فقه الصادق المجلد 19

اشارة

سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -

عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح

عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.

مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.

مشخصات ظاهری:41ج.

شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9

وضعیت فهرست نویسی:فیپا

يادداشت:عربی.

يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -

يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.

يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.

یادداشت:کتابنامه .

یادداشت:نمایه.

مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.

موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر

موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.

شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده

شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح

رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392

رده بندی دیویی:297/342

شماره کتابشناسی ملی:3334286

ص: 1

اشارة

فقه الصادق

تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

ص: 4

الحمدُ للّه الذي أوجب الحَجّ تشيّيداً للدِّين، وجَعَله من القواعد التي عليها بناء الإسلام، والصّلاة على محمّدٍ المبعوث إلى كافّة الأنام، وعلى آله هُداة الخلق، وأعلام الحَقّ ، واللّعن الدائم على أعدائهم إلى يوم الدِّين.

وبعدُ، فهذا هو الجزء التاسع عشر من كتابنا «فقه الصادق»، وقد وفّقني اللّه سبحانه لطبعه، راجياً منه تعالى التوفيق لنشر بقيّة الأجزاء، إنّه وليّ التوفيق.

ص: 5

ص: 6

كتاب الجهاد

كتاب الجهاد

وأمّا فضله:

فهو بابٌ من أبواب الجنّة، فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى، ودرع اللّه الحصينة، وجُنّته الوثيقة(1).

فضّله اللّه عزّ وجلّ على الأعمال، وفضّل عامله على العمّال تفضيلاً في الدرجات والمغفرة، وبه ظهر الدِّين، ويدفع عن الدِّين، وبه اشترى اللّه من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنّة بيعاً مفلحاً مُنجحاً(2).

وهو سياحة اُمّة محمّد صلى الله عليه و آله(3) الّتي قد جعل اللّه عزّها بسنابك خيلها، ومراكز رماحها(4).

وفوق كلّ برٍّ برّ فإذا قُتل في سبيل اللّه فليس فوقه برّ(5).

والخيركلّه في السّيف، وتحت السيف، وفي ظِلّ السّيف، ومعقودٌفي نواصي الخيل(6).

ص: 7


1- من خطب أمير المؤمنين عليه السلام، راجع: الكافي: ج 5/4 ح 6، التهذيب: ج 6/123 ح 11، نهج البلاغة خطبة: 27.
2- الكافي: ج 5/3 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/12 ح 19908.
3- التهذيب: ج 6/122 ح 5، وسائل الشيعة: ج 15/17 ح 19922، قوله صلى الله عليه و آله: فإنّ سياحة أُمّتي الغزو والجهاد.
4- التهذيب: ج 6/123 ح 8، وسائل الشيعة: ج 15/10 ح 19902، قوله صلى الله عليه و آله: إنّ اللّه أعزّ أُمّتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها.
5- الكافي: ج 6/348 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/16 ح 19921.
6- الكافي: ج 5/8 ح 15، وسائل الشيعة: ج 15/16 ح 19918.

أمّا لغةً : فلا يهمّنا البحث في معناه، وأنّه فِعال من الجَهد بفتح الجيم بمعنى المشقّة، أو من الجُهد بضمّ الجيم بمعنى الوسع والطاقة، أو غير ذلك من الأقوال(1).

وأمّا شرعاً: فقد ذكروا فيه وجوهاً:

فعن الشهيد الأوّل: إنّه بذل النفس أو المال في إعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان(2).

وأورد عليه: الشهيد الثاني(3) بأنّه غير مانعٍ ، ثمّ عرّفه بأنّه: (بذل الوسع بالنفس وما يتوقّف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجه مخصوص).

أقول: ولكن التعريفين غير جامعين لجميع الأقسام، حتّى الأقسام التي ذكرها الشهيد الثاني رحمه الله.

قال في «الروضة» (2) : (وهو أقسامٌ :

جهاد المشركين ابتداءً لدعائهم إلى الإسلام.

وجهاد من يدهم على المسلمين من الكفّار، بحيث يخافون استيلائهم على بلادهم، وأخذ مالهم، وما أشبهه من الحريم والذريّة.

وجهاد من يريد قتل نفسٍ محترمة، أو أخذ مالٍ أو سبي حريم مطلقاً، ومنه الأسير بين المشركين للمسلمين دافعاً عن نفسه.

وربما أطلق على هذا القسم الدفاع لا الجهاد، وهو أولى .

وجهاد البغاة على الإمام) انتهى.9.

ص: 8


1- لسان العرب: ج 3/133 مادّة (جهد). (2و3) المسالك: ج 3/7 حيث نسبه إلى الشهيد الأوّل.
2- شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/379.

أقول: والحقّ أنّه لا حقيقة شرعيّة له ولا متشرعيّة، وإنّما يُستعمل في الشرع بمعناه اللّغوي، وهدف الفقهاء في أمثال هذه التعاريف إلى بيان عنوان للمسائل بنحو الإجمال للتمييز في الجملة، وعلى ذلك فلا وجه للمناقشة فيما ذكروه بعدم كونه جامعاً أو مانعاً، ولعلّه أحسن ما قيل في المقام: أنّه استفراغ الوسع في مدافعة العدو.

***

ص: 9

أقسام الجهاد

وهو ينقسم إلى أقسامٍ إذ العدوّ أقسام:

العدو الظاهر، والشيطان، والنفس الأمّارة بالسوء.

والكلام في المقام في خصوص القسم الأوّل، وهو أيضاً على أنواع: إذ العدو الظاهر أقسام:

المشركون، والكفّار الموحّدون، والبُغاة على الإمام، والطواغيت، وحكام الجور، والمبدعون في الدِّين، والمحارب للّه ولرسوله، الساعي في الأرض فساداً بالقتل والأسر وقطع الطريق وإشهار السيف وتخويف المسلمين في البلاد والقرى والفلوات، والباغون على طائفة من المسلمين، والمنافقون الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، والظالمون الذين يريدون الاعتداء على نفس الإنسان أو حريمه أو عِرضه.

ثمّ إنّ الجهاد، قد يكون لإعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان.

وقد يكون لحفظ الإسلام وقوانينه من أيدي الأجانب والمعتدين.

وقد يكون لحفظ بلاد الإسلام والمسلمين من سيطرة الأعداء عليها وعليهم.

ثمّ إنّ الجهاد، قد يكون بالسيف وسائر الأسلحة الحربيّة، وقد يكون بالمال، وقد يكون بالبيان والقلم والتبليغ وإقامة الحُجج العلميّة، والجواب عن الشبهات المثارة ضدّ الدِّين وأحكامه، فقد روى الفريقان عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّ : «أفضل الجهاد كلمة العدل عند إمام جائر، أو سلطان جائر، أو أمير جائر»(1).

ص: 10


1- الكافي: ج 5/59 ح 16، التهذيب: ج 6/177 ح 9 باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسائل الشيعة: ج 16/126 باب 2 من أبواب الأمر والنهي من كتاب الأمر بالمعروف ح 1 (21152)، ورواه المخالفون في كتبهم منها: أحمد في مسنده: ج 3/19، والترمذي في سننه: ج 3/318 ح 2265، وأيضاً له في قصص الأنبياء: ج 2/56 باب أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، ورواه أبو داود في سننه: ج 2/325 ح 4344، وابن ماجة والطبراني في المعجم الكبير: ج 8/282، البداية والنهاية لابن كثير: ج 1/301، دار إحياء التراث العربي بيروت 1408، والحاكم النيسابوري في مستدركه: ج 4/506، وكنز العمّال: ج 3/64 ح 551، 5512، 5576، وتاريخ بغداد: ج 7/246 ح 3731، وتاريخ مدينة دمشق: ج 33/305.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «اللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل اللّه... لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).

أقول: والكلام في المقام في القسم الأوّل، ونتعرّض لحكم القسم الثاني استطراداً وبالمناسبة، وأمّا الثالث فالكلام فيه محرّر في كتاب الأمر بالمعروف الآتي، كما أنّ الكلام في جهاد المبدعين في الدين وحكام الجور، والجهاد لحفظ قوانين الإسلام من أيدي الظلمة والمعتدين مذكور في ذلك الكتاب.

فالكلام في المقام في خصوص مدافعة المشركين والكفّار، والباغين بالأسلحة الحربيّة، وفي ذيل تلك المباحث نتعرّض لجملةٍ من أحكام سائر أقسام الجهاد التي لم نتعرّض لها في كتاب الأمر بالمعروف.

فالكلام هنا في مقامين:

الأوّل: في قتال الكفّار.

الثاني: في قتال الباغين.

أقول: وفي كلٌّ منهما قد تكون المحاربة:

تارةً : ابتدائيّة من ناحية المسلمين على الكفّار لدعوتهم إلى الإسلام، أو لغيره.

ص: 11


1- الكافي: ج 7/51 ح 7، الفقيه: ج 4/189 ح 5433، كتاب سليم ص 926 الحديث التاسع والستّون، نهج البلاغة ص 421 ومن وصيّته عليه السلام للحسن والحسين عليهما السلام لمّا ضربه ابن ملجم لعنه اللّه.

ذلك، أو على الطغاة الخارجين على الإمام.

واُخرى: قد تكون المحاربة أوّلاً وبالذات من ناحية العدو، ثمّ يقوم المسلمون بالدفاع عن أنفسهم لدفع الضرر والخطر.

وقد خلط المصنّف رحمه الله(1) البحث في هذه المواضع.

أقسام الجهاد مع الكفّار

ثمّ إنّ الجهاد مع الكفّار ينقسم من جهة اختلاف متعلّقاته إلى أقسام، ولعلّ أجمع ما قيل في المقام ما أفاده الشيخ الأكبر كاشف الغطاء رحمه الله(2) في كشفه، حيث ذكر أنّ الجهاد ينقسم إلى الأقسام التالية:

أحدها: الجهاد لحفظ بيضة الإسلام، إذا أراد الكفّار المستحقّون لغضب الجبّار الهجوم على أراضي المسلمين وبلدانهم وقراهم، وقد استعدّوا لذلك، وجمعوا الجموع لأجله، لتعلوا كلمة الكفر، وتهبط كلمة الإسلام.

ثانيها: الجهاد لدفع الكفّار عن التسلّط على دماء المسلمين وأعراضهم بالتعرّض بالزنا بنسائهم واللّواط بأولادهم.

ثالثها: الجهاد لدفعهم عن طائفةٍ من المسلمين التقت مع طائفةٍ من الكفّار فخيف من استيلائهم عليها.

رابعها: الجهاد لدفعهم عن بلدان المسلمين وقراهم وأراضيهم وإخراجهم منها بعد التسلّط عليها، وإصلاح بيضة الإسلام بعد كسرها، وإصلاحها بعد ثلمها،

ص: 12


1- راجع تبصرة المتعلِّمين: ص 109-110، أو متن هذا الكتاب بعد عدّة صفحات.
2- كشف الغطاء: ج 2/381 (كتاب الجهاد).

والسّعي في نجاة المسلمين من أيدي الكفرة(1).

وقد أفاد الشيخ الأكبر في ذيل ذلك: أنّ هذا القسم أفضل الجهاد، وأعظم الوسائل إلى ربّ العباد، وأفضل من الجهاد لردّ الكفّار إلى الإسلام كما كان في أيّام النبيّ عليه وآله أفضل الصلاة والسلام.

خامسها: جهاد الكفر، والتوجّه إلى محالّهم للرّد إلى الإسلام والإذعان بما أتى به النبيّ صلى الله عليه و آله.

ثمّ قال الشيخ رحمه الله(2) بعد بيان هذه الأقسام:

فكلّ هذه الأقسام مندرجٌ في الجهاد على سبيل الحقيقة، ويجري على قتلاهم في المعركة حكم الشهيد في الدُّنيا والآخرة، فيثبت لهم في الآخرة مع خلوص النيّة ما أعدّه اللّه للشهداء من الدرجات الرفيعة والمراتب الرفيعة والمساكن الطيّبة والحياة الدائمة والرضوان الذي هو أعلى من كلّ مكرمة.

ويسقط في الدُّنيا وجوب تغسيلهم وتحنيطهم وتكفينهم إذا لم يكونوا عُراةً ، فيدفنون في ثيابهم مع الدّماء.

***).

ص: 13


1- كالجهاد مع إسرائيل الغاصبة لفلسطين.
2- كشف الغطاء: ج 2/381 (كتاب الجهاد).

الجهاد بعد إقامة الحُجّة

أقول: وقبل الشروع في المباحث لابدّ من تقديم مقدّمة، وهي:

أنّ الجهاد والقتال مع الكفّار والبغاة إنّما هو بعد الدّعاء إلى محاسن الإسلام، وإقامة الحُجّة عليهم، كما قال اللّه تعالى : «وَ لَوْ أَنّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى » (1).

وقال عزّ وجلّ : «اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (2)، وقال تعالى: «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ » (3).

وكما جرت عليه السُنّة النبويّة والعلويّة والحسينيّة، بل المستفاد من الآية الثانية، والسيرة النبويّة، أنّ القتال إنّما هو بعد الدعوة إلى الإسلام بأقسامها الثلاثة، أي الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالّتي هي أحسن، لأنّ الإنسان إمّا أن يكون له قدرة على إدراك المطلوب بالبرهان، أو لا.

والثاني: إمّا أن يكون له قوّة الجدال والمغالبة، أو لا.

فوظيفة النبيّ صلى الله عليه و آله ومن قام مقامه في هداية الخلق:

مع الفرقة الأُولى إقامة البرهان، وإيقاع التصديق الجازم في أذهانهم.

ومع الفرقة الثانية الإلزام ليلتزموا بما أمروا به.

ص: 14


1- سورة طه: الآية 134.
2- سورة النحل: الآية 125.
3- سورة الأنفال: الآية 42.

ومع الفرقة الثالثة إيقاع المقدّمات الإقناعيّة في أذهانهم لينقادوا للحقّ ، لقصورهم عن بلوغ رتبة البرهان والجدل.

فالحكمة إشارة إلى البرهان.

والموعظة الحسنة إلى الخطابة.

ومجادلتهم بالّتي هي أحسن إلى علم الجدل، وقد رُوي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال:

«أُمرنا معاشر الأنبياء أن نُكلِّم الناس على قدر عقولهم»(1).

وعلى الجملة لا يُبدأ بالقتال إلّابعد إتمام الحُجّة، ثمّ بعد ذلك إن أسلموا فلا كلام، وإلّا فإن منعوا من الدعوة وهدّدوا الدّاعي أو قتلوه، وجب على المسلمين القتال، لحماية الدعاة ونشر الدعوة، لا للإكراه في الدِّين، والتدبّر في آيات القتال والجهاد يرشدنا إلى ذلك، فهذه آيات القتال في سورة البقرة صريحة في ذلك:

«وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ اَلْكافِرِينَ » (2) .

وآيات سورة آل عمران نزلت في غزوة اُحد، وكان المشركون هم المعتدون، وآيات الأنفال نزلت في غزوة بدر الكبرى ، وكان المشركون هم المعتدون أيضاً، وآيات سورة براءة نزلت في ناكثي العهد من المشركين، ولذلك قال بعد ذكر نكثهم:

«أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ اَلرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ 1.

ص: 15


1- المحاسن: ج 1/195 ح 17، الكافي: ج 1/23 ح 15، و: ج 8/268 ح 394
2- سورة البقرة: الآية 190 و 191.

أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » (1) .

وعلى الجملة كان المشركون يبدؤون المسلمين بالقتال لأجل إرجاعهم عن دينهم، وأخرجوا الرسول من بلده وآذوا المؤمنين ومنعوا من الدعوة، فقتال النبيّ صلى الله عليه و آله إيّاهم كان دفاعاً عن الحقّ وأهله، وحماية لدعوة الحقّ .

وإنْ لم يمنعوا من الدعوة ولم يهدّدوا الدّاعي ولم يؤذوا المؤمنين، لكن زاحموهم في تشكيل الحكومة الإسلاميّة التي هي القوّة التنفيذيّة للقوانين الإسلاميّة، يصبح القتال واجباً حينئذٍ لأجل ذلك.

وإذا لم يزاحموهم حتّى في ذلك، لا يجب القتال والجهاد.

وعلى أي تقدير ليس القتال للإكراه في الدين.

أقول: وبهذا الذي ذكرناه يظهر الجواب عمّا ربما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد: بأنّ الإسلام قام بالسيف، وأنّه ليس ديناً إلهيّاً، لأنّ الإله الرحيم لا يأمر بسفك الدّماء، وأنّ العقائد الإسلاميّة خطر على المدنيّة، ولذلك ربما سمّاه بعضهم - كالمبلِّغين من النصارى - بدين السّيف والدّم، وآخرون بدين الإجبار والإكراه(2).

أضف إلى ما ذكرناه: أنّ دين التوحيد مبنيٌ على أساس الفطرة، وهو القيّم على إصلاح الإنسانيّة في حياتها، كما قال اللّه تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ2.

ص: 16


1- سورة التوبة: الآية 13.
2- هذه العبارات نقلها غير واحد من العلماء في كتبهم، وردّوا على هذه الدعاوى نقضاً وحلّاً، ومنهم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان، ونقل أيضاً بعض الكلام المحقّق الأعظم الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء في رسالة المُثل العليا في الإسلام، راجع تفسير الميزان: ج 4/162.

اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ » (1) .

فالتحفّظ عليه يعدّ من أهمّ حقوق الإنسان التي قضت الفطرة السليمة بأنّها مشروعة وجائزة، وممّا يوجب التحفّظ عليه ويكون دفاعاً عن حقّ الإنسانيّة في حياتها القتال، كان دفاعاً عن المسلمين، أو عن بيضة الإسلام، أو ابتدائيّاً كما قال اللّه تعالى بعد آيات القتال من سورة الأنفال: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ » (2) فجعل القتال إحياء لهم.

فالقتال بهذا المعنى عبارة عن استخدام الإنسان ما يحفظ به حياته الاجتماعية الصالحة، ومن الضروري أنّ الفطرة السليمة قاضية بأن للإنسان التصرّف في كلّ ما ينتفع به في حياته.

وإنْ شئت قلت: إنّه بعدما لا ريب أنَّ للإنسان فطرة، ولفطرته حكم وقضاء، لا شبهة في أنّ فطرته تقضي قطعيّاً بأنّه لابدّ وأن يكون للإسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من دنس الشرك باللّه الذي فيه هلاك الإنسانيّة، وموت الفطرة السليمة، وفي القتال دفاع عن حقّها، فالقتال مع المشركين إنّما تكون لإماتة الشرك وإحياء دين التوحيد، وهذه جهة أُخرى في الردّ على ما ذكروه إيراداً على الإسلام.

***4.

ص: 17


1- سورة الروم: الآية 30.
2- سورة الأنفال: الآية 24.

وفيه فصول: الفصل الأوّل:

فيمن يجب عليه: وهو فرض.

وجوب الجهاد

(و) تمام النظر (فيه) يكون في ضمن (فصول):

(الفصل الأوّل: فيمن يجب عليه) الجهاد.

أقول: (و) قبل بيان ذلك لابدّ وأن يعلم أنّه لا خلاف بين المسلمين في وجوبه في الجملة، بل (هو) كالضروري، والآيات الدالّة على أنّه (فرضٌ ) كثيرة، وألسنتها مختلفة.

فمنها: آيات القتال مع المشركين عامّة، وهم غير أهل الكتاب، كقوله تعالى:

«وَ قاتِلُوا اَلْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ » (1) .

وقوله عزّ وجلّ : «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» (2).

ومنها: آيات القتال مع مشركي مكّة ومن معهم بالخصوص، كقوله تعالى:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ » (3) ، وقوله تعالى: «وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّهِ » (4).

ص: 18


1- سورة التوبة: الآية 36.
2- سورة التوبة: الآية 5.
3- سورة الحَجّ : الآية 39 و 40.
4- سورة البقرة: الآية 193.

ومنها: آيات القتال مع أهل الكتاب، قال اللّه تعالى: «قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ » (1).

ومنها: ما يأمر بالقتال مع الكفّار مطلقاً، كقول اللّه عزّ وجلّ : «قاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً » (2).

ومنها: ما يأمر بقتال البُغاة، وجَعَل الفاضل المقداد(3) منه قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ » (4).

قال: (المنافق من ظاهره الإسلام، والباغي كذلك لإظهاره الإسلام وخروجه عنه ببغيه على إمامه، فهو حقيقٌ باسم النفاق، ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام: (لا يُحبّك إلّامؤمنٌ تقيّ ، ولا يبغضك إلّامنافقٌ شقيّ )(5)، رواه النسائي في صحيحه،».

ص: 19


1- سورة التوبة: الآية 29.
2- سورة التوبة: الآية 123.
3- كنز العرفان: ج 1/387.
4- سورة التوبة: الآية 73.
5- الحديث متّفقٌ عليه عند الخاصّة والعامّة: فمن بعض طرق الخاصّة: رواية المفيد له في الإرشاد: ج 1/39-40 (فصل: ومن ذلك ما جاء من الخبر بأنّ محبته عليه السلام علم على الإيمان، وبغضه علم على النفاق)، وسائل الشيعة: ج 2/319 ح 2243، أمالي الصدوق ص 134 المجلس الثامن عشر، أمالي الطوسي ص 77 المجلس الثامن. ومن طرق العامّة: سنن النسائي: ج 8/115، السنن الكبرى: ج 5/137 ح 8487 و: ج 6/534 ح 11749، مسند أحمد: ج 1/95، سنن الترمذي: ج 5/306 ح 3819، تاريخ بغداد: ج 8/416 ح 4523 و: ج 14/426 ح 7785، كنز العمّال: ج 11/622 ح 33028 و 33029 وغيرهم، إلّاأنّ الفروقات بين مصدر وآخر أنّ أغلب المصادر التي ذكرناها اقتصر فيها على جملة «إلّا منافق» دون كلمة «شقيّ » التي وردت في المتن، نعم في أحاديث أُخرى وردت عن أهل بيت العصمة عليهم السلام وبعضها عن النبيّ صلى الله عليه و آله وفيها: «لا يحبّنا أهل البيت إلّامؤمنٌ تقيّ ولا يبغضنا إلّامنافقٌ شقيّ ».

ورويناه نحن أيضاً في أخبارنا ومن يحاربه لا يحبه قطعاً فيكون منافقاً، ولذلك قال علي عليه السلام يوم الجمل: واللّه ما قوتل أهل هذه الآية إلّااليوم، يريد به قوله تعالى: «وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ» (1).

واستدلّ الراوندي(2) على قتال أهل البغي بقوله تعالى: «اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ » (3)، أي انفروا شُبّاناً وشيوخاً، وأغنياء وفقراء، مشاةً وركباناً.

ثمّ قال: ظاهر الآية يقتضي قتال البغاة.

ومنها: ما يأمر بجهاد من دَهَم المسلمين، كقوله تعالى: «وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ » (4).

وهناك آيات تأمر بالجهاد بقول مطلق، كقوله تعالى: «وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ » (5).

وقوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً» (6).

وقوله تعالى: «فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ » (7).4.

ص: 20


1- التوبة: الآية 12.
2- فقه القرآن: ج 1/363 في تفسيره للآية حيث قال: (ظاهر الآية يقتضي وجوب مجاهدة البُغاة كما يجب مجاهدة الكفّار لأنّه جهادٌ في سبيل اللّه).
3- سورة التوبة: الآية 41.
4- سورة البقرة: الآية 190.
5- سورة الحَجّ : الآية 78.
6- سورة النساء: الآية 71.
7- سورة النساء: الآية 74.

وقوله تعالى: «اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ » (1).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

وأمّا النصوص: الدالّة على وجوب الجهاد، فهي متواترة لا يمكن ذكرها في المقام، فإنّما نذكر طُرفاً منها المتضمّنة لما يترتّب عليه من الفوائد، وعلى تركه من المفاسد، وما تضمّن علل الوجوب:

منها: الخطبة التي ألقاها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام حين غزا معاوية بجيشه الأنبار، فقال:

«أمّا بعدُ، فإنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى ، ودرع اللّه الحصينة، وجُنّته الوثيقة، فمن تركه رغبةً عنه ألبسه اللّه ثوب الذلّ ، وشمله البلاء، وديث بالصغار والقماءة، وضُرب على قلبه بالإسهاب، وأديل الحقّ منه بتضيّيع الجهاد، وسيم الخسف، ومنع النصف»(2).

ومنها: ما روته زينب بنت علي عليهما السلام: «قالت فاطمة عليها السلام في خطبتها: فرض اللّه الإيمان تطهيراً من الشرك، والجهاد عِزّاً للإسلام. الحديث»(3).

ومنها: ما عن أمير المؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر حين ولّاه مصر:

«فالجنود بإذن اللّه حصون الرعيّة، وزين الولاة، وعِزّ الدِّين، وسُبل الأمن، وليس تقوم الرعيّة إلّابهم، ثمّ لا قوام للجنود إلّابما يخرج اللّه لهم من الخراج الذي2.

ص: 21


1- سورة النساء: الآية 76.
2- الكافي: ج 5/4 باب فضل الجهاد ح 6، وسائل الشيعة: ج 15/14 ح 19913، ورواه إبراهيم بن محمّد الثقفي المتوفي 283 ه. ق في كتابه الغارات: ج 2/325-326 (غاره سفيان بن عوف الغامري...)، نهج البلاغة: خطبة 27 ص 69.
3- الفقيه: ج 3/567 ح 4940، وسائل الشيعة: ج 5/22 ح 22.

يقوون به على جهاد عدوّهم... إلى آخر ما أوصاه به عليه السلام»(1).

ومنها: خبر معمر، عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: «الخير كلّه في السيف، وتحت السيف، وفي ظلّ السيف، إنّ الخير كلّه معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة»(2).

ومنها: خبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من قُتل في سبيل اللّه لم يعرّفه اللّه شيئاً من سيّئاته»(3).

ومنها: العلويّ : «إنّ اللّه فرض الجهاد وعظّمه، وجعله نصره وناصره، واللّه ما صَلُحت دنيا ولا دين إلّابه»(4).

ومنها: النبويّ : «اغزوا تورثوا أبناءكم مجداً»(5).

ومنها: النبويّ : «من خَرَج مجاهداً فله بكلّ خطوةٍ سبعمائة ألف حسنة، ويُمحي عنه تسعمائة ألف سيّئة، ويُرفع له سبعمائة ألف درجة، وكان في ضمان اللّه، بأيّ حتفٍ مات كان شهيداً، وإنْ رجع رجع مغفوراً له مُستجاباً دعائه»(6).

إلى غير ذلك من النصوص التي لا تحصى.

وكون وجوب الجهاد من ضروريّات الدِّين، يُغنينا عن ذكر الدليل الثالث وهو الإجماع على الوجوب تحصيلاً ومنقولاً(7).6.

ص: 22


1- نهج البلاغة: القسم الثاني، المكتوب 53 (ومن كتاب له عليه السلام للأشتر النخعي لمّا ولّاه على مصر وأعمالها حيث اضطرب أمر أميرها محمّد بن أبي بكر، وهو أطول عهد كتب وأجمعه للمحاسن).
2- الكافي: ج 5/8 ح 15، وسائل الشيعة: ج 15/16 ح 19918.
3- الكافي: ج 5/54 ح 6، وسائل الشيعة: ج 15/16 ح 19919.
4- الكافي: ج 5/8 ح 11، وسائل الشيعة: ج 15/16 ح 19915.
5- الكافي: ج 5/8 ح 12، وسائل الشيعة: ج 15/15 ح 19916.
6- ثواب الأعمال ص 292، وسائل الشيعة: ج 15/18 ح 19927.
7- ادّعى الإجماع عليه غير واحد من الأعلام منهم شيخ الطائفة في المبسوط: ج 2/2 (فصل: في فرض الجهاد ومن يجب عليه)، والحِلّي في المهذّب البارع: ج 2/296.

على الكفاية.

وأمّا العقل: فهو مستقلٌ بوجوبه، فإنّه كما مرّ موجبٌ لتطهير الأرض من لوث الشرك باللّه الذي فيه هلاك الإنسانيّة وموت الفطرة، فإنّ دين التوحيد دين الفطرة كما قال تعالى : «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ » (1)، والتحفّظ عليه من أوضح حقوق الإنسانيّة، والجهاد الذي يُحفظ به ذلك، يكون واجباً بحكم العقل.

والإيراد على الاستدلال بحكم العقل في الأحكام الشرعيّة، والجواب عنه سيأتي مفصّلاً في أوّل بحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذا المجلّد.

وجوب الجهاد عيني أو كفائي

أقول: قد طفحت كلماتهم بأنّ فرض الجهاد (على الكفاية).

قال صاحب «الجواهر»:(2)(بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل ولا بين غيرنا، بل كاد يكون من الضروري، فضلاً عن كونه مجمعاً عليه، مضافاً إلى المعلوم من سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله وأصحابه) انتهى.

وعن سعيد بن المسيّب أنّ وجوبه عيني.

استدلّ ابن زُهرة(3) والمقداد(4) للأوّل بالإجماع، وبقوله تعالى : «لا يَسْتَوِي

ص: 23


1- سورة الروم: الآية 30.
2- جواهر الكلام: ج 21/9 (فرضه على الكفايه).
3- غنية النزوع: ص 199 وقال: (وهو أي الجهاد فرض على الكفاية... بلا خلاف إلّامن ابن المسيّب ويدلّ على ذلك بعد الإجماع قوله تعالى...) ثمّ ذكر الآية.
4- استدلّ الفاضل المقداد على (الكفاية) بإجماع الصحابة وغيرهم ولانتفاء المسبّب عند انتفاء السبب كما في كنز العرفان: ص 314 (النوع الأوّل في وجوبه).

اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى » (1) .

بتقريب: أنّه تعالى فاضل بين المجاهدين والقاعدين غير أُولي الضرر، ووعد كلّاً منهم الحسنى، ولولا أنّ وجوبه على الكفاية لما وعد القاعدين عنه الحسنى والمثوبة، ولما كان لهم فضيلة.

وزاد الثاني:(2) (ولانتفاء المسبّب بانتفاء السبب).

ويضاف إلى ما ذكراه: السيرة النبويّة، وقاعدة الحرج.

واستدلّ المقداد للقول الثاني(3)، بالنبوي: «مَنْ مات ولم يغز ولم يحدِّث نفسه بالغزو، مات على شُعبةٍ من النفاق»(4).

كما واستدلّ غيره(5) له بقوله تعالى أوّلاً: «اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ » (6)، و قوله أخيراً: «إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً» (7).9.

ص: 24


1- سورة النساء: الآية 95.
2- كنز العرفان: ص 314 (النوع الأوّل: في وجوبه).
3- القول الثاني أي الوجوب العيني حكاه الفاضل عن قوم للحديث ثمّ قال: (وليس بدالّ على مطلوبهم)، (المصدر السابق).
4- صحيح مسلم: ج 6/49، سنن أبي داود: ج 1/562 ح 2502، كنز العمّال: ج 4/293 ح 10558، مسند أحمد: ج 2/374 وغيرهم من المصادر.
5- هذه الآية استدلّ بها غير واحد من العامّة على أنّ الجهاد فرضٌ على الأعيان، وحكاه ابن قدامة في الشرح الكبرى : ج 10/364 عن ابن المسيّب مستدلّاً بالآيتين.
6- سورة التوبة: الآية 41.
7- سورة التوبة: الآية 39.

أقول: بعد أنّ الحقّ كون الواجب الكفائي واجباً على الجميع، وإنْ كان لو قام به جماعة فيهم الكفاية سقط عن الباقين سقوطاً مراعياً باستمرار القائم به إلى أن يحصل الغرض المطلوب شرعاً، فإنّه لا يترتّب ثمرة مهمّة على كون وجوبه كفائيّاً أو عينيّاً، لأنّه إنْ قام جماعة بالجهاد، وحصل الغرض، سقط الوجوب كفائيّاً كان أم عينيّاً، وإنْ تركت هذه الفريضة عُوقب الجميع كفائيّاً كان أم عينيّاً، وإنْ لم يتمكّن بعض الأفراد أو كان عليهم حرجيّاً زيادة على ما في الجهاد، توجّه التكليف إلى المتمكّنين وسقط عن العاجزين من غير فرق بين القسمين، ولذلك لا يهمّنا البحث في ذلك.

ويشير إلى ما ذكرناه الخبر الذي رواه صاحب «دعائم الإسلام»(1) عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال:

«الجهاد فرضٌ على جميع المسلمين، لقول اللّه عزّ وجلّ : «كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ » (2) فإنْ قامت بالجهاد طائفة من المسلمين وسع سائرهم التخلّف عنه، ما لم يحتجّ الذين يلون الجهاد إلى المدد، فإنْ احتاجوا لزم الجميع أن يمدّوهم حتّى يكتفوا، قال اللّه عزّ وجلّ : «وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً » (3)، وإنْ دهم أمرٌ يحتاج فيه إلى جماعتهم نفروا كلّهم، قال اللّه عزّ وجلّ : «اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ » (4)».1.

ص: 25


1- دعائم الإسلام: ج 1/341 (ذكر افتراض الجهاد)، المستدرك: ج 11/14 ح 12297.
2- سورة البقرة: الآية 216.
3- سورة التوبة: الآية 122.
4- سورة التوبة: الآية 41.

أقول: نعم، قد يجب على بعض الأفراد عيناً وإن قام به من به الكفاية، وهو في موارد:

المورد الأوّل: تعيين الإمام له وإنْ كان غير محتاجٍ إليه للقتال بسبب قيام من فيه الكفاية، فإنّ الإمام قد يرى في نهوضه معهم مصلحةً من جهة أُخرى ، كجودة رأيه وحسن تدبيره وأشباه ذلك.

المورد الثاني: تعيينه الجهاد على نفسه بنذرٍ أو عهدٍ أو يمينٍ أو أجارةٍ أو غير ذلك.

المورد الثالث: إذا التقى الزحفان، وتقابل الفئتان، قال اللّه تعالى: «إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا» (1) و «إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ» (2).

وجوب التفقّه كوجوب الجهاد

أقول: بقي في المقام شيء لا بأس بالإشارة إليه، وهو أنّه قد يقال: إنّ قوله تعالى : «وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » (3) ناسخة لما يدلّ على وجوب الجهاد على الجميع، وينهى عن نفر المؤمنين كافّة، إلّاأنّ الذي يستفاد من الآية الكريمة أنّ وجوب التفقّه كوجوب الجهاد.

توضيح ذلك: إنّ المفسّرين ذكروا للآية وجوهاً:

ص: 26


1- سورة الأنفال: الآية 45.
2- سورة الأنفال: الآية 15.
3- سورة التوبة: الآية 122.

1 - كون المراد النفر إلى الجهاد بقرينة صدر الآية «وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً » (1) وسياق سائر الآيات التي قبل هذه الآية، ومعلومٌ أنّ النفر إلى الجهاد لا يترتّب عليه التفقّه في الدِّين، نعم يترتّب عليه مشاهدة آيات اللّه من غلبة المسلمين على أعداء اللّه، وظهور علائم عظمة اللّه، وسائر ما يتّفق في الحرب، فيخبروا بذلك المتخلّفين، فاللّام في قوله تعالى : «لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ » للعاقبة لا للغاية، ويكون التفقّه والإنذار من قبيل الفائدة لا للغاية.

2 - كون المراد النفر إلى الجهاد، وإرادة تفقّه المتخلّفين.

3 - كون المراد النفر للتفقّه.

أقول: الظاهر بعد ملاحظة الروايات، أنّ المراد - واللّه العالم - هو الأخير، لا بنحوٍ لا يكون مربوطاً بما قبل هذه الآية من آيات الجهاد، بل بتقريب أنّ صدر الآية ينهي عن نفر المؤمنين كافّة، والمراد منه - واللّه العالم - أنّ قصر إلى طائفة وجماعة ليس مقابل تخلّف الباقين، بل في مقام المنع عن قصر النفر على الجهاد نظراً إلى أنّه كما يكون الجهاد مهمّاً وبه بقاء الدِّين، وعزّ الإسلام، وإعلاء كلمة الحقّ ، كذلك التفقّه للإنذار وبيان المعارف والأحكام والقوانين الإسلاميّة المتضمّنة لسعادة البشر، فليكن نفر جماعة إلى النبيّ صلى الله عليه و آله للتفقّه، ونفر الباقين إلى الجهاد، فصدر الآية ينهي عن نفر الجميع إلى الجهاد، وذيلها يبيّن ذلك بقوله: «فَلَوْ لا نَفَرَ» ...(2) إلى آخر الآية.

فالنافر والمتفقّه والمنذر جماعة خاصّة، لا أنّ النافرين غير المتفقّهين، ولا كون الآية غير مربوطة بآيات الجهاد، كما هو مقتضى الوجه الثاني، ولا أنّ المراد بأفقه2.

ص: 27


1- سورة التوبة: الآية 122.
2- سورة التوبة: الآية 122.

غير تعلّم أحكام الدين كما هو مقتضى الوجه الأوّل، وهذا المعنى يساعده الاعتبار أيضاً مع التحفّظ على ظواهر ألفاظ الآية، فإنّ المنافرين إلى الجهاد إذا رجعوا كان ينذرهم النبيّ صلى الله عليه و آله ولم يكن حاجة إلى إنذار المتخلّفين.

ثمّ إنّ ذكر التفقّه والإنذار بعده في ضمن آيات الجهاد، لعلّه يكون للإشارة إلى أنّ التبليغ والإرشاد وإظهار كلمة العدل عند الجبابرة والطغاة والظلمة، وإظهار العلم عند ظهور البدع أيضاً من مصاديق الجهاد، بل كما في النّص: «أفضل الجهاد كلمة العدل عند إمام جائر» كما أنّ فائدة ذلك أعلى بمراتب من القتال.

وسيأتي تمام الكلام في ذلك في كتاب الأمر بالمعروف.

***

ص: 28

بشروط تسعة:

البلوغ، والعقل،

شرائط وجوب الجهاد

لا خلاف ولا كلام في أنّ وجوب الجهاد على الوجه المزبور مشروطٌ (بشروط)، وقد ذكر المصنّف رحمه الله منها (تسعة) وستقف على ما هو الحقّ .

وتنقيح القول في المقام: إنّه قد تقدّم بيان أقسام الجهاد، وعرفت أنّها تقع على وجوه خمسة:

1 -ما يكون لحفظ بيضة الإسلام.

2 -مايكون لدفع الكفّارعن بلدان المسلمين وإخراجهم منهابعد سيطرتهم عليها.

3 -ما يكون لدفع الملاعين عن التسلّط على دماء المسلمين وهتك أعراضهم.

4 -ما يكون لدفعهم عن طائفة من المسلمين التقت مع طائفة من الكفّار فخيف من استيلائهم عليها.

5 -ما يكون لأجل الدعوة إلى الإسلام.

أقول: والشرائط المزبورة على قسمين:

قسمٌ : يعتبر في الجميع.

وقسم: يعتبر في بعض الأقسام.

وممّا يعتبر في الجميع: (البلوغ والعقل) لاشتراطهما في التكاليف مطلقاً، أضف إليه ما في «المنتهى» من النصوص الواردة في البلوغ(1).

ص: 29


1- منتهى المطلب: ج 2/899 (ط. ق) البحث الرابع: فيمن يجب عليه وشرائط وجوبه.

والذكورة.

اعتبار الذكورة في بعض أقسام الجهاد

(و) من الشرائط: (الذكورة) بلا خلاف فيه في الجملة، وعن «المنتهى»: دعوى الإجماع عليه(1)، وسيرة رسول اللّه صلى الله عليه و آله أقوى شاهد على ذلك، أضف إلى ذلك:

1 - الأخبار النبويّة التي ذكرها صاحب «المنتهى»(2).

2 - وخبر الأصبغ بن نُباتة، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: كَتب اللّهُ الجهادَ على الرجال والنساء، فجهاد الرجل بذل ماله ونفسه حتّى يُقتل في سبيل اللّه، وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها وغيرته»(3).

3 - وخبر موسيبن بكر، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «أن جهاد المرأة حُسنُ التبعّل»(4).

4 - وما رواه السيّد ابن طاووس مرسلاً عن الحسين بن علي عليهما السلام في حديثٍ :

«أنّ الجهاد مرفوعٌ من النساء»(5).

5 - والمرتضوي في حديثٍ : «ولا على النساءجهادٌ ولا عليمن لم يبلغ الحُلُم»(6).

ص: 30


1- منتهى المطلب: ج 2/899 (ط. ق) البحث الرابع: فيمن يجب عليه وشرائط وجوبه.
2- المصدر السابق، مستدلّاً بعد الإجماع برواية ابن عمر، قال: «عرضتُ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله في غزوة بدر وأنا ابن ثلاثة عشر سنة فردّني» وقال: لأنّه غير مكلّف ولأنّه ضعيف البُنية فيسقط عنه.
3- التهذيب: ج 6/126 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/23 ح 19934.
4- وسائل الشيعة: ج 20/163 ح 25314.
5- المستدرك: ج 11/25 ح 12338.
6- المستدرك: ج 11/24 باب 4 من أبواب جهاد العدو ح 12336.

6 - والنبويّ : «كَتبَ اللّهُ الجهاد على رجال أُمّتي، والغيرة على نساء أُمّتي، فمن صبر منهن واحتسب أعطاها اللّه أجر شهيد»(1).

إلى غير ذلك من النصوص.

أقول: ثمّ إنّ المتيقّن ممّا هو مرفوعٌ عن المرأة هو القسم الأخير من الأقسام الخمسة المتقدّمة، وهو ما كان ابتداءاً من المسلمين للدّعاء إلى الإسلام، وأمّا سائر الأقسام فالمنع غير ثابت، بل الوجوب في بعضها مسلّمٌ ، وفي بعضها مقتضى إطلاق وعموم الأدلّة الوجوب.

قال الشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك»: بعد أن شرط الذكورة:

(إعلم أنّ الجهاد على أقسام:

أحدها: أن يكون ابتداءً من المسلمين للدعاء إلى الإسلام، وهذا هو المشروط بالبلوغ والعقل والحريّة والذكوريّة...

الثاني: أن يَدهم المسلمين عدوٌّ من الكفّار يريد الاستيلاء على بلادهم، أو أسرهم، أو أخذ أموالهم وما أشبهه من الحريم والذرّية، وجهاد هذا القسم ودفعه واجبٌ على الحُرّ والعبد، والذَّكر والأُنثى إن احتيج إليها)(2) انتهى.

قال في «الروضة»:(3)(الجهاد على أقسام: جهاد المشركين ابتداءً لدعائهم إلى الإسلام، وجهاد من يدهم على المسلمين من الكفّار...

إلى أنْ قال:(4) والذكوريّة شرطٌ، فلا يجب على المرأة هذا الجهاد بالمعنى الأوّل، أمّا الثاني فيجب الدفع على القادر سواء الذَّكر والأُنثى ). انتهى.د.

ص: 31


1- المستدرك: ج 11/24-25 ح 12337، و: ج 14/236 ح 16594.
2- مسالك الأفهام: ج 3/7-8.
3- شرح اللّمعة: ج 2/379 كتاب الجهاد.
4- شرح اللّمعة: ج 2/382-383 كتاب الجهاد.

وقال في «كشف الغطاء»: بعد تقسيم الجهاد إلى الخمسة التي ذكرناه:

(سادسها: الذكورة فلا يجبُ على من علم خروجه عن حقيقتها أو شكّ فيه كالخُنثى المشكل الممسوح، وهذا مخصوصٌ بالأخير أو القسمين الأولين)(1) انتهى.

ومراده بالأخير هو الدّعاء للإسلام، وبالأولين ما يكون لحفظ بيضة الإسلام، إذا أرادالكفّار الهجوم عليها، ومايكون لدفعهم عن بلدان المسلمين بعدسلطانهم عليها.

أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالتنبية على أُمور:

أحدها: أنّ الجهاد المرفوع عن النساء إنّما هو تولّي القتال بمعنى المقارعة، لا مطلق الحضور والإعانة على الأُمور كمعالجة الجرحى مثلاً.

قال الشيخ في محكي «المبسوط»: (وكان النبيّ صلى الله عليه و آله يحمل معه النساء في الغزوات)(2).

وقال المصنّف في محكي «التذكرة»: (ولو أخرج الإمام معه العبيد بإذن ساداتهم، والنساء والصبيان جاز الانتفاع بهم في سقي الماء والطبخ ومداواة الجرحى، وكان النبيّ صلى الله عليه و آله يُخرج معه أُمّ سليم وغيرها من نساء الأنصار)(3) انتهى .

ثانيها: أنّه يجب على النساء تعلّم مداواة الجرحى، وبعض أنحاء العمليّة، بل تعلم سائر الأُمور الفنيّة الضروريّة في الحرب مثل إصلاح الأجهزة الكهربائيّة وآلات الحرب المعطوبة وغيرها، بل تعلّم آداب نفس الحرب والمقاتلة أيضاً فيما لو احتجن إلى الدفاع عن حريمهن وحريم المؤمنين في الأقسام من الجهاد الواجب عليهن على نحو ما يجب على الرجال.5.

ص: 32


1- كشف الغطاء: ج 2/396.
2- المبسوط: ج 2/5.
3- تذكرة الفقهاء: ج 9/13، وفي الطبعة القديمة: ج 1/405.

والحريّة، وأن لا يكون هِمَّاً، ولا مقعداً، ولا أعمى، ولا مريضاً يعجز عنه.

ثالثها: أنّ سقوط الجهاد عن النساء لا يستلزم سقوط مثوبته عنهن بالكليّة، راجع خبر الأصبغ المتقدّم(1) وغيره.

(و) أمّا (الحُريّة) فعلى اعتبارها الإجماع(2) لا حاجة لنقل الأخبار لانتفاء موضوع العبوديّة في هذه الأزمنة.

اعتبار السلامة من العمى والإقعاد والمرض

(و) ممّا يعتبر في الجهاد، ويكون مختصّاً بالقسم الأخير من الأقسام الخمسة المتقدّمة في أوّل الشرائط، ويشترك معه ما سبقه إنْ لم يترتّب دفع ضرر: (أن لا يكون هِمَّاً) والهِم بكسر الهاء هو الشيخ الفاني العاجز عن المعونة في الدفاع والجهاد بجميع أنواعها، غير البالغ حَدّ التعذّر، وإلّا فيشرك فيه الجميع، (ولا مقعداً) وإنْ وجد مركباً ومعيناً، (ولا أعمى ) وإنْ وجد قائداً، (ولا مريضاً يعجز عنه) أي عن الجهاد، إجماعاً في الجميع.

ويشهد به: مضافاً إلى قاعدة الحرج:

1 - قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اَللّهُ

ص: 33


1- التهذيب: ج 6/126 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/23 ح 19934.
2- كما حكاه في الجواهر: ج 21/5 عن المنتهى، ونفى فيه الخلاف، وقد ذكر المسألة العلّامة في المنتهى: ج 2/899 واعتبر أنّ الحريّة شرطٌ في وجوبه إلّاأنّ الإجماع الذي ادّعاه قد يكون مختصّاً بشرطيّة العقل، وفي مختلف الشيعة: ج 4/383 ادّعى الشهرة عليه، بقوله: (الحريّة شرطٌ في الجهاد وهو المشهور).

غَفُورٌ رَحِيمٌ » (1) .

والمراد من «اَلضُّعَفاءِ » الذين لا قوّة لهم بحسب الطبع للجهاد، كالهِمّ والمقعد، ومن «اَلْمَرْضى » الذين لا قوّة لهم بحسب عارض خارجي، ومن «اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ » (2) الذين لا قوّة لهم من جهة فقد المال ونحوه، فهؤلاء رفع عنهم الحَرَج والمشقّة أي الحكم الوجوبي الذي لو ثبت كان حَرجيّاً، وما يتبعه من العقاب والذمّ على تقدير المخالفة.

ثمّ إنّه قيّد في الآية الكريمة رفع الحرج عن هؤلاء بما إذا نصحوا للّه ورسوله، أي أخلصوا نيّاتهم من الخيانة والغشّ ، ولم يكونوا في صورة القعود كالمنافقين المتخلّفين في إفساد القلوب، وتقليب الأُمور في مجتمع المؤمنين، فمفهومه أنّه مع عدم ذلك يجري عليهم ما يجري على المنافقين من الذمّ والعقاب.

2 - وقوله تعالى: «وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ حَزَناً أَلاّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ » (1).

(الحمل) يعني إعطاءالمركوب من فرسٍ أو بعير أو غير ذلك، «وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ » موصولٌ صلة تولّوا، وقوله: «إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ » كالشرط والجزاء، والمجموع ظرف لقوله «تَوَلَّوْا» ، و «حَزَناً» مفعولٌ له، و «أَلاّ يَجِدُوا» منصوبٌ بنزع الخافض.

والمعنى: ولا حرج في ترك الجهاد على الفقراء الذين إذا أتوك سألوك أن تعطيهم المركب، وسائر ما يحتاجون إليه، قلتَ لا أجدُ ما أحملكم عليه تولّوا والحال أنّ أعينهم تمتلي وتسكب دموعاً للحزن من عدم وجدان ما ينفقونه في سبيل اللّه للجهاد مع أعدائه.2.

ص: 34


1- سورة التوبة: الآية 92.

3 - وقوله تعالى: «لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ » (1)، والآية وإنْ وردت في الأكلّ من بيوت الغير، إلّاأنّه في عطف «وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ » (2) عليه دلالة على أنّ عَدّ المذكورين ليس لاختصاص الحقّ ، بل لأنّهم أرباب عاهات يصعب عليهم أن يكتسبوا الرزق، وعليه فلا يختصّ بتكليف خاص.

وغير ذلك من الآيات.

أقول: والمراد من العرج الذي يسقط معه وجوب الجهاد، ليس مطلقه بحيث يعمّ اليسير منه الذي يمكنه الركوب والمشي معه، وإنْ تعذّر عليه شدّة العدو، بل المراد منه كما فهمه الفقهاء المقعد.

كما أنّ المرض اليسير كوجع الضرس والصداع ونحوهما ممّا يتمكّن معه من الجهاد لا يكون مانعاً، بل المانع هو ما لا يقدر معه من الركوب والعَدْو.

وفي «المسالك»: (أي المانع من مجموعهما، فإنّ الراكب قد يحتاج إلى العدو بأن يسير ماشياً لقتل دابّته ونحوه، ومن يقدر على العدو قد يحتاج إلى الركوب)(1).

والدليل على ذلك كلّه مع إطلاق الدليل؛ أنّ مناسبة الحكم والموضوع من القرائن العامّة المحفوفة بالكلام قد توجب التوسعة، وقد توجب التضيّق، كما في المرض الموجب لجواز إفطار الصائم، فإنّ المراد منه مع إطلاق الآية، المرض الذي يضرّ معه الصوم، ففي المقام أيضاً يوجب ذلك تقييد إطلاق الأدلّة، وهذا هو مراد الفقهاء من قولهم، لإنصراف الأدلّة إلى ما ذكر.

***2.

ص: 35


1- المسالك: ج 3/12.

ودعاء الإمام، أو من نَصَبه إليه.

اعتبار دعاء الإمام أو من نَصبه إليه

إنّما الكلام فيما ذكره الأصحاب، وهو المشهور بينهم، بل وعليه الإجماع بقسميه (و) اشتراط (دعاء الإمام أو من نصبه إليه) في وجوب الجهاد في خصوص القسم الأخير من الأقسام الخمسة المتقدّمة، وهو ما كان للدعوة إلى الإسلام، ولو بتعميم ولايته له ولغيره في قطر من الأقطار.

وفي «المسالك»(1) وغيرها:(2) (عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له التصدّي).

وفي «الرياض»:(3) (وأمّا العام كالفقيه فلا يجوز له ولا معه حال الغيبة، بلا خلاف أعلمه كما في ظاهر «المنتهى»(4) وصريح «الغُنية»(5) إلّاعن أحمد كما في الأوّل وظاهرهما الإجماع) انتهى .

أقول: عدم مشروعيّة الجهاد مع الجائر لا كلام فيه، والنصوص الدالّة عليه

ص: 36


1- مسالك الأفهام: ج 3/7-8 حيث اعتبر من الشروط إذن الإمام أو من نصبه، فقد يظهر من حصره بمن نصبه عدم صحّة النيابة في غيبته، إلّاأن يدّعى أنّ للفقيه ذلك في زمن الغيبة بالتنصيب العام وهذا غير ظاهر من كلامه.
2- كما ذهب إليه شيخ الطائفة في النهاية ص 290 حيث اعتبر من شرائط الجهاد أنْ يكون الإمام العادل ظاهراً أو من نصبه حاضراً.
3- رياض المسائل: ج 7/447.
4- منتهى المطلب كتاب الجهاد (في شرائطه): ج 2/899 قوله: (فالأوّل الجهاد للدعاء الى الإسلام لا يجوز إلّابإذن الإمام العادل ومن يأمره الإمام).
5- غنية النزوع: ص 501 قوله: (ولا يجوز أن يبادر أحد إلّابإذن الإمام أو من نصبه).

ستمرّ عليك، والبحث في وجوبه في زمان الحضور مع عدم دعائه خارجٌ عن الأدب ولا أثر له.

إنّما الكلام في الاكتفاء بإذن الفقيه الجامع للشرائط في زمان الغيبة في المشروعيّة والوجوب، وقد استدلّ لعدم الاكتفاء به، وسقوط وجوب الجهاد بل مشروعيّته في زمان الغيبة بجملةٍ من النصوص:

منها: خبر بشير الدّهان، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قلت له: إنّي رأيتُ في المنام أنّي قلتُ لك: إنّ القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرامٌ مثل الميتة والدّم ولحم الخنزير، فقلت لي هو كذلك ؟

فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: هو كذلك»(1).

ومنها: خبر عبد اللّه بن المغيرة، قال: «قال محمّد بن عبد اللّه للرِّضا عليه السلام وأنا أسمع: حدّثني أبي عن أهل بيته عن آبائه عليهم السلام أنّه قال له بعضهم: إنّ في بلادنا موضع رباط يقال له قزوين وعدوّاً يُقال له الديلم، فهل من جهاد أو هل من رباط؟ فقال عليه السلام: عليكم بهذا البيت فحجّوه! فأعاد عليه، الحديث، فقال: عليكم بهذا البيت فحجّوه، أمّا يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طوله ينتظر أمرنا فإنْ أدركه كان كمن شهد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بدراً، وإن مات منتظراً لأمرنا كان كمَن كان مع قائمنا صلوات اللّه عليه هكذا في فسطاطه، وجمع بين السبابتين، ولا أقول هكذا وجمع بين السبّابة والوسطى ، فإنّ هذه أطول من هذه، فقال أبو الحسن عليه السلام: صدق»(2).1.

ص: 37


1- الكافي: ج 5/23 وص 27 ح 3 و 2، وسائل الشيعة: ج 15/45 ح 19954.
2- الكافي: ج 260/4 ح 34، و: ج 5/22 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/47 ح 19958، و: ج 11/122 ح 14411.

ومنها: موثّق سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لقي عَبّاد البصري علي بن الحسين عليه السلام في طريق مكّة، فقال له: يا علي بن الحسين تركت الجهاد وصعوبته وأقبلت على الحَجّ ولينته! إنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: «إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ وَ اَلْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ اَلَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ » (1).

فقال له علي بن الحسين صلوات اللّه عليهما: أتمّ الآية، فقال: «اَلتّائِبُونَ اَلْعابِدُونَ اَلْحامِدُونَ اَلسّائِحُونَ اَلرّاكِعُونَ اَلسّاجِدُونَ اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنّاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْحافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّهِ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ » (2).

فقال له علي بن الحسين صلوات اللّه عليهما: إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحَجّ »(3).

ومنها: خبر أبي بصير، عنه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن في الحكم، ولا ينفّذ في الفيء أمر اللّه عزّ وجلّ فإنّه إنْمات في ذلك المكان كان مُعيناً لعدوّنا في حبس حقّنا، والإشاطة بدمائنا، وميتته ميتة الجاهليّة»(4).

ومنها: ما عن «تحف العقول» عن الإمام الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون:1.

ص: 38


1- سورة التوبة: الآية 111.
2- سورة التوبة: الآية 112.
3- الكافي: ج 5/22 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/46 ح 19956.
4- علل الشرائع: ج 2/464 باب النوادر ح 13، وسائل الشيعة: ج 15 ص 49 ح 19961.

«والجهاد واجبٌ مع إمام عادل، ومن قاتل فقُتل دون ماله ورحله ونفسه فهو شهيد، ولا يحلّ قتل أحدٍ من الكفّار في دار التقيّة إلّاقاتلٌ أو باغٍ وذلك إذالم تحذر على نفسك»(1).

ومنها: خبر السمندري: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي أكون بالباب، يعني باب من الأبواب فينادون السلاح فأخرج معهم ؟

فقال: أرأيتك إنْ خرجت فأسرت رجلاً فأعطيته الأمان، وجعلت له من العهد ما جعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله للمشركين، أكان يفون لك ؟

قال عليه السلام: لا واللّه جُعلت فداك ما كان يفون لي به.

قال: فلا تخرج.

ثمّ قال لي: أما أنّ هناك السيف»(2).

ومنها: خبر ابن الجريش، عن الإمام الجواد عليه السلام: «ولا أعلم في هذا الزمان جهاداً إلّاالحَجّ والعُمرة والجوار»(3).

ومنها: خبر عبد الملك بن عمر، عن الإمام الصادق عليه السلام: «يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك ؟

قال: قلت: وأين ؟ قال: جِدّة وعبادان والمصيصة وقزوين.

فقلت: انتظاراً لأمركم والاقتداء بكم. فقال: إي واللّه لو كان خيراً ماسبقوناإليه.7.

ص: 39


1- تحف العقول: ص 417، وسائل الشيعة: ج 15/49 ح 19963.
2- التهذيب: ج 6/135 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/48 باب ح 19960.
3- الكافي: ج 1/250 في حديثٍ طويل نهايته (ولا أعلم أنّ في هذا الزمان...) ح 7، وسائل الشيعة: ج 15/45 باب 12 من أبواب جهاد العدوّ، ح 4 19957.

قال: قلت له: كان يقولون ليس بيننا وبين جعفر خلافٌ إلّاأنّه لايرى الجهاد.

فقال: أنا لا أراه، بلى واللّه إنّي لأراه، ولكنّي أكره أن أدع علمي إلى جهلهم»(1).

وقريبٌ منها رواياتٌ اُخر ضعيفة الإسناد.

أقول: لا مجال لإنكار دلالة هذه الأخبار على عدم مشروعيّة الجهاد مع الجائر، إنّما الكلام في دلالتها على عدم مشروعيّته، أو عدم وجوبه مع إذن المجتهد الذي هو نائبٌ عام عن الحجّة أرواحنا فداه، والإنصاف عدم دلالة شيء منها على ذلك.

أمّا خبر عبد الملك: فغاية ما يدلّ عليه أن في زمان الإمام عليه السلام كان لعدم جهاده عليه السلام وجه لا يعلمه الزيديّة، وليس هو عدم دعاء الإمام قطعاً، والظاهر هو تصدّي الجائر له، وبه يظهر ما في خبر ابن الجريش(2)، مضافاً إلى ضعف سنده لجهالة ابن الجريش.

وأمّا خبر السمندري: فهو قضيّة خارجية موردها الجهاد مع الجائر، فضلاً عن أنّ السمندري مهمل مجهول.

وأمّا خبر أبي بصير: فهو صريحٌ في الجهاد مع الجائر، وبه يظهر ما في خبر عبداللّه بن المغيرة.

وأمّا موثّق سماعة: فمورده عمل الإمام السجاد عليه السلام، ولا يظهر من جوابه عليه السلامف.

ص: 40


1- الكافي: ج 5/19 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/46 باب 12 من أبواب جهاد العدو ح 19955، التهذيب: ج 6/126 ح 2 وفيه: (إنّي لا أرى بلى واللّه إنّي لأراه).
2- وهو الحسن بن العبّاس بن الحريش كما عليه جماعة وهو الصحيح بدل الجريش المجهول المذهب والصفة، والأوّل ضعيف جدّاً كما قاله النجاشي ومثله العلّامة في الخلاصة، وقال ابن الغضائري بعد تضعيفه أيضاً: (وهذا رجل لا يلتفت إليه ولا يكتب حديثه) وقد وقع في الكافي والتهذيب ووسائل الشيعة: في 46 سند عدة منها مكرّر، وعلى أي حال هو ضعيف كما أشار إليه المصنّف.

سبب تركه الجهاد، والقدر المسلّم أنّه ليس اعتبار دخالة نظر شخص خاص فيه، إذ لو كان نظر شخص خاص معتبراً لا محالة يكون نظره عليه السلام، فليس هو غير كونه جهاداً مع الجائر.

وأمّا خبر بشير: فهو ضعيف، لأنّ بشير الدّهان إماميٌ مجهول(1)، وكذلك الراوي عنه وهو سويد القلا(2)، مع أنّه إنّما نقل رؤياه، والإمام كرّر ما ينقل بشير أنّه قال له في منامه، غير ظاهر في كونه في مقام الجواب وبيان الحكم الشرعي.

وأمّا خبر «تحف العقول»: فمع الإغماض عمّا في سنده للإرسال، أنّه لا مفهوم لقوله: (والجهاد مع إمام عادل)، ليدلّ على عدم مشروعيّته مع غيره.

أضف إليه: أنّ المراد من (إمام عادل) لم يعلم كونه الإمام الأصل، بل توصيفه بعادل إنّما هو للإشارة إلى من يقابل الجائر.

وبالجملة: فالحقّ أنّه ليس في شيء من النصوص ما يدلّ على اشتراط حضور الإمام الأصل ودعائه له، فعدم المشروعيّة مع إذن الفقيه لا دليل عليه.

أقول: ويمكن أن يستدلّ لوجوب الجهاد بالمعنى الأوّل، مع إذن الفقيه الجامع للشرائط بأُمور:

الأمر الأوّل: إطلاق وعموم الآيات والنصوص الدالّة على وجوب الجهاد مع المشركين والكفّار، الشاملان لحال الغيبة، غاية الأمر أنّه إذا كان الأمر موكولاً إلى آحاد المكلّفين لزم اختلال النظام، وأن لا يثبت حَجرٌ على حجر، لا محالة يكونه.

ص: 41


1- ذكره الشيخ في رجاله: ج 1/169 رقم 1965 ولم يترجم له وفي الجزء 2 رقم 4956 قال: (روى عن أبي عبداللّه فقط) والبرقي وابن داوود ذكروه بدون ترجمة لا بمدح ولا قدح.
2- ترجم له الشيخ في الفهرست أنّ له كتاب، ولم يذكر أيّ وجهٍ من المدح أو القدح فيه.

بنظر الحاكم الإسلامي، وهو الفقيه الجامع للشرائط.

الأمر الثاني: أنّه لو سُلّم دلالة الدليل على شرطيّة دعاء الإمام الأصل، فإنّ النصوص الدالّة على أنّ «الفقهاء ورثة الأنبياء»(1) وأنّهم «خلفاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(2)و «حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها»(3) و «أنّ مجاري الاُمور على أيدي العلماء باللّه»(4)، و «أنّهم حُجج حجّة اللّه»(5)، و «أنّ الفقيه جُعل حاكماً»(6) وأنّ «الفقهاء أُمناء الرّسل»(7) وأمثال ذلك من التعبيرات، تدلّ لا محالة على أنّ كلّ منصبٍ مجعولٌ للنبيّ صلى الله عليه و آله والإمام الذين هم سلاطين الأنام، وحصون الإسلام، ثابتٌ للفقيه إلّاما أخرجه الدليل، ومن ذلك اشتراط وجوب الجهاد بدعاء الإمام ونظره.

أقول: ولنِعمَ ما أفاده المحقّق النراقي في «العوائد»(8) حيث قال: (أنّه من البديهيّات التي يفهمه كلّ عامّي وعالم ويحكم به، أنّه إذا قال نبيّ لأحدٍ عند مسافرته أو وفاته: فلانٌ وارثي وبمنزلتي وخليفتي وأميني وحجّتي والحاكم من قِبلي عليكم، والمرجع لكم في جميع حوادثكم، وبيده مجاري اُموركم وأحكامكم، وهو9.

ص: 42


1- أُصول الكافي: ج 1/34 باب ثواب العالم والمتعلِّم ح 1، وفيه: أنّ العلماء ورثة الأنبياء، التهذيب: ج 4/384 ح 5834 وفيه: فإنّ الفقهاء ورثة الأنبياء، وسائل الشيعة: ج 27 ص 78 ح 33247 وفيه: أنّ العلماء ورثة الأنبياء.
2- الفقيه: ج 4/420 ح 5919، وفيه: أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: اللّهُمَّ ارحم خلفائي، قيل: يا رسول اللّه ومَن خلفاؤك ؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنّتي، وسائل الشيعة: ج 27/91 ح 33295، وقريبٌ منه ما عن الإمام الرضا عليه السلام عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله كما في وسائل الشيعة أيضاً: ج 27/92 ح 33298.
3- أُصول الكافي: ج 1/38 باب فقد العلماء ح 3.
4- تحف العقول: ص 237، مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/315 ح 21454.
5- وسائل الشيعة: ج 27/140 ح 33424.
6- الكافي: ج 1/67 ح 10، التهذيب: ج 6/301 ح 52، وسائل الشيعة: ج 1/34 ح 51 (مقبولة عمر بن حنظلة).
7- أُصول الكافي: ج 1/46 باب المستأكل بعلمه ح 5.
8- عوائد الأيّام: ص 189.

ولا يجوز مع الجائر، إلّاأن يدهم المسلمين عدو يُخشى عليه منه، فيدفعه ولا يقصد معونة الجائر.

الكافل لرعيّتي، أنّ له كلّ ما كان لذلك النبيّ صلى الله عليه و آله في اُمور الرعيّة وما يتعلّق باُمّته، بحيث لا يشكّ فيه أحد ويتبادر منه ذلك، كيف لا مع أنّ أكثر النصوص الواردة في حقّ الأوصياء المعصومين عليهم السلام المستدلّ بها في مقام إثبات الولاية والإمامة، المتضمّن لولاية جميع ما للنبي صلى الله عليه و آله فيه الولاية ليس متضمّناً لأكثر من ذلك) انتهى.

الأمر الثالث: أنّ الجهاد إنّما شُرِّع للمصلحة العامّة، ودفعاً للفساد، وتطهير الأرض من دنس الشرك باللّه، والمنع عن انتشار الفجور والطغيان بين الناس، والآيات المتضمّنة لمشروعيّته كثيرة، وهذا كلّه ينافي اختصاصه بزمان دون زمان، وليس لحضور الإمام دخلٌ في ذلك يقيناً.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا ينبغي الشكّ والريب في أنّه في زمان الغيبة إذا رأى الحاكم الشرعى الجهاد، يكون ذلك واجباً، واحتمال دخالة حضور الإمام عليه السلام ضعيف غايته.

نعم، يشترط دعاء الإمام أو نائبه الخاص أو العام (و) يترتّب على هذا الشرط أنّه (لا يجوز) الجهاد مع (الجائر)، كما تدلّ عليه النصوص المتقدّمة، (إلّا أن يدهم المسلمين) من أي (عدوٍّ يُخشى عليه) أي على أصل الإسلام ومجتمعه (منه ف) حينئذٍ على المؤمن أن (يدفعه) بغير إذن الإمام ونائبه، أو يكون بين قوم مشركين ويغشاهم عدو فيجاهد حينئذٍ، ويقصد بجهاده الدفاع عن الإسلام وعن نفسه في الحالين (ولا يقصد معونة الجائر) ولا خلاف في شيء من ذلك.

ص: 43

أمّا الدفاع عن الإسلام والمسلمين فيشهد لوجوبه أكثر الأدلّة الدالّة على وجوب الجهاد، وأمّا ما دلّ على أنّه لا يجوز الجهاد مع الجائر، فهو مختصّ بما إذا كان الجهاد ابتدائيّاً، بل في بعضها التصريح بذلك، بل في «الصحيفة السجاديّة» الدّعاء لأهل الثغور(1) فإنّه يدعو في ذلك الدّعاء لأهل الثغور في أطراف الدولة الإسلاميّة التي كان الحاكم عليها من أعوان بني اُميّة بأبلغ دعاء.

أقول: وبذلك يظهر أن ما قيل لو أراد الكفّار في هذه الأزمنة الاستيلاء على بعض بلدان الإسلام أو جميعها مع إبقاء المسلمين على إقامة شعائر الإسلام، وعدم تعرضهم في أحكامهم بوجه من لوجوه يحرم القتال، ضرورة عدم جواز التغرير بالنفس من دون إذن شرعي، بل الظاهر اندراجه في النواهي عن القتال في زمن الغيبة مع الكفّار في غير ما استثني، إذ هو في الحقيقة إعانة لدولة الباطل على مثلها.

من غرائب الكلام، لا ينطبق على شيء من الموازين الشرعيّة، خصوصاً وأنّ الكفّار المسيطرين من اسرائيل المسلّط على فلسطين أو الكفّار المستولين على مقاليد الاُمور في بلاد إيران(2) محطّ نظرهم الأولى محو الإسلام ودرس شعائره، وإمحاء ذكر محمّد صلى الله عليه و آله وأهل بيته الكرام وشريعته، ولا يظنّ بمتفقّه التفوّه بعدم وجوب الجهاد في هذه الحالة.

وأمّا البحث في حكم الغنيمة حينئذٍ فسيأتي في محلّه، كما أنّ النزاع في ترتّب أحكام الشهيد على من قُتل في مثل هذه المعارك محرّر في محلّه لا يهمّنا البحث عنه هنا.ة.

ص: 44


1- الصحيفة السجاديّة: دعاء 27 وكان من دعائه عليه السلام لأهل الثغور.
2- يتحدّث المصنّف دام ظلّه عمّا كان عليه الحال قبل قيام الثورة الإسلاميّة المباركة.

وأمّا من يكون بين أهل الحرب ويغشاهم عدوٌّ يُخشى منه على نفسه، فالظاهر أنّ على مشروعيّة الدفاع عن نفسه ووجوبه الإجماع، ويشهد لها مضافاً إلى العقل، وعمومات ما دلّ عليه من النقل(1):

1 - خصوص صحيح ابن المغيرة، عن طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«عن رجلٍ دخل أرض الحرب بأمان فغزا القوم الذين دخل عليهم قوم آخرون ؟ قال عليه السلام: على المسلم أن يمنع عن نفسه ويقاتل على حكم اللّه وحكم رسوله، وأمّا أن يقاتل على حكم الجور وسنّتهم، فلا يحلّ له ذلك»(2).

وظاهر الأكثر كما في «المسالك»(3) عدم اشتراط الجواز أن يكون المقاتلين مع القوم الكفّار، لعموم ما يدلّ على جواز الدفع عن النفس.

وقيل باشتراط كفرهم لعدم جواز قتل المسلم.

قال صاحب «المسالك»:(4)(وهو صريح الشيخ في «النهاية»(3)، ولكن الشيخ في «النهاية» صرّح بما هو مفاد خبر طلحة، ولم يصرّح بالإشتراط، وكيف كان فهو ضعيف غايته).).

ص: 45


1- وسائل الشيعة: ج 15/119 باب 46 من أبواب جهاد العدو، ح 20110 وما بعده، وج 28/382 و 384 باب 3 و 5 من أبواب الدفاع من كتاب الحدود والتعزيرات.
2- التهذيب: ج 6/135 ح 5، وسائل الشيعة: ج 15/31 ح 19944. (3و4) مسالك الأفهام: ج 3/11 (كتاب الجهاد) قال: (وهل يشترط في العدو الهاجم كونه كافراً أم يجوز دفعه وإنْ كان مسلماً؟ قيل بالأوّل... وظاهر الأكثر عدم الاشتراط لأنّه مدافعه عن نفسه والمسلم يجوز دفعه كذلك).
3- النهاية: ص 290 حيث قال: (ومتى لم يكن الإمام ظاهراً، ولا من نصَّبه الإمام حاضراً، لم يجز مجاهدة العدو، والجهاد مع أئمّة الجور أو من غير إمام خطأ يستحقّ فاعله به الإثم، اللّهُمَّ إلّاأن يدهم المسلمين أمرٌ من قِبل من يخاف منه على بيضة الإسلام ويخش بواره، أو يخاف على قوم منهم وجب حينئذٍ أيضاً جهادهم ودفعهم، غير أنّه يقصد المجاهد والحال على ما وصفناه الدفاع عن نفسه وعن حوزة الإسلام وعن المؤمنين، ولا يقصد الجهاد مع الإمام الجائر ولا مجاهدتهم ليدخلهم في الإسلام).

قال صاحب «الرياض»(1): (فيأثم ويضمن لو قصد معاونته بلا إشكال، وهل يأثم ويضمن لو جاهد بغير قصد؟ قيل نعم وهو أحوط، إنْ لم نقل بأنّه أظهر) انتهى .

واستدلّ في «المسالك» للضمان في صورة عدم القصد بقوله:

(إنّ الفعل الواحد الواقع على وجوه مختلفة بعضها سائغٌ وبعضها محرّم إنّما يتميّز بالنيّة كمسح رأس اليتيم، فلو ترك القصد كان مأثوماً ضامناً لما يحترم من النفوس والأموال)(2) انتهى.

أقول: أمّا في فرض الدفاع عن بيضة الإسلام ومجتمعه، فالظاهر عدم الضمان وإنْ قصد معاونة الجائر؛ فإنّه وإنْ حرم ذلك إلّاأنّ المحارب والمقاتل حينئذٍ:

إمّا حربي غير محترم المال ومهدور الدّم فلا ضمان قطعاً، والظاهر أنّ سيّد «الرياض» لم يقصد ذلك، ولذا قال في «الجواهر»(3): (ويمكن أن يريد ضمان المحترم نفساً ومالاً، كما سمعته من «المسالك»).

وإمّا محترم النفس والمال، فالظاهر أيضاً عدم الضمان بعد تحقّق اسم الدفاع في الواقع، وإنْ كان آثماً بتبعيّته للجائر، لكن ذلك لا ينافي خطاب الدفاع المستتبع للحكم بعدم الضمان، وأولى من ذلك ما لو لم يقصد وجاهد بغير قصد.

وأمّا في فرض الدفاع عن نفسه، فالظاهر عدم الضمان مطلقاً، لإطلاق نصوصه التي منها: ما ورد في مدافعة اللّص، الصريح في عدم الضمان.

***8.

ص: 46


1- رياض المسائل: ج 7/447 وفي (ط. ق): ج 1/479.
2- مسالك الأفهام: ج 3/11.
3- جواهر الكلام: ج 21/18.

والعاجز يجبُ أن يستنيبُ مع القدرة.

حكم مَن عَجز عن الجهاد بنفسه

أقول: وتمام الكلام في المقام يتحقّق في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى : (العاجز) عن الجهاد بنفسه لعذر من الأعذار السابقة (يجب) عليه (أن يستنيب) من لم يجب عليه من ذمّي أو معاهدٍ أو مسلم لا مؤونة له، (مع القدرة) على الإستنابة، كما عن الشيخ(1)، والقاضي(2) والحِلّي(3)، والفاضل المقداد في «كنز العرفان»(4)، والمحقّق الثاني(5)، وعن «غاية المراد» نسبته إلى الشيخ وأتباعه.

وذهب جماعة، منهم المحقّق في «الشرائع»(6)، والمصنّف في «المنتهى»(7)و «المختلف»(8)، والشهيد الثاني(9) والصّيمري(10) إلى استحبابه.

ص: 47


1- النهاية: ص 289 باب الجهاد، قوله: (ومن كان متمكّناً من إقامة غيره في الدفاع عنه وهو غير متمكّن من القيام به بنقسه وجب عليه إقامته وإزاحة علته فيما يحتاج إليه).
2- المهذّب: ج 1/298 (ومن يجب عليه الجهاد على ضربين...).
3- كما في متن التبصرة هنا، إلّاأنّه تبنّى الاستحباب في غيرها كما سيأتي.
4- كنز العرفان: ص 324-325 وقد نسب وجوب الاستنابه لبعض الأصحاب على العاجز بنفسه، ثمّ قوى ذلك القول.
5- جامع المقاصد: ج 3/372.
6- شرائع الإسلام: ج 1/233 (كتاب الجهاد) حيث قال: (ومن عجز عنه بنفسه موسراً وجب إقامة غيره، وقيل يستحبّ وهو أشبه).
7- منتهى المطلب: ج 2/901 (ط. ق) بعد ذكره القولين قال: (والثاني السقوط بعدم المكنة، والأقرب الاستحباب).
8- مختلف الشيعة: ج 4/386.
9- مسالك الأفهام: ج 3/15-16 كتاب الجهاد، إلى أن قال: (الأقوى وجوب الاستئجار مع الحاجة إليه أو أمر الإمام له بذلك وإلّا فلا).
10- وهو الشيخ المفلح الصيمري صاحب كتاب غاية المرام في شرح الشرائع، وقد حكى القول عنه بالاستحباب السيّد الطباطبائي في الرياض: ج 7/449 كما حكاه عنه أيضاً في الجواهر: ج 21/27.

أقول: واستدلّ للوجوب بوجوه:

الوجه الأوّل: ما في «جامع المقاصد»(1) وهو قوله تعالى: «وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ » (2).

الوجه الثاني: ما نقله في «كنز العرفان» وقوّاه(3)، وهو قوله تعالى: «وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ » (4).

قال: (ذمّهم على عدم إنفاقهم أموالهم مع القدرة عليها، وليس ذلك مع الجهاد بالنفس، وإلّا لكان إنفاقه على نفسه، فيكون لا معه وهو المطلوب).

الوجه الثالث: عموم الأمر بالمعاونة على البِرّ والتقوى(5)، المندرج فيه المقام.

الوجه الرابع: قاعدة الميسور.

الوجه الخامس: عموم الأوامر الواردة بالجهاد القابل للنيابة، وخصوصاً قوله تعالى : «وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ » (6)، فإنّ التأكيد فيها مشعر بالمعذور.

أقول: وأجاب سيد «الرياض»(7) عن آيات الجهاد - أي الدليلين الأولين والأخير - بما حاصله:

أنّه يعارضها قوله تعالى : «لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ » (8)، باعتبار أنّه يدلّ على عدم وجوب شيء1.

ص: 48


1- جامع المقاصد: ج 3/372 حيث اعتبر القول بالوجوب هوالأصحّ لظاهر الآية وغيرها.
2- سورة التوبة: الآية 41.
3- كنز العرفان: ص 325.
4- سورة التوبة: الآية 81.
5- سورة المائدة: الآية 2 «وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ ».
6- سورة الحَجّ : الآية 78.
7- رياض المسائل: ج 7/449.
8- سورة التوبة: الآية 91.

على العاجز، فإن قدّم تلك الأدلّة لزم حمل هذه الآية على نفي الحرج عن جهاده بنفسه، وإن قُدّم هذه لابدّ من حمل تلك الأدلّة المستفاد منها وجوب الجهاد بالمال مطلقاً، على ما إذا جاهد بالنفس، وحيث إنّهما قطعيّان، فلا مورد للمرجّح السندي، وحيث إنّه لا يكون شيءٌ منهما لحكم المورد بالنصوصيّة، بل الجميع بالظهور، فلا محالة يقع التعارض بين الظاهرين، فيتعيّن البناء على السقوط، والرجوع إلى الأصل، وهو يقتضي عدم الوجوب.

وفيه: أنّ أدلّة نفي الحرج والضرر كما حُقّق في محلّه حاكمة على الأدلّة المتكفّلة لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأوّليّة، ويقدّم الحاكم وإنْ كانت النسبة بين الحاكم والمحكوم عموماً من وجه.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ آية نفي الحرج إنّما تنفي حكم الجهاد الذي هو حرجي، وليس هو الجهاد بالمال، بل خصوص الجهاد بالنفس، وعليه فلو سُلّم دلالة الآيات على وجوب الجهاد بالمال مستقلّاً، فإنّه لا رافع لها بالنسبة إلى الجهاد بالمال، ولا يبعد دعوى ظهور الآيات في كون كلّ من الجهاد بالمال وبالنفس مطلوباً مستقلّاً، وعليه فيجب ذلك، إلّاأنّها لا تدلّ على وجوب الإستنابة، بل يمكن أن يكون المراد معونة المجاهدين بماله في الأسلحة والزاد ونحوهما كما عن الحلبي(1)إيجاب ذلك على المعذور الغني.

أقول: والذي يسهّل الخطب، ما أفاده في محكي «غاية المراد»(2) بعد ذكر الخلاف وأدلّة الطرفين:0.

ص: 49


1- وهو أبو الصلاح الحلبي في كتابه الكافي: ص 246 حيث قال: (فإنْ كان ذو العذر غنيّاً فعليه معونة المجاهدين بماله في الخيل والسلاح والظهر والزاد وسدّ الثغر).
2- حكاه عنه النجفي قدس سره في جواهر الكلام: ج 21/30.

(ولقائلٍ أن يقول: الخلاف يرتفع، لأنّ الجهاد فرض كفاية إجماعاً من المسلمين إلّا من شذّ، والتكليف به مشروط بعدم ظنّ الاكتفاء به، فإن حصل الشرط وجب قطعاً بالنفس والمال بطريق أولى ، وإن انتفى سقط قطعاً، وإن احتيج إلى غزو واحد، وهناك مؤسرٌ ومعسر وجب على المؤسر أحد الأمرين: إمّا الخروج بنفسه أو تجهيز المعسر، وكذا لو كان أكثر، وفرض كثرة المؤسرين والمعسرين، وقد نبّه في «المختلف»(1) على شيء من ذلك). انتهى.

***خ.

ص: 50


1- راجع مختلف الشيعة: ج 4/382-383 أوّل كتاب الجهاد فيمن يجب عليه وحكم الرباط وعند قوله تعالى : «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ »... إلخ.

ويجوز لغير العاجز.

جواز الإستنابة مع القدرة

المسألة الثانية: (ويجوز) الإستنابة (لغير العاجز) عن الجهاد ووجوبه عليه، ويسقط عنه ما لم يتعيّن بتوقّف الأمر عليه لقوّته أو رأية أو بتعيين الإمام أو نائبه، بغير خلافٍ ظاهر، وعزاه في «المنتهى »(1) إلى علمائنا، مؤذناً بدعوى الإجماع عليه، كما في «الرياض»(2).

واستدلّ له في «المنتهى»(3) على ما حُكي:

1 - بالنبوي: «مَن جهز غازياً كان له كمثل أجره»(4).

2 - والمرتضوي: «سُئل عن أجعال الغزو؟ فقال: لا بأس أن يغزو الرجل عن الرجل ويأخذ الجعل منه»(5).

أقول: مع الإغماض عن سندهما(6)، غاية ما يدلّ عليه الأوّل استجاب تجهيز

ص: 51


1- منتهى المطلب: ج 2/900 (ط. ق) قوله: (ومن وجب عليه الجهاد يتخيّر أن يخرج بنفسه ويجاهد... الخ).
2- رياض المسائل: ج 7/450.
3- منتهى المطلب: ج 2/900 (ط. ق) قوله: (ومن وجب عليه الجهاد يتخيّر أن يخرج بنفسه ويجاهد... الخ).
4- كنز العمّال: ج 4/292 ح 10554، سنن ابن ماجة: ج 2/921 ح 2758، وقريب منه ما في السنن الكبرى للنسائي: ج 2/256 ح 3330.
5- التهذيب: ج 6/173 ح 16، وسائل الشيعة: ج 15/33 باب 8 من أبواب جهاد العدو ح 19948 و: ج 15/146 ح 20179.
6- فإنّ في سند الرواية وهب بن وهب القرشي (أبو البختري) وهو عامّي ضعيف، قال النجاشي باب (الواو) ص 430 عنه: (كان كذّاباً وله أحاديث مع الرشيد في الكذب)، وقال في الفهرست ص 303 عنه: (إنّه كان قاضي القضاة ببغداد من قِبل الرشيد، وهو ضعيف لا يعوّل على ما ينفرد به)، وفي رقم 779 ص 487 قال عنه: (إنّه ضعيف وهو عامّي المذهب)، وفي رجال الكشي عن أبو محمّد الفضل بن شاذان قال: (أبو البختري من أكذب البريّة..)، نعم في سند آخر للرواية حكاه الحُرّ العاملي (وسائل الشيعة: ج 15/33 ح 19948) عن الشيخ في التهذيب لو تمّ لصار الحديث صحيحاً، إلّاأنّ نسخة التهذيب التي بين أيدينا فيها زائداً عمّا في وسائل الشيعة: (عن وهب) وبالتالي يبقى الحديث ضعيف كما مرّ.

الجيش، وهو غير المقام، والثانى يدلّ على أنّ الجهاد عملٌ عبادي يقبل النيابة، وهذا أعمٌّ من جواز الاستنابة للقادر الواجب عليه الجهاد.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ المرتضوي ينجبر ضعف سنده بالعمل، ومقتضى إطلاق متنه أن غزو الرجل عن الرجل حتّى فيما كان واجباً لا على وجه التعيين لا بأس به، فيشمل المقام.

وقال صاحب «الجواهر»(1): (بل ظاهره كظاهر الفتاوى، عدم الفرق في النائب بين كونه قادراً بنفسه على الغزو من دون حاجةٍ إلى الجعل، وغيره ممّن لم يكن قادراً).

واستدلّ له في «المسالك»(2) (بأنّ الغرض من الواجب الكفائي المقتضي لسقوطه عمّن زاد عمّن فيه الكفاية، بحصول من فيه الكفاية تحصيله على المكلّف بالواجب بنفسه أو بغيره) أنتهى.

وفي «الرياض» بعد نقله: لا بأس به.

***6.

ص: 52


1- جواهر الكلام: ج 21/31.
2- مسالك الأفهام: ج 3/16.

ويستحبُّ المرابطة.

استحباب المرابطة

المسألة الثالثة: (و) المعروف أنّه (يُستحبُّ المرابطة)، والمراد بها الارصاد والإقامة لحفظ الثغر من هجوم المشركين، بأن يعلموا بأحوالهم على تقدير الهجوم في الحَدّ المشترك بين دار الشرك ودار الإسلام، كما عن «التنقيح»(1)، أو كلّ موضع يُخاف منه كما في «جامع المقاصد»(2)، أو هما معاً كما في «المسالك»(3).

وعن «التنقيح»(4): (وجوبهاعلى المسلمين كفاية من غيرشرط ظهورالإمام عليه السلام).

أقول: ولكن لا أظنّ أنْ يشكّ أحدٌ في وجوبها ما دام لم يقم بها أحدٌ، فإنّها من أظهر مصاديق حفظ بيضة الإسلام والمجتمع الإسلامي، ومحلّ الكلام إنّما هو في فرض قيام من به الكفاية به، وعلى ذلك فلا مورد للاستدلال له بقوله تعالى : «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا» (5) فإنّه وإن اختلفت كلمات القوم في تفسير المرابطة:

حيث قال جماعة(6) إنّ المراد رابطوا الصلوات، أي انتظروها واحدة بعد

ص: 53


1- حكاه في الجواهر: ج 21/38 والظاهر أنّه المقصود منه هو التنقيح الرائع للفاضل المقداد.
2- جامع المقاصد: ج 3/374.
3- مسالك الأفهام: ج 3/18.
4- كما حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 21/38.
5- سورة آل عمران: الآية 200.
6- راجع فقه القرآن لقطب الدين الراوندي، باب ذكر المرابطة: ج 1/333 فإنّه بعد شرحه المرابطة في الآية قال: (ويحمل على انتظار الصلوات لما روي عن علي عليه السلام في الآية أي رابطوا الصلوات واحدة بعد واحدة، أي انتظروها، لأنّ لمرابطة لم تكن حينئذٍ، والمعنى اصبروا على تكاليف الدين في الطاعات وعن المعاصي) .

واحدة، وعلّلوه بأنّه لم يكن مرابطة حينئذٍ.

إلّا أنّ أغلب المفسّرين فسروها بمعناها المعروف، وعدم وجود المرابطة حينئذٍ لا يضرّ بعد كون القضيّة بنحو القضيّة الحقيقيّة.

ويعضده ما عن أبي جعفر عليه السلام في تفسير الآية بأنّ المراد منها: «اصبروا على المصائب، وصابروا على عدوّكم، ورابطوا عدوّكم»(1).

وجه عدم صحّة الاستدلال: أنّ المرابطة التي هي من أقوى ما يُحفظ به بلاد الإسلام والمجتمع الإسلامي، إنّما يكون وجوبها كفائيّاً، ومع قيام من به الكفاية بها يسقط التكليف، وأيضاً محلّ الخلاف في ظرف كون الجائر حاكماً إسلاميّاً.

أقول: بل الحقّ أن يستدلّ له بالنصوص:

منها: صحيح يونس: «سأل أبا الحسن عليه السلام رجلٌ وأنا حاضر، فقال له: جُعِلت فداك إنّ رجلاً من مواليك بلغه أنّ رجلاً يعطي سيفاً وفرساً في سبيل اللّه، فأتاه فأخذهما منه ثمّ لقيه أصحابه فأخبروه أنّ السبيل مع هؤلاء لايجوز، وأمروه بردّهما؟

قال عليه السلام: فليفعل، قال: قد طلب الرجل فلم يجده، وقيل له قد شخص الرجل ؟ قال عليه السلام: فليرابط ولا يُقاتل.

قلت: مثل قزوين وعسقلان والديلم وما أشبه هذه الثغور؟ قال عليه السلام: نعم.

فإن جاء العدو من الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع ؟».

ص: 54


1- المستدرك: ج 11/27 ح 12343، وفي هذا المعنى عدّة روايات في الكتب الحديثيّة مع اختلافات من جهات اُخرى ، ومنها ما في تفسير القمّي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «اصبروا على المصائب وصابروا على الفرائض ورابطوا على الأئمّة عليهم السلام».

قال عليه السلام: يقاتل عن بيضة الإسلام، قال: يجاهد؟ قال: لا، إلّاأن يخاف على ذراري المسلمين.

قلت: أرايتك لو أنّ الروم دخلوا على المسلمين، لم ينبغ لهم أن يمنعوهم ؟ قال عليه السلام: يرابط ولا يُقاتل.

قال: فإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه لا للسلطان، لأنّ في درس الإسلام درسٌ ذكر محمّد صلى الله عليه و آله»(1).

فإنّ أمره عليه السلام بالمرابطة أقلّه الاستحباب، ومورده فرض عدم دعاء الإمام وكون الحكومة الإسلاميّة بيد الجائر، ولذلك نهي عن القتال ابتداء.

وما في ذيله من الأمر به أمرٌ بالدفاع عن البيضة والمسلمين غير المنافي لنهي عن الجهاد ابتداءً .

ولا ينافي ذلك كلّه الأمر بردّ المال في صدر الخبر، لأنّ الظاهر أنّ الباذل كان من هؤلاء كما صرّح به في خبر آخر.

ومراده من (سبيل اللّه) الجهاد الجائز عندهم مع حكّامهم، فالمال كان مشروطاً به فلم يبح إلّابه، ولمّا لم يجز وجب الردّ، ولمّا فَرض الراوي عدم إمكان الردّ أباحه عليه السلام له بشرط المرابطة بدله، ولعلّه من جهة كونه أقرب إلى مقصود الباذل من صرفه في سائر وجوه البرّ.

ومنها: النبويّات المحكية عن «المنتهى»(2):).

ص: 55


1- الكافي: ج 5/21 ح 2، التهذيب: ج 6/125 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/29 ح 19943. إلّاأنّه يوجد بعض الاختلافات اليسيرة في ألفاظ الحديث بين هذه المصادر.
2- منتهى المطلب: ج 2/902 (ط. ق).

أحدها: عن سلمان، عنه صلى الله عليه و آله: «رباطليلةٍ في سبيل اللّه خيرٌ من صيام شهر وقيامه، فإنْ مات جَرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجري عليه رزقه وأمن الفتان»(1).

والآخر: عن ابن عبّاس، عنه صلى الله عليه و آله: «عينان لا تمسّهما النار: عينٌ بكت من خشية اللّه، وعينٌ باتت تحرس في سبيل اللّه»(2).

والثالث: عن فضالة، عنه صلى الله عليه و آله: «كلّ ميّتٍ يختم عمله إلّاالمرابط في سبيل اللّه، فإنّه ينمو له عمله يوم القيامة، ويؤمن من فتان القبر»(3).

وأمّا خبر عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«قلت له: جُعِلت فداك ما تقول في هؤلاء الذين يقتلون في هذه الثغور؟

قال: فقال: الويل يتعجّلون قتلةً في الدُّنيا وقتلةً في الاخرة، واللّه ما الشهيد إلّا شيعتنا ولو ماتوا على فرشهم»(4).

فمضافاً إلى ضعف سنده بعلي بن معبد، الظاهر منه عدم قبول عمل غير الشيعة، فهو في مقام بيان حيثيّة صدور الفعل، ولا نظر له إلى الفعل من حيث هو.

وبعبارة اُخرى: أنّه من قبيل ما دلّ على أنّه «من صام دهره، وصَلّى وأتى بجميع أعمال البرّ وكان ذلك بغير الولاية أكبّه اللّه على منخره في النار».5.

ص: 56


1- جامع الأخبار لتاج الدِّين الشعيري من علماء القرن السادس ص 83، الفصل التاسع والثلاثون في الجهاد. ومن مصادر أهل الخلاف: صحيح مسلم: ج 6/15، سنن النسائي: ج 6/39 في فضل الرباط، السنن الكبرى: ج 3/26 ح 4376.
2- مسند الشاميين للطبراني: ج 3/337 ح 2427، مسند شهاب الدِّين لابن سلامة: ج 1/211-212 ح 319 وح 320، كنز العمّال: ج 3/141 ح 5875 و 5877 وفيه: «لا تُصيبهما النار» بدل «لا تمسّهما النار».
3- مجمع الزوائد: ج 5/289 باب الرباط، فتح الباري: ج 12/362، وقريب منه ما في كنز العمّال: ج 4/303 ح 10611 وص 328 ح 10743.
4- التهذيب: ج 6/125 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/31 ح 19945.

أضف إليه: أنّ مورده القتال في الثغور ابتداءً .

أقول: وبذلك يظهر ما في الخبر الذي رواه محمّد بن عيسى ، عن الإمام الرضا عليه السلام أنّ يونس سأله وهو حاضر: «عن رجلٍ من هؤلاء ماتَ وأوصى أن يدفع من ماله فرس وألف درهم وسيف لمن يرابط ويقاتل في بعض هذه الثغور، فعمد الوصي فدفع ذلك كلّه إلى رجلٍ من أصحابنا، فأخذه منه وهو لا يعلم، ثمّ علم أنّه لم يأن لذلك وقتٌ بعد، فما تقول: يحلّ له أن يرابط عن الرجل في بعض هذه الثغور أم لا؟

فقال: يُردّ إلى الوصي ما أخذ منه، ولا يرابط فإنّه لم يأن لذلك وقت بعد.

فقال: يردّه عليه.

فقال يونس: فإنّه لا يعرف الوصي ؟ قال: يسأل عنه.

فقال له يونس: فقد سأله عنه، فلم يقع عليه، كيف ثلاثة أيّام إلى أربعين يصنع ؟

فقال: إنْ كان هكذا فليرابط ولا يقاتل. الحديث»(1).

فإنّه في مورد الرباط مع القتال.

وعلى الجملة: لا ينبغي الريب في استحباب المرابطة وحفظ الثغور حتّى في حال الغيبة، وكون الحكومة بيد الجائر، ففي دعاء الصحيفة السجاديّة يدعو الإمام السجاد عليه السلام لأهل الثغور(2) مع أنّه كانت الحكومة في عصره عليه السلام بيد بني أُميّة - لعنهم اللّه - الذين هم شرّ الخلائق.).

ص: 57


1- قرب الإسناد: ص 150 الجزء الثالث... عن الرضا عليه السلام، وسائل الشيعة: ج 15/32 ح 19942 باب 7 من أبواب جهاد العدو.
2- الصحيفة السجاديّة: ص 126 الدّعاء 27 (وكان من دعائه عليه السلام لأهل الثغور).

ثلاثة أيّام إلى أربعين.

أقول: المشهور بين الأصحاب أنّ الرباط من (ثلاثة أيّام إلى أربعين) يعني أقلّه ثلاثة أيّام وأكثره أربعون يوماً، كما صرّح به في محكي «النهاية»(1) و «المنتهى»(2)و «التذكرة»(3) و «الإرشاد»(2) و «القواعد»(3) و «الدروس»(4) و «جامع المقاصد»(5)، بل عن «المنتهى»(8) نسبة الأوّل إلى العلماء، و «التذكرة»(9) إلى الاتّفاق عليه.

ويشهد بهما خبر زرارة ومحمّدبن مسلم، عن الإمامين الصادقين عليهما السلام: «الرباط ثلاثة أيّام وأكثره أربعون يوماً، فإذا جاز ذلك فهو جهاد»(6).

أي ثوابه ثواب الجهاد كما صرّح به غير واحدٍ، وإن بقي على وصف المرابطة كما صرّح به الشهيد رحمه الله.

وأمّا ما رواه الجُعفي، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«كم الرباط عندكم ؟ قلت: أربعون، قال: لكن رباطنا رباط الدهر، ومن ارتبط فينا دابّة كان له بوزنها ووزن وزنها ما كانت عنده، ومن ارتبط فينا سلاحاً كان له وزنه ما كان عنده»(7) الحديث.4.

ص: 58


1- النهاية: ج 290 باب فرض الجهاد... وحكم الرباط. (2و8) منتهى المطلب: ج 2/902 (ط. ق). (3و9) تذكرة الفقهاء: ج 9/451.
2- إرشاد الأذهان: ج 1/343.
3- قواعد الأحكام: ج 1/479.
4- الدروس: ج 2/30.
5- جامع المقاصد: ج 3/374.
6- التهذيب: ج 6/125 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/29 ح 19942.
7- الكافي: ج 8/381 ح 576، وسائل الشيعة: ج 15/139 ح 20164.

فمضافاً إلى ضعف سنده، محمولٌ على إرادة ترقّب الفرج ساعة بعد ساعة، كما جاءت به النصوص، لا الرباط المصطلح عليه كما في «الجواهر»(1).

وأمّا النبويّ المتقدّم: «رباط ليلةٍ في سبيل اللّه خيرٌ من صيام شهر وقيامه»، فهو ليس في مقام التشريع كي يتمسّك به لإثبات استحباب المرابطة ولو برباط ليلة، بل في مقام فضيلة الرباط المشروع، وما يترتّب عليه من الثواب.

وعليه، فما عن الإسكافي(2) من أنّ أقلّه يوم، لا وجه له، وعلى فرض تسليم كونه في مقام التشريع نظراً إلى أنّ بيان الحكم قد يكون مطابقيّاً وقد يكون بالالتزام، ببيان ما هو لازم الحكم، والمقام من قبيل الثاني.

وأيضاً: على فرض تسليم ثبوت الاستحباب بالخبر الضعيف للتسامح في أدلّة السنن، لابدّ من تقييد إطلاقه بخبر زرارة ومحمّد الدالّ على أنّ أقلّه ثلاثة أيّام.

فإن قيل: إنّه لا يُحمل المطلق على المقيّد في باب المستحبّات، كما في «الجواهر»(3).

أجبنا عنه: بأنّه إذا كان دليل القيد متضمّناً لحكمٍ إلزامي وضعي، لزم حمل المطلق على المقيّد في ذلك الباب، ألا ترى أنّه لا يشكّ أحد في أنّ ما تضمّن شرطيّة الطهارة للصلاة يوجبُ تقيّيد إطلاق الأمر بالصلاة الاستحبابي.

وعليه، فما أفاده في «الجواهر» من أنّ إطلاق ما دلّ على فضله الذي لا يحكم عليه الخبر المزبور، بناءاً على عدم حمله على المقيّد في المندوبات، يقتضي تماميّة ما أفاده الإسكافي، ضعيفٌ .).

ص: 59


1- جواهر الكلام: ج 21/43.
2- كما حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 4/388، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 3/375.
3- راجع جواهر الكلام فإنّه ذكر هذه المسألة في عدّة موارد من كتابه، منها: ما أورده في صلاة الاستسقاء: ج 12/146 حيث قال: (المستحبّات لا مقتضى لحمل مطلقها على مقيّدها).

فإنْ زادت كان جهاداً.

وبالجملة: فما في محكي «الروضة»(1) من (أنّ أقلّه ثلاثة، فلا يستحقّ ثوابه ولا يدخل في النذر والوقف والوصيّة للمرابطين بإقامة دون الثلاثة...

إلى أنْ قال: ولو نذره وأطلق وجب ثلاثة بليلتين بينهما كالاعتكاف)، حقٌّ لا ريب فيه.

أقول: وكيف كان (فإن زادت) على الأربعين (كان جهاداً) كما في الخبر، ومرّ أنّ المراد أنّ ثوابه حينئذٍ ثواب المجاهدين، وإنْ بقي على وصف المرابطة، كما صرّح به الشهيد رحمه الله(2).

قال في «التذكرة»(1): (وتستحبّ المرابطة بنفسه وغلامه وفرسه، ولو عجز عن المرابط بنفسه رابط فرسه أو غلامه أو جاريته أو أعان المرابطين) انتهى .

ونحوه عن «الإرشاد»(2) و «الدروس»(3) و «اللّمعة»(4) و «الروضة»(5) وغيرها(6)، والمستند عندهم:

مضافاً إلى أنّ ذلك من الإعانة على البِرّ والتقوى ، وأنّه مجاهدة بالمال، وقد أمر بها في القرآن كما مرّ، إذ الجهاد بالمال عبارة عن صرف المال في دفع العدوّ،م.

ص: 60


1- تذكرة الفقهاء: ج 9/452.
2- إرشاد الأذهان: ج 1/343.
3- الدروس: ج 2/30.
4- اللّمعة الدمشقيّة: ص 72 (تحقيق: الشيخ علي كوراني)
5- شرح اللّمعة: ج 2/385-386.
6- النهاية: ص 291، المبسوط: ج 2/9، المهذّب: ج 1/303، السرائر: ج 2/5 وغيرهم.

ويجب بالنذر وشبهه.

وحفظ بيضة الإسلام والمجتمع الإسلامي، ومن أوضع أفراده ذلك.

أخبار كخبر الجعفري عن أبي الحسن عليه السلام: «من ربط فرساً عتيقاً مُحيت عنه ثلاث سيّئات، وكُتبت له إحدى عشرة حسنة، ومن ارتبط هجيناً مُحيت عنه في كلّ يوم سيّئتان، وكُتبت له سبع حسنات، ومن ارتبط برذوناً يريد به حمالاً، أو قضاء حوائج، أو دفع عدوّ عنه، مُحيت عنه كلّيوم سيّئة واحدة، وكُتبت له ست حسنات»(1).

وعن «الفقيه» روايته بإبدال السبع بالتسع(2).

(ويجب) المرابطة المستحبّة بنفسها (بالنذر وشبهه) من العناوين الثانويّة الموجبة للوجوب كالإجارة، مع وجود الإمام وبسط يده وغيبته، وقصور يده، سواءٌ أكانت الحكومة بيد العادل أو الجائر، كما صرّح به جماعة، وعن «السرائر» عندنا، وهو مؤذنٌ بالإجماع عليه، لأنّه طاعة كما مرّ، وقد نذرها أو آجر نفسه عليها أو ما شابه ذلك، فيجب لعموم الأدلّة بوجوب الوفاء بالنذر وشبهه كتاباً وسنّةً .

أقول: وبذلك يظهر أنّه لو نذر أن يصرف شيئاً في سبيل المرابطين، وجب حتّى في زمان الغيبة وحكومة الجائرين، لما مضى من أنّه طاعة فتجب بالنذر.

وعن الشيخ في «النهاية»(3) والقاضي(4) - بل قيل(5) وجماعة - أنّه يحرم4.

ص: 61


1- الكافي: ج 5/48 باب فضل ارتباط الخيل وإجرائها.. ح 4.
2- الفقيه: ج 2/284 ح 2461، وسائل الشيعة: ج 11/471 ح 15287 و 15288.
3- النهاية: ص 291 قال: (وإن نذر ذلك أي صرف شيء من ماله إلى المرابطين في حال انقباض يد الإمام صُرف ذلك في وجوه البِرّ).
4- المهذّب: ج 1/303.
5- حكى هذا القول عن مجهول غير واحد من الأعلام منهم: المحقّق في الشرائع: ج 1/234، والشهيد في مسالك الأفهام: ج 3/18، وجواهر الكلام: ج 21/44.

ويصرفه في وجوه البِرّ حينئذٍ، لخبر علي بن مهزيار، قال:

«كتبَ رجلٌ من بني هاشم إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام إنّي كنتُ نذرت نذراً منذ سنين أن أخرج إلى ساحلٍ من سواحل البحر إلى ناحيتنا ممّا يرابط فيه المطوّعة نحو مرابطتهم بجِدّة وغيرها من سواحل البحر، أفترى جُعِلت فداك أنّه يلزمني الوفاء به، أو لا يلزمني ؟ أو أفتدي الخروج إلى ذلك الموضع بشيءٍ من أبواب البِرّ، لأصير إليه إنْ شاء؟

فكتب عليه السلام إليه بخطّه وقرأته: إنْ كان سمع منك نذرك أحدٌ من المخالفين فالوفاء به، إنْ كنت تخاف شنعته، وإلّا فاصرف ما نويت من ذلك في أبواب البِرّ، وفّقنا اللّه وإيّاك لما يحبّ ويرضى »(1).

وأُورد عليه: بضعفه(2)، لكونه مكاتبة، وجهالة السائل، وبمخالفته الاُصول، لأنّ النذر إنْ كان صحيحاً وجب الوفاء به، وإلّا كان باطلاً لا أنّه يُصرف في وجوه البِرّ.

أقول: ولكن كونه مكاتبة لا يوجب ضعفه، غايته أنّ احتمال التقيّة فيها أقوى وكذا احتمال التدليس، وجهالة السائل لا تضرّ بعد أن علي بن مهزيار يقول:

(وقرأته)، كما أنّ مخالفة الاُصول لا توجب طرح الخبر الصحيح، كيف وأنّ عموم القرآن يخصّص بالخبر الواحد كما عليه البناء في الفقه.

ولكن الظاهر من الخبر أنّه كان الرجل قد نذر أن يرابط على نحو مرابطة القوم وهو المرابطة مع القتال، وسئل عنه عليه السلام أنّه إذا اراد أن يفتدي بشيء من5.

ص: 62


1- التهذيب: ج 6/126 ح 4 وأيضاً ص 311 ح 13، وسائل الشيعة: ج 15/32 ح 19946.
2- هذا الإيراد للسيّد الطباطبائي في رياض المسائل: ج 7/455.

أبواب البرّ هل له ذلك أم لا، فأجابه عليه السلام: بأنّ نذره غير منعقد، لعدم كونه طاعةً ، للنهي عن المرابطة مع القتال، فلا يجب الوفاء بالنذر، وأمّا ما نوى من صرف المال في وجوه البِرّ فلا بأس به.

وعليه، فالأظهر فيما هو محلّ الكلام لزوم الوفاء بالنذر.

وعن الشيخ:(1) أنّه لو آجر نفسه للمرابطة، فإنْ وجد الأجير المستأجر أو ورثته ردّها، وإلّا قام بها.

وفي «المسالك»:(2) استناداً إلى الرواية.

والظاهر أنّ نظره إلى صحيح يونس، وخبر محمّد بن عيسى المتقدّمين، وقد مرّ ما فيهما.

وعليه، فالأظهر ما عن المشهور من وجوب القيام بها عليه مطلقاً.

***9.

ص: 63


1- المبسوط: ج 2/9، والنهاية ص 291 بتصرّف.
2- مسالك الأفهام: ج 3/19.

الفصل الثاني: فيمن يجب جهادهم وهم ثلاثة أصناف: الأوّل اليهود، والنصارى والمجوس.

قتال أهل الكتاب

(الفصل الثاني: فيمن يجب جهادهم).

(وهم ثلاثة أصناف):

الصنف (الأوّل): أهل الكتاب، ويجب قتالهم بالكتاب، والسُنّة والإجماع كما مرّ.

وأهل الكتاب هم (اليهود والنصارى ) وكتابهم التوراة والإنجيل، (والمجوس) وقد دلّت النصوص على أنّ المجوس من أهل الكتاب:

منها: مرسل الواسطي: «سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن المجوس أكان لهم نبي ؟ فقال:

نعم أمابلغكَ كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى أهل مكّة: أسلموا وإلّا نابذتكم بحرب.

فكتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله أن خُذ منّا الجزية ودَعنا على عبادة الأوثان...

فكتب إليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّ المجوس كان لهم نبيّ فقتلوه وكتابٍ أحرقوه، أتاهم نبيّهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور»(1).

ومنها: خبر الصدوق: «المجوس تُؤخذ منهم الجزية، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: سنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب، وكان لهم نبيٌ اسمه دماسات، فقتلوه، وكتابٌ يُقال له:

جاماست كان يقع في أثني عشر ألف جلد ثور فحرقوه»(2).

ص: 64


1- الكافي: ج 3/567 ح 4، التهذيب: ج 4/113 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/126 ح 20131.
2- الفقيه: ج 2/53 ح 1678، وسائل الشيعة: ج 15/127 ح 20135.

وهؤلاء يُقتلون، الى أن يسلموا، أو يلتزموا شرائط الذمّة.

ومنها: خبر المفيد، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أنّه قال في المجوس: إنّما اُلحقوا باليهود والنصارى في الجزية والديات، لأنّه قد كان لهم فيما مضى كتاب»(1).

ونحوها غيرها.

(وهؤلاء يُقتلون) أي يجب جهادهم بعد دعوتهم إلى الإسلام، كما مرّ كتاباً وسنّةً ، وسيمرّان أيضاً لاحقاً (إلى أن يسلموا) وحينئذٍ فلا بحث (أو يلتزموا شرائط الذمّة) بلا خلاف ظاهراً، وصرّح به في «المنتهى»(2) و «المختلف»(3) مؤذناً بكونه مُجمعاً عليه بين العلماء، كما في «الرياض»(4).

ويشهد به: قوله تعالى : «قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ » (5).

أقول: ملخّص ما يستفاد من الآية الكريمة أنّ أهل الكتاب بما أنّهم غير مؤمنين بأمر التوحيد والمعاد كما هو حقّه - وإن أثبتوا أصل القول بالإلوهيّة وبالمعاد، وغير محرّمين المحرّمات الإلهيّة التي حرّمها اللّه تعالى لإصلاح المجتمع وسوقهم إلى السعادة، وغير متديّنين بدين الحقّ والفطرة - يجب قتالهم وإدامة9.

ص: 65


1- المقنعة: ص 270 باب أصناف أهل الجزية، وسائل الشيعة: ج 15/128 ح 20138.
2- منتهى المطلب: ج 2/903 (ط. ق) وقد فصّل في ذلك ص 905 فراجع.
3- مختلف الشيعة: ج 4/429 (الفصل السادس: في أحكام أهل الذمّة).
4- رياض المسائل: ج 7/467-468 (الثاني: أهل الكتاب) بالكتاب والسُنّة والإجماع.
5- سورة التوبة: الآية 29.

قتالهم حتّى يذلّوا ويخضعوا للحكومة الإسلاميّة، ويعطوا في ذلك عطية ماليّة مضروبة عليهم تمثّل إذلالهم وخضوعهم للسنّة الإسلاميّة والحكومة العادلة في المجتمع الإسلامي، ليصرف في حفظ ذمّتهم، وحقن دمائهم، وإدارة أُمورهم، وإنّما اقتصر هنا في غاية القتال على أداء الجزية، ولم يذكر الإسلام، مع أنّ غاية القتال أحد الأمرين: إما الإسلام أو شرائط الذمّة التي منها الجزية، لأنّ الإسلام معلوم الإرادة، وبه يتبدّل الموضوع، فنفس تعليق الحكم على الكتابي يستلزم كون الإسلام غاية القتال، وإنّما ذكر من شرائط الذمّة الجزية، لأنّها الركن الأعظم في الشرائط، وإذا أخلّو بها ولم ينقادوا لأحكام الإسلام خرقوا الذمّة.

ويشهد به أيضاً: عددٌ من النصوص:

منها: خبر حفص، عن الإمام الصادق عليه السلام: «سأل رجلٌ أبي عليه السلام عن حروب أمير المؤمنين عليه السلام، وكان السائل من محبّينا؟ فقال له أبو جعفر عليه السلام: بعثَ اللّه محمّداً صلى الله عليه و آله بخمسة أسياف، ثلاثة منها شاهرة فلا تُغمد حتّى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتّى تطلع الشمس من مغربها.

والسيف الثاني على أهل الذمّة، قال اللّه تعالى «وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً» (1) نزلت هذه الآية في أهل المدينة، ثمّ نسخها قوله عزّ وجلّ : «قاتِلُوا اَلَّذِينَ » (2) الآية، فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يُقبل منهم إلّاالجزية أو القتل، ومالهم فيء، وذراريهم سبي، وإذا قبلوا الجزية على أنفسهم، حَرُم علينا سبيهم، وحرمت أموالهم، وحلّت لنا مناكحتم، ومن كان منهم في دار الحرب حَلَّ لنا سبيهم، ولم تحلّ مناكحتهم،9.

ص: 66


1- سورة البقرة: الآية 83.
2- سورة التوبة: الآية 29.

وهي قبول الجزية.

ولم يقبل منهم إلّاالدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل. الحديث»(1).

ومنها: المرتضوي: «القتال قتالان: قتال أهل الشرك، لا ينفّر عنهم حتّى يُسلّموا، أو يؤتوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون. الحديث»(2).

ونحوهما غيرهما.

شرائط الذمّة

(و) كيف كان، فأهل الكتاب يقاتلون إلى أن يسلموا، أو يلتزموا بشرائط الذمّة، و (هي) أُمور:

الأمر الأوّل: (قبول الجزية) وهي فعلة كجِلْسة، وهي اسمٌ للنوع، أي النوع من الجزاء.

قال الراغب الأصفهاني(3): (الجزية ما يُؤخذ من أهل الذمّة، وتسميتها بذلك للإجزاء بها في حقن دمهم).

وعن «المجمع»: (الجزية فعلة من جَزي يجزي، مثل العُقدة والجِلسة، وهي عطيّة مخصوصة جزاءً لهم على تمسّكهم بالكفر عقوبةً لهم، عن علي بن عيسى ) انتهى (4).

ص: 67


1- الكافي: ج 5/10 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/25 ح 19938.
2- التهذيب: ج 4/114 ح 4 وأيضاً: ج 6/144 ح 2 وفيه بدل «يؤتوا الجزية» «يؤدّوا الجزية»، وسائل الشيعة: ج 15/28 ح 19939.
3- مفردات غريب القرآن: للراغب الأصفهاني ص 93.
4- نقله عن المجمع العلّامة الطباطبائي في تفسيرالميزان: ج 9/242 عند قوله تعالى : «حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ » الآية.

أقول: والحقّ أنّ الجزية ليست عقوبة، بل بما أنّ الحكومة الإسلاميّة تحتاج في إدارة اُمور المجتمع إلى المال، وقد وضع على المسلمين الخمس والزكاة والخراج والمقاسمة، والذمّي لا يعطي الخمس والزكاة، فوضع الشارع عليه الجزية لتُصرف في مصارف الحكومة التي ينتفع بها الذمّي، ويحفظ بها ذمّته، ويحقن دمه، ويحسن إدارته كسائر أفراد المملكة الإسلاميّة، ولذلك فهي ليست عقوبة كما هو المشهور.

والدليل على كونه من شرائط الذمّة: الآية الشريفة، والسيرة النبويّة، والنصوص المستفيضة، وقد روت الخاصّة والعامّة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يوصي اُمراء السرايا بالدّعاء إلى الإسلام قبل القتال، فإن أبوا فإلى الجزية، فإن أبوا قُوتلوا(1).

وفي مرسل الواسطي المتقدّم: «فكتب إليهم النبيّ صلى الله عليه و آله إنّي لستُ آخذ الجزية إلّا من أهل الكتاب»(2).

وفي «الفقيه»: (المجوس يؤخذ منهم الجزية، لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: سنّوا بهم سُنّة أهل الكتاب»(3).

وفي خبر حفص بن غياث: «ولو منع الرجال فأبوا أن يؤدّوا الجزية كانوا ناقضين للعهد، وحلّت دماؤهم وقتلهم»(4).

ونحوها غيرها.3.

ص: 68


1- الكافي: ج 5/29 ح 8، وسائل الشيعة: ج 15/59 ح 19986، مسند أحمد: ج 5/352، السنن الكبرى للنسائي: ج 5/207 ح 8680، وسنن البيهقي: ج 9/49 باب السيرة في أهل الكتاب.
2- الكافي: ج 3/567 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/126 ح 20131.
3- الفقيه: ج 2/53 ح 1678، وسائل الشيعة: ج 15/127 ح 20135.
4- الكافي: ج 5/28 ح 6، الفقيه: ج 2/52 ح 1675، وسائل الشيعة: ج 15/64 ح 19993.

وأن لا يؤذوا المسلمين.

(و) الأمر الثاني: (أن لا يؤذوا المسلمين) كالزنا بنسائهم، واللّواط بصبيانهم، والسرقة لأموالهم، وإيواء عين المشركين، والتجسّس لهم، فإن قاموا بفعل شيئاً وكان تركه مشترطاً في الهدنة، عدّ ذلك نقضاً، وإنْ لم يكن مشترطاً كانوا على عهدهم، وفُعل بهم ما يقتضيه جنايتهم من حَدٍّ أو تعزير كما صرّح به غير واحد.

وعن الشهيد قدس سره(1) انتقاض العهد به وإنْ لم يشترط، وهو ظاهر «النافع»(2)، ولكن لم أظفر بروايةٍ دالّة على اعتبار ذلك في عقد الذمّة، بل مقتضى الأدلّة خلافه.

نعم، لو اشترط فيه كان نقضاً إجماعاً، وهو الحجّة فيه، وإلّا فما قيل من كونه مقتضى الشرطيّة التي لم يقع التراضي إلّاعليه، قابلٌ لمناقشة، فإنّ مقتضى الشرطيّة إلزامهم به إنْ لم يفوا به.

نعم، إذا عُلّق عقد الذمّة عليه لا بنحو الشرط في ضمن العقد، بل على نحو التعليق في العقد المبطل له في سائر العقود لاشتراط التنجيز فيها دون المقام، صحّ ما أفادوه من نقض العهد في صورة الاشتراط والتخلّف، والظاهر أنّ مورد كلام الأصحاب ذلك، فيتمّ ما أفادوه.).

ص: 69


1- الدروس: ج 2/34 فإنّه بعد ذكره شرائط الذمّة قال: (وأن لا يتجاهروا بالمحرّمات في شريعة الإسلام، فيخرجون عن الذمّة بترك هذه أو بعضها).
2- المختصر النافع: ص 110-111: الثاني: أهل الذمّة فإنّه بعد ذكر مسألة قتالهم حتّى يسلموا أو يلتزموا شرائط الذمّة، قال: (فإنْ امتنع صار حربيّاً أي من شرائط الذمّة) ثمّ ذكر ص 111 (من شرائط الذمّة أن لا يؤذوا المسلمين كالزنا... الخ).

وأن لا يتظاهروا بالمحرّمات كشُرب الخمر

(و) الأمر الثالث: (أن لا يتظاهروا بالمحرّمات كشُرب الخَمر)، والزّنا، وأكل لحم الخنزير، ونكاح المحرّمات ونحوها، وإنْ كانت جائزة في شرعهم.

ولو تظاهروا بذلك عُدّ ذلك نقضاً للعهد، وإنْ لم يُذكر اشتراطه في عقد الذمّة، كما عن ظاهر «النافع»(1) و «اللّمعة»(2) و «النهاية»(3) و «السرائر»(4)، بل عن الحِلّي(5) دعوى الإجماع عليه، وكذلك عن السيّد ابن زُهرة(6)، للخبر الصحيح الذي رواه زرارة عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قبل الجزية من أهل الجزية على أن لا يأكلوا الرّبا، ولا يأكلوا لحم الخنزير، ولا ينكحوا الأخوات ولا بنات الأخ، ولا بنات الاُخت، فمن فعل ذلك منهم برئت ذمّة اللّه تعالى ورسوله صلى الله عليه و آله منه، وقال: ليست لهم اليوم ذمّة»(7).

والظاهر أنّه إلى ذلك نظر ابن زُهرة والحِلّي حيث قالا:

(روى أصحابنا أنّهم متى تظاهروا في شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ونكاح5.

ص: 70


1- المختصر النافع: ص 110-111.
2- اللّمعة الدمشقيّة: ص 72 حيث اعتبر أنّ الحربي يقاتل الى أن يدخل الإسلام أو يلتزم بشرائط الذمّة وهي: بذل الجزية.
3- النهاية: ص 292 قال: (ومتى أبَو الجزية أو أخلّوا بشرائطها، كان حكمهم حكم غيرهم من الكفّار).
4- السرائر: ج 1/474 باب الجزية وأحكامها.
5- والظاهر أنّ ابن إدريس الحِلّي في السرائر (المصدر السابق) حيث قال: (روى أصحابنا أنّهم متى تظاهروابشرب الخمر وأكل لحم الخنزير نقضوا بذلك العهد).
6- غنية النزوع: ص 203 فإنّه بعد ذكر شرائط الجزية قال: (ومتى أخلّوا بشيءٍ منها صارت دماؤهم هدراً وأموالهم وأهاليهم فيئاً للمسلمين بدليل الإجماع).
7- علل الشرائع: ج 2/376 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/124 ح 20128 وج 20/367 ح 25845.

وأن لا يحدثوا كنيسةً ، ولا يضربوا ناقوساً، وأن يجري عليهم أحكام المسلمين.

المحرّمات في شرعنا والرِّبا، نقضوا بذلك العهد).

أقول: ولكن الرواية واردة في مورد الاشتراط، فإجراء الحكم إلى صورة عدم الاشتراط لا وجه له.

وعليه، فما عن «المنتهى»(1) و «التحرير»(2) و «التذكرة»(3) من التفصيل بين الاشتراط فينتقض، وعدمه فلا ينتقض هو الأظهر.

(و) الأمر الرابع: (أن لا يحدثوا كنيسةً ولا يضربوا ناقوساً) كما عن غير واحدٍ.

وعن «الغُنية» الإجماع على أنّهم لو فعلوا ذلك نقض العقد وإنْ لم يشترط.

أقول: ولكن مقتضى عقد الذمّة، والإطلاق، والأصل، جواز ما كان جائزاً في شرعهم الذي اُمرنا بإقرارهم عليه.

نعم، ما أفاده جماعة(4) من أنّه لو كان تركه مشترطاً في العهد انتقض، تمّ على التقريب المتقدّم.

(و) الأمر الخامس: (أن يجري عليهم أحكام المسلمين) بمعنى وجوب قبولهم لما يحكم به المسلمون عليهم من أداء حقّ ، أو ترك محرّم، بلا خلافٍ أجده كما سمعته من «المنتهى»(5)، ضرورة كونه الصغار أو منه الذي لا إشكال ولا خلاف في اعتباره في).

ص: 71


1- منتهى المطلب: ج 2/969 (ط. ق) مسألة: جملة ما يشترط على أهل الذمّة ينقسم إلى ستّة أقسام.. الخ.
2- تحرير الأحكام: ج 2/208-209، وجملة ما يشترط عليهم ستّة أقسام.. الخ.
3- تذكرة الفقهاء: ج 9/316 وما بعدها: جملة ما يشترط على أهل الذمّة ينقسم ستّة....
4- الظاهر أنّ هذا مفاد العلّامة في المنتهى والتحرير (المصدرين السابقين).
5- هذا نصّ ما أفاده العلّامة في التذكرة: ج 9/315 مسألة 185، وما أفاده في المنتهى فكذلك ولكن بتصرّف، راجع: ج 2/969 (ط. ق).

الذمّة بنص الكتاب، ولذا صرّح غير واحدٍ بالانتقاض بالمخالفة وإنْ لم يشترط، بل لا أجد فيه خلافاً بينهم كما قاله صاحب «الجواهر»(1).

قال الفاضل في «كنز العرفان»(2) في تفسير قوله تعالى: «وَ هُمْ صاغِرُونَ » (3):

(قال فقهاؤنا: إنّه التزامُ أحكام الإسلام، وأن تجري عليهم، وأن لا تقدر الجزية عليهم فيوطنوا أنفسهم على حال) انتهى.

أقول: المستفاد من الآية الكريمة - بعد التدبّر فيها وما في صدرها من الأوصاف المقتضية لقتالهم، ثمّ إعطاؤهم الجزية لحفظ ذمتهم - أنّ المراد بالصغار خضوعهم للحكومة الإسلاميّة وقوانينها المجعولة لنيل المجتمع السعادة، وأن لا يبارزوهم بشخصيّة مستقلّة حُرّة في بثّ ما تهواه أنفسهم، وعليه فما نقله المقداد عن الفقهاء يوافق ذلك، إلّاأنّ لازم ذلك ليس نقض العهد لو خالفوا في ذلك، بل على وليّ أمر المسلمين إلزامهم بذلك.

وأضاف صاحب «الجواهر»(3) أمراً آخر، حيث قال: (بل ينبغي اعتبار كونها عن يدٍ وإنْ لم أجد من صرّح به).

أقول: اختلفوا في معنى قوله تعالى : «عَنْ يَدٍ» (5):

فقد قيل: أنْ يعطوها نقداً لا نسيئةً كما يقال بعثه يداً بيد، أي نقده بيده نقداً.

وقيل: أنْ يعطوها بأيديهم لا بنائب.

وقيل: عن قدرة وقهر.1.

ص: 72


1- جواهر الكلام: ج 21/271.
2- كنز العرفان في فقه القرآن، للفاضل المقداد: ص 336، (مكتب نوين إسلام 1422 - قم). (3و5) سورة التوبة: الآية 29.
3- جواهر الكلام: ج 21/271.

فإنْ التزموا بهذه كُفَّ عنهم.

وعلى أيّة حال لا علاقة له بشرائط الذمّة، فتدبّر.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّه لا دليل على اعتبار شيء في الذمّة غير ما تضمّنته الآية الكريمة، إلّاعلى فرض اشتراط شيء عليهم في العقد.

(و) القدر المسلّم هو الجزية (فإنْ التزموا بهذه كُفَّ عنهم) القتال إجماعاً، وكتاباً وسُنّةً على ما مرّ مفصّلاً.

***

ص: 73

العاقد للذمّة

أقول: وتمام الكلام حول العاقد للذمّة يتحقّق في طيّ مسائل:

المسألة الأُولى : في العاقد للذمّة:

فعن بعض أنّ عقد الذمّة للإمام عليه السلام ونائبه، بل عن «المنتهى»(1) نفي الخلاف فيه، وظاهر المجلسي قدس سره(2) أنّه لحاكم المسلمين ولو كان جائراً، وصرّح جماعة من أنّه لو تمكّن نائبُ الغيبة من عقده ومن تقرير الجزية عليهم، صَحّ وجرى عليه حكم عقد الإمام عليه السلام(3).

أقول: وتنقيح القول حول هذا الموضوع يتحقّق بالبحث في موارد:

المورد الأوّل: في عقد الجائر وأخذه الجزية، فإنّه لا إشكال في عدم اختصاصه بإمام الأصل ونائبه الخاص، بل للسلطان الجائر أخذ الجزية، ويترتّب عليه ما يترتّب على أخذ العادل من حقن المال والدّم.

ويشهد لجواز أخذ غير الإمام أخبار عديدة:

منها: ما رواه الصدوق، قال: (قال الرضا عليه السلام: إنّ بني تغلب أنِفوا من الجزية وسألوا عُمر أن يُعفيهم، فخشي أن يلحقوا بالروم، فصالحه على أنْ صرف ذلك عن رؤوسهم، وضاعف عليهم الصدقة، فعليهم ما صالحوا عليه ورضوا به إلى أن يظهر الحقّ )(4).

ص: 74


1- منتهى المطلب: ج 2/968.
2- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 21/263.
3- وهو اختيار صاحب الجواهر: ج 21/264.
4- الفقيه: ج 2/29 ح 1611، وسائل الشيعة: ج 15/152 ح 20189.

ومنها: النصوص الدالّة على جواز أخذ الجزية التي أخذها الجائر، كخبر الهاشمي عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ اكترى أرضاً من أرض أهل الذمّة من الخراج، وأهلها كارهون، وإنّما يقبلها السلطان بعجز أهلها عنها أو غير عجز؟

فقال عليه السلام: إذا عجز أربابها عنها فلكَ أن تأخذها، إلّاأن يضارّوا، وإن أعطيتهم شيئاً فسخت أنفسهم بها لكم فخذوها»(1).

ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عنه عليه السلام: «عن الشراء من أرض اليهود والنصارى؟ فقال عليه السلام: ليس به بأس، الحديث»(2).

ومنها: صحيح الفاضلين، عنه عليه السلام: «قال: سألته عن ذلك، فقال: لابأس بشرائها، فإنّها إذا كانت بمنزلتها في أيديهم تؤدّي عنها كما يؤدّي عنها»(3).

ومنها: معتبر إبراهيم بن أبي زياد، عنه عليه السلام: «عن الشراء من أرض الجزية ؟ فقال: اشترها فإنّ لك من الحقّ ما هو أكثر من ذلك»(4).

إلى غير ذلك من الأخبار.

أقول: ودلالة هذه النصوص على جواز أخذ الجزية من السلطان الجائر الآخذ للجزية العاقد للذمّة لا تُنكر، ولازمه صحّة عقد ذمّته وأخذه الجزية.

وإنْ شئتَ قلت: المستفاد من مجموع هذه النصوص وتقرير المعصومين عليهم السلام ما كان يفعله سلاطين الجور، بضميمة القطع بعدم سقوط هذا الحكم في زمان عدم0.

ص: 75


1- الكافي: ج 5/282 ح 1 وفيه بدل: فسخت أنفسهم بها «فسخت أنفس أهلها»، ومثلها في التهذيب، وسائل الشيعة: ج 15/159 ح 20206 و: ج 17/370 ح 22773.
2- التهذيب: ج 4/146 ح 29، وسائل الشيعة: ج 15/156 ح 20198.
3- التهذيب: ج 4/147 ح 30، وسائل الشيعة: ج 15/156 ح 20199.
4- التهذيب: ج 4/147 ح 31، وسائل الشيعة: ج 15/156 ح 20200.

بسط يد الإمام، وزمان الغيبة، ما قاله بعضهم بأنّ الولاية وإنْ كانت للسلطان العادل، وتصدّي الجائر وتقمّصه بذلك القميص غصبٌ وحرام وإثم، إلّاأنّه بعد تصدّيه لذلك المقام له أن يعقد الذمّة، ويأخذ الجزية، ويصرفها في مصالح المسلمين، ولا شيء عليه من هذه الناحية، ولو تمكّن نائب الغيبة الذي هو الحاكم على الاُمّة من عقده وتقرير الجزية صَحّ ، وجرى عليه حكم عقد الإمام عليه السلام، وهو أولى من الجائر، فإنّه المنصوب حاكماً في عصر الغيبة، وبيده مجاري الاُمور كما مرّ.

ومن الغريب احتمال المحقّق الأردبيلي رحمه الله(1) سقوط الجزية عنهم في زمان الغيبة.

فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأمر إلى الحاكم الشرعي، ولكن مع مبادرة الجائر إلى التصرّف يكون تصرّفه نافذاً، ولا يجب الإستئذان من الفقيه، وسيأتي تمام الكلام في ذلك في حكم الأراضي الخراجيّة حال الغيبة في كتاب المتاجر(2).

بيان مصرف الجزية ومن يستحقها

المورد الثاني: في بيان مصرف الجزية ومن يستحقّها.

صرّح المصنّف رحمه الله بأنّه يستحقّ الجزية من يستحقّ الغنيمة سواء، فهي للمجاهدين.

بل عن «الدروس»(3): أنّ مصرفها عسكر المجاهدين.

و عن «القواعد»(4): أنّها في زمان الغيبة للمجاهدين، ومع عدمهم لفقراء المسلمين.

ونحوه عن أجوبة المهنّا بن سنان(5)، حيث صرّح فيها بأنّها له أيضاً.

ص: 76


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 7/519.
2- فقه الصادق: ج 22/93.
3- الدروس: ج 2/41.
4- قواعد الأحكام: ج 1/521.
5- أجوبة المسائل المهنّائيّة: ص 118.

وعن «النهاية» و «السرائر»(1): لمن قام مقام المجاهدين في الدفع عن الإسلام.

بل زاد في محكي «السرائر»: (ولمن يراه الإمام عليه السلام من الفقراء والمساكين من سائر المسلمين).

أقول: المستفاد من النصوص المتقدّم طرفٌ منها، ومن النصوص الواردة في النزول على أهل الذمّة وأهل الخراج ضيفاً(2)، أنّ مصرف الجزية الآن هو مصرف الخراج، وأنّه يجوز أخذها لنا من يد الجائر على نحو الخراج، كما هو مقتضى السيرة المستمرّة من العوام والعلماء، وقد علّل في بعض تلك النصوص بأنّ قائمنا لو كان قد قام كان نصيبك منها أكثر منها، بل المستفاد من الأخبار جريان حكم الجزية على المأخوذ من يد الجائر بعنوانها، كالمأخوذ بعنوان الخراج والزكاة، فحينئذٍ يكون تقرير الجزية منه كتقرير الإمام عليه السلام بالنسبة إلى ذلك نحو ضرب الخراج الصادر منه، بل قد عرفت قول الإمام الرضا عليه السلام فيما وقع من صلح عُمر لبني تغلب، وأنّه يجري عليه الحكم حتّى يظهر الحقّ .

وعلى الجملة: فإنْ كان جهادٌ أو دفاعٌ أو ما إلى ذلك كان الأولى التصرّف فيها والصرف على الموارد المذكورة، وإلّا فالأولى صرفها في الدفاع عن حريم الإسلام، ولو بالصرف على الحوزات العلميّة، وإلّا ففي سائر مصالح المسلمين.

أقول: وأمّا صحيح ابن أبي يعفور، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّ أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية، وإنّما الجزية عطاء المهاجرين، والصدقة لأهلها الذين سَمّى اللّه في كتابه، فليس لهم من الجزية شيء.).

ص: 77


1- السرائر: ج 1/474.
2- قرب الإسناد: ص 39، وسائل الشيعة: ج 17/222 باب 54 من أبواب ما يكتسب به من كتاب المتاجر (جوازالنزول على أهل الذمّة وأهل الخراج).

ثمّ قال: ما أوسع العدل، ثمّ قال: إنّ الناس يستغنون إذا عدل بينهم، وتنزل السماء رزقها، وتخرج الأرض بركاتها بإذن اللّه»(1).

ورواه المفيد في محكي «المقنعة»(2) مرسلاً.

ونحوه صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام(3).

فلا ينافي ذلك، إذ الجمع بينها وبين ما تقدّم يقتضي البناء على أنّ جعلها للمهاجرين باعتبار كونهم ذابّين عن الإسلام، فمع الصرف فيما ذكرناه يحصل المطلوب.

الأمر الثالث: قال الشهيد(4): (وفي زمان الغيبة يجب إقرارهم على ما أقرّهم ذو الشوكة من المسلمين).

والاعتماد في ذلك:

1 - على ما تقدّم عن الإمام الرضا عليه السلام من إمضاء صلح عُمر لبني تغلب إلى أن يظهر الحقّ (5).

2 - وعلى النصوص المتضمّنة لأخذ الجزية من سلاطين الجور وغيرها ممّاتقدّم.

بل المستفاد ممّا تقدّم عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه إذا رأى ذو الشوكة من المسلمين الإخلال بالجزية له ذلك، إنْ لم يكن إجماعٌ على أنّ الإخلال بذلك يفسد عقد الذمّة مطلقاً.

***5.

ص: 78


1- الكافي: ج 3/568 ح 6، وسائل الشيعة: ج 15/153 ح 20192، ورواه الفقيه والتهذيب.
2- المقنعة: ص 279 باب الزيارات.
3- التهذيب: ج 4/118 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/153 ح 20193.
4- الدروس: ج 2/35.
5- الكافي: ج 5/283 ح 5، وسائل الشيعة: ج 15/159 ح 20205.

ولا حَدَّ للجزية بل بحسب ما يراه الإمام.

كميّة الجزية

المسألة الثانية: في كميّة الجزية.

أقول: (و) المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة(1) أنّه (لا حَدّ للجزية، بل) تقديرها (بحسب ما يراه الإمام) ووليّ الأمر الذي يأخذ الجزية ويقدّرها.

بل عن «السرائر»(2) نسبته إلى أهل البيت عليهم السلام.

وعن «الغُنية»(3) الإجماع عليه.

وعن الإسكافي(4) تقديرها في جانب القلّة بالدينار.

ويشهد به: مضافاً إلى الأصل، وإطلاقات الكتاب والسُنّة، صحيح زرارة، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما حَدّ الجزية على أهل الكتاب، وهل عليهم في ذلك شيءٌ موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره ؟

فقال عليه السلام: ذلك إلى الإمام يأخذ من كلّ إنسانٍ منهم ما شاء على قدر مايطيق،

ص: 79


1- نسبه إلى المشهور العلّامة في المختلف: ج 4/436، وابن فهد الحِلّي في المهذّب البارع: ج 2/303، وعدَّجملة من الأعاظم وقال إنّه اختيارهم.
2- السرائر: ج 1/473 قوله: (وليس للجزية عند أهل البيت عليهم السلام حَدّ محدود، ولا موظّف بل ذلك موكولٌ إلى تدبير الإمام ورأيه).
3- غنية النزوع: ص 202 قوله: (وليس لها أي للجزية قدرٌ معيّن، بل ذلك راجع إلى مايراه الإمام بدليل الإجماع).
4- الإسكافي وهو: المعروف بابن الجنيد، وقد ضاعت كتبه ولم تصل إلينا إلّاما نقله عنه بعض الأعلام كالعلّامة في كتبه، وهذا القول حكاه عنه في المختلف: ج 4/436، وحكاه عنه في الجواهر: ج 21/245، وقد جمع أقواله الاشتهاردي في كتاب: مجموعة فتاوى ابن الجنيد راجع: ص 165.

إنّما هم قومٌ فدوا أنفسهم من أن يُستعبَدوا أو يُقتلوا، فالجزية تُؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يأخذهم به حتّى يسلموا، فإنّ اللّه عزّ وجلّ قال: «حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ » (1) وكيف يكون صاغراً ولا يكترث بما يُؤخذ منه حتّى يجد ذلّاً لما أُخذ منه، فيألم لذلك فيسلم»(2).

ويؤيّده ما تقدّم عن الإمام الرضا عليه السلام من إمضاء صلح عُمر لبني تغلب حتّى يظهر الحقّ .

وأيضاً يؤيّده: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام زاد في الوضع عمّا قدّره النبيّ صلى الله عليه و آله بحسب ما رآه من المصلحة.

وأمّا النبويّ : «قال لمعاذ: خُذ من كلّ حالم ديناراً»(3) فهو قضيّة في واقعة، فلعلّ ذلك كان لإقتضاء المصلحة ذلك - كما أنّ ما أرسله غير واحدٍ منهم المفيد والمصنّف رحمه الله وغيرهما من وضع الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ثمانية وأربعين درهماً على الغني، وأربعة وعشرين درهماً على المتوسّط، واثنا عشر درهماً على الفقير(4)محمولٌ على اقتضاء المصلحه في تلك الحال.

ويؤيّده أنّ عليّاً عليه السلام زاد عمّا وضعه النبيّ صلى الله عليه و آله، بل الإمام عليه السلام قدّرها في رساتيق المدائن بغير ذلك كما في خبر مصعب(5).

***3.

ص: 80


1- سورة التوبة: الآية 29.
2- الكافي: ج 3/566 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/149 ح 20185، ورواه الفقيه والتهذيب.
3- نصب الراية للزيعلي: ج 4/327 باب الجزية الحديث الثاني وفيه: «من كلّ حالم وحالمة»، ثمّ قال: أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي في الزكاة، فتح الباري لابن حجر: ج 6/185.
4- الفقيه: ج 2/48 ح 1667، التهذيب: ج 4/119 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/151-152 ح 20188.
5- المصدر السابق وأيضاً ح 20191 من وسائل الشيعة: ج 15/153.

ولا تؤخذ من الصبيان، والمجانين، والبُله، والنساء.

من لا يُؤخذ منه الجزية

المسألة الثالثة: (ولا تؤخذ) الجزية (من الصبيان والمجانين) مطبقاً (والبله) بضمّ الباء الموحدة وسكون اللّام، جمع أبله، أي الذي ضعف عقله، ويعبّر عنه بالمعتوه، (والنساء) كما صرّح بذلك كلّه غير واحدٍ، وعن «المنتهى»(1)و «التذكرة»(2) و «الغُنية»(3) الإجماع عليه.

والمستند: أخبار عديدة:

منها: خبر حفص بن غياث، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن النساء كيف سقطت الجزية عنهنّ ورفعت عنهنّ؟

فقال: لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب إلّاأن يقاتلن، فإنْ قاتلن أيضاً فامسك عنهن ما أمكنك، ولم تخف خللاً، فلمّا نهى عن قتلهنّ في دار الحرب، كان ذلك في دار الإسلام أولى ، ولو أمتنعت أن تؤدّي الجزية لم يمكن قتلها، فلمّا لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنهنّ ، ولو امتنع الرجال أن يؤدّوا الجزية كانوا ناقضين للعهد، وحلّت دماؤهم وقتلهم، لأنّ قتل الرجال مباح في دار الشرك، وكذلك المقعد والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في أرض الحرب،

ص: 81


1- منتهى المطلب: ج 2/962 (ط. ق) فروع: وقد فصّل بعد ذلك في مسائل النساء والصبي والمجنون... إلى ص 964.
2- تذكرة الفقهاء: ج 9/294-295 مسألة 172-173.
3- غنية النزوع: ص 202 قوله: (ولايجوز أخذها أي الجزية إلّامن الذّكور البالغين الكاملي العقول).

فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية»(1).

ومنها: خبر طلحة، عنه عليه السلام: «جرت السُنّة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه ولا من المغلوب على عقله»(2).

المنجبر ضعفهما بعمل الأصحاب، ويؤيّده رفع القلم عن الصبي والمجنون(3).

أقول: المذكور في خبر حفص سقوط الجزية عن الشيخ الفاني والمقعد والأعمى ، وذهب الإسكافي(4) إلى السقوط عن الجميع، وتبعه المصنّف رحمه الله في «القواعد»(5)، والمحقّق في «النافع»(6)، في خصوص الأوّل دون الأخيرين.

لكن الأظهر عدم السقوط، لضعف الخبر، وعدم الجابر له، فلا مقيّد لإطلاق الأدلّة، وجبر الخبر في الصبيان والنساء لا يوجبُ جبره بالنسبة إلى هذه الجملة، بعد إمكان التفكيك في جملات الخبر، كما هو محرّر في محلّه.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ الخبر رواه الصدوق(7) بسندٍ معتبر، فلا مانع من الاعتماد عليه في الحكم، فالسقوط أظهر.

أقول: وقد يُفصَّل في الشيخ بأنّه إنْ كان ذا رأي وقتالٍ أُخذت منه، وإلّا فلا، والظاهر أنّه من جهة عدم قتله إذا لم يكن كذلك، وقتله إذا كان، وهو المعيار في الجزية على ما يستفاد من عموم العلّة للسقوط عن النساء ولا بأس به.4.

ص: 82


1- الكافي: ج 5/28 ح 6، التهذيب: ج 6/156 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/64 ح 19993.
2- الكافي: ج 3/567 ح 3، التهذيب: ج 4/114 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/65 ح 19995.
3- راجع وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 81 و ج 29 ص 90 ح 35225 وغيرهما.
4- حكاه عنه في المختلف العلّامة قدس سره: ج 4/440، فتاوى ابن الجُنيد ص 166 مسألة 10.
5- قواعد الأحكام: ج 1/507، الفصل الثاني: في عقد الجزية وفيه مطالب.
6- المختصر النافع: ص 111.
7- الفقيه: ج 2/52 ح 1674.

أقول: وتمام الكلام يتحقّق في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: هل تجب الجزية على الفقير، كما عن الشيخ في غير «الخلاف»(1)، والمصنّف رحمه الله وغيرهما، بل هو المشهور بين الأصحاب كما عن «المنتهى»(2)؟

أم لا كما عن الإسكافي(3) والمفيد(4) والشيخ في «الخلاف»(5)، بل في الأخير

الإجماع عليه ؟

أم يفصّل بين الفقيرذي العاهة فالأوّل، وغيره فالثاني كماعن أبي الصّلاح(4)؟ وجوه:

مقتضى إطلاق الأدلّة، والمحكيّ عن فعل أمير المؤمنين عليه السلام المتقدّم، هو الأوّل.

واستدلّ للثاني: بالإجماع، وبقوله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» (5)، وبقوله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها» (6) وغيرهما ممّا يدلّ على7.

ص: 83


1- حيث ذهب في الخلاف إلى عدم وجوبها للإجماع وأصالة البراءة، وأيضاً لقوله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها» وأيضاً قوله تعالى : «لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها» وقال: إذا لم يكن له قدرة على المال ولا الكسب، فلا يجوز أن تجب عليه الجزية، راجع ج 5 ص 546-547 مسألة 10.
2- منتهى المطلب: ج 2/963 (ط. ق) قوله: (مسألة: في سقوط الجزية عن الفقير منهم لعلمائنا قولان أشهرهما أنّها تسقط.. الخ).
3- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 4/437، فتاوى ابن الجنيد ص 165 مسألة 6. (4و5) نسب العلّامة في المختلف: ج 4/437 عدم وجوب الجزية على الفقير إلى الظاهر من كلام المفيد، وكذلك في تحرير الأحكام: ج 2/202 عند التعرّض للجزية على الفقير قال: (وأسقط الجزية المفيد. ونسبه البعض إلى ظاهر المقنعة، ولكنّه غير ظاهر حيث قال في المقنعة ص 272: «ويضعه على رقابهم على قدر غناهم وفقرهم» فيكون ما نسبه إليه العلّامة حسب الظاهر في غير المقنعة).
4- الكافي في الفقه: ص 249 قوله: (وجزية الرؤوس مختصّة بأحرار رجالهم العقلاء البالغين السليمين دون النساء والعبيد والأطفال والمجانين وذوي العاهات من فقرائهم...).
5- سورة البقرة: الآية 286.
6- سورة الطلاق: الآية 7.

اعتبار القدرة.

ولكن الإجماع موهونٌ بما عرفت، بل بمصير الشيخ نفسه إلى خلافه في سائر كتبه.

أقول: وأمّا ما دلّ على اعتبار القدرة فأُورد عليه:

بأنّه في الحكم التكليفي دون خطاب الوضع، فلتكن كسائر الدّيون ينتظر بها حتّى يؤسر، أو يجب الأداء ولو بالقرض، أو بيع شيء من المستثنيات.

ولكن فرض كلام القائلين بعدم من الوجوب - على ما يظهر من استدلالهم - هو الفقير الذي لا يقدر على الأداء بوجهٍ من الوجوه، وفي مثله لا بأس بما قالوه، إذ لا فرق في اعتبار القدرة بين الحكم التكليفي والوضعي.

نعم، إذا كان الفقير ممّن يحتمل في حقّه اليسر، أو له شيء من مستثنيات الدين، أو يمكن من تَعلّم الكسب يجب عليه الجزية وتصير ديناً عليه، وفي مثله يجب بيع شيء من المستثنيات، فإنّ دليل الإستثناء يختصّ بغيرها، حيث إنّه اُريد بها الهوان دون سائر الدّيون.

وما يُروى عن علي عليه السلام: «أنّه استعمل رجلاً على عُكبرا، فقال له عليرؤوس الناس: لا تدعن لهم درهماً من الخراج، وشدّد عليه القول.

ثمّ قال له: ألقني عند انتصاف النهار، فأتاه فقال: إنّي كنت قد أمرتك بأمرٍ، وإنّي أتقدّم إليك الآن، فإن عصيتني نزعتك، لا تبعن لهم في خراجهم حماراً ولا بقرةً ولا كسوة شتاء، ولا صيف أرفق بهم»(1).6.

ص: 84


1- نقل هذا الحديث صاحب الجواهر: ج 21/240 قائلاً: ولم يثبت عندنا ما يروى عن علي عليه السلام الحديث. وفي الحاشية أخرجه عن كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 44 الرقم 116.

لم يثبت عندنا، مع أنّه في غير الجزية التي اُريد التشديد بها حتّييتحقّق الصغار.

الفرع الثاني: ولو ضرب عليهم جزية وصالحوا فاشترطوها على النساء أو غيرهن ممّن الجزية عنهم ساقطة لم يصحّ العقد، لكونه محلِّلاً للحرام بعد إسقاط الشارع الجزية عنهن، فحينئذٍ:

إنْ كان المراد الصلح على تأدية الجزية منهنّ دون الرِّجال، بطل الصلح من أصله.

وإنْ كان اشتراطها على النساء من قبيل الشرط في ضمن العقد، صحّ الصلح، وبطل الشرط بناءً على ما هو الحقّ من عدم مفسديّة الشرط الفاسد.

وإنْ كان من قبيل الجزء، فسد الصلح بالنسبة إليهنّ ، وبقي صحيحاً بالنسبة إلى الرجال.

الفرع الثالث: ولو حاصر المسلمون حِصْناً من حصون أهل الكتاب فُقتِل الرجال، فإن كان ذلك قبل عقد الجزية فسأل النساء إقرارهنّ ببذل الجزية لا يصحّ كما في «الشرائع»(1)، وصرّح به المصنّف رحمه الله(2) وغيره(3)، لأنّه من المُحلِّل للحرام.

وهل يصحّ عقد الأمان لهنّ كما لو طلبن ذلك في دار الحرب، فلا يجوز سبيهن ولا جزية، أم لا؟

أقول: الظاهر هو الأوّل، لعموم الوفاء بالعقد والعهد(4)، ومشروعيّة الصلح(5).).

ص: 85


1- شرائع الإسلام: ج 1/250.
2- في أغلب كتبه كما في قواعد الأحكام: ج 1/508، الفصل الثاني: في عقد الجزية، وأيضاً في المختلف: ج 4/441، والمنتهى: ج 2/964 (ط. ق)، والتذكرة: ج 9/296، وتحرير الأحكام: ج 2/2004.
3- كما في مسالك الأفهام: ج 3/69.
4- كما في قوله تعالى : «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» سورة المائدة: الآية 1، وقوله تعالى : «وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً» سورة الإسراء: الآية 34.
5- كما دلّت عليه روايات الباب 3 من أبواب كتاب الصلح من وسائل الشيعة: ج 18/443 (إنّ الصلح جائز بين الناس إلّاما أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً).

وإنْ كان بعد عقد الجزية، فيبقى الأمان للنساء من غير ضرب جزية عليهن حيث إنّه قد ثبت لهن الأمان مع الرجال ضمناً فيجب الوفاء.

الفرع الرابع: بعدما عرفت من عدم ثبوت الجزية على المجنون المطبق، فإن كان يفيق وقتاً ويجنّ اُخرى .

ففي «المبسوط»:(1) حُكم للأغلب سقط الأقلّ .

وفي «القواعد»:(2) قيل يحكم للأغلب، وقيل: يلفق أمام الإفاقة، فإذا بلغت حولاً فالجزية.

وفي «المسالك»:(3) الأقوى أنّ المجنون لا جزية عليه مطلقاً إلى أن يتحقّق له إفاقة سنة متوالية.

أقول: وما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله أقوى ، لإطلاق خبر طلحة الدالّ على سقوط الجزية عن المغلوب على عقله، فإذا كان يجنّ وقتاً ويفيقُ آخر، صدق عليه أنّه المغلوب علي عقله، وحيث أنّ الموضوع للجزية كلّ حولٍ ، فإذا أفاق حولاً كاملاً وجبت عليه الجزية وإلّا فلا.

وإنْ شئتَ قلت: إنّه يفهم عرفاً من ضمّ دليل سقوط الجزية عن المجنون إلى ما دلّ على وجوبها في كلّ حولٍ مرّة، اعتبار كونه عاقلاً في طول الحول.

***0.

ص: 86


1- المبسوط: ج 2/41.
2- قواعد الأحكام: ج 1/507 (في عقد الجزية وفيه مطالب).
3- مسالك الأفهام: ج 3/70.

ويجوز وضعها على رؤوسهم وأراضيهم.

جواز وضع الجزية على الرؤوس والأراضي

المسألة الرابعة: (ويجوز وضعها على رؤوسهم وأراضيهم) أي على أحداهما بلا خلافٍ ولا إشكال.

ويشهد به: مضافاً إلى الإجماع والعمومات، النصوص(1) المتضمّنة لإثبات كلّ منهما، وقد مرّ طرف منها وسيأتي آخر، كما أنّه لا خلاف ولا إشكال في أنّه بعد تماميّة عقد الذمّة، وتعيين الجزية على أحداهما لا يجوز تغييره وتبديله، لعموم الوفاء بالعقد والشرط.

إنّما الكلام في الجمع بينهما، بأن يوضع عليهما ابتداءً ، وفيه قولان:

1 - فعن الإسكافي(2) والتقي(3) وأكثر المتأخّرين، منهم المصنّف(4) في جملةٍ من كتبه الجواز.

2 - وعن «النهاية»(5) و «الغُنية»(6) و «السرائر»(7) و القاضي(8)

ص: 87


1- وسائل الشيعة: ج 149/15 روايات الباب 68 من أبواب جهاد العدو (تقديرالجزية وماتوضع عليه وقدر الخراج).
2- حكاه عنه العلّامة في المختلف: ج 4/435.
3- هو تقيّ الدِّين بن نجم المعروف بأبي الصلاح الحلبي، الكافي في الفقه ص 260 (الجهاد: الضرب الثاني من الغنائم) حيث قال: (ويصحّ صلحهم على جزية الرؤوس خاصّة وعلى الأمرين...).
4- كما في إرشاد الأذهان: ج 1/351، ومنتهى المطلب: ج 2/966 (ط. ق) وغيرهما.
5- النهاية: ص 193، باب الجزية وأحكامها قال: (فإن وضعها عليرؤوسهم فليس له أن يأخذ من أراضيهم شيئاً).
6- غنية النزوع: ص 202، قوله: (ممّا يضعه الإمام على رؤوسهم أو على أرضهم).
7- السرائر: ج 1/473، قال: (فإن وضعها على رؤوسهم فليس له أن يأخذ من أرضهم شيئاً).
8- المهذّب للقاضي ابن البرّاج: ج 1/185، باب في ذكر ما ينبغي أخذه من الجزية، قال: (متى وضعها على أراضيهم لم يضعها على رؤوسهم).

و «المختلف»(1) عدم الجواز.

أقول: ذكر المصنّف رحمه الله في محكي «المنتهى»(2) أنّ محلّ الكلام جواز توزيع الجزية على الرؤوس وعلى الأرض، وصريحه في محكي «المختلف»(3) أنّه ليس النزاع في تقسيط الجزية على الرأس والأرض، بل في وضع جزيتين عليهما، ولكن بما أنّه لا حَدّ للجزية ولا قدر معيّن لها، لا يجوز تخطيه وأنّ تقديرهما إلى الإمام، وعليه يكون النزاع في كون المجعول عليهما جزية واحدة قسطت عليهما، أو جزيتين، نزاع لفظي كما أفاده ابن فهد في محكي «المهذّب»(4).

وكيف كان، فمقتضى الأصل والعمومات هوالجواز، ويؤيّده خبرمصعب المتقدّم(5).

واستدلّ للقول الآخر:

1 - بصحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: «قلت له: أرأيت ما يأخذ هؤلاء من الخمس من أرض الجزية ويأخذون من الدهاقين جزية رؤوسهم، أما عليهم في ذلك شيء موظف ؟

قال: كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، وليس للإمام عليه السلام أكثر من الجزية، إن شاء وضع الإمام على رؤوسهم، وليس على أموالهم شيء، وإن شاء فعلى أموالهم، وليس على رؤوسهم شيء.8.

ص: 88


1- مختلف الشيعة: ج 4/435 قال: (الإمام في الجزية مخيّر إنْ شاء وضعها على رؤوسهم وإنْ شاء وضعها على أرضهم، وهل له الجمع ؟ قال الشيخ في النهاية لا.. وجوّز ابن الجنيد الجمع.. والأقرب الأوّل).
2- منتهى المطلب: ج 2/966 (ط. ق) حيث اعتبر جواز التوزيع هو الأقوى .
3- مختلف الشيعة: ج 4/435.
4- المهذّب البارع لابن فهد الحِلّي: ج 2/306.
5- الفقيه: ج 2/48 ح 1667، التهذيب: ج 4/119 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/151 ح 20188.

فقلت: فهذا الخمس ؟ فقال: إنّما كان هذا شيءٌ صالحهم عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(1).

2 - و صحيحة الآخر: «سألته عن أهل الذمّة ماذا عليهم ممّا يحقنون به دماءهم وأموالهم ؟

قال عليه السلام: الخراج، وإنْ أُخذ من رؤوسهم الجزية، فلا سبيل على أرضهم، وإن أُخذ من أرضهم فلا سبيل على رؤوسهم»(2).

أقول: الظاهر من الخبرين أنّه لا يؤخذ من أموالهم شيء من الحقوق المجعولة في الإسلام، سوى الجزية، حتّى أنّه لو أُخذ الجزية من أراضيهم لا يؤخذ من الحقوق المجعولة على أموالهم كالخمس شيءٌ ، كما أنّه لو وضعت الجزية على رؤوسهم، لا يؤخذ من الحقوق المجعولة على الأراضي منهم شيء.

ويؤيّده صحيحة الثالث، عن الإمام الباقر عليه السلام: «في أهل الجزية يؤخذ من أموالهم ومواشيهم شيءٌ سوى الجزية ؟ قال عليه السلام لا»(3).

وعلى فرض التنزّل وتسليم أنّ المراد من المُثبِت والمنفيّ هو الجزية، فالظاهر منهما أنّه بعد وضع الجزية على إحداهما وتعيينه وتماميّة العقد، لا يجوز أخذ الجزية من الاُخرى ، وهذا هو الذي لا خلاف فيه، ويقتضيه الوفاء بالعقد والشرط.

***7.

ص: 89


1- التهذيب: ج 4/117 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/149 ح 20185.
2- الكافي: ج 3/567 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/150 ح 20186، ورواه في التهذيبين.
3- الكافي: ج 3/568 ح 7، وسائل الشيعة: ج 15/151 ح 20187.

ولو أسلموا سقطت.

حكم ما لو أسلم الذمّي قبل الحول أو بعده

المسألة الخامسة: المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أنّه تتكرّر الجزية في كلّ حول، وأنّ حالها حال الخراج، بل هي في أرضهم نوعٌ من الخراج، وأنّه يجب أداؤها في آخر الحول.

والشاهد عليهما أنّ المستفاد من النصوص(1) أنّها تُجبى كجباية الخراج، بل النصوص الواردة(2) في الخراج كالصريحة في كون جزية الرؤوس على نحو ذلك، وخبر مصعب قد مرّ آنفاً، بل الظاهر أنّه على ذلك سيرة العُمّال.

وبالجملة: هذا ممّا لا إشكال فيه (و) لا كلام، إنّما الكلام في ما (لو أسلموا):

فالمعروف بينهم أنّه إنْ كان الإسلام قبل الحول (سقطت) الجزية عنهم، بل عن «المنتهى»(3) و «التذكرة»(4) دعوى الإجماع عليه.

وإنْ كان بعده وقبل الأداء ففيه قولان، أشهرها السقوط، بل عن «الغُنية»(5)الإجماع عليه.

ص: 90


1- وسائل الشيعة: ج 15/149 روايات الباب 68 من أبواب جهاد العدو (تقدير الجزية وما توضع عليه وتقديرالخراج) ح 20185 وما بعده.
2- وسائل الشيعة: ج 15/157 روايات الباب 72 من أبواب جهادالعدو (أحكام الأرضين) حديث 20203 وما بعده.
3- منتهى المطلب: ج 2/968 (ط. ق).
4- تذكرة الفقهاء: ج 9/313 مسألة 184.
5- غنية النزوع: ص 202.

وقد استدلّ للسقوط في الموردين بالنبوي: «الإسلام يجبُّ ما قبله»(1).

أقول: ولكن الظاهر منه - سيّما بعد ملاحظة ذيله على ما في «مجمع البحرين»(2):

«والتوبة تجبُّ ما قبلها من الكفر والمعاصي والذنوب» - أنّ الإسلام يجبّ الكفر ويقطعه لا أنّه يجبّ ما ثبت في حال الكفر، فالأولى الاستدلال بالمرتضوي: «هَدَم الإسلام ما كان قبله هي عندك على واحدة»(3) الوارد فيمن طلق امرأته في الشرك تطليقة وفي الإسلام تطليقتين على ما في «البحار»، أو تطليقة على ما في «المناقب» لابن شهر آشوب.

والإيراد عليه: بالإرسال في غيرمحلّه بعدكونه مشهوراًبين الأصحاب نقلاًوعملاً.

وأُورد على الاستدلال به في المقام: بأنّ الجزية من حقوق الناس، والحقوق الماليّة للغير قد يتأمّل أو يمنع عن كونها مشمولة للحديث.

والجواب عن ذلك: أنّ الاُمور الصالحة للجُبّ على أنحاء:

أحدها: ما يكون من حقوق اللّه المختصّة به كالعبادات البدنيّة.

ثانيها: ما يكون من الحقوق المختصّة بالعباد كالدِّيون والغرامات وما شابه.

ثالثها: ما يكون مشتركاً كالكفّارات والزكاة والخمس والجزية وأمثالها.

لا ريب في كون القسم الأوّل مشمولاً للحديث، كما لا ينبغي الإشكال في عدم شمول الحديث للقسم الثاني، لأنّ هذه الاُمور ثابتة لا بشرع الإسلام، وثبوتها8.

ص: 91


1- تفسير القمّي: ج 1/148 باب أحكام القتل، وأيضاً: ج 2/26 (معنى الروح)، عوالي اللآلي: ج 2/54 ح 145، ورواه في المستدرك: ج 7/448 ح 8625 و ح 8626.
2- مجمع البحرين: ج 6/24 مادّة (جبب)، وحكى هذه الزيادة أيضاً العلّامة المجلسي في البحار: ج 21/115 عن الجزري في ذيل حديث 8 من الباب 26 من أبواب أحواله صلى الله عليه و آله.. (فتح مكّة).
3- بحار الأنوار: ج 40/230 باب 97 من أبواب كرائم خصاله ومحاسن أخلاقه. المناقب: ج 2/364 فصل: في ذكر قضاياه عليه السلام في عهد عمر، عوالي اللآلي: ج 1/171 ح 198.

ولو مات الذمّي بعد الحول

لا دخل له بما يأتي من قبل الإسلام حتّى يوجب جَبّها، بل هي ثابتة على كلّ تقدير، فلا وجه لسقوطها بالإسلام، مضافاً إلى دعوى الإجماع عليه، ويؤيّده أنّ الحديث واردٌ مورد الامتنان، ولا منّة في إسقاط حقّ الغير دون أن يُجبر.

وأمّا القسم الثالث فالظاهر شمول الحديث له، لأنّ ثبوته من جهة الإسلام فيصحّ جبّه، ويؤيّده أنّ وضع الجزية للصَّغار المنزّه عنه المسلم.

وقد استدلّ له: - مضافاً إلى ذلك - بالنبويّ : «ليس على مُسلمٍ جزية»(1)المستغنى بشهرته عملاً ونقلاً عن البحث في سنده.

ولكن الاستدلال به يتمّ بالنسبة إلى الإسلام قبل الحول، وأمّا بالنسبة إلى الإسلام ما بعده فلا يتمّ ، فإن الجزية المفروضة ليست على المسلم بل على الكافر، وإنّما المسلم يؤدّيها بعد ثبوتها، نعم لا بأس بذكره مؤيّداً.

كما يؤيّده النبويّ الآخر: «لا ينبغي لمسلمٍ أن يؤدّي الخراج يعني الجزية»(2).

وما قيل: من إنّ أخذها مشروطٌ بالصغار الممتنع على المسلم، وإن استدلّ به في «المسالك»(3).

أقول: ولا فرق في سقوطها بالإسلام بين أن يكون الدّاعي في إسلامه ذلك أم لا، لإطلاق الدليل، وما عن تهذيب الشيخ من عدم سقوطه في الأوّل، ضعيفٌ ، (و) عليه ف (لو مات الذمّي بعد الحول) والإسلام فلا يؤخذ من تركته، وأمّا لو مات بعد3.

ص: 92


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 11/134 ح 12636، عوالي اللآلي: ج 1/171 ح 198.
2- السنن الكبرى للبيهقي: ج 9/139 ونصّه: (لا ينبغي لمسلمٍ أن يؤدّي خراجاً، ولا لمشركٍ أن يدخل المسجد الحرام إنّما هو خراج الجزية).
3- مسالك الأفهام: ج 3/73.

أُخذت من تركته، ويجوز أخذها من ثمن المحرّمات.

الحول وهو ذمّي (أُخذت من تركته) كالدَّين، بلا خلافٍ فيه بيننا كما يظهر من «المنتهى»(1)، بل ولا إشكال، للأصل السليم عن المعارض، كما لا إشكال في أنّه لا يؤخذ من تركته شيء لو مات قبل الحول.

وأمّا لو مات في أثناء الحول:

فعن «المنتهى»(2): أنّه لو مات في أثناء الحول أُخذ القسط من تركته.

وقد يحتمل أخذها جميعاً حينئذٍ.

ومنشأ الاختلاف: أنّ الجزية هل تكون عوضاً على المكث في أرض المسلمين فهي كالإجارة في التقسيط، أم تكون عوضاً عن حقن الدّم ونحوه ممّا يقتضيه الكفر، وإنّما الأجل للأداء؟

ولا يبعد أظهريّة الثاني، فحينئذٍ هل هذا الدَّين كسائر الدّيون المؤجّلة يحلّ أجله بالموت أم لا؟ الظاهر هو الثاني، لانصراف النصوص عنه.

ولو لم يخلّف شيئاً لم يطالب وارثه، كما هو واضح.

***

أخذ الجزية من أثمان المحرّمات

المسألة السادسة: (ويجوز أخذها من ثمن المحرّمات) كالخمر والخنزير بلا خلافٍ ظاهر مصرّح به في «السرائر»(1) مؤذناً بالإجماع عليه، كما في ظاهر

ص: 93


1- السرائر: ج 1/474 حيث نفى الخلاف عن ذلك.

«المختلف»(1)، كذا في «الرياض»(2).

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك بعد عدم كون مخالفة الإسكافي(3) لا تضرّ، وإلى عموم ما دلّ على أنّ للمسلم قبض دينه من الذمّي من ثمن ما باعه من المحرّمات(4)، ولعلّه المراد ممّا في محكي «المختلف»(5) من الاستدلال له بالعموم - خصوص صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن صدقات أهل الذمّة، وما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم وخنازيرهم وميتتهم ؟

قال عليه السلام: عليهم الجزية في أموالهم تُؤخذ من ثمن لحم الخنزير، أو خمر، فكلّ ما أخذوامنهم من ذلك فوزر ذلك عليهم، وثمنه للمسلمين حلال، يأخذونه في جزيتهم»(6).

ونحوه خبره الآخر(7).

وأيضاً: هل يعتبر أنْ يكون المشتري لها غير مسلم أم لا يعتبر ذلك ؟ مقتضى إطلاق الأخبار هو الثاني، ولا ينافي ذلك بطلان البيع، إذ هو باطلٌ حتّى في البيع من الذمّي، ولذا قال عليه السلام: «فوزر ذلك عليهم».

ثمّ إنّه ليس في النصوص تقيّيد الذمّي بكونه مستتراً، ولعلّ تقييد بعض الفقهاء6.

ص: 94


1- مختلف الشيعة: ج 4/442 في مبحث أحكام أهل الذمّة، قال: (لا بأس بأخذ الجزية من ثمن المحرّمات، وعليه علماؤنا).
2- رياض المسائل: ج 7/488.
3- حكى العلّامة في المختلف: ج 4/442 قول الإسكافي، فإنّه بعد ذكر موافقة ابن الجُنيد لعلمائنا نقل عنه التفصيل بأخذ الثمن بقوله: (ولو علم المسلمون بأنّ الذمّي أدّاها من ثمن خمر جاز ذلك منه...).
4- وسائل الشيعة: ج 17/232 روايات باب 60 من أبواب ما يكتسب به، من ح 22408... الخ.
5- مختلف الشيعة: ج 4/442-443.
6- الكافي: ج 3/568 ح 5، الفقيه: ج 2/52 ح 1673، وسائل الشيعة: ج 15/154 ح 20195.
7- المقنعة: ص 279 باب الزيارات، وسائل الشيعة: ج 15/155 ح 20196.

ومستحّقها المجاهدون.

به من جهة أنّ التستّر من شرائط الذمّة، فبالتظاهر يخرج عن كونه ذميّاً.

ثمّ إنّه في الفرع الثاني من المسألة الأولى ظهر ما في قول المصنّف: (ومستحقها المجاهدون).

***

ص: 95

وليس لهم استئناف بيعةٍ ولا كنيسةٍ في دار الإسلام.

في حكم الكنائس والبِيَع

المسألة السابعة: ويدورالبحث فيهاعن الكنائس والمساجد (و) المساكن، فنقول:

(ليس لهم استئناف بيعةٍ ) كَسِدرة وهي معبد النصارى ، (ولا كنيسة) وهو معبد اليهود، والصومعة وبيت النيران وغيرها (في دار الإسلام) سواء أنشأها المسلمون وأحدثوها كالكوفة، وبغداد، والبصرة، وسَرّ من رأى ، أو فتحوها عنوة، أو صلحاً على أن تكون لنا ولم يشترطا لسكنى لهم فيها، بلا خلافٍ في الأُوليبين العلماء كما عن «المنتهى»(1) و «السرائر»(2)، وعن «التذكرة»(3) و «التحرير»(4) الإجماع عليه.

بل عن «السرائر»(5): (أنّه لا يجوز للإمام أن يقرّهم على إنشاء البيعة أو الكنيسة أوصومعة الراهب أو مجتمع صلاتهم، وأنّهم إن صالحهم ذلك بطل الصلح بلا خلافٍ ).

وكذا في الثانية كما عن «السرائر».

واستدلّ له:

1 - بالإجماع.

2 - وبما عن «المنتهى» من أنّ هذا البلد ملك للمسلمين، فلا يجوز لهم أن يبنوا

ص: 96


1- منتهى المطلب: ج 2/972 الشطر 31، حيث نفى الخلاف على عدم جواز إحداث أمثال هذه الدور (ط. ق).
2- السرائر: ج 1/475.
3- تذكرة الفقهاء: ج 9/340.
4- تحرير الأحكام: ج 2/214 (ط. ق).
5- السرائر: ج 1/475.

فيه مجامع الكفر(1).

3 - وبضرورة بطلان عباداتهم، فهي بيوت ضلال حينئذٍ، بل لعلّ في الإذن لهم به إعانة على الإثم.

4 - والمرتضوي: «إنّرسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن إحداث الكنائس في دارالإسلام»(2).

5 - وبما عن ابن عبّاس الذي من عادته الرواية عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «أيّما مصرٍ مصَّرته العرب، فليس لأحدٍ من أهل الذمّة أن يبني فيه بيعة، وما كان قبل ذلك فحقّ على المسلمين أن يقرّ لهم»(3).

وفي آخر: «أيّ مصرٍ مصَّرته العرب، فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعةً ، ولا يضربوا فيه ناقوساً»(4).

أقول: وفي الجميع نظر: إلّاأنّه إن جُعل المدرك خبر «الدعائم» وتُمّم في البِيَع بعدم القول بالفصل، وجُبر ضعفه بالعمل، وأيّد بما عن ابن عبّاس وما ذكر من أنّها بيوت ضلال كان حسناً.

وأمّا في الأرض التي فُتِحت صُلحاً، على أن تكون الأرض لهم ويؤدّون الخراج، فالظاهر أنّه يجوز لهم إحداث البيع والكنائس وبيوت النيران ومجتمع).

ص: 97


1- منتهى المطلب: ج 2/972 (ط. ق).
2- دعائم الإسلام، للقاضي النعمان المغربي المتوفّى سنة 363 ه. ق: ج 1/381 دار المعارف 1383، وعنه مستدرك وسائل الشيعة: ج 11/100 ح 12525.
3- كما حكاه العلّامة في منتهى المطلب عن ابن عبّاس: ج 2/972 (ط. ق)، وأيضاً في تذكرة الفقهاء: ج 9/340، وحكاه أيضاً في الجواهر: ج 21/281، وخرّجه فيه عن كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام ص 97 الرقم 269.
4- كما حكاه العلّامة في منتهى المطلب عن ابن عبّاس: ج 2/972 (ط. ق)، وأيضاً في تذكرة الفقهاء: ج 9/340، ورواه ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف: ج 7/664 (باب 70: ما قالوا في هدم البيع والكنائس)، المغني لابن قدامة: ج 10/609 (فصل: أمصار المسلمين على ثلاثة أقسام).

ويجوز تجديدهما.

عباداتهم، للأصل بعد عدم الدليل على المنع، وعدم الاشتراط في عقد الصلح، والظاهر أنّه لا خلاف فيه أيضاً(1).

كما أنّ الأقوى أنّه لا بأس بما كان قبل الفتح ولم يهدّمه المسلمون، وهو المشهور بين الأصحاب(2)، للأصل بعد عدم الدليل على لزوم الهدم.

ويؤيّده: ما تقدّم عن ابن عبّاس، وما نقله المصنّف رحمه الله عنه:

«أيّما مصر مصّرته العَجَم ففتحه اللّه على العرب فنزلوه، فإنّ للعجم ما في عهدهم»(3)، وأنّ الصحابة فتحوا كثيراً من البلاد عنوة، ولم يهدّموا شيئاً، بل ذكر ذلك دليلاً كما فعله المصنّف رحمه الله حَسنٌ لا من جهة حجيّة فعلهم، بل لأنّ الأئمّة عليهم السلام سيّما أمير المؤمنين عليه السلام لم ينكروا ذلك عليهم، ولم يرد بذلك رواية.

وبه يظهر صحّة الاستدلال له بحصول الإجماع لما نرى أنّها موجودة في بلاد الإسلام من غير نكير.

(و) يظهر ممّا أسلفناه أنّه إذا تصدّعت أو تهدّمت كنيسة أو بيعة ممّا لهم استدامتهما (يجوز تجديدهما).ث.

ص: 98


1- حيث أرسلها غير واحد من الأعلام إرسال المسلّمات بينهم كما في تذكرة الفقهاء للعلّامة: ج 9/342، ونفى وجود الخلاف والإشكال في المسألة صاحب الجواهر: ج 21/283.
2- بل ادّعي عليه الإجماع كما في منتهى المطلب للعلّامة: ج 2/972 (ط. ق)، وأيضاً في تذكرة الفقهاء: ج 9/341.
3- كما حكاه العلّامة في منتهى المطلب عن ابن عبّاس: ج 2/972 (ط. ق)، وأيضاً في تذكرة الفقهاء: ج 9/341، ورواه ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف: ج 7/664 (باب 70: ما قالوا في هدم البيع والكنائس)، المغني لابن قدامة: ج 10/610 (فصل: أمصار المسلمين على ثلاثة أقسام). مع اختلاف يسير في نقل الحديث.

ولا يجوز أن يعلوا الذمّي على بناء المسلمين،

وأمّا النبويّ : «لا تُبنى الكنيسة في الإسلام»(1)، فغير ثابت(2)، وعلى فرضه شموله للتجديد محلّ إشكال.

هذا كلّه في المعابد.

وأمّا المساكن: فقال المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(3) على ما حُكي: (دور أهل الذمّة على أقسام ثلاثة:

أحدها: دار مُحدَثة.

والثاني: دار مبتاعة.

والثالث: دار مجدّدة.

فالمحدثة هي أن يشتري عرصةً يستأنف فيها بستاناً، فليس له أن يعلو على بناء المسلمين إجماعاً، (و) إلى هذا القسم نظره في المقام، حيث قال: (لا يجوز أن يعلوا الذمّي على بناء المسلمين)، ونحوه ما في «المنتهى» عن «التذكرة»(4).

وفي «المسالك»(5): (المنع من العلوّ موضع وفاقٍ بين المسلمين).9.

ص: 99


1- المغني لابن قدامة: ج 10/612، والشرح الكبير: ج 10/620، المجموع: ج 19/413 وفيه زائداً (في دار) الإسلام. ونقل الحديث غير واحد من الفقهاء في كتبهم.
2- لم يرد الحديث في المصادر الحديثيّة عند الخاصّة كما مرّ، فهو إمّا مرسل أو من طرق لا يُعتمد عليها، وأمّا نقل الفقهاء له في كتبهم لا تعطيه مزية يرتقي بها درجة الحجيّة ما لم تقم قرينة على ذلك.. وهي بحسب الظاهر مفقودة في المقام.
3- منتهى المطلب: ج 2/973 (ط. ق).
4- حيث إنّه ادّعى الإجماع على ذلك - في منتهى المطلب: ج 2/973، والتذكرة: ج 9/344 مسألة 100 - مستدلّاً بالنبوي: «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه».
5- مسالك الأفهام: ج 3/79.

أقول: وقد استدلّ له بالنبوي: «الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه»(1).

وأُورد عليه: بضعف السند(2)، ولكن الصدوق يروي الخبر وينسبه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله جزماً، وقد مرّ أنّ مثل هذا المرسل حجّة، إذ الانتساب جزماً إلى المعصوم يكشف عن ثبوت صدوره عنه عند المُرسِل، وإلّا لزم الكذب، إلّاأنّ في دلالته تأمّلاً، فإنّه يحتمل معانٍ خمسة:

أحدها: بيان كون الإسلام أشرف المذاهب.

الثاني: بيان أنّه يعلو من حيث الحجّة والبرهان.

الثالث: أنّه يعلو بمعنى أنّه يغلب على سائر الأديان.

الرابع: أنّه لا يُنسخ.

الخامس: ما فهمه الفقهاء، وهو إرادة بيان الحكم الشرعي الجعلي بعدم علوّ غيره عليه.

والاستدلال يتوقّف على إرادة المعنى الخامس، وهو لو لم يكن خلاف الظاهر نظراً إلى أنّ إرادة الإنشاء من مثل هذه الجملة الخبريّة خلاف الظاهر، لا أقلّ من مساواته للاحتمالات الاُخر، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

أضف إليه: أنّه لو سلّمنا ظهوره في الأخير، لا يدلّ على المطلوب، فإن ارتفاع بناءدار الذمّي عليدار المسلم ليس استعلاءً على الإسلام، بل ولا على المسلم، وبذلك يظهر عدم صحّة الاستدلال بقوله تعالى: «وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ » (3)، فإنّ انخفاض بناء المسلم عن بناء الذمّي ليس ذلّاً كي تنفيه الآية الكريمة.8.

ص: 100


1- الفقيه: ج 4/334 ح 5719، وسائل الشيعة: ج 26 ص 14 ح 32383.
2- ممّن ذهب إلى القول بضعف سنده اُستاذ المصنّف آية اللّه الخوئي قدس سره في مصباح الفقاهة في بحث بيع المصحف من الكافر: ج 2/752.
3- سورة المنافقون: الآية 8.

ويقرّ ما ابتاعه من مسلمٍ على حاله.

(و) على هذا، فلا إشكال في أنّه (يقرّ ما ابتاعه من مسلم على حاله) من العلوّ كما صرّح به غير واحدٍ منهم المصنّف رحمه الله، لا لما علّله المصنّف رحمه الله(1) بأنّه ملكه كذلك، فلا يندرج في المنع عن العلو على المسلم، ولذا لا يجوز هدمها، فإنّه محلّ نظر، إذ لو سُلّم دلالة الخبر لا ريب في ظهوره في الأعمّ ، بل لأنّ المدرك منحصرٌ في الإجماع والمتيقّن منه غير ذلك.

كما ظهر أنّه لو انهدم البناء العالي من أصله، أو خصوص ما علا به، جاز أن يعلو به على المسلم، وظهر أيضاً أنّه يجوز المساواة.

ولو سُلّم دلالة الخبر على عدم جواز العلوّ، فهل يجوز المساواة أم لا؟

قد يقال: إنّ بداية الحديث يدلّ على منع المساواة، وآخره يدلّ على جوازها.

ولكنّه يرد عليه: ما أفاده المحقّق الثاني بقوله: (أوّله يدلّ مطابقةً ، وآخره يشعر بمفهومه الضعيف، ومثل هذا كيف يعدّ دلالةً ، خصوصاً مع التصريح في أوّله بمنع المساواة)(2).

***3.

ص: 101


1- كما في منتهى المطلب: ج 2/973 (ط. ق)، وتذكرة الفقهاء: ج 9/346.
2- جامع المقاصد: ج 3/463.

ولا يجوز أن يدخلوا المساجد.

منع أهل الكتاب من دخول المساجد

المسألة الثامنة: (ولا يجوز أن يدخلوا المساجد) عندنا كما في «الشرائع»(1)، وعن «التحرير»(2) و «كنز العرفان»(3).

وفي «المسالك» بإجماع الإماميّة(4).

وقد استدلّ له الفاضل المقداد(5) بنصوص أهل البيت عليهم السلام.

لكن قال صاحب «الرياض»(6): (لم نقف عليها، وعلى من أشار إليها، وهو أعرف بها).

أقول: والذي وقفتُ عليه من الأخبار هو خبران:

أحدهما: ما رواه الراوندي بسنده عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: ليمنعن أحدكم مساجدكم يهودكم ونصاراكم وصبيانكم ومجانينكم، أو ليمسخنّكم اللّه تعالى قِردةً وخنازير رُكّعاً وسُجّداً»(7).

ص: 102


1- شرائع الإسلام: ج 1/253 مسألة 144.
2- تحرير الأحكام: ج 1/151 (ط. ق).
3- كنز العرفان ص 58 في تفسيره الآية «إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » رقم 3.
4- مسالك الأفهام: ج 3/80.
5- المصدر السابق. فإنّه بعد اعتبار نجاستهم عيناً وأنّهم لو غسلوا أبدانهم أي المشركون سبعين مرّة لم يزيدوا إلّانجاسة.. قال: (لا يجوز دخولهم المسجد الحرام وكذا باقي المساجد عندنا لنصوص أهل البيت عليهم السلام).
6- رياض المسائل: ج 7/488.
7- لجعفريّات: ص 51 باب منع الصبيان من المساجد وغير ذلك، بحار الأنوار: ج 80/349 ح 2 عن نوادر الراوندي، المستدرك: ج 3/378 ح 3831.

ثانيهما: المرتضوي: «لتمنعنّ مساجدكم يهودكم ونصاراكم وصبيانكم ومجانينكم، أو ليمسخنّكم اللّه تعالى قِردةً وخنازير رُكّعاً وسُجّداً»(1).

وقال العلّامة المجلسي: (ويحتمل أن يكون القوم الممسوخة من النصاب والمخالفين، وقد مسخوا بتركهم الولاية، فلم يبق فيهم شيءٌ من الإنسانيّة، وقد مسح الصادق عليه السلام يده على عين بعض شيعته فرآهم في الطواف بصورة القردة والخنازير) انتهى (2).

وضعف سندهما ينجبرُ بالعمل، واشتمالهما على ما لا يكون محرّماً وهو دخول الصبيان والمجانين لدليل خارجي، لا ينافي بقاؤهما على إرادة الحرمة بالنسبة إلى أهل الكتاب، بعد كون الحرمة والكراهة خارجتين عن الموضوع له والمستعمل فيه، وإنّما هما ينتزعان من الترخيص في الفعل وعدمه.

أقول: وقد استدلّ له مضافاً إلى ذلك بقوله تعالى : «إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ » (3).

وتقريب الاستدلال بها: أنّ الآية وإن اختصّت بالمسجد، إلّاأنّه من جهة تفريع عدم القرب على النجاسة يستفاد الاشتراك بينه وبين سائر المساجد، مضافاً إلى عدم الفصل.

وأيضاً: الآية وإنْ اختصّت بالمشرك، إلّاأنّها تشمل أهل الكتاب:

إمّا لأنّهم مشركون على ما يستفاد من الآية الشريفة: «وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ» إلى8.

ص: 103


1- دعائم الإسلام: ج 1/149 (ذكر المساجد)، البحار: ج 80/381 ح 51، عن دعائم الإسلام، المستدرك: ج 3، 381 ح 3837.
2- بحار الأنوار: ج 80/350.
3- سورة التوبة: الآية 28.

قوله تعالى: «سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ » (1) فتأمّل.

أو لأنّه رتَّب عدم القرب على المشرك لا بما هو مشرك، بل لأنّه نجس فيشمل الحكم أهل الكتاب بناءً على نجاستهم، أو أنّ النَجَس في الآية بالفتح لا بالكسر، وهو لا يرادف النجس بالكسر، بل هو مصدرٌ لا يصحّ حمله على العين، فيتعيّن حمله على المبالغة، ويكون الحمل من قبيل: زيد عدلٌ ، فيكون الموضوع النجس على وجه المبالغة، أو أنّ المراد القذارة والخباثة النفسانيّة، وهي القذارة الحاصلة من الكفر، فيشترك المشرك مع أهل الكتاب، فتأمّل حتّى لاتبادر بالإشكال.

وأيضاً: ربما يستدلّ له بالنبوي: «جنّبوا مساجدكم النجاسة»(2).

ولكن يرد عليه: - مضافاً إلى ضعف سنده، وعدم انجباره بعمل الأصحاب - أنّه يحتمل فيه احتمالات:

إذ كما يحتمل أن يكون المراد بالمساجد الأماكن المقدّسة، يحتمل أن يكون المواضع التي تقع عليها الأعضاء السبعة حال السجود، وأن يكون خصوص موضع الجبهة.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الأدلّة عدم جواز دخولهم المساجد و لو اجتيازاً، بل عن الشيخ(3) عدم جواز دخولهم الحرم لا اجتيازاً ولا استيطاناً، واختارهج.

ص: 104


1- سورة التوبة: الآية 30 و 31، قوله تعالى: «وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اَللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ * اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ».
2- وسائل الشيعة: ج 5/229 ح 6410.
3- الخلاف: ج 5/23 مسألة 24، المبسوط: ج 2/49 قال: (وأمّا الحجاز فلا يدخلون أي أهل الذمّة الحرم منه على حال جسواء بإذن أو بدونه ج.

المصنّف(1) وغيره(2)، بل في «الجواهر»(3): (بل لا أجد خلافاً فيه بينهم).

واستدلّ له:

1 - بأنّه المراد من المسجد الحرام في الآية بقرينة قوله: «وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً » (4)إلى آخره، وقوله تعالى : «سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ » (5) مع أنّه أُسري به من بيت أُمّ هاني.

2 - وبما دلّ على تعظيم الحرم(6) على وجهٍ ينبغي تنزيهه عنهم.

3 - وإلى ما في «الدعائم» عن جعفر بن محمّد عليه السلام: «لا يدخل أهل الذمّة الحرم، ولا دار الهجرة، ويُخرَجون منها»(7) المنجبر ضعفه بالعمل.

أقول: وبعض ما ذكروه وإنْ لم يخلو عن إشكال، إلّاأنّ الحكم مسلّمٌ وفي خبر «الدعائم» كفاية.

***2.

ص: 105


1- ذكر العلّامة قدس سره مسألة عدم دخول أهل الذمّة المساجد في غير موضع من كتبه إلّاأنّه في شرائط الذمّة مسألة 185 من تذكرة الفقهاء: ج 9/315-316 اعتبر عدم صحّة الشرط الذي يجيز لهم دخول الحرم إجماعاً، ثمّ اسقرب فساد العقد أيضاً، وص 336 المسألة 196، ومثله ما في المنتهى: ج 2/968 إلّاأنّه لم يجزم ببطلان العقد، وراجع أيضاً ص 971-972 المسالة الأُولى من الفرع السابع.
2- كما هو ظاهر مجمع الفائدة والبراهان: ج 7/521.
3- جواهر الكلام: ج 21/288.
4- سورة التوبة: الآية 28.
5- سورة الإسراء: الآية 1.
6- راجع وسائل الشيعة: ج 13/221 روايات باب 13 من أبواب مقدّمات الطواف (باب وجوب احترام الحرم وحكم صيده وشجره) ح 17601 وما بعده.
7- دعائم الإسلام: ج 1/381، وعنه المستدرك: ج 11/102 ح 12532.

الثاني: من عدا هؤلاء من الكفّار يجب جهاده، ولا يقبل منه إلّاالإسلام.

وجوب قتال أهل الحرب

الصنف (الثاني): ممّن يجب على المسلمين قتالهم، هم من ليس لهم كتابٌ ولا شبهة كتاب من سائر فرق الكفّار، وهم (من عدا هؤلاء) من اليهود والنصارى والمجوس (من الكفّار) بغير خلافٍ بيننا ظاهرٍ(1) ولا محكي إلّاعن الإسكافي(2) في الصابئي فألحقه بالكتابي، وهو نادر، بل على خلافه في ظاهر «المنتهى»(3)، وصريح «الغُنية»(4) كذا في «الرياض»(5).

وكيف كان، فالكافر غير الكتابي (يجب جهاده) كما مرّ، وقد عرفت أنّ الجهاد إنّما هو بعد الدّعاء إلى الإسلام، وأنّه لا يشترط إمام الأصل أو نائبه الخاص، وغير ذلك من المباحث، حتّى الكلام في الجهاد مع سلاطين الجور في هذه الأزمنة.

أقول: الكلام في المقام في مسائل:

المسألة الأولى: أنّه لا خلاف (و) لا إشكال في أنّ غير أهل الكتاب (لا يقبل منه إلّاالإسلام)، بل عن «الغُنية»(6) الإجماع عليه، واستدلّ له فيها:

ص: 106


1- نفى الخلاف فيه صاحب الرياض: ج 7/490.
2- كما حكاه عنه في مختلف الشيعة: ج 4/431 باب أحكام أهل الذمّة، حيث عدّ ممّن يجوز أخذ الجزية منهم اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، ونقله عن المختلف في فتاوى ابن الجنيد ص 164 مسألة 2 من أحكام أهل الذمّة.
3- منتهى المطلب: ج 2/904 حيث لم يجعل من أهل الذمّة الصابئة.
4- غنية النزوع: ص 202 حيث نفى جواز أخذ الجزية من الصابئة بدليل الإجماع.
5- رياض المسائل: ج 7/490 (الثالث: من ليس لهم كتاب).
6- غنية النزوع: ص 202.

1 - بالآية الكريمة: «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » (1).

2 - وبقوله تعالى : «فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ » (2).

3 - وبقوله عزّ وجلّ : «قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ » (3).

بدعوى أنّه شرط في أخذ الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب.

ويشهد به آيات اُخر تقدّمت، ونصوص:

منها: خبر حفص المتقدّم، عن الإمام الصادق، عن الإمام الباقر عليهما السلام، أنّه قال:

«بعث اللّه محمّداً بخمسة أسياف: ثلاثة منها شاهرة فلا تُغمد حتّى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتّى تطلع الشمس من مغربها...

إلى أنْ قال: فأمّا السيوف الثلاثة المشهورة، فسيفٌ على مشركي العرب، قال اللّه عزّ وجلّ : «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» (4) إلى أنْ قال: فهولاء لا تُقبل منهم إلّاالقتل أو الدخول في الإسلام....

إلى أنْ قال: والسيف الثالث: سيفٌ على مشركي العجم يعني الترك والديلم والخَزَر، قال اللّه عزّ وجلّ في أوّل السورة التي يذكر فيها الذين كفروا قصّ قصّتهم، ثمّ قال: «فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً 5.

ص: 107


1- سورة التوبة: الآية 5.
2- سورة محمّد: الآية 4.
3- سورة التوبة: الآية 29.
4- سورة التوبة: الآية 5.

حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها» (1) ، فأمّا قوله: «فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ» يعني السبي منهم «وَ إِمّا فِداءً » يعني المفاداة بينهم وبين أهل الإسلام، فهؤلاء لن يقبل منهم إلّاالقتل أو الدخول في الإسلام، الحديث»(2).

ومنها: خبر وهب، عن الإمام الصادق، عن أبيه عليهما السلام: «القتال قتالان: قتال لأهل الشرك.. حتّى يسلموا، الحديث»(3).

ومنها: مرسل الواسطي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن المجوس أكان لهم نبيّ؟ فقال: نعم أما بلغك كتاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى أهل مكّة: أسلموا وإلّا نابذتكم بحربٍ ، فكتبوا إلى النبيّ صلى الله عليه و آله أن خُذ منَّا الجزية، ودعنا على عبادة الأوثان.

فكتب إليهم النبيّ صلى الله عليه و آله: إنّي لستُ آخذ الجزية إلّامن أهل الكتاب، فكتبوا إليه يريدون بذلك تكذيبه: زعمتَ أنّك لا تأخذُ الجزية إلّامن أهل الكتاب، ثمّ أخذت الجزية من مجوس هَجَر!

فكتب إليهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله: أنّ المجوس كان لهم نبيٌ فقتلوه، وكتابٌ أحرقوه، أتاهم نبيّهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور»(4).

ومنها: غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالّة عليه منطوقاً أو مفهوماً.

***1.

ص: 108


1- سورة محمّد: الآية 4.
2- الكافي: ج 5/10 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/25 ح 19938.
3- التهذيب: ج 4/114 ح 4، و: ج 6/144 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/28 ح 19939. وفيه: «لا ينفر عنهم حتّى يفيئوا الى أمر اللّه أو يقتلوا».
4- الكافي: ج 3/567 ح 4، التهذيب: ج 4/113 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/126 ح 20131.

ويبدأ بقتال الأقرب.

كيفيّة القتال

المسألة الثانية: (ويبدأ بقتال الأقرب) أي من يليه من الكفّار فالأقرب وجوباً، كما هو ظاهر المتن و «النافع»(1) و «الإرشاد»(2) و «التذكرة»(3) و «الدروس»(4)و «اللّمعة»(5) وغيرها، وصريح «المسالك»(6).

واستدلّ له في «المسالك»(7) بقوله تعالى: «قاتِلُوا اَلَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ اَلْكُفّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً » (6) قال: (والأمر للوجوب).

وفي «الرياض»(7): (وفيه نظر، فإنّ الأمر بمقاتلتهم غير الأمر بالبدأة بقتالهم، ولذا لم أرَ مصرّحاً بالوجوب عداه).

توضيحه: أنّه إنْ كان المأمور به البدأة بقتالهم، كانت الآية دالّة على المطلوب بالمطابقة، وإنْ كان للوصف مفهوم، أو كان المطلق والمقيّد المثبتان متنافين، وكان يُحمل المطلق على المقيّد فيهما، كانت الآية أيضاً دالّة على المطلوب، ولكن حيث

ص: 109


1- المختصر النافع ص 111 (الثالث: من ليس لهم كتاب ويبدأ بقتال من يليه إلّامع اختصاص الأبعد بالخطر).
2- إرشاد الأذهان للعلّامة: ج 1/343 المقصد الثاني في كيفيّته أي كيفيّة.
3- تذكرة الفقهاء: ج 9/58 نهاية المسألة 26.
4- الدروس: ج 2/31 قال: (ويبدأ بقتال من يليه إلّاأن يكون الأبعد أشدّ خطراً).
5- اللّمعة الدمشقيّة: ص 73 قوله: (ويبدأ بقتال الأقرب إلّامع الخطر). (6و7) مسالك الأفهام: ج 3/22 (كيفيّة قتال أهل الحرب).
6- سورة التوبة: الآية 123.
7- رياض المسائل: ج 7/492.

إلّا الأشدّ خطراً،

أنّ المأمور به قتال الأقرب، والوصف لا مفهوم له، والمطلق لا يُحمل على المقيّد في المثبتين، فلا يستفاد من الآية وجوب البدأة بمقاتلتهم، وعليه، فالأظهر كما عن الأكثر عدم الوجوب.

نعم، لا بأس بالالتزام بالتأكّد لتخصيص الأمر بقتالهم زائداً على العمومات كما في كلّ عامٍ أمر ببعض أفراده بالخصوص بعد الأمر بالعموم.

وفي «الجواهر»(1): (ولعلّه لكونه مقتضى السياسة أيضاً).

وبذلك يظهر أنّ ما في «الشرائع» من التعبير الأولى(2)، وفي الكتب المشار إليها ب (ينبغي) أحسن ما يمكن أن يعبّر به ذلك.

وعلى كلّ تقديرٍ (إلّا) إذا كان الأبعد (أشدّ خطراً) وأكثرُ ضرراً بُدأ به، كما صرّح به غير واحد.

قال صاحب «المسالك»: بعد الاستثناء: (فإنّه يسوغ له الانتقال إليه، كما فعل النبيّ صلى الله عليه و آله بالحارث بن أبي ضرار لما بلغه أنّه يجمع له، وكان بينه وبينه عدوٌّ أقرب منه، وبخالد بن سفيان كذلك، ومثله في جواز الانتقال إلى الأبعد ما إذا كان الأقرب مهادناً لا ضرر منه)(3). انتهى.

فالمتحصّل: أنّه ينبغي لولي الأمر مراعاة المصلحة، وهي تختلف باختلاف الأحوال، وبذلك يظهر حال الأقرب فالأقرب، فإنّ ذلك من أحكام السياسة3.

ص: 110


1- جواهر الكلام: ج 21/50.
2- شرائع الإسلام: ج 1/235 الركن الثاني: في بيان من يجب جهاده، (الطرف الثاني).
3- مسالك الأفهام: ج 3/22-23.

وإنّما يُحاربون بعد الدّعاء من الإمام أو مَن نصبه إلى الإسلام، فإنْ امتنعوا حَلَّقتالهم.

المنوطة إلى رأي الوالي.

المسألة الثالثة: (وإنّما يُحاربون بعد الدّعاء من الإمام، أو من نصبه إلى الإسلام، فإن امتنعوا حلَّ قتالهم) وقد مرّ الكلام في ذلك مستوفىً أوّل الكتاب، فراجع.

***

ص: 111

ويجوز المهادنة.

جواز المهادنة

المسألة الرابعة: في المهادنة، وهي كما في «الشرائع»(1) وعن «المنتهى»(2)و «التذكرة»(3) و «التحرير»(4): المعاقدة على ترك الحرب مدّة معيّنة بعوضٍ أو غير عوض.

وما في «القواعد»(5): من أنّها عبارة عن (ترك الحرب مدّة من غير عوض)، يراد منه عدم اعتبار العوض، ففي «جامع المقاصد»: (أنّ المراد منه أنّ المهادنة مبنيّة وموضوعة على عدم العوض، وإن جاز اشتراطه، وأراد به أنّه ليس كالجزية من شرطها العوض، فيجوز بعوض، لأنّه شرط سائغ لا ينافي مقصود المهادنة، فيجوز اشتراطه للعموم)(6) انتهى .

(و) كيف كان، ف (يجوز المهادنة) بلا خلافٍ فيه في الجملة، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(7).

ص: 112


1- شرائع الإسلام: ج 1/254، الخامس في المهادنة وهي..
2- منتهى المطلب: ج 2/973 (ط. ق) المسألة الاُولى من المقصد السابع: في المهادنة وأحكامها..
3- تذكرة الفقهاء: ج 9/352، المبحث الخامس: في المهادنة، مسألة: 205.
4- تحرير الأحكام: ج 2/216 (ط. ج) الفصل السابع: في المهادنة وتبديل أهل الذمّة...
5- قواعد الأحكام: ج 1/516، المطلب الرابع في المهادنة.
6- جامع المقاصد: ج 3/466-467.
7- حكاه في الجواهر: ج 21/113، ونسبه إلى العلّامة في المنتهى وهو مختاره فيها: ج 2/974 إلّاأنّه قال: (لم يجز للإمام أن يهادنهم أكثر من سنة.. وقيّدها في التذكرة بأربعة أشهر: ج 9/355 إلّاأنّه مع الضعف في المسلمين تجوز الزيادة على السنة).

ويشهد به: قوله تعالى : «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ » (1).

الجنوح: الميل(2).

والسّلم: الصلح(3).

والتوكّل: سلب الاعتماد القلبي عن الأسباب الظاهريّة لا إلغاؤها.

فالمعنى أنّه لو مالوا إلى الصلح والمسالمة فمُل إليها، وتوكّل في ذلك على اللّه، ولا تخف من ظهور أسباب غير ظاهرة على غفلةٍ منك.

وفي «كنز العرفان»: (قال ابن عبّاس: هي منسوخة بقوله: «قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ» (4) وقال الحسن وقتادة ومجاهد: منسوخة بقوله تعالى: «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » (5).

والحقّ أنّها غير منسوخة لتعلّق الصلح برأي الإمام وبحسب المصالح المتجدّدة، ويدلّ على عدم نسخها أنّ قوله: «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ » (6) نزلت في سنة سبع، وبعث بها رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى مكّة ثمّ صالح أهل نجران على ألفي حُلّة، ألفٍ في صفر وألفٍ في رجب)(5) انتهى .

ص: 113


1- سورة الأنفال: الآية 61.
2- كما في مجمع البحرين: ج 2/347، مادّة (جنح).
3- قال في مجمع البحرين: ج 6/89: (والسلم: - بكسر السين وفتحها - الصلح) مادّة (سلم).
4- سورة التوبة: الآية 29. (5و6) سورة التوبة: الآية 5.
5- كنز العرفان: ص 352، (الثالثة عشر: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها...» سورة الأنفال: الآية 61).

مع المصلحة.

ويشهد به أيضاً: قوله تعالى: «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ » (1) ووقوع الهدنة من النبيّ صلى الله عليه و آله مع قريش وأهل مكّة وغيرهم ممّا رواه الفريقان، فلا إشكال في الحكم في الجملة.

أقول: وتمام الكلام في طيّ فروع:

الفرع الأوّل: إنّما يجوز المهادنة (مع المصلحة) للمسلمين، إمّا لقلّتهم عن المقاومة، أو لما يحصل به زيادة القوّة، أو لرجاء الدخول في الإسلام مع التربّص أو غير ذلك، ولا تجوز مع عدم المصلحة:

1 - لعموم الأمر بقتلهم مع الإمكان في الكتاب والسُنّة على وجهٍ لا يعارضه إطلاق دليل الصلح المحمول على غير الفرض.

2 - ولقوله تعالى : «فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى اَلسَّلْمِ وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ وَ اَللّهُ مَعَكُمْ » (2)، و (تدعوا إلى السَّلم) معطوفٌ على (تهنوا) وواقعٌ في حيّز النهي، (وأنتم الأعلون) جملة حاليّة، والمراد بالعلوّ هي الغلبة، وهي استعارة مشهورة.

فالمعنى لا تقدموا على الصلح والحال أنّكم غالبون.

وهل يعتبر الضرورة أم تكفي المصلحة ؟ وجهان:

ربما يقال بالأوّل كما عن المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(3)، لقوله تعالى: «قاتِلُواف.

ص: 114


1- سورة التوبة: الآية 4.
2- سورة محمّد: الآية 35.
3- منتهى المطلب: ج 2/975 (ط. ق)، بتصرّف.

اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ... حَتّى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ » (1) ، ولأنّ فيها هواناً وصغاراً، أمّا مع الضرورة فإنّما صرنا إلى الصغار دفعاً لصغار أعظم منه من القتل والسّبي والأسر الذي يفضي إلى كفر الذريّة، بخلاف غير الضرورة.

ولكن آية الصلح أخصّ من آية القتال، فتقدّم عليها، والهدنة مع المصلحة لازمها كون مصلحة ترك القتال أقوى من مصلحة القتال، فلا محالة يكون مقدّماً.

وقد يقال: إنّ مراد المصنّف من الضرورة هو المصلحة، ففي «جامع المقاصد»:(2)

(قد يقال قوله: «فإن لم تكن حاجة» مغنٍ عن قوله: «ولا مضرّة».

الفرع الثاني: هل المهادنة في فرض جوازها جائزة فقط، أم تكون واجبة ؟

ظاهر المتن و «الشرائع»(3)، وصريح «المنتهى »(4) و «التحرير»(5)و «التذكرة»(6) الأوّل.

و في «القواعد»(7): (وهي جائزة مع المصلحة للمسلمين، وواجبة مع حاجتهم إليها).

وقد استدلّ للأوّل(8): بأنّه مقتضى الجمع بين الأمر بها، المؤيّد بالنهي عن الإلقاء باليد في التهلكة(9)، وبين الأمر بالقتال حتّى يلقى اللّه شهيداً، عملاً بقوله5.

ص: 115


1- سورة التوبة: الآية 29.
2- جامع المقاصد: ج 3/468.
3- شرائع الإسلام: ج 1/254: (الخامس: في المهادنة وهي.. جائزة إذا تضمّنت مصلحة.. الخ).
4- منتهى المطلب: ج 2/973 (ط. ق).
5- تحرير الأحكام: ج 2/216.
6- تذكرة الفقهاء: ج 9/352 مسألة 205 قوله: (وهي [المهادنة] جائزة بالنصّ والإجماع).
7- قواعد الأحكام: ج 1/516، المطلب الرابع.
8- وهو استدلال العلّامة في التذكرة، المصدر السابق، بتصرّف.
9- كما في قوله تعالى : «وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ » سورة البقرة: الآية 195.

تعالي : «وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ » (1) بحمل الأوّل على الرّخصة في ذلك.

قال(2): (وكذلك فعل مولانا الحسين عليه السلام، والنفر الذين وجّههم رسول اللّه صلى الله عليه و آله إلى هُذَيل وكانوا عَشَرة فقاتلوا حتّى قُتلوا، ولم يفلت منهم إلّاخُبيب).

والشهيد الثاني رحمه الله في «المسالك» نقل ذلك عن «المنتهى » ولم يردّه، وظاهره تسليمه(3).

أقول: أمّا الجمع بين الآيتين بما ذُكر فغريبٌ بعد كون النسبة هو العموم المطلق، بل يمكن أن يقال إنّ ظهور آية القتال في غير مورد الهدنة.

وأمّا الاستدلال بفعل سيّد الشهداء عليه السلام فأغرب، فإنّه لم يكن في تركه القتال والهدنة مع ابن زياد أو يزيد مصلحة أصلاً، كيف وأنّ في شهادته إحياء الدين قطعاً وإبقاء للشيعة، بل الشريعة بلا كلام، مع أنّه يمكن أنّه عليه السلام كان عالماً بأنّه مقتولٌ شهيد على كلّ تقدير، وأنّهم عازمون على قتله كما هو الظاهر من أفعالهم وأحوالهم وكفرهم وعنادهم، ولعلّ حال العشرة المذكورين أيضاً كذلك.

ومع ذلك كلّه يمكن أن يقال: إنّه لا يستفاد من الأمر بالصلح الوجوب، لوروده مورد توهم المنع، بعد ورود الأمر بالقتال مع التحذير من تركه، فلا يستفاد من الآية الكريمة سوى المشروعيّة، وحينئذٍ فعلى وليّ أمر المسلمين ملاحظة أقوى الملاكين، فإن كان القتال مؤدّياً إلى ذهاب بيضة الإسلام، وكفر الذريّة، وجبت الهدنة، وإلّا فلا، وعليه فما في «القواعد» أظهر.6.

ص: 116


1- سورة البقرة: الآية 190.
2- العلّامة في التذكرة، المصدر السابق.
3- مسالك الأفهام: ج 3/82، إلّاأنّه نقل كلام العلّامة في القواعد وفي التذكرة ولم ينقل كلامه في المنتهى ، ولم يرد كلام التذكرة، فظاهره موافقته فيه. راجع التذكرة: ج 9/352 مسألة 205، والقواعد: ج 1/516.

بإذن الإمام.

الفرع الثالث: يعتبر أن يكون عقد الصلح (بإذن الإمام) أو نائبه المنصوب لذلك، كما هو المعروف.

وفي «الرياض»(1): (بلا خلافٍ أجده)، وفي «المنتهى»(2): (لا نعلم فيه خلافاً).

وعلّله المصنّف رحمه الله بأنّ ذلك يتعلّق بنظر الإمام، وما يراه من المصلحة، فلم يكن للرعيّة تولية، وبأنّ تجويزه من غير الإمام يتضمّن إبطال الجهاد بالكليّة أو إلى تلك الناحية، ولو وسّع النائب ليشمل نائب الغيبة كان ما ذُكر تامّاً.

الفرع الرابع: لا فرق في الكافر الذي يكون طرف المهادنة بين أهل الكتاب وغيرهم، لإطلاق الأدلّة.

الفرع الخامس: مع الضعف في المسلمين يجوز المهادنة بحسب مايراه وليّ الأمر، ولو إلى عشر سنين، لإطلاق الأدلّة.

وما عن الشيخ(3) والإسكافي(4) وفي «القواعد»(5) من التحديد بالعشر سنين مستدلّاً بآية القتال، المقتصر في الخروج منه على العشر سنين، لمصالحة النبيّ صلى الله عليه و آله قريشاً قدرها، ضعيفٌ ، إذ أدلّة مشروعيّة المهادنة مطلقة، فيرجع فيه إلى رأي وليّ الأمر، وفعل النبيّ صلى الله عليه و آله لا يوجب التقيّيد بعد احتمال كونه الأصلح في ذلك الوقت.7.

ص: 117


1- رياض المسائل: ج 7/497.
2- منتهى المطلب: ج 2/977 قوله: (عقد الذمّة والهدنة لا يصلح إلّامن الإمام أو نائبه بلا خلافٍ نعلمه).
3- المبسوط: ج 2/51.
4- حكاه عنه صاحب الجواهر: ج 21/298.
5- قواعد الأحكام: ج 1/517.

وأمّا مع قوّة المسلمين فعن غير واحدٍ من الأساطين(1) الإجماع على جواز الهدنة إلى أربعة أشهر، وهو الحجّة فيه، وإلّا فما استدلّ به له - من قوله تعالى : «بَراءَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى اَلَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي اَلْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» (2) وكان ذلك عند منصرف رسول اللّه صلى الله عليه و آله من تبوك في أقوى ما كان، وصالحهم صفوان بعد الفتح أربعة أشهر - قابلٌ للمناقشة.

فإنّ ذلك إمهال لهم على وجه التهديد والتوعد لخصوص من عاهدوا من المشركين، لأنّه عقد هدنة أربعة أشهر، هكذا قيل، وفي الآية كلامٌ ، وهو أنّ الظاهر منها عدم ارتباطها بهذه المسألة، فإنّ الآية تدلّ على بطلان العهد، ورفع الأمان عن جماعة من المشركين الذين كانوا قد عاهدوا المسلمين، ثمّ نقضه أكثرهم، ولم يبق وثوق بالباقين منهم تطمئن به النفس إلى عهدهم، وتأمن شرّهم، وجعلهم في مأمن في أربعة أشهر حتّى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من الإسلام والبقاء على الشرك والفناء بالقتال، مع أنّه في أربعة أشهر احتمالات ليس المقام مقام ذكرها.

وعليه، فالعمدة هو الإجماع، فلو ناقش فيه أحدٌ يتعيّن له البناء على عدم الجواز، ولذا لا تجوز أكثر من سنة قطعاً، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل عن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(3).4.

ص: 118


1- حكى الإجماع العلّامة في المنتهى: ج 2/974 (ط. ق) حيث قال: (يجوز له أن يهادنهم أربعة أشهر فما دون إجماعاً)، وكذلك في التذكرة: ج 9/355 مسألة 206.
2- سورة التوبة: الآية 1-2.
3- ادّعى الإجماع العلّامة في المنتهى: ج 2/974 بقوله: (إذا اقتضت المصلحة المهادنة وكان في المسلمين قوّة لم يجز للإمام أن يهادنهم أكثر من سنة إجماعاً). ونفى الخلاف عنه الشيخ في المبسوط: ج 2/50-51، وحكى الشهرة المحقّق في الشرائع: ج 1/254.

وأيضاً: هل تجوز أكثر من أربعة أشهر ودون السنة ؟

في «الشرائع»(1): (قيل لا، لقوله تعالي : «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ » (2).

وقيل نعم، لقوله تعالى : «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» (3).

ولكن صاحب «الجواهر»(4) لم يعرف القائل به منّا، وعلى أيّ حال قد مرّ أنّ آية الصلح لا ربط لها بما هو محلّ الكلام، فالمتعيّن هو عدم الجواز.

الفرع السادس: لا تصحّ المهادنة مطلقاً لاقتضائها التأبيد، وهو مخالفٌ لجميع آيات القتال، إلّاأن يشترط الولي لنفسه الخيار في النقض متى شاء.

قالوا(5): ولا تصحّ إلى مدّة مجهولة، معلّلاً بمعلوميّة اعتبار المعلوميّة في كلّ أجلٍ اشترط في العقد.

أقول: والحقّ أنّ المراد بالمعلوميّة:

إنْ كان ماله واقعٌ معيّن، فاعتبارها واضح، فإنّ ما يقابلها وهو التردّد لا حقيقة له ولا واقع.

وإنْ كان ما ظاهرها وهو ما يقابل الجهل، فالظاهر أنّه لا دليل عليه، إلّاأن يتمّ ما أفاده في «الجواهر» بإمكان دعوى الإجماع على ذلك، وعليه فلو اشترط ذلك في المدّة المعلومة له مطلقاً صحّ ، كما صرّح به الشيخ رحمه الله، للعمومات وعدم المخصّص، ويؤيّده النبويّ :).

ص: 119


1- الشرائع: ج 1/254.
2- سورة التوبة: الآية 5.
3- سورة الأنفال: الآية 61.
4- راجع الجواهر: ج 21/298.
5- كما حكاه في الجواهر: ج 21/299 عن الشيخ والعلّامة وهو مختار المحقّق، ثمّ قال: (بل لا أجد فيه خلافاً بينهم).

«أنّه لمّا فُتح خيبر عنوةً بقي حصنٌ فصالحوه على أن يقرّهم ما أقرّهم اللّه، فقال لهم: نُقرّكم على ما شئنا»(1).

الفرع السابع: ويجبُ الوفاء لهم بالمدّة ما داموا هم كذلك، بلا خلافٍ ولا إشكال.

ويشهد به: - مضافاً إلى أنّ ذلك من لوازم التقوى الديني - قوله تعالى : «فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ » (2)، وقوله عزّ وجلّ : «فَمَا اِسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ » (3)، وقوله تعالى : «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2).

وفي «القواعد»(3): (ولو استشعر الإمام الخيانة، جاز له أن ينبذ العهد إليهم وينذرهم) انتهى .

ويشهد به: الآية الشريفة: «وَ إِمّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ » (4)، فإنّ الظاهر منها أنّه إنْ خفتَ من قومٍ بينك وبينهم عهد أن يخونوك، وينقضوا عهدهم، ولاحت آثارٌ دالّة عليه، فألق إليهم عهدهم، وأعلمهم إلغاء العهد، لتكونوا أنتم وهم سواء في نقض العهد، أو تكون مستوياً على العدل، فإنّ المعاملة بالمثل من العدل.

الفرع الثامن: قد عرفت أنّه يجوز اشتراط العوض في العقد، لعموم الوفاء به، ولا فرق في ذلك بين شرط العوض للكافرين أو المسلمين.

***8.

ص: 120


1- نقله الشيخ قدس سره في المبسوط: ج 2/51، والعلّامة في التذكرة: ج 9/357، وصاحب الجواهر: ج 21/299 نسبه إلى طرق العامّة. (2و3) سورة التوبة: الآية 4 و 7.
2- سورة المائدة: الآية 1.
3- قواعد الأحكام: ج 1/517.
4- سورة الأنفال: الآية 58.

الذمام والأمان

المسألة الخامسة: في الذمام والأمان.

قال صاحب «جامع المقاصد»(1): الأمان عبارة عن ترك القتال إجابة لسؤال الكفّار بالإمهال، كذا قال في «المنتهى»(2).

وعن «الروضة»(3): (وهو الكلام وما في حكمه الدالّ على سلامة الكافر نفساً ومالاً إجابةً لسؤاله).

أقول: ولكن الظاهر كما أفاده في «الجواهر»(4) عدم اعتبار السؤال فيه، ولا كونه على النفس والمال، بل هو على حسب ما يقع فيهما أو في أحدهما أو غير ذلك.

وكيف كان، فلا خلاف في مشروعيّته بيننا، بل عن «المنتهى» بين المسلمين، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(5).

ويشهد بها: - مضافاً إلى ذلك -:

1 - قوله تعالى : «وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ اِسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ » (6).

2 - ومعتبر السكوني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال: قلت له: ما معنى قول

ص: 121


1- جامع المقاصد: ج 3/428. المقصد الرابع: في ترك القتال.
2- منتهى المطلب: ج 2/913. المقصد الثالث: في عقد الأمان. م 1.
3- شرح اللّمعة: ج 2/396، المقصد الثاني: في ترك القتال.
4- جواهر الكلام: ج 21/92، الطرف الثالث: في الذمام والأمان.
5- منتهى المطلب: ج 2/913. المقصد الثالث: في عقد الأمان. م 1، قال: (وهو جائز إجماعاً)، وكذا في التذكرة: ج 9/85.
6- سورة التوبة: الآية 6.

النبيّ صلى الله عليه و آله: يسعى بذمّتهم أدناهم ؟ قال: لو أنّ جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين، فأشرف رجلٌ فقال: أعطوني الأمان حتّى ألقى صاحبكم واُناظره فأعطاهم أدناهم الأمان، وجبَ على أفضلهم الوفاء به)(1).

3 - وخبر مسعدة بن صدقة، عنه عليه السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام أجاز أمان عبدٍ مملوك لأهل حصنٍ من الحصون، وقال: هو من المؤمنين»(2).

4 - وخبر عبد اللّه بن سليمان: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: ما من رجلٍ آمِنَ رجلاً على ذمّة ثمّ قتله إلّاجاء يوم القيامة يحمل لواء الغَدر»(3).

5 - والمرتضوي: «من ائتمنَ رجلاً على دمه ثمّ خاس به، فأنا من القاتل برىء، وإنْ كان المقتول في النار»(4).

6 - والنبويّ المشهور: «المؤمنون بعضهم أكفّاء بعض، تتكافؤ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم»(5).

7 - وخبر الثمالي، عنه عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في حديثٍ : «أيّما رجلٍ من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحدٍ من المشركين فهو جار حتّى يسمع كلام اللّه، فإن تبعكم فأخوكم في الدِّين، وإنْ أبى فأبلغوه مأمنه، واستعينوا باللّه عليه»(6).5.

ص: 122


1- الكافي: ج 5/30 ح 1، التهذيب: ج 6/140 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/66 ح 19997.
2- الكافي: ج 5/31 ح 2، التهذيب: ج 6/140 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/67 ح 19998.
3- الكافي: ج 5/31 ح 3، التهذيب: ج 6/140 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/67 ح 19999.
4- التهذيب: ج 6/175 ح 27، وسائل الشيعة: ج 15/68 ح 20002.
5- الكافي: ج 1/403 ح 2، وسائل الشيعة: ج 29 ص 76 ح 35187، مع اختلاف يسير بين ألفاظ الكافي ووسائل الشيعة والمستدرك.
6- الكافي: ج 5/27 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/58 ح 19985.

ونحوهما خبر محمّدبن حمران وجميل جميعاًعنه عليه السلام(1)، وخبرجميل الآخر(2).

والمراد بنظره إليه جواره له، بل الظاهر لحوق شُبهة الأمان به، لاحظ الخبر الذي رواه محمّد بن الحكم، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان، فقالوا لا، فظنّوا أنّهم قالوا نعم، فنزلوا إليهم كانوا آمنين»(1). ونحوها غيرها.

وعليه، فلا إشكال في الحكم.

***

أركان الذمام والأمان

أقول: وتنقيح القول في المقام بالبحث في مطلبين:

المطلب الأوّل: في الأركان

وهي أربعة:

الركن الأوّل: العاقد، ويعتبر فيه البلوغ والعقل بلا خلاف:

1 - لحديث رفع القلم عن المجنون والصبي(2).

2 - ولما دلّ على أنّ عمد الصبي خطأ(3).

وممّايعتبرفيه الاختيارفلاعبرة بأمان المُكرَه إجماعاً محكيّاً في «المنتهى»(4)، بل ومحصّلاً كما في «الجواهر»(5)، وهو الحجّة فيه.

ص: 123


1- الكافي: ج 5/31 ح 4، التهذيب: ج 6/140 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/68 ح 20000.
2- وسائل الشيعة: ج 28/23 ح 34121.
3- وسائل الشيعة: ج 29/400 روايات باب حكم عمد المعتوه والمجنون والصبي والسكران ابتداءً ، من ح 35858، وقريبٌ منه ج 29 أيضاً ص 90 ح 35225.
4- منتهى المطلب: ج 2/914 (ط. ق) أواخر الصفحة، وأيضاً في التذكرة: ج 9/89.
5- جواهر الكلام: ج 21/94 قوله: (إذ لا عبرة بأمان المكره إجماعاً... الخ).

ويمضي ذمام آحاد المسلمين، وإنْ كان عبداً لآحاد المشركين.

أضف إليه: ما دلّ على رفع ما استكرهوا عليه(1)، وظهور الأدلّة في المختار.

وأيضاً: يعتبر فيه الإسلام، فلا عبرة بأمان الكافر وإنْ كان يقاتل مع المسلمين.

ويشهد به: خبر «دعائم الإسلام»، عن الإمام الباقر عليه السلام: «وإن آمنهم ذمّيٌ أو مشرك كان مع المسلمين في عسكرهم فلا أمان له»(2) المنجبر ضعفه بالعمل.

أقول: ولا يعتبر في تحقّق الذمام:

1 - الحُريّة، فيمضي ذِمام العبد، وخبر مسعدة المتقدّم شاهد به.

2 - الذكوريّة، ويشهد به - مضافاً إلى إطلاق الأدلّة - ما دلّ على أنّ زينب بنت رسول اللّه صلى الله عليه و آله أجارت زوجها العاص بن الربيع وأمضاه رسول اللّه صلى الله عليه و آله(3).

وما تضمّن قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأُمّ هاني: «قد آجرنا من آجَرتِ يا اُمّ هاني، إنّما يجيرُ على المسلمين أدناهم»(4).

(و) على الجملة فلا يعتبر شيء آخر غير ما مرَّ، ف (يمضي ذمام آحاد المسلمين) البالغين العاقلين، (وإنْ كان عبداً) أو امرأة (لآحاد المشركين)، بشرط أن5.

ص: 124


1- وسائل الشيعة: ج 15/369 باب 56 من أبواب جهاد النفس، ابتداءً من ح 20769، ج 23/224 باب 12 من كتاب الإيمان من ح 29425 و ص 235 باب 16 منه ح 29464...
2- دعائم الإسلام: ج 1/378، المستدرك: ج 11/129 ح 12623.
3- ذكر قصّة استجارت أبا العاص بن الربيع بزينب وإجارته لها العلّامة في البحار: ج 19/352 في باب غزوة بدر، وأيضاً ج 20/373 باب غزوة الحديبيّة وبيعة الرضوان، وفي شرح نهج البلاغة: ج 14/194، القول فيما جرى في الغنيمة...
4- في رواية شرح نهج البلاغة: ج 10/78 (نسب جعدة بن هبيرة)، قال صلى الله عليه و آله: (أجرنا من آجرتْ أُمّ هاني وآمنّا مَن آمنتْ ، فلا سبيل لك عليهما)، وقريب منه ما نقله العلّامة في منتهى المطلب: ج 2/914 (ط. ق)، وعنه في الجواهر: ج 21/95.

يكون مختاراً.

والمراد بالآحاد العدد اليسير، وهو يُطلق على العشرة فما دون، كما صرّح به غير واحد.

وفي «جامع المقاصد»(1): (المراد بآحاد الكفّار العدد اليسير كالعشرة والقافلة القليلة والحصن الصغير، وقد رُوي عن الصادق عليه السلام أن عليّاً أجاز أمان عبدٍ مملوكٍ لأهل حصن، وقال: إنّه من المؤمنين).

أشار بذلك إلى خبر مسعدة المتقدّم، وليس في الخبر تقييدٌ الحصن بالصغير.

أقول: ومن الغريب ما قاله صاحب «الشرائع»(2) بقوله: (وفعلُ عليّ عليه السلام قضيّة في واقعة فلا يتعدّى)!.

فإنّه يرد عليه أوّلاً: أنّه علّله بتعليل عام.

وثانياً: أنّ الإمام الصادق عليه السلام ينقل فعله عليه السلام لبيان الحكم لا لغير ذلك فالأشبه أنّه لذمّ قرية أو حصن.

نعم، لا يصحّ الذمام عامّاً ولا لأهل إقليم ولا لبلدٍ، إلّامن الإمام أو من نصَّبه خاصّاً أو عامّاً كنائب الغيبة حسب ما يراه من المصلحة.

أمّا عدم صحّته من غيره: فلعموم أدلّة القتال المقتصر في تخصيصها بما هو المنساق من الروايات المتقدّمة، فإنّ أكثرها في الآحاد، وبعضها في القوم والحصن.

وأمّا صحّته من الإمام أو نائبه: فلأنّ ولايته عامّة، والأمر موكولٌ إليه في ذلك ونحوه.

الركن الثاني: العقد: وهو مركّبٌ من إيجابٍ من المسلم وقبولٍ من الكافر،8.

ص: 125


1- جامع المقاصد: ج 3/429.
2- شرائع الإسلام: ج 1/238.

ويكفي فيهما كلّ ما دلّ من لفظٍ صريح أو كنائي أو فعلٍ دال على هذا المعنى، لعموم قوله صلى الله عليه و آله: «يسعى بذمّتهم أدناهم»، بل وإطلاق سائر النصوص، بل الآية الكريمة.

وعن «الدعائم» عن الإمام الصادق عليه السلام: «الأمان جائزٌ بأيّ لسانٍ كان»(1).

وعنه، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «إذا أومأ أحدٌ من المسلمين أو أشار بالأمان إلى أحدٍ من المشركين فنزل على ذلك، فهو في أمان»(2).

ولو ردّ الحربي ثمّ قبل، فان لم يكن المؤمن باقياً على أمانه لم ينعقد، وإلّا فالأظهر انعقاده، لإطلاق الأدلّة، وعليه فما في «القواعد»(3) من عدم الانعقاد غير ظاهر الوجه.

الركن الثالث: في المعقود عليه، وهو كلّ من يجبُ جهاده من مشركٍ أو ذمّيٍ خارق للذمّة، فإنّ الآية وجملةٍ من النصوص وإنْ اختصّت بالمشرك، إلّاأنّ بعض النصوص مطلقة تشمل الذمّي، وفي مثلها لا يُحمل المطلق على المقيّد.

الركن الرابع: في الوقت، فهو قبل الأسر بلا خلافٍ ، فلا يجوز لآحاد المسلمين بعده، وعن «المنتهى»(4) نسبته إلى علمائنا.

وهو الظاهر من الأدلّة، فإنّ المنساق منها أنّ الأمان للمسلمين ما دام الامتناع، حتّى ولو أشرف جيش الإسلام على الغلبة والنصر.

***).

ص: 126


1- دعائم الإسلام: ج 1/378، ذكر الأمان، مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/46 ح 12392.
2- دعائم الإسلام: ج 1/378، ذكر الأمان، مستدرك وسائل الشيعة: ج 1/45 ح 12391.
3- قواعد الأحكام: ج 1/502، قال: (ولابدّ من قبول الحربي إمّا نطقاً أو اشارةً أو سكوتاً، أمّا لو ردّ لم ينعقد)، انتهى .
4- منتهى المطلب: ج 2/915 (ط. ق) حيث ادّعى الإجماع على انعقاد الأمان قبل الأسر، وأمّا بعده قال قال: (عند علمائنا لا يصحّ ).

ويُردُّ من دخل بشُبهة الأمان إلى مأمنه، ثمّ يقاتل.

المطلب الثاني: في الأحكام

(ويُردُّ من دَخل بشبهة الأمان إلى مأمنه ثمّ يقاتل) بلا خلافٍ ظاهر ولا منقول، وخبر محمّد بن الحكم(1) المنجبر ضعفه بالعمل شاهدٌ به، وهو وإن ورد في بعض أفراد الشبهة، إلّاأنّه بعدم القول بالفصل يثبت الكليّة المشار إليها، فمناقشة سيّد «الرياض»(2) في الخبر سنداً ودلالةً في غير محلّها.

أقول: ويأتي بقيّة أحكامه عند تعرّض المصنّف رحمه الله لها.

***9.

ص: 127


1- الكافي: ج 5/31 ح 4، التهذيب: ج 6/140 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/68 ح 20000.
2- راجع رياض المسائل: ج 7/499.

ولا يجوز الفرار إذا كان العدو على الضعف من المسلمين.

عدم جواز الفرار إذا كان العدو على الضعف

المسألة السادسة: (ولا يجوز الفرار إذا كان العدو على الضعف من المسلمين) أو أقلّ بلا خلافٍ في الجملة، للجملتين كالمائة والمائتين، والألف والألفين على الظاهر المصرّح به في «التنقيح»(1)، كما في «الرياض»(2)، والمستند على هذا الحكم هو الكتاب والسُنّة:

أمّا الكتاب:

1 - فقوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ * وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ» (3).

اللِّقاء: الاجتماع على وجه المقاربة.

الزحف: الدنوّ قليلاً قليلاً، والتزاحف: التداني.

وتولية الأعداء هو الإدبار: جعلهم يلونها، وهو استدبار العدو واستقبال جهة الهزيمة، وخطاب الآية عام غير مختصّ بوقتٍ ، فمفاد الآية: يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا لقاء زحفٍ أو زاحفين للقتال، فلا تفرّوا منهم، ومن فرّ فقد رجع، ومعه غضب من اللّه ومأواه جهنّم وبئس المصير.

ص: 128


1- حكاه عنه صاحب الرياض: ج 7/500.
2- رياض المسائل: ج 7/499-500.
3- سورة الأنفال: الآية 15 و 16.

2 - وقوله عزّ وجلّ : «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا» (1).

الثبات: ضدّ الفرار من العدو، فقد أمر في الآية بعدم الفرار من العدو عند اللِّقاء.

وأمّا السُنّة: فهي كثيرة:

منها: المرتضوي: «وليعلم المنهزم بأنّه مسخطٌ ربّه، وموبق نفسه، وأنّ في الفرار موجدة اللّه، والذلّ اللّازم، والعار الباقي، وأنّ الفار لغير مزيدٍ في عمره، ولا محجوزٌ بينه وبين يومه، ولا يُرضي ربّه، ولموت الرجل محقّاً قبل إتيان هذه الخصال خيرٌ من الرضا بالتلبّس بها، والإقرار عليها»(2).

ومنها: خبر محمّد بن سنان: «أنّ أبا الحسن الرضا عليه السلام كتبَ إليه فيما كتبَ من جواب مسائلة: حرّم اللّه الفرار من الزحف، لما فيه من الوهن في الدِّين، والاستخفاف بالرسل والأئمّة العادلة، وترك نصرتهم على الأعداء، والتقوية لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبيّة، وإظهار العدل، وترك الجور، وإقامة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبي والقتل، وإبطال دين اللّه عزّ وجلّ وغيره من الفساد»(3).

ومنها: المرتضوي: «إنّ اللّه تعالى لما بعث نبيّه... إلى أنْ قال: فصار فرض المؤمنين في الحرب أن كان عدّة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فارّاً من الزحف»(4).

ومنها: خبر مسعدة، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «إنّ اللّه عزّ وجلّ 8.

ص: 129


1- سورة الأنفال: الآية 45.
2- الكافي: ج 5/41 جزء من ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/87 ح 20042.
3- الفقيه: ج 3/565 ح 4934، وسائل الشيعة: ج 15/87 ح 20043.
4- وسائل الشيعة: ج 15/85 ح 20038.

فرض على المؤمن في أوّل الأمر أن يقاتل عشرة من المشركين، ليس له أن يولّي وجهه عنهم، ومن ولّاهم يومئذٍ دُبُره فقد تبوأ مقعده من النار، ثمّ حوّلهم عن حالهم رحمةً منه لهم، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفاً من اللّه عزّ وجلّ ، فنسخ الرجلان العشرة»(1).

ومنها: خبر الحسن بن صالح، عنه عليه السلام: «مَن فرّ من رجلين في القتال في الزحف فقد فرَّ، ومن فَرّ من ثلاثة في القتال فلم يفر»(2).

إلى غير ذلك من النصوص، وعليه فلا إشكال في الحكم في الجملة.

أقول: وتمام الكلام تيحقّق في طيّ فروع:

الفرع الأوّل: مقتضى إطلاق الآيات والروايات عدم الفرق في ذلك بين كون من يجاهد معه مشركاً أو من أهل الكتاب، وبين كون الجهاد بالمعنى الأوّل أو الثاني، أي الذي يدهم المسلمين فيه عدوّ يخشى منه على شعار الإسلام.

الفرع الثاني: ولو انفرد اثنان بواحدٍ من المسلمين، ففي حرمة الفرار منهما قولان:

1 - فعن «المبسوط»(3) و «المختلف»(4) و «القواعد»(5) و «التحرير»(6) و «التنقيح»(7)4.

ص: 130


1- الكافي: ج 5/69 جزء من ح 1، يبدأ ص 65، وسائل الشيعة: ج 15/85 ح 20037.
2- الكافي: ج 5/34 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/84 ح 20036.
3- المبسوط: ج 2/10، قوله: (وليس المراد بذلك أن يقف الواحد بإزاء العشرة أو اثنين، وإنّما يُراد الجملة وأن جيش المسلمين إنْ كان نصف جيش المشركين بلا زيادة وجب الثبات) فإنّه يدلّ بالملازمة على أنّ الواحد إذا كان مقابل الاثنين منفرداً عن الجيش جاز له الفرار.
4- مختلف الشيعة: ج 4/389، فإنّه بعد نقل كلام الشيخ في المبسوط قال: (وهو الأقرب).
5- قواعد الأحكام: ج 1/485، قوله: (ولو انفرد اثنان بواحد من المسلمين لم يجب الثبات على رأي).
6- تحرير الأحكام: ج 2/141، (ط. ج) الثاني عشر.
7- حكاه عنه في الجواهر: ج 21/64.

و «الشرائع»(1): عدم وجوب الثبات، وجواز الفرار.

وفي «الجواهر»(2): (الظاهر عدم الخلاف في الجواز، وفي «الشرائع»: قيل يجب أي الثبات).

واستدلّ للأوّل: بظهور الأدلّة في وجوب الثبات للضعف مع الكثرة، كما يشعر به قوله تعالى: «فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ اَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ » (3).

أقول: لا إشكال في ظهور الآية، وجملةٍ من النصوص في الاختصاص، لكن لا مفهوم في شيء منها كي يعارض مع خبر الحسن بن صالح وغيره الشامل للمورد.

وعليه فالأظهر لو لم يكن على خلافه الإجماع هو الثاني.

الفرع الثالث: إذا كان المسلمون أقلّ من ذلك، لا يجب الثبات كما صرّح به غير واحدٍ(4)، بل عن «التحرير»(5) و «المنتهى»(6) دعوى الإجماع عليه، وهو المستفاد من الأدلّة المتقدّمة. حيث علّق فيها حرمة الفرار على كون المسلمين نصف الكفّار.

نعم، ربما يُشكل ذلك في صورة زيادة الواحد والاثنين مع الضَعف والجُبن في الكفّار، والشجاعة والقوّة في المسلمين، فإنّ المنساق إلى الذهن خصوصاً بضميمة الآية الشريفة، وما في النصوص ممّا يشعر بأنّ تجويز الفرار في الفرض للامتنان8.

ص: 131


1- شرائع الإسلام: ج 1/236.
2- جواهر الكلام: ج 21/65، فإنّه بعد أن قوّى عدم وجوب الثبات احتاط في وجوبه بعد دعوى عدم الخلاف على الجواز.
3- سورة الأنفال: الآية 66.
4- منهم القاضي ابن البرّاج في المهذّب: ج 1/304، والعلّامة في القواعد: ج 1/485 وغيره.
5- تحرير الأحكام: ج 1/135 (ط. ق). و: ج 2/141 من الطبعة الجديدة.
6- منتهى المطلب: ج 2/908.

والتوسعة، اعتبار كون العدو على الضعف، فأقلّ إلى ما هو الغالب من غير الفرض، ولذا قال المصنّف رحمه الله: (وفي جواز فرار مائة بَطَلٍ من المسلمين من مأتين وواحد من ضعفاء الكفّار إشكالٌ ، من مراعاة العدد، ومن المقاومة لو ثبتوا، والعدد مراعى مع تقارب الأوصاف).

وفي «القواعد»(1): (الأقرب المنع).

وعلى أيّ حال، لا إشكال في استحباب الثبات مطلقاً لو غلب على الظنّ السلامة، فإنّ غاية ما يثبت بالأدلّة المشار إليها عدم حرمة الفرار، وأمّا مطلوبيّة الثبات، خصوصاً بعدما يستفاد من الأدلّة سيّما قوله تعالى: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ » (2) من الترغيب فيه وفي إدراك الشهادة، وعدم الاكتراث بزيادة العدد، لأنّ النصر من عند اللّه، فلا مورد للتشكيك فيها.

وبذلك يظهر استحباب الثبات حتّى لو غَلَب العَطَبُ على المسلمين.

أقول: والاستدلال لوجوب الانصراف - بوجوب حفظ النفس وحرمة التغرير بها - غريبٌ في هذا المقام، بعد كثرة ما دلّ على الأمر بالقتال والترغيب في الشهادة، ومن كون النصر من عند اللّه.

وما في «الشرائع»(3) من استحباب الانصراف لا ينافي مطلوبيّة الثبات، فإنّ الظاهر أنّ نظر المحقّق رحمه الله إلى أفضليّة الانصراف، وإلّا فلا معنى لجواز الثبات من دون رجحان.6.

ص: 132


1- قواعد الأحكام: ج 1/485.
2- سورة البقرة: الآية 249.
3- شرائع الإسلام: ج 1/236.

الفرع الرابع: ولو غلب عنده الهلاك مع كون العدو على الضعف أو أقلّ ، فهل يحرم الفرار، كما في «النافع»(1) و «الشرائع»(2) و «المسالك»(1)، وعن

«الإرشاد»(2) و «التحرير»(3) و «التذكرة»(4) و «التنقيح»(5)، بل في «الرياض»(6)نسبته إلى الأكثر؟

أم لا، كماعن «المبسوط»(7) و «القواعد»(8) و «المختلف»(9)؟ وجهان:

ويشهد للأوّل: إطلاق الأدلّة كتاباً وسُنّة.

واستدلّ للثاني:

1 - بقوله تعالى: «وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ » (10).

2 - وبقاعدة الحرج وسقوط أكثر الواجبات بظنّ الهلاك.

أقول: ولكن بعد كون بناء الجهاد على التغرير بالنفس، وأنّ الشهادة في هذا السبيل حياة أبديّة عند اللّه، وأنّ إيجاب الثبات للضعف مظنة العطب، وما وقع من5.

ص: 133


1- مسالك الأفهام: ج 3/24، حيث اعتبر أنّ الأقوى وجوب الثبات، بعد نقل القولين.
2- إرشاد الأذهان: ج 1/344، قال: (وجب الثبات... وإن غلب الهلاك).
3- تحرير الأحكام: ج 1/135 (ط. ق) و: ج 2/141 من الطبعة الجديدة.
4- تذكرة الفقهاء: ج 9/58، حيث تردّد بين وجوب الثبات وجوازه.
5- حكاه عنه في الجواهر: ج 21/61.
6- رياض المسائل: ج 7/500، حيث اعتبر أنّ الثبات هو الأظهر وفاقاً لأكثر الأصحاب.
7- ظاهر المبسوط: ج 2/10 في فرض المسألة عدم جواز الفرار، خلافاً لما حُكي عنه، وأمّا القول بالجواز فإنّه قال: (قيل إنّه يجوز له الانصراف)، وأمّا حكاية الجواز عن الشيخ في المبسوط فقد نقلها في الجواهر ج 21/61 عن التنقيح أنّه حكاه قولاً، وقال: (لم أتحقّقه).
8- قواعد الأحكام: ج 1/485.
9- مختلف الشيعة: ج 4/389-390 حيث اعتبر الانصراف هو الأقرب في الفرض لما فيه من حفظ النفس الواجب دائماً.. وعدم المنافات مع وجوب الثبات. فراجع.
10- سورة البقرة: الآية 195.

إلّا لمتحرفٍ لقتال، أو متحيّزٍ إلى فئة.

سيّد الشهداء - أرواحنا فداه - في كربلاء من الثبات بنيّفٍ وسبعين رجلاً لثلاثين ألفاً الذي هو أقلّ ما روي في نصوصنا(1) كما في «الجواهر»(2) - لا يبقى مجالٌ لهذه الأدلّة، ولا ريب في تقديم أدلّة الجهاد وعدم بقاء الموضوع لما ذكر من الأدلّة.

الفرع الخامس: لا كلام في أنّ المنهيّ عنه هو الفرار من الحرب، ولذا قال المصنّف كغيره: (إلّا لمتحرف لقتال) تبعاً للآية الكريمة.

والتحرف: الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف، وهو طرف الشيء.

فالمراد: إلّامن ينحرف من جهةٍ إلى اُخرى ليتمكّن من عدوّه، ويلقي الكيد عليه، كطالب السِّعة كما عن «القواعد»(3) و «التذكرة»(4)، ليكون أمكن له في القتال من المكان الذي هو فيه، أو موارد المياه دفعاً لعطشه المانع له عن القتال، أو تسوية لامَته - أي درعه - وما شابه ذلك.

(أو متحيّزاً إلى فئة) والتحيّز إلى فئة هو الانضمام إلى الفئة وهي القطعة من جماعة الناس يستنجد بها في القتال مع صلاحيّتها له، ولا فرق في ذلك بين كون الفئة قريبة أو بعيدة، ولا بين كونها قليلة أو كثيرة، لإطلاق الآية.

نعم، يشترط صدق التحيّز إلى الفئة المقاتلة، ولعلّه لا يصدق مع كون الفئة غير صالحة للإستنجاد ولو بالانضمام، ولا أقلّ من الانصراف، لكن لا يعتبر رجاء حصول الظفر بها، بل يكفي رجاء النفع والدفع وقوّة القلب وكمال القتال، وما شاكل.1.

ص: 134


1- بحار الأنوار: ج 45/4، باب 37 من أبواب ما يختصّ بتاريخ الحسين بن عليّ عليهما السلام.
2- جواهر الكلام: ج 21/61-62.
3- قواعد الأحكام: ج 1/484.
4- تذكرة الفقهاء: ج 9/61.

الفرع السادس: إطلاق النص والفتوى يقتضي عدم الفرق في حرمة الفرار بين صورتي الاختيار والاضطرار، ولكن قيّدها صاحب «المسالك»(1) بحال الاختيار، حيث قال: (وأمّا المضطر كمَن مرض أو فقدَ سلاحه، فإنّه يجوز له الانصراف).

وفي «الرياض»: (ولعلّه لفقد شرط وجوب الجهاد، لما مرّ من اشتراطه بالسلامة من المرض).

ويردّه: أنّ السلامة شرطٌ في ابتداء القتال، وأمّا بعد شروع الجهاد فلا دليل على اعتبارها.

وفي «الجواهر»(2): (وهو كذلك مع الضرورة التي يسقط معها التكليف).

والظاهر أنّ مراده ما لو لم يتمكّن من القتال، وعليه فلا بأس به.

***1.

ص: 135


1- مسالك الأفهام: ج 3/150، وأيضاً الروضة البهيّة في شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/392.
2- جواهر الكلام: ج 21/61.

ويجوز المحاربة بسائر أنواع الحرب.

جواز محاربة العدو بما يُرجى به الفتح

المسألة السابعة: (ويجوز المحاربة بسائر أنواع الحرب) أي بكلّ ما يُرجى به الفتح كهدم الحصون، ورمي المجانيق، والإحراق بالنار، وقطع الأشجار، وإرسال الماء ومنعه عنهم، مع الضرورة وتوقّف الفتح عليه وعدمها، وإن كره بعضها بدونه، بلا خلافٍ يظهر إلّاما سيُذكر.

وقد استدلّ له:

1 - بقوله تعالى : «اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» (1)، وقوله تعالى عزّ وجلّ : «ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اَللّهِ » (2)، وقوله تعالى : «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ» (3).

2 - وبالمرويّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه نصب على أهل الطائف منجنيقاً، وكان فيهم نساء وصبيان، وخرَّب حصون بني النضير وخيبر، وهدم دورهم(4)، بل في «الدروس»(5) و «الروضة»(6) أنّه صلى الله عليه و آله حَرق بني النضير.

ص: 136


1- سورة التوبة: الآية 5.
2- سورة الحشر: الآية 5.
3- سورة الأنفال: الآية 60.
4- دعائم الإسلام: ج 1/376، المستدرك: ج 11/42 ح 12383.
5- الدروس: ج 2/32.
6- شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/392.

3 - وبخبر حفص بن غياث، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن مدينةٍ من مدائن أهل الحرب، هل يجوز أن يُرسل عليهم الماء، وتُحرق بالنار، أو تُرمى بالمنجانيق حتّى يقتلوا، وفيهم النساء والصبيان، والشيخ الكبير، والأُسارى والمسلمين والتّجار؟

فقال: يفعل ذلك بهم، ولا يمسك عنهم لهؤلاء، ولا ديَّة عليهم للمسلمين ولا كفّارة»(1).

وضعف(2) سنده منجبرٌ بالعمل.

أقول: لكن استفادة الجواز مطلقاً من بعض ذلك لا يخلو عن نظر، فإنّ عمل النبيّ صلى الله عليه و آله غير ظاهر أنّه كان في حال الاختيار أو الاضطرار، فضلاً عن أنّ في دلالة الآيات تأمّلٌ ، إلّاأنّه في خبر حفص كفاية.

وأورد عليه: بأنّه يعارضه:

1 - موثّق مسعدة بن صدقة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان إذا بعث أميراً له على سريّة أمره بتقوى اللّه عزّ وجلّ في خاصّة نفسه، ثمّ في أصحابه عامّة، ثمّ يقول:

اغزُ بسم اللّه، وفي سبيل اللّه، قاتلوا مَنْ كَفَر باللّه، ولا تغدروا، ولا تَغلُوا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا متبتّلاً في شاهق، ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء،ه.

ص: 137


1- الكافي: ج 5/28-29 ح 6، وسائل الشيعة: ج 15/62 ح 19990.
2- فإنّ في سنده القاسم بن محمّد الاصفهاني [القمّي] يعرف بالكاسولا الذي قال عنه النجاشي (إنّه لم يكن بالمرضيّ )، وقال له كتاب نوادر رقم 863، ومثله العلّامة رقم 5 باب القاسم من الخلاصة، وفي بقيّة الكتب الرجاليّة لم يرد فيه توثيق، أمّا ابن الغضائري فقال: (إنّ حديثه يعرف تارةً وينكر اُخرى ، ويجوز أن يخرج شاهداً)، ابن الغضائري: ج 5/50. نعم قد يضّعف بسليمان بن داوود المنقري، إلّاأنّ الأمر فيه مختلف فإنّه وإن ضعَّفه البعض إلّاأنّ الأكثر على توثيقه.

ولا تقطعوا شجرةً مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً، لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ممّا يؤكل لحمه إلّاما لابدّ لكم من أكله»(1).

2 - وصحيح جميل ومحمّد بن حمران، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله إذا بعثَ سريّة دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه، وأجلس أصحابه بين يديه، ثمّ قال: سيروا بسم اللّه وباللّه وفي سبيل اللّه وعلى ملّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثّلوا ولا تقطعوا شجرةً إلّاأن تضطرّوا إليها، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا صبياً ولا امرأة»(2).

ونحوه خبر الثمالي عنه عليه السلام(3).

أقول: ولكن الذي يظهر من التأمّل في الأخبار عدم التعارض بينهما.

فإنّ الطائفة الأُولى : تدلّ على جواز تلك الاُمور إذا توقّف الفتح والقتال مع الكفّار عليها.

والثانية: تدلّ على عدم جواز هذه الاُمور في أنفسها، بل فيها ما يشهد بما تتضمّنه الطائفة الأُولى ، وهو قوله عليه السلام في الصحيح: «إلّا أن تضطرّوا إليها»، إذ لا معنى للاضطرار إلى قطع الشجرة إلّاذلك، وعلى ذلك فلا وجه لما في «الشرائع» من قوله: (يكره قطع الأشجار، ورمي النار، وتسليط المياه إلّامع الضرورة).

نعم، في خصوص إلقاء السمّ في بلادهم فقد دلّ معتبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله نهى أن يُلقى السُّم في بلاد المشركين»(4)، على9.

ص: 138


1- الكافي: ج 5/29 ح 8، وسائل الشيعة: ج 15/59 ح 19986.
2- الكافي: ج 5/30 ح 9، وسائل الشيعة: ج 15/58 ح 19985.
3- الكافي: ج 5/27 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/58 ح 19985.
4- الكافي: ج 5/28 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/62 ح 19989.

إلّا إلقاء السُّم في بلادهم،

المنع عنه، وأفتى بمضمونه جماعة منهم الشيخ في «النهاية»(1)، والسيّد في «الغُنية»(2)، والشهيد في «الدروس»(3)، والمحقّق في «النافع»(4)، والمصنّف في «الإرشاد»(5).

وفي المقام قال: (إلّا إلقاء السم في بلادهم)، مع التقيّيد في كثير منها بما إذا لم يُضطر إليه او يتوقّف الفتح عليه.

وحمله جماعة على الكراهة(6)، ومنهم صاحب «الشرائع»(7) حيث قال: وهو أشبه، وعن «المختلف»(8) نسبة الكراهة إلى أصحابنا، وعلّل ذلك بقصور الخبر سنداً عن إفادة الحرمة(9).

أقول: الظاهر أنّ نظر المعلّل إلى السكوني، مع أنّه مقبول الرواية، وقد ادّعى).

ص: 139


1- النهاية: ص 293.
2- غنية النزوع: ص 201.
3- الدروس: ج 2/32، قال: (ولا يجوز بالقاء السُّم على الأصح).
4- المختصر النافع: ص 112.
5- إرشاد الأذهان: ج 1/344، واستثنى من ذلك حال الاضطرار.
6- حمل النهي في الرواية على الكراهة العلّامة في التذكرة جمعاً بين الأقوال،: ج 9/70، وابن فهد الحِلّي في المهذّب البارع: ج 2/312، والكراهة في المقام اختيار الشيخ في المبسوط: ج 2/11، والاقتصاد ص 313-314، والعلّامة في المختلف: ج 4/391، وتحرير الأحكام: ج 2/142، والشهيد في المسالك: ج 3/25، وغيرهم.
7- شرائع الإسلام: ج 1/236.
8- المختلف: ج 4/391، حيث نقل نسبة الكراهة الى أصحابنا عن الشيخ في المبسوط ثمّ قوّاه، راجع المبسوطج 2/11.
9- كما في المهذّب البارع: ج 2/312، قال بعد نقل الخبر: (والمستند ضعيف مع جواز حمل الخبر على الكراهة).

ولو تترّسوا بالصِّغار والنساء أو المسلمين، ولم يمكن الفتح إلّابقتلهم جاز.

شيخ الطائفة الإجماع على العمل برواياته(1)، وعن المحقّق الداماد أنّ التشكيك في قبول روايته من ضعف التمهر في الرجال(2).

ولكن الخبر متعرّض لبيان حكم ذلك من حيث هو، فلو توقّف الفتح عليه لابدّ من رعاية أقوى الملاكين، ولا ريب في أقوائيّة ملاك القتال والفتح، ولعلّه لذلك قال صاحب «الشرائع»(3): (فإنْ لم يمكن الفتح إلّابه جاز).

(و) بما ذكرناه ظهر أنّه (لو تترّسوا بالصِّغار والنساء أو المسلمين، ولم يمكن الفتح إلّابقتلهم جاز).

فإنّ خبر حفص المنجبر بالعمل دالٌ على ذلك، وهو يدلّ على أنّه لا ديَّة عليهم للمسلمين، وبه يُخصّص قوله عليه السلام: «لا يبطل دم امرئٍ مسلم»(4).

وهل تلزم الكفّارة ؟ كما صرّح به المصنّف(5) والشهيدان(6) وغيرهم، بل عن بعضٍ نفي الخلاف فيه ؟ي.

ص: 140


1- العدّة: ج 1/149 حيث قال: (لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث، وغياث بن كلوب، ونوح ابن دراج، والسكوني، وغيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم السلام).
2- الرواشح السماويّة، للمحقّق الداماد ص 58 من الراشحة التاسعة [حول السكوني].
3- شرائع الإسلام: ج 1/236.
4- وردت هذه العبارة في العديد من الروايات منها ما في الكافي: ج 7/195 ح 1، وص 355 ح 3 وص 365 ح 3 من باب العاقلة، وص 390 ح 1 باب ما يجوز من شهادة النساء..، وسائل الشيعة: ج 27/350 ح 33909، وج 29/72 ح 35179، وص 138 ح 35333، وص 145 ح 35346، وص 149 ح 35354، وغيرهم.
5- كما في تذكرة الفقهاء: ج 9/76 قال: (وأمّا الكفّارة فالحقّ وجوبها لقوله تعالى..).
6- اللّمعة الدمشقيّة ج 73، شرح اللّمعة: ج 2/394 حيث وافقه الشهيد الثاني.

أم لا؟ كما عن الشيخ في «النهاية»(1)، وظاهر المحقّق في «النافع»(2)، وعن المصنّف في «التحرير»(3) التوقّف والتردّد؟

واستدلّ للأوّل: بالآية الشريفة: «فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ » (4).

وأورد عليه تارةً : بأنّ الكفّارة على تقدير الذنب، ولا ذنب هنا مع إباحة القتل.

وأُخرى : بأن إيجاب الكفّارة يقتضي مسامحة المسلمين وتردّدهم في أمر الجهاد باعتبار خوف الرامي، لاحتمال كون المرمي مسلماً.

وثالثة: بأنّه يعارضه خبر حفص المتقدّم، المصرّح بعدم الوجوب.

واُجيب عن الأوّل: بمنع كون الكفّارة للذنب، ولذا وجبت في الخطأ الذي لا ذنب فيه.

وعن الثاني: بأنّ الوجوب على تقديره من بيت المال.

وعن الثالث: بقصوره عن المكافأة للآية من وجوه، مع إمكان حمله على إرادة نفيها عن مال القاتل، بناءً على وجوبها من بيت المال، كما صرّح به في «الروضة» و «المسالك»(5) لأنّه من المصالح بل أهمّها.

ولكن الذي يقتضيه التدبُّر في الآية عدم ارتباطها بما هو محلّ البحث، فإنّها في القتل الخطأ، وصدر الآية متضمّنٌ لبيان أنّ من قَتل مؤمناً خطأً وجب عليه تحرير6.

ص: 141


1- النهاية: ص 293، قال: (ومتى هلك المسلمون فيما بينهم... لم يلزم المسلمين ولا غيرهم غرامتهم من الدية والأرش وكان ضائعاً).
2- المختصر النافع: ص 112 قال: (وفي الكفّارة قولان).
3- تحرير الأحكام: ج 2/143، قال: (وهل تجب الكفّارة فيهما؟ نصَّ الشيخ على وجوبها)، انتهى .
4- سورة النساء: الآية 92.
5- مسالك الأفهام: ج 3/156.

رقبة مؤمنة، وديّة مسلّمة إلى أهله، وتتضمّن هذه الجملة لبيان حكم ما لو كان المؤمن المقتول خطأ من قومٍ عدوٍّ، أي كفّار محاربون، وتدلّ على أنّه من جهة أنّ الكافر المحارب لا يرث من المؤمن شيئاً، والدية في حكم مال الميت يرثها الوارث، فلا تجب الدية، بل يكتفي بتحرير رقبة مؤمنة.

قال الشيخ في «التبيان» في معنى الآية: (فقال قومٌ : إذا كان القتيل في عداد قوم أعداء، وهو مؤمن بين أظهرهم لم يهاجر، فمن قَتَله فلا ديّة له، وعليه تحرير رقبة مؤمنة، لأنّ الدية ميراثٌ ، وأهله كفّار لا يرثونه. هذا قول إبراهيم، وابن عبّاس، والسُّدي، وقتادة، وابن زيد، وابن عياض.

وقال آخرون: بل عنى به أهل الحرب من يقدم دار الإسلام فيَسْلم، ثمّ يرجع إلى دار الحرب، إذا مرّ بهم جيش من أهل الإسلام فهرب قومه وأقام ذلك المُسلم فيهم، فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافراً)(1) انتهى .

وأيضاً: ربما يستدلّ له بعموم ما دلّ على وجوبها.

ويردّه: أنّ الخبر أخصّ مطلقاً منه فيقدّم عليه، فلم يبقى شيء يعارض النص.

وقد يقال: إنّ الخبر ضعيفُ السند، وجبره بالنسبة إلى صدره لا يستلزم جبره بالنسبة إلى هذه الجملة منه، بعد عدم إفتاء القوم بعدم الوجوب.

أقول: برغم أنّ المسألة محلّ إشكال، ولكن قد مرَّ قوّة سند الخبر، فالأظهر عدم الوجوب.

*** .

ص: 142


1- التبيان: ج 3/291، حيث نسب هذا القول إلى قوم، كما ذكر في المتن، والقول الآخر لإبن عبّاس أيضاً في رواية اُخرى .

ولا يُقتل النساء وإن عاونَّ ، إلّامع الضرورة.

عدم جواز قتل النساء

المسألة الثامنة: (ولا) يجوز أن (يُقتل النساء) منهم (وإن عاونَّ ) بتشديد النون (إلّا مع الضرورة) وكذا المجانين والصبيان والشيخ الفاني بلا خلافٍ .

وعن «المنتهى»(1): الإجماع في الصبيان والنساء، بل وعلى قتل النساء مع الضرورة.

ويشهد به:

1 - خبرا جميل ومحمّد بن حمران والثمالى المتقدّمان آنفاً.

2 - وخبر حفص المتقدّم سابقاً، وفيه: «لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نهى عن قتل النساء والولدان في دار الحرب، إلّاأن يقاتلن، فإن قاتلن أيضاً فأمسك عنها ما أمكنك ولم تخف خللاً...

إلى أنْ قال: وكذا المقعد من أهل الذمّة، والأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في أرض الحرب، فمن أجل ذلك رفعت الجزية عنهم»(2).

ونحوه خبر الزُّهري، عن علي بن الحسين عليهما السلام(3)، وخبر السكوني عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام: «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: اقتلوا المشركين واستحيوا شيوخهم

ص: 143


1- منتهى المطلب: ج 2/911 (ط. ق).
2- الكافي: ج 5/28 ح 6، التهذيب: ج 6/156 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/64 ح 19993.
3- الكافي: ج 5/28 ح 6، الفقيه: ج 2/52 ح 1675، وسائل الشيعة: ج 15/64 ح 19993.

ومَنْ أسلم في دار الحرب حُقن دمه وولده الصغار من السبي، وماله من الأخذ ممّا يُنقل ويحوّل، وأمّا الأرضون فمن الغنائم.

وصبيانهم»(1) ونحوها غيرها.

أقول: والمراد بالضرورة أن يتوقّف الفتح أو قتل الكفّار على قتلهن أو نحو ذلك.

وإطلاق الأخبار وإنْ كان يقتضي عدم الفرق في الشيخ الفاني بين كونه ذا الرأي أم لا، إلّاأنّه يقيّد الإطلاق بما عن «المنتهى»(2) و «التذكرة»(3) من الإجماع على جواز القتل إذا كان ذا رأي، وكذا في المُقعَد والأعمى .

***

حكم الحربي وماله إذا أسلم في دار الحرب

المسألة التاسعة: (ومن أسلم في دار الحرب حُقن دمه وولده الصغار من السبي، وماله من الأخذ ممّا يُنقل ويحوّل) كالذهب والفضّة والأمتعة، (وأمّا الأرضون فمن الغنائم) ويكون فيئاً للمسلمين، بلا خلافٍ في شيء من ذلك:

1 - للعمومات.

2 - وخصوص خبر حفص المنجبر بالعمل: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجلٍ من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك ؟

فقال: إسلامه إسلامٌ لنفسه ولولده الصغار وهم أحرار، وولده ومتاعه ورقيقه له، فأمّا الولد الكبار فهم فيءٌ للمسلمين، إلّاأن يكونوا أسلموا قبل ذلك، فأمّا الدور

ص: 144


1- التهذيب: ج 6/142 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/65 ح 19994.
2- منتهى المطلب: ج 2/911 (ط. ق).
3- تذكرة الفقهاء: ج 9/65 مسألة 30.

ولو أسلم العبد قبل مولاه وخَرَج، مَلِك نفسه.

والأرضون فهي فيء ولا يكون له، لأنّ الأرض هي أرض جزية لم يجر فيها حكم الإسلام وليس بمنزلة ماذكرناه، لأنّذلك يمكن احتيازه وإخراجه إليدار الإسلام»(1).

ومنه يعلم تبعيّة الولد للوالد في الإسلام والكفر وإنْ كان حملاً، وعليه فلو سبيت اُمّ الحَمل كانت رقاً دون ولدها منه.

***

حكم إسلام العبد في دار الحرب

المسألة العاشرة: (ولو أسلم العبد) في دار الحرب (قبل مولاه وخرج) قبله (مَلِك نفسه)، ولو خرج بعده كان على رقّه، كما هو المشهور(2).

ويشهد به: معتبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام:

«أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله حين حاصر أهل الطائف، قال: أيّما عبدٍ خرج إلينا قَبل مولاه فهو حرٌّ، وأيّما عبدٍ خرج إلينا بعد مولاه فهو عبد»(3).

***

ص: 145


1- التهذيب: ج 6/151 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/116 ح 20105.
2- حكى المشهور في ذلك صاحب الجواهر: ج 21/145، ثمّ قال: (بل لم نجد فيه خلافاً صريحاً).
3- التهذيب: ج 6/152 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/117 ح 20106.

الثالث: البُغاة، وهم كلّ من خرج على إمامٍ عادل.

قتال أهل البغي

الصنف (الثالث) في من يجب جهادهم: (البغاة) جمع باغ (و) البغي لغةً (1) مجاوزة الحَدّ والظلم.

وفي عرف المتشرّعة: الخروج على الإمام العادل بالسيف ونحوه، ولذلك قال الماتن أنّ (هم كلّ من خرج على إمام عادل).

وهل الخروج على نائبه العام في زمان الغيبة من البغي ؟

الظاهر ذلك، ويشهد له: - مضافاً إلى عمومات الولاية والنيابة - خصوص مقبولة ابن حنظلة، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ :

«يُنظر إن من كان منكم قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حَكماً، فإنّي قد جعلته حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا رَدّ، والرّاد علينا الراد على اللّه وهو على حَدّ الشرك باللّه»(2).

فإذا كان الراد على نائب الغيبة رادّاً على الإمام، فالخروج عليه وإيذاؤه ومخالفته وإهانته وحبسه وإخراجه من بلده، بل وقتله خروجٌ على الحجّة، ومخالفةً وإيذاءً له وإهانة به، والجهاد معه جهاد مع المعصوم عليه السلام، وهل الباغي إلّاذلك.

ص: 146


1- قال في مجمع البحرين: ج 1/55: (والبغاة جمع باغ وهم الخارجون على إمام معصوم - كما في الجَمل وصفّين - سمّوا بذلك لقوله تعالى : «فَإِنْ بَغَتْ ...» والفئة الباغية الخارجة عن طاعة الإمام من البغي الذي هو مجاوزة الحَدّ).
2- الكافي: ج 1/67 ح 10، التهذيب: ج 6/301 ح 52، وسائل الشيعة: ج 1/34 ح 51.

ويجبُ قتاله مع دعاء الإمام أو مَنْ نصبه.

(و) كيف كان، ف (يجب قتاله) أي قتال الباغي (مع دعاء الإمام، أو مَنْ نصبه) خاصّاً أو عامّاً، بلا خلافٍ في الوجوب.

وفي «الجواهر»(1): (بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكي منهما مستفيضٌ ).

ويشهد به:

1 - من الكتاب: قوله تعالى: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ اِقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اَللّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ » (2).

ففي خبر حفص بن غياث، عن الإمام الصادق عليه السلام - المرويّ في «الكافي» و «التهذيب» والمعمول به بين الأصحاب، التصريح بأنّه نزلت الآية في البغاة -:

«قال: سأل رجلٌ أبي عليه السلام عن حروب أمير المؤمنين عليه السلام، وكان السائل من محبّينا؟

فقال له أبو جعفر عليه السلام: بعثَ اللّه محمّداً صلى الله عليه و آله بخمسة أسياف، ثلاثة منها شاهرة فلا تُغمد حتّى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتّى تطلع الشمس من مغربها...

إلى أنْقال: وسيفٌ منها مكفوف - إلى أنْ قال - وأمّا السيف المكفوف فسيفٌ على أهل البغي والتأويل، قال اللّه عزّ وجلّ : «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ » إلى آخره، فلما نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ منكم من يقاتل بعدي على9.

ص: 147


1- جواهر الكلام: ج 21/324.
2- سورة الحجرات: الآية 9.

التأويل، كما قاتلتُ على التنزيل.

فسُئل النبيّ صلى الله عليه و آله من هو؟ فقال: خاصفُ النعل يعني أمير المؤمنين عليه السلام.

فقال عمّار بن ياسر: قاتلتُ بهذه الراية مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وهذه الرابعة، واللّه لو ضربونا حتّى يبلغونا المسعفات(1) من هَجَر لعلمنا أنّا على الحقّ وأنّهم على الباطل، وكانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين عليه السلام ما كان من رسول اللّه صلى الله عليه و آله في أهل مكّة يوم فتح مكّة، فإنّه لم يَسب لهم ذُريّة، وقال: من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه أو دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وكذلك قال أمير المؤمنين يوم البصرة، نادى: لا تَسْبوا لهم ذريّة، ولا تجهزوا على جريحٍ ، ولا تتبعوا مُدبراً، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن، الحديث»(2).

فقد قيل: إنّه يستفاد من هذه الآية(3) اُمور خمسة:

الأمر الأوّل: أنّ البغاة مؤمنون، لأنّ اللّه سمّاهم مؤمنين، ولكنّه لا يوافق اُصول مذهبنا، فيحمل على ما ذكره المصنّف(4) أنّه (على ضربٍ من المجاز، بناءً على ما هو الظاهر، أو على ما كانوا عليه، أو على ما يعتقدونه، قال كما في قوله تعالى: «إِنَّ فَرِيقاً مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ يُجادِلُونَكَ فِي اَلْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى اَلْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ » (5) وهذه صفة المنافقين إجماعاً).

الأمر الثاني: وجوب قتالهم، وهو كذلك عندنا كما ستعرف.

الأمر الثالث: أنّ وجوب القتال إلى غاية، وهو تامٌّ لنص الآية كما ستعرف.6.

ص: 148


1- «المسعفات» كما في الوسائل، أمّا الكافي والتهذيب «السعفات».
2- الكافي: ج 5/10 ح 2 /التهذيب: ج 6/136 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/25 ح 19938.
3- سورة الحجرات: الآية 9.
4- منتهى المطلب: ج 2/982 (ط. ق).
5- سورة الأنفال: الآية 5 و 6.

الأمر الرابع: عدم الرجوع على أهل البغي بنفسٍ أو مال بعد الصلح، لعدم ذكر شيء منهما بعده، وستعرف ما هو الحقّ .

الأمر الخامس: دلالة الآية على جواز قتال كلّ من منع حقّاً طولب به، فلم يفعل للعلّة التي جوّزت قتال البغاة.

وأورد عليه في «الجواهر»: أنّها مستنبطة وليست حجّة عندنا، خصوصاً بعد معلوميّة تفاوت الحقوق، وأنّ أعظمها مخالفة الإمام عليه السلام على وجه يترتّب عليه الفساد في الدِّين، فلا يقاس عليه غيره.

أقول: ما أورده متينٌ ، إلّاأنّه يستثنى منه خصوص ما لو طولب الحاكم الجائر بأن يجري الأحكام الإلهيّة، ولا يكون بصدد محو الدِّين والإسلام، وقد مرّ في أوّل كتاب الجهاد(1) استدلال المقداد له بقوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ» (2) وتقريبه، كما أنّه تقدّم استدلال الراوندي(3) بقوله تعالى: «اِنْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ » (4).

ويمكن الاستدلال بالآيات الآمرة بالجهاد في سبيل اللّه بقول مطلق، وقد تقدّمت في أوّل الكتاب.

2 - وأمّا السُنّة: فهي كثيرة:

منها: خبر حفص المتقدّم.1.

ص: 149


1- صفحة 19 من هذا المجلّد.
2- سورة التوبة: الآية 73.
3- كما في فقه القران: ج 1/363 في تفسيره للآية حيث قال: (ظاهر الآية يقتضي وجوب مجاهدة البغاة كمايجب مجاهدة الكفّار لأنّه جهادٌ في سبيل اللّه).
4- سورة التوبة: الآية 41.

ومنها: ما سيأتي في ضمن المباحث الآتية.

ومنها: النبويّ ، أنّه صلى الله عليه و آله قال: «يا عليّ إنّ اللّه كتبَ على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي، كما كتبَ عليهم الجهاد مع المشركين معي!

فقلت: يا رسول اللّه، وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟

قال: فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلّااللّه، وأنّي رسول اللّه، وهم مخالفون لسنّتي وطاعنون في ديني.

فقلت: فعلامَ نُقاتلهم يا رسول اللّه، وهم يشهدون أن لا إله إلّااللّه، وأنّك رسول اللّه ؟

فقال: على إحداثهم في دينهم، وفراقهم لأمري، واستحلالهم دماءعترتي، الحديث»(1).

وعدم اختصاص هذا الخبر بالباغي على الإمام مباشرةً - وشموله لحكَّام الجور في هذا الزمان الذين يبتدعون في الدِّين، ويخالفون المجتهدين، ويغيّرون أحكام اللّه - واضحٌ لا سُترة عليه.

ومنها: النبويّ الآخر في حديثٍ مخاطباً عليّاً عليه السلام:

«فأعد للخصومة بإنّك تخاصم أُمّتي. قلت: يا رسول اللّه أرشدني الفلح.

قال صلى الله عليه و آله: إذا رأيتَ قومك قد عَدَلوا عن الهدى إلى الضلال فخاصمهم، فإنّ الهدى من اللّه، والضلال من الشيطان، يا عليّ إنّ الهدى هو اتّباع أمر اللّه دون الهوى والرأي، وكأنّك بقومٍ قد تأوّلوا القرآن، وأخذوا بالشبهات، واستحلّوا الخمر والنبيذ والبخس بالزكاة والسحت بالهدية.9.

ص: 150


1- أمالي المفيد: ص 288 المجلس الرابع والثلاثون، ورواه الطوسي: ص 65 في المجلس الثالث، وسائل الشيعة: ج 15/81 ح 20029.

فقلت: فما هم إذا فعلوا ذلك، أهُم أهلُ فتنةٍ أو أهل رِدّة ؟ فقال: هم أهل فتنة، الحديث»(1).

ومنها: خبر أبي الحجّاج، عن الإمام الصادق عليه السلام: «كان في قتال علي عليه السلام أهل القبلة بركة، ولو لم يقاتلهم علي عليه السلام لم يدر أحدٌ بعده كيف يسير فيهم»(2).

وشمول هذين الخبرين لحكَّام الجور في هذا العصر، وما يفعلون من البدعة في الدِّين، والمقابلة والعناد مع العلماء في غاية الوضوح.

ومنها: خبر أبي البُختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليه السلام: «القتل قتلان: قتل كفّارة، وقتل درجة، والقتال قتالان: قتال الفئة الباغية حتّى يفيئوا، وقتال الفئة الكافرة حتّى يسلموا»(3).

ومنها: المرتضوي: «أُمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ففعلت ما أمرت به»(4).

الناكثون: أصحاب الجمل أعوان المرأة المعروفة.

والقاسطون: أهل الشام.

والمارقون: الخوارج الذين هم كلاب أهل النار، وقد مرقوا من الدِّين كما يمرق السهم من الرمية، دون أن يتجاوز الإيمان تراقيهم.

ومنها: ما عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: «ذُكرت الحروريّة عند علي عليه السلام، فقال: إن».

ص: 151


1- المصدر السابق في أمالي المفيد والطوسي، البحار: ج 32/297 ح 257.
2- التهذيب: ج 6/145 ح 5، وسائل الشيعة: ج 15/81 ح 20027.
3- الخصال: ج 1/60 ح 83، وسائل الشيعة: ج 15/28 ح 19941 وص 83 ح 20033.
4- دعائم الإسلام: ج 1/388، وقد ذكر الحديث في العديد من المصادر إلّاأنّه لم يذكر فيها جملة: «ففعلت ما أمرت به».

خرجوا على إمامٍ عادل أو جماعة فقاتلوهم»(1).

ومنها: غير ذلك من النصوص المتواترة.

أقول: وتمام الكلام في طيّ مسائل:

***5.

ص: 152


1- التهذيب: ج 6/145 ح 7، وسائل الشيعة: ج 15/80 ح 20025.

وجوب قتال الخارج على نائب الغيبة

المسألة الأُولى : كما يجب قتال الخارج على المعصوم، يجب قتال الخارج على نائبه الذي عُدّ الرّاد عليه كالراد على الحجّة المنتظر عليه السلام، والآيات والروايات المتقدّمة دالّة عليه كما عرفت، فحينئذٍ إنْ أمكن الجهاد بالسيف وسائر الأسلحة الحربيّة فهو، وإلّا فبأيّ وجه أمكن، وإنْ لم يمكن إلّابالبيان والقلم فهو المتعيّن، وإن ترتّب عليه استيصال جماعة من المؤمنين كزماننا(1) هذا، ويترتّب عليه ما يترتّب على الجهاد مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله، بل في الخبر: «أفضل الجهاد كلمة عدلٍ عند إمام جائر، أو أمير جائر أو سلطان جائر»(2).

ومن الغرائب بعد الآيات والروايات المتقدّم طرف منها، الظاهرة في شمولها لقتال الخارج على نائب الغيبة - والدالّة على وجوب قتالهم وقتال المبتدعين في الدين الذين إذا خلا لهم الجو بدَّلوا أحكام اللّه وغيروا سنة رسول اللّه صلى الله عليه و آله - وسوسة بعض فقهاء العصر في ذلك، وأنّه لا يجوز إراقة قطرة من الدّم في هذا السبيل، ويعترضون على العلماء المجاهدين بأنّهم لا جواب لهم عند اللّه لو سئلوا عن ذلك، وليس ذلك إلّالأنّهم لم يتأمّلوا القرآن ولا السُنّة ولا سيرة الإمام عليه السلام، فما أفاده الإمام الصادق عليه السلام بقوله: «لو لم يقاتلهم عليٌّ لم يدر أحدٌ بعده كيف يسير فيهم»(3)،

ص: 153


1- يقصد المصنّف دام ظلّه النظام الطاغوتي الذي كان مسيطراً على رقاب الشعب في إيران قبل الثورة الإسلاميّة.
2- الكافي: ج 5/59 ح 16، التهذيب: ج 6/177 ح 9، وسائل الشيعة: ج 16/126 ح 21152، وفيها: «عند إمام جائر»، وأمّا إرشاد القلوب: ج 1/98 ففيه: «عند سلطانٍ جائر»، وأمّا: «أمير جائر» فقد وردت في العديد من كتب المخالفين منها ما في تاريخ بغداد: ج 7/246 ح 3731، تفسير الثعلبي: ج 2/410، وغيرهما.
3- التهذيب: ج 6/145 ح 5، وسائل الشيعة: ج 15/81 ح 20027.

على الكفاية، إلى أن يرجعوا.

وقد مرَّ النبويّ المتضمّن لأمره صلى الله عليه و آله بجهاد المسلم الذي يحدث في الدِّين، ويحلّ دماء العترة(1).

وعلى الجملة: المتدبّر في الأخبار يطمئن بأنّ جهاد هذا القسم من حكَّام الجور فرضٌ على كلّ من يمكنه ذلك، وبشتّى الوسائل المتاحة والممكنة.

أقول: ثمّ إنّ قتال أهل البغي بكلا قسميه كقتال المشركين في الوجوب، وكونه (على الكفاية) أو العين، وكون تركه كبيرة، وأنّ الفرار منه كالفرار منه، بلا خلافٍ في شيءٍ من ذلك، كما أفاده المصنّف رحمه الله، والنصوص دالّة على الجميع، مضافاً إلى وحدة الدليل، ومضافاً إلى فعل أمير المؤمنين عليه السلام في قتال الفرق الثلاث، وكذا في سائر الأحكام منها أنّ المقتول - من طرف الفريقين - معه شهيد لا يُغسَّل ولا يكفَّن، وعن «المنتهى»(2) الإجماع عليه أيضاً.

المسألة الثانية: إنّما يجب قتال البغاة والصبر في ذلك السبيل نحو ما مرَّ في قتال المشركين، ما لم يفيئوا إلى الحقّ ، ويرجعوا إلى طاعة الإمام، بلا خلافٍ ، وإليه أشار المصنّف رحمه الله بقوله: (إلى أن يرجعوا) وعن «المنتهى»(3) أنّ عليه إجماع العلماء.).

ص: 154


1- وقد مرَّ الحديث قبل صفحات، أمالي المفيد: ص 288 المجلس الرابع والثلاثون، ورواه الطوسي ص 65 في المجلس الثالث، وسائل الشيعة: ج 15/81 ح 20029.
2- أمّا من جهة أهل الإيمان فلأنّه شهيد، وأمّا من جهة أهل البغي فلأنّه كالمشركين، أو كالكفّار، كما عليه العلّامة قال في: ج 2/990 (ط. ق): (من قتل من أهل العدل في المعركة لا يُغسّل ولا يُكفّن ويُصلّى عليه عندنا، ومن قتل من أهل البغي لا يغسّل ولا يُكفَّن ولا يُصلّى عليه لأنّه كافر)، وقال في الجزء الأوّل من المنتهى ص 434: (الحادي عشر: قتيل أهل البغي كقتيل المشركين لا يُغسّل ولا يُكفّن ولا يُصلّى عليه ويدفن، وعليه فتوى علمائنا).
3- منتهى المطلب: ج 2/984 (ط. ق) قوله: (حتّى يفيئوا إلى الحقّ ويرجعوا إلى طاعة الإمام أو يقتلوا بلا خلافٍ في ذلك).

وهم قسمان: من له فئة، فيُجهَزُ على جريحهم، ويُتْبَعُ مُدبِرهم، ويُقتل أسيرهم.

ويشهد به: مضافاً إلى ذلك، قوله تعالى: «حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اَللّهِ » (1) فإنّه جعل غاية مشروعيّة القتل الرجوع إلى أمر اللّه، فيثبت التحريم بعده.

وقد استدلّ له في «الرياض»(2) بأنّ المقتضي لإباحة القتل هو الخروج عن طاعة الإمام، فاذا عادوا إلى الطاعة، عُدم المقتضي، والروايات أيضاً دالّة عليه.

التفصيل بين من له فئة وغيره

المسألة الثالثة: البغاة إذا ألقوا السلاح وتركوا القتال:

فتارةً : باقين في أماكنهم دون أن ينهزموا.

وأُخرى : ينهزمون.

فإنْ لم ينهزموا فيجب على المسلمين قتالهم حتّى يفيئوا إلى أمر اللّه، ويصرّحوا بالفئة على وجه لم يعلم كونه خدعة.

(و) أمّا لو انهزموا ف (هم قسمان):

أحدهما: (مَنْ له فئة) يرجع إليها كأصحاب معاوية (فيجهز) - من الإجهاز، وهو الأسراع في القتل - أي يُسرع ويعجّل (على جريحهم) في القتل، (ويتبع مُدبرهم) وموليهم على الحرب، (ويُقتل أسيرهم) بلا خلافٍ يظهر فيه، بل عن

ص: 155


1- سورة الحجرات: الآية 9.
2- رياض المسائل: ج 7/460، وقد نسبه إلى العلّامة في المنتهى ، راجع المنتهى المصدرالسابق ص 984-985.

ومَنْ لا فئة له، فلا يُجهز على جريحهم، ولا يُتبع مدبرهم، ولا يُقتل أسيرهم.

«المنتهى»(1) و «التذكرة»(2) نسبته إلى علمائنا، وعن «الغُنية»(3) الإجماع عليه صريحاً.

(و) ثانيهما: (مَنْ لا فئة له) كالخوارج وأصحاب الجمل، (فلا يُجهز على جريحهم، ولا يُتْبَع مُدْبِرهم، ولا يُقتل أسيرهم) بلا خلافٍ في شيء من ذلك، بل الإجماع على الجميع(4) في غير واحد من الكلمات.

أقول: والشاهد على هذا التفصيل الأخبار:

منها: خبر حفص بن غياث، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الطائفتين من المؤمنين إحداهما باغية والاُخرى عادلة، فهزمت العادلة الباغية ؟

قال عليه السلام: ليس لأهل العدل أن يتبعوا مُدْبِراً، ولا يجهزوا على جريح، ولا يقتلوا أسيراً، وهذا إذا لم يبق من أهل البغي، ولم يكن فئة يرجعون إليها، فإذا كانت لهم فئة يرجعون إليها فإنّ أسيرهم يُقتل، ومدبرهم يتبع، وجريحهم يجاز عليه»(5).

ومنها: خبر شريك، قال: «لمّا هُزم النّاس يوم الجمل، قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تتبعوا موليّاً، ولا تجيزوا على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، فلمّا كان يوم صفّين قَتل المُقبل والمُدبر، وأجاز على جريح، فقال أبان بن تغلب لعبد اللّه بن شريك: هذه سيرتان مختلفتان ؟1.

ص: 156


1- منتهى المطلب (ط. ق): ج 2/987.
2- تذكرة الفقهاء: ج 9/423 مسألة 250.
3- غنية النزوع: ص 201، قوله: (وكذا حكم البغاة على الإمام إنْ كان لهم فئة يرجعون إليها..) إلى أن قال ص 202: (كلّ ذلك بدليل الإجماع من الطائفة عليه).
4- المصادر الثلاثة السابقة، وغيرها مثلها أو قريبة منها.
5- التهذيب: ج 6/144 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/73 ح 20011.

فقال: إنّ أهل الجمل قتل طلحة والزبير، وأنّ معاوية كان قائماً بعينه وكان قائدهم»(1).

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

قال صاحب «الجواهر»(2): (ولعلّه لهذه النصوص ونحوها قال الشيخ وابناء إدريس وحمزة فيما حُكي عنهم: إنّه يعتبر في جريان حكم البغاة كونهم في مَنَعة وكثرة، لا يمكن كفهم وتفريق جمعهم إلّابالاتّفاق وتجهيز الجيوش والقتال، فأمّا إنْ كانوا نفراً يسيراً كالواحد والاثنين والعشرة وكيدهم ضعيف، لم يجر عليهم حكم أهل البغي) انتهى .

وفي «الرياض»(3): (إطلاق العبارة يقتضي عدم الفرق في الخارج بين القليل والكثير، حتّى الواحد كابن ملجم لعنه اللّه تعالى، وصرّح في «المنتهى»(4)و «التذكرة»(5) كما في «المسالك»(6) واستحسنه، وصرّح به أيضاً في «الروضة»(7)، وفيه مناقشة لاختصاص الأدلّة كتاباً وسُنّة) انتهى .

أقول: إنّه لا ريب في انسباق جماعة لهم منعة وكثرة لا يمكن دفعهم إلّابتجهيز الجيوش والقتال من الأدلّة كتاباً وسنّة.

وأيضاً يدلّ عليه ما تضمّن أنّ ابن ملجم لعنه اللّه تعالى لما جَرَح عليّاً عليه السلام7.

ص: 157


1- الكافي: ج 5/33 ح 5، وسائل الشيعة: ج 15/74 ح 20013.
2- جواهر الكلام: ج 21/331-332.
3- رياض المسائل: ج 7/459.
4- منتهى المطلب (ط. ق): ج 2/987.
5- تذكرة الفقهاء: ج 9/423 مسألة 250.
6- مسالك الأفهام: ج 3/91.
7- شرح اللّمعة: ج 2/407.

ولا يحلّ سَبي ذراري الفريقين ولا نسائهم.

وقُبِض عليه، أوصى أمير المؤمنين عليه السلام بالإحسان إليه، وقال: «إن برئت فأنا أولى بأمري، وإن متُّ فلا تمثّلوا به»(1)، والنصوص المتقدّمة أيضاً دالّة عليه.

نعم، يجري عليهم حكم المحارب، لو فرض إشهارهم للسيف أو غيره ممّا يندرج فيه.

وهل يعتبر فيهم الشبهة، وأن يكونوا على المباينة بتأويل يعتقدونه كما عن جماعة، أم لا؟

الظاهر هو الثاني: للقطع بأن أصحاب الجمل وصفين من البغاة، ولم يكن لهم أدنى شُبهة، وبذلك يظهر عدم اعتبار نصب إمام لأنفسهم.

عدم جواز سَبي ذراري البغاة

المسألة الرابعة: (ولا يحلّ سَبي ذراري الفريقين) وإن ولدوا بعد وقوع البغي (ولا) تملّك (نساؤهم) إجماعاً محصّلاً ومحكيّاً عن «التحرير»(2) وغيره(3)، بل عن «المنتهى»(4) نفي الخلاف فيه بين أهل العلم، وعن «التذكرة»(5) بين الأُمّة، كما

ص: 158


1- وسائل الشيعة: ج 29/127 ح 35314، قرب الاسناد ص 67، وفي الرواية قوله: «فإنْ عشت فأنا أولى بما صنع بي، إنْ شئت استنقذت، وإنْ شئت عفوت، وإنْ شئت صالحت، وإنْ متُّ فذلك إليكم، فإنْ بدا لكم أن تقتلوه فلا تمثّلوا به».
2- تحرير الأحكام: ج 2/235، قوله: (التاسع عشر: الإجماع على أنّه لا يجوز سَبي ذراري أهل البغي، سواءكان لهم فئة أو لا، ولا تملك نساؤهم).
3- كالمحقّق الحِلّي في الشرائع: ج 1/256.
4- منتهى المطلب: ج 2/988.
5- تذكرة الفقهاء: ج 9/426 مسألة 151.

في «الجواهر»(1).

لكن في «المسالك»(2) نسبته إلى المشهور، وظاهره وجود المخالف.

وعن «الدروس»(3): (ونقل الحسن أنّ للإمام عليه السلام ذلك إن شاء، لمفهوم قول علي عليه السلام: «إنّي مننتُ على أهل البصرة كما مَنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله على أهل مكّة»، وقد كان لرسول اللّه صلى الله عليه و آله أن يسبي فكذا الإمام عليه السلام، وهو شاذ).

وفي «الرياض»(4): (والمخالف غير معروف ولا منقول إلّافي «المختلف»(5) فنقل فيه عن العُمّاني بعد اختياره المنع، قال: وقال بعض الشيعة إنّ الإمام في أهل البغي بالخيار إن شاء مَنَّ عليهم وإن شاء سباهم، ثمّ نقل فعل الإمام.

ثمّ قال: أقول: وظاهر عبارته المزبورة أنّ القائل غير واحدٍ من الشيعة، وهو أيضاً ظاهر جملةٍ من الأخبار المستفيضة، ثمّ نقل طرفاً منها ستقف عليها، وقال:

لولا إعراض الأصحاب عنها، ونقلهم الإجماع على خلافها، مع ضعف أسانيدها جملة، لكان المصير إليها متّجهاً) أنتهى.

أقول: حكم البغاة لم يعلم إلّامن فعل علي عليه السلام، ولا ريب في أنّه عليه السلام لم يسبِ ذراريهم ولم يملك نساؤهم، ولا أذن لأحدٍ في ذلك، ولمّا كثر الطالب لتقسيم الغنائم في يوم البصرة، فقالوا: يا أمير المؤمنين اقسم بيننا غنائمهم.3.

ص: 159


1- جواهر الكلام: ج 21/334.
2- مسالك الأفهام: ج 3/93، فبعد ذكره الإجماع في الشرائع ونقله الإجماع عن جماعة من الأصحاب قال: وكذا يحرم سَبي نسائهم وتملّك ذراريهم على المشهور.
3- الدروس: ج 2/42.
4- رياض المسائل: ج 7/462.
5- مختلف الشيعة: ج 4/453.

قال: «أيُّكم يأخذ اُمّ المؤمنين في سهمه ؟»(1) مشعراً بعدم جوازه.

وأيضاً: عدم الإذن في التقسيم كاشفٌ عن عدم استحقاق المقاتلين، وإلّا لما كان يمنع القوم من استيفاء حقوقهم، فلم يبق إلّاالنصوص التي ذكرها سيّد «الرياض»(2)، قال:

منها: «سيرة علي عليه السلام في أهل البصرة كانت خيراً لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس إنّه علم أنّ للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته.

قلت: فأخبرني عن القائم أيسير بسيرته ؟ قال إنّ عليّاً عليه السلام سار فيهم بالمنِّ لما علم من دولتهم، وأنّ القائم عليه السلام يسير فيهم خلاف تلك السيرة لأنّه لا دولة لهم»(3).

ومنها: «أيسير القائم عليه السلام بخلاف سيرة علي عليه السلام ؟ قال: نعم، وذلك أنّ عليّاً سار فيهم بالمنِّ والكف، لأنّه علم أنّ شيعته سيظهر عليهم، وأنّ القائم عليه السلام إذا قام سار فيهم بالسيف والسبي، وذلك أنّه يعلم أنّ شيعته لم يظهر عليهم من بعده أبداً»(4).

ونحوهما غيرهما.

وفي «الجواهر»(5): (بل يمكن دعوى القطع بمضمونها، إنْ لم يمكن دعوى تواترها بالمعنى المصطلح).

أقول: والذي يظهر من الجمع بين هذه الروايات وما تقدّم، بل من التدبّر فيها أن ليس المراد منها جواز السبي في زمان الهدنة إلى زمان ظهور القائم أرواحنا فداه،6.

ص: 160


1- علل الشرائع: ج 1/154 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/79 ح 20021، وقريب منه ما في وسائل الشيعة: أيضاً ص 78 ح 20019، والتهذيب: ج 6/155 ح 4.
2- رياض المسائل: ج 7/462-463.
3- التهذيب: ج 6/155 ح 6.
4- التهذيب: ج 6/154 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/77 ح 20017.
5- جواهر الكلام: ج 21/336.

ولا أموالهم.

بل مفادها ما دلّ على إجراء جميع أحكام الإسلام على هذه الطائفة المتظاهرة بالإسلام الذين هم كفّار في الواقع إلى أن يظهر القائم عليه السلام فيعامل معهم معاملة الكفَّار الحربيّين.

وحاصله: أنّ الحكم في هذا الزمان عدم جواز السبي، وعلَّة ذلك وحكمته ما في النصوص.

وبعبارة اُخرى: أنّ ملاك جواز السبي موجود، إلّاأنّه لاقترانه بالمانع وانطباق عنوان ثانوي عليه، لابدّ من الحكم بعدم الجواز، فتدبّر في الأخبار يظهر لك ذلك.

أقول: ويعضد ما ذكرناه ما دلَّ على ترتّب أحكام المسلم على البغاة، كخبر مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام لم يكن ينسب أحداً من أهل البغي إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكن كان يقول: هم اخواننا بغوا علينا»(1).

والمرتضوي: «أنّه سُئل عن الذين قاتلهم من أهل القبلة أكافرون هم ؟ قال عليه السلام:

كفروا بالأحكام وكفروا بالنعم، ليس ككفر المشركين الذين دفعوا النبوّة، ولم يقرّوا بالإسلام، ولو كانوا كذلك ما حلَّت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم»(2).

ونحوها غيرهما من النصوص.

حكم أموال البغاة

(و) بما ذكرناه يظهر أنّه (لا) يحلّ (أموالهم) - أي البغاة مطلقاً كانت لهم فئة أم

ص: 161


1- وسائل الشيعة: ج 15/82 ح 20032، قرب الإسناد ص 45.
2- دعائم الإسلام: ج 1/388 ذكر قتال أهل البغي، ومثله مع اختلاف يسير ما في المستدرك: ج 66/11 ح 12440.

لا - التي لم يحوها العسكر، سواءٌ أكانت ممّا تُنقل كالثياب والآلآت أو لا تُنقل كالعقارات، وفي «المسالك»(1) هو موضع وفاق، وعن «المنتهى»(2) و «الدروس»(3)الإجماع عليه. هذا فضلاً عن أنّ النصوص المتقدّمة دالّة عليه، وعمل الإمام عليه السلام في حرب أهل البصرة والنهروان بعد الاستيلاء عليهم أقوى مستند.

نعم، لابدّ من التقيّيد بعدم كون البغاة من النواصب، وإلّا فلا خلاف ظاهراً في حليَّة مال النواصب.

ويشهد به: نصوص كثيرة:

منها: صحيح ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«خُذ مال الناصب حيثما وجدته وادفع إلينا خمسه»(4).

ومنها: خبر إسحاق بن عمّار، عنه عليه السلام: «مال الناصب وكلّ شيء يملكه حلالٌ إلّا امراته فإنّ نكاح أهل الشرك جائز»(5).

ونحوهما غيرهما.

وأمّا ما حواه العسكر ممّا يُنقل ويحوَّل:

فإن كانوا من النواصب فلا كلام في حليّته.

وإنْ لم يكونوا منهم:0.

ص: 162


1- مسالك الأفهام: ج 3/93.
2- منتهى المطلب: ج 2/988 (ط. ق) قوله: (قد وقع الإجماع على أنّ مال أهل البغي الذي لم يحوه العسكر لا يخرج عن ملكهم...).
3- الدروس: ج 2/42.
4- التهذيب: ج 4/122 ح 7، وسائل الشيعة: ج 9/487 ح 12551، ومثله بسند آخر ما في وسائل الشيعة: ج 17/298 ح 22579.
5- التهذيب: ج 6/387 ح 275، وسائل الشيعة: ج 15/80 ح 20024، و: ج 17/299 ح 22580.

فعن جماعةٍ منهم العُمّاني(1)، والإسكافي(2)، والشيخ في «الخلاف»(3)و «النهاية»(4)، و «الجُمل»(5)، والقاضي(6)، والحَلبي(7)، وابن حمزة(8) حليّة أموالهم.

وعن المصنّف في «المختلف»(9) نسبتها إلى الأكثر.

وعن «الخلاف»(10) دعوى الإجماع عليها، وجَعَلها في «الشرائع»(11) أظهر.

وعن السيّد المرتضى(12)، وابن إدريس(13)، والمصنّف في جملة من كتبه(14)، والشهيد في «الدروس»(15)، عدم الحليّة.

ص: 163


1- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 4/450.
2- حكاه عنه العلّامة في مختلف الشيعة: ج 4/450، فتاوى ابن الجُنيد ص 167 المسألة 1 من أحكام البغاة (الفصل السابع).
3- الخلاف: ج 5/346 مسألة 17.
4- النهاية: ص 297 باب قتال أهل البغي والمحاربين وكيفيّة قتالهم والسيرة فيهم.
5- حكاه - عن الشيخ في الجمل والعقود - ابن إدريس في السرائر: ج 16/2، وهو اختيار الشيخ في الاقتصاد أيضاًص 315.
6- المهذّب: ج 1/325-326.
7- غنية النزوع: ص 203.
8- الوسيلة: ص 205.
9- فبعد استعراض أقوال الأعلام قال: (والأقرب ما ذهب إليه الشيخ في النهاية.. ثمّ قال: ولأنّه قول الأكثر فيتعيّن المصير إليه).
10- الخلاف: ج 5/346 مسألة 17. (دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم).
11- شرائع الإسلام: ج 1/257، المسألة الثانية من الركن الرابع (قتال أهل البغي).
12- الناصريّات: ص 443، قوله: (لأنّ أهل البغي لا يجوز غنيمة أموالهم وقسمتها كما تقسّم أموال أهل الحرب، ولاأعلم خلافاً بين الفقهاء في ذلك).
13- السرائر: ج 2/19، فإنّه بعد نقل كلام الأعلام لا سيّما السيّد المرتضى المتقدّم قال: (الصحيح ما ذهب السيّد المرتضى إليه، وهو الذي اختاره وأفتى به).
14- كقواعد الأحكام: ج 1/522، حيث استقرب المنع بقوله: (وفي قسمة ما حواه العسكر بين الغانمين قولان، أقربهما المنع)، وقوّاه في تحرير الأحكام: ج 2/234.
15- الدروس: ج 2/42، حيث استقرب القول بعد القسمة عملاً بسيرة علي عليه السلام في أهل البصرة، فإنّه أمرَ بردّ أموالهم فاُخذت حتّى القدور.

وعن «الناصريّات»(1) لا أعلم خلافاً من الفقهاء فيه.

وعن «السرائر»(2) إجماعنا بل المسلمين عليه.

وعن «التذكرة»(3) نسبته إلى كافّة العلماء.

واستدلّ للأوّل:

1 - بسيرة علي عليه السلام.

2 - وبإجماع الفرقة وبأخبارهم.

3 - وبما عن «المبسوط»: (روى أصحابنا أنّ ما يحويه العسكر من الأموال فإنّه يقسّم)(4).

أقول: ولكن دعوى سيرة علي عليه السلام معارضة بدعوى الشهيد رحمه الله في محكي «الدروس» وغيره من أنّ سيرة علي عليه السلام على العدم، ولعلّها الأظهر، كما يظهر ممّا تضمّن أنّه عليه السلام أمرَ بردّ أموال البصرة حتّى القدور.

ودعوى: أنّ قسمة أموالهم في أوّل الأمر تدلّ على الحِل، والرَّد أعمّ من الحرمة، لإمكان كونه على نحو المَنّ .

مندفعة: بأنّه لم يثبت من الأدلّة أنّه قسَّم الأموال بين المقاتلين ابتداءً حتّى يستدلّ بفعله، وتصرّفهم فيها أعمٌّ من ذلك.6.

ص: 164


1- الناصريّات: ص 443.
2- السرائر: ج 2/19، فإنّه بعد اختياره لما ذهب إليه السيّد المرتضى قال: (والذي يدلّ على صحّة ذلك... وأيضاً فإجماع المسلمين على ذلك، وإجماع أصحابنا منعقد على ذلك).
3- تذكرة الفقهاء: ج 9/424-425، إلا أنّه عاد واختار التفصيل بين من لهم فئة يرجعون إليه فتقسّم أموالهم، ومن ليس لهم فئة يرجعون إليها فلا تقسّم أموالهم، وقال بعد التقسيم ص 426: (وهذا هو الذي أعتمده).
4- المبسوط: ج 7/266.

بل ما في «المبسوط»(1) من أنّه روي أنّ عليّاً عليه السلام لمّا هَزَم الناس يوم الجمل، قالوا له: «يا أمير المؤمنين ألا نأخذ أموالهم ؟

قال عليه السلام: لا، لأنّهم تحرّموا بحُرمة الإسلام، فلا تحلّ أموالهم في دار الهجرة».

وقريب منه غيره، بأنّه لم يكن التقسيم بنظره عليه السلام.

وأمّا الإجماع: فهو معارض بدعوى الإجماع على العدم.

وأمّا الأخبار: فغير ثابتة، وما روي عن «المبسوط» معارضٌ بما رواه هو أيضاً الدالّ على العدم.

وبالجملة: فالأظهر عدم الحليَّة، لعموم ما دلَّ على عدم حليّة مال المسلم بلا رضاه(2)، وللنصوص المتقدّمة.

***).

ص: 165


1- المبسوط: ج 7/266.
2- وسائل الشيعة: ج 14/572 (لا يحلّ مال امرئٍ مسلم إلّابطيبة نفس منه).

الفصل الثالث: في قسمة الغنائم:

جميع ما يغنم من بلاد الشرك، يخرج منه ما يشرطه الإمام، كالجعائل والرضخ، والأجر، وما يصطفيه،

في قسمة الغنائم

(الفصل الثالث):

(في قسمة الغنائم) جمع الغنيمة، وهي كلّ ما استفيد على ما مرّ تنقيح القول فيه في كتاب الخمس(1)، والمراد منها في المقام هو خصوص ما استفيد من دار الحرب، أي ما أخذته الفئة المجاهدة بالقهر والغلبة والحرب وإيجاف الخيل والركاب.

وهي أقسام ثلاثة:

الأوّل: ما يُنقل كالذهب والفضّة والأمتعة.

الثاني: ما هو سبيٌ كالنساء والأطفال.

الثالث: ما لا يُنقل كالأرض والعقار.

أقول: يقع الكلام في مقامات ثلاثة:

أمّا المقام الأوّل: ف (جميع ما يغنم من بلاد الشرك يُخرج منه ما يشرطه الإمام، كالجعائل والرضخ، والأجر، وما يصطفيه).

فهاهنا فروع:

الفرع الأوّل: ما يؤخذ من الكفّار بالاختلاس والسّرقة وما شاكل، فهو لآخذه، ولا يجبُ فيه الخمس، ولا يقسّم بين الفئة المقاتلة، إذ موضوع الحكمين يعتبر فيه الحرب والقتال، كما يظهر من النصوص الواردة في تقسيم الغنائم:

ص: 166


1- فقه الصادق: ج 11/10.

منها: خبر أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام: «كلّ شيء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه صلى الله عليه و آله فإنّ لنا خمسه»(1).

ومنها: مرفوع أحمد بن محمّد: «الخمس من خمسة أشياء: وعدَّ منها المَغْنَم الذي يقاتل عليه»(2).

ومثله ما ورد في خبر حكم من أنّها: «للمختلس والسارق».

الفرع الثاني: ما استولى عليه المسلمون بغير قتال، وانجلى عنه الكفّار خارجٌ عن موضوع الحكم في المقام، فإنّه للإمام كما صرّح به غير واحد(3).

ويشهد به:

1 - حسن ابن أبي عمير، عن حفص بن البختري، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم..

فهو لرسول اللّه صلى الله عليه و آله وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء»(4).

2 - و صحيح معاوية، عنه عليه السلام: «في السَّرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسم ؟

قال: إنّ قاتلوا عليها، وإنْ لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين، كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ »(5).

ونحوهما غيرهما.8.

ص: 167


1- الكافي: ج 1/545 ح 14، وسائل الشيعة: ج 9/487 ح 12550 وص 542 ح 12673.
2- التهذيب: ج 4/126 ح 5، وسائل الشيعة: ج 9/489 ح 12556.
3- كالمفيد في المقنعة ص 275، والعلّامة في قواعد الأحكام: ج 1/491 (الفصل الثالث في الاغتنام)، والمحقّق الثاني في جامع المقاصد: ج 3/400-401.
4- الكافي: ج 1/539 ح 3، وسائل الشيعة: ج 9/523 ح 12625.
5- الكافي: ج 5/43 ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/524 ح 12627 و: ج 15/110 ح 20088.

والرّضخ

الفرع الثالث: ما شرطه الإمام كالجعائل التي يجعلها الإمام عليه السلام أو نائبه للمصالح، كالدليل على عورةٍ أو طريق أو غير ذلك، ومنها السلب، إذا جُعل للسلب - بناءً على ما هو الحقّ من عدم كونه له ما لم يُجعل له - يبدأ بأخذ ذلك من الغنائم ثمّ يُخمّس، ثمّ يقسّم الباقي بين الغانمين، كما صرّح به غير واحد.

وعن «المنتهى »(1) و «الغُنية»(2) الإجماع عليه.

ويشهد به: مرسل حمَّاد عن العبد الصالح عليه السلام في حديثٍ ، قال:

«وللإمام صفو المال - إلى أنْ قال - وله أن يسدّ بذلك المال جميع ما ينوبه، من مثل إعطاء المؤلّفة قلوبهم، وغير ذلك ممّا ينوبه، فإنْ بقي بعد ذلك شيء أخرج الخمس منه فقسّمه في أهله»(3).

أقول: ولا يضرّ إرساله بعد كون المرسل من أصحاب الإجماع.

الفرع الرابع: (و) ممّا ذكرناه يظهر أنّ (الرّضخ) أي القليل من العطيّة لمن لا قسمة له من الكفّار والعبيد والنساء، حكمه حكم الجعائل، فلا يجب فيه الخمس، كما عن الأكثر(4).7.

ص: 168


1- منتهى المطلب: ج 2/922، قوله: (ويختصّ به الغانمون إجماعاً بعد الخمس... الخ).
2- غنية النزوع: ص 203-204، قوله: (وأن يبدأ بسدّ ما ينوبه من خلل في الإسلام... الخ).
3- الكافي: ج 1/539 ح 4 الحديث طويل أخذ منه محلّ الشاهد هنا، وسائل الشيعة: ج 9/524 ح 12628.
4- وهو ظاهر المبسوط: ج 2/70، والعلّامة في قواعد الأحكام: ج 1/496 (المطلب الثاني في قسمة الغنيمة)، والتحرير: ج 2/187.

وعن الشيخ في «الخلاف»(1)، والشهيدين في «الدروس»(2) و «المسالك»(3)و «الروضة»(4) وجوب الخمس فيه، واستدلّ له بعموم قوله تعالى : «اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ » (5).

وأيده في «الرياض» بأنّ الرّضخ في الحقيقة نوعٌ من قسمة الغنيمة، غايته أنّه ناقص عن السهام، وذلك غير مانع، كما أنّ نقصان سهم الراجل عن سهم الفارس غير مؤثّرٍ في تقدّم الخمس عليه، وإطلاق اسم الغنيمة على المال المدفوع رضخاًواضحٌ .

وفيه: أنّ عموم الآية يُخصَّص بالمرسل، والفرق بين الرضخ وسهم الراجل، هو أنّ الراجل يستحقّ من الغنيمة قبل القسمة، ومَنْ يأخذ الرضخ لا يستحقّ شيئاً، والمرسَل ظاهرٌ في تقديم الجعائل على الخمس، وتقديم الخمس على القسمة بين المستحقّين، فتدبّر.

الفرع الخامس: (و) المعروف بين الأصحاب أنّ (الأجر) من اُجرة حافظٍ أو راعٍ أو نحو ذلك، وبعبارة اُخرى المؤن التي اُنفقت على الغنيمة بعد تحصيلها، يكون مقدّماً على الخمس، بمعنى أنّه يبدأ بأخذ ذلك منها، ثمّ يخمّس، ثمّ يقسَّم الباقي بين الغانمين.1.

ص: 169


1- الظاهر من الخلاف أنّ الرضخ من أصل الغنيمة قبل الخمس راجع: ج 4/198 مسألة 23 وهو اختيار الشيخ في المبسوط أيضاً كما عرفت في المصدر السابق.
2- الدروس: ج 2/35.
3- مسالك الأفهام: ج 3/60-61.
4- شرح اللّمعة: ج 2/403، قوله: والأقوى أنّ الخمس بعد الجعائل وقبل الرضخ.
5- سورة الأنفال: الآية 41.

وعن الشيخ في «الخلاف»، والشهيدين(1) تقديم الخمس مستدلّاً:

1 - بإطلاق الآية الشريفة(2).

واُجيب عنه: بأنّه لا إطلاق لها من هذه الجهة.

2 - وبلزوم تقيّيده بما دلّ من النصوص على أنّ الخمس بعد المؤونة.

3 - وبموافقة الاخراج للعدل، إذ المفروض كون المؤونة على جميع الغنيمة.

4 - وبعدم صدق الغنيمة على ما هو مأخوذٌ من المال إلّابعد إخراجها.

أقول: ولكن منع الإطلاق لا وجه له، ونصوص استثناء المؤنة إنّما هي في المؤن السابقة على التحصيل التي لا اشكال في عدم استثنائها في المقام، ومجرّد الموافقة للعدل لا يصلح أن يكون مستند الحكم، إلّاأن يرجع إلى ما ذكرناه، والغنيمة حين حصولها كانت تصدق على الجميع، وما يصرف فيها بعد تحصيلها لا يوجب عدم صدقها على ما يقابله.

فالصحيح أن يقال: إنّ المتصدّي لصرف المؤن إنْ كان مأذوناً في ذلك، وكانت المؤن على ما جرت العادة به، لا محالة توزَّع على الجميع فخمسها ينقص من الخمس، فلا يبقى ثمرة في النزاع في أنّ الخمس بعد المؤن أو قبلها، فتدبّر.

الفرع السادس: وأيضاً يبدأ بأخذ (ما يصطفيه) الإمام لنفسه من فرسٍ أو جاريةٍ أو سيفٍ أو غير ذلك ممّا يشاء، ثمّ يُخمّس، ويُقسّم الباقي بلا خلافٍ ، والمرسل المعتبر المتقدّم شاهدٌ به، ونحوه غيره.

الفرع السابع: من الغنائم الفداء الذي يؤخذ من أهل الحرب، كما عن1.

ص: 170


1- تقدّم الكلام عن الشيخ والشهيدين في الرضخ، المصادر السابقة.
2- في قوله تعالى: «اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ » سورة الأنفال: الآية 41.

ثمّ يخمّس الباقي.

«الدروس»(1)، و «المسالك»(2)، و «الروضة»(3)، و «كشف الغطاء»(4)، و «الجواهر»(5)وغيرها(6)، لأنّه بدل ما اغتنم، فيصدق عليه عنوان الغنيمة.

ودعوى: اختصاصها على ما لو كان بعد الغلبة ممنوعة.

وبذلك يظهر حكم ما صولح عليه.

(ثمّ ) بعد إخراج ذلك كلّه (يُخمّس الباقي) إنْ كان الحرب بإذن الإمام بلا خلافٍ ، وفي «المدارك»: (هذا الحكم مجمعٌ عليه بين المسلمين)(7).

ويشهد به:

1 - الآية الكريمة: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ اَلْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» (8).

2 - والنصوص الكثيرة.1.

ص: 171


1- الدروس: ج 2/36 قوله: (وإن أخذوا بعد الحرب تخيَّر الإمام فيهم بين المَنّ والفداء والإسترقاق).
2- مسالك الأفهام: ج 3/41، قوله: (ومال الفداء والمسترق من جملة الغنيمة).
3- شرح اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/65.
4- كما يظهر من كشف الغطاء ص 406-407 (ط. ق).
5- جواهر الكلام: ج 21/127، قوله: (ومع اختيار الاسترقاق أو المال فداء فلا ريب في أنه من الغنيمة التي يتعلّق بها حقّ الغانمين).
6- كما في تذكرة الفقهاء: ج 9/155، ورياض المسائل: ج 8/103، وفي مستمسك العروة الوثقى : ج 9/448.
7- مدارك الأحكام: ج 5/360.
8- سورة الأنفال: الآية 41.

ثمّ إنّ جماعة من الأصحاب ذهبوا إلى أنّه اُبيح هذا الخمس في زمان الغيبة، واستدلّوا له بنصوص إحلال الأئمّة عليهم السلام حقوقهم لشيعتهم(1)، وبقوله عليه السلام في صحيح عمر بن يزيد: «وكلّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محلّلون، يحلّ لهم ذلك إلى أن يقوم قائمنا فيجبيهم طِسق ما كان في أيديهم، ويترك الأرض في أيديهم. الحديث»(2).

أقول: إنّ نصوص التحليل مختصّة بأزمنة خاصّة، وموارد معيّنة على ما مرَّ مفصّلاً في كتاب الخمس(3).

وأمّا الصحيح فسيأتي التعرّض له في حكم الأراضي، وستعرف أنّه في الأنفال، وعليه فالأظهر عدم الإباحة.

وأيضاً: لا يخفى أنّ وجوب الخمس في الغنائم المأخوذة إنّما هو فيما إذا كان الحرب بإذن الإمام أو نائبه، وأمّا إذا كان بغير أذنه، فالغنائم كلّها للإمام ولا خمس فيه، ولا للغانمين منها شيء، كما هو المشهور بين الأصحاب، وعن الحِلّي(4) دعوى الإجماع عليه.

ويشهد له: صحيح معاوية بن وهب، عن الإمام الصادق عليه السلام:

«السَّرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم كيف يقسّم ؟

قال عليه السلام: إنْ قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام، أخرج منها الخمس للّه وللرسول،».

ص: 172


1- كرواية محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام:.. إلى أن قال: «وقد طيّبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم...» الكافي: ج 1/546 ح 20، وكرواية المعلّى بن خنيس قوله عليه السلام: «وما كان لنا فهو لشيعتنا وليس لعدوّنا منه شيء» الكافي: ج 1/409 ح 5، وغيرهما من روايات التحليل، التي ستطّلع على طائفة منها.
2- الكافي: ج 1/408 ح 3، وسائل الشيعة: ج 9/548 ح 12686.
3- فقه الصادق: ج 11/51.
4- تذكرة الفقهاء: ج 9/231 مسألة 131 قوله: «ولو خرج بغير إذنه لم يسهم له ولم يرضخ إجماعاً».

وقسّم بينهم أربعة أخماس، وإنْ لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين، كان كلّ ما غنموا للإمام يجعله حيث أحب»(1).

وأورد عليه الشيخ الأعظم رحمه الله(2): بأنّه لا يدلّ على المطلوب إلّاعلى القول بحجيّة مفهوم القيد في قوله عليه السلام: «مع أمير أمّره الإمام».

إذ المفروض أنّ ضمير (قاتلوا) راجع إلى السَّرية التي يبعثها الإمام، فالقيد لا يكون للتخصيص.

وفيه: إنّ دلالته تتوقّف على حجيّة مفهوم الشرط، بناءً على أنّ متلو أداة الشرط إنْ كان مقيّداً بقيد أو اُموراً متعدّدة كان مفهوم القضيّة انتفاء الحكم بانتفاء كلّ من تلك الاُمور، فإنّ قوله عليه السلام: «مع أمير أمّره الإمام» من قيود الشرط، وحيث إنّ مفهوم الشرط حجّة، فلا إشكال في دلالة الصحيح على ذلك.

وأيضاً يشهد به: مرسل العبّاس الورّاق عن رجل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذ غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلّها للإمام، وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس»(3).

وضعف سنده منجبرٌ بالشهرة، وتمام الكلام فيه في كتاب الخمس(4).

***7.

ص: 173


1- الكافي: ج 5/43 ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/524 ح 12627 و: ج 15/110 ح 20088.
2- كتاب الخمس للشيخ الأنصاري: ص 362.
3- وسائل الشيعة: ج 9/529 ح 12640، عوالي اللآلي: ج 3/130 ح 17.
4- فقه الصادق: ج 11/337.

وأربعة الأخماس الباقية إنْ كان ممّا ينقل ويحوَّل.

كيفيّة قسمة الغنائم

(و) بعد إخراج ما مرّ يقسّم الباقي من (أربعة الأخماس الباقية إنْ كان ممّا يُنقل ويحوَّل) كما هو المفروض بين المقاتلين، ومَنْ حَضَر القتال ليقاتل، والأولاد الذكور من المقاتلين دون غيرهم ممّن حضر لصنعةٍ أو حرفةٍ كالبيطار والبقال والسايس والحافط، إذا لم يقاتلوا، بلا خلافٍ في شيء من ذلك، بل الإجماع على الجميع محكي عن غير واحد.

وعمل رسول اللّه صلى الله عليه و آله في التقسيم بين المقاتلين ومن حَضَر للقتال وإنْ لم يُقاتل، أقوى شاهدٍ به، ومع ذلك تدلّ عليه روايات:

منها: مرسل حمّاد المتقدّم: «يؤخذ الخمس من الغنائم، فيُجعل لمن جعله اللّه، ويقسّم أربعة أخماس بين من قاتل عليه وولّى ذلك»(1).

ومنها: صحيح هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الغنيمة ؟ فقال: يخرج منها خمسٌ للّه وخمسٌ للرسول، وما بقي قُسِّم بين من قاتل عليه وولّي ذلك»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

أقول: وسيأتي في المسائل الآتية ما يدلّ على أنّ من يلحقهم للمعونة له سهمٌ في الغنيمة، وأمّا أولاد المقاتلين فيشهد أنّ لهم سهماً ما سيأتي في مسألة ما لو وُلد

ص: 174


1- الكافي: ج 5/44 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/110 ح 20089.
2- الكافي: ج 5/45 ح 7، وسائل الشيعة: ج 15/112 ح 20092.
3- الكافي: ج 5/43 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/110 ح 20088.

فللمقاتلة ومَنْ حَضَر القتال وإنْ لم يقاتل، للرجّال سهمٌ ، وللفارس سهمان.

للمقاتل في أرض الحرب بعد الحيازة.

وأمّا أنّ من حضر لا للقتال، فعدم السهم له مقتضى الروايات الحاصرة على أنّ الحكم متّفقٌ عليه.

(ف) المتحصّل: أنّ أربعة الأخماس (للمقاتلة ومن حَضَر القتال وإنْ لم يقاتل) وأولادهم (خاصّة).

أقول: وتمام الكلام في ضمن مسائل:

المسألة الأُولى: (للرّاجل) وهو من ليس معه فرس، سواءٌ أكان راجلاً أو راكباً غير الفرس (سهمٌ ) بلا خلافٍ بين العلماء، كما عن «المنتهى»(1)، (وللفارس سهمان) بلا خلافٍ بيننا إلّاعن الإسكافي(2)، فإنّه قال: للفارس ثلاثة أسهم.

ويشهد للحكمين: مضافاً إلى ما ذُكر، خبر حفص بن غياث المنجبر بما عرفت عن الإمام الصادق عليه السلام عن مسائل من السَّريّة وفيها:

«كيف تُقسّم الغنيمة بينهم ؟ قال: للفارس سهمان، وللرّاجل سهم.

قلت: ولم يركبوا ولم يقاتلوا على أفراسهم ؟!

قال: أرأيتَ لو كانوا في عسكرٍ فتقدّم الرجّالة فقاتلوا فغَنِمُوا كيف اُقسّم بينهم، ألم أجعل للفارس سهمين وللرّاجل سهماً، وهم الذين غنموا دون الفرسان ؟»(3).4.

ص: 175


1- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/949.
2- فتاوى ابن الجنيد (إعداد الأشتهاردي): ص 158.
3- الكافي: ج 5/44 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/103 ح 20074.

ولذي الأفراس ثلاثة.

ويؤيّده: خبر مقداد، قال: «أعطاني رسول اللّه صلى الله عليه و آله سهمين؛ سهماً لي، وسهماً لفرسي»(1) وما تضمّن تقسيم رسول اللّه خيبر على أهل الحُديبيّة(2).

وأمّا خبر مسعدة، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يجعل للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهماً»(3).

وخبر إسحاق بن عمّار، عن جعفر، عن أبيه عليه السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام كان يجعل للفارس ثلاثة أسهم وللرّاجل سهماً»(4) ونحوه خبر أبى البختري(5).

فلضعف سندها، وقصورها عن معارضة ما تقدّم المشهور بين الأصحاب، وموافقتها للعامّة، لابدّ من طرحها، أو حملها على ما حمله الشيخ(6) عليه من تعدّد الأفراس.

(و) ذلك لأنّ (لذي الأفراس) أي من له فَرَسان فصاعداً (ثلاثة) أسهم بلا خلاف.

وفي «الرياض»(7)، وعن «التذكرة»(8)، و «المنتهى»(9) الإجماع عليه.2.

ص: 176


1- عمدة القاري (للعيني): ج 14/155.
2- بحار الأنوار: ج 21/8، تفسير الطبري: ج 22/202.
3- وسائل الشيعة: ج 15/104 ح 20075، قرب الإسناد ص 42.
4- التهذيب: ج 6/147 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/116 ح 20103.
5- التهذيب: ج 6/147 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/116 ح 20104.
6- التهذيب: ج 6/147 في ذيل ح 3، الإستبصار: ج 3/4 في ذيل ح 2.
7- رياض المسائل: ج 7/519.
8- تذكرة الفقهاء (ط ج): ج 9/249.
9- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/952.

ومَنْ وُلِد بعد الحيازة قبل القسمة أسهم له.

ويشهد به: المرتضوي: «إذا كان مع الرجل أفراس في الغزو، لم يُسهم له إلّا لفرسين منها»(1).

وما عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «أنّه كان لا يُسهم للرجل فوق فرسين، وإنْ كان له عشر أفراس»(2).

(و) المسألة الثانية: (من وُلِد بعد الحيازة قبل القسمة أُسهم له) والظاهر أنّه لا خلاف فيه.

ويشهد به: خبر مسعدة بن صدقة، عن جعفرٍ، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام: «أنّ عليّاً عليه السلام قال: إذا ولد المولود في أرض الحرب قُسّم له ممّا أفاء اللّه عليهم»(3).

وخبر أبي البختري، عنه عليه السلام، عن أبيه، عن علي عليه السلام: «إذا ولد المولود في أرض الحرب أُسهم له»(4).

وإطلاق الخبرين يشمل الذكر والاُنثى ، إلّاأنّه يختصّ هنا بالأوّل لما تقدّم من أنّه لا سهم للاُنثى .

وفي «المسالك»(5): (وإطلاق الفتاوى يقتضي عدم الفرق بين كونه من أولاد المقاتلة وغيرهم، وبين حضور أبوية أو أحدهما وعدمه).1.

ص: 177


1- الكافي: ج 5/44 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/115 ح 20102.
2- سنن سعيد بن منصور: ج 6/357 ح 2592.
3- التهذيب: ج 6/147 ح 5، وسائل الشيعة: ج 15/113 ح 20095.
4- وسائل الشيعة: ج 15/113 ح 20096، قرب الإسناد ص 65.
5- مسالك الأفهام: ج 3/61.

وكذا من يلحقهم للمعونة،

وفي «الجواهر»(1): (ولعلّه يريد من حضر للقتال من غير المقاتلة لا مطلقاً).

وكيف كان، فالحكم ظاهر، والنص مختصٌّ بما أفاده صاحب «الجواهر»، وإطلاقهما شاملٌ لما لو ولد بعد الحيازة وقبل القسمة.

(و) المسألة الثالثة: أنّه كما يُسهَم للمولود (كذا) يشارك أيضاً (من يلحقهم) أي المقاتلة من المدد الواصل إليهم (للمعونة) ويقاتل معهم، فلم يدرك القتال، والظاهر أنّه أيضاً لا خلاف فيه، وحُكي الإجماع عليه غير واحدٍ.

ويشهد به: خبر حفص بن غياث، عن الإمام الصادق عليه السلام عن مسائل من السَّرية: «قال: فكان فيما سألت: أخبرني عن الجيش إذا غزوا أرض الحرب فغنموا غنيمة، ثمّ لحقهم جيشٌ آخر قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام، ولم يلقوا عدوّاً حتّى يخرجوا إلى دار الإسلام، فهل يشاركونهم فيها؟ قال عليه السلام: نعم»(2).

وهو وإن يشمل صورة الوصول إليهم بعدالقسمة، إلّاأنّهاخارجة بإجماع العلماء.

وعن «التحرير»(3) و «المنتهى»(4) الإجماع على الاسهام لهم إذا كان الالتحاق بهم قبل انقضاء الحرب، فإنْ ثبت وإلّا فمقتضى الإطلاق الإسهام، حتّى ولو كان الالتحاق بعده قبل القسمة والخروج إلى دار الإسلام.2.

ص: 178


1- جواهر الكلام: ج 21/199.
2- التهذيب: ج 6/145 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/102 ح 20072.
3- تحرير الأحكام: ج 2/192.
4- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/952.

ولا يفضّل أحدٌ على غيره لشرفه أو شدّة بلائه.

التسوية بين الناس في قسمة الغنيمة

(و) المسألة الرابعة: (لا يفضّل أحدٌ على غيره) في الغنيمة وبيت المال (لشرفه أو شدّة بلائه) بلا خلافٍ ، والنصوص الكثيرة شاهدة بذلك، لاحظ:

1 - المرتضوي: «واللّه لا أجدُ لبني إسماعيل في هذا الفيء على بني إسحاق»(1).

2 - وخبر عاصم بن ضمرة: «أنّ عليّاً عليه السلام قسّم قسماً فسوّى بين الناس»(2).

3 - وصحيح محمّدبن مسلم، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «لمّا ولّي عليٌّ عليه السلام صَعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أما إنّي واللّه ما ارزؤكم من فيئكم هذا درهماً ما قام لي عذقٌ بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم ؟

قال: فقام إليه عقيل كرّم اللّه وجهه، فقال: فتجعلني وأسود في المدينة سواء؟!

فقال: اجلس ما كان هاهنا أحدٌ يتكلّم غيرك! وما فضلك عليه إلّابسابقة أو تقوى »(3).

4 - وخبر أبي مِخنف الأزدي: «أتى أمير المؤمنين عليه السلام رهطٌ من الشيعة فقالوا: يا أمير المؤمنين لو أخرجتَ هذه الأموال ففرقتها في هؤلاء الرؤساء والأشراف، وفضّلتهم علينا حتّى إذا استوثقت الاُمور عُدت إلى أفضل ما عودك اللّه من القسم بالسَّوية، والعدل في الرعيّة.

ص: 179


1- وسائل الشيعة: ج 15/107 ح 20079، بحار الأنوار: ج 34/350.
2- وسائل الشيعة: ج 15/107 ح 20080، الغارات: ج 1/71.
3- الكافي: ج 8/182 ح 204، وسائل الشيعة: ج 15/105 ح 20076.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أتأمروني ويحكم أن أطلب النصر بالظلم والجور فيمن ولّيت عليه من أهل الإسلام! لا واللّه لا يكون ذلك ما سمر التسمير وما رؤيت في السماء نجماً، واللّه لو كانت أموالهم مِلْكي لساويت بينهم، فكيف وإنّما هي أموالهم، الحديث»(1).

5 - وخبر ربيعة وعمارة: «أنّ طائفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام مشوا إليه عند تفرّق الناس عنه، وفرار كثيرٍ منهم إلى معاوية طالباً لما في يديه من الدُّنيا، فقالوا يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن يخاف عليه من الناس فراره إلى معاوية.

فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! لا واللّه لا أفعل ما طَلَعت شمسٌ ولاح في السماء نجم، واللّه لو كان مالهم لي لواسيتُ بينهم، وكيف وإنّما هو أموالهم، الحديث»(2).

6 - وخبر محمّد بن جعفر العقبي رفعه، قال:

«خَطَب أمير المؤمنين عليه السلام فحمد اللّه وأثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمَة، وأنّ الناس كلّهم أحرار، ولكن اللّه خوّل بعضكم بعضاً، فمن كان له بلاءٌ فصبر في الخير، فلا يمنّ به على اللّه عزّ وجلّ ألا وقد حضر شيء ونحن مسوّون فيه بين الأسود والأحمر.

فقال مروان لطلحة والزبير: ما أراد بهذا غيركما.

قال: فأعطى كلّ واحدٍ ثلاثة دنانير، وأعطى رجلاً من الأنصار ثلاثة دنانير،3.

ص: 180


1- الكافي: ج 4/31 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/105 ح 20077.
2- وسائل الشيعة: ج 15/107 ح 20081، الأمالي للطوسي 194 ح 331-33.

ويقسّم ما يغنم في المراكب هذه القسمة،

وجاء بعده غلامٌ أسود فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين هذا غلامٌ أعتقته بالأمس تجعلني وإيّاه سواء؟

فقال عليه السلام: إنّي نظرتُ في كتاب اللّه فلم أجد لولد إسماعيل عليولد إسحاق فضلاً»(1).

ونحوها غيرها(2) من النصوص الدالّة على حكم المقام بالخصوص أو العموم.

المسألة الخامسة: (ويقسّم ما يغنم) من القتال (في المراكب) والسفن وإن استغنوا عن الخيل (هذه القسمة) أي للفارس سهمان وللرّاجل سهم، ولذي الفرسين فصاعداً ثلاثة أسهم بلا خلافٍ فيه ظاهراً، وصرّح به في «المنتهى»(3) مؤذناً بدعوى الإجماع عليه، كما في صريح «الغُنية»(4)، كما صرّح به في «الرياض»(5).

ويشهد به: خبر حفص - المُنجبر بما عرفت - عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن سريةٍ كانوا في سفينة فقاتلوا وغنموا، وفيهم من معه الفرس، وإنّما قاتلوهم في السفينة ولم يركب صاحب الفرس فرسه، كيف تقسم الغنيمة بينهم ؟

قال عليه السلام: للفارس سهمان، وللرّاجل سهم.

فقلت: لم يركبوا ولم يقاتلوا على أفراسهم ؟!

فقال: أرأيتَ لو كانوا في عسكرٍ فتقدّم الرجّالة فقاتلوا فغنموا، كيف9.

ص: 181


1- الكافي: ج 8/69 ح 26، بحار الأنوار: ج 32/133 ح 107.
2- التهذيب: ج 6/146 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/106 ح 20078.
3- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/951.
4- غنية النزوع: ص 204.
5- رياض المسائل: ج 7/519.

ولا يُسهم لغير الخيل.

اُقسّم بينهم، ألم أجعل للفارس سهمان وللراجل سهم، وهم الذين غنموا دون الفرسان ؟» الحديث(1).

(ولا يُسهَم لغير الخيل) من سائر الدواب كالإبل والبقر والحمير والبغال، ويكون راكبها في الغنيمة كالراجل يكون له سهمٌ واحد بلا خلافٍ .

وعن «المنتهى»(2): (قال به علماؤنا أجمع، وهو قول عامّة أهل العلم، ومذهب الفقهاء في القديم والحديث).

وفي «الرياض»(3): (لنا أنّه لم يُنقل عن النبيّ صلى الله عليه و آله إسهامُ غير الخيل من البهائم، وقد كان معه يوم بدر سبعون بعيراً ولم ينفك غزواته من استصحاب النُجُب، بل كانت هي الغالب على دوابّهم، ولو أسهم لها لنُقل، كذلك لم يُنقل عن أحدٍ من الأئمّة بعده سهمٌ للإبل ولا غير الخيل من الدواب.

ولأنّ الفرس ينفر بالكَرّ والفر والطلب والحرب، بخلاف الإبل فإنّها لا تصلح لذلك، فأشبهت البغال والحمير) انتهى ، وهو حسن.

وأمّا الآية الشريفة: «وَ ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اَللّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ » (4) فلا تدلّ على أنّ للركاب أي الإبل سهماً، فإنّ مفاد الآية أنّ ما أرجعه اللّه إلى رسوله من أموال بني النضير6.

ص: 182


1- الكافي: ج 5/44 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/103 ح 20074.
2- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/950-951.
3- رياض المسائل: ج 7/520.
4- سورة الحشر: الآية 6.

والإعتبار بكونه فارساً عند الحيازة لا بدخول المعركة.

مختصّ به، وملك له خاصّة، ولم تسير عليه فرساً ولا إبلاً بالركوب حتّى يكون لكم فيه حقّ ، بل مشيتم إلى حصونهم القريبة من المدينة، ولكن اللّه سلّط النبيّ صلى الله عليه و آله على بني النضير فله فيئهم يفعل فيه ما يشاء.

وأيضاً: ثمّ إنّ الفارس الذي له سهمان إنّما هو فيما إذا كان فارساً حين الحيازة لا قبلها، وإليه أشار بقوله: (والإعتبار بكونه فارساً عند الحيازة لا بدخول المعركة) فلو دخل المعركة فارساً، ثمّ ذهب فرسه قبل انقضاء الحرب لم يُسهَم لفرسه، ولو دخلها راجلاً فأحرز الغنيمة وهو فارس فله سهمُ فارس، بلا خلافٍ ظاهر بيننا في الأوّل، وعلى المشهور في الثاني.

وعن المحقّق الكركي(1) وفي «المسالك»(2) و «الرياض»(2) اختيار أنّ العبرة بكونه فارساً عند القسمة، وإنْ كان عند الحيازة راجلاً.

أقول: أمّا عدم كون الميزان هو دخول المعركة فهو مسلّم، ولذلك قال صاحب «المسالك»(4): (لا إشكال في عدم اعتباره عند دخول المعركة، وهو المستند وإنْ لم يمكن تطبيق ذلك على ظواهر النصوص)، لأنّ المنساق إلى الذهن من قوله:

للفارس سهمان هو من قاتل معه.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّه بواسطة أخبار المدد، والقتال في السفينة، والمولود يكون المنساق منه هو الفارس عند الحيازة أو القسمة، لا الفارس حين القتال.1.

ص: 183


1- جامع المقاصد: ج 3/417. (2و4) مسالك الأفهام: ج 3/63.
2- رياض المسائل: ج 7/521.

ولا نصيب للأعراب وإنْ جاهدوا.

وأمّا اعتبار كونه فارساً عند الحيازة أو عند القسمة:

فقد يقال: إنّه مبنيٌّ على أنّ الغنيمة تصير ملكاً عند الحيازة، أو عند القسمة، وهو متين، وعليه فالأوّل أظهر:

1 - لقوله عليه السلام في خبر حفص معلّلاً لعدم النقل بعد انقضاء القتال، بأنّ «الغنيمة قد اُحرزت»(1).

2 - وللمرتضوي: «من مات في دار الحرب من المسلمين قبل أن تُحرز الغنيمة، فلا سهم له فيها، وإنْمات بعد أن اُحرزت فسهمه ميراث لورثته، ولا قوّة إلّاباللّه»(2).

لا نصيب للأعراب

المسألة السادسة: قيل: (و) القائل الشيخ في «المبسوط»(3) والمحقّق في «النافع»(4)، والمصنّف في «المختلف»(5) وهنا، والشهيدان في «الدروس»(6)و «المسالك»(7)، وغيرهم من المتأخرين: إنّه (لا نصيب للأعراب وإن جاهدوا) والمراد

ص: 184


1- الكافي: ج 5/44 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/103 ح 20074.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 11/97 ح 12511-7، دعائم الإسلام: ج 1/387.
3- المبسوط: ج 2/74.
4- المختصر النافع: ص 113.
5- مختلف الشيعة: ج 4/409.
6- الدروس: ج 2/36.
7- مسالك الأفهام: ج 3/65.

بهم - على ما في «الشرائع»(1) - من أظهر الإسلام ولم يصفه، وصولح على إعفائه عن المهاجرة بترك الصيب.

وفي «الرياض»(2): (لم يُنقل في الحكم خلافٌ إلّاعن الحِلّي في «السرائر»(3)حيث شرّك بينهم وبين المقاتلة، مدّعياً شذوذ الرواية ومخالفتها لاصول المذهب، والإجماع على أنّ من قاتل من المسلمين فهو من جملة المقاتلة، وأنّ الغنيمة للمقاتلة.

وردّه في «التنقيح»(4) بأنّه مع الصلح على ذلك يسقط الاستحقاق) انتهى .

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ له:

1 - بصحيح عبد الكريم بن عتبة، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ طويل:

«أنّه قال لعمرو بن عبيد: أرأيت الأربعة أخماس تقسّمها بين جميع من قاتل عليها؟ قال: نعم.

قال: فقد خالفتَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله في سيرته، بيني وبينك فقهاء أهل المدينة ومشيختهم، واسألهم فإنّهم لا يختلفون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله صالح الأعراب على أن يَدَعهم في ديارهم، ولا يهاجروا على أنّه إنْ دهمهم من عدوّ دهمٌ أن يستنفرهم فيقاتل بهم، وليس لهم في القسمة نصيب، وأنتَ تقول بين جميعهم فقد خالفت رسول اللّه صلى الله عليه و آله في كلّ ما قلت في سيرته في المشركين»(5).

2 - وللمرسل الصحيح عن أبي الحسن عليه السلام في حديثٍ :0.

ص: 185


1- شرائع الإسلام: ج 1/249.
2- رياض المسائل: ج 7/525.
3- السرائر: ج 2/21.
4- التنقيح الرائع: ج 1/586.
5- الكافي: ج 5/23 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/111 ح 20090.

«وليس للأعراب من الغنيمة شيء وإنْ قاتلوا مع الإمام، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله صالح الأعراب أن يدعهم في ديارهم ولا يهاجروا، على أنّه إنْ دَهَم رسول اللّه صلى الله عليه و آله من عدوّه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم وليس لهم في الغنيمة نصيب، وسنّته جارية فيهم وفي غيرهم»(1).

أقول: قد صار الخبران معركة الآراء، وقد ضعّفهما بعضهم سنداً، والآخر دلالةً ، لاحتمال كون المراد من (الأعراب) الكفّار المؤلّفة قلوبهم، ولتضمّنهما المصالحة على ترك المهاجرة المعلوم وجوبها، فيكون من الصلح الباطل، والثالث بمخالفتهما لاُصول المذهب والإجماع على اشتراك المقاتلة.

وأجاب الآخرون عن جميع ذلك، ولا يهمّنا تفصيل القول في ذلك، وإنّما المهمّ بيان ما هو الحقّ ، وملخصه:

أنّه لو سُلّم كون المراد بالأعراب مطلق من يصدق عليه ذلك، وإن دخل الإيمان في قلبه ولم يكن إسلامه ظاهريّاً، وأيضاً لا يكون المراد خصوص من في عصره صلى الله عليه و آله، لابدّ من تقييد الحكم وتخصيصه بخصوص من في عصره صلى الله عليه و آله، وذلك لأنّه علّل عدم النصيب لهم بمصالحته صلى الله عليه و آله معهم هكذا، ومن المعلوم أنّ الصلح مع تلكم الجماعة لا جميع الأعراب.

وأيضاً: ظاهر الخبرين أنّه لو لا المصالحة كانوا مستحقين للغنيمة، ومن المعلوم أنّه لا معنى لسقوط حقّ الجميع بالمصالحة مع جمع منهم، وحيث أنّ العلّة تعمّم وتخصّص، فيختصّ الحكم بخصوص أعراب عصره الذين صالحهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ولعلّه إلى ذلك نظر من قال لتضمنهما قضيّة في واقعة لا عموم لهما.9.

ص: 186


1- الكافي: ج 5/44 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/110 ح 20089.

وتصريحهما لفظاً ومعنىً بأنّ ذلك سُنّة جارية لا ينافي ذلك، إذ يمكن أن يقال بدلالتهما على أنّ للوالي والإمام أن يصالح مع بعض من يستحقّ من الغنيمة بشيء معيّن، أو أن يكون حقّه ساقطاً، ويكون ذلك سُنّة جارية لا عدم النصيب للأعراب.

أقول: ويمكن دعم ما ذكرناه بعدم إفتاء أحدٍ من الفقهاء قبل الشيخ بل والشيخ نفسه في سائر كتبه، ولا من بعده من الفقهاء حتّى من هو تابعه في الفتوى إلى زمان المحقّق، وموافقتهما للعامّة على ما يظهر من الصحيح.

فالمتحصّل: أنّه لا دليل على هذا الحكم، ومقتضى العمومات واُصول المذهب عدم المشاركة.

اعتبار عدم الغصبية في المغتنم

المسألة السابعة: يعتبر في المغتَنم أن لا يكون غصباً من محترم المال، وإلّا وجب ردّه إلى صاحبه كما هو المشهور.

والدليل عليه: هو ما دلّ على احترام ماله، وخبر الطربال عن الإمام الباقر عليه السلام المروي عن كتاب المشيخة: «في رجل كان له جارية فأغار عليه المشركون فأخذوها منه، ثمّ إنّ المسلمين بعد غزوهم أخذوها فيما غنموا منها؟ قال: إنْ كانت في الغنائم، وأقام البيّنة على أنّ المشركين أغاروا عليهم فأخذوها منه رُدّت عليه»(1)ونحوه غيره(2).

وعن الشيخ في «النهاية»(3) كونه للمقاتلة مع غرامة الإمام لأربابه الأثمان من بيت المال.

ص: 187


1- التهذيب: ج 6/160 ح 5، وسائل الشيعة: ج 15/99 ح 20064.
2- الإستبصار: ج 3/5 ح 3، وسائل الشيعة: ج 15/98 ح 20063.
3- النهاية: ص 295.

واستدلّ له: بما في مرسل هشام، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في السبي يأخذ العدوّ من المسلمين، ثمّ إنّ المسلمين أخذوهم منهم بعد القتال، وأمّا المماليك فإنّهم يقامون في سهام المسلمين، فيُباعون ويعطى مواليهم قيمة أثمانهم من بيت مال المسلمين»(1).

وأُورد عليه: بأنّه لمعارضته مع جملةٍ من النصوص:

منها: خبره الآخر(2) الدالّة على أنّ المسلم أحقّ بما له أينما وجده، يتعيّن حمله على ما لو لم يصبهم إلّابعد تفرّق الناس، وتقسيم جميع الغنائم، كما يشهد بذلك بعض النصوص.

أقول: ذيل خبر طربال ينافي هذا الحمل، فإنّه صريح في أنّه يأخذها من الذي هي في يده، إذا أقام البيّنة، ويرجع الذي في يده إذا أقام البيّنة على أمير الجيش بالثمن، فالمتعيّن طرحه.

***2.

ص: 188


1- التهذيب: ج 6/159 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/97 ح 20060.
2- التهذيب: ج 6/159 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/98 ح 20062.

والأسارى من الإناث والأطفال يُملكون بالسبي.

الأُسارى

المقام الثاني: في الأسارى (و) هم على ضربين:

ذكورٌ وإناث، والذكور بالغون وأطفال.

أمّا (الأسارى من الإناث) مطلقاً من الكفّار الأصليّين الحربيّين غير معتصمين بذمّةٍ أو عهدٍ أو أمان (والأطفال) كذلك (يُملكون بالسَّبي) ولا يقتلون بلا خلاف، وعن «الغُنية»(1) و «التذكرة»(2) الإجماع عليه.

ويشهد به: الخبر الذي رواه المصنّف في محكي «المنتهى»(3) من أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله نَهى عن قتل النساء والولدان، وكان يسترقّهم إذا سباهم(4) المنجبر ضعفه بالعمل.

ويشهد لعدم جواز قتلهم نصوص(5).

أقول: وهل يعتبر في التملّك قصده، أم لا؟

الظاهر ذلك، فإنّ الإسترقاق ظاهرٌ في ذلك، مع أنّ الأصل عدم الملكيّة والمتيقّن الملكيّة، مع بينة التملّك.

وأيضاً: يعتبر في التملّك صدق السَّبي والقهر، لإختصاص الدليل بهذه الصورة،

ص: 189


1- غنية النزوع: ص 201-202.
2- تذكرة الفقهاء (ط ج): ج 9/154.
3- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/911.
4- التهذيب: ج 6/156 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/64 ح 19993.
5- راجع وسائل الشيعة: ج 15 باب 18 من أبواب جهاد العدو و... ص 64.

والأصل عدمه مع عدم الصدق، فلا يكفي مجرّد النظر، ولا وضع اليد، ولا غير ذلك ممّا لا يتحقّق معه صدقهما.

فما اشتهر بين بعض المتفقّهين من حليّة الكافرات في بلادهنّ مع قصد التملّك، وأنهنّ بحكم الإماء ممّا لا أصل به.

ولو اشتبه الطفل بالبالغ، ولم يكن هناك من علامات البلوغ غير الإنبات اعتبر به بلا خلاف.

ويشهد به: خبر أبي البُختري، عن الإمام الصادق، عن أبيه عليهما السلام:

«أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عرضهم يومئذٍ على العانات، فمن وجده أنبت قبله، ومن لم يجده أنبت ألحقة بالذّراري»(1).

وقريب منه خبر «عوالي اللآلي»(2).

ولو ادّعى استعجال النبات بالدواء، فلاعبرة به، لكن هل تُقبل هذه الدعوى منه ؟

الظاهر ذلك للكبرى الكليّة المسلّمة في باب القضاء، وهي (سماع دعوى ما لا يُعلم إلّامن قِبل المُدّعي)، وقد ذكر الشهيد الثاني رحمه الله(3) من موارد هذه الكبرى الكليّة اثنين وعشرين مورداً، منها هذا المورد، وادّعى أنّ الحكم مسلّم.

وأيضاً: قال الأصحاب: إنّه لو ادّعى الإحتلام، وكان ممكناً في حقّه قُبلت دعواه، واستدلّوا له بعموم ما دلّ على قبوله في غيره، ولم أقف عاجلاً على ذلك سوى القاعدة الكليّة المُشار إليها، وقد ذكره الشهيد الثاني من تلكم الموارد، وعلى الجملة فهي قاعدة متّفق عليها.2.

ص: 190


1- التهذيب: ج 6/173 ح 17، وسائل الشيعة: ج 15/147 ح 20182.
2- عوالي اللآلي: ج 1/221 ح 97.
3- مسالك الأفهام: ج 13/501-502.

والذكور البالغون إنْ أُخذوا قبل أن تضع الحرب أوزارها وجب قتلهم،

أقول: وبه يظهر الجواب عمّا استدلّ به لعدم القبول في المقام، بأنّ إطلاق ما دلّ على أنّ الإنبات أمارة البلوغ يقتضي الحكم به في الفرض، لما سيأتي في كتاب الحجر(1) من اختصاص أماريّة الإنبات بما إذا كان لا بعلاج، بل كان من قبل اللّه سبحانه بمقتضى العادة والطبيعة.

وعليه، فمقتضى هذه الكليّة كون الإنبات في الفرض بالدواء، أضف إلى ذلك كلّه الشبهة الدارئة للقتل، وعليه فلا اشكال في الحكم.

(و) أمّا (الذكور البالغون) ف (إنْ أُخذوا قبل أن تضع الحرب أوزارها وجب قتلهم) بلا خلافٍ يعتدّ به فيه.

ويشهد به: خبر طلحة بن زيد المنجبر بالعمل، وبما صرّح به أهله من أنّ كتابه معتمد: «سمعتُ أبا عبداللّه عليه السلام يقول: «كان أبي يقول: إنّ للحرب حكمين: إذا كانت الحرب قائمة ولم تضع أوزارها، ولم يُثخن أهلها، فكلّ أسيرٍ أُخذ في تلك الحال فإنّ الإمام فيه بالخيار، إنْ شاء ضَرَب عنقه، وإن شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم، ثمّ يتركه يتشحّط في دمه حتّى يموت. الحديث»(2).

وأمّا الآية الكريمة: «فَإِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ اَلرِّقابِ حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها» (3)فلا تنافي ما ذكرناه كما توهم، فإنّ مفاد الآية أنّه إذا لقيتم الكفّار في القتال، يتحتّم4.

ص: 191


1- فقه الصادق: ج 29/378.
2- الكافي: ج 5/32 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/71 ح 20007.
3- سورة محمّد: الآية 4.

ما لم يسلموا.

عليكم القتل بالسيف وشبهه إلى أن يكثر القتل، وتغلبوا على العدوّ وتقهروهم وحينئذٍ وظيفتكم مع الأسارى أن تمنّوا عليهم بعد الأسر فتطلقوهم أو تسترقّونهم، وإمّا تفدونهم فداءً بالمال، أو يمنّ لكم عندهم من الأسارى حتّى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم، وقيل حتّى لا يبقى دينٌ غير الإسلام.

ومبنى القولين إرادة الآثام من الأوزار، ومعناها حتّى يضع أهل الحرب شركهم ومعاصيهم ظاهراً، بحيث لم يبق إلّامسلم أو مسالم.

وربما يقال: إنّ أوزار الحرب تعني أثقالها وهي الأسلحة التي يحملها المحاربون، والمراد وضع المقاتلين وأهل الحرب أسلحتهم، كناية عن انقضاء القتال، وعليه فيكون قوله: «حَتّى تَضَعَ اَلْحَرْبُ أَوْزارَها» قيداً لقوله: «فَضَرْبَ اَلرِّقابِ » ، وكأنّه جعل في الآية تقديماً وتأخيراً، وتقديره فضرب الرقاب حتّى تضع الحرب أوزارها، ثمّ قال: «حَتّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا اَلْوَثاقَ فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً » ولا حرج في ذلك.

وقد يقال: إنّ المراد بالإثخان ليس إكثار القتل وغلبة العدوّ وقهرهم، بل المراد كثرة المسلمين وقوّة الإسلام.

وكيف كان، فالحكم المذكور مقيّدٌ ب (ما لم يسلموا) بلا خلافٍ ، فإن أسلموا سقط قتلهم إجماعاً كما عن «المنتهى»(1)، وللأدلّة التالية:

1 - للنبوي: «اُمرتُ أن اُقاتل الناس حتّى يقولوا: لا إله إلّااللّه، فإذا قالوها8.

ص: 192


1- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/928.

عصموا منّي دماؤهم»(1).

2 - وخبر الزُّهري، عن علي بن الحسين عليه السلام: «الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئاً»(2).

إنّما الخلاف في حكمهم بعد الإسلام:

فعن الشيخ(3)، وفي «المسالك»(4)، وعن المصنّف في «المنتهى»(5): أنّه يتخيّر الإمام بين استرقاقهم والمنّ عليهم، والفداء.

وقيل: بتعيّن الفداء.

وحُكي في الكتابين تعيّن المَنّ ، واختاره في «الرياض»(5).

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّه مقتضى الجمع بين خبرالزُهري المقتضي لتعيّن الاسترقاق ولاقائل به، وبين المرسل المنقول في «المنتهى» وغيره، وفيه: أنّه صلى الله عليه و آله فادى أسيراًأسلم برجلين»(7).

2 - وبأولويّته من الكافر الذي أُسر بعد تقضّي الحرب وإسلامه، فإذا ثبت التخيّير بين الثلاثة في هذه الحالة ثبت في الحالة القويّة.

ولكن يردّ الأوّل: أن المرسل غير واجدٍ لشرائط الحجيّة، وكذا خبر الزُّهري.

ويرد الثاني: أنّ حكمه في الأخذ بعد انقضاء الحرب، ثبوت حقّ الاسترقاق، والإسلام لا يوجبُ سقوط هذا الحقّ ، وأمّا الأخذ قبل انقضاء الحرب فحكمه القتل،2.

ص: 193


1- صحيح البخاري: ج 1/42، صحيح مسلم: ج 1/116 وغيرهما.
2- الكافي: ج 5/35 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/72 ح 20008.
3- الخلاف: ج 4/191، النهاية ص 296.
4- مسالك الأفهام: ج 3/41. (5و7) منتهى المطلب (ط ق): ج 2/927.
5- رياض المسائل: ج 7/532.

ويتخيّر الإمام بين ضرب أعناقهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، ويتركهم حتّى ينزفوا ويموتوا.

والإسلام يوجب سقوطه، وأمّا ثبوت حقّ الاسترقاق ابتداءاً فلا دليل عليه.

فالمتحصّل: أنّ حقّ الاسترقاق هناك ثابتٌ قبل الإسلام، وهنا إن ثبت، فهو ثابتٌ بعده فلا أولويّة.

وقد يستدلّ له أيضاً: بأنّ الأسر مقتضٍ للاسترقاق باعتبار كونهم فيئاً للمسلمين وممّاليك لهم، كما في بعض النصوص النافية للرِّبا بينهم وبين المسلم(1)وإن تعيّن قتله شرعاً، فيصحّ حينئذٍ استصحابه بعد سقوط القتل بالإسلام، ويتبعه الفداء والمَنّ .

وعلّق عليه صاحب «الجواهر»(2) بقوله: (ولعلّه لا يخلو من قوّة).

ولكن يردّه: مضافاً إلى أنّه لو كان لتلك النصوص إطلاقٌ شاملٌ لما قبل الإسلام، فهو شاملٌ لما بعده، ولا حاجة إلى الاستصحاب وإنْ لم يكن له إطلاق - كما هو الحقّ - فلا متيقّن في البين كي يستصحب.

فالأظهر: عدم الدليل على الاسترقاق والفداء، ومقتضى الأصل عدمهما، فالمتعيّن هو المَنّ بالخصوص.

(و) حيثُ يجوز القتل، ف (يتخيّر الإمام بين ضرب أعناقهم، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ ، ويتركهم حتّى ينزفوا ويموتوا).5.

ص: 194


1- الإستبصار: ج 3/70 باب 43 من كتاب الجهاد، وسائل الشيعة: ج 18 باب 7 من أبواب الرِّبا ص 135.
2- جواهر الكلام: ج 21/125.

في «المسالك»(1): (ويُنزفوا بضمّ الياء وفتح الزاء على البناءللمفعول لأنّ الدّم هو الفاعل للنزف لغةً ، قاله الجوهري(2)، نَزَفه الدّم: إذا خرج منه دمٌكثير حتّى يضعف، فهو نزيف ومنزوف، ونبّه بقوله: حتّى يموتوا، على أنّه لابدّ من موتهم) إنتهى .

وقالوا: إنّ هذا التخيّير شهوة لا تخيير مصلحة بحيث يتعيّن للإمام اختيار ما هو الأصلح.

وأُشكل عليهم: في «المسالك»(3) بأنّه يمكن أن يكون من قبيل التخيّير بين الثلاثة المتقدّمة.

أقول: مجرّد الإمكان لا يكفي في الحكم، بل لابدّ من ملاحظة الدليل، فسيمرّ عليك.

والمراد من قوله: (من خلاف) أخذ القطع كلّاً من اليد والرجل من جانبٍ مخالف لجانب الاُخرى كاليد اليمنى والرِّجل اليسرى ، وهذا قرينة على كون المراد من قطع الأيدي والأرجل قطع بعضها دون الجميع، أي إحدى اليدين وإحدى الرجلين مع مراعاة مخالفة الجانب.

ثمّ إنّ ضرب العنق أسهل أنواع القتل والقطع من خلاف إصعبهما، فلعل مراد القوم وكذا الخبر الآتي من التخيّير بينهما، أنّه يتعيّن قتلهم، والإمام مخيّرٌ بين أنواع القتل، فقول القاضي(4) غير مخالفٍ لقول المشهور، وكذا ما عن الحِلّي(5) من التخيّير بين القتل والصلب.7.

ص: 195


1- مسالك الأفهام: ج 3/40.
2- الصحاح: ج 4/1431.
3- مسالك الأفهام: ج 3/40.
4- المهذّب: ج 1/317.
5- السرائر: ج 3/507.

وكيف كان، فالمشهور بين الأصحاب هو التخيّير بين القسمين.

ويشهد به: خبر طلحة بن زيد المتقدّم، عن الإمام الصادق المنجبر بما عرفت، حيث قال: «كان أبي يقول: إنّ للحرب حكمين:

إذا كانت الحرب قائمة ولم يثخن أهلها، فكلّ أسيرٍ أُخذ في تلك الحاله، فإنّ الإمام فيه بالخيار؛ إن شاء ضرب عنقه، وإنْ شاء قطع يده ورجله من خلاف بغير حسم، ثمّ يتركه يتشحّط في دمه حتّى يموت، وهو قول اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ » (1) الآية، ألا ترى أنّ المخيّر الذي خَيّر اللّه الإمام على شيء واحد وهو الكفر، وليس هو على أشياء مختلفة!

فقلت لأبي عبداللّه عليه السلام: قول اللّه عزّ وجلّ : «أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ » ؟ قال عليه السلام:

ذلك، الطلب أن تطلبه الخيل حتّى يهرب، فإن أخذته الخيل حُكم عليه ببعض الأحكام التي وصفتُ لك.

والحكم الآخر: إذا وَضَعتِ الحربُ أوزارها، وأثخن أهلها فكلّ أسيرٍ أُخذ على تلك الحال، فكان في أيديهم، فالإمام عليه السلام فيه بالخيار إنْ شاء مَنَّ عليهم فأرسلهم، وإنْ شاء فاداهم أنفسهم، وإنْ شاء استعبدهم فصاروا عبيداً»(2).

والاستشهاد فيه بالآية التي هي في المحارب المُسلم، المشتملة على غير القتل، لا يقدح في دلالته على المطلوب، مع احتمال كون المراد بذكرها التشبيه في الحكم في الجملة، باعتبار كون الفرض من محاربي اللّه ورسوله وسُعاة الفساد في الأرض، أو أنّه بيان باطنٍ من بواطن القرآن.7.

ص: 196


1- سورة المائدة: الآية 33.
2- الكافي: ج 5/32 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/71 ح 20007.

وإنْ أُخذوا بعد انقضاء الحرب، لم يَجُز قتلهم، ويتخيّر الإمام بين المَنّ والفداء والإسترقاق.

(و) من الخبر يظهر أنّ ما هو المشهور بين الأصحاب من أنّهم (إنْ أُخذوا بعد انقضاء الحرب لم يَجُز قتلهم، ويتخير الإمام بين المَنّ والفداء والإسترقاق) هو الأظهر.

وبه يخرج عمّا دلّ بإطلاقه على قتلهم، وبذلك يثبت أنّ ما قاله القاضي(1) من تجويز القتل ضعيفٌ .

وأخيراً: مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الوثني والذمّي، فما عن الشيخ(2) من نفي الإسترقاق عن غير الكتابي، لأنّه لا يقرّ على دينه، وعن «المختلف»(3) اختياره غير تامّ ، لأنّ عدم الإقرار على دينه لا ينافي الاسترقاق، ولذا لا إشكال في استرقاق نسائهم.

أقول: وتمام الكلام يتحقّق في طيّ فروع:

الفرع الأوّل: قال في «المسالك»(4): (ويتعيّن هنا الأصلح من الثلاثة للمسلمين، وهو في قوّة رفع التخيّير، نعم لو تساوت المصالح في الثلاثة، تحقّق التخيّير هنا، كما أنّه لو تساوت في اثنين تخيّر بينهما خاصّة)، انتهى .

ومثله محكيٌ عن جملةٍ من كتب المصنّف رحمه الله(5).8.

ص: 197


1- المهذّب: ج 1/316.
2- المبسوط: ج 2/20.
3- مختلف الشيعة: ج 4/423.
4- مسالك الأفهام: ج 3/41.
5- تحرير الأحكام: ج 2/162، تذكرة الفقهاء (ط ج): ج 9/159، منتهى المطلب (ط ق): ج 2/928.

أقول: ولكن ظاهر النص والفتوى إطلاق التخيّير، فما ذُكر في وجهه من أنّه الوليّ للمسلمين المكلّف بمراعاة مصالحهم، اجتهادٌ في مقابل النص.

الفرع الثاني: قد طفحت كلماتهم بأنّه مع اختيار الاسترقاق أو المال فداءً يكون من جملة الغنيمة، وتخيير الإمام بينه وبين المَنّ لا ينافي كونه على تقدير عدم المَنّ يتعلّق به حقّ الغانمين الذين آسروه، كما في الدية التي لو اختارها أولياء القصاص يتعلّق بها حقّ الدّيان.

الفرع الثالث: لو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم، أي التخيّير بين الثلاثة بلا خلافٍ ولا إشكال للإطلاق.

***

ص: 198

وأمّا الأرضون فما كان حيّاً فللمسلمين كافّة، لا يختصّ بها الغانمون.

الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين

المقام الثالث: في أحكام الأرضين.

أقول: (وأمّا الأرضون) فهي أقسام:

القسم الأوّل: المفتوحة عنوة، وهي قسمان:

1 - الأراضي المحياة حال الفتح.

2 - الأراضي الموات وقته.

(فما كان حيّاً) حين الفتح (فللمسلمين كافّة، لا يختصّ بها الغانمون) ولا يفضّلون على غيرهم، بل يشاركونهم كشركة باقي المسلمين من غير خصوصيّة بلا خلافٍ ، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه.

ويشهد به: نصوص كثيرة:

منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن السواد ما منزلته ؟ قال: هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ومن لم يُخلق بعد.

فقلت: الشراء من الدهاقين ؟

قال عليه السلام: لا يصلح إلّاأن تشتري منهم على أن تصيّرها للمسلمين، فإنْ شاء وليّ أمر المسلمين أن يأخذها فله.

قلت: فإنْ أخذها؟ قال: رَدّ إليه رأس ماله، وله ما أكلّ من غَلّتها بما عمل»(1).

ص: 199


1- التهذيب: ج 7/147 ح 1، وسائل الشيعة: ج 17/369 ح 22767.

والمراد بأرض السواد هي الأرض المغنومة من الفُرس التي فُتحت أيّام عمر بن الخطّاب، وهي سواد العراق، سُمّيت هذه الأرض بالسواد لأنّ الجيش لمّا خرجوا من البادية رأوا هذه الأرض والتفاف شجرها سمّوها بالسواد لذلك.

وقوله: (فإذا شاء وليّ أمر المسلمين...) ظاهرٌ في أنّه لا تدخل الأرض في ملك المشتري، وأنّ لولي الأمر إبقاء الأرض تحت يده وله أخدها منه.

وأمّا قوله: (فيردّ عليه رأس ماله) فهو:

إمّا أن يكون تفضّلاً من وليّ الأمر، من جهة استنقاذة الأرض من يد الدهاقين.

أو يكون من جهة كونه بإزاء ما كان للدهاقين من الآثار المملوكة، أو بإزاء حقّ الاختصاص.

وقوله: (له ما أكَلَ من غِلّتها) ظاهرٌ في أنّ المنافع كالعين تكون للمسلمين، ولكن حيث إنّه عمل فيها فله ما أكل منها.

ومنها: خبر أبي الربيع الشامي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا تشتر من أرض السواد شيئاً إلّامن كان له ذمّة، فإنّما هي فيءٌ للمسلمين»(1).

وأبوا الربيع والراوي عنه خالد بن جرير وإنْ لم يوثّقا إلّاأنّ الراوي عن خالد هو الحسن بن محبوب الذي يعدّ من أصحاب الإجماع، فالخبر معتبر سنداً.

والاستثناء إنّما يكون من جهة أنّ الأرض المفتوحة عنوة إنْ أبقيت في يد من كانت له ذمّة، تكون مِلْكاً لأربابها، فيجوز بيعها، وهذا يدلّ على أنّ بعض قطعات أرض السواد هكذا.

ومنها: خبر أبي بردة بن رجاء، قال: «قلت لأبي عبداللّه عليه السلام: كيف ترى في شراء8.

ص: 200


1- التهذيب: ج 7/147 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/369 ح 22768.

أرض الخراج ؟

قال عليه السلام: ومن يبيع ذلك ؟! هي أرض المسلمين.

قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده، قال عليه السلام: ويصنع بخراج المسلمين ماذا؟

ثمّ قال: لا بأس أن يشتري حقّه منها، ويحوّل حقّ المسلمين عليه، ولعلّه يكون أقوى عليها وأملى بخراجهم منه»(1).

وأبو بردة وإنْ لم يوثّق، إلّاأنّ الراوي عنه هو صفوان بن يحيى الذي يعدّ من أصحاب الإجماع، فلا وجه للمناقشة فيه من حيث السند.

وأمّا فقه الحديث: فالظاهر من قوله: (من يَبيعُ ذلك ؟!) الاستفهام التوبيخي.

وقوله: (هي أرض المسلمين) بمنزلة العلّة للمنع، ولكن الرواي فهم منه الاستفهام الحقيقي، فقال: (يبيعها الذي هي في يده).

وقوله عليه السلام: (يصنع بخراج المسلمين ماذا؟) لومٌ على أنّ المانع من البيع كون الأرض خراجيّة.

وعلى أيّ تقدير، فقد استدرك الإمام عمّا أفاده أوّلاً من عدم جواز البيع، فقال:

«لا بأس أن يشتري حقّه منها» والمراد إرادة بيع الآثار التي أحدثها البائع، لا حقّ الأولويّة، لعدم ثبوته - كما سيأتي - ولقوله: (حقّه منها)، إذ لو كان المراد حقّ الأولويّة، لكان الصحيح أن يقول: (حقّه فيها).

وقوله: (لعلّه يكون أقوى ) يعني أقوى على الأرض وعمارتهاوتوفير حاصلها، وأملى وأقدر على دفع خراج المسلمين.

ومنها: خبر محمّد بن شريح، عنه عليه السلام: «عن شراء الأرض من أرض الخراج7.

ص: 201


1- التهذيب: ج 7/155 ح 35، وسائل الشيعة: ج 15/155 ح 20197.

فكرهه، وقال عليه السلام: إنّما أرض الخراج للمسلمين.

فقالوا له: فإنّه يشتريها الرجل وعليه خراجها؟ فقال: لا بأس إلّاأن يستحيي من عيب ذلك»(1).

أقول: وهذا الخبر لا يعتمد عليه من جهة أنّ من رجال سنده علي بن الحارث وهو مجهول، وأمّا من حيث الدلالة فصدره وذيله يتعارضان بالنسبة إلى جواز الشراء، وسيأتي الكلام فيه.

ومنها: مرسل حمّاد الطويل - المنجبر بكون حمّاد مُرسله، وتلقّي الأصحاب إيّاه بالقبول - عن أبى الحسن الأوّل عليه السلام: «والأرضون التي أُخذت عنوةً بخيلٍ أو ركاب فهي موقوفة متروكه في يدي من يعمرها ويُحييها ويقوم عليها على صلح ما يصالحهم الإمام عليه السلام، على قدر طاقتهم من الخراج النصف أو الثُّلث أو الثُّلثان على قدر ما يكون لهم صلحاً، ولا يضرّ بهم... الحديث»(2).

ومنها: ما رواه الشيخ الكليني رحمه الله في «الكافي» عن صفوان والبزنطي جميعاً، قالا:

«ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج، وما سار فيها أهل بيته.

فقال: من أسلم طوعاً - إلى أنْ قال - وما أُخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بخيبر، قَبِل سوادها وبياضها يعني أرضها ونخلها، والناس يقولون لا تصلح قبالة الأرض والنخل، وقد قبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله خيبر، وقال: وعلى المتقبّلين سوى قبالة الأرض العُشر ونصف العُشر في9.

ص: 202


1- التهذيب: ج 7/148 ح 3، وسائل الشيعة: ج 17/370 ح 22772.
2- الكافي: ج 1/541 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/110 ح 20089.

حصصهم. الحديث»(1).

ومنها: صحيح البزنطي، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام في الخراج وما سار به أهل بيته عليهم السلام في حديث: «وما أُخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبله بالذي يرى كما صنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بخيبر، قَبل أرضها ونخلها، والنّاس يقولون لا تصلح قبالة الأرض والنخل إذا كان البياض أكثر من السواد، وقد قبل رسول اللّه صلى الله عليه و آله خيبر، وعليهم في حصصهم العُشر ونصف العُشر، الحديث»(2).

ونحوها غيرها(3).

وسيأتي في ضمن المباحث الآتية طرفٌ منها.

أقول: وتمام الكلام فيما يستفاد منها في طيّ فروع:

***5.

ص: 203


1- الكافي: ج 3/512 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/157 ح 20203.
2- التهذيب: ج 4/119 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/158 ح 20204.
3- الكافي: ج 5/283 ح 5، وسائل الشيعة: ج 15/159 ح 20205.

اعتبار كون الفتح بإذن الإمام

الفرع الأوّل: هل يعتبر أن يكون الفتح بإذن الإمام أو نائبه، فلو لم يكن كذلك تصبح الأرض المفتوحة عنوة للإمام عليه السلام أم لا؟

أقول: المشهوربين الأصحاب هوالأوّل، وعن غير واحدٍدعوى الإجماع عليه(1).

وعن «المنتهى»(2) و «المدارك»(3) و «المستند»(4) وغيرها عدم الاعتبار، وعن «النافع»(5) التوقّف فيه.

واستدلّ للمشهور: بخبر الورّاق، عن رجلٍ سمّاه، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا، كانت الغنيمة كلّها للإمام وإذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس»(6).

ولا يضرّ إرساله بعد عمل الأصحاب به.

وأمّا معارضته: مع حسن الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الرجل من أصحابنا يكون في لوائهم، فيكون معهم فيصيب غنيمة ؟ قال عليه السلام: يؤدّي خمساً ويطيب له»(7).

فتردّ: بأنّ الحسن متضمّنٌ لقضيّة شخصيّة، فلعلّه كان ذلك القتال بأمر

ص: 204


1- كما حكاه الشيخ الأعظم في المكاسب: ج 2/243.
2- منتهى المطلب (ط ق): ج 1/554.
3- مدارك الأحكام: ج 5/418.
4- مستند الشيعة: ج 10/161.
5- المختصر النافع: ص 64.
6- التهذيب: ج 4/135 ح 12، وسائل الشيعة: ج 9/529 ح 12640.
7- التهذيب: ج 4/124 ح 14، وسائل الشيعة: ج 9/488 ح 12553.

الإمام عليه السلام أو برضائه، أو أنّ الإمام عليه السلام حَلّ البقيّة.

والصحيح أن يورد عليه بأنّه يعارض مع النصوص الدالّة على أنّ الأراضي المفتوحة عنوة للمسلمين المتقدّم جملة منها، والنسبة عموم من وجه، إذ المرسل أعمّ لشموله للمنقولات، وتلك النصوص أعمّ لشمولها لما إذا كان القتال بغير إذن الإمام، والمجمع الذي هو مورد المعارضة هي الأراضي التي أُخذت بالسيف بغير إذن الإمام، فهي بمقتضى المرسل ملك للإمام، وبمقتضى تلك النصوص ملك للمسلمين، فالمرجع إلى الأخبار العلاجيّة، وهي تقتضي تقديم تلك النصوص، كما لا يخفى .

ودعوى : حكومة المرسل عليها لكونه بصدد بيان اشتراط الإذن في كون الغنيمة للمسلمين، وهذه في مقام حكم الأرض المأخوذة بالسيف، فكأنّه قال كلّ ما أُخذ عنوةً فهو للمسلمين بشرط كون الأخذ بإذن الإمام.

مندفعة: بأنّ لسان المرسل ليس لسان إشتراط الإذن في كون الغنيمة ملكاً للمسلمين، بل لسانه أنّ الغنائم المأخوذة بإذن الإمام للمسلمين، وما أُخذ بغير إذنه للإمام، فلا وجه لدعوى الحكومة.

وبذلك يظهر الجواب عن الاستدلال له بصحيح معاوية المتقدّم(1).

وقد يقال: إنّ خبري السواد وردا في مورد الفتح بغير إذن الإمام، ولذا أورد على من استدلّ بهما في المقام: بأنّ تلك الأراضي من الأنفال لكون الفتح بغير إذنه عليه السلام لا للمسلمين، فيكون ما فيهما من الحكم بأنّها لهم للتقيّة. هذا ما قاله الشيخ رحمه الله(2)، وعلى ما ذكرناه فدفع الإيراد واضحٌ ، والخبران يعضدان ما اخترناه.4.

ص: 205


1- الكافي: ج 5/43 ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/524 ح 12627.
2- المبسوط: ج 2/34.

وعلى ذلك، فلا حاجة إلى الاستدلال لإثبات كون الفتوحات الإسلاميّة بإذن الإمام عليه السلام من حمل الصادر من الغزاة على الوجه الصحيح، والعلم برضاه بالفتوحات، الموجبة لتأيد هذا الدين، وبحضور الإمام أبي محمّد الحسن عليه السلام في بعض الغزوات، ودخول بعض خواص الإمام من الصحابة كعمّار في أمرهم، وبالخبر المتضمّن أنّ الإمام قال: «إنّ القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الاُمور، فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأي»(1) إلى غير ذلك من الوجوه غير الخالية عن المناقشة والنظر.

***4.

ص: 206


1- بحار الأنوار: ج 31 ص 347 / الخصال: ج 2/374.

ثبوت الخُمس في الأرض المفتوحة عنوة

الفرع الثاني: المشهور بين الأصحاب ثبوت الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة، وعن بعضٍ دعوى الإجماع عليه.

ويشهد به: عموم قوله تعالى: «وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ » (1) الآية، ومثله أخبار الغنيمة المتقدّمة.

وأُورد عليها:

1 - بانصراف هذه الأدلّة إلى غير الأرض.

2 - وبأنّ خطاب الخُمس فيها متوجّهٌ إلى الأشخاص، وظاهرها ملك الأشخاص للغنيمة مِلْكاً شخصيّاً، والأراضي ليست كذلك، بل هي ملك للنوع.

3 - وبأنّها تخصّص بما ورد في الأخبار من قصر الخمس على المنقول كصحيح رِبعي(2) وغيره ممّا اشتمل على قسمة الغنيمة أخماساً وأسداساً عليهم وعلى الغانمين، ولا يتصوّر ذلك في الأراضي، لعدم استحقاق الغانمين لذلك.

4 - وبخلوّ الأخبار الواردة في بيان حكم الأراضي المفتوحة عنوة عن ذلك، فإنّ مقتضى ذلك ظهورها في كون الأرض جميعها للمسلمين.

وفيها: الانصراف ممنوعٌ ، وخطاب الخُمس متوجّهٌ إلى المالك سواءٌ أكان هو الشخص أو النوع، غاية الأمر إذا كان الشيء ملكاً للنوع كما أنّ أمر التصرّف فيه

ص: 207


1- سورة الأنفال: الآية 41.
2- التهذيب: ج 4/128 ح 1، وسائل الشيعة: ج 9/510 ح 12602.

بالإيجار وغيره متوجّهٌ إلى الوليّ ، كذلك أمر إخراج الخُمس أيضاً يكون بيده، وأمّا نصوص تقسيم الغنيمة لا مفهوم لها، كي تدلّ على عدم ثبوت الخُمس في غير ما يُنقل، وعدم التعرّض في ما ورد في بيان حكم الأراضي لا يصلح للمعارضة، مع ما هو متعرّض لثبوته.

ويشهد لثبوت الخُمس: - مضافاً إلى الآية وأخبار الغنيمة - جملةٌ من الأخبار:

منها: خبر أبي بصير، عن الإمام الباقر عليه السلام: «كلّ شيء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً رسول اللّه صلى الله عليه و آله فإنّ لنا خُمسه، ولا يحلّ لأحدٍ أن يشتري من الخُمس شيئاً حتّى يصل إلينا حقّنا»(1).

ومنها: خبر أبي حمزة، عنه عليه السلام: «إنّ اللّه جعل لنا أهل البيت سهاماً ثلاثة في جميع الفيء - إلى أنْ قال - وقد حرّمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا، واللّه يا أبا حمزة ما من أرضٍ تُفتح، ولا خُمسٍ يُخمّس فيضرب على شيء منه إلّاكان حراماً على من يصيبه فرجاً كان أو مالاً»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

وعليه، فالأظهر ثبوت الخمس فيها.

***9.

ص: 208


1- الكافي: ج 1/545 ح 14، وسائل الشيعة: ج 9/542 ح 12673.
2- الكافي: ج 8/285 ح 431، وسائل الشيعة: ج 9/552 ح 12693.
3- الكافي: ج 1/539 ح 4، وسائل الشيعة: ج 9/487 ح 12549.

والنظر فيها إلى الإمام عليه السلام.

حكم الأراضي المفتوحة عنوة زمان الغيبة

الفرع الثالث: قد عرفت أنّ الأراضي المفتوحة عنوة مِلكٌ للمسلمين، (و) لا كلام في أنّ (النظر فيها إلى الإمام عليه السلام) أو الماذون من قِبله، لأنّه عليه السلام هو المتولّي لاُمور المسلمين، والنصوص تدلّ عليه:

منها: صحيح البزنطي، عن لامام الرضا عليه السلام: «وما أُخذ بالسّيف فذلك للإمام عليه السلام يقبله بالذي يرى ، كما صنع رسول اللّه صلى الله عليه و آله بخيبر، قَبِل أرضها ونخلها.

الحديث»(1) ونحوه مضمره(2).

وأمّا في حال الغيبة: ففيه أقوال:

أحدها: ما عن جماعةٍ من المحقّقين(3) من أنّه لا يجوز التصرّف فيها إلّابإذن السلطان الجائر، وأنّه ولي هذا الأمر بعد غصبه الخلافة والحكومة، وعن «الكفاية» نقل بعضهم الاتّفاق عليه.

ثانيها: ما في «المسالك»(4)، من أنّ الأمر أوّلاً إلى الحاكم الشرعي، ومع عدمه أو عدم إمكان تصرّفه فإلى الجائر.

ثالثها: أنّ الأمر إلى الحاكم الشرعي، إلّاأنّه إذا تصرّف الجائر يكون تصرّفه

ص: 209


1- التهذيب: ج 4/119 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/158 ح 20204.
2- التهذيب: ج 4/118 ح 1، وسائل الشيعة: ج 15/157 ح 20203.
3- نسبه المحقّق النراقي إلى القيل كما في مستند الشيعة: ج 14/223.
4- مسالك الأفهام: ج 3/55.

فيها وفي خراجها نافذاً، من غير حاجةٍ إلى الاستيذان من الحاكم الشرعي وإنْ أمكن، وهذا هو الظاهر من كثيرٍ من متأخّري المتأخّرين.

رابعها: أنّ الأمر إلى الحاكم الشرعي، ومع عدمه أو عدم إمكان الاستيذان منه، يجوز لآحاد الشيعة التصرّف فيها، ولكن مع مبادرة الجائر إلى التصرّف يكون تصرّفه نافذاً، ولا يجب الإستيذان من الفقيه.

خامسها: ما عن «المبسوط»(1) و «المستند»(2)، من أنّه يجوز لآحاد الشيعة التصرّف فيها من غير توقّفٍ على الاستيذان من أحدٍ، لا من الحاكم الشرعي ولا من الجائر.

سادسها: أنّه يجوز الرجوع إلى كلّ منهما في حال الاختيار، ويتعيّن أحدهما مع عدم إمكان الآخر.

سابعها: وجوب الإستيذان من الحاكم الشرعي إذا أمكن، حتّى في صورة تصرّف الجائر وعدم جواز الاكتفاء به.

أقول: الأظهر بحسب الأدلّة هو القول الرابع، لأنّه مقتضى الجمع بين ما دلّ على أنّ أمر التصرّف في الأراضي الخراجيّة إلى وليّ أمر المسلمين والسلطان العادل(3)، وما دلّ على أنّ الاُمور التي لابدّ من تحقّقها في الخارج، واحتمل كونها مشروطة في وجودها بنظر شخصٍ خاص، يعتبر فيها إذن الفقيه وله الولاية عليها، وسيمرّ عليك في محلّه، بل ونصوص نيابة الفقيه العامّة عن الإمام عليه السلام، المتقدّمة فيّ.

ص: 210


1- المبسوط: ج 3/278.
2- مستند الشيعة: ج 14/224.
3- وسائل الشيعة: ج 15/157 باب 72 من أبواب جهاد العدوّ.

بعض المباحث السابقة(1) وبين ما دلّ على نفوذ تصرّفات الجائر، وإن أمكن الإستيذان من الفقيه(2).

ثمّ إنّ مقتضى القاعدة هو الاقتصار على المتيقّن من موارد نفوذ تصرّف الجائر، وهي صورة عدم التمكّن من الامتناع عن التسليم إليه، فلو دفع إليه اختياراً لما كان تصرّفه نافذاً.

ويشهد به: مضافاً إلى ذلك صحيح العيص، عن الإمام الصادق عليه السلام في الزكاة:

«ما أخذ منكم بنو اُميّة فاحتسبوا به ولا تعطوهم شيئاً ما استطعتم، فإنّ المال لا ينبغي أن يُزكّى مرّتين»(3).

فإنّه وإنْ ورد في الزكاة، إلّاأنّه يثبت الحكم في المقام بعدم القول بالفصل.

وأمّا ما دلّ على تحليل الأراضي(4) بناءً على أنّ إطلاقه يشمل هذه الأراضي، ولا يختصّ بالأنفال، الذي استدلّ به بعض مشايخنا المحقّقين للقول الخامس - فقد مرَّ في كتاب الخمس - في مبحث الأنفال اختصاصه بالأنفال(4).

وأمّا نصوص تحليل أموالهم للشيعة(6)، والتي استدلّ بها المحقّق النراقي له، فهي لو كان لها عموم أو إطلاق شاملٌ للأراضي تختصّ بالأنفال التي هي للإمام، لا هذه الأرض التي هي مِلكٌ للمسلمين.

***1.

ص: 211


1- الكافي: ج 1/34 و 38، الفقيه: ج 4/303، التهذيب: ج 6/301، وسائل الشيعة: ج 27/136 باب 11 من أبواب صفات القاضي.
2- وسائل الشيعة: ج 17/213 باب 51 و 52 و 53 من أبواب ما يكتسب به، وسائل الشيعة: ج 15/155 باب 71 و 72 من أبواب جهاد العدوّ.
3- الكافي: ج 3/543 ح 4، وسائل الشيعة: ج 9/252 ح 11954. (4و6) وسائل الشيعة: ج 9/543 باب 4 من أبواب الأنفال.
4- فقه الصادق: ج 11/271.

كيفيّة استحقاق المسلمين لها

الفرع الرابع: في بيان كيفيّة استحقاق المسلمين، وأنّه هل هو بعنوان مِلْك الرقبة أو بنحو آخر؟

1 - المشهور بين الأصحاب هو الأوّل.

2 - وعن جماعةٍ منهم الشهيدالثاني(1) في جملةٍ من كتبه، والمحقّق الأردبيلي رحمه الله(2)أنّ الرقبة غير مملوكة بل معدّة لمصالح المسلمين، وهم مصرف لحاصلها.

والأوّل أظهر، لأنّه ظاهر النصوص المتقدّمة، لمكان اللّام وإضافة الأرض إلى المسلمين.

واستدلّ للثاني: بقوله عليه السلام في مرسل حمّاد المتقدّم(3): «فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويُحييها».

بتقريب أنّه يدلّ :

أوّلاً: على أنّ الأرض محبوسة متروكة، وهذا يلازم مع فَكّ الملك.

وثانياً: وبأنّه لو كانت الرقبة مِلْكاً للمسلمين لما جاز تقبيلها من أحدهم، إذ إجارة الأرض ممّن يملك جزءاً منها غير جائزة.

وثالثاً: وبأنّه لو كانت الرقبة مِلْكاً لهم، لجاز أن يَنقل بعضهم حصّته إلى بعض مع أنّه لا يجوز.

ولكن يرد الأوّل: أنّ المحبوسيّة والمتروكيّة لا تنافي مع المِلْك، بل تجامعه،

ص: 212


1- شرح اللّمعة: ج 7/154، مسالك الأفهام: ج 3/56.
2- مجمع الفائدة: ج 7/471.
3- الكافي: ج 5/44 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/110 ح 20089.

فلا ينافي المرسل سائر النصوص الظاهرة من جهة اللّام والإضافة في الاختصاص المطلق المساوق للملك.

والثاني والثالث: يظهر جوابهما من بيان كيفيّة ملكيّة هذه الأرض، وملخّصه أنّه لا إشكال في أنّها ليست مِلْكاً طلقاً لجميع المسلمين، وإلّا لزم الانتقال بالإرث، مع أن القوم غير ملتزمين بذلك، ولزم عدم تسلّط غير الملّاك على التصرّف فيها، كما هو مقتضى النبويّ : «النّاس مسلّطون على أموالهم»(1) مع أنّ أمرها بيد وليّ الأمر.

ولا لنوع المسلمين، فإنّه وإنْ لم يرد عليه المحذوران المتقدّمان، إذ لا تعيّن للميّت حتّى يرثه وارثه، ولا تعيّن للمالك، فلا محالة تكون الولاية لولي الأمر القابض على رقبة هذه الأرض.

إلّا أنّه يرد عليه: أنّ لازمه جواز إعطاء وليّ الأمر عين هذه الأرض لأحدٍ من المسلمين من دون مصلحة.

ولا وقفاً لهم وإلّا لزم عدم جواز بيعها إلّافي موارد مخصوصة منصوصة، لا لما يراه وليّ الأمر من المصلحة، بل هي مِلْكٌ لنوع المسلمين، وجعل أمرها عيناً ومنفعةً إلى وليّ الأمر مع رعاية مصلحة النوع.

أقول: وبذلك يظهر الجواب عن الوجهين:

أمّا الأوّل منهما: فلأنّ الفرد بما هو لا يكون مالكاً، كي لا يجوز الإجارة منه.

وأمّا الثاني منهما: فلأنّ المالك هو النوع لا الشخص، فليس للشخص النقل إلى الغير لعدم كونه مالكاً.

***9.

ص: 213


1- بحار الأنوار: ج 2/272 ح 7، عوالي اللآلي: ج 1/222 ح 99.

ولا يصحّ بيعها ولا وقفها ولا هبتها ولا مِلْكها على الخصوص.

بيع الأرض المفتوحة عنوة

الفرع الخامس: المشهور بين الأصحاب، بل (و) عليه الاتّفاق كما هو ظاهرهم، أنّ الأرض المفتوحة عنوة (لا يصحّ بيعها ولا وقفها ولا هبتها ولا مِلْكها) بوجهٍ من الوجوه (على الخصوص).

وفي «الجواهر»(1): (بل الإجماع بقسميه عليه).

وفي «الرياض»(2): (بل زاد بعضهم كالشيخ في «المبسوط»(3) فمنع عن مطلق التصرّف فيها ولو بنحو البناء).

أقول: ويشهد لعدم الجواز في البيع - معلّلاً بعلّة عامّة - جملةٌ من الأخبار المتقدّمة كخير أبي بُردة عن الإمام الصادق في شراء أرض الخراج، حيث قال الإمام مستغرباً: «ومن يبيع ذلك هي أرض المسلمين ؟!»(4). وقد مرّ في أوّل هذا البحث أنّه يدلّ على عدم جواز بيع الأرض المفتوحة عنوة، ولو بتبع الآثار.

وكذا خبر الحلبي(5)، وخبر محمّد بن شريح(6)، ومرسل حمّاد(7)، وخبر

ص: 214


1- جواهر الكلام: ج 21/164.
2- رياض المسائل: ج 7/546.
3- المبسوط: ج 2/34.
4- التهذيب: ج 4/146 ح 28، وسائل الشيعة: ج 15/155 ح 20197.
5- التهذيب: ج 7/147 ح 1، وسائل الشيعة: ج 17/369 ح 22767.
6- التهذيب: ج 7/148 ح 3، وسائل الشيعة: ج 17/370 ح 22772.
7- الكافي: ج 5/44 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/110 ح 20089.

أبي الربيع الشامي(1) المتقدّمة.

واستدلّ للجواز: بروايات منها خبر إسماعيل بن الفضل الهاشمي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرّجل اشترى أرضاً من أرض الخراج، فبنى بها أو لم يبن، غير أنّ اُناساً من أهل الذمّة نزلوها له أن يأخذ منهم اُجرة البيوت إذا أدّوا جزية رؤوسهم ؟

قال عليه السلام: يشارطهم، فما أخذ بعد الشرط فهو حلال»(2).

بدعوى: أنّه يدلّنا على ذلك صدره الظاهر في تقريره شراء أرض الخراج، وكذا حكمه عليه السلام بأنّ أُجرة البيوت لهم بعد الشرط، فلو لم تكن الأرض مِلكاً لهم كيف يمكن فرض ملكيّتهم لإجارتها؟

ولكن يرد على الأوّل: أنّ تلك الجملة ليست في مقام البيان من جهة جواز الاشتراء، مقابلة للحمل على الشراء على الوجه السائغ، وهو شراء الآثار والعمارة.

ويرد على الثاني: أنّ السؤال ليس عن كون الأُجرة له أو للمسلمين، بل إنّما هو عن أخذ الأجرة، والظاهر أنّ منشأ السؤال عن أنّ الذمّي إذا أدّى الجزية هل هو كالمسلم يستحقّ النزول على أهل الأراضي الخراجيّة أم لا؟

فأجاب عليه السلام: بأنّ له أخذ اُجرة النزول بعد الشرط والقرار، ومثل هذا الخبر لا يدلّ على الجواز، بل يدلّ على المنع من جهة فرض كون الأرض خراجيّة بعد الشراء، فإنّه يسأل عن استحقاق أهل الذمّة للنزول على أهل الخراج.

ولو سُلّم دلالته على الجواز، فإنّ النسبة بينه وبين أدلّة المنع عموم مطلق، فإنّه أعمّ من المفتوحة عنوة وغيرها من أرض الخراج، فيقيّد إطلاقه بها.3.

ص: 215


1- التهذيب: ج 7/147 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/369 ح 22768.
2- التهذيب: ج 7/149 ح 12، وسائل الشيعة: ج 17/370 ح 22773.

أقول: وقد يستدلّ على الجواز بنصوص اُخر(1) أكثرها واردة في أرض الجزية، وأرض من له ذمّة، وهما ملك لأربابهما، ولو فرض كون مورد بعضها الأرض المفتوحة عنوة فهي بالنسبة إلى أراض خاصّة، لا بنحو العموم كي يُحمل على غير تلك الأرض جمعاً كما مرّ.

فالنصوص المتقدّمة تُحمل على إرادة البيع بالنحو المشار إليه، وهو بيع الآثار والعمارة أو تُطرح.

وبالجملة: فالأظهر عدم جواز بيعها لا مستقلّاً ولا بتبع الآثار، وبه يظهر حال الوقف والهبة وغير ذلك من أسباب الملك.

***ع.

ص: 216


1- راجع وسائل الشيعة: ج 17/368 باب 21 من أبواب عقد البيع.

بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح.

مصرف حاصل الأرض المفتوحة عنوة

الفرع السادس: لا خلاف ظاهراً في أنّه كما أنّ الأرض المفتوحة ملك للمسلمين، وليست مِلْكاً لشخص خاص، ولا جهةٍ مخصوصة، كذلك الحال بالنسبة إلى اُجرة الأرض وحاصلها (بل يُصرف الإمام حاصلها في المصالح) المتعلّقة بالمسلمين مثل سَدّ الثغور، ومعونة الغزاة، وبناء القناطر ونحو ذلك ممّا يرجع نفعه إلى عامّة المسلمين.

ويشهد به: المرسل - كالصحيح - المتقدّم، حيث قال عليه السلام: «ويؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه، وفي مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام وتقوية الدين في وجوه الجهاد وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة ليس لنفسه من ذلك قليلٌ ولا كثير»(1).

هذا مع بسط يد الإمام أو نائبه العام أو الخاص.

وأمّا في حال الغيبة: وتصدّي الجائر فقد عرفت أنّ الأمر إلى الحاكم الشرعي، ومع عدمه أو عدم إمكان الاستئذان منه فلآحاد الشيعة التصرّف فيها.

وعلى التقديرين، لو بادر الجائر الي التصرّف يكون تصرّفه نافذاً وإنْ عصي.

وعلى التقادير، المصرف هو مصالح المسلمين، وحينئذٍ لو عصى الجائر وأخذ فهل تبرأ ذمّته إذا صُرفت تلك الأموال في مصالح المسلمين أم لا؟

ص: 217


1- الكافي: ج 1/541 ح 4، وسائل الشيعة: ج 15/110 ح 20089.

ذهب الشيخ الأعظم(1) إلى عدم البراءة، وكونه ضامناً.

واختار السيّد الفقيه(2) عدم الضمان، واستدلّ له بأن الأئمّة عليهم السلام أذنوا لشيعتهم شراء الصدقة والخراج من الجائر، وقبولهما منه مجّاناً، وهم الولاة الشرعيّون، فيكون تصرّف الجائر كتصرّف الغاصب إذا انضمّ إليه إذن المالك، ومعه لا يمكن بقاء ضمانه، إذ لا يُعقل تصحيح المعاملة من أحد الطرفين دون الآخر، فلا يمكن التفكيك بين البيع والشراء بحسب الواقع كما هو واضح.

وأورد عليه: الاُستاذ الأعظم(3) بأنّ إذن الشارع في أخذ تلك الحقوق من الجائر إنّما هو لتسهيل الأمر على الشيعة، لئلّا يقعوا في المضيقة والشدّة، فلا إشعار فيه ببراءة ذمّة الجائر، فضلاً عن الدلالة عليها، فمقتضى قاعدة اليد هو الضمان.

وفيه: أنّ ما ذكره إنّما هو حكمة الإذن، والسيّد قدس سره يدّعي أنّه بعد الإذن في الشراء لا يُعقل بقاء الضمان بالنسبة إلى عين الخراج، إذ لا يخلو الأمر من صحّة بيع الجائر وفساده، فعلى الأوّل لا معنى لضمانه، وعلى الثاني لزم فساد الشراء، والمفروض الحكم بصحّته.

أقول: وبعين هذا البرهان يُبنى على عدم الضمان في الهبة أيضاً في موارد إذنهم في قبولها، واحتمال كون الهبة حينئذٍ نظير الإتلاف موجبة لانتقال البدل إلى ذمّة الجائر، وإنْ كان ممكناً ثبوتاً، إلّاأنّه خلاف ظاهر الأدلّة بحسب المتفاهم العرفي، وبعدم القول بالفصل يثبت في سائر المصارف.0.

ص: 218


1- كتاب المكاسب (للشيخ الأنصاري): ج 2/204.
2- حاشية المكاسب للسيّد اليزدي (ط ق): ج 1/44.
3- مصباح الفقاهة: ج 1/820.

وعليه، فالأظهر أنّه إذا صرف الجائر تلك الحقوق في المصارف المأذون فيها برئت ذمّته منها.

وأيضاً: لا إشكال على ما ذكرناه في براءة ذمّة المسلمين، لو أخذ السلطان الجائر منهم اُجرة الأرض، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل في «الجواهر»(1) نفي الخلاف في ذلك.

ويشهد به: - مضافاً إلى استفادتها ممّا دلّ على جواز أخذها من الجائر، إذ لو لم تكن ذمّة المُعطى بريئة، وكان المال باقياً على ملكه، وجب الردّ إليه، ولم يجز أخذه والتصرّف فيه - جملةٌ من النصوص:

منها: صحيح يعقوب، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن العشور التي تؤخذ من الرجل أيحتسب بها من زكاته ؟ قال عليه السلام: نعم إنْ شاء»(2).

ومنها: صحيح عيص بن القاسم، عنه عليه السلام في الزكاة: «ما أخذ منكم بنو اُميّة فاحتسبوابه، و لاتعطوهم شيئاً مااستطعتم، فإنّ المال لايبقى عليهذاأن يزكّيه مرّتين»(3).

ونحوهما غيرهما(4) ممّا ورد في الزكاة والخمس.

بل الظاهر من بعضها جواز احتساب ما يأخذه الجائر بعنوان الخراج زكاة، كصحيح رفاعة عنه عليه السلام: «عن الرجل له الضيعة، فيؤدّي خراجها، هل عليه فيها عُشر؟ قال عليه السلام: لا»(5).6.

ص: 219


1- جواهر الكلام: ج 22/180.
2- الكافي: ج 3/543 ح 2، وسائل الشيعة: ج 9/251 ح 11952.
3- الكافي: ج 3/543 ح 4، وسائل الشيعة: ج 9/252 ح 11954.
4- الكافي: ج 3/544 ح 6، وسائل الشيعة: ج 9/252 ح 11953.
5- التهذيب: ج 4/37 ح 6.

وقريبٌ منه غيره(1)، ولكن لم يعمل بها أحدٌ كما في «الجواهر»(2).

وأمّا ما ظاهره عدم جواز الاحتساب، كصحيح زيد الشحام، قال للصادق عليه السلام: «جُعلت فداك إنّ هؤلاء المصدقين يأتون ويأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها أتجزي عنّا؟

قال عليه السلام: لا، إنّما هؤلاء قومٌ غصبوكم، أو قال ظلموكم أموالكم، وإنّما الصدقة لأهلها»(3)، فمحمولٌ على صورة التمكّن من عدم الدفع، أو على استحباب الإعادة كما عن الشيخ في «التهذيب»(4).

***3.

ص: 220


1- الكافي: ج 3/543 ح 3، وسائل الشيعة: ج 9/193 ح 11814.
2- جواهر الكلام: ج 15/227.
3- الإستبصار: ج 2/27 ح 9، وسائل الشيعة: ج 9/253 ح 11957.
4- التهذيب: ج 4/40 في ذيل ح 13.

ما به يثبت كون الأرض مفتوحة عنوة

الفرع السابع: ثبوت كون الأرض مفتوحة عنوة إنّما يكون بالشياع المفيد للعلم ولو العادي منه، والبيّنة، وخبر العدل الواحد بناءً على حجيّته في الموضوعات كما هو المختار، والروايات الواردة عن المعصومين عليهم السلام.

وأمّا استمرار السيرة على أخذ الخراج من أرضٍ :

1 - فإنْ اُريد به استمرار سيرة سلاطين الجور.

فيردّه: أنّ الجائرين المرتكبين للفجائع، كيف تكشف سيرتهم عن رضا المعصوم عليه السلام ؟ مع أنّها لو كانت كاشفة عنه، لاختصّت بما إذا كان اعتقادهم استحقاق الخراج من خصوص الأراضي الخراجيّة، ولم تكشف فيما لو اعتقدوا استحقاقهم الخراج من الأنفال، وحيث أنّ المفروض هو الثاني لأخذهم الخراج من القسم الثاني أيضاً فلا يثبت بها.

2 - وإنْ اُريد به استمرار سيرة المؤمنين الآخذين من السلطان الجائر الخراج، أي خراج الأراضي المشتبهة.

فيرده أوّلاً: أنّه ممنوع صغرويّاً.

وثانياً: أنّه يتمّ إذا لم يكن يعتقدوا جواز أخذ خراج أرض الأنفال من يد السلطان.

وثالثاً: أنّه يتمّ إذا علمنا بأنّهم أخذوه منه مع علمهم بكون المأخوذ خراج تلك الأراضي، وهو كما ترى .

وأمّا حمل فعل المسلم على الصحّة:

ص: 221

1 - فإنْ اُريد به حمل فعل الجائر على الصحّة.

فيرد عليه: أنّ أخذ الجائر للخراج حرامٌ على أيّ تقدير، ومعه لا مورد لحمل فعله على الصحّة.

وإنْ اُريد به حمل فعل المؤمن المتلقّي لذلك الخراج.

فيرد عليه: ما تقدّم في السيرة.

أقول: المنصوص عليه كون أرض العراق، والتي يعبّر عنها بأرض السواد مفتوحة عنوة(1)، ولكن جرت السيرة العمليّة القطعيّة على المعاملة معها معاملة الأملاك الشخصيّة.

ويمكن دفع هذه الشبهة: بأنّه قد ثبت كون كثير من تلك الأراضي لأربابها لا للمسلمين:

منها: الموات حال الفتح، فإنّها ملك للإمام، ويملكها من أحياها كما سيمرّ عليك، والظاهر أنّ المشاهد المشرّفة، وجملة من البلاد المستحدثة من هذا القبيل، وعلى هذا فلا حاجة إلى الاستدلال على جواز بيع ما يُعمل من التربة الحسينيّة بالسيرة، بتوهّم أنّها تقيّد إطلاق نصوص المنع.

ومنها: الخمس من تلك الأراضي، فإنّه يملكها المستحقّ فينتقل إلى غيره بالمعاملة والإرث.

ومنها: الأراضي التي اُبقيت في يد أهل الذمّة، فإنّها ملكٌ لأربابها وعليهم الجزية، وقد مرّ في خبر أبي الربيع وجود هذه الأرض في أرض العراق.

فعلى هذا، إن ثبت كون أرضٍ بالخصوص من المفتوحة عنوة المحياة حالع.

ص: 222


1- وسائل الشيعة: ج 17/368 باب 21 من أبواب عقد البيع.

الفتح، لم يجز بيعها، وما لم يثبت فيه ذلك جاز، لانحلال العلم الإجمالي، لعدم كون جميع أطرافه محلّ الابتلاء، لاسيّما وأنّ الأراضي الخراجيّة التي يضرب عليها الخراج من أراضي المزارع كثيرة إلى الآن، وأمرها بيد السلطان.

قال الشيخ في «المبسوط»(1) على المحكي: (ظاهر المذهب أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله فتح مكّة عنوةً بالسيف ثمّ آمنهم بعد ذلك، وإنّما لم يقسّم الدور والأرضين لأنّها لجميع المسلمين).

وعليه، فالمسلّم الثابت من الأراضي المفتوحة عنوة مكّة وأرض العراق، وأمّا غير هذين الموضعين المذكورين فهو محلّ الاشتباه، لعدم النص الوارد في شيء من ذلك، والاعتماد في الأحكام الشرعيّة على كلام المؤرِّخين غير الثابت وثاقتهم محلّ إشكال كما صرّح بذلك صاحب «الحدائق» رحمه الله(2).

***0.

ص: 223


1- المبسوط: ج 2/33.
2- الحدائق الناضرة: ج 18/310.

والموات وقت الفتح للإمام.

حكم موات الأرض المفتوحة عنوة

القسم الثاني من الأراضي:

(و) هو (الموات وقت الفتح) فهي (للإمام) بلا خلافٍ أجده، بل الإجماع بقسميه عليه كما في «الجواهر»(1)، واستدلّ له بالنصوص الدالّة على أنّ موتان الأرض للإمام عليه السلام»(1).

وقد ادّعى صاحب «الجواهر»(3) والشيخ الأعظم(2) استفاضتها، بل قيل إنّها متواترة.

وأُورد عليه: بأنّه تعارضها نصوص الأراضي المفتوحة عنوة المتقدّمة الدالّة بالإطلاق على أنّ الموات منها للمسلمين.

واُجيب عنه بأجوبة:

منها: ما عن الحِلّي(3) من تخصيص الثانية بالأُولى .

وأُورد عليه: بأنّ النسبة بينهما هي عمومٌ من وجه.

ومنها: ما عن السيّدالفقيه رحمه الله(4) من أنّ أخبار الأرض المفتوحة عنوة منصرفة

ص: 224


1- وسائل الشيعة: ج 9/523 باب 1 من أبواب الأنفال، وسائل الشيعة: ج 25/414 باب 3 من أبواب كتاب إحياء الموات.
2- كتاب الخمس (للشيخ الأنصاري): ص 349.
3- السرائر: ج 1/481.
4- حاشية المكاسب للسيّد اليزدي (ط ق): ج 1/52.

إلى المُحياة منه، وإلّا فدعوى أنّ الموات كانت مِلْكاً للإمام قبل الفتح، وكانت مغصوبة في أيديهم كما ترى .

وفيه: أنّه يمكن دفع هذا المحذور بالالتزام بأنّ من أحيى أرضاً فهي له، ولو كان المحُيي كافراً، مع أنّ الالتزام بذلك لا أرى له محذورا لو وافقه الدليل، كما هو المفروض.

ويمكن أن يقال: إنّ نصوص كون الموات للإمام تُقدّم على أخبار المفتوحة عنوة لوجهين:

أحدهما: أنّ مورد تلك الأخبار موات الأرض المفتوحة عنوة، لا أنّها بالإطلاق تدلّ عليه، إذ الأراضي كلّها كانت للكفّار، فلو لم تكن الموات من المفتوحة للإمام، لم يبق لما دلّ على أنّها من الأنفال مورد، إذ الأرض التي سلّمها أهلها طوعاً للمسلمين، والأرض التي انجلى عنها أهلها، إنّما تكون للإمام، سواءٌ أكانت محياة أو مواتاً، فهذه أخصّ فتخصّص بها، ولعلّه إلى ذلك نظر الحِلّي رحمه الله.

ثانيهما: أنّ النسبة وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّها في تعارض العامين من وجه لابدّ من الرجوع إلى الأخبار العلاجيّة، وهي تقتضي تقديم أخبار الموات على نصوص المفتوحة للشهرة الّتي هي أوّل المرجّحات، ولعلّه إلى ذلك نظر السيّد في «الرياض»(1)، وصاحب «الجواهر»(2) حيث إنّهما قدّماها للإجماع.

أقول: ثمّ إنّه إذا كانت الأرض محياة حين الفتح، ثمّ ماتت، فهل تبقى على ملك المسلمين كما اختاره الشيخ الأعظم رحمه الله(3)، وتبعه جمعٌ؟8.

ص: 225


1- رياض المسائل: ج 7/549.
2- جواهر الكلام: ج 21/169.
3- كتاب المكاسب (للشيخ الأنصاري): ج 2/248.

أم تدخل في ملك الإمام، كما ذهب إليه جمع آخرون ؟ وجهان.

استدلّ للأوّل: باختصاص أدلّة الموات بما إذا لم يجر عليه ملك مسلم دون ما عرف صاحبه، فإنّ تلك الأرض حينئذٍ باقية في ملك مالكها، سواءٌ أكان هو الشخص كما لو أحيى أحدٌ أرضاً، أم كان هو النوع كما في المقام.

وفيه: أنّ إطلاق ما دلّ على أنّ الأرض المُحياة حال الفتح للمسلمين المتقدّم، وما دلّ على أنّ من أحيى أرضاً ميّتةً فهي له - الآتي - لا يشمل أرضاً ماتت بعد ذلك، إذ الحكم حدوثاً وبقاءً تابعٌ لفعليّة الموضوع، والمفروض انعدامه.

واستصحاب بقاء الملكيّة، مضافاً إلى عدم جريانه في الشبهة الحكميّة، لا يُجدي في المقام، لمحكوميّته لما دلّ على أنّ الموات من الأرض له عليه السلام.

ويشير إلى ما ذكرناه ما دلّ على تملّك المُحيي وإنْ كانت مسبوقة بملك الغير، كصحيح الكابلي، عن الإمام الباقر عليه السلام في حديثٍ :

«فإنْ تركها وأخربها فأخذها رجلٌ من المسلمين من بعد فعمّرها وأحياها، فهو أحقّ بها من الذي تركها»(1) ونحوه غيره(2).

وبالجملة: فالأظهر أنّها بعد الموت تكون للإمام عليه السلام.

أقول: هذه غاية ما يمكن أن يقال في المقام، ولكن الأظهر بقاؤها على ملك مالكها.

نعم، إذا أهمل الأرض، وأحياها أحدٌ ملكها، وسيأتي تمام الكلام في عدم تماميّة الوجهين، وما يقتضيه الجمع بين الروايات في مسألة إحياء الأرض الموات.5.

ص: 226


1- التهذيب: ج 7/152 ح 23، وسائل الشيعة: ج 25/414 ح 32246.
2- الكافي: ج 5/279 ح 2، وسائل الشيعة: ج 25/414 ح 32245.

لا يتصرّف فيها إلّابإذنهُ ، هذا حكمُ الأرض المفتوحة عنوة،

وحيث عرفت أنّ الموات وقت الفتح للإمام عليه السلام ف (لا) يجوزُ لأحدٍ أنْ (يتصرّف فيها إلّابإذنه).

نعم، سيأتي في مسألة الإحياء إذنه عليه السلام في إحياء الشيعة، فانتظر.

(هذا حكم الأرض المفتوحة عنوة).

***

ص: 227

وأمّا أرض الصلح فلأربابها.

حكم أرض الصلح

(وأمّا أرض الصّلح) وهي الأرض التي فُتحت صلحاً، على أن يكون الأرض لأهلها، والجزية فيها، (ف) هي ملك (لأربابها)، لهم التصرّف فيها بأنواع التصرّفات المملكة وغيرها بلا خلافٍ .

ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك، وإلى عموم ما دلّ على مشروعيّة الصلح(1)، وإلى ما وقع من النبيّ صلى الله عليه و آله، وعدم المُخرج لها عن ملكهم - نصوص خاصّة:

منها: صحيح محمّد بن مسلم: «سألته عن أهل الذمّة ماذا عليهم ممّا يحقنون به دماؤهم وأموالهم ؟

قال: الخراج، فإنْ أُخذ من رؤوسهم الجزية، فلا سبيل على أراضيهم، وإن أخذ من أراضيهم فلا سبيل على رؤوسهم»(2).

ومنها: صحيحه الآخر، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قلت له: أرأيتَ ما يأخذ هؤلاء من الخُمس من أرض الجزية، ويأخذون من الدهاقين جزية رؤوسهم، أما عليهم في ذلك شيء وموظف ؟

فقال: كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، وليس للإمام أكثر من الجزية، إنْ شاء الإمام وضع ذلك على رؤوسهم، وليس على أموالهم شيء، وإنْ شاء فعلى أموالهم، وليس على رؤوسهم شيء.

ص: 228


1- وسائل الشيعة: ج 18/443 باب 3 من أبواب كتاب الصلح.
2- الكافي: ج 3/567 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/150 ح 20186.

فقلت: فهذا الخُمس ؟! فقال: إنّما هذا شي ءكان صالحهم عليه رسول اللّه صلى الله عليه و آله»(1).

ونحوهما غيرهما(2).

أقول: وتمام الكلام في ضمن فروع:

الفرع الأوّل: يختصّ هذا الحكم بالأرض العامرة، وأمّا الموات منها فهي للإمام، لعموم ما دلّ على أنّ الموات من الأراضي للإمام(3).

ولا يعارضه هذه النصوص، لعدم الإطلاق لها كي تشمل الموات منها، ولما مرّ في المفتوحة عنوة، إلّاإذا دخلت في عقد الصلح صريحاً أو ظاهراً.

الفرع الثاني: الظاهر من المصنّف وغيره عدم الفرق بين أهل الذمّة وغيرهم، ولكن عن موضعٍ من «النهاية»(4) و «الغُنية»(5) و «الروضة»(6) أنّ أرض الصلح هي أرض أهل الذمّة.

وفي «الجواهر»:(7) (لعلّ المراد أنّه الذي وقع من النبيّ صلى الله عليه و آله).

وكيف كان، فمقتضى العمومات عدم الفرق، واختصاص الجزية المصطلحة بأهل الكتاب، لا يستلزم اختصاص الصلح بهم.

وعلى الجملة: ما دلّ على أنّ أرض المفتوحة عنوة للمسلمين، لا تشمل هذه الأرض، فمقتضى القاعدة كونها لهم.2.

ص: 229


1- الفقيه: ج 2/51 ح 1671، عوالي اللآلي: ج 3/185 ح 14.
2- الكافي: ج 3/568 ح 7، وسائل الشيعة: ج 15/151 ح 20187.
3- وسائل الشيعة: ج 9/523 باب 1 من أبواب الأنفال.
4- النهاية: ص 414.
5- غنية النزوع: ص 204.
6- شرح اللّمعة: ج 7/149.
7- جواهر الكلام: ج 21/172.

ولو باعها المالك انتقل ما عليها من الجزية إلى رقبته.

الفرع الثالث: (ولو باعها المالك انتقل ما عليها من الجزية إلى رقبته) مطلقاً، كما هو فرض المتن و «النافع»(1). أو إذا كان المشتري مسلماً كما هو فرض «المختلف»(2)و «المنتهى»(3) و «التحرير»(4) و «الدروس»(5).

وكيف كان، فالحكم مشهوربين الأصحاب، وعن ظاهر «الغُنية»(6) الإجماع عليه.

وعن الحلبي(7) جعل ما عليها على المشتري.

أقول: وحيث أنّ ما يُجعل على الأرض - من نصف الحاصل أو ثلثه أو غير ذلك - إنّما يكون حقّاً للمسلمين في تلك الأرض، من قبيل حقّ الجناية، والبيع إنّما يوجبُ انتقال الأرض، ولا دليل على مانعيّة هذا الحقّ عنه، وأمّا الحقّ نفسه فهو باق متعلّق بالأرض، وانتقلت الأرض إلى المشتري بهذا النحو، فما أفاده الحلبى هو الذي تقتضيه القاعدة.

ويشهد به أيضاً: صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الباقر عليه السلام:

«عن شراء أرض أهل الذمّة ؟ فقال: لا بأس فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدّى عنها كما يؤدّون»(8).1.

ص: 230


1- المختصر النافع: ص 114.
2- مختلف الشيعة: ج 4/428.
3- منتهى المطلب (ط ق): ج 2/935.
4- تحرير الأحكام: ج 2/171.
5- الدروس: ج 2/40.
6- غنية النزوع: ص 202 و 204.
7- الكافي للحلبي: ص 260.
8- التهذيب: ج 7/149 ح 11، وسائل الشيعة: ج 17/370 ح 22771.

ولو أسلَم سقط ما على أرضه أيضاً، ولو شرطت الأرض للمسلمين، كانت كالمفتوحة عنوة.

ونحوه خبر آخر مضمر ورد فيه قوله عليه السلام: «يؤدّي كما يؤدّون»(1).

وظاهر الخبرين هو إرادة هذه الأرض، بقرينة إضافة الأرض إلى أهل الذمّة، إذ الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين لا لأهل الذمّة، فالأظهر ما عن الحلبي.

نعم، إنْ لم يكن المشتري عالماً فله الخيار، كما لا يخفى .

أقول: وعلى المختار من أنّ الجزية على المشتري قد يتوهّم أنّه لابدّ من التخصيص بما إذا كان المشتري غير مسلم، إذ لا جزية على المسلم.

ولكنّه مندفع: بأنّ هذا ليس من قبيل الجزية على المسلم، بل على الكافر، فإنّ أرضها من جهة تعلّق هذا الحقّ بها ينقص قيمتها، فالنقص يكون على عهدة الذمّي.

الفرع الرابع: (ولو أسلَم) الذي صولح على أنّ الأرض له وعليها كذا وكذا، (سقط ما) ضَرَب (على أرضه أيضاً) بلا خلافٍ .

ويشهد به: ما تقدّم من سقوط الجزية مطلقاً بالإسلام.

أقول: هذا كلّه فيما لو صولحوا على أنّ الأرض لهم.

(و) أمّا (لو) صولحوا و (شرطت الأرض للمسلمين) فلا خلاف ظاهراً في أنّه (كانت) الأرض حينئذٍ (كالمفتوحة عنوة) عامرها للمسلمين ومواتها للإمام، وهو مضافاً إلى وضوحه، يشهد به جملة من النصوص(2).

***و.

ص: 231


1- التهذيب: ج 7/148 ح 5، وسائل الشيعة: ج 17/369 ح 22770.
2- وسائل الشيعة: ج 15/155 باب 71 و 72 من أبواب جهاد العدو.

وأمّا أرض من أسلَم عليها أهلها طوعاً فلأربابها، وليس عليهم سوى الزكاة مع الشرائط.

حكم أرض من أسلم أهلها طوعاً

هذا كلّه في الأراضي المأخوذة من الكفّار غير من أسلم.

(وأمّا أرض من أسلم عليها أهلها طوعاً) ورغبةً كالمدينة المشرفة والبحرين (فلأربابها، وليس عليهم سوى الزكاة مع الشرائط) بلا خلافٍ ولا إشكال.

ويشهد به: مضافاً إلى معلوميّته من سيرة النبيّ صلى الله عليه و آله، وإلى أنّ الإسلام يحقن به المال والدّم، نصوص خاصّة:

منها: صحيح البزنطي: «ذكرتُ لأبي الحسن الرضا عليه السلام الخراج وما سار به أهل بيته ؟

فقال: العشر ونصف العُشر على من أسلم طوعاً، تركت أرضه في يده، وأُخذ منه العشر ونصف العُشر فيما عمّر منها، وما لم يعمّر منها أخذه الوالي فقبله ممّن يعمره، وكان للمسلمين، وليس فيما كان أقلّ من خمسة أوساق شيء»(1).

ومنها: ما رواه صفوان والبزنطي جميعاً، قالا: «ذكرنا له الكوفة وما وضع عليها من الخراج، وما سار فيها أهل بيته ؟

فقال: من أسلم طوعاً تركت أرضه في يده، وأُخذ منه العُشر ممّا سقي بالسماء والأنهار، ونصف العُشر ممّا كان بالرضا فيما عمروه منها، وما لم يعمّروه منها أخذه

ص: 232


1- وسائل الشيعة: ج 15/158 ح 20204، قرب الإسناد ص 170.

الإمام فقبله ممّن يعمره، وكان للمسلمين، وعلى المتقبّلين في حصصهم العُشر أو نصف العشر، وليس في أقلّ من خمسة أوسق شيء من الزكاة.. الحديث»(1).

وعليه، فلا إشكال في الحكم في الجملة.

إنّما الخلاف في ما لو تركوا عمارتها، وبقت خراباً:

فالمنقول عن الشيخ(2)، وأبي الصلاح(3) أنّ الإمام يقبلها ممّن يعمرها، ويعطي صاحبها طِسقها، ويعطي المتقبّل حصّة، ومايبقى فهو لمصالح المسلمين يُجعل في بيت مالهم.

وقال ابن حمزة(4): (إذا تركوا عمارتها صارت للمسلمين وأمرها للإمام عليه السلام).

وقال ابن البرّاج(5): (وإذا تركوا عمارتها حتّى صارت خراباً، كانت حينئذٍ لجميع المسلمين، يقبلها الإمام ممّن يقوم بعمارتها بحسب ما يراه من نصفٍ أو ثلثٍ أو ربع).

وقال ابن إدريس(6): (الأولى ترك ما قاله الشيخ، فإنّه مخالفٌ للاُصول والأدلّة العقليّة والسمعيّة).

وقال المصنّف رحمه الله: في محكى «المختلف»(7) بعد نقل ما قدّمناه من الأقوال:

(والأقرب ما اختاره الشيخ، لنا أنّه أنفع للمسلمين وأعود عليهم، وكان سائغاً،6.

ص: 233


1- الكافي: ج 3/512 ح 2، وسائل الشيعة: ج 15/157 ح 20203.
2- المبسوط: ج 1/235.
3- الكافي للحلبي: ص 260.
4- الوسيلة: ص 132.
5- المهذّب: ج 1/182.
6- السرائر: ج 1/477.
7- مختلف الشيعة: ج 4/426.

فأي عقل يمنع من الانتفاع بأرض يترك أهلها عمارتها، وإيصال أربابها حقّ الأرض، مع أنّ الروايات متظافرة بذلك).

ثمّ ذكر رواية صفوان والبزنطي وصحيحة أحمد بن محمّد بن أبي نصر.

أقول: إنّ ما ورد في خصوص الأرض التي أسلم أهلها طوعاً، هو خصوص الخبرين المشار إليهما، وأمّا الروايات الاُخرى فهي في مطلق الأرض العامرة التي سيأتي الكلام فيها بعد هذه المسألة.

وأمّا الخبران فظاهرهما فاقد التعمير من رأس، فإنّه الظاهر من قوله عليه السلام: «وما لم يعمروه أخذه الإمام» في مقابل قوله: «فيما عمّروه»، وحينئذٍ فيعارضان مع ما دلّ على أنّ الموات من الأراضي من الأنفال وتكون للإمام، وهما أخصّ منه فيقيّد بهما، إلّا أنّ الظاهر عدم إفتاء الأصحاب بما تضمّناه، ولكنّه لا يوجب حملهما على ما هو محلّ البحث.

ويمكن أن يقال: إنّ عدم التعمير يباين مفهوماً ومعناً الموات والخراب، وعليه فالخبران يدلّان على أنّ الأرض العامرة لمن أسلم أهلها طوعاً لهم، والأرض التي لم يعمروها، وإنْ لم تصل إلى حَدّ الموات تكون ملكاً للمسلمين، وإطلاقهما وإن شمل ما وصل إلى ذلك الحَدّ، إلّاأنّه يقيّد بما سيأتي في حكم الموات، والنسبة بينهما حينئذٍ وإنْ كانت عموماً من وجه، إلّاأنّه يقدّم للاتّفاق كما ستعرف.

ويمكن أن يقال: إنّ الخبرين يدلّان على أنّ الأرض العامرة بالعمل لأهلها، والأرض العامرة غير المستند عمارتها إلى أربابها، وهي العامرة بالأصالة التي وقع الخلاف فيها في غير المقام أنّها للإمام، أو من المباحات الأصليّة يقبلها الإمام ممّن يعمرها ويصرف حاصلها في مصالح المسلمين، وإطلاقهما إن شمل الموات يقيّد بما مرّ.

ص: 234

فالمتحصّل: من الروايات بعد ضَمّ بعضها إلى بعض، أنّ الأرض العامرة من معمّر لأهلها، والأرض التي تركوا عمارتها، ولم تصل إلى حَدّ الموات، أو العامرة بالأصالة يقبلها ممّن يعمرها، ويصرف حاصلها في مصالح المسلمين.

ثمّ إنّه ليس في الخبرين ذكر للطسق، بل ظاهرهما - بقرينة أن جُعل للمتقبّلين الزكاة ولم يتعرّض فيهما له، بل صرّح في الأوّل أنّه ليس في أقلّ من خمسة أوساق شيءٌ ، عدم ثبوته.

وقد استدلّ له: بأنّه مقتضي الجمع بين الخبرين، وكونها مِلْكاً لأربابها للدليل أو للاستصحاب.

ويرده: - مضافاً إلى ما تقدّم من ظهور الخبرين في عدم ثبوته - أنّه لا دليل على كونها مِلكاً لهم ولو قبل الإسلام.

***

ص: 235

وكلّ أرضٍ ترك أهلها عمارتها ف

حكم الأرض التي تركت عمارتها

خاتمة: في بيان أمرين:

الأوّل: في حكم الأرض التي تركت عمارتها.

الثانى: في الإحياء.

أمّا الأمر الأوّل: فتنقيح القول فيه يتحقّق من خلال فروع:

الفرع الأوّل: (وكلّ أرض ترك أهلها عمارتها):

(ف) إنْ لم يصل إلى حَدّ الموات، فلا كلام في أنّها لمالكها.

وإن وصلت إلى ذلك الحَدّ:

فتارةً : لا يقدم أحدٌ على إحياءها.

واُخرى : يقوم واحد من الناس بإحياءها.

فإن لم يحيها أحدٌ، ففيه أقوال:

القول الأوّل: أنّها تخرج عن ملك مالكها، وهو الذي اختاره المصنّف في بعض كتبه(1)، وكذلك الشهيد الثاني(2).

القول الثاني: أنّها باقية على ما كانت ولا تخرج، لعلّه المشهور بين الأصحاب.

القول الثالث: ما في «الحدائق»(3) من التفصيل:

ص: 236


1- تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 2/401.
2- مسالك الأفهام: ج 3/59.
3- الحدائق الناضرة: ج 18/316.

بين ما إذا ملكها الأوّل بالإحياء، فإنّه يزول ملكه بعد زوال آثاره ورجوعها إلى حالها الأوّل.

وبين ما إذا ملكهابغير الإحياءمن شراءٍ أو إرثٍو نحوهما، فلايزول ملكها عنها.

واستدلّ للأوّل:

1 - بأنّ الأرض أصلها مباح، فإذا تركها الأوّل حتّى عادت إلى ما كانت عليه، أصبحت مباحة.

2 - وبأنّ السبب في صيرورتها مِلْكاً هو الإحياء، فإذا زال السبب زال المسبّب.

3 - وبإطلاق ما دلّ على أنّ الأرض الميّتة أو الخَربة للإمام.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ كون أصلها مباحاً لا يوجب صيرورتها مباحة بعدما دخلت في ملك المُحيي، وخروجها عن ملكه، مع دلالة الدليل على أنّ خروج الملك لابدّ وأن يكون بسبب.

وأمّا الثاني: فلأنّ المستفاد من الأدلّة كون ذات الأرض مملوكة بسبب الإحياء، وأنّه كسائر الأسباب المملّكة يكون سبباً لحدوث الملكيّة لا أنّ الأرض المعنونة بعنوان المُحياة مملوكة، ولا أنّه سببٌ للملكيّة حدوثاً وبقاءً .

وأمّا الثالث: فلأنّه يتعيّن تقييد إطلاق تلك النصوص بما في النصوص الاخر من التقيّيد بالأرض التي لا ربّ لها.

أقول: ويشهد لبقائها على ملك مالكها - مضافاً إلى أنّ المستفاد من الأدلّة، أنّ زوال الملك لابدّ وأن يكون بناقل - الاستصحاب.

وأورد عليه: بأنّ الشكّفي بقاءالموضوع، لأنّه إنْكان الموضوع ذات الأرض فهي

ص: 237

باقية، وإنْ كان عنوان المُحياة فقد ارتفع، وبأن الشكّ في المقام من قبيل الشكّ في المقتضي، للشكّ في أنّ الإحياء هل هو سبب للملكيّة حتّى بعد عروض الموت أم لا.

ولكن الأوّل يندفع: بأنّ الإحياء بنظر العرف بمنزلة الشرط لا من مقوّمات الموضوع، فالموضوع العرفي باقٍ وهو الملاك.

والثاني: بأنّ الأظهر حجية الاستصحاب مطلقاً، نعم هناك مناقشة في خصوص جريان الاستصحاب في الشبهة الحكميّة، وعليه فالعمدة هو الأوّل.

واستدلّ للثالث: بأنّه مقتضى الجمع بين الروايات الخاصّة، وسيمرّ عليك ما هو الحقّ في الجمع بينها.

وبالجملة: فالأظهر أنّها بالموت لا تخرج عن ملك مالكها مطلقاً.

وإنْ أحياها آخر: فهل يملكها كما عن المصنّف في «التذكرة»(1) والشهيد الثاني في «الروضة»(2)، بل عن «جامع المقاصد»(3) أنّه المشهور بين الأصحاب ؟

أم لا يملكها كما عن جماعةٍ من المتقدّمين والمتأخِّرين ؟

أم يفصّل بين ما إذا كان الخراب مستنداً إلى إهمال المالك، وترك المزاولة لها، وبين ما إذا لم يكن مستنداً إلى ذلك، فيملكها على الأوّل دون الثاني، كما اخترناه في الجزء السابع من هذا الشرح ؟

أم يفصّل بين مالوكان سبب ملك الأوّل الإحياء فيملكها وغيره فلايملكها؟ وجوهٌ .

مقتضى القاعدة هو الثاني، وعموم ما دلّ على أنّ «من أحيى أرضاً ميتة فهي له»(4)2.

ص: 238


1- تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 2/401.
2- شرح اللّمعة: ج 7/138.
3- جامع المقاصد: ج 7/17.
4- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/111 ح 20902-1، معاني الأخبار ص 292.

إنّما هو في غير المقام، على ما سيأتي.

وأمّا النصوص الخاصّة: فهي طوائف:

الطائفة الأولى: ما ظاهره البقاء على ملك المُحيي الأوّل:

منها: صحيح سليمان بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الرجل يأتي الأرض الخربة فيستخرجها، ويجري أنهارها ويعمرها ويزرعها، ماذا عليه ؟ قال عليه السلام: الصدقة.

قلت: فإنْ كان يعرف صاحبها؟ قال عليه السلام: فليؤدّ إليه حقّه»(1).

إذ المراد بالحقّ إمّا الأرض أو أجرتها، وعلى التقديرين يدلّ على ذلك، ونحوه صحيح الحلبي(2).

الطائفة الثانية: ما ظاهره صيرورتها مِلْكاً للمُحيي الثاني:

منها: صحيح معاوية بن وهب، عنه عليه السلام: «أيّما رجل أتى خَربةً بائرة، فاستخرجها وكرى أنهارها وعمّرها، فإنّ عليه فيها الصدقة، فإنْ كانت أرضاً لرجل قبله، فغاب عنها وتركها، فأخرجها ثمّ جاء بعد يطلبها، فإنّ الأرض للّه ولمن عمّرها»(3).

فإنّ ظاهره أنّ الأرض لمن يقوم بعمارتها، لا لمن تركها، وحمله على الأراضي الخراجيّة بلا وجه.

الطائفة الثالثة: ما تضمّن أحقيّة الثاني بها، ووجوب الخراج عليه:5.

ص: 239


1- التهذيب: ج 7/148 ح 7، وسائل الشيعة: ج 25/415 ح 32247.
2- نفس الحديث السابق رواه عن ابن أبي عمير عن حمّاد بن عثمان عن الحلبي.
3- التهذيب: ج 7/152 ح 21، وسائل الشيعة: ج 25/414 ح 32245.

للإمام أنْ يقبلها ويدفع طسقها من المتقبّل إلى أربابها.

منها: صحيح الكابلي، عن الإمام الباقر عليه السلام فيمن أحيى أرضاً، فصدره يدلّ على أنّها له وعليه الخراج، ثمّ يقول:

«فإن تركها وأخربها، فأخذها رجلٌ من المسلمين من بعد فعمّرها وأحياها، فهو أحقّ بها من الذي تركها، فليؤدِّ خراجها إلى الإمام من أهل بيتي»(1).

أقول: الطائفة الأخيرة يتعيّن طرحها كما مرّ، وأمّا الأولييان فحيث أنّ الثانية مختصّة بصورة الإهمال، فتخصّص الأُولى بها، فتكون النتيجة القول الثالث الذي اخترناه.

الأرض غير البالغة حَدّ الموات

الفرع الثاني: كلّ أرضٍ مملوكة ترك أهلها وملاكها عمارتها ولم يبلغ حَدّ الموات، فالمشهور بين الأصحاب - على الظاهر - كما في «الرياض»(2) وعن «الدروس»(3)التصريح بأنّ - (للإمام أنْ يقبلها) ممّن يعمرها (ويدفع طسقها) أى اُجرتها المأخوذة (من المتقبّل إلى أربابها).

واستدلّ لجواز ذلك وأنّ للإمام تقبيلها الغير، بخبر صفوان والبزنطي، وصحيح أحمد بن محمّد المتقدّمين في الأرض التي أسلم أهلها طوعاً، كما استدلّ لإعطاء الطسق، بأنّه مقتضى الجمع بين الحقّين.

ص: 240


1- وسائل الشيعة: ج 25/414 ح 32246، المستدرك: ج 17/212 ح 20908-1.
2- رياض المسائل: ج 7/554.
3- الدروس: ج 2/40.

ولكن قد عرفت أنّ الخبرين في مورد إسلام أهل الأرض طوعاً.

اللّهُمَّ إلّاأن يثبت في غيره بعدم القول بالفصل، ولا بأس به، لكن عرفت أنّهما ظاهران في عدم ثبوت الطسق.

***

ص: 241

تملّك الأرض الميتة بالإحياء

الأمر الثاني: في أنّ الأرض الميتة هل تُملك بالإحياء أم لا؟

وهي قسمان:

القسم الأوّل: ما لها مالك غير الإمام، فالكلام فيها قد مرّ في الأمر الأوّل.

القسم الثاني: في الموات التي لا مالك لها غير الإمام.

أقول: وتنقيح القول فيه يتحقّق بالبحث في جهات:

الجهة الأُولى: أنّ الأرض الموات، وهي الأرض المعطّلة التي لا ينتفع بها لذلك، إمّا لانقطاع الماء عنها، أو لغير ذلك:

تارةً : يكون لها مالك، بأن كانت معمورة لمالك ثمّ خربت.

واُخرى: لا ربّ لها، إمّا لكونها مواتاً بالأصالة، أو ما صارت مواتاً بعدما كانت معمورة بالأصالة غير المملوكة لأحد.

فإن لم يكن لها مالك، فهي للإمام بلا خلافٍ ولا إشكال نصّاً وفتوى، وأفاد الشيخ الأعظم رحمه الله(1) من أنّ النصوص بذلك مستفيضة، بل قيل إنّها متواترة، ولعلّها كذلك فإنّها طوائف:

منها: ما تضمّن كون الأرض الخربة للإمام عليه السلام أو من الأنفال، كمصحّح حفص(2)، وموثّق سماعة(3)، ونحوهما غيرهما(4).

ص: 242


1- كتاب المكاسب (للشيخ الأنصاري): ج 4/13.
2- الكافي: ج 1/539 ح 3، وسائل الشيعة: ج 9/523 ح 12625.
3- التهذيب: ج 4/133 ح 7، وسائل الشيعة: ج 9/526 ح 12632.
4- وسائل الشيعة: ج 9/532 ح 12646.

ومنها: ما تضمّن أنّ الأرض الخربة التي بادَ أهلها له أو منها، كخبر أبي بصير(1) وغيره(2).

ومنها: ما تضمّن أنّ الأرض الميتة التي لا ربّ لها أو الأرض التي لا ربّ لها له، كمرسل حمّاد(3) وغيره(4).

ومنها: ما تضمّن أنّ الأرض كلّها له كصحيح الكابلي(5).

ومنها: ما تضمّن أنّ موتان الأرض له كالنبويّين(6).

أقول: وبعض هذه الطوائف وإنْ كان في دلالته تأمّلٌ ، إلّاأنّه كما أفاده الشيخ يمكن دعوى تواترها الإجمالي بالنسبة إلى الحكم في الجملة، أو استفاضتها كذلك.

وإنْ كان لها مالك: فالأظهر أنّها باقية على ملكه كما مرّ.

وما دلّ على أنّ الأرض الميتة أو الخربة للإمام - المتقدّم - يقيّد إطلاقه بما دلّ على أنّ الأرض الميتة التي لا ربّ لها له عليه السلام.

***6.

ص: 243


1- وسائل الشيعة: ج 9/533 ح 12652، تفسير العيّاشي: ج 2/48 ح 11.
2- وسائل الشيعة: ج 9/533 ح 12650.
3- الكافي: ج 1/539 ح 4، وسائل الشيعة: ج 9/524 ح 12628.
4- وسائل الشيعة: ج 9/531 ح 12644.
5- الكافي: ج 1/407 ح 1، وسائل الشيعة: ج 25/414 ح 32246.
6- معرفة السنن والآثار للبيهقي: ج 10/176، التلخيص الحبير: ج 4/6.

كلّ من أحيى أرضاً مواتاً بإذن الإمام فهو أحقّ بها.

الجهة الثانية: في الإحياء (و) قد طفحت كلماتهم بأنّ (كلّ من أحيى أرضاً مواتاً بإذن الإمام فهو أحقّ بها) أو «فهي له».

أقول: أصل مملّكية الإحياء في الجملة ممّا لا إشكال فيه.

ويشهد به: جملة من النصوص:

منها: قول الإمام الصادق عليه السلام - في الحسن كالصحيح - قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

من أحيى أرضاً مواتاً فهي له»(1).

ومنها: قول الإمام الباقر عليه السلام - في الصحيح - قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله من أحيى مواتاً فهو له»(2).

ومنها: قول الإمام الصادق في معتبر السكوني: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من غرس شجراً أو حفر وادياً، إلى أنْ قال: أو أحيى أرضاً ميّتة فهي له، قضاءً من اللّه ورسوله»(3).

ونحوها غيرها(4).

وأمّا اعتبار الإذن: فعن الشيخ في «الخلاف»(5) والمحقّق الثاني في «جامع المقاصد»(6) وغيرهما في غيرهما دعوى الإجماع على اعتبار الإذن.0.

ص: 244


1- التهذيب: ج 7/152 ح 22، وسائل الشيعة: ج 25/412 ح 32240.
2- الكافي: ج 5/279 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/412 ح 32241.
3- الكافي: ج 5/280 ح 6، وسائل الشيعة: ج 25/413 ح 32244.
4- الفقيه: ج 3/241 ح 3880، وسائل الشيعة: ج 25/412 ح 32243.
5- الخلاف: ج 3/526.
6- جامع المقاصد: ج 7/10.

وقيل: لا يعتبر.

وقيل: يفصّل بين زمان الحضور فالأوّل، وزمان الغيبة فالثاني.

يشهد لاعتباره: ما دلّ من العقل والنقل على حرمة التصرّف في مال الغير بغير إذنه ورضاه.

واستدلّ لعدم الاعتبار: بأنّه يكفي إذن مالك الملوك في ذلك، وإنْ لم يأذن مالكها، كما في التمليك بالإلتقاط وحقّ المارّة.

وفيه: أنّه لا شيء يتوهّم كاشفيّته عن إذن مالك الملوك، سوى النصوص المتقدّمة الدالّة على سببيّة الإحياء للملك، ولا كاشفية لها، لأنّها كأدلّة سائر الأسباب، فكما أنّها لا تعارض ما دلّ على إناطتها بإذن المالك كذلك هذه.

واستدلّ للثالث: بامتناع الإستيذان منه عليه السلام في زمان الغيبة، ولم يدلّ دليل على نيابة الفقيه عنه في هذه الاُمور، مع مشروعيّة الإحياء مطلقاً.

ويردّه: أنّه يتوقّف على عدم ثبوت صدور الإذن منهم عليهم السلام، وسيأتي الكلام فيه.

أقول: ثمّ إنّ القائلين باعتبار الإذن يدّعون صدوره منه عليه السلام، واستندوا في ذلك إلى وجوه:

الوجه الأوّل: النبويّان المتقدّمان، حيث أنّ المذكور في أحدهما قوله عليه السلام: «ثمَّ هي لكم منّي» وفي الآخر: «ثمّ هي لكم منّي أيّها المسلمون» ومقتضاهما وإنْ كان هو التمليك، ولو مع عدم الإحياء، إلّاأنّه جمعاً بينهما وبين ما دلّ على سببيّة الإحياء، نلتزم بملكيّة المُحيي خاصّة.

ويردّه: أنّهما غير مرويّين من طرقنا، وضعيفا السند.

الوجه الثاني: نفس قولهم عليه السلام: «من أحيى أرضاً مواتاً فهي له» فإنّه وإنْ تضمّن

ص: 245

الإذن التشريعي في الإحياء، إلّاأنّ صدور ذلك من المالك يقتضي كونه إذناً مالكيّاً، نظير من قال: (مَن دَخل داري فله كذا)، فإنّه متضمّن للإذن المالكي، كتضمّنه لسببيّة الدخول للجزاء، كذلك في المقام.

وفيه: أنّ الإذن المالكي لابدّ وأن يصدر من المالك، فهذه النصوص المتضمّنة لهذه الجملة تفيد بالنسبة إلى أزمنة الأئمّة عليهم السلام الذين قبل إمام زماننا عليه السلام، وحيث إنها لم تصدر منه عليه السلام، وهو المالك، فلا يفيد ذلك كما لا يخفى .

الوجه الثالث: أخبار التحليل(1) سيّما مثل خبر مسمع بن عبدالملك، عن الإمام الصادق عليه السلام: «وكلّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض، فهم فيه محلّلون، ومحلّل ذلك لهم إلى أن يقوم قائمنا.. الحديث»(2)، حيث يستفاد منها حليّة التصرّف، فبضمّها إلى ما تضمّن سببيّة الإحياء للملك، يستنتج إذنهم عليهم السلام في التملّك بالإحياء.

وهذا الوجه يتوقّف على ثبوت تحليل الأراضي التي هي من الأنفال، وقد أثبتنا ذلك في مبحث الأنفال من هذا الشرح(3).

الوجه الرابع: ما أفاده كاشف الغطاء رحمه الله(4) من دلالة شاهد الحال على رضاهم عليهم السلام بالإحياء، وطيب نفسهم بعمارة الأرض.

ولا بأس به أيضاً، وعليه فالأظهر ثبوت رضاهم بالإحياء.

أقول: ثمّ إنّه هل يختصّ مملكيّة الإحياء، بما إذا كان المُحيي مسلماً، كما عن «التذكرة»(5) و «جامع المقاصد»(6)، بل عن الأوّل الإجماع عليه ؟0.

ص: 246


1- وسائل الشيعة: ج 9/543 باب 4 من أبواب الأنفال.
2- الكافي: ج 1/408 ح 3، وسائل الشيعة: ج 9/548 ح 12686.
3- فقه الصادق: ج 11/313.
4- حكاه عنه في حاشية المكاسب (للشيخ الأصفهاني): ج 3/18.
5- تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 2/400.
6- جامع المقاصد: ج 7/10.

أم لا فرق بين المسلم والكافر، كما عن صريح «المبسوط»(1)، و «الخلاف»(2)، و «السرائر»(3)، و «الجامع»(4)، وظاهر «المهذّب»(5)، و «النافع»(6)، و «اللّمعة»(7)وغيرها؟ وجهان:

يشهد للثاني: - مضافاً إلى إطلاق جملةٍ من الأخبار - صحيح محمّد بن مسلم:

«سألته عن الشراء من أرض اليهود والنصارى؟ فقال: ليس به بأس - إلى أنْ قال - أيّما قومٍ أحيوا شيئاً من الأرض أو عملوه، فهم أحقّ بها، وهي لهم»(8).

ونحوه صحيح الفضلاء(9) وخبر زرارة(10).

واستدلّ للإختصاص: بالنبويّين المتقدّمين، وبصحيح الكابلي المتقدّم: «من أحيى أرضاً من المسلمين، فليعمرها».

ولكن النبويّين ضعيفان، والصحيح لا مفهوم له كي يقيّد إطلاق النصوص، ويعارض مع ما تقدّم.

وبالجملة: فالأظهر عدم الاختصاص، إلّاأنّه حيث عرفت اعتبار الإذن، وأنّه يثبت إذنهم بأخبار التحليل المختصّة بالشيعة، ودلالة شاهد الحال، ففي زمان1.

ص: 247


1- المبسوط: ج 3/270.
2- الخلاف: ج 3/527.
3- السرائر: ج 2/381.
4- الجامع للشرايع: ص 142.
5- المهذّب: ج 2/29.
6- المختصر النافع: ص 251.
7- اللّمعة الدمشقيّة: ص 210.
8- التهذيب: ج 4/146 ح 29، وسائل الشيعة: ج 25/411 ح 32236.
9- التهذيب: ج 7/152 ح 22، وسائل الشيعة: ج 25/412 ح 32240.
10- الكافي: ج 5/279 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/412 ح 32241.

الغيبة الالتزام بملكيّة الأرض لغير الشيعة يتوقّف على إحراز رضاه بذلك، وإلّا فلا يكون مملّكاً ولا مُحرِز له، بل صحيح عمر بن يزيد عن مسمع بن عبدالملك المتقدّم الوارد فيه قوله عليه السلام: «... ما كان في أيدي سواهم، فإنّ كسبهم من الأرض حرامٌ عليهم حتّى يقوم قائمنا، فيأخذ الأرض، الحديث» صريحٌ في عدم الإذن لغير الشيعة، وعليه فالأظهر هو الاختصاص بهم.

ثمّ إنّ صريح جماعة وظاهر آخرين أنّ المِلك بلا عوض، وعن «فوائد الشرائع»(1) احتمال العوض.

أقول: ظاهر قولهم عليه السلام: «من أحيى أرضاً مواتاً فهي له» هو حصول الملك مجّاناً، لكن مقتضى صحيح الكابلي وخبر عمر بن يزيد هو إيجاب الخراج المنافي لكونه مِلكاً، ومقتضى نصوص التحليل سقوط الخراج، والجمع بين هذه الطوائف بحمل نصوص الخراج على زمان الحضور، كما هو ظاهر المتن - يأباه صريح نصوص التحليل، كما أنّ حمل نصوص الخراج على بيان الاستحقاق - ينافي ظهورها في الفعليّة.

فالحقّ أن يقال: إنّ نصوص الخراج لابدّ من تأويلها أو رَدّ علمها إلى أهلها، لمعارضتها مع نصوص التملّك بالإحياء، وعدم عمل الأصحاب بها، مضافاً إلى ما ذكرناه في الجزء الرابع عشر من هذا الشرح من عدم كون هذه الأرض منها، فنصوص الإحياء لا معارض لها.

هذا كلّه في الأرض الميّتة التي لا ربّ لها.2.

ص: 248


1- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 21/182.

ولو كان لها مالكٌ ، عليه طِسْقها له، وإلّا فللإمام، ومع غيبته فهو أحقّ به، ومع ظهوره له رفع يده.

(و) أمّا (لو كان لها مالكٌ ) فقد عرفت أنّها بالموت لا تخرج عن ملكه، وللإمام تقبيلها من غيره، وصرف حاصلها في مصالح المسلمين لو ترك مالكها عمارتها، ولم تبلغ حَدّ الموت، وكذا لو وصل إلى حَدّ الموات، ولم يكن ذلك عن إهمال مالكها، وإنْ كان عن إهمال يملكها كلّ من أحياها من دون أن يكون عليه شيء، فما في المتن من أنّه كان (عليه طسقها له) غير تامّ .

(وإلّا) أي وإنْ لم يكن لها مالكٌ (ف) الطسق ثابت (للإمام) لأنّ الأرض الميّتة التي لا ربّ لها قد عرفت أنّها للإمام، فاُجرتها وعوضها له عليه السلام، ولكن قد عرفت أنّه لا عوض لها، بل المُحيي يملكها مجّاناً.

هذا كلّه مع الحضور.

(و) أمّا (مع غيبته ف) في المتن وبعض كتب المصنّف الآخر(1)، وفي «الشرائع»(2)(هو) أي المُحيي (أحقّ به، ومع ظهوره له رفع يده).

لكن صرّح المصنّف رحمه الله في محكي «التذكرة»(3) بأنّ المحيي لا يملكها، بل يثبت له بالإحياء الأحقيّة، وقدعرفت أنّه بالإحياء يُملك حتّى في زمان الغيبة، وأمّا أنّه عليه السلام بعدظهوره كيف يرفع يده عنه، فهو بحثٌ لا علاقة لنا به، وهو عليه السلام أعلم بمايفعله.

***7.

ص: 249


1- تبصرة المتعلّمين ص 113، قواعد الأحكام: ج 1/493.
2- شرائع الإسلام: ج 4/792.
3- تذكرة الفقهاء (ط ج): ج 9/187.

وشرط التمليك بالإحياء:

شرائط التملّك بالإحياء

الجهة الثالثة: في (شرط التمليك بالإحياء) زيادةً على ما عرفته من اعتبار الإذن، وهي اُمور:

الأمر الأوّل: قصد التملّك، ذكره الشهيد رحمه الله(1)، وفي «المسالك» أنّه يستفاد اعتبار ذلك من اشتراط الاُمور المذكورة في التملّك، فإنّه يستلزم القصد، لأنّ التملّك إرادة الملك(2).

أقول: وكيف كان، فقد استدلّ لاعتباره بوجوه:

الوجه الأوّل: الإجماع، لأنّ الأصحاب ذكروا أنّه يشترط في التملّك بالإحياء اُمور، ومن الواضح أنّ التملّك غير الملك وهو متقوّم بالقصد.

وفيه: أنّ التملّك عبارة عن فعل يوجب انتساب الملك إلى الإنسان، فلو لم تكن الإرادة قيداً في الإحياء، لما كان دخيلاً في صدق التملّك به.

الوجه الثاني: أن المنساق إلى الذّهن من النصوص ذلك، ولا أقلّ من الشكّ .

وفيه: أنّ الإنسباق ممنوعٌ ، والشكّ لا يمنع من التمسّك بالإطلاق.

الوجه الثالث: أنّ الوكيل والأجير الخاص لو أحييا أرضاً، تصبح ملكاً للموكل والمستأجر، وهذه آية دخالة القصد، وأنّها تصبح ملكاً لهما لقصد ذلك.

ص: 250


1- الدروس: ج 3/61.
2- مسالك الأفهام: ج 12/405.

أن لا يكون في يَد مسلمٍ ،

وفيه: أنّ المعيار في هذا الباب ليس هو دخالة القصد في التملّك، بل المعيار كون الشيء من العناوين القابلة للنيابة والوكالة بنظر العرف، ومن الواضح أنّه بنظر العرف الإحياء كذلك، فلو قصد الإحياء للغير وقع له، وإنْ لم يقصد التملّك له، إنّما الكلام في المقام فيما لو لم يقصد.

الوجه الرابع: الشكّ في السبب، والأصل يقتضي عدمه.

وفيه: أنّ الإحياء ليس من قبيل البيع اسماً للمسبّب، كي يُشكل التمسّك بإطلاق دليل إمضاء المسبّب، لعدم دخل شيء في السبب، وإنْ كان هو أيضاً غير تامّ ، بل هو إسمٌ للسبب، فلا ريب في رفع الشكّ في دخالة شيء فيه بإطلاق الدليل.

أقول: ويمكن أن يستدلّ لعدم اعتباره - مضافاً إلى إطلاق الدليل - بأنّه لاريب في أنّ الوكيل والأجير لو لم يقصدا التملّك، بل كان الإحياء الصادر منهما بلا قصد التملّك، يملك كلّ من الموكل والمستأجر ما قاما بإحياءه، وهذه قرينة قطعيّة لعدم دخل قصد التملّك في تحقّق الملكيّة، ولعلّه لذلك لم يذكره الأصحاب.

الأمر الثانى: (أن لا يكون في يد مسلم) أو مسالمٍ ، ما لم يعلم فسادها، كي تكون محترمة، بلا خلافٍ ولا إشكال، لان ذلك يمنع عن مباشرة الإحياء لغير المتصرّف، كما في «الرياض»(1).

أقول: لكن قد عرفت أنّه لو كانت الميتة مِلْكاً للغير، وأهمل في إصلاحها وعمارتها، جاز للمُحيي الثاني أن يُحييها ويملكها، نعم لو لم يكن مُهمِلاً في ذلك9.

ص: 251


1- رياض المسائل: ج 12/349.

ولا حريماً لعامرٍ.

فإنّه ليس لغيره إحياؤها.

وعن حواشي الشهيد(1): (أنّ المراد باليد، اليد المصاحبة للإحياء أو العمارة، ولو بالتلقّي ممّن فعل ذلك، أو أرض أسلم أهلها طوعاً لا مطلق اليد).

وفيه: أنّ التقيّيد بالمحترمة يُغني عن ذلك، فإنّه في غير المورد المذكور لا تكون اليد علامة الملكيّة، مع أنّ في الأرض التي أسلم أهلها طوعاً كلاماً قد تقدّم.

(و) الأمر الثالث: أن (لا) يكون الموات (حريماً لعامرٍ) من بستانٍ أو دارٍ أو قريةٍ أو بلدٍ أو مزرعةٍ أو غير ذلك ممّا يتوقّف الانتفاع بالعامر عليه، كالطريق المسلوك إليه، وحريم البئر والحائط ونحو ذلك، بلا خلافٍ فيه كما في «المسالك»(2).

وعن «التذكرة»(3): (لا نعلم خلافاً بين علماء الأمصار أنّ كلّ ما يتعلّق بمصالح العامر، كالطريق والشرب ومسيل ماء العامر ومطرح قمامته وملقى ترابه وآلاته، أو لمصالح القرية كقناتها ومرعى ماشيتها ومحطبها ومسيل مياهها، لا يصحّ لأحدٍ احياؤه، ولا يُملك بالإحياء، وكذا حريم الآبار والأنهار والحائط، وكلّ مملوكٍ لا يجوز إحياء ما يتعلّق بمصالحه، لمفهوم المرسل المزبور، ولأنّه لو جاز إحياؤه أبطل الملك في العامر على أهله، وهذا ممّا لا خلاف فيه).

وعن «جامع المقاصد»(4): الإجماع عليه.1.

ص: 252


1- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 38/33.
2- مسالك الأفهام: ج 12/406.
3- تذكرة الفقهاء (ط ق): ج 2/410.
4- جامع المقاصد: ج 7/20-21.

ويشهد به: - مضافاً إلى الإجماع، وإلى قاعدة نفي الضرر - بناء العقلاء، فإنّه لا ريب في كون بنائهم على عدم جواز تصرّف الغير في حريم العامر بغير إذن أربابه، والنصوص الكثيرة دالّة عليه، وهي مذكورة في كتاب إحياء الموات، كما أنّ حَدّ الحريم مذكور هناك.

بل الظاهر من جملة من تلك النصوص، ملكيّة الحريم لمالك العامر:

منها: خبر محمّد بن عبداللّه - الذي قريبٌ من الصحيح بالبزنطي - عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن الرجل تكون له الضيعة، وتكون لها حدود تبلغ حدودها عشرين ميلاً أو أقلّ أو أكثر، يأتيه الرجل فيقول: أعطني من مراعي ضيعتك وأعطيك كذا وكذا درهماً؟

فقال عليه السلام: إذا كانت الضيعة له فلا بأس»(1).

ومنها: حسن إدريس بن زيد، عن أبي الحسن عليه السلام، قال:

«قلت: جُعِلت فداك إنّ لنا ضياعاً ولها حدود، ولنا الدّواب فيها مراعي، وللرجل منّا غنمٌ وإبل، ويحتاج إلى تلك المراعي لإبله وغنمه، أيحلّ له أن يحمي المراعي لحاجته إليها؟

فقال عليه السلام: إذا كانت الأرض أرضه، له أن يَحمي، ويصير ذلك إلى ما يحتاج إليه.

قال: وقلت له: الرجل يبيع المراعي ؟ فقال عليه السلام: إذا كانت الأرض أرضه فلا بأس»(2).

وعليهما يُحمل إطلاق خبر موسى بن إبراهيم، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن4.

ص: 253


1- الكافي: ج 5/276 ح 3، وسائل الشيعة: ج 25/422 ح 32264.
2- الكافي: ج 5/276 ح 2، وسائل الشيعة: ج 17/371 ح 22774.

ولا مَشْعراً للعبادة،

بيع الكلاء والمرعى ؟ فقال عليه السلام: لا بأس به، وقد حَمى رسول اللّه صلى الله عليه و آله النقيع لخيل المسلمين»(1).

أقول: أضف إلى ذلك ما قاله صاحب «المسالك»(2): (بأنّ الأشهر أنّه يملك كما يملك العامر، لأنّه مكان استحقّ بالإحياء فملك كالمُحيي، ولأنّ معنى الملك موجود فيه، لأنّه يدخل مع المعمور في بيعه، وليس لغيره إحياؤه، ولا التصرّف فيه بغير إذن المحيي، ولأنّ الشفعة تثبت بالشركة في الطريق المشترك، وهو يدلّ على الملك.

وقال بعضهم: إنّه غير مملوك، وإنّما هو حقّ من حقوقه، لأنّ الملك يحصل بالإحياء ولا يوجد فيها إحياء.

واُجيب: بمنع المقدّمتين، بأنّه لا يشترط في تحقّق الإحياء مباشرة كلّ جزءٍ من المحكوم بإحيائه، ألا ترى أنّ عرصة الدار تُملك ببنائه الدار، وإنْ لم يوجد في نفس العرصة إحياء، وإنّما الإحياء تارةً يكون بجعله معموراً وتارةً بجعله تبعاً للمعمور) انتهى ، وهو حسن.

(و) المورد الرابع: أن (لا) يُسمّيه الشارع (مَشْعَرَاً) محلّاً (للعبادة) كعرفة ومنى ومزدلفة وغيرها من الأماكن المشرّفة التي جعلها اللّه مناسكاً للعبادة، فهي في الحقيقة ليس من الموات، بل هي أعظم من الوقف الذي يتعلّق به حقّ الموقوف7.

ص: 254


1- الكافي: ج 5/277 ح 5، وسائل الشيعة: ج 25/423 ح 32266.
2- مسالك الأفهام: ج 12/407.

ولا مُقطعاً،

عليهم، فإنّ الشارع هو المالك الحقيقي وقد عيّنها موطناً للعبادة، فلا تشملها أدلّة إحياء الموات.

وعلى ذلك، فما أفاده غير واحدٍ من أنّه يتملّك لو عَمّر فيها ما لا يضرّ ولا يؤدّي إلى ضيقها عمّا يحتاج إليه المتعبّدون كاليسير:

إنْ اُريد به تملّك اليسير منها، فهو مخالفٌ للضرورة، كما نبّه عليه صاحب «الجواهر» رحمه الله(1).

وإنْ اُريد به التعمير فيها، ليكون له حقّ الأولويّة فلا بأس به.

(و) الأمر الخامس: أن (لا) يكون (مُقطعاً) من إمام الأصل لغيره، ولو كان مواتاً خالياً عن التحجير، بلا خلافٍ ولا إشكال، ضرورة أنّ الموات له، يتصرّف فيها ما يشاء، وباقطاعه يمنع غير المقطع عن إحيائها، ويخصّصها بالمقتطع، فلا يصحّ دفع هذا الاختصاص بالإحياء، هكذا قالوا.

أقول: ولكن قد عرفت أنّ الإحياء قسمان:

أحدهما: الموات التي للإمام.

ثانيهما: إحياء غير المالك للموات التي لها مالك خاص، وما ذكروه يتمّ في الأوّل، ولا يتمّ في الثاني.

اللّهُمَّ إلّاأن يقال: إنّ إجماع الأصحاب على أنّه لا يصحّ إحياؤها مطلقاً، بل4.

ص: 255


1- جواهر الكلام: ج 38/54.

ولا مَحْجراً.

عن «المبسوط»(1) نفي الخلاف فيه بين المسلمين، وبه يقيّد إطلاق الأدلّة.

إلّا أنّ الذي يسهّل الخَطب، أنْ لا ثمرة مهمّة لذلك في هذا الزمان، ومع ظهوره عليه السلام هو أعلم بما يفعل.

(و) الأمر السادس: أن (لا) يكون (مُحجّراً) أي لم يسبق إليه سابقٌ بالتحجير، فإنّ التحجير - كما سيأتي - لا يفيد الملكيّة، بل يفيد أولويّة واختصاصاً، فإذا ثبت الحقّ للمحجّر، فلو زاحمه أحدٌ وأحياها لم يملك، لأنّه أحيى ما ليس له إحياؤه، مع أنّ الإحياء إذا أفاد الملك وجب أن يفيد الشروع فيه عدم جواز إحياء غيره، ليأمن من يقصد الإحياء بالشروع في العمارة.

ثمّ إنّه حيث لا إطلاق لدليل التحجير - كما ستعرف - فالمتيقّن منه ما لو لم يهمل العمارة، ولكن إيكال ذلك إلى نظر آحاد المكلّفين ينجرّ إلى النزاع والتشاجر، فلا محالة يكون النظر فيه إلى الحاكم، فيُرفع الأمر إليه وهو يجبر المحجّر على أحد الأمرين: أمّا الإحياء أو رفع اليد، ولو امتنع أخرجه الحاكم، وأذن لغيره بإحياءه.

***4.

ص: 256


1- المبسوط: ج 3/274.

والإحياء بالعادة.

كيفيّة الإحياء

(و) الجهة الرابعة: في كيفيّة ما يحصل به صدق (الإحياء).

ولا خلاف ظاهراً في أنّ الميزان (بالعادة) والعُرف، فكل ما يصدق عليه في العرف والعادة أنّه إحياءٌ يترتّب عليه حكمه، إذ لم يرد من الشارع الأقدس تحديد فيه، ورتّب الحكم عليه، فلا محالة يكون المتّبع نظر العرف.

فإنْ قيل: إنّ نظر العرف يتّبع في تعيّين المفهوم، وأمّا في صدقه على مصاديقه، فلابدّ من إعمال الدقّة العقليّة، وقد اشتهر أن لا اعتبار بالمسامحات العرفيّة في تطبيق المفاهيم على مصاديقها وتضرب بها على الجدار.

أجبنا عنه: أنّه تارةً يكون حدود المفهوم مبيّنة، والشكّ في الصدق من ناحية الاُمور الخارجيّة، واُخرى يكون الحدود غير مبيّنة، وهو السبب في الشكّ في الصدق، وما اُفيد يتمّ في الأوّل، وأمّا في الثاني، فإذا أخذ العنوان في الموضوع من دون بيان للمفهوم، فبدلالة الاقتضاء يستكشف اتّحاد نظر الشارع مع نظر العرف، ويعبّر عنه بالإطلاق المقامي.

وعلى الجملة: فالمتّبع هو نظر العرف فيما هو إحياءٌ ، وللقوم كلمات في المقام أحسنها وأجمعها ما ذكره الشهيد الثاني في «المسالك»(1) قال: (ويختلف ذلك

ص: 257


1- مسالك الأفهام: ج 12/423.

باختلاف ما يقصده من عمارة الموات وتفصيله بصور:

إحداها: إذا أراد السكنى اعتبر في الملك أمران:

أحدهما: تحويطه إمّا بالآجر أو اللّبن أو الطين أو الخَشَب أو القصب بحسب العادة.

والثاني: تسقيفه ولو بعضه ليتهيّأ للسكنى، وليقع عليه اسم المسكن عرفاً، ولا يشترط نصب الباب عندنا، لأنّ نصب الباب للحفظ والسكنى لا يتوقّف عليه، واعتبره بعض العامّة، لأنّ العادة في المنازل أن يكون لها أبواب، وما لا باب له لا يتّخذ مسكناً، وبعضهم لم يعتبر السقف، لقوله صلى الله عليه و آله: «من أحاط حائطاً على أرضٍ فهي له»(1) ولأنّ الحائط حاجزٌ يمنع فكان إحياء، كما لو جعلها حظيرة للغنم، لأنّ القصد لا اعتبار به، فإنّه لو أرادها حظيرة فبناها بجِصّ وآجر وقسّمها بيوتاً، فإنّه يملكها وإنْ كان هذا العمل لا يعمل للغنم مثله، ولأنّه لو بناها للغنم ملكها بمجرد الحائط، فإذا ملكها جاز له أن يبنيها داراً من غير اشتراط تسقيف، وفي «التذكرة»(2) نفى عن هذا القول البأس، ووجهه واضح.

الثانية: إذا أراد ذريبةً للدّواب، أو حضيرةً يجفّف فيها الثمار، أو يجمع فيها الحطب أو الحشيش اعتبر التحويط، ولا يكفي نصب سقف أو أحجارٍ من غير بناء، لأنّ التملّك لذلك لا يقصر عليه في العادة، وإنّما يفعله المختار المرتفق، ولا يشترط التسقيف هنا إجماعاً قضاءً للعرف، وفي تعليق الباب هنا كما سلف.

الثالثة: أن يتّخذ الموات مزرعةً ، فيعتبر في إحيائه جمع التراب حواليه، ليتفصّل2.

ص: 258


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/111 ح 20904-3، عوالي اللآلي: ج 3/480 ح 3.
2- تذكرة الفقهاء (ط. ق): ج 2/412.

المُحيي عن غيره، ويُسمّى بالمرز بالكسر، أو تمييزه بمُسناة بضمّ الميم، وهو مثل المرز، وربما كان أزيد منه تراباً، ومثله نصب القصب والشوك حولها، وقد يجعل أحد هذه المسناة، ويخصّ التراب بالمرز وجعل الحجر حولها كجعل التراب، واكتفى المصنّف رحمه الله في الإحياء للزرع ذلك، أو سوق الماء إليها بساقية أو ما شابهها إن احتاجت إلى السقي، ولم يكتف بماء السّماء، وإلّا فلا حاجة إليه، وبعضهم اعتبر فيه الأمرين، وهو حسن.

وهذا إذا لم يكن مستأجمة بنحو الشجر، وإلّا اعتبر عضد شجرها كما يعتبر ذلك للغرس.

وبقي في العبارة أنّه اعتبر سوق الماء إليها حيث يفتقر إليه، والحقّ الاكتفاء بترتيب الماء لها، بأن يحفر له المجرى، ويهيّئه للوصول، وإنْ لم يسبقه إليها بالفعل، كما لا يشترط سيقها وزرعها بالفعل، لأنّ الإحياء يتحقّق بالتهيئة لا بالانتفاع بالفعل.

ولا يشترط حراثها ولا زراعها، لأنّ الزراعة استيفاء منفعة الأرض، واستيفاء المنفعة خارج عن حَدّ الإحياء، كما أنّه لا يعتبر في إحياء الدار أن يسكنها واعتبره بعض العامّة، لأنّ الدار والزرية(1) لا تصير محياة إلّاإذا حصل فيها عين الماء فكذا المزرعة، والأصل ممنوع.

الرابعة: أن يتّخذه للغَرس، وقد اختلفت عبارات الفقهاء فيما يتحقّق به الإحياء لهذه المنفعة، والمصنّف رحمه الله اعتبر فيه أحد اُمور:

إمّا غرسها بالفعل مع ثبات الغرس، وسوق الماء إليها.ي.

ص: 259


1- الظاهر أنّ المراد الزريبة: وهي حظيرة المواشي.

وإمّا عضد شجرهاو إصلاحها بإزالة الأُصول وتسوية الأرض إنْكانت مستأجمة.

أو بقطع المياه الغالبة عنها وللعمارة.

وظاهره أنّ كلّ واحدٍ من هذه الثلاثة كافٍ في الإحياء محتجّاً بدلالة العُرف عليه، وإنّما اعتبر غرس الأشجار وبناؤها، لأنّ اسم البستان لا يقع على الأرض المهيّأة له قبل الغرس بخلاف المزرعة، فإنّها تقع على الأرض قبل الزراعة، ولأنّ الغرس يدوم، فالحق ببناء الدار والزرع بخلافه.

ويُشكل: بأنّ قصد الغرس أعمّ من جعله بستاناً، ولا يلزم من توقّف اسم البستان على الشجر توقّف غيره.

والأقوى عدم اشتراط الغرس مطلقاً، وعدم الاكتفاء بكلّ واحدٍ من الثلاثة على انفراده، على تقدير الحاجة إليها أجمع، بأنّ كانت الأرض مستأجمة، والماء غالباً عليها، بل لابدّ حينئذٍ من الجمع بين قطع الشجر ودفع الماء.

وإن وجد أحدهما خاصّة اكتفى بزواله، وإن خليت عنهما واحتاجت إلى الماء فلابدّ من تهيئة السقي كما ذكرناه في الزرع، ولو خليت عن الجميع بأن كانت غير محتاجة إلى السقي ولا مستأجمة ولا مشغولة بالماء، اعتبر في إحيائها التحجير عليها بحائطٍ ونحوه، وفي الاكتفاء حينئذٍ بغرسها مع ثبات الغرس وجه، وفي كلام الفقهاء اختلاف كثير في اعتبار ما يعتبر من ذلك، والمحصّل ما ذكرناه) انتهى ، وهو حسن.

وأخيراً: لو شُكّ في صدق الإحياء في موردٍ، لابدّ من الرجوع إلى الأصل، وهو يقتضي العدم كما لا يخفى .

***

ص: 260

والتحجير لا يفيدُ التمليك بل الأولويّة.

حكم التحجير

(و) الجهة الخامسة: (التحجير لا يفيد التمليك بل الأولويّة) بلا خلافٍ ، وعليه الإجماع في كلمات جماعة.

أقول: يقع والكلام تارةً في الموضوع، واُخرى في الحكم.

أمّا الأوّل: فهذا اللّفظ وإنْ لم يرد في روايةٍ ولو ضعيفة، إلّاأنّ الظاهر وقوعه في معقد الإجماع، وكيف كان فقد صرّح غير واحدٍ بأنّ المراد منه هو الشروع في الإحياء شروعاً لم يبلغ حَدّ الإحياء.

ودعوى صاحب «الجواهر»(1): من احتمال كونه أعمّ من الشروع في الإحياء.

يدفعها: أنّه بعد فرض أنّ عمدة المدرك الإجماع، وما لا إطلاق له، وتصريح جمع من المجمعين بأنّ المراد منه ذلك صرف الاحتمال، لا يفيد شيئاً، فالقدر المسلّم ممّا هو موضوع الحكم هو ذلك.

قالوا: والتحجير مثل أن ينصب على الأرض التي يريد إحياءها مرزاً ويجمع حواليها التراب، أو يغرز فيها خشبات، أو يخطّ عليها خطوطاً أو نحو ذلك، ومنه أن يحفر النهر ولم يصل إلى منزع الماء، وأن يعمل في المعادن الباطنة عملاً لا يبلغ نيلها، أمّا بلوغه فهو إحياء، ولا تحجير في المعادن الظاهرة، لأنّه شروع في الإحياء وهو منتفٍ فيها.

ص: 261


1- جواهر الكلام: ج 38/58.

وأمّاحكمه: فقدا تّفقوا على أنّه لايفيد المِلْك، و يفيدحقّ الاختصاص والأولويّة.

أمّا عدم إفادته الملك: فللأصل بعد كون السبب هو الإحياء المفروض عدمه.

وأمّا أنّه يفيد حقّ الاختصاص: فيمكن الاستدلال له بوجوه:

أحدها: الإجماع.

ثانيها: بناء العقلاء عليه، فتأمّل.

ثالثها: أنّه إذا كان الإحياء مفيداً للملك، وجب أن يفيد الشروع فيه الأحقيّة نحو البيع والاستام، ليأمن من يقصد الإحياء بالشروع في العمارة.

وأمّا النبويّ : «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلمٌ فهو أحقّ به»(1) - فمضافاً إلى ضعف سنده - غير شامل للمقام، بل هو في المباحات، كما أنّ النبويّ الآخر: «من أحاط على أرضٍ له فهي له»(2) ضعيفُ السند جدّاً، مع أنّه في الإحياء لا في ما نبحث عنه في المقام.

وفي «الرياض»(3): (ولعلّهم أخذوها من فحوى ما دلّ عليها في السبق إلى مكانٍ من المسجد أو السوق من النص وغيره، ولا بأس به).

وفيه: مع الإغماض عمّا في سنده، أنّه لم يعمل بالنّص في مورده، فإنّه دالّ على الأحقيّة (إلى اللّيل) كما في خبر طلحة(4)، وإلى (يومه وليلته) كما في مرسل محمّد بن إسماعيل(5) ولم يعمل بهذا التحديد أحد، وهما متعارضان فيه، فالعمدة ما ذكرناه.1.

ص: 262


1- عوالي اللآلي: ج 3/480 ح 4.
2- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/111 ح 20904-3، عوالي اللآلي: ج 3/480 ح 3.
3- رياض المسائل: ج 12/352.
4- الكافي: ج 5/155 ح 1، وسائل الشيعة: ج 5/278 ح 6542.
5- الكافي: ج 4/546 ح 33، وسائل الشيعة: ج 5/278 ح 6541.

ثمّ إنّ الظاهر أنّه من الحقوق القابلة للنقل والإسقاط، كما صرّح به غير واحدٍ، فلو مات فوارثه أحقّ به.

قالوا: ولو أهمل المُحجّر العمارة مدّة طويلة، أجبره الإمام على أحد الأمرين:

إمّا الإتمام، أو التخلية للغير، حذراً من التعطيل، وقد مرَّ الكلام في ذلك وعرفت أنّه تامّ لا غبار عليه.

***

ص: 263

الفصل الرابع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وحيث إنّي قد كتبتُ رسالة مستقلّة في هذين الفرضين، مشتملة على جميع ما يتعلّق بهما من المباحث، فلذلك أنقل تلك الرسالة بتمامها هنا تعميماً للنفع، وهي وإنْ لم تكن شرحاً لما في «التبصرة» إلّاأنّها مشتملة على جميع ما فيها، وللّه الحمد.

ص: 264

الحمد للّه على ما أولانا من التفقّه في الدين، والهداية إلى الحقّ المُبين، وأفضل صلواته على رسوله صاحب الشريعة الخالدة إلى يوم الدِّين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين العلماء باللّه، والاُمناء على حلاله وحرامه.

أمّا بعد، فقد قالوا: إنّ الإنسان مدنيٌّ واجتماعي بالطبع، وقد قرّر هذا المعنى القرآن الكريم في آيات كثيرة، كقوله تعالى : «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا» (1).

وقوله تعالى : «وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً» (2) ونحوهما غيرهما.

وأوّل ما ظهر من الاجتماع فيه، هو الاجتماع المنزلي وذلك من خلال الزواج، ثمّ استخدام الإنسان لأخيه الإنسان في سبيل رفع حوائجه، واستمرّ هذا وكثر حتّى ظهر على نحو الحكومة والرئاسة، والقرآن الكريم يُشير في بعض آياته إلى أنّ الناس كانوا في بدء خلقتهم أُمّة واحدة، لا اختلاف بين أفرادهم، ثمّ ظهرت الاختلافات، فبعث اللّه الأنبياء، وأنزل معهم الكتاب ليرفع عنهم الاختلاف، ويردّهم إلى وحدتهم الأصليّة، لاحظ قوله عزّ وجلّ : «كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ 4.

ص: 265


1- سورة الحجرات: الآية 13.
2- سورة الفرقان: الآية 54.

فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ » (1) ، والإسلام العزيز أوّل داعٍ دعى الناس إلى العناية بأمر مجتمعهم، ودعاهم إلى خلق ما يؤدّي إلى سعادة الحياة والعيش الطيّب في ظل المجتمع؛ قال اللّه تعالى: «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» (2) إلى أنْ قال:

«وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ » (3) .

وقال عزّ وجلّ : «إِنَّ اَلَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ » (4).

وقال عزَّ من قائل: «وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ » (5).

وقال سبحانه: «إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ » (6).

إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الداعية إلى الاتّحاد والاتّفاق الذي هو من المزايا المعنويّة للمجتمعات الإنسانيّة.

والسرّ في هذا الاهتمام واضح؛ إذ لا ريب أنّ أفعال أفراد الناس واحدة في النوع، وإنْ كانت كثيرة في العدد، ومن الواضح أنّ الأفعال في صورة الاجتماع تقوى خاصّتها وتعظم أثرها، ألا ترى أنّ المياه الكثيرة المتشتّتة في أواني متعدّدة إذا اجتمعت في مكانٍ واحد كانت فائدتها أكبر وأكثر بمراتب ممّا هي عليه وهي متشتّتة، فالاجتماع في الأفعال أيضاً يؤدّي إلى كينونة اُخرى في المجتمع حسب مايمدّها أفرادالناس من وجودهم وقواهم وخواصّهم وآثارهم، فتتكوّن قوى0.

ص: 266


1- سورة البقرة: الآية 213.
2- سورة آل عمران: الآية 103.
3- سورة آل عمران: الآية 104.
4- سورة الأنعام: الآية 159.
5- سورة الأنفال: الآية 46.
6- سورة الحجرات: الآية 10.

وخواص اجتماعيّة تقهر القوى والخواص الفرديّة عند التعارض والتضادّ، وفي أمثال هذا المجتمع الصالح يكون أفراده - لا محالة - مقهورين ومضطرّين إلى البُعد عن الفساد بالضرورة، والعكس صحيح أيضاً؛ فإنّه إذا كان المجتمع فاسداً لا تنجح تربية الاخلاق والغرائز في الفرد، وهو أساس وجود المجتمع.

ولذلك كلّه نرى أن الإسلام وضع أهمّ أحكامه وشرائعه كالحجّ والجهاد والصلاة والزكاة على أساس الإجتماع، وحافظ على ذلك، وجعل إلى جانب كلّ ذلك فريضة الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كي يجعل هدف المجتمع الإسلامي: السعادة الحقيقيّة، والقُرب والمنزلة عند اللّه تعالى ، ثمّ عهد ضمان تنفيذ قوانينه أيضاً على عُهدة المجتمع، بالإضافة إلى ما تحافظ عليه الحكومة الإسلاميّة الشرعيّة من تنفيذ الحدود، وتطبيق القصاص، والأخذ بالديات، وإعمال السياسات الصحيحة الحكيمة الصادقة المخلصة والنافعة.

والآن اتّضح أنّ العقل أيضاً يُدرك حُسن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ بهما تُقام الفرائض، وتُأمن المذاهب، وتُرد المظالم، وتُعمر الأرض، ويستقيم الأمر، ويؤول أمر المجتمع إلى العزّة والصلاح، ويذوق الناس حلاوة النِعَم، وتلوح عليهم آيات السعادة.

ولذلك فهما واجبان شرعاً بإجماع المسلمين، بل هما من ضروريّات الدين، بل هما من أعظم الفرائض وأهمّ الواجبات، لذلك فهما نهج الصالحين، وسبيل الأنبياء والمرسلين، بل هما من سجايا ربّ العالمين.

ولذلك: ف «لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فإذا لم يفعلوا نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصرٌ في

ص: 267

الأرض ولا في السماء»(1) كما ورد في الخبر، ولا عجب من ذلك؛ إذ هما المهمّ الذي بعثَ اللّه النبيِّين من أجله، ولو أهمل لاضمحلّ الإسلام بين مجتمعه، وتفشّت فيه الجهالة والضلالة والفساد، وهلك الناس من حيث لا يشعرون.

والآن قد وقع الذي كان الرسول صلى الله عليه و آله يخاف منه أن يكون، حيث قال: «كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبابكم، ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر؟

فقيل له: ويكون ذلك يا رسول اللّه ؟! فقال: نعم، وشرٌّ من ذلك! ثمّ قال: كيف بكم إذا أمرتُم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ؟! فقيل له: يا رسول اللّه ويكون ذلك ؟! قال: نعم! وشَرٌّ من ذلك: كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟!»(2).

فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون.

ولا كلام في أنّ لوجوبهما شرائط، إلّاأنّه قد اشتُبه الأمر على جماعةٍ حيث عدّوا بعض شروط الواجب من شرائط الوجوب، ثمّ فسّروا الشروط أيضاً كما شاؤوا! وكأنهم غافلون عمّا يترتّب على ترك هذه الفريضة، لا سيّما بالسكوت أمام المبتدعين في الدِّين، المعاندين للحقّ المُبين، الذين إذا خلا لهم الجوّ بدّلوا أحكام اللّه تعالى ، وغيّروا سُنّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، بحيث لا يبقى من الإسلام إلّااسمه، ومن القرآن إلّا رسمه.

وفي حقّ هؤلاء قال الإمام الباقر عليه السلام: «يكون في آخر الزمان قومٌ يتبع فيهم قوم مراءون، يتقرّؤون ويتنسّكون، حدثاء سفهاء، لا يوجبون أمراً بمعروف ولا8.

ص: 268


1- التهذيب: ج 6/181 ح 23، وسائل الشيعة: ج 16/123 ح 21144، لكنّه في وسائل الشيعة أورده هكذا: (لاتزال أُمّتي بخير ما أمروا...).
2- الكافي: ج 5/59 ح 14، وسائل الشيعة: ج 16/121 ح 21138.

نهياً عن منكر، إلّاإذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتّبعون زلّات العلماء وفساد علمهم(1)، ويُقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلمهم(2) في نفسٍ ولا مال، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها، كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها... الحديث»(3).

وورد مثله عن سيّد شباب أهل الجنّة، ورأس أُباة الضيم، أبي عبد اللّه الحسين عليه السلام(4)، وكذلك ورد عن الإمام زين العابدين سلام اللّه عليه في كتابه إلى محمّد بن مسلم الزُّهري(5).

بل لكلّ واحدٍ من الأئمّة الهُداة صلوات اللّه عليهم أجمعين كلمات تشبه هذا، ستمرّ عليك إنْ شاء اللّه تعالى .

نعم، إنّ التجربة القطعيّة تدلّنا على أنّه في كلّ عصر تُركت فيه هذه الوظيفة العظيمة إمّا لضعف النفس، أو للخوف من إصابة الضرر المتوهّم أو المكروه، أو للطمع في زخارف هذه الدُّنيا الدنيّة، كزماننا هذا، لزم منه فساد الدِّين والدُّنيا، ونُزعت البركة عن الاُمّة، وسُلّط عليهم الجبابرة والطغاة، ولم يكن هناك لهم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء.

وفي أيّ عصر قام بأداء هذه الفريضة مصلحٌ أو عالم ربّاني آلَ أمر المجتمع إلى الصلاح والعِزّة، ولاحت عليهم آيات السعادة والفلاح، وذاقوا حلاوة النعم).

ص: 269


1- في الكافي: (وفساد عملهم).
2- الكلم: الجرح، وهنا (لا يكلمهم) أي لا يكلّفهم.
3- الكافي: ج 5/55 ح 1، التهذيب: ج 6/180 ح 21.
4- تحف العقول: 237.
5- تحف العقول: 274، هكذا نسبه في (تحف العقول).

الماديّة والمعنويّة.

أقول: وبعد هذه المقدّمة، فهذه رسالة نذكر فيها:

الأدلّة على وجوبهما، ونبيِّن مقدار ما يستفاد منها، ثمّ نتبعه ببيان الشرائط، ثمّ بيان الفروع والأحكام المترتّبة.

وما توفيقي إلّاباللّه، عليه توكّلت وإليه اُنيب، وهو حسبي ونِعمَ الوكيل.

***

ص: 270

الأدلّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أقول: يشهد لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأدلّة الأربعة:

الأوّل: العقل

فعن الشيخ(1)، والعلّامة(2)، والشهيدين(3)، والمقداد(4): أنّ العقل ممّا يستقل بذلك من غير حاجةٍ إلى ورود الشرع، نعم هو مؤكّد؛ لأنّ إيجابهما من اللّطف الذي يصل العقل إلى وجوبه عليه جلَّ شأنه.

وأورد عليه تارةً : بإنكار الحسن والقبح العقليّين، وأنّه مع قطع النظر عن كون الأفعال ملائمة للطبع أو منافرة له، تكون الأفعال متساوية لا تفاوت بينها في الحسن والقبح، سوى أنّ أفعال العباد قد تتّصف بالحُسن والقبح بعد تعلّق الأحكام الشرعيّة بها، باعتبار موافقتها للشرع ومخالفتها، بخلاف أفعاله تعالى ، فإنّها لا تتّصف بهما من هذه الجهة أيضاً، ولا مجال للعقل أن يحكم فيها بتحسين أو تقبيح.

واستندوا في ذلك:

إلى أنّ الفعل عرَضٌ والحُسن والقُبح العقليّان من قسم العَرَض أيضاً، والعرض لا يُعرض عليه عرضٌ ، ولا يُتّصف به.

وإلى أنّه ليس للعقل التحكّم على اللّه تعالى بأن يقول: هذا الفعل منه قبيح فيجب عليه تركه، أو حَسَنٌ فيجب عليه فعله، وهو الفعّال لما يشاء، وكلّ ما يفعل

ص: 271


1- الإقتصاد: 147.
2- قواعد الأحكام: ج 1/542.
3- اللّمعة الدمشقيّة: ج 2/409.
4- التنقيح الرائع: ج 1/591-592.

يكون تصرّفاً في ملكه، و «لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ » (1).

واُخرى : بأنّه لو وجبا بالعقل، لما ارتفع معروفٌ ولما وقع منكرٌ، أو كان اللّه تعالى شأنه مخلّاً بالواجب، والتالي بقسميه باطلٌ فالمقدّم مثله.

بيان الشرطيّة: أنّ الأمر بالمعروف هو الحمل على فعل المعروف، والنهي عن المنكر هو المنع عنه، فلو كانا واجبين بالعقل، لكانا واجبين على اللّه تعالى ، لأنّ كلّ واجبٍ عقلي يجبُ على كلّ من حصل فيه وجه الوجوب، ولو وجبا على اللّه تعالى لزم أحد الأمرين.

وأمّا بطلانهما فظاهر، أمّا الثاني فلأنّه حكيم لا يجوز عليه الإخلال بالواجب، وأمّا الأوّل فلأنّه يلزم الإلجاء، وهو ينافي التكليف(2).

أقول: هذان الإشكالان ناشئان من عدم ظهور الدليل العقلي، وتوضيحه بما تظهر معه صحّته، ودفع هذه الاشكالات يتوقّف على بيان اُمور:

الأمر الأوّل: إنّ الحُسن والقبح لا يكونان بتحكّمٍ من العقل، بل هما صفتان واقعيّتان يُدركهما العقل، ويكون شأن القوّة العاقلة الدرك لا التشريع وجَعل الأحكام حتّى بالنسبة إلى أفعال العباد.

وتوضيح ذلك: أنّه كما يكون لكلّ واحدةٍ من الحواس الخمس ملائمات ومنافرات، فالسَّمع تلتذّ بالأصوات الحَسنة، وتنزعج من الأصوات القبيحة، كذلك تكون للعقل الذي به إنسانيّة الإنسان ملائمات ومنافرات، ضرورة أنّ القوّة6.

ص: 272


1- سورة الأنبياء: الآية 23.
2- هذا الإشكال أورده السيّد المرتضى كما نقل عنه العلّامة الحِلّي، والمنقول هنا نصّ كلامه، راجع مختلف الشيعة: ج 4/456.

العاقلة قوّة درّاكة، فإذا لاحظت الأفعال فقد تراها ملائمة لها، وترى استحقاق فاعلها المدح كالعدل، فيقال إنّها حسنة، وقد تراها منافرة لها، وترى استحقاق فاعلها للذمّ كالظلم فيقال إنّها قبيحة، وقد تراها خالية عن الجهتين فتختلف بالوجوه والاعتبارات.

وبالجملة: إنّ للعقل نوارنيّة تنكشف لها الحقائق على ما هي عليها، فتدرك قبح بعض الأفعال وحسن بعضها.

الأمر الثاني: أنّه فرق بين العرض الوجودي والعرض الانتزاعي، والذي وقع محلّ الكلام في عروضه على العرض، إنّما هو القسم الأوّل كالألوان، وأمّا القسم الثاني كالحُسن والقُبح والشدّة والضعف، فليس لأحدٍ دعوى عدم عروضها على الأعراض.

الأمر الثالث: إنّ المدّعى كون أمر أفراد البشر بعضهم بعضاً بالمعروف حَسَناً، ويستكشف منه بقانون الملازمة الوجوب الشرعي، وأنّ اللّه تعالى أوجبهما قطعاً، ولا ربط لذلك بإيجاد اللّه تعالى المعروف ورفعه المنكر.

وقد شرحنا في المقدّمة عناية الإسلام بالمجتمع ووحدته وهدايته وصلاحه وصلاح أفراده بصلاحه، وصلاحه بصلاح أفراده، ولزوم تشريع فريضتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهذا الغرض على الشارع، وأنّ العقل يُدرك بوضوح حسن هذا الأمر، وليس معنى حكم العقل إلّادركه حسن هذا الأمر.

فبهذا يُدفع جميع ما أورد على هذا الوجه العقلي من الإشكالات.

***

ص: 273

الثاني: الكتاب

ويشهد لوجوبهما منه آيات:

منها: قوله تعالى : «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ » (1).

هذه الآية إنّما هي في ذيل الآيات التي خاطب اللّه بها المؤمنين ببيان حكم الأفراد أوّلاً، وهو الأمر بالتقوى الحقيقي، أي الذي لا يشوبه باطل فاسد من سنخه، وبيان حكم الجماعة المجتمعة، وهو الأمر بالاعتصام بحبل اللّه، وهو الكتاب المنزل من عند اللّه تعالى على نبيّه صلى الله عليه و آله، والنهي عن التفرق، والظاهر منها بيان ما يحفظ به الوحدة، ويكون حِرزاً للاُمّة، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظ الجامعة، وسياج الوحدة.

قوله: «وَ لْتَكُنْ » أمرٌ، واللّام لام الأمر، وإنّما سُكّنت مع الواو، وليست لام الإضافة؛ لأنّ تسكين لام الأمر يؤذن بعملها أنّه الجزم، وليس كذلك لام الإضافة.

وللاُمّة في اللّغة معان: الجماعة، والقامة، والاستقامة، والنعمة، والقدوة، راجع:

«مجمع البحرين»(2)، ولاحظ موارد استعمالها في كلّ واحد من هذه المعاني في الكتاب وكلمات الاُدباء. ولكن الأصل في ذلك كلّه كما أفاده الشيخ الأكبر الطوسي رحمه الله هو: (القصد، من قولهم: أمّه يؤمّه أمّاً إذا قصده، فالجماعة سُمّيت اُمّة لاجتماعها على مقصد واحد، والاُمّة: القدوة، لأنّه تأتمّ به الجماعة، والأمَّة:

البغية، لأنّها المقصد الذي هو البغية، والاُمّة: القامة، لإستمرارها في العلوّ على 8.

ص: 274


1- سورة آل عمران: الآية 104.
2- مجمع البحرين: ج 1/106-108.

مقصد واحد)(1).

وهي ظاهرة الدلالة على وجوب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأكد ذلك بما في ذيلها من أنّ فلاح المجتمع ونيله السعادة، وصيرورته صالحاً، متوقّفٌ على دعوة المائل عن طريق الخير والمعروف إليه، ومنع الساقط في مهبط الشرّ المنكر عنه، وحصر الفلاح في الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر.

وهل تدلّ الآية على لزوم كون المجتمع بهذا الاجتماع الصالح أُمّة يدعون إلى الخير، فيكون الخطاب إلى عامّة المكلّفين، نظراً إلى كون دخول (من) لتخصيص المخاطبين من بين سائر الأجناس، كما قال: «فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ » (2)؟

أم تدلّ على أنّ هذا التكليف تكليف كفائي، والأمر متوجّه إلى فرقةٍ منهم غير معيّنة، نظراً إلى كون (من) للتبعيض ؟

أم تدلّ على أنّ هذه الوظيفة متوجّهة إلى طائفة خاصّة وهم العلماء؟ وجوه.

أقول: والظاهر من الآية - بقرينة الآيات السابقة - هو الأوّل، حيث إنّ اللّه تعالى يأمر أوّلاً بالتقوى ، ثمّ بالاعتصام بحبل اللّه جميعاً والنهي عن التفرّق، ثمّ يبيّن اللّه تعالى حال المسلمين بعد الاتّحاد، ويقيسه بحالهم قبله، ثم يقول: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ » (3) إلى آخره، وظاهره حينئذٍ أنّه بعد الاتّحاد والاتّفاق يأمرهم بأن يكون كلّ واحدٍ من أفراد المجتمع بالنسبة إلى الآخرين جالباً إليه الخير ودافعاً عنه الشرّ، كما أنّه كذلك بالنسبة إلى نفسه، وهذا يناسب كون الخطاب إلى عامّة المكلّفين.

وعلى فرض التنزّل، فالظاهر هوالأخير، حيث أنّ الاُمّة هي الجماعة التي لها مقصدٌ واحد، فلا يكون المراد جماعة غير معيّنة، وهم ليسوا غير العلماء، وسيأتي4.

ص: 275


1- التبيان: ج 2/549. في تفسير قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ » سورة آل عمران: الآية 104.
2- سورة الحَجّ : الآية 30.
3- سورة آل عمران: الآية 104.

لذلك زيادة توضيح إنْ شاء اللّه تعالى .

ومنها: قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ » (1).

وجه اتّصال هذه الآية بما قبلها ما أفاده الشيخ الأكبر الطوسي بقوله: (اتّصال المدح على الفعل الذي تقدّم به الأمر، لأنّه قد تقدّم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثمّ مدح على قبوله والتمسّك به)(2).

قوله تعالى : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ » يُحتمل أن يكون باعتبار ما كان في الكتب المتقدّمة ما يسمع من الخير في هذه الاُمّة من جهة البشارة، فيكون التقدير: كنتم خير أُمّة في الكتب الماضية، فحقّقوا ذلك بالأفعال الجميلة.

ويُحتمل أن يكون المراد: كنتم خير أُمّةٍ في اللّوح المحفوظ.

ويُحتمل أن يكون المراد: كنتم مُذ أنتم، فيدلّ على أنّهم كذلك من أوّل أمرهم.

ويجوز أن يكون (كنتم) بمعنى حدثتم ووجدتم، والمراد بإخراج الاُمّة للناس إظهارها لهم بالحدوث والتكوّن(3).

و «خَيْرَ أُمَّةٍ » منصوبٌ على الحال المقيّدة، فمفاد الآية: إنّ المسلمين خيرُ خلق اللّه وأفضل من سائر الاُُمم، وعلّة ذلك أنّكم: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» ، وهو حال أيضاً لا من «كُنْتُمْ » بل من «خَيْرَ أُمَّةٍ » فيكون وجودهم مقيّداً7.

ص: 276


1- سورة آل عمران: الآية 110.
2- التبيان: ج 2/556. في تفسير قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ».
3- هذه الإحتمالات أوردها الشيخ الطوسي في التبيان: ج 2/557.

بالخيريّة، والخيريّة مقيّدة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وبالجملة: فتدلّ الآية على أنّ الخيريّة والفضيلة والشرافة الثابتة لهذه الاُمّة، إنّما هي من جهة القيام بهذين الأمرين، أي الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ قوله تعالى «تَأْمُرُونَ » إلى آخره، كلامٌ مستأنف، والمقصود منه بيان علّة تلك الخيريّة، كما تقول: (زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم).

وقوله: «وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ » يدلّ على ترتّب إيمان المجتمع باللّه متّفقين متّحدين كنفس واحدة على القيام بهذه الفريضة العظيمة، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولعلّه إلى ذلك نظر من قال: (إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سياجُ الإيمان وحفاظه)(1)، فكان تقديمه في الذكر موافقاً للمعهود من جعل سياج كلّ شيء مقدّماً عليه.

أقول: وبذلك يندفع ما أورده جمعٌ من المفسّرين، حيث قالوا:

لِمَ قدّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان باللّه في الذِّكر، مع أنّ الإيمان باللّه لابدّ أن يكون مقدّماً على جميع الطاعات ؟

وأجابوا عنه: بأجوبة اُخرى تُطلب من كتب التفسير.

وعلى الجملة: الآية الكريمة صدراً وذيلاً تدلّ على أنّ اتّصاف الاُمّة بكونها خير أُمّة مشروطٌ بالقيام بهذه الفريضة، فإذا تركوها لم يكونوا مؤمنين حقّاً ولا خير أُمّة.0.

ص: 277


1- تفسير المراغي: ج 4/30.

ومنها: قوله تعالى: «يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ » (1).

هذه الآية تفسير للآية التي قبلها، وهي قوله تعالى : «مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ » (2) وتدلّ على أنّ الأُمّة الثابتة على أمر اللّه وعلى طريق مستقيم، هم المؤمنون بالمعاد، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ثمّ تعدهم الآية الشريفة من الصالحين، ففيها أنواع الدلالة على هذه الفريضة، مِنْ جعلها تفسيراً للأُمّة القائمة، ومِنْ اقترانها بالتوحيد والمعاد، ومِنْ عدّ القائمين بها من الصالحين.

ومنها: قوله تعالى : «وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ اَلسُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ » (3).

كلمة «لَوْ لا» ها هنا بمعنى: هلّا.

قال عليّ بن عيسى : (وأصلها التقرير لوجوب الشيء عن الأوّل، فنُقِلت إلى التحضيض على فعل الثاني من أجل الأوّل وإنْ لم يذكر لا، ولابدّ معها من "لا" لأنّه دخلها معنى لِمَ لا تفعل)(4).

و (الربانيّون والأحبار) هم أئمّة اليهود في التربية والسياسة، وعلماء الشرع والفتوى عندهم.

والصنع أخصّ من العمل، والعمل أخصّ من الفعل، ويطلق الأوّل على ما1.

ص: 278


1- سورة آل عمران: الآية 114.
2- سورة آل عمران: الآية 113.
3- سورة المائدة: الآية 62 و 63.
4- مجمع البيان: ج 3/372 في تفسير قوله تعالى : «وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ» سورة المائدة: الآية 61.

يحصل لا بالطبع ولا توافقه الشهوة.

وبالجملة: فالآية الكريمة بعد تقبيح اليهود الذين اتّخذوا دين الحقّ هزواًولعباً، يسارعون فيما هم فيه من قول الإثم - وهو كلّ مايضرّ قائله في دينه ودنياه كالكذب - وفي العدوان وهو الظلم وتجاوز الحقوق - وأكل السُّحت - وهو الدنيء من المحرّم - تذمّ أئمّتهم برضاهم بهذه الأوزار، وترك فريضة النهي عن المنكر، وتوبّخهم بأشدّ من توبيخ اليهود العاملين، وقد رُوي عن ابن عبّاس أنّه قال: (ما في القرآن أشدّ توبيخاً من هذه الآية)(1).

وقال في «الكشاف»: (كأنّهم - أي العلماء بترك فريضة النهي عن المنكر - جعلوا آثم من مرتكبي المناكير)(2).

ولعلّ السِّر فيه: أنّ العاصي معه الشهوة التي تدعوه إليها، وتحمله على ارتكابها، فمعصيته من قبيل ما يحصل بالطبع، لأنّه اندفاع مع الشهوة بلا بصيرة، وأمّا العالم التارك للنهي عن المنكر العالم بما أخذ اللّه عليه من الميثاق، فلا يترك إلّا تكلّفاً لإرضاء الناس، فهو إيثارٌ لرضاهم على رضى اللّه تعالى .

وعلى هذا، فدلالة الآية الكريمة على لزوم هذه الفريضة واضحة لاخفاء فيها.

ومنها: قوله تعالى : «لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ » (3).

(اللّعن) أشدّ ما يُعبّر به اللّه تعالى عن غضبه، فالملعون هو المحروم من رحمة اللّه9.

ص: 279


1- جامع البيان للطبري: ج 6/403.
2- الكشاف للزمخشري: ج 1/627.
3- سورة المائدة: الآية 78 و 79.

ورأفته، وقد لعن داود عليه السلام العاصين والمعتدين عامّة، والمعتدين في السَّبت خاصّة، ثمّ لعنهم عيسى عليه السلام، والآية(1) تدلّ على أنّ سبب هذا اللّعن المستمرّ، هو اعتداؤهم المستمرّ، المعلول لعدم نهي بعضهم بعضاً عن منكر مّا مِن المنكرات، مهما اشتدّ قُبحه وعَظُم ضرره.

والسرّ فيه: أنّه لو ترك النهي عن المنكر تجرّأ الفسّاق على إظهار فسقهم وفجورهم، وإذا رأى العامّة المنكرات بأعينهم وسمعوها بآذانهم زال قبحها من أنفسهم، فيتجرّأ الأكثرون على اقترافها، فالإخبار بذلك إخبارٌ بانتشار المفاسد بينهم وفساد الاُمّة، فتدلّ الآية على أنّ ترك التناهي عن المنكر مُفسِدٌ للاُمّة.

وأكّد اللّه تعالى اللّعن والذمّ بقوله: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ » (2).

واللّه تعالى بيَّن ذلك لرسوله وللمؤمنين عِبرةً لهم حتّى لا يفعلوا فعلهم، ويكونوا مثلهم، فيحلّ بهم من لعنة اللّه وغضبه ما حلّ بهم، وعليه فدلالة الآية على لزوم النهي عن المنكر واضحة.

ومنها: قوله تعالى : «وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ، فَلَمّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلسُّوءِ وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ » (3).

ضمير «مِنْهُمْ » راجعٌ إلى بني اسرائيل، وكانوا ثلاث فرق: فرقة صائدة، وفرقة ساكتة، وفرقة واعظة.

وظاهرالآية أنّ الفرقة الساكتة الذين كانوا أهل تقوى يجتنبون مخالفة الأمر،5.

ص: 280


1- سورة المائدة: الآية 78.
2- سورة المائدة: الآية 79.
3- سورة الأعراف: الآية 164 و 165.

إلّا أنّهم كانوا قد تركوا النهي عن المنكر، وخالطوا الفرقة المتعدّية الطاغية، ولاموا الفرقة الواعظة التي كانت تصف هذه الفرقة بأنّها متعدّية ومتجاهرة بالفسق، وليسوا بمنتهين بنهي ظاهراً، فلِمَ تعظونهم ؟ لا كراهية لوعظهم بل ليأسهم عن أن يقبل اُولئك الوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنّما يجبان عند عدم اليأس من القبول.

وأجابتهم الفرقة الواعظة: بأنّ الوعظ إنّما يكون معذرةً إلى الربّ بإظهار أنّهم غير موافقين لهم في الفسق، ومنزجرون عن طغيانهم بالتمرّد، وبأنّا نرجو الانتهاء لو استمرّ الوعظ، ولا أقلّ من انتهاء بعضهم.

قيل: (وفي قولهم: «إِلى رَبِّكُمْ » حيث أضافوا الرَّب إلى اللّائمين، ولم يقولوا: إلى ربّنا، إشارة إلى أنّ التكليف بالعظة ليس مختصّاً بنا، بل أنتم أيضاً مثلنا يجبُ عليكم أن تعظوهم، لأنّ ربّكم لمكان ربوبيّته يجبُ أن يُعتذر إليه، ويُبذل الجُهد في فراغ الذمّة من تكاليفه والوظائف التي أحالها إلى عباده، وأنتم مربوبون له كما نحن مربوبون، فعليكم من التكليف كما علينا)(1) انتهى.

«فَلَمّا نَسُوا» إلى آخره، أي فلمّا انقطع تأثير الذِّكر في نفوسهم، وصار كأنّه منسي زائل الصورة عن النفس، أنجينا الفرقة الناهية عن المنكر، وأخذنا الظالمين بعذابٍ بئيس.

وقد اختلفوا في الفرقة التي قالت: «لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ » "هل كانت من الناجية أو الهالكة ؟5.

ص: 281


1- الميزان في تفسير القرآن: ج 8/295.

فعن ابن عبّاس أنّه نجت الطائفتان(1)، وروي أنّه كان متردّداً في الفرقة الساكتة حتّى أقنعه تلميذه عِكرمة بنجاتها(2)، وقد رجّح الزمخشري هذا القول(3).

وقال قومٌ : إنّ الآية ساكتة عن حال الفرقة الذين قالوا: «لِمَ تَعِظُونَ » .

وذهب جماعة إلى أنّ تلك الفرقة من الهالكين(4)، وهذا هو الصواب، إذ الآية الشريفة متضمّنة لمناظرة الفرقة الساكتة اللأئمّة للفرقة الواعظة مع الفرقة الواعظة، والظاهر من تلك المناظرة لزوم النهي عن المنكر، وسقوط وجوبه باليأس عن التأثير كما مرّ، فالفرقة الساكتة حينئذٍ من التاركين للوظيفة الحتميّة، فلا محالة تصير من الظالمين، فيشملها قوله تعالى: «وَ أَخَذْنَا اَلَّذِينَ ظَلَمُوا» فالآية بنفسها ظاهرة في هلاك الفريقين، كما روي عن أبي عبد اللّه عليه السلام(5).

فتدلّ الآية من جهات على أنّ الوعظ بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات.

وقد مرّ أنّ اللّه تعالى أنزل القرآن موعظة، وجعل قصص الأنبياء فيه عبرة وتذكرة، لا تاريخ مدائن وشعوب، والعبرة في هذه القصّة أن نتّقي الظلم والفسق، وترك الموعظة والإرشاد، وأن نلتزم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فالمتحصّل من الآيتين: أنّ عدم ردع الظالمين عن ظلمهم، وعدم نهيهم عن المنكر، يعدّ مشاركة معهم في ظلمهم وفسقهم، وأنّ الأخذ الإلهي الشديد بعذاب1.

ص: 282


1- التبيان للطوسي: ج 5/14.
2- تفسير الآلوسي: ج 9/92.
3- الكشاف عن حقائق التنزيل: ج 2/126.
4- الميزان في تفسير القرآن: ج 8/295.
5- الكافي: ج 8/158 الحديث 151.

بئيس كما يرصد الظالمين، يرصد التاركين لهذه الفريضة العظيمة أيضاً.

ومنها: قوله تعالى : «وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » (1).

لما ذكر اللّه تعالى المنافقين في الآيات السابقة على هذه الآية(2)، ووصفهم بقبح خصالهم، اقتضت الحكمة أن يذكر المؤمنين، ويذكر أوصافهم التي بها يمتاز المؤمن بها عن غير المؤمن. وتدلّ هذه الآية على أنّ المؤمنين مع كثرتهم وتفرّقهم كنفس واحدة، وذوو كيانٍ واحد، ولذلك يتولّى بعضهم أمر بعض، ويأمر بعضهم بعضاً بالمعروف وينهاه عن المنكر.

أقول: ودلالة هذه الآية على وجوب هذه الفريضة من جهات:

إحداها: ذكرهما من علامات المؤمن، ولازمه أنّ التارك لهما ليس بمؤمن.

ثانيتها: ظهور قوله تعالى : «يَأْمُرُونَ ...» إلى آخره؛ لما حُقّق في محلّه من ظهور الجملة الفعليّة الخبريّة في الوجوب، بل هي أظهر فيه من الأمر.

ثالثتها: ترتّب الأمر بهما على ولاية بعض المجتمع على بعض، وأنّ لازم الوحدة الاجتماعيّة ذلك.

رابعتها: حصول شمول الرحمة الإلهيّة لهؤلاء القوم الموصوفين بما ذكر، فمفهومه:

أنّ التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير مشمول للرحمة الإلهيّة، فتدبّر.

ومنها: قوله تعالى : «اَلتّائِبُونَ اَلْعابِدُونَ اَلْحامِدُونَ اَلسّائِحُونَ اَلرّاكِعُونَ 8.

ص: 283


1- سورة التوبة: الآية 71.
2- سورة التوبة: الآية 67 و 68.

اَلسّاجِدُونَ اَلْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنّاهُونَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْحافِظُونَ لِحُدُودِ اَللّهِ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ » (1) .

في الآيات السابقة على هذه الآية وَعَد اللّه المؤمنين بالجنّة إذا جاهدوا في سبيل اللّه بأموالهم وأنفسهم، وفي هذه الآية بيّن صفات المؤمنين، وما به يمتاز المؤمن عن غيره، فبدأ بأوصافهم منفردين وهي التوبة والعبادة والسياحة والركوع والسجود، ثمّ ذكر وصفهم في حال الاجتماع، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثمّ بما لهم من الوصف في كلتا الحالتين، وهو الحفظ لحدود اللّه، ثمّ يقول أخيراً: «وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ » فيأمر نبيّه بأن يبشّرهم، وقد بشّرهم نفسه في الآية السابقة.

أقول: ودلالتها على وجوبهما من جهات أيضاً:

1 - جعلهما ممّا يمتاز به المؤمن عن غيره، ممّا يدلّ على أنّ التارك لهما ليس بمؤمن.

2 - وكونهما ممّا يتمّ به القيام بحقّ اللّه، المستلزم لقيام اللّه سبحانه بما جعله من الحقّ على نفسه.

3 - والأمر بهما بصورة الإخبار.

4 - وجعلهما تفصيلاً لما هو طرف المعاملة مع اللّه تعالى .

ومنها: قوله تعالى : «فَلَوْ لا كانَ مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْفَسادِ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اِتَّبَعَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ اَلْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ » (2).

هذه الآية في ذيل الآيات التي تتضمّن قصص الأوّلين، وأنّ سُنّة اللّه تعالى فيهم الهلاك في الدُّنيا، والمصير إلى النار في الآخرة، وتتضمّن النهي عن المداهنة في الدِّين،7.

ص: 284


1- سورة التوبة: الآية 112.
2- سورة هود: الآية 116 و 117.

والميل إلى الظالمين، وإلّا أصاب المداهن عذاب النار.

و (وَ لَوْ» * بمعنى هلّا كان وإلّا كان، ومعناه النفي، وتقديره، لم يكن من القرون السابقة قومٌ ينهون عن المنكر والفساد في الأرض، مع أنّه كان يجب أن يقوم منهم قومٌ بهذه الفريضة ليصلحوا بذلك فيهم ويحفظوا اُمّتهم من الاستئصال، وذلك كان سبب هلاكهم إلّاقليلاً منهم، وهم الناهون عن المنكر، وأنّ سواهم وهم الأكثر اتّبعوا لذائذ الدُّنيا التي أترفوا فيها، وكانوا مجرمين.

فالمتحصّل منها: توبيخ الجماعة التاركين للنهي عن المنكر، وأنّ هلاكهم في الدُّنيا وأخذهم بعذاب أليم في الآخرة، إنّما هما لهذه الجهة، وإنّما نجّى اللّه تعالى القليل منهم لقيامهم بهذه الوظيفة، وأنّ الجماعة الهالكة لو كانوا قائمين بهذه الفريضة، لم يكن اللّه تعالى ليهلكهم ولا معذّبهم؛ إذ ليس من سُنته تعالى إهلاك القرى التي أهلها مصلحون؛ لأنّ ذلك ظلم «وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً» (1).

ومنها: قوله تعالى: «اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ» (2).

هذه الآية في ذيل الآيات المتضمّنة للإذن في القتال.

وقيل: إنّها أوّل ما نزلت في الجهاد، وأنّ تشريع القتال إنّما هو لحفظ المجتمع الديني من شرّ أعداءالدِّين، المهتمّين بمحاولة إطفاء نوراللّه، وفي ذيل تلك الآيات أقسم اللّه تعالى «وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ » (3) بالدفاع عن دينه.0.

ص: 285


1- سورة الكهف: الآية 49.
2- سورة الحَجّ : الآية 41.
3- سورة الحَجّ : الآية 40.

فقوله: «اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ » إلى آخره، في مقام توصيف الناصرين للدِّين، فدلالته على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا واضحة لا تحتاج إلى مزيد بيان.

ومنها: قوله تعالى : «يا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ» (1).

قد يقال: إنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ المراد من «ما أَصابَكَ » الذي أمر بالصبر عليه، هو المشقّة والأذى في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المرويّ عن أمير المؤمنين علي عليه السلام.

وقوله تعالى : «إِنَّ ذلِكَ » إشارة إلى الصبر، والإشارة البعيدة للتعظيم والترفيع.

والعزم هو عقد القلب على إمضاء الأمر، فمفاده أنّ الصبر في هذا الباب من العقد الصحيح على فعل الحسن بدل القبيح، وهو من قوّة النفس وشهامتها.

وقيل: معناه أنّ ذلك من الاُمور التي يجب الثبات والدوام عليها.

وعلى أيّ تقدير، فدلالة الآية على وجوبهما ظاهرة.

وهناك آيات اُخرى تدلّ على ذلك، كما تظهر لمن راجع الكتاب العزيز.

***7.

ص: 286


1- سورة لقمان: الآية 17.

الأدلّة المتوهّم دلالتها على عدم الوجوب

اشارة

ثمّ إنّ جماعة من التاركين لهذه الفريضة، الذين يطلبون لأنفسهم الرُّخص والمعاذير، استدلّوا لعدم وجوبهما بأدلّةٍ نُشير إلى طُرفٍ منها، وما يرد على دلالتها، ومنها يظهر حال سائر الأدلّة:

منها: قوله عزّ وجلّ : «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اِهْتَدَيْتُمْ إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » (1).

بدعوى(2): أنّ ظاهر الآية أنّ الواجب على كلّ أحد حفظ نفسه؛ إذ تعليق الجمع على الجمع يفيد التوزيع، كما في قوله تعالى : «وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ » (3) أي يجب على كلّ أحدٍ مسح رأس نفسه دون غيره.

ولفظة «عَلَيْكُمْ » اسمُ فعلٍ بمعنى ألزموا، و «أَنْفُسَكُمْ » مفعوله، فتدلّ على أنّه يجب على كلّ أحدٍ التحفّظ على نفسه بإتيان واجباته وترك محرّماته، ولا يكون عليه شيء بالقياس إلى غيره سواءٌ ضلّ الغير أو اهتدى ، وكأنّه لا ربط لأعمال الغير به، ولا يتمّ ذلك مع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وبهذا التقريب يندفع ما عن ابن عبّاس من أنّ اللّه تعالى خاطب بهذه الآية

ص: 287


1- سورة المائدة: الآية 105.
2- يظهر من جملة من الروايات التي أوردها الطبري في تفسيره، أنّ هناك من المسلمين الأوائل من توهّم وجودتضادّ بين هذه الآية وبين ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد جرت بعض المناقشات حولها وتمَّ الرّد على هذا التوهّم من قبل الصحابة والتابعين، راجع تفسير جامع البيان: ج 7/128-130. وقد أشار إلى هذا التوهّم الطبرسي والفخر الرازي وأجابا عنه بعدّة وجوه، راجع مجمع البيان: ج 3/435. والتفسير الكبير للرازي: ج 12/112.
3- سورة المائدة: الآية 6.

المؤمنين، فقال «عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ » (1) يعني عليكم أهل دينكم(2)، إذ تكون الآية - على حَدّ قوله - أوكد آيةٍ في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفيه: إنّ الضلال والاهتداء معنيان متقابلان، والظاهر أنّ المراد بالهداية هنا ليست هي الهداية التكوينيّة العامّة، وهي ما أودعها اللّه تعالى في طبيعة كلّ موجود، لتسري بطبعها أو باختيارها نحو كمالها، ولا الهداية التشريعيّة العامّة، والتي هي إفاضة العقل على الإنسان، ثمّ إرسال الرُّسل وإنزال الكتب، بل المراد بها الهداية الخاصّة، وهي عناية ربّانية قد خصّ اللّه بها بعض عباده حسب ما تقتضيه حكمته، فهيّأ له ما به يهتدى إلى كماله، ويصل إلى مقصوده، ولولا تسديده لوقع في الغيّ والضلالة.

فالآية الشريفة تدلّ على أنّ على المؤمن أن يشتغل بما يهمّ نفسه من سلوك سبيل الهدى ، والعمل بجميع ما أمر اللّه تعالى به، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يهزمه ويفلّ عزيمته مايشاهده من ضلال الناس، وشيوع المعاصي بينهم، ولا يتأثّر من ذلك، ليحمله ذلك على ترك طريق الهداية، كأن يقول: إنّ الدُّنيا الحاضرة لاتساعد الدِّين، أو يخاف ضلالهم على هدى نفسه، فينشغل بهم وينسى نفسه، فيصبح مثلهم، بل يجب عليه الدعوة إلى اللّه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ بالأسباب العادية، ثمّ إيكال الأمر إلى اللّه سبحانه، فأمّا أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الضلالة، وهذا ما لم يؤمر به، ولا يؤاخذ بعمل غيره.

فهذه الآية الكريمة أيضاً تدلّ على جوب الأمربالمعروف والنهي عن المنكر.2.

ص: 288


1- سورة المائدة: الآية 105.
2- نقله عنه الشيخ الطبرسي في مجمع البيان: ج 3/435. ونسبه الفخر الرازي ل (عبد اللّه بن المبارك)، راجع التفسير الكبير للرازي: ج 12/112.

أضف إلى ذلك: ما أفاده الطبرسي رحمه الله في «مجمع البيان» قال: (إنّ هذه أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنّ اللّه تعالى خاطب بهاالمؤمنين، فقال:

«عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ » (1) يعني عليكم أهل دينكم، كما قال: «وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ » (2)و «لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ » (3) من الكفّار، وهذا قول ابن عبّاس في رواية عطاء عنه، قال: يريد يعظ بعضكم بعضاً، وينهى بعضكم بعضاً، ويعلّم بعضكم بعضاً ما يقرّبه إلى اللّه ويبعّده من الشيطان، ولا يضرّكم من ضل من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب)(4).

ومنها: قوله تعالى: «وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ » (5)، ونظيره قوله سبحانه: «قُلْ يا أَيُّهَا اَلْكافِرُونَ » (6)إلى آخر السورة.

قيل: إنّ ظاهر الآية الكريمة عدم التعرّض والاهتمام لما يعمله الغير، غاية الأمر أنّ عليه إظهار البراءة من عملهم، ومن الواضح أنّ ذلك ينافي الدعوة إلى الحقّ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولكن الظاهر أنّ ذلك إنّما هو بعد عدم تأثير الدعوة إلى الحقّ لا في أوّل الأمر، إذ أنّ الخطاب القرآني موجّهٌ للنبيّ الأكرم صلى الله عليه و آله، الذي كان داعياً إلى الحقّ وآمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، وكأنّه كان لشدّة عطفه ورحمته، كان باخعاً نفسه على آثارهم لعدم إيمان الناس، وقوله تعالى: «وَ إِنْ كَذَّبُوكَ » يشهد بهذا، كما وأنّ هناك آيات قبل هذه وبعدها تشهد بهذا.

وعليه، فالآية لاتدلّ على إيكال الناس إلى أنفسهم، وعدم دعوتهم إلى الحقّ ،1.

ص: 289


1- سورة المائدة: الآية 105.
2- سورة النساء: الآية 29.
3- سورة المائدة: الآية 105.
4- مجمع البيان: ج 3/435.
5- سورة يونس: الآية 41.
6- سورة الكافرون: الآية 1.

بل تدلّ على تلقين التبرّي على تقدير تكذيبهم له، وأنّه لابدّ من الدعوة إلى الحقّ ، فإنْ لم تؤثّر الدعوة فالتبرّي منهم، لئلّا يحملوه على باطلهم.

وبعبارة اُخرى: أنّها وعيدٌ لهم من اللّه تعالى ، كقوله: «اِعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ » * (1)ونحوه.

وبالجملة: مفاد الآية الكريمة أنّه بعدما لم تكن دعوتك - أيّها النبيّ - مؤثّرة في نفوس الكفّار، وكذّبوك بعد إقامة الدليل والبرهان والمعجزة، قل لهم: أنا بريء منكم، وجزاء عملكم على اللّه، كما أنّ جزاء عملي عليه، وآثار عمل كلّ من الفريقين تترتّب على ذلك الفريق خاصّة، من دون أن يترتّب على الفريق الآخر.

هذا، مع أنّ هذه السورة مكيّة، ويلوح من آياتها أنّها من السور النازلة في أوائل البعثة، وأنّها نزلت عقيب إنكار المشركين الوحى النازل على النبيّ صلى الله عليه و آله، وتسميتهم القرآن بالسِّحر، وإيذائهم أعوانه وأنصاره، بل إكراههم وإجبارهم إيّاهم على الكفر والشرك، ولم يكن النبيّ صلى الله عليه و آله بحسب الظاهر مع قطع النظر عن إعمال ولايته التكوينيّة متمكّناً من هدايتهم، ودفع شرهم وأذاهم عن المسلمين، ومعلوم أنّ المتعيّن في مثل هذه الحالة المداراة والمداهنة، ليقلّ بذلك أذاهم، ويتمكّن المسلمون من تهيئة الأسباب المؤدّية إلى النصر، ولذا ترى أنّه بعد الهجرة وتهيئة الأسباب «مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ اَلْخَيْلِ » (2) نزل عليه صلى الله عليه و آله أمره تعالى : «وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ » (3)، وكذلك «فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ 1.

ص: 290


1- تكرّر ورودها في القرآن الكريم في موارد منها: سورة الأنعام: الآية 135، وسورة هود: الآية 93.
2- سورة الأعراف: الآية 60.
3- سورة البقرة: الآية 191، وسورة النساء: الآية 91.

وَ اُحْصُرُوهُمْ وَ اُقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ» (1) .

وعليه، فرفع اليد عن الدعوة إلى الحقّ لو كان، إنّما هو لمصلحة أهمّ .

ومنها: قوله سبحانه وتعالى : «قُلْ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ » (2).

قيل: «وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ » ينافي وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولكنّه يُدفع: بأنّ الآية تدلّ على أنّه بعد الدعوة إلى الحقّ ، وبيان ما يجب التديّن به وما يلزم فعله وتركه، يكونون مختارين فيما ينتخبونه لأنفسهم، من غير أن يُسلَبوا الخِيرة، وليس هو صلى الله عليه و آله وكيلاً لهم يتصدّى من الفعل ما هو لهم، بل هذا موكولٌ إليهم، فمن نظر فيه وعرف أنّه حقّ وصواب فإنّما يهتدي لنفسه، ومنافعه من الثواب وغيره تعود إليه، ومن ضَلّ فإنّما يضلّ على نفسه؛ لأنّه يجني عليها.

فهذه الآية إنّما تدلّ على أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لا تكون وظيفته سلب الإختيار وإجبار الناس على الإيمان باللّه، بل وظيفته الهداية إلى الحقّ ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أضف إلى ذلك: أنّها من آيات سورة (يونس)، وعرفت أنّها مكيّة، فيجري فيها ما ذكرناه في الآية السابقة.

أقول: وبما ذكرناه في هذه الآيات، يظهر عدم دلالة سائر الآيات التي تُوهم دلالتها على عدم الوجوب، فوجوبهما من ناحية الكتاب لا ريب فيه.

***8.

ص: 291


1- سورة التوبة: الآية 5.
2- سورة يونس: الآية 108.

الثالث: السُنّة

النصوص الدالّة على وجوبهما متواترة، لا يمكن ذكرها في هذا المختصر، وإنّما نذكر في المقام طُرفاً منها المتضمّنة لبيان علل الوجوب، وما يترتّب على ترك هذه الفريضة العظيمة من المفاسد:

منها: النبويّ : «إذا اُمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتأذن بوقاعٍ من اللّه تعالى »(1).

ومنها: النبويّ أيضاً: «إنّ اللّه عزّ وجلّ ليبغض المؤمن الضعيف الذي لادين له، فقيل: وما المؤمن الضعيف الذي لا دين له ؟ قال صلى الله عليه و آله: الذي لا ينهي عن المنكر»(2).

ومنها: ما عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّ رجلاً من خثعم جاء إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول اللّه أخبرني ما أفضل الإسلام ؟

قال: الإيمان باللّه.

قال: ثمّ ماذا؟ قال صلى الله عليه و آله: صلة الرحم،

قال: ثم ماذا؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال الرجل: فأيّ الأعمال أبغض إلى اللّه ؟ قال صلى الله عليه و آله: الشرك باللّه، قال: ثمّ ماذا؟ قال: ثمّ قطيعة الرَّحم، قال: ثمّ ماذا؟ قال: الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف»(3).

ومنها: ما في «نهج البلاغة»: «أيّها المؤمنون إنّه من رأى عدواناً يُعمل به، ومنكراً يُدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سَلِم وبرئ من الإثم، وسَلم من العقاب إنْ كان عاجزاً، ومن أنكره بلسانه فقد آجر، وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف7.

ص: 292


1- التهذيب: ج 6/177 ح 7، وسائل الشيعة: ج 16/118 ح 21131.
2- الكافي: ج 5/59 ح 15، وسائل الشيعة: ج 16/122 ح 21139.
3- الكافي: ج 5/58 ح 9، وسائل الشيعة: ج 16/121 ح 21137.

لتكون كلمة اللّه هي العليا وكلمة الظالمين هي السفلى ، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ، وقام على الطريق، ونوّر في قلبه اليقين»(1).

وأيضاً: في كلام آخر له يجري هذا المجرى:

«فمنهم المُنكِر للمنكَر بيده ولسانه وقلبه، فذلك المستكمل لخصال الخير، ومنهم المُنكِر بلسانه وقلبه والتارك بيده، فذلك متمسّك بخصلتين من خصال الخير، ومضيّع خصلة، ومنهم المُنكِر بقلبه والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيّع أشرف الخِصلتين من الثلاث وتمسّك بواحدة، ومنهم تاركٌ لإنكار المنكر بلسانه وقلبه ويده فذلك ميّت الإحياء.

وما أعمال البِرّ كلّها، والجهاد في سبيل اللّه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر إلّاكنفثة في بحرٍ لُجيّ .

وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يُقرّبان من أجلٍ ، ولا ينقصان من رزق، وأفضل من ذلك كلّه كلمة عدلٍ عند إمامٍ جائر»(2).

وأيضاً: عن أبي جُحيفة، قال: «سمعتُ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: أوّل ما تغلبون عليه من الجهاد: الجهاد بأيديكم، ثمّ بألسنتكم، ثمّ بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً، ولم ينكر منكراً، فقد قلب فجعل أعلاه أسفله وأسفله أعلاه»(3).

ومنها: العلويّ ، قال حسن: «خطب أمير المؤمنين عليه السلام فحمد اللّه وأثنى عليه، وقال: أمّابعدُ: فإنّه إنّماهَلَك من كان قبلكم حيث ماعملوا من المعاصي، ولم ينههم الربّانيّون والأحبار عن ذلك، وإنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيّون5.

ص: 293


1- نهج البلاغة: ص 541، باب حِكَم أمير المؤمنين عليه السلام رقم 373. (2و3) نهج البلاغة: ص 542، باب حِكَم أمير المؤمنين عليه السلام رقم 374 و 375.

والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات.

فأمرُوا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، واعلموا أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقرّبا أجلاً ولم يقطعا رزقاً... الحديث»(1).

ومنها: ما عن سيّد شباب أهل الجنّة، ورأس أُباة الضيم أبي عبداللّه الحسين عليه السلام - وهو مرويٌّ عن أمير المؤمنين عليه السلام - أنّه قال:

«اعتبروا يا أيّها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثناء على الأحبار، إذ يقول: «لَوْ لا يَنْهاهُمُ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ اَلْإِثْمَ » ، وقال: «لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ ، كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ » إلى قوله: «لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ » وإنّما عاب اللّه ذلك عليهم؛ لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، رغبةً فيما كانوا ينالون منهم، ورهبةً ممّا يحذرون، واللّه يقول: «فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ » ، وقال: «وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» فبدأ اللّه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةً منه، لعلمه بأنّها إذا أُدّيت واُقيمت استقامت الفرائض كلّها هيّنها وصعبها، وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاءٌ إلى الإسلام، مع رَدّ المظالم، ومخالفة الظالم، وقسمة الفيء والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقّها».

ثم أخذ عليه السلام يلوم ويوبّخ العلماء الساكتين في مقابل الظَلَمة، التاركين لهذه الوظيفة حتّى قال:6.

ص: 294


1- الكافي: ج 5/57 ح 6.

«لقد خشيت عليكم - أيّها المتمنّون على اللّه - أن تحلّ بكم نقمة من نقماته، لأنّكم بلَغتم من كرامة اللّه منزلة فضّلتم بها، ومن يعرف باللّه لا تُكرِمون، وأنتم باللّه في عباده تُكرَمون، وقد ترون عهود للّه منقوضة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمّة رسول اللّه صلى الله عليه و آله مخفورة، والعمى والبُكم والزمنى في المدائن مهملة، لا تَرحمون، ولا في منزلتكم تعملون، ولا من عمل فيها تعنون، وبالإدهان والمصانعة عند الظَلَمة تأمنون، كلّ ذلك ممّا أمركم اللّه به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون، وأنتم أعظم الناس.

إلى أن يقول: اللّهُمَّ إنك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافساً في سلطان، ولا التماساً من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونُظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويُعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم، وعملوا في إطفاء نور نبيّكم، وحسبنا اللّه وعليه توكّلنا، إليه أنبنا وإليه المصير»(1).

ومنها: ما عن أبي سعيد الزُّهري، عن الصادقين عليهما السلام: «ويلٌ لقومٍ لا يدينون اللّه بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر».

وهذه الرواية مرويّة بأسانيد عديدة معتبرة(2).

ومنها: ما روي بأسانيد عديدة، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام:

«لتأمرنّ بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو7.

ص: 295


1- تحف العقول: ص 237.
2- كلّها تنتهي إلى عليّ بن النعمان عن عبد اللّه بن مسكان عن داود بن فرقد عن أبي سعيد الزهري، راجع الكافي: ج 5/56 ح 4. والتهذيب: ج 6/176 ح 2، وكتاب الزهد للحسين بن سعيد ص 107 ح 289، وكتاب الأمالي للمفيد ص 184 ح 7.

خياركم فلا يُستجاب لهم»(1).

ومنها: ما عن الشيخ الطوسي رحمه الله، قال: «رُوي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: لا تزال اُمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء»(2).

ومنها: ما رواه في «الكافي»، عن أبي جعفر عليه السلام: «يكون في آخر الزمان قومٌ يتبع فيهم قومٌ مراؤون، يتقرّؤون(3) ويتنسّكون حُدثاء سُفهاء، لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر، إلّاإذا أمِنوا الضرر، ويطلبون لأنفسهم الرُّخص والمعاذير، يتّبعون زلّات العلماء وفساد عملهم، يُقبلون على الصلاة والصيام وما لا يكلمهم(4)في نفس ولا مال، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إنّ الأمر بالمعروف فريضة عظيمة بها تُقام الفرائض، هنالك يتمّ غضب اللّه تعالى عليهم، فيعمّهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الفجّار، والصغار في دار الكبار.

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيلُ الأنبياء، ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بهاتقام الفرائض، وتأمن المذاهب(5) وتحلّ المكاسب، وتردّالمظالم،ا.

ص: 296


1- الكافي: ج 5/61 ح 3، تهذيب الأحكام: ج 6/176 ح 1 وراجع وسائل الشيعة: ج 16/118 ح 21130.
2- التهذيب: ج 6/181 ح 22، وسائل الشيعة: ج 16/123 ح 21144.
3- أي يتعبّدون ويتزهّدون.
4- الكلم: الجُرح، أي: ما لا يضرّهم.
5- أي: مسالك الدِّين من بدع المبطلين، أو الطرق الظاهرة، أو الأعمّ منهما.

وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر(1) فانكروا بقلوبكم، وألفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباهم، ولا تخافوا في اللّه لومة لائم.

فإن اتعظوا وإلى الحقّ رجعوا، فلا سبيل عليهم «إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » (2) هنالك(3)فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطاناً ولا باغين مالاً، ولا مريدين بظلم ظَفَراً(4) حتّى يفيئوا إلى أمر اللّه ويمضوا على طاعته.

إلى أنْ قال: أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى شُعيب النبيّ : إنّي معذّبٌ من قومك مائة ألف، أربعين ألف من شرارهم، وستّين ألفاً من خيارهم!

فقال عليه السلام: يا ربّ هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟!

فأوحى اللّه عزّ وجلّ إليه: دَاهنوا أهل المعاصي(5)، ولم يغضبوا لغضبي»(6).

ومنها: صحيح ابن أبي عمير، عن جماعةٍ من أصحابنا، عن الإمام جعفر بن محمّدالصادق عليهما السلام: «ماقدّست أُمّة لم يؤخذ لضعيفها من قويهابحقّه غير متعتع»(7).

أي: من غير أن يصيبه أذى يقلقه ويزعجه.

ومنها: ما في «تفسيرالعسكري» عن آبائه عليهم السلام، عن النبيّ صلى الله عليه و آله في حديثٍ ، قال:

«لقد أوحى اللّه فيما مضى قبلكم إلى جبرئيل، وأمره أن يخسف ببلدٍ يشتمل على5.

ص: 297


1- أي: أمر الدِّين والدُّنيا.
2- سورة الشورى : الآية 42.
3- أي: حين لم يتّعظوا ولم يرجعوا إلى الحقّ .
4- أي: غير متوسّلين إلى الظفر عليهم بالظلم بل بالعدل.
5- أي: تركوا نصيحتهم ولم يتعرّضوا لهم ولم يمنعوهم من قبائحهم.
6- الكافي: ج 5/55 ح 1.
7- الكافي: ج 5/56 ح 2، وسائل الشيعة: ج 16/121 ح 21135.

الكفّار والفُجّار.

فقال جبرئيل: يا ربّ أخسف بهم إلّابفلان الزاهد ليعرف ماذا يأمره اللّه فيه ؟

فقال: أخسف بفلان قبلهم.

فسأل ربّه، فقال: يا ربّ عرّفني لِمَ ذلك وهو زاهدٌ عابد؟

قال: مكّنت له وأقدرته، فهو لا يأمر بالمعروف لا ينهى عن المنكر، وكان يتوفّر على حبّهم في غضبي.

فقالوا: يا رسول اللّه فكيف بنا ونحن لا نقدر على إنكار ما نشاهده من منكر؟

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لتأمرنّبالمعروف ولتنهنّ عن المنكر، أوليعمنّكم عذاب اللّه!

ثمّ قال: من رأى منكم منكراً فلينكره بيده إن استطاع، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم اللّه من قلبه أنّه لذلك كاره(1).

ومنها: ما رواه الشريف الرضيّ في «نهج البلاغة»، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «مَن أحدّ سنان الغضب للّه قوي على قتل أشدّاء الباطل»(2).

ومنها: ما رواه الحِلّي في آخر «السرائر» من رواية أبى القاسم ابن قولويه، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام: «من مشى إلى سلطانٍ جائر فأمره بتقوى اللّه ووعظه وخوّفه، كان له مثل أجر الثقلين الجِنّ والإنس، ومثل أعمالهم»(3).

ومنها: ما رواه القُطب الراوندي في «فقه القرآن» في قوله تعالى : ««وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ » (4) عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ المراد7.

ص: 298


1- تفسير الإمام العسكري: ص 480، وسائل الشيعة: ج 16/135 ح 21173.
2- نهج البلاغة: ص 501، باب حِكَم أمير المؤمنين عليه السلام ح 174.
3- مستطرفات السرائر: ص 634، وسائل الشيعة: ج 16/134 ح 21172.
4- سورة البقرة: الآية 207.

بالآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).

وفي «لب اللّباب» عن النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة اللّه في الأرض، وخليفة الرسول»(2).

ومنها: ما رواه الراوندي في نوادره بإسناده الصحيح(3) عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام، عن علي بن أبي طالب عليه السلام، قال:

«كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يأتي أهل الصُّفة وكانوا ضيفان رسول اللّه صلى الله عليه و آله...

إلى أنْ قال: فقام سعد بن أشج، فقال: إنّي أُشهدُ اللّه وأُشهد رسول اللّه ومن حضرني أنّ نوم اللّيل عليَّ حرام.

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لم تصنع شيئاً، كيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر إذا لم تخلط الناس ؟! وسكون البرية بعد الحضر كفرٌ للنعمة.

إلى أنْ قال: ثمّ قال صلى الله عليه و آله: بئس القوم قومٌ لا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر، بئس القوم قوم يقذفون الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، بئس القوم قوم يقتلون الذين يأمرون الناس بالقسط. الحديث»(4).

ومنها: ما رواه الصدوق رحمه الله في «العلل»، وفي «الفقيه» بإسناده عن إسماعيل بن مهران، عن أحمد بن محمّد بن جابر، عن زينب بنت علي عليهما السلام، قالت:ر.

ص: 299


1- فقه القرآن: ج 1/361.
2- كتاب لب اللّباب للقطب الراوندي (مخطوط) و راجع مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/179 ح 13817.
3- جميع روايات الكتاب تنتهي إلى هذا الإسناد، وقد ذكره في أوّل الكتاب.
4- النوادر للراوندي: ص 152، مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/183 ح 13831. والمنقول هنا هو عبارة المستدرك، وهي مختصرة عن كتاب النوادر.

«قالت فاطمة عليها السلام في خطبتها: فرض اللّه الإيمان تطهيراً من الشرك...

إلى أنْ قالت: والجهاد عزّاً للإسلام، والصبر معونة على الإستيجاب، والأمر بالمعروف مصلحة للعامّة... الحديث»(1).

وفي «وسائل الشيعة» رواه أيضاً بعدّة أسانيد طويلة(2).

ومنها: ما رواه ابن بابويه في «العلل»، بإسناده عن أنس، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: جائني جبرئيل فقال لي: يا أحمد! الإسلام عشرة أسهم، وقد خابَ من لا سهم له فيها،...

إلى أنْ قال: والسابعة: الأمر بالمعروف، وهو الوفاء، والثامنة: النهي عن المنكر، وهو الحجّة... الحديث»(3).

وقريب منه النبويّ المرويّ في «الخصال» و «المجالس»(4).

ومنها: ما رواه في «الغرر» عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «الأمر بالمعروف أفضل أعمال الخلق»(5).

وقال: «غاية الدِّين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود»(6).

وقال: «كُن بالمعروف آمراً، وعن المنكرناهياً، وبالخيرعاملاً، وللشرّمانعاً»(7).7.

ص: 300


1- علل الشرائع: ج 1/248، من لا يحضره الفقيه: ج 3/568 ح 4940.
2- وسائل الشيعة: ج 1/22. ذكر ذلك في ذيل الحديث 22.
3- علل الشرائع: ج 1/249، وسائل الشيعة: ج 1/22 ح 23.
4- الخصال: ص 447، أمالي الشيخ الطوسي: ص 44. وسائل الشيعة: ج 1/26 ح 32.
5- غرر الحكم: ص 331 ح 7632، مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/185 ح 13837.
6- غرر الحكم: ص 332 ح 7638، مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/185 ح 13837.
7- غرر الحكم: ص 332 ح 7642، مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/185 ح 13837.

ومنها: ما رواه رئيس المحدّثين في «الفقيه» والحديث طويلٌ يتعلّق بخطبة يوم الفطر، قال:

«وخطبَ أمير المؤمنين عليه السلام يوم الفطر، فقال:

الحمد للّه الذي خلق السماوات والأرض... إلى أنْ قال: وأطيعوا اللّه فيما فرض عليكم وأمركم به من إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة وحجّ البيت، وصوم شهر رمضان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(1).

ومنها: مارواه في كتاب «المجالس»، وكتاب «صفات الشيعة»، وكتاب «التوحيد»، وكتاب «إكمال الدِّين» بإسناده عن عبدالعظيم بن عبداللّه الحسني، قال:

دخلت عليسيّدي علي بن محمّد عليهما السلام فقلت: إنّي اُريد أن أعرض عليك ديني.

فقال: هات يا أبا القاسم!

فقلت: إنّي أقول: إنّ اللّه واحدٌ - إلى أنْ قال -: وأقول: إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحَجّ ، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فقال عليّ بن محمّد صلى الله عليه و آله: يا أبا القاسم! هذا واللّه دين اللّه الذي ارتضاه لعباده؛ فاثبت عليه، ثبّتك اللّه بالقول الثابت في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة»(2).

ومنها: ما رواه الشيخ في «التهذيب»، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميّتٌ بين الإحياء»(3).5.

ص: 301


1- من لا يحضره الفقيه: ج 1/325 ح 1486، وسائل الشيعة: ج 1/20 ح 19.
2- أمالي الصدوق: ص 419، صفات الشيعة للصدوق: ص 48، التوحيد للصدوق: ص 81، إكمال الدين ص 379، وسائل الشيعة: ج 1/21 ح 20.
3- تهذيب الأحكام: ج 6/182 ح 23، وسائل الشيعة: ج 16/132 ح 21165.

ومنها: ما في «التهذيب» أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال لقومٍ من أصحابه: «قد حقّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقّ لي ذلك وأنتم يبلغكم عن الرّجل منكم القبيح ولا تنكرون عليه، ولا تهجرونه، ولا تؤذونه حتّى يتركه»(1).

ومنها: ما رواه الشريف الرضيّ في «المجازات النبويّة»، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو ليلحينكم كما لحيتُ عصاي هذه بعودٍ في يده»(2).

الظاهر أنّ هذا التعبير كناية عن أنّه لو تُركت هذه الفريضة العظيمة، لنزعت البركات عن المجتمع، وسلّط اللّه بعضهم على بعض، ولا يكون لهم ناصر في الأرض ولا في السماء.

ومنها: خبر أبي عمر الزبيري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، أنّه قال: «في قوله تعالى :

«وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» (3) قال عليه السلام: في هذه الآية تكفير أهل المعاصي بالمعصية؛ لأنّه من لم يكن يدعو إلى الخيرات، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من المسلمين، فليس من الاُمّة التي وصفها اللّه؛ لأنّكم تزعمون أنّ جميع المسلمين من أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله، وقد بدت هذه الآية وقد وصفت أُمّة محمّد صلى الله عليه و آله بالدّعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن لم يوجد فيه هذه الصفة التي وصفت بها فكيف يكون من الاُمّة، وهو4.

ص: 302


1- تهذيب الأحكام: ج 6/182 ح 24، وسائل الشيعة: ج 16/145 ح 21199.
2- المجازات النبويّة: ص 353 ح 271، مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/179 ح 13818.
3- سورة آل عمران: الآية 104.

على خلاف ما شرطه اللّه على الاُمّة ووصفها به ؟!»(1).

ومنها: ما رواه الشريف الرضيّ في «نهج البلاغة» في وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام للحسنين عليهما السلام عند وفاته:

«قولا بالحقّ ، واعملا للأجر، وكونا للظالم خَصماً، وللمظلوم عوناً.

ثمّقال: اللّه اللّه في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل اللّه، لاتتركوا الأمربالمعروف والنهي عن المنكرفيولّي عليكم أشراركم، ثمّتدعون فلايُستجاب لكم»(2).

ومنها: النبويّ : «لا يحقرنّ أحدكم نفسه إذا رأى أمر اللّه عزّ وجلّ فيه حقّ إلّاأن يقول فيه، لئلّا يقفه اللّه عزّ وجلّ يوم القيامة، فيقول له: ما منعك إذ رأيتَ كذا وكذا أن تقول فيه ؟ فيقول: ربِّ خِفتُ ، فيقول اللّه عزّ وجلّ : أنا كنت أحقّ أن تخاف»(3).

ومنها: خبر ابن سنان، عن أبى عبد اللّه عليه السلام: «ما أقرّ قومٌ بالمنكر بين أظهرهم لا يغيّرونه الا أوشكّ أن يعمّهم اللّه بعقابٍ من عنده»(4).

ومنها: العلويّ : «أمرنارسول اللّه صلى الله عليه و آله أن نَلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة»(5).

ومنها: الصادقي: «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه، فمن نصرهما أعزّه اللّه، ومن خذلهما خذله اللّه»(6).6.

ص: 303


1- تفسير العيّاشي: ج 1/195 ح 127، مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/177 ح 13811. وهذه عبارة تفسير العيّاشي، وفي نسخة المستدرك (.. وينهى عن المنكر بين المسلمين..).
2- نهج البلاغة ص 421 باب الكتب ح 47، مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/180 ح 13821. وهذا اللّفظ من المستدرك وقد اختصر منه عدّة عبائر، وهذه الوصيّة أوردها الشيخ الكليني بسندٍ صحيح عن عبد الرحمن بن الحجّاج يرويها عن الإمام الكاظم عليه السلام، وفيها زيادات عمّا أورده الشريف الرضي في نهج البلاغة، راجع الكافي: ج 7/49 ح 7.
3- عوالي اللئالي: ج 1/115 ح 34، مستدرك وسائل الشيعة: ج 12/185 ح 13835.
4- وسائل الشيعة: ج 16/137 ح 21176.
5- وسائل الشيعة: ج 16/142 ح 21194. المكفهر: العبوس.
6- الكافي: ج 5/59 ح 11، وسائل الشيعة: ج 16/124 ح 21146.

قال الراغب: (الخَلق والخُلق - أي بفتح الخاء وضمّها - في الأصل واحد كالشَرب والشُرب، والصَرم والصُرم، لكن خُص الخَلق - بفتح الخاء - بالهيئات والأشكال والصور المُدرِكة بالبصر، وخَصّ الخُلق - بضمّ الخاء - بالقوى والسّجايا المُدرِكة بالبصيرة، قال تعالى: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » ، وقُرئ «إِنْ هذا إِلاّ خُلُقُ اَلْأَوَّلِينَ » ) انتهى (1).

وعليه فالمراد من الرواية الشريفة - المرويّة بعدّة طرق، وقريبٌ منها ما في «نهج البلاغة»: «وإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق اللّه سبحانه، وإنّهما لا يقرّبان من أجَلٍ ولا ينقصان من رزق»(2) - أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سجيّتان للّه تعالى ، فمن نصرهما بالإقامة نَصَره اللّه تعالى ، ومن أهملهما خذله اللّه.

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المنقسمة إلى طوائف، باعتبار اشتمال كلّ طائفةٍ على مضمون خاص من الأمر بهما، وبيان ما يترتّب عليهما من المنافع ومصالح المجتمع البشري، وما يترتّب على تركهما من المفاسد، والروايات الواردة في كلّ من تلك المضامين فوق حَدّ التواتر.

أقول: ومع كلّ هذا، فلا يُصغى ولا يعتني ببعض الروايات المختلقة، أو ضعيفة السند، أو المرويّة عن مجهول ممّا ظاهره عدم الوجوب.

ثمّ إنّ كون وجوبهما من ضروريّات الدِّين، لو لم يكن من ضروريّات الأديان، يغنينا عن ذكر الدليل.

***6.

ص: 304


1- مفردات غريب القرآن: ص 158.
2- نهج البلاغة: ص 219 باب الخطب، الخطبة 156.

الرابع: الإجماع

وهو الإجماع على الوجوب محصّلاً ومنقولاً، وتمام الكلام في المقام بالبحث في موارد:

1 - في تعريف المعروف والمنكر، وأنّ الأمر بالمندوب هل هو مندوبٌ أم لا؟

أقول: المعروف - على ما صرّح به جماعة - هو: كل فعلٍ حَسَن اختصّ بوصف زائد على حسنه إذا عرف فاعله ذلك أو دلّ عليه.

والمنكر: كلّ فعل قبيح عرف فاعله قبحه أو دلّ عليه(1).

فالمعروف شاملٌ للمستحبّ ، والمنكر يختصّ بالحرام، فوجوب النهي عن المنكر مطلقاً لا كلام فيه ولا إشكال، كما لا إشكال في وجوب الأمر بالواجب، وإنّما البحث في حكم الأمر بالمندوب، فإنّه قد يتوهّم عدم مطلوبيّته؛ إذ لا سبيل إلى القول بوجوبه، كما لا دليل عليه بالخصوص.

وبإزاء ذلك يُتوهّم وجوبه لإطلاق الأدلّة، وفي «الجواهر»: (بل لولا الإجماع أمكن القول بوجوب الأمر بالمعروف الشامل لهما، وإنْ لم يجب المندوب على المأمور)(2).

أقول: ولكن الظاهر - كماصرّح به الفقهاء كالحِلّي(3)، والديلمي(4) والعلّامة(5)، والمحقّق(6)، والشهيدين(7)، وغيرهم(8)، بل عن «المفاتيح» الإجماع عليه - هو كونه

ص: 305


1- شرائع الإسلام: ج 1/258، تحرير الأحكام: ج 2/239. وقريب منه ما ورد في المهذّب البارع: ج 2/325.
2- جواهر الكلام: ج 21/364.
3- السرائر: ج 2/22.
4- المراسم العلويّة: ص 263.
5- تحرير الأحكام: ج 2/239.
6- شرائع الإسلام: ج 1/258.
7- الدروس الشرعيّة: ج 2/47، الروضة البهيّة: ج 2/414.
8- المهذّب البارع: ج 2/325، كفاية الأحكام: ج 1/404.

مندوباً(1).

ويشهد به: إطلاق الأدلّة، فإنّه يقتضي كونه مأموراً به، وبضميمة الإجماع وما قيل من عدم زيادة الفرع على أصله، يُحمل الأمر به على الندب.

فإن قيل: إنّه يدور الأمر:

بين تقيّيد الموضوع بالواجب، فيُحمل الأمر به مطلقاً على الوجوب.

وبين التصرّف في الأمربحمله على الاستحباب، أوالجامع بينه وبين الوجوب.

ولا ريب في أنّ الأوّل أولى ، مضافاً إلى أنّه إنْ حُمل الأمر به مطلقاً على الندب، أوالجامع بينه وبين الوجوب، فلا يبقى دليلٌ لوجوب الأمر بالواجب، وإنْ حُمل على الوجوب بالنسبة إلى الواجب، وعلى الاستحباب بالنسبة إلى المندوب، لزم منه استعمال اللّفظ في أكثر من معنى.

أقول: يتوجّه عليه ما حقّقناه في محلّه في الأُصول من أنّ الوجوب والاستحباب خارجان عن حريم الموضوع له والمستعمل فيه، وأنّهما من المداليل العقليّة، بمعنى أنّ المولى إذا أمر بشيء:

فإنْ لم يرخّص في تركه، فالعقل من باب لزوم دفع الضرر المحتمل يحكم بلزوم الإتيان به، بمعنى أنّه يُدرك العقل استحقاق العقاب على مخالفته، وأنّه لو عاقبه المولى على ترك ما أمره به يراه العقلاء مستحقّاً لذلك، جرياً على قانون العبوديّة والمولويّة.

وإنْ رخّص في تركه، فلا سبيل للعقل إلى الحكم بلزومه، فيكون مندوباً.

ويترتّب عليه: أنّه إذا أمر المولى بشيئين، كغُسل الجنابة والجُمعة، ورخّص في4.

ص: 306


1- مفاتيح الشرائع: ج 2/54.

ترك أحدهما دون الآخر، حُكم بوجوب ما لم يرخّص في تركه، واستحباب الآخر، من دون أن يلزم من ذلك استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، أو يلزم استعمال الأمر في غير الطلب غير المتفصّل بفصل، أو غير محدودٍ بحَدّ الشدّة والضعف، أو يلزم خلاف ظاهرٍ من الظهورات المتّبعة.

وعلى هذا، فالأدلّة بإطلاقها شامله لهما، إلّاأنّه من جهة قيام الدليل على عدم وجوب الأمر بالمندوب يُحمل الأمر به على الندب، ويبقى الأمر بالواجب على الوجوب، من دون أن يلزم من ذلك محذور.

ويشهد لذلك: - مضافاً إلى ما مرّ - الآيات والروايات المتضمّنة للمدح والثناء على الآمرين بالمعروف:

منها: قوله عليه السلام: (الدالّ على خير كفاعله)(1).

ومنها: قوله (مَن أمر بمعروفٍ ونَهى عن منكرٍ، أو دلّ على خيرٍ، أو أشار به فهو شريك)(2).

ومنها: قوله (لا يتكلّم الرجل بكلمة حقّ يؤخذ به إلّاكان له مثل أجر من أخذ بها)(3).

إلى غير ذلك ممّا جاء من الحَثّ على الأمر بالخير، ومن المدح على الأمر بالمعروف، فإنّ هذه الأدلّة تُحمل على إرادة مطلق الرجحان، وأمّا وجوب الأمر بالواجب فإنّه يستفاد من الأدلّة الأُخر.3.

ص: 307


1- وسائل الشيعة: ج 16/124 ح 21145.
2- وسائل الشيعة: ج 16/125 ح 21147.
3- وسائل الشيعة: ج 16/173 ح 21273.

وبذلك يظهر أنّه إن قيل: إنّ المنكر قسمان: محظور ومكروه، فالنهي عن القسم الأوّل واجبٌ ، وعن القسم الثاني مندوبٌ ، كما عن ابن حمزة(1)، وأبي الصلاح(2)، والعلّامة في «المختلف»(3) لم يكن بعيداً.

***9.

ص: 308


1- الوسيلة: ص 207.
2- الكافي للحلبي: ص 264.
3- مختلف الشيعة: ج 4/459.

2 - في أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عيني أو كفائي

أقول: يدور البحث في هذا المقام عن أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: في أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عيني أو كفائي

هل هو كفائيٌ ، كما هو خيرة السيّد(1)، والحلبي(2)، والقاضي(3)، والحِلّي(4)، والفاضلين(5)، والشهيدين(6) والمحقّق الطوسي في «التجريد»(7) والأردبيلي(8)، والخراساني(9)، فيسقط بقيام من فيه غناء وكفاية ؟

أم هو على الأعيان، كما عن الشيخ(10)، وابن حمزة(11)، وفخر الإسلام(12)، والشهيد في «غاية المراد»(13) والسيوري(14)، وعن الشيخ حكايته عن قومٍ من أصحابنا(15)، وفي «الشرائع» وهو أشبه(16)؟

ص: 309


1- حكاه عنه ابن إدريس في السرائر: ج 2/22.
2- الكافي في الفقه: ص 265.
3- المهذّب: ج 1/340.
4- السرائر: ج 2/22.
5- شرائع الإسلام: ج 1/258، تحرير الأحكام: ج 2/240.
6- الروضة البهيّة: ج 2/413.
7- راجع شرح التجريد: ص 578.
8- مجمع الفائدة والبرهان: ج 7/532.
9- كفاية الأحكام: ج 1/404.
10- الإقتصاد: ص 147، النهاية: ص 299.
11- الوسيلة: ص 207.
12- إيضاح الفوائد: ج 1/398.
13- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: ج 1/507.
14- التنقيح الرائع: ج 1/591.
15- الإقتصاد: ص 147.
16- شرائع الإسلام: ج 1/258.

أم يفصّل بين الإنكار القلبي فهو عيني على كلّ مكلّف، وبين الضرب ونحوه، فهو كفائي، وقد مالَ إليه صاحب «الجواهر» رحمه الله(1)؟ وجوه:

استُدل للأوّل: بظاهر قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ » (2) الآية، إذ (من) هنا للتبعيض، خصوصاً بعد استدلال الإمام الصادق عليه السلام، قال مسعدة بن صدقة:

«سُئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أواجبٌ هو على الاُمّة جميعاً؟ فقال: لا.

فقيل: ولم ؟ قال: إنّما هو على القويّ المُطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعفة الذين لا يهتدون سبيلاً...

إلى أنْ قال: والدليل على ذلك كتاب اللّه عزّ وجلّ : «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ » (3) إلى آخرها، فهذا خاصّ غير عام، كما قال اللّه عزّ وجلّ : «وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ » (4) ولم يقل على أُمّة موسى ، ولا على كلّ قوم، وهم يومئذ اُممٌ مختلفة، والاُمّة واحد فصاعداً، كما قال اللّه عزّ وجلّ : «إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ » (5) يقول مطيعاً للّه عزّ وجلّ ، وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج، إذا كان لا قوّة له ولا عدد ولا طاعة... الحديث»(6).

أقول: ولكن ستعرف في المبحث الآتي أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر2.

ص: 310


1- جواهر الكلام: ج 21/362.
2- سورة آل عمران: الآية 104.
3- سورة آل عمران: الآية 104.
4- سورة الأعراف: الآية 159.
5- سورة النحل: الآية 120.
6- وسائل الشيعة: ج 16/126 ح 21152.

قسمين: انفرادي وإجتماعي، وهذه الآية الكريمة والرواية الشريفة وما ماثلها من الروايات تشير إلى القسم الإجتماعي منهما، ولا ربط لها بالإنفرادي، والإنفرادي وظيفة عامّة المكلّفين.

ولا أثر يترتّب على كون وجوبه كفائيّاً أو عينيّاً، وذلك لأنّ الوجوب الكفائي عبارة عن الوجوب المتعلّق بجميع أفراد المكلّفين كالوجوب العيني، غاية الأمر يكون مشروطاً بعدم إتيان الآخرين به.

فعلى هذا إنْ أمرَ بالمعروف أحد أفراد المكلّفين، وحصل الغرض، سقط الوجوب سواءٌ أكان كفائيّاً أم عينيّاً، وإن تُركتْ هذه الفريضة، عُوقب الجميع كفائيّاً كان أم عينيّاً، وإنْ لم يتمكّن بعض الأفراد، وكان الآخرون متمكِّنين، توجّه التكليف إلى خصوص المتمكِّنين، وسقط عن العاجز، من غير فرق بين القسمين.

فعلى هذا لا يهمّنا البحث في ذلك، وإنْ كان الأظهر كون الوجوب عينيّاً؛ لأصالة العينيّة في الوجوب، وللأمر بهما في جملة من الآيات والنصوص عليجهة العموم:

منها: قوله تعالى : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ » الآية(1).

ومنها: النبويّ : «لتأمرنّبالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أن ليعمنّكم عذاب اللّه»(2).

وفي آخر: «مُروا بالمعروف، وإنْ لم تعملوا به كلّه، وانهوا عن المنكر وإنْ لم تنتهوا عنه كلّه»(3) إلى غير ذلك.

***7.

ص: 311


1- سورة آل عمران: الآية 110.
2- وسائل الشيعة: ج 16/135 ح 21173.
3- وسائل الشيعة: ج 16/151 ح 21217.

3 - انقسام الأمربالمعروف والنهي عن المنكرإلى الإجتماعي والإنفرادي

أقول: ينقسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الاجتماعي والانفرادي، إنّما البحث في أنّه:

1 - وظيفة عامّة المكلّفين ؟

2 - أم هي وظيفة طائفة خاصّة هم العلماء الذين لهم مكانة خاصّة في المجتمع ؟

وتنقيح الكلام في ذلك يتوقّف على بيان اُمور:

الأمر الأوّل: أنّ الدعوة إلى الخير، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لها قسمان:

القسم الأوّل: الدعوة الخيرية الخاصّة، وهي ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض، من الدلالة على الخير، والحَثّ عليه عند عروضه، والنهي عن الشرّ والتحذير منه، وإنْ شئت فعبر عنه بالإنفرادي، كالأمر بفريضة تَرَكها شخص، والنهي عن منكرٍ خاص يفعله كالكذب والغيبة وما شاكل، وفي مورده لا يجوز التفحّص والتفتيش، بل إنّما يجبُ في فرض الظهور والتظاهر، ويختصّ ذلك بما أمر اللّه تعالى به ونهى عنه.

القسم الثاني: وهو الذي نعبِّر عنه بالإجتماعي، فله مرتبتان:

المرتبة الأُولى : دعوة هذه الاُمّة سائر الأُمم إلى الخير، وأن يشاركوهم فيما هم عليه من النور والهدى ، وهذا مطلوب منّا بحكم: جُعِلنا خير أُمّةٍ اُخرجت للناس؛ مقيّداً بكوننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.

المرتبة الثانية: الدعوة العامّة الكليّة، ببيان طرق الخير، ومباني الشريعة المقدّسة وحقائقها وأحكامها، وردّ الشبهات، والذّب عن حريم القرآن والعترة،

ص: 312

والزّجر والمنع إذا ظهرت البدع، أو وضع قانون في المملكة يخالف قانون الشرع، وكان يترتّب عليه شيوع المعصية بين الأفراد، أو ترك فريضة إسلامية كذلك، أو إلزام الناس بإتيان ما يخالف الشرع، أو ترك ما أمر اللّه تعالى به، ويشمل ذلك كلّ ما هو من صالح المجتمع، وهذا يجب التفحص والتفتيش عنه.

وفي مثل ذلك يقول ابن خلدون: (ويتّخذ الأعوان على ذلك، ويبحث عن المنكرات، ويعزّر ويؤدّب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامّة في المدينة، مثل المنع من المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقّى من ضررها على السابلة، والضّرب على أيدي المعلّمين في المكاتب وغيرها في الإبلاغ في ضربهم للصبيان المتعلّمين، ولا يتوقّف حكمه على تنازع أو استعداء، بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه، وليس له إمضاء الحكم في الدعاوي مطلقاً إلّافيما يتعلّق بالغشّ والتدليس في المعايش وغيرها من المكاييل والموازين، وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف، وأمثال ذلك ممّا ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم)(1).

الأمر الثاني: أنّه لكلّ فرد مسلم القيام بأداء القسم الأوّل، دون أن يلزم منه أي محذور، وأمّا القسم الثاني فأوّلاً لا يقدر الآحاد على القيام به، إذ يلزم الهرج والمرج من تصدّي كلّ أحد له، وبعض مصاديقه يتوقّف على التعلّم والتمكّن من إقامة الحجّة والبرهان، وبعضها يتوقّف على كون الشخص قدوة الناس وحصن الإسلام، فلاريب في كونه حينئذٍ وظيفة العلماء الذين هم النواب للإمام عليه السلام، الذي5.

ص: 313


1- مقدّمة تاريخ ابن خلدون: ص 225.

هو قدوة المجتمع والحافظ لحدود اللّه، وهو الحاكم على الاُمّة، ومُجري القوانين الإلهيّة، حيث تكون في زمان الغيبة «بيدهم مجاري الأُمور» كما في الخبر(1)، وهم «حصون الإسلام» كمافي الآخر(2)، وهم «خلفاءالرسول صلى الله عليه و آله» كمافي خبرثالث(3)، وهم المفوّض إليهم الحكومة الإسلاميّة كما في رابع(4)، وهم «القُضاة بين الناس» كما في الخامس(5)، وهم «اُمناء الرُّسل» كما في سادس(6)، وكون العالم أميناً، باعتبار كونه حافظاً للأحكام الشرعيّة.

الأمر الثالث: إنّ الآيات الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر ونصوصها على طائفتين:

1 - طائفة تتضمّن الأمر متوجّهاً إلى عامّة المكلّفين، كأكثر الآيات والروايات المتقدّمة.

2 - وطائفة منها تتضمّن كون هذه الوظيفة لطائفة خاصّة، وهي وظيفة العلماء على الخصوص، لاحظ:

1 - قوله تعالى : «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» الآية(7)، بناءً على ظهور الآية في إرادة التبعيض، وقد مرّ الكلام فيه، والاُمّة بحسب المتفاهم العرفي عبارة عن جماعة خاصّة لهم وحدة4.

ص: 314


1- مستدرك وسائل الشيعة: ج 17/316 ح 21454.
2- الكافي: ج 1/38 ح 3.
3- وسائل الشيعة: ج 27/91 ح 33295.
4- وسائل الشيعة: ج 27/106 ح 33334.
5- وسائل الشيعة: ج 27/139 ح 33421.
6- الكافي: ج 1/43 ح 5.
7- سورة آل عمران: الآية 104.

فكريّة وغاية واحدة، وهم ليسوا هنا إلّاالعلماء العاملين، الذين هيّأوا أنفسهم للذبّ عن حريم الإسلام والقرآن، ودفع الشبهات، وردّ المظالم، وإقامة الفرائض، وأمن المذاهب، وتعمير الأرض، والانتصاف من الأعداء، وإقامة الأمر.

2 - وخبر مسعدة المتقدّم، عن الإمام الصادق عليه السلام وقد سأله عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنّهما واجبان على الاُمّة جميعاً؟

فقال عليه السلام: «لا، فقيل: ولِمَ؟ قال: إنّما هو على القويّ المُطاع، العالم بالمعروف عن المنكر، لا على الضعفة... الحديث»(1).

3 - وما رواه الشريف الرضيّ ، عن أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المعروفة بالشقشقية إذ يقول: «أما والذي فَلَق الحبّة، وبَرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كِظة ظالم، ولا سَغَب مظلوم، لألقيتُ حبلها على غاربها... إلى آخر الخطبة»(2).

4 - وخبرجابر، عن الإمام الباقر عليه السلام المتقدّم: «يكون في آخرالزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون... إلى أنْ قال: ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها، كمارفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمربالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة، بها تُقام الفرائض. هنالك يتمّ غضب اللّه عزّ وجلّ ، فيعمّهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الأشرار، والصغار في دار الكبار، إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة، بها تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتَحِلُّ المكاسب، وتُردّالمظالم، وتَعمرُ الأرض،ة.

ص: 315


1- وسائل الشيعة: ج 16/126 ح 21152.
2- نهج البلاغة: ص 49، باب الخطب، الخطبة الثالثة.

ويُنتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر. الحديث»(1).

إذ الأمر بالمعروف الذي هو سبيل الأنبياء وبه تُقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتُردّ المظالم و... إنّما تتحقّق بالأمر بالمعروف الإجتماعي الذي تترتّب عليه آثار وفوائد هامّة، وهو الذي يكون بمنزلة القوّة المُجرِية للقوانين الإلهيّة عامّة.

5 - وخبرحسن، قال: «خَطَب أميرالمؤمنين عليه السلام فحَمِداللّه وأثنى عليه، ثمّقال:

أمّا بعدُ فإنّه إنّما هلك من كان قبلكم حيثما عملوا من المعاصي، ولم ينههم الربانيّون والأحبار عن ذلك، وإنّهم لمّا تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيّون والأحبار نزلت بهم العقوبات»(2).

إلي غيرذلك من الأخبارالتي هي بهذا المضمون، ويوجّه الخطاب فيها إلى العلماء.

أقول: إذا تبيّن ما قلناه ظهر بوضوح:

إنّ القسم الأوّل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض - حيث يستوي فيه العالم والجاهل، وهو المعبّر عنه بالفردي تارةً ، وبالدعوة الجزئيّة الخاصّة اُخرى ، وهو ما يكون بين المتعارفين من الدلالة على الخير والحَثّ عليه عند عروضه، والنهي عن الشرّ والتحذير منه - وظيفة عامّة الناس، وكلّ واحد يأخذ من الفريضة العامّة بقدره، ومن الواضح أنّ أفراد الاُمّة إذا قام كلّ واحدٍ منهم بنصيحة الآخر أمراً ونهياً، استقرّ أمر الخير والمعروف بينهم، وامتنع شيوع الشرّ والمنكر فيهم.

وحينئذٍ فكون هذا القسم حفاظاً للوحدة، وسياجاً دون الفرقة أمرٌ ظاهرٌ3.

ص: 316


1- الكافي: ج 5/55 ح 1، وسائل الشيعة: ج 16/119 ح 21132.
2- وسائل الشيعة: ج 16/120 ح 21133.

لا خفاء فيه.

وأمّا القسم الثاني: - وهو الاجتماعي منهما - فهو وظيفة طائفة متميّزة، تقوم بالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهم العلماء العاملون، والواجب عليهم حينئذٍ القيام بهذه الوظيفة الهامّة عيناً.

فالفرق بين القسمين: أنّ من يجب عليه في الأوّل عامّة الناس، وفي الثاني طائفة خاصّة، ومع ذلك لا يكون جماعة المؤمنين كافّة بمعزلٍ عن هذا الحكم، بل هم المكلفون بأن ينتخبوا منهم أُمّة تقوم بهذه الفريضة، وتهيئة أسباب القيام بها، وتكوين هذه الاُمّة لهذا العمل، بأن يكون لكلّ فرد منهم إرادة وعمل في إنجازها وإسعادها، ومراقبة سيرها بحسب الاستطاعة، حتّى إذا رأوا منها خطأً وانحرافاً أرجعوها إلى الصواب، وإلى ذلك اُشير في الأخبار بالحَذَر من العالم غير العامل بالوظيفة، حتّى عدّ العلماء المختلفين إلى أبواب السلاطين، المستلزم اختلافهم إليهم سكوتهم عن بيان الحقّ والدعوة إلى الخير، عدّوا آفة الدِّين.

***

ص: 317

4 - شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لا إشكال في أنّ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروطاً، إنّما وقع الكلام في موردين: شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

المورد الأوّل: في عدد الشروط، والمشهور بين الأصحاب أنّها أربعة:

الشرط الأوّل: العلم بالمعروف والمنكر.

الشرط الثاني: احتمال التأثير.

الشرط الثالث: أن يكون الفاعل له مُصرّاً على الاستمرار.

الشرط الرابع: أن لا يكون في الإنكار مفسدة.

وأضاف إليها بعض العلماء شرطاً خامساً وهو اعتبار العدالة والاجتناب عن المحرّمات في الآمر والناهي، واعتبر بعضهم أُموراً اُخرى ستقف عليها.

المورد الثاني: في كون بعض هذه الشروط شرط الوجوب أو الواجب، والفرق بين القسمين: أنّ شرط الوجوب - كالإستطاعة للحجّ - ما تتوقّف فعلية الوجوب على تحقّقه خارجاً، بحيث لا وجوب قبل وجوده، ولا يجب تحصيله، ويكون دخيلاً في اتّصاف الفعل بالمصلحة.

وشرط الواجب ما يكون الوجوب فيه مطلقاً، ولا تتوقّف فعليّته على تحقّقه كالطهارة للصلاة، ويكون المتعلّق متقيّداً به، ويجب تحصيله، واستيفاء المصلحة متوقّف عليه.

أقول: وتنقيح القول يتحقّق بذكر كلّ واحدٍ من تلك الشرائط، وبالبحث عن كونه من أي القسمين:

ص: 318

أ - في اعتبار العلم بالمعروف والمنكر

صرّح جماعة منهم الحِلّي(1)، والمحقّق(2)، والعلّامة(3)، والشهيدان(4) والمقداد(5):

أنّه يعتبر في وجوب الأمر أو النهي أن يعلمه الآمر أو الناهي معروفاً أو منكراً، ليأمن من الغلط في التعريف والإنكار.

بل عن «المنتهى» نفي الخلاف فيه(6)، واختاره صاحب «الجواهر»(7)، فالجاهل معذور ولا يجب عليه تحصيل العلم.

وعن جماعةٍ ، منهم: الكركي في حاشيته(8)، والشهيد الثاني في مسالكه(9): أنّ التعلّم واجب، وأنّه ذلك من شرائط الواجب.

وفصّل بعضهم بين القسمين من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاجتماعي والفردي، واختار كونه شرط الوجوب في الثاني وشرط الواجب في الأوّل.

واستدلّ صاحب «الجواهر» رحمه الله(10) للأوّل:

1 - بما تقدّم من أنّه ليأمن من الغلط.

2 - وبما في خبر مسعدة(11) المتقدّم الذي حَصَر الوجوب فيه على القويّ 2.

ص: 319


1- السرائر: ج 2/23.
2- المختصر النافع: ص 115.
3- تحرير الأحكام: ج 2/240.
4- الروضة البهيّة: ج 2/414.
5- كنز العرفان في فقه القرآن: ج 1/407.
6- منتهى المطلب: ج 2/993.
7- جواهر الكلام: ج 21/366.
8- جامع المقاصد: ج 3/486.
9- مسالك الأفهام: ج 3/101.
10- جواهر الكلام: ج 21/366.
11- وسائل الشيعة: ج 16/126 ح 21152.

المطاع العالم بالمعروف من المنكر.

3 - وبأنّ المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو ما علمه المكلّف من الأحكام من حيث كونه مكلّفاً بها، لا أنّه يجبُ أن يتعلّم المعروف من المنكر زائداً على ذلك مقدّمة لأمر الغير ونهيه، اللّذين يمكن عدم وقوعهما ممّن يعلمه من الأشخاص.

أقول: ولكن عدم الأمن من الغلط مع عدم العلم لا كلام فيه، إنّما الكلام في لزوم تحصيل العلم وعدمه.

أمّا خبر مسعدة، فقد عرفت أنّه يدلّ على أنّ الأمر بالمعروف الاجتماعي وظيفة العلماء، وفي مثله لا كلام في كون صيرورة الإنسان عالماً شرط الوجوب، ومحلّ البحث هو الفردي، والحديث لا يدلّ على كون العلم شرط وجوبه أيضاً، وكون المنساق من إطلاق الأدلّة ما أفاده أوّل الكلام.

قال الشهيد الثاني في «المسالك»: (وقد يناقش بأنّ عدم العلم بالمعروف والمنكر لا ينافي تعلّق الوجوب بمن لم يعلم، وإنّما ينافيه نفس الأمر والنهي حذراً من الوقوع في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وحينئذٍ فيجبُ على من علم بوقوع المنكر أو ترك المعروف من شخص معيّن في الجملة بنحو شهادة العدلين، أن يتعلّم ما يصحّ معه النهي والأمر ثمّ يأمر أو ينهى، كما يتعلّق بالمُحدِث وجوب الصلاة، ويجب عليه تحصيل شروطها، وحينئذٍ فلا منافاة بين عدم جواز أمر الجاهل ونهيه حال الجهل، وبين وجوبهما عليه، كما تجبُ الصلاة على المُحدِث والكافر، ولا تصحّ منهما على تلك الحال)(1) انتهى.1.

ص: 320


1- مسالك الأفهام: ج 3/101.

وتحقيق القول في المقام: إنّه في ذلك القسم من الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر الذي هو وظيفة العامّة:

تارةً : يعلم تفصيلاً كون ما تركه شخص معيّن معروفاً، أو كون ما فعله منكراً.

واُخرى: لا يعلم بذلك، ولكن يعلم بارتكاب أحد الشخصين أو الأشخاص منكراً، أو أن ما يتركه معروفاً.

وثالثة: يعلم إجمالاً بأنّ بعض ما يفعله شخص معيّن منكرٌ بنحو شهادة العدلين أو غيرها، أو أنّ بعض ما يتركه معروف.

ورابعة: لا يعلم شيء من ذلك.

أمّا الصورة الأُولى : فلا كلام فيها.

وأمّا في الصورة الثانية والثالثة: فمقتضى العلم الإجمالي وجوب الأمر والنهي، ويجب التعلّم مقدّمةً له.

وفي الصورة الرابعة يشكّ في الوجوب حتّى وإنْ كان الوجوب مطلقاً، وأصل البراءة يقتضي عدم الوجوب، ولعلّه بذلك يقع التصالح بين القوم، وأنّ مراد من قال بوجوب التعلّم مقدّمةً ، إنّما هو وجوبه في الصورتين، ومراد من قال بعدم الوجوب هو العدم في الصورة الرابعة.

وأمّا فيماهو وظيفة العلماء، فالظاهروجوب التعلّم مقدّمةً للأمر والنهي مطلقاً؛ لتوقّف سعادة المجتمع عليه، ولأنّه يلزم حدوث بدع في الدين من عدم التعلّم، كما نشاهد في زماننا هذا بالنسبة إلى الأُمور المستحدثة، حيث نجد بعض المتفقّهة يُقدم عليتحريم شيءقبل أن يدرك موضوعه، كمايفتي بإباحة آخر كذلك، فأصبح الحكم المذكور لايمكن ردّه، وبيان ما هو الحقّ فيه، ولذلك موارد كثيرة لا تسع

ص: 321

الظروف لبيانها.

وعلى الجملة: هذه الوظيفة وظيفة هامّة جدّاً، و التصدّي لها يتوقّف على تحصيل العلم بمايدّعون إليه، والتفقّه في الدِّين، وإليه عَنى اللّه تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » (1)، كما أمر طريقة التبليغ بقوله: «اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (2) وتهيئة الأسباب من خلال قوله تعالى:

«وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ » (3) كماعليه أن يعرف الملل والنحل والمذاهب ليتيسّرله بيان مافيهامن الباطل، ويقدرعلى إزالة الشبهات وحَلّ عقد المشكلات.

ب - اعتبار علم الآمر والناهي بالمعروف والمنكر

ثمّ إنّه هل يعتبر علم المأمور بالمعروف والمنهي بالمنكر؟ فلو ترك المعروف جاهلاً بوجوبه، أو فعل المنكر جاهلاً بحرمته وقبحه، لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟

أم لا يعتبر ذلك، فيجبان حتّى مع جهل المأمور والمنهي ؟

أم يفصّل بين الموارد؟ وجوه وأقوال.

ونخبة القول في المقام: إنّ غير العالم قد يكون ناسياً وغافلاً، وقد يكون جاهلاً بالحكم أو موضوعه.

أمّا إذا كان ناسياً أو غافلاً، فالظاهر عدم وجوب الأمر والنهي إلّافي موارد0.

ص: 322


1- سورة التوبة: الآية 122.
2- سورة النحل: الآية 125.
3- سورة الأنفال: الآية 60.

نعلم فيها اهتمام الشارع وعدم رضاه بصدوره ولو من غير المكلّف، كما في النفوس والأعراض والأموال الخطيرة.

أمّا عدم الوجوب في الأوّل؛ فلأنّ الناسي و الغافل غيرمكلّف واقعاً، فالعمل الصادر منهما محلّل واقعاً، وغير مبغوض في حقّهما، فلاوجه لحمله عليه أوزجره عنه.

وأمّا الوجوب في الثاني؛ فلما علمنا من الشرع أنّه لا يرضى الشارع بارتكاب تلك الاُمور، وأنّ تلكم الاُمور مبغوضة مطلقاً حتّى وإن صدرت عمّن لا يكون مكلّفاً بالفعل.

وكذلك لا يجبان في الجاهل بالموضوع، فإنّه مع الجهل به وإنْ لم يكن الحكم الواقعي مرتفعاً، إلّاأنّه مرخّص فيه مولويّاً، ولو في مرحلة الظاهر، ومعه لا يبقى مجال للردع عنه.

ومن الجهل بالموضوع: الشبهة الموضوعيّة إذا اعتمد فيها على أصلٍ أو أمارةٍ معتبرة ولم يصادفا الواقع، نعم في موارد علمنا باهتمام الشارع، وعدم رضاه بصدورها ولو من غير المكلّفين، يجب الردع، فإذا أراد شخصٌ قتل آخر باعتقاد أنّه سَبعٌ ، وعلمنا أنّه إنسان محرَّم القتل، وجب ردعه عن عمله، وإنْ كان مستنداً في عمله ذلك إلى حجّة معتبرة، وكذا إذا أراد تزويج امرأه وعلمنا أنّها اُخته، وهكذا في سائر الموارد المهمّة.

وإما إذا كان جاهلاً بالحكم، فالظاهر وجوب إرشاده من باب وجوب البيان، وتبليغ الأحكام الشرعيّة وحفظها عن الاندراس.

ويدلّ عليه: - مضافاً إلى أدلّة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير المتقدّمة - قوله تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ » (1)، فإنّه يدلّ على وجوب النفر حسب ما تقتضيه (لولا) التحضيضيّة، وعلى وجوب التفقّه؛ لأنّه الغاية الداعية إلى الأمر بالنفر، وعلى وجوب الإنذار الذي هو الغاية الداعية إليه.

ويدلّ عليه: - مضافاً إلى أدلّة وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الخير المتقدّمة - قوله تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ » (1)، فإنّه يدلّ على وجوب النفر حسب ما تقتضيه (لولا) التحضيضيّة، وعلى وجوب التفقّه؛ لأنّه الغاية الداعية إلى الأمر بالنفر، وعلى وجوب الإنذار الذي هو الغاية الداعية إليه.

والإنذار قد يكون بالدلالة المطابقيّة، وقد يكون بالدلالة الالتزاميّة، وبيان الأحكام الوجوبيّة والتحريميّة يتضمّن الإنذار باستحقاق العقاب عند تركه الواجب أو الإتيان بالحرام.

فإن قيل: إنّ الظاهر من الآية الشريفة من حيث ورودها في ضمن آيات الجهاد، وبقرينة صدر الآية، وبالخصوص قوله تعالى : «وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ...» (2)، وظاهر بعض التفاسير، أنّ المراد بالنفر هو النفر إلى الجهاد، فالمراد بالتفقّه المترتّب عليه هو البصيرة في الدِّين، من مشاهدة آيات اللّه تعالى من غلبة المسلمين على أعداء اللّه، وظهور علائم عظمة اللّه، وسائر ما في الحرب، فيخبروا بذلك المتخلّفين، فاللّام في قوله تعالى : «لِيَتَفَقَّهُوا» للعاقبة لا للغاية، ويكون التفقّه والإنذار من قبيل الفائدة لا الغاية.

توجّه عليه: أنّ الظاهر من الآية الشريفة، بقرينة كون اللّام في «لِيَتَفَقَّهُوا» متعلّقاً بحسب ظاهر اللّفظ بقوله: «نَفَرَ» ، فتكون اللّام للغاية، وبقرينة الروايات المفسّرة لها بذلك كون المراد النفر للتفقّه(1)، وارتباطها بآيات الجهاد، إنّما هو من جهة كونها في مقام المنع عن قصر النفر على الجهاد، نظراً إلى أنّه كما أنّ الجهاد بالسيف مهمٌّ ويعدّ حماية وسياج للدِّين، فكذلك التفقّه في الدِّين الذي هو آلة5.

ص: 323


1- وسائل الشيعة: ج 11/12 ح 14121، وسائل الشيعة: ج 27/140 ح 33425.

الجهاد بالحجّة والبرهان، الذي عليه مدار الدعوة إلى الإيمان، وإقامة دعائم الإسلام، فليكن نفر جماعة للتفقّه.

فالآية الكريمة تدلّ على وجوب التعلّم والتفقّه، والاستعداد لتعليمه في مواطن الإقامة، ويكون الفقهاء هداة لغيرهم، كما وتدلّ على أنّ المتخصّصين لهذا التعلّم بهذا القصد لا يقلّون في الدرجة عند اللّه تعالى عن المجاهدين بالنفس لإعلاء كلمة اللّه، بل هم أفضل منهم.

ويشهد به: النصوص الكثيرة الدالّة على لزوم التفقّه والتعلّم، وحرمة كتمان العلم، ولزوم بذله، راجع كتب الحديث، كالكافي(1) و «الوسائل»(2) وغيرهما(3).

ج: اشتراط جواز تأثير الأمر والنهي وعدمه

صرّح جماعة بأنّه يعتبر في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتمال التأثير، فمع العلم بعدم التأثير لا يجبان(4).

وزاد بعضهم أنّه: لا يجبان لو غلب على ظنّه عدم التأثير(5).

أقول: وتنقيح القول في المقام في جهات:

الجهة الأُولى : في اعتبار هذا الشرط وعدمه في الجملة.

الجهة الثانية: في أنّه على فرض الاشتراط، إذا لم يكن أمر شخص واحد1.

ص: 324


1- الكافي: ج 1/31 ح 6.
2- وسائل الشيعة: ج 27/24 ح 33111. وسائل الشيعة: ج 16/269 ح 21538.
3- المحاسن للبرقي: ج 1/229.
4- الإقتصاد للطوسي ص 148، الوسيلة لإبن حمزة ص 207، السرائر لإبن إدريس: ج 2/23، المختصر النافع للمحقّق الحِلّي ص 115.
5- تحرير الأحكام: ج 2/241.

مؤثّراً، وعلم أو احتمل تأثير أمر جماعة، فهل يجب على الجميع ذلك أم لا؟

الجهة الثالثة: في أنّه إذا اُحرز عدم التأثير، ولكن تترتّب على الأمر أو النهي فائدة مهمّة اُخرى، أو كان السكوت موجباً لترتّب مفسدة مهمّة، كما إذا كان السكوت موجباً لهتك الدِّين، وضعف عقائد المسلمين، أو لزم من السكوت صيرورة المنكر معروفاً والمعروف منكراً، أو لزم من الأمر أو النهي تأخير المعصية أو تقليلها، أو عدم ارتكاب غير المأمور والمنهيّ ، أو عدم التظاهر بالارتكاب، أو استلزم السكوت تأييد الظالم وتقويته، أو تجرّيه بالنسبة إلى المعاصي، وما شاكل، فهل يجبان أم لا؟

الجهة الرابعة: في أنّه على فرض العلم بعدم التاثير، وعدم ترتّب شيء من الفوائد عليهما، هل يوجد مورد لوجوبهما أم لا؟

الجهة الخامسة: في أنّ هذا الشرط شرط الوجوب أو الواجب ؟

أمّا الجهة الأُولى : فمقتضى إطلاق الأدلّة عدم اشتراط ذلك، كما صرّح به فقيه عصره صاحب «الجواهر» رحمه الله، كما أنّ مقتضى قوله تعالى : «وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اَللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ » (1) عدم اشتراط ذلك كما صرّح به شيخ الطائفة، حيث قال في تفسير «التبيان» ذيل الآية: (والتقدير: واذكر إذ قالت أُمّة منهم لطائفةٍ منهم، لِمَ تعظون قوما علمتم أنّهم هالكون في الدُّنيا، ويعذّبهم اللّه عذاباً شديداً في الآخرة ؟ فقالوا في جوابهم: وعظناهم إعتذاراً إلى اللّه، أي نعظهم اعتذاراً إلى ربّكم لئلّا يقول لنا: لِمَ لمْتعظوهم ؟ ولعلّهم أيضاً بالوعظ يتّقون ويرجعون، وفي ذلك دليلٌ على أنّه يجب4.

ص: 325


1- سورة الأعراف: الآية 164.

النهي عن القبيح، وإنْ علم الناهي أنّ المنهيّ لا ينزجر ولا يقبل، وأنّ ذلك هو الحكمة والصواب الذي لا يجوز غيره)(1) انتهى.

فإنْ أُورد على ذلك: بأنّه مع العلم بعدم التأثير، يكون وجوب الأمر والنهي لغواً لا يصدر من الحكيم.

أجبنا عنه: بأنّ فائدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنّما هو لحفظ المجتمع الإسلامي ووحدته، ولسوق المجتمع إلى العزّة والصلاح والسعادة، بل هما ينبوع الحياة الاجتماعيّة، فإذا قام كلّ فرد من أفراد الاُمّة بنصيحة الآخر استقرّ أمر الخير والمعروف بينهم، وامتنع شيوع الشرّ والمنكر فيهم، وهذه هي فائدة التناصح أمراً ونهياً، ولذلك وجبا على كلّ فرد من الأفراد، وهي الغرض الأقصى من توجّه التكليف إلى كلّ فرد.

فحينئذٍ إنْ عمل الجميع بوظيفتهم، ترتّب الغرض قطعاً، وإلّا فترك الآخرين لا يسوّغ ترك هذا الفرد ما هو وظيفته، ولا مجال لدعوى اللّغوية؛ فإنّ اللّغوية بمعنى عدم ترتّب الغرض الأقصى لا يوجب سقوط التكليف.

ومع هذا فلا يُصغى إلى جملةٍ من الروايات الضعيفة طرف منها، وغير الدالّة بعضها الآخر التي استدلّوا بها لهذا الشرط.

وأمّا الجهة الثانية: فعلى فرض اشتراط هذا الشرط، لا ينبغي التوقّف في أنّه إذا علم بعدم تأثير أمر شخص واحد ونهيه، وعلم أو احتمل التأثير مع قيام الآخرين بذلك، وجب الأمر والنهي على الجميع.

وبذلك يظهر الحال في الجهة الثالثة؛ فإنّه مع ترتّب فائدة مهمّة مطلوبة3.

ص: 326


1- التبيان: ج 5/13.

للشارع عليهما، أو ترتّب مفسدة مهمّة على تركهما، لا يتوقّف في الوجوب.

وأمّا الجهة الرابعة: فعلى فرض تسليم اعتبار هذا الشرط، والعلم بعدم تأثير الأمر والنهي، فمع ذلك يجب إظهار الحقّ عند ظهور البدعة في الدين، لاحظ:

1 - قوله صلى الله عليه و آله: «إذا ظهرت البدع في اُمّتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة اللّه»(1).

2 - والعلوي: «إنّ العالم الكاتم علمه يبعث أنتن أهل القيامة ريحاً، تلعنه كلّ دابّةٍ من دواب الأرض الصغار»(2).

3 - وما رواه يونس بن عبد الرحمن، في حديثٍ رويناه عن الصادقين عليهم السلام أنّهم قالوا: «إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه، فإنْ لم يفعل سُلب نور الإيمان»(1).

ونحوها غيرها(2).

ولا يشترط في ذلك احتمال التأثير، فإنّ المطلوب في هذا المقام إظهار الحقّ ، وهذه الفائدة تترتّب مع العلم بعدم التأثير أيضاً.

وأمّا الجهة الخامسة: فعلى فرض الإشتراط، فاحتمال التأثير وإنْ كان شرط الوجوب، بمعنى أنّه مع عدم احتماله يسقط الوجوب، إلّاأنّه إذا تمكّن من تسبيب الأسباب ليكون أمره ونهيه مؤثّراً، ولاأقلّ من احتمال ذلك وجب، فلايكون من قبيل سائر شرائطالوجوب غيراللّازم تحصيلها، فهوفي الحقيقة شرطالواجب.

***ف.

ص: 327


1- وسائل الشيعة: ج 16/271 ح 21546.
2- راجع وسائل الشيعة: ج 16/270، الباب 40 من أبواب الأمر بالمعروف.

فروع متفرّعة عن عدم اشتراط التأثير

أقول: ثمّ إنّه يستخرج ممّاذكرناه في هذاالشرطأحكام ومسائل إليك جملة منها:

1 - يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الأفراد بعضهم مع بعض، وذلك يعدّ من أفرادالتواصي بالحقّ والتواصي بالصبر، وفي مثل ذلك يكون التأثير قطعيّاً، فإن قام كلّ واحد من أفراد الاُمّة بنصيحة الآخر أمراً ونهياً، استقرّ أمر الخير والمعروف بينهم، وامتنع شيوع الشرّ والمنكر فيهم.

2 - يجب الأمربالمعروف والنهي عن المنكربالدعوة العامّة الكليّة على العلماء.

3 - إذا علم بعدم تأثير أمره ونهيه مرّة واحدة، ولكنّه مع تكراره يكون مؤثّراً أو يحتمل تأثيره، وجب عليه التكرار.

4 - إذا علم بأنّ نهيه لايؤثّر في ترك المعصية إلّاأنّه يحتمل أو يعلم بتأثيره في تأخيرها، أو عدم ارتكاب غير المأمور والمنهيّ ، أو عدم التظاهر بالارتكاب، وجب عليه ذلك.

5 - إذا كان ترك الأمر والنهي موجباً لتأييد الظالم وتقويته، أو تجرّيه بالنسبة إلى المعاصي الاُخر، حرُم الترك، ووجبا بلا كلام.

6 - إذا احتمل الائتمار والانتهاء لو كان الأمر والنهي مع قيد خاص، ككونهما في ملأمن الناس، أو زمان مخصوص، أو مع اجتماع جماعة في الأمر والنهي، أوما يشاكل، وجب الأمر والنهي.

7 - إذا ظهرت البدع، وجب على العالم أن يُظهر علمه، وإلّا فعليه لعنة اللّه.

8 - يجب الأمر والنهي إذا كان السكوت موجباً لهتك الدِّين، وضعف عقائد

ص: 328

المسلمين، وإنْ لم يؤثّرا في الإئتمار والانتهاء.

9 - إذا كان السكوت موجباً لصيرورة المنكر معروفاً، والمعروف منكراً، حرم ووجب البيان.

10 - إذا توقّف النهي عن المنكر على تشكيل جمعيّة وتهيئة أسباب، وما شاكل، وجب جميع ذلك، قال تعالى : «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ » (1).

11 - إذا لم يمكن النهي عن المنكر أو الأمر بالمعروف إلّامع تصدّي شخصٍ لرئاسة الاُمّة وزعامّة الطائفة، وجبَ ذلك مقدّمةً للأمر والنهي، كما أنّه لو علم بأنّه يتوقّف الأمر والنهي والدّعوة إلى الخير على كونه معاوناً للرئيس والزعيم، وجب ذلك.

12 - إذاقام عالمٌ جامعٌ للشرائط بوظيفة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتوقّف أداؤه للوظيفة على مشاركة الآخرين معه، وتأييدهم له، وجب ذلك.

13 - إذاكان المبتدع في الدين، والمسنّن للأنظمة والقوانين غيرالمشروعة بل المخالفة معها، أو فاعل المنكر وتارك المعروف سلطاناً جائراً، وجب إظهار الحقّ ، فقد روي الفريقان عن النبيّ صلى الله عليه و آله قوله: «أفضل الجهاد كلمة العدل عند إمام جائر، أو سلطان جائر، أو إمامٍ جائر»، وواضحٌ أنّه في هذا المورد إذا بقي المُظهِر للحقّ وحيداً فريداً لا يؤثّر الأمر والنهي، ويترتّب عليهما أضرار ومفاسد هامّة، فاللّازم على الآخرين تأييده وتسديده وإعانته.

14 - إذا فرضناأنّ المنكرات قد شاعت في المجتمع في زمان - كهذاالزمان - ولم يتمكّن الإنسان من النهي عن جميعها، ولا بالنسبة إلى جميع الأفراد - وجب0.

ص: 329


1- سورة الأنفال: الآية 60.

الممكن، وتخيّر بالنسبة إلى المنكرات إنْ لم يكن بعضها أهمّ ، وإلّا تعيّن، كما أنّه يتخيّر في نهي الفاعلين للمنكر، إلّاإذا كان بعض المرتكبين له خصوصيّة، كما إذا كان صاحب شوكة وسلطة، بحيث لزم من منعه منع جماعة آخرين ممّن هم تابعون له، وتحت اختياره وسلطته، فيتعيّن حينئذٍ نهي ذلك الشخص بالخصوص.

15 - إذا وقع التزاحم بين وجوب الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر، وبين تكليفٍ آخر، كما إذا توقّف الأمر بالصلاة على ترك واجب، أو الدعوة إلى الخير على النظر إلى الأجنبيّة أو استماع الغناء، أو الدفاع عن المجتمع الإسلامي وأحكام اللّه تعالى وحفظها من الإندراس على غصب الأموال أو ترك الصلاة، أو حلق اللّحية، وما شاكل:

فتارةً : يكون ما يترتّب على الأمر والنهي أهمّ في رأي الشارع كحفظ الأحكام والمجتمع الإسلامي، وإسلام من دعي إلى الخير، وما شاكل، فحينئذٍ يقدّم وجوب الأمر والنهي، ويجوز ارتكاب تلك المعاصي.

واُخرى : يكون ما يتوقّف عليه أهمّ ، فيسقط وجوب الأمر والنهي.

وثالثة: قد يتساويان، أو لا يعلم أيّهما أهمّ ، فيكون حينئذٍ مخيّراً(1).

16 - إذا علم شخص أنّ أمره أو نهيه لا يؤثّران، ولكن هناك شخص آخره.

ص: 330


1- سألني منذ سنين جمع من الشبّان المتديّنين: أنّ الكنيسة في طهران تدعو ضعفاء العقيدة من شباب المسلمين، وتهيّئ لهم وسائل العيش والطرب، فتدعوهم إلى التنصّر! وكم من الشباب قد انحرف وتنصّر بهذه الطريقة! ولا نعرفهم حتّى ندعوهم إلى الحقّ ، بل يتوقّف ذلك على الدخول معهم إلى تلك المجامع، متظاهرين بأنّا منهم، فيجب علينا أن نرتكب معهم جملةً من المعاصي والمنكرات، حتّى نعرفهم وبعد ذلك المجلس ندعوهم إلى الحقّ والإسلام، ونحفظهم من دعايات الباطل، فهل يجوز لنا ارتكاب تلك المنكرات لهذا الغرض المهمّ؟ فأجبتهم بجواز ذلك بل وجوبه.

كزعيم القوم ورئيسهم يكون أمره أو نهيه مؤثّراً، إلّاأنّه يتسامح في ذلك، فعليه أن يأمر ذلك الشخص بالقيام بهذه الوظيفة(1).

17 - إذا تصدّى لمنصب الزعامّة والمرجعيّة من لا يهتمّ بأُمور المسلمين، ولا يقوم بهذه الفريضة العظيمة، وكان مائلاً إلى الدُّنيا، ومختلفاً إلى باب السلطان، وجبَ على آحاد المسلمين وفي طليعتهم العلماءو المدرّسون والفضلاء والمحصّلون - أمره بالقيام بالوظيفة، ونهيه عمّا هو فيه، فإن ارتدع وإلّا فعليكلّ مكلّفٍ الإعراض عنه، وعدم تحمّل العلم منه، وعدم الصلاة خلفه، وعدم الإختلاف إلى بابه:

ففي النبويّ : «العلماء اُمناء الرُّسل على عباد اللّه عزّ وجلّ ما لم يخالطوا0.

ص: 331


1- مرّ عند الاستدلال بالآية الكريمة: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ » إلى آخرها، أنّه على فرض تسليم كون (من) للتبعيض، تدلّ الآية على أنّ قسماً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة طائفة خاصّة، إلّاأنّ المخاطب بهذه الآية جماعة المكلّفين، فهاهنا فريضتان: إحداهما: على الاُمّة التي يختارونها للدعوة. والثانية: على جميع المسلمين، بتكوين هذه الاُمّة لهذا العمل، بأن يكون لكلّ فرد منهم مراقبة سيرها بحسب الاستطاعة، حتّى إذا رأوا منها انحرافاً أرجعوها إلى الصواب، أو رأوا منها تساهلاً في هذه الوظيفة أمروها بها. والتجربة القطعيّة تدلّنا على أنّه في كلّ زمان كان المسلمون على هذا النهج من المراقبة للقائمين بالاعمال العامّة، وكان قائدهم ملزماً بالعمل بهذه الوظيفة، آلَ أمر المجتمع إلى العزّة والسعاة والصلاح، وذاقوا حلاوة النعم، كما أنّه في كلّ زمانٍ تساهل الناس في ترك التناصح، ولم يكن لهم قائدٌ عامل بهذه الوظيفة، إمّا لتساهله أيضاً، أو لتفرّده وعدم مساعدة الناس إيّاه، أو عدم مساعدة سائر من هو من الطائفة المتميّزة وهم العلماء، لزم فساد الدِّين والدُّنيا، وسُلّط عليهم الجبابرة والطغاة، ونزعت عنهم البركات، ولم يكن هناك لهم ناصر لا في الأرض ولا في السماء. وإنْ شئتَ أن ترى صدق ما ندّعيه فانظر إلى زماننا هذا وما نحن فيه من سوء الحال. قال الشيخ محمّد عبده: (إنّ ما نحن فيه الآن من سوء الحال أثر تفريط كبير تمادى من زمن طويل، بعدما عظم التساهل في ترك التناصح، وبطل رَدّ ما يتنازع فيه المسلمون إلى اللّه ورسوله، أي إلى كتاب اللّه وسُنّة رسوله، وخوت القلوب من احترام الدِّين، حتّى لم يعد له سلطان على الإرادة، بل صار كلّ شخصٍ أسير هواه! ومتى أمسى الناس هكذا - لا دين، ولا مروءة، ولا أدب - فأيّ فرق بين الطائفة منهم والقطيع من المعز أو البقر؟!). انظر: تفسير المنار: ج 4/30.

السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرُّسل، فاحذروهم واعتزلوهم»(1).

وفي الخبر: «العُلماء أحبّاء اللّه ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولم يميلوا في الدُّنيا، ولم يختلفوا أبواب السلاطين، فإذا رأيتهم مالوا إلى الدُّنيا، واختلفوا أبواب السّلاطين، فلا تحملوا عنهم العلم، ولا تُصلّوا خلفهم، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشيّعوا جنائزهم، فإنّهم آفة الدِّين، وفساد الإسلام، يفسدون الدِّين كما يفسد الخَلّ العسل(2).

وفي حديث ابن عبّاس: «إنّ اُناساً من اُمّتي يتفقّهون في الدِّين، ويقرأون القرآن، ويقولون: نأتي الأمراء فنصيبُ من دنياهم ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك، كما لايجتني من القتادإلّاالشوك، كذلك لايجتني من قُربهم إلّاالخطايا»(3).

قال السيوطي(4): (رواه ابن ماجة بسند رواته ثقات)، وكذلك قال ابن عساكر.

وفى النبويّ : «إذا رأيتَ العالم يُخالط السلطان مخالطةً كثيرة، فاعلم أنّه لص»(5). رواه الديلمي في «مسند الفردوس»(6).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

أقول: وفي المقام فروعٌ اُخر نذكرها في ذيل سائر الشرائط.

***6.

ص: 332


1- ورد بهذا اللّفظ في المحجّة البيضاء للفيض الكاشاني: ج 1/144، وأورده المتّقي الهندي في كنز العمّال: ج 10/204، وورد في الكافي: «عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: الفقهاء أُمناء الرّسل ما لم يدخلوا في الدُّنيا، قيل: يارسول اللّه، وما دخولهم في الدُّنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم». راجع: الكافي: ج 1/46 ح 5.
2- السراج الوهّاج للفاضل القطيفي: ص 22.
3- سنن ابن ماجة: ج 1/94، تاريخ دمشق: ج 64/314.
4- الجامع الصغير للسيوطي: ج 1/97.
5- ذكر ذلك في أوائل كتابه الذي أسماه (ممّا رواه الأساطين في عدم المجيء للسلاطين): ج 1/1 و ص 2.
6- الفردوس: ج 1/276.

د - اشتراط أن يكون الفاعل مصرّاً

أقول: عدّوامن الشروط: أن يكون الفاعل مُصرّاً على ترك المعروف وارتكاب المنكر، فإذاكانت هناك أمارة على الإقلاع وترك الإصرارلم يجب شيء، بلاخلافٍ فيه، مع فرض استفادة القطع من الأمارة، بل ولاإشكال، ضرورة عدم موضوع لهما، بل همامُحرّمان حينئذٍ كماصرّح به غير واحدٍ، كما صرّح به صاحب «الجواهر»(1).

ونخبة القول في المقام إنّه:

تارةً : يكون شخصٌ تاركاً للمعروف أو مرتكبا للمنكر خارجاً.

واُخرى : يريد ترك المعروف أو ارتكاب المنكر.

أمّا الثاني: فيجبُ أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإنْ علمنا أنّه لا يخالف إلّا مرّة واحدة.

وأمّا الأوّل:

1 - فقد يعلم بعدم إصراره، أو تقوم أمارة معتبره شرعيّة عليه.

2 - وقد يُعلم بإصراره، أو تقوم أمارة شرعيّة عليه.

3 - وقد لا يعلم شيء منهما.

أمّا في الفرض الأوّل: فلا يجبُ الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر، لعدم الموضوع لهما، بل هما محرّمان كما صرّح به غير واحدٍ.

نعم، إذا لم يتب ممّا ارتكبه أو تركه وجب أمره بالتوبة.

وأمّا في الفرض الثاني: فلا إشكال في وجوب الأمر والنهي.

إنّما الكلام في الفرض الثالث:0.

ص: 333


1- جواهر الكلام: ج 21/370.

فعن «السرائر»(1)، و «الإشارة»(2)، و «الجامع»(3)، وجماعة(4): عدم وجوب شيء عليه فيه.

وعن الشهيدين في «الدروس» و «المسالك» وفي «الجواهر»: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيه.

قال في محكي «الدروس»: (إنّه مع ظهور الأمارة يسقط قطعاً، ويلحق بعلم الإصرار اشتباه الحال، فيجبُ الإنكار وإنْ لم يتحقّق الشرط الذي هو الإصرار، ومثله القول في الأمر بالمعروف)(5).

وقال في محكي «المسالك»: (لا إشكال في الوجوب مع الإصرار، إنّما الكلام في سقوطه بمجرد ظهور أمارة الامتناع، فإنّ الأمارة علامة ضعيفة يشكل معها سقوط الواجب المعلوم)(6).

وقال صاحب «الجواهر»: (بل قد يقال بوجوبهما في حال عدم العلم بالإصرار، للحكم بفسقه ما لم تعلم توبته، فيجري عليه حينئذٍ جميع الأحكام التي منها أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ما لم تتحقّق التوبة منه)(7).

وقد استدلّ للوجوب:0.

ص: 334


1- السرائر: ج 2/23.
2- إشارة السبق: ص 146.
3- الجامع للشرائع: ص 242.
4- المختصر النافع: ص 115، المهذّب البارع: ج 2/325.
5- حكاه عنه في مسالك الأفهام: ج 3/103، ولكنّه غير موجود في النسخة المطبوعة من الدروس، والموجود فيها هو: (وأن يكون المعروف ممّا سيقع والمنكر ممّا سيترك). راجع الدروس: ج 2/47.
6- مسالك الأفهام: ج 3/102، وحكاه عنه في جواهر الكلام: ج 21/371.
7- جواهر الكلام: ج 21/370.

1 - بإطلاق الأدلّة.

2 - واستصحاب الوجوب الثابت.

3 - وبالحكم بفسقه ما لم تُعلم توبته(1).

ويرد الأوّل: أنّه بعد تقييد الإطلاق بما لو أصرّ، يكون التمسّك به من قبيل التمسّك بالعام والمطلق في الشبهة المصداقيّة، وهو لا يجوز.

ويردّ الثاني: - مضافاً إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام - أنّه لا يقين بالثبوت إذا احتمل عدم الإصرار من الأوّل، حتّى نستصحبه.

ويرد الثالث: أنّ الحكم بفسقه غير مربوط بهذا الحكم.

وعليه، فالأظهر عدم الوجوب، نعم يجب أمره بالتوبة من باب وجوب الأمر بالمعروف كما مرّ.

***0.

ص: 335


1- جواهر الكلام: ج 21/370.

ه - اشتراط أن لا يكون في الإنكار ضرر

واشترطوا في الوجوب أن لا يلزم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضررٌ في النفس، أو في العِرض، أو في المال، على الآمر أو على غيره من المسلمين، كما صرّح به جماعة(1)، وفي «الجواهر»: بلا خلافٍ أجده فيه، كما اعترف به بعضهم)(2).

أقول: وتنقيح القول في المقام بالبحث في موردين:

الأوّل: فيما يستفاد من الأدلّة العامّة.

الثاني: فيما يستفاد من الروايات الخاصّة الواردة في هذا الشرط.

أمّا المورد الأوّل: فمقتضى إطلاق أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدم اشتراط ذلك، وكونهما واجبين حتّى مع ترتّب الضرر.

واستدلّ للاشتراط:

1 - بقوله صلى الله عليه و آله: «لا ضرر ولا ضرار» أو مع إضافة «في الإسلام» أو «على مؤمن»(3).

2 - وبما دلّ على نفي الحرج في الدِّين(4).

3 - وبما تضمّن إرادة اللّه اليُسر دون العُسر(5).

واُورد على الأوّل: بأنّ النسبة بينه وبين أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر5.

ص: 336


1- المهذّب لابن البرّاج: ج 1/341، المختصر النافع ص 115.
2- جواهر الكلام: ج 21/371.
3- وسائل الشيعة: ج 18/32 ح 23073، و وسائل الشيعة: ج 26/14 ح 32382. ووسائل الشيعة: ج 18/23075.
4- سورة الحجّ : الآية 78.
5- سورة البقرة: الآية 185.

عموم من وجه(1).

وأجاب عنه صاحب «الجواهر»: بأنّه بعد تخصيص عموم أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما دلّ على نفي الضرر في خصوص المقام، يُعلم الرّجحان حينئذٍ في هذا العموم، خصوصاً بعد ملاحظة غير المقام من التكاليف التي تسقط بالضرر كالصوم ونحوه(2).

وربما يُجاب عنه: بأنّ دليل نفي الضرر حاكمٌ على أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحاكم يقدّم على المحكوم وإنْ كانت النسبة بينهما عموماً من وجه.

أقول: وقد يُجاب بأجوبة اُخرى ذكرناها مفصّلاً في «رسالة لا ضرر»، وليس المقام مقام التفصيل في هذه الجهة، وإنّما نذكر في المقام وجهين مختصين بالمقام وما شاكله، دالّين على عدم شمول «لا ضرر» له.

الوجه الأوّل: إنّ حديث «لا ضرر» إنّما هو من الأحكام الإجتماعيّة الإسلاميّة، فلا محالة يكون الملحوظ فيه حال عامّة المسلمين، فإن كان حكمٌ ضرريّاً بلحاظ النوع يكون مرتفعاً، وأمّا إذا كان حكمٌ نافعاً للاُمّة الإسلاميّة وضرريّاً على شخصٍ واحد، فلا قدرة لهذا الحديث على رفعه، فإنّ الفرد مستهلكٌ في المجتمع، ولا يلاحظ ضرره في مقابل نفع المجتمع، ولذلك أوجب اللّه الجهاد والخمس والزكاة، ولا سبيل إلى القول بأنّ هذه الأحكام ضرريّة، فإنّه لا يطلق الضرر على شيء يترتّب عليه منافع مهمّة، فهل يتوهّم أحدٌ أن من يصرف مالاً قليلاً لتحصيل منافع2.

ص: 337


1- نقله في الجواهر بقوله: (والمناقشة بأنّ التعارض بينها وبين ما دلّ على...)، ولكنّنا لم نعثر على صاحب هذه المناقشة في المصادر الفقهيّة، نعم أشار الكثير من الأصوليّين إلى التعارض بين قاعدة لا ضرر وعمومات أدلّة الأحكام الأوّليّة، وقالوا بحكومة هذه القاعدة على عمومات تلك الأدلّة.
2- جواهر الكلام: ج 21/372.

مهمّة أن يقال: إنّه تضرّر في هذه المعاملة ؟!

وقد مرّ أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجبان سوق المجتمع إلى الصلاح والعزّة، من خلال القيام بهذه الفريضة يلوح للأُمّة آيات السعادة، ويذوقون حلاوة النعم.

وعلى الجملة: فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظ للوحدة، وسياج دون الفرقة، والوحدة معقد العِزّة والقوّة، وبالعزّة يعتزّ الحقّ فيعلوا في العالمين، وبالقوّة يحفظ هو وأهله من هجمات المتربّصين، وبهما يستقرّ أمر الخير والمعروف، ويمتنع شيوع الشرّ والمنكر فيهم.

وبديهي أنّ الضرر المتوجّه إلى شخص واحد في هذا المقام، لا يعد ضرراً على الاُمّة في مقابل هذه المصلحة العظيمة.

أضف إليه: كون المأمور والمنهيّ غالباً من الأشرار، فبالطبع يكون الأمر والنهي موجباً لحدوث الضرر والحرج والمشقّة في غالب الموارد.

وعلى الجملة: إنّ تحمّل نقصٍ في المال أو النفس في مقام إقامة هذه الفريضة العظيمة، المترتّب عليها مصالح مهمّة للمجتمع الإسلامي، لا يطلق عليه عنوان الضرر، بل لا يكون صادقاً، فالحديث الشريف لا يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الوجه الثاني: إنّ حديث «لا ضرر» كما حُقّق في محلّه:

إمّا أن يراد به نفي الحكم عن موضوع ضرري، فيكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفى الموضوع، كما أفاده المحقّق الخراساني.

أو يراد به نفي كلّ حكم أوجب الضرر، وإنْ لم يكن الموضوع ضرريّاً، كما

ص: 338

اختاره الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله.

أو يراد به الجامع بينهما كما بنينا عليه.

والحديث لا يشمل المقام على كلّ التقادير؛ إذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون ضرريّاً، وإنّما الضرر يكون من فعل الغير هو المأمور والمنهيّ ، كما أنّ وجوبهما لا يوجب الضرر بعد كون إرادة الفاعل المختار واسطة بينهما وبين توجّه الضرر، وعليه فالحديث غير شامل للمقام، فتدبّر فإنّه دقيق.

وما ذكرناه في حديث «لا ضرر» يجري فيما دلّ على نفي الحرج وإرادة اليسر طابق النعل بالنعل.

نعم، إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة إلى فرد خاص، ولم يكن المنكر الذي يرتكبه المنهيّ ممّا يوجب هدم شعائر الإسلام، والبدعة في الدِّين، وتبديل أحكام اللّه تعالى ، وقتل النفس المحترمة، وما شاكل، بل كان منكراً شخصيّاً، وكان الضرر المترتّب عليه من قبيل قتل نفس محترمة، إمّا الناهي أو أحدٍ من المسلمين، لم يجب النهي بل لا يجوز.

وأمّا المورد الثاني: ففي المقام طائفتان من النصوص:

الطائفة الاُولى: تدلّ على عدم اشتراط ذلك:

منها: الخبر المتقدّم عن سيِّد شباب أهل الجنّة، حيث قال عليه السلام:

«اعتبروا أيّها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار...

إلى أنْ قال: وإنّما عاب اللّه ذلك عليهم، لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المُنكر والفَساد، فلا ينهونهم عن ذلك، رغبةً فيما كانوا ينالون منهم،

ص: 339

ورهبةً ممّا يحذرون، واللّه يقول: «فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ » إلى آخر الحديث»(1).

المشتمل على توبيخه عليه السلام العلماء الساكتين في مقابل الظلمة خوفاً من الضرر.

ومنها: الخبر الآخر المتقدّم عن الإمام الباقر عليه السلام: «يكون في آخر الزمان قومٌ مراؤون يتقرّؤون...، إلى أنْ قال: لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلّاإذا أمِنُوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرُّخص والمعاذير، يتّبعون زلّات العلماء وفساد علمهم، يُقبلون على الصلاة والصيام، وما لا يكلمهم(2) في نفسٍ ولا مال، ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها»(3).

ومنها: خبر بكر بن محمّد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «أيّها الناس مروا بالمعروف وانهو عن المنكر، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يقرّبا أجلاً ولم يُباعدا رزقاً، الحديث»(4).

وبمضمونه روايات، منها ما في نهج البلاغة(5)، ونحوها غيرها، المتقدّم جملة منها عند الاستدلال لوجوبهما.

أقول: وممّا يؤيّد هذه الروايات أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل أن تصبح الاُمّة صالحة، شاعرة بنعمة اللّه عليها بالتأليف بين قلوبها ومتبعة مهتدية بما أنزل اللّه، كان يترتّب عليهما الضرر والمشقّة، وكانا من أسباب التخاصم والنزاع، بلت.

ص: 340


1- تحف العقول: ص 237.
2- أي لا يضرّهم.
3- الكافي: ج 5/55 ح 1، التهذيب: ج 6/180 ح 21.
4- وسائل الشيعة: ج 16/125 ح 21150.
5- نهج البلاغة: ج 4/89 طبعة بيروت.

كانا من أعسر الأمور بين الإخوان - كزماننا هذا - فلو كان ذلك سبباً لسقوط التكليف، لزم عدم وجوبهما رأساً.

وبما ثبت ضروريّاً من جريان سُنّة الأنبياء والمرسلين، والأئمّة الطاهرين، وأولياء اللّه المقرّبين، من الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنْ كان محفوفاً بالمكاره والمخاوف، فكم من نبيٍّ أو وصيّ أو عالمٍ قُتل في سبيل ذلك منهم، فكانوا أفضل الشهداء، وعلى رأسهم سيّد شباب أهل الجنّة، ورأس اُباة الضيم أبو عبد اللّه الحسين صلوات اللّه عليه، فقد قُتل هو وأولاده وأقرباؤه وأصحابه في هذا السبيل، وقد تقدّم أنّ قوله صلى الله عليه و آله: «أفضل الجهاد كلمة حقٍّ عند سلطانٍ جائر» أو «إمام جائر» أو «أمير جائر» رواه الفريقان بأسانيد عديدة(1).

الطائفة الثانية: ما قيل بدلالته على اشتراط ذلك:

منها: الخبر المروي عن «العيون»: «والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك، ولم يخف على نفسه»(2).

ومنها: قول الإمام الصادق عليه السلام في حديث شرائع الدِّين(3) مع زيادة: «ولا على أصحابه».

ومنها: خبر مسعدة المتقدّم: «وليس ذلك في هذه الهدنة، إذا كان لا قوّة له ولا مال ولا عدد ولا طاعة»(4).2.

ص: 341


1- الرواية وردت بلفظي (سلطان جائر) و (إمام جائر)، راجع وسائل الشيعة: ج 16/126 ح 21152، ووسائل الشيعة: ج 16/134 ح 21170، وسنن أبي داود: ج 2/325 ح 4344، سنن الترمذي: ج 3/318 ح 2265.
2- وسائل الشيعة: ج 16/125 ح 21148، وعيون أخبار الرضا: ج 1/133، ولكن في كتاب العيون: (... واجبان إذا أمكن ولم يكن خيفة على النفس).
3- وسائل الشيعة: ج 16/125 ح 21148.
4- وسائل الشيعة: ج 16/126 ح 21152.

ومنها: خبر مفضل بن زيد: «من تعرّض لسلطان جائر فأصابته بليّة لم يُؤجر عليها ولم يرزق الصبر عليها»(1).

ومنها: خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّما يؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر مؤمن فيتّعظ، أو جاهلٌ فيتعلّم، فأمّا صاحب سوط أو سيف فلا»(2).

ونحوها غيرها(3).

أقول: وقيل في الجمع بين الطائفتين وجوه:

الوجه الأوّل: ما في «الوسائل»: من حمل الطائفة الأولى على وجوب تحمّل الضرر اليسير، وعلى استحباب تحمّل الضرر العظيم(4).

الوجه الثاني: ما عن بعض الأصحاب من حمل الأولى على حصول الضرر للمأمور والمنهيّ ، كما إذا افتقر إلى الجرح والقتل(5).

الوجه الثالث: ما في «الجواهر»: من حمل الأولى على اناس مخصوصين موصوفين بالصفات المذكورة في الخبر المرويّ عن الإمام الباقر عليه السلام، أو على إرادة فوات النفع من الضرر(6).

وهذه الوجوه كلّها بيِّنة الضعف.

والحقّ أن يقال: - مضافاً إلى ضعف سند جملة من الطائفة الثانية، وقصور دلالة2.

ص: 342


1- وسائل الشيعة: ج 16/127 ح 21154.
2- وسائل الشيعة: ج 16/127 ح 21153.
3- راجع وسائل الشيعة: ج 16/126 وما بعده، الباب 2 من أبواب الأمر بالمعروف.
4- وسائل الشيعة: ج 16/129.
5- ذكره صاحب وسائل الشيعة بقوله: (ويظهر من بعض الأصحاب حمله على حصول الضرر للمأمور والمنهي كما إذا افتقر إلى القتل والجرح) راجع وسائل الشيعة: ج 16/129.
6- جواهر الكلام: ج 12/372.

اُخرى ؛ لعدم التعرّض فيها إلى أنّ ما يتعرّض به السلطان من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - أنّ الظاهر من الطائفة الثانية هو النهي عن المنكر الفردي، مع كون الضرر المترتّب من قبيل هلكة النفس، وقد عرفت عدم وجوبه في هذا المورد.

مع أنّه لو سُلّم التعارض، فلا إشكال في تقديم الطائفة الأُولى ؛ للأصحيّة، والأكثريّة، والموافقة للكتاب، وغير ذلك من المرجّحات.

وبالجملة: فالأظهر عدم اعتبار الأمن من الضرر إلّافي القسم الفردي منهما، مع كون الضرر من قبيل هلكة النفس.

***

ص: 343

فروع باب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر

أقول: ويستنتج ممّا حقّقناه في هذا الشرط مسائل، نشير إلى طرف منها:

الفرع الأوّل: لا يعتبر الأمن من الضرر في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يرجع إلى المجتمع الإسلامي، وحفظ أحكام اللّه تعالى من التغيير والتبديل، والظلم بالمسلمين، والتعدّي على حقوقهم، وسلب حريّاتهم، وما شاكل، بل هما واجبان، بلغ ما بلغ، وأكبر شاهد على ذلك عمل الأنبياء صلوات اللّه عليهم، والأئمّة المعصومين عليهم السلام وأولياء اللّه المقربين كأبي ذرّ مع ما أصابهم من المكاره والويلات لكنّهم لم يتركوا هذه الفريضة الإسلاميّة المهمّة.

نعم، إذ فرضنا أنّه في مورد خاص وقع التزاحم بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الموجبين لهلاكة نفس، مع بقاء ذلك الشخص وقيامه بهذه الفريضة فيما هو أهمّ منه، فللفقيه مراعاة الأهمّ فالأهمّ .

الفرع الثاني: لا يعتبر الأمن من الضرر في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما يرجع إلى شخصٍ أو أشخاص لا علاقة لهم بالمجتمع ولا موجبين لتغيّير الحكم الشرعي، إلّاإذا كان الضرر هلاكة النفس، أو وقع التزاحم بينه وبين ما هو أهمّ منه. فروع باب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر

الفرع الثالث: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يُظهر علمه بلا اشتراط الأمن من الضرر بلغ ما بلغ.

الفرع الرابع: إذا توقّف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على قبول الولاية من قبل الجائر - المحرّمة في نفسها للإجماع والنصوص المستفيضة(1) - جاز له قبول

ص: 344


1- راجع وسائل الشيعة: ج 17/177 وما بعدها، الباب 42 و 43 و 44 من أبواب ما يكتسب به.

الولاية، بل وجب حتّى وإنْ لم يتضرّر بعدم قبولها، كما يشهد به نصوص كثيرة:

منها: صحيح علي بن يقطين: «قال أبو الحسن عليه السلام: إنّ للّه تعالى مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه»(1).

ومنها: في خبر آخر: «اُولئك عُتقاء اللّه من النار»(2).

ومنها: خبره الآخر المتضمّن لقوله عليه السلام: «لا آذن لك بالخروج من عملهم، واتّق اللّه»(3).

ومنها: خبر ابن بزيع، عن الإمام الرضا عليه السلام: «إنّ للّه تعالى بأبواب الظالمين من نوّر اللّه له البرهان، ومكّن له في البلاد، ليدفع بهم عن اوليائه، ويصلح اللّه بهم اُمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمن من الضرّ...

إلى أنْ قال: اُولئك المؤمنون حقّاً، اُولئك اُمناء اللّه في أرضه، اُولئك نور اللّه في رعيتهم يوم القيامة... الحديث»(4).

ومنها: خبر هشام بن سالم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ للّه مع ولاة الجور أولياء يمنع بهم عن أوليائه، اُولئك المؤمنون حقّاً»(5) ونحوه خبر المفضّل(6).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على جواز قبول الولاية للقيام بمصالح المسلمين، الشاملة للمقام، إمّا لكون ذلك من تلك المصالح، أو بالفحوى، فلا معارض ولا مزاحم لما دلّ على وجوب مقدّمة الواجب، فلا مانع من اتّصافه به،0.

ص: 345


1- من لا يحضره الفقيه: ج 3/176 ح 3664.، وسائل الشيعة: ج 17/192 ح 22326.
2- من لايحضره الفقيه: ج 3/176 ح 3665.
3- وسائل الشيعة: ج 17/199 ح 22341.
4- أورده النجاشي في ترجمة محمّد بن إسماعيل بن بزيع، راجع: رجال النجاشي ص 331. (5و6) مستدرك وسائل الشيعة: ج 13/136 ح 15000.

فيجب قبول الولاية مقدّمةً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ودعوى: أنّ تلك النصوص المتضمّنة لاستحباب الولاية كما تُخصّص دليل حرمة الولاية، كذلك تُخصّص أدلّة الأمر بالمعروف؛ لعدم تعقّل وجوب الأمر بالمعروف مع استحباب مقدّمته(1).

مردودة: بأنّ النصوص تدلّ على مطلق الرجحان، فيحكم في المقام بالوجوب لأجل وجوب ذي المقدّمة.

فالمتحصّل: وجوب الولاية فيما إذا كان هناك معروفٌ متروك، أو منكرٌ مرتكب يجب فعلاً الأمر بالأوّل والنهي عن الثاني، كما أفتى به الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله.

***8.

ص: 346


1- هذا ما قد يظهر من توجيه الشهيد الثاني لفتوى المحقّق بإستحباب الولاية عند القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، راجع: المسالك: ج 3/138.

و - اشتراط كون الآمر والناهي مجتنباً عن المحرّمات وعدمه

نَقل الشيخ البهائي رحمه الله في محكي أربعينه عن بعض العلماء أنّه لا يجبُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّابعد كون الآمر والناهي مجتنباً عن المحرّمات وعدلاً(1)، والمشهور بين الأصحاب خلافه.

وقد استدلّ للأوّل: بقوله تعالى : «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اَللّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ » (2).

بتقريب: أنّ (لم) مخفّف لما، و (ما) استفهاميّة، واللّام للتعليل، والكلام مسوق للتوبيخ.

والمقت: البغضُ الشديد، وقوله: «مَقْتاً» تمييز.

«كَبُرَ» ، وقوله: «كَبُرَ مَقْتاً» إلى آخره، في مقام التعليل لمضمون الآية السابقة، فمفاد الآية الكريمة النهي عن القول للناس من دون أن يلتزم نفسه بما ينهى عنه نفسه، بأن يأمر الناس بالمعروف ويتركه وينهاهم عن المنكر فيفعله.

وأجاب عنه المحقّق الأردبيلي رحمه الله في «زبدة البيان» بقوله: (فيمكن أن لا يكون المنع من القول، بل من عدم العمل بعد تحريض الناس عليه وترك نفسه - إلى أنْ قال - وأن يكون المراد النهي عن قولٍ لعملٍ لا يعمله، يعني يعدُ بشيءٍ وفي نفسه عدمه، فيدلّ على تحريم خُلف الوعد حينئذٍ لا مطلقاً، مع احتمال الإطلاق، فتأمّل)(3). انتهى .9.

ص: 347


1- حكاه عنه صاحب الجواهر، راجع: جواهر الكلام: ج 21/373.
2- سورة الصف: الآية 2 و 3.
3- زبدة البيان: ص 359.

وإلى الوجه الثاني نظر من استدلّ به على حرمة خُلف الوعد، بتقريب أنّه إنّما يكون النهي فيه نهياً عن عدم الفعل إمّا على سبيل القلب، ويكون المعنى لِمَ لا تفعلون ما تقولون.

أو يقال: إنّ النهي متوجّهٌ إلى القيد وهو عدم الفعل، فيدلّ على حرمة ترك العمل بما وعد.

ولكن بالتقريب الذي ذكرناه يظهر كون الوجهين خلاف الظاهر، وأنّ الظاهر من الآية التوبيخ والنهي عن أن يقول الإنسان ما لا يفعله.

وعن بعض السلف أنّه قيل له: (حَدّثنا فسكت، ثمّ قيل له حدّثنا.

فقال: تأمرونني أن أقول ما لا أفعله، فأستَعجِلُ مقت اللّه ؟!)(1).

أقول: فالحقّ في الجواب عن الاستدلال أنّه لا ريب في دلالة الآية على مبغوضيّة القول بغير العمل، وهو كذلك عقلاً، لأنّ العقلاء يقبّحون الواعظ غير المتّعظ، ويرونه منافقاً، كماروي عن الإمام عليّبن الحسين عليه السلام: «المنافق ينهى ولا ينتهي، ويأمر بما لا يأتي»(2)، هذا فضلاً عن دلالة أخبار اُخرى على ذلك ستأتي الاشارة إلى طرف منها، ومع ذلك فهو من النفاق، إلّاأنّه لا تدلّ الآية على عدم وجوب الأمربالمعروف والنهي عن المنكر علي مرتكب المحرّمات وغيرالعادل، بل تدلّ على أنّ العالم المرشد الواعظ - فضلاً عن كونه مكلّفاً بترك المحرّمات وفعل الواجبات - يكون مكلّفاً بهما أيضاً بعد تصدّيه مقام الإرشاد باعتبار كونه آمراً وناهياً، فيكون تكليفه آكد، وعقابه على المعصية أشدّ من عقاب غيره.4.

ص: 348


1- تفسير جوامع الجامع: ج 3/552، الكشّاف للزمخشري: ج 4/97.
2- وسائل الشيعة: ج 15/342 ح 20694.

وإنْ شئتَ قلت: هذه الآية الكريمة تدلّ على أنّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يجب عليهما بالعنوان الثانوي لبس رداء المعروف ونزع رداء المنكر، واستكمال نفسيهما بالأخلاق الكريمة، وتنزيههما عن الأخلاق الذميمة، فإنّ ذلك منه سببٌ تامّ لفعل الناس المعروف ونزعهم المنكر.

أقول: ويُعجبني في المقام ما أفاده فقيه عصره صاحب «الجواهر» رحمه الله في هذا المورد حيث قال: (نعم من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدّها تأثيراً، خصوصاً بالنسبة إلى رؤساء الدِّين، أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهه، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة، وينزهها عن الأخلاق الذميمة، فإنّ ذلك منه سببٌ تامّ لفعل الناس المعروف ونزعهم المنكر، وخصوصاً إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغّبة والمرهبة، فإن لكلّ مقامٍ مقالاً، ولكلّ داءٍ دواء، وطبّ النفوس والعقول أشدّ من طبِّ الأبدان بمراتب كثيرة، وحينئذٍ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف، نسأل اللّه التوفيق لهذه المراتب)(1) انتهى .

وبذلك كلّه ظهر ما في الاستدلال لهذا الشرط بقوله تعالى: «أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ » (2) فإنّه إنّما يدلّ على ذمّ غير العامل بما يأمر به، لا على عدم الوجوب عليه.

أقول: وقد يستدلّ له بجملةٍ من الروايات:

منها: قول أميرالمؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة»: «وأمروا بالمعروف وائتمروابه،4.

ص: 349


1- جواهر الكلام: ج 21/382-383.
2- سورة البقرة: الآية 44.

وانهوا عن المنكر وانتهوا عنه، وإنّما اُمرنا بالنهي بعد التناهي»(1).

ومنها: قوله عليه السلام في خطبةٍ له: «لعن اللّه الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به»(2).

ومنها: خبر محمّد بن أبي عمير، رفعه إلى أبي عبد اللّه عليه السلام أنّه قال:

«إنّما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عاملٌ بما يأمر به تارك لما ينهى عنه... الحديث»(1).

ومنها: النبوي: «قال صلى الله عليه و آله: رأيتُ ليلة اُسري بي إلى السماء قوماً تُقرض شفاهم بمقاريض من نار ثمّ تُرمى، فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟

فقال: خطباء اُمّتك، يأمرون النّاس بالبرّ وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون»(2).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

والجواب عنها: أنّها تدلّ على أنّ من ينصب نفسه واعظاً، ويجعل نفسه آمراً وناهياً، متصدِّياً للإرشاد والدّعوة العامّة، لابدّ وأن يكون مهتدياً عاملاً بعمله، متّصفاً بما يدعو إليه؛ لكون المرشد العام قدوة العوام، فإذا فَسَد فَسَد العالم، وإذا كان ضالّاً يكون إثمه أكبر من نفعه، وهذا غير مرتبط باشتراط العدالة بحيث لا وجوب لهما على الفاسق.

أقول: بل يدلّ على الوجوب إطلاق الأدلّة وخصوص روايات ومنها النبويّ 8.

ص: 350


1- وسائل الشيعة: ج 16/150 ح 21210.
2- وسائل الشيعة: ج 16/151 ح 21218.

الوارد فيه أنّه قيل له: «لا نأمر بالمعروف حتّى نعمل به كلّه، ولا ننهى عن المنكر حتّى ننتهي عنه كلّه، قال صلى الله عليه و آله: لا بل مروا بالمعروف وإنْ لم تعملوا به كلّه، وانهوا عن المنكر وإنْ لم تنتهوا عنه كلّه»(1).

فالمتحصّل ممّا ذكرناه أُمور:

1 - عدم اشتراط الاجتناب عن المحرّمات في وجوب الأمر على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، بل هما واجبان على الفاسق، ولذلك قالوا إنّه يجبُ على من يزني بامرأة أن يأمرها بستر بدنها، وإلّا كان مرتكباً لمعصية زائدة على معصية الزنا ولوازمه، وهي معصية ترك النهي عن المنكر.

2 - يجبُ على المرشد العام ومَن جَعَل نفسه واعظاً ومرشداً لبس رداء المعروف ونزع رداء المنكر.

3 - يجب على وليّ أمر المسلمين منع الجاهلين الفاسقين الذين ينصبون أنفسهم للإرشاد والوعظ من تسلق هذه المراقي، لدرء المفسدة العظيمة المترتّبة على ذلك، واللّه المستعان.

***7.

ص: 351


1- وسائل الشيعة: ج 16/151 ح 21217.

ز - اشتراط التكليف في الآمر والناهي والمأمور والمنهيّ

يعتبر في الآمر والناهي التكليف، فلا يجبُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الصبي والمجنون، لما دلّ على رفع قلم التكليف عنهما(1)، فوجوبهما كسائر التكاليف مرفوع عنهما.

وكذلك يعتبر في المأمور والمنهي التكليف؛ لما مرّ من أنّ المنكر هو المحرّم، والمعروف الذي يجب الأمر به هو الواجب.

نعم، في خصوص الصلاة، دلّت النصوص(2) على أمر الصبيان بالصلاة، وليس ذلك من باب الأمر بالمعروف، بل هو للتمرين، كما أنّه يجب منعه عن المحرّمات لئلّا يتعوّدها، كما وأنّ منع الصبي والمجنون من إضرار الغير ليس من النهي عن المنكر، بل هو كمنع الدابّة المؤذية.

وعليه، فما عن «كنز العرفان»: من أنّه لا يشترط في المأمور والمنهي أن يكون مكلّفاً، فإنّ غير المكلّف إذا علم إضراره للغير مُنع من ذلك، وكذا الصبي ينهى عن المحرّمات لئلّا يتعودّها(3)، غير تامّ .

نعم، بعض المحرّمات الذي عُلم من الشارع الأقدس أنّه لا يرضى بتحقّقها في الخارج دون ملاحظة من يصدر منه، كشرب الخمر، واللّواط، وقتل النفس، يمنع عنهاالصبي، لاللنهي عن المنكر، بل لوجوب المنع عن وجود تلك المعاصي في8.

ص: 352


1- وسائل الشيعة: ج 1/42، الباب 4 من أبواب مقدّمة العبادات، وأيضاً وسائل الشيعة: ج 29/90، الباب 36 من أبواب القصاص في النفس.
2- وسائل الشيعة: ج 4/18، الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض ونوافلها.
3- كنز العرفان في فقه القرآن: ج 1/408.

الخارج، ولعلّ تعزير أمير المؤمنين عليه السلام الصبي الذي ليط به(1) من هذا الباب، كما أنّ النصوص(2) التي تدلّ على أنّ الغلام إذا زنا يعزّر، والصبيّة التي زنا بها رجلٌ تُعزّر أيضاً لعلّها من هذا الباب.

***ا.

ص: 353


1- وسائل الشيعة: ج 28/156، الباب 2 من أبواب حَدّ اللّواط.
2- وسائل الشيعة: ج 28/81، الباب 9 من أبواب حَدّ الزنا.

مراتب الإنكار

المورد الخامس: في كيفيّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمشهور بين الأصحاب أنّ لهما مراتب ثلاث:

المرتبة الأُولى: الإنكار بالقلب.

وفسّره في «النهاية»: (باعتقاد الوجوب والحرمة)(1)، بل في «المسالك»: هو الظاهر من الإطلاق(2).

وفي «القواعد»: (ذلك الاعتقاد مع عدم الرضا بالمعصية، أوّل مراتب الإنكار القلبي)(3).

وعن «التنقيح»: تفسيره بذلك أيضاً مع الابتهال إلى اللّه تعالى في هداية العاصي(4).

وعن «الكفاية»: تفسيره بعدم الرضا بالفعل(5).

أقول: لا نقاش ولا كلام في أنّ اعتقاد الوجوب والحرمة - سواء كان بمعنى اليقين ومن الصفات النفسانيّة، أو بمعنى عقد القلب الذي هو من الأفعال الجنانيّة، والنسبة بينه وبين اليقين عموم من وجه - لا دليل على وجوبه في غير الأُصول الإعتقاديّة إلّامقدّمةً للعمل الواجب، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

ص: 354


1- النهاية: ص 300.
2- مسالك الأفهام: ج 3/104.
3- قواعد الأحكام: ج 1/525.
4- التنقيح الرائع: ج 1/594.
5- كفاية الأحكام: ج 1/405.

فجعله من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير صحيح.

وأمّا الرضا بالمعصية فلا ريب في مرجوحيّته، لإستفاضة النصوص(1) بأنّ الراضي بالحرام كفاعله، لكن عدمه ليس أمراً ولا نهياً.

وبه يظهر حال البُغض في سبيل اللّه، فإنّه وإنْ كان مطلوباً لكنّه ليس بأمر ولا نهي. وأغرب من ذلك زيادة الابتهال.

والظاهر أنّ مراد من جعل الإنكار القلبي من مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو إظهار كراهة المنكر أو ترك المعروف:

إمّا بإظهار الإنزعاج من الفاعل.

وإمّا بالإعراض والصَدّ عنه، أو ترك الكلام معه، أو نحو ذلك من فعلٍ أو ترك يدلّ على كراهة ما وقع منه كما صرّح به السيّد الاُستاذ(2)، والشهيد الثاني(3)، والمحقّق القمّي(4)، وغيرهم(5).

وقال المحقّق في كلامه في «الشرائع» بعد بيان المراتب:

(ويجب دفع المنكر بالقلب أوّلاً، كما إذا عرف أنّ فاعله ينزجر بإظهار الكراهية، وكذا إذا عرف أنّ ذلك لا يكفي، وعرف الإكتفاء بضربٍ من الإعراض والهجر، وجب واقتصر عليه)(6). انتهى .9.

ص: 355


1- وسائل الشيعة: ج 16/55، الباب 80 من أبواب جهاد النفس.
2- منهاج الصالحين: ج 1/352.
3- مسالك الأفهام: ج 3/103.
4- جامع الشتات: ج 1/421.
5- مجمع الفائدة والبرهان: ج 7/540.
6- شرائع الإسلام: ج 1/259.

وكلامه صريح في إرادته من الإنكار القلبي ما ذكرناه.

فإن قيل: إنّ جملةً من النصوص تدلّ على أنّ الإنكار القلبي من النهي عن المنكر:

منها: ما عن «تفسير الإمام العسكري عليه السلام» عن النبيّ صلى الله عليه و آله: «من رأى منكراً فلينكره بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم اللّه من قلبه أنّه لذلك كاره»(1).

ومنها: خبر يحيى الطويل، عن أبى عبد اللّه عليه السلام: «حسب المؤمن عِزّاً إذا رأى منكراً أن يعلم اللّه عزّ وجلّ من قلبه إنكاره»(2).

ومنها: ما عن أمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة»: «ومنهم المُنكِر بقلبه والتارك بيده ولسانه، فذلك الذي ضيّع أشرف الخصلتين من الثلاث، وتمسّك بواحدة، ومنهم تارك لإنكار المُنكِر بلسانه وقلبه ويده، فذلك ميّت الإحياء»(3).

إلى غير ذلك من الأخبار.

أجبنا عنه: بأنّه لا ينبغي الشكّ في مطلوبيّة ذلك، وكونه من لوازم الإيمان، بل الأصل في العمل هو الكراهة النفسانيّة والرِّضا النفساني، والعمل تابعٌ لهما، فمن كره فعلاً لا يفعله بحسب طبعه وإنْ كان فعل الغير توصّل إلى تركه له بأيّ نحوٍ كان، بل العمل الغيرالمسبوق بالعقيدة والإيمان لا قيمة له ولاأثر، فالإنكار بالقلب هو الأساس للنهي عن المنكر، ولذلك قال الإمام عليه السلام: «من ترك إنكار المُنكِر بقلبه0.

ص: 356


1- تفسير الإمام العسكري: ص 480 ح 307، وسائل الشيعة: ج 16/134 ح 21173.
2- وسائل الشيعة: ج 16/137 ح 21177.
3- وسائل الشيعة: ج 16/134 ح 21170.

ولسانه فهو ميّتٌ بين الإحياء»(1).

إلّا أنّ الكلام في كون ذلك من مراتب النهي عن المنكر والأمر بالمعروف، فإنّ الأخبار المشار إليها لا تدلّ على ذلك.

نعم، إذا كان هناك أمارةٌ على ذلك من فعلٍ أو ترك حتّى مثل تغيّر الوجه كان منها، فقد روى الشيخ رحمه الله بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أدنى الإنكار أن تُلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرّة»(2).

وبالجملة: وعلى ما اخترناه من عدم شرطيّة احتمال التأثير، والأمن من الضرر في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يترتّب أثر على النزاع في كون الكراهة القلبيّة من مراتب النهي عن المنكر وعدمه، بعد فرض كون الكراهة القلبية مأموراً بها، وكونها الأساس لهذه الفريضة.

وعلى الجملة، فالمرتبة الأُولى هي الإنكار القلبي بالمعنى الذي اخترناه، ولها مراتب أخفّ وأشدّ، وكونها بمراتبها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واضحٌ لا سترة عليه، فيشهد لوجوبها - مضافاً إلى النصوص الخاصّة - ما دلّ على وجوب الأمر والنهي.

فإنْ قيل: إنّ متعلّق هذا التكليف هو الأمر والنهي، وهما ظاهران في القول منهما، فالأدلّة بنفسها لا تشمل هذه المرتبة من مراتب الإنكار(3).

قلنا: إنّ المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حمل تارك المعروف وفاعل8.

ص: 357


1- وسائل الشيعة: ج 16/132 ح 21165.
2- وسائل الشيعة: ج 16/143 ح 21194.
3- لاحظ كتاب كفاية الأحكام: ج 1/408.

المنكر على الفعل أو الترك، والنصوص المتقدّم جملة منها والآتي جملة اُخرى شاهدة بذلك.

والكلام في أنّ هذه أولى المراتب، وأنّه لا ينتقل الفرض إلى المراتب اللّاحقة، سيأتي التعرّض له لاحقاً بالتفصيل.

المرتبة الثانية: الإنكار باللّسان والقول، بأن يأمره بالفعل ويحثّه عليه، ويرغّبه فيه، أو ينهاه ويزجره ويحذّره عنه، وأن ينصحه ويعظه ويذكر له ما أعدّ اللّه تعالى للعاصين من العذاب الأليم والعقاب، أو يذكر له ما أعدّه اللّه سبحانه للمطيعين من الثواب الجسيم والفوز بجنّات النعيم، أو بأن يذكر ما يترتّب على فعل المحرّمات من المفاسد الإجتماعيّة والفرديّة، وما يترتّب على فعل الطاعات من المصالح والفوائد، أو نحو ذلك من الاُمور المرغّبة في فعل المعروف وترك المنكر. ولذلك أيضاً مراتب أشدّ وأخفّ .

ووجوب هذه المرتبة هو المتيقّن ممّا يستفاد من أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إنّما البحث عن أنّه هل يجب الترتيب بين مراتب هذه المرتبة أم لا؟ سيأتي التعرّض له.

المرتبة الثالثة: الإنكار باليد بالضرب المؤلم الرادع عن المعصية، ولها أيضاً مراتب، وقد عَدّ الشيخ رحمه الله في محكي «النهاية» من مراتب هذه المرتبة، أن يفعل المعروف ويتجنّب المنكر على وجه يتأسّى به الناس(1).

أقول: لكن المعروف من مذهب الأصحاب، وممّا يستفاد من الأخبار الآتي طرف منها، أنّ المراد بهذه المرتبة الإنكاربالضرب والحبس، والإخراج من مجلس9.

ص: 358


1- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 21/380، وراجع: النهاية ص 299.

المعصية عنفاً، وفرك الاُذن، وغمز اليدين وما شاكل.

وكيف كان، فالمشهور بين الأصحاب وجوب هذه المرتبة إنْ لم تؤثّر المرتبتان الاُوليان، بل عن المحقّق الأردبيلي الإجماع عليه(1).

ويشهد به: إطلاق أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أقول: وضرب الغير وإيذاؤه وإنْ كان حراماً في نفسه، إلّاأنّ هذه الفريضة أهمّ من تلك الحرمة بمراتب، فإذا توقّف العمل بالأهمّ على فعل المهمّ ، تعيّن ارتكاب المهمّ بلا كلام.

هذا على فرض كونهما من المتزاحمين كما قيل، وإنْ كان الدليلان من المتعارضين، قدّمت تلك الأدلّة؛ لموافقة الكتاب والشهرة وغيرهمامن المرجّحات.

فإن قيل: إنّ أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تشمل ذلك.

فقد مرَّ الجواب عنه: بأنّ المراد من الأمر والنهي الحمل على ذلك بإيجاد المعروف والتجنّب عن المنكر لامجرّد القول، وتنص عليه عدّة من النصوص الخاصّة:

منها: مصحّح يحيى الطويل، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «ما جعل اللّه بسط اللّسان وكف اليد، ولكن جعلهما يبسطان معاً ويكفان معاً»(2).

ومنها: خبر جابر، عن أبي جعفر عليه السلام في حديثٍ : «فأنكروا بقلوبكم، والفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في اللّه لومة لائم...

إلى أنْ قال: هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وابغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطاناً، ولا باغين مالاً، ولا مريدين بالظلم ظفراً حتّى يفيئوا إلى أمر اللّه، ويمضوا3.

ص: 359


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 7/543.
2- وسائل الشيعة: ج 16/131 ح 21163.

على طاعته»(1).

ومنها: ما في خطبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في كلامٍ له يجري هذا المجرى: «فمنهم المُنكِر للمنكَر بقلبه ولسانه ويده، فذلك المستكمل لخصال الخير»(2).

ومنها: ماعن تفسيرالإمام العسكري عن آبائه عليهم السلام عن النبيّ صلى الله عليه و آله في حديثٍ : «من رآيمنكم منكراً فلينكر بيده إنْ استطاع، فإنْلم يستطع فبلسانه... الحديث»(3).

ومنها: خبر أبي جُحيفة: «سمعتُ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إنّ أوّل ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثمّ بألسنتكم، ثمّ بقلوبكم. فمن لم يعرف بقلبه معروفاً، ولم ينكر منكراً، قلبَ فجَعَل أعلاه أسفله»(4).

ومنها: ما رواه الشيخ في «التهذيب»، قال: «قال الصادق عليه السلام لقومٍ من أصحابه:

إنّه قد حقّ لي أن آخذ البريء منكم بالسقيم، وكيف لا يحقّ لي ذلك، وأنتم يبلغكم عن الرّجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه، ولا تهجرونه، ولاتؤذونه حتّييترك»(5).

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة.

أقول: ومن الغريب ما عن «مجمع الفائدة والبرهان» أنّه لو لم يكن جوازهما بالضرب إجماعيّاً، لكان القول بجواز مطلق الضرب بمجرّد أدلّتهما مشكلاً.

لكن ظاهركلمات القوم الإجماع على عدم توقّف الضرب الخالي عن الجرح على إذن الإمام عليه السلام أو القائم مقامه، وهو الذي يقتضيه إطلاق الأدلّة العامّة9.

ص: 360


1- وسائل الشيعة: ج 16/131 ح 21162.
2- وسائل الشيعة: ج 16/134 ح 21170.
3- تفسير الإمام العسكري ص 480، وسائل الشيعة: ج 16/135 ح 21173.
4- وسائل الشيعة: ج 16/134 ح 21171.
5- تهذيب الأحكام: ج 6/181 ح 24، وسائل الشيعة: ج 16/145 ح 21199.

والخاصّة، والأصل.

وعليه، فما قاله الشيخ الطوسي في «النهاية»، قال: (وقد يكون الأمر بالمعروف باليد، بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب، والردع، وقتل النفوس، وضربٍ من الجراحات، إلّاأنّ هذا الضرب لا يجبُ فعله إلّابإذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة العامّة، فإن فُقد الإذن من جهته، اقتصر على الأنواع التي ذكرناها. فإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها:

فأمّا اليد فهو أن يؤدّب فاعله بضربٍ من التأديب؛ إمّا الجراح أو الألم أو الضرب، غير أنّ ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان حسب ما قدّمناه)(1)، غير تامّ .

***0.

ص: 361


1- النهاية: ص 300.

الترتيب بين المراتب

أقول: المشهور بين الأصحاب الترتيب بين هذه المراتب الثلاث، فإنْ كان إظهار الإنكار القلبي كافياً في الزجر اقتصر عليه، وإلّا أنكر باللّسان، فإن لم يكن كافياً ذلك أنكره بيده، وفي كلّ مرتبةٍ عليه أن يراعي الأيسر فالأيسر، فلا ينتقل من المرتبة الاُولى لكلٍّ من المراتب إلّامع عدم كفايتها.

وعن الشيخ وابن حمزة: (يجب أوّلاً باللّسان، ثمّ باليد، ثمّ بالقلب)(1).

وعن سلّار باليد أوّلاً، فإنْ لم يمكن فاللّسان، وإنْ لم يمكن فالقلب(2).

وعن الحلبي في «الإشارة»: (يجب باليد واللّسان والقلب، فإنْفُقدت القدرة أو تعذّر الجمع فيه بين ذلك فباللّسان والقلب خاصّة، فإن لم يمكن الجمع فيه بينهما لأحدِ الأسباب المانعة، فلابدَّمنه باللّسان، الذي لايُسقط الإنكار به شيء)(3).

وأفاد السيّد الاُستاذ: أنّ القسمين الأولين في مرتبة واحدة، فيختار الآمر أو الناهي ما يحتمل التأثير منهما، وقد يلزمه الجمع بينهما، وأمّا القسم الثالث فهو مترتّبٌ على عدم تأثير الأولين، والأحوط في هذا القسم هو الترتيب بين مراتبه، فلا ينتقل إلى الأشدّ إلّاإذا لم يكف الأخفّ )(4).

هذه هي كلمات القوم.

أقول: قال العلّامة رحمه الله في محكي «المختلف»: (ولا أرى في ذلك كثير بحث.

ص: 362


1- مصباح المتهجّد: ص 855، الوسيلة: ص 207.
2- المراسم العلويّة: ص 263.
3- إشارة السبق: ص 146.
4- منهاج الصالحين: ج 1/352.

والتحقيق: أنّ النزاع لفظي، فإنّ القائل بوجوبه باللّسان أوّلاً ثمّ باليد، أشار بذلك إلى أنّ الآمر بالمعروف يعد فاعله الخير، ويعظه بالقول ويزجره عن الترك، فإنْ أفاد وإلّا ضربه وأدّبه، فإن خاف وعجز عن ذلك كلّه، اعتقد وجوب الأمر بالمعروف وتحريم المنكر، وذلك مرتبة القلب.

والقائل بتقديم القلب يريد أنّه يعتقد الوجوب، ثم يأمر به باللّسان، أو بأنّ فاعل المنكر ينزجر بإظهار الكراهة أو بالإعراض والهجر.

والقائل بتقديم اليد يريد أنّه يفعل المعروف ويجتنب المنكر، بحيث يتأسّى به الناس، فإنْ أفاد ذلك الإنقياد إلى المتأسّي، وإلّا وعظ وزجر وخوّف باللّسان، فإن عجز عن الجميع اعتقد الوجوب)(1) انتهى .

وعن «التنقيح»: (أنّه مجرّد تخمين لا دليل عليه)(2).

أمّا الأدلّة: فتقتضى الإطلاقات والعمومات خلاف الترتيب المشهور، كما أنّ جملة من النصوص المتقدِّمة تدلّ على تقدّم الأثقل، لاحظ النبويّ المروي عن «تفسير الإمام عليه السلام»، والعلويّ الذي رواه أبو جُحيفة، وغيرهما(3).

ولكن بما أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد مستلزمٌ للإيذاء والضرب، وهما غير جائزين بأنفسهما، وإنّما وجبا بالعنوان الثانوي، وعليه فإذا أمكن الأمر والنهي من غيرأن يرتكب هذا المحرّم تعيّن، وإنّما يجوز ارتكابه فيما إذالم يمكن الأمر والنهي، ولم يترتّب الأثر عليهما بالقسمين الأولين، وفي أمثال المقام قالوا:ت.

ص: 363


1- حكاه عنه في جواهر الكلام: ج 21/379، ولاحظ مختلف الشيعة: ج 4/460.
2- التنقيح الرائع: ج 1/594.
3- وقد تقدّمت هذه النصوص قبل بضع صفحات.

(الضرورات تتقدّر بقدرها)، وعليه فلا شكّ في ترتّب المرتبة الثالثة على المرتبتين الأوليين، وبعين هذا الوجه يقال برعاية الترتيب بين مراتب هذه المرتبة.

وأمّا المرتبتان الاُوليان: فلا أرى وجهاً للزوم رعاية الترتيب بينهما، سيّما وأنّ بعض مراتب المرتبة الاُولى يكون أشدّ إيذاءاً بالنسبة إلى بعض الأشخاص من المرتبة الثانية، مثلا الإعراض والهَجر من بعض الأشخاص بالنسبة إلى بعض الأشخاص يكون أشدّ إيذاءً من بعض الكلام، وعليه فالقول بالتخيّير بين المرتبتين الاُوليين، بل الجمع بينهما في بعض الموارد، الترتيب بينهما وبين المرتبة الثالثة هو الأقوى ، مع رعاية قاعدة الأيسر فالأيسر في المراتب كلّها، المستفادة من الجمع بين الحقوق، ومن الآية الكريمة: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى اَلْأُخْرى فَقاتِلُوا اَلَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اَللّهِ » (1) باعتبار تقديم الصلح، بل لعلّه من الآية الشريفة: «اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ » (2) أولى ، فضلاً عن سيرة الأئمّة المعصومين عليهم السلام، وقضيّة الأمر بالمعروف في كيفيّة الوضوء الصادر عن سيّدي شباب أهل الجنّة معروفة(3).

***8.

ص: 364


1- سورة الحجرات: الآية 9.
2- سورة النحل: الآية 125.
3- مناقب آل أبي طالب: ج 3/168.

الجَرح والقتل بلا إذنٍ من الإمام

يدور البحث في جواز الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر وعدمه فيما لو افتقر ذلك إلى الجرح أو القتل:

فعن السيّد(1)، والشيخ في «التبيان»(2)، والحلبي(3)، والعِجْلي(4)، والعلّامة في جملةٍ من كتبه(5)، ويحيى بن سعيد(6)، والشهيد في النكت(7): وجوبه.

وعن الشيخ في غير «التبيان»(8)، والديلمي(9)، والقاضي(10)، وفخر الإسلام(11)، والشهيد(12) والمقداد(13)، والكركي(14): لا يجوز إلّابإذن الإمام عليه السلام أو القائم مقامه، بل في «المسالك»: هو أشهر(15).

ص: 365


1- نسبه إليه الشيخ الطوسي في كتاب الإقتصاد: ص 150.
2- التبيان: ج 2/549.
3- الكافي: ص 267.
4- السرائر: ج 2/33.
5- تحرير الأحكام: ج 2/241، مختلف الشيعة: ج 4/461.
6- الجامع للشرائع: ص 243.
7- غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: ج 1/509.
8- الإقتصاد: ص 150، والنهاية: ص 300.
9- المراسم العلويّة: ص 263.
10- المهذّب: ج 1/341.
11- إيضاح الفوائد في شرح القواعد: ج 1/399.
12- الدروس الشرعيّة: ج 2/47.
13- كنز العرفان في فقه القرآن: ج 1/405.
14- جامع المقاصد: ج 3/488.
15- مسالك الأفهام: ج 3/105.

وعن «مجمع البرهان»: (هو المشهور)(1).

وعن «الاقتصاد»: (الظاهر من شيوخنا الإماميّة أنّ هذا الجنس من الإنكار لا يكون إلّاللأئمّة عليهم السلام أو لمن يأذن له الإمام عليه السلام فيه خاصّة)(2).

وعن ثاني الشهيدين التفصيل بين الجرح والقتل، فجوّز الأوّل، ومنع من الثاني(3).

أقول: لا إشكال في وجوب القتل والجرح إذا كان يترتّب على معصية الفاعل مفسدة أهمّ من جرحه أو قتله، كما إذا كانت المعصية يترتّب عليها مفسدة عائدة على المجتمع الإسلامي، أو كان الفاعل رئيس القوم ويقتدى الناس بفعله، وبقتله يترك المنكر في ذاك المجتمع، وأمثال ذلك، إنّما الكلام في غير هذا المورد.

وقد استُدلّ لما اختاره السيّد قدس سره بأنّ النهي عن المنكر واجبٌ مهما أمكن، ومقدّمة الواجب واجبة، فإذا توقّف النهي عن المنكر على الجرح أو القتل وجبَ ، وبما أنّ القتل والجرح غير مقصودين هنا بالأصالة، فلا وجه لتوقّف جوازهما على إذن الإمام، لأنّ ما يفعل بإذنه يكون مقصوداً، والمقصود بالأصالة في المقام هو المدافعة والممانعة، فإنْ وقع ضررٌ فهو غير مقصود(4).

والعلّامة رحمه الله في «المنتهى » و «التذكرة» ينقل هذا الكلام عن السيّد رحمه الله، ثمّ قال في ذيله: (وقد أفتى الشيخ رحمه الله بذلك أيضاً في كتاب «التبيان»، وكلام السيّد عندي قوي)(5).4.

ص: 366


1- مجمع الفائدة والبرهان: ج 7/542.
2- الإقتصاد ص 150.
3- مسالك الأفهام: ج 3/105.
4- لاحظ: الإقتصاد: ص 150، ومجمع الفائدة والبرهان: ج 7/542.
5- منتهى المطلب: ج 2/994، تذكرة الفقهاء: ج 9/444.

وأورد عليه الشهيد الثاني في «المسالك»: (بأنّه حسن بالنسبة إلى الجرح، أمّا القتل فغير واضح؛ لأن الأدلّة لا تتناوله، لفوات معنى الأمر والنهي معه، إذ الغرض من هذه المراتب ارتكاب المأمور أو المنهيّ لما طلب منه، وشرطه تجويز التأثير، وهو لا يتحقّق مع القتل، وكونه مؤثّراً في غير المأمور والمنهيّ غير كافٍ ، لأنّ المعتبر بالذّات هو، والشرط معتبر فيه خاصّة)(1) انتهى .

وارتضى صاحب «الجواهر» رحمه الله هذا الإشكال، لكن أضاف إليه بقوله:

(بل لعلّ ذلك هو مقتضى الأمر والنهي الواجبين، ضرورة عدم موضوعهما مع القتل)(2).

أقول: ولكن يرد على ما أفاده الشهيد رحمه الله ما تقدّم من عدم اعتبار جواز التأثير - سيّمابهذا المعنى الخاص منه - في وجوب الأمربالمعروف والنهي عن المنكر، فراجع.

كما ويرد على ما أضافه صاحب «الجواهر»، أنّ مدّعى السيّد ومن تبعه أنّ النهي عن المنكر الواجب، هو ما يتوقّف على القتل، لا بمعنى وجود القتل قبل النهي، بل بمعنى استلزام النهي القتل، وتأخّر القتل من النهي.

واستُدلّ لعدم الجواز: - مضافاً إلى ما عرفت -:

1 - بانصراف الأدلّة إلى غير هذين الموردين(3).

2 - وبأنّ جواز ذلك لسائرالنّاس غيرالإمام عليه السلام ونائبه عدولهم وفسّاقهم، من الفسادالعظيم، والهرج والمرج المعلوم الموافقة معهمافي الشريعة، خصوصاً في مثل3.

ص: 367


1- مسالك الأفهام: ج 3/105.
2- جواهر الكلام: ج 21/383.
3- مجمع الفائدة والبرهان: ج 7/542-543.

هذا الزمان الذي غلب النفاق فيه على الناس(1).

ولكن يرد الأوّل: أنّه لا منشأ للانصراف المذكور.

ويرد الثاني: أنّ فساد النظام إنّما يلزم من قبول ادّعاء القاتل كون القتل في هذا المقام، إذا لم يقدر القاتل على إقامة الحجّة والبيّنة على أنّ القتل إنّما كان من جهة النهي عن المنكر لا لأغراض اُخرى .

وبعبارة اُخرى: أنّ محلّ الكلام هو جواز القتل في مقام النهي عن المنكر وعدمه، والحكم بالجواز في هذا المقام لا ينافي عدم قبول ذلك من القاتل المدّعي كون القتل في هذا المورد وتوقّفه على الإثبات، وبدونه تجري أحكام القتل المحرّم، وفساد النظام لازم الحكم في المقام الثاني دون الأوّل.

فإن قيل: إنّ النسبة بين أدلّة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبين دليل حرمة القتل عمومٌ من وجه، فما الوجه في تقديم الاُولى؟

قلنا: إنّه في مورد تصادق العنوانين على موجود واحد، وإنْ كان الدليلان متعارضين والنسبة عموماً من وجه، ولكن بما أنّ كلّاً من الدليلين من القرآن المجيد فلا مجال للرجوع إلى المرجّحات، وحيث تكون دلالة كلّ منهما بالإطلاق فيتساقطان، فكما لا دليل على الوجوب، كذلك لا دليل على الحرمة.

هذا بالنسبة إلى القتل.

وأمّا بالنسبة إلى الجرح: فلا شكّ في تقديم أدلّة الأمر بالمعروف لكونها من الكتاب.

أقول: ويشهد للجواز بل الوجوب - مضافاً إلى ما مرّ - جملة من الأخبار:3.

ص: 368


1- جواهر الكلام: ج 21/383.

منها: خبر عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه: قال: «إنّي سمعتُ عليّاً عليه السلام يقول يوم لقينا أهل الشام: أيّها المؤمنون! إنّه من رأى عدواناً يُعمل به، ومنكراً يُدعى إليه، فأنكره بقلبه فقد سَلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا، وكلمة الظالمين السفلى ، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ، وقام على الطريق، ونوّر في قلبه اليقين»(1).

ومنها: خبر جابر، عن الإمام الباقر عليه السلام في حديثٍ : «فأنكروا بقلوبكم، وألفظوا بألسنتكم، وصكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في اللّه لومة لائم، فإن اتّعظوا وإلى الحقّ رجعوا، فلا سبيل عليهم...

إلى أنْ قال: هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وابغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطاناً، ولا باغين مالاً، ولا مريدين بالظلم ظفراً، حتّى يفيئوا إلى أمر اللّه، ويمضوا على طاعته»(2).

ونحوهما غيرهما(3).

وظهورها في كون المخاطب عامّة الناس لا الإشارة إلى نفسه ومن يقوم مقامه لا يُنكر.

فما في «الجواهر»(4) من منع كون الخطاب إلى عامّة الناس، غير تامّ .

نعم، ما أفاده من ظهورها في الجواز دون الوجوب متينٌ ، ومع ذلك فالاحتياط في القتل - لما عُلم اهتمام الشارع بأمر الدماء والنفوس - لا يترك.5.

ص: 369


1- وسائل الشيعة: ج 16/133 ح 21169.
2- وسائل الشيعة: ج 16/131 ح 21162.
3- لاحظ وسائل الشيعة: ج 16/131، الباب 3 من أبواب الأمر بالمعروف.
4- جواهر الكلام: ج 21/385.

فما أفاده الشهيد الثاني رحمه الله من التفصيل بين المستلزم للجرح والمستلزم للقتل، فيجوز الأوّل دون الثاني(1)، لو لم يكن أقوى لا ريب في أنّه أحوط.

ثمّ إنّ جواز القتل إنّما هو إذا لم يترتّب عليه مفسدة أهمّ ، وإلّا فلا يجوز.

الفروع المستخرجة

أقول: يُستخرج ممّا حقّقناه في هذا المقام فروعٌ ومسائل، إليك جملة منها:

الفرع الأوّل: الإنكار القلبي وإنْ كان من أقسام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلّاأنّه لابدّ من إظهاره، إمّا بإظهار الانزعاج من الفاعل، أو الإعراض والصَدّ عنه، أو ترك الكلام معه، وما شاكل.

الفرع الثاني: يجب مراعاة الأيسر في مراتب هذا القسم.

الفرع الثالث: الإنكار باللّسان لا يتوقّف وجوبه على عدم تأثير الإنكار القلبي، بل الآمر والناهي مخيّران بينهما، مع رعاية الأيسر فالأيسر، فقد يكون الإنكار باللّسان أيسر من الإنكار القلبي، كما مرّ من أنّه ربما يكون الإعراض والهَجر من بعض النّاس بالنسبة إلى بعض الأشخاص أشدّ إيذاءً من بعض الكلام، وحينئذٍ فيُقدّم الأيسر.

الفرع الرابع: إذا لم يؤثّر القسمان، وجب الإنكار باليد، ويُراعى فيه الأيسر فالأيسر، وعدم المفسدة، والاحتياط أيضاً.

الفرع الخامس: إذا لم تكن مراعاة المراتب المذكورة كافية في ردع الفاعل فلابدّ من الانتقال إلى الضرب المؤدّي إلى الجرح، بلا توقّف على إذن الإمام أو من يقوم مقامه.

ص: 370


1- مسالك الأفهام: ج 3/105.

الفرع السادس: إذا لم تكن المراتب المشار إليها كافية في الردع، وتوقّف النهي عن المنكر على القتل، فإن كان يترتّب على معصية الفاعل مفسدة أهمّ من قتله، أو يترتّب على قتله مصلحة أهمّ جاز القتل، بل وجب، وإلّا فالاحتياط بترك القتل لا يُترك.

الفرع السابع: في موارد جواز الجرح أو القتل لا يكون الآمر والناهي ضامناً؛ للنصوص(1)، وفي موارد عدم الجواز فالظاهر ثبوت الضمان، فتجري عليه أحكام الجناية العمديّة إنْ كان عمداً، أو الخطئيّة إنْ كان خطأ.

الفرع الثامن: يجب على العلماء الذي هم قدوة الأنام، ويرى الناس أعمالهم حجّة، الإعراض عن الظَلَمة، وترك المراودة معهم، فإنّ ذلك يؤثّر في عقيدة الناس، ويوجب استقرار الخير فيهم، ورفع التهمة عنهم.

الفرع التاسع: يجب على العالم رَدّ هديّة الظَلَمة إنْ كان مؤثِّراً في رَدّ ظلم أو تخفيفه، أو كان ذلك مُشعِراً بعدم رضاه عمّا يفعله الظالم.

الفرع العاشر: يجب على العالم الذي هو قدوة الناس إظهار علمه عند ظهور البدعة، والنهي عن المنكر المضرّ بالمجتمع الإسلامي، وإنْ استلزم ذلك حبسه وإيذاءه، بل إيذاء غيره من المسلمين وتعذيبهم بأنواع العذاب، كما هو متعارف في هذا الزمان(2)، نسأل اللّه التوفيق للعمل بهذه الفريضة، وتحمّل ما يترتّب عليها من المشاقّ والمهالك.

فائدة: وردت أخبار عديدة تذمّ العلماء الذين يختلفون إلى أبواب السلاطينن.

ص: 371


1- وسائل الشيعة: ج 29/63، الباب 22 من أبواب القصاص في النفس.
2- يقصد بالزمان الذي كان النظام البائد حاكماً ومسيطراً على رقاب الشعب المسلم في إيران.

الحكّام، ولا يحترزون عن مخالطتهم:

منها: خبر السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: الفقهاء اُمناء الرّسل ما لم يدخلوا في الدُّنيا.

قيل: يا رسول اللّه وما دخلوهم في الدُّنيا؟ قال صلى الله عليه و آله: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم»(1).

ومنها: النبويّ : «العلماء اُمناء الرُّسل على عباد اللّه عزّ وجلّ ما لم يخالطوا السلطان، فإذا فعلوا ذلك فقد خانوا الرُّسل، فاحذروهم واعتزلوهم»(2).

ومنها: النبويّ : «شرار العلماء الذين يأتون الأُمراء، وخيار الأُمراء الذين يأتون العلماء»(3).

ومنها: الخبر، قال عليه السلام: «العلماء أحبّاء اللّه ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولم يميلوا في الدُّنيا، ولم يختلفوا أبواب السلاطين، فإذا رأيتم مالوا إلى الدُّنيا واختلفوا أبواب السلاطين، فلا تحملوا عنهم العلم، ولا تُصلّوا خلفهم، ولا تعودُوا مرضاهم، ولا تشيِّعوا جنائزهم، فإنّهم آفة الدِّين، وفساد الإسلام، يفسدون الدِّين كما يفسد الخَلّ العَسَل»(4).

إلى غير ذلك من الأخبار.

أقول: والظاهر أنّ منشأ هذه التشديدات العظيمة والسرّ فيها أمران:

أحدهما: إرادة اللّه سبحانه وتعالى أن يصبح العالم متبوعاً وحاكماً ومخدوماً،2.

ص: 372


1- الكافي: ج 1/46 ح 5.
2- المحجّة البيضاء للفيض الكاشاني: ج 1/144. وأورده المتّقي الهندي في كنز العمّال: ج 10/204.
3- المحجّة البيضاء للفيض الكاشاني: ج 1/146.
4- السراج الوهّاج للفاضل القطيفي: ص 22.

فإذا أصبح تابعاً وخادماً ومحكوماً كان ذلك خلاف ما أرادته الشريعة المقدّسة وعكس المطلوب، ومثله يكون يوم العرض الأكبر مع المجرمين ناكسي رؤوسهم عند ربّهم.

ثانيهما: إنّ السلطان أو الملك قد غَصَبا حقّ المجتهد وتصدّيا للحكومة، فاختلاف بابه تقريرٌ لظلمه وتعدّيه فلا يجوز.

***

ص: 373

ثبوت منصب الحكومة للمجتهد

ختام في بيان اُمور:

الأمر الأوّل: حيث أنّ جملة من الأحكام الشرعيّة أحكام جزائيّة وقضائيّة، وسياسيّة، واجتماعيّة، كالقصاص، والحدود، والقضاء، وقبول الجزية، والجهاد، و...، وإجراء تلكم الأحكام معدودٌ من مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمكن إجراؤها إلّابيد الحاكم على الاُمة.

وبعبارة اُخرى : الأحكام التي أتى بها نبيّ الإسلام صلى الله عليه و آله إنّما هي قوانين كليّة، وبديهي أن لا فائدة من القاون الذي لم يطبّق حيث يعدّ لغواً، فيعلم من ذلك أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله الذي جاء بتلك القوانين إنّما أراد تطبيقه في المجتمع، حينما ساعدته الظروف قام صلى الله عليه و آله بتأسيس الدولة الإسلاميّة، وكذلك فعل وصيّه أمير المؤمنين عليه السلام، وكلاهما قاما بتطبيق الأحكام إمّا مباشرةً أو من خلال الولاة، وليس في هذا الزمان من يستطيع تطبيقها سوى المجتهد الذي قال صلى الله عليه و آله في حقّه: «إنّه خليفتي ووارثي»(1)، وقال الإمام عليه السلام: «هو الحجّة عليكم»(2).

إلى غير ذلك من التعابير التي ستمرّ عليك، مع أنّه لا يكون ثمّة أحد أعرف

ص: 374


1- لم يرد حديث بهذا اللّفظ، بل هو مقتبس من حديثين: الأوّل: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اللّهُمَّ ارحم خلفائي. قيل: يارسول اللّه، ومَن خلفاؤك ؟ قال: الذين يأتون من بعدي يروون حديثي وسنّتي. وسائل الشيعة: ج 27/91 ح 33295. والثاني: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: إنّ العلماء ورثة الأنبياء. الكافي: ج 1/34 ح 1.
2- كما ورد في التوقيع الشريف: (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم...) وسائل الشيعة: ج 27/140 ح 33424.

بمباني الإسلام منه، فهو المتعيّن لأن يكون متصدّياً لإقامة الحكومة وعلى رأسها.

وإنْ شئتَ قلت: إنّه لا ريب في أنّ وظيفة المجتهد في هذا العصر إجراءأحكام الإسلام، وحفظ أمن البلاد الإسلاميّة، والتحرّز من مكائد الكفّار، والحفاظ على استقلاليّة البلاد الإسلاميّة، والدفاع عن حريم الإسلام والقرآن، وقطع يد من تسوّل له نفسه العَبَث ببلادالمسلمين، وحفظ المسلمين من يدالأجانب، ومن عبثهم في عقول المسلمين، وعقدالذمّة والعهود، وإجراءالحدود، والأمربالمعروف والنهي عن المنكر، وهل يمكن تنفيذ شيء من ذلك إلّامن قبل الدولة والحكومة القويّة العادلة ؟! قال اللّه تعالى: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ » (1) فهل يمكن ذلك إلّا من قبل الحاكم ؟! وقد تقدّم خبر الفضل، عن الإمام الرضا عليه السلام حيث قال: (إنّا لا نجدُ فرقةً من الفِرق، ولا ملّة من الملل، بقوا وعاشوا إلّابقيّم ورئيس لما لابدّلهم منه في أمر الدِّين والدُّنيا، فلم يجز في حِكمة الحكيم أن يترك الخلق بمايعلم أنّه لابدّ منه ولا قوام لهم إلّابه»(2). فإنّ هذا البرهان العقلي جار في زمان الغيبة أيضاً.

وأيضاً: يشهد بثبوت هذا المقام للمجتهد جملة من الأخبار.

منها: مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، وعلينا رَدّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حَدّ الشرك باللّه»(3).6.

ص: 375


1- سورة الأنفال: الآية 60.
2- عيون أخبار الرضا: ج 1/108.
3- وسائل الشيعة: ج 27/137 ح 33416.

حيث إنّه يستفاد منها جعل المجتهد حاكماً كسائر الحكّام المنصوبين في زمان النبيّ صلى الله عليه و آله والصحابة، ومن المعلوم أنّ الحاكم المنصوب في تلك الأزمنة كان يرجع إليه في جميع الأُمور العامّة التي يرجع فيها كلّ قومٍ إلى رئيسهم، فالمجتهد قد جُعل حاكماً مطلقاً بهذا المعنى .

وبعبارة اُخرى : الحاكم هو الذي ينفّذ الأحكام ويُجريها ويطبّقها، لا من يفتي بها فقط.

وأُورد عليها:

تارةً : بضعف السند؛ لأنّه لم ينصّ على ابن حنظلة بتوثيق.

واُخرى : بأنّ الظاهر من الحاكم هو القاضي؛ لأنّه مورد السؤال، إذ التحاكم والترافع إنّما يكون إلى القاضي، وقوله: «فإذا حكم بحكمنا» أي قضى، فهي تدلّ على جعل منصب القضاء له فقط.

ولكن يردّ الأوّل:

1 - أنّ الأظهر وثاقة الرجل؛ لتوثيق الشهيد الثاني إيّاه، حيث قال: (لأنّي حقّقتُ توثيقه من محلّ آخر)(1).

2 - ولورود روايتين دالّتين(2) عليها، ولغير ذلك من الشواهد.

3 - مع أن الأصحاب تلقّوها بالقبول، ولذلك سُمّيت بالمقبولة.

ويردالثاني: أنّ الثابت عندالأصحاب أنّخصوص المورد لايُخصّص عموم الوارد.3.

ص: 376


1- الرعاية في علم الدراية ص 131، وقال فيه: (لم ينصّ الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل لكن أمره عندي سهل، لأنّي حقّقتُ توثيقه من محلّ آخر، وإنْ كانوا قد أهملوه).
2- الكافي: ج 3/275 ح 1، التهذيب: ج 2/17 ح 13.

على أنّه لو كان المراد ما ذُكر، لكان يكفي قوله: «ينظران من كان.. الخ»، ولم تكن حاجة إلى إلحاق هذه الجملة بها، سيّما مع تصدّرها بحرف التعليل الذي يكون صالحاً لكون الجملة بياناً لكبرى كليّة من مصاديقها المورد.

ومنها: ما رواه الصدوق بأربعة طرق، عن عليٍّ عليه السلام، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: اللّهُمَّ ارحم خلفائي ثلاثا.

قيل: يا رسول اللّه ومن خلفاؤك ؟

قال: الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنّتي»(1).

وزاد في بعض الروايات: «فيعلّمونها الناس من بعدي»(2).

وحيث إنّه عند دوران الأمر بين الزيادة والنقيصة، مقتضى الأصل البناء على وجود ما نقص، فالظاهر أنّ متن الحديث مع هذه الزيادة وظهوره حينئذٍ في إرادة الفقهاء من الرواة في غاية الوضوح.

وبعبارة اُخرى: المراد من (راوي الحديث والسُنّة) هو من يعلّم الناس أحكام الإسلام، لا مجرّد من يعلم بها، وهذا يلازم مع الفقاهة، فيدلّ الخبر على أنّ الفقيه خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، والخليفة بقول مطلق من يقوم مقام من استخلفه في كلّ ما خوّله.

وإنْ شئتَ قلت: إنّ كون الرئاسة والحكومة حقّ خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله ومنصبه المفوّض إليه، يعدّ من الاُمور الواضحة المسلّمة عند الجميع، ولذلك كان كلّ من4.

ص: 377


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4/420 ح 5919، الأمالي: ص 247 ح 266، معاني الأخبار: ص 347 ح 1، عيون أخبار الرضا: ج 1/40 ح 94.
2- عيون أخبار الرضا: ج 1/40 ح 94.

تصدّى لهذا المنصب من ملوك بني اُميّة وسلاطين بني العبّاس، بل ومن قبلهم من رؤساء الحكومة الإسلاميّة يدّعون أنّهم خلفاء رسول اللّه لتصدّي ذلك المقام، وعلى ذلك فتعيّين رسول اللّه العلماء خلفاءه يكون دالّاً بالملازمة البيّنة على جعلهم حكّاماً نافذي الحكم، ورؤساء للحكومة الإسلاميّة.

وممّا يؤيّد ما ذكرناه - من ظهور جعل شخصٍ خليفة في جعله مُنْفذ الحكم ورئيساً - الآية الكريمة: «يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ » (1) فإنّ كون الحكومة مترتّبة على جعله خليفة مفروغٌ عنه في الآية، وغاية ما هناك أنّ اللّه تعالى يوصيه بأن لا يتّبع هواه في ما يصدره من الأحكام.

ومنها: التوقيع الشريف المرويّفي كتاب «إكمال الدين وإتمام النعمة» للصدوق، وكتاب «الغيبة» للشيخ، و «الاحتجاج» للطبرسي في جواب مسائل إسحاق ابن يعقوب:

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اللّه»(2).

بتقريب: أنّ المراد بالحوادث من جهة كونها جمعاً مُحلّى باللّام، كلّ حادثة ترجع فيها الرعيّة إلى رئيسهم، من غير فرق بين كونها من السياسات أو الشرعيّات، ومن غير فرقٍ بين أن تكون مرتبطة بشخص خاص أو بالمجتمع، فتشمل ما كان من قبيل استخراج الأجانب النفط وسائر المعادن، وعقد الذمّة مع الدول الاُخرى ، وما يتعلّق بالاُمور العسكريّة حينما يتوجّه الخطر من ناحية3.

ص: 378


1- سورة ص: الآية 26.
2- إكمال الدِّين وإتمام النعمة: ص 483، الغنية: ص 290، الاحتجاج: ج 2/281-283.

الأجانب إلى الدولة الإسلاميّة، وما شاكل، فيدلّ على أنّ راوي الحديث، المنصوب حجّة على الاُمّة - وهو الفقيه الجامع للشرائط - مرجع في جميع تلك الاُمور، وليس معنى الحكومة وكون الشخص حاكما ومُنْفذ الحكم إلّاذلك.

ودعوى : احتمال إرادة حوادث خاصّة، نظراً إلى أنّ اللّام للعهد، فهو يشير إلى الحوادث الجزئيّة المسؤول عنها والتي لم يرد ذكرها في الخبر.

مدفوعة: بأنّ توصيف الحوادث بالواقعة يدفع ذلك.

وقد يقال: إنّه تضمّن الرجوع في الحوادث إلى الفقيه، ولا يدلّ على وكول نفس الحادثة إليه ليباشره بنفسه أو بمن ينصبه، كما ادّعاه الشيخ رحمه الله.

وفيه: الظاهر من ذلك أنّ الرجوع في كلّ حادثةٍ إلى الفقيه وكسب الوظيفة منه، ولزوم العمل بكلّ مايعيّنه - ولو كان هو الدفاع عن المملكة الإسلاميّة، وحفظ حدودها وما شاكل - عبارة اُخرى عن كونه حاكماً مطلقاً.

ويناسب هذا المعنى التعليل بأنّه حجّة مِن قِبل من هو حجّة مِن قِبل اللّه، المهيمن على العالم وما فيه.

ومنها: ما روي عن الحسين بن علي عليهما السلام أنّه قال:

«مجاري الاُمور والأحكام على أيدي العلماء باللّه، والاُمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سُلبتم ذلك إلّابتفرّقكم عن الحقّ ، واختلافكم في السنة بعدالبيّنة الواضحة، ولوصبرتم على الأذى ، وتحمّلتم المؤونة في ذات اللّه، كانت اُمور اللّه عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع، ولكنّكم مكّنتم الظَلَمة من منزلتكم، واستسلمتم اُمور اللّه في أيديهم... إلى آخره»(1).4.

ص: 379


1- تحف العقول: ص 238، مستدرك الوسائل: ج 17/315 ح 21454.

وتقريب الاستدلال به: أنّ المراد ب (العلماء) في هذا الخبر غير الأئمّة عليهم السلام بقرينة سائر الجملات المتضمّنة لتفرّقهم عن الحقّ ، واختلافهم في السنة، وأنّ المخاطب فيه هم العلماء الساكتون عن الحقّ ، غير الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وسائر الواجبات المُلقاة على عاتقهم، وغير ذلك من القرائن.

فيدلّ الحديث على أنّمجاري الاُمورعلى أيديهم، ولامعنى لمجاري الاُمور في مقابل مجاري الأحكام - سوى الاُمورالمرتبطة بالحكومة الإسلاميّة وسياستها.

ويؤكّد ذلك: ما في ذيله من قوله: «واستسلمتم اُمور اللّه في أيديهم» فإنّ ما استسلموه هو الحكومة وما يرتبط بها.

وأيضاً: يتضمّن هذا الخبر الإخبار عن أنّ العلماء قد غُصب حقّهم، ومن المعلوم أنّ المغصوب ليس غير الحكومة.

وبالجملة: إنّ من تدبّر في الخبر صدراً وذيلاً يظهر له أنّ مراد الإمام الشهيد صلوات اللّه عليه: أنّ العلماء هم الحكّام، وأنّ إقامة الحكومة من وظائفهم، وقد غَصَب الظَلَمة هذه المنزلة لترك العلماء العمل بوظائفهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومصانعتهم للظَلَمَة، وما شاكل.

ومنها: مارواه عليّبن أبي حمزة، عن أبي الحسن موسيبن جعفر عليه السلام أنّه قال:

«إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد اللّه عليها، وأبواب السماء التي كان يَصعد فيها بأعماله، وثَلُم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء، لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها»(1).

وتقريب الإستدلال به: أنّه يدلّ على أنّ حصن الإسلام وحافظه هو الفقيه،3.

ص: 380


1- الكافي: ج 1/38 ح 3.

وحيث أنّ أحكام الإسلام لا تنحصر بالعبادات، بل منها أحكام اجتماعيّة، وسياسيّة، وقضائيّة وجزائيّة، ولا يمكن حفظ تلك الأحكام - وكون الفقيه حِصْناً يدافع عنها - إلّابحكومة قويّة صالحة(1).

وبالجملة: إنّ أحكام الإسلام من الجهاد والمهادنة، وعقد الذمّة وسائرالعهود، وإجراء الحدود والقصاص، وقبول الجزية وما شاكل، لا يمكن تنفيذها إلّاإذا كانت الحكومة بيد الفقيه أو من ينصبه الفقيه لذلك، فجعل الفقيه حِصْناً للإسلام لا يكون إلّا بجعله حاكماً مطلقاً نافذ الحكم.

ومنها: ما رواه السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله:

الفقهاء اُمناء الرُّسل، ما لم يدخلوا في الدُّنيا.

قيل: يا رسول اللّه، وما دخولهم في الدُّنيا؟ قال: اتّباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم(2).

وتقريب الاستدلال به: أنّ الأمين من فوّض إليه حفظ ما فوّض إليه، وقد فوض إلى الفقهاء تنفيذ الأحكام الشرعيّة، وقد مرّ في السابق أنّ حفظ الأحكام الشرعيّة لا يمكن إلّابحكومة إسلاميّة قويّة.

وقوله عليه السلام: «مالم يدخلوا» إلى آخره، يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ التسامح في5.

ص: 381


1- ولذلك نرى أنّ الاستعمار الأوروبي علم من أوّل وهلة أنّ استعماره لا يتمّ ما دام القرآن هو الكتاب السماوي الذي يتبعه المسلمون، ويجرون أحكامه وقوانينه، ويتّبعون إرشاداته وتعاليمه، وبهذا صرّح (جلادستون) رئيس وزراء بريطانيا، ومن ذلك الوقت اتّجه المستعمر وجهة اُخرى ، فأخذ يسعى بشتّى الطرق ووسائل الشيعة: لتضعيف الإسلام، وكان من جملة مصائده وحبائله نغمة التفكيك بين الدِّين والسياسة، حتّى صارت هذه النغمة من أخطر الشبهات والمفاهيم الخاطئة التي صارت سبباً لما نراه الآن من حال الإسلام والمسلمين في البلاد الإسلاميّة.
2- الكافي: ج 1/46 ح 5.

تشكيل الحكومة، وصيرورة المتبوع تابعاً، والمخدوم خادماً، خيانة يخرج بها الفقيه عن كونه أميناً.

ومنها: ما رواه في «الكافي» و «أمالي» الصدوق، وفي الأوّل بأسانيد عديدة متّصلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من سَلَك طريقاً يطلب فيه عِلْماً، سَلَك اللّه به طريقاً إلى الجنّة، وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً به، وإنّه يستغفر لطالب العلم من في السماء...

إلى أنْقال: وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظٍّ وافر»(1).

وتقريب الإستدلال به: أنّه يدلّ على أنّ العالم وارث الأنبياء في العلم، والمراد به الأحكام والحقائق والقوانين التي جاؤوا بها، فكما أنّهم موظّفون بنشرها وإجرائها كي ينتفع بها الناس، فكذلك العالم مأمورٌ بذلك، وقد مرّ أنّ إجراء الأحكام الشرعيّة بأجمعها لا يمكن إلّابيد الحاكم المطلق.

ودعوى: أنّ المراد ب (العلماء) هم الأئمّة عليهم السلام.

يدفعها: صدر الخبر الوارد في ثواب طلب العلم.

هذا بالإضافة إلى روايات صريحة في إرادة غير الأئمّة الهداة صلوات اللّه عليهم، مثل ما في «البحار»، قال: «قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه لولده محمّد:

تفقّه في الدِّين، فإنّ الفقهاء ورثة الأنبياء»(2).

وفي المقام روايات اُخرى قريبة المضمون ممّا تقدّم، يظهر كيفيّة الإستدلال بها ممّا سبق ذكره، فلا وجه لتطويل الكلام بذكر كلّ واحدة منها.

***2.

ص: 382


1- الكافي: ج 1/34 ح 1، أمالي الصدوق: ص 116 ح 99.
2- بحار الأنوار: ج 1/216 ح 32.

حكم تزاحم المجتهدين

ثم الكلام في أنّه هل يجوز لآحاد المجتهدين مزاحمة الآخرين أم لا؟

أقول: وتنقيح القول في ذلك أنّه:

تارةً : يتصدّى أحدهم الرئاسة والحكومة.

واُخرى: لم يستقرّ له الأمر ولا يريد التصدّي لها.

أمّا في الصورة الاُولى : فلا إشكال في عدم جواز المزاحمة إنْ كان المتصدّي أهلاً لذلك.

إذ مضافاً إلى أنّ المزاحمة موجبة لتضعيف الحكومة الإسلاميّة، وهو بديهي الحرمة - يشهد لعدم جوازها قوله عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة المتقدّمة: «فإذا حكم بحُكمنا، فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّه وعلينا رَدّ، والرادّ علينا الرادّ على اللّه، وهو على حَدّ الشرك باللّه»(1) فإنّ تصدّي المجتهد حينئذٍ كتصدّي الإمام عليه السلام، فمزاحمة الثاني إيّاه كمزاحمته للإمام، وهي مستلزمة للردّ عليه، وهو ردّ على الإمام، فلا يجوز.

أضف إلى ذلك: أنّه يلزم اختلال نظام مصالح المسلمين العامّة، وهو غير جائز قطعاً.

على أنّ الأدلّة إنّما تدلّ على جعل هذا المنصب للمجتهد مع عدم المتصدّي له، ففي فرض التصدّي لا دليل على ثبوته لأحد.

ص: 383


1- وسائل الشيعة: ج 27/137 ح 33416.

وإلى هذا نظرالمحقّق النائيني رحمه الله حيث قال(1): (إنّ الفقيه وليُ من لا ولي له، فإذا تحقّق الولي فلاولاية لآخر، كما هو مفادالمشهورة: «السلطان وليّمن لاوليّله»)(2).

كما أنّ الظاهر أنّه إلى هذا نظر من قال: (إنّ دليل الولاية إنْ لم يكن لفظيّاً، فالمتيقّن منه إنّما هو ثبوت الولاية مع عدم تصدّي أحدٍ، وإلّا فيرجع إلى الأصل، وهو يقتضي عدم الولاية، وإنْ كان لفظيّاً فإطلاقه غير مسوق للبيان من هذه الجهة، فعند الشكّ لابدّ من الرجوع إلى الأصل المتقدّم أيضاً)(3).

وأمّا في الصورة الثانية: فإنْ قلنا باعتبار الأعلميّة - كما يشهد به ما رواه في «البحار» عن كتاب «الاختصاص»، قال:

«قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: من تعلّم علماً ليماري به السُّفهاء، أو ليُباهي به العلماء، أو يصرف به الناس إلى نفسه يقول: أنا رئيسكم، فليتبوّأ مقعده من النار، إنّ الرئاسة لا تصلح إلّالأهلها، فمن دعى الناس إلى نفسه، وفيهم مَن هو أعلم منه، لم ينظر اللّه إليه يوم القيامة»(4).

فلاإشكال في عدم جواز المزاحمة، وإلّا فالأظهر جواز المزاحمة بمعنيترتيب المقدّمات، والتوسّل بكلّ أمرجائز في نفسه للوصول إلى ذلك المقام السامي، بل لو كان يرى نفسه أحقّ وأبصر بالاُمور، وأنّه لوتصدّى لذلك كان يخدم الإسلام والمسلمين أحسن ممّا لو تصدّى غيره، وجب عليه ذلك، واللّه العالم.

***0.

ص: 384


1- منية الطالب في شرح المكاسب: ج 2/243.
2- سنن ابن ماجه: ج 1/605 ح 1879. ولفظه: «فالسلطان وليّ من لا وليّ له».
3- نهج الفقاهة للسيّد الحكيم: ص 308.
4- الإختصاص للمفيد: ص 251، بحار الأنوار: ج 2/110.

يجوز للحاكم الشرعي إقامة الحدود

الثاني من مراتب النهي عن المنكر: إجراء الحدود.

أقول: لا إشكال ولا كلام في أنّ إجراء الحدود والتعزيرات ليس لكلّ أحد إقامتها، وإنّما البحث في أنّه هل يجوز للحاكم الشرعي - في زمان الغيبة - أن يُقيمها، كما عن الإسكافي(1)، والشيخين(2)، والديلمي(3)، والعلّامة(4)، والشهيدين(5)، والمقداد(6)، وابن فهد(7)، والكَركي(8)، والسبزواري(9)، والكاشاني(10)، وغيرهم(11)، بل هو المشهور بين الأصحاب ؟

أم لا يجوز، كما حُكي عن ظاهر ابني زُهرة(12) وإدريس(13)؟

وصرّح المحقّق القمّي في «جامع الشتات» بأنّها وظيفة الإمام عليه الصلاة والسلام(14)؟ والأوّل أقوى ، ويشهد له وجوه:

ص: 385


1- نسبه إليه الصيمري في غاية المرام: ج 1/547.
2- المقنعة: ص 810، النهاية: 301.
3- المراسم العلويّة: ص 263.
4- تحرير الأحكام: ج 2/242.
5- الروضة البهيّة: ج 2/417.
6- التنقيح الرائع: ج 1/596-597.
7- المهذّب البارع: ج 2/328.
8- جامع المقاصد: ج 2/375.
9- كفاية الأحكام: ج 1/410.
10- مفاتيح الشرائع: ج 2/50.
11- كشف الغطاء: ج 2/420، رياض المسائل: ج 2/389.
12- غنية النزوع: ص 425.
13- السرائر: ج 2/24.
14- جامع الشتات: ج 1/395.

الوجه الأوّل: موثّق حفص بن غياث، أو صحيحة، قال:

«سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام من يقيم الحدود، السلطان أو القاضي ؟

فقال عليه السلام: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم»(1).

وقد مرّ أنّ من إليه الحكم في زمان الغيبة هو المجتهد الجامع للشرائط، وقد دلّت النصوص الآتية على أنّه المنصوب من قبله عليه السلام حاكماً وقاضياً.

الوجه الثاني: النصوص الدالّة على جعله حاكماً وقاضياً:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة، عن أبى عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ :

«ينظران من كان منكم ممّن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حَكَماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً... الحديث»(2).

ومنها: مقبول أبي خديجة، عنه عليه السلام: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجلٍ منكم يعلم شيئاً من قضايانا، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه»(3).

ونحوهما غيرهما.

فإنّها تدلّ على أنّ جميع ما هو من شؤون ووظائف قضاة الجور، إنّما هي للحاكم الشرعي، ولا شكّ في أنّ من وظائفهم إقامة الحدود، فهي للحاكم الشرعي في زمان الغيبة أيضاً.

الوجه الثالث: أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الحدود - كتاباً وسُنّة - غير المقيّد بزمانٍ دون زمان:

منها: قوله تعالى : «وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما» (4).8.

ص: 386


1- وسائل الشيعة: ج 27/300 ح 33749.
2- وسائل الشيعة: ج 27/137 ح 33416.
3- وسائل الشيعة: ج 27/13 ح 33083.
4- سورة المائدة: الآية 38.

ومنها: قوله تعالى : «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » (1).

ومنها: العلوي: «اللّهُمَّ إنّك قلت لنبيّك صلى الله عليه و آله فيما أخبر به: من عَطَّل حَدّاً من حدودي فقد عاندني»(2).

وغيرها من أدلّة الحدود، ثبوت الحدود في كلّ زمان حتّى في زمان الغيبة، وأنّه لابدّ من إقامتها.

ولكن لا تدلّ الأدلّة على أنّ المتصدّي لها من هو؟ ومعلوم بالضرورة أنّه لا يجوز لكلّ أحدٍ ذلك؛ لاستلزامه فساد النظام، وللنصوص الخاصّة:

منها: صحيح داود بن فرقد، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إنّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله قالوا لسعد بن عبادة: أرأيتَ لو وجدتَ على بطن امرأتك رجلاً ما كنتَ صانعاً به ؟ قال: كنت أضربه بالسيف.

قال: فخرج رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: ماذا يا سعد؟ فقال سعد: قالوا لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به ؟ فقلت: أضربه بالسيف.

فقال: يا سعد فكيف بالأربعة الشهود؟!

فقال: يا رسول اللّه بعد رأي عيني وعلم اللّه أن قد فعل ؟

قال صلى الله عليه و آله: إيّ واللّه، بعد رأي عينك وعلم اللّه أن قد فعل، إنّ اللّه جعل لكلّ شيءٍ حَدّاً، وجعل لمن تعدّى ذلك الحَدّ حَدّاً»(3).

فإذاً لابدَّمن الأخذ بالقدر المتيقّن، والمتيقّن هو من إليه الأمر، وهو الحاكم الشرعي.

الوجه الرابع: الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ الحاكم الشرعي جُعل خليفة رسول اللّه صلى الله عليه و آله، ومعلومٌ أنّ جعل شخصٍ خليفة له يدلّ - بالملازمة البيّنة - على أنّ 9.

ص: 387


1- سورة النور: الآية 2.
2- وسائل الشيعة: ج 28/13 ح 34097.
3- وسائل الشيعة: ج 28 ص 14 ح 34099.

ما جُعل وظيفة لرسول اللّه صلى الله عليه و آله - حفظاً للمصلحة العامّة، ودفعاً للفساد، وانتشار الفجور - ثابتٌ له بالضرورة، ومنه إقامة الحدود.

أقول: وبذلك يظهر أنّه يمكن الإستدلال له بما تقدّم من الأخبار الدالّة على أنّ الحاكم الشرعي في زمان الغيبة جُعل منفِّذاً للأحكام، ورئيساً للإسلام.

الوجه الخامس: أنّ إقامة الحدود إنّما شُرّعت للمصلحة العامّة، ودفعاً لانتشار المفاسد وارتكاب المحارم، وهذا ينافي اختصاصه بزمانٍ دون زمان، فالحكمة المقتضية لتشريع الحدود تقضي إقامتها في زمان الغيبة أيضاً، مع أنّ تلك المصلحة عائدة إلى المجتمع الإسلامي، فللحاكم النائب عن الإمام عليه السلام إقامتها، لأدلّة النيابة المتقدّم طرف منها، والتوقيع الشريف: «أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة اللّه»(1).

أقول: قد استدلّ لعدم الجواز:

1 - بالأصل.

2 - وبإجماع ابني زُهرة وإدريس(2).

3 - وبما عن «دعائم الإسلام» و «الأشعثيّات» عن الصادق، عن آبائه عليهم السلام، عن علي عليه السلام: «لا يصلح الحكم ولا الحدود ولا الجمعة إلّابإمام»(3).

ولكن الأصل مقطوع بما عرفت، والإجماع غير ثابت، بل الثابت خلافه؛ فإنّ المشهور بين الأصحاب جواز إقامة الحدود للفقيه.

وخبر «دعائم الإسلام» لا يعتمد عليه؛ لإرساله.

و «الأشعثيّات» المعبّر عنها ب «الجعفريّات» لم يثبت نسبتها إلى مصنّفها:3.

ص: 388


1- إكمال الدِّين وإتمام النعمة: ص 483، الغيبة: ص 290.
2- غنية النزوع: ص 425، السرائر: ج 2/24.
3- دعائم الإسلام: ج 1/182، الجعفريّات ص 43.

1 - لأنّ محمّد بن محمّد بن الأشعث الذي وثّقه النجاشي، وقال: (له كتاب الحَجّ )(1) وإنْ كان كتابه معتبراً، إلّاأنّه غير ما هو موجود عندنا جزماً.

2 - وما عن الشيخ والنجاشي في ترجمة إسماعيل بن موسى بن جعفر عليهما السلام من أنّ : (له كتباً يرويها عن أبيه عن آبائه، منها كتاب الطهارة، إلى آخر ما ذكراه)(2)يكفي في الحكم باعتبار ذلك الكتاب الجامع لتلكم الكتب، إلّاأنّه أيضاً لا ينطبق على ما بأيدينا المشتمل على : كتاب الجهاد، وكتاب التفسير، وكتاب النفقات، وكتاب الطب وكتاب غير مترجم، فإن هذه الكتب غير موجودة فيما ذكراه، وكتاب الطلاق موجود فيما ذكراه غير موجود فيما بأيدينا، فالظاهر أنّهما متغايران، ولا أقلّ من عدم الإطمئنان بالإتّحاد.

ويؤيّد التغاير: أنّ صاحب «الوسائل» والشيخ المجلسي لم يرويا عن الكتاب الموجود شيئاً، بل الشيخ نفسه لم يرو عنه.

فالمتحصّل: عدم إمكان الإعتماد على ذلك الكتاب.

أضف إليه: أنّ الجملة الاُولى من الخبر مقطوعُ البطلان؛ لأنّه يصلح للفقيه الحكم بالضرورة من المذهب.

مع أنّه حيث يكون إقامة الحدود من السياسات الدينيّة التي لابدّ من القيام بها في كلّ زمان حفظاً للنظام، فأدلّة نيابة الفقيه تصلح دليلاً على جواز ذلك للفقيه، والظاهر أنّ مراد الأصحاب من الجواز في المقام، هو الوجوب، كما هو مقتضى الأدلّة المتقدّمة، فيجبُ على الفقيه إقامة الحدود مع أمن الضرر، ولو بقبول الولاية من قبل السلطان الجائر وإظهارها عنه، فيكون ذلك من موارد قبول الولاية من قبل الجائر.5.

ص: 389


1- رجال النجاشي: ص 379.
2- رجال النجاشي: ص 26، فهرست الطوسي: ص 45.

أمر الأهل بالمعروف ونهيهم عن المنكر

الأمر الثالث: يتأكّد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقّ المكلّف بالنسبة إلى أهله.

ويشهد به: قوله تعالي : «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ » (1):

1 - ففي معتبر أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السلام: في قول اللّه عزّوجلّ : «قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً» فكيف نقي أهلنا؟ قال عليه السلام: تأمرونهم وتنهونهم»(2).

2 - وفي خبرعبدالأعلى ، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «لمّانزلت هذه الآية جَلَس رجلٌمن المسلمين يبكي، وقال: إنّي عجزت عن نفسي، كُلّفت أهلي! فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله: حسبك أنْتأمرهم بماتأمربه نفسك، وتنهاهم عمّا تنهي عنه نفسك»(3).

3 - وفي خبر أبي بصير في الآية، قلت: «كيف أقيهم ؟ قال: تأمرهم بما أمر اللّه، وتنهاهم عمّا نهاهم اللّه، فإنْ أطاعوك كنتَ قد وقيتهم، وإنْ عصوكَ كنت قد قضيتَ ما عليك»(4).

فرع: هل يجوز للرجل غير الفقيه أن يقيم الحَدّ على ولده وزوجته عند ارتكاب المعصية، كما عن الشيخ(5)، والقاضي(6)، والشهيد(7)؟

أم لا يجوز كما هو المشهور بين الأصحاب ؟ وجهان.

ص: 390


1- سورة التحريم: الآية 6.
2- وسائل الشيعة: ج 16/148 ح 21207.
3- وسائل الشيعة: ج 16/147 ح 21205.
4- وسائل الشيعة: ج 16/148 ح 21206.
5- النهاية: ص 301.
6- المهذّب: ج 1/342.
7- الدروس: ج 2/48.

قد استدلّ للأوّل: بما عن الشيخ من وجود الرّخصة بذلك(1).

قيل: ويؤيّده:

1 - ما دلّ على كمال سلطنة الوالد والزوج على الولد والزوجة.

2 - والسيرة المستمرّة على تأديبهما وتعزيرهما، الذي هو قسم من الحدود.

3 - وخصوص ما دلّ على تأديب الزوجة بالضرب والهجر للتقصير في حقوق الزوجيّة كتاباً وسُنّةً .

4 - مضافاً إلى عموم الأمر بإقامة الحدود(2).

أقول: لكن ما عن الشيخ لا يعتمد عليه على فرض كونه رواية، وأن لا يكون نظره إلى بعض ما ذكر مؤيّداً، لإرساله وعدم انجباره بالشهرة وغيرها.

وسلطنة الوالد على الولد إنّما هي في زمان صغره من باب الولاية الشرعيّة، وزمان الصغر ليس زمان إجراء الحَدّ، وبعد البلوغ لا ولاية عليه، والسيرة على تأديبهما أيضاً ممنوعة.

نعم، السيرة ثابتة بالنسبة إلى الولد في زمان صغره، وبالنسبة إلى الزوجة في فرض النشوز في بعض الموارد، فإذاً لا مخصّص لما دلّ على أنّ إقامة الحدود وظيفة الإمام ومن يقوم مقامه، فالأظهر عدم الجواز.

***8.

ص: 391


1- النهاية: ص 301.
2- جواهر الكلام: ج 21/388.

أخذ الاُجرة على الأمر بالمعروف

الأمر الرابع: هل يجوز أخذ الاُجرة على بعض طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وهو الدعوة الكليّة العامّة، ببيان طرق الخير، وتطبيق ذلك على أحوال الناس، وضرب الأمثال المؤثّرة في النفوس الذي يقوم به جماعة خاصّة، وهم المشار إليهم بقوله تعالى: «فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي اَلدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ » (1) وهم - عليمراتب علمهم - قد جعلوا هذا المنصب العظيم حرفة لهم، فهل يجوز لهم أخذ الأُجرة عليهذا أم لا؟ وجهان.

قد استدلّ للثاني:

1 - بأنّ الدعوة إلى الخير واجبة، ولا يجوز أخذ الأُجرة على الواجب.

2 - وبأنّها من العبادات، وأخذ الأجرة ينافي الخلوص والقربة.

3 - وبخبر يوسف بن جابر، قال: «قال أبو جعفر عليه السلام: لعن رسول اللّه صلى الله عليه و آله من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له، ورجلاً خان أخاه في امرأته، ورجلاً احتاج الناس إليه لتفقّهه فسألهم الرشوة»(2).

بتقريب: أنّ المراد بالرشوة مطلق الجَعل في مقابل الحكم، ولو كان بالحكم، وبيان الواجب والحرام، والأمر بالأوّل والنهي عن الثاني.

وبعبارة اُخرى : هي هنا ما يبذل لبذل الفقه، وإنّ ظاهر قوله: (احتاج الناس إليه) الإحتياج إلى نوعه لا إلى شخصه.

4 - وبالإطلاقات الناهية عن أخذ الرشوة على الحكم.

ص: 392


1- سورة التوبة: الآية 122.
2- وسائل الشيعة: ج 27/223 ح 33644.

أقول: وفي الجميع نظر:

أمّا الأوّل: فلما حقّقناه سابقاً من جواز أخذ الاُجرة على الواجب، وأنّ الوجوب من حيث هو لا يمنع عن أخذ الاُجرة ولا ينافيه.

وأمّا الثاني: فلأنّه إذا كان أخذ الاُجرة من قبيل الدّاعي إلى الدّاعي، لا ينافي مع الخلوص المعتبر في العبادات، هذافضلاًعن أنّ هذاالواجب يعدّ من التوصليّات.

وأمّا الثالث: فلأنّه - مضافاً إلى ضعف سند الحديث، لجهالة يوسف وبعض آخر من رجال السند - إنّما الرشوة عبارة عمّا يُجعل على الحكم بالباطل - كما سيأتي بحثه إنْ شاء اللّه - فلا تشمل غير ذلك.

فإن قيل: إنّ ظاهر الخبر بقرينة إطلاق قوله: «رجلاً احتاج الناس إليه لتفقّهه» إرادة مطلق ما يُبذل بإزاء بذل الفقه.

قلنا: إنّه على فرض ثبوت كون الرشوة ما يدفع بإزاء الحكم الباطل، لا تكون هذه الجملة قرينة لإرادة الأعمّ منها، بل المستفاد من الخبر حينئذٍ أنّ الملعون هو الصنف الخاص من الرجل الذي احتاج الناس إليه لتفقّهه، فطلب منهم الثمن.

وبذلك يظهر ما في الوجه الرابع؛ لعدم صدق الرشوة على ما يُبذل بإزاء بيان الأحكام.

وعليه، فالأظهر هو الجواز؛ للعمومات.

ويمكن أن يستدلّ له: بخبر ابن حمران، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: من استأكل بعلمه افتقر.

قلت: إنّفي شيعتك قوماًيتحمّلون علومكم، ويبثّونهافي شيعتكم، فلايعدمون منهم البِرّ والصِّلة والإكرام ؟

فقال عليه السلام: ليس اُولئك بمستأكلين، إنّما الذي يفتي بغير علم، ولا هدى من اللّه،

ص: 393

ليبطل به الحقوق، طمعاً في حطام الدُّنيا»(1).

فإنّ الظاهر منه حصر الاستئكال المذموم بما إذا كان بأخذ المال في مقابل الحكم بالباطل، أو مع الجهل بالواقع، فمقتضى مفهومه جواز الاستئكال مع العلم بالحقّ والحكم به وبيانه.

ولكن لم يثبت كون كلمة (إنّما) من أداة الحصر؛ إذ كما أفاده الشيخ الأعظم أنّه لا مرادف لها في عرفنا اليوم من اللّغة العربيّة وغيرها، ولا هي تستعمل بنحوٍ يمكن تشخيص معناها، فلا يعلم أنّها تدلّ على الحصر أم لا.

أضف إليه: ضعف الخبر؛ لتميم بن بهلول وأبيه، لكن في الأحوال فى العمومات كفاية.

وأيضاً: على تقدير عدم جواز أخذ الاُجرة عليه، فلا إشكال في جواز ارتزاق الدّاعي إلى الخير أمراً ونهياً من بيت المال، سيّما سهم الإمام عليه السلام؛ لأنّه:

1 - معدّلمصالح المسلمين، وهذامن مهماتها؛ لتوقّف انتظام امور المسلمين عليه.

2 - ولمرسل حمّاد، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح عليه السلام في حديثٍ طويل في الخُمس والأنفال والغنائم، إلى أن يقول:

«ويأخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه، وفي مصلحة ما ينويه من تقوية الإسلام وتقوية الدِّين في وجوه الجهاد، وغير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة... الحديث»(2).9.

ص: 394


1- وسائل الشيعة: ج 27/141 ح 33427.
2- وسائل الشيعة: ج 15/110 ح 220089.

وظيفة المصلح للمجتمع

وظيفة المصلح للمجتمع

الأمر الخامس: قد عرفت أنّه وإنْ كان لا يعتبر في وجوب الدعوة إلى الخير أمراً ونهياً، كون الدّاعي عدلاً، مجتنباً عن المحرّمات، إلّاأنّه يجب عليه من جهة لزوم إصلاح المجتمع، أن يلبس رداء المعروف وينزع رداء المنكر، عاملاً بما يأمر به وتاركاً لما ينهى عنه؛ فإنّ ذلك أشدّ تأثيراً.

وقال بعضهم: (العالم طبيبُ الاُمّة، والدُّنيا الداء، فإذا رأيتَ الطبيب يجرّ الداء إلى نفسه فاتّهمه في علمه، واعلم أنّه غير ناصح، ولا يوثق فيه فيما يقول»(1).

وفي الخبر، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه، زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصفا»(2).

وأيضاً: قد عرفت أنّه وإنْ عَمّ دليل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلّا أنّه يتأكّد بالنسبة إلى الأهل والعيال.

فمِنْ ضَمّ هذين الأمرين إلى ما دلّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلقاً بالنسبة إلى جميع الأشخاص، يُستنتج أنّ ما ذكره العلماء من تقسيم الحكمة العمليّة إلى ثلاثة أقسام: تهذيب النفس، وتدبير المنزل، والسياسة المدنيّة، وأنّ هذه المراحل من قبيل السُلّم لإرتقاء المجتمع ونيل السعادة، هو ممّا قرّره الرسول الشريف صلى الله عليه و آله وأهل بيته عليهم السلام وبيّنوه بأحسن بيان، واللّه العالم.

تمّ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في يوم الثلاثاء الخامس عشر من شهر رجب الحرام سنة 1396 ه، والحمدُ للّه أوّلاً وآخراً.

***

ص: 395


1- لاحظ ما ورد في وسائل الشيعة: ج 20/26 ح 24938.
2- الكافي: ج 1/44 ح 3.

فهرس الموضوعات

كتاب الجهاد... 7

أقسام الجهاد... 10

أقسام الجهاد مع الكفّار... 12

الجهاد بعد إقامة الحُجّة... 14

وجوب الجهاد... 18

وجوب الجهاد عيني أو كفائي... 23

وجوب التفقّه كوجوب الجهاد... 26

شرائط وجوب الجهاد... 29

اعتبار الذكورة في بعض أقسام الجهاد... 30

اعتبار السلامة من العمى والإقعاد والمرض... 33

اعتبار دعاء الإمام أو من نَصبه إليه... 36

حكم مَن عَجز عن الجهاد بنفسه... 47

جواز الإستنابة مع القدرة... 51

استحباب المرابطة... 53

قتال أهل الكتاب... 64

شرائط الذمّة... 67

العاقد للذمّة... 74

بيان مصرف الجزية ومن يستحقها... 76

كميّة الجزية... 79

من لا يُؤخذ منه الجزية... 81

ص: 396

جواز وضع الجزية على الرؤوس والأراضي... 87

حكم ما لو أسلم الذمّي قبل الحول أو بعده... 90

أخذ الجزية من أثمان المحرّمات... 93

في حكم الكنائس والبِيَع... 96

منع أهل الكتاب من دخول المساجد... 102

وجوب قتال أهل الحرب... 106

كيفيّة القتال... 109

جواز المهادنة... 112

الذمام والأمان... 121

أركان الذمام والأمان... 123

عدم جواز الفرار إذا كان العدو على الضعف... 128

جواز محاربة العدو بما يُرجى به الفتح... 136

عدم جواز قتل النساء... 143

حكم الحربي وماله إذا أسلم في دار الحرب... 144

حكم إسلام العبد في دار الحرب... 145

قتال أهل البغي... 146

وجوب قتال الخارج على نائب الغيبة... 153

التفصيل بين من له فئة وغيره... 155

عدم جواز سَبي ذراري البغاة... 158

حكم أموال البغاة... 161

في قسمة الغنائم... 166

كيفيّة قسمة الغنائم... 174

التسوية بين الناس في قسمة الغنيمة... 179

ص: 397

لا نصيب للأعراب... 184

اعتبار عدم الغصبية في المغتنم... 187

الأُسارى... 189

الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين... 199

اعتبار كون الفتح بإذن الإمام... 204

ثبوت الخُمس في الأرض المفتوحة عنوة... 207

حكم الأراضي المفتوحة عنوة زمان الغيبة... 209

كيفيّة استحقاق المسلمين لها... 212

بيع الأرض المفتوحة عنوة... 214

مصرف حاصل الأرض المفتوحة عنوة... 217

ما به يثبت كون الأرض مفتوحة عنوة... 221

حكم موات الأرض المفتوحة عنوة... 224

حكم أرض الصلح... 228

حكم أرض من أسلم أهلها طوعاً... 232

حكم الأرض التي تركت عمارتها... 236

الأرض غير البالغة حَدّ الموات... 240

تملّك الأرض الميتة بالإحياء... 242

شرائط التملّك بالإحياء... 250

كيفيّة الإحياء... 257

حكم التحجير... 261

الفصل الرابع / في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 264

الأدلّة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 271

الأدلّة المتوهّم دلالتها على عدم الوجوب... 287

ص: 398

في أنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عيني أو كفائي... 309

انقسام الأمربالمعروف والنهي عن المنكرإلى الإجتماعي والإنفرادي... 312

شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... 318

فروع متفرّعة عن عدم اشتراط التأثير... 329

فروع باب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر... 345

مراتب الإنكار... 355

الترتيب بين المراتب... 363

الجَرح والقتل بلا إذنٍ من الإمام... 366

الفروع المستخرجة... 371

ثبوت منصب الحكومة للمجتهد... 375

حكم تزاحم المجتهدين... 384

يجوز للحاكم الشرعي إقامة الحدود... 386

أمر الأهل بالمعروف ونهيهم عن المنكر... 391

أخذ الاُجرة على الأمر بالمعروف... 393

وظيفة المصلح للمجتمع... 396

فهرس الموضوعات... 397

ص: 399

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.