فقه الصادق المجلد 21

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه على ما أولانا من التفقّه في الدِّين، والهداية إلى الحقّ ، والصّلاة والسّلام على أشرف النفوس القدسيّة، وأزكى الذوات المطهّرة الملكيّة، محمّد المصطفى وعترته المرضيّة، هُداة الخلق وأعلام الحقّ .

وبعد، فهذا هو الجزء الواحد والعشرون من كتابنا «فقه الصادق عليه السلام»، وهو بجميع أجزائه شرح لتبصرة الإمام المحقّق، الشيخ الأجل الأعظم، آية اللّه العظمى، العلّامة الحِلّي رحمه الله.

ولكن في خصوص الاجزاء المتعلّقة بالمكاسب تكون عمدة النظر إلى كتاب «المكاسب» للشيخ الأعظم، خاتمة الرعيل الأوّل من المجتهدين، وأفضل المتأخّرين، آية اللّه العظمى، الشيخ مرتضى الأنصاري رحمه الله الذي أصبح اليوم منتجع العلم، ومحور الدراسات في الحوزات العلميّة، ففي ضمن شرح ما في «التبصرة» نتعرّض لآراء الشيخ الأنصاري رحمه الله، والقصد من ذلك أن يكون النفع أعمّ في هذه السلسلة من كتابنا، إذ كانت مباحث هذا الكتاب فاتحة عهد جديد مبارك في الدراسات الفقهيّة، والتتبّع والتحقيق يقتضيان مزيداً من العناية بشرحها وتيسير الاطّلاع عليها، وهذا ما توخّيناه في هذا الكتاب، واللّه من وراء القصد.

ص: 5

ص: 6

حرمة التطفيف

المسألة الخامسة: صرّح جماعة(1) بأنّه يحرمُ التطفيف، والظاهر أنّ معناه هو التقليل وزناً كما في «المصباح»(2)، ويشهد له ملاحظة سائر مشتقّاته كالطفيف الذي هو بمعنى القليل، واحتمال نقله عن ذلك والوضع لخصوص التنقيص في الكيل والوزن كما ترى .

والتخصيص في الآية الشريفة بقوله تعالى: (اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى اَلنّاسِ يَسْتَوْفُونَ ...) الخ(3) إمّا أن يكون من جهة الغلبة فلا خصوصيّة للبخس في الكيل والوزن، أو من باب إطلاق اللّفظ الموضوع للطبيعة على صنفٍ منها.

أقول: وبذلك ظهر أنّ ما ذكره الشيخ رحمه الله(4) من (أنّ البَخس في العدّ والذرع يُلحق به حكماً، وإن خرج عن موضوعه)، غير تامٍّ ، لشمول التطفيف له موضوعاً.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يكون نظره قدس سره إلى أنّ الأدلّة المتضمّنة لحرمة التطفيف من الآية الشريفة والنصوص كلّها مختصّة بالبخس في الكيل والوزن.

وكيف كان، فتشهد لحرمته الأدلّة الأربعة:

ص: 7


1- الدروس: ج 3/175 قوله: (يحرم التطفيف في الكيل والوزن... الخ)، قواعد الأحكام: ج 2/7، قوله: (والتطفيف حرام في الكيل والوزن.... الخ).
2- كتاب المكاسب ص 199، قوله: (إنّ البخس في العدّ والذرع يلحق به حكماً وإن خرج عن موضوعه).
3- سورة المطففين: الآية 2.
4- كتاب المكاسب: ج 1/199، قوله: (ثمّ إنّ البخس في العَدّ والذرع يلحق به حكماً وإنْ خرج عن موضوعه... الخ).

أمّا الكتاب:

1 - فقوله تعالى: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ) (1).

2 - وقوله تعالى: (وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ ) (2).

3 - وقوله تعالى: (وَ لا تَنْقُصُوا اَلْمِكْيالَ وَ اَلْمِيزانَ ) (3).

وأمّا السُنّة: فقد وردت نصوص كثيرة في الأبواب المتفرّقة دالّة على الحرمة:

منها: حسن حمران، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ عَدّ فيه جملة من الأوصاف المحرّمة: «ورأيتُ الرّجل معيشته من بخس المكيال والميزان»(4).

وغير ذلك من النصوص المستفيضة.

أمّا الإجماع: فقد ادّعاه غير واحد، والظاهر أنّه كذلك، إذ لم يخالف فيه أحد.

أمّا العقل: فلأنّه مستقلٌ بقُبح الظلم، وتنقيص حقّ الغير، واعتبار عدم الوفاء به ظلماً.

أقول: ثمّ إنّ ظاهر الأدلّة حرمة التطفيف بعنوانه، وبعنوان أنّه بخسٌ ، لا بعنوان أنّه أكلٌ للمال بالباطل، فيحرم لو طفف ولم يتصرّف بعد في العوض، ولا بعنوان عدم دفع حقّ الغير، فيحرم قبل تسليم المعوّض أو العوض.

وعليه، فما اختاره المحقّق الإيرواني رحمه الله(5) من عدم كون التطفيف والبخس من العناوين المحرّمة فاسدٌ.2.

ص: 8


1- سورة المطفّفين: الآية 1.
2- سورة الشعراء: الآية 183.
3- سورة هود: الآية 84.
4- وسائل الشيعة: ج 16 / ص 277 ح 21554، الكافي: ج 8/40 ح 7.
5- حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني: ص 22.

وأغرب من ذلك ما ذكره متفرّعاً على ذلك من أنّ الكيل بالمكيال الناقص، وكذا البخس في الميزان مع وفاء الحقّ كاملاً ليسا بحرامين، فإنّ المأخوذ في حقيقة التطفيف والبخس عدم الوفاء بالحقّ .

ويتفرّع على ما اخترناه أنّ إجارة الإنسان نفسه على التطفيف محرّمة وضعاً وتكليفاً، كما هو الشأن في جميع المحرّمات الشرعيّة، فلو آجر نفسه على الكيل بالكيل التامّ ، ثمّ طفف لا يستحقّ بذلك شيئاً:

أمّا عدم استحقاقه أُجرة المسمّى، فلعدم إتيانه بالعمل المستأجر عليه.

وأمّا عدم استحقاقه أُجرة المثل، فلأنّ العمل المحرّم لا أُجرة له.

حكم المعاملة المطفّف فيها

أقول: ثمّ إنّه يقع كلامٌ :

أوّلاً: في حكم المعاملة المطفف فيها إذا لم يكن البيع ربويّاً.

وثانياً: فيما إذا كان البيع كذلك.

أمّا المورد الأوّل: فإن وقعت المعاملة على الكلّي، صحّت بلا كلام، من غير فرقٍ بين وقوعها على الكلّي في الذّمة، أو الكلّي في المعيّن، إذ المعاملة حين وقوعها وقعت صحيحة، وتطفيف البائع أو من يباشر الإقباض لا يوجبُ فسادها.

نعم، يوجب ذلك اشتغال ذمّة الدافع بالمقدار الذي أنقص عن الحقّ .

وأمّا إذا وقعت المعاملة على الموجود الخارجي، فهناك صور:

الصورة الأُولى: أن ينشأ البيع معلّقاً على كون المبيع بذلك المقدار المعيّن، وهذا

ص: 9

لا ريب في فساده، وإنْ لم يظهر الخلاف، بل مع عدم التطفيف أيضاً للإجماع على بطلان التعليق في الإنشاء.

الصورة الثانية: أن ينشأ البيع منجّزاً على الموجود الخارجي، بشرط كونه بذلك المقدار، ثمّ ظهر الخلاف، صَحّ البيع في هذه الصورة، وثبت الخيار للمشتري، هذا بناءً على أنّ شرط المقدار كغيره من الشروط لا يقسّط عليه العوض، وإلّا فحكم هذه الصورة حكم الصورة الخامسة.

الصورة الثالثة: أن ينشأ البيع عليه منجّزاً بعنوان أنّه مقدّرٌ بكذا مقدار، فقد يقال، كما عن المحقّق الإيرواني رحمه الله: (إنّ البيع باطلٌ إذا ظهر الخلاف، لظهور عدم الوجود للمبيع، فإنّ المبيع العنوان المتحقّق في هذا المُشاهَد، ولا عنوان متحقّق في هذا المشاهَد، وليس المبيع هذا المشاهَد بأيّ عنوإنْ كان، ولا العنوان في أيّمصداقٍ كان، إذ لا وجه لإلغاء الإشارة أو الوصف)(1).

وفيه: إن تخلّف العنوان الذي ليس من العناوين المقوّمة - وهي ما تعدّ من الصور النوعيّة عند العرف - لا يوجبُ إلّاالخيار، كما تقدّم في مبحث بيع هياكل العبادة، فراجع(2).

الصورة الرابعة: أن يكون المقصود شراء الموجود الخارجي كائناً ما كان، وكان الكيل والوزن لأجل حصول العلم بالمعوّض ليخرج عن كونه بيع المجهول، صَحّ البيع في هذه الصورة مع عدم الخيار، إلّاإذا كان البائع جاهلاً بمقدار ما طفف، حيث يبطل البيع حينئذٍ للجهل بالمبيع، لاعتبار علم كلا الطرفين.

لا يقال: إنّه ما الفرق بين هذه الصورة والصورتين السابقتين، حيث حكمتم3.

ص: 10


1- حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني: ج 1/23.
2- فقه الصادق: ج 20/183.

فيهما بالصحّة مطلقاً، وفي هذه قيّدتم الصحّة بماإذا كان البائع عالماًبمقدار ماطفف ؟

فإنّه يقال: الفرق أنّ الاشتراط وإنشاء البيع بعنوان أنّه مقدّر بكذا يوجبان الخروج عن كونه بيع المجهول، وهذا بخلاف هذه الصورة.

الصورة الخامسة: ما إذا كان المقصود بيع الموجود الخارجي، وكان الغرض من الاشتراط الإشارة إلى تعيين مقدار العوضين، ووقوع كلّ منهما في مقابل الآخر.

وفي هذه الصورة يصحّ البيع في المقدار الموجود، ويبطل في غيره كما في بيع ما يَملك وما لا يَملك.

هذا كلّه إذا لم يكن البيع ربويّاً.

وأمّا إذا كان ربويّاً، فإن كان من قبيل البيع الكلّي، صَحَّ لما تقدّم.

وأمّا إنْ كان البيع واقعاً على الشخص الموجود الخارجي:

1 - فإنْ كان من قبيل الصورة الأُولى بطل البيع للتعليق.

2 - وإنْ كان من قبيل الصورة الرابعة، بطل البيع لكونه ربويّاً.

3 - وإن كان من قبيل الصورة الخامسة، صَحّ البيع في المقدار الموجود، وبطل في غيره.

4 - وإن كان من قبيل الصورة الثانية أو الثالثة:

فبناءً على أنّ شرط المقدار يقسّط عليه العوض، صَحّ البيع في المقدارالموجود، وبطل في غيره.

وبناءً على عدم تقسيط العوض، بطل البيع لكونه ربويّاً، مع قطع النظر عن تخلّف الشرط.

ص: 11

حرمة التنجيم

المسألة السادسة: التنجيم حرامٌ كما صرّح به غير واحد(1).

أقول: وتنقيح القول في المقام يتوقّف على بيان مقدّمات:

المقدّمة الأُولى: إنّ اتّصاف البالغ بالإسلام يتوقّف على اعترافه وإقراره بأنّ اللّه تعالى موجودٌ، وأنّه المتصرّف والخالق لجميع الموجودات على اختلافها، وأنّه واحدٌ لاشريك له، واعترافه بنبوّة محمّد صلى الله عليه و آله وأنّه نبيٌ مرسل، والاعتراف بالمعاد، فالمنكر لوجوده تعالى، أو لكونه خالقاً للموجودات كالدهريّة، أو إنكار وحدانيّته كالثنويّة، أو كون محمّد صلى الله عليه و آله نبيّاً مُرسلاً كاليهود والنصارى ، أو للمعاد يعدّ كافراً بالضرورة، من غير فرقٍ بين أن يكون هذا الإنكار مستنداً إلى التقصير أو القصور.

وأمّا المنكر للضروري: فقد حَقّقنا في بحث منكر الضروري في الجزء الثالث من هذا الشرح، أنّ إنكار الضروري بنفسه ليس موجباً للكفر، بل إنّما يوجبه إذا رجع إلى تكذيب النبيّ صلى الله عليه و آله، ويترتّب على ذلك أمران:

الأوّل: أنّ المنكر للضروري لشبهةٍ ليس بكافر.

الثاني: أنّ كلّ ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله من الفرائض والسُّنن، إن ثبت كونه كذلك، فإنّ جحده وإنكاره يوجبان الكفر، كما دلّت على ذلك الأدلّة.

المقدّمة الثانية: إنّه كما لا ريب في أنّ الأوضاع الفلكيّة والكيفيّات الخاصّة الحاصلة بين الأجرام السماويّة الفلكيّة لها آثار ولوازم غير مربوطة بما يحدث في

ص: 12


1- جامع المقاصد: ج 4/31 قوله: (والتنجيم حرام وكذا تعلّم النجوم مع اعتقاد تأثيرها.... الخ). إيضاح الفوائد: ج 1/406.

عالم العناصر، مثلاً الخسوف لازم تحقّق حالة المقارنة بين النيّرين في حال كون المقارنة في إحدى عقدتي الرأس والذنب، كذلك لها آثار في الأوضاع السِّفلية، وما يحدث في عالم العناصر، مثلاً اختلاف الفصول من آثار قُرب الشمس وبُعدها عن خطّ الإستواء وغير ذلك من الآثار الواضحة.

المقدّمة الثالثة: إنّه لا إشكال في جواز النظر إلى الأوضاع الفلكيّة والهيئات الكوكبيّة، والإذعان بها، وبما يترتّب عليها من الآثار في ذلك العالم، والإخبار عنها، كما هو الشأن في الحوادث السفليّة الواقعة في هذا العالم، وليس النظر فيها متوقّفاً على تعلّم علم النجوم المصطلح في المقام، ولا الإذعان بها وبتأثيرها في ما لا يكون مرتبطاً بالحوادث السفليّة، إلّاكالإذعان بتأثير بعض ما في هذا العالم في بعضٍ آخر كتأثير النار في الإحراق.

وأمّا الإخبار عنها: فإنْ كان مستنداً إلى الأمارات القطعيّة، فلا إشكال فيه، وإن كان مستنداً إلى الأمارات الظنيّة، فإن كان الإخبار ظنيّاً فلا إشكال فيه أيضاً، وإن كان جزميّاً كان حراماً من جهة الكَذَب.

أقول: إذا عرفت هذه المقدّمات، فاعلم أنّ محلّ الكلام هو الإذعان والاعتقاد بثبوت النسبة بين الحوادث السفليّة الواقعة في هذا العالم، والأوضاع الفلكيّة والإخبار عنه وتعلّمه، وعليه فالكلام يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: في اعتقاد ربط الحركات الفلكيّة بالكائنات، فإنّ الربط يتصوّر على وجوه:

الوجه الأوّل: الاستقلال في التأثير، بمعنى أنّ المؤثّر التامّ في الحوادث السفليّة

ص: 13

من ازدياد الأموال ونقصانها وغير ذلك من الخيرات والشرور هي الأوضاع الفلكيّة، والكيفيّات الخاصّة الحاصلة بين الفلكيّات بعضها مع بعض بأنفسها، أي مستقلّة حتّى من جهة مشيّة الباري، والاعتقاد بذلك كفر وزندقة، سواءٌ رجع هذا الاعتقاد إلى إنكار وجوده تعالى ، كما هو مذهب بعض المنجّمين، أم رجع إلى تعطيله تعالى عن التصرّف في الحوادث السفليّة بعد خلق الأجرام العلويّة، وأن الموجودات الممكنة بأجمعها مفوّضة إلى النفوس الفلكيّة والعقول الطوليّة، سواءٌ قيل بقدمها كما هو مذهب جماعة منهم، أم بحدوثها كما هو مذهب جماعة آخرين(1).

أمّا كفر الطائفة الأُولى ، فلإنكارهم وجوده تعالى ، وأمّا كفر الطائفة الثانية فلإثباتهم الشريك له، وأمّا كفر الطائفة الثالثة فلإنكارهم الصانع، وقد أطبقت الآيات والروايات والأدلّة العقليّة على أنّه تعالى صانع، والموجودات الممكنة جميعها تحت قدرته واختياره، والظاهر أنّ كفر هؤلاء ممّا لا خلاف فيه بين علماء الإسلام، وجملةٌ من النصوص المتوهّم دلالتها على كفر المنجِّم واردة في خصوصهم.

الوجه الثاني: إنّ الأوضاع الفلكيّة، والكيفيّات الكوكبيّة، مؤثّرة في الحوادث على وجه الاشتراك مع الباري تعالى، بمعنى أنّها جزء المؤثّر، والجزء الآخر مشيئة الباري تعالى، ويعدّ المعتقد بذلك سواءٌ اعتقد قدمها أم حدوثها كافر.

أمّا على الأوّل: فلأنّه إنكارٌ لتوحيده الوجودي.

وأمّا على الثاني: فلأنّه إنكارٌ لتوحيده الخَلْقي، الذي دلّت الأدلّة العقليّة والنقليّة عليه، وأنّ اللّه تعالى يفعل ما يشاء، ولا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، وقدر.

ص: 14


1- نسب المحقّق الخوئي القول الأوّل في مصباح الفقاهة: ج 1/248 إلى جمعٍ من الفلاسفة، والقول الثاني إلى جمع آخر.

صَرّح جمعٌ من الأساطين(1) بكفر هذه الطائفة أيضاً، ولعلّ جملةٌ من النصوص التي توهم تضمّنها أنّ المنجِّم كافرٌ ناظرة إلى هؤلاء.

الوجه الثالث: أن يلتزم بتأثيرها في الحوادث السفليّة على وجه الآلية، وكون المؤثّر في الوجود هو اللّه تعالى ، وأنّه الفيّاض على الإطلاق، وهذا على وجهين:

الأوّل: إنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها باختيارها.

الثاني: إنّ اللّه تعالى أودع في طبائع أوضاع الفلكيّات خصوصيّات تقتضي حدوث الحوادث، وتلك الخصوصيّات - كالخصوصيّة المودعة في النار المقتضية للإحراق - وشيءٌ منهما بنفسه لا ينافي أصلاً من أُصول الإسلام كي يكون الاعتقاد به كفراً وزندقة، بل يكون من قبيل الالتزام بتأثير الجواهر السفليّة في الحوادث على سبيل الآليّة، إمّا اختياراً كالأفعال الصادرة عن العبيد، أو لا عن اختيارٍ كالآثار الصادرة عن الموارد العنصريّة كالإحراق الصادر عن النار.

نعم، قد دلّت الآيات والروايات بظاهرها على أنّ حركة الأفلاك قسريّة، وأنّ محرّكها هو الملائكة، فالالتزام بأنّها حيّة مختارة مخالفٌ للشرع وتكذيبٌ للنبيّ المرسل صلى الله عليه و آله، فهو يوجبُ الكفر لذلك، وأمّا الالتزام بالآليّة على الوجه الثاني:

1 - فإن كان التزاماً به على نحو لا يؤثّر الدعاء والصدقة وسائر وجوه البِرّ في المنع عن تأثيرها، فهو أيضاً تكذيبٌ لما جاء به النبيّ الصادق صلى الله عليه و آله، لما دلّ من النصوص(2) المتواترة على أنّ الدّعاء والصدقة وسائر وجوه البرّ تردّ القضاء الذي2.

ص: 15


1- جامع المقاصد: ج 4/32 قوله: (إنّ التنجيم مع اعتقاد أنّ للنجوم تأثيراً في الموجودات السفليّة ولو على جهة المدخليّة حرام، وكذا تعلّم النجوم عليهذا الوجه، بل هذا الاعتقاد كفر في نفسه... الخ). مجمع الفائدة: ج 8/80.
2- وسائل الشيعة: ج 9/384 ح 12296، من لا يحضره الفقيه: ج 4/368 ح 5762.

ينزل من السماء، وتدفع البلاء المبرم.

2 - وإنْ كان التزاماً به بنحوٍ يؤثّر الدّعاء والصدقة وسائر وجوه البِرّ في منع تأثيرها، فكما لا يكون مخالفاً لأصلٍ من أُصول الإسلام لا يكون مخالفاً لما ثبت من الشرع.

ولكن بما أنّه لا طريق لنا في مقام الإثبات، بل دلّت النصوص الكثيرة على أنّ لعلم النجوم واقعاً لا يحيط به غير علّام الغيوب، فإنّ من ارتضاه لغيبه، لا يجوز له العمل به والاعتقاد به.

الوجه الرابع: أن يلتزم بأنّ أوضاع الفلكيّات من تقارن الكواكب وتباعدها ونحو ذلك علامةٌ على الحوادث السفليّة التي تحدث بإرادة اللّه تعالى ، ويكون الربط من قبيل ربط الكاشف والمكشوف، كنصب العَلَم علامةً على مجلس العزاء، وكحركات النبض واختلاف أوضاعها التي هي علامة على ما يعرض للبدن من قُرب الصحّة واشتداد المرض ونحوه، وقد نُسب إلى جماعةٍ من الأساطين(1)الالتزام بذلك، والاعتقاد بذلك ليس كفراً بلا كلام، ولم يحتمله أحد.

نعم، لو كان الاعتقاد به بنحو لا يؤثّر الدّعاء والصَدَقة وسائر وجوه البِرّ في عدم تحقّق المكشوف، كان ذلك منافياً للنصوص المتواترة الدالّة على أنّها تردّ القضاء والبلاء المُبرم، وأمّا الالتزام به بنحو تؤثّر وجوه البِرّ في رفع المكشوف فلا يترتّب عليه محذور.

ويشهد له جملة من النصوص الواردة في المقام، المتضمّنة أنّ عليّاً عليه السلام أعلم5.

ص: 16


1- الدروس: ج 3/165، القواعد والفوائد: ج 2/35.

الناس بهذا العلم(1)، وأنّ أصل الحساب حَقّ (2)، وأنّه عِلمٌ من علوم الأنبياء(3)، وغير ذلك من التعابير.

ولكن المستفاد من النصوص الكثيرة أنّ غير اللّه تعالى ومن ارتضاه لغيبه لا يحيط بواقع هذا العلم - أي بتلك العلامات ومعارضاتها - وأنّ ما وصل إليه المنجِّمون أقلّ قليل من تلك العلامات، ولنِعم ماأفاده الشيخ رحمه الله في المقام حيث قال(4):

(إنّ مَنْ تتبّع هذه الأخبار لم يحصل له ظنّ بالإحكام المستخرجة عنها، فضلاً عن القطع، نعم قد يحصل من التجربة المنقولة خلفاً عن سلف الظنّ بل العلم بمقارنة حادثٍ من الحوادث لبعض الأوضاع الفلكيّة).

أقول: أمّا النصوص(5) المانعة، فلا يدلّ شيء منها على خلاف ما ذكرناه، إذ طائفة منها تمنع عن الاعتقاد بالأحكام المستخرجة عنها، معلّلة بما تقدّم من أنّ غير اللّه تعالى والأنبياء والأوصياء لا يحيط بواقع علم النجوم، وجملة منها متضمّنة لأنّ (مَنْ صَدّق منجّماً أو كاهناً فقد كفر بما أُنزل على محمّد صلى الله عليه و آله)، وأنّ (مَن صَدّق المنجّم فقد استغنى عن الاستعانة باللّه) ونحو ذلك.

وقد توهم: دلالة هذه النصوص على كفر المنجّم بجميع أقسامه، ولكنّه فاسدٌ، بل هي لا تدلّ إلّاعلى أنّ تصديق المنجّم مستلزم لتوالٍ فاسدة، من رفع اليد عن التضرّع والاستعانة باللّه وغيرهما ممّا يوجب رفع المكاره، ويُعين على0.

ص: 17


1- البحار: ج 58/235 ح 15، وفرج المهموم: ج 2/2.
2- وسائل الشيعة: ج 17/141 ح 22196، المناقب: ج 4/264.
3- البحار: ج 58/235 ح 15، وفرج المهموم: ص 23-24.
4- كتاب المكاسب: ج 1/232.
5- وسائل الشيعة: ج 17/144 ح 22205، عوالي اللآلئ: ج 3/140 ح 30.

حصول المطلوب.

وأمّا ما تضمّن ذَمّ المنجّم، فلو سُلّم شمول المنجّم لكلٍّ من الطوائف الأربع المتقدّمة - مع أنّ للمنع عنه مجالاً واسعاً، وعن السيّد شارح «النخبة»(1): (إنّ المنجّم من يقول بقدم الأفلاك والنجوم، ولا يقول بمفلّك ولا خالق) - فهو يُحمل على ما تقدّم بقرينة سائر النصوص.

الموضع الثاني: في الإخبار عن الحادثات والحكم بها، فمحصّل القول فيه: إنّ الإخبار عن تأثير الأوضاع الفلكيّة في الحوادث السفليّة بنحو الاستدلال أو بالمدخليّة حرامٌ ، لكونه كفراً وزندقة.

ودعوى: أنّ الاعتقاد بذلك كفر، لا الإخبار عنه، كما ترى ، إذ لو لم نقل بتقوّم الكفر بالقول، لا ريب في أنّه كفر، والإخبار عن التأثير بنحو الآلية وأنّ المؤثّر حيٌّ مختار، أو مطلقاً مع كونه بنحوٍ لا يؤثّر وجوه البِرّ في رفع الأثر حرامٌ ، لكونه تكذيباً للنبيّ الصادق صلى الله عليه و آله.

هذا فيما علم بكونه تكذيباً له، وإلّا فلا وجه للحرمة، إلّاإذا كان الإخبار جزميّاً، وأمّا مع عدم كونه جازماً بما أخبر به، فإنّه يحرم لكونه كذباً.

وبذلك ظهر حكم ما لو أخبر عن الربط بين الكائنات والفلكيّات لا بنحو التأثير، بل بنحو الكاشفيّة، وأنّه إنْ كان إخباراً عنه بنحوٍ لا يؤثّر وجوه البِرّ في عدم تحقّق المكشوف حَرُم لكونه تكذيباً للنبيّ صلى الله عليه و آله، وإلّا فلا.

أقول: وقد استدلّ لحرمة الإخبار في الجملة أو مطلقاً بوجوه أُخر:).

ص: 18


1- حكاه عنه في كتاب المكاسب: ج 1/105 (ط. ق).

الوجه الأوّل: ما في «المكاسب»، وهي النصوص(1) المتضمّنة على أنّ المنجّم ملعون، وما يقرب من ذلك من التعبيرات.

وفيه: إنّ التنجيم حقيقته استخراج أحكام النجوم عن أُصولها وقواعدها، وليس هو من مقولة الألفاظ.

الوجه الثاني: ما في «المكاسب» أيضاً، من أنّ النصوص(2) الدالّة على أنّ من صَدّق منجِّماً فقد كفر بما أُنزل على محمّد صلى الله عليه و آله، وأنّ من صَدّقه فقد استغنى عن الاستعانة باللّه، تدلّ على حرمة حكم المنجّم بأبلغ وجه.

وفيه: أنّه لا ملازمة بين حرمة التصديق وحرمة الإخبار، فإنّ التصديق يترتّب عليه التوال الفاسدة المتقدّمة، وليس الإخبار كذلك.

ودعوى المحقّق الإيرواني رحمه الله(3): في الجواب عن هذا الوجه، من أنّه يحرم تصديق الفاسق في الأحكام الشرعيّة ولا يحرم إخباره عنها.

ممنوعة: إذ تصديق الفاسق بمعنى الاعتقاد من قوله لا يكون حراماً بلا كلام، وبمعنى الأصل به مع عدم الاعتقاد لا يكون حراماً تكليفاً، بل وضعيّاً كما هو واضح.

الوجه الثالث: إنّ الإخبار مطلقاً تكذيبٌ للمعصوم الصادق، لما دلّ على أنّ لعلم النجوم واقعاً لا يحيط به غير اللّه تعالى والمعصومين عليهم السلام.

وفيه: إنّ تلك الأخبار لا تدلّ على حرمة الاعتقاد لو حصل ولو من التجربة المنقولة خَلَفاً عن سلف بمقارنة حادثٍ من الحوادث لبعض الأوضاع الفلكيّة أو3.

ص: 19


1- وسائل الشيعة: ج 17/141 ح 22201، الخصال: ج 1/297 ح 67.
2- وسائل الشيعة: ج 17/144 ح 22205، عوالي اللآلئ: ج 3/140 ح 30.
3- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/23.

من غيرها، وحرمة الإخبار عنه على فرض حصول العلم والجزم.

الوجه الرابع: ما في «مرآة العقول»، من الاستدلال بالخبر الحسن الذي رواه عبد الملك بن أعين، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي قد ابتليتُ بهذا العلم فأريد الحاجة، فإذا نظرتُ إلى الطالع ورأيتُ الطالع الشرَّ جلستُ ولم أذهب فيها، وإذا رأيتُ الطالع الخير ذهبتُ في الحاجة ؟

فقال عليه السلام: تقضي ؟ قلت: نعم. قال: أحرق كتبك».(1)

بدعوى أنّ قوله عليه السلام: (تقضي) أي تحكم للناس بأمثال ذلك، وتخبرهم بأحكام النجوم، فقوله عليه السلام: (أحرق كُتُبك) يدلّ على عدم جواز ذلك.

وفيه: أنّه يحتمل أن يكون (تقضى) بصيغة المجهول، والمراد حينئذٍ أنّه إن كان حاجتك تُقضى فاحرق كتبك، من جهة أنّها مورثة لقطع التوكّل على اللّه والاعتماد على ما يعتقده من الكتاب، والاستغناء بها عن الدّعاء والصدقة، وهذا بخلاف ما إذا كانت تقضي تارةً ولا تقضي أُخرى .

مع أنّه لو سُلّم أنّه بصيغة المعلوم، فالأمر بإحراق الكتب:

يمكن أن يكون من جهة أنّها داخلة في كتب الضلال حينئذٍ من جهة كثرة ما فيها من الخطأ، وأنّ جُلّ مطالبها مخالفة للواقع لولا كلّها كما دلّت على ذلك نصوص كثيرة.

أو أنّها توجبُ قطعه التوكّل عن اللّه أو غير ذلك.

وعليه، فلا يدلّ على حرمة الإخبار من حيث هو، فالصحيح ما ذكرناه.2.

ص: 20


1- وسائل الشيعة: ج 11/370 ح 15041، من لا يحضره الفقيه: ج 2/267 ح 2402.

الموضع الثالث: في تعلّم هذا العلم:

قد أطال المحقّق المجلسي رحمه الله الكلام في المقام، واستدلّ على حرمة التعلّم والنظر في علم النجوم بنصوص كثيرة غير دالّة، وملخَّص القول فيه:

إنّ ما استدلّ به على حرمة النظر فيها وتعلّم علمها على أقسام:

القسم الأوّل: ما تضمّن ذَمّ المنجّم(1).

القسم الثاني: ما يكون ضعيف السند، مثل ما رواه الصدوق بسند فيه ضعف في كتاب «الخصال»(2) عن الإمام الباقر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال:

«نهى رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن خصال، وساق الحديث إلى أن قال: وعن النظر في النجوم»(3).

القسم الثالث: ما في «نهج البلاغة»، قال عليه السلام(4): «أيّها الناس إيّاكم وتعلّم النجوم إلّاما يهتدى به في برٍّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، المنجّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم اللّه».

أقول: ولا يَصحّ الإستدلال بشيء منها:

أمّا الأوّل: فلما مرَّ من أنّه محمولٌ على المعتقد الذي يخالف أصلاً من أُصول الإسلام أو ضروريّاً من ضروريّات الدِّين، وعليه فهو أجنبي عن المقام.

وأمّا الثاني: فلضعف السند.5.

ص: 21


1- وسائل الشيعة: ج 17/143 ح 22201، بحار الأنوار: ج 55/226 ح 7.
2- الخصال: ج 2/417 ح 10.
3- مرآة العقول في شرح أخبار الرسول: ج 26/471، وسائل الشيعة: ج 17/95 ح 22070.
4- وسائل الشيعة: ج 11/373 ح 15048، نهج البلاغة ص 105.

وأمّا الثالث: فلو سُلّم ظهوره في المنع مطلقاً، يتعيّن صرفه عن ظاهره، لما دلّ من النصوص المعتبرة وغير المعتبرة على الجواز:

منها: الخبر الحسن الذي رواه عبد الملك المتقدّم.

ومنها: صحيح ابن أبي عمير، أنّه قال(1): «كنتُ أنظر في النجوم وأعرفها وأعرف الطالع، فيدخلني من ذلك شيء، فشكوتُ ذلك إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام، فقال: إذا وقع في نفسك شيءٌ فتصدّق على أوّل مسكين ثمّ امض فإنّ اللّه يدفع عنك».

ومنها: ما رواه المجلسي رحمه الله عن السيّد ابن طاوس، عن عبد اللّه بن جعفر الحميري، عن محمّد وهارون ابني أبي سهيل: «أنّهما كتبا إلى أبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ أبانا وجدّنا كان ينظر في النجوم، فهل يحلّ النظر فيها؟ قال عليه السلام: نعم»(2). ونحوها غيرها.

وعليه، فالأظهر وفاقاً لجمعٍ من الأساطين(3) جواز تعلّم علم النجوم والنظر فيه من غير إذعان بما يوجب خلاف أصلٍ من أُصول الإسلام، وخلاف ما ثبت من الشرع الأقدس.

وبالجملة: ظهر بما ذكرناه مفصّلاً ما في كلمات الشيخ الأعظم رحمه الله(4)، فلا حاجة إلى إطالة البحث فيها.

***5.

ص: 22


1- وسائل الشيعة: ج 11/376 ح 15053، من لا يحضره الفقيه: ج 2/269 ح 2406.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/102 ح 14895، بحار الأنوار: ج 55/250 ح 35.
3- فرج المهموم: ص 81 قوله: (لم يمنع العقل والنقل من أن تكون النجوم علامات للحوادث)، الدروس: ج 3/165.
4- كتاب المكاسب: ج 1/205.

حرمة حفظ كتب الضلال

المسألة السابعة: حفظ كتب الضلال حرامٌ في الجملة بلا خلاف، وتنقيح القول في المقام يتحقّق البحث في مواضع:

الموضع الأوّل: في حكمه التكليفي، وأنّه حرام أم لا؟

الثاني: فيما استثنوه في المسألة من الحفظ للنقض والإحتجاج على أهلها، أو الإطّلاع على مطالبهم لتحصل به التقيّة أو غير ذلك.

الثالث: في تنقيح الموضوع والمتعلّق.

الرابع: في حكم المعاملة الواقعة عليها.

أمّا الموضوع الأوّل: فقد استدلّ للحرمة بوجوه:

الوجه الأوّل: حكم العقل بوجوب قطع مادّة الفساد.

وأورد عليه الأستاذ الأعظم(1): بأنّ منشأ حكمه:

إن كان هو قبح الظلم، بدعوى أنّ حفظ هذه الكتب ظلمٌ .

فيرد عليه: أنّه لا دليل على وجوب دفع الظلم في جميع الموارد، وإلّا لوجب على اللّه تعالى المنع عن الظلم تكويناً، مع أنّه تعالى هو الذي أقدر الإنسان على فعل الخير والشَّر.

وإنْ كان مدرك حكمه وجوب الإطاعة وحرمة المعصية لأمره تعالى بقلع مادّة الفساد، فلا دليل على ذلك إلّافي موارد خاصّة.

ص: 23


1- مصباح الفقاهة: ج 1/254.

وفيه: أنّه لو سُلّم كون الحفظ ظلماً، فإنّه لا وجه لمنع قبحه وحرمته، إذ قبح الظلم من الأحكام العقليّة التي يستحيل تخلّفها عن موضوعاتها، إذ كلّ عنوانٍ حُكم عليه بالقبح، لابدّ وأن يكون بنفسه محكوماً به، أو بما هو منتهٍ إلى ما هو كذلك، وعنوان الظلم من العناوين التي بأنفسها يحكم عليها بالقبح، وعليه فمع حفظ عنوان الظلم، فإنّ عدم قبحه خلفٌ لا يمكن الالتزام به.

وأيضاً: لا ريب في أنّ هذا الحكم من العقل سواءٌ أكان بمعنى إدراك العقل وجود المفسدة الإلزاميّة فيه، أم كان بمعنى بناء العقلاء على ذَمّ فاعله، لما فيه من المفسدة النوعيّة المخلّة بالنظام التي تعدّ من الأحكام العقليّة الواقعة في سلسلة علل الأحكام، فبالملازمة يستكشف حرمته، وعليه فالالتزام بكون الحفظ ظلماً، مع عدم حرمته وعدم وجوب دفعه، غريبٌ .

أقول: وأغرب منه ما ذكره من أنّه لو وجب ذلك، لوجب على اللّه تعالى المنع عن الظلم تكويناً.

إذ يرد عليه أوّلاً: إنّ المدّعى كون الحفظ بنفسه ظلماً فيحرم، والنقض بأنّه لو كان كذلك لزم على اللّه المنع من أن يظلم شخصٌ على آخر تكويناً غير مربوط بالاستدلال كما هو واضح.

وثانياً: أنْ نمنع كون كلّ واجبٍ عقلي واجباً على اللّه تعالى .

وعليه، فالصحيح في الجواب عن هذا الوجه أن يقال:

1 - إنّ مدرك حكمه إنْ كان قبح الظلم.

فيرد عليه: منع كون حفظ هذه الكتب ظلماً.

ص: 24

2 - وإن كان هو استقلال العقل بوجوب دفع المنكر، الذي منه ما نحن فيه، على ما صرّح به المحقّق الأردبيلي رحمه الله(1).

فيرد عليه: ما تقدّم من عدم استقلال العقل بقبح ترك النهي عن المنكر، فضلاً عن دفعه، وأنّه يكفي في اللّطف الواجب الترهيب الصادر عن الشارع المقدّس، فراجع(2).

نعم، الفساد الموجب لإحياء الباطل وتشيّيده، يجب دفعه بحكم العقل.

وإن شئت قلت: إنّ العقل مستقلٌّ بقبح إلقاء الفساد، وعليه فيحرم تأليف كتب الضلال.

الوجه الثاني: قوله تعالى: (وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ) (3).

وتقريب الاستدلال به: إنّ المراد بالاشتراء مطلق الأخذ والتسلّط ولو بغير الشراء، كما يشهد له ما دلّ على أنّ الغناء من لهو الحديث(4)، وما دلّ على أنّه هو الطعن في الحَقّ والاستهزاء به(5).

وفيه: أنّه إنْ أُريد من (الاشتراء) معناه الكنائي، فالظاهر أنّه ليس هو الأخذ والتسلّط، بل هو التحدّث به، وعليه فهو داخلٌ في الاضلال عن سبيل اللّه بسبب التحدّث بلهو الحديث، وهذا لا ريب في حرمته، ولكنّه أجنبيٌ عمّا هو محلّ الكلام.6.

ص: 25


1- مجمع الفائدة: ج 7/530.
2- فقه الصادق: ج 19/271.
3- سورة لقمان: الآية 6.
4- وسائل الشيعة: ج 17/305 ح 22600، الكافي: ج 6/431 ح 5.
5- بحار الأنوار: ج 9/136.

وإنْ أُريد منه معناه الحقيقي، فهو يدلّ على حرمة اشتراء كتب الضلال.

أقول: ويشهد لإرادة ذلك منه ما دلّ على ورود الآية الشريفة(1) في النضر بن الحارث الذي كان يسافر إلى بلاد العجم، وكان يشتري كتباً فيها أحاديث الفرس من حديث رستم وغيره، وكان يلهي الناس بذلك ليصدّهم عن سماع القرآن(2).

ودعوى: أنّه وإنْ دلّ على حرمة الاشتراء، إلّاأنّه يدلّ على حرمة الإبقاء والحفظ بتنقيح المناط.

مندفعة: بأنّه لا ملازمة بين حرمة الإشتراء وحرمة الحفظ.

وبعبارة أُخرى : لا ملازمة بين حرمة الحدوث وحرمة البقاء، كما مَرّ مفصّلاً في مبحث اقتناء الصور المُحرّمة(3)، مع أنّه إنّما يدلّ على الحرمة إذا كان الاشتراء للإضلال، فلو دلّ على ما هو محلّ الكلام فإنّما يدلّ على حرمة الإبقاء بقصد ترتّب الضلال عليه، ولا يشمل الإبقاء مع العلم بعدم ترتّب الضلال عليه أو احتمال ذلك.

الوجه الثالث: مدلول قوله تعالى : (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) (4).

تقريب الاستدلال بها - على ما ذكره المحقّق الشيرازي رحمه الله(5) - من أنّ (قَوْلَ اَلزُّورِ) وإن كان ظاهراً في نفسه في التكلّم بالباطل، إلّاأنّه بعدما فُسّرت الآية الشريفة في الأخبار باستماع الغناء، يعلم أنّ المراد به أعمّ من تكلّم نفسه وتكلّم غيره به، وحينئذٍ يستفاد منها لزوم الاجتناب عن كتبه.

وبعبارة أُخرى: المستفاد منها الاجتناب عن مطلق الباطل قولاً كان أو كتابة.1.

ص: 26


1- سورة لقمان: الآية 6.
2- بحار الأنوار: ج 9/134، المناقب: ج 1/52.
3- فقه الصادق: ج 20/315.
4- سورة الحجّ : الآية 30.
5- حاشية المكاسب للشيرازي: ص 71.

وفيه أوّلاً: إنّ صدق (قَوْلَ اَلزُّورِ) على الكتابة ممنوعٌ ، ودعوى تنقيح المناط كما ترى .

وثانياً: إنّ المأمور به في الآية الشريفة ترك إيجاد كلّ ما يصدق عليه قول الزور، ولو كان هي الكتابة، لا ترك الموجود منه بمعنى إعدامه، ولذا ترى أنّه لم يفتِ أحدٌ بوجوب إعدام الكتب التي فيها الأكاذيب والمجعولات، مع أنّ (قَوْلَ اَلزُّورِ) فُسِّر في بعض النصوص بالكذب.

الوجه الرابع: قوله عليه السلام في خبر «تحف العقول»(1): «إنّما حَرّم اللّه تعالى الصناعة التي حرام كلّها التي يجيء منها الفساد محضاً - إلى قوله - وما يكون منه وفيه الفساد محضاً، ولا يكون منه وفيه شيءٌ من وجوه الصلاح، فحرامٌ تعليمه وتعلّمه، والعمل به وأخذ الاُجرة عليه وجميع التقلّب فيه»، بدعوى أنّه يدلّ على أنّ الصنعة المحرّمة - وهي التي من شأنها ترتّب الفساد عليها محضاً - يحرم جميع التقلّب فيها، وكتب الضلال بما أنّها من شأنها ذلك، يحرم التقلّب فيها، ومنه حفظها.

وفيه أوّلاً: قد تقدّم أنّ الخبر ضعيف السند لا يعتمد عليه.

وثانياً: إنّه يدلّ بعد إلغاء الخصوصيّة على حرمة التقلّب في كلّ ما هو منشأ الفساد، ولايدلّ عليحرمة التقلّب في المصنوع وما هو الموجود ممّا هو منشأ للفساد.

وثالثاً: صدق التقلّب على الحفظ ممنوع.

الوجه الخامس: قوله عليه السلام في الخبر: «أو يقوى به الكفر والشِّرك في جميع وجوه المعاصي، أو بابٌ يوهن به الحقّ ، فهو حرام محرّم بيعه وشرائه وإمساكه».5.

ص: 27


1- وسائل الشيعة: ج 17/85 ح 22047، تحف العقول: ص 335.

ويرد عليه: مضافاً إلى ضعف السند، ما تقدّم سابقاً(1) من عدم شموله لغير الكفر والإلحاد من أفراد الضلال.

وأمّا ما ذكره الأُستاذ الأعظم(2) من أنّ الحفظ ليس تقوية للكفر وإهانة للحقّ ، فغريبٌ ، إذ الخبر يدلّ حرمة إمساك شيء يكون كذلك، ومعلومٌ أنّ كتب الضلال مع قطع النظر عمّا ذكرناه تكون كذلك، فيحرم إمساكها وحفظها.

الوجه السادس: ما دلّ على وجوب جهاد أهل الضلال وإضعافهم بكلّ مايمكن، بدعوى أنّه يدلّ على لزوم تدمير مذهبهم بتدمير أهله، وبالأولى تدمير ما يقتضي قوّته.

وفيه: إنّ الحفظ خصوصاً إذا كان غرض الحافظ عدم وقوع الكتب في أيدي الناس ليؤدّي إلى إضلالهم لا يقتضي قوّة مذهبهم.

وبعبارة أُخرى: نفس وجود الكتب لا يوجب تقوية مذهبهم، فلا يجب تدميرها، مع أنّ المراد من أهل الضلال ليس كلّ من يعتقد باطلاً كما هو واضح، مع أنّ الأولويّة ممنوعة.

الوجه السابع: الاستدلال بالخبر الحَسَن المرويّ عن عبد الملك المتقدّم في مبحث التنجيم، حيث شكا عن ابتلائه بالنجوم، فقال له عليه السلام(3): «احرق كتبك»، بدعوى أنّ الأمر للوجوب لا الإرشاد.

وفيه: إنّ التفصيل بين القضاء وعدمه، قرينة لحمل الأمر على الإرشاد.2.

ص: 28


1- فقه الصادق: ج 20/8-19.
2- مصباح الفقاهة: ج 1/256.
3- وسائل الشيعة: ج 11/370 ح 15041، من لا يحضره الفقيه: ج 2/267 ح 2402.

وإنْ شئتَ قلت: أنّه بمقتضى التفصيل القاطع للشركة يدلّ على جواز الحفظ مع القضاء.

الوجه الثامن: الإجماع.

وفيه أوّلاً: إنّه غير ثابت، وأفتى صاحب «الحدائق» رحمه الله بعدم الحرمة(1).

وثانياً: أنّ المتيقّن منه ما يترتّب عليه الإضلال.

وثالثاً: أنّه ليس إجماعاً تعبّديّاً، لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه المتقدّمة.

فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة حفظ كتب الضلال في نفسه ومن حيث هو، نعم لو ترتّب عليه الإضلال، حرم من جهة حرمة إضلال الناس عن الحقّ .

أقول: بقي فرعان أشار إليهما الشيخ رحمه الله:

الفرع الأوّل: ما ذكره رحمه الله(2) بقوله: (ومقتضى الإستفصال في هذه الرواية أنّه إذا لم يترتّب على إبقاء كتب الضلال مفسدة، لم يحرم وهذا أيضاً... الخ).

وحاصله: أنّه على فرض وجود الدليل على حرمة الحفظ، هل يعتبر فيها ترتّب مفسدة عليه أم لا؟ فقد اختار الشيخ رحمه الله الأوّل، واستدلّ له بحسن عبد الملك(3)، وخبر «تحف العقول»(4).

وفيه: إنّ هذا ينافي ما ذكره تبعاً للقوم في مسألة بيع ما لا يقصد منه إلّاالحرام، حيث استدلّوا بخبر «تحف العقول» على الحرمة، ولم يعتبروا فيها ترتّب الفساد5.

ص: 29


1- الحدائق الناضرة: ج 18/141.
2- كتاب المكاسب: ج 1/234.
3- وسائل الشيعة: ج 11/370 ح 15041، من لا يحضره الفقيه: ج 2/267 ح 2402.
4- وسائل الشيعة: ج 17/85 ح 22047، تحف العقول ص 335.

فعلاً، وبنوا على أنّه يدلّ على حرمة بيع ما لا منفعة له إلّاالحرام، وإنْ لم يترتّب على هذا البيع تلك الفائدة، ولازم ذلك البناء على حرمة الحفظ في المقام وإن لم يترتّب عليه مفسدة.

والظاهر أنّ ما ذكروه هناك هو المستفاد من الخبر بقرينة إطلاق ما فيه من الأمثلة، ومقابلة هذه الجملة بالجملة السابقة الواردة في بيان ما يَصحّ بيعه بما فيه الصلاح والمنافع.

نعم، على فرض دلالة حَسَن عبد الملك على حرمة الحفظ يصبح الاستدلال به تامّاً، لكنّك عرفت ما فيه.

الفرع الثاني: ما ذكره رحمه الله(1) بقوله: (نعم المصلحة الموهومة أو المحقّقة النادرة لا اعتبار بها، فلا يجوز الإبقاء... الخ).

ومحصّله: أنّه إذا ترتّبت مصلحة على الحفظ أقوى من المفسدة المترتّبة عليه لا يحرم الحفظ.

وفيه: إنّ المدرك لهذا إنْ كان هو خبر «تحف العقول» الدالّ على أنّ المحرّم هو ما فيه الفساد محضاً.

فيرد عليه: - مضافاً إلى أنّه لا مفهوم له كي يوجب تقيّيد سائر الأدلّة - أنّه إنّما يدلّ على عدم الحرمة، مع كونه ممّا تترتّب عليه مصلحة ولو لم تكن أقوى، بل ولو كانت أضعف، فلا وجه لاعتبار الأقوائيّة.

وإن كان هو مزاحمة المصلحة للمفسدة التي هي منشأ الحرمة.4.

ص: 30


1- كتاب المكاسب: ج 1/234.

فيرد عليه: أنّه لابدّ وأن تكون المصلحة المزاحمة ممّا يجب تحصيله، وتكون أهمّ كي تقدّم على المفسدة، ولا تكون المفسدة منشئاً للحرمة، وإن كان هو عدم عموم لدليل الحرمة، فترفع اليد عنه بمجرّد وجود مصلحة، فلازمه البناء على عدم الحرمة مع وجود المصلحة ولو كانت أضعف، مع أنّه على فرض دلالة ما تقدّم على الحرمة، يكون مطلقاً وشاملاً للصورتين.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر ما يمكن أن يكون مدركاً لما استثنوه وما يرد عليه، فلا نطيل بالإعادة.

أمّا الموضع الثالث: فالظاهر أنّ المراد بالحفظ أعمٌّ من الحفظ من التلف، والحفظ بظهر القلب، بل النَسخ والمذاكرة، وجميع ماله دخلٌ في بقاء المطالب المُضلّة، لو كان المدرك للحرمة هو حكم العقل أو الآيتان الشريفتان أو خبر «تحف العقول».

وأمّا لو كان المدرك حَسَن عبد الملك، فالظاهر أنّ المراد به هو الحفظ من التلف كما لا يخفى .

وأمّا كتب الضلال: فالظاهر أنّ المراد بها ما وضع لحصول الضلال في الإعتقادات أو الفروع، سواءٌ أكانت مطالبها حقّة في أنفسها، كبعض كتب العرفاء والحكماء المشتملة على ظواهر منكرة يدّعون أنّ المراد غير ظاهرها، أم لم تكن كذلك، بل مقتضى الوجوه التي استدلّ بها للحرمة أنّ الموضوع أعمّ من الكتب وغيرها ممّا يوجب الضلال والغواية كالمزار والمقبرة والمدرسة ونحو ذلك.

وأمّا الموضع الرابع: فملخّص القول فيه: أنّه إن كانت لها منافع محلّلة صَحّ بيعها وشرائها، سواءٌ أكان حفظها حراماً أم لم يكن، أمّا إذا لم يكن الحفظ حراماً فواضح،

ص: 31

وأمّا إن كان حراماً فلما تقدّم من أنّ بيع ماله منفعتان محلّلة ومحرّمة جائز، ولا يعتبر قصد المنفعة المحلّلة، بل يَصحّ وإن قصد المنفعة المحرّمة.

أقول: واستدلّ لعدم جواز البيع والشراء:

1 - بآيتي لهو الحديث.

2 - وقول الزور المتقدّمتين.

3 - وبقوله عليه السلام في خبر «تحف العقول»(1): «أو يقوى به الكفر والشرك في جميع وجوه المعاصي، أو بابٌ يوهن به الحقّ ، فهو حرامٌ محرّم بيعه وشرائه... الخ».

4 - وبأنّه يعتبر في صحّة البيع أن لا يكون البائع محجوراً عن التصرّف في المبيع، ليكون له السلطنة الفعليّة على التصرّف فيه، فإذا فرض تعلّق النهي بالحفظ ووجوب الإتلاف، كان النهي معجزاً مولويّاً للمكلّف عن البيع، ورافعاً لسلطنة عليه، ويترتّب عليه فساد المعاملة.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا آية لهو الحديث(2): فما تقدّم من أنّه على فرض إرادة المعنى الحقيقي للاشتراء منها، تختصّ بما إذا كان الاشتراء للإضلال، ولا تدلّ على الحرمة مطلقاً.

مع أنّه إنّما تدلّ الآية على الحرمة التكليفيّة، وهي أعمّ من عدم الجواز وضعاً بناءً على ما حقّقناه في محلّه من عدم دلالة النهي عن المعاملة على الفساد.

وأمّا آية قول الزور: فلما مَرّ من أنّ شمول (قَوْلَ اَلزُّورِ) (3) للكتابة ممنوعٌ ، وأنّه لا تشمل الآية إبقاء الكتاب لو سُلّم شموله لها، مضافاً إلى أنّها إنّما تدلّ على عدم0.

ص: 32


1- وسائل الشيعة: ج 17/83 ح 22047، تحف العقول ص 332.
2- سورة لقمان: الآية 6.
3- سورة الحجّ : الآية 30.

الجواز تكليفاً لا وضعاً.

وأمّا الخبر: فلأنّه ضعيف السند، مضافاً إلى ما تقدّم من عدم شموله لغير الكفر والإلحاد من أفراد الضلال، مع أنّه أيضاً يدلّ على الحرمة، ولا يدلّ على عدم الصحّة.

وأمّا الوجه الأخير: فلأنّ النهي إنّما يدلّ على الزجر عن الحفظ، ولا يكون متعرّضاً لإمضاء البيع على تقدير تحقّقه وعدم إمضائه، مع أنّه قد عرفت عدم الدليل على حرمة الحفظ.

***

ص: 33

موضوع الرَّشوة وحكمها

المسألة الثامنة: الرَّشوة حرامٌ إجماعاً(1)، وقد أدرج الشيخ رحمه الله(2) في هذه المسألة فروعاً:

الفرع الأوّل: في الرَّشوة موضوعاً وحكماً.

أمّا موضوعها: فقد اختلفت كلمات اللّغويين والفقهاء في تحقيق مفهومها، ومجموع ما قيل في ذلك أُمور:

القول الأوّل: ما عن «القاموس» من تفسيرها بالجعل.

القول الثاني: ما اختاره الأستاذ الأعظم(3) من أنّ الرَّشوة ما يعطيه أحد الشخصين للآخر لإحقاق حقّ ، أو تمشية باطلٍ ، أو للتملّق، أو الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، أو في عمل لا يقابل بالأُجرة والجعل عند العرف والعقلاء وإنْ كان محطّاً لنظرهم.

القول الثالث: ما عن «حاشية الإرشاد» من أنّ الرَّشوة ما يبذله المتحاكمان من المال للحاكم، سواءٌ كان للقضاء وتصدّي فصل الخصومة، أم كان للحكم بالواقع أو لنفسه(4).

القول الرابع: ما نُسب إلى جماعةٍ (5) من أنّ الرَّشوة ما يبذله أحد المتحاكمين

ص: 34


1- رياض المسائل: ج 15/53 (ط. ج).
2- ستأتي هذه الفروع تباعاً، راجع كتاب المكاسب للشيخ الأعظم: ج 1/239 (ط. ج).
3- مصباح الفقاهة: ج 1/263.
4- حاشية الإرشاد ص 206.
5- مفتاح الكرامة: ج 10/33.

للحاكم ليحكم له حقّاً كان أو باطلاً.

القول الخامس: إنّها ما يُبذل ليحكم بالواقع، لنفسه كان أو لغيره.

القول السادس: ما عن «المجمع» وهو القدر المتيقّن من مفهومها، وهو الجعل على الحكم بالباطل(1).

أمّا الأوّل: فيرد عليه أنّ لازم ذلك كون أُجرة الأجراء والجَعل في مثل قول القائل: (مَن رَدّ عبدي فله كذا من الرَّشوة)، وهذا ممّا لا يَصحّ التفوّه به.

وأمّا الثاني(2): فقد استشهد له بكلمات بعض اللّغويين، وباستعمالها فيما أعطى للحقّ في الصحيح:

1 - ما ورد في قوله عليه السلام: «عن الرّجل يرشو الرّجل الرَّشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه ؟ قال عليه السلام: لا بأس به»(3).

بدعوى أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة.

2 - وبقوله عليه السلام في صحيح عمّار: «وأمّا الرَّشا في الحكم»(4)، وقريب منه ما في غيره، بدعوى أنّه لو لم يكن مفهوم الرَّشوة عامّاً لغير الأحكام لزم إلغاء التقييد.

3 - وبقوله عليه السلام في خبر يوسف بن جابر: «لعن رسول اللّه عليه السلام من نظر إلى فرج امرأة - إلى أن قال - ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقّهه فسألهم الرَّشوة»(5).

بتوهم أنّه يشمل ما يُدفع لبذل الفقه من القضاء والفصل بين المتخاصمين4.

ص: 35


1- مجمع الفائدة: ج 11/49.
2- كتاب المكاسب ص 119-122 (ط. ق).
3- وسائل الشيعة: ج 17/278 ح 22516، تهذيب الأحكام: ج 6/375 ح 216.
4- وسائل الشيعة: ج 17/92 ح 22057، الكافي: ج 5/126 ح 1.
5- وسائل الشيعة: ج 27/223 ح 33644، الكافي: ج 5/559 ح 14.

والتدريس ونحوهما، وما يدفع لأجل تصدّي ما هو من وظائف الفقيه كحفظ مال الصغير والغائب وغيره.

أمّا شموله للأوّل فواضح، وأمّا شموله للثاني فلصدق الإحتياج إليه لفقهه على أن يكون الفقه واسطة في الثبوت.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ قول اللّغويين ليس بحجّة، لا سيّما في صورة اختلافهم في تعيّين المفهوم.

وأمّا الثاني: فلأنّ أصالة الحقيقة إنّما يرجع إليها لتشخيص المراد، لا لتعيين الموضوع له بعد معلوميّة المراد.

وأمّا الثالث: فلأنّ ذكر القيود التوضيحيّة، سيّما في صورة إجمال المقيّد مفهوماً غير عزيز.

وأمّا الرابع: فلأنّه لا يكون في مقام بيان موضوع الرَّشوة، فعلى فرض كونه هو ما كان بإزاء الحكم بالباطل، لا يكون عموم الصدر قرينةً على إرادة المعنى العام من الرَّشوة، بل المستفاد من الخبر حينئذٍ هو أنّ الملعون الصنف الخاص من الرّجل الذي احتاج الناس إليه لفقهه. وأمّا سائر الوجوه - غير الوجه الأخير الذي هو القدر المتيقّن - فلم يذكروا لشيء منها ما يعيّنه، فالمتيقّن هو القول السادس.

أقول: لكن الإنصاف أنّ دعوى شمولها لما يدفع بإزاء الحكم للباذل مع جهله، سواءٌ طابق الواقع أم لا قريبة جدّاً، كما أنّ دعوى عدم شمولها بحسب المتفاهم العرفي لما يُبذل بإزاء الحكم له بالحقّ مع العلم فضلاً عمّا يبذل بإزاء الحكم بالواقع لنفسه أو لغيره قويّة جدّاً.

ص: 36

حكم الرَّشوة

وأمّا حكمها: فالظاهر أنّ على تحريمها إجماع المسلمين(1)، لو لم تكن من الضروريّات.

ويشهد له: - مضافاً إلى ذلك - وإلى ما دلّ من الأدلّة الأربعة على حرمة الحكم بالباطل، والقضاء مع الجهل بالمطابقة للواقع، بضميمة ما دلَّ على عدم جواز أخذ المال بإزاء العمل المُحرّم، وإلى النصوص الكثيرة، كقوله عليه السلام في صحيح عمّار:

«وأمّا الرَّشا في الحكم، فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم وبرسوله»(2). ونحوه غيره - قوله تعالى : (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) (3)، فإنّها تدلّ على أنّ إدلاء المال إلى الحكّام لإبطال الحقّ ، أو لإقامة الباطل حرامٌ ، وقد عرفت أنّ هذا هو الرَّشوة، وهي وإن دلّت بالمطابقة على حرمة الإعطاء، لكنّها في نفس الوقت تدلّ على حرمة الأخذ أيضاً بالملازمة.

وأورد المحقّق الإيرواني رحمه الله: على الاستدلال بها(4) بأنّه يحتمل قريباً أن يكون المراد إدلاء المال المتنازع فيه إليهم، الحاصل ذلك برفع الخصومات إليهم، فيأكلوا مقداراً من ذلك المال ويحكموا لغير مستحقّه في مقدارٍ آخر.

ص: 37


1- جواهر الكلام: ج 40/131، مسالك الأفهام: ج 13/419.
2- وسائل الشيعة: ج 17/92 ح 22057، الكافي: ج 5/126 ح 1.
3- سورة البقرة: الآية 188.
4- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/25.

وفيه: إنّ هذا الاحتمال مندفعٌ بإطلاق قوله تعالى : (وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ ) (1) فإنّه لو لم يكن ظاهراً في كون ما يدفع إليهم مال المعطي لا ريب في إطلاقه.

وأمّا نزولها في خصوص أموال اليتامى والوديعة والمال المتنازع فيه، فلا يصلح دليلاً على عدم عموم الحكم لغير تلك الموارد بعد إطلاق الآية الشريفة.

بقي الكلام في حكم أخذ المال ليُحكم للباذل بالحقّ مع العلم.

أقول: صورة وجوب القضاء عليه خارجة عن محلّ النزاع، بمعنى أنّ فيها بحثاً آخر وهو جواز أخذ الأُجرة على الواجب وعدمه، وسيأتي الكلام في ذلك مفصّلاً.

وأمّا في صورة عدم التعيّن، فمقتضى العمومات كقوله تعالى : (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (2) و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (3) وغيرهما جوازه وعدم المنع عنه، لكونه عملاً محترماً.

وأمّا الآية الشريفة المتقدّمة(4)، فلا تشمل المقام، لاختصاصها بالحكم بالباطل كما لا يخفى .

وأمّا نصوص الرَّشوة، فقد مرّ أنّها مختصّة بغير المقام، لعدم صدق الرَّشوة على ما يؤخذ للحكم بالحقّ .

وأمّا ما استدلّ به لحرمة أخذ الأُجرة على القضاء، فسيأتي التعرّض له في المسألة الثانية، وستعرف أنّه لا دليل عليها، مع أنّه لو سُلّم ذلك فكون المراد به الأُجرة وما يأخذه في مقابل الحكم غير ثابت، إذ يحتمل أن يكون المراد به ما يأخذه في مقابل تقلّد منصب الحكم والقضاء.

***8.

ص: 38


1- سورة البقرة: الآية 188.
2- سورة النساء: الآية 29.
3- سورة المائدة: الآية 1.
4- سورة البقرة: الآية 188.

أُجور القضاة

الفرع الثاني: في أجر القاضي.

والأقوال فيه ثلاثة:

القول الأوّل: ما نُسب إلى المشهور وهو المنع مطلقاً(1).

القول الثاني: ما هو المنسوب إلى «المقنعة» والقاضي(2) من الجواز كذلك.

القول الثالث: ما هو المنسوب إلى العلّامة رحمه الله في «المختلف» من التفصيل بين:

ما لو كان القضاء واجباً عينيّاً، أو كان القاضي غنيّاً فالمنع.

وبين ما لو لم يكن واجباً عليه عيناً وكان محتاجاً فالجواز(3).

واستدلّ للأوّل:

1 - بخبر يوسف بن جابر المتقدّم(4)، بدعوى أنّ المراد من قوله عليه السلام: «فَسَألهم» مطلق الجعل في مقابل الحكم، ولو كان بالحقّ ، إمّا لأنّها حقيقة فيه، أو أنّه أطلق

ص: 39


1- تكملة العروة الوثقى - السيّد اليزدي: ج 2/19، قوله: (وعن جماعة المنع مطلقاً، بل عن المبسوط أنّه قال: عندنا لا يجوز بحال. وظاهره الإجماع عليه، وعن المعتمد الإجماع عليه مع عدم الحاجة، وعن الكفاية نفى الخلاف فيه مع وجود الكفاية من بيت المال، قال: ومع عدمها ووجود الحاجة قولان أشهرهما المنع، وكذا عن المسالك، وعن بعضهم الجواز مع عدم التعيّن والضرورة، ومع التعيّن الكفاية لا يجوز قولاً واحداً، وفي المستند دعوى ظهور الإجماع على عدم الجواز مع الكفاية) المبسوط: ج 8/161.
2- حكاه عنه صاحب تكملة العروة الوثقى - السيّد اليزدي: ج 2/19، قوله: (وعن جماعة الجواز مطلقاً كما حكي عن القواعد والنهاية والقاضي، وعن المفاتيح نقله عن بعضهم، وعن شرحه إسناد جواز الأخذ إلى المشهور، وظاهره إطلاق الجواز).
3- المختلف: ج 2/164.
4- وسائل الشيعة: ج 27/223 ح 33644، الكافي: ج 5/559 ح 14.

عليه الرَّشوة تأكيداً للحرمة، وإنّ ظاهر قوله عليه السلام: «احتاج النّاس إليه» الاحتياج إلى نوعه لا إلى شخصه.

2 - وبصحيح عمّار المتقدّم: «والسُّحت أنواع كثيرة، منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة، ومنها أُجور القضاة»(1)، بناءً على أنّ الأجر في العرف يشمل الجعل.

ونحوه ما عن «الجعفريّات» إذ فيه: «أنّه جعل من السُّحت أجر القاضي»(2).

3 - بحسن ابن سنان: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ؟ فقال: ذلك السُّحت»(3).

أقول: وأورد عليه الشيخ رحمه الله بإيرادين:

الإيراد الأوّل(4): إن ظاهره كون القاضي منصوباً من قِبل السلطان الجائر.

الإيراد الثاني(5): إنّ المبذول له هو الرزق من بيت المال، وهو غير ما نحن فيه.

وأجاب عنهما بقوله قدس سره: (إلّا أن يقال: إنّ المراد الرزق من غير بيت المال... الخ).

ومحصّله: حمل القاضي على إرادة من يشمل هو قابلٌ في نفسه للتصدّي، وحمل الرزق من السلطان على ما يُبذل من غير بيت المال بإزاء القضاء، بقرينة كلمة (على ) الدالّة على المقابلة.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الرَّشوة قد مرّ عدم شمولها لما يُبذل بإزاء الحكم بالحقّ ، بل هي).

ص: 40


1- وسائل الشيعة: ج 17/95 ح 22068، بحار الأنوار: ج 72/371 ح 11.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/117 ح 14941، الجعفريّات ص 180.
3- وسائل الشيعة: ج 27/221 ح 33640، الكافي: ج 7/409 ح 1.
4- كتاب المكاسب: ج 1/120 (ط. ق) وفي (ط. ج) ص 243 المسألة الثامنة..
5- كتاب المكاسب: ج 1/243 (ط. ج).

مختصّة بما يُبذل بإزاء الحكم بالباطل، أو الحكم للباذل مع الجهل بالمطابقة للواقع.

ودعوى: إطلاق الرَّشوة في خصوص الخبر على مطلق الجعل، قد عرفت ما فيها في المسألة المتقدّمة، وأضف إلى ذلك ضعف الخبر في نفسه لجهالة يوسف وبعضٌ آخر من رجال السند.

وأمّا الحسن: فلأنّ الظاهر منه هو ما يأخذ من السلطان من بيت المال أو من جوائزه، وحيث أنّه ستعرف جواز الارتزاق من بيت المال إذا كان القاضي جامعاً للشرائط، فيتعيّن حمله على ما إذا كان في نفسه غير قابل لذلك، وحرمة أخذه الرزق حينئذٍ واضحة كما سيأتي، وهو غير مربوط بما نحن فيه.

وأمّا الصحيح: - وكذا ما هو بمضمونه - فمنصرفه أو ظاهره ولو بملاحظة العهد إلى القضاة المنصوبون من قبل السلطان الجائر، فحكمه حكم خبر ابن سنان.

واستدلّ للقول الثاني: بخبر ابن حمران، قال:

«سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: من استأكل بعلمه افتقر.

قلت: إنّ في شيعتك قوماً يتحمّلون علومكم، ويبثّونها في شيعتكم، فلا يعدمون منهم البِرّ والصلة والإكرام.

فقال عليه السلام: ليس أُولئك بمستأكلين، إنّما ذلك الذي يفتي بغير علمٍ ولا هُدىً من اللّه ليبطل به الحقوق طمعاً في حطام الدُّنيا»(1).

فإنّ الظاهر منه حصر الاستيكال المذموم، فيما إذا كان بأخذ المال في مقابل الحكم بالباطل، أو مع الجهل بالواقع، فمقتضى مفهومه جواز الاستيكال مع العمل4.

ص: 41


1- وسائل الشيعة: ج 27/141 ح 33427، بحار الأنوار: ج 2/116 ح 14.

بالحقّ والحكم به.

وأورد عليه: بأنّ الحصر إضافي بالنسبة إلى الفرد الذي سأل عنه السائل، فمفهومه عدم الذّم على ذلك الفرد دون سائر الأفراد.

وأُجيب عنه: بأنّه خلاف الظاهر.

أقول: وأيّد الأستاذ الأعظم الإيراد ووجّهه(1) بأنّه لما توهم السائل أنّ من يحمل العلوم ويبثّها في الشيعة، ويصل إليه منهم البِرّ والإحسان من دون أن يطالب من المستأكل بعلمه المذموم، أجاب عليه السلام بأنّ ذلك ليس من الاستيكال المذموم، وأنّ المستأكل هو الذي يفتي بغير علم لإبطال الحقوق، وعليه فمفهوم الحصر هو العقد السلبي المذكور في الخبر صريحاً، ولا يكون الخبر متعرّضاً لحكم سائر الأفراد.

وفيه: إنّه على فرض تسليم دلالة (إنّما) على الحصر، فإنّه لا ينبغي التوقّف في دلالة الخبر على الحصر بالإضافة إلى جميع الأفراد، إذ لو كان المراد ما ذكره، لما كان وجه للتقييد بقوله: «بغير علمٍ ولا هُدىً من اللّه ليبطل به الحقوق».

وبعبارة أُخرى : ذكر خصوص هذا الفرد وحصر المذموم فيه مع عدم كونه مورداً للسؤال، كاشفٌ عن إرادة الحصر بالنسبة إلى جميع الأفراد، وعليه فالإيراد في غير محلّه.

فالصحيح أن يورد عليه: - مضافاً إلى إمكان منع إفادة (إنّما) للحصر، كما حقّقناه في حاشيتنا على «الكفاية» - بأنّ الخبر ضعيف السند لتميم بن بهلول وأبيه.

واستدلّ للقول الثالث: بأنّه في صورة تعيّن منصب القضاء عليه، لا يجوز له أخذ الأجر عليه، لما دلّ على عدم جواز أخذ الأُجرة على الواجب، وفي صورة عدم التعيّن وعدم كونه محتاجاً، لا يجوز الأخذ لما دلّ من النصوص على المنع من أخذ7.

ص: 42


1- مصباح الفقاهة: ج 1/267.

الأجر على القضاء، وأمّا في صورة عدم التعيّن والحاجة فيجوز لاختصاص نصوص المنع بصورة الإستغناء.

أقول: أمّا في صورة التعيّن فلنا فيها كلام سيأتي التعرّض له في بحث أخذ الأُجرة على الواجبات، وأمّا في صورة عدم التعيّن، فعلى فرض تسليم دلالة النصوص على المنع، لم يظهر لي وجه اختصاصها بصورة الاستغناء.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا دليل على المنع من أجر القاضي، فلابدّ من الرجوع إلى ما تقتضيه القاعدة، وهي تقتضي جوازه سواء أكان المراد به ما يُبذل بإزاء حكمٍ بالحقّ ، أم كان المراد به ما يُبذل بإزاء تقلّد منصب القضاء والتهيّؤ لحسم المرافعات، سواءٌ رُفعت إليه خصومة أم لا، لأنّه عملٌ محترم فلا يذهب هدراً.

وممّا ذكرناه ظهر جواز أخذ الأُجرة على تبليغ الأحكام الشرعيّة، وتعليم المسائل الدينيّة.

أقول: استدلّ الأستاذ الأعظم(1) للمنع:

1 - بالإطلاقات الناهية عن أخذ الرَّشوة على الحكم.

2 - وبخبر يوسف بن جابر المتقدّم.

وفيهما نظر:

أمّا الإطلاقات: فلما عرفت من عدم صدق الرَّشوة على ما يؤخذ بإزاء الحكم بالحقّ ، وبيان الأحكام الواقعيّة.

وأمّا الخبر: فلما مرّ، مضافاً إلى ضعف سنده الذي اعترف به.

***8.

ص: 43


1- مصباح الفقاهة: ج 1/268.

الارتزاق من بيت المال

الفرع الثالث: لا خلاف ولا إشكال في أنّه يجوز للقاضي الارتزاق من بيت المال مع حاجته، بل مطلقاً إذا رأى الإمام المصلحة فيه.

وتنقيح القول فيه: إنّ الاتزاق أمرٌ سوى الأُجرة، فإنّه يدفع بسبب كون الشخص قاضياً مثلاً أو مؤذّناً أو نحو ذلك، وهو منوط بنظر الحاكم من دون أن يقدّر بقدر خاص، بخلاف الأُجرة فإنّها تحتاج إلى تقدير العوض، وضبط المدّة، وتقدير العمل.

ثمّ إنّ القاضي إن كان جامعاً لشرائط منصب القضاء جاز ارتزاقه من بيت المال مطلقاً كما هو المشهور، سواءٌ أكان منصوباً من قبل السلطان العادل، أم كان منصوباً من قبل السلطان الجائر، وفرض كونه منصوباً من قبل الجائر مع كونه جامعاً لشرائط منصب القضاء إنّما يكون فيما إذا كان غرضه من قبول المنصب قضاء حوائج الشيعة، وإنقاذهم من الهلكة والشدّة، والتحبّب إلى فقرائهم.

أقول: وكيف كان، فيشهد للجواز:

1 - أنّ بيت المال مُعدّ لمصالح المسلمين، سواءٌ أكان تحت يد العادل أو تحت يد الجائر، وهذا من مهمّاتها لتوقّف انتظام أُمور المسلمين عليه.

2 - ومرسل حمّاد الطويل، وقد جاء فيه قوله عليه السلام: «ويؤخذ الباقي، فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه، وفي مصلحة ما ينويه من تقوية الإسلام وتقوية الدِّين في وجوه الجهاد، وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة»(1).

ص: 44


1- وسائل الشيعة: ج 27/221 ح 33641، الكافي: ج 1/541 ح 4.

3 - وما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام إلى مالك الأشتر، وفيه - بعد ذكر صفات القاضي -: «وأفسح له في البذل ما يزيل علّته، وتقلّ معه حاجته إلى الناس»(1).

4 - ويؤيّده خبر «الدعائم» عن علي عليه السلام أنّه قال: «لابدّ من قاضٍ ورزق للقاضي، وكره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضي لهم، ولكن من بيت المال»(2).

دليل المنع: واستدلّ لعدم جواز الارتزاق من بيت المال مطلقاً أو في ما إذا كان منصوباً من قبل السلطان الجائر بحسن عبد اللّه بن سنان المتقدّم(3): «عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق ؟ فقال: ذلك السُّحت».

وفيه: ما تقدّم من تعيّن حمله على ما إذا كان القاضي فاقداً لشروط منصب القضاء في نفسه.

أقول: وذهب بعضٌ (4) إلى عدم جواز الارتزاق مع تعيّن القضاء عليه، معلّلاً بوجوب القضاء عليه، فلا يجوز له أخذ العوض كما في سائر الواجبات.

وفيه: ما تقدّم من أنّ الارتزاق من بيت المال أمرٌ يُباين الأُجرة.

واختار جماعة(5) عدم جواز الارتزاق مع عدم الحاجة، وعن «المسالك»(6):ر.

ص: 45


1- وسائل الشيعة: ج 27/223 ح 33648، بحار الأنوار: ج 33/604 ح 477.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/353 ح 21559، دعائم الإسلام: ج 2/538 ح 1912.
3- وسائل الشيعة: ج 27/221 ح 33640، الكافي: ج 7/409 ح 1.
4- الكافي للحلبي: ص 283 قوله: (يحرم من المكاسب... وأجر... تنفيذ الأحكام)، مختلف الشيعة: ج 5/18 قوله: (أمّا مع التعيين فلأنّه يؤدّي واجباً فلايجوز أخذ الاُجرة عليه كغيره من العبادات الواجبة).
5- جواهر الكلام: ج 22/122.
6- مسالك الأفهام: ج 13/348 والظاهر أنّ رأيه خلاف الأشهر.

(أنّه الأشهر) واستدلّ له:

1 - بأنّ للمسلم جواز الارتزاق من بيت المال مع الحاجة، ولو بواسطة تقلّد منصب القضاء المانع من التكسّب.

2 - وبأنّ بيت المال معدّ للمحاويج.

أقول: وفيهما نظر، فإنّ بيت المال مُعدّ لمصالح المسلمين، سواءٌ أكان القائم بالمصالح محتاجاً أم لم يكن كذلك، مضافاً إلى إطلاق الخبرين.

نعم، إن لم يكن القاضي واجداً لشرائط منصب القضاء المقرّرة في الشريعة كجُلّ المنصوبين من قبل سلاطين الجور، لا يجوز ارتزاقه من بيت المال من جهتين:

1 - دلالة الخبر الحسن المروي عن ابن سنان.

2 - ولأنّه ليس من موارد مصرف بيت المال.

***

ص: 46

أخذ القاضي للهديّة

الفرع الرابع: في حكم الهديّة وهي ما يبذله على وجه الهبة ليورِثَ المودّة الموجبة للحكم له، حقّاً كان أو باطلاً.

أقول: وفي حرمتها قولان:

القول الأوّل: وهو مختار جماعة منهم صاحب «الجواهر» رحمه الله(1)، والشيخ(2)وغيرهما(3)، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: ما دلّ على حرمة الرَّشوة، بدعوى أنّها تصدق على الهديّة أيضاً.

وفيه: إنّ الرَّشوة هي ما كان بإزاء الحكم، لا ما يُبذل بداعي الحكم، ولا أقلّ من أنّ هذا هو المتيقّن منها، ويشهد له جعل ذلك في مقابل الرَّشوة في خبر الأصبغ(4).

الوجه الثاني: عموم مناط حرمة الرَّشوة، وهو صرف القاضي عن الحكم بالحقّ للمقام.

وفيه: أنّه لا قطع بالمناط كي يَصحّ التمسّك بتنقيح المناط، وإلّا لحرم مثل المدح له وتعظيمه، والمبادرة إلى سماع قوله، وقضاء حوائجه ونحو ذلك.

الوجه الثالث: قوله تعالى: (وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (5)، بتقريب أنّ المال الذي يُهدى قبل الحكم إلى القاضي ليورث المودّة الموجبة للحكم له، وإن لم

ص: 47


1- جواهر الكلام: ج 40/131-133.
2- كتاب المكاسب: ج 1/246.
3- رياض المسائل: ج 8/182 (ط. ج).
4- وسائل الشيعة: ج 17/94 ح 22066، بحار الأنوار: ج 93/303.
5- سورة النساء: الآية 29.

يقابل بالدّاعي الذي دعا إلى البذل في الصورة، إلّاأنّه مقابله في اللب والواقع.

وفيه: ما تقدّم غير مرّة من أنّ الدّواعي لا تُقابل بالمال، ولذا لا يضرّ تخلّف الدّاعي بصحّة المعاملة ولزومها.

الوجه الرابع: ما دلّ على حرمة الإعانة على الإثم.

وفيه: ما تقدّم من أنّه لا دليل على حرمة الإعانة.

الوجه الخامس: ما تضمّن من زجر النبيّ صلى الله عليه و آله عمّال الصدقة عن أخذهم الهدايا، كالنبوي المروي عن أبي حميد الأنصاري قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: والذي نفسي بيده لا يقبل أحدٌ منكم منها شيئاً إلّاجاء به يوم القيامة يحمله على عنقه»(1).

ويرد عليه: أنّ الخبر ضعيف السند لكونه نبويّاً مرويّاً عن طرق العامّة.

الوجه السادس: ما رواه الصدوق في «عيون الأخبار» عن مولانا الرضا عليه السلام، عن عليّ عليه السلام: «في تفسير قوله تعالى: (أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ) (2) هو الرّجل يقضي لأخيه الحاجة ثمّ يقبل هديّته»(3).

وفيه: - مضافاً إلى عدم اعتبار الخبر من حيث السند - أنّ ظاهره حرمة أخذ الهديّة المتأخّرة عن قضاء الحاجة، وحيث أنّه لم يفتِ أحدٌ بالحرمة في الفرض، فيتعيّن حمله على الكراهة، ورجحان التجنّب عن قبول الهدايا من أهل الحاجة إليه، لئلّا يقع في الرَّشوة يوماً، فإنّ ذلك أولى من حمله على الهديّة المتقدّمة مقيّداً لها بما إذا كانت بداعي الحكم له بالباطل، كما لا يخفى .5.

ص: 48


1- صحيح مسلم: ج 6/11، سنن البيهقي: ج 4/158.
2- سورة المائدة: الآية 42.
3- وسائل الشيعة: ج 17/95 ح 22067، بحار الأنوار: ج 101/273 ح 5.

الوجه السابع: ما رواه الأصبغ، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

«أيما والٍ احتجب عن حوائج الناس احتجبَ اللّه عنه يوم القيامة وعن حوائجه، إن أخذ هديّة كان غلولاً، وإن أخذ الرشوة فهو مشرك»(1).

ويرد عليه: - مضافاً إلى ضعف سنده لأبي الجارود وسعد الإسكاف -: أنّه يدلّ على حرمة أخذ الوالي الهديّة لا أخذ القاضي لها، ولعلّ وجه حرمته ما ذكره بعض المحقّقين من أنّها تكون عن كُرهٍ ، ودفعاً لظلمه وجوره، أو يُحمل دفعها على الكراهة أو غير ذلك من المحامل المذكورة في المطوّلات.

الوجه الثامن: ما ورد من أنّ هدايا العمّال غَلول، وفي آخر أنّها سحتٌ (2).

وفيه: - مضافاً إلى ضعف السند - أنّه إمّا أن يُراد من هذه النصوص ما يهديه العمّال إلى الرعيّة، أو يكون المراد ما يهديه العمّال إلى الولاة، وعلى أيّ تقديرٍ تكون أجنبيّة عن المقام:

أمّا على الأوّل: فواضحٌ ، فإنّها حينئذٍ تكون من النصوص المتضمّنة عدم جواز أخذ جوائز السلطان وعمّاله، وسيجيء الكلام عن ذلك في محلّه.

وأمّا على الثاني: فلما مرّ في سابقه.

فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة أخذ القاضي الهديّة.

وعليه، فالأقوى جوازه سواءً أكانت متقدّمة على الحكم أم متأخّرة عنه، وسواءٌ أكانت لإقامة العلاقات الشخصيّة، أم تقرّبها بها إلى اللّه، أم كانت بداعي الحكم بالباطل أو بالحقّ ، أو الأعمّ منهما، لعموم دليل صحّة الهبة وجوازها.

***ي.

ص: 49


1- وسائل الشيعة: ج 17/94 ح 22066، بحار الأنوار: ج 72/345 ح 42.
2- راجع بحار الأنوار: ج 23/14 - من طبع الكمباني، وفي وسائل الشيعة ج 27 باب 8 من أبواب آداب القاضي.

حكم قبول الرَّشوة في غير الأحكام

يقع البحث في أنّه هل يحرم قبول القاضي الرَّشوة في غير الحكم أم لا؟ فيه وجهان:

أقول: أخذ المال في مقابل غير الحكم:

تارةً : يكون لإصلاح أمرٍ مباح.

وأُخرى: لإتمام أمرٍ محرّم.

وثالثة: لإتمام أمرٍ مشترك بين المحلّل والمحرّم.

أمّا الأوّل: فلا ريب في جوازه، إذ العمل في نفسه جائز، ويصلح أن يقابل بالمال، ويشهد له - مضافاً إلى ذلك -:

1 - صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يرشو الرجل الرَّشوة على أن يتحوّل عن منزله فيسكنه غيره ؟ قال عليه السلام: لا بأس به»(1).

والمراد بالمنزل المشترك ما يشترك فيه الناس كالمدرسة والمسجد ونحوهما.

2 - وخبر الصيرفي، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام وسأله حفص الأعور، فقال:

إنّ عمّال السلطان يشترون منّا القِرَب والأداوي، فيوكلون الوكيل حتّى يستوفيه منّا، ونرشوه حتّى لا يظلمنا؟

فقال عليه السلام: لا بأس ما تصلح به مالك، ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: أرأيت إذا أنتَ رشوته يأخذ أقلّ من الشرط؟

ص: 50


1- وسائل الشيعة: ج 17/278 ح 22516، تهذيب الأحكام: ج 6/375 ح 216.

قلت: نعم، قال عليه السلام: فسدت رشوتك»(1).

وأورد عليه الأستاذ الأعظم(2): بأنّه ضعيف لإسماعيل بن أبي سمّاك.

وفيه: إنّ العلّامة رحمه الله وإن ضعّفه، ولكن النجاشي وثّقه(3)، والظاهر أنّ منشأ تضعيف العلّامة إيّاه كونه واقفيّاً، وهو كما ترى .

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من عدم صدق الرَّشوة على ما يُبذل بإزاء غير الحكم.

وثانياً: إنّ نصوص حرمة الرَّشوة على قسمين:

القسم الأوّل: ما تدلّ على حرمة الرَّشوة في الحكم.

القسم الثاني: ما تدلّ على حرمتها من دون تقيّيد بالحكم.

والقسم الأوّل لا يشمل المقام، والقسم الثاني ضعيف السند.

وثالثاً: ما ادّعاه الشيخ رحمه الله(4) من انصراف النصوص إلى الرّشوة في الأحكام.

ورابعاً: إنّه لو سُلّم شمولها للمقام، لابدّ من تقييد إطلاقها بالخبرين المتقدّمين.

وأمّا الثاني: فلا ينبغي التوقّف في حرمته لحرمة أخذ المال على عمل محرم، ويشهد له - مضافاً إلى ذلك - موثّق الصيرفي المتقدّم.

ودعوى: أنّ ظاهره كون الرَّشوة لدفع الظلم، وأنّ أصل إلزامه بالشرط وقع ظلماً وعلى وجه الإجبار، فلا تكون الرَّشوة لأخذ الأقلّ من الشرط من أخذ المال بإزاء المحرّم.).

ص: 51


1- وسائل الشيعة: ج 18/96 ح 23229، تهذيب الأحكام: ج 7/235 ح 45.
2- معجم رجال الحديث: ج 22/69.
3- حكاه العلّامة في رجاله: ص 199 عن النجاشي، راجع الباب الثاني: إسماعيل بن سمّاك.
4- كتاب المكاسب: ج 1/247، و ج 1/122 (ط. ق).

مندفعة: بأنّ ظاهر الخبر هو التفصيل بين ما يؤتي لدفع الظلم، وبين ما يُبذل بإزاء الأقلّ من الشرط، وليس فيه ما يكون ظاهراً في كون الشرط واقعاً ظلماً.

وأمّا الثالث: فإن قَصَد به الجهة المحرّمة فهو حرام، فتأمّل.

وإنْ قصد المحلّلة فهو حلال.

وإنْ لم يقصد شيئاً منهما، بل بذل المال لإصلاح أمره حلالاً أم حراماً، فقد ذهب الشيخ رحمه الله(1) إلى الحرمة، واستدلّ له:

1 - بأنّه أكلٌ للمال بالباطل.

2 - وبفحوى إطلاق ما تقدّم في هديّة الولاة والعمّال.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ أكل المال في مقابل العمل المشترك بين المحلّل والمحرّم ليس أكلاً للمال بالباطل.

وأمّا الثاني: فلما مَرّ من ضعف سند تلك النصوص، وأنّها محمولة على غير ظاهرها، فراجع(2).

أقول: وأمّا ما أورده الأُستاذ الأعظم(3) من أنّ حرمة الهديّة لها تقتضي حرمة إعطاء الرَّشوة لهما، ولا دلالة لها على حرمة الرَّشوة على غيرهما من الناس، فغير واردٍ، إذ مراد الشيخ رحمه الله أنّ تلك النصوص بإطلاقها تدلّ على حرمة الهديّة بداعي قضاء الحاجة المشتركة، فإذا كانت الهديّة بهذا الدّاعي حراماً، كان بذل المال بعنوان المقابلة أولى بالحرمة، فالصحيح ما ذكرناه.2.

ص: 52


1- كتاب المكاسب: ج 1/158.
2- صفحة 48 و 49 من هذا المجلّد.
3- مصباح الفقاهة: ج 1/272.

حكم المعاملة المحاباتيّة مع القاضي

بحثٌ : هل يلحق بالرشوة أو تعدّ منها المعاملة المشتملة على المحاباة كبيعه من القاضي ما يساوي عشرة دراهم بدرهم، أم لا؟

أم هناك تفصيل ؟ وجوه:

ومحصّل الكلام:

أنّه تارةً : لا يقصد من المعاملة إلّاالمحاباة التي في ضمنها، لا بمعنى عدم إنشاء المعاوضة أصلاً، فإنّ ذلك خروج عن محلّ الكلام، بل بمعنى أنّ المقصود الأصلي من المعاملة إيصال الزائد إلى القاضي ليحكم له.

وبعبارة أُخرى : كان قصده للمعاملة تبعيّاً مقدميّاً لأجل أن يتوصّل إلى المحاباة.

وأُخرى : يقصد المعاملة ولكن قام بالمحاباة لأجل الحكم له، بمعنى أنّ الحكم له من قبيل الشروط التي تواطياً عليها، والتي هي بحكم التصريح بها في العقد.

وثالثة: يقصد المعاملة وحابي فيها لأجل استمالة قلب القاضي.

أقول: والكلام في حكم هذه الصور يقع:

أوّلاً: في حكمها التكليفي.

وثانياً: في حكمها الوضعي.

أمّا الصورة الأُولى : فقد يقال بالحرمة في الصورة الأُولى من جهة كون الناقص يعدّ من الرّشا المحرّم.

وفيه: إنّ الرَّشوة هي بذل المال بإزاء الحكم، وفي المقام المال إنّما يبذل بإزاء

ص: 53

الثمن، غاية الأمر أنّ الدّاعي هو الحكم.

واستدلّ المحقّق التّقي عليها:(1) بأنّ عنوان الرَّشوة يصدق على نفس المعاملة.

وفيه: المعاملة عنوانٌ منتزع من بذل المال بإزاء الثمن وقبول صاحب الثمن، فالمقابلة إنّما هي بين المالين، وليس غير ذلك شيء يقابل الحكم كي تكون هو الرَّشوة، فتدبّر.

نعم، بعض الوجوه التي استدلّ بها على حرمة الهديّة يدلّ على حرمة المعاملة المحاباتيّة، لكن عرفت ما فيها فالأظهر عدم الحرمة.

وأمّا في الصورة الثانية: فإن قلنا بأنّ الشرط مطلقاً حتّى مثل هذا الشرط غير المذكور يقسّط عليه الثمن، ويحرم إعطاء مقدار ما قابل الشرط لكونه رشوة، وإلّا فحكم هذه الصورة حكم الصورة الأُولى ، وأولى بعدم الحرمة الصورة الثالثة كما لا يخفى .

وأمّا الثاني: ففي «الجواهر» اختيار عدم الصحّة، وتبعه الشيخ رحمه الله(2) حيث قال:

(وفي فساد المعاملة المُحابى فيها وجهٌ قويّ )، واستدلّ له في جميع الصور بالنصوص الدالّة على بقاء المال على ملك الراشي بأيّ طريق كان.

وفي الصورة الثالثة: بأنّ ذلك مقتضى النهي عن الرَّشوة الصادقة على المعاملة في المقام، وبأنّ إعطاء الرَّشوة صادق على دفع المبيع الذي حابى في معاملته، فيكون الدفع حراماً، وهو لا يجامع صحّة المعاملة، إذ صحّتها ملازمة لوجوب الدفع.).

ص: 54


1- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/75.
2- كتاب المكاسب: ج 1/249 (ط. ج).

وفي الصورة الثانية: بأنّ الشرط الفاسد مفسد.

أقول: وفي جميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ غاية ما يستفاد من النصوص، بقاء المال على مِلْك الراشي إن لم يكن بعقدٍ من العقود، مع أنّك عرفت عدم صدق الرَّشوة على المعاملة المُحابى فيها.

وأمّا الثاني: فلأنّه يرد عليه - مضافاً إلى ما تقدّم من منع صدق الرَّشوة عليها أنّ حرمة المعاملة غير ملازمة لفسادها، كما حقّقناه في محلّه، واعترف به الشيخ رحمه الله(1) في مسألة الإعانة على الإثم.

وأمّا الثالث: فلأنّه يرد عليه - مضافاً إلى أنّ الدفع الواجب بمقتضى المعاملة الواقعة لا يكون مصداقاً للرشاء - إنّه لا يتأتّى فيما كان مقبوضاً قبل المعاملة، أو كان في حكم القبض ممّا هو ثابت في الذمّة، كما صرّح بذلك بعض مشايخنا المحقّقين رحمه الله.

وأمّا الرابع: فلأنّ الشرط الفاسد لا يكون مفسداً كما سيأتي التعرّض لذلك في بحث الشرط الفاسد من هذا الشرح، فالأظهر هي الصحّة.

حكم الرَّشوة وضعاً

بحث: في إنّه في مورد الحكم بحرمة الأخذ، فهل يجب الرَّد على الآخذ لو أخذ أم لا؟

أقول: محصّل الكلام في هذا المقام أنّ كلّ ما يعطي الباذل بعنوان الرَّشوة التي حقيقتها على ما عرفت بذل المال للقاضي ليحكم له، لا ريب في ضمان القابض إيّاه،

ص: 55


1- كتاب المكاسب: ج 1/145.

فيجبُ عليه ردّه أو رَدّ بدله، لأنّ المال إنّما يقع في مقابل الحكم، فيكون ذلك في الحقيقة إجارة فاسدة أو شبيهاً بها، فيكون من صغريات القاعدة المصطادة من النصوص الواردة في باب الضمان والمعبّر عنها ب (ما يُضمَن بصحيحه يُضمن بفاسده).

وأمّا ما يُبذل بعد المعاملة المحاباتيّة:

فإنْ بنينا على فساد المعاملة، يكون القابض ضامناً له لقاعدة ما يُضمن.

ومع عدم البناء على فساد المعاملة فلا ضمان، ولا يخفى وجهه.

وأمّا ما يُعطى مجّاناً بعنوان الهديّة، فالظاهر أنّ القابض لا يضمن، إذ غاية ما تدلّ عليه الأدلّة المتقدّمة كونها هبة فاسدة، فتكون من صغريات عكس القاعدة، والمعبّر عنه ب (ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده).

أقول: واستدلّ للضمان فيه بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ مقتضى النصوص الدالّة على أنّ الرَّشوة سحتٌ ، بقائها على مِلْك المالك، فإذا أخذها القابض كان ضامناً.

وفيه: إن تلك النصوص إنّما تدلّ على حرمة الأخذ، ولزوم رَدّ المال إلى صاحبه مع بقائه، ولا تدلّ على الضمان بعد التلف.

الوجه الثاني: عموم قاعدة (على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي).

وفيه: إنّه مختصّ بغير اليد المتفرّعة على التسليط المجّاني، ولذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير المقام.

وفي كلام بعض معاصري الشيخ رحمه الله(1): (أنّ احتمال عدم الضمان في الرَّشوة9.

ص: 56


1- جواهر الكلام: ج 22/149.

مطلقاً غير بعيد)، وعلّله بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ المالك سلّطه عليها مجّاناً، فلا وجه للضمان.

وفيه: إنّ التسليط إنّما يكون في مقابل الحكم لا مجّانيّاً.

الوجه الثاني: إنّها تشبه المعاوضة، و (ما لا يُضمن بصحيحه لا يُضمن بفاسده).

أقول: وتقريبه بنحوٍ يندفع ما أورد عليه في «المكاسب»(1)، وما ذكره بعض مشايخناالمحقّقين رحمه الله من أنّه تصحيف من النسّاخ، والأصَحّ أنّها تشبه الهبة الفاسدة.

أنّ إعطاء الرَّشوة مطلقاً شبيه بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول، الذي هو الموضوع للقاعدة، وليس مراده المعاوضة المشتملة على العوض من الطرفين حتّى يرد عليه ما ذكره الشيخ رحمه الله(2).

وبالجملة: فالصحيح في الجواب عنه هو أنّ إعطاء المال بإزاء الحكم إمّا أن يكون إجارة أو شبيهاً بها، فيكون موجباً للضمان لقاعدة (ما يُضمن...).

***0.

ص: 57


1- كتاب المكاسب: ج 1/250.
2- كتاب المكاسب: ج 1/250.

بحث عن اختلاف الدافع والقابض

أقول: بقي الكلام في اختلاف الدافع والقابض، فقد ذكر الشيخ رحمه الله(1) في المقام فروعاً ثلاثة:

الفرع الأوّل: أن يتسالم المترافعان على عقدٍ واحد، ولكن القابض يدّعي صحّته والدافع فساده، كما لو ادّعى القابض كونه هبةً صحيحة، والدافع ادّعى كونه هديّة على سبيل الرَّشوة، وهذا النزاع إنّما يترتّب عليه الأثر فيما إذا كانت الدعوى قبل التلف، مع كون الهبة لذي رحم، أو على وجه قربي، فإنّه يترتّب عليه حينئذٍ جواز استرجاع العين من الموهوب له وعدمه، وفيما إذا كانت الدعوى بعد الإتلاف، فإنّه يترتّب على النزاع حينئذٍ ضمان الموهوب له، إذ لو كان هبةً صحيحة لا يضمن الموهوب له لأنّه أتلف مال نفسه، ولو كان هبة فاسدة ضمن بمقتضى قاعدة اليد والإتلاف، وإنّما خرج من القاعدة صورة التلف وبقي الباقي.

وبذلك ظهر ما في كلام الأستاذ الأعظم(1) حيث قال إيراداً على ما ذكره الشيخ رحمه الله بقوله(3): (ولأصالة الضمان إذا كانت الدّعوى بعد التلف، لأنّ النزاع بعد التلف لا أثر له، إذ لا ضمان للهبة بعد التلف، سواءٌ كانت صحيحة أم فاسدة)، ثمّ استدلّ لتقديم قول الدافع: (بأنّ الدافع أعرف بنيّته).

وأورد عليه: بأنّه لا دليل على تقديم قول الأعرف.

وأُجيب عنه: بأنّه يرجع إلى اعتبار قول الشخص فيما لا يعلم إلّامن قبله.

ص: 58


1- مصباح الفقاهة: ج 1/276.

أقول: ونوقش في هذا الجواب بوجهين:

الوجه الأوّل: ما ذكره المحقّق الإيرواني رحمه الله(1) من أنّ تقديم قول من يدّعي ما لا يعلم إلّامن قِبله غير مرضيّ عند الشيخ رحمه الله، وقد صرّح في الخيارات بعدم نهوض الدليل على ذلك عموماً.

وفيه: إنّ الشيخ رحمه الله(2) يدّعي في الخيارات اختصاص النصوص بموارد خاصّة، وإنّه لم يدلّ على العموم دليل، ولكن يمكن أن يكون نظره في المقام إلى ما ادّعاه الفقهاء في باب الحيض في مسألة إخبار المرأة بالحيض أو الطُهر من دلالة أدلّة قبول قول ذي اليد على حجيّة إخبار الشخص عمّا في نفسه؛ إمّا بأنفسها أو بالأولويّة، وعليه فلا يرد عليه هذا الإيراد.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقّق التّقي رحمه الله، من أنّه(1) لو تمّ ذلك فإنّما هو فيما إذا كان النزاع في نفس الأمر الخفي، لا في أنّ الأمارة التي أقامها عليه كانت كذا وكذا، كما في ما نحن فيه، حيث إنّ النزاع في أنّ الأمارة التي أقامها على نيّته عند المعاملة هل كانت دالّة على قصد الرَّشوة أو على قصد الهبة.

وفيه: إنّ الهبة الخارجيّة لا تختلف باختلاف القصد والنيّة كي يكون النزاع في دلالة الأمارة، بل هي على نسق واحد، وعلى ذلك فلا محالة يكون النزاع في نفس ذلك الأمر الخفيّ .

واستدلّ له أيضاً: بأصالة الضمان في اليد إذا كانت الدعوى بعد التلف، إذ مقتضى عموم (على اليد) هو الضمان حتّى يقوم دليل مخرج.6.

ص: 59


1- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/76.

وأورد عليه:

تارةً : بأنّ موضوع القاعدة هو اليد الواقعة على ملك الغير، حيث يدّعي القابض أنّ يده على ملكه، واستصحاب عدم السبب الناقل - أعني الهبة الصحيحة - لا يعين حال اليد الخارجيّة، وأنّها يدٌ على مال الغير كي يَصحّ التمسّك بعموم (على اليد) كما في تعليقة المحقّق الإيرواني(1) أم لا.

وأُخرى: بأنّ عموم (على اليد) مختصٌّ باليد العادية، ومع الإغماض عنه، فإنّ الشبهة تكون مصداقيّة كما في «ملحقات العروة»(2).

وثالثة: بأنّه ما الوجه في التقييد بما إذا كانت الدعوى بعد التلف، مع أنّ ما يمكن أن يستدلّ به على الضمان بعد التلف يدلّ عليه قبله أيضاً.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ الدافع والقابض يتّفقان على ورود اليد على ملك الدافع، إذ القبض جزء المملك في الهبة، والقابض يدّعي أنّ ورودها مملّك والدافع ينكر.

وأمّا الثاني: فلأنّ قاعدة (على اليد) قاعدة عامّة، غاية الأمر أنّها تختصّ في المورد بما إذا لم يكن المبذول على وجه الهبة الصحيحة، وعليه فيمكن إحراز هذا الجزء من الموضوع بالأصل، وبضمّ ذلك إلى الجزء الآخر المُحرَز وجداناً يلتئم الموضوع، ويترتّب عليه الحكم، ولا يعارض هذا الأصل أصالة عدم الهبة الفاسدة لعدم ترتّب الأثر عليها.

وأمّا الثالث: فلأنّ الدعوى:6.

ص: 60


1- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/27.
2- تكملة العروة الوثقى: ج 2/26.

إنْ وقعت قبل التلف، فلا مورد للتمسّك بقاعدة اليد، لوجود الأمارة على كونه مِلْكاً للقابض، وهي اليد التي تكون أمارة على الملكيّة حين وجودها، خاصّة بناءً على حجيّة اليد، مع الاعتراف بسبق مِلْك الغير لما في يده، كما استظهره الشيخ رحمه الله(1) من الصحيح الوارد في محاجّة أمير المؤمنين عليه السلام مع أبي بكر في أمر فدك(2).

وإمّا إنْ وقعت الدعوى بعد التلف، فحيث إنّه لا حكم لليد - إذ لا دليل على اعتبار اليد السابقة - فالمرجع إلى قاعدة الضمان، ولكن التحقيق هو عدم الضمان لما ذكره الشيخ رحمه الله بقوله(3): (والأقوى تقديم الثاني، لأنّه يدّعي الصحّة) وهو إشارة إلى أصالة الصحّة في العقود، المقدّمة على جميع الأُصول الموضوعيّة التي عليها بناء العقلاء وإجماع العلماء.

الفرع الثاني: أن يدّعي الدافع فساد العقد، والقابض يدّعي صحّته، مع الاختلاف في مصبّ الدعوى، كما إذا ادّعى الدافع أنّ المبذول رشوة أو أُجرة على المحرّم، والقابض يدّعي أنّه موهوب بهبة صحيحة.

أقول: تقديم قول الدافع أو القابض في المقام، يدور مدار حجيّة أصالة الصحّة فيما إذا لم يكن مصبّ الدعوى أمراً واحداً معلوماً للمترافعين وعدمها:

إذ على الأولى يُقدَّم قول القابض، لما تقدّم في الفرع السابق.

وعلى الثاني يُقدَّم قول الدافع، إذ الأثر مترتّب على وقوع العقد الصحيح1.

ص: 61


1- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/76.
2- وسائل الشيعة: ج 27/293 ح 33781، الاحتجاج: ج 1/9.
3- كتاب المكاسب: ج 1/251.

وعدمه، فتجري أصالة عدمه غير المعارضة بأصالة عدم تحقّق الرَّشوة المحرّمة، أو الأُجرة الفاسدة لعدم ترتّب الأثر عليهما، إذ موضوع الأثر - أي الضمان - هو وضع اليد على مِلْك الدافع مع عدم تحقّق السبب الناقل، سواءٌ تحقّق معه شيء من الأسباب الفاسدة أم لم يتحقّق، فإذا انضمّ إلى ما هو محرز بالوجدان - وهو وضع القابض يده على ملك الدافع، فإنّ من خلال الأصل المزبور يلتئم الموضوع، ويترتّب عليه الحكم، وحيث إن مدرك أصالة الصحّة هي الأدلّة اللّبيّة، فلابدَّ من الأخذ بالقدر المتيقّن، وهو ما إذا كان مصبّ الدعوى عقداً واحداً.

وبالجملة: فالأظهر هو تقديم قول الدافع على قول القابض.

الفرع الثالث: أن يتوافق المترافعان على فساد الأخذ والإعطاء، ولكن الدافع يدّعي أنّ المبذول رشوة مثلاً فيضمن القابض، لكن القابض يدّعي أنّه موهوب بهبة فاسدة، فلا يكون موجباً للضمان.

أقول: والظاهر هنا أيضاً تقديم قول الدافع، وذلك لأنّ موضوع الضمان هو وضع اليد على مِلْك الغير، إذا لم تكن متّصفة بالمجانيّة، لا ما إذا كانت متّصفة بعدم المجانيّة، إذ الخارج عن تحت عموم (على اليد) هو التسليط المجّاني، وعليه فتجري أصالة عدم تحقّق التسليط المجّاني، ويضمّ ذلك إلى ما هو مُحرَزٌ بالوجدان وهو وضع اليد على مال الغير، فيترتّب عليه الحكم وهو الضمان.

وبهذا التقريب اندفع ما أورده المحقّق الإيرواني(1) على هذا الوجه، بأنّ الأصل المزبور لا يثبت أنّ اليد الخارجيّة ليست يداً مجّانيّة.7.

ص: 62


1- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/27.

وتمام الكلام في جريان هذا الأصل، وأنّ تخصيص العام بمخصّص منفصل، أو كالاستثناء من المتّصل، يوجبُ تعنون موضوع العام بعدم كونه متّصفاً بعنوان الخاص، لا تعنونه بكونه متّصفاً بعدمه كي لا يفيد الأصل المزبور، موكولٌ إلى محلّه(1)، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في «حاشيتنا على الكفاية» في مبحث العام والخاص.

تنبيه: ولا مجال لأن يعارض هذا الأصل أصالة عدم تحقّق سبب الضمان - أي استصحاب عدم المركّب المتحقّق قبل زمان الشكّ - إذ لا أثر للمركّب بما هو مركّب - أي وصف الاجتماع - وإنّما الأثر يترتّب على ذوات الأجزاء التوأمة.

ودعوى الشيخ رحمه الله:(2) في وجه عدم الجريان من حكومة أصالة عدم تحقّق التسليط المجّاني على هذا الأصل، وتوضيحه بما أفاده المحقّق النائيني قدس سره في «رسالة لباس المشكوك»(3) من أنّ الشكّ في وجود المركّب مسبّبٌ عن الشكّ في وجود أجزائه، والأصل الجاري في السبب حاكمٌ على الأصل الجاري في المسبّب.

ممنوعة: إذ حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي إنّما تكون فيما إذا كانت السببيّة شرعيّة، والسببيّة في المقام ليست شرعيّة، ولعلّه لذلك أمر بالتأمّل، واللّه العالم.

***7.

ص: 63


1- زبدة الاصول: ج 5/239.
2- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/27.
3- زبدة الاُصول: ج 6/85، أجود التقريرات: ج 2/426-427 (ط. ق)، وفي الطبعة الجديدة: ج 4/146-147.

حرمة سَبّ المؤمن

المسألة التاسعة: سَبّ المؤمنين حرامٌ في الجملة بالأدلّة الأربعة.

أمّا الكتاب: فبقوله تعالى : (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) (1) فإنّ السَّب من أوضح مصاديق قول الزور.

وأمّا العقل: فإنّه مستقلٌّ بذلك، لأنّ السَّب ظلمٌ وإيذاءٌ وإذلال.

وأمّا الإجماع:(2) فالظاهر أنّ على ذلك إجماع المسلمين.

ومن السُنّة: نصوص كثيرة:

منها: خبر أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه»(3).

وهذه الرواية موثّقة، والتعبير فيها بالفسوق وفي أكل لحمه بالمعصية لا يبعد أن يكون تفنّناً في العبارة، وقد يقال إنّها ضعيفة الدلالة لاحتمال أن يكون سباب بصيغة المبالغة.

ومنها: خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: سباب المؤمن كالمُشرِف على الهلكة»(4).

ص: 64


1- سورة الحجّ : الآية 30.
2- تذكرة الفقهاء: ج 12/144 (ط. ج)
3- وسائل الشيعة: ج 12/280 ح 16308، بحار الأنوار: ج 71/246 ح 43.
4- وسائل الشيعة: ج 12/298 ح 16350، الكافي: ج 2/359 ح 1.

وقد ضعفه الاُستاذ الأعظم(1) للنوفلي.

وفيه: إنّه وإن ضَعّف بعضهم الحسين بن يزيد النوفلي وأهمله آخر، إلّاأنّه بعد ملاحظة أنّه لم يقدح فيه أحدٌ من أئمّة الرجال، وعمل بأخباره ورواياته جماعة من الأساطين كالمحقّق في «المعتبر»(2) والشيخ(3) وغيرهما، بل واعتمدوا عليها وجعلوها من الموثّقات، فضلاً عن رواية جمع من القمّيين وإكثارهم من الرواية عنه، والمدائح التي كالوها له بأنّه (صاحب كتاب) و (كثير الرواية) و (سديدالرواية) و (مقبول الرواية)، لو لم نقل بأنّ رواياته موثّقات، لا ريب في أنّها بضميمة كون الرّجل إماميّاً بلا شبهة، توجب كون الرّجل من الحسان.

وما نُسب إلى جمع من القميّين أنّه غلا في آخر عمره، لا يوجب طرح رواياته، إذ - مضافاً إلى عدم الاعتناء برمي القدماء بالغلوّ، وأنّ الغلو في آخر عمره لا يضرّ فيما رواه قبل غلوّه - إنّ ذلك لا يوجب مغمزاً فيه كما في كثير من الفقهاء الثقات الأثبات كيونس بن عبد الرحمن كما صرّح بذلك السيّد الداماد(4).

أقول: ولكن الذي يرد على الاستدلال بالخبر أنّه ضعيف الدلالة، إذ قوله صلى الله عليه و آله:

(كالمشرف على الهلكة) لا ظهور له في الحرمة كما لا يخفى ، مع أنّه يحتمل أن يكون (السباب) بصيغة المبالغة كشراب، بل هذا هو الأظهر منه بقرينة (كالمُشرِف).

وأضعف منه خبر أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله:4.

ص: 65


1- معجم رجال الحديث: ج 4/23.
2- المعتبر للمحقّق الحِلّي: ج 2/624.
3- الخلاف: ج 1/147 و 164 وغيرها.
4- الرواشح السماويّة للمحقّق الداماد: ص 114.

«لا تسبّوا الناس فتكسبوا العداوة لهم»(1) إذ ظاهره أنّ النهي عن السَّب إرشادي إلى ما يترتّب عليه من مفسدة العداوة التي لا تكون لزوميّة، لا سيّما مع إطلاق العداوة من حيث عداوة المؤمن وعداوة غيره.

ومنها: الخبر الذي رواه صاحب «الاحتجاج» عن أبي الحسن عليه السلام:

«في الرجلين يتسابّان ؟ قال عليه السلام: البادئ منهما أظلم، ووزره على صاحبه ما لم يعتذر إلى المظلوم».

قال الشيخ رحمه الله: بعد نقل هذا الخبر: (وفي مرجع الضمائر اغتشاش)(2).

والجواب: أنّ هذه الرواية رويت في الكتب المعتبرة هكذا:

«في رجلين يتسابّان ؟ فقال: البادئ منهما أظلم، ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم»(3).

وفي رواية أُخرى باختلافٍ في صدر السند وذيل المتن، إذ ورد فيها: «ما لم يتعدّ المظلوم»(4).

والأُولى صحيحة، والثانية حسنة، وعلى هذا فلا اغتشاش في مرجع الضمائر، ويكون المستفاد منهما في بادي النظر أنّ الوزرين ثابتان على البادي، وليس على الراد وزر، غاية الأمر أنّ الأُولى تدلّ على البراءة من الوزرين بالاعتذار إلى المظلوم مع التوبة، والثانية تدلّ على أنّ الوزرين على البادي، وليس على الراد وزر3.

ص: 66


1- وسائل الشيعة: ج 12/297 ح 16348، بحار الأنوار: ج 72/163 ح 34.
2- كتاب المكاسب: ج 1/254 (ط. ج).
3- وسائل الشيعة: ج 12/297 ح 16347، الكافي: ج 2/360 ح 4.
4- وسائل الشيعة: ج 16/29 ح 20883، أُصول من الكافي: ج 2/322 ح 3.

إلّا إذا تجاوز عن الاعتداء بالمثل، وإذا تجاوز كان هو البادي في خصوص القدر الزائد كما أفتى بذلك جمع من الأساطين(1).

أقول: ولكن بعد التدبّر في الخبرين، يظهر عدم تماميّة ذلك، فإنّ التعبير ب (وزر صاحبه) ظاهرٌ في ثبوت الوزر على الراد، وحمله على إرادة مقدار وزر صاحبه لو كان هو البادي، ليس بأولى من حمله على إرادة مثل وزر صاحبه من دون أن ينقص من وزره شيء، ولعلّ الثاني أظهر.

ثمّ إنّ ثبوت مثل وزر الراد على البادي إنّما يكون فيما إذا لم يتجاوز عن الاعتداء بالمثل، وإلّا فإن تجاوز لا يثبت مثل وزره في القدر الزائد على البادي، لا لقوله عليه السلام في الرواية الثانية: «ما لم يتعدّ المظلوم»، إذ بعد كون الخبرين رواية واحدة مرويّة بطريقين، كما هو الظاهر - إذ من البعيد جدّاً سؤال الحجّاج عن أبي الحسن موسى عليه السلام، هذه المسألة مرّتين، ثمّ نقلهما للراوي عنه - لا وجه للاستدلال بشيء من الجملتين اللّتين اختُلِف فيهما كما لا يخفى ، بل من جهة عدم صدق الراد عليه في القدر الزائد بل هو البادي فيه.

أقول: ولا يبعد دعوى عدم حرمة الرَّد، وعدم ثبوت الوزر على الرّاد للآيات الظاهرة في الاعتداء بالمثل، فإنّ فيها دلالة على جواز شتم المشتوم بمثل فعله، كما نبّه على ذلك المحقّق الأردبيلي رحمه الله(2)، ولا وجه لحمل الخبر على الاحتمال الأوّل.

وأيضاً: بناءً على كون الخبر على النحو المذكور في «المكاسب» يمكن أن يقال إنّه لا اغتشاش في مرجع الضمائر، فإنّ الضمير في كلمة (وزره) راجعٌ إلى السَّب5.

ص: 67


1- مصباح الفقاهة: ج 1/280.
2- مجمع الفائدة: ج 12/365.

المستفاد من قوله (يتسابّان)، كما إليه يرجع الضمير في كلمة (صاحبه) أي فاعل السَّب، فيكون مفاد الخبر حينئذٍ: أنّ وزر كلّ سَبٍّ على فاعله لهتك كلّ منهما صاحبه، ولا يرتفع ذلك إلّابالاعتذار إلى المظلوم.

ثمّ إنّ المرجع في السَّب إلى العُرف، والظاهر من العرف واللّغة، - ولا أقلّ من كون ذلك هو المتيقّن لو سُلّم إجمال مفهومه - كون السَّب متّحداً مع الشتم، وأنّه يعتبر فيه كونه تنقيصاً وإزراءً واعتبار الإهانة والتعيير في مفهومه، وعليه فيعتبر في مفهومه قصد الهتك، ولا يعتبر فيه مواجهة المسبوب.

وأمّا اعتبار قصد الإنشاء، فلم يدلّ عليه دليل، بل الظاهر صدقه مع قصد الإخبار أيضاً.

وعليه، فما ذكره المحقّق الإيرواني من أنّ النسبة بين السَّب والغيبة هو التباين، من جهة أنّ السَّب هو ما كان بقصد الإنشاء، وأمّا الغيبة فجملة خبريّة(1)، غير تامّ ، بل الصحيح ما ذكره الشيخ رحمه الله(2) من أنّ النسبة بينهما عموم من وجه:

إذ ربما يصدق السَّب ولا يصدق الغيبة، كما لو خاطب المسبوب بصفة مشهورة بقصد الإهانة، بل لو خاطبه بالمذمّة والتنقيص، فإن الغيبة لا تصدق مع المواجهة، فتدبّر.

وقد تصدق الغيبة ولا يصدق السَّب، كما لو أظهر عيوبه من دون قصدٍ إلى الإهانة والتنقيص.

وقد يجتمعان ويتعدّد العقاب في مورد الاجتماع.).

ص: 68


1- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/28.
2- كتاب المكاسب: ج 1/255 (ط. ج).

المستشنيات

أقول: ويستثنى من حكم حرمة السَّب؛ المؤمن المتظاهر بالفسق، إذ يدلّ على جواز سَبّ المتجاهر بالفسق في الجملة ما دلّ من النصوص على أنّ الفاسق إذا تجاهر بفسقه لا حُرمة له، وسيأتي ذكرها في مسألة الغيبة، فإنّها تدلّ على أنّ التظاهر بالفسق يوجبُ سلب احترام الفاسق، هذا بالنسبة إلى المعصية التي تجاهر فيها، وأمّا بالنسبة إلى المعاصي التي لم يتجاهر فيها، فجواز السَّب بها وعدمه مبنيان على ما سيأتي تحقيقه في تلك المسألة، من أنّ قوله عليه السلام: (لا حُرمة له) هل يدلّ على زوال الاحترام بقول مطلق، أو بالنسبة إلى خصوص تلك المعصية ؟ فانتظر.

ومنه يظهر حكم سبّه بغير ما ليس في المسبوب، ولم يكن معصية، وأمّا السَّب بما ليس فيه فهو افتراء محرّم بلا كلام.

ويستثنى منه المبتدع أيضاً، والمراد منه المبتدع في الأحكام الشرعيّة، إذ المبتدع في الأصول الاعتقاديّة كافرٌ لا يشمله ما دلّ على حرمة السَّب، فخروجه ليس إلّااستثناءً منقطعاً.

ويشهد لاستثناء المبتدع بالمعنى المذكور، جملة من النصوص:

منها: صحيح داود بن سرحان، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم، والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يَطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس، ولا يتعلّمون من بدعهم، يكتب اللّه لكم بذلك

ص: 69

الحسنات، ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة»(1). ونحوه غيره.

ومقتضى إطلاق قوله عليه السلام: (وأكثروا من سَبّهم والقول فيهم) لو لم يكن صريحه، وصريح قوله عليه السلام: (وباهتوهم) جواز السَّب بغير ما تظاهر فيه من البدعة، وبما ليس فيه، وبذلك يظهر أنّ هذا غير المستثني المتقدّم.

وعليه، فما أفاده الأستاذ الأعظم(2) من أنّه لا وجه لجعله من المستثنيات باستقلاله، فإنّه إن كان المراد به المبتدع في الأحكام الشرعيّة فهو متجاهرٌ بالفسق، غير سديد.

قال الشيخ رحمه الله(3): (ويمكن أن يستثنى من ذلك ما إذا لم يتأثّر المسبوب... الخ).

وفيه: إنّ عدم تأثّر المسبوب بالمعنى المذكور - أي عدم كون السَّب إهانةً للمسبوب في نظر العرف - موجبٌ لعدم صدق السَّب عليه، فلا يحرم من هذه الجهة، وعليه فلا يَصحّ جعل ذلك استثناءً من حرمة السَّب إلّابنحو الاستثناء المنقطع، وأمّا إذا كان السَّب موجباً لإهانة المسبوب فهو حرام، سواءٌ أكان الساب أباً للمسبوب أو سيّداً أو معلّماً له أو غيرهم لإطلاق الأدلّة.

واستدلّ لجواز سَبّ الوالد ولده، والمعلِّم متعلّمه، والسيّد عبده؛ بأنّ سب هؤلاء فخر للمسبوب وتأديبٌ له، وبالسيرة على الجواز في الموارد المذكورة.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ عنواني التأديب والفخر منافيان لعنوان السَّب، فإنّ المأخوذ في).

ص: 70


1- وسائل الشيعة: ج 16/267 ح 21531، الكافي: ج 2/375 ح 4.
2- مصباح الفقاهة: ج 1/282.
3- كتاب المكاسب: ج 1/255 (ط. ج).

حقيقة السَّب الهتك والإهانة، فلا يمكن اجتماعهما في موردٍ واحد.

وأمّا الثاني: فلأنّ ثبوت السيرة المستمرّة إلى زمان المعصوم عليه السلام في موارد التهتّك والظلم ممنوعٌ .

قد استدلّ لجواز سَبّ السيّد عبده: بفحوى ما دلّ على جواز ضربه(1).

وفيه: إنّ مناط حرمة السَّب لو كان بعينه مناط حرمة الضرب وهو الإيذاء، كان الاستدلال المزبور له وجه، وإنْ أمكن منعه أيضاً من جهة أنّ الإيذاء بالقول أشدّ من الإيذاء بالضرب، وأمّا إذا يكن ذلك مناطه، ولم تكن حرمة السَّب من جهة انطباق عنوانٍ محرّم عليه صادق على الضرب أيضاً، بل كان السَّب له خصوصيّة كما هو الظاهر من الأدلّة، فلا وجه للاستدلال المزبور أصلاً.

واستدلّ لجواز سَبّ الوالد ولده: بضمّ الجملة الواردة في النصوص الصحيحة وهي: (أنتَ ومالك لأبيك):(2)

1 - بالفحوى التي استدلّ بها في المملوك، فإنّه يستنتج من ذلك جواز سَبّ الأب ابنه.

2 - وبفحوى ما دلّ على جواز تأديب الولد الصغير بالضرب(3)، فإنّه يدلّ على جواز سَبّه بالأولويّة، وبضميمة استصحاب الجواز إلى حال الكبر يثبت المطلوب.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ تلك الجملة ناظرة إلى الجهات الأخلاقيّة، ولا تدلّ على2.

ص: 71


1- وسائل الشيعة: ج 28/52 ح 34196، قرب الإسناد ص 112.
2- وسائل الشيعة: ج 17/265 ح 22486، الكافي: ج 5/136 ح 6.
3- وسائل الشيعة: ج 21/479 ح 27636، تهذيب الأحكام: ج 8/111 ح 32.

الملكيّة الحقيقيّة كي يكونا من مصاديق السيّد وعبده، ولا الملكيّة التنزيليّة كي يكونا بحكمهما لإطلاق التنزيل، إذ لا ريب في أنّه ليس للأب التصرّف في أموال الابن دون إذنه، وقد ورد في جملةٍ من النصوص أنّ للأب أن يستقرض من مال ابنه(1)، ولو كان الأب مالكاً للابن وأمواله لما احتاج إلى الاستقراض، مع أنّك قد عرفت عدم ثبوت الفحوى المزبورة.

وأمّا الثاني: فلمنع الأولويّة كما تقدّم، مضافاً إلى أنّ ذلك لدليل دلّ على جواز التأديب بالضرب، فيدلّ على جواز ذلك بالسَّب لا على جواز السَّب بنفسه الذي عرفت أنّه عنوانٌ مناف لعنوان التأديب، مع أنّا أشرنا في هذا الكتاب مراراً إلى أنّ الأظهر عندنا عدم جريان الاستصحاب في الأحكام.

فتحصّل: أنّ استثناء هذه الموارد في غير محلّه.

***2.

ص: 72


1- وسائل الشيعة: ج 17/264 ح 22484، الكافي: ج 5/135 ح 2.

السّحر، موضوعه وحكمه

المسألة العاشرة: في السّحر.

أقول: والكلام فيه في مقامين:

الأوّل: في حكم السحر.

الثاني: في بيان موضوعه.

أمّا المقام الأوّل: المشهور بين الأصحاب(1) أنّ السحر حرامٌ في الجملة، بل لا خلاف فيه، بل هو ضروري، فضلاً عن قيام إجماع المسلمين على حرمته(2)، والأخبارُ به مستفيضة:

منها: ما في «نهج البلاغة» من أنّ «الساحر كالكافر»(3)، وقد تقدّم.

ومنها: حسن أبي البختري، عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهم السلام:

«أنّ عليّاً عليه السلام قال: مَن تعلّم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر، وكان آخر عهده بربّه، وحَدّه أن يُقتل، إلّاأن يتوب»(4).

ومنها: خبر السكوني، عنه عليه السلام عن أبيه عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ساحر المسلمين يُقتل، وساحر الكفّار لا يُقتل.

قيل: يا رسول اللّه: لِمَ لا يُقتل ساحر الكفّار؟ قال صلى الله عليه و آله: لأنّ الشرك أعظم من

ص: 73


1- تذكرة الفقهاء: ج 12/144 (ط. ج)، الحدائق الناضرة: ج 18/171.
2- مجمع الفائدة: ج 7/334.
3- وسائل الشيعة: ج 17/143 ح 22202، بحار الأنوار: ج 33/362 ح 596.
4- وسائل الشيعة: ج 17/148 ح 22213، تهذيب الأحكام: ج 10/147 ح 17.

السحر، لأنّ السحر والشرك مقرونان»(1).

وقد ضعّفه الأستاذ للنوفلي(2)، وقد مرّ في المسألة السابقة أنّه من الحسان.

وقوله صلى الله عليه و آله: (لأنّ السِّحر والشرك مقرونان). أي الجملة الثانية بمنزلة الصغرى للأولى، فيكون مفاد الخبر - واللّه العالم - إنّ الشرك والسحر مقرونان ومجتمعان في المشرك السّاحر، والشرك أعظم من السحر، فإذا اجتمع السحر مع ما هو أعظم منه سقط أثره.

إلى غير ذلك من الأخبار.

بحثٌ : ورد في جملةٍ من نصوص الباب ما دلّ على أنّه يُقتل، وفي جملة أُخرى أنّه كافر، أمّا الحكم بقتله فهو المشهور بين الأصحاب، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه، وعن بعض متأخّري المتأخّرين تقييده بكونه مستحِلّاً له(3).

أقول: أمّا إذا كان مستحِلّاً للسحر، فلا ينبغي التوقّف في الحكم بقتله، لصيرورته بذلك منكراً لضروري الدِّين، فتدبّر، مضافاً إلى نصوص الباب.

وأمّا إذا لم يكن مستحِلّاً له، فيدلّ على أنّه يقتل إطلاق جملةٍ من النصوص:

منها: خبر السكوني المتقدّم، وفيه: «ساحر المسلمين يُقتل».

ومنها: خبر أبي البختري(4): «من تعلّم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر، وكان آخر عهده بربّه، وحَدّه أن يُقتل، إلّاأن يتوب».

ونحوهما غيرهما.7.

ص: 74


1- وسائل الشيعة: ج 17/146 ح 22208، الكافي: ج 7/260 ح 1.
2- معجم رجال الحديث: ج 4/23.
3- راجع التحفة السنية (مخطوط)، السيّد عبد اللّه الجزائري: ص 34.
4- وسائل الشيعة: ج 17/148 ح 22213، تهذيب الأحكام: ج 10/147 ح 17.

وقد توقّف الأستاذ الأعظم(1) في الحكم بقتله، بدعوى أنّه وإن ورد في الروايات العديدة أنّ حَدّ الساحر هو القتل، إلّاأنّها روايات ضعيفة.

وفيه: ما تقدّم من عدم كون خبر السكوني ضعيفاً، وأمّا حسن إسحاق فقد اعترف هو (دام ظلّه) بكونه حسناً، مع أنّه لو سُلّم ضعف الروايات فهو مجبورٌ بالشهرة الفتوائيّة.

وأمّا الحكم بالكفر، فهو وإنْ كان ظاهر جملةٍ من النصوص، إلّاأنّه لا يمكن الأخذ بظاهرها، ويتعيّن حملها على إرادة مستحلّ السحر، أو من يدّعي به الرسالة، أو من يدّعي ما لا يقدر عليه إلّااللّه، أو حملها على المبالغة في الحرمة، وذلك لما في جملةٍ أُخرى منها ما ينافي ذلك:

1 - جاء في نهج البلاغة أنّه عليه السلام قال: «السّاحر كالكافر».

2 - وجاءفي حسن السكوني: «ساحر المسلمين يُقتل، وساحر الكفّار لايُقتل».

إذ لو كان الساحر كافراً لما كان بينهما فرق، وفيه أيضاً تعليلُ الفرق بينهما، بأنّ الشرك - أي الكفر - أعظم من السحر.

3 - وفي خبر الإمام العسكري في قصّة هاروت وماروت، قال عليه السلام:

«فلا تكفر باستعمال هذا السحر، وطلب الإضرار به ودعاء الناس إلى أن يعتقدوا إنّك به تُحيي وتُميت، وتفعل ما لا يقدر عليه إلّااللّه فإنّ ذلك كفر»(2).

4 - وفي المرسل قال عليه السلام في حقّ مَن أخذ السِّحر صناعةً لنفسه: «حَلّ ولا تعقد»(3).7.

ص: 75


1- مصباح الفقاهة: ج 1/293.
2- وسائل الشيعة: ج 17/147 ح 22210، بحار الأنوار: ج 56/303.
3- وسائل الشيعة: ج 17/145 ح 22207، الكافي: ج 5/115 ح 7.

ولأنّه لا كلام عندهم في عدم ترتيب آثار الارتداد؛ من قسمة الأموال، وبينونة زوجته، وغيرهما عليه لو صار المسلم ساحراً.

ويضاف إلى جميع ذلك، قيام السيرة المستمرّة إلى زمان المعصوم عليه السلام على عدم معاملة الكافر مع الساحر.

وقد يقال: إنّه يعتبر في ترتّب حكم السحر عليه كون ذلك مضرّاً بالمسحور.

أقول: إنْ كان ذلك لأجل دعوى اعتبار الإضرار في موضوع السحر كما عن الشهيدين(1) فسيأتي الكلام فيه.

وإن كان لأجل النصوص الخاصّة، بدعوى أنّ بعض النصوص الواردة في قصّة هاروت وماروت يدلّ على ذلك(2).

فيرد عليه: أنّه لا مفهوم له كي يدلّ على عدم حرمة غير المضرّ منه، ويوجب تقيّيد المطلقات.

وعليه، فالأقوى - بناءً على عدم اعتبار الإضرار في السحر - حرمته مطلقاً سواءٌ أكان مضرّاً أم لا، كما عن جمعٍ من الأساطين لإطلاق الأدلّة(3).

حقيقة السحر

المقام الثاني: في بيان حقيقة السحر.

اختلفت كلمات أئمّة اللّغة والفقه في بيان حقيقة السحر، وقد ذكر الشيخ رحمه الله(4)

ص: 76


1- شرح اللّمعة: ج 3/214، مسالك الأفهام: ج 15/75.
2- وسائل الشيعة: ج 17/147 ح 22210، بحار الأنوار: ج 56/303.
3- راجع مفتاح الكرامة: ج 4/69 (ط. ق).
4- كتاب المكاسب: ج 1/258.

جملة منها، والذي يظهر بعد المراجعة إلى موارد استعمال هذه الكلمة ومشتقّاتها عند أهل اللّسان، والتدبّر في مجموع التفاسير المنقولة عن الفقهاء العظام، وأئمّة اللّغة، وضَمّ بعضها ببعض: أنّ السحر هو صَرف الشيء عن وجهه(1) على سبيل التمويه والخدعة، وقلبه من جنسه في الظاهر لا في الحقيقة، وتصويره على خلاف صورته الواقعيّة، فهو أمرٌ لا واقعيّة له، بل مجرّد تصرّفات خياليّة.

وبعبارة أُخرى: السحر عبارة عن مجموعة من التمويهات التي لا حقيقة لها، بل يخيّل إلى المسحور أنّ لها حقيقة.

نعم، ربما يترتّب عليه أمرٌ واقعي، كما لو أظهر الساحر للمسحور شيئاً مهولاً فخاف منه ومات أو صار مجنوناً، فإنّ الموت أو الجنون وإن هما أمران واقعيّان، إلّا أنّه من آثار السحر لا أنّه بنفسه السحر، وبهذا الاعتبار يطلق السحر على طَلي الفضّة بالذّهب، وقد أطلق المشركون عنوان الساحر على النبيّ الصادق، حيث تخيّلوا أنّه صلى الله عليه و آله يظهر الباطل بصورة الحقّ بتسحير أعين الناس وقلوبهم، وهو ما نفاه عنه سبحانه وتعالى .

وأمّا ما عن «القاموس» من تفسيره بأنّه (ما لَطُف مأخذه ودَقّ )(2)، فهو تفسير بالأعمّ بلا كلام، فإنّ كثيراً من ما لطف مأخذه ودَقّ كالقوّة الكهربائيّة وما شابهما ليست من السِّحر قطعاً، كما أنّ ما عن جمعٍ من تفسيره ب (صَرف الشيء عن وجهه)(3) تفسير بالأعمّ أيضاً.م.

ص: 77


1- النهاية لابن الأثير: ج 2/346.
2- الصحاح: ج 2/679، مادّة (سحر).
3- كما في التحفة السنية: ص 50، ونسبه في جامع المدارك إلى بعض أهل اللّغة: ج 3/22، ومثله في الجواهر: ج 22/79، روض المتّقين: ج 13/20، مرآة العقول: ج 25/83، مصباح الفقاهة: ج 1/285 و ص 288، الوافي: ج 26/165، وغيرهم.

أقول: ثمّ إنّه لا وجه بحسب المتفاهم العرفي لاعتبار الإضرار في صدق السِّحر كما عن «المسالك»(1)، ولا لاعتبار كون السحر مؤثّراً في بدن المسحور أو عقله أو قلبه من غير مباشرة، كما عن العلّامة رحمه الله(2)، كما يظهر ذلك من الرجوع إلى أهل اللّسان.

لا يقال: إنّه قد أطلق في خبر «الاحتجاج» الآتي المرويّ في «المكاسب» على جملةٍ أُمور غير ما ذكر كالسّرعة والخِفّة والنميمة، فيستكشف من ذلك كون السحر أعمّ من ما ذكر.

فإنّه يقال: - مضافاً إلى ضعف الخبر للإرسال - إنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة، بل الظاهر أنّ إطلاق السحر على بعض تلك الأُمور إنّما يكون بنحوٍ من العناية والمجاز.

فإن قلت: إنّ ما رواه الصدوق في «الفقيه»:

«في المرأة التي صنعت شيئاً ليعطف زوجها عليها، فقال لها رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أفٍ لك، كدّرت البحار، وكدّرت الطين، ولعنتكِ الملائكة الأخيار، وملائكة السّماء والأرض، الحديث»(3).

يدلّ على أنّ من السحر إحداث حُبّ مفرط في الشخص، كما استدلّ به الشيخ رحمه الله(4) لذلك.2.

ص: 78


1- مسالك الأفهام: ج 3/128.
2- قواعد الأحكام: ج 2/9.
3- وسائل الشيعة: ج 20/247 ح 25552، المستدرك: ج 13/105 ح 14904.
4- كتاب المكاسب: ج 1/132.

قلت أوّلاً: إنّ هذا الخبر لتضمّنه توبيخ النبيّ صلى الله عليه و آله إيّاها، وحكمه عليها بعدم قبول التوبة، واستقباله إيّاها باللّعن، وإن كان دالّاً على الحرمة، إلّاأنّه ليس فيه شهادة على أنّ وجه الحرمة انطباق عنوان السحر عليه.

فإن قلت: إنّ قوله تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ ) (1) تدلّ على أنّ من السحر إيجاد التفرقة بين الزوجين.

قلت: إنّ في ذلك أقوالاً للمفسِّرين:

أحدها: أنّه كان من شرع سليمان إنّ من تعلّم السّحر بانَت منه زوجته.

ثانيها: أنّه إذا تعلّم السِّحر كَفَر فحرُمت عليه امرأته.

وفي المقام أقوالٌ أُخر، فمن أراد الإطلاع عليها فليراجع كتب التفسير.

وثانياً: إنّه لا يمكن العمل بإطلاق الخبر، وإلّا لزم الالتزام بحرمة إحداث الحُبّ في قلب الزوج بالأخلاق الحسنة التي ورد الأمر بها في النصوص، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، وعليه فلابدّ من حمله على كون آلة إحداث الحبّ ما يكون محرّماً بل موجباً للإرتداد، وإلّا لما كان وجه لعدم قبوله صلى الله عليه و آله توبتها.

أقول: وبما ذكرناه في بيان حقيقة السحر، ظهر الفرق بينه وبين المعجزة، فإنّ المعجزة أمرٌ واقعي ولها حقيقة ملموسة مشاهدة، لكنّها غير جارية على الطرق المتعارفة الطبيعيّة، بل هي أمرٌ خارق العادة.

أقسام السِّحر

ثمّ إنّه لا بأس بذكر أقسام السحر التي ذكرها بعض الأصحاب، وقد جمعها المحقّق المجلسي رحمه الله في «بحار الأنوار»(2)، وحاصل ما ذكره:

ص: 79


1- سورة البقرة: آية 103.
2- بحار الأنوار: ج 56/278، أقسام السحر.

(إنّ للسحر أنواعاً ثمانية:

النوع الأوّل: سحر الكذّابين: والكذّابون هم الذين كانوا في قديم الدهر، وكانوا يعبدون الكواكب، ويزعمون أنّها مدبّرة العالم السفلي، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادات والنحوسات، وهم الذين بعث اللّه إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم، وهؤلاء فرق ثلاث:

الفريق الأوّل: هم الذين زعموا أنّ هذه الأفلاك والكواكب واجبة الوجود في ذواتها، وهؤلاء هم الصائبة الدهريّة.

الفريق الثاني: هم الذين يزعمون أنّها قديمة لقِدم علّتها.

الفريق الثالث: هم الذين يزعمون أنّها حادثة مخلوقة.

والسّاحر عند هذه الفرق من يَعرف القوى العالية الفعالة بسائطها ومركّباتها، ويعرف ما يليق بالعالم السفلي، ويعرف معدّاتها ليعدها، وعوائقها ليرفعها بحسب الطاقة البشريّة، فيكون متمكِّناً من استحداث ما يخرق العادة.

وفيه: إنّه قد مرَّ في مبحث التنجيم أنّ معتقد تأثير الكواكب في العناصر السفليّة استقلالاً كافرٌ، من غير فرقٍ بين مقولات ومزاعم الفرق الثلاث، ولكن الكلام في أنّ استحداث ما يخرق به العادة هل يصدق عليه السحر أم لا؟

والأظهر عدمه، لعدم انطباق ما ذكرناه في تفسيره الذي ذكره المحقّق المجلسي أيضاً قبل بيان هذه الأنواع على ذلك، فإنّه عبارة عن صَرف الشيء عن وجهه على سبيل الخدعة من دون أن يكون له واقعيّة.

النوع الثاني: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القويّة، فقد ثبت إمكان تأثير

ص: 80

النفوس في موادّ هذا العالم، وهذه النفوس الفعالة:

تارةً : تكون بواسطة الرياضات قويّة شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات، وتكون مستغنية في التأثير في صدور الأُمور الغريبة الخارقة للعادة عن الاستعانة بأدوات سحريّة أُخرى .

وأُخرى : تكون ضعيفة ممزوجة بأوساخ المواد، فتحتاج إلى الاستعانة بها).

انتهى ملخّصاً.

وفيه: إنّه لا إشكال في عدم انطباق ما اخترناه من معنى السحر على ذلك، فإنّ النفوس الصافية بالرياضات المؤثّرة في الأُمورالتكوينيّة التي منها نفوس أولياء اللّه تعالى ، وإنْ كانت تصرف الأشياء عن وجهها، لكنّه ليس صَرفاً على سبيل الخدعة، من دون أن يكون له واقعيّة، بل يكون صرفاً حقيقيّاً.

ثمّ إنّه لا تكون تصفية النفس بنفسها من المحرّمات، بل تصفيتها بالرياضات الحقّة مطلوبة للشارع، نعم التصفية بالأُمور الباطلة محرّمة لحرمة أسبابها.

أقول: ثمّ إنّ المعتقد بتأثير النفوس في الأُمور التكوينيّة:

إن اعتقد تأثيرها فيها استقلالاً، أو مع اللّه تعالى ، فهو كافرٌ بلا كلام.

وأمّا إن اعتقد أنّ اللّه تعالى هو المؤثّر الأعظم، ويكون تأثيرها فيها كتأثير سائر العلل والموجدات التكوينيّة، فلا وجه للحكم بكفره.

(النوع الثالث من السِّحر: الاستعانة بالأرواح الأرضيّة، والمراد بها الأجنّة، وهي مختلفة الأصناف، فمنها خيّرة ومنها شرّيرة، وهي قادرة عالمة مدركة للجزئيّات، واتّصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتّصالها بالأرواح السماويّة، إلّا

ص: 81

أنّ القوّة الحاصلة للنفوس الناطقة بواسطة الاتّصال بهذه الأرواح أضعف من القوّة الحاصلة لها بسبب اتّصالها بتلك الأرواح السماويّة.

ثمّ إنّ أصحاب التجربة شاهدوا أنّ الاتّصال بهذه الأرواح يحصل بأعمال سهلة قليلة، من الرِّق والتجريد والدخن، فهذا النوع هو المسمّى بالعزائم وعمل تسخير الجنّ ). انتهى ملخّصاً.

أقول: قد عرفت من ما تقدّم عدم صدق اسم (السحر) على ذلك، وأمّا من حيث حكمه فسيأتي الكلام فيه في آخر هذا المبحث.

وعن المعتزلة: الاتّفاق على تكفير من يجوّز ذلك، لأنّه مع هذا الاعتقاد لا يمكنه أن يعرف صدق الأنبياء.

وفيه: إنّ من يظهر هذه الأشياء على يده:

إمّا أن لا يدّعي النبوّة، فلا يفضي الأمر إلى التلبيس.

وإن ادّعى النبوّة، فعلى اللّه تعالى أن لا يُظهر على يده هذه الأشياء.

النوع الرابع من السِّحر: التخيّلات والأخذ بالعيون:

وهذا النوع مبنيٌّ على مقدّمات:

المقدّمة الأُولى: أنّ أغلاط البصر كثيرة، كراكب السفينة يرى نفسه ساكناً والماء متحرِّكاً.

المقدّمة الثانية: إنّ المحسوسات قد تختلط ولا يتميّز بعضها عن بعض، وذلك فيما إذا أدركت القوّة الباصرة المحسوس في زمان قصير جدّاً، ثمّ أدرك بعده محسوساً آخر.

ص: 82

المقدّمة الثالثة: إنّه قد تشتغل النفس بشيء ولا يدرك الإنسان حينئذٍ شيئاً حاضراً عنده كالوارد على السلطان، فإنّه قد يلقاه شخص آخر ويتكلّم معه وهو لا يلتفت إليه.

وبعد معرفة هذه الأُمور يتّضح تصوير هذا النوع من السحر، لأنّ المشعبد الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به، ويأخذ عيونهم إليه، ثمّ يعمل عملاً آخر بسرعة شديدة وحركة خفيفة، وحينئذٍ يظهر لهم شيءٌ غير ما انتظروه، فيتعجّبون منه جدّاً.

أقول: هذا النوع هو الشعبدة، والفرق بينها وبين السحر أنّ السحر لا واقعيّة له أصلاً، وهي أمرٌ له واقعيّة، وليس خياليّاً محضاً، وإطلاق السحر على هذا النوع في خبر «الاحتجاج» قد مرّ أنّه مبنيٌّ على العناية والمجاز، وأمّا حكم هذا القسم فسيأتي الكلام فيه في المسألة الآتية.

النوع الخامس: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركّبة على النسب الهندسيّة تارةً ، وعلى ضرورة الخلاء أُخرى ؛ مثل فارسين يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر، وكفارسٍ على فرس في يده بوق كلّما مضت ساعة من النهار ضرب البوق من غير أن يمسّه أحد، ومنها الصور التي تصوّرها الروم وأهل الهند حتّى لا يفرّق الناظر بينها وبين الإنسان، حتّى يصوّرونها ضاحكة وباكية، وحتّى يفرق فيها بين ضحك السرور وضحك الخَجَل وضحك الشامت، فهذه الوجوه من لطيف أُمور التخائيل، وكان سحر سَحَرة فرعون من هذا القبيل، ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، وعلم جَرّ الأثقال بآلات خفيفة.

ص: 83

أقول: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركّبة المتعارفة في زماننا كالطائرات و الراديوات وغيرها ليست من السحر قطعاً كما اعترف به المجلسي رحمه الله(1)، وكون سحر سَحَرة فرعون من هذا النوع غير ثابت، ولا دليل على حرمة ذلك لو لم نقل برجحانه، ما لم ينطبق عليه أحد العناوين المحرّمة.

النوع السادس من السِّحر: الاستعانة بخواصّ الأدوية؛ مثل أن يجعل في الطعام بعض الأدوية المبلدة أو المزيلة للعقل أو الدُّخن المسكر، أو عصارة البنج المجعول في الملبس، وهذا ممّا لا سبيل إلى إنكاره، لأنّ أثر المغناطيس مشاهد.

أقول: لا ينبغي التوقّف في أنّ هذا ليس من السحر، فإنّ إطعام الغير طعاماً يوجب زوال عقله كإطعامه طعاماً يوجب وجع بطنه، ومجرّد عدم معلوميّة ذلك على عامّة الناس، لا يوجب صدق عنوان السحر عليه، وإلّا لزم كون علم الطب من السِّحر.

نعم، إن انطبق عليه أحد العناوين المحرّمة كعنوان الإضرار بالغير - لو بنينا على حرمته - حَرُم وإلّا فلا.

النوع السابع من السِّحر: تعليق القلب، وهو أن يدّعي الساحر أنّي أعرف الاسم الأعظم، وأنّ الجنّ يطيعونني، وينقادون لي في أكثر الأُمور، فإذا اتّفق أن كان السامع ضعيف العقل، قليل التمييز، اعتقد أنّه حقّ ، وتعلّق قلبه بذلك، وحصل في نفسه نوعٌ من الرعب والمخافة، فإذا حصل الخوف ضعفت القوي الحساسة، فحينئذٍ).

ص: 84


1- بحار الأنوار: ج 56/295، فإنّه بعد اعتبار أكثر هذه الأشياء من السحر، قال عن بعضها: (ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات، ويندرج في هذا الباب علم جَرّ الأثقال، وهو أن يجرّ ثقيلاً عظيماً بآلة خفيفة، وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يُعدّ من باب السحر).

يتمكّن الساحر من أن يفعل ما يشاء، ومن جرّب الأُمور، وعرف أهل العالم، علم أنّ لتعلّق القلب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال وإخفاء الأسرار.

وفيه: أنّه إنْ أُريد أنّ الدعاوى المذكورة بأنفسها، أو من حيث ترتّب ميل العوام إلى المدّعي لها من السِّحر، فهو بديهي الفساد، إذ مجرّد ذلك لا يصدق عليه السحر، وإلّا لزم كون الاستمالة بمطلقها سحراً، وهو كما ترى .

وإنْ أُريد أنّ السِّحر هو ما يفعله المدّعى لهذه الدّعاوي من الخوارق بعد حصول تعلّق القلب وضعفه.

فيرد عليه: إنّ ذلك أمرٌ واقعي، والسِّحر هو ما لا واقعيّة له، بل خيالي محض.

النوع الثامن: السعي بالنميمة والتضريب من وجوه خفيّة لطيفة.

وفيه: إنّ النميمة وإن كانت من المحرّمات، ومن المعاصي الكبيرة، إلّاأنّها ليست من السحر.

فتحصّل: أنّ شيئاً من هذه الأقسام ليس من السحر موضوعاً بما فسّروا له من المعنى، ولعلّ غرضهم مشاركة تلك الأُمور للسحر حكماً، لا دخولها فيه موضوعاً كما تنادي بذلك عبارة «الإيضاح» التي تقدّم نقلها، كما نبّه على ذلك بعض المحقّقين.

قال الشيخ رحمه الله(1): (ثمّ لا يخفى أنّ الجمع بين ما ذُكر في معنى السحر في غاية الاشكال... الخ).

أقول: لكن قد عرفت أنّ السحر من المفاهيم المبيّنة، وأنّ كلمات القوم إمّا صريحة فيما ذكرناه، أو قابلة للحمل عليه، وما ذكروه من الأقسام أرادوا بها أنّها).

ص: 85


1- كتاب المكاسب: ج 1/256 (ط. ج).

ملحقة به حكماً لا موضوعاً كما ينادي بذلك ما ذكره المجلسي رحمه الله(1)، فإنّه فسَّر السحر أوّلاً بما ذكرناه، ثم بعد ذلك ذكر الأقسام الثمانية، وحيث إنّه لا يمكن الجمع بين كلماته، لعدم انطباق الضابط المذكور على شيء من تلك الأنواع، فلا محيص إلّا عن الحمل على ما نبّهنا عليه، فراجع(2).

أقول: اختار الشيخ رحمه الله(3) حرمة الأقسام الأربعة التي ذكرها فخر المحقّقين في «الإيضاح»(4) - على ما حكاه عنه الشيخ في «المكاسب» -:

(إنّ استحداث الخوارق إمّا بمجرّد التأثيرات النفسانيّة وهو السحر، أو بالاستعانة بالفلكيّات فقط، وهو دعوة الكواكب، أو بتمزيج القوى السماويّة بالقوى الأرضيّة وهي الطلّسمات، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة وهي العزائم، ويدخل فيها النيرنجات، والكلّ حرامٌ في شريعة الإسلام، ومستحلّه كافر) انتهى .

واستدلّ لها بوجهين:

الوجه الأوّل: شهادة المحدِّث المجلسي في «البحار»(5) بدخولها في المعنى المعروف للسحر عند أهل الشرع، فيشملها الإطلاقات.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من عدم شهادة المجلسي رحمه الله(6) بكونها من السحر.5.

ص: 86


1- راجع بحار الأنوار: ج 56/278-295.
2- راجع الصفحات السابقة.
3- كتاب المكاسب: ج 1/260 (ط. ج).
4- إيضاح الفوائد: ج 1/405.
5- كما حكاه عنه الشيخ الأعظم في كتاب المكاسب: ج 1/265 (ط. ج)، وراجع المصدر السابق من البحار.
6- بحارالأنوار: ج 56/285.

وثانياً: إنّ هذه الشهادة معارضة بشهادة فخر المحقّقين رحمه الله(1) من عدم كون أكثرها منه، وبشهادة الشهيد رحمه الله(2) بعدم كون ما لا يكون مضرّاً من السحر، وسيأتي تصريح الشيخ رحمه الله(3) بتقديم شهادة النافي في المقام على شهادة المثبت.

وثالثاً: إنّ شهادته بعد كون المفهوم مبيّناً عندنا، ونرى عدم صدقه عليها، لا تصلح أن تكون مدركاً للحكم الشرعي.

الوجه الثاني: دعوى فخر المحقّقين في «الإيضاح»(4) على أنّ حرمتها من ضروريّات الدِّين، وأنّ مستحلّها كافر، وهو ظاهر «الدروس» أيضاً(5)، وذلك يوجب الاطمئنان بالحكم.

ويرد عليه: أنّ دعوى الضرورة لو أوجبت الاطمئنان باتّفاق العلماء، مع أنّ للمنع عنه مجالاً في المقام، لما أفتى به شارح «النخبة»(6) وحكى عن بعض الأصحاب جواز بعض ما في «الإيضاح» من الأقسام، لكنّها لا توجب الاطمئنان بالحكم بعد استناد المجمعين، أو احتمال استنادهم إلى ما بأيدينا من الأدلّة الضعيفة.

وأمّا ما أورده عليه جمعٌ من المحشِّين منهم الأستاذ الأعظم(7) بمعارضة هذه الدعوى بشهادة الفخر و «المسالك»، فغريبٌ ، إذ المشهود به في كلمات هؤلاء الأعلام عدم كونها من السحر موضوعاً لا عدم الحرمة.4.

ص: 87


1- إيضاح الفوائد: ج 1/405.
2- مسالك الأفهام: ج 3/128.
3- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/80.
4- إيضاح الفوائد: ج 1/405.
5- الدروس الشهيد الأوّل: ج 3/164، وشرح اللّمعة: ج 9/195.
6- التحفة السنيّة: ص 50-51، قوله: (وأطلق في الدروس تحريم عمل الطلّسمات إلحاقاً له بالسحر ووجهه غير ظاهر).
7- مصباح الفقاهة: ج 1/294.

دفع ضرر السِّحر بالسِّحر

أقول: بقي الكلام في جواز دفع ضرر السِّحر بالسِّحر، إذ أنّه المشهور بين الأصحاب على ما نُسب إليهم ذلك(1).

وعن العلّامة في جملةٍ من كتبه(2)، والشهيدين(3)، والميسي(4): المنع من ذلك إلّا مع انحصار سبب الحِلّ فيه.

وقد استدلّ للجواز مطلقاً بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «المكاسب»(5)، من انصراف الأدلّة إلى غير ما قصد به غرضٌ راجح شرعاً، فمع تعلّق غرض الدفع به لا وجه للحرمة.

الوجه الثاني: ما في «المكاسب»(6) أيضاً من أنّ أخبار الساحر ظاهرة في إرادة من يخشى ضرره، فلو أراد الساحر دفع ضرر السِّحر به، فإنّه لا وجه للحرمة.

الوجه الثالث: الأخبار المتقدّم بعضها والآتي بعضها الآخر.

الوجه الرابع: أخذ الضرر في مفهوم السِّحر، فمع عدم الإضرار لا يصدق عليه السحر.

الوجه الخامس: ما ذكره الأستاذ الأعظم(7)، من دلالة قوله تعالى : (وَ ما أُنْزِلَ

ص: 88


1- كتاب المكاسب: ج 1/132 (ط. ق)، وفي الجديدة: ج 1/269.
2- قواعد الأحكام للعلّامة: ج 2/9، وتذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 1/582.
3- الدروس - الشهيد الأوّل: ج 3/164.
4- حكاه عنه الشيخ في كتاب المكاسب: ج 1/272 (ط. ج).
5- كتاب المكاسب: ج 1/269 (ط. ج).
6- كتاب المكاسب: ج 1/272 (ط. ج).
7- مصباح الفقاهة: ج 1/296.

عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ ) (1) .

بدعوى أنّ السحر لو لم يكن جائز الاستعمال حتّى في مقام دفع الضرر، لم يجز تعليمه أصلاً، فجواز التعليم يدلّ على جواز العمل به في الجملة، والقدر المتيقّن منه هو صورة دفع ضرر الساحر.

ويرد على الوجه الأوّل: منع الانصراف في قوله عليه السلام: «من تعلّم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر، وكان آخر عهده بربّه»(2).

وأمّا الوجه الثاني: فإنْ أُريد به أخذ الإضرار في مفهومه.

فيرد عليه: ما تقدّم من منع ذلك.

وإنْ أُريد به انصرافه إلى ذلك.

فيرد عليه: ما أوردناه على الوجه الأوّل.

وأمّا الوجه الثالث: فقد أورد عليه بوجوه:

الوجه الأوّل: ما عن الأستاذ الأعظم(3) من الحكم بضعف تلك الأخبار بأجمعها.

وفيه: إنّ ذلك وإنْ تمّ في بعضها، إلّاأنّه لا يتمّ في الجميع، لاحظ ما رواه الشيخ الكليني في «الكافي» عن القُمّي، عن أبيه، عن شيخ من أصحابنا الكوفيّين، قال:

«دخل عيسيبن شفقي علي أبي عبد اللّه عليه السلام وكان ساحراً يأتيه الناس، ويأخذ على ذلك الأجر، وسأله عن ذلك. قال عليه السلام: حِلّ ولا تعقد»(4).7.

ص: 89


1- سورة البقرة: الآية 102.
2- وسائل الشيعة: ج 17/148 ح 22213، تهذيب الأحكام: ج 10/147 ح 17.
3- مصباح الفقاهة: ج 1/295-296.
4- وسائل الشيعة: ج 17/145 ح 22207، الكافي: ج 5/115 ح 7.

فإنّ قول إبراهيم (شيخ من أصحابنا) لو لم يكن ذلك توثيقاً له، لا ريب في كونه من ألفاظ المدح، فإذا انضمّ إليه كونه إماميّاً كما يشهد له قوله (من أصحابنا)، يدخل الرّجل في الحسان، مع أنّه لو سُلّم ضعف السند يكون الخبر منجبراً بعمل الأصحاب.

الوجه الثاني: ما عن بعضٍ وهو إمكان حمل الحِلّ على ما كان بغير السحر من الدعاء ونحوه.

وفيه: إنّه خلاف الظاهر جدّاً، فإنّ الظاهر منه كون الحِلّ والعقد كليهما بالسحر.

الوجه الثالث: إنّ النصوص محمولة على حالة الضرورة، وانحصار سبب الحِلّفيه.

وفيه: إنّه لا وجه لهذا الحمل بعد إطلاق الأخبار، وعدم الوجه للحمل.

وأمّا الوجه الرابع: فقد مَرّ منع أخذ الإضرار في مفهوم السحر، فراجع(1).

وأمّا الخامس: فيرد عليه أنّه يمكن أن يقال بعدم دلالة الآية الشريفة على جواز التعليم، إذ لا وجه لهذه الدعوى سوى ظهورها في أنّ الملكين علّما السحر.

ولكن ربما يقال: - كما عن جمعٍ من المفسِّرين - ومنهم الشيخ الطوسي رحمه الله في «التبيان»(2) حيث قال ما خلاصته:

(إنّ سَحَرة اليهود زعموا أنّ اللّه عزّ وجلّ أنزل السِّحر على لسان جبرائيل وميكائيل إلى سليمان، فأكذبهم اللّه بذلك، وفي الكلام تقدير وتأخير، فتقديره: وما كَفَر سليمان، وما أنزل على المَلَكين، ولكن الشياطين كفروا، يعلّمان الناس السِّحر ببابل هاروت وماروت، وهما رجلان ببابل غير المَلَكين، اسم أحدهما هاروت9.

ص: 90


1- صفحة 78 من هذا المجلّد.
2- تفسير التبيان للشيخ الطوسي: ج 1/375، مجمع البيان - الشيخ الطبرسي: ج 1/329.

والآخر ماروت، ويكون هاروت وماروت بياناً عن الناس.

وقد يقال: - كما عن جماعةٍ آخرين -(1) إنّ الملكين وإن علما السِّحر، إلّاأنّهما خالفا ربّهما، فعن كعب:

«فواللّه ما أمسيا من يومهما الذي اُهبطا فيه حتّى استكملا جميع ما نهيا عنه، فتعجّبت الملائكة من ذلك، ثمّ لم يقدر هاروت وماروت على الصعود إلى السماء، وكانا يعلِّمان الناس السِّحر».

وقد يقال: - كما عن جمعٍ من المفسِّرين - إنّ الملكين أهبطا ليأمرا بالدِّين، وينهيا عن السِّحر، حيث إنّه كان كثيراً في ذلك الوقت.

وعليه، فالتعليم كان من جهة أنّ من لا يعرف الشيء لا يمكن اجتنابه.

هذا كلّه مضافاً إلى أنّ جواز التعليم في تلك الشريعة أعمٌّ من جوازه في شريعتنا، والاستصحاب قد مرّ غير مرّة أنّه لا يجري في الأحكام(2).

فتحصّل: أنّه لا يتمّ شيءٌ من هذه الوجوه الخمسة إلّاالوجه الثالث، ومنه يظهر حكم التعليم والتعلّم.

حكم التسخيرات

قال الشيخ رحمه الله(3): (ثمّ الظاهر أنّ التسخيرات بأقسامها داخلة في السحر... الخ).

أقول: قد مرّ عند ذكر أقسام السِّحر، أنّ السِّحر بما له من المفهوم لا يصدق على

ص: 91


1- الدر المنثور: ج 1/98، جامع البيان لابن جرير الطبري: ج 1/640، تفسير ابن كثير: ج 1/143، التبيان للشيخ الطوسي: ج 1/376.
2- تفسير مجمع البيان - الشيخ الطبرسي: ج 1/330، التبيان للشيخ الطوسي: ج 1/375.
3- كتاب المكاسب: ج 1/273 (ط. ج).

التسخيرات، فهي من هذه الجهة لا تكون من المحرّمات.

وعلى ذلك فإن انطبق على التسخير عنوانٌ آخر محرّم كالإضرار بمن يعدّ ذلك ظلماً عليه، ويحرم إضراره، أو صيرورة المسخّر في معرض التلف، فيحرم، وإلّا فلا.

وعليه، فتسخير أشرار الإنس والجنّ جائزٌ وإن استلزم إيذائهم، وأولى بالجواز تسخير الحيوانات، فإنّه لا ينطبق عليه شيء من العناوين المحرّمة، والشاهد على ذلك أنّه لا يتوهّم أحد جواز تسخير الحيوانات بالضرب والغلبة ونحوهما، ولا يجوز تسخيرها بما يوجب إطاعتها للإنسان طوعاً.

***

ص: 92

حرمة الشّعبذة

المسألة الحادية عشرة: لا خلاف في أنّ الشعبدة حرام، وتنقيح القول بالبحث عنها يتحقّق في مقامين:

الأوّل: في بيان حقيقتها.

الثاني: في بيان حكمها.

أمّا المقام الأوّل: فقد فسّرها الشيخ في «المكاسب»(1) بقوله: (إنّها الحركة السريعة، بحيث يوجب على الحس... الخ).

أقول: لا ينبغي التوقّف في أنّ ذلك تفسيرٌ بالأعمّ ، إذ لا ريب في أنّ مجرّد تحريك اليد على الاستدارة بسرعة ليرى الناظر دائرة ليس من الشعبذة، ثم مع الإغماض عن ذلك لم يظهر وجه تعليله ذلك بعدم إدراك السكونات المتخلّلة، إذ الموجب لتوهم الدائرة هو سرعة حركة اليد الموجبة لتوهم بقاء ذلك الشيء في مبدء حركته بعد انتقاله عنه في حال أنّه يراه في محلّه الحقيقي في ذلك الوقت وهكذا.

فالصحيح أن يقال: إنّ المتحصّل من مجموع كلمات اللّغويين والفقهاء، والمتبادر عند أهل العرف من هذه الكلمة، أنّها عبارة عن فعل ما يفعله سائر الناس من الأفعال المتعارفة بسرعة حركةٍ وخفّة يد، بحيث يظهر لهم غير ما هو واقع الأمر، وكانوا ينتظرونه، والذي يعبّر عنه بالفارسيّة بكلمة "تردستى" والمرادفة لخفّة اليد.

وبهذا يظهر الفرق بينها وبين السحر، وأنّ النسبة بينهما هي التباين.

وأمّا المقام الثاني: فقد استدلّ لحرمتها في «المكاسب»(2) وغيره بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع، وقد صرّح بقيامه صاحب «الجواهر» فقال: (الشعبذة

ص: 93


1- كتاب المكاسب: ج 1/274 (ط. ج).
2- كتاب المكاسب: ج 1/274 (ط. ج).

المحرّمة بالإجماع المحكي والمحصّل)(1).

وفيه: أنّه لا يصلح مثل هذا الإجماع، لأن يكون مدركاً للحكم الشرعي بعد استناد المُجمِعين أو احتمال استنادهم إلى الوجوه الآتية، كما أشرنا إلى ذلك مراراً.

الوجه الثاني: صدق بعض تعاريف السِّحر عليها، فيدلّ على حرمتها ما دلّ على حرمة السِّحر.

وفيه: ما تقدّم من أنّ مفهوم السِّحر مغايرٌ لمفهوم الشعبذة، وليست الشعبذة من السِّحر.

الوجه الثالث: قوله عليه السلام في خبر «الاحتجاج» المتقدّم(2): «ونوعٌ آخر منه خطفة وسرعة ومخاريق وخفّة».

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم من أنّ هذا الإطلاق مبنيٌ على نوع من العناية والمجاز - أنّه ضعيف السند، غير منجبرٍ بعمل المشهور، لعدم إحراز استنادهم إليه في هذا الحكم وغيره.

الوجه الرابع: أنّه من الباطل واللّهو.

وفيه: إنّه لا دليل على حرمة اللّهو والباطل مطلقاً، وإنّما المحرّم هو قسم خاص من ذلك، مع أنّه إذا ترتّب عليها غرض عقلائي لا تكون من اللّهو والباطل.

فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة الشعبذة.

***8.

ص: 94


1- جواهر الكلام: ج 22/94.
2- الاحتجاج: ج 2/340، بحار الأنوار: ج 10/168.

حرمة الغِشّ

المسألة الثانية عشرة: لا خلاف بين الأصحاب في حرمة الغِشّ ، وتنقيح القول فيها يتحقّق بالبحث في مواضع:

الأوّل: في بيان حقيقته.

الثاني: في بيان حكمه التكليفي.

الثالث: في بيان حكمه الوضعي.

أمّا الموضع الأوّل: فالظاهر أنّه بمعنى الخديعة والتلبيس، ويعتبر في صدقه علم الغاش وجهل المغشوش، فلو كانا عالمين بالواقع أو جاهلين به، أو كان الغاش جاهلاً والمغشوش عالماً لما تحقّق مفهوم الغِشّ عرفاً، ويعتبر في صدقه أيضاً كون المزج بما يخفي في متعارف الإختبار الذي يختلف باختلاف الأشياء، فلو كان المزج بها يظهر في متعارف الاختيار لما صدق الغِشّ عليه.

ولا يعتبر زائداً على ذلك كونه ممّا لا يُعرف إلّامن قبل البائع، لعدم مساعدة العرف عليه، فإنّه وإن كان بعض أفراد الغِشّ كذلك كمزج اللّبن بالماء، إلّاأنّ أغلب أفراد الغِشّ التي لا يشكّ أحد من أهل العرف في كونها من الغِشّ ، تُعرف بإمعان النظر، بل قيل لا غِشّ إلّاويعرفه أولو الفطانة، خصوصاً من كان مداوماً على الغِشّ .

وهل يعتبر في صدقه قصد مفهومه، فما يكون ملتبساً في نفسه لا يجب الإعلام، كما يظهر من الشيخ رحمه الله(1)، أم لا يعتبر ذلك ؟

ص: 95


1- كتاب المكاسب: ج 1/279 (ط. ج).

وجهان، أقواهما الثاني، لأنّ الغِشّ من الأُمور الواقعيّة التي لا تختلف باختلاف القصود، وليس القصد من مقوّماته.

واستدلّ على الأوّل: بخبر الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن الرّجل يشتري طعاماً فيكون أحسن له وأنفق له أن يبلّه من غير أن يلتمس زيادته ؟

فقال عليه السلام: إنْ كان بيعاً لا يصلحه إلّاذلك ولا ينفقه غيره من غير أن يلتمس فيه زيادةً فلا بأس، وإن كان إنّما يغشّ به المسلمين فلا يصلح»(1).

بدعوى أنّه عليه السلام فصّل في الحرمة بين التماس الزيادة وعدمه، وحكم بالحرمة وكونه غشّاً في الأوّل دون الثاني.

وفيه: الظاهر من الخبر هو التفصيل في بَلّ الطعام بين كونه للإصلاح ورفع العيب أو دفعه، وبين كونه موجباً لإيهام الناس والالتباس، فحَكَم بالجواز في الصورة الأُولى دون الثانية.

وأمّا في الصورة الثانية فمقتضى إطلاقه عدم الفرق بين كون الغِشّ والمزج مع قصد مفهومه أو بدونه.

وعليه، فالأظهر عدم اعتبار قصد مفهومه في صدقه.

وأمّا الموضع الثاني: فالأقوى هو حرمة الغِشّ في نفسه، كما هو المتّفق عليه نصّاً وفتوىً ، فقد ذكر الشيخ رحمه الله(2) جملة من النصوص المتظافرة الدالّة على ذلك فلا حاجة إلى ذكرها.).

ص: 96


1- وسائل الشيعة: ج 18/113 ح 23265، الكافي: ج 5/183 ح 3.
2- كتاب المكاسب: ج 1/275-277 (ط. ج).

وعليه، فما ذكره المحقّق الإيرواني رحمه الله(1) من أنّ الغِشّ ليس بنفسه من المحرّمات، وإنّما يحرم من جهة انطباق عنوان الكذب وأكل مال الغير بلا رضى صاحبه عليه، مستنداً إلى أنّه لو لم يكن المحرّم ذلك، فإمّا أن يكون المحرّم شوب اللّبن بالماء، ومن المعلوم أنّه ليس ذلك من المحرّمات، أو يكون عرض المشوب للبيع، ومن المعلوم أن مجرّد ذلك ليس بحرامٍ حتّى إذا اتّفق أنّه لم يبع، أو يكون المحرّم هو إنشاء البيع، ومن المعلوم أنّ مجرّد الإنشاء ليس بحرامٍ لو نبّه على الغشّ قبل أن يقبض، أو حَطّ من ثمنه، أو أبرء ذمّته من الثمن، أو خيّره بين الأخذ والترك، فيتعيّن أن يكون الغِشّ هو أخذ قيمة غير المغشوش بإزاء المغشوش غير صحيح، لأنّ ذلك كلّه لا يعتنى به في مقابل ظاهر النصوص الدالّة على حرمة الغِشّ .

وإن شئت قلت: إنّ شوب اللّبن بالماء لا يحرم، لعدم صدق الغِشّ عليه، كما أنّه لا يصدق على مجرّد العرض للبيع، وأمّا إنشاء البيع واعتبار ملكيّة المشتري للمغشوش بعنوان أنّه غير مغشوشٍ ، فهو حرامٌ بمقتضى النصوص لكونه غِشّاً، وعدم حرمته في صورة التنبيه إنّما يكون لخروجه بذلك عن كونه غِشّاً كما عرفت.

وأمّا لو حَطّ من الثمن، أو أبرء ذمّته منه، أو خيّره بين الأخذ والترك، مع كون البيع واقعاً على المعنون بعنوان أنّه غير مغشوشٍ ، فلا يؤثّر في رفع الحرمة.

أقول: إنّ مقتضى إطلاق النصوص وإن كان في بادي النظر حرمة الغِشّمطلقاً، سواءٌ أكان في المعاملة أم في غيرها، إلّاأنّه لو لم ندّع اختصاص الغِشّ بالمعاملة، فلو سقي اللّبن الممزوج بالماء للضيف لا يصدق الغِشّ ، وإن كان يحرم لو أخبر، ولو9.

ص: 97


1- حاشية الإيرواني: ج 1/29.

عملاً بموافقة الظاهر للواقع من جهة الكذب، فلا ينبغي التوقّف في تعيّن حمل الأخبار على خصوص المعاملات.

حكم المعاملة وضعاً

وأمّا الموضع الثالث: فقد استدلّ لفساد المعاملة بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ العقد تعلّق بالمبيع المعنون بكونه غير مغشوش، لا بذات المبيع بأيّ عنوان اتّفق، فلو تبيّن كونه مغشوشاً فقد ظهر أنّه لا وجود للمبيع، وما هو موجودٌ غير واقعٍ عليه البيع.

أقول: ملخّص القول في المقام هو أنّ المبيع:

إن كان كليّاً، وكان الغِشّ في الفرد المقبوض الخارجي، فإنّه لا شبهة في صحّة البيع لعدم الغِشّ في البيع. نعم، للمشتري تبديل المقبوض بغيره.

وإن كان المبيع شخصيّاً:

فإن عُلّق البيع على ذلك بطل، وإنْ لم يكن مغشوشاً، للإجماع على اعتبار التنجيز في صحّة البيع.

وأمّا إن كان البيع منجزاً:

فإن كان الوصف الذي يقع البيع عليه من الصور النوعيّة عند العرف، كما لو باع الموجود الخارجي بعنوان أنّه ذهب، فبانَ أنّه نحاس مُذّهب، بطل البيع، لأنّ ما وقع عليه البيع لا تحقّق له في الخارج، وما له تحقّقٌ لم يقع عليه البيع.

وأمّا إن كان من الأوصاف الكماليّة، ككون العبد كاتباً، أو من أوصاف الصحّة،

ص: 98

ككونه بصيراً، صَحّ البيع.

نعم، إن كان المتخلّف من أوصاف الكمال، ثبت خيار الشرط، وإن كان من أوصاف الصحّة تخيّر المشتري بين الفسخ والإمضاء مع أخذ الأرش أو بدونه، ولا يفرّق في ذلك بين أخذه عنواناً للمبيع، أو شرطاً كما حُقّق ذلك كلّه في محلّه، وأشرنا إليه في مسألة التطفيف إجمالاً.

أقول: وبما ذكرناه ظهر ما هو الحقّ عندنا، وأنّه إنّما يبطل البيع في خصوص ما إذا كان الوصف المتخلّف من قبيل الصور النوعيّة، وكان المبيع شخصيّاً، ولا يبطل في سائر الصور، إلّاإذا كان العقد معلّقاً على الوصف.

الوجه الثاني: خبر موسى بن بكر، قال: «كنّا عند أبي الحسن عليه السلام وإذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينارٍ فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين، ثمّ قال لي: ألقه في البالوعة حتّى لا يُباع شيء فيه غِشّ »(1).

لظهور التعليل في أنّ كلّ ما فيه غِشٌّ لا يَصحّ بيعه.

وأورد عليه الشيخ رحمه الله(2): بأنّ الظاهر من الخبر بقرينة الأمر بالإلقاء في البالوعة، هو كون المورد داخلاً فيما يكون المقصود منه حراماً نظير آلات اللّهو، وأين هو من اللّبن الممزوج بالماء وشبهه ؟

وفيه: إنّ مورد الاستدلال هو عموم التعليل، لا خصوص المورد، والظاهر منه أنّ تمام العلّة هو بيع ما فيه الغِشّ .).

ص: 99


1- وسائل الشيعة: ج 17/280 ح 22523، الكافي: ج 5/160 ح 3.
2- كتاب المكاسب: ج 1/283 (ط. ج).

فالصحيح في الجواب عنه: أنّ الخبر ضعيف السند للإرسال(1)، ولحسن بن علي ابن عثمان(2).ه.

ص: 100


1- سند الرواية كما في الوسائل هو: عن محمّد بن يحيى، عن بعض أصحابنا، عن سجادة عن موسى بن بكر، قال: «كنّا عند أبي الحسن عليه السلام وإذا دنانير مصبوبة..، ثمّ قال لي: ألقه في البالوعة حتّى لا يباع شيء فيه غش». ورواه الصدوق بإسناده عن موسى بن بكر مثله.
2- راجع معجم رجال الحديث - السيّد الخوئي: ج 6/24: الحسن بن علي بن عثمان سجادة. قال الشيخ (165): (الحسن بن علي بن أبي عثمان، الملقّب بسجادة، له كتاب أخبرنا به عدّة من أصحابنا، عن أبي المفضّل، عن ابن بطّة، عن أحمد بن أبي عبد اللّه، عن الحسن بن علي بن أبي عثمان). وأبو عثمان اسمه عبد الواحد بن حبيب. التهذيب: الجزء 2، باب كيفيّة الصلاة وصفتها، الحديث 461. - وقال النجاشي: (الحسن بن أبي عثمان، الملقّب سجادة أبو محمّد، كوفي، ضعّفه أصحابنا، وذكر أنّ أباه علي بن أبي عثمان روى عن أبي الحسن موسى عليه السلام. له كتاب نوادر، أخبرناه إجازة الحسين بن عبيد اللّه، عن أحمد بن جعفر ابن سفيان، عن أحمد بن إدريس، قال: حدّثنا الحسين بن عبيد اللّه بن سهل - في حال استقامته - عن الحسن بن علي بن أبي عثمان سجادة). روى عن عبد الجبّار النهاوندي، وروى عنه محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، والحسين بن عبد اللّه. كامل الزيارات: الباب (26) في بكاء جميع ما خلق اللّه على الحسين بن علي عليهما السلام، الحديث (4 و 5). - وقال ابن الغضائري: (الحسن بن علي بن أبي عثمان، أبو محمّد الملقّب بسجادة، في عداد القمّيين، ضعيف، وفي مذهبه ارتفاع). - وقال الشيخ في رجاله، في أصحاب الجواد عليه السلام: (الحسن بن علي بن أبي عثمان السجادة غال)، وكذلك قال في أصحاب الهادي عليه السلام. - وقال الكشّي (465) حسن بن علي بن أبي عثمان سجادة: قال نصر بن الصباح: (قال لي السجادة الحسن ابن علي ابن أبي عثمان يوماً: ما تقول في محمّد بن أبي زينب، ومحمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب صلى الله عليه و آله أيّهما أفضل ؟! قلت له: قل أنت. فقال: بل محمّد بن أبي زينب! ألا ترى أنّ اللّه عزّ وجلّ ، عاتب في القرآن محمّد بن عبداللّه صلى الله عليه و آله في مواضع، ولم يعاتب محمّد بن أبي زينب: قال لمحمّد بن عبد اللّه صلى الله عليه و آله (وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) و (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) وفي غيرهما، ولم يعاتب محمّد بن أبي زينب بشيء من ذلك! - قال أبو عمرو: على السجادة لعنة اللّه ولعنة اللّاعنين والملائكة والناس أجمعين، فلقد كان من العليائيّة الذين يقعون في رسول اللّه صلى الله عليه و آله وليس لهم في الإسلام نصيب). - أقول: الرّجل وإن وثّقه علي بن إبراهيم، لوقوعه في إسناد تفسيره، إلّاأنّه مع ذلك لا يمكن الاعتماد على رواياته لشهادة النجاشي بأنّ الأصحاب ضعّفوه، وكذلك ضعّفه ابن الغضائري. نعم، لو لم يكن في البين تضعيف، لأمكننا الحكم بوثاقته، مع فساد عقيدته، بل مع كفره أيضاً. ويأتي بعنوان الحسن ابن علي بن عثمان سجادة أيضاً. - وكيف كان فطريق الشيخ إليه ضعيف بأبي المفضّل، وبابن بطّه.

الوجه الثالث: إنّه في بعض النصوص النهي عن بيع المغشوش، وهو يدلّ على الفساد.

وفيه: إنّه ليس في شيء من النصوص التي بأيدنا النهي عن بيع المغشوش إلّا خبر موسى المتقدّم، وقد مرَّ ما فيه، وخبر الجُعفي(1) الضعيف السند.

الوجه الرابع: إنّ البيع منطبقٌ على عنوان الغِشّ ، كما يشهد له خبر هشام، عن الإمام الكاظم عليه السلام: «البيع في الظلال غش»(2). وهو محرّم منهيٌ عنه، والنهي يدلّ على الفساد.

وفيه: إنّ النهي النفسي المتعلّق بالمعاملة نفسها أو بأمرٍ خارج منطبقٍ عليها لا يدلّ على الفساد، كما حُقّق في أوّل الكتاب.

وقد منع المصنّف رحمه الله(3) في محكي «التذكرة» من كون بيع المعيب مطلقاً مع عدم الإعلام بالعيب غشّاً.

قيل: وفي التفصيل المذكور في خبر الحلبي إشارة إلى هذا المعنى، حيث إنّه عليه السلام جوّز بلّ الطعام بدون قيد الإعلام إذا لم يقصد به الزيادة، وإن حصلت به، وحرّمه).

ص: 101


1- وسائل الشيعة: ج 18/186 ح 23452، تهذيب الأحكام: ج 7/109 ح 72. وهو: وعنه، عن علي الصيرفي، عن المفضّل بن عمر الجُعفي قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فالقى بين يديه دراهم، فألقى إليّ درهماً منها فقال: إيش هذا؟ فقلت: ستوق، فقال: وما الستوق ؟ فقال: طبقتين فضّة وطبقة من نحاس وطبقة من فضّة، فقال: اكسرها فإنّه لا يحلّ بيع هذا ولا إنفاقه».
2- وسائل الشيعة: ج 17/280 ح 22521، الكافي: ج 5/160 ح 6.
3- حكاه عنه في المكاسب: ج 1/280 (ط. ج).

مع قصد الغِشّ .

ولكن الشيخ قدس سره قال(1): (يمكن أن يقال في صورة تعيّب المبيع بخروجه عن مقتضى خلقته الأصليّة بعيب خفي أو جَلي أنّ التزام البائع بسلامته عن العيب مع علمه به غِشّ للمشتري) انتهى .

محصّله: إنّ شرط السلامة من الشروط المبنيّ عليها العقد التي تكون بحكم الشروط المصرّح بها، فكما أنّه مع التصريح به يصدق الغِشّ ، كذلك مع الإقدام على البيع.

قال الشيخ قدس سره (2) : (عند تبيّن الغِشّ أنّه إن كان الغِشّ من قبيل التراب الكثير في الحنطة، كان له حكم تبعّض الصّفقة) انتهى .

أقول: لو كان المبيع المجموع المركّب من جزئين أو من أجزاء:

فإن كان للهيئة الاجتماعيّة دخلٌ في زيادة الثمن - كما في مصراعي الباب - فإنّه لا ريب في ثبوت خيار تبعض الصفقة بالنسبة إلى المصراع الموجود.

وأمّا إن لم يكن لها دخلٌ في ازدياده - كما في بيع منّين من الحنطة بدينارين - فلا يثبت الخيار، بل البيع بالنسبة إلى المَنّ الموجود صحيحٌ ولازم، وبالنسبة إلى المفقود باطلٌ ، فإنّ مآل مثل هذا البيع إلى بيع كلّ مَنّ من الحنطة بدينار.

وعلى ذلك، فلا مورد لخيار تبعّض الصفقة فيما فرضه الشيخ رحمه الله(1) في المقام.

***).

ص: 102


1- كتاب المكاسب: ج 1/284 (ط. ج).

حرمة الغناء

المسألة الثالثة عشرة: لا خلاف(1) في حرمة الغناء في الجملة، وتنقيح القول في هذه المسألة يستدعي البحث في مقامات:

الأوّل: في تحقيق موضوع الغناء.

الثاني: في بيان حكمه.

الثالث: في المستثنيات.

المقام الأوّل: اضطربت كلمات الفقهاء واللّغويين في ذلك، وكلماتهم ما بين إفراطٍ وتفريط:

فعن بعضهم: أنّه مَدُّ الصوت(2).

وعن الشافعي: إنّه تحسينُ الصوت وترقيقه(3).

وعن النهاية: إنّ كلّ من رفع صوتاً ووالاه فصوته عند العرب غناء(4).

وعن آخرين(5) غير ذلك ممّا يقرب من هذه التعاريف.

وحيث إنّ بعض مصاديق هذه التعاريف ليس من أفراد الغناء قطعاً - كرفع الصوت بالأذان الذي هو من المستحبّات الشرعيّة، وتحسينه بقراءة القرآن

ص: 103


1- جواهر الكلام: ج 41/47-48، رياض المسائل: ج 8/155 (ط. ج).
2- مفتاح الكرامة: ج 12/167 (ط. ج).
3- كتاب الأُمّ (مختصر المزني): 311، المجموع شرح المهذّب: 20/231، المغني لابن قدامة: 178/10.
4- النهاية في غريب الحديث - ابن الأثير: ج 3/391.
5- كما في السرائر والإيضاح أنّه الصوت المطرب، (السرائر: ج 2/120، وحكاه عن الإيضاح في جواهر الكلام: ج 22/45)، ونسب الكشميري في رسالة مسألة الغناء إلى المشهور أنّه: (مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطربي)، وغير ذلك.

والمدائح والمراثي، مضافاً إلى السيرة القطعيّة على جواز ذلك كلّه، وقد دلّت النصوص على رجحان بعضها - فيستكشف من ذلك عدم تماميّة هذه التعاريف.

وفي مقابل هذه التعاريف ما اختاره المحقّق الإيرواني رحمه الله(1)، من أنّ المتيقّن من الغناء المحرّم هو الكلام الباطل في ذاته وبحسب المدلول، والمشتمل على المَدّ والترجيع والإطراب، والمراد من بطلان الكلام هو أن يكون معناه معنى لهويّاً، فالكلام الباطل غير المشتمل على الكيفيّة ذات القيود الثلاثة لا يكون حراماً، كما أنّ المشتمل على الكيفيّة المزبورة لا يكون حراماً إلّاأن يكون باطلاً في معناه.

وفيه: إنّ لازم هذا الوجه خروج بعض أفراد الغناء الذي لا يتوقّف أحدٌ في كونه غناءً ، وقد دلّت النصوص عليه، كقراءة القرآن بألحان أهل الفسوق و العصيان.

أقول: المشهور بين الأصحاب - على ما نُسب إليهم(2) - أنّه مدُّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، وقد اختلفت كلماتهم في تفسير الطرب:

فعن جماعةٍ : أنّه خِفّةٌ تعتري الإنسان لشدّة السرور(3).

وعن آخرين: أنّه خِفّة تعتري لشدّة حزنٍ أو سرور(4).).

ص: 104


1- حاشية المكاسب: ج 1/30.
2- تقدّمت النسبة في الصفحة السابقة ففي «الجواهر» قال: (قيل إنّه المشهور)، وفي جامع الشتات: ج 2/377 قال: (ونسبه المحقّق الأردبيلي إلى الأشهر)، وفي الحدائق: ج 18/101 قال: (كذا عرّفه جماعة من الأصحاب)، وفي رسالة في الغناء للحُرّ العاملي: ص 23 قال: (وأكثرهم فسّروه ب... الخ)، واعتبره بعض الأفاضل القدر المتيقّن كما في رسالة في الغناء للبهبهاني: ص 20، وغيرهم.
3- وفي مجمع البحرين: ج 3/40 قوله: (الطرب بالتحريك خفّة تعتري الإنسان لشدّة حزن أو سرور). ومثله ما عن الصحاح، وقريب منه ما عن الأساس للزمخشري من أنّه خِفّة لسرورٍ أو هَمّ .
4- الصحاح: ج 1/171. وفي القاموس: (الطرب مُحَرّكة: الفرح، والحزن ضدّه. أو خفّة تلحقك تسرّك أو تحزنك، وتخصيصه بالفرح وهم).

وعن «مفتاح الكرامة»(1): (إنّ الإطراب المأخوذ في تعريف الغناء غير الطرب المفسّر لخفّةٍ لشدّة السرور أو الحزن، وأنّ المراد به مَدّ الصوت وتحسينه، وخير هذه الأقوال أوسطها).

أمّا فساد الأوّل: فلما عن «القاموس» من التصريح بفساد وهم من خَصّ الطرب بالسرور.

وأمّا فساد الأخير: فلما تقدّم من أنّ مجرّد مَدّ الصوت وتحسينه ليس غناءً قطعاً، لا سيّما وقد ورد أنّ اللّه ما بعث نبيّاً إلّاحَسَن الصوت(2)، وأنّه كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يقرأ القرآن فربما مرَّ به المار فصعق من حُسن صوته(3)، وإنّ اللّه تعالى يُحبّ الصوت الحَسَن يرجع فيه ترجيعاً(4).

أقول: ولكن يرد على هذا التعريف، أنّه غير مطردٍ ولا منعكس:

أمّا الأوّل: فلما قيل من أنّ أظهر أفراد الغناء الألحان التي يستعملها أهل الفسوق، مع أنّها لا توجبُ الطرب إلّاأحياناً، مضافاً إلى أنّ من الغناء عند العرف ما ليس فيه مَدٌّ ولا ترجيع مع كونه مطرباً بالفعل، ومن ألحان أهل الفسوق بالمعنى الذي سيمرّ عليك، والظاهر أنّ إطلاق الغناء على قول أهل المدينة: (جئناكم جئناكم، حيّونا... الخ) في خبر عبد الأعلى الآتي من هذا القبيل، لعدم مناسبته مع المَدّ والترجيع.8.

ص: 105


1- مفتاح الكرامة: ج 12/168 (ط. ج).
2- الكافي: ج 2/616 ح 10.
3- وسائل الشيعة: ج 6/211 باب 24 من أبواب قراءة القرآن ح 7755.
4- الكافي: ج 2/616 ح 13، وسائل الشيعة: ج 2/212 ح 7758.

وأمّا الثاني: فلأنّه ربما يكون الصوت مرجّعاً مشجياً ومثيراً للحزن والبكاء، ولا يصدق عليه الغناء، كما إذا كانت مادّة الكلام حقّاً كمرثية أبي عبد اللّه عليه السلام.

والتحقيق: إنّ أحسن ما قيل في المقام - وإن كان هو أيضاً لا يخلو عن النقض - هو ما أفاده الشيخ رحمه الله(1) من أنّ الغناء عبارة عن الصوت اللّهوي، وما يعدّ في الخارج من ألحان أهل الفسوق والمعاصي.

توضيحه: إنّ الصوت إذا كان مناسباً مع آلات اللّهو والرقص، ولحضور ما يستلذّه القوي الشهويّة من كون المغنّي جاريةً أو نحو ذلك، فهو في العرف صوت لهوي وقول زور، وهو الغناء، ولمّا كان ظاهر هذا التعريف اعتبار فعليّة التلهّي، ولازم ذلك خروج أكثر ما هو غناء عرفاً عنه، عمّمه بقوله: (إنّ اللّهو يتحقّق بأمرين، أي أحد أمرين:

أحدهما: قصد التلهّي وإنْ لم يكن لهواً.

والثاني: كونه لهواً في نفسه... الخ).

ومحصّل الأمر الأوّل: على ما أظن وإن كان خلاف ظاهر كلامه في بادي النظر، هو إنّ الصوت تارةً لا يكون لهواً فعلاً بالنسبة إلى المستمعين لعدم وجود المستمع، أو لمانعٍ عن التلهّي من شدّة المرض ونحوها، فهو أيضاً من مصاديق الغناء، ولا ينحصر الغناء بما إذا كان لهواً فعلاً، وهذا التعريف أحسن ما قيل في تعريف الغناء وموافق للمتفاهم العرفي.

أقول: ولكن الذي يرد على الشيخ رحمه الله أنّه لم يظهر لي وجه اعتباره الترجيع في).

ص: 106


1- كتاب المكاسب: ج 1/300 و 311 (ط. ج).

صدقه، فإنّه لا يعتبر فيه لا بحسب الأدلّة ولا بحسب المتفاهم العرفي.

والنسبة بين هذا التعريف وما ذكره المشهور هي العموم من وجه، لصدق تعريف المشهور على الصوت الموجب للخِفّة الحاصلة من حزن واختصاص هذا التعريف بالخِفّة الحاصلة من شدّة السرور، وصدق هذا التعريف عليكلّ صوتٍ أوجب الخِفّة المزبورة، وإنْ لم يكن فيه مَدٌّ ولا ترجيع، ولا يصدق عليه تعريف المشهور.

أقول: ثمّ إنّ كيفيّة الكلام:

تارةً : تكون بنفسها لا تصلح إلّاللرقص وموجبة لحصول الخِفّة، فالكلام حينئذٍ يكون غناءً ، وإن كانت مادّته حقّاً، كالقرآن ونهج البلاغة ونحوهما، وعلى هذا يُحمل ما دلَّ على النهي عن التغنّي بالقرآن وقراءته بألحان أهل الفسوق والكبائر المتقدّم.

وأُخرى: لا تكون كذلك، إلّافيما إذا كانت مادّة الكلام باطلة ككونها من المعاني المهيّجة للشهوة الباطلة، كبعض أنحاء التصانيف المتداولة في هذا العصر، وفي مثل ذلك لو كانت مادّة الكلام حقّاً لا يصدق عليه الغناء.

حكم الغناء

المقام الثاني في بيان حكم الغناء:

نفى الشيخ الأعظم(1) الخلاف في حرمته في الجملة، فكأنّه لم يعبأ بما سينقله من المحدِّث الكاشاني(2) من عدم حرمته.

ص: 107


1- كتاب المكاسب: ج 1/285 (ط. ج).
2- كتاب المكاسب: ج 1/298 (ط. ج).

وعن غير واحدٍ: دعوى الإجماع(1) عليها، بل عن بعضهم دعوى كونها من الضروريّات(2).

وكيف كان، فقد استدلّ للحرمة بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع(3).

وفيه: إنّه لمعلوميّة مدرك المجمعين لا يكون الإجماع تعبّديّاً، فلا يصلح أن يكون مدركاً لهذا الحكم.

الوجه الثاني: جملة من الآيات الشريفة بضميمة النصوص الواردة في تفسيرها:

منها: قوله تعالى: (وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ) (2) ففي جملةٍ من النصوص(3) تطبيق (قول الزُّور) على الغناء، وأكثرها وإن كانت ضعيفة السند، إلّا أنّ ما عن «تفسير القمِّي» حسنٌ وفيه غنى وكفاية.

أقول: وأورد على الاستدلال بذلك في «المكاسب»:(4)

1 - بأنّ ظاهر هذه النصوص كون الغناء من مقولة الكلام، لتفسير (قول الزور) به.

2 - ولقول علي بن الحسين عليهما السلام في المرسل في الجارية التي لها صوت بأنّه لا بأس لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء.).

ص: 108


1- مجمع الفائدة: ج 12/334. (2و3) مستند الشيعة: ج 14/126.
2- سورة الحجّ : الآية 30.
3- وسائل الشيعة: ج 17/303 ح 22595، الكافي: ج 6/431 ح 1.
4- كتاب المكاسب: ج 1/286-287 (ط. ج).

وأيّده بما في بعض الأخبار من أنّ : «من قول الزور أن يقول للذي يُغنّي أحسنت».

وأورد المحقّق الإيرواني(1) والأستاذ الأعظم(2) على الوجه الأوّل: بأنّ تفسير قول الزور بالغناء، لا يقتضي أن يكون الغناء من مقولة الكلام، لصحّة هذا التفسير وإن كان الغناء من كيفيّة الكلام المتّحد الكيفيّة في الخارج مع المكيف بالكيفيّة، فإذا كانت الكيفيّة زوراً باطلاً صدق أنّ الكلام زور وباطل.

وفيه: إنّ اتّحاد المادّة مع الكيفيّة في الوجود اللّفظي وإن كان لا يُنكر، إلّاأنّه لا ريب في أنّ لكلّ واحدةٍ منها أوصافاً وعناوين مختصّة بها، مثلاً الكذِب من عناوين المادّة لا الكيفيّة، ولا يَصحّ نسبته إلى الكيفيّة باعتبار اتّحادها وجوداً مع المكيّف بها، والشيخ رحمه الله يدّعي ظهور هذا التفسير في أنّ الغناء من هذا القبيل.

وأورد عليه المحقّقان الشيرازيّان(3): بأنّ تفسير (قول الزور) بالغناء ليس بالتصرّف في الغناء بجعله عبارة عن الكلام المشتمل على المعاني الباطلة، إذ كون الكلام المشتمل على الكيفيّة والمعاني الباطلة معدودٌ من قول الزور واضحٌ غير محتاج إلى بيان وتفسير، فيتعيّن التصرّف في قول الزور بالحمل على البطون، أو بإرادة الأعمّ من الزوريّة بحسب المعنى الذي هو الظاهر منه، وعليه فلا تسقط دلالتها على حرمة الكيفيّة الخاصّة.

وفيه: أنّه على المعنى الأوّل يمكن أن يقال إنّ التفسير إنّما هو بلحاظ أنّ (قول9.

ص: 109


1- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/30.
2- مصباح الفقاهة: ج 1/305.
3- حاشية المكاسب للميرزا الشيرازي: ج 1/89.

الزور) بما أنّه ليس بحرام مطلقاً، فأراد عليه السلام التنبيه على أنّ (قول الزور) المحرّم منه الغناء، وعليه فليس هذا واضحاً غير محتاج إلى بيان.

وعليه، فالأولى في الإيراد على الشيخ رحمه الله أن يقال إنّ المادّة حيث لا تكون من حيث هي زوراً بل زوريتها إمّا أن تكون بلحاظ ما يكون متّحداً معها وجوداً من الكيفيّة الخاصّة، أو تكون بلحاظ معناها، فلا شهادة في تفسير (قول الزور) بالغناء كون الغناء من مقولة الكلام لملائمته مع كونه من كيفيّات الكلام.

ويرد على الوجه الثاني: إنّه حيث لا يكون مطلق الصوت غناءً ، والإمام عليه السلام نفى البأس عن شراء الجارية التي لها صوت إذا لم تتغن بصوتها، فلا شهادة فيه لكون الغناء من مقولة الكلام، والتفسير المزبور لو لم يدلّ على أنّ الغنائيّة متقوّمة بالكيفيّة من جهة دلالته على أنّ من المذكورات ما هو غناء ومنها ما ليس بغناء، لما دلّ على أنّ الغناء من مقولة الكلام.

أقول: ويرد على الوجه الأخير المذكور تأييداً، أنّ عَدّ قول (أحسنتَ ) من قول الزور بلحاظ مدلوله، لا يدلّ على أنّه ليس من قول الزور ما يكون كذلك بلحاظ الكيفيّة، إذ لعلّه عام يصدق مع كلّ من اللّحاظين.

ومنها: قوله تعالى: (وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ) (1) ففي جملةٍ من الرويات كون الغناء من لهو الحديث، وفيها حسن محمّد ابن مسلم(2).4.

ص: 110


1- سورة لقمان: الآية 6.
2- وسائل الشيعة: ج 17/304 ح 22599، الكافي: ج 6/431 ح 4.

وتقريب الإيراد على الاستدلال به، والجواب عنه ما تقدّم في سابقه.

ومنها: قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ) (1) وقد فَسّر (الزور) في صحيح أبي الصباح الكناني بالغناء(2).

وأورد عليه الشيخ رحمه الله(3): بأنّ مشاهد الزور هي مجالس التغنّي بالأباطيل من الكلام.

وفيه: إنّ ذلك مصادرة، لكون ذلك هو محلّ الكلام.

ومنها: قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) (4) فقد فُسّر (اللّغو) بالغناء(5).

وعن صاحب «المستند»(6): الإيراد على المستدلّ بهذه الآيات، بأنّ النصوص الواردة في تفسيرها بالغناء معارضة مع النصوص الأخر المفسّرة إيّاها بتفسير آخر.

وفيه: إنّ الروايات الواردة في تفسير القرآن كلّها من قبيل تعيين المصداق، ولا تدلّ على الانحصار، فلا تعارض بينها.

الوجه الثالث: الروايات(7) المستفيضة الواردة في بيان حرمته وحرمة التكسّب به واستماعه، وحرمة تعليمه وتعلّمه، وما يترتّب عليه من المفاسد.4.

ص: 111


1- سورة الفرقان: الآية 72.
2- وسائل الشيعة: ج 17/304 ح 22596، الكافي: ج 6/431 ح 6.
3- كتاب المكاسب: ج 1/287 (ط. ج).
4- سورة المؤمنون: الآية 3.
5- وسائل الشيعة: ج 17/308 ح 22612، بحار الأنوار: ج 66/262.
6- مستند الشيعة: ج 18/203.
7- وسائل الشيعة: ج 17/316 ح 22641، عوالي اللالئ: ج 1/261 ح 44.

فتحصّل: أنّ حرمة الغناء لا ينبغي إنكارها.

أقول: قد نُسب إلى المحدِّث الكاشاني(1) القول بجواز الغناء من حيث هو، وإنّما يحرم إذا اشتمل على محرّم من الخارج، مثل اللّعب بآلات اللّهو، ودخول الرِّجال، والكلام بالباطل.

ولا يهمّنا البحث عن صحّة هذه النسبة وبطلانها، وفي الجمع بين كلمات الشيخ رحمه الله حيث إنّه ينسب إليه أوّلاً القول بالجواز، ثمّ ينسب إليه غير ذلك، وإنّما المهمّ بيان أصل المطلب.

وحاصله: أنّه ربما يدّعي عدم حرمة الغناء، واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه ليس في النصوص رواية معتبرة دالّة على حرمة الغناء، فالمتعيّن الأخذ بالمتيقّن، والمتيقّن هو ما إذا اقترن بأحد المحرّمات الأُخر، كما كان متعارفاً في زمن الخلفاء.

وفيه: ما تقدّم من تواتر الروايات الدالّة على ذلك، وقد مرّ أنّ فيها روايات معتبرة، فراجع(2).

الوجه الثاني: أنّ نصوص حرمة الغناء منصرفة إلى الغناء من خلال الصوت الخارج من آلات اللّهو من المزمار ونحوه بإيجادٍ فيها، فالغناء المجرّد لا يكون حراماً.

وفيه: أنّه لا وجه لدعوى الانصراف، بل ظاهر النصوص النهي عن نفس الغناء ومن حيث هو.

الوجه الثالث: إنّ الروايات بقرينة دلالة بعضها على أنّ المنع بمناط اللّهو،د.

ص: 112


1- حكاه عنه في المكاسب: ج 1/298 (ط. ج).
2- صفحة 108 من هذا المجلّد.

محمولة على مطلق المرجوحيّة، إذ من المعلوم أنّ اللّهو بما هو لا يقتضي التحريم.

وفيه: - مضافاً إلى ما سيأتي في مبحث اللّهو(1) من حرمته على بعض معانيه - أنّ النصوص إنّما تدلّ على حرمة الغناء من حيث إنّه صوت لهوي، وهذا لا يستلزمُ حرمة كلّ ما يكون لهواً، كي يُستكشف جوازه من جواز اللّهو.

الوجه الرابع: ما عن «قرب الإسناد» بسند لم يبعّد في «الكفاية» إلحاقة بالصحاح، عن علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قال:

«سألته عن الغناء في الفطر والأضحى والفرح ؟ قال عليه السلام: لا بأس ما لم يُعص به»(2).

وهو وإن كان ضعيف السند لعبداللّه بن الحسن، وعدم استبعاد صاحب «الكفاية» إلحاقه بالصّحاح، يمكن أن يكون لأجل أنّه اطّلع على أمارة مفيدة للظنّ بوثاقته، غير مفيدة بالنسبة إلينا، إلّاأنّ الخبر مرويّ عن «كتاب علي بن جعفر»، ولكن المذكور فيه قوله: «ما لم يزمَّر به» وهو يدلّ على حرمة الغناء إذا اقترن بالمعاصي الاُخر.

وفيه: إنّ محتملات قوله: «ما لم يزمَّر به» ثلاثة:

الأوّل: إرادة ما لم يقترن بضرب المزمار.

الثاني: إرادة ما لم يوجد الغناء في المزمار.

الثالث: إرادة ما لم يكن الصوت صوتاً مزماريّاً ولحناً راقصاً.

أقول: والاستدلال بالخبر يتوقّف على إرادة المعنى الأوّل، ولا ريب في كونه1.

ص: 113


1- صفحة 274 من هذا المجلّد.
2- وسائل الشيعة: ج 17/122 ح 22148، قرب الإسناد: ص 121.

خلاف الظاهر، إذ لو كان المراد ذلك لقال (ما لم يقترن بالمزمار)، بل الظاهر من الخبر هو إرادة المعنى الثالث، كما لا يخفى .

وعليه، فيتعيّن كون إطلاق الغناء على الجامع بين القسمين إطلاقاً على المعنى الأعمّ كإطلاق أهل اللّغة.

الوجه الخامس: مرسل الفقيه: «سأل رجلٌ علي بن الحسين عليهما السلام عن شراء جارية لها صوت ؟ فقال عليه السلام: ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة»، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء، وأمّا الغناء فمحظور(1).

وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند للإرسال.

وثانياً: أنّه وراد في الجارية التي لها صوت، لا المغنّية، إذ الظاهر أنّ التفسير إنّما هو من الشيخ الصدوق، وعلى فرض كونه من الإمام عليه السلام فهو يدلّ على أنّ المذكورات على قسمين:

أحدهما: ما هو غناء.

والثاني: ما ليس كذلك.

فيدلّ على أنّ الغناء محرّم في نفسه وبحدّ ذاته.

الوجه السادس: صحيح أبي بصير، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرِّجال»(2).

ونحوه خبره الآخر، عنه عليه السلام: «عن كسب المغنّيات ؟ فقال: التي يَدخل عليها الرجال حرام، والتي تُدعى إلى الأعراس ليس به بأس، وهو قول اللّه عزّوجلّ :3.

ص: 114


1- وسائل الشيعة: ج 17/122 ح 22150، من لا يحضره الفقيه: ج 4/60 ح 5097.
2- وسائل الشيعة: ج 17/121 ح 22146، الكافي: ج 5/120 ح 3.

(مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ ) »(1).

وتقريب الاستدلال بهما: إنّهما يدلّان على أنّ حرمة الغناء في الفرض مختصّة بما إذا دخل الرجال على المغنّية، وبعد الغاء خصوصيّة كون من يغني امرأة، وكون المحرّم دخول الرِّجال يتمّ المطلوب، فيكون مفادهما جواز الغناء ما لم ينضمّ إليه أحد المحرّمات الاُخر.

ويشير إلى ذلك - مضافاً إلى ظهوره - التعليل في الخبر الأوّل، بأنّها ليست بالتي يدخل عليها الرِّجال، ودلالة الثاني على أنّ غناء المغنّية التي يدخل عليها الرجال داخلٌ في لهو الحديث، المقصود به إدخال الناس في المعاصي، والإخراج عن سبيل الحقّ .

وفيه: إنّ الخبر الثاني ضعيف السند لعلي بن أبي حمزة البطائني الواقفي، الكذّاب المتّهم.

وأمّا الخبر الأوّل، فغاية ما يستفاد منه أنّ المغنّية التي تزفّ العرائس لا باس بغنائها ما لم يقترن بأحد المحرّمات الاُخر، دون أن يكون متعرّضاً لحكم الغناء في ما عدا زف العرائس.

الوجه السابع: النصوص الدالّة على مدح الصوت الحَسَن، وأنّه ما بعث اللّه نبيّاً إلّاوهو حَسن الصوت، واستحباب قراءة القرآن بالصوت الحسن، وأنّ عليّ ابن الحسين عليهما السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن(2).

فإنّه يستفاد منها جواز الغناء، بل استحبابه في القرآن، وأنّ الحرمة إنّما تكون1.

ص: 115


1- وسائل الشيعة: ج 17/120 ح 22144، الكافي: ج 5/119 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 6/211 ح 7757، الكافي: ج 2/616 ح 11.

للاُمور الخارجيّة.

وفيه: أنّها غير مربوطة بالغناء، إذ صوت الحسن غير الغناء كما تقدّم، هذا كلّه مضافاً أنّه لو تمّت دلالة ما تقدّم على هذا القول، بما أنّه لا يمكن حمل جميع ما دلّ على حرمة الغناء على أنّ حرمته إنّما تكون للأُمور الخارجيّة، ولا يمكن رفع اليد عن ظهورها في حرمة الغناء نفسه، فلا محالة يقع التعارض بينهما، والترجيع معها كما لا يخفى .

وأضف إلى ذلك أنّه لم يُنسب القول بالجواز إلى أحدٍ سوى المحدِّث المذكور(1)والمحقّق السبزواري(2)، وقد عرفت دعوى بعضهم أنّ عدم الجواز من الضروريّات، فإذاً لا ينبغي التوقّف في الحكم بالحرمة.

***6.

ص: 116


1- حكاه عنه في كتاب المكاسب: ج 1/298 (ط. ج).
2- حكاه عنه الميرزا الشيرازي في حاشيته على المكاسب: ج 1/96.

مستثنيات حرمة الغناء

أقول: استثنى القوم من الغناء المحرّم موارد، وهي:

المورد الأوّل: ما حُكي في محكي «جامع المقاصد» عن من لم يُسمّ قائله(1) عن جواز الغناء في المراثي، دون أن يذكر وجهه.

وقرّبه المحقّق الأردبيلي في محكي «شرح الإرشاد»(2)، وعلّل ذلك بوجوه:

منها: أنّه ما ثبت الإجماع إلّافي غيرها، والأخبار ليست بصحيحة صريحة في التحريم مطلقاً.

وفيه: ما عرفت من وجود روايات صحيحة دالّة على حرمة الغناء مطلقاً.

ومنها: قيام السيرة على ذلك، لأنّه المتعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمان المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير.

وفيه: أنّ قيام السيرة على الرثاء وإقامة التعزية مسلّم، إلّاأنّه لا نُسلِّم قيام السيرة على التغنّي فيها، بل المسلّم خلافه.

ودعوى: أنّه النياحة لا تكون إلّامعه ممنوعة.

ومنها: أنّ البكاء والتفجّع مطلوبٌ مرغوب فيه، وفيه ثوابٌ عظيم، والغناء معينٌ على ذلك.

وفيه أوّلاً: ما تقدّم من أنّ الغناء لا يكون مُعيناً على البكاء، لما تقدّم في مقام بيان حقيقته.

ص: 117


1- كتاب المكاسب: ج 1/308 (ط. ج)، قوله: (فقد حكى في جامع المقاصد قولاً لم يسمّ قائله باستثناء الغناء في المراثي نظير استثنائه في الأعراس ولم يذكر وجهه).
2- مجمع الفائدة: ج 8/61.

وثانياً: أنّه لو سُلّم كونه معيناً عليه، لا وجه للقول بجوازه من جهة وقوعه مقدّمة للمستحبّ ، إذ لو وقعت المزاحمة بين حكمين أحدهما إلزامي والآخر غير إلزامي، فإنّه لا شبهة في تقديم الدليل الأوّل على الثاني لكونه صالحاً لأن يكون معجزاً عن غيره بخلاف العكس.

ومنها: عمومات أدلّة الإبكاء والرثاء.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله(1): بأنّ أدلّة المستحبّات لا تقاوم أدلّة المحرّمات.

محصّل ما ذكره في وجه ذلك: أنّ دليل الاستحباب إنّما يتضمّن ثبوت الحكم لوجود جهته المقتضية له، مع عدم تحقّق ما يقتضي الإلزام بترك مورده، فالفعل إنّما يتّصف بالاستحباب إذا خلا في طبعه عمّا يقتضي الحرمة، فمع طروء عنوان ملزم لتركه يكون محرما ولا يقاومه دليل الاستحباب، فالإبكاء مستحبٌّ ما لم يطرء عليه أحد العناوين المحرّمة منها الغناء، فلا يصلح دليل مطلوبيّته لمقاومة أدلّة حرمة الغناء.

ويردّه: أنّ ما ذكره من عدم مقاومة أدلّة الأحكام غير الإلزاميّة لأدلّة الأحكام الإلزاميّة إنّما يتمّ في مواضع:

الموضع الأوّل: ما إذا وقعت المزاحمة بين الطائفتين في مقام الامتثال من دون أن تتصادقا على مورد واحد، كما إذا وقعت المزاحمة بين وجوب الصوم واستحباب قراءة القرآن، إذا لم يتمكّن من الجمع بينهما، فإنّه في مثل ذلك لا شبهة في تقديم الأوّل، لأنّ دليله يكون معجزاً عن الثاني.).

ص: 118


1- كتاب المكاسب: ج 1/308 (ط. ج).

الموضع الثاني: ما إذا كان الموضوع فيهما واحداً، ويكون الحكم غير الإلزامي مشروطاً بأن لا يلزم من موافقته مخالفة حكم إلزامي كقضاء حاجة المؤمن، حيث إنّ استحبابه مقيّدٌ بعدم لزوم فعل الحرام من امتثاله، وعليه يبتني عدم توقّف أحد من أنّه لا يجوز شيء من المحرّمات بعنوان قضاء حاجة المؤمن.

الموضع الثالث: ما إذا كان الحكم غير الإلزامي مترتّباً على الشيء بعنوانه الأوّلي، والحكم الإلزامي متعلّقاً به بعنوانه الثانوي.

أقول: وأمّا في غير هذه الموارد الثلاثة، وهو ما إذا كان الثابت في الواقع حكماً واحداً، وكانت الأدلّة متعارضة في ثبوت الحكم الإلزامي أو غير الإلزامي، بنحو التباين أو العموم من وجه، مع عدم كون الحكم غير الإلزامي مشروطاً بعدم مخالفة الحكم الإلزامي، فلا وجه لدعوى تقدّم دليل الحكم الإلزامي إلّادعوى أحد أُمورٍ ثلاثة على سبيل منع الخلو:

أحدها: عدم ثبوت الإطلاق لدليل الحكم غير الإلزامي، بنحوٍ يشمل مورد أقام فيه دليلٌ على حكم إلزامي.

ثانيها: انصرافه عن هذا المورد.

ثالثها: ظهوره في تقيّيد ما تضمّنه من الحكم بعدم المخالفة للحكم الإلزامي.

وأمّا دعوى: أنّ مقتضيات الأحكام الترخيصيّة لا تصلح لمزاحمة مقتضيات الأحكام الإلزاميّة.

فأجنبيّة عن المقام، إذ تلك إنّما هي فيما إذا ثبت المقتضيان، وهو في الفرض معلومُ العدم، لفرض التعارض بين الدليلين، ولا أقلّ من عدم المعلوميّة، وعليه فلا

ص: 119

مناص عن الرجوع إلى مرجّحات باب التعارض.

وما نحن فيه من هذا القبيل، وليس من قبيل الموارد الثلاثة الأوّل، كما هو واضح، فلابدّ من تقديم أدلّة الغناء لمخالفتها للعامّة.

ومنها: أنّ التحريم إنّما هو للطرب، وليس في المراثي طرب، بل ليس فيها إلّا الحزن.

وفيه: إنّه تارةً يكون الصوت صوتاً لهويّاً ولحناً راقصاً، ويوجب حصول النشاط والإنبساط للسّامع، ولكن ربما يبكي المستمع في خلاله لأجل الهموم المركوزة في قلبه، الغائبة عن خاطره، من فقد ما تستحضره القوى الشهويّة، ويتخيّل أنّه بكى في المرثية، أو أنّه يبكي من جهة أقوائيّة المادّة في حصول الحزن من الكيفيّة المطربة.

وأُخرى : يكون الصوت بنفسه موجباً لحصول الحزن والبكاء.

وعدم صدق الغناء على الثاني، وإن كان هو الحقّ كما عرفت، إلّاأنّه صادق على الأوّل، فاللّازم هو مراعاة ذلك وتميّيز الغناء عن غيره.

فتحصّل: أنّ الغناء في المراثي حرامٌ ، إلّاأنّ الصوت غير الموجب لحصول الخِفّة الحاصلة عن شدّة السرور - وبعبارة أُخرى غيرالملهي لايكون غناءاً فلايكون محرّماً.

الغناء في قراءة القرآن

المورد الثاني: الغناء في قراءة القرآن.

وقد نُسب استثناء ذلك إلى المحقّق السبزواري(1)، وتبعه بعض المحقّقين(2)،

ص: 120


1- الكفاية ص 86. قوله: (يمكن الجمع بين هذه الأخبار والأخبار الكثيرة الدالّة على تحريم الغناء بوجهين: أحدهما تخصيص تلك الأخبار بما عدا القرآن... الخ).
2- حاشية المكاسب: ج 1/30.

واستدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ قراءة القرآن خارجة عن الغناء موضوعاً، إذ يعتبر في صدق الغناء كون معنى الكلام ومضمونه لهويّاً، ذكره صاحب «الكفاية»(1)والمحقّق الإيرواني رحمه الله(1).

وقد عرفت في المقام الأوّل فساد هذا المسلك، وأنّ الغناء كيفيّة خاصّة في الصوت، وهو الصوت اللّهوي المجامع مع كون المادّة حقّاً.

الوجه الثاني: أنّه قد دلّت النصوص(3) الكثيرة على استحباب تحسين الصوت في قراءة القرآن والتحزين والترجيع به. وشيءٌ منها لا يوجد بدون الغناء.

وفيه: أنّه قد عرفت أنّ هذه العناوين غير الغناء، إذ الغناء هو الصوت اللّهوي واللّحن الذي يُرقص، ومجرّد حسن الصوت والترجيع به والتحزين لا يكون كذلك.

وعلى ذلك، فلا تنافي بين هذه النصوص، وبين ما دلّ على ذمّ التغنّي بالقرآن كخبر عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اقرأوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق وأهل الكبائر، فإنّه سيجيءُ بعدي أقوامٌ يرجعون القرآن ترجيع الغناء والنوح والرهبانيّة»(4).

أقول: والمحقّق السبزواري رحمه الله(5) لبنائه عليملازمة تحسين الصوت و الترجيع به للغناء، بني على التعارض بين الطائفتين، وجَمَع بينهما بنحوين:

أوّلهما: الصحيح على هذا المسلك، قال: (أحدهما: تخصيص تلك الأخبار الواردة المانعة بما عدا القرآن، وحمل ما يدلّ على ذمّ التغنّي بالقرآن على قراءةٍ تكون3.

ص: 121


1- حاشية المكاسب: ج 1/30. (3و4) وسائل الشيعة: ج 6/210 ح 7754، الكافي: ج 2/614 ح 3.

على سبيل اللّهو، كما يصنعه الفسّاق في غنائهم).

الوجه الثالث: إنّ أخبار الغناء معارضة مع الأخبار(1) الكثيرة الدالّة على فضل قراءة القرآن، والنسبة عموم من وجه، فتتساقطان في مورد الاجتماع فيرجع إلى أصالة الإباحة.

وفيه: ما تقدّم من أنّ المختار في التعارض بين العامين من وجه هو الرجوع إلى المرجّحات، وهي تقتضي تقديم نصوص الغناء لكونها مخالفة للعامّة.

وأمّا ما أجابه الشيخ رحمه الله(2) من أنّ أدلّة الأحكام غير الإلزاميّة لا تقاوم أدلّة الأحكام الإلزاميّة، فقد مَرّ ما فيه مفصّلاً في المستثنى الأوّل. فراجع(3).

وبالجملة: فالأظهر هو حرمة الغناء في قراءة القرآن، ويدلّ عليه خبر عبد اللّه ابن سنان المتقدّم، ولكنّه ضعيف السند لأنّ في طريقه إبراهيم الأحمر، لكن نقول إنّ الغناء في ذلك أبغض لكونه هتكاً للدِّين.

الحُداء لسوق الإبل

المورد الثالث: الحُداء لسوق الإبل.

قال صاحب «الكفاية»(4): (المشهور استثنائه)، وقد استدلّ له بوجوه:

الوجه الأوّل: النبوي المرسل الذي ذكره في كتاب الشهادات من «المسالك»(5)المتضمّن تقرير النبيّ صلى الله عليه و آله لعبداللّه بن رواحة حيث حَدا للإبل وكان حَسَن الصوت(6).

ص: 122


1- وسائل الشيعة: ج 6/186 ح 7688، الكافي: ج 2/605 ح 7.
2- حكاه عنه في مصباح الفقاهة: ج 1/316.
3- صفحة 117 من هذا المجلّد.
4- الكفاية: ص 86.
5- مسالك الأفهام: ج 2/323 كتاب الشهادات.
6- سنن البيهقي: ج 10/227 وقيل هو انجشه وليس عبد اللّه بن رواحه، راجع نفس المصدر.

قال الشيخ في «المكاسب»(1): (وفي دلالته وسنده ما لا يخفى ).

وأورد عليه المحقّق الشيرازي(2): بأنّ دلالته لم أعرف وجه ضعفها على تقدير كون الحُداء من الغناء، وضعف سنده منجبرٌ بنقل الشهرة، وفتوى جمعٍ من الأساطين.

وفيه: أنّ المرسل متضمّنٌ لواقعة شخصيّة، فيمكن أن لا يكون الحُداء الذي جوّزه النبيّ صلى الله عليه و آله غناءاً، فلا يدلّ على جواز الغناء.

الوجه الثاني: ما رواه الصدوق بإسناده عن السكوني، عن جعفر بن محمّد عليهما السلام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «زادُ المسافر الحُداء والشّعر ما كان منه ليس فيه خناء - أي فحش - أو جفاء، أو حنان»(3) أي الطرب على اختلاف النسخ، بناءً على رجوع القيد إلى خصوص الشعر كما يشهد به أفراد الضمير.

أقول: ولكن الاستدلال به مبنيٌّ على كون الحُداء منحصراً بالغناء، ولكنّه ممنوعٌ ، فلا يدلّ على جواز الغناء.

وبه يظهر ما في الوجه الثالث وهو استقرار السيرة على جواز الحُداء.

الوجه الرابع: ما في «الجواهر» الميل إليه، وهو(4) أنّ الحُداء قسيمٌ للغناء بشهادة العرف، فهو خارجٌ عن الغناء موضوعاً.

وفيه: إنّه لا تنافي بين العنوانين كي يكون صدق أحدهما مانعاً من صدق الآخر، بل الأظهر أنّ النسبة بينهما عموم من وجه.

وبالجملة: ثبت ممّا ذكرناه أنّه لا دليل على استثناء الغناء في الحُداء.1.

ص: 123


1- المكاسب: ج 1/313.
2- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/103.
3- وسائل الشيعة: ج 11/418 ح 15149، من لا يحضره الفقيه: ج 2/280 ح 2447.
4- جواهر الكلام: ج 22/51.

الغناء في زَفّ العرائس

المورد الرابع: غناء المغنّية في الأعراس، إذا لم يكتنف به محرّم آخر.

قال الشيخ في «المكاسب»(1): (المشهور استثنائه)، ويشهد له:

1 - صحيح أبي بصير، عن مولانا الصادق عليه السلام: «أجر المغنّية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرِّجال»(2).

2 - ونحوه خبره الآخر(3).

3 - وخبره الثالث، عنه عليه السلام: «عن كسب المغنّيات ؟ فقال: التي يدخل عليها الرِّجال حرام، والتي تُدعى إلى الأعراس ليس به بأس»(4).

ولكن الثاني مجهولٌ ، والثالث ضعيف، ودعوى ضعف الأوّل كما ترى .

والإيراد عليه: بأنّه إنّما يدلّ على إباحة الأجر لا الفعل، مندفعٌ بالتلازم بينهما.

ودعوى: أنّ الأجر لمجرّد الزَّف، خلاف الظاهر، وبالتالي فالأظهر جوازه.

أقول: بقي الكلام في تعليمه وتعلّمه، وملخّص القول فيه:

إنّ التعليم والتعلّم بالتغنّي والاستماع حرامٌ بلا كلام، وأمّا بغير ذلك فحرمة التعليم مستفادة من خبرين مرويّين في الوسائل، وحرمة التعلّم تستفاد من المرسل المروي في «مستدرك الوسائل»، إلّاأنّ كلاهما ضعيفا السند، إذ أحد الخبرين المرويّين في «الوسائل» مرسل، والآخر في طريقه محمّد الطاطري وهو مهمل، وما في «المستدرك» مرسلٌ أيضاً. ومقتضى الأصل هو الجواز.

***

ص: 124


1- كتاب المكاسب: ج 1/313-314.
2- وسائل الشيعة: ج 17/121 ح 22146، الكافي: ج 5/120 ح 3.
3- وسائل الشيعة: ج 17/121 ح 22145، الكافي: ج 5/120 ح 2.
4- وسائل الشيعة: ج 17/120 ح 22144، الكافي: ج 5/119 ح 1.

الغيبة

المسألة الرابعة عشرة: الغيبة حرام، ويدلّ عليه من الكتاب قوله تعالى:

(وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) (1) .

أقول: تقريب الاستدلال بهذه الآية الشريفة إنّما يكون من وجوه:

الوجه الأوّل: اشتمالها على النهي عن الاغتياب، وظاهر النهي هو الحرمة.

الوجه الثاني: إنّ اللّه تعالى جعل المؤمن أخاً، لأنّ المؤمنين إخوة، وشبّه عِرض المؤمن باللّحم لانتقاصه بالتفكّه به، كما أنّ اللّحم ينتقص بالأكل، وشبّه التفكّه به بالأكل، أي شبه بهتك عِرضه بأكل الميتة، إمّا لأنّه يأكل الجيف في الآخرة كما في بعض النصوص، أو لتشبيه المغتاب (بالكسر) بالكلاب والسّباع كما في بعض النصوص الاُخر، ولا ريب في أنّ التشبيه إنّما يكون بلحاظ الحكم، وهو الحرمة، ويؤكّده تصدير هذه التشبيهات بالاستفهام الإنكاري، الدالّ على قبح صدور هذا العمل.

وبعبارة أخرى: يدلّ على أنّه كما يتنفّر طبع الإنسان عن أكل لحم أخيه الميّت، لابدّ وأن يتنفّر عن اغتيابه.

الوجه الثالث: الاستدلال ببعض الآيات الشريفة:

1 - قوله تعالى: (فَكَرِهْتُمُوهُ ) (2) ومفاده أنّه كما تكرهون أكل لحم الأخ، كذلك لابدَّ وأن تكرهوا اغتيابه، أي تجتنبوا عنه، ولكن جَعْلُ هذا من تتمة الوجه

ص: 125


1- سورة الحجرات: الآية 12.
2- سورة الحجرات: الآية 12.

الثاني أولى من جَعْله وجهاً مستقلّاً.

2 - وقوله تعالى: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) (1).

تقريب الاستدلال به: أنّ المراد بالأولى المغتاب (بالكسر) والثانية الطعان، وعن ابن عبّاس: أنّ المراد بالثانية المغتاب، والمراد بالأولى الطعان.

وعلى كلّ تقدير دلالته على الوعيد للمغتاب ظاهرة، وحيث إنّ ثبوت العقاب مستلزمٌ لكون الفعل حراماً، فبثبوته يستدلّ على الحرمة.

وفيه أوّلاً: إنّه قيل في معناهما وجوه اُخر:

منها: أنّ الهُمَزة هو الذي يؤذي جليسه بسوء لفظه، واللُّمزة هو الذي يكسر عينيه على جليسه، ويؤمي بطرفهما ويشير إليه برأسه.

ومنها: أنّ الهُمَزة هو الذي يهمز النّاس ويضربهم بيده، واللُّمزة هو الذي يلمزهم بلسانه وعينه.

ومنها: أنّ المراد بهما كثير الطعن على غيره بغير حقّ ، سواءٌ أكان في غيبته أم في حضوره، وسواءٌ أكان باللِّسان أم بغيره.

وحيث إنّه على هذه التفاسير تصبح الآية مجملة، فلا تدلّ على حرمة الغيبة، فضلاً عن أنّه لا يَصحّ الاستدلال بها.

وثانياً: أنّ الهُمَزَة على التفسير الأوّل، واللُّمزة على التفسير الثاني ليس هو المغتاب (بالكسر) بل الذي يعيبك على ظهر الغيب، والنسبة بينه وبين الغيبة عموم من وجه، إذ هذا المعنى يشمل ذكره أخاه بما ليس فيه، والغيبة أيضاً أعمٌّ ، من جهة1.

ص: 126


1- سورة الهمزة: الآية 1.

عدم اختصاصها بما إذا كان المغتاب في مقام بيان عيوبه.

3 - وقوله تعالى: (لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) (1).

وتقريب الاستدلال به: أنّ الغيبة هي الجهر بالسوء المتعلّق بالأخ المؤمن، والآية تدلّ على أنّ اللّه لا يحبّذ وقوعها من غير المظلوم، وهذا لازمه ثبوت الحرمة.

وفيه أوّلاً: إنّ عدم المحبوبيّة أعمٌّ من الحرمة.

وبعبارة أُخرى : عدم الحبّ والإرادة لا يلازم الحرمة، بل الملازم لها إرادة عدم تحقّق الفعل.

وثانياً: إنّه ليس في الآية الشريفة ما يدلّ علي أنّ الغيبة من الجهر بالسوء، بل لا يبعد دعوى أنّ الظاهر منه إرادة القول المُنشَأ به السوء لا الحاكي عنه، فيكون المراد به الشتم والدّعاء على الغير، ويشهد به المروي في «مجمع البيان» عن الإمام الباقر عليه السلام، في تفسير الآية:

«لا يحبّ اللّه الشتم إلّامن ظلم».

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ الغيبة من الجهر بالسوء حتّى بناءً على إرادة القول المُنشَأ به السوء، فإنّها إظهار ما ستره اللّه من العيوب الموجب لهتك المقول فيه وإهانته.

وأمّا الخبر: - فمضافاً إلى ضعف سنده - لا يدلّ على اختصاص الجهر بالسوء بالشتم، وإنّما يدلّ على أنّه أحد مصاديقه.

وعليه، فالعمدة هو الإيراد الأوّل.

4 - وقوله تعالى: (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ8.

ص: 127


1- سورة النساء: الآية 148.

عَذابٌ أَلِيمٌ ) (1) .

المراد من الحُبّ هو ما انتهى إلى فعل المحبوب، والآية الشريفة إنّما تدلّ على ترتّب العقاب على إشاعة الفاحشة، ومن مصاديقها الغيبة، فبالدلالة الالتزاميّة تدلّ على الحرمة.

ولكن يرد على الاستدلال بها: أنّها ظاهرة في أنّ حُبّ شيوع الفاحشة بين الناس بارتكابهم المحرّمات من المحرّمات، فلا صلة لها بالغيبة التي هي إعلام الناس بالفاحشة، والعيب المستور.

نعم، قد فسّر في بعض النصوص إشاعة الفاحشة بما يشمل الغيبة، مثلاً ورد في مرسل ابن أبي عمير - الذي هو كالصحيح - عن مولانا الصادق عليه السلام: «من قال في مؤمنٍ ما رأته عيناه وسمعته اذناه فهو من الذين قال اللّه عزّ وجلّ : (إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ ...(2)) (3).

وعليه، فالآية تدلّ على حرمة الغيبة، لكن بما أنّها أخصّ من المُدّعى كما لا يخفى ، فالاستدلال بها لا يتمّ إلّابضميمة عدم القول بالفصل.

أقول: وتدلّ عليه من الأخبار ما لا يحصى :

منها: النبوي المروي بعدّة طرق: «إنّ الغيبة أشدّ من الزنا، وإنّ الرّجل يزني فيتوب ويتوب اللّه عليه، وأنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه»(4).

ومنها: عنه صلى الله عليه و آله: «أنّه خَطَب يوماً فذكر الرِّبا وعظّم شأنه، فقال: إنّ2.

ص: 128


1- سورة النور: الآية 19.
2- سورة النور: الآية 19.
3- وسائل الشيعة: ج 12/280 ح 16305، الكافي: ج 2/357 ح 2.
4- وسائل الشيعة: ج 12/280 ح 16308، بحار الأنوار: ج 72/222.

الدرهم يصيبه الرّجل من الرِّبا أعظم من ستّة وثلاثين زِنية، وإنّ أربى الربى عِرض الرّجل»(1).

ومنها: ما عنه صلى الله عليه و آله: «مَن اغتاب مُسلماً أو مسلمة لم يقبل اللّه صلاته ولا صيامه أربعين صباحاً إلّاأن يغفر له صاحبه»(2).

منها: ما عنه صلى الله عليه و آله: «إنّ الغيبة حرامٌ على كلّ مسلم، وأنّ الغيبة لتأكل الحسنات كما تأكل النارُ الحَطَب»(3).

ولا يخفى أنّ أكل الحسنات إنّما يكون على وجه الإحباط.

إلى غير ذلك من النصوص المتواتره.

***8.

ص: 129


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/119 ح 10413، بحار الأنوار: ج 72/222.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/122 ح 10422، بحار الأنوار: ج 72/258 ح 53.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/124 ح 10430، بحار الأنوار: ج 72/257 ح 48.

الغيبة من الذنوب الكبيرة

قال الشيخ رحمه الله(1): (ثمّ ظاهر هذه الأخبار كون الغيبة من الكبائر).

أقول: إنّ في تقسيم الذنوب إلى الكبائر والصغائر، ثم في الفرق بين القسمين بدعوى أنّ الكبائر تضرّ بالعدالة، والصغائر لا تضرّ بها، كلاماً محرّراً في محلّه، والمختار هو أنّ المعاصي كلّها كبيرة، وإن كان بعضها أكبر من الآخر، ثمّ على فرض وجود القسمين، فإنّ الأظهر أنّ الصغيرة أيضاً تضرّ بالعدالة.

والكلام في المقام إنّما هو في أنّه على فرض انقسام المعاصي إلى قسمين، هل تكون الغيبة من الكبائر أم من غيرها؟

فيه وجهان، أقواهما الأوّل، وذلك لأنّ الكبيرة هو الذنب العظيم عند الشارع، وثبوت كونه كذلك إنّما يكون بالتوعيد عليه في الكتاب أو السُنّة المعتبرة، أو بالنص على كونه كذلك، أو يجعله أشدّ ممّا ثبت كونه من الكبائر أو مثله أو بترتيب آثار الكبيرة عليه، وعلى ذلك فيدلّ على كون الغيبة من الكبائر وجوه:

الوجه الأوّل: أنّه تضمّنت الآية الشريفة - وهي آية إشاعة الفاحشة(2) - والنصوص(3) المعتبرة في التوعيد على الغيبة.

الوجه الثاني: جَعلها(4) أشدّ وأعظم من الزنا والرِّبا، ولا إشكال في كونهما من

ص: 130


1- كتاب المكاسب: ج 1/318 (ط. ج).
2- سورة النور: الآية 19.
3- وسائل الشيعة: ج 12/278 ح 16300، الكافي: ج 2/235 ح 19.
4- وسائل الشيعة: ج 12/284 ح 16317، بحار الأنوار: ج 72/222.

الكبائر، فتأمّل.

أقول: يمكن رَدّ هذا الوجه بأنّ النصوص المتضمّنة لذلك كلّها ضعيف السند، مع أنّ الرواية المتضمّنة لجعلها أشدّ من الزِّنا علّلت الأشديّة فيها بأنّ الزاني يتوب فيُغفر له، والمغتاب لا يُغفر له حتّى يغفر له صاحبه، وهذا التعليل يدلّ على أنّ المراد بالأشديّة ليس هو الأشديّة في الحكم، بل الأشديّة من حيث ما يوجب رفع الأثر، فهو نظير أشديّة المني من البول لاحتياجه إلى الدلك دونه، مع كون البول أشدّ من حيث النجاسة، والرواية التي توهم تضمّنها لجعلها أشدّ من الرِّبا قد مرَّ عدم دلالتها على ذلك، وبالتالي فهذا الوجه ضعيف.

الوجه الثالث: النصوص(1) الدالّة على كون الخيانة من الكبائر والغيبة منها، إذ أيُّ خيانةٍ أعظم من التفكّه بلحم الأخ على غفلةٍ منه، مع أنّه يدلّ على كونها منها قول النبيّ صلى الله عليه و آله في وصيته لأبي ذرّ المروي بطريق ضعيف.

أقول: واستدلّ لعدم كونها من الكبائر بالنصوص(2) الحاصرة للكبائر في جملةٍ من المعاصي التي ليست منها الغيبة.

وفيه: إنّه يتعيّن رفع اليد عن إطلاق مفهوم الحصر بما تقدّم ممّا دلّ على كونها من الكبائر.

***1.

ص: 131


1- وسائل الشيعة: ج 15/329 ح 20660، بحار الأنوار: ج 76/9 ح 11.
2- وسائل الشيعة: ج 15/329 ح 20660، بحار الأنوار: ج 76/9 ح 11.

اشتراط الإيمان في حرمة الغيبة

أقول: صرّح غير واحد(1) بأنّ ظاهر الأخبار اختصاص حرمة الغيبة بالمؤمن.

وعن المحقّق الأردبيلي(2): القول بحرمة غيبة المخالفين لإطلاق الأدلّة.

واستدلّ للجواز بوجوه:

منها: ما ذكره الأستاذ الأعظم(3) من أنّ المستفاد من الآية والروايات هو تحريم غيبة الأخ المؤمن، ومن البديهي أنّه لا إخاء ولا عصمة بيننا وبين المخالفين، وهذا هو المراد من المطلقات بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع.

وفيه: أنّه وإن ذُكر الإيمان في صدر الآية الشريفة - وبعبارة أُخرى الضمير في قوله (بَعْضُكُمْ بَعْضاً) * إنّما يرجع إلى المؤمنين - إلّاأنّ هذه الآية إنّما نزلت قبل عرض الولاية على النّاس في عام حَجّة الوداع، وفي ذلك الزمان لم يكن يفترق الإسلام عن الإيمان بذلك، فليس المراد من الإيمان في الآية هو الولاية، وعليه فالآية ككثير من الأخبار مطلقة.

ودعوى: أنّها تُحمل على غير المخالف لمناسبة الحكم والموضوع، كماترى .

ومنها: أنّ المطلقات تقيّد بالنصوص المخصّصة للحرمة بالأخ المؤمن.

وفيه: أنّ المطلق يُحمل على المقيّد إذا كانا متنافيين، وإلّا فلا يحمل عليه، وفي المقام لا تنافي بينهما كما لا يخفى .

ص: 132


1- مفتاح الكرامة: ج 4/65 (ط. ق).
2- مجمع الفائدة: ج 8/78.
3- مصباح الفقاهة: ج 1/324.

ومنها: ما في «المكاسب»، من أنّه لا يمكن التمسّك بعموم الآية وبعض الروايات لما عُلم بضرورة المذهب من عدم احترامهم، وعدم جريان أحكام الإسلام عليهم، إلّافي قليلٍ من الأحكام(1).

وفيه: أنّه لم يدلّ دليلٌ على أنّ تمام مناط حرمة الغيبة هو الاحترام، إلّاما في بعض النصوص الآتية الدالّة على عدم حرمة غيبة المُعلِن بفسقه، المتضمّن أنّه لا حرمة له فتجوز غيبته، لكنّها ضعيفة السند لا يُعتمد عليها.

أقول: والمراد من عدم جريان أحكام الإسلام:

إنْ كان عدم جريان ما لدليله إطلاقٌ فهو ممنوع.

وإن كان عدم جريان ما لا إطلاق لدليله فهو مسلّم، إلّاأنّه لا يفيد كما لايخفى .

ومنها: ما ذكره الأستاذ الأعظم وغيره(2) من أنّ المخالفين بأجمعهم متجاهرون بالفسق لبطلان عملهم رأساً، بل التزموا بما هو أعظم من الفسق، وسيجيء أنّ المتجاهر بالفسق تجوز غيبته.

وفيه أوّلاً: أنّه سيجيء عدم شمول المتجاهر بالفسق لمن لا يعلم بأنّ ما يفعله فسق.

وثانياً: إنّ المختار عنده هو عدم جواز غيبة المتجاهر بالفسق في غير ما تجاهر به، والمطلوب في المقام إثبات جواز غيبتهم مطلقاً.

ومنها: ما عن الأستاذ الأعظم أيضاً(3) من أنّه ثبت في الروايات والأدعية والزيارات جواز لعن المخالفين، ووجوب البراءة منهم وإكثار السَّب عليهم،3.

ص: 133


1- كتاب المكاسب: ج 1/319 (ط. ج). (2و3) مصباح الفقاهة: ج 1/324 و 323.

واتّهامهم والوقيعة فيهم - أي غيبتهم - لأنّهم من أهل البِدع والرّيب، بل لا شبهة في كفرهم، واستشهد على ذلك - أي على كفرهم - بجملةٍ من الروايات والأدعية.

ثمّ قال: (ومن البديهي أنّ جواز غيبتهم أهون من الأُمور المذكورة).

أقول: إنّ الإسلام - على ما يستفاد من الأخبار - يُطلق على معان ثلاثة:

أحدها: إظهار الشهادتين.

ثانيها: الإيمان بهما.

ثالثها: القول بالولاية.

ويقابل الإسلام الكفر في الثلاثة، والذي لا كلام فيه هو جواز غيبة الكافر بالمعنى المقابل للمسلم بالمعنى الأوّل، وأمّا جواز غيبة الكافر بالمعنى المقابل للمسلم بالمعنى الأخير، فهو أوّل الكلام، فمجرّد تضمّن النصوص أنّ المخالف كافر لا يكفي في الحكم بالجواز، وجواز لعنهم ووجوب البراءة منهم وإكثار السَّب عليهم أعمٌّ من جواز الغيبة.

ودعوى: أنّ جواز الغيبة أهون من هذه الأُمور، كما ترى، لعدم ثبوت مناط حرمتها.

والنصوص المتضمّنة لجواز الوقيعة فيهم إنّما وردت في أهل البدع والضلال - أي أئمّتهم - كما يظهر لمن راجعها، ولا تشمل جميع المخالفين.

أقول: ولكن مع ذلك كلّه جواز غيبة المخالف من المسلّمات عند الأصحاب، وقد ادّعى بعضهم قيام السيرة المستمرّة على غيبة المخالفين، بل صرّح صاحب «الجواهر»(1): (إنّ جواز ذلك من الضروريّات).2.

ص: 134


1- جواهر الكلام: ج 22/62.

ويمكن أن يُستشهد له: بأنّ المستفاد من الأخبار المفسِّرة للغيبة دخل عنوان الإخاء في صدقها، ومن طبيعة الإخاء أن يكون بينهم تحابب وتوادد، فجعل الشارع المؤمن أخاً للمؤمن، مرجعه إلى جعله مُحبّاً صديقاً له، فهي تتحقّق فيمن لم يأمر الشارع الأقدس بالاجتناب والتبرّؤ عنه، وبعدم اتّخاذه وليّاً ومحبّاً، بل واتّخاذه عدوّاً له، فالإخاء منحصر بالمؤمنين بالمعنى الأخصّ ، إذ الشارع أمر بالتبرّؤ عن المخالفين، والتقيّة منهم في الدِّين حفظاً للدِّماء، ومرجع ذلك إلى الأمر بأخذهم أعداء لأنفسهم وأعراضهم وجواز لعنهم.

وبالجملة: لا تحرم غيبة المخالف، لعدم صدق الغيبة عليها موضوعاً، فإخراجهم إنّما يكون موضوعيّاً، ولا بأس بجعل بعض ما تقدّم مؤيّداً للجواز الموجب ذلك الاطمئنان بالحكم بضميمة ما ذكرناه.

حكم غيبة الصبي

قال الشيخ رحمه الله(1): (ثمّ الظاهر دخول الصبي المميّز المتأثّر بالغيبة لو سمعها).

أقول: وتنقيح القول فيه بالبحث في موردين:

الأوّل: في الصبي والمجنون المميّزين.

الثاني: في الصبيان والمجانين غير المميّزين.

المورد الأوّل: لا ريب في صدق المؤمن عليها حقيقةً إذا أقّرا بما يعتبر فيه بناءً على قبول إسلامهما كما حقّقناه في محلّه، أو حكماً وتنزيلاً، وبه يتحقّق الإخاء بينهما

ص: 135


1- كتاب المكاسب: ج 1/319.

وبين سائر المؤمنين، ولأجل ذلك أطلق الإخاء على الصبيان في الآية الشريفة:

(إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ ) (1) .

كما لا ريب في أنّ صدور بعض الأُمور من الصبيان يعدّ عيباً فيهم، وعلى ذلك فتصدق الغيبة على كشف أمرٍ منهم قد ستره اللّه ويكون عيباً فيهم، فيشملها إطلاق جملةٍ من النصوص الدالّة على حرمة اغتياب المؤمن.

وقد استدلّ في «المكاسب» لذلك بوجهين آخرين(2):

الوجه الأوّل: قوله تعالى: (أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً...) الخ(3) بناءً على صدق الأخ على الصبي، فإنّه يدلّ على أنّ تمام الموضوع لحرمة الغيبة ذكر الأخ في غيابه بما يسوءه، فمقتضى عمومه حرمة غيبة الصبي، وإنْ لم يشمله صدر الآية الشريفة.

الوجه الثاني: عموم صدر الآية الشريفة أيضاً، فإنّ أطفال المؤمنين منهم إمّا تغليباً أو حقيقةً كما مَرّ، فيشملهم البعض الثاني الذي يكون المراد به المغتاب (بالفتح) وإنْ لم يشملهم البعض الأوّل لحديث رفع القلم.

وفيه: إنّ الظاهر وحدة المراد من البعض في الموردين، فمع فرض عدم شمول البعض الأوّل لا يشملهم البعض الثاني.

المورد الثاني: الظاهر عدم صدق الغيبة على اغتيابهم، وذلك لوجهين:

الأوّل: عدم كون صدور شيء منهم عيباً، حتّى يكون ذكره كشفاً لما ستره اللّه تعالى .2.

ص: 136


1- سورة البقرة: الآية 220.
2- كتاب المكاسب: ج 1/319-320 (ط. ج).
3- سورة الحجرات: الآية 12.

الثاني: عدم تأثّرهم لو سمعوا، وقد أُخذ في حقيقة الغيبة الكراهة، كما في النصوص وكلمات اللّغويين.

وبذلك ظهرت المسامحة في عبارة الكتاب، حيث قال: (من جهة أنّ الإطلاقات منصرفة إلى من يتأثّر لو سمع)، كما أنّه ظهر عدم تماميّة ما عن «كشف الريبة» من عدم الفرق بين الصغير والكبير، الظاهر في الشمول لغير المميّز أيضاً.

أقول: ذكر الشيخ رحمه الله في صدر المبحث(1) أنّ الغيبة حرامٌ بالأدلّة الأربعة، ثمّ ذكر من الكتاب آيات، ومن السُنّة روايات، لكنّه لم يذكر من العقل والإجماع شيئاً.

أقول: إن انطبق الظلم على الغيبة في موردٍ فلا كلام في قُبحه، وإلّا لا يكون العقل مستقلّاً بقبحه.

وبالجملة: مجرّد كشف أمرٍ ستره اللّه لا يعدّ من القبائح العقليّة، ودعوى ملازمة ذلك لعنوان الظلم كما ترى .

وأمّا الإجماع: فلا إشكال في قيامه على الحرمة، بل هي من ضروريّات الدِّين.

***).

ص: 137


1- كتاب المكاسب: ج 1/158 (ط. ق).

بيان معنى الغيبة

وينبغي التنبيه على أُمور:

التنبيه الأوّل: في بيان معنى الغيبة:

اختلفت كلمات اللّغويين والفقهاء في مفهوم الغيبة موضوعاً، ولا يستفاد جميع ما قيل باعتباره من القيود من الأخبار، فلابدَّ من البحث في كلّ واحدٍ من تلك القيود مستقلّاً، حتّى يتّضح الأمر بذلك، فإن أمكن تحديدها بنحو يكون جامعاً ومانعاً فهو، وإلّا وجب الاقتصار في الحكم بالتحريم على المتيقّن، والرجوع فيما زاد إلى أصالة البراءة، وستعرف في آخر هذا المبحث ما هو الحقّ عندنا في بيان الضابط، فانتظر.

فأقول ومنه التوفيق: إنّ جميع ما قيل ويمكن أن يقال باعتباره فيها أُمور:

الأمر الأوّل: كون المغتاب (بالفتح) أخاً في الدِّين، وتدلّ على اعتباره جملة من النصوص:

منها: حسن بن عبد الرحمان بن سيّابة، عن مولانا الصادق عليه السلام: «إنّ الغيبة أن تقول في أخيك ما سَتَره اللّه عليه، وأمّا الأمر الظاهر مثل الحِدّة والعَجَلة فلا، والبهتان أن تقول فيه ما ليس فيه»(1).

ومنها: حسن داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الغيبة، قال: هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، وتبثّ عليه أمراً قد ستره اللّه عليه لم يقم عليه فيه حَدّ»(2).

ص: 138


1- وسائل الشيعة: ج 12/288 ح 16325، الكافي: ج 2/358 ح 7.
2- وسائل الشيعة: ج 12/288 ح 16324، الكافي: ج 2/357 ح 3.

ونحوهما غيرهما.

وقد مرّ آنفا في غيبة المخالف أنّ الإخاء منحصر بالمؤمنين بالمعنى الأخصّ .

الأمر الثاني: أن يكون المذكور من الأوصاف الذميمة، أو الأفعال القبيحة، فلو ذُكر الإنسان بما يوجب تعظيمه بين الناس بالأوصاف الحميدة، أو الأفعال المستحبّة كقضاء حاجة المؤمن، والمواظبة على النوافل ونحو ذلك، أو ذَكَره بالأوصاف المتعارفة غير الموجبة للمدح أو الذّم ولو بالاستلزام، أو الأفعال المباحة لم يكن ذلك من الغيبة، وإنْ كره ذكره بذلك.

واعتبار هذا القيد لعلّه اتفاقي، ويستفاد من الخبرين المتقدّمين، إذ الأُمور الموجبة للتعظيم والأُمور العادية ليست ممّا ستره اللّه تعالى، ولا يوجب ذكرها نقصاً فيه وافتضاحه.

ثمّ إنّه لا فرق في ما يوجب نقصاً في المقول فيه، بين أن يوجب نقصاً في دينه أو بدنه أو نَسَبه أو خُلقه أو فعله أو قوله أو عشيرته أو ثوبه أو داره أو دابّته أو غير ذلك ممّا يوجب نقصاً فيه، كما صرّح به غير واحد.

ويشهد له: - مضافاً إلى الخبر المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام: «وجوه الغيبة تقع بذكر عيب في الخلق والفعل والمعاملة والمذهب والجهل وأشباهه، الحديث»(1) - إطلاق حسن ابن سيّابة المتقدّم.

أقول: واستدلّ لاعتبار كونه نقصاً دينيّاً، بقوله عليه السلام في خبر ابن سرحان المتقدّم:

«أن تقول لأخيك في دينه».2.

ص: 139


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/117 ح 10407، بحار الأنوار: ج 72/222.

وفيه: إنّ (في دينه) يمكن أن يكون صفةً (لأخيك)، أي الأخ الذي كان إخاءه بسبب دينه.

وقوله: (ما لم يفعل حينئذٍ) يحتمل أن يراد به ما لم يفعل العيب الذي لم يكن باختياره، وفعله اللّه فيه كالعيوب البدنيّة، وعلى ذلك فهو أيضاً يدلّ على المختار.

الأمر الثالث: قصد الانتقاص، فقد نَسب الشهيد رحمه الله(1) اعتباره في صدق الغيبة إلى المشهور، والأظهر عدم اعتباره، وذلك لأنّ الأخبار الواردة في تحديد موضوع الغيبة غير متعرّضة لاعتباره، وكلمات اللّغويين خالية عنه، وصدق عنوان (العيب) و (ما ستره اللّه) لا يتوقّف على قصد الانتقاص، لعدم كونه من الأُمور القصديّة، وعليه فلا مقيّد لإطلاق الأدلّة.

وأيضاً: قد استدلّ لاعتباره:

تارةً : بأنّ الغالب كون المغتابين في مقام التنقيص، وهذا بنفسه بمنزلة التقييد، فيكون الإطلاق وارداً مورد الغالب.

وأُخرى : بأنّ مناسبة الحكم والموضوع تقضي اعتباره.

وثالثة: بأنّ ذلك يستفاد من تنزيل المغتاب منزلة آكل لحم الأخ ميّتاً، فلو لم يكن في مقام التنقيص، لما كان لهذا التنظير حاجة.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ غلبة الوجود أوجب الانصراف الموجب لتقييد إطلاق الأدلّة.

وأمّا الثاني: فلأنّ مناسبة الحكم والموضوع اقتضت باعتبار كون المذكور عيباً،).

ص: 140


1- رسائل الشهيد: ص 284 (ط. ق).

لا كون الذاكر في مقام التنقيص.

وأمّا الثالث: فلأنّه مع فرض كون المذكور عيباً، يكون التنظير في محلّه وإنْ لم يكن الذاكر في مقام التنقيص، لأنّه يُنتقص عِرض المؤمن بذلك كانتقاص اللّحم بالأكل.

مع أنّه لو تمّ شيء من هذه الوجوه، لكان ذلك قيداً للحكم لا للموضوع، وبالتالي فالأظهر عدم اعتباره.

الأمر الرابع: أن يكون المذكور ممّا يسوءه المغتاب (بالفتح) ويكرهه، فلو كان ممّا لا يسوءه لم يكن ذلك من الغيبة.

ويشهد لاعتباره: - مضافاً إلى تصريح اللّغويين به، وذكره في النبويّين المذكورين في «المكاسب» - تلازم كون المذكور عيباً ونقصاً في المقول فيه مع كراهة وجوده، إذ الطباع السليمة تكره العيوب والصفات الذميمة والأفعال القبيحة، وهي من حيث هي مكروهة للطباع السليمة.

وقد وقع الخلاف في أنّ تعلّق الكراهة هل هو علم الناس باتصافه بتلك الصفة، وإن لم يكن كارهاً لوجودها، أو أنّ متعلّقها نفس وجود تلك الصفة فيه، وحيثُ أنّ الظاهر تلازم الكراهتين، إذ لم يذكر لمورد كراهة الذِكْر مع عدم كراهة المذكور إلّاذكره بارتكاب المعصية التي صدرت عنه اختياراً عن ميلٍ ورغبة، بدعوى أنّ المفروض أنّه كاره لظهورها، وراغب إلى نفس وجودها، وهو غير تامّ ، إذ المؤمن بما هو مؤمن لا يعقل رغبته إلى المعصية، لأنّ إيمانه بنفسه من الموانع وموجب لكراهته.

ص: 141

وبعبارة أُخرى: المؤمن بما أنّ له قوّة عاقلة درّاكة يكره وجود المعصية من حيث هي، ويكون ميله إليها لأمرٍ خارجي عارضي، كغَلَبة الهوى والشهوة، فلا فائدة مترتّبة على النزاع في أنّ المراد كراهة الذِكر أو المذكور.

فإن قلت: إنّ هناك احتمالاً آخر ذكره الشيخ رحمه الله(1) وهو أن يكون المراد كراهة الذِكر، لكن لا بما أنّه إظهارٌ للعيب من جهة كونه ظاهراً بنفسه، بل لكونه صادراً على جهة المذمّة والاستخفاف، أو لكونه مُشعراً بالذّم وإنْ لم يقصد المتكلّم الذّم به.

قلت: إنّ هذا الاحتمال ضعيفٌ جدّاً، إذ لو فرضنا كون المذكور غير عيب، أو كان عيباً ولكن لظهوره بنفسه لا يكره الإنسان إظهاره من حيث إنّه إظهارٌ للعيب، لا تصدق الغيبة على ذكره به لعدم كونه سوءاً، أو لعدم كونه ممّا سَتَره اللّه، ومع كونه عيباً خفيّاً لا محالة يكره إظهاره.

أقول: ثمّ إنّ الظاهر من النبوي وكلمات اللّغويين، اعتبار كراهة المذكور، إذ الظاهر من الموصول - لا سيّما بعد ما عرفت من أنّ الطباع السليمة تكره العيوب، وملاحظة ما في «المصباح»(2) حيث جعل من العيوب بياناً للموصول - إرادة العيب لا الكلام، فظاهر الضمير في يكرهه الرجوع إلى العيب نفسه، إلّاأنّ الظاهر من ما قيل إنّه تطابق الإجماع والأخبار على أنّ الغيبة هي ذكر الغير بما يكرهه لو سمعه، أنّ المراد بالموصول هو الكلام كما لا يخفى .

الأمر الخامس: أن يكون المقول مستوراً غير ظاهر، ويشهد لاعتباره:

1 - الحسنان المتقدّمان.3.

ص: 142


1- كتاب المكاسب: ج 1/322 (ط. ج).
2- المصباح المنير في غريب الشرح: ج 6/453.

2 - وخبر أبان، عن رجلٍ لا يعرفه إلّايحيى الأزرق، عن أبي الحسن عليه السلام: «من ذكر رجلاً مِن خَلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، ومن ذكره مِنْ خَلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه، ومن ذكره بما ليس فيه فقد بهته»(1).

ويحيى الأزرق وإن كان محلّ توقّف، إلّاأنّه لرواية أبان عنه - الذي هو من أصحاب الإجماع - يصبح الخبر معتبراً.

3 - وخبر ابن سنان، عن مولانا الصادق عليه السلام(2): «الغيبة أن تقول في أخيك ما قد سَتَره اللّه عليه».

أقول: ثمّ إنّ العيب:

إن كان ظاهراً للمخاطب نفسه، فإنّه لا إشكال في جواز ذكره وعدم كونه غيبةً ، لعدم كونه إظهار ما ستره اللّه، فما عن بعض الأكابر من الترديد فيه في غير محلّه.

وإنْ لم يكن ظاهراً له، ولكن كان ظاهراً للناس، فيستفاد عدم كونه غيبة حينئذٍ من خبر الأزرق المتقدّم كما هو واضح.

ودعوى: أنّ المراد ب (النّاس) في قوله عليه السلام: «ممّا عرفه الناس» هو خصوص المخاطب خلاف الظاهر.

وإنْ لم يكن العيب ظاهراً بالفعل لا للمخاطب ولا للناس ولكن له ظهوراً شأنيّاً، بمعنى أنّه يكون العيب من شأنه الظهور بأدنى ممارسة، فالظاهر عدم صدق الغيبة على ذكره أيضاً، وذلك لقوله عليه السلام في حسن ابن سيّابة المتقدّم: «وأمّا الأمر7.

ص: 143


1- وسائل الشيعة: ج 12/289 ح 16326، الكافي: ج 2/358 ح 6.
2- وسائل الشيعة: ج 12/282 ح 16313، الكافي: ج 2/358 ح 7.

الظاهر مثل الحِدّة والعَجَلة فلا»، فإنّ التمثيل للأمر الظاهر بالحِدّة والعجلة كالصريح في إرادة ما يعمّ الظهور الشأني.

الأمر السادس: قد يقال بأنّ اعتبار كون الغيبة هي إظهار ما سَتَره اللّه بالقول، فلا تتحقّق الغيبة بالإشارة والكتابة والفعل.

واستدلّ له: بالنصوص المتقدّمة المتضمّنة لخصوص القول.

وفيه: - مضافاً إلى أنّ الإشارة المفهمة للمقصود عند العرف يعدّ قولاً تنزيلاً، ويرتّبون عليها ما يرتّب على القول، فالكتابة قولٌ ، ولذلك قيل بأنّ القلم أحد اللِّسانين، وإلى أنّ المذكور في خبر الأزرق هو (الذكر) لا القول، وهو يشمل جميع المذكورات، فإنّ المراد ب (الذكر) هو الذي يوجبُ تذكّر المخاطب، وانتقاله إلى المقصود والمراد. وإلى النبوي(1) المشهور في قصّة عائشة - أنّه من البديهي عدم دخل القول بما هو قول، غير الشامل للمذكورات في هذا الحكم، بل ذكره إنّما هو من باب المثال، وإلّا فالميزان هو إظهار ما سَتَره اللّه الصادق على جميع المذكورات.

الأمر السابع: قد يتوهّم اعتبار عدم حضور المغتاب (بالفتح) في صدق الغيبة، واستدلّ له:

1 - بالتشبيه في الآية الشريفة، حيث إنّها شبّه المغتاب (بالفتح) بالميتة، وهو إنّما يكون بلحاظ عدم شعوره بما قيل فيه.

2 - وبأنّه مقتضى تعريف المشهور إيّاها من أنّ الغيبة هي (ذكرك أخاك بما يكرهه لو سمعه).4.

ص: 144


1- أخرجه الخرائطي وابن مردويه والبيهقي كما في محكي الدّر المنثور: ج 6/94.

3 - وبخبر الأزرق المتقدّم: «ومَنْ ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه».

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه يمكن أن يكون تشبيه المغتاب (بالكسر) بأكل الميتة من جهة أنّه يأكل الجيف في الآخرة، كما في بعض النصوص، أو لتشبيهه بالسِّباع والكلاب كما في بعضها الآخر.

وأمّا الثاني: فلأنّ تعريف المشهور بعد ما ظهر عدم كونه جامعاً ومانعاً لا يَصحّ الاستناد إليه.

وأمّا الثالث: فلأنّه لا مفهوم له، فإنّه في مقام بيان أنّ هذا من الغيبة، لا أنّ الغيبة منحصرة بذلك كما لا يخفى على من تدبّر فيه.

وعليه، فالأظهر عدم اعتباره لإطلاق النصوص المتقدّمة.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ اعتبار عدم حضور المغتاب مأخوذٌ في مفهوم الغيبة بحسب المتفاهم العرفي، ولا يبعد ذلك، فإنْ تمّ ذلك، أو صار سبباً للشكّ في صدقها مع حضوره، لا مناص عن البناء على عدم الحرمة مع حضور المغتاب كما لا يخفى .

الأمر الثامن: أن يكون مخاطبٌ حاضراً عند المغتاب، إذ مع عدم حضوره لا يصدق على حديث النفس بالعيب أنّه إظهارٌ لما سَتَره اللّه، ويؤيّده أنّ المستفاد من الأخبار والآية الشريفة، هو كون ذِكر العيب كشفاً لعورة الأخ المؤمن، وموجباً لانتقاص عِرْض المغتاب (بالفتح)، ومع عدم حضور المخاطب، لا يكون الذكر هتكاً وكشفاً للعورة.

ص: 145

وأيضاً: لو كان المتكلّم بذكر عيب أخيه المؤمن في مقام حديث النفس، وغير قاصدٍ لإفهام السامع، ولكن الغير كان يسمع ما يقوله، فهل هو غيبة أم لا؟ وجهان.

أقول: الظاهر صدق الغيبة عليه، لأنّه إظهارٌ لما سَتَره اللّه تعالى ، ولا يعتبر في صدقها قصد إفهام السامع.

نعم، إذا كان غير ملتفتٍ إلى سماع الغير لما يقوله لا تكون هذه الغيبة محرّمة، لفرض الغفلة عن كون ما يتكلّم به غيبة كما لا يخفى .

الأمر التاسع: كون المغتاب (بالفتح) معلوماً بالتفصيل عند المخاطب، وإلّا فلا يكون ذكره غيبةً ، لعدم كونه إظهاراً لما ستَره اللّه تعالى .

توضيح ذلك:

تارةً : يكون المغتاب (بالفتح) معلوماً تفصيلاً للمخاطب.

وأُخرى : يكون مجهولاً عند المخاطب، مردّداً بين أشخاص غير محصورين.

وثالثة: يكون مردّداً بين أشخاص محصورة.

أمّا في الصورة الأُولى : فلا إشكال في صدق الغيبة.

وأمّا في الصورة الثانية: فلا ينبغي التوقّف في عدم صدق الغيبة على ذكره بالسّوء، لعدم كونه إظهاراً لما ستره اللّه.

وبعبارة أُخرى: لأجل عدم انتقال المخاطب إلى الشخص المذكور، يكون هو بحكم الغائب الذي عرفت عدم صدق الغيبة معه.

وكذلك في الصورة الثالثة إذا لم يستكره كلّهم ذِكر واحدٍ مبهم منهم، لما تقدّم من اعتبار كراهة المغتاب.

ص: 146

وأمّا لو كان بحيث يكره كلّهم ذكر واحدٍ مبهم منهم، ففيها وجوه:

الوجه الأوّل: كونه اغتياباً لكلّ واحدٍ من أطراف الشبهة، لذكره بما يكرهه من التعريض، لاحتمال كونه هو المعيوب.

الوجه الثاني: كونه اغتياباً للمعيوب الواقعي منهم، لأنّه إظهارٌ في الجملة لعيبه بتقليل مشاركه في احتمال العيب.

الوجه الثالث: عدم كونه اغتياباً أصلاً.

أقول: أظهرها الأخير وذلك لأنّه:

يرد على الأوّل: أنّ الغيبة ذكر عيب الأخ لا ذكر مطلق ما يكرهه، وما ذكره ليس ذكر عيب كلّ واحدٍ منهم كما هو واضح.

ويرد على الثاني: أنّ مجرّد ذكر الأخ لا يكون مشمولاً للأدلّة أنّه غير معلوم للمخاطب، بل إنّما يصدق الغيبة لو كان ذكره بالسّوء إظهاراً لما ستره اللّه، وهذا العنوان لا يصدق بالنسبة إلى المقول فيه المجهول.

وإن شئت قلت: إنّ مجرّد القول في الأخ بما سَتَره اللّه وإن لم يوجب ذلك إظهاراً له، لا يكون غيبةً ، لما عرفت من أنّ القول في النصوص إنّما أُخذ في الموضوع من جهة كونه من مصاديق الإظهار.

وعليه، فيتعيّن الوجه الثالث.

هذا فيما إذا كان المذكور نقصاً لفردٍ مردّدٍ بين أشخاص.

وأمّا لو كان نقصاً للعنوان الكلّي، فلا إشكال في صدق الغيبة، لكونه إظهاراً لما سَتَره اللّه بالنسبة إلى كلّ فردٍ من ذلك النوع، إلّاإذا أُريد به الأغلب، أو جمع من

ص: 147

أفراد ذلك، فإنّه حينئذٍ بحكم ما إذا كان نقصاً للفرد المردّد، وعلى هذا يُحمل ما ورد عن بعض سادات المؤمنين من ذكر أهل بلدٍ بالسوء، فتدبّر، فإنّه يمكن أن يقال بوجود جهةٍ أُخرى في تلك الموارد، موجبة لعدم كونه غيبة، وإن أراد كلّهم، وهو كون المذكور أمراً ظاهراً.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ أحسن تعريف للغيبة هو (أن تقول في أخيك ما سَتَره اللّه من العيوب).

***

ص: 148

كفّارة الغيبة

التنبيه الثاني: في كفّارة الغيبة الماحية لها.

أقول: الأقوال والوجوه في كفّارة الغيبة متعدّدة:

منها: الاستحلال من المغتاب.

ومنها: الاستغفار له.

ومنها: كلا الأمرين معاً.

ومنها: أحدهما على التخيير.

ومنها: التفصيل بين وصول الغيبة إلى المغتاب فالاستحلال، وبين عدم وصولها إليه فالاستغفار له.

ومنها: التفصيل بين إمكان الاستحلال فيجب الاستحلال منه، وبين عدم إمكانه فيجب الاستغفار له.

ومنها: أنّه لا كفّارة لها، بل الواجب على المغتاب (بالكسر) الاستغفار من ذنوبه لنفسه والتوبة منها.

وقبل البحث في الأدلّة التي أُقيمت على هذه الوجوه، لابدَّ من البحث فيما يقتضيه الأصل العملي لو شكّ في وجوب شيء، فأقول:

إنّ أصالة البراءة تقضي الحكم بعدم وجوب شيء من الاستحلال والاستغفار، ولكن قد يقال بأنّ الأصل في المسألة مع ذلك هو الاحتياط، واستدلّ له بوجهين:

ص: 149

الوجه الأوّل: ما ورد في «المكاسب»(1) من أنّ (أصالة بقاءالحقّ الثابت للمغتاب (بالفتح) على المغتاب (بالكسر) تقتضي عدم الخروج منه إلّابالاستحلال خاصّة).

وفيه: أنّه إن أُريد بالحقّ الثابت هو حقّ عدم الاغتياب.

فيرد عليه: أنّه بالغيبة فات فلا معنى لبقائه.

وإن أُريد به الحقّ الثابت بعد الغيبة، فهو غير معلوم الحدوث، واستصحاب بقاء جنس الحقّ يتوقّف على القول بجريانه في الكلّي في القسم الثالث، ولا نقول به.

الوجه الثاني: ما أفاده المحقّق الإيرواني رحمه الله(2) من أنّ العقاب إذا ثبت أوجب العقل تحصيل القطع بالبراءة منه، فيجب إتيان كلّ ما يحتمل دخله في رفع العقاب من الاستحلال وغيره، فالأصل في المسألة هو الاحتياط، وإن كان الشكّ فيها في التكليف دون البراءة.

وفيه: إنّه لو شكّ في دخل شيء في رفع العقاب غير التوبة، يكون المرجع هو ما دلّ على أنّ التوبة توجبُ محو الذنوب، وأنّ التائب من ذنبه كمَن لا ذنب له، من الآيات والروايات المتواترة.

فتحصّل: أنّ الأقوى هو الاكتفاء بالتوبة مع عدم الدليل على لزوم الاستحلال والاستغفار له.

أقول: إذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه استدلّ للقول الأوّل بجملةٍ من النصوص:

منها: النبويّ المروي بعدّة طرق مسنداًومرسلاً، المتضمّن لوصيّته صلى الله عليه و آله لأبي ذرّ(3):

«يا أبا ذرّ إيّاك والغيبة، فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا.7.

ص: 150


1- كتاب المكاسب: ج 1/340 (ط. ج).
2- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/34.
3- وسائل الشيعة: ج 12/280 ح 16308، الأمالي للطوسي ص 537.

قلت: يا رسول اللّه، ولِمَ ذاكَ بأبي أنتَ وأُمّي ؟

قال: لأنّ الرّجل يزني فيتوب إلى اللّه تعالى ، فيتوب اللّه عليه، والغيبة لا تُغفر حتّى يغفرها صاحبها».

ومنها: الخبر الذي رواه الشيخ المفيد، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«الغيبة أشدّ من الزنا - إلى أن قال صلى الله عليه و آله - وصاحب الغيبة لا يتوب اللّه عليه حتّى يكون صاحبه الذي يحلّله»(1).

ومنها: ما حكاه غير واحدٍ عن الكراجكي، بسنده المتّصل إلى علي بن الحسين عليهما السلام، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: للمسلم على أخيه ثلاثون حقّاً لا براءة له منها إلّا بالأداء أو العفو - إلى أن قال - سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول: إنّ أحدكم ليدع من حقوق أخيه شيئاً فيطالبه به يوم القيامة فيُقضى له عليه»(2).

ومنها: النبويّ : «مَنْ كانت لأخيه عنده مظلمة في عِرْضٍ أو مالٍ فليستحلّلها من قبل أن يأتي يوم ليس هناك درهمٌ ولا دينار»(3).

ومنها: النبويّ المرويّ عن «جامع الأخبار»: «من اغتابَ مسلماً أو مسلمة لم يقبل اللّه تعالى صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلّاأن يغفر له صاحبه»(4).

ومنها: ما عن «جامع الأخبار» الدالّ على انتقال الأعمال الحسنة باغتياب3.

ص: 151


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/114 ح 10396.
2- وسائل الشيعة: ج 12/212 ح 16114، بحار الأنوار: ج 71/236 ح 36.
3- بحار الأنوار: ج 72/234، المحجّة البيضاء للمحدِّث الكاشاني: ج 5/273.
4- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/122 ح 10422، بحار الأنوار: ج 72/258 ح 53.

الناس إلى المغتاب (بالفتح)، فإذا استحلّ منها رجعت إلى صاحبها(1).

ومنها: ما ورد في دعاء التاسع والثلاثين من أدعية الصحيفة السجاديّة، وكذلك في دعاء يوم الاثنين من ملحقاتها.

أقول: أمّا النصوص فضعيفة السند.

أمّا الأوّل: فلأنّ في طريقه ابن ميمون ورجاء وغيرهما.

وأمّا الثاني: فلأنّه مرسل.

وأمّا الثالث: فلأنّ في طريقه الحسين بن محمّد بن علي الصيرفي البغدادي.

وأمّا الرابع والخامس والسادس: فللإرسال.

ودعوى: أنّها مستفيضة وبعدها لا محلّ للمناقشة في السند.

مندفعة: بأنّ الخبر المستفيض يختلف مع المتواتر، لأنّ الثاني حجّة دون الأوّل، أضف إلى ذلك عدم دلالة غير الأولين والرابع على هذا القول.

أمّا الثالث: فلاشتماله على حقوقٍ لا قائل بوجوب البراءة منها بالاستحلال من ذي الحقّ ، كعيادة المريض، وقضاء الحاجة وغيرهما.

وعليه، فمعنى القضاء يوم القيامة لذيها على من عليها، هو المعاملة معه معاملة من لم يُراع حقوق المؤمن، لا العقاب عليها كما أفاده الشيخ رحمه الله(2).

وأمّا الخامس: فلأنّه بناءً على ما هو الظاهر من مغايرة القبول للإجزاء، لايدلّ على بقاء أثر الحرمة ما لم يغفر له صاحبه، ويؤيّده ما فيه من التحديد بأربعين يوماً وليلة، إذ على فرض وجوب الاستحلال لا وجه لهذا التحديد.).

ص: 152


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/121 ح 10418، بحار الأنوار: ج 72/259.
2- كتاب المكاسب: ج 1/340 (ط. ج).

وأمّا السادس: فلأنّه لا يدلّ على بقاء أثر الحرمة ما دام لم يستحلّ .

وأمّا الدعاءان: - فمضافاً إلى أنّ الثاني من أدعية ملحقات الصحيفة وهي بنفسها وإن وصلت إلينا بسندٍ معتبر، إلّاأنّ ملحقاتها ليست كذلك - أنّهما لا يدلّان على ذلك:

أمّا الدعاء الأوّل: فهو متضمّنٌ لجملتين:

إحداهما: تتضمّن طلب العفو والرحمة على الظالمين له، المتهتّكين لحرماته.

ثانيتهما: تتضمن طلب الإرضاء وإيفاء الحقّ من اللّه تعالى لمن له مظلمة عليه، وشيءٌ منهما لا صلة له بهذا القول.

أمّا الأُولى : فلأنّ الاستغفار وطلب العفو للظالمين له كاستغفارهم عليهم السلام لسائر العاصين.

وأمّا الثانية: - فمضافاً إلى منافاتها لأدنى مراتب العدالة، فضلاً عن أعلى مراتب العصمة - أنّ طلب العفو والمغفرة لذي الحقّ والمظلمة أعمّ من وجوب الاستحلال مع إمكانه.

أقول: وبذلك ظهر ما في الدّعاء الثاني، لأنّه يدلّ على طلب المغفرة لذي الحقّ .

فتحصّل: أنّه لا دليل على وجوب الاستحلال مطلقاً.

وقد استدلّ للقول الثاني:

1 - بما في دعاء يوم الاثنين من ملحقات الصحيفة من طلبه عليه السلام المغفرة لذوي الحقوق والمظلمة.

2 - وبخبر حفص بن عمير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

ص: 153

«سئل النبيّ صلى الله عليه و آله ما كفّارة الاغتياب ؟ قال صلى الله عليه و آله: تستغفر اللّه لمن اغتبته كلّما ذكرته»(1).

3 - وبخبر السكوني، عنه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من ظَلَم أحداً وفاته، فليستغفر اللّه له، فإنّه كفّارة له»(2).

4 - وبالنبويّ المروي عن «الجعفريّات»: «من ظلم أحداً فعابه، فليستغفر اللّه له كما ذكره فإنّه كفّارة له»(3).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلما تقدّم آنفاً من ضعف السند والدلالة.

وأمّا الثاني: فلأنّه مجهول لحفص بن عمير.

وأمّا الثالث: فلأنّ الظاهر منه أنّ الضمير في (فاته) يرجع إلى المظلوم، فيصبح أنّ من لم يُدركه ليطلب البراءة منه ويرضيه عمّا قاله في حقّه فليستغفر اللّه له، فهو يدلّ على وجوب الاستغفار عند عدم التمكّن من الاستحلال لا مطلقاً.

لا يقال: إنّ لازم ذلك عدم وجوب التصدق إذا كان حقّاً ماليّاً، وهو ممّا لم يقل به أحد.

فإنّه يقال: إنّ التصدّق أيضاً طلب مغفرة له، مع أنّه إذا رجع الضمير إلى (الظلم) كان مفاده ذلك، إذ فوت الظلم عبارة أُخرى عن عدم إمكان تداركه.

وأمّا الأخير: فلأنّه مرسل.8.

ص: 154


1- وسائل الشيعة: ج 12/290 ح 16331، الكافي: ج 2/357 ح 4.
2- وسائل الشيعة: ج 16/53 ح 20961، الكافي: ج 2/334 ح 20.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/130 ح 10454، الجعفريّات ص 228.

فتحصّل: أنّه لا دليل على وجوب الاستغفار مطلقاً.

وبالجملة: ظهر بما ذكرناه ضعف القولين الآخرين أي الثالث والرابع، وهما وجوب الأمرين معاً، والتخيير بينهما.

وأمّا القول الخامس: الذي ذهب إليه جمعٌ من الأساطين، فقد استدلّ له:

1 - بأنّه مقتضى الجمع بين الطائفتين المتقدّمتين.

2 - وبما أرسله بعض من قارب عصر الشيخ الأعظم رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام: «إن اغتبت فبلغ المغتاب فاستحلّ منه، فإن لم تبلغه ولم تلحقه فاستغفر اللّه له»(1).

ولكن يرد على الوجه الأوّل: - مضافاً إلى ما تقدّم - أنّه جمعٌ تبرّعي لا وجه للمصير إليه.

ويرد على الوجه الثاني: أنّه ضعيف السند للإرسال.

وأمّا القول السادس: فيدلّ عليه خبر السكوني المتقدّم بالتقريب الذي تقدّم.

أقول: أمّا ما ذكره الأستاذ الأعظم(2) من أنّه ضعيف السند للنوفلي، غير تامّ ، إذ النوفلي عند الإطلاق يراد به الحسين بن يزيد، لا سيّما إذا كان يروي عن السكوني، وكان الراوي عنه إبراهيم بن هاشم، كما في الخبر، والحسين مقبولُ الرواية كما صرّح به جمعٌ من أئمّة الرِّجال، ويؤيّده ما في دعاء السجّاد عليه السلام يوم الاثنين المتقدّم.

فتحصّل: أنّ الأظهر أنّ كفّارتها الاستحلال إن أمكن، وإلّا فالاستغفار له.

***).

ص: 155


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/117 ح 10407، مصباح الشريعة ص 204.
2- كتاب المكاسب: ج 1/340 (ط. ج).

مستثنيات الغيبة

التنبيه الثالث: فيما استثني من الغيبة وحُكِم بجوازها.

قد يقال: - كما عن جماعةٍ (1) منهم الشيخ رحمه الله(2) - أنّه إذا كان الاغتياب لغرضٍ صحيح كنُصح المستشير والتظلّم ونحوهما لا يحرم، وضابط الغيبة المحرّمة هو كلّ فعلٍ يُقصد به هتك عِرض المؤمن أو التفكّه به أو إضحاك الناس منه.

واستدلّ له الشيخ رحمه الله (3) : بأنّ المستفاد من النصوص وغيرها أنّ حرمة الغيبة لأجل انتقاص المؤمن وتأذّيه منه، فإذا فُرض هناك مصلحة راجعة إلى المغتاب (بالكسر أو بالفتح) أو ثالثٍ ودلّ العقل أو الشرع عليكونها أعظم من مصلحة احترام المؤمن بترك ذلك القول فيه، وجب كون الحكم على طبق أقوى المصلحتين كما هو الحال في كلّ معصيةٍ من حقوق اللّه وحقوق الناس، وقد ارتضاه الأستاذ الأعظم(2).

وفيه أوّلاً: إنّه لم نحرز كون الانتقاص والتأذّي تمام مناط حرمة الغيبة، إذ من المحتمل دخل شيءٍ آخر فيه كحفظ اللّسان عن التعرّض لأعراض الناس أو غيره.

وثانياً: إنّ إحراز أهميّة المصلحة الطارئة مع عدم ورود النص بها في غاية الإشكال، لعدم معلوميّة مقادير المصالح لنا.

وثالثاً: إنّه قد تقدّم في مستثنيات الغناء، أنّ الترجيح بالأهميّة إنّما هو في ما إذا وقعت المزاحمة بين الدليلين في مرحلة الامتثال، من دون أن يكون أحدهما مربوطاً

ص: 156


1- كفاية الأحكام: ج 1/436. (2و3) كتاب المكاسب: ج 1/342 (ط. ح).
2- مصباح الفقاهة: ج 1/336.

بالآخر في مقام الجعل، وأنّه إذا كان الدليلان متعارضين بالعموم من وجه، وكان الدليلان مطلقين في مقام الجعل، ومتصادقين على موردٍ في الخارج، لابدّ من الرجوع إلى مرجّحات باب المعارضة، وعليه ففي المقام يقع التعارض بين دليل حرمة الغيبة، والدليل المتكفّل لبيان حكم ذلك العنوان الطاري مثل نُصح المستشير ونحوه، فحينئذٍ لا مورد للرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة، بل يتعيّن الرجوع إلى مرجّحات إحدى الروايتين على الاُخرى .

أقول: والغريب أنّ الأستاذ الأعظم مع اعترافه بجميع ما ذكرناه في ذلك المبحث، استحسن ما ذكره الشيخ رحمه الله في المقام.

نعم، لو كان مرادهما ما إذا كان هناك مصلحة أعظم من مفسدة الغيبة في فعلٍ آخر متوقّف على الغيبة، لا ما إذا كان في عنوانٍ منطبق عليها، صَحّ ما ذكراه من الكبرى الكليّة كما حقّقناه في محلّه، لكنّه خلاف ظاهر كلام الشيخ الأعظم، إذ الظاهر منه إرادة بيان حكم الصورة الثانية.

وأخيراً: قد استدلّ للجواز في صورة طروء عنوانٍ ذي مصلحة عليها، بعدم صدق الغيبة معه موضوعاً، لأخذ قصد الانتقاص في مفهومها.

أقول: وفيه ماعرفت من عدم تماميّة المبنى، فالأظهر أنّه لا تتمّ هذه الكليّة، نعم فيما إذا أُحرز من الخارج وجود ملاك العنوان في المجمع، وأُحرز أهميّته، فلا محالة تجوز الغيبة، كما اذا توقّف حفظ النفس المحترمة عليها، بل قد تجب حينئذٍ.

غيبة المتجاهر بالفسق

وكيف كان، فقد ذَكر الأصحاب(1) موردين لجواز الغيبة من غير مصلحة:

ص: 157


1- كفاية الأحكام: ص 438.

أحدهما: ما إذا كان المغتاب متجاهراً بالفسق، وقد استدلّ لاستثنائه بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ غير المبالي بظهور فسقه لا يكره ذكره به.

الوجه الثاني: إنّ المأخوذ في مفهوم الغيبة، كون المقول أمراً مستوراً، فمع كون الفاسق متجاهراً بفسقه، لا يصدق الغيبة على ذكر المقول فيه به.

الوجه الثالث: جملة من النصوص:

منها: خبر هارون بن الجهم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا جاهر الفاسق بفسقه، فلا حرمة له ولا غيبة»(1).

ودلالته على المدّعى ظاهرة، وقد ناقش فيه الأستاذ الأعظم(2) بأنّه ضعيف السند لأحمد بن هارون(3).

وفيه: إنّه قد صرّح جماعة بأنّه من مشايخ الصدوق(4) وأكثر من الرواية عنه مترضّياً عليه، وعليه فخبره معتبر.

ومنها: النبوي: «من ألقى جِلباب الحَياء فلا غيبة له»(5).0.

ص: 158


1- وسائل الشيعة: ج 12/289 ح 16327، بحار الأنوار: ج 72/253 ح 32.
2- مصباح الفقاهة: ج 1/337.
3- راجع معجم رجال الحديث: ج 3/148-149، قوله: (أحمد بن هارون القاضي: أحمد بن قارون (الفامي) (القاضي) (الطائي) (العامّي): روى عنه أبو جعفر ابن بابويه، رجال الشيخ، في من لم يرو عنهم عليهم السلام (59) - ثمّ قال - أقول: ليس في بعض النسخ جملة (روى عنه أبو جعفر ابن بابويه)، ذكره في الخصال، مترضّياً عليه، باب الاثنين، معرفة التوحيد بخصلتين، الحديث 1. وقال في العيون: الباب 11، الحديث 45، حدّثنا أحمد بن إبراهيم ابن هارون الفامي، في مسجد الكوفة).
4- معجم رجال الحديث: ج 2/202، قوله: (أحمد بن هارون القاضي. الفائني: من مشايخ الصدوق. ذكره الشيخ النوري في المستدرك. ومن المظنون قويّاً أنّه تصحيف أحمد بن هارون القاضي الآتي).
5- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/129 ح 10450.

والمراد به ليس إلقاء جلباب الحياء في الأُمور العادية غير اللّائقة بشأنه كأكل العالم في السوق ونحوه، ولا إلقاء جلباب الحياء بينه وبين ربّه، بل المراد به إعلان الفاسق بفسقه، وارتكابه الفاحشة علناً.

وفيه: إنّه ضعيف السند.

ومنها: خبر أبي البُختري، عن مولانا الصادق عليه السلام: «ثلاثة ليس لهم حرمة:

صاحب هوى مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المعلن بفسقه»(1).

وقريبٌ من هذا المضمون ما في جملةٍ من المراسيل، إلّاأنّها بأجمعها ضعيفة السند.

أمّا ضعف المراسيل، فواضح.

وأمّا خبر أبي البُختري، فلأنّ الظاهر منه هو وهب بن وهب الذي ضعّفه كلّ من تعرّض له(2)، ولا أقلّ من احتمال أن يكون هو المراد به في المقام، مع أنّه عرفت أنّ عدم الحرمة أعمّ من جواز الغيبة، إذ كون مناط حرمة الغيبة الاحترام غير ثابت.

ومنها: خبر سماعة بن مهران، عن مولانا الصادق عليه السلام: «من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدّثهم فلم يكذبهم، وَوَعَدهم فلم يخلفهم، كان ممّن حَرُمت غيبته، وكَمُلت مروّته، وظهر عدله، ووجبت أخوّته»(3).

ورواه الصدوق بأسانيد، والطبرسي في صحيفة الرّضا عليه السلام(4).7.

ص: 159


1- وسائل الشيعة: ج 12/289 ح 16328، بحار الأنوار: ج 72/253 ح 33.
2- معجم رجال الحديث، السيّد الخوئي: ج 20/232-233.
3- وسائل الشيعة: ج 12/278 ح 16301، الكافي: ج 2/239 ح 28.
4- صحيفة الرضا عليه السلام: ص 97.

تقريب الاستدلال به: أنّ الظاهر من قوله: «عامل النّاس... إلخ» جريان سيرته على عدم الظلم، وجريان عادته على ذلك، وعلى عدم الكذب وعدم خُلف الوعد، وعليه فمفهومه أنّ من لم تجرِ سيرته وعادته على ذلك، بأن كان من عادته الظلم وخُلف الوعد، والكذب في الحديث، لا يحرم غيبته، ومن البديهي أنّ من جرت عادته على ذلك يكون لا محالة متجاهراً بالفسق.

أقول: وبما ذكرناه ظهر وجه جعل قوله عليه السلام: «مَنْ عامل الناس... الخ» كاشفاً عن العدالة، فإنّ من جرت عادته على الأُمور المذكورة، لا محالة تكون فيه مَلَكة العدالة الموجبة لذلك.

وقد أورد عليه الأستاذ الأعظم(1): بأنّه ضعيف السند لعثمان بن عيسى(2).!.

ص: 160


1- مصباح الفقاهة: ج 1/338.
2- معجم رجال الحديث: ج 12/131-132، قوله: (عثمان بن عيسى: قال النجاشي: "عثمان بن عيسى أبو عمرو العامري الكلابي، ثمّ من ولد عبيد بن رؤاس، فتارةً يقال الكلابي وتارةً العامري وتارةً الرؤاسي، والصحيح: أنّه مولى بني رؤاس، وكان شيخ الواقفة ووجهها، وأحد الوكلاء المستبدين بمال موسى بن جعفر عليه السلام، روى عن أبي الحسن عليه السلام. ذكره الكشّي في رجاله وذكر نصر بن الصباح، قال: كان له (يعني الرضا عليه السلام) في يده مال فمنعه فسخط عليه، وقال: ثم تاب وبعث إليه بالمال، وكان يروى عن أبي حمزة، وكان رأى في المنام أنّه يموت بالحائر على صاحبه السلام، فترك منزله بالكوفة وأقام بالحائر حتّى مات، ودفن هناك. صنّف كتباً، منها: كتاب المياه، أخبرنا ابن شاذان، عن أحمد بن محمّد بن يحيى، عن سعد، عن (علي بن) إسماعيل بن عيسى، عن عثمان، به. وكتاب القضايا والأحكام، وكتاب الوصايا، وكتاب الصلاة. أخبرنا عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن سعيد، عن جعفر بن عبد اللّه المحمّدي، عن عثمان بكتبه، وأخبرني والدي علي بن أحمد رحمه الله، قال: حدّثنا محمّد بن علي عن أبيه، عن سعد، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن عثمان بن عيسى بكتبه". وقال الشيخ (546): عثمان بن عيسى العامري: واقفي المذهب له كتاب المياه. أخبرنا به ابن أبي جيد، عن ابن الوليد، عن سعد والحميري، عن أحمد ابن محمّد ومحمّد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن عثمان بن عيسى. وعدّه في رجاله (تارةً ) في أصحاب الكاظم عليه السلام (28)، قائلاً: عثمان بن عيسى الرؤاسي: واقفي، له كتاب، و (أُخرى) في أصحاب الرضا عليه السلام (8)، قائلاً: عثمان بن عيسى الكلابي، رؤاسي، كوفي، واقفي، كلهم من أصحاب أبي الحسن موسى عليه السلام. أقول: يريد الشيخ بهذه العبارة أنّ عثمان بن عيسى ومن تقدّمه من أصحاب أبي الحسن عليه السلام. وكيف كان فقد عدّه البرقي في أصحاب الكاظم عليه السلام. وقال الكشّي (489-491): "عثمان بن عيسى الرؤاسي الكوفي: ذكر نصر بن الصباح أنّ عثمان بن عيسى كان واقفيّاً، وكان وكيل أبي الحسن موسى عليه السلام، وفي يده مال فسخط عليه الرضا عليه السلام، قال: ثمّ تاب عثمان وبعث إليه بالمال، وكان شيخاً وعمّر ستّين سنة، وكان يروي عن أبي حمزة الثمالي، ولا يتّهمون عثمان بن عيسى. وقال الشيخ في الغيبة: في الكلام على الواقفة - بعد نقل ما رووه في مذهبهم وردها -: وقد روي السبب الذي دعا قوماً إلى القول بالوقّف، فروى الثقات أنّ أوّل من أظهر هذا الاعتقاد علي بن أبي حمزة البطائني، وزياد ابن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرواسي، طمعوا في الدنيا ومالوا إلى حطامها، واستمالوا قوما فبذلوا لهم شيئاً ممّا اختانوه من الأموال، نحو حمزة بن بزيع، وابن المكاري، وكرام الخثعمي، وأمثالهم. ثمّ روى رواية قريبة ممّا تقدّم، وقال عند ذكره الوكلاء المذمومين بعد بيان السفراء الممدوحين: ومنهم علي بن أبي حمزة البطائني، وزياد بن مروان القندي، وعثمان بن عيسى الرواسي، كلّهم كانوا وكلاء لأبي الحسن موسى عليه السلام، وكان عندهم أموال جزيلة، فلمّا مضى أبو الحسن موسى عليه السلام وقفوا طمعاً في الأموال، ودفعوا إمامة الرِّضا عليه السلام وجحدوه!.

وفيه: أنّ أقوال أئمّة الرجال وإن اختلفت بالنسبة إليه، إلّاأنّ الظاهر كون حديثه من الموثّق(1).

أقول: فالصحيح أن يورد على الاستدلال به أنّه لا مفهوم للقضيّة إلّاعلى القول بثبوت المفهوم للوصف.

ودعوى: أنّ (من) الموصولة متضمّنة لمعنى الشرطيّة.

ممنوعة: بل الظاهر منها أنّ الأُمور المذكورة كلّها قيود للموضوع، وأنّ القضيّة مسوقة لبيان مجرّد نسبة المحمول إلى الموضوع، مضافاً إلى أنّه لو كان لها مفهوم، فإنّما هو أن من لم تجر عادته على عدم الظلم وعدم الكذب وعدم خلف الوعد يجوز غيبته، لا أنّ من جرت عادته على الظلم وأخويه حكمه ذلك.2.

ص: 161


1- معجم رجال الحديث: ج 12/129-132.

وعليه، فهو يدلّ على جواز غيبة غير العادل، وإنْ لم يكن متجاهراً بالفسق، وهذا ممّا لم يلتزم به أحد، مع أنّ الجزاء عبارة عن مجموع الأُمور الأربعة التي ذكرها عليه السلام على سبيل العموم المجموعي، فبانتفاء المقدّم ينتفي المجموع الملائم مع بقاء بعضها، فلعلّ المنفيّ خصوص العدالة.

ومنها: صحيح ابن أبي يعفور، عن مولانا الصادق عليه السلام، الوارد في بيان العدالة بعدما بيّن حقيقة العدالة، والدلالة عليذلك أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتّى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته(1)، فإنّ مفهومه أنّ من لم يكن ساتراً لعيوبه لا يحرم التفتيش عن حاله بالسؤال عن جيرانه ومعاشريه وغيرهم عن معاصيه.

وفيه أوّلاً: إنّ التفتيش تارةً يكون بالسؤال عن المطّلع على حاله، وأُخرى بغيره، فلا تلازم بين جواز التفتيش وجواز الغيبة.

وثانياً: إنّ الستر للعيوب في الخبر جُعل طريقاً إلى ثبوت العدالة، فالمراد به الستر عند من يريد ترتيب آثار العدالة، حتّى أنّه لو رأى منه ذنباً خرج عن هذا الستر، وإن كان غير متجاهرٍ بالفسق، وعليه فمفهومه جواز غيبة الفاسق مطلقاً.

ومنها: خبر علقمة المحكي عن «المحاسن» عن سيّدنا الصادق عليه السلام: «من لم تره بعينك يرتكب ذنباً، أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان، فهو من أهل العدالة والستر، وشهادته مقبولة، وإن كان في نفسه مذنباً، ومن اغتابه بما فيه فهو خارجٌ عن ولاية اللّه تعالى، وداخل في ولاية الشيطان»(2).4.

ص: 162


1- وسائل الشيعة: ج 27/391 ح 34032، تهذيب الأحكام: ج 6/241 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 27/395 - ح 34044، بحار الأنوار: ج 67/2 ح 4.

أقول: وقد استدلّ به الشيخ رحمه الله(1) بتقريبين:

التقريب الأوّل: إنّه دلّ على ترتّب عدم جواز الغيبة على كون الرّجل غير مرئي منه المعصية، ولا مشهوداً عليه بها، ومقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرط، خرج منه غير المتجاهر.

التقريب الثاني: أنّه دلّ على ترتّب حرمة الاغتياب وقبول الشهادة على كونه من أهل الستر، وكونه من أهل العدالة على طريق اللّف والنشر، فمفهومه جواز غيبة غير المتستّر، وهو المتجاهر بالفسق.

ولكن يرد على الاستدلال به أوّلاً: أنّه ضعيف السند لعلقمة(2).

وثانياً: إنّه لا مفهوم له لعدم حجيّة مفهوم الوصف.

وثالثاً: أنّ الظاهر من الستر إرادة العدالة منه، لأنّه عليه السلام رتّب كونه من أهل8.

ص: 163


1- كتاب المكاسب: ج 1/344-345 (ط. ج).
2- معجم رجال الحديث: ج 12/200، قوله: (علقمة بن محمّد الحضرمي أخو أبي بكر الحضرمي: من أصحاب الباقر عليه السلام، رجال الشيخ (38). وعدّه في أصحاب الصادق عليه السلام (643)، قائلاً: "علقمة بن محمّد الحضرمي الكوفي: أسند عنه". وعد البرقي علقمة الحضرمي من أصحاب الباقر عليه السلام. وقال الكشّي (290): "حدّثني علي بن محمّد بن قتيبة القتيبي - إلى أن قال - قال: دخل أبو بكر وعلقمة على زيد بن علي، وكان علقمة أكبر من أبي، فجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وكان بلغهما أنّه قال: ليس الإمام منّا من أرخى عليه ستره، إنّما الإمام من شهر سيفه! فقال له أبو بكر - وكان أجرأهما -: يا أبا الحسين أخبرني عن علي بن أبي طالب عليه السلام، أكان إماماً وهو مرخ عليه ستره أو لم يكن إماماً حتّى خرج وشهر سيفه ؟ قال: وكان زيد يبصر الكلام، قال: فسكت فلم يجبه، فردّ عليه الكلام ثلاث مرّات، كلّ ذلك لا يجيبه بشيء، فقال له أبو بكر: إن كان علي بن أبي طالب إماماً فقد يجوز أن يكون بعده إمام مرخ عليه ستره، وإن لم يكن إماماً وهو مرخ عليه ستره فأنتَ ما جاء بك ها هنا؟! قال: فطلب من أبي علقمة أن يكفّ عنه فكفّ عنه. محمّد بن مسعود، قال: كتب إلي الشاذاني أبو عبد اللّه، يذكر عن الفضل، عن أبيه مثله سواء. روى عن أبي جعفر عليه السلام، وروى عنه سيف بن عميرة، وصالح بن عقبة. كامل الزيارات: الباب 71، في ثواب من زار الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، الحديث 8.

الستر والعدالة على شيء واحد، وهو حسن الظاهر، فلو كان له مفهوم فإنّما هو جواز غيبة الفاسق.

ودعوى: أنّ مفهومه وإنْ كان ذلك، إلّاأنّه خرج عنه غير المتجاهر.

ممنوعة: إذ التصرّف في المفهوم من دون التصرّف في المنطوق غير معقول، كما حُقّق في محلّه، والتصرّف في المنطوق في المقام لا يمكن كما لا يخفى ، مع أنّ الالتزام بذلك مستلزمٌ للقول بعدم مدخليّة التجاهر بالفسق في الحكم.

فتحصّل: أنّه لا يكون في النصوص المعتبرة ما يمكن الاستدلال به إلّا خبر هارون.

***

ص: 164

فروع الغيبة

بقي في المقام فروع تعرّض لها الشيخ رحمه الله، وهي:

الفرع الأوّل(1): (قال قدس سره: ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الروايات، جواز غيبة المتجاهر في ما تجاهر به، ولو مع عدم قصدِ غرضٍ صحيح... الخ).

أقول: لاحظ قوله عليه السلام في خبر هارون: «إذا جاهر الفاسق بفسقه، فلا حرمة له ولا غيبة»(2)، فإنّ إطلاقه يقتضي عدم الفرق بين أن تكون الغيبة لغرض صحيح، أم كانت بقصد الانتقاص.

كما أنّ ما ذكرناه من خروج ذكر المغتاب في ما تجاهر به عن الغيبة موضوعاً، لعدم كونه إظهاراً لما سَتَره اللّه، هو الذي يقتضي ذلك.

الفرع الثاني: ما ذكره الشيخ رحمه الله بقوله(3): (وهل يجوز اغتياب المتجاهر في غير ما تجاهر به... الخ).

أقول: الأقوال في المسألة ثلاثة:

القول الأوّل: ما اختاره صاحب «الحدائق»(4)، واستظهره من كلام جمعٍ من الأصحاب، وصرّح به بعض الأساطين، وهو الجواز.

القول الثاني: ما عن جماعةٍ آخرين منهم الشهيد الثاني(5)، وهو عدم الجواز.

ص: 165


1- كتاب المكاسب: ج 1/343 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 12/289 ح 16327، بحار الأنوار: ج 72/253 ح 32.
3- كتاب المكاسب: ج 1/345 (ط. ج).
4- الحدائق الناضرة المحدِّث البحراني: ج 18/166.
5- مسالك الأفهام الشهيد الثاني: ج 14/234.

القول الثالث: ما اختاره الشيخ رحمه الله من التفصيل بين المعاصي التي دون ما تجاهر به في القبح، وبين غيرها، فيجوز في الأولى ولا يجوز في الثاني، فمن تجاهر باللّواط جاز اغتيابه بالتعرّض لنساء الأجانب، ومن تجاهر بقطع الطريق جاز اغتيابه بالسّرقة، ومن تجاهر بالمعاصي الكبيرة جاز اغتيابه بكلّ قبيح(1).

وقد استدلّ للأوّل:

تارةً : بإطلاق النصوص التي منها خبر هارون المتقدّم، فإنّ مقتضى إطلاق نفي الجنس هو نفي جميع أفراد الغيبة التي منها غيبته في غير ما تجاهر به، فإنّ نفي الطبيعة نفيٌ لجميع وجوداتها في الخارج.

وأُخرى : بأنّ الظاهر من الخبر وروده في مقام بيان الحكم، لا بيان نفي الموضوع حقيقة، وعليه فحيث إنّ ذكر النقص المتجاهر فيه لا يكون غيبة حقيقة كما تقدّم، فيكون الخبر وارداً لبيان الرخصة في الغيبة بالنسبة إلى غير ما تجاهر فيه.

ولكن يرد عليهما: أنّ الظاهر من نفي الطبيعة، هو نفي الموضوع حقيقة، وحمله على إرادة النفي التنزيلي، ونفي الحكم عن الموضوع خلاف الظاهر، لا يصار إليه إلّا مع القرينة، ككونه نفياً لموضوع واقعي واضح ليس إثباته ونفيه وظيفة الشارع، ولا يكون الموضوع منتفياً بعد نفيه كقوله عليه السلام: (لا شكّ لكثير الشكّ )، وليست الغيبة كذلك، فإنّ للشارع تحديد مفهومها وبيان قيودها، وقد بيّنها في جملةٍ من النصوص المتقدّمة، فلا قرينة صارفة عن ظهور القضيّة في نفي الموضوع حقيقة، وهو لا يكون إلّا فيما تجاهر فيه من المعاصي، فلا يكون مطلقاً ولا مختصّاً بغير ما تجاهر فيه، مع أنّ6.

ص: 166


1- كتاب المكاسب - الشيخ الأنصاري: ج 1/346.

إرادة الأعمّ ممَّا تجاهر فيه وغيره غير ممكنة، إذ بالنسبة إلى ما تجاهر فيه يكون النفي نفياً للموضوع حقيقةً ، وبالنسبة إلى غيره يكون نفياً له تنزيلاً - أي نفياً للحكم بلسان نفي الموضوع - وإرادة الأعمّ مستلزمة لاجتماع اللّحاظين في استعمال واحد، فيدور الأمر بين إرادة أحد القسمين، والمتعيّن هو الأوّل كما تقدّم.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما ورد في خبر هارون، وأمّا سائر النصوص فقد عرفت أنّها ما بين ضعيف السند، وغير الدالّ على المطلوب.

وأمّا الوجهان الأوّلان: فاختصاصهما بخصوص ما تجاهر فيه واضح.

وقد استدلّ للقول الأخير بوجهين:

الوجه الأوّل: أنّ مناط جواز غيبة المتجاهر تبيّن هذه المرتبة من العصيان منه، فيجوز غيبته في الأدون بالأولويّة.

الوجه الثاني: ما ذكره بعض مشايخنا المحقّقين رحمه الله من أنّ من لا يَكره نسبته إلى اللّواط - والعياذ باللّه - مثلاً، لا يكره نسبته إلى أنّه يتفحّص عن معاشرة النساء، وهذه الملازمة بعنوان أنّه نقص وعيب ثابتة، فإذا فرضنا أنّ أحداً يكره الثاني دون الأوّل، يُستكشف منه أن كراهة الثاني ليست متعلّقة به بما هو عيب ونقص، فيجوز غيبته فيه.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ كون المناط ما ذكر غير معلوم، بل يحتمل أن يكون المناط عدم كراهة الإظهار، أو عدم كونه إظهاراً لما ستره اللّه المفروض تحقّقه في ما تجاهر فيه دون الأدون، مع أنّ الأولويّة لو تمّت، فإنّما هي فيما لو اقتصر على الأدون، دون

ص: 167

الجمع بين الغيبتين كما لا يخفى .

وأمّا الثاني: فلأنّه ربما يكون الشخص متجاهراً في معصية كبيرة، كقتل النفوس المحترمة، ومتستّراً فيما هو دونها، ويَكره نسبته إليه ويتجنّبه كما هو واضح.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو اختصاص الحكم بخصوص ما تجاهر فيه، نعم إذا جاهر بمعصيةٍ جاز اغتيابه بها وبلوازمها، لأنّ الالتزام بالشيء التزام بلوازمه.

الوجه الثالث: المراد بالمتجاهر من تجاهر بالقبيح مع علمه بالقبح، ويعلم الناس بصدوره عنه بعنوان أنّه قبيح، فلو لم يكن عالماً بقبحه لشبهة حكمية، كما لو شرب التمر المغلي قبل ذهاب ثلثيه معتقداً إباحته، أو لشبهةٍ موضوعيّة، كما لو شرب الخمر باعتقاد أنّه ماء، لا يجوز اغتيابه، لعدم كونه فاسقاً، فضلاً عن كونه متجاهراً بالفسق، كما أنّه لو أتى به علناً مع العلم بأنّه قبيح، لكن احتمل عدم اطلاع الناس على صدور الفعل منه معصية لاحتمالهم في حقّه الجهل بالموضوع أو الحكم عن قصور لم يكن متجاهراً بالفسق بما هو فسق، بل متجاهرٌ بالفسق من حيث ذاته، وظاهر الدليل جواز غيبة المتجاهر بالفسق بما هو فسق، فالمتجاهر بالفسق هو من أتى بالمعصية مع علمه بأنّ المأتي به معصية علناً، وعرف أنّ الناس عالمون بأنّه عاص بفعله، وليس له عذرٌ ولو غير موجه.

الوجه الرابع: إذا كان متجاهراً جاز غيبته عند من لا يكون مطّلعاً على حاله، لعدم كونه إظهاراً لما ستره اللّه، إذ المراد منه إظهار الأمر المستور، فلو كان منكشفاً لم يكن من الغيبة، هذا مضافاً إلى ظهور خبر هارون، فإنّ الظاهر منه إرادة بيان أنّ في المتجاهر خصوصيّة ليست في غيره، فلو اقتصر على ذكره عند من يكون مطّلعاً

ص: 168

على حاله، لزم عدم خصوصيّة فيه، فإنّ العالم بالحال يجوز الغيبة عنده، ولو لم يكن المقول فيه متجاهراً، وهذا ممّا لا إشكال فيه، إنّما الكلام في حَدّ التجاهر، والظاهر أنّه يصدق مع التجاهر به عند جماعةٍ معتدّ بهم مع عدم المبالاة باطلاع غيرهم، فلو تجاهر عند أصحاب سِرّه ورفقائه لا يصدق عليه المتجاهر، كما أنّه لو تجاهر في بلد الغربة وتستّر في بلد نفسه، لا يعدّ متجاهراً.

الوجه الخامس: إنّ جواز الغيبة يدور مدار بقاء كونه متجاهراً، فلو انتفى عنه المبدأ وأخفى فسقه، وتأذّى من ظهوره حرمت غيبته، إذ بقاء الحكم تابعٌ لبقاء موضوعه، فمع ارتفاع الموضوع يرتفع الحكم.

***

ص: 169

تظلّم المظلوم

الفرع الثاني: ويدور البحث فيه عن تظلّم المظلوم وإظهار ما فعل به الظالم، وإنْ كان متستّراً به، كما إذا ضربه في ليلةٍ ظلماء لا أحد سواهما، أو شتمه، أو أخذ ماله، جاز له ذكره بذلك عند من لا يعلم ذلك منه.

أقول: الظاهر أنّ جواز إظهار ما فَعل الظالم بالمظلوم وإنْ كان متستّراً به إجماعيٌ ، وقد استدلّ له بأُمور:

الأمر الأوّل: قوله تعالى: (وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ) (1).

بتقريب: أنّه تدلّ الآية على أنّ من أصبح مظلوماً لا سبيل له عليه في الانتصار جاز له غيبته، ومن المعلوم أنّه يتوقّف الانتصار على إظهار ما فعل به من الظلم.

وفيه: أنّ الانتصار عبارة عن الانتقام، فمفاد الآية الشريفة جواز الانتقام، ومجازاة الظالم بالمثل التي دلّت عليها الآية التي قبل هذه الآية، وهي (وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (2)، فهي أجنبيّة عن جواز الاغتياب.

فإن قلت: إنّ الغيبة نحوٌ من الانتقام.

قلت: إنّه لا إطلاق للآية في كيفيّة الانتقام، ولذا لم يتوهّم أحدٌ جواز نكاحه مثلاً باعتبار أنّه نحوٌ من الانتقام.

ص: 170


1- سورة الشورى : الآية 41.
2- سورة الشورى : الآية 40.

الأمر الثاني: قوله تعالى: (لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) (1) فإنّه يدلّ على مرجوحيّة الجهر بالسّوء من القول الذي من أفراده ومصاديقه الغيبة، كما تقدّم في أوّل المبحث، إلّابالنسبة إلى المظلوم.

فإن قلت: إنّكم بنيتم على عدم دلالة الآية على عدم جواز الغيبة، فكيف تتمسّكون به في المقام ؟

قلت: إنّ هذا الإيراد واردٌ على من التزم بعدم كون الغيبة من مصاديق الجهر بالسّوء كالمحقّق الإيرواني(2) وغيره، ولا يرد علينا لالتزامنا بأنّها لا تدلّ على عدم جواز الغيبة، لأنّ عدم الحبّ أعمّ من الحرمة، وعليه فلا مورد لهذا الإيراد كما لا يخفى .

ودعوى: أنّ الاستثناء من عموم السلب لا يقتضي إلّاثبوت الإيجاب الجزئي، حيث أنّه لا إطلاق لتلك الجزئيّة، لعدم ثبوت كونها واردة في مقام البيان من هذه الجهة، فيمكن أن يكون الجواز راجعاً إلى مذمّته وتعييره وتنقيصه، فإنّها من الجهر بالسوء، كما في تعليقة بعض مشايخنا المحقّقين(3).

مندفعة: بما حُقّق في محلّه من أنّه عند الشكّ في كون دليل في مقام البيان، يبني على أنّه كذلك.

وعليه، فمقتضى إطلاق هذه الآية الشريفة جواز كلّ فرد من أفراد الجهر بالسّوء التي منها الغيبة.6.

ص: 171


1- سورة النساء: الآية 149.
2- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/32.
3- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/116.

الأمر الثالث: ما عن «تفسير العيّاشي» عن الفضل بن أبي قُرّة، عن مولانا الصادق عليه السلام: «في قول اللّه تعالى : (لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ) (1) من أضاف قوماً فأساء ضيافتهم، فهو ممّن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه»(2).

وما عن «مجمع البيان» عنه عليه السلام: في قوله تعالى : (لا يُحِبُّ ...) الخ إنّ الضيف ينزل بالرّجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه في أن يذكر سوء ما فعله»(3).

بتقريب: أنّهما يدلّان على أنّ من هتك ضيفه، ولم يقم بما يليق بشأنه في مقام الضيافة، جاز له أن يذكره بما فعله من السوء.

وفيه: إنّ الخبرين ضعيفان؛ أمّا الأوّل فلجهالة حال المفضّل(4)، وأمّا الثاني فللإرسال.

الأمر الرابع: إنّ في منع المظلوم من التظلّم حَرَجاً عليه السلام عظيماً عليه السلام.

وفيه أوّلاً: إنّ المراد من دليل نفي الحرج ليس هو الحرج النوعي، بل المراد الحرج الشخصي، فلا ينفع في نفي الحكم كليّاً.

وثانياً: إنّ دليل نفي الحرج إنّما ينفي الأحكام التي في نفيها امتنان على الأُمّة، فالحكم الذي يكون نفيه منّة على شخصٍ ومنافياً للامتنان على الآخر، لا يكون مشمولاً لدليل نفي الحرج، والمقام من هذا القبيل، لأنّ جواز الاغتياب منافٍ للامتنان، بالنسبة إلى المغتاب (بالفتح).1.

ص: 172


1- سورة النساة: الآية 148.
2- وسائل الشيعة: ج 12/289 ح 16329، بحار الأنوار: ج 72/258 ح 50.
3- وسائل الشيعة: ج 12/290 ح 16330.
4- معجم رجال الحديث: ج 14/301.

الأمر الخامس: إنّ تشريع الجواز مظنّة لردع الظالم، وهي مصلحة خالية عن مفسدة، فيثبت الجواز، لأنّ الأحكام تابعة للمصالح.

وفيه أوّلاً: إنّ مقاومة هذه المصلحة لا سيّما وهي مظنونة للمفسدة المقطوعة الثابتة في الغيبة ممنوعة.

وثانياً: إنّ لازم هذا الوجه جواز اغتياب كلّ عاصٍ ، وإنْ كان غير متجاهر ولا ظالم لشخص، فإنّ في تجويزه مظنّة الردع.

وثالثاً: إنّ الجواز على هذا لا يختصّ بالمظلوم، بل يجوز لكلّ أحدٍ لعين هذا الوجه.

ورابعاً: إنّه ربما يحصل العلم بأنّه لا يرتكب تلك المعصية، أو أنّه لا يرتدع من هذا التظلّم.

الأمر السادس: خبر «قرب الإسناد» عن جعفر بن محمّد، عن أبيه عليهما السلام، قال: «ثلاثة ليس لهم حُرمة: صاحب هوى مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المُعلِن بالفسق»(1).

بتقريب: أنّ نفي الحرمة عن الإمام الجائر إنّما هو من جهة جوره لا من جهة تجاهره، وإلّا لم يذكره في مقابل الفاسق المُعلِن بالفسق.

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده، وعدم دلالته على جواز غيبة هذه الثلاثة كما تقدّم - أنّه يمكن أن يكون جواز غيبة الإمام الجائر لو ثبت من جهة غصبه حقوق الأئمّة عليهم السلام وتصدّيه مقام الخلافة، مع أنّ هذا لو تمّ لدلّ على جواز اغتياب كلّ أحدٍ لا خصوص المظلوم، مضافاً إلى أنّ الخبر مروي بطريق آخر وفيه توصيف8.

ص: 173


1- وسائل الشيعة: ج 12/289 ح 16328.

الإمام بالكذب.

الأمر السابع: النبوي: «ولصاحب الحَقّ مقال»(1).

وفيه أوّلاً: إنّه ضعيف السند.

وثانياً: أنّه يدلّ على أنّ من ثبت له حقٌّ فله مقال، والكلام في المظلوم إنّما هو في ثبوت الحقّ له بعد ما أضيع حقّه بالظلم، مع أنّ المقال الثابت لصاحب الحقّ لعلّه أُريد به مطالبة ما أضيع به من حقّه لا غيبته. فتحصّل: أنّ شيئاً ممّا استدلّ به على جواز غيبة المظلوم، لا يدلّ عليه سوى آية(2) الجهر بالسوء.

أقول: يبقى البحث عن أنّه هل يقيّد جواز الغيبة بكونها عند من يرجو إزالة الظلم عنه كما عن جماعةٍ (3)، أم يجوز مطلقاً كما عن آخرين(4)؟

وجهان، أقواهما الثاني، لأنّ مقتضى قوله تعالى : (لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ...) الخ(5) التي عرفت دلالتها على جواز اغتياب المظلوم بإظهار ما فعل به الظالم، جواز الغيبة حتّى عند من لا يرجو إزالة الظلم عنه.

وما ذكره الشهيد رحمه الله(6) وتبعه بعض مشايخنا المحقّقين رحمه الله(7) من أنّه لا عموم في6.

ص: 174


1- بحار الأنوار: ج 72/231، المحجّة البيضاء للمحدِّث الكاشاني: ج 5/270، وكشف الريبة، ومرآة العقول: ج 2/345. و ج 6 من سنن البيهقي باب ما جاء في التقاضي ص 52. والبخاري باب الوكالة في قضاء الدين: ج 2/37: عن أبي هريرة أنّ أعرابيّاً تقاضى النبيّ صلى الله عليه و آله ديناً كان له عليه فأغلظ له، فهمَّ به أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله، فقال النبيّ : دعوه فإنّ لصاحب الحقّ مقالاً، ثمّ قال: اقضوه، فقالوا: لا نجد إلّاسنّاً أفضل من سنّه، قال: اشتروه واعطوه فإنّ خيركم أحسنكم قضاءً . وفي إحياء العلوم: ج 3/132 ذكر هذه الجملة: (إنّ لصاحب الحقّ مقالاً). في مسوّغات الغيبة، ولم يذكر المصدر.
2- سورة النساة: الآية 148.
3- كشف الريبة: ص 77، مستند الشيعة: ج 14/168.
4- كتاب المكاسب: ج 1/175 (ط. ق).
5- سورة النساة: الآية 148.
6- حكاه عنه في كشف الريبة: ص 77.
7- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/116، المحقّق السبزواري في كفاية الأحكام: 86، والمحقّق النراقي في المستند: ج 2/347، والسيّد العاملي في مفتاح الكرامة: ج 4/66.

الآية(1) ليتمسّك به في إثبات الإباحة مطلقاً غير تامّ ، إذ قد عرفت أنّ الآية الشريفة مطلقة، وبمقتضى مقدّمات الحكمة تفيد العموم.

وبالجملة: فالأظهر عدم تقييد الجواز بكونها عند من يرجو إزالة الظلم عنه.

حكم غيبة تارك الأولى

بحث: هل يجوز للمظلوم الغيبة لو لم يكن ما فعل به الظالم ظلماً، بل كان من ترك الأولى أم لا؟ وجهان:

استدلّ لجواز الاغتياب بترك الأولى بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ورد في خبر حمّاد بن عثمان، قال: «دخل رجلٌ على أبي عبداللّه عليه السلام فشكى إليه رجلاً من أصحابه، فلم يلبث أن جاء المشكوّ، فقال أبو عبداللّه عليه السلام: ما لفلان يشكوك ؟

فقال له: يشكوني أني استقضيت منه حقّي.

قال: فجلس أبو عبد اللّه مغضباً ثمّ قال: كأنّك إذا استقضيت حقّك لم تسيء، أرأيتَ ما حكى اللّه عزّ وجلّ ، فقال (وَ يَخافُونَ سُوءَ اَلْحِسابِ ) (2) أترى أنّهم خافوا اللّه أن يجور عليهم، لا واللّه ما خافوا إلّاالاستقضاء، فسمّاه اللّه تعالى سوء الحساب، فمن استقضي فقد أساء»(3).

فإنّه يدلّ بالتقرير على جواز الشكوى من الدائن لتركه الأولى بالمطالبة، وعدم الإمهال في قضاء الدَّين الذي يعدّ من المستحبّات، واحتمال ردع الإمام عليه السلام

ص: 175


1- سورة النساة: الآية 148.
2- سورة الرعد: الآية 21.
3- وسائل الشيعة: ج 18/348 ح 23821، الكافي: ج 5/100 ح 1.

عن ذلك، وعدم نقله لنا ضعيفٌ لا يُعبأ به، كما أنّ دعوى ضعف السند لمعلّى بن محمّد غير مسموعة(1)، إذ الظاهر أنّه حسن على أقلّ التقادير.

ولكن يرد على الاستدلال به: أنّ الظاهر منه كون المديون مُعسِراً لا يجوز المطالبة منه، أو كونه لا يجبُ عليه الأداء لغير ذلك، ومعلوم أنّ طلب الأداء حينئذٍ ظلم وتعدّ على المديون تباح معه الغيبة، كما تقدّم، والشاهد على ما ذكرناه أُمور:

الأمر الأوّل: قوله عليه السلام في ذيل الخبر: «فمن استقضى فقد أساء»، فإنّ المطالبة من المديون الموسر المتمكّن من الأداء، مع وجوبه عليه، لا تعدّ إساءة قطعاً.

الأمر الثاني: عدم أمر الإمام عليه السلام المديون بأداء الدَّين، ولو كان موسراً ولم يكن محذورٌ في الأداء لأمره به.

الأمر الثالث: تشديد الإمام على المشكوّ.

ولو أغمضنا عن ما ذكرناه من الظهور، فلا أقلّ من كونه مجملاً لا يمكن الاستدلال به.

الوجه الثاني: مرسل ثعلبة بن ميمون، عمّن ذكره، عن مولانا الصادق عليه السلام، قال: «كان عنده قومٌ يحدّثهم إذ ذَكر رجلٌ منهم رجلاً فوقع فيه وشكاه، فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: وأنّى لك بأخيك كلّه، وأي الرِّجال المهذّب»(2).

فإنّ الظاهر من الجواب أنّ الشكوى إنّما كانت لتركه الأولى الذي لا يليق1.

ص: 176


1- ففي رجال النجاشي: ج 1/418 (معلّى بن محمّد البصري، مضطرب الحديث والمذهب، كتبه قريبة) وفي معجم رجل الحديث ج 19/280 معلّى بن محمّد البصري (وقال ابن الغضائري: معلّى بن محمّد البصري أبو محمّد يعرف حديثه وينكر، ويروي عن الضعفاء، ويجوز أن يخرج شاهداً)، معجم رجال الحديث ج 279/19.
2- وسائل الشيعة: ج 12/85 ح 15706، الكافي: ج 2/651 ح 1.

بالأخ الكامل المهذّب.

وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند للإرسال.

وثانياً: إنّ قوله عليه السلام: «وأنّى لك... الخ» يمكن أن يكون ردعاً وانتصاراً للمغتاب (بالفتح)، وعليه فليس هناك تقرير من المعصوم عليه السلام كي يُستدلّ به.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الإيرواني رحمه الله(1) من التمسّك بما ورد في ذكر الضيف مساوئ الضيافة المتقدّم، بدعوى أنّه يدلّ على أنّ عدم القيام بالحقوق المستحبّة التي منها حُسن الضيافة نوعٌ من الظلم، ويكون الخبر دالّاً على أنّ الآية الشريفة تعمّ كلا الظلمين، وأنّه يجوز للمظلوم اغتياب ظالمه بكلّ من الظلمين.

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم من ضعف السند -: أنّه قد مرّ أنّ الظاهر من الخبر إرادة هتك الضيف وإهانته، لا ترك الأولى، مع أنّ دعوى أنّ عدم القيام بالحقوق المستحبّة نوعٌ من الظلم كما ترى .

وبالجملة: فالصحيح أن يستدلّ للجواز بأنّ ترك الأولى ليس سوءاً، فلا يدخل ذكره في الغيبة ما تقدّم من اعتبار كون المقول نقصاً وعيباً.

***6.

ص: 177


1- حاشية المكاسب: ج 1/36.

ضابط الغيبة الجائزة

أقول: ذكر الأصحاب(1) موارد عديدة لجواز الغيبة، فضلاً عن الموارد السابقة، وتنقيح القول فيها هو أنّ ما ذكره الأصحاب من مستثنيات الغيبة تندرج في واحدٍ من العناوين الأربعة، أو يتوهّم اندراجه فيه:

العنوان الأوّل: ما كان خارجاً عنها موضوعاً، كغيبة المتجاهر بالفسق المتقدّم، وبعض المستثنيات المذكورة في كتاب «المكاسب»، والتي ستمرّ عليك(2).

العنوان الثاني: أن ينطبق على الغيبة عنوان ذو مصلحة أهمّ من مفسدة الغيبة، وقد ذكر الشيخ رحمه الله(3) لذلك موارد، وستعرف ما فيها.

العنوان الثالث: ما إذا توقّف واجبٌ أهمّ عليها، كحفظ النفس المحترمة، أو صيانة العِرض، أو نحو ذلك.

العنوان الرابع: ما كان خارجاً عن حكم الغيبة بالتخصيص، وهو على أقسام:

الأوّل: ما يكون خارجاً بدليل مختصّ به، كتظلّم المظلوم المتقدّم.

الثاني: أن يكون الخروج بأدلّة نفي الضرر والحَرَج.

الثالث: أن ينطبق على الغيبة عنوان واجب في نفسه، وكانت النسبة بين الدليلين عموماً من وجه، وقدّم دليل ذلك الواجب لوجود أحد المرجّحات فيه.

هذا كلّه بحسب الكبرى ، وأمّا الصغرى فقد ذكروا لها موارداً:

ص: 178


1- الحدائق الناضرة: ج 18/160-162.
2- كتاب المكاسب: ج 1/342-343 (ط. ج).
3- كتاب المكاسب: ج 1/342 (ط. ج).

نُصح المستشير

منها: نُصح المستشير.

وقد استدلّ لجواز نصح المستشير وإن أوجب الوقيعة والغيبة، بوجوه:

الوجه الأوّل: ما ذكره الأستاذ الأعظم - مبتنياً على وجوبه - من أنّ دليلي وجوب النصح وحرمة الغيبة من قبيل المتزاحمين لا المتعارضين(1)، فإنّ الغيبة في موارد الاجتماع مأخوذة في مقدّمات النصح، وأنّه يتولّد منها ويتوقّف عليها، نظير توقّف إنقاذ الغريق على التصرّف في مِلك الغير، وعليه فيتّصف كلّ من النصح والغيبة بالأحكام الخمسة حسب اختلاف الموارد بقوّة الملاك وضعفه.

وفيه: أنّ النصح الواجب على المكلّف في موارد الاجتماع إنّما يكون من العناوين المنطبقة على الغيبة، لا المتولّدة منها المتوقّفة عليها، إذ لا وجود للتنبيه على معايب من يريد المستشير تزويجها مثلاً - الذي هو نصحه - إلّاببيان ما فيها من المعايب المستورة الذي هو غيبة، فالدليلان من قبيل المتعارضين.

الوجه الثاني: ما هو ظاهر الشيخ رحمه الله(2) من أنّ حرمة الغيبة لأجل انتقاص المؤمن وتأذّيه منه، وحيث أنّ خيانة المستشير قد تكون أقوى مفسدة من الوقوع في المغتاب، فلا محالة تسقط حرمتها.

وفيه: ما تقدّم في أوّل هذا المبحث من أنّه في موارد اجتماع عنوانين اللّذين كلّ منهما محكومٌ بحكمٍ ينافي حكم الآخر، فإنّه لا سبيل إلى الرجوع إلى مرجّحات باب

ص: 179


1- كتاب المكاسب: ج 1/352 و 351 (ط. ج).
2- .

المزاحمة، ورعاية أقوى الملاكين، وليست من موارد تزاحم المقتضيين، مع أنّه لو سُلّم كونها من هذه الموارد، فإنّه لا سبيل إلى الحكم بالجواز بقوّة الملاك، إذ لا طريق إلى معرفة المناطين بما لهما من الحَدّ كي يُعرف الراجح منهما.

الوجه الثالث: ما ورد في استشارة فاطمة بنت قيس النبيّ صلى الله عليه و آله في أن تقبل الزواج من معاوية أو أبي جهم، حيث قال لها صلى الله عليه و آله:

«أمّا معاوية فصعلوكٌ لا مال له، وأمّا أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، انكحي أُسامة»، حيث إنّه صلى الله عليه و آله تعرّض لما يكرهه الخاطبان(1).

وفيه: لو سلّمنا سند الخبر، فإنّ دلالته على المطلوب تتوقّف على كون ما ذكره النبيّ صلى الله عليه و آله عيباً مستوراً، مع أنّ كونه عيباً، وعلى فرضه كونه مستوراً، محلّ تأمّلٍ ونظر.

الوجه الرابع: إنّ النسبة بين دليلي حرمة الغيبة ومطلوبيّة النصح عمومٌ من وجه، وهما من قبيل المتعارضين، فيتعيّن الرجوع إلى مرجّحات باب المعارضة، بناءً على ما هو الحقّ من أنّها المرجع عند تعارض الدليلين بالعموم من وجه، والترجيح مع دليل النصح لكونه أشهر. فتأمّل.

فتحصّل: أنّ الأظهر كون المورد داخلاً في القسم الثالث من العنوان الرابع.

أقول: ولا فرق فيما ذكرناه بين كون النصح واجباً أم لا، كما هو واضح، ولكن لا دليل على وجوبه، فإنّ ما استدلّ به على وجوبه بين ما هو ضعيف السند، وغير دالٍّ على وجوبه، وما لا ربط له به، إذ قد استدلّ عليه:2.

ص: 180


1- المستدرك: ج 9/129 ح 10452، بحار الأنوار: ج 72/232.

1 - بما دلَّ على حرمة خيانة المؤمن لأخيه(1).

2 - وبما دلَّ على وجوب نصح المؤمن ابتداءاً(2).

3 - وبالنصوص الآمرة بقضاء حاجة المؤمن(3)، باعتبار أنّ النصح نوعٌ منها.

4 - وبما ورد في خصوص نُصح المستشير(4).

وفيه: وشيءٌ منها لا يصلح مستنداً للوجوب:

أمّا الأوّل: فلأنّه لا ملازمة بين حرمة الخيانة ووجوب النصح لإمكان ردّه إلى غيره.

وأمّا الثاني: فهو محمولٌ على الاستحباب، للإجماع على عدم وجوب النصح ابتداءاً، وبه يظهر ما في الثالث.

وأمّا الرابع: فما تضمّن من تلك النصوص الأمر به ضعيف السند، وغيره إنّما تضمّن ترتّب المفسدة الدنيويّة من سلب اللّب والرأي على ترك النصح، وهو لا يدلّ على أزيد من الاستحباب.

وبالجملة: فالأظهر عدم وجوبه، نعم تحرم الخيانة للنصوص الدالّة عليها.

الاغتياب في مواضع الاستفتاء

ومنها: الاستفتاء بأن يقول للمفتي: ظَلَمني فلانٌ في حَقّي، فكيف طريقي إلى الخلاص.

ص: 181


1- وسائل الشيعة: ج 12/242 ح 16202، بحار الأنوار: ج 41/109 ح 17.
2- وسائل الشيعة: ج 12/207 ح 16099، الكافي: ج 2/171 ح 6.
3- وسائل الشيعة: ج 16/357 ح 12753، الكافي: ج 2/192 ح 1.
4- وسائل الشيعة: ج 12/44 ح 15599، بحار الأنوار: ج 72/102 ح 29.

وقد استدلّ للجواز في هذا المورد بروايتين:

الرواية الأُولى: النبويّ حيث قال صلى الله عليه و آله لهند بنت عُتبة زوجة أبي سفيان حين قالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وولدي ما يكفيني:

«خُذي لكِ ولولدكِ بالمعروف»(1). فلم يزجرها صلى الله عليه و آله عن غيبة أبي سفيان.

وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند للإرسال.

وثانياً: أنّه يحتمل أن يكون عدم الردع لاشتهار أبي سفيان بهذه الصفة، أو لكونه ممّن لا تحرم غيبته رأساً لكفره.

وثالثاً: أنّه من موارد تظلّم المظلوم.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ الخبر متضمّن للغيبة في غير ما وقع التظلّم منه، وهو صفة البخل.

الرواية الثانية: صحيحة ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«جاء رجلٌ إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: إنّ أُمّي لا تدفعُ يد لامسٍ؟

قال صلى الله عليه و آله: فاحبسها، قال: قد فعلتُ ، قال صلى الله عليه و آله: فامنع من يدخل عليها، قال:

قد فعلتُ ، قال صلى الله عليه و آله: فقيّدها فإنّك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها من محارم اللّه عزّ وجلّ »(2).

وفيه أوّلاً: إنّه يحتمل أن يكون المورد داخلاً في موارد غيبة المجهول، إذ المرأة لم تكن معروفة عند النبيّ صلى الله عليه و آله، ومجرّد كونها أُمّاً للسائل لا يوجبُ صيرورتها معلومة معيّنة عند المسئول عنه.0.

ص: 182


1- المستدرك: ج 9/129 ح 10451، عوالي اللآلئ: ج 1/402 ح 59.
2- وسائل الشيعة: ج 28/150 ح 34442، من لا يحضره الفقيه: ج 4/72 ح 5140.

وثانياً: الظاهر من الخبر أنّها كانت متجاهرة بالفسق والزنا، وغيبة المتجاهر جائزة، فضلاً عن أنّ الخبر في مقام بيان قضيّة شخصيّة، ويكفي لعدم جواز التعدّي احتمال كونها متجاهرة.

ودعوى : الشيخ رحمه الله(1) من أنّه يدفع بالأصل.

يرد عليها: أنّ هذا الأصل لا يثبت به كونها كارهة لذكرها به إلّاعلى القول بالأصل المثبت، ومع عدم إثباته لا يكون ذكرها مشمولاً لأدلّة حرمة الغيبة، لما عرفت من اعتبار الكراهة في صدقها، هذا إذا أُريد به الاستصحاب.

وإن أُريد به أنّ ظاهر حال المسلم أن يكون كارهاً لذكر عيبه:

فيرد عليه: أنّه لا دليل على حجيّة مثل هذا الظهور.

وثالثاً: إنّه لم يذكر في الخبر كون أُمّ السائل كانت مسلمة، ولعلّها كانت كافرة، ومجرّد الاحتمال يكفي في عدم جواز التعدّي.

أقول: والحقّ أن يستدلّ لجواز الغيبة في مواضع الاستفتاء - إذا كان المسؤول عنه محلّ الابتلاء، ولم يتمكّن السائل من السؤال إلّابتسمية المغتاب - أنّه حينئذٍ يقع التزاحم بين ما دلَّ على وجوب تعلّم الأحكام الشرعيّة التي تكون محلّ الابتلاء، وما دلَّ على حرمة الغيبة، إذ هما لا يتصادقان على مورد واحد، فإنّ السؤال الذي تنطبق عليه الغيبة مقدّمة للتعلّم الواجب لا أنّه مصداقه، والفرض أنّ المكلّف لا يتمكّن من امتثالهما معاً.).

ص: 183


1- كتاب المكاسب: ج 1/353 (ط. ج) قوله: (واحتمال كونها متجاهرة يدفع بالأصل).

وعليه، يتعيّن الرجوع إلى مرجّحات باب التزاحم، وهي تقتضي تقديم دليل التعلّم لأهميّته من حرمة الغيبة، إذ يترتّب على عدم التعلّم اضمحلال الدِّين.

الاغتياب لردع المغتاب عن فعل المنكر

ومنها: قصد ردع المغتاب عن المنكر الذي يفعله، وقد استدلّ الشيخ في «المكاسب»(1) لجواز الغيبة في هذا المورد بوجهين:

الوجه الأوّل: إنّ الغيبة في هذا الموضع إحسان في حقّ المغتاب.

الوجه الثاني: عموم أدلّة النهي عن المنكر.

أقول: وفيهما نظر:

أمّا الوجه الأوّل: - فمضافاً إلى كونه أخصّ من المدّعي، إذ ربما لا يرتدع المغتاب عن المنكر، والمغتاب (بالكسر) يعلم بذلك، فحينئذ لا يكون اغتيابه إحساناً في حقّه - الإحسان إنّما يكون مطلوباً للشارع إذا لم يكن بالأمر المحرّم، ومطلوبيّته مقيدة بعدم ترك الواجب وفعل الحرام.

ودعوى: أنّه إذا كان الغرض من ذكر العيب الإحسان إلى المغتاب (بالفتح) لا يصدق عليه الغيبة، لعدم قصد الانتقاص حينئذٍ.

مندفعة: بما تقدّم من عدم أخذ قصد الانتقاص في مفهومها.

ودعوى : عدم كراهة ذكره إذا كان بهذا القصد، أيضاً ممنوعة.

وأمّا الوجه الثاني: فلأنّ النهي عن المنكر واجبٌ ، ولكن لا بالمنكر وإلّا لجاز

ص: 184


1- كتاب المكاسب: ج 1/353 (ط. ج).

الزنا بزوجة الزاني لردعه عن فعله، نعم إذا كان المنكر من الأُمور المهمّة من قتل النفس المحترمة وشبهه، وتوقّف ردعه على الغيبة جازت، لما ثبت بالأدلّة العقليّة والنقليّة من وجوب الردع بأيّ نحو أمكن.

الاغتياب لحسم مادّة الفساد وجرح الشهود

ومنها: قصد حسم مادّة فساد المغتاب عن الناس كالمبتدع.

أقول: يشهد لجواز الغيبة في هذا الموضع - مضافاً إلى أنّ الثابت بضرورةٍ من الشرع أنّ للدين حرمة، لا يسقطها شيءٌ ، فإذا دار الأمر بين هتك حرمة المغتاب واغتيابه، وحفظ الدين، لا ريب في تقديم الثاني - صحيح داود بن سرحان، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله:

«إذا رأيتم أهل الرّيب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبّهم، والقول فيهم، والوقيعة، وباهتوهم كي لا يطمعوا في الفساد في الإسلام»(1).

ومنها: جرح الشهود.

أقول: يشهد لجواز الاغتياب في هذا الموضع - مضافاً إلى أنّ عليه يتوقّف حفظ أموال الناس وأعراضهم وأنفسهم - أنّ إجماع علمائنا عليه، كما يظهر لمن راجع كتاب القضاء(2)، وأولى بالجواز من ذلك جرح الرواة، فإنّ عليه يتوقّف حفظ شريعة سيّد المرسلين، وعليه بناء الأصحاب في كلّ عصر، وإنْ كان الغالب في هذا العصر عدم صدق الغيبة على ذلك لعدم معرفة تلك الرواة بأشخاصهم(3).

ص: 185


1- وسائل الشيعة: ج 16/267 ح 21531، الكافي: ج 2/375 ح 4.
2- فقه الصادق: ج 38/113 و مابعدها.
3- رجال الكشي: ص 91.

وأمّا الشهادة على الناس بالزِّنا والقتل وأخذ مال الغير ونحو ذلك، فقد ثبت جوازها بالنصوص الكثيرة الواردة في الشهادات، المتضمّنة للأمر بتحمّل الشهادة وأدائها، وحرمة كتمانها، ومعلوم أنّها بحسب الغالب شهادة على الناس بما يوجب فسقهم كما لا يخفى .

وإنْ شئتَ قلت: إنّه بعد ما لا ريب في اعتبار العدالة في الشهود، أنّه لو كانت الشهادة بالزنا أو القتل أو أخذ مال الغير عدواناً أو نحو ذلك غيبة محرّمة، لزم عدم الاعتماد على الشهادة، فمن النصوص المتضمّنة لقبولها يستفاد جواز الاغتياب في هذا الموضع.

الاغتياب لدفع الضرر عن المقول فيه

ومنها: دفع الضرر عن المغتاب.

أقول: الضرر الذي يُدفع بالغيبة:

تارةً : يكون ممّا يجب دفعه عن الغير، كما لو أراد أحدٌ أن يقتله أو يهتك عرضه.

وأُخرى : يكون ما لا يجب دفعه.

والغيبة في المورد الأوّل جائزة، لما عُلم من الشرع من أنّ لذلك مفسدة لا يزاحمها شيء من مفاسد المحرّمات، وأمّا في المورد الثاني فلا دليل على جوازها.

ودعوى: أنّه لو اطلع المقول فيه لرضي بالاغتياب طوعاً - كما عن الأستاذ الأعظم(1) - لا تفيد، فإنّ ذلك لا يوجبُ عدم صدق الغيبة، إذ رضاه به ليس لعدم

ص: 186


1- مصباح الفقاهة: ج 1/355.

كراهة ذكره بذلك العيب، بل لأنّه أقلّ محذوراً بنظره.

ودعوى: عدم صدق الغيبة لعدم قصده الانتقاص.

مندفعة: بما تقدّم من عدم دخله في مفهومها.

الاغتياب بذكر الأوصاف الظاهرة

ومنها: ذكر الشخص بعيبه الذي صار بمنزلة الصفة.

أقول: يدلّ على جواز ذلك - مضافاً إلى عدم الخلاف فيه، بل عليه سيرة العلماء حديثاً وقديماً:

1 - ما ورد في الخبر الحسن، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«جاءت زينب العطّارة الحولاء إلى نساء النبي صلى الله عليه و آله...(1)».

2 - وخبر الفضل بن عبد الملك، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: أحبّ الناس إليّ أحياءاً وأمواتاً أربعة، وذكر منهم الأحول»(2).

3 - عدم صدق الغيبة عليه موضوعاً، لأنّها عبارة عن إظهار ما ستره اللّه، وإذا لم يكن المقول مستوراً، لم يصدق على ذكره الغيبة، فلا وجه لحرمته.

نعم، إذا كان ذكره بقصد التعبير، حرم لذلك لا لكونه غيبة.

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرناه أنّه إذا علم اثنان من رجلٍ معصية شاهداها، فأجرى أحدهما ذكرها في غيبة ذلك العاصي جاز لعدم صدق الغيبة عليه، كما هو واضح.

ص: 187


1- وسائل الشيعة: ج 17/281 ح 22524، الكافي: ج 8/153 ح 143.
2- وسائل الشيعة: ج 27/143 ح 33433، رجال الكشي ص 153.

الاغتياب لرد من يدّعي نسباً ليس له

ومنها: ردّ من ادّعى نسباً ليس له.

وملخّص القول فيه: إنّ من ادّعى نسباً ليس له، وكان الأثر مترتّباً عليه من التوارث والنظر إلى النساء، جاز لمن هو طرف الدعوى ردّ ذلك، كما هو الشأن في كلّ ما يكون من الحقوق، وأمّا إذا لم يترتّب عليه أثر، فلا تجوز الغيبة لرد هذه الدعوى، وكذا لا يجوز لغير من هو طرف الدعوى ردّها بالغيبة.

ودعوى: أنّ مصلحة حفظالأنساب من حيث هو أهمّ من مفسدة الغيبة كماترى .

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرناه في هذه الموارد حكم القدح في مقالة باطلة إن دلّ على نقصان قائلها، وكذا سائر ما ذكروه من موارد الاستثناء، فلا حاجة إلى ذكرها.

***

ص: 188

استماع الغيبة حرام

التنبيه الرابع: يحرم استماع الغيبة بلا خلاف، وقد استدلّ لحرمة الاستماع بجملةٍ من النصوص:

منها: النبويّان: «السامع للغيبة أحد المغتابين»(1)، و «من سمع الغيبة ولم يغيّر كان كمن اغتاب»(2).

ومنها: العلويّان:

أحدهما: «السامع للغيبة أحد المغتابين»(3).

ثانيهما: ما في «الاختصاص»: «نظر أمير المؤمنين عليه السلام إلى رجلٍ يغتاب رجلاً عند الحسن عليه السلام ابنه، قال: يا بُنيّ نزّه سمعك عن مثل هذا، فإنّه نظر إلى أخبث ما في وعائه فافرغه في وعائك»(4).

ومنها: حديث المناهي المتضمّن لنهيه صلى الله عليه و آله عن الغيبة والاستماع إليها(5).

ومنها: ما في كتاب «الروضة» عن الإمام الصادق عليه السلام: «الغيبة كفر، والمستمع لها والراضي بها مشرك»(6).

ومنها: حديث الرجم، فإنّه لمّا رجم رسول اللّه صلى الله عليه و آله الرّجل في الزّنا قال رجلٌ

ص: 189


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/133 ح 10463، بحار الأنوار: ج 72/226.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/133 ح 10464.
3- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/133 ح 10463، كشف الريبة ص 18.
4- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/132 ح 10461، بحار الأنوار: ج 72/259 ح 54.
5- وسائل الشيعة: ج 12/282 ح 16312، بحار الأنوار: ج 72/247 ح 10.
6- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/133 ح 10462 من أبواب أحكام العشرة.

لصاحبه: «هذا قُعِص كما يُقعص الكلب، فمرّ النبيّ صلى الله عليه و آله معهما بجيفة، فقال لهما: انهشا منها، فقالا: يارسول اللّه ننهش جيفة ؟! فقال: ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه»(1).

هذه هي جميع الأخبار الواصلة إلينا في هذا الباب التي ادّعى الشيخ رحمه الله(2) كثرتها.

أقول: ولكن لا يَصحّ الاستدلال بشيء منها لأنّها ضعيفة السند:

أمّا النبويّان والعلوي الأوّل والأخيران: فللإرسال.

وأمّا العلويّ الثاني: فلأنّ صاحب «الاختصاص» وإنْ نسب القول إليه عليه السلام، الظاهر ذلك في كون الخبر معتبراً عنده، إلّاأنّ ثبوت اعتباره عنده لا يلازم ثبوته عندنا، ولعلّه استند إلى ما لا نعتمد عليه. فتأمّل.

وأمّا حديث المناهي: فلشعيب بن واقد(3).

أمّا حديث الرجم: فيرد عليه أنّ الظاهر أنّ الأمر بالنهش لم يكن لأجل الغيبة، إذ بعد كونهما عالمين بما فعل، وظهور عيبه الديني بإجراء الحَدّ عليه، لم يكن ذكره غيبة.

ودعوى: أنّ حديث المناهي متضمّنٌ للنهي عن عدة أُمور لا تكون محرّمة قطعاً، فيتعيّن حمل النهي فيه على الكراهة.

ممنوعة: بأنّه إذا ثبت فيه عدم الحرمة، ترفع اليد فيه عن ظهور النهي في الحرمة، ويبقى الباقي، ويؤخذ بظهور النهي فيه.

ولكن يمكن أن يقال: بأن ضعف سند النصوص ينجبر بالشهرة. فتأمّل.).

ص: 190


1- المستدرك: ج 9/120 ح 10415، كشف الريبة ص 9.
2- كتاب المكاسب: ج 1/359 (ط. ج)، قوله: (والأخبار في حرمته كثيرة).
3- معجم رجال الحديث: ج 10/38: (شعيب بن واقد لم يذكر في كتب الرجال، فهو مجهول).

استدلّ لحرمة الاستماع بوجوه أُخر:

منها: النصوص الواردة في رَدّ الغيبة(1)، وقد استدلّ بها بعض مشايخنا، وقال:

(إنّ فيها دلالة على حرمة الاستماع مع عدم الرّد).

وفيه: إنّ وجوب الرد غير حرمة الاستماع، وهي إنّما تدلّ على الأوّل ولا تعرض لها للاستماع.

وبعبارة أُخرى : هي متعرّضة لترتّب العقاب على عدم الرّد، ولكن الاستماع غير عدم الرّد.

ومنها: ما استند إليه المحقّق التقي الشيرازي(2)، وهو ما دلَّ من النصوص(3) على حرمة الرضا بوقوع الحرام، وأنّ الراضي بعمل قوم كالداخل فيه معهم، فإنّ هذه النصوص تدلّ بالفحوى على حرمة الاستماع على وجه الرضا.

وفيه: إنّها تدلّ على أنّ الراضي بالغيبة كالداخل فيها، سواءٌ استمعها أم لا.

وبعبارة أُخرى: النسبة بينهما عموم من وجه، ولذلك قال صاحب «المجمع»:

(لكلّ واحدٍ منهما وجودٌ منحازٌ عن الآخر، فلا وجه للاستدلال بما تضمّن حكم أحدهما لثبوته للآخر).

ومنها: أنّ الاستماع إعانةٌ على الغيبة، والإعانة على الإثم حرام، فالاستماع حرام.

وفيه: ما تقدّم من عدم حرمة الإعانة على الإثم، مع أنّه أخصّ من المدّعي، إذ لو فرض عدم تأثير عدم استماع هذا الشخص في تحقّق الغيبة، كما إذا كان هناك1.

ص: 191


1- وسائل الشيعة: ج 12/292 ح 16334، بحار الأنوار: ج 72/226.
2- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/118.
3- وسائل الشيعة: ج 16/138 ح 21180، بحار الأنوار: ج 45/295 ح 1.

مستمعٌ آخر، لزم عدم الحكم بالحرمة.

ومنها: أنّ نفس أدلّة حرمة الغيبة تدلّ على حرمة الاستماع، لأنّها لا تتحقّق إلّا بالاستماع.

وبعبارة أُخرى: الغيبة إنّما تتحقّق بفعل شخصين، هما المتكلّم والمستمع، والأوّل بإصداره والثاني بإصغائه وتحمّله، فما دلَّ على حرمة الغيبة يدلّ على حرمة فعل كلّ منهما.

وفيه: إنّ الغيبة إنّما تتحقّق بفعل المتكلّم، غاية الأمر المحقّق لصدقها على فعله إصغاء السامع وتحمّله.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ ظاهر الأدلّة حرمة إصدار الغيبة، وهي غير ملازمة لحرمة الاستماع وإنْ كان بينهما تلازمٌ خارجاً.

فتحصّل: أنّ الدليل على حرمة الاستماع منحصرٌ بالنصوص المتقدّمة إنْ صَحّ سندها.

وقد يقال: - كما عن الأستاذ الأعظم(1) - بأنّه على فرض صحّة الروايات المتقدّمة، الظاهرة في استماع الغيبة مطلقاً، لابدَّ من تقييدها بالروايات المتكثّرة الظاهرة في جواز استماعها لردّها عن المقول فيه، وتخصيصها بصورة السّماع القهري(2) خلاف الظاهر منها، فضلاً عن أنّه أمرٌ نادر، وعليه فيحرم استماع الغيبة مع عدم الرّد.1.

ص: 192


1- مصباح الفقاهة: ج 1/358.
2- كتاب المكاسب: ج 1/361.

أقول: يرد على ما أفاده أنّنصوص وجوب الرّد غيرمتعرّضة لحكم الاستماع، وإنّما تدلّ عليوجوب الرّد، ومقتضى إطلاقها وجوب الرّد حتّى لو فرض حرمة الاستماع.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ وجوب الرّد ليس مطلقاً كي يجب تحصيل مقدّماته الوجوديّة التي منها الاستماع، بل يكون وجوبه مشروطاً بالاستماع أو السّماع القهري، فليست متعرّضة لحكم الشرط، وعلى ذلك فمقتضى إطلاقها هو الوجوب حتّى إذا كان الاستماع محرّماً.

ثمّ إنّه لو تنزّلنا عن ذلك وسَلّمنا دلالتها على وجوب الرّد في صورة جواز الشرط، فهي تختصّ بصورة السماع القهري، وهو لو سُلّم كونه نادراً - مع أنّه محلّ منعٍ كما لا يخفى - لا يكون ذلك مانعاً عن الاختصاص، إذ حمل المطلق على الفرد النادر مستهجن، وأمّا ورود الدليل لبيان حكم فردٍ نادر فلا محذور فيه.

جواز الغيبة لا يلازم جواز استماعها

بحث: هل تختصّ حرمة الاستماع بما إذا حَرُم الاغتياب ؟ أم تعمّ صورة جوازه ؟ أم يفصّل بين علم السامع بالحلية فيجوز، وبين جهله بها فلا يجوز؟

فيه وجوهٌ وأقوال، وحقّ القول في المقام يقتضي البحث في مواضع:

الأوّل: في أنّه هل يلازم جواز الغيبة واقعاً مع جواز الاستماع أم لا؟

الثاني: في أنّه إذا لم يحرز السامع كونه جائز الغيبة بنحوٍ يجوز الاستماع، هل يجوز له الاستماع أم لا؟

الثالث: في أنّه إذا أحرز عدم كونه جائز الغيبة، ولكن احتمل أو علم أنّ

ص: 193

المغتاب معتقدٌ جواز الاغتياب، هل يجوز له الاستماع أم لا؟

أمّا الموضع الأوّل: فمحصّل القول فيه أنّ جواز الغيبة يتصوّر على أشكال:

الشكل الأوّل: أن لا تصدق الغيبة شرعاً على ذُكر ما في المقول فيه من العيب، كما إذا كان متجاهراً، أو كان المقول من الأوصاف الظاهرة، ففي هذا المورد يجوز الاستماع لعدم كونه استماعاً للغيبة.

الشكل الثاني: أن تجوز الغيبة للمغتاب، ولكن قامت ملازمة عرفيّة بين جوازها له وجواز الاستماع، كما في تظلّم المظلوم، فإنّ أهل العرف يفهمون من جواز تظلّمه ولو عند من لا يرجو منه إزالة الظلم عنه جواز الاستماع، وفي هذا المورد أيضاً يجوز الاستماع.

الشكل الثالث: أن تجوز الغيبة بمناطٍ يقتضي ذلك المناط بعينه جواز الاستماع، كما في الغيبة في مورد الاستفتاء فيجوز الاستماع.

الشكل الرابع: أن تجوز الغيبة للمغتاب لوجود أحد موانع التكليف فيه، ككونه صبيّاً أو مجنوناً أو مُكرهاً عليه، وفي هذا المورد لا يجوز الاستماع، وذلك لأنّ نصوص حرمة الاستماع مطلقة شاملة لها:

أمّا غير ما تضمّن أنّ السامع أو المستمع أحد المغتابين فواضح.

وأمّا ما تضمّن ذلك فكذلك إن قُرأ (مغتابَين) بصيغة الجمع، فإنّه يدلّ حينئذٍ على أنّ السامع مشترك مع المغتابين في الحكم، وأنّ السامع كأنّه متكلّم بها، فإن لم يجز له التكلّم بها لم يجز سماعها.

وإنْ قَرأ بصيغة التثنية، فقد يتوهّم أنّه يدلّ حينئذٍ على أنّ السامع للغيبة منزّلٌ

ص: 194

منزلة المتكلّم بها في الحكم، فإن جاز له التكلّم جاز لهذا الاستماع.

أقول: لكنّه غير تامّ ، بل الظاهر منه على هذا التقدير إرادة بيان مشاركة السامع للمتكلّم في الحكم، من جهة أنّ الغيبة توجد بفعلهما، هذا بتكلّمه وذاك باستماعه، فهما كما يشتركان في إيجاد الغيبة يشتركان في الحكم، وعليه فحيث أنّ كلّاً منهما حينئذٍ مكلّف بترك ما هو فعله والمحرّم عليه فعل نفسه، لا ما يتحقّق بفعلهما معاً كما هو واضح، فلكلّ منهما حكمٌ يخصّه، فجوازه لأحدهما لا يلازم جوازه للآخر، فيحرم الاستماع في هذا المورد ويجب الرّد.

وأمّا الموضع الثاني: فإن شكّ في صدق الغيبة على ما تكلّم به، كما إذا احتمل كونه متجاهراً بالفسق، جاز الاستماع للأصل، وليس المورد مورداً للتمسّك بعموم أدلّة حرمة الاستماع، للشكّ في صدق الموضوع، كما لا يمكن إحراز صدقه بالأصل، لما تقدّم في المستثنيات من أنّ هذاالأصل مثبتٌ .

وأمّا مع إحراز الصدق عليه، ولكن شكّ في عروض أحد المسوّغات الاُخر:

فإن كان هناك أصلٌ موضوعي قاضٍ بعدمه، يدخل بذلك في المطلقات فيحرم عليه الاستماع، وإلّا فالمرجع هي أصالة البراءة.

وبالجملة: ظهر ممّا ذكرناه حكم الموضع الثالث، وهو عدم جواز الاستماع.

أقول: ثمّ إنّه في جميع هذه المواضع لا يجب النهي:

أمّا في الأولين: فلعدم كون صدور الفعل منكراً.

وأمّا في الثالث: فلإمكان عدم كونه منكراً، فيحمل فعل القائل على الصحّة، والتمسّك بأدلّة النهي عن المنكر لإثبات وجوب الردع تمسّكٌ بالعام في الشبهة

ص: 195

المصداقيّة له، وهو لا يجوز بالاتّفاق.

وحكى الشهيد رحمه الله: عن بعضٍ أنّه قال: (لو سمع أحدٌ يغتاب آخر، واحتمل كونه جائز الغيبة، ليس له النهي عنه، لإمكان استحقاق المقول فيه، فيحمل فعل المسلم على الصحّة ما لم يعلم فساده)(1).

وأورد عليه الشهيد رحمه الله(2): (بأنّ مقتضى عموم الأدلّة وترك الاستفصال فيها - الذي هو دليل إرادة العموم حذراً من الإغراء بالجهل - هو وجوب الرّد، وعدم جواز الاستماع، على أنّه لو تمّ ذلك لتمشّي فيمن يعلم عدم استحقاق المقول عنه بالنسبة إلى السامع، لاحتمال اطلاع القائل على ما يوجب تسويغ مقالته، وهو هدم قاعدة النهي عن الغيبة).

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله(3): (بأنّ فيما ذكره الشهيد رحمه الله خلطاً بين عدم الاستماع ورد الغيبة، وبين النهي عنها، والذي نفاه القائل هو لزوم النهي، وهو لم ينفِ الأوّل كي يرد عليه ما ذُكر، وحيث أنّ النسبة بين حرمة الاستماع ووجوب النهي عنها عمومٌ من وجه:

إذ قد يجب النهي ولا يحرم الاستماع، كما إذا كان هناك أحد المسوّغات، ولكن المغتاب معتقدٌ لعدمه.

وقد يحرم الاستماع ويجب الرّد، ولا يجب النهي عنها، كما إذا كان الفعل جائزاً للمغتاب لكونه صبيّاً مثلاً.).

ص: 196


1- كشف الريبة: ص 36.
2- رسائل الشهيد: ص 302-303 (ط. ق).
3- كتاب المكاسب: ج 1/180 (ط. ج) قوله: (لا دلالة فيه على جواز الاستماع، وإنّما يدلّ على عدم وجوب النهي... الخ).

وقد يجتمعان.

فإذا شكّ في استحقاق المقول فيه الغيبة، لم يجز استماعها، لأنّ السامع أحد المغتابين، فكما أنّ المغتاب تحرمُ عليه الغيبة إلّاإذا علم التجاهر المسوّغ، فكذلك السّامع يحرم عليه الاستماع إلّاإذا علم التجاهر، ولكن لا يجبُ نهي القائل لاحتمال وجود المسوّغ)(1).

أقول: ويظهر من الأخبار المستفيضة وجوب الرّد على الغيبة، قال الشيخ(2):

(إنّ الرّد غير النهي عنها).

وأورد عليه المحقّق الإيرواني رحمه الله(3): بأنّ الظاهر أنّه عينه، فإنّ الرّد هو المنع والدفع، وظاهر الأخبار ردّ القول لا رَدّ المعنى المقول وإبطاله.

أقول: الأظهر ما أفاده الشيخ رحمه الله، إذ مضافاً إلى أنّه الظاهر من عنوان رَدّ الغيبة، يشهد له ما في بعض النصوص من التعبير عنه بالانتصار للمغتاب، والتعبير عن عدم الرّد بالخذلان، ومعلوم أنّ النهي عن الغيبة ليس انتصاراً له ولا عدمه خذلاناً، كما لا يخفى . ومبتنياً على ذلك.

قال الشيخ رحمه الله(4): (فإنْ كان عيباً دنيويّاً انتصر له).

وقد علّق المحقّق التقي الشيرازي على هذا(5)، بأنّ المراد بالرَدّ تكذيب المغتاب (بالكسر) إنْ أمكن، وأنّ انتسابه إليه مخالفٌ للواقع اعتماداً على عدم وقوع المقول،1.

ص: 197


1- كتاب المكاسب: ج 1/360.
2- كتاب المكاسب: ج 1/362 (ط. ج) قوله: (والظاهر أنّ الرّد غير النهي عن الغيبة... الخ).
3- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/37.
4- كتاب المكاسب: ج 1/363 (ط. ج).
5- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/121.

وحملاً لفعل المسلم على الصحيح، قال رحمه الله ويشير إلى ذلك:

1 - قوله عزَّ من قائل: (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ ) (1).

2 - وقوله تعالى: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اَللّهِ هُمُ اَلْكاذِبُونَ ) (2).

3 - وقوله تعالى: (وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ) (3).

ثمّ قال: (إنّ ما في الكتاب يكون راجعاً إلى تصديق وقوع الفعل وهو محرّم، نعم لا بأس بإرادته مقيّداً بعدم إمكان التكذيب)(4).

حرمة كون الإنسان ذا لسانين

أقول: صرّح جماعة - منهم الشيخ رحمه الله(5) - بأنّه قد يتضاعف عقاب المغتاب، إذا كان ممّن يمدح المغتاب في حضوره.

وفيه: إنّه لا كلام في دلالة النصوص على أنّ ذا اللّسانين يستحقّ عقابين، إلّاأنّ الظاهر أنّ أحد العقابين ليس لما أفاده الشيخ رحمه الله واستحسنه الأستاذ(6)، وهو المدح في الحضور الذي هو مباح في نفسه، بدعوى أنّه إذا كان مسبوقاً بالذّم، أو ملحوقاً

ص: 198


1- سورة النور: الآية 12.
2- سورة النور: الآية 13.
3- سورة النور: الآية 16.
4- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/121.
5- كتاب المكاسب: ج 1/363 (ط. ج).
6- مصباح الفقاهة: ج 1/363-364.

به، كان من الجرائم الموبقة، ويوجب كون الإنسان ذا لسانين ومنافقاً، وذلك لأنّ مجرّد ذكر الصفات الحسنة في الحضور، وذكر الصفات الذميمة عند الغيبة، أو ذكر الأعمال الحسنة في الحضور، والأعمال القبيحة في الغياب لا يوجبُ صدق عنوان ذي اللّسانين عليه، كي يحتاج إلى هذا التوجيه، بل صدق هذا العنوان إنّما يكون بمدح الشخص في حضوره بأن ينسب له صفة حسنة أو عَمَلاً حسناً، ثمّ يذمّه في غيابه بثبوت ضدّها له، أو مدحه في الحضور بنحوٍ يُشعر بعدم ثبوت صفة ذميمة له.

وعليه، فحيث أنّ لسان المدح في الحضور يكون غالباً لسان الكذب، بعد عدم إمكان صدقه في اللِّسانين، فيكون أحد العقابين للكذب والآخر للغيبة، فتدبّر، فإنّ لازم ذلك عدم صدق هذا العنوان على من مدح الشخص في حضوره بما فيه، وذمّه في الغياب بإثبات ضدّه له. وهو كما ترى .

***

ص: 199

حرمة القمار

المسألة الخامسة عشرة: في موضوع القمار وحكمه.

أقول: القمار حرامٌ إجماعاً، وتنقيح القول فيه يقع:

أوّلاً: في بيان موضوع القمار.

ثانياً: في بيان حكمه:

أمّا الأوّل: فالكلام فيه في موردين:

الأوّل: في أصل المعنى الموضوع له.

الثاني: في حدوده وقيوده.

أمّا المورد الأوّل: فالمعاني المحتملة له أربعة:

نفس الآلات، والمال المجعول في المعاملة، واللّعب بها، والمعاملة الواقعة على اللّعب بها.

أمّا المعنيان الأوّلان: فالظاهر أنّهما أجنبيّان عن معنى القمار، إذ مضافاً إلى تصريح اللّغويين بأنّه اللّعب بالآلات مع الرهن أو بدونه، أو المراهنة - على اختلاف تعابيرهم - أنّه مصدر من المفاعلة، والمناسب للمعنى المصدري أحد المعنيين الأخيرين كما لا يخفى .

نعم، أُطلق في خبر أبي الجارود(1) (القمار) على نفس الآلات، لكنّه مضافاً إلى ضعف سنده، ومعارضته مع النصوص الأخر المتضمّنة أنّ : «كلّ ما قومر به فهو

ص: 200


1- وسائل الشيعة: ج 17/321 ح 22657، بحار الأنوار: ج 76/131 ح 20.

الميسر»، الظاهرة في أنّ القمار هو فعل المكلّف، فإنّ الاستعمال أعمٌّ من الحقيقة.

ثمّ إنّ الأظهر بحسب المتفاهم العرفي هو المعنى الثالث، وقد صرّح به جمعٌ من أئمّة اللّغة(1).

وأمّا المورد الثاني: فالظاهر أنّ القمار لا يصدق على اللّعب بدون الرِّهان، كما يظهر لمن راجع الاستعمالات العرفيّة وكلمات اللّغويين:

ففي «القاموس»: (تقمّره راهنه فغلبه)(2). ونحوه ما عن «لسان العرب»(3).

ففي «مجمع البحرين»: (أصل القمار الرّهن على اللّعب بشيء)(4).

وفي «المنجد»: (القمار كلّ لعبٍ يُشترط فيه أن يأخذ الغالب من المغلوب شيئاً، كان بالورق أو غيره)(5).

ولا ينافيه ما عن ظاهر «الصحاح»(6) و «المصباح» و «التكملة» وذيلها من أنّه قد يُطلق على اللّعب بها مطلقاً مع الرهن ودونه، فإنّه لو لم يدلّ على أنّه موضوع للّعب بها مع الرهن، وأنّ إطلاقه على اللّعب بدونه نادر ومجاز، لا يدلّ على أنّه بنحو الحقيقة.

ولو تنزّلنا عن ذلك، فلا أقلّ من الشكّ في صدقه بدونه، فيتعيّن الأخذ بالقدر المتيقّن.3.

ص: 201


1- كما في العين: ج 2/63، قوله: (كلّ نعت وفعل يُقمر عليه فهو قمار).
2- القاموس المحيط: ج 2/121.
3- لسان العرب: ج 5/115.
4- مجمع البحرين: ج 3/547.
5- المنجد: ص 653.
6- الصحاح للجوهري: ج 2/799، مختار الصحاح ص 283.

أقول: ثمّ إنّه لا يعتبر في صدقه أن يكون اللّعب بالآلات المعدّة للقمار بحيث لا منفعة لها غير القمار، ولا بالآلات المعروفة الشاملة لها ولغيرها كالخاتم والجوز والبيض التي تعارف اللّعب بها، ولها منافع شائعة أُخر، لما نرى من صدق القمار على اللّعب بكلّ شيء مع الرهن، من دون عناية وعلاقة، كما يظهر لمن راجع مرادف هذا اللّفظ في سائر اللاغّت، ولتصريح أكثر اللّغويين بذلك، ولما في جملةٍ من النصوص من التصريح بالتعميم:

منها: صحيح معمّر بن خلّاد، عن أبي الحسن عليه السلام قال: «النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة واحدة، وكلّ ما قومر عليه فهو ميسر»(1).

ومنها: خبر جابر، عن الإمام الباقر عليه السلام: «قيل: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما الميسر؟ قال: كلّما تقومر به حتّى الكعاب والجوز»(2).

ونحوهما غيرهما.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ القمار هو اللّعب بأيّ شيء كان بشرط الرهن.

اللّعب بالآلات المعدّة القمار مع الرّهن

المقام الثاني: في حكم القمار.

أقول: المراد بحكمه ليس هو حرمة بيع الآلات المعدّة للقمار وضعاً وتكليفاً، إذ الكلام في ذلك قد تقدّم في النوع الثاني مفصّلاً، بل المراد به في المقام هو حرمة اللّعب

ص: 202


1- وسائل الشيعة: ج 17/323 ح 22665، الكافي: ج 6/435 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 17/165 ح 22257، الكافي: ج 5/122 ح 2.

بها، وتنقيح القول في ذلك إنّما يتحقّق في ضمن مسائل:

المسألة الأُولى: لا خلاف بين علماء الإسلام(1) في حرمة اللّعب بالآلات المعدّة للقمار مع الرّهن، بل هي من ضروريّات الإسلام، وتشهد له الآيات الشريفة والنصوص المتواترة.

ودعوى المحقّق الإيرواني رحمه الله:(2) من أنّه لو كان القمار معناه المعاملة و المراهنة، فلا يكون نفس اللّعب حراماً إلّاإذا كان إجماع على حرمته أيضاً.

غريبة: إذ مضافاً إلى أنّ عليها الإجماع، تشهد لحرمته الآيات والنصوص المتضمّنة للنهي عن اللّعب بالشطرنج والنرد وسائر آلات القمار.

أقول: ومن هذا القبيل المعاملة المعروفة في هذا العصر، والمسمّاة بأوراق اليانصيب، وبالفارسيّة ب (بليط بخت آزمائي) فإنّ مثل هذه الأوراق قد أُعدّت لهذه المراهنة والمغالبة، فهي حرامٌ ، والعوض المأخوذ عليها سحت، وقد أشبعنا الكلام فيها في كتابنا «المسائل المستحدثة»(3).

اللّعب بالآلات المُعدّة للقمار بدون الرّهن

المسألة الثانية: في اللّعب بالآلات المُعدّة للقمار بدون الرّهن.

ففي «جامع المقاصد»: (لا ريب في تحريم اللّعب بذلك، وإن لم يكن رهن)(4).

ص: 203


1- كتاب المكاسب: ج 1/372 (ط. ج).
2- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/38.
3- كتاب المسائل المستحدثة للمؤلّف طبع غير مرّة وآخرها 1426 ه. ق.
4- جامع المقاصد: ج 4/24.

وعن «المستند» نفي الخلاف فيه(1).

أقول: استدلّ الشيخ رحمه الله له بوجوه:

الوجه الأوّل: قوله عليه السلام في خبر «تحف العقول»: «إنّ ما يجيء منه الفساد محضاً لا يجوز التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات»(2).

وفيه أوّلاً: إنّه ضعيف السند، كما تقدّم في أوّل الكتاب.

وثانياً: تصريح الشيخ رحمه الله(3) في مسألة الانتفاع بالنجس بأنّ المراد بالتقلّب ما يرجع إلى الأكل والشرب، بمعنى أنّ المراد به المنافع المقصودة الظاهرة للشيء، وعليه فيختصّ ذلك باللّعب بها مع الرّهن.

وثالثاً: كون تلك الآلات ممّا يجيء منه الفساد محضاً، يتوقّف على عدم كون اللّعب بها بدون الرهن من منافعها، أو كونه حراماً، والأوّل كما ترى، والثاني لا بدَّ وأن يُحرز من الخارج، ولا يمكن إثباته بهذا الخبر، إذ الدليل المتكفّل لبيان الحكم لا تعرّض له للموضوع.

الوجه الثاني: خبر أبي الجارود، عن مولانا الباقر عليه السلام في تفسير الآية الشريفة:

(إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ...) الخ حيث قال:

«وأمّا الميسر فالنرد والشطرنج وكلّ قمار ميسر - إلى أن قال - كل هذا بيعه وشراؤه والانتفاع بشيء من هذا حرامٌ محرّم»(4).0.

ص: 204


1- مستند الشيعة - المحقّق النراقي: ج 14/105 قوله: (وهل يحرم اللّعب بالآلات المعدّة له من غير قمار؟ لا إشكال في تحريم الشطرنج والنرد كما صرّح به الصدوق بل لا خلاف فيه.. الخ).
2- وسائل الشيعة: ج 17/85 ح 22047، تحف العقول ص 335.
3- كتاب المكاسب: ج 1/98 (ط. ج).
4- وسائل الشيعة: ج 17/321 ح 22657، بحار الأنوار: ج 76/131 ح 20.

وفيه أوّلاً: إنّ هذا الخبر ضعيف السند، لأنّ أبا الجارود زياد بن المنذر لم يرد فيه توثيق بالخصوص، بل هو مذمومٌ أشدّ الذّم، فعن الصادق عليه السلام: «أنّه كذّاب»، فضلاً عن أنّه مرسل(1).

وثانياً: إنّ الانصراف الذي يدّعيه الشيخ رحمه الله(2) في سائر النصوص آتٍ هنا، وليس المراد انصراف القمار إلى اللّعب بالآلات مع الرهن حتّى يقال إنّ القمار في هذا الخبر لم يرد به اللّعب، بل أُريد به الآلات أنفسها بقرينة قوله: «بيعه وشراؤه»، وقوله: «وأمّا الميسر فالنرد والشطرنج»، بل المراد انصراف الانتفاع بها المنهيّ عنه إلى اللّعب بها مع الرهن.

الوجه الثالث: خبر أبي الربيع الشامي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن النرد والشطرنج ؟ فقال: لا تقربوهما»(3).

بتقريب: أنّ المنهيّ عنه في هذا الخبر هو التقرّب إليهما، وهو لا ينصرف إلى اللّعب مع الرّهن، إذ المستفاد من المنع عن التقرّب إرادة المبالغة في التنزّه والإجتناب التي لايناسبها التخصيص بخصوص قسمٍ خاص من التحرّز والتجنّب.9.

ص: 205


1- قال في معجم رجال الحديث: ج 7/321: قال النجاشي: (زياد بن المنذر أبو الجارود الهمداني الخارفي الأعمى، أخبرنا ابن عبدون عن علي بن محمّد عن علي بن الحسن عن حرب بن الحسن عن محمّد بن سنان، قال: قال لي أبو الجارود: ولدتُ أعمى ما رأيتُ الدّنيا قطّ، كوفي كانَ مِن أصحاب أبي جعفر عليه السلام وروى عن أبي عبد اللّه عليه السلام وتغيّر لمّا خرج زيد رضى الله عنه. وقال أبو العبّاس بن نوح وهو ثقفي، سمع عطيّة، وروى عن أبي جعفر عليه السلام، وروى عنه مروان بن معاوية وعلي بن هاشم بن البريد يتكلّمون فيه، قال: قاله البخاري. وقال الشيخ (305): زياد بن المنذر يُكنّى أبا الجارود زيدي المذهب، وإليه تنسب الزيديّة الجاروديّة له أصل وله كتاب التفسير).
2- كتاب المكاسب: ج 1/373 (ط. ج).
3- وسائل الشيعة: ج 17/320 ح 22655، الخصال: ج 1/251 ح 119.

وفيه أوّلاً: إنّه ضعيف السند، لأنّ أبا الربيع مجهول الحال(1).

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ الراوي عنه بما أنّه ابن محبوب - وهو من أصحاب الإجماع - فخبره هذا معتمد عليه.

وثانياً: إنّه بعدما علم من أنّ المراد بالتقرّب ليس معناه الحقيقي، بل أُريد به المعنى الكنائي، وهو اللّعب بهما، فسبيل هذا الخبر سبيل سائر المطلقات، وسيأتي التعرّض لها، فعلى القول بانصرافها إلى اللّعب بها مع الرهن لا وجه للاستدلال به.

أقول: قد استدلّ للحرمة بوجهين آخرين:

أحدهما: الأدلّة الناهية عن القمار من الآيات والروايات.

وأورد عليه الشيخ رحمه الله بوجهين(2):).

ص: 206


1- ذكره السيّد الخوئي في معجم رجال الحديث: ج 8/74 تحت (4334) قول النجاشي عنه، ثمّ قال: (أقول: الرّجل لم يرد فيه قدح ولا مدح في كتب الرِّجال، ولكنّه مع ذلك ذهب جماعة منهم صاحب الوسائل قدس سره في أمل الآمل (79) إلى حسنه بل وثاقته، حيث قال: "خليد بن أوفى أبو الربيع العاملي الشامي من أصحاب الصادق عليه السلام، مذكور في كتب الرجال خال من الذّم، بل هو ممدوح كثير الرواية والحديث، له كتب. وذكره الصدوق في آخر الفقيه وذكر طريقه إليه وروى عنه كثيراً واعتمد عليه، وهو مدح له لما علم من أوّل كتابه، وروى عنه سائر علمائنا ومحدِّثينا، واحتجّوا برواياته وعملوا بها. وذكر الشيخ والنجاشي أنّ له كتاباً، وذكرا طريقهما إليه، وهو نوع مدح حيث أنّه ظهر أنّه من مؤلِّفي الشيعة. وذكره الشيخ في أصحاب الباقر عليه السلام، وقال:" خلد وفي نسخة خالد بن أوفى العنزي الشامي ". وقد استدلّ الشهيد في شرح الإرشاد على صحّة رواياته برواية الحسن بن محبوب عنه كثيراً مع الإجماع على تصحيح ما يَصحّ عن الحسن بن محبوب، وروى عنه ابن مسكان أيضاً وهو من أصحاب الإجماع وجملة منهم رووا عنه كثيراً. وذكر النجاشي أنّه روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام. ولو قيل بتوثيقه وتوثيق أصحاب الصادق عليه السلام إلّامن ثبت ضعفه لم يكن بعيداً، لأنّ المفيد في الإرشاد وابن شهر آشوب في معالم العلماء والطبرسي في إعلام الورى قد وثّقوا أربعة آلاف من أصحاب الصادق عليه السلام، والموجود منهم في جميع كتب الرِّجال والحديث لا يبلغون ثلاثة آلاف، وذكر العلّامة وغيره أنّ ابن عقدة جمع الأربعة آلاف المذكورين في كتب الرِّجال، ونقل بعضهم أنّه ذكر أبا الربيع. وجميع ما أوردنا في فوائد المقدّمة إذا ضمّ إلى ما ذكرنا هنا يضعف جانب التوقّف في توثيقه، واللّه أعلم).
2- كتاب المكاسب: ج 1/372 (ط. ج).

الأوّل: إنّ في صدق القمار على اللّعب بدون الرّهن نظراً.

أقول: قد عرفت عدم الصدق.

الثاني: انصراف القمار على فرض صدقه عليه عنه.

وفيه: إنّ منشأ الانصراف سواءٌ أكان لقلّة الوجود أو لقلّة الاستعمال، فإنّه يرد عليه:

أوّلاً: منع ذلك، فإن اللّعب بها بدون الرهن كثير، كما أنّ الاستعمال فيه كذلك.

وثانياً: إنّ الانصراف الناشئ من قلّة الوجود أو قلّة الاستعمال لا يوجب تقييد المطلقات، ولا يعتنى به.

ثانيهما: النصوص الناهية عن اللّعب بالنرد والشطرنج وغيرهما من آلات القمار، كصحيح ابن خلّاد، وخبر أبي الربيع المتقدّمين، وغيرهما من النصوص الواردة في تفسير الميسر وغيرها.

وأورد عليه الشيخ رحمه الله(1): بأنّها منصرفة إلى اللّعب بها مع الرهن، وقد عرفت ما فيه.

أقول: ذكر الشيخ جملة من الروايات لتأييد الحكم:

منها: ما عن مجالس الطوسي بسنده عن عليّ عليه السلام في تفسير الميسر: «كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر»(2).

وفيه أوّلاً: إنّه ضعيف السند لابن الصلت.1.

ص: 207


1- كتاب المكاسب: ج 1/372 (ط. ج).
2- حكاه عنه في كتاب المكاسب الشيخ الأنصاري: ج 1/373 (ط. ج)، والحديث وارد في كتاب الأمالي ص 336 ح 681.

وثانياً: إنّه لا بدَّ من حمل الخبر على الكراهة، لعدم إمكان حمله على الحرمة، وإلّا لزم كون جميع المباحات والمكروهات حراماً، وسيجيء في مسألة اللّهو أنّه لا يمكن الالتزام بحرمة كلّ ما يصدق عليه اللّهو.

وتوهم: أنّه كلّ ما ثبت جوازه يخرج عن عموم الخبر.

فاسد: لاستلزامه تخصيص الاكثر المستهجن.

ومنها: خبر الفضيل، قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الأشياء التي يلعب بها الناس من النرد والشطرنج، حتّى انتهيت إلى السّدر.

قال عليه السلام: إذا ميّز اللّه الحقّ من الباطل مع أيّهما يكون ؟ قلت: مع الباطل قال:

فمالكَ وللباطل»(1).

وأورد عليه: بأنّه ضعيف السند لسهل(2).

وفيه: الأظهر أنّه حَسنٌ ، والأولى الإيراد عليه بما سيجيء أنّه لا دليل على حرمة كلّ باطل.).

ص: 208


1- وسائل الشيعة: ج 17/324 ح 22667، الكافي: ج 6/436 ح 9.
2- معجم رجال الحديث: ج 9/354: قال النجاشي: (سهل بن زياد أبوسعيد الأدمي الرازي كان ضعيفاً في الحديث غير معتمد عليه فيه، وكان أحمد بن محمّد بن عيسى يشهد عليه بالغلو والكذب وأخرجه من قمّ إلى الري، وكان يسكنها، وقد كاتب أبا محمّد العسكري عليه السلام على يد محمّد بن عبد الحميد العطّار للنصف من شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين ومائتين ذكر ذلك أحمد بن علي بن نوح، وأحمد بن الحسين رحمهما اللّه له كتاب التوحيد، رواه أبوالحسن العبّاس بن أحمد بن الفضل بن محمّد الهاشمي الصالحي، عن أبيه، عن أبي سعيد الأدمي، وله كتاب النوادر أخبرناه محمّد بن محمّد قال: حدّثنا جعفر بن محمّد، عن محمّد بن يعقوب قال: حدثنا علي بن محمّد عن سهل بن زياد، ورواه عنه جماعة. وقال الشيخ (341): سهل بن زياد الأدمي الرازي يكنّى أبا سعيد، ضعيف، له كتاب أخبرنا به ابن أبي جيد، عن محمّد بن الحسن، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن أحمد ابن يحيى، عنه، ورواه محمّد بن الحسن بن الوليد، عن سعد والحميري عن أحمد بن أبي عبد اللّه عنه).

ومنها: موثّق زرارة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّه سُئل عن الشطرنج وعن لعبة شبيب - التي يقال لها لعبة الأمير - وعن لعبة الثلاث ؟

فقال: أرأيتَ إذا ميّز اللّه الحقّ والباطل مع أيّهما يكون ؟

قلت: مع الباطل. قال: فلا خير فيه»(1).

وفيه: إنّ نفي الخير أعمٌّ من الحرمة والكراهة، بل ومن الإباحة.

ومنها: خبر عبد الواحد بن المختار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن اللّعب بالشطرنج ؟ قال عليه السلام: إنّ المؤمن لمشغول عن اللّعب»(2).

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده لمحمّد بن جعفر بن عنبسة وغيره(3) - أنّه لا دلالة له على حرمة اللّعب، بل إنّما هو إرشاد إلى أنّ المؤمن لا يشتغل بما لا يفيده في دينه أو دنياه.

***6.

ص: 209


1- وسائل الشيعة: ج 17/319 ح 22650، الكافي: ج 6/436 ح 6.
2- وسائل الشيعة: ج 17/320 ح 22656، بحار الأنوار: ج 76/230 ح 4.
3- رجال النجاشي: ص 376.

اللّعب بغير الآلات المعدّة للقمار مع الرّهن

المسألة الثالثة: في المراهنة على اللّعب بغير الآلات المعدّة للقمار، كالمراهنة على حمل الحجر الثقيل، وعلى المصارعة، ونحو ذلك.

أقول: الظاهر أنّ المشهور بين الأصحاب هو تحريم ذلك(1)، وعن العلّامة الطباطبائي: (عدم الخلاف في التحريم والفساد)(1).

وقد استظهر الشيخ رحمه الله(3) ذلك من كلّ من نفى الخلاف في تحريم المسابقة، فيما عدا المنصوص مع العوض، وجَعل محلّ الخلاف فيها بدون العوض.

توضيح ما أفاده: أنّ مورد الخلاف في المسابقة بدون العوض في غير الموارد المنصوصة هي الحرمة التكليفيّة، إذ لا رهن فيها كي يقع الخلاف في الحرمة الوضعيّة والفساد، فمقابلة مورد الوفاق - وهي حرمة المسابقة مع العوض - بمورد الخلاف، تقتضي كون مورد الوفاق هي الحرمة التكليفيّة.

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ للحرمة بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع.

وفيه: أنّه لو ثبت لا يصلح للاعتماد عليه، فضلاً عن عدم ثبوته، وذلك لاحتمال استناد المجمعين إلى الوجوه التي ستمرّ عليك.

الوجه الثاني: الآيات والروايات الدالّة على حرمة القمار والميسر والازلام، فإنّها بإطلاقها تدلّ على حرمة المراهنة بغير الآلات المعدّة للقمار، لما عرفت من

ص: 210


1- ورد في هامش كتاب المكاسب: ج 1/375 الطبعة الأُولى (المطبعة باقري - قم) أنّ هذا الرأي للطباطبائي.

صدق القمار عليها. فراجع ما ذكرناه(1).

الوجه الثالث: النصوص الظاهرة في حرمتها، وهي طوائف:

الطائفة الاُولى : ما دلَّ على أنّ الملائكة تنفر عند الرهان وتلعن صاحبه:

1 - مرسل الصدوق، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان، وتلعن صاحبه، ما خلا الحافر والخُفّ والريش والنصل»(2).

2 - خبر العلاء بن سيّابة، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخُفّ والحافر والريش، وما سوى ذلك فهو قمار حرام»(3).

وفيه أوّلاً: إنّهما ضعيفا السند، أمّا الأوّل فللإرسال، وأمّا الثاني فلأنّ العلاء مجهول(4).

وثانياً: إنّ الرهان مصدرباب المفاعلة، وهي المعاملة و المراهنة على العمل الخارجي.

وعليه فهما أجنبيّان عن حرمة نفس العمل واللّعب الخارجي، وإنّما يدلّان على حرمة المراهنة وفسادها، بل على خصوص الفساد، ويكون اللّعن من جهة أخذ العوض.ً.

ص: 211


1- صفحة 200 من هذا المجلّد.
2- وسائل الشيعة: ج 19/251 ح 24524، من لايحضره الفقيه: ج 4/59 ح 5094.
3- وسائل الشيعة: ج 19/253 ح 24531، تهذيب الأحكام: ج 6/284 ح 190.
4- قال السيّد الخوئي في معجم رجال الحديث: ج 12/189: (العلاء بن سيابة الكوفي، مولى، من أصحاب الصادق عليه السلام، رجال الشيخ (350). وعدّه البرقي أيضاً من أصحاب الصادق عليه السلام، قائلاً: "العلاء بن سيابة: كوفي". روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام، وروى عنه موسى بن أكيل النميري. تفسير القمّي: سورة هود، في تفسير قوله تعالى: (وَ نادى نُوحٌ اِبْنَهُ ...) سورة هود: الآية 42. وطريق الصدوق إليه: أبوه رضى الله عنه، عن سعد بن عبد اللّه، عن أحمد ابن محمّد بن عيسى، عن الحسن بن علي الوشاء، عن أبان بن عثمان، عن العلاء ابن سيابة. أقول: الرّجل لم يوثّق ولم يثبت مدحه في كتب الرجال، إلّاأنّ وجوده في إسناد تفسير علي بن إبراهيم كافٍ في ذلك، ويعتمد على روايته. وكيف كان فطريق الصدوق قدس سره إليه صحيح. طبقته في الحديث وقع بهذا العنوان في إسناد عدّة من الروايات تبلغ سبعة وعشرين مورداً.

الطائفة الثانية: ما عن «تفسير العيّاشي» عن ياسر الخادم، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن الميسر؟ قال عليه السلام: الثقل من كلّ شيء، قال: والثقل ما يخرج بين المتراهنين من الدراهم»(1).

وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف السند لياسر(2).

وثانياً: إنّه يدلّ على أنّ الرهن من الميسر، فتشمله الآية الآمرة بالاجتناب عنه، فغاية ما تثبت به حرمة التصرّف فيه، فهو يدلّ على الفساد دون الحرمة التكليفيّة.

الطائفة الثالثة: صحيح ابن خلّاد، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: «النرد والشطرنج والأربعة عشر بمنزلة الواحدة، وكلّ ما قومر عليه فهو ميسر»(3).

وفيه: إنّ ما يقامر عليه هو الرهن، وعليه فيرد عليه ما أوردناه على سابقه.

الطائفة الرابعة: خبر جابر، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «قيل: يا رسول اللّه صلى الله عليه و آله ما الميسر؟ قال: كلّ ما تقومر به حتّى الكعاب والجوز»(4).

وفيه: إنّه ضعيف السند؛ لأنّ في سنده عمرو بن شمر(5).).

ص: 212


1- وسائل الشيعة: ج 17/325 ح 22673، تفسير العيّاشي: ج 1/341.
2- مشايخ الثقات - غلام رضا عرفانيان: ص 88، ياسر الخادم، مسكوتٌ عنه روى عنه في المحاسن كتاب الماء: ص 572، وفي وسائل الشيعة: ج 3 باب 4 من أبواب الأشربة المباحة بطريق صحيح.
3- وسائل الشيعة: ج 17/323 ح 22665، والكافي: ج 6/435 ح 1.
4- وسائل الشيعة: ج 17/165 ح 22257، الكافي: ج 5/122 ح 2.
5- معجم رجال الحديث: ج 14/116: (عمرو بن شمر: قال النجاشي: "عمرو بن شمر أبو عبد اللّه الجعفي، عربي، روى عن أبي عبد اللّه عليه السلام، ضعيف جدّاً، زيد أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليه والأمر ملتبس". وتقدّم تضعيفه عن النجاشي في ترجمة جابر الجعفي. وقال الشيخ (497): "عمرو بن شمر، له كتاب، رويناه بالإسناد، عن حميد، عن إبراهيم بن سليمان الخزّاز أبي إسحاق، عنه". وأراد بالإسناد: جماعة، عن أبي المفضّل، عن حميد. وعدّه في رجاله (تارةً ) من أصحاب الباقر عليه السلام (45)، قائلاً: "عمرو بن شمر" و (أُخرى ) من أصحاب الصادق عليه السلام (417)، قائلاً: "عمرو بن شمر بن يزيد أبو عبد اللّه الجعفي الكوفي". وعدّه البرقي في أصحاب الصادق عليه السلام، قائلاً: عمرو بن شمر الجعفي، عربي، كوفي". وقال ابن الغضائري:" عمرو بن شمر أبو عبد اللّه الجعفي، كوفي، روى عن أبي عبد اللّه، وجابر، ضعيف ". روى عن جابر، وروى عنه محمّد بن سليمان البزّاز. كامل الزيارات: الباب 14، في حبّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله الحسن والحسين، الحديث 6. روى عن جابر، وروى عنه إبراهيم بن هاشم. تفسير القمّي: سورة يوسف، في تفسير قوله تعالى: (يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ ...). أقول: الرّجل لم تثبت وثاقته، فإنّ توثيق علي بن إبراهيم القمّي إيّاه معارض بتصعيف النجاشي، فالرجل مجهول الحال، هذا وقد وثّقه المحدِّث النوري في المستدرك: الجزء 3).

الطائفة الخامسة: خبر إسحاق بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الصبيان يلعبون بالجوز والبيض ويقامرون ؟ قال: لا تأكل منه فإنّه حرام»(1).

وفيه: إنّه صريحٌ في الفساد، وأجنبيٌّ عن ما هو محلّ الكلام.

فتحصّل: أنّ العمدة في المقام المطلقات الناهية عن القمار، بل وتدلّ على الفساد وحرمة التصرّف في الرهن - مضافاً إلى تلك النصوص - بعض النصوص المتقدّمة آنفاً، وغير ذلك من الروايات.

أقول: أنكر صاحب الجواهر رحمه الله الحرمة التكليفيّة، والتزم بخصوص الفساد، واستدلّ له بصحيح محمّد بن قيس، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أكل وأصحاب له شاة، فقال: إن أكلتموها فهي لكم، وإنْ لم تأكلوها فعليكم كذا وكذا، فقضى فيه أنّ ذلك باطلٌ لا شيء في المؤاكلة من الطعام ما قلّ منه وما كثر ومنع غرامته منه»(2).1.

ص: 213


1- وسائل الشيعة: ج 17/166 ح 22260، الكافي: ج 5/124 ح 10.
2- وسائل الشيعة: ج 23/192 ح 29351، الكافي: ج 7/428 ح 11.

بدعوى أنّه متضمّنٌ لفساد المراهنة في الطعام خاصّة، ولو كانت هي محرّمة لردع عنها أيضاً، فيستكشف من عدم الردع الجواز.

وأجاب عنه الشيخ رحمه الله(1): بأنّه لا يَصحّ استكشاف الجواز من عدم ردعه عليه السلام في المقام، وإلّا لدلّ على جواز التصرّف في الشاة لعدم الردع عن ذلك، مع أنّه على القول بالبطلان يحرم التصرّف فيها لكونها مال الغير.

وفيه أوّلاً: إنّه لم يذكر في الرواية أنّ أصحاب الرّجل تصرّفوا في الشاة حتّى يكون سكوته عن بيان حرمته دليلٌ على الجواز.

وثانياً: أنّه قد دلّت الأدلّة الاُخر على حرمة التصرّف في المقبوض بالعقد الفاسد، ولأجلها لا يحكم بالجواز بخلاف المراهنة.

وثالثاً: ما أورده المحقّق الإيرواني رحمه الله(2) من أنّ الظاهر منه أنّ صاحب الشاة قد أباح شاته بشرط أن يلتزموا بإعطاء كذا إنْ لم يأكلوا لا بشرط أن يعطوا، وقد التزموا فتنجّزت الإباحة، فأكلهم كان بالإباحة المالكيّة، وعدم كونهم ملتزمين بالوفاء شرعاً لا يرفع الإباحة المالكيّة، فلا يكون التصرّف في الشاة محرّماً.

فالحقّ في الجواب عنه أنْ يقال: إنّ الظاهر كون الخبر أجنبيّاً عن المراهنة بالأكل، بل مورده الإباحة المالكيّة المشروطة بالالتزام بالإعطاء لا الإعطاء.

وأمّا ما رواه عبد الحميد بن سعيد، قال: بعث أبو الحسن عليه السلام غلاماً يشتري له بيضاً فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها، فلمّا أتى له به أكله، فقال له مولى له: إنّ فيه من القمار، قال: فدعا بطشت فتقيّأ فقاءه»(3).3.

ص: 214


1- كتاب المكاسب: ج 1/189 (ط. ق).
2- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/38.
3- وسائل الشيعة: ج 17/165 ح 22255، الكافي: ج 5/123 ح 3.

فهو على تقدير صحّة سنده - مع أنّه محلّ نظر لجهالة عبد الحميد المذكور(1) - لا ينافي القاعدة المسلّمة، وهي لزوم دفع المأخوذ بالعقد الفاسد مع بقاء عينه، ومع تلفه يجب رد بدله من المثل إنْ كان مثليّاً، أو القيمة إنْ كان قيميّاً، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: إنّه يحتمل أنّ البيض الذي أكله هو الذي اشتراه له، وإنّما قاءه لأنّه قومر به، فأراد الاجتناب عنه لئلّا يصير ذلك جزءاً من بدنه الشريف.

الوجه الثاني: إنّ الدُّنيا وما فيها للإمام، وهو أولى بالتصرّف في الأموال من المالكين كما نطقت بذلك جملة من النصوص، وفيئه حينئذٍ يندرج فيما تقدّم.

الوجه الثالث: أنّه مع الإغماض عن هذين الوجهين، وتسليم كونه مال الغير، فإنّه لا يتوهّم أحد أنّ قيئه عليه السلام كان لأجل ردّه إلى مالكه، لأنّه بالأكل قد تلف، وهو بعد القيء يعدّ من القذرات العرفيّة.

أقول: ويبقى على هذا الوجه الإشكال في أنّه عليه السلام كيف أكل الحرام الواقعي ؟

والجواب عنه: ما أشار إليه الشيخ رحمه الله بقوله: (ولهم في حركاتهم من أفعالهم وأقوالهم شؤوناً لا يعلمها غيرهم)(2).

***).

ص: 215


1- معجم رجال الحديث: ج 10/300: (عبد الحميد بن سعيد: عدّه الشيخ (تارةً ) في أصحاب الكاظم عليه السلام (26)، قائلاً: عبد الحميد بن سعيد، روى عنه صفوان بن يحيى ". و (أُخرى ) في أصحاب الرضا عليه السلام، وذكره في موضعين (5) و (41). ومن المحتمل أن يكون الصحيح في أحد الموضعين: عبد الحميد بن سعد. وكيف كان، فقد يقال باتّحاد هذا مع سابقه، وأنّ والد عبد الحميد قد يعبّر عنه بسعد، وقد يعبّر عنه بسعيد، أو أنّ في أحد الموردين تحريفاً، ولكن ذلك لم يثبت فإنّ ظاهر كلام الشيخ التعدّد، ورواية صفوان عنهما لا يدلّ على الاتّحاد، كما هو ظاهر. هذا ولا ثمرة للبحث، فإنّه لم يثبت وثاقة كلّ منهما، فإن كان رواية صفوان عن شخص دليلاً على وثاقته فكلاهما ثقة، وإلّا - كما هو الصحيح - لم يعمل معهما معاملة الثقة، إتّحدا أم تعدّدا).
2- المكاسب: ج 1/380 (ط. ج).

حكم المسابقة بغير رهان

المسألة الرابعة: في المغالبة بغير عوض في غير ما نصّ على جواز المسابقة فيه كالمصارعة، والمسابقة على المراكب والسفن، ورمي الحجارة ونحو ذلك.

أقول: الظاهر أنّ المشهور بين الأصحاب هو التحريم:

ففي «جامع المقاصد»: (ظاهر المذهب التحريم)(1).

وصريح المحكى عن «التذكرة»(1) وغيرها: أنّ عليه إجماع الإماميّة.

وعن الشهيد الثاني(2) ومن تبعه، والمحقّق السبزواري(3)، وجمعٌ من الأساطين(4)، وفي «الحدائق»(5) و «الجواهر»: الجواز(6).

واستدلّ للأوّل بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع الذي حكاه غير واحد(8).

ص: 216


1- التذكرة: ص 354 (ط. ق).
2- المسالك: ج 6/70.
3- كفاية الأحكام: ج 1/718. قال المحقّق السبزواري في كفاية الأحكام ص 136: (وفي المسالك المشهور في الرواية - يعني الاُولى - فتح الباء من سبق وهوالعوض المبذول للعمل، وماهيّة المنفيّة غير مرادة، بل المراد نفي حكمٍ من أحكامها أو مجموعها بطريق المجاز كنظائره وأقرب المجازات إليه نفي الصحّة. والمراد أنّه لا يَصحّ بذل العوض في هذه المعاملة إلّافي هذه الثلاثة، وعلى هذا لا ينفى جواز غيرها بغير عوض، وربما رواه بعضهم بسكون الباء وهو المصدر أي لا يقع هذا الفعل إلّافي الثلاثة فيكون ما عداها غير جايز).
4- المهذّب البارع: ج 3/81، والتنقيح: ج 2/347.
5- الحدائق الناضرة: ج 22/362-363-366: (وهذه الأخبار ظاهرة في الجواز فيما اختلفوا فيه).
6- جواهر الكلام: ج 28/220: (أمّا فعله لا على جهة كونه عقد سبق فالظاهر جوازه، للأصل والسيرة المستمرّة على فعله في جميع الأعصار والأمصار من الأعوام والعلماء).

وفيه: أنّ الإجماع لو تحقّق لا يعتمد عليه في المقام، لعدم كونه تعبّديّاً.

الوجه الثاني: خبر عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا سبق إلّافي خفٍّ أو حافرٍ أو نصل»(1) يعني النصال.

بتقريب: أنّ السبق بسكون الباء مصدر، والمراد من نفيه نفي المشروعيّة، ومقتضى إطلاقه عدم مشروعيّة المسابقة بدون الرهن.

وأورد عليه تارةً : بضعف السند لمعلّى بن محمّد، كما عن الأستاذ(2).

وفيه: إنّه حسن على أقلّ التقادير لكونه من مشايخ الإجازة.

وأُخرى : بما في «المكاسب» من أنّه كما يحتمل نفي الجواز التكليفي يحتمل نفي الصحّة، لوروده مورد الغالب من اشتمال المسابقة على العوض(3).

ويمكن دفعه: بأنّ المسابقة بغير الرهان كثيرة، مع أنّ قلة الوجود لا توجب الانصراف كما تقدّم.

وثالثة: بما عن «الكفاية» من أنّه يحتمل أن يكون معناه لا اعتداد بالسبق في أمثال هذه الأُمور إلّافي الثلاثة المذكورات، أو لا فضل لسبقٍ إلّافي الثلاثة، فلا دلالة فيه على التحريم(4).8.

ص: 217


1- وسائل الشيعة: ج 19/253 ح 24530، الكافي: ج 5/48 ح 6.
2- رجال الكشي ذكر ذكر أنّه مضطرب الحديث ص 418، معجم رجال الحديث: ج 19/280: أقول: (الظاهر أنّ الرّجل ثقة يعتمد على رواياته. وأمّا قول النجاشي من اضطرابه في الحديث والمذهب فلا يكون مانعاً عن وثاقته، أمّا أضطرابه في المذهب فلم يثبت كما ذكره بعضهم، وعلى تقدير الثبوت فهو لا ينافي الوثاقة، وأمّا اضطرابه في الحديث فمعناه أنّه قد يروي ما يعرف، وقد يروي ما ينكر، وهذا أيضاً لا ينافي الوثاقة. ويؤكّد ذلك قول النجاشي: وكتبه قريبة. وأمّا روايته عن الضعفاء على ما ذكره ابن الغضائري، فهي على تقدير ثبوتها لا تضرّ بالعمل بما يرويه عن الثقات، فالظاهر أنّ الرّجل معتمد عليه، واللّه العالم).
3- المكاسب: ج 1/382 (ط. ج).
4- كفاية الأحكام: ج 1/718.

وفيه: ما تقدّم من ظهوره على هذا التقدير على نفي المشروعيّة.

فالأولى أن يورد عليه: بأنّه لم يثبت كون السَبق المذكور (بسكون الباء)، بل من المحتمل أن يكون (بالفتح)، بل عن الشهيد الثاني رحمه الله أنّه المشهور(1).

والسَبَق (بالفتح) هو العوض والرهن، ونفيه ظاهرٌ في إرادة فساد المراهنة، لظهوره في نفي استحقاقه، وعليه فلا يمكن الاستدلال به للإجماع وعدم ثبوت قراءة السكون.

الوجه الثالث: إطلاق أدلّة القمار، لأنّه مطلق المغالبة ولو بدون العوض.

وفيه: ما عرفت في أوّل المسألة من أخذ الرهان في مفهوم القمار موضوعاً.

الوجه الرابع: ما دلَّ على نفار الملائكة عند الرهان، ولعن صاحبه ما خلا الثلاثة(2)، مع التصريح في بعضها بأنّ ما عداها قمار محرّم لصدق الرهانة بدون العوض عرفاً وعادة.

وفيه: - مضافاً إلى ما تقدّم في المسألة السابقة - أنّه لا يصدق الرهان على ما لا رهن فيه ولا عوض.

الوجه الخامس: ما دلَّ على حرمة اللّهو، وهي كثيرة:

منها: ما عُللّ فيه تحريم اللّعب بالنرد والشطرنج بأنّه من اللّهو والباطل(3)، وقد تقدّم.

ومنها: ما تضمّن أنّ كلّ لهو المؤمن باطل إلّافي ثلاث(4).3.

ص: 218


1- مسالك الأفهام: ج 6/87: (والمشهور في الرواية فتح الباء من (سبق) وهو العوض المبذول للعمل).
2- وسائل الشيعة: ج 19/251 ح 24524، من لا يحضره الفقيه: ج 4/59 ح 5094.
3- وسائل الشيعة: ج 17/319 ح 22650، الكافي: ج 6/436 ح 6.
4- وسائل الشيعة: ج 19/250 ح 24523، الكافي: ج 5/50 ح 13.

ومنها: غير ذلك.

وفيه أوّلاً: سيأتي في مسألة اللّهو أنّ القول بحرمته مطلقاً قول باطلٌ وشاذّ.

وثانياً: أنّ النسبة بين اللّهو والمسابقة عموم من وجه، إذ ربما تكون المسابقة لغرض عقلائي من الأُنس وقضاء الوقت وتربية البدن وغير ذلك كما لا يخفى .

فتحصّل: أنّه لا دليل على التحريم، فالأظهر هو الجواز للسيرة القطعيّة المستمرّة بين العلماء والعوام على المسابقة في عدّة من الأُمور كالسباحة والمشاعرة والمصارعة، ونحو ذلك، ولما ورد من مصارعة الحسن والحسين عليهما السلام بأمر النبيّ صلى الله عليه و آله، وما ورد من مكاتبتهما والتقاطهما حَبّ قلادة اُمّهما عليها السلام(1).

***1.

ص: 219


1- المستدرك: ج 14/81 ح 16152، بحار الأنوار: ج 100/189 ح 1.

القيادة حرام

المسألة السادسة عشرة: لا خلاف ولا إشكال في حرمة القيادة، بل حرمتها من ضروريّات الإسلام(1)، وتدلّ عليها جملة من النصوص:

منها: مرسل الورّام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله، عن جبرئيل عليه السلام، قال:

«اطلعتُ على النار فرأيتُ وادياً في جهنم يغلي، فقلت: يا مالك لمَن هذا؟ فقال:

ثلاثة: المحتكرين والمدمنين للخمر والقوّادين»(2).

ومنها: ما في عدّة من الأخبار المتقدّمة في مسألة تدليس الماشطة من تفسير الواصلة والمستوصلة بذلك.

ومنها: صحيح ابن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن حَدّ القوّاد؟ قال عليه السلام:

يضرب ثلاثة أرباع حَدّ الزاني خمسة وسبعين سوطاً، وينفى من المصر الذي هو فيه»(3).

ومنها: غير ذلك.

قال الشيخ رحمه الله(4): (وهي من الكبائر... الخ).

أقول: في تقسيم الذنوب إلى الكبائر والصغائر، ثمّ في أنّ الصغيرة لا تضرّ بالعدالة كلاماً محرّراً في محلّه، ولعلّ الأظهر منع كلا الأمرين.

ص: 220


1- جواهر الكلام: ج 41/399.
2- وسائل الشيعة: ج 17/426 ح 22910، إرشاد القلوب: ج 1/174.
3- وسائل الشيعة: ج 28/171 ح 34483، الكافي: ج 7/261 ح 10.
4- كتاب المكاسب: ج 1/385 (ط. ج).

ولكن على تقدير صحّة التقسيم، وعدم إضرار الصغيرة بالعدالة، فإنّ الأقوى ما ذكره رحمه الله من كون القيادة من الكبائر، إذ الكبيرة كما عرفت في مسألة الغيبة معصية نصّ الشارع على كونها كذلك، أو توعّد عليها في الكتاب أو السُنّة، أو رتّب آثار الكبيرة عليها، والقيادة توعّد عليها الشارع في جملة من النصوص:

منها: ما تقدّم.

ومنها: ما عن «عقاب الأعمال» عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «من قاد بين امرأة ورجل حراماً، حرّم اللّه عليه الجنّة، ومأواه جهنّم وساءت مصيراً، ولم يزل في سخط اللّه حتّى يموت»(1).

ومنها: ما عن «عيون الأخبار» عن النبيّ صلى الله عليه و آله في حديث:

«وأمّا التي كانت تحرق وجهها وبدنها وهي تجرّ أمعائها، فإنّها كانت قوّادة»(2).

ومنها: غير ذلك.

كما أنّه رتّب عليها أثر الكبيرة وهو الحَدّ والنفي من البلد، كما في صحيح ابن سنان المتقدّم، إذ الصغيرة قد وَعَد اللّه تعالى التكفير عنها مع اجتناب الكبائر، والصغيرة المكفّرة لا توجبُ الحَدّ والنفي من البلد، ومعلوم أنّ إطلاق الصحيح شامل للمكفّرة وغيرها، فيستكشف من ذلك عدم كونها صغيرة.

***7.

ص: 221


1- وسائل الشيعة: ج 20/351 ح 25803.
2- وسائل الشيعة: ج 20/213 ح 25457.

القيافة وحكمها

المسألة السابعة عشرة: القيافة حرامٌ كما هو المشهور، ونَسَبه صاحب «الحدائق» إلى الأصحاب(1).

وعن «المنتهى»: دعوى الإجماع عليه(2).

أقول: والكلام في هذه المسألة يقع في موارد:

المورد الأوّل: إنّ القيافة - على ما يستفاد من كلمات اللّغويين - هي معرفة الآثار وشَبَه الشخص بأقربائه.

ففي «الصحاح»(3)، و «القاموس»(4)، و «المصباح(5): (القائف هو الذي يعرف الآثار، أي العلامات المختصّة بكلّ قبيلة، الموجبة لشباهة الرّجل بأبيه أو أخيه أو سائر أقربائه).

وفي «النهاية»: (هو الذي يعرف الآثار وشَبَه الرّجل بأخيه وأبيه)(6).

وفي «مجمع البحرين»: (هو الذي يعرف الآثار، ويُلحق الولد بالوالد، والأخ بأخيه)(7).

ص: 222


1- الحدائق الناضرة: ج 18/182.
2- منتهى المطلب: ج 2/1014 (ط. ق): (السابع: الشعبذة - إلى أن قال - وكذا القيافة وكذلك ما يشابهه في هذا الباب من النار والحيات والسيميار وغيرها).
3- الصحاح: ج 4/1419.
4- القاموس المحيط: ج 3/188: (والقائف من يعرف الآثار).
5- المصباح المنير: ص 519 مادّة (قاف).
6- النهاية في غريب الحديث: ج 4/121.
7- مجمع البحرين: ج 3/560.

وفي «المنجد»: (هو الذي يعرف النسب بفراسته ونظره إلى أعضاء المولود)(1).

المورد الثاني: الظاهر أنّه لا ريب في جواز تحصيل العلم أو الظنّ بالأنساب بعلم القيافة، ولم أرَ من أفتى بحرمته، ولا ما يدلّ عليها.

نعم، ظاهر الروايات أنّ القيافة لا تطابق الواقع دائماً، ففي خبر أبي بصير عن الإمام الصادق عليه السلام: «القيافة فضلة من النبوّة ذهبت في الناس حين بعث النبيّ صلى الله عليه و آله»(2).

وعليه فلا يحصل العلم منها لمن لاحظ النصوص.

وأمّاتعليمه و تعلّمه: فقدقال صاحب «الحدائق»: (لاخلاف في تحريم تعليمها)(3).

أقول: ولكن لم يرد في الشريعة المقدّسة ما يدلّ على حرمة ذلك، والأصل يقتضي الجواز.

المورد الثالث: أنّ القائف إنْ أخبر بما استخرجه من القيافة جزماً مع عدم علمه به فهو حرام لكونه كذباً، وإلّا فالأظهر هو الجواز.

أقول: قد استدلّ على الحرمة بعض مشايخنا المحقّقين:

1 - بدخوله في السحر والكهانة.

2 - وبظهور معاقد الإجماعات، بدعوى أنّ مراد من قيّد الحرمة بما إذا ترتّب عليها محرّم، هو إخباره بذلك.

3 - وبقوله عليه السلام في صحيح الهثيم: «من مشى إلى ساحر أو كاهنٍ أو كذّاب).

ص: 223


1- حكاه في القاموس الفقهي: ج 1/309.
2- وسائل الشيعة: ج 17/149 ح 22216، بحار الأنوار: ج 76/210 ح 4.
3- الحدائق الناضرة للمحقّق البحراني: ج 18/171: (المسألة السابعة في السحر، ونحوه القيافة، والكهانة، والشعبدة، ولا خلاف في تحريم تعليم الجميع وأخذ الأُجرة عليه).

يصدّقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل اللّه من كتاب»(1).

إذ في جعل المخبر بالشيء الغائب بين الثالثة دلالة على حرمة اخباره.

وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ السحر على ما تقدّم هو صرف الشيء عن وجهه على سبيل التمويه والخدعة، والكهانة هي الإخبار عن الحوادث المستقبلة لاتّصاله بالجِنّ أو الشيطان، فلا وجه لدعوى دخول القيافة فيهما.

وأمّا الثاني: فلأنّ الظاهر أنّ معقد الإجماعات هو الرجوع إلى القائف وترتيب الآثار عليه.

وأمّا الثالث: فلأنّه إنّما يدلّ على حصر المحرّم من الإخبار عن الغائبات على سبيل الجزم باخبار إحدى هذه الطوائف الثلاث، لا حصر المخبر عنها بهم كما هو واضح.

مع أنّه لا يدلّ على حرمة الإخبار، وإنّما يدلّ على حرمة الرجوع.

المورد الرابع: يحرم الرجوع إلى القائف، وترتيب الآثار على قوله من نفي النسب عن شخص، أو إلحاقه به والحكم بأنّه يرثه إلى غير ذلك من الآثار بلا خلافٍ .

وعن «المنتهى »: دعوى الإجماع عليه(2).

أقول: ويشهد له - بعد فرض أنّ قواعد علم القيافة لا تطابق الواقع والقواعد0.

ص: 224


1- وسائل الشيعة: ج 17/150 ح 22217، بحار الأنوار: ج 76/212 ح 11.
2- منتهى المطلب: ج 2 / ص 1014، وفيه نفي الخلاف، وحكى الإجماع عنه المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة: ج 8/80.

الشرعيّة دائماً أو احتمل ذلك - ما دلَّ من الآيات والروايات على أنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئاً، وأنّه لا يجوز العمل بغير علم، ومضافاً إلى أنّ النسب - ما لم تقم على ثبوته أمارة شرعيّة - ينفى بالاستصحاب، وعليه فالحكم بثبوته وترتّب الآثار عليه من التوارث والنظر وغيرهما غير جائز.

ويؤيّده خبر أبي بصير، عن مولانا الصادق عليه السلام، قال: «قلت: فالقيافة ؟ قال: ما أحبّ أن تأتيهم»(1).

وما في «مجمع البحرين»: (إنّ في الحديث: لا آخذ بقول قائف)(2).

وقد استدلّ الشيخ رحمه الله للحرمة(3) بخبر زكريّا بن يحيى بن نعمان الصيرفي الوارد في إثبات بنوّة الجواد عليه السلام لأبي الحسن بالرجوع إلى القافة(4).

والظاهر أنّ مورد استشهاده به قول الإمام الرضا عليه السلام لإخوته بعدما قالوا له:

إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد قضى بالقافة فبيننا وبينك القافة: «ابعثوا أنتم إليهم وأمّا أنا فلا».

وفيه: إنّ قبول صدور مثل قوله عليه السلام: (وأمّا أنا) فغير ممكن لأجل أنّه كان عالماً ببنوّة الجواد عليه السلام ولم يكن له شكّ في ذلك، مع أنّ عدم بعثه إليهم وإظهار ذلك لا يدلّ على عدم المشروعيّة، بل ظاهر الخبر أنّ الخاصّة أيضاً كانوا يعتقدون بقضائه صلى الله عليه و آله بقول القافة، والإمام عليه السلام لم يردع عن ذلك، فهو يدلّ على الجواز.

أقول: ولكن يرد على الخبر - مضافاًإلى ضعف سنده لزكريّا - أنّ أخوة الرضا عليه السلام1.

ص: 225


1- وسائل الشيعة: ج 17/149 ح 22216، بحار الأنوار: ج 76/210 ح 4.
2- مجمع البحرين: ج 3/164.
3- كتاب المكاسب: ج 1/193 (ط. ق).
4- الكافي: ج 1/322 ح 14، مسائل علي ص 321.

وعمومته إن لم يكونوا قائلين بإمامته عليه السلام فما فائدة الرجوع إلى القافة لإثبات بنوّة الجواد عليه السلام، وإن كانوا قائلين بإمامته لما احتاجوا إليهم بعد إخباره ببنوّته.

المورد الخامس: يحرم أخذ الاُجرة على إخبار القائف، وإنْ كان إخباره على وجه الجواز، لكونه عملاً لا يترتّب عليه أثر جائز، ولما في خبر «الجعفريّات» من جعل أجر القائف من السُّحت(1).

***3.

ص: 226


1- المستدرك: ج 13/69 ح 14773.

حرمة الكذب

المسألة الثامنة عشرة: الكذب حرامٌ بضرورة العقول والأديان، وتدلّ عليه الأدلّة الأربعة.

أمّا الكتاب والسُنّة: فقد دلّت عليه كثيرٌ من الآيات والنصوص، وسيمرّ عليك بعضها.

وأمّا الإجماع: فالظاهر أنّ حرمة الكذب من ضروريّات جميع الأديان، فضلاً عن دين الإسلام، وعن اتّفاق العلماء عليها(1).

وأمّا العقل: فهو مستقلٌّ بقبحه، لكونه مفتاح الشرور، ورأس الفجور.

الكذب من الكبائر

وقع الكلام بين الأصحاب في موردين:

المورد الأوّل: في أنّ الكذب هل هو من الكبائر أم لا؟

أقول: قد مرّ في مبحث الغيبة(2) ضابط كون المعصية صغيرة أو كبيرة، على تقدير صحّة تقسيمها إليهما، وهو أحد أُمور على سبيل منع الخلو:

أحدها: ورود النص على كونها من الكبائر.

ثانيها: التوعيد عليها في الكتاب والسُنّة.

ثالثها: ترتيب آثار الكبيرة عليها.

ص: 227


1- كتاب المكاسب: ج 2/11 (ط. ج)، مصباح الفقاهة: ج 1/385.
2- صفحة 130 من هذا المجلّد.

رابعها: جعلها أكبر من الذنب الذي ثبت كونه منها.

والوجوه المحتملة في كون الكذب من الكبائر ثلاثة:

الوجه الأوّل: ما اختاره الشيخ رحمه الله تبعاً للفاضلين(1) والشهيد الثاني(2) من أنّه من الكبائر مطلقاً.

الوجه الثاني: عدم كونه منها مطلقاً، بل القسم الخاص منه، وهو الكذب على اللّه وعلى حُججه، والكذب لقتل النفس المحترمة ونحوه منها.

الوجه الثالث: عدم كونه منها مطلقاً.

وقد استدلّ الشيخ لما اختاره بجملةٍ من النصوص وبالكتاب، وأيّده ببعض نصوص أُخر.

أمّا النصوص: التي استدلّ بها على كون الكذب من الكبائر مطلقاً فمتعدّدة:

منها: ما هو المرويّ في «العيون» بسنده عن الفضل بن شاذان حيث جعل الإمام عليه السلام فيه الكذب من الكبائر(3)، ونحوه خبر الأعمش(4).

وأورد عليه الأستاذ الأعظم: بأنّهما ضعيفا السند، وقد ذكر في وجه ضعف خبر «العيون» بأنّ للصدوق إلى الفضل أسانيداً كلّها مجاهيل:

أمّا الطريق الأوّل: ففيه عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس النيسابوري(5)،).

ص: 228


1- القواعد: ج 2/236: (أنّ الكبيرة ما توعّد اللّه فيها بالنار)، ومثله في التحرير: ج 2/208.
2- الروضة البهيّة: ج 3/129.
3- وسائل الشيعة: ج 15/329 ح 20660، عيون الأخبار: ج 2/125.
4- وسائل الشيعة: ج 15/331 ح 20663، بحار الأنوار: ج 76/9 ح 11.
5- معجم رجال الحديث: ج 12/42 قوله: (أقول كلام الصدوق لا يدلّ على توثيق عبد الواحد.... فالرجل مجهول الحال واللّه العالم... الخ).

وعلي بن قتيبة النيسابوري، وهما مجهولان(1).

وفي الطريق الآخر: الحاكم أبو محمّد جعفر بن نعيم، وهو مجهول(2).

وفي الطريق الثالث: حمزة بن محمّد العلوي، فهو أيضاً مجهول(3).

وفيه: إنّ في عبد الواحد وإنْ نقل أقوالاً، إلّاأنّ الأظهر أنّه ثقة كما اختاره في محكي «التحرير»(4) و «المسالك»(5) و «الحاوي»(6)، بل والصدوق رحمه الله حيث قال:

(حديث عبد الواحد أصَحّ )(7)، ولا أقلّ من كونه حسناً، لتوصيف العلّامة الخبر الذي رواه عبد الواحد في محكي «التحرير» بالصحّة، وكونه من المشايخ الذين ينقل عنهم الصدوق بغير واسطة، مع تكرّر ذلك مترضِّياً بل من مشايخه.

وأمّا ابن قتيبة: فإن لم يكن ثقة، فلا ينبغي التوقّف في كونه حسناً لاعتماد7.

ص: 229


1- راجع معجم رجال الحديث: ج 13/171-172، رقم 8475 - فإنّه بعد نقله أقوال الرجالين قال: (أقول: وقع الخلاف في اعتبار علي بن محمّد القتيبي وعدمه، فقيل باعتباره، واستدلّ على ذلك بوجوه... ثمّ أجاب على ذلك وقال: فما عن المدارك من أنّ علي بن محمّد بن قتيبة غير موثّق، ولا ممدوح مدحاً يعتدّ به، هو الصحيح، واللّه العالم). وفي كتاب ضعفاء العقيلي: ج 3/249 رقم (1247): (علي بن قتيبة الرفاعي بصري يحدِّث عن الثقات بالبواطيل وما لا أصل له).
2- مستدركات علم رجال الحديث لللشيخ علي النمازي الشاهرودي: ج 2/229 رقم 2884 قوله: (جعفر بن نعيم بن شاذان النيسابوري الحاكم رضي اللّه عنه، أبو محمّد: لم يذكروه. وهو من مشايخ الصدوق، روى عنه في العلل ج 1 باب 56 عن عمّه أبي عبد اللّه محمّد بن شاذان، عن الفضل بن شاذان. وروى عنه في العيون كثيراً أيضاً مترضِّياً عليه ج 1 باب 21 ص 225، و ج 2 باب 30 ص 17 و 18، وباب 35 ص 127، وباب 44 ص 184، وباب 47 ص 216 و 217، وباب 58 ص 235، وفي كمال الدِّين ج 1 باب 22).
3- معجم رجال الحديث: ج 6/89.
4- مدارك الأحكام: ج 6/84.
5- مسالك الأفهام: ج 2/23.
6- حكاه عنه في طرائف المقال: ج 2/660.
7- عيون الأخبار: ج 2/127.

الكشي على نقله في مواضع كثيرة من رجاله، وعَدّ العلّامة(1) وابن داود(1) إيّاه من المعتمدين، ووصف العلّامة حديثه بالصحّة(3)، وتوثيق الشيخ الكاظمي والفاضل الجزائري إيّاه.

فإذاً ما أفاده الشيخ رحمه الله(2) من أنّ خبر «العيون» لا يقصر عن الصحيح، هو الصحيح.

ومنها: الموثّق بعثمان بن عيسى ، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«إنّ اللّه تعالى جعل للشرّ أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شرٌّ من الشراب»(3).

والإيراد عليه: بضعف السند لعثمان(4)، في غير محلّه، إذ لو لم يكن ثقة، فلا أقلّ من كون حديثه موثقاً كما هو المعروف بين المتأخّرين على ما نسب إليهم.

ولكن يرد على الاستدلال به: أنّ هذا الخبر ممّا لا يمكن الالتزام بإطلاقه، إذ من البديهيّات عند المتشرّعة أنّه إذا دار الأمر بين شُرب الخمر والكَذب، ولو بأن يقول: (شربتُ الخمر قبل ذلك)، بأن اُكره على اختيار أحدهما، أنّه يقدّم الثاني، ولم يتوهّم أحدٌ جواز اختيار شُرب الخمر على الكذب، فيستكشف من ذلك أنّ الكذب بإطلاقه ليس شراً من الشراب، فيتعيّن تأويله، إمّا بإرادة قسم خاص من2.

ص: 230


1- رجال ابن داود: ص 250 رقم 64.
2- كتاب المكاسب: ج 2/11 (ط. ج).
3- وسائل الشيعة: ج 12/244 ح 16206، الكافي: ج 2/338 ح 3.
4- تقدّم الكلام حول عثمان في غيبة المتجاهر بالفسق فراجع. مصباح الفقاهة: ج 1/338، معجم رجال الحديث: ج 12/131-132.

الكذب وهو الكذب على اللّه ورسوله صلى الله عليه و آله وعلى الأئمّة الطاهرين عليهم السلام، فإنّه تال الكفر، وتحليل الاشربة المحرّمة ثمرةٌ من ثمرات هذا الكذب، فإنّ المخالفين بمثل ذلك حلّلوها، أو بغير ذلك.

مع أنّه يمكن أنْ يقال: - كما قيل - إنّ الشرّ الثاني صفةٌ مشبهة لا افعل التفضيل، و (من) تعليليّة، فيصبح المعنى أنّ الكذب أيضاً شرٌّ ينشأ من الشراب.

ومنها: النبويّ : «ألا أُخبركم بأكبر الكبائر؟ الإشراك باللّه وعقوق الوالدين، ثمّ قعد فقال: ألا وقول الزور، أي الكذب»(1).

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده - يرد عليه أنّ من الضروري عند المتشرّعة عدم كون الكذب بإطلاقه أكبر الكبائر حتّى الزِّنا واللّواط ونحوهما، فلا محالة أُريد به القسم الخاص منه، مع أنّ تفسير قول الزور بالكذب لعلّه من الراوي.

ومنها: المرسل عنه صلى الله عليه و آله: «المؤمن إذا كذب بغير عُذرٍ لعنه سبعون ألف ملك - إلى أن قال - وكتب اللّه عليه بتلك الكذبة سبعين زِنية أهونها كمن يزني مع اُمّه»(2).

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده - أنّه يرد عليه ما أوردناه على سابقيه، إذ لا يبنغي التوقّف في أنّ الجماع المحرّم أشدُّ منه، وإنْ لم يكن بالزنا، فضلاً عن أفحش أفراده وهو الزنا، وكيف بالزناء بالمحرّم، بل فكيف بالسبعين منه!

أمّا الكتاب: فقد استدلّ بآية منه، وهي قوله تعالى : (إِنَّما يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اَللّهِ ) (3)، بدعوى أنّه جعل الكاذب غير مؤمن بآيات اللّه،5.

ص: 231


1- المحجّة البيضاء: ج 5/242، صحيح مسلم: ج 1/64، مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/416 ح 21714.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 9/86 ح 10291، بحار الأنوار: ج 69/263 ح 48.
3- سورة النحل: الآية 105.

كافراً بها.

وفيه: الظاهر من الآية الشريفة بقرينة الآيات السابقة عليها، وهي: (وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اَللّهِ لا يَهْدِيهِمُ اَللّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إِنَّما يَفْتَرِي اَلْكَذِبَ ...) الخ(1) إرادة أنّ المكذّبين للنبي صلى الله عليه و آله فيما ادّعاه من كون ما يأتي به من عند اللّه، هم الكاذبون لا النبيّ ، فيكون الحصر إضافيّاً.

وعليه، فالمراد من الكاذبين هم المكذّبون له صلى الله عليه و آله من اليهود والمشركين، غير المؤمنين باللّه وبرسوله، الذين صدر عنهم الكذب لعدم إيمانهم، لا أنّ الكذب أوجب خروجهم عن الإيمان، فلا تدلّ على المطلوب.

أقول: ثمّ إنّه رحمه الله أيدّ ما اختاره بكونه من الكبائر بخبرين:

أحدهما: ما روي عن الإمام العسكري عليه السلام، أنّه قال: «حطت الخبائث كلّها في بيتٍ وجعل مفتاحها الكذب»(2).

بدعوى أنّ مفتاح الخبائث كلّها كبيرة.

وفيه: إنّ المراد من التشبيه بالمفتاح، ليس هو التشبيه في السبيبيّة والعلّية، لعدم تماميّته في المشبّه والمشبّه به كما لا يخفى ، ولا التشبيه في الشرطيّة، إذ ليس في المشبّه كذلك، لعدم كون الكذب شرطاً لسائر المعاصي، وإلّا لزم من عدمه عدمها، بل المراد به التشبيه في الإشراف إلى الوقوع في المحرّمات، فإنّه يولّد عند الإنسان الجرأة على اختيار الخبائث، وهذا لا يوجب كونه معصية، فضلاً عن كونه من3.

ص: 232


1- سورة النحل: آية 103-105.
2- المستدرك: ج 9/85 ح 10287، بحار الأنوار: ج 69/263.

الكبائر، ولذا اعترف الشيخ رحمه الله(1) بأنّ ارتكاب الشبهات يوجب الإشراف على الوقوع في المحرّمات، ومع ذلك التزم بجوازه، وعدم صيرورته حراماً.

ثانيهما: ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله في وصيّته لأبي ذرّ: «ويلٌ للذي يحدِّث فيكذِب ليضحك به القول، ويل له، ويل له، ويل له»(2).

بدعوى أنّ الأكاذيب المضحكة لا يترتّب عليها غالباً الإيقاع في المفسدة.

وفيه: أنّ ما ذكره وإن كان تامّاً، والتوعّد عليه يوجب كونه من الكبائر، إلّاأنّه لضعف سنده لجملةٍ من رواته لا يُعتمد عليه.

وقد استدلّ للقول الثاني بجملةٍ من النصوص:

منها: خبر أبي خديجة، عن مولانا الصادق عليه السلام: «الكَذِب على اللّه تعالى وعلى رسوله من الكبائر»(3).

بدعوى أنّه ظاهر من جهة وروده في مقام التحديد في حصر الكبيرة من الكذب بهذا الكذب الخاص.

وفيه: مضافاً إلى ضعف سنده كما في «مرآة العقول»(4): أنّ كونه في مقام التحديد غير معلوم، ولكن لو سُلّم كونه في هذا المقام لامناص عن تقييدالمطلقات به.

ودعوى: الشيخ رحمه الله(5) من أنّ حمله على كون هذا القسم الخاص من الكبائر الشديدة العظيمة، أولى من تقييد المطلقات به، كما ترى .

أقول: وبما ذكرناه ظهر ما في الاستدلال بالخبر المرسل الذي رواه الشيخ).

ص: 233


1- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/125.
2- وسائل الشيعة: ج 12/251 ح 16228، بحار الأنوار: ج 69/235.
3- وسائل الشيعة: ج 12/248 ح 16221، المستدرك: ج 11/356 ح 13247.
4- مرآة العقول: ج 2/325.
5- كتاب المكاسب: ج 2/13 (ط. ج).

الصدوق عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من قال عَليّ ما لم أقله فليتبوّء مقعده من النار»(1). مضافاً إلى ضعف سنده.

ومنها: مرسل سيف بن عميرة، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال:

«كان عليّ بن الحسين عليه السلام يقول لولده: اتّقوا الكذب الصغير منه والكبير في كلّ جِدٍّ وهَزَل، فإنّ الرّجل إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير»(2).

حيث يستفاد منه أنّ عظم الكذب باعتبار ما يترتّب عليه من المفاسد.

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده للإرسال - إنّه يدلّ على أنّ للكذب صغيراً وكبيراً، وهما إنّما يكونان بلحاظ ما يترتّب عليهما من المفاسد، ولكن لا ينافي ذلك كون كليهما من الكبائر بالمعنى المبحوث عنه في المقام، غاية الأمر بعض أفراده أكبر من آخر.

أقول: وقد استدلّ للقول الأخير بجملة من النصوص:

منها: حسن ابن الحجّاج كالصحيح، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الكذّاب هو الذي يكذب في الشيء؟

قال: لا ما من أحدٍ إلّايكون ذاك منه، ولكن المطبوع على الكذب»(3).

بدعوى أنّه يدلّ على أنّ الكذب من اللَّمم الذي يصدر من كلّ أحدٍ لا من الكبائر.

وفيه: إنّ الخبر متضمّنٌ لبيان أمرين:

أحدهما: إنّ الكذّاب لا يصدق على من كذب اتّفاقاً، وإنّما يصدق على من صار2.

ص: 234


1- وسائل الشيعة: ج 12/249 ح 16224، من لا يحضره الفقيه: ج 3/569 ح 4942.
2- وسائل الشيعة: ج 12/250 ح 16225، الكافي: ج 2/338 ح 2.
3- وسائل الشيعة: ج 12/245 ح 16212، الكافي: ج 2/340 ح 12.

الكذب كالعادة له، وهذا واضحٌ في نفسه أيضاً.

ثانيهما: إنّه ما من أحدٍ إلّاويبتلى بهذه المعصية، وشيءٌ منهما لا يدلّ على أنّ الكذب ليس من الكبائر وأنّه من اللّمم.

ومنها: خبر الحارث، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إنّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار»(1).

بدعوى أنّ فيه إشعاراً بأنّ مجرّد الكذب ليس فجور أو كبيرة.

وفيه: - مضافاً إلى ضعف سنده - إنّ الخبر يدلّ على عدم كونه معصية، فيتعيّن تأويله.

ومنها: صحيح عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني الوارد لبيان تعداد الكبائر غير المتعرّض للكذب(2).

وفيه: - مضافاً إلى أنّه مسوقٌ لبيان الكبائر التي ثبت كونها كذلك بالكتاب، كما يشير إليه قول السائل: «أريدُ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عزّ وجلّ » - أنّه يقيّد إطلاق مفهومه بما تقدّم ممّا دلَّ على أنّ الكذب من الكبائر، ويشهد لذلك اختلاف الأخبار في عدد الكبائر، ففي جملةٍ منها أنّها سبع، وفي جملة أُخرى أنّها خمس، وفي بعضها أنّها تسع.

فتحصّل: أنّ الأظهر كونه من الكبائر مطلقاً.

***4.

ص: 235


1- وسائل الشيعة: ج 12/250 ح 16227، بحار الأنوار: ج 69/259 ح 24.
2- وسائل الشيعة: ج 15/318 ح 20629، الكافي: ج 2/285 ح 24.

في حقيقة الوعد وحكمه

أقول: صرّح غير واحدٍ بأنّ الوعد مع إضمار عدم الوفاء، لا يكون كذباً حقيقيّاً، وأنّ إطلاق الكذب عليه في خبر الحارث الأعور لكونه في حكمه من حيث الحرمة.

ومنشأ ذلك على ما يظهر من الشيخ الأعظم رحمه الله(1) أنّ الوعد ليس من نوع الخبر، بل هو من أقسام الإنشاء، وهو صريحُ المحقّق المجلسي رحمه الله في «مرآة العقول»(2)، ولكن ظاهر كلام المحقّقين من أصحابنا والمخالفين أنّ الوعد من نوع الخبر، وهو محتملٌ للصدق والكذب.

والتحقيق وتنقيح القول في ذلك:

إنّ الوعد على أقسام:

القسم الأوّل: أن يخبر المتكلّم عن عزمه على فعل شيء أو تركه، كأن يقول:

(إنّي عازمٌ على زيارتك في بيتك)، لا ريب في دخول هذا في الخبر، فإنّه يخبر عن أمر نفساني نظير الإخبار عن سائر الصفات النفسانيّة كالحُبّ البغض ونحوهما.

القسم الثاني: أن يخبر عن فعل أمر أو تركه في المستقبل، كأن يقول: (أجيئك غداً)، وهذا أيضاً لا ريب في كونه من نوع الخبر، غاية الأمر أنّ المُخبَر به أمرٌ استقبالي.

القسم الثالث: أن يلتزم بشيء بنفس الجملة التي تكلّم بها، كأن يقول المولى

ص: 236


1- كتاب المكاسب: ج 2/15 (ط. ج).
2- مرآة العقول: ج 10/340.

لعبده: (إذا فعلت الفعل الفلاني أعطيك درهماً)، والظاهر أنّ هذا من نوع الإنشاء، فإنّه ليس إخباراً عن الإعطاء، بل هو إلزامُ أمرٍ على نفسه وإن علم أنّه لا يوقعه.

هذا كلّه في حقيقة الوعد وأقسامه.

وأمّا حكم الوعد:

ففي الأوّل: إذا كان عازماً على ذلك الفعل، كان ذلك الخبر صدقاً وجائزاً، وإلّا فيحرم لأجل كونه كذباً من غير فرق في الصورتين بين أن يفعل في المستقبل وأن لا يفعل.

وفي الثاني: اتّصافه بالصدق أو الكذب دائرٌ مدار تحقّق ذلك الفعل في ظرفه وعدمه، وأمّا تنجّز حرمته وعدمه فهما دائران مدار علمه بالفعل وعدمه، كما لايخفى .

وفي الثالث: لا يتّصف بالصدق أو الكذب حتّى مع إضمار عدم الوفاء والعلم به.

أقول: استدلّ الشيخ رحمه الله(1) لحرمة الوعد مع إضمار عدم الوفاء:

1 - بالآية الشريفة: (كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (2).

2 - وبقوله عليه السلام في خبرالحارث المتقدّم: «ولا يعدن أحدكم صبيّه ثمّ لايفي له»(3).

وفيهما نظر:

أمّا الآية الشريفة: فسيأتي تحقيق القول فيها، وستعرف عدم دلالتها عليذلك.

وأمّا الخبر: فيرد عليه مضافاً إلى ضعف سنده أنّه معارضٌ بأخبار دالّة على جواز الوعد الكاذب مع مطلق الأهل، وسيجيء بعضها في مسوّغات الكذب.9.

ص: 237


1- كتاب المكاسب: ج 2/15 (ط. ج).
2- سورة الصف: الآية 3.
3- وسائل الشيعة: ج 12/250 ح 16227، الأمالي للصدوق ص 419.

مع أنّه يمكن أنْ يقال: إنّه نهيٌ عن عدم الوفاء، لا عن الوعد، فإنّ الظاهر من مثل هذا التركيب رجوع النهي إلى القيد، كما إذا قال: (لا تأتني راكباً)، فإنّه نهيٌ عن الركوب.

حكم خلف الوعد

هذا كلّه عن حقيقة الوعد وحكمه.

وقد استدلّ الأصحاب لحرمة خلف الوعد بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّه يوجب انصاف الوعد بالكَذب، فيشمله ما دلَّ على حرمة الكذب.

وفيه: أنّ ظاهر الأدلّة حرمة إيجاد الكلام كذباً، وأمّا إيجاد صفة الكذب في الكلام المتقدّم، فلا يكون مشمولاً لتلك الأدلّة، مع أنّه أخصّ من المدّعى، فإنّ ذلك يتمّ في القسم الثاني من أقسام الوعد دون الأوّل والثالث، كما لا يخفى .

الوجه الثاني: جملة من الآيات:

منها: قوله تعالى: (وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) (1) فإنّه يشمل بعمومه أو إطلاقه عهود الخلق أيضاً، والعهد والوعد متقاربان.

وفيه: أنّ المراد بالعهد في هذه الآية بحسب ظاهر السياق هي الوصيّة.

وعلى كلّ تقدير، كون العهد والوعد بمعنى واحد محلّ تأمّل ونظر، نعم أحد معاني العهد الوفاء بالوعد، كما أنّ الضمان والذمّة من جملة معانيه.

ص: 238


1- سورة الإسراء: الآية 34.

ومنها: قوله تعالى: (وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) (1).

ويرد عليه: - مضافاً إلى ما تقدّم - أنّه لا يدلّ على أزيد من رجحان الوفاء بالعهد، دون أن يدلّ على لزومه.

ومنها: قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ ) (2).

تقريب الاستدلال به: أنّه إنّما يكون النهي فيه نهياً عن عدم الفعل، أمّا على سبيل القلب ويكون المعنى: لِمَ لا تفعلون ما تقولون ؟

أو يقال: إنّ النهي متوجّهٌ إلى القيد، وهو عدم الفعل، فيدلّ على حرمة عدم العمل بما وعد، ويشير إلى ذلك ما في بعض النصوص الآتي من الاستشهاد به لحرمة خلف الوعد.

وفيه: الظاهر من الآية الشريفة - كما أفاده جمعٌ من المحقّقين(3) - هو النهي عن إرشاد النّاس ونصحهم دون أن يلتزم هو بهما، كأن يأمر الناس بالمعروف ويتركه، وينهيهم عن المنكر فيفعله، فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى: (أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) (4) وعليه فهي أجنبيّة عن المقام.

وأمّا النصوص التي استشهد بها فيها، فسيأتي التعرّض لها.

الوجه الثالث: جملة من النصوص:4.

ص: 239


1- سورة البقرة: الآية 177.
2- سورة الصف: الآية 2 و 3.
3- مرآة العقول: ج 11/23، هداية الطالب إلى أسرار المكاسب: ج 1/100.
4- سورة البقرة: الآية 44.

1 - مصحّح هشام بن سالم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عِدة المؤمن أخاه نذرٌ لا كفّارة له، فمن أخلف فبخلف اللّه بدأ، ولمقته تعرّض، وذلك قوله تعالى: (يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ...) الخ(1).

2 - ومصحّح شعيب العقرقوفي، عنه عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فليفِ إذا وعد»(2).

ونحوهما غيرهما.

أقول: ولكن الإجماع القطعي قائمٌ على جواز خلف الوعد، ولذا ترى أنّ المتأخّرين يستدلّون على عدم لزوم الوفاء بالشرط الابتدائي بالإجماع على عدم لزومه، وفي غير ذلك من موارد الوعد يستدلّون بالإجماع على عدم لزوم ماوعد الإتيان به، والسيرة القطعيّة المستمرّة القائمة على خلف الوعد، يوجبان حمل تلك النصوص على الاستحباب.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ بعض تلك النصوص لا يقبل الحمل على الاستحباب، فمراعاة الاحتياط أولى، وإن أراد الاحتياط بغير الوفاء فيقيّد وعده بقول: (إنْ شاء اللّه تعالى ) فإنّه يحلّ النذور والأيمان المؤكّدة، كما صرّح به في الأخبار، ويوجب عدم انعقاد اليمين والنذر فضلاً عن الوعد.

حرمة الكذب عند الهزل

أقول: بقي الكلام في اُمور:

الأمر الأوّل: هل يحرم فعل الكذب عند الهزل أم لا؟

ص: 240


1- وسائل الشيعة: ج 12/165 ح 15966، الكافي: ج 2/363 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 12/165 ح 15965، الكافي: ج 2/364 ح 2.

أقول: إنّ الكلام المستعمل في مقام الهزل على قسمين:

القسم الأوّل: مايقصد به الإخبار عن أمرٍ، ويكون الدّاعي له هو الهزل لا الجِدّ، كأن يقول لزيدٍ: (جاء أبوك من السفر)، بداعي الهزل، فإنّه لا كلام في أنّ هذا من نوع الخبر ولو كان مخالفاً للواقع يكون كذباً، وتدلّ على حرمته جميع الأدلّة الدالّة على حرمة الكذب.

القسم الثاني: ما لا يقصد به الإخبار عن أمر، بل يكون الكلام مسوقاً لبيان إنشاء أمرٍ بداعي الهزل، مع ظهوره في كونه إنشاءاً ولو بواسطة القرائن، كأن يقال للرجل الجبان مخاطباً إيّاه: (أيّها الشجاع) أو (أيّها الأسد)، وهذا القسم من الهزل لا يكون من نوع الخبر، فلا يتّصف بالكذب ولا بالصدق، ولا تشمله أدلّة حرمة الكذب، ومقتضى الأصل هو الجواز.

وعليه، فلا وجه لقول الشيخ رحمه الله(1): (ولا يبعد أنّه غير محرّم)، ثمّ الاستدلال له بالانصراف وبالسيرة، إذ هذا القسم من الهزل لا يكون متّصفاً بالكذب حتّى يحتاج الحكم بجوازه إلى دعوى الانصراف والسيرة.

أقول: قد استدلّ لحرمته بجملةٍ من النصوص:

1 - خبر حارث الأعور(2).».

ص: 241


1- كتاب المكاسب: ج 2/16 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 12/250 ح 16227، بحار الأنوار: ج 69/259 ح 24. قوله:... عن الحارث الأعور، عن عليّ عليه السلام، قال: «لا يصلح من الكذب جِدّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيّه ثمّ لا يفي له، إنّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال أحدكم يكذب حتّى يُقال كذب وفجر، وما يزال أحدكم يكذب حتّى لا تبقى موضع ابرة صدق فيسمّى عند اللّه كذّاباً».

2 - ومرسل سيف(1).

3 - والنبويّ الوارد في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله لأبي ذرّ(2) المتقدّمة.

4 - وخبر «الخصال» عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «أنا زعيم بيتٍ في أعلى الجنّة، وبيت في وسط الجنّة، وبيت في رياض الجنّة لمن ترك المِراء وإنْ كان محقّاً، ولمن ترك الكذب وإنْ كان هازلاً، ولمن حسّن خلقه»(3).

5 - وخبر الأصبغ بن نُباتة، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «لا يجد عبدٌ طعم الإيمان حتّى يترك الكذب هَزَله وجِدّه»(4).

أقول: يرد على الجميع:

أولا: أنّها ضعيفة السند، أمّا الروايات المتقدّمة فلما تقدّم، وأمّا خبر أصبغ فلقاسم بن عروة(5).).

ص: 242


1- وسائل الشيعة: ج 12/250 ح 16225، الكافي: ج 2/338 ح 2. قوله: عن سيف بن عميرة، عمّن حدّثه، عن أبى جعفر عليه السلام، قال: «كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يقول لولده: اتّقوا الكذب الصغير منه والكبير في كلّ جِدٍّ وهزل، فإنّ الرّجل إذا كذب في الصغير اجترء على الكبير، أمّا علمتم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: ما يزال العبد يصدق حتّى يكتبه اللّه صدِّيقاً، وما يزال العبد يكذب حتّى يكتبه اللّه كذّاباً».
2- وسائل الشيعة: ج 12/251 ح 16228، بحار الأنوار: ج 69/235، قوله:... عن أبي ذرّ، عن النبيّ صلى الله عليه و آله في وصيّة له، قال: «يا أبا ذرّ مَن ملك ما بين فخذيه وما بين لحييه دخل الجنّة، قلت: وإنّا لنؤأخذ بما تنطق به ألسنتنا؟ فقال: وهل يُكبّ الناس على مناخرهم في النار إلّاحصائد ألسنتهم، إنّك لا تزال سالماً ما سكتّ فإذا تكلّمت كُتب لكَ أو عليك، يا أبا ذرّ إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة من رضوان اللّه عزّوجلّ فيكتب بها رضوانه يوم القيامة، وإنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها فيهوى في جهنّم ما بين السماء والأرض، يا أبا ذرّ، ويلٌ للذي يحدِّث فيكذب ليُضحك به القوم، ويلٌ له، ويل له، ويل له، يا أبا ذرّ مَن صمت نجى، فعليك بالصمت، ولا تخرجنّ من فِيكَ كذبة أبداً، قلت: يا رسول اللّه فما توبة الرّجل الذي يكذب متعمّداً؟ قال: الاستغفار وصلوات الخمس تغسل ذلك».
3- وسائل الشيعة: ج 12/237 ح 16186 و 16187، التوحيد ص 461.
4- وسائل الشيعة: ج 12/250 ح 16226، الكافي: ج 2/340 ح 11.
5- قال السيّد الخوئي في معجم رجال الحديث: ج 15/30: (لا يظهر له أي مدح من الكشي، إلّاأن يكون رواية الفضل بن شاذان نوع مدح له عنده، وفيه منع ظاهر، وأمّا ما نسبه إلى الكشي من أنّ القاسم كان وزير أبي جعفر المنصور فهو سهوٌ جزماً).

وثانياً: أنّها تدلّ على مرجوحيّة الكذب في الهزل، وقد عرفت أنّ القسم الثاني من الهزل خارجٌ عن الكذب موضوعاً.

وثالثاً: إنّ أغلبها لا تدلّ على الحرمة، بل غاية ما تدلّ عليه هي المرجوحيّة الملائمة مع الكراهة، وذلك لأنّ قوله عليه السلام في خبر حارث: «لا يصلح من الكذب جِدٌّ ولا هزل» لو لم يكن ظاهراً في الكراهة، لما كان ظاهراً في الحرمة قطعاً.

كما أنّ قوله عليه السلام في مرسل سيف: «اتّقوا الكَذِب» لا يستفاد منه أزيد من المرجوحيّة بملاحظة مادّة (اتّقوا)، وللتعليل الوارد فيه.

وكذلك قوله عليه السلام في خبر «الخصال»: «أنا زعيم بيتٍ في الجنّة... الخ»، لا يدلّ إلّا على رجحان ترك الكذب في الهزل، كما أنّ خبر أصبغ لا يستفاد منه أزيد من ذلك، إذ المكروه أيضاً يمنع عن وجدان المؤمن طعم إيمانه.

المبالغة

الأمر الثاني: في أنّ المبالغة في الإدّعاء هل يعدّ من الكذب أم لا؟

أقول: المبالغة في الإدّعاء:

تارةً : تكون بإلقاء كلام له ظهور أولي وظهور ثانوي ولو بواسطة القرائن، وهو بظهوره الأوّلي مخالفٌ للواقع، ولكنّه بظهوره الثانوي موافق له، والمتكلّم أراد منه ما هو ظاهر منه بالظهور الثانوي، ومن هذا القبيل باب التشبيه والاستعارة

ص: 243

والكناية، كتشبيه الوجه الحَسَن بالقمر، واستعارة الأسد لوصف الرجل الشجاع، والكناية عن الجود بكثرة الرماد.

وأُخرى : تكون بإلقاء كلامٍ ليس له غير ظهور واحد، وأراد المتكلّم منه ذلك، وهو مخالف للواقع، كأن يقول: (أعطيتُ زيداً خمسين درهماً)، والحال أنّه أعطاه درهماً واحداً، أو إلقاء كلام له ظهور ثانوي، وأراده المتكلّم وهو مخالف للواقع، كأن يكنّي عن رجل بخيل بكثير الرماد.

ففي القسم الأوّل لا يتّصف الكلام بالكذب بخلاف القسم الثاني، فلا تحرم في الأوّل، وتحرم في الثاني، ولا يخفى وجههما.

أقول: ومن القسم الأوّل ما جرت به العادة من المبالغة في الأعداد في بعض الموارد، كأن يقول: (قلتها وكرّرتها مائة مرّة)، أو (طلبتُ منك ذلك ألف مرّة)، فإنّه لا يراد بذلك تفهيم المرّات بعددها، بل تفهيم الكثرة والاهتمام، وقد تعارف ذلك بين المتحاورين، فإن كان لم يقل ولم يطلب إلّامرّة واحدة كان قوله كذباً، وإن قال أو طلب مرّات كان صدقاً.

التورية

الأمر الثالث: في أنّه هل التورية من الكذب أم لا؟

أقول: قبل بيان حقيقة التورية وأنّها من الكذب أم لا، لا بدَّ من تنقيح الكذب موضوعاً، فقد وقع الخلاف فيه من جهتين بعد الاتّفاق على أنّ الكذب عدم المطابقة:

الجهة الأُولى : في المطابِق (بالكسر)، وأنّ العبرة بعدم مطابقة المراد، أو بعدم

ص: 244

مطابقة ظهور الكلام.

الجهة الثانية: في المطابَق (بالفتح)، وأنّ المعتبر عدم مطابقة الكلام للواقع، أو عدم مطابقته للاعتقاد، أو عدم مطابقته لهما معاً.

المشهور بين الأصحاب(1) - على ما نُسب إليهم - أنّ الكذب هو مطابقة ظهور الكلام للواقع، والظاهر أنّ هذا منهم مبتن على ما بنوا عليه في حقيقة الجملة الخبريّة من أنّها إنّما وضعت للنسب الخارجيّة، فإنّه على هذا إن طابق الكلام بما له من الظهور للواقع كان صدقاً وإلّا فكذب، مثلاً لو قال: (زيدٌ قائم)، فالمدلول لهذه الجملة تحقّق النسبة في الخارج، فإن طابق الدالّ لها فصدق وإلّا فكذب.

ولكن المبنى فاسدٌ كما حقّقناه في «حاشيتنا على الكفاية»(2)، ونشير إلى وجوه فساده في المقام إجمالاً:

الوجه الأوّل: عدم وجود النسبة في كثيرٍ من الجمل، كقولنا الإنسان ممكن ونحوه، ودعوى إعمال العناية في جميع ذلك كما ترى .

الوجه الثاني: عدم كاشفيّة الجملة عن الواقع ولو ظنّاً، فلو كانت موضوعة للنسبة الخارجيّة لكانت دلالتها عليها قطعيّة.

الوجه الثالث: أنّ الكلام لوكان دالّاً على النسبة الخارجيّة، لما كان يحتمل فيه الكذب، وقد عرّفوا القضيّة بأنّها تحتمل الصدق والكذب.

أقول: الحقّ في الجملة الخبريّة أنّها وضعت لقصد الحكاية عن النسبة).

ص: 245


1- إرشاد الطالب: ج 1/235.
2- حاشية الكفاية للمؤلِّف لم تُطبع لحدّ الآن (مخطوطة).

الخارجيّة مثلاً، وهي في هذه الدلالة لا تتّصف بالصدق والكذب وإنّما تتّصف بهما باعتبار المدلول، إذ الحكاية عن النسبة إنْ طابقت الواقع فهي صادقة، وإلّا فكاذبة، وبذلك يظهر أنّ الكذب هو عدم مطابقة مراد المتكلّم للواقع.

لا يقال: إنّ هذا ينافي آية المنافقين(1) الذين شهدوا بأنّ محمّداً رسول اللّه صلى الله عليه و آله، حيث أنّه تعالى سجّل عليهم بأنّهم كاذبون، مع أنّ ما أخبروا به كان مطابقاً للواقع.

فإنّه يقال: إنّ المُخبَر عنه لم يكن ثبوت الرسالة، بل كان الشهادة به، وهي عبارة عن حضور المشهود به في الذهن، وحيث أنّهم كانوا غير معتقدين بالرّسالة، فقال اللّه تعالى في حقّهم إنّهم كاذبون.

فإن قلت: بناءً على ما اخترت في حقيقة الكذب، لو شكّ المتكلّم في مطابقة كلامه للواقع ليكون صدقاً أو مخالفته له ليكون كذباً، تعيّن البناء على جواز التكلّم به، للشكّ في صدق موضوع الكذب، فتجري أصالة البراءة عن الحرمة في حقّه.

قلت: إنّ هذا الأصل في نفسه وإنْ كان جارياً، إلّاأنّه للعلم الإجمالي بحرمة هذا الإخبار أو الإخبار بنقيضه - إذ أحدهما كذبٌ جزماً - لا يجري هذا الأصل للمعارضة، فمقتضى العلم الإجمالي هو الاجتناب عن كلا الخبرين.

وبالجملة: إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أنّ التورية خارجة عن الكذب موضوعاً، فإنّ حقيقة التورية هي إلقاء كلام له ظهور في معنى، وهو يريد منه غير ذلك المعنى، ويكون المعنى المراد مطابقاً للواقع دون المعنى الظاهر، كما إذا استأذن رجلٌ بالباب وقال الخادم له: (ما هو ها هنا)، مشيراً إلى موضعٍ خال في البيت.1.

ص: 246


1- سورة المنافقون: الآية 1.

ثمّ إنّه يعتبر في صدق التورية أمران آخران غير ما مرّ:

أحدهما: أن يكون اللّفظ بحسب المتفاهم العرفي العادي ظاهراً في غير ما أراده المتكلّم، فلو كان ظاهراً فيه ولكن المخاطب لقصور فهمه لم يلتفت إليه، لم يكن ذلك من التورية.

ثانيهما: أن تكون إرادة ذلك المعنى من ذلك اللّفظ صحيحة، بأن كان بينهما علاقة، فلو كان استعماله فيه غير صحيح، لما كان من التورية، مثلاً لو قال: (أعطيتُ زيداً خمسين درهماً)، وهو أراد به درهماً واحداً، وقد أعطاه في الواقع درهماً، كان ذلك من الكذب لا من التورية، ولعلّه إلى هذا أشار العلّامة في محكي «القواعد» في مسألة الوديعة إذا طالبها ظالمٌ حيث قال: (ويجب التورية على العارف بها)(1)، كما أنّه إليه نظر المفيد حيث قال في هذه المسألة: (وإنْ لم يُحسن التورية وكان نيّته حفظ الأمانة.. الخ)(2).

أقول: قد استدلّ لخروج التورية عن الكذب بروايات:

الرواية الأُولى : ما رواه صاحب «الاحتجاج» عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن قول اللّه عزّ وجلّ في قصّة إبراهيم عليه السلام: (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) (3).

قال: ما فعله كبيرهم، وما كذب إبراهيم.

قيل: وكيف ذلك ؟ فقال إنّما قال إبراهيم إنْ كانوا ينطقون، أي إن نطقوا فكبيرهم فعل، وإنْ لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً، فما نطقوا وما كذب إبراهيم.3.

ص: 247


1- قواعد الأحكام: ج 2/188.
2- المقنعة: ص 557.
3- سورة الأنبياء: الآية 63.

وسُئل عن قوله تعالى : (أَيَّتُهَا اَلْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ) (1)، قال: إنّهم سرقوا يوسف من أبيه، ألا ترى إنّهم قالوا: (نَفْقِدُ صُواعَ اَلْمَلِكِ ) (2) ولم يقولوا سرقتم صواع الملك.

وسُئل عن قوله تعالى حكايةً عن قوله تعالى حكاية عن قول إبراهيم:

(إِنِّي سَقِيمٌ ) (3) قال: ما كان إبراهيم سقيماً وما كَذِب، إنّما عنى سقيماً في دينه أي مرتاداً»(4).

فإنّها تدلّ على أنّ الأقوال المذكورة إنّما هي من التورية وليست من الكذب.

وأورد عليها(5): بأنّ الفعل الخارجي وهو الكسر لم يصدر عن الأصنام، سواءٌ أكانوا ناطقين أم لا، فكيف تصحّ الملازمة ؟

وبعبارة أُخرى : إنّ صدق القضيّة الشرطيّة وكذبها دائران مدار صحّة الملازمة وفسادها، وحيث أنّها فاسدة في المقام، إذ الفعل صدر عن إبراهيم على كلّ تقدير، فلا تكون القضيّة صادقة.

أقول: والجواب عن ذلك بعد ملاحظة مقدّمتين واضح:

المقدّمة الأُولى: إنّ القضيّة الخبريّة إنّما تكون مبرزة لقصد الحكاية عن ثبوت المحمول للموضوع أو نفيه عنه، وهي ربما تطابق مع الخارج وقد لا تطابق، وبهذا الاعتبار تتّصف بالصدق والكذب.

المقدّمة الثانية: كما أنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة في الإنشائيّات رجوع القيد إلى الاعتبار النفساني المبرَز بالصيغة، لا المادّة التي متعلّقة له، كذلك ظاهرها في الاخباريّات، رجوع القيد إلى قصد الحكاية، فمع انتفاء الشرط ينتفي هذا القصد من غير نظر إلى الواقع.8.

ص: 248


1- سورة يوسف: الآية 70.
2- سورة يوسف: الآية 72.
3- سورة الصافات: الآية 89.
4- بحار الأنوار: ج 11/77 ح 7، احتجاج الطبرسي: ج 2/354.
5- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/128.

أقول: إذا عرفت هاتين المقدّمتين، تعرف أنّ المعلّق على الشرط في الآية الشريفة إنّما هو قصد الحكاية عن أنّه فعله كبيرهم، فمع انتفاء الشرط ينتفي هذا القصد، فلا تكون القضيّة كاذبة.

وأجاب عنه المحقّق التقي بوجه آخر: وهو أنّ المقصود صدق الشرطيّة في قولنا: (وإنْ لم ينطقوا فلم يَفعل كبيرهم)، ولا ريب في صدق تلك، إذ عدم النطق الذي هو كناية عن عدم القدرة والقوّة على شيء مستلزمٌ لعدم صدور الأفعال الاختياريّة عنها(1).

وفيه: إنّ هذه القضيّة غير مذكورة في الآية الشريفة، والمذكورة إنّما هي القضيّة الأُولى التي ادّعي أنّها كاذبة، ولكن الرواية لضعف سندها للإرسال لا يُعتمد عليها.

أقول: وقد قيل في تفسير الآية الشريفة وجوهٌ أُخر مذكورة في «مرآة العقول»(2) وغيرها:

منها: أنّ تلك الأقوال كاذبة، لكنّها خارجة عن الكذب حكماً، لأنّها في مقام الإصلاح، وتدلّ على هذا جملة من النصوص.

ومنها: غير ذلك.

الرواية الثانية: ما رواه ابن إدريس في آخر «السرائر»(3) نقلاً عن كتاب عبداللّه بن بكير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل يستأذن عليه فيقول2.

ص: 249


1- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/128.
2- مراة العقول: ج 10/338 وج 25/242-243.
3- السرائر: ج 3/632.

للجارية: قولي ليس هو ها هنا؟ قال: لا بأس ليس بكذب»(1).

الرواية الثالثة: رواية سويد بن غفلة، قال: «خرجنا ومعنا وائل بن حجر نريد النبيّ صلى الله عليه و آله، فأخذه أعداء له فتحرّج القوم أن يحلفوا وحَلِفتُ باللّه إنّه أخي فخلّى عنه العدوّ، فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله عليه و آله، فقال: صدقتَ ، المسلم أخو المسلم»(2).

وأورد عليه(3): بأنّ ظاهر الخبر أنّه حلف على أنّ الرّجل أخاه النَسَبي، فيكون من الكذب الجائز للضرورة لا التورية.

وفيه: المستفاد من كلام النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه أراد بكونه أخاه أنّه أخوه في الدِّين، أو أنّه قصد مفهوم الاخوّة.

وعليه، فيدلّ هو على جواز التورية وخروجها عن الكذب موضوعاً.

***9.

ص: 250


1- وسائل الشيعة: ج 12/254 ح 16236، بحار الأنوار: ج 68/17 ح 29.
2- المبسوط: ج 5/95 كتاب الطلاق.
3- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/129.

الكذب لدفع الضرورة

الثاني: من مسوّغات الكذب: والمتّفق عليه منها بينهم اثنان:

أحدهما: الكذب لدفع الضرورة إليه.

أقول: بعدما تقدّم من أنّ مقتضى الأدلّة حرمة الكذب في نفسه، لا ريب في أنّ هذا الحكم كسائر الأحكام الشرعيّة يرتفع إذا زاحمه تكليف آخر أهمّ ، كما إذا توقّف إنجاء المؤمن من الهلاكة على الكذب، كما أنّه يرتفع إذا أكره على متعلّقه، لعموم ما دلَّ على رفع ما استكرهوا عليه.

الدليل: قد استدلّ على جواز الكذب في مورد الضرورة إليه بالخصوص بالأدلّة الأربعة:

الدليل الأوّل: الإجماع.

وفيه: إنّ الإجماع وإنْ كان محقّقاً، إلّاأنّه ليس إجماعاً تعبّديّاً كاشفاً عن رأي المعصوم عليه السلام، لاستناد المُجمِعين إلى ما في المسألة من الآيات والروايات.

الدليل الثاني: العقل.

قال الشيخ رحمه الله(1): (والعقلُ مستقلٌّ بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين مع بقائه على قبحه أو انتفاء قبحه لغلبة الآخر عليه على القولين... الخ).

وفيه: إنّ العقل وإن استقلّ بذلك في بعض موارد الضرورة، كحفظ النفس المحترمة، ولكنّه لا يستقلّ بذلك في جميع موارد الضرورة، والسِّر في ذلك عدم

ص: 251


1- كتاب المكاسب: ج 2/21 (ط. ج).

إحاطته بالواقعيّات، وعدم إدراكه مناطات الأحكام ومقاديرها، فلا يقدر على ترجيح بعضها على بعض في جميع الموارد.

الدليل الثالث: الكتاب، فقد استدلّ الشيخ رحمه الله(1) بآيتين منه:

الآية الأُولى : (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) (2) .

أقول: وتقريب الاستدلال بها: بنحوٍ يسلم عمّا أورد عليه؛ هو أنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على جواز الكذب بالإخبار عن عدم اعتقاده بما هو معتقد به واقعاً الذي يعتبر في الإيمان الاعتقاد به عند الإكراه، فتدلّ على جواز الكذب في غير هذا المقام بالأولويّة، وبذلك يندفع الإيراد عليه بأنّ الظاهر أنّ الإكراه في الآية على إنشاء التبرّي والارتداد، فلا ربط له بمقامنا، نعم هي مختصّة بخصوص الإكراه، فلا دلالة لها على جواز الكذب في غير هذا المورد.

الآية الثانية: (لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (3) ، فإنّها تدلّ على جواز الكذب بإظهار المحبّة والمودّة بالنسبة إليهم حال التقيّة، فتدلّ على جواز الكذب في سائر الموارد بالأولويّة.

وفيه: مضافاً إلى أنّ أخذ الغير وليّاً لنفسه لا يُلازم إظهار المودّة له، فلا صلة لها بالمقام، وأنّها مختصّة بمورد التقيّة.8.

ص: 252


1- كتاب المكاسب: ج 1/453 (ط. ج).
2- سورة النحل: الآية 106.
3- سورة آل عمران: الآية 28.

الدليل الرابع: السُنّة.

وقد استفاضت الأخبار بل تواترت على جواز الحلف كاذباً لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أو أخيه(1)، وستأتي الإشارة إلى جملة منها، ومفادها أعمّ ممّا دلَّ على رفع ما اضطرّوا إليه، كما هو واضح.

أقول: نَسب الشيخ رحمه الله(2) إلى المشهور أنّه يعتبر في جواز الكذب لدفع الضرورة عدم التمكّن من التورية، ولكن كلماتهم التي نقلها رحمه الله لا تنطبق على هذه النسبة، فإنّ مورد حكمهم باشتراط التورية إن أمكنت إنّما هو جواز الحلف كاذباً، وأمّا جواز مطلق الكذب، فهو خارجٌ عن مورد كلامهم، بل ظاهر ما عن «المقنعة» عدم اشتراط جواز الكذب بعدم التمكّن من التورية(3)، حيث قال: (من كانت عنده أمانة فطالبها ظالمٌ فليجحد، وإنْ استحلفه ظالمٌ على ذلك فليحلف، ويورّي في نفسه بما يخرجه عن الكذب - إلى أن قال - وإن لم يحسن التورية، وكانت نيّته حفظ الأمانة، أجزأته النيّة).

فإنّ هذا كما تلاحظ - بالمقتضى التفصيل بين جواز الانكار، وجواز الحلف كاذباً، وتقييد الثاني بالتمكن من التورية دون الأوّل - كالصريح في عدم اعتباره.

وكيف كان، ففي المسألة قولان، وتحقيق القول فيها يقتضي البحث في مقامين:

المقام الأوّل: فيما يقتضيه القواعد.

المقام الثاني: في بيان مقتضى النصوص الخاصّة الدالّة على جواز الكذب لدفع6.

ص: 253


1- وسائل الشيعة: ج 23/224 ح 29425، الكافي: ج 7/440 ح 4.
2- كتاب المكاسب: ج 2/23-24.
3- المقنعة: ص 556.

الضرر المالي أو البدني عن نفسه أو عن أخيه.

أمّا المقام الأوّل: ففيما إذا توقّف واجبٌ أهمّ على الكذب فإنّه لا ينبغي التوقّف في اعتبار عدم التمكّن من التورية في جواز الكذب، إذ مع التمكّن منها يعدّ قادراً على امتثال التكليفين عقلاً وشرعاً، ومعه لا يقع التزاحم بينهما كي ترتفع حرمة الكذب.

وبالجملة: في مورد جواز الكذب للإضطرار، يعتبر عدم التمكّن من التورية، إذ مع التمكّن منها لا يصدق الإضطرار، وأمّا إذا أُكره عليه فقد يقال بأنّه لا يعتبر عدم إمكان التورية في الحكم بجواز الكذب، واستدلّوا على ذلك بوجوه:

الوجه الأوّل: المعتبر في صدق الإكراه خوف المُكرَه أنّه لو علم المُكرِه بالامتناع لأوقعه في الضرر، ومع التفصّي بالتورية فإنّه إذا علم المُكرِه بالامتناع لأوقعه في الضرر على كلّ حال، وليست التورية كسائر ما يتفصّى به كما لا يخفى .

وفيه: أنّ المناط في صدقه خوف المُكرَه أنّه لو امتنع لأوقعه في الضرر، وبديهي أنّ من يتمكّن من التفصّي بالتورية لو امتنع لما أوقعه في الضرر.

الوجه الثاني: إن النصوص(1) الواردة في طلاق المُكرَه وعتقه، ومعاقد الإجماعات والشهرات المدّعاة، حملها على صورة العجز عن التورية لجهلٍ أو دهشة بعيدٌ جدّاً، بل غير صحيح في بعضها من جهة المورد.

وفيه أوّلاً: إنّها مختصّة بباب العقود والإيقاعات، وستعرف القول بالفرق بين الأحكام الوضعيّة والتكليفيّة في ذلك.

وثانياً: إنّ المستهجن هو حمل المطلق على الفرد النادر، لا ورود الدليل لبيان ما2.

ص: 254


1- وسائل الشيعة: ج 22/86 ح 28091، الكافي: ج 6/127 ح 2.

ليس له غير أفراد نادرة كما في المقام.

الوجه الثالث: ما أفاده المحقّق الإيرواني رحمه الله(1) وحاصله يبتني على أُمور:

أحدها: إنّ الإكراه إنّما يتعلّق بالألفاظ، سواءٌ أمكن التورية أم لا، أو تفصّي بها أو بالكذب.

ثانيها: إنّ الألفاظ في باب الكذب جزء الموضوع بل عمدته.

ثالثها: إنّ الإكراه كما يرفع التحريم إذا تعلّق بتمام الموضوع، كذلك يرفعه إذا تعلّق بجزء الموضوع.

أقول: إذا تبيّنت هذه الاُمور، يظهر أنّه إذا اُكره الشخص على اللّفظ، أوجب إكراهه ذلك ارتفاع الحكم التحريمي الضمني عن ذلك اللّفظ، والمفروض أنّ مجرّد القصد للمعنى أيضاً ليس بحرام، فلا بأس أن لا يورّي ويقصد المعنى الظاهر.

وفيه: يرد على ما أفاده رحمه الله بعد بيان مقدّمة، وهي:

أنّه لو أُكره على أحد الفعلين أحدهما حرام والآخر مباح، فإنّه لا كلام في عدم ارتفاع حرمة الفرد المحرّم، بل يتعيّن الفعل المباح - إنّ اللّفظ الذي يكون كذباً حرام، وما يكون مصداقاً للتورية مباحٌ ، فالإكراه المتعلّق بأحدهما لا يوجبُ رفع حرمة الأوّل.

فتحصّل: أنّ الأظهر اعتبار عدم إمكان التفصّي بالتورية في ارتفاع حرمة الكذب بالإكراه أيضاً.

وأيضاً: ما ذكره الشيخ رحمه الله(2) في وجه اعتبار عدم إمكان التورية من أنّ قُبح4.

ص: 255


1- حاشية المكاسب: ج 1/40-41.
2- كتاب المكاسب: ج 2/23-24.

الكذب عقلي، فلا يسوغ إلّامع تحقّق عنوانٍ حَسَن في ضمنه يغلب حُسنَه على قبحه، ويتوقّف تحقّقه على تحقّقه، ولا يكون التوقّف إلّامع العجز عن التورية.

ممنوعٌ : لأنّ قبحه ليس ذاتيّاً بحيث لا يقبل التخصيص، بل يكشف من تجويز الشارع إيّاه في بعض الموارد أنّه ليس بقبيحٍ ، لا أنّه قبيح، وإنّما يجوز لاستقلال العقل بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين.

وأمّا المقام الثاني: فمقتضى إطلاق النصوص الكثيرة الدالّة على جواز الحلف كاذباً لدفع الضرر البدني أو المالي عن نفسه أوعن أخيه، عدم اعتبار ذلك، لاحظ:

1 - الخبر الصحيح الذي رواه إسماعيل، عن الإمام الرضا عليه السلام:

«عن رجلٍ يخاف على ماله من السلطان، فيحلفه لينجو به منه ؟ قال:

لا جناح عليه.

وسألته هل يحلف الرّجل على مال أخيه كما يحلف على ماله ؟ قال: نعم»(1).

2 - وخبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله: «احلف باللّه كاذباً ونجِّ أخاك من القتل»(2).

3 - وموثّق زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «قلت له: إنّا نمرّ على هؤلاء القوم فيستحلفونا على أموالنا، وقد أدّينا زكاتها؟

فقال: يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاءوا»(3).

إلى غير ذلك من النصوص الدالّة على ذلك.6.

ص: 256


1- وسائل الشيعة: ج 23/224 ح 29425، الكافي: ج 7/440 ح 4.
2- وسائل الشيعة: ج 23/225 ح 29428، من لا يحضره الفقيه: ج 3/374 ح 4313.
3- وسائل الشيعة: ج 23/227 ح 29438، بحار الأنوار: ج 72/410 ح 56.

وأيضاً: ما دلَّ على جواز الكذب للإصلاح، فإنّ هذه النصوص تدلّ على عدم اعتبار عدم التمكّن من التورية، فتدلّ بالأولويّة على جواز الكذب بغير الحلف لدفع الضرر.

أقول: بعدما استحسن الشيخ رحمه الله(1) عدم اعتبار هذا القيد بمقتضى الإطلاق، وأيّده بأنّ إيجاب التورية على القادر لا يخلو عن التزام بالعُسر، جَعَل ما نسبه إلى المشهور من اعتبار هذا القيد موافقاً للقواعد.

ومحصّل كلامه: أنّ النسبة بين تلك المطلقات والخبر الذي رواه سماعة عن مولانا الصادق عليه السلام أنّه قال:

«إذا حلف الرّجل تقيّةً لم يضرّه إذا هو أكره أو اضطر إليه، وقال: ليس شيءٌ ممّا حرّم اللّه إلّاوقد أحلّه لمن اضطرّ إليه»(2)، وما بمضمونه هي العموم من وجه، فإنّ المطلقات تدلّ على جواز الحلف كاذباً لدفع الضرر، سواءٌ بلغ حَدّ الاضطرار أم لم يبلغ، أي أمكن التورية له أم لا.

ورواية سماعة وما مضمونها تدلّ على اختصاص الجواز بصورة الاضطرار والإكراه، ومفهومها عدم الجواز في غير هذين الموردين، فتقع المعارضة بينهما في الكذب لدفع الضرر مع إمكان التورية وعدم البلوغ حد الاضطرار والإكراه، فتتساقطان والمرجع إلى عمومات حرمة الكذب.

أقول: وأورد عليه المحقّق الإيرواني(3) بإيرادين:1.

ص: 257


1- كتاب المكاسب: ج 2/26 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 23/228 ح 29442، تهذيب الأحكام: ج 3/177 ح 10.
3- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/41.

الإيراد الأوّل: إنّ حديث رفع الاضطرار أي خبر سماعة وما بمضمونه لايشتمل إلّا على عقد سلبي، ولا تعرّض له للعقد الإثباتي، وهو عدم الارتفاع مع عدم الاضطرار، كي يعارض مفهومه هذه الأخبار بالعموم من وجه.

وفيه: إنّ ما ذكر وإن تمّ في غير صدر خبر سماعة، ولكنّه لايتمّ فيه، لأنّه مشتملٌ على قضيّة شرطيّة وهي ذات مفهوم كما لا يخفى .

الإيراد الثاني: أنّه لاوجه لجعل المرجع إطلاقات حرمة الكذب، مع أنّ هذه الإطلاقات معارضة لها بالعموم من وجه.

وفيه: إنّ النسبة بين ما دلَّ على جواز الحلف كاذباً لدفع الضرر، وما دلَّ على حرمة الكذب عموم مطلق.

وعليه، فالحقّ أن يورد على الشيخ رحمه الله - مضافاً إلى ضعف سند خبر سماعة للإرسال، وعدم وجود خبرٍ آخر له مفهوم، ومضافاً إلى ما احتمله المحقّق التقي(1)من أنّ صدر خبر سماعة واردٌ مورد الرخصة في الحلف في غير محلّ الدعوى والقضاء من دون نظر إلى الصادق والكاذب، فيكون خارجاً عن محلّ الكلام - أنّه وإنْ كانت النسبة هي العموم من وجه، إلّاأنّه لأظهريّة هذه المطلقات تقدّم هي على مفهوم خبر سماعة، إذ لو قُدّم خبر سماعة وحُكم باختصاص جواز الحلف كاذباً بصورة الإكراه والاضطرار، لزم لغويّة العناوين المأخوذة في المطلقات، وهي الكذب لدفع الضرر المالي أو البدني عن نفسه أو عن أخيه، وهذا بخلاف العكس، فإنّ لازم تقديم المطلقات تقييد مفهوم خبر سماعة، ولا ريب في أنّ الأوّل هو المتعيّن.1.

ص: 258


1- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/130-131.

وبعبارة أُخرى: لو قُدّم خبر سماعة لزم كون تعليق الحكم على العناوين المأخوذة في المطلقات لغواً، وعدم دخلها في الحكم، وهذا بخلاف ما لو قدّمت المطلقات.

فتحصّل: أنّ الأظهر عدم اعتبار هذا القيد في جواز الحلف كاذباً، ويؤيّده عدم الإشارة إلى ذلك في تلك الأخبار الكثيرة خصوصاً في قضيّة عمّار وأبويه، حيث اُكرهوا على الكفر، وأظهر لهم عمّار ما أرادوا، فنزل قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ ...) الخ(1) فقال له النبيّ صلى الله عليه و آله: «إنْ عادوا عليك فعُد»، ولم ينبّهه على التورية مع شفقته صلى الله عليه و آله على عمّار، وعلمه بكراهته تلفّظ ألفاظ الكفر من دون التورية.

قال الشيخ(2): إنّ أكثر الأصحاب اعتبروا في جواز الكذب عدم تمكّنه من التورية، ولم يعتبروا ذلك في فساد ما اُكره عليه من العقود والإيقاعات، بل في كلام بعضهم دعوى الإجماع على عدم اعتبار ذلك.

وأورد عليهم(3): بأنّ المُكرَه على البيع مثلاً مع تمكّنه من عدم إرادة المعنى إنّما يكون مكرَهاً على التلفّظ بالصيغة، ولا يكون مكرهاً على البيع الحقيقي المتقوّم بإرادة المعنى، فلو أراد المعنى ولم يورّ فقد أوجد البيع باختياره وإرادته فيكون صحيحاً.

وأجاب(2) عنه قدس سره: بوجود الفارق بين المقامين، وإجماله:

إنّ المسوّغ للكذب المحرّم - مع قطع النظر عن النصوص الخاصّة - هو الاضطرار والإلجاء، وهذا العنوان لا يصدق مع التمكّن من التفصّي بالتورية، وأمّا الرافع لأثر المعاملة فهو أعمّ من ذلك، بل لو صدق عنوان المُكرَه عليه على البيع).

ص: 259


1- سورة النحل: الآية 106. (2و3) كتاب المكاسب: ج 2/26 و 27 (ط. ج).
2- كتاب المكاسب: ج 2/27-28 (ط. ج).

الخارجي لما كان صحيحاً، وحيث أنّ الإكراه إنّما تعلّق بنفس المعاملة وواقعها، فإذا أوجدها المكرَه (بالفتح) فقد أوجد نفس ما اُكره عليه، فيرتفع أثره بالإكراه.

أقول: وأشكل عليه أغلب المحشّين، وهم المحقّقون الشيرازيّان(1)، والإيرواني(2)، بما حاصله:

إنّ هذا الفرق لو تمّ فإنّما هو بين الإكراه والاضطرار، وتماميّته في المقام تبتني على عدم شمول نفي الإكراه للكذب إذا اُكره عليه، ويختصّ دليل نفي الاضطرار بالشمول له، وهذا ممّا لا يمكن الالتزام به، كيف ونسبة كلٍّ من دليلي رفع الإكراه والاضطرار إلى كلٍّ من الأمرين على حَدٍّ سواء، فبأيّ وجهٍ يجعل التصرّف في دليل حرمة الكذب بأدلّة الاضطرار، والتصرّف في أدلّة العقود والإيقاعات بأدلّة الإكراه.

وفيه: الظاهر أنّ مراد الشيخ رحمه الله على ما يظهر من ذكره الفرق بين المقامين في كتاب البيع من مبحث الإكراه(3)، غير ما فهموه وأوردوا عليه.

ومحصّل كلامه قدس سره(4): إنّ الإكراه الرافع لأثر المعاملات أوسع من الإكراه المسوّغ للمحرّمات، إذ مناط الأوّل عدم طيب النفس، ومناط الثاني دفع ضرر المكرَه على ارتكاب المكره عليه.

توضيح ذلك: إنّ المتبادر من الإكراه هو الجبر والإلجاء، وعليه يُحمل الإكراه في حديث الرفع، فيكون الفرق بينه وبين الاضطرار المعطوف عليه في ذلك الحديث، اختصاص الاضطرار بالحاصل لا من فعل الغير كالجوع ونحوه، والإكراه بما كان).

ص: 260


1- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/131.
2- حاشية المكاسب للإيرواني: ج 1/41.
3- فقه الصادق: ج 23/98.
4- كتاب المكاسب: ج 3/317 (ط. ج).

من فعل الغير، وحيث إنّه لا مسوغ لارتكاب المحرّمات سوى حديث الرفع وما يقرب منه، فلا يجوز ارتكابها إلّاأن يحصل الإلجاء والضرورة، وهذا العنوان لا يصدق مع إمكان التفصّي بالتورية.

وأمّا في المعاملات، فحيثُ أنّه يعتبر في صحّتها - زائداً على عدم الإكراه بالمعنى المتقدّم - صدورها عن الرضا وطيب النفس، على ما تدلّ عليه الآية الشريفة والنصوص الكثيرة، فيكفي في عدم ترتّب آثارها عليها، الإكراه المقابل لطيب النفس، وإنْ لم يصل إلى حَدّ الإلجاء والاضطرار، وهو قد يتحقّق مع إمكان التفصّي بغيرها، مثلاً من كان جالساً في مكان خاص خالٍ عن الغير متفرّغاً لعبادة أو مطالعة، فجاءه من أكرهه على بيع شيء ممّا عنده، وهو في هذه الحال غير قادرٍ على دفع ضرره، وهو كاره للخروج عن ذلك المكان، لكن لو خرج كان له في الخارج خدم يكفونه شَرّ المكره، فالظاهر صدق الإكراه، بمعنى عدم طيب النفس لو باع ذلك الشيء، ولو فرض في هذا المثال إكراهه على محرّم لم يُعذر فيه بمجرّد كراهة الخروج عن ذلك المكان، ففي المقام إذا اُكره على الكَذب، وهو يتمكّن من التفصّي بالتورية، لا يصدق الإكراه، إذ المسوّغ لارتكاب الحرام هو الإلجاء والضرورة غير الصادق في الفرض، وإذا اُكره على المعاملة فالمعاملة مكرهٌ عليها، غاية الأمر يقدر المكرَه على التفصّي عنه بإيقاع الصورة من دون إرادة المعنى، لكنّه غير المكرَه عليه، فلا يعتبر ذلك في حكم الإكراه.

هذا غاية مايمكن أنْ يقال في توجيه كلامه، وبه يندفع الإيراد المتقدّم.

أقول: لكن يرد عليه قدس سره أمران:

ص: 261

الأمر الأوّل: عدم تماميّة الفرق المذكور، إذ طيب النفس والرضا المعتبر في صحّة العقود والإيقاعات ليس إلّاما يقابل الإلجاء والإكراه، مثلاً في المثال المتقدّم لو باع من اُكره على البيع، فهو بالعنوان الأولي وإنْ كان لايرضى به، ولكن بعد ملاحظة العناوين الثانويّة مثل أنّه لايريد الخروج عن ذلك المكان لا محالة يرضى بالمعاملة، فلو صدرت المعاملة عنه، يكون صدورها عن الرضا وطيب النفس وبالاستقلال، ولا يعدّ فاقداً الاستقلال في التصرّف بحيث لا تطيب نفسه بما صدر منه، فلو اعتذر وقال: (ما كنتُ راضياً بها)، قيل له: (لم تكن حين المعاملة ملجَئاً ولا مضطرّاً فكيف عاملت).

وبالجملة: لا يعتبر في صحّة المعاملة من الرضا وطيب النفس سوى مايقابل الإكراه والإلجاء.

الأمر الثاني: إنّه لو تمّ ذلك، لما كان المقام من مصاديق الإكراه، إذ من يتمكّن من التفصّي بالتورية، كمن كان خدمه حاضرين عنده في المثال، وتوقّف دفع ضرر إكراه الشخص على أمر خدمه بدفعه وطرده، حيث اعترف قدس سره في كتاب البيع بأنّه لا يتحقّق الإكراه في حقّه، ويكذب لو ادّعاه.

فتحصّل: أنّه لا فرق بين المقامين.

قال الشيخ رحمه الله(1): (نعم يستحبّ تحمّل الضرر المالي الذي لا يَجحف... الخ).

وفيه: إنّ الضرر المالي إنْ صدق عليه الضرر جاز الكذب لدفعه، وإلّا فلا، ولم يدلّ دليلٌ على استحباب تحمّل الضرر وعدم الكذب في بعض الموارد.).

ص: 262


1- كتاب المكاسب: ج 2/29 (ط. ج).

وقوله عليه السلام في نهج البلاغه: «علامة الإيمان أن تؤثر الصّدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك»(1) الذي استدلّ به لذلك لا يدلّ عليه، إذ بواسطة التقابل فيه بين الصدق الضارّ مع الكذب النافع، يتعيّن حمل الضرر على إرادة عدم النفع، أو النفع على إرادة عدم الضرر، والأوّل لو لم يكن أظهر، لا ريب في إجمال الكلام حينئذٍ، فلا يَصحّ الاستدلال به إذ على الأوّل يكون الكذب محرّماً، وتركه حينئذٍ يكون علامة الإيمان.

وعليه، فهو إمّا أجنبي عن المقام، أو مجملٌ لا يمكن الاستدلال به.

أقول: بقي الكلام في مقامين:

المقام الأوّل: إنّ الأقوال الصادرة عن الأئمّة عليهم السلام في مقام التقيّة في بيان الأحكام محمولة على إرادة خلاف ظواهرها، أو على الكذب لمصلحة، واعتبر الشيخ رحمه الله(2): (أنّ الأليق بشأنهم هو الأوّل).

وفيه: إنّه مبنيّ على القول باستقلال العقل بقبح الكذب حتّى فيما إذا طرأ عليه عنوان جوّزه الشارع الأقدس، ولكنّك عرفت عدم كونه كذلك، وأنّه في موارد تجويز الشارع إيّاه لا يستقلّ العقل بقبحه في نفسه، وأنّه إنّما يجوز لأجل ارتكاب أقلّ القبيحين.

وعليه، فلا يكون حمل النصوص الواردة في مورد التقيّة على إرادة خلاف ظواهرها، من دون نصب قرينة يليق بشأنهم، بل ذلك والكذب لمصلحةٍ سواء.).

ص: 263


1- نهج البلاغة: ج 4/105.
2- كتاب المكاسب: ج 2/30 (ط. ج).

المقام الثاني: أنّه إذا دار الأمر بين التقيّة والحمل على الاستحباب، كما في الأمر بالوضوء عقب بعض ماقال العامّة بكونه حدثاً، فهل يتعيّن الثاني كما أفاده الشيخ رحمه الله(1) أم لا؟

وملخّص القول في المقام: إنّ الكلام الذي يدور أمره بين الحمل على التقيّة، أو الاستحباب، يكون على أقسام:

القسم الأوّل: أن يكون متضمّناً لبيان حكم تكليفي، فيدور أمره:

بين إبقائه على ظاهره من الوجوب، وحمله على التقيّة.

وبين أن يراد به الاستحباب.

ففي هذا القسم يُحمل على الاستحباب، لا لما علّله الشيخ رحمه الله(2) من أنّ التقيّة تتأدّى بإرادة المجاز، وإخفاء القرينة، بل لأنّ حقيقة الاستحباب ليست إلّاالأمر بالفعل مع الترخيص في تركه في مقابل الوجوب الذي هو الأمر بالفعل مع عدم الترخيص في تركه.

وبعبارة أُخرى: إنّ الوجوب والاستحباب ينتزعان عن الترخيص في ترك المأمور به وعدمه، وإلّا فالأمر في الموردين يستعمل في معنى واحد، وعليه فإذا ورد أمرٌ بشيء وعلم من الخارج عدم وجوبه يُحمل على الاستحباب.

القسم الثاني: أن يكون متضمّناً لبيان حكم وضعي، كما إذا ورد أنّ المذي ناقض للوضوء، ودار الأمر بين حمله على التقيّة، أو على إرادة استحباب الوضوء عقيب المذي منه، فالمتعيّن في هذا القسم الحمل على التقيّة، إذ إرادة الاستحباب من مثل).

ص: 264


1- كتاب المكاسب: ج 2/30 (ط. ج).
2- كتاب المكاسب: ج 2/30 (ط. ج).

هذه الجملة غير صحيحة. فتأمّل.

القسم الثالث: أنْ يتضمّن الأمر بعملٍ ويكون ظاهره الإرشاد إلى حكم وضعي، كما إذا أمر بالوضوء عقيب المذي، حيث أنّ ظاهره الإرشاد إلى ناقضيّته للوضوء.

ففي هذا القسم إذا دار الأمر بين الحمل على الاستحباب بإرادة خلاف ظاهر الأمر منه، أو حمله على التقيّة، فحيث أنّ الأمر دائر بين إلغاء أصالة الظهور، وبين الغاء أصالة تطابق المراد الجدّي للمراد الاستعمالي، ولا مرجع لإحداهما على الاُخرى فتتساقطان، ولا يَصحّ الاعتماد على شيء منهما، وعليه فلا وجه للحمل على الاستحباب في هذا المورد.

أقول: وبما ذكرناه من القول الفصل، ظهر ما في كلمات الأستاذ الأعظم وسائر الأساطين رحمهم الله في المقام.

***

ص: 265

الكذب لإرادة الإصلاح

الثاني من مسوّغات الكذب: إرادة الإصلاح.

أقول: لا خلاف في جواز الكذب لإرادة الإصلاح بين المتخاصمين، وتشهد له جملة من النصوص:

منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «المصلح ليس بكذّاب»(1).

ومنها: خبر عيسى بن حسّان، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«كلّ كذب مسؤول عنه صاحبه يوماً إلّاكذباً في ثلاثة: رجلٌ كائد في حربه فهو موضوع عنه، أو رجلٌ أصلح بين اثنين يلقي هذا بغير ما يلقي هذا يريدُ بذلك الإصلاح، أو رجلٌ وعَدَ أهله شيئاً وهو لا يريد أن يتمّ لهم»(2).

إلى غير ذلك من النصوص.

وأيضاً: يمكن أن يستدلّ له بأنّه تعالى أمر في الآية الشريفة (إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (3) بالإصلاح، ومقتضى إطلاقه مطلوبيّة الإصلاح، وإنْ كان بالكذب، فتعارض الآية الشريفة مع عموم ما دلَّ على حرمة الكذب بالعموم من وجه، والترجيح مع الآية الشريفة.

وعليه، فأصل الحكم ممّا لا توقّف فيه، إنّما الكلام في موارد:

المورد الأوّل: قد يقال إنّه كما يجوز الكذب لإرادة الإصلاح، كذلك يجوز لجلب

ص: 266


1- وسائل الشيعة: ج 12/252 ح 16231، الكافي: ج 2/342 ح 19.
2- وسائل الشيعة: ج 12/253 ح 16233، الكافي: ج 2/342 ح 18.
3- سورة الحجرات: الآية 10.

نفع الاخوان، واستدلّ له بما رواه الشيخ الصدوق في كتاب الاخوان بسنده عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: «إنّ الرّجل ليصدق على أخيه فيناله عنتٌ من صدقه فيكون كذّاباً عند اللّه، وإنّ الرّجل ليكذب على أخيه يريدُ به نفعه فيكون عند اللّه صادقاً»(1).

وفيه: - مضافاً إلى ما في سنده من الخلل، وإعراض الأصحاب عنه - إنّه إنّما يدلّ على جواز الكذب لجلب النفع بالإطلاق لشموله للكذب للإصلاح، فالنسبة بينه وبين مفهوم الحصر في جملةٍ من النصوص الحاصرة لجواز الكذب في الثلاثة عمومٌ من وجه، والترجيح مع تلك النصوص، فالأظهر عدم جوازه في هذا المورد.

المورد الثاني: في أنّه هل من الكذب للإصلاح، الكذب لأجل تحبيب غير المتحابين أم لا؟ وجهان:

أقواهما الثاني، إذ ظاهر الإصلاح هو رفع التباغض فيعتبر سبقه، فالكذب لمجرد التحبيب لا دليل على جوازه.

المورد الثالث: أنّه يكفي في صدق مفهوم الإصلاح البغض من جانب واحدٍ، فتشمله المطلقات، مع أنّه مورد المرسل الواسطي الذي روى عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال:

«الكلام ثلاثة: صدق، وكذب، وإصلاح بين الناس.

قيل له: جُعِلت فداك وما الإصلاح بين الناس ؟

قال: تسمع من الرجال كلاماً يبلغه فتخبث نفسه، فتقول سمعتُ فلاناً قال فيك من الخير كذا وكذا خلاف ما سمعته»(2).6.

ص: 267


1- وسائل الشيعة: ج 12/255 ح 16238، مشكاة الأنوار ص 210.
2- وسائل الشيعة: ج 12/254 ح 16234، الكافي: ج 2/341 ح 16.

حيث إنّ الرّجل الذي قيل في حقّه ما قيل أبغضَ الرّجل المتكلّم، وأمّا الرّجل الذي تكلّم فلا يلازم كلامه بغض صاحبه، إذ لعلّ كلامه كان من قبيل نفي الاجتهاد، أو نفي العدالة ممّا لا يكون صادراً عن البغض.

المورد الرابع: لافرق في جواز الكذب للإصلاح بين أن يكون المصلح غير المتخاصمين أو أحدهما، بل لا يبعد دعوى تأكّد الحكم في الثاني للخبر الذي رواه حمران، عن أبي جعفر عليه السلام، أنّه قال:

«ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلّاوبرأتُ منهما في الثالثة.

قيل: هذا حال الظالم، فما بال المظلوم ؟

فقال: ما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم، فيقول: أنا الظالم حتّى يُصلحا»(1).

إذ بديهي أنّ قول المظلوم أنا الظالم كذبٌ ، ونحوه غيره.

قال الشيخ قدس سره(2): (ثمّ قد ورد في أخبارٍ(3) كثيرة جوازالوعد الكاذب... الخ).

أقول: وهذه الأخبار لشمولها لما إذا كان الوعد على سبيل الإخبار توجب تقييد ما دلَّ على حرمة الكذب، كما أنّها تقييد ما دلَّ على لزوم الوفاء بالوعد أو رجحانه.

***2.

ص: 268


1- وسائل الشيعة: ج 12/263 ح 16260، الكافي: ج 2/244 ح 1.
2- كتاب المكاسب: ج 2/32 (ط. ج).
3- وسائل الشيعة: ج 12/252 ح 16229، من لا يحضره الفقيه: ج 4/352 ح 5762.

الكهانة

المسألة التاسعة عشرة: الكهانة حرامٌ بلا خلاف(1)، والكلام في هذه المسألة يقع في مواضع:

الموضع الأوّل: أنّ الكهانة - على ما يستفاد من كلمات اللّغويين(2) وخبر «الاحتجاج»(3) - هي الإخبار عن الغائبات لاتّصال المُخبِر بالجِنّ والشيطان.

أقول: القيود المعتبرة فيها أو قيل باعتبارها اُمورٌ - وقبل بيانها لابدَّ وأن يعلم أنّ كلّ قيدٍ شُكّ في اعتباره ولم يدلّ على عدمه دليل، لابدَّ من البناء على اعتباره أخذاً بالمتيقّن -:

الأمر الأوّل: أن يكون الإخبار بواسطة الاتّصال بالجِنّ والشيطان كما صرّح به الاكثر، فما عن ظاهر «النهاية»(3) من كون الكهانة بغير قذف الشياطين غير تامّ .

كما أنّ قوله عليه السلام في خبر «الاحتجاج»: «وذلك في وجوهٍ شتّى (5): فراسة العين، وذكاء القلب، ووسوسة النفس، وفطنة الروح مع قذفٍ في قلبه» لا يدلّ عليه، لاحتمال رجوع القيد إلى الجميع، بل هو الظاهر بواسطة التعليل بقوله: «لأنّ ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة، فذلك يعلم الشيطان».

الأمر الثاني: كون المُخبَر به أمراً استقباليّاً، فالإخبار عن الأُمور الماضية أو

ص: 269


1- رياض المسائل: ج 1/503 (ط. ق).
2- مجمع البحرين: ج 4/80. (3و5) الاحتجاج: ج 2/339.
3- حكاه عنه في كتاب المكاسب: ج 2/36-37 (ط. ج).

المتحقّقة بالفعل لا يعدّ من الكهانة.

ويشهد له: - مضافاً إلى تصريح جمع من اللّغويين به - قوله عليه السلام في خبر «الاحتجاج»(1): «تؤدّي إلى الشياطين - أي الكهنة - ما يحدث في البعد من الحوادث».

أقول: لكن دعوى عدم اعتبار هذا القيد بحسب المتفاهم العرفي، المؤيّد بإطلاق كلمات أكثر الفقهاء ليست ببعيدة، بل صحيح الهيثم الآتي دالٌّ عليه كما ستعرف.

الأمر الثالث: أن يكون مركّباً من الإخبار بخبر السماء والإخبار بخبر الأرض، واستدلّ له بقوله عليه السلام في خبر «الاحتجاج»: «فمنذ مُنِعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة».

بحث: الأظهر أنّ الكهانة على قسمين:

القسم الأوّل: أن يخبر الكاهن عن الحوادث المستقبلة، لاتّصاله بالشياطين المُخبرة عن أخبار السماء.

القسم الثاني: أن يخبر الكاهن عن الكائنات الأرضيّة للاتّصال بالشياطين والجِنّ المخبرة عن الأخبار الأرضيّة.

وقد أطلق اسم (الكاهن) في خبر «الاحتجاج» على القسم الثاني، كما أطلق فيه على الأوّل، لاحظ قوله عليه السلام فيه: «لأن مايحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان ويؤدّيه إلى الكاهن ويخبره بما يحدث في المنازل والأطراف».

وقوله عليه السلام فيه: «واليوم إنّما يؤدّي الشيطان إلى كهانها أخبار الناس ممّا9.

ص: 270


1- الاحتجاج: ج 2/339.

يتحدّثون به... الخ» وعليه فتحمل الكهانة في قوله عليه السلام: «انقطعت الكهانة» على الكهانة الكاملة، أي القسم الأوّل.

الموضع الثاني: الظاهر جواز تسخير الجن للكهانة، وقد تقدّم الكلام فيه في آخر مبحث السحر.

الموضع الثالث: الكهانة محرّمة، وتشهد لها جملة من النصوص:

منها: خبر أبي بصير، عن مولانا الصادق عليه السلام: «من تكهن أو تكهن له فقد برئ من دين محمّد صلى الله عليه و آله»(1).

ونحوه غيره، وقد تقدّم بعضها في مبحث التنجيم، والسحر(2).

الموضع الرابع: يحرم الرجوع إلى الكاهن، والعمل بقوله، وترتيب الأثر عليه لجملةٍ من النصوص الناهية عن إتيان الكاهن، كخبر «الخصال» المتقدّم، وصحيح الهيثم الآتي وغيرهما، فإن الإتيان إلى الكاهن والمجيء إليه كناية عن تصديقه والعمل بقوله.

الموضع الخامس: لا يجوز أخذ الاُجرة على إخباره لكونه:

1 - عملاً لا يترتّب عليه أثر جائز.

2 - ولخبرالسكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام حيث جعل من السُّحت أجر الكاهن(3).

الإخبار عن الأُمور المستقبلة

ثمّ إنّه قد استدلّ لحرمة الإخبار عن الغائبات، والاُمور المستقبلة بأُمور:

الأمر الأوّل: صحيح الهيثم، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

ص: 271


1- وسائل الشيعة: ج 17/149 ح 22216، بحار الأنوار: ج 76/210 ح 4.
2- صفحة 12 ومابعدها و صفحة 73 و مابعدها من هذا المجلّد.
3- وسائل الشيعة: ج 17/93 ح 22061، الكافي: ج 5/126 ح 2. وفيه: عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «السّحت ثمن الميتة، وثمن الكلب، وثمن الخمر، ومهر البغي، والرَّشوة في الحكم، وأجر الكاهن».

«قلتُ له: إنّ عندنا بالجزيرة رجلاً ربما أخبر من يأتيه يسأله عن الشيء يُسرق او شبه ذلك فنسأله ؟

فقال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من مشى إلى ساحرٍ أو كاهنٍ أو كذّاب يصدّقه فيما يقول، فقد كفر بما أنزل اللّه من كتاب»(1).

بتقريب: أنّه يدلّ على حصر المُخبر بالشيء الغائب بالساحر والكاهن والكذّاب، جعل الكلّ حراماً.

وفيه أوّلاً: إنّه يدلّ على حصر المحرّم من الإخبار عن الغائبات بإخبار هذه الطوائف الثلاث، لا حصر المُخبَر عنها به كما لا يخفى .

وثانياً: إنّه بقرينة السؤال ظاهرٌ في الإخبار عن الأُمور الماضية، ولم يستشكل أحدٌ في جوازه إذا لم يكن بالكهانة.

وثالثاً: إنّه يدلّ على حرمة الرجوع وتصديق المخبر، وهي لا تلازم حرمة الأخبار، كما في حرمة تصديق الفاسق، وشهادة العدل الواحد في بعض الموارد، مع جواز إخبار الفاسق وجواز الشهادة للعادل، بل وجوبها أحياناً عليه.

الأمر الثاني: قوله عليه السلام في خبر «الاحتجاج»: «لئلّا يقع في الأرض سببٌ يشاكل الوحي».

بتقريب: أنّه يدلّ على مبغوضيّة الإخبار عن الغائبات لمشاكلته للوحي من أيّ سببٍ كان.

وفيه أوّلاً: إنّه يدلّ على المبغوضيّة التكوينيّة، ولذا قطع اللّه سبحانه سببه بمنع5.

ص: 272


1- وسائل الشيعة: ج 17/150 ح 22217، بحار الأنوار: ج 2/308 ص 65.

الشياطين عن الإطلاع على السماء وأخباره منعاً تكوينيّاً.

وثانياً: إنّه مختصٌّ بالإخبار عن السماء، فيدلّ على عدم المنع من الإخبار عن الغائبات من الكائنات في الأرض.

الأمر الثالث: قوله عليه السلام في حديث المناهي حيث نهى عن إتيان العرّاف وقال:

«من أتاه وصدّقه فقد برئ ممّا أنزل اللّه عزّ وجلّ على محمّد صلى الله عليه و آله»(1) إذ المُخبِر عن الغائبات في المستقبل كاهنٌ يخصّ باسم العرّاف.

وفيه أوّلاً: إنّه ضعيف السند.

وثانياً: أنّه يدلّ على حرمة تصديقه، وقد مرّ أنّها لا تلازم حرمة الإخبار.

فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمته، وعليه فإن كان جازماً بالمُخبَر عنه جاز، وإلّا حرم لكونه من الكذب المحرّم.

***8.

ص: 273


1- وسائل الشيعة: ج 17/149 ح 22215، من لا يحضره الفقيه: ج 4/3 ح 4968.

حرمة اللّهو

المسألة العشرون: نَسب الشيخ(1) إلى «المبسوط»(2) و «السرائر»(3)و «المعتبر»(4) و «القواعد»(4) و «الذكرى »(5) و «الجعفريّة»(6) وغيرها أنّ اللّهو حرامٌ ، ولكن الكلمات التي ذكرها رحمه الله لا دلالة فيها على إرادة حرمة اللّهو بقول مطلق، فإنّها متضمّنة لحرمة طلب الصيد لغرض اللّهو، ومعلوم أنّ قولهم لغرض اللّهو ليس تعليلاً للحرمة، بل هو قيدٌ للطلب، وعليه فمرادهم أنّ الصيد لأجل اللّهو لا للانتفاع وغيره من الأغراض العقلائيّة حرامٌ ، وهذا لا يلازم حرمة اللّهو بقول مطلق، إذ لعلّ في هذا الفعل اللّهوي خصوصيّة وهي إيذاء الحيوانات بلا جهة.

نعم، بعضها ظاهر في ذلك كقول المحقّق في محكي «المعتبر»(8): (قال علماؤنا:

اللّاهي بسفره كالمتنزّه بصيده بطراً لايترخّص لنا أنّ اللّهو حرامٌ فالسفر له معصية).

أقول: وكيف كان، فتنقيح القول في المقام يقتضي البحث في موردين:

المورد الأوّل: في بيان الموضوع.

فقد احتمل الشيخ رحمه الله(7) فيه احتمالات ثلاثة:

ص: 274


1- كتاب المكاسب: ج 2/41 (ط. ج).
2- المبسوط: ج 1/136.
3- السرائر: ج 1/327. (4و8) المعتبر: ج 2/471.
4- قواعد الأحكام: ج 1/325 (الطبعة الحديثة كما في حاشية المكاسب الطبعة الحديثة: ج 41/2).
5- الذكرى ص 258 (نقلا عن حاشية المكاسب: ج 2/41 الطبعة الحديثة).
6- الرسالة الجعفريّة (رسائل المحقّق الكركي): ج 1/123 (كما في حاشية المكاسب: ج 2/41 الطبعة الحديثة).
7- كتاب المكاسب: ج 2/47 (ط. ج).

الأوّل: أن يُراد به مطلق اللّعب، كما يظهر من «الصحاح» و «القاموس».

الثاني: هو اللّعب عن بطر، أي شدّة الفرح - والظاهر أنّ مراده هو الحركة لا لغرض عقلائي - الناشئة عن شدّة الفرح كالرقص، أو الموجبة لها كالضرب بالطشت.

الثالث: هي الحركات التي لا يتعلّق بها غرضٌ عقلائي مع انبعاثها عن القوى الشهويّة.

ولكن يرد عليه: - مضافاً إلى ما في الاحتمال الأخير من نحو من الاجمال، إذ تحصيل مقتضيات القوى الشهويّة بأنفسها تعدّ أغراضاً عقلائيّة، فتأمّل - الظاهر أنّ اللّهو من أفعال النفس، بمعنى أنّه عنوان منطبق عليها، ولا ربط له بالأفعال الجوارحيّة، وليس كاللّعب منطبقاً على تلك الأفعال، كما يظهر لمن تدبّر في مشتقّات هذا اللّفظ، لاحظ:

1 - قوله تعالى : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ ) (1) أي ساهية غافلة مشغولة بالباطل عن الحقّ وتذكّره.

2 - وقوله تعالى: (أَلْهاكُمُ اَلتَّكاثُرُ) (2) أي شَغَلكم التفاخر والتباهي بكثرة المال عن الآخرة.

3 - وقوله تعالى: (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ ) (3).

4 - وقوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهّى) (4).0.

ص: 275


1- سورة الأنبياء: آية 4.
2- سورة التكاثر: آية 2.
3- سورة النور: آية 38.
4- سورة عبس: آية 10.

ولذا قيل في قول لهو الحديث إنّ الإضافة بمعنى من، لأنّ اللّهو يكون من الحديث وغيره، وإطلاقه على بعض الأفعال الجوارحيّة كالغناء إنّما هو من باب إطلاق اللّفظ الموضوع للمسبّب على السبب.

وعليه، فاللّهو هو اشتغال النفس باللّذائد الشهويّة بلا قصد غاية، وإنْ كانت الغاية حاصلة، سواءٌ صدرت منه حركة جوارحيّة أم لا، كما ذكره بعض المحقّقين(1).

المورد الثاني: في بيان حكم اللّهو.

فقد استدلّ الشيخ رحمه الله(2) لحرمة مطلق اللّهو بجملةٍ من النصوص.

منها: خبر «تحف العقول»: «وما يكون منه وفيه الفساد محضاً، ولا يكون منه ولا فيه شيءٌ من وجوه الصلاح، فحرامٌ تعليمه وتعلّمه، والعمل به، وأخذ الأجر عليه»(3).

بدعوى أنّ اللّهو من هذا القبيل.

وفيه أوّلاً: إنّه ضعيف السند.

وثانياً: إنّ كون اللّهو ممّا يجيءُ منه الفساد محضاً يتوقّف على ثبوت حرمته، إذ لو كان جائزاً لما كان من هذا القسم، وإثبات حرمته بهذا الخبر دور واضح.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الخبر متضمّنٌ لبيان الكبرى، وهي أنّ ما يجيء منه الفساد محضاً يحرمُ جميع التقلبات العمليّة فيه، وأمّا إحراز الصغرى فلابدَّ وأن يكون بدليلٍ آخر، وكون اللّهو من مصاديقها أوّل الكلام.5.

ص: 276


1- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/42.
2- كتاب المكاسب: ج 1/43 (ط. ج).
3- وسائل الشيعة: ج 17/85 ح 22047، تحف العقول ص 335.

ومنها: خبر الأعمش، عن مولانا الصادق عليه السلام، وقد عدَّ من الكبائر الاشتغال بالملاهي الّتي تصدّ عن ذكر اللّه كالغناء وضَرب الأوتار(1).

بدعوى أنّ (الملاهي) جمع (الملهي) مصدراً أو (المُلهي) وصفاً لا (الملهاة) آلة، لأنّه لا يناسب التمثيل بالغناء.

وفيه أوّلاً: إنّ الخبر ضعيفُ السند كما تقدّم.

وثانياً: إنّه يدلّ على حرمة اللّهو الذي يصدّ عن ذكر اللّه، أي يوجبُ حالة الاحتجاب للنفس كالغناء وشبهه، فلا دلالة فيه على حرمة اللّهو المطلق.

وثالثاً: إنّه يحتمل أن تكون (الملاهي) جمع (الملهاة) التي هي اسم الآلة، ومناسبته مع التمثيل بالغناء إنّما هي لأجل إرادة الغناء من آلة اللّهو.

ومنها: حسن الفضل بن شاذان، عن الإمام الرضا عليه السلام وقد عَدّ فيه الاشتغال بالملاهي من الكبائر(2).

وفيه: الظاهر من اللّغة كون (الملاهي) جمع (الملهاة) اسم الآلة، ولا صارف عن هذا الظهور، بل يؤكّده أنّ الظاهر من الباء الواردة في صدرها الإستعانة، وزيادة كلمة (الاشتغال) قبل كلمة (الملاهي).

وعليه، فهو يدلّ على أنّ استعمال آلات اللّهو حرام، ولا نزاع في ذلك، ولا دلالة له على حرمة اللّهو المطلق.

ومنها: خبر عبد اللّه بن علي، عن عليّ بن موسى ، عن آبائه، عن الإمام أمير المؤمنين عليهم السلام: «كلّ ما ألهى عن ذكر اللّه فهو من الميسر»(3).2.

ص: 277


1- وسائل الشيعة: ج 15/331 ح 20663، بحار الأنوار: ج 76/9 ح 11.
2- وسائل الشيعة: ج 15/329 ح 20660، بحار الأنوار: ج 76/12 ح 12.
3- وسائل الشيعة: ج 17/315 ح 22640، بحار الأنوار: ج 70/157 ح 2.

وفيه أوّلاً: إنّ الخبر ضعيف السند، كما تقدّم في مبحث القمار(1).

وثانياً: إنّه بعد ما لا ريب في أنّ المراد ليس جعل كلّ ما يوجب الالتهاء عن ذكر اللّه بمعنى الاشتغال الفعلي عنه من الميسر المحرّم، إذ كلّ فعل مباح يكون كذلك، فلابدَّ من حملة على إرادة حصول حالة الاحتجاب للنفس من تلك المعصية.

ومنها: ما رواه زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام حيث قال في جواب من خرج في السفر يطلب الصيد بالبزاة والصقور: «إنّما خَرج في لهوٍ لا يقصّر»(2).

وقريب منه جملة من النصوص.

وفيه أوّلاً: إنّ هذه الطائفة تدلّ على أنّ السفر للصيد اللّهوي لا يوجب القصر، وهذا لا يلازم الحرمة، إذ وجوب الإتمام أعمّ من كون السفر معصية.

وثانياً: إنّها لو دلّت على الحرمة، فإنّما تدلّ على حرمة الصيد اللّهوي، وهذه لا تلازم حرمة اللّهو بقول مطلق، إذ لعلّ في هذا القسم منه خصوصيّة كما تقدّم.

ومنها: خبر أبي عبّاد، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن السماع، فقال: لأهل الحجاز فيه رأي، وهو في حيّز الباطل واللّهو»(3).

وفيه أوّلاً: إنّه ضعيف السند، لأنّ أبا عبّاد إمامي مجهول.

وثانياً: إنّه لا يدلّ على حرمة اللّهو، وكون الغناء المحرّم من أقسامه لا يدلّ على حرمة مطلقه.

ومنها: خبر عبد الأعلى ، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن الغناء، وقلت: إنّهم يزعمون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله رَخّص في أنْ يقال: جئناكم...2.

ص: 278


1- صفحة 207 من هذا المجلّد.
2- وسائل الشيعة: ج 8/478 ح 11216، الاستبصار: ج 1/236 ح 3.
3- وسائل الشيعة: ج 17/308 ح 22612، بحار الأنوار: ج 66/262.

إلى أن قال: كذبوا إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاَتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنّا...) الخ»(1).

وفيه أوّلاً: إنّ الخبر ضعيف السند كما تقدّم.

وثانياً: إنّه يدلّ على أنّ اللّهو لا يناسب ساحته المقدّسة، وهذا لا يلازم حرمته علينا كما هو واضح، والاستشهاد بالآية الشريفة لحرمة القول المزبور إنّما هو من قبيل ذكر المناسبات.

ومنها: ما دلَّ على أنّ اللّهو من الباطل(2)، بضميمة ما يظهر منه حرمة الباطل.

وفيه: إنّه لم يدلّ على حرمة الباطل العرفي دليلٌ ، وغاية ما يستفاد من الأدلّة حرمة قسمٍ خاص منه.

أقول: وممّا ذكرناه ظهر الحال فيما أيّد به الشيخ رحمه الله.

ولو تنزّلنا عمّا ذكرناه، وسَلّمنا دلالة ما تقدّم على حرمة اللّهو بقول مطلق، فإنّه لا مناص من حمله على قسمٍ خاص منه، وذلك لما عرفت من أنّ اللّهو هو الاشتغال عن اللّه تعالى ، وحيثُ لا ريب في أنّ مجرّد الاشتغال الفعلي لا يكون حراماً، وإلّا لزم حرمة جميع الأفعال المباحة، فلا محيص عن إرادة حالة الالتهاء عن اللّه، وهي لا تحصل إلّاعن بعض الأُمور، وقد دلّ الدليل على أنّ بعض الأشياء منها، فما لم يدلّ دليلٌ على منشأيّة فعلٍ لحصول تلك الحالة، لما كان وجه للحكم بحرمته.

***3.

ص: 279


1- وسائل الشيعة: ج 17/307 ح 22608، الكافي: ج 6/433 ح 12.
2- وسائل الشيعة: ج 19/250 ح 24523، الكافي: ج 5/50 ح 13.

اللَّعب واللَّغو

أقول: وليعلم أنّ هنا عنوانين آخرين، وهما اللَّعب واللَّغو، لابدَّ من التعرّض لحكمهما في المقام، فنقول:

أمّا اللّعب: فهو الفعل لغاية الإلتذاذ بلا قصد غايةٍ أُخرى .

وأمّاحكمه: فعن الحِلّي و الطبرسي حرمته بقول مطلق، وقداختار الشيخ رحمه الله كراهته.

ولكن حيث لم يدلّ دليل على حرمته ولا على كراهته، فالأظهر عدم الكراهة أيضاً، والمرسل المرويّ عن «مجمع البيان»: «كلّ لعب حرامٌ إلّاثلاثة: لعب الرّجل بقوسه وفرسه وأهله» فإنّه لإرساله لا يعتمد عليه، وأظنّ أنّ الطبرسي أراد بذلك ما رُوي عن النبيّ صلى الله عليه و آله - المروي في «الوسائل» - في حديثٍ أنّه قال: «كلّ لهو المؤمن باطلٌ إلّافي ثلاث: في تأديبه الفرس، ورميه عن قوسه، وملاعبته امرأته، فإنّهنّ حقّ »(1).

فيرد عليه: - مضافاً إلى أنّه إنّما يكون في اللّهو دون اللّعب، ومضافاً إلى ضعف سنده للرفع -: أنّه يدلّ على أن كلّ لهوٍ باطل، ولا دليل على حرمة الباطل.

أضف إلى ذلك كلّه، قيام الضرورة على جواز اللّعب في الجملة، وكونه من المباحات الشرعيّة كاللّعب باللّحية أو الأحجار أو الحَبل أو نحوها، وعليه فلو دلّ دليل على النهي عنه لابدَّ من حمله على قسمٍ خاص منه.

وأمّا اللّغو: فهو الفعل الخالي عن الغاية.

ص: 280


1- وسائل الشيعة: ج 19/250 ح 24523، الكافي: ج 5/50 ح 13.

أقول: استظهر الشيخ رحمه الله(1) من خبر أبي عبّاد المتقدّم اتّحاد اللّغو واللّهو، لاستشهاده عليه السلام بقوله تعالى : (وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (2) لحرمة الغناء الذي قال عليه السلام فيه: «إنّه في حيّز الباطل واللّهو».

ولكن يرد عليه: - مضافاً إلى ضعف سنده كما تقدّم - أنّه إنّما يدلّ على صدق العنوانين في بعض الموارد وهو السماع، حيث إنّه لغو في نفسه، واستماعه يوجب حالة الالتهاء عن اللّه تعالى ، فلا دلالة فيه على اتّحاد مفهومهما.

وأمّا حكمه: فقد استدلّ لحرمته:

تارةً : بالآية الشريفة.

وأُخرى : بخبر الكابلي، عن سيِّد الساجدين عليه السلام في تفسير (الذنوب التي تهتك العِصَم) بشرب الخمر واللّعب بالقمار، وتعاطي ما يضحك الناس من اللّغو والمزاح وذكر عيوب الناس(3).

وثالثةً : بوصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله لأبي ذرّ: «إنّ الرّجل ليتكلّم بالكلمة في المجلس ليضحكهم بها فيهوي في جهنّم ما بين السماء والأرض»(4).

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الآية الشريفة: فالظاهر ولا أقلّ من المحتمل عدم إرادة مطلق اللّغو منها، حيث إنّها ليست إلّافي مقام بيان ما يترتّب على التجنّب عن اللّغو، فلا يمكن التمسّك بإطلاقها، والمتيقّن منها إرادة الغناء، مع أنّه لا ظهور في الآية إلّافي رجحان0.

ص: 281


1- كتاب المكاسب: ج 2/48 (ط. ج).
2- سورة الفرقان: الآية 72.
3- وسائل الشيعة: ج 16/281 ح 21556، بحار الأنوار: ج 70/375 ح 12.
4- وسائل الشيعة: ج 12/251 ح 16228، بحار الأنوار: ج 74/90.

التجنّب عنه، ولا تدلّ على لزومه، مضافاً إلى أنّها في مقام بيان ما يترتّب على الإعراض عن اللّغو، وأنّ الراجح هو المرور باللّغو مرور الكرام، فسبيل هذه الآية سبيل قوله تعالى: (وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) (1) وقوله تعالى:

(وَ إِذا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ) (2) .

وأمّا خبر الكابلي: - فمضافاً إلى ضعف سنده لبكر بن عبد اللّه بن حبيب(3) - فهو في مقام بيان الذنوب التي توجب هذه الحالة ترتّبها، وهي هتك العِصَم المفروغ كونه من الذنوب، وليس في مقام بيان حرمة اللّغو.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ المستفاد منه حرمة اللّغو الموجب لهتك عصم الناس، كسخرية المؤمن ونحوها، ولايستفاد منه حرمة مطلق اللّغو.

وأمّا الخبر: المتضمّن لوصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله لأبي ذرّ فإنّه مضافاً إلى ضعف سنده كما تقدّم، الظاهر منه أنّه ربما يتكلّم الإنسان بكلمة تكون كذلك لا أنّ كلّ مزاحٍ كذلك، فلعلّ ما يكون كذلك هو ما كان من قبيل الغيبة أو السخرية.

وأمّا ما أورده المحقّق الإيرواني رحمه الله:(4) بأنّ الهوى كناية عن انحطاط مقامه ولو بالإحباط من حسناته ونوافله، فلا دلالة فيه على التحريم.

فيرده: أنّ هذا يتمّ في الجملة التي نقلها الشيخ في «المكاسب»، وأمّا في الجملة التي وردت في الخبر ونقلناها، وهي قوله: «فيهوى في جهنّم» فلا يتمّ ذلك، كما هو واضح.

***2.

ص: 282


1- سورة المومنون: الآية 3.
2- سورة القصص: الآية 55.
3- معجم رجال الحديث: ج 4/255 قوله: (قال النجاشي بكر بن عبد اللّه بن حبيب المزني يعرف وينكر... الخ).
4- حاشية الإيرواني: ج 1/42.

مدح من لا يستحقّ المدح

المسألة الحادية والعشرون: مدحُ من لايستحقّ المدح، أو يستحقّ الذَّم، ذكره الشيخ الأنصاري رحمه الله في قسم المكاسب المحرّمة من كتابه «المكاسب».

أقول: ليس محلّ الكلام هو المدح بالجملة الخبريّة بما ليس فيه، لأنّ مثله يعدّ حينئذٍ كذباً، ويدلّ على حرمته جميع ما دلَّ على حرمة الكذب، بل المراد هو المدح بها بما فيه، أو مدحه بالجملة الإنشائيّة.

ثمّ إنّ المراد من مَن لا يستحقّ المدح، هو من كان عدوّاً للّه لكفره وعصيانه.

وقد استدلّ الشيخ رحمه الله(1) لحرمته بأُمور:

الأمر الأوّل: حكم العقل بقبح ذلك.

وفيه: إنّ العقل وإنْ كان يُدرك ذلك، ولكن كونه بنحوٍ يلازم حرمته شرعاً غير معلوم.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ العقل يراه خُلُقاً رديّاً لا محرّماً ما لم ينطبق عليه عنوان محرم آخر، كتقوية الظالم ونحوها، ولم يكن الممدوح ممّن تجب البراءة عنه لكونه مبتدعاً في الدِّين.

الأمر الثاني: قوله تعالى : (وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ) (2).

وتقريب الاستدلال بها: إنّ الركون هو الميل إليهم، فإذا حَرُم الميل القلبي حَرُم

ص: 283


1- كتاب المكاسب: ج 2/51 (ط. ج).
2- سورة هود: الآية 113.

المدح بالأولويّة، أو أنّ المدح من مصاديق الميل، إذ الميل أعمّ من الميل القلبي والميل الخارجي.

وفيه: إنّ المنهي عنه هو الركون إلى الظالم، لا مطلق العاصي، وإنْ يعدّ كلّ عاص ظالماً، إلّاأنّ المتبادر منه بحسب المتفاهم العرفي هو من شاع إطلاق الظالم عليه، أي الحاكم الجائر، أو الظالم لغيره بجناية أو سرقة، ويؤيّده صحيح أبي حمزة، عن سيِّد الساجدين عليه السلام، قال:

«إيّاكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين»(1).

فإنّ المقابلة آية التعدّد، وعليه فلا ربط لها بالمقام.

نعم، يحرم بعض مصاديق مدح من لا يستحقّ المدح، لكونه ركوناً إلى الظالم.

الأمر الثالث: ما رواه الصدوق رحمه الله، عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «من عَظّم صاحب دنيا وأحبّه لطمع دنياه، سخط اللّه عليه، وكان في درجته مع قارون في التابوت الأسفل من النار»(2).

ومن المعلوم أنّ المدح من مصاديق التعظيم.

وفيه أوّلاً: إنّ الخبر ضعيف السند لحفص بن عائشة الكوفي وغيره.

وثانياً: الظاهر - ولا أقلّ من المحتمل - أنّ المراد من (صاحب دنيا) هو السلطان الجائر، وذلك لوجوه:

الوجه الأوّل: لم يفتِ فقيهٌ بحرمة تعظيم صاحب المال، لا سيّما إذا كان من المطيعين للّه تعالى طمعاً في ماله، بل السيرة جارية على جوازه.0.

ص: 284


1- وسائل الشيعة: ج 17/177 ح 22289، الكافي: ج 8/16 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 17/181 ح 22302، بحار الأنوار: ج 73/359 ح 30.

الوجه الثاني: عدم صحّة هذا الإطلاق على من له المال فقط.

الوجه الثالث: سياق سائر عبارات الخبر.

وعليه، فسبيل هذا الخبر سبيل الخبر الآتي.

الأمر الرابع: قوله صلى الله عليه و آله في حديث المناهي: «من مَدَح سلطاناً جائراً أو تخفّف وتضعضع له طمعاً فيه، كان قرينه في النار»(1).

وفيه أوّلاً: إنّ الخبر ضعيف السند لما تقدّم.

وثانياً: إنّه مختصٌّ بمدح السلطان الجائر.

أقول: ثمّ إنّه على فرض دلالة الدليل على حرمة مدح من لا يستحقّ المدح، فإنّ حرمته تختصّ بما إذا لم يضطرّ إليه لدفع ضرر، وإلّا فلا ريب في جواره، ويشهد له - مضافاً إلى اختصاص الخبرين بغير هذا المورد - عموم أدلّة التقيّة، فإنّها تدلّ على جوازها في كلّ خوف وضرورة.

وقد استدلّ الشيخ رحمه الله(2) والاُستاذ الأعظم(3) عليه بما في جملةٍ من النصوص الواردة فيها قوله عليه السلام:

«إنّ شرّ الناس عند اللّه يوم القيامة الذين يُكرَمونَ اتّقاء شرّهم»(4).

وفيه: إنّه لا يدلّ على جواز إكرام المُكرَمين كما لا يخفى .

***2.

ص: 285


1- وسائل الشيعة: ج 17/183 ح 22306، الفقيه: ج 4/11 ح 4968.
2- كتاب المكاسب: ج 2/52 (ط. ج).
3- مصباح الفقاهة: ج 1/426.
4- وسائل الشيعة: ج 16/31 ح 20889، الكافي: ج 2/326 ح 2.

حرمة معونة الظالمين

المسألة الثانية والعشرون: قد طفحت كلماتهم بأنّ معونة الظالمين في ظلمهم حرام(1).

أقول: في هذه المسألة مواضع من البحث نتعرّض لها فيما يلي:

الأمر الأوّل: لا ريب ولا كلام في حرمة معونة الظالمين في ظلمهم، وتشهد لحرمتها الأدلّة الأربعة:

أمّا الإجماع: فواضح.

وأمّا العقل: فلأنّه كما يستقلّ بقبح الظلم، يستقلّ بقبح إعانة الظالم في ظلمه.

وأمّا الكتاب: فقوله تعالى: (وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ) (2) إذ الركون هو الميل، فتدلّ هذه الآية الشريفة على حرمة المعونة بالأولويّة، أو المراد به الدخول معهم في ظلمهم.

وأمّا السنّة: فنصوص كثيرة:

منها: صحيح أبي حمزة، عن سيّد الساجدين عليه السلام، أنّه قال: «إيّاكم وصحبه العاصين، ومعونة الظالمين»(3).

ومنها: خبر طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «العامل بالظلم والمُعين له والراضي به شركاء ثلاثتهم»(4).

ص: 286


1- كتاب المكاسب: ج 2/53 (ط. ج).
2- سورة هود: الآية 113.
3- وسائل الشيعة: ج 17/177 ح 22289، الكافي: ج 8/16 ح 2.
4- وسائل الشيعة: ج 17/177 ح 22290، الكافي: ج 2/333 ح 16.

ونحوهما غيرهما.

أقول: ثمّ إنّه على فرض صحّة تقسيم الذنوب إلى الكبائر والصغائر، تكون معونة الظالمين من الكبائر، للتوعيد عليها في كتاب اللّه تعالى ، وفي النصوص التي أشار الشيخ رحمه الله إلى بعضها.

ثمّ إنّ المراد ب (الظالم) هو الظالم للغير، كما تقدّم في المبحث السابق، ولا يعمّ الظالم لنفسه بالمعصية.

وأيضاً: قد استدلّ على حرمة معونة الظالمين بقوله تعالى : (وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ ) (1).

وفيه: قد تقدّم في مبحث الإعانة على الإثم أنّ التعاون غير الإعانة. فراجع(2).

الأمر الثاني: يحرم أن يتعنون الشخص بأنّه من أعوان الظلمة، وتشهد له - مضافاً إلى الأدلّة المتقدّمة - جملة من النصوص:

منها: خبر الكاهلي، عن مولانا الصادق عليه السلام: «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع - مقلوب عباس - حَشَره اللّه يوم القيامة خنزيراً»(3). ونحوه غيره.

أقول: وسيأتي في الأمر اللّاحق إنّ طائفة من النصوص تدلّ على حرمة صيرورة الشخص عوناً للظالم، وإنْ كان عمله غير مربوط بظلمه، وعليه فترديد المحقّقين الشيرازيين في حرمة كون الشخص عوناً للظالم، ولو في ما لا يرتبط بمظالمه، بل الإفتاء بجوازه، في غير محلّه(4).6.

ص: 287


1- سورة المائدة: الآية 2.
2- فقه الصادق: ج 20/230.
3- وسائل الشيعة: ج 17/180 ح 22297، تهذيب الأحكام: ج 6/329 ح 34.
4- راجع حاشية المكاسب: ج 1/136.

إعانة الظالم في غير جهة ظلمه

الأمر الثالث: قال الشيخ(1): (وأمّا معونتهم في غير المحرّمات، فظاهر كثيرٍ من الأخبار حرمتها، ولكن المشهور بين الأصحاب عدم حرمتها، بل عن العلّامة الطباطبائي الإجماع عليه)(2).

أقول: وقد استدلّ للحرمة بنصوص كثيرة، ولكنّها لا تدلّ على ذلك، إذ الأخبار على طوائف:

الطائفة الأُولى : ما دلَّ على الحرمة فيما إذا صدق على المعين عنوان عون الظالم، وكان معدوداً في العرف من المنسوبين إليه، بأن يقال عنه: (هذا كاتبُ الظالم مثلاً):

منها: حسن محمّد بن عذافر، عن أبيه، عن مولانا الصادق عليه السلام، أنّه قال:

«يا عذافر نبئتُ إنّك تعامل أبا أيّوب والربيع، فما حالك إذا نُودي بك في أعوان الظلمة»(3)، إذ الظاهر منه أنّ عذافر كان دأبه المعاملة مع الظَلَمة، بحيث كان يُعدّ من أعوانهم.

ومنها: خبر ابن أبي يعفور، قال:

«كنتُ عند أبي عبد اللّه عليه السلام إذ دخل عليه رجلٌ من أصحابنا، فقال: جُعِلتُ فداك إنّه ربما أصاب الرّجل منّا الضيق والشدّة فيُدعى إلى البناء يبنيه، أو النهر يكريه، أو المسنّاة يصلحها، فما تقول في ذلك ؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: ما أحبُّ أنّي عقدتُ لهم عقدة...

إلى أن قال: إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللّه

ص: 288


1- كتاب المكاسب: ج 2/54 (ط. ج).
2- رياض المسائل: ج 1/505 (ط. ق).
3- وسائل الشيعة: ج 17/178 ح 22291، الكافي: ج 5/105 ح 1.

بين العباد»(1).

إذ الظاهر من تطبيق الإمام عليه السلام قوله: (إنّ أعوان... الخ) أنّ الرّجل المسؤول عنه هو من تصيبه الشدّة فيلتجئ إلى الظالمين، بحيث يكون ارتزاقه من قبلهم.

الطائفة الثانية: ما يدلّ على حرمة تعظيم شوكتهم، والعمل بما يكون راجعاً إلى شأنٍ من شؤون رئاستهم:

منها: حسن يونس بن يعقوب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا تُعِنْهُم على بناء مسجد»(2).

فإنّ بناء المسجد تعظيم لشوكتهم، وتحصيلٌ لشأنٍ من شؤون رئاستهم.

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على حرمة محبّتهم:

منها: خبر صفوان الظاهر في المنع عن إكرائه الجمّال من هارون الرشيد، وفيه:

«أتحبّ بقائهم حتّى يخرج كراؤك ؟ قلت: نعم، قال: من أحَبّ بقائهم فهو منهم، ومن كان منهم كان ورد النار»(3).

أقول: هذا الخبر أدلّ على الجواز، إذ الإمام عليه السلام رَدَعه عن محبّة بقائهم، وعلى ذلك يُحمل ما ورد في خبر العيّاشي الآتي من قوله عليه السلام: «النظر إليهم على العمد من الكبائر التي بها يستحقّ النار»، أي النظر على وجه المحبّة.

الطائفة الرابعة: ما يكون ظاهراً في حرمة معونتهم مطلقاً ظهوراً بدويّاً:

منها: صحيح أبي حمزة، عن السجّاد عليه السلام أنّه قال: «إيّاكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين»(4).2.

ص: 289


1- وسائل الشيعة: ج 17/179 ح 22294، الكافي: ج 5/107 ح 7.
2- وسائل الشيعة: ج 17/180 ح 22296، تهذيب الأحكام: ج 6/338 ح 62.
3- وسائل الشيعة: ج 17/182 ح 22305، رجال الكشي ص 440.
4- وسائل الشيعة: ج 17/177 ح 22289، الكافي: ج 8/16 ح 2.

ومنها: موثّق السكوني، عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أينَ أعوان الظلمة، ومن لاق لهم دواتاً، أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم»(1).

ومنها: خبر العيّاشي، عن الإمام الرضا عليه السلام: «الدخول في أعمالهم، والعون لهم، والسّعي في حوائجهم عديل الكفر»(2).

أقول: ولكن يتعيّن حملها على أنّ المراد من معونتهم إعانتهم في ظلمهم، وذلك لوجهين:

الوجه الأوّل: قيام الضرورة على جواز المعونة في الجملة، كبذل الطعام والشراب لهم والمعاملة معهم.

الوجه الثاني: مناسبة الحكم والموضوع.

فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ المحرّم عناوين أربعة:

1 - الإعانة لهم في ظلمهم.

2 - وصيرورة الإنسان من أعوانهم.

3 - وتعظيم شوكتهم.

4 - ومحبّتهم.

وأمّا غير ذلك، فلا دليل على حرمته.

أقول: لا يخفى أنّ جملة من النصوص المتقدّمة ضعيفة السند، إلّاأنّه لأجل مطابقة مضامينها لنصوص معتبرة، أغمضنا عن التعرّض لذلك.

***5.

ص: 290


1- وسائل الشيعة: ج 17/180 ح 22299، بحار الأنوار: ج 72/372 ح 17.
2- وسائل الشيعة: ج 17/191 ص 22325، بحار الأنوار: ج 72/374 ح 25.

حرمة النجش

المسألة الثالثة والعشرون: المشهور بين الأصحاب أنّ النجش حرامٌ ، وعن «جامع المقاصد»(1) و «المنتهى»(2) الإجماع عليه.

أقول: يقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في بيان موضوعه.

الثاني: في بيان حكمه.

أمّا المقام الأوّل: فقد وقع النزاع فيه في جهات:

الجهة الأُولى: أنّ النجش هل هو زيادة الرَّجل في ثمن السّلعة ليسمعه غيره فيزيد بزيادته ؟

أم هو مدحُ السَّلعة في البيع لينفقها ويروّجها؟

أم هو الجامع بينهما؟

أقول: الظاهر هو الأخير، كما يظهر لمن راجع كلمات اللّغويين، وقد ورد التصريح بالتعميم في «مجمع البيان»(3) و «المنجد»، كما أنّه المحكي عن «تاج العروس»(4)، وإبراهيم الحربي(5)، وأبي عُبيد(6).

الجهة الثانية: هل يعتبر في صدق النجش المواطاة مع البائع، أم لا؟

ص: 291


1- جامع المقاصد: ج 4/39.
2- منتهى المطلب: ص 1004 (ط. ق).
3- مجمع البيان: ج 3/68.
4- تاج العروس: ج 4/354. (5و6) حكاه عنه في تاج العروس: ج 4/354.

ظاهر كلمات أكثر اللّغويين(1) - لو لم يكن صريحها - عدم اعتبار ذلك، وما في كلمات بعضهم من ذكر هذا القيد، الظاهر أنّه واقعٌ موقع الغالب، إذ الغالب عدم النجش إلّامع المواطاة مع البائع، كما هو واضح.

الجهة الثالثة: هل يعتبر في صدقه بالمعنى الأوّل، عدم إرادة الشراء أصلاً؟ أم يكفي عدم الرغبة في شراء العين، وإنّما يزيد لغرض إيصال النفع إلى البائع، أو إظهار الثروة والتموّل أو غير ذلك ؟

الظاهر ولا أقلّ من المتيقّن هو الأوّل.

الجهة الرابعة: هل يعتبر في صدقه وقوع البيع على أزيد من القيمة السوقيّة ؟ أم يكفي وقوعه على أزيد من ما كان يشتريه لولا النجش، وإنْ كان بأقلّ من قيمته السوقية أو بما يساويها؟

وجهان: المتيقّن هو الأوّل، وقد صرّح به جمعٌ من اللّغويين(2).

وأمّا المقام الثاني: فقد استدلّ للحرمة بأُمور:

الأمر الأوّل: إنّه إضرارٌ وهو حرام.

وفيه: إنّ المشتري إنّما يقدم على الضرر باختياره.

الأمر الثاني: إنّه غشٌّ وتلبيسٌ ، وقد مرّ أنّ غشّ المؤمن في المعاملة حرام.

وفيه أوّلاً: إنّ هذا الوجه يختصّ بما إذا كان الناجش من أهل الخبرة، كي تكون زيادته كاشفة عن أنّ السلعة تسوي بالقيمة المعلنة، ويكون الناجش عالماً بأنّها لا تسوي بذلك، والمشتري جاهلاً به كما لا يخفى .6.

ص: 292


1- كما في مجمع البحرين: ج 4/273.
2- كما في غريب الحديث لابن سلام: ج 3/36.

وثانياً: إنّ المتيقّن من الغِشّ المحرّم في المعاملة، هو مزج المبيع أو إخفاء عيبه، وأمّا مدح السلعة مثلاً فليس من هذا القبيل، ألا ترى أنّه لم يفتِ أحدٌ بحرمة مدح البائع سلعته ليرغب المشتري فيها، فلو كان يصدق الغِشّ لكان محرّماً.

الأمر الثالث: حكم العقل بقبحه.

وفيه: إنّ حكمه بالقبح إلى حَدّ يستتبع جعل الحرمة غير ثابت.

الأمر الرابع: دليل حرمة المغالبة بقول مطلق.

وفيه: إنّه لا دليل عليها، مع أنّها لا تصدق على مدح السّلعة.

الأمر الخامس: أدلّة حرمة الكذب، فإنّ النجش:

تارةً : يكون بالكذب الصريح.

وأُخرى : يتضمّن ذلك لتضمّنه الإخبار بأنّه مقدمٌ على الشراء بهذا الثمن، أو أنّه يسوي بهذه القيمة.

مضافاً إلى وجود مناط حرمة الكذب وهو الإغراء فيه، وقد استدلّ بهذا الوجه جمعٌ من الأساطين(1).

أقول: الظاهر أنّ النجش إنْ كان بمدح السَّلعة بما ليس فيها، أو كان بزيادة الثمن، بأن يقول: (إنّ هذه السلعة تسوي بهذه القيمة)، أو (إنّي اشتريه بها) وهو لا يريد شرائها، فهو كذبٌ صريح، ويكون حراماً لذلك، وأمّا لو مدحها بما فيها، ولكن بالغ في مدحها، أو زاد الثمن لا على نحو الإخبار، كما لو قال: (بعني بهذا الثمن مثلاً)، فلا وجه لحرمته، إذ مجرّد تخيّل المشتري أنّ السَّلعة تسوى بنظر الناجش بهذه القيمة،3.

ص: 293


1- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/43.

لا يوجب اتّصاف كلامه بالكذب، لما عرفت من أنّ الكذب هو عدم مطابقة مراد المتكلّم للواقع. فراجع(1).

وكون مناط حرمة الكذب الإغراء غير معلوم، بل معلومُ العدم لحرمة الكذب، وإنْ كان المخاطب مثلاً عالماً بعلم المتكلّم عدم مطابقة المُخبَر عنه للواقع.

الأمر السادس: خبر عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال: «الواشمة والمتوشمة، والنّاجش والمنجوش ملعونون على لسان محمّد صلى الله عليه و آله»(2).

وأورد عليه الأستاذ الأعظم:

1 - بضعف السند.

2 - وبأنّه مختصٌّ بصورة مواطاة الناجش مع البائع على النجش للعن المنجوش له.

وفيه: لا وجه لدعوى ضعف السند، سوى وجود محمّد بن سنان في طريقه، وهو وإنْ كان ضعيفاً على المشهور، إلّاأنّ الأظهر اعتبار روايته.

وأمّا الإيراد الثاني: فيدفعه أنّه يدلّ على لعن المنجوش له أيضاً لاعلى اختصاص لعن الناجش بما إذا كان هناك منجوشٌ له مستحقّ للذّم واللّعن كي تتمّ دعوى الاختصاص.

فالحقّ أن يورد عليه: بأنّ اللّعن أعمٌّ من الحرمة، لأنّه دعاءٌ بالإبعاد المطلق الشامل للكراهة، ولذا استعمل في المكروهات في بعض النصوص.8.

ص: 294


1- صفحة 237 من هذا المجلّد.
2- وسائل الشيعة: ج 17/458 ح 22991، مشكاة الأنوار ص 318.

الأمر السابع: قول النبيّ صلى الله عليه و آله: «لا تناجشوا ولا تدابروا»(1).

وفيه: إنّه ضعيف السند، إذ في طريقه عليّ بن عبد العزيز المجهول. واعتماد الأصحاب عليه غير معلوم، فلا وجه لدعوى الانجبار.

وأورد عليه الأستاذ الأعظم(2): بأنّه مختصٌّ بصورة مواطاة الناجش مع البائع، إذ المنهيّ عنه هو التناجش.

وفيه: إنّ التناجش ليس هو النجش مع المواطاة، بل هو عبارةٌ عن زياة اثنين أو أزيد في ثمن السَّلعة، ليسمع غيرهما فيزيد بزيادتهما، كما هو المتعارف في الحراج المتداول في هذا الزمان.

الأمر الثامن: النبويّ : «إنّه صلى الله عليه و آله نهى عن النجش»(3).

وفيه: إنّه مرسل، ودعوى انجبار ضعف السند بعمل الأصحاب تقدّم ما فيها.

فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة النجش من حيث هو، ما لم ينطبق عليه عنوان الكذب.

***7.

ص: 295


1- وسائل الشيعة: ج 17/459 ح 22993، بحار الأنوار: ج 72/189 ح 13.
2- مصباح الفقاهة: ج 1/431.
3- المستدرك: ج 13/286 ح 15370، عوالي اللآلئ: ج 1/147 ح 87.

النميمة

المسألة الرابعة والعشرون: عن النميمة، وهي نقل الحديث أو الفعل من قومٍ إلى قوم على وجه الفساد والشرّ، ويعتبر في صدقها كراهة المنقول عنه، وتعلّق غرضه بستره، وأن يكون ذلك القول أو الفعل سوءاً من شتمٍ ، أو غيبةٍ ، أو إهانةٍ ، فلو كان مدحاً فصدق النميمة عليه محلّ تأمّل، وإن أوجب الانزعاج والكدورة، ولا يعتبر فيها شيء آخر.

النميمة محرّمة بالأدلّة الأربعة

أقول: وتدلّ على حرمتها:

1 - الآية الشريفة: (وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاّفٍ مَهِينٍ هَمّازٍ مَشّاءٍ بِنَمِيمٍ ) (1)أي نقّال للحديث على وجه السعاية.

2 - النصوص المتواترة:

منها: ماتضمّن أنّ النمّام شرّ الناس، كصحيح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ألا أُنبئكم بشراركم ؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: المشائون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبّة»(2).

ومنها: ماتضمّن العقاب عليها: كالنبويّ المروي في «عقاب الأعمال»: «من مشى في نميمةٍ بين اثنين، سلّط اللّه عليه في قبره ناراً تُحرقه إلى يوم القيامة، وإذا

ص: 296


1- سورة القلم: الآية 10 و 11.
2- وسائل الشيعة: ج 12/306 ح 16369، الكافي: ج 2/369 ح 1.

خرج من قبره سلّط اللّه عليه تنيناً أسود ينهش لحمه حتّى يدخل النّار»(1).

ومنها: ماتضمّن عدم دخول النمّام الجَنّة(2).

وأورد عليه المحقّق الإيرواني رحمه الله(3): بأنّ عدم دخول الجنّة - أي إحباط أعماله بالنميمة - أعمٌّ من الحرمة، ألا ترى أنّ المِنّة تُبطل الصدقة وإنْ كانت واجبة، دون أن تكون محرّمة.

وفيه: إنّ ذلك لو تمّ في بعضها، لا يتمّ في جميع تلك النصوص، مثلاً ما روي في صحيح محمّد بن قيس عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «الجنّة محرّمة على القتاتين المشائين بالنميمة»(4)؛ فإنّ تحريم الجنّة لا يكون إلّاإذا كان الفعل حراماً.

بل يدلّ على حرمتها جميع ما دلَّ على حرمة الغيبة فيما إذا كان صدور ذلك القول أو الفعل من المقول عنه على وجهٍ محرّم وقبيح، إنْ لم يكن ذلك معتبراً في صدق النميمة كما هو الحقّ ، وإلّا فتدلّ على حرمتها بقول مطلق، وقد استقلّ العقل بقبحها.

وبالجملة: تدلّ على حرمتها الأدلّة الأربعة.

أقول: فضلاً عن ذلك فقد استدلّ لحرمتها بجملةٍ من الآيات:

منها: قوله تعالى: (وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّارِ) (5) بدعوى أنّ النمّام قاطعٌ لما أمر اللّه به أن5.

ص: 297


1- وسائل الشيعة: ج 12/308 ح 16374، ثواب الأعمال ص 284.
2- وسائل الشيعة: ج 12/308 ح 16375.
3- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/43.
4- وسائل الشيعة: ج 12/306 ح 16370، الكافي: ج 2/369 ح 2.
5- سورة الرعد: الآية 25.

يوصل ومفسد.

وفيه: إنّ الآية(1) متضمّنة لذمّ من يكون الوصل عليه واجباً، وهو قاطعٌ له، وذلك لأنّ مادّة الأمر ظاهرة في الوجوب، وعليه فهي أجنبيّة عن المقام، إذا النمام لا يجبُ عليه الوصل، وتختصّ بموارد وجوب الوصل كقطع الرّحم ونحوه، مع أنّ الظاهر من الآية ذم قطع الشخص نفسه عن آخر، ولاتشمل قطع الشخصين أحدهما عن الآخر.

ومنها: قوله تعالى : (وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ ) (2).

وفيه: إنّ النمام ربما يكون مفسداً، وربما لا توجب النميمة الفساد، فالآية لا تدلّ على حرمة النميمة بقول مطلق.

ومنها: قوله تعالى : (وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ ) (3) وفي موضع آخر:

(وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ ) (4) و (أكبر) يعني أشدّ.

وفيه: إنّ المراد بالفتنة على ما ذكره المفسِّرون هو الفتنة في الدِّين، وهو الشرك والكفر، وإنّما سُمّي بها لأنّه يؤدّي إلى الهلاك، والمراد من (القتل) هو القتل في الأشهر الحُرُم، فالمعنى حينئذٍ: أنّ الكفر والشرك أعظمُ ذنباً من القتال في الأشهر الحُرُم، ويؤيّد إرادة هذا المعنى ملاحظة صدر الآية الشريفة، فهي غريبة عن المقام.

***7.

ص: 298


1- سورة الرعد: الآية 25.
2- سورة البقرة: الآية 27.
3- سورة البقرة: الآية 191.
4- سورة البقرة: الآية 217.

النياحة

المسألة الخامسة والعشرون: ذَكَر الشيخان(1) وسلّار(2) والحِلّي(3) والمحقّق(4)ومن تأخّر عنه أنّ من مصاديق وأفراد المكاسب المحرّمة هو النوح بالباطل.

أقول: وحقّ القول في المقام يقتضي البحث في موردين:

الأوّل: في الحكم التكليفي.

الثاني: في الحكم الوضعي.

أمّا المورد الأوّل: فقد اختلفت فيه كلمات القوم على أقوال:

القول الأوّل: القول بالحرمة مطلقاً، وهو الذي اختاره جمعٌ من الأصحاب(5).

القول الثاني: القول بالكراهة كذلك، اختاره في محكي «مفتاح الكرامة»(6).

القول الثالث: القول بالتفصيل بين النوح بالباطل فيحرم، وبين النوح بالحقّ ، أي ما لا يستلزم محرّماً فيجوز، نَسَبه في «الحدائق»(7) إلى المشهور.

أقول: ثمّ إنّ القائلين بالقول الثالث اختلفوا على أقوال:

منها: جواز النوح بالحقّ على كراهة.

ص: 299


1- المقنعة: ص 588، النهاية: ص 365.
2- المراسم العلويّة: ص 172.
3- السرائر: ج 1/173 وج 2/215.
4- المختصر النافع: ص 117.
5- المبسوط: ج 1/189، الوسيلة لابن حمزة ص 69.
6- مفتاح الكرامة: ج 12/181.
7- الحدائق الناضرة: ج 4/165.

ومنها: جوازه من غير كراهة.

ومنها: جوازه على كراهة إذا اشترطت فيه الاُجرة، وإلّا فلا كراهة فيه.

أمّا النصوص: الواردة في هذا الباب فعلى طوائف:

الطائفة الأُولى : ما دلَّ على جوازها مطلقاً:

منها: حسن الحسين بن زيد، قال: «ماتت ابنةٌ لأبي عبد اللّه عليه السلام فناح عليها سنة، ثمّ ماتَ له ولدٌ آخر فناح عليه سنة، ثمّ مات إسماعيل فَجَزع عليه جزعاً شديداً، فقطع النوح.

فقيل لأبي عبد اللّه عليه السلام: أيُناح في دارك ؟

فقال: إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله لمّا ماتَ حمزة قال: لكن حمزة لا بواكي عليه»(1).

ومنها: صحيح يونس بن يعقوب، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادبٍ تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى»(2).

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّه مختصٌّ بالنوح على الإمام، ويحتمل اختصاص ذلك بالأئمّة عليهم السلام لما فيه من تشييد حُبّهم وبغض ظالميهم في القلوب، وهما العمدة في الإيمان.

وبذلك يظهر حال ما تضمّن نوح فاطمة عليها السلام لأبيها صلى الله عليه و آله، بل والفاطميّات في كربلاء وغيرها.1.

ص: 300


1- وسائل الشيعة: ج 3/241 ح 3516، بحار الأنوار: ج 47/248 ح 13.
2- وسائل الشيعة: ج 17/125 ح 22156، الكافي: ج 5/117 ح 1.

ومنها: صحيح الثمالي المتضمّن نوح اُمّ سلمة زوجة النبيّ صلى الله عليه و آله لابن عمّها الوليد في حضوره صلى الله عليه و آله(1).

وقريب منهما غيرهما.

الطائفة الثانية: ما دلَّ على المنع من النياحة مطلقاً:

منها: حديث المناهي: «ونهي عن النياحة»(2).

ومنها: خبر الزعفراني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «ومن اُصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحةٍ فقد كفّرها»(3).

ومنها: النبويّ المروي في «الخصال»: «إنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران»(4).

ونحوها غيرها.

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على الكراهة:

منها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قال: «سألته عن النوح على الميّت أيصلح ؟ قال عليه السلام: يكره»(5).

الطائفة الرابعة: ما دلَّ على عدم البأس به إنْ لم يكن بالباطل:

منها: المرسل الذي رواه الشيخ الصدوق في «الفقيه»، قال: «قال عليه السلام: لا بأس بكسب النائحة إذا قالت صدقاً»(6).2.

ص: 301


1- وسائل الشيعة: ج 17/125 ح 22157، الكافي: ج 5/117 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 17/128 ح 22166، من لايحضره الفقيه: ج 4/3 ح 4968.
3- وسائل الشيعة: ج 17/127 ح 22160، الكافي: ج 6/432 ح 11.
4- وسائل الشيعة: ج 17/128 ح 22167، بحار الأنوار: ج 79/74 ح 7.
5- وسائل الشيعة: ج 17/129 ح 22168، بحار الأنوار: ج 79/88 ح 39.
6- وسائل الشيعة: ج 17/128 ح 22164، من لا يحضره الفقيه: ج 1/183 ح 552.

وهو وإنْ دلّ بالمطابقة على حكم الكسب، الظاهر في الحكم الوضعي، إلّاأنّه بالالتزام يدلّ على الجواز التكليفي فيما إذا قالت صدقاً كما لا يخفى .

أقول: والحقّ في مقام الجمع أن يقال:

إنّه مع قطع النظر عن ضعف سند جملةٍ منها، تُحمل الأخبار المانعة على النوح بغير الصدق والباطل، والمجوّزة على النوح بالحقّ ، لأنّ الطائفة الرابعة بمنطوقها تقيّد الأخبار المانعة، وبمفهومها تقيّد المجوزة.

وأمّا الطائفة الثالثة: فحيثُ أنّها غير ظاهرة في الكراهة الاصطلاحيّة، فإمّا أن تُحمل على المنع، فسبيلها سبيل الطائفة الثانية، أو يقال إنّها مجملة لا يستفاد منها أزيد من المرجوحيّة.

وعلى كلّ تقدير، لا دليل على الكراهة في غير مورد المنع:

أمّا على الأوّل: فواضح.

وأمّا على الثاني: فلإجمال الخبر واحتمال إرادة المنع منه.

هذا كلّه مع قطع النظر عن قصور السند، وإلّا فالطائفتان الثانية والرابعة ضعيفتا السند، وعليه:

فإن قلنا بظهور الطائفة الثالثة في المنع تقع المعارضة بينها وبين الطائفة الأُولى، لعدم إمكان الجمع بالحمل على الكراهة، لدلالة خبر الحسين بن زيد على عدم الكراهة، كما لا يخفى ، فلابدَّ من الرجوع إلى المرجّحات، وهي تقتضي تقديم الأولى للأشهريّة ولمخالفتها للعامّة.

وإن قلنا بأنّها مجملة، لا يستفاد منها أزيد من الكراهة، فتقدّم الأُولى

ص: 302

للأشهريّة فقط. فتأمّل.

لا يقال: إنّ هذه النصوص بعد الجمع بينها تدلّ على جواز النياحة مطلقاً، والنسبة بينها وبين النصوص الدالّة على حرمة الكذب وحرمة الغناء هي العموم من وجه، فتتساقطان في المجمع، والمرجع إلى أصالة الحِلّ ، ولازم ذلك جوازها وإنْ كان بالباطل.

فإنّه يقال: إنّ هذه النصوص تدلّ على جواز النوح من حيث هو، مع قطع النظر عن العناوين الثانويّة المنطبقة عليه في بعض الموارد.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو الجواز ما لم ينطبق عليه أحد العناوين المحرّمة كالكذب ونحوه.

وأمّا المورد الثاني: ففيه أيضاً طوائف من النصوص:

الطائفة الأُولى : ما دلَّ على جوازه مطلقاً:

منها: خبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميّت»(1).

الطائفة الثانية: ما دلَّ على المنع كذلك:

منها: خبر عذافر، قال: «سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام وسُئل عن كسب النائحة ؟ فقال:

تستحلّه بضرب إحدى يديها على الاُخرى »(2).

أي لا تأخذ الأجر على النياحة، بل على ما يضمّ إليها من الأعمال.

الطائفة الثالثة: ما دلَّ على الجواز إذا كان بالحقّ :4.

ص: 303


1- وسائل الشيعة: ج 17/127 ح 22162، تهذيب الأحكام: ج 6/359 ح 149.
2- وسائل الشيعة: ج 17/126 ح 22159، الكافي: ج 5/118 ح 4.

منها: مرسل الفقيه المتقدّم.

الطائفة الرابعة: ما دلَّ على الجواز إذا لم تشارط وقبلت النائحة ما يُعطى لها:

منها: موثّق حنّان، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قُل لها لا تشارط وتقبل ما أُعطيت»(1).

الطائفة الخامسة: ما دلَّ بظاهره على الكراهة:

منها: خبر سماعة، قال: «سألته عن كسب المغنّية والنائحة فكرهه»(2).

أقول: والحقّ في مقام الجمع أن يقال:

بعد طرح خبر عذافر لجهالته، ومرسل «الفقيه» لإرساله، وحمل (كرهه) على إرادة المنع كما تقدّم، أنّه يقيد إطلاق الطائفة المجوّزة بموثّق حنّان المفصّل بين الاشتراط وعدمه، مع قبولها ما تُعطى، فتكون النتيجة أنّ كسب النائحة جائز إذا لم تشارط وقبلت ما أُعطيت. واللّه العالم.

***0.

ص: 304


1- وسائل الشيعة: ج 17/126 ح 22158، الكافي: ج 5/117 ح 3.
2- وسائل الشيعة: ج 17/128 ح 22163، تهذيب الأحكام: ج 6/359 ح 150.

حكم قبول ولاية الجائر

المسألة السادسة والعشرون: لا خلاف في حرمة قبول الولاية من قبل الجائر في الجملة، وتشهد له النصوص المستفيضة:

منها: حسن محمّد بن مسلم، قال: «كنّا عند أبي جعفر عليه السلام على باب داره بالمدينة، فنظر إلى الناس يمرّون أفواجاً، فقال لبعض من عنده: حَدَث بالمدينة أمرٌ؟

فقال: جُعِلتُ فداك، ولّي المدينة وال، فغدا الناس يهنّئونه.

فقال: إنّ الرّجل ليغدي عليه بالأمر يهني به، وإنّه لبابٌ من أبواب النار»(1).

ونحوه غيره من النصوص الكثيرة، وهذا ممّا لا كلام فيه.

أقول: إنّما الكلام والمناقشة في أنّه:

هل قبول الولاية من قِبل الجائر، أي أخذ المنصب منه بنفسها محرّمة، وإنْ لم ينضمّ إليها أعمالها؟

أم تختصّ الحرمة بالقيام بأعمالها؟

وعلى الثاني:

فهل المحرّم هو مطلق أعمالها؟

أو أنّ المحرّم خصوص أعمالها المحرّمة ؟

وجوه: أظهرها الأوّل، وذلك:

1 - لظهور جملة من نصوص الباب في ذلك، وهي النصوص الناهية عن

ص: 305


1- وسائل الشيعة: ج 17/188 ح 22315، الكافي: ج 5/107 ح 6.

الولاية، والتضمّنة للوعيد عليها(1).

2 - ولأنّ الوالي يعدّ من أعظم الأعوان للظَلَمة، وقد تقدّم أنّ صيرورة الشخص من أعوان الظالم من المحرّمات.

وأيضاً: قد استدلّ المحقّق الإيرواني(2) لعدم كونها بنفسها من المحرّمات:

1 - بأنّ منصرف تلك الأدلّة حرمة الولاية، بمعنى القيام بأعمالها، لا مجرّد أخذ المنصب.

2 - وبأنّ أخذ المنصب لو كان حراماً في نفسه، لما جاز ذلك لأجل غاية مستحبّة، وقد ادّعى الشيخ رحمه الله(3) تطابق الأدلّة على جوازه لأجل هذه الغاية.

3 - وبالتعليل في خبر «تحف العقول» لحرمتها، بأنّ : «في ولاية الوالي الجائر دروس الحقّ كلّه، وإحياء الباطل كلّه، وإظهار الظلم والجور والفساد، وإبطال الكتب، وقتل الأنبياء، وهدم المساجد، وتبديل سُنّة اللّه وشرائعه»(4).

4 - وبخبر زياد بن أبي سلمة، عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أنّه قال:

«يا زياد لأن أسقط من حالق فاتقطع قطعة قطعة أحبُّ إليَّ من أن أتولّى لأحدٍ منهم عملاً أو أطأ بساط رجلٍ منهم، إلّالمإذا؟

قلت: لا أدري جُعِلتُ فداك.

قال: إلّالتفريج كَربةٍ عن مؤمن، أو فَكّ أسره، أو قضاء دَينه»(5).1.

ص: 306


1- وسائل الشيعة: ج 17/190 ح 22323، بحار الأنوار: ج 14/63 ح 15.
2- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/43.
3- كتاب المكاسب: ج 2/72-73 (ط. ج).
4- وسائل الشيعة: ج 17/83 ح 22047، بحار الأنوار: ج 72/347 ح 49.
5- وسائل الشيعة: ج 17/194 ح 22334، الكافي: ج 5/109 ح 1.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّه لا منشأ لدعوى الانصراف سوى الغلبة، وهي لا توجبُ الانصراف المقيّد للإطلاق.

وأمّا الثاني: فلأنّه اجتهادٌ في مقابل النص.

وأمّا الثالث: فلضعف سنده كما تقدّم.

وأمّا الرابع: فلأنّه ضعيف السند لحسين بن الحسن الهاشمي، فضلاً عن أنّه يدلّ على أنّ قبول الولاية عنهم حرام إلّاللاُمور الثلاثة المذكورة فيه، وظاهر ذلك هو حرمة نفس الولاية في غير تلك الموارد.

وقد استدلّ للقول الأخير:

1 - بالتعليل الوارد في خبر «تحف العقول».

2 - وبحسن داود بن زربي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديثٍ : «تناول السماء أيسر عليك من ذلك»(1). مشيراً إلى القيام بالعدل.

ولكن يرد على الأوّل: ما تقدّم.

وعلى الثاني: أنّه يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى الترخيص في الدخول، مع أنّه لو كان المشار إليه هو العدل، أمكن القول بعدم دلالته على جواز الولاية نفسها، إذ الظاهر أنّ السائل من العامّة، كما يظهر من حلفه بالطلاق والعِتاق، وعليه، فلم يكن له محيصٌ من التخلّص إلّابذلك.

فتحصّل: أنّ الأظهر هو حرمة الولاية من حيث هي، ولو انضمّ إليها عملٌ محرّم فإنّه يعاقب بعقابين، ولو لم يعمل شيئاً من الأعمال المحرّمة عوقب عقاباً واحد.9.

ص: 307


1- وسائل الشيعة: ج 17/188 ح 22317، الكافي: ج 5/107 ح 9.

أخذ الولاية للقيام بمصالح العباد

أقول: يجوز قبول الولاية وتصدّيها في موردين:

أحدهما: القيام بمصالح العباد، وقد استدلّ لجوازه بوجوه:

الوجه الأوّل: أنّ الولاية إنْ كانت محرّمة لذاتها، جاز ارتكابها لأجل المصالح ودفع المفاسد التي هي أهمّمن مفسدة انسلاك الشخص في أعوان الظلمة بحسب الظاهر.

وأورد عليه(1): بأنّه إنْ كان المراد من المصالح ما كان من قبيل حفظالنفوس، فالمدّعى أعمّ من ذلك، وإنْ كان المراد المصالح غير اللّزوميّة، فلا شبهة في أنّ مجرّد ذلك لا يقاوم الجهة المحرّمة.

وقال المحقّق الإيرواني رحمه الله: في تأييد ما ذكره الشيخ رحمه الله ما يكون جواباً عن ذلك، وهو: (يجوز أن يحصل التوازن والتكاسر بين الملاكات، ثمّ المتخلّف من ملاك الحكم الإلزامي لم يكن إلّااليسير غير المقتضي للإلزام)(2).

وفيه: - مضافاً إلى ما مرّ في مبحث الغناء(2) من أنّ مورد انطباق عنوانين أحدهما محرّم والآخر مستحبّ على شيء، لا يكون من موارد تزاحم الملاكات، بل من باب التنافي بين الحكمين، فراجع. وقد اعترف الشيخ رحمه الله(4) في ذلك المبحث بأنّ أدلّة الأحكام الالتزاميّة لا تُزاحم بأدلّة الأحكام الترخيصيّة - إنّ المقام من موارد تزاحم الحكمين، حيث أنّ المحرّم هو أخذ المنصب والتولّي من قبل الجائر، والمستحبّ هو قضاء حوائج المؤمنين مثلاً، والمفروض عدم قدرة المكلّف على

ص: 308


1- مصباح الفقاهة: ج 1/437. (2و4) حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/44.
2- صفحة 103 ومابعدها من هذا المجلّد.

امتثال التكليفين، فلابدَّ من سقوط أحدهما، ولا شبهة في أنّ الساقط في هذا المقام هو الحكم الاستحبابي دون التحريمي كما حُقّق في محلّه.

الوجه الثاني: الإجماع.

وفيه: إنّه لمعلوميّة مدرك المُجمِعين، لا يكون ذلك إجماعاً تعبّديّاً.

الوجه الثالث: قوله تعالى حكايةً عن يوسف عليه السلام: (قالَ اِجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ اَلْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) (1).

أقول: وأورد عليه المحقّق الإيرواني(2) والاُستاذ الأعظم(3)، بأنّ يوسف كان مستحقّاً للسلطنة، فاقتصاره على المرتبة التي دونها لا يوجب كونه والياً من قِبل الجائر.

وفيه: إنّ المحرّم هو الولاية من قِبل الجائر، وتقلّد هذا المنصب منه، سواءٌ أكان الوالي مستحقّاً لذلك المنصب أم لم يكن.

فالحقّ في الجواب أنْ يقال: إنّه وردت روايات تفيد أنّ قبول يوسف للولاية كان عن كُرهٍ (4)، مع أنّه كان سبباً لحفظ النفوس من الموت بالقحط والغلاء، ولا شبهة في الجواز في هذا المورد.

وبما ذكرناه ظهر أنّه لا يمكن الاستدلال له بقبول علي بن موسى الرضا عليه السلام ولاية العهد، فإنّه كان عن كُرهٍ كما نطقت به النصوص(5).

الوجه الرابع: النصوص الكثيرة، وقد ذكر الشيخ رحمه الله جملة منها في0.

ص: 309


1- سورة يوسف: الآية 55.
2- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/44.
3- مصباح الفقاهة: ج 1/438. (4و5) وسائل الشيعة: ج 17/202 ح 22347، بحار الأنوار: ج 49/136 ح 10.

«المكاسب»(1)، والبقيّة مذكورة في كتب الأحاديث كالوسائل، وتلك النصوص على طوائف:

منها: ما دلَّ على أنّ الوالي والعريف إذا ظلم يعاقب في جهنّم، وإذا قام بمصالح العباد يعاقب في خارج جهنّم، كالنبوي: «من تولّى عرافة قومٍ أُتي به يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن قام فيهم بأمر اللّه أطلقه اللّه، وإنْ كان ظالماً هوى به في نار جهنّم»(2).

ونحوه ما في «عقاب الأعمال»(3).

وهذه الطائفة تدلّ على خلاف المطلوب.

ومنها: ما دلَّ على رجحان فعل الوالي من قضاء حاجة المؤمن ونحوه غير المتضمّن لجواز الولاية، ولا لعدم الوعيد عليها، وهي متعدّدة.

أقول: هذه الطائفة غريبة عن المقام، إذ لا ينكر أحدٌ رجحان تلك الأعمال، سواءٌ أكانت الولاية محرّمة أم لا.

ومنها: ما تضمّن أنّ الإحسان إلى الإخوان كفّارة لما تصدّاه:

1 - مرسل الصدوق، قال: قال الصادق عليه السلام: «كفّارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان»(4).

2 - وقوله عليه السلام في خبر زياد المتقدّم: «فإنْ ولّيتَ شيئاً من أعمالهم فأحسن إلى6.

ص: 310


1- كتاب المكاسب: ج 2/69-70 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 17/189 ح 22319.
3- وسائل الشيعة: ج 17/189 ح 22320، بحار الأنوار: ج 72/343 ح 34.
4- وسائل الشيعة: ج 17/192 ح 22328، من لا يحضره الفقيه: ج 3/176 ح 3666.

اخوانك فواحدة بواحدة»(1).

أقول: هذه الطائفة أيضاً أدلّ على خلاف المطلوب، كما لا يخفى ، فلا يدلّ عليه، إذ لا ظهور في الاستثناء في رجوعه إلى الجملة الأولى، بل الظاهر - ولا أقلّ من المحتمل - رجوعه إلى الجملة الأخيرة، وعليه فلا يدلّ على جواز الولاية ولو في مورد.

وأمّا صحيح الشحّام، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من تولّى أمراً من اُمور الناس، فعدل فيهم، وفتح بابه، ورفع ستره، ونظر في أُمور الناس، كان حقّاً على اللّه عزّ وجلّ أن يؤمن روعته يوم القيامة، ويدخله الجنّة»(2).

فمضافاً إلى أنّه كما يلائم جواز الولاية يلائم مع حرمتها، وكون الأُمور المذكورة كفّارة لها، أنّه لا إطلاق له كي يشمل التولّي من قبل الجائر، ولعلّه مختصٌّ بالتولّي من قبل السلطان العادل، أو من تولّى بنصب الناس إيّاه.

وبالجملة: فلا يبقى من النصوص إلّاقليلٌ من ما ذكروه، وبه الكفاية:

1 - صحيح علي بن يقطين، قال:

«قال أبو الحسن عليه السلام: إنّ للّه تعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه»(3).

2 - وفي خبر آخر: «أولئك عُتقاء اللّه من النار»(4).

أقول: والإيراد عليه:5.

ص: 311


1- وسائل الشيعة: ج 17/194 ح 22334، الكافي: ج 5/109 ح 1.
2- وسائل الشيعة: ج 17/193 ح 22332، الأمالي للصدوق ص 245.
3- من لا يحضره الفقيه: ج 3/176 ح 3664، وسائل الشيعة: ج 17/192 ح 22326.
4- وسائل الشيعة: ج 17/192 ح 2327، من لايحضره الفقيه: ج 3/176 ح 3665.

تارةً (1): بأنّ له تعالى مع السلطان من هو كذلك، لا يلازم أن يكون ذلك والياً من قِبله، بل هم عدّة من وجوه البلد وأعيانه الذين يختلفون إليه لأجل قضاء حوائج الناس.

وأُخرى : بأنّه لم يشتمل على ما يدلّ على جواز تصدّيهم للولاية، كما عن المحقّق الإيرواني رحمه الله.

في غير محلّه(2).

أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر من هذا الكلام إرادة المنصوبين من قبله، وأمّا الأعيان المختلفون إليه، فهم ليسوا مع السلطان كما لا يخفى .

وأمّا الثاني: فلأنّ التعبير عنهم ب (أولياء اللّه) من أقوى الأدلّة على جواز تصدّي الولاية.

3 - وخبره الآخر عنه عليه السلام المتضمّن لقوله عليه السلام: «لا آذنُ لك بالخروج من عملهم، واتّق اللّه»(1) في جواب استيذانه بالخروج من عملهم.

وقريب منهما غيرهما.

وما دلَّ على أنّ القيام بها كفّارة لما تصداه، لا يصلح للمعارضة مع تلك النصوص لضعف سنده.

أمّا خبر زياد: فلما تقدّم.

وأمّا المرسل: فلإرساله، مضافاً إلى أنّ الظاهر منهما اختصاص ذلك بما إذا كان الدخول في الولاية حراماً ابتداءً ثمّ تبدّل قصده إلى الإحسان بالاخوان.

فتحصّل: أنّ الولاية من قِبل الجائر جائزة إذا كانت للقيام بمصالح العباد.8.

ص: 312


1- وسائل الشيعة: ج 17/198 ح 22341، بحار الأنوار: ج 72/370 ح 8.

أقسام الولاية من قِبل الجائر

أقول: يقع الكلام في أنّه على فرض عدم حرمة قبول منصب الولاية فما هو حكمه، هل هو الإباحة، أو الاستحباب، أو الوجوب ؟

وملخّص الكلام في هذه المسألة يقع:

تارةً : فيما تقتضيه القواعد.

وأُخرى : فيما تقتضيه النصوص الخاصّة.

وفي كلا المقامين:

تارةً : يقع البحث في غير الوجوب.

وأُخرى : في الوجوب.

فهاهنا مواضع للبحث:

الموضع الأوّل: قد يقال إنّ مقتضى القواعد استحباب الولاية في غير موارد وجوبها، لكونها مقدّمة للمستحبّ ، وقد حُقّق في محلّه أنّ مقدّمة المستحبّ مستحبّة.

وفيه: إنّ مقدّمة المستحبّ إنّما تتّصف بالاستحباب إذا لم تكن محرّمة في نفسها.

الموضع الثاني: في الخبرين اللّذين ذكرهما الشيخ رحمه الله(1)، وهما:

1 - خبر مهران بن محمّد بن أبي نصر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سمعته يقول:

ما من جبّار إلّاومعه مؤمنٌ يدفع اللّه عزّ وجلّ به عن المؤمنين، وهو أقلّهم حظّاً في الآخرة، يعني أقلّ المؤمنين حظّاً لصحبة الجبّار»(2).

ص: 313


1- كتاب المكاسب: ج 2/76 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 17/186 ح 22311، الكافي: ج 5/111 ح 5.

وهذا الخبر يدلّ على كراهة الولاية.

2 - وخبر ابن بزيع، عن الإمام الرضا عليه السلام: «إنّ للّه تعالى بأبواب الظالمين مَنْ نوّر اللّه به البرهان، ومكّن له في البلاد، ليدفع بهم عن أوليائه، ويصلح اللّه بهم اُمور المسلمين، إليهم يلجأ المؤمنون من الضرر - إلى أن قال - أُولئك المؤمنون حقّاً، أُولئك اُمناء اللّه في أرضه، أُولئك نور اللّه في رعيّته يوم القيامة... إلى آخر الحديث»(1).

وهذا أيضاً يدلّ على استحباب قبول الولاية من قِبل الجائر.

أقول: ونحوه في ذلك جملة من النصوص الاُخر: كخبر هشام بن سالم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ للّه مع ولاة الجور أولياء يدفع بهم عن أوليائه، أولئك المؤمنون حقّاً»(2).

ونحوه خبر المفضّل(3)، وصحيح عليّ بن يقطين المتقدّم(2).

وقد جمع الشيخ رحمه الله بين الطائفتين(3)، بحَمل الأُولى على مَن تولّي لهم لنظام معاشه، قاصداً الإحسان من خلال ذلك إلى المؤمنين، ودفع الضرر عنهم، وحَمَل الثانية على مَن لم يقصد بدخوله إلّاالإحسان إلى المؤمنين.

وأورد عليه المحقّق الإيرواني رحمه الله (4) : بأنّه جمعٌ تبرّعي استحساني، لم يساعده سوى الاعتبار، بلا شاهد عليه من الأخبار.

وفيه: إنّ ما ذكره رحمه الله جمع عرفي، إذ خبر مهران مطلق شاملٌ لما إذا تولّي4.

ص: 314


1- بحار الأنوار: ج 72/350 ح 58، رجال النجاشي ص 331، ورواه المامقاني رحمه الله عن نسخة قديمة لرجال الكشّي في ترجمة محمّد بن إسماعيل بن بزيع. (2و3) مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/136 ح 15000.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/131 ح 14993.
3- كتاب المكاسب: ج 2/75 (ط. ج).
4- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/44.

لخصوص الإحسان، أم له مع نظام معاشه، وخبر ابن بزيع مختصٌّ بما إذا تولّي لخصوص الإحسان، لقوله عليه السلام في ذيله:

«فهنيئاً لهم، ما على أحدكم أنْ لو شاء لنال هذا كلّه.

قال: قلت: بماذا جَعَلني اللّه فداك ؟

قال: يكون معهم فيسرّنا بإدخال السرور على المؤمنين من شيعتنا، فكُن معهم يا محمّد».

فبه يقيّد إطلاق خبر مهران، فيختصّ بما إذا تولّي لنظام معاشه مع كون قصده الإحسان إلى الاخوان من خلال ذلك، وعليه فتنقلب النسبة بين خبر مهران واخبار ابن يقطين وهشام والمفضّل من التباين إلى العموم المطلق، فيقيّد إطلاقها به.

فتأمّل، فتكون النتيجة ما ذكره الشيخ رحمه الله.

ولكن يرد عليه: أنّ خبر مهران لا يعتمد عليه لجهالته، وخبرا هشام والمفضّل وإنْ كانا مرسلين، إلّاأنّه يعتمد عليهما في الحكم بالاستحباب مطلقاً لقاعدة التسامح في أدلّة السنن، مضافاً إلى أنّ في صحيح علي بن يقطين كفاية.

أقول: ثمّ إنّ الأستاذ الأعظم(1) ذكر أنّ بعض النصوص يدلّ على أنّ الولاية مباحة، ومنها صحيح الحلبي، قال:

«سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ مسلمٍ وهو في ديوان هؤلاء، وهو يحبّ آل محمّد صلى الله عليه و آله، ويخرج مع هؤلاء في بعثهم فيُقتل تحت رايتهم ؟

قال: يبعثه اللّه على نيّته»(2).5.

ص: 315


1- مصباح الفقاهة: ج 1/349.
2- وسائل الشيعة: ج 17/201 ح 22345، تهذيب الأحكام: ج 6/338 ح 65.

وفيه: أنّ هذا الخبر برغم صحّته أجنبيٌ عن ما استدلّ به له، فإنّه إنّما يدلّ على أنّ القتل تحت رايتهم إنْ كان بقصد الدفاع عن بيضة الإسلام لا لتقوية سلطانهم، يُثاب عليه لكونه ناشئاً عن هذه النيّة، أو على أنّ القتل تحت رايتهم لا يوجبُ ضعفاً في إيمانه، وإنّه إنْ كان مؤمناً حُشر مؤمناً دون أن ينظر إلى عمله.

وعلى كلّ تقديرٍ، فهو أجنبيٌ عن المقام.

فتحصّل: أنّه لا شيء من قبول الولاية الجائزة بمباحة أو مكروهة.

أقول: قد نُسب إلى المشهور(1) وجوب تصدّي الولاية، وإنْ توقّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجبان عليها، بل في «الجواهر»(2): (لم يحكِ عن أحدٍ التعبير بالوجوب إلّاعن الحِلّي في «السرائر»)(3)، وقد مرَّ أنّ الكلام في ذلك أيضاً يقع في موضعين:

الأوّل: فيما تقتضيه القواعد.

الثاني: فيما تقتضيه النصوص الخاصّة.

أمّا الموضع الأوّل: فقد استدلّ لعدم الوجوب بوجوه:

الوجه الأوّل: إنّ دليل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مقيّدٌ بالقدرة الشرعيّة، ودليل حرمة الولاية مطلق من هذه الجهة، وقد حُقّق في محلّه أنّه إذا تزاحم تكليفان أحدهما مشروطٌ بالقدرة شرعاً دون الآخر، قدّم المشروط بالقدرة عقلاً على المشروط بالقدرة شرعاً، إذ ملاك الحكم غير المشروط بالقدرة2.

ص: 316


1- ذكره في حاشية المكاسب الإيرواني دون النسبة إلى المشهور: ج 1/44.
2- جواهر الكلام: ج 22/164.
3- السرائر: ج 2/202.

شرعاً تامٌّ لا قصور فيه، ولا مانع من جعل الحكم على طبقه، فيكون حكمه فعليّاً وموجباً لعجز المكلّف عن امتثال التكليف الآخر، ومانعاً عن تحقّق ملاكه المتوقّف على القدرة عليه على الفرض.

وهذا بخلاف المشروط بالقدرة شرعاً، إذ جعله يتوقّف على تماميّة ملاكه، وهي تتوقّف على عدم فعليّة الحكم الآخر، فلو استند عدم فعليّته إلى فعليّة الحكم المشروط بالقدرة شرعاً لزم الدور، وهذا الوجه هو الذي أشار إليه المحقّق الخراساني في «الكفاية»، وهو حسن إنْ ثبت كون وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مشروطاً بالقدرة شرعاً، وإلّا فيكفي في نفي اعتبارها إطلاق الأدلّة، وحيث إنّه لا دليل عليه، والإنصراف لو كان فإنّما هو بدوي يزول بأدنى التفات، فالصحيح عدم تماميّة هذا الوجه.

الوجه الثاني: ما قاله صاحب «الجواهر»(1) من أنّه يعارض ما دلَّ على الأمر بالمعروف، وما دلَّ على حرمة الولاية من قِبل الجائر، ولو من وجه، فيجمع بينهما بالتخيير المقتضي للجواز، رفعاً لقيد المنع من الترك، ممّا دلَّ على الوجوب، والمنع من الفعل ممّا دلَّ على الحرمة.

وفيه: إنّ المقام من صغريات باب التزاحم لا التعارض المتوقّف على وحدة المتعلّق، إذ متعلّق الحرمة هو تصدّي منصب الولاية، ومتعلّق الوجوب هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا علاقة لأحدهما بالآخر، غاية الأمر لأجل عدم قدرة المكلّف على امتثالهما يقع التنافي بينهما، فلابدَّ من الرجوع إلى مرجّحات4.

ص: 317


1- جواهر الكلام: ج 22/164.

باب التزاحم.

مع أنّه لو سُلّم كونه من صغريات باب التعارض، فإنّ ما ذكره في وجه التخيّير من الجمع بين الدليلين بما أنّه ليس جمعاً عرفيّاً لايتمّ ، بل يتعيّن الرجوع إلى المرجّحات، وحيث إنّ النسبة بين الدليلين عمومٌ من وجه، ودلالة كلّ منهما على حكم المجمع إنّما هي بالإطلاق، فلابدَّ من الحكم بالتساقط، والرجوع إلى الاُصول - فتأمّل - فإنّ المختار أخيراً تعيّن الرجوع إلى الأخبار العلاجيّة في موارد التعارض بالعموم من وجه مطلقاً.

الوجه الثالث: ما أفاده الشهيد رحمه الله(1)، وأوضحه الشيخ رحمه الله(2) من قيام التزاحم بين ما دلَّ على حرمة الولاية، مع ما دلَّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتوقّفين عليها، فللمكلّف ملاحظة كلّ منهما، والعمل بمقتضاه، نظير تزاحم الحقّين.

فتارةً : تكون ناحية الوجوب أهمّ فيؤخذ بها.

وأُخرى : تكون ناحية الحرمة أهمّ فتقدّم.

وثالثة: تتساويان، فيكون المكلّف مخيّراً في اختيار أيّهما شاء.

وحيث إنّه في المقام لم يُحرز أهميّة الوجوب بهذا الحَدّ، فلا وجه للحكم بالوجوب.

وفيه: إنّ هذا يتمّ بناءً على عدم تماميّة ما اختاره المحقّق النائيني(3) وتبعه جمعٌ1.

ص: 318


1- مسالك الأفهام: ج 3/139-140.
2- المكاسب: ج 2/79-80.
3- كتاب الصلاة تقرير بحث النائيني: ج 2/70-71.

منهم الأستاذالأعظم(1) من أنّه إذا تزاحم تكليفان، ولم يُحرز أهميّة أحدهما، وكانا طوليّين، يكون التكليف بالمتقدّم فعليّاً دون المتأخّر، مستدلّاً عليه بأنّ سقوط كلّ من التكليفين المتزاحمين بناءً على كون التخيير بين المتزاحمين عقليّاً لا يكون إلّا بامتثال الآخر، وبما أنّ امتثال التكليف بالمتأخّر متأخّرٌ خارجاً لتأخّر متعلّقه على الفرض، فلا يكون للتكليف بالمتقدّم مسقط في عرضه، فيتعيّن امتثاله على المكلّف بحكم العقل، وإلّا ففي صورة عدم إحراز أهميّة الوجوب، يتعيّن البناء على حرمة الولاية، وعدم جوازها، فضلاً عن الوجوب.

الموضع الثاني: في حكم التصدّي للولاية التي يتوقّف عليها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب النصوص الخاصّة.

أقول: الظاهر أنّها تقتضي الحكم بالوجوب، إذ بعد تخصيص أدلّة حرمة الولاية بالنصوص المتقدّمة، الدالّة على جواز الولاية للقيام بمصالح المسلمين الشاملة للمقام، إمّا لكون ذلك من تلك المصالح، أو بالفحوى، فإنّه لا معارض ولا مزاحم لما دلَّ على وجوب المقدّمة، فلا مانع من اتّصافها به.

ودعوى: أنّ تلك النصوص المتضمّنة لاستحباب الولاية، كما أنّها تُخصّص دليل حرمة الولاية، كذلك تُخصّص أدلّة الأمر بالمعروف لعدم تعقّل وجوب الأمر بالمعروف مع استحباب مقدّمته.

مندفعة: لا بما في «المكاسب» من أنّ دليل استحباب الشيء الذي قد يكون مقدّمةً لواجبٍ لا يُعارض أدلّة وجوب ذلك الواجب، إذ استحباب الشيء في ذاته0.

ص: 319


1- أجود التقريرات: ج 1/280.

لا ينافي وجوبه بالغير.

فإنّه يرد عليه: أنّ تلك النصوص متضمّنة للاستحباب المقدّمي لا الذاتي، وما ذكره رحمه الله يتمّ في الثاني.

بل لأنّ تلك النصوص إنّما تدلّ على مطلق الرجحان، فيحكم في المقام بالوجوب لأجل وجوب ذي المقدّمة.

فتحصّل: أنّ الأقوى وجوب قبول الولاية فيما إذا كان هناك معروفٌ متروك، أو منكرٍ معمول به، فيجب فعلاً الأمر بالأوّل والنهي عن الثاني.

***

ص: 320

في حكم قبول الولاية عن كُره

الموضع الثاني: اتّفقوا على أنّه يسوغ قبول الولاية عند الإكراه عليها بالتوعيد على تركها.

أقول: لا خلاف ولا إشكال في جواز الولاية إذا اُكره عليها، وتوعّد على تركها بما يَشقّ على المُكرَه تحمّله، سواءٌ أكان ضرراً ماليّاً أم عرضيّاً، وسواءٌ تعلّق بنفسه أم بمَن يعدّ الإضرار به إضراراً به.

ويشهد له:

1 - عموم أدلّة التقيّة(1).

2 - وعموم ما دلَّ على رفع ما استكره عليه(2).

3 - وحديث نفي الضرر(3)، إذ حرمة الولاية ضررٌ على الشخص في الفرض فهي مرفوعة به.

وأمّا الآية الشريفة (إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) (4) فهي غريبة عن المقام، لكونها استثناءٌ عن عموم ما دلَّ على حرمة مودّة الكفّار.

وكذلك لايَصحّ الاستدلال بحديث نفي الإضطرار، إذ الاضطرار غير الإكراه، وهو لا يصدق بمعناه اللّغوي في أغلب موارد الإكراه على الولاية.

ص: 321


1- وسائل الشيعة: ج 16/204 ح 21358، الكافي: ج 2/217 ح 2.
2- وسائل الشيعة: ج 15/369 ح 20769، من لايحضره الفقيه: ج 1/59 ح 132.
3- وسائل الشيعة: ج 25/429 ح 32282، الكافي: ج 5/294 ح 8.
4- سورة آل عمران: الآية 28.

حكم الإضرار بالنّاس مع الإكراه عليه

أقول: بقي عدّة اُمور ينبغي التنبيه عليها:

التنبيه الأوّل: لا كلام في أنّه كما يباح بالإكراه نفس الولاية المحرّمة، كذلك يباح به ما يلزمها من المحرّمات الاُخر، وما يتّفق ممّا يصدر الأمر به من السلطان الجائر عدا إراقة الدَّم.

إنّما الإشكال في أنّ ما يرجع إلى الإضرار بالغير: من نهب الأموال، وهتك الأعراض، وما شاكل هل يُباح بالإكراه، وإنْ كان الضرر المتوعّد به على ترك المكرَه عليه أقلّ بمراتب من الضرر المكرَه عليه، أم لابدَّ من ملاحظة الضررين والترجيح بينهما؟

وفي المسألة وجوه وأقوال أربعة:

القول الأوّل: اختاره الشيخ رحمه الله(1) من ارتفاع حرمة الإضرار بالغير بالإكراه مطلقاً، ولو كان الضرر المتوعّد به على ترك المكره عليه أقلّ بمراتب من الضرر المكرَه عليه.

القول الثاني: عدم ارتفاع حرمته كذلك.

القول الثالث: التفصيل بين ما إذا كان الضرر الذي توعّد به أعظم أو مساوياً فترتفع الحرمة، وبين ما إذا كان أقلّ فلا ترتفع.

القول الرابع: ما اختاره الأستاذ الأعظم(2) من التفصيل:

ص: 322


1- كتاب المكاسب: ج 2/86-87 (ط. ج).
2- مصباح الفقاهة: ج 1/445.

بين ما إذا كان الضرر الذي توعّده المُكرِه (بالكسر) أمراً مباحاً في نفسه، كما إذا أكرهه الجائر على نهب مال غيره وجلبه إليه، وإلّا فيستولي على أمواله، فلا ترتفع الحرمة.

وبين ما إذا كان ذلك الضرر أمراً محرّماً، كما إذا أكرهه على أن يُلجئ شخصاً آخر إلى فعلٍ محرّم كالزنا وإلّا أجبره على ارتكابه بنفسه، فتقع المزاحمة والمرجع إلى قواعد باب التزاحم.

أقول: استدلّ الشيخ رحمه الله(1) لما اختاره بوجوه:

الوجه الأوّل: عموم دليل نفي الإكراه(2) لجميع المحرّمات، حتّى الإضرار بالغير ما لم يبلغ الدَّم.

وفيه: إنّ الحديث كغيره ممّا دلَّ على نفي الإكراه، مسوقٌ في مقام الامتنان على الاُمّة، والحكم بجواز الإضرار منافٍ للامتنان بالإضافة إلى ذلك الغير، وإنْ كان موافقاً للامتنان بالإضافة إلى المكرَه، فلا يكون مشمولاً للحديث.

الوجه الثاني: عموم نفي الحرج(3)، فإنّ إلزام الغير بتحمّل الضرر وترك ما اُكره عليه حرجيٌ والعموم المذكور ينفيه.

وفيه أوّلاً: إنّ الحرج المنفيّ في الشريعة، هي المشقّة التي لا تُتحمّل عادة، وبديهي أنّ الوقوع في الضرر لا يستلزم ذلك مطلقاً، فلا يَصحّ التمسّك لجواز8.

ص: 323


1- كتاب المكاسب: ج 2/87 (ط. ج).
2- وسائل الشيعة: ج 15/369 ح 20769، الكافي: ج 2/462 ح 1.
3- إنّ قاعدة الحرج أو ما يعبَّر عنه بعموم الحرج، أبرز ما دلَّ عليه قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) سورة الحجّ : الآية 78.

الإضرار بدليل نفي الحرج بقول مطلق.

وثانياً: إنّ دليل نفي الحرج يعارض ما دلَّ على نفي الضرر الدالّ على عدم جواز الإضرار بالغير من جهة تضرّره، والنسبة عمومٌ من وجه.

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ دليل نفي الضرر لا يشمل المقام، لقيام العلم الإجمالي بجعل حكم ضرري في المقام من الإباحة أو التحريم، إذ كلّ منهما يوجبُ ضرراً على شخصٍ ، فيبقى دليل نفي الحرج بلا معارض.

وعليه، فالعمدة هي الإيراد الأوّل.

الوجه الثالث: النصوص(1) المتضمّنة أنّه: «إنّما جُعلت التقيّة ليُحقن بها الدَّم، فإذا بلغ الدَّم فليس تقيّة»، حيث أنّها تدلّ على أنّ حَدّ التقيّة بلوغ الدَّم، فتشرع لما عداه.

وفيه: أنّه إنْ أُريد بهذه الجملة أنّه كلّما سوغت التقيّة لحفظ شيء إذا بلغته التقيّة فلا تقيّة، فهي على خلاف المطلوب أدلّ ، إذ التقيّة إنّما شُرّعت لحفظ الأعراض والأموال أيضاً، ولازم ذلك أن لا يشرع هتك عرض الغير ونهب ماله بالتقيّة.

وإنْ أُريد بها أنّ التقيّة إنّما شُرّعت لخصوص حفظ الأنفس، فلازمه عدم شمول نصوص التقيّة في غير موردٍ كون الضرر المتوعّد به هو قتل النفس، مع أنّه لا ريب في شمولها لغير ذلك المورد، فلا مناص عن التصرّف في كلمة (إنّما).

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ المراد بها أنّه إنّما شُرّعت التقيّة لئلّا ينتهي الأمر أخيراً إلى6.

ص: 324


1- وسائل الشيعة: ج 16/234 ح 21445، الكافي: ج 2/220 ح 16.

إراقة الدَّم، وإنْ كان في أوّل الحال يجوز التقيّة لغيرها.

وبعبارة أُخرى: العمدة في تشريع قانون التقيّة هي حفظ النفس، فلا تنافي جواز التقيّة لغيره أيضاً كحفظ المال أو العِرض، وعلى ذلك فهي مسوقة لبيان عدم جواز التقيّة في تلف النفس، لا لجوازها في غير ذلك المورد كي يُستفاد منها جواز الإضرار بالغير لدفع الضرر عن نفسه.

الوجه الرابع: ما يكون مركّباً من صغرى وكبرى .

أمّا الصغرى : فهي أنّ الضرر في مورد الإكراه متوجّهٌ أوّلاً إلى الغير بحسب إكراه المكرِه (بالكسر) وإرادته الحتميّة، والمكرَه (بالفتح) وإنْ كان مباشراً إلّاأنّه ضعيفٌ لا يُنسب إليه توجيه الضرر إلى الغير حتّى يقال إنّه أضرّ بالغير كي لا يتضرّر نفسه.

نعم، لو تحمّل الضرر، ولم يضرّ بالغير فقد صَرَف الضرر عن الغير إلى نفسه عرفاً.

وأمّا الكبرى : فهي أنّ المستفاد من الأدلّة أنّ تشريع نفي الإكراه إنّما هو لدفع الضرر، فلا يجوز دفع الضرر عن نفسه بالإضرار بالغير، ولا يلزم تحمّله لدفعه عن الغير، لأنّ ذلك منافٍ للامتنان، فتكون النتيجة عدم وجوب تحمّل الضرر في المقام لدفع الضرّ عن الغير.

أقول: في المقدّمة الأُولى نظرٌ، لأنّ الإكراه لا يوجبُ سلب اختيار المكرَه (بالفتح) وصيرورته كالآلة، بل هو بعد باق على اختياره وإرادته، ويعدّ فعله الجزء الأخير من العلة، ولولاه لما تحقّق الإضرار بالغير، وعليه فهو يضرّ بالغير اختياراً

ص: 325

دفعاً للضرر عن نفسه.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ الإكراه إنّما يوجبُ تخيير المكرَه بين الإضرار بالغير، وبين تحمّل الضرر على فرض العدم، فلا يكون من توجّه الضرر إلى الغير ابتداءً نظير ما إذا توجّه سيلٌ إلى داره، الذي لا كلام في عدم وجوب صرفه إلى نفسه.

الوجه الخامس: أنّ في إلزام الشارع تحمّل الإضرار على نفسه لدفع الضرر المتوجّه إلى الغير يعدّ حرجاً قطعاً، وهذا بخلاف ما إذا كان الضرر متوجّهاً إليه ابتداءاً، ولا حرج في تحمّله وعدم الإضرار بغيره دفعاً له، فيرتفع بأدلّة نفي الحرج.

وفيه: ما تقدّم من أنّ مطلق تحمّل الضرر لا يكون حَرَجيّاً.

واستدلّ للقول الثاني: بإطلاق أدلّة حرمة الإضرار بالغير، بعد عدم شمول أدلّة نفي الإكراه والحَرَج والضَرَر للمقام كما تقدّم.

ويؤيّده أنّه لو عمّت جملة نفي الإكراه من الحديث للمقام، لعمّت نفي الاضطرار لوحدة السياق، وتلك الجملة لا تعمّ كما صرّح به الشيخ رحمه الله(1)، ولم يجوّز أحدٌ الإضرار بالغير في صورة الاضطرار، فكذلك هذه الجملة.

وفيه: إنّ هذا الوجه وإنْ كان تامّاً في نفسه، إلّاأنّه ربما يزاحم حرمة الإضرار محرّمٌ آخر، وهو ما إذا كان الضرر المتوعّد به أمراً محرّماً، وحينئذٍ فلابدَّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التزاحم.

وعليه، فالأظهر هو القول الرابع.

واستدلّ للقول الثالث: بأنّ نسبة جميع الناس إلى اللّه سبحانه نسبة واحدة،).

ص: 326


1- كتاب المكاسب: ج 2/87-88 (ط. ج).

فالكلّ بمنزلة عبدٍ واحد لمالكٍ واحد، فالضرر المتوجّه إلى أحد شخصين كأحد الضررين المتوجّه إلى شخصٍ واحد، فلابدَّ من ملاحظة أقلّ الضررين، وعند التساوي يُحكم بالتخيير.

وفيه: إنّ هذا وجهٌ اعتباري استحساني لا يُعتمد عليه، مع أنّه إذا كان الضرر المتوعّد به أمراً مُباحاً في نفسه، كيف يحكم بالتخيير بين ذلك وبين الأمر المحرّم، وهو الإضرار بالغير.

***

ص: 327

حكم قبول الولاية لدفع الضَّرر عن الغير

التنبيه الثاني: ويدور البحث فيه عمّا إذا كان الضرر المتوعّد به على ترك المُكرَه عليه ممّا يتعلّق بالأجنبي، فحينئذٍ هل يعدّ إكراها أم لا؟

أقول: الإكراه عبارة من الحمل على فعل يكرهه المكرَه (بالفتح) مع التوعّد على تركه بما يكرهه، سواءٌ كان ذلك أمراً متعلّقاً بنفسه أو عشيرته أو الأجانب، فلو فرض شخص يكره ضرر كلّ مؤمن - وإنْ كان أجنبيّاً عنه بالمرّة - يصدق الإكراه بالتوعّد بالضرر المتعلّق بالأجنبي، ولو فرض أنّه لا يكره الضرر المتعلّق بولده وبنفسه لما صدق الإكراه، وعليه فالضابط هو ذلك، لا القُرب والبُعد.

ثمّ إنّه في موردٍ لا يصدق الإكراه، كما إذا كان الشخص ممّن لا يتأثر بضرر المؤمنين لو حمله الظالم على قبول الولاية، أو على غيرها ممّا حَرّمه اللّه تعالى عدا الإضرار بالغير، وتوعّد على تركه بالإضرار بالمؤمنين، جاز ذلك المحرّم بذلك:

1 - لقيام الأدلّة على جواز قبول الولاية لإصلاح أمرالمؤمنين، ودفع الضرر عنهم(1).

2 - وما دلَّ على مشروعية التقيّة لحفظ المؤمنين عن المهالك والمضرّات(2)، فإنّه إذا أصبح المحرّم مباحاً لدفع الضرر عن المؤمنين، مع عدم الإكراه على قبول الولاية، يصبح مباحاً مع الإكراه عليه بلا فرق كما لا يخفى .

ص: 328


1- وسائل الشيعة: ج 17/192 ح 22326، الكافي: ج 5/112 ح 7.
2- وسائل الشيعة: ج 16/204 ح 21359، الكافي: ج 2/219 ح 12.

أقول: إنّما الكلام في أنّه لو كان المحمول عليه هو الإضرار بالغير، وكان الضَّرر المتوعّد به هو ما يرجع إلى الغير، فقد اختار الشيخ رحمه الله(1) عدم جواز الإضرار، لإطلاق أدلّة حرمته بعد فرض عدم شمول أدلّة نفي الإكراه والحرج للمقام.

وهو حسنٌ ، بل قد عرفت في التنبيه الأوّل أنّه غير جائز حتّى مع صدق الإكراه أيضاً، لأنّ رفعه خلاف الإمتنان على الاُمّة.

***).

ص: 329


1- كتاب المكاسب: ج 2/91 (ط. ج).

اعتبار العجز عن التفصّي في الإكراه

التنبيه الثالث: ذكر بعض مشايخ الشيخ قدس سره(1): أنّه يظهر من الأصحاب أنّ في اعتبار عدم القدرة على التفصّي من المكرَه عليه وعدمه أقوالاً، وعليه فيقع الكلام في مقامين:

الأوّل: في الأقوال في المسألة.

الثاني: في بيان المختار.

أمّا المقام الأوّل: فقد توهّم أنّ في المسألة أقوالاً ثلاثة، ثالثها التفصيل بين الإكراه على الولاية، فلا يعتبر العجز عن التفصّي، وبين الإكراه على غيرها من المحرّمات، فيعتبر فيه العجز عن التفصّي.

أقول: أمّا القول باعتبار العجز عن التفصّي مطلقاً، ما لم يكن حَرَجيّاً ولم يترتّب عليه ضررٌ، فهو المشهور بين الأصحاب، كما أنّ المشهور بينهم عدم اعتباره إذا كان حَرَجيّاً أم ضرريّاً، وعدم اعتبار عدم القدرة العقليّة على خلافه.

وما توهّمه الشهيد الثاني رحمه الله في محكي «المسالك»(2) من أنّ المحقّق رحمه الله اعتبر العجز العقلي، غيرُ صحيحٍ .

وأمّا القول بعدم اعتباره مطلقاً: فالظاهر أنّ منشأ زعمه ما أوهمته عبارة الشهيد رحمه الله في بيان مختاره، ولكن الحقّ أنّه لا يقول بذلك، بل مراده من العجز الذي

ص: 330


1- الظاهر منه هو السيّد المجاهد، لكن لم يسند الأقوال الثلاثة إلى ظاهر الأصحاب بل قال بعد طرح المسألة: (فيه أقوال... إلى أنْ قال: الثاني: ما استظهره في المصابيح من كلام بعض الأصحاب من التفرقة بين التولية وفعل المحرّم) انظر المناهل ص 318، انظر المصابيح (مخطوط) ص 53.
2- مسالك الأفهام: ج 3/139-140.

نفي اعتباره، هو العجز العقلي، وقد عرفت أنّ هذا ممّا تطابقت عليه كلماتهم، والشاهد على أنّ مراده ذلك قوله(1): (ولا يشترط الإلجاء إليه، بحيث لا يقدر على خلافه، وقد صرّح به الأصحاب في كتبهم).

وأمّا القول بالتفصيل: فمنشأ زعمه هو ما احتمله في «المسالك» من عبارة «الشرائع»، حيث قال المحقّق رحمه الله(2):

(إذا أكرهه الجائر على الولاية جاز له الدخول والعمل بما يأمره مع عدم القدرة على التفصّي...).

ثمّ احتمل فيها احتمالات:

منها: أنّ الولاية لاتشترط بالإكراه، بل المشروط به هو العمل بما يأمره الجائر.

ومنها: أنّ الولاية والعمل معاً مشروطان بالإكراه فقط، دون العجز عن التفصّي.

ومنها: التفصيل بين الولاية والعمل، فيقيّد الأُولى بالإكراه، والثاني بالعجز عن التفصّي.

والمتوهّم توهّم أنّ كلّ واحدٍ من هذه الاحتمالات قولٌ برأسه، فنقل أنّ في المقام قولاً بالتفصيل، لكن الشيخ رحمه الله(3) دفع الاحتمال الأخير بأنّه:

فرقٌ بين الولاية، حيث إنّه لا يقدر المُكرَه على التفصّي عنها من دون ضرر ولا كلفة.).

ص: 331


1- مسالك الأفهام: ج 3/140.
2- شرائع الإسلام: ج 2/6.
3- كتاب المكاسب: ج 1/230 (ط. ج).

وبين ما إذا أمر الوالي بأعمال محرّمة في ولايته، فإنّه يتمكّن غالباً من عدم الموافقة، ودعوى الامتثال ظاهراً من أخذ المال جهراً، ثمّ ردّه إليه سرّاً ونحو ذلك.

والمحقّق رحمه الله(1) كان متفطّناً لذلك، فلذا صرّح باعتبار العجز عن التفصّي الذي هو معتبرٌ في صدق الإكراه في إباحة تلك الأعمال خاصّة، وهو حسن.

وأمّا المقام الثاني: فالأظهر اعتبار العجز عن التفصّي إذا لم يكن حَرَجيّاً أم ضرريّاً، لعدم صدق الإكراه بدونه، ولافرق بين هذا المحرّم وسائر المحرّمات الإلهيّة.

وسيأتي تنقيح القول في ذلك في مبحث اعتبار الاختيار في المتعاقدين(2)، في الجزء الخامس عشر من هذا الشرح فانتظر.

***2.

ص: 332


1- شرائع الإسلام: ج 2/6.
2- فقه الصادق: ج 23/92.

جواز الولاية مع الضرر المالي رخصة

التنبيه الرابع: هل جواز قبول الولاية مع الضرر المالي الذي لا يضرّ بالحال، رخصة أم عزيمة ؟

أقول: لا ينبغي التوقّف في جواز تحمّل الضرر المالي، وعدم قبول الولاية المحرّمة، لأنّ مقتضى حديث رفع الإكراه إنّما هو رفع الحرمة، ولا يكون هو متكفِّلاً للوجوب، ولا دليل غيره، فلابدَّ من الرجوع إلى القواعد، وهي تقتضي جواز تحمّل الضرر، لأنّ «الناس مسلطون على أموالهم»(1).

وقد استدلّ لعدم جوازه: بأنّ في دفع المال إعانةٌ على الإثم، وهي محرّمة.

وفيه أوّلاً: إنّ الإعانة على الإثم لا دليل على حرمتها، كما تقدّم.

وثانياً: إنّ دفع المال إلى الجائر من قبيل تجارة التاجر مع إعطاء الضريبة إلى السلطان حيث لا يصدق على دفعها الإعانة كما أسلفناه في محلّه.

***

ص: 333


1- بحار الأنوار: ج 2/272 ح 7، عوالي اللآلئ: ج 1/222 ح 99.

حكم قتل المؤمن بالإكراه أو بالتقيّة

التنبيه الخامس: لا يباح بالإكراه قتل المؤمن، ولو توعّده وهدّده على تركه بالقتل إجماعاً.

أقول: تحقيق القول في المقام يقتضي البحث في مقامين:

الأوّل: فيما تقتضيه القواعد.

الثاني: في النصوص الخاصّة.

أمّا المقام الأوّل: فقد عرفت أنّ حديث رفع الإكراه لوروده مورد الامتنان، لا يصلح لرفع حرمة القتل في المقام، إذ لا امتنان في رفعهاعلى الاُمّة، فهو لا يشمل المقام.

وأمّا أدلّة التقيَّة، فهي وإن دلّت على إباحة المحرّمات لحفظ المؤمنين عن المهالك والمضرّات، إلّاأنّها لا تدلّ على الجواز في المقام، لأنّها إنّما شُرّعت لحفظ نفوس المؤمنين وأعراضهم وأموالهم، فإذا توقّف حفظ شيء منها على إتلاف نظيره من شخصٍ آخر، لا تكون هناك تقيّة، لارتفاع الغاية، وعليه:

فإن كان التوعيد بغير القتل لم يجز القتل بلا كلام.

وإنْ كان به، فقد يتوهّم أنّ حرمة القتل حينئذٍ تُزاحم حرمة الإلقاء في التهلكة ووجوب التحفظ على النفس، إذ الأمر دائرٌ بين إلقاء النفس في الهلكة، وبين قتل المؤمن، ولا مناص عن اختيار أحدهما.

فلابدَّ من الرجوع إلى مرجّحات باب التزاحم، فإن ثبت أهميّة أحدهما تعيّن، وإلّا تخيّر بين الأمرين.

ص: 334

ودعوى: أنّ قوله تعالى : (كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) (1) تدلّ على أنّ الدماء المحترمة ليس أحدها أهمّ من الآخرين، فلا وجه لملاحظة الأهمّ والمهمّ في ذلك.

مندفعة: بأنّها واردة في القصاص، ولا علاقة لها بالمقام.

ولكنّه توهم فاسد: إذ قتل الغير إيجادٌ لما يرفع القتل عن نفسه، وتركه ترك لذلك، لا أنّه إلقاءٌ لها في التهلكة.

وإيجاد ما يرفع القتل وإنْ كان واجباً في الجملة، لكن لا دليل على وجوبه إذا انحصر الدفع بقتل غيره، وعلى هذا فحيث أنّ هلاك أحدهما ممّا لابدَّ منه، ويمتاز قتل الغير بارتكاب محرّم، فلا وجه لتسويغه.

فتحصّل: أنّ مقتضى القواعد عدم جواز القتل.

وأمّا المقام الثاني: فالنصوص أيضاً تقتضي ذلك:

منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنّما جُعِلَت التقيّة ليُحقن بها الدَّم، فإذا بلغ الدَّم فليس تقيّة»(2).

ومنها: موثّق الثمالي، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «إنّما جُعلت التقيّة ليُحقن بها الدَّم، فإذا بلغت التقيّة الدَّم فلا تقيّة»(3).

ونحوهما غيرهما.

فإنّها تدلّ على أنّ حفظ النفس إذا توقّف على أيّ محرّم جاز ذلك، دونما إذا6.

ص: 335


1- سورة المائدة: الآية 45.
2- وسائل الشيعة: ج 16/234 ح 21445، الكافي: ج 2/220 ح 16.
3- وسائل الشيعة: ج 16/234 ح 21446.

توقّف على إراقة دم محترم، فإنّه لا تكون التقيّة حينئذٍ مشروعة ولا يجوز ذلك.

ودعوى: المحقّق المجلسي رحمه الله في ما نقله عن بعض، واختاره المحقّق الإيرواني رحمه الله(1)من أنّ المراد بهذه الأحاديث أنّ التقيّة إنّما شُرِّعت لحفظ النفس، فإذا كان الشخص مقتولاً على كلّ حال، سواءٌ اتّقى أو لم يتّقِ ، فلا مجال للتقيّة لانتفاء ما هو الغرض من تشريع التقيّة، فهي غير مربوطة بالمقام.

ممنوعة: إذ لو احتمل إرادة هذا المعنى من بعضها، ولم تكن خلاف الظاهر، مع أنّه محلّ منع، لا تُحتمل في موثّق الثمالي، لأنّ قوله عليه السلام: «فإذا بلغت التقيّة الدَّم فلا تقيّة» كالصريح في المعنى الذي أشرنا إليه كما لا يخفى .

وعليه، فما هو المشهور - بل المجمع عليه - من عدم جواز قتل المؤمن ولو توعد على تركه بالقتل، منطبقٌ على القواعد، وتشهد به النصوص الخاصّة.

***8.

ص: 336


1- حاشية المكاسب للايرواني: ج 1/46-48.

حكم المستحقّ للقتل

أقول: بقي في المقام فروعٌ تعرّض لها الشيخ رحمه الله(1):

الفرع الأوّل: ما ذكره بقوله: (ولو كان المؤمن مستحقّاً للقتل... الخ).

أقول: المستحقّ للقتل:

1 - إنْ كان مهدور الدَّم لكلّ واحدٍ لا ريب في أنّه ليس مشمولاً للنصوص المتقدّمة، وأنّه يجوز قتله لو أكره عليه بالأولويّة، ما لم تترتّب عليه الفتنة.

2 - وإنْ كان مهدور الدَّم لكلّ أحدٍ، لكن بإجازة الحاكم الشرعي، كمن استحقّ القتل بالحَدّ، أو كان مهدور الدَّم لشخصٍ معيّن أو جماعة كذلك، كالمستحقّ للقتل قصاصاً، فحكمه حكم سائر النفوس المحترمة، فلا يجوز قتله ولو مع التقيّة أو الإكراه.

ودعوى : المحقّق الإيرواني رحمه الله(2) من أنّ النصوص منصرفة إلى محقون الدَّم بقول مطلق، فيرجع فيما عداه إلى عموم قوله عليه السلام: «رفع ما استكرهوا عليه»، ومقتضاه جواز القتل في المقام.

ممنوعة: لعدم تماميّة دعوى الانصراف، بل مقتضى إطلاقها الشمول لكلّ محقون الدَّم.

نعم، هي منصرفة عن مهدور الدَّم بقول مطلق، مع أنّه قد عرفت أنّه مع قطع النظر عن النصوص الخاصّة، فإنّ القواعد تقتضي عدم جواز القتل - فراجع(3)ما حقّقناه - والنصوص الخاصّة لا مفهوم لها كي تقيّد الإطلاقات الأوّليّة.

ص: 337


1- كتاب المكاسب: ج 2/98 (ط. ج).
2- حاشية المكاسب: ج 1/48.
3- صفحة 335 من هذا المجلّد.

حكم قتل المخالف

الفرع الثاني: في أنّه إذا اُكره على قتل المخالف، فهل يجوز ذلك أم لا؟

أقول: اختار الشيخ رحمه الله(1) وتبعه الأستاذ الأعظم(1) جواز القتل عند التقيّة أو الإكراه، واستدلّ له: بأنّ النصوص الدالّة على أنّ حَدّ التقيّة هو الدَّم، مختصّة بدماء المؤمنين، إذ الغَرَض من التقيّة هو حفظها، وعليه فلا مخصّص لعمومات التقيّة ونفي الإكراه.

وفيه: إنّ ما ذكر من أنّ التقيّة إنّما شُرّعت لحفظ دماء المؤمنين ثابت ولا نقاش في ذلك، كما أنّ ما ذكر من اختصاص نصوص المقام بها لا كلام فيه، ولكن بما أنّ أدلّة التقيّة ونفي الإكراه إنّما وردت في مورد الامتنان، وشمولها للمقام منافٍ له، فلا تشمل قتل المخالفين، فهو باقٍ على حكمه الأوّلي، وهو عدم الجواز ما لم يزاحم هذا الحكم حكم أهمّ .

اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ أدلّة التقيّة إنّما وردت في مقام الامتنان على المؤمنين لا على الاُمَّة، كما هو الشأن في دليل رفع الإكراه، وعلى ذلك فهي تشمل قتل المخالفين، وترتفع الحرمة بها.

الفرع الثالث: ما ذكره الشيخ رحمه الله(3) بقوله: (بقي الكلام في أنّ الدَّم يشمل الجَرح وقطع الأعضاء... الخ).

ص: 338


1- مصباح الفقاهة: ج 1/456.

أقول: استدلّ الشيخ رحمه الله(1) لما قوّاه من جواز الجرح وقطع الأعضاء في مورد الإكراه والتقيّة؛ بأنّ ظاهر النصوص الخاصّة الدالّة على أنّه لا تقيّة في الدَّم، هو الاختصاص بالدم المبقي للروح، وعليه فمقتضى عمومات التقيّة ونفي الحرج والإكراه هو ذلك.

وفيه: إنّ تلك الأدلّة لورودها مورد الامتنان، لا تشمل الجرح والقطع، فلابدَّ من الرجوع إلى ما دلَّ على حرمة ذلك من الأدلّة الأوّليّة.

***).

ص: 339


1- كتاب المكاسب: ج 2/99 (ط. ج).

حرمة هجاء المؤمن

المسألة السابعة والعشرون:

هجاء المؤمن حرامٌ بالأدلّة الأربعة.

أقول: الهجاء في اللّغة عبارة عن عَدّ معايب الشخص، كما صرّح بذلك في «القاموس»(1)، وهذا في الجملة ممّا لا خلاف فيه، وإنّما وقع الخلاف بين القوم في موردين:

المورد الأوّل:

في أنّه هل يعتبر في صدقه أن يكون ذلك من خلال الشعر كما عن «جامع المقاصد»(2)، أم لا كما عن غيره.

المورد الثاني:

في أنّه هل يختصّ ذلك بذكر ما فيه من المعايب، أم يعمّ ذكر ما ليس فيه منها.

ولكن حيث لم يرد نصٌّ على حكم الهجاء من حيث هو، والإجماع وان انعقد على حرمته، إلّاأنّه ليس إجماعاً تعبّديّاً، فالأولى الإغماض عن بيان ذلك وصرف عنان الكلام إلى بيان الأدلّة.

ص: 340


1- القاموس المحيط: ج 4/402.
2- جامع المقاصد: ج 4/26.

أقول: استدلّ الشيخ رحمه الله(1) لحرمته بالأدلّة الأربعة، قال:

(لأنّه همزٌ ولمزٌ وأكلُ اللّحم، وتعيّيرٌ وإذاعة سِرّ، وكلّ ذلك كبيرة موبقة، فيدلّ عليه فحوى جميع ما تقدّم في الغيبة... الخ).

وظاهر كلامه هذا صدق جميع هذه العناوين في جميع موارد الهجو، وهو غير تامّ كما سيظهر.

وحقّ القول في المقام: إنّ الهجو ربما يكون بالجملة الخبريّة، وربما يكون بالجملة الإنشائيّة.

أمّا الأوّل: فإن كان الهجو بما فيه من المعايب، كان حراماً، لكونه غيبة وإهانة وتعيّيراً.

وإنْ كان بما ليس فيه كان حراماً من جهة الكذب والإهانة والتعيير.

وأمّا الثاني: فهو يكون حراماً لما دلَّ من النصوص على حرمة هتك المؤمن وإهانته وتعييره.

بقي في المقام فروع:

الفرع الأوّل:

أنّه لا فرق في المؤمن الذي يَحرُم هجوه بين الفاسق وغيره لإطلاق الأدلّة.

وأمّا الخبر المذكور فيه: «محّصوا ذنوبكم بذكر الفاسقين»(2)، فقد حمله).

ص: 341


1- كتاب المكاسب: ج 2/117 (ط. ج).
2- لم نعثر على أصل له في كتب الحديث المعتبرة، وإنّما هو مذكور في بعض الكتب الفقهيّة وقد نقله في المكاسب ج 2/118 (ط. ج).

الشيخ رحمه الله(1) على إرادة الخارجين عن الإيمان، أو المتجاهرين في الفسق، ولكن هذا الحمل خلافُ الظاهر، لا يصار إليه مع عدم القرينة.

فالأولى أنْ يقال: إنّه يحتمل في الخبر وجوه:

الوجه الأوّل: ما فهمه الشيخ رحمه الله منه.

الوجه الثاني: تذكّر أحوالهم، وعاقبة أمرهم، وأنّ مصيرهم إلى النار الموجب للارتداع عن المعاصي، والتوبة عن ما فعله من الذنوب.

الوجه الثالث: تذكيرهم عذاب اللّه كي يرتدعوا عن المعاصي.

أقول: وعلى الأخيرين فهو أجنبيٌ عن المقام، هذا كلّه في غير المعلن بالفسق.

وأمّا في المعلن بفسقه فإن كان الهجو بالجملة الخبريّة، وكان بما فيه من المعايب، ولم يستلزم الهجو إهانة وهتكاً زائداً عمّا يلازم اغتيابه، جاز هجوه، لما دلَّ على جواز غيبة المتجاهر بالفسق، وإلّا فلا يجوز، لعموم الأدلّة وعدم المخصّص، إذ الدليل المُخرِج مختصٌّ بغيبة المتجاهر بالفسق، لا بكلّ ما يكون إهانة له.

الفرع الثاني:

هل يجوز هجو الفاسق المبتدع في الدِّين أم لا؟

وجهان: أقواهما الأوّل، وذلك لأنّه:

إذا كان الهجو بما فيه بالجملة الخبريّة أو بالجملة الإنشائيّة، فإنّ مقتضى).

ص: 342


1- كتاب المكاسب: ج 2/118 (ط. ج).

الأصل ذلك، بعد كون أدلّة حرمة الغيبة وحرمة الإهانة والهتك مختصّة بالمؤمن غير الشامل له.

وأمّا إذا كان الهجو بما ليس فيه بالجملة الخبريّة، فإنّه يدلّ على جوازه الخبر الصحيح الذي رواه داود بن سرحان، عن الإمام الصادق عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في أهل الريب والبدع: «وأكثروا من سبّهم، والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كي لايطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذّرهم الناس، ولايتعلّمون من بدعهم... الخ»(1).

وحمله على إرادة اتّهامهم، وسوء الظنّ بهم، بما يحرم اتّهام المؤمن به، وعدم تجويز الكذب عليهم - كما احتمله الشيخ رحمه الله(2) - خلاف الظاهر، لا يصار إليه بلا قرينة، وهذا يدلّ على الجواز في الشقّ الأوّل أيضاً كما لا يخفى .

الفرع الثالث: هل يجوز هجو المخالفين أم لا؟

فيه أيضاً وجهان، بل وجوه:

والحقّ أنْ يُقال: إنّ هجوهم بما فيهم أو بالجملة الإنشائيّة جائزٌ، لما تقدّم من اختصاص أدلّة حرمة الغيبة والإهانة والهتك بالمؤمنين القائلين بإمامة الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام كما تقدّم تنقيح القول في ذلك في مبحث الغيبة(3).

وإنْ كان بما ليس فيهم من المعايب، فغير جائزٍ، لعموم أدلّة حرمة الكذب والبهتان.د.

ص: 343


1- وسائل الشيعة: ج 16/267 ح 21531، الكافي: ج 2/375 ح 4.
2- كتاب المكاسب: ج 2/118 (ط. ج).
3- صفحة 132 ومابعدها من هذا المجلّد.

واستدلّ للجواز: بخبر أبي حمزة، عن الإمام الباقر عليه السلام، قال:

«قلت له: إنّ بعض أصحابنا يفترون ويقذفون من خالفهم ؟ فقال عليه السلام: الكفّ عنهم أجمل»(1).

وفيه: إنّ الخبر ضعيف السند لعليّ بن العبّاس الذي لا يعتمد عليه.

***1.

ص: 344


1- وسائل الشيعة: ج 16/37 ح 20910، الكافي: ج 8/285 ح 431.

حرمة الهجر

المسألة الثامنة والعشرون: لا خلاف(1) بين المسلمين في حرمة الهجر، والمراد منه الفحش والقول القبيح، وتشهد له جملة من النصوص:

منها: صحيح أبي عبيدة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «البذاء من الجفاء، والجفاء في النار»(2).

ومنها: خبر سُليم بن قيس، عن أمير المؤمنين عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

«إنّ اللّه حَرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء، قليل الحياء، لا يبالي ما قال ولا ما قيل له»(3).

ونحوهما غيرهما.

أقول: مقتضى إطلاق النصوص، عدم الفرق بين أن يكون المخاطب به مؤمناً أو مسلماً أو كافراً، ذكراً أو أُنثى ، صغيراً أو كبيراً، إذ الظاهر منها أنّه محرّم من حيث نفسه، لا بعنوان أنّه إهانة وهتك للمخاطب كي تختصّ الحرمة ببعض من تقدّم.

بل يمكن أن يقال: إنّ الإطلاقات تشمل ما إذا كان المقول له من البهائم والحيوانات كما أفاده المحقّق التقي رحمه الله(4).

والحمد للّه أوّلاً وآخراً.

***

ص: 345


1- مصباح الفقاهة: ج 1/458.
2- وسائل الشيعة: ج 16/36 ح 20907، الكافي: ج 2/325 ح 9.
3- وسائل الشيعة: ج 16/35 ح 20904، الكافي: ج 2/323 ح 3.
4- حاشية المكاسب للشيرازي: ج 1/142.

ص: 346

فهرس الموضوعات

حرمة التطفيف 7

حكم المعاملة المطفّف فيها 9

حرمة التنجيم 12

حرمة حفظ كتب الضلال 23

موضوع الرَّشوة وحكمها 34

حكم الرَّشوة 37

أُجور القضاة 39

الارتزاق من بيت المال 44

أخذ القاضي للهديّة 47

حكم قبول الرَّشوة في غير الأحكام 50

حكم المعاملة المحاباتيّة مع القاضي 53

حكم الرَّشوة وضعاً 55

بحث عن اختلاف الدافع والقابض 58

حرمة سَبّ المؤمن 64

المستشنيات 69

السّحر، موضوعه وحكمه 73

حقيقة السحر 76

أقسام السِّحر 79

ص: 347

دفع ضرر السِّحر بالسِّحر 88

حكم التسخيرات 91

حرمة الشّعبذة 93

حرمة الغِشّ 95

حكم المعاملة وضعاً 98

حرمة الغناء 103

حكم الغناء 107

مستثنيات حرمة الغناء 117

الغناء في قراءة القرآن 120

الحُداء لسوق الإبل 122

الغناء في زَفّ العرائس 124

الغيبة 125

الغيبة من الذنوب الكبيرة 130

اشتراط الإيمان في حرمة الغيبة 132

حكم غيبة الصبي 135

بيان معنى الغيبة 138

كفّارة الغيبة 149

مستثنيات الغيبة 156

غيبة المتجاهر بالفسق 157

فروع الغيبة 165

تظلّم المظلوم 170

ص: 348

حكم غيبة تارك الأولى 175

ضابط الغيبة الجائزة 178

نُصح المستشير 179

الاغتياب في مواضع الاستفتاء 181

الاغتياب لردع المغتاب عن فعل المنكر 184

الاغتياب لحسم مادّة الفساد وجرح الشهود 185

الاغتياب لدفع الضرر عن المقول فيه 186

الاغتياب بذكر الأوصاف الظاهرة 187

الاغتياب لرد من يدّعي نسباً ليس له 188

استماع الغيبة حرام 189

جواز الغيبة لا يلازم جواز استماعها 193

حرمة كون الإنسان ذا لسانين 198

حرمة القمار 200

اللّعب بالآلات المعدّة القمار مع الرّهن 202

اللّعب بالآلات المُعدّة للقمار بدون الرّهن 203

اللّعب بغير الآلات المعدّة للقمار مع الرّهن 210

حكم المسابقة بغير رهان 216

القيادة حرام 220

القيافة وحكمها 222

حرمة الكذب 227

الكذب من الكبائر 227

ص: 349

في حقيقة الوعد وحكمه 236

حكم خلف الوعد 238

حرمة الكذب عند الهزل 240

المبالغة 243

التورية 244

الكذب لدفع الضرورة 251

الكذب لإرادة الإصلاح 266

الكهانة 269

الإخبار عن الأُمور المستقبلة 271

حرمة اللّهو 274

اللَّعب واللَّغو 280

مدح من لا يستحقّ المدح 283

حرمة معونة الظالمين 286

إعانة الظالم في غير جهة ظلمه 288

حرمة النجش 291

النميمة 296

النميمة محرّمة بالأدلّة الأربعة 296

النياحة 299

حكم قبول ولاية الجائر 305

أخذ الولاية للقيام بمصالح العباد 308

أقسام الولاية من قِبل الجائر 313

ص: 350

في حكم قبول الولاية عن كُره 321

حكم الإضرار بالنّاس مع الإكراه عليه 322

حكم قبول الولاية لدفع الضَّرر عن الغير 328

اعتبار العجز عن التفصّي في الإكراه 330

جواز الولاية مع الضرر المالي رخصة 333

حكم قتل المؤمن بالإكراه أو بالتقيّة 334

حكم المستحقّ للقتل 337

حكم قتل المخالف 338

حرمة هجاء المؤمن 340

حرمة الهجر 345

فهرس الموضوعات 347

ص: 351

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.