الحكم بالجواز في المقام.

نعم، لو كان المراد من (العامل) العامل على جباية الصدقات، ومن (الشراء منه) شراء ما هو عاملٌ فيه، تم الاستدلال به، ولكن في كلا الأمرين نظراً، وقد تقدّم.

ومنها: خبر أبي بكر الحضرمي، قال: «دخلتُ على أبي عبد اللّه عليه السلام وعنده ابنه إسماعيل، فقال: «ما يمنع ابن أبي سمّاك أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفي النّاس، ويعطيهم ما يُعطي النّاس.

قال: ثمّ قال لي: لِمَ تركت عطاءك ؟ قلت: مخافة على ديني.

قال: ما منع ابن أبي سمّاك أن يبعثَ إليك بعطائك، أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً؟»(2).

فإنّ ظاهر صدره حليّة ما يُعطى من بيت المال أُجرةً للعمل فيما يتعلّق به،4.

ص: 88


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/45.
2- وسائل الشيعة: ج 214/17 ب 51 من أبواب مايكتسب به ح 6 رقم 22361، التهذيب: ج 6/336-337 ح 54.

وظاهر ذيله حليّة ما يُعطي عطاء، ولذا قال المحقّق الكركي(1): (إنّ هذا الخبر نصٌّ في الباب).

ويرد عليه: - مضافاً إلى ما في سند الخبر من الجهالة لعبد اللّه بن محمّد الحضرمي - أنّ صدر الخبر لمعارضته مع ما دلَّ على عدم جواز كون الإنسان عوناً للظالم - المتقدّم في مبحث معونة الظالم(2) - لابدَّ من طرحه، وأمّا ذيله، فهو إنّما يدلّ على أنّ ما يأخذه السلطان بعنوان الزكاة أو غيرها، يخرج عن ملك المأخوذ منه، ويتعيّن لذلك، وأنّه إذا كان للشخص حقٌّ في بيت المال، جاز له الأخذ من تلك الحقوق، ولا يدلّ على جواز المعاملة مع السلطان، وأخذ المال منه، ما لم يكن مصرفاً له. فتأمّل.

وأمّا ما أورده المحقّق الأردبيلي رحمه الله(3) عليه: بأنّ غاية ما يدلّ عليه الخبر أنّه ربما يكون في بيت المال ما يجوزُ أخذه وإعطائه للمستحقّين، بأن يكون منذوراً أو وصيّة لهم، بأن يعطيهم ابن أبي سمّاك وغير ذلك.

فيرد عليه: أنّه خلاف الظاهر جدّاً، كما لا يخفى .

ومنها: الأخبار الواردة في تقبّل الأرض، وتقبّل خراجها، وخراج الرِّجال والرؤوس من السلطان الجائر، وهي كثيرة مذكورة في كتاب الجهاد من «الوسائل»(4) وقد نقل الشيخ رحمه الله جملة منها في المتن.

وفي تعليقة السيّد الفقيه(5): (الإنصاف أنّ هذه الأخبار كالنصّ في هذا المضمار،5.

ص: 89


1- رسائل الكركي: ج 1/272.
2- فقه الصادق: ج 21/286.
3- مجمع الفائدة: ج 8/104.
4- وسائل الشيعة: ج 15/155-160 ب 71 و 72.
5- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/45.

وأظهر ما في هذا الباب).

أقول: ولكن الإنصاف إمكان منع دلالتها على حكم المقام، وذلك لأنّ هذه النصوص طائفتان:

إحداها: واردة في الأرض وإعطاء الخراج.

ثانيتها: واردة في تقبّل الخراج والجزية.

أمّا الطائفة الأُولى : فهي إنّما تدلّ على جواز تقبل الأرض وإعطاء خراجها، فليس هناك معاملة على الخراج التي هي محلّ الكلام.

وأمّا الطائفة الثانية: فهي إنّما تكون واردة في مقام بيان أُمور أُخر من غير تعرّض لجواز أصل التقبّل، بل هو مفروغ عنه فيها.

وعليه، فحيثُ يحتمل اختصاص الجواز برخصة الإمام وإذنه - كما يظهر من بعض الروايات الدالّة على أنّ عادة أصحابهم عليهم السلام كانت جارية على الاستئذان منهم في المعاملة مع السلطان، لاحظ صحيحي جميل وصفوان المذكورين في المتن، وليس هناك إطلاقٌ يتمسّك به على الفرض - فلا يمكن الاستدلال بها على المقام، فتدبّر.

وأمّا ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(1): - في وجه أجنبيّة هذه النصوص عن المقام، بعد كون أصل جواز التقبّل فيها مفروغاً عنه - من أنّه لعلّ يكون جوازه لأجل أنّ السلطان يأخذ ما يأخذه البتّة، وبعد ذلك كلّ مستعملي الأرض يرضون أن يتقدّم واحدٌ ويضمن للسلطان ما هو آخذ منهم، ثمّ هم يدفعون ما هو عليهم لهذا المتقبّل بطيب النفس، لدفعه الظلامة والأذى عنهم.).

ص: 90


1- حاشية كتاب المكاسب للايرواني: ج 1/309-310 (المسألة الثانية: في جوائز السلطان وعمّاله).

فهو في نفسه لا بأس به، وبه يمكن الحكم بجواز تقبّل سائر الظلامات من الضرائب التي تؤخذ الكمارك ونحوها، ثمّ أخذها ممّن عليهم ذلك إذا كان ذلك بطيب أنفسهم، وإنْ كان منشأ طيب النفس علمهم بمقهوريّتهم في الأخذ منهم، إلّا أنّ ظاهر نصوص الباب يأبى عن الحمل على ذلك، فإنّها تدلّ على جواز تقبل الخراج وإعطاء ما في ذمم الأشخاص للسلطان، وبراءة ذممهم من الخراج ونحوه، ولازم ما أفاده رحمه الله اشتغال ذممهم بتلك الحقوق، وعليه فالصحيح ما ذكرناه، واللّه العالم.

***

ص: 91

شراء الحقوق من الجائر قبل أخذها

أقول: التحقيق حول أموال الجائر يتحقّق بالبحث عن أُمور:

الأمر الأوّل: يدور البحث في أنّه:

هل يختصّ الحكم بما يأخذه السلطان، بمعنى أنّه قبل أخذه لا يجوز المعاملة عليه بشراء ما في ذمّة المستعمل للأرض، أو الحوالة عليه ونحو ذلك، كما هو ظاهر عبارات الأصحاب.

أم يجوز المعاملة على الخراج قبل قبضه، كما عن المحقّق الثاني(1) وسيّد «الرياض»(2) واختاره الشيخ(3) قدس سره ؟ وجهان:

استُدلّ للثاني: بظاهر الأخبار المتقدّمة الواردة في قبالة الأرض وجزية الرؤوس، الدالّة على أنّه يحلّ ما في ذمّة مستعمل الأرض من الخراج لمن تقبّل الأرض من السلطان.

وفيه: حيثُ عرفت عدم دلالتها على ذلك، وسائر النصوص مختصّة بما بعد الأخذ، بل هو صريح صحيح الحذّاء وفيه: «إنْ كان قد أخذها وعزلها فلا بأس»(4).

فالأظهر هو الاختصاص.

أقول: وربما يستظهر من الأصحاب في باب المساقاة ذلك، حيث يذكرون(5):

ص: 92


1- رسائل الكركي: ج 1/277.
2- رياض المسائل: ج 8/98.
3- المكاسب: ج 2/212.
4- وسائل الشيعة: ج 17/219 ب 52 من أبواب ما يكتسب به ح 5 رقم 22376، الكافي: ج 5/228 ح 2.
5- المقنعة: ص 638، المراسم العلويّة: ص 198، النهاية: ص 442، المهذّب: ج 2/15، السرائر: ج 2/452.

(إنّ خراج السلطان على مالك الأشجار، إلّاأن يشترط خلافه).

وفيه: أنّ هذا الاستظهار مبنيٌّ على كون الخراج في ذينك البابين على المستعمل، فإنّه حينئذٍ يكون حكم الأصحاب بكفاية دفع المالك - بمعنى مَنْ هي بيده - للخراج عن الزّارع والساقي، مبتنياً على جواز المعاملة عليه قبل أخذ السلطان له، إذ المالك حينئذٍ يعامل عليه، ويدفعه إلى السلطان قبل أخذ السلطان إيّاه، وحيث أنّ للمنع عن ذلك مجالاً واسعاً، فإنّ الخراج من الأوّل يكون على المالك، إلّامع الشرط، كما تدلّ عليه جملة من النصوص، وقد ذكرها السيّد في «الحاشية»(1)، فلا يصحّ استظهار أنّ بناء الأصحاب على جواز المعاملة قبل الأخذ من هذه الفتوى.

حكم الأراضي الخراجيّة حال الغيبة

الأمر الثاني: لا كلام بينهم في أنّ الأراضي الخراجيّة مِلكٌ للمسلمين، وأنّ أمر التصرّف فيها إلى الإمام عليه السلام والماذون من قبله، كما دلّت على كلا الأمرين جملة من النصوص، مذكورة في «الوسائل» في كتاب الجهاد، وإنّما الاختلاف في حكمها في حال الغيبة، وقد كَثُرت الأقوال فيه:

القول الأوّل: ما عن جماعة من المحقّقين(2) من أنّه لا يجوز التصرّف في الأراضي، ولا في الخراج، إلّابإذن السلطان الجائر، وأنّه وليّ هذا الأمر بعد

ص: 93


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/46.
2- ظاهر الدروس: ج 3/170، وصريح جواهر الكلام: ج 21/164، وجامع المقاصد: ج 4/45، ومصباح الفقاهة: ج 1/819.

غصبه الخلافة.

وعن «الكفاية»(1): أنّه نَقل بعضهم الاتّفاق عليه، وبعض هؤلاء صرّح بأنّه مع عدم إمكان الرجوع إلى الجائر، فالأمر إلى الحاكم الشرعي(2)، والباقون ساكتون عن ذلك.

القول الثاني: ما عن «المسالك»(3)، من أنّ الأمر أوّلاً إلى الحاكم الشرعي، ومع عدمه أو عدم إمكان تصرّفه فإلى الجائر، ولا يجوزُ التصرّف إلّابأحد الوجهين على الترتيب المذكور.

القول الثالث(4): أنّ الأمر إلى الحاكم الشرعي، إلّاأنّه إذا تصرّف الجائر يكون تصرّفه فيها وفي خراجها نافذاً، من غير حاجةٍ إلى الاستئذان من الحاكم الشرعي، وإن أمكن.

وهذا هو الظاهر من كثيرٍ من متأخّري المتأخّرين، وظاهرهم أنّه لابدَّ من أحد الأمرين.

القول الرابع(5): أنّ الأمر إلى الحاكم الشرعي، ومع عدمه أو عدم إمكان الاستيذان منه، يجوز لآحاد الشيعة التصرّف فيها، ولكن مع مبادرة الجائر إلى التصرّف يكون تصرّفه نافذاً، ولا يجب الاستيذان من الفقيه.7.

ص: 94


1- كفاية الأحكام: ص 79.
2- راجع المكاسب: ج 2/223 وهامشها.
3- مسالك الأفهام: ج 3/55.
4- ظاهر جواهر الكلام: ج 21/164، وحاشية المكاسب لليزدي: ج 1/47.
5- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/47.

القول الخامس: ما عن «المبسوط»(1) و «المستند»(2) من أنّه يجوز لآحاد الشيعة التصرّف فيها، من غير توقّفٍ على الاستئذان من أحدٍ لا من الحاكم الشرعي ولا من الجائر.

القول السادس(3): أنّه يجوزُ الرجوع إلى كلّ منهما في حال الاختيار، ويتعيّن أحدهما مع عدم إمكان الآخر.

القول السابع(4): أنّه يجبُ الاستئذان من الحاكم الشرعي إذا أمكن، حتّى في صورة تصرّف الجائر، وعدم جواز الاكتفاء به.

أقول: الأقوى بحسب الأدلّة هو القول الرابع، لأنّه مقتضى الجمع:

بين ما دلَّ على أنّ أمر التصرّف في الأراضي الخراجيّة إلى وليّ أمر المسلمين والسلطان العادل.

وما دلَّ على أنّ الأُمور التي لابدَّ من تحقّقها في الخارج، واحتمل كونها مشروطة في وجودها بالاستئذان من شخصٍ خاص، يعتبر فيها إذن الفقيه ومن له الولاية عليها.

وبين ما دلَّ على نفوذ تصرّفات الجائر، وإنْ أمكن الاستئذان من الفقيه كما لا يخفى .

ثمّ إنّ مقتضى القاعدة هو الاقتصار على المتيقّن من موارد تصرّف الجائر،2.

ص: 95


1- كما يظهر من المبسوط: ج 1/263.
2- مستند الشيعة: ج 14/225.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/47.
4- المكاسب: ج 2/222.

وهي صورة عدم التمكّن من الامتناع على التسليم إليه، فلو دفع إليه اختياراً لما كان تصرّفه نافذاً.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك -: قوله عليه السلام في صحيح العيص المتقدّم: «ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم، فإنّ المال لا ينبغي أن يُزكّى مرّتين».

فإنّه وإنْ ورد في خصوص الزكاة، إلّاأنّه يثبت في الخراج والمقاسمات بعدم القول بالفصل.

وأمّا ما استدلّ به الشيخ رحمه الله(1) علي هذا، فستعرف ما فيه عند شرح عبارة الكتاب.

وقد استدلّ للقول الأوّل: - وهو القول المنسوب إلى المشهور -:

بأنّ الجائر إنّما غصب الخلافة والولاية، وهو في ذلك آثمٌ ومعاند للّه ورسوله، إلّا أنّ أمر التصرّف في الأراضي الخراجيّة جعل للوالي، وإنْ كان مستولياً بغير استحقاق، وعليه فهو الولي في هذا الأمر، ونظير ذلك ما لو أوقف أحدٌ أرضاً وجعل توليتها لسلطان الوقت.

وبأنّ المستفاد من نصوص المقام، أنّ المجعول أوّلاً وإنْ هو ولاية التصرّف للعادل، إلّاأنّ الولاة الشرعيّين بأنفسهم جعلوا ولاية هذا الأمر للجائر، فهذا المال من الأموال التي لها متول مخصوص.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلما تقدّم في أوّل هذا المبحث. فراجع.

وأمّا الثاني: فلأنّه لا يستفاد من تلك النصوص سوى نفوذ تصرّفاته، ولا7.

ص: 96


1- المكاسب: ج 2/217.

يستفاد منها جعل الولاية الخاصّة.

وبذلك ظهر ما في القول السادس، إذ لا مدرك له سوى توهم أنّه مقتضى الجمع بين جعل الولاية لكلٍّ من الحاكم الشرعي والجائر.

وأمّا القول الثاني: فيرد عليه أنّه لا دليل على جعل الولاية للجائر، حتّى مع عدم وجود الحاكم الشرعي، وعليه فعند فقد الولاية إنّما تكون لعدول المؤمنين.

وأمّا القول الثالث: فيمكن إرجاعه إلى الرابع الذي اخترناه.

وأمّا القول الخامس: فقد استدلّ له بطائفتين من النصوص:

الطائفة الأُولى: النصوص(1) الدالّة عليتحليل مالهم لشيعتهم، وحينئذٍ يعدّ الأخذ من السلطان أخذاًمنه من باب الاستنقاذ، وهذا ما استدلّ به صاحب «المستند»(2).

الطائفة الثانية: الأخبار(3) الدالّة على تحليل الأراضي، بناءً على إطلاقها للأراضي الخراجيّة، وعدم اختصاصها بالأنفال، وهي التي استدلّ بها بعض مشايخنا المحقّقين رحمه الله.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأُولى : فلأنّه لو ثبت العموم لتلك الأخبار، لما كانت شاملة للمقام، إذ الأراضي الخراجيّة إنّما تكون للمسلمين لا للإمام عليه السلام، وإنْ كانت الدُّنيا وما فيها له عليه السلام.

وأمّا الثانية: فلأنّ تلك النصوص مختصّة بالأنفال، كما حُقّق في محلّه.س.

ص: 97


1- وسائل الشيعة: ج 9/523-534 ب 4 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.
2- مستند الشيعة: ج 14/224.
3- وسائل الشيعة: ج 9/523-534 ب 4 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس.

وأمّا القول السابع: فيرده إطلاق نصوص الباب، بل الظاهر منها أنّها متضمّنة للإذن العام في جميع الموارد، فلا حاجة إلى الاستئذان من الفقيه.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو القول الرابع، وهو أنّ الولاية إنّما تكون للحاكم الشرعي، ومع عدم وجوده فلعدول المؤمنين، إلّاأنّه إذا تصرّف الجائر يكون تصرّفه نافذاً، ولا حاجة إلى الاستئذان من الفقيه وإنْ أمكن.

ما يأخذه الجائر باسم الخراج من غير الأراضي الخراجيّة

الأمر الثالث: في حكم ما يأخذه السلطان باسم الخراج من أراضي الأنفال ومجهول المالك ونحوهما، ممّا لا تعدّ عندنا من الأراضي الخراجيّة.

أقول: إنّ الأرض التي يأخذ الجائر منها الخراج:

تارةً : تكون من الأراضي الخراجيّة عندنا.

وأُخرى: لا تكون منها باتّفاق الفريقين، كالأراضي المخصوصة بأشخاص خاصّة، ولو كانت ملك الإمام عليه السلام بما هو شخصٌ خاص، لا من حيث أنّه إمامٌ ورئيس، ومنها الأرض التي أسلم أهلها طوعاً.

وثالثة: تكون من الأراضي الخراجيّة عندهم، ومن الأموال المختصّة بالإمام عليه السلام بما هو إمام عندنا، كأراضي الأنفال، ومجهول المالك ونحوهما.

أمّا القسم الأوّل: فلا ريب ولا كلام في شمول الأخبار المتقدّمة والأدلّة المشار إليها له، وهو المتيقّن من موردها.

وأمّا القسم الثاني: فلا ريب في عدم شمولها له، ويكون أخذ الخراج منه ظلماً في

ص: 98

مذهبهم أيضاً، فلا يجري مناط الحكم فيه الذي هو التقيّة، بل يمكن أنْ يقال إنّ موثّق إسحاق(1) الذي استدلّ به في المسألة يدلّ على عدم ثبوت الحكم في هذا القسم، لقوله عليه السلام: «يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً»، بل لا يبعد دعوى دلالة صحيح الحذّاء الآتي عليه، لاشتماله على قوله عليه السلام: «لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه»، وسيأتي لذلك زيادة توضيح. فانتظر.

وأمّا القسم الثالث: فهو الذي وقع الكلام فيه، وهذا التنبيه انعقد لبيان حكمه، وقد استظهر الشيخ رحمه الله(2) - خلافاً لما استظهره المحقّق الكركي(3) من كلمات الأصحاب - جريان الحكم فيه، وقد استدلّ له:

بأنّه الذي يقتضيه نفي الحرج.

وبإطلاق الأخبار.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه - مضافاً إلى ما تقدّم من عدم كونه مدركاً لهذا الحكم - أنّه:

1 - إنْ أُريد لزوم الحرج على الآخذين للأموال المذكورة عن الظلمة، فهو باطل، إذ لا حرج في ترك الشراء من الغاصب، ولو تمّ ذلك لزم جواز شراء كلّ ما في أيدي الغاصبين، مع أنّه بناءً على ما ستعرف في مبحث جوائز السلطان(4) من أنّ المال المأخوذ من الجائر ما لم يعلم أنّه حرامٌ بعينه، يَحلُّ التصرّف فيه.

2 - وإنْ علم اشتمال أمواله على الحرام، جاز له التصرّف فيما يؤخذ منهم، ما لمد.

ص: 99


1- وسائل الشيعة: ج 17/221 ب 53 من أبواب ما يكتسب به ح 2 رقم 22379، الكافي: ج 5/228 ح 3.
2- المكاسب: ج 2/225.
3- رسائل الكركي: ج 1/258.
4- صفحة 125 من هذا المجلّد.

يعلم أنّه من تلك الأموال.

وإنْ أُريد به لزوم الحرج على الذين يؤخذ منهم هذا الحقّ ، فهو أيضاً باطل، إذ لا يلتزم ببقاء شيء في عهدتهم، حتّى يلزم منه الحرج عليهم.

وأمّا الثاني: فلأنّه لا إطلاق لها، لورودها في مقام بيان الحِليّة من ناحية تصرّف الجائر خاصّة، لا من الجهات الاُخر، ولذلك فهي لا تسوّغ سوى أمراً واحداً، ولا نظر لها إلى الجهات الاُخر، فيجب التحفّظ عليها.

فإذا كانت الأرض من الأنفال التي أُبيحت للشيعة، فأخذ الحقّ منها ظلمٌ في نفسه، مع قطع النظر عن تصدّي الجائر لذلك.

بل يمكن أنْ يقال: إنّ ظاهر صحيح(1) الحذّاء، وموثّق إسحاق المتقدّم عدم إجراء الحكم فيه.

أمّا الأوّل: فلقوله عليه السلام فيه في جواب السؤال عمّا يشترى من عُمّال السلطان، مع العلم بأنّهم يأخذون أكثر من الحقّ الذي يجب عليهم:

«لا بأس به حتّى تعرف الحرام بعينه»، فإنّه يدلّ على أنّ ما يؤخذ غير الحقّ الواجب حرام.

وأمّا الثاني: فلما تقدّم.

وبالتالي، فالأظهر عدم جريان الحكم في هذا القسم.

نعم، ما يؤخذ من غيرنا ممّن يعتقد بكون هذا القسم من الأراضي الخراجيّة، يمكن تحليله وإجراء الحكم المذكور فيه، لقاعدة الإلزام بالتقريب المتقدّم في أوّل هذا المبحث.2.

ص: 100


1- وسائل الشيعة: ج 17/219-220 ب 52 من أبواب ما يكتسب به ح 5 رقم 22376، الكافي: ج 5/228 ح 2.

اختصاص الحكم بالسّلطان المُدّعي للرئاسة العامّة

الأمر الرابع: قال الشيخ(1): (ظاهر الأخبار، ومنصرف كلمات الأصحاب، الاختصاص بالسّلطان المُدّعي للرئاسة العامّة وعمّاله... إلى آخره).

أقول: البحث في هذا الأمر يقع في موردين:

المورد الأوّل: في أنّه هل يختصّ الحكم بالسّلطان المستولي على البلاد، أم يشمل من تسلّط على قريةٍ أو بلدة خروجاً على سلطان الوقت ؟

المورد الثاني: في أنّه هل يختصّ الحكم:

1 - بالمخالف الذي يرى نفسه خليفة ؟

2 - أم يعمّ كلّ سلطان مُسلمٍ يرى نفسه خليفةً بالفعل، مخالفاً كان أم شيعيّاً كما قيل في هارون الرشيد وابنه المأمون.

3 - ام يعمّ كلّ سلطان مسلم ؟

4 - أم يعمّ مطلق السلاطين ؟.

أمّا التعميم: فقد استدلّ (2) له:

1 - بقاعدة الحرج والعُسر، وبإطلاق الأخبار، لا سيّما بعضها، كقوله عليه السلام في صحيح الحلبي: «لا بأس أن يتقبّل الأرض وأهلها من السلطان»(3) وغيره(4).

ص: 101


1- المكاسب: ج 2/227.
2- رياض المسائل: ج 8/99-100، المكاسب: ج 2/227-228.
3- وسائل الشيعة: ج 59/19 ب 18 من أبواب المزارعة ح 3 رقم 24152، التهذيب: ج 201/7 ح 34.
4- وسائل الشيعة: ج 214/17 ب 51 من أبواب مايكتسب به ح 6 رقم 22361، التهذيب: ج 336/6-337 ح 54.

2 - وبأنّ وجه الإذن منهم عليهم السلام هو وصول المؤمنين إلى حقوقهم الثابتة في بيت مال المسلمين، كما يُشعر به قوله عليه السلام في الخبر الحسن: «أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً»(1).

ويرد على الوجه الأوّل: ما تقدّم غير مرّة من عدم صلاحيّة تلك القاعدة لإثبات الحكم، مضافاً إلى أنّه:

إنْ أُريد به لزوم الحَرَج على الآخذين من أُولئك الحكّام الظلمة.

فيرد عليه: ما ذكرناه في التنبيه المتقدّم.

وإنْ أُريد به لزوم الحَرَج على الذين تؤخذ منهم هذه الحقوق، لبقائها في عهدتهم.

فيرد عليه: أنّ لازم ذلك إنّه كلّما أجبرهم ظالمٌ أو غاصب على إعطاء تلك الحقوق تبرأ ذممهم منها.

وإنْشئت قلت: إنّ الحرج لو لزم، فإنّما هو من أخذ الظالمين، لا من بقاءالحقوق.

ويرد على الوجه الثاني: أنّ النصوص التي يصحّ الاستدلال بها على أصل هذا الحكم، لا إطلاق لها من هذه الجهة، وإنّما هي واردة في أشخاصٍ مخصوصين، وإنّما يُتعدّى عنهم إلى من يماثلهم، وليسوا هم إلّاالذين يرون أنفسهم خليفةً بالفعل وإنْ لم يعتقدوا بذلك.

وبالجملة: ليست النصوص متضمّنة لبيان قضيّة حقيقيّة كي يستدلّ بإطلاقها.

ويرد على الوجه الثالث: إنّ صحيح الحذّاء ظاهرٌ في غير من له في بيت المال1.

ص: 102


1- وسائل الشيعة: ج 17/214 ح 6 رقم 22361.

نصيب، ثمّ إنّه على تقدير القول بإطلاق النصوص، ربما يقال بعدم شمولها للكافر، لانصراف النصوص إلى غيره، ولما دلَّ على نفي السبيل للكافر على المؤمن(1).

ولكن يرد على الأوّل: أنّه لا منشأ لهذا الانصراف.

وعلى الثاني: أنّ نفوذ تصرّفاته من باب إجازة المالك ما صدر من الفضولي، وليس سبيلاً له على المؤمن، وإنّما السبيل يكون لو قيل بولاية السلطان، وقد عرفت أنّ القول بها بمراحل عن الواقع.

أقول: الحقّ أنّ المستفاد من النصوص:

هو ثبوت الحكم في كلّ سلطانٍ مستول على البلاد، الذي تكون قوام سلطنته ومملكته على أخذ الخراج بعنوانه الشرعي، من غير فرقٍ بين كون المستولي موافقاً، أم مخالفاً، أم كافراً.

وعدم ثبوته فيمن لا سلطنة له على البلاد، ومن ليس قوام سلطنته على ذلك، من غير فرق بين الأقسام الثلاثة.

عدم اختصاص الحكم بالمُعتقد ولاية الجائر

الأمر الخامس: صرّح غير واحدٍ(2) بأنّ الظاهر أنّه لا يعتبر في حِلّ الخراج المأخوذ أن يكون المأخوذ منه ممّن يعتقد استحقاق الآخذ.

أقول: لا ينبغي التأمّل في عدم اختصاص هذا الحكم بما إذا كان المأخوذ منه من

ص: 103


1- سورة النساء: الآية 141.
2- المكاسب: ج 2/232، جواهر الكلام: ج 22/190.

المخالفين، لأنّ مدرك هذا الحكم ليس هو قاعدة الإلزام وحدها، بل جملةٌ من النصوص - تدلّ عليه كما تقدّم - واردة في خصوص المؤمن كصحيح الحذّاء.

وأمّا دعوى اختصاص الحكم بمَن يعتقد ولاية الجائر للتصرّف في الأراضي الخراجيّة، وإنْ كان مؤمناً، فيدفعها إطلاق النصوص، كما أنّ الجواب عنها باختصاص صحيح الحذّاء بغير المعتقد، لا يصحّ كما لا يخفى .

ليس للخراج قدرٌ معيّن

الأمر السادس: في بيان أنّه هل للخراج قدرٌ معيّن أم لا؟

وملخّص القول فيه: إنّ في المسألة أقوالاً:

القول الأوّل(1): أنّ المناط فيه ما تراضى السلطان ومستعمل الأرض، وإنْ كان مضرّاً بحاله.

القول الثاني(1): أنّ المناط هو ذلك، لكن مشروطاً بعدم كونه مُضرّاً.

القول الثالث(2): اختصاص الحكم بما يتصرّف به الإمام العادل، فالزائد والناقص غير نافذين منه.

واستدلّ للأوّل (4) : بأنّ الخراج هو أُجرة الأرض، فيناطُ تقديره برضا المؤجّر والمستأجر.

وفيه: إنّ المؤجّر إذا كان مالكاً تمَّ ما ذُكر، ولكن إذا كان وليّاً على المالك فلا يتمّ ،

ص: 104


1- المكاسب: ج 2/234-235.
2- راجع المكاسب: ج 2/235 وهامشها، ورياض المسائل: ج 8/95.

لأنّه لابدَّ له في الإجارة من مراعاة مصلحة المولّى عليه، فلو خَفّف المؤجّر في هذا القسم لا لمصلحةٍ راجعةٍ إلى المولّى عليه، بل لدواعي نفسانيّة، لم تصحّ الإجارة، وفي المقام الجائر وإنْ لم يكن وليّاً إلّاأنّه فضولٍ أجاز الولي معاملته.

واستدلّ للثاني(1): بالخبر في المرسل الطويل الذي رواه حمّاد عن أبي الحسن عليه السلام، أنّه قال: «والأرضون التي أُخذت عنوةً بخيلٍ أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويُحييها، ويقوم عليها على صلح ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحَقّ ، النصف أو الثلث أو الثلثين، على قدر ما يكون لهم صلاحاً ولا يضرّهم»(2).

وفيه: إنّ المرسل واردٌ في الوالي وهو السلطان العادل، ومتضمّنٌ لبيان سيرته، ومعلومٌ أنّه لا يُجحف في المعاملة، ولا تَعرّض له لكيفيّة معاملة الجائر.

ويشهد للقول الثالث: بالإضافة إلى طرف النقيصة ما تقدّم، وبالنسبة إلى طرف الزيادة عدم الدليل على نفوذ تصرّفات الجائر في هذا الفرض، إذ لا إطلاق لأدلّة جواز المعاملة معه كي يُتمسّك به لنفوذ تصرّفاته في هذا الفرض، فلابدَّ من الأخذ بالمتيقّن، وهو ما إذا لم يزد على المقدار المتعارف، ولم يُجحف في المعاملة.

هذا فيما إذا لم يُجبر الزارع ولم يُكرهه على المعاملة.

وأمّا في صورة الإكراه والإلجاء، فعدم نفوذ المعاملة أوضح لعموم حديث رفع الإكراه(3).س.

ص: 105


1- المكاسب: ج 2/234.
2- وسائل الشيعة: ج 15/110 ب 41 من أبواب جهاد العدو ح 2 رقم 20089، الكافي: ج 5/44 ح 4.
3- وسائل الشيعة: ج 15/369-370 ب 56 من أبواب جهاد النفس.

أقول: ثمّ إنّه في موارد عدم نفوذ معاملته من جهة الزيادة، لا سبيل إلى دعوى وقوع الإجارة على ما عدا الزيادة، وإنّما يحرم أخذ المقدار الزائد، إذ المعاملة واحدة، فمع عدم نفوذها على النحو الذي وقعت، لا مناص عن البناء على بطلانها، وعليه فلو زَرَع الزارع فيها مع ذلك، تثبت في ذمّته أُجرة المثل كما لو استعملها قبل تعيين الأُجرة.

***

ص: 106

وإنْ لم يكن مستحقّاً له.

أخذ غير المستحقّ للخراج والزكاة

الأمر السابع: ظاهر إطلاق الأصحاب(1)، وصريح المتن(2)، أنّه يحِلُّ الأخذ من الجائر (وإنْ لم يكن) الآخذ (مستحقّاً له).

أقول: لا إشكال في أنّه يجوزُ شراء الخراج والصَدقة من الجائر، سواءٌ أكان الآخذ مستحقّاً ومورداً لهما أم لم يكن، إذ لا يعتبر في صحّة الشراء كون المشتري مستحقّاً ومصرفاً لهما.

ويدلّ عليه: إطلاق الأخبار بالنسبة إلى الأخذ، وكذلك بالنسبة إلى شراء الأرض الخراجيّة، مع وجود المسوّغ للبيع، وتقبّلها وتقبّل الخراج.

وأمّا الأخذ من الجائر مجّاناً، فعلى قسمين:

تارةً : يكون الآخذمستحقّاً أو مصرفاً لما يأخذه، ففيه لا كلام في الجواز والتملّك.

واُخرى : لم يكن له ذلك، فقد يقال إنّ مقتضى إطلاق النصوص المتضمّنة لحليّة جوائز السلطان، حليته وجواز الأخذ مطلقاً.

وأورد عليه الشيخ رحمه الله(3): بأنّه لا إطلاق لها، وإنّما هي واردة في أشخاص خاصّة، فيحتمل كونهم ذوي حُصص من بيت المال.

ص: 107


1- راجع رسائل الكركي: ج 1/283.
2- تبصرة المتعلّمين: ص 118.
3- المكاسب: ج 2/236.

وفيه: إنّ بعض تلك النصوص مطلق، كخبر زرارة(1) ومحمّد بن مسلم عن الباقر عليه السلام: «جوائز العمّال ليس بها بأس». ونحوه غيره(2).

فالأولى أن يورد عليه: بأنّ تلك النصوص كما بيّناه في تلك المسألة واردة في مقام بيان الحليّة الظاهريّة لا الواقعيّة، فراجع(3)، وعليه فحليّة الخراج والزّكاة مع عدم كون الشخص مصرفاً لهما لابدَّ لها من التماس دليل آخر مفقود، وعليه فالأظهر هو عدم الجواز كما هو واضح.

وقد استدلّ لهذا القول:(4)

1 - بما ورد في خبر الحضرمي المتقدّم من قوله عليه السلام: «أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً».

2 - وبتعليل العلّامة رحمه الله(5) أصل الحكم بأنّ الخراج حقّ اللّه أخذه غير مستحقّه، فبرئت ذمّته، وجاز شراؤه.

ويرد على الأوّل: أنّه لا يدلّ على جواز أخذ من لا نصيب له في بيت المال، وإنّما هو متضمّنٌ للتعريض على ابن أبي سمّاك في عدم إعطائه من له نصيبٌ فيها.

ويرد على الثاني: - مضافاً إلى عدم تماميّة هذا التعليل في نفسه، كما لا يخفى - أنّه لا ينافي حكم الشارع بجواز أخذه من الجائر، مع عدم كونه مصرفاً له.

وبعبارة أُخرى: لا إشعار فيه في اعتبار الاستحقاق في المصرف.3.

ص: 108


1- وسائل الشيعة: ج 17/214 ب 51 من أبواب ما يكتسب به ح 5 رقم 22360، التهذيب: ج 6/336 ح 52.
2- وسائل الشيعة: ج 17/213 ب 51 من أبواب ما يكتسب به.
3- صفحة 132 من هذا المجلّد.
4- المكاسب: ج 2/237.
5- تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 1/583.

شرائط الأراضي الخراجيّة

الأمر الثامن: في شرائط الأراضي الخراجيّة.

أقول: قد تقدّم أنّ للأراضي الخراجيّة أقساماً ثلاثة:

أحدها: كون الأرض مفتوحة عنوة.

ثانيها: الأرض التي صولح أهلها على أن تكون الأرض لهم، وعليهم كذا وكذا من المال من الثلث أو نحوه من حاصل الأرض.

ثالثها: الأرض التي أسلم أهلها طوعاً ثمّ تركوا عمارتها.

أقول: ومحلّ الكلام في هذا التنبيه هو القسم الأوّل، ويشترط في ترتّب أحكام الخراج والمقاسمة عليها شروط:

الشرط الأوّل: ثبوت كون الأرض مفتوحة عنوة، وذلك إنّما يكون بالشياع المفيد للعلم، والبيّنة، وخبر العدل الواحد، بناءً على حجيّته في الموضوعات كما هو المختار، وقد ذكروا في عِداد ما يثبت به ذلك، أُموراً أُخر:

منها(1): الشياع المفيد للظنّ المتاخم للعلم، بناءً على كفايته في كلّ ما يَعسر إقامة البيّنة عليه كالنَسَب والوقف.

أقول: ولم أقف عاجلاً على ما يمكن الاستدلال به لهذه الكبرى الكليّة، سوى وجوه أربعة:

الوجه الأوّل: مرسل يونس، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن البيّنة إذا اُقيمت على

ص: 109


1- المكاسب: ج 2/239.

الحقّ أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة من غير مسألة إذا لم يعرفهم ؟

فقال عليه السلام: خمسة أشياء يجبُ على النّاس الأخذ فيها بظاهرالحكم: الولايات، والمناكح، والذبائح، والشهادات، والمواريث، فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته، ولا يُسأل عن باطنه»(1).

بتقريب: أنّ المراد بالحكم هى النسبة الخبريّة، وظهور هذه النسبة عبارة أُخري عن الشيوع، فيدلّ المرسل على أنّه يجوز الأخذ بالشيوع في هذه الأُمور الخمسة.

وفيه: الظاهر إرادة النسبة من الحكم دون الخبر عنها، وظهور النسبة غير ظهور الخبر عنها وشيوعه، ألا ترى أنّه ربما يكون ولدية زيدٍ لعمرو ظاهرة، ولكن الخبر عنها ليس شائعاً، والشاهد على إرادة ذلك من الحكم - مضافاً إلى ظهوره في ذلك - قوله عليه السلام في ذيل المرسل: «فإذا كان ظاهره... إلى آخره»، فإنّه صريح في أنّ الظاهر مقابل الباطن، وعن بعض نسخ «التهذيب»(2) (ظاهر الحال)، بدل (ظاهر الحكم)، وعليه يكون الأمر أوضح.

وعليه، فيكون المتحصّل من الخبر أنّه في هذه الموارد الخمسة يجوز الأخذ بظاهر الحال، ففي مورد الشهادات إذا كان الشاهد ظاهر الصلاح عند النّاس تُقبل شهادته.

الوجه الثاني: صحيح حريز المتضمّن لقصّة إسماعيل، وفيه:

«فقال إسماعيل: يا أبه إنّي لم أره يشرب الخمر، إنّما سمعتُ النّاس يقولون.

فقال عليه السلام: يا بُني إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول في كتابه (يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ )5.

ص: 110


1- وسائل الشيعة: ج 392/27 ب 41 من أبواب الشهادات ح 4 رقم 34034، التهذيب: ج 6/283 ح 186.
2- تهذيب الأحكام: ج 6/288 ح 5.

يقول: يصدق اللّه ويصدق للمؤمنين، فإذا شَهِد عندك المؤمنون فصدّقهم ولا تأتمن شارب الخمر»(1).

بتقريب: أنّه عليه السلام أمر بترتيب آثار الواقع على مجرّد قول النّاس الذي هو عبارة عن الشياع، واعتبر عليه السلام من يقول النّاس أنّه يشرب الخمر، شارب الخمر.

وفيه: إنّ المأمور به ليس ترتيب جميع آثار الواقع، بل هو خصوص ما ينفع المُخبَر إليه من دون أن يضرّ المخبرَ عنه.

وبعبارة أُخرى: لا ملازمة بين تصديق المُخبِر المأمور به في الخبر، وبين العمل على طبق قوله، ويشهد لما ذكرناه قوله عليه السلام في خبرٍ آخر:

«كذّب سَمعَكَ وَبَصرك عن أخيك، فإنْ شَهِد عندك خمسون قسامة أنّه قال قولاً وقال لم أقله، فصدّقه وكذّبهم»(2).

فإنّه عليه السلام أمر بتكذيب خمسين قسامة، وتصديق الواحد، وليس ذلك إلّا لما ذكرناه.

الوجه الثالث: إنّ الظنّ الحاصل من الشياع أقوى من الظنّ الحاصل من البيّنة العادلة.

وفيه: إنّه لم يثبت كون ملاك حجيّة البيّنة إفادتها الظنّ ، بل الثابت خلافه.

الوجه الرابع: إجراء دليل الانسداد في كلّ ما يَعسر إقامة البيّنة عليه كالنَسَب والوقف.5.

ص: 111


1- وسائل الشيعة: ج 19/82 ب 6 من أبواب أحكام الوديعة ح 1 رقم 24207، الكافي: ج 5/299 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 12/295 ب 157 من أبواب أحكام العشرة من كتاب الحجّ ح 4 رقم 16343، الكافي: ج 8/147 ح 125.

بتقريب: أنّ تحصيل العلم فيه عَسِرٌ، وكذلك البيّنة العادلة، ويلزم من إجراء الأصل - كأصالة عدم ثبوت النسب - الوقوع في خلاف الواقع كثيراً، والاحتياط متعذّرٌ أو متعسّر، فلا مناص عن التنزّل إلى الظنّ .

وفيه: إنّ المقدّمة الثانية لا تفيدُ ما لم ينضمّ إليها أمراً آخر وهو أنّ الوقوع في خلاف الواقع منافٍ لغرض الشارع، إذ لو لم يُحرز ذلك - كما في باب الطهارة - لما كان محذور في إجراء الأصل، وحيث أنّ هذا غير ثابت فلا يتمّ هذا الوجه.

فتحصّل: أنّه لا دليل على حجيّة الشياع الظنّي مطلقاً، ولا في كلّ ما يعسر إقامة البيّنة عليه.

ومنها(1): استمرار السيرة على أخذ الخراج من الأراضي في البلاد الإسلاميّة.

وفيه: أنّه إنْ أُريد استمرار سيرة سلاطين الجور.

فيرد عليه: أنّ الجائرين المرتكبين للفجائع، غير التابعين للمعصومين عليهم السلام كيف تكشف سيرتهم عن رضا المعصوم عليه السلام.

مع أنّه لو كانت سيرتهم كاشفة عن رأيه عليه السلام، لكان مختصّاً بما إذا كان اعتقادهم استحقاق الخراج من خصوص الأراضي الخراجيّة، ولما تمّ فيما لو اعتقدوا استحقاقهم الخراج من الأنفال أيضاً، وحيث أنّ المفروض هو الثاني لأخذهم الخراج من القسم الثاني أيضاً فلا يتمّ ذلك.

وإنْ أُريد به استمرار سيرة المؤمنين الآخذين من السلطان الجائر خراج الأراضي المشتبهة.1.

ص: 112


1- ذكره في المكاسب وناقشه راجع: ج 2/241.

فيرد عليه أوّلاً: أنّ هذا ممنوع صغرويّاً.

وثانياً: أنّه يتمّ إذا لم يعتقدوا جواز أخذ خراج أراضي الأنفال من يد السلطان.

وثالثاً: أنّه يتمّ إذا علمنا بأنّهم أخذوه منه، مع علمهم بكون المأخوذ من خراج تلك الأرض، وهو كما ترى .

ومنها(1): حمل فعل المسلم على الصحّة.

وفيه: أنّه إنْ أُريد به حمل فعل الجائر على الصحّة.

فيرد عليه: أنّ أخذ الجائر للخراج حرامٌ على أيّ تقدير، ومعه لا مورد لحمل فعله على الصحّة.

ودعوى: (2) أنّ أخذه الخراج من غير الأراضى الخراجيّة أكثر فساداً من أخذ الخراج من الأراضي الخراجيّة، فلابدّ من حمل فعله على الأقلّ فساداً عن الاشتباه.

مندفعة: بأنّه لا دليل على حمل فعل المسلم على الأقلّ فساداً.

مع أنّه لو تمّ ذلك لما تمّ في المقام، إذ معلومٌ أنّ الجائرين يأخذون الخراج مع عدم إحراز كون الأرض خراجيّة.

وإنْ أُريد به حمل فعل المؤمن المتلقّي لذلك الخراج من السلطان على الصحّة.

فهو متينٌ لو ثبت ذلك، ولكن مع ذلك لا يثبُت به كون الأرض خراجيّة، لعدم حجيّة أصالة الصحّة في مثبتاتها، وإنْ فرضناها من الأمارات كما حقّقناه في «رسالة القواعد الثلاث».

وأيضاً: في موارد عدم ثبوت كون الأرض خراجيّة، والشكّ في ذلك:2.

ص: 113


1- راجع المكاسب: ج 2/241 و 242.
2- راجع المكاسب: ج 2/241 و 242.

تارةً : يعلم بكونها مِلْكاً للغير ويشكّ في انتقالها منه إلى المسلمين أو إلى الإمام.

وأُخرى : يعلم بانتقالها منه، ويشكّ في الانتقال إلى المسلمين أو إلى الإمام.

أمّا في الصورة الأُولى : فمقتضى استصحاب بقاء المالك إذا احتمل بقاءه، واستصحاب بقاء العمودين لو لم يعلم بموتهما عادةً مع العلم بموت المالك نفسه، هو عدم الانتقال إلى الإمام ولا إلى المسلمين.

وفي هذين الموردين: إنْ عرف المالك فهو، وإلّا فيعامل معه معاملة مجهول المالك.

وإنْ علم بموته، وعدم بقاء العمودين، يبنى على كون الأرض للإمام، لاستصحاب عدم وجود وارثٍ آخر، وأنّه عليه السلام وارث من لا وارث له.

وأمّا في الصورة الثانية: فأصالة عدم دخولها في ملك المسلمين، معارضة بأصالة عدم دخولها في ملك الإمام، مع العلم بدخولها في مِلك أحدهما، ولا تدخل بذلك في الأنفال من جهة أنّ الأصل عدم وجود ربٍ لها، فتدخل في هذا الموضوع من الأنفال للعلم بدخولها في ملك أحدهما، ولا يُعامل معها معاملة مجهول المالك لأنّ ذلك مختصٌّ بما إذا اشتبه المالك بين غير محصورين، وفي المقام المالك إمّا هو الإمام أو المسلمون، فالمالك مردّدٌ بين محصورين، فلابدَّ من إجراء ذلك الحكم من التنصيف أو القرعة أو غيرهما كلّ على مسلكه.

اشتراط إذن الإمام في خراجيّة الأرض المفتوحة

الشرط الثاني: أن يكون الفتح بإذن الإمام عليه السلام.

أقول: الكلام في هذا الشرط يقع في مقامين:

ص: 114

المقام الأوّل: في اعتبار هذا الشرط وعدمه.

المقام الثاني: في الشبهة الموضوعيّة.

أمّا المقام الأوّل: فالمشهور بين الأصحاب(1) اعتباره، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه.

وعن «المنتهى»(2) و «المدارك»(3) و «المستند»(4) وغيرها: عدم اعتباره.

وعن «النافع»: التوقّف فيه(5).

واستدلّ للمشهور: بخبر الورّاق، عن رجلٍ سمّاه، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا، كانت الغنيمة كلّها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس»(6).

وأُورد عليه تارةً : بضعف السند للجهالة.

وأُخرى : بمعارضته مع حسن الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم، فيكون معهم، فيصيب غنيمة ؟ قال عليه السلام: يؤدّي خمساً ويطيب له»(7).

أقول: وفيهما نظر:4.

ص: 115


1- المبسوط: ج 2/34، المهذّب: ج 1/186، وقد نقل المشهور أكثر من واحد، منهم المكاسب: ج 2/243، ورسائل الكركي: ج 1/254، والمسالك: ج 13/229.
2- منتهى المطلب (ط ق): ج 1/554.
3- مدارك الأحكام: ج 5/418.
4- مستند الشيعة: ج 14/220.
5- المختصر النافع: ص 64.
6- وسائل الشيعة: ج 9/529 ب 1 من أبواب الأنفال ح 16 رقم 12640، التهذيب: ج 4/135 ح 12.
7- وسائل الشيعة: ج 9/488 ب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح 8 رقم 12553، التهذيب: ج 4/124 ح 14.

أمّا الأوّل: فلأنّ ضعفه منجبرٌ بعمل الأصحاب.

وأمّا الثاني: فلأنّه متضمّنٌ لقضيّة شخصيّة، فلعلّه كان ذلك القتال بأمر الإمام عليه السلام أو برضائه، أو أنّ الإمام عليه السلام حَلّ له البقيّة.

والصحيح أن يورد على الاستدلال به: بأنّ هذا الخبر معارضٌ مع النصوص(1)الدالّة على أنّ الأراضي التي فُتحت بالسّيف للمسلمين، والنسبة عموم من وجه، إذ المرسل أعمّ لشموله للمنقولات، وتلك النصوص أعمّ لشمولها لما إذا كان القتال بغير إذن الإمام، والمجمع الذي هو مورد المعارضة هي الأراضي التي أُخذت بغير إذن الإمام، فهي بمقتضى المرسل مِلْكٌ للإمام، وبمقتضى تلك النصوص مِلْكٌ للمسلمين، والمرجع حينئذٍ إلى الأخبار العلاجيّة، وهي تقتضي تقديم تلك النصوص كما لا يخفى .

وما أفاده السيّد الفقيه:(2) من حكومة المرسل على النصوص، لكونه بصدد بيان اشتراط الإذن في كون الغنيمة للمسلمين، وهذه في مقام بيان حكم الأرض المأخوذة بالسيف، فكأنّه قال: (كلّ ما أُخذ عنوةً فهو للمسلمين، ويشترط في الآخذ أن يكون بإذن الإمام).

يرد عليه: أنّ المرسل ليس لسانه اشتراط الإذن في كون الغنيمة للمسلمين، بل لسانه أنّ الغنائم المأخوذة بإذن الإمام للمسلمين، وما أُخذ بغير إذنه عليه السلام فهو للإمام عليه السلام، وعليه فلا وجه لدعوى الحكومة.1.

ص: 116


1- وسائل الشيعة: ج 15/157 باب 72 من أبواب جهاد العدو (باب: أحكام الأرضين).
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/51.

أقول: وأضعف من هذه الدعوى ، دعواه(1) أنّ هذه الأخبار ليست بذلك الظهور في كونها وكون حاصلها للمسلمين، حتّى في صورة عدم إذن الإمام عليه السلام، بخلاف المرسل، إذ لا وجه للفرق بين الظهورين بعد كون كلّ منهما بالإطلاق.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم اعتبار هذا الشرط، ثمّ على القول باعتباره يقع الكلام في المقام الثاني.

وأمّا المقام الثاني: فمقتضى أصالة عدم كون الفتح بإذنه، عدم كونها مِلْكاً للمسلمين، ولا يكون هذا الأصل مثبتاً، إذ موضوع كون الأرض للمسلمين هو الفتح عنوةً بإذن الإمام، فإذا كان أحد جزئي الموضوع مُحرزاً بالوجدان، والآخر بالأصل، يترتّب عليه حكمه.

وإنْ أبيتَ إلّاعن كون الموضوع هو الفتح المستند إلى إذن الإمام عليه السلام، ممّا يقتضي عدم جريان هذا الأصل، لكن هناك أصلٌ آخر وهو عدم الاستناد بناءً على جريان الأصل في العدم الأزلي كما هو الحقّ .

وقد ذكروا في الخروج عن هذا الأصل وجوهاً(2):

منها: الخبر الذي رواه جابر الجُعفي، عن أبي جعفر عليه السلام، أنّه أتى يهودي أمير المؤمنين عليه السلام في منصرفه عن وقعة النهروان، فسأله عن مواطن الامتحان، فقال له عليه السلام:

«... وأمّا الرابعة يا أخا اليهود فإنّ القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الأُمور، فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها، فيمضيها عن رأي، لا أعلمه أحداً ولا يعلمه أصحابي ولا يناظرني غيره»(3).ن.

ص: 117


1- حاشية المكاسب: ج 1/51.
2- راجع المكاسب: ج 2/244، ومصباح الفقاهة: ج 1/842.
3- الخصال: أبواب السبعة، باب أنّ اللّه تعالى يمتحن أوصياء الأنبياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن وبعد وفاتهم في سبعة مواطن.

وفيه أوّلاً: أنّ الخبر ضعيف السند.

وثانياً: أنّه مختصّ بالفتوحات في فترة خلافة الثاني ولا يشمل غيرها.

وثالثاً: أنّه لم يكن يشاور أمير المؤمنين عليه السلام في الأُمور المهمّة الراجعة إلى الدِّين قطعاً.

ومنها(1): حضور أبي محمّد الحسن عليه السلام في بعض الغزوات، ودخول بعض خواص أمير المؤمنين من الصحابة كعمّار في أمرهم.

وفيه: إنّه لا يكون كاشفاً عن كون الغزو مع العسكر بالإذن، والفتح لا يستند إليهم خاصّة، كما لا يخفى ، مع أنّه أخصّ من المُدّعى.

ومنها(2): صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال:

«سألته عن سيرة الإمام عليه السلام في الأرض التي فتحت بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؟

فقال: إنّ أميرالمؤمنين عليه السلام قد سار فى أهل العراق بسيرةٍ فهى إمامٌ لسائر الأرضين»(3).

وحيثُ لا ريب في أنّ أرض العراق خراجيّة، فلا محالة كان أمير المؤمنين يأخذ منها الخراج، فإذا كانت أرض العراق إماماً لسائر الأراضي المفتوحة عنوة، ثبت استحقاق الخراج من سائر الأرضين.

وفيه: إنّه من المحتمل كون السؤال والجواب ناظرين إلى مقدار الخراج لا أصله، وعليه فهو أجنبيٌّ عن المقام.1.

ص: 118


1- المكاسب: ج 2/245، وفي الحاشية: تاريخ الطبري: ج 323/3، والكامل في التأريخ لابن الأثير: ج 109/3، فقد ذكرا حضور أبي محمّد الحسن وأبي عبد اللّه الحسين عليهما السلام.
2- المكاسب: ج 2/246.
3- وسائل الشيعة: ج 153/15 ب 69 من أبواب جهاد العدو ح 2 رقم 20193، التهذيب: ج 4/118 ح 1.

ومنها(1): أنّه يُكتفى من إذن الإمام بالعلم بشاهد الحال برضا المعصومين عليهم السلام بالفتوحات الإسلاميّة الموجبة لتأييد هذا الدين.

وفيه: إنّا نعلم أنّهم راضون بالنتيجة، ولم يُحرز رضاهم بإجراء الفتوحات بأيدي المتصدّين للأمر.

وإنْ شئت قلت: إنّه لو بنينا على كفاية شاهد الحال، حتّى مثل ذلك، لم يبق لمرسلة الورّاق موضوع، فإنّ الغزو المشتمل على الغنيمة يكون الإمام عليه السلام راضياً به قطعاً، فلا يبقى للغنيمة الحاصلة بغير الإذن موردٌ.

وبالجملة: ظاهر كون الغزو عن إذن الإمام لا يشمل رضاه به، كما لا يخفى .

ومنها (2) : حمل الصادر من الغزاة من فتح البلاد على وجه الصحيح، وهو كونه بأمر الإمام عليه السلام.

وفيه: إنّ كون الفتح بغير إذن الإمام، ليس من الفاسد، بل تكون الغنيمة حينئذٍ للإمام لا للمسلمين، بخلاف ما إذا كان بإذنه، ومورد الحمل على الصحّة إنّما هو ما إذا كان الفعل ذا وجهين من الصحّة والفساد، كما هو واضح.

فتحصّل: أنّ شيئاً ممّا ذكر للخروج عن الأصل المتقدّم، لا يصلح لذلك.

اشتراط حياة الأرض لتصبح خراجيّة

الشرط الثالث: قال الشيخ(1): (أن يثبت كون الأرض المفتوحة عنوة بإذن الإمام مُحياةً حال الفتح، لتدخل في الغنائم، ويخرج منها الخمس أوّلاً...).

أقول: تنقيح القول في هذا الشرط يتحقّق بالبحث في مواضع:

ص: 119


1- المكاسب: ج 2/247.

الموضع الأوّل: في ثبوت الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة بإذن الإمام، على القول باعتبار الحياة حال الفتح، والمشهور بين الأصحاب ذلك(1)، وعن بعض دعوى الإجماع عليه(2).

ويشهد له: عموم قوله تعالى: (وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى ) (3)، ومثله أخبار الغنيمة.

أقول: وأورد على هذا الوجه(4):

تارةً : بانصراف هذه الأدلّة إلى غير الأرض.

وأُخرى : بأنّ خطاب الخمس فيها متوجّهٌ إلى الأشخاص، وظاهرها مِلْك الأشخاص للغنيمة مِلْكاً شخصيّاً، والأراضي ليست كذلك، وإنّما هي ملك النوع.

وثالثة: بأنّها تخصّص بما ورد من الأخبار من قصر الخمس على ما ينقل، كصحيح ربعي(5) وغيره ممّا اشتمل على قسمة الغنيمة أخماساً وأسداساً عليهم وعلى الغانمين، ولا يتصوّر ذلك في الأراضي لعدم استحقاق الغانمين لذلك.

ورابعةً : بخلو الأخبار الواردة في بيان حكم الأرض المفتوحة عنوة عن ذلك، فإنّ مقتضى ذلك ظهورها في كون الأرض جميعها للمسلمين.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلمنع الانصراف الموجب لتقييد الإطلاقات.1.

ص: 120


1- المبسوط: ج 2/34، الرسائل التسع: ص 237، السرائر: ج 1/477.
2- جواهر الكلام: ج 21/147.
3- سورة الأنفال: الآية 41.
4- الحدائق الناضرة: ج 12/324.
5- وسائل الشيعة: ج 9/510-511 ب 1 من أبواب قسمة الخمس ح 3 رقم 13602، التهذيب: ج 4/128 ح 1.

وأمّا الثاني: فلأنّ خطاب الخمس متوجّهٌ إلى المالك، سواءٌ أكان هو الشخص أو النوع، غاية الأمر إذا كان الشيء مِلْكاً للنوع، كما أنّ أمر التصرّف فيه بالإيجار وصرف مال الإجارة في مصالح المسلمين بيد الولي، كذلك يكون أمر إخراج الخمس بيده أيضاً.

وأمّا الثالث: فلأنّ نصوص تقسيم الغنيمة أخماساً وأسداساً لا مفهوم لها كي تدلّ على عدم ثبوت الخمس فيما عدا المنقولات، فلا تصلح لتخصيص الآية.

وأمّا الرابع: فلأنّ عدم التعرّض لشيء لا يعارض المتعرّض لثبوته.

ويشهد لثبوته: مضافاً إلى عموم الآية الشريفة، وأخبار الغنيمة، جملةٌ من النصوص:

منها: خبر أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام: «كلّ شيء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه صلى الله عليه و آله فإنّ لنا خُمسه، ولا يحِلّ لأحدٍ أن يشتري من الخمس شيئاً حتّى يصل إلينا حقّنا»(1).

ومنها: خبر أبي حمزة، عنه عليه السلام: «إنّ اللّه جَعَل لنا أهل البيت سهاماً ثلاثة في جميع الفيء - إلى أنْ قال: - وقد حرّمناه على جميع النّاس ما خلا شيعتنا، واللّه يا أبا حمزة مامن أرضٍتُفتح ولا خُمس يخمَّس فيضرب عليشيء منه إلّاكان حراماً على من يصيبه، فَرْجاً كان أو مالاً»(2). ونحوهما غيرهما، وعليه فالأظهر ثبوت الخمس.

الموضع الثاني: في اعتبار كون الأرض مُحياة حين الفتح.1.

ص: 121


1- وسائل الشيعة: ج 9/487 ب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح 5 رقم 12550، الكافي: ج 1/545 ح 14.
2- وسائل الشيعة: ج 9/552 ب 4 من أبواب الأنفال ح 19 رقم 12693، الكافي: ج 8/285 ح 431.

أقول: المشهور بين الأصحاب ذلك(1)، واستدلّ له السيّد رحمه الله(2) بأنّ أخبار الأرض المفتوحة عنوةً منصرفة إلى المحياة منها، وإلّا فدعوى أنّ الموات كانت مِلْكاً للإمام قبل الفتح، وكانت مغصوبة في أيديهم كما ترى .

وفيه: إنّه يمكن دفع هذا المحذور بالالتزام بأنّ من أحيى أرضاً فهي له ولو كان المُحيي كافراً، مع أنّ الالتزام بذلك لا أرى له محذوراً لو وافقه الدليل، كما هو المفروض، واستدلّ له الشيخ رحمه الله(3) بإطلاق ما دلَّ على أنّ الموات من الأراضى للإمام عليه السلام.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ تلك الأخبار موردها ذلك، لا أنّها بالإطلاق تدلّ عليه، إذ الأراضي كلّها كانت للكفّار، فلو لم تكن الموات منها للإمام، لم يبق لما دلَّ على أنّها من الأنفال مورد، إذ الأرض التي سَلّمها أهلها طوعاً للمسلمين، والأرض التي انجلى عنها أهلها إنّما تكون للإمام محياة كانت أم مواتاً.

الموضع الثالث: إذا كانت الأرض محياة حال الفتح ثمّ ماتت:

فهل هي باقية في مِلك المسلمين كما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله(4) وتبعه جمعٌ؟

أم تدخل في مِلك الإمام، كما ذهب إليه جمع آخرون(3)؟ وجهان:

قد استدلّ للأوّل: باختصاص أدلّة الموات بما إذا لم يجر عليه ملك مسلم، دون ما عرف صاحبه، فإنّ تلك الأرض حينئذٍ باقية في ملك مالكها، سواءٌ أكان هو الشخص كما لو أحيى أحدٌ أرضاً، أم كان هو النوع كما في المقام.4.

ص: 122


1- المبسوط: ج 2/29، السرائر: ج 1/478.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/52. (3و4) المكاسب: ج 2/248.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/52، مصباح الفقاهة: ج 1/844.

وفيه: أنّ إطلاق ما دلَّ على أنّ الأرض المحياة حال الفتح للمسلمين(1)، وما دلَّ على أنّ من أحيى أرضاً فهي له(2) لا يشمل أرضاً ماتت بعد ذلك، إذ الحكم حدوثاً وبقاءاً تابعٌ لفعليّة الموضوع، والمفروض انعدامه.

واستصحاب بقاء الملكيّة - مضافاً إلى عدم جريانه في الشبهات الحكميّة - لا يُجدي في المقام، لمحكوميّته لما دلَّ على أنّ موتان الأرض له عليه السلام وتشير إلى ما ذكرناه النصوص الدالّة على تملّك المُحيي، وإنْ كانت مسبوقة بملك الغير، كصحيح الكابلي:

«فإنْ تركها وأخربها فأخذها رجلٌ من المسلمين من بعده فعمّرها وأحياها فهو أحقّ بها من الذي تركها»(3). ونحوه غيره.

وعليه، فالأظهر أنّها بعد الموت تكون للإمام عليه السلام.

الموضع الرابع: كلّ ما يثبت به الفتح عنوةً ، يثبت به كون الأرض محياة حال الفتح، ولو شكّ في ذلك:

فإنْ كانت الأرض تحت يد من يدّعي ملكيّتها، يحكم بأنّها له.

وإنْ كانت تحت يد السلطان - أي يده الثابتة على عامة الأراضي الخراجيّة - لا يُحكم بأنّها منها، لأنّ يدها عادية، فيتعيّن الرجوع إلى الأصل، وهو يقتضي عدم كونها للمسلمين، لأنّه يستصحب عدم فتح الأرض على صفة الحياة، فإنّ هذا له حالة سابقة كذلك، كما لا يخفى .5.

ص: 123


1- وسائل الشيعة: ج 17/368-371 ب 21 من أبواب عقد البيع وشروطه.
2- وسائل الشيعة: ج 25/411-413 ب 1 من أبواب إحياء الموات.
3- وسائل الشيعة: ج 414/25 ب 3 من أبواب إحياء الموات ح 2 رقم 32246، الكافي: ج 279/5 ح 5.

بل يمكن أنْ يقال: إنّه يستصحب عدم الحياة إلى حين الفتح.

ودعوى: إنّه مثبتٌ إذ لا يثبتُ به وقوع الفتح على الموات.

مندفعة: بأنّ المترتّب على هذا الأصل، هو عدم كونها مِلْكاً للمسلمين، وهذا يكفي للحكم بأنّها للإمام، إذ كما أنّ الموات حين الفتح له عليه السلام، كذلك الأرض التي لا ربّ لها له.

ثمّ الكلام عن كون أي أرضٍ ثبت كونها محياة حين الفتح، أو أي أرض فتحت عنوة، وأيّ أرضٍ لم تكن كذلك، موكولٌ إلى محلٍّ آخر.

***

ص: 124

وجوائز الظالم حرامٌ إنْ عُلمت بعينها، وإلّا حَلّت.

جوائز السّلطان

المسألة الثالثة: (و) يدور البحث فيها عن حليّة جوائز السلطان وعدمها، فقد صرّح غير واحدٍ بأنّ (جوائز الظالم حرامٌ إن علمت بعينها، وإلّا حَلّت).

أقول: ومحلّ البحث عن كلّ ما يؤخذ ممّن لا يتورّع ولا يجتنب عن الحرام، والتخصيص بجوائز السلطان وعمّاله إنّما هو لأجل الغلبة.

ثمّ إنّ المال المأخوذ من الجائر مجّاناً أو بعنوان المعاملة، لا يخلو عن أحوال:

1 - إذ الآخذ ربما لا يعلم بوجود مالٍ حرام في أموال الجائر.

2 - أو يعلم بوجوده، ولكن يعلم بعدم كون المأخوذ من تلك الأموال، وربما يعلم بوجوده فيها.

وعلى الثاني:

1 - فإمّا أن لا يعلم بوجود مالٍ حرام في المأخوذ.

2 - أو يعلم بذلك.

وعلى الأخير:

تارةً : يعلم بوجود الحرام فيه تفصيلاً.

وأُخرى : يعلم به إجمالاً.

وعليه فصور هذه المسألة أربعة:

ص: 125

الصورة الأُولى: أن يأخذ المال من الجائر، مع عدم علمه بوجود حرامٍ في أمواله يصلح أن يكون المأخوذ من ذلك.

أقول: لا إشكال في جواز الأخذ في هذه الصورة، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: عموم قاعدة اليد، التي هي من القواعد التي عليها بناء العقلاء وعمل المتديّنين، وتدلّ عليها جملة من النصوص، وهي أمارة لملكيّة ما تحت يد كلّ شخصٍ له، كما أشبعنا الكلام في ذلك في «رسالة القواعد الثلاث».

الوجه الثاني: أصالة الصحّة الجارية في ما يعطيه الجائر مجّاناً أو مع العوض.

وأُورد عليها بإيرادين:

أحدهما: ما أفاده الأستاذالأعظم(1)، من أنّ مدرك هذا الأصل إنّما هو السيرة، وهي من الأدلّة اللّبية، فلابدّ من الأخذ بالمتيقّن، وهو نفس العقود والإيقاعات مع إحراز أهليّة المتصرّف للتصرّف، فلا يكون المقام مجرى لها، إذ الشكّ في المقام في أهليّة الجائر للإعطاء.

وفيه: ما حقّقناه في الرسالة المشار إليها آنفاً، من أنّ أصالة الصحّة كما تجري في موارد الشكّ من ناحية شرائط العوضين والمتعاقدين، كذلك تجري في موارد الشكّ في صحّة العقد من جهة الشكّ في شرائط العقد، لقيام السيرة على ذلك.

ثانيهما: ما أفاده بعض مشايخنا المحقّقين رحمه الله من أنّ أصالة الصحّة لا تنفع في جواز القبض فيما كان القبض جزء الناقل كالهبة، فإنّ جوازه فيها ليس مترتّباً على صحّة العقد، مع أنّ صحّة العقد تتوقّف على جوازه.6.

ص: 126


1- مصباح الفقاهة: ج 1/756.

وفيه: إنّ الشكّ في جواز القبض لا يُعتنى به لجريان أصالة الصحّة في نفس الإعطاء الخارجي، ولا يدفع هذا الاحتمال بإجراء أصالة الصحّة في العقد كي يرد المحذور المذكور.

الوجه الثالث: الروايات الخاصّة الواردة في المقام:

منها: صحيح أبي ولّاد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما ترى في رجلٍ يلي أعمال السلطان، ليس له مكسبٌ إلّامن أعمالهم، وأنا أمرّ به فأنزل عليه فيضيفني ويُحسن إليّ ، وربما أمر لي بالدراهم والكسوة، وقد ضاق صدري من ذلك ؟

فقال لي: كُُل وخُذ منه، فَلَك المُهنّا وعليه الوِزر»(1).

ومنها: صحيح أبي المعزا، قال: «سأل رجلٌ أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده، فقال:

أصلحك اللّه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدراهم آخذها؟ قال عليه السلام: نعم.

قلت: وأحجُّ بها؟ قال عليه السلام: نعم»(2). ونحوهما غيرهما.

وهذه النصوص إمّا مختصّة بهذه الصورة، أو تدلّ على حكمها بالإطلاق أو بالأولويّة كما سيأتي.

وقد استدلّ الشيخ(3) لجواز الأخذ في هذه الصورة بوجهين آخرين:

أحدهما: الإجماع.

وفيه: إنّ مدرك المُجمِعين معلومٌ ، فليس هو إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم.5.

ص: 127


1- وسائل الشيعة: ج 17/213 ب 51 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22356، التهذيب: ج 6/338 ح 61.
2- وسائل الشيعة: ج 17/213 ب 51 من أبواب ما يكتسب به ح 2 رقم 22357، التهذيب: ج 6/338 ح 63.
3- المكاسب: ج 2/165.

ثانيهما: الأصل.

أقول: إنْ أُريد به قاعدة اليد، أو أصالة الصحّة، فالاستدلال به متين.

وإنْ أُريد به أصالة الإباحة.

فيرد عليه: أنّ هذا الأصل محكومٌ لأصالة عدم انتقال ذلك المال الخاص إلى الجائر من مالكه السابق، وعدم صيرورة الجائر مالكاً له.

أقول: احتمل الشيخ رحمه الله(1) أنّه لا يجوز الأخذ من الجائر إلّامع العلم باشتمال أمواله على مالٍ حلال، واستدلّ له بخبر الحميري، عن صاحب الزمان عليه السلام:

«عن الرجل يكون من وكلاء الوقف مستحلّاً لما في يده، ولا يتورّع عن أخذ ماله، ربما نزلت في قريته وهو فيها، أو أدخل منزله وقد حضر طعامه، فيدعوني إليه، فإنْ لم آكل طعامه عاداني عليه، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه وأتصدّق بصدقة، وكم مقدار الصدقة ؟

إلى أنْ قال: الجواب: إنْ كان لهذا الرجل مالٌ أو معاشٌ غير ما في يده فكُل طعامه وأقبل بِرّه وإلّا فلا»(2).

وأورد عليه السيّد الفقيه:(3) - وتبعه الأستاذ الأعظم(4) - بأنّ مورد كلامنا هي الصورة الأُولى ، وهي ما إذا لم يعلم باشتمال أموال الجائر على مال محرّم، ومفروض الرواية عكس ذلك، وهو ثبوت مال محرم فيها، لأنّ مال الوقف الذي في يده مالٌ 7.

ص: 128


1- المكاسب: ج 2/165.
2- وسائل الشيعة: ج 17/217 ب 51 من أبواب ما يكتسب به ح 15 رقم 22370.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/31.
4- مصباح الفقاهة: ج 1/757.

محرّم، ويحتمل أن يكون ما أخذه السائل منه.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ نظر الشيخ رحمه الله إلى أنّ الرواية شاملة للمورد من جهة أنّه يمكن في مورد الرواية أن يكون مال الوقف معيّناً، وعلم السائل بصرفه في غير محلّه، ولا يحتمل أن يكون ما أعطاه منه، ولكن احتمل أن يكون المدفوع إليه من حرمٍ آخر لعدم تورّعه عن التصرّف في الحرام، فمن عدم الإستفصال يُستكشف ثبوت الحكم في هذه الصورة أيضاً.

هذا غاية ما يمكن أنْ يقال في توجيه كلامه، إلّاأنّ في النفس من ذلك شيئاً.

وبالتالي فالصحيح أن يورد عليه بضعف سند الرواية لإرسالها.

الصورة الثانية: هي ما لو علم باشتمال أموال الجائر على الحرام، ويحتمل كون المأخوذ من ذلك الحرام.

قال الشيخ(1) رحمه الله: إنّ لهذه الصورة موردين:

المورد الأوّل: كون الشبهة فيها غير محصورة، أو كون أحد الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء.

الموردالثاني: كون الشبهة محصورة، وكون جميع الأطراف داخلة في محلّ الابتلاء.

وقال: إنّه في المورد الأوّل يكون حكم هذه الصورة حكم الصورة الأُولى ، إذ العلم الإجمالي إنّما يوجبُ التنجّز إذا كان التكليف المعلوم فعليّاً على كلّ تقدير، وإلّا فوجود هذا العلم كعدمه، فلو كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، حيث أنّ التكليف لو كان في ذلك الطرف لا يكون فعليّاً منجّزاً، بل يكون الحكم معلّقاً5.

ص: 129


1- المكاسب: ج 2/165.

على التمكّن، فلا يكون هذا العلم الإجمالي منجّزاً.

وفيه: إنّه قد حقّقنا في حاشيتنا على «الكفاية»(1) أنّ الدخول في محلّ الابتلاء لا يكون من شرائط صحّة التكليف.

وبعبارة أُخرى: إذا فرضنا الشيء مقدوراً عقلاً، صحّ توجيه التكليف إليه حتّى لو كان خارجاً عن محلّ الابتلاء، فالعلم الإجمالي بوجود التكليف في أحد الأطراف التي يكون بعضها خارجاً عن محلّ الابتلاء يكون منجّزاً، كما أنّه حقّقنا أنّ كون الشبهة غير محصورة، لا يوجب عدم تنجيز العلم الإجمالي.

نعم، إذا كان بعض الأطراف غير مقدور بالقدرة العقليّة، لا يكون العلم الإجمالي منجّزاً، وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّه.

أقول: ولكن لا بأس بالتنبيه على أمر، وهو أنّ الشيخ الأعظم قدس سره في فرائده(2)بعدما اختار عدم تنجيز العلم الإجمالي إذا كان بعض الأطراف خارجاً عن محلّ الابتلاء، عنون مسألة أُخرى وهي أنّه إذا شكّ في كون أحد الأطراف داخلاً في محلّ الابتلاء أو خارجاً عنه، هل يكون العلم الإجمالي منجّزاً أم لا؟

واختار فيها التنجيز، واستدلّ له بأنّ مقتضى الإطلاقات، هو ثبوت التكليف لو كان في ذلك الطرف، ولا يعتني باحتمال خروجه عن محلّ الابتلاء، وعليه فالعلم الإجمالي المزبور يكون منجّزاً.

وأورد عليه السيّد الفقيه في حاشيته(3) في المقام: بأنّ الابتلاء لو كان شرطاً،1.

ص: 130


1- هذه الحاشية لم تطبع لحَدّ الآن.
2- فرائد الأُصول: ج 2/234.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/31.

فإنّما يكون بالنسبة إلى التنجّز لا إلى أصل التكليف، فهو شرط عقلي في مرتبة متأخّرة عن مرتبة المطلق، فلا يكون الإطلاق وافياً بدفع الشكّ الراجع إلى حكم العقل، فهو نظير الشكّ في شرائط طريق الامتثال.

وفيه: إنّ ما أفاده الشيخ رحمه الله وإنْ لم يكن تامّاً، لكونه تمسّكاً بالعام في الشبهة المصداقيّة، وهو ممنوعٌ ، إلّاأنّ هذا الإيراد لا يرد عليه، إذ لا يعقل كونه شرطاً لتنجّز التكليف، وذلك لأنّ المراد من عدم تنجّز التكليف:

1 - إنْ كان انه في صورة الترك وعدم الفعل في الشبهات التحريميّة لا يُعاقب عليه، فهو في جميع المحرّمات الداخلة في محلّ الابتلاء كذلك.

2 - وإنْ كان المراد أنّ التكليف يكون بنحوٍ لو خولف لا يُعاقب عليه، فهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، إذ فرض ذلك فرض الابتلاء، فتدبّر فإنّه دقيق.

فعلى فرض كونه شرطاً، فإنّما هو شرط لفعليّة التكليف، وعليه فيصحّ التمسّك بالإطلاق مع قطع النظر عمّا ذكرناه.

وكيف كان، فتحصّل أنّ حكم هذا المورد حكم المورد الثاني، وسيجيء تنقيح القول في ذلك فانتظر.

عدم كراهة أخذ المال من الجائر لو جاز

أقول: وتمام الكلام في هذا المورد ببيان أُمور:

الأمر الأوّل: صرّح جماعة(1) بكراهة الأخذ، واستدلّ لها بوجوه:

ص: 131


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 2/1062، مسالك الأفهام: ج 3/141، مجمع الفائدة: ج 8/86، الحدائق الناضرة: ج 18/261.

الوجه الأوّل: ما عن «المنتهى»(1) من احتمال أن يكون المأخوذ حراماً واقعيّاً، وإن جاز الأخذ والتصرّف فيه ظاهراً.

وفيه: إنّ هذا الاحتمال موجودٌ حتّى فيما يؤخذ من عدول المؤمنين، ولا اختصاص له بما يؤخذ من الجائر، مع أنّ هذا لا يصلح مدركاً للكراهة الشرعيّة، غاية الأمر كونه منشئاً لرجحان التجنّب تحفّظاً عن الوقوع في الحرام الواقعي، ولا يترتّب على هذا الرجحان سوى الفرار من الوقوع في المحرّم الواقعي.

الوجه الثاني: النصوص الدالّة على حُسن الاحتياط:

منها: قوله عليه السلام: «دع ما يُريبك إلى ما لا يريبك»(2).

ومنها: قوله عليه السلام: «الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكة»(3)، ونحوهما غيرهما.

أقول: ويرد على هذا الوجه:

إنّه تارةً : نقول إنّ هذه الأخبار مختصّة بما إذا اشتبه الحكم الظاهري أيضاً، بمعنى أنّ الواقعة غير معلومة الحكم حتّى ظاهراً، فهي أجنبيّة عن المقام لكون الحكم الظاهري وهو الجواز معلومٌ لقاعدة اليد.

وأُخري : نقول بشمولها لما إذا اشتبه حكمها الواقعي، وإنْ كان الحكم الظاهرى معلوماً.

فيرد على الاستدلال بها: أنّه على هذا لا يختصّ هذا الحكم بما يؤخذ من يد الجائر، لوجود احتمال الحرمة الواقعيّة في نوع الأموال حتّى المأخوذة من9.

ص: 132


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 2/1062.
2- وسائل الشيعة: ج 27/167 ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 43 رقم 33506.
3- وسائل الشيعة: ج 27/154-155 ب 12 من أبواب صفات القاضي ح 2 رقم 33465، الكافي: ج 1/50 ح 9.

عدول المؤمنين.

مع أنّ مفاد هذه الأخبار ليس هو الكراهة الشرعيّة، بل تدلّ على الرجحان العقلي الذي لا يترتّب عليه سوى عدم الوقوع في المحتمل.

الوجه الثالث(1): إنّ أخذ المال منهم يغرس محبّتهم في قلوب المؤمنين لأنّ القلوب مجبولة على حُبّ من أحسن إليها، ويترتّب عليه من المفاسد ما لا يخفى .

وفيه: إنّ المنهيّ عنه هو محبّتهم، وعليه فالموضوع ليس هو أخذ المال المشتبه، بل من هذه الجهة لا فرق بين المشتبه ومعلوم الحليّة.

الوجه الرابع: ما في الصحيح: «إنّ أحدكم لا يصيبُ من دنياهم شيئاً إلّاأصابوا من دينه مثله»(2).

وفيه: إنّ الإمام عليه السلام ليس في مقام إنشاء الحكم، بل الظاهر منه كونه إرشاداً إلى أنّ ذلك يستلزم محبّة بقائهم، وهي مرجوحة، ولا أقلّ من احتمال ذلك، مع أنّ هذا لا يختصّ بالمال المشتبه.

الوجه الخامس: قول الإمام الكاظم عليه السلام في الخبر الذي رواه عنه الفضل:

«واللّه لولا أنّي أرى من أُزوّجه بها من عُزّاب بني أبي طالب لئلّا ينقطع نسله ما قبلتها أبدً»(3).

فإنّه يدلّ على أنّ قبول الهدية في نفسه مرجوحٌ ، وإنّما قبلها الإمام لمصلحةٍ 5.

ص: 133


1- المكاسب: ج 2/168.
2- وسائل الشيعة: ج 17/179 ب 42 من أبواب مايكتسب به ح 5 رقم 22293، الكافي: ج 5/106 ح 5.
3- وسائل الشيعة: ج 17/216 ب 51 من أبواب ما يكتسب به ح 11 رقم 22366، عيون أخبار الرضا عليه السلام: ج 3/76 ح 5.

أهمّ ، وهي بقاء نسل أبي طالب عليهم السلام.

وفيه: إنّ الظاهر ولا أقلّ من المحتمل كون منشأ مرجوحيّة قبولها له عليه السلام إنّما هو كراهة قبول المنّة منهم، لا كراهة قبول الهدية شرعاً، ويشهد لذلك أنّ ما أخذه عليه السلام من الرشيد إنْ كان من أمواله الشخصيّة، أو من بيت المال، أو من مجهول المالك جاز له أخذه من غير كراهة، أمّا على الأوّل فواضح، وأمّا على الأخيرين فلأنّ بيت المال ومجهول المالك للإمام عليه السلام، وإنْ كان من معروفٍ لم يجز أخذه مطلقاً حتّى لا ستيفاء مثل هذه المصلحة المهمّة.

فتحصّل: أنّه لا دليل على الكراهة شرعاً.

رافع الكراهة عن جوائز السلطان

الأمر الثاني: نُسب إلى المشهور(1) ارتفاع الكراهة على تقدير ثبوتها باخبار المُجيز بحليّته، وأنّه من أمواله الشخصيّة، بل عن بعضهم نفي الخلاف فيه(2)، ولكن لم يذكروا لذلك مستنداً سوى ما في «المكاسب»(3) من أنّه يمكن أن يكون المستند ما دلَّ على قبول قول ذي اليد، فيعمل بقوله، كما لو قامت البيّنة على تملّكه.

وهو فاسدٌ: فإنّ إخباره بحليّته يكون أمارة الملكيّة، كما أنّ يده أمارة لها، فإنْ كانت الكراهة ثابتة مع اليد، من جهة احتمال الحرمة، كانت ثابتة مع إخباره بها أيضاً، إذ به لا يقطع بالحليّة، وعليه فما استدلّ به على ثبوت الكراهة يدلّ على

ص: 134


1- ظاهر المكاسب: ج 2/169، وظاهر مصباح الفقاهة: ج 1/762.
2- رياض المسائل: ج 8/106.
3- المكاسب: ج 2/170.

ثبوتها حتّى مع الإخبار لو تمّت دلالته عليه.

ودعوى الشيخ رحمه الله(1): من أنّ الموجب له كون الظالم مظنّة الظلم والغصب، لا مجرّد احتمال ذلك، فإذا أخبر المُجيز بحليّة الجائزة، وكان مأموناً في خبره، لا محالة لا يكون مظنّة ذلك، بل يكون احتمالاً مجرّداً وهو لا يوجب الكراهة.

ممنوعة: أنّ مقتضى الأدلّة المتقدّمة، كون الموجب مجرّد الاحتمال الموجود مع الإخبار أيضاً.

الأمر الثالث: ممّا ذُكر كونه رافعاً للكراهة إخراج الخمس، وقد استدلّ لكونه رافعاً للكراهة بوجهين:

الوجه الأوّل: ما عن المصنّف رحمه الله(1) من أنّ الخمس يطهر المال المختلط بالحرام يقيناً، فمحتمل الحرمة أولى بالتطهّر منه، فإنّ المستفاد من النصوص الواردة في المقيس عليه، صيرورة المال حلالاً واقعيّاً بعد إخراج الخمس، ومقتضى جريانه بالأولويّة في المقام الحليّة الواقعيّة، فلا يبقى اشتباهٌ حتّى تبقى الكراهة.

وأورد عليه الشيخ رحمه الله (3) : بأنّ الحلال المختلط بالحرام، المعلوم وجوده والمجهول قدره، إنّما يكون طاهراً ذاتاً، وإنّما صار قذراً عَرَضاً بواسطة الإختلاط بالحرام، فيمكن تطهيره بإخراج الخمس، فكأنّ الشارع جعل ذلك مصالحة، والخمس بدلاً عمّا فيه من الحرام، وهذا لا يجري في موردٍ يُحتمل كون المال بتمامه حراماً وقذراً ذاتاً، فإنّه لا معنى لتطهيره بإخراج خمسه.

أقول: ولكن يمكن الجواب عن هذا الإيراد بأنّ في المقيس عليه إنّما يُحكم5.

ص: 135


1- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/1025.

بطهارة المال، إنْ كان في الواقع مقدار الحرام أزيد من الخمس، فإذا فرضنا صيرورة الحرام الواقعي طاهراً وحلالاً واقعاً بإخراج الخمس، لكون ذلك مصالحة في نظر الشارع، فليكن في المحتمل كذلك، ومجرّد احتمال القذارة الذاتيّة في مجموع المال، لا يمنع من ذلك، فيكون المقام نظير ما لو كان مالٌ مردّداً بين شخصين، وتصالحا على النصف مثلاً. فتدبّر.

مع أنّه يمكن فرض صورةٍ يكون المقام مثل المقيس عليه، وهي ما لو علم بحلية بعض الجائزة، واحتمل حرمة الباقي مع الجهل بقدره، فإذا ثَبَت استحباب الخُمس في هذه الصورة، وارتفعت الكراهة بذلك، ثبت الاستحباب وارتفعت الكراهة في غير هذه الصورة أيضاً بعدم القول بالفصل.

وبالجملة: فالأولى في مقام الإيراد على أصل الاستدلال أنْ يقال:

إنّ الأولويّة ظنيّة لا اعتبار بها، إذ لعلّ التخميس حكم العلم بالحرام لا واقع الحرام، مع أنّ مقتضى هذا الوجه هو الحكم بوجوب التخميس لا استحبابه، لأنّ ذلك لازم اتّحاد الملاك في الموردين.

الوجه الثاني(1): إنّ النصوص الدالّة على حليّة المال المختلط بإخراج خمسه مطلقة، شاملة لما إذا احتمل كون جميع المال حراماً، لو لم يكن ذلك هو الغالب من موردها، ومع ذلك فإذا أثّر التخميس في حليّة البقيّة، كان معناه أنّ التخميس يرفع كلّ منقصةٍ في المال.

وبعبارة أُخرى : كان معناه رفع أثر العلم الإجمالي والشكّ البدوي، فإذا كان6.

ص: 136


1- راجع رياض المسائل: ج 8/106.

رافعاً لأثر الاحتمال هناك، كان رافعاً لأثر الاحتمال في المقام لعدم القول بالفصل، وللعلم بعدم دخل اقتران العلم في رفع أثر الاحتمال.

وفيه: إنّه لا دليل على رفع أثر الاحتمال والشكّ البدوي، لأنّ غاية ما يستفاد من تلك النصوص، ارتفاع أثر العلم الإجمالي، فإذا فرضنا احتمال الحرمة في جميع المال، وكون أثر ذلك كراهة الأخذ، فلا تدلّ النصوص على رفع هذه الكراهة.

تذييل:

الأمر الرابع: استدلّ لاستحباب إخراج الخمس في المقام، وإنْ لم يكن رافعاً لأثر الكراهة، بوجوه:

الوجه الأوّل: فتوى «النهاية»(1) التي هي كالرواية باستحباب التخميس في جوائز السلطان، فان ذلك بضميمة أخبار من بلغ يوجبُ ثبوت الاستحباب.

وفيه: إنّ أخبار من بلغ لا تشمل فتوى الفقيه، وفتوى «النهاية» غايتها أنّها كالرواية وليست برواية.

الوجه الثاني: موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّه سُئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل ؟

قال: لا إلّاأن لا يقدر على شيء، ولا يأكل ولا يشرب ولا يقدر على حيلةٍ ، فإن فعل فصار في يده شيءٌ فليبعث بخمسه إلى أهل البيت»(2).

وفيه: إنّ ظهور الأمر في الوجوب بضميمة ما ارتكز في الأذهان من وجوب6.

ص: 137


1- النهاية: ص 357-358، وراجع المكاسب: ج 2/172.
2- وسائل الشيعة: ج 17/202 ب 48 من أبواب ما يكتسب به ح 3 رقم 22346، التهذيب: ج 6/330 ح 36.

الخمس في أرباح المكاسب، يوجبُ ظهور الخبر في إرادة ثبوت الخمس بعنوان ربح المكسب، لا بعنوان المال المشتبه، ولا أقلّ من إجماله واحتمال إرادة ذلك.

الوجه الثالث(1): مادلَّ عليوجوب الخُمس في الجائزة مطلقاً، وحيث أنّ المشهور غير قائلين بوجوب الخمس في الجائزة، فتُحمل تلك الأخبار على الاستحباب.

وفيه: إنّ تلك النصوص إنْ حُملت على الاستحباب، أو اُبقيت على ظاهرها من الوجوب، تكون دالّة على ثبوت الخمس في الجائزة بعنوان ربح المكسب، لا بعنوانٍ آخر، فتعتبر زيادتها عن مؤونة السنة، ومضيّ الحول عليها، وهذا غير ما هو محلّ الكلام.

فتحصّل: أنّه كما لا دليل على ارتفاع الكراهة بإخراج الخمس، لا دليل على استحبابه فيها بعنوان المال المشتبه.

الأمر الخامس: ممّا ذُكر كونه رافعاً للكراهة، هو وجود مصلحة في الجائزة تكون أهمّ في نظر الشارع من الاجتناب عن الشبهة، واستدلّ لذلك الشيخ(2) رحمه الله:

باعتذار الكاظم عليه السلام عن قبول الجائزة بتزويج عُزّاب الطالبيين لئلّا ينقطع نسلهم.

وفيه: ما عرفت من أنّ الوجه في امتناعه عن قبولها إنّما هو لزوم قبوله عليه السلام المنّة والمهانة لا الكراهة، مع أنّ هذه الكبرى الكليّة لو تمّت لم تفد شيئاً، إذ الشأن إنّما هو في تشخيص الصغرى ، وهو مشكل.

***3.

ص: 138


1- المكاسب: ج 2/173.
2- المكاسب: ج 2/173.

حكم الجائزة مع العلم بوجود الحرام في أموال المُجيز

المورد الثاني: ويدور البحث فيه عمّا لو كانت الشبهة محصورة، وكانت الأطراف جميعها داخلة في محلّ الابتلاء.

أقول: قد مرّ أنّ حكم هذا المورد مطابق لحكم المورد الأوّل، وكيف كان فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: فيما تقتضيه القواعد.

الثاني: فيما تقتضيه النصوص الخاصّة.

أمّا المقام الأوّل:

فتارةً : يُجيز الجائر بعض أمواله المعيّن لأحدٍ مجّاناً أو مع العوض، أو يجيز التصرّف فيه.

وأُخرى : يجيز جميع أمواله، أو يجيز التصرّف في الجميع.

وثالثة: يجيز التصرّف في شيء غير معيّن منها على سبيل العموم البدلي.

وعليه، فالكلام يدور حول حكم هذه الموارد الثلاثة:

أمّا المورد الأوّل: فالحقّ هو انحلال العلم الإجمالي بوجود الحرام في أمواله إلى العلم التفصيلي بحرمة التصرّف في بقيّة أمواله، إمّا لكونها مغصوبة، أو لعدم إذن الجائر في التصرّف فيها، والشكّ البدوي في جواز التصرّف في خصوص الجائزة، وعليه فمقتضى قاعدة اليد هو جواز التصرّف، ولا تعارضها قاعدة اليد في بقيّة الأموال، لما تقدّم من حرمه التصرّف فيها على كلّ تقدير.

ص: 139

نعم، إذا فرضنا أنّ المكلّف مخاطبٌ بخطابٍ بالنسبة إليها، كما إذا جَعل الجائر بقيّة أمواله في معرض البيع، وتمكّن المكلّف من شرائها، تسقط قاعدة اليد بالمعارضة، لكن ذلك فرضٌ نادر الوقوع في أموال الأشخاص الذين يكون الشخص عالماً بوجود الحرام في أموالهم من الجائر وعمّاله، والآكلين للربا، والغاصبين لأموال النّاس، والسارقين وغيرهم.

ولعلّه إلى ما ذكرناه نظر الشيخ رحمه الله(1) حيث قال إنّ القاعدة لا تقتضي لزوم الاجتناب في هذا المورد، معلّلاً بقوله: (لأنّ تردّد الحرام بين ما ملكه الجائر وبين غيره من قبيل التردّد بين ما ابتلى به المكلّف وما لم يبتل به، فلا يحرم قبول ما مَلِكه، لدوران الحرام بينه وبين ما لم يعرضه لتمليكه، فالتكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي غير منجز عليه). انتهى .

وإنْ كان ذلك غير ظاهرٍ منه، ولكن لا مناص من حمله عليه كما لا يخفى .

وتدلّ على جواز التصرّف في الجائزة في هذا المورد - بعد انحلال العلم الإجمالي - أصالة الصحّة بالتقريب المتقدّم في الصورة الأُولى ، وعليه فالإيراد على الشيخ رحمه الله(2) - حيث علّل الجواز بقوله حملاً لتصرّفه على الصحيح - بأنّه:

إنْ أُريد بأصالة الصحّة حمل فعل المسلم على الصحيح، فيما إذا كان ذا وجهين، فهي لا توجبُ ترتّب آثار الصحيح عليه.

وإنْ أُريد بها أصالة الصحّة في العقود والإيقاعات، فلا ريب أنّها لا تثبت كون العوضين مِلْكاً للمتبايعين، كما عن الأستاذ الأعظم(1).0.

ص: 140


1- مصباح الفقاهة: ج 1/770.

غيرصحيحٍ ، إذ الظاهر أنّ مراده هو الثاني، وقد عرفت دفع هذا الإيراد فراجع(1).

أقول: قد استدلّ للجواز في هذا المورد بوجوه أُخر:

منها(2): أنّ الشبهة من قبيل غير المحصور، من جهة أنّ مجموع الأشخاص الذين يكون العلم حاصلاً بوجود الحرام في أموالهم من السلطان وعمّاله والآكلين للربا والسارقين وغيرهم، بمنزلة شخص واحد بالنسبة إلى هذا المكلّف، ومن المعلوم أنّ أموالهم من حيث المجموع من غير المحصور.

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّمت الإشارة إليه من عدم الفرق في تنجيز العلم الإجمالي بين كون الشبهة محصورة أو غير محصورة - أنّ الشبهة على هذا التقدير من باب الكثير في الكثير.

ومنها (3) : لزوم العُسر والحرج من التجنّب عن أموالهم لسَدّ باب تحصيل الرزق والمعاش.

وفيه: إنّ هذا لو تمّ لاقتضى عدم التجنّب في كلّ مورد لزم منه ذلك، فلو فرضنا عدم لزومه في موردٍ أو بالنسبة إلى شخصٍ خاص، لما اقتضى هذا الوجه جواز تصرّفه، لما حُقّق في محلّه من أنّ المنفي في أدلّة نفي العُسر والحَرَج هو الشخصي منهما لا النوعي.

ومنها: أنّ الجائر بإعطاء الجائزة يدّعي ملكيّتها ضمناً، وحيث أنّه لا معارض له في هذه الدعوى ، فلابدّ من سماعها.

وفيه: أنّه وإن دلَّ خبر منصور بن حازم(2) على أنّ من ادّعى كون شيء ملكاً1.

ص: 141


1- صفحة 126 من هذا المجلّد. (2و3) حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/33.
2- وسائل الشيعة: ج 27/273-274 ب 17 من أبواب كيفيّة الحكم ح 1 رقم 33758، الاحتجاج: ج 2/311.

له ولا معارض له يحكم بأنّه له، إلّاأنّه غير مربوط بالمقام الذي يُعلم فيه بوجود الحرام في الأموال التي تحت يد الجائر، الذي يكون تسلّطه عليها متضمّناً لدعوى ملكيّة الجميع كما لا يخفى .

ومنها(1): أصالة الحِلّ .

وفيه: إنّ الاستدلال بها يتمّ فيما كان المأخوذ من المباحات الأصليّة، وشكّ في حرمته من جهة احتمال أن يكون غير المجيز قد حازه، واستولى عليه الجائر ظلماً، وأمّا في الأموال التي تكون مسبوقة بيد أُخرى يقيناً، فهذا الأصل محكومٌ لأصالة عدم الانتقال.

وأمّا المورد الثاني: كما إذا كان للجائر مائة دينار وأجاز لأحدٍ أن يتصرّف فيها أو يمتلكها، وعلم ذلك الشخص بأنّ مقداراً منها مال الغير وقد أخذه ظلماً، فلا ريب في عدم جواز التصرّف حينئذٍ، لقيام العلم الإجمالي غير المنحلّ في هذا المورد، الموجب لعدم جريان شيء من القواعد والأُصول الدالّة على جواز التصرّف في المال المشتبه المأخوذ من الغير.

وأمّا المورد الثالث: فالقول بجواز التصرّف فيه وعدمه مبنيّان على انحلال العلم الإجمالي وعدمه، إذ على الأوّل يجوز لما ذكرناه في المورد الأوّل، وعلى الثاني لا يجوز لما تقدّم في المورد الثاني، وقد اختار الشيخ الأعظم رحمه الله(2) عدم الانحلال، وتبعه الأستاذ الأعظم(3)، وهذا بخلاف ما ذهب المحقّق النائيني(4) حيث التزم1.

ص: 142


1- راجع الرياض: ج 8/104.
2- المكاسب: ج 2/176.
3- مصباح الفقاهة: ج 1/768.
4- منية الطالب: ج 1/61.

بالانحلال وتبعه على ذلك المحقّق الايرواني(1).

أقول: الحقّ هو الثاني، وذلك بناءً على ما حقّقناه في مباحث الأُصول(2) من شمول أدلّة الأُصول لأطراف العلم الإجمالي بنحو التخيّير، وعدم لزوم محذور في ذلك، غاية الأمر التزمنا بلزوم الاجتناب عن جميع الأطراف للنصوص الخاصّة الواردة في الموارد المخصوصة، حيث أنّ المستفاد منها كبرى كليّة واضح، فإنّ مورد تلك النصوص هو ما إذا تمكّن المكلّف من ارتكاب جميع الأطراف، ففيما لا يمكن ذلك يكون المرجع هي أدلّة الأُصول.

وأمّا على القول بعدم شمولها لها، ولو بنحو التخيير، فلأنّ عدم جريان الأُصول في طرفي العلم الإجمالي إنّما يكون لأجل التعارض، وهو إنّما يكون من جهة أنّ من جريانهما معاً يلزم الترخيص في المعصية، فإذا فرضنا أنّه لا يلزم من جريانهما معاً الترخيص في المعصية لعدم القدرة على الجمع بين الأطراف تكويناً أو تشريعاً، فإنّه لا مانع حينئذٍ من جريانهما معاً. وتمام الكلام عن ذلك موكول إلى محلّه(3).

أقول: ولكن الإنصاف عدم جواز التصرّف في هذا المورد، حتّى مع انحلال الإجمالي، إذ قد عرفت أنّ دليل مبيح التصرّف في مورد الشكّ إنّما هو قاعدة اليد وأصالة الصحّة، وجريان كلّ منهما في موردٍ يتوقّف على احتمال صحّة التصرّف، حتّى في ظاهر الشرع، وعليه فلو أُحرز أنّه لا يجوز له ذلك ولو في ظاهر الشرع، لما كان المورد مورداً لجريان أيّ منهما كما لا يخفى ، وعليه فإذا أجاز الظالم - مع المجاز له بحرمة بعض ما تحت يده - بالتصرّف في الجميع بنحو العموم البدلي، فهو يكون قد أجاز له التصرّف في المحرّم المعلوم تفصيلاً أو إجمالاً.0.

ص: 143


1- حاشية كتاب المكاسب: ج 1/316 (حكم أخذ الجائزة إذا علم أنّ في جملة أموال الجائر مالٌ محرّم..). (2و3) زبدة الاُصول: ج 4/430.

وعلى كلّ تقدير، ليس له ذلك، فإذا لم تجر قاعدة اليد وأصالة الصحّة - وحيث يحتمل حرمة التصرّف فيما يختاره، ومقتضى الأُصول الموضوعة المشار إليها سابقاً عدم جواز التصرّف - فلا يجوز له ذلك.

وبالجملة: وبما ذكرناه ظهر أنّه في المورد الأوّل إذا لم يحتمل صحّة تصرّفه في ظاهر الشرع - كما إذا أحرز أنّه أجازه في المال المختلط الحرام في اعتقاده - لا يجوز التصرّف فيه.

فتحصّل: أنّ مقتضى القواعد عدم جواز التصرّف في الجائزة في الموردين الأخيرين، وفي المورد الأوّل إذا علم أنّ المجيز أقدم على التصرّف في الشبهة المحصورة الواقعة تحت يده.

فإنْ قيل: إنّ أدلّة البراءة تدلّ على الجواز.

أجبنا عنه: بما ذكره الشيخ الأعظم(1) من حكومة قاعدة الاحتياط على ذلك.

وإيراد الأستاذ الأعظم(2) عليه: بأنّ العجب منه حيث أنّه في الأُصول شيّد أساس تقديم أدلّة البراءة على أدلّة الاحتياط، فكيف التزم في المقام بحكومة قاعدة الاحتياط على البراءة.

مندفعٌ : بأنّ ما أفاده في الأُصول إنّما هو في الاحتياط الشرعي، وكلامه في المقام في الاحتياط العقلي الذي هو مقتضى العلم الإجمالي، وقد شيّد في الأُصول أساس تقديمه على ما كان من قبيل قولهم عليهم السلام: «كلّ شيء لك حلال»(3)، أو «كلّ ما كان فيه2.

ص: 144


1- المكاسب: ج 2/174.
2- مصباح الفقاهة: ج 1/771.
3- وسائل الشيعة: ج 25/118 ب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح 2 رقم 31377، الكافي: ج 6/339 ح 2.

حلالٌ وحرامٌ فهو لك حلال»(1)، راجع «الفرائد»(2).

أمّا المقام الثاني: فقد استدلّ لجواز التصرّف في المأخوذ من الجائر في هذه الصورة بطوائف من النصوص:

الطائفة الأُولى: النصوص الدالّة على حِلّ الأشياء ما لم تثبت حرمتها، كقوله عليه السلام: «كلّ شيءٍ فيه الحلال والحرام فهو لك حلالٌ حتّى تعرف الحرام فتدعه بعينه»(3)، ونحوه غيره.

وفيه: إنّ هذه النصوص لا تختصّ بما يؤخذ من يد الجائر، وقد تقرّر في الأُصول(4) عدم شمولها لأطراف العلم الإجمالي، إمّا لامتناعه أو لأجل النصوص الواردة في خصوص العلم الإجمالي كما هو الحقّ .

الطائفة الثانية: النصوص الواردة في باب الرِّبا، الدالّة على أنّ ما أُخذ زائداً عن رأس المال إذا لم يعلم صاحبه فهو حلال:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال عن المال الذي ورثه ممّن كان يربا: «إن كنتَ تعلم بأنّ فيه مالاً معروفاً رباً وتعرف أهله، فخذ رأس مالك، وردّ ما سوى ذلك، وإنْ كان مختلطاً فكُلْه هنيئاً فإنّ المال مالك»(5).

ونحوه غيره.0.

ص: 145


1- وسائل الشيعة: ج 117/25-118 ب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح 1 رقم 31376، الكافي: ج 339/6 ح 1.
2- فرائد الأُصول: ج 2/45-46.
3- وسائل الشيعة: ج 25/119 ب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ح 7 رقم 31382، وج 17/87-88 ب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22050، التهذيب: ج 7/226 ح 8.
4- زبدة الأصول: ج 4/284.
5- وسائل الشيعة: ج 18/129 ب 5 من أبواب الرِّبا ح 3 رقم 23303، التهذيب: ج 7/16 ح 70.

وقد ذكرها السيّد في «الحاشية»(1) واستدلّ بها لهذا القول.

وفيه: أنّها واردة في الرِّبا، ودالّة على أنّ المال المأخوذ بهذا العنوان يصبح حلالاً بالتوبة إذا اختلط، ويكون هذا المورد كجملةٍ من الموارد التي أذن الشارع الأقدس بالتصرّف في مال الغير من غير رضاه، وكونه حلالاً واقعاً كأكل المارّة، وأكل اللّقطة، والتصرّف في الأراضي الشاسعة وغيرها، فلا يكون هناك حرامٌ ، بل جميع المال قابلٌ للتصرّف فيه، وعليه فهي أجنبيّة عن المقام.

وأيضاً: استدلّ قدس سره(2) في ضمن الاستدلال بهذه الطائفة بخبرين آخرين:

أحدهما: موثّق سماعة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنْ كان خَلَط الحرام حلالاً فاختلطا جميعاً، فلا يعرف الحلال من الحرام، فلا بأس»(1).

وفيه: أنّه وارد في مقام بيان حكم ما تحت يده من مال مخلوط، ويدلّ على حليّته مطلقاً، ولكن لابدّ في مقام الجمع بينه وبين نصوص التخميس التي هي أخصّ منه، من حمله على إرادة الحليّة بعد التخميس، ثمّ الجمع بينه وبين سائر النصوص، فتكون النتيجة جواز التصرّف في صورة الجهل بقدر الحرام وصاحبه، كما أشبعنا الكلام في ذلك في كتاب الخمس، فراجع(2).

ثانيهما: خبر محمّد بن أبي حمزة، عن رجل، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام:

أشتري الطعام فيجيء من يتظلّم ويقول ظَلَمني ؟ فقال عليه السلام: اشتره»(3).

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده للإرسال - أنّه غير ظاهر في صورة العلم8.

ص: 146


1- وسائل الشيعة: ج 17/86 ب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 2 رقم 22051، الكافي: ج 5/126 ح 9.
2- فقه الصادق: ج 11/145.
3- وسائل الشيعة: ج 17/219 ب 52 من أبواب ما يكتسب به ح 3 رقم 22374، التهذيب: ج 6/337 ح 58.

الإجمالي بوجود الحرام في مال ذلك العامل، ومجرّد دعوى الظلم غير مفيد لإثباته.

الطائفة الثالثة: النصوص الدالّة على جواز أخذ الأُجرة الجائزة من الجائر، سواءٌ أكان الآخذ أخذه مع العوض أو بدونه:

منها: صحيح أبي ولّاد، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما ترى في رجلٍ يلي أعمال السلطان، ليس له مكسبٌ إلّامن أعمالهم، وأنا أمرُّ به فأنزل عليه، فيضيّفني ويُحسن إليّ ، وربما أمر لي بالدرهم والكسوة، وقد ضاق صدري من ذلك ؟

فقال لي: كُلْ وخُذ منها، فلَكَ المُهنّا وعليه الوِزر»(1).

وأورد عليه الشيخ رحمه الله(2):

1 - بأنّ الاستشهاد به إنْ كان من حيث حُكمه عليه السلام بحِلّ مال العامل المجيز للسائل.

فيرد عليه: أنّ الحكم بالحِلّ حينئذٍ إنّما يكون من حيث احتمال كون ما يعطى من غير أعيان ما يأخذه من السلطان، بل ممّا اقترضه أو اشتراه في الذمّة، لظهوره بقرينة قوله عليه السلام: «وعليه الوزر» الظاهر في إرادة وزر ما يأخذه من الأُجرة في حرمة ما يأخذه عمّال السلطان بإزاء عملهم له، وأنّ العمل للسلطان من المكاسب المحرّمة، وعليه فمفاده أجنبيٌّ عن المقام، لاختصاصه بما إذا علم بحرمة بقيّة أمواله تفصيلاً، وشكّ في حرمة خصوص الجائزة، ولا إشكال في الجواز في هذا الفرص بحسب القواعد أيضاً لجريان قاعدة اليد فيها بلا معارض، وأينَ ذلك ممّا هو مفروض الكلام - وهو العلم الإجمالي بوجود الحرام في أمواله - مع كون الشبهة محصورة، وكون جميع أطرافه محلّ الابتلاء، المقتضي للّزوم الاحتياط.8.

ص: 147


1- وسائل الشيعة: ج 17/213 ب 51 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22356، التهذيب: ج 6/338 ح 61.
2- المكاسب: ج 2/177-178.

2 - وإنْ كان من حيث حُكمه عليه السلام بأنّ ما يقع من مال العامل بيد السائل لكونه من مال السلطان، حلالٌ لمن وجده.

فيرد عليه: أنّ الحُكم بالحِلّ على هذا التقدير غير وجيه، إلّاعلى تقدير كون المال المذكور من الخراج والمقاسمة المباحين للشيعة، إذ لو كان من صلب مال السلطان أو غيره لم يتّجه حِلّه لغير مالكه بغير رضاه، إذ المفروض حرمته على العامل لعدم احترام عمله.

وفيه: أنّ الظاهر دلالة الخبر عليجواز التصرّف فيما يؤخذ من عمّال السلطان، حتّى في مورد اقتضاء القواعد عدم الجواز على كلّ من التقديرين:

أمّا على التقديرالأوّل: فلعدم اختصاصه بالصورة المفروضة، بل مقتضى إطلاقه هو الجواز حتّى فيما لم يعلم تفصيلاً بحرمة بقيّة أمواله، بل علم إجمالاً بوجود المال الحرام في أمواله، المحتمل أن يكون المأخوذ منه، وقول السائل: (ليس له مكسب غيره) لا يقتضي الاختصاص بها، بل غايته معرضيّة ما عنده لأن يكون من الأموال المأخوذة من السلطان.

وأمّا على التقدير الثاني: فلأنّ مقتضى إطلاق الرواية، جواز الأخذ مع احتمال كون المأخوذ من الخراج والمقاسمة، وحملها على صورة العلم بكونه من أحدهما، مضافاً إلى منافاته للإطلاق، حَمْلٌ على الفرد النادر، فتدلّ على حليّة المأخوذ بمجرّد احتمال كونه من الأموال المباحة للسائل، حتّى مع العلم الإجمالي بوجود الحرام في أمواله، لو لم ندّع اختصاصها بهذا المورد.

وبالجملة: وبما ذكرناه ظهرت دلالة سائر النصوص على الجواز والحليّة،

ص: 148

كصحيح أبي المَعزا المتقدّم، وحسن زرارة ومحمّد بن مسلم - أو صحيحيهما - قالا:

«سمعناه يقول: جوائز العمّال ليس بها بأس»(1)، وغير ذلك من الروايات المطلقة الذي حملها الشيخ رحمه الله(2) بأجمعها على الشبهة غير المحصورة، أو المحصورة التي يكون بعض أطرافها خارجاً عن محلّ الابتلاء، ثمّ قال:

(لوفرض نصٌ مطلق في حِلّ هذه الشبهة مع قطع النظر عن التصرّف وعدم الابتلاء بكلا المشتبهين، لم ينهض للحكومة على قاعدة الاحتياط في الشبهة المحصورة).

ويرد على ما أفاده أوّلاً: أنّه خلاف إطلاق النصوص، فإنّها مطلقة شاملة للشبهة المحصورة وغيرها، فتخصيصها بموردٍ خاص يحتاج إلي دليلٍ مخصّص مفقود.

ويرد على ما أفاده ثانياً: أنّ المحقّق في الأُصول عنده قدس سره وقد تبعناه أنّ العلم الإجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعيّة إنّما يكون بنحو الاقتضاء دون العلّية، أي تجب الموافقة القطعيّة ما لم يرد ترخيصٌ في المخالفة الاحتماليّة وإلّا فلا تجب، وعلى ذلك، فالعلم الإجمالي المقتضي للاحتياط لا يصلح لردّ هذه النصوص، مع أنّه قد عرفت انحلال العلم الإجمالي في الموردين من الموارد الثلاثة المتقدّمة اللّذين هما محلّ الكلام. فراجع(3).

أقول: وبما ذكرناه ظهر اندفاع ما أورده الأستاذ الأعظم(4) على الاستدلال بهذه النصوص على الجواز، بأنّ المُدّعي:

1 - إن ادّعى أنّها تدلّ على الحليّة الواقعيّة.3.

ص: 149


1- وسائل الشيعة: ج 17/214 ب 51 من أبواب ما يكتسب به ح 5 رقم 22360، التهذيب: ج 6/336 ح 52.
2- المكاسب: ج 2/180.
3- صفحة 139 من هذا المجلّد.
4- مصباح الفقاهة: ج 1/773.

فيرد عليه: أنّ العمل بإطلاقها يقتضي إباحة أخذ الجائزة من الجائر، حتّى مع العلم التفصيلي باشتمالها على الحرام، وهذا لم يتفوّه به أحدٌ.

2 - وإن ادّعى ظهورها في الحليّة الظاهريّة.

فيرد عليه: أنّ تلك الأخبار لا يمكن شمولها لجميع الأطراف، لأنّها ترخيصٌ في المعصية، ولبعضها دون بعض ترجيحٌ بلا مرجّح، وإذاً فتخرج موارد العلم الإجمالي الذي يوجب التنجّز عن حدود تلك الأخبار تخصّصاً.

وفيه: إنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزاً كما عرفت في المورد الأوّل والثالث اللّذين هما محلّ الكلام.

وإنْ شئت قلت: أنّ تلك الأخبار إنّما تدلّ على حليّة ما يؤخذ من الجائر مجّاناً أو مع العوض الذي هو أحد أطراف العلم الإجمالي، ولا تدلّ على حليّة جميع أمواله حتّى الباقية تحت يده، وعليه فلا يلزم من القول بشمولها لبعض الأطراف ترجيحٌ بلا مرجّح، وعليه فلا مانع من شمولها له.

إيرادٌ آخر: قد أورد(1) على الاستدلال بهذه النصوص بإيرادٍ آخر وهو:

أنّ الظاهر من موثّق إسحاق بن عمّار الوارد فيه أنّه قال:

«سألته عن الرجل يشتري من العامل وهو يظلم ؟ قال: يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً»(2)، تقييد الحكم بصورة الشكّ فقط.

وفيه: أنّ السائل فرض ظلم العامل، ومع ذلك سأل عن حكم الاشتراء منه،4.

ص: 150


1- مصباح الفقاهة: ج 1/773.
2- وسائل الشيعة: ج 17/221 ب 53 من أبواب ما يكتسب به ح 2 رقم 22379، التهذيب: ج 6/375 ح 214.

فمورده لا محالة يكون هو العلم الإجمالي بوجود الحرام، وجوابه عليه السلام ظاهرٌ في إرادة أنّه إنْ لم يعلم بالظلم في خصوص ما يؤخذ منه تفصيلاً أو إجمالاً فلا بأس بالاشتراء، وبه يقيّد إطلاق سائر النصوص.

فتحصّل: أنّ الظاهر من الروايات جواز التصرّف في جوائز الظلمة سواءٌ أُخذت منهم مجّاناً أو مع العوض، وإنْ علم إجمالاً بوجود الحرام في أموالهم ما لم يعلم بوجوده في خصوص الجائزة، واللّه هو العالم بالأحكام.

لو علم تفصيلاً كون الجائزة محرّمة

الصورة الثالثة: أن يعلم المجاز حرمة ما يأخذه تفصيلاً.

أقول: والكلام في هذه الصورة يقع في جهتين:

الأُولى : في حكم المأخوذ.

الثانية: في الفروع والاُمور التي تعرّض لها الشيخ رحمه الله في «المكاسب»(1).

أمّا الجهة الأُولى : فمقتضى القواعد حرمة التصرّف فيه، لفرض كونه مال الغير.

أمّا المحقّق الايرواني رحمه الله(2): فقد استدلّ على جواز التصرّف فيه بإطلاق النصوص المتقدّمة، ثمّ قال: (نعم، لا تشمل الرواية صورة معرفة المالك بعينه، أو في أطراف محصورة).

وفيه أوّلاً: إنّ تلك النصوص ليست في مقام بيان إثبات الحليّة الواقعيّة، وإلّا فمقتضى إطلاقها الحليّة حتّى في الموردين المزبورين، ولم يتفوّه بذلك فقيه، بل هي في

ص: 151


1- المكاسب: ج 2/182.
2- حاشية كتاب المكاسب: ج 1/320-321 (بيان كيفيّة الاستدلال بصحيحة ابي ولاد..) فقرة 639 (الثالث).

مقام بيان جعل الحليّة الظاهريّة، وهي إنّما تكون مجعولة في صورة الشكّ والاحتمال، فمع القطع بالحرمة لا معنى لجعلها كما لا يخفى .

وثانياً: أنّه لو سُلّم شمولها لهذه الصورة، وجب تقييد إطلاقها بمفهوم موثّق إسحاق المتقدّم كما عرفت.

وبالجملة: فالأظهر عدم جواز التصرّف فيه، ثمّ إنّ هذا هو مراد الشيخ رحمه الله من قوله(1): (لا إشكال في حرمته على الآخذ) لما سيفتي بجواز الأخذ بنيّة الرّد(2).

وأمّا الجهة الثانية: فقد ذكر في المقام أُمور:

الأمر الأوّل: أنّه هل يجوز الأخذ من الجائر أم لا؟

ثمّ ماذا حكم المأخوذ من حيث الضمان ؟

أقول: والكلام في هذا الأمر يقع في موردين:

المورد الأوّل: أن يعلم بحرمة الجائزة قبل استقرارها في يده.

المورد الثاني: ما لو علم بذلك بعده.

أمّا المورد الأوّل: فقد فصَّل الشيخ رحمه الله(3) بين أن يكون الأخذ بغير نيّة الرّد إلى صاحبه، وما إذا كان بتلك النيّة، واختار عدم الجواز والضمان لو أخذ بغير نيّة الرّد، والجواز وعدم الضمان لو تلف في ما إذا قبضها بنيّة الرّد.

واستدلّ له (4) : بأنّه إن أخذ بغير تلك النيّة، كان غاصباً ومتصرّفاً في مال الغير عدواناً وبغير رضا صاحبه، فتترتب عليه أحكام الغاصب، وإنْ أخذ بنيّة الرّد كان محسناً، وقد دلَّ الدليل على أنّ المحسن - مضافاً إلى أنّ فعله حَسَنٌ وعدل ومحبوب -3.

ص: 152


1- المكاسب: ج 2/182 و 183.
2- المكاسب: ج 2/182 و 183.
3- المكاسب: ج 2/183.
4- المكاسب: ج 2/183.

ليس عليه من سبيل، ويكون المال في يده أمانة، فلا يضمن لو تلف.

أقول: إنّ الأخذ بنيّة الرّد إلى المالك:

إمّا أن يكون مع علم الآخذ برضا صاحبه كما هو الغالب.

أو يكون مع علمه بعدم رضاه.

أو يكون مع الشكّ في رضا المالك.

ظاهر الشيخ رحمه الله هو الجواز في جميع هذه الصور الثلاث.

رأينا: أنّ الأظهر عدم الجواز، إلّافي الصورة الأُولى ، فلنا دعويان:

الأُولى: الجواز في الصورة الأُولى ، ودليله واضحٌ ، لأنّه يجوز التصرّف في أموال كلّ أحدٍ مع رضاه بالتصرّف، إنْ لم يكن محجوراً.

الثانية: عدم الجواز في الصورتين الأخيرتين، وتشهد له الأدلّة الدالّة على عدم جواز التصرّف في مال الغير مع عدم رضا صاحبه، المحرز في الصورة الثانية بالوجدان، وفي الصورة الثالثة بالاستصحاب، كقوله عليه السلام في خبر الاحتجاج: «فلا يحلّ لأحدٍ أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه»(1)، ونحوه موثّق سماعة(2) وغيره.

أقول: قد استدلّ للجواز في الصورتين أو في الصورة الأخيرة بوجهين:

الوجه الأوّل: ما دلَّ من الآيات والروايات على جواز الإحسان ومحبوبيّته، بدعوى أنّ الأخذ لحفظ المال وردّه إلى مالكه مصداقٌ للعدل والإحسان.

وفيه: إنّ أخذ مال الغير مع عدم إحراز رضاه لا يعدّ إحساناً، ولذا ترى أنّه لم يتفوّه فقيه بجواز المعاملة مع أموال الغير بغير رضاه للاسترباح مستنداً إلى أنّه9.

ص: 153


1- الاحتجاج: ج 2/267 عن الأسدي، عن العمري، عنه عليه السلام.
2- وسائل الشيعة: ج 5/120 ب 3 من أبواب مكان المصلّي ح 1 رقم 6089.

إحسان، بل يعدّ مثل هذا التصرّف إساءةً وظلماً حقيقة، إذ التصرّف في مال الغير مع عدم إحراز رضا صاحبه ظلمٌ وعدوانٌ لا عَدلٌ وإحسان.

الوجه الثاني: ما استند إليه الأستاذ الأعظم(1) من عدم صدق التصرّف على مجرّد الأخذ بنيّة الرّد إلى المالك، إذ التصرّف عبارة عن التقليب والتقلّب، ولا نُسلّم صدقه على ذلك، ثمّ قال: (وإذا سَلّمنا صدقه لغةً فإنّه منصرفٌ عنه عرفاً).

وفيه: إنّ الإمساك والتحفّظ تصرّفٌ في الشيء حقيقةً ، ولذا ترى أنّه التزم بالحرمة في صورة إحراز عدم رضا المالك بذلك، ولولا صدق التصرّف على الأخذ لما كان وجه لعدم الجواز.

وبالجملة: لا سبيل إلى المناقشة في صدق التصرّف على أخذ مال الغير وحفظه للرّد إليه، وما يُرى من أنّ العرف والعقلاء المتديّنين يأخذون مال الغير ليس ذلك من جهة أنّهم لا يرون الأخذ تصرّفاً، بل من جهة إحرازهم رضا صاحبه بذلك كما تقدّم، وعليه فالأظهر أنّه مع عدم إحراز رضا صاحبه لا يجوز الأخذ حتّى مع نيّة الرّد، كما أنّه يجوز الأخذ مع إحراز الرضا وإنْ كان لا بنيّة الرّد، فالضابط هو إحراز الرضا وعدمه.

وأمّا الضمان:

1 - لو تلف المال تحت يده، فلا ريب في ثبوته في صورة الأخذ مع عدم رضا صاحبه، إنْ لم يصدق على أخذه الإحسان، كما هو الصحيح، لقاعدة ضمان اليد.

2 - وأمّا لو أخذه مع إحراز رضاه، فهو غير مضمون، إذ المأخوذ حينئذٍ يكون9.

ص: 154


1- مصباح الفقاهة: ج 1/779.

أمانةً مالكيّة نظير الوديعة المالكيّة.

3 - وأمّا لو أخذه مع عدم إحراز الرضا، وبنينا على جوازه لكونه إحساناً، فهو يكون عنده أمانة شرعيّة، فلا ضمان.

وأمّا المورد الثاني: وهو ما لو علم بكون الجائزة مغصوبة بعد استقرارها في يده، فظاهر «المكاسب»(1) وصريح السيّد الفقيه(2) أنّ هنا مسألتين:

الأُولى: أنّه هل يكون الأخذ بنيّة التملّك مع الجهل بكونه للغير، موجباً للضمان أم لا؟.

الثانيه: أنّه إذا حكمنا بالضمان، هل يبقى حكمه حتّى لو نوى الحفظ بعد العلم بكونه للغير وردّه إلى صاحبه ؟ أم يتغيّر الحكم بتغيّر العنوان ؟

أمّا المسألة الأُولى : ففيها قولاه:

1 - المشهور بين الأصحاب(3) على ما يظهر منهم في نظائر المقام - كإعارة الغاصب أو بيعه أو رهنه لمال الغير وغير ذلك - هو القول بالضمان.

2 - وعن «المسالك»(4) و «المفاتيح»(5) في المقام: عدم الضمان، وكذلك عن المحقّق(6) والعلّامة(7) في مسألة الاستعارة من الغاصب.7.

ص: 155


1- المكاسب: ج 2/183.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/34.
3- المبسوط: ج 3/58، الجامع للشرائع: ص 334، مسالك الأفهام: ج 5/141.
4- مسالك الأفهام: ج 3/142.
5- مفتاح الكرامة: ج 12/390.
6- شرائع الإسلام: ج 2/409.
7- ظاهر القواعد: ج 2/117.

أقول: استدلّ لعدم الضمان في المقام بوجوهٍ :

الوجه الأوّل: أنّه لا موجب لتوهم الضمان سوى قاعدة اليد، وهي لا تشمل المقام، إذ المأخوذ في مفهوم الأخذ هو التعدّي والعدوان، ومع الجهل بكونه للغير لا يصدق هذا العنوان.

وفيه: إنّ هذا الوجه وان اختاره المحقّق النائيني رحمه الله(1) لكنّه غير تامّ ، إذ مفهوم الأخذ أوسع من ذلك، ولذا ترى أنّه لا يتوهّم أحدٌ اختصاص هذا المبحث بما إذا كان الأخذ من السلطان وعمّاله بقصد التعدّي، لجهة تعبيرهم عن الموضوع ب (الجوائز المأخوذة من السلطان وعمّاله).

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق التقي رحمه الله(2) من الاستدلال بقوله عليه السلام: «فلَكَ المُهنّا وعليه الوزر»(3)، بدعوى أنّ الضمان وزر، وظاهرُ الرواية اختصاص الوزر بالعامل، فلا وِزر على الآخذ.

وفيه: ما تقدّم آنفاً من اختصاص تلك النصوص بالصورتين الأولتين من الصور الأربع لموثّق إسحاق، فراجع(4).

الوجه الثالث(5): إنّ مقتضى قاعدة (ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده) عدم ضمان الآخذ، لأنّ إعطاء الجائزة يعدّ من باب الهبة المجانيّة، وهي ليس في صحيحها ضمان فكذا في فاسدها، وكذا الوديعة والعارية ونحو ذلك.4.

ص: 156


1- منية الطالب: ج 1/270.
2- حاشية المكاسب للميرزا الشيرازي: ج 1/184.
3- وسائل الشيعة: ج 17/213 ب 51 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22356، التهذيب: ج 6/338 ح 61.
4- صفحة 153 من هذا المجلّد.
5- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/34.

وفيه: إنّ الضمان المُدّعى إنّما هو للمالك لا للمُعطي، وهو لم يهب ماله ولم يُسقط احترامه، ومن أسقط احترامه لم يكن له ذلك.

الوجه الرابع(1): إنّ تصرّف الغاصب أشدّ من تصرّف الآخذ لأنّه مغرور من قبله، فيستند الإتلاف إليه دونه، وكذا في صورة التلف السماوي.

وفيه: إنّ الأقوائيّة لا توجبُ سقوط ضمان الأضعف، وقاعدة الغرور إنّما تقتضي جواز رجوع المغرور إلى من غَرّه لا سقوط حقّ المالك في الرجوع إليه.

الوجه الخامس: إنّ الشارع قد رَخَّص في أخذ الجائزة عند الجهل بكونها مغصوبة، فهي أمانة شرعيّة في حال الجهل، وبعد العلم يشكّ في الضمان فيستصحب يد أمانيّة اليد الغاصبة.

وفيه: إنّ الترخيص في حال الجهل ترخيصٌ ظاهري لا ترخيص واقعي، فلا ينافي حكم الشارع بالضمان الواقعي.

وإنْ شئت قلت: إنّ إذن الشارع في وضع اليد على مال الغير:

إنْ كان لمصلحة المالك من حفظه له وإيصاله إليه، كان ذلك موجباً لرفع الضمان.

وإنْ كان لغير ذلك - كما في المقام حيث أنّه إذن في التملّك ظاهراً - فهو لا يوجب رفعه، مع أنّه للعلم بكونه للغير يرتفع الإذن الذي هو المناط في عدم الضمان على الفرض.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو الضمان لعموم قاعدة (على اليد...)(2).7.

ص: 157


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/34.
2- سنن البيهقي: ج 6/90، كنز العمّال: ج 5/257.

وأمّا المسألة الثانية: وهي أنّه على القول بالضمان، هل يرتفع هذا الحكم بنيّة الرّد إلى المالك، بعد العلم بالحال، كما اختاره السيّد الفقيه رحمه الله(1)، أم لا يرتفع كما احتمله الشيخ رحمه الله(2) قويّاً، واختاره صاحب «الجواهر» رحمه الله(3)؟ وجهان:

استدلّ للأوّل في «الحاشية»(4): بأنّ اليد إذا انقلبت من العدوان والخيانة إلى الإحسان والأمانة، انقلب الحكم بتبعه أيضاً، إذ مقتضى عموم قوله تعالى : (ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (5) ونحوه من أدلّة الأمانات المخصّصة لعموم قاعدة (على اليد) كون الضمان ثابتٌ ما دامت اليد عدوانيّة، فلا يُصغى إلى ما قيل من أنّ علّة الضمان هي الأخذ العدواني من الأوّل، فلا يفيد الانقلاب.

وفيه: - مضافاً إلى ما عرفت من أنّه لا يصحّ الحكم بعدم الضمان، للأدلّة المشار إليها، وليست هي مخصّصة لعموم على اليد - أنّه لو سُلّم صحّة الحكم بالعدم مستنداً إليها، لا تصلح هي للدلالة على عدم الضمان في المقام، وذلك لأنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الأدلّة هي أنّ يد الأمين لا تقتضي الضمان، لا أنّها تقتضي عدم الضمان، وعليه فحيث أنّ مقتضى عموم قاعدة (على اليد) أنّ وضع اليد على مال الغير علّةٌ للضمان الباقي ما لم يؤد، فلا تصلح اليد الفعليّة الحادثة التي هي يد أمانيّة لمزاحمة اليد السابقة، إذ ما لا اقتضاء له لا يزاحم ما له الاقتضاء.

أقول: وممّا ذكر ظهر أنّ ما أفاده الشيخ رحمه الله في وجه الحكم ببقاء الضمان وإنْ 1.

ص: 158


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/35.
2- المكاسب: ج 2/183.
3- جواهر الكلام: ج 38/221.
4- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/35.
5- سورة التوبة: الآية 91.

تبدّلت اليد إلى اليد الأمانيّة، من عموم على اليد هو الصحيح.

نعم، إذا علم الآخذ برضا المالك بحفظ ماله بقصد الإيصال إليه، وكانت الأمانة مالكيّة، ارتفع عنه الضمان، لأنّ ذلك في قوّة القبض والاستيداع.

وبالجملة: ظهر بما ذكرناه أنّ الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور في نظائر المقام من أنّ اليد غير الأمانيّة إذا عادت إليها يبقى الضمان، إلّاإذا أذن المالك في استدامة القبض.

وجوب رَدّ الجائزة إلى أهلها

يدور البحث في هذا المقام عن أنّه مهما كان المختار في المبحث السابق فإنّه لا إشكال في وجوب رَدّ الجائزة إلى صاحبها أو وليّه كما صرّح به غير واحد(1).

أقول: يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: ما إذا كان مالك المأخوذ معلوماً.

الثاني: ما إذا كان مالكه مجهولاً.

أمّا المقام الأوّل: فلا ريب ولا كلام في وجوب رَدّ المأخوذ إلى أهله، سواءٌ أكان المال في يده أمانة أم لم يكن كذلك:

لقاعدة (على اليد) في الثاني، وما دلَّ على وجوب رَدّ الأمانة في الآية الشريفة:

(إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) (2) وغيرها في الأوّل.

وللنصوص الخاصّة الواردة في المقام، الآتي بعضها الدالّة على وجوب رَدّ

ص: 159


1- المكاسب: ج 2/184، منية الطالب: ج 1/64.
2- سورة النساء: الآية 58.

المأخوذ إلى صاحبه إذا كان معلوماً.

إنّما الكلام في موردين:

المورد الأوّل: في معنى الأداء، وأنّه:

هل هو مجرّد إعلام المالك بذلك والتخلية بينه وبين ماله ؟

أم هو حمله إليه وإقباضه منه ؟

أم كلٍّ من الأمرين مصداقٌ للأداء والرّد؟

أم يختلف باختلاف الموارد؟

أقول: الظاهر أنّ حقيقة الرّد والأداء هي إيصال الشيء إلى محلّه، وحينئذٍ:

1 - فإذا كان المال أمانةً عند شخص فردّه لا يتحقّق إلّابالتخلية بينه وبين مالكه، لأنّ بها يخلع الأمين نفسه عن السلطنة عليه، ويدخله تحت سلطنة المالك، ويوصل الشيء إلى محلّه، وأمّا محلّ المال خارجاً فهو كلّ مكان رضي به المالك أو الشارع الأقدس بثبوت المال فيه، وحيث أنّ وجود المال عند الأمين خارجاً إنّما يكون برضا المالك أو بإذن من وليّ أمره - أي الشارع الأقدس - فلا يكون في غير محلّه، كي يكون مكلّفاً بالرّد الخارجي.

2 - وأمّا إذا كان المال مغصوباً، فأدائه ورَدّه إنّما يكون بالتخلية والإقباض منه، إذ كما أنّ كونه تحت سلطنة الغاصب في غير محلّه فلابدّ من إيصاله إليمحلّه، كذلك كونه عنده خارجاً يكون في غير محلّه، فلابدّ من إيصاله إليه بالإقباض منه.

ومن ما ذكرناه عُلم أنّه لو نَقل الأمين الوديعة من بلد الإيداع إلى بلدٍ آخر بغير داعي الحفظ، وبدون إذن المالك أو الشارع، وجب عليه ردّها إلى بلد الإيداع.

ص: 160

فتحصّل: أنّه يعتبر في غير الأمانة الإقباض من المالك، وفيها يكفي التخلية، ولعلّ هذا هو المشهور بين الأصحاب.

إشكال: ثمّ إنّ الشيخ رحمه الله(1) استشكل في حمل الأمانة للإقباض في مورد كفاية التخلية، من جهة أنّه تصرّفٌ لم يؤذن فيه، إلّاإذا كان الحمل مساوياً لمكانه الموجود فيه أو أحفظ.

والجواب: الأظهر جواز الحمل إذا كان المال في حفظه، حتّى لو كان الإبقاء في المحلّ أحفظ، إذ لا يجب تحرّي الأحفظ في الأمانة، بل يكفي كونها في حفظه وحراسته في أي مكان وضعت، ما لم ينه المالك عن وضعها في مكان خاص.

المورد الثاني: في كون وجوب الرّد فوريّاً.

والظاهر أنّ وجهه فيما إذا كانت اليد غير أمانيّة، هو ما دلَّ على حرمة التصرّف في مال الغير وإمساكه، إذ لا فرق بين التصرّف القليل والكثير، وفيما إذا كانت اليد أمانيّة، أنّه بالتأخير تثبت اليد على مال الغير زائداً على المقدار المأذون فيه بإذن المالك أو الشارع، وهو ظلمٌ وعدوان، ويشمله حينئذٍ ما دلَّ على حرمة التصرّف في مال الغير وامساكه.

***5.

ص: 161


1- المكاسب: ج 2/185.

حكم مجهول المالك

وأمّا المقام الثاني: ويدور البحث فيه عمّا إذا كان المالك مجهولاً.

أقول: تنقيح القول فيه يقتضي البحث في مواضع:

الموضع الأوّل: هل يجب الفحص عن المالك، أم لا؟ فيه قولان:

استدلّ للقول الثاني: بإطلاق النصوص الواردة في مقام بيان مصرف مجهول المالك التي ستمرّ عليك.

واستدلّ للقول الأوّل: بوجهين:

الوجه الأوّل: ما في «المكاسب»(1) من أنّ الأداء الواجب متوقّفٌ عليه، فيجب مقدّمة له.

وأُورد عليه تارةً : بأنّ الأداء إنّما يكون وجوبه مشروطاً بالقدرة كسائر التكاليف الشرعيّة، فلو علم بأنّه لو تفحّص لوجده، وجب عليه الفحص والأداء، ولو شكّ في ذلك، فلا محالة يشكّ في القدرة عليه، فيشكّ في التكليف، ومعه المرجع هو أصالة البراءة عن الوجوب.

وأُخرى : بأنّ إطلاق النصوص الآتية يقتضي عدم وجوب الأداء والفحص مع الجهل بالمالك، وبه يقيّد إطلاق ما دلَّ على وجوب الأداء.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ المحقّق في محلّه أنّ البراءة لا تجري في مورد الشكّ في القدرة

ص: 162


1- المكاسب: ج 2/185.

على امتثال التكليف، إنْ لم تكن شرطاً شرعيّاً كما في المقام، إمّا لكونها شرطاً لتنجّز التكليف لا لأصله، أو لبناء العقلاء على ذلك أو غير ذلك.

وأمّا الثاني: فلأنّ النسبة بين ما دلَّ على وجوب الأداء، والنصوص المشار إليها عمومٌ من وجه:

إذ الطائفة الأولى أعمّ من حيث شمولها لما إذا كان المالك معلوماً، وأخصّ من حيث اختصاصها بصورة التمكّن العقلي من الأداء والفحص.

والطائفة الثانية أخصّ من الجهة الأُولى، لاختصاصها بمجهول المالك، وأعمّ من الجهة الثانية كما لا يخفى .

وحيث أنّ دلالة كلّ منهما على المجمع إنّما تكون بالإطلاق، فتتساقطان معاً، ويكون المرجع حينئذٍ إلى ما دلَّ على عدم جواز التصرّف في مال الغير من غير رضا صاحبه، فتأمّل فإنّ المختار أخيراً تعيّن الرجوع إلى الأخبار العلاجيّة في هذا الفرض أيضاً.

الوجه الثاني: هو دلالة طوائف من النصوص عليه:

منها: ما تضمّن الأمر به في الدين مجهول المالك، كصحيح معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«في رجلٍ كان له على رجل حقٌّ ففقده، ولا يدري أحيٌّ هو أم ميّت، ولا يعرف له وارثٌ ولا نسبٌ ولا بلد؟

قال: اطلبه، قال: إنّ ذلك قد طال فأتصدّق به ؟ قال: اطلبه»(1).1.

ص: 163


1- وسائل الشيعة: ج 18/362 ب 22 من أبواب الدين والقرض ح 2 رقم 23854، الاستبصار: ج 4/196-197 ح 1.

وعن «الفقيه»: وروي في هذا خبرٌ آخر: «إنْ لم تجد له وارثاً، وعلم اللّه منك الجَهد فتصدّق به»(1).

وفيه: إنّ مورده العلم بالمالك مع الجهل بموضعه، ومحلّ الكلام إنّما هو مجهول المالك، إلّاأنّ يُدّعى العلم بعدم الفرق بين الجهل بالمالك والجهل بموضعه، كما ادُّعي عدم الفرق بين الدين والعين.

ومنها: ما دلَّ على وجوب تعريف اللُّقطة(2).

وفيه: إنّ تلك النصوص المتضمّنة للتعريف سنة، ثُمّ التصدّق بها بعدها مختصّة باللُّقطة، والتعدّي يحتاج إلى دليل مفقود.

ومنها: ما دلَّ على وجوب الفحص عن الأجير الذي تبقى اُجرته، كموثّق هشام بن سالم، قال: «سأل حفص الأعور أبا عبد اللّه عليه السلام وأنا عنده جالس، قال: إنّه كان لأبي أجيرٌ كان يقوم في رحاه، وله عندنا دراهم، وليس له وارث ؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: تدفع إلى المساكين، ثمّ قال: رأيك، ثمّ أعاد المسألة، فقال مثل ذلك، فأعاد عليه المسألة ثالثة، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: تطلب وارثاً فإنْ وجدتَ وارثاً، وإلّا فهو كسبيل مالك»(3).

ونحوه غيره، وقد استدلّ بها السيّد الفقيه(4).

ويرد عليها: ما أوردناه على الطائفة الأُولى .7.

ص: 164


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4/331 ح 5711.
2- وسائل الشيعة: ج 25/441-446 ب 2 من أبواب اللّقطة في عدّة أحاديث.
3- وسائل الشيعة: ج 362/18-363 ب 22 من أبواب الدين والقرض ح 3 رقم 23855، التهذيب: ج 177/7 ح 38.
4- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/37.

ومنها: ما استدلّ به المحقّق الايرواني رحمه الله(1) من الاستناد إلى ما ورد في إيداع اللّص دراهم أو متاعاً عند مسلمٍ ، واللّص مسلمٌ ، فإنّه دلَّ على أنّ الوديعة بمنزلة اللُّقطة فيعرّفها حولاً، فإن أصاب صاحبها رَدّها إليه وإلّا تصدّق بها عنه(2).

وأورد عليه الأستاذ الأعظم(3): بأنّه ضعيفُ السَّند، لأنّ في طريقه قاسم بن محمّد، وحفص بن غياث، وبوروده في قضيّة خاصّة، فلا وجه للتعدّي منها إلى غيرها.

أقول: ولكن يمكن الجواب عن الأوّل بما عن صاحب «الجواهر»(4) من أنّ ضعف السند منجبرٌ بعمل المشهور.

فتحصّل ممّا ذكرناه: وجوب الفحص لوجهين، فلاحظ.

عدم سماع دعوى المُدّعي له ما لم يَثبُت شرعاً

الموضع الثاني: لو ادّعاه مدّعٍ ، فهل يسمع قوله مطلقاً، أم مع الوصف، أو يعتبر الثبوت شرعاً؟ وجوه:

الوجه الأوّل: أنّه يعطي مجهول المالك لمن يدّعيه مطلقاً.

الوجه الثاني: أنّه يعطي إيّاه مع التوصيف.

الوجه الثالث: أنّه لا يعطي إيّاه ما لم يثبت كونه له شرعاً.

ص: 165


1- حاشية كتاب المكاسب: ج 1/333 (هل الفحص مقيّد بالسنة).
2- وسائل الشيعة: ج 25/463-464 ب 18 من أبواب اللّقطة ح 1 رقم 32361، الكافي: ج 5/308 ح 21.
3- مصباح الفقاهة: ج 1/786.
4- جواهر الكلام: ج 27/125.

استدلّ للأوّل(1):

1 - بخبر منصور الوارد في الكيس الواقع بين الجماعة، الدالّ على أنّه لمن يدّعيه(2). بدعوى أنّ المستفاد منه قاعدة كليّة، وهي سماع دعوى كلّ من لا معارض له.

2 - وبالإجماع، والسيرة على القاعدة المشار إليها.

3 - وبقوله عليه السلام في صحيح البزنطي، الوارد في اللُّقطة: «وإن جاءك طالبٌ لا تتّهمه ردّه عليه»(3).

4 - وبالنصوص الاُخر الواردة في اللُّقطة الدالّة على جواز التملّك أو التصدّق، إلّا أنّ يجيء لها طالبٌ كقوله عليه السلام: «فإن جاء لها طالبٌ وإلّا فهي كسبيل ماله»(4)، ونحوه غيره.

5 - وبأدلّة حمل فعل المسلم وقوله على الصحّة.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلاختصاصه بما إذا لم يكن المال في يد واحد مأمورٌ بإيصاله إلى مالكه، مع أنّ في كون المقام من قبيل دعوى من لا معارض له نظراً بل منعاً، فإنّه مأمورٌ بحفظ المال عن غير مالكه، وعليه فهو يمنعه عن التصرّف فيه.

وبذلك ظهر ما في الوجه الثاني، مضافاً إلى أنّ المتيقّن منهما غير المقام.3.

ص: 166


1- مستند الشيعة: ج 17/358-359.
2- وسائل الشيعة: ج 27/273 ب 17 من أبواب كيفيّة الحكم وأحكام الدعوى ح 1 رقم 33758، الكافي: ج 7/422 ح 5.
3- وسائل الشيعة: ج 25/461 ب 15 من أبواب اللّقطة ح 1 رقم 32355، التهذيب: ج 6/394 ح 26.
4- وسائل الشيعة: ج 25/441 ب 2 من أبواب اللّقطة ح 1 رقم 32306، التهذيب: ج 6/389 ح 3.

وأمّا صحيح البزنطي: فلم يُعمل به في مورده.

وأمّا سائر النصوص: فالظاهر منها بعد التدبّر هو العلم بكونه مالكاً.

ولو أبيتَ إلّاعن ظهورها في جواز الدفع بمجرّد الطلب.

فيرد عليها: أنّه لم يُعمل بها في موردها، فكيف في غير موردها.

وأمّا الخامس: وهو حمل فعل المسلم وقوله على الصحّة، فلأنّها تدلّ على عدم التعامل معه معاملة الفاسق والكاذب، لا أنّه يترتّب عليهما آثار الواقع.

وأمّا الوجه الثاني: فقد استدلّ له بالنصوص الواردة في اللُّقطة الدالّة على أنّه تُعطى اللُّقطة لمن يدّعيها مع التوصيف(1)، بدعوى أنّه لا خصوصيّة للقطة.

وفيه: إنّ هذا الحكم غيرُ ثابتٍ في الأصل، فضلاً عن الفرع، مع أنّه لو تمّ في اللّقطة لا وجه للتعدّي بعد احتمال الاختصاص.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو الوجه الثالث، إذ لا تحصل البراءة لمن وضع يده على مال غيره إلّابالأداء إلى مالكه.

أقول: بقي شيء وهو أنّه لو دفعه إلى من يدّعيه، مع ثبوت كونه مالكاً، ثمّ تبيّن كون المالك غيره:

1 - فهل يضمن الدافع مطلقاً؟

2 - أم لا يضمن كذلك ؟

3 - أم يفصّل بين صورة العلم وغيره من الطرق فيضمن في الأُولى؟

4 - أم يفصّل بين قيام البيّنة وغيرها، فلا يكون ضامناً في الصورة الأُولى؟ة.

ص: 167


1- وسائل الشيعة: ج 25/449 ب 6 من أبواب اللّقطة.

5 - أم يُحكم بالضمان إلّافي صورة إلزام الحاكم بالدفع ؟

6 - أم يفصّل بين دفع العين والقيمة، فيكون ضامناً في الثاني ؟

وجوه لو لم تكن أقوالاً، أقواها الأوّل، لأنّ مقتضى أدلّة الضمانات والأمانات، بقاء المال في عهدة من تحت يده مال غيره إلّاأن يؤديه إليه.

وعليه، فغاية الضمان هو الأداء إلى المالك، وحديثُ لا ضرر لا يصلح لرفع الضمان، إذ الحكم بعدمه ضررٌ على المالك، فيتعارض الضرران.

وأمّا ما دلَّ على نفي السبيل عن المحسنين فهو أجنبيّ عن المقام، لأنّ من أعطى مال شخصٍ إلى غيره لا يكون محسناً بالنسبة إلى مالكه.

أُجرة الفحص عن المالك

الموضع الثالث: إذا احتاج الفحص عن المالك إلى بذل مالٍ ، فهل هو على الآخذ، أو على المالك ؟

استدلّ الشيخ رحمه الله(1) للأوّل: بأنّ الفحص عن المالك واجبٌ على الآخذ، فيجب عليه بذل المال مقدّمةً له.

وأجاب عنه الأستاذ الأعظم(2): بأنّ مقدّمة الفحص الواجب إنّما هي طبيعي بذل المال، سواءٌ أكان من كيسه أم من كيس المالك، وعليه فلا يتعيّن البذل على الآخذ إلّابدليل خاص، وهو منفي في المقام.

ص: 168


1- المكاسب: ج 2/186.
2- مصباح الفقاهة: ج 1/793.

وفيه: إنّ المقدّمة وإنْ كانت هي الطبيعي، إلّاأنّ الواجب منها هو ما يكون فعل الآخذ نفسه، ولا يعقل أن يجب بذل المال على المالك بالوجوب المقدّمي المترشّح من وجوب الفحص المتوجّه إلى الآخذ.

فإنْ قيل: إنّ المُدّعى أنّ طرف التخيير إعطاء الآخذ من مال المالك، فلا يلزم المحذور المذكور.

قلت: إنّه على هذا لا يكاد يجبُ هذا الفرد بالوجوب المقدّمي، لحرمته الموجبة لاختصاص الوجوب بغيره.

فالأولى في الجواب عن أصل الدليل: أنّ الفحص بما أنّه لا يتوقّف على بذل المال دائماً، ففي مورد توقّفه عليه لا مانع من الرجوع إلى دليل نفي الضرر، إذا لم يكن ارتفاع الحكم الضروري على خلاف الامتنان.

توضيح ذلك: إنّ من وضع يده على مال غيره:

1 - ربما يكون على وجه شرعي كاللّقطة، وأخذ المال من السارق مع العلم برضا صاحبه ونحو ذلك.

2 - وربما يكون على غير وجهٍ شرعي كالغصب والسّرقة ونحوهما.

فإنْ كان من قبيل الأوّل: كانت أُجرة الفحص على المالك، بمعنى أنّ الآخذ يصرفها من كيسه، فإن وجده أخذها منه، وإلّا فمن المال الذي في يده، ويتولّى ذلك الحاكم حِسْبةً ، لما دلَّ على نفي السبيل على المحسنين، ولحديث نفي الضرر المتقدّمين. فتأمّل.

وإنْ كان من قبيل الثاني: كانت الأُجرة على الآخذ، والوجه في ذلك - مضافاً إلى

ص: 169

عدم شمول أدلّة نفي الضرر والسبيل على المحسنين، أمّا الثاني فواضح، وأمّا الأوّل فلكونه خلاف الامتنان - وما دلَّ على أنّ الغاصب يجب عليه رَدّ المغصوب وإنْ تضرّر بكثير، كما إذا توقّف الرّد على هدم البناء ونحوه، فعن علي عليه السلام في «نهج البلاغة»: «الحَجَر الغصب في الدار رهنٌ على خرابها»(1).

مقدار الفحص عن المالك

الموضع الرابع: في مقدار الفحص.

فعن الأكثر(2): إنّ حَدّه اليأس.

وعن جماعةٍ (3): إنّ حَدّه السنة.

وربما يقال: بكفاية طبيعي الفحص عن المالك(4).

أقول: والأقوى هو الأوّل، بناءً على ما عرفت من أنّ مدرك وجوب الفحص هو حكم العقل، لكونه مقدّمةً لإيصال المال إلى مالكه، إذ بعدما لم ييأس من الظفر به يكون مأموراً بالرّد إليه، فيجب الفحص مقدّمة له.

وقد استدلّ له الشيخ رحمه الله(5): - مضافاً إلى ذلك - بأنّه: (مضافاً إلى ما ورد من الأمر بالتصدّق بمجهول المالك، مع عدم معرفة المالك كما في الرواية الواردة في بعض عمّال بني اُميّة... الخ أشار بذلك إلى خبر علي بن أبي حمزة عن الإمام الصادق عليه السلام

ص: 170


1- وسائل الشيعة: ج 25/386 ب 1 من أبواب الغصب ح 5 رقم 32191.
2- المكاسب: ج 2/186، وكتاب المكاسب والبيع بحث النائيني للآملي: ج 1/73.
3- المقنعة: ص 645، المبسوط: ج 3/318، المهذّب: ج 2/567.
4- راجع مصباح الفقاهة: ج 1/789.
5- المكاسب: ج 2/186.

أنّه قال لصديقٍ له من كُتّاب بني اُميّة: «فاخرج من جميع ما اكتسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم رَدَدتَ عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت به... إلى آخره»)(1).

أقول: وجه الاستدلال به مع أنّه مطلقٌ غير آمر بالفحص، أنّه مطلق، وغاية ما ثبت تقييده هو لزوم الفحص إلى حَدّ اليأس، ففي الزائد عن هذا الحَدّ المرجع هو إطلاق الخبر ويحكم بعدم وجوبه.

ويمكن أنْ يقال في توجيهه: إنّ المراد من عدم المعرفة، هو عدم التمكّن من المعرفة، لا عدم المعرفة الفعليّة، وذلك للعلم بعدم الاكتفاء بمجرّد عدم المعرفة الفعليّة، إذ لا ريب في وجوب الفحص لو علم بأنّه لو تفحّص لظفر بالمالك، وهذا العنوان لا يحصل بعد اليأس.

ويرد على التوجيه الأوّل: أنّه يتمّ إذا كان حصول اليأس قبل تمام السنة، وهو فاسدٌ، إذ النسبة بين العنوانين عموم من وجه، فقد يتقدّم اليأس وقد يتقدّم مضيّ السنة.

نعم، التوجيه الثاني لا بأس به.

واستدلّ للقول الثاني:

1 - بخبر حفص بن غياث، الوارد في إيداع اللّص دراهم أو متاعاً عند مسلمٍ ، الدالّ على أنّ الوديعة بمنزلة اللّقطة، فيعرّفها الوَدَعي حَولاً(2)، بدعوى أنّ ظاهره أنّ مناط الفحص إلى سنة، وملاكه في اللّقطة هو كونها مالاً مجهول المالك وقع في يده، فيتعدّى منه إلى كلّ ما كان كذلك.1.

ص: 171


1- وسائل الشيعة: ج 199/17-200 ب 47 من أبواب مايكتسب به ح 1 رقم 22343، التهذيب: ج 331/6 ح 41.
2- وسائل الشيعة: ج 463/25-464 ب 18 من أبواب اللّقطة ح 1 رقم 32361، الكافي: ج 5/308 ح 21.

وفيه: إنّ الخبر مختصٌّ بإيداع، ولا يبعد دعوى التعدّي إلى غيره من أفراد الغاصب، وإلى كلّ موردٍ كان المال مأخوذاً بعنوان الأمانة والحفظ، وأمّا التعدّي إلى كلّ مالٍ مجهول المالك، وإنْ أُخذ لمصلحة الآخذ فالظاهر أنّه قياس محض، بل دعوى اختصاصه بمورده، وعدم التعدّي حتّى من الجهتين الأولتين قريبة.

2 - وبالنصوص(1) الواردة في اللُّقطة المحدّدة للفحص فيها بالسنة.

وفيه: أنّها مختصّة باللّقطة، والتعدّي إلى كلّ مالٍ مجهول المالك يحتاج إلى دليل.

واستدلّ للقول الأخير: بأنّه يكتفى في امتثال الأمر بصرف الوجود من الطبيعة.

وفيه: ما تقدّم من أنّ مدرك وجوب الفحص إنّما هو حكم العقل لا التعبّد.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو القول الأوّل.

***ة.

ص: 172


1- وسائل الشيعة: ج 25/441-445 ب 2 من أبواب اللّقطة.

مصرف مجهول المالك

الموضع الخامس: في مصرف مجهول المالك، وفي من له ولاية الصرف.

أقول: الكلام يقع:

تارةً : في تعيين مصرف مجهول المالك.

وأُخرى : في ولاية الصرف، وأنّها للحاكم، أو لمن يكون المال تحت يده، وحيثُ أنّه لا شبهة في أنّ الحاكم بنفسه ليس مصرفاً لهذا المال، فلا وجه لعدّ الدفع إلى الحاكم في عرض التصدّق والإمساك، كما في «المكاسب»(1) وبعض الحواشي(2)، وعليه فهاهنا بحثان:

الأوّل: في تعيين المصرف.

الثاني: فيمن له ولاية الصرف.

وفي كلٍّ منهما:

تارةً : يقع البحث فيما تقتضيه القواعد.

وأُخرى : فيما تقتضيه النصوص الخاصّة.

فتنقيح القول في هذا الموضع، يقتضي البحث في موارد:

المورد الأوّل: في تعيين المصرف بحسب القواعد.

أقول: والمحتملات الواردة متعدّدة: تعيّن الصدقة، وتعيّن الإمساك والحفظ، والتخيير بينهما، وجواز التملّك.

ص: 173


1- المكاسب: ج 2/192.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/37، حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 5/346.

أقواها الأخير، ثمّ الثاني، وذلك لأنّ المال الذي يكون الشخص مأيوساً عن الظفر بمالكه، لا يعتبرونه العقلاء مِلْكاً لمالكه، إذ اعتبار الملكيّة العقلائي الذي هو الموضوع لاعتبار الشارع، لابدَّ وأن يكون بلحاظ ثمرة عمليّة، وأثر مترتّب على الملكيّة، فالملكيّة التي لا يترتّب عليها أثرٌ لا معنى لاعتبارها، وعليه فهو يخرج عن ملك مالكه بعد اليأس عن الظفر به، فيكون من المباحات فيجوز تملّكه.

أقول: وبهذا البيان يمكن الإفتاء بجواز المشي في الشوارع التي استحدثوها، التي كانت أملاكاً للناس، وأُخذت من مالكيها ظلماً وعدواناً.

ولو تنزّلنا عن ذلك، فالمتعيّن هو الوجه الثاني، لعدم جواز تملّك مال الغير والتصدّق به.

وما استدلّ به على وجوب التصدّق من أنّه إحسانٌ في حقّ المالك، وأنّه أقربُ طرق الإيصال إلى المالك، وأنّ الإبقاء معرّضٌ للتلف، كلّها كما ترى ، إذ لا دليل على جواز الإحسان بمال الغير.

وإنْ شئت قلت: إنّه ليس إحساناً، بل التصرّف في مال الغير بغير إذنه ظلمٌ وإساءة حقيقة لا عدل وإحسان، والدليل إنّما دلَّ على لزوم إيصال المال إلى مالكه، لا على لزوم أقرب طرق الإيصال إليه أو جوازه، وكون الإبقاء معرّضاً للتلف لا يوجبُ جواز إتلافه.

لا يقال: إنّه بعد العلم الإجمالي بتخصيص ما دلَّ على عدم جواز التصرّف في مال الغير، ما لم يُحرز رضاه به بواحدٍ من التصدّق والإمساك، للأبديّة أحدهما، وكلٌّ منهما في نفسه تصرّفٌ لم يؤذن فيه، فإنّه لا مانع من التمسّك بأدلّة التصدّق، إذ المانع

ص: 174

ليس إلّاعدم جواز التصرّف في مال الغير الساقط في المقام.

فإنّه يقال: إنّ التصدّق إتلافٌ لمال الغير، وهو محرّم، وإن لم يكن دليل على حرمة التصرّف في مال الغير.

وبعبارة أُخرى: التصدّق تصرّفٌ وإتلافٌ ، فعدم الدليل على حرمته من الجهة الأُولى، لسقوط ما دلَّ على حرمة التصرّف، لا يستلزمُ سقوط ما دلَّ على حرمته من الجهة الثانية.

وإنْ شئت قلت: إنّه إنّما يُحكم بعدم شمول أدلّة حرمة التصرّف للتصدّق والإمساك، للعلم بعدم شمولها لهما معاً، وعليه فإنْ كان شمولها لأحدهما دون الآخر ترجيحاً بلا مرجّح، لا تشمل شيئاً منهما، وإلّا فتشمل خصوص ما فيه الترجيح، وحيث أنّ التصدّق يعدّ إتلافاً أيضاً، فتشمله تلك الأدلّة بالخصوص.

مع أنّه لو سُلّم شمول أدلّة التصدّق له من طرف المتصدّق، لكنّها معارضه مع أدلّة عدم جواز التصرّف فيه من ناحية المتصدّق عليه، فتتساقطان والمرجع إلى أصالة الفساد.

المورد الثاني: البحث عمّن له الولاية بحسب القواعد:

أقول: الظاهر أنّه لو بنينا على جواز التملّك، فلا مورد لهذا البحث، وأمّا لو بنينا على تعيّن الإمساك والحفظ، أو التصدّق أو التخيير بينهما، فإن ثبت أنّ الحاكم وليّ الغائب نفسه، وأنّ له الولاية العامّة، فيتعيّن الدفع إليه، ليكون هو المتولّي لذلك، وإلّا فيتولّاه الآخذ بنفسه، ولا يخفى وجهه.

المورد الثالث: في تعيين المصرف بحسب النصوص الخاصّة:

ص: 175

أقول: الوجوه المحتملة بل الأقوال المنقولة كثيرة.

الوجه الأوّل: أنّ ذلك يكون للإمام عليه السلام، وقد استدلّ له الشيخ رحمه الله(1): بخبر داود بن أبي يزيد، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قال له رجلٌ : إنّي قد أصبتُ مالاً وإنّي قد خِفتُ فيه على نفسي، فلو أصبتُ صاحبه دفعته إليه وتخلّصت منه ؟

قال: فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: لو أصبته كنتَ تدفعه إليه ؟

فقال: إي واللّه، قال: فأنا واللّه ما له صاحبٌ غيري.

قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، قال: فاذهب وقسّمه بين إخوانك ولك الأمن... إلى آخره»(2).

وفيه أوّلاً: إنّ الخبر مجهول لحجال.

وثانياً: إنّه يحتمل فيه وجوه ذكرت جملة منها في «مرآة العقول»(3):

الأوّل: ما فهمه الشيخ رحمه الله وهو كون ما أصابه لقطةٌ من غيره، لكنّه يكون له.

الثاني: أن يكون ما أصابه لقطة من ماله عليه السلام، فأمر بالصَّدقة على الاخوان تطوّعاً.

الثالث: أن يكون ما أصابه لقطة من غيره، ولكنّه عَلم بموت صاحبه حين السؤال، وإنْ لم يترك وارثاً غير الإمام عليه السلام.

الرابع: أن يكون ما أصابه من عمّال السلطان، وكان ذلك ممّا يختصّ به، أو من الأموال التي له التصرّف فيها، وقد استظهر المجلسي رحمه الله هذا الوجه.2.

ص: 176


1- المكاسب: ج 2/190-191.
2- وسائل الشيعة: ج 25/450 ب 7 من أبواب اللّقطة ح 1 رقم 32331، الفقيه: ج 3/296 ح 4063.
3- مرآة العقول: ج 19/112.

وكيف كان، فمع هذه الاحتمالات، لايبقي مورد للاستدلال بهذا الخبر على المقصود.

ودعوى السيّد الفقيه(1): بأنّه يمكن منع الدلالة، لأنّ المراد من (الصاحب) هو الولي وصاحب الاختيار.

فغير سديدة: إذ المراد من (الصاحب) في الجواب هو المراد به في السؤال، ومعلوم أنّ المراد به فيه المالك.

الوجه الثاني: أن يكون مجهول المال لمن وضع يده عليه.

واستدلّ له المحقّق الايرواني رحمه الله(2): - تبعاً للمحقّق الهمداني قدس سره(3) - بالخبر الصحيح المرويّ عن علي بن مهزيار قال: «كتبَ إليه أبو جعفر عليه السلام كتاباً فيه: فالغنائم والفوائد - يرحمك اللّه - فهي الغنيمةَ يغنمها المرء، والفائدة يفيدها، والجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خَطر، والميراث الذي لا يُحتسب من غير أبٍ ولا ابن، ومثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله، ومثل مال يؤخذ ولا يُعرف له صاحب»(4).

وفيه أوّلاً: أنّ الظاهر من قوله عليه السلام: «مالٌ يؤخذ» هو إرادة اللُّقطة لا مطلق مجهول المالك، وقد دلّت النصوص الكثيرة على أنّ لواجدهاتملّكهابعد تعريفها حولاً.

وثانياً: أنّ الخبر واردٌ في مقام بيان وجوب الخمس في كلّ غنيمة، ومنها مال يوجد ولا يُعرف صاحبه، فغاية ما يستفاد منه أنّ مجهول المالك يجوز تملّكه في الجملة، وأمّا أنّ حكمه كذلك مطلقاً أم يختصّ ذلك ببعض أقسامه كاللّقطة، فلا2.

ص: 177


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/37.
2- حاشية كتاب المكاسب: ج 1/336-337.
3- مصباح الفقيه: ج 3/138.
4- وسائل الشيعة: ج 9/501-503 ب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح 5 رقم 12583، الاستبصار: ج 2/60-62 ب 32 ح 12.

يكون الخبر في مقام بيانه كي يتمسّك بإطلاقه، فيتعيّن الأخذ بالمتيقّن.

وأمّا ما ذكره الأستاذ الأعظم:(1) من أنّ الخبر ليس صريحاً في جواز التملّك بعد إخراج خمسه، وإنّما هو مطلقٌ بالنسبة إليه، فيقيّد بالروايات الدالّة على لزوم التصدّق بمجهول المالك.

فيرد عليه: أنّ الظاهر منه - بقرينة عدّه من مصاديق الغنيمة والفائدة - هو كونه مِلْكاً لمن وضع يده عليه، وإلّا فلو تعيّن التصدّق، لما صحّ عَدّه من أفراد الغنيمة والفائدة.

الوجه الثالث: أنّه يجوز لمن وضع يده عليه أن يعمل فيه ويُخرجه صدقةً قليلاً قليلاً حتّى ينتهي، واستدلّ له بخبر نصر بن حبيب صاحب الخان، قال: «كتبتُ إلى العبد الصالح عليه السلام: لقد وقعتْ عندي مائتا درهم وأربعة دراهم، وأنا صاحب فندق ومات صاحبها ولم أعرف له ورثة، فرأيك في إعلامي حالها، وما أصنع بها، فقد ضِقت بها ذرعاً؟

فكتب عليه السلام: اعمل فيها، واخرجها صدقةً قليلاً قليلاً حتّى تخرج»(1).

وفيه أوّلاً: أنّ الخبر مجهول لنصر.

وثانياً: إنّه لم يفتِ أحدٌ بظاهره، لا سيّما إذا كان المراد بقوله عليه السلام: «اعمل فيها» التجارة بها، وإخراج الصدقة من ربحها.

وأمّا ما أورده عليه الأستاذ الأعظم (3) : بأنّ من المحتمل أنّ صاحب المال قد مات، ولم يترك وارثاً غير الإمام، وأنّه عليه السلام بما هو وارثه أجاز لصاحب الخان أن6.

ص: 178


1- وسائل الشيعة: ج 297/26 ب 6 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ح 3 رقم 33032، التهذيب: ج 9/389 ب 45 ح 6.

يتصرّف في ذلك المال، ويتصدّق به قليلاً قليلاً، واحتمال وجود وارثٍ غير الأب والاُمّ مدفوع بالأصل، واحتمال وجودهما لعلّه كان مقطوع العدم.

فيرد عليه: أنّ مجرّد احتمال كون وجود الأب والاُمّ مقطوع العدم، لا يكفي في الإيراد على الاستدلال مع عدم الاستفصال.

الوجه الرابع: أنّه يتعيّن الحفظ والإيصاء به عند الوفاة.

واستدلّ له:

1 - بخبر هيثم ابن أبي روح صاحب الخان، قال:

«كتبتُ إلى العبد الصالح عليه السلام: إنّي أتقبّل الفنادق، فينزل عندي الرجل، فيموت فجأة لا أعرفه ولا أعرف بلاده، ولا ورثته، فيبقى المال عندي، كيف أصنع به، ولمن ذلك المال ؟ فكتب عليه السلام: اتركه على حاله»(1).

2 - وبعدّة روايات رواها هشام:

منها: موثّقه المتقدّم في الموضع الأوّل.

ومنها: خبره الآخر المرويّ في «الفقيه»، قال: «سأل حفص الأعور أبا عبداللّه عليه السلام وأنا حاضر، فقال: كان لأبي أجيرٌ وكان له عنده شيء، فهلك الأجير، ولم يدّع وارثاً ولا قرابةً ، وقد ضِقت بذلك، فكيف أصنع به ؟

فقال عليه السلام: رأيك المساكين، رأيك المساكين.

فقلت: إنّي ضقتُ بذلك ذرعاً فكيف أصنع ؟

قال عليه السلام: هو كسبيل مالك، فإنْ جاء طالب أعطيته»(2).8.

ص: 179


1- وسائل الشيعة: ج 26/298 ب 6 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ح 4 رقم 33033، الاستبصار: ج 4/197 ب 114 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 26/301 ب 6 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ح 10 رقم 33039، الفقيه: ج 4/330-331 ح 5708.

ومنها: صحيحةٌ اُخرى له، قال: «سأل خطّاب الأعور أبا إبراهيم عليه السلام وأنا جالس، فقال: إنّه كان عند أبي أجيرٌ يعمل عنده بالاُجرة، ففقدناه، وبقي له من أجره شيءٌ ، ولا يعرف له وارث ؟

قال: فاطلبوه، قال: قد طلبناه فلم نجده.

فقال: مساكين، وحرّك يديه، قال: فأعاد عليه، قال: اطلُب واجهد، فإنْ قدرت عليه وإلّا فهو كسبيل مالك، حتّى يجيء له طالب، فإن حَدَث بك حدث فأوصِ به إن جاء له طالبٌ أن يُدفع إليه»(1).

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه ضعيف السند، لأنّ الهيثم مهمل مجهول، مع أنّ الظاهر منه إرادة ما قبل الفحص واليأس عن الظفر بالمالك.

وأمّا أخبار هشام فيرد عليها:

أوّلاً: أنّه لا يبعد اتّحاد الأولين، وعليه فهي رواية مضطربة المتن، إذ في الأوّل أمر عليه السلام أوّلاً بالدفع إلى المساكين، ثمّ قال عليه السلام: «وإلّا فهو كسبيل مالك».

وثانياً: إنّ قوله عليه السلام: «كسبيل مالك» مجملٌ يحتمل:

أن يراد به لزوم الإمساك والحفظ، أي تتحفّظ عليه في ضمن أموالك.

ويحتمل أن يراد به التملّك بالملكيّة المتزلزلة، غير المنافية لوجوب الدفع إنْ جاء له طالب.3.

ص: 180


1- وسائل الشيعة: ج 26/296-297 ب 6 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ح 1 رقم 33030، الاستبصار: ج 4/197 ب 114 ح 3.

وثالثاً: أنّها ظاهرة في موت الأجير، وعدم وجود وارثٍ له، فيكون المال له عليه السلام، ويمكن أن يكون المراد به: اطلب مالكه الذي هو عليه السلام، ولا يبين له للتقيّة.

ورابعاً: أنّ موردها الدَّين، وهو ليس في معرض التلف، ومحلّ الكلام العين الخارجيّة.

وخامساً: أنّ موردها معلوم المالك الذي لا يمكن الوصول إليه، فلا مساس لها بمجهول المالك.

الوجه الخامس: لزوم التصدّق به، وتدلّ عليه جملة من النصوص:

منها: خبر علي ابن أبي حمزة، الوارد في عامل بني اُميّة، وفيه: «فاخرج من جميع ما اكتسبتَ من ديوانهم، فمن عرفتَ منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت له، وأنا أضمن لك على اللّه عزّ وجلّ الجنّة»(1).

ومنها: خبر علي بن ميمون الصائغ، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عمّا يكنس من التراب فابيعه فما أصنع به ؟ قال عليه السلام: تصدّق به، فأمّا لك وأمّا لأهله»(2).

ونحوه خبره الآخر(3).

ومنها: خبر أبي علي بن راشد، عن أبي الحسن عليه السلام، قلت:

«جُعِلت فداك! اشتريت أرضاً إلى جنب ضيعتي بألفي درهم، فلمّا وفيتُ المال خُبّرت أنّ الأرض وقف ؟

فقال عليه السلام: لا يجوز شراء الوقف، ولا تدخل الغِلّة في مالك، وادفعها إلى من وقفت عليه.2.

ص: 181


1- وسائل الشيعة: ج 17/199-200 ب 47 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22343، الكافي: ج 5/106 ح 4.
2- وسائل الشيعة: ج 202/18 ب 16 من أبواب الصرف ح 1 رقم 23493، الكافي: ج 5/250 ح 24.
3- وسائل الشيعة: ج 18/202 ب 16 من أبواب الصرف ح 2 رقم 23494، التهذيب: ج 6/383 ح 252.

قلت: لا أعرف لها ربّاً، قال: تصدّق بغلّتها»(1).

ومنها: حسن محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجلٍ ترك غلاماً له في كَرْم له يبيعه عنباً أو عصيراً، فانطلق الغلام فعصر خمراً ثمّ باعه ؟

قال: لا يصلح ثمنه - إلى أنْ قال - إنّ أفضل خصال هذه التي باعها الغلام أن يتصدّق بثمنها»(2).

ومنها: مصحّح يونس الوارد في من بقى بعض متاع رفيقه، ولا يعرف صاحبه، فقال له عليه السلام: «بعه واعط ثمنه أصحابك، قلتُ : جُعِلت فداك أهل الولاية ؟ قال: نعم»(3).

إلى غير ذلك من النصوص الورادة في الموارد الخاصّة.

ودعوى السيّد في الحاشية:(4) من أنّ صحيح معاوية، عن مولانا الصادق عليه السلام:

«في رجلٍ كان له على رجلٍ حقٌّ ففقده، ولا يدري أين يطلبه، ولا يدري أحيٌّ هو أم ميّت، ولا يعرف له وارثاً ولا نسباً ولا ولداً؟

قال عليه السلام: اطلب، قال: فإنّ ذلك قد طال فأتصدّق به ؟ قال عليه السلام: اطلبه»(5). يدلّ على عدم جواز التصدّق، فيعارض النصوص المتقدّمة.

صحيحة: إذ الخبر إنّما يدلّ على أنّه لا يتصدّق ما دام يكون مأموراً بالفحص والطلب، أي ما دام لم ييأس من الظفر بمالكه، وقد عرفت أنّه يدلّ على ذلك غير5.

ص: 182


1- وسائل الشيعة: ج 17/364 ب 17 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 1 رقم 22757، التهذيب: ج 9/130 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 17/223 ب 55 من أبواب ما يكتسب به ح 1 رقم 22383، التهذيب: ج 7/136 ح 72.
3- وسائل الشيعة: ج 25/450-451 ب 7 من أبواب اللّقطة ح 2 رقم 32332، الكافي: ج 5/309 ح 22.
4- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/38.
5- وسائل الشيعة: ج 297/26 ب 6 من أبواب ميراث الخنثى وما أشبهه ح 2 رقم 33031، التهذيب: ج 389/9 ح 5.

هذا الصحيح أيضاً، وبها يقيّد إطلاق هذه النصوص، وتختصّ هذه بما إذا يئس عن الظفر بمالكه، بل يستفاد منه أنّ وجوب التصدّق به كان مغروساً في ذهن السائل، وإنّما سأل عن أنّ تأثير طول المدّة في سقوط الطلب وعدمه ؟ فأجابه عليه السلام بعدم موجبيّته له.

أقول: وبما ذكرناه ظهر مدرك القول بالتخيير بين التصدّق والإمساك الذي اختاره السيّد رحمه الله(1)، والقول بالتخيير بينهما وبين التملّك والجواب عنهما، إذ لا منشأ لهما سوى أنّ ذلك مقتضى الجمع بين النصوص، وحيث عرفت عدم دلالة ما استدلّ به على التملّك والإمساك عليهما، يصبح المتعيّن هو التصدّق خاصّة.

المورد الرابع: فى بيان تعيين من له ولاية الصرف بعد ملاحظة النصوص الخاصّة.

أقول: والأقوال في ذلك أربعة:

الأوّل: أنّها للحاكم مطلقاً.

الثاني: أنّها لمن وضع يده على المال.

الثالث: ثبوت الولاية لكلٍّ منهما.

الرابع: التفصيل بين الدين والعين، فتكون الولاية للحاكم في الأوّل وللأخذ في الثاني.

استدلّ للأوّل:

1 - بأنّ النصوص الآمرة بالتصدّق واردة في بيان المصرف، ولا تكون متعرّضة لحكم مباشرة التصدّق، فيتولّاه الحاكم ولاية.8.

ص: 183


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/38.

2 - وبأنّها وإن تضمّنت الإذن في مباشرة الآخذ للتصدّق، إلّاأنّ الظاهر منها - ولا أقلّ من المحتمل - أنّه إذنٌ منه عليه السلام للسائل بمباشره التصدّق بالولايه الشرعيّة، لا أنّه بيانٌ للحكم الشرعي من هذه الجهة، فيتولّاه الحاكم حِسبة.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ النصوص كالصريحة في الأمر بمباشرة التصدّق.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر من كلمات الشارع الأقدس وخلفائه المعصومين عليهم السلام الواردة فى مقام الجواب عن السؤال عن الوظائف الشرعيّة، هو ورودها لبيان الحكم الشرعي، فظاهر النصوص هو بيان الحكم الشرعى حتّي من حيث مباشرة التصدّق.

وبذلك ظهر مدرك القول الثاني.

واستدلّ للقول الثالث بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ ذلك مقتضى الجمع بين هذه النصوص، وبين ما دلَّ على ولاية الحاكم الشرعي على الغائب.

الوجه الثاني: أنّ للحاكم ولاية على مستحقّي الصدقة، فكما يجوز الدفع إليهم أنفسهم، كذلك يجوز الدفع إلى وليّهم.

الوجه الثالث: أنّ الحاكم أعرف بمواقعها ممّن وضع يده عليها.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ ولاية الحاكم إنّما تكون من باب الحِسبة، ولم تثبت ولايته على الغائب من غير هذه الجهة، وعليه فلابدَّ من الاقتصار على المتيقّن، وهو ما إذا لم يكن له وليٌّ آخر، وحيث أنّ مقتضى النصوص المتقدّمة ثبوت الولاية للآخذ، فلا

ص: 184

يبقى مورد لولاية الحاكم.

وأمّا الثاني: - مضافاً إلى عدم ولايته على المستحقّين بعد كونهم ممّن يمكن الوصول إليه - إنّ مقتضى إطلاق نصوص الباب، عدم ثبوت الولاية له.

وأمّا الثالث: فلأنّ مقتضاه أنّ تعيين مصرف مجهول المالك ليس من وظيفة الجاهل، بل هو وظيفة العالم، وهذا أمرٌ لا يُنكر، وأمّا بعد الرجوع إليه وتعيينه المصرف، فهل يجب أو يجوز الدفع إليه أم لا؟ فهذا الوجه لا يدلّ على شيء منها.

واستدلّ للقول الرابع: بأنّ الكلّي لا يتشخَّص للغريم إلّابقبض الحاكم الذي هو وليّه، وهذا بخلاف العين الخارجيّة فإنّها متعيّنة في نفسها.

وفيه: إنّ مقتضى النصوص المتقدّمة ثبوت الولاية للآخذ مطلقاً.

فتحصّل: أنّ الأقوى عدم اعتبار إجازة الحاكم في صرف مجهول المالك، وأنّه لا يجب بل لا يجوز الدفع إليه إلّابعنوان توكيله في إيصاله إلى موارده، نعم الأحوط اختيار أحد الأمرين للقول بوجوبه.

أقول: صرّح جماعة(1) منهم المحقّق(2) بأنّ حكم تعذّر الإيصال إلى المالك المعلوم تفصيلاً حكم جهالة المالك، وتردّده بين غير محصورين.

ويشهد به: أنّ المستفاد من النصوص المتقدّمة الآمرة بالتصدّق بمجهول المالك، هو أنّ الموجب لذلك ومناطه هو تعذّر الإيصال إلى المالك، وعليه فلا فرق بين أن يكون المالك مجهولاً بقول مطلق، وبين كونه مردّداً بين أشخاص غير محصورين، وبين كونه معلوماً يتعذّر الوصول إليه.6.

ص: 185


1- تحرير الأحكام: ج 2/271، رياض المسائل: ج 8/104، المكاسب: ج 2/193.
2- شرائع الإسلام: ج 2/266.

تنبيهات:

التنبيه الأوّل: إنّ هذا الحكم - أي التصدّق - إنّما يتعيّن ما لم يُحرز رضا صاحب المال بصرفه في جهة خاصّة، وإلّا فلا ريب في عدم وصول الدور إلى التصدّق، بل يُصرف فيما أحرز رضا صاحبه بصرفه فيه، وعليه فيخرج سهم الإمام عليه السلام عن موضوع هذا المبحث للعلم برضاه عليه السلام بصرف سهمه في تشييد أركان الدِّين وإعلاء كلمة الإسلام، ومن ذلك إعطائه لطلّاب العلم.

التنبيه الثاني: الظاهر من بعض المحقّقين رحمه الله(1) أنّه ينوي الصدقة عن المالك، ولكن مقتضى إطلاق الأخبار عدم تعيّن نيّة ذلك، وعلى فرض اعتبارها لا يلزم أن ينوي كونها عنه لو أجاز بعد تبيّنه، وعن نفسه إن ردّها، بل ينوي عن المالك، والنص دلَّ على أنّها تُحسب له إنْ ردّها.

التنبيه الثالث: ظاهر خبري ابن ميمون جواز أن يبيع المال ويتصدّق بثمنه، ولكن الأحوط لزوماً إعطاء نفس العين، لضعف الخبرين سنداً، فالبيع تصرّف لم يؤذن فيه.

التنبيه الرابع: إذا مات المالك:

1 - فإنْ عَلم بوجود الوارث له يتصدّق عنه.

2 - وإنْ علم بعدم وجوده، يكون المال للإمام، لأنّه وارثُ من لا وارث له.

3 - وإنْ شكّ في وجود الوارث حتّى الأب والاُمّ ، فيلحقه حكم مجهول المالك لإطلاق الأخبار.9.

ص: 186


1- مجمع الفائدة: ج 9/89.

4 - وإنْ شكّ في وجوده مع العلم بموت أبيه واُمّه:

فهل يلحقه حكم مجهول المالك لإطلاق الأخبار؟

أم حكم ميراث من لا وارث له، لأصالة عدم وارث آخر، والمفروض أنّ الحكم معلّق على عدم الوارث ؟ وجهان: أقواهما الثاني.

أقول: ثمّ إنّ مستحق هذه الصدقة هو الفقير، ويشهد له - مضافاً إلى ما أفاده الشيخ رحمه الله(1) من أنّ المتبادر من إطلاق الأمر بالتصدّق هو الدفع إلى الفقير - قوله تعالى : (إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ ) (2)، وجملةٌ من النصوص.

أمّا الأغنياء: فقد ذهب صاحب «الجواهر»(3) إلى أنّه يجوز إعطاء هذه الصدقة للأغنياء أيضاً، عملاً بإطلاق النصوص، لكن ثبت ضعفه ممّا ذكر.

وأضعف منه ما ابتنى عليه من جواز إعطاء مال الإمام عليه السلام للأغنياء، بدعوى أنّ المالك وإنْ كان معلوماً، إلّاأنّه لتعذّر الوصول إليه يتصدّق عنه، لما عرفت من أنّ سهم الإمام خارجٌ عن هذا المبحث موضوعاً.

أمّا الهاشمي: ففي جواز إعطائها للهاشمي قولان.

وقد استدلّ على عدم الجواز في مقابل المطلقات المقتضية للجواز: بأنّها صدقة واجبة، فإذا كانت من غير هاشمي حرمت على الهاشمي، لما دلَّ على أنّ الصدقة الواجبة محرّمة على الهاشمي إذا كانت عن غير الهاشمي، كخبر جعفر بن إبراهيم الهاشمي، عن مولانا الصادق عليه السلام، قلت له: «أتحلّ الصدقة لبني هاشم ؟2.

ص: 187


1- المكاسب: ج 2/193-194.
2- سورة التوبة: الآية 60.
3- جواهر الكلام: ج 24/52.

فقال عليه السلام: إنّما الصدقة الواجبة على النّاس لا تحلّ لنا، فأمّا غير ذلك فليس به بأس... إلى آخره»(1).

وفيه أوّلاً: أنّ الأظهر تبعاً لجمع من الأساطين - كالسيّد(2) والشيخ(3)والعلّامة(4) والمحقّق(5) وغيرهم(6) - حليّة الصدقات الواجبة(7) غير الزّكاة على الهاشمي.

وتشهد له: جملة من النصوص المفسّرة للصدقة الواجبة المحرّمة على بني هاشم: كخبر إسماعيل بن الفضل، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن الصدقة التي حُرّمت على بني هاشم ما هي ؟ فقال عليه السلام: هي الزكاة»(8).

ونحوه خبر زيد الشحّام(9).

وثانياً: أنّه لو سُلّم حرمة الصدقات الواجبة على الهاشمي مطلقاً، لا يجري هذا الحكم في المقام، إذ الصدقة لا تكون واجبة بعنوانها في المقام، بل تكون واجبة من3.

ص: 188


1- وسائل الشيعة: ج 9/272-273 ب 31 من أبواب المستحقّين للزكاة ح 3 رقم 12002، التهذيب: ج 4/62 ب 15 ح 13.
2- قال السيّد في الانتصار: ص 222: (ممّا انفردت به الإماميّة القول بأنّ الصدقة إنّما تحرم على بني هاشم... الخ).
3- قال الشيخ في المبسوط المبسوط: ج 1/259، و ج 3/302: (تحرم الصدقة المفروضة على بني هاشم... دليلنا إجماع الفرقة المحقّة.. الخ).
4- القواعد: ج 2/404.
5- قال المحقّق في الشرائع الشرائع: ج 2/454: (والصدقة المفروضة محرّمة على بني هاشم... الخ).
6- مسالك الأفهام: ج 5/410، الحدائق: ج 22/270، مستند الشيعة: ج 9/321.
7- قال السيّد في الحاشية: ج 1/38: (بناء على القول بعدم حليّة الصدقات الواجبة غير الزكاة أيضاً على الهاشمي كما عليه جماعة كالسيّد والشيخ و... الخ).
8- وسائل الشيعة: ج 9/274-275 ب 32 من أبواب المستحقّين للزكاة ح 5 رقم 12007، الكافي: ج 59/4 ح 5.
9- وسائل الشيعة: ج 9/274 ب 32 من أبواب المستحقّين للزكاة ح 4 رقم 12006، الاستبصار: ج 2/35 ح 3.

جهة انطباق عنوان عَرَضي عليها، نظير ما لو نذر أن يتصدّق يوم الجمعة بدرهم.

وإنْ شئت قلت: إنّها صدقة مندوبة عن المالك، وإنْ وجبت على من تحت يده، فهو نظير ما لو آجر زيدٌ شخصاً ووكله في أن يتصدّق عنه.

وعليه، فالأظهر جواز إعطائها للهاشمي.

هذا إذا كانت الصدقة لغير الهاشمي، وإلّا فلا كلام في الجواز.

***

ص: 189

التصدّق بمجهول المالك لا يوجب الضمان

أقول: في ضمان من تصدّق بمجهول المالك لو ظهر مالكه بعد التصدّق، ولم يرض به، وجوهاً وأقوالاً:

الأوّل: الضمان مطلقاً.

الثاني: عدمه كذلك.

الثالث: التفصيل بين ما إذا كان المال مسبوقاً باليد العادية فيحكم بالضمان، وبين عدمه فيحكم بعدمه.

وتنقيح القول في المقام يقتضي البحث في مقامات:

الأوّل: فيما يستفاد من النصوص الخاصّة.

الثاني: في مفاد الأدلّة الاجتهاديّة العامّة.

الثالث: في ما تقتضيه الأُصول العمليّة.

أمّا المقام الأوّل: فالظاهر أنّها تقتضي عدم الضمان مطلقاً، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ خبر علي بن أبي حمزة الوارد في قصّة عامل بني اُميّة المتقدّم كالصريح في ذلك، إذ العامل قد طلب من الإمام الصادق عليه السلام المَخرج عمّا أخذه من أموال النّاس، فأجابه عليه السلام بالتصدّق بما تحت يده إنْ لم يعرف صاحبه، وضمانه له عليه السلام بذلك الجنّة كالصريح في عدم الضمان، إذ لو كان التصدّق، موجباً للضمان لما جعله عليه السلام مخرجاً له.

الوجه الثاني: إطلاق النصوص الآمرة بالتصدّق:

ص: 190

لا بدعوى أنّ الإذن في التصدّق بما هو مسقطٌ له، إلّاأن يعلم أنّه على وجه الضمان، كي يرد عليه بأنّ مطلق الإذن لا حُكم له، بل الضمان معلّقٌ على كون الآذن ضمانيّاً، وعدمه على كونه مجانيّاً.

وبعبارة أُخرى: الرافع للضمان هو إسقاط الاحترام الذي لا يصدق إلّامع الإذن المجّاني.

ولا بدعوى أنّ المستفاد من النصوص بدليّة يد الفقير من يد المالك، ليكون الواقع في يد الفقير كالواقع في يد المالك.

بل لأنّ الظاهر ورودها في مقام بيان كلّ حكمٍ متعلّق بالمال المجهول مالكه، إذ السائل إنّما كان يسأل عمّا هو وظيفته الشرعيّة بالنسبة إلى ذلك المال، فجوابه عليه السلام بالأمر بالتصدّق والسكوت عن الضمان يكون دالّاً على عدمه.

أقول: وقد استدلّ للضمان في مقابل ذلك بوجوه:

منها: أنّ المرسلة التي تقدّم ذكرها وهي ما عن «السرائر»(1) روي: «أنّه بمنزلة اللّقطة» تدلّ عليه.

ومنها: استفادة ذلك من خبر إيداع اللّص المال المسروق المتقدّم.

ومنها: استفادته من النصوص الواردة في اللُّقطة.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه - مضافاً إلى إرسالها - لم يثبت كونها غير خبر إيداع اللّص، كما اعترف بذلك الشيخ رحمه الله(2) فيما تقدّم.8.

ص: 191


1- السرائر: ج 2/204.
2- راجع المكاسب: ج 2/188.

وأمّا الثاني: فلما تقدّم من عدم إمكان التعدّي عن مورده، وما ذكره الشيخ رحمه الله(1)في المقام في وجه التعدّي من أنّه يستفاد منه أنّ التصدّق على هذا الوجه حكم اليأس عن المالك، قد مرّ الجواب عنه. فراجع(2).

وأمّا الثالث: فلأنّ التعدّي عن نصوص اللُّقطة، يتوقّف على إحراز عدم الخصوصيّة، وهو كما ترى ، كيف ويجوز تملك اللُّقطة ولا يجوز ذلك في المقام.

فتحصّل: أنّه بحسب النصوص الخاصّة الأظهر هو عدم الضمان مطلقاً، وعلى ذلك فلا يبقى مجالٌ للبحث في المقامين الآخرين، وإنّما يقع البحث عنهما على فرض التنزّل وعدم استفادة ذلك من النصوص.

وأمّا المقام الثاني: فملخّص القول فيه:

إنّ دليل الضمان أحد أُمور ثلاثة: قاعدة اليد، وقاعدة الإتلاف، والدليل الخاص.

أمّا الأخير: فمفروض العدم في المقام.

وأمّا قاعدة الإتلاف: فحيثُ لا كلام في أنّ التصدّق حين وقوعه لا يقع عن المتصدّق، لعدم نفوذ الصدقة بمال الغير، إذ لا صدقة إلّافي ملك، وكذلك لا كلام في أنّ التصدّق لا يكون مراعى كالفضولي، إذ لم يقل أحدٌ برجوع المالك على الفقير، وعدم جواز تصرف الفقير فيه، فلا محالة يقع التصدّق عن المالك، ويعود نفعه إليه.

وبالجملة: يمكن دعوى عدم شمول القاعدة للمقام بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه لو كانت القاعدة شاملة له، لزم القول بثبوت بدله في ذمّة المتصدّق، وحيث أنّه أيضاً مجهول المالك لزم التصدّق به، وهكذا فيلزم التسلسل،د.

ص: 192


1- المكاسب: ج 2/188.
2- صفحة 165 من هذا المجلّد.

فيستكشف من ذلك عدم الضمان بالصدقة.

الوجه الثاني: إنّ مقتضى قوله تعالى : (ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (1) التي حكّموها على قاعدة اليد هو عدم الضمان، تكون متقدّمة على قاعدة الإتلاف.

أمّا الشيخ رحمه الله:(2) فقد ذكر في وجه عدم شمولها للمقام أمرين:

الأمر الأوّل: الظاهر من دليل الإتلاف هو الإتلاف على المالك، لا الإتلاف له والإحسان إليه، واستجوده السيّد رحمه الله في «الحاشية»(3) وتبعهما الأستاذ الأعظم(4).

وفيه: أنّه لا وجه لهذا الاستظهار، بعد عموم الدليل، سويدعوى الانصراف، وهو لو سُلّم بدوي يزول ولا يمكن الاعتماد عليه، ألا ترى إفتاء الفقهاء بضمان من قدّم طعام المالك إلى نفسه فأكله من غير اطلاع منه بأنّه طعامه.

الأمر الثاني: الظاهر من دليل الإتلاف كونه علّة تامّة للضمان، وليس كذلك فيما نحن فيه، لما تسالم الفقهاء عليه من أنّه لو رضي المالك بالتصدّق، فإنّه لا ضمان عليه، فلا محالة على فرض الضمان، يكون الإتلاف جزء العلّة، وجزئها الآخر رَدّ المالك أو عدم إجازته، فهو لا يشمل المقام.

وفيه: إنّه مع قطع النظر عمّا ذكرناه، إذ احتملنا ثبوت الضمان من حين التصدّق على تقدير الرّد أو عدم الإجازة، يكون العموم المذكور دليلاً عليه، ويثبت به الضمان على هذا التقدير من حين التصدّق، لا من حين الرّد، كي يرد المحذور المتقدّم،4.

ص: 193


1- سورة التوبة: الآية 91.
2- المكاسب: ج 2/194-195.
3- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/63.
4- مصباح الفقاهة: ج 1/804.

مع أنّ مقتضى العموم المزبور ثبوت الضمان من حين الإتلاف، وفي المقام إذا ثبت عدم الضمان إلى حين الرّد، يكون ذلك مخصّصاً له بالنسبة إلى هذه القطعة من الزمان، وأمّا بعدها فلا مانع من التمسّك به.

أقول: أفاد بعض مشايخنا المحقّقين رحمه الله في وجه عدم شمول القاعدة للمقام، بأنّ الإتلاف ظاهرٌ في إتلاف الذّات، والتصدّق بالمال إتلافٌ لوصف ماليّته، ولا ينصرف إليه إطلاق الإتلاف، بل خلاف ظاهره.

وفيه: أنّ الإتلاف ليس إلّاإخلاء كيس المالك منه، الصادق في المقام.

وعليه، فالصحيح هو ماذكرناه.

وأمّا قاعدة اليد: ففيما إذا كانت يد المتصدّق يد أمانة مالكيّة أو شرعيّة لا مورد لها أصلاً، كما لا يخفى ، وأمّا إذا كانت مسبوقة بالضمان، فإنّه يشهد لعدم شمولها للمقام الوجه الأوّل الذي ذكرناه في قاعدة الإتلاف.

ودعوى بعض المحقّقين رحمه الله(1): من أنّه يدلّ على عدم الضمان عموم (ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (2) بدعوى أنّ المتصدّق في تصدّقه محسنٌ إلى المالك، لأنّ نفعه راجع إليه.

فقد تقدّم الجواب عنها مفصّلاً، وعرفت أنّ الآية إنّما تدلّ على أنّه لا مقتضى لضمان المحسن، وقاعدة اليد تدلّ على ثبوت المقتضى له ما لم يتحقّق الأداء إلى المالك، ومن البديهي أنّ ما لا اقتضاء له لا يزاحم ما له الاقتضاء.

فتحصّل: أنّه بحسب القواعد لا يمكن إثبات الضمان في المقام، مع أنّه لو سُلّم1.

ص: 194


1- راجع رياض المسائل (ط ق): ج 2/330.
2- سورة التوبة: الآية 91.

إثباته بها يتعيّن الخروج عنها بالأدلّة الخاصّة الواردة في المقام، الدالّة على عدم الضمان كما عرفت.

وأمّا المقام الثالث: فإنْ كانت اليد الموضوعة على مجهول المالك ابتداءا يد أمانيّة، جرى استصحاب عدم الضمان، لأنّه يشكّ في حدوث الضمان به، فيجري استصحاب عدمه، وإنْ كانت يده مسبوقة بالضمان.

فإنْ قلنا: إنّ حقيقة الضمان هي اشتغال الذمّة بالبدل بعد التلف، وأمّا حال قيام العين فلا تكليف إلّابأداء نفس العين، فمقتضى الاستصحاب أيضاً عدم الضمان، لأنّه يشكّ في اشتغال الذمّة بالبدل بالتصدّق، فيستصحب عدمه، وكون اليد يد ضمان قبل التصدّق، بمعنى اشتغال الذمّة بالبدل على تقدير التلف بغير الصدقة، لا يكفي في استصحاب الضمان، وإثبات اشتغال الذمّة بالبدل على تقدير التلف بالصدقة، لأنّه من قبيل إسراء الحكم من موضوعٍ إلى آخر، وليس هذا شأن الاستصحاب.

وأمّا إنْ قلنا: بأنّ حقيقة الضمان هي كون العين في العهدة إلى حين ردها أو بدلها، كما هو الصحيح، فيجري في هذه الصورة استصحاب الضمان، لأنّ الشكّ حينئذٍ يكون في سقوطه بالتصدّق. وعلى ذلك فإنْ ثبتَ عدم الفصل بين الصورتين، تعارض الاستصحابان، والمرجع حينئذٍ إلى البراءة.

وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات الشيخ رحمه الله(1) في هذا المقام.

أقول: ثمّ على القول بأنّه يوجبُ الضمان:5.

ص: 195


1- المكاسب: ج 2/195.

هل يثبت الضمان بمجرّد التصدّق وتكون إجازته رافعة ؟

أو يثبت بالرّد من حينه، أو من حين التصدّق ؟

وقبل الدخول في البحث لابدَّ وأن يُعلم أنّه بناءً على ما لعلّه الحقّ من أنّ العين بنفسها تستقرّ في الذمّة والعهدة إلى حين الأداء، وإنْ تلفت قبله، لا مجال لهذا البحث، لعدم ترتّب ثمرة عليه، إذ على جميع الوجوه يجب أداء قيمة يوم الأداء، لا قيمة يوم الأخذ، ولا قيمة يوم التصدّق، ولا قيمة يوم الرّد، ولا غير ذلك من المحتملات، فالثمرة لهذا البحث تظهر بناءً على أنّه بتلف العين ينتقل بدلها من المثل أو القيمة إلى الذمّة.

فإنّه على القول بالضمان من حين التصدّق، يجب اداء قيمة ذلك اليوم، وعلى القول بالضمان يجب من حين الرّد أداء قيمة يوم التغريم.

أمّا الشيخ رحمه الله(1): فقد ذكر وجوهاً ثلاثة في المسألة:

1 - الضمان بالتصدّق.

2 - والضمان بالرّد من حينه.

3 - والضمان بالرّد من حين التصدّق.

واستدلّ للأوّل: بدليل الإتلاف والاستصحاب، والظاهر أنّ مراده بالاستصحاب استصحاب بقاء ضمان اليد فيما إذا كانت يد ضمان الذي استدلّ به سابقاً، فإنّ مقتضى استمرار الضمان - مع فرض خروج العين بالتصدّق عن كيس المالك وتلفها عليه - اشتغال الذمّة بالبدل من حينه.6.

ص: 196


1- المكاسب: ج 2/196.

ويرد على الأوّل: ما عرفت من أنّه على فرض شمول دليل الإتلاف للمقام، يمكن الالتزام بكونه سبباً للضمان من حين الرّد، لاحظ ما أوردناه على الوجه الثاني من الوجهين الذين ذكرهما لعدم شموله للمقام.

ويرد على الثاني: ما ستعرف عند بيان ما هو الحقّ عندنا.

واستدلّ للثاني(1): بأصالة عدم الضمان قبل الرّد، والظاهر أنّ مراده بها أصالة البراءة عن الضمان التي أشار إليها آنفاً.

واستدلّ للقول الثالث (2) : بظاهر خبر الوَدَعي.

تقريب الاستدلال به: أنّه لا ريب في ظهوره في أنّ الأجر على تقدير اختياره إنّما يثبت من حين التصدّق، فبقرينة المقابلة يُستكشف منه ثبوت الغُرم أيضاً كذلك.

وفيه: ما ستعرف من ثبوت الأجر له على كلّ تقدير، من حين التصدّق إلى حين الرّد. فانتظر.

والحقّ في المقام أنْ يقال: إنّه بناءً على القول بالضمان لا ريب في أنّ الصدقة حين وقوعها تقع عن المالك كما تقدّم، ويقع الأجر له، وليس ذلك مراعى بالإجازة وعدم الرّد، وإلّا لزم عدم ثبوت الأجر له إذا لم يظهر المالك، وهو خلاف النص والفتوى، ومع ثبوت الأجر له لا معنى للضمان، ولذا لو ردّ وبنينا على الضمان، يكون الأجر للمتصدّق، مع أنّ ثبوت الضمان من حين التصدّق، وكون الإجازة وعدم الرّد رافعة له، مضافاً إلى ورود المحذور العقلي المتقدّم عليه، من لزوم التسلسل، الذي لازمه اشتغال ذمّة المتصدّق واقعاً لو لم يظهر المالك، ويترتّب عليه ما يترتّب على6.

ص: 197


1- المكاسب: ج 2/196.
2- المكاسب: ج 2/196.

سائر ديونه، وهو مقطوع العدم.

وعليه، فالأظهر على القول بالضمان ثبوته من حين الرّد.

بقي في المقام فروع:

الفرع الأوّل: في أنّه لو مات المالك، فهل يقوم وارثه مقامه أم لا؟

أقول: تحقيق القول في المقام أنّه:

تارةً : يكون موت المالك قبل التصدّق.

وأُخرى : يكون بعده.

فإنْ كان قبله لا ينبغي التأمّل في قيام وارثه مقامه، لأنّه حين التصدّق كان مالكاً لا مورّثه.

وإنْ كان بعده:

فإنْ قلنا بثبوت الضمان في الفرع السابق من حين التصدّق والإجازة رافعة له، فإنّه لا محالة يقوم الوارث مقامه، لأنّه حينئذٍ من قبيل سائر الديون.

وأمّا إنْ قلنا بعدم ثبوت الضمان الا بالرد، فالظاهر أنّه لا يقوم مقامه، إذ الوارث لا يكون مالكاً حتّى يثبت له هذا الحقّ .

ودعوى: أنّ هذا الحقّ الثابت للمورث بنفسه ينتقل إلى الوارث(1).

مندفعة: بأنّ من الحقوق ما يكون قائماً بالشخص، ولا يقبل الانتقال، وهو لا يكون متروكاً بعد الموت، بل به ينعدم، فلا شيء حتّى يكون لوارثه، وإنْ شئتَ فعبّر عنه بالحكم، وحيث أنّه من المحتمل كون هذا الحقّ من قبيل ذلك، فلا دليل على6.

ص: 198


1- راجع المكاسب: ج 2/196.

ثبوته للوارث.

أقول: وبما ذكرناه ظهر ما في كلمات الشيخ رحمه الله(1).

الفرع الثاني: لو مات المتصدّق وردّ المالك، فهل تخرج الغرامة من ماله أم لا؟

أقول: خروج الغرامة من ماله يبتني على القول بضمانه من حين التصدّق، حيث يصبح مديوناً، فيخرج دينه من ماله، وأمّا على القول بضمانه من حين الرّد، فحيث أنّه يحتمل كون ذلك من قبيل الأحكام دون الحقوق القابلة للانتقال، فلا وجه للتعدّي عن المتصدّق إلى ورثته، كما لا يتعدّى من المالك إلى ورثته كما عرفت.

وبذلك ظهر أنّه لا وجه لاستظهار الشيخ رحمه الله(2) إخراج الغرامة من تركته، مع تردّده في المسألة السابقة.

الفرع الثالث: في حكم ما لو دفعه إلى الحاكم، فتصدّق به بعد اليأس، فهل هو ضامنٌ أم لا؟.

أقول: الظاهر أنّه إنْ بنينا على ثبوت الولاية للحاكم على الغائب، ومن بحكمه من الحاضر غير المعروف بعينه، فإنّه لو دفع من وضع يده على مجهول المالك إلى الحاكم، لا يكون ضامناً، وإنْ لم يقصد الدفع إليه بعنوان أنّه وليّ ، إذ دفع مال المولّى عليه إلى وليّه يوجبُ سقوط الضمان بالضرورة وإنْ لم يقصد ذلك.

وإنْ بنينا على عدم ثبوت الولاية له، كما هو الأظهر، لعدم الدليل عليه، فالدفع إليه لا يوجب رفع الضمان، كما تقدّم.

هذا بالنسبة إلى الدافع.6.

ص: 199


1- المكاسب: ج 2/196.
2- المكاسب: ج 2/196.

وأمّا الحاكم: فإنْ تصدّق بالمال، ثمّ ظهر المالك، ولم يرض به، وبنينا على ثبوت الضمان إذا باشر الدافع إليه التصدّق، يكون هو أيضاً ضامناً إنْ كان مكلّفاً بالتصدّق نفسه، وإنْ كان وكيلاً في الدفع إلى الفقراء، يكون الضامن هو الموكل كما لا يخفى .

وأيضاً: إن صار الحاكم ضامناً، هل يدفع البدل من بيت المال، كما عن الأستاذ الأعظم(1)، لما دلَّ على أنّ ما أخطأت القضاة فهو من بيت المال، أم يدفعه الحاكم من مال نفسه ؟

وجهان، أقواهما الثاني، لأنّ دليل ما أخطأت القضاة لا يشمل مثل المقام ممّا يكون التصدّق لا بما هو حاكمٌ بل من جهة أنّ في يده مجهول المالك.

***0.

ص: 200


1- مصباح الفقاهة: ج 1/810.

العلم باشتمال الجائزة على الحرام

الصورة الرابعة: ما لو علم اشتمال الجائزة على الحرام.

أقول: ومحصّل القول فيها إنّ الاشتباه:

تارةً : يكون موجباً لحصول الإشاعة كخلط السَّمن بالسَّمن.

وأُخرى: لا يكون موجباً لذلك، كما إذا أجازه الظالم فراشين علم أنّ أحدهما له والآخر غصب.

أمّا في المورد الأوّل:

1 - فقد يكون المالك ومقدار الحرام معلومين.

2 - وقد يكونا مجهولين.

3 - وقد يكون المقدار معلوماً والمالك مجهولاً.

4 - وقد يكون بعكس ذلك.

قال الشيخ رحمه الله(1): وعلى الأوّل فلا إشكال.

أقول: إنّ الخلط على قسمين:

تارةً : يكون الخَلط على نحو الإشاعة الواقعيّة، كما إذا أعطاه الجائر مالاً مشتركاً بينه وبين غيره من دون إذنٍ من ذلك الغير، وجب عليه دفع حصّة الغير إليه.

وأُخرى : يكون على وجه الامتزاج الموجب للإشاعة الظاهريّة، وجب عليه حينئذٍ دفع ما يعادل حصّته من المجموع.

ص: 201


1- المكاسب: ج 2/197.

هذا إذا لم يكن على وجه الاستهلاك.

وإنْ كان على ذلك الوجه:

1 - فإنْ لم تكن الماليّة باقية أيضاً، لا يكون عليه ضمانٌ إنْ لم يكن بفعله.

2 - وإنْ كان بفعله ضَمن قيمة التالف.

وأيضاً: إنْ كانت الماليّة باقية:

1 - فهل يكون ذلك موجباً للشركة في العين ؟

2 - أم يجب دفع قيمة ماله الذي يعتبر موجوداً بماليّته، وإنْ لم يكن موجوداً بعينه ؟ وجهان:

وعلى الثاني: - وهو ما إذا كان المالك والمقدار مجهولين - فالمشهور بين الأصحاب(1) إخراج الخمس.

وعن العُمّاني(2)، والإسكافي، والمفيد(3)، وسلّار(4)، وسيّد «المدارك»(5)وغيرهم(6): عدم الوجوب، وعدم حليّته بالتخميس.

والمحقّق الهمداني رحمه الله(7) قوّى التخيير بين التخميس، وبين التصدّق بجميع ما فيه7.

ص: 202


1- النهاية: ص 357-358، السرائر: ج 2/20، منتهى المطلب (ط ق): ج 2/1025، تحرير الأحكام: ج 2/271، بل عن الغنية الإجماع على ذلك، غنية النزوع في الخمس ص 129.
2- مفتاح الكرامة: ج 12/397.
3- لم يذكر هذا المورد الشيخ في المقنعة من موارد وجوب الخمس، كما هو الظاهر من باب 34 (الخمس والغنائم)، نعم ذكر في باب الزيادات ص 283 مرسلة فيها دلالة على وجوب الخمس في المال الحلال المختلط في الحرام، وممّن نُسب إليه القول بعدم ذكر الخمس في المردود صاحب مفتاح الكرامة: ج 12/397.
4- المراسم العلويّة: ص 139.
5- مدارك الأحكام: ج 5/388.
6- كالمحقّق الخرساني في كفاية الأحكام في الخمس: ص 43 (ط. ق).
7- مصباح الفقيه: ج 3/137.

من الحرام بأيّ وجهٍ أمكن.

وعن بعض المحقّقين(1): حليّته بدون التخميس والتصدّق.

أقول: الأقوي هو الأوّل، وقد أشبعنا الكلام فيه فى مبحث الخمس من هذا الشرح.

وعلى الثالث: - وهو ما إذا كان المقدار معلوماً والمالك مجهولاً - يجب التصدّق كسائر أفراد مجهول المالك، كما هو المشهور(2).

وعن ظاهر «النهاية»(3)، و «الغُنية»(4)، و «الوسيلة»(5)، و «النافع»(6)، و «الشرائع»(7)، و «التبصرة»(8)، و «اللّمعة»(9)، وجوب الخمس في هذا الفرض أيضاً، ولم يَستبعد السيّد في «الحاشية»(10) قوّته، واختاره صاحب «الحدائق»(11)، وقوّى الشيخ الأعظم في «كتاب الخمس»(12) لزوم دفع ذلك المقدار خُمساً لا صدقة قلَّ أو كثر.6.

ص: 203


1- راجع حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/32.
2- كتاب الخمس للشيخ الأنصاري ص 248 (القسم الثالث)، قوله: (والظاهر أنّه يتصدّق به عن المالك مع اليأس عن الوصول إليه، للروايات.. الدالّة على التصدّق. ثمّ شرع في الاستدلال على ذلك).
3- النهاية: ص 196.
4- الغنية: ص 129.
5- الوسيلة: ص 137.
6- المختصر النافع: ص 63.
7- شرائع الإسلام: ج 1/135.
8- تبصرة المتعلّمين: ص 74.
9- اللّمعة الدمشقيّة: ص 45.
10- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/32.
11- الحدائق الناضرة: ج 18/262.
12- كتاب الخمس: ص 266.

أقول: والأوّل أقوى ، وقد حقّقناه في مبحث الخمس(1) من هذا الشرح، ولعلّه يظهر ممّا قدّمناه في الصورة السابقة.

وعلى الرابع: - وهو ما إذا كان المالك معلوماً والمقدار مجهولاً -.

ففي «المكاسب»(2): (وجب التخلّص بالمصلحة). وعن العلّامة رحمه الله في «التذكرة»(3): (تعيّن تخميسه وحليّة المال به إنْ لم يرض بالصلح).

وعن جماعةٍ (4): دفع الأقلّ المعلوم إلى المالك، والرجوع في الزائد المشكوك فيه إلى القرعة، وقوّاه الشيخ الأعظم رحمه الله(5) في بعض الصور.

وعن «كشف الغطاء»(6): (وجوب صلح الإجبار).

واستقرب المحقّق الهمداني رحمه الله(7) وجوب إعطاء الأكثر.

أقول: الأظهر - وفاقاً لجماعة(8) - وجوب دفع الأقلّ والاكتفاء به إذا كان المال في يده، لأنّ في المقدار الزائد المشكوك فيه يرجع إلى قاعدة اليد الحاكمة بالملكيّة، بناءً على ما هو الحقّ من أنّها أمارة للملكيّة بالنسبة إلى الشخص نفسه.

وأمّا في المورد الثاني: فالشيخ رحمه الله(9) قال بتعيّن القرعة أو البيع والاشتراك في الثمن، ولكن الأظهر جريان الأقسام الأربعة المذكورة في المورد الأوّل في هذا8.

ص: 204


1- فقه الصادق: ج 11/145.
2- المكاسب: ج 2/198.
3- تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 2/7.
4- الدروس: ج 3/334، الروضة البهيّة: ج 4/184.
5- كتاب الخمس: ص 247.
6- كشف الغطاء: ج 2/361.
7- مصباح الفقيه: ج 3/140.
8- العروة الوثقى: ج 4/257، مستمسك العروة الوثقى: ج 9/494.
9- المكاسب: ج 2/198.

المورد، وذكرنا تفصيل ذلك في مبحث الخُمس(1).

أقول: بقي في المقام أمران لابدَّ من التعرّض لهما:

الأمر الأوّل: قال الشيخ(2): (واعلم أنّ أخذ ما في يد الظالم ينقسم باعتبار نفس الأخذ إلى الأحكام الخمسة، وباعتبار نفس المال إلى المحرّم والمكروه والواجب).

أمّا ما أفاده رحمه الله بالاعتبار الأوّل: فالظاهر أنّ مراده به أنّ الأخذ باعتبار العناوين الثانويّة المنطبقة عليه، ينقسم إلى أحكام خمسة:

فأخذ مال الغير من دون رضاه حرامٌ .

وأخذ حقّ النّاس من الجائر قد يكون واجباً.

وأخذ المال منه مع عدم العلم بالحرمة لمصلحةٍ كتزويج عُزّاب آل أبي طالب عليه السلام مستحبّ .

وأخذ المشتبه منه مكروهٌ على المعروف.

وأخذ المال منه لغير ما ذُكر مباح.

وعليه، فلا يرد عليه ما أورده المحقّق الايرواني رحمه الله(3) من أنّ الأخذ لا حكم له بنفسه سوى الإباحة.

وأمّا ما أفاده بالاعتبار الثاني: فتوضيحه أنّ المحرّم ما عُلم كونه مال الغير مع عدم رضاه بالأخذ، والمكروه ما ذكره رحمه الله وهو المال المشتبه، وقد تقدّم الكلام فيه مفصّلاً، وعرفت في أوّل هذا المبحث أنّه لا دليل على كراهته، والواجبُ قد مَثّل له الشيخ رحمه الله بما يجبُ استنقاذه من يده من حقوق النّاس.8.

ص: 205


1- فقه الصادق: ج 11/152.
2- المكاسب: ج 2/198.
3- كما يظهر من حاشية كتاب المكاسب: ج 1/348.

وفيه: أنّه لا دليل على وجوب استنقاذ حقوق النّاس من أيدي الناس حتّى ولو أمكن. نعم، لو كان مال الغير تحت يده، وغَصبه الجائر، وجب عليه استنقاذه منه إنْ تيسّر له ذلك لوجوب ردّه إلى مالكه، ويكون هذا مقدّمةً له.

والأولى إضافة المباح إليها، لأنّ أخذ مال الغير منه مع إحراز رضا صاحبه مباحٌ .

هذا تمام الكلام في حكم أخذ المال من الجائر.

الأمر الثاني: ويقع الكلام فيه عن حكم الجائر نفسه، فنقول:

1 - إنْ كان ما أخذه ظلماً باقياً، وجب ردّه إلى صاحبه.

2 - وإنْ كان تالفاً، وجب رَدّ بدله، لقاعدة ضمان اليد والإتلاف.

هذا إذ كان حيّاً.

فإنْ كان مال الغير باقياً، لا كلام في وجوب ردّه إلى مالكه، وإنْ كان تالفاً كان بدله من جملة ديونه، فيخرج من أصل التركة.

وخالف كاشف الغطاء(1) في ذلك، ومنع كونه من الديون، فلا يلحقه حكمها من التقديم على الوصايا والمواريث، واستدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ ما دلَّ على أنّ الدين يخرجُ من أصل التركة، منصرفٌ عن مثل هذا الدين.

الوجه الثاني: أنّ السيرة القطعيّة قائمة على أنّ الضمانات الثابتة في أمثال المقام لا تخرجُ من أصل التركة.

ويرد عليهما: ما ذكره الشيخ رحمه الله(2).9.

ص: 206


1- شرح القواعد (مخطوط): ص 37.
2- المكاسب: ج 2/199.

أمّا الأوّل: فلمنع الانصراف، إذ لا فرق في وجداننا بين إتلاف الظالم، وبين إتلاف غيره، وأيضاً لا فرق بين إتلافه نسياناً، أم عدواناً، مع أنّه لا إشكال في إجراء أحكام الدين عليه في حال حياته، فأيّ فرقٍ في أحكام الدين بين حال حياته وممّاته ؟!

وأمّا الثاني: فلأنّ هذه السيره لو تمّت، فهي ناشئة عن قلّة المبالات بالدين، ولذلك لا يعتمد عليها في رفع اليد عن الأدلّة الصريحة في الضمان، واللّه العالم.

***

ص: 207

ومَنْ أمر بصرف مالٍ إلى قبيلٍ وعيّن له لم يجز التعدّي، وإلّا جاز أن يتناول منه مثل غيره إذا كان منهم على قولٍ .

حكم الأخذ من مالٍ دفع إليه للصرف في قبيل هو منهم

المسألة الرابعة: (ومَنْ أمر بصرف مالٍ إلى قبيل، و) كان المدفوع إليه بصفتهم، فإن (عيّن له) ولو بالقرائن المعتبرة (لم يَجُز التعدّي) بلا خلافٍ ولا إشكال، بل الإجماع بقسميه عليه كما في «الجواهر»(1).

(وإلّا) أي وإن أطلق (جاز) له (أن يتناول منه مثل غيره إذا كان منهم، على قولٍ ) مشهور كما عن «الحدائق»(2).

أقول: وتنقيح القول في المقام هو أنّه:

تارةً : يُدفع المال إليه من جهة كونه وليّ الأمر، كدفع سهم الإمام عليه السلام إلى الحاكم الشرعي بما أنّه نائب الإمام عليه السلام.

وأُخرى : يدفع إليه ليكون وكيلاً عن الدافع في صرفه في قبيل.

لا كلام في جواز أخذ المدفوع إليه من ذلك المال في الصورة الأُولى ، وإنّما الكلام في الصورة الثانية، وفي هذه الصورة فروض:

الفرض الأوّل: أن يظهر قرينة على عدم رضاه بالأخذ منه، فإنّه لا إشكال في عدم جواز الأخذ في هذا الفرض.

ص: 208


1- جواهر الكلام: ج 22/149.
2- الحدائق الناضرة: ج 18/237.

الفرض الثاني: أن يظهر قرينة على جواز أخذه منه، فإنّه لا إشكال في جواز الأخذ حينئذٍ، إنّما الإشكال فيما إذا اختلف مقدار المدفوع إلى الأصناف المختلفة، كأن عيّن للمجتهدين مقداراً ولغيرهم مقداراً أقلّ منه، واعتقد الآخذ أنّه من صنف المجتهدين، والدافع يعتقد عدم كونه منهم، فالمعروف أنّه إنْ كان عنوان الصنف على وجه الموضوعيّة، يراعى معتقد المدفوع إليه(1)، وإنْ كان ذلك العنوان داعياً إلى تعيين ذلك المقدار كان المتّبع اعتقاد الدافع.

وفيه: إنّ العنوان في الأفعال الخارجيّة المرتبط بالأشخاص كالاقتداء والبيع والرضا ونحو تلكم يعدّ داعياً، ولا معنى لكونه موضوعاً، والرضا برغم أنّه يتعلّق بالعنوان الكلّي، إلّاأنّه من حيث كونه مرآةً وطريقاً إلى الأفراد، وعليه فلا محالة يكون المناط اعتقاد الدافع، فإنّه إذا عيّن مقداراً للمجتهدين، وكان يعتقد عدم كون المدفوع إليه مجتهداً، لا يكون راضياً بأخذه ذلك المقدار.

الفرض الثالث: أن لا تقوم قرينة على أحد الأمرين، وقد اختلفت فيه كلماتهم، فالمهم صرف عنان الكلام إلى بيان المدرك، والكلام فيه يقع في موردين:

المورد الأوّل: فيما تقتضيه القواعد، والأظهر أنّه الجواز مطلقاً، فإنّ ظاهر تعليق كلّ حكم على موضوع، هو ثبوته لجميع أفراده، فلو عَلّق رضاه على المجتهد، كان مقتضاه جواز تصرّف كلّ مجتهد بما هو مجتهد، لا سيّما مع إحراز عدم خصوصيّة فرد في نظره، فإذا كان المدفوع إليه يرى نفسه مجتهداً جاز له التصرّف، وأمّا ظهور الدفع في مغايرة الدفع والمدفوع إليه، والواضع والموضوع فيه - فلو سُلّم وأغمض8.

ص: 209


1- راجع المكاسب: ج 4/358.

عن اختصاصه ببعض الموارد - فهو لا يقاوم الظهور المشار إليه، وعلى ذلك فيجوز له التصرّف فيه.

المورد الثاني: فيما تقتضيه النصوص الخاصّة. وهي طائفتان:

الطائفة الأُولى : ما تدلّ على عدم الجواز:

منها: مصحّح ابن الحجّاج، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل أعطاه رجلٌ مالاً ليقسّمه في محاويج أو في مساكين وهو محتاج، أيأخذ منه لنفسه ولا يُعْلِمه ؟

قال عليه السلام: لا يأخذ منه شيئاً حتّى يأذن له صاحبه»(1).

الطائفة الثانية: ما تدلّ على الجواز:

منها: صحيح سعيد بن يسار، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يُعطى الزكاة فيقسّمها في أصحابه أيأخذ منها شيئاً؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

ومنها: حسن الحسين بن عثمان، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «في رجل أعطي مالاً يفرّقه فيمن يحلّ له، ألهُ أن يأخذ منه شيئاً لنفسه وإنْ لم يُسمّ له ؟

قال عليه السلام: يأخذ منه لنفسه مثل ما يعطي غيره»(3).

ومنها: صحيح ابن الحجّاج، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرجل يعطي الرجل الدراهم يقسّمها ويضعها في مواضعها، وهو ممّن تحلّ له الصدقة ؟

قال: لا بأس أن يأخذ لنفسه، كما يعطي غيره.

قال: ولا يجوز له أن يأخذ إذا أمره أن يضعها في مواضع مسمّاة إلّابإذنه»(4).3.

ص: 210


1- وسائل الشيعة: ج 17/277 ب 84 من أبواب ما يكتسب به ح 3 رقم 22514، التهذيب: ج 6/352 ح 121.
2- وسائل الشيعة: ج 9/287 ب 40 من أبواب المستحقّين للزكاة ح 1 رقم 12039، الكافي: ج 3/555 ح 1.
3- وسائل الشيعة: ج 9/288 ب 40 من أبواب المستحقّين للزكاة ح 2 رقم 12040، الكافي: ج 3/555 ح 2.
4- وسائل الشيعة: ج 9/288 ب 40 من أبواب المستحقّين للزكاة ح 3 رقم 12041، الكافي: ج 3/555 ح 3.

أقول: والجمع بينهما إنّما يكون بأحد أشكال:

الشكل الأوّل: اختصاص النصوص المجوّزة بالمال الذى يكون من الحقوق الشرعيّة.

أمّا اختصاص الأوّل فواضحٌ .

وأمّا الثاني: فلقوله: «يفرّقه فيمن يحلّ له».

وأمّا الثالث: فلقوله: «وهو ممّن تحلّ له الصدقة»، وخبر المنع مختصٌّ بمالٍ يكون للدافع.

الشكل الثاني: إنّ خبر المنع من جهة التعبير بالنكرة ظاهرٌ في إرادة أشخاص معينين، فلا يعارض الأخبار المجوّزة.

الشكل الثالث: الجمع بحمل خبر المنع على الكراهة.

أقول: لا يخفى أنّ الشكل الأخير يتوقّف على عدم تماميّة الأولين، وعدم إمكان الجمع بنحوٍ آخر، لكن الأظهر هو الثاني، وبذلك يثبت أنّ الأخبار لا تدلّ على ما ينافي القواعد، فالأقوى هو الجواز مطلقاً.

***

ص: 211

الفصل الثاني: في آداب التجارة:

يستحبّ ..

التفقّه في مسائل التجارات

(الفصل الثاني: في آداب التجارة): وهي كثيرة:

منها: أنّه (يستحبّ ) لكلّ مكتسبٍ أن ينوي بكسبه التوسعة على العيال، وإعانة المحتاجين، وصرفه في أعمال الخير، والاستعفاف عن النّاس، ويدلّ عليه طائفة من اخبار:

الخبر الأوّل: حسن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«قال له رجلٌ : واللّه إنّا لنطلب الدُّنيا، ونحبّ أن نؤتاها؟

فقال: تحبّ أن تصنع بها ماذا؟

قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها، وأتصدّق بها، وأحجّ وأعتمر.

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: ليس هذا طلب الدُّنيا، هذا طلب الآخرة»(1).

الخبر الثاني: خبر أبي حمزة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «من طلب الدُّنيا استعفافاً عن النّاس، وسعياً على أهله، وتعطّفاً على جاره، لقى اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر»(2).

ص: 212


1- وسائل الشيعة: ج 34/17 ب 7 من أبواب مقدّمات التجارة ح 3 رقم 21910، التهذيب: ج 327/6-328 ح 24.
2- وسائل الشيعة: ج 17/21 ب 4 من أبواب مقدّمات التجارة ح 5 رقم 21876، التهذيب: ج 6/324 ح 11.

التفقّه فيها ليعرف صحيح البيع وفاسده، وَيَسْلَم من الرِّبا.

الخبر الثالث: مرسل ابن فضّال، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ليكن طلبك للمعيشة فوق كسب المضيّع، ودون طلب الحريص الراضي بدنياه، المطمئن إليها، ولكن أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفّف، ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف، وتكسب ما لابدَّ للمؤمن منه، إنّ الذين أعطوا المال ثمّ لم يشكروا لا مال لهم»(1).

ومنها: (التفقّه فيها ليعرف صحيح البيع وفاسده، ويَسْلَم من الرِّبا). ففي خبر الأصبغ بن نُباتة، قال: «سمعتُ أمير المؤمنين عليه السلام يقول على المنبر: يا معشر التجّار الفقه ثمّ المتجر، ثمّ المتجر، الفقه ثمّ المتجر، واللّه للرّبا في هذه الاُمّة أخفى من دبيب النمل على الصفا، شوبوا إيمانكم بالصّدق، التاجرُ فاجرٌ، والفاجرُ في النّار، إلّامن أخذ الحقّ وأعطى الحقّ »(2).

ونحوه غيره.

نعم، يكفيه التفقّه ولو بالتقليد، وهذا ممّا لا كلام فيه، كما لا كلام في أنّ أدلّة وجوب التفقّه والتعلّم، من آية النفر(3)، والروايات(4) بأجمعها ظاهرة في إرادة الوجوب الإرشادي أو الطريقي، ولا تدلّ على الوجوب النفسي، وهي توجبُ تنجّز الواقع والعقاب على مخالفته، وإنْ كان حين العمل غافلاً، كما يستقلّ العقل بذلك، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في حاشيتنا على «الكفاية».ة.

ص: 213


1- وسائل الشيعة: ج 17/48 ب 13 من أبواب مقدّمات التجارة ح 3 رقم 21950، التهذيب: ج 6/322 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 17/381 ب 1 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22794، التهذيب: ج 7/6 ح 16.
3- سورة التوبة: الآية 122.
4- الكافي: ج 1/30، وسائل الشيعة: ج 17/381 ب 1 من أبواب آداب التجارة.

وأنْ يَسوّي بين المتبائعين.

أقول: إنّما الكلام في المقام في موردين:

المورد الأوّل: في ما أفاده الشيخ رحمه الله(1) من أنّ وجوب التعلّم في المعاملات شرعيٌ ، لنهي الشارع عن التصرّف مع الجهل بصحّة المعاملة لأصالة عدم الانتقال.

وفيه أوّلاً: إنّ الأصل في العبادات أيضاً هو الاحتياط، لاختصاص أدلّة البراءة بالشبهات بعد الفحص.

وإنْ قيل: إنّ أصالة الاحتياط لا تجري مع الغفلة.

قلنا: إنّ أصالة عدم الانتقال أيضاً كذلك، كما لا يخفى .

وثانياً: أنّ أصالة عدم الانتقال أيضاً توجب تنجّز الواقع، وعدم جواز التصرّف في الأموال المكتسبة، ولا تدلّ على وجوب معرفة أحكام المعاملات.

المورد الثاني: في أنّه إذا لم يمكن الجمع بين تعلّم المسائل الواجب، وكسب المعيشة إذا كان واجباً، فأيّهما يقدّم ؟

أقول: أطال الشيخ رحمه الله تبعاً للحدائق الكلام في المقام(2)، والحقّ أنّهما من قبيل الواجبين المتزاحمين، فلابدّ من ملاحظة الخصوصيّات والموارد والفوائد المترتّبة على كلّ منهما، وترجيح الأهمّ من كلّ منهما على الآخر، وليس ذلك تحت ضابطٍ واحد، فالمتعيّن ملاحظة كلّ مورد ثمّ الحكم بالتقديم.

(و) منها: (أن يُسوّي) البائع (بين المتبائعين) في الاتّصاف بالنسبة إلى الثمن،9.

ص: 214


1- المكاسب: ج 4/340.
2- الحدائق الناضرة: ج 18/19.

ويقيل المستقيل، ويشهد الشهادتين عند العقد، ويكبّر اللّه تعالى .

وحُسن المبيع وغيرهما، لاحظ خبر عامر بن جذاعة، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «في رجل عنده بيعٌ فسَعّره سعراً معلوماً، فمن سكت عنه ممّن يشتري منه باعه بذلك السعر، ومَنْ ماكسه وأبى أن يبتاع منه زاده ؟

قال: لو كان يزيد الرجلين الثلاثة لم يكن بذلك بأس، فأمّا أن يفعله بمن أبى عليه وكايسه، ويمنعه من لم يفعل، فلا يعجبني إلّاأن يبيعه بيعاً واحداً»(1).

وعن «المنتهى»(2): إلحاق البائعين بالمتبائعين، بمعنى استحباب التسوية بينهما في السعر، كما أنّه قيل إنّ مراده استحبابه في خصوص أيّام الغلاء(3).

(و) منها: أن (يقيل المستقيل) للأخبار الكثيرة الدالّة عليه(4).

(و) منها: أن (يشهد الشهادتين عند العقد)، والأولى أن يقول ما في خبر سُدير، عن الإمام الباقر عليه السلام: «أشهدُ أن لا إله إلّااللّه وحده لا شريك له، وأشهدُ أنّ محمّداً عبده ورسوله، اللّهم إنّي أسألك من فضلك حلالاً طيّباً، وأعوذ بك من أن أظلم أو أُظلم، وأعوذ بك من صفقةٍ خاسرة ويمين كاذبة»(5).

أو غيره من النصوص الواردة في هذا المضمار.

(و) منها: أن (يكبّر اللّه تعالى ) إذا اشترى:4.

ص: 215


1- وسائل الشيعة: ج 17/398-399 ب 11 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22838، الكافي: ج 152/5 ح 10.
2- ظاهر المنتهى (ط ق): ج 2/1000، راجع جواهر الكلام: ج 22/452.
3- جواهر الكلام: ج 22/452.
4- وسائل الشيعة: ج 17/385-387 ب 3 من أبواب آداب التجارة.
5- وسائل الشيعة: ج 406/17-407 ب 18 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22853، الفقيه: ج 200/3 ح 3754.

ويأخذ الناقص، ويُعطى الرّاجح،

1 - فقد روى حَريز في الحسن عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «إذا اشتريت شيئاً من متاع أو غيره فكبّر الحديث»(1).

2 - وفي خبر محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليه السلام: «إذا اشتريت متاعاً فكبّر اللّه ثلاثاً... الحديث»(2).

ونحوهما غيرهما.

(و) منها: أن (يأخذ الناقص ويُعطى الرّاجح) للاحتياط في التجنّب عن البخس، ويُفهم من قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ اَلَّذِينَ ) إلى آخره(3) من حُسن خلافه، هو المستفاد من الأخبار(4) أيضاً.

هذا كلّه في المندوبات.

***ة.

ص: 216


1- وسائل الشيعة: ج 17/410 ح 22861، التهذيب: ج 7/9 ح 33.
2- وسائل الشيعة: ج 17/411 ح 22862، الفقيه: ج 3/200 ح 3757.
3- سورة المطففين: الآية 1 و 2.
4- وسائل الشيعة: ج 17/392-394 ب 7 من أبواب آداب التجارة.

ويكره مدح البائع وذمّ المشتري، وكتمان العيب، والحَلف على البيع، والبيع في المظلم، والرّبح على المؤمن.

مكروهات التجارات

(و) أمّا المكروهات في التجارة:

فمنها: أنّه (يكره مدح البائع) سلعته، (وذَمّ المشتري) لما يشتريه:

1 - ففي خَبر السكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من باع واشترى فليحفظ خمس خصال وإلّا فلا يشترين ولا يبيعن: الرِّبا، والحَلف، وكتمان العيب، والحمد إذا باع، والذّم إذا اشترى »(1).

2 - وفي النبوي: «أربع من كُنّ فيه طابَ مكسبه: إذا اشترى لم يعب، وإذا باع لم يَحمد، ولا يُدلّس، وفيما بين ذلك لا يحلف»(2).

ونحوهما غيرهما.

(و) منها: (كتمان العيب) لخبر السكوني المتقدّم، وقد قال النبي صلى الله عليه و آله لفاعله:

«ما أراك إلّاقد جمعت خيانةً وغِشّاً للمسلمين»(3).

(و) من ما تقدّم تظهر كراهة (الحلف على البيع، والبيع في المظلم).

(و) منها: (الرِّبح على المؤمن) إلّامع الضرورة، فيربح قوت يومه موزّعاً على

ص: 217


1- وسائل الشيعة: ج 17/383 ب 2 من أبواب آداب التجارة ح 2 رقم 22799، التهذيب: ج 7/6 ح 18.
2- وسائل الشيعة: ج 17/384 ب 2 من أبواب آداب التجارة ح 3 رقم 22800، الكافي: ج 5/153 ح 18.
3- وسائل الشيعة: ج 17/282 ب 86 من أبواب ما يكتسب به ح 8 رقم 22526، التهذيب: ج 7/13 ح 55.

وعلى الموعود بالإحسان، والسَّوم بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وأن يدخل السوق قبل غيره، ومعاملة الأدنين،

سائر المعاملين له المؤمنين في ذلك اليوم، إلّامع الشراء بأكثر من مائة درهم، أو الشراء للتجارة، ففي خبر سليمان بن صالح، وأبي شبل، جميعاً عن الإمام الصادق عليه السلام:

«ربح المؤمن على المؤمن ربا، إلّاأن يشتري بأكثر من مائة درهم، فاربح عليه قوتَ يومك، أو يشتريه للتجارة، فاربحوا عليهم وارفقوا بهم»(1).

ونحوه غيره المحمول على الكراهة، لما هو نص في الجواز، كخبر سالم عنه عليه السلام - في حديثٍ -: «فأمّا اليوم فلا بأس أن تبيع من الأخ المؤمن وتربح عليه»(2).

(و) منها: الربح أيضاً (على الموعود بالإحسان) لمرسل علي بن عبد الرحيم، عنه عليه السلام: «إذا قال الرجل للرجل هَلُّم أحسن بيعك يحرم عليه الربح»(3).

(و) منها: (السَّوم ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس) لمرفوع ابن أسباط:

«نهى النبي صلى الله عليه و آله عن السّوم ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس»(4).

(و) منها: (أن يدخل السُّوق قبل غيره) للخبر الدالّ على أنّه ينبغي أن يكون آخر داخلٍ وأوّل خارجٍ عكس المسجد(5).

(و) منها: (معاملة الأدنِين) الذين لا يُبالون بما قالوا وما قيل لهم، ولا يسرّهم1.

ص: 218


1- وسائل الشيعة: ج 17/396 ب 10 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22833، التهذيب: ج 7/7 ح 23.
2- وسائل الشيعة: ج 17/397 ب 10 من أبواب آداب التجارة ح 4 رقم 22836، الفقيه: ج 313/3 ح 4119.
3- وسائل الشيعة: ج 17/395 ب 9 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22828، التهذيب: ج 7/7 ح 21.
4- وسائل الشيعة: ج 17/399 ب 12 من أبواب آداب التجارة ح 2 رقم 22840، التهذيب: ج 7/8 ح 28.
5- وسائل الشيعة: ج 17/467 ب 60 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 23009، الفقيه: ج 3/199 ح 3751.

وذوي العاهات والأكراد، والإستحطاط بعد الصفقة.

الإحسان ولا تسؤوهم الإساءة، والذين يُحاسبون على الشيء الدني - كما في «الجواهر»(1).

(و) أيضاً تُكره معاملة (ذوي العاهات) والنقص في أبدانهم، (والأكراد) ومن لم ينشأ في الخير كمستحدثي النعمة.

وقد دلّت على ذلك كله النصوص(2).

أقول: يقع الكلام في المراد من (الأكراد).

الظاهر أنّ المراد بهم ليس هو القوم الذي يتكلّم بلغة الأكراد، بل الظاهر أنّ المراد بهم - كما هو كذلك في صفة الخوزي(3) -: هو الجيل المعهود منهم في صدر الإسلام.

إنْ شئت قلت: إنّ المراد بالأكراد القوم المطاردون الراحلون من مكان إلى مكان، وعلّة الكراهة حينئذٍ لعلّها التعرّب، والبُعد عن الفقه، والمسائل والأحكام.

(و) منها: (الاستحطاط بعد الصفقة) أي طلب الحَطّ والتنقيص من الثمن بعد انتهاء المعاملة، ففي خبر إبراهيم بن زياد، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «اشتريتُ له جاريةً فلمّا ذهبت أزن الدراهم قلتُ استحطتهم ؟ قال عليه السلام: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة»(4). ونحوه غيره.1.

ص: 219


1- جواهر الكلام: ج 22/456-457.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 17 ابتداء من ص 413 وحتّى ص 418 باب 21 و 22 و 23 و 24 من أبواب آداب التجارة من ح 22869 إلى 22887.
3- نقل ذلك عن الخوزي المحقّقين لتبصرة المتعلّمين كما في الحاشية ص 119، ولم نعثر عليه في مكان آخر.
4- وسائل الشيعة: ج 452/17 ب 44 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22973، الاستبصار: ج 73/3 ب 46 ح 1.

والزيادة وقت النداء، والتعرّض للكيل والوزن مع عدم المعرفة.

والنهي فيها محمولٌ على الكراهة للنصوص النافية من البأس عن ذلك(1).

(و) منها: (الزيادة) في السَّلعة (وقت النداء)، لخبر الشعيري عن الإمام الصادق عليه السلام: «كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إذا نادى المنادي فليس لك أن تزيد، وإنّما يحرّم الزيادة النداء ويحلّها السكوت»(2).

المحمول على شدّة الكراهة قطعاً كما في «الجواهر»(3).

(و) منها: (التعرّض للكيل و الوزن) بل والعَدّ (مع عدم المعرفة) حذراً من الزيادة والنقصان المؤدّيين إلى المحرّم، ففي مرسل المثنّى الحنّاط، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قلت: له رجلٌ من نيّته الوفاء، وهو إذا كال لم يحسن أن يكيل ؟

قال: فما يقول الذين حوله ؟ قلت: يقولون لا يوفي.

قال: هذا لا ينبغي له أن يكيل»(4).

وعن «المسالك»(5): عن بعض تحريمه، وهو كذلك مع تحقيق التأدية المزبورة لا مع عدمها.6.

ص: 220


1- وسائل الشيعة: ج 17/452 ب 44 من أبواب آداب التجارة، الاستبصار: ج 3 ب 46.
2- وسائل الشيعة: ج 17/458 ب 49 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22990، التهذيب: ج 7/228 ح 14.
3- جواهر الكلام: ج 22/459.
4- وسائل الشيعة: ج 17/394 ب 8 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22827، التهذيب: ج 7/12 ح 47.
5- مسالك الأفهام: ج 3/186.

والدّخول على سَوم أخيه، وأنْ يتوكّل حاضرٌ لبادٍ، وتلقّي الركبان.

(و) منها: (الدخول على سوم أخيه) بائعاً كان أو مشترياً، لخبر الحسين ابن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ونهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يدخل الرجل في سوم أخيه المسلم»(1).

المحمولُ على ذلك لقصوره عن تخصيص الأصل والعمومات من وجوه كذا في «الجواهر»(2).

(و) منها: (أن يتوكّل حاضرٍ لبادٍ) غريب قروي أو بدوي، لخبر عروة بن عبداللّه، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ولا يبيع حاضرٍ لباد، دعوا النّاس يرزق اللّه بعضهم من بعض»(3).

وسيأتي زيادة توضيح لذلك في المسألة الآتية.

تلقّي الركبان

(و) منها: (تلقّي الركبان) بلا خلاف.

أقول: وتنقيح القول في هذه المسألة يتحقّق بالبحث في مقامين:

ص: 221


1- وسائل الشيعة: ج 17/458-459 ب 49 من أبواب آداب التجارة ح 3 رقم 22992، الفقيه: ج 4/3 ح 4968.
2- جواهر الكلام: ج 22/459.
3- صدره في وسائل الشيعة: ج 17/444 ب 36 من أبواب آداب التجارة رقم 22955، وذيله في باب 37 من أبواب آداب التجارة ح 1، التهذيب: ج 7/158 ب 13 ح 2.

الأوّل: في أصل الحكم.

الثاني: في الخصوصيّات المعتبرة فيه.

أمّا المقام الأوّل: ففيه قولان بعد الاتّفاق ظاهراً على المرجوحيّة:

فعن التقي(1) والفاضلين(2) والحِلّي(3) والمصنّف رحمه الله في غير المتن(4): الحرمة.

وعن الأكثر(5) منهم المصنّف في المتن: الكراهة(6).

أقول: ومستند الحكم جملةٌ من النصوص الظاهرة في الحرمة(7)، ولكن قد أُورد على الاستدلال بها لها بوجوه:

الوجه الأوّل: ضعف السند، بدعوى أنّ مجموع النصوص الواردة حول هذه القضيّة هي سبعة، خمسة منهاينتهي إسنادها إلى منهال القصّاب، وهو مجهول، وواحد منها يرويها عمر بن شمر الضعيف عن عروة بن عبداللّه المجهول، وأمّا السابع فمرسلة.

وفيه: إنّ في طريقين من روايات منهال من هو من أصحاب الإجماع، فإنّ في طريق أحدهما ابن أبي عمير، وفي طريق الآخر ابن محبوب، فلا مورد للمناقشة3.

ص: 222


1- حكى العلّامة في المختلف: ج 5/42، القول بالحرمة عن أبي الصلاح الحلبي، ولكنّه في الكافي في الفقه ص 360 صرّح بالكراهة ونفى أيضاً الحرمة.
2- حكاه في المختلف: ج 5/42. عن القاضي ابن البرّاج. وكذلك في إيضاح الفوائد: ج 1/408. وقد ذهب إلى القول بالحرمة المحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 4/37. وابن سعيد الحلي في الجامع للشرايع عنون المسألة بحرمة تلقّي الركبان.
3- ظاهر السرائر: ج 2/237، بقوله: ولا يجوز تلقّي الجلب، ليشتري منهم قبل دخولهم البلد.
4- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/1005.
5- شرائع الإسلام: ج 2/275، تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 1/585، إيضاح الفوائد: ج 1/408، مسالك الأفهام: ج 3/188.
6- تبصرة المتعلّمين: ص 119.
7- وسائل الشيعة: ج 17/442-444 باب 36 من أبواب آداب التجارة، التهذيب: ج 7/158 ب 13.

فيها من حيث السند.

الوجه الثاني: إعراض المشهور عنها.

وفيه أوّلاً: أنّ جماعة أفتوا بالحرمة.

وثانياً: أنّ الإعراض الموهن هو الإعراض عن الخبر سنداً لا دلالة، والأصحاب عملوا بهذه النصوص، حيث حكموا بالمرجوحيّة، وإفتائهم بالكراهة لا يكون حجّة علينا.

الوجه الثالث: موافقة القول بالكراهة للأصل ومخالفة القول بالحرمة له.

وفيه: أنّ الأصل لا يقاوم الدليل، ومع وجوده يرتفع موضوع الأصل بالورود أو بالحكومة، مع أنّ القول بالكراهة أيضاً مخالفٌ للأصل، وعدم الحرمة وإنْ كان موافقاً له إلّاأنّه لا تثبت به الكراهة.

الوجه الرابع: كون الروايات موافقة للعامّة.

وفيه: أنّ مخالفة العامّة من مرجّحات إحدى الحُجّتين على الاُخرى - بعد فقد جملة من المرجّحات - لا من مميّزات الحجّة عن اللّاحجّة.

وبالجملة: موافقة العامّة من حيث هي ليست من الموهنات.

الوجه الخامس: أنّ النهي وإنْ كان ظاهراً في نفسه في الحرمة، إلّاأنّ النهي عن التلقّي لابدّ من حمله على الكراهة، من جهة وقوعه في سياق النهي عن أكل المتلقّي بقوله: «لا تأكل منه» وقوله: «لا تأكل من لحم ما تلتقي» الذي لم يُقصد منه الحرمة يقيناً لعدم فساد المعاملة.

وأُجيب عنه(1): بأنّ الحرمة كما يمكن أن تكون منبعثة عن فساد المعاملة2.

ص: 223


1- راجع حاشية المكاسب للشيخ الاصفهاني: ج 3/412.

وحَدّه أربعة فراسخ فما دون.

باعتبار أنّ أكل مال الغير بلا سببٍ شرعي حرام، كذلك يمكن أن تكون منبعثة عن مصلحةٍ في نفس ترك الأكل، وحسم مادّة التلقّي المحرّم، والظاهر أنّ الأكل حرامٌ من حيث أنّه أكلٌ لما تلقي لا من حيث أنّه مال الغير.

وفيه: الظاهر منه كون النهي عنه من جهة كونه مال الغير، فمع صرفه عن ظاهره، لا وجه لحمله على ما ذكر. فتأمّل.

والأولى في الجواب أنْ يقال: إنّ النواهي المتعدّدة الواقعة في سياق واحد، لو حُمل أحدها على الكراهة للدليل على عدم حرمة متعلّقه، فإنّه لا وجه لحمل غيره عليها، بناءً على ما حقّقناه في محلّه من أنّ الحرمة والكراهة خارجتان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه، وإنّما تنتزعان من الترخيص في فعل ما تعلّق النهي به وعدمه.

فتحصّل أنّ الأظهر هو القول بالحرمة.

(و) أمّا المقام الثاني: فالكلام فيه يقع في جهات:

الجهة الأُولى : في حَدّ التلقّي.

أقول: لا كلام في أنّ (حَدّه أربعة فراسخ فما دون) إنّما الكلام في دخول الحَدّ في المحدود، وخروجه عنه:

قال الشيخ قدس سره(1): (والظاهر أنّ مرادهم خروج الحَدّ عن المحدود... الخ).2.

ص: 224


1- المكاسب: ج 4/352.

ومقتضى خبر ابن أبي عمير، قلت: «وما حَدّ التلقّي ؟ قال: ما دون غدوة أو روحة. قلت: وكم الغدوة والروحة ؟ قال أربعة فراسخ»(1) هو الثاني.

وأمّا مقتضى خبر ابن محبوب، قال: «قلت له: ما حَدُّ التلقّي ؟ قال: روحة»(2)، في بادي النظر هو الأوّل.

ولكن بما أنّ للحَدّ معنيين:

أحدهما: ما ينتهي به الشيء.

والآخر: ما ينتهي عنده الشيء.

فالحَدّ في الخبر الأوّل يُحمل على المعنى الأوّل، فإنّ الحَدّ بذلك المعنى داخلٌ في المحدود، ويحمل في الخبر الثاني على المعنى الثاني، فإنّه بذلك المعنى خارجٌ عنه، فالجمع بين الخبرين يقتضي البناء على الخروج.

لكن الذى يسهّل الخَطب أنّ الوصول إلى الأربعة بلا زيادة ولا نقيصة نادرٌ جدّاً.

الجهة الثانية: في اعتبار القصد وعدمه.

استدلّ الشيخ رحمه الله(3): لاعتباره بعدم صدق عنوان التلقّي بدونه.

وأورد عليه المحقّق الايرواني رحمه الله(4): بأنّ عنوان التلقّي ليس منهيّاً عنه بالنهي النفسي، لأنّه ليس بمرجوح قطعاً، بل المرجوح السَّبق إلى الاشتراء ممّن قصد البلد بمتاعه، وعليه فنفس هذه المعاملة مرجوحة ولو لم يتلّق أصلاً.ف.

ص: 225


1- وسائل الشيعة: ج 17/442-443 ب 36 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22949، التهذيب: ج 7/158 ب 13 ح 4.
2- وسائل الشيعة: ج 443/17 ب 36 من أبواب آداب التجارة ح 4 رقم 22952، التهذيب: ج 7/158 ب 13 ح 3.
3- المكاسب: ج 4/353.
4- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/215، بتصرّف.

وفيه: أنّ التلقّي للاشتراء بنفسه منهيٌّ عنه، والظاهر مرجوحيّته أيضاً، كيف وقد جمع في النصوص بين النهي عنه والنهي عن الاشتراء.

والحقّ أنْ يقال: إنّ المنهيّ عنه هو التلقّي للاشتراء، فإذا لم يكن مَنْ قصده التلقّي أصلاً، أو كان ولم يكن للاشتراء، لا يكون ذلك مرجوحاً، وأمّا الاشتراء فحيثُ أنّ الظاهر من الخبر مرجوحيّته إذا كان مع التلقّي المرجوح لا مطلقاً، فلا يكون مرجوحاً إذا لم يكن التلقّي عن قصد، وبالتالي فالأظهر اعتباره.

الجهة الثالثة: في اعتبار جَهل الرّكب بسعر البلد.

قيل(1): ظاهر التعليل في رواية عروة المتقدّمة اعتبار جهل الركب.

أقول: هذا التعليل وقَعَ في خبرين:

أحدهما: الخبر الذي رواه عروة، عن الإمام الباقر عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«لا يتلقّى أحدكم تجارة خارجاً عن المَصر، ولا يبيع حاضرٌ لبادٍ، والمسلمون يرزقُ اللّهَ بعضهم من بعض»(2).

ثانيهما: ما عن الشيخ بسنده عن جابر، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«لا يبيع حاضرٌ لبادٍ، دَعوا النّاس يرزق اللّه بعضهم من بعض»(3).

وقد استدلّ العلّامة رحمه الله(4) به واستنده إلى غير واحدٍ على اعتبار الجهل.5.

ص: 226


1- راجع الحدائق الناضرة: ج 18/57، ومسالك الأفهام: ج 3/189، وجواهر الكلام: ج 22/473، والمكاسب: ج 4/353.
2- أورد صدره في وسائل الشيعة: ج 17/444 ب 36 من أبواب آداب التجارة ح 5، وذيله في باب 37 منها ح 1، التهذيب: ج 7/158 ب 13 ح 2.
3- وسائل الشيعة: ج 17/445 ب 37 من أبواب آداب التجارة ح 3 رقم 22957.
4- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/1005.

ويرد عليه: أنّ الظاهر - ولا أقلّ من المحتمل - كونه علّة لحكم بيع الحضري للبدوي، والمناسب أيضاً ذلك، فإنّه إذا لم يصبح الحاضرُ وكيلاً للبادي في البيع، اشتراه المشتري بأقلّ فيرتزق منه، فتدبّر.

هذا فضلاً عن أنّ كونه من قبيل العلّة المعمّمة والمخصّصة غير ثابت، فالأظهر هو التعميم، لإطلاق الروايات، وعدم معلوميّة علّة الحكم، ولعلّها شيءٌ موجود في فرض العلم.

الجهة الرابعة: في أنّه هل يختصّ الحكم بالتلقّي للاشتراء، أم يعمّ التلقّي للبيع منهم، أو لمعاملاتٍ أُخرى غير شراء متاعهم ؟

قد يقال: إنّ ظاهر الروايات عدم مرجوحيّة معاملات أُخرى غير شرائهم.

وجه الظهور: مع إطلاق قوله عليه السلام في خبر منهال القصّاب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:

«لا تلق فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن التلقّي»(1)، هو ورود الإطلاق مورد الغالب المتعارف، وهو التلقّي للإشتراء، كما هو مفاد سائر النصوص.

أقول: وبه يظهر حال قوله صلى الله عليه و آله: «لا يتلقّى أحدكم تجارةً خارجاً عن المصر»(2)، برغم أنّ هناك اختلافاً في نقله فقد رواه الصدوق(3) هكذا: «ولا يتلقّى أحدكم طعاماً» وهو ظاهرٌ في التلقّي لإشتراء الطعام.8.

ص: 227


1- وسائل الشيعة: ج 17/442-443 ب 36 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22949، التهذيب: ج 7/158 ب 13 ح 4.
2- وسائل الشيعة: ج 17/443-444 ب 36 من أبواب آداب التجارة ح 5 رقم 22953، التهذيب: ج 7/185 ب 13 ح 2.
3- الفقيه: ج 3/273 باب التلقّي ح 3988.

و يثبت الخيار مع الغبن الفاحش والنجش، وهو الزيادة لزيادة من واطاه البائع،

(و) الجهة الخامسة: إذا فُرض جَهل الرَّكب بالسِّعر (يثبت لهم الخيار مع الغَبن الفاحش).

وعن الحِلّي(1): ثبوت الخيار وإنْ لم يكن غَبنٌ .

قيل: لإطلاق النبويّ المتقدّم، ولكنّه محمولٌ على صورة تبيّن الغَبن بدخول السوق والاطلاع على القيمة، وتمام الكلام فيه في خيار الغبن.

***

(و) منها: (النَجش) وقد تقدّم الكلام فيه حُكماً وموضوعاً في آخر أبحاث المكاسب المحرّمة، (و) عرفت أنّ ما في المتن في بيان موضوعه بقوله: (هو زيادة لزيادة من واطاه البائع) فيه كلامٌ من جهات، وأشبعنا الكلام فيها، فلاحاجة للإعادة.

***4.

ص: 228


1- حكاه في الجواهر عن ابن إدريس، جواهر الكلام: ج 22/474.

والإحتكار.

حُكم الإحتكار

(و) منها: (الاحتكار) كما في المتن.

وعن المفيد(1)، والشيخ في «المبسوط»(2)، وأبي الصلاح في «المكاسب»(3)، والمصنّف في «المختلف»(4)، وفي «الشرائع»(5): الكراهة.

وعن الصدوق(6)، وابني البرّاج(7) وإدريس(8)، وأبي الصلاح في فصل البيع، والشهيدين(9) في «الدروس»(10)، و «المسالك»(11)، وغيرهم(12): التحريم.

وفي «المكاسب»(13): (وهو الأقوى بشرط عدم باذل الكفاية)، واختار الكراهة مع وجود الباذل.

ص: 229


1- المقنعة: ص 616.
2- المبسوط: ج 2/195.
3- الكافي في الفقه: ص 283.
4- مختلف الشيعة: ج 5/38.
5- شرائع الإسلام: ج 2/275.
6- المقنع: ص 372.
7- المهذّب البارع: ج 1/346.
8- السرائر: ج 2/218.
9- الكافي في الفقه: ص 360.
10- الدروس: ج 3/180.
11- مسالك الأفهام: ج 3/192.
12- تحرير الأحكام: ج 1/160، إيضاح الفوائد: ج 1/409، جامع المقاصد: ج 4/40.
13- المكاسب: ج 4/364.

أقول: الظاهر أنّ مورد كلام الفقهاء هو عدم وجود باذل الكفاية، فلا قائل بالمرجوحيّة معه، سوى الشيخ الأعظم رحمه الله.

دليل التحريم: وكيف كان، فقد استدلّ للحرمة - مضافاً إلى وجوه اعتباريّة - بكثير من النصوص(1)، وهي وإنْ كان بعضها ضعيف السند، وبعضها قاصر الدلالة من جهة تضمّنه اللّعن على المحتكر، الذي هو بمعنى البُعد الملائم مع الكراهة، أو وروده في مقام بيان موضوع الاحتكار المحكوم بالحرمة أو الكراهة، إلّاأنّ جملةً منها صحيحة السند، ظاهرة الدلالة عليها:

1 - صحيح الحنّاط، عن مولانا الصادق عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «يا حكيم بن حزام إيّاك أن تحتكر»(2).

2 - ما في «نهج البلاغة»(3) في كتابه عليه السلام إلى مالك الأشتر: «فامنع من الاحتكار، فإنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله منع منه»(4).

ونحوهما غيرهما، وتؤيّدها النصوص الاُخر.

ولا يعارضها صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنْ كان الطعام كثيراً يسع النّاس، فلا بأس به، وإنْ كان الطعام قليلاً لا يسع النّاس، فإنّه يكره أن يحتكر الطعام»(5).

لأنّ الكراهة في اصطلاحهم عليهم السلام أعمّ من الكراهة المصطلحة.5.

ص: 230


1- وسائل الشيعة: ج 17/423-429 ب 72 و 28 من أبواب آداب التجارة، الاستبصار: ج 3/114 ب 77 النهي عن الاحتكار.
2- وسائل الشيعة: ج 17/428 ب 28 من أبواب آداب التجارة ح 3 رقم 22915، الاستبصار: ج 3/115 ب 77 ح 8.
3- نهج البلاغة: ج 3/100.
4- وسائل الشيعة: ج 17/427 ب 27 من أبواب آداب التجارة ح 13 رقم 22912.
5- وسائل الشيعة: ج 17/424 ب 27 من أبواب آداب التجارة ح 2 رقم 22901، الكافي: ج 5/165 باب الحكرة ح 5.

وعليه، فهو أيضاً بمفهوم الشرط يدلّ على التحريم، حيث يدلّ على ثبوت البأس مع عدم كثرة الطعام، وهو ظاهرٌ في التحريم.

أقول: وبما ذكرناه ظهر مدرك القول بالكراهة وضعفه.

استدلّ الشيخ رحمه الله(1) لما اختاره: بأنّ جملة من النصوص متضمّنة للنهي عن الاحتكار، وظاهر ذلك مرجوحيّته مطلقاً، وظاهر صحيح الحنّاط وصحيح الحلبي حرمته في صورة باذل الكفاية.

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر منه أنّ علّة عدم البأس وجود الباذل، فلولاه حرم.

وأمّا الثاني: فلأنّه قيّد الحكم فيه بصورة عدم باذل غيره، وهذا بواسطة ما دلَّ على كراهة الاحتكار مطلقاً قرينة على إرادة التحريم.

وفيه: إنّ الخبرين يقيّدان جميع نصوص الاحتكار المتضمّنة للنهي عنه، سواءٌ حمل النهي فيها على الكراهة أو الحرمة، فمورد الحكم صورة عدم وجود باذل غيره، وإلّا فلا يكون الاحتكار مكروهاً.

أقول: وبذلك يظهر ما في قوله(2): (وإنْ شئتَ قلت: إنّ المراد بالبأس في الشرطيّة الأُولى التحريم، لأنّ الكراهة ثابتة في هذه الصورة، فالشرطيّة الثانية كالمفهوم لها). انتهى .

قال الشيخ رحمه الله: (1) ويمكن تأييد التحريم بالخبر الذي رواه أبي مريم الأنصاري، عن الإمام الباقر عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «أيّمارجلٍ اشترى طعاماً فحبسه أربعين صباحاً يريد به الغلاء للمسلمين، ثمّ باعه وتصدّق بثمنه، لم يكن كفّارةً لما صنع»(2).5.

ص: 231


1- المكاسب: ج 4/366.
2- وسائل الشيعة: ج 17/425 ب 27 من أبواب آداب التجارة ح 6 رقم 22905.

وهو حَبسُ الحِنطة والشّعير والتَمر والزَّبيب والسَّمن

ثمّ قال(1): (وفي السند بعض بني فضّال، والظاهر أنّ الرواية مأخوذة من كتبهم التي قال العسكري عند السؤال عنها: «خذوا ما رووا وذَروا ما رأوا»، ففيه دليلٌ على اعتبار ما في كتبهم، فيستغنى بذلك عن ملاحظة من قبلهم في السند).

ويرد عليه: أنّ ذلك النص(2) سؤالا وجواباً مسوقٌ لبيان أنّ فساد عقائد وآراء بني فضّال لا يمنع عن الأخذ برواياتهم، فغاية ما يدلّ عليه حجيّة قولهم ورواياتهم، وأنّها كالروايات المرويّة عنهم في حال استقامتهم، بلا نظرٍ فيه إلى حجيّة الروايات من غير تلك الجهة، وأمّا أصحاب الإجماع فقد دلَّ الدليل على الاستغناء بروايتهم عن ملاحظة من قَبلهم في السند.

ثمّ إنّه لابدّ من التنبيه على أُمورٍ:

التنبيه الأوّل: في مورد الاحتكار.

أقول: الظاهر أنّه لا خلاف في ثبوته في الغلّات الأربع والسَّمن، بل عن جماعةٍ (3) الإجماع عليه، والنصوص تشهد به(4)، وعليه فما في المتن: (وهو حَبسُ الحِنطة والشَّعير والَتمر والزَّبيب والسَّمن) لا إشكال فيه، إنّما الكلام فيما ذكره المصنّف9.

ص: 232


1- المكاسب: ج 4/366-367.
2- وسائل الشيعة: ج 27/142 ب 11 من أبواب صفات القاضي ح 13 رقم 33428.
3- كشف الرموز: ج 1/455، ظاهر السرائر: ج 2/238، مجمع الفائدة: ج 8/26، المكاسب: ج 4/368.
4- وسائل الشيعة: ج 17/425 ب 27 من أبواب آداب التجارة ح 4 رقم 22903، وح 7 رقم 22906، وح 10 رقم 22909.

والملح، للزيادة في الثمن مع عدم غيره،

(و) غيره(1) من إضافة (الملح) الذي ألحقه بها الشيخ رحمه الله في «المبسوط»(2)، حيث قال: (يثبت الاحتكار في الملح، ولم نقف على حديثٍ دالّ عليه، ولعلّه نظر في ذلك إلى دعوى الحاجة إليه، وأساس الضرورة إلى تناوله فصار كالطعام) انتهى .

أقول: مقتضى الحصر في خبر(3) غياث، عدم ثبوت هذا الحكم في الملح، والعلّة المستنبطة المشار إليها، لا تصلح لإثبات الحكم الشرعي بها، لعدم كونها منصوصة بعنوان العلّة للحكم كي تُعمّم، ولذا لم يفتِ أحدٌ بثبوته في غير ذلك من ما يحتاج إليه النّاس، وعليه فالأظهر عدم الإلحاق.

التنبيه الثاني: روى السكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إنّ الحكرة في الخصب أربعون يوماً، وفي الغلاء والشدّة ثلاثة أيّام، فما زاد على الأربعين في الخصب فصاحبه ملعون، وما زاد في العسرة على ثلاثة أيّام فملعون»(4).

وظاهر الخبر تحديد الحكرة في الرخص بأربعين يوماً، وفي أيّام الغلاء بثلاثة أيّام، وعمل به الشيخ(5) والقاضي(6) وصاحب «الوسيلة»(7).0.

ص: 233


1- قواعد الأحكام: ج 2/11، الدروس: ج 3/180، مسالك الأفهام: ج 3/192.
2- المبسوط: ج 2/195.
3- وسائل الشيعة: ج 17/425 ب 27 من أبواب آداب التجارة ح 4 رقم 22903، التهذيب: ج 7/159 ح 9.
4- وسائل الشيعة: ج 17/423 ب 27 من أبواب آداب التجارة ح 1 رقم 22900، التهذيب: ج 7/159 ح 8.
5- النهاية: ص 374-375.
6- حكاه في المختلف: ج 5/40.
7- الوسيلة: ص 260.

ويُجبر على البيع ولا يُسعّر عليه.

والإيراد عليه: تارةً بضعف السند، وأُخرى بأنّه محمولٌ على بيان مظنّة الحاجة كما عن «الدروس»(1)، واستحسنه الشيخ رحمه الله(2)، في غير محلّه.

أمّا الأوّل: فلما تقدّم في هذا الشرح مراراً من اعتبار خبر السكوني.

وأمّا الثاني: فلأنّ ذلك خلاف الظاهر، لا شاهد له، وعليه فالأظهر تماميّة هذا التحديد.

التنبيه الثالث: يتّصف الاحتكار بالأحكام الخمسة:

فالاحتكار المحرّم: هو الاحتكار مع حاجة النّاس.

والمباح: هو الاحتكار لا مع حاجتهم.

والواجب: هو الاحتكار لإعانة المضطرّين في أيّام الغلاء.

والمستحبّ : هو الاحتكار لإعانة الزوّار.

وأمّا المكروه: فلم نجد له مثالاً.

أقول: ثمّ إنّ الاحتكار بما هو احتكارٌ لا يكون واجباً ولا مستحبّاً، واتّصافه بهما إنّما يكون من جهة انطباق عناوين أُخرى عليه.

التنبيه الرابع: لا خلاف (و) لا نقاش في أنّه (يُجبر) المحتكر (على البيع) حتّى على القول بالكراهة، بل عن «المهذّب البارع» الإجماع عليه(3).

(ولا يسعّر عليه) إجماعاً إلّاإذا أجحف بالثمن، حيث قالوا(4) إنّه يُسعَّر عليه0.

ص: 234


1- الدروس: ج 3/180.
2- المكاسب: ج 4/370.
3- المهذّب البارع: ج 2/370.
4- مختلف الشيعة: ج 5/42، إيضاح الفوائد: ج 1/409، الدروس: ج 3/180.

حينئذٍ، لأنّه لولاه لانتفت فائدة الجبر، إذ بدونه يمتنع المالك من البيع إلّابأضعاف ثمنه، فلو سوّغناه انتفت في الزامه بالبيع وهو جيّد، إلّاأنّه لا يدلّ على التسعير، لملائمته مع ما عن «الميسي»(1)، والشهيد الثاني(2) من أنّه يؤمر بالنزول من دون تسعير.

***9.

ص: 235


1- حكاه في المكاسب: ج 4/374.
2- الروضة البهيّة: ج 3/299.

الفصل الثالث: في عقد البيع.

الحمد للّه ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف بريّته محمّدٍ وآله الطيّبين الطاهرين.

كتاب البيع

تعريف البيع وبيان حقيقته

(الفصل الثالث: في عقد البيع) وأحكامه، وآدابه، وشرائطه.

وفيه مقاصد:

المقصد الأوّل: في تعريف البيع وبيان حقيقته.

اختلفت كلمات الأصحاب رضوان اللّه تعالى عليهم في ذلك، بعد اتّفاقهم ظاهراً على أنّه لا حقيقة شرعيّة أو متشرعيّة له، وقبل بيان حقيقته لابدَّ من بيان أمرٍ لا يُستغنى عنه، وهو أنّ في البيع وكذا سائر المعاملات أُموراً أربعة:

أحدها: اعتبار الملكيّة القائم بالمتبايعين.

ثانيها: اعتبارها القائم بالعقلاء.

ثالثها: الاعتبار القائم بالشارع الأقدس.

رابعها: إظهار المتبايعين اعتبارهما النفساني بمظهر خارجي من لفظ أو غيره.

ص: 236

وما اشتهر من أنّ حقيقة الإنشاء عبارة عن إيجاد معنى كالملكيّة وغيرها باللّفظ لا واقع له، إذ الوجود الحقيقي للمعنى لا يمكن إيجاده إلّابأسبابه الخارجيّة، واللّفظ وما ضاهاه ليسا منها بالضرورة، والوجود الاعتباري - أي اعتبار المعتبر - قائمٌ بنفسه، ولا دخل للّفظ وغيره في تحقّقه.

نعم، تسمية الإنشاء إيجاداً بمعنى أنّه بضميمة الاعتبار النفساني موضوعٌ لاعتبار الشارع والعقلاء، حيث أنّ بناء العقلاء على عدم اعتبار الملكيّة في البيع مثلاً إلّامع اعتبار المتبايعين بقيد الإعلام به لا بأس بها، وعلى هذا، فلا سببيّة في باب العقود والإيقاعات أصلاً.

أقول: إذا عرفت هذا، فاعلم أنّه قد عُرّف البيع بتعاريف عديدة:

التعريف الأوّل: ما عن جماعةٍ كالشيخ في محكي «المبسوط»(1)، والعلّامة في «التذكرة»(2)، وغيرهما في غيرهما(3) من أنّه انتقالُ عينٍ من شخصٍ إلى غيره بعوض مقدَّر على وجه التراضي.

وأورد عليه: جماعةٌ منهم السيّد الفقيه في «الحاشية»(4):

1 - بأنّ الانتقال أثرٌ للبيع.

2 - وأيضاً أنّه فعل والانتقال انفعال.

3 - وأيضاً هو منافٍ لسائر تصاريفه.8.

ص: 237


1- المبسوط: ج 2/76.
2- التذكرة: ج 1/5.
3- الوسيلة: ص 236، السرائر: ج 2/240.
4- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/58.

وهو الإيجاب كقوله بعتك، والقبول وهو اشتريتُ .

وفيه: أنّ ملكيّة المشتري في اعتبار العقلاء والشارع أثرٌ للبيع، بمعنى أنّه موضوع لها، وأمّا الملكيّة في اعتبار المتبايعين، فهي عين النقل والتمليك لا أنّها أثره، فإنّ إيجاد الملكيّة اعتباراً، ووجودها كذلك متّحدان بالذّات ومختلفان بالاعتبار، وعليه:

فإنْ اُريد من الانتقال في التعريف الملكيّة في نظر المتبايعين، لا يرد عليه شيءٌ من هذه الإيرادات.

وإنْ أُريد به الملكيّة في اعتبار العقلاء أو الشارع، فيرد عليه الإيراد الأوّل والثالث دون الثاني، كما لا يخفى .

فالأولى أن يورد على هذا التعريف: بأنّ البيع بما له من المعنى المرتكز في الأذهان، قائمٌ بالبائع لا بالعوضين، والانتقال قائمٌ بهما، مع أنّه لا يعتبر الرضا في مفهوم البيع، وإلّا لم يكن بيع المكرَه وكذلك بيع غير القادر على تسليمه بيعاً.

التعريف الثاني: ما ذكره المصنّف في المتن بقوله: (وهو الإيجاب كقوله بعتك، والقبول وهو اشتريتُ ) وإليه يرجعُ ما عن المشهور(1) من تعريفه بالعقد المركّب من الإيجاب والقبول الدالّين على الانتقال.

وعن المصنّف: دعوى الإجماع عليه(2).5.

ص: 238


1- المختصر النافع: ص 118، الدروس: ج 3/191، الروضة البهيّة: ج 3/221.
2- راجع تحرير الأحكام: ج 2/275.

وأورد عليه صاحب «الجواهر» رحمه الله(1): بأنّ اللّفظ من مقولة الكيف، والبيع فعلٌ والمقولات العشر متباينات، لا يصدق بعضها على بعض.

وفيه: إنّ البيع فعلٌ عرفي لا مقولي كالتكلّم الذي هو من مقولة الكيف.

وأورد عليه في «المكاسب»:(2) بأنّ البيع من مقولة المعنى دون اللّفظ، وإلّا لم يُعقل إنشائه باللّفظ.

ومراده بذلك: أنّ البيع - بحسب المرتكز العرفي - هو النقل والتمليك الخارجي، لا الوجود اللّفظي للإنشاء، وإلّا لما كان معنى لإنشائه، بل كان إظهاره إخباراً لا إنشاءاً، وظاهر التعريف المذكور بقرينة توصيف الإيجاب والقبول بالدلالة، هو إرادة الوجود اللّفظي منهما.

أقول: وبهذا البيان ظهر اندفاع ما أُورد على الشيخ رحمه الله(3) بأنّ البيع ليس من مقولة المعنى، وإلّا لزم كونه كلاماً نفسيّاً، إذ لا يعقل من مقولة المعنى إلّاجعله من باب النقل القلبي، وهو راجعٌ إلى الكلام النفسي، وقد بيّن في محلّه بطلان الكلام النفسي.

ويرد على هذا التعريف: - مضافاً إلى ذلك - أنّ البيع على ما يظهر من مشتقّاته قائمٌ بالبائع لا به وبالمشتري معاً.

التعريف الثالث: ما في «جامع المقاصد»(4) من تعريفه البيع أنّه نقل الملك من مالك إلى آخر بصيغةٍ مخصوصة.5.

ص: 239


1- جواهر الكلام: ج 22/206.
2- المكاسب: ج 3/10.
3- بدائع الأفكار: ص 262.
4- جامع المقاصد: ج 4/55.

وأورد عليه الشيخ بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّ النقل ليس مرادفاً للبيع(1).

وأجاب عنه المحقّق الايرواني رحمه الله(2): بأنّه بعد تقييد النقل في التعريف بأن يكون بالصيغة المخصوصة لا وجه لهذا الإيراد.

أقول: الظاهر أنّه تخيّل أنّ مراد الشيخ رحمه الله من الإيراد أعميّة النقل عن البيع، فأجاب عنه بذلك، في حين أنّه يقصد بكلامه تغاير البيع والنقل مفهوماً، فإنّ البيع إذا كان بمعنى التمليك، يكون عبارة عن التسليط، ولازم ذلك إذا كان الشيء مملوكاً له هو النقل، نظير أنّ المشي مغايرٌ للنقل والانتقال في المكان، لكنّه لازمٌ لهما، مع أنّه ليس لازمه دائماً، فإنّ تمليك عمل الحُرّ يكون بيعاً ولا نقل، لعدم كونه مالكاً له قبله، وبيع الكلّي في الذمّة يصحّ ، ولا نقل هناك، فهذا الإيراد تامّ .

نعم، إذا كان المقصود الإشارة إلى المعاملة المتداولة كي يكون التعريف لفظيّاً صَحّ ذلك، فإنّه يكفي فيه الملازمة الغالبيّة.

الإيراد الثاني: أنّ المعاطات عنده بيعٌ مع خلوّها عن الصيغة(3).

ويمكن الجواب عنه: بأنّ مراد المحقّق رحمه الله ليس دخل هذا القيد في حقيقة البيع، بل الإشارة به إلى سنخ النقل، وعليه فلا تضرّ أخصيّته.

الإيراد الثالث: أنّه إنْ أُريد دخل هذا القيد في ماهيّة البيع(4).

يرد عليه: أنّ النقل بالصيغة لا يُعقل إنشائه بالصيغة.1.

ص: 240


1- المكاسب: ج 3/10.
2- حاشية كتاب المكاسب: ج 2/13 (كتاب البيع). (3و4) المكاسب: ج 3/11.

وإنْ أُريد به الإشارة إلى النقل الخاص.

يرد عليه: أنّه إنْ أُريد بالصيغة خصوص (بعتُ ) لزم الدور، وإنْ أُريد بها غير بعت من سائر الصيغ، لزم الاقتصار على سائر الصيغ غير بعت.

وفيه: الظاهر أنّ مراده هو الشِقّ الثاني، وعليه فيمكن إرادة الجامع بين صيغة بعت وغيرها من الصيغ من الصيغة، ولا يلزم محذور الدور - لأنّه مع سعة دائرة الكاشف لا يلزم دورٌ - ولا محذور لزوم الاقتصار.

وعليه، فالعمدة هي الإشكال الأوّل.

التعريف الرابع: ما في «المكاسب»(1) من تعريفه: (بأنّه إنشاء تمليك عينٍ بمال).

وترد عليه أُمور:

الأمر الأوّل: ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(2) من أنّ التمليك الإنشائي إذا كان مادّة (بعتُ ) فلا يعقل إنشائه بالصيغة، إذ القابل للوجود الإنشائي نفس المعنى لا الموجود الإنشائي.

الأمر الثاني:(3) إنّ هذا التعريف يصدق على الشراء أيضاً، لشموله للإنشاء الصريح والضمني، مع أنّ مقصوده الصريح خاصّة.

الأمر الثالث: ما أفاده بعض المحقّقين رحمه الله(4) من أنّ ظاهر هذا التعريف تعلّق الجار بالتمليك، فيكون هو تعريفاً للهبة المعوضة، فإنّ العوض فيها عوض للفعل وهو التمليك لا للعين، وفي البيع يكون العوض عوضاً لما تعلّق به التمليك.6.

ص: 241


1- المكاسب: ج 3/11.
2- حاشية المكاسب للخراساني: ص 5-6. (3و4) تعليقات على المكاسب: ج 1/36.

الأمر الرابع:(1) أنّه لا يمكن الالتزام بالتمليك في جملةٍ من الموارد:

منها: اشتراء آلات المسجد من غِلّة العين الموقوفة عليه، فإنّه لا يملكها أحدٌ، كما لا يملك الغلّة.

ومنها: بيع العبد ممّن ينعتق عليه، فإنّه ليس هناك تمليكٌ وتملّك، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: أنّه إذا امتنع المِلْك الحقيقي شرعاً أو عقلاً، لما كان فرقٌ بين طول الزمان وقصره، فلا يمكن الالتزام بحصول المِلْك آناً مّا ثمّ الانعتاق.

ودعوى: أنّه يمكن الالتزام بالمِلك الحُكمي.

مندفعة: بأنّ مرجع ذلك إلى القول بترتّب آثار البيع من دون حصول الملكيّة، فإنْ التزم بكونه بيعاً حقيقة، لزم بطلان التعريف المذكور، وإلّا لزم بقاء العوضين على ملك مالكهما، لعدم المعاوضة الحقيقيّة.

الوجه الثاني: أنّ ظاهر الأدلّة ترتّب الانعتاق على نفس الشراء، ممّا يقتضي الالتزام بالملكيّة ولو آناً مّا منافٍ لذلك.

ودعوى صاحب «الجواهر»:(2) من أنّ الجمع بين هذه الأدلّة، وبين ما دلَّ على أنّه «لا عتق إلّافي مِلك» يقتضي الالتزام بتقدّم المِلْك على الانعتاق تقدّماً ذاتيّاً.

ممنوعة: لأنّ الملكيّة من الأُمور الاعتباريّة، ولا يعقل تحقّق الاعتبار إلّافي الزمان، فالملكيّة في غير الزمان أمرٌ لا نتعقّله.

ومنها(3): بيع الدين على من هو عليه، فإنّ الإنسان لا يملك مالاً على نفسه،5.

ص: 242


1- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/64-65.
2- جواهر الكلام: ج 22/339.
3- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/65.

لعدم ترتّب الأثر على هذه الملكيّة، فيلغو اعتبارها.

وجواب الشيخ رحمه الله(1): عنه من تعقّل تملّك ما في الذمّة ورجوعه إلى سقوطه عنه.

مدفوع: لأنّ السقوط إنْ كان لأجل ما أشرنا إليه من لغويّة اعتبار الملكيّة، فهو مانعٌ عن الحدوث كالبقاء، وإنْ كان لكونه أثر تلك الملكيّة، فيرد عليه أنّ ثبوت الشيء لا يكون علّة لسقوطه.

التعريف الخامس: ما عن «المصباح»(2) من تعريفه (بأنّه مبادلة مالٍ بمال).

أقول: هذا التعريف أيضاً غير تامّ ، لأنّه يرد عليه أُمور:

الأمر الأوّل: أنّ المبادلة قائمةٌ بالطرفين، كما هو الشأن في باب المفاعلة، ولا يصحّ التعبير بها عمّا يقوم بطرفٍ واحد، مع أنّ البيع عندهم ليس هو ذلك، بل عبارة عن التبديل.

وما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمه الله(3): من إنكار تقوم المفاعلة بطرفين، مستشهداً بقوله تعالى : (يُخادِعُونَ اَللّهَ ) (4)، وبقوله عزّ وجلّ : (وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ) (5)، وكذلك كلمتي (نافقوا)، و (شاقّوا)، وغير ذلك من الاستعمالات، مدّعياً أنّ هذه الهيئة إنّما وضعت لتعدية المادّة وإنهائها إلى الغير، مثلاً الكتابة لا تقتضي إلّاتعدية المادّة إلى المكتوب، فيقال: (كتب الحديث) من دون تعديتها إلى المكتوب إليه، بخلاف قولهم:

(كاتبه) فإنّه يدلّ على تعديتها إلى الغير، بحيث لو اُريد إفادة هذا0.

ص: 243


1- المكاسب: ج 3/13.
2- المصباح المنير: ص 69 مادّة بيع.
3- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/9.
4- سورة البقرة: الآية 9.
5- سورة النساء: الآية 100.

المعنى بالمجرّد لقيل: (كتب إليه).

ثمّ قال: (إنّ الهيئة المجرّدة وإنْ أفادت هذه الخصوصيّة في بعض الموارد (كضرب زيدٌ عمرواً) إلّاأنّها غير ملحوظة في الهيئة، وتكون من لوازم النسبة، بخلاف (ضارب زيدٌ عمرواً) فان هذه الخصوصيّة ملحوظة فيه.

وإنْ كان لطيفاً، إلّاأنّه يرد عليه: أنّ هذه الأُمور ليست أُموراً برهانيّة بل سماعيّة، لابدَّ فيها من الرجوع إلى أهله، وهم قد صرّحوا بذلك وجعلوا له موارد استثنائيّة منها الآيات المشار إليها.

الأمر الثاني: أنّ لازم هذا التعريف، عدم كون بيع الكلّي بيعاً، لأنّه ليس مالاً قبل البيع، فليس مبادلة مال، وعدم صحّة جعل عمل الحُرّ عوضاً على القول بعدم كونه مالاً قبله.

الأمر الثالث: أنّ مطلق المبادلة ليس بيعاً قطعاً، بل تكون المبادلة بيعاً فيما لو تحقّقت المبادلة في الملكيّة.

الأمر الرابع: إنّ التبديل والمبادلة لازمٌ غالبي للبيع، لا أنّه مفهومه، لما أوردناه على تعريف «جامع المقاصد»(1).

الأمر الخامس: أنّ مقتضى هذا التعريف، لزوم دخول العوض في كيس من خرج المعوّض عن كيسه، مع أنّه لا يعتبر ذلك، ألا ترى أنّ الإنسان يعطي الدرهم إلى الخبّاز، ويقول: (اعط الخبز للفقير)، فإنّ هذا بيعٌ مع أنّه لا مبادلة فيه، والالتزام بأنّه يملّك الفقير الدرهم أوّلاً ثمّ يعطي الخبّاز، أو أنّه يوكله في تمليكه الخبز إيّاه ثمّ ).

ص: 244


1- كتاب المكاسب والبيع للآملي - بحث النائيني -: ج 1/85 (في تعريف البيع)، وقريب منه ما في منية الطالب: ج 1/93 (في تعريف البيع وحقيقته).

إعطائه للفقير، خلاف الواقع الذي عليه بناء العرف والعقلاء في أمثال هذه المعاملة.

أقول: وبما ذكرناه يظهر ما في تعريفه بأنّه: (تبديل عينٍ بمال)، أو (تمليكها به)، أو نحو ذلك من التعاريف.

مختار المحقّق النائيني رحمه الله(1): فهو بعد اعترافه بأنّ هذه التعاريف تقريبيّة اختار في تعريفه أنّه: تبديلُ مال بمال، وأنّ في البيوع المتعارفة بين النّاس إنّما يكون التبديل في الأموال لا في الملكيّة.

وقال في توضيح ذلك: إنّ الملكيّة عبارة عن إضافة حاصلة بين المالك والمملوك، وهي تكون متحقّقة في عالم الاعتبار، وتكون منشئاً للآثار، ولا تكون قابلة للتبديل ابتداءً ، لأنّه ليس للمالك ملكيّة على الملكيّة، بل في باب المعاوضات يتبدّل المالان، بخلاف باب الإرث حيث يتبدّل فيه المالكان، فالبائع إنّما يُحلّ الإضافة القائمة بالطعام، ويجعلها قائمة بالدراهم، ولا يكون هناك تبديلٌ في الملكيّة، فيكون البيع هو تبديل مال بمال.

ويرد عليه أوّلاً: أنّ بيع الكلّي بيعٌ مع أنّه لم يقع قبل البيع طرف الإضافة كي يكون هناك تبديل.

وثانياً: أنّ لازم ذلك عدم كون بيع آلات المسجد بالغِلّة الموقوفة عليه بيعاً، فإنّها لا تصيرُ مِلْكاً لأحدٍ كي ينطبق عليه هذا التعريف.

وثالثاً: إنّ الملكيّة لا حقيقة لها سوى الاعتبار، وهو بسيطٌ قائمٌ بالمالك والمملوك، فلا يعقل تبدّل أحد طرفيها مع بقائهما، فلا محالة لابدّ من تبدّلها.4.

ص: 245


1- كتاب المكاسب والبيع: ج 1/84.

وبعبارة أُخرى : المشتري لا يملك المبيع إلّاباعتبار كونه مِلْكاً له، وخلع البائع الملكيّة عن نفسه، ولبسها به، والذي به تتبدّل الملكيّة لا محالة، فلا يتصوّر بقاء ملك الإضافة وتبديل طرفها. فتدبّر.

التعريف المختار: فالحقّ في تعريف البيع بنحوٍ يكون جامعاً ومانعاً أنْ يقال:

إنّه إعطاء شيء بإزاء شيء، وهذا بحسب الموارد مختلف أثره:

1 - فقد يكون أثره ملكيّة العوضين، كما في غالب موارده.

2 - وقد يكون أثره الانعتاق، كما في بيع العبد ممّن ينعتق عليه، فإنّ أثر إعطاء البائع إيّاه بإزاء شيءٍ انقطاع إضافته، وحيث لا يُعقل دخوله في ملك المشتري ينعتق عليه قهراً.

3 - وقد يكون أثره السقوط، كما في بيع الدين ممّن هو عليه.

4 - وقد يكون أثره قيام المبيع مقام عوضه، فيما له من التعلّق والإضافة بجهةٍ كالآلات المشتراة من غلّة العين الموقوفة للمسجد مثلاً.

أقول: بقي في المقام بيان الفرق بين البيع، وبين الشراء والإجارة والصلح والهبة المعوضة والقرض.

أمّا الشراء: فليس هو إعطاء شيءٍ بإزاء شيء، بل هو مطاوعة لذلك، والذي يوجب ملكيّة المعوّض للمشتري والعوض للبائع إنّما هو فعل البائع الذي تعلّق به القبول.

وبذلك ظهر ما في كلام الشيخ رحمه الله(1) من أنّ القبول تمليكٌ ضمني، وبذلك فرقٌ 3.

ص: 246


1- المكاسب: ج 3/13.

بين البيع والشراء، فإنّه ليس تمليكاً ولو ضمناً.

وأمّا الإجارة: فقد فرّق الشيخ رحمه الله(1) بينها وبين البيع بأنّ البيع تمليك العين بعوض، والإجارة تمليك المنفعة به، ولكن على القول بصحّة جعل المعوض في البيع منفعة، لابدّ من بيان فرق آخر بينهما.

وقد يقال: إنّ الفرق بينهما إنّما يكون في أنّ البيع يتعلّق بكلّ من العين والمنفعة، وإذا تعلّق بالعين يكون أثره ملكيّتها فيما يكون قابلاً لذلك، وهذا بخلاف الإجارة، فإنّها تتعلّق بالعين خاصّة، وأثرها نقل المنافع.

توضيحه: إنّ من ملك شيئاً ملك منافعه بالتبع، ويكون له حقّ قبض العين وإمساكه واستيفاء منافعها، فالبيع إنّما هو إعطاء العين أو المنفعة بإزاء العوض، وأمّا الإجارة فإنّما هي لنقل ذلك الحقّ ، بمعنى أنّها تتعلّق بالعين لنقل ذلك الحقّ . وتمام الكلام موكول إلى محلّه.

وأمّا الصّلح: فالفرق بينه وبين البيع، هو ما ذكره الشيخ رحمه الله(2) من أنّ حقيقة الصلح هو التسالم، ويكون متعلّقه في بعض الموارد ملكيّة العين أو المنفعة، وفي بعض الموارد غير ذلك.

أقول: ولا إيراد عليه سوى ما ذكره من أنّه إذا تعلّق الصلح بالعين يكون متضمّناً للتمليك.

فإنّه يرد عليه: أنّه لا يتعلّق بالعين، بل هو نظير الالتزأم لا يعقل تعلّقه إلّا بفعل أو نتيجة كالملكيّة، ولذا لا يصحّ جعل مفعوله الثاني العين كما لا يخفى .3.

ص: 247


1- المكاسب: ج 3/13.
2- المكاسب: ج 3/13.

وأمّا الهبة المعوضة: فتتصوّر على وجوه:

الوجه الأوّل: أن يهب المال ويشترط على المتّهب هبة شيء.

الوجه الثاني: أن يهبه المال ويكون داعيه هبة المتّهب شيئاً.

الوجه الثالث: أن يهب المال ويشترط النتيجة، أي كون ذلك المال مِلْكاً له.

الوجه الرابع: أن يهبه بإزاء ذلك الشيء.

الوجه الخامس: ما أضافه السيّد الفقيه(1) من أنْ يهبه في مقابل هبته، بحيث تكون المقابلة بين الهبتين، ومقتضى المقابلة بطلان أحد المتقابلين بفقد الآخر.

أمّا في الوجه الأوّل والثاني: فيكون إعطاء المال إعطاءً لا بإزاء شيء بل مجّاناً، والفرق بينها وبين البيع حينئذٍ واضحٌ ، غاية الأمر في الصورة الأُولى إذا لم يهب المتّهب ذلك الشيء يكون للواهب الخيار، ولا يكون ذلك في الصورة الثانية.

وأمّا في الوجه الثالث: فإنْ قلنا بعدم صحّة شرط النتيجة، فلا كلام، وإنْ قلنا بصحّته، فذلك الشيء وإنْ كان يصبح مِلْكاً له، إلّاأنّه للشرط لا لعقد الهبة، والمال الموهوب إنّما يعطى مجّاناً لا بإزاء شيء، وهذا بخلاف البيع.

وأمّا في الوجه الرابع: فهو بيعٌ حقيقة بلسان الهبة، وسيأتي الكلام في أنّه هل يصحّ البيع بلسان الهبة أم لا.

وأمّا في الوجه الخامس: فقد أفاد السيّد رحمه الله(2) في الفرق بينها وبين البيع: أنّ في البيع تكون المقابلة بين المالين، وفي هذه الهبة تكون بين الفعلين.

أقول: وما ذكره من الفرق على تقدير صحّة هذه الهبة متينٌ ، إلّاأنّ الكلام في1.

ص: 248


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/60 و 61.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/60 و 61.

صحّتها، وذلك لأنّه:

إنْ أُريد بها تعليق هبةٍ على هبة الآخر، بحيث لو لم يهب الطرف لا يكون هبة من هذا الطرف أيضاً لتقيّدها بهبة الآخر.

فهذا هو التعليق المجمع على بطلانه.

وإنْ أُريد بها أنّه يملّك هبته في مقابل تملّك هبة الآخر.

فيرد عليه: أنّ في الهبة التمليك إنّما يتعلّق بالمال، وليس هناك تمليكٌ متعلّق بهذا العمل من الحُرّ.

نعم، يصحّ ذلك فيما إذا وقع عقدٌ آخر على هذا العمل، بحيث أصبح مملوكاً بواسطة عقد آخر، ولكنّه خارجٌ عن فرض المقام.

وأمّا القرض: فقد فرّق الشيخ رحمه الله(1) بينه وبين البيع بأنّ القرض حقيقته ليست هي المعاوضة، بل هي تمليكٌ على وجه ضمان المثل أو القيمة.

ويرد عليه: أنّ التمليك المزبور لا يخلو عن أحد وجهين:

1 - إمّا أن يكون تمليكاً بإزاء بدله في الذمّة، فهو معاوضة حقيقة.

2 - وإمّا أن يكون تمليكاً مجانيّاً، واشترط في ضمنه أن تكون الذّمة مشغولة بالمثل أو القيمة، فهذا غير معقول، إذ مرجعه إلى اشتراط ضمان الإنسان لمال نفسه.

فالحقّ أنْ يقال: إنّ حقيقة القرض هي تمليك العين - أي لخصوصيّتها - مجّاناً وجعلٌ لماليّتها في الذمّة، ففي الحقيقة هو ينحلّ إلى إنشائين: تمليكٌ مجّاني بالنسبة إلى العين، وتضمينٌ لماليّة العين، واستئمان لها في ذمّة المقترض إلى أجلٍ معيّن، وعليه5.

ص: 249


1- المكاسب: ج 3/15.

يصبح الفرق بينه وبين البيع في غاية الوضوح.

أقول: وأمّا ما استشهد به الشيخ رحمه الله(1) لعدم كون القرض من المعاوضات فهى أُمور:

منها: (أنّه لا يجري فيه ربا المعاوضة).

وذكر السيّد قدس سره(2) في بيان مراد الشيخ رحمه الله: أنّه لا يشترط في تحقّق الرِّبا فيه ما يعتبر في تحقّقه في سائر المعاوضات، من اشتراط كون العوضين من المكيل والموزون، وكونهما من جنسٍ واحد، بل يجري فيه مطلقاً.

وأُورد عليه(3): بأنّ سعة دائرة الرِّبا فيه لدليلٍ خاص، لا تنافي كونه من المعاوضات.

أقول: لكن الظاهر أنّ مراده عدم جريان الرِّبا الذي يجرى في البيع في القرض، وذلك في مثل الريال الذي يساوي أربعة دراهم مثلاً، ويكون بحسب الوزن أكثر منها بها، فإنّ ذلك ربا محرّم، وهذا لا يجري في القرض، لأنّ من اقترض الريال له أن يؤدّي أربعة دراهم، وللمقرض اشتراط ذلك، وليس ذلك غير جائز، والسرّ فيه ما ذكرناه من أنّ حقيقة القرض تمليك العين مجّاناً واستئمانٌ للماليّة في ذمّة المقترض، فما في ذمّته ماليّة الريال لا عينه، وهي عين ماليّة أربعة دراهم، فيجوز تطبيقها عليها.

ومنها(4): عدم لزوم ذكر العوض فيه، فلو كان من المعاوضات، لكان اللّازم ملاحظة الطرفين في مقام إنشاء المعاوضة.6.

ص: 250


1- المكاسب: ج 3/15.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/61.
3- مصباح الفقاهة: ج 2/81 في الهامش.
4- المكاسب: ج 1/16.

ومنها(1): عدم لزوم العلم بالعوض، مع أنّه في المعاوضات لابدّ من العلم به.

وأورد عليهما: بأنّ العين المقترضة إمّا أن تكون من المثليّات أو تكون من القيميّات، وعلى كلّ حالٍ العوض معلومٌ ولا يحتاج إلى الذكر.

وفيه أوّلاً: أنّ بعض الأشياء ربما لا يَعلم الإنسان حين القرض أنّه مثلي أو قيمي، فيقترض المال، ثمّ يستعلم الحال قبل الأداء.

وثانياً: أنّه ربما يَعلم أنّه قيمي حين العقد ولكن لا يعلم مقدار القيمة.

ومنها: عدم جريان الغرر المنفيّ فيه.

وفيه: صرّح جماعة من الأصحاب(2) بلزوم العلم بمقدار العين المقترضة، وأنّه لا يجوز بالمكيال المجهول، وجماعة أُخرى وإنْ كان ظاهرهم - على ما عن «الجواهر»(3) - عدم اعتبار ذلك، إلّاأنّ جريان الغرر في مطلق المعاوضات ليس متّفقاً عليه، فهذا لا يكون شاهداً على عدم كونه من المعاوضات عندهم.

***6.

ص: 251


1- المكاسب: ج 1/16.
2- تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 2/7، الدروس: ج 3/320، مسالك الأفهام: ج 3/446.
3- جواهر الكلام: ج 25/16.

ضابط ما يصحّ جعله عوضاً ومعوّضاً وما لا يصحّ

يقتضي المقام التنبيه على أُمور:

التنبيه الأوّل: في ضابط ما يصحّ جعله معوّضاً وعوضاً، وما لا يصحّ .

قال الشيخ رحمه الله(1): في ضابط ما يصحّ جعله مبيعاً بأنّ الظاهر اختصاص المعوّض بالعين، فلا يعمّ إبدال المنافع بغيرها... الخ).

أقول: يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في بيان المراد من العين.

الثاني: في أنّه هل يعتبر أن يكون المبيع عيناً أم لا.

أمّا المقام الأوّل: فالمراد من (العين) هو الموجود المتعيّن الخارجي، وما لو وجد لكان من المتعيّنات الخارجيّة، فتشمل العين الشخصيّة، والكلّي المُشاع، والكلّي في المعيّن، والكلّي الذّمي، وأمّا المنفعة والحقّ فهما خارجان.

أقول: ولا إشكال في شيء من ذلك إلّافي الكلّي الذّمي، فإنّه أُشكل على جعله مبيعاً بوجهين:

الوجه الأوّل(2): أنّ الملكيّة من الأعراض، فلابدّ لها من معروض، ولا وجود للكلّي الذّمي حتّى يكون معروض الملكيّة.

وأجاب عنه المحقّق النراقي قدس سره(3): بأنّ البيع ليس هو التمليك، بل عبارة عن نقل

ص: 252


1- المكاسب: ج 3/7.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/53-54.
3- عوائد الأيّام: ص 38.

الملك، وحيث أنّه لا محذور في نقل الملك في ظرف وجوده - وإنْ كان متأخّراً فعلاً لعدم كون النقل من الأعراض - فلا إشكال في صحّة البيع.

وقال(1): (والحاصل: أنّ البيع نقلُ الملك إلى الغير بالفعل، سواءٌ كان الملك أيضاً فعليّاً أو قوليّاً مترقّب الحصول).

وفيه أوّلاً: إنّ لازم ذلك بطلان البيع إذا تعذّر تسليم الكلّي، أو لم يحصل للبائع، لأنّه يكشف أنّه باع ما ليس له، مع أنّه لا يكون باطلاً بالاتّفاق.

وثانياً(2): أنّ النقل مطلقاً لابدّ وأن يكون بملاحظة مكان أو إضافة، وليس له استقلال في التحصّل، فلو كان حقيقة البيع هو النقل كان بمعنى نقل الملك، فكما أنّ الملكيّة غير معقولة كما هو المفروض، كذلك النقل لا يكون فعليّاً، فلا نقل بالفعل وإنّما هو معلّقٌ على أمر متأخّر، والتعليق في البيع باطلٌ بالإجماع.

وأجاب عنه السيّد الفقيه(3): بأنّ الملكيّة وإنْ هي معدودة من الأعراض الخارجيّة، إلّا أنّ حقيقتها ليست إلّااعتباراًعقلائيّاً، فيمكن أن يكون محلّها موجوداً اعتباريّاً فنقول العقلاء يعتبرون الكلّي الذّمي شيئاً موجوداً تتعلّق به الملكيّة.

وفيه أوّلاً: أنّه لا يصحّ الجمع بين العرض الذي هو أمرٌ واقعي مقولي، وبين الاعتبار الذي لا ثبوت له إلّافي اُفق الاعتبار.

وثانياً: انه من المعلوم أنّ العقلاء في باب اعتبار ملكيّة الكلّي الذّمي ليس لهم اعتباران: أحدهما متعلّق بوجوده، وثانيهما متعلّق بملكيّته.4.

ص: 253


1- عوائد الأيّام: ص 38.
2- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/12.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/54.

فالحقّ في الجواب أنْ يقال: إنّ الملكيّة إنّما هي من الاعتباريّات، والاعتبار لا يحتاج إلّاإلى طرف في اُفق الاعتبار، وهو كما يكون عيناً خارجيّة، يمكن أن يكون كليّاً في الذمّة، والظاهر أنّ المستشكل خَلَط بين الملكيّة الّتي هي من الإعراض الخارجيّة - وهي الهيئة الحاصلة للجسم من إحاطة شيء به، كالهيئة الحاصلة للرأس من إحاطة العمامة به - وبين الملكيّة التي هي من الاعتباريّات التي تعتبر لفائدة مترتّبة على اعتبارها.

والذي لا يمكن أن يتحقّق بلا محلّ موجود، إنّما هي الملكيّة بالمعنى الأوّل، وأمّا الملكيّة الاعتباريّة، فهي لا تتوقّف إلّاعلى محلّ موجود في اُفق الاعتبار بنفس الاعتبار.

وعليه، فكما يمكن أن يكون ذلك عيناً موجودة في الخارج، كذلك يمكن أن يكون كليّاً في الذمّة، بل ربما يكون المالك أيضاً كليّاً ككلّي الفقير والسيّد في باب الزكاة والخمس.

أقول: وبهذا البيان يظهر أنّه يمكن أن يكون المالك أمراً اعتباريّاً كالحكومة التي هي من الأُمور الاعتباريّة العقلائيّة، ويعتبرونها لشخص أو لعدّة أشخاص، ولذا ترى أنّ العقلاء يعتبرون لهم الملكيّة بما أنّهم هيئة حاكمة، والفرق بين ملكيّتهم بما هم كذلك، وبين ملكيّتهم بما هم أشخاص أنّه لو مات أحدهم أو جميعهم في الأوّل لا ينتقل المال إلى الورثة، ولو سقطت الحكومة خرج المال عن تحت سلطانهم بخلافه في الثاني. وتمام الكلام في ذلك موكول إلى محلّ آخر.

الإشكال الثاني(1): أنّه يعتبر في البيع كون المبيع مالاً قبل البيع، والكلّي في8.

ص: 254


1- المكاسب: ج 3/8.

الذمّة ليس كذلك.

ويرد عليه: أنّه لم يدلّ دليلٌ من عرف أو شرع على اعتبار أن يكون المبيع قبل البيع مالاً، وتعريف «المصباح»(1) لا حجيّة له، بل يعتبر شرعاً وعرفاً كون المبيع قابلاً لأن يعوّض عنه، وكونه قابلاً لتعلّق الأغراض به، ومعلومٌ أنّ الكلّي كذلك.

وأمّا المقام الثاني: فالأرجح في النظر اعتبار كون المبيع من الأعيان، وذلك لأنّ البيع من المفاهيم العرفيّة، والإمضاء الشرعي متعلّق به، ولعلّ اختصاص البيع بنقل الأعيان وتمليكها، وعدم شمولها لنقل المنافع من الأُمور الواضحة عندهم بحسب المتفاهم العرفي.

أقول: والظاهر أنّه إلى هذا نظر الفقهاء(2) حيث استدلّوا للاختصاص:

تارةً : بالتبادر.

وأُخرى : بصحّة سلب البيع عن تمليك المنفعة بعوض.

وثالثة: بانصراف الأدلّة إلى ما هو المعهود خارجاً من جعل المعوّض في البيع عيناً.

لا يقال: إنّ البيع بحسب متفاهم أهل هذا الزمان، وإن اختصّ بنقل الأعيان، إلّا أنّ المعيار هو عرف زمان الشارع الأقدس.

فإنّه يقال أوّلاً: إنّه إن ثبت ذلك في هذا الزمان، يبنى على كونه كذلك في زمانه صلى الله عليه و آله، لأصالة عدم النقل، المعبّر عنها بالاستصحاب المتقهقر أو القهقرائي، الذي على جريانه بناء العقلاء، وسيرة العلماء، ولولاه لانسدّ عليهم باب الاجتهاد،3.

ص: 255


1- المصباح المنير: ص 69 مادّة بيع.
2- راجع حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/53.

لعدم جواز كون الروايات ظاهرة في المعاني التي تكون الآن ظاهرة فيها في زمانه صلى الله عليه و آله إلّابذلك.

وثانياً: إنّ الشكّ في شمول البيع لنقل المنافع مانعٌ عن التمسّك بعمومات الصحّة، ويتعيّن معه البناء على الاختصاص لأصالة الفساد.

أقول: ويؤيّد ما اخترناه من الاختصاص:

1 - استقرار اصطلاح الفقهاء عليه في تعيين الثمن والمثمن، يعني أنّهم إذا أرادوا تمييز البائع عن المشتري، والمثمن عن الثمن جَعلوا مالك العين بائعاً، ومالك المنفعة مشترياً.

2 - قيام الإجماع على أنّه لا فرق بين الإجارة والبيع إلّافي أنّ البيع لنقل الأعيان، والإجارة لنقل المنافع، بناءً على ما حقّقناه في كتاب الإجارة من أنّ حقيقتها تمليك المنفعة بعوض.

واستدلّ للتعميم بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ ما عن «المصباح» من تعريف البيع بأنّه (مبادلة مالٍ بمال) كما يشمل نقل الأعيان يشمل نقل المنافع أيضاً.

الوجه الثاني: إطلاق (البيع) على نقل المنافع في جملةٍ من النصوص:

منها: النصوص الدالّة على بيع سكنى الدار، كموثّق إسحاق بن عمّار(1).

ومنها: ما دلَّ على بيع خدمة العبد المدبر، كخبر السكوني(2).8.

ص: 256


1- وسائل الشيعة: ج 17/335 ب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 5 رقم 22696، التهذيب: ج 130/7 ح 42.
2- وسائل الشيعة: ج 23/120 ب 3 من أبواب التدبير من كتاب التدبير والمكاتبة والاستيلاد ح 4 رقم 29229، التهذيب: ج 8/260 ح 8.

ومنها: ما ورد في بيع الأراضي الخراجيّة(1).

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلما تقدّم من عدم تماميّة تعريف «المصباح»، وعدم حجيّته.

وأمّا الثاني: فلأنّ الاستعمال أعمٌّ من الحقيقة، وأصالة الحقيقة إنّما يرجع إليها لتشخيص المراد، لا لتعيين الموضوع له بعد معلوميّة المراد.

وبالجملة: الأظهر اختصاص البيع بنقل الأعيان.

هذا كلّه في المعوض.

***ت.

ص: 257


1- وسائل الشيعة: ج 15/155-157 ب 71 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه من كتاب الجهاد، التهذيب: ج 4 باب الزيادات.

جعل المنفعة عِوضاً

وأمّا في العوض:

فقد قال الشيخ رحمه الله(1): (أمّا العوض فلا إشكال في جواز كونه منفعة... إلخ).

أقول: يقع الكلام في المقام في موارد:

الأوّل: في بيان حقيقة المنفعة.

الثاني: في جواز جعلها عوضاً.

الثالث: في جواز جعل عمل الحُرّ عوضاً.

الرابع: في الحقوق.

أمّا المورد الأوّل: فالمنفعة عبارة عمّا به يكون المال مالاً، وبعبارة أُخرى عبارة عن الحيثيّة القائمة بالعين الموجودة بوجودها على نحو وجود المقبول بوجود القابل، فمنفعة الدابّة ليست ما هو فعلُ الراكب الذي هو من أعراضه لا من أعراض الدابّة، بل المضاف لفعل الراكب الذي يصير فعليّاً بفعليّة ما هو قائمٌ بالراكب، فحيثيّة كون الدابّة مركباً هي منفعتها، وهذه إنّما تصبح فعليّة بالاستيفاء الذي هو عبارة عن الانتفاع.

أقول: وبهذا البيان يظهر أنّ ما أفاده السيّد الفقيه في «حاشيته»(2) من أنّ الثمرة تعدّ منفعة الشجرة عرفاً، لا يمكن المساعدة عليه، إذ حقيقة العين تغاير حقيقة المنفعة، فلا يعقل انطباق إحداهما على الاُخرى .

ص: 258


1- المكاسب: ج 3/8.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/53.

وأمّا المورد الثاني: فقد استدلّ لعدم جواز جعلها عوضاً بوجوه(1):

الوجه الأوّل: ما اشتهر في كلامهم من أنّ البيع نقل الأعيان.

الوجه الثاني: أنّ المنفعة غير موجودة فغير قابلة للمملوكيّة، ولذلك لا يصحّ جعلها عوضاً. وهو المحكيّ عن الشهيد رحمه الله.

الوجه الثالث: أنّه لعدم تعارف جَعل المنفعة عوضاً، تكون أدلّة نفوذ البيع منصرفة إلى نقل غيرها.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ البيع - كما عرفت - إنّما هو عمل البائع، فهم في مقام بيان ما ينتقل من البائع، وهذا منهم نظير ما ذكروه من أنّ الإجارة لنقل المنافع، مع أنّه لا كلام بينهم في صحّة جعل العوض فيها عيناً.

وأمّا الثاني: فلما عرفت من أنّ الملكيّة أمر اعتباري، فيصحّ اعتبارها بالإضافة إلى المنفعة التي هي مقدرة الوجود بتبع وجود العين، القابلة لاستيفاء المنافع عنها.

وأمّاالثالث: فلأنّ الانصراف الناشيء عن قلّة وجود فردٍ لايصلح لتقييد المطلقات.

وعليه فالأظهر جواز جعلها عوضاً.

جعل عَمل الحُرّ عوضاً

أمّا المورد الثالث: فالبحث يدور فيه عن جواز جعل عمل الحُرّ عوضاً وعدمه.

قال الشيخ رحمه الله(2): (وأمّا عمل الحُرّ، فإنْ قلنا إنّه قبل المعاوضة عليه من الأموال

ص: 259


1- راجع المكاسب: ج 3/8 هامش رقم 4 و 5.
2- المكاسب: ج 3/8.

فلا إشكال... الخ).

محصّل كلامه: أنّه لا إشكال في جواز جعل عمل الحُرّ عوضاً إذا كان ذلك بعد وقوع المعاوضة عليه، كما إذا كان أجيراً لغيره فإنّه يجوز لذلك الغير جعله عوضاً، ويكون حينئذٍ كعمل العبد الذي لا كلام في أنّه مالٌ ، ويصحّ جعله عوضاً.

وأمّا إذا كان ذلك قبل وقوع المعاوضة عليه، فجواز جعله عوضاً مبنيٌّ على كونه من الأموال، وإنْ لم يعدّ منها لا يجوز ذلك.

أقول: يقع الكلام في هذا المورد في جهتين:

الأُولى : في أنّه مالٌ قبل وقوع المعاوضة عليه أم لا؟

الثانية: في أنّه على كلّ من التقديرين، هل يصحّ جعله عوضاً أم لا؟

أمّا الجهة الأُولى : فالحقّ أنّه مالٌ ، لأنّ الماليّة من الاعتبارات العقلائيّة، وإنّما تعتبر للشيء من جهة كونه ممّا يرغب إليه، ويميل إليه نوع الإنسان، أو يتوقّف عليه نظام الاجتماع، كما في اعتبار الماليّة للذهب والفضّة، وهذا الذي يُسمّى بالمال:

تارةً : يعتبرونه مِلْكاً لشخص.

وأُخرى: لا يعتبر ذلك كما في المباحات الأصليّة.

وعلى هذا، فمن الواضح أنّ عمل الحُرّ وإنْ لم يكن مِلْكاً لفاعله - لأنّ ملكيّة العمل إنّما تكون عن سببٍ وهو مفقود - إلّاأنّه مالٌ ، ولا فرق بينه وبين عمل العبد، ولا بين قبل وقوع المعاوضه عليه وبين بعده.

واستدلّ لعدم كونه مالاً بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ الماليّة صفةٌ وجوديّة، ولابدّ لها من محلّ ، والعمل المعدوم لا

ص: 260

يكون محلّاً لها.

الوجه الثاني: أنّه لو كان عمل الحُرّ مالاً، وكان صاحبه ذا مال، لتعلّق به الاستطاعة إذا كان قادراً على عمل، يكون عوضه ممّا تحقّق به الاستطاعة، وخرج عن كونه فقيراً.

الوجه الثالث: أنّه لو كان مالاً لكان حابسه ضامناً.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلما مرّ من أنّ الأُمور الاعتباريّة تقوم بمحلٍّ يكون موجوداً تقديراً، والمقام كذلك، فإنّ عمل الحُرّ يقدّر وجوده بتبع وجود العامل وقدرته عليه.

وأمّا الثاني: فلأنّ الاستطاعة تتوقّف على الملكيّة، وكون الشخص ذا مال، وعمل الحُرّ وإنْ كان مالاً، إلّاأنّه ليس مِلْكاً لعامله، فلا تتحقّق به الاستطاعة، نعم لمجرّد سلطنته على تمليكه للغير يخرج عن كونه فقيراً، ولا يصدق عليه هذا العنوان.

وأمّا الثالث: فلأنّ الضمان لابدّ له من سبب، وهو: إمّا الإتلاف، أو اليد، أو الاستيفاء، وشيءٌ منها لا يكون في المقام.

أمّا الأوّل: فلأنّه ليس مال العامل حتّى يشمله قاعدة: (من أتلف مال الغير فهو له ضامن).

وأمّا الثاني: فلأنّ عمل الحُرّ لا يكون تحت اليد، والاستيلاء لا بنفسه ولا بتبع الاستيلاء على الحُرّ.

وبعبارة أُخرى : قاعدة اليد إنّما تجري في صورة الاستيلاء، والحُرّ لا يدخل تحت استيلاء غيره.

ص: 261

وأمّا الثالث: فواضح.

فتحصّل: أنّ الأظهر أنّه مالٌ قبل وقوع المعاوضة عليه.

وأمّا الجهة الثانية: فبناءاً على كونه مالاً، فإنّ جميع ما ذكر وجها لعدم جواز جعل المنفعة عوضاً جار هنا، والجواب ما ذكرناه.

وعلى فرض عدم كونه مالاً، فقد استدلّ على عدم الجواز - مضافاً إلى ذلك - بأنّه يعتبر في المبيع والثمن أن يكونا من الأموال قبل البيع.

وفيه: إنّه لم يدلّ دليلٌ على اعتبار ذلك لا من العرف ولا من الشرع، وتعريف «المصباح» لا حجيّة له كما سبق القول بذلك، بل يعتبر عرفاً وشرعاً كون المبيع قابلاً لأن يعوّض عنه، وضابط ذلك كونه متعلّقاً للأغراض، ومعلومٌ أنّ عمل الحُرّ كذلك.

وبالجملة: فالأظهر أنّه يصحّ جعل عَمل الحُرّ عوضاً.

***

ص: 262

حقيقة الحَقّ وأقسامه

وأمّا المورد الرابع: فيدور البحث فيه عن الحقّ وحقيقته وأقسامه.

قال الشيخ رحمه الله في «المكاسب»(1): (وأمّا الحقوق: فإنْ لم يقبل المعاوضة بالمال كحقّ الحضانة... إلى آخره).

أقول: تنقيح القول في المقام إنّما يتحقّق بالبحث في جهات:

الجهة الأُولى: أنّه المذكور في الأدلّة عناوين ثلاثة: الملك، والحكم، والحَقّ .

أمّا الملك: فقد تقدّم أنّه أمر اعتباري.

وأمّا حقيقة الحكم: فواضحة ومذكورة في محلّها.

إنّما الكلام في حقيقة الحقّ بنحوٍ يمتاز عن المِلْك والحكم.

أقول: للحقّ معنيان: معنى لغوي واصطلاحي عرفي.

الحقّ في اللّغة: هو الثبوت(2)، وبهذا الاعتبار يطلق على اللّه سبحانه وتعالى أنّه الحقّ من جهة أنّ ثبوته من أعلى مراتب الثبوت، كما أنّه يقال للأمر الموافق للواقع أنّه حقّ من جهة ثبوته، وهكذا سائر موارد استعماله.

وأمّا بحسب الاصطلاح فقد يقال: إنّ الحقّ هو المِلْك، ولعلّه المراد من قول السيّد في «الحاشية»(3): (إنّه مرتبة ضعيفة من المِلك بل نوعٌ منه)، ولذا عَبّر عن حقّ الخيار بملك فسخ العقد(4)، غاية الأمر المملوك:

ص: 263


1- المكاسب: ج 3/8-9.
2- مجمع البحرين: ج 2/425.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/55.
4- حاشية المكاسب لليزدي: ج 2/3.

تارةً : يكون العين بما لها من الشؤون.

وأُخرى : جهة خاصّة منها.

وثالثة: عمل من أعمال الحُرّ.

وفي الجميع الملكيّة واحدة، وإنّما المملوك مختلف.

وبه يندفع: ما أُورد على هذا(1): بأنّ الملك ملزومٌ للسلطنة المطلقة، مع أنّ الحقّ سلطنة خاصّة على تصرّف خاص.

ولكن يرد على هذا: أنّه ربما يُضاف الحقّ إلى ما لا يكون له اعتبار الملكيّة شرعاً، كحقّ الاختصاص بالخمر التي سبقها الخلّية، أو كحقّ الأولويّة في الأرض المحجّرة التي لا تُملك إلّابالإحياء.

وقد يقال: إنّه مرتبة ضعيفة من الملك.

وفيه: إنّ الملكيّة التي هي أمرٌ اعتباري بسيطة، لا يكون لها مراتب، واختلاف المملوك سعةً وضيقاً أجنبيّ عن اختلاف مراتب الملكيّة.

فالحقّ أنْ يقال: إنّه عبارة عن اعتبار السلطنة على شيء، أو شخص في جهة خاصّة، مثلاً حقّ الشفعة عبارة عن السلطنة على ضمّ حصّة الشريك إلى حصّته بتملّكه عليه قهراً، وحقّ الخيار عبارة عن السلطنة على الفسخ والإمضاء، وهكذا سائر الحقوق.

أقول: ثمّ لا يخفى إنّ هذا ليس حقيقة شرعيّة له، إذ - مضافاً إلى عدم الدليل عليه - أنّ الحقّ يُستعمل كثيراً في الأخبار وكلمات علمائنا الأبرار في الحكم، وعليه2.

ص: 264


1- راجع حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/42.

فتشخيص كون مورد خاص من قبيل الحكم أو الحقّ بالمعنى الذي ذكرناه، يتوقّف على ملاحظة الخصوصيّات والقرائن، ولا يستفاد ذلك من مجرّد إطلاق الحقّ عليه.

الجهة الثانية: في بيان أقسام الحقوق.

أقول: جعل الشيخ رحمه الله للحقّ أقساماً:

القسم الأوّل(1): ما لا يقبل المعاوضة بالمال كحقّ الحضانة والولاية.

أقول: والمراد به بحسب الظاهر - لا سيّما مع ملاحظة التمثيل - هو ما لا يقبل النقل ولا الإسقاط، ويحتمل بعيداً أن يكون المراد به ما كان له إسقاطه ونقله، لكن مجّاناً لا بالعوض كحقّ القسم، فقد ذكر العلّامة رحمه الله(2): أنّ لكلّ من الأزواج نقله إلى ضرّتها وإسقاطه، إلّاأنّه ليس لها أخذ المال بإزاء ذلك.

القسم الثاني(3): ما يقبل الإسقاط ولا يقبل النقل كحقّ الشفعة والخيار.

القسم الثالث(4) : ما يكون قابلاً للنقل والانتقال والإسقاط كحقّ التحجير.

وأُورد المحقّق النائيني رحمه الله (5) على هذا التقسيم: بالنحو الذي استظهرناه، بأنّه لا يعقل فرض شيء حقّاً وغير قابل للإسقاط، فإنّه لو لم يقبل الإسقاط فكيف تكون له السلطنة، وكيف يكون زمام أمره بيده، بل الضابط للحقّ والفرق بينه وبين الحكم كونه قابلاً للإسقاط، وتبع في هذا الضابط شيخنا السعيد الشهيد رحمه الله(6).

وفيه: إنّ مقتضى سلطنة الإنسان على شيء، هو كون أمره بيده لا أمر السلطنة3.

ص: 265


1- المكاسب: ج 3/8.
2- قواعد الأحكام: ج 2/94.
3- المكاسب: ج 3/9.
4- المكاسب: ج 3/9.
5- منية الطالب: ج 1/107.
6- القواعد والفوائد: ج 2/43.

بيده، والإنسان مسلّط على العين - أو العمل - لا أنّه مسلّطٌ على سلطانه ومالكٌ له، وبهذا البيان التزمنا بأنّ (النّاس مسلّطون على أموالهم)(1)، لا يدلّ علي صحّة الإعراض.

وبالجملة: كما أنّ أمر الحكم بيد الحاكم، كذلك الحقّ أمره بيد المعتبر ومن بيده الاعتبار، فإذا لم يَجعل المُعتبر أمر رفع هذا الاعتبار ونقله إلى الغير بيد من اعتبر له، لم يكن له ذلك.

وعليه، فالحقّ أنّ من أقسام الحقّ ما لا يقبل الإسقاط.

ثمّ إنّ معرفة أنّ الحقّ الفلاني هل هو قابلٌ للإسقاط والنقل أم لا؟ لابدّ وأن تكون من الدليل، وليس لذلك ضابط كلّي يمتاز به الحقوق كلّ منها عن غيره، وتمام الكلام في ذلك موكولٌ إلى محلّ آخر.

الجهة الثالثة: كلّ حقّ قابلٌ للنقل، هل يجوز نقله إلى من عليه الحقّ أم لا؟

صريح «المكاسب»(2) والمحقّق النائيني رحمه الله(3) عدم الجواز، مستدلّين عليه بأنّ الحقّ لمّا كان نحواً من السلطنة على من عليه الحقّ ، فلا يُعقل نقله إليه، لأنّ الإنسان لا يمكن أن يتسلّط على نفسه بالنحو الذي كان لطرفه.

وبالجملة: لا يُعقل قيام طرفي السلطنة بشخصٍ واحد.

أقول: وشيّد بعضهم(4) هذا الوجه بأنّ المسلّط والمسلّط عليه متضائفان، والتضائف من أقسام التقابل، فكيف يُعقل اجتماعهما في واحد؟!4.

ص: 266


1- بحار الأنوار: ج 2/272.
2- المكاسب: ج 3/9.
3- كتاب المكاسب والبيع: ج 1/94.
4- مصباح الفقاهة: ج 2/44.

ويرد عليه أوّلاً: أنّ المسلّط عليه إنّما هو بمعنيين:

الأوّل: طرف السلطنة.

الثاني: من بضرره السلطنة.

مثلاً في حقّ الخيار وحقّ الشفعة الذين هما مورد كلام الشيخ رحمه الله، يكون حَلّ العقد في الأوّل وتملّك الشريك ما اشتراه المشتري ببذل الثمن في الثاني مسلّط عليهما بالمعنى الأوّل، ومن عليه الحقّ في الموردين هو المسلّط عليه بالمعنى الثاني، وفي جميع الحقوق التي فيها من عليه الحقّ ، يكون الأمر على هذا المنوال، وعليه فنقل الحقّ إلى من عليه الحقّ ، لا يلزم منه اتّحاد المسلّط والمسلّط عليه، بمعنى قيام طرفي السلطنة بشخصٍ واحد، كي يكون أمراً غير معقول.

وثانياً: أنّه لو سُلّم كون المسلّط عليه هو من عليه الحقّ ، فلا أرى محذوراً في اجتماعهما في شخص واحد، وليس كلّ ما هو من أقسام التضائف من أنحاء التقابل، بل ما كان بينهما تغايرٌ في الوجود كالعلّية والمعلوليّة منها، وإلّا فالعالميّة والمعلوميّة، أو المحبّية والمحبوبيّة من أقسام التضائف، وليستا من أنحاء التقابل، وتجتمعان في شخص واحد، حيث يحبّ الإنسان نفسه ويعلم بنفسه.

والسلطنة من هذا القبيل، فإنّ معناها كون الشخص قاهراً على شخص، وكون الغير تحت إرادته واختياره، وهذا المعنى يمكن اجتماعه في شخص واحد، بل سلطنة الإنسان على نفسه من أعلى مراتب السلطنة، كيف وقد ورد قوله صلى الله عليه و آله:

«النّاس مسلّطون على أنفسهم» ولم يستشكل أحدٌ فى معقوليّة ذلك. فتدبّر فإنّه دقيق.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز نقله إلى من عليه الحقّ .

ص: 267

الجهة الرابعة: في حكم جَعل الحقوق عوضاً.

أقول: بعدما لا كلام ولا إشكال في عدم صحّة جعل ما هو من قبيل القسم الأوّل - أي ما لا يقبل الانتقال والإسقاط عوضاً - وقع الخلاف في القسمين الأخيرين، وها هنا أقوال:

القول الأوّل: عدم صحّة جعل شيء منهماعوضاً، وهذا مختار المحقّق النائيني رحمه الله(1).

القول الثاني: جواز جعل ما يقبل الانتقال خاصّة عوضاً.

القول الثالث: جواز جعل كلّ منهما عوضاً، غاية الأمر في ما لا يقبل الانتقال يصحّ جعل إسقاطه عوضاً.

أمّا المحقّق النائيني رحمه الله: فقد استدلّ علي عدم جواز جعل نفس الحقّ عوضاً(2):

بأنّ حقيقة البيع تبديل طرف الإضافة بمثله، ولازم ذلك دخول كلّ من الثمن والمثمن في ملك مالك الآخر، ومعلومٌ أنّ الحقّ ليس كذلك، فإنّه مباينٌ مع الملك سنخاً، فلا يصلح للحلول محلّ المثمن في المِلْكيّة كي يصدق البيع.

وأيضاً: استدلّ رحمه الله على عدم جواز جعل الإسقاط عوضاً(3)، بأنّ نفس الإسقاط بما أنّه فعلٌ من الأفعال، وأثره وهو السقوط بما أنّه اسم المصدر ليس من الأفعال التي تقبل المملوكيّة نظير الخياطة، فإنّ هذا المعنى معنى حرفي غير قابل لأن يتموّل إلّاباعتبار نفس الحقّ ، وقد عرفت ما فيه.

أقول: وأمّا ما أفاده في نفس الحقّ ، فيرد عليه:

أنّ تعريف البيع بما ذُكر - مضافاً إلى ما مرّ ما فيه من المحاذير - ليس مورد آية1.

ص: 268


1- منية الطالب: ج 1/111.
2- منية الطالب: ج 1/111.
3- منية الطالب: ج 1/111.

أو رواية حتّى يجعل صدقه أو عدم صدقه مبنى للأحكام الشرعيّة، وقد مرّ أنّ حقيقة البيع ليست إلّاجعل شيءٍ بإزاء شيء، فإذا جُعل المبيع بإزاء حَقّ التحجير، بأن يصبح هذا الحقّ لمالك المبيع في مقابل خروجه عن ملكه، فقد جُعل شيءٌ بإزاء شيء، وهو بيعٌ حقيقة.

وأمّا ما ذكر في الإسقاط، فيرد عليه: - مضافاً إلى ذلك - أنّ نفس الإسقاط وإنْ كان معنى حرفيّاً لا يتموّل، والحقّ في نفسه غير المالك، إلّاأنّه لا مانع من صيرورة الحقّ سبباً وواسطة في قابليّة إسقاطه للملكيّة، ونظير ذلك أنّ العلم بنفسه لا يُملك، لكنّه يصير سبباً لزيادة ماليّة العبد المتّصف به.

وبالجملة: عدم قابليّة الحقّ للمملوكيّة، لا ينافي صيرورته واسطة في كون إسقاطه قابلاً للتموّل والمملوكيّة. فتدبّر فإنّه دقيق.

أقول: ثمّ إنّه استدلّ الشيخ رحمه الله(1) وفاقاً لغيره من الأعلام لعدم جواز جعل ما لا يقبل النقل عوضاً: بأنّ البيع تمليك الغير.

مراده: أنّ حقيقة البيع هو التمليك من الطرفين، فما لا يقبل النقل لا يقبل التمليك، فلا يصحّ جعله عوضاً.

ولمّا كان صاحب «الجواهر»(2) بعدما نقل هذا من اُستاذه، وذكر في وجهه: أنّ البيع من النواقل لا من المسقطات، فلا يصحّ جعله عوضاً على معنى سقوطه، أُشكل عليه بأنّ من البيع بيع الدين على من هو عليه، مع أنّه لا يفيد إلّاالإسقاط،9.

ص: 269


1- المكاسب: ج 3/9.
2- جواهر الكلام: ج 22/209.

فيصحّ أن نلتزم في الحقّ أيضاً بذلك.

وتصدّى الشيخ رحمه الله لجواب هذا الإشكال(1): بأنّه فرقٌ بين الموردين، فإنّه في بيع الدين على من هو عليه تحدثُ الملكيّة آناً مّا وتسقط، ولا مورد لتقرير ذلك في الحقّ بأن تعود حقيقة الإسقاط المجعول عوضاً إلى نقل الحقّ إلى من هو عليه، ليكون ذلك مؤثّراً في سقوطه، ويدّعي أنّ ما دلَّ على أنّه لا يقبل النقل يكون المراد به النقل على وجه الاستقرار، لا على هذا الوجه، فإنّ نقل الحقّ إلى من عليه ولو آناً مّا محالٌ ، لاستلزام ذلك اتّحاد المسلّط والمسلّط عليه، وقد تقدّم تنقيح ذلك.

أقول: وبهذا البيان الذي بيّنا من خلاله مراد الشيخ رحمه الله، يندفع جملةٌ ممّا أورده المحشّون عليه(2).

واستدلّ لعدم جواز جعل ما يَقبل النقل عوضاً: بعدم صدق المال على الحقّ ، ولو بعد البيع، وقد أُخذ المال في عوضي المبايعة لغةً وعرفاً.

ويرد على الدليل الأوّل: أنّ البيع ليس هو التمليك من الطرفين، بل هو إعطاء شيء بإزاء شيء، ولو كان الشيء الثاني سقوط الحقّ ، فلا مانع من جعل سقوط الحقّ عوضاً، وإنْ لم يقبل النقل، وقد تقدّم تماميّة ما أورده صاحب «الجواهر» من النقض، وعدم صحّة جواب الشيخ رحمه الله عنه.

ويرد على الثاني: أنّ المال إنْ كان هو ما يُبذل بإزاء الشيء، لكونه مورداً لرغبة العقلاء وميلهم من جهة ما فيه من الأغراض العقلائيّة، فالحقّ مال.3.

ص: 270


1- المكاسب: ج 3/9.
2- حاشية المكاسب للآخوند: ص 3، وحاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/53.

وإنْ كان المال بحسب المفهوم العرفي أخصّ من ذلك، كما ادُّعي، فالحقّ وإنْ لم يكن مالاً، إلّاأنّه لا دليل على اعتبار المال في عوضي المبايعة، ومجرّد تعريف «المصباح» أو ما شابهه لا يصلح لذلك كما تقدّم، فإنّ حقيقة البيع إعطاء شيء بإزاء شيء، ولا يعتبر في صدقة سوى كون العوض أو المعوّض ممّا يُبذل بإزائه الشيء، والحقّ كذلك.

فتحصّل: أنّ الأظهر جواز جعل كلٍّ من القسمين عوضاً، غاية الأمر في القسم الأوّل يُجعل سقوط الحقّ عوضاً، وفي القسم الثاني يجوز جعل سقوطه عوضاً، كما يجوز جَعل نقله عوضاً.

***

ص: 271

عدم اعتبار تعقّب القبول في صدق البيع

التنبيه الثاني: ويدور البحث فيها عن اعتبار تعقّب القول في صدق البيع وعدمه.

قال الشيخ رحمه الله(1): (ويظهر من بعض من قارب عصرنا استعماله في معانٍ أُخر...

إلى آخره).

أقول: لم يظهر لنا وجه الطريقة التي سار عليها الشيخ رحمه الله في المقام، لأنّه ذكر أوّلاً تعريف «المصباح»، ثمّ بعده انتقل إلى بيان أُمور أُخر، ثمّ عاد إليه مرّةً اُخرى بذكره سائر التعاريف، ثمّ كرّر العود إليه في هذا الموضع، مع أنّ ما ذكره هنا من المعاني قد تقدّم بعينه سابقاً!

ولكن الذي يهمّنا في المقام، بيان أنّه هل يعتبر في صدق البيع تعقّب القبول أم لا؟ وفيه أقوال:

القول الأوّل: ما في «المكاسب»(2) من فرض عدم اعتباره، وتبعه المحقّق النائيني رحمه الله(1).

القول الثاني: اعتباره إمّا بكونه اسماً للجموع، أو فعل البائع بشرط التعاقب على نحو الشرط المتأخّر، اختاره السيّد(2) والمحقّق الايرواني(3).

القول الثالث: اعتبار قابليّته لتعقّب القبول، وقد اختاره بعض مشايخنا المحقّقين.

أقول: والأظهر هو القول الأوّل، وذلك يظهر من ملاحظة إنشاء البائع، فإنّه إذا

ص: 272


1- منية الطالب: ج 1/94.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/62.
3- كما يظهر من حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/75.

قال (بعتُ ) أظهر بذلك ما اعتبره في نفسه، والمشتري إنّما يقبل ذلك لا أنّ فعله دخيلٌ في ما ينشأه البائع، هذا مضافاً إلى ملاحظة سائر مشتقّاته كالبائع وغيره، مع أنّه لو نذر أن يبيع داره صَحّ هذا النذر، ولو كان البيع فعل المجموع، أو فعل البائع بشرط التعقّب بالقبول لما صحّ ، لكون جزء المنذور أو شرطه خارجاً عن تحت القدرة، ويؤيّده قوله صلى الله عليه و آله: «البيّعان بالخيار»(1)، إذ لو كان (البيع) اسماً لفعل المجموع لما كانا بيّعين، بل كان كلّ واحدٍ منهما بائعاً.

وقد استدلّ للثاني(2):

1 - بالتبادر.

2 - وبصحّة السلب عن المجرّد، ولهذا لا يقال: (باع فلان ماله) إلّابعدما اشتراه غيره.

3 - وبأنّ البيع من العقود، ولو تحقّق البيع بمجرّد إنشاء البائع، لزم كونه إيقاعاً.

4 - وباستعماله في المتعقّب بالقبول في النصوص والفتاوى، من قولهم: (لزم البيع) أو (وجب) أو (لا بيع بينهما) أو (إقالة البيع) أو نحو ذلك.

أقول: وفي الكلّ نظر:

أمّا الأوّلان: فلأنّ التبادر وصحّة السلب إنّما يتّمان في مثل (بعتُ داري) في مقام الإخبار، الذي قامت القرينة على كونه لبيان البيع المثمر، ولا يتّمان في غير هذا المورد.2.

ص: 273


1- وسائل الشيعة: ج 18/5-7 ب 1 من أبواب الخيار، التهذيب: ج 7/20 ب 2 ح 2.
2- راجع حاشية المكاسب: ج 1/62.

وأمّا الثالث: فلأنّ العقد والإيقاع مصطلحان، والمراد بالأوّل ما يعتبر فيه القبول، وبالثاني ما لا يعتبر، ولا كلام في اعتباره في صحّة البيع وترتّب الأثر عليه.

وأمّا الرابع: فلأنّ الاستعمال أعمٌّ من الحقيقة، لا سيّما مع قيام القرينة على إرادة موضوع الأثر.

وقد استدلّ للثالث: بأنّ البيع اسمٌ للصحيح العرفي، والصحيح العرفي في أجزاء السبب ما كان قابلاً لأن يلتئم منه المجموع، فيكون معنى البيع إنشاء التمليك القابل لأن يلحق به القبول.

وفيه: ما سيأتي من فساد المبنى، وأنّ البيع ليس موضوعاً للصحيح العرفي.

وبالجملة: فالحقّ عدم اعتبار تعقّبه القبول في مفهوم البيع، لا بنحو الجزئيّة ولا بنحو الشرطيّة، نعم هو معتبرٌ في صحّة البيع عرفاً وشرعاً.

***

ص: 274

البيع حقيقة في الصحيح أو الأعمّ

التنبيه الثالث: نصَّ الشهيد الثاني رحمه الله في كتاب اليمين من «المسالك»(1) على أنّ عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح.

أقول: يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في بيان ما أفاده الشيخ رحمه الله في المقام.

الثاني: في بيان ما هو الحقّ .

أمّا المقام الأوّل: فقد يقال إنّ ألفاظ المعاملات من البيع وغيره أسام للصحيح، وإنّما تستعمل في غيره مجازاً.

وأُورد عليه بإيرادين:

الإيراد الأوّل: أنّ لازم ذلك الالتزام بالحقيقة الشرعيّة في المعاملات، مع أنّه بالبداهة ليس كذلك، كيف وقد كان الشارع المقدس يستعمل أساميها فيما كان يستعمل فيه العرف، ولم يصرّح في مورد بكون مراده غير ما يفهمه العرف.

الإيراد الثاني: إنّ لازم ذلك عدم جواز التمسّك بإطلاقات أدلّة العقود مثل قوله تعالى : (أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ ) (2) ونحوه لنفي اعتبار ما شُكّ في اعتباره فيها، إذ مع الشكّ المزبور لا محالة يُشكّ في صدق الموضوع، ومعه لا مجال للتمسّك بالإطلاق، مع أنّ سيرة علماء الإسلام على التمسّك به في هذه المقامات.

ص: 275


1- مسالك الأفهام: ج 11/263.
2- سورة البقرة: الآية 275.

وأجاب الشيخ رحمه الله عن الأوّل(1): بأنّ كلمة (البيع) أو شبهه إذا استعمل عند العرف في الحاصل من المصدر - أي المسبّب والمُنشَأ - لا يُستعمل إلّافيما هو مؤثّرٌ وصحيح، ولو في نظرهم، ثمّ إذا كان مؤثّراً عند الشارع كان بيعاً عنده أيضاً، وإلّا كان صورة بيع، فالموضوع له إنّما هو الصحيح المفيد للأثر، ولا اختلاف في هذا المفهوم بين العرف والشرع، وإنّما الاختلاف في المصداق، فإنّ أهل العرف يرون بعض البيوع مفيداً مؤثّراً والشارع لا يراه كذلك.

لا يقال: إنّ تخطأة الشارع العرف إنّما تتصوّر فيما له واقعٌ في عالم العين والوجود، ولا تتصوّر فيما لا واقع له، وكان في ذاته مختلفاً باختلاف الأنظار كالبيع، فإنّه إنْ كان موضوعاً لاعتبار الملكيّة في نظر العرف، وإنْ لم يعتبرها الشارع، كان موضوعاً للأعمّ ، وإنْ كان موضوعاً لاعتبارها في نظر الشارع عاد المحذور، وعلى أيّ تقديرٍ لا معنى للتخطأة المذكورة.

فإنّه يقال: إنّ اعتبار الملكيّة، سواءٌ كان المُعتَبِر هم العقلاء أو الشارع، إنّما يكون عن مصلحة داعية إليه، وأهل العرف ربما يعتقدون وجودها فيعتبرون الملكيّة، والشارع المقدس يُخطّأهم في ذلك لكونه محيطاً بالواقعيّات، ويرى أنّه ليس في هذا الاعتبار مصلحة غير مزاحمة بالمفسدة، كما في البيع الربوي، فالتخطأة إنّما تكون في المُنشَأ للاعتبار.

أقول: وأجاب رحمه الله عن الإيراد الثاني بوجهين(2):

الوجه الأوّل: أنّ البيع وإنْ كان موضوعاً للصحيح المؤثّر، إلّاأنّ العرف بما أنّه0.

ص: 276


1- المكاسب: ج 3/20.
2- المكاسب: ج 3/20.

مخاطب بالخطابات الشرعيّة، فيحمل دليل إمضاء البيع على إمضاء ما هو الصحيح المؤثّر عندهم، ولو كان مراده خلاف ما عليه العرف، لزم عليه نصب القرينة، فمع عدمه يكون الموضوع هو البيع الصحيح عند العرف.

وهذا التقريب لا دخل له بتخطأة الشارع نظر العرف أو تصويبه، إذ صريح عبارته أنّ الموضوع هو الصحيح المؤثّر عند العرف. فلاحظ.

الوجه الثاني: حَمل لفظ (البيع) وشبهه الواقع في أدلّة الإمضاء على المصدر الذي يُراد من لفظ (بعتُ ) أي إنشاء تمليك عينٍ بعوض، الذي هو فعل الموجب، واختاره في تعريف البيع، فإذا حكم الشارع عليه بالحِلّ أو بوجوب الوفاء، استكشف منه كونه خصوص المؤثّر في نظر الشارع، وإلّا لما كان له حليّة ولا وجوب الوفاء، ومقتضى إطلاقه كون إنشاء النقل يوجب النقل شرعاً.

هذا محصّل كلامه بتوضيح منا.

أورد المحقّق النائيني رحمه الله: على ما ذكره ثانياً في وجه التمسّك بالإطلاق(1)، بأنّ المطلقات الواردة في الكتاب والسُنّة كلّها واردة في مقام إمضاء المسبّبات، دون الأسباب، لأنّها أسام للمسبّبات.

وأورد على ما ذكره أوّلاً: بأنّه إذا كان الدليل وارداً في مقام إمضاء المسبّبات - أي المعاملات الرائجة عند العرف كالزوجيّة والمبادلة، مع قطع النظر عن الأسباب التي يتوسّل بها إليها - فلا يدلّ على إمضاء الأسباب.

وبعبارة أُخرى: المسبّب له وجودٌ غير وجود السبب، فإمضائه لا يكون2.

ص: 277


1- كتاب المكاسب والبيع: ج 1/112.

إمضاءاً للسبب.

نعم، إذا لم يكن له سببٌ متيقّن أصلاً فإنّه لا محالة يكون امضائه إمضاءاً له، وإلّا لزم اللّغوية، وفي المقام السبب المتيقّن موجودٌ كما هو واضح.

ودعوى: أنّ أهل العرف حيث يرون حصول المسبّب بسبب معيّن عندهم، فإمضاء المسبّب يستلزم إمضاء السبب.

مندفعة: بأنّ المتّبع هو أنظار أهل العرف في تعيين المفاهيم لا في التطبيق، فهم وإن رأوا حصول المسبّب عند وجود أمر خاص، إلّاأنّ إمضاء المسبّب لا يعني بالضرورة إمضاءاً لنظرهم في التطبيق أيضاً.

ولكن يمكن دفع الثاني: بأنّ مقتضى إطلاق دليل المسبّب الإفرادي، إمضاء كلّ فردٍ فردٍ من أفراد المسبّب عند العرف، ولازم ذلك إمضاء كلّ سببٍ يتسبّب به إليه، وإلّا كان إطلاق دليل المسبّب مقيّداً بغير ما حصل من ذلك السبب الذي يشكّ في إمضائه.

ولعلّه إلى هذا يرجع ما نقله رحمه الله عن التقريرات وذكرناه بقولنا: (ودعوى) وعليه فهو حقّ .

ولكن الذي يرد عليه: ما تقدّم في أوّل الكتاب من أنّ ما هو المعروف من كون الإنشاء عبارة عن إيجاد أمر باللّفظ أو شبهه ممّا لا أساس له.

أقول: وأجاب المحقّق النائيني رحمه الله، عن الإشكال بوجهٍ آخر وهو(1):

إنّ نسبة صيغ العقود إلى المعاملات، ليست نسبة الأسباب إلى المسبّبات، بل3.

ص: 278


1- كتاب المكاسب والبيع: ج 1/113.

نسبتها إليها نسبة الآلة إلى ذي الآلة، والإرادة متعلّقة بنفس المعاملة ابتداءً ، بداهة أنّ الموجد للملكيّة ليس قول (بعتُ ) نظير الإلقاء الموجد للإحراق، بل الموجد لها إرادة البائع، فإذا لم يكن من قبيل الأسباب والمسبّبات، فليس هناك موجودان خارجيّان، حتّى لا يكون إمضاء أحدهما إمضاءً للآخر، بل الموجود واحد، غاية الأمر أنّه باختلاف الآلة ينقسم إلى أقسام عديدة، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان، ولم يقيّده بنوع خاص، يُستكشف منه عمومه لجميع الأنواع.

وفيه: - مضافاً إلى ضعف المبنى لما أشرنا إليه في أوّل الكتاب - إنّ وجود ذي الآلة مغايرٌ مع وجود الآلة بالوجدان، والإرادة وإنْ تعلّقت حين البيع بذي الآلة ابتداءً وبالآلة تتعلّق تبعاً، إلّاأنّه في مقام الجعل لابدّ من لحاظ الآلة مستقلّاً كي يُرى صلاحيّة كلّ آلة عرفيّة لذلك، أو آلة خاصّة، وعليه فإذا كان الإطلاق مسوقاً لبيان إمضاء ذي الآلة، لا يصحّ التمسّك بالإطلاق، لصلاحيّة كلّ آلةٍ لذلك، إلّا بالتقريب الذي ذكرناه.

والتالي، فلا فرق بين كونها من قبل الأسباب والمسبّبات أو الآلة وذي الآلة.

وأمّا المقام الثاني: فالكلام فيه يقع في موضعين:

الأوّل: في أنّ ألفاظ المعاملات أسامٍ للصحيحة أو الأعمّ .

الثاني: في التمسّك بإطلاقات أدلّة الإمضاء.

أمّا الموضع الأوّل: فقد يقال - كما عن جماعة من المحقّقين منهم المحقّق الخراساني رحمه الله(1) والمحقّق النائيني(2) -: أنّها إنْ كانت موضوعة للمسبّبات لا مجال8.

ص: 279


1- الكفاية: ص 32.
2- كتاب المكاسب والبيع: ج 1/108.

للنزاع المذكور، إذ لو كانت أسامي للمسبّبات لا تتّصف إلّابالوجود والعدم، دون الصحّة والفساد.

أقول: ولكن الحقّ في المقام أنّ الصحّة والفساد لا يُتّصف بهما إلّاالموجود الخارجي، واتّصافه بهما إنّما يكون بلحاظ انطباقه على ما أُخذ طرفاً للحكم أو الاعتبار الشرعي وعدمه، وعليه فالمسبّبات أيضاً تتّصف بهما، وذلك لأنّ في باب المعاملات كالبيع أُموراً أربعة:

أحدها: اعتبار المتعاملين الملكيّة.

ثانيها: اعتبار العقلاء وإمضائهم لذلك.

ثالثها: اعتبار الشارع إيّاها.

رابعها: إظهار ذلك الأمر النفساني بمُظهِرٍ خارجي.

ولا ريب في أنّها إنْ كانت أسامي للمسبّبات، تكون أسامي للاعتبارات الصادرة من المتعاملين، لا الصادرة من العقلاء والشارع، مثلاً (البيع) اسمٌ لفعل البائع، ولا يُطلق على الشارع والعقلاء البائع، وحيث أنّ الشارع المقدّس لم يعتبر الملكيّة في كلّ مورد اعتبرها المتعاملان، بل في بعض مواردها - كما إذا كان مُظْهِراً بلفظٍ أو غيره من المظهرات الخارجيّة، وكان المعتبر غير محجور عليه، وغير ذلك من الخصوصيّات - فكلّ اعتبارٍ خارجي شخصي إنْ كان منطبقاً على ما هو موضوع للاعتبار الشرعي، وطرف له فهو صحيح، وإلّا فهو فاسد، فالمعاملات وإنْ كانت أسامي للمسبّبات، لكنّها برغم ذلك تتّصف بالصحّة والفساد أيضاً، وقد مرّ أنّ (البيع) اسمٌ للمسبّب، أي الاعتبار الصادر من البائع.

ص: 280

ثمّ الظاهر كونه اسماً للأعمّ لا لخصوص الصحيح بالمعنى المتقدّم، فإنّ الصحّة إنّما تنتزع عن مطابقة المأتي به لما هو طرف الاعتبار، فهي متأخّرة عن الإمضاء، فكيف يمكن أخذها في المرتبة السابقة عليه - فتدبّر - فإنّه يمكن أنْ يقال بوضعها للحصص الخاصّة للامضاء الشرعي، مع أنّ المعاملات أُمور عرفيّة أمضاها الشارع الأقدس، وضروري أنّه لم يتصرّف في وضعها، ولم يستعملها في غير ما وضعت تلك الألفاظ له في العرف، بل استعملها في معانيها، غاية الأمر اعتبر تحقّق قيود في إمضائها.

التمسّك بالإطلاق

وأمّا الموضع الثاني: فبناءً على ما اخترناه من أنّ البيع مثلاً اسمٌ للاعتبار الصادر من المتعاملين، وأنّه لا يعتبر في صدقه شيءٌ آخر، وأنّ دعوى كون باب المعاملات من قبيل إيجاد أمر باللّفظ ونحوه فاسدة، بل هي اعتبارات قائمة بالمتعاملين، تظهر باللّفظ وبغيره، الأظهر جواز التمسّك بإطلاقات أدلّة الإمضاء لإمضاء كلّ ما هو مُظهِر لها، وذلك لأنّ أدلّة إمضاء المعاملات، مثل قوله تعالى:

(أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ ) (1) ، كما أنّ لكلّ واحدٍ منها إطلاقاً إفراديّاً، ويدلّ على إمضاء كلّ فردٍ فردٍ من أفراد البيع مثلاً، كذلك له إطلاق أحوالي، فمقتضى قوله تعالى : (أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ ) (2) إمضاء كلّ فردٍ من أفراد البيع، في جميع حالاته، أي سواءٌ أُبرز بالعربي أو بالفارسي أو بغيرهما، ولازم ذلك إمضاء كلّ مظهر.

ص: 281


1- سورة البقرة: الآية 275.
2- سورة البقرة: الآية 275.

ولو تنزّلنا عن ذلك، وسَلّمنا دخل شيءٍ آخر غير الاعتبار القائم بالمتعاملين في المعاملات، وأنّه لا تصدق أساميها بمجرّد تلك الاعتبارات، فلا يخلو ذلك من أُمور:

أحدها: اعتبار إمضاء العرف والعقلاء، بمعنى أنّ كلّ معاملةٍ واقعة بين المتعاقدين، ممضاةٌ عند العرف، فهي بيع أو غيره وإلّا فلا.

ثانيها: اعتبار إمضاء الشارع فيها.

ثالثها: اعتبار وجود المصلحة والمناسبة الواقعيّة، بمعنى أنّ كلّ معاملة واقعة عن المصلحة والمناسبة الواقعيّة فهي بيع أو غيره.

رابعها: أنْ يكون البيع مثلاً موضوعاً لأمر واقعي، ويكون نظر العرف والشرع طريقاً إليه، وعليه يكون النهي تخطأة للعرف في المصداق.

وبالجملة: فلو كان المعتبر هو الأمر الأوّل، وشُكّ في دخالة شيء في إمضاء العرف والعقلاء وعدمه، لما صحّ التمسّك بالإطلاق، لنفي اعتباره، للشكّ في صدق الموضوع.

وأمّا لو أُحرز ذلك، وشُكّ في دخالته في الإمضاء الشرعي وعدمه فإنّ المرجع لنفيه هو التمسّك بالإطلاق.

ولو كان المعتبر هو الثاني، لا يصحّ التمسّك بالإطلاق لنفي اعتبار ما شُكّ في اعتباره، لا بالإطلاق اللّفظي، ولا بالإطلاق المقامي:

أمّا الأوّل: فللشكّ في صدق الموضوع.

وأمّا الثاني: فلوجود القدر المتيقّن في المعاملات الرائجة عند العرف الذي يمكن

ص: 282

أن يكون اعتماد الشارع الأقدس عليه.

ولو كان المعتبر هو أحد الأخيرين، جاز التمسّك بالإطلاق لنفي ما شُكّ في اعتباره شرعاً، مع إحراز عدم دخالته عرفاً، بتقريب أنّ للشارع جهتين:

إحداهما: كونه مشرّعاً وجاعلاً للأحكام.

ثانيتهما: كونه من العرف والعقلاء، بل هو رئيسهم، فإذا قال: (أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ ) (1) ولم يعيّن البيع الشرعي، فإنّه لا محالة يُحمل على إرادة إمضاء البيع العرفي، كما هو الشأن في جميع المفاهيم الواقعة في الأدلّة الشرعيّة، وعليه فيتمسّك بالإطلاق لنفي اعتباره شرعاً.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه يصحّ التمسّك بالإطلاق على جميع الوجوه والأقوال، إلّا بناءً على كون البيع وكذا غيره من المعاملات موضوعاً للصحيح عند الشارع.

قال الشهيد رحمه الله في «القواعد»:(2)(الماهيّات الجعليّة كالصوم والصلاة وسائر العقود لا يطلق على الفاسد، إلّاالحَجّ لوجوب المُضيّ فيه).

واستظهر الشيخ رحمه الله(3) من ذلك كونه في مقام بيان مفاهيمها، وأنّها موضوعة للصحيحة، ولذلك أخذ في الإيراد عليه.

أقول: ولكن يمكن توجيه كلامه قدس سره بقرينة ما قاله في ذيله(4) (فلو حلف على ترك الصلاة والصوم، اكتفى بمسمّى الصحّة، وهو الدخول فيها، فلو أفسدها بعد ذلك لم يزل الحنث، ويحتمل عدمه، لأنّها لا تُسمّى صلاةٌ شرعاً ولا صوماً مع9.

ص: 283


1- سورة البقرة: الآية 275.
2- القواعد والفوائد: ج 1/158.
3- المكاسب: ج 3/19-20.
4- القواعد والفوائد: ج 1/158-159.

الفساد، وأمّا لو تحرّم في الصلاة أو دخل في الصوم مع مانعٍ من الدخول، لم يحنث قطعاً)، بأنّه قدس سره ليس في مقام بيان المفاهيم، وأنّها موضوعة للصحيحة حتّى يرد عليه ما تقدّم، بل في مقام بيان أنّ ما يتعلّق به النذر إنّما هو الصحيح، وأنّه لا ينذر إلّا أن لا يصلّي صلاة صحيحة، وأنْ لا يبيع بالبيع إلّاالصحيح الشرعي، وأنّه بعد الفراغ عن ذلك يفصّل بين ما هو الفاسد من الأوّل، وبين ما لو انعقد صحيحاً ثمّ فسد في الأثناء.

***

ص: 284

بيع المعاطاة

المقصد الثاني: ويدور البحث فيه عن بيع المعاطاة:

قال الشيخ رحمه الله(1): (اعلم أنّ المعاطاة على ما فسَّره جماعة أن يعطى كلّ من اثنين عوضاً عمّا يأخذه من الآخر... إلى آخره).

أقول: لم يرد لفظ المعاطاة في آية ولا رواية، كي يُنازع في تعيين مفهومه، بل المراد بها البيع الذي اُبرز بغير الصيغ المخصوصة من الأفعال المقصود بها إبراز ذلك الاعتبار النفساني.

ثمّ إنّ فيما ذكره رحمه الله في تعريفها مسامحة واضحة، إذ المعاطاة التي وقع النزاع في أنّها بيعٌ صحيح لازمٌ أم لا، لا يكون كلا طرفيها إعطاء الشيء عوضاً، بل أحدهما إعطاءٌ بعوض، أي أحد الشيئين عوضٌ والآخر معوّض.

ثمّ إنّ محلّ النزاع هو المعاطاة التي تتخلّف عن البيع المُنشَأ باللّفظ المخصوص في الصيغة، مع اشتمالها على جميع الجهات والخصوصيّات، وعليه فهي لا تتصوّر إلّا على وجه واحد، وهو ما لو قصد بها التمليك.

وأمّا المعاطاة بالمعنى الأوسع من ذلك، فقد ذكروا أنّها تتصوّر على وجوه:

الوجه الأوّل: أن يقصد بها التمليك(2).

الوجه الثاني: أن يقصد بها إباحة التصرّفات(3).

ص: 285


1- المكاسب: ج 3/23.
2- جامع المقاصد: ج 4/58.
3- الخلاف: ج 3/41، السرائر: ج 2/250.

الوجه الثالث: ما في «الجواهر»(1) من أن يقع الفعل من المتعاطين من غير قصد البيع ولا تصريح بالإباحة، بل يعطي البقال مثلاً شيئاً ليتناول عوضه فيدفعه إليه.

وأورد عليه الشيخ الأعظم(2) قدس سره: بامتناع خلوّ الدافع عن قصد عنوانٍ من عناوين البيع أو الإباحة، أو غير ذلك من العنوانات الخاصّة.

أقول: الذي يظهر من كلام صاحب «الجواهر» رحمه الله - بقرينة قوله في ما بعد ذلك(3) -: (ولعلّ القائل باشتراط الصيغة في البيع، يشرعه أيضاً على جهة الإباحة، التي هي كالأصل فيما يقصد به مطلق التسليط، فغيرها محتاجٌ إلى قصدٍ آخر، بخلافها فإنّه يكفي فيها قصد هذا التسليط المطلق).

أنّ مراده أن يقصد التسليط المطلق، من دون أن يقصد شيءٌ من الفصول الوجوديّة، ونتيجة ذلك هي تحقّق وحصول الإباحة المالكيّة، حيث يكون نتيجة التسليط المطلق غير المتفصّل بفصلٍ وجودي هي الإباحة، لأنّ فصلها أمرٌ عدمي، وهو عدم قصد شيء من العناوين الخاصّة من قبيل قطع إضافة الملك عن نفسه.

لكن يرد عليه: أنّ هذا يرجع إلى الوجه الأوّل.

الوجه الرابع: ما في «الجواهر»(4) من أن يقصد المِلك المطلق دون خصوص البيع.

ويرد عليه: ما أورده في «المكاسب»(5)، من أنّ التمليك بالعوض هو حقيقة البيع لا شيء آخر.

الوجه الخامس: ما عن المحقّق الرشتي(6)، وقد ذكره في توجيه الوجه الثالث

ص: 286


1- جواهر الكلام: ج 22/226-227.
2- المكاسب: ج 3/24.
3- جواهر الكلام: ج 22/227.
4- جواهر الكلام: ج 22/227.
5- المكاسب: ج 3/24.
6- نقلاً عن حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/95.

المحكي عن «الجواهر» ردّاً على الشيخ رحمه الله - قال:

(ويمكن دفعه: بأنّ النقل في المقام كاللّفظ في العقود، قد يكون مسلوب المعنى، نعم لابدّ في الفعل الاختياري من غرض، فإذا كان هو محض التوصّل إلى الآخر تمّ الفرض.

وفيه: إنّ هذا وإنْ كان يتصوّر في إعطاء الظالم لدفع شرّه، فإنّه لا مبيح ولا مملّك، لكنّه لا يتصوّر في المعاطاة المعامليّة.

الوجه السادس: ما أفاده بعض المحقّقين(1)، من أنّها عبارة عمّا اختلف فيه العوضان في جهة التمليك والإباحة، بأن كانت الإباحة بإزاء التمليك.

الوجه السابع (2) : أن يقصد كلّ منهما الإعراض عن ملكه بإزاء إعراض صاحبه عن ملكه، ويتملّك كلّ منهما مال الآخر بالحيازة.

فتحصّل: أنّ المعقول منها أربع صور، كما وعرفت أنّ محلّ النزاع هو خصوص المعاطاة المقصود بها التمليك، وصاحب «الجواهر» أيضاً لا ينكر ذلك، وإنّما يدّعي أنّ مورد النفي والإثبات ليس شيئاً واحداً بل المعاطاة - التي نفوا عنها إفادة الملكيّة - هي ما قُصد بها التمليك، والمعاطاة التي أثبتوا لها الإفادة للإباحة، هي ما قُصد بها الإباحة.

وبالجملة: نزاع المعاطاة إنّما هو في المعاملات الرائجة عند العرف، الّتي لا شبهة في أنّ المقصود بها التمليك، ومورد نزاع الفقهاء أيضاً ذلك، فإنّ كلماتهم كالصريحة في أنّ مورد النزاع هو ما يكون واجدا لجميع الجهات سوى الصيغة.7.

ص: 287


1- تعليقات على المكاسب: ج 1/81 و 37.
2- تعليقات على المكاسب: ج 1/81 و 37.

وربما يقال: إنّ المعاطاة الرائجة بين النّاس لا تسبيب فيها إلى شيء من الملكيّة والإباحة، وإنّ نزاع المعاطاة بين العامّة والخاصّة قائم على أنّ الخاصّة يقولون إنّه يعتبر في انعقاد البيع الإيجاب والقبول ولو بالفعل، والعامّة يقولون إنّه ينعقد بمجرّد التعاطي الخالي عن الإنشاء، كما أنّه ينعقد بالإنشاء.

أمّا دعواه: أنّ المعاملة الرائجة هي ما لم يُقصد فيها التمليك، ونظرها بالتقابض الواقع بعد الصيغة.

فبيّنة الفساد: يكذّبها الوجدان.

وأمّا دعوى: أنّ نزاع الخاصّة إنّما هو في ذلك، فهي تندفع بملاحظة كلمات القوم.

أقول: بقي الكلام في أنّه برغم ظهور كلمات الأصحاب في أنّ المعاطاة التي قصد بها التمليك تفيدُ إباحة جميع التصرّفات - لاحظ كلماتهم التي ذكرها الشيخ في «المكاسب»(1) حيث لا يرتاب أحدٌ في ظهورها في ذلك - فقد أفاد المحقّق الكركي(2) أنّ مراد الأصحاب من الإباحة الملك المتزلزل، كما وأفاد صاحب «الجواهر»(3) بأنّ مراد الأصحاب من المعاطاة المبيحة للتصرّفات، هي ما قصد به الإباحة لا ما قصد به التمليك.

والظاهر أنّ الذي أوجب التزامهما بما ذكرناه، أنّه يلزم من التحفّظ على ظواهر كلمات الفقهاء من كلتا الجهتين، وقوع ما لم يُقصد، وعدم وقوع ما قُصِد.

وبعبارة أُخرى : تخلّف العقود عن القصود، بل قصد قطع إضافة الملكيّة عن7.

ص: 288


1- المكاسب: ج 3/26-32.
2- جامع المقاصد: ج 4/58.
3- جواهر الكلام: ج 22/226-227.

نفسه ينافي بنفسه مع الإباحة المالكيّة - أي إباحة ملكه لغيره - ولذا قال صاحب «الجواهر» رحمه الله(1): (إنّ القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد الملك ممّا لا ينسب إلى أصاغر الطلبة فضلاً عن أعاظم الأصحاب).

أقول: ولكن يمكن توجيه كلام المشهور، ودفع الاستبعاد بأحد وجهين:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمه الله(2) من أنّ الأصحاب ملتزمون بالإباحة قبل التصرّف المتوقّف على الملك وقبل التلف - والملكيّة بعد أحدهما - وعليه فهم ملتزمون بإفادة المعاطاة المقصود بها الملكيّة، الملكيّة، غاية الأمر مشروطة بالتصرّف أو التلف، ويكون المقام نظير توقّف الملكيّة في باب الصرف على القبض، وإنّما يباح التصرّف قبل حصول الملكيّة للسيرة، وعلى ذلك فلا يلزم تخلّف العقود عن القصود، فإنّ ما قَصده المتعاملان يقع، والإباحة ليست من مقتضيات العقد، بل مقتضاه الملكيّة، وإنّما يباح التصرّف للسيرة.

الوجه الثاني:(3) إنّ عدم تخلّف العقود عن القصود ليس أمراً لا يقبل التخصيص، فإذا حكم الشارع الأقدس بأنّ ما قصده المتعاملان - وهي الملكيّة - لا يقع لبطلان هذا البيع، وإنّما يباح التصرّفات تعبّداً لا محذور فيه.

وبعبارة أُخرى: إنّ ما التزم به القوم هي الإباحة الشرعيّة لا الإباحة المالكيّة، وباب هذه الإباحة باب ترتّب الحكم علي موضوعه، لا ترتّب الأمر التسبيبى علي سببه.

وأيضاً أقول: ربما يوجّه كلام المشهور بوجهين آخرين:8.

ص: 289


1- جواهر الكلام: ج 22/224-225.
2- حاشية المكاسب للآخوند: ص 13.
3- مصباح الفقاهة: ج 2/128.

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1)، من أنّ عدم ترتّب الملكيّة على المعاطاة المقصود بها التمليك، إنّما هو لأجل أنّ الفعل لا يكون بالحمل الشائع الصناعي مصداقاً للبيع، فقصده وإيجاد ما هو غير مصداقه لا يفيد الملك، وسيأتي توضيح ذلك عند ذكر الأدلّة على الأقوال.

وأمّا ترتّب الإباحة عليه مع عدم قصدها، فلأنّ الإباحة المالكيّة ليست الا التسليطالخارجي، وإدخال المالك العين تحت استيلاء الغير، والفعل بنفسه مصداقٌ للتسليط الخارجي، ولا يعتبر فيه قصدها، ولا يضرّ قصد خلافها، كما هو الشأن في جميع العناوين الثانويّة المترتّبة على الفعل قهراً، كالايلام المترتّب على الضرب، فإنّه يترتّب عليه وإنْ قصد به خلاف الإيلام.

ويرد عليه: ذكره المحقّق الخراساني قدس سره بنفسه من أنّ لازم ذلك هو الالتزام بإباحة التصرّفات في المقبوض بالعقد الفاسد، مع أنّ عدم جواز التصرّف فيه إجماعي، مضافاً إلى أنّ الإباحة المالكيّة إنّما هي من الأُمور التي يتوقّف تحقّقها على القصد، ولا تحصل بدونه، والفعل الخارجي إنّما يكون مشتركاً بينها وبين التمليك والقرض والعارية ونحو ذلك، ويتميّز كلّ عن غيره بالقصد.

أقول: الإنصاف أنّ هذا التوجيه أبعدُ من أصل المطلب.

الوجه الثاني: إنّ للملك مراتب: ملك العين، ملك المنفعة، ملك الانتفاع، والأخير مساوقٌ للإباحة، فبناء المشهور على إفادة المعاطاة المقصود بها الملكيّة للإباحة، التزامٌ بوقوع بعض ما قصد، وهذا غير وقوع ما لم يُقصد، ولا محذور في ذلك.9.

ص: 290


1- منية الطالب: ج 1/119.

وفيه: إنّ الإباحة ليست عبارة عن ملك الانتفاع، بل ملك الانتفاع ليس له معنى معقول، وإنّما يكون جواز الانتفاع من آثار ملك المنفعة أو إباحة المالك، مع أنّ البيع ليس إلّاتمليكاً للعين والمنفعة، وليس هو تمليكاً للانتفاع، بل ملكيّة الانتفاع - على فرض معقوليّتها - تابعة لملك المنفعة، وعليه فالصحيح ما ذكرناه.

أقول: برغم ذلك كلّه، فإنّه يرد على المشهور أمران:

الأمر الأوّل: ما أفاده الشيخ الكبير رحمه الله(1) من أنّ الأصحاب لم يفرّقوا بين التصرّفات المتوقّفة على المِلك، والتصرّفات غير المتوقّفة عليه، وحكموا بإباحة جميعها، والالتزام بهذا مع القول بعدم الملك بعيدٌ، وسيأتي تمام الكلام فيه عند نقل الشيخ رحمه الله كلامه. فانتظر.

الأمر الثاني: أنّهم ملتزمون بإباحة التصرّفات المتوقّفة على الملك من أوّل تحقّق المعاطاة، وجوازها متوقّفٌ على المِلك بنحو الجواز المشروط، وعليه فلا يجتمع ذلك مع القول بعدم حصول الملكيّة.

ثمّ مع الإغماض عن ذلك كلّه، لابدّ في إثبات هذه الدعوى من إقامة الدليل عليه في مقام الإثبات، وستعرف عدم الدليل عليه.

***6.

ص: 291


1- حكاه الشيخ الأنصاري استظهاراً عن المختلف في غير مورد من المكاسب منها: ج 3/89، وبلغة الفقيه 146.

الأقوال في المعاطاة

أقول: الأقوال المنقولة عن أصحابنا في المعاطاة على ما يساعده ظواهر كلماتهم سبعة:

القول الأوّل: إفادتها الملك اللّازم، وهو المحكيّ عن المفيد(1) ومالَ إليه في «المسالك»(2)، وفي محكي «شرح الإرشاد»(3)، واختاره المحدّث الكاشاني(4) وجمعٍ من محقّقي متأخّري الأصحاب(5).

القول الثاني: أنّها تفيد الملك غير اللّازم، اختاره المحقّق الكركي(6)، قال:

(المعروف بين الأصحاب أنّها - أي المعاطاة - بيعٌ وإنْ لم تكن كالعقد في اللّزوم، خلافاً لظاهر المفيد، ولا يقول أحدٌ من الأصحاب بأنّها بيعٌ فاسد سوى المصنّف رحمه الله في «النهاية»، وقد رجع عنه في كتبه المتأخّرة عنه).

القول الثالث: أنّها تفيد الملكيّة اللّازمة بشرط كون الدالّ على التراضي أو المعاملة لفظاً، حكى ذلك عن بعض معاصري الشهيد الثاني(7)، وبعض متأخّري المحدِّثين(8)، ولعلّ المراد اعتبار أن يكون هناك لفظٌ دالّ على المساومة، وإنْ كان الإنشاء بالمعاطاة.

ص: 292


1- حكاه في المكاسب: ج 3/37.
2- كما هو ظاهر مسالك الأفهام: ج 3/248 (كفاية المعاطاة في تحقّق البيع).
3- حكاه في المكاسب: ج 3/24 وهامشها. راجع شرح الإرشاد (مخطوط): ص 216.
4- حكاه عنه السيّد اليزدي في حاشية المكاسب (ط. ق): ج 1/68.
5- حكاه السيّد اليزدي في حاشية المكاسب (ط. ق): ج 1/68 عن بعض.
6- جامع المقاصد: ج 4/58.
7- حكاه في المسالك: ج 3/147، وهو السيّد حسن بن السيّد جعفر.
8- الحدائق الناضرة: ج 18/355.

وعليه، فلا يرد ما عن الشيخ رحمه الله في «الحاشية»(1): (لكنّ في عَدّ هذا من الأقوال في المعاطاة تأمّلاً)، فإنّ هذا يصحّ إذا كان مرادهما إنشاء البيع باللّفظ، فإنّه حينئذٍ يخرج عن المعاطاة، غايته أنّه لا يعتبر لفظ مخصوص. ولا يتمّ على ما ذكرناه.

القول الرابع: أنّها تفيد إباحة جميع التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك، وهو المنسوب إلى المشهور(2).

القول الخامس: أنّها تفيد إباحة التصرّفات غير المتوقّفة على الملك، وهو الظاهر من حواشي الشهيد على «القواعد»(3).

القول السادس: أنّها لا تفيد الإباحة أبداً، ذهب إليه الشيخ في «النهاية»(4) وإن رجع عنه(5).

القول السابع: أنّها معاملة مستقلّة تفيد الملكيّة، اختاره الشيخ الكبير(6).

هذه هي الأقوال في المسألة.

الدليل المختار في المعاطاة

أقول: الأظهر أنّها تفيد المِلك واللّزوم، ولذلك لابدّ من التكلّم في موردين:

الأوّل: في أنّها هل تفيد الملك أو الإباحة، أم لا تفيد شيئاً منهما؟

ص: 293


1- المكاسب: ج 3/38 في الهامش.
2- الخلاف: ج 3/41، السرائر: ج 2/250، الغنية: ص 214.
3- كما هو ظاهر مسالك الأفهام: ج 3/147.
4- الظاهر أنّ المقصود هو العلّامة في نهاية الأحكام: ج 2/449. لا الشيخ في النهاية كما هو واضح لمن راجع كلامهما، وأنّ العلّامة تراجع عن رأيه في التحرير.
5- تحرير الأحكام: ج 1/164.
6- حكاه عنه السيّد اليزدي في حاشيته على المكاسب: ج 1/68.

الثاني: في أنّها هل تفيد اللّزوم أم لا؟

أمّا المورد الأوّل: فالكلام فيه يقع في جهتين:

الجهة الاُولى : فيما استدلّ به أو يمكن الاستدلال به على المُدّعى.

الجهة الثانية: ثمّ فيما استدلّ له على عدم إفادتها الملكيّة.

أمّا الأُولى : فقد استدلّ له بعدّة أدلّة:

الدليل الأوّل: السيرة المستمرة على معاملة المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك، في التصرّف فيه بالعتق والبيع والوطء والإيصاء والتوريث، وغير ذلك من آثارالملك.

وأورد الشيخ رحمه الله(1) عليه: بما أورد على الاستدلال بالآية، من أنّ غاية ما ثبت بالسيرة، جواز التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك، وثبوت الملكيّة من أوّل الأمر بإباحتها متوقّفٌ على ثبوت الملازمة عقلاً أو شرعاً، ولم يثبت شيءٌ منهما:

أمّا الملازمة الشرعيّة: فلأنّ المشهور قائلون بإباحة جميع التصرّفات، ولا يقولون بالملك من الأوّل.

وأمّا الملازمة العقليّة: فلأنّ القدر اللّازم بحكم العقل هو حصول الملك قبل التصرّف المتوقّف على الملك ولو آناً مّا لا من الأوّل.

ثمّ قال (2) : (أمّا السيرة على التوريث، فهي كسائر سيراتهم الناشئة عن المسامحة وقلّة المبالات في الدين، ممّا لا يُحصى في عباداتهم ومعاملاتهم وسياساتهم كما لا يخفى ).

أقول: ويرد عليه قدس سره أُمور:

الأمر الأوّل: أنّه ما الفرق بين السِّيرة على التوريث، والسِّيرة على جواز3.

ص: 294


1- المكاسب: ج 3/43.
2- المكاسب: ج 3/43.

التصرّفات، حيث لم يناقش في الثانية وناقش في الأُولى ، فإنْ تطرق مثل هذه المناقشة والاحتمال في الأُولى تطرق في الثانية طابق النعل بالنعل.

الأمر الثاني: إنّ السيرة قائمة - على الفرض - على التصرّفات المتوقّفة على الملك، ولازم ذلك ثبوت الملكيّة من الأوّل، فإنّ إباحة التصرّفات لا تدور مدار فعليّة التصرّفات، بل هي تثبت من أوّل الأمر، وعليه فإنْ ثبتت الملكيّة من الأوّل ثبت المطلوب، وإلّا فقد اُبيح تلك التصرّفات لغير المالك، وهو منافٍ لأدلّة توقّفها على الملك.

وبعبارة أُخرى : هذه الإباحة مع أنّها إباحة مشروطة بالمِلْك، تكون ثابتة من الأوّل، فلا يعقل الالتزام بعدم الملك.

الأمر الثالث: أنّه يمكن الالتزام بحدوث الملكيّة آناً مّا في التوريث قبل الموت إنْ أمكن الالتزام به في سائر ما يتوقّف على الملك، فلم يظهر وجه تفرقته بينهما.

والحقّ أن يورد على هذا الوجه: بأنّ السيرة في هذه الأزمنة وإن هي ثابتة، إلّا أنّ اتّصالها إلى زمان المعصوم غير ثابت، إذ لعلّ هذه نشأت عن إفتاء الفقهاء بالملكيّة أو إباحة التصرّفات، ألا ترى أنّ جواز الصلاة في اللّباس المشكوك فيه ممّا أفتى به أكثر المتأخّرين، فإذا فرضنا إفتاء الجميع به في بعض الأعصار، يكون عمل النّاس جميعاً عليه، فيتوهّم ثبوت السيرة، مع أنّ عدم الجواز في القديم كان كالمجمع عليه.

الدليل الثاني: سيرة العرف والعقلاء في كلّ ملّةٍ ونحلةٍ على المعاملة مع المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملكيّة، وحيثُ لم يردع عنها الشارع الأقدس، فيستكشف إمضائه لها.

ص: 295

ولا يتوهّم: أنّ أدلّة توقّف البيع والعتق والوطء على المِلْك رادعة، فإنّ السيرة ليست على جواز تلك التصرّفات لغير المالك، بل على المعاملة مع المأخوذ بها معاملة الملك.

وربما يقال: إنّه يكفي في الرادعيّة أدلّة الاستصحاب، فإنّ مقتضاها الحكم ببقاء الملكيّة ما لم يُعلم زوالها، ولا دليل على زوالها، فيجبُ الحكم ببقائها، فتكون تلك الأدلّة رادعة عن ثبوت الملك بالمعاطاة.

وأُجيبَ عنه: بأنّ رادعيّة تلك الأدلّة غير معقولة، لاستلزامها الدور، إذ رادعيّة الأدلّة عن السيرة متوقّفة على عدم حجيّتها، وإلّا فلا محالة تكون مخصّصة لها، وعدم حجيّتها متوقّف على رادعيّتها، وهذا دور واضح.

وأُورد عليه: بأنّ إثبات حجيّة السيره أيضاً دوري، إذ هي متوقّفة على عدم الرّدع عنها ولو بالعموم، وعدم الرّدع في المقام يتوقّف على حجيّتها.

ورُدّ ذلك: بأنّ في حجيّة السيرة لا نحتاج إلى إثبات عدم الرَّدع، بل يكفي فيه عدم ثبوت الرّدع.

ولكن يرد عليه: أنّ في حجيّة العمومات وصلوحها للرادعيّة أيضاً يكفي عدم ثبوت التخصيص، إذ الدليل العام حجّة ما لم يثبت خلافه.

أقول: والحقّ في الجواب عن أصل الإشكال - أي عن رادعيّة أدلّة الاستصحاب - أنْ يقال إنّ عمل العقلاء ومعاملتهم مع المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملكيّة، إنّما يكون لبنائهم عليها وجزمهم بها، وليسوا شاكّين في ذلك، وعليه فلا يُعقل رادعيّة أدلّة الاستصحاب المتضمّنة لبيان حكم الشكّ من دون تعرّض

ص: 296

للموضوع، كما هو الشأن في جميع الأدلّة المتضمّنة لبيان الأحكام، فإنّ بناء العقلاء متكفّلٌ لعقد الوضع، وتلك الأدلّة متكفّلةٌ لعقد الحَمل، فلا يتواردان على محلّ واحد كي تكون العمومات قابلة للرادع.

الدليل الثالث: قوله تعالى: (أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ ) (1).

أقول: الاستدلال به يتوقّف على إثبات صدق البيع عليها، ثمّ إثبات دلالة الآية على حصول الملكيّة بالبيع، وعليه فالكلام يقع في موضعين:

الموضع الأوّل: في أنّه هل يصدق عليها البيع أم لا؟

ربما يقال: بالعدم، لأنّ العناوين المُنشَأة بالقول أو الفعل لابدَّ وأن يكون القول أو الفعل مصداقاً لذلك العنوان بالحمل الشائع الصناعي، وإلّا لا يتحقّق ذلك العنوان وإنْ قصد تحقّقه، فلو مشى بقصد إنشاء البيع لما تحقّق، والتعاطي الخارجي حيثُ لا يكون بالحمل الشائع مصداقاً للبيع الذي هو عبارة عن تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله، فقصده وإيجاد ما هو غير مصداقه، لا يوجب تحقّق عنوان البيع.

وفيه: إنّ القول أو الفعل ليس مصداقاً للبيع في شيء من الموارد، بناءً على كونه موضوعاً للمسبّب، أي اعتبار المتبايعين. نعم لا كلام في أنّ نفس ذلك الاعتبار النفساني ما لم يبرز باللّفظ أو الفعل لا يكون ممضاً عند العقلاء والشارع، وإبرازه لابدَّ وأن يكون بما يكون مبرزاً له عند العقلاء، وحيث عرفت أنّ حقيقة البيع هو إعطاء شيء بإزاء شيء، وهذا المعنى عند العرف يُبرز بإعطاء شيء خارجاً وأخذ ما بإزائه، فلا إشكال، ويمكن أن نعبّر عنه مسامحةً بأنّ الفعل الخارجي مصداقٌ لهذا5.

ص: 297


1- سورة البقرة: الآية 275.

العنوان على هذا المبنى فلا مشاحة، وأمّا دعوى «الغنية»(1) الإجماع على عدم كونه بيعاً، فمراده نفي اللّزوم أو الصحّة دون الحقيقة.

الموضع الثاني: في إثبات دلالة الآية(2) على إفادة البيع الملكيّة.

ومحصّل الكلام فيه: أنّ محتملات الحِلّ ثلاثة:

1 - الحِلّ الوضعي، أي الصحّة والنفوذ.

2 - الحِلّ التكليفي، أي الجواز والرخصة.

3 - الحِلّ بالمعنى الأعمّ منهما.

ولعلّ الجامع بينهما هو جعله مرخي العنان في مقابل المنع والتقييد.

أمّا على الأوّل: فالآية تدلّ على إمضاء البيع مطابقةً ، وهذا الوجه هو الذي أراده الشيخ رحمه الله(3) بقوله: (بل قد يقال بأنّ الآية دالّة عرفاً بالمطابقة على صحّة البيع، لا مجرّد الحكم التكليفي، لكنّه محلّ تأمّل... إلى آخره).

والظاهر أنّ منشأ تأمّله هو ظهور الحِلّ في الحليّة التكليفيّة، المؤكّد هذا الظهور بمقابله وهو قوله تعالى : (وَ حَرَّمَ اَلرِّبا) (4).

ولكن يرد عليه: أنّه من جهة استناده إلى نفس البيع، ظاهرٌ في إرادة الوضعي منه، وهكذا في الحرمة المنسوبة إلى الرِّبا.

وأمّا على الثاني: أي إرادة الحليّة التكليفيّة من آية الحِلّ (5)، فحيثُ أنّه لا موهم لحرمة البيع، لا بما هو فعلٌ ، ولا بما هو تسبيبٌ للملك، فلابدّ من تقديرالتصرّفات، وعليه فيمكن استفادة مملّكيّة البيع من الآية بوجوه:5.

ص: 298


1- الغنية: ص 214.
2- سورة البقرة: الآية 275.
3- المكاسب: ج 3/40. (4و5) سورة البقرة: الآية 275.

أحدها: الملازمة العرفيّة بين حِليّة جميع التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك، وبين الملكيّة كما تقدّم.

ثانيها: أنّ جواز التصرّفات المتوقّفة على المِلك كالبيع والوطء ونحوهما من آثار الملكيّة، فإذا دلّت الآية على جوازها، دلّت على الملكيّة بالملازمة العقليّة.

وهذا الوجه هو الوجه الأوّل في كلامه، ومورد نقضه وإبرامه، وتأمّل فيه بما ذكرناه في السيرة مع الجواب عنه فراجع(1).

ثالثها: أنّ الآية الشريفة وإنْ دلّت على إباحة التصرّفات، إلّاأنّها لا تدلّ على حليّة مجرّد التصرّفات المتوقّفة على الملك، بل على حليّة التصرّفات المترتّبة على البيع، ومرجع ذلك إلى حليّة الأكل عن هذا السبب، ولازم ذلك عرفاً ثبوت الملكيّة، كما أنّ اللّازم العرفي لما تضمّن حرمة الأكل عن سبب عدم الملكيّة، كقوله عليه السلام: «ثَمن العَذَرة سُحتٌ »، وهذا الوجه هو الذي ركن إليه في آخر الأمر(2).

أقول: وبما ذكرناه ظهر أنّ ما أورده المحقّق الايرواني رحمه الله(3) عليه من أنّ الشيخ رحمه الله التجأ إلى اختيار ما جعله محلّ التأمّل، غير تامّ ، فإنّ ما اختاره سوى ما تأمّل فيه.

وأمّا على الثالث: فحيثُ أنّ (أَحَلَّ ) انتسب إلى البيع، ولا معنى لحليّته التكليفيّة، والتقدير خلاف الأصل، فلا محالة يراد به حينئذٍ الحليّة الوضعيّة، وعليه فتدلّ الآية بالمطابقة على صحّة البيع ومملكيّته.

فتحصّل: أنّ الآية على جميع التقادير تدلّ على صحّة البيع ومملكيّته، ومقتضى إطلاقها الأحوالي - بالتقريب الذي ذكرناه قبل الشروع في مبحث المعاطاة - هور.

ص: 299


1- صفحة 295 من هذا المجلّد.
2- المكاسب: ج 3/40.
3- حاشية كتاب المكاسب: ج 2/35 كما هو الظاهر.

إمضاء كلّ بيع، وعدم اعتبار شيءٍ ممّا شكّ في اعتباره في إظهاره وإبرازه، ففي المقام يُشكّ في اعتبار اللّفظ فيه فيتمسّك بإطلاقها، ويحكم بعدم اعتباره وتحقّقه بالإظهار بالفعل.

الدليل الرابع: قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (1).

تقريب الاستدلال: أنّه بعدما لا ريب في أنّ المراد من (الأكل) هو معناه الكنائي - لا معناه الموضوع له وهو واضح - يكون المراد بالأكل أحد معنيين:

الأوّل: كونه كناية عن مطلق التصرّفات حتّى المتوقّفة على الملك، وعليه فتجري في هذه الآية الوجوه الثلاثة التي ذكرناها لدلالة الآية المتقدّمة على صحّة المعاطاة لو اُريد ب (أَحَلَّ ) الحليّة التكليفيّة، فلا نعيد.

الثاني: جعل (الأكل) كنايةً عن التملّك، وعليه فهي بالمطابقة تدلّ على صحّة المعاطاة، وكونها موجبة للملكيّة.

ودعوى عدم كونها (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (2) مكابرة واضحة.

الدليل الخامس: النبويّ : «النّاس مسلّطون على أموالهم»(1).

تقريب الاستدلال: إنّه يدلّ على أنّ النّاس مسلّطون على أموالهم بجميع أنحاء التصرّفات، ومن جملتها البيع المعاطاتي.

أقول: وأُورد عليه بإيرادات:2.

ص: 300


1- بحار الأنوار: ج 2/272.

الإيراد الأوّل: ما في «المكاسب»(1) من أنّ عمومه إنّما هو باعتبار أنواع السلطنة، فلو أحرز ثبوت سلطنة خاصّة له كتمليك ماله لغيره، وشكّ في أنّه هل يحصل بمجرّد التعاطي أم لابدّ من القول الدالّ عليه، فلا يجوز التمسّك به على مملكيّة المعاطاة.

أقول: والجواب عنه:

1 - إنْ كان مراده قدس سره أنّ النبوي في مقام إثبات مشروعيّة كلّ نوعٍ في الجملة، وليس له إطلاقٌ إفرادي.

فيرد عليه: أنّ له إطلاقاً إفراديّاً، ويدلّ على ثبوت السلطنة على كلّ تصرّف من التصرّفات، ولذا يصحّ التمسّك لو شُكّ في جواز فرد خاص من نوعٍ من التصرّف كالأكل وعدم جوازه، والسرّ فيه أنّ السلطنة هي القدرة، ومن المعلوم أنّها لا تتعلّق بالمال، بل بالتصرّف فيه، وحذف المتعلّق يفيد العموم، فمعنى النبويّ :

إنّ النّاس قادرون على كلّ تصرّف في أموالهم، والاختصاص بكلّنوع منه بلا وجه.

2 - وإنْ كان مراده أنّه في مقام إمضاء المسبّبات دون الأسباب.

فيرد عليه: أنّ هذا إشكالٌ أُورد على الاستدلال بآية الحِلّ (2) أيضاً بناءً على كون ألفاظ المعاملات أسامي للمسبّبات دون الأسباب، وقد تقدّم الجواب عنه.

الإيراد الثاني: ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(3) من أنّ المستفاد منه كونه في مقام بيان عدم محجوريّة المالك، لا في مقام تشريع السلطنة بأنحائها.

وفيه: إنّ حمل السلطنة - التي تعني القدرة على التصرّفات مطلقاً - على إرادة عدم المحجوريّة - أي عدم المانع من التصرّف - خلاف الظاهر.7.

ص: 301


1- المكاسب: ج 3/41.
2- سورة البقرة: الآية 275.
3- حاشية المكاسب للآخوند: ص 67.

الإيراد الثالث: ما أفاده جمعٌ من المحقّقين(1)، من أنّ دليل السلطنة إنّما يدلّ على ثبوت السلطنة في موضوع المال، ولا يدلّ على السلطنة على إذهاب هذا الموضوع وإزالة السلطان.

وفيه: إنّه إنْ أُريد بذلك أنّه يدلّ على ثبوت السلطنة على المال لا على رفع هذه السلطنة.

فيرد عليه: إنّ هذا يتمّ في الأعراض، ولا يتمّ في البيع الذي حقيقته إعطاء المال للغير، ولازمه رفع السلطنة عن نفسه.

وإنْ أُريد به أنّ الظاهر من الحديث التسلّط على التصرّفات في موضوع المال، وبعبارة أُخرى مع إضافة المال إليه، وإخراج المال عن المِلْك ليس منها كما هو واضح.

فيرد عليه: أنّ الظاهر من الحديث ثبوت السلطنة مع انحفاظ الإضافة حال السلطنة، لا حال التصرّف كما لا يخفى .

وبالجملة: فالحقّ أنّ شيئاً ممّا أُورد على الاستدلال بالنبوي ليس بوارد.

وأيضاً: ربما يستدلّ لمملكيّة المعاطاة بقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (2)، وسيأتي تنقيح القول فيها عند ذكر أدلّة اللّزوم فانتظر.

أقول: وقد ظهر ممّا ذكرناه مدارك سائر الأقوال:

إذ من يقول: بأنّها مفيدة للملك، لكنّها ليست بيعاً، يستند في عدم كونها بيعاً إلى ما تقدّم في آية حِلّ البيع(3)، وفي كونها معاملة مستقلّة ممضاة إلى عموم آية5.

ص: 302


1- تعليقات على المكاسب: ج 1/109.
2- سورة المائدة: الآية 1.
3- سورة البقرة: الآية 275.

التجارة عن تراض.

وأمّا من يقول: بإباحة التصرّفات دون الملك، فقد استند في الإباحة إلى ما تقدّم من السيرة، والآية، والى عدم كونها مفيدة للملك بما سيمرّ عليك.

وأمّا من يقول: بأنّها لا تفيد الملكيّة، ولا الإباحة، فقد استند إلى أنّ الآيات إنّما هي في مقام إمضاء المسبّبات، فلا نظر لها إلى الأسباب، وأمّا السيرة فهي إمّا غير ثابتة على الإباحة أو غير مفيدة.

***

ص: 303

أدلّة عدم إفادة المعاطاة الملكيّة

أقول: استدلّ لعدم إفادة المعاطاة الملكيّة بوجوه:

الوجه الأوّل(1): أصالة عدم المِلك المعتضدة بالشهرة المحقّقة إلى زمان المحقّق الثاني رحمه الله.

وفيه: أنّ الأصل إنّما يستند إليه مع عدم الدليل، وقد عرفت وجوده.

الوجه الثاني: الإجماع المُدّعى في «الغنية»(2) و «القواعد» هنا(2)، وفي «المسالك» في مسألة توقّف الهبة على الإيجاب والقبول(3).

وفيه أوّلاً: أنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة.

وثانياً: أنّ مدرك المُجمِعين معلومٌ .

وثالثاً: لم يثبت بناء جميع من نسب إليهم القول بعدم الملك عليه.

الوجه الثالث (5) : الخبرالمرويّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله الناهى عن بيع المنابذة والملامسة وعن بيع الحصاة(4)، بتقريب أنّه يدلّ على النهي عن إنشاء البيع بهذه الأفعال، وبضميمة عدم القول بالفصل يثبت ذلك في سائر الأفعال، وحيثُ أنّ ظاهر النهي في أمثال المقام الإرشاد إلى الفساد، فيدلّ على عدم صحّة البيع المعاطاتي.

ص: 304


1- المكاسب: ج 3/50. (2و5) الغنية: ص 214.
2- الظاهر أنّ الصحيح هو شرح القواعد (مخطوط): ص 49، لا المتن.
3- مسالك الأفهام: ج 6/10.
4- وسائل الشيعة: ج 17/357 ب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 13 رقم 22747.

وفيه أوّلاً: أنّه نبويٌ عامّيٌ ضعيف.

وثانياً: الظاهر منه - ولا أقلّ من المحتمل - النهي عن تعيين المبيع بهذه الأفعال، والوجه في البطلان حينئذٍ كونه بيعاً غررياً، لا النهي عن إنشاء البيع بها.

وثالثاً: إنّه لم يثبت عدم القول بالفصل بين هذه الأفعال وبين غيرها.

الوجه الرابع: قوله عليه السلام: «إنّما يُحلّل الكلام ويحرّم الكلام»(1).

وفيه: إنّه سيأتي عند تعرّض الشيخ رحمه الله(2) لهذا الخبر بيان المراد منه، وستعرف أنّه أجنبيّ عن ما استدلّ به له.

الوجه الخامس: جملة من النصوص(3) الخاصّة المتضمّنة لذكر الصيغة الواردة في بيع المصحف، وبيع أطنان القصب، وبيع الآبق مع الضميمة، وفي المزارعة وفي غيرها، ففي الموثّق: «لا تشتر كتاب اللّه، ولكن اشتر الحديد والجلود، وقل: اشتري منك هذا بكذا وكذا». ونحوه غيره.

وفيه: إنّه لا إشعار في هذه النصوص بالاشتراط فضلاً عن الدلالة، لورودها في مقام بيان أحكام أخر لا اشتراط الصيغة، وليس لها مفهومٌ كي تدلّ على عدم الصحّة إذا كانت المعاملة بغير اللّفظ.

فتحصّل: أنّه لا دليل على عدم إفادة المعاطاة الملكيّة، فالمتّبع هو ما دلَّ على إفادتها تلك.ا.

ص: 305


1- وسائل الشيعة: ج 18/50 ب 8 من أبواب أحكام العقود ح 4 رقم 23114، التهذيب: ج 7/50 ب 4 ح 16.
2- المكاسب: ج 3/61-64.
3- وسائل الشيعة: باب 30 من أبواب ما يكتسب به، وباب 11 و 19 من أبواب عقد البيع وشروطه، وباب 8 من أبواب كتاب المزارعة، وغيرها.

كلام بعض الأساطين وما يرد عليه

قال الشيخ الكبير: في شرحه على «القواعد»(1) أنّ هناك محاذير تترتّب على القول بإفادة المعاطاة الإباحة قبل التصرّف، والتلف والملكيّة بعد أحدهما، وتلك المحاذير على قسمين:

أحدهما: ما يرجع إلى بطلان القول بإفادة المعاطاة المقصود بها الملكيّة الإباحة، وهو الأوّل والثالث ممّا عدّده في كلامه.

ثانيهما: ما يرجع إلى بطلان القول بحدوث الملكيّة آناً مّا قبل التصرّف أو التلف.

المحذور الأوّل: أنّ لازم ذلك أنّ العقود وما قام مقامها لا تتبع القصود.

أقول: أجاب الشيخ رحمه الله عن ذلك بجوابين:

الجواب الأوّل(2): الجواب الحَلّي، وحاصله أنّ التبعيّة المزبورة إنّما هي في العقود الصحيحة، إذ لا يعقل صحّة العقد مع عدم ترتّب الأثر المقصود عليه، وأمّا العقد الفاسد فعدم ترتّب الأثر المقصود عليه لا محذور فيه، بل لا معنى للفساد إلّاذلك، وأمّا ترتّب شيء آخر عليه بتعبّد من الشارع فلا ينافي شيئاً من القواعد، والمقام كذلك، فإنّ القوم قائلون بعدم كون المعاطاة بيعاً صحيحاً، فلا تترتّب عليهاالملكيّة، وإنْ قصدها المتعاطي وإنّما يترتّب عليها الإباحة الشرعيّة لا المالكيّة بتعبّدٍ من

ص: 306


1- شرح القواعد (مخطوط): ص 50.
2- المكاسب: ج 3/46.

الشارع المستكشف من السيرة وغيرها، وليس ذلك تسبيباً بالعقود، ولا مضمونها حتّى يقال وقع بالعقد ما لم يُقصد، فما قُصد وإنْ لم يقع إلّاأنّه لا محذور فيه، لأنّ لازم الفساد ذلك، وما وقع وإنْ لم يُقصد إلّاأنّه لم يقع بالعقد حتّى يقال إنّه وقع ما لم يُقصد، بل إنّما هو حكم شرعي.

أقول: وبهذا البيان ظهر اندفاع ما أورده السيّد الفقيه(1)، والمحقّق النائيني رحمه الله(2)عليه بأنّ تبعيّة العقود للقصود مشتركة بين العقود اللفظيّة والمعاملات الفعليّة، وليست حكماً تعبّديّاً كي تخصّص بموردٍ دون آخر.

وجه الاندفاع: أنّ الشيخ رحمه الله لم يدّع أنّه لا محذور في تخلّف العقد عن القصد في المعاملات الفعليّة، بل ادّعى أنّه لا يلزم ذلك. فتدبّر فيما ذكرناه.

الجواب الثاني(3): بالنقض، وهو أنّ التخلّف في المقام إنّما يكون نظير التخلّف في الموارد الخمسة، يعني ليس تخلّفاً حقيقةً لا أنّه تخلّف جائز، والموارد المذكورة هي:

المورد الأوّل: أنّ الأصحاب اتّفقوا على أنّ عقد المعاوضة إذا كان فاسداً يؤثّر في ضمان كلّ من العوضين القيمة، لإفادة العقد الفاسد عندهم الضمان فيما يقتضيه صحيحه، مع أنّهما لم يقصدا إلّاضمان كلّ منهما بالآخر.

وفيه: إنّ سبب الضمان في هذا المورد ليس هو العقد، بل القبض، سواءٌ أكان الوجه فيه الإقدام أم قاعدة اليد، فما قُصد به الضمان بالمسمّى هو العقد، وما ترتّب عليه الضمان بالقيمة هو القبض، فلا يكون نظيراً للمقام.7.

ص: 307


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/71.
2- منية الطالب: ج 1/130.
3- المكاسب: ج 3/47.

المورد الثاني: الشرط الفاسد، فإنّه لم يُقصد المعاملة إلّامقرونة به، وهو غير مفسدٍ عند أكثر القدماء.

وفيه: إنّ مبنى عدم مفسديّته عدم تقييد البيع به، وكون الشرط التزاماً في ضمن التزام، بمعنى ربط الالتزام العقدي بالالتزام الشرطي، ولازم ذلك أنّ تخلّفه يوجبُ الخيار لا البطلان، فلا يلزم من ذلك تخلّف العقد عن القصد.

المورد الثالث: أنّه لو باع ما يملك وما لا يملك بعقدٍ واحد، فإنّهم التزموا بوقوع بيع ما يملك وصحّته، مع أنّه لم يَقصد إلّابيعه مقروناً بما لا يملك.

وفيه: إنّ مدرك صحّته انحلال العقد عليهما إلى عقدين، وعليه فأحدهما صحيحٌ ولم يتخلّف عن القصد، وثانيهما باطلٌ ، باعتبار أنّ ما قُصد لا يقع ولم يقع ما لم يُقصد حتّى يلزم المحذور المذكور.

المورد الرابع: بيع الغاصب لنفسه، فإنّه إذا أجازه المالك وقع للمالك مع أنّ الغاصب قصد وقوعه لنفسه.

وفيه: إنّ منشأ الصحّة على المشهور هو أنّ الغاصب يوقع البيع للمالك، غاية الأمر يبنى على أنّه المالك، فالتخلّف إنّما يكون في هذا الاعتقاد المقارن لا في العقد.

وتمام الكلام في محلّه.

المورد الخامس: إذا قصد بالصيغة في النكاح الانقطاع، وترك ذكر الأجل، فإنّهم حكموا بوقوعه دائماً، فما قُصِد لم يقع وما وقَع لم يُقصد.

وفيه: إنّهم التزموا بأنّ النكاح حقيقة واحدة، والفرق بين الدوام والانقطاع هو الفرق بين المطلق والمشروط بشيء، وعليه فحيث أنّ النكاح من الإنشائيّات، فإذا

ص: 308

تَرك العامد ذكر الأجل، لم تتحقّق الخصوصيّة الزائدة، لعدم إنشائها، وإنّما يقع المطلق لقصده وإنشائه.

أقول: والإنصاف أنّ شيئاً ممّا ذكرناه ليس إيراداً على الشيخ رحمه الله، لأنّه ليس بصدد بيان موارد تخلّف العقد عن القصد، بل في مقام بيان أنّ مثل هذا التخلّف الذي هو تخلّف صوري لا حقيقي واقع كثيراً.

المحذور الثاني:(1) أن تكون إرادة التصرّفات من المملّكات القهريّة، الموجبة لحصول الملكيّة قبل التصرّف أو معه، بنحوٍ تكون الإرادة سبباً لها، وهذا منافٍ لدليل سلطنة المالك، ولا يقاس ذلك بقول القائل (اعتق عَبدك عنّي) و (تصدّق بمالي عنك)، فإنّه في هذين الموردين توكيل في التمليك والتملّك قبل التصرّف، وهذا بخلاف المقام، فإنّ كلّاً من المتعاطيين يقصدان المِلك حال التعاطي، دون أن يقصدا المِلك حال التصرّف.

وأجاب الشيخ رحمه الله(2) عن ذلك: بأنّ مقتضى الجمع بين دليل توقّف بعض التصرّفات على الملك، ودليل جواز التصرّف المطلق، واستصحاب بقاء الملك إلى آن قبل التصرّف، هو ذلك، أي حصول المِلْك بعد إرادة التصرّف، ويكون كتصرّف ذي الخيار والواهب فيما انتقل عنهما بالتصرّف المتوقّف على الملك.

أقول: ويرد عليه إيرادان:

الإيراد الأوّل: أنّ غرض الشيخ الكبير رحمه الله ليس عدم الدليل على مملكيّة إرادة التصرّف، كي يصحّ الجواب عنه بأنّ مقتضى الجمع بين القواعد ذلك، إذ لا يعتبر في8.

ص: 309


1- شرح القواعد (مخطوط): ص 50.
2- المكاسب: ج 3/48.

الدليل على السببيّة ورود دليل بالخصوص، بل غرضه أنّ القول بذلك غريبٌ لا نظير له في الفقه، فلا ينفع هذا الجواب.

الإيراد الثاني: أنّ تنظير المقام بتصرّف الواهب وذي الخيار في غير محلّه، لأنّه في ذينك البابين يقصد الواهب ومن له الخيار الفسخ والرجوع بالتصرّف، ولهما ذلك، فالتصرّف بنفسه يعدّ رجوعاً أو كاشفاً عنه، وهذا بخلاف المقام فإنّه ليس هناك قصد التمليك والتملّك على الفرض، ولذلك يصحّ السؤال عن أنّه كيف تكون إرادة التصرّف مملّكة مع عدم قصد الملكيّة ؟!

وأمّا الإيراد على الشيخ رحمه الله: - كما ذكره المحقّق النائيني(1) - بأنّه ليس فيما ينقل عن الشيخ الكبير كون إرادة التصرّف من المملّكات، بل إنّه جعل مَحطّ الإشكال كون نفس التصرّف مملكاً.

فغير صحيح: لأنّ ما نقله الشيخ رحمه الله كالصريح فيما استفاده منه، ولعلّ المحقّق النائيني لاحظ «شرح القواعد» ولم يجده موافقاً لما ذكره الشيخ رحمه الله.

أقول: والحقّ في الجواب عمّا ذكره الشيخ الكبير أنْ يقال:

إنّه يمكن أن يلتزم المشهور بأنّ السبب للملكيّة هي المعاطاة، وإنّما يكون التصرّف أو إرادته شرطاً للملكيّة نظير القبض الذى هو شرط لحصولها فى بيع الصرف.

المحذور الثالث:(2) أن يصير ما ليس من الأملاك بحكم الأملاك، فإنّ الأخماس والزّكوات والاستطاعة والديون والنفقات وغيرها ممّا هو مترتّب على الأملاك، تتعلّق بما في اليد، مع العلم ببقاء مقابله وعدم التصرّف فيه.0.

ص: 310


1- منية الطالب: ج 1/133.
2- شرح القواعد (مخطوط): ص 50.

وأجاب الشيخ رحمه الله(1) عنه بقوله: (وأمّا ما ذكره من تعلّق الأخماس والزكوات إلى آخر ما ذكره، فهو استبعادٌ محض، ودفعه بمخالفته للسيرة رجوع إليها).

أقول: وهذا يحتمل معنيين:

أحدهما: أنّ تعلّق هذه الأُمور بالمأخوذ بالمعاطاة مع عدم الملك، لا مانع منه سوى الاستبعاد، فيلتزم به.

ودفعه بمخالفته للسيرة، حيث أنّ بناء المتشرّعة على المعاملة مع المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملكيّة، بحيث لو سألوا عن وجه تعلّق المذكورات به أجابوا بكونه كسائر الأملاك، رجوعٌ إلى الاستدلال بالسيرة على المِلك، والمفروض عدم تماميّته عند هذا القائل، وإلّا لالتزم بالملك.

ثانيهما: أنّ الالتزام بعدم تعلّقها به لا محذور فيه، سوى الاستبعاد، ودفعه بقيام السيرة على التعلّق، رجوعٌ إليها، فيخصّص بها ما دلَّ على عدم تعلّقها بغير الأملاك.

أقول: والظاهر هو الأوّل، لأنّ كاشف الغطاء رحمه الله استبعد التعلّق كما لا يخفى .

وفيه: إنّ هذا الجواب لا يفيد في دفع ما أفاده الشيخ الكبير، لأنّه يقول:

(لا كلام في تعلّق هذه الأُمور بالمأخوذ بالمعاطاة، والمفروض أنّه ليس بملك، فيلزم أن يكون غير الملك بحكم الملك، وهذا في نفسه بعيد لا أنّه لا دليل عليه).

والحقّ أنْ يقال: إنّه لو كان إشكالٌ واستبعادٌ فإنّما هو في الأخماس والزكوات وحقّ الشفعة، وأمّا سائر المذكورات كالاستطاعة وحقّ الدُّيان والنَفَقات وغيرها،8.

ص: 311


1- المكاسب: ج 3/48.

فتتعلّق بغير الأملاك، لتحقّق الاستطاعة بالبذل والإباحة، والدين يجب اداؤه من مالٍ أذن صاحبه في الأداء منه إذا كان حالاً، والنفقة واجبة من مالٍ يجوز له الإنفاق منه، والوارث يرثُ من الميّت كلّ ما تركه من حقّ أو مال، مع أنّه يمكن الالتزام على هذا المسلك بمالكيّة المورث آناً مّا قبل الموت، وتصحّ الوصيّة أيضاً، والرِّبا يجري في البيع، وإنْ لم يفد الملك، وهكذا البقيّة.

أقول: وأمّا تعلّق الخُمس والزكاة وحقّ الشفعة - والمراد به أنّ المباح له بالمعاطاة له الأخذ بالشفعة لو باع شريكه المالك به - فإنْ ثبت بدليلٍ ، فيكون هو المخصّص لما دلَّ على توقّفه على الملك، لكن يبقى استبعاد الشيخ بحاله، وإلّا فالقائلون بالإباحة منكرون للتعلّق.

المحذور الرابع:(1)(كون التصرّف من جانب مملّكاً للجانب الآخر).

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله(2) بقوله: (فقد ظهر جوابه).

أقول: لكن الجواب المتقدّم الذي ذكره عن مملكيّة التصرّف - من أنّه مقتضى الجمع بين القواعد - لا يكفي في المقام، لأنّه يقتضي مالكيّة المتصرّف لما في يده تصحيحاً لتصرّفه المتوقّف على الملك، ولا يقتضي مالكيّة غير المتصرّف.

نعم، الجواب الذي ذكرناه يكون جواباً عن هذا الإيراد أيضاً كما لايخفى .

المحذور الخامس: (3) (كون التلف من جانبٍ مملّكاً للجانب الآخر، والتلف من الجانبين معيّناً للمسمّى من الطرفين، وأنّه لا رجوع بالمثل أو القيمة).

وأجاب الشيخ رحمه الله (4) عن ذلك بقوله: (وأمّا كون التلف مملّكاً للجانبين فإن ثبت...

إلى آخره).9.

ص: 312


1- شرح القواعد (مخطوط): ص 50.
2- المكاسب: ج 3/49.
3- شرح القواعد (مخطوط): ص 50.
4- المكاسب: ج 3/49.

توضيحه: إنّ مقتضى عموم قاعدة (على اليد)(1)، وإنْ كان هو الضمان ببدله الواقعي، إلّاأنّه لما قام الإجماع على عدم ضمان المثل والقيمة، يدور الأمر بين أن يكون المال قبل التلف مِلكاً لذي اليد، فيبقى عموم (على اليد) على حاله، وبين أن يكون باقياً على ملك مالكه الأوّل، فيكون الإجماع والسيرة مخصّصين لعموم (على اليد)، وقد ثبت في محلّه أنّ التخصّص مقدّمٌ على التخصيص عند الدوران، وعليه فلأجل ذلك - بضميمة استصحاب عدم المِلْك إلى آن قبل التلف - يُحكم بحصوله قبله آناً مّا، وهذا هو مراده قدس سره لا ما أفاده بعضهم من أنّ غرضه ثبوت مملكيّة التلف بالإجماع والسيرة.

وفيه: يرد على جواب الشيخ رحمه الله أمران:

الأمر الأوّل: أنّ اليد في المقام إمّا يد أمانيّة شرعيّة أو يدٌ مالكيّة، ولا تكون مشمولة لقاعدة (على اليد) على كلا التقديرين.

الأمر الثاني: أنّ التمسّك بالعموم - أي تقديم التخصّص على التخصيص - إنّما هو فيما إذا لم يكن الحكم معلوماً، وأمّا إذا علم ذلك وشكّ في كون ما عُلم عدم ثبوت حكم العام له من أفراد العام كي يكون ذلك تخصيصاً أو غيره، فلا مورد للتمسّك بأصالة العموم حفظاً للعام عن ورود التخصيص عليه.

وبالجملة: فالحقّ في الجواب عن الشيخ الكبير أن يقال: إنّه في صورة التلف من الجانبين لا ضمان، لعدم المقتضي، مع أنّه يمكن الالتزام بمالكيّة كلّ منهما قبل التلف، وفي صورة التلف من جانبٍ واحد إنّما يكون الطرف الآخر مالكاً لما في يده،7.

ص: 313


1- سنن البيهقي: ج 16/90، كنز العمّال: ج 5/257.

بسبب المعاطاة المشروط تأثيرها في الملكيّة عندهم بالتصرّف المتوقّف على الملك أو التلف.

المحذور السادس:(1) أنّه لو غَصَب المأخوذ بالمعاطاة غاصبٌ ، فلابدّ وأن يكون المطالب هو المالك المبيح لا المباح له، وهو خلاف ظاهر الأصحاب، والقول بتملّكه بالغصب، فيكون حقّ المطالبة له من هذه الجهة بعيدٌ.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله(1): بأنّ لكلّ منهما المطالبة ما لم يتلف، أمّا المالك فلمالكيّته، وأمّا المباح له فلفرض أنّ له السلطان على المأخوذ، والانتزاع من الغاصب من مراتب السلطنة.

وأمّا في صورة التلف، فالمطالب للقيمة هو المباح له، لصيرورته مالكاً بالتلف.

ويرد على الشيخ رحمه الله: أنّ المالك بعد كون عوض المال تحت يده ليس له حقّ المطالبة، وإلّا لزم الجمع بين العوض والمعوض.

المحذور السابع: (3) أنّ النماء الحادث قبل التصرّف إنْ جعلناه مِلْكاً للمباح له دون العين فبعيدٌ، أو مع ملكيّة العين فكذلك، وكلاهما منافٍ لظاهر الأكثر، ومع عدم كونه مِلْكاً له ودخوله في ملك المالك - حيث أنّ شمول الإذن له خفي - فلازمه عدم جواز التصرّف فيه، وهو خلاف السيرة.

وأجاب الشيخ رحمه الله (2) عن ذلك: بأنّ القائل بالإباحة لايقول بانتقال النماء بالأخذ، بل حكمه حكم أصله، ويُحتمل أن يحدث النماء في ملكه بمجرّد الإباحة.

وفيه: إنّ الاحتمال الأوّل هو الذي أجاب عنه الشيخ الكبير بأنّ شمول الإذن له0.

ص: 314


1- المكاسب: ج 3/49-50.
2- المكاسب: ج 3/50.

خفي، وأمّا الاحتمال الثاني فهو الذي استبعده.

أقول: يمكن الجواب عن الشيخ بأنّ الإباحة الثانية إباحة شرعيّة لا إباحة مالكيّة، فلا تتوقّف على الإذن.

المحذور الثامن:(1) أنّه في التلف، إنْ ملك التالف قبل التلف فعجيبٌ ، للّزوم تقدّم المسبّب على السبب، وإنْ ملكه معه فبعيدٌ أيضاً، لأنّه لا استقرار له حتّى يملكه، وإنْ ملكه بعده فهو ملك المعدوم.

وفيه: إنّه يلتزم بالأوّل، ويقال بتأثير المعاطاة في الملكيّة، وشرطها التلف بنحو الشرط المتأخّر، أو يقال بكونه كاشفاً عن السبب.

المحذور التاسع: (2) إنّ التصرّف إنْ لم يتوقّف على النيّة فهو بعيدٌ، وإنْ توقّف عليها كان الواطيء للجارية من غيرها واطئاً بالشبهة.

وفيه: إنّه بنفسه شرط التأثير في الملكيّة لا مع النيّة، فلا بُعد فيه، مع أنّه لو توقّف عليها كان الواطيء للجارية من غير نيّةٍ زانياً لا واطئاً بالشبهة.

المحذور العاشر: (1) قصر التمليك على التصرّف مع الاستناد فيه إلى أنّ إذن المالك في التصرّف إذنٌ في تمليك نفسه، فيتّحد الموجب والقابل، وهذا بعينه يجري في القبض الذي هو أوّل تصرّفٍ يصدُر من المتعاطيين، بل هو أولى لكونه مقروناً بقصد التمليك دونه.

وفيه أوّلاً: إنّ حصول الملكيّة قبل التصرّف أو معه ليس من حيث الإذن في تمليك نفسه، بل هو بنفسه مملّكٌ .0.

ص: 315


1- شرح القواعد (مخطوط): ص 50.

وثانياً: إنّ هذا لا يجري في القبض، لعدم توقّفه على الملك كي يقتضي الجمع بين الأدلّة حصول الملكيّة قبله أو معه.

وثالثاً: إنّه لو كانت مملكيّة التصرّف من باب الإذن في التمليك، فلم لا يلتزم بحصول الملكيّة بالتعاطي، إذ لا فرق بين هذا الفعل الذي ينشأ به التمليك وغيره ؟

أقول أخيراً: الإنصاف أنّ جملة ممّا أفاده الشيخ الكبير رحمه الله استبعادات في محلّها، وقد مرّ أنّ القول بالإباحة ممّا لا يمكن إثباته بالدليل، وأنّه يقتضي القول بالملك. فراجع(1).

***ا.

ص: 316


1- صفحة 293 و مابعدها.

استصحاب بقاء الملك

المورد الثاني: في أنّ الملك الحاصل بالمعاطاة لازمٌ أم جائز؟

أقول: والكلام فيه يقع في مقامين:

المقام الأوّل: فيما استدلّ به على اللّزوم أُمور:

الأوّل:(1) استصحاب بقاء الملك بعد الفسخ، للشكّ في زواله بعد القطع بوجوده، فيُستصحب بقائه.

وأُورد عليه بإيرادين:

الإيراد الأوّل: أنّ هذا الأصل محكومٌ باستصحاب بقاء علقة المالك الأوّل.

الإيراد الثاني: أنّه من قبيل استصحاب الكلّي في القسم الثاني، وهو لايجري لأنّ الفرد القصير - وهو الملك المتزلزل - مقطوعُ الارتفاع بعد الرجوع، والفرد الطويل وهو المِلْك اللّازم مشكوك الحدوث، فيجري استصحاب عدم حدوثه.

والشيخ رحمه الله لم يتعرّض في المقام للجواب عن الأوّل، بل أجاب عن خصوص الثاني(2) بأنّه:

أوّلاً: إنّ الاستصحاب يجري في القسم الثاني من أقسام الكلّي.

وثانياً: إنّ استصحاب بقاء الملك من قبيل استصحاب الشخص لا الكلّي، وعلّله بما سيمرّ عليك، وعلى فرض الشكّ في كون المستصحب شخصيّاً أو كليّاً يجري الأصل، وإنْ كان على فرض ثبوت كونه كليّاً لا يجري فيه الأصل.

ص: 317


1- المكاسب: ج 3/51.
2- كما قد يظهر من المكاسب: ج 3/51-52.

أقول: تحقيق القول في المقام يقتضي البحث في مواضع:

الموضع الأوّل: في أنّ الملك المستصحب في المقام، هل هو كلّي أو شخصي ؟ بمعنى أنّه القدر المشترك الجامع بين المِلْك المتزلزل والمستقرّ، أو هو شخصٌ معيّن، لعدم كون الجواز واللّزوم من الأُمور المنوّعة أو المفرّدة ؟

الموضع الثاني: في أنّه لو ثبت شخصيّته، هل يجري الأصل فيه أم لا، كما أنّه لو ثبت كونه كليّاً فهل يجري فيه الأصل أم لا، وأيضاً لو شكّ في ذلك، فهل يكون مجرى الاستصحاب أم لا؟.

الموضع الثالث: في أنّه في المقام، هل يكون أصلٌ حاكمٌ عليه، وبعبارة أُخرى هل يجري استصحاب بقاء عُلقة المالك الأوّل أم لا؟

أمّا الموضع الأوّل: فقد التزم الشيخ رحمه الله(1) بأنّ اللّزوم والجواز من الأحكام الشرعيّة للسبب، لا من الخصوصيّات المأخوذة في المسبّب، واستدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ الملكيّة ليست من الأُمور الواقعيّة أو التعبّديّة الشرعيّة، حتّى يقال إنّا لا نعرف حقيقتها، بل هي أمرٌ اعتباري يعتبرها المتعاقدان، وعليه فحيث نرى بالوجدان والحِسّ أنّ إنشاء الملك في البيع والهبة على نهج واحد، فيستكشف من ذلك اتّحاد حقيقة الملك.

الوجه الثاني: أنّ اللّزوم والجواز لو كانا من خصوصيّات الملك: فإمّا أن يكون التخصّص بجعل المالك أو بجعل الشارع.

فإنْ كان الأوّل: لزم التفصيل بين أقسام التمليك المختلفة، بحسب قصد الرجوع2.

ص: 318


1- المكاسب: ج 3/52.

وعدمه، وهو بديهي البطلان، لعدم دخل قصد المالك في الرجوع وعدمه.

وإنْ كان الثاني: لزم إمضاء الشارع العقد على غير ما قصده المُنشئ، وهو باطل في العقود.

أقول: وأُورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: ما أفاده السيّد الفقيه في «الحاشية»(1)، من أنّ الظاهر أنّ الاختلاف بينهما اختلافٌ في حقيقتها، فإنّ الملكيّة في أنظار العرف قسمان، وانهم يرون الملكيّة الموجودة في الهبة مغايرة مع الموجودة في العقود اللّازمة.

وفيه: إنّه بعد ملاحظة أنّ الملكيّة من الأُمور الاعتباريّة، ويعتبرها المالك لغيره، لا يشكّ أحدٌ في أنّ المعتبر في الموردين شيءٌ واحد، وأنّ الاختلاف إنّما هو من ناحية الحكم الشرعي بجواز الفسخ والرجوع في موردٍ دون آخر.

الإيراد الثاني: ما أفاده أيضاً فيها(2)، من أنّ اختلاف السبب إذا لم يكن موجباً لاختلاف المسبّب، لا يكون مقتضياً لاختلاف الأحكام بالضرورة.

وفيه: إنّ الشيخ رحمه الله يدّعي أنّ اللّزوم والجواز من أحكام السبب نفسه لا من أحكام المسبّب، فلا وجه لهذا الإيراد.

الإيراد الثالث: ما أفاده قدس سره أيضاً(3) وتبعه المحقّق الايرواني رحمه الله(2)، من أنّه على فرض اتّحاد الحقيقة، يكفي في الإشكال التعدّد الفردي، كما في الحيوان المردّد بين زيد وعمرو في الدار، إذا كان قاطعاً بخروج أحدهما المعيّن.2.

ص: 319


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/73. (2و3) حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/73.
2- تعليقات على المكاسب: ج 1/151-152.

وفيه: إنّ الشيخ رحمه الله يدّعي عدم التعدّد الفردي أيضاً، وأنّ الملك لا يختلف في الحقيقة النوعيّة، ولا في الخصوصيّة الزائدة على الحقيقة، فالمتيقّن هو الملك الشخصي المتعيّن من جميع الجهات، حتّى من جهة السبب أي المعاطاة، وإنّما الشكّ في أنّ هذا الشخص هل يكون سببه محكوماً باللّزوم أو الجواز أم لا بحيث يكون نظير ما لو علم بدخول زيدٍ في الدار وشكّ في خروجه، من جهة الشكّ في أنّه هل دخل فيها بانياً على البقاء إلى ساعة أو إلى ساعتين أم لا.

الإيراد الرابع: ما أفاده السيّد(1) أيضاً إيراداً على الوجه الثاني الذي ذكره الشيخ رحمه الله برهاناً لمختاره، من أنّ التخصيص بالنسبة إلى النوعين من المعاملة كالبيع والهبة مثلاً إنّما يكون من قِبل المتعاقدين، وبالنسبة إلى النوع الواحد كالبيع إنّما يكون من قبل الشارع، ولا بأس بإمضاء الشارع على غير ما قصده المُنشئ، فإنّ هذا المقدار من الاختلاف مغتفر.

وفيه: إنّ لازم ما أفاده في القسم الأوّل دوران اللّزوم والجواز في النوعين مدار قصد المُنشئ، وهو بديهي الفساد.

أقول: وأمّا ما ذكره في القسم الثاني، فيرد عليه:

أنّ الشيخ لا يدّعي استحالة إمضاء الشارع لغير ما قصده المنشئ، بل يدّعي أنّه إذا لم يرد دليل إلّاعلى إمضاء ما أنشأه المتعاقدان، كان لازم ذلك وقوع المُنشأ على نحو ما قصداه، وهذا أمرٌ بديهي.

الإيراد الخامس(2): أنّ اختلاف السبب مستلزمٌ لاختلاف المسبّب، إذ4.

ص: 320


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/73.
2- راجع حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/134.

المتباينان لا يعقل تأثيرهما في شيء واحد.

وفيه: إنّ المؤثّر في الملك إنّما هو الجامع بين السببين، والاختلاف إنّما يكون في خصوصيّات السبب المؤثّر في اللّزوم والجواز.

فتحصّل: أنّ شيئاً ممّا أورد على الشيخ رحمه الله لا يرد عليه.

أقول: ويشهد لعدم كونهما من مقوّمات الملك، وعدم كون الاختلاف بينهما في حقيقة الملك - مضافاً إلى ما ذكره الشيخ رحمه الله - وجهان آخران:

أحدهما: أنّه يلزم أن لو أنشأ الملكيّة ولم يقصد اللّزوم أو الجواز - ولو بالقصد إلى الملكيّة التي من شأنها ذلك - أن لا تقع الملكيّة، إذ الجامع لا يُعقل وجوده بدون الفصل المميّز.

الثاني: أنّه لو كانا من مقوّماتها، لزم امتناع معروضيّة الملكيّة الواحدة تارةً للّزوم، وأُخرى للجواز، مع وضوح خلافه، فإنّ المبيع المُنشَأ باللّفظ تكون الملكيّة الحاصلة منه في زمان الخيار جائزة وبعده لازمة.

أقول: وبما ذُكر ظهر أنّ الملكيّة ليست نوعين، كذلك ظهر أنّها ليست ذات مراتب، وأنّ الملك الجائز واللّازم ليسا فردين من الملك.

نعم، لا ننكر أنّ الأحكام الشرعيّة التكليفيّة والوضعيّة تابعة للملاكات، ولازم ذلك أنّ الملك المتخصّص بكونه عن سببٍ تقتضي المصلحة الحكم عليه أو على سببه باللّزوم تارةً وبالجواز أُخرى ، ولكن مثل هذه الخصوصيّة لا يُعقل أن تكون من مفردات وصغريات الملك الاعتباري، كما لا يخفى .

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الجواز واللّزوم حكمان شرعيّان جُعلا للسبب أو

ص: 321

للمسبّب، ولا يعقل أن يكونا من مقوّمات الملك وقيوده، وإلّا لزم تقدّم ما هو متأخّر، فالملك في الموردين شيء واحد.

وأمّا الموضع الثاني: فالكلام فيه يقع في جهات:

الجهة الأُولى: إذا كان في الموردين شيئاً واحداً:

فعلى القول بجريان الاستصحاب في الأحكام، لا كلام في جريان هذا الأصل.

وأمّا على القول بعدم جريانه فيها، فقد يقال بعدم جريانه فيه لكونه من الأحكام.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ الوجه في عدم جريان الاستصحاب في الأحكام إنّما هو محكوميّته لاستصحاب عدم الجعل، كما حَقّقناه في محلّه، وعليه ففي المقام بما أنّ جعل الملكيّة المستمرة ممّا لا شكّ فيه، وإنّما يكون منشأ الشكّ في بقاء المِلك بعد الفسخ والرجوع، هو الشكّ في جَعل حقّ الفسخ والرجوع، والأصل يقتضي عدمه، فاستصحاب عدم جعل الحكم بنحوٍ يكون باقياً في زمان الشكّ الجاري في سائر المقامات - كما لو شكّ في أنّ الذي جُعل هو وجوب صلاة الجمعة في زمان الحضور خاصّة أم إلى يوم القيامة، فإنّه يجري فيه أصالة عدم جعل الوجوب لها في زمان الغيبة، الحاكم على استصحاب بقاء الحكم - لايجري في المقام، وعلى ذلك فمقتضي الأصل بقاء الملكيّة.

الجهة الثانية: يدور البحث فيها عن أنّه بناءً على تعدّد الملك اللّازم والجائز، هل يجري استصحاب بقاء القدر المشترك بينهما أم لا؟

أقول: اختار الشيخ رحمه الله في الأُصول(1) جريان استصحاب الكلّي في أمثال المقام2.

ص: 322


1- فرائد الأُصول: ج 3/191-192.

- أي القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلّي - ولكن في هذا المبحث بعدما أشار إلى مختاره، قال: (فتأمّل)(1)، ممّا استلزم إيراد الأصحاب على هذا الأصل بإيرادات، وحيث أنّ بعضها إيرادٌ على جريان الأصل في هذا القسم مطلقاً، فقد أغمضنا عن ذكره، لأنّ محلّه في الأُصول، وقد أشبعنا الكلام فيه في حاشيتنا على «الكفاية»، وبعضها إيراد على جريانه في خصوص المقام، وهو أُمور:

الأمر الأوّل: ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(2) من أنّ الشكّ في بقاء الكلّي في المقام، من قبيل الشكّ في المقتضي، حيث أنّه يشكّ في أنّ المِلْك الحادث بالمعاطاة هل هو لازمٌ ليكون فيه اقتضاء البقاء حتّى بعد الفسخ، أم يكون جائزاً فاقداً لاقتضاء البقاء بعده، فيكون نظير الحيوان المردّد بين الفيل والبق.

وفيه: إنّ الشكّ في المقتضي الذي ذهب الشيخ رحمه الله في الأُصول إلى عدم جريان الاستصحاب فيه، هو ما إذا كان عمر المستصحب وأمده في عمود الزمان مشكوكاً فيه تكويناً أو تشريعاً، كالزوجيّة المردّدة بين الانقطاع والدوام، والحيوان المردّد بين البق والفيل، وأمّا إذا كان عمره معلوماً، وعلمنا أنّه غير محدود بالزمان، بل قام الشكّ في رفعه وعدمه - حتّى ولو كان منشاءه الشكّ في وجود المصلحة الداعية في الأُمور الاعتباريّة - فهو من مصاديق الشكّ في الرافع. وتمام الكلام في محلّه.

والمقام من قبيل الثاني، إذ الملكيّة الحاصلة بالمعاطاة، سواءٌ أكانت لازمة أو جائزة تكون باقية في عمود الزمان، وإنّما الشكّ في رفعه بالفسخ.3.

ص: 323


1- المكاسب: ج 3/51.
2- ظاهر حاشية المكاسب للآخوند: ص 13.

الأمر الثاني(1): أنّ الأصل المزبور لا يثبت عنوان اللّزوم.

وفيه: إنّ الآثار مترتّبة على الملكيّة الجامعة لا على عنوان اللّزوم، فلا حاجة إلى إثباته.

الأمر الثالث: ما أفاده النائيني رحمه الله(2)، من أنّ استصحاب الكلّي إنّما يجري إذا كان له - مع قطع النظر عن الارتفاع والبقاء - نوعان، كالحدث المردّد بين الأصغر والأكبر، وأمّا في المقام فلا اختلاف في الملك إلّامن جهتي الارتفاع والبقاء، إذ لو ارتفع بالفسخ أصبح جائزاً، ولو بقى بعده كان لازماً، فإذا كان تنوّعه بنفس اللّزوم والجواز - أي البقاء والارتفاع - فلا يجري الاستصحاب فيه، إذ معنى استصحاب المِلْك حينئذٍ هو استصحاب المِلْك الباقي - أى اللّازم - وهو على الفرض مشكوك الحدوث.

أقول: مرجع هذا الإشكال في الحقيقة إلى أنّ النوعين من الملك متباينان بتمام هويّتهما، وفي كلّ منهما يكون أحد ركني الاستصحاب منتفياً، إذ الملك الجائز مقطوع الارتفاع، واللّازم منه مشكوك الحدوث من الأوّل.

وفيه: إنّ تنوّع المِلْك ليس باللّزوم والجواز، بل هما على هذا المسلك قسمان من الملك، ويمتاز كلّ منهما عن الآخر، مع قطع النظر عن البقاء والارتفاع، غاية الأمر أنّه ليس لكلّ منهما اسمٌ خاص، وإلّا فلا فرق بين الملك والحَدَث، فكما أنّ الثاني ينقسم إلى الأصغر والأكبر، والكاشف عن الاختلاف يعني الاختلاف في الأثر، كذلك الأوّل. فتدبّر.8.

ص: 324


1- راجع القواعد الفقهيّة للبجنوردي: ج 5/233-234.
2- منية الطالب: ج 1/148.

فالحقّ أنْ يقال: إنّ استصحاب بقاء الكلّي في القسم الثاني إنّما يجري في الموضوعات من جهة أنّ استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل لا يترتّب عليه عدم الكلّي، لعدم كون الترتب شرعيّاً، وليس بقاء الكلّي فيها عين بقاء الفرد، فإنّ ذلك وإن تمّ في عالم العين إلّاأنّه لا يتمّ في عالم الاعتبار والتشريع، كما فُصّل ذلك في محلّه، ولا يكون جارياً في الأحكام، من جهة أنّ جعل الجامع فيها إنّما يكون بجعل الفرد، فلو علم بعدم وجود فردٍ، وكان مقتضى الأصل عدم وجود الفرد الآخر، لا يكون الشكّ في بقاء الكلّي حينئذٍ باقياً، إذ لا وجود له سوى وجود الفرد، والمقام من قبيل الثاني، فإنّ الملكيّة إنّما هي من الاعتبارات الشرعيّة، فإذا فرضنا العلم بارتفاع الملك الجائز على فرض حدوثه، وجرت أصالة عدم حدوث المِلْك اللّازم، ثبت من ذلك عدم بقاء الملك الجامع بينهما.

لا يقال: إنّ استصحاب عدم حدوث الملك اللّازم يعارض استصحاب عدم حدوث الملك الجائز، فيتساقطان، والمرجع هو استصحاب بقاء القدر المشترك.

فإنّه يقال: إنّ الملك اللّازم بما أنّه يترتّب عليه جميع آثار الملك الجائز - عدا ارتفاعه بالفسخ - فاستصحاب عدم حدوث المِلْك الجائز لعدم الأثر لا يكون جارياً.

نعم، لو كان يثبت به أنّ الحادث هو المِلْك اللّازم، أمكن فرض جريانه، لكنّه لا يثبت.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم جريان استصحاب القدر المشترك في المقام، ولعلّ تأمّل الشيخ رحمه الله كان ناظراً إلى هذا الأمر، كما أنّ هذا هو مراد السيّد الفقيه في حاشيته(1)، فلا يرد عليه شيء ممّا أوردوه عليه.3.

ص: 325


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/73.

أقول: ولا يخفى أنّه بناءً على ما اخترناه وحقّقناه في الأُصول من جريان الأصل في الفرد المردّد(1) - من جهة أنّ الموجود وإنْ كان مردّداً عندنا ولكن لا يضرّ ذلك بتيقّن وجوده سابقاً، فيستصحب بقاء ذلك المتيقّن سابقاً - فإنّه لا مانع من استصحابه، ومعه لا حاجة إلى استصحاب بقاء القدر المشترك، إذ أثر القدر المشترك أثرٌ لكلّ واحدٍ من الفردين، فلا مانع من إجراء الاستصحاب في الشخص الواقعي المعلوم سابقاً.

الجهة الثالثة: إنّه بناءً على عدم جريان الاستصحاب في الكلّي في أمثال المقام، وجريانه في الشخصي، لو شُكّ في أنّ المِلك اللّازم والجائز قسمان أم هما شيءٌ واحد، فهل يجري الاستصحاب فيه لو شُكّ في زواله بالفسخ أم لا؟

أمّا الشيخ الأعظم رحمه الله فقد ذهب إلى جريانه(2).

وأُورد عليه السيّد في «الحاشية»:(3) - وجمعٍ من المحقّقين(4) -: أنّه مع هذا الشكّ لا يكون المستَصحُب محرزاً، فكيف يُعقل جريانه ؟

أقول: ولكن يمكن توجيه ما أفاده الشيخ رحمه الله، بأنّ عدم جريان الاستصحاب في الكلّي في القسم الثاني، إنّما يكون من جهة جريان أصالة عدم حدوث الفرد الطويل، وإلّا فمع عدم جريان الأصل فيه - للتعارض أو لغيره - لا ريب في جريان الأصل في الكلّي، وفي المقام بما أنّه لم يُحرز كون الملك اللّازم فرداً أو نوعاً آخر، لا تجري أصالة عدم حدوثه، ومعه لا مانع من إجراء الأصل في المِلْك الموجود، سواءٌ 8.

ص: 326


1- زبدة الأصول: ج 5/390.
2- المكاسب: ج 3/52.
3- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/73.
4- كتاب المكاسب والبيع: ج 1/168.

أكان كليّاً أم شخصيّاً. فتدبّر فإنّه دقيق.

وأمّا الموضع الثالث: فقد قيل(1) إنّه يعارض هذا الأصل أصلان آخران، وهما مقدّمان للحكومة:

الأصل الأوّل: أصالة بقاء عُلقة المالك الأوّل، فإنّه يُشكّ في أنّ علقة المالك الأوّل هل انقطعت بالمرّة بالمعاطاة، أم بقيت مرتبةٌ ضعيفة منها تؤثّر في جواز الرجوع فيُستصحب بقائها - بعد كون قوّة العُلقة وضعفها من مراتب شيءٍ واحد، لا أنّهما أمران متباينان - فإذا جرى هذا الأصل، لا يبقى شكّ في بقاء الملك كي يُستصحب، فإنّ الشكّ في بقائه بعد الرجوع مسبّبٌ عن الشكّ في ثبوت هذا الحقّ وعدمه.

وفيه: إنّ العُلقة الثابتة للمالك لم تكن إلّاالملكيّة، وبتبعها السلطنة على التصرّفات.

أمّا الملكيّة فهي قد زالت بالبيع، وإلّا لزم اجتماع المالكين على شيءٍ واحد - ولم يبق منها شيء لعدم ثبوت المراتب لها -.

وأمّا السلطنة فهي تابعة للملكيّة، فلا محالة تكون زائلة.

ودعوى: أنّ للشخص سلطنة على ماله، وسلطنة على تسليط الغير عليه حدوثاً وبقاءً ، وبالبيع زالت السلطنة عليه، وكذلك السلطنة على تسليط الغير حدوثاً، أمّا السلطنة على تسلّط الغير بقاءً فهي مشكوكة الارتفاع، فيستصحب بقاؤها، ونتيجة ذلك جواز رفع سلطنة الغير بالفسخ.4.

ص: 327


1- راجع منية الطالب: ج 1/144.

مندفعة: بأنّ السلطنة على رَدّ المِلك فهي سلطنة جديدة، إنْ ثبتت فإنّها تثبت في ظرف عدم الملك، فكيف تكون من آثار الملك ؟!

وعليه، فالحقّ أنّ حقّ الفسخ إنْ ثبت فهو حقٌّ حادث بعد زوال العلقة الأوليّة.

الأصل الثاني: استصحاب بقاء حقّ الفسخ الثابت في زمان ثبوت خيار المجلس، فإنّه يشكّ في زواله وبقائه بعد الافتراق، فيُستصحب بقائه.

وفيه: إنّ ذلك الحقّ قد زال بالافتراق قطعاً، لقوله عليه السلام: «فإذا افترقا وَجَب البيع»(1)، فلو كان الحقّ باقياً فهو حقٌّ آخر مشكوك الحدوث، تجري فيه أصالة عدم ثبوته، والكلّي الجامع بينهما لا يجري الأصل فيه، لأنّ الاستصحاب حينئذٍ من قبيل القسم الثالث من أقسام الكلّي، والمختار عندنا عدم جريان الأصل فيه، إلّاإذا عُدّ الفردان مرتبتين من شيء واحد، حتّى فيما إذا احتمل حدوث الفرد الآخر مقارناً لحدوث الفرد الزائل قطعاً، مضافاً إلى أنّه من قبيل استصحاب الحكم الشرعي، والمختار عدم جريانه.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ استصحاب بقاء المِلْك يجرى، ويحكم بواسطته باللّزوم.

***3.

ص: 328


1- وسائل الشيعة: ج 18/6 ب 1 من أبواب الخيار ح 4 رقم 23014، التهذيب: ج 7/20 ب 2 ح 3.

دليل السلطنة

الثاني من أدلّة اللّزوم: دليل السلطنة، والمعروف بقاعدة السلطنة المستفادة من قوله صلى الله عليه و آله: «النّاس مسلّطون على أموالهم»(1).

أقول: وتقريب الاستدلال يتحقّق من خلال وجهين:

الوجه الأوّل: التمسّك بعموم هذا الدليل وإطلاقه الزماني أو الأحوالي، الشامل لما بعد الفسخ، بأن يقال: إنّ مقتضى عمومه ثبوت السلطنة للمالك بعد فسخ المالك الأوّل ورجوعه، ولازم ذلك عدم تأثير الفسخ ورجوعه.

وفيه: إنّ موضوع السلطنة هو مال الإنسان ومِلْكه، وثبوته بعد الفسخ غير مُحرز، إذ لو كان الفسخ مؤثراً لما كان الموضوع باقياً، ومع الشكّ في صدق الموضوع، فإنّه لا مجال للتمسّك بالإطلاق.

الوجه الثاني: التمسّك بإطلاق هذا الدليل الشمولي لجميع أنحاء التصرّفات، ومن جملتها دفع مزاحمة الأجانب ومنهم المالك الأوّل، ولازمه عدم تأثير فسخه.

وبعبارة أُخرى : خروج المال عن ملكه بغير اختياره، منافٍ لسلطنة المالك على ماله، فمقتضى إطلاق دليل السلطنة، عدم خروجه، وعدم تأثير رجوع المالك الأوّل.

وأُورد عليه بإيرادات:

الإيراد الأوّل: أنّ الدليل إنّما يدلّ على سلطنة المالك على ماله، لا على عدم ثبوت السلطنة لغيره، فلا يدلّ على عدم ثبوت هذا الحقّ للمالك الأوّل.

ص: 329


1- بحار الأنوار: ج 2/272.

وفيه: إنّ لازم السلطنة التامّة على جميع التصرّفات، هو السلطنة المطلقة وعدم سلطنة الغير على ما يزاحم سلطنته، وإلّا لم تكن سلطنته مطلقة، فتملّك الغير بلا رضا منه منافٍ للسلطنة المطلقة، فليس له ذلك.

الإيراد الثاني: إنّ دليل السلطنة إنّما يدلّ على عدم محجوريّة المالك، واستقلاله في التصرّفات، ولا يدلّ على أزيد من ذلك.

ويرد عليه: ما تقدّم عند ذكر الاستدلال به على مملّكيّة المعاطاة، فراجع(1).

الإيراد الثالث: إنّ حقّ الفسخ على فرض ثبوته للمالك الأوّل في المقام إنّما هو بمعنى حقّ فسخ العقد، وبعبارة أُخرى متعلّقه العقد دون العين، فلا ينافي ثبوته السلطنة.

وفيه: إنّ نتيجة ثبوت هذا الحقّ بما أنّها خروج المال عن ملكه بغير رضاً منه، فثبوته ينافي السلطنة المطلقة الثابتة به للمالك، فينتفي به.

الإيراد الرابع: إنّ السلطنة المنافية لسلطنة المالك، إنّما هي السلطنة على التصرّف في ماله، وأمّا التصرّف المزيل للموضوع، فلا ينافي السلطنة المنافية في المال.

وبعبارة أُخرى: إنّ هذا الدليل كسائر الأدلّة، إنّما يدلّ على ثبوت الحكم في ظرف ثبوت الموضوع، من دون أن يكون متعرّضاً لبقاء الموضوع وارتفاعه، وعليه فكما أنّ هذا الدليل لا يدلّ على سلطنة المالك على إزالة الملكيّة عن نفسه بالإعراض، كذلك لا يدلّ على عدم سلطنة الغير على إزالتها.

وإنْ شئت قلت: إنّ هذا الدليل كما لا يدلّ على سلطنة المالك على إزالة الملكيّة،د.

ص: 330


1- صفحة 300 من هذا المجلّد.

كذلك لا يدلّ على السلطنة على إبقائها، كي تكون سلطنة الغير على إزالتها منافية لسلطنة المالك على ماله.

أقول: ولا يتوهم إنّا ندّعي عدم دلالته على تسلّط المالك على تمليك ماله للغير، لما عرفت عند البحث عن مملكيّة المعاطاة، الفرق بين تمليكه ماله للغير، وبين إزالة الملكيّة عن نفسه بالإعراض، وأنّ هذا الدليل يدلّ على ثبوت الأوّل دون الثاني، وعليه فهو يدلّ على عدم سلطنة أحدٍ على تملك مال الغير، بلا عوضٍ أو معه، ولا يدلّ على عدم سلطنته على إزالة الملكيّة عنه بالرجوع، فتدبّر فإنّه دقيق.

وعليه، فالأظهر أنّه لا يدلّ على اللّزوم.

الثالث من أدلّة اللّزوم: ما ورد من قولهم عليهم السلام من أنّه: «لا يَحِلّ مال إمرءٍ إلّا بطيب نفسه»(1).

أقول: وتقريب الاستدلال به بوجهين كما في دليل السلطنة، بل التقريب الثاني المتقدّم هناك في المقام أوضح، فإنّ صريح مدلوله عدم جواز التصرّف في مال الغير بلا رضاه، والجواب عن الوجهين هو ما تقدّم.

وأيضاً: يمكن أن يجاب عن التقريب الثاني - الذي هو العمدة في المقامين - في هذا المقام بجوابٍ آخر، وهو:

أنّ الحلّيّة من جهة استنادها إلى المال لا إلى المعاملات ظاهرة في الحليّة التكليفيّة، والشاهد على ذلك أنّه لم يحتمل أحدٌ في قوله عليه السلام: «كلّ شيء حلالٌ » أن يدلّ على نفوذ المعاملات.7.

ص: 331


1- هذا المضمون ورد في كثير من الأخبار، راجع وسائل الشيعة: ج 5/120 ب 3 من أبواب مكان المصلّي، والمستدرك: ج 1/222، وفروع الكافي: ج 1/426، والاحتجاج: ص 267.

وبالجملة: لا ريب في ظهورها في الحليّة التكليفيّة، وقد تقدّم في الأبحاث السابقة أنّ الحرمة التكليفيّة لا تستلزم الفساد، وعليه فهذا الدليل إمّا لا يشمل الفسخ للعلم بعدم حرمته تكليفاً، أو يشمله لكن لا يدلّ على عدم نفوذه.

آية التجارة عن تراض

الرابع من أدلّة اللّزوم: قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (1)، وقد استدلّ الشيخ رحمه الله(2) بكلّ من المستثنى والمستثنى منه.

أمّا الأوّل: فقد استدلّ به بتقريبين:

التقريب الأوّل: ما في أوّل الخيارات(3) من أنّه يدلّ على جواز الأكل مطلقاً بسبب التجارة عن تراض، حتّى فيما بعد الفسخ، ولازمه عدم نفوذ الفسخ.

وفيه: ما تقدّم في دليل السلطنة من أنّه من مصاديق التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة، حيث أنّه لا يعلم بقاء الملك بعد الرجوع، مع أنّه يتوقّف الاستدلال على إرادة جميع التصرّفات من الأكل لا التملّك.

التقريب الثاني(4): ما ذكره في المقام من أنّه حَصَر جواز الأكل بالتجارة، والمراد به أكله على أن يكون مِلْكاً للآكل، ومن المعلوم أنّ الفسخ ليس تجارةً ولا عن تراض.

ص: 332


1- سورة النساء: الآية 29.
2- المكاسب: ج 3/55.
3- راجع المكاسب: ج 5/160.
4- المكاسب: ج 3/54-55.

وفيه: إنّه قدس سره سيصرّح في مبحث الإكراه(1) بأنّ الاستثناء منقطعٌ غير مفرغ، ومثله لا يفيد الحصر، وهذا هو الظاهر من هذا الاستثناء كما سيمرّ عليك، وعليه فلا دلالة لهذه الجملة على الحصر، فلا وجه للاستدلال بها.

وأمّا المستثنى منه: فقد استدلّ به بتقريب(2) أنّ أكل مال الغير وتملّكه بغير رضاه أكلٌ وتصرّفٌ بالباطل عرفاً.

وفيه أوّلاً: إنّه وإنْ كان المراد بالباطل هو الباطل العرفي دون الشرعي، إلّاأنّه حيث يكون إذن المالك الحقيقي موجباً للخروج عن كونه باطلاً، ويحتمل في المقام إذنه في الفسخ، فكون الفسخ من الباطل مشكوكٌ فيه، ومع الشكّ في صدق الموضوع لا مجال للتمسّك بحكمه.

وثانياً: إنّه يحتمل اختصاص الآية بالمعاوضات، من جهة التعبير ب (أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ ) ، الظاهر في إعطاء مالٍ وأخذ مال، والرجوع ليس منها، لأنّه ردٌّ للملك، ويستتبع ذلك رجوع العوض لا أنّه تملّك بعوض.

وثالثاً: إنّ الفسخ إذا كان حلّاً للعقد، فلا تشتمله الآية الشريفة، لأنّه ليس سبباً للأكل، بل هو إنّما يرفع السبب المملّك، وبعده يكون الملك بالسبب الأوّل.

فتحصّل: أنّه لا يصحّ الاستدلال على اللّزوم بهذه الآية الشريفة.

***5.

ص: 333


1- المكاسب: ج 3/331.
2- المكاسب: ج 3/55.

دليل لزوم خصوص البيع

الخامس من أدلّة اللّزوم: قوله عليه السلام: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»(1).

وتقريب الاستدلال به، بعد فرض صدق البيع على المعاطاة، والبَيِّع على المتعاطي، واضحٌ .

وأُورد عليه تارةً (2): بأنّه يدلّ على اللّزوم الحيثي دون اللّزوم من جميع الجهات، ولذا لا ينافي ثبوت خيار الحيوان والشرط ونحوهما.

وأُخري (3) : بأنّه فى مقام جعل الخيار لا جعل اللّزوم، فلا وجه للتمسّك بإطلاقه.

وثالثة: بما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2)، من أنّه إنّما يدلّ على اللّزوم والجواز الحقيّين دون اللّزوم الحكمي، وفي المعاطاة إنْ ثبتَ اللّزوم فهو حكمي.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلكونه خلاف إطلاق الخبر.

وأمّا الثاني: فلأنّه في مقام جعل الخيار قبل التفرّق، واللّزوم بعده، ولذا جاء في بعض النصوص قوله عليه السلام بعد ذلك: «فإذا افترقا فلا خيار لهما».

وأمّا الثالث: فلأنّ اللّزوم مطلقاً حكمي، بمعنى أنّه مجعولٌ شرعي لا من منشئاًت المتعاقدين، ولذا لو أوقعا العقد غير قاصدين له بل للجواز، لا يتّصف العقد إلّابه، كما لا يخفى .

والنتيجة: أنّ الأظهر صحّة الاستدلال بهذا الوجه على لزوم المعاطاة.

***

ص: 334


1- وسائل الشيعة: ج 18/6 ب 1 من أبواب الخيار ح 3 رقم 23013، وبمضمونه أخبار أُخر في نفس الباب، الكافي: ج 5/170 ح 6. (2و3) نهج الفقاهة: ص 47.
2- منية الطالب: ج 1/158.

آية الوفاء بالعقد

السادس من أدلّة اللّزوم: قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1).

أقول: وتنقيح القول فيه يتحقّق برسم أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ العقد أمرٌ سوى العهد، فإنّ العهد هو الجعل والقرار، وهو يشمل العهود الإلهيّة، أي التكاليف وسائر مجعولاته، حتّى الذي يعدّ من قبيل المناصب كالخلافة، كما في قوله تعالى: (لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ ) (2).

وأمّا العقد: فهو ربط شيء بشيء، ومنه عقد الإزار لربطه، وعُقدة اللّسان لارتباطه المانع عن إرساله.

والعقدُ في اصطلاح الفقهاء في قبال الإيقاع، وهذا المعنى شامل للارتباطات الواقعة في النفس، والارتباطات المتعلّقة بالاعتباريّات، فالعقد إنّما يطلق على البيع باعتبار ارتباط اعتبار كلّ من المتعاقدين بالآخر.

وعليه، يظهر ممّا ذكرنا أنّ ما قاله الشيخ رحمه الله في «المكاسب»(3) تبعاً لجملةٍ من اللّغويّين(4)، وتبعه جمعٌ من المحشّين(5) من تفسيره بالعهد أو المشدّد منه، غير صحيح.

وأيضاً: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(6) في وجه عدم صدق العقد على المعاطاة،

ص: 335


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- سورة البقرة: الآية 124.
3- المكاسب: ج 3/56.
4- مجمع البحرين: ج 3/103، لسان العرب: ج 9/309، القاموس المحيط: ج 1/315.
5- كما هو الظاهر من منية الطالب: ج 3/73 بقوله: سمّي العقد عقداً وعهداً مؤكّداً.. الخ.
6- منية الطالب: ج 1/157.

بأنّ العقد إنّما يُسمّى عقداً لكونه مفيداً للعهد المؤكّد والميثاق، أي التزام المتبايعين بما أنشئا، والفعل قاصرٌ عن إفادة هذا المعنى ، فإنّه إنّما يفيد تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله، ولا يدلّ على الالتزام المزبور، وهذا بخلاف اللّفظ، فإنّه يدلّ عليه بالالتزام.

غير تامّ ، لأنّ العقد لا دخل للفعل والقول فيه، بل هو أمرٌ نفساني، يكون الكاشف عنه تارةً القول، وأُخرى الفعل.

الأمر الثاني: إنّ الوفاء عبارة عن التمام أو ما يقاربه، والإيفاء عبارة عن الإتمام والإنهاء، وعليه فإنْ كان العقد متعلّقاً بالفعل، كان الوفاء به إيجاده، وإنْ كان متعلّقاً بالنتيجة - كالعقد على ملكيّة عينٍ بعوض - كان الوفاء به إتمامه وعدم رفع اليد عنه بحَلّه ونقضه.

أقول: وبذلك تظهر حقيقتان:

الأُولى : أنّ ما أفاده بعضهم(1) من أنّ المراد بالوفاء بالعقد في المقام تسليم العوضين، غير تامّ ، إذ العقد لم يتعلّق بترتيب آثار الملك، فهو أجنبيّ عن الوفاء به.

الثانية: أنّ ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(2) من أنّ العقد على النتيجة لا يكون مشمولاً للآية - إذ العقد عليها إمّا أن يؤثّر في وقوعها أو لا يكون مؤثّراً، وعلى كلّ حال لا عمل خارجي له من العقد حتّى يخاطب بخطاب (أَوْفُوا) - في غير محلّه.

الأمرالثالث: إنّ الأمر بالوفاء إمّا أن يكون إرشاديّاً، أو يكون أمراً مولويّاًنفسيّاً.

وعلى الأوّل: حيث أنّه لا معنى لكونه إرشاداً إلى الصحّة - لما عرفت من أنّ الوفاء بالعقد في المقام عبارة عن إتمام آثار العقد، وعدم رفع اليد عنه، وهذا فرع5.

ص: 336


1- ظاهر عوائد الأيّام: ص 5.
2- حاشية كتاب المكاسب للايرواني: ج 2/39، فقرة 45.

نفوذه وصحّته - فلا محالة يكون إرشاداً إلى اللّزوم، وقد ادّعى المحقّق النائيني رحمه الله(1)ظهوره في ذلك، بدعوى أنّه كما يكون للأمر والنهي في باب المركّبات ظهورٌ ثانوي في الإرشاد إلى الجزئيّة والمانعيّة، كذلك في المعاملات يكون إرشاداً إلى حكم وضعي، وهو في المقام اللّزوم، وعدم تأثير الفسخ والرجوع.

أقول: وعلي هذا دلالته على لزوم المعاطاة تكون واضحة، ولكن لم يثبت هذا الظهور.

وعلى الثاني: أي فيما لو كان مولويّاً نفسيّاً، فإنّه يمكن تقريب دلالته على اللّزوم، وعدم تأثير الفسخ بوجهين:

أحدهما: إنّ وجوب الوفاء، وعدم جواز الفسخ لو كان، فإنّما هو بمناط عدم ثبوت هذا الحقّ له، فيكون من قبيل حرمة الظلم، ولا يحتمل كونه محرّماً بالحرمة النفسيّة مع ثبوت هذا الحقّ ، ومن عدم الحقّ يُستكشف عدم تأثيره.

ثانيهما: الإجماع على أنّه لو كان حراماً، كان غير مؤثّر، وأنّه لو كان مؤثّراً لما كان حراماً.

فتحصّل: أنّ الأظهر دلالة هذه الآية الشريفة على اللّزوم في المعاطاة.

***1.

ص: 337


1- ظاهر كتاب المكاسب والبيع: ج 1/181.

دليل الشرط

السابع من أدلّة اللّزوم: قوله عليه السلام: «المسلمونَ عند شروطهم»(1).

وتقريب الاستدلال به على المشهور، هو أنّ الشرطة لغةً عبارة عن مطلق الالتزام(2)، فيشمل ما كان بغير اللّفظ.

وفيه: إنّ الاستدلال به على اللّزوم إنّما يتوقّف على أمرين: صدق الشرط على المعاملات كالبيع، ودلالته على اللّزوم.

أمّا الأوّل: فمع قطع النظر عمّا سيأتي في مبحث الشروط من الكلام(3) في صدق الشرط على الالتزامات المعامليّة، حيث أنّه يعتبر في صدقه وقوع الالتزام في ضمن التزام آخر، وأمّا مجرّد الالتزام الابتدائي فإنّه لا يصدق عليه عنوان الشرط.

وبعبارة أُخرى: الشرط هو الالتزام التابع كما يظهر لمن راجع موارد استعماله، ولذا قال في محكي «القاموس»(4): (الشرط إلزامُ الشيء أو التزامه في البيع ونحوه)، وبالتالي فلا يصدق عنوان الشرط على الالتزام المستقلّ الابتدائي كالبيع.

وأمّا الثاني: فالأظهر أنّه إنشاء حكم تكليفي لا وضعي، وذلك لأنّ مضمونه لو كان عدم انفكاك الشرط عن المؤمن، لكان يحتمل إرادة اللّزوم منه أوالصحّة، ولكن بما أنّ مضمونه عدم انفكاك المؤمن عن شرطه - وهذا ليس صفة في الشرط، كي يكون ذلك إرشاداً إلى صحّته أو لزومه، بل هو صفة في المؤمن - فلا محالة يكون ظاهراً في كونه أمراً بالوفاء بالشرط تكليفاً، وعليه فيجري فيه ما ذكرناه في دليل

ص: 338


1- وسائل الشيعة: ج 18/16 ب 6 من أبواب الخيار ح 2 رقم 23041، الفقيه: ج 3/202 ح 3765 وغيره.
2- القاموس المحيط: ج 2/368.
3- فقه الصادق: ج 25/156.
4- حكاه في عوائد الأيّام: ص 42، راجع القاموس المحيط: ج 2/368.

وجوب الوفاء بالعقد. فراجع(1).

الثامن من أدلّة اللّزوم: السيرة العقلائيّة.

وهي قائمة على لزوم كلّ معاملة صحيحة، وبعبارة أُخرى إنّ العقلاء - بما هم عقلاء - ملتزمون بعدم جواز الرجوع في كلّ معاملةٍ بنوا على صحّتها، وحيث أنّ الشارع الأقدس لم يردع عنها - لما ستعرف من عدم تماميّة ما استدلّ به على عدم اللّزوم - فيُستكشف من ذلك إمضائه لها.

التاسع من أدلّة اللّزوم: النصوص الخاصّة.

استدلّ السيّد الفقيه رحمه الله(2) بطائفة من النصوص:

منها: صحيح جميل، عن الإمام الصادق عليه السلام الوارد فيمن اشترى طعاماً وارتفع أو نقص في القيمة، وقد اكتال بعضه، فأبى صاحب الطعام أن يُسلّم له ما بقي وقال:

إنّ لك ما قبضت، «فقال عليه السلام: إنْ كان يوم اشتراه ساعره على أنّه له فله ما بقي»(3).

وجه الدلالة: أنّه عليه السلام حَكَم باللّزوم بمجرّد المساعرة، وإنْ لم يكن قد أنشأها باللّفظ، ونحوه غيره.

وفيه: إنّ هذه النصوص واردة في مقام بيان حكمٍ آخر، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقها للدلالة على اللّزوم في المقام.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الاستصحاب، والسيرة، ودليل وجوب الوفاء بالعقد، ودليل لزوم البيع بالخصوص، تدلّ على لزوم المعاطاة.

***1.

ص: 339


1- صفحة 335 من هذا المجلّد.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/74.
3- وسائل الشيعة: ج 18/84 ب 26 من أبواب أحكام العقود ح 3 رقم 23206، التهذيب: ج 7/34 ح 31.

أدلّة عدم لزوم المعاطاة والجواب عنها

المورد الثاني: فيما استدلّ به على عدم اللّزوم، وهو كما يلي:

الدليل الأوّل: الإجماع.

أقول: وتقريبه من وجهين:

الوجه الأوّل: الإجماع البسيط على عدم اللّزوم، وقد ادّعاه غير واحدٍ(1).

وفيه أوّلاً: أنّه غير ثابتٍ ، كيف وأنّ ظاهر ما عن العلّامة رحمه الله في «التذكرة»(2)و «المختلف»(3) من نسبة اعتبار الصيغة في اللّزوم إلى الأشهر والأكثر، هو وجود قائل معتدّ به على عدم الاعتبار.

وثانياً: إنّ أغلب المُجمِعين(4) بانون على عدم إفادة المعاطاة الملكيّة، فيكون الاتّفاق تقييديّاً غير مفيد في المقام.

وثالثاً: إنّ مدرك المُجمِعين معلومٌ ، فلا يكون إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام.

الدليل الثاني: الإجماع المركّب.

بتقريب: أنّ الأصحاب بين من يقول بعدم إفادتها الملك، ومن يقول بعدم لزومها. فالقول باللّزوم إحداثٌ للقول الثالث وهو ممنوع.

ص: 340


1- شرح القواعد (مخطوط): ص 49، المكاسب: ج 3/56.
2- تذكرة الفقهاء: ج 10/7.
3- مختلف الشيعة: ج 5/51.
4- الخلاف: ج 3/41، السرائر: ج 2/250، الغنية: ص 214.

وفيه أوّلاً: إنّه ليس إجماعاً لوجود القائل باللّزوم.

وثانياً: أنّه ليس إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم كما تقدّم.

وثالثاً: إنّ كون الأصحاب على قولين غير مؤثّر في تحقّق الإجماع المركّب ما لم يكن إجماعاً على عدم الثالث، وفي المقام، حيث أنّ القائلين بعدم إفادتها الملك لم يصرّحوا بعدم اللّزوم على تقدير القول بالملك، فلا يفيد.

الدليل الثالث: سيرة المتشرّعة، فإنّ بناءهم في البيوع الخطيرة التي يراد بها عدم الرجوع على عدم الاكتفاء بالمعاطاة، وفي المحقّرات ينكرون على من امتنع عن الرجوع مع بقاء العينين، إذا كان إنشاء البيع بالتعاطي.

وفيه: إنّ هذه السيرة لم يثبت كونها مستمرّة إلى زمان المعصوم عليه السلام، بل يُحتمل قويّاً كونها مستندة إلى فتوى المراجع والفقهاء، فلا تفيد.

الدليل الرابع: الأخبار الخاصّة التي أشار إليها الشيخ رحمه الله بقوله(1): (ويظهر ذلك من غير واحدٍ من الأخبار).

أقول: ويمكن أن يكون نظره رحمه الله:

1 - إلى ما تقدّم في أدلّة إفادة المعاطاة الملك من الخبر الوارد في بيع المصحف(2)، والوارد في بيع أطنان القَصَب(3).

2 - ويمكن أن يكون نظره إلى ما سينقله من الأخبار التي ادّعى إشعارها0.

ص: 341


1- المكاسب: ج 3/59.
2- وسائل الشيعة: ج 17/158 ب 31 من أبواب ما يكتسب به.
3- وسائل الشيعة: ج 17/365-366 ب 19 من أبواب عقد البيع وشروطه ح 1 رقم 22759، التهذيب: ج 126/7 ح 20.

أو ظهورها.

وعليه، فإنْ كان نظره إلى الأوّل، فيرد عليه ما تقدّم، وإنْ كان إلى الثاني، فسيأتي ما فيه.

الدليل الخامس: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1)، وحاصله أنّ اللّزوم على قسمين:

لزومٌ حُكمي، ولزومٌ حَقّي.

والأوّل: إنّما هو ما يجعله الشارع الأقدس في موارد لمصلحةٍ تدعو إلى ذلك، كما في الهبة إلى ذي الرحم، وأثر هذا عدم جواز جعل الخيار وعدم صحّة الإقالة، ويقابل هذا الجواز الحكمي كما في الهبة بغير ذي الرّحم، وأثره عدم جواز الإسقاط.

والثاني: إنّما يكون بإنشاء المتعاقدين كما في البيع اللّفظي، فإنّ البائع ينشأ باللّفظ أمرين:

أحدهما: تبديل أحد طرفي الإضافة بمثله.

ثانيهما: الالتزام ببقاء بدليّة المبيع للثمن.

والأوّل مدلولٌ مطابقي للّفظ، والثاني مدلولٌ التزامي له، ويقابله الجواز الحَقّي وهو ما جُعل فيه الخيار، وليس في المعاطاة شيئاً من اللّزومين:

أمّا الأوّل: فلعدم الدليل عليه.

وأمّا الثاني: فلأنّ الفعل قاصرٌ عن إفادة الالتزام ببقاء البدليّة، وإنْ قصد المتعاقدان ذلك، إذ مجرّد البقاء ما لم يُنشَأ لا يفيد في باب المعاوضات، والفعل من جهة عدم كونه مصداقاً لهذا العنوان، لا يصلح لكونه إنشاءً له، فأدلّة اللّزوم من7.

ص: 342


1- منية الطالب: ج 1/156-157.

جهة تضمّنها اللّزوم الحَقّي - الذي لا يمكن القول به في المعاطاة - لا تشملها، وتختصّ بالبيوع اللّفظيّة، فتكون المعاطاة جائزة لكن لا بالجواز الحكمي التعبّدي، ولا بالجواز الحقّي من جهة عدم تحقّق منشأ اللّزوم.

وفيه أوّلاً: إنّ اللّزوم مطلقاً يكون بجعل الشارع، ولذا لو قصد المتعاقدان الجواز في البيع اللّفظي، لما حُكم به، غاية الأمر في بعض الموارد جُعل لها حقّ الخيار والإقالة، وفي بعض الموارد لم يُجعل ذلك لهما، وإلّا فاللّزوم مطلقاً إنّما يكون بجعلٍ منه، وعليه فالأدلّة الدالّة على لزوم البيع إنّما تكون دالّة على لزوم المعاطاة كالبيع اللّفظي، بلا فرق بينهما أصلاً.

وثانياً: إنّ الفعل كما يكون قاصراً عن إفادة الالتزام ببقاء البدليّة، كذلك اللّفظ قاصرٌ عن إفادته، إذ ليس ذلك لازماً لقصد تبديل المال بالمال كي يكون اللّفظ الدالّ عليه دالّاً عليه بالدلالة الالتزاميّة.

الدليل السادس: خبر خالد بن نُجَيح - أو الحَجّاج - قال:

«قلتُ لأبى عبداللّه عليه السلام: الرجل يجيء فيقول: اشتر هذا الثوب واُربحك كذا وكذا؟

فقال: أليس إنْ شاء أخذ وإنْ شاء ترك ؟

قلت: بلى ، قال عليه السلام: لا بأس به إنّما يُحلّل الكلام ويُحرّم الكلام»(1).

وتقريب الاستدلال به: أنّه عليه السلام حَصَر المُحلِّل والمُحرّم في الكلام - أي اللّفظ - فلا يكون الفعل مُحلِّلاً ومحرّماً.

وفيه: إنّ هذا الحديث مجهولٌ على تقدير، وحَسَنٌ على تقدير آخر، إذ لو كان6.

ص: 343


1- وسائل الشيعة: ج 18/50 ب 8 من أبواب أحكام العقود ح 4 رقم 23114، التهذيب: ج 7/50 ب 4 ح 16.

الخبر مرويّاً عن ابن نُجَيح فهو مجهول، ولو كان عن ابن الحَجّاج يكون حسناً، وحيث لم يثبت كونه عن ابن الحَجّاج، فمن حيث السند لا يتمّ الاستدلال به.

وأمّا من حيث الدلالة: فقد ذكر الشيخ رحمه الله(1) بأنّه قد يراد من الجملة التي ذكرت علّة - أي قوله عليه السلام: «إنّما يُحلّل الكلام ويحرّم الكلام» - احتمالات أربعة، وستمرّ عليك.

أقول: وهنا احتمال خامس لعلّه الظاهر من الخبر، ذكره صاحب «الجواهر» رحمه الله(2)، والمحقّق الخراساني(3)، والمحقّق الاصفهاني(4)، والمحقّق الايرواني(5)، وحاصله:

أنّ المراد بالكلام الالتزام البيعي، والمراد بالمحلّليّة والمحرّميّة المنسوبتين إليه، محلليّة الإيجاب للمبيع على المشتري، والثمن على البائع، ومحرميّة المبيع على البائع والثمن على المشتري، وإطلاق الكلام على الالتزام شائعٌ عند العرف حيث يقولون مثلاً: (كلامُ اللّيل يمحوه النهار).

فالمتحصّل من الخبر: أنّ المشتري حيث إنّه (إنْ شاءَ أخذ وإنْ شاء ترك) فيكشف ذلك عن عدم تحقّق المعاملة، وإنّما الواقع صرف المواعدة والمقاولة، فلا بأس بذلك، لعدم كونه حينئذٍ من بيع ما ليس عنده، وهذا بخلاف ما إذا تحقّق إيجاب البيع، وانطباق هذه الفقرة على جوابه عليه السلام على هذا في غاية الوضوح، وعليه فهذا2.

ص: 344


1- المكاسب: ج 3/61-62.
2- جواهر الكلام: ج 22/217.
3- حاشية المكاسب للآخوند: ص 15.
4- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/149.
5- تعليقات على المكاسب: ج 1/182.

الخبر أجنبيٌّ عمّا استدلّ به له، وهو اعتبار اللّفظ في اللّزوم.

أقول: وأمّا الاحتمالات التي ذكرها الشيخ رحمه الله فشيءٌ منها لا يَخلو عن الإشكال، وهي أربعة:

الاحتمال الأوّل(1): أن يكون المراد بالكلام اللّفظ، فيكون المراد انحصار المحلّل والمحرّم باللّفظ دون القصد المجرّد، ودون الفعل مع القصد.

ويرد عليه أُمور:

منها: لزوم تخصيص الأكثر، فإنّ التذكية تُحلّل الحيوان، وذهاب الثلثين يُحلّل العصير المَغليّ بالنار، وانقلاب الخمر خِلّاً يُحلّل الخمر، والحيازات تُحلّل الأموال، وموت المورث يُحلّل المال للورثة، إلى غير ذلك من الموارد.

ومنها: أنّ لازم هذا عدم إفادة المعاطاة الإباحة ولا التمليك، وهو خلاف الإجماع.

ومنها: عدم انطباقه على جواب الإمام عليه السلام، فإنّه في صدد بيان فساد بيع ما ليس عنده، وأنّ مجرّد المقاولة لا بأس به، وعليه فالتعليل المذكور غير مربوط بهذا كما لا يخفى .

الاحتمال الثاني (2) : أن يكون المراد أنّ المضمون الواحد يختلف حكمه باختلاف الألفاظ المفيدة له، مثلاً التسليط على البُضع مدّة معيّنة يتحقّق بقولها:

(متّعتُ نفسي بكذا)، ويكون هذا محلّلاً له، ولا يتحقّق بقولها: (ملّكتك بُضعي بكذا)، ويكون هذا محرّماً له.

ويرد عليه: أوّلاً: أنّه لا ينطبق على المورد، فان في المورد مضمونين: أحدهما:1.

ص: 345


1- المكاسب: ج 3/61.
2- المكاسب: ج 3/61.

المواعدة. وثانيهما: البيع. والإمام عليه السلام بصدد بيان أنّ الأوّل لا بأس به والثاني فيه بأس.

وثانياً: إنّ التحريم على هذا ليس مستنداً إلى الكلام.

وثالثاً: إنّ المناسب لهذا المعنى تنكير الكلام في الموردين.

الاحتمال الثالث(1): أن يكون المراد بالكلام في الموردين الكلام الواحد، ويكون تحليله وتحريمه باعتبار وجوده وعدمه، أو باعتبار محلّه وغير محلّه، مثل عقد النكاح الذي يُحلّل الزوجة إذا كان العاقد مُحلّاً، ويُحرّم إذا كان مُحْرِماً.

ويرد عليه: أنّ التحليل والتحريم باعتبار الوجود والعدم في غاية البُعد، فإنّه مضافاً إلى أنّ الظاهر منه ما هو بالحمل الشائع كلامٌ - ألا ترى انه لم يحتمل أحد إرادة العدم في غير المقام، مثلاً لم يحتمل أحدٌ في قوله تعالى: (وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ ) أنّ المراد عدم الحَجّ - أنّ تقدير العدم ينافي وحدة السياق، مع أنّ نسبة المحلليّة إلى عدم الشيء لا تصحّ ، إذ العدم لا يؤثّر في الصحّة.

وأمّا باعتبار وقوع الكلام في محلّه وفي غير محلّه فهو أيضاً لا يتمّ ، إذ الإيجاب الواقع في غير محلّه لا يكون محرّماً، لأنّ عدم الحليّة إنّما يكون لعدم حصول الإيجاب الصحيح، لا لحصول الإيجاب الفاسد.

الاحتمال الرابع (2) : أن يراد بالكلام المحلّل خصوص المقاولة، ومن الكلام المحرّم إيجاب البيع.

وبعبارة أُخرى : يكون المراد أنّ العبارة الواحدة يختلف حكمها باعتبار قصد الإنشاء منها أو مجرّد المقاولة.3.

ص: 346


1- المكاسب: ج 3/63.
2- المكاسب: ج 3/63.

ويرد عليه: أنّ المقاولة لا تكون محلّلة لشيء، كما أنّ البيع الفاسد لا يُحرّم شيئاً.

أقول: ويمكن فرض احتمالات أُخرى في الخبر، إلّا أنّه لا يهمّنا التعرّض لها، وقد عرفت أنّ الأظهر هو ما اخترناه تبعاً للأساطين، وعليه فالخبر أجنبيٌّ عن المقام.

قال الشيخ رحمه الله(1): (نعم يمكن استظهار اعتبار الكلام في إيجاب البيع... إلى آخره).

أقول: هذا لا يتمّ بناءً على الاحتمال الذي استظهرناه، وأمّا بناءً على ما استظهره الشيخ رحمه الله من الخبر، فغاية ما يمكن أنْ يقال في تقريب دلالة الخبر على اعتبار اللّفظ في البيع:

إنّه حَصَر المُحلّل والمحرّم في الكلام، ولو لم ينحصر إيجاب البيع به، ووقع بغير الكلام، لم ينحصر المحلّل والمحرّم في الكلام.

ولكنّه غير تامّ ، إذ الحَصر على الاحتمال الرابع لوحظ بالإضافة إلى الإيجاب في مقابل المقاولة بالإضافة إلى اللّفظ في قبال الفعل مثلاً.

وعلى الاحتمال الثالث، لوحظ بالإضافة إلى وجود الإيجاب في قبال عدمه، أو بالإضافة إلى وقوعه في محلّه في مقابل وقوعه في غير محلّه.

نعم، لو كان للوصف مفهومٌ صحّ ما ذكر.

***4.

ص: 347


1- المكاسب: ج 3/64.

تنبيهات المعاطاة

التنبيه الأوّل: يعتبر في المعاطاة وجود شرائط البيع فيها.

أقول: ينبغي المقام التنبيه على أُمور:

الأمر الأوّل: هل المعاطاة بيعٌ ليترتّب عليها جميع أحكام البيع ؟ أم أنّها لا تعدّ بيعاً، أم هناك تفصيلٌ بين المسالك.

وحقّ القول في المقام يقتضي البحث في موارد:

الأوّل: في أنّه هل يعتبر في المعاطاة وجود شروط البيع كمعلوميّة العوضين، ووجوب التقابض في الصَّرف والسَّلم وغيرهما؟ وهل تلحقها أحكامه ككون تلف المبيع قبل القبض من مال بائعه أم لا؟

الثاني: في أنّه هل يجري فيها الرِّبا أم لا؟

الثالث: في جريان الخيار فيها وعدمه ؟

أمّا المورد الأوّل: فإنْ قلنا إنّ المعاطاة معاملة مستقلّة مفيدة للملك، ولا تعدّ بيعاً، فإنْ كان دليل إمضائها ممّا له إطلاق كقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1)، ونحو ذلك، فالأظهر عدم اعتبار شيء من الشرائط فيها، إذ تلك شرائط مختصّة بالبيع على الفرض، والمعاطاة ليست بيعاً، ومقتضى إطلاق ذلك الدليل عدم اعتبارها فيها، بناءً على ما عرفت من صحّة التمسّك بإطلاق أدلّة المعاملات لنفي اعتبار ما شُكّ في اعتباره في الأسباب، وإنْ كانت ألفاظها أسامي للمسبّبات.

ص: 348


1- سورة المائدة: الآية 1.

وإنْ كان دليل إمضائها السيرة الّتي ليس لها إطلاق:

فإنْ فرضت على عدم أخذ ذلك الشيء في مقام التعاطي، فعدم الاعتبار واضح.

وإنْ لم يثبت ذلك، فلابدّ من رعايتها لقصور الدليل اللّبي، والأصل يقتضي عدم ترتّب الأثر عليها عند فقدها.

وبه يظهر حال المعاطاة المقصود بها الإباحة.

وأمّا إنْ لم نقل بأنّها معاوضة مستقلّة، وقَصد بها الملكيّة:

فتارةً : نقول إنّها تفيد الملك اللّازم.

وأُخرى : نقول إنّها تفيد الملك الجائز.

وثالثة: نقول إنّها تفيد الإباحة.

أمّا الأوّل: فإنْ قلنا إنّها تفيد الملك اللّازم، فالأظهر اعتبار جميع الشروط فيها، ولحوق جميع أحكامه لها، وذلك لأنّ دليل اعتبار ذلك الشرط:

إنْ كان له إطلاقٌ يدلّ على اعتباره في البيع الشرعي مطلقاً، فالأمر واضح لأنّها بيع.

وإنْ لم يكن له إطلاق - كما إذا ثبتت شرطيّة شيء للبيع بالإجماع - فقد يتوهم إنّه من جهة ذهاب جمع من المُجمِعين إلى عدم كون المعاطاة بيعاً، لا يكون إجماعاً على اعتباره في المعاطاة، فلا وجه لاعتباره فيها.

ولكنّه توهمٌ فاسد، لأنّه فرقٌ بين موارد التخصيص والتخصّص.

توضيح ذلك: إنّه تارةً ينعقد الإجماع على (وجوب إكرام العلماء)، ولكن المُجمِعين مع بنائهم على أنّ النحويين من العلماء، التزموا - أو جمع منهم - إلى عدم

ص: 349

وجوب اكرامهم، وفي هذا المورد يؤخذ بالمتيقّن، ويحكم بعدم وجوب إكرام النحويّين، واختصاص الإجماع بغيرهم.

وأُخرى : ينعقد على (وجوب إكرام كلّ عالم)، إلّاأنّ جماعة منهم ملتزمون بعدم وجوب إكرام النحويين لبنائهم على أنّهم ليسوا بعلماء، فمثل هذا الإجماع لا يؤخذ منه بالقدر المتيقّن، فلو كان النحويّ عندنا من العلماء نحكم بوجوب إكرامه.

والمقام من قبيل الثاني، إذ من يقول بعدم اعتبار ذلك الشرط في المعاطاة، إنّما يقول به لأجل أنّه لا يراها بيعاً، وعليه فلا وجه للأخذ بالمتيقّن من الإجماع.

وبالجملة: فتاوى العلماء من قبيل النص إنّما يُرجع إليها في تعيّين الحكم الكلّي، وأمّا التحقّق من صدق الموضوع على فردٍ وعدمه، فلابدّ فيه من التماس وجه آخر.

ولا فرق فيما ذكرناه بين كون مدرك إفادة المعاطاة المِلْك واللّزوم أدلّة إمضاء البيع، أم السيرة، إلّاأنّ المحقّق الاصفهاني رحمه الله(1) التزم بأنّه إذا كانت السيرة هي دليل نفوذ المعاطاة، وقد فرضت على عدم أخذ ذلك الشيء - الذي دلَّ النص مثلاً على اعتباره في البيع الشرعي مطلقاً في مقام التعاطي - كانت مخصّصة لدليل اعتبار الشرط، ودالّة على اختصاصه بالقولي.

وفيه: إنّ المراد بهذه السيرة:

1 - إنْ كان هي السيرة العقلائيّة، فلا يعقل كونها مخصّصة لدليل اعتبار ذلك الشرط، فإنّ ذلك الدليل إنّما يدلّ على دخله في البيع الشرعي - كما سيمرّ عليك - فلا محالة لابدّ من تقديمه على السيرة على عدم أخذه في البيع العرفي، كما لا يخفى .5.

ص: 350


1- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/155.

2 - وإنْ أُريد بها سيرة المتشرّعة المستمرّة، كان ما ذكر تامّاً - إنْ ثبتت - لكن دون إثباتها خرط القتاد.

وعليه، فالأظهر اعتبار جميع الشرائط فيها على هذا المسلك، ولحوق جميع أحكامه بها.

وإنْ قلنا: إنّ المعاطاة تفيد المِلْك الجائز، ففيها أقوال ووجوه:

أحدها: اعتبار جميع شرائط البيع فيها.

الثاني: عدم اعتبار شيء منها فيها.

الثالث: التفصيل بين الشرائط التي ثبت اعتبارها بالنَّص فتعتبر فيها، وما ثبت اعتباره فيها بالإجماع فلا يعتبر.

الرابع: التفصيل بين أن يكون دليل نفوذ المعاطاة الأدلّة اللّفظيّة فتعتبر فيها شرائط البيع، وبين أن يكون دليل النفوذ السيرة فلا تعتبر فيها.

أقول: والأظهر هو القول الأوّل، لأنّ الأدلّة الدالّة على اعتبار الشرائط في البيع تدلّ على اعتبارها في كلّ ما يصدق عليه البيع، سواءٌ أكانت من الأدلّة اللّفظيّة أو اللّبية، والمعاطاة بيعٌ على الفرض.

واستدلّ للقول الثاني في «المكاسب»(1): بأنّ البيع إذا وقع موضوعاً في النص والفتوى للأحكام، يكون ظاهراً فيما حكم فيه باللّزوم وأصبحت المعاملة لازمة من غير جهة الخيار، ولذا قالوا: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»، وقالوا: (الأصل في البيع اللّزوم، والخيار إنّما يثبت بعد قيام الدليل)، وأيضاً قالوا: (إنّ البيع من9.

ص: 351


1- المكاسب: ج 3/69.

العقود اللّازمة).

وبالجملة: البيع في النصوص وكلمات العلماء ظاهرٌ فيما كان مبنيّاً على اللّزوم، الذي لو ثبت فيه الجواز، كان جوازاً حقيّاً، والمعاطاة وإنْ هي بيع، إلّاأنّها محكومة بالجواز الحُكمي، فلا تشملها أدلّة الشرائط.

وفيه أوّلاً: إنّ اللّزوم والجواز - على ما اعترف به سابقاً - من أحكام السبب لا من خصوصيّات المسبّب، والبيع اسم للمسبّب، فلا مورد لدعوى انصراف البيع إلى البيع اللّازم.

وثانياً: إنّه لو سُلّم كون البيع قسمين: لازماً وجائزاً، ولكن لا وجه لدعوى الانصراف إلى اللّازم، لأنّ الغالب تحقّق البيع بالتعاطي، وعلى فرض التنزّل لا غلبة للقولي، مضافاً إلى أنّ الغلبة لا تكون منشأً للانصراف.

وبالجملة: بعدما لا شبهة في أنّ صدق البيع على المعاطاة ليس ضعيفاً، بحيث تكون خارجة عن حقيقة البيع عند العرف، فلا مورد لدعوى الانصراف.

واستدلّ للقول الثالث:

1 - بأنّ الانصراف المزبور إنّما هو في كلمات العلماء دون الأخبار، وعليه فما ثبت اعتباره بالأخبار يكون معتبراً في المعاطاة، وما ثبت اعتباره بالإجماع، فهو لانصرافه عندهم إلى البيع القولي لا يكون معتبراً فيها.

2 - وبأنّه لابدّ من الأخذ في الأدلّة بالمتيقّن، وهو يقتضي الاختصاص، لتصريح جماعة منهم بعدم الاعتبار في المعاطاة، وهذا بخلاف الدليل اللّفظي.

أقول: وفيهما نظر:

ص: 352

أمّا الأوّل: فلما تقدّم من منع الانصراف.

وأمّا الثاني: فلما مرّ من أنّ الأخذ بالمتيقّن إنّما هو في مورد التخصيص لا التخصّص، والمقام من قبيل الثاني، فراجع.

واستدلّ للقول الرابع: بما تقدّم هو وجوابه في المورد الأوّل، أي بناءً على القول بإفادة المعاطاة الملك اللّازم. فراجع.

وعليه، فالأظهر اعتبار جميع الشرائط في المعاطاة بناءً على إفادتها الملك مطلقاً.

وإنْ قلنا: بأنّها تفيد الإباحة الشرعيّة، فقد استدلّ الشيخ رحمه الله(1) على اعتبار الشرائط فيها بوجهين:

الأوّل: أنّها بيعٌ عرفي، وإنْ لم تفد شرعاً إلّاالإباحة، ومورد الأدلّة الدالّة على اعتبار تلك الشرائط هو البيع العرفي.

الثاني: إنّ الأصل في المعاطاة على القول بعدم الملك الفساد، وعدم تأثيره شيئاً، خرج ما هو محلّ الخلاف بين العلماء من حيث اللّزوم والعدم - وهو المعاملة الجامعة للشروط عدا الصيغة - وبقي الباقي.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه فرقٌ بين دليل إمضاء البيع، ودليل اعتبار شيء فيه، والأوّل لابدّ وأن يكون موضوعه البيع العرفي، لأنّه القابل للإمضاء، والثاني لا يُعقل أن يكون موضوعه ذلك، بل لابدّ وأن يكون البيع الشرعي، إذ هو المشروط بنظره بشيء، أمّا البيع العرفي فلا يُعقل إناطته بشيء من ما اعتبره، إذ اعتبار شخص كيف0.

ص: 353


1- المكاسب: ج 3/70.

يُعقل أن يكون منوطاً بنظر شخصٍ آخر.

وأمّا الثاني: فلأنّ دليل إمضاء المعاطاة - سواءٌ أكان هو الدليل اللّفظي أو السيرة - يكون عامّاً شاملاً للفاقد لتلك الشرائط كما تقدّم.

وأخيراً: ظهر بما ذكرناه آنفاً مدرك القول بعدم اعتبارها فيها، ويأتي فيه التفصيلان المتقدّمان مع جوابهما، والأظهر اعتبارها فيها على هذا المسلك أيضاً، لما تقدّم من أنّ المعاطاة على هذا المسلك أيضاً بيعٌ شرعي، غاية الأمر تأثيرها في حصول الملك مشروطٌ بالتصرّف المتوقّف على الملك والتصرّف، نظير القبض المشروط بيع الصرف به، وقد تقدّم توجيه ذلك، وعليه فيعتبر فيها كلّ ما هو من شرائط البيع.

فتحصّل: أنّ الأظهر اعتبار جميع الشرائط فيها على جميع هذه المسالك الثلاثة.

***

ص: 354

جريان الرِّبا في المعاطاة

المورد الثاني: في جريان الرِّبا في المعاطاة وعدمه.

أقول: وملخّص القول فيه أنّه:

تارةً : نقول بجريان الرِّبا في كلّ معاوضة، وإنْ لم تكن بيعاً كما هو الأظهر والمشهور(1)، لعموم قوله تعالى : (وَ حَرَّمَ اَلرِّبا) (2)، فإنّ الرِّبا هي الزيادة في أحد العوضين المتجانسين، ولخصوص الأخبار الدالّة على اشتراط المثليّة في المعاوضة، مع اتّحاد الجنس، كقوله عليه السلام في صحيح الحلبي:

«الفضّة بالفضّة مِثْلاً بمِثْل، والذّهب بالذّهب مِثْلاً بمِثل، ليس فيه زيادة ولا نقصان، الزائد والمستزيد في النار»(3).

وفي صحيح أبي بصير: «الحنطة والشعير رأساً برأس، لا يزاد واحدٌ منهما على الآخر»(4).

وفي حديث آخر: «الدقيق بالحنطة، والسويق بالدقيق، مِثْلاً بمثل لا بأس به»(5). ونحوهما غيرهما.

وأُخرى : نقول إنّه مختصٌّ بالبيع كما عن الحِلّي(6) والعلّامة(7) رحمهما الله.

ص: 355


1- شرائع الإسلام: ج 4/766، الدروس: ج 3/328، جامع المقاصد: ج 4/266.
2- سورة البقرة: الآية 275.
3- وسائل الشيعة: ج 18/165 ب 1 من أبواب الصرف ح 1 رقم 23395، الفقيه: ج 3/288 ح 4037.
4- وسائل الشيعة: ج 18/138 ب 8 من أبواب الرِّبا ح 3 رقم 23328، التهذيب: ج 7/95 ح 8.
5- وسائل الشيعة: ج 18/142 ب 9 من أبواب الرِّبا ح 4 رقم 23337، التهذيب: ج 7/94 ح 7.
6- السرائر: ج 2/253.
7- مختلف الشيعة: ج 6/123.

فعلى الأوّل: يجري الرِّبا في المعاطاة، سواءٌ أكانت معاوضة مستقلّة أم كانت بيعاً مفيدة للملك اللّازم أو الجائز أو الإباحة:

أمّا على الثلاثة الأول فواضحٌ ، وأمّا على الأخير فلما تقدّم من أنّها مفيدة للملك، غاية الأمر مشروطة بشرط متأخّر.

نعم، إذا كان المقصود بها الإباحة، لا يجري فيها الرِّبا، لأنّه مختصٌّ بالمعاوضات الناقلة للملك.

وعلى الثاني: لا يجري فيها إذا كانت معاوضة مستقلّة أو قُصِد بها الإباحة.

***

ص: 356

جريان الخيارات في المعاطاة

المورد الثالث: في جريان الخيارات فيها.

فإنْ قلنا: إنّها معاوضة مستقلّة، فالخيارات المختصّة بالبيع لا تجري فيها، لعدم كونها بيعاً، وما لا يختصّ بالبيع تكون جارية فيها، وهذا واضح.

وإنْ قلنا: إنّها بيعٌ ، فبناءً على إفادتها الملك اللّازم، تجري جميع الخيارات فيها.

وأمّا بناءً على إفادتها المِلْك الجائز: فقد التزم الشيخ رحمه الله(1) بأنّه يمكن القول بثبوت الخيار فيها مطلقاً، بناءً على صيرورتها بيعاً بعد اللّزوم، كما سيأتي عند التعرّض للملزمات، فالخيار موجود من زمان المعاطاة.

ويرد عليه: أنّها إنْ كانت بيعاً، فهي بيعٌ قبل اللّزوم، لأنّ اللّزوم لا يقلبها بيعاً.

وقد يقال: إنّه بناءً على هذا المسلك، لا معنى لثبوت الخيار فيها قبل اللّزوم، لكونه تحصيلاً للحاصل، ويلزم منه اجتماع المثلين واللّغوية، لفرض كونها جائزة.

ويرد عليه أوّلاً: إنّ جوازها حُكمي، والخيار جواز حَقّي، والأوّل لا يجوز إسقاطه ونقله، ولا يورَث بالموت، والثاني يجوزُ إسقاطه ونقله ويورَث بالموت، فلا يلزم من ثبوته المحاذير المذكورة.

وثانياً: لو سلّمنا كون جوازه أيضاً حقيّاً، يمكن الجواب عنه بما أجاب به الشيخ رحمه الله في الخيارات(2) فيما إذا اجتمع سببان من الخيار، ككون المبيع حيواناً ومعيباً، من أنّ الخيار وجواز الفسخ واحدٌ وله أسباب متعدّدة، ولو أسقط ذو

ص: 357


1- المكاسب: ج 3/72.
2- المكاسب: ج 5/93.

الخيار أحدهما يكون الآخر باقياً.

وبعبارة أُخرى : يكون الجواز واحداً وله علل متعدّدة، ولا محالة عند اجتماعها يستند المعلول إلى مجموعها، ولو انعدم أحد العلل يكون المعلول باقياً، لبقاء علّته، ومستنداً إلى الباقي من العلل.

وثالثاً: إنّ الجواز الأصلي متعلّق بالترادّ لا بفسخ المعاملة، والخيار إنّما هو ملك فسخ العقد، فمع عدم الخيار تكون المعاملة لو قال: (فسختُ المعاملة) باقية، بخلاف ما إذا ثبت الخيار.

وعليه، فالأظهر جريانها على هذا المسلك أيضاً.

وأمّا بناءً على إفادتها الإباحة: فحيثُ عرفت أنّها بيعٌ ، غاية الأمر حصول الملكيّة يكون مشروطاً بالتلف، أو بالتصرّف المتوقّف على المِلك، فتجري فيها الخيارات، وما في «المكاسب»(1) من أنّه لا معنى للخيار ممّا لا وجه له.

نعم، لو قَصد بالمعاطاة الإباحة، لا تجري فيها الخيارات:

أمّا الخيارات المختصّة بالبيع فواضحٌ .

وأمّا الخيارات التي أدلّتها تعمّ غير البيع، فلأنّه ليس هناك سببٌ معاملي يمكن حَلّه وإزالته.

***2.

ص: 358


1- المكاسب: ج 3/72.

بيان مورد المعاطاة

الأمر الثاني: في بيان المراد من المعاطاة وموردها.

وملخّص القول فيه: إنّ الصور المتصوّرة خمس:

الصورة الأُولى: التعاطي من الطرفين، وهو المتيقّن، والفرد الواضح المنطبق عليه عنوان المعاطاة، ولكن لابدّ وأن يُعلم أنّ المقصود بالتعاطي إنْ كان هي المبادلة والمعاوضة، فإنّه لا يتوقّف تحقّقها على العطاء من الجانبين، بل هي تتمّ بالعطاء من جانبٍ والأخذُ من جانبٍ آخر، فإنّ المُعطي ينشَأ البيع بإعطائه، والآخذ يقبله بأخذه، فالعطاءُ من جانبِ القابل لا محالة يكون بعنوان الوفاء لما التزم به في أخذه، بل لو لم يكن مُنشِئاً القبول بأخذه، كانت المعاملة فاسدة، فإنّ العطائين المقصود بهما التمليك والمعاوضة من قبيل الإيجابين الصادرين من الطرفين، حيث لا تتحقّق بهما المعاملة.

نعم، إذا قصد بهما الإباحة، تتحقّق الإباحة لعدم كونها حينئذٍ معاملة، وإنْ كان داعي كلّ منهما للإباحة إباحة صاحبه.

الصورة الثانية: الإعطاء من جانبٍ واحد، والأخذ من الطرف الآخر، وهذا وإنْلم يصدق عليه عنوان المعاطاة حقيقةً ، إلّاأنّ هذا العنوإنْ لم يرد في آيةٍ ولا روايةٍ كي يدور الحكم بالنفوذ وعدمه مدار صِدقه وعدمه، والمراد بها في كلمات العلماء ما يشمل الإعطاء من جانب، ولذا تراهم يعنونون جريان المعاطاة في الهبة، مع أنّه ليس في ذلك الباب إلّاالإعطاء والأخذ، وعليه، فلابدّ من ملاحظة الأدلّة، وقد

ص: 359

عرفت أنّه في موارد التعاطي أيضاً يكون إنشاء البيع بالإعطاء من جانبٍ والأخذ من جانبٍ آخر، ويكون إعطاء الآخذ وفاءً لما التزم به، فنفس ما هو موضوعٌ للحكم في الموردين واحد، فلا وجه لدعوى عدم شمول الأدلّة للمورد الثاني.

الصورة الثالثة: ما إذا لم يكن هناك إعطاء أصلاً، بل كان إيصالٌ ووصول، كما تعارف أخذ الماء مع غيبة السَّقاء ووضع الفِلْس في المكان المعدّ له، إذا علم من حال السقاء الرضا بذلك، وكذا غير الماء من المحقرات كالخبز والخضراوات.

أقول: إنّه لو فرضنا تحقّق سائر شرائط البيع، من معلوميّة العوضين وغيرهما - كما هو المفروض في هذا المقام - فإنّ تصحيح البيع في المقام يتوقّف على أحد أُمور:

1 - إمّا كون السقاء مثلاً قاصداً بوضع الماء تمليك كلّ مَنْ شَرِب الماء بإزاء ما تعارف فيه من العوض، وأنّ صاحب الخبز قصد تمليك كلّ مَنْ أخذ الخبز بوضعه في ذلك المكان بعوضه المتعارف. وهكذا.

2 - وأمّا كون وضع المال في المحلّ الخاص في الأمثلة، يعدّ توكيلاً للآخذ في البيع، بحيث يكون الآخذ متصدّياً لطرفي العقد.

3 - وأمّا كون وضع الدراهم في كوز السّقاء وأخذ الماء منه إنشاءً للبيع من الطرفين، والسّقاء بعد اطّلاعه عليه يُجيز هذه المعاملة برضائه بها.

والظاهر أنّ شيئاً منها غير موجود في مثل المعاملات الخارجيّة.

أمّا الأوّل: فلعدم تمليك صاحب المال بالنحو المذكور، مع أنّه يلزم منه الفصل بين الإيجاب والقبول، وسيأتي اعتبار عدمه، فتأمّل.

وأمّا الثاني: فلعدم توكيل المالك شخصاً معيّناً، ولا جميع الأشخاص، بل هو

ص: 360

غير ملتفت إلى ذلك أصلاً، كما أنّ الآخذ غير قاصد للإيجاب والقبول.

وأمّا الثالث: فلعدم قصد الأخذ بالنحو المذكور، مضافاً إلى أنّ بناء المتشرّعة على التصرّف في المأخوذ مع عدم إحراز الإجازة، بل وعدم إجازة صاحب المال.

وعليه، فالأظهر أنّ المتحقّق في هذه الموارد إنّما هو إباحة بالعوض، والدليل على نفوذها وصحّتها هي السيرة.

وبعبارة أُخرى : يكون تصرّفاً بالرِّضا، وإذناً في الإتلاف بالعوض المسمّى، ودليل الإمضاء هو السيرة بضميمة عدم الرّدع.

الصورة الرابعة: ما إذا لم يكن إيصالٌ أيضاً، بل المتحقّق نتيجته، كما إذا كان المالان عندهما بسبق أمانة أو اشتباه أو غير ذلك، فقصدا البيع والتبديل بلا فعلٍ من كلّ منهما، بل قصداه بالبقاء، والظاهر أنّه لا يتحقّق البيع حينئذٍ لعدم وجود قولٍ أو فعلٍ كاشف عن قصد المعاملة، ومجرّد القصد لا يكفي.

اللَّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ إبقاء كلّ منهما ماله تحت يد صاحبه ممسكاً به، فعلان اختياريّان، فيمكن إنشاء البيع بهما.

الصورة الخامسة: أن ينشأ البيع باللّفظ غير المعتبر في العقد، أي اللّفظ غير الصحيح، كما في الإنشاء باللّفظ المتعارف استعماله في مقام المقاولة، والظاهر عدم انعقاد البيع حينئذٍ أيضاً، لأنّ البيع المُمضى بعدما لم يكن مجرّد القصد الساذج، واعتبرنا إظهاره بفعلٍ أو قولٍ ، فلابدّ وأن يكون من خلال اللّفظ أو الفعل الذي له مظهريّة لذلك المعنى في نفسه، ولا ينعقد بكلّ فعل أو لفظ. فتأمّل.

هذا على القول بالملك.

ص: 361

وأمّا على القول بالإباحة التعبّديّة الشرعيّة، فالأمر أوضح من ذلك، لعدم إحراز السيرة على مثله ليُحكم عليه بالإباحة.

نعم، بناءً على الإباحة المالكيّة، فإنّه لا إشكال في ثبوتها به، لأنّ المناط فيها إحراز الرضا، وهو حاصل بالفعل.

***

ص: 362

تمييز البائع عن المشتري

الأمر الثالث: تمييز البائع عن المشتري في المعاطاة، مع كون أحد العوضين ممّا تعارف جعله ثمناً كالدراهم وما شاكل واضح، إنّما الكلام فيما لو كان العوضان من غيرها، وتنقيح القول فيه يتحقّق بالبحث في موردين:

أحدهما: فيما هو الحقّ .

ثانيهما: فيما أفاده الشيخ(1) وسائر الأساطين رحمهم الله(2)، وما يرد عليهم.

أمّا المورد الأوّل: فلتوضيح المطلب لابدّ من تقديم مقدّمة، وهي:

إنّ المعاملة البيعيّة وسائر المعاملات حتّى الهبة، جميعها متقوّمة بأمرين:

تمليك من طرفٍ ، ومطاوعة وقبولٌ من الطرف الآخر.

ولو كان هناك تمليكان بلا قبول، كانا إيجابين، ولم ينطبق عليهما عنوان البيع ولا غيره من عناوين المعاملات.

إذا عرفت هذه المقدّمة، فنقول:

أمّا في مقام الثبوت: فإنّ كلّ مَنْ ملّك ماله غيره بعوضٍ فهو البائع، وطرفه القابل هو المشتري، من غير فرقٍ بين المعاملة الفعليّة أو القوليّة، ومن غير فرقٍ بين الأثمان والعروض.

وأمّا في مقام الإثبات: ففي المعاملة الفعليّة لا محالة يكون المُعطي ماله أوّلاً هو البائع، لأنّه يملّك ما له بعوضٍ ، اللّهم إلّاأن يكون قصده من الإعطاء إبقاء المال

ص: 363


1- المكاسب: ج 3/77.
2- كتاب المكاسب والبيع: ج 1/203، حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/159، نهج الفقاهة: ص 61.

أمانةً عند صاحبه إلى ما بعد المعاملة، فيكون في الحقيقة إقباضاً للعوض قبل البيع، ولا يتصوّر في إعطاء المُعطي الأوّل غير ذلك، فإنّه لا يمكن أن يكون قبولاً مقدّماً بأن ينشأ به تملّك مال صاحبه، وهذا بخلاف المعاملة اللّفظيّة فإنّه يتصوّر فيه ذلك.

ولو كان الإعطاء من الطرفين في آنٍ واحد:

فإنْ قصد كلٌّ منهما بإعطائه التمليك، لم يكن بيعاً، بل لا يكون صُلحاً ولا معاملة مستقلّة:

أمّا عدم كونه صُلحاً: فلأنّه في الصلح يعتبر أيضاً إنشاء المسالمة من طرفٍ والقبول من آخر.

وأمّا عدم كونها معاملة مستقلّة: فلأنّ دليل إمضاء المعاوضات إمّا السيرة أو آية الوفاء: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1)، أو آية التجارة: (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (2).

وشيءٌ منها لا يصلح لإثبات هذه المعاملة:

أمّا الأُولى : فلأنّ عدم قيامها على مثل هذه المعاملة واضح.

وأمّا الثانية: فلعدم كون الإيجابين عقداً، الذي حقيقته الربط بين شيئين كما تقدّم.

وأمّا الثالثة: فلعدم صدق التجارة عن تراض عليهما كما لا يخفى .

وإنْ شئت قلت: إنّه لا دليل على إمضاء الشارع غير ما هو من العقود المتعارفة، وهذه ليست منها.9.

ص: 364


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- سورة النساء: الآية 29.

أقول: ذكر الشيخ رحمه الله(1) في مقام التمييز أنّه إذا كان أحد العوضين ممّا تعارف جعله ثمناًكالدراهم، كان صاحب الثمن هو المشتري، وإنْ كانا من غير ذلك، فإن قصد بأحدهما قيامه مقام الثمن في العوضيّة كان صاحبه المشتري، وإلّا ففيه احتمالات:

منها: كون كلّ منهما بائعاً ومشترياً.

ومنها: كون المعطي أوّلاً هو البائع، والآخر مشترياً.

ومنها: كون ذلك مصالحة أو معاوضة مستقلّة.

ثمّ اختار قدس سره الثاني من هذه الصور.

وفيه: - مضافاً إلى أنّ لازم ما أفاده قدس سره كون كلّ من المتبايعين في بيع الصرف مشترياً، ومضافاً إلى أنّه لم يظهر المراد من قصد قيام أحد العوضين مقام الثمن في العوضيّة، فإنْ كان المراد:

أن يلاحظ قيمته ومقدار تموّله من النقود، فهذا أمرٌ موجود في كلّ منهما في غالب البيوع.

وإنْ أراد به المعاملة عليه بالدراهم، ثمّ جعل الدراهم عوضاً، فهو بديهي الفساد.

وإنْ أراد غير ذلك، فالعبارة غير وافية به.

أنّ ما ذكره رحمه الله لو تمّ ، فإنّما هو في مقام الاشتباه في مقام الإثبات، ولا يفيد في مقام الثبوت.

أقول: ومن الغريب في هذا المقام، ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2) من أنّه لو وقع9.

ص: 365


1- المكاسب: ج 3/77.
2- منية الطالب: ج 1/168-169.

التبديل بين العروضين بالإعطاء من الطرفين دفعة واحدة، ولم يقصد بأحدهما القيام مقام الثمن، ولم يكن بسبق مقاولةٍ ، كان أحدهما لا على التعيين بائعاً، والآخر مشترياً، من دون امتيازٍ بينهما واقعاً، إذ هناك معامله قائمة بصرف الوجود من تبديل أحدهما وقبول الآخر، وصرف الوجود يتحقّق بأحدهما من دون تمييز بينهما حتّى واقعاً، لعدم خصوصيّة في أحدهما دون الآخر.

فإنّه يرد عليه: إنّه لا يُعقل تحقّق شيء في عالم العين، وعدم تعيّنه واقعاً، إذ المردّد لا ماهيّة له ولا وجود، فإنْ كان البيع إنشاءً للتبديل، والاشتراء قبولاً لذلك، كما اعترف به، وعليه:

فإن أنشأ فى المعاملة المفروضة أحدهما وقبل الآخر، فالمُنشِئ بائع والقابل مشترٍ.

وإن قصدا معاً الإنشاء فحيثُ لا يعقل وقوعهما معاً - وكونهما بيعاً كما اعترف به وكون أحدهما المعيّن بيعاً والآخر اشتراءً ترجيحٌ بلا مرجّح، وأحدهما لا بعينه لا وجود له - فلا مناص عن البناء على البطلان.

وأمّا ما أفاده المحقّق الايرواني رحمه الله(1) في هذا المقام بما حاصله:

إنّ البائع هو من بَذَل خصوصيّات ماله، وأغمض النظر عنها، ولكن أمسك على ماليّته بأخذ البدل، وفي ذلك لا نظر له إلّاإلى حفظ تموّله، وأمّا المشتري فهو بعكس ذلك، فهو اسمٌ لكلّ من رغب في خصوصيّات الأعيان التي يتلقّاها من المأكولات وغيرها. وأمّا إذا كانت خصوصيّات العين مرغوبة لكلٍّ من الجانبين، كما في تبديل كتاب بكتاب، لم تكن هذه المبادلة بيعاً، بل هي معاوضة مستقلّة.2.

ص: 366


1- تعليقات على المكاسب: ج 1/212.

فيرد عليه: - مضافاً إلى أنّ لازم ما ذكره عدم كون بيع الأجناس من التاجر الذي غرضه من المعاملة حفظ تموّله وازدياده بيعاً - أنّ ما ذكر لا شاهد له من العرف، ولا من الشرع، ولم يعتبر أحدٌ في البيع ذلك. وعليه، فالصحيح ما ذكرناه.

***

ص: 367

أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين

الأمر الرابع: قال الشيخ رحمه الله(1): (إنّ أصل المعاطاة - وهي إعطاء كلٍّ منهما الآخر ماله - يتصوّر بحسب قصد المتعاطين على وجوه)، ثمّ ذكر وجوهاً أربعة.

وأورد عليه السيّد في «الحاشية»(1): بأنّ الوجوه والأقسام أزيد ممّا ذكره لأنّ :

منها: ما إذا كانت المقابلة بين المالين، مع كون القبول بالإعطاء.

ومنها: ما إذا كانت المقابلة بين المال والتمليك، أو بين التمليك والمال، وكذلك في طرف الإباحة.

ومنها: غير ذلك.

وفيه: إنّ غرض الشيخ رحمه الله من التعرّض لهذا التنبيه، هو بيان الصور التي فيها إشكالٌ وكلامٌ ، وموردٌ للنقض والإبرام، والصور التي هذه حالها منحصرة في أربع عنده، إذ الإشكال في الصورة الأُولى إنّما هو من ناحية عدم صدق المعاطاة، وفي الثانية من جهة عدم صدق البيع، وفي الثالثة والرابعة ما ذكره رحمه الله مفصّلاً وسيأتي، وأمّا بقيّة الصور فهي عنده خالية عن الإشكال والكلام، ولذلك لم يتعرّض لها.

أقول: ولكن الأولى إضافة صورة أُخرى إليها، وهي المبادلة بين المال والتمليك، فإنّها أيضاً وقعت محلّ الكلام والإشكال والنقض والإبرام.

وكيف كان، فأحد الوجوه الأربعة التي ذكرها(3) هو: أن يقصد كلّ منهما تمليك ماله بمال الآخر في أخذه قابلاً ومتملّكاً بإزاء ما يدفعه، فلا يكون في دفعه العوض

ص: 368


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/77.

إنشاءُ تمليكٍ ، بل دفعٌ لما التزمه على نفسه بإزاء ما تملّكه، فيكون الإيجاب والقبول بدفع العين الأولى وقبضها، فدفع العين الثانية يصبح خارجاً عن حقيقة المعاطاة.

وقد أُورد عليه بإيرادين.

الإيراد الأوّل: ما عن السيّد(1) قدس سره بأنّه يمكن أن يكون إنشاء القبول بدفع العوض أيضاً، بأن يكون أخذ العوض من باب الاستيفاء لا بعنوان القبول، وكان على الشيخ رحمه الله أن يذكر هذا الوجه أيضاً، لأنّه - مضافاً إلى إمكانه - هو الغالب.

الإيراد الثاني: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(2) من أنّه لا يكون القبول بالأخذ في مورد، بل المعاملة تتحقّق بفعل كلّ منهما، وفعل البائع بمنزلة الإيجاب القولي، وإعطاء المشتري له بمنزلة القبول القولي، وأخذ كلّ منهما يعدّ وفاءً بالمعاملة والتزاماً بآثارها.

أقول: قد عرفت في التنبيه الثاني أنّه في المعاطاة دائماً يكون الإيجاب بالإعطاء من طرفٍ ، والقبول بالأخذ، وإعطاء الآخر إنّما يكون وفاءً لما التزم به، ولو لم يكن الاخر مُنشِئاً للقبول بالأخذ لم يكن إعطائه مجدياً، وإنْ قصد به التمليك، فإنّ الإعطاءين حينئذٍ بمنزلة إيجابين غير مرتبطين لا إيجابٌ وقبول.

ويرد عليهما: - مضافاً إلى ما ذكر - أنّه لم يظهر لنا وجه كون الأخذ الأوّل يكون بعنوان الوفاء بالمعاملة ومن باب الاستيفاء، لأنّه حين الأخذ لم تكن المعاملة قد تمّت، فما معنى الأخذ بعنوان الوفاء بها؟!

ويرد على السيّد قدس سره: - مضافاً إلى ذلك - أنّ عدم التعرّض لهذا في «المكاسب» إنّما9.

ص: 369


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/77.
2- منية الطالب: ج 1/169.

هو من جهة ما ذكره رحمه الله في التنبيه الثاني(1) من أنّ المتيقّن من مورد المعاطاة، هو صورة التعاطي من الطرفين، وأنّه لا إشكال فيها، وإنّما الإشكال متحقّق في هذا المورد، ولذا تعرّض له في هذا التنبيه بالخصوص.

الوجه الثاني: (2) أن يقصد كلّ منهما تمليك الآخر ماله بإزاء تمليك ماله إيّاه، فيكون تمليكٌ بإزاء تمليك، فالمقابلة بين التمليكين لا الملكين، والمعاملة متقوّمة بالعطاء من الطرفين.

أقول: الكلام في هذا الوجه يقع في موارد ثلاثة:

المورد الأوّل: في معقوليّته، والأظهر عدمها، لأنّه:

إنْ أُريد به تعليق التمليك على تمليك الآخر، فهو هبة معلّقة.

وإنْ أُريد به اشتراط التمليك بالتمليك الآخر، فهو هبة مشروطة.

وإنْ أُريد به كون أحد التمليكين معوّضاً والآخر عوضاً - كما هو ظاهر «المكاسب» - فحيث أنّ صيرورة التمليك معوّضاً إنّما تحتاج إلى إنشاء وجعل متعلّق بذلك، والتمليك - أي إنشاء الملكيّة - إنّما هو جعل لذلك نفسه لا جعلٌ لمعوضيّته، فلا يُعقل أن يكون تمليك الآخر عوضاً عن هذا التمليك، إذ عوضيّته:

إمّا أن تكون بنفسه، أو بجعل الملكيّة وإنشائها، أو بجعلٍ آخر:

والأوّل غير معقول وهو واضح.

وكذلك الثاني، فإنّ كونه معوضاً يحتاج إلى جعلٍ آخر متعلّق به.

والثالث مفروضُ العدم، وبالتالي فالتمليك بإزاء التمليك ممّا لا مجال لتعقّله.1.

ص: 370


1- المكاسب: ج 3/74 و 81.
2- المكاسب: ج 3/74 و 81.

المورد الثاني: إنّه على فرض معقوليّته، هل يمكن أن يكون إنشاء القبول بالأخذ، أم لا يمكن إلّاأن يكون بالتمليك الثاني ؟ صريح «المكاسب» هو الثاني.

وأورد عليه: - السيّد المحشي قدس سره(1)، والمحقّق الايرواني(2) - بأنّه يمكن أن يكون تحقّق ذلك بالأخذ، فيكون التمليك واجباً على الثاني من باب الوفاء.

ثمّ أضافا: (بل يمكن أنْ يقال إنّ هذا هو المتعيّن).

أقول: ولكن الظاهر تماميّة ما أفاده الشيخ رحمه الله، فإنّ المعاوضة إذا كانت بين التمليكين، لم يكن الإيجاب تامّاً إلّابعد تحقّق التمليك وتماميّته، وهو متقوّمٌ بإيجابٍ وقبول، فالأخذ وإنْ كان قبولاً إلّاأنّه قبولٌ للتمليك لا البيع، فهو دائماً يكون جزءً من الإيجاب لا قبولاً للمعاملة، فلا محالة يكون قبولها بالإعطاء من الآخر بقصد التمليك.

وبالجملة: في هذا الوجه خصوصيّة، وهي أنّ المعوّض إنّما هو التمليك المتوقّف تحقّقه على القبول، فلا يمكن أن يكون الأخذ قبولاً لذلك وللمعاملة.

المورد الثالث: إنّ هذه المعاملة على فرض معقوليّتها، هل هي بيعٌ ، أو هبةٌ معوّضة، أم تعدّ مصالحة، أو معاوضة مستقلّة ؟

أقول: الظاهر عدم كونها بيعاً، لأنّ البيع هو المبادلة بين المالين، وفي هذه المعاملة لا مبادلة بينهما بل هي في الحقيقة معاوضة بين الفعلين.

اللّهم إلّاأنْ يقال: إنّ المعاوضة بحسب الصورة وإنْ كانت بين التمليكين، إلّاأنّ النظر إليهما آلي، وفي الحقيقة واللّب تكون المعاوضة بين المالين، وبهذا الاعتبار يمكنر.

ص: 371


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/78.
2- راجع حاشيته على كتاب المكاسب: ج 2/73 (أقسام المعاطاة) كما يظهر.

دخوله في البيع.

فلو تمّ ذلك فهو، وإلّا فهي هبة معوّضة، إذ التمليك إنّما يكون تمليكاً للشيء مجّاناً وبلا عوض.

والإيراد عليه: - كما في «المكاسب»(1) - من أنّه لو لم يُملّكه الثاني هنا لم يتحقّق التمليك من الأوّل، لأنّه إنّما ملّكه بإزاء تمليكه، فما لم يتحقّق تمليك الثاني هنا لم يتحقّق تملّكه، ودعوى أنّ المجانيّة مأخوذة في حاق الهبة، غير تامّة، لأنّ المجانيّة المعتبرة في الهبة إنّما هي في المال، وعدم جعل شيء في مقابل المال، وهذا مفروضٌ في المقام، إذ العوض إنّما هو في مقابل التمليك دون للمال.

فتحصّل: أنّ المعاطاة إمّا بيعٌ أو هبة معوضة، ولا تكون مصالحة ولا معاوضة مستقلّة.

أمّا الصورة الخامسة: - التي أضفناها - وهي ما إذا كانت المقابلة والمعاوضة بين المال والتمليك، بأن يقصد أحدهما تمليك ماله بتمليك الآخر، الذي هو الفعل الخارجي الصادر من المشتري، فيكون من بيع الأموال بالأعمال، فقد أشكل المحقّق النائيني رحمه الله(2) فيها، وقال:

(إنّ البيع باطلٌ في المقام، وإن صَحّ بيع الأموال بالأعمال)، واستدلّ له بأنّ العمل الذي يقابل بالمال، يشترط كونه مقصوداً بالاستقلال، كي يُبذل بإزاء نفسه المال، كخياطة الثوب ونحوه، والتمليك ليس كذلك، بل هو آلي وطريقي لتحصيل المال، إذ التمليك بالمعنى المصدري ليس مالاً، بل المال هو الحاصل من المصدر، وليس هذا الفعل إلّاآلة لحصول اسم المصدر، فلا يمكن أن يقابل بالمال، فلا يصحّ 1.

ص: 372


1- المكاسب: ج 3/81.
2- منية الطالب: ج 1/171.

جعله عوضاً.

وفيه: إنّ ضابط صحّة جعل شيء عوضاً، كونه متعلّقاً للغرض، سواءٌ أكان منشأ كونه كذلك طريقيته لتحصيل المال، أو كونه بنفسه مالاً، ولا يعتبر فيها أزيد من ذلك، والتمليك متعلّقٌ للغرض ولو بواسطة طريقيّته لحصول المال.

وبالتالي، فالأظهر صحّة جعله عوضاً نظير سائر الأعمال.

الصورة الثالثة:(1) وهي أن يقصد الأوّل إباحة ماله بعوض، فيقبل الآخر بأخذه إيّاه، فيكون الصادر من الأوّل الإباحة بالعوض، ومن الثاني بقبوله لها التمليك، كما لو صرّح بقوله: (أبحتُ لك كذا بدرهم).

الصورة الرابعة: (2) وهي أن يقصد كلّ منهما الإباحة بإزاء إباحة أُخرى ، فتكون إباحة بإزاء إباحة.

وقد استشكل الشيخ رحمه الله في هذين الوجهين باشكالين، غير مرتبط شيء منهما بمسألة المعاطاة:

أمّا الإشكال الأوّل (3) : فحاصله أنّ المالك إنّما يجوز له إباحة التصرّف في ماله بالنسبة إلى التصرّفات السائغة لغير المالك، وليس له إباحة ما لا يجوز لغير المالك إلّا بإيجاد موضوعه بتمليكه إيّاه، والمفروض في المقام عدمه، ودليل السلطنة لا يكون مشرّعاً لما مَنع عنه الشارع، ألا ترى إنّه لم يتوهم أحدٌ دلالته على جواز وطء عبد الغير بإذنه، وعليه فهو إشكالٌ عام لجميع أقسام الإباحة، سواءٌ أكانت باللّفظ أو بالفعل، مع قصد العوض أو مجّاناً.

وبالتالي فبما أنّ هذا البحث استطرادي، لا بأس بتقديم بحثٍ استطرادي آخر مربوط به:2.

ص: 373


1- المكاسب: ج 3/82.
2- المكاسب: ج 3/82.
3- المكاسب: ج 3/82.

التصرّفات المتوقّفة على المِلْك

وهو أنّه هل هناك تصرّفٌ متوقّف على المِلْك أم لا؟

وملخّص القول فيه: إنّ جملة من الأُمور التي ذكروا توقّفها على المِلك تقدّم ما فيها، وعرفت عدم توقّفها عليه، لكن بقي في المقام أُمور:

منها: إخراج المال في الخمس والزكاة.

ومنها: ثمن الهَدْي.

ومنها: وطء الجارية.

ومنها: العتق.

ومنها: البيع.

وشيءٌ منها لا يتوقّف على الملك:

أمّا الأوّل: فإنّ حكمهما متوقّفٌ على المبنى :

فإن قلنا: بأنّ الخمس والزكاة يتعلّقان بالذّمة، يكون سبيلهما سبيل سائر الدِّيون، فكما يجوز وفاء الدَّين بمال الغير لو أذن - لما دلّت الأخبار(1) على جواز اداء الدين من غير مال الدائن والتبرّع بوفائه - كذلك يجوز دفع الخمس والزكاة من مال الغير.

وكون الخمس والزكاة من العبادات لا ينافي ذلك، وإنْ كان منافياً لتبرّع الغير

ص: 374


1- وسائل الشيعة: ج 9/295-297 ب 46 من أبواب المستحقّين للزكاة، وج 18/371-372 ب 30 من أبواب الدين والقرض، وج 20/45-47 ب 12 من أبواب مقدّمات النكاح، وج 21/505-506 ب 106 من أبواب أحكام الأولاد، وغيرها.

بأدائهما، فإنّ المباشر في المقام من وجبا عليه.

وإنْ قلنا: بتعلّقهما بالعين، فحيثُ أنّ للمكلف تبديلهما من العين وأدائهما من مالٍ آخر، فله التبديل بادائهما من مال الغير إن أذن في ذلك.

وأمّا الثاني: فلما ذكرناه في سابقه، لأنّه أيضاً من الدِّيون، مضافاً إلى ما ورد من النصوص(1) الدالّة على جواز الذبح عن العبد والصبي، وأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ذَبَح عن اُمّهات المؤمنين بقرة بقرة، إذ لو جازت النيابة جاز الهَدي بمِلك الغير، وكذلك ثمنه.

وأمّا الثالث: فلأنّه يجوز بالإباحة للنَّص(2)، غاية الأمر يعتبر أن يتحقّق ذلك من خلال لفظٍ خاص، وهو: (أحللتُ )، ولا ينعقد بلفظ (أبحتُ ).

وأمّا ما ظاهره توقّف الوطء على المِلْك(3)، فلا مناص من أن يكون المراد به ملك التصرّف، كي يعمّ جميع موارد الوطء الحلال.

وأمّا الرابع: فقد ذُكر في وجه توقّفه على المِلْك أنّه دلّت النصوص على أنّه «لا عتق إلّافي ملك»، ففي خبر ابن مسكان: «من أعتق ما لا يملك فلا يجوز»(4)، ونحوه غيره.

وفيه: إنّ هذه النصوص التي وردت نظائرها في البيع فيها احتمالات:

الاحتمال الأوّل: أنّ المُعتَق لابدّ وأن يكون رقّاً ومملوكاً كي يقبل الإنعتاق،5.

ص: 375


1- وسائل الشيعة: ج 14/83-86 ب 2 من أبواب الذبح من كتاب الحجّ ، وص 86-87 ب 3 من أبواب الذبح من كتاب الحجّ ، وص 95-97 ب 8 من أبواب الذبح من كتاب الحجّ .
2- وسائل الشيعة: ج 20/85-87 ب 35 من أبواب مقدّمات النكاح.
3- وسائل الشيعة: ج 21/142-144 ب 41 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
4- وسائل الشيعة: ج 23/16 ب 5 من أبواب كتاب العتق ح 4 رقم 29000، التهذيب: ج 8/249 ح 135.

وكذلك المبيع لابدّ وأن يكون مملوكاً حتّى يقبل التملّك.

الاحتمال الثاني: أنّه يعتبر في العتق والبيع أن يكون البائع والمُعتِق مالكين لهما لا مالكين للمال.

الاحتمال الثالث: أنّه يعتبر فيهما كون البائع والمعتِق مالكين للمال، من دون نظر لها إلى كون من يقع البيع له - أي يدخل الثمن في مِلْكه - ومن ينعتق عليه الرّق مالكين أم غير مالكين.

الاحتمال الرابع: أنّه يعتبر فيهما كون البيع والعتق للمالك، والاستدلال بها يتوقّف على إرادة الأخير - كما لا يخفى - وهي غير ظاهرة منها، لو لم تكن إرادة غيره أظهر كما هو واضح.

وأمّا الخامس: فقد استدلّ له - مضافاً إلى النصوص المشار إليها مع جوابها - بوجه عقلي أشار إليه الشيخ رحمه الله في «المكاسب»(1)، ناقلاً إيّاه عن المصنّف رحمه الله في «القواعد»(2)، وهو أنّه لا يُعقل خروج المبيع عن كيس شخصٍ ودخول الثمن في مِلك شخصٍ آخر.

وغاية ما قيل في تقريبه: إنّ المعاوضة من المعاني النسبيّة التعلّقية، فلابدّ وأن تكون العوضيّة في شيء، فإذا كانت المعاوضة في الملكيّة فلابدَّ من قيام كلٍّ من الثمن والمثمن مقام الآخر في الإضافة الملكيّة لصاحبها، ومقتضى ذلك انتقال كلّ منهما إلى مالك الآخر، وعليه فالإذن في بيع مال الغير لنفسه إذنٌ في أمرٍ غير معقول.7.

ص: 376


1- المكاسب: ج 3/83.
2- قواعد الأحكام: ج 2/127.

وفيه: إنّ عنوان المعاوضة ليس موضوعاً للأثر، بل الموضوع هو البيع، وقد عرفت أنّ حقيقته إعطاء شيء بإزاء شيء لا مجّاناً، وهذا يصدق مع عدم دخول العوض في مِلك مالك المعوّض، وقد تقدّم تنقيح القول في ذلك. فراجع(1).

الإذن في التصرّفات المتوقّفة على الملك

أقول: بعد الوقوف على حقيقة الاُمور الخمسة المذكورة، نقول:

لو التزمنا بأنّه لا يكون شيءٌ من التصرّفات متوقّفاً على الملك، فلا إشكال في صحّة مثل هذه الإباحة.

وأمّا لو التزمنا بأنّ بعض التصرّفات - كالبيع والعتق - متوقّفٌ على الملك، فيقع الكلام في صحّة إباحة جميع التصرّفات وعدمها.

ولمّا كان عدم الصحّة على هذا المسلك في بادي النظر واضحاً، من جهة أنّ دليل السلطنة إنّما يدلّ على تسلّط النّاس على أموالهم فيما لم يمنع عنه الشارع، فإذا منع الشارع عن بيع غير المملوك، وحكم بعدم نفوذه، لا يصلح دليلُ السلطنة لتجويزه والترخيص فيه. لكن ينبغي البحث عن حكم مثل هذه التصرّفات لالتزام بعض أصحابنا بصحّتها، فقد يظهر من قطب الدِّين رحمه الله(2) والشهيد رحمه الله في باب بيع الغاصب(3) أنّ تسليط المشتري للبائع الغاصب على الثمن، والإذن في إتلافه،

ص: 377


1- صفحة 236 من هذا المجلّد.
2- حكاه عنه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 12/613.
3- مسالك الأفهام: ج 12/224.

يوجبُ جواز شراء الغاصب به شيئاً، كما يظهر أيضاً من العلّامة رحمه الله في «المختلف»(1)أنّه لو علم البائع للجارية غصبيّة ما جُعل ثمناً لها، جاز للمشتري وطئها، هذا فضلاً عن أنّ هناك مسائل ثلاث مشهورة بين الأصحاب، وهي:

إحداها: أنّه لو قال الرجل لمالك العبد: (اعتق عَبدَك عنّي) وأعتقه المالك، وقع العتق عن الأمر.

ثانيتها: أنّ الرجل إذا اشترى أحد عموديه ينعتق عليه، برغم أنّه لا يملكهما.

ثالثتها: أنّه لو تصرّف الواهب وذو الخيار فيما وهبه وباعه بالبيع الخياري، بالبيع أو العتق، صَحّ ذلك منه وكان ذلك فسخاً فعليّاً.

أقول: تصدّى الشيخ رحمه الله في المقام لتوجيه ذلك، ولبيان حكم تلك المسائل، والوجه في الالتزام بالملكيّة فيها، وعدم انطباق تلك الوجوه على المقام، وذَكَر في كلّ واحدةٍ من تلك المسائل وجهاً غير ما ذكره في غيرها، وقبل بيان تلك الوجوه ذكر وجهين لتصحيح الإذن في البيع، وهما:

الوجه الأوّل:(2) أن يقصد المُبيح بقوله: (أبحتُ لك أن تبيع مالي لنفسك) إنشاء توكيل له في بيع ماله له، ثمّ نقل الثمن إلى نفسه بالهبة.

الوجه الثاني: (3) أن يقصد به نقله أوّلاً إلى نفسه ثمّ بيعه.

وأجاب عنهما: (2) بأنّ المفروض أنّ قصد المبيح ليس شيئاً منهما.

ويرد عليهما: - مضافاً إلى ذلك - أنّه في كلّ منهما قد فرض التوكيل في الهبة،3.

ص: 378


1- مختلف الشيعة: ج 5/259. (2و3) المكاسب: ج 3/83.
2- المكاسب: ج 3/83.

وهي من الإنشائيّات، ولا تتحقّق بمجرّد القصد، فلو كان من قصده أيضاً ذلك لم يفد شيئاً، بل احتاج إلى إنشاء الهبة باللّفظ أو بالفعل.

أمّا ما ذكره في مسألة (اعتق عَبدَك عنّي)(1)، فمحصّله:

إنّ قول الرجل لمالك العبد: (اعتق... الخ) استدعاءٌ لتمليكه، واعتاق المولى جوابٌ لذلك الاستدعاء، فيحصل النقل والانتقال بهذا الاستدعاء والجواب، ويقدّر وقوعه قبل العتق آناً مّا.

وقال (2) : (هذا الوجه لاينطبق على المقام، إذ المُبيح لم يقصد التمليك بالإباحة المذكورة، ولا قَصَد المخاطب التملّك عند البيع حتّى يتحقّق تمليكٌ ضمني مقصودٌ للمتكلّم والمخاطب، كما كان مقصوداً ولو بالإجمال في تلك المسألة).

أقول: يرد على ما ذكره في مسألة العتق أُمورٌ:

الأمر الأوّل: إذا كان العتق هو المملّك - لكونه جواباً للإستدعاء - فما وجه الالتزام بحصول المِلك قبل العتق آناً مّا؟!

وبعبارة أُخرى : حيث أنّ التمليك من الإنشائيّات، ولا يتحقّق بدون الإنشاء - والمفروض أنّ إنشاءه هو العتق - فكيف يقدّر وجوده قبل العتق ؟ كما أنّ الالتزام بحصوله بالعتق، يلزم منه اجتماع الملك وزواله في زمان واحد، وهو غير معقول، مع أنّه لا يفيدُ شيئاً، إذ المفروض توقّف العتق بالحمل الشائع على الملك، فإذا كان تحقّق الملكيّة متوقّفاً على العتق لزم الدور.

الإيراد الثاني: إنّ لازم تأثير العتق هو في حصول الملك وزواله، وهو في غاية البُعد.4.

ص: 379


1- المكاسب: ج 3/83 و 84.
2- المكاسب: ج 3/83 و 84.

الإيراد الثالث: إنّ التمليك والتملّك من الأُمور القصديّة، فلو فُرض أنّ المستدعي والمُعتِق غير ملتفتين إليهما، ولم يقصداهما، فكيف يلتزم بحصول الملك ؟!

ويرد على ما ذكره رحمه الله: من الفرق بين المسألتين - بعدم القصد إلى التمليك في المقام، وبدلالة الكلام في مسألة العتق على التمليك بدلالة الاقتضاء - أنّ المفروض في المسألتين عدم القصد إلى التمليك، فإنْ كان القصد إلى العتق كافياً في قصد التمليك من جهة كونه قصداً إجماليّاً له، كان الأمر كذلك في المقام.

وبالجملة: لا فرق بين المسألتين من هذه الجهة، والحقّ عدم كونه تمليكاً في البابين.

أقول: التزم المحقّق النائيني رحمه الله(1) في مسألة (اعتق عَبدك عنّي) بدخول العبد في ملك الآمر وانعتاقه، لا من جهة توقّف العتق على الملك، بل من جهة أنّه إذ أمر الآمر بإيجاد عملٍ محترم، أو بإتلافِ مالٍ محترم غير مجاني يرجع نفعه إليه، وامتثل المأمور ذلك، يكون الاستدعاء واستيفائه له مقتضياً لضمان المستوفي، إذ المفروض أنّه لم يصدر عن المأمور تبرّعاً، بل بالعوض المُسمّى ، وحيث أنّ ضمانه ليس من باب الغرامة بل ضمان معاملي، وتكون تلك المعاملة الواقعة بين الآمر والمأمور؛ ذاك بأمره واستدعائه، وهذا بامتثاله وعمله صحيحة لعموم (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (2)، فلا محالة يكون لازمه دخول المضمون به في ملك الضامن.

وفيه: إنّ الملك من الأُمور التي يتوقّف تحقّقها على القصد والإنشاء، فإذا فرضنا عدم قصد الآمر والمأمور التمليك والتملّك، لما كان وجهٌ للالتزام بحصول الملك،9.

ص: 380


1- منية الطالب: ج 1/175.
2- سورة النساء: الآية 29.

ومجرّد كون الضمان لا من باب الغرامة، لا يقتضى دخول المضمون به في ملك الضامن.

هذا فضلاً عن أنّه يرد عليه الإيراد الثاني الذي أوردناه على الشيخ رحمه الله.

وبالجملة: الأظهر أنّه إنْ كان العتق غير متوقّفٍ على الملك، نلتزم بالصحّة في المثال، وضمان الآمر إنْ لم يكن استدعائه على وجه المجانيّة، وإنْ كان متوقّفاً عليه، فلا يصحّ ، ويكون نظير عكس المسألة (اعتق عبدى عنك). وبه يظهر حال مسألتنا هذه.

أقول: وأمّا ما ذكر في مسألة العمودين، وتوهم انطباقه على المقام، ولأجله التزم بالملك التقديري الفرضي، بمعنى فرض الملك وتقديره لغاية خاصّة، وهو الانعتاق في مسألة العمودين، فحاصله:

أنّه كما أنّ الجمع بين الأدلّة في تلك المسألة، وهي:

ما دلَّ على أنّه: «لا عتق إلّافي مِلك».

وما دلَّ على أنّ شراء العمودين جائزٌ.

وما دلَّ على أنّ الإنسان لا يملك عموديه، وينعتقان عليه لو اشتراهما.

وما دلَّ على توقّف صحّة البيع بل حقيقته على دخول كلّ من العوضين في كيس مَنْ خَرَج الآخر عن كيسه.

يقتضي الالتزام بالمِلك التقديري الفرضي بالمعنى المتقدّم، كذلك في المقام الجمع بين ما دلَّ على توقّف جملة من التصرّفات كالبيع والعتق على الملك، ودليل السلطنة الدالّ على جواز إباحة جميع التصرّفات، هو الالتزام بالمِلْك التقديري، وأجاب الشيخ رحمه الله بما ستعرف تقريبه.

فيقع الكلام أوّلاً: في مسألة العمودين، ثمّ في المقام.

ص: 381

أمّا المقام الأوّل: فالموهم للتنافي بين الأدلّة، الموجب للالتزام المذكور:

1 - إمّا أن يكون ما دلَّ على أنّه: «لا عتق إلّافي ملك»، بدعوى أنّه ينافي مع ما دلَّ على أنّ الإنسان لا يملك عموديه.

2 - أو يكون هو ما دلَّ على توقّف الشراء على دخول العمودين في ملك المشتري، وهو ينافي مع ما دلَّ على عدم تملّكهما.

وشيءٌ منهما لا يوجب التنافي المزبور:

أمّا الأوّل: - فمضافاً إلى ما تقدّم في معنى : «لا عتق إلّافي ملك» - إنّه لو سُلّم دلالته على لزوم مالكيّة من ينعتق عليه العبد، أنّه إنّما يدلّ على أنّه لا عتق - الذي هو فعل اختياري - إلّافي ملك، ولا يدلّ على أنّه لا انعتاق إلّافي ملك، كي ينافي مع ما دلَّ على عدم تملّكهما.

وأمّا الثاني: فلما تقدّم في أوّل مبحث البيع(1) وأشرنا إليه في بداية هذا التنبيه من عدم توقّف صدق البيع والشراء على هذا، بل حقيقة البيع هي جَعلُ شيء وإعطائه بإزاء شيء، وهذا بحسب الموارد يختلف أثره، فقد يكون أثره الانعتاق كما في المثال، فإنّ أثر إعطاء البائع إيّاه بإزاء شيء هو انقطاع إضافته، وحيث لا يمكن دخوله في ملك المشتري، ينعتق عليه قهراً.

هذا كله مضافاً إلى أنّ مرجع الالتزام بالملك التقديري إلى القول بترتّب آثار البيع من دون حصول الملكيّة، نعم حيث أنّه يكون من جملة نصوص المسألة ما تضمّن أنّه إذا ملك الرجل عموديه انعتقا عليه، فهو ينافي ما دلَّ على أنّ الرجل لا يملك أحد عموديه.

والعلاج إنّما يكون بأحد النحوين:د.

ص: 382


1- صفحة 236 و مابعدها من هذا المجلّد.

1 - إمّا الالتزام بأنّ المراد بالأوّل المِلْك العقدي، ليكون قوله عليه السلام: «إذا ملكوا» بمنزلة إذا بيعوا.

2 - أو الالتزام بالملك الحقيقي غير المستقرّ، والمراد بالثاني الملك المستقرّ.

وعلى أي حال، لا وجه للالتزام بالملك التقديري.

وأمّا المقام الثاني: فالحقّ هو عدم انطباق ما ذكر في تلك المسألة على ما نحن فيه لو تمّ ، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: ما ذكره الشيخ رحمه الله(1) من حكومة دليل عدم جواز البيع والعتق إلّا في ملك، على عموم دليل السلطنة، فإنّ دليل السلطنة يدلّ على أنّ للمالك أن يُبيح التصرّفات المحرّمة من جهة عدم رضا مالكه، ولا يدلّ على أنّ له أن يبيح التصرّف الممنوع شرعاً لجهة أُخرى ، كما تقدّم تقريبه، وحيث أنّ دليل عدم الجواز ينفي مشروعيّة هذا التصرّف من جهة أُخري ، فلا محالة يكون رافعاً لموضوع دليل السلطنة.

الوجه الثاني: أنّه لو كان له إطلاقٌ لجميع التصرّفات، فيقع التعارض بين الدليلين، وحيث أنّ النسبة بينهما عموم من وجه، والترجيح مع ذلك الدليل، فيقدّم ولا وجه للجمع بالنحو المذكور.

ولكن الذي يهوّن الخَطب، ما تقدّم من عدم توقّف البيع والعتق على المِلْك، فلا معارض لدليل السلطنة.

أقول: وأمّا ما ذكر في مسألة بيع الواهب عبده الموهوب، أو عتقه، وادّعى انطباقه على ما نحن فيه، فمحصّله:

إنّه كما يلتزم في تلك المسألة بصيرورة العبد ملكاً للواهب قبل التصرّف7.

ص: 383


1- المكاسب: ج 3/87.

المتوقّف على المِلْك، فكذلك يلتزم به في المقام.

وأجاب الشيخ رحمه الله(1) عنه: بأنّه في تلك المسألة إنّما يلتزم به من جهة كشف التصرّف المتوقّف على الملك على قصد الرجوع قبله، وهذا يكفي في الرجوع والفسخ، ولكنّه لا ينطبق على ما نحن فيه، إذ في صيرورة شيء مِلْكاً لشخص يعتبر الإنشاء ولا يكفي مجرّد القصد.

أقول: ولكن يرد على ما ذكره رحمه الله في تلك المسألة أُمور:

الأمر الأوّل: إنّ لازم ذلك أن يكون قول الواهب والبائع بالخيار: (فسختُ ) إخباراً عن الرجوع لا إنشاءً له.

الأمر الثاني: إنّ الرجوع والفسخ من الإنشائيّات، لأنّهما يوجبان صيروة الشيء ملكاً له، ولابدّ فيهما من الإنشاء والإظهار، ولا يكفي مجرّد القصد.

الأمر الثالث: أنّ لازم هذا البيان، قصر الحكم على مور قصد الرجوع والفسخ، مع أنّ كلمات القوم مطلقة.

وبالجملة: فالحقّ أنْ يقال إنّه حيث لم يرد نصٌّ خاصٌ في تلك المسألة، فعلى القول بتوقّف البيع والعتق على المِلْك، لا مناص عن البناء على البطلان في تلك المسألة.

الإباحة بالعوض

الإشكال الثاني: الذي أورده الشيخ رحمه الله(2) على القسمين الأخيرين، هو الإشكال في صحّة الإباحة بالعوض الراجعة إلى عقدٍ مركّب من إباحة وتمليك.

وحاصله: أنّ هذا النحو من الإباحة المعوضة ليست معاوضة ماليّة، ليدخل كلّ

ص: 384


1- المكاسب: ج 3/88 و 89.
2- المكاسب: ج 3/88 و 89.

من العوضين في ملك مالك العوض الآخر، بل كلاهما ملك للمبيح، إلّاأنّ المباح له يستحقّ التصرّف، فيشكل الأمر فيه من جهة خروجه عن المعاوضات المعهودة شرعاً وعرفاً، مع التأمّل في صدق التجارة عليها... إلى آخر ما أفاده.

أقول: وهذا الإشكال أيضاً لا يختصّ بالمعاطاة، بل يعمّ ما إذا كانت الإباحة باللّفظ، فالكلام فيه أيضاً استطرادي، وكيف كان فتنقيح القول في هذا المقام يتحقّق بالبحث في موارد:

الأوّل: في حقيقة الإباحة بالعوض، وأنّها هل تكون بيعاً أو إجارةً؟ أم أنّها صلحٌ أو معاوضة مستقلّة ؟

الثاني: في الدليل على صحّتها ونفوذها.

الثالث: في أنّها لازمة أم جائزة.

أمّا المورد الأوّل: فلا خلاف ولا ريب في أنّها ليست تمليكاً للعين ولا للمنافع ولا للانتفاع.

أمّا الأوّلان: فواضح.

وأمّا الأخير: فلأنّ المبيح ليس مالكاً للانتفاع - الذي هو قائمٌ بالمباح له - ومن أفعاله فكيف يملّكه له ؟ وكذلك ليست إعطاء حقّ به، فإنّ جواز التصرّف من الأحكام التكليفيّة لا من الحقوق، ولذا ليس للمالك إسقاطه ولا نقله إلى غيره، بل هي إباحة تكليفيّة للتصرّفات ورفع للمنع عنها.

وعليه، فهي ليست إعطاء شيء للمباح له بإزاء شيء، فلا تكون بيعاً، ولا تكون نقلاً للمنافع، فلا تكون إجارة، وليست إنشاءً للتصالح والتسالم على أمر

ص: 385

- كما هو واضح - فلا تكون صلحاً.

ودعوى الشيخ رحمه الله(1): في توجيه كونها صُلحاً من أنّه عبارة عن التسالم على أمر ولا يعتبر فيه لفظ خاص، واستشهد لذلك بصحيحي محمّد بن مسلم ومنصور بن حازم عن السيّدين الصادقين عليهما السلام: «في رجلين كان لكلّ واحدٍ منهما طعامٌ عند صاحبه، ولا يدري كلّ واحد منهما كم له عند صاحبه، فقال كلّ واحدٍ منهما لصاحبه: لك ما عندك ولي ما عندي ؟ فقال عليه السلام لا بأس بذلك»(2). وهذا المعنى ينطبق على الإباحة المعوضة فهي صلح.

ممنوعة: لأنّ الصلح ليس هو التسالم على أمر، وإلّا لزم كون جميع المعاملات صلحاً، بل الصلح المقابل لسائر العقود عبارة عن مسالمة عقديّة وإنشاء للتسالم، ومن الواضح أنّ هذا لا ينطبق على المقام.

وأمّا الصحيحان: فليس فيهما ما يدلّ على أنّ تلك المعاملة التي نفي البأس عنها صلحاً، بل من الجائز أن تكون معاملة مستقلّة، فيتعيّن أن تكون معاملة مستقلّة.

وأمّا المورد الثاني: فقد استدلّ الشيخ رحمه الله(3) لصحّتها بعموم قوله صلى الله عليه و آله: «النّاس مسلّطون على أموالهم»(4).

وأُورد عليه (5) : بأنّ هذا ينافي ما ذكره رحمه الله في المعاطاة من أنّه لا يصحّ الاستدلال به على صحّتها.1.

ص: 386


1- المكاسب: ج 3/90.
2- وسائل الشيعة: ج 18/445 ب 5 من أبواب كتاب الصلح ح 1 رقم 24013، التهذيب: ج 6/206 ب 83 ح 1.
3- المكاسب: ج 3/90.
4- بحار الأنوار: ج 2/272.
5- راجع حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/61.

وفيه: إنّه في تلك المسألة بنى على عدم صحّة الاستدلال به نظراً إلى أنّ عمومه إنّما هو باعتبار أنواع السلطنة، وأنّه لو أحرز ثبوت سلطنة خاصّة كالبيع له، وشكّ في أنّه هل يحصل بمجرّد التعاطي أم لا، لم يكن مجالٌ للتمسّك بعمومه، وهذا الوجه لا يجري في المقام، بل مقتضى عمومه الأنواعي - الذي اعترف بأنّه له - صحّة هذه المعاملة الخاصّة التي هي نوع من الأنواع، وعليه فالحقّ تماميّة هذا الوجه.

وأمّا قوله عليه السلام: «المسلمون عند شروطهم»(1)، الذي استدلّ به الشيخ رحمه الله(2) في المقام، فقد تقدّم في المعاطاة ما فيه، وأنّه مختصٌّ بالشروط في ضمن العقود، ولا يشمل الشروط البدويّة.

أقول: ويشهد لصحّتها - مضافاً إلى دليل السلطنة -:

1 - السيرة العقلائيّة القائمة على الإباحة بالعوض المُسمّى - كما هو المتعارف في إجارة الدكاكين وما شابهها - فإنّ الشخص يستأجر الدكان من مالكه شهراً بمقدار معيّن، ثمّ يبنيان على أنّ كلّما بقي المستأجر يعطي الأُجرة بذلك المقدار، وكذلك الحال في التصرّف في الحمامات والأمكنة المعدّة لنزول المسافرين، ونحو ذلك، فكلّها من هذا القبيل. فتأمّل.

2 - ودليل التجارة.

ودعوي : عدم صدقها على الإباحة المعوّضة، من جهة أنّها عبارة عن التكسّب بالمال.

مندفعة: بمنع ذلك، بل هي عبارة عن التكسّب والاسترباح الشامل للمقام.

وعليه، فالحقّ أنّها صحيحة نافذة.0.

ص: 387


1- وسائل الشيعة: ج 18/16 ب 6 من أبواب الخيار ح 2 رقم 23041، الفقيه: ج 3/202 ح 3765.
2- المكاسب: ج 3/90.

وأمّا المورد الثالث: فيشهد للزومها قوله تعالى: (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (1).

وأُورد عليه: بأنّه يعارَض في طرف الإباحة بعموم(2) دليل السلطنة، إذ المفروض بقاء المال على ملكه.

وفيه: إنّ دليل السلطنة إنّما يدلّ على ثبوت السلطنة على المال، ولا يدلّ على السلطنة على العقد، والإباحة اللّازمة في المقام إنّما هي إباحة عقديّة لا إباحة مستندة إلى الإذن.

وإنْ شئت قلت: إنّه إذا كان العقد صادراً من المالك وباختياره - وبدليل السطنة بنينا على أنّ له ذلك - فلزوم العقد المزبور لا ينافي سلطنته على المال، كما لا ينافيها في مورد الإجارة، مع أنّ العين باقية على ملكه.

وبالجملة: كما أنّ الشرط في ضمن عقدٍ لازم يبيح مال أحد المتعاقدين للآخر، ويكون لازماً، وغير منافٍ لدليل السلطنة، كذلك الحال في المقام.

ولو تنزّلنا عن ذلك، وسَلّمنا التعارض، يكون دليل الوفاء (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3)مقدّماً، بناءً على ما هو الحقّ من الرجوع إلى المرجّحات إذا تعارض عامّان من وجه، حيث يكون الترجيح مع الآية الشريفة، فإنّه إذا كانت موافقة الكتاب من المرجّحات، كان الكتاب مقدّماً عند التعارض، هذا بناءً على ما هو الحقّ من أنّه إذا تعارض العام والمطلق لا يكون الأوّل مقدّماً.

وأمّا مع الالتزام بتقديم الأوّل، فتقديم الآية أظهر، لأنّ الجمع بالألف واللّام من ألفاظ العموم، كما أنّه لو قلنا بشمول أخبار العرض للمخالفة بالعموم من1.

ص: 388


1- سورة المائدة: الآية 1.
2- بحار الأنوار: ج 2/272.
3- سورة المائدة: الآية 1.

وجه، يكون تقدّم الآية الشريفة في غاية الوضوح.

ولو تنزّلنا عن ذلك أيضاً وسَلّمنا التساقط، يكون المرجع استصحاب بقاء الإباحة، أي الإباحة العقديّة دون الإباحة المستندة إلى الإذن، كي يقال إنّه لا سبيل إلى استصحابها لتقوّمها بالرضا المرتفع.

وبالجملة: الأظهر أنّها معاوضة مستقلّة صحيحة لازمة.

***

ص: 389

جريان المعاطاة في جميع العقود والإيقاعات

الأمر الخامس: يدور البحث في هذا الأمر عن حكم جريان المعاطاة في غير البيع من العقود وعدمه.

ملخَّص القول في المقام: إنّ صحّة المعاطاة في البيع:

إنْ كانت بدليل تعبّدي شرعي من الإجماع والسيرة، فلا كلام في عدم جريانها في غير البيع إلّاما قام الدليل الخاص على صحّته.

وإنْ كانت على القاعدة، من جهة صدق البيع عليها، فهي تجري في غيره من المعاملات، فإنّه في كلّ بابٍ يُتمسّك بعموم دليل ذلك الباب لصحّتها لو كان، وإلّا يكفي للحكم بالصحّة التمسّك بعموم قوله تعالي : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ولا إشكال في ذلك.

نعم، في بعض الموارد - كما في باب الطلاق - دلَّ (1) الدليل الخاص على أنّ الطلاق لا يصحّ إنشائه إلّابصيغة خاصّة، فلا تجري المعاطاة فيه لذلك، وأمّا سائر الموارد فلا مانع من جريان المعاطاة فيها.

أقول: ذكروا(2) في بيان المانع عن جريان المعاطاة في جملةٍ من العقود أُموراً:

منها: إنّ بعض المعاملات لا يكون الفعل فيه مصداقاً لعنوان تلك المعاملة، مثلاً إطلاق العبد وفكّه عن الخدمة، مع قصد العتق، لا ينطبق عليه عنوان العتق، وفي هذه المعاملات لا يصحّ الاستدلال بأدلّتها.

ص: 390


1- وسائل الشيعة: ج 22/37-43 ب 15 و 16 من أبواب مقدّمات الطلاق وشرائطه.
2- راجع حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/183 وما بعدها.

ومنها: ما إذا دلَّ الدليل في بابٍ على أنّه لازمٌ كالرهن، وحيث أنّ المعاطاة جائزة بالإجماع، فلا تجري فيه.

ومنها: أنّه في بعض الموارد يكون الفعل محرّماً شرعاً، كما في النكاح بالوطء، والنهي عن المعاملة يدلّ على الفساد.

أقول: ولنا عن هذه الوجوه جوابان: إجمالي وتفصيلي.

أمّا الجواب الإجمالي منها فمحصّله:

إنّه يرد على الوجه الأوّل: إنّا لا نتصوّر معاملة لا يكون فعلٌ فيها مصداقاً لتلك المعاملة بالمعنى المعقول، وهو كون الفعل مظهراً عرفاً للاعتبار النفساني، لا أقلّ من الأفعال التي يُفهم الأخرس مقاصده بها، مثلاً إذا سأل أحدٌ مالك العبد: هل تعتق عبدك ؟ فحرّك رأسه قاصداً به إنشاء العتق، يكون هذا الفعل - بضميمة القرينة الموجودة - مصداقاً لعنوان العتق بالمعنى المعقول، وهكذا في باب الوصيّة وغيرها.

مع أنّه قد عرفت أنّ عناوين المعاملات موضوعات لحقائقها، أي المسبّبات والاعتبارات النفسانيّة، والأسباب مبرزات لها لا أنّها من مصاديقها.

وبالجملة: المُظهِر سواءٌ أكان قولاً أو فعلاً، يكون خارجاً عن مسمّى المعاملة، فلا وجه للفرق بين الأفعال.

اللّهم إلّاأنْ يقال: إنّ بناء العقلاء على عدم ترتيب آثار المعاملة على الاعتبار النفساني المجرّد، وعدم ترتيبه على الاعتبار المُبرَز بما لا يكون له شأنيّة ذلك عندهم، كما لو مشى بقصد إنشاء الزوجيّة به، وعليه فالحقّ في الجواب ما تقدّم.

ويرد على الوجه الثاني: ما تقدّم من أنّ الأصل في المعاطاة هو اللّزوم.

ص: 391

ويرد على الوجه الثالث: ما تقدّم في أوّل بحث البيع من عدم دلالة النهي عن المعاملة على الفساد، لا سيّما إذا تعلّق بالأسباب.

وأمّا الجواب التفصيلي، فملخَّص القول: إنّ النكاح يعدّ من المعاملات التي وقع فيها النزاع، وقد استدلّ على عدم جريان المعاطاة فيه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1)، من أنّ الفعل فيه مصداق لضدّه، وهو الزنا والسفاح، فإنّ مقابل النكاح ليس إلّاالفعل المجرّد عن الإنشاء القولي، وعمّا جعله الشارع سبباً للحليّة.

وفيه أوّلاً: إنّ هذا الوجه مختصٌّ بإنشائه بالوطء، ولا يشمل إنشائه بفعل آخر كتمكين الزوجة وغيره، وهذا الجواب يجري في جميع الوجوه الآتية.

وثانياً: إنّ مورد الكلام ما إذا وطء بقصد إنشاء الزوجيّة، لا مجرّداً عن القصد، ومعه وإنْ كان سفاحاً وزناً لكنّه لا مانع من كونه مبرزاً للزوجيّة، وليست الزوجيّة والزنا متقابلتين ومتضادّتين، لأنّ الأولى من الاعتباريّات، والثاني من عناوين الفعل الخارجي، فلا مانع من مبرزيّته لها.

الوجه الثاني:(2) أنّ النكاح عقدٌ لازمٌ للنص والإجماع، والمعاطاة عقد جائزٌ بالإجماع.

وفيه: ما تقدّم من أنّ الأصل في المعاطاة هو اللّزوم، مع أنّه يمكن أنْ يقال إنّ الإجماع على جواز المعاطاة مختصٌّ بالمعاملة التي تجتمع الصحّة فيها مع الجواز، ولا يشمل ما لا تجتمع معه.1.

ص: 392


1- منية الطالب: ج 1/189.
2- بلغة الفقيه: ج 2/171.

وبعبارة أُخرى: المَجمعُ عليه عدم اللّزوم مع الصحّة، وأمّا عدم اللّزوم غير المجتمع معها، فلا يكون مشمولاً له.

مضافاً إلى أنّه يمكن أن يُجعل هذا بنفسه دليل اللّزوم فيه، فيقال إنّ المعاطاة تفيد أصل النكاح، وأمّا اللّزوم فهو ثابت بمقتضى الدليل الخاص الدالّ على أنّ كلّ نكاحٍ صحيح لازم.

الوجه الثالث:(1) إنّ لازم جريانها في النكاح حصر الزنا بصورة الإكراه، والزّنا بذاتِ البعل ونحوهما، وهذا كما ترى .

وفيه: إنّ الوطء مع الرضا تارةً يكون مع قصد الزوجيّة، وأُخرى بدونه، ومحلّ الكلام هو الأوّل، وأمّا الثاني فلا ريب في أنّه زنا وسفاح.

الوجه الرابع: (2) إنّ الوطء يحتاجُ إلى سببٍ محلّل، فلو كان سبباً لحليّة نفسه لزم اتّحاد السبب والمسبّب في مرتبة واحدة، مع امتناع تأثير الشيء في نفسه.

وفيه: إنّ أوّل الوطء الأوّل سببٌ للزوجيّة، وهي سببٌ لحليّة الوطء في الآنات المتأخّرة والوطء اللّاحق، فلا يلزم اتّحاد السبب والمسبّب.

الوجه الخامس: (1) إنّ السبب المبغوض لا يؤثّر، فالوطء المؤثّر في الزوجيّة مشروطٌ بالحليّة، والمفروض أنّها من مقتضيات الزوجيّة، فتتوقّف حليّة الوطء على تأثيره، ويتوقّف تأثيره على حليّته، وهذا دور واضح.

وفيه: ما تقدّم من أنّ النهي عن المعاملات - لا سيّما الأسباب منها - لا يدلّ على الفساد، مع أنّ ترتّب الحليّة على الزوجيّة، والزوجيّة على الوطء - الذي هو سببٌ 4.

ص: 393


1- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/184.

لها - إنّما يكون ترتّباً رتبيّاً، وأمّا في الزمان فالجميع في زمان واحد، فالوطء حين تحقّقه متّصفٌ بالجواز.

فتحصّل: أنّه لا مانع عقلاً ولا شرعاً عن جريان المعاطاة في النكاح، ولكن قام الإجماع على عدم الجريان، وهو المستند لو كان، بشرط أن يكون تعبّديّاً لا مستنداً إلى الوجوه المتقدّمة.

ومنها: الرهن.

فقد أشكل في جريان المعاطاة فيه بوجهين:

أحدهما(1): إنّ المعاطاة ثبت جوازها بالإجماع، والجواز غير متصوّر في الرهن، لأنّه ينافي الوثوق الذي به قوام مفهوم الرهن، وإنْ جعلناها مفيدة للّزوم، كان مخالفاً للإجماع.

والجواب عنه: ما ذكرناه في النكاح جواباً عن الوجه الثاني. فراجع(2).

ثانيهما(3): إنّ القبض شرطٌ في باب الرهن، والعقد مقتض، فيلزم من إنشاء الرهن بالقبض، اتّحاد المقتضي مع الشرط وهو محالٌ كما حُقّق في محلّه(4).

وأُجيب عنه: بأنّ الشرط هو القبض، والمقتضى هو الإقباض، لأنّ به ينشأ الرهن، فلا يلزم الاتّحاد المزبور.

وفيه: إنّ المقتضى هو الإقباض والقبض معاً، لأنّ الرهن من العقود ومتقوّمٌ بالإيجاب والقبول، فالقبض جزءُ المقتضي، فيلزم الاتّحاد، فالحقّ في الجواب عنه أنْ يقال:8.

ص: 394


1- راجع حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/187.
2- صفحة 392 من هذا المجلّد.
3- راجع مصباح الفقاهة: ج 2/232.
4- فقه الصادق: ج 29/318.

- مضافاً إلى ما تقدّم من عدم انحصار الفعل الذي ينشأ به الرهن بالقبض - إنّه ليس في النصوص ما يدلّ على كون القبض شرطاً في الرهن، بل هذا اصطلاحٌ من الفقهاء، والموجود فى النصوص اعتبار القبض فيه، الملائم ذلك مع كونه بنحو الاقتضاء، مع أنّ الأفعال الخارجيّة لا تكون مؤثّرة في باب التشريعيّات والاعتباريّات حتّى يكون شيءٌ مقتضياً والآخر شرطاً، بل إنّما هي موضوعات للمجعولات الشرعيّة، وتكون موضوعيّتها بتبع جعل الشارع. وتمام الكلام في محلّه.

ومنها: الوقف.

أقول: أُورد على القول بجريان المعاطاة فيه بوجهين:

الوجه الأوّل: ما في «المكاسب»(1) من أنّ القول باللّزوم فيه منافٍ لما اشتهر بينهم من توقّف اللّزوم على اللّفظ، والجواز غير معروف في الوقف من الشارع.

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم في سابقيه - أنّه لا مانع من جواز الوقف، ولم يدلّ دليلٌ على عدم اجتماع الوقف مع الجواز، بل الوقف قبل القبض جائزٌ.

اللّهم إلّاأنْ يقال: إنّ القبض جزء المؤثّر، فقبله لا يكون المؤثّر تامّاً كي يكون لازماً أو جائزاً، وقد ورد عنهم عليهم السلام: «ما كان للّه فلا رجعة فيه»، وظاهر ذلك أنّ ما كان للّه لا يلائمه الرجوع، ومثل هذه الحقيقة غير قابلة للتخصيص.

وكيف كان، ففي الجواب الأوّل غنىً وكفاية.

الوجه الثاني: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(2)، وهو مختصٌّ ببعض أقسام الوقف، وحاصله:9.

ص: 395


1- المكاسب: ج 3/94.
2- منية الطالب: ج 1/189.

إنّ بعض أقسامه - كالوقف الخاص، أو لمصرفٍ خاصّ كالوقف لإقامة العزاء لسيّد الشهداء سلام اللّه عليه - من جهة عدم كون فعل مصداقاً له لا تجري فيه المعاطاة.

وفيه: ما عرفت من عدم تصوّر عقدٍ أو إيقاع لا يكون فعلٌ مبرزاً له، فراجع(1).

ومنها: القرض.

أقول: الكلام فيه إشكالاً وجواباً ما سبق في الرهن، فراجع(2).

فتحصّل: أنّ الأظهر جريان المعاطاة في جميع العقود والإيقاعات، سوى ما دلَّ الدليل الخاص على اعتبار اللّفظ فيه كالنكاح أو لفظ خاص فيه كالطلاق والتحليل.

***د.

ص: 396


1- صفحة 391 من هذا المجلّد.
2- صفحة 394 من هذا المجلّد.

مُلزِمات المعاطاة

الأمر السادس: ويدور البحث فيه عن ملزمات المعاطاة على كلٍّ من القول بالمِلْك، والقول بالإباحة.

أقول: ينبغي بدواً ملاحظة المبنى :

فإن بنينا على لزوم المعاطاة، كما هو الحقّ ومرّ تفصيله، يسقط هذا الأمر ولا مورد له.

وإن بنينا على جوازها:

فحيث أنّه في بعض الموارد الجواز متيقّنٌ ، كما في صورة بقاء العينين، وعدم تحقّق شيء من الملزمات.

وفي بعض الموارد اللّزوم متيقّنٌ كصورة تلف العينين كما ستقف عليه.

وفي بعض الموارد يُشكّ في اللّزوم والجواز، كصورة بقاء إحدى العينين أو الامتزاج أو نحو ذلك.

ولذلك ينبغي أوّلاً تأسيس الأصل في المقام، كي يرجع إليه عند الشكّ وعدم الدليل على اللّزوم أو الجواز.

قال الشيخ رحمه الله: إنّ الأصل هو اللّزوم على القول بالملك(1)، واستند في ذلك إلى الوجوه الثمانية المتقدّمة(2) من العمومات واستصحاب بقاء الملكيّة.

وأُورد عليه تارةً : بتمسّكه بالعمومات مثل (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) .

ص: 397


1- المكاسب: ج 3/96.
2- المكاسب: ج 3/51-56.

وأُخرى : بتمسّكه بالاستصحاب.

أمّا الأوّل: فأورد السيّد الفقيه في حاشيته(1)، والمحقّق الاصفهاني رحمه الله(2)وغيرهما(3) عليه: بأنّ التمسّك بها ينافي ما بنى عليه في كتبه فقهاً واُصولاً من أنّه إذا ورد عامٌ ولم يكن له عموم أزماني، بل كان عمومه إفراديّاً، وكان ثبوت حكم كلّ فردٍ في جميع الازمنة بالإطلاق، كما إذا أورد: (أكرم كلّ عالم)، حيث أنّ عمومه إفرادي، ويستفاد من الإطلاق بقاء حكم كلّ فرد في عموم الزمان، ثمّ خُصّص العموم الإفرادي وخَرج فردٌ من العام عن تحته في زمانٍ وشُكّ في الحكم بعد ذلك الزمان، كما إذا ورد: (لا تُكرم زيداً في يوم الجمعة) وشكّ يوم السبت في وجوب اكرامه وعدمه، فإنّه في هذه الحالة لا يصحّ التمسّك بعموم العام، بل يكون مورداً لجريان استصحاب حكم المخصّص، فإنّ عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وغيره من العمومات إفرادي، والزمان فيها إنّما يكون ظرفاً لاستمرار الحكم كما صرّح بذلك في خيار الغبن، وعليه فلا بدَّ من البناء على جريان استصحاب الحكم الخاص، بعد كونها مخصّصة بالإجماع على الجواز حين الانعقاد، كما هو المفروض، لا التمسّك بالعمومات.

وفيه: إنّ الجواز الثابت بالإجماع، لو كان هو الجواز من كلّ وجهٍ ، كان الإيراد تامّاً، ولكن الجواز الثابت إنّما هو الجواز الخاصّ ، وهو الجواز المتعلّق بتراد العينين، وأمّا الجواز من وجهٍ آخر فهو مشكوك فيه من أوّل الأمر، وهذا لا يمنع عن التمسّك بعموم العام، مثلاً إذا علم جواز البيع من جهة شرط رَدّ الثمن، وشكّ في جوازه من0.

ص: 398


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/81.
2- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/193.
3- حاشية المكاسب للآخوند: ص 120.

الجهات الاُخرى جاز له التمسّك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) والحكم بلزومه من تلك الجهات من أوّل الأمر، لأنّ هذا في الحقيقة لا يعدّ تمسّكاً بعموم العام بعد ذلك الزمان، بل تمسّكٌ به من أوّل الأمر بلحاظ الجهات الاُخرى .

وبالجملة: حيث أنّ الجواز الثابت بالإجماع هو جواز ترادّ العينين دون فسخ المعاملة مطلقاً، ومن كلّ وجهٍ ، فالشكّ في اللّزوم بعد امتناع التراد، شكٌّ في اللّزوم من جهة أُخرى ، ومورد للتمسّك بعموم العام حتّى على مسلكه قدس سره.

نعم، بناءً على مسلك من يرى جواز المعاطاة من كلّ وجهٍ ، بلحاظ توقّف اللّزوم على اللّفظ، فإنّه لا يصحّ التمسّك بعموم العام لما ذكر، وقد صرّح بهذا الشيخ رحمه الله(1) بعد أسطر، حيث قال:

(ولم يثبت قبل التلف جواز المعاملة على نحو جواز البيع الخياري حتّى يُستصحب بعد التلف... إلى آخره)، وسيأتي تمام الكلام في ذلك.

هذا بناءً على ما بنى عليه في كتبه اُصولاً وفقهاً.

وأمّا بناءً على ما حقّقناه من أنّ المرجع عموم العام مطلقاً فإنّ الأمر أسهل ممّا ذكر.

وأمّا الثاني: فقد أورد المحقّق الاصفهاني رحمه الله(2) على استصحاب بقاء الملكيّة بأنّه محكومٌ لاستصحاب الجواز الثابت أصله بالإجماع، فإنّ معنى الحكم بجواز المعاطاة، هو الحكم بزوال المِلك بالرجوع، فالتعبّد به تعبّدٌ بعدم الملك عند الرجوع، فلا يبقى شكٌّ في زوال الملك حتّى يستصحب، ومن الواضح أنّ ترتّب زوال الملك8.

ص: 399


1- المكاسب: ج 3/97.
2- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/197-198.

على الرجوع شرعي.

والسيّد قدس سره(1) وإن أورد عليه بهذا الإيراد، إلّاأنّه أشكل على هذا الأصل بأنّه لا يجري عند الشيخ، لكونه من الشكّ في المقتضي.

أقول: إشكال السيّد قدس سره وإنْ كان في غير محلّه - من جهة أنّ الشكّ في المقتضي، هو الشكّ في بقاء المستصحب في عمود الزمان، لا الشكّ في مقدار استعداده بالنسبة إلى الزمانيّات، كما حُقّق في محلّه - إلّاأنّ أصل الإيراد غير موجّهٍ ، وذلك لعدم جريان استصحاب الجواز من جهة أنّ موضوعه التراد، فبعد امتناعه وارتفاع الموضوع لا مورد لاستصحاب الحكم.

فتحصّل: أنّ ما أفاده الشيخ رحمه الله على القول بالملك تامٌّ لا غبار عليه.

وأمّا على القول بالإباحة:

قال الشيخ رحمه الله(2): إنّ الأصل عدم اللّزوم، واستدلّ له بوجهين:

الوجه الأوّل: أصالة بقاء سلطنة المالك الثابتة قبل المعاطاة، الحاكمة على أصالة بقاء الإباحة، الثابتة قبل رجوع المالك لو سُلّم جريانها.

الوجه الثاني: قاعدة سلطنة النّاس على أموالهم.

أقول: وأُورد على الوجه الثاني بإيرادين:

الإيراد الأوّل: ماعن المحقّق النائيني رحمه الله(3) من أنّ ما ذكره الشيخ رحمه الله في المقام ينافي ما اختاره في الأمر الرابع في الإباحة بالعوض، من أنّ الأقوى اللّزوم لعموم2.

ص: 400


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/81.
2- المكاسب: ج 3/98.
3- منية الطالب: ج 1/192.

قوله صلى الله عليه و آله: «المسلمون عند شروطهم»(1).

وفيه: إنّه فرق بين المقامين، فإنّه في ذلك المقام الإباحة عقديّة مالكيّة، وحاصلة بالتزام المالك نفسه، وأمّا الإباحة في المقام فهي إباحة تعبديّة شرعيّة غير عقديّة، وثابتة بخلاف مقتضى العقد، ولذلك لا مجال لجريان ذلك الوجه في المقام.

الإيراد الثاني: ما أورده المحقّق الايرواني(2)، من أنّ الإباحة الثابتة في مورد المعاطاة المقصود بها الملك، بما أنّها إباحة تعبديّة شرعيّة، تكون ثابتة على خلاف سلطنة المالك، لثبوتها في موضوع عدم رضا المالك بالتصرّف، فدليل السلطنة وقاعدتها لا تنهضان لإثبات سلطنة المالك على رفع الإباحة الشرعيّة، لعدم صلاحيّتها لإثبات سلطنة المالك على تغيير الأحكام الشرعيّة.

وفيه: إنّ غاية ما ثبت بالدليل على خلاف السلطنة إنّما هو جواز تصرّف المباح له في مال الغير من دون رضاه، وأمّا أنّه هل يباح له حتّى مع منع المالك أم لا، فلا يستفاد ذلك من هذا الدليل، فالمرجع فيه إلى عموم دليل السلطنة، إذ لا بدَّ من التمسّك بالعام عند الشكّ في التخصيص الزائد.

وإنْ شئت قلت: إنّ دليل السلطنة قد خُصّص بما دلَّ على جواز التصرّف مع عدم رضاه، وأمّا أنّه إذا منع عن التصرّف هل يجوز ذلك أم لا، فالدليل المُخصّص غير شامل له، فلابدّ من الرجوع إلى العام.

فتحصّل: أنّ ما ذكره الشيخ رحمه الله على القول بالإباحة تامّ .1.

ص: 401


1- وسائل الشيعة: ج 18/16 ب 6 من أبواب الخيار ح 2 رقم 23041، الفقيه: ج 3/202 ح 3765.
2- راجع حاشية كتاب المكاسب للايرواني: ج 2/80-81.

هذا بناءً على القول بالإباحة الشرعيّة.

وأمّا على القول بالإباحة المالكيّة - من جهة الرضا الضمني - فالأمر أوضح كما لا يخفى .

***

ص: 402

من الملزمات تلف العينين

أقول: بعد وضوح الحكم في الأمر السابق، ينبغي البحث عمّا قيل إنّ هناك أُموراً توجب لزوم المعاطاة:

أحدها: تلف العوضين.

أقول: بعد ما لا كلام على الظاهر من قيام الإجماع(1) على أنّ تلف العينين من الملزمات، على القول بجواز المعاطاة، فقد تصدّى الشيخ قدس سره(2) لبيان وجه اللّزوم على القولين، أي القول بالملك والقول بالإباحة.

واستدلّ له على الأوّل(3): بأصالة اللّزوم، بدعوى أنّ المتيقّن من مخالفتها جواز تراد العينين، وحيثُ ارتفع مورد التراد امتنع، وليس هذا الجواز نظير الجواز في البيع الخياري كي يُستصحب بعد التلف، لأنّ ذلك الجواز من عوارض العقد، وهذا الجواز من عوارض العوضين.

وأُورد عليه: بإيرادات عمدتها إيرادان:

الإيراد الأوّل:(4) أنّ المراد بتراد العينين: التراد في الملكيّة، أي رَدّ الربط الملكي القائم بالعين، وهذا لا يمكن مع بقاء العقد، بعد عدم كون الفسخ والرجوع معاملة جديدة، فمتعلّق الجواز دائماً هو العقد، فلا فرق بين الموردين.

ص: 403


1- السرائر: ج 2/250، الحدائق الناضرة: ج 18/362، شرح القواعد (مخطوط): ص 50.
2- المكاسب: ج 3/97.
3- المكاسب: ج 3/96-97.
4- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/220.

الإيراد الثاني: ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(1)، من أنّ متعلّق التراد ملكيّة العينين لا أنفسهما، والملكيّة كما يصحّ انتزاعها من الموجود، كذلك يصحّ انتزاعها من التالف، فإنّها من الاعتباريّات، وهي ممّا لا يتوقّف على موضوع موجود، وعليه فالموضوع وإنْ كان هو العينين إلّاأنّه يمكن التراد بعد التلف أيضاً.

أقول: والذي يخطر بالبال في توضيح كلام الشيخ رحمه الله بنحوٍ يندفع هذان الإيرادان، وسائر ما أُورد عليه، هو:

أنّ المراد من التعلّق بالعقد، هو التعلّق به من كلّ وجه، والمراد بالتعلّق بالعين فسخ العقد من جهة خاصّة، وهي تراد العينين خاصّة كما تقدّم، وعلى ذلك فإذا كان جواز المعاطاة هو الجواز بالمعنى الثاني، فلا محالة يكون مرتفعاً بعد تلف العينين، والمفروض لزوم المعاملة من الجهات الاُخر، فلا مورد للرجوع، وعلى هذا فما أفاده الشيخ رحمه الله في غاية المتانة.

وبهذا يظهر تماميّة ما ذكره الشيخ رحمه الله في ما لو شكّ في أنّ متعلّق الجواز هل هو أصل المعاملة، أو الرجوع في العين، أو تراد العينين من أنّ المتيقّن تعلّقه بالتراد، إذ لا دليل في مقابل أصالة اللّزوم على ثبوت أزيد من جواز تراد العينين، الذي لايتحقّق إلّا مع بقائهما، فإنّ الترديد حينئذٍ من قبيل الترديد بين الإطلاق والتقييد، لا من قبيل الترديد بين المتباينين، بحيث يكون موضوع أحدهما قابلاً للبقاء دون الآخر.

واستدلّ له قدس سره(2) على القول بالإباحة: بأنّ تلفه من مال مالكه، ولم يحصل ما يوجب ضمان كلّ منهما صاحبه، لأنّ ما يتوهم كونه سبباً للضمان، هي قاعدة الضمان6.

ص: 404


1- حاشية المكاسب للآخوند: ص 22.
2- المكاسب: ج 3/96.

باليد، وهي لا تجري في المقام، لأنّ هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان.

وفيه: إنّ ما ذكره في المقام ينافي ما ذكره(1) في جواب استبعاد الشيخ الكبير رحمه الله من كون التلف من الجانبين مُعيناً للمسمّى من الطرفين، بما حاصله أنّ الجمع بين الأدلّة يقتضي الالتزام بدخول التالف في ملك من تلف في يده قبل التلف آناً مّا، ووجّهناه بأنّ المؤثّر في المِلك هو المعاطاة، وأمّا التلف أو إرادة التصرّف المتوقّفان على الملك من تمام السبب المملّك كالقبض في الصَّرف والسَّلم، وعلى ذلك فيجري على هذا القول أيضاً ما ذكرناه على القول الآخر، بل اللّزوم هنا أولى، لعدم جريان استصحاب الجواز من وجهٍ آخر غير ما ذكرناه، مضافاً إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام مطلقاً، وهو أنّ الجواز الثابت سابقاً هو الجواز لا في ملك، وما يكون مشكوكاً فيه لاحقاً هو الجواز في المِلْك. فتأمّل.

فتحصّل: أنّ الأظهر كون تلف العينين يعدّ من الملزمات في المعاطاة.

تلف إحدى العينين

أقول: وممّا ذكرناه يُعلم حكم ما لو تلف إحدى العينين أو بعضها على القول بالملك، إذ لا فرق بينه وبين تلف العينين أصلاً كما هو واضح.

وأمّا على القول بالإباحة: فقد نَقل الشيخ رحمه الله(2) عن بعض معاصريه(1) تبعاً للمسالك(2) أنّه ليس بملزم، واستوجه بعض مشايخه(3) أصالة عدم اللّزوم،

ص: 405


1- المناهل: ص 269.
2- مسالك الأفهام: ج 3/149.
3- مستند الشيعة: ج 14/262.

بجريان استصحاب بقاء مِلْك مالك العين الموجودة وسلطنته عليها، إذ وإنْ كان يحتمل زوال ملكه، ومعه لا مورد للتمسّك بدليل السلطنة، إلّاأنّه يُستصحب ملكه لها وسلطنته عليها، ممّا يقتضيان الجواز وعدم اللّزوم.

وبه يظهر اندفاع ما أورده السيّد الفقيه رحمه الله(1)، وغيره(2) بقولهم: (لا مجال لاستصحاب السلطنة مع وجود قاعدتها، فلا معارض للبراءة، إذ الدليل لا يُعارض الأصل).

وأورد هو(3) قدس سره على القوم: بأنّه يعارض مع أصالة براءة ذمّته عن مثل التالف عنده أو قيمته، للقطع بعدم مجانيّة التلف، أو للإجماع على التلازم بين جواز رجوع مالك العين الباقية، وجواز رجوع مالك العين التالفة ببدلها.

لا يقال: إنّ مقتضى عموم قاعدة (على اليد)(4) الضمان، فلايجري الأصل المزبور.

فإنّه يقال: إنّ هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان، وكذا بعده، إذا لم يرجع مالك العين الموجودة، إنّما الكلام في ضمانه إذا رجع، وقاعدة اليد لا تصلح لإثبات الضمان في هذا المورد لوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ مقتضى هذه القاعدة الضمان المطلق دون الضمان المشروط.

وبعبارة أُخرى : مقتضاها العلّية التامّة للضمان لا الناقصة، أي كون اليد جزء العلّة، وجزئها الآخر رجوع مالك العين الموجودة.0.

ص: 406


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/82.
2- ظاهر كتاب المكاسب والبيع: ج 1/235.
3- المكاسب: ج 3/98.
4- سنن البيهقي: ج 6/90.

الوجه الثاني: أنّ المال المأخوذ بما أنّه خرج عن تحت عموم على اليد في زمان، وهو قبل التلف، وبعده قبل الرجوع، فلا يرجع إليه بعد الرجوع، لأنّ المورد من موارد الرجوع إلى استصحاب الحكم الخاص، لا إلى عموم العام، لعدم كون الزمان مفرّداً للعام.

أقول: ثمّ إنّه قدس سره حاول توجيه كلام الأساطين، فأورد على نفسه بأُمورٍ ثلاثة(1):

الأمر الأوّل: إنّ أصالة بقاء السلطنة حاكمة على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة، إذ الشكّ في الضمان ناشٍ عن الشكّ في بقاء السلطنة، إذ لو كانت باقية ورجع لا محالة يكون ضامناً بالمثل أو القيمة.

الأمر الثاني: إنّ الضمان المطلق معلوم الثبوت، والشكّ إنّما هو في أنّ البدل هل هو البدل الحقيقي - أي المثل أو القيمة - أو البدل الجعلي - أعني العين الموجودة - فلايجري الأصل في شيء منهما للتعارض بعد العلم الإجمالي بثبوت أحدهما.

الأمر الثالث: إنّ عموم قوله صلى الله عليه و آله: «النّاس مسلّطون على أموالهم»(1) يدلّ على سلطنة مالك العين التالفة أيضاً عليها، بأخذ بدلها وهو المثل أو القيمة، ومع وجود الدليل الاجتهادي لا مورد لأصل البراءة.

أقول: وفيما ذكره رحمه الله مواقع للنظر:

الأوّل: تسليمه لجريان أصالة بقاء السلطنة، ينافي ما تقدّم منّا ومنه(3) من أنّه على القول بالإباحة، لابدّ من البناء على أنّ التالف قبل تلفه آناً مّا يصبح مِلْكاً لمن هو تحت يده، وكذلك العين الموجودة تصبح ملكاً للآخر، فإذا ملك كلّ منهما2.

ص: 407


1- بحار الأنوار: ج 2/272.

مال الآخر، فحكم المقام على هذا القول بعينه حكمه على القول بالملك، بلا تلف أصلاً، ولا مورد لجريان أصالة السلطنة لخروج المال عن ملكه، وزوال السلطنة الثابتة قطعاً.

الثاني: ما ذكره رحمه الله(1) من حكومة أصالة السلطنة على أصالة البراءة، حيث يرد عليه أنّ لازم بقاء السلطنة ونفوذ الرجوع، وإنْ كان ضمان بدل التالف لما تقدّم، إلّا أنّ الثاني ليس أثراً شرعيّاً للأوّل كي يترتّب على استصحابه.

الثالث: ما ذكره رحمه الله(2) من عدم جريان أصالة البراءة في نفسها للعلم الإجمالي، حيث يرد عليه أنّ هذا العلم منحلّ لجريان استصحاب بقاء ضمان المسمّى الثابت قبل التلف، فإنّه على هذا تجري أصالة البراءة من ضمان المثل أو القيمة بلا معارض.

الرابع: ما أفاده(3) قدس سره من أنّ دليل السلطنة يدلّ على السلطنة على المال التالف بأخذ بدله، حيث يرد عليه أنّ هذا خلاف ظاهر دليل السلطنة الذي موضوعه (أموالهم)، حيث لا تشمل الأموال المعدومة التالفة.

فتحصّل: أنّ تلف إحدى العينين يعدّ من الملزمات مطلقاً.

***8.

ص: 408


1- المكاسب: ج 3/98.
2- المكاسب: ج 3/98.
3- المكاسب: ج 3/98.

إذا كان أحد العوضين ديناً في الذمّة

ثانيها: ما ذكره جماعة(1) فيما لو كان أحد العوضين ديناً في ذمّة أحد المتعاطين.

ربما يقال: إنّه لو قلنا بأنّ تلف إحدى العينين ليس من الملزمات، لا مورد لهذا البحث، لأنّ غاية ما في المقام سقوط ما في الذمّة، وهو بمنزلة التلف.

ولكن يمكن أنْ يقال: إنّه إذا كان أحد العوضين ديناً، والآخر ممّا يخرج عن ملك من انتقل إليه، كما إذا اشترى أحد عموديه، أو كان العوضان ديناً، لا يلغو هذا البحث.

وكيف كان، فلو كان أحد العوضين ديناً، فالكلام يقع:

تارةً : بناءً على القول بالملك.

وأُخرى : بناءً على القول بالإباحة.

أمّا على الأوّل: فقد استظهر الشيخ رحمه الله(2) كونه في حكم التلف، معلّلاً بأنّ الساقط لا يعود، ثمّ احتمل العود واستضعفه.

وفيه: إنّه بعد سقوط ما في الذمّة، لابدَّ من البناء على اللّزوم على القول بأنّ تلف إحدى العينين من الملزمات - عاد الساقط أم لم يعد - وإنْ كان ما ذكره من أنّ الساقط لا يعود متينٌ ، فإنّه إنْ عاد ليس هو شخص الذمّة الساقطة على الفرض، لأنّها تتشخّص بتشخّص أطرافها، فمع سقوط ما في الذمّة يصبح ذلك الشخص منعدماً، وإعادة المعدوم محال.

ص: 409


1- المكاسب: ج 3/98، منية الطالب: ج 1/203، مصباح الفقاهة: ج 2/247.
2- المكاسب: ج 3/98-99.

والوجه في ملزميّته - على كلّ تقدير - هو أنّ حقّ الرجوع يكون قد انتفى بالسقوط، ورجوع الذمّة مشغولة باشتغال جديدٍ، وهو لا يصحّح تعلّق الحقّ به ثانياً، إذ بعد سقوطه فإنّ عوده يحتاج إلى دليل، وإنْ أُريد أنّ إرجاعها مشغولة بالفسخ فالأمر أوضح، إذ لابدَّ وأن يكون متعلّق الحقّ ثابتاً قبل الفسخ كي يتعلّق الحقّ به، فيفسخ ويأخذ بحقّه.

وأمّا على القول بالإباحة: ففي «المكاسب»(1): (والظاهر أنّ الحكم كذلك على القول بالإباحة).

أقول: وهذه العبارة يحتمل فيها وجهان:

أحدهما: إنّ الحكم هو اللّزوم، كما هو كذلك على القول بالملك، وهذا هو الذي فهمه السيّد رحمه الله(2) من العبارة.

ثانيهما: إنّ جعل الدين عوضاً على القول بالإباحة، يوجبُ سقوط ما في الذمّة، كما هو كذلك على القول بالمِلك، إذ لا معنى لإباحة ما في الذمّة سوى سقوطه والابراء عنه، أمّا الحكم باللّزوم - بناءً على عدم اللّزوم على القول بالإباحة لو تلفت إحدى العينين - فلا أرى له وجهاً، إذ غاية ما في الباب سقوط ما في الذمّة، وهو في حكم التلف.

ولكن السقوط يرد عليه أوّلاً: إنّه لو سُلّم عدم معنى معقول لا باحة ما في الذمّة، لزم البناء على بطلان المعاملة لا الحكم بسقوط ما في الذمّة.1.

ص: 410


1- المكاسب: ج 3/99.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/81.

وثانياً: إنّ إباحة ما في الذمّة أمرٌ معقول، لإمكان نقل ما يملكه الغير في ذمّته بإذنه ورضاه.

نعم، لو كانت الإباحة الثابتة في المعاطاة إباحة تكليفيّة خاصّة، لما كان يتصوّر لها معنى معقول في المقام، ولكنّه بمراحل عن الواقع.

أقول: وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1) من عدم معقوليّة تسلّط الإنسان على ما في ذمّته، فغريبٌ ، لأنّ الإنسان لا يملك ما في ذمّته، ولا مانع من تسلّطه عليه بنقله وغيره.

فتحصّل: أنّه على القول بالإباحة، لا تصبح المعاملة لازمة، بخلافه على القول بالمِلْك.

***4.

ص: 411


1- منية الطالب: ج 1/204.

نقل العين بالعقد اللّازم

الثالث: من الملزمات التي ذكرها الشيخ رحمه الله(1) ما لو نُقل العينان أو إحداهما بعقدٍ لازم.

أقول: والحقّ كونه من الملزمات على القولين:

إمّا على القول بالملك: فلخروجه عن ملكه، والمفروض أنّ الجواز إنّما ثبت بدليل لبّي، والمتيقّن منه ما إذا بقيت العين على صفة الملكيّة لمن انتقلت إليه، مع أنّه إذا كان الناقل من العقود اللّازمة، امتنع التراد، ومعه لا معنى لفسخ المعاملة، لما تقدّم من أنّ الجواز الثابت في المعاطاة إنّما هو جواز التراد.

وأمّا على القول بالإباحة: فكذلك إنْ كان النقل بالتصرّف المتوقّف على الملك، وكذا إنْ كان بغيره لامتناع التراد، فلا معنى لبقاء الجواز.

فرع: لو عادت العين بفسخٍ ، ففي جواز التراد وعدمه وجهان:

اختار الشيخ الأعظم(2) الجواز، بعد احتماله وجهين على القول بالملك، ووجوهاً على القول بالإباحة.

ومحصّل ما ذكره رحمه الله في المقام: إنّه على القول بالمِلْك:

1 - يحتمل جواز التراد إذا عادت العين بالتفاسخ والإقالة، لاستصحاب الجواز الذي موضوعه ما يملكه المتعاطيان، وهو محفوظٌ قبل التلف وبعد الفسخ، فلا مانع من استصحابه بعد احتمال أن يكون تخلّل النقل رافعاً للحكم عن موضوعه عند ثبوته.

ص: 412


1- المكاسب: ج 3/99.
2- المكاسب: ج 3/99.

أقول: وبهذا البيان يندفع ما أورده السيّد رحمه الله(1) بأنّ المفروض سقوط الجواز بنقل العين، فبعد العود الأصل بقائه على السقوط، إذ بعد النقل إلى الغير لا قطع بزوال الجواز، بل لو كان موضوعه ما يملكه المتعاطيان، لا مانع من بقاء الجواز على تقدير التمكّن منه.

2 - ويحتمل عدم الجواز، من جهة أنّ دليل جواز التراد إنّما هو دليلٌ لبّي، فيمكن أن يكون موضوعه ما يملكه المتعاطيان قبل النقل، فلا يجري الاستصحاب، لعدم إحراز الموضوع بنحوٍ يمكن إبقاء حكمه، وحيث أنّ المتيقّن ذلك - أي كون الموضوع ما يملكه المتعاطيان قبل النقل - فلابدّ في غير ذلك من الرجوع إلى أصالة اللّزوم.

أقول: وبما ذكرناه ظهر اندفاع ما أورده السيّد رحمه الله(2) عليه من أنّ المستَصحب معلومُ الزوال لا أنّ الموضوع غير محرز، فإنّ المُحرَز زوال القدر المتيقّن لا المستصحب.

وأمّا على القول بالإباحة: فاحتمل فيه وجوهاً:

الوجه الأوّل (3) : أن يكون التصرّف الناقل كاشفاً عن سبق الملك آناً مّا، فبالتفاسخ يرجع المباح له إلى ملك الثاني، ولا دليل على زواله، بل الحكم هنا أولى ، لأنّه لم يتحقّق هنا جواز تراد الملك، فإنّ الثابت في السابق سلطنة الشخص على ملكه، لا جواز رَدّ ملك الغير، فلا مورد للاستصحاب.

الوجه الثاني (4) : ما ذكره بقوله: (نعم لو قلنا بأنّ الكاشف... إلى آخره).

والظاهر أنّ مراده كون العقد علّة لحصول الملك للبائع، وخروجه عن ملكه،9.

ص: 413


1- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/82.
2- حاشية المكاسب لليزدي: ج 1/82.
3- المكاسب: ج 3/99.
4- المكاسب: ج 3/99.

فتكون ملكيّة المباح له باقتضاء العقد، فإذا ارتفع العقد، فإنّه كما يرتفع معلوله الآخر، كذلك يرتفع هذا المعلول، فيدخل في مِلْك المبيح بالفسخ، فيكون مقتضى قاعدة السلطنة جواز التراد.

الوجه الثالث(1): عدم كشف التصرّف عن سبق الملك، ولا كونه علّة، بل المال يخرج من ملك المبيح، ويدخل في ملك المشتري، وعلى هذا فمن خلال الفسخ يرجع إلى ملك المبيح، فمقتضى قاعدة السلطنة جواز التراد.

ثمّ استضعف الوجهين الأخيرين واختار الأوّل.

أقول: ويرد عليه قدس سره أُمور:

الأمر الأوّل: الظاهر كون تخصيصه مورد البحث بالتفاسخ من جهة وضوح أنّه لو عادت العين بسبب مملّك جديد، لا مورد للتراد، من جهة أنّ به يحصل الملك الجديد، فلا يتوهّم معه عود الحقّ ، مع أنّه لا فرق بين السبب الجديد والفسخ، فإنّ الحاصل بالفسخ أيضاً ملك جديد لعدم معقوليّة عود عين الملك الزائل.

الأمر الثاني: إنّ الاستصحاب الذي احتمل جريانه على القول بالملك لا مجال لجريانه لوجهين:

أوّلاً: كونه استصحاباً تعليقيّاً.

ثانياً: كونه استصحاباً حكميّاً، والمختار عدم جريانه.

الأمر الثالث: ما ذكره رحمه الله على القول بالإباحة من قوّة الوجه الأوّل غير تامّ ، لما عرفت في التنبيه الرابع من أقوائيّة الوجه الثالث. فراجع(2).

الأمر الرابع: ما ذكره رحمه الله على القول بالإباحة من البناء على الوجه الثانيد.

ص: 414


1- المكاسب: ج 3/100.
2- صفحة 329 من هذا المجلّد.

مردود، فإنّ العقد وإنْ كان علّة لحدوث الملكيّة للمباح له، إلّاأنّ لازم ذلك ليس رجوع المال إلى المبيح، فإنّ الفسخ عبارة عن حَلّ للعقد من حينه لا من حين وقوعه، وعليه فلا يصلح لرفع هذا الأثر من العقد.

الأمر الخامس: أنّ ما فاده رحمه الله على الوجه الثالث من أنّه بالفسخ يرجع المباح إلى مالكه الأوّل، ممنوعٌ ويرد عليه أنّه إذا نقل المباح إلى ثالث فلا محالة يكون قد أخرجه من ملك مالكه الأوّل، وهو إمّا لا يملك ما جعل بإزاء ذلك في المعاطاة، أو يملكه.

وعلى الأوّل: إمّا لا يكون المباح له ضامناً لمثل ماله أو قيمته، أو يكون ضامناً.

لا سبيل إلى شيء من الأولين، لأنّ المفروض أنّ المباح له أتلف ماله، وهو وإنْ كان بإذنه، إلّاأنّه لم يكن إذناً مجانيّاً بل بعوض، والعوض إنّما هو العوض المسمّى لا المثل والقيمة، فلا محالة يملك ما جعل بإزائه، والمباح له يملك الثمن الذي جعل في العقد الثاني، فبالفسخ يرجع المال إلى البائع الثاني لا إلى المالك الأوّل، لأنّه لا موجب لزوال ملكه عمّا جُعل عوضاً في المعاطاة. فتدبّر فإنّه دقيق.

فتحصّل: أنّه لا يجوز التراد بعد الفسخ على القولين.

هذا كلّه فيما إذا كان الناقل عقداً لازماً.

نقل العين بعقد جائز

وأمّا لو كان الناقل عقداً جائزاً:

ففي «المكاسب»(1): (لم يكن لمالك العين الباقية إلزامُ الناقل بالرجوع فيه، ولا رجوعه بنفسه إلى عينه).

ص: 415


1- المكاسب: ج 3/100.

محصّل ما أفاده في المقام: إنّ الناقل ربما يكون معاوضة جائزة، وربما يكون غير معاوضة كالهبة.

فإنْ كان معاوضة:

فعلى القول بالملك، تصبح المعاطاة لازمة، لعدم تحقّق التراد، وتحصيله غير واجبٍ ، لأنّه موضوع الجواز.

وكذا على القول بالإباحة، إذ المعاوضة كاشفةً عن سبق الملك.

وإنْ كان غير معاوضة كالهبة:

فكذلك على القول بالملك.

وأمّا على القول بالإباحة، والقول بعدم توقّفها على الملك، بل هي ناقلة للمِلك عن ملك مالكه إلى المتّهب، فللمالك الرجوع لخروج المال عن ملكه دون الواهب، فيتّجه الحكم بجواز التراد، ويكون الرجوع في المعاطاة بواسطة الرجوع في الهبة، أو يكون كاشفاً عنه كتصرّف ذي الخيار مع بقاء العين الاُخرى ، أو عودها إلى مالكها بهذا النحو من العود، إذ لو عادت بوجهٍ آخر كان حكمه حكم التلف، فإنّ السلطنة الثابتة لمالك العين الموجودة - المفروض رجوعها من الأجنبي إليه - باقية على إباحتها للآخر، إنّما تقتضي جواز الرجوع بسلب إباحتها عنه، إذا لم يلزم من اعمالها اشتغال ذمّة المالك بعوض العين التي كانت مباحة عنده، وإلّا فحكمه حكم المعاوضة والتلف، ويجري فيه ما ذكرناه فيهما.

إمّا لم تكن العين الاُخرى باقية، أو كان عودها بسببٍ جديدٍ كالإرث، لاتكون مباحة له، فلا محالة تشتغل ذمّته بالعوض. فتدبّر جيّداً.

ص: 416

أقول: يرد على ما أفاده قدس سره أُمورٌ:

الأمر الأوّل: إنّ ظاهر ما ذكره في المعاوضة على القول بالملك، إنّه لو كان له إلزام الناقل تحقّق التراد، مع أنّه ليس كذلك، فإنّه لو عادت العين كانت الملكيّة غير ما كانت ثابتة قبل النقل، فلا يكون الموضوع محرزاً كما تقدّم، لما عرفت من أنّ المتيقّن من الدليل كون الموضوع هو ما يملكه المتعاطيان قبل النقل.

الأمر الثاني: إنّ حصره عدم جواز التراد على القول بالإباحة في المعاوضة بأنّها كاشفة عن سبق الملك، في غير محلّه، فإنّه إذا لم تكن كاشفة عنه، بل قلنا بأنّ المال يخرج عن ملك المبيح ويدخل في ملك الثاني، فإنّه ليس له الرجوع حينئذٍ، لأنّ المباح له إنّما نقله عن نفسه لا عن المالك، فحكم جواز الرجوع إنّما يكون له لثبوته للناقل دون المالك.

الأمر الثالث: ما ذكره رحمه الله من الفرق بين الهبة والمعاوضة على القول بالإباحة، إنْ قلنا بأنّ التصرّف في مثله لا يكشف عن سبق الملك، غير تامّ ، لأنّ المباح له بما أنّه أتلف مال المبيح، وأخرجه عن ملكه، فهو يكون ضامناً، وضمانه إنّما يكون بالمسمّى، فلا محالة يملك ما جعل عوضاً في المعاطاة، وعليه:

فإنْ اُريد من الجواز الثابت له، جواز المعاطاة، فهو غير ثابت، ومعلوم الزوال، لأنّه كان عبارة عن جواز رَدّ مِلكه إلى نفسه، والمفروض انتفاء موضوعه.

وإنْ كان المراد الجواز الثابت للهبة، فهو إنّما يكون للواهب، لأنّه وهبه عن نفسه، لا عن مالكه، فيكون جواز الرجوع له لا للمالك.

فتحصّل: أنّ الناقل من الملزمات مطلقاً.

ص: 417

لو باع ثالثٌ العينَ فضولاً

ولو باع ثالث العين فضولا، ففي «المكاسب»(1) إن (أجاز المالك الأوّل على القول بالملك، لم يبعد كون إجازته رجوعاً كبيعه وسائر تصرّفاته الناقلة، ولو أجاز المالك الثاني نفذ بغير إشكال، وينعكس الحكم إشكالاً ووضوحاً على القول بالإباحة)، انتهى .

محصّل ما أفاده:

إنّه على القول بالمِلْك: لا إشكال في نفوذ إجازة المالك الثاني، والوجه فيه ظاهر، لكنّه رحمه الله تردّد في نفوذ إجازة المالك الأوّل ولم يستبعد نفوذها.

أقول: والوجه في تردّده ليس ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(2) من أنّ رَدّ البيع ليس كرَدّ ذي الخيار ما انتقل عنه في تحقّقه بكلّ فعلٍ أو قول، بل لابدَّ وأن يكون بالدلالة المطابقيّة، وهي تتحقّق برَدّ العين لا بإجازة الفضولي، فإنّها لازمة للرّد، لأنّ لازم هذا الإشكال في كون بيعه ردّاً، مع أنّه يصرّح بكونه ردّاً بلا كلام، بل الوجه فيه أحد أمرين:

أحدهما: إنّ الإجازة ليست كالبيع تصرّفاً من المجيز قاصداً به الرجوع، بل إنفاذٌ لتصرّف الغير الذي لا رجوع له، ولم يقصده أيضاً.

ثانيهما: إنّ الإجازة إنّما تكون على خلاف القاعدة، وهي تكون ثابتة للمالك، وثبوتها لمن يصبح مالكاً ولو بها لم يدلّ عليه دليل.

ص: 418


1- المكاسب: ج 3/101.
2- منية الطالب: ج 1/213.

وفيه: الوجهان ضعيفان.

أمّا الأوّل: فلأنّ الإجازة وإنْ تعدّ إنفاذاً لتصرّف الغير، إلّاأنّها بنفسها تصرّف، وموجبة لصيرورة العقد والتمليك تمليكه.

وأمّا الثاني: فلما سيأتي من أنّها ثابتة على القاعدة، فكما أنّه بالبيع يجوز الفسخ، كذلك بالإجازة، فلا إشكال في نفوذ إجازته أيضاً.

وأمّا على القول بالإباحة: فقد استشكل رحمه الله(1) في نفوذ إجازة المباح له، بعد جزمه بنفوذ إجازة المالك.

أقول: أمّا وضوح نفوذ إجازة المالك فلا يُنكر، وأمّا الإشكال في نفوذ إجازة المباح له، فلا أرى له وجهاً سوى الوجه الثاني المتقدّم في إجازة المالك الأوّل على القول بالملك، وقد عرفت ما فيه.

وعليه، فالأظهر أنّ لكلّ منهما الإجازة على القولين.

الفرع الأوّل: ولو باع العين ثالثٌ فضولاً، فهل لكلّ منهما رَدّه قبل إجازة الآخر أم لا؟.

أقول: الظاهر إنّه على القول بالمِلْك لكلّ منهما ذلك:

أمّا للمالك الفعلي فواضح.

وأمّا المالك الأوّل، فإنْ قَصَد برده البيع الفضولي الرجوع في المعاطاة، كان له ذلك فإنّه رجوع.

نعم، لو لم يقصد به رَدّ المعاطاة، لم يكن له ذلك لكونه أجنبيّاً عن المالك، والرّد حقّ للمالك.3.

ص: 419


1- منية الطالب: ج 1/213.

وأمّا على القول بالإباحة، فللمالك المبيح ذلك.

وفي ثبوته للمباح له تأمّلٌ ، بل منعٌ ، من جهة عدم كونه مالكاً، وليس الرّد من التصرّفات الناقلة كي يكشف عن سبق الملك، وقصده التملّك به لا يفيد، فإنّ قصد التملّك بل وإنشائه لا يفيد في الملكيّة.

الفرع الثاني: لو رجع الأوّل فأجاز الثاني، فهل تلغو الإجازة أو الرجوع ؟

أقول: ينبغي أوّلاً تعيين محلّ الكلام، ثمّ بيان حكمه.

أمّا الأوّل: فتارةً يكون البيع الفضولي واقعاً على المثمن، وأُخرى على الثمن.

وعلى التقديرين:

تارةً : يرجع البائع في المعاطاة ويُجيز المشتري فيها.

وأُخرى : يكون الأمر بالعكس.

فإنْ كان البيع واقعاً على المثمن، ورجع المشتري وأجاز البائع، أو كان البيع واقعاً على الثمن ورجع البائع وأجاز المشتري نفذا معاً، إذ الرجوع في الموردين يوجبُ صيرورة المجيز مالكاً لما وقع البيع الفضولي عليه قبل الإجازة، فله إجازة البيع الواقع على ملكه.

إنّما الكلام في الصورتين الأخيرتين، حيث يقع التنافي بين الرجوع والإجازة:

فتارةً : نقول في الإجازة بالنقل.

وأُخرى : نقول بالكشف الانقلابي.

وثالثة: نقول بالكشف الحقيقي.

أمّا على الأولين: فلا إشكال في لغويّة الإجازة، لصدورها ممّن ليس له

ص: 420

أهليّة إصدارها.

وأمّا على الأخير: فقد يقال إنّها حيث تكشف عن سبق الملك، فيكون الرجوع واقعاً في غير محلّه.

ولكن يدفعه: أنّ الإجازة وإنْ كانت كاشفة، إلّاأنّه يعتبر فيها أن تكون صادرة ممّن لو لم يجز كان مالكاً، لا من لو لم يجز لم يكن مالكاً كما في المقام، حيث أنّ الرجوع أوجب خروجه عن ملكه، وعليه فالأظهر تقدّم الرجوع مطلقاً.

***

ص: 421

من الملزمات الامتزاج والتغيّر

رابعها: لو امتزجت العينان أو إحداهما:

1 - فإنْ كان المزج موجباً للتلف الحقيقي، أو كان موجباً للتلف عرفاً - كما لو صبغ شيئاً باللّون المُشترى بالمعاطاة - جرى عليه حكم التلف.

2 - وإنْ لم يكن موجباً للتلف لا عرفاً ولا حقيقةً ، كما لو مزج منّا من الدهن المشترى بالمعاطاة بمنٍّ آخر:

أمّا بناءً على القول بالملك: يكون ذلك ملزماً، فإنّه إنْ قلنا بحصول الشركة بالمزج القهري، فقد تبدّلت الملكيّة الاستقلاليّة إلى الإشاعيّة، فلا يمكن التراد لا خارجاً ولا ملكاً.

لا يقال: إنّ ذلك فيما لو مزجه بمال الغير، لا فيما إذا مزجه بمال نفسه.

فإنّه يقال: نعم، ولكن لو رجع في المعاطاة، وصار ملكاً للبائع يملك بالإشاعة لا استقلالاً، وإنْ لم نقل بذلك فالتراد الملكي وإنْ كان ممكناً، إلّاأنّه لعدم إمكان التراد الخارجي، لا يجوز الرجوع، إذ المتيقّن من دليله هو الفسخ بالترادّ الخارجي غير الممكن في المقام، مع أنّ العين قد تغيّر وصفٌ من أوصافها، فلا دليل على جواز الرجوع في هذا المورد.

وأمّا بناءً على الإباحة: فقد ذهب الشيخ رحمه الله(1) إلى عدم اللّزوم، لأصالة بقاء التسلّط على ماله الممتزج بمال الغير، فيصبح المالك شريكاً مع المالك الممتزج به.

ص: 422


1- المكاسب: ج 3/101.

وفيه: إنّه تارةً تزيد قيمة المأخوذ بالمعاطاة، وأُخرى تنقص، وثالثةً لا تزيد ولا تنقص.

1 - فإنْ نقصت قيمته، لا ينبغي التوقّف في اللّزوم، لأنّ المشتري أتلف وصفاً من أوصاف المأخوذ، وحيث إنّه لم يكن مجانيّاً، فلا وجه لعدم ضمانه، ولا وجه لضمانه المقدار الناقص، لعدم كون ضمانه مثليّاً أو قيميّاً، ولم يُجعل في المعاطاة في مقابل الناقص شيءٌ كي يملكه، فلا مناص عن الالتزام بتملّكه جميع ما جُعل عوضاً في المعاطاة، فيصير المباح له مالكاً لما تحت يده، فلا مورد لأصالة بقاء التسلّط بعد ارتفاع موضوعه.

2 - وإنْ لم تنقص قيمته:

فإنْ بنينا على حصول الشركة في المزج القهري، فحيث أنّ الملكيّة الاستقلاليّة تبدّلت إلى الملكيّة الإشاعيّة، فلا يكون موضوع الجواز باقياً، وإلّا فحيث أنّ التراد الخارجي غير ممكن لعدم تميّز الأجزاء المنتقلة منه إلى غيره، وبعبارة أُخرى تغيّر وصف من أوصافها، فلا وجه للجواز.

فتحصّل: أنّ المزج مطلقاً من الملزمات.

فرع: لو تصرّف في العين تصرّفاً مغيّراً:

1 - فإنْ صار التصرّف المغيّر موجباً لنقص القيمة، فلا إشكال في اللّزوم، إذ تلف وصفٍ موجبٍ لنقص القيمة من الملزمات كما تقدّم في المزج.

2 - وإنْ لم تنقص قيمته، فيمكن أنْ يقال إنّ المتيقّن تعلّق الجواز بردّ شخص العين المنتقلة عنه بما لها من الصورة والأوصاف التي تتفاوت بها الرغبات، إذ

ص: 423

لا دليل في مقابل أصالة اللّزوم على أزيد من ذلك، وعليه فهو من الملزمات مطلقاً، ولا مورد للاستصحاب، لعدم إحراز الموضوع.

وبذلك ظهر ما في كلمات الشيخ رحمه الله في المقام(1).

***2.

ص: 424


1- المكاسب: ج 3/101-102.

جواز الرجوع لا يورث بالموت

الأمر السابع: يدور البحث فيه عن أنّ جواز الرجوع في مسألة المعاطاة هل هو نظير الفسخ في العقود اللّازمة ليورث بالموت، ويسقط بالإسقاط ابتداءً أو في ضمن المعاملة، أم لا يكون نظيراً له، بل هو حكم لا يترتّب عليه شيء من أحكام الحقوق ؟ وجهان:

اختار الشيخ قدس سره الثاني(1)، وقال: (عرفت ممّا ذكرناه أنّه على القول بالملك نظير الرجوع في الهبة، وعلى القول بالإباحة نظير الرجوع في إباحة الطعام).

وأورد عليه جمعٌ من المحقّقين(2): بأنّه لم يُعرف ممّا ذكره سوى كون متعلّق الجواز في البيع المعاطاتي تراد العينين، وفي البيوع اللّازمة العقد، ومجرّد ذلك لا يقتضي كونه حكماً لا يورث، ولذا ترى أنّ الفقهاء اتّفقوا على أنّ الخيار في البيوع اللّازمة يورث، مع اختلافهم في أنّ متعلّق الجواز هو العقد أو التراد.

أقول: وكيف كان، فعلى القول بالملك لا يورث الجواز، لأنّ توهّم ثبوته للوارث لا يخلو:

1 - إمّا أن يكون من جهة ثبوته للمورث، فيشمله ما دلَّ على أنّ : «ما تركه الميّت من حقّ أو مالٍ فلوارثه».

فيرد عليه: أنّ ظاهر كلمات القوم كونه حكماً(3)، لما يشاهد في المقام أنّهم لم

ص: 425


1- المكاسب: ج 3/102.
2- تعليقات على المكاسب: ج 1/312.
3- حاشية المكاسب للاصفهاني: ج 1/243، نهج الفقاهة: ص 87.

يعدّوا من الملزمات الإسقاط، مع أنّهم ذكروه في الخيار في العقود اللّازمة(1)، فضلاً عن أنّ مجرّد الشكّ في كونه حكماً أو حقّاً يكفي في عدم الحُكم بثبوته للوارث، للشكّ في الموضوع كما لا يخفى .

2 - وإمّا أن يكون من جهة ثبوت الجواز لعنوان المالك المنطبق على الوارث.

فيرد عليه: أنّ المتيقّن منه في مقابل أصالة اللّزوم ثبوته للمتعاطي، لا لعنوان المالك، ومعه لا مورد لجريان الاستصحاب لعدم إحراز الموضوع.

وأمّا رجوع المالك الحَيّ إلى الوارث، فهو أيضاً لا يجوز، من جهة أنّ الثابت جواز التراد، ومع عدم ثبوته للوارث لا يمكن التراد.

وبما ذكرناه يظهر حكم الإسقاط وأنّه لا يَسقط به.

وأمّا على القول بالإباحة: فقد عرفت أنّ هذه الإباحة ليست إباحة مالكيّة ضمنيّة، بل هي إباحة تعبديّة شرعيّة، فلا تكون كما ذكره الشيخ رحمه الله منوطة بالرضا الباطني(2) بحيث لو علم كراهة المالك باطناً لم يجز له التصرّف، ولكن مع ذلك لا تكون ثابتة للوارث، إذ المتيقّن من دليلها ثبوتها للمورّث، فهي حكمٌ لا يورَث، وعليه فلابدّ من الالتزام بأحد أمرين:

إمّا حصول المِلْك بالموت.

أو بطلان المعاملة رأساً.

وعلى أيّ تقدير، لا يكون للوارث حقّ الرجوع كما لا يخفى .2.

ص: 426


1- المكاسب: ج 5/61، حاشية المكاسب للآخوند: ص 143، حاشية المكاسب لليزدي: ج 2/2.
2- المكاسب: ج 3/102.

أقول: والأظهر هو الأوّل، كما اعترف به الشيخ رحمه الله(1) في جواب بعض الأساطين عند رَدّ استبعاداته. فراجع.

فتحصّل: أنّ جواز الرجوع لا يورَث ولا يسقط بالإسقاط على أيّ تقدير.

***8.

ص: 427


1- المكاسب: ج 3/48.

جريان الخيار في المعاطاة

الأمر الثامن: ذكر الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»(1) وجهين في صيرورة المعاطاة بيعاً بعد التلف أو معاوضة مستقلّة، قال:

(يحتمل الأوّل، لأنّ المعاوضات محصورة، وليست إحداها، وكونها معاوضة برأسها تحتاج إلى دليل، ويحتمل الثاني لإطباقهم على أنّها ليست بيعاً حال وقوعها، فكيف تصيرُ بيعاً بعد التلف، وتظهر الفائدة في ترتّب الأحكام المختصّة بالبيع عليها كخيار الحيوان لو كان التالف الثمن أو بعضه، وعلى تقدير ثبوته، فهل الثلاثة من حين المعاطاة، أو من حين اللّزوم، كلٌّ محتمل...

إلى أنْ قال: (2) والأقوى عدم ثبوت خيار الحيوان هنا، بناءً على أنّها ليست لازمة، وإنّما يتمّ على قول المفيد ومن تبعه، وأمّا خيار العيب والغبن فيثبتان على التقديرين، كما أنّ خيار المجلس منتف). انتهى .

أقول: قد مرّ الكلام في ذلك بنحو الكبرى الكليّة في التنبيه الأوّل، وعرفت المختار هناك، إنّما الكلام في المقام يقع في أمر وهو:

إنّه بعدما عرفت من أنّه على القول بالإباحة يكون حصول الملك بالتلف إنّما هو من جهة شرطيّته لتأثير المعاطاة، نظير شرطيّة القبض في الصّرف والسّلم، فلا محالة تصير بيعاً بعد حصول الشرط، وتكون الخيارات ثابتة لها من حين حصول الشرط، لكن وقع الكلام في خيارين:

ص: 428


1- مسالك الأفهام: ج 3/148 و 151.
2- مسالك الأفهام: ج 3/148 و 151.

أحدهما: خيار الحيوان فيما إذا كان التالف حيواناً.

الثاني: خيار المجلس.

أمّا الأوّل: فقد ذكر في وجه عدم ثبوته وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الظاهر من الأدلّة ثبوت خيار الحيوان فيما إذا كان باقياً لا ما إذا تلف.

وفيه: إنّه لو كان لسان دليله هكذا: (يُردّ الحيوان) كان لهذه الدعوى وجه، لكن لسان الدليل الوارد قوله عليه السلام: «صاحبُ الحيوان بالخيار» وعليه فلا مورد لها أصلاً كما لا يخفى .

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق النائيني رحمه الله(1)، من أنّه لو كان التالف الحيوان فما لم يتلف لا خيار لعدم صيرورتها بيعاً، وإذا تلف تلف غير متعلّق به الخيار، فمن أين يثبت به المثل أو القيمة ؟!

وفيه: إنّه قد عرفت أنّه على هذا المسلك لابدّ من الالتزام بحصول الملكيّة آناً مّا قبل التلف، وعليه فتلك الملكيّة الثابتة هي الملكيّة مع خيار الحيوان، فيتلف الحيوان كذلك، أي متعلّقاً به الخيار.

الوجه الثالث: إنّ خيار الحيوان يمتنع ثبوته في الفرض، لأنّ معنى الخيار ملك فسخ العقد، وعليه فبما أنّ المسلّم عندهم أنّ التلف في زمان الخيار ممّن لا خيار له، أي موجبٌ لبطلان المعاملة، فثبوت خيار الحيوان في الفرض موجبٌ لانفساخ المعاملة، وامتناع فسخها لأنّه تحصيل الحاصل.7.

ص: 429


1- منية الطالب: ج 1/227.

وبعبارة أُخرى: ليس قادراً على الحَلّ والإبقاء، فإذا امتنع ذلك امتنع ثبوته، لأنّه يلزم من وجوده عدمه، وما هو كذلك محالٌ . فتدبّر فإنّه دقيق.

وأمّا الثاني: فأُورد على ثبوت خيار المجلس بوجهين:

الوجه الأوّل: ما عن المحقّق النائيني رحمه الله(1)، من أنّ هذا الخيار باعتبار ما ورد في ذيل دليله من قوله عليه السلام: «فإذا افترقا وجب البيع» يختصّ ثبوته بالعقد اللّازم من غير هذه الجهة، ولا يكون ثابتاً في العقد الجائز في نفسه، كما في المعاطاة.

أقول: وقد تقدّم الجواب عنه في التنبيه الأوّل. فراجع(2).

الوجه الثاني: إنّ المعاطاة تصير بيعاً بعد التلف أو ما بحكمه، ففي مجلس المعاطاة لا تصير كذلك حتّى تلحقها أحكامه.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّها بيعٌ من الأوّل.

وثانياً: إنّه يمكن أن يطول المجلس إلى تحقّق أحد الملزمات من النقل وغيره.

وعليه، فالأظهر ثبوت خيار المجلس، وعدم ثبوت خيار الحيوان.

***د.

ص: 430


1- منية الطالب: ج 1/193.
2- صفحة 348 من هذا المجلّد.

حكم العقد الفاقد لبعض شرائط الصيغة

الأمر التاسع: بعدما لا كلام في تحقّق المعاطاة المصطلحة بما إذا تحقّق إنشاء التمليك أو الإباحة بالفعل، وقع الكلام في أنّها هل تحصل بالقول غير الجامع للشرائط أم لا؟

أقول: وتنقيح القول فيه يتحقّق بالبحث في موردين:

المورد الأوّل: في بيان منشأ التعرّض لهذا التنبيه، والظاهر أنّ التعرّض له من جهة دفع ما يُترائى من التنافي بين كلمات الفقهاء، حيث أنّ بناءهم على أنّ المقبوض بالعقد الفاسد لا تترتّب عليه الملكيّة، ولا يجوز التصرّف فيه، ويجبُ ردّه إلى مالكه، وهذا ينافي مع ما يظهر من كلمات جماعةٍ (1) تبعاً للمحقّق(2) والشهيد(3) الثانيّين من أنّه لو أوقع المتعاقدان العقد فاقداً لشروط الصيغة، انقلبَ معاطاة، والشيخ رحمه الله تعرّض لهذا التنبيه للجمع بين كلماتهم(4).

المورد الثاني: في بيان ما قيل في وجه الجمع، وما يمكن أنْ يقال.

أقول: قد ذكروا في وجه الجمع أُموراً:

منها: ما عن بعضٍ ، وهو محكي في «المكاسب»(5)، وحاصله:

ص: 431


1- المناهل: ص 270، ظاهر مستند الشيعة: ج 14/259.
2- رسائل المحقّق الكركي: ج 1/178.
3- الروضة البهيّة: ج 3/225.
4- المكاسب: ج 3/107.
5- المكاسب: ج 3/108، ويبدو أنّ الجامع هو السيّد العاملي في مفتاح الكرامة.

إنّ الحكم بالضمان في المقبوض بالعقد الفاسد، إنّما هو فيما إذا كان الرضا بالتصرّف لزعم صحّة المعاملة، والحكم بصحّته معاطاةً إنّما هو فيما إذا عُلم الرضا بالتصرّف على التقديرين.

وأورد الشيخ رحمه الله عليه بإيرادات(1):

الإيراد الأوّل: إنّ المفروض في المقام هو تقيّد الرضا بإنشاء التمليك، فلا يكون مع فرض العلم بالفساد.

الإيراد الثاني: إنّ لازم ذلك هو الحكم بوقوعه معاطاة، فيما إذا علم بفساد العقد لا مطلقاً.

الإيراد الثالث: إنّ الرضا بالتصرّف إنّما يفيد إباحة التصرّفات كالإذن فيها، وهذا أجنبيٌّ عن المعاطاة.

ومنها: ما عن المحقّق الخراساني رحمه الله(2)، من أنّ الحكم بالضمان في تلك المسألة اقتضائيٌ - أي من حيث كونه عقداً - فلا ينافي صحّته معاطاةً .

وفيه: إنّ كلماتهم ظاهرة لو لم تكن صريحة في الضمان الفعلي دون الضمان الحيثي.

ومنها: غير ذلك ممّا يظهر ما فيه من بيان حقّ القول في المقام، وهو أنّه إذا كان المفقود الشروط التي دلَّ دليلٌ خاصٌ على اعتبارها في ما ينشأ به البيع، فإنّه لا كلام في عدم صحّته معاطاة، إذ المعاطاة إنّما تصحّ لكونها بيعاً مشمولاً للأدلّة والعمومات على الفرض.6.

ص: 432


1- المكاسب: ج 3/109-110.
2- حاشية المكاسب للآخوند: ص 26.

نعم، لو قلنا بأنّ مدرك صحّة المعاطاة الدليل التعبّدي الخاص، لا العمومات، وفرضنا شمول موضوع ذلك الدليل للقول الفاقد لذلك الشرط، كان هذا العقد معاطاة، لكن المبنيين فاسدان، وعليه فإذا بقي رضاهما بعد ذلك العقد إلى حين التقابض، ولم يكن مقيّداً بل كان رضاً بالتصرّف - صحّت المعاملة أم فسدت - جاز التصرّف فيه، ولكنّه لا يكون معاطاة، لأنّ المعاطاة التي تكون موضوعة لهذا المبحث، هي التي قُصد بها التمليك لا الإباحة.

أمّا إذا أعرضا عن أثر العقد السابق وتقابضا بقصد إنشاء التمليك، كان التقابض معاطاةً .

وأمّا إذا كان المفقود الشروط التي اعتبروها من باب الأخذ بالمتيقّن، فالظاهر وقوعه صحيحاً وبيعاً شرعيّاً مشمولاً للعمومات على المختار من تصحيح المعاطاة على القاعدة، لا بالدليل الخاص من الإجماع والسيرة، وكذلك لو قلنا بصحّتها للسيرة العقلائيّة، لعدم الفرق عندهم بين الفعل والقول الفاقد.

وأمّا إنْ قلنا بصحّتها بالإجماع، فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن، وهو ما إذا كان إنشاء التمليك بالفعل لا بالقول الفاقد للشروط.

هذا تمام الكلام في المباحث المتعلّقة بالمعاطاة، والحمد للّه أوّلاً وآخراً.

***

ص: 433

ص: 434

فهرس الموضوعات

أخذ الأُجرة على الواجبات... 7

عدم منافاة التعبّديّة لأخذ الأُجرة... 11

عدم منافاة الوجوب مع الأُجرة... 24

أخذ الإجارة على الواجب الكفائي... 32

أخذ الأُجرة على الواجب التخييري... 35

أخذ الأُجرة على الواجبات النظاميّة... 38

أخذ الأُجرة على المستحبّ ... 46

حقيقة النيابة في العبادات... 47

الطواف المستأجر عليه لا يُحتسب عن نفسه... 54

حكم المستأجر لحمل غيره في الطواف... 55

حكم أخذ الأُجرة على بعض الأُمور... 58

حكم أخذ الأُجرة على الأذان... 58

أخذ الأُجرة على الإمامة... 60

بيان ما يَكرَهُ التكسُّب به... 62

حُرمة بيع المصحف... 66

المراد من حرمة بيع المصحف... 72

حكم بيع المصحف من الكافر... 73

الحقوق الثابتة في الأموال... 77

ص: 435

لا يجوز للجائر أخذ تلك الحقوق... 80

أخذ الصدقات والخراج من الجائر... 82

شراء الحقوق من الجائر قبل أخذها... 92

حكم الأراضي الخراجيّة حال الغيبة... 93

ما يأخذه الجائر باسم الخراج من غير الأراضي الخراجيّة... 98

اختصاص الحكم بالسّلطان المُدّعي للرئاسة العامّة... 101

عدم اختصاص الحكم بالمُعتقد ولاية الجائر... 103

ليس للخراج قدرٌ معيّن... 104

أخذ غير المستحقّ للخراج والزكاة... 107

شرائط الأراضي الخراجيّة... 109

اشتراط إذن الإمام في خراجيّة الأرض المفتوحة... 114

اشتراط حياة الأرض لتصبح خراجيّة... 119

جوائز السّلطان... 125

عدم كراهة أخذ المال من الجائر لو جاز... 131

رافع الكراهة عن جوائز السلطان... 134

حكم الجائزة مع العلم بوجود الحرام في أموال المُجيز... 139

لو علم تفصيلاً كون الجائزة محرّمة... 151

وجوب رَدّ الجائزة إلى أهلها... 159

حكم مجهول المالك... 162

عدم سماع دعوى المُدّعي له ما لم يَثبُت شرعاً... 165

أُجرة الفحص عن المالك... 168

ص: 436

مقدار الفحص عن المالك... 170

مصرف مجهول المالك... 173

التصدّق بمجهول المالك لا يوجب الضمان... 190

العلم باشتمال الجائزة على الحرام... 201

حكم الأخذ من مالٍ دفع إليه للصرف في قبيل هو منهم... 208

التفقّه في مسائل التجارات... 212

مكروهات التجارات... 217

تلقّي الركبان... 221

حُكم الإحتكار... 229

كتاب البيع... 236

تعريف البيع وبيان حقيقته... 236

ضابط ما يصحّ جعله عوضاً ومعوّضاً وما لا يصحّ ... 252

جعل المنفعة عِوضاً... 258

جعل عَمل الحُرّ عوضاً... 259

حقيقة الحَقّ وأقسامه... 263

عدم اعتبار تعقّب القبول في صدق البيع... 272

البيع حقيقة في الصحيح أو الأعمّ ... 275

التمسّك بالإطلاق... 281

بيع المعاطاة... 285

الأقوال في المعاطاة... 292

الدليل المختار في المعاطاة... 293

ص: 437

أدلّة عدم إفادة المعاطاة الملكيّة... 304

كلام بعض الأساطين وما يرد عليه... 306

استصحاب بقاء الملك... 317

دليل السلطنة... 329

آية التجارة عن تراض... 332

دليل لزوم خصوص البيع... 334

آية الوفاء بالعقد... 335

دليل الشرط... 338

أدلّة عدم لزوم المعاطاة والجواب عنها... 340

تنبيهات المعاطاة... 348

جريان الرِّبا في المعاطاة... 355

جريان الخيارات في المعاطاة... 357

بيان مورد المعاطاة... 359

تمييز البائع عن المشتري... 363

أقسام المعاطاة بحسب قصد المتعاطيين... 368

التصرّفات المتوقّفة على المِلْك... 374

الإذن في التصرّفات المتوقّفة على الملك... 377

الإباحة بالعوض... 384

جريان المعاطاة في جميع العقود والإيقاعات... 390

مُلزِمات المعاطاة... 397

من الملزمات تلف العينين... 403

ص: 438

تلف إحدى العينين... 405

إذا كان أحد العوضين ديناً في الذمّة... 409

نقل العين بالعقد اللّازم... 412

نقل العين بعقد جائز... 415

لو باع ثالثٌ العينَ فضولاً... 418

من الملزمات الامتزاج والتغيّر... 422

جواز الرجوع لا يورث بالموت... 425

جريان الخيار في المعاطاة... 428

حكم العقد الفاقد لبعض شرائط الصيغة... 431

فهرس الموضوعات... 435

***

ص: 439

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.