سرشناسه:روحانی، سیدمحمدصادق، 1303 -
عنوان قراردادی:تبصره المتعلمین .شرح
عنوان و نام پديدآور:فقه الصادق [کتاب]/ تالیف محمدصادق الحسینی الروحانی؛ باشراف قاسم محمد مصری العاملی.
مشخصات نشر:قم : آیین دانش، 1392.
مشخصات ظاهری:41ج.
شابک:4200000ریال: دوره: 978-600-6384-26-9 ؛ 100000ریال: ج.1: 978-600-6384-28-3 ؛ 100000ریال: ج.2: 978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.3: 978-600-6384-31-3 ؛ 100000ریال: ج.4:978-600-6384-30-6 ؛ 100000ریال: ج.5: 978-600-6384-33-7 ؛ 100000ریال: ج.6: 978-600-6384-34-4 ؛ 100000ریال: ج.7: 978-600-6384-35-1 ؛ 100000 ریال: ج.8: 978-600-6384-36-8 ؛ 100000ریال: ج.9: 978-600-6384-37-5 ؛ 100000 ریال: ج.10: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.11: 978-600-6384-37-5 ؛ ج.12: 978-600-6384-38-2 ؛ ج.13: 978-600-6384-39-9 ؛ ج.14: 978-600-6384-40-5 ؛ ج.15: 978-600-6384-41-2 ؛ ج.16: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.17: 978-600-6384-50-4 ؛ 100000 ریال: ج.18: 978-600-6384-51-1 ؛ 100000 ریال: ج.19: 978-600-6384-52-8 ؛ ج.20: 978-600-6384-46-7 ؛ 100000ریال: ج.21:978-600-6384-54-2 ؛ 100000ریال: ج.22: 978-600-6384-55-9 ؛ 100000ریال: ج.23: 978-600-6384-56-6 ؛ 100000ریال: ج.24: 978-600-6384-57-3 ؛ 100000ریال: ج.25: 978-600-6384-58-0 ؛ 100000ریال: ج.26: 978-600-6384-59-7 ؛ 100000 ریال: ج.27: 978-600-6384-60-3 ؛ 100000 ریال: ج.28: 978-600-6384-61-0 ؛ 100000 ریال: ج.29: 978-600-6384-62-7 ؛ 100000 ریال: ج.30: 978-600-6384-63-4 ؛ 100000 ریال: ج.31: 978-600-6384-64-1 ؛ 100000 ریال: ج.32:978-600-6384-65-8 ؛ 100000 ریال: ج.33:978-600-6384-66-5 ؛ 100000 ریال: ج.34: 978-600-6384-67-2 ؛ 100000 ریال: ج.35: 978-600-6384-41-2 ؛ 100000 ریال: ج.36: 978-600-6384-42-9 ؛ 100000 ریال: ج.37: 978-600-6384-43-6 ؛ 100000ریال: ج.38: 978-600-6384-44-3 ؛ 100000 ریال: ج.39: 978-600-6384-45-0 ؛ 100000 ریال: ج.40: 978-600-6384-29-0 ؛ 100000 ریال: ج.41: 978-600-6384-26-9
وضعیت فهرست نویسی:فیپا
يادداشت:عربی.
يادداشت:چاپ قبلی: قم: اجتهاد، 1386 -
يادداشت:جلد 4 تا 41 این کتاب در سال 1393 تجدید چاپ شده است.
يادداشت:کتاب حاضر شرح و تعلیقی بر کتاب " تبصره المتعلمین" اثر علامه حلی است.
یادداشت:کتابنامه .
یادداشت:نمایه.
مندرجات:ج.17- 18و 19.الحج.-ج.22 و 23 المکاسب.-ج.28. الاجاره.-ج.32،31و33.النکاح.-ج.34.الفراق.-ج.35. الفراق.-ج.41. الفهارس.
موضوع:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین -- نقد و تفسیر
موضوع:فقه جعفری -- قرن 8ق.
شناسه افزوده:عاملی، قاسم محمد مصری، گردآورنده
شناسه افزوده:علامه حلی، حسن بن یوسف، 648 - 726ق. . تبصره المتعلمین . شرح
رده بندی کنگره:BP182/3/ع8ت20214 1392
رده بندی دیویی:297/342
شماره کتابشناسی ملی:3334286
ص: 1
فقه الصادق
تأليف سماحة آية الله العظمى السيّد محمدصادق الحسينى الروحانى
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
ص: 3
ص: 4
الحمدُ للّه الذي أوجب الحَجّ تشيّيداً للدِّين، وجَعَله من القواعد التي عليها بناء الإسلام، والصّلاة على محمّدٍ المبعوث إلى كافّة الأنام، وعلى آله هُداة الخلق، وأعلام الحَقّ ، واللّعن الدائم على أعدائهم إلى يوم الدِّين.
وبعدُ، فهذا هو الجزء السادس عشر من كتابنا «فقه الصادق»، وقد وفّقني اللّه سبحانه لطبعه، راجياً منه تعالى التوفيق لنشر بقيّة الأجزاء، إنّه وليّ التوفيق.
ص: 5
ص: 6
(و) المحرّم العاشر (إزالة الشعر من غير ضرورة)، قليلاً كان أو كثيراً، على رأسه كان أو على بدنه أو لحيته، بالحلق أو النتف، أو النورة أو غيرها، بلا خلافٍ .
وفي «الجواهر»(1): (بل الإجماع بقسمية عليه).
وفي «المستند»(2): (إجماعاً محقّقاً ومحكيّاً مستفيضاً).
وفي «المنتهى»: (أجمع عليه العلماء)(3)، وفي «التذكرة»(4): (بإجماع العلماء).
ويشهد له: بالنسبة إلى حَلْق الرأس:
1 - قوله تعالى : (وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) (5).
2 - ومفهوم قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (6).
ويدلّ عليه وعلى غيره جملةٌ من الأخبار، وهي ما بين ظاهر في الحرمة ودال عليها بالالتزام.
ص: 7
الطائفة الاُولى :
منها: صحيح معاوية بن عمّار، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المُحرِم كيف يحكّ رأسه ؟، قال عليه السلام: بأظافيره ما لم يدم أو يقطع الشعر»(1).
فإنّه بمفهوم الغاية يدلّ على حرمة قطع الشعر.
لا يقال: إنّه مختصٌّ بالنتف، فلا يدلّ على غيره.
فإنّه يقال: إنّ الغاية لجواز الحَكّ هو قطع الشعر بما هو قطع، فالمفهوم حرمة قطع الشعر من حيث هو، سواءٌ أكان بالنتف أو غيره، إلّاأنّه مختصّ بالرأس.
ومنها: خبر عمر بن يزيد، عنه عليه السلام: «لا بأس بحكّ الرأس واللّحية ما لم يلق الشعر»(2). وهذا أيضاً كسابقه، إلّاأنّه مختصٌّ بالرأس واللّحية.
ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «عن المُحرِم يحتجم ؟ قال: لا، إلّاأن لا يجد بُدّاً فليحتجم ولا يحلق مكان المحاجم»(3).
وهذا الخبر مختصٌّ بحلق البدن.
ومنها: خبر الحسن الصيقل، عنه عليه السلام في حديثٍ : «ويحتجم ولا يحلق الشعر»(4).
ومنها: صحيح حريز، عنه عليه السلام: «لا بأس أنْ يحتجم المُحرِم ما لم يَحلق أو يقطع الشعر»(5).
وهذا أعمٌّ من الحلق، لكنّه مختصٌّ بشعر البدن.4.
ص: 8
أقول: هذه النصوص تدلّ على الحرمة، بعضها في الرأس، وبعضها فيه وفي اللّحية، وبعضها في البدن، وبعضها وإنْ اختصّ بالحَلق إلّاأنّ في البقيّة كفاية.
الطائفة الثانية:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إن نتف المُحرِم من شعر لحيته وغيرها شيئاً، فعليه أن يُطعم مسكيناً في يده»(1).
ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «مَنْ حَلَق رأسه، أو نتف إبطه ناسياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، ومن فعله متعمّداً فعليه دم»(2).
ومنها: صحيح هشام بن سالم، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إذا وضع أحدكم يده على رأسه أو لحيته وهو مُحرِم، فسقط شيءٌ من الشعر، فليتصدّق بكفٍّ من طعام، أو كفٍّ من سويق»(3) ونحوها غيرها(4).
أقول: ودلالة هذا القسم على الحرمة تتوقّف على ثبوت الملازمة بين الكفّارة والحرمة، وقد ظهر ممّا ذكرناه دلالة النصوص على حرمة القطع بأيّ نحوٍ كان، بالنتف أو الحلق، أو غيرهما، فدعوى اختصاص النصوص بالنتف لم يظهر وجهه.
كما أنّه ظهر عدم الاختصاص بشعر الرأس، بل بعض النصوص واردٌ في شعر البدن، وبعضها في شعر الرأس واللّحية، فدعوى الاختصاص للإنصراف غير ظاهر الوجه أيضاً.
أقول: وتمام الكلام يتحقّق في طيّ فروع.خ.
ص: 9
الفرع الأوّل: لا خلاف بينهم في جواز ازاله الشعر عند الضرورة، من أذيّة قُمّل، أو قروح، أو صُداع، أو حَرّ، أو غير ذلك.
وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)(1).
وفي «المستند»: (للإجماع)(2).
وفي «الرياض»: (بإجماع العلماء(3) كما في «المدارك»(4) وغيره).
ويشهد به:
1 - الآية الكريمة (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) (5)... الخ.
2 - وقاعدة نفي الحرج.
3 - وجملة النصوص:
منها: صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «مَرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله على كعب بن عجرة الأنصاري، والقُمّل يتناثر من رأسه وهو مُحرِم! فقال صلى الله عليه و آله: أتؤذيك هوامّك ؟ فقال: نعم، قال: فأنزلت هذه الآية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (6) فأمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله بحلق رأسه، وجعل عليه الصيام ثلاثه أيّام، والصدقة على ستّة مساكين، لكلّ مسكين مُدّان، والنسك شاة.
ص: 10
قال: وقال أبو عبد اللّه عليه السلام: وكلّ شيء في القرآن، أو فصاحبه بالخيار يختار ما شاء، وكلّ شيء في القرآن فمن لم يجد فعليه كذا، فالأوّل بالخيار»(1).
قوله عليه السلام: (فالأوّل بالخيار)، يعني فالأوّل هو المختار، وما بعده إنّما هو عوض عنه مع عدم إمكانه.
ومنها: خبر عمر بن يزيد، عنه عليه السلام: «قال اللّه في كتابه: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ ...) الخ، إلى أن قال: فمن عَرَض له أذى أو وجع، فتعاطى ما لا ينبغي للمُحرِم إذا كان صحيحاً، فصيام ثلاثة أيّام، والصدقة على عشرة مساكين يشبعهم من الطعام، والنسك شاة يذبحها فيأكل ويطعم، وإنّما عليه واحد من ذلك»(2). ونحوهما غيرهما.
ثمّ إنّ الكلام في أنّه هل يختصّ وجوب الكفّارة عليه بصورة خاصّة أم لا؟ سيأتي التعرّض له في مبحث الكفّارات(1).
الفرع الثاني: لو قطع عضواً مثلاً كان عليه شعر لم يكن عليه إثم، لعدم صدق إزالة الشعر عليه، مع أنّ الموضوع في النصوص قطع الشعر أو حلقه أو نتفه، وشيء من هذه العناوين لا يصدق على المورد قطعاً، فلا وجه للحكم بجريان حكمه عليه، وما في القصاص من صدق قطع الإصبع بقطع الكفّ إنّما هو لدليلٍ خاص، فما عن الشهيد(2) من التردّد فيه في غير محلّه.
الفرع الثالث: لا خلاف في أنّه يحرم على المُحرِم أخذ شعر مُحرمٍ آخر، بل في «المستند» و «الجواهر»(3)، وعن «المدارك»(4) وغيرها، دعوى الإجماع عليه، لا لما في «الجواهر» من أنّه يُفهم من الأدلّة عدم جواز وقوع ذلك من أيّ مباشرٍ كان، بل).
ص: 11
لصحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«لا يأخذ المُحرِم من شعر الحلال»(1)، فإنّه يدلّ بالأولويّة على حُرمة أخذ شعر الحرام، مع أنّ بعض المنع لعلّه مختصٌّ بإزالة الغير، لاحظ نصوص الحجامة(2).
وبما ذكرناه ظهر حرمة أخذ شعر الحلال أيضاً للصحيح المتقدّم.
ودعوى : عدم ظهوره في الحرمة، لكونة بالجملة الخبريّة كما ترى .
فما عن الشيخ(3)، وتبعه الفاضل النرافي(4) من الكراهة، في غير محلّه.
الفرع الرابع: الظاهر شمول النصوص للحَكّ الذي يُعلم بترتّب القطع عليه، فإنّ الموضوع في النصوص ليس خصوص الحلق والنتف وما شاكل - كي يُدّعي كما في «الجواهر» بعدم شمولها للإزالة بالحكّ (5) - بل الموضوع هو القطع الشامل لها أيضاً.
وصحيح ابن عمّار(6) - الوارد في كيفيّة حَكّ الرأس - شاهد بذلك، فإنّه بمفهوم الغاية يدلّ على حرمة الحَكّ ، الموجب لقطع الشعر، ومن الغريب استدلال بعضهم به لعدم حرمة القطع.
نعم، إذا لم يعلم أنّه هل يقطع الشعر بالحَكّ أم لا جاز له ذلك لأصالة البراءة، حتّى ولو ظهر بعد ذلك القطع.
وفي وجوب الكفّارة فيه وعدمه كلام سيأتي في مبحث الكفّارات(7).
أقول: بما ذكرنا ظهر حكم تسريح اللّحية.د.
ص: 12
وإستعمال الدّهن، وتغطية الرأس للرجال،
(و) المحرّم الحادي عشر: (استعمال الدّهن) الطيّب، وقد مرّ الكلام فيه في ذيل مبحث الطيب(1)، وعرفت أنّ المُحرّم استعمال الدّهن الطيّب، وأمّا غيره فجائزٌ.
(و) المحرّم الثاني عشر: (تغطية الرأس للرّجال) بلا خلافٍ .
وفي «الجواهر»(2): (بل الإجماع بقسمية عليه).
وفي «المستند»: (إجماعاً محقّقاً ومحكيّاً)(3).
وفي «المنتهى»: (وهو قول علماء الأمصار لا نعلم فيه خلافاً)(4) انتهى .
و في «التذكرة»: (يحرمُ على الرّجل حالة الإحرام تغطية رأسه اختياراً بإجماع العلماء)(5).
أقول: ويشهد به نصوص:
منها: صحيح عبد اللّه بن سنان: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول لأبي وشَكى إليه
ص: 13
حَرّ الشمس وهو مُحرِم وهو يتأذّى به، فقال: ترى أن أستتر بطرف ثوبي ؟ قال عليه السلام:
لا بأس بذلك ما لم يُصبك رأسك»(1).
حيث دلّ بمفهوم الغاية على ثبوت البأس الذي هو العقاب من إصابة الرأس.
ومنها: صحيح عبد اللّه بن ميمون، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام: «المُحرِمة لا تتنقّب، لأنّ إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرّجل في رأسه»(2).
ومنها: صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المُحرِم غطّى رأسه ناسياً، قال عليه السلام: يلقي القناع عن رأسه ويُلبّي ولا شيء عليه»(3).
ومنها: صحيح زرارة: «قلت لأبي جعفر عليه السلام: الرّجل المُحرِم يريد أن ينام، يغطّي وجهه من الذباب ؟ قال عليه السلام: نعم، ولا يخمّر رأسه»(4) أي لا يُغطّي رأسه.
ومنها: صحيح عبد الرحمن، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن المُحرِم يجد البرد في اُذنيه، يغطيهما؟ قال عليه السلام: لا»(5).
ونحوها غيرها من النصوص الكثيرة.
أقول: وتفصيل القول في المقام بالبحث في جهات:
الجهة الاُولى: أنّ مقتضى إطلاق الأخبار، بل وصراحة بعضها - كصحيح زرارة - أنّ تغطية الرأس في حال النوم حرامٌ .
وأمّا خبر زرارة عن أحدهما عليهما السلام: «في المُحرِم ؟ قال عليه السلام: له أن يغطّي رأسه5.
ص: 14
ووجهه إذا أراد أن ينام»(1).
فهو لإعراض الأصحاب عنه لا يُعتمد عليه، فلا يصلح لمعارضة ما تقدّم.
الجهة الثانية: أنّه بعدما لا خلاف بينهم في حرمة سَتر الاُذنين لصحيح عبدالرحمن المتقدّم، وجواز سَتر الوجه لصحيح زرارة المتقدّم وغيره وسيأتي الكلام فيه، اختلفوا في أنّ المراد بالرأس ما يقابل البدن، ليحرم سَتر غير الاُذن والوجه ممّا هو داخلٌ في الرأس مقابل البدن، أم خصوص منابت الشعر حقيقةً أو حكماً، فلا يحرم تغطيته ؟
صرّح الشهيد الثاني رحمه الله بالثاني(2)، وعن جماعةٍ اختياره(3)، وعن «التحرير»(4)الأوّل، وظاهر «المنتهى»(5) التردّد فيه.
وقد استدلّ للأوّل:
1 - بصحيح ابن الحجّاج المتقدّم، الدالّ على حرمة تغطية الاُذنين.
2 - وبأنّ الرأس اسمٌ للعضو المخصوص كاليد، وإنْ اختصّ بعض أجزائه باسمٍ آخر.
3 - و بخبر سماعة الدالّ (6) بالمفهوم على حُرمة تغطية الاُذن في صورة عدم الاضطرار.9.
ص: 15
4 - وبالنبوي المرويّ في «المنتهى»(1)، قال صلى الله عليه و آله: «الاُذن من الرأس».
أقول: وفي الجميع نظر:
إذ الصحيح الذي يدلّ على حرمة التغطية، أعمّ من كون الاُذن من الرأس، إذ لا مانع من عدم كونه جزءً للرأس ومع ذلك يحرم تغطيته، وإلّا لعارضه صحيح زرارة(1) الدالّ على عدم لزوم تغطية الوجه، وبه يظهر ما في الاستدلال بخبر سماعة.
وأمّا النبوي: فهو ضعيفٌ غير مروي من طرقنا، وكون الرأس اسماً للأعمّ أوّل الكلام، ولم يثبت.
وعلى هذا فموضوع الحكم مجملٌ مردّدٌ بين الأقل والأكثر، فبالنسبة إلى المتيقّن يثبت الحكم، وفي الزائد عليه يشكّ في الحكم، والمرجع حينئذٍ إلى أصالة البراءة عن حرمة تغطيته.
الجهة الثالثة: قال المصنّف في «المنتهى»: (يحرم تغطية بعض الرأس، كما يحرم تغطيته، لأنّ النهي عن إدخال الشيء في الوجود، يستلزم النهي عن إدخال أبعاضه، ولهذا لما حَرّم اللّه تعالى حلق الرأس، تناول التحريم حلق بعضه)، انتهى (3).
وفيه: أنّ الأمر بإدخال الشيء في الوجود، يستلزم الأمر بإدخال أبعاضه، إذ لا يدخل الشيء في الوجود إلّابدخول أبعاضه، وهذا لا يتمّ في طرف النهي، فإنّ عدم إدخال الشيء في الوجود، كما يكون بعدم إدخال جميع أبعاضه، كذلك قد يكون بعدم إدخال جزء من أبعاضه، إذ الكلّ ينتفي بانتفاء الجزء.4.
ص: 16
وعليه، فالأولى أن يستدلّ له بصحيح ابن سنان(1) المتقدّم: «في من يتأذّى من حَرّ الشمس، فيستتر بطرف ثوبه ؟ قال عليه السلام: لا بأس بذلك، ما لم يصبك رأسك»، فإنّ إطلاق إصابة الرأس المُحرّمة، يشمل إصابة بعض الرأس.
الجهة الرابعة: قال في «المنتهى»: (لو ستر رأسه بيده، أو بعض أعضائه ببعضٍ ، فالوجه الجواز)(2)، انتهى ، ومثله في «التذكرة»(3)، وعن الشيخ أيضاً(4)، وتبعهما جمعٌ من المحقّقين كصاحبي «الجواهر»(5) و «المستند»(6) وغيرهما.
لكن التزم الشهيد رحمه الله في «الدروس» المنع(7).
أقول: والأوّل وأظهر:
لا لما أفاده المصنّف رحمه الله بأنّ الستر بما هو متّصلٌ به لا يثبت له حكم الستر، ولذا لو وضع يديه على فرجه، لم يُجزه في الصلاة، فإنّ ذلك قابلٌ للمنع.
ولا لوجوب مسح الرأس في الوضوء، المقتضي لستره باليد في الجملة، فإنّه يمكن الالتزام بالتخصيص.
ولا لصحيح معاوية عن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس أن يضع
ص: 17
المُحرِم ذراعه علي وجهه من حَرّ الشمس، ولا بأس أن يستربعض جسده ببعض»(1).
ولا خبر المُعلّى بن خُنيس، عنه عليه السلام: «لا يستترُ المُحرِم من حَرّ الشمس بثوبٍ ، ولا بأس أن يستر بعض جسده ببعض»(2)، ونحوهما صحيح ابن وهب(3)وخبر جعفر بن المثنّى(4)، التي استدلّ بها جمعٌ من المحقّقين(3)، لأنّه يعارضها:
أوّلاً: موثّق سعيد الأعرج: أنّه «سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن المُحرِم يستتر من الشمس بعودٍ وبيده ؟ قال عليه السلام: لا، الا من علّة»(4)، وهو أخصّ ويقدّم عليها.
وثانياً: أنّ الجميع في التظليل دون التغطية، ومن الغريب أنّ الفاضل النراقي رحمه الله رَدّ موثّق الأعرج بأنّه في التظليل، وأنّه لا ربط له بالمقام(5)، واستدلّ بتلك النصوص مع أنّها أيضاً في التظليل!
بل لأنّ العناوين المأخوذة في النصوص من تخمير الرأس والسَّتر بالثوب وما شاكل لا تشمل السّتر باليد، ولما دلّ من النصوص إلى جواز حَكّ الرأس ما لم يَخرج الدّم، ولم يقطع الشعر، المتقدّم في مسألة إزالة الشعر، فإنّ حَكّ الرأس مستلزمٌ لستر بعضه باليد.
أقول: وهل يجوز السَّتر بغير المعتاد للسَّتر، كالطين والحَنّاء والزنبيل والقرطاس وما شاكل، كما عن «المدارك»(6) و «الذخيرة»(7).3.
ص: 18
أم لا يجوز كما هو المنسوب إلى الأصحاب(1)، وفي «الجواهر»: (بل لا أجد فيه خلافاً)(2)، وفي «التذكرة»: (عند علمائنا)(3)؟
استدلّ للثاني:
1 - بإطلاق أدلّة حرمة تغطية الرأس.
2 - وبما دلّ على منع المُحرمة تغطية وجهها بالمروحة، بناءً على أنّها من غير المتعارف، وعلى تساويهما في ذلك وإنْ اختلفا في محلّ إحرامهما.
3 - وبما دلّ على المنع من الارتماس في الماء، بناءً على أنّه من التغطية أو بمعناها.
ولذا لا يختصّ ذلك بالماء.
4 - وبما دلّ على استثناء عصام القربة وغير ذلك، إذ لو كانت التغطية بغير المتعارف جائزة، لم يكن وجهٌ للإستثناء.
ولكن يرد على الأوّل: أنّ المنهيّ عنه في النصوص، السَّتر بالثوب وتخمير الرأس ووضع القناع عليه وما شاكل من العناوين غير الشاملة لما ذكر.
وأمّا حديث الانصراف إلى المعتاد الذي أفاده سيّد «المدارك»(4)، فيرد عليه أنّه على فرضه بدوى يزول بالتأمّل.
ويرد على الثاني: أنّ الدليل مختصٌّ بمورده، والتعدّي إلى المقام يحتاج إلى دليل.
ويرد على الثالث: أنّ الدليل دلّ على حرمة الارتماس، ولا نعلم وجه ذلك، بل3.
ص: 19
فتوى الأصحاب(1) بجواز أن يغسل رأسه ويفيض عليه الماء، كاشفٌ عن كونه محرّماً مستقلّاً.
وعلى الرابع: أنّ دليل الاستثناء إنّما يكون بلسان بيان الجواز، لا بعنوان الاستثناء كي يستدلّ به.
وبالجملة: فلا دليل على حرمته، إلّاأنّ الأحوط البتّة الترك.
ويؤيّد الجواز: ما ذكره غير واحدٍ، من أنّه لا بأس بالتوسّد(2) بالوسادة أو العمامة المكورة، مع أنّه يلزم منه ستر بعض الرأس.
وأيضاً: يؤيّد الجواز ما عن «المقنع»(3)، و «التحرير»(4) و «المنتهى»(5)و «الدروس»(6) وغيرها، من جواز التلبيد للمُحرِم، بأنْ يَطلي رأسه بَعَسل أو صمغ، ليجتمع الشعر ويتلبّد، فلا يتخلّله الغبار، ولا يصيبه الشعث، ولا يقع فيه الدبيب.
أقول: ويشهد بأنّ ذلك كان معروفاً سابقاً ما رواه زرارة في الصحيح: «أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام عن المُحرِم يَحكّ رأسه ؟ قال عليه السلام: يَحكّ رأسه ما لم يتعمّد قتل دابّة، ولا بأس أن يغتسل بالماء، ويصبّ على رأسه ما لم يكن ملبّداً، فإنْ كان9.
ص: 20
ملبّداً، فلا يفيض على رأسه الماء إلّامن الاحتلام»(1).
وهذا الخبر شاهد على دعوانا، وإنْ كان في دلالته على جوازه مطلقاً حتّى في حال الاختيار نظرٌ ظاهر.
الجهة الخامسة: لو وضع على رأسه شيئاً غير ملاصق به، بأن رفعه عنه بآلةٍ ونحوها، فهل يجوز ذلك - كما عن «المسالك»(2) - أم لا؟
أقول: الحقّ جواز ذلك من حيث حرمة التغطية، وإنْ لم يجز من حيث التظليل.
الجهة السادسة: قد استنثى من حرمة التغطية موارد:
المورد الأوّل: وضع عصام القربة على رأسه، فإنّه جائزٌ اختياراً، وإنْ لزم منه ستر بعض الرأس، والظاهر عدم الخلاف فيه كما في «الجواهر»(3)، ويشهد به صحيح محمّد بن مسلم، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن المُحرِم يضع عِصام القربة على رأسه إذا استسقى؟ قال عليه السلام: نعم»(4).
وهذا كما ترى مطلق لا اختصاص له بحال الضرورة، وهو أيضاً يؤيّد عدم حرمة التغطية بغير المعتاد.
المورد الثاني: عصابة الصّداع، ويشهد به - مضافاً إلى عدم الخلاف فيه - صحيح معاوية بن وهب، عنه عليه السلام: «لا بأس بأن يُعصّب المُحرِم رأسه
ص: 21
من الصُّداع»(1).
ونحوه حسن يعقوب بن شعيب فيمن به قُرحة(2).
وعن «كشف اللِّثام»: (عمل بهما - أي صحيحي العصابتين - الأصحاب)(3).
أقول: وهل يجوز التعصيب مطلقاً، كما عن ابن حمزة(4)؟
أم يجوز التعصيب لحاجةٍ ، كما عن «التهذيب»(5)، و «النهاية»(6)، و «المبسوط»(7)، و «السرائر»(8)، و «التذكرة»(9) و «التحرير»(10) و «المنتهى»؟(11)
أم يجوز إذا وصل إلى حَدّ الضرورة، كما في «الجواهر»؟(12)
وجوهٌ ، إلّاأنّ الظاهر إرجاع القول الثاني إلى الثالث، وأنّ مرادهم بالحاجة الضرورة، لأنّ المصنّف رحمه الله استدلّ في «المنتهى» لما اختاره بما دلّ على نفي الحرج، وعليه فالوجه فيه واضح. وأمّا ما عن ابن حمزة(13) فلم يظهر وجهه.
المورد الثالث: التغطية في حال الإضطرار، والظاهر أنّه لا خلاف ولا إشكال3.
ص: 22
في جوازها، لعموم ما دلّ على إباحة المحظورات في حال الضرورة، وقاعدة نفي الحَرَج والضرر.
الجهة السابعة: في تغطية الرّجل المُحرِم وجهه قولان:
القول الأوّل: ما هو المشهور بين الأصحاب من الجواز، بل قال المصنّف في «المنتهى»: (يباح للمُحرِم ستر وجهه، فلا يجبُ عليه كشف الوجه إذا كان رجلاً، ذهب إليه علمائنا أجمع) انتهى (1)، وفي «التذكرة»: (يجوز للمُحرِم تغطية وجهه عند علمائنا أجمع)(2).
القول الثاني: ما عن العُمّاني، من الحكم بعدم الجواز(3).
ويشهد للجواز: - مضافاً إلى الأصل، وإلى ما تقدّم من النصوص في تغطية الرأس، الدالّة على جواز تغطية الوجه، سيّما الصحيح المتضمّن للتفصيل بين الرّجل والمرأة(4) القاطع للشركة - جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح حفص ابن البُختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي عليهم السلام:
«المُحرِم يغطّي وجهه عند النوم، والغبار إلى طرار شعره»(5).
أي منتهى شعره، وهو القصاص الذي هو منتهى حَدّ الوجه من الأعلى .
ص: 23
ومنها: صحيح منصور بن حازم، قال: «رأيتُ أبا عبد اللّه عليه السلام وقد توضّأ وهو مُحرِم، ثمّ أخذ منديلاً فمسح به وجهه»(1).
ومنها: خبر عبد الملك القُمّي: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرّجل يتوضّأ ثمّ يُجلّل وجهه بالمنديل يخمّره كلّه ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(2).
ومنها: خبر علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «سألته عن المُحرِم، هل يصلح له أن يطرح الثوب على وجهه من الذباب وينام ؟ قال عليه السلام: لا بأس»(3) ونحوها غيرها.
أقول: وبإزاء هذه النصوص طائفتان من النصوص:
الطائفة الاُولى : وهي تتضمّن خبرين صحيحين:
الأوّل: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«يكره للمُحرِم أن يجوز بثوبه فوق أنفه، ولا بأس أن يمدّ المُحرِم ثوبه حتّى يبلغ أنفه»(4).
الثاني: صحيح ابن البُختري وهشام بن الحكم، جميعاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّما يكره للمُحرِم أن يجوز ثوبه أنفه من أسفل، وقال عليه السلام: اضحَ لمن أحرمت له»(5).
الطائفة الثانية: ما يتضمّن أنّ فيه الكفّارة، وهو صحيح الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «المُحرِم إذا غَطّى وجهه فليطعم مسكيناً في يده»(6).8.
ص: 24
أقول: وكلّ من الطائفتين يحتمل أن تكون مدرك ابن أبي عقيل:
ولكن الأولى غير ظاهرة في الحرمة، فإنّ الكراهة وإنْ لم تكن ظاهرة في المصطلحة، إلّاأنّها ليست ظاهرة في إرادة الحرمة، وعلى فرض ظهورها فيها تُحمل على المصطلحة، للنصوص المتقدّمة الصريحة في الجواز.
والثانية وإنْ كانت ظاهرة في الحرمة، من جهة الملازمة بين الكفّارة والحرمة، إلّا أنّ الملازمة إنّما تكون ثابتة مع عدم الدليل على الجواز، وقد مرّ وجوده.
وبالجملة: فمع قطع النظر عمّا سيأتي في مبحث الكفّارات من أنّ الصحيح محمولٌ على الاستحباب، فإنّ الجمع بين الطائفتين يقتضي البناء على ما ذهب إليه الشيخ(1) رحمه الله - وتبعه صاحب «الحدائق» رحمه الله(2) - من الجواز مع ثبوت الكفّارة، ولكن سيأتي الكلام في وجوب الكفّارة أو استحبابها في مبحث الكفّارات(3).
منها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «ولا ترتمس في ماءٍ تُدخل فيه رأسك»(1).
ومنها: صحيح حريز، عنه عليه السلام: «ولا يرتمس المُحرِم في الماء»(2).
ومنها: صحيح يعقوب بن شعيب، عنه عليه السلام: «لا يرتمس المُحرِم في الماء ولا الصائم»(3) ونحوها غيرها.
أقول: وهذه النصوص مختصّة بالماء، فإسراء الحكم إلى غيره من المايعات متوقّفٌ على ما ادّعاه صاحب «الجواهر» رحمه الله(4) من أنّ حرمة الارتماس من جهة التغطية، وهذه العلّة جارية في غيره، أو على تنقيح المناط، أو شمول دليل حرمة التغطية للارتماس في المايعات الاُخر، وشيءٌ من ذلك لا يمكن إثباته:
أمّا الأوّل: فلأنّ الدليل ظاهر في موضوعيّة الارتماس نفسه للحكم، وحمله على أنّه من باب التغطية خلاف الظاهر.
وأمّا الثاني: فلعدم العلم بالمناط حتّى يُحرز وجوده في المايعات الاُخر.
وأمّا الثالث: فلما عرفت من أنّ دليل حرمة التغطية مختصٌّ بالسَّتر بالمعتاد.
ويترتّب على ما ذكرناه عدم حرمة ارتماس بعض الرأس، إذ لو كان للإرتماس موضوعيّة، لا أنّه من مصاديق التغطية، والفرض ظهور النصوص في ارتماس تمام الرأس كما في باب الصوم، يصبح ارتماس بعض الرأس خالياً عن الإشكال.
فرع: وهل يجوز غَسل الرأس بإفاضة الماء عليه أم لا؟6.
ص: 26
الظاهر أنّه لا خلاف في جوازه، بل في «المنتهى»(1) و «التذكرة»(2)و «الرياض»(3) وغيرها دعوى الإجماع عليه.
ويشهد له: - مضافاً إلى الأصل، بعد عدم شمول دليل عدم جواز الارتماس، وعدم جواز التغطية له - جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح حريز، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا اغتسل المُحرِم من الجنابة، صَبّ على رأسه الماء، يميّز الشعر بأنامله بعضه من بعض»(4).
ومنها: صحيح يعقوب بن شعيب، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المُحرِم يغتسل ؟ فقال عليه السلام: نعم، يفيض الماء على رأسه ولا يدلكه»(5).
ومنها: صحيح زرارة، عنه عليه السلام: «عن المُحرِم، هل يَحكّ رأسه أو يغتسل بالماء؟ فقال عليه السلام: يَحكّ رأسه ما لم يتعمّد قتل دابّةٍ ، ولا بأس بأن يغتسل بالماء، ويصبّ على رأسه(6)، الحديث».
ومقتضى إطلاق النصوص، عدم الفرق بين الغُسل الواجب والمستحبّ ، كما أنّ مقتضى الدليل الأوّل جواز الغسل - بالفتح -.
الجهة التاسعة: لو غَطّى رأسه ناسياً، ألقى الغطاء واجباً بلا خلاف، فإنّ التغطية محرّمة ابتداءً واستدامةً .
ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:7.
ص: 27
والتظليل سائراً
«عن مُحرمٍ غَطّى رأسه ناسياً؟ قال عليه السلام: يلقي القناع عن رأسه ويُلبّي، ولا شيء عليه»(1) ونحوه غيره.
أقول: ومقتضى الصحيح وجوب التلبية، كما أنّه مقتضى صحيح الحلبي الذي رواه عن الصادق عليه السلام: «عن المُحرِم يغطّي رأسه ناسياً أو نائماً؟ فقال عليه السلام: يُلبّي إذا ذكر»(2).
إلّا أنّ تسالم الأصحاب على الاستحباب يوجبُ رفع اليد عن ظهورهما في الوجوب، ويُحملان على الندب.
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ ظاهر الشيخ وابني حمزة وسعيد وعن بعضٍ آخر وجوب التلبية، وبعض من قال بعدم الوجوب استند إلى عدم ظهور الجملة الخبريّة في الوجوب، وعليه فلا وجه لرفع اليد عن ظاهر الخبرين، والاحتياط سبيل النجاة.
الجهة العاشرة: حرمة التغطية مختصّة بالرجل بلا خلافٍ ، بل إجماعاً محقّقاً ومحكيّاً، والنصوص شاهدة به، مضافاً إلى اختصاص نصوص المنع بالرجل، ولكن المعروف بين الأصحاب أنّ عليها أن تُسفر عن وجهها، وسيأتي التعرّض لهذه المسألة عند تعرّض المصنّف رحمه الله لها في المكروهات، فانتظر.
(و) المحرّم الثاني عشر (التظليل سائراً) فلا يجوز أن يركب مركباً يوجبُ ذلك
ص: 28
- كالطيّارة وما شاكل - كما هو المشهور بين الأصحاب.
وفي «المنتهى»: (ذهب إليه علمائنا)(1).
وفي «التذكرة»(2): (عند علمائنا أجمع).
وعن ابن الجُنيد عدم حرمته(3).
وأمّا النصوص: فهي تبلغ ثلاثين حديثاً وألسنتها مختلفة، ولذلك وقع الخلاف في الخصوصيّات والقيود، فلابدّ أوّلاً من استعراض النصوص، ثمّ بيان ما يستفاد منها، وهي طوائف:
الطائفة الأُولى: ما استدلّ به على جواز التظليل على المُحرِم:
منها: صحيح الحلبي: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المُحرِم يركب في القُبّة ؟ قال عليه السلام: ما يُعجبني إلّاأنْ يكون مريضاً، قلت: فالنساء؟ قال عليه السلام: نعم»(4).
ومنها: صحيح جميل بن دراج، عنه عليه السلام: «لا بأس بالظلال للنساء، وقد رُخّص فيه للرِّجال»(5).
ومنها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «قال: سألته اُظلّل وأنا مُحرِم ؟
فقال: نعم، وعليك الكفّارة، قال: فرأيتُ عليّاً إذا قَدِم مكّة ينحرُ بدنة لكفّارة الظِلّ »(6).1.
ص: 29
والظاهر أنّ قائل: (فرأيتُ ... الخ) هو موسى بن القاسم، والمراد من علي القادم إلى مكّة هو علي بن جعفر عليه السلام، ولكن صاحب «الوافي»(1) رحمه الله يقول: (إنّ المراد به علي ابن موسى الرضا) عليه السلام، ولعلّه من جهة أنّ النسخة التي كانت عنده ذكر فيها عليه السلام فحَمَله على الإمام عليه السلام.
الطائفة الثانية: ما دلّ على حرمة التظليل بركوب القُبّة أو الَمحْمِل أو الكنيسة(2)، ولا يدلّ على حرمة التظليل مطلقاً:
منها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: «عن المُحرِم يركب القُبّة ؟ فقال: لا.
قلت: فالمرأة المُحرِمة ؟ قال عليه السلام: نعم»(3).
ومنها: صحيح هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المُحرِم يركب في الكنيسة، قال عليه السلام: لا، وهو في النساء جائز»(4).
ومنها: الخبر المروي في الاحتجاج، قال: «سأل محمّد بن الحسن أبا الحسن موسى بن جعفر عليه السلام بمحضرٍ من الرشيد وهم بمكّة، فقال له: أيجوز للمُحرِم أن يُظلّل عليه محمله ؟ فقال له موسى عليه السلام: لا يجوز له ذلك مع الاختيار.
فقال له محمّد بن الحسن: أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختاراً؟
فقال عليه السلام له: نعم، فتضاحك محمّد بن الحسن من ذلك، فقال أبو الحسن:6.
ص: 30
أتعجبُ من سُنّة النبيّ صلى الله عليه و آله وتستهزئ بها؟! إنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كشف ظلاله في إحرامه، ومشى تحت الظلال وهو مُحرِم، إنّ أحكام اللّه يا محمّد لا تُقاس، فمن قاس بعضها على بعض فقد ضَلّ سواء السبيل.
فسكت محمّد بن الحسن لا يرجعُ جواباً»(1) ونحوها غيرها.
الطائفة الثالثة: ما يدلّ على حرمة التظليل الّذي هو أعمٌّ من القُبّة ونحوها، كما لا يخفى :
منها: صحيح عبد اللّه بن المغيرة: «قلتُ لأبي الحسن الأوّل عليه السلام: اُظلّل وأنا مُحرِم ؟ قال: لا. قلت: أفاُظلّل وأكفّر؟ قال: لا. قلت: فإن مرضتُ؟ قال عليه السلام:
ضلّل وكفّر.
ثمّ قال: أما علمت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: ما من حاجّ يُضحى مُلبيّاً حتّى تغيب الشمس إلّاغابت ذنوبه معها»(2).
ومنها: موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام، قال:
«سألته عن المُحرِم يُظلّل عليه وهو مُحرِم ؟ قال عليه السلام: لا، إلّامريضٍ ، أو من به علّة، والذي لا يطيق الشمس»(3).
ومنها: خبر محمّد بن منصور، عنه عليه السلام: «عن الظلال للمُحرِم ؟ فقال عليه السلام: لا يظلّل إلّامن علّة أو مرض»(4).
ومنها: خبر محمّد بن الفضيل، قال: «كنّا في دهليز يحيى بن خالد بمكّة، وكان0.
ص: 31
هناك أبو الحسن موسى عليه السلام وأبو يوسف، فقام إليه أبو يوسف وتربّع بين يديه، فقال:
يا أبا الحسن - جُعلت فداك - المُحرِم يظلّل ؟ قال عليه السلام: لا.
قال: فيستظلّ بالجدار والمَحمل، ويدخل البيت والخِباء؟
قال عليه السلام: نعم.... إلى أنْ قال: حَجّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله فأحرم ولم يظلّل، ودخل البيت والخِباء واستظلّ بالمَحمل والجدار، ففعلنا كما فَعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فسكت»(1)ونحوها وغيرها.
الطائفة الرابعة: ما يدلّ على حرمة الاستظلال:
منها: خبر جعفر بن المثنّى الخطيب، قال لي محمّد: ألا أسرّك يا ابن مثنى؟ فقلت: بلى ... إلى أنْ قال، فقال: يا أبا الحسن، ما تقولُ في المُحرِم يستظلّ على المحمل ؟
فقال له: لا، قال: فيستظلّ في الخباء؟ فقال عليه السلام: نعم.
إلى أنْ قال: كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يركب راحلته، فلا يستظلّ عليها، وتؤذيه الشمس فيستر بعض جسده ببعض، وربما يسترُ وجهه بيده، وإذا نزل استظلّ بالخباء وفي البيت وبالجدار»(2).
ومنها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي الحسن عليه السلام، في حديثٍ : «إذا علم أنّه لا يستطيع أن تصيبه الشمس، فليستظلّ منها»(3) ونحوه غيره.
الطائفة الخامسة: ما تضمّن النهي عن الإستتار عن الشمس:8.
ص: 32
منها: صحيح إسماعيل بن عبد الخالق، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام هل يستتر المُحرِم من الشمس ؟ فقال عليه السلام: لا، إلّاأنْ يكون شيخاً كبيراً، أو قال: ذا علّة»(1).
ومنها: خبر المعلّى بن خُنيس، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا يستتر المُحرِم من الشمس بثوبٍ ، ولا بأس أن يستتر بعضه ببعض»(2).
ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «لا بأس أن يضع المُحرِم ذراعه على وجهه من حَرّ الشمس، ولا بأس أن يستر بعض جسده ببعض»(3).
فإنّه بمفهومه يدلّ على المُدّعي.
ومنها: خبر سعيد الأعرج، عنه عليه السلام: «عن المُحرِم يستتر من الشمس بعودٍ وبيده ؟ قال عليه السلام: لا، إلّامن علّة»(4) ونحوها غيرها.
الطائفة السادسة: ما دلّ على المنع عن الظلّ لفوات الضُّحى:
منها: صحيح حفص بن البُختري، وهشام بن الحكم، جميعاً عن الإمام الصادق عليه السلام: «أنّه يكره للمُحرِم أن يجوز ثوبه أنفه من أسفل، وقال: اُضح لمن أحرمت له»(5).
ومنها: خبر عبداللّه بن المغيرة، عن أبي الحسن عليه السلام: «أما علمت أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «ما من حاجٍّ يُضحى ملبّياً حتّى تغيب الشمس إلّاغابت ذنوبه معها»(6).
ومنها: خبره الآخر، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الظلال للمُحرِم ؟ فقال: اُضح5.
ص: 33
لمن أحرمت له، قلت: إنّي محرورٌ وأنّ الحَرّ يشتدّ عَليّ؟ فقال: أما علمت أنّ الشمس تغربُ بذنوب المجرمين»(1).
ومنها: خبر الكلابي، عن أبي الحسن عليه السلام: «إنْ كان كما زعم فليظلّل، وأمّا أنتَ فاضحُ لمن أحرمت له»(2).
ونحوها غيرها.
أقول: وتنقيح الكلام فيما يستفاد من هذه النصوص يتحقّق بالبحث في جهات:
الجهة الاُولى: أنّ الطوائف الخمس الأخيرة تدلّ على حرمة التظليل في الجملة.
وأمّا الطائفة الأُولى فشيءٌ من نصوصها لا يدلّ على الجواز.
أمّا صحيح الحلبي، فلأنّ قوله عليه السلام فيه: (ما يُعجبني) ليس صريحاً ولا ظاهراً في الجواز، غايته عدم الظهور في الحرمة، فبقرينة سائر النصوص يُحمل على الحرمة.
وأمّا قوله عليه السلام في صحيح جميل(3): (وقد رُخّص فيه للرّجال)، فلأنّ الترخيص إنّما يُطلق على ما منع منه أوّلاً ثمّ اُذن فيه لضرورة.
وإنْ شئت قلت: إنّ غايته الإطلاق، فبواسطة النصوص المتقدّمة المفصّلة جملةً منها بين حال الضرورة وغيرها، يُخصّص بحال الضرورة.
وأمّا صحيح علي بن جعفر، فلأنّه قضيّةٌ في واقعة لا إطلاق له، وعلى فرض الإطلاق يخصّص بحال الضرورة.
فالمتحصّل: أنّه على فرض تماميّة دلالتها، فالجمعُ العرفي بين النصوصء.
ص: 34
يقتضي حملها على حال الضرورة، لا حمل نصوص المنع على الكراهة كما عن ابن الجُنيد(1)، لأنّ الجمع الموضوعي مقدّمٌ على الجمع الحكمي، فالقول بالجواز ضعيفٌ .
الجهة الثانية: يختصّ حرمة التظليل بحالة السّير، فلا يكون الاستظلال بالسقف والخيمة والشجرة وما شاكل حال النزول حراماً، لضرورة أو غير ضرورة، بلا خلافٍ ، وفي «المستند»(2): (بالإجماعين)، وفي «الجواهر»(3): (الإجماع بقسمية عليه).
ويشهد به: خبرا ابن الفُضيل وجعفر المتقدّمان في الطائفة الرابعة من النصوص، ومثلهما خبر الحسين بن مسلم، عن أبي جعفر الثاني عليه السلام: «أنّه سُئل ما فرق بين الفسطاط وبين ظِلّ المحمل ؟
فقال: لا ينبغي أن يستظلّ في المحمل، والفرق بينهما أنّ المرأة تطمث في شهر رمضان فتقضي الصيام ولا تقضي الصلاة»(4).
وبهذه الأخبار المُنجبرة بالعمل يقيّد إطلاق المطلقات.
وهل يجوز التظليل في المركب حال الوقوف أم لا؟ وجهان:
1 - من إطلاق أدلّة حرمة التظليل واختصاص المقيّدات:
منها: النصوص المتقدّمة.
ص: 35
ومنها: خبر البزنطي، عن الإمام الرضا عليه السلام: «قال أبو حنيفة: ايش فرق ما بين ظِلال المُحرِم والخِباء؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: إنّ السُنّة لا تقاس»(1).
ومنها: خبر عثمان بن عيسى المتضمّن لمحاجة أبي الحسن عليه السلام مع أبي يوسف السائل عن الفرق بين ظِلّ المحمل وظلّ الخباء منه - وجوابه عليه السلام بالنقض بقضاء الحائض الصيام دون الصلاة - الاختصاص بحال النزول(2).
2 - ومن أنّ الظاهر - ولو بضميمة فهم الفقهاء - أنّ المناط هو السير والوقوف، ولذا لو جَعل مركبه محلّ إقامته حال نزوله، لا احتمال أن يشكّ أحدٌ في عدم حرمة التظليل، وعليه ففي حال التوقّف أيضاً يجوز التظليل.
والثاني وإنْ كان لا يخلو عن قوّة إلّاأنّ الاحتياط لا يترك.
وأمّا الوقفات اليسيرة للمركب، فلا شكّ في عدم جواز التظليل فيها، وعن «كشف اللِّثام»(3) بعد الجزم بجواز التظليل جالساً في المنزل، قال: (وهل الجلوس في الطريق لقضاء حاجةٍ ، أو إصلاح شيء، أو انتظار رفيق أو نحوها كذلك ؟ احتمال).
وفي «الجواهر»: (ومقتضاه احتمال عدم الجواز فيه، وإنْ كان التحقيق خلافه إلّا أنّه الأحوط)(4).
الجهة الثالثة: هل تختصّ حرمة التظليل بحال الركوب، فيجوز في حال المشي كما
ص: 36
عن الشهيد الثاني في «المسالك»(1)، وتبعه سيّد «المدارك»(2)، والفاضل(3) النراقي ؟
أم لا كما في «الجواهر»(4)، واستظهر من عبارة «المنتهى» أنّه إجماعي ؟ وجهان:
استدلّ للأوّل: بصحيح ابن بزيع، قال: «كتبتُ إلى الرضا عليه السلام: هل يجوز للمُحرِم أنْ يمشي تحت ظِلّ المحمل ؟ فكتب عليه السلام: نعم»(5).
وبما في خبر الاحتجاج المتقدّم: «أفيجوز أن يمشي تحت الظلال مختاراً؟ فقال عليه السلام: نعم»(6).
وبهما يقيّد إطلاق الأخبار الدالّة على حرمة التظليل.
وأورد عليه صاحب «الجواهر» رحمه الله بقوله: (إلّا أنّه يمكن دعوى انسباقه إلى إرادة المشي في ظلّه، لا الكون تحت المحمل، وحينئذٍ فلا يختصّ بالماشي، بل يجوز للراكب ذلك أيضاً، على أنّه لو سُلّم كان ينبغي الاقتصار عليه، لا تخصيص الحرمة بحال الركوب على وجهٍ يجوز له المشي مع التظليل بشمسيّةٍ ونحوها، ممّا يكون فوق رأسه، بل لعلّ ما سمعته من إجماع «المنتهى» دالٌّ عليه، فإنّ السائر أعمّ من كونه راكباً)، انتهى (7).
يرد على ما أفاده أوّلاً: أنّه فرقٌ بين التعبير بالمشي في ظِلّ المحمل، والمشي تحت ظِلّ المحمل، وما ذكره يتمّ في الأوّل، والنصوص متضمّنة للثاني، وهو ظاهر في3.
ص: 37
الكون تحت المحمل.
وأمّا ما ذكره من إجماع «المنتهى»، فلا يبعد اختصاصه بالسير في حال الركوب، لأنّه يقول قبل ذلك: (يجوز للمُحرِم أن يمشي تحت الظلال)، وهو يصلح قرينةً على أنّ ما يدّعيه بعد ذلك من الإجماع إنّما هو في السائر الراكب.
نعم، ما ذكره ثانياً يتمّ إنْ احتمل خصوصيّة في المحمل ولا تُحتمل.
فما أفاده الشهيد الثاني(1) رحمه الله وتبعه جمعٌ من المحقّقين(2) هو الأظهر.
الجهة الرابعة: قال في «المنتهى»: (وإذا نزل جاز أن يستظلّ بالسقف والحائط والشجرة والخِباء والخيمة، وإنْ نزل تحت شجرةٍ عليها ثوباً يسترُ به، وأن يمشي تحت الظلال، وأن يستظلّ بثوبٍ ينصبه إذا كان سائراً ونازلاً، ولكن لا يجعله فوق رأسه سائراً خاصّة، لضرورةٍ وغير ضرورة، عند جميع أهل العلم)(3)، انتهى .
أقول: وهذا كما ترى صريحٌ في دعوى الإجماع على جواز التظليل بما لا يكون فوق الرأس ولو في حال الركوب والسير، وعن «الخلاف» أيضاً نفي الخلاف فيه(4)وعن ابن زُهرة: (يحرم عليه أن يستظلّ وهو سائرٌ بحيث يكون الظلال فوق رأسه)(5) انتهى . وتبعهم غير واحدٍ من المحقّقين(6).
ص: 38
وعن الشهيد في «الدروس» التردّد في الحكم، قال:
(فرع: هل التحريم في الظِلّ لفوات الضحى أو لمكان الستر؟ فيه نظرٌ، لقوله عليه السلام: «اُضحُ لمن أحرمتَ له»، والفائدة فيمن جلس بالمحمل بارزاً للشمس، وفيمن تظلل به وليس فيه)(1).
وعن «كشف اللِّثام»: (يعني يجوز الأوّل على الثاني دون الأوّل، والثاني بالعكس)(2).
وذهب صاحب «الحدائق»(3) رحمه الله والفاضل النراقي إلى المنع(4).
واستدلّ للأوّل:
1 - بالإجماع.
2 - وباختصاص أكثر الأخبار بالجلوس في القُبّة والكنيسة والمحمل.
3 - وبصحيح ابن سنان: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول لأبي وشكى إليه حَرّ الشمس، وهو مُحرِم، وهو يتأذّى، فقال: أترى أن أستتر بطرف ثوبي ؟ قال عليه السلام:
لا بأس بذلك ما لم يُصبك رأسك»(5).
أقول: ولكن الأوّل على فرض ثبوته غير حجّة، لعدم كونه تعبديّاً، والثاني مقطوعٌ بالمطلقات، والثالث لا يعارضها.
وأمّا الصحيح فاُجيب عنه في «المستند»(6): (بأنّه مخصوصٌ بحال الأذيّة،2.
ص: 39
وهي من الضرورة، ولا نزاع في الجواز معها).
ولكن يمكن أنْ يقال: إنّه لو كان في حال الضرورة لم يكن وجهٌ للنهي عن إصابة الرأس، فإنّه يظهر منه الفرق في عدم الجواز بين ما فوق الرأس وغيره، وهو إنّما يكون في غير حال الضرورة.
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ قوله عليه السلام: (ما لم يُصبك رأسك)، لم يرد به ما لم يكن فوق رأسك، بل المراد أنّه لو اضطرّ إلى التظليل يجوز ذلك، ولكن لابدَّ وأن يحافظ على أن لا يرتكب مُحرّماً آخر، وهو تغطية الرأس.
وعليه فما أفاده الفاضل النراقي(1) رحمه الله تامّ ، ومقتضي المطلقات هو عدم الجواز.
أقول: ويمكن أن يستدلّ له بوجهين آخرين:
الوجه الأوّل: إنّ خبر المُعلّى(2) وصحيح عبد الخالق(3) وغيرهما ممّا تقدّم ممّا تضمّن النهي عن التستّر عن الشمس بالثوب - لاحظ الطائفة الخامسة من الأخبار - تدلّ بإطلاقها على حرمة التستّر عنها، وإنْ كانت على جانب يمينه أو يساره.
وأُورد عليه في «الجواهر»:(4) بأنّ المتّجه حملها على الكراهة:
1 - للإجماع.
2 - ولخبر قاسم الصيقل، قال: «ما رأيتُ أحداً كان أشدّ تشديداً في الظلّ من أبي جعفر عليه السلام، كان يأمر بقلع القُبة والحاجبين إذا أحرم»(5).4.
ص: 40
فإنّ التشديد ظاهرٌ في الزيادة على الواجب، وهذا القول وإنْ كان من الراوي، إلّا أنّه ظاهر من معلوميّة الحكم عندهم سابقاً.
2 - ولخبر الأعرج: «أنّه سأل الإمام الصادق عليه السلام عن المُحرِم يستتر من الشمس بعودٍ وبيده ؟ قال عليه السلام: لا، إلّامن علّة»(1).
فإنّه يجوز الإستتار باليد الذي فعله رسول اللّه صلى الله عليه و آله، فلابدّ من حمله على ضربٍ من الكراهة.
أقول: ولكن الإجماع قد عرفت حاله، والواجبُ أولى بالتشديد من غيره، فلو لم يكن التشديد ظاهراً في اللّزوم، لا يكون ظاهراً في عدمه.
وأمّا خبر الأعرج، فغايته أن يُحمل بالنسبة إلى السَّتر باليد على الكراهة، وأمّا بالنسبة إلى السّتر بالعود فيبقى على ظاهره.
وعليه، فالأظهر تماميّة هذا الوجه.
الوجه الثاني: أنّ الطائفة السادسة آمرة بالإضحاء - والمراد به كما عن «المنتهى»(2) البروز للشمس، وعن الأثيريّة(3): (ضحا ظِلّه أي مات، يقال: ضحى الظِلّ أي صار شمساً، فإذا صار شمساً فقد بَطَل... إلى أنْ قال: ضحيتُ للشمس، وضحيت اُضحي، إذا أبرزت لها وظهرت، قوله: اُضح لمن أحرمتَ له، أي ابرز للشمس لأجل اللّه تعالى الذي أحرمتَ له، فهذه الطائفة تدلّ على عدم جواز التظليل بما لا يكون فوق الرأس، لأنّه ينافي الإضحاء المأمور به)(4).2.
ص: 41
وفي «الجواهر»(1): (ولكن فيه أنّ الأمر بالإضحاء قد جاء في صحيح حفص وهشام عن الإمام الصادق عليه السلام على نحو التعليل للمكروة، قال: «يكره للمُحرِم أن يجوز ثوبه أنفه من أسفل»، وقال عليه السلام: «اُضحُ لمن أحرمتَ له»، فلا يبعد القول بالكراهة فيما نافى الإضحاء من التستّر بما لا يكون فوق الرأس، والحرمة بما كان فوقه)، انتهى (2).
وفيه أوّلاً: أنّه لم يذكر تعليلاً للحكم الأوّل، بل هما حكمان ذكرهما الإمام عليه السلام في مجلسٍ واحد، والشاهد لذلك تكرار الراوي لفظ قال.
وثانياً: أنّه لا يجري في بقيّة النصوص المشتملة لهذه الجملة.
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر عدم جواز التظليل بما لا يكون فوق الرأس أيضاً.
الجهة الخامسة: ظاهر كلمات الأصحاب حرمة التظليل ولو مع عدم سطوع الشمس، فلا يجوز ركوب مركبٍ مسقّفٍ في اللّيل، ولا في يوم الغيم، ولا في الصحو في أوّل النهار وآخره إذا جلس مواجهاً للشمس، وظاهر «الجواهر»(3) كونه مفروغاً عنه عند فقهائنا.
ص: 42
أقول: وكيف كان، يمكن أن يُستشهد له بوجوه:
الوجه الأوّل: النصوص المتضمّنة للنهي عن التظليل عن المطر والبرد، وأنّه إذا فعله الُمحرِم وجب عليه الكفّارة:
منها: خبر عثمان بن عيسى الكلابي المتقدّم، وقد جاء فيه: «قلت لأبي الحسن الأوّل عليه السلام: إنّ علي بن شهاب يشكو رأسه والبرد شديد، ويريد أن يُحرم ؟ فقال عليه السلام:
إنْ كان كما زعم فليظلّل»(1).
ومنها: خبر «الاحتجاج» عن صاحب الأمر أرواحنا فداه:
«أنّه سأل عن المُحرِم يستظلّ من المطر بنطع أو غيره حذراً على ثيابه، وما في محمله أن يبتلّ؟ فكتب في الجواب: إذا فعل ذلك في المحمل في طريقه فعليه دم»(2).
ومنها: صحيح ابن بزيع، عن الإمام الرضا عليه السلام: «سأله رجلٌ عن الظلال للمُحرِم من أذى مطر أو شمس وأنا أسمع، فأمره أن يفدي شاة ويذبحهابمنى»(3).
الوجه الثاني: النصوص الناهية عن الركوب في القُبة والكنيسة والمحمل ونحوها(4)، فإنّها بإطلاقها تدلّ على المنع عن ذلك حتّى في اللّيل وما شاكل.
الوجه الثالث: الأخبار الناهية عن ضرب الظلال له:
منها: خبر محمّد بن منصور المتقدّم: «سألته عن الظلال للمُحرِم ؟ فقال: لا يظلّل إلّامن علّة أو مرض»(5).6.
ص: 43
ومعلوم أنّ الظلال لا يعتبر في صدقة حصول الظلّ الفعلي به، بل يكفي الشأنيّة في صدقه.
وأمّا النصوص الناهية عن التستّر من الشمس، أو الآمرة بالإضحاء وهو البروز لها، فلا تصلح لتقيّيد إطلاق هذه النصوص، لعدم التنافي بينهما.
أقول: ويشهد لما اخترناه نصوصُ الإضحاء إنْ فسّرناه بالبروز للسّماء لا البروز للشمس، كما أنّه يشهد له نصوص التظليل إنْ فسّرناه بإرادة الإبراز للسماء، فتدبّر.
وعلى أيّ حال ففي ما ذكرناه كفاية.
الجهة السادسة: نُسب إلى الأصحاب جواز أن يستتر المُحرِم بيده وما شابه، ويشهد به جملة من النصوص:
منها: خبر محمّد بن الفضيل: «كان رسول اللّه صلى الله عليه و آله يركب راحلته فلا يستظلّ عليها، وتؤذيه الشمس فيستر بعض جسده ببعض، وربما يستر وجهه بيده»(1).
ومنها: صحيح معاوية بن عمّار: «لا بأس أن يضع المُحرِم ذراعه على وجهه من حَرّ الشمس، ولا بأس أن يستر بعض جسده ببعض»(2).
ومثله خبر المُعلّى بن خُنيس(3).
وقد تقدّما في الطائفة الخامسة، ونحوها غيرها.
وأمّا خبر سعيد الأعرج المتقدّم: «عن المُحرِم يستتر من الشمس بعود6.
ص: 44
وبيده ؟ قال عليه السلام: لا، إلّامن علّة»(1) فمحمولٌ على الكراهة، لما تقدّم من النصوص الصريحة في الجواز.
الجهة السابعة: إذا رفع الغطاء عن المركب بحيث لم يبق سوى الخشب فيه فإنّه لا يضرّ، لما رواه في محكي «الاحتجاج» في التوقيعات الخارجة إلى الحميري:
«أنّه كتب إلى صاحب الأمر صلوات اللّه عليه يسأله عن المُحرِم يرفع الظلال، هل يرفع خشب العمارية أو الكنيسة ويرفع الجناحين أم لا؟
فكتب عليه السلام في الجواب: لا شيء عليه في تركه رفع الخشب»(2).
الجهة الثامنة: المشهور بين الأصحاب أنّه يختصّ حرمة التظليل بالرجال، ولا يحرم على النساء التظليل.
وفي «الجواهر»: (وأمّا المرأة فيجوز لها التظليل، بلا خلافٍ محقّق أجده فيه، بل الإجماع بقسميه عليه)(3)، انتهى .
وفي «المستند»: (وعليه الإجماع في كلمات جماعةٍ )(4).
ويشهد به: - مضافاً إلى اختصاص أدلّة المنع بالرجل، وقاعدة الاشتراك لا مجرى لها نظراً إلى كونها عورة يناسبها السّتر، وضعيفة عن مقاومة الحَرّ والبرد
ص: 45
ونحوهما - جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح جميل المتقدّم: «لا بأس بالظلال للنساء»(1).
ومنها: صحيح حريز: «لا بأس بالقُبّة على النساء والصبيان وهم مُحرِمون»(2).
وقريبٌ منه خبر أبي بصير(3).
ومنها: صحيح محمّد بن مسلم المتقدّم: «عن المُحرِم يركب القُبّة ؟ قال عليه السلام: لا، قلت: فالمرأة المحرّمة ؟ قال عليه السلام: نعم»(4).
ونحوه صحيح هشام(5)، وغيره من النصوص.
وعليه، فلا يحرم لها ولا يكره.
نعم، عن نهاية الشيخ(6) أنّ اجتنابه أفضل، وعن «المبسوط»(7) أنّه يحتمله، وفي «الجواهر»(8): (قيل وكأنّه لإطلاق أدلّة المُحرِم والحاجّ في كثيرٍ من الأخبار، وبعض الفتاوي كفتوى «المقنعة» و «جُمل العلم والعمل»، بل والشيخ في جملةٍ من كتبه، وسلّار والقاضي والحلبيّين، وإنْ كان فيه أنّ الظاهر إرادة الرّجل المُحرِم منه فيهما).
وبالجملة: وبما ذكرناه ظهر وجه جواز التظليل للصبيان أيضاً، وفي «الجواهر»:5.
ص: 46
(لا أجد فيه خلافاً بينهم)، وفي «المستند»: (وعليه الإجماع في كلام جماعةٍ وصحيح حريز يشهد به)(1).
الجهة التاسعة: لا خلاف بينهم في اختصاص حرمة التظليل بحال الاختيار، فيجوز له التظليل راكباً مع العُذر والضرورة، وعن جماعةٍ دعوى الإجماع عليه(2)، وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)، انتهى (3).
إلّا أنّ الأصحاب اختلفوا في مقدار العُذر:
فمنهم: من اكتفى بمطلق المشقّة، ولو بالمشقّة الحاصلة من حَرّ الشمس ونزول المطر، واختاره صاحب «الذخيرة»(4).
ومنهم: من اشترط التضرّر به لعلّةٍ ، أو كبر، أو ضعفٍ ، أو شدّة حَرّ، أو بردٍ، وهو المحكيّ عن الشيخين والحِلّي(5)، وبه أفتى جمعٌ من المحقّقين(6).
أقول: ومنشأ الاختلاف اختلاف النصوص:
ص: 47
فإنّ ظاهر طائفةٍ منها - المتقدّمة في الطائفة الثانية - هو الأوّل، وكذا يقتضيه صحيح ابن بزيع المتقدّم آنفاً، وخبر إبراهيم بن أبي محمود المجوّز للتظليل إذا أضرّ به الشمس والمطر(1)، وخبر علي بن محمّد: «في من أذته الشمس أو المطر أو كان مريضاً؟ فكتب عليه السلام: يظلّل على نفسه»(2) ونحوها غيرها.
وظاهر طائفة أُخرى منها الثاني:
منها: موثّق ابن عمّار المتقدّم، فقد ورد فيه: «سألته عن المُحرِم هل يُظلّل عليه وهو مُحرِم ؟ قال عليه السلام: لا إلّامريضٍ ، أو من به علّة، والذي لايُطيق حَرّالشمس».
ومنها: صحيح ابن الحجّاج المتقدّم أيضاً: «هو أعلم بنفسه، إذا علم أنّه لا يستطيع أن تصيبه الشمس، فليستظلّ منها» ونحوهما غيرهما.
لا يقال: إنّ الأولى أخصّ مطلق من الثانية، فإنّها بالإطلاق تدلّ على المنع من الاستظلال في من يستطيع، والطائفة الأُولى تدلّ على الجواز في بعض موارد الاستطاعة فتخصّص بها.
فإنّه يقال: إنّ صحيح عبد الرحمن في خصوص من إذا أصابته الشمس وشَقّ عليه وصدع، ويسأل عن جواز الستر وعدمه، فجوابه عليه السلام منطوقاً يدلّ على الجواز مع عدم الاستطاعة، ومفهوماً على المنع مع الاستطاعة وإنْ كان شاقّاً عليه.
وعليه، فالحقّ تخصيص الأُولى بالثانية، والالتزام بعدم الجواز إلّامع التضرّر وعدم استطاعة التحمّل عرفاً.
وللفاضل النراقي في المقام كلامٌ ، وحاصله معارضة هذه النصوص مع هذا2.
ص: 48
التقريب، مع أدلّة نفي العُسر والحرج بالعموم من وجه، فتقدّم تلك لإستفادة القاعدة من الكتاب العزيز، ثمّ قال:
(فالأقوى هو الأوّل، ولكن يجب تقيّيده بما إذا كانت مشقّة شديدة زائدة عمّا يقتضيه مطلق مقابلة الشمس أو البرد أو المطر، ليصدق الأذيّة والعُسر ويحصل العموم من وجه)، انتهى (1).
أقول: لا إشكال في أنّ مرتبة من المشقّة والحرج ملازمة لترك التظليل في تلك المدّة المعيّنة في الحجاز، سيّما في أيّام الشتاء، فلا يمكن أن يلتزم برفع الحرمة بمجرّد تحقّق تلك المرتبة، لأنّ أدلّة المنع أخصّ من أدلّة القاعدة حينئذٍ.
وأمّا الزائد عليها، فإنْ كان موجباً للتضرّر، يرفع حرمته بأدلّة نفي الضرر الحاكمة على جميع الأدلّة، مع أنّ خبر إبراهيم المتقدّم يدلّ عليه، وكذا إذا وصل إلى حَدّ الملازمة للتضرّر، وإنْ لم يلزم ذلك بل كان شاقّاً فله مرتبتان:
المرتبة الأُولى: ما يتحمّل عادةً ، وهي لا تصلح لرفع الحكم، لصحيح عبد الرحمن المتقدّم، ولحسن ابن المُغيرة، عن أبي الحسن عليه السلام:
«أضح لمن أحرمت له، قلتُ : إنّي محرورٌ وإنّ الحَرّ يشتدّ عَليَّ؟ فقال عليه السلام: أما علمت أنّ الشمس تغرب بذنوب المجرمين»(2).
والظاهر عدم شمول قاعدة نفي العُسر والحرج لها، فإنّ العُسر والحرج الرافعين ليسا عبارة عن مطلق المشقّة، بل التي لا تُتحمّل عادةً .
المرتبة الثانية: ما لا يتحمّل عادةً - أي يصعب تحمّلها - وهي وإنْ كانت مشمولة لقاعدة نفي العُسر والحرج، إلّاأنّه يشملها أيضاً منطوق صحيح ابن3.
ص: 49
الحجّاج، فإنّ المراد من عدم الاستطاعة هو العرفي منه، فيلازم مع العُسر والحرج.
وبالجملة: كلّ ما هو حرجي لا يعدّ مستطاعاً عرفاً.
مع أنّه لو سُلّم أعميّة الحرج منه، فإنّ تقدّم أدلّة نفي العُسر والحَرج على تلك الأدلّة إنّما هو بالحكومة، كتقدّمها عليسائر الأدلّة، ولا وجه للرجوع إلى المرجّحات.
ومع الإغماض عنها والرجوع إلى المرجّحات، لا بدَّ أوّلاً من ملاحظة المرجّحات التي قبل الموافقة للكتاب، فتأمّل.
فتحصّل: أنّ الضرورة الرافعة للتكليف، هي ما أوجبت التضرّر والأذيّة، أو المشقّة الشديدة التي لا تتحمّل عادةً .
الجهة العاشرة: لو اضطرّ إلى التظليل من أوّل الإحرام، كما إذا فرض انحصار المركب بالطائرة، ولم يمكن رفع سقفها وركبها من الميقات، أو كان راكباً ووصل إليه بناءً على كفايته، أو نذر الإحرام قبل الميقات من أوّل ما ركب الطيّارة من منزله، فقد يُستشكل فيه - بناءً على كون الإحرام هو النيّة وتوطين النفس على ترك المحرّمات، إمّا وحدها أو مع غيرها - بأنّه غير ناوٍ لترك التظليل، ولا موطّنٌ نفسه على تركه، فلا يتمكّن من أن يحرم.
أقول: ويمكن التفصّي(1) عن هذا الإشكال بوجهين:
الوجه الأوّل: إنّ التظليل في حال الضرورة والإلجاء جائزٌ وليس بحرام، والذي يجب قصده قصد ترك التظليل المُحرّم، لا التظليل الجائز، وعليه فلا إشكال في
ص: 50
نذر الإحرام من حين ركوب الطيارة، بناءً على صحّة نذر الإحرام قبل الميقات كما مرّ، وبه يندفع الإشكال عن نذره، فيما لو نذر أن يحرم مع التظليل وهو مرجوحٌ ، ممّا يقتضي بطلان النذر، فإنّه يندفع بما عرفت من عدم الحرمة.
الوجه الثاني: أنّ الإحرام - كما مرّ عند بيان حقيقته - ليس عبارة عن النيّة المجرّدة، بل عبارة عن البناء والالتزام بترك المحرّمات، وهذا البناء والالتزام لا يتنافي مع ارتكاب محُرّمٍ ، والعلم به أعمّ من أنْ يكون من الابتداء أو في الأثناء، نظير من يُملّك ماله للغير ويكون عالماً بأنّه لا يُسلّمه إليه، وعليه يصبح إحرامه صحيحاً كما أنّ نذره أيضاً لا إشكال فيه.
ولا فرق فيما ذكرناه بين التظليل من أوّل الإحرام، أو العلم بأنّه سيضطرّ إلى التظليل، فالناذر للإحرام من بلده الرّاكب في الطائرة المسقّفة، لا فرق بين أن ينذر الإحرام من حين ركوب الطائرة أو قبل أن يركبها من منزله مثلاً.
***
ص: 51
وقصّ الأظفار،
(و) المحرّم الثاني عشر: (قصّ الأظفار) كما هو المشهور بين الأصحاب.
وفي «المنتهى »(1): (أجمع فقهاء الأمصار كافّة على أنّ المُحرِم ممنوعٌ من قصّ أظفاره مع الاختيار)، انتهى . ومثله في «التذكرة»(2).
ويشهد به: - مضافاً إلى ذلك - جملةٌ من النصوص:
منها: موثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل أحرم فنسي أن يُقلِّم أظفارة ؟ فقال عليه السلام يدعها.
قلت: إنّها طوال. قال عليه السلام: وإنْ كانت.
قلت: فإنّ رجلاً أفتاه أنْ يقلّمها ويغتسل ويُعيد إحرامه ففعل ؟ قال عليه السلام:
عليه دم»(3).
ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل المُحرِم تطول أظفاره ؟ قال عليه السلام: لا يقصّ شيئاً منها إنْ استطاع، فإنْ كانت تؤذيه فليقصها وليُطعم مكان كلّ ظفرٍ قبضة من طعام»(4) ونحوهما غيرهما.
أقول: والمستفاد من هذه النصوص، حرمة قطع الأظفار بأيّ وسيلةٍ كان،
ص: 52
سواءٌ أكان القطع بالمقراض أو بغيره.
وفي «الجواهر»: (المستفاد منها الأعمّ من القصّ المعبّر به في الفتاوي، بناءً على إرادة خصوص القطع بالمقصّ - أي المقراض - فيكون المدار على مطلق الإزالة)، انتهى (1).
وهو متينٌ ، إلّاأنّ القصّ في اللّغة وفي متفاهم العرف، مطلق القطع(2)، لا خصوص ما ذُكر، والأمر سهلٌ بعد معلوميّة الحكم.
ويجوز قطعها مع الاضطرار، بأن تتكسّر ويتضرّر ببقائها، بلا خلافٍ كما عن «المنتهى»(3) و «التذكرة»(4)، ويشهد به، قوله عليه السلام في صحيح معاوية المتقدّم: (فإنْ كانت تؤذيه فليقصّها)، والمراد من الأذيّة المجوّزة ما هو المنساق منها، وهي الواصلة إلى حَدّ الضرورة، ويشهد بارادتها منها - مضافاً إلى ذلك - قوله في صدر الخبر: (لا يقصّ شيئاً منها إنْ استطاع).
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ المراد بالاستطاعة بقرينة الذيل، ما يقابل الأذية.
وعليه، فالعمدة ما ذكر أوّلاً.
ثمّ إنّ مقتضي النصوص المتقدّمة، عدم الفرق بين البعض والكُلّ ، كما صرّح به غير واحدٍ(5)، للنهي عن قصّ شيء منها والأمر بأن يدعها.
***).
ص: 53
وقطع الشَّجر والحشيش النابت في غير مِلْكه، إلّاالفواكه والإذخر والنخل.
(و) المحرّم الثاني عشر: (قطع الشَّجر والحشيش النابت في غير مِلْكه، إلّا الفواكه والإذخر والنخل) بلا خلافٍ فيه في الجملة.
وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسمية عليه)(1)، انتهى .
وفي «المنتهى»: (وهو قول علماء الأمصار)(2)، انتهى .
وفي «التذكرة»: (أجمع علماء الأمصار على تحريم قطع شجر الحرم)(3)، انتهى .
أقول: والأصل في ذلك نصوص كثيرة:
منها: صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «كلّ شيء ينبتُ في الحرم فهو حرام على النّاس أجمعين، إلّاما أنبته أنت وغرسته»(4).
ومنها: صحيح حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الشجرة يقلعها الرّجل من منزله في الحرم ؟ فقال: إن بني المنزل والشجرة فيه، فليس له أن يقلعها، وإنْ كانت نبتت في منزله وهو له فله أن يقلعها»(5).
ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام، قال:
ص: 54
«قلت: المُحرِم ينزع الحشيش من غير الحرم ؟ قال عليه السلام: نعم، قلت: فمن الحرم ؟ قال عليه السلام: لا»(1).
ومنها: خبر جميل بن دراج، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«رآني عليّ بن الحسين وأنا أقلع الحشيش من حول الفساطيط بمنى، فقال عليه السلام:
يا بُني إنّ هذا لا يُقلع»(2).
ومنها: خبر عبد اللّه بن سنان: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: المُحرِم ينحر بعيره أو يذبح شاته ؟ قال عليه السلام: نعم. قلت له: أن يحتشّ لدابّته وبعيره ؟ قال: نعم، ويقطع ما شاء من الشجر حتّى يدخل الحرم، فإذا دخل الحرم فلا»(3).
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة البالغة حَدّ التواتر.
أقول: هاهنا اُمور ينبغي التعرّض لها:
الأمر الأوّل: أنّ هذا الحكم لا يختصّ بالمُحرِم، بل يكون ثابتاً للمحلّ أيضاً، فهو من خصائص الحرم، وعدّه من تروك الإحرام إنّما هو من جهة أنّ جملة من نصوصه في المُحرِم - كصحيح محمّد وغيره - ولذا جعله الشهيد قدس سره في محكي «الدروس»(4) مسألة برأسها.
الأمر الثاني: إنّ مقتضى النصوص حرمة إزالة الشجر والحشيش عن محلّهما، سواءٌ أكان بالقطع أو القلع أو النزع أو غير ذلك، فإنّ النصوص تضمّنت جميعها).
ص: 55
ولا تعارض بينها، لعدم المانع من الأخذ بالجميع، فلا فرق بينها، كما لا فرق بين كون المقطوع الثمر والأغصان والورق.
وهل هناك فرق بين اليابس والرطب ؟
ففي «المنتهى»(1): (لا بأس بقلع اليابس من الشجر والحشيش، لأنّه ميّت فلم تبق له حرمة)، انتهى .
وفي «التذكرة»(2) أيضاً حكم بجواز قطع اليابس وإنْ كان متّصلاً بالأخضر، وهو المحكيّ عن الشهيدين رحمه الله في «الدروس»(3) و «المسالك»(4).
واستدلّ له:
1 - في مقابل إطلاق نصوص المقتضي للحرمة وإنْ كان يابساً، بما اُفيد في «المنتهى»(5).
2 - وبصحيح زرارة، قال: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول:
«حرم اللّه حرمه بريداً في بريدان، يختلى خلاه أو يعضد شجره إلّاالأذخر، أو يصاد طيره، وحرم رسول اللّه صلى الله عليه و آله المدينة ما بين لابتيها، صيدها وحرم ما حولها بريداً في بريد، أن يختلا خلاها، أو يعضد شجرها إلّاعودي الناضح»(6).0.
ص: 56
بناءً على ما عن القاموس(1) و «النهاية»(2) من أنّ الخلا هو الرطب من النبات، واختلاه أي قطعه.
ولكن يرد على الأوّل: أنّه في مقابل النص المشتمل على أنّ (كلّ شيء ينبت في الحرم لا يجوز قطعه)، لا يُعتنى بمثل هذه الوجوه، كما أفاده صاحب «الجواهر»(3).
ويرد على الثاني أوّلاً: - أنّ الجوهري قال: الخلا - بالقصر - الحشيش اليابس(4).
وثانياً: أنّه لا ينافي إطلاق النصوص، ولا يوجبُ تقيّيده، لعدم حمل المطلق على المقيّد في المتوافقين.
الأمر الثالث: قال المصنّف في «المنتهى»: (لو انكسر غُصن شجرةٍ أو سقطورقها:
فإنْ كان ذلك بغير فعل الآدمي جاز الانتفاع به إجماعاً، لأنّ النهي يتناول القطع، وهذا لم يقطع.
وإنْ كان بفعل الآدمي، فالأقربُ جوازه أيضاً، لأنّه بعد القطع يكون كاليابس)(5)، انتهى .
أقول: أكثر نصوص الباب وإنْ اختصّت بالقطع والقلع وما شاكل، ولا تشمل سائر الانتفاعات بعد القطع، ولكن خصوص صحيح حريز المتقدّم: (كلّ شيء ينبتُ في الحرم فهو حرامٌ على الناس أجمعين) عامٌ شامل لجميع الانتفاعات، فإنّ حذف المتعلّق يفيد العموم.).
ص: 57
واُجيب عنه تارةً : بأنّه في مقام التشريع، فلا إطلاق له، والمتيقّن هو القطع وما شاكل.
وأُخرى : بأنّه حيث كانت حرمة القطع والقلع بدلالة الأخبار الكثيرة الصادرة عنهم عليهم السلام مغروسة في الأذهان، فكانت كالقرينة المتّصلة بالكلام، وموجبة لانصراف الإطلاق إليها.
وثالثةً : أنّ نصوص القلع والقطع تقيّد إطلاقه.
أقول: وفي الجميع نظر:
أمّا الأوّل: فلأنّ الظاهر منه كونه في مقام البيان لا أصل التشريع.
وأمّا الثاني: فلمنع الإنصراف، حتّى وإنْ كانت حرمة ذلك مسلّمة عندهم حين صدور هذا الخبر، لعدم التنافي بينها وبين الإطلاق.
وأمّا الثالث: فلما تقدّم من عدم حمل المطلق على المقيّد في المتوافقين.
فالحق أنْ يقال: إنّ الموضوع في الصحيح هو النبات، فإنّ قوله عليه السلام: (كلّ شيء ينبت) ظاهرٌ في دخل الوصف، وإلّا اقتضى بأن يقول: (كلّ شيء نبت)، ومعلومٌ أنّه لا يصدق النبات بعد القطع والقلع كي يحكم بحرمة التصرّف فيه.
وقياسه على الصيد المذبوح في الحرم، مع الفارق، والفرق وجود النص في الصيد دون المقام.
وعليه، فالأظهر ما اُفيد من جواز التصرّف فيه بعد القطع والقلع.
أقول: وبناءً على ما اخترناه، لو سقط نباتٌ من نباتات الحرم، أو قطعه عصياناً، جاز تملّكه بالحيازة ثمّ بيعه وما شاكل.
وأمّا على القول الآخر، فقد يقال بعدم جواز ذلك، لعموم دليل المنع من
ص: 58
التصرّف الشامل للاعتباري منه.
وفيه أوّلاً: إنّ التصرّف الاعتباري مثل البيع لا يكون تصرّفاً في العين الخارجيّة، بل هو تصرّفٌ في لسان العاقد ونفسه.
ثانياً: لو كان حراماً لا وجه لبطلانه، لعدم تلازم حرمة المعاملة مع فسادها.
الأمر الرابع: إذا كان أصل الشجرة في الحرم وفرعها في الحِلّ ، أو كان بالعكس، لم يجز قطعها ولا قطع غُصنها، كما صرّح به غير واحدٍ(1)، وظاهر «التذكرة»(2) عدم الخلاف فيه، ويشهد به:
صحيح معاوية بن عمّار، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن شجرةٍ أصلها في الحرم وفرعها في الحِلّ؟ فقال عليه السلام: حَرُم فرعها لمكان أصلها.
قال: قلت: فإنّ أصلها في الحِلّ وفرعها في الحرم ؟ فقال عليه السلام: حَرُم أصلها لمكان فرعها»(3).
ولا ينافيه ما دلّ على جواز قطع الأوراق والأغصان الواردة عليك في منزلك، كخبر إسحاق بن يزيد: «أنّه سأل أبا جعفر عليه السلام عن الرّجل يدخل مكّة فيقطع من شجرها؟ قال عليه السلام: اقطَعْ ما كان داخلاً عليك، ولا تقطع ما لم يدخل منزلك عليك»(4)لأنّه يخصّص الأوّل بالثاني.
الأمر الخامس: قال في «المنتهى»: (يجوز أخذ الكمأة من الحرم إذا انقطع، لأنّه2.
ص: 59
لا أصل له)(1)، انتهى .
و عن «المدارك» جوازه للمُحرِم من الحرم(2) مطلقاً، واستدلّ له بأنّه ليس بحشيش.
وفيه: إنّ الموضوع ليس مختصّاً بالحشيش، بل كلّ نباتٍ ، ولا ريب في صدقه عليه.
نعم، إذا انقطع جرى فيه ما ذكرناه في النبات الساقط، فإذاً ما أفاده في «المنتهى» هو الأصحّ .
الأمر السادس: ربما يقال إنّه إذا قُلع شجرةً وجب اعادتها، واستدلّ له بوجهين:
الوجه الأوّل: الصحيح المنقول عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ ، قال:
«ورأيته وقد نتف طاقة وهو يطلب أن يعيدها مكانها»(3).
وفيه أوّلاً: أنّه إنْ قُرأ (نتف) بصيغة المعلوم، فيرد عليه:
أنّه عليه السلام كيف نتفها، وحمله على صورة المستثنيات وإنْ كان يرفع الإشكال، إلّا أنّه لا يجب إعادتها حينئذٍ.
وإنْ حُمل على صورة النيسان، فهو كما ترى منافٍ لمقام إمامته.
وإنْ قُرأ بصيغة المجهول، فلا شبهة في أنّ إعادتها لم تكن واجبة عليه.
ص: 60
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ قوله: (وهو يطلب) اُريد به أنّه كان يطلب مَنْ نتفها ليعيدها إلى مكانها.
والحقّ أنّ هذا الخبر مشكلٌ ، وردّ علمه إلى أهله أولى .
وثانياً: أنّه لو تمّت دلالته لا يكون منافياً، لما قدّمناه من جواز التصرّف في الأغصان والنباتات بعد القطع والقلع، فإنّه يختصّ بموردٍ خاص، وهو صورة القلع، مع إمكان إعادته إلى محلّه وهي حيّة خضراء.
الوجه الثاني: التزم الشيخ(1) رحمه الله إلى ضمان الشجرة إذا قلعها، لأنّه ممنوع من إتلافها، لحُرمة الحَرم فتصبح مضمونة، ولخبر موسى بن القاسم، قال: روى أصحابنا، عن أحدهما عليهما السلام أنّه قال:
«إذا كان في دار الرّجل شجرة من شجر الحرم لم تُنزع، فإنْ أراد نزعها كفَّر بذبح بقرة يتصدّق بلحمها على المساكين»(2).
فإذا كان ضامناً لزم إعادتها إنْ أمكن، كما هو الشأن في الضمان في غير الباب.
وفيه أوّلاً: الأظهر عدم الضمان، والخبر ضعيفٌ للإرسال، وحرمة الإتلاف أعمّ من الضمان.
وثانياً: الضمان الثابت بالخبر غير الضمان المصطلح المستلزم لما اُفيد.
والحقّ أن يستدلّ له: بأنّ المستفاد من النصوص مطلوبيّة بقاء الشجرة في الحرم، فإنْ قطعها فقد فات ذلك في زمانٍ وعصى ، ولكن إنْ أمكن إعادتها فإبقائها ممكنٌ ، فيجب بنفس تلك الأدلّة.9.
ص: 61
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ غاية ما تدلّ عليه النصوص حرمة القطع لا وجوب الإبقاء، والاحتياط سبيل النجاة.
***
الأمر السابع: قد استثني من حرمة قطع نبات الحرم موارد:
المورد الأوّل: ما ينبت في ملك الإنسان، هكذا ذكره الأصحاب(1)، إلّاأنّ النصوص المستشهد بها له أخصّ من ذلك:
منها: خبر حمّاد بن عثمان - القويّ احتمالاً - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن الرّجل يقلع الشجرة من مضربه أو داره في الحرم ؟ فقال عليه السلام: إنْ كانت الشجرة لم تزل قبل أن يبني الدار أو يتّخذ المضرب، فليس له أن يقلعها، وإنْ كانت طريّة عليه فله قلعها»(2).
ومنها: صحيحه الآخر أو خبره، عنه عليه السلام: «في الشجرة يقلعها الرّجل من منزله في الحرم ؟ فقال: إنْ بنى المنزل والشجرة فيه، فليس له أن يقلعها، وإنْ كانت نبتت في منزله وهو له فليقلعها»(3).
ونحوهما غيرهما.
وهذه النصوص كما ترى مختصّة بالدار والمنزل والمضرب لا مطلق الملك.
ودعوى: الإجماع ممنوعة كدعوى تنقيح المناط.
ص: 62
وعليه، فالأظهر هو الاختصاص بمواردها، كما عن «الذخيرة»(1) وفى «المستند»(2).
أقول: وأمّا الإشكال في أصل الحكم، بدعوى ضعف سند النصوص.
فيرده أوّلاً: أنّها غير ضعيفة بأجمعها.
وثانياً: أنّ ضعفها لو كان ينجبر بعمل الأصحاب، فلا ينبغي التوقّف في أصل الاستثناء.
إنّما الكلام في الخصوصيّات والقيود، وتفصيل القول فيها بالبحث في جهات:
الجهة الاُولى: هل يعتبر أنْ يكون المنزل أو المضرب مِلْكاً له أم لا؟
قد يقال بالأوّل بدعوى أنّ قوله عليه السلام في خبر عثمان: (وهو له) ظاهرٌ في الملكيّة.
وفيه أوّلاً: أنّه غير ظاهر فيها، بل المراد أنّه إنْ نبت بعد كون المنزل تحت سلطنته، في مقابل ما لو تسلّط عليه والشجرة موجودة فيه.
وثانياً: أنّه لو سُلّم ظهوره فيها، فهو من جهة أنّ المفروض في السؤال هو ذلك.
وثالثاً: أنّه لو سُلّم ظهوره في تلك، فغايته أنّه بالمفهوم يدلّ على أنّه إنْ لم ينبت في ما هو مِلْكه، وإن نبت فيما هو تحت سلطانه، فليس له أن يقلعها، فيقع التعارض بين هذا المفهوم ومنطوق خبره الآخر، وهو: (وإنْ كانت طريّة عليه فله قلعها)، والنسبة عموم من وجه، ويقدّم المنطوق للشهرة.
ورابعاً: إنّ مكّة مفتوحة عَنوة، وكانت محياة في حال الفتح، فهي ملك للمسلمين لا يملكها أحد.
وبالجملة: فالحقّ عدم اعتبار الملكيّة، بل تكفي السلطنة عليه بأيّ نحوٍ كانت.
الجهة الثانية: هل يعتبر كون الشجرة مِلْكاً له أم لا؟1.
ص: 63
قد يقال بالأوّل، بدعوى أنّ خبر عثمان المتقدّم مرويّ بضبطين:
الأوّل: قوله عليه السلام: (وهو له).
ثانيهما: (وهي له).
وبناءً على النسخة الثانية يصبح المراد كون الشجرة مِلْكاً له، وعليه فإمّا أنْ يكون الصحيح هي النسخة الثانية، فيدلّ على اعتبار كونها مملوكة له، أو تكون النسخة الصحيحة مردّدة بينهما، فمقتضى العلم الإجمالي هو أنّه إذا لم يكن المنزل مِلْكاً له - أو لم تكن الشجرة له - أن يجتنب عن القطع، كما لا يخفى .
ولكن يرد عليه: ما تقدّم من عدم دلالة هذه العبارة على اعتبار الملكيّة، وعلى فرضه لا يصلح لتقيّيد غيره من الأخبار.
الجهة الثالثة: هل الحكم المذكور مقصور على الشجرة أم يثبت الحكم فى كلّ نبات ؟
الظاهر هو الأوّل، لاختصاص النصوص بها، والتعدّي عنها يتوقّف على العلم بالمناط، أو وجود دليلٍ خاصٍ دالّ على التعدّي، وشيءٌ منهما لا يكون ثابتاً، وعليه فالأظهر هو الاختصاص.
ونسبه في «المدارك»(1) و «الذخيرة»(2) إلى قطع الأصحاب به، كما صرّح به صاحب «المستند»(3)، ويشهد به:
1 - موثّق سليمان بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «لا ينزع من شجر مكّة شيءٌ إلّاالنخل وشجر الفاكهة»(4).
2 - مرسل عبد الكريم، عمّن ذكره، عنه عليه السلام: «لا ينزع من شجر مكّة إلّا النخل وشجر الفاكهة»(5).
والموثّق معتبر في نفسه، وقد عمل الأصحاب بهما، فلو كان فيه ضعفٌ ينجبر بذلك، ومقتضى إطلاقهما جواز القطع والقلع.
المورد الثالث من المستثنيات: الإذخر، بكسر الهمزة والخاء المعجمة، وهو نبتٌ يحرقه الحدّاد بدل الحطب والفحم.
أقول: لا خلاف في جواز قطعه، بل عليه الإجماع كما في «المنتهى»(6)، ويشهد به:
1 - موثّق زرارة المتقدّم المتضمّن لإستثنائه.
2 - وكذا خبره الآخر، عن الإمام الباقر عليه السلام: «رخّص رسول اللّه صلى الله عليه و آله قطع عودي المحالة - وهي البكرة التي يستقى بها من شجر الحرام - والإذخر»(7).
المورد الرابع من المستثنيات: عودي المحالة، استثناه في محكي «التهذيب»(8)ي.
ص: 65
و «الجامع»(1) وتبعهما غير واحدٍ من المتأخّرين(2)، واستدلّ لاستثنائه بخبر زرارة المتقدّم، ولكن فيه جهلاً وإرسالاً، والعمل به بمقدار جبران ضعفه غير ثابت، وعلى فرض الجبر لابدّ من الاقتصار على خصوص البكرة العظيمة التي يُستقى بها المسمّاة بالمحالة، والمراد بعوديها العودان اللّذان تُجعل عليهما المحالة، ثمّ يستقي بها.
وقد يستدلّ للحكم بصحيح زرارة المتقدّم المتضمّن لعودي الناضح، بدعوى أنّه المحالة أيضاً، والصحيح وإنْ ورد حول نبات حرم المدينة، إلّاأنّه يتمّ الاستدلال به، بناءً على عدم القول بالفصل بين حرم المدينة وحرم مكّة بالنسبة إلى ذلك، ولا بأس به لو ثبت عدم الفصل، وسيأتي الكلام في المبنى إنْ شاء اللّه تعالى.
المورد الخامس من المستثنيات: ما يدخل على الإنسان من الأوراق والأغصان، ويشهد به خبر إسحاق بن يزيد: «أنّه سأل أبا جعفر عليه السلام عن الرّجل يدخل مكّة فيقطع من شجرها؟ قال عليه السلام: اقطع ما كان داخلاً عليك، ولا تقطع ما لم يدخل منزلك عليك»(3).
المورد السادس: عصى الراعي، استثناه بعضٌ ، ولا مدرك له سوى العَلويّين المرويّين عن «دعائم الإسلام»(4) و «الجعفريّات»، وهما ضعيفان للإرسال والجهالة، وغير منجبر ضعفهما بالعمل.
***».
ص: 66
المورد السابع: لا إشكال ولا خلاف في جواز أن يترك المُحرِم - فضلاً عن غيره - إبله تَرعى في الحشيش مثلاً، لصحيح حريز بن عبد اللّه، عن الإمام الصادق عليه السلام: «يُخلّى عن البعير في الحَرَم يأكل ما شاء»(1).
وهو كما ترى غير مختصّ بالحشيش، شامل للشجر وما شاكل أيضاً. نعم، هو مختصّ بالعير، ولكن الظاهر التعدّي إلى غيره من الدواب، كما عليه الأصحاب.
أقول: ويمكن أن يُستدلّ له بالسيرة القطعيّة الكاشفة عن رأي المعصوم عليه السلام، أضف إليه أنّه مقتضى الأصل بعد عدم شمول النصوص لمثله.
وحكم صاحب «المدارك»(2) رحمه الله بجواز أن ينزع المُحرِم الحشيش وغيره للإبل، واستدلّ له بصحيح محمّد بن حمران، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن النبت الذي في أرض الحرم، أيُنزع ؟ فقال: أمّا شيء تأكله الإبل فليس به بأس أن تنزعه»(3).
ولا يخفى أنّ في «الجواهر»(4) قال: (صحيح جميل ومحمّد بن حمران قالا:
«سألنا أبا عبد اللّه عليه السلام...» الخ)، كما قال صاحب «المستند»(5) أيضاً: (لصحيحة جميل ومحمّد بن حمران)، وظاهر كلامهما أنّهما صحيحان يرويهما جميل وابن حمران، مع
ص: 67
أنّه صحيح واحد يرويه جميل وعبد الرحمن بن أبي نجران عن محمّد بن حمران.
أقول: وكيف كان، فقد أُورد عليه بأنّه يعارضه صحيح عبد اللّه بن سنان، قال:
«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: المُحرِم ينحر بعيره أو يذبح شاته ؟ قال عليه السلام: نعم. قلت له:
أن يحتش لدابّته وبعيره ؟ قال عليه السلام: نعم، ويقطع ما شاء من الشجر حتّى يدخل الحرم، فإذا دخل الحرم فلا»(1).
ولقد أفاد بعض الأعاظم(2) انه يتعارض الصحيحان ويتساقطان، والمرجع حينئذٍ إلى العمومات والإطلاقات الدالّة على الحرمة، لخروجهماعن حريم التعارض.
وفيه أوّلاً: لا يبعد أنْ يكون قوله: (حتّى يدخل الحرم، فإذا دخل الحرم فلا)، مختصّاً بالجملة الأخيرة فيه - وهي: (ويقطع ما شاء من الشجر) وغير مرتبط بما قبله.
وثانياً: إنّ صحيح ابن سنان ظاهرٌ في المنع، وصحيح ابن حمران صريح في الجواز، فالجمع العرفي بينهما يقتضي البناء على الكراهة، وبعد الجمع يخصَّص العمومات بهما.
وثالثاً: إنّ ما أفاده من أنّ المقيّدين يتعارضان ويتساقطان، والمرجع إلى العمومات، غريبٌ ، فإنّهما خبران تعارضا لو سُلّم التعارض، فلابدّ من الرجوع إلى المرجّحات، فإنْ كان هناك مرجّحٌ لأحدهما فهو المقدّم، فإنْ كان ذلك خبر الجواز يقيّد الإطلاقات به، وإنْ كان هو دليل المنع فالإطلاقات تبقى على حالها، وإنْ لم يكن هناك مرجّحٌ ، يتخيّر في الأخذ بأيّهما شاء، وحينئذٍ له أن يختار دليل الجواز».
ص: 68
ويقيّد الإطلاقات به، وعلى فرض التعارض يقدّم دليل المنع للشهرة، ولذلك نجد تصريح المصنّف في «المنتهى»(1) بأنّه: (ذهب إليه علمائنا).
فتحصّل: أنّ ما أفاده السيّد من الجواز أظهر.
نعم، الدليل مختصّ بالبعير، والتعدّي متوقّفٌ على إلغاء الخصوصيّة، إمّا لوحدة المناط، أو لعدم القول بالفصل، فتدبّر.
المورد الثامن: يجوز أن يقلع المُحرِم ما غرسه الإنسان وأنبته بنفسه، بلا خلافٍ فيه في الجملة، وإنْ اختلفوا في أنّه:
هل يختصّ بما أنبته فى مِلْكه وهو المنقول عن القاضي(2) وابن زُهرة(3) والكيدري(4)؟
أم يعمّ ما كان في غير مِلْكه، وهو المنقول عن «المبسوط»(5) و «النهاية»(6)و «السرائر»(7) و «النزهة»(8) و «المنتهى»(9) و «التذكرة»(10) وغيرها؟
ص: 69
أقول: واستدلّ لأصل الجواز بصحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«كلّ شيء ينبتُ في الحرم فهو حرامٌ على النّاس أجمعين، إلّاما أنبته أنت وغرسته»(1).
وأُورد عليه: إيرادان.
الإيراد الأوّل: ما أفاده بعض الأعاظم من المعاصرين(2)، قال:
(ورد عين هذا الحديث غير مذيّل بهذا الذيل، وحيثُ أنّ السائل واحد وكذا المسؤول عنه، فالحديث كما يحتمل أنْ يكون متعدّداً حيث سمع حريز من الأمام عليه السلام مرّتين، كذلك يحتمل أنْ يكون واحداً، لا يعلم أنّه زيد في أحد النقلين أو حصل النقص في الآخر، فلا علم بثبوت الزيادة).
ثمّ أورد على نفسه: بأنّه أليس بناء العلماء المتّخذ من بناء العقلاء على تقديم احتمال النقيصة على احتمال الزيادة.
وأجاب عنه: بأنّ تلك القاعدة تامّة فيما إذا كان الحديث واحداً، وأمّا مع احتمال التعدّد، فلا مجال للتقديم المزبور، كما لا مجال للاعتماد عليه، إلّامع الوثوق بالتعدّد، وهو غير موجودٍ، فلا شيء يقيّد إطلاقات المنع.
ونورد عليه أوّلاً: إنّ الحديث متعدّد، لتغاير بعض رجال السند فيهما، والاختلاف في المتن، فلا صارف عمّا هو ظاهرٌ من التعدّد، ومجرّد كون السائل واحداً وكذا المسؤول عنه، لا يصلحُ لذلك، ولذا ذكرهما صاحب الوسائل رحمه الله في بابين.
وثانياً: أنّه لو لم يكن هناك مثبتٌ للتعدّد، فإنّ ما أفاده من أنّه لا تكون قاعدة5.
ص: 70
تقديم احتمال النقيصة جارية في المقام، وحيث لا وثوق بالتعدّد فالمرجع هو الإطلاقات، غريبٌ ، فإنّه نعلم إجمالاً بالوحدة أو التعدّد، فإنْ كان في الواقع متعدّداً فالحديث المشتمل على الزيادة حجّة، وإنْ كان واحداً فالقاعدة تقتضي ثبوت الزيادة، وعلى كلا التقديرين تكون الزيادة ثابتة.
الإيراد الثاني: ما في «الجواهر»، قال: (وفي «التهذيب» بعد أن روى صحيح حريز الذي ذكرناه في أوّل المسألة، قال متّصلاً بقوله: (إلّا ما أنبته أو غرسته): (وكلّ ما دخل على الإنسان فلابأس بقلعه)، فإنْ بنى هو في موضع يكون فيه نبتٌ لا يجوز له قلعه، فيحتمل أنْ يكون ذلك من تتمّة الصحيح، وإلّا كانت فتوى منه مستظهراً لها من الخبرين الأولين اللّذين وإنْ كانا مشتملين على خصوص الشجرة، إلّاأنّه لا قائل بالفرق بينه وبين غيره)(1)، انتهى .
وفيه: الظاهر كونه من تتمّة الصحيح، لفهم الأصحاب وأرباب الحديث ذلك، ولذا استدلّوا به مع هذه الزيادة في هذه المسألة، ونقلوه معها في كتب الحديث، سيّما وأنّ بناء الشيخ في نقل الأخبار ليس على ذلك، بحيث ينقل الحديث ويعقّبه بفتواه بنحوٍ يُوهم كونها من تتمّة الحديث، كما عليه بناء الصدوق رحمه الله.
مع أنّ ما اُفيد من أنّه يمكن أن يستفاد من الخبرين - ومراده الخبران الواردان فيما نبت في منزله أو مضربه - غريبٌ ، فإنّ ما فيهما عن نبت النبات في منزله أو في مضربه، ومحلّ الكلام وما في ذيل الصحيح هو الإنبات والغرس، سواءٌ في منزله أو غيره، وعليه فلا يحتمل أن تكون الزيادة فتوى من الشيخ رحمه الله ألصقها بالصحيح، فلا ينبغي التوقّف في الحكم.7.
ص: 71
أقول: وأغرب من ذلك أنّه في «الجواهر»(1) بعد ذلك بأسطر يفتي بجواز قطع ما أنبته وأغرسه في غير ملكه، ويستدلّ له بصحيح زرارة، وليس لزرارة رواية تدلّ على ذلك، وإنْ كان مراده صحيح حريز، وأثبت زرارة اشتباهاً، فهو مخالفٌ لما أفاده قبل ذلك بأسطر من احتمال عدم كون الزيادة تتمّة الصحيح، واللّه تعالى مُقيل العثرات.
ومقتضى إطلاق الصحيح عدم الفرق بين كون الغرس في مِلْكه أو في غير مِلْكه.
***8.
ص: 72
أفاد بعض الأعاظم من المعاصرين(1): (أنّ الظاهر وقوع المعارضة بين أدلّة المستثنيات، بتقريب أنّ مقتضى ما دلّ على استثناء شجر الفواكه مثلاً هو أن لا يكون له عِدْلٌ آخر، ويكون المستنثى منحصراً فيه، وكذا مقتضى ما دلّ على استثناء ما نبت في المنزل والمضرب، وهكذا باقي المستثنيات).
ثمّ تصدّى للجمع بين النصوص وأفاد: (إنّه يمكن الجمع بوجهين:
إمّا تقيّيد الإطلاق لكلّ واحدٍ منها المقابل للعطف بأو، فيكون كلّ عنوانٍ من تلك العناوين عنواناً مستقلّاً محكوماً بالجواز.
وإمّا تقيّيد الإطلاق المقابل للعطف بالواو، فتكون النتيجة أنّ جواز القطع مشروطٌ باجتماع جميع العناوين المستثناة.
ثمّ اختار هو قدس سره الأوّل منهما.
أقول: إنّ ما ذكره يتمّ فيما إذا كان الحكم واحداً، وكلّ من الأدلّة متضمّناً لكون تمام الموضوع له هو ما تضمّنه، كما في موارد تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء، نظير قوله عليه السلام: (إذا خفي الأذان فقصّر) و (إذا خَفي الجُدران فقصّر).
وأمّا في أمثال المقام ممّا لا يكون الحكم واحداً، بل متعدّداً، إذ كلّ طائفةٍ من تلك الأدلّة تدلّ على استثناء عنوان وخروجه عن تحت دليل المنع، ولا نظر لها إلى العنوان الآخر، ولا إلى أنّ ما استثني إنّما يكون منحصراً فيما تضمّنته، فلا مجرى لهذه الكبرى الكليّة أصلاً.
ص: 73
وبالجملة: لا تعارض بين أدلّة المستثنيات أصلاً، حتّى نحتاج إلى هذه التكلفات.
ثمّ إنّ جملة من الاُمور التي ذكروها في عداد المحرّمات على المُحرِم كانت بنظر المصنّف رحمه الله مكروهة، ولذا ذكرها في المكروهات، ونحن تبعاً له نتعرّض لتلك الاُمور عندما يتعرّض لها.
***
ص: 74
ويُكره الإكتحال بالسّواد،
(ويُكره) في الإحرام أمور:
الأمر الأوّل: (الإكتحال بالسّواد) كما عن «الاقتصاد»(1) و «الجُمل والعقود»(2)و «الخلاف»(3) و «الغُنية»(4) و «المنافع»(5)، بل عن الشيخ في «الخلاف» دعوى إجماع الفرقة عليه(6).
وعن الشيخ في «النهاية»(7)، و «المبسوط»(8)، والمفيد(9)، وسلّار(10)، وابن إدريس(11)، وابن الجُنيد(12) وجماعة آخرين القول بالحرمة.
وعن «الفقيه»(13) و «المُقنع»(14) القول بالحرمة إذا كان للزّينة.
ص: 75
أقول: ومنشأ الاختلاف في الحكم هو اختلاف النصوص.
الطائفة الاُولى: ظاهرة في المنع مطلقاً:
منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا يكتحل الرّجل والمرأة المُحرِمان بالكحل الأسود إلّامن علّة»(1).
ومنها: صحيح حريز، عنه عليه السلام: «لا تكتحل المرأة المُحرِمة بالسّواد، إنّ السواد زينة»(2).
ومنها: صحيح الحلبي، عنه عليه السلام: «عن الكُحل للمُحرِم ؟ فقال: أمّا بالسواد فلا، ولكن بالصبر والحضض»(3) ونحوها غيرها(4).
الطائفة الثانية: ظاهرة في الجواز إلّاللزِّينة:
منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس أن يكتحل وهو مُحرِم بما لم يكن فيه طيب يوجد ريحه، وأمّا للزِّينة فلا»(5).
ومنها: صحيح زرارة، عنه عليه السلام: «تكتحل المرأة بالكُحل كلّه، إلّاالكُحل الأسود للزِّينة»(6) ونحوهما غيرهما.
الطائفة الثالثة: ادُّعي ظهورها في الجواز مطلقاً:
منها: صحيح حمّاد عن الحلبي، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن المرأة تكتحل9.
ص: 76
وهي مُحرِمة ؟ قال: لا تكتحل. قلت: بسوادٍ ليس فيه طيب. قال: فكرهه من أجل أنّه زينة»(1).
ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: يَكتحل المُحرِم إنْ هو رمد بكُحلٍ ليس فيه زعفران»(2).
ومنها: صحيح محمّد، عن الباقر عليه السلام: «يكتحل المُحرِم عينيه إنْ شاء بصبر ليس فيه زعفران ولا وَرَس»(3) ونحوها غيرها.
وقد يقال: إنّ الجمع بين النصوص يقتضي تقيّيد الطائفتين الأُولى والثالثة بالطائفة الثانية المفصّلة بين كونه للزّينه فلا يجوز، وما لم يكن لها فيجوز.
ولكن يرد عليه: أنّ تقيّيد الطائفة الأُولى:
إنْ كان بما في صدر الطائفة الثانية، فيردّه أنّ ما في صدر تلك النصوص أعمّ من الطائفة الأُولى، فإنّه يدلّ على جواز الإكتحال مطلقاً، والطائفة الأُولى تدلّ على المنع عن الإكتحال بالكحل الأسود.
وإنْ كان بما في ذيلها من قوله عليه السلام: (فأمّا للزّينة فلا)، فيردّه أنّه لا مانع من حرمة الإكتحال للزِّينة مطلقاً، والإكتحال بالسّواد، لأنّه بنفسه زينة وإنْ لم يقصدها، فلا يصلح للتقيّيد، مع احتمال إرادة ما يسبب للزِّينة وإنْ لم يقصدها، فتوافق تلك الطائفة.
وربما يقال: إنّ النواهي الظاهرة في المنع تُحمل على إرادة الكراهة للطائفة الثالثة، الصريحة في الجواز، فتكون نتيجة الجمع كراهة الإكتحال بالسواد.8.
ص: 77
وفيه: إنّ غير صحيح حمّاد من نصوص تلك الطائفة تكون أعمّ من نصوص المنع عن الإكتحال بالأسود، فيقيّد إطلاقها بها، فتختصّ بالكُحل غير الأسود، وقد مرّ مراراً أنّ الجمع الموضوعي مقدّم على الجمع الحكمي.
وأمّا صحيح حمّاد، فهو غير صريحٍ ولا ظاهرٍ في الجواز، لأنّ الكراهة في الأخبار كثيراً ما يُراد بها الحرمة، ولا أقلّ من الاحتمال المؤدّي إلى الإجمال.
فتحصّل: أنّ الجمع بين الأخبار يقتضي البناء على حُرمة الإكتحال بالأسود مطلقاً لأنّه زينة، والإكتحال بغير الأسود إذا قصد به الزينة، وأمّا الإكتحال بما فيه طيب، فقد تقدّم حكمه في مسألة حرمة الطيب على المُحرِم.
ويستفاد من التعليل الوارد في صحيح حريز: (إنّ السّواد زينة) حُرمة كلّ تزيين للمُحرِمة، وإنْ لم تقصد به الزينة، قضيّة لعموم العلّة.
***
ص: 78
والنظر في المرآة
(و) الثاني من المكروهات: (النظر في المرآة) كما في المتن.
وفي «المستند»(1): (وعن «الخلاف»(2) و «الجُمل والعقود»(3) و «الغُنية»(4)و «المهذّب»(5) و «الوسيلة»(6) والقاضي(7)، و «النافع»(8)، وفي «الشرائع»(9)، و «المنتهى»(10)، و «الجواهر»(11).
وعن الشيخ(12) وأبي الصلاح(13) وابني إدريس(14) وسعيد(15)، البناء على
ص: 79
الحُرمة، بل نُسب إلى الأكثر، بل المشهور(1).
وعن «الذخيرة»(2) الحكم بالحُرمة إذا كان النظر للزِّينة.
واستدلّ للحُرمة: بجملةٍ من النصوص:
منها: صحيح حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا تنظر في المرآة وأنتَ محرم، لأنّه من الزينة»(3).
ومنها: صحيح حريز، عنه عليه السلام: «لا تنظر في المرآة وأنتَ مُحرم، لأنّه من الزِّينة»(4) ونحوهما غيرهما.
وقد حملها الفاضل النراقي(5) على الكراهة، لأنّه متضمّنة للجملة المحتملة للخبريّة.
وجوابه: ما تقدّم مراراً من ظهور الجملة الخبريّة في اللّزوم.
وقد يقال: إنّه لابدّ من تقيّيد إطلاق تلك النصوص بما في جملةٍ أُخرى منها دالّة على القيد:
منها: صحيح معاوية بن عمّار، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «لا ينظر المُحرِم في المرآة لزينة، فإنْ نظر فليلبّ »(6).
ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «لا تنظر المرأة المُحرِمة في المرآة للزِّينة»(7)فيثبت ما اختاره في «الذخيرة»(8).
وفيه: أنّه لا يُحمل المطلق على المقيّد في المتوافقين، وعليه فمقتضى الطائفة3.
ص: 80
الثانية حرمة النظر في المرآة بقصد الزينة، ومقتضى الأُولى حُرمة النظر إلى المرآة مطلقاً، سواءٌ أكان من قصده الزينة أم لم يكن، وسواءٌ أكانت المرآة معدّة للزِّينة أم لا، لأنّ النظر فيها بنفسه زينة كما يقتضية ما فيها من العلّة - إمّا حقيقةً أو تعبّداً - ولا تنافي بينهما، فيعمل بهما معاً.
وعليه، فالأظهر هو الحرمة مطلقاً.
أقول: ويختصّ هذا الحكم بالنظر في المرآة، وأمّا النظر في غيرها ممّا يحكي الوجه - كالماء وما شاكل - فلا دليل على المنع عنه، والتعدّي عن المرآة إليه بتفتيح المناط كما ترى ، فالمتعيّن هو الرجوع إلى الأصل، وهو يقتضي الجواز.
وهل يختصّ الحكم بالمعتاد فعله للزِّينة كما في «الجواهر»(1) أم لا؟ وجهان:
إطلاق النصوص يقتضي الثاني، والانصراف إلى المعتاد فعله للزِّينة، لو سُلّم بدوي زائلٌ بالتأمّل.
وعليه، فالأظهر هو عدم الاختصاص.
ولا فرق في هذا الحكم بين المرأة والرّجل، لأنّ بعض النصوص واردٌ في حقّ المرأة وبعضها الآخر في حقّ الرّجل، مضافاً إلى إطلاق: (لا تنظر في المرآة وأنت مُحرِم).
فرع: هل تجب إعادة التلبية لو نظر فيها بعد الإحرام أم لا؟
ظاهر صحيح معاوية المتقدّم هو الأوّل، ولكن تسالم الأصحاب على عدم الوجوب، يوجبُ حمله على الاستحباب، ومقتضى إطلاق الصحيح عدم الفرق بين العالم والجاهل والناسي، بل بين الرّجل والمرأة، فيستحبّ إعادة التلبية للجميع.
***9.
ص: 81
ولبس الخاتم للزِّينة،
(و) الثالث من المكروهات: (لبس الخاتم للزِّينة) عند المصنّف رحمه الله في المتن.
وفي «المستند»(1): (وعن «النافع»(2) و «الجامع»(3) وغيرها).
والمشهور بين الأصحاب الحرمة، بل عن «الذخيرة»(4): (أنّه لم يعرف خلافاً بين الأصحاب فيها).
ويشهد للحرمة: - مضافاً إلى ما تقدّم من عموم العلّة في نصوص الإكتحال بالسواد والنظر في المرآة، فإنّه قد عرفت أنّه يستفاد منه حرمة كلّ ما هو زينة - خبر مسمع، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: قال:
«وسألته أيلبس المُحرِم الخاتم ؟ قال: لا يلبسه للزِّينة»(5).
وأمّا ما عن الكليني رحمه الله: (وفي روايةٍ أُخرى : «ولا يلبسه للزِّينة»)(6).
فالظاهر أنّ مراده ذلك فليس هو خبراً آخر.
وقوله عليه السلام: (للزِّينة):
ص: 82
يمكن أنْ يكون مذكوراً في مقام التعليل، فيدلّ الخبر على حرمة لبسه مطلقاً لكونه زينة.
ويمكن أنْ يكون قيداً اللّبس، أي لا يقصد بلبسه الزينة وإلّا حرم اللّبس.
أقول: وبإزائه ما يدلّ على جواز اللّبس مطلقاً:
منها: صحيح ابن بزيع: «رأيتُ العبد الصالح عليه السلام وهو مُحرِمٌ وعليه خاتم وهو يطوف طواف الفريضة»(1).
ومنها: خبر نجيح، عن أبي الحسن عليه السلام: «لا بأس بلبس الخاتم للمُحرِم»(2).
ونحوهما غيرهما.
فعلى الاحتمال الأوّل الذي ذكرناه في خبر مسمع، يكون المتعيّن الجمع بين النصوص بحمل خبر مسمع على الكراهة.
وعلى الاحتمال الثاني يكون هو أخصّ من نصوص الجواز، ويقيّد إطلاقها به.
وحيثُ إنّه مرجّحٌ للثاني، فلا دليل على المنع، والأصل يقتضي الجواز.
وأمّا الإجماع المُدّعى على الحرمة، فلا يضرّ مخالفته بعد معلوميّة المدرك.
ويؤيّد ما ذكرناه: أنّ بناء الأصحاب على عدم الفرق في هذا الحكم بين الرّجل والمرأة، وقد ورد في المرأة خبر(3) مصدّق بن صدقة، عن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «تلبس المرأة المُحرِمة الخاتم من ذهب»(4).
ومعلوم أنّ لبسه ليس للسُنّة بل للزِّينة، وبنصوص الباب يرفع اليد عن عموم8.
ص: 83
العلّة المشار إليها كما لا يخفى ، وعليه فالأظهر هو الكراهة.
هذا إذا لبس الخاتم للزِّينة.
وأمّا إذا لبسه للسُنّة فلا خلاف في جوازة، بل عليه الإجماع كما ادّعاه غير واحد(1)، ويشهد له - مضافاً إلى اختصاص خبر مسمع على الاحتمال الثاني باللّبس للزِّينة - صحيح ابن بزيع، وخبر نجيح المتقدّمان.
والمرجع - كما أفاده صاحب «الذخيرة»(2) - في التفرقة بين ما كان للسُنّة أو الزينة إلى القصد، وعلّله بأنّه ليس هاهنا هيئة تختصّ بإحداهما دون الاُخرى ، وفي «الجواهر» ونحوه في «المسالك» وحاشية الكركي: (ولا بأس به)(3).
أقول: وإنْ لم يكن هيئة لبس الخاتم للزِّينة مغايرة لهيئة لبسه للسُنّة، إلّاأنّ أقسام الخاتم مختلفة؛ بعضها للزِّينة وبعضها لا زينة فيه أصلاً، مع أنّ هيئة اللّبس أيضاً تختلف بالوجدان، فمن لبسه في رأس إبهامه لا يكون ذلك زينة أصلاً.
والحقّ أنْ يقال: إنّ قوله (للزِّينة) إنْ أخذناه قيداً للبس كان ظاهراً في قصد الزينة، وإنْ جعلناه علّة، كان دالّاً على أنّ كلّ لبسٍ صدق عليه أنّه زينة مرجوح، سواءٌ قصد به الزينة أو السُنّة وإلّا فلا، فتدبّر.
***1.
ص: 84
ومن المكروهات عند جماعةٍ ، لَبسُ المرأة الحُليّ غير المعتاد لها لبسه، وهذا الحكم منسوبٌ إلى «الاقتصاد»(1) و «التهذيب»(2) و «الاستبصار»(3) و «الجُمل والعقود»(4) و «الجامع»(5) و «النافع»(6) و «الشرائع»(7) وغيرها.
وعن المشهور الحرمة(8).
أقول: وملخّص القول:
إنّها تارةً : تلبس ما يكون معتاداً لها لبسه.
وأُخرى : تلبس غير المعتاد.
وعلى التقديرين:
تارةً : يكون يعدّ الملبوس ما هو زينة مشهورة.
وأُخرى : تلبس غيرها.
وعلى التقادير:
ص: 85
تارةً : تلبس للزِّينة.
وأُخرى: لا للزِّينة.
وعلى التقادير: قد تُظهرها للرِّجال - سيّما زوجها - وقد لا تظهرها.
وأمّا النصوص: فهي مختلفة.
فمنها: ما يدلّ على جواز لبس الحُليّ لها مطلقاً إلّاحُليّاً مشهوراً للزِّينة:
1 - صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «المُحرِمة تلبس الحُليّ كلّه، إلّا حُلياً مشهوراً للزِّينة»(1).
2 - حسن الكاهلي، عنه عليه السلام: «تلبس المرأة الحُليّ كلّه، إلّاالقرط المشهور والقلادة المشهورة»(2).
فهذه النصوص تدلّ على حرمة لبس الحُليّ المشهور للزِّينة.
ومنها: ما دلّ على جواز لبس الحُليّ المعتاد لها، مشهوراً أم لا، كصحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا كان للمرأة حُليٌّ لم تحدثه للإحرام لم تنزع حُليّها»(3).
والنسبة بينه وبين ما تقدّم عمومٌ من وجه، فيقدّم ما تقدّم للشهرة.
ومنها: ما دلّ على جواز لبس الحُليّ المشهور في صورة الاعتياد، كصحيح ابن الحجّاج، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن المرأة يكون عليها الحُليّ والخلخال والمسكة والقرطان من الذهب والورق، تحرم فيه وهو عليها، وقد كانت تلبسه في بيتها قبل حَجّها، اتنزعه إذا أحرمت أو تتركه، على حاله ؟ قال: تَحرِم فيه، وتلبسه من غير أن4.
ص: 86
تُظهره للرّجال في مركبها ومسيرها»(1).
والنسبة بينه وبين ما تقدّم عموم مطلق، فيقيّد إطلاق ما دلّ على المنع من لبس الحُليّ المشهور بما ذا لم يكن معتاداً لها.
ومنها: ما دلّ على جواز لبس الحُليّ المشهور مطلقاً:
1 - صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «لا بأس أن تحرم المرأة في الذهب والخزّ»(2).
2 - خبر مصدّق، عنه عليه السلام: «تلبس المرأة المُحرِمة الخاتم من ذهب، فإنّ الخاتم من ذهب، بل الحُليّ من الذهب مطلقاً من الحُليّ المشهور»(3).
والجمع بين هذه الأخبار، وبين نصوص المنع، يقتضي حملها على الكراهة.
ومنها: ما دلّ على حرمة لبس الحُليّ إذا أظهرتها لزوجها، كخبر النضر بن سويد، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن المرأة المُحرِمة، أيّ شيء تلبس من الثياب ؟ قال عليه السلام: تلبس الثياب كلّها الا المصبوغة بالزعفران والوَرَس، ولا تلبس القفّازين ولا حُلياً تتزيّن به لزوجها، ولا تكتحل إلّامن علّة، ولا تمسّ طيباً، ولا تلبس حُليّاً ولا فرنداً(4)، ولا بأس بالعلم في الثوب»(5).
ولا معارض له، فإنّ النصوص السابقة تدلّ على جواز لبس الحُليّ من حيث هو، وهذا يدلّ على المنع من التزيّن للزوج فيؤخذ بظاهره.8.
ص: 87
كما أنّ ذيل صحيح ابن الحجّاج(1) يدلّ على المنع من إظهار الزينة للرجال.
فالمتحصّل من النصوص: أنّ الممنوع من الحُليّ للنساء، هو أن تلبس الحُليّ وتتزيّن به للزوج وغيره من الرّجال، وإلّا فلا يكون حراماً.
نعم، يُكره لها لبس الحُليّ للزِّينة، وتشتدّ الكراهة إذا لم يكن معتاداً، أو لم تكن لابسة إيّاه قبل الإحرام، أو إذا كان مشهوراً.
***6.
ص: 88
والحِجامة،
(و) ممّا يكره (الحِجامة) كما في المتن، وعن «الخلاف»(1) و «المبسوط»(2) وابن حمزة(3)، وفي «الشرائع»(4)، وعن «النافع» ومختصره(5)، ونسبه سيّد «المدارك» إلى جمعٍ من الأصحاب، واختاره هو أيضاً(6) وجمع من المحقّقين المتأخّرين(7).
وعن «المقنعة»(8)، و «جُمل العلم والعمل»(9)، و «النهاية»(10)، و «الاستبصار»(11)، و «التهذيب»(12)، و «الاقتصاد»(13)، و «الكافي»(14)، و «الغُنية»(15)، و «المراسم»(16)
ص: 89
و «المهذّب»(1)، و «الجامع»(2) حرمتها.
أقول: الأخبار على طوائف:
الطائفة الأُولى: ما يدلّ على الجواز في صورة الاختيار، كصحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «لا بأس أن يحتجم المُحرِم ما لم يحلق أو يقطع الشعر»(3).
فإنّه في حال الضرورة يجوز وإنْ حلق أو قطع الشعر، فمن هذا القيد يُستكشف أنّ مورده صورة الاختيار.
الطائفة الثانية: ما يدلّ على الجواز مطلقاً:
منها: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام: «عن المُحرِم، هل يصلح له أن يحتجم ؟ قال: نعم، ولكن لا يحلق مكان المحاجم، ولا يجزّه»(4).
ومنها: موثّق يونس بن يعقوب: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المُحرِم يحتجم ؟ قال عليه السلام: لا أُحبّه»(5) فتأمّل.
ونحوهما غيرهما.
الطائفة الثالثة: ما يدلّ على المنع إلّاعند الضرورة:
منها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المُحرِم يحتجم ؟ قال عليه السلام: لا، إلّا أن لا يجد بُدّاً فليحتجم، ولا يحلق مكان المحاجم»(6).0.
ص: 90
ومنها: خبر زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: «لا يحتجم المُحرِم، إلّاأن يخاف على نفسه أن لا يستطيع الصلاة»(1).
ومنها: خبر الحسن الصيقل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن المُحرِم يحتجم ؟ قال عليه السلام: لا، إلّاأن يخاف التلف، ولا يستطيع الصلاة.
وقال: إذا آذاه الدّم فلا بأس به، ويحتجم ولا يحلق الشعر»(2) ونحوها غيرها.
الطائفة الرابعة: ما تضمّن احتجام رسول اللّه صلى الله عليه و آله، وأبي الحسن والحسين عليهم السلام(3).
وقد حمل القائلون بالكراهة نصوص المنع على الكراهة، واستشهد سيّد «المدارك» رحمه الله له بخبر يونس المتقدّم، لقوله عليه السلام فيه: (لا أُحبّه)(4).
وأُورد على هذا الجمع: بأنّ الجمع الموضوعي بحمل نصوص المنع على صورة الاختيار، ونصوص الجواز على صورة الاضطرار - كما صرّح بذلك في نصوص المنع، فإنّها مفصّلة بين الصورتين - ممكن، ومعه لا يصل الدور إلى الجمع الحُكمي، و (لا أُحبّه) في الموثّق قابلٌ للحمل على إرادة الحرمة.
وفيه: إنّ الجمع الموضوعي لا يتمّ بالنسبة إلى صحيح حريز، فإنّه يدلّ على الجواز في خصوص حال الاختيار، وإلّا لم يكن للتقييد وجه، فإنّه مع الضرورة يجوز مع القيد أيضاً، وعليه فيتعيّن الرجوع إلى الجمع الحكمي، وهو يقتضي الكراهة.
فالمتحصّل من النصوص: أنّه لا مرجوحيّة للاحتجام مع الضرورة، وأمّا8.
ص: 91
بدونها فهي مكروهة.
لا يقال: إنّ الطائفة الرابعة المتضمّنة لاحتجام المعصومين عليهم السلام تدلّ على عدم الكراهة أيضاً.
فإنّه يقال: إنّها متضمّنة لأفعالٍ تكون مجملة لنا، غايته أنّهم احتجموا، لكن لا نعلم في أيّ حالٍ وقعت الحجامة، ولعلّها كانت في حال الضرورة.
والمأخوذ في الأدلّة رافعاً لمرجوحيّة الاحتجام، عناوين الاحتياج إلى الحجامة، والأذيّة، وعدم الاستطاعة من الصلاة، وخوف التلف، ولا يخفى أنّ للاحتياج مراتب، وأمّا الأذيّة وخوف التلف، فالنسبة بينهما عموم من وجه، والجمع بينهما يقتضي البناء على رافعيّة كلّ منهما للمرجوحيّة، وكذا عدم الاستطاعة للصلاة، وأمّا الاحتياج فيقيّد إطلاقه بالعناوين الاُخر، أو يحمل على إرادة مراتب الكراهة.
وأمّا الفَصد: فسيأتي حكمه في المسألة اللّاحقة.
لم يلق الشعر، ويَحكّ الجَسد ما لم يُدمه»(1).
2 - وصحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «عن المُحرِم، كيف يَحكّ رأسه ؟ قال:
بأظافيره ما لم يُدم أو يقطع الشعر»(2).
واُجيب عنه: بأنّه لابدّ من حملها عن الكراهة، لما هو صريح في الجواز، وهو موثّق عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن المُحرِم يكون به الجَرَب فيؤذية ؟ قال:
يحكّه، فإن سال الدّم فلا بأس»(3).
وردّه صاحب «الجواهر»:(4) بأنّ الموثّق ظاهرٌ في الضرورة، بناءً على انسباقها من الأذيّة فيه، فيبقى ما دلّ على حُرمة الحَكّ مع الإدماء بلا معارض.
وفيه: أنّه لو سُلّم مساوقة الأذيّة للضرورة، أنّه لم يُفرض في الموثّق أن ترك الحكّ يؤذيه، بل المفروض مجرّد إيذاء الجَرَب.
وعليه، فالحَكّ قد رُخّص فيه مطلقاً سواءٌ أكان مضطرّاً إليه أم لا.
أقول: ثمّ إنّ حَكّ الجَرَب له فردان:
1 - ما يوجب سيلان الدّم.
2 - وما لا يوجب ذلك.
ولم ينبّه الإمام عليه السلام على أنّه يجب التحفّظ على عدم خروج الدّم إنْ أمكن.
وبالجملة: فالحقّ أنّ الموثّق مطلق، ويوجب رفع اليد عن ظهور الخبرين في الحرمة، ويُحملان على الكراهة، فتكون النتيجة أنّ الأظهر هو الكراهة.9.
ص: 93
وممّا وقع الخلاف فيه بين الأصحاب السواك المُفضي إلى الإدماء:
فقد ذهب جمعٌ من القدماء إلي حرمته(1)، وجمعٌ منهم ومن المتأخّرين إلى كراهته(2).
أقول: الروايات فيه مختلفة:
فبعضها: ظاهرٌ في الحرمة، كصحيح ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المُحرِم يستاك ؟ قال: نعم، ولا يُدمي»(3).
وبعضها: ظاهرٌ في عدم الحرمة وعدم الكراهة، كصحيح معاوية بن عمّار:
«قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: المُحرِم يستاك ؟ قال: نعم، قلت: فإنْ أدمى يستاك ؟ قال عليه السلام: نعم، هو من السُنّة»(4).
وبعضها: ظاهرٌ في الكراهة، كخبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «عن المُحرِم، هل يصلح له أن يستاك ؟ قال عليه السلام: لا بأس، ولا ينبغي أن يُدمي فمه»(5).
أقول: ولكن الأخير غير ظاهر في الكراهة، وإنْ لم يكن ظاهراً في الحرمة أيضاً، وأمّا صحيح معاوية مُتروك الظاهر، لأنّه دالٌّ على عدم الكراهة أيضاً، ولم يقل به أحد، فلا صارف عن ظهور الأوّل في الحرمة.
ص: 94
ودَلْك الجسد،
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ النهي عنه إنّما هو بعنوان الإدماء الذي عرفت أنّه مكروه، سواءٌ كان بالحجامة أو الدلك أو السواك، وعليه فنفس تلك الأدلّة تصلح قرينةً لحمل النهي في المقام علي الكراهة، مضافاً إلى أنّ إنكار ظهور: (لا ينبغي)، في الكراهة مكابرة.
وعليه، فالأظهر هو الكراهة.
وبذلك يظهر حكم الفصد أيضاً وأنّه مكروه.
أمّا الدّمل: أي إخراج دم الدُّمل بعصره، فالظاهر جوازه بلا كراهية، لصحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن المُحرِم يعصر الدُّمل ويربط عليه الخرقة ؟ قال: لا بأس»(1).
وأمّا قلع الضرس: فقد ورد فيه مرسلٌ (2) دالٌّ على ثبوت الفدية فيه، وسيأتي الكلام فيه في محلّه، ورواية دالّة عليجوازه في حال الضرورة، وهي رواية الصيقل، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن المُحرِم يؤذيه ضرسه، أيقلعه ؟ فقال عليه السلام: نعم، لا بأس به»(3).
ففي غير حال الضرورة لم يرد نصٌّ بجوازه ولا بحرمته أو كراهته، ومقتضى الأصل هو الجواز، كما أنّ مقتضى القاعدة المتقدّمة كراهته، واللّه العالم.
(و) ممّا اتّفقت كلمات الأصحاب على كراهته، (دَلْك الجَسَد) غير المُفضيّ إلى الإدماء، إمّا في خصوص الحمّام أو مطلقاً.4.
ص: 95
أقول: وظاهر الأخبار حرمته:
منها: صحيح يعقوب بن شعيب، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المُحرِم يغتسل ؟ فقال عليه السلام: نعم، يفيض الماء على رأسه ولا يدلكه»(1).
ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «لا بأس أن يدخل المُحرِم الحمّام، ولكن لا يتدلّك»(2).
إلّا أنّ الظاهر - كما أفاده صاحب «الجواهر»(3) رحمه الله - تسالم الأصحاب على عدم حرمته، ولأجله يحمل النهي على الكراهة.
***1.
ص: 96
ولبس السّلاح اختياراً،
(و) ممّا وقع فيه الخلاف (لَبسُ السّلاح اختياراً):
فمختار المصنّف رحمه الله في جملةٍ من كتبه(1)، والمحقّق في «الشرائع»(2) وتبعهما غيرهما(3) هو الكراهة.
والمشهور بين الأصحاب(4) هو الحرمة، ويشهد لها جملة من النصوص:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ المُحرِم إذا خاف العدو يلبس السّلاح، فلا كفّارة عليه»(5).
ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام: «أيحمل السّلاح المُحرِم ؟ فقال عليه السلام:
إذا خاف المُحرِم عدوّاً أو سرقاً فليلبس السّلاح»(6).
ص: 97
ومنها: خبر زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «لا بأس بأن يحرم الرّجل وعليه سلاحه إذا خاف العدو»(1).
واستدلّ للكراهة، وعدم الحرمة بوجوه:
الوجه الأوّل: ما في «المنتهى»(2)، قال: (احتجاجهم مأخوذ من دليل الخطاب، وهو ضعيفٌ عندنا)، انتهى .
وفيه: أنّه من مفهوم الشرط، وهو حجّة عنده وعند أكثر المحقّقين.
الوجه الثاني: ما أفاده سيّد «المدارك» رحمه الله، من أنّ الشرط وإنْ كان له المفهوم، إلّا أنّه فيما إذا لم يظهر للتعليق وجه سوى نفي الحكم عمّا عدا محلّ الشرط، وهنا ليس كذلك، إذ لا يبعد أنْ يكون التعليق باعتبار عدم الاحتياج إلى لبس السّلاح عند انتفاء الخوف(3).
وفيه: أنّ الثابت في محلّه أنّ الشرط إنْ كان محقّقاً للموضوع الذي لا مفهوم له، أفاد المفهوم، سواءٌ أكان للتعليق فائدة أُخرى أم لم تكن، وفي المقام حيث لا تكون الشرطية مسوقة لبيان تحقّق الموضوع، كما هو واضح، فلها المفهوم، ولا يرفع اليد عن الظهور بمجرّد الاحتمال.
الوجه الثالث: أنّ صحيح الحلبي يدلّ بالمفهوم على ثبوت الكفّارة في لبس السّلاح مع عدم الخوف، وحيث أنّه لا كفّارة في لبس السّلاح إجماعاً، فيستكشف من ذلك أنّ الموضوع في هذه النصوص ما يغطّي الرأس كالمِغفر أو يحيط بالبدن3.
ص: 98
كالدِّرع، وحينئذٍ حرمة لبسه ليست لأجل حمل السّلاح، بل من جهة تغطية الرأس، ولبس ما لا يجوز لبسه(1).
وفيه: إنّ غاية ما يلزم ممّا اُفيد إلغاء صحيح الحلبي، وأمّا الأخيران فلا يجري فيهما ما ذُكر، بل الموضوع في أحدهما: (وعليه سلاحه)، وفي سؤال الآخر: (أيحمل السّلاح)، وهما كما ترى ظاهران في العموم، ويشملان حتّى مثل حمل الرمح.
فالمتحصّل: أنّه لا صارف عن ظهور النصوص، فالأظهر هو الحرمة.
وقد نُسب إلى الحلبيّين(2) تحريم اشتهار السّلاح أيضاً، وإنْ لم يكن معه لَبسٌ ولا حَمْلٌ يصدق أنّه متسلّح، بل كان معلّقاً على دابّةٍ ونحوها، واستدلّ له:
1 - بخبر الأربعمائة المرويّ في «الخصال»: «لا تخرجوا بالسّيوف إلى الحرم»(3).
2 - وصحيح حريز أو حسنه: «لا ينبغي أن يدخل الحرم بسلاحٍ ، إلّاأن يدخله في جوالق أو يغيّبه»(4).
3 - وخبر أبي بصير، عنه عليه السلام: «لا بأس أن يَخرج بالسّلاح من بلده، ولكن إذا دخل مكّة لم يُظهره»(5).
ولكن لعدم القائل بالحرمة، وللفظ: (لا ينبغي) في خبر حريز، تُحمل النصوص على الكراهة، كما في «الجواهر»(6).3.
ص: 99
على أحد القولين في ذلك كلّه،
أقول: والمصنّف رحمه الله بعدما ذكر عدّة أُمور في المكروهات، وقد عرفت أنّ بعضها محرّمة وليست بمكروهة، قال: (على أحد القولين في ذلك كلّه)، ونظره إلى أنّ هناك قولاً بالحرمة، لا إلى القول بعدم الكراهة، وقد عرفت تفصيل القول في كلّ واحدٍ منها.
***
ص: 100
والنقاب للمرأة،
(و) ممّا حكم جماعة بكراهته(1)(النقاب للمرأة)، والمنسوب إلى الأكثر(2)حرمته، وظاهر «التذكرة»(3) الإجماع على حرمته.
وكلمات الفقهاءفي هذه المسألة، ومسألة تغطية المرأة وجهها في الإحرام مختلفة:
فبعضهم: جعلهما واحدة، وحكم بحرمتهما.
وبعضهم: كالمصنّف رحمه الله في «القواعد»(4) جزم بحرمة التغطية وكراهة النقاب.
أمّا الشهيد في محكي «الدروس»(5) فقد حكم بحرمة كل منهما مستقلّاً.
أقول: قد تكرّر دعوى الإجماع في كلماتهم على حرمة التغطية(6)، بل في «المنتهى» أنّه قول علماء الأمصار(7)، ومع ذلك فقد حَكموا بجواز أن تسدل قناعها
ص: 101
على رأسها إلى طرف أنفها، أو إلى ذقنها أو نحرها، وبرغم ذلك نجد تصريح صاحب «المستند» بأنّ المسألة تعدّ من المشكلات(1)، وعليه فالأولى صرف عنان الكلام إلى بيان ما يستفاد من النصوص، ونخبة القول في ذلك إنّ النصوص طوائف:
الطائفة الأُولى: ما تضمّن أنّ إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرّجل في رأسه، كصحيح عبد اللّه بن ميمون، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام:
«المُحرِمة لا تتنقّب، لأنّ إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرّجل في رأسه»(2).
والمستفاد من هذا التعليل مع قطع النظر عن قوله: (لا تتنقّب)، ليس لزوم كشف وجهها، لعدم كون ذلك معنى الإحرام، بل غاية ما يدلّ عليه أنّ محلّ الإحرام هو الوجه، وأمّا كيفيّة الإحرام فلابدّ من الرجوع إلى سائر الأدلّة.
الطائفة الثانية: ما تضمّن النهي عن النقاب:
منها: ما ذُكر.
ومنها: صحيح الحلبي، عن أبي عبداللّه عليه السلام، قال: «مرّ أبو جعفر عليه السلام بامرأةٍ متنقّبة وهي مُحرِمة، فقال: أحرِمي واسفري، وأرخي ثوبك من فوق رأسك، فإنّك إنْ تنقّبت لم يتغيّر لونك. فقال له رجلٌ : إلى أين تُرخيه ؟ قال: تُغطّي عينها، قال قلت: تبلغ فمها؟ قال: نعم»(3).
ولا يستفاد من هذا الخبر سوى عدم جواز النقاب، وأمّا حرمة تغطية وجهها، ووجوب الإسفار، فلا يستفادان منه، بل يدلّ على جواز تغطية معظم الوجه، وهو من أعلاه إلى الفم.8.
ص: 102
ومنها: خبر البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام، قال: «مَرّ أبو جعفر عليه السلام بامرأةٍ مُحرِمة قد استترت بمروحة، فأماط بنفسه عن وجهها»(1).
قد استدلّ بهذا الخبر على حرمة التغطية، ووجوب الإسفار، ولكنّه بيان فعل مجمل غير معلوم الوجه، ولعلّ في المروحة - وهي على ما في «مجمع البحرين»(2):
والمِروحة بالكسر آلة يتروّح بها، يقال: تروحتُ بالمروحة، كأنّه من الطيب، لأنّ الريح تلين به وتطيب بعد أن لم تكن كذلك - خصوصيّة.
ومنها: خبر أبي عيينة، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام ما يحلّ للمرأة أن تلبس وهي محرمة ؟ فقال: الثياب كلّها ما خلا القفّازين والبُرقُع والحرير... الخ»(3).
الطائفة الثالثة: ما توهم دلالته على كراهة النقاب:
منها: صحيح عيص بن القاسم: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام في حديثٍ : كره النقاب، يعني للمرأة المُحرِمة... الخ»(4).
ومنها: خبر ابن أبي العلاء، عنه عليه السلام: «إنّه كره للمُحرِمة البرقع والقفّازين»(5).
بناءً على إرادته من البرقع.
ولكن الكراهة في الأخبار أعمّ من الكراهة المصطلحة، وقابلة لإرادة الحرمة منها، فإذا انضمّت هذه النصوص إلى ما تقدّم، يكون المستفاد من المجموع حرمة النقاب للمرأة.0.
ص: 103
الطائفة الرابعة: ما توهم دلالته على حرمة التغطية، كصحيح زرارة: «المرأة المُحرِمة لا بأس بأن تُغطّي وجهها كلّه عند النوم»(1).
ولكن دلالته على ذلك تتوقّف على ثبوت المفهوم لغير الشرط، ولا نقول به.
فتحصّل: أنّه لا دليل على حرمة أن تُغطّي المُحرِمة وجهها، ولا على وجوب كشفه، وإنّما الدليل تضمّن النهي عن النقاب، كما أفاده سيّد «المدارك» رحمه الله(2).
فإنْ قيل: من الضروري عدم الخصوصيّة للنقاب، بل المراد أن لا تغطّي الوجه.
قلنا: إنّه من الممكن أنْ يكون وجه المرأة كبدن الرّجل كلّه، فكما أنّ الشارع الأقدس نهى عن لبس ثياب مخصوصة، وأمر بلبس ثوبي الإحرام، ولا سبيل هناك إلى أنْ يقال إنّ المستفاد من ما دلّ على حرمة لبس القميص وما شاكل، لزوم كونه عرياناً، فيعارض تلك النصوص مع ما دلّ على لزوم لبس الثوبين، كذلك لا سبيل في المقام إلى دعوى أنّ المستفاد من حرمة النقاب أو المروحة، لزوم كون وجهها مكشوفاً، أو أنّه يحرم تغطية الوجه عليها، كي تعارض هذه النصوص مع ما سيجيء من النصوص.
وبالجملة: المستفاد من هذه النصوص هو حرمة النقاب والبرقع.
أقول: وفي المقام طوائف أُخرى من الأخبار:
طائفة: تدلّ على لزوم أن تتستّر من الأجنبي، كموثّق سماعة، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «أنّه سألة عن المُحرِمة ؟ فقال: إنْ مرَّ بها رجلٌ استترت منه بثوبها، ولا تستتر بيدها من الشمس»(3).1.
ص: 104
ولعلّه من هذه الطائفة صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه:
«قال: تسدل المرأة الثوب على وجهها من أعلاها إلى النحر إذا كانت راكبة»(1).
وطائفة: ما دلّ على أنّها تسدل ثوبها إلى طرف الأنف الأعلى ، أو إلى الفم أو الذقن أو النحر:
منها: صحيح عيص، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «كره النقاب، يعني للمرأة المُحرِمة.
وقال: تسدل الثوب على وجهها.
قلت: حَدّ ذلك إلى أين ؟ قال: إلى طرف الأنف قدر ما تُبصِر»(2).
ومنها: صحيح الحلبي المتقدّم، فقد حكم فيه عليه السلام بأنّها تسدل ثوبها إلى عينها، وكأنّ الراوي فهم منه عدم جواز الأزيد، وسأل: (تبلغ فمها)، قال عليه السلام: (نعم)، وهو قرينة على أنّ الحَدّ المذكور ليس لزوميّاً بالنسبة إلى الأزيد.
ومنها: صحيح حريز، عنه عليه السلام: «المُحرِمة تسدل الثوب على وجهها إلى الذقن»(3).
ومنها: صحيح زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «أنّ المُحرِمة تسدل ثوبها إلى نحرها»(4) ونحوها غيرها.
وهذه النصوص قد عمل بها الأصحاب، وعن «التذكرة»: (أنّ الإسدال جائز عند علمائنا أجمع، وهو قول عامّة أهل العلم)(5).).
ص: 105
وعن «كشف اللِّثام» - بعد أنْ أوجبه للستر قال: (أمّا جواز الإسدال بل وجوبه فمع الإجماع، لأنّها عورة يلزمها الستر من الرجال الأجانب)(1).
وبالجملة: ظاهر النصوص هو لزوم الإسدال، ولا ينافي ذلك ما ورد في كتاب نكاح «الخلاف»(2) من وجوب أن تستر المرأة وجهها، فإنّه يمكن أنْ يكون ذلك من أحكام الإحرام، فلا وجه لرفع اليد عن ظهور الروايات في الوجوب.
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ الأمر بالإسدال لوروده مورد توهم الحظر لا يستفاد منها أزيد من الجواز.
فالمتحصّل من جميع النصوص: بعدَ رَدّ بعضها إلى بعض، أنّه يحرم على المرأة في حال الإحرام أن تضع النقاب والبرقع وما شاكل، ولكن عليها أن تسدل ثوبها الذي على رأسها إلى طرف الأنف الأعلى، ولها أن تسدله إلى الفم، وإلى الذقن، بل إلى النحر، من دون تعارض بين النصوص أصلاً، وعليه يسقط البحث المعنون في المقام، وهو:
أنّ النصوص الأُولى تدلّ على حرمة التغطية، والأخيرة على جواز الإسدال، فكيف التوفيق بين الطائفتين، فهل تُحمل الأُولى على صورة عدم وجود الناظر، والأخيرة على صورة وجوده، أم تقيّد الثانية بالاُولى ، ويُقال إنّه يجوز الإسدال إلّا إذا استلزم التغطية، أم يقال إنّه للتغطية مراتب ويكون المُحرّم منها ما إذا كان الثوب متّصلاً بوجهها، فيكون المراد منه جواز الإسدال لها بأن تُبعد الثوب عن وجهها بيدها أو بشيء آخر بمقدار يخرج عن حَدّ التغطية، ويدخل في التظليل، أو8.
ص: 106
غير ذلك من وجوه الجمع ؟.
فإنّ شيئاً من ذلك لا يتمّ ، وكلّ في غير محلّه، لعدم التنافي بين النصوص أصلاً، والشاهد على ذلك - مضافاً إلى وضوحه - جمعه عليه السلام في صحيح الحلبي بين النهي عن النقاب والأمر بالإسدال.
وأيضاً: قد ظهر ممّا ذكرناه أنّ ما عن «المبسوط»(1) و «الجامع»(2) من عدم جواز كون الثوب الذي يسدل مماسّاً للوجه، بل لابدّ أن تمنعه بيدها أو خشبةٍ من أن يباشر وجهها، واختاره في محكي «القواعد»(3)، وعن «الدروس»(4) أنّه المشهور، بل عن الشيخ(5) وجوب إراقة الدّم مع تعمّد المباشرة، غير تامّ ، فإنّه لا وجه له ولا دليل عليه سوى دعوى الجمع بين الصحاح الدالّة على الإسدال والنصوص المانعة عن التغطية، بحمل الأُولى على غير المصيبة للبَشَرة بخلاف الثانية، بل لعلّ المرتفعة ليس من التغطية، وقد عرفت أنّه لا دليل على حرمة التغطية، فلا موضوع لهذا الكلام أصلاً.
ولكن لو كان دليلٌ على حرمتها لم يكن هذا الجمع صحيحاً، فإنّ الإسدال بمعنيّيه تغطيةٌ عرفاً، مع أنّ الجمع بإخراج الإسدال بقسميه عن ذلك أولى منه من وجوه، كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(6).3.
ص: 107
والحاصل: أنّ ما عن «المدارك»(1) و «الذخيرة»(2) وغيرهما من اختصاص الحرمة بالنقاب والبرقع، وأنّه لا يستفاد من النصوص الأُولى أزيد من ذلك، هو الصحيح، وإيراد صاحب «الجواهر» عليهم بتعدّد أفراد التغطية بغير السدل - كالشّد ونحوه - خصوصاً مع ملاحظة اللطوخ ونحوه، لا وقع له، سيّما مع اعترافه قبل ذلك بأسطر بأنّ الدليل خالٍ عن ذكر التغطية(3).
أقول: ومن غرائب الكلام ما عنونوه في المقام من أنّه يجبُ على المُحرِمة أن تكشف بعض رأسها، مقدّمةً لكشف تمام الوجه، فعند الصلاة يجتمع فيها فعلان واجبان متنافيان في الحدود، وهما في الوجه، فإنّه يجبُ عليها كشفه كما يجبُ عليها ستره، فمقدّمة الواجب متعارضة فيهما، فهل يقدّم جانب الرأس، أو جانب الوجه ؟
فجماعة قدّموا ستر الرأس(4)، وأشكل عليهم الآخرون(5)، بأنّه إذا جاز لها الإسدال - كما أفتى هؤلاء الأعاظم به - فأين التعارض ؟!
وهذه اُمورٌ لا طائل تحتها وقع الأعاظم فيها، واللّه تعالى مُقيل العثرات، فالمسألة بحمد اللّه تعالى خالية عن الإشكال.
***2.
ص: 108
والإحرام في الثياب الوسخة والمَعلمة، والحَناء للزِّينة،
(و) من المكروهات: (الإحرام في الثياب الوسخة)، لخبر محمّد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السلام: «عن الرّجل يحرم في ثوبٍ وسخ ؟ قال عليه السلام: لا، ولا أقول إنّه حرام، ولكن تطهيره أحبّ إليّ ، وطهوره غَسله، ولا يغسل الرّجل ثوبه الذي يحرم فيه حتّى يحلّ وإنْ توسّخ، إلّاأن تصيبه جنابة أو شيء فيغسله»(1).
(و) كذا يُكره في الثياب (المَعلمة)(2) لجملةٍ من النصوص:
منها: خبر معاوية: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: لا بأس أن يحرم الرّجل في الثوب المعلم، وتركه أحبّ إليّ إذا قَدر على غيره»(3).
هذا بالنسبة إلى الرّجل.
وأمّا بالنسبة إلى المرأة فلا كراهة لإحرامها فيها، لخبر النضر بن سويد، عن أبي الحسن عليه السلام، في حديثٍ : «المرأة المُحرِمة ؟ قال: ولا بأس بالعلم في الثوب»(4)ونحوه غيره.
(و) ممّا وقع الخلاف في حرمته وكراهته، استعمال (الحناء للزِّينة):
ص: 109
فعن «المقنعة»(1)، و «الاقتصاد»(2)، و «المنتهى»(3)، و «المختلف»(4)، و «المسالك»(5)حرمته، وعن الأكثر أنّه مكروه(6).
واستدلّ للحرمة: بتعليل المنع عن النظر والمرآة والإكتحال بالسّواد بأنّهما زينة، بل مقتضاه الحرمة وإنْ لم يقصد به الزينة، لعدم توقّف صدقها على القصد، ولكن صحيح عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «سألته عن الحناء؟ فقال: إنّ المُحرِم ليمسّه ويداوي به بعيره (بغيره خ) وما هو بطيب وما به بأس»(7) يدلّ على الجواز.
ودعوى: أنّه مخصوصٌ بالتداوي، فلا يعمّ ما كان للزِّينة.
مندفعة: بأنّ كلمة (يداوي) في الخبر معطوفٌ على قوله: (ليمسّه) من باب عطف الخاص على العام، والمسّ أعمّ ، وقوله: (وما هو بطيب وما به بأس)، كالصريح في عدم الإختصاص بصورة التداوي، وأنّه يجوز في حال الإختيار ولغير التداوي.
فإنْ قيل: إنّ النسبة بينه وبين التعليل عموم من وجه.6.
ص: 110
قلنا أوّلاً: إنّ النسبة عموم مطلق، لأنّ الحناء زينة مطلقاً، والتعليل قد عرفت عدم اختصاصه بصورة قصد الزينة، فيقيّد إطلاق العلّة به.
وثانياً: أنّه لو سُلّم كون النسبة عموماً من وجه، يقدّم الصحيح للشهرة، وعليه فلا توقّف في الجواز.
أقول: يبقى الكلام حينئذٍ في الدليل على الكراهة، فقد استدلّ لها بخبرالكناني، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من امرأةٍ خافت الشقاق، فأرادت أن تُحرِم، هل تخضب يدها بالحناء قبل ذلك ؟ قال عليه السلام: ما يعجبني أن تفعل»(1).
ولكن الخبر مختصٌّ بالتزيّين للزوج، ولا محذور في كراهة ذلك بالخصوص، وقد تقدّم في مسألة لَبس المرأة الحُليّ أنّ خبر نضر بن سويد يتضمّن النهي عن الحُليّ تتزيّن به المرأة لزوجها، وأنّ ذلك حرام، ومثل الحُليّ الحنّاء، والخبر يدلّ على جواز ذلك عند خوف الشقاق، وعليه فلا دليل على كراهة الحناء للزِّينة للنساء مطلقاً، فالأظهر عدم الكراهة.
وعليه فلا مورد للبحث في أنّه هل يكون مكروهاً على الرجال أيضاً لقاعدة الاشتراك، كما أفاده صاحب «الجواهر» رحمه الله(2)، أو لإلغاء خصوصيّة المرأة وإن ذكرها من باب المثال كما عن غيره ؟
كما لا مورد للكلام في أنّه هل يعمّ الكراهة ما لو استعملت الحناء قبل الإحرام مع بقاء أثره إلى حين الإحرام أم لا؟0.
ص: 111
ودخول الحمّام، وتلبية المنادي،
(و) من ما يُكره (دخول الحمّام وتلبية المنادي) بلا خلافٍ في الأوّل، كما في «الجواهر»، ويشهد به فيه خبر عقبة بن خالد، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن المُحرِم يدخل الحمّام ؟ قال: عليه السلام لا يدخل»(1)، المحمول على الكراهة، لصحيح معاوية المتقدّم: «لا بأس أن يدخل المُحرِم الحمّام ولكن لا يتدلّك».
وأمّا تلبية المنادي: فظاهر بعض النصوص حرمتها:
منها: خبر حمّاد بن عيسى ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «ليس للمحرم أن يُلبّي مَنْ دعاه حتّى يقضي إحرامه، قلت: كيف يقول ؟ قال عليه السلام: يقول: يا سعد»(2).
ومثله المرسل(3).
ومنها: مرسل أبي إسحاق، عن علي بن الحسين عليه السلام: «إذا أحرم الرّجل فناداه الرّجل فلا يُجيبه بالتلبية، لأنّه قد أجاب اللّه بالتلبية في الإحرام»(4).
وأفتى بها الشيخ في محكي «التهذيب»(5).
ومنها: مرسل الصدوق، قال الصادق عليه السلام: «يُكره للرّجل أن يُجيب بالتلبية إذا نُودي وهو محرم»(6).ة.
ص: 112
واستعمال الرياحين، ويجوزُ حَكّ الجَسَد والسّواك ما لم يُدمِ .
لكنّه لا يصلح لأن يكون قرينةً صارفة لظهور النهي في الحرمة، لما عرفت مراراً أنّ الكراهة في الأخبار أعمّ من الكراهة المصطلحة.
وأمّا ما ذكره صاحب «الجواهر»(1): (وفي آخر عن أبي جعفر عليه السلام: لا بأس أن يُلبّي المُحرِم»(2) المنجبر بما عرفت) فلم أقف عليه في كتب الأحاديث. وعلى فرض ثبوته وانجبار ضعفه كما أفاده رحمه الله، فغير ظاهر الدلالة على المقام، لأنّه غير ظاهر في التلبية إذا دعاه داعٍ .
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ التلبية إمّا تكون تلبيةً للّه تعالى المأمور بها، أو إذا دعاه داعٍ ، والمراد من الخبر ليس هو الأولى قطعاً، فلا محالة يراد منه الثانية، ولعلّ ذلك - بضميمة تسالم الأصحاب على عدم الحرمة إذا لم ينقل القول بها إلّاعن ظاهر «التهذيب» - يكون كافياً في الحكم بالجواز والكراهة.
(و) أمّا (استعمال الرياحين) فقد تقدّم الكلام فيه في مسألة استعمال الطيب(3)، وعرفت أنّ الأظهر حرمته، (و) قد مرّ هناك بيان الريحان موضوعاً، كما أنّه قد تقدّم في مبحث المكروهات(4) أنّه (يجوز حَكّ الجَسَد والسّواك ما لم يُدم) ومع الإدماء يكرهان.
***د.
ص: 113
الباب الخامس: في كفّارات الإحرام: وفيه فصلان:
الأوّل: في كفّارات الصيد، وهو الحيوان المحلّل الممتنع في البرّ، ويجوز صيد البحر، وهو ما يبيض ويفرخ فيه، والدجاج الحبشي.
(وفيه فصلان: الأوّل: في كفّارات الصيد):
وقد مرّ في الباب الرابع في مبحث لزوم ترك الصيد أنّه الحيوان الممتنع في البرّ، أعمّ من مأكول اللّحم وغيره.
وعليه، فما قاله المصنّف في المتن: (وهو الحيوان المحلّل الممتنع في البرّ) غير تامّ .
(و) مرّ هناك أيضاً أنّه (يجوز صيد البحر، وهو ما) يعيش في البحر، أو (يبيض ويفرخ فيه) إنْ كان ممّا يعيش فيهما.
(و) مثله في الجواز (الدّجاج الحبشي) المُسمّى بالسِّندي والغرغر.
وعن «المسالك»: (أنّه طائر أغبر اللّون في قدر الدجاج، أصله من البحر)(1).
أقول: وكيف كان، فلا إشكال في جوازه، وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منه مستفيض)(2).
ص: 114
ففي النعامة بدنة.
ويشهد به: نصوص كثيرة:
منها: صحيح معاوية: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الدجاج الحبشي ؟ فقال عليه السلام:
ليس من الصيد، إنّما الصيد ما طار بين السماء والأرض وصَفّ »(1).
ونحوه غيره من الأخبار، وقد مرّ الكلام في ذلك.
إنّما الكلام في المقام في خصوص مايترتّب على الصيد من الكفّارة، وفيه قسمان:
القسم الأوّل: ما لكفّارته بدلٌ بالخصوص، وفيه مباحث: أمّا الأوّل:
المبحث الأوّل: (ففي) قتل (النعامة) وهي الحيوان المعروف (بدنة) بلا خلافٍ فيه على فرض شمول البدنة للجزور، بل الإجماع بقسميه عليه كما في «الجواهر»(2)، وفي «المنتهى»: (وهو قول علمائنا أجمع)(3)، انتهى .
ويشهد له طائفة من الأخبار:
منها: صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في قول اللّه عزّ وجلّ : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ ) (4)؟ قال: في النعامة بدنة، وفي حمار وحش بقرة، وفي الظبي شاة، وفي البقرة بقرة»(5).
ص: 115
ومنها: صحيح سليمان بن خالد، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «في الظبي شاة، وفي البقرة بقرة، وفي الحمار بدنة، وفي النعامة بدنة، وفيما سوى ذلك قيمته»(1).
ومنها: صحيح يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قلتُ له: المُحرِم يقتل نعامة ؟ قال: عليه بدنة من الإبل. قلت: يقتل حمار وحش ؟ قال: عليه بدنة.
قلت: فالبقرة ؟ قال: بقرة»(2).
ومنها: صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم، عنه عليه السلام: «في مُحرم قتل نعامة ؟ قال:
عليه بدنة، فإنْ لم يجد فإطعام ستّين مسكيناً، فإنْ كانت قيمة البدنة أكثر من إطعام ستّين مسكيناً، لم يزد على إطعام ستّين مسكيناً، وإنْ كانت قيمة البدنة أقلّ من إطعام ستّين مسكيناً، لم يكن عليه إلّاقيمة البدنة»(3).
ونحوها غيرها.
أقول: قد وقع الخلاف في البدنة، من جهتين:
الجهة الأُولى : في أنّها مختصّة بالاُنثى أم تعمّ الذّكر؟
فعن «العين»(4)، و «النهاية الأثيريّة»(5)، و «تهذيب الأسماء»(6)، و «التحرير»(7)،6.
ص: 116
و «المُغْرِب»(1) الثاني.
وعن «الصحاح»(2) و «المحيط» الأوّل(3).
الجهة الثانية: في أنّها هل تشمل البقرة أم تختصّ بالإبل ؟
فعن «القاموس»(4) و «شمس العلوم»(5) و عن غيرهما الأوّل(6)، و عن بعضٍ الثاني(7).
ولكن النزاع في الثاني لا يترتّب عليه أثر، للتصريح في صحيح يعقوب بن شعيب بالبدنة من الإبل.
وأمّا الاستدلال للإختصاص بالمقابلة بين البدنة والبقرة في النصوص فعجيبٌ ، فإنّ النصوص في مقام بيان جنس الكفّارة، وتدلّ على أنّ كفّارة النعامة بدنة وكفّارة البقرة بقرة، وهذا لا ينافي كون البدنة أعمّ من الإبل والبقر.
نعم، لا بأس بالاستدلال بالمقابلة بينهما في نصوص الهَدْي، لاحظ خبر معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام:5.
ص: 117
«اشتر هَدْيك إنْ كان من البدن أو من البقر... الخ»(1) ونحوه غيره.
وأمّا الجهة الأُولى فقد يقال: إنّ مقتضي الاحتياط، هو الاقتصار على الاُنثى ، لأنّ الاُنثى مُجزية قطعاً، وغيرها يشكّ في إجزائة، والإشتغال اليقيني يستدعي البراءة اليقينيّة.
وفيه أوّلاً: أنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين التعيّين والتخيّير، ومقتضى أصالة البراءة عن تعيّن الخصوصيّة الزائدة هو التخيّير.
وبعبارة اُخرى يقال: إنّ الإبل الجامع بين الجنسين واجب قطعاً، ويشكّ في اعتبار الاُنوثيّة، والأصل يقتضي عدمه.
وثانياً: أنّه يمكن أن يُستدلّ لإجزاء الذكورة بالنصوص الواردة في الهَدْي، كصحيح معاوية بن عمّار، قال أبو عبد اللّه عليه السلام:
«أفضل البدن ذوات الأرحام من الإبل والبقر، وقد تجزى الذكورة من البدن»(2).
ونحوه غيره(3).
وتقريب الاستدلال بها: أنّها تدلّ على أنّ البدن أعمّ من ذوات الأرحام وغيرها، وعليه فمقتضى إطلاق نصوص الباب، الاكتفاء بغير ذوات الأرحام.
وأيضاً يمكن أن يستدلّ بها بإطلاقها الشامل للمقام، إذ لا اختصاص للنص بالبدن الّتي يُضحّى بها، فمقتضى إطلاقها إجزاء الذكورة أيضاً.
أقول: وبإزاء ما تقدّم من نصوص البدنة، خبر أبي الصباح، عن الإمامح.
ص: 118
الصادق عليه السلام: «في قوله تعالى : (وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ ) (1)؟ قال: في الظبي شاة، وفي حمار وحش بقرة، وفي النعامة جزور»(2).
وأفتى بما تضمّنه في محكيّ «النهاية»(3) و «المبسوط»(4) و «السرائر»(5).
ووجود محمّد بن أبي الفضيل في السند لا يضرّ، لأنّه حسن على أقلّ التقادير، ولكن لم يثبت مخالفته لما سبق.
قال المصنّف في «المنتهى»: (وقد ثبت أنّ جماعة من الصحابة حكموا في النعامة ببدنة، وهو قول علمائنا أجمع، فمن قتل نعامةً وهو مُحرِم، وجبَ عليه جزور) انتهى (6)، وظاهر ذلك اتّحادهما.
وعن «كشف اللِّثام»: (لا مخالفة بينه وبين النصوص السابقة، ولا بين القولين كما يظهر من «المختلف»، إذ لا فرق بين الجزور والبدنة، إلّا أنّ البدنة ما يُحرز للهدي، والجزور أعمّ من ذلك)، انتهى (7).
فإنْ ثبت ذلك فلا كلام، وإنْ كان مجملاً يحمل على المبيّن، وهو ما في النصوص السابقة، وإنْ ثبت أنّه أعمّ من البدنة، يقيّد إطلاقه بما تقدّم، وإنْ كان مغايراً معها وقع التعارض بين النصوص. ولا يصحّ الجمع بينها بالتخيّير، لأنّ كلّاً من الطائفتين تدلّ على تعيّن ما تضمنته، فالجمع بالتخيّير ليس عرفيّاً، فلابدّ من الرجوع إلى).
ص: 119
المرجّحات، وهي تقتضي تقديم نصوص البدنة للشهرة، وأصحيّة السند.
فالمتحصّل من ما ذكرناه: تعيّن البدنة، والمراد بها الإبل، والأظهر كفاية غير ذوات الأرحام، وإنْ كانت هي أفضل وأحوط.
أقول: ينبغي التنبيه على أمرين:
التنبيه الأوّل: قال صاحب «الجواهر» - وفاقاً للرياض(1) -: (إنّه لمّا كانت البدنة إسماً لما يُهدى، اعتبر فيها السّن المعتبر في الهَدي)(2)، انتهى .
والظاهر أنّه يمكن أن يستدلّ لاعتبار ذلك السّن بالنصوص الصحيحة، منها المرتضوي: «يُجزي من البدن الثني، ومن المَعْز الثني، من الضأن الجذع»(3)، فإنّ إطلاقها شاملٌ للمقام.
التنبيه الثاني: قال صاحب «الجواهر»: (خلافاً للمحكي عن «التذكرة»(4)، فاعتبر المماثلة بين الصيد وفدائه، ففي الصغير من الإبل ما في سنّه، وفي الكبير كذلك، وفي الذَّكر ذكر، وفي الاُنثى اُنثى، ولم نقف له على دليل)(5)، انتهى .
ولكن ليس في «التذكرة» ذلك، نعم هو منقول في «الحدائق»(6) عن
ص: 120
«المختلف»، وقبله ذكره ابن الجُنيد حيث قال: (الاحتياط أنْ يكون جزاء الذَّكر من الصيد ذكراً من النعم، وجزاء الاُنثى اُنثى ، والمسنّ مسناً، والصغير صغيراً من الجنس الذي هو مثله في الجزاء، فإنْ تطوّع بالأعلى منه سنّاً كان تعظيماً لشعائر اللّه)(1)، واختاره ابن إدريس(2) أيضاً، وقوّاه المصنّف في «المختلف»(3).
وفي «كنز العرفان»: (هل المماثلة شخصيّة، فيفدي الصغير بالصغير، والكبير بالكبير، والذّكر بالذَّكر، والاُنثى بالاُنثى؟ أو نوعيّة فيجزي الصغير عن الكبير، والذَّكر عن الاُنثى؟ احتمالان، والثاني أظهر في الفتوى، لكن الأفضل الأوّل لتيقّن حصول البراءة)(4) انتهى .
وكيف كان، فقد استدلّ للأوّل بقوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ ) (5)، بتقريب أنّ مقتضى إطلاق المماثلة هي المماثلة من جميع الجهات.
ويرد عليه: أنّه لو لم تكن الآية الشريفة مفسّرة، كان ما اُفيد تامّاً من هذه الجهة، ولكن قد فُسّرت في النصوص بأنّ المراد بالمماثلة هي النوعيّة منها، ومعه لا وجه لذلك.
***5.
ص: 121
ومع العجز يفض ثمن البدنة على البِرّ، ويُطعم ستّين مسكيناً، لكلّ مسكينٍ مُدّان، وما زاد عن ستّين له، ولا يجب عليه ما نقص عنه،
(ومع العجز) عن دفع البدنة (يفض ثمن البدنة على البرّ ويُطعم) ستّين مسكيناً (لكلّ مسكينٍ مُدّان، وما زاد عن ستّين) مسكيناً (له، ولا يجبُ عليه ما نقص عنه) كما صرّح بذلك كلّه غير واحدٍ.
وفي «الحدائق»(1): (هو قول الشيخ(2)، وبه قال ابن إدريس(3) وابن البرّاج(4)، وهو المشهور بين المتأخّرين)(5)، انتهى .
أقول: ما ذكر متضمّنٌ لأحكامٍ بعضها متّفقٌ عليه، وبعضها مختلفٌ فيه:
فمن الأوّل: أصل تقويم البدنة وفضّ ثمنها، وإطعام ستّين مسكيناً، وأنّه لا يجب إتمام ما زاد له أو ما نقص عنه.
ومن الثاني: فضّ الثمن على البرّ، فإنّه وإنْ ذكره جماعة، إلّاأنّ المحكيّ عن «المبسوط»(6) و «الخلاف»(7) و «الوسيلة»(8) و «الجامع»(9) مكان البرّ الطعام،
ص: 122
واختاره في «المستند»(1).
وعن «التذكرة»(2) و «المنتهى»(3) الطعام المخرج الحنطة والشعير والتمر والزبيب.
ومنها أيضاً: لكلّ مسكين مُدّان، فإنّه وإنْ كان أشهر(4)، إلّاأنّ الصدوق والعُمّاني(5) وغيرهما(6) اختاروا أنّ لكلّ مسكين مُدّاً، وقوّاه الفاضل النراقي(7).
وأمّا الأحكام المتّفق عليها، فالنصوص أيضاً متّفقة عليها، كما ستمرّ عليك.
وأمّا المختلف فيها: فمنها فضّ الثمن على البرّ، فأكثر النصوص خالية عن البرّ، بل متضمّنة لفضّ الثمن على الطعام، لاحظ:
1 - صحيح أبي عبيدة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أصاب المُحرِم الصيد، ولم يجد ما يكفّر من موضعه الذي أصاب فيه الصيد، قوّم جزاؤه من النعم دراهم، ثمّ قوّمت الدراهم طعاماً، ثمّ جُعل لكلّ مسكينٍ نصف صاع، فإنْ لم يقدر على الطعام صام لكلّ نصفٍ صاع يوماً»(8).
2 - صحيح زرارة ومحمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في مُحرِم قتل نعامة ؟ قال عليه السلام: عليه بدنه، فإنْ لم يجد فإطعام ستّين مسكيناً، فإنْ كانت قيمة البدنة أكثر من إطعام ستّين مسكيناً، لم يزد على طعام ستّين مسكيناً، وإنْ كانت قيمة البدنة3.
ص: 123
أقلّ من إطعام ستّين مسكيناً، لم يكن عليه إلّاقيمة البدنة»(1).
3 - ومثله مرسل جميل عنه عليه السلام بلا تفاوتٍ (2)، ونحوها غيرها(3).
أقول: وهناك رواية واحدة متضمّنة لفضّه على البرّ، وهي رواية الزُّهري، عن علي بن الحسين عليه السلام - في حديثٍ -: «أوَتدري كيف يكون (عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) يا زُهري ؟ قال: قلت: لا أدري!
قال عليه السلام: يقوّم الصيد قيمة، ثمّ يفضّ تلك القيمة على البرّ، ثمّ يُكال ذلك البرّ أصواعاً، فيصوم لكلّ نصف صاعٍ يوماً»(4).
ومثله ما عن «الفقه الرضوي»(5).
ولو كانت الرواية معتبرة لزم تقيّيد الآية الكريمة، والنصوص المطلقة بها، إلّا أنّها ضعيفة.
وأمّا «الفقه الرضوي» فلما مرَّ مراراً من أنّه لم يثبت كونه كتاب رواية، فضلاً عن اعتباره.
وأمّا خبر الزُهري فقد رواه الصدوق بإسناده عن الزُهري وفيه غمزٌ، ورواه الكليني بسندٍ فيه ضعفاء كسفيان بن عُييّنة وغيره، ورواه الشيخ بإسناده عن الكليني، فالخبر ضعيفُ السند لا يُعتمد عليه، وعليه فالأظهر أنّه يفض على الطعام.م.
ص: 124
ودعوى: انصرافه إلى البُرّ كما ترى ، وعليه فالحقّ إجزاء كلّ طعام عن الكفّارة.
وأمّا الاجتزاء بالمُدّ، أو لزوم مُدّين، فالنصوص الواردة مختلفة بالنسبة إلى ذلك:
ففي بعضها: التصريح بمُدّين كصحيح أبي عُبيدة المتقدّم.
وفي بعضها: التصريح بكفاية المُدّ:
منها: صحيح أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن محرمٍ أصاب نعامة وحمار وحش ؟ قال عليه السلام: عليه بدنة، قال قلت: فإنْ لم يقدر على بدنة ؟ قال: فليطعم ستّين مسكيناً. قلت: فإنْ لم يقدر على أن يتصدّق ؟ قال: فليصم ثمانية عشر يوماً، والصّدقة مُدٌّ على كلّ مسكين، الحديث»(1).
ومنها: صحيح معاوية بن عمّار، عنه عليه السلام: «من أصاب شيئاً فدائه بدنة من الإبل، فإنْ لم يجد ما يشتري بدنة، فأراد أن يتصدّق، فعليه أن يُطعم ستّين مسكيناً، كلّ مسكينٍ مُدّاً، الحديث»(2).
ونحوهما غيرهما.
وبعضها: مطلق، كصحيح زرارة ومحمّد بن مسلم المتقدّم.
وعن «كشف اللِّثام»: أنّه يحتمل الجمع بين النصوص باختلاف القيمة، فإنْ وفت بمُدّين تصدّق بهما، وإلّا فمُدّ على الكلّ أو على البعض(3).
واعترف هو بعدم القائل به، ولكنّه جمعٌ تبرّعي لا شاهد له.).
ص: 125
وفي «الجواهر»: (يمكن ترجيح نصوص المُدّين، من جهة تعارض حقّ الفقراء هنا، إذ هو تفريق للموجود) انتهى (1).
وفيه: أنّه إذا كان الواجب صرف جميع القيمة على كلّ تقدير تمّ ما اُفيد، وحيثُ إنّه لا يجبُ ذلك، بل الواجب هو إطعام ستّين مسكيناً من قيمة الفداء والزائد له، فلا يتمّ ذلك.
وفي «الرياض»(2): (الجمع بحمل الظاهر على النص فيكتفى بالمُدّ، والمُدّان أفضل).
والحقّ أنْ يقال: إنّ النصوص المطلقة تُحمل على المقيّدة، وهو واضح، وأمّا صحيح المُدّين فهو مطلق بالنسبة إلى النعامة، فيقيّد إطلاقه بنصوص المُدّ، وعليه فالأظهر هو الاجتزاء بالمُدّ.
أقول: قد ظهر ممّا قدّمناه أنّه لو زاد قيمتها عن ستّين مُدّاً يكون الزائد له، وأمّا لو نقصت، فالظاهر كما مرّ عدم الخلاف في أنّه لا يلزمه أيضاً الإتمام من غير من أطلق الإطعام.
وعن «الخلاف»(3) الإجماع على عدم وجوب الزائد، ويشهد به صحيح زرارة ومحمّد ومرسل جميل(4)، وبهما يقيّد إطلاق ما دلّ على إطعام ستّين مسكيناً.
وأمّا صحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: عن قوله: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) (5)؟ قال عليه السلام: عدل الهدي ما بلغ يتصدّق به»(6).2.
ص: 126
الظاهر في عدم كون الزائد له، فيحمل على إرادة الصدقة على الوجه المذكور في الصحاح الاُخر.
في بيان أُمور:
الأمر الأوّل: المحكيّ عن الحلبيّين أنّه مع العجز عن البدنة، ينتقل الفرض إلى الصوم(1)، وحيثُ إنّه لا دليل عليه، ومخالفٌ للكتاب والسُنّة، فيتعيّن حمل كلامهما على صورة العجز عن البدنة عيناً وقيمة.
الأمر الثاني: إنّ خبر داود الرقي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الرّجل يكون عليه بدنة واجبة في فداء؟ قال عليه السلام: إذا لم يجد بدنة فسبع شياة، فإنْ لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً»(2) وإنْ حُكي عن «المقنع»(3) أفتى صاحب «الجامع»(4) بمضمونه، لكنّهما وافقا المشهور في المقام، فلابدّ من تقيّيد إطلاقه بنصوص الباب.
الأمر الثالث: في «التذكرة»(5) و «المنتهى»(6)، وعن الشيخ في «الجُمل»(7)و «الخلاف»(8)، وابن إدريس(9): أنّ كفّارة جزاء الصيد على التخيّير، ولكن
ص: 127
المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة أنّها على الترتيب.
واستدلّ للأوّل: في «التذكرة»(1) بقوله تعالى : (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ اَلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) (2)بتقريب أنّ (أو) للتخيّير.
أضف إليه: صحيح حريز، عن الإمام الصادق عليه السلام: «وكلّ شيء في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار يختار ما يشاء، وكلّ شيء في القرآن (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) فعليه كذا، فالأوّل بالخيار»(3).
وقد يستدلّ له: بخبر عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«عن قول اللّه تعالى في من قتل صيداً متعمّداً وهو مُحرِم (فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ ) إلى آخر الآية، إلى أنْ قال: فأمّا أن يهديه، أمّا أن يقوم فيشتري به طعاماً فيطعمه المساكين، يطعم كلّ مسكين مُدّاً، وأمّا ينظر كم يبلغ عدد كلّ ذلك من المساكين، فيصوم مكان كلّ مسكين يوماً»(4).
وفيه: أمّا الآية الشريفة - ومثلها خبر ابن سنان - فغايتها الظهور في التخيّير، ولكنّها تُحمل على إرادة الترتيب، للنصوص المتقدّمة المعلّقة للإطعام على عدم وجدان البدنة، وهو واضح.
وأمّا خبر حريز، فيقيّد إطلاقه بما ورد في المقام، فالأظهر هو تذييل الترتيب.
الأمر الرابع: لو فقد الطعام الذي يجب أن يتصدّق به دون قيمته، فلا ينتقل6.
ص: 128
الفرض إلى الصيام، لعدم صدق العجز مع القدرة على القيمة، وكذا لو فقد المسكين.
وعليه، فهل يشتري غيره من الطعام، أو يضع القيمة العادلة عند ثقةٍ ليشتريه إذا وجده إذا أراد الرجوع، وإلّا أبقاها عنده مترقّباً لوجوده ؟ وجهان:
اختار المصنّف رحمه الله في بعض كتبه الثاني(1)، أمّا الأوّل فليس له وجهٌ وجيه، فالمتعيّن هو الثاني إنْ لم نقل بوجوب فوريّة الإخراج، وإلّا فيصدق العجز، وينتقل الفرض إلى الصيام.
وعلى الأوّل، لو تلف ما وضعه ؟ فعن المصنّف أنّه يلحق بالزكاة(2) المعزولة في عدم الضمان بغير تفريط، لإتيانه بالواجب، وأصالة البراءة من الإخراج ثانياً، ونفي الحرج.
وفيه: أنّ الإلحاق بالزكاة - مع فرض الفرق بينهما من جهة تعلّق الزكاة بالعين، والفداء بالذمّة - غير صحيح، وإتيانه بالواجب ممنوعٌ ، وأصالة البراءة لا مورد لها مع استصحاب البقاء في الذمّة، ونفي الحرج لم أفهم وجه تطبيقه على المقام، وعليه فالأظهر عدم الإلحاق.
الأمر الخامس: قال في «كنز العرفان»: (يجب أن يُحكم في ذلك الجزاءبالمماثلة، والتقويم (ذَوا عَدْلٍ ) أي رجلان صالحان فقيهان عارفان بالصيد ومثله وقيمة مثله، ولو كان أحدهما القاتل جاز إنْ كان القتل خطأ، ولا كذا لو كان عمداً، لأنّه فاسق)، انتهى (1).5.
ص: 129
ومثله عن «جامع الجوامع» للطبرسي(1)، و «الوجيزة»(2)، وحكاه في محكي «مجمع البحرين»(3) عن ابن عبّاس.
وعن المحقّق الأردبيلي رحمه الله: (أنّ اعتبار التعدّد ينافي اعتبار الحكم، إذ ليس بعد شهادة العدلين شيءٌ إلّاما جاء من الحلف في دعوى الدين على الميّت، فلا يبعد إرادة الشهادة من الحكم)(4)، انتهى .
ويرد عليه: (أنّه لا أثر في كتب الفروع لاعتبار شهادة العدلين في المثليّة أيضاً، إلّا ما تسمعه في آخر الكفّارات، ضرورة أنّ المنصوص حكمه ما جاء في النص، وغير المنصوص حكمه ضمان القيمة)، كذا في «الجواهر»(5)، وهو حسنٌ .
فالحقّ أنْ يقال: الظاهر أنّ المراد بالآية الشريفة أنّ كون الصيد إذا كان مثليّاً يجب أن يُهدى ما يكون مثله، وما لا يكون مثليّاً يجبُ ما عيّن جزاءً له، وإلّا فيجب فيه القيمة، لابدّ فيه من حكم المعصوم عليه السلام، وقد بيّنت جميع ذلك في نصوصنا، والوجه في استظهار ذلك أنّ جملةً من النصوص تدلّ على أنّ القراءة (ذَوا عَدْلٍ ) ، وفي جملةٍ من الأخبارالمعتبرة أنّ المراد به رسول اللّه صلى الله عليه و آله والإمام من بعده، لاحظ:
موثّق زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: عن قول اللّه عزّ وجلّ : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (6)؟ قال عليه السلام: «فالعدل رسول اللّه صلى الله عليه و آله والإمام من بعده يحكم به».5.
ص: 130
ثمّ قال: هذا ممّا أخطأت به الكتاب»(1).
يعني أنّ رسم الألف في (ذَوا عَدْلٍ ) من تصرّف النسّاخ.
ومثله حسن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبداللّه عليه السلام(2)، ونحوهماغيرهما(3).
فالمراد من يحكم أي يبيّن حكم اللّه تعالى في المثل للمقتول من الصيد، فتدلّ الآية الكريمة على اعتبار النص الشرعي في المثليّة، بل لو كانت القراءة الصحيحة (ذَوَا عَدْلٍ ) يجري فيها ذلك، فيكون المراد من (ذَوَا عَدْلٍ ) رسول اللّه صلى الله عليه و آله والإمام عليه السلام من بعده، على معنى الإجتزاء بحكم أحدهما.
***م.
ص: 131
ولو عجز صام عن كلّ مُدّين يوماً،
(ولو عجز) عن إطعام الستّين (صامَ عن كلّ مُدّين يوماً)، بناءً على إعطاء المسكين مُدّين، وعن كلّ مُدٍّ يوماً بناءً على إعطائة المُدّ، على المشهور بين الأصحاب.
وعن العُمّاني(1) والصدوق(2) ثمانية عشر يوماً مطلقة.
أقول: والنصوص مختلفة:
منها: ما يدلّ على أنّه مع العجز عن الإطعام يصوم ثمانية عشر يوماً، كصحيح معاوية المتقدّم:
«فإنْ لم يقدر على ذلك - أي على إطعام الستّين - صام مكان ذلك ثمانية عشر يوماً، مكان كلّ عشرة مساكين ثلاثة أيّام».
ونحوه موثّق أبي بصير وغيره.
ومنها: ما دلّ على أنّه يصوم بدل كلّ مُدّ يوماً، كمرسل ابن بُكير، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبداللّه عليه السلام:
«في قول اللّه عزّ وجلّ : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) (3)؟ قال عليه السلام: بثمن قيمة الهَدي
ص: 132
طعاماً، ثمّ يصوم لكلّ مُدٍّ يوماً، فإذا زادت الأمداد على شهرين، فليس عليه أكثر منه»(1).
ومنها: ما دلّ على أنّه يصوم بدل كلّ مُدّين يوماً، كصحيح أبي عُبيدة المتقدّم:
«فإنْ لم يقدر على الطعام، صام لكلّ نصف صاع يوماً».
ونحوه صحيح ابن مسلم.
ومنها: ما دلّ على أنّه يصوم بدل طعام كلّ مسكين يوماً، كصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام:
«عن قوله تعالى: (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) (2)؟ قال: عِدْل الهَدي ما بلغ يتصدّق به، فإنْ لم يكن عنده، فليصم بقدر ما بلغ لكلّ طعامٍ مسكين يوماً»(3).
أقول: إنّ الطوائف الثلاث الأخيرة لا تعارض بينها، والمقصود من الجميع هو أنّ عليه أن يصوم بدل إطعام كلّ مسكين يوماً، إذ صحيح أبي عبيدة المصرّح بأنّه يصوم بدل نصف صاع يوماً، إنّما يحكم بذلك بعدما جعل عليه السلام لكلّ مسكين نصف صاع، مع أنّ الطائفة الأخيرة شاهدة لهذا الجمع، ونسبتها مع الطائفة الأُولى عموم مطلق، فيقيّد إطلاقها بها.
أقول: فلو زادت على الستّين - كما لو كانت أربعين صاعاً، فإنّها زائدة على كلّ حال - لم يجب غير الستّين، بلا خلاف، بل عن «الغُنية»(4) دعوى الإجماع عليه، ويشهد به مرسل ابن بكير المتقدّم.3.
ص: 133
وأمّا لو كانت أقلّ ، كما لو كانت اثنى عشر صاعاً:
فعن «القواعد»(1): (الأقرب الصوم ستّين)، بل هو مقتضى إطلاق محكي «المقنعة»(2) و «المراسم»(3) و «جُمل العلم والعمل»(4).
وعن جماعةٍ منهم المصنّف في «التذكرة»(5) و «المنتهى»(6): أنّه ينقص من الصوم بنسبة نقص الطعام، ففي المثال - بناءً على المختار من أنّه لكلّ مُدّ صوم يوم - يصوم ثمانية وأربعين يوماً.
يشهد للثاني: النصوص المتقدّمة المصرّحة بذلك، لاحظ ما ورد في صحيح محمّد بن مسلم من قوله عليه السلام: «فإنْ لم يكن عنده، فليصم بقدر ما بلغ، لكلّ طعامٍ مسكين يوماً».
واستدلّ للأوّل: بالاحتياط، لاحتمال عِدْل الصيد أو الجزاء لا الطعام، ولا يعلم أنّ عدلهما يتناول ما دون الستّين.
وفيه: أنّه مع التصريح بما عرفت في النصوص، وأيضاً التصريح بأنّ المراد من العِدْل عِدل الطعام - لاحظ مرسل ابن بكير المتقدّم - يعدّ ما اُفيد شبه الاجتهاد في مقابل النص.
ولو انكسر نصف الصاع أو المُدّ على القولين:).
ص: 134
فإن عجز، صام ثمانية عشر يوماً،
ففي «المنتهى»(1): (كان عليه صيام يوم كامل، إلى أنْ قال: ولا نعلم فيه خلافاً).
ومثله في «التذكرة»(2)، واستدلّ له بأنّ صيام اليوم لا يتبعّض، والسقوط غير ممكن، لشغل ذمّته، فيجب إكمال اليوم.
وفيه: المستفاد من النصوص أنّ صيام يومٍ بدلٌ عن نصف الصاع أو المُدّ، وهو غير متحقّق هنا، فالمتّجه السقوط.
ودعوى: أنّه غير ممكن لشغل ذمّته غير واضحة، إذ الكلام في شغل الذمّة، فكيف يفرض ذلك!
وعليه فإنْ تمّ الإجماع فهو، والا فالأظهر السقوط.
(فإنْ عجز) عن صوم الستّين مثلاً (صام ثمانية عشر يوماً) كما هو المشهور، وقد تقدّم ما هو المدرك لذلك، وهو صحيح معاوية، ونحوه المحمولة على صورة العجز عن صوم الستّين.
ولو تمكّن من أكثر من الثمانية عشر - كالعشرين -:
فعن «القواعد»: (في وجوبه إشكال)(3).
ص: 135
وفي «الجواهر»: (ولعلّه للأصل، وإطلاق النصوص والفتاوي، ومن الاحتياط، وأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور)(1)، انتهى .
ويردّه: أنّ قاعدة الميسور قد أشرنا في هذا الشرح مراراً إلى أنّها غير تامّة في إجزاء المأمور به، مع أنّ إطلاق النصوص بل صراحتها - إذ قلَّ ما يمكن أن يتّفق القدرة على صوم الثمانية عشر يوماً والعجز عمّا زاد عليها ولو بيوم واحد - مقدّم على القاعدة، وكذا أصالة الاحتياط، فإنّ الأصل عند الشكّ في التكليف البراءة، مع أنّه لا مورد للأصل مع إطلاق الدليل.
وأيضاً: لو صام شهراً فعجز عن صوم الشهر الثاني، فهذا الشخص يعدّ عاجزاً من الأوّل عن صوم الستّين، ووظيفته صوم ثمانية عشر يوماً، فلا يجب عليه شيء بعد ذلك وإنْ أصبح قادراً.
ودعوى: أنّ الموضوع علم المكلّف بالعجز، وهو مفقودٌ، فلم تكن وظيفته في الواقع ما ذكر.
مندفعة: بأنّه لا دخل للعلم فيه، بل الموضوع هو العجز الواقعي.
فإنْ قيل: إنّ ما يعجز عنه شهرٌ وبدله تسعة، فيجب صوم تسعة أيّام.
قلنا: إنّ الثمانية عشر بدلُ الشهرين، لا أنّ التسعة بدل الشهر، فما عن «القواعد» من (أنّ أقوى الاحتمالات وجوب تسعة ثمّ ما قُدّر، ثمّ السقوط)(2) في غير محلّه.
***8.
ص: 136
أقول: وفي فرخ النعامة قولان وروايتان:
1 - فعن «المقنعة»(1) و «الخلاف»(2) و «الكافي»(3) و «المراسم»(4) و «جُمل العلم والعمل»(5) و «السرائر»(6) وغيرها: أنّ فيها من صغار الإبل، ونُقل عن جملةٍ من الكتب نقل رواية مرسلةٍ به، ولم يقف عليها المحقّقون من المتأخّرين.
2 - وعن جمعٍ من متأخّري المتأخّرين: أنّ فيها مثل ما في النعامة، ويشهد له صحيح أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«في قومٍ حُجّاج مُحرِمين أصابوا فراخ نعام، فأكلوا جميعاً؟ قال عليه السلام: عليهم مكان كلّ فرخٍ أكلوه بدنة، يشتركون فيهن، فيشترون على عدد الفراخ وعدد الرِّجال»(7).
أقول: والأظهر هو الثاني، للصحيح المؤيّد بإطلاق ما دلّ على أنّ في قتل النعامة الصادقة على فرخها نعامة.
وأمّا الخبر الذي استدلّ به للقول الأوّل، فيردّه عدم العثور عليه.
فإنْ قيل: إنّه خبرٌ مرسل منجبرٌ ضعفه بفتوى من تقدّمت الإشارة إليهم.
ص: 137
توجّه عليه: أنّ من الجائز استناد المفتين به إلى ما مرّ من اعتبار جماعةٍ المماثلة الشخصيّة، استناداً إلى الآية الكريمة، لا إلى الخبر، فلا جابر لضعفه.
وأمّا اعتبار المماثلة الشخصيّة، فقد مرّ فيه، وعرفت عدم اعتبارها، بل تقدّم أنّ قوله تعالى: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (1) يدلّ بضميمة الأخبار على أنّ المثليّة منوطة ببيان المعصوم عليه السلام.
أقول: بقي في المقام شيء، وهو أنّ المحكيّ عن المفيد(2) والمرتضى(3) وسلّار(4)أنّه يجب التتابع في الصوم من هذه الكفّارة، واستدلّوا له بظهور الكتاب والسُنّة والفتاوي في أنّه كفّارة، والأصل فيها اعتبار التتابع.
وفيه: أنّ الأصل - أي أصالة البراءة عن وجوب التتابع - يقتضي عدمة، بعدما لم يدلّ على اعتبار التتابع في كلّ كفّارةٍ إلّاما خرج، بل دلّ الدليل على عدم اعتباره في غير كفّارة الظهار وكفّارة الدّم وكفّارة اليمين، كخبر سليمان بن جعفر الجعفري، عن أبي الحسن عليه السلام، في حديث: «إنّما الصيام الذي لا يفرق: كفّارة الظهار، وكفّارة الدّم، وكفّارة اليمين»(5)، فإنّه بمفهوم الحصر يدلّ على عدم وجوب التتابع في غير تلك الموارد ومنها المقام. وعليه فالأظهر عدم اعتباره.
***1.
ص: 138
وفي بقرة الوحش وحماره بقرة،
المبحث الثاني: (وفي بقرة الوحش وحماره).
وفي قتل كلّ واحدٍ منهما (بقرة) أهليّة، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل عن «الغُنية»(1) الإجماع عليه، وعن غير واحدٍ الإجماع في الأوّل(2).
وعن الصدوق(3) وجوب بدنةٍ في قتل الثاني.
وعن الإسكافي(4) وجماعة من المتأخّرين(5) - منهم صاحب «المستند»(6) - أحدهما مخيّراً.
أمّا في الأُولى : فيشهد لوجوب البقرة جملة من النصوص، كصحاح حريز، ويعقوب بن شعيب، وسليمان بن خالد المتقدّمة في النعامة.
وأمّا في الثاني: فالنصوص مختلفة:
1 - جملةٌ منها تدلّ على أنّ في قتله بقرة، كصحيح حريز، وموثّق أبي بصير، وخبر الكناني، المتقدّمة في النعامة.
ص: 139
2 - وجملة أُخرى منها تدلّ على أنّ فيه بدنة، كصحاح يعقوب بن شعيب، وسليمان بن خالد، وأبي بصير المتقدّمة.
أقول: وقد يُجمع بين الطائفتين، بحمل الثانية على الفضل.
وفيه: أنّه إذا كان المأمور به البقرة، فغيرها لا يكون مُجزياً، فكيف تُحمل على الفضل ؟!
وأيضاً: قد يُجمع بالحمل على التخيّير.
وفيه: أنّه إنْ كان المراد التخيّير في المسألة الفرعيّة، فهو ليس جمعاً عرفيّاً، وإنْ كان المراد التخيّير في المسألة الاُصوليّة - أي التخيّير في الأخذ بإحدى الطائفتين - فهو فرع التكافؤ، وعدم الترجيح.
فالحقّ أنْ يقال: إنّ البدنة إنْ كانت أعمّ من الإبل والبقرة - كما صرّح به غير واحدٍ من اللّغويين(1) - فإطلاق الطائفة الثانية يقيّد بالأولى ، وإنْ كانت مختصّة بالإبل، فيقع التعارض بين الطائفتين، والترجيح مع الأُولى للشهرة.
وأمّا ما ذكر في وجه أرجحيّة الأُولى تارةً بالأكثريّة، وأُخرى بموافقة الكتاب - حيث أنّ البقرة أقرب إلى الحمار من البدنة - فغير تامّ .
أمّا الأوّل: فلأنّ الأكثريّة ليست من مرجّحات الرواية.
وأمّا الثاني: - فمضافاً إلى ما تقدّم من أنّ المماثلة في الآية الكريمة قيّدت بما يَحكم به المعصوم عليه السلام - أنّ الأقربيّة لا تفهم من المماثلة.
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر أنّ في قتل حمار الوحش بقرة أهليّة.6.
ص: 140
فإنْ لم يجد، فضّ ثمنها على البِرّ، وأطعم ثلاثين مسكيناً لكلّ واحد مُدّان،
(فإنْ لم يجد) البقرة قوَّم البقرة الأهليّة، و (فضَّ ثمنها على البِرّ) كما في المتن، أو على مطلق الطعام، كما هو المشهور بين الأصحاب(1).
(وأطعم ثلاثين مسكيناً لكلّ واحدٍ) من المساكين (مُدّان) عند جماعة(2)، ومُدّ عند آخرين(3)، بلا خلاف الا فيما أشرنا إليه، والشاهد به جملةٌ من النصوص المتقدّمة في النعامة.
أقول: وأمّا الحكمان اللّذان وقع الخلاف فيهما:
فأحدهما: فضّ الثمن على البِرّ، أو على مطلق الطعام، ولا منشأ للقول بتعيّن البِرّ في المقام سوى تعيّن ذلك في كفّارة قتل النعامة، بضميمة عدم القول بالفصل بين هناك وبين المقام، وانصراف الطعام إلى البِرّ بل الطعام هو البرّ لغةً .
ولكن يرد على الأوّل: ما تقدّم من عدم تعيّن البرّ هناك.
وعلى الثاني: أنّ الانصراف ممنوع، والطعام أعمّ منه لغةً ، فالأظهر عدم تعيّنه.
والثاني: أنّه هل يجب إطعام مُدّين لكلّ مسكين أو مُدّ واحد؟
ص: 141
ولا يجبُ عليه التتميم الفاضل له.
وإنْ عجز صام عن كلّ مُدّين يوماً، فإنْ عجز صام تسعة أيّام،
ففي صحيح أبي بصير المتقدّم في النعامة وحمار وحش: «والصدقة مُدّ على كلّ مسكين»، وفي صحيح أبي عُبيدة لزوم مُدّين، وعليه فما ذكرناه في النعامة جارٍ هنا، فالأظهر الاجتزاء بمُدّ.
أقول: وربما يستدلّ للإجتزاء بمُدّ بوجهٍ آخر، وهو أنّ الجمع بين مرسل ابن بكير:
«في قول اللّه تعالى (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) (1)؟ قال: بثمن قيمة الهَدي طعاماً، ثمّ يصوم لكلّ مُدٍّ يوماً».
وصحيح محمّد في الآية الكريمة: «قال: عِدْل الهَدي ما بلغ يتصدّق به، فإنْ لم يكن عنده فليصم بقدر ما بلغ لكلّ طعام مسكينٍ يوماً».
يقتضي الإجتزاء بمُدّ، ولا بأس به(2).
(ولا يجب عليه التتميم، والفاضلُ له) كما مرّ في النعامة.
(وإنْ عجز صام عن كلّ مُدّين)، بناءً على لزوم المُدّين في الإطعام، وعن كلّ مُدٍّ بناءً على المختار (يوماً).
(فإنْ عجز صام تسعة أيّام) للمعتبرة(3) المستفيضة، والأمر فيها به وإنْ كان بعد الأمر بالصدقة، إلّاأنّه يُحمل على ما ذكر، كما سمعته في البدنة.
***3.
ص: 142
وفي الظبي والثعلب والأرنب شاة،
المبحث الثالث: (وفي) قتل (الظَّبي والثَّعلب، والأرنب شاة) بلا خلافٍ ، بل عن غير واحد(1) دعوى الإجماع على ذلك.
ويشهد له في الظبي:
1 - موثّق أبي بصير المتقدّم(2) في النعامة، فقد ورد في ذيله: «قلت: فإن أصاب ظبياً؟ قال: عليه شاة. قلت: فإنْ لم يقدر؟ قال: فإطعام عشرة مساكين، قال: فإنْ لم يقدر على ما يتصدّق به، فعليه صيام ثلاثة أيّام».
2 - و صحيح سليمان بن خالد: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: في الظبي شاة» ونحوهما غيرهما.
ويشهد له في الأرنب: جملة من النصوص:
1 - صحيح الحلبي، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الأرنب يُصيبه المُحرِم ؟ فقال: شاة هدياً بالغ الكعبة»(3).
2 - وصحيح البزنطي، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن مُحرِم أصاب أرنباً أو ثعلباً؟
ص: 143
فإنْ عجز فضَّ ثمنها على البِرّ وأطعم عشرة مساكين، لكلّ مسكينٍ مُدّان، والفاضل له، ولا يجبُ عليه التتميم،
فقال: في الأرنب دم شاة»(1).
وأمّا الثعلب: فيشهد له فيه خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«عن رجلٍ قتل ثعلباً؟ قال: عليه دم. قلت: فأرنباً؟ قال: مثل ما في الثعلب»(2).
وضعف سنده لو كان فإنّه منجبرٌ بالعمل، ودلالته واضحة، فإنّه يدلّ على تساوي الأرنب والثعلب في الجزاء، وعليه (ف) ما دلّ على أنّ في الأرنب شاة يدلّ حينئذٍ على أنّ في الثعلب أيضاً شاة، وتخصيص الأرنب بالشاة في الصحيح الثاني لا ينافي ذلك، إذ لعلّه اكتفى به لمعلوميّة التساوي بينهما.
أقول: ولا خلاف يعتدّ به في الظبي أنّه (إنْ عجز فضَّ ثمنها) أي ثمن الشاة (على البِرّ)، أو غيره على حسب ما عرفت، (وأطعم عشرة مساكين)، لخبر أبي بصير وصحيح أبي عبيدة المتقدّمين وغيرهما، (لكلّ مسكينٍ مُدّان) أو مُدّ على البحث السابق، (والفاضل له) بلا خلافٍ بل إجماعاً،
ويشهد به: خلوّ النصوص التي منها خبر أبي بصير، ومنها صحيح معاوية - المتقدّم -: «ومَنْ كانت عليه شاة، فلم يجد فليطعم على عشرة مساكين، فمن لم يجد صام ثلاثة أيّام».
(ولا يجب عليه التتميم) بلا خلافٍ ، لخبر أبي عبيدة(3) وابن مسلم المصرّح فيهما بالقيمة لا غيرها.3.
ص: 144
فإنْ عجز صام عن كلّ مُدّين يوماً، فإن عجز صام ثلاثة أيّام،
(فإنْ عجز صام عن كلّ مُدّين) أو مُدّ على البحث السابق (يوماً)، ولا يزيد على العشرة، لما تقدّم من أنّ الصوم بدلُ الإطعام الذي قد سمعت عدم زيادته على العشرة.
(فإنْ عجز صام ثلاثة أيّام) للنصوص المتقدّمة.
أقول: وهل تجري الأحكام المذكورة بعد العجز عن الشاة في الثعلب والأرنب على الترتيب كما عن المشهور(1)؟
أو على نحو التخيّير كما عن جماعة.
أم لا بدل لفدائهما، كما عن ظاهر الصدوقين(2)، وابني الجُنيد، وأبي عقيل(3)و «الشرائع»(4)؟ وجوهٌ أظهرها الأوّل.
أمّا ثبوت الأبدال المتقدّمة: فلصحاح الحَذّاء وابن عمّار ومحمّد ومرسل ابن بكير المتقدّمة.
وأمّا كونه على الترتيب: فلظاهر النصوص - كما تقدّم - المنزّل عليها ما في الآية والرواية الظاهرتين في التخيّير.
***6.
ص: 145
وفي كسر بيض النعام إذا تحرّك الفرخ، لكلّ بيضةٍ بكرة من الأبل، وإن لم يتحرّك أرسل فحولة الإبل في إناث بعددها، فالناتج هَديٌ لبيت اللّه،
(المبحث) الرابع: (وفي كسر بيض النعام إذا تحرّك الفرخ) فتلِف بالكسر (لكلّ بيضةٍ بكرة(1) من الإبل).
(وإنْ لم يتحرّك، أرسل فحولة الإبل في إناث بعددها، فالناتج هَدي لبيت اللّه) تعالى ، كما هو المشهور(2)، بل ادّعى عليه الإجماع جماعة(3).
وعن جماعةٍ من القدماء، منهم الإسكافي(4)، والصدوق(5) في بعض كتبه، والمفيد(6)، والسيّد(7)، والديلمي(8): الذهاب إلى أنّ فيه الإرسال مطلقاً.
وعن الصدوقين(9): الإرسال إذا تحرّك، وبدونه فلكلّ بيضةٍ شاة.
ص: 146
وعن «المقنع»: أنّه أوجب الشاة في إصابة البيضة(1)، و الإرسال في الوطأ والفدغ(2).
وعن بعض المحدّثين المتأخّرين: التفصيل بين الإصابة باليد والكسر والأكل، ففيها البعير، وبين الوطأ فالكسر فالإرسال، وهو قريبٌ ممّا في «المقنع»(3) وإنْ افترقا في الشاة والبعير(4).
وأمّا النصوص: فهي مختلفة، وعلى طوائف:
الطائفة الأُولى: ما يدلّ على أنّ فيه البكرة مطلقاً، كصحيح سليمان بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قال: في كتاب عليّ عليه السلام: في بيض القطاة بكارة من الغنم إذ أصابه المُحرِم، مثل ما في بيض النعام بكارة من الإبل»(5).
الطائفة الثانية: ما دلّ على أنّ فيه الإرسال كذلك:
منها: صحيح آخر لسليمان، قال: «سألته عن مُحرمٍ وطأ بيض قطاة فشدخه ؟ قال عليه السلام: يرسل الفحل في عدد البيض من الغنم، كما يُرسل الفحل في عدد البيض من الإبل، ومن أصاب بيضة فعليه من الغنم»(6).
ومنها: صحيح الحلبي، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «من أصاب بيض نعام وهو مُحرِم، فعليه أن يرسل الفحل في مثل عدد البيض من الإبل، فإنّه ربما فسد كلّه، وربما خلق6.
ص: 147
كلّه، وربما صلح بعضه وفسد بعضه، فما نتجت الإبل فهدياً بالغ الكعبة»(1).
ومثلهما صحيحا الكناني(2) وخبر علي بن أبي حمزة(3) ومرسل «التهذيب»(4).
أقول: قد جمع المشهور بين الطائفتين بما أفتوا به، بشهادة صحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام: «عن رجلٍ كسر بيض نعام وفي البيض فراخ قد تحرّك ؟ قال:
عليه لكلّ فرخٍ قد تحرّك بعير ينحره في المنحر»(5).
وأصحاب القول الثاني قدّموا الطائفة الثانية، لأكثريّة أخبارها.
الطائفة الثالثة: ما دلّ على أنّ في بيضة النعامة شاة:
منها: صحيح أبي عبيدة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «عن رجل مُحلّ اشترى لرجلٍ مُحرِمٍ بيض نعامة فأكله المُحرِم ؟ قال عليه السلام: على الذي اشتراه للمُحرم فداء، وعلى المُحرِم فداء. قلت: وما عليهما؟ قال: على المُحلّ جزاء قيمة البيض لكلّ بيضة درهم، وعلى المُحرِم لكلّ بيضة شاة»(6).
ومنها: خبر أبي بصير، الإمام الصادق عليه السلام: «قال: في بيضة النعام شاة، فإنْ لم يجد فصيام ثلاثة أيّام، فمن لم يستطع فكفّارته إطعام عشرة مساكين إذا أصابه وهو مُحرِم»(7).6.
ص: 148
والصدوقان(1) جمعاً بين هذه الطائفة وبين نصوص الإرسال بما أفتيا به(2)، بشهادة خبر محمّد بن الفضل، المتضمّن لقوله عليه السلام: «إذا أصاب المُحرِم بيض نعام ذبح عن كلّ بيضةٍ شاة... وإذا وطأ بعض نعام فقدغها(3) وهو مُحرِم وفيها أفراخ تتحرّك، فعليه أن يرسل»(4).
ونحوه الرضوي(5).
الطائفة الرابعة: ما دلّ على أنّه إذا أصابها باليد وكسر وأكل فعليه بدنة، كصحيح أبان بن تغلب:
«في قومٍ حاجّ مُحرِمين أصابوا أفراخ أنعام وأكلوا جميعاً؟ قال عليه السلام: عليهم مكان كلّ فرخٍ أصابوه وأكلوه بدنة يشتركون فيهن، فيشترون على عدد الفراخ وعدد الرجال»(6).
وقد استند إليه صاحب القول الأخير(7).
أقول: الطائفتان الأخيرتان لشذوذ القائل بهما تُطرحان، فيبقى الكلام فيما يستفاد من الأولتين، والظاهر أنّ ما أفاده المشهور لا بأس به، فإنّه لو سُلّم التعارض بين الطائفتين الاولتين، وتقديم الثانية، لكن بما أنّ صحيح علي بن جعفر أخصّ منها فيقدّم، فالنتيجة تكون مطابقة لما عليه المشهور.ً.
ص: 149
فإنْ عجز فعن كلّ بيضةٍ شاة، فإنْ عجز أطعم عشرة مساكين، فإنْ عجز صام ثلاثة أيّام،
(فإنْ عجز فعن كلّ بيضةٍ شاة، فإنْ عجز أطعم عشرة مساكين، فإنْ عجز صام ثلاثة أيّام) على المشهور بين الأصحاب.
وعن «المدارك»:(1) الاتّفاق عليه، ويشهد به خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ أصاب بيض نعامٍ وهو مُحرِم ؟ قال: يرسل الفحل في الإبل، إلى أنْ قال: فمن لم يجد إبلاً فعليه لكلّ بيضةٍ شاة، فإنْ لم يجد تصدّق على عشرة مساكين لكلّ مسكينٍ مُدّ، فإنْ لم يقدر فصيام ثلاثة أيّام»(2).
وضعف سنده لو كان، منجبرٌ بالعمل.
وعن الصدوق:(3) تقديم صيام ثلاثة أيّام على إطعام العشرة، لخبري أبي بصير وابن الفضيل المتقدّمين. ولكن لعدم العمل بهما لا يُعتمد عليهما.
وعن ابن زُهرة:(4) عدم ذكر الإطعام أصلاً، وهو ظاهر في عدم وجوبه، لكنّه محجوج بما عرفت.
وعن القاضي: إنّ من وجب عليه شاة، فلم يقدر عليها، أطعم عشرة مساكين، لكلّ مسكين نصف صاع(5)، ولا دليل عليه، بل الدليل - وهو خبر علي بن أبي حمزة - مصرّح بكفاية المُدّ.
***8.
ص: 150
وفي بيض القطاة والقَبج إذا تحرّك الفرخ، لكلّ بيضةٍ من صغار الغنم،
(المبحث) الخامس: (وفي) كسر (بيض القطاة والقَبْج) بسكون الباء وهو الحَجَل، والدُّراج (إذا تحرّك الفرخ، لكلّ بيضةٍ من صغار الغنم) كما هنا.
وعن «القواعد»(1)، وفي «الشرائع»(2) وعن «الجامع»(3) مع عدم ذكر الدُّراج، بل وعن «الخلاف»(4) مع الاقتصار على القطاة وذكر البكارة من الغنم، لكن الظاهر إرادة الصغار منها.
وعن الشيخ(5) وابني حمزة(6) وإدريس(7) عن البيضة مخاضٌ من الغنم، أي ما من شأنه أنْ يكون حاملاً، بل هو المحكيّ عن «التذكرة»(8) و «المنتهى»(9)و «التحرير»(10) و «المختلف»(11) و «الدروس»(12).
ص: 151
وهناك أقوالٌ اُخر(1).
أقول: والأولى ملاحظة النصوص:
منها: صحيح سليمان بن خالد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في كتاب عليّ عليه السلام: في بيض القطاة كفّارة، مثل ما في بيض النعام»(2).
والظاهر منه إرادة المماثلة في الكيفيّة لا في جنس الكفّارة، كما يشهد به نصوصه الاُخر.
ومنها: صحيحة أيضاً عنه عليه السلام: «قال: سألته عن مُحرِمٍ وطيء بيض القطاة فشدخه ؟ قال عليه السلام: يُرسل الفحل في عدد البيض من الغنم، كما يُرسل الفحل في عدد البيض من الإبل، ومن أصاب بيضة فعليه مخاض من الغنم»(3).
ومنها: خبر محمّد بن الفضيل المتقدّم وفي ذيله:
«فإنْ وطأ بيض قطاة فشدخه، فعليه أن يُرسل فحولة من الغنم على عددها من الإناث بقدر عدد البيض، فما سَلُم فهو هَدي لبيت اللّه الحرام»(4).
ومنها: مرسل ابن رباط، عن بعض أصحابه، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن بيض القطاة ؟ قال: يصنع فيه الغنم كما يصنع في بيض النعام في الإبل»(5).8.
ص: 152
وإن لم يتحرّك، أرسل فحولة الغنم في إناثٍ بعددها،
ونحوها غيرها.
والمستفاد من هذه النصوص - عدا المرسل - أنّه مع الوطأ يرسل فحولة من الغنم، ومع غيره من وجوه الإصابة، فيه مخاضٌ من الغنم.
وأمّا المرسل: فهو بضميمة ما تقدّم في بيض النعامة، يدلّ على أنّ لكلّ بيضةٍ بكرة من الغنم، فبالنسبة إلى خصوص الوطأ يقيّد إطلاقه بالنصوص الاُخر، وبالنسبة إلى غيره من وجوه الإصابة يجمع بالبناء على التخيّير، فيكون الحكم مع الوطأ هو الإرسال مطلقاً، وبغيره من وجوه الإصابة التخيّير بين البكرة والمخاض من الغنم.
بل يمكن التخصيص بخصوص البكرة في غير صورة الوطأ، لخصوصيّة خبرها ببيض القطاة، وعموم رواية المخاض، وإنْ كان صدرها مخصوصاً بالقطاة.
وبما ذكرناه يظهر ما في كلمات القوم، سيّما صاحب «الجواهر» رحمه الله(1).
ثمّ إنّ هذه النصوص في بيض القطاة.
وأمّا بيض القَبْج والدجاج: فلم نعثر على رواية فيهما، ولكن ظاهر الأصحاب إلحاقهما ببيض القطاة.
هذا كلّه في البيض ذي الفرخ المتحرّك.
(و) أمّا (إنْ لم يتحرّك) ف (أرسل فحولة الغنم في إناث بعددها) بلا خلافٍ ، لمرسل ابن رباط المتقدّم، بضميمة ما مرّ في بيض النعامة، بل وسائر النصوص9.
ص: 153
والناتج هديٌ للبيت، ولو عجز كان كبيض النعام،
المتقدّمة، كما أنّ خبر محمّد بن الفضيل دالٌّ على ما هو المشهور، (و) هو أنّ (الناتج هديٌ للبيت)، فما عن «كشف اللِّثام»(1): (من خلوّ النصوص عن ذكر كونه هدياً لبيت اللّه تعالى ) غير صحيح.
(ولو عجز كان كبيض النعام) كما هنا، وفي «الشرائع»(2).
وعن «النهاية»(3) و «المبسوط»(4)، وظاهر العبارة ما صرّح به الحِلّي حيث قال: (ومعناه أنّ النعام إذا كسر بيضه، فتعذّر الإرسال، وجبَ في كلّ بيضةٍ شاة، والقطا إذا كسر بيضة فتعذّر إرسال الغنم، وجبَ في كلّ بيضة شاة)(5).
وعن المفيد: (فإنْ لم يجد أطعم عن كلّ بيضةٍ عشرة مساكين، فإنْ عجز صام عن كلّ بيضةٍ ثلاثة أيّام)(6).
ويشهد به: صحيح سليمان بن خالد المتقدّم: «في كتاب عليّ عليه السلام: في بيض القطاة كفّارة مثل ما في بيض النعام».
أقول: وأورد عليه المحقّق في محكي «النكت»(7)، والمصنّف في محكي «المختلف»(8) بما حاصله: منع شمول التشبيه لمثل ذلك، بل غايته أنّ في بيض القطاة7.
ص: 154
كفّارة، كما تجب في بيض النعامة، وذلك لا يقتضي المساواة في القدر.
وفيه أوّلاً: النقض بأنّهما ومن تبعهما أفتوا بالانتقال مع العجز إلى الإطعام ثمّ إلى الصيام، إذ لا وجه له سوى استفادة ذلك من المماثلة في الصحيح، فإنّ الروايات الاُخر ظاهرة في المساواة لبيض النعام بالنسبة إلى خصوص البدل من الانعام، ففي المتحرّك البكارة، وفي غير المتحرّك الإرسال، فلا محالة كان بنائهم على شمول المساواة في الصحيح للابدال ومنها الشاة.
وثانياً: ما أورده المصنّف في «المنتهى» بنحوٍ آخر، حيث قال: (وعندي في ذلك تردّد، فإنّ الشاة تجبُ مع تحرّك الفرخ لا غير، بل ولا تجبُ شاة كاملة بل صغيرة على ما بيّنا، فكيف تجبُ الشاة الكاملة مع عدم التحرّك، وإمكان فساده، وعدم خروج الفرخ منه ؟!) انتهى (1).
وحاصله: استبعاد إيجاب الأقوى مع العجز، بل عن «المختلف» أنّ ذلك غير معقول(2).
وفيه أوّلاً: إنّ الاستبعاد لا يصلح مانعاً عن العمل بالظهور، وعدم المعقوليّة لا أفهمه.
وثانياً: يمكن منع الاستبعاد، فإنّ الشاة وإنْ كانت أقوى بالنسبة ولكن الإرسال أشقّ منها على الحاجّ ، لأنّه يتوقّف على الانتظار حتّى تلد ثمّ يهديها إلى البيت الحرام، بخلاف ذبح الشاة وتفريق لحمها على فقراء الحرم، فإنّه سهل غالباً.
وعليه، فما أفاده الشيخان هو الصحيح.
***7.
ص: 155
وفي الحمامة
(وفي الحمامة) التي هي:
إمّا: (كلّ طيرٍ مطوّق بطوقٍ أخضر أو أحمر أو أسود محيطة بعنقه) كما عن «الصحاح» و «القاموس» و «فقه اللّغة» للثعالبي، و «شمس العلوم» و «المصباح المنير» وغيرها(1).
أو (ما يعبّ الماء ويشربه كرعاً) أي يضع منقاره في الماء ويشرب وهو واضع له فيه، لا بأن يأخذ الماء بمنقاره قطرة قطرة ويبلعها بعد إخراجه كالدّجاجة والعصفور، كماعن «المبسوط»(2) و «النافع» و «التحرير»(3) و «التذكرة»(4) و «المنتهى»(5).
بل عن «المبسوط»: (إنّ العرب تُسمّي كلّ مطوّقٍ حمام)، وظاهره أنّ المراد به هنا ذلك، وإنْ لم يكن في اللّغة كذلك.
وعن «اللّمعة»: (الحمامة هي المطوّقة أو ما تعبّ )(6).
وعن «الروضة»: (الظاهر أنّ التفاوت بينهما قليل، أو منتفٍ )(7).
ص: 156
شاة.
ويؤيّده ما عن «القواعد»: (الحمام كلّ مطوّقٍ ، أو ما يهدر أي يرجع صوته، أو يعبّ أي يشرب كرعاً)(1).
أقول: والظاهر أنّ هذا النزاع لا يترتّب عليه أثر، لشمول النصوص للحمامة بكلا معنييها كما ستقف عليه، فلا حاجة إلى البحث في ذلك.
وكيف كان، فلو قتلها يجبُ دفع (شاة) على المُحرِم في الحِلّ على المشهور بين الأصحاب(2)، وعن غير واحدٍ دعوى الإجماع عليه(3)، ويشهد به طائفتان من النصوص:
الطائفة الاُولى: ما ورد في خصوص الحمامة:
منها: حسن حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «المُحرِم إذا أصاب حمامة ففيها شاة، وإنْ قتل فراخه ففيه حمل، وإنْ وطأ البيض فعليه درهم»(4).
ومنها: صحيح عبد اللّه بن سنان، عنه عليه السلام، قال: «سمعته يقول في حمام مكّة الطير الأهلي من غير حمام الحرم: من ذبح طيراً منه وهو غير مُحرِم، فعليه أن يتصدّق بصدقة أفضل من ثمنه، فإنْ كان مُحرِماً فشاة عن كلّ طير»(5).9.
ص: 157
وفي فرخها حَملٌ ،
ونحوهما غيرهما.
الطائفة الثانية: ما دلّ على لزوم شاةٍ في كلّ طير:
منها: موثّق الكناني، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في الحمام وأشباهها إنْ قتله المُحرِم شاةٌ ، وإنْ كان فراخاً فعِدلها من الحملان»(1).
ومنها: صحيح سليمان بن خالد وإبراهيم بن عُمر، قالا:
«قلنا لأبي عبد اللّه عليه السلام: رجلٌ أغلق بابه على طائر؟ فقال: إنْ كان أغلق الباب بعدما أحرم فعليه شاة، وأنّ عليه لكلّ طائر شاة، ولكلّ فرخ حملاً، وإنْ لم يكن تحرّك فدرهم، وللبيض نصف درهم»(2).
ونحوهما غيرهما.
أقول: ولا تعارض بين الطائفتين، لكونهما متوافقتين، وما في «الجواهر»: (من أنّه لا يبعد أن يراد من الطير خصوص الحمام، لأنّه المعنون في كلمات الفقهاء)(3)من الغرائب، وعليه فالأظهر هو التعميم.
(و) من النصوص المتقدّمة يظهر أنّ (في) قتل (فرخها حَملٌ ) بالتحريك، كما هو المشهور بين الأصحاب(4).8.
ص: 158
وفي بيضها درهم
وعن جماعةٍ منهم المصنّف رحمه الله في «المنتهى» توصيفه بأن يكون فطم ورعى الشجر(1)، ولعلّه من جهة أنّ الحَمَل لا يكون إلّاكذلك، وقد نقل عن غير واحدٍ من أهل اللّغة وكتب الفقه أنّ حدّه أن يكمل له أربعة أشهر(2).
وأمّا صحيح ابن سنان: «فإنْ كان فرخاً فجديٌ أو حَمَلٌ صغير من الضأن»(3)فلعدم عمل الأصحاب به لبنائهم على تعيّن الحَمل - إلّاصاحب «المدارك» فإنّه اجتزي بالجَدْي(4) - لا يعمل به.
وأمّا غير ذلك من الأقوال(5) المنقولة في المقام، فإنْ رَجَعتْ إلى ما هو المشهور(6) فلا كلام، وإلّا فهي محجوجة بالنصوص.
(و) يجب (في بيضها) إذا تحرّك الفرخ الحَمل، وإنْ لم يتحرّك (درهم) على المشهور بين الأصحاب.7.
ص: 159
وأمّا النصوص: فطوائف:
الطائفة الاُولى : ما دلّ على أنّ في بيضها مطلقاً درهم، كحسن حريز المتقدّم، وكذا صحيحه الآخر في مطلق البيض، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«إنْ وطأ المُحرِم بيضةًوكسرها فعليه درهم، كلّهذا يتصدّق به بمكّة ومنى»(1).
الطائفة الثانية: ما دلّ على أنّ في بيضها نصف درهم، كخبر يونس بن يعقوب، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن رجلٍ أغلق بابه على حمامٍ من حمام الحرم وفراخ وبيض ؟ فقال: إنْ كان أغلق عليها قبل أن يحرم، فإنّ عليه لكلّ طيرٍ درهم، ولكلّ فرخٍ نصف درهم، ولكلّ بيضةٍ ربع درهم، وإنْ كان أغلق عليها بعد أن يحرم، فإنّ عليه لكلّ طائر شاة، ولكلّ فرخٍ حَمَلاً، وإنْ لم يكن تحرّك فدرهم، وللبيض نصف درهم»(2).
الطائفة الثالثة: ما دلّ على أنّ فيه ربع درهم، كخبر محمّد بن الفضيل المتقدّم.
الطائفة الرابعة: ما دلّ على أنّه إن تحرّك فعليه شاة، كصحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام: «عن كلّ فرخٍ قد تحرّك بشاة، ويتصدّق بلحومها إنْ كان مُحرِماً، وإنْ كان الفرخ لم يتحرّك تصدّق بقيمته وَرِقاً يشتري به علفاً يطرحه لحمام الحرم»(3).
وما فيه من الشاة محمولٌ على إرادة الحَمَل بقرينه ما تقدّم.
أقول: والجمع بين النصوص - غير خبر رُبع الدرهم - يقتضي أنْ يقال:2.
ص: 160
وعلى المُحِلّ في الحَرم عن الحمامة درهم، وعن الفرخ نصف، وعن البيضة ربع،
إنّ البيض إنْ كان فيه فرخ تحرّك، ففيه حَمَل.
وإنْ كان فيه فرخٌ لم يتحرّك ففيه الدرهم.
وإنْ لم يكن فيه فرخ، ففيه نصف درهم.
وأمّا خبر ربع الدرهم فهو إمّا مختصٌّ بالمُحِلّ في الحرم، أو عامٌ له فيقيّد به لنصوص الباب.
(وعلى المُحلّ في الحرم عن الحمامة درهم، وعن الفرخ نصف، وعن البيضة ربع) على المشهور بين الأصحاب(1).
ويشهد بذلك كلّه جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«في الحمام درهم، وفي الفرخ نصف درهم، وفي البيضة ربع درهم»(2).
ومثله صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج(3).
ومنها: صحيح صفوان، عن الإمام الرضا عليه السلام: «من أصاب طيراً في الحرم وهو مُحِلّ فعليه القيمة، والقيمة درهم يشتري علفاً لحمام الحرم»(4).8.
ص: 161
ومنها: خبر ابن فضيل، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ قتل حمامة من حمام الحرم وهو غير مُحرِم ؟ قال: عليه قيمتها وهو درهم يتصدّق به، أو يشتري طعاماً لحمام الحرم»(1).
ونحوها غيرها من النصوص الكثيرة.
أقول: ولا كلام فيه، إلّافي أنّه هل يجبُ الدرهم في قتل الحمامة وإنْ كانت قيمته أزيد، أم تجب القيمة وإنْ زادت على الدرهم، أم أقلّهما أم أكثرهما؟
المشهور بين الأصحاب(2) هو الأوّل، وعن «المدارك» اختيار الثاني(3)، وعن بعضٍ اختيار الأخير(4)، ولم أظفر بقائل الثالث.
والحقّ أنْ يقال: إنّ النصوص في المقام:
ما بين ناصٍّ على الدرهم، ومصرّح بالقيمة مفسّراً لها به وغير مفسّر.
وناصٍّ على الدرهم وشبهه، وعلى مثل الثمن، وعلى أفضل من الثمن.
وحيث إنّ من المعلوم أنّ الأخبار المفسّرة ليست في مقام بيان القيمة السوقيّة - لعدم كون ذلك شأن الإمام، وأيضاً من المستبعد جدّاً تقويم الحمامة بجميع أنواعها وأصنافها وألوانها به عند جميع المقوّمين لها، ولو بمكّة خاصّة، سيّما في جميع أعصار الأئمّة الصادرة منهم هذه النصوص - فلا محالة تكون النصوص في مقام بيان تقويم شرعي ليضبط، وعليه فيتعيّن الدرهم مطلقاً، كما أفتى به المشهور.م.
ص: 162
ويجتمعان على المُحرِم في الحرم،
(ويجتمعان على المُحرِم في الحرم) على المشهور شهرةً عظيمة(1)، بل عن القاضي(2) الإجماع عليه، ويشهد به نصوص كثيرة:
منها: حسن الحلبي - أو صحيحه: - «إنْ قتل المُحرِم حمامةً في الحرم، فعليه شاة، وثمن الحمامة درهم أو شبهه يتصدّق به، أو يطعمه حمامة مكّة»(3).
ونحوه غيره، وسيأتي الكلام في هذه المسألة مفصّلاً، فانتظر.
***8.
ص: 163
وفي الضّب والقُنفذ واليَربوع جَدْي،
(وفي) قتل كلّ واحدٍ من (الضّب والقُنفذ واليَربوع جَدْي) على المشهور بين الأصحاب(1).
وعن الحلبيّين: أنّ فيه حَمَلاً قد فطم ورعى من الشَّجر(2)، بل عن ابن زُهرة الإجماع عليه(3).
يشهد للأوّل: صحيح مسمع - أو حسنه - عن أبي عبد اللّه عليه السلام، قال:
«في اليَربوع والقُنفذ والضّب إذا أصابه المُحرِم، فعليه جَدْي، والجَدْي خيرٌ منه، وإنّما جعل هذا لكي ينكل عن فعل غيره من الصيد»(4).
وأمّا الثاني: فلم يدلّ عليه دليل.
أقول: وجماعة من المحقّقين منهم السيّد(5)، والشيخان(6)، وابن إدريس(7)
ص: 164
وفي القَطاة، والدُّراج وشبهه حَمَلٌ فاطم،
وابن حمزة(1) وابن سعيد(2)، والمحقّق الثاني(3)، والفاضل النراقي(4) وغيرهم، ألحقوا أشباهها بها، واستدلّ له بالتعليل في الخبر: (وإنّما جُعل هذا... الخ).
ولكن إثبات حكم تعبّدي شرعي بمثل ذلك في غاية الإشكال، وعليه فالأظهر عدم الالحاق.
والجَدْي: هو الذَّكر من أوّلاًد المَعْز في السَّنة الأُولى ، كما عن «المُغرب المعجم».
أو (من حين ما تضعه اُمّه إلى أن يرعى ويقوى) كما عن «أدب الكاتب»(5).
وفي «الجواهر»: (العرف يساعده)(6).
أو (أنّه من أربعة أشهر إلى أن يرعى) كما عن السامي(7).
أو (أنّه ابن ستّة أشهر أو سبعة) كما عن بعضٍ (8).
أقول: الأظهر هو الثاني.
(وفي) كلّ واحدٍ من (القطاة)(9) والقَبْج وهو الحَجَل(10)(والدُّراج(11) وشبهه4.
ص: 165
حَمَلٌ فاطم، وفي العصفور والقنبرة
حَمْلٌ فاطم) بلا خلافٍ أجده فيه(1)، كما اعترف به غير واحدٍ(2)، كذا في «الجواهر»(3).
ويشهد به: صحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «وجدنا في كتاب عليّ عليه السلام: في القطاة إذا أصابها المُحرِم حَمَلٌ قد فُطم من اللّبن، وأكل من الشجر»(4).
ونحوه خبر ابن صالح(5).
وهما وإنْ كانا في القطاة، إلّاأنّه يثبت الحكم في القَبَج والدجاج وشبهه:
1 - لعدم القول بالفصل.
2 - ولقيام الدليل على اتّحاد حكمها، وهو خبر سليمان بن خالد، عن الإمام الباقر عليه السلام: «في كتاب عليّ عليه السلام: من أصاب قطاة أو حَجَلة أو دراجة أو نظيرهنّ ، فعليه دم»(6).
المحمول ما فيه من الدّم على إرادة الحَمَل، حملاً للمطلق على المقيّد.
يقول رحمه الله: (وفي) كلّ واحدٍ من (العصفور والقُنبرة) بضمّ القاف وتشديد الباء6.
ص: 166
والصَّعوة مُدّ،
(والصّعوة) وهي على ما قيل عصفور صغير له ذَنَبٌ طويلٌ يرمح به، ويقال له بالفارسيّة: (برف چين) (مُدّ) من الطعام على المشهور(1).
وعن الصدوقين:(2) وجوب شاة لكلّ طائرٍ عدا النعامة.
وعن الإسكافي: أنّه يجب فيه القيمة.
مدرك الأوّل: مرسل صفوان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«في القنبرة والعصفور والصّعوة يقتلهم المُحرِم ؟ قال عليه السلام: عليه مُدّ من طعام لكلّ واحد»(3).
وهو مضافاً إلى أنّ مرسله من أصحاب الإجماع، عمل الأصحاب به، فلا إشكال في سنده، ودلالته واضحة، فلا توقّف في الحكم.
ومدرك الثاني: صحيح ابن سنان، عنه عليه السلام: «في محرمٍ ذبح طيراً، أنّ عليه دم شاة يهريقه، فإنْ كان فرخاً فَجْدي أو حَمَلٌ صغير من الضأن»(4).
ولكن يجب تقيّيد إطلاقه بالمرسل المتقدّم.
ومدرك الثالث: خبر سليمان، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عمّا في القمري والدبسي0.
ص: 167
والسمان والعصفور والبلبل ؟ قال عليه السلام: قيمته، فإنْ أصابه المُحرِم فعليه قيمتان ليس عليه دم»(1).
ولكنّه قاصر سنداً لا يُعتمد عليه، فلا يصلح للمعارضة، فما هو المشهور أظهر.
***3.
ص: 168
وفي الجرادة والقُمّلة يُلقيها عن جَسده كفٌّ من طعام
(وفي) قتل (الجرادة والقُمّلة يُلقيها عن جَسده، كفٌّ من طعام) كما عن «المقنعة»(1)، و «النافع»(2)، و «القواعد»(3)، و «الغُنية»(4)، بل و «المراسم»(5)، وإنْ عبّر جمعٌ منهم بما هو أعمّ من القتل كما في المتن.
وفي كلّ منهما قولٌ آخر بل أقوال، فالكلام في موردين:
المورد الأوّل: في قتل الجرادة.
1 - قد عرفت أنّ جمعاً من الأصحاب ذهبوا إلى أنّ فيه كفّاً من طعام، وعن «الفقيه»(6) و «المقنع»(7) و «الخلاف»(8) و «المهذّب»(9) و «النزهة»(10) و «الجامع»(11)و «السرائر»(12) أنّ فيه تمرة، وإنْ عبّروا بأنّ في الجرادة تمرة.
ص: 169
2 - وعن «التهذيب»(1) و «المبسوط»(2) و «التحرير»(3)، وفي «المنتهى»(4)و «التذكرة»(5) و «المستند»(6)، وعن الشهيدين(7) وغيرهما، أنّ فيه الفداء كفّاً من طعام، أو تمرة مخيّراً بينهما.
وأمّا الأخبار:
1 - فجملةٌ منها تدلّ على الثاني:
منها: صحيح معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام: «قلت: ما تقول في رجل قتل جرادة وهو مُحرِم ؟ قال عليه السلام: تمرة خيرٌ من جرادة»(8).
ومنها: صحيح زرارة، عنه عليه السلام: «في مُحرمٍ قتل جرادة ؟ قال: يُطعم تمرةً ، وتمرة خيرٌ من جرادة»(9) ونحوهما غيرهما.
2 - وجملة أُخرى تدلّ على الأوّل:
ومنها: خبر محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن مُحرمٍ قتل جرادة ؟ قال:
كفّ من طعام، وإنْ كان كثيراً فعليه دم شاة»(10).4.
ص: 170
وفي «الجواهر»: (لكن هو خبرٌ ضعيف)، كما اعترف به في «كشف اللِّثام»(1).
وفيه أوّلاً: إنّه لم يظهر وجه تضعيفه سوى وجود سهل بن زياد في السند، وإلّا فبقيّة رجاله ثقات، وهو حسن.
وثانياً: أنّ جمعاً كثيراً من الأصحاب عملوا به، فلو كان فيه ضعفٌ انجبر به، وعليه فلا إشكال فيه سنداً.
والجمع بين الطائفتين بالبناء على التخيّير متعيّنٌ ، فالأظهر ذلك.
أقول: في المقام خبر وهو ما رواه عروة الحنّاط، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في رجلٍ أصاب جرادة فأكلها؟ قال: عليه دم»(2)، وقد عمل به جمعٌ ، ولكن لضعف سنده، وعدم ثبوت عملٍ جابرٍ له، لا يستند إليه في الحكم الشرعي.
المورد الثاني: في إلقاء القُمّلة.
ويشهد لما ذُكر عدد من الأخبار:
منها: صحيح حمّاد بن عيسى ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المُحرِم يبين القُمّلة عن جسده فيلقيها؟ قال عليه السلام: يطعم مكانها طعاماً»(3).
ونحوه صحيح محمّد بن مسلم(4)، بناءً على إرادة الكفّ من إطعام الطعام مكانها، إذ هو أقلّ مقداراً منه.
ومنها: خبر الحلبي، قال: «حككتُ رأسي وأنا مُحرِم فوقع منه قُمّلات، فأردت ردّهن فنهاني، وقال: تصدّق بكفٍّ من طعام»(5).2.
ص: 171
وفي الجراد الكثيرة شاة.
ولا يعارضها صحيح معاوية بن عمّار، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: المُحرِم يَحكّ رأسه فتسقط منه القُمّلة والثنتان ؟ قال عليه السلام: لا شيء عليه ولا يعود»(1)، فإنّه مطلق يُحمل على غير كف من طعام.
وعليه، فالأظهر ما هو المشهور.
أقول: وفي قتلها روايتان:
إحداهما: صحيحة معاوية المتضمّنة لقوله: «لا شيء عليه في القُمّلة، ولا ينبغي أن يتعمّد قتلها»(2).
ثانيتها: صحيحة ابن أبي العلاء، المتضمّنة لقوله عليه السلام: «وإنْ قتل شيئاً من ذلك خطأً، فليُطعم مكانها طعاماً قبضة بيده»(3).
والجمع بينهما كما تقدّم.
(وفي الجراد الكثيرة شاة)، أي في قتلها، كما صرّح به غير واحدٍ(4)، بل لا أجد فيه خلافاً، بل عن «الخلاف» الإجماع عليه(5).
ويشهد به حسن محمّد المتقدّم، وصحيحه عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن مُحرم قتل جراداً كثيراً؟ قال عليه السلام: كفّ من طعام، وإنْ كان أكثر فعليه شاة»(6).1.
ص: 172
ولو لم يتمكّن من التحرّز،
أقول: فبالنسبة إلى الأكثر هما متّفقان على لزوم الشاة، وأمّا بالنسبة إلى الكثير، فالأوّل يدلّ على الشاة، والثاني على أنّ فيه كفّاً من طعام، وبمقتضى التفصيل القاطع للشركة، يدلّ على عدم لزوم الشاة، لكن من جهة الشهرة يقدّم الأوّل.
وهل يصدق الكثير على الاثنين، أم لا؟ الظاهر ذلك، سيّما بقرينة المقابلة بين الواحدة والكثيرة في الحسن، فيجبُ في الاثنتين أيضاً الشاة.
وأمّا ما في «الجواهر»: نقلاً عن ثاني المحقّقين والشهيدين، بعد القول بعدم شمول الكثير للاثنين: (وكيف كان، فيجبُ لما دونه في كلّ واحدةٍ تمرة أو كفّ من طعام)، ثم قال: (وهو حسن)(1).
فيرد عليه: أنّ النصوص بناءً على هذا المسلك متضمّنة لبيان حكم قتل الجرادة والجراد الكثير، وليست متعرّضة لحكم قتل أكثر من واحدة مع عدم صدق الكثير. وعليه فمقتضى الأصل عدم وجوب أزيد من كف من طعام أو تمرة للجميع.
كما أنّ ما في «المستند» من أنّه (بعد تعارض خبري محمّد يرجع إلى أصالة نفي الدّم)(2)، غير تامّ ، فإنّ في الخبرين المتعارضين لابدّ من الرجوع إلى المرجّحات لا إلى الأصل.
أقول: هذا كلّه مع إمكان التحرّز.
(ولو لم يتمكّن من التحرّز) من قتلها، بأنْ كانت في طريقه على وجهٍ يتعذّر أو7.
ص: 173
لم يكن عليه شيء.
يتعسّر عدم قتلها، (لم يكن عليه شيء) من الإثم والكفّارة بغير خلاف ظاهر، للصحّاح الثلاث لابن عمّار(1) وزرارة(2) وحريز(3)، وموثّق أبي بصير(4) الصريحة كلّها في ذلك.
***7.
ص: 174
ولو أكل ما قَتَله، كان عليه فدائان، ولو أكل ما ذبحه غيره ففداءٌ واحد.
(ولو أكل ما قتله كان عليه فدائان، ولو أكل ما ذبحه غيره، ففداءٌ واحد).
أقول: هذه المسألة متضمّنة لبيان حكمين:
الحكم الأوّل: أنّه كما يجبُ الفداء بقتل الصيد، كذلك يثبتُ بأكله أو شيئاً منه، وإنْ صاده غيره أو صاده هو، وهذا محكيٌّ عن جماعةٍ من القدماء والمتأخّرين كالشيخ(1)، والحِلّي(2)، والمصنّف، والشهيدين(3) وغيرهم(4)، بل نُسب إلى الأكثر(5)، بل إلى المشهور(6).
وعن جماعةٍ - منهم الشيخ في «الخلاف»(7)، والمصنّف في «القواعد»(8)والمحقّق(9) - أنّه يضمن قيمة ما أكل.
أقول: ومنشأ الاختلاف اختلاف النصوص:
ص: 175
فطائفة منها: ظاهرة في الأوّل:
منها: النصوص الواردة في مسألة اضطرار المُحرِم إلى أكل الميتة أو الصيد، والمتضمّنة أنّه يأكل الصيد ويفديه وستأتي.
ومنها: النصوص الواردة في مسألة ما لو اشترى مُحِلٌ لمحرمٍ بيض نعام فأكله المُحرِم، المتضمّنة أنّه على المُحرِم فداء، وهي لكلّ بيضة شاة.
ومنها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام: «عن قومٍ اشتروا ظبياً فأكلوا منه جميعاً وهم حُرُم، ما عليهم ؟
قال عليه السلام: على كلّ من أكل منهم فداءُ صيد، كلّ إنسان منهم على حدته فداء صيد كاملاً»(1).
ومنها: صحيح أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن قوم حجّاج مُحرمين أصابوا أفراخ نعام فذبحوها وأكلوها؟ فقال عليه السلام: عليهم مكان كلّ فرخٍ أصابوه وأكلوه بدنة، يشتركون فيهن، فيشترون على عدد الفراخ وعدد الرجال.
قلت: فإنّ منهم من لا يقدر على شيءٍ؟ قال: يقوّم بحساب ما يصيبه من البدن، ويصوم لكلّ بدنة ثمانية عشر يوماً»(2).
فإنّ ظاهره بقرينة قوله: (على عدد الفراخ وعدد الرجال) أنّ عليهم مكان كلّ فرخ أصابوا منه وأكلوا منه بدنة، وفي خبره الآخر، قال عليه السلام: (عليهم مكان كلّ فرخ أكلوه بدنة)(3)، وهو أصرح في لزوم الفداء على الأكل.
ومنها: خبر يوسف الطاطري: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: صيدٌ أكله قوم1.
ص: 176
مُحرِمون ؟ قال عليه السلام: عليهم شاة، وليس على الذي ذبحه إلّاشاة»(1).
ومنها: خبر الحارث بن المغيرة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجلٍ أكل بيض حمام الحَرم وهو مُحرِم ؟ قال عليه السلام: عليه لكلّ بيضةٍ دم، إلى أنْ قال: إنّ الدّماء لزمته لأكله وهو مُحرِم، الحديث»(2).
ومنها: مرسل ابن أبي عُمير - الذي هو كالصحيح - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المُحرِم يصيب الصيد فيفديه، أيطعمه أو يطرحه ؟
قال عليه السلام: إذاً يكون عليه فداء آخر. قلت: فما يصنع به ؟ قال: يدفنه»(3).
ومنها: صحيح زرارة المتقدّم، عن الباقر عليه السلام: «من أكل طعاماً لا ينبغي له أكله وهو مُحرِم متعمّداً، فعليه دم شاة»(4).
إلى غير ذلك من النصوص.
وطائفةٌ اُخرى من النصوص: استدلّ بها للثاني:
منها: موثّق معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام، في حديث:
«وأيّ قوم اجتمعوا على صيدٍ فأكلوا منه، فإنّ على كلّ إنسان منهم قيمته، فإنْ اجتمعوا في صيد فعليهم مثل ذلك»(5).
ومنها: صحيحة الآخر، عنه عليه السلام: «إذا اجتمع قومٌ على صيدٍ وهم مُحرِمون في صيده، أو أكلوا منه، فعلى كلّ واحدٍ منهم قيمته»(6).6.
ص: 177
ومنها: صحيح منصور - أو حسنه - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «قلت له: اُهدي لنا طائر مذبوح بمكّة فأكله أهلنا؟ فقال: لا يرى به أهل مكّة بأساً.
قلت: فأيّ شيء تقول أنتَ؟ قال عليه السلام عليهم ثمنه»(1).
أقول: ولكن الحقّ كما أفاده جمع من المحقّقين، أنّ شيئاً من الطائفتين لا يدلّ على ما استدلّ به له، ولا على القول الآخر(2).
أمّا الطائفة الثانية: فلأنّ صحيح منصور - أو حسنه - خارجٌ عن ما نحن فيه، أو قابل لذلك، لعدم التصريح فيه بكون الآكلين مُحرِمين، بل ليس فيه أنّه اُهدي إليهم وهم بمكّة أو في محلٍّ آخر.
وأمّا صحيح معاوية: فبقرينة عطف الأكل على الصيد، والحكم بأنّه على كلّ منهما قيمته، يكون المراد بالقيمة فيه الفداء، إذ لا شكّ في إرادة الفداء منها بالنسبة إلى القتل، فكذا بالنسبة إلى الأكل.
لا أقول إنّه لا يمكن أنْ يكون المراد هو الجامع بين الفداء والقيمة السوقيّة فإنّ ذلك ممكن، بل أقول إنّه لا ظهور له في إرادة السوقيّة.
وبذلك يظهر أنّ ما ذكره بعض المحقّقين:(3) من أنّ الصحيح يدلّ على القول الأوّل أيضاً لا يتمّ .
وأمّا موثّقه: فلأنّ قوله عليه السلام فيه: (فإنْ اجتمعوا على صيد فعليهم مثل ذلك)، يمكن أنْ يكون إشارة إلى ما في الأكل، فيجري فيه ما في سابقه.
مع أنّه يرد على الاستدلال بهما: أنّ المراد بالقيمة يمكن أنْ يكون هو الفداء، كما استعملت فيه في بعض النصوص.4.
ص: 178
وأمّا الطائفة الأُولى : فلأنّ جملة منها متضمّنة للفظ (الفداء)، وهو يُطلق على كلّ ما هو جزاء للشيء، قيمةً كانت أو غيرها، من جنسه أو من غير جنسه، فلا تدلّ تلك النصوص على ما هو المطلوب لهم، وهو ما ثبت في قتله، وجملة منها متضمّنة للشاة، وقد أمر في صحيح الحذّاء بالشاة في كلّ بيض النعامة، وبها في أكل مطلق ما لا ينبغي أكله في صحيح زرارة، وفي أكل مطلق الصيد في خبر يوسف.
وأمّا صحيح أبان: فيحتمل أنْ يكون البدنة لتضاعف الجزاء كما عن «كشف اللِّثام»(1).
وبالجملة: ظهر بما ذكرناه أنّ ما اختاره جمعٌ من الأساطين(2) من أنّ الفداء هو الشاة مطلقاً هو الأصحّ .
الحكم الثاني: أنّه إنْ أكل ما قتله عليه فدائان: فداءٌ للقتل، وفداءٌ للأكل، وهو متين، وسيأتي الكلام فيه تحت عنوان عام، فانتظر.
***8.
ص: 179
ولو اشتركَ جماعةٌ في قتله، فعلى كلّ واحدٍ فداءٌ ،
(ولو اشتركَ جماعةٌ في قتله) أي قتل صيدٍ (فعلى كلّ واحدٍ فداء) بلا خلافٍ (1).
وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسمية عليه، بل المحكيّ منه صريحاً أو ظاهراً مستفيض)، انتهى (2).
ويشهد به: جملة من النصوص:
منها: صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلين أصابا صيداً وهما مُحرِمان، الجزاء بينهما أو على كلّ واحدٍ منهما جزاء؟
فقال عليه السلام: لا بل عليهما أن يُجزي كلّ واحدٍ منهما الصيد.
قلت: إنّ بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه ؟ فقال عليه السلام: إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا فعليكم بالاحتياط»(3).
ومنها: صحيح زرارة وبكير، عن أحدهما عليهما السلام: «في مُحرِمين أصابا صيداً؟ فقال عليه السلام: على كلّ واحدٍ منهم الفداء»(4) ونحوهما غيرهما.
ص: 180
الفرع الأوّل: قال في «المنتهى»: (لو اشترك الحرام والحلال في صيد حرمي، وجب على المُحِلّ القيمة كملاً، وعلى المُحرِم الجزاء والقيمة معاً)، انتهى (1).
وظاهر ذلك عدم الخلاف فيه إلّامن الشيخ، فإنّه بعد ذلك ينقل الخلاف عن بعض الجمهور(2) والشيخ(3)، وتبعه جمعٌ من الأساطين منهم الشهيدان في «الدروس»(4) و «المسالك»(5).
واستدلّ له:
تارةً : بإطلاق ما ورد في كلّ منهما، فقد دلّ الدليل على أنّ المُحِلّ إذا قتل الصيد في الحرم، عليه القيمة كملاً، والمُحرِم إذا قتل في الحِلّ عليه الجزاء، وإذا قتل في الحَرم عليه ذلك مع القيمة، فمقتضى الدليلين ثبوت الحكمين في المقام.
وأُخرى : بإطلاق نصوص اشتراك جماعة في قتل الصيد، بأنْ يُراد من الجزاء في النصوص ما يعمّ القيمة، فتدلّ النصوص على أنّ حكم كلّ من اشترك في قتل الصيد حكم من استقلّ به، وأنّه لا فرق بين الاستقلال في القتل وكونه جزءً منضمّاً:
فإنْ كان الصيد حرميّاً كان على كلّ من المُحرِمين المشتركين في القتل فداء وقيمة.
ص: 181
وإنْ كان أحدهما مُحِلّاً كان عليه القيمة، وعلى المُحرِم هما معاً.
وإنْ كانا مُحلّين، كان على كلّ منهما تمام القيمة.
وإنْ كان الصيد في الحِلّ لم يكن على المُحِلّ شيءٌ ، وعلى المُحرِم الفداء.
ولكن يرد على الأوّل: أنّ المنساق إلى الذهن من إطلاق ما دلّ على كلّ منهما، استقلال كلّ منهما بالقتل، وأمّا صورة استناده إليهما على وجه الشركة فخارجة عنه.
ويرد على الثاني: أنّ النصوص إنّما هي في المُحرِمين، لا من جهة ما فيها من الفداء كي يقال إنّ الأمر دائرٌ بين أنْ يكون المراد بالفداء ما يعمّ القيمة، فتشمل ما لو كان أحدهما مُحِلّاً، وبين أن يخصّص الموضوع بالمُحرِمين، والتخصيص أولى من المجاز، إذ قد تقدّم أنّ استعمال الفداء في الجامع ليس مجازاً ولا محذور فيه، مع أنّ في صحيح ابن الحجّاج: (على كلّ واحدٍ منهما جزاء)، ولا ريب في أنّ الجزاء يشملها، بل من جهة التصريح فيها بالمُحرِمين، فالتعدّي إلى ما لو كان أحدهما مُحِلّاً يتوقّف على العلم بالمناط، أو دليل خاص، أو ظهور النصوص في كونها بياناً، لأنّ الاشتراك في القتل مطلقاً حكمه حكم الاستقلال، وشيء منهما لم يثبت، وعليه فالأظهر عدم التعدّي.
وأمّا خبر إسماعيل، عن الإمام الصادق، عن أبيه عليهما السلام: «كان عليّ عليه السلام يقول في مُحرِمٍ ومُحِلّ قتلا صيداً؟ فقال: على المُحرِم الفداء كاملاً، وعلى المُحِلّ نصف الفداء»(1) فلعدم عمل غير الشيخ(2) به لا يعتمد عليه، ولكن الأحوط ذلك، وأحوط منه تمام القيمة.
الفرع الثاني: لو اشترك المُحرِم والمُحِلّ في صيدٍ غير حرمي، لا إشكال في2.
ص: 182
عدم ثبوت شيء على المُحِلّ ، وأمّا المُحرِم فالظاهر أنّ عليه الفداء، فإنّ نصوص الباب تدلّ على أنّ المُحرِم كما يثبت له الفداء لو استقلّ بالصيد، كذلك يثبت له في صورة الاشتراك.
أقول: والنصوص برغم أنّها واردة في مورد اشتراك المُحرِمين، إلّاأنّه من الضروري عدم دخل كون الشريك مُحرِماً أو مُحِلّاً في ذلك.
الفرع الثالث: لو اشترك المُحرِمان في أكل الصيد، كان على كلّ واحدٍ منهما فداءٌ ، لما مرّ من أنّ أكل الصيد كلّاً أو بعضاً موجبٌ لثبوت الفداء، ويشهد به - مضافاً إلى ذلك - خبر يوسف الطاطري المتقدّم، والظاهر أنّه لم يخالف فيه أحد(1).
الفرع الرابع: لو رمى اثنان صيداً فقتله أحدهما وأخطأ الآخر، كان على كلّ واحدٍ منهما فداءٌ كامل، بلا خلافٍ إلّامن الحِلّي فنفاه عن الُمخطئ»(2).
ويشهد للمشهور:
1 - صحيح ضريس بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجلين مُحرِمين رميا صيداً فأصابه أحدهما، لزم كلّ واحدٍ منهما الفداء»(3).
2 - وخبر إدريس بن عبداللّه، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «عن مُحرِمين يرميان صيداً، فأصابه أحدهما، الجزاء بينهما أو على كلّ واحد منهما؟
قال عليه السلام: عليهما جميعاً، يفدي كلّ منهما على حِدة»(4).
وأمّا ابن إدريس الحِلّي فحيث إنّه يرى عدم حجيّة خبر الواحد، فقد أفتى بما ذكر، ولا بأس به على مسلكه.6.
ص: 183
أقول: وهل يتعدّى إلى الأكثر من اثنين، سواءٌ تعدّد المصيب أو المُخطيء، أم لا، أم يتعدّى بالنسبة إلى المُصيب دون المخطئ فقط؟
وجوهٌ أظهرها الأخير، فإنّ ثبوت الحكم للمخطيء على خلاف الأصل، فيتعيّن الاقتصار على المتيقّن، والرجوع في غيره إلى الأصل، وأمّا بالنسبة إلى المصيب، فمقتضى ما تقدّم من النصوص في أصل المسألة هو ثبوته.
الفرع الخامس: لو رمى مُحرمٌ صيداً فأصابه وجرحه، ثمّ رماه مُحلّ فقتله، لا شيء على المُحلّ إنْ كان في غير الحرم، وأمّا المُحرِم فعليه الفداء كاملاً إنْ كان جرحه سبباً بنحو الإعداد لقتله، لما تقدّم من أنّ في الإعانة على الصيد أيضاً الفداء، وإنْ لم يكن دخيلاً فيه أصلاً، فمقتضى القاعدة عدم وجوب شيء عليه، إنْ لم يكن الصيد ملكاً لشخص.
ولكن ادّعى المصنّف في محكي «المنتهى» الإجماع على الضمان في أجزاء الصيد(1)، وكلمات غيره أيضاً صريحة في لزوم شيء عليه، وحينئذٍ قد يقال:
إنّ فيه ربع قيمة الفداء، للنصوص الواردة في كسر يد الصيد أو رجله، كصحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام:
«عن رجلٍ رمى صيداً وهو مُحرِم فكسر يده أو رجله، فمضى الصيد على وجهه، فلم يدر الرّجل ما صنع الصيد؟
قال: عليه الفداء كاملاً إذا لم يدر ما صنع الصيد، فإنْ رآه بعد أن انكسر يده أو رجله وقد رعى وانصلح فعليه ربع قيمته»(2).
والضمير في (قيمته) يرجع إلى الفداء لا إلى الصيد، لقُربه وبُعد الصيد، ونحوه5.
ص: 184
خبره الآخر(1)، ومثلهما خبر أبي بصير(2).
أقول: لكن النصوص في الكسر، وإسراء الحكم إلى الجرح، يتوقّف عليدليل، وعليه فالأظهر أنّه يتصدّق بشيء يحتمل انطباقه على الأرش.
نعم، لو رماه وكسر رجله أو غيره من أجزائه، عليه ربع قيمة الفداء، للنصوص المتقدّمة.
وأيضاً: لو لم يعلم أنّه هل كان رميه دخيلاً في الصيد أو في قتله أم لا؟ فالظاهر أنّ عليه الفداء كاملاً، وعن بعض(3) دعوى الإجماع عليه، ويشهد به جملة من النصوص:
منها: خبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام: «في مُحرِمٍ رمى ظبياً فأصابه في يده، فعرج منها؟ قال عليه السلام: إنْ كان الظبي مشي عليها ورعى، فعليه ربع قيمته، وإنْ كان ذهب على وجهه فلم يدر ما صنع فعليه الفداء، لأنّه لا يدري لعلّه قد هلك»(4)ونحوه غيره.
أقول: وهي أيضاً كالنصوص السابقة في الكسر والعرج، ولكن يتعدّى في هذا الحكم إلى الجرح، لما فيها من التعليل الشامل للمقام، بل الخبر الذي رواه السكوني، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه عليهم السلام، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «في المُحرِم يصيب الصيد فيدميه ثمّ يرسله ؟ قال: عليه جزائه»(5)، يدلّ بالمنطوق على الحكم في المقام،9.
ص: 185
بناءً على أنّ المراد بالجزاء هو الفداء، لأنّه الفرد الكامل من الجزاء.
الفرع السادس: لو رمى صيداً فلم يُصبه، أو شكّ في الإصابة وعدمها، أو أصابه ولم يؤثّر فيه، أو شكّ في التأثير، فلا شيء عليه، بلا خلافٍ في الثلاثة الأول إلّاما عن القاضي(1) في الثاني، وعلى الأظهر في الرابع، وفاقاً لسيّد «المدارك»(2) والفاضل النراقي(3). لكن ظاهر «النافع»(4) و «التحرير»(5) التوقّف فيه، لعدم الدليل.
والأصل يقتضي العدم، مضافاً إلى خبر أبي بصير المتقدّم في الثالث، ولكن لما تكرّر دعوى الإجماع(6) في كلماتهم على لزوم الفداء في الصورة الرابعة، فالاحتياط لا يترك.
الفرع السابع: لو كان مُحرِماً في الحرم، فضرب بطيرٍ على الأرض فقتله بعد أن اصطاده، كان عليه الجزاء وقيمتان، كما صرّح به غير واحدٍ، وإنْ اختلفت تعابيرهم:
فمنها: ما عرفت، وهو المحكيّ عن «الوسيلة»(7) و «المهذّب»(8).
ومنها: التعبير بأنّ عليه دماً وقيمتين، كما في «الشرائع»(9) و «القواعد»(10) وغيرهما(11).1.
ص: 186
ومنها: ما عن «النافع» أنّ عليه ثلاث قيمات(1).
أقول: والأصل فيه خبر معاوية بن عمّار، قال: «سمعتُ أبا عبد اللّه عليه السلام يقول في مُحرِمٍ اصطاد طيراً في الحرم، فضرب به الأرض فقتله. قال عليه السلام: عليه ثلاث قيمات:
قيمة لإحرامه، وقيمة للحرم، وقيمة لاستصغاره إيّاه»(2).
وضعفه منجبرٌ بالعمل.
ولا كلام بالنسبة إلى قيمتين منها: إحداهما للحرم، والاُخرى للاستصغار، إنّما الكلام في ما يجب بالنسبة إلى الإحرام، والنّص ناص على القيمة، ولكن لما كانت القيمة قابلة لأن يراد بها الفداء والدم، فبقرينة قوله: (لإحرامه) تُحمل تلك على إرادة الدّم بالنسبة إلى ما فيه ذلك من الطيور.
وهل يتعدّى من الطير إلى الجراد، أو إلى غيره من الحيوانات ؟
الظاهر ذلك، لعموم التعليل.
وما في «الجواهر» من أنّه لا جابر للخبر بالنسبة إلى ذلك(3)، غريبٌ ، فإنّ الخبر انجبر ضعفه بالعمل، ففي الأخذ بدلالته من عموم أو إطلاق لا نحتاج إلى العمل فإنّه لا ضعف فيها.
***1.
ص: 187
وكلّ من كان معه صيد يزول ملكه عنه بالأحرام، ويجبُ عليه إرساله، فإنْ أمسكه ضمنه،
(وكلّ من كان معه صيدٌ) مملوكٌ (يزول مِلْكه عنه بالإحرام، ويجبُ عليه إرساله، فإنْ أمسكه ضمنه).
أقول: هاهنا عدّة فروع:
الفرع الأوّل: من كان معه صيدٌ مملوكٌ فأحرم، هل يزول مِلْكه عنه كما في المتن، وعن الشيخ(1) والقاضي(2) والمصنّف(3) في غير الكتاب، والمحقّق(4) وغيرهم، بل ظاهر «المنتهى»(5) اتّفاق الأصحاب عليه، بل عن «الخلاف» دعوى الإجماع عليه(6)؟
أم لا يزول، كما عن الإسكافي(7) والشيخ(8) في بعض كتبه، وقوّاه جماعة من المتأخّرين(9)؟ وجهان:
ص: 188
استدلّ للأوّل: بوجوه:
الوجه الأوّل: عموم الآية الكريمة (وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ) (1) بناءً على أنّ كلمة (الصيد) الواردة فيها ليس مصدراً.
وفيه أوّلاً: أنّ كون الصيد في الآية إسماً غير ثابت.
وثانياً: قد تقدّم أنّ حذف المتعلّق وإنْ أفاد العموم، إلّاأنّ الظاهر إرادة التصرّفات الخارجيّة منها دون الاعتباريّة، لعدم كونها تصرّفاً في الصيد، كما مرّ مفصّلاً في مبحث حرمة الطيب على المُحرِم(2).
وثالثاً: أنّ غايته الحرمة، وهي لا تقتضي زوال الملكيّة، كما أنّها لا تقتضي فساد المعاملة.
الوجه الثاني: أنّه لا يملكه ابتداءً ، فكذا استدامة.
وفيه أوّلاً: نمنع الأصل وإنْ اشتهر، وببالي أنّه قد تقدّم في بعض الفروع السابقة تحقيقة.
وثانياً: أنّه لا دليل على الفرع على فرض ثبوت الأصل إلّاالقياس.
الوجه الثالث: أنّه يجب إرساله - كما يأتي - ولو كان باقياً كان له التصرّف فيه تصرّف الملّاك في أموالهم.
وفيه: على فرض تسليم الملزوم، نمنع الملازمة، لعدم الدليل عليها.
وبعبارة أُخرى: جواز الإمساك من آثار الملكيّة، وقابلٌ للانفكاك عنها كسائر الآثار، مع أنّه لو ثبت لزوم الإرسال بعنوان آخر سوى الملك - كما هو لسان الروايات - كان ذلك بنفسه دالّاً على عدم زوال الملكيّة، وإلّا كان الأمر بالإخراج لغواً ومحالاً.9.
ص: 189
الوجه الرابع: الإجماع، وقد مرّ عدم حجيّة غير التعبّدي منه.
وعليه، فالأظهر عدم زوال الملكيّة، للأصل والاستصحاب.
الفرع الثاني: يجب عليه إرساله، والظاهر عدم الخلاف فيه، ويشهد له خبر أبي سعيد المكاري، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«لا يحرم أحدٌ ومعه شيءٌ من الصيد حتّى يخرجه عن ملكه»(1).
الفرع الثالث: لو لم يرسله فمات، فضلاً عمّا لو أتلفه، لزم ضمانة كما صرّح به غير واحدٍ(2)، وفي «المنتهى»(3) دعوى الإجماع عليه، لحسن بكر بن أعين، قال: «سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن رجلٍ أصاب ظبياً فأدخله الحرم، فمات الظبي في الحرم ؟ فقال:
إنْ كان حين أدخله خَلّى سبيله، فلا شيء عليه، وإنْ كان أمسكه حتّى مات فعليه الفداء»(4).
وهو وإنْ اختصّ بالحرم، لكن بضميمة الإجماع يثبت في غيره، كما لو مات بعد الإحرام قبل دخول الحرم.
ولو لم يمكن الإرسال ليس عليه ضمان، لاختصاص الخبر بصورة الإمكان، ولو لم يرسله حتّى صار مُحِلّاً، ولم يكن قد أدخله الحرم، فلا شيء عليه سوى الإثم.
وأيضاً: هل يجب عليه إرساله بعد الإحلال مطلقاً، أم لا يجب ذلك، أم يفصّل بين ما إذا وجب عليه حال الإحرام بأنْ كان متذكّراً فأهمل، وبين ما إذا لم يكن واجباً عليه، فيجب في الأوّل دون الثاني ؟ وجوه:8.
ص: 190
مدرك الأوّل: الاستصحاب، وبه يظهر وجه الثالث، فإنّه مع عدم وجوبه عليه في حال الإحرام، لا يقين سابق، فلا يجري الاستصحاب، وحيث أنّ المختار عندنا عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة الكليّة، يكون الأظهر هو الثاني، كما جزم به المصنّف(1) في محكي «القواعد».
وعلى القول بعدم الوجوب، جاز له ذبحه، لعدم المانع عنه، ولو ذبحه ليس عليه ضمان، لعدم الدليل.
وعليه، فما أفاده المصنّف رحمه الله(2) في محكي «المنتهى» من أنّ الوجه الضمان، ضعيف.
الفرع الرابع: ولو كان له صيد ولم يكن معه، بل كان نائياً عنه، لم يزل ملكه عنه، كما عن غير واحدٍ من الأساطين(3)، بل تكرّر منهم دعوى نفي الخلاف فيه(4).
ويشهد به: جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح جميل، قال: «قلتُ لأبي عبد اللّه عليه السلام: الصيد يكون عند الرّجل من الوحش في أهله، ومن الطير، يحرم وهو في منزله ؟ قال: وما به بأس، لا يضرّه»(5).
ومنها: صحيح ابن مسلم، قال: «سألتُ أبا عبداللّه عليه السلام عن الرّجل يحرم وعنده في أهله صيد إمّا وحش وإمّا طير؟ قال عليه السلام: لا بأس»(6).
وأيضاً: كما لا يزول مِلكه عنه، فهل يجوز إدخاله في مِلْكه ابتداءً ببيعٍ أو هبة أو4.
ص: 191
إرث وما شاكل، أم لا؟
فعن الأكثر(1) أنّه لا يدخل في مِلكه، ومدركه:
إطلاق الآية الكريمة، وقد عرفت أنّها لا تشمل التصرّفات الاعتباريّة، وإنْ كان المراد بالصيد فيها الاسم.
أو خبر أبي بصير، عن الصادق عليه السلام: «عن قوم مُحرِمين اشتروا صيداً فاشتركوا فيه، فقالت رفيقة لهم: اجعلوا لي فيه بدرهم، فجعلوا لها؟ قال عليه السلام: على كلّ إنسان منهم شاة»(2).
بدعوى التلازم بين ثبوت الفداء والحرمة، ودلالة النهي عن المعاملة على الفساد.
أقول: حتّى ولو سُلّم الأوّل يكون الثاني غير تامّ قطعاً، مع أنّ الخبر في الصيد معه لا ما إذا كان نائياً عنه.
وعليه، فالأظهر أنّه يدخل في مِلْكه، وكذلك في الصيد معه، وغايته أنّه يكون حراماً، وعليه الفداء.
***0.
ص: 192
مسائل: الأُولى: المُحرِم في الحِلّ يجبُ عليه الفداء، والمُحِلّ في الحرم القيمة، ويجتمعان على المُحرِم في الحرم ما لم يبلغ بدنة، فلا يتضاعف.
خاتمة: في بيان (مسائل):
المسألة (الأُولى: المُحرِم في الحِلّ يجبُ عليه الفداء، والمُحِلّ في الحرم القيمة) وقد عرفت في مبحث قتل الحمامة، أنّ قيمة الحمامة الشرعيّة درهم، وقيمة فرخها نصف درهم، وقيمة بيضها ربع درهم.
(ويجتمعان على المُحرِم في الحرم) كما مرَّ تفصيل ذلك كلّه(1).
إنّما الكلام في الاستثناء الذي ذكره المصنّف رحمه الله بقوله: (ما لم يبلغ بدنةً فلا يتضاعف) وهو المحكيّ عن الشيخ في «النهاية»(2) و «المبسوط»(3) و «التهذيب»(4)، قال: (إنّه يتضاعف الفدية للمُحرِم في الحرم ما لم يبلغ بدنة، فلا يجب عليه غيرها).
وعن الحِلّي التضاعف مطلقاً، بل قال: (إنّ باقي أصحابنا أطلقوا التضعيف)(5).
واستدلّ للثاني: بإطلاق الأخبار:
منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إنْ أصبتَ الصيد وأنتَ حرام في الحرم فالفداء مضاعفٌ عليك، وإنْ أصبته وأنتَ حلالٌ في الحرم فقيمة
ص: 193
واحدة، وإنْ أصبته وأنتَ حرام في الحِلّ فإنّما عليك فداء واحد»(1).
ونحوه غيره.
ولا يتوهّم: أنّ الصحيح يدلّ على تضاعف الفداء، لا على ما ذكر تبعاً للقوم بأنّه يجبُ في صيد المُحرِم في الحرم الفداء والقيمة، فيثبت ما عن الإسكافي(2)والسيّد(3) في أحد قوليه.
فإنّه قد تقدّم في بعض المباحث أنّ الفداء في اللّغة وعرف الأخبار والفقهاء، يستعمل في القدر الشرعي والقيمة، مع أنّ أخبار الحمامة صريحة في أنّ عليه الفداء المصطلح والقيمة.
واستدلّ للأوّل: بخبر الحسن بن علي بن فضّال، عن رجل سمّاه، عن أبي عبداللّه عليه السلام: «في الصيد يضاعفه ما بينه وبين البدنة، فإذا بلغ البدنة فليس عليه التضعيف»(4).
ومرسله الآخر، عنه عليه السلام: «إنّما يكون الجزاء مضاعفاً فيما دون البدنة حتّى يبلغ البدنة، فإذا بلغ البدنة فلا تضاعف، لأنّه أعظم ما يكون، قال اللّه تعالى : (وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ (5)) »(6).
وحيث أنّهما مرسلان، فما أفاده الحِلّي أحوط.
أقول: هنا فرعٌ يتناسب مع ما مرّ ذكره وهو ما لو اجتمع جماعة من المُحلّين علي 6.
ص: 194
قتل صيد، فهل علي كلّ واحدٍ منهم الفداء كما عن «القواعد»(1) و «الخلاف»(2) وغيرهما؟
أم على الجميع فداء واحد؟
ولكن نحن قدّمناه، وذكرناه في مسألة ما لو اشترك جماعة في قتل صيد، فمن أراد فليراجعها.
***0.
ص: 195
الثانية: القاتلُ يَضمن الصيد بالقتل عمداً وسهواً وجهلاً،
المسألة (الثانية: القاتل يضمن الصيد بالقتل) أيّاً ما كان:
وضمانه (عمداً) بأن يعلم أنّه صيدٌ ذاكراً للإحرام.
(وسهواً) بأن يكون غافلاً عن الإحرام، أو عن كونه صيداً.
(وجهلاً) بالحكم أو خطأ أو اضطراراً، إلّافيما مرَّ من الجراد ممّا يشقّ التحرّز عنه، بلا خلافٍ بل في «المستند»: (بالإجماع المحقّق والمحكيّ مستفيضاً)(1) انتهى ، وفي «الرياض»: (كلّ ذلك بالإجماع المستفيض النقل)(2)، انتهى .
ويشهد به: نصوصٌ كثيرة:
منها: صحيح ابن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «واعلم أنّه ليس عليك فداء شيء أتيته وأنتَ مُحرِم جاهلاً به إذا كنت محرِماً في حجّك أو عمرتك إلّا الصيد، فإنّ عليك الفداء بجهالة كان أو عمد»(3).
ومنها: صحيح البزنطي، عن الإمام الرضا عليه السلام: «عن المُحرِم يصيبُ الصيد بجهالة ؟ قال عليه السلام: عليه كفّارة، قلت: فإن إصابه خطأ؟ قال: وأيّ شيء الخطأ عندك ؟ قلت: ترمي هذه النخلة فتصيبُ نخلةً أُخرى .
فقال: نعم، هذا الخطأ وعليه الكفّارة.
ص: 196
ولو تكرّر خطأ تكرّرت الكفّارة،
قلت: فإنّه أخذ طائراً متعمّداً فذبحه وهو مُحرِم ؟ قال: عليه الكفّارة.
قلت: جُعلت فداك، ألستَ قلت إنّ الخطأ والجهالة والعمد ليسوا بسواء، فبأيّ شيء يفضل المتعمّد الجاهل والخاطئ ؟ قال عليه السلام: إنّه أثم ولعب بدينه»(1).
ونحوهما غيرهما.
وصريح صحيح البزنطي تساوي العمد مع الخطأ والجهل، إلّافي الإثم، فما عن المرتضى قدس سره في «الناصريّات»(2) و «الانتصار»(3) - من البناء على التضاعف، إمّا مطلقاً كما عن الأخير، أو مع قصد نقض الإحرام كما عن الأوّل، للاحتياط، ولأنّ عليه مع عدم النسيان جزاءٌ والعمد أغلظ، فيجب عليه المضاعفة - اجتهاد في مقابل النص، وأوهن من ذلك دعوى الإجماع عليه.
(ولو تكرّر خطأ) أي تكرّر من المُحرِم الجناية عن غير عمدٍ، أعمّ من الخطأ والنسيان (تكرّرت الكفّارة) بلا خلافٍ فيه(4)، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكيّ منه مستفيض أو متواتر، كذا في «الجواهر»(5)، بل وإنْ كان عن جهل بالحكم الشرعي، ويشهد له نصوصٌ كثيرة سيمرّ عليك بعضها.2.
ص: 197
وكذا العمد،
بل (وكذا العمد) كما في المتن، وعن ابن الجُنيد(1) والشيخ في «المبسوط»(2)و «الخلاف»(3) والسيّد(4) والحلبي(5) والحِلّي(6)، وعن الصدوق في «الفقيه»(7)و «المقنع»(8)، والشيخ في «النهاية»(9) والتهذيبين(10)، والقاضي(11) و «النكت» و «المسالك»(12)، بل أكثر المتأخّرين(13)، أنّه لا يتكرّر في العمد، وهو ممّن ينتقم اللّه منه، بل عن الكنز(14) نسبته إلى أكثر الأصحاب، وعن «التبيان»(15) أنّه ظاهر مذهب الأصحاب.
أقول: ونصوص المقام طوائف:7.
ص: 198
الطائفة الأُولى: ما يدلّ على تكرّر الكفّارة بتكرار الصيد مطلقاً:
منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في المُحرِم يصيب الصيد؟ قال عليه السلام: الكفّارة في كلّ ما أصاب»(1).
ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «في مُحرمٍ أصاب صيداً؟ قال عليه السلام: عليه الكفّارة: قلت: فإنْ هو عاد؟ قال عليه السلام: عليه كلّ ما عاد كفّارة»(2).
الطائفة الثانية: ما يدلّ على تساوي العالم العامد مع غيره في الجزاء، إلّافي الإثم، كصحيح البزنطي المتقدّم، وهذا أيضاً يدلّ على تكرّر الكفّارة لو تكرّر الصيد عمداً، إذ لو فضل العامد بغير ذلك لبيّنه عليه السلام، لأنّه وقت الحاجة.
الطائفة الثالثة: ما يدلّ على عدم تكرّر الكفّارة مطلقاً:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «المُحرِم إذا قتل الصيد فعليه جزائه، ويتصدّق بالصيد على مسكين، فإنْ عاد فقتل صيداً آخر لم يكن عليه جزائه وينتقم اللّه تعالى منه»(3).
ومنها: خبر حفص الأعور، عنه عليه السلام: «إذا أصاب المُحرِم الصيد، فقولوا له:
هل أصبت صيداً قبل هذا وأنتَ محرم ؟ فإنْ قال: نعم، فقولوا له: إنّ اللّه تعالى منتقمٌ منك فاحذر النقمة، فإنْ قال: لا، فاحكموا عليه جزاء ذلك الصيد»(4).
ونحوهما غيرهما.
الطائفة الرابعة: ما يدلّ على تكرّرها في غير العمد، وعدم التكرّر في العمد، كمرسل ابن أبي عمير - الذي هو كالصحيح - عن الإمام الصادق عليه السلام:3.
ص: 199
«إذا أصاب المُحرِم الصيد خطأً فعليه كفّارة، فإنْ أصابه ثانيةً خطأً فعليه الكفّارة أبداً إذا كان خطأ، فإنْ أصابه متعمّداً كان عليه الكفّارة، فإنْ أصابه ثانيةً متعمّداً فهو ممّن ينتقم اللّه منه، والنقمة في الآخرة، ولم يكن عليه الكفّارة»(1).
ونحوه غيره.
أقول: ولا يبعد دعوى اختصاص أكثر الطائفة الثالثة بالعامد، لظهور قوله عليه السلام:
(فينتقم اللّه منه) لحال العمد.
وكيف كان، فقد يقال: إنّه يُجمع بين النصوص بحمل الطائفة الرابعة على إرادة أنّه ليس عليه الجزاء وحده، بل ويعاقب، وكذا أخبار الطائفة الثالثة، فتكون النتيجة ثبوت الكفّارة في كلّ صيد.
وفيه: أنّ شيئاً من النصوص المتقدّمة لا يصلح لذلك، سيّما مرسل ابن أبي عمير، مع أنّه جمعٌ لا شاهد له.
والأولى أنْ يقال: إنّه بالطائفة الرابعة نقيّد إطلاق الطائفة الأُولى وتُحمل على غير العامد، وكذا الطائفة الثالثة إنْ قلنا بشمولها لغير العامد أيضاً فتختصّ بالعامد.
وأمّا الطائفة الثانية فهي في بيان حكم العامد في المرّة الأُولى ، ومع الإغماض عن ذلك، فغايته الإطلاق، فتقيّد بالطائفة الرابعة.
وإنْ أبيتَ إلّاعن التعارض بين النصوص، وأنّه لا يمكن الجمع بينها بوجه، فتتعارض والمرجع إلى المرجّحات، والترجيح مع نصوص نفي الكفّارة عن العامد، لكونها موافقة للكتاب - لأنّ اللّه تعالى حكم أوّلاً بالجزاء وبالانتقام لمن عاد، فيفهم منه أنّ الأوّل ليس لمن عاد، بل هو حكم البادي، وحيث أنّ التفصيل قاطعٌ 2.
ص: 200
للشركة، فتدلّ الآية على انتفاء غير الانتقام - ومخالفة لأكثر العامّة(1).
فتحصّل ممّا ذكرناه: أنّ الأظهر عدم تكرّر الكفّارة في العمد، كما ظهر بطلان الاستدلال للقول الآخر بالنصوص، وكذا بطلان الاستدلال له بالآية، وأيضاً ثبت أنّه لا يصحّ الاستدلال له بما دلّ على عدم الفرق بين العمد والخطاء.
وقد استدلّ له: - مضافاً إلى الوجوه الثلاثة التي عرفت ما فيها:
1 - بأصالة الاحتياط.
2 - وبإطلاقات الكفّارة.
3 - وبأنّه حينئذٍ يلزم من القول بعدم التكرّر أنْ يكون من قَتَل جرادة ثمّ نعامة عليه كفّارة الجرادة دون النعامة، وهو لا يناسب الحِكمة.
4 - وبأنّه يلزم أنْ يكون ذنب من يقتل جرادة أو زنبوراً عقيب نعامة أعظم من قتله النعامة(2)، وليس كذلك، إذ هو كما ترى لا يوافق أُصول الإماميّة.
ولكن الأوّل يخرج عنه بالنصوص، وإطلاقات الكفّارة تقيّد بها، وأمّا باقي الوجوه فهي اجتهادات في مقابل النص، وعليه فالأظهر عدم التكرّر.
أقول: وينبغي التنبيه على أُمور:
الأمر الأوّل: أنّ هذا الحكم مختصٌّ بالمُحرم، ولا يشمل المُحلّ في الحرم، كما صرّح به الشهيد الثاني(3) وغيره(4)، ففيه المرجع إلى ما يقتضيه إطلاقات الكفّارة4.
ص: 201
والأصل من التكرّر.
ودعوى: أنّ المراد من المُحرِم في الأخبار، يشمل من في الحرم، لا وجه لها.
الأمر الثاني: أنّ الأخبار مختصّة بالإحرام الواحد، ولا تشمل الإحرامين، من غير فرقٍ بين ارتباط أحدهما بالآخر - كإحرام عمرة التمتّع وحجّه - وبين عدم الارتباط، وسواءٌ تقارب زمان التكرار بينهما أم تباعد، أو تخلّل التكفير بينهما أم لم يتخلّل، ففي غير المتيقّن يكون المرجع إلى ما يقتضية القواعد.
ودعوى: أنّ المرتبطين بمنزلة إحرام واحد، مع أنّه لا دليل على اعتبار وحدة الإحرام إلّاالإجماع، والمتيقّن منه غير الفرض.
مندفعة: بأنّه إنْ دلّ دليل تعبّدي على أنّهما بمنزلة إحرام واحد، لقلنا بأنّ مقتضى إطلاق دليل التنزيل ترتّب أحكام إحرام واحد عليهما، ومنها هذا الحكم، ولكنّه ليس كذلك، بل إنّما هو تنزيلٌ عرفي مسامحي لا عبرة به في الأحكام، ودليل الاعتبار ليس هو الإجماع، بل ظهور النصوص.
الأمر الثالث: نسب صاحب «كنز العرفان» إلى الشيخ في «النهاية» وابن البرّاج، أنّه كما لا كفّارة في العمد عقيب العمد، كذلك لا كفّارة في العمد عقيب الخطأ، وفي نسبة ذلك إلى الشيخ نظر(1).
وكيف كان، فلا وجه له، فإنّ مرسل ابن أبي عُمير الذي هو العمدة في هذا القول مصرّحٌ بالعمد عقيب العمد، فتبقي بقيّة الصور تحت ما دلّ على لزوم التكرير مطلقاً.
***ج.
ص: 202
الثالثة: لو إضطر إلى أكل الصيد والميتة، أكلَ الصيد وفداه مع المكنة، وإلّا أكل الميتة،
المسألة (الثالثة: لو اضطرّ إلى أكل الصيد والميتة) ففيه أقوال:
القول الأوّل: الأكل من الصيد والفداء، وإنْ لم يتمكّن من الفداء يرجع إلى القواعد المقرّرة والأبدال المعيّنة إنْ كان لها أبدال، وهو المنسوب إلى المفيد(1)وسلّار(2) والصدوق(3) في «المقنع».
القول الثاني: ما هو مختار المصنّف في المتن، بقوله: (أكل الصيد وفداه مع المُكنة، وإلّا أكل الميتة) وهو المحكيّ عن «القواعد»(4) و «النهاية»(5) و «المهذّب»(6)، إلّاأنّ فيها: (جاز له أكل الميتة).
كما أنّ في بعضها: (إنْ تمكّن الفداء حال الأكل).
وفي آخر: (أو ولو مع الرجوع إلى ماله).
القول الثالث: التخيّير بينهما، وهو المنقول عن الصدوق في «الفقيه»(7)، قال بعد الحكم بالتخيّير: (إلّا أنّ أبا الحسن الثاني عليه السلام قال: «يَذبحُ الصيد ويأكله أحبّ إليّ من الميتة»، وعن ابن سعيد(8) موافقته).7.
ص: 203
القول الرابع: ما عن أطعمة «الخلاف»(1) و «المبسوط»(2) و «السرائر»(3)، من التفصيل:
بين ما إذا وجد صيداً مذبوحاً ذبحه المُحِلّ في حِلّ فيأكله ويفديه.
وبين أن يفتقر إلى ذبحه وهو مُحرِم، أو يجد مذبوحاً ذبحه مُحرِمٌ أو ذبح في الحرم فيأكل الميتة.
القول الخامس: ترجيح الميتة مطلقاً، وهو الذي حكاه ابن إدريس(4).
أقول: قد تقدّم في مسألة حرمة الصيد على المُحرِم نقل الروايات، وما في وجه الجمع بينها، والمختار عندنا، فراجعها(3).
***د.
ص: 204
الرابعة: فداء الصيد المملوك لصاحبه
المسألة (الرابعة: فداءُ الصّيد المملوك لصاحبه) كما في المتن(1) و «الشرائع»(2)، وعن «النافع»(3) و «الإرشاد»(4) وغيرهما، بل عن «المسالك»(5): (هكذا أطلق الأكثر).
وأورد على هذا القول الشهيد الثاني قدس سره اثنى عشر إشكالاً، ولا بأس بنقل كلامه بطوله لما فيه من فوائد:
قال رحمه الله: (والمفهوم من الفداء ما يلزم المُحرِم بسبب الجناية عن الصيد من مالٍ أو صوم أو إرسال، وهو شاملٌ أيضاً لما إذا زاد عن قيمة الصيد المملوك أو نقص، ولما إذا كانت الجناية غير موجبة لضمان الأموال، كالدلالة على الصيد مع المباشرة، ولما كان للمالك فيه نفع وغيره والإرسال والصوم، ولما إذا كانت الجناية من المُحرِم في الحِلّ وفي الحرم، أو من المُحِلّ في الحرم، فيشمل ما يجتمع فيه القيمة والجزاء، ومقتضاه أنّه لا يجب للّه تعالى سوى ما يجبُ للمالك، مع أنّ القواعد المستقرّة تقتضي ضمان الأموال بالمثل أو القيمة كيف كان، وقد يقتضي الحال في هذه
ص: 205
المسألة ضمان ما هو أزيد من ذلك، كما إذا زاد الجزاء عن القيمة، أو اجتمع عليه الأمران، وقد يقتضي ضمان ما هو أقلّ ، بل ما لا ينتفع به المالك، فلا يكون الإحرام موجباً للتغليظ زيادة عن الإحلال.
فيتحصّل في هذه المسألة مخالفة في أُمور:
منها: لزوم البدنة عوضاً عن النعامة، مع أنّها قيمتها، والواجبُ على غاصبها المتلف ضمان قيمتها، وهي قد تكون أزيد من البدنة، وقد تكون أقلّ .
ومنها: فضّ ثمنها على البِرّ وإعطائه للمالك، على الوجه الذي سمعته في فضّه على المساكين.
ومنها: أنّ الصيام مع العجز عنه يقتضي ضياع حقّ المالك المالي، مع أنّ الصوم من جملة الفداء الشرعي، وإيجابه للّه تعالى، وبقاء ضمان الصيد للمالك خروجٌ عن القاعدة المذكورة.
ومنها: لو كان المُتلف بيضاً موجباً للإرسال، فأرسل الجاني ولم ينتج شيئاً يلزم ضياع حقّ المالك، وإنْ أوجبنا القيمة هنا ونفينا الإرسال، لزم الخروج عن النص المعلوم، ولو عجز عن الإرسال فالكلام في الصوم بدله كما مرّ.
ومنها: لو كان المُحرِم مثلاً دالّاً، ضمن أيضاً مع المباشر.
ومنها: اجتماع الفداء من المباشر المتعدّد والسبب حينئذٍ كذلك، وإعطاؤه للمالك، وربما يزيد على ماله أضعافاً مضاعفة.
ومنها: الضمان لو كان المملوك حماماً في الحَرَم كالقُماري، فنفره ثمّ عاد إلى المالك.
إلى غير ذلك من المخالفات للأصل المتّفق عليه، من غير موجبٍ يقتضي المصير إليه.
ص: 206
وقد ذهب جمع من المحقّقين - منهم العلّامة في «التذكرة»(1) و «التحرير»(2)، والشهيد في «الدروس»(3)، والمحقّق الشيخ علي(4) إلى أنّ فداء المملوك للّه تعالى، وعليه القيمة لمالكه، وهذا هو القوى، لأنّه قد اجتمع في الصيد المملوك حقّان للّه تعالى باعتبار الإحرام والحرم، وللآدمي باعتبار الملك، والأصل عدم التداخل، فحينئذٍ يُنزّل الجاني منزلة الغاصب والقابض بالسّوم، ففي كلّ موضعٍ يلزمه الضمان يلزمه هنا كيفيّةً وكميّةً ، فيضمن القيمي بقيمته والمثلي بمثله، ومثله الأرش في موضعٍ يوجبه للممالك، ويجبُ عليه ما نصّ الشارع عليه هنا للّه تعالى، ولو كان دالّاً ضمن الفداء للّه تعالى خاصّة)(5)، انتهى ملخّصاً.
وتبعه على ذلك كلّه غير واحدٍ ممّن تأخّر عنه(6).
بل ذهب إلى ما اختاره جمعٌ ممّن تقدّم عليه غير من ذُكر، كالشيخ في محكي «الخلاف»(7) و «المبسوط»(8) والمصنّف في «المنتهى»، بل ظاهر «المنتهى» دعوى الاتّفاق عليه(9).
أقول: وهو الحقّ ، إذ في المقام طائفتان من الأدلّة:).
ص: 207
وغير المملوك يتصدّق به،
الطائفة الاُولى: دالّة على أنّ المُحرِم إذا جنى يجبُ عليه الفداء، وفي جملةٍ من النصوص التصريح بأنّه يتصدّق به على المساكين:
صحيح الحلبي في فداء الصيد.
وصحيح علي في من أخرج طيراً من مكّة.
وصحيح الحذّاء في من لم يجد الجزاء الآتية وغيرها.
أمّا الأبدال فأكثر نصوصها كذلك.
الطائفة الثانية: ما دلّ على ضمان المتلف ما أتلفه فالمثل أو القيمة.
ولا تعارض بينهما، فيجبُ العمل بهما جميعاً.
ودعوى: (أنّ نصوص الفداء بالإطلاق تدلّ على عدم لزوم شيء آخر غيره، وإنْ كان الصيد مملوكاً، ودليل ضمان المال لصاحبه بالإطلاق يدلّ على أنّ عليه المثل أو القيمة خاصّة، وإنْ كان المتلف مُحرِماً أو في الحرم فيتعارضان، والنسبة عموم من وجه) كما عن بعض المحقّقين.
غريبة: فإنّه لا مفهوم لشيء من الأدلّة كي يدلّ به على عدم وجوب شيء آخر، والمنطوق من كلّ منهما لا يعارض الآخر.
وعليه، فالأظهر هو القول بأنّه إذا كان الصيد مملوكاً، وجب عليه أمران:
الفداء يصرفه فيما عُيِّن له، والعِوض للمالك المثل أو القيمة.
أقول: هذا كلّه في الصيد المملوك.
(و) أمّا فداءالصيد (غير المملوك) ف (يتصدّق به) بلاخلافٍ ولاكلام، ويشهدبه
ص: 208
وحمام الحرم يشتري بقيمته علف لحمامه.
جملة من النصوص:
منها: صحيح زرارة المتقدّم، عن الإمام الباقر عليه السلام:
«إذا أصاب المُحرِم حمامة من حمام الحرم... - إلى أن يبلغ الظبي، فيقول -:
فعليه دمٌ يهريقه، ويتصدّق بمثل ثمنه، وإنْ أصاب منه وهو حلال، فعليه أن يتصدّق بمثل ثمنه»(1).
ومنها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن فداء الصيد يأكل صاحبه من لحمه ؟ قال عليه السلام: يأكل من اُضحيته ويتصدّق بالفداء»(2).
ومنها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام: «فيمن أخرج طيراً من مكّة فمات، فعليه ثمنها يتصدّق به»(3) ونحوها غيرها.
نعم، تضمّن بعض النصوص ما ورد في المتن من قوله رحمه الله: (وحمام الحَرم يُشترى بقيمته علف لحمامه)، كخبر صفوان بن يحيى ، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام:
«من أصاب طيراً في الحرم وهو مُحِلّ ، فعليه القيمة، والقيمة درهم يَشتري به علفاً لحمام الحرم»(4) ونحوه غيره.
وفي بعضها: «أنّه يتصدّق بها» كصحيح علي المتقدّم.1.
ص: 209
والجمع يقتضي البناء على التخيّير، كما صرّح به في صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إنْ قتل المُحرِم حماماً في الحرم، فعليه شاة، وقيمة الحمامة درهم أو شبهه يتصدّق به، أو يُطعمه حمام مكّة»(1) الحديث.
***2.
ص: 210
الخامسة: ما يلزمه في إحرام الحَجّ ، ينحره أو يذبحه بمنى،
المسألة (الخامسة: ما يلزمه في إحرام الحَجّ ينحره أو يذبحه بمنى) كما صرّح بذلك - إمّا مطلقاً أو في خصوص الصيد - في كثيرٍ من الكتب، كالخلاف(1)و «المبسوط»(2) و «النهاية»(3) و «فقه القرآن» للراوندي(4)، و «الفقيه»(5) و «المقنع»(5)، و «المراسم»(6)، و «الإصباح»(8)، و «إشارة السبق»(7)، و «الغُنية»،(8) و «جُمل
العلم والعمل»(9)، و «المقنعة»،(10) و «الكافي»(11)، و «المهذّب»،(12) و «الوسيلة»(13)و «الجامع»(14)، و «روض الجنان»(15) و «السرائر»(16)، و «الشرائع»(17)،
ص: 211
و «النافع»(1)، و «القواعد»(2)، و «الإرشاد»(3) على ما حكي عن جملة منها، بل بلا خلافٍ كما عن غير واحدٍ(4)، وعن «المدارك»: (أنّ هذا مذهب الأصحاب لا أعلم فيه مخالفاً)(5).
ويشهد به: جملةٌ من النصوص، وهي ما بين مطلق ومختصّ بالصيد.
فمن الأوّل:
1 - الخبر المرويّ في إرشاد المفيد، عن الريان بن شبيب، عن مولاناالجواد عليه السلام:
«إذا أصاب المُحرِم ما يجبُ عليه الهدي فيه، وكان إحرامه بالحجّ نحره بمنى، وإنْ كان إحرامه بالعُمرة نحره بمكّة»(6).
2 - وخبر محمّد بن عون الضّبي، عن أبي جعفر عليه السلام - المروي مسنداً في محكي «تفسير القمّي»(7)، ومرسلاً عن «تحف العقول»(8) -:
«المُحرِم بالحجّ ينحر الفداء بمنى، والمُحرِم بالعمرة ينحر الفداء بمكّة»(9).
ومن الثاني:
1 - صحيح عبد اللّه بن سنان، عن الإمام الصادق عليه السلام:8.
ص: 212
«من وجب عليه فداء صيدٍ أصابه وهو مُحرِم، فإنْ كان حاجّاً نحر هديه الذي يجبُ عليه بمنى، وإنْ كان معتمراً نحره بمكّة قبالة الكعبة»(1).
2 - وموثّق زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «المُحرِم إذا أصاب صيداً فوجب عليه الفداء، فعليه أن ينحره إنْ كان في الحَجّ بمنى، فإنْ كان في عُمرة نَحره بمكّة، وإنْ شاء تركه إلى أن يقدم ويشتريه فإنّه يُجزي عنه»(2). ونحوهما غيرهما.
والمراد بالإجزاء عدم وجوب شراء الفداء من حيث صاده، الذي ورد النص بالأمر به.
وذهب الحلبيّان إلى وجوبه.
وعن المحقّق الأردبيلي قدس سره: جواز أن يفدي فداء الصيد في موضع الإصابة، وإنْ كان الأفضل التأخير(3)، واستدلّ له:
1 - بمرسل المفيد، قال عليه السلام: «المُحرِم يفدي(4) فداء الصيد من حيث صاده»(5).
2 - وصحيح معاوية بن عمّار، قال: «يُفدي المُحرِم فداء الصيد من حيث أصابه»(6).
3 - وصحيح أبي عُبيدة، عن الإمام الصادق عليه السلام: «إذا أصاب المُحرِم الصيد، ولم يجد ما يُكفِّر من موضعه الذي أصاب فيه الصيد، قوّم جزاءه من النعم4.
ص: 213
دراهم، الحديث»(1).
أقول: لكن هذه النصوص لا تصلح للمقاومة في مقابل النصوص المتقدّمة المعمول بها، فالمتعيّن حملها على غير ظاهرها، بإرادة الشراء من قوله عليه السلام: (حيث أصابه) في المرسل وصحيح معاوية، وتقويم الجزاء بعد صدق عدم الوجدان لا ذبح الهدي في ذلك المكان.
ثمّ إنّه حيث تكون أكثر النصوص في الصيد، وما هو عامٌ لغيره غير نقي السند، فقد يقال بعدم وجوب أنْ يكون ذبح فداء غير الصيد بمنى، بل المرسل الذي رواه أحمد، عن الإمام الصادق عليه السلام: «من وجب عليه هَديٌ في إحرامه، فله أن ينحره حيث شاء، إلّافداء الصيد، الحديث»(2).
يدلّ على عدم لزوم كونه بمنى.
وأُورد عليه: بأنّ النصوص المتقدّمة ضعفها منجبرٌ بالعمل، والمرسل ضعيف لإرساله، مع أنّه قد ورد في التظليل صحيحٌ دالّ على أنّه يجب عليه ذبح كفّارته بمنى - وسيأتي - وبضميمة عدم القول بالفصل يتمّ في غيره أيضاً.
ويرده: أنّ استناد الأصحاب إلى النصوص المتقدّمة بنحوٍ ينجبر ضعف اسنادها غير ثابت، فالمتعيّن هو الرجوع إلى إطلاق أدلّة الكفّارات لو كان، وإلّا فإلى أصالة البراءة، ومقتضى كلّ منهما هو التخيّير في الذبح في أيّ مكان أراد، وما ورد في التظليل بضميمة عدم القول بالفصل بينه وبين غيره يُحمل على الاستحباب.
وعليه، فالأظهر أنّ المكلّف مخيّرٌ في الذبح بين الأمكنة، فله أن يؤخّره إلى أن8.
ص: 214
وإنْ كان معتمراً فبمكّة،
يرجع إلى بلده، ولكن الاحتياط بعدم التأخير في التظليل لا يُترك.
أقول: هذا كلّه في الحاجّ .
(و) أمّا (إنْ كان) الصائد (مُعتمراً فبمكّة)، كما عن «النافع»(1)، و «القواعد»(2)، و «الخلاف»(3)، و «المراسم»(4)، و «الإشارة»(5)، و «الفقيه»(6)، و «المقنع»(7)، و «الغُنية»(8) وغيرها.
وعن «النهاية»(9)، و «المبسوط»(10)، و «الوسيلة»(11)، و «الجامع»(12)، و «روض الجنان»(13) التصريح بأنّه يجوز للمعتمر أن يذبح غير كفّارة الصيد بمنى.
وعن «السرائر»(14) و «الوسيلة»(15) و «فقه القرآن» للراوندي:(16) أنّه يجب9.
ص: 215
ذبحه في العُمرة المتمتّع بها بمنى.
وعن والد الصدوق:(1) تجويز ذبح فداء الصّيد في عُمرة التمتّع بمنى.
واستدلّ للأوّل: بالنصوص المتقدّمة.
وفيه: أنّه يتمّ في فداء الصيد، ولا يتمّ في غيره، لضعف سند ما في غيره كما مرّ.
واستدلّ للثاني:
1 - بمرسل أحمد المتقدّم.
2 - وبصحيح منصور، عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن كفّارة العُمرة المفردة، أين تكون ؟ فقال عليه السلام: بمكّة، إلّاأن يشاء صاحبها أن يؤخّرها إلى منى، ويجعلها بمكّة أحبّ إليّ وأفضل»(2).
3 - وبصحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن كفّارة المعتمر، أين تكون ؟ قال عليه السلام: بمكّة، إلّاأن يؤخّرها إلى الحَجّ فتكون بمنى، وتعجيلها أفضل وأحبّ إليّ »(3).
وفيه: إنّ المرسل ضعيف، وصحيح منصور مختصٌّ بالعمرة المفردة، فهو أخصّ من ما دلّ على أنّ كفّارة الصيد في العُمرة مطلقاً بمكّة، وأعمّ منه من جهة شموله للصيد وغيره، فيقع التعارض بينهما في خصوص كفّارة الصيد في العُمرة المفردة، ولكن حيث أنّه يمكن الجمع العرفي بينهما، لظهور نصوص الصيد في لزوم كونه بمكّة، وصراحة الصحيح في جواز التأخير إلى منى، فتكون النتيجة جواز التأخير9.
ص: 216
إلى منى مطلقاً، ففي العُمرة المفردة لابدّ وأنْ يكون ذبح الكفّارة إمّا بمكّة أو بمنى، والأوّل أفضل.
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّه ليس جمعاً عرفيّاً، فيتعيّن تقديم نصوص الصيد للشهرة، وعليه فالأحوط لزوماً الذبح بمكّة.
وأمّا صحيح معاوية المختصّ بعمرة التمتّع، فبقرينة قوله عليه السلام: (أن يؤخّرها إلى الحَجّ ) فنسبته مع نصوص فداء الصيد أيضاً هي العموم من وجه، والجمع العرفي بينهما يقتضي البناء على جواز التأخير فيها إلى منى، فتأمّل.
وفي غير فداء الصيد لا معارض له، ولكن من جهة عدم إفتاء الأكثر بتعيّن كون الذبح فيه بمكّة أو بمنى على نحو التخيّير بينهما، يتوقّف في الإفتاء، والأحوط لزوماً ذلك.
فالمتحصّل من الجمع بين النصوص: أنّ الأحوط لزوماً في كفّارة الصيد هو الذبح بمكّة، وأمّا في غيره:
ففى العُمرة المفردة هو بالخيار بين أن يذبحه أو ينحره بمكّة أو بمني ، والأوّل أفضل.
وفي عمرة التمتّع، الأحوط عدم التأخير عن منى، والذبح بمكّة أفضل.
وأمّا القول الثالث: فلا يحضرني الآن ما يمكن أن يستدلّ به له، سوى ما دلّ بالعموم على أنّه (لا ذبح إلّابمنى):
منها: خبر عبد الأعلى ، قال أبو عبد اللّه عليه السلام: «لا هدي إلّامن الإبل، ولا ذبح إلّا بمنى»(1).1.
ص: 217
ومنها: خبر الكرخي، عنه عليه السلام: «إنْ كان هدياً واجباً فلا ينحره إلّابمنى»(1).
ونحوهما غيرهما.
ولكنّه يجب تخصيصها بما تقدّم.
أقول: وبما ذكرناه ظهر مدرك القول الرابع.
ومقتضي إطلاق صحيحي منصور ومعاوية أنّ صدقات الكفّارة الواجبة محلّها مكّة أو منى، وجعلها بمكّة أفضل إنْ كانت الجناية في العُمرة، وأمّا إنْ كانت في الحَجّ فعن الشهيد رحمه الله أنّ محلّها مكّة(2)، ومقتضى صحيح حريز، عن مولانا الصادق عليه السلام: «فإنْ وطيء المُحرِم بيضةً وكسرها فعليه درهم، كلّ هذا يتصدّق به بمكّة ومنى»(3) هو التخيّير بين مكّة ومنى، وعمومه شاملٌ لغير مورده.
وأمّا ما عن «المنتهى»: (من أنّ الصدقة مصرفها مساكين الحرم)(4):
فإنْ أراد به الحاضرين فيه، فيرجع إلى ما اخترناه.
وإنْ أراد المتوطّنين، فلا دليل عليه.
وهل يعتبر الإيمان فيهم كما عن المصنّف(5)، أم لا كما عن سيّد «المدارك»(6)؟ الظاهر هو العدم، لإطلاق النصوص.
وأمّا الجنايات الحرميّة: فلم يرد فيها نصٌ يدلّ على تعيين مكان لصرف4.
ص: 218
في الموضع المعروف بالحَزْوَرة،
كفّاراتها، فالجاني مخيّرٌ في صرفها في أيّ محلٍّ شاء، إلّاأنّ الأحوط اختيار مساكين الحرم، سواءٌ المواطنين فيه وغيرهم.
وأمّا الصوم في الجنايات، فلم يدلّ دليل على اختصاصه بمكان، وقد قيل: (لا خلاف نعلمه في أنّه لا يختصّ بمكان دون غيره)(1).
أقول: بقي في المقام شيء، وهو أنّ ظاهر الأخبار المتقدّمة أنّ مكّة كلّها منحر، ولكن ظاهر الكتاب تعيّن أنْ يكون الذبح (في الموضع المعروف بالحَزْورة) - بالحاء المهملة التي هي علي وزن قَسورة - وفي الصحيح: «من ساق هَدياً وهو معتمرٌ، نحرَ هديه في المنحر، وهو بين الصفا والمروة، وهي بالحزورة»(2).
إلّا أنّ ظاهر الأصحاب عدم لزوم ذلك، وأنّه يجوز في كلّ مكانٍ من مكّة، ويشهد به - مضافاً إلى إطلاق أخبار الباب - خبر عُبّاد البصري، جاء إلى أبي عبداللّه عليه السلام وقد دخل مكّة بعمرة مبتولة، وأهدى هدياً، فأمر به فنحر في منزله بمكّة.
«فقال له عبّاد: نَحَرت الهَدي في منزلك، وتركت أن تنحره بفناء الكعبة، وأنتَ رجلٌ يؤخذ منك ؟
فقال له: ألم تعلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله نَحر هديه بمنى في المنحر، وأمر الناس فنحروا في منازلهم، وكان ذلك موسّعاً عليهم، فكذلك هو موسّع على من ينحر9.
ص: 219
الهدي بمكّة في منزله إذا كان معتمراً»(1) والذي يمكن أنْ يكون مدركاً لفتوى المصنّف رحمه الله.
أمّا الصحيح المتقدّم بضميمة قوله عليه السلام: (إنّ الفداء بحكمه) كما مرّ، مضافاً إلى ما في مرسل أحمد المتقدّم: «مَنْ وجب عليه هَديٌ في إحرامه فله أن ينحره حيث شاء إلّا فداء الصيد، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول: (هَدْياً بالِغَ اَلْكَعْبَةِ (2)) »(3)، أو النصوص الآمرة بنحره بمكّة قبالة الكعبة، كصحيح ابن سنان(4)، فإنّ شيئاً من ذلك لا يصلح للتعيّين بعد صراحة خبر البصري، وعليه فالأولى حملها على الفضل.
***6.
ص: 220
السادسة: حَدّ الحرم: بريدٌ في بريد، من أصاب فيه صيداً ضمنه،
المسألة (السادسة: حَدّ الحرم) وهو ما أحاط بمكّة من جميع جوانبها، وحكى صاحب الجواهر عن السيّد القاسي: (أنّ له علامات مبنيّة، وهي الأنصاب من جميع جوانبه، خلا جهة جدّة وجهة الجِعرانة، فإنّه ليس فيهما أنصاب، وأوّل من وضع الأنصاب على حدود الحرم إبراهيم خليل اللّه عليه السلام بدلالة جبرئيل، ثمّ قُصيّ بن كلاب - وقيل ثمّ إسماعيل كما قيل عدنان - وقَلَعها قريش ثمّ وضعوها لمنامٍ رآه رجال منهم، ثمّ بعثَ رسول اللّه صلى الله عليه و آله عام الفتح تميم بن اُسيد فجددها، ثمّ بعثَ عمر لتجديدها مخزومة بن نوفل وسعيد بن يربوع وخُوَيطب بن عبد العُزّى، وأزهر بن عبد مناف فجدّدوها، ثمّ جَدّدها عثمان، ثمّ جدّدها معاوية، ثمّ الخلفاء والملوك إلى عهدنا هذا)(1).
وهو (بريدٌ في بريد)، والبريد أربعة فراسخ، بلا خلافٍ فيه بين المسلمين على الظاهر، كما عن غير واحدٍ(2)، والنصوص شاهدة به، راجع ما تقدّم نقله في شجرة الحرم.
(مَنْ أصاب فيه صيداً ضَمِنه) وقد تقدّم تفصيل ذلك، كما تقدّم ضمن المسائل المتقدّمة جملة من أحكام الحرم، وبقي منها شيءٌ وهو:
ص: 221
أنّه ذهب جماعة منهم الشيخان(1) وابن حمزة(2) إلى وجوب القيمة لو اصطاد بين البريد والحرم، أي مِنْ أوّل الحرم إلى منتهى البريد، وهو أربعة فراسخ خارج الحرم، ويُسمّى حرم الحرم، واستدلّوا له:
بصحيح الحلبي، عن مولانا الصادق عليه السلام: «إذا كنتَ مُحِلّاً في الحِلّ ، فقتلت صيداً فيما بينك وبين البريد إلى الحرم، فإنّ عليك جزائه، فإنْ فقأت عينيه أو كسرت قرنه تصدّقت بصدقة»(3).
أقول: ولكن يتعيّن حمله على الندب، بقرينة صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج، عنه عليه السلام: «عن رجلٍ رمى صيداً في الحِلّ وهو يؤمّ الحرم فيما بين البريد والمسجد، فأصابه في الحِلّ ، فمضى برميه حتّى دخل الحرم فمات من رميته، هل عليه جزاء؟
فقال عليه السلام: ليس عليه جزاء، إنّما مَثَلُ ذلك مثل من نَصب شِركاً في الحِلّ إلى جانب الحرم، فوقع فيه صيد، فاضطرب حتّى دخل الحرم فمات، فليس عليه جزائه، لأنّه نصب حين نصب وهو له حلال، ورَمى حيثُ رمى وهو له حلال، فليس عليه فيما كان له بعد ذلك شيء، الحديث»(4).
***9.
ص: 222
الفصل الثاني: في بقيّة المحظورات، وفيه مسائل:
الأُولى: من جامع إمرأته قبل أحد الموقفين، قُبلاً أو دُبراً، عامداً عالماً بالتحريم، بَطل حجّه، وعليه إتمامه، والقضاء من قابل وبدنة، سواءٌ كان الحَجّ فرضاً أو نفلاً، وعليها مثل ذلك إنْ طاوعته، وعليهما الإفتراق، وهو أن لا ينفردا بالاجتماع إنْ حجّا في القابل من موضع المعصية إلى أن يفرغا من المناسك، ولو أكرهها صَحّ حجّها، ويتحمّل عنها الكفّارة.
(الفصل الثاني: في بقيّة المحظورات، وفيه مسائل):
المسألة (الأُولى : مَن جامع امرأته قبل أحد الموقفين) بعد إحرام الحَجّ (قُبلاً أو دُبراً، عامداً عالماً بالتحريم، بطل حجّه، وعليه إتمامه، والقضاء من قابل وبدنة، سواءٌ كان الحَجّ فرضاً أو نفلاً، وعليها مثل ذلك إنْ طاوعته، وعليهما الافتراق، وهو أن لا ينفردا بالاجتماع إنْ حجّا في القابل من موضع المعصية إلى أنْ يفرغا من المناسك، ولو أكرهها صحَّ حَجّها، ويتحمّل عنها الكفّارة).
أقول: صرّح بجميع ذلك غير واحدٍ من الأساطين، وجملة من هذه الأحكام إجماعيّة، وجملة مشهورة، وستعرف نخبة القول في كلّ واحدٍ منها، ولننقل أوّلاً نصوص الباب، ثمّ نعقّبه بما يستفاد منها في هذه الأحكام:
منها: صحيح معاوية بن عمّار، قال: «سألتُ أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل مُحرِمٍ وقع على أهله ؟ فقال: إنْ كان جاهلاً فليس عليه شيء، وإنْ لم يكن جاهلاً فإنّ عليه أن
ص: 223
يسوق بدنة، ويفرّق بينهما حتّى يقضيا المناسك ويرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا، وعليه الحَجّ من قابل»(1).
ومنها: صحيح زرارة، قال: «سألته عن مُحرم غَشي امرأته وهي مُحرمة، قال:
جاهلين أو عالمين ؟ قلت: أجبني في الوجهين جميعاً.
قال: عليه السلام إنْ كانا جاهلين استغفرا ربّهما، ومضيا على حجّهما، وليس عليهما شيء، وإنْ كانا عالمين، فرّق بينهما من المكان الذي أحدثا فيه، وعليهما بدنة، وعليهما الحَجّ من قابل، فإذا بلغا المكان الذي أحدثا فيه فرّق بينهما حتّى يقضيا نسكهما، ويرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا.
قلت: فأيّ الحجّتين لهما؟ قال عليه السلام: الأُولى التي أحدثا فيها ما أحدثا، والاُخرى عليهما عقوبة»(2).
ومنها: صحيح معاوية، عن مولانا الصادق عليه السلام: «عن رجل وقع على امرأته وهو مُحرم ؟ قال: إنْ كان جاهلاً فليس عليه شيء، وإنْ لم يكن جاهلاً فعليه سوق بدنة، وعليه الحَجّ من قابل، فإذا انتهى إلى المكان الذي وقع بها، فرّق محملاهما، فلم يجتمعا في خِباء واحدٍ إلّاأنْ يكون معهما غيرهما حتّى يبلغ الهدي محلّه»(3).
ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن مُحرِم وقع على أهله ؟ قال عليه السلام: قد أتي عظيماً.
قلت: أفتني ؟ فقال: استكرهها أو لم يستكرهها؟ قلت: أفتني فيهما جميعاً.0.
ص: 224
قال عليه السلام: إنْ كان استكرهها فعليه بدنتان، وإنْ لم يكن استكرهها فعليه بدنة وعليها بدنة، ويفترقان من المكان الذي كان فيه ما كان حتّى ينتهيا إلى مكّة، وعليهما الحَجّ من قابل لابدّ منه.
قلت: فإذا انتهيا إلى مكّة، فهي امرأته كما كانت ؟ فقال عليه السلام: نعم، هي امرأته كما هي، فإذا انتهيا إلى المكان الذي كان منهما ما كان افترقا حتّى يحلّا، فإذا أحلّا فقد انقضي عنهما، فإنّ أبي كان يقول ذلك...»(1).
ومنها: صحيح جميل، عنه عليه السلام: «عن مُحرمٍ وقع على أهله ؟ قال: عليه بدنة، إلى أنْ قال: قلت: عليه شيء غير هذا؟ قال عليه السلام: عليه الحَجّ من قابل»(2).
ومنها: صحيح سليمان بن خالد، عنه عليه السلام: «عن رجل باشر امرأته وهما محرمان، ما عليهما؟
فقال: إنْ كانت المرأة أعانت بشهوة مع شهوة الرّجل، فعليهما الهدي جميعاً، ويفرّق بينهما حتّى يفرغا من المناسك، وحتّى يرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا، وإنْ كانت المرأة لم تعن بشهوة، واستكرهها صاحبها فليس عليها شيء»(3).
ومنها: صحيح علي بن جعفر، عن أخيه عليه السلام في حديثٍ : «فمن رَفَث فعليه بدنة ينحرها، وإنْ لم يجد فشاة»(4).
إلى غير ذلك من النصوص.2.
ص: 225
أقول: وتنقيح البحث إنّما هو بالبحث في جهات:
الجهة الأُولى: إنّ وجوب البدنة والحَجّ من قابل متّفقٌ عليهما، وعن غير واحدٍ(1) دعوى الإجماع عليهما، والنصوص المتقدّمة دالّة عليهما.
وأمّا وجوب إتمام الحَجّ ، فشيءٌ من النصوص المتقدّمة وغيرها لا يدلّ عليه، إلّا أنّ الظاهر الإجماع عليه(2).
ويمكن أن يستدلّ له: - بناءً على ما سيأتي من عدم فساد الحَجّ - بما دلّ على وجوب إتمام الحَجّ بعد الشروع فيه، وبما دلّ على فوريّة وجوب الحَجّ إنْ كان حَجّة الإسلام، بل وكذا وسائر ما وجب فوراً كالإستيجار والنذر المعيّن وما شاكل.
وأمّا فساد الحَجّ فقد ذكره جماعة، منهم الشيخ في محكي «الخلاف»(3)، والمصنّف في كثير من كتبه(4)، وعن الحِلّي في «السرائر»(5)، بل عن الفاضل المقداد أنّه إجماعي(6)، ولكن عن الشيخ(7) وجماعة(8) أنّ الحجّة الأُولى فرضه، والثانية عقوبة، فإذا انضمّ إلى ذلك تلازم الفساد وعدم الإجزاء، إذ كما أنّ إجزاء المأتي به عن أمره عقليٌ ، كذلك عدم الإجزاء بالنسبة إلى الفساد، مضافاً إلى دعوى الإجماع4.
ص: 226
عليه، يستنتج أنّهم قائلون بعدم الفساد، كما أفاده الشهيد قدس سره في محكي «الدروس»(1)، ونقل مع ذلك منع الفساد صريحاً عن بعض الفضلاء أيضاً(2)، ونقله سيّد «المدارك» وظاهره(3) اختياره.
وعلى ذلك، فإنْ قلنا بأنّ الثانية حجّته الإسلاميّة كان فاسداً، وإنْ قلنا بأنّ الأُولى فرضه والثانية عقوبة لم يكن فاسداً.
ويشهد للثاني: صحيح زرارة المتقدّم.
واستدلّ للأوّل:
1 - بالإجماع المنقول عليه.
2 - وبصحيح سليمان بن خالد، عن مولانا الصادق عليه السلام: «في الجدال شاة، وفي السّباب والفسوق بقرة، والرفث فساد الحَجّ »(4).
3 - وبخبر عبيد بن زرارة، عنه عليه السلام: «فإنْ كان طاف بالبيت طواف الفريضة، فطاف أربعة أشواط ثمّ غمزه بطنه، فخرج فقضى حاجته فغشي أهله ؟ فقال: أفسد حجّه، وعليه بدنة»(5).
4 - وبالرضوي: «والذي يفسد الحَجّ ، ويوجب الحَجّ من قابل الجماع»(6).
ولكن يرد على الأوّل أوّلاً: أنّه لعدم كونه تعبّديّاً على فرض ثبوته2.
ص: 227
لا يكون حجّة.
وثانياً: قد عرفت إفتاء جماعةٍ بعدم الفساد(1).
وثالثاً: أنّ من المحتمل إرادة جمعٍ ممّن قال بالفساد أنّه في حكم الفاسد في وجوب الإعادة.
ويتوجّه على الثاني: أنّه بقرينة صحيح زرارة المصرّح بالصحّة، وأنّ الأولى فرضه، يحمل على إرادة كونه في حكم الفساد من جهة وجوب الإعادة.
ويرد على الثالث: أنّه غير معمول به ظاهراً، فإنّ الحَجّ لا يفسد بالجماع بعد الوقوف بالمشعر إجماعاً نصّاً وفتوى، كما سيمرّ عليك.
ويتوجّه على الرابع: أنّه لم يثبت لنا انتسابه إليه عليه السلام.
وعليه فالأظهر عدم الفساد، وأنّ الأُولى فرضه، والثانية عقوبة.
«المبسوط»(1) و «النهاية»(2) و «السرائر»(3) و «المهذّب»(4) الإستحباب، ويحتمله «الخلاف»(5) أيضاً.
وعن ظاهر «المختلف»(6) التردّد في الوجوب والاستحباب.
ظاهر الأخبار المتقدّمة وغيرها الوجوب.
وأُورد عليه: بأنّها متضمّنة للجملة الخبريّة، فلا يستفاد منها أزيد من الرجحان.
وفيه: أنّ الجملة الخبريّة أظهر في الوجوب من الأمر كما حقّق في محلّه.
وعليه، فالأظهر هو الوجوب.
وأيضاً: هل هذا التفريق هو في كلتا الحجّتين كما عن الصدوقين(7)والإسكافي(8) وابن زُهرة، بل عن الأخير دعوى الإجماع عليه(9)؟
أم في الثانية خاصّة كما في «الشرائع»(10) حيث قال: (وعليهما أن يفترقا - في حَجّ القضاء - إذا بلغا ذلك المكان)، وعن «النافع»(11) و «القواعد»(12)؟ وجهان.9.
ص: 229
الظاهر من خبر ابن أبي حمزة، وصحيح زرارة المتقدّمين وغيرهما وجوبه في الأُولى، وظاهر صحيح معاوية المتقدّم وجوبه في الثانية، وحيث لا تنافي بينهما فيعمل بهما معاً.
وعليه، فالأظهر هو القول الأوّل.
وأيضاً: هل يعتبر في لزوم التفريق في القضاء أن يسلكا ذلك الطريق، وإلّا فلا يجب كما عن الصدوق(1) والشهيد(2) أم لا؟.
الظاهر ذلك، لصحيح عبيد اللّه بن عليّ الحلبي - أو حسنه - عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «قلت: أرأيت من ابتلى بالجماع ما عليه ؟
قال عليه السلام: عليه بدنة، إلى أنْ قال: ويفرّق بينهما حتّى ينفر الناس، ويرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا.
قلت: أرأيت إنْ أخذا في غير ذلك الطريق إلى أرضٍ أُخرى يجتمعان ؟ قال عليه السلام: نعم»(3).
والمراد بالتفريق أنْ لا يخلوا إلّاومعهما ثالث؛ كما عن «النهاية»(4)و «المبسوط»(5) و «السرائر»(6) و «المهذّب»(7) و «القواعد»(8) وغيرها(9)، فيكون).
ص: 230
التفريق كناية عن حصول المانع عن المواقعة، ولو بحضور ثالثٍ يمتنع معه حصولها.
وعليه، فلا عبرة بحضور الزوجة وغير المميّز، ويشهد له جملة من النصوص:
منها: صحيح معاوية المتقدّم الوارد فيه قوله عليه السلام: «فلم يجتمعا في خِباء واحدٍ، إلّا أنْ يكون معهما غيرهما».
ومنها: غير ذلك.
أقول: ثمّ إنّ في غاية الافتراق خلافاً بين الأصحاب، منشأه اختلاف النصوص:
ففي بعضها: إلى بلوغ الهَدي محلّه، كخبر معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «يفرّق بينهما ولا يجتمعان في خِباء إلّاأنْ يكون معهما غيرهما حتّى يبلغ الهَدي محلّه»(1).
وفي بعض آخر: حتّى يحلّا، كخبر علي بن أبي حمزة المتقدّم.
وفي ثالث: حتّى ينتهيا إلى مكّة، كما في صدر خبر علي بن أبي حمزة، في الحجّة الأُولى.
وفي رابع: حتّى يقضيا المناسك، كخبر محمّد بن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام في حديث: «فليجتمعا إذا قضيا المناسك»(2).
وفي خامس: حتّى يرجعا إلى المكان الذي أصابا فيه ما أصابا، كصحيح زرارة وغيره من النصوص المتقدّم بعضها.
قال صاحب «الرياض»: (الذي يقتضيه النظر في الجمع بين هذه الأخبار، حمل تعدّد هذه الغايات على تفاوت مراتب الفضل والاستحباب، فأعلاها الرجوع إلى موضع الخطيئة، وإنْ أحلّا وقضيا المناسك قبله، ثمّ قضاء المناسك، ثمّ بلوغ الهَدي3.
ص: 231
محلّه كما في الصحيحين، وهو كناية عن الإحلال بذبح الهَدي كما وقع التصريح به في بعض الأخبار المتقدّمة، ولكن الاحتياط يقتضي المصير إلى المرتبة الأعلى ، ثمّ الوسطى ، سيّما في الحجّة الأُولى)(1)، انتهى .
وفيه: إنّ التعارض بين النصوص ليس في المنطوق، بل إنّما هو بين منطوق ما تضمّن المرتبة العالية، ومفهوم ما تضمّن المرتبة التي دونها، ومعلوم أنّ النسبة حينئذٍ عموم مطلق، فيقيّد إطلاق المفهوم بالمنطوق، وتكون النتيجة أنّ الغاية هي أعلاها، وهو الرجوع إلى موضع الخطيئة مطلقاً، أعمّ من الأداء والقضاء، ويؤيّد ذلك الجمع بين غايتين من الغايات في جملة من النصوص لاحظها.
إلّا أنّه ربما يُدّعى(2) الإجماع على أنّ الغاية في الحجّة القضائيّة قضاء المناسك لا أزيد، وبه يقيّد النصوص، فيفرّق بين الأداء والقضاء، كما أفتى به أبو عليّ فيما حكي عنه(3)، وكذا ابن زُهرة(4). وأيضاً ادّعى الإجماع على عدم الفرق بين الأداء والقضاء، فلو تمّ الإجماعان صحّ ما أفاده عليّ بن بابويه من وجوب الافتراق في الأداء والقضاء إلى قضاء المناسك(5)، ونفى عنه البُعد في محكي «التذكرة»(6) و «المنتهى»(7).
ولكن حيثُ أنّ شيئاً من الإجماعين لم يتمّ ، فالأظهر كون الغاية الرجوع إلى موضع الخطيئة مطلقاً.).
ص: 232
الجهة الثانية: في بيان موضوع الأحكام:
مقتضى إطلاق النصوص والفتاوي، عدم الفرق بين الوطء في القُبل أو الدّبر، لصدق العناوين المأخوذة في النصوص، من الجماع والوقاع والإتيان والدخول والرفث على كلّ منهما.
واستدلّ للاختصاص بالأوّل:
1 - بالانصراف.
2 - وبصحيح ابن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل مُحرِم وقع على أهله فيما دون الفرج، قال عليه السلام: عليه بدنة، وليس عليه الحَجّ من قابل»(1) بدعوى أنّه ظاهر في غير الدبر.
أقول: ولكن يرد على الأوّل منعه، وعلى الثاني صدق الفرج الذي هو ما بين الرجلين - كما عن «النهاية»(2) و «القاموس»(3) و «المصباح»(4) وغيرها - على الدبر أيضاً.
والظاهر عدم الفرق بين الإنزال وعدمه، لإطلاق النصوص.
وهل يعتبر غيبوبة الحَشَفة، وإلّا كان من الإتيان دون الفرج، أم لا يعتبر، بل
ص: 233
يشمل الدليل ما لو أدخل بعضها؟
أقول: لا يبعد القول بكفاية دخول البعض، لا لإطلاق النصوص جميعها فإنّ ذلك قابلٌ للمناقشة، بل لإطلاق صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المُحرِم يقع على أهله ؟ قال عليه السلام: إنْ كان أفضى إليها فعليه بدنة والحَجّ من قابل، وإنْ لم يكن أفضى إليها فعليه بدنة وليس عليه الحَجّ من قابل»(1)، حيث يصدق الإفضاء إليها بإدخال بعض الحشفة، وتقيّيد ما دلّ على وجوب الغُسل بالدخول، بما دلّ على اعتبار التقاء الختانين، لا يلزم منه التقيّيد في المقام كما هو واضح.
وهل تشمل النصوص وطء الأجنبيّة واللّواط، أم لا؟
أقول: الظاهر ذلك:
لا لما قيل من أنّهما أفحش، فالفساد والعقوبة أولى(2)، إذ لعلّ أفحشيّتهما تمنع من التكفير له، بناءً على أنّ البدنة والحَجّ من قابل تكفير، سيّما بعد أنّ له نظيراً في الباب، فإنّه قد عرفت في الصيد أنّ الجاهل والناسي إذا تكرّر منهما الصيد، تكرّرت الكفّارة، والعامد إنْ تكرّر منه الصيد لا تتكرّر الكفّارة بالإضافة إليه.
ولا لأنّ إتيان الأهل المأخوذ في النصوص مبنيٌّ على الغالب المتعارف، فإنّ إثبات ذلك يتوقّف على دليل مفقود.
بل لأنّ في بعض النصوص المأخوذ هو (الرفث) وهو الجماع، كخبري سليمان ابن خالد ومحمّد بن مسلم(3)، وهو يشملهما، بل ويشمل وطء البهائم أيضاً، وعليه3.
ص: 234
فالأظهر هو الشمول.
وأمّا ما عن الحلبي من (أنّ في اللّواط البدنة خاصّة)(1)، فلا وجه له، إذ لو أشمل الأخبار له، كان اللّازم ثبوت بقيّة الأحكام، وإلّا فلا دليل على ثبوت البدنة أيضاً إذا لم ينزل.
أقول: ولا خلاف في أنّ المرأة المطاوعة، مثل الرّجل في جميع الأحكام المتقدّمة، بل حُكي الإجماع عليه(2).
ويشهد به: كثيرٌ من نصوص الباب المتقدّمة جملة منها، وخصوص خبر خالد الاصم، قال: «حججتُ وجماعة من أصحابنا، وكانت معنا امرأة، فلمّا قدِمنا مكّة جاءنا رجلٌ من أصحابنا، فقال: يا هؤلاء قد بليتُ ، إلى أنْ قال: فقالت المرأة:
اسئلوا لي أبا عبد اللّه عليه السلام فإنّي قد اشتهيتُ؟ فسألناه فقال عليه السلام: عليها بدنة»(3).
فعلى هذا لو أدخلت ذكر زوجها وهو نائم في فرجها عالمة عامدة، ترتّب الأحكام المذكورة عليها.
وفي إدخال ذكر البهيمة الكلام السابق، ولكن الأظهر هنا العدم، لعدم الدليل.
ولا خلاف في أنّ الأحكام المذكورة إنّما هي للعالم العامد، وعليه فلو كان ناسياً أو جاهلاً، فلا شيء عليه.
ص: 235
أمّا الجاهل: فللتصريح بذلك في النصوص.
وأمّا الناسي والسّاهي: فلشمول الجاهل لهما لغةً ، وللإجماع(1) وعدم القول بالفصل، بل ولمفهوم جملةٍ من النصوص، إذ لو يشملهما الجاهل، لا إشكال في شمول غير العالم لهما.
وأمّا المُكرَه: فإنْ كان هي المرأة لا إشكال في أنّه لا شيء عليها، والنصوص المتقدّمة وغيرها شاهدة به، ولكن على زوجها المكرِه إيّاها بدنتين بلا خلافٍ ، بل عليه الإجماع كما ادّعى(2)، ويشهد به جملةٌ من النصوص، منها خبر ابن أبي حمزة، وصحيح معاوية المتقدّمان وغيرهما.
وهل يسري الحكم إلى ما لو أكرهها ثالثٌ على الجماع، بأن يثبت له بدنتان، أم لا؟
الظاهر العدم، لعدم الدليل، واختصاص النصوص بإكراه الزوج لأهله.
وفي خصوص الافتراق بالنسبة إليها كلامٌ :
فإنّ مقتضى إطلاق الأخبار المتقدّمة ثبوت وجوبه.
ومقتضى مفهوم صحيح سليمان بن خالد المتقدّم المتضمّن لنفي الشيء عليها، عدم وجوبه عليها، هكذا قيل.
ولكن الحق أنْ يقال: بثبوته، لا لما اُفيد، بل لصحيح معاوية المتقدّم: (وإنْ كان استكرهها فعليه بدنتان، وعليهما الحَجّ من قابل)، وعليه فلا يحتاج إلى ما في2.
ص: 236
«المستند»(1) من الاستدلال للثبوت بما يشبه الأكل من القفا، وبه يقيّد إطلاق نفي الشيء عليها في الصحيح.
أقول: وكم فرقٌ بين ما أفاده المحقّق النراقي من أنّ (نفي الشيء عليها لا يشمل التفريق المذكور)(2)، وبين ما أفاده سيّد «المدارك»(1) من (أنّ مقتضى إطلاق نفي الشيء عدم وجوب البدنة على الزوج أيضاً)، وكلاهما كما ترى .
وأمّا لو كان المكرَه هو الزوج، أكرهه زوجته أم ثالث:
فالظاهر عدم ثبوت شيء عليه، لما دلّ على حكم المكرهة، بضميمة الإجماع على عدم الفرق بينها وبين المكرَه، وللتصريح في صحيح زرارة المتقدّم بأنّ الثاني عقوبة، ولا عقوبة على المكرَه، ولحديث رفع ما استكرهوا عليه، بناءً على ما هو الحقّ من شموله لجميع الأحكام.
وقد عرفت أنّ ما دلّ على لزوم بدنتين على المكرِه - بالكسر - إنّما هو في الزوج، فلابدّ من الاقتصار على المتيقّن، فلا يثبت ذلك في المقام.
***3.
ص: 237
ولو كان بعد الموقفين، صَحّ الحَجّ ، ووجبت البدنة على كلّ واحدٍ منهما.
هذا كلّه حكم الجماع قبل أحد الموقفين:
(و) أمّا (لو كان) الجماع (بعد الموقفين)، فقد (صَحّ الحَجّ ، ووجب البدنة على كلّ واحدٍ منهما) بلا خلافٍ .
وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)(1).
وفي «الرياض»: (بإجماع العلماء عليه في الجملة)(2) كما في كلام جماعةٍ .
وفي «التذكرة»: (لو جامع بعد الوقوف بالموقفين، لم يفسد حجّه، وعليه بدنة لا غير عند علمائنا)(3).
أقول: ومع ذلك يشهد للحكم الأوّل جملة من النصوص:
منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا وقع الرّجل بامرأته دون مزدلفة، أو قبل أن يأتي مزدلفة، فعليه الحَجّ من قابل»(4).
فإنّ مفهومه عدم وجوبه عليه إذا كان بعده.
ومنها: صحيحه الآخر، عنه عليه السلام: «إذا واقع المُحرِم امرأته قبل أن يأتي
ص: 238
المزدلفة، فعليه الحَجّ من قابل»(1).
ومنها: مرسل الصدوق، قال الصادق عليه السلام في حديثٍ :
«إنْ جامعت وأنتَ مُحرِمٌ قبل أن تقف بالمشعر، فعليك بدنة، والحَجّ من قابل، وإنْ جامعتَ بعد وقوفك بالمشعر، فعليك بدنة، وليس عليك الحَجّ من قابل»(2).
وقد تكرّر منّا أنّ المرسلات التي تُنسب مضامينها إلى المعصوم عليه السلام جزماً حجّة، إذا كان المُرسِل ثقة، فلا إشكال في سند الحديث.
وبهذه النصوص يقيّد إطلاق ما دلّ على لزوم الحَجّ من قابل على من جامع وهو مُحرِم، فتختصّ تلك النصوص بصورة الجماع قبل ذلك.
وبعد تقيّيد تلك النصوص بما قبل الموقف، لا يبقى دليلٌ على وجوب التفريق لو جامع بعده، والأصل يقتضي عدمه أيضاً، مضافاً إلى عدم الخلاف فيه، بل لا يبعد دعوى ظهور تلك النصوص بأنفسها بالجماع قبله، فتدبّر.
أقول: ويشهد للحكم الثاني جملةٌ أُخرى من النصوص، غير مرسل الصدوق المتقدّم:
منها: خبر عليّ بن جعفر، عن أخيه عليه السلام، قال: «سألتُ أبي جعفر بن محمّد عليهما السلام عن رجلٍ واقع امرأته قبل طواف النساء متعمّداً، ما عليه ؟ قال عليه السلام: يطوف وعليه بدنة»(3).).
ص: 239
ومنها: خبر أحمد بن محمّد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجل أتى امرأته متعمّداً ولم يطف طواف النساء؟ قال: عليه بدنة، وهي تجزي عنهما»(1).
قال صاحب «الوسائل»: (هذا محمولٌ على كونها قد طافت طواف النساء، أو على كونها جاهلة، والاجزاء مجاز بالنسبة إليها لما تقدّم، وخبر سلمة بن محرز:
«أنّه كان يتمتّع حتّى إذا كان يوم النحر طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثمّ رجع إلى منى ولم يطف طواف النساء فوقع على أهله، فذكره لأصحابه، قالوا: فلان قد فعل مثل ذلك، فسأل أبا عبد اللّه عليه السلام فأمره أن ينحر بدنة. قال سلمة: فذهبتُ إلى أبي عبداللّه عليه السلام فسألته ؟ فقال: ليس عليك شيء، إلى أنْ قال: صدقوا، ما اتّقيتك، ولكن فلان فعله متعمّداً وهو يعلم، وأنتَ فعلته وأنتَ لا تعلم(2)، الحديث».
إلى غير ذلك من النصوص.
وقد مرّ في مبحث الصيد اختلاف كلمات الأصحاب في تحديد البدنة، وأنّها هل تختصّ بالاُنثى أم تشمل الذَّكر؟ وأنّه هل تختصّ البدنة بالإبل أم تشمل غيره ؟
وقد عرفت أنّ الأظهرفى الجهة الأُولى التعميم، والأحوط فى الثانية التخصيص(3).
أقول: وما في بعض نصوص المقام (أنّ عليه دماً) يُحمل إطلاقه على البدنة، كما أنّ ما في بعضها الآخر من (أنّ عليه جزور) يراد به البدنة، لما مرّ من اتّحادهما، وأمّا ما في بعضها ممّا ظاهره التخيّير بين الإبل والبقر والشاة، فحيث لا عامل به، فيحمل على إرادة الترتيب - كما سيأتي - لا التخيّير.ة.
ص: 240
بقي في المقام شيء: وهو أنّ الأصحاب بعد اتّفاقهم على أنّ هذا الحكم ثابت بعد الوقوف بالمشعر، اختلفوا في أنّه هل يثبت بعد الوقوف بعرفة وقبل الوقوف بالمشعر على قولين:
أحدهما: أنّه لا يثبتُ له، بل هو من مصاديق النصوص السابقة المتضمّنة للأحكام الأربعة، وعليه الأكثر(1).
ثانيهما: عن المفيد(2) والديلمي(3) والحلبي(4) حيث قالوا إنّه محكومٌ بحكم الجماع بعد المشعر.
أقول: النصوص المتقدّمة تشهد للأوّل، ولم يذكروا للثاني دليلاً سوى ما تضمّن (أنّ الحَجّ عرفة)(5)، وما دلّ على أنّ من وقف بعرفة فقد تمّ حجّة(6)، وهما مع ضعف سنديهما، محمولان على التقيّة، أو على غير ظاهرهما، وعلى أيّ تقدير لا يصلحان للمقاومة مع ما تقدّم.
***3.
ص: 241
ولو جامع قبل طواف الزيارة، لزمه بدنة، فإنْ عَجز عنها فبقرة أو شاة.
(ولو جامع) المُحرِم (قبل طواف الزيارة، لزمه بدنة) كما مرّ في مسألة الجماع بعد الوقوف بالمشعر قبل طواف النساء، لأنّ المقام من مصاديقها، وإنّما أعاده لبيان حكم الأبدال، قال رحمه الله: (فإنْ عجز عنها فبقرة أو شاة) وهو المحكيّ عن «التهذيب»(1)و «القواعد»(2) و «النافع»(3).
وفي «التذكرة»(4) و «المنتهى»(5)، وعن «المبسوط»(6) و «التحرير»(7) و «المهذّب»(8)و «التلخيص»(9): (فإنْ عجز فبقرة، وإنْ عجز فشاة).
أقول: أمّا النصوص، فليس فيها شيءٌ يدلّ على أحد الترتيبين، نعم في صحيح علي بن جعفر - المتقدّم - عن أخيه عليه السلام: «فمن رفث فعليه بدنة ينحرها، وإنْ لم يجد فشاة»(10).
ص: 242
وفي صحيح الحلبي: «وإنْ جامع فعليه جَزورٌ أو بقرة»(1).
وفي صحيحة الآخر: «وإنْ كان الجماع فعليه جَزورٌ أو بقرة»(2).
ويمكن الاستدلال بها على القول الأوّل، بعد حمل الأخيرين على إرادة الترتيب لا التخيّير، بقرينة الإجماع وسائر النصوص كما تقدّم، بأن يقال: إنّ مقتضى الأوّل أنّه مع العجز تتعيّن الشاة، ومقتضى الأخيرين أنّه تتعيّن البقرة، فالجمع بينهما يقتضي التخيّير.
كما أنّه يمكن الاستدلال على القول الثاني، بخبر خالد بيّاع القلانس، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجل أتى أهله وعليه طواف النساء؟ قال عليه السلام: عليه بدنة، ثمّ جاءه آخر فقال: عليك بقرة، ثمّ جاءه آخر، فقال: عليك شاة! فقلتُ بعدما قاموا:
أصلحك اللّه، كيف قلتَ عليه بدنة ؟ فقال: أنتَ موسر وعليك بدنة، وعلى الوسط بقرة، وعلى الفقير شاة»(3).
وظاهره وإنْ كان بعد طواف الزيارة، إلّاأنّ الظاهر أنّ حكم ما قبله أيضاً حكم ما بعده ما لم يطف طواف النساء.
ودعوى: أنّ الحكم على الوسط بأنّ عليه البقرة، لم يقيّد بعجزه عن البدنة.
مندفعة: بأنّ الخبر متضمّن لقضيّة شخصيّة، وجوابه عليه السلام أيضاً ليس كبرى كلية، لأنّ الوسط أمرٌ مقول بالتشكيك، وعليه فلابدّ من الأخذ بالمتيقّن، وهو الترتيب المذكور.0.
ص: 243
ولكن الخبر ضعيفٌ ، لأنّ الصدوق قدس سره يرويه بإسناده عن خالد بيّاع القلانس، وفي طريقه إليه ضعف وجهالة، فالقول الأوّل أرجح، وإنْ كان في الاستدلال الذي ذكرناه تكلّف.
أضف إليه أنّ ظاهر بعض الروايات أنّه لا بدل للبدنة، كخبر أبي بصير، عن الصادق عليه السلام:
«عن رجلٍ واقع امرأته وهو مُحرِم ؟ قال: عليه جزور كوماء(1).
فقال: لا يقدر؟ فقال عليه السلام: ينبغي لأصحابه أن يجمعوا له ولا يفسدوا حجّه»(2).
المحمول ما فيه من الإفساد على إرادة النقص، بقرينة غيره من النصوص، إلّا أنّ توافق الأصحاب على ثبوت البدل - بضميمة ما تقدّم - يُلجأنا إلى الالتزام بالقول الأوّل، ولا أقلّ من الاحتياط اللّزومي، وأحوط منه اختيار القول الثاني.
أقول: بقي الكلام في أنّ البدنة الواجبة بالجماع قبل المشعر، هل لها بدلٌ ، أم لا؟
ظاهر الفتاوي والنصوص أنّه لا بدل لها، إلّاأنّ المحكيّ عن «الخلاف»(3):
(أنّ من وجبَ عليه دمٌ في إفساد الحَجّ ، ولم يجد، فعليه بقرة، فإنْ لم يجد فسبع شياة، فإنْ لم يجد فقيمة البدنة دراهم أو ثمنها طعاماً يتصدّق به، فإنْ لم يجد صام عن كلّ مُدّ يوماً).
وعن «التذكرة»(4) و «المنتهى»(5) الإفتاء بما ذكره من الترتيب.
وعن «التهذيب»: (إنْ لم يقدر على بدنة، فإطعام ستّين مسكيناً، لكلّ مسكين).
ص: 244
ولو جامع قبل طواف النساء لزمه بدنة، فإنْ عجز عنها فبقرة، أو شاة، ولو كان قد طاف منه خمساً فلا كفّارة.
مُدّ، فإنْ لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً)(1).
وعن «الفقيه» و «المقنع»: (إذا وجبت على الرّجل بدنة في كفّارة، ولم يجدها، فعليه سبع شياة، فإنْ لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً بمكّة أو في منزله)(2).
وهناك أقوالٌ أُخر، ولم يذكروا لها دليلاً سوى مرسلات، وإجماع منقول، وخبرٍ وارد في الصيد، والكلّ كما ترى .
(و) بالجملة: قد ظهر ممّا ذكرناه أنّه (لو جامع) بعد طواف الزيارة، و (قبل طواف النساء، لزمه بدنة، فإنْ عجز عنها فبقرة أو شاة).
إنّما الكلام فيما أفاده بقوله رحمه الله: (ولو كان طافَ منه خمساً، فلا كفّارة)؟
والظاهر أنّه المشهور بين الأصحاب(3):
وعن الحِلّي(4) و «كشف اللِّثام»(5): وجوبها عليه لو جامع قبل تمامه ولو شوطاً.
وعن الشيخ(6) وأتباعه(7) والمصنّف في «المختلف»(8): أنّه يكفي في سقوط1.
ص: 245
الكفّارة مجاوزة النصف.
مدرك الحكم خبر حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السلام:
«عن رجلٍ كان عليه طواف النساء وحده، فطاف منه خمسة أشواط، ثمّ غمزه بطنه فخاف أن يبدره، فخرج إلى منزله فنقض، ثمّ غشى جاريته ؟
قال عليه السلام: يغتسل، ثمّ يرجع فيطوف بالبيت طوافين تمام ما كان قد بقي عليه من طوافه، ويستغفر اللّه ولا يعود، وإنْ كان طاف طواف النساء، فطاف منه ثلاثة أشواط، ثمّ خرج فغشي، فقد أفسد حجّه، وعليه بدنة ويغتسل، ثمّ يعود فيطوف اسبوعاً»(1).
وضعف سنده لو كان، منجبرٌ بالعمل، وبكون من أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه في السند، مع أنّه حسن، والمشهور استدلّوا بصدره.
والإيراد عليهم: بأنّه لا ينفي الكفّارة(2) لأنّ عدم الذكر أعمٌّ من عدم الوجوب.
في غير محلّه، إذ عدم البيان في موقع الحاجة، سيّما مع ذكر وجوبها بالجماع بعد الثلاثة في مقابل الخمسة، كالصريح في عدم الوجوب.
وبذلك كلّه ظهر ضعف القول الثاني، فإنّه لا مدرك له سوى إطلاق ما دلّ على أنّه من لم يطف طواف النساء وجامع عليه البدنة.
ودعوى : ضعف خبر ابن أعين سنداً ودلالةً ، وحيث عرفت صحّة سنده وتماميّة دلالته، فيقيّد إطلاق تلك الأخبار لو شمل إطلاقه أثناء طواف النساء به.
واستدلّ للقول الثالث: بمفهوم قوله في ذيل الخبر: (وإنْ كان طاف طواف النساء).
ص: 246
فطاف منه ثلاثة أشواط... الخ).
وأُورد عليه تارةً : بأنّه يعارضه مفهوم الصدر.
وأُخرى : بأنّ مفهومه عدم وجوب الكفّارة بعد الثلاثة، وقبل تجاوز النصف ولا قائل به.
ولكن يرد الأوّل: أنّ الصدر غير مشتمل على الشرط، وإنّما فرض السائل الخمسة.
ويرد الثاني: أنّه يقيّد إطلاقه بالإجماع.
وعليه، فالأظهر هو القول الثالث، ويؤيّده ما دلّ على أنّ من زاد على النصف وخرج ناسياً، له أن يقرب النساء، إذ لا معنى للكفّارة على الفعل المرخّص فيه، لاحظ خبر أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«في رجل نسى طواف النساء؟ قال عليه السلام: إذا زاد على النصف وخرج ناسياً أمر من يطوف عنه، وله أن يقرب النساء إذا زاد على النصف»(1).
***5.
ص: 247
لا خلاف في أنّ من استمنى بفعلٍ - كالعَبَث بيده، أو بملاعبة غيره، أو غير ذلك - وقصد الإمناء وأنزل، عليه بدنة، وإنْ قيّده بعضهم بكونه باليد(1).
أقول: إنّما الخلاف في أنّه هل يجب عليه القضاء كما عن «التهذيب»(2)، و «النهاية»(3)، و «المبسوط»(4)، و «المهذّب»(5)، و «الجامع»(6)، و «المختلف»(7)، بل عن «التنقيح» نسبته إلى الأكثر(8)، وظاهره اختياره كالشهيدين(9) والكركي(10)؟
أم لا يجب، كما عن الحِلّي(11) والحلبي(12) والشيخ في «الخلاف»(13)و «الاستبصار»(14)، وفي «الشرائع»(15) وجماعة(16)؟ وجهان.
ص: 248
استدلّ للأوّل:
1 - بموثّق إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن عليه السلام:
«قلت: ما تقول في مُحرِمٍ عبث بذكره فأمنى؟ قال عليه السلام: أرى عليه مثل ما على مَن أتى أهله وهو مُحرِم بدنة، والحَجّ من قابل»(1).
2 - وبصحيح ابن الحجّاج: «سألتُ أبا الحسن عليه السلام عن الرّجل يعبث بأهله وهو مُحرِم حتّى يمني من غير جماع، أو يفعل ذلك في شهر رمضان، ماذا عليهما؟ قال عليه السلام: عليهما جميعاً الكفّارة، مثل ما على الذي يُجامع»(2).
بدعوى أنّ الكفّارة ليس خصوص البدنة، بل الحَجّ من قابل منها.
ولكن يرد على الصحيح، أوّلاً: ظهوره في الدّم وما شاكل، ولا تشمل الكفّارة الحَجّ من قابل.
وثانياً: أنّه يعارضه ما دلّ من النصوص على أنّ من جامع دون الفرج لزمه بدنة دون الحَجّ من قابل، كصحيح معاوية - المتقدّم:
«في المُحرِم يقع على أهله ؟ قال عليه السلام: إنْ كان أفضى إليها فعليه بدنة والحَجّ من قابل، وإنْ لم يكن أفضى إليها فعليه بدنة، وليس عليه الحَجّ من قابل».
ونحوه صحيحة الآخر(3)، بل يعارضه ما سيأتي في مسائل النظر بشهوة والتقبيل وما شاكل.
وأمّا موثّق إسحاق: فهو أعمٌّ من المطلوب، من جهة عدم فرض قصد خروج3.
ص: 249
المني من العبث، وأخصّ منه من جهة الاختصاص بالفعل الخاص، فلا مانع من الالتزام بذلك في خصوص مورده، كما عن الشيخ(1) - الذي هو الأصل في هذا القول - من القول به، وقوّاه صاحب «الرياض»(2).
ودعوى: أنّه يثبت ذلك في غير العَبَث بالذَّكر من أنواع ما يَستمنى به - إمّا لعدم خصوصيّة للعبث بالذَّكر، وإمّا لأنّه أقبح من إتيان الأهل الثابت فيه الأمران - أو لحسن مسمع الذي رواه الإسكافي:
«إذا نزل الماء إمّا بعبث بحرمته، أو بذكره، أو بإدمان نظره، مثل الذي جامع»(3).
مندفعة: بأنّ الأولين علّة مستنبطة، والثالث ليس بحجّة لعدم القطع بكونه رواية، مع أنّه لا يكون صريحاً في وجوب القضاء إلّابتعميم المماثلة، وهو محلّ نظر.
***3.
ص: 250
ولو جامع في إحرام العُمرة قبل السَّعي بطلت، وعليه بدنة وقضائها وإتمامها
(ولو جامع في إحرام العُمرة قبل السعي بطلت) عمرته (وعليه بدنة وقضائها وإتمامها) كما صرّح به غير واحدٍ(1)، وظاهر «المنتهى» الاتّفاق عليه في الجملة(2).
أقول: وتفصيل القول يتحقّق بالبحث في جهات:
الجهة الاُولى: لا إشكال فتوى ونصّاً في أنّ الجماع في إحرام العُمرة المفردة قبل السعي موجبٌ لثبوت البدنة وقضائها، والشاهد له أخبار عديدة:
منها: صحيح بريد بن معاوية العجلي، عن أبي جعفر عليه السلام: «عن رجل اعتمر عمرة مفردة فغشى أهله قبل أن يفرغ من طوافه وسعيه ؟ قال: عليه بدنة لفساد عمرته، وعليه أن يقيم أن الشهر الآخر، فيخرج إلي بعض المواقيت فيحرم بعمرة»(3).
ومنها: حسن ابن رئاب - أو صحيحة - عن مسمع، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«في الرّجل يعتمر عُمرة مفردة، ثمّ يطوف بالبيت طواف الفريضة، ثمّ يغشى أهله قبل أن يسعى بين الصفا والمروة ؟
قال عليه السلام: قد أفسد عمرته، وعليه بدنة، وعليه أن يُقيم بمكّة حتّى يخرج الشهر الذي اعتمر فيه، ثمّ يخرج إلى الوقت الذي وقّته رسول اللّه صلى الله عليه و آله لأهله، فيُحرم
ص: 251
منه ويعتمر»(1).
ومنها: خبر أحمد بن علي، عن مولانا الباقر عليه السلام: «في رجل اعتمر عمرة مفردة، ووطيء أهله وهو مُحرِم قبل أن يفرغ من طوافه وسعيه ؟
قال عليه السلام: عليه بدنة لفساد عمرته، وعليه أن يقيم بمكّة حتّى يدخل شهر آخر، فيخرج إلى بعض المواقيت فيحرم منه ثمّ يعتمر»(2).
أقول: وهذه النصوص كما ترى غير متعرّضة لوجوب إتمام العُمرة، ولكن قَطَع المصنّف والشهيدان(3) وغيرهم به، لكن ناقشهم صاحب «الرياض» بقوله:
(ومستندهم غير واضح، لخلوّ الأخبار عنه، بل ربما اشعرث بالعدم، للتصريح فيها بالفساد، وعدم التعرّض فيها له مع كون المقام مقام حاجة)، انتهى (4).
وقد استدلّ لوجوب الإتمام: بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّه لا يجوز إنشاء إحرام آخر قبل إكمال الأوّل.
وفيه: أنّه مختصّ بالإحرام الصحيح.
الوجه الثاني: استصحاب بقاء حكم الإحرام.
وفيه: - مضافاً إلى عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكليّة الشرعيّة - أنّ الإحرام الصحيح غير الإحرام الفاسد بنظر العرف موضوعاً، فلا يجري الاستصحاب لتبدّل الموضوع.
الوجه الثالث: الظاهر كون المراد ممّا في النصوص الإشارة إلى ما ورد في الحَجّ ،).
ص: 252
بل لعلّ الأمر بالانتظار إلى الشهر الآخر للعمرة قرينة على مراعاة تلك العُمرة، حتّى لا يكون اقتران بينهما، بل قد يشعر ذلك بأنّ الأُولى هي الفرض والثانية عقوبة، نحو ما سمعته في الحَجّ .
وفيه أوّلاً: تصريحه في هذه النصوص بالفساد، ولم يصرّح بذلك في أكثر تلك النصوص، وهذه أمارة الاختلاف.
وثانياً: أنّ غاية ما ذكر الإشعار لا الدلالة، وعليه فالأظهر عدم وجوب الإتمام.
أقول: ثمّ إنّ ظاهر النصوص تعيّن إيقاع القضاء في الشهر الداخل هنا، وإنْ قلنا بجواز توالي العمرتين، أو الاكتفاء بالفرق بينهما بعشرة أيّام في غير هذه الصورة، ولا مانع من الالتزام به، وعليه:
فما في «الشرائع»(1) من أنّ الأفضل أنْ يكون في الشهر الداخل، حملاً للأمر به في النصوص على الندب، في غير محلّه، إلّاأنّه لا يعتبر أن يمضي من عمرته الأُولى شهراً واحداً، بل يكفي مضيّ الشهر الذي اعتمر فيه.
الجهة الثانية: النصوص المتقدّمة مختصّة بالعمرة المفردة، ولكن عن «المدارك»:
(أنّ ظاهر الأكثر وصريح البعض، عدم الفرق بينها وبين العُمرة المتمتّع بها)، واستشكل فيه في محكي «القواعد»(2) وتبعه غير واحدٍ(3).
أقول: وقد استدلّ لثبوت هذه الأحكام فيها أيضاً بوجوه:
الوجه الأوّل: أنّ العُمرة المتمتّع بها، لا فرق بينها وبين المفردة، إلّافي أنّ الأولى بعدها حجٌ والمفردة ليست كذلك.5.
ص: 253
وفيه: برغم اختلافهما في بعض الأحكام، إلّاأنّه لعلّ نفس هذا المقدار من التفاوت أوجب اختلافهما في هذا الحكم، وعليه فلا يمكن التمسّك بذلك.
الوجه الثاني: تنقيح المناط، وهو كما ترى .
الوجه الثالث: صحيح معاوية، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن متمتّعٍ وقع على أهله ولم يزر؟ قال عليه السلام: ينحر جزوراً، وقد خشيت أنْ يكون قد ثلم حجّه إنْ كان عالماً(1)، الحديث».
إذ الخوف من تطرّق الفساد إلى الحَجّ بالجماع بعد السعي قبل التقصير، ربما اقتضي تحقّق الفساد بوقوع ذلك قبل السعي.
وفيه: أنّه بمقتضى النصوص - منها الصحيحة - لا يوجب الجماع بعد السعي الفساد قطعاً، فكيف يثلم به الحَجّ ! والفحوى إنّما يتمسّك بها مع ثبوت الحكم في الأصل وإلّا فلا.
الوجه الرابع: أنّ العُمرة المتمتّع بها من أجزاء حَجّ التمتّع، وعليه فالنصوص في المسألة السابقة تشملها.
وفيه: إنّ تلك النصوص مختصّة من جهة ما فيها من القرائن بالحجّ نفسه دون غيره.
وبالجملة: لا دليل يعتدّ به على الفساد العُمرة المتمتّع بها بالجماع في أثناء إحرامها، ولكن الاحتياط طريق النجاة.
وعلى فرض فسادها، هل يفسد حجّه أيضاً أم لا؟7.
ص: 254
ظاهر الحلبيّين(1) وصريح فخر الإسلام(2) والشهيد الثاني البطلان، وقد صرّح الشهيد الثاني - على ما نُسب إليه - بوجوب إكمال الحَجّ ، ثمّ قضائهما، واستدلّ له بأنّهما مرتبطان(3).
وفيه: ما أفاده سيّد «المدارك» من أنّ الارتباط إنّما هو بين الصحيح منهما لا الفاسد(4).
والحقّ أنْ يقال: إنْ وسع الوقت لإنشاء عُمرة أُخرى في الشهر الداخل، فلا كلام في أنّه ينتظر فيعتمر في الشهر الداخل، ثمّ ينشأ الحَجّ ، وإنْ لم يسع الوقت إنشاء عمرةٍ أُخرى قبل الحَجّ ، فلا إشكال في فوات حَجّ التمتّع.
وهل ينقلب فرضه إلى الإفراد أم لا؟
قال صاحب «الجواهر»: (لا مانع من التزام انقلاب الحَجّ إلى الإفراد، مع عدم سعة الوقت، وإن انقلبت العُمرة إلى الإفراد)(5).
وفيه: أنّه لا يكفي في ذلك عدم المانع، بل لابدّ من إقامة دليل عليه، وشمول أدلّة العدول إلى الإفراد للمقام غير ظاهر، وعليه فالأظهر تأخير الحَجّ إلى القابل.
الجهة الثالثة: إذا جامع بعد السّعي، فلا كلام ولا إشكال في عدم فساد عمرة التمتّع، لصحيح معاوية المتقدّم وغيره، كما لا إشكال في أنّ عليه دماً يُهريقه.
أقول: إنّما الكلام في تعيينه:2.
ص: 255
فعن «النهاية»(1)، و «التهذيب»(2)، و «المبسوط»(3)، و «المهذّب»(4) و «السرائر»(5)و «الوسيلة»(6) و «القواعد»(7) و «الجامع»(8)، أنّه يجبُ عليه بدنة للموسر، وبقرة للمتوسّط، وشاة للمُعسِر.
وأمّا النصوص:
ففي بعضها: (عليه جزور)، كصحيح معاوية المتقدّم، وكذا صحيحه الآخر(9).
وفي بعضها: (عليه جزورٌ أو بقرة)، كصحيح الحلبي(10).
وفي بعضها: (عليه دمُ شاةٍ )، كخبر ابن مسكان(11).
والجمع بينها يقتضي البناء على التخيّير، ولكن الظاهر عدم الالتزام به من أحدٍ، وعليه فالبناء على الترتيب كما اُفيد أوفق بالاحتياط، مع كون المتوسّط ممّن لا يقدر على بدنة.
وأمّا العُمرة المفردة: فظاهر جماعةٍ وصريح آخرين(12) مساواتها مع عمرة1.
ص: 256
التمتّع في عدم الفساد.
ولكن سيّد «المدارك» قال: (هو محتاجٌ إلى دليل)(1).
أقول: دليله اختصاص دليل الفساد بما قبل السعي، فلا دليل عليه بعده، والأصل يقتضي عدمه.
***4.
ص: 257
ولو نَظَر إلى غير أهله فأمنى، كان عليه بدنة، فإنْ عجز فبقرة، وإنْ عجز فشاة.
(ولو نَظر إلى غير أهله فأمنى، كان عليه بدنة، فإنْ عجز فبقرة، فإنْ عجز فشاة)، كما هو منصوصٌ عليه في «النهاية»(1) و «المبسوط»(2) و «السرائر»(3) و «المهذّب»(4)و «الجامع»(5) و «النافع»(6) و «القواعد»(7)، بل هو خيرة الأكثر كما اعترف به غير واحدٍ(8)، وإنْ عبّر الأكثر عنه بقولهم: (عليه بدنة إنْ كان موسراً، وإنْ كان متوسّطاً فبقرة، وإنْ كان معسراً فشاة)(9)، إلّاأنّ الظاهر اتّحاد المراد.
أقول: وكيف كان، فالنصوص على طوائف:
الطائفة الاُولى: ما يدلّ على أنّ من نظر إلى غير أهله فأنزل فعليه دم، وإلّا فلا شيء عليه، كصحيح معاوية:
«في مُحرِمٍ نظر إلى غير أهله فأنزل ؟ قال عليه السلام: عليه دم، لأنّه نظر إلى غير ما
ص: 258
يحلّ له، وإنْ لم يكن أنزل، فليتّق اللّه تعالى ولا يعد، وليس عليه شيء»(1).
الطائفة الثانية: ما يدلّ على أنّ الموجب للكفّارة النظر إلى ما لا يحلّ له، وهي موثّقة أبي بصير، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«في رجلٍ مُحرِمٍ نظر إلى ساق امرأة أو إلى فرجها فأمنى ؟ قال عليه السلام: إنْ كان موسراً فعليه بدنة، وإنْ كان وسطاً فعليه بقرة، وإنْ كان فقيراً فعليه شاة.
ثمّ قال: أمّا إنّي لم أجعل عليه هذا لأنّه أمنى، إنّما جعلته عليه لأنّه نظر إلى ما لا يحلّ له»(2).
وصريح الجملة الأخيرة أنّ الكفّارة لأجل النظر خاصّة، والأوّل يدلّ على أنّ النظر من غير الإمناء لا يوجبُ الكفّارة.
وعليه، فالجمع بينهما يقتضي البناء على أنّ الموجب للكفّارة هو النظر المؤدّي إلى الإمناء لا مطلقاً، كما أنّ الجمع بينهما يقتضي البناء على أنّ الواجب أوّلاً هو البدنة للموسر، ثمّ بقرة، ثمّ شاة، وإطلاق الصحيح بأنّ (عليه دماً) يقيّد بما تضمّنه الموثّق.
الطائفة الثالثة: ما يدلّ على أنّ من نظر إلى غير أهله فأمنى، فعليه جزور، أو بقرة، فإنْ لم يجد فشاة، كصحيح زرارة، قال:
«سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن رجلٍ مُحرمٍ نظر إلى غير أهله فأنزل ؟ قال عليه السلام: عليه جزور أو بقرة، فإنْ لم يجد فشاة»(3).
والجمع بينه وبين ما تقدّم يقتضي حمل (أو) فيه على التخيّير المجامع للترتيب،0.
ص: 259
إمّا لكونه مطلقاً والموثّق مقيّداً، أو لأنّه ظاهر في التخيّير غير المجامع للترتيب، والموثّق صريح في الترتيب.
أقول: وبما ذكرناه ظهر ضعف ما عن «المقنع»(1) من الفتوى بما هو ظاهر صحيح زرارة، وتبعه بعض متأخّري المتأخّرين(2).
كما أنّه ظهر ضعف ما عن ابن حمزة(3) من إلغاء الشاة.
وأمّا ما عن المفيد(4) وسلّار(5) وابن زُهرة(6)، من أنّه إنْ عجز عن الشاة صام ثلاثة أيّام، فلم نجد ما يدلّ عليه بالخصوص.
واستدلّ له:
تارةً : بأنّه أصل عام.
وأُخرى : بفحوى قيامه مقامها في كفّارة الصيد ولو بعد العجز عن إطعام عشرة مساكين.
ولكن الأوّل غير ثابت بنحو العموم، والتعدّي عن كفّارة الصيد يتوقّف على دليل مفقود، وعليه فالأظهر عدم وجوب شيء عليه مع العجز عن الشاة.
وأيضاً: مقتضى إطلاق النص والفتوى، عدم الفرق بين قصد الإمناء وعدمه، وبين النظر بشهوة أوّلاً، ولا بين معتاد الإمناء وغيره.5.
ص: 260
ولو نظر إلى أهله بغير شهوةٍ فأمنى، فلا شيء عليه، وإن كان بشهوةٍ فأمنى فجزور.
وعليه، فما عن الشهيد الثاني في «المسالك»(1) من (أنّه إذا قصد الإمناء، أو كان معتاد الإمناء، فيلحقه حكم الاستمناء).
في غير محلّه، لما عرفت من اختصاص حكم الإستمناء بالمورد الخاص.
وظاهر النص أنّ المدار على صدق الموسر والمتوسّط والفقير، ففي تحديد المفاهيم الثلاثة المرجع هو العرف، وإنْ كان ذلك غير خالٍ عن الإشكال كما تقدّم في نظائر المسألة.
وبالجملة: فالأولى الحمل على الترتيب، فتجبُ البدنة على القادر عليها، فإنْ عجز عنها فالبقرة، وإنْ عجز عنها فالشاة، كما عن المصنّف(2) والشهيد(3)القطع بذلك.
(ولو نظر إلى أهله بغير شهوةٍ فأمنى، فلا شيء عليه، وإنْ كان بشهوةٍ فأمنى فجزور) والمراد به البدنة، بلا خلافٍ في الحكمين(4)، بل عن بعضهم دعوى الإجماع عليه(5).).
ص: 261
وعن المفيد(1) والمرتضى(2) عدم الكفّارة مطلقاً.
والنصوص الواردة حول هذا الموضوع مختلفة:
منها: ما يدلّ على نفي الكفّارة مطلقاً، كصحيح معاوية بن عمّار عن الصادق عليه السلام:
«عن مُحرِمٍ نظر إلى امرأته فأمنى أو أمذى وهو محرم ؟ قال عليه السلام: لا شيء عليه، ولكن ليغتسل ويستغفر ربّه، وإنْ حملها من غير شهوة فأمنى أو أمذى وهو محرم، فلا شيء عليه، وإنْ حملها أو مسّها بشهوة فأمنى أو أمذى فعليه دم.
وقال: في المُحرِم ينظر إلى امرأته أو ينزلها بشهوة حتّى ينزل ؟ قال عليه السلام:
عليه بدنة»(3).
ومنها: ما يدلّ على ثبوت الكفّارة مطلقاً، كموثّق أبي بصير المتقدّم:
«قلت له: رجلٌ مُحرِمٌ نظر إلى ساق امرأة أو إلى فرجها فأمنى ؟
قال عليه السلام: إنْ كان موسراً فعليه بدنة، وإنْ كان وسطاً فعليه بقرة، وإنْ كان فقيراً فعليه شاة.
ثمّ قال: أمّا إنّي لم أجعل عليه هذا لأنّه أمنى ، إنّما جعلته عليه لأنّه نظر إلى ما لا يحلّ له»(4).
فإنّ إطلاقه يشمل زوجته أيضاً، وما فيه من التعليل، لا يصلح لاختصاصه بالأجنبيّة، لأنّه يمكن أن تجري العلّة في الزوجة من جهة عدم الحلّية، لأجل الإحرام، فلا مقيّد للصدر، وتنكير المرأة يمكن أنْ يكون لأجل إفادة الإطلاق.5.
ص: 262
ومنها: ما يدلّ على أنّ النظر خاصّة لا يترتّب عليه الكفّارة، كحسن علي بن يقطين، عن أبي الحسن عليه السلام:
«عن رجلٍ قال لإمرأته أو لجاريته بعدما حلق ولم يطف ولم يسع بين الصفا والمروة: اطرحي ثوبك، ونظر إلى فرجها؟
قال عليه السلام: لا شيء عليه إذا لم يكن غير النظر»(1).
ومنها: ما يدلّ على أنّ النظر إليها بشهوة مع الإمناء موجبٌ للكفّارة، كحسن مسمع، قال:
«قال لي أبو عبد اللّه عليه السلام: يا أبا سيّار، إنّ حال المُحرِم ضيّقة...
إلى أنْ قال: ومَن مسَّ امرأته بيده وهو مُحرِم على شهوة فعليه دم شاة، ومَن نظر إلى امرأته نظر شهوة فأمنى فعليه جزور، ومن مسّ امرأته أو لازمها من غير شهوة فلا شيء عليه»(2).
ومنها: ما يدلّ على أنّ النظر إليها بشهوة لا يوجب الكفّارة حتّى ولو أمنى، كموثّق إسحاق:
«في مُحرِمٍ نظر إلى امرأته بشهوة فأمنى ؟ قال عليه السلام: ليس عليه شيء»(3).
والتحقيق أنْ يقال: إنّ صدر صحيح معاوية يقيّد إطلاق الطائفة الثانية، فتختصّ بالأجنبيّة، ثمّ ذيلة يقيّد صدره فيختصّ الصدر بالنظر بغير شهوة، وإنْ كان حينئذٍ في قوله: (ولكن ليغتسل، ويستغفر ربّه)، إشكالٌ .1.
ص: 263
وكذا لو أمنى عند الملاعبة،
وعلى أيّ تقدير، الذيل الدالّ على أنّ النظر بشهوة المؤدّي إلى الإمناء موجبٌ للكفّارة لا إشكال فيه، ويوافقه الطائفة الرابعة، والطائفة الثالثة تدلّ على أنّ النظر المجرّد بدون الإمناء لا يوجبُ الكفّارة.
فالجمعُ بين هذه النصوص يقتضي البناء على أنّ النظر بنفسه لا يوجبُ الكفّارة، وكذلك النظر مع الإمناء إذا كان بغير شهوة، وأمّا إنْ كان بشهوةٍ فهو موجب للكفّارة، ويعارضها حينئذٍ الطائفة الخامسة، ولكنّها مطلقة من حيث أنّ نفي الشيء عليه أعمّ من نفي الكفّارة، فيقيّد إطلاقها بما تقدّم، وإنْ أبيت عن ذلك، فتطرح لإعراض الأصحاب عنها.
فالمتحصّل ممّا ذكرناه: أظهريّة ما نُسب إلى المشهور.
(وكذا) يجبُ الجزور (لو أمنى عند الملاعبة)، لصحيح ابن الحجّاج، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن الرّجل يعبث بأهله وهو مُحرِم حتّى يمني من غير جماع، أو يفعل ذلك في شهر رمضان ؟ ماذا عليها؟
قال عليه السلام: عليهما جميعاً الكفّارة مثل ما على الذي يجامع»(1).
والمراد من الجزور هي البدنة كما مرّ.
أقول: بقي في المقام فروع لم يتعرّض لها المصنّف رحمه الله، لابدّ من التنبيه عليها:
الفرع الأوّل: لو مسّ امرأته، فالمشهور بين الأصحاب(2) أنّه إنْ مسّها بشهوة
ص: 264
فعليه دم شاة أمنى ام لم يمن، وان مسها بغير شهوة فليس عليه شيء.
وعن ابن حمزة(1): أنّ في المسّ بشهوة الدّم مطلقاً، لا خصوص الشاة.
وعن الحِلّي(2): تخصيص الشاة بما إذا لم يمن، وإلّا فالبدنة مع الإمناء.
أقول: أمّا ثبوت الكفّارة مع المسّ بشهوة، ولو لم يمن، وعدم ثبوتها إذا كان من غير شهوة ولو أمنى، فيشهد لهما جملة من النصوص:
منها: حسن مسمع وصحيح معاوية المتقدّمان في المسألة السابقة.
ومنها: صحيح محمّد بن مسلم، عن الصادق عليه السلام: «عن رجل حمل امرأته وهو مُحرِم فأمنى أو أمذى ؟ قال عليه السلام: إنْ كان حملها أو مسّها بشيء من الشهوة، فأمنى أو لم يمن، أمذى أو لم يمذ، فعليه دم شاة. فإنْ حملها أو مسّها بغير شهوة، فأمنى أو أمذى، فليس عليه شيء»(3).
ونحوها غيرها.
أمّا كون الكفّارة هي الشاة، فيشهد به حسنا مسمع والحلبي(4) وغيرهما من الأخبار.
واستدلّ لما ذهب إليه ابن حمزة، بقوله عليه السلام في صحيح معاوية المتقدّم: (فعليه دم).
وفيه: أنّه مطلق يقيّد إطلاقه بغيره من النصوص.
واستدلّ للقول الثالث:
1 - بما في ذيل صحيح معاوية المتقدّم:2.
ص: 265
«في المُحرِم ينظر إلى امرأته أو ينزلها بشهوة حتّى ينزل ؟ قال عليه السلام:
عليه بدنة».
2 - وبأنّه أفحش من النظر الذي فيه بدنة.
وفي «الجواهر»، قلت: (بل ظاهر الصحيح المزبور اعتبار النظر والنزول بشهوة حتّى ينزل لا النزول خاصّة، وحينئذٍ فالبدنة للنظر)(1)، انتهى .
وفيه: ظاهر الخبر بقرينة كلمة (أو) النزول خاصّة بدون النظر.
فالحقّ أنْ يقال: إنّه لإعراض الأصحاب عنه، وعدم إفتائهم به لا يصلح اعتباره مدركاً للحكم الشرعي، وإنْ كان القول بالتخيّير غير بعيد.
الفرع الثاني: مَن قَبّل امرأته، ففيه أقوال:
القول الأوّل: أنّه إنْ كان بغير شهوة، كان عليه شاة، ولو كان بشهوة كان عليه جزور، وهو المحكيّ عن «النهاية»(2) و «المبسوط»(3) و «التحرير»(4) و «الدروس»(5)وغيرها، بل نُسب إلى الأكثر(6).
القول الثاني: تقيّيد ثبوت الكفّارة بصورة الإمناء، كما عن سلّار(7) وابن سعيد(8)، وإنْ أطلق أوّلهما وجوبها بالتقبيل، وقيّده ثانيهما بالشهوة.4.
ص: 266
القول الثالث: ما عن الحِلّي(1)، وهو أنّه إنْ كان بغير شهوة فعليه دم، وإنْ كان بشهوة ولم يمن فعليه دم شاة، وإنْ أمنى كان عليه جزور.
القول الرابع: ما عن المفيد(2) والسيّد(3) والصدوق(4) في «المقنع»، وهو وجوب البدنة مطلقاً.
القول الخامس: وجوب الشاة مطلقاً، نُسب إلى الصدوق في «الفقيه»(5).
أمّا النصوص: فهي طوائف:
الطائفة الأُولى: ما يدلّ على ثبوت البدنة مطلقاً:
منها: صحيح الحلبي، عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ : «قلت: فإنْ قَبَّل ؟ قال عليه السلام: هذا أشدّ، ينحر بدنة»(6).
ومنها: خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجل قَبّل امرأته وهو مُحرِم ؟ قال عليه السلام: عليه بدنة وإنْ لم ينزل، وليس له أن يأكل منها»(7) ونحوهما غيرهما.
الطائفة الثانية: ما يدلّ على ثبوت الدّم عليه، الظاهر في إرادة الشاة:
منها: خبر العلاء بن فضيل، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن رجل وامرأة تمتّعا جميعاً، فقصّرت امرأته ولم يقصّر، فقبّلها؟ قال عليه السلام: يهريق دماً، وإنْ كانا لم يقصّرا5.
ص: 267
جميعاً فعلى كلّ واحدٍ منهما أن يهريق دماً»(1).
ونحوه خبر زرارة(2).
الطائفة الثالثه: ما يدلّ على لزوم البدنة مع كون التقبيل بشهوة، في صورة الإمناء، ولزوم الشاة مع كونه بدون الشهوة:
منها: حسن مسمع أبي سيّار، عنه عليه السلام: «يا أبا سيّار، إنّ حال المُحرِم ضيّقة، فمنْ قَبّل امرأته على غير شهوة وهو مُحرِم، فعليه دم شاة، وإنْ قَبّل امرأته على شهوةٍ فأمنى، فعليه جزور، ويستغفر ربّه(3)، الحديث».
أقول: لا إشكال في تقيّيد إطلاق الطائفة الثانية بالثالثة، وأمّا إطلاق الطائفة الأُولى فبالنسبة إلى التقبيل بغير شهوة يقيّد إطلاقها بالثالثة أيضاً.
وأمّا بالنسبة إلى التقبيل بشهوة، ففي صورة الإمناء هما متوافقتان فيعمل بهما.
وأمّا بالنسبة إلى التقبيل بشهوة بدون الإمناء، فالطائفة الثالثة بمفهوم الشرط تدلّ على عدم ثبوت البدنة فيه، والطائفة الأُولى تدلّ بالمنطوق على ثبوتها، والنسبة إمّا عموم مطلق من جهة التصريح بعدم الإنزال في خبر علي، وغلبة كون التقبيل بشهوة، أو عموم من وجه بناءً على كون التقبيل قد يكون بشهوة وقد يكون بغير شهوة، وعلى التقديرين تقدّم تلك الطائفة:
أمّا على الأوّل: فواضح.
وأمّا على الثاني: فلكونها أظهر. وعلى فرض التساوي والرجوع إلى المرجّحات فالترجيح معها كما لا يخفى ، فما عليه الأكثر أظهر.4.
ص: 268
أقول: والنصوص مختصّة بتقبيل الرّجل امرأته، أمّا العكس من تقبيل الرّجل الأجنبيّة أو الغلام، فالنصوص غير شاملة لهما، والمناط غير محرزٍ، والأصل يقتضي عدم ثبوت الكفّارة.
الفرع الثالث: لو سمع كلام امرأة من خلف الحائط وهو مُحرِم، فتشاها حتّى أنزل، ليس عليه شيء، لخبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام(1).
كما أنّه لو استمع على من يجامع فأمنى، لم يلزمه شيء، لموثّق سماعة، عنه عليه السلام:
«في مُحرمٍ استمع على رجلٍ يُجامع أهله فأمنى ؟ قال عليه السلام: ليس عليه شيء»(2).
واستثنى ثاني الشهيدين رحمهما الله(3) من الموردين معتاد الإمناء بذلك، لأنّه حينئذٍ من الاستمناء.
ولكن قد عرفت أنّ الاستمناء مطلقاً لا يوجب الكفّارة، فراجع(4).
وعن الأصحاب:(5) أنّه يعتبر فيه عدم النظر:
فإنْ أرادوا بذلك النظر إلى المجامعة فهو متين لما تقدّم في النظر.
وإنْ أرادوا به النظر إلى الفاعل، كما صرّح به في محكي «المهذّب»(6)، فلا دليل عليه.
***).
ص: 269
ولو عقد المُحرِم لمُحرمٍ فدخل، كان عليهما كفّارتان،
(ولو عقد المُحرِم) أو المُحِلّ (لمُحرمٍ فدخل، كان عليهما كفّارتان)، أي على كلّ واحدٍ من العاقد والمُحرِم بدنة، بلا خلافٍ في العاقد المُحرِم(1)، وعلى المشهور(2) في المُحِلّ .
أقول: ومدرك الحكم موثّق سماعة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«لا ينبغي للرجل الحلال أن يزوّج مُحرِماً وهو يعلم أنّه لا يحلّ له.
قلت: فإن فعل فدخل بها المُحرِم ؟ قال عليه السلام: إنْ كانا عالمين فإنّ على كلّ واحدٍ منهما بدنة، وعلى المرأة إنْ كانت مُحرِمة بدنة، وإنْ لم تكن مُحرِمة فلا شيء عليها، إلّاأنْ تكون قد علمت أنّ الذي تزوّجها مُحرِم، فإنْ كانت علمت ثمّ تزوّجته فعليها بدنة»(3).
ودعوى : لزوم التوقّف في الخبر من ناحية أنّ سماعة فاسدُ المذهب، كما عن «المنتهى»(4)، أو من جهة ما عن «الإيضاح» من أنّ الأصحّ خلافه للأصل، ولأنّه مباحٌ بالنسبة إليه، فتُحمل الرواية على الاستحباب(5).
ص: 270
ممنوعة: لما حُقّق في محلّه من حجيّة الخبر الموثّق، سيّما مع عمل الأصحاب به، فضلاً عن قول جماعة بحسن مذهبه(1). وكونه مباحاً بالأصل لا يمنع عن ثبوت الكفّارة، والأصل لا يقاوم الدليل، فلا ينبغي التوقّف في سند الخبر ودلالته على وجوب البدنة، وهو وإنْ اختصّ بالعاقد المُحِلّ ، إلّاأنّه بالفحوى يدلّ عليه فيما لو كان العاقد مُحرِماً أيضاً.
ثمّ إنّ الخبر مختصّ بصورة علم العاقد والزوج، فما عن الأكثر من التعميم لصورة جهلهما أيضاً غير تامّ .
ثمّ صريح ذيل الخبر ثبوت البدنة على المرأة إنْ علمت بإحرام الزوج وكانت مُحرِمة، فما عن دروس الشهيد رحمه الله(2) من الجزم بالعدم إذا كانت مُحِلّة ضعيفٌ ، لأنّه بعد العمل به تكون في الحكم الأوّل، ولا وجه لطرحه في الحكم الثاني أصلاً.
وأيضاً: لو كان العاقد والمرأة مُحرِمين دون الزوج، لا تجبُ الكفّارة، لاختصاص النص بصورة إحرام الزوج.
وفي ثبوت الكفّارة لا فرق بين الدخول في حال الإحرام أو الإحلال، لإطلاق النص.
هذا بالنسبة إلى الكفّارة.
وأمّا بالنسبة إلى وجوب الحَجّ في القابل والإتمام، فقد تقدّم الكلام فيهما في مسألة الجماع في حال الإحرام(3)، فراجع.
***».
ص: 271
الثانية: من تطيّب لزمه شاة، سواءٌ الصبغ والإطلاء والبخور والأكل
المسألة (الثانية: من تطيّب لزمه شاة، سواءٌ الصبغ والإطلاء والبخور والأكل) كما هنا(1)، وفي «الشرائع»(2) إجماعاً، كما في «المنتهى»(3)، وزيد فيهما: (بعد الإطلاء ابتداءً واستدامة).
وعن «التذكرة»:(4) زيادة قوله: (شمّاً ومسّاً، علق به بالبدن، أو عبقت به الرائحة، واحتقاناً واكتحالاً وإسعاطاً لا لضرورة، ولبساً لثوبٍ مطيّب، وافتراشاً له بحيث يشمّ الريح، أو يباشر به بدنه وثياب بدنه، ولو داس بنعله طيباً فعلّق بنعله فإنّ تعمّد ذلك وجبت الفدية).
ومن الفقهاء: من لم يذكر له الكفّارة أصلاً كالديلمي(5).
ومنهم: من ذكرها للتدهّن خاصّة، كابن سعيد(6).
ومنهم: من ذكرها لأكل الطعام المطيّب خاصّة، كالمفيد(7)، وابن حمزة(8).
ص: 272
ومنهم: من ذكرها للأكل وشَمّ الكافور والمِسْك والعنبر والزّعفران والورس، وصرّح بالنفي بما عدا ذلك كالحلبي(1).
ومنهم: من زاد على الأخير استعمال الدّهن الطيب، ونفي الكفّارة عمّا عدا ما ذكره بالإجماع، والأخبار، والأصل، كالخلاف(2).
إلى غير ذلك من الاختلافات الواقعة في كلماتهم.
أقول: والنصوص الواردة في المقام أيضاً مختلفة:
منها: صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: «من أكل زعفراناً متعمّداً أو طعاماً فيه طيب فعليه دم، فإنْ كان ناسياً فلا شيء عليه...»(3).
ومنها: صحيح ابن عمّار: «في مُحرِم كانت به قرحة فداواها بدهن بنفسج ؟ قال عليه السلام: إنْ كان فعله بجهالةٍ فعليه طعام مسكين، وإنْ كان تعمّد فعليه دم شاة يُهريقه»(4).
ومنها: مرسل حريز، عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«لا يمسّ المُحرِم شيئاً من الطيب، ولا الريحان، ولا يتلذّذ به، ولا بريحٍ طيّبة، فمن ابتُلي بشيءٍ من ذلك فليتصدّق بقدر ما صنع قدر سعته»(5).
ومثله صحيحه عن الإمام الصادق عليه السلام(6).4.
ص: 273
ومنها: صحيح ابن عمّار، عنه عليه السلام في حديثٍ : «فمن ابتُلي بشيءٍ من ذلك فليعد غُسله، وليتصدّق بصدقة بقدر ما صنع»(1).
ومنها: خبر الحسن بن زياد، عنه عليه السلام: «في الأشنان فيه الطيب يَغسل به اليد والغاسل مُحرِم ؟ قال: إذا أردتم الإحرام فانظروا مزاودكم، فاعزلوا الذي لا يحتاجون إليه، وقال: تصدّق بشيء كفّارة للأشنان الذي غسلت به يدك»(2).
ونحوه خبره الآخر(3).
ومنها: صحيح زرارة، عن الإمام الباقر عليه السلام: «من نتف إبطه، أو قلّم ظفره، أو حلق رأسه، أو لبس ثوباً لا ينبغي له لبسه، أو أكل طعاماً لا ينبغي له أكله وهو مُحرِم، ففعل ذلك ناسياً أو جاهلاً فليس عليه شيء، ومن فعله متعمّداً فعليه دم شاة»(4).
ومنها: مرسل المفيد، قال عليه السلام: «كفّارة مسّ الطيب للمُحرِم أن يستغفر اللّه تعالى »(5).
ومنها: المرويّ في «قُرب الإسناد» للحميري: «لكلّ شيء خرجت من حَجّك فعليك فيه دمٌ تُهريقه حيث شئت»(6).
وبمضمونها بعض نصوصٌ اُخر.6.
ص: 274
ولا بأس بخَلُوق الكعبة.
أقول: والجمعُ بين النصوص يقتضي البناء على وجوب الشاة في أكل الطعام المطيّب، والتدهين بالمطيّب متعمّداً، لصحيحي زرارة وخبري ابن عمّار و «قرب الإسناد»، لأخصيّة الأولين عن سائر الأخبار المخالفة لهما، وكذا في استعمال ما يحرم استعماله من الطيب - وقد تقدّم المختار في المطيّب - لخبر «قرب الإسناد» المنجبر ضعفه بالشهرة، ولا تجب في غير ذلك.
أمّا في استعمال غير الخمسة من الطيب، فلما مرّ في مبحث حرمة التطيّب(1) من انحصار الطيب في الخمسة. وأمّا في صورتي الجهل والنسيان فلصحيحي زرارة المتقدّمين.
نعم، يستحبّ التصدّق بما ورد في الأخبار فيما عدا ما ذكر، للأخبار المتقدّمة المحمولة على الندب للإجماع، ولما ذكر.
(ولا بأس بخَلُوق الكعبة) كما تقدّم الكلام فيه مفصّلاً(2).
***5.
ص: 275
الثالثة: في تقليم كلّ ظفرٍ مُدٌّ من طعام، وفي يديه ورجليه شاةٌ مع إتّحاد المجلس، ولو تعدّد فشاتان.
المسألة (الثالثة: في تقليم كلّ ظفرٍ مُدّ من طعام) إلى أن يبلغ العشرة أو العشرين، (و) حينئذٍ ف (في) أظفار (يديه ورجليه شاة مع اتّحاد المجلس، ولو تعدّد فشاتان) على ما هو المشهور بين الأصحاب(1)، وفي «المنتهى»(2) دعوى الإجماع عليه.
وعن الإسكافي(3): (في كلّ ظفرٍ مُدّ أو قيمته مخيّراً بينهما، إلى أن يبلغ خمسة فصاعداً ففيها دم إنْ كان في مجلسٍ واحد، فإنْ فرّق بين يديه ورجليه، فليديه دمٌ ولرجليه دم).
وعن الحلبي(4): (لقصّ كلّ ظفرٍ كفٌّ من طعام، وفي أظفار إحدى يديه صاع، وفي أظفار كلتيهما دم، وكذلك حكم أظفار رجليه).
وعن العُمّاني(5): (من انكسر ظفره وهو مُحرِم فلا يقصّه، فإنْ فعل فعليه أن
ص: 276
يُطعم مسكيناً في يده).
أمّا الأخبار: فطوائف:
الطائفة الاُولى: ما يدلّ على ما هو المشهور بين الأصحاب:
منها: صحيح أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن رجلٍ قصّ ظفراً من أظافيره وهو مُحرمٍ؟ قال عليه السلام: عليه في كلّ ظفر مُدّ من طعام حتّى يبلغ عشرة، فإن قلّم أصابع يديه كلّها فعليه دم شاة.
قلت: فإنْ قلّم أظافير يديه ورجليه جميعاً؟ فقال عليه السلام: إنْ كان فعل ذلك في مجلسٍ واحد فعليه دم، وإنْ كان فعله متفرّقاً في مجلسين فعليه دمان»(1).
أقول: هكذا رواه الصدوق بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن أبي بصير(2).
كما رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن الحسن بن محبوب، عن علي بن رئاب، عن أبي بصير نحوه، إلّاأنّه قال: (عليه في كلّ ظفرٍ قيمة مُدّ من طعام)(3).
والمشهور أخذوا بالأوّل، لكن قال صاحب «المستند»: (ولكن لا دلالة له على لزوم الشاة في أظفار الرِّجلين خاصّة)(4).
ولكن يمكن أنْ يقال: إنّ قوله في ذيل الخبر: (وإنْ كان فَعَله متفرِّقاً فعليه دمان) يشهد بذلك، إذ لو فرضنا أنّه قلّم أظافر رجليه أوّلاً ثمّ أظافر يديه بعد ساعة، ثبت0.
ص: 277
بحكم الصحيح دم شاة لقص أظافر الرِّجلين، ولا يحتمل دخل قصّ أظافر اليدين بعد ساعة في ذلك، وهو واضح.
ومنها: خبر الحلبي: «أنّه سأله عن مُحرِمٍ قلّم أظافيره ؟ قال: عليه مُدّ في كلّ إصبع، فإنْ هو قلّم أظافيره عشرتها فإنّ عليه دم شاة»(1).
ونحوهما غيرهما.
الطائفة الثانية: ما يدلّ على أنّ في تقليم الأظفار متعمّداً دم:
منها: صحيح زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: «من قلّم أظافيره ناسياً أو ساهياً أو جاهلاً فلا شيء عليه، ومن فعله متعمّداً فعليه دم»(2).
ومنها: خبره الآخر، عنه عليه السلام: «من نتف إبطه، أو قلّم ظفره، أو حلق رأسه، ناسياً أو جاهلاً فليس عليه شيء، ومن فعله متعمّداً فعليه دم شاة»(3).
أقول: ولكن يقيّد إطلاق هذه الطائفة بما تقدّم من النصوص، كما أنّ إطلاق تلك الطائفة من حيث العموم للعالم العامد وغيره يقيّد بهذه النصوص، فيثبت ما اختاره المشهور.
الطائفة الثالثة: ما يدلّ على أنّ في تقليم خمسة من الأظافير دم شاة:
منها: صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في المُحرِم ينسى فيقلّم ظفراً من أظافيره ؟ قال عليه السلام: يتصدّق بكفٍّ من الطعام، قلت: فاثنين ؟ قال عليه السلام كفّين، قلت:
فثلاثة ؟ قال عليه السلام: ثلاث أكف، كلّ ظفرٍ كفّ حتّى يصير خمسة، فإذا قلّم خمسة فعليه3.
ص: 278
دمٌ واحد، خمسة كان أو عشرة أو ما كان»(1).
ونحوه مرسله عمّن أخبره عن أبي جعفر عليه السلام(2).
أقول: استدلّ الإسكافي(3) بهذين الخبرين على ما اختاره، من أنّ في الخمسة دماً، كما أنّه استدلّ لما اختاره من أنّ في كلّ ظفرٍ مُدّاً أو قيمته، بأنّه مقتضى الجمع بين نقلي خبر أبي بصير المتقدّم.
ولكن يرد على الاستدلال بهذين الخبرين: أنّ الأوّل منهما في الناسي الذي لا يجبُ عليه الكفّارة إجماعاً ونصّاً(4)، مع أنّه والثاني - الذي هو مرسلٌ لا جابر له - تضمّنا التقدير بالكفّ من الطعام، ولم يفتِ به الأصحاب، وعليه فإمّا أن يُحملان على التقيّة، لأنّهما موافقان لمذهب أبي حنيفة(5)، أو على الاستحباب(6).
وأمّا الاستدلال الثاني فيردّه: أنّ النقلين ليسا روايتين كي يُجمع بينهما بما ذكر، بل هما رواية واحدة نقلت بنحوين، فمقتضى القاعدة هو الاحتياط، ولكن قد عرفت أنّ الشهرة بل الإجماع يعضد النقل الأوّل، وهو المعتمد.
ثمّ إنّه استدلّ للجزء الأوّل ممّا حكم به الحلبي بصحيح حريز ومرسله، ولجزئة الثاني بأنّه أراد بالصّاع صاع النبي صلى الله عليه و آله، وهو خمسة أمداد، فيوافق المشهور.
الطائفة الرابعة: ما يدلّ على وجوب قبضةٍ من طعام مكان قصّ كلّ ظفر:2.
ص: 279
منها: صحيح معاوية بن عمّار - أو حسنه - عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«عن المُحرِم تطول أظفارة أو ينكسر بعضها فيؤذيه ؟ قال عليه السلام: لا يقصّ منها شيئاً إن استطاع، فإنْ كانت تؤذية فليقصها وليطعم مكان كلّ ظفرٍ قبضة من طعام»(1).
ولكنّه مختصّ بحال الإضطرار، ولا بأس بالعمل به في مورده.
أقول: وينبغي التنبية على أُمور:
الأمر الأوّل: ما مرّ من أنّ الكفّارة إنّما تثبت مع العلم والعمد، وأمّا مع النسيان والجهل فلا كفّارة إجماعاً(2)، ويشهد له صحيح زرارة المتقدّم، وكذا لا كفّارة مع الإكراه، لعموم حديث: (رفع ما استكرهوا عليه)(3).
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ الحديث إنّما يرفع الحكم الذي في رفعه منّة على الاُمّة، ولا امتنان عليهم في رفع هذا الحكم. نعم، يرفع الحديث الحرمة التكليفية قطعاً، ولا تلازم بين رفعها ورفع الكفّارة.
إلّا أنْ يقال: إنّه لا كفّارة على الفعل المباح، كما عن غير واحدٍ، بل قد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّ التلازم بينهما في هذه المسائل إجماعي.
الأمر الثاني: مقتضى إطلاق النصوص أنّ بعض الظفر كالكلّ ، لصدق الظفر،
ص: 280
بل المتعارف هو قصّ البعض، ولو سُلّم انصراف النص إلى قصّ ما يتعارف قصّه كي لا يشمل قصّ أقلّ منه، فهو بدوي يزول مع التوجّه.
ولو قصّ في دفعاتٍ ظفر إصبع واحدة، لا تتعدّد الفدية، وإنْ كان مع اختلاف المجلس، لأنّ النصوص تدلّ على ثبوت فديةٍ واحدة في قصّ ظفر كلّ إصبع، ولم يدلّ دليلٌ على اشتراط وحدة القص.
الأمر الثالث: لو قلّم أظفار إحدى يديه وإحدى رجليه، فهل تجبُ الشاة لأنّه قلّم عشرة أظافيره ؟ أم تجب عشرة أمداد، لأنّه لم يقلّم أظافير يديه ولا أظافير رجليه ؟ وجهان:
أظهرهما الثاني، فإنّ الموضوع لوجوب الشاة في الصحيح أظافير يديه وأظافير يديه ورجليه، وهي لا تشمل الفرض قطعاً، والموضوع في خبر الحلبي أظافيره عشرتها لا عشرة أظافير، والتعبير الأوّل ظاهرٌ في العشرة من عضو واحد، ولو سُلّم شمول الخبر له يقع التعارض بينه وبين الصحيح، والترجيح مع الصحيح كما لا يخفى .
الأمر الرابع: لو كان له إصبع زائدة في اليد أو الرّجل، فهل ثبوت الشاة يتوقّف على قصّ ظفرها أيضاً، أم لا؟
أقول: الظاهر ذلك، فإنّ صحيح أبي بصير أُخذ فيه أظافير اليدين والرِّجلين، وانصرافه إلى المتعارف قد عرفت ما فيه، إلّاأنّ خبر الحلبي يدلّ على عدم توقّفه عليه، ولكنّه ضعيف مع أنّ النسبة بينه وبين الصحيح عموم من وجه، فيقدّم الصحيح.
أضف إليه: أنّ قوله: (أظافيره عشرتها) ظاهرٌ في إرادة جميع الأصابع، والتعبير بعشرتها للغلبة.
ص: 281
وعلى المفتي إذا قلّم المُستفتي فأدمى إصبعه شاة.
وبما ذكرناه ظهر أيضاً أنّ من له يدٌ ناقصة إصبعاً، فإنّه يثبت الدّم لو قصّ ما له من الأظافير وإنْ كانت تسعة.
الأمر الخامس: لا فرق في وجوب الدّم بين ما لو تخلّل التكفير عن السابق قبل البلوغ إلى حَدّ يوجب الشاة وعدمه، لإطلاق النص.
فما قيل: من إنّه لو خلل التكفير تعدّد المُدّ خاصّة بحسب تعدّد الأصابع(1)، لأنّه المتبادر من النص والفتوى، غير تامّ .
الأمر السادس: (و) لو أفتى أحد بتقليم ظُفر المُحرِم، ف (على المفتي إذا قلّم المستفتي فأدمى إصبعه شاة) بلا خلافٍ أجده فيه، كما في «الجواهر»(2).
ويشهد به: خبر إسحاق، عن أبي إبراهيم عليه السلام: «قلتُ له: إنّ رجلاً أحرم فقلّم أظفاره، وكانت له إصبع عليلة، فترك ظفرها لم يقصّه، فأتاه رجل بعدما أحرم فقصّه فأدماه ؟ فقال: على الذي أفتى شاة»(3).
وهو وإنْ كان ضعيفاً بزكريّا المؤمن، لكنّه ينجبر ضعفه بالعمل.
أقول: وأمّا موثّقه عن أبي الحسن عليه السلام: «عن رجلٍ نسى أن يُقلّم أظفاره عند إحرامه ؟ قال: يدعها. قلت: فإنّ رجلاً من أصحابنا أفتاه بأن يقلّم أظفاره ويعيد إحرامه ففعل ؟ قال عليه السلام: عليه دمٌ يُهريقه»(4)، فيحتمل عود الضمير إلى المستفتي،3.
ص: 282
فلا يدلّ على المقام، وعلى فرض عوده إلى المفتي يقيّد إطلاقه بالخبر.
ومقتضى إطلاق النص عدم اعتبار إحرام المفتي، كما أنّ مقتضي التقييد في الخبر والأصل اعتبار الإدماء.
فرع: هل يُشترط أهليّة المفتي للإفتاء، أو كونه كذلك بزعم المستفتي، أم لا؟
نُسبِ إلى جماعة(1) اعتبار الاجتهاد فيه، بدعوى أنّه المتبادر من النص، وفيه نظر.
نعم، الظاهر اعتبار كونه أهلاً للإفتاء بزعم المستفتي، إذ الظاهر من النص أنّه إنّما قصّ ظفره مستنداً إلى فتوى المفتي، وكان قد تركه قبلها، ومعلومٌ أنّه إنّما يستند إليها إذا كان بزعمه أهلاً لذلك، فما عن ثاني الشهيدين في «المسالك»(2) من استظهار صلاحيته للإفتاء بزعم المستفتي هو الصحيح.
وهل يثبت الحكم لو نقل شخصٌ فتوى المفتي فقصّه فأدماه، أم لا؟
الظاهر هو الثاني، لإختصاص النص بالمفتي، والتعدّي يحتاج إلى دليلٍ مفقود، كما أنّه لا يتعدّى إلى الإفتاء بسائر المحظورات، كما لو أفتاه بحلق الرأس فحلق فأدماه، لاختصاص النصّ بالفتوى بالقص.
حكم تعدّد المفتي: لو تعدّد المُفتي:
1 - فإنْ كان على وجه التعاقب، كان الدّم على الأوّل خاصّة، فإنّه السبب في الإدماء، وهو الظاهر من النص.
2 - وإنْ كان الإفتاء دفعةً :5.
ص: 283
فهل على كلّ واحدٍ منهم دمٌ كما عن «القواعد»(1) وغيرها؟
أم على الجميع دمٌ واحدٌ يوزّع عليهم كما قوّاه في «الجواهر»؟
وجهان، أقواهما الأوّل(2)، لأنّ الموضوع في النَّص هو إفتاء رجل، وهذا العنوان لا يصدق على مجموع المفتين حتّى يُقال إنّ التقليم مستندٌ إلى فتوى الجميع، فيجبُ شاة واحدة عليهم كما في «الجواهر»(3)، بل هو يصدق على كلّ واحدٍ منهم إذا كان صالحاً للفُتيا بزعمه.
وعليه، فالأظهر هو التعدّد.
فإنْ قيل: إنّه إذا كان الموضوع هو فتوى من يكون صالحاً لذلك بزعمه، وإنْ لم يستند القصّ إليها، لزم منه وجوب الشاة على المفتي الثاني في صورة التعاقب أيضاً.
وإنْ كان هو الفتوى مع استناد الفعل إليها، ففي فرض الإفتاء دفعةً لا يكون الفعل مستنداً إلى فتوى كلّ واحدٍ منهم، فيلزم عدم وجوب الشاة أصلاً؟
قلنا: إنّ الموضوع مركّب من أمرين: الصلاحيّة، والإستناد، ففي فرض الدفعة وإنْ كان لا يستند الفعل إلى كلّ من الفُتيا مستقلّاً، ولكنّه يستند إليهما، ولا يعتبر الاستناد استقلالاً، بخلاف صورة التعاقب.
وعليه، فالأظهر هو التفصيل بين صورة التعاقب وفرض الدّفعة، كما عرفت.
ولو تعمّد القالم الإدماء، فالأظهر عدم شيء على المفتي.
وعن «الدروس»: (الأقرب قبول قول القالم في الإدماء)(2)، وفيه نظر واضح.
***3.
ص: 284
الرابعة: في لبس المَخيط شاة.
المسألة (الرابعة: في لَبس المخيط شاة) بلا خلافٍ (1) فيه.
وفي «الجواهر»: (بل الإجماع بقسميه عليه)(2).
وفي «المنتهى»: (وهو قول العلماء)(3) وكذا في «التذكرة»(4).
وفي «الرياض»: (بالإجماع)(5).
وأمّا النصوص:
منها: صحيح زرارة، قال: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: من نتف إبطه، أو قلّم ظفره، أو حلق رأسه، أو لبس ثوباً لا ينبغي له لبسه، أو أكل طعاماً لا ينبغي له أكله، وهو مُحرم، ففعل ذلك ناسياً أو جاهلاً فليس عليه شيء، ومن فعله متعمّداً فعليه دم شاة»(6).
ومنها: خبر سليمان بن العيص، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن المُحرِم يلبس القميص متعمّداً؟ قال عليه السلام: عليه دم»(7).
ونحوهما غيرهما.
ص: 285
وإنْ كان لضرورة
وعليه، فلا إشكال في الحكم، بل لا كلامٍ في أنّه تجبُ الشاة (وإنْ كان) اللّبس (لضرورةٍ )، ويشهد به - مضافاً إلى إطلاق صحيح زرارة، وخبر سليمان - صحيح محمّد بن مسلم، عن مولانا الباقر عليه السلام:
«إذا احتاج إلى ضروبٍ من الثياب يلبسها، قال عليه السلام: عليه لكلّ صنفٍ منها فداء»(1).
والإيراد على الأوّل: بأنّه مع الضرورة يكون اللّباس ممّا ينبغي لبسه لا ممّا لا ينبغي.
وعلى الأخير: بأنّه في الضرورة إلى لبس ثيابٍ متعدّدة، ولا يشمل الاضطرار إلى لبس ثوبٍ واحد.
في غير محلّه، فإنّ صحيح زرارة تضمّن قوله: (ففعل ذلك ناسياً) ممّا يُعلم أنّ المراد من قوله: (لا ينبغي له لبسه) أنّه لا ينبغي له لبسه في حال العمد والاختيار.
وبعبارة أُخرى: مناط ثبوت الكفّارة هو الثوب الذي يكون موضوعاً للحرمة، ولو في بعض الحالات.
وأمّا الأخير: وإنْ كان في الثياب المختلفة، إلّاأنّ من الضروري عدم الفرق بينها وبين ثوبٍ واحد، بل ظاهر قوله عليه السلام: (لكلّ صنفٍ منها فداء) أنّ الموضوع للكفّارة هو كلّ ثوبٍ وحده من حيث هو.
أقول: وأمّا الآية الكريمة: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ 7.
ص: 286
مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (1) التي استدلّ بها في المقام، بدعوى أنّ المراد منها من كان منكم فلبس أو تطيّب أو حَلق، فهي أجنبيّة عن المقام، بل مختصّة بحلق الرأس خاصّة، لوجوه:
1 - تفريعها على قوله تعالى: (وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ ) (2).
2 - قوله: (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ ) (3).
3 - أنّه يلزم من شمولها اللّبس، كون فديته مخيّرة، ولا قائل به.
أقول: وتمام الكلام يتحقّق بالتنبيه على أُمور:
الأمر الأوّل: استدامة اللّبس كابتدائه، فلو لبس المُحرِم قميصاً ناسياً ثمّ ذكر، وجب عليه خلعه كما تقدّم، ولو لم ينزعه وجب الفداء، كما صرّح به بعضٌ (2)، لأنّ الموضوع هو اللّبس دون المعنى الحَدَثي، وهو يصدق على الاستدامة كصدقة على الابتداء.
الأمر الثاني: قال المصنّف في «المنتهى» في مبحث تروك الإحرام - بعد الحكم بجواز لبس السراويل إذا لم يجد إزاراً -: (فقد اتّفق العلماء على أنّه لا فدية عليه في لبسه) انتهى (3).
وهو المحكيّ عن «الخلاف»(4)، و «السرائر»(5)، و «التحرير»(6)، و «التذكرة»(7)،).
ص: 287
وقد استدلّ له بخلوّ النصوص والفتاوي عن ذكرها له.
وفيه: أنّ المأخوذ في النص موضوعاً لذلك هو الثياب وهي تشملها، وعليه فإنْ كان هناك إجماعٌ فهو المعتمد، وإلّا فمقتضى الإطلاق ثبوتها للبسها أيضاً.
الأمر الثالث: لا إشكال في جواز لبس الخُفّين عند الضرورة، كما مرّ في الباب السابق، إنّما البحث عن أنّه هل في لبسهما فدية أم لا؟
قد يقال بالثبوت، لأنّه الأصل في تروك الإحرام، وعموم خبر الفداءفي المقام.
ولكن يرد على الأوّل: أنّ الأصل المزبور لا دليل عليه.
ويرد على الثاني: أنّ الموضوع في النص هو الثوب، وهو لا يشمل الخفّين.
وعليه، فالأظهر عدم ثبوتها في لبسهما، بل لا دليل على ثبوت الفدية في لبسهما اختياراً وإنْ حرم.
***
ص: 288
الخامسة: في حَلق الشعر شاة، أو إطعام عشرة مساكين، لكلّ مسكينٍ مُدّ، أو صيام ثلاثة أيّام وإنْ كان مضطرّاً.
المسألة (الخامسة: في حَلْق الشعر) الكفّارة إجماعاً(1) ونصّاً.
أقول: إنّما الكلام يقع في موارد:
المورد الأوّل: المشهور(2) بين الأصحاب أنّ الكفّارة مخيّرة بين (شاة، أو إطعام عشرة مساكين، لكلّ مسكينٍ مُدّ، أو صيام ثلاثة أيّام وإنْ كان مضطرّاً)، وإنْ كان بينهم خلافٌ في الثاني، سيمرّ عليك.
وعن الديلمي:(3) الاقتصار على الدّم خاصّة.
وعن ابن سعيد الحِلّي(4) وجمعٍ من متأخّري المتأخّرين(5)، التفصيل بين الحَلق لا لضرورة فالدم خاصّة، وبين الحَلق لضرورة فالتخيّير.
أقول: ومنشأ الاختلاف اختلاف النصوص والآية الكريمة:
ص: 289
أمّا قوله تعالى : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) (1) فتدلّ على التخيّير.
وأمّا الأخبار فطائفة منها تدلّ عليه:
منها: صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «مرّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله على كعب بن عجرة الأنصاري والقُمّل يتناثر من رأسه وهو مُحرِم! فقال: أتؤذيك هوامّك ؟ فقال:
نعم، فاُنزلت هذه الآية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فأمره رسول اللّه صلى الله عليه و آله بحلق رأسه، وجعل عليه الصيام ثلاثة أيّام، والصدقة على ستّة مساكين لكلّ مسكينٍ مُدّان، والنسك شاة.
قال: وقال أبو عبد اللّه عليه السلام: وكلّ شيء في القرآن (أو) فصاحبه بالخيار يختار ما شاء، وكلّ شيءٍ في القرآن (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) فعليه كذا، فالأوّل بالخيار»(2).
ونحوه مرسله(3) ومرسل «الفقيه»، إلّاأنّ فيه: «لكلّ مسكينٍ صاع من تمر»، ورُوي: «مُدٌّ من تمر»(4).
ومنها: خبر عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام:
«قال اللّه تعالى في كتابه: (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) فمن عَرَض له أذى أو وجع، فتعاطى ما لا ينبغي للمُحرِم إذا كان صحيحاً، فصيام ثلاثة أيّام، والصدقة على عشرة مساكين8.
ص: 290
يُشبعهم من الطعام، والنسك شاة يذبحهافيأكل ويطعم، وإنّما عليه واحد من ذلك»(1).
ونحوها خبر زرارة في المحصور الذي بعث بهديه، فأذاه رأسه قبل أن ينحر هديه(2).
وطائفة اُخرى : من النصوص ظاهرة في تعيّن الشاة:
منها: صحيح زرارة، عن سيّدنا الباقر عليه السلام: «من نتف إبطه، أو قلّم ظفره، أو حلق رأسه، أو لبس ثوباً لا ينبغي له لبسه، أو أكل طعاماً لا ينبغي له أكله، وهو مُحرِم، ففعل ذلك ناسياً أو جاهلاً فليس عليه شيء، ومن فعله متعمّداً فعليه دم شاة»(3).
ونحوه صحيحة الآخر(4).
واستدلّ للقول الأوّل: بالآية والنصوص الأوّل، بضميمة ما عن «المنتهى»(5)من دعوى الإجماع على عدم الفرق في التخيّير بين أنْ يكون الحلق لعذر أو لغير عذر.
واستدلّ للقول الثاني: بالطائفة الثانية.
ويشهد للقول الثالث: أنّ الآية والنصوص الأول موردها ذو العذر، والطائفة الثانية عامّة له ولغيره، فالجمع بين الطائفتين يقتضي البناء على التفصيل.
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّه لا ريب في لزوم حمل قوله في الصحيحين: (فعليه دمُ شاة)،).
ص: 291
على إرادة أحد الأفراد، أمّا بالنسبة إلى حلق الرأس مطلقاً، أو بالنسبة إلى حلق الرأس في حال الضرورة، وعلى الأوّل يثبت القول الأوّل، وعلى الثاني القول الثالث، وحيثُ لا مرجّح، فالمرجّح هو النصوص الأول بضميمة الإجماع.
ولكن يمكن دفعه: بأنّ الضرورات تتقدّر بقدرها، فبمقدار ما لابدّ منه يرفع اليد عن الظهور، فبالنسبة إلى الزائد لا وجه لرفع اليد عنه.
وعليه، فالأظهر بحسب الأخبار هو القول الثالث، ولكن من جهة الإجماع المنقول عن المصنّف رحمه الله وغيره يُبني على الأوّل، واللّه العالم.
المورد الثاني: أنّ الآية الكريمة وأكثر النصوص مختصّة بالرأس وبالحلق، ولكن ادّعى الإجماع غير واحدٍ(1) - منهم المصنّف(2) رحمه الله - على عدم الاختصاص بالرأس، كما أنّه صرّح غير واحدٍ(3) بأنّ المراد من الحلق مطلق الإزالة، وقد عنون المسألة بها بعضهم(4).
أقول: ويمكن أن يستدلّ للتعميم من الجهتين بخبر عمر بن يزيد المتقدّم، فإنّه وإنْ ورد في تفسير الآية، وهي مختصّة بحلق الرأس، لكن ما ذكره عليه السلام مطلقٌ من الجهتين، ويؤيّده خبر «قرب الإسناد» المتقدّم: (لكلّ شيء خَرَجت من حجّك فعليك فيه دمٌ تُهريقه)، والاعتبار وهو عدم التنظيف والرفاهية الحاصلة بمطلق الإزالة.
المورد الثالث: أنّ في الصدقة المذكورة خلافاً:).
ص: 292
1 - فعن الأكثر: بل الأشهر، إنّما على ستّة مساكين، لكلّ مسكينٍ مُدّان(1).
2 - وعن «الغُنية»(2): أنّها على ستّة مساكين من غير ذكر المُدّ أو المُدّين، وقد نُفي عنه الخلاف.
3 - وعن «المبسوط»(3) و «المقنعة»(4) و «السرائر»(5): أنّها على ستّة مساكين، لكلّ مسكينٍ مُدّ.
4 - وعن ابن حمزة(6) و «القواعد»(7) وفي «الشرائع»(8) والكتاب(9): أنّها على عشرة مساكين، لكلّ مسكينٍ مُدّ، وعن «المدارك»(10) نسبته إلى المشهور.
5 - وعن «التهذيب»(11) و «الاستبصار»(12) و «الجامع»(13) و «الدروس»(14):
التخيّير بين الستّة والمُدّين، أو العشرة، والإشباع.).
ص: 293
6 - وعن «النافع»(1): التخيّير بين عشرة أمداد لعشرة، وإثنى عشرة لستّة، ونُفى عنه البُعد في محكي «المسالك»(2).
وجه الأوّل: أنّ خبري حَريز دالّان عليه، ومعارضهما هو خبر ابن يزيد ومرسل «الفقيه»، والأوّل ضعيفُ السند، والمتن لتجويز الأكل فيه من الفداء، والثاني مرسلٌ ومتنه غير واضح.
ولكن يرد عليه: أنّ خبر ابن يزيد قويٌّ سنداً، سيّما بعد عمل الأساطين به، واشتماله على ما لابدّ من طرحه لعدم التزام أحدٍ به لا يوجبُ طرحه في غيره، والثاني لم يُعلم كونه مخالفاً للأوّل.
ووجه الثالث: مرسل «الفقيه»، ولم يظهر وجه ترجيحه على غيره.
وجه الرابع: ترجيح نصّ العشرة، مع كون الغالب في الشبع المُدّ، وكلاهما قابلان للمنع.
ووجه الأخير: الجمع بين الطائفتين، مع كون الغالب في الشبع المُدّ، وقد عرفت ما فيه.
وبالجملة: ظهر ممّا ذكرناه أظهريّة الوجه الخامس، وهو التخيّير بين الستّة والمُدّين والعشرة والإشباع، فإنّ ذلك مقتضى الجمع بين الطائفتين، وأمّا مرسل «الفقيه» فلم يعمل به على كلا نقليه إلّاشاذّ، مضافاً إلى إرساله.
المورد الرابع: أنّه لا فرق في ترتّب الفدية على الحلق، بين فعله بنفسه، أو بغيره مع الإذن له الذي هو المتعارف في حلق الرأس، سواءٌ كان الحالق مُحرِماً5.
ص: 294
أم مُحِلّاً، أمّا إذا لم يأذن له فحلق رأسه - كما لو حَلَقه وهو نائم - فالظاهر عدم الفدية على أحدٍ منهما، للأصل بعد عدم الدليل، كما أنّه لا كفّارة على المُحرِم الحالق للمُحِلّ .
المورد الخامس: مقتضى إطلاق النص، ترتّب الفدية على كلّ ما هو حرام من إزالة الشعر، ولو كان بحلق ثلاث شعرات.
وعن «المنتهى»(1): (الكفّارة عندنا تتعلّق بحلق جميع الرأس أو بعضه، قليلاً كان أو كثيراً، لكن يختلف، ففي حلق الرأس دمٌ ، وكذا فيما سُمّي حلق الرأس، وفي حلق ثلاث شعرات صدقة بمهما كان)، انتهى .
والظاهر أنّ نظره إلى ما سيأتي من الأخبار في من مسّ لحيته أو رأسه فوقع منهما شيء، ولكنّها في غير الحلق كما سيمرّ عليك.
***).
ص: 295
السادسة: في نتف الإبطين شاة، وفي إحداهما إطعام ثلاثة مساكين
المسألة (السادسة: في نتف الإبطين شاة) بلا خلافٍ (وفي إحداهما إطعام ثلاثة مساكين) على ما هو المشهور بين الأصحاب(1).
ويشهد للأوّل: صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا نتف الرّجل إبطيه بعد الإحرام فعليه دم»(2).
ورواه الصدوق بإسناده عن حريز مثله، إلّاأنّه قال: (إبطه) بغير تثنية(3)، وعليه فينطبق مع صحيح زرارة الذي قال: «سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: من نتف إبطه، أو قلّم ظفره، أو حلق رأسه ناسياً أو جاهلاً فليس عليه شيء، ومن فعله متعمّداً فعليه دم شاة»(4).
وإطلاق (الدّم) في صحيح حريز محمولٌ على الشاة، بقرينة صحيح زرارة.
وأمّا الحكم الثاني: فقد استدلّ له بوجوه:
الوجه الأوّل: مفهوم صحيح حريز، فإنّه يدلّ على أنّ لزوم الدّم منوطٌ بنتف الإبطين، ومقتضاه عدم لزومه مع نتف أحدهما، وحيثُ أنّ الإجماع قائم على لزوم
ص: 296
شيء، أمّا الدّم أو إطعام ثلاثة مساكين، فيتعيّن الثاني.
أقول: ولا يرد عليه ما عن «الذخيرة»(1): (من أنّ الشرط لوروده موردالغالب لا مفهوم له)، فإنّ ذلك لا يمنع عن المفهوم.
بل يرد عليه: أنّ الشرط لم يظهر كونه نتف الإبطين أو نتف الإبط مطلقاً، الشامل لنتف إحداهما، لاختلاف النقل كما مرّ.
الوجه الثاني: أنّ النصوص الدالّة على لزوم الدّم في الإبط منصرفة إلى ما هو الغالب، وهو نتفهما معاً، فلا دليل على لزوم الدّم في نتف إحداهما، فبضميمة الإجماع المتقدّم يُحكم بثبوت الحكم الآخر.
وفيه: ما حُقّق في محلّه من أنّ الانصراف الناشيء عن غلبة وجود فرد، لا يصلح أنْ يكون مقيّداً للإطلاق.
الوجه الثالث: الإجماع المنقول.
وفيه: أنّه ليس بحجّة مع معلوميّة المدرك.
الوجه الرابع: خبر عبد اللّه بن جبلة، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في مُحرِمٍ نتف إبطه ؟ قال: يطعم ثلاثة مساكين»(2).
وأُورد عليه: بضعف السند، لأنّ الراوي عن عبد اللّه هو محمّد بن عبد اللّه بن هلال، وهو مهمل.
وفيه: إنّ ضعفه منجبرٌ بالعمل، فقد عمل به الأصحاب حتّى مثل الحِلّي وابن زهرة اللّذين لا يعملان حتّى بالأخبار الآحاد الصحيحة فضلاً عن الضعيفة، الا بعد5.
ص: 297
احتفافها بالقرائن القطعيّة.
ولكنّه يعارضه صحيح زرارة المتقدّم، بل وصحيح حريز على أحد نقليه، فلابدّ:
إمّا من الجمع بينهما بالالتزام بثبوتهما معاً.
أو حمل صحيح زرارة على الاستحباب.
أو حمل الخبر على الندب.
أو الالتزام بالتخيّير بينهما.
أو الرجوع إلى المرجّحات، والترجيح مع الخبر للشهرة.
والأوّل مخالفٌ للإجماع، وهو والثاني والثالث متوقّفة على عدم التنافي بينهما.
والظاهر ثبوته لكون كلّ منهما في مقام بيان الكفّارة الواجبة، فكلّ منهما يعيّنها في أحد الأمرين، فلا محالة يقع التنافي بينهما، والرابع غير بعيد، ولكن لم أرَ من التزم به الا بعض المتأخّرين(1).
وعليه، فالأحوط هو البناء على لزوم إطعام ثلاثه مساكين معيّناً.
أقول: وحكم نتف بعض الإبط، حكم نتف الكلّ ، لصدق ذلك، كما أنّ حكم حلقهما حكم نتفهما، وكذا نتف الإبط الواحدة.
وإنْ أبيت عن ذلك، فيجري في الحلق حكم إزالة الشعر المتقدّم، لما عرفت من عدم اختصاصه بحلق الرأس، وكذا في نتف البعض، فما في «الجواهر»(2) من عدم الكفّارة فيه ضعيفٌ .4.
ص: 298
ولو سَقَط من رأسه أو لحيته شيءٌ بمسّه، تصدّق بكفٍّ من طعام.
(ولو سقط من رأسه أو لحيته شيء بمسّه، تصدقّ بكفٍّ من طعام) كما صرّح به غير واحدٍ(1)، بل اُدّعي عليه الإجماع(2).
وعن السيّد(3) وسلّار(4): ثبوت الحكم في غير الرأس واللّحية.
وعن «النهاية»(5) و «المبسوط»(6): كفّ أو كفّان.
وعن «الوسيلة»(7) و «المهذّب»(8): كفّان احتياطاً.
وعن «الجامع»(9): صدقة.
وفي «الجواهر»(10): تقوية استحباب ذلك دون الحكم بالوجوب.
وأمّا النصوص:
ففي صحيح هشام: «فليتصدّق بكفٍّ من طعام، أو كفٍّ من سويق»(11).
ص: 299
وفي صحيحة الآخر: «بكفٍّ من طعام أو كفٍّ أو سويق»(1).
وفي صحيح الحلبي: «فعليه أن يُطعم مسكيناً في يده»(2).
وفي خبر الحسن بن هارون: «فاشتر بدرهم تمراً وتصدّق به»(3).
أقول: والجمع بين هذه النصوص يقتضي البناء على التخيّير، بين أن يتصدّق بكفٍّ من طعام أو سويق، أو يشتري تمراً بدرهم ويتصدّق به.
وأمّا صحيح منصور المتضمّن لقوله: (يُطعم كفّاً من طعامٍ أو كفّين)(4)، فمحمولٌ على الندب بالإضافة إلى كفّين، كما هو الحال في سائر موارد التخيّير بين الأقلّ والأكثر.
وأمّا ما دلّ على مطلق الإطعام، كصحيح ابن عمّار(5)، فيحمل على ما تقدّم، حملا للمطلق على المقيّد.
وأمّا ما تضمّن نفي الشيء أو الضرر عليه، كخبري المفضّل(6) وخبر ليث المرادي(7)، فبقرينة ما تقدّم يحمل على إرادة نفي العقاب والمؤاخذة والإثم، وليس صريحاً في نفي الكفّارة، كي يصلح قرينةً على حمل نصوص الكفّارة على الندب، كما في «الجواهر»(6)، واللّه العالم.1.
ص: 300
وإن كان في الوضوء فلا شيء.
أقول: (و) كيف كان، فالمشهور(1) بين الأصحاب انه (إنْ كان) فعل ذلك (في الوضوء فلا شيء) عليه، واستدلّ له بصحيح التميمي:
«قال: سأل رجلٌ أبا عبد اللّه عليه السلام عن المُحرِم يريد إسباغ الوضوء فتسقط من لحيته شعرةً أو شعرتان ؟ فقال عليه السلام: ليس بشيء ما جُعل عليكم في الدِّين من حرج»(2).
ولكنّه لا يدلّ على نفي الكفّارة، فإنّه متضمّنٌ لعدم كونه بشيء لا عدم شيء عليه، فالصحيح يدلّ على عدم الحرمة لا عدم الكفّارة.
وعليه، فما عن الصدوق(3) والمفيد(4) والسيّد(5) وسلّار(6)، من أنّه يجب فيه ما يجبُ في سقوط الشعر بالمسّ في غير الوضوء، هو الصحيح.
ثمّ إنّ المحكيّ عن المفيد(7) وسلّار(8) أنّه إنْ كان الساقط من شعره كثيراً فعليه دم شاة، وهو متين، فإنّ نصوص الباب لا تشمله، فيدخل تحت ما دلّ على ثبوت دم شاة في إزالة الشعر مطلقاً، لما تقدّم من عدم خصوصيّة للحلق فيه.
***0.
ص: 301
السابعة: في التظليل سائراً شاة،
المسألة (السابعة: في التظليل سائراً) الكفّارة، بلا خلافٍ (1) إلّاعن الإسكافي(2)، ويشهد به نصوصٌ كثيرة ستمرّ عليك جملة منها، وإنّما اختلفوا في ما يكفّر به:
1 - فالمشهور بين الأصحاب(3) أنّه دم (شاة).
2 - وعن «المقنعة»(4) و «جُمل العلم والعمل»(5) و «المراسم»(6) و «الوسيلة»(7)و «المبسوط»(8) و «السرائر»(9) أنّه دم.
3 - وعن الصدوق(10) أنّه مُدّ لكلّ يومٍ .
4 - وعن العُمّاني(11) أنّ كفّارته صيام أو صدقة أو نسك كالحلق للأذى.
ص: 302
وأمّا النصوص: فهي على طوائف:
الطائفة الأُولى: ما يدلّ على ما ذهب إليه المشهور:
منها: صحيح ابن بزيع، عن الإمام الرضا عليه السلام، قال: «سأله رجلٌ عن الظلال للمُحرِم من أذى مطرٍ أو شمس وأنا أسمع، فأمره أن يفدي شاة ويذبحها بمنى»(1).
ونحوه صحيحة الآخر(2) وصحيح إبراهيم بن أبي محمود(3) وغيرهما.
الطائفة الثانية: ما أمر فيه بالفداء أو إهراق الدّم مطلقاً، وهومستندُ القول الثاني:
منها: صحيح أبي علي بن راشد: «قلت له: جُعلت فداك، إنّه يشتدّ عَليَّ كشف الظلال في الإحرام، لأنّي محرور يشتدّ عَليَّ حَرّ الشمس ؟
فقال: ظلّل وارق دماً. فقلت له: دماً أو دمين ؟ قال: للعُمرة ؟ قلت: إنّا نحرم بالعُمرة، وندخلُ مكّة فنحلّ ونُحرِم بالحجّ؟
فقال عليه السلام: ارق دمين»(4).
ونحوه خبره الآخر(5)، وخبر علي بن محمّد(6) وغيرهما.
الطائفة الثالثة: ما يدلّ على ما ذهب إليه الصدوق رحمه الله:
منها: خبر أبي بصير: «عن المرأة يضرب عليها الظلال وهي مُحرِمة ؟ قال عليه السلام:
نعم قلت: فالرجل يضرب عليه الظلال وهو محرم ؟ قال عليه السلام: نعم، إذا كانت به شقيقة، ويتصدّق بمد لكلّ يوم»(7).9.
ص: 303
الطائفة الرابعة: ما يدلّ على ما ذهب إليه العُمّاني، وهي رواية عمر بن يزيد المتقدّمة في مسألة كفّارة إزالة الشعر في تفسير الآية الكريمة:
«فمن عرض له أذى أو وجع، فتعاطى ما لا ينبغي للمُحرِم إذا كان صحيحاً، فصيام ثلاثة أيّام، والصدقة على عشرة مساكين، يُشبعهم من الطعام، والنسك شاة يذبحها فيأكل ويطعم، وإنّما عليه واحدٍ من ذلك»(1)، فإنّ إطلاقه يشمل المقام.
الطائفة الخامسة: ما يدلّ على ثبوت البدنة، وهي رواية علي بن جعفر عليه السلام، قال:
«سألتُ أخي اُظلِّل وأنا مُحرِم ؟ فقال عليه السلام: نعم، وعليك الكفّارة.
قال: فرأيتُ عليّاً إذا قدم مكّة ينحر بدنة لكفّارة الظلّ »(2).
أقول: والجمع بين النصوص يقتضي اختيار ما هو المشهور، فإنّ إطلاق الطائفة الثانية يقيّد بالاُولى ، فالدم المأمور اهراقه هو خصوص الشاة، كما أنّ إطلاق الطائفة الرابعة الشامل للتظليل وغيره يقيّد بها، فتختصّ بغير التظليل.
وأمّا خبر علي بن جعفر عليه السلام: فيرد عليه أنّ الظاهر أنّ الضمير في (قال) يرجع إلى الراوي، فقوله: (فرأيت عليّاً) أي علي بن جعفر كما فهمه الأكثر، ومن المعلوم أنّ فعله ليس بحجّة لغيره وكذا فهمه.
وأمّا خبر أبي بصير: فهو لا ينفي الدّم، فيُطرح أو يُحمل على الندب، لعدم وجوب شيء وراء الدّم إجماعاً حتّى من الصدوق، فإنّه يرى وجوب دفع المُدّ من الطعام وعدم الدّم.3.
ص: 304
أقول: برغم أنّ أكثر النصوص واردة في مورد الاضطرار، ولذلك حُكي عن ظاهر جملة من القدماء(1) الاختصاص به، ولكن المشهور(2) بين الأصحاب عدم الفرق في لزوم الفدية بين المختار والمضطرّ.
واستدلّ له:
1 - بالإجماع(3)، وفي «الجواهر»(4): (يمكن دعوى ظهور الاتّفاق على عدم الاختصاص).
2 - بل عن ظاهرالمفيد(5) والسيّد(6) وسلّار(7) الاختصاص بالمختار وبالأولويّة، فإنّه إذا ثبتت الفدية في حال الاضطرار، مع جواز التظليل، ففي حال الاختيار أولى بالثبوت.
ولكن يرد الأوّل: أنّه ليس إجماعاً تعبديّاً، مع أنّه غير ثابتٍ ، كيف وقد أفتى جمعٌ من القدماء بالاختصاص(8).
ويرد على الثاني: منع الأولويّة، فإنّ الكفّارة لعلّها لجبر النقصان الحاصل بالاضطرار، ومن الممكن أنّ الشارع الأقدس لا يطلب الجبر مع الاختيار والعصيان.
وبالجملة: فالأولى أن يستدلّ له بخبر أبي علي المتقدّم:
«عن مُحرِمٍ ظلّل في عمرته ؟ قال عليه السلام: يجبُ عليه دم، قال: وإنْ خرج إلى مكّة4.
ص: 305
وكذا في تغطية الرأس،
وظَلّل، وجب أيضاً عليه دمٌ لعمرته ودم لحجّته»(1).
فإنّه بعمومه الحاصل من ترك الاستفصال، يدلّ على ثبوت الفدية في حال الاختيار أيضاً، وضعف سنده منجبرٌ بالعمل.
أقول: ومقتضى الإطلاقات، بل صريح صحيح أبي علي بن راشد وخبره، عدم تكرّر الكفّارة بتكرّر التظليل في النسك الواحدة، كما صرّح به غير واحد(2).
بل قيل(3): لا خلاف فيه مع الاضطرار، نعم تتكرّر بالتكرّر في النسكين كما صرّح به في الصحيح.
وأمّا ما عن بعضٍ (4) من القول بوجوب شاة لكلّ يوم للمختار، فلم أظفر بدليله، بل دليل ثبوت الفدية على المختار - وهو خبر أبي علي المتقدّم - يدلّ على خلافه.
وعن «المدارك»(1) و «الذخيرة»(2): (إنّه مقطوعٌ به بين الأصحاب).
وفي «المنتهى»(3): (من غَطّى رأسه وهو مُحرِم، وجبَ عليه دم شاة، ولا نعلم فيه خلافاً)، انتهى .
وفي «التذكرة»(4): (من غَطّى رأسه وجب عليه دم شاة إجماعاً)، انتهى .
أقول: واستدلّ له بوجوه:
الوجه الأوّل: ما في «التذكرة»(5) و «المنتهى»(4) من أنّه قد تَرفّه بمحظورٍ، فلزمه الفِداء.
وفيه: إنّه لم يدلّ دليلٌ عليهذه الكليّة، إلّا المرويّ عن «قرب الإسناد»، وسيأتي.
الوجه الثاني: ما ذكره صاحب «الجواهر»(5) دليلاً، وسيّد «الرياض»(6) ذكره من باب الاعتضاد، من أنّ صحيح زرارة - المتقدّم - المتضمّن أنّ (من لبس ما لا ينبغي له لبسه متعمّداً فعليه شاة)، يدلّ على ثبوت الشاة مع لبس الثوب الساتر للرأس، ويلحق به غيره لعدم القائل بالفرق.
وفيه: أنّ المنع عن الثوب الساتر للرأس، وثبوت الكفّارة، إنّما هو من جهة اللّبس، وهي غير جهة التغطية، والفرق واضح.
الوجه الثالث: مرسل «الخلاف»(7)، قال: (إذا حمل مكتلاً أو غيره لزمه الفداء...2.
ص: 307
وإن كان لضرورة،
إلى أنْ قال: دليلنا ما روى في من غَطّى رأسه أنّ عليه الفداء، وضعفه منجبرٌ بالعمل).
وفيه: أنّ استناد الأصحاب إليه غير ثابت، مع أنّه نقلٌ لمضمون الخبر، فمن الممكن أنّ النص الواصل إليه لا يكون ظاهراً في اللّزوم، أو كان من قبيل الوجه الثاني.
الوجه الرابع: ما عن «قرب الإسناد» عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليهما السلام: «لكلّ شيء خرجتَ من حَجّك فعليك فيه دم تهريقه»(1).
وفيه: أنّه ضعيف السند، وانجباره بالعمل غير ثابت، وإنْ كان غير بعيد.
ولعلّ ذلك بضميمة الإجماع، وتسالم الأصحاب، يكفي في الحكم، واللّه العالم.
أقول: وبذلك يظهر اختصاص الفداء بالتغطية المُحرّمة، وقد مرّ بيان ما هو محرّم منها في مبحث تروك الإحرام(2).
ولو اضطرّ إلى التغطية فغَطّى، هل يجبُ عليه الفداء كما في المتن، حيث قال (وإنْ كان لضرورة)، بعد الحكم بثبوت الشاة في التغطية، أم لا يجب ؟ وجهان:
أظهرهما الثاني، لأنّ مدرك ثبوته فيها هو خبر «قُرب الإسناد» والإجماع، والخبر غير شامل لصورة الاضطرار، والمتيقّن من الإجماع صورة الاختيار.
ويؤيّد ذلك: خلوّ النصوص المجوزة إيّاها في حال الضرورة عن ذكر الكفّارة.
ثمّ إنّ صحيح الحلبي الوارد فيه قوله عليه السلام: «المُحرِم إذا غَطّى رأسه، فليطعم9.
ص: 308
مسكيناً في يده»(1)، ظاهرٌ في وجوب ما تضمّنه، ولكن لعدم إفتاء أحدٍ من الأصحاب بلزوم ذلك يحمل على الندب.
الفرع الأوّل: لا كلام ولا خلاف في أنّه لو غَطّى رأسه ناسياً لا شيء عليه، ويشهد به صحيح حريز، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «عن مُحرِمٍ غَطّى رأسه ناسياً؟ قال عليه السلام: يلقي القناع عن رأسه ويُلبّي ولا شيء عليه»(2).
الفرع الثاني : لو غَطّى المُحرِم وجهه لا شيء عليه، لعدم الدليل على وجوب الفدية.
نعم، ما رواه الحلبي في صحيحه عن مولانا الصادق عليه السلام:
«المُحرِم إذا غَطّى وجهه فليطعم مسكيناً في يده»(3)، ظاهرٌ في وجوب ذلك، لكن الأصحاب(4) حملوه على الندب.
الفرع الثالث: لو غَطّت المرأة وجهها:
فإنْ كان على وجهٍ جائزٍ، فلا إشكال في أنّه لا شيء عليها.
وإنْ كان على وجه الحُرمة - كما لو تنقّبت - فليس في النصوص ما يدلّ على وجوب شيء عليها، بل النصوص المتضمّنة للمنع الخالية عن ذكره - مع كونها في مقام البيان - تُشعر بعدم الوجوب.
ص: 309
نعم، ذكر صاحب «الغُنية»(1) - على ما حُكي - تغطية رأس الرّجل ووجه المرأة جميعاً، وذكر أنّ على المختار لكلّ يومٍ شاة، مدّعياً الإجماع، ونحوه عن الحلبي(1).
أقول: فإنْ تمّ الإجماع، وإلّا فالأصل يقتضي العدم، ولكن الظاهر عدمه، فإنّ الأصحاب لم يفتوا بالتكرار لكلّ يوم.
نعم، مقتضى عموم خبر «قرب الإسناد» المتقدّم، ثبوت الدّم فيها، ولكن انجبار ضعفه غير مسلّم، والإحتياط طريق النجاة.
الفرع الرابع: لو تكرّرت التغطية، فإنْ تخلّل التكفير، تكرّرت الفدية، لصدق الجرح في الحَجّ ، وإلّا فلا للتداخل، والإجماع المُدّعى في «الغُنية»(3) قد عرفت حاله، ولا تتكرّر بتكرّر الغطاء كما هو واضح.
***4.
ص: 310
الثامنة: في الجدال صادقاً ثلاثاً شاةٌ ، وكذا في الكاذب مرّة، ولو ثَنّى فبقرة، ولو ثَلّث فبدنة،
المسألة (الثامنة: في الجدال صادقاً ثلاثاً شاةٌ ، وكذا) تجبُ الشاة (في الكاذب) منه (مرّة، ولو ثَنّى فبقرة، ولو ثَلّث فبدنة)، كما هو المشهور(1) بين الأصحاب.
وفي «الجواهر»: (بل قيل لا خلاف فيه يعتدّ به)(2) انتهى .
أقول: هنا أحكام أربعة:
يشهد للأوّل: وهو وجوب الشاة في الصادق منه ثلاثاً، وعدم وجوب شيء فيما دونها، جملةٌ من النصوص:
منها: صحيح معاوية بن عمّار، عن الإمام الصادق عليه السلام، في حديثٍ : «والجدال قول الرّجل: (لا واللّه، وبلى واللّه)، واعلم أنّ الرّجل إذا حلف بثلاثة أيمان ولاءً في مقام واحد، وهو مُحرِم، فقد جادل، فعليه دم شاة يهريقه ويتصدّق به، وإذا حلف يميناً واحدة كاذبة، فقد جادل، وعليه دم يهريقه ويتصدّق به»(3).
ونحوه غيره من النصوص الكثيرة(4)، وما تضمّن من النصوص أنّ عليه دماً
ص: 311
يقيّد إطلاقه بما تقدّم، إنْ لم نقل بظهور الدّم في الشاة.
ومنها: صحيح سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «في الجدال شاة»(1) فهو أيضاً دالٌّ على ذلك، لما تقدّم في مبحث تروك الإحرام أنّ الجدال لا يتحقّق إلّا باليمين صادقة ثلاث مرّات، أو كاذبة مرّة.
وأمّا موثّق يونس بن يعقوب، عن الإمام الصادق عليه السلام:
«عن المُحرِم يقول: لا واللّه، وبلى واللّه، وهو صادقٌ عليه شيء؟ قال عليه السلام: لا»(2).
فهو إمّا ظاهرٌ في القول مرّة واحدة، أو محمولٌ على ما دون الثلاث، بقرينة ما تقدّم.
ويشهد للحكم الثاني: وهو أنّ في الكاذب منه مرّة دمُ شاةٍ ، جملةٌ من النصوص:
منها: ما تقدّم.
ومنها: خبر أبي بصير، عن مولانا الصادق عليه السلام: «إذا حلف الرّجل ثلاثة أيمان وهو صادق وهو مُحرِم، فعليه دم يهريقة، وإذا حلف يمينا واحدة كاذبة، فقد جادل فعليه دم يهريقة»(3) ونحوها غيرها.
أقول: ولكن ليس في شيء من هذه النصوص التصريح بدم الشاة، إلّاأنّ ما يمكن قوله هو تسالم الأصحاب عليه، ووحدة السياق، إذ لا ريب في أنّ الدّم في ثلاثة أيمان وهو صادق هو الشاة.
وما قيل: من إنّ المراد من (الدّم) في الكفّارات إذا أطلق يراد به الشاة، تكفي في2.
ص: 312
البناء على إرادة الشاة من الدّم المطلق، وبها يقيّد حينئذٍ إطلاق خبره الآخر:
«إذا جادل الرّجل، وهو مُحرِم، فكذب متعمّداً، فعليه جزور»(1).
ويختصّ بما إذا تكرّر.
وأمّا الحكم الثالث: وهو أنّ في الكاذب منه مرّتين بقرة، فقد استدلّ له المصنّف في «المنتهى»(2) بصحيح محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال: سألته عن الجدال في الحَجّ؟ فقال: من زاد على مرّتين فقد وقع عليه الدّم. فقيل له: الذي يجادل وهو صادق ؟ قال: عليه شاة، والكاذب عليه بقرة»(3).
ونحوه في المضمون صحيح الحلبي ومحمّد(4).
أقول: ولكن هذه النصوص تدلّ على ثبوت البقرة في ما فوق مرّتين، وقد استدلّ بها سيّد «المدارك»(5) على ثبوت البقرة في الثلاث، وسيّد «الرياض»(6) قال:
(هو حسن إن وجد القائل به، وإلّا فيجب طرحها).
وقد استدلّ له في «الرياض»(7) و «الجواهر»(6)، بخبر إبراهيم بن عبدالحميد، عن أبي الحسن موسى عليه السلام:
«من جادل في الحَجّ ، فعليه إطعام ستّة مساكين، لكلّ مسكينٍ نصف صاع إنْ كان صادقاً أو كاذباً، فإنْ عاد مرّتين، فعلى الصادق شاة، وعلى الكاذب بقرة، لأنّ 2.
ص: 313
اللّه تعالى قال: (فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ ) (1) الحديث»(2).
وفيه: أنّه لو سُلّم انجبار ضعفه بالعمل - مع أنّ استناد الأصحاب إليه غير ثابت - وأغمض عن عدم عمل الأصحاب بصدره، أنّه أيضاً فيما فوق مرّتين، فإنّ العود هو الوجود الثاني، فالعود مرّتين يسلتزم وجود الثالث، وهو مضافاً إلى ظهوره فيه، قوله: (فعلى الصادق شاة) شاهد به.
وأمّا الرضوي المصرّح بذلك، فحيث لم يثبت لنا كونه رواية، فلا يستند إليه، وعليه فلم يبق إلّاتسالم الأصحاب وإجماعهم عليه.
وأمّا الحكم الرابع: وهو ثبوت البدنة لو جادل ثلاثاً وهو كاذب، فيشهد به خبر أبي بصير - وقد وصفه المصنّف رحمه الله(3) بالصحّة - عن أبي عبد اللّه عليه السلام: «إذا جادل الرّجل وهو مُحرِمٌ فكذب متعمّداً فعليه جزور»(4) بناءً على إرادة البدنة من الجزور.
أقول: ومقتضى إطلاق جملةٍ من النصوص، عدم اعتبار التوالي والتتابع في مقام واحد، كما هو المشهور بين الأصحاب، بل قيل(5) لا خلاف فيه بين الأصحاب، إلّاأنّ صحيح معاوية وموثّق أبي بصير بمفهوم الشرط يدلّان على اعتباره، ومقتضى حمل المطلق على المقيّد الالتزام بذلك، كما عن العُمّاني(6)و «المدارك»(7) و «الذخيرة»(8) وفي «المستند»(9).3.
ص: 314
ولكن قال صاحب «الرياض»(1): (الظاهر انعقاد الإجماع على خلافه، فالنصوص المقيّدة لا قائل بها)، واللّه العالم.
وأيضاً: لو توقّف استنفاذ الحق أو دفع الدعوى الباطلة على الجدال، أو كان اليمين في طاعة اللّه وإكرام الأخ المؤمن، كان ذلك جائزاً كما مرّ في مبحث تروك الإحرام، ولا كفّارة فيه، لصحيح أبي بصير المتقدّم:
«عن المُحرِم يريد أن يعمل العمل، فيقول له صاحبه: واللّه لا تعمله، فيقول:
واللّه لأعملنّه، فيحالفه مراراً، يلزمه ما يلزم الجدال ؟ قال عليه السلام: لا، إنّما أراد بهذا إكرام أخيه، إنّما كان ذلك ما كان للّه عزّ وجلّ فيه معصية»(2).
وقد تقدّم في ذلك المبحث تقريب دلالته على الجواز في الموارد المذكورة، ودلالته على نفي الكفّارة فيها حينئذٍ واضحة.
وأيضاً: المحكيّ عن الشيخين(3) وجماعة(4) أنّه يجب التوبة والإستغفار في المرّة والمرّتين مع الصدق، واستدلّ له بصدق الجدال المنهيّ عنه كتاباً وسُنّةً ، فلابدّ فيه من الاستغفار والتوبة، وقد تقدّم في مبحث تروك الإحرام أنّه لا يصدق الجدال على الحلف مرّة أو مرّتين مع الصدق، فراجع.
هذا كلّه في الجدال.
وأمّا الفسوق: فلم يذكروا له كفّارة، بل في «المنتهى»(5) التصريح بأنّه لا شيء).
ص: 315
فيه، وهو المنسوب إلى ظاهر الأصحاب(1).
أقول: والنصوص فيه طائفتان:
الطائفة الأُولى: ما يدلّ على أنّه لا شيء فيه، كصحيح الحلبي - أو حسنه - عن الإمام الصادق عليه السلام في حديثٍ ، قال:
«قلت: أرأيتَ من ابتلى بالفسوق ما عليه ؟ قال عليه السلام: لم يجعل اللّه له حَدّاً، يستغفر اللّه ويُلبّي»(2).
الطائفة الثانية: ما يدلّ على أنّه يجب فيه بقرة، كصحيح سليمان بن خالد، عن مولاناالصادق عليه السلام في حديث: «وفي السباب والفسوق بقرة، والرفث فساد الحَجّ »(3).
وظاهره وجوب البقرة في الفسوق، ويؤيّده صحيح علي بن جعفر، عن أخيه موسى عليه السلام، في حديثٍ : «كفّارة الفسوق يتصدّق به إذا فعله وهو مُحرِم»(4).
أقول: ولهم في مقام الجمع بين الطائفتين طرق:
الطريق الأوّل: ما عن المحدِّث الكاشاني رحمه الله(5)، من حمل الأولى على ما إذا لم يتضمّن الكذب يميناً، والثانية على تكرّر ذلك منه مرّتين مع اليمين، فهو يحمل الثانية على إرادة بيان حكم الجدال.
وفيه: أنّه جمعٌ تبرّعي لا شاهد له، مع أنّ اليمين غير معتبرة في معنى الفسوق كما تقدّم.).
ص: 316
الطريق الثاني: ما في «الوسائل»(1)، من حمل الأُولى على غير المتعمّد، لما مرّ من عدم وجوب الكفّارة على غير العامد في غير الصيد، والثانية على المتعمّد.
وفيه: مضافاً إلى أنّه جمعٌ لا شاهد له، يشهد بخلافه أنّ ظاهر الأُولى صورة التعمّد للأمر بالاستغفار.
الطريق الثالث: حمل الأُولى على الفسوق بمعنى الكذب خاصّة، والثانية على ما إذا انضمّ إلى الكذب السِّباب، على ما هو موردها، كما في «الحدائق»(2)، ولكن قد مرّ أنّ الفسوق أعمّ من الكذب والسّباب والمفاخرة.
فالأولى الجمع بين الطائفتين بحمل الثانية على الاستحباب، كما عن «الذخيرة»(3).
***).
ص: 317
التاسعة: في الدّهن الطيّب وقلع الضرس شاة،
المسألة (التاسعة: في) التدهين ب (الدّهن الطيّب) شاةٌ ، كما مرّ في كفّارة الطيب، فراجع(1).
(و) كذا قيل في (قلع الضّرس شاة) والقائل به الشيخ في «النهاية»(2)، و «المبسوط»(3) والقاضي(4) و «المهذّب»(5)، والحلبي(6)، و «الجامع» كما حكي، لكن الأخير(7) خصّه بالمختار، كذا في «الرياض»(8).
واستدلّ له: بمرسلةٍ مضمرةٍ مكاتبة(9)، وهي لضعف سندها، وعدم انجباره بالعمل، لعدم كفاية عمل من عرفت في الانجبار، تُحمل على الاستحباب.
***
ص: 318
العاشرة:
المسألة (العاشرة): في قلع شَجرة الحرم خلافٌ :
فالمشهور(1) بين الأصحاب ثبوت الكفّارة فيه، بل الظاهر عدم الخلاف فيه، هكذا قيل(2).
ولكن صرّح المصنّف رحمه الله في «المنتهى»(3) بعدم الكفّارة فيه، قال - بعد نقل دليل الوجوب -: (وعندي في ذلك توقّف، والرواية منقطعة السند، والأصل براءة الذمّة) انتهى .
وظاهر «التذكرة»(4) توقّفه في الحكم، حيث اكتفى فيها بذكر القولين.
كما أنّ ظاهر المحقّق في «الشرائع»(5) عدم ثبوتها.
أقول: وكيف كان، فإنّه يشهد لثبوتها:
1 - خبر موسى بن القاسم، قال: روى أصحابنا عن أحدهما عليهما السلام أنّه قال:
ص: 319
في الشّجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، وفي أبعاضها قيمتها.
«إذا كان في دار الرّجل شجرة الحرم لم تُنزع، فإنْ أراد نزعها كفّر بذبح بقرة، يتصدّق بلحمها على المساكين»(1).
وضعفه منجبرٌ بالعمل.
2 - وصحيح منصور بن حازم، عن الإمام الصادق عليه السلام: «عن الأراك يكون في الحرم فاقطعه ؟ قال عليه السلام عليك فداؤه»(2).
3 - وصحيح سليمان بن خالد، عنه عليه السلام: «عن الرّجل يقطع من الأراك الذي بمكّة ؟ قال: عليه ثمنه يتصدّق به...»(3).
وقيل: إنّ هذا الصحيح يبيّن المراد من الفداء في سابقه(4)، إلّاأنّ الأوّل في قطع الأراك نفسه، والثاني في القطع منه، الظاهر في قطع بعض أغصانه، وعلى أيّ حال فإنّ الفداء أعمّ ، وقابلٌ للحمل على إرادة الثمن، فلا ينبغي التوقّف في ثبوت الكفّارة فيه.
أقول: إنّما الكلام فيما يكفّر به:
فالمشهور بين الأصحاب(5) أنّه (في الشجرة الكبيرة بقرة، وفي الصغيرة شاة، وفي أبعاضها قيمتها).م.
ص: 320
وعن القاضي(1): البقرة مطلقاً.
وعن الإسكافي(2) والمصنّف(3) رحمه الله في «المختلف»: أنّها القيمة مطلقاً.
وعن الحلبيّين(4): ما تيسّر من القيمة في قطع الأبعاض.
أقول: يشهد لثبوت القيمة في قطع الأبعاض صحيح سليمان، بل صحيح منصور أيضاً.
ولثبوت البقرة في قطع الشجرة الكبيرة خبر موسى بن القاسم.
وأمّا ثبوت الشاة في قلع الصغيرة، فلم يرد به رواية معتبرة، ولا غير معتبرة، فإنّه المنقول عن ابن العبّاس(5) من طريقٍ لم يثبت كونه رواية أو فتواه.
وعليه، فالشهرة الفتوائيّة التي كادت تبلغ الإجماع في مثل ذلك في مقابل النصوص، توجبُ القطع بالحكم، أو بورود رواية معتبرة واصلة إلى قدماء الأصحاب لم تصل إلينا، فلا ينبغي التوقّف في الحكم.
ثمّ إنّ المرجع في حَدّ الكبيرة والصغيرة إلى العرف.
وأخيراً: لا كفّارة في غير ما ذكر من تروك الإحرام، للأصل، وعدم الدليل.
وأمّا خبر «قرب الإسناد» فقد عرفت أنّه ضعيف لا يُعتمد عليه، ومن الغريب أنّ الفاضل النراقي(6) قد استدلّ به في جملةٍ من المسائل السابقة، مدّعياً أنّ ضعف سنده منجبرٌ بالعمل، ولكن في المقام يعترف بأنّه ضعيف غير منجبر بالعمل!
***7.
ص: 321
الحادية عشرة:
المسألة (الحادية عشرة): لو تعدّدت أسباب التكفير المختلفة، كما لو صاد، وجامع، ولبس المخيط:
فالمشهور(1) بين الأصحاب: أنّه يجبُ عن كلّ واحدٍ كفّارة، سواءٌ فعل ذلك في وقتٍ واحد أو في وقتين، وسواءٌ كفّر عن الأوّل أو لم يكفِّر.
وعن «المدارك»(2): أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب.
وظاهر «المنتهى»(3): أنّه موضع وفاق.
وفي «الجواهر»(4): (بل الإجماع بقسميه عليه).
واستدلّ له: بأنّ كلّ واحدٍ من تلك الاُمور سببٌ مستقلٌّ لوجوب الكفّارة، والحقيقة باقية عند الاجتماع، فيجب وجود الأثر.
وعن «الذخيرة»(5): (لا خفاء في تعدّد الكفّارة مع تخلّل التكفير، أمّا بدونه ففيه خفاء)، واستجوده في «المستند»(6).
ص: 322
وعن «المدارك»(1) التردّد مع عدم سبق التكفير.
أقول: لا ينبغي التوقّف في التعدّد مع تخلّل التكفير لإطلاق الأدلّة، وكذا لا ريب في التعدّد مع اختلاف المسبّبات كالبقرة والصوم مثلاً.
إنّما الكلام فيما إذا اتّحدت المسبّبات - كالشاة مثلاً - مع عدم تخلّل التكفير، فالأظهر عدم التعدّد، وذلك لأنّه إذا دلّ دليلٌ على سببيّة شيء لحكمٍ كالصيد لوجوب الكفّارة، ودلّ دليلٌ آخر على سببيّة شيء آخر كالجماع له، فصاد المُحرِم وجامع من غير أن يتخلّل بينهما التكفير، تكون المحتملات أربعة:
الاحتمال الأوّل: الالتزام بحدوث الأثر عند وجود كلّ سببٍ ، إلّاأنّه هو الحكم عند السبب الأوّل، وتأكّده عند تحقّق السبب الثاني، فيكون المتحقّق عند تحقّق الصيد وجوب الكفّارة، وعند الجماع بعده تأكّد ذلك الوجوب، فتكون النتيجة مع التداخل، وإنْ لم يكن ذلك تداخلاً اصطلاحيّاً.
الاحتمال الثاني: تقيّيد إطلاق المادّة في كلّ من القضيّتين بفردٍ غير الفرد الذي اُريد من المادّة الواقعة في حيّز الخطاب الآخر، فتكون النتيجة عدم التداخل.
الاحتمال الثالث: الالتزام بعدم دلالة شيء منهما على الحدوث عند الحدوث، بل على مجرّد الثبوت، فتكون النتيجة التداخل المصطلح.
الاحتمال الرابع: الالتزام بان متعلّق الحكم وإنْ كان واحداً صورةً ، إلّاأنّها حقائق متعدّدة متصادقة علي واحد، فتكون النتيجة عدم التداخل من حيث الأسباب، والتداخل من حيث المسبّبات.
أقول: والأظهر من هذه المحتملات هو الأوّل، لأنّه لا يستلزم منه التصرّف في1.
ص: 323
شيء من الظهورات، إذ غاية ما توهم هو استلزام ذلك للتصرّف في ظهور الحكم في كونه تأسيسيّاً، وهو توهم فاسد، فإنّ ذلك لا يستلزم كون شيء من القضيّتين في غير مقام إنشاء الطلب وجعل الحكم،
بل نقول: إنّ الحكم المجعول في كلٍّ منهما إنْ حدث في محلّ فارغ عن مثله يكون تأسيسيّاً، وإنْ حدث في محلّ مشغولٍ بمثله فهو تأكيد.
وأمّا المحتملات الاُخر، فكلها تتوقّف على رفع اليد عن الظهورات:
أمّا الثاني: فلأنّه يتوقّف على تقيّيد إطلاق المادّة في كلّ من القضيّتين.
وأمّا الثالث: فلأنّه يتوقّف على رفع اليد عن ظهور القضيّتين في الإنشاء.
والالتزام بكون كلّ منهما في مقام الإخبار وإلّا لم يتمّ ذلك كما لا يخفى .
وأمّا الرابع: فلأنّه مستلزمٌ للتصرّف في المادّة بإرادة حقيقة خاصّة منطبقة عليها لا هي بنفسها.
وعلى ذلك، فيتعيّن الالتزام بالأوّل، فتكون النتيجة هو التداخل من حيث الأسباب، لكن التداخل غير المصطلح، وهو الالتزام بوجوب أكيد عند تحقّق السببين.
أقول: ولو تنزّلنا عمّا ذكرناه، وسلّمنا توقّف ما اخترناه على رفع اليد عن ظهور الحكم في كونه تأسيسيّاً، ودار الأمر بين التصرّف في أحد تلك الظهورات المشار إليها، فقد يقال - كما عن المحقّق الخراساني(1) صاحب «الكفاية» والمحقّق النائيني(2) - بأنّه يتعيّن الالتزام بالثاني.
واستند الأوّل منهما إلى أنّ ظهور الجملتين في عدم تعدّد الفرد ووحدة المتعلّق،ا.
ص: 324
إنّما يكون بالإطلاق، وهو يتوقّف على عدم البيان، وظهور الجملة في كون ما تضمّنته سبباً أو كاشفاً عن السبب المقتضي لتعدّد الفرد، يصلح بياناً لما هو المراد من الإطلاق، ومعه لا ينعقد ذلك الإطلاق، فلا يلزم على ذلك تصرّفٌ في ظهور أصلاً.
وفيه أوّلاً: أنّه لو سُلّم ذلك، فإنّما هو بالنسبة إلى ظهور الحكم في التأسيس، ولا يكفي ظهور الجملة في الحدوث عند الحدوث وحده، لذلك فإنّه يلائم مع الالتزام بالتأكّد كما عرفت.
وعليه، فاثبات ذلك يتوقّف على إثبات أنّ ظهور الحكم في التأسيس، كظهور الجملة في الحدوث عند الحدوث بالوضع لا بالإطلاق، وإلّا وقع التعارض بين الإطلاقين فيتساقطان معاً.
وثانياً: أنّه لو سلّمنا كون ذلك بالوضع، لكان ذلك موجباً لتقييد الإطلاق لا عدم انعقاده.
واستدلّ المحقّق النائيني رحمه الله له: بأنّ تعلّق الطلب بشيءٍ لا يقتضي كون المتعلّق صرف وجود الطبيعة وأوّل الوجودات، بل إنّ ذلك إنّما يكون من جهة حكم العقل بالإكتفاء بوجود واحد عند تعلّق طلب واحد بالطبيعة.
وعليه، فحيثُ أنّ المستفاد من القضيّتين تعدّد الحكم، لظهور كلّ منهما في أنّ ما تضمّنته من السبب سببٌ مستقلّ لترتّب الحكم، سبقه الآخر أو قارنه أم لا، فظهور الجملتين في تعدّد الطلب يكون رافعاً لحكم العقل بالاكتفاء بوجودٍ واحد، لارتفاع موضوعه، وهو الطلب الواحد.
وفيه: أنّ الطبيعة المتعلّقة للطلب لابدّ وأن تلاحظ على نهج الوحدة أو التعدّد، لعدم تعقّل تعلّق الحكم بالمهمل، وعليه فالاكتفاء بالواحد إنّما يكون بمقتضى الإطلاق.
ص: 325
تتكرّر الكفّارة بتكرّر الوطئ
فالمتحصّل من مجموع ما ذكرناه: أنّ الأصل الأوّلي في جميع الموارد هو ما أفاده المصنّف رحمه الله، من أنّه في صورة تكرّر السبب قبل وجود الجزاء، يُبنى على التداخل، ففي المقام يبنى على عدم وجوب التعدّد.
هذا كلّه مع اختلاف الأسباب جنساً.
وأمّا لو تعدّد أفراد الجنس الواحد: كما لو جامع مرّات، أو لبس كذلك، فقد تقدّم في كفّارة الصيد أنّها تتكرّر بتكرّره خطأً، ولا تتكرّر بتكرّره عمداً.
أقول: ثمّ لا كلام في التكرّر مع تخلّل التكفير لما تقدّم، أو كون السبب الواحد المتكرّر إتلافاً متضمّناً للمثل أو القيمة، فإنّ امتثال الأمر بالمثل أو القيمة لا يحصل إلّا بالإتيان بالجميع.
وأمّا في غير ذلك،، فمقتضى الأصل الذي أسّسناه عدم التكرّر، إلّاما خرج بالدليل، وقد ذكر لذلك موارد:
منها: ما في المتن(1) حيث قال: (تتكرّر الكفّارة بتكرّر الوطئ).
وعن «المدارك»(2) وغيرها: أنّه المشهور بين الأصحاب.
وعن «الانتصار»(3): أنّه ممّا انفردت به الإماميّة.
وعن «الغُنية»(4): الإجماع عليه.7.
ص: 326
واستدلّ له: - مضافاً إلى ما استدلّ به على أنّ الأصل عدم التداخل الذي عرفت مافيه - بالإجماع المنقول(1)، والشهرة العظيمة المحقّقة، وعموم نصّ الكفّارة(2).
ولكن الإجماع المنقول ليس بحجّة، مع معلوميّة المدرك، ولا أقلّ من المحتمل، وكذا الشهرة، وعموم النص قد عرفت ما فيه.
وعليه، فالأظهر عدم التكرّر الا مع تخلّل التكفير.
وما في «الرياض»(3): من الإشكال على التفصيل (بأنّ نصّ الكفّارة إمّا يختصّ بالجماع الأوّل، أو يشمل كلّ جماع، فعلى الأوّل لابدَّ من البناء على عدم الكفّارة حتّى مع تخلّل التكفير، وعلى الثاني لابدّ من البناء على التعدّد حتّى مع عدم التخلّل).
يرد عليه: أنّ عموم النّص للأفراد اللّاحقة غير قابل للإنكار، لكن قد عرفت أنّه مع عدم تخلّل التكفير، فإنّ نتيجة الحكمين هي حكمٌ واحد مؤكد، بخلاف ما لو تخلّل التكفير.
أقول: وممّا ذكرناه يظهر أنّ ما أفاده المصنّف(4) رحمه الله في محكي «المختلف» في وجه عدم التكرّر، بأنّ النصوص إنّما أفادت على المُجامع بدنةً وهو أعمّ من المجامع مرّة ومرّات، وأيّده بأنّها أفادت أنّ الجماع قبل الوقوف يوجبُ البدنة والإتمام والحَجّ من قابل، وبيّن أنّ الاُمور الثلاثة إنّما تترتّب على الجماع الأوّل، فالقول بترتّب البدنة خاصّة على كلّ جماعٍ دون الباقين تحكّمٌ .
غير تامّ ، لأنّ هذه النصوص كسائر أدلّة الأحكام من قبيل القضايا الحقيقيّة،8.
ص: 327
واللّبس مع إختلاف المجلس، والطيب كذلك.
المتضمّنة لترتّب الحكم على كلّ فردٍ من الأفراد، فالموضوع هو كل فرد لا الطبيعة الصادقة على المرّة والمرّات.
وأمّا التأييد الذي ذكره، فيردّه أنّ الفرق بينهما أنّ الحكمين الأخيرين لا يقبلان التكرّر، بخلاف الكفّارة.
وعليه، فالصحيح ما ذكرناه، والمرجع في التكرّر على القول به، هو الصدق العرفي، وهو يصدق على تكرّر الإيلاج والنزع ولو في مجلسٍ واحد.
اللّهُمَّ إلّاأنْ يقال: إنّ نصوص الكفّارة بما أنّها واردة في من جامع - ومعلوم أنّ الغلبة في الجماع هو تكرّر الإيلاج، ومع ذلك حكم عليه السلام بأنّ عليه بدنة - تكون دالّة بالدلالة الالتزاميّة.
وبتعبير آخر: بالإطلاق المقامي على أنّ الميزان ما هو المتعارف في الجماع، فلو كرّر الأمرين بإمرأة واحدة في حالة واحدة، لا يصدق عليه في العرف أنّه جامعها مراراً، بل يُقال إنّه جامعها مرّة واحدة، ولو تعدّدت الموطوءة أو الحالات أمكن فيه ذلك.
(و) منها: (اللّبس مع اختلاف المجلس)، وقد تقدّم الكلام في ذلك عند بيان كفّارة اللّبس.
(و) منها: (الطيب)، قال: وهو (كذلك) ولا دليل له بالخصوص، ومقتضى القاعدة عدم التكرّر كما مرّ.
***
ص: 328
الثانية عشرة: لا كفّارة على الجاهل والناسي إلّافي الصيد
المسألة (الثانية عشرة: لا كفّارة على الجاهل والناسي إلّافي الصيد)، بلا خلافٍ (1) في المستثنى والمستثنى منه، وعن غير واحدٍ(2) دعوى الإجماع عليهما.
أمّا المستثنى: فقد تقدّم الكلام فيه في كفّارة الصيد.
وأمّا المستثنى منه: فيشهد به نصوص:
منها: ما تقدّم في تلك المسألة.
ومنها: ما تقدّم في المسائل المتقدّمة من النصوص الخاصّة الواردة في تلك الموارد، وقد تضمّن بعضها الكبرى الكليّة أشرنا إليها في تلك المسائل.
***
إلى هنا تَمّ الجزء السادس عشر من هذه الطبعة المحقّقة، ويتلوه الجزء السابع عشر في ما يتعلّق ببقيّة مباحث الحَجّ ، والحمد للّه أوّلاً وآخراً، وصلّى اللّه على سيّدنا محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
ص: 329
ص: 330
حرمة إزالة الشعر على المُحرِم... 7
جواز إزالة الشعر للمُحرِم عند الضرورة... 10
استعمال الدُّهن... 13
حرمة تغطية الرأس على المُحرِم... 13
الستر باليد... 17
المستثنيات... 21
تغطية المُحرِم وجهه... 23
ارتماس المُحرِم في الماء... 25
حرمة التظليل على المُحرِم سائراً... 28
التظليل في حال النزول والوقوف... 35
اختصاص حرمة التظليل بحال الركوب... 36
التظليل بما لا يكون فوق الرأس... 38
حرمة التظليل ولو لم تكن الشمس موجودة... 42
جواز تظليل النساء والصبيان... 45
التظليل في حال الضرورة... 47
الاضطرار إلى التظليل من أوّل الإحرام... 50
قصَّ الأظفار... 52
قطع الشجر... 54
ص: 331
وجوب إعادة المقطوع من الشَّجر... 60
ما يجوز قطعه في الحرم... 62
حكم أشجار الفاكهة والنخل والإذخر... 64
جواز ترك المُحرِم إبله تَرعى في حشيش الحَرَم... 67
جواز تصرف الإنسان فيما أنبته... 69
تذييلٌ حول تصرّف الإنسان فيما أنبته... 73
مكروهات الإحرام... 75
النظر في المرآة... 79
لبس الخاتم للزِّينة... 82
لبس المرأة الحُليّ للزِّينة... 85
كراهة الحجامة... 89
حَكّ الجَسد المفضيّ إلى ادمائة... 92
السّواك المُفضي إلى الإدماء... 94
لبس السّلاح اختياراً... 97
النقاب للمرأة... 101
بقيّة مكروهات الإحرام... 109
استعمال الحناء للزِّينة... 109
الباب الخامس / في كفّارات الإحرام... 114
كفّارة قتل النعامة... 115
تنبيهان... 120
حكم العاجز عن دفع البدنة... 122
ص: 332
تذييل... 127
العجز عن إطعام الستّين... 132
العجز عن صوم الستّين... 135
كفّارة فرخ النعامة... 137
كفّارة قتل بقرة الوحش وحمار الوحش... 139
حكم العجز عن دفع البقرة... 141
كفّارة قتل الظبي والأرنب والثعلب... 143
كفّارة كسر بيض النعام... 146
كفّارة بيض القطاة... 151
كفّارة الحمامة... 156
الضّب والقُنفذ... 164
كفّارة قتل الجرادة... 169
وجوب الكفّارة على من أكل الصيد وإنْ صاد غيره... 175
لو اشترك جماعة في قتل صيد واحد... 180
فروع الصيد الجماعي... 181
حكم من أحرم ومعه صيدٌ مملوك له... 188
كفّارة صيد الحرم... 193
حكم الصيد سهواً أو جهلاً... 196
فداءُ الصيد المملوك... 205
محل ذبح الفداء ونحره... 211
حَدّ الحرم... 221
ص: 333
كفّارة الإستمتاع بالنساء... 223
التفريق بين الرّجل والمرأة... 228
موضوع الأحكام المذكورة... 233
حكم المُكرَهة والمكرِه... 235
الجماع بعد الموقفين... 238
حكم العاجز عن دفع البدنة... 242
كفّارة الاستمناء... 248
الجماع في إحرام العُمرة... 251
كفّارة النظر... 258
كفّارة المسّ بشهوة... 264
كفّارة عقد المُحرِم... 270
كفّارة التطيّب... 272
كفّارة قصّ الأظفار... 276
تنبيهات... 280
كفّارة لبس المخيط... 285
كفّارة إزالة الشعر... 289
كفّارة نتف الإبطين... 296
حكم سقوط شعر الرأس واللّحية... 299
كفّارة التظليل... 302
كفّارة تغطية الرأس... 306
فروع... 309
ص: 334
كفّارة الجِدال... 311
حكم التدهين وقلع الضرس... 318
كفّارة قطع الشجرة... 319
حكم تعدّد اسباب التكفير... 322
في حكم الجاهل والناسي... 329
فهرس الموضوعات... 331
***
ص: 335